مجلة شهرية تُعنى بشؤون الثقافة والفكر
العـدد
7
ـ نوفمرب ـ ت�رشين الثاين ـ
2012
التخييل يف �أدب الأطفال -د� .سمر روحي الفي�صل
ال�شيخة هند القا�سمي ومناجاة النف�س..
د .عمر عتيق
قراءة يف (حدثتنا مرية) للمي�س املرزوقي �سامح كعو�ش
الأر�ض قنبلة موقوتة ،ديوان احلماطي.. د� .شهاب غامن
عبد الرحمن زينل واملواءمة بني الرتاث والع�صر د .حممود �شاهني
امل�سرح يف الإمارات
-هويدا �صالح
ملف العدد
أدب الطفولة العربي
الشرق في مرآة الفنانين الفرنسيين
إبراهيم الكوني: من أنت أيها المالك؟
عامل «ح�سني �شريف» الت�شكيلي العدد املقبل
172
102 190
88
102
138
4
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
186
46
محتويات
رئي�س مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم
�سمو ال�شيخ
�سلطان بن زايد �آل نهيان
فكر
- 8ال�رشق والغرب – االختالف الثقايف والقيمي �أحمد يو�سف داوود
- 18فل�سفة الفن عند هيغل رم�ضان ب�سطاوي�سي حممد
- 24الذكاء �أم اجلمال فاطمة املرني�سي ترجمة� :سعيد بوخليط
مجلة شهرية تُعنى بشؤون الثقافة والفكر ت��ص��در ع��ن م��رك��ز س��ل��ط��ان ب��ن زاي���د للثقافة واإلع�ل�ام
- 32الثقافة العربية يف �إيطاليا �سهى �رشيف
- 40ن�صو�ص خالدة لرواد الثقافة يف الإمارات د.ح�سن قايد ال�صبيحي
رئيـ�س التحــريـ ــر
د .ريــا�ض نع�ســان �آغــا
ملف العدد
� - 46سليمان العي�سى �شاعر الطفولة العذب د .ريا�ض نع�سان �آغا
مـديـ ـ ــر التحريـ ـ ــر
- 52التخييل يف �أدب الأطفال د� .سمر روحي الفي�صل
د .مـحـمـد فـاتـح زغــل
� - 60أدب الأطفال و�إ�شكالية التعريف د .حممد البدوي
املـديـ ـ ــر الـفـنـ ــي
فـــواز ناظـــم
- 66القراءة الو�سيطة لأدب الطفل ترجمة خلود اجلرايحي
ر�سامون م�شاركون
- 70يف �أدب الطفل د .حممد الغزي
ح�سكو ح�سكو عبد الكرمي البيك عدنان عبد الرحمن
- 74البحث عن بطل د .عبد الرحيم امل�ؤدن
� - 80أدب الطفل مقاربة �سيكولوجية د .ر�شيد اخلدميي
املرا�سلون
�أحمد ال�شهاوي (م�صر) هدى الزين (باري�س) عبداهلل املتقي (املغرب) فايزة م�صطفى (اجلزائر) فاطمة بن حممود (تون�س) م�صطفى رمزي (�سوريا)
� - 84آليات �إنتاج �شعر الأطفال الطاهر لكنيزي - 88حدثتنا مرية ملي�س املرزوقي �سامح كعو�ش
- 94ال�صورة ال�سينمائية وت�أثريها على الطفل العربي
ف�ؤاد زويريق
التـحـريــر
- 97م�رسح الطفل يف الإمارات د.هيثم يحيى اخلواجة
dr.riadagha@hotmail.com fatehz@yahoo.com
ت�شكيل
- 102الفنان الت�شكيلي عبد الرحمن زينل املواءمة بني الرتاث واملعا�رصة د.حممود �شاهني - 110الفنانة ال�سعودية عال حجازي جممد العامري
هـاتف00971 2 4916333 :
فـاك�س00971 2 2221288 :
�أبوظبي للإعالم -توزيع الرقم املجاين8002220 : فاك�س+971 - 02-4145050 :
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
distribution@admedia.ae
5
158
�ضيف العدد الفنان االنطباعي العاملي فين�سنت فان غوخ 6
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
سؤال الثقافة يوم للطفولة يف العامل جميل �أن يخ�ص�ص العامل يوماً لالحتفال بالطفولة، وق��د اختارته الأمم املتحدة تو�صية لأع�ضائها عام 1954واختارت ج ّل دول العامل �أن يكون هذا اليوم هو اخلام�س من نوفمرب من كل عام ،تكرمياً لكونه يوم �إعالن حقوق الطفل ،وهو يوم يهدف �إىل تعزيز قيم الت�آخي بني �أطفال العامل ،و�إىل االحتفاء بالطفولة مرحاً ولعباً وفنوناً و�إبداعاً. وق��د �آث��رن��ا يف جملة الإم� ��ارات الثقافية �أن نواكب احلدث ،و�أن يكون ملف هذا العدد عن �أدب الطفولة وف �ن��ون �ه��ا ،ل �ن ��ؤدي ج� ��زءاً م��ن واج �ب �ن��ا جت ��اه ف�ل��ذات �أك �ب��ادن��ا ،م�ست�ضيئني بقب�سات م��ن فكر امل�غ�ف��ور له ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان ،رحمه اهلل ،وقد كان االهتمام بالطفولة ورعايتها من خمتلف اجلوانب يف مقدمة اهتماماته ،وهو ال��ذي �أ�صدر �سنة 2003 القانون االحتادي رقم ( )1القا�ضي ب�إن�شاء املجل�س الأعلى للأمومة والطفولة .وتفخر الإم��ارات اليوم مبا يحظى به �أطفالها من رعاية واهتمام من قيادة الدولة ،وعلى ر�أ�سها �صاحب ال�سمو ال�شيخ خليفة بن زايد �آل نهيان رئي�س الدولة حفظه اهلل .وهذا امللف الذي تقدمه الإم��ارات الثقافية لقرائها ،هو خطوة م��ن خ�ط��وات ك�ث�يرة �أع��ده��ا م��رك��ز زاي��د ب��ن �سلطان للثقافة والإع�ل�ام بتوجيه من �سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل نهيان ،للنهو�ض واالرتقاء بثقافة الطفل العربي عموماً ،والإماراتي خ�صو�صاً. �إننا نق ّدر ما يواجهه الطفل العربي من معاناة على �صعد خمتلفة ،وهو ما يدعو الأمة �إىل مزيد من االهتمام برعاية الطفولة لأنها �صناعة امل�ستقبل، وندعو اهلل �أن يكون القادم من الأيام �أجمل و�أبهى للطفولة مرددين مع �شاعر �سورية الكبري بدوي اجلبل دعاءه ال�شهري: رب م � ��ن �أج� � � ��ل ال� �ط� �ف ��ول ��ة وح ��ده ��ا وي � � ��ا ّ ً �أف � ��� ��ض ب� ��رك� ��ات ال �� �س �ل��م �� �ش ��رق� �ا وم� �غ ��رب ��ا
نقد و�إبداع
- 118الأر�ض قنبلة موقوتة د� .شهاب غامن
- 122مناجاة النف�س يف ق�صيدة �شدو ال�سكون لل�شاعرة ال�شيخة هند �صقر القا�سمي د.عمر عتيق - 128عن الأم�س ق�صيدة �شعر عازار جنار
- 131يا طيور د .نايف علي عبيد
- 132ق�صتان للأطفال م�صطفى ملح
- 136الرحلة من الن�ص ال�شفاهي �إىل الن�ص املكتوب �أ�سماء الزرعوين
- 138من �أنت �أيها املالك لإبراهيم الكوين د .يو�سف حطيني - 146ال�رس الغام�ض لت�شارلز ديكنز
توفيق الأ�سدي
- 150يو�سا والإيرو�سية وفتنة الرواية حممد عطية حممود
اخلراط ومي�شال بوتور - 158مدار وذاكرتان ،ادوارد ّ د .حممد فاحت زغل - 164جتربة الأم بني الوهم واحلقيقة د .حممد الداهي
- 168تيني�سي ..كازان ..وبراندو ..يف عربة ا�سمها الرغبة مانيا �سويد
- 172م�شاهدات حاج عثماين يف مكة د .عمرو عبد العزيز منري
- 176ال�رشق يف مر�آة الفنانني الفرن�سيني هدى الزين
- 186قطوف من احلياة للدكتور �سامي �صربي القباين د.غالب خاليلي
- 190امل�رسح يف الإمارات هويدا �صالح
� - 194أما بعد فاطمة املزروعي
د .ريا�ض نع�سان �آغا رئي�س التحريــر
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
7
فكر �أحمد يو�سف داود �سوريا
الشرق والغرب..
االختالف الثقافي والقيمي يذكر �أرنولد توينبي يف كتابه (تاريخ الب�رشية) �أن �أوروب��ا ظلت حتى وقت مت�أخر من القرن الع�رشين تعترب �سائر ال�شعوب والأمم غري الأوروبية (خارج التاريخ ) حتى "يت�أوربوا"� ،أي حتى يلتحقوا ب�أوروبا يف نظم معي�شتهم وطرائق تفكريهم و�سلوكهم ومنظومات قيمهم ،ويف طرائق بناء م�ؤ�س�ساتهم :ال�سيا�سية ،والقانونية واالقت�صادية� ..إىل �آخره .وبالتايل حتى ي�أخذوا بثقافة �أوروبا باملعنى ال�شامل لكلمة (ثقافة) .وقد ذكر ذلك باعتباره م�أخذاً م�شين ًا على �أوروبا. ي�ؤكد املفكر العربي الكبري �إدوارد �سعيد -الذي عا�ش منذ يفاعته حتى وفاته يف الواليات املتحدة ،ودر�س ود ّر�س وحا�ضر يف كربيات جامعاتها وانطلقت منها �شهرته التي �أ�صبحت عاملية� ،أن �أوروب��ا منذ بدء ما �سمته ع�صر نه�ضتها قد تعاملت مع بقية �أمم العامل على مقيا�س ع��دائ��ه��ا التاريخي للعرب خ�صو�ص ًا وللم�سلمني عموم ًا؛ باعتبارهم الأمنوذج لتلك الأمم دون ا�ستثناء ،فكان ذلك م�سوغ ًا فكري ًا �أ�سا�سي ًا من م�سوغات حروبها اال�ستعمارية وحروبها الإبادية من �أجل اال�ستيطان يف قارتي العامل اجلديد ،ويف فل�سطني 8
العدد
7
وجنوب �إفريقيا من العامل القدمي. �أم��ا ال�شاعر الإنكليزي رودي��ار كبلنغ ال��ذي عا�ش يف الثلث الأخ�ير من القرن التا�سع ع�شر والثلث الأول من القرن الع�شرين فقد قال يف ق�صيدة م�شهورة: "ال�شرق �شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" .ف�أكد بهذا التق�سيم �أن �أوروبا الغربية وا�ستطاالتها اال�ستيطانية هي (غ��رب) و�أن بقية العامل هو(�شرق) على مثال ب�لاد العرب امل�سلمني الذين هم يف الفكر الغربي (�أقدم اخل�صوم). �إن هذا يقودنا �إىل وجوب النظر يف الفروق الأ�سا�سية
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
لقد قاد ادع��اء األخ��ذ بالمعجزة اإلغريقية كمرجعية عليا للنهضة األوروبية
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
9
إلى تجريد منجزات تلك النهضة من أية روحية حقيقية ،مثلما جردها من أية منظومة قيمية
ب�ين الثقافة العربية ال��ت��ي �أق���� ّرت �أ���ص��ول��ه��ا بظهور الإ���س�لام ،وت��ط��ورت �أن�ساقها :املفهومية والقيمية والعلمية وال�سلوكية االجتماعية ..وغريها ،بالتفاعل مع خمتلف ما تهي�أ لها االت�صال به من الثقافات املعا�صرة لها خالل �أكرث من �سبعة قرون. لي�س لدى �أي م�سلم ذرة �شك يف �أن الثقافة العربية الإ�سالمية ا�ستندت يف تكونها وتطورها �إىل (مرجعية �إلهية) متثلت يف القر�آن الكرمي املوحى به من اهلل �صح من احلديث �إىل النبي حممد (���ص) ،ويف ما ّ الذي ثبت نقله عن النبي املو�صوف يف القر�آن ب�أنه
"ما ينطق عن الهوى" .وقد �شهدت هذه املرجعية حرب ًا غربية �شعواء عليها منذ ق��رون طويلة ،لكنها بلغت احل ّد الأعلى من ال�ضراوة ال�سافلة خالل العقود الثالثة املا�ضية وخ�صو�ص ًا يف ال�سنوات الأخرية. وال ترجع ه��ذه ال�ضراوة �إىل خ�لاف ذي �أهمية بني م�سيحية �أوروبا وبني الإ�سالم املرتبط بالقر�آن والذي "نزل بل�سان عربي مبني" .وخ�صو�ص ًا �أن الدعوة �إىل احلوار العاملي للأديان ،ولقاءات هذا احلوار قد �أ�صبحت الآن واحدة من املطالب امللحوظة يف عالقات عاملنا الراهن ،و�إن تكن غري ذات جدوى حا�سمة يف
مالكومل برادبريه
بيري رو�سيه
هذه العالقات املحكومة بامل�صالح،ح�سب تقديري. ويف احلقيقة ترجع تلك الهجمة ال�ضارية �إىل الإطار الفكري العام الذي بنيت عليه (نه�ضة �أوروبا!) ،و�إىل النظام القيمي املرتابط معه يف ٍ ّ موحد يتكامل (كل) ّ مع ا�ستهدافات �أ�سا�سية مل تزل ثابتة منذ بدء النه�ضة حتى هذه اللحظة .وميكن القول �إن �سائر منجزات النه�ضة يف �سائر امليادين الفكرية والعلمية والتقنية و�ضعت -يف املح�صلة والدبية والفنية وغريها قد ِ الإجمالية لتطورها حتى الآن يف خانة العدائية لبقية �شعوب العامل ،وخانة العدوانية ال�شر�سة عليها .وقد و�صلت حال ال�شرا�سة هذه �إىل �أن تندفع �أوروبا ذاتها نحو االنتحار الذاتي يف جملة من احلروب ،كان من �أبرزها و�آخرها احلربان العامليتان الأوىل والثانية، مم��ا �أدى الن��ت��ق��ال ال���دور ال��ق��ي��ادي منها �إىل �أب��رز ا�ستطاالتها اال�ستيطانية :الواليات املتحدة الأمريكية. �أم���ا مل���اذا ك��ان��ت – والت����زال -العدائية والعدوانية الأوروبية/الأمريكية ال�شديدة موجهة �ضد العرب ب�شكل خا�ص و�ضد امل�سلمني ب�شكل ع��ام ،ف���إن لذلك �أ�سباب ًا تاريخية وجيو ا�سرتاتيجية معقدة .فالوطن العربي يواجه �أوروب���ا جغرافي ًا من اجلنوب باجتاه �إفريقيا ،وم��ن ال�شرق باجتاه �آ�سيا مواجهة كاملة ت��ق��ري��ب�� ًا ..كما يحتوي على �أه���م امل��م��رات البحرية اال�سرتاتيجية العاملية ،بالإ�ضافة �إىل امتالكه – 10
العدد
7
روديارد كبلنغ
وعمقه الإ�سالمي� -أهم ثروات العامل الرثوة الطاقية/ ن�سغ احل�ضارة احلديثة ون�سغ احلياة الب�شرية كلها. �أم��ا بالن�سبة �إىل العالقات التاريخية واحل�سا�سية العدائية املتولدة عنها ف�إنها ترجع �إىل القرن الثالث ع�شر قبل امليالد( :غزوتي �شعوب البحر) على �آ�سيا ال�صغرى وم�صر و�سوريا �آنذاك ،وكان عمر ح�ضاراتها يزيد على �ألفي عام بينما مل تكن تلك ال�شعوب الغازية القادمة من �أوروب���ا قد خرجت تقريب ًا من مرحلة ال��زراع��ة �شبه امل��رحت��ل��ة .وا�ستمرت ال��غ��زوت��ان نحو قرن كامل قبل �إنهائهما .وبعد ذلك توالت احلروب واحل��روب امل�ضادة من غزو الفر�س لليونان القدمية �إىل غزو الإ�سكندر املكدوين لل�شرق كله ،حيث و�صل بجيو�شه �إىل �أفغان�ستان� ،إىل احتالل روم��ا مل�صر و�سوريا و�آ�سيا ال�صغرى ،ثم دخول العرب امل�سلمني �إىل الأندل�س و�إقامتهم ح�ضارة مزدهرة فيها دامت نحو ًا من �سبعة ق��رون ،و�أخ�ي�ر ًا :احل��روب ال�صليبية التي ب��د�أت يف نهاية القرن احل��ادي ع�شر امليالدي، وا�ستمرت �أكرث من قرنني الحقني .لكن ابتداء ع�صر نه�ضة �أوروبا ال ي�ؤ ّرخ له ر�سمي ًا �إ ّال يف عام 1492عام �سقوط غرناطة �آخر معاقل العرب يف الأندل�س ،بعد ��روب متقطعة �ضد بقية احلوا�ضر العربية هناك ح ٍ دامت �أق ّل بقليل من خم�سة قرون متوا�صلة. �إن هذا كله قد لعب دور ًا حموري ًا يف ا�ستبناء �أوروبا
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
للنظام الفكري /القيمي الذي ارتكزت عليه نه�ضة �أوروب���ا وا�ستهدافاتها وتطوراتها� ،أي �إن ذل��ك لعب دور املحفز الرئي�سي يف ت�ش ّكل ثقافة �أوروبا احلديثة ٌ مرتابط �صميمي ًا ب�صرف برمتها ،ومبا هي ك ٌّل متكام ٌل النظر عن ميادينها ومتظهرات معطياتها الواقعية ال�شمولية. بعد كل ما تق ّدم ن�ستطيع الآن �إجراء مقاربة �سريعة �أو م��وج��زة لأ���س�����س ذل��ك ال��ن��ظ��ام الفكري/القيمي وا�ستهدافاته مما قامت عليه نه�ضة �أوروبا وتطورت منه ثقافتها اجما ًال ،كيما نتمكن بعد ذلك من �إجراء مقارنة بني �أهم مرتكزات ك ّل من الثقافتني العربية والأوروبية ،ونخل�ص �إىل ما قد يكون ذا �أهمية بالغة من النتائج والفروقات اجلذرية بينهما. ميكننا �إيجاز النظام الفكري/القيمي وا�ستهدافاته يف تلك النه�ضة بالت�سمية ال�شائعة املعروفة( :نظرية املركزية الأوروبية)� ،أو بالأحرى (متركز �أوروبا على ذاتها) وفق ًا لإ�شارة توميبي يف بدء هذه املقالة. �إن التمركز على الذات هو ٌ مر�ض ي�صيب ال�شخ�صية الفردية واجلمعية -وي�ش ّوه تفكريها و�سلوكها،وبالتايل نظرتها �إىل الواقع و�إىل الآخرين ،فتت�ش ّوه بذلك عالقاتها معهم ،وي�ؤدي هذا �إىل انحراف مع ّقد ومع�ضل يف تقومي ال�شخ�صية امل�صابة بالتمركز املذكور لكل ما يحيط بها وما تراه �أو تواجهه .ويتعزّز بذلك العدد
انحراف القيم التي و ّلدها ذلك املر�ض الذي يجب �أن نالحظ �أنه يف حال �إ�صابة اجلماعات واملجتمعات به ي�صبح �أ�شد فداحة و�ضرر ًا ،وت�صبح ال�شخ�صية �أ���ش�� ّد ان��ح��راف�� ًا ،وه��ذا هو ح��ال �أوروب���ا وا�ستطاالتها اال�ستيطانية منذ بداية (نه�ضتها!) حتى الآن .و�إذا كانت الثقافة العربية الإ�سالمية قد اعتمدت �إجما ًال على مرجعيتها الإلهية ف�إن �أوروبا قد انتقت لنف�سها انتقا ًء (مرجعية مفربكة) فربكة كاملة ،فقد زعم منظروها – ومازالوا – �أنّ النه�ضة قد ا�ستندت �إىل احد (معجزتني!!) اثنتني مل ي�ستفد �أ�صحابهما من ٍ قبلهما وهما: املعجزة الإغريقية يف الفل�سفة والعلوم. املعجزة العربانية يف ( التوحيد!)فق�سموا ثم �أكملوا الفربكة باخرتاع النظرية العرقيةّ ، العامل القدمي �إىل عرقني اثنني: العرق ال�سامي اخلامل. العرق الآري املبدع.وينفي الربوفي�سور( بيري رو�سي) يف كتابه (مدينة �إيزي�س -التاريخ احلقيقي للعرب) هاتني املعجزتني �سامي لي�ست ويدح�ضهما بقوة� .إن��ه ي�ؤكد �أن كلمة ّ �أكرث من ن�سبة �إىل �شخ�صية �أ�سطورية هي(�سام بن نوح) ،ولذلك ف�إن احلديث عن (عرق �سامي) لي�س �إ ّال �أكذوبة معرفية كربى لإلغاء العرب الذين مل�ؤوا 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
11
تبعًا للتوجه المادي النفعي المبتذل كمحور الستهدافات النهضة ،فإن درجة إنسانية هذا (اإلنسان) تتحدد بحجم ملكيته للثروة .وكلما كبرت تلك الثروة كثرت حقوقه وتضاءلت واجباته ،والعكس صحيح! ّ
ح��و���ض املتو�سط مب��ا �أب��دع��وه منذ بدء احل�ضارة .ثم ي�ضيف �أن الإغريق مل يكونوا �إ ّال �شرفة يف ذلك البناء العربي ال�ضخم باعرتاف هريودوت�س نف�سه!. �أم���ا ع��ن ال��ع��رق الآري املبدع ال�����ذي ت���زع���م �أوروب��������ا �أن��ه��ا والإغ���ري���ق م��ع�� ًا ينتمون �إل��ي��ه �صاف" فيقول�" :إنه اخ�تراع ٍ م��ن �أج��ل التقابل م��ع �أك��ذوب��ة ال��ع��رق ال�سامي اخل��ام��ل! ويف املمار�سة العملية الأوروبية نرى �أن الن�سبة لل�سامية اقت�صرت املمجدين بحجة على اليهود َّ �أن ال�سيد امل�سيح ظهر بينهم!. وال �شك �أن وراء الأكمة ما وراءها كما يقال! على �أن ما يهمنا لي�س هو الأخذ مبعجزة التوحيد عند العربانيني، فالأوروبيون حتى وقت مت�أخر ما كانوا يطيقون اليهود من جهة ،ومن جهة �أخ��رى هم مل يتمكنوا من متثل الروحية اجلليلة يف امل�سيحية ،كما �أنهم مل يعملوا يوم ًا بقيمها النبيلة لأ�سباب كثرية لي�س هنا مو�ضع اخلو�ض فيها. �إن ما يهمنا هو ادع��اء الأخ��ذ باملعجزة الإغريقية، واالخرتاع املفربك للنظرية العرقية مع ادعاء االنتماء �إىل العرق الوحيد املتف ّوق! .لقد ق��اد ادع��اء الأخ��ذ باملعجزة الإغريقية كمرجعية عليا للنه�ضة الأوروبية �إىل جتريد منجزات تلك النه�ضة م��ن �أي��ة روحية حقيقية ،مثلما جردها من �أية منظومة قيمية با�ستثناء (القيم النفعية) التي ال تتجاوز ح ّد (الفردية) �شبه املطلقة .وهي يف نهاية املطاف منظومة قيم حمورها 12
العدد
7
هو متلُّك ال�ثروة ب�أية و�سيلة متاحة ومن � ّأي (�آخر) حتى لو كان مواطن ًا وج��ار ًا� .أ ّم��ا خملوقات البلدان غري الأوروبية ،فكل ما لديهم مباح �أو قيد اال�ستباحة تبع ًا الحتياجات الأوروبيني ،ولو ت���أ ْورب املالكون من تلك املخلوقات ،لأن ذلك يف الأ�صل حق للعرق املتفوق وحده ح�سب اعتبارات �أوروبا! .و�إذا �أ�ضفنا �إىل ذلك ما يرتتب على فكرة (العرق املتف ّوق) من عن�صرية مقيتة وازدراء م�شني وم��ن ح ٍ��ق يف التالعب املاكر مب�صائر (الأعراق الدنيا اخلاملة!) ف�إننا �سن�صل �إىل كثري من النتائج اخلطرية ،من �أهمها: �إنّ (الإن�����س��ان) ه��و الأوروب����ي الأبي�ض ذو الأ�صلالآري فقط! .و�سيتط ّور ذل��ك يف ال��والي��ات املتحدة لي�صبح( :الأوروب��ي الربوت�ستانتي من العرق الأجنلو �سك�سوين). ت��ب��ع�� ًا ل��ل��ت��وج��ه امل�����ادي ال��ن��ف��ع��ي امل��ب��ت��ذل كمحورال���س��ت��ه��داف��ات النه�ضة ،ف����إن درج���ة �إن�سانية هذا
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ولد م�صطلح احلداثة ر�سمي ًا على يد ال�شاعر الفرن�سي بودلري عام 1848 الذي علم با�سم ( عام ربيع ال�شعوب) .وبرغم �أن هذا امل�صطلح جرى ح�صره يف ال�شعر خ�صو�ص ًا (الإن�سان) تتح ّدد بحجم ملكيته للرثوة .وكلما كربت تلك الرثوة كرثت حقوقه وت�ضاءلت واجباته ،والعك�س �صحيح! يح ّدد الأم���ران ال�سابقان معنى الفردية ومداهاو�أهميتها :لي�س فقط يف التك ّون الطبقي الداخلي للمجتمع الغربي الواحد� ،أو بني الأف��راد من طبقات خمتلفة� ،أو ب�ين الأف���راد داخ��ل الطبقة ال��واح��دة.. بل هما �أي�ض ًا -و�أ�سا�س ًا -ي�صوغان طبيعة الر�ؤية العامة لأم��ور مثل :احل��ب وال���زواج واجلن�س وحرية الرجل وامل��ر�أة ،وللكيفية التي ت�صاغ وفقها عالقات البن ّوة والأب ّوة ،وم�سائل الإنفاق واال�ست�ضافة �إىل �آخر القائمة الطويلة للعالقات االجتماعية الب�سيطة .وهي جميع ًا ق�ضايا تدور حولها الن�شاطات الفنية والفكرية والأدبية عموم ًا ،كما �أنها حمكومة بالنفعية اخلال�صة والأنانية ،مثلما �أنّ لها انعكا�سات وارتكا�سات ال ميكن ح�صرها. ح�� ّف��زت النفعية ال��ف��ردي��ة وارت��ب��اط جملة القيمبامتالك الرثوة على �أمرين يف غاية الأهمية� :أولهما هو البحث يف ميادين العلوم املختلفة -بال ا�ستثناء - بحث ًا جتريبي ًا متوا�ص ًال من �أجل املزيد من اكت�شاف جملة ال��ق��وان�ين اخل��ا���ص��ة بكل ع��ل��م ،وال��ع��ام��ل على تو�سع �أ�سواق العمل القائمة �إىل تطوير التقنيات التي ّ وحت�سن �أداءه��ا حت�سيناً احل��دود الق�صوى املمكنة، ّ متواتر االرتقاء .وهذا كله يخلق مزيد ًا من احلاجات ال�ضرورية املتجددة للم�ستهلكني فيقود با�ستمرا ٍر �إىل املزيد من الربحية واملزيد من تركيم الرثوات .ثانيهما هو �أن التطور ال�صناعي الوا�سع خلق ،بالإ�ضافة �إىل م���وروث اجل�شع التاريخي الطويل الم��ت�لاك ث��روات الآخرين غري الأوربيني ،حاجة ملحة لغزو بقية بلدان العامل بذريعة افتتاح �أ�سواق جديدة ،واحل�صول على العدد
امل��واد الأولية الالزمة لل�صناعة ،والحق ًا :لل�سيطرة على امل�صادر الطاقية .فا�ستكمل ا�ستعمار ما تبقى من �آ�سيا و�إفريقيا خالل القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين، بينما عملت ال��والي��ات املتحدة على ب�سط هيمنتها ونفوذها الكامل يف الأمريكتني ال�شمالية واجلنوبية وما حولهما من اجلذر منذ ا�ستقاللها عام 1776ومل ت�سلم من ذلك �إ ّال كندا .واحتاج هذا اال�ستعمار �إىل ع�سكرة وا�سعة راح��ت ت��زداد ات�ساع ًا وتطور ًا يف �آلة احلرب مع ازدي��اد حدة الت�صارع بني خمتلف الدول امل�ستعمِ رة. ً ول��د م�صطلح احل��داث��ة ر�سميا على ي��د ال�شاعرالفرن�سي بودلري عام 1848الذي علم با�سم ( عام ربيع ال�شعوب) .وبرغم �أن هذا امل�صطلح جرى ح�صره يف ال�شعر خ�صو�ص ًا ،ويف الأدب والفن ب�شكل عام ف�إنه �شامل يف �أوروبا) ّ ودل عليه. قد انبثق من ( مناخ تطو ٍر ٍ ويتمثل ذلك املناخ ال�شامل يف انتقال ال�صناعة و�أدوات النقل التجارية البحرية خ�صو�ص ًا �إىل املكننة ،هذا من جهة ..ومن جهة �أخرى جرى انتقال وا�سع من الريف وم��ن امل�ستعمرات �إىل امل��دن الأوروب��ي��ة التي راح��ت بهذا االنتقال ت�أخذ �شكلها احلديث مثلما تتو�ضح فيها التق�سيمات الطبقية ،وتتولد فيها اللغة الواحدة م��ن خالئط اللهجات املحل ّية ،وم��ن لغات ولكنات ��اب خمتلفة وتلك القادمني م��ن امل�ستعمرات لأ���س��ب ٍ اللغات �أحدثت تغيريات جذرية :تعبريية ومفهومية، يف الفنون القولية للأجنا�س الأدبية اجلديدة .وهكذا مت اعتبارها احلامل احلداثي الرئي�سي لأجواء ذلك التطور وم�ستجراته .وبرغم كرثة الكتب ال�صادرة عن (احلداثة) ف�إن �أحد ًا مل ي�ستطع حتديد مدلولها بدقة �أو و�ضع تعريف �شامل يو�ضح مفهومها تو�ضيح ًا �شافي ًا، لكن امل�صطلح �شاع وع ّمم عاملي ًا باعتباره دا ًال على �أحد 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
13
األم�����ة ال��ع��رب��ي��ة ل���م ت���ع���رف م��ن��اخ��ًا ت���ط���وري���ًا م��ش��اب��ه��ًا ل��م��ن��اخ ال���ح���داث���ة ف���ي أوروب�����ا
�أهم منجزات النه�ضة .وقد جعله هذا االعتبار املطلب الأهم ملثقفي امل�ستعمرات ،خا�صة بعد اال�ستقالل. يزعم الغرب الأوروب��ي وا�ستطاالته اال�ستيطانية -خ�صو�ص ًا دولة الواليات املتحدة – �أن النه�ضة قامت على العلمانية واتباع مبد�أ ف�صل الدين عن الدولة، لكن ما حدث حقيقة هو �أن مبد�أ النفعية املطلقة وغري امل�شروطة ب�أي �شرط ،والذي كان – وال يزال – �أ�سا�س النه�ضة وغايتها الكلية ،مل يكن ممكن التحقق �إ ّال ب�إلغاء كل ما هو روحي و�إزالته من م�سار تلك النه�ضة و�صريورتها. وب�صرف النظر عن تاريخ الكهنوت الأوروبي وعالقته بالنفعية قبل بدء النه�ضة بقرون كثرية ،ومن موقع التحكم بالنا�س واحلكام النبالء وامل��ل��وك ،ف���إن ما فعله النه�ضويون لي�س �أكرث من �أنهم و�ضعوا الدين ورج���ال الكهنوت يف خدمة ال��دول��ة اجل��دي��دة ،دول��ة الطغمة الر�أ�سمالية ال�صاعدة� .إنّ البعثات التب�شريية
14
العدد
7
كانت غالب ًا ما ت�سبق اجليو�ش �إىل البلدان امل�ستهدفة باال�ستعمار من �أج��ل التمهيد لتقبله و�إق��ام��ة نقاط ارتكاز له ،و�إذا ت�أخرت ج��اءت لتعمل على ذلك يف ظله!� .أما اجلهاز املفاهيمي حلكام الواليات املتحدة فقد ب��د�أ قبل ا�ستقاللها مبئة و�سبعني عام ًا جهاز ًا ديني ًا( :كالفاني ًا – بروت�ستنتي ًا� -أجنليكاني ًا مه ّود ًا)، كل من االقت�صاد وهو م�ستمر حتى الآن بتحكمه يف ٍ وال�سيا�سة ،وغريهما بامتياز �شامل. ً يف �ضوء كل ما �سبق ذكره يت�ضح جليا ما الذي تعنيهفع ًال م�صطلحات مثل احلرية والدميقراطية وحقوق الإن�سان ،وغريها مما يكرث الغربيون الإمربياليون من ترديده يف وجه كل �أم�� ٍة ترف�ض هيمنتهم .و�سنكتفي بهذه الإ�شارة جتنب ًا للتكرار والإطالة. يف بلد ك��ال��والي��ات املتحدة حيث ال ت��وج��د ح��دودحلرية البحث عن ال�ثروة �أو اقتنا�صها ب�أية و�سيلة، كان �أمر ًا طبيعيا �أن تن�ش�أ املافيات و�أن تتوطد �صالتها
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�أكد النبي العربي (�ص) �أنه "ال ف�ضل لعربي على �أعجمي ،وال لأبي�ض على �أ�سود �إ ّال بالتقوى". وهذه القاعدة اجلذرية للثقافة العربية ت�شري �إىل االختالف القطعي مع ثقافة �أوروبا
و�أن ( َت َت َب ْنينَ َ) امتداداتها داخل الأجهزة احلاكمة. ومع التطورات العا�صفة يف الن�صف الأول من القرن الع�شرين ،تطورت ا�ساليب عملها وتنوعت ميادين ن�شاطاتها �أي�ض ًا. ومع و�صول ذلك البلد �إىل مركز القيادة للمع�سكر الإمربيايل املد َّمر بعد احلرب العاملية الثانية ،بد�أت الأج��ه��زة املخت�صة هناك بتطوير نوعي للمافيوية بنى جديدة م�ستحدثة لها ،وراحت تعمل على وب�إنتاج ً ً ن�شرها حيثما �أمكنها ذل��ك :خ�صو�صا يف الأو�ساط الإدارية واالقت�صادية وال�سيا�سية ملختلف دول العامل الثالث -كما كان ي�سمى يف زمن احلرب الباردة – بغية اخرتاقها و�إحلاق تلك الدول بها وب�سيا�ساتها �إىل �أق�صى ح��دٍّ ممكن .وق��د تنامى تعميم تلك املافيوية عاملياً خ�لال ال��رب��ع الأخ�ي�ر م��ن ال��ق��رن الع�شرين وم��ا تاله من �سنوات القرن اجلديد ،وظهر املزيد من ال�صيغ املافيوية التي مل يكن لبع�ضها مثيل من قبل. ومنذ نهاية ال�سبعينيات من القرن املا�ضي تفاقم النزوع اال�ستهالكي يف العامل ومع ذلك التفاقم تعززت ثقافة اال�ستهالك التي حولتها املتغريات املعقدة �إىل ثقافة ف�ساد و�إف�ساد� ،أنهكت الكثري من بلدان العامل، ومل ت�سلم من ذلك حتى �أمريكا ذاتها ،ويف الوقت عينه راحت الب�شرية ت�شهد موجة عاتية من التحلل :ثقافي ًا وقيمي ًا و�أخالقي ًا ،بلغت ذروتها مع االنت�شار ال�سريع ملا �أنتجته (الثورة التكنو �إلكرتونية) من خمرتعات �أحدثت تغيريات مذهلة وجذرية وح��ادة الت�أثري يف جممل الأو�ضاع الب�شرية عموم ًا .وباملقابل ،وبالتوازي مع ذلك كله عملت الدوائر الإمربيالية املت�صهينة على ت�شجيع نهو�ض الأ�صوليات يف العامل ،وعلى �إعادة بنينتها مافيوي ًا ،ف�أ�س�ست بذلك النت�شار ثقافة القتل العدد
والتدمري ملجرد القتل والتدمري حتت يافطات �شعارية كبرية ،مع مالحظة �أن ذلك يتم جتيري نتائجه ل�صالح خمططات تلك الدوائر وا�ستهدافاته املعروفة. تلك كانت ن َب ٌذ موجزة جد ًا عن بع�ض �أهم العنا�صر املكونة لثقافة ال��غ��رب الأوروب����ي منذ ب��دء نه�ضته، وللتطورات املرتتبة على (عنا�صر التكوين) تلك عرب ب�ضعة قرون ،وقد جتاوزنا عمد ًا بع�ض العنا�صر الهامة الأخرى كظاهرتي اال�ست�شراق واال�ستغراب ،و�أ�شكال الثقافة العن�صرية داخل املجتمعات الغربية ،و�صو ًال �إىل ما بات يعرف الآن با�سم (ثقافة ديفو�س) .لكن التحليل وال�شرح يقت�ضيان الإطالة ،وهذا ما نحاول حتا�شيه هنا. واملهم بالن�سبة �إلينا الآن هو �إلقاء نظرة �سريعة على ثقافتنا العربية� :أهم �أ�صولها � -سريورة تطورها - واقعها الراهن و�إف��رازات��ه� ...إلخ .والأه��م هو �إظهار �أوج��ه االختالف اجلذرية بينها وب�ين ثقافة الغرب الإمربيايل ،وهل ميكن التقا�ؤهما يف �آفاق جديدة �أم ال ؟! .ولن يفوتنا التوكيد هنا �أن الكائن الب�شري هو خملوق ثقايف �أو ًال و�أخ�ير ًا .و�سنبد�أ مبا نحن ب�صدد �إظ��ه��اره بالتذكري مبا كنا �أ�شرنا �إليه قب ًال من �أن مرجعية الثقافة العربية الإ�سالمية هي (مرجعية �إلهية) وبناء على ذلك ميكن �أن نقول ما يلي: ن�صت هذه املرجعية على �أن الإن�سان م�ستخلف يف ّالأر�ض ،وعلى �أن امللك كله هلل .فالإن�سان هكذا لي�س �أكرث من (منتفع) بخريات الأر�ض ال يحق له العبث مبا هو م�ستخلف فيه وال الإخ�لال بتوازناته .ونحن هنا �أمام قاعدة افرتاق جذرية مع نظريتها يف ثقافة النه�ضة الأوروب��ي��ة :قاعدة النفعية واحل�صول على ال�ثروة ب�أية و�سيلة ،وتقدير درج��ة �إن�سانية الإن�سان بحجم ثروته! 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
15
إن ال��ح��داث��ة ال��ت��ي كثر الحديث عنها منذ منتصف ال��ق��رن الماضي ل��م تستطع أن ت��وج��د أفقًا لغويًا مختلفًا كثيرًا عن األف��ق القديم ،في الشعر على وج��ه الخصوص ،وف��ي غيره بصفة عامة
�إن التمركز على الذات هو ٌ مر�ض ي�صيب ال�شخ�صية الفردية واجلمعية -وي�ش ّوه تفكريها و�سلوكها،وبالتايل نظرتها �إىل الواقع و�إىل الآخرين
ن�صت هذه املرجعية �أي�ض ًا على �أن النا�س خلقوا ّمن "نف�س واحدة" ،وه��ذه النف�س خلق اهلل منها زوجها ثم بث من االثنني "رجا ًال كثري ًا ون�ساء"، وجعل اخللق "�شعوب ًا وقبائل" ليتوا�صلوا عن طريق ال��ت��ع��ارف .ث��م ح�� ّدد �سبحانه ب��د ّق��ة قطعية م��ن هو الأكرم عنده �إذ قال "�إن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم". والتقوى هي ال��ت��زام ما �أم��ر به اهلل واالنتهاء عما نهى عنه ،وق��د �أك��د النبي العربي (���ص) �أن��ه "ال ف�ضل لعربي على �أعجمي ،وال لأبي�ض على �أ�سود �إ ّال بالتقوى" .وهذه القاعدة اجلذرية للثقافة العربية ت�شري �إىل االختالف القطعي مع ثقافة �أوروب��ا التي تعتمد على العرقية والعن�صرية. ن�صت هذه املرجعية كذلك على �أن "من قتل نف�س ًا ّبغري نف�س �أو ف�ساد يف الأر�ض فك�أمنا قتل النا�س جميع ًا ومن �أحياها فك�أمنا �أحيا النا�س جميع ًا" .ومما ال ريب فيه �أن هذه القاعدة مل تكن تطبق دائم ًا خالل التاريخ العربي :ال يف احلروب املختلفة ،وال من قبل الطغاة من ال��والة واحلكام ..غري �أن وجودها غالب ًا ما كان رادع ًا عن الإ�سراف يف القتل� ،أو حتى دافع ًا قوي ًا للعفو يف ظروف كثرية .وبالت�أكيد ال ميكن �أن تُقارن القاعدة (النه�ضوية!) التي تبيح القتل والتدمري والإبادة من �أجل امتالك الرثوات �أو يف ال�صراعات على امتالكها، مب�ضمون هذه القاعدة الثقافية العربية. ون�صت مرجعية ثقافتنا �أي�ض ًا على �أن اهلل ح ّرمالربا يف �أكرث من مو�ضع من القر�آن الكرمي .ويف حجة الوداع ح ّرمه النبي ( �ص) و�أ�سقط ما كان منه على النا�س �آنذاك يف خطبته امل�شهورة يف تلك احلجة. توعد اهلل �سبحانه يف القر�آن الكرمي من يكنزون ّاملال وال ينفقونه يف �سبيل اهلل ب�أ�شد العذاب يف الآخرة. وجعل �أي�ض ًا للفقراء ق��در ًا معلوم ًا من �أموالهم كما 16
العدد
7
و�ص ّنفت جمموعة الإنفاقات جعله لل�سائل واملحرومُ . �أو ال�صدقات �إىل ما هو فر�ض ي���ؤ َّدى �إىل بيت مال واخلراج) ،و�إىل ما هو �إح�سا ٌن جرى امل�سلمني (الزكاة ِ ّ احل�ض عليه يف كثري من الن�صو�ص القر�آنية ون�صو�ص ال�س ّنة النبوية ،ويف �أحوال غري قليلة. عموم ًا �إن من يقر�أ الأوامر والنواهي التي �أمر بهاالقر�آن الكرمي وال�س ّنة النبو ّية يجد �أنها تتناول خمتلف جوانب احلياة ،فتنظمها تنظيم ًا متوازن ًا يجعل التوازن قائم ًا يف الأو�ضاع االجتماعية عامة ومينع الإخالل بها نهائي ًا .وتف�صيل ذلك يطول كثري ًا لكننا نذكر على وجه اخل�صو�ص ما يتعلق ب�أداء الأمانات �إىل �أهلها، وم��ا يتعلق منها بتحرمي الغ�ش والر�شوة والتالعب بالكيل وامليزان ..الخ. من امل���ؤك��د �أن ه��ذه القواعد مبجملها -وخ�صو�ص ًا منها ما يتعلق ب�أمور املال -قد ُخرقت منذ �أن حتولت اخلالفة �إىل ( ُملك ع�ضو�ض)! .وم��ع والدة الكثري من املذاهب املتحاربة فيما بينها نتيجة للخالفات بني امل�سلمني ونتيجة للتفاعالت الثقافية ذات العمق الوا�سع مع فل�سفة اليونان من جهة ،ومع منقوالت من الديانات :املجو�سية وال�صابئية والهندية الوافدة ومع اليهودية الق ّرائية والقبالية (الرب ّية) وغريها من جهة �أخرى ،ثم متزّق الدولة الإ�سالمية �إىل �إمارات وممالك �صغرية غالب ًا ما كانت متحاربة �أي�ض ًا من جهة ثالثة ،بالإ�ضافة �إىل ما رافق ذلك كله من ا�ستئثار احلكام وال�سالطني وق��ادة اجلند واملتنفذين باملال العام وم��وارده� ،أ�صبحت اخلروقات فادحة فا�ضحة وخم ّلة بالإ�سالم ال�صحيح -يف م�ستوى النخبة على الأق��ل -لكنّ ب�سطاء النا�س قد ظ ّلوا ملتزمني بتلك ال��ق��واع��د ال��ت��زام�� ًا م��ق��ب��و ًال �إىل ح�� ّد ك��ب�ير .ويالحظ هنا �أن اللغة العربية الف�صحى ال تزال ثابتة املعامل
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ميكننا �إيجاز النظام الفكري/القيمي وا�ستهدافاته يف تلك النه�ضة بالت�سمية ال�شائعة املعروفة( :نظرية املركزية الأوروبية)� ،أو بالأحرى (متركز �أوروبا على ذاتها)
متثال ابن خلدون
واملحموالت منذ �صدر الإ�سالم ،ورمبا منذ ما قبله بقرون كثرية .ولذلك ف�إن احلداثة التي كرث احلديث عنها منذ منت�صف القرن املا�ضي مل ت�ستطع �أن توجد �أفق ًا لغوي ًا خمتلف ًا كثري ًا عن الأفق القدمي ،يف ال�شعر على وجه اخل�صو�ص ،ويف غريه ب�صفة عامة. ويف تقديرنا �أن �أهم �سبب لذلك هو �أن بلدان الأمة ال��ع��رب��ي��ة مل ت��ع��رف م��ن��اخ�� ًا ت��ط��وري�� ًا م�شابه ًا ملناخ احل��داث��ة يف �أوروب����ا .كما �أنّ ثبات حم��م��والت اللغة (وهي حمموالت رعوية -زراعيةِ -حرفية ،مل تدخلها م�ستجدات معا�صرة دخ��و ًال حقيقي ًا) قد حال بدوره دون �إنتاج احلداثة الأدبية/الفنية املطلوبة. وت�شري طبيعة اللغة العربية ال�سائدة منذ م��ا قبل الإ����س�ل�ام ب��ق��رون (اال���ش��ت��ق��اق -ع�لاق��ات �سال�سل الألفاظ ..وما �إىل ذلك) �إىل ا�ستمرار البنية القرابية يف ال��واق��ع االج��ت��م��اع��ي ،و�إىل ا���س��ت��م��رار الرتاتبية االجتماعية املرتبطة بالقرابة واملتحكمة عموم ًا بالعالقات املجتمعية ،الأمر الذي يعني انعدام االنتقال �إىل (املجتمع) باملعنى الأوروبي املعا�صر .وبالتايل �إىل بنية ال�سلطات يف خمتلف البلدان العربية. �أ ّما يف جمال االقت�صاد ،فنظر ًا �إىل التبعية التي وقعت فيها �أقطار الوطن العربي للغرب الأوروب��ي ،ونظر ًا
العدد
�إىل النهب ال��ذي �ساد احلقبة اال�ستعمارية وجعل من ه��ذه الأق��ط��ار جم�� ّرد �أ���س��واق لت�صريف منتجات الغرب وم�صدر ًا للمواد الأولية – وخ�صو�ص ًا للموارد الطاقية :النفط -ف�إنّ ال�صناعة ظلت ب�سيطة ب�سبب م�صادرة الغرب لقيامها ،كما راح��ت ت��زداد جتزئة هذا الوطن وخالفات �أقطاره حتى �إنّ تبادل الكتب بينها مث ًال تكاد تكون �شديدة ال�ض�آلة ،ال بل معدومة يف بع�ض الأحيان بني كثري من هذه الأقطار. �إنّ ما هو منتظر وم�أمول �أن يحقق العرب قفزة باجتاه موحدة على غرار الت�صنيع الالزم وباجتاه خلق �سوق ّ ال�سوق الأوروبية امل�شرتكة مث ًال ،فتتحقق بالتايل حال ثقافية متوائمة مع منجزات تلك القفزة .و�سيزداد ا�شتغال املرجعية الإلهية التي هي -كما �سبق �أن حددنا بع�ض تف�صيالتها -يف منتهى الإن�سانية والنبل والرقي الأخالقي .و�إذا ما حدث ذلك ف�سوف حتقق الأمة العربية نقلة نوعية كربى يف ارتقاء احل�ضارة و�إ�صالح عطبها القائم الآن ،وتلك مهمة قامت بها هذه الأمة م ّرات عديدة عرب التاريخ. �إذا ما ُعدنا الآن �إىل املقارنة بني �أ�س�س املرجعيتني اللتني تتواجهان يف احلقيقة تواجه ًا جذري ًا ف�إننا �سوف ندرك مدى اختالف ال�شرق العربي الإ�سالمي عن الغرب و�أبعاده ،ونعرف �أنهما غري قادرين فع ًال على االلتقاء يف نهاية املطاف ما مل تتغري نظرة ال��غ��رب �إىل ال��ع��امل وتتغري الأ���س�����س املرجعية التي يتعامل بها معه كي تكت�سب بعد ًا �أخالقي ًا �إن�ساني ًا ه��ادف�� ًا �إىل جعل التقدم العلمي والتقني مك ّر�س ًا خلدمة الب�شرية جمعاء والح�ترام �إن�سانية الب�شر وامل�ساواة بينهم �أينما وج��دوا .ومن دون ذلك ف�إنّ ذلك التق ّدم �سيظل خم ًّال �إخ ً الال فادح ًا حتى بالبقاء ذاته للجن�س الب�شري على هذا الكوكب 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
17
فلسفة الفن عند هيغل يرتبط تحليل هيغل الجمالي ارتباط ًا وثيق ًا برؤيته الفلسفية والسياسية واالجتماعية فكر
�إن درا�سات هيغل عن تاريخ الفن ،والفنون اجلميلة: العمارة ،النحت ،املو�سيقا ،الفن الت�شكيلي ،وال�شعر هي مو�سوعة ت�ساعدنا يف التعرف على تاريخية الفنون الأوروبية املعا�رصة ،وال �سيما �أن هيغل قد ا�ستوعب ما �سبقه من كتابات الفال�سفة وعلماء اجلمال ال�سابقني عليه ،ولذلك ف�إن فل�سفته جتمع �آراء ال�سابقني عليه وتدير حواراً جدلي ًا معهم ابتداء من �أفالطون حتى كانط ،وهو يعيد بناء اال�ستطيقا يف احل�ضارة الغربية على �ضوء التطور الفل�سفي الذي حلق باحل�ضارة الأوروبية.
د .رم�ضان ب�سطاوي�سي م�صر
ه ��ذه ال ��ر�ؤي ��ة اجل��دل �ي��ة ل�ل�ف��ن ت��رب�ط��ه ب��ال�ت��اري��خ وبالواقع االجتماعي والثقايف للح�ضارة الغربية، �سوف تعيننا على �إدارة حوار ثقايف نقدي بني ثقافتنا العربية وبني ثقافة احل�ضارة الغربية املعا�صرة التي ت�ستند يف كثري من �أ�س�سها اجلوهرية �إىل فل�سفة هيغل ،ولذلك ف�إن عر�ض فل�سفة هيغل هو �أمر هام، لكي يتم االنتقال �إىل حتليل علم اجلمال املعا�صر، ولكي يتم بعد ذلك نقد هذه االجتاهات املعا�صرة. وال �ه��دف م��ن درا� �س��ة هيغل ه��و ت�أ�سي�س فل�سفة ل�ل�ن�ق��د الأدب� � ��ي وال �ف �ن��ي ،مب �ع �ن��ى حت �ل �ي��ل الأ� �س ����س الفل�سفية واملعرفية التي ت�ستند �إليها النظريات 18
العدد
7
ال�ن�ق��دي��ة يف حتليل ال�ن���ص��و���ص الأدب �ي��ة والأع �م��ال الفنية ،مما يك�شف الطابع الأيديولوجي واملعريف لهذه النظريات وع��ن اجل��وان��ب املتباينة لل��أدوات الإجرائية التي ي�ستخدمها الناقد يف حتليل الأعمال الفنية. ي��رت�ب��ط حت�ل�ي��ل ه�ي�غ��ل اجل �م��ايل ارت �ب��اط �اً وث�ي�ق�اً بر�ؤيته الفل�سفية وال�سيا�سية واالجتماعية ،ومن ثم ف�إنه ال ميكن عزل الفن عن احل�ضارة لديه ،ولذلك ف�إن كل �سمات ن�سقه الفل�سفي امليتافيزيقي تظهر يف ر�ؤيته للفن ب�شكل وا�ضح .وهو ي�ضع الفن يف �صف واحد مع الدين والفل�سفة ،وي�صبح الفن بذلك �أحد
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
19
إن المقصود بالجمال عند هيغل هو الجمال الفني الذي تبدعه الروح اإلنسانية ،وليس الجمال الطبيعي ،ولذلك فهو يرفض النزعة الطبيعية في الفن التي تبغي تقليد الطبيعة أو تصويرها كما هي
الطرق ملعرفة حقائق الروح الكلية. �إن نظرية هيغل اجلمالية ال تهدف �إىل فر�ض ��ش��روط وق��واع��د ل�ل�إن�ت��اج الفني ،و�إمن ��ا ت�سعى �إىل معرفة طبيعة اجلمال� ،أي معرفة طبيعة الفن. �إن ح��اج��ة الإن �� �س��ان �إىل الن�شاط اجل �م��ايل تنبع م ��ن رغ �ب �ت��ه يف م �ع��رف��ة ذات � ��ه ،وت �ل �ب �ي��ة اح �ت �ي��اج��ات روحية عميقة لديه ،ولذلك يربط هيغل الن�شاط اجلمايل بالأ�شكال املتنوعة للممار�سة الإن�سانية، ويربطه بالعامل املحيط بالإن�سان ،والأ�شياء حتتفظ بوجودها امل�ستقل احل��ر يف العالقة اجلمالية ،لأن الإن�سان حني يتلقى العمل الفني ف�إنه يت�أمله دون �أن
ي�ستهلكه كما هو احلال يف املو�ضوعات التي يتعامل معها الإن���س��ان ت�ع��ام� ً لا عمل ّياً ب�ه��دف �سد حاجاته الرئي�سية مثل اجلوع والعط�ش. �إن امل �ق �� �ص��ود ب��اجل �م��ال ع �ن��د ه�ي�غ��ل ه��و اجل �م��ال الفني الذي تبدعه الروح الإن�سانية ،ولي�س اجلمال الطبيعي ،ولذلك فهو يرف�ض النزعة الطبيعية يف الفن التي تبغي تقليد الطبيعة �أو ت�صويرها كما هي. �إن وظيفة الفن هي الك�شف عن احلقيقة ب�شكل ح�سي ،وغ��اي��ة الفن تنبع م��ن ذات��ه ،م��ن خ�لال هذا الت�صوير وذلك الك�شف ،وينفي هيغل �أن يكون للفن
اهتمامات اإلنسان المهنية والهموم المختلفة التي تحيط به قد طبعت الوجه اإلنساني بطابع القبح والبشاعة
جورج فردرك هيغل ()1831 - 1970
غايات �أخرى مثل الوعظ والتطهري ،لأن هذا معناه �أن الفن يتحول �إىل جمرد �أداة وو�سيلة ولي�س غاية. ومهمة الن�شاط الفني بو�صفه ن�شاطاً روح � ّي �اً �أن يجعل وحدة الذاتي واملو�ضوعي املحققة يف الدولة مدركة بالوعي. ينتمي ال�ف��ن �إىل دائ ��رة ال ��روح امل�ط�ل��ق ،وغايته ه��ي الت�صوير احل�سي للمطلق ذات ��ه ،ول��ذل��ك ف��إن م�ضمون الفن هو الفكرة ،و�شكل الفن هو التج�سيد احل�سي ،وف�ك��رة اجلميل ،عند هيغل ،لي�ست فكرة منطقية جم��ردة ،ب��ل فكرة تتج�سد يف ال��واق��ع بعد �أن تدخل يف وح��دة مبا�شرة معه .واملق�صود باملثال يف الفن هو ال��واق��ع امل�صاغ يف تطابق مع مفهومه، ولذلك يعترب املثال هو املفهوم اجلمايل الرئي�سي عند هيغل ،الذي كر�س كتابه "اال�ستطيقا" ،لدرا�سة املثال وتطوره ،وتنوع الفن وغناه يرجع �إىل تطور املثال ،كما �أن اختالف الأ�شكال وال�صور الفنية تابع لطبيعة العالقة بني الفكرة و�شكلها اخلارجي� ،أي تابع لتطور املثال ،فحني يكون املثال جم��رداً ،ف�إن التج�سيد اخل��ارج��ي يكون جم��رداً ،وه��ذا م��ا يظهر يف ال�صورة الرمزية للفن ،ويت�ضح يف الفن ال�شرقي وفن العمارة ب�شكل خا�ص ،وحني يتطابق املثال مع 20
العدد
7
التج�سيد اخلارجي ،تظهر �صورة الفن الكال�سيكي، التي تتج�سد يف عامل الفن الإغريقي القدمي وفن ال�ن�ح��ت وح�ي�ن ي�صبح التج�سيد اخل��ارج��ي جم��رد �إ�شارة جمردة ومظهراً للمثال الروحي ،ف�إنه تظهر ال�صورة الرومانتيكية للفن التي تتج�سد يف فنون الت�صوير واملو�سيقا وال�شعر. لقد ق��دم هيغل حتليله للمقوالت اجلمالية من خالل التاريخ العيني للب�شرية ،فحني ي�صف الأنواع والأ�شكال الفنية ،ف�إنه يقدمها من خ�لال التطور التاريخي للح�ضارة الإن�سانية ولذلك ف�إن فل�سفته لتاريخ الفن ،تخ�ضع لنف�س التطور املنطقي الذي يتبعه يف فل�سفته لتاريخ العامل .وي��رد هيغل �سبب تطور ف��ن م��ا �إىل تطور امل�ضمون ،ال��ذي ينتج عن تطور احل�ضارة التي منا فيها الفن ذاته ،ولهذا ف�إن فكرته عن �سيادة فن ما – مثل العمارة يف احل�ضارات ال�شرقية ،وال�ن�ح��ت يف احل���ض��ارة الإغ��ري�ق�ي��ة – يف فرتة تاريخية حمددة دون غريه من الفنون ،يرجع �إىل �أن لكل مرحلة تاريخية ف ّناً �أ�سا�س ّياً يعرب عن هذه املرحلة .ولذلك تتحدد الأ�شكال الفنية بحالة العامل العامة ،فمث ً ال يرتبط ظهور امللحمة ب�سيادة الع�صر البطويل ،وظهور البطل امل�ستقل احلر ،لأن حالة العامل احل�ضارية وخمتلف ال�شروط التي يجد الإن�سان نف�سه فيها ،ت�ؤدي �إىل ظهور امللحمة .كذلك ف�إن حتول الإن�سان من فرد �إىل مواطن يف دولة ،مما �أ�ضفى على عالقته بالعامل طابعاً قانون ّياً� ،أدى �إىل ظهور النرث والرواية يف الع�صر احلديث. يف حتليل هيغل لل�شخ�صية الإن�سانية التي يجب �أن تكون مو�ضوعاً للفن ،قدم �صورة للنمط ،Type التي ا�ستفاد منها بعد ذلك جورج لوكات�ش ولو�سيان ج��ول��دم��ان يف نظريتيهما ال��روائ�ي�ت�ين ،فلقد ب نَّ�َّي�
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�إن حاجة الإن�سان �إىل الن�شاط اجلمايل تنبع من رغبته يف معرفة ذاته ،وتلبية احتياجات روحية عميقة لديه هيغل �أننا حني نتخذ من الإن�سان مو�ضوعاً للتمثل الفني ،يجب �أن نربز اجلوانب املختلفة يف الإن�سان، فال يبدو طيباً فقط� ،أو �شريراً فقط ،و�إمن��ا تظهر جوانب �ضعفه وقوته ،ويجب �أن نركز على ال�سمات اجلوهرية يف ت�صوير ه��ذا الإن���س��ان مثلما جن��د يف �آخيل عند هومريو�س ،وروميو عند �شك�سبري. �إن ح��ال��ة ال �ع��امل ،وال�ت�ح��والت ال�ك�برى لكل �أم��ة، وتناق�ضات الع�صر اجلوهرية هي املو�ضوع الأ�سا�سي للتمثيل الفني ،وال ب��د �أال يكتفي الفنان بتقدمي و��ص��ف ��س��اك��ن ،و�إمن ��ا يقدمها م��ن خ�ل�ال الأع �م��ال والأف�ع��ال الإن�سانية ،لأن العمل �أو الفعل هو الذي ي�ك���ش��ف ع��ن غ��اي��ات الإن �� �س��ان واجت ��اه ��ه ال �ف �ك��ري، وتتج�سد اجتاهات الع�صر العامة الكلية ب�شكل فردي يف �أفكار النا�س وت�صرفاتهم عن طريق فكرة باثو�س ،Pathosفالباثو�س حت��رك الفنان نحو ا�ستكمال عمله الإبداعي وهي التي حترك النا�س يف �أفعالهم و�صراعاتهم. تكت�سب �آراء هيغل عند الفنان �أهمية خا�صة ،لأنه يرى �أن الأ�صالة والعبقرية احلقيقية لدى الفنان ت�ظ�ه��ر يف ق��درت��ه ع�ل��ى �إب� ��راز الطبيعة اجل��وه��ري��ة للع�صر وللب�شر من خ�لال ه��ذه الأ�شكال والأفعال الفردية. �إن ال�ع���ص��ر ال��ذه�ب��ي ل ل��إب ��داع ال�ف�ن��ي ،يف ت�صور هيغل ،هو الع�صر البطويل ،لأن الإن�سان كان يتمتع فيه با�ستقالله وح��ري�ت��ه ،وك��ان ال�ف��ن يحتل مكان ال�صدارة يف التعبري عن ت�صورات ال�شعوب ولهذا كان العامل الإغريقي عاملاً �شعر ّياً .بينما الع�صر احلا�ضر ال مكان فيه لل�شاعرية ،لأن الإن�سان �أ�صبح يعتمد على العمل والتفكري املجرد ،وال مكان فيه لل�شعر احلقيقي .ولهذا ت�ضاءلت حاجة الإن�سان �إىل الفن. العدد
ي �ع��زو ه�ي�غ��ل ج� ��ذور �أ� �س �ب��اب ان �ح �ط��اط ال �ف��ن يف الع�صر احلديث �إىل الدعوة املدر�سية والأكادميية ل�ب�ع��ث ال �ت�راث ال�ك�لا��س�ي�ك��ي ل�ل�ف��ن ،و�إح �ي ��اء الآث ��ار الفنية القدمية .فقد بد�أ انحطاط الفن منذ دعوة هورا�سيو�س املدر�سية – يف :فن ال�شعر – لتحديد القواعد والأ�س�س التي يجب �أن ي�سري مبقت�ضاها الفنان ،وبالطبع� ،إن الفن ال ميكن �أن ي�سري وفق قواعد معدة م�سبقاً ،لأن جوهر الفن هو احلرية، وب��ال�ت��ايل ال ميكن بعث �أو تقليد ال�ت�راث العظيم للفن ،فال ميكن �أن يظهر هومريو�س �أو �سوفوكلي�س �أو �شك�سبري مرة �أخرى ،لأن ما قدموه ،فقد �أجنزوه مبنتهى احل��ري��ة ،ح�ت��ى ال�ن�ه��اي��ة ،ب�ح�ي��ث ال ميكن تقليدهم من جديد .وه��ذا يعني �أن التطور الذي حدث للفن ،ال ميكن �أن يعود �إىل ال��وراء ،فالتاريخ اليوناين القدمي ،بكل ما �أبدعه يف الفن ،درج��ة يف �سلم التطور املنطقي لتاريخ الفن ،ول��ن يعود هذا ال�ت��اري��خ �أب� ��داً .ول�ه��ذا ف ��إن من��ط ال�ف��ن الكال�سيكي ي��زده��ر م��رة واح ��دة ،وال ميكن تقليد ��ص��ورة الفن الكال�سيكي ،لأنه ال يوجد �شكل كال�سيكي فح�سب، و�إمن��ا م�ضمون كال�سيكي �أي���ض�اً ،وح��ال��ة ال�ع��امل يف الع�صر احلديث ال ميكن �أن تقدم مثل هذا امل�ضمون، ول��ذل��ك ف� ��إن ال�سعي امل�ح�م��وم وراء ال�ت�راث الفني القدمي يقود �إىل نزعة مدر�سية تهدم الفن ذاته. ويرد هيغل �سبب انحطاط الفن – �أي�ضاً – �إىل حتطيم الرومانتيكية مل�ضمون الفن – يف مراحلها الأخرية – وطغيان الذاتية ،بحيث انف�صلت متاماً عن �أي �شكل فني ،وقد �أدى هذا �إىل غياب االهتمام مب���ش�ك�لات ال�ع���ص��ر ال �ك�برى ل ��دى ال�ف�ن��ان�ين ،وق��د اق�ت�رن ��ض�ي��اع امل���ض�م��ون اجل��وه��ري ل�ل�ف��ن ،ب��ازدي��اد املهارة الذاتية يف زخرفة الأعمال الإبداعية .وهذه 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
21
يرى هيغل �أن الأ�صالة والعبقرية احلقيقية لدى الفنان تظهر يف قدرته على �إبراز الطبيعة اجلوهرية للع�صر وللب�شر من خالل الأ�شكال والأفعال الفردية
الق�ضية ال�ت��ي �أ� �ش��ار �إل�ي�ه��ا هيغل ،ق��د �سبق جلوته و�شيلر �أن حتدثا عنها ،فبينا �أن الع�صر احلديث – بطبيعته – معاد للفن ،ولهذا كانا يهربان منه �إىل بعث ال�تراث اليوناين القدمي بو�صفه الع�صر الذهبي للفن ،ولكن هيغل يتميز عنهما يف �أنه يرى �أن العودة �إىل املا�ضي هي �ضد طبيعة تطور الفن. وق��د �أو��ض��ح هيغل الأ��س�ب��اب التي �أدت �إىل تزايد النزعة ال��ذات�ي��ة يف الفن وطغيانها على ك��ل �شيء، وم��ن �أه��م الأ��س�ب��اب ال�ت��ي يطرحها ل��ذل��ك :احلالة العامة للعامل التي ال ي�شعر الإن�سان فيها باحلرية. ونتيجة لهذا �أ�صبح الإن�سان ي�شعر بتبعيته الكاملة للدولة ،وللأ�شياء املحيطة ب��ه .ف�أعمال الب�شر يف املجتمع احلديث �أ�صبحت منف�صلة عن بع�ضها ،لأن ك��ل ف��رد ال يعمل وف�ق�اً مل�صلحة ال�ك��ل ال��ذي ينتمي �إليه ،و�إمن��ا وفقاً ملا متليه عليه م�صاحله الفردية اخلا�صة .وذل��ك لأن الفرد ال ي�شعر باالنتماء �إىل الكل ،و�إمن��ا ينتمي �إىل م�صاحله الذاتية ال�ضيقة. ونتيجة ل�ه��ذا يفقد الإن���س��ان ��ش�ع��وره باال�ستقالل واحل��ري��ة ،لأن احل��ري��ة ال�ت��ي ي�شعر بها يف الع�صر احلديث ،هي حرية ذات طابع �شكلي وقانوين .ولهذا يفقد ا�ستقالله ،وي�شعر بال�ضياع ،لأنه ي�شعر �أنه يف عمله و�سيلة لغريه ،مثلما هو يجعل الآخرين و�سيلة له �أي�ضاً .وهكذا يتبدد االن�سجام والتوافق يف عالقة الإن�سان بالعامل املحيط به ،ويحل ال�صراع الطبقي بني الب�شر حمل الوحدة بينهم ،وت�صبح الدولة قوة قاهرة للإن�سان ،وال ت�ساهم يف ت�أكيد وج��وده .ويف هذه ال�صورة التي قدمها هيغل عن العامل احلديث، تكمن حقيقة الع�صر الذي يعادي – بطبيعة و�ضع الإن�سان فيه – اجلمال والفن. والطريق الوحيد الذي يبقى للإن�سان يف الع�صر 22
العدد
7
احلديث كي ال ي�ست�سلم للواقع القائم ،الذي يقتل ك��ل �أ�شكال اجل�م��ال وال�ف��ن ه��و� :أن ي�سعى الإن�سان نحو حريته الداخلية اخلا�صة ،مبعنى �أن ي�ستغرق الإن �� �س��ان يف ذات ��ه ،ل�ك��ي ي�شعر بحريته ال��داخ�ل�ي��ة، واحلقيقة �أن ه��ذا هو طريق الت�صوف �أي�ضاً ،فما دام الإن���س��ان ال يجد حريته يف ال�ع��امل اخل��ارج��ي، فعليه �أن يبحث عن املخرج الوحيد له يف احلرية الداخلية للذات ،وهذا ما �سبق �أن �سار فيه الرومان حني حاولوا التحرر من ازدواجية العامل عن طريق اال��س�ت�غ��راق يف ال ��ذات ،وال��دل�ي��ل على ذل��ك انت�شار الأبيقورية والرواقية ،من �أجل الو�صول �إىل �شكل جديد من احلرية ،وهو احلرية الروحية. �إن احل��ال��ة ال �ع��ام��ة ل �ل �ع��امل ال ��راه ��ن ه��ي ال�ت��ي �أو�صلت الفن �إىل ما هو عليه ،فالإن�سان مل يعد ي�ق�ن��ع ب���ص�ي��اغ��ات ال �ف��ن ،و�إمن ��ا �أ��ص�ب��ح ي�ب�ح��ث عن �أ�شكال جم��ردة وحم��ددة ،ولذلك فالإن�سان �أ�صبح يتحدث "عن" الفن ب�شكل جمرد� ،أكرث من تذوقه �أو �إب��داع الفن ،وهذا نتيجة ميل الإن�سان املعا�صر �إىل �صياغة كل �شيء يف �صورة قواعد مقننة .وقد �أدت ه ��ذه احل��ال��ة ال �ع��ام��ة ل�ل�ع��امل �إىل ظ �ه��ور فن جديد هو "النرث" الرواية ،التي ت�ستفيد وتقرتب كثرياً من الفل�سفة بو�صفها �أرق��ى �أ�شكال الفكر. ولهذا ف��إن نهاية الفن عند هيغل تعني امل�صاحلة بني ال�شعر والفل�سفة ،وه��ذا ما يظهر يف الرواية ب��و��ص�ف�ه��ا ف � ّن �اً �أدب� � ّي� �اً� .أم ��ا ال��ذي��ن ي �ح��اول��ون بعث �أ�شكال الفن القدمية ،و�أ�ساليب احلياة القدمية، ف��إن�ه��م ي�ج��دون �أنف�سهم يف م��وق��ف �شبيه مبوقف دون كي�شوت ،ال��ذي ح��اول بعث �أخ�لاق الفرو�سية يف و�سط عامل مل يعد يعرتف بها ،وهي نتيجة – �أي�ضاً – للتطور اجلديل للروح املطلق ،ولهذا ف�إن
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
عداء املجتمع احلديث للجمال والفن هو م�أ�ساة الروح اخلالدة لأن اهتمامات الإن�سان املهنية وال�ه�م��وم املختلفة ال�ت��ي حتيط ب��ه ق��د طبعت ال��وج��ه الإن�ساين بطابع القبح والب�شاعة .وهيغل ح�ين ي��ر��ص��د ه��ذا ف��إن��ه مل ي��أت بجديد؛ لأن لي�سنج و�شيلر قد �أكدا هذا من قبل. ول�ك��ن ه��ذا ال يعني �أن هيغل ي �ق��ول مب ��وت ال �ف ��ن ،و�إمن � ��ا هو ي��و��ص��ف احل��ال��ة ال��راه �ن��ة ال�ت��ي و��ص��ل �إل�ي�ه��ا ال�ف��ن ،ول��ذل��ك ف��إن وج � � ��ود ال� �ف ��ن م� ��ره� ��ون مب ��دى �صراع الإن�سان ون�ضاله من �أجل ا��س�ترداد حريته ،فجوهر الفن هو احلرية ،ولهذا فهو يبني �أنه ميكن �أن يوجد اجلمال والفن يف الع�صر احلديث حني يهتم الفن بت�صوير ال�صراع بني ال�شخ�صية ال �ث��ائ��رة وامل �غ�ت�رب��ة � �ض��د ن�ظ��ام الأ��ش�ي��اء القائم وال �شعرية العالقات االجتماعية ال �� �س��ائ��دة .ح�ي��ث مي�ك��ن �أن ت�ظ�ه��ر ع�ظ�م��ة الإن���س��ان وقدراته الكامنة ،وبالتايل ي�سرتد الإن�سان ما فقده من جمال و�شعر وفن. ولهذا ف�إنه بعد هذه املرحلة الطويلة والعميقة من جماليات هيغل يت�ساءل :هل ميكن القول ب�أن هيغل يقول مبرحلة جديدة من الفن ،بعد �صورة الفن الرومانتيكي ،هي مرحلة الفن احلر؟ وم �� �ض �م��ون ه ��ذا ال �ف��ن احل ��ر ال ي�ك�ت�ف��ي ب��دائ��رة العدد
حم��ددة م��ن املو�ضوعات والأف �ك��ار و�إمن��ا يقدر على ت�صوير �أي �شيء ،ي�شعر الإن�سان فيه بذاته ،ويجد فيه حريته املفتقدة ،وحني ذاك يرتك الفنان العنان ل�ل�خ�ي��ال احل ��ر ،ل�ك��ي يعطيه امل���ض�م��ون وال�ت�ح��دي��د وال�شكل ،وميكن اعتبار الرواية هي الفن الأ�سا�سي املعرب عن هذه املرحلة ،مثلما كان النحت يعرب عن ال�صورة الكال�سيكية للفن ،لأن م�ضمون الرواية هو م�ضمون الع�صر الذي يحيا فيه الإن�سان الآن ،هذا جمرد ا�ستنتاج يطرحه الباحث بعد هذه ال�صحبة الطويلة مع �أفكار هيغل يف الفن واحل�ضارة 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
23
الذكاء أم الجمال؟ ترجمة :سعيد بوخليط
فكر
فاطمة املرني�سي تون�س
24
العدد
7
لقد قتل �إدغار بو،Edgar poe متام ًا �شهرزاد يف عمله عن "�ألف ليلة وليلة" ،وبطريقة مرعبة. الأ�سو�أ �أي�ض ًا� ،أنه �أبدى نوع ًا من االبتهاج ،حيال موتها الذاتي: "كلما ا���ش��ت��د ال���وث���اق عليها، �أح�ست �أكرث باملتعة" .فماذا فعلت �شهرزاد ،كي تتعر�ض لعقاب من هذا النوع؟ .لقد و�صفت طوي ً ال للملك� ،آخر االكت�شافات العلمية اجل���اري���ة يف ال���غ���رب :امل��ن��ظ��ار الفلكي ،و الإب���راق الكهربائي وكذا الت�صوير الذكوري.
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
لكن من �أي��ن ا�ستمدت �شهرزاد معلوماتها ،وهي تعي�ش يف �شبه عزلة؟ .بوا�سطة �سندباد ،الذي قادته �أ�سفاره �إىل اكت�شاف التطور التكنولوجي ،الذي تنعم فيه �أوروب��ا .غري �أن �شهريار ،اعترب �أحاديثها غري قابلة للت�صديق ،وا�صف ًا �إياها بالكذب" :توقفي.! ي�صرخ يف وجهها .ال �أري���د ،وال ميكنني �أن �أحتمل �أكرث ،لقد �أ�صابتني �أكاذيبك ب�صداع ر�أ�سي فظيع،... هل تعتقدين �أين �أبله؟ .بعد التفكري ملي ًا� ،أ�صدر يف حقك قرار املوت خنق ًا". ردة فعل ،رج��ل جاهل ،ف��اج���أه العلم .مما ِي�ؤكد العنوان الفرعي ال�شهري للحكاية :احلقيقة �أكرثغرابة م��ن اخل��ي��ال .م��ع ذل��ك ،فالفكرة التي انطلق منها �إدغ��ار �آالن بو ،جتعل من �شهرزاد ام��ر�أة تنتمي �إىل تلم بالفتوحات القرن التا�سع ع�شر ،مت�أهبة علمي ًاّ ، التكنولوجية للغربيني ،املج�سدة لهيمنتهم الع�سكرية. كان ميكن �أن ت�ساعد �شهريار على �سرقة �أ�سرارهم، لو �أرخ��ى ال�سمع �إىل زوجته ال�شابة ،مما �سيجنب العامل الإ�سالمي اال�ستعمار.لكن يف ه��ذه احلالة، �سيتحتم على �إدغ��ار �آالن ب��و� ،إعطاء �شهرزاد دور بطلة ومقاومة. ً التفوق التكنولوجي ،من منح حقا الغرب �إمكانية اجتياح �أرا�ضي ال�شرق ،طيلة القرن الـ .19نابليون، جن��ح يف حملته اخلاطفة على م�صر �سنة ،1801 بف�ضل علمائه �أكرث من جنوده� .إذ ًا ،لو �أن�صت �شهريار ملخربته ال�شابة ال�ستطاعت الإمرباطورية الإ�سالمية مواجهة الغزو .هذا ال�سيناريو ،كان �سيعيد ل�شهرزاد دورها باعتبارها �صاحبة ر�ؤية ا�سرتاجتية .غري �أن �إدغار بو ،اتبع م�سار ًا �آخر ،مف� ً ضال خيانة �شهرزاد، ب�أن ربطها مبيكيافيلي بل الأكرث فظاعة ،حواء. حواء املغوية ،غري موجودة يف الإ�سالم .لقد قدم العدد
القر�آن ،حق ًا رواي��ة عن ال�سقوط .الثعبان مث ًال ،ال �أثر له كلي ًا .ولكي يحذر �إدغاربو جيد ًا القارئ ،من "الأمرية ال�سيا�سية"� ،أخربه �أنها لي�ست فقط قارئة ملكيافيلي ،بل هي "تنحدر من حواء مبا�شرة ،بالتايل رمبا ورثت ال�سلل ال�سبعة للأقاويل والتي كما نعلم، اقتطفتها ال�سيدة الأوىل يف التاريخ ،من �أ�شجارحديقة عدن"� .شهرزاد �إدغاربو ،جد �شيطانية ،لن ت�صري حواء �إىل جوارها غري تلميذة مبتدئة�" :أ�ضيف بهذا اخل�صو�ص� ،أنها تدرك كيفية تخ�صيب وتنمية هذه ال�سلل �إىل غاية العدد."77 الوعي ،ت�سكنه جمموعة خطايا �أ�صيلة .فكيف، بو�سع �شهرزاد النجاة من الإدانة؟ لكن ،ما �صدمني �أكرث ،ا�ستكانة �شهرزاد �إدغار بو� ،إىل م�صريها بحيث مل تبحث �أب��د ًا عن منفذ للخال�ص ،ومل حت��اول قط معار�ضة اجلملة التي تلفظ بها زوجها امل�ش�ؤوم .ال! لقد قبلت املوت با�ست�سالم" :متيز ،امللك ب�صرامته املفرطة ،وال يرتاجع �أب��د ًا عما يلتزم به من أ�ق��وال. �شهرزاد ،قبلت طواعية م�صريها". هذا االمتثال ،خلخل كياين �إىل درجة �إزعاج �إقامتي يف باري�س .فال ميكنني ،منع نف�سي من التعاطف مع �شهرزاد ،هاته املنهزمة .يف الواقع ،امل��ر�أة امل�سلمة املعا�صرة ،ت�شبهها :المتلك �سالح ًا �ضد العنف غري كلماتها .الرجل امل�سلم ،قد يجيز لنف�سه� ،أن ي�صري قدري ًا ،بينما امل��ر�أة فال ينبغي لها �أن تكون كذلك، بل تنا�ضل وتنا�ضل كي تغري و�ضعها ،هذا ماتنم عنه ر�سالة �شهرزاد. جدتي يا�سمينة ،كررت يل هذا القول با�ستمرار، وبقيت �أقاويلها حمفورة بعمق يف دواخلي .الحظوا، �إيران فرتة الثورة الإ�سالمية� :صارت الن�سوة مقاتالت �شر�سات يف ال�شارع .الأ�ستاذة اجلامعية الإيرانية 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
25
لكن ،ما صدمني أكثر ،استكانة شهرزاد إدغار بو ،إلى مصيرها بحيث لم تبحث أبدًا عن منفذ للخالص
الوعي ،تسكنه مجموعة خطايا أصيلة .فكيف ،بوسع شهرزاد النجاة من اإلدانة؟
لقد اكتسبت النساء ،وعيًا جديدًا ب��دوره��ن؛ ألنهن رفضن االستسالم لخوفهن من قهر البوليس
"هاليه �إي�سفاندياردي" ،التي نفيت �إىل الواليات املتحدة الأمريكية ،ع��ادت �إىل بلدها ك�صحافية، ومتكنت من �إثبات التايل" :لقد اكت�سبت الن�ساء، وع��ي�� ًا ج��دي��د ًا ب��دوره��ن؛ لأن��ه��ن رف�ضن اال�ست�سالم خلوفهن من قهر البولي�س ،وك��ذا ن�ضالهن اليومي ق�صد احل�صول على حقهن يف العمل ،وبحثهن عن و�سيلة لتغيري النظام املتعلق باللبا�س ،وكذا دفاعهن داخل ردهات املحاكم عن حقهن يف الطالق". لذلك ،انزعجت من النهاية ،التي هي�أها �إدغاربو ل�شهرزاد .ينبغي علي التوقف عن التفكري ،و�أكتفي بتملي الربيق الهادئ لنهر ال�سني�" :أظن ،هذا مايثري اخلوف� ،إنها تخفي جمال العامل". قررت �إذ ًا ،اتباع عالج نف�سي على الطريقة العربية، التي ترتكز على �أن يتكلم ال�شخ�ص عن م�شكالته لكل العامل ،دون مباالة بحنق امل�ستمعني .لكن ذات يوم، �سيالم�س �أحد ما� ،شيئ ًا جوهري ًا لعالجك ،ينت�شلك من الهاج�س ،كما يوفر لك امل�صاريف التي تتطلبها ا�ست�شارة خمت�ص .املنهجية فعالة لكنها �سلبية: �ستفقدك ع��دد ًا مهم ًا من �أ�صدقائك .لذلك ،كنت على و�شك ت�ضييع �صداقتي مع كري�ستني ،النا�شرة الفرن�سية املكلفة ب�أعمايل ،والتي �أحرتم جدا �آراءها. لقد حذرتني من م�س�ألة� ،أنني �أجازف بتبديد جولتي التي ت�ستهدف الرفع من املبيعات� ،إذا وا�صلت دون ت��وق��ف ،ال��ك�لام ع��ن �إدغ���ار ب��و .ق��ال��ت يل�" :إذا مل تتكلمي عن نف�سك �أثناء لقاءاتك ال�صحافية ،فال تنتظري من الآخرين ،القيام بذلك� .سيكتبون عن �إدغاربو ،ولن يلتفتوا �إليك". خالل كل مرة� ،أعد كري�ستني �أين �س�أحر�س على هذا الأمر ،لكن على الفور �أ�سقط يف املطب نف�سه، م�ستعيدة ا�ستمارة الأ�سئلة حول احلرمي العربي وكذا 26
العدد
7
�إدغ��ارب��و� ،إىل غاية اليوم ال��ذي التقيت فيه جاك. هذا الأخ�ير� ،سيلقي ب�أوراقه على الطاولة" :لرنكز �أو ًال على كتاباتك ،كي �أ�ستجمع �شيئ ًا بو�سعي الكتابة عنه يف ج��ري��دت��ي .بعد ذل���ك ،ميكننا بحث تاريخ احل��رمي هذا" .برغم اقتناعي ،بجوهر اجل��واب مل �أ�ستطع كبت نف�سي عن الرد�" :إنك تتكلم مثل خليفة. �ست�ساعدين �إذا قبلت �شروطك.هل ميكنك �صياغة اجلملة بطريقة �أقل ا�ستبدادية ،و�أن تكون وا�ضح ًا بخ�صو�ص مايطويه ر�أ�سك من حيثيات؟ ً ميكنني بالفعل� ،أن �أك��ون �أكرث و�ضوحا� ،سرتتكز م�ساعدتي ،على ا�ستدراجك �إىل حرميي اخلا�ص. �أو ًال� ،س�أعريك �أحد كتبي ،ثم �أ�صطحبك �إىل متحف ح��ي��ث �ستلتقني ج����واري امل��ف�����ض�لات .ل��ك��ن ،مقابل م�ساهمتي الثمينة� ،ستعملني بدورك على ا�ست�ضافتي �إىل ح��رمي ه��ارون الر�شيد� .أن��ا متيقن� ،أن �إج��راء مقارنة بني حرميي وحرميك� ،سيكون خ�صب ًا� ،سواء بالن�سبة �إليك �أو �إيل". ا�ستح�سنت االق�تراح ،و�أن��ا �أحد�س �سهولة �إدخال ج��اك �إىل ح��رمي ه���ارون الر�شيد .فمثل كثري من ال��ع��رب ،اجن��ذب��ت خا�صة �إىل الر�شيد �أو "الفاتن امل�ستبد" ح�سب تعبري �صديقي ك��م��ال .لقد ق��ر�أت بنهم ،كل ماكتب عن مغامراته داخل حرميه اخلا�ص �أو خ��ارج��ه� .أع���رف ك��ل التفا�صيل ع��ن��ه� ،أطعمته املف�ضلة ومالب�سه وطبع ًا حكاياته الغرامية .يكفي، �أن �أنع�ش ذكرياتي و�أنا �أ�ستعيد واحدة من زياراتي للمكتبة الوطنية ،حيث توجد خمطوطات عربية نفي�سة��� ،س��رق جلها م��ن قبل �ضباط اال�ستعمار. وبينما حلق تفكريي ،نحو متثل هذه ال�صلة العجيبة التي جتمع بني اال�ستعمار والعلم� ،أعادين جاك �إىل احلقيقة قائال�" :أما فيما يخ�ص �صياغة ملتم�ساتي
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
بطريقة �أقل ا�ستبدادية -يتحدث وهو يداعب ربطة عنقه الأنيقة من نوع كينزو -فاجتنبي عدم توقيفي عن الكالم بطريقة فجائية ،مهما كان مربرك بهذا اخل�صو�ص؛ لأن من �ش�أن ذلك� ،إف�ساد املتعة .قيمة هذا النوع من التعاون ،بالن�سبة �إىل فرن�سي �شقي كما العدد
احلال معي� ،سحقته الأعباء االجتماعية وال�ضرائب، تكمن يف قدرتي على �أن �أتقم�ص خمتلف �أدوار هارون الر�شيد. ماذا يعني هذا؟ ت�ساءلت بنربة مل�ؤها ال�شك. هذا يعني� ،أنه ال ينبغي عليك مقاطعة كالمي،7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
27
حتى ولو �أدليت ببالهة .دوين مالحظاتك يف ورقة، وحاويل �أن تد�سيها �إيل �سر ًا ،عند احلاجة". مل �أ�ستطع متالك نف�سي عن ال�ضحك ،و�أنا �أتبني هذا املنطق م�ألوف ًا لدي .فقد د�أب املغاربة بدورهم على ا�ستغالل الت�ساهل الن�سائي ،بكيفية جيدة� .إذ ًا، فهل تعترب �سمة م�شرتكة لدى �ساكنة البحر البي�ض املتو�سط؟ تفح�صت وجه جاك ،و�أنا �أبحث بني مالحمه عن مايبدو متو�سطي ًا .مل� ،أعرث على �شيء .هو رجل �أنيق، يف اخلم�سينات من عمره ،طويل القامة �أو بالأحرى نحيف بالرغم من بداية �أعرا�ض �سمنة ،ال يخفيها �أب���د ًا� ،شعر �أ�شيب مرتب بعناية ،وعينان زرق��اوان �ساحران ،ي�ضفيان عليه مالمح ج��ن .لكن ،مثلما �سي�شرح يل فيما بعد ،فال �صلة جتمعه بعائلة اجلن. ال��زرق��ة ال�شديدة لعينيه ،م��رده��ا ان��ح��داره من منطقة "بروتان"� .أما ات�صافه بال�سخرية ،فب�سبب: "جتربتي طالق ،عا�شهما �سابق ًا ،وما ترتب عنهما من انك�سارات" .لقد اعرتف يل ،بهذه املنا�سبة �أن كري�ستني ،مثلت جاريته املف�ضلة ،لو مل متيزها تلك الثقة املفرطة يف ذاتها .حينما ،طلبت منه تو�ضيحات �أك�ث�ر� ،أك��د يل �أن ك��ل ال��رج��ال ،ي�أ�سرهم جمالها: "جميعهم ،يع�شقونها تقريب ًا .ونحن -ال�صحافيني- نتكلم عن م�ؤلفاتها فقط ،كي تتاح لنا فر�صة �أن ن�شرب �إىل جانبها ك�أ�س �شامبانيا .هذا مينحك فكرة عن م�ستوى حرميها". حتم ًا ،يف باري�س ينجذب ال��رج��ال نحو الن�ساء اللواتي حققن جناح ًا يف مهنهن .لكن ،ج��اك يقر رف�ضه للمناف�سة ،و�أن��ه �إذا ت���أت��ى ل��ه �أن يعي�ش مع كري�ستني ،ف�سيكون يف جزيرة مهجورة .ثم �أخ��رج كتاب ًا لأوفيد " ovideفن احلب" ،وقد �أحاطني علم ًا 28
العدد
7
ب�أن هذا الباري�سيني املثقفني وحدهم يواظبون على قراءة هذا امل�ؤلف. ج��اك ،متخ�ص�ص يف تاريخ الفن ،ل��ذا احرتقت �شوق ًا كي ي�صطحبني �إىل حرميه املف�ضل .اهتمامه بامل�شرق� ،سمح له كي" :ي�أخذ امل�سافات ال�ضرورية، بغية ت�شكيل مالحظة متجردة عن معطيات احلياة الباري�سية ،و�أي�ضا ي�سرع �إىل االرمت��اء يف �أح�ضان ط��ائ��رة تقلع ���ص��وب م��راك�����ش ،م��ا �إن ت�سوء �أح���وال الطق�س" .ويف�سر تعلقه اخلا�ص جد ًا بن�ساء احلرمي، بتاريخ طفولته؛ فقد كانت له �أختان ،مع غياب �إخوة ذكور. ً �شكلت ،الدعابة �سالحا لدى جاك ،وكذا خمتلف الأ�شخا�ص ال��ذي��ن متيزهم ح�سا�سية مفرطة .بل هذا ال�سحر نف�سه ،من مينح املثقفني العرب قدرة كبرية على االنفالت؛ فلي�س مبقدورك �أب��د ًا� ،إدراك هل ميزحون �أم العك�س .يرتكون ل ِ��ك وح��دك� ،أمر تقييمهم ،و�إذا اعتقدت ب�شكل مت�سرع ج��د ًا �أنهم يتكلمون بجد ،فال �شك �أن ِ��ك جتازفني نحو الأ�سو�أ. أنك فلي�س ا�ستثناء �أن معجب ًا عربي ًا يكرر �أمامكِ � ، رائعة �إىل م�ستوى �أن��ك تكت�شفني نف�سك ،تتفتحني مثل وردة جميلة .لكن� ،إياك والظن �أنه عا�شق هائم، عنك ،قبل انق�ضاء ن�صف م��ادام �سين�سى كل �شيء ِ �ساعة. هذا النموذج من الرجال ،يحبط عزمية الن�ساء، كي ال يفرطن يف الوفاء .اللهم� ،إال املازو�شيات منهن طبع ًا. ح�ين ،حت��دث��ت �إىل كري�ستني ع��ن و�سامة ج��اك، حذرتني قائلة" :بناء على مهنته ك�صحايف ،فهو ممتاز .ما �إن يقول كالم ًا ح�سن ًا عن كتاب من الكتب، حتى ي�سرع �آالف الفرن�سيني نحو املكتبات القتنائه.
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
لقد انتابني �شعور بالهلع ،و�أنا �أطلع على التمييز الذي �أقامه "كانت" بني الذهني والإغواء .كم هذا االختيار مرعب :اجلمال �أو الذكاء! �أفق ي�أخذ رنين ًا ،كالآتي" :املال �أو احلياة!" لكني ال �أثق به كثري ًا" .حينما التم�ست منها تف�سري ًا دون �أن �أخربها طبع ًا� ،أن الرجل كان ينوي الرحيلبها ليعي�شا مع ًا يف جزيرة يباب� -ستو�ضح طبيعة العالقة القائمة بني النا�شرين وال�صحافيني�" :إننا مثل حرمي ،ي�سكن قلب باري�س" .ودون رغبة ،يف مزيد من اال�ستطراد ،خل�صت �إىل �أن جاك �شخ�ص غيور، عجز عن تدبر �أم��ره مع ن�ساء حقبته�" :إنه �صاحب نزعة ذكورية ،من وراء مظهره املثري". �س�أجنح ،يف جعلها ت�ضحك ،حينما عقبت على كالمها بالقول �إن��ه يف مدينة ال��رب��اط �أق��در ب�شكل خا�ص الذكوريني� ،أولئك من يظهرون كل �شيء ،وال ميوهون عن لعبتهم. بعد ه��ذا النقا�ش ،ق��ررت اخل�ضوع �إىل ال�شروط التي و�ضعها جاك .تركته ،ي�ساجل كتابي ،و�أنا �أترقب �صدور مقالته .ثم ،بعد ذلك �شرع يف تفعيل منظوره. علي ق��راءة متثلت اخلطوة الأوىل ،يف �أن اق�ترح ّ كتاب عجيب ،حمله معه �إىل مقهى �شارع ريفويل، الواقع �أمام متحف اللوفر ،حيث حددنا موعد لقائنا: "�أخربين �أنه الف�ضاء النموذجي بالن�سبة �إىل املثقفني الذين يعانون .ت�ؤثث املكان مقاعد من اجللد الأحمر و�أ�سقف عالية تتلف ال�ضجيج ،وكذا �آالت لتح�ضري القهوة متطورة جد ًا� .س�أعود �إليك بعد �ساعتني ،كي �أقدم �إليك �أول جارية تنتمي �إىل حرميي� .ساعتان، هي بال�ضبط امل��دة التي تكفيك ق�صد االنتهاء من قراءة هذا الكتاب". الكتاب املق�صود ،مل�ؤلفه �إميانويل كانت وعنوانه: مالحظات ح��ول الإح�سا�س باجلميل والعظيم� .إن الطريقة الوحيدة ،لفهم الغربيني كما نبهني جاك، تكمن يف ق��راءة فال�سفتهم .ومبا �أين ال �أخفي �أبدا جهلي -كي ال �أ�ضيع فر�صة متنحني �إمكانية التعلم- العدد
اعرتفت له ب�أين مل �أقر�أ "كانت" �أبد ًا� .أعلم ،فقط �أنه فيل�سوف �أملاين ،ومثقفو �أوروبا ي�سعدهم اال�ست�شهاد به .انده�ش ج��اك ،ثم ب��ادرين بال�س�ؤال عما قر�أته خ�لال حقبة درا���س��ات��ي� .أخ�برت��ه� ،أين حفظت �أو ًال ال��ق��ر�آن ع��ن ظهر قلب يف املدر�سة االبتدائية ،ثم ال�شعر اجلاهلي يف املدر�سة الثانوية ،لذلك انعدمت ممكنات لقائي ب�إميانويل كانت خالل فرتة وجودي مبدينة فا�س. ً �ضاحك ًا� ،سيعلق جاك على جوابي ،م�ستح�سنا عدم معرفتي بهذا الفيل�سوف؛ لأن��ه مل يكن بتات ًا لطيف ًا مع الن�ساء .مع �أن هذا الفيل�سوف مينح مفتاح ًا عن دواعي اغتيال �شهرزاد من طرف �إدغار بو. هكذا ،ي�ؤكد كانت �أن دماغ امر�أة "عادية" ،مربمج لـ "احل�سا�سية الأكرث نعومة" ،بالتايل عليها التخلي ع��ن "التنظريات واملفاهيم امل��ج��ردة .ه��ي ،مفيدة لكنها جافة" .و�أن ت�ترك ه��ذه امل��ي��ادي��ن املعرفية للرجال؛ "لأن امل���ر�أة ،عندما تثابر على الدرا�سة املتعبة �أو التفكري الذي ال يبهج املزاج ،ف�إن من �ش�أن ذلك �إنهاك ما مييز جن�سها من خ�صائ�ص ،وقد ال ت�شكل مو�ضوع تقدير الفت ،ب�سبب ندرة الن�ساء يف ه��ذا امل��ج��ال .كما �أنها �ستق�ضي على املفاتن التي بوا�سطتها متار�س ت�أثري ًا على الرجل". لقد انتابني �شعور بالهلع ،و�أنا �أطلع على التمييز الذي �أقامه "كانت" بني الذهني والإغواء .كم ،هذا االختيار مرعب :اجلمال �أو الذكاء! �أفق ي�أخذ رنين ًا، كالآتي" :املال �أو احلياة!". ر�سالة "كانت" قاعدية :الأنوثة هي اجلمال ،بينما الذكورة �سمو .الأخري ي�شري طبع ًا� ،إىل القدرة على التفكري ،واالرتقاء عن امل�ستوى احليواين وامل��ادي. وكان حري�ص ًا ،على احرتام هذا التمايز؛ لأن امر�أة 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
29
ملّا تالم�س ال�سمو ،تنعت على الفور بالب�شاعة. ع��ل��ى النقي�ض م��ن ه���ارون ال����ر�����ش����ي����د ،ال���������ذي ب���ق���در ماي�ستهويه جمال الن�ساء ،يلح كذلك على ذكائهن ،و�أدى يف �سبيل حتقيق رغ��ب��ت��ه ،مبالغ مالية �ضخمة كي ي�ستقطب �إىل حرميه �أك�ثر اجل��واري نباهة. �سيع�شق "كانت" الن�ساء ال�صامتات؛ لأنه �إذا �أدى اكت�ساب املعرفة باملر�أة �إىل فقدانها فتنتها ،فتلك التي �ستظهر هذه املعرفة قد ت�صل حد ق�ضائها على �أنوثتها�" :إن امر�أة يزخر ر�أ�سها ،بفكر الإغريق كما احلال مع ال�سيدة دا�سيي� ،أو تتكلم عن امليكانيكا مثل الماركيز دو �شاتلي ،فبو�سعها �أي�ض ًا �أن تنبت حلية". ال�سيدة دا�سيي ( ،)1654-1720كانت قد ترجمت الإلياذة والأودي�سا� .أما الماركيز دو �شاتلي� ،صديقة ف��ول��ت�ير ،ف��ق��د ف���ازت �سنة 1738ب��ج��ائ��زة تتويج ًا لأبحاثها حول طبيعة النار� .إذ ًا ،هكذا ع�صر الأنوار والتقدم. �أعتقد� ،أن ه��ذا االن�شطار القا�سي بني اجلمال والذكاء ،ي�شكل اختالف ًا جوهري ًا بني ال�شرق والغرب. وكلما ،عدت بذاكرتي بعيد ًا� ،أ�ستعيد دائم ًا �صدى ك�ل�ام��� ،س��واء مبا�شرة ح�ين ارت��ك��اب��ي حل��م��اق��ة� ،أو بطريقة غ�ير مبا�شرة ب�ين طيات كتاباتي ،حينما الت�صل طبع ًا امر�أة بلهاء �إىل حتقيق �أي �شيء .د�أبت يا�سمينة ،على �أن تكرر �أمامي"جمالك هنا" ،هكذا تكرر يل م�شرية �إىل ر�أ�سها الذي تلفه عمامة. �أتذكر"تو ّدد" .ذل��ك� ،أن يا�سمينة التي ال تعرف القراءة و الكتابة ،كانت تطلب من �أبناء عمي الأكرب 30
العدد
7
�سن ًا� ،أن ي��ق��ر�ؤوا يل ويعيدوا ق���راءة ت��اري��خ "تو ّدد" �إح��دى بطالت "�ألف ليلة وليلة" ،كي �أ�ستوعب الدر�س جيد ًا: "�س�أل اخلليفة ،ت���ودد :ما ا����س���م���ك؟� .أج���اب���ت���ه :ا���س��م��ي ت����ودد .ث��م ���س���أل��ه��ا ب��ع��د ذل��ك: ي��ات��ودد ،ماهي امل��ج��االت التي ت��ت��ف��وق�ين ف���ي���ه���ا؟� .أج���اب���ت���ه: �سيدي� ،أن��ا مت�ضلعة يف النحو وال�شعر والق�ضاء والتف�سري والفل�سفة� .أع���رف املو�سيقا وال�شعائر املقد�سة واحل�ساب وعلم م�ساحة الأر�ض والهند�سة وحكايات القدامى ....كما در�ست العلوم الدقيقة والهند�سة وال��ط��ب واملنطق وال��ب�لاغ��ة و الرتكيب. لقد حفظت �أ�شياء كثرية عن ظهر قلب ،و�أنا �شغوفة بال�شعر� ،أتقن العزف على �آلة العود ،و�أع��رف �سلم الأنغام والعالمات املو�سيقية والتدوينات املو�سيقية، وكذا كيفية زيادة ال�صوت املو�سيقي �أو تخفي�ضه� .إذا �شدوت ورق�صت ف�إين �أغوي .و�إذا ،لب�ست وتعطرت، ف�إين �أ�صعق� .إجما ًال ،لقد بلغت قمة الكمال ،بحيث الأغنى ثقافة من بو�سعه حق ًا تقديري". يف ه��ذا امل�شهد ،تعر�ض ت��ودد وه��ي � َأم���ة ،نف�سها للبيع .لذلك ،فالدقائق القليلة التي منحها �إياها اخلليفة ،قدمت لها حظ ًا ا�ستثنائي ًا كي تفنت موالها، و يختارها للعمل على ت�سليته .ثم تتفوق لي�س فقط على باقي ن�ساء احلرمي ،ولكن �أي�ض ًا على جل الرجال من العلماء والفنانني ،الذين كانوا ي�ترددون على الق�صر. نالحظ ج��ي��د ًا� ،أن ام��ر�أة تنتمي لن�ساء احل��رمي، لي�س لها من �أمل �إذا �أرادت �إثارة االنتباه ،غري تثقيف
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
التاريخ واجلغرافيا ،كالريا�ضيات معارف �أي�ض ًا ميكنها تبديد جمال الفتيات�" :إنهن لن ميلأن الر�أ�س بتاريخ املعارك، وجغرافية التح�صينات؛ لأنه يجدر بهن �أي�ض ًا ،الإح�سا�س ببارود املدفع ،مثل تذوق الرجال لعطر امل�سك" نف�سها .لذلك ،لو �آمنت بر�أي "كانت" ،وبقيت جاهلة، ف�سيكون الأمر انتحار ًا من طرفها .مادام الفيل�سوف الأمل���اين ،يعتقد �أن��ه ال ينبغي على الن�ساء درا�سة الهند�سة والفلك والتاريخ ،وه��ي معارف �أ�سا�سية لن�ساء احل��رمي املتميزات بحد �أدن��ى من الطموح. يكتب كانط" :لن يفقد جمالهن �شيئ ًا من قوته� ،إذا مل يدركن ماتخيله �ألغاروتي Algarottiبالن�سبة �إليهن بخ�صو�ص مو�ضوع اجلاذبية عند نيوتن". التاريخ واجلغرافيا ،كالريا�ضيات معارف �أي�ضاً ميكنها تبديد ج��م��ال ال��ف��ت��ي��ات�" :إنهن ل��ن مي�ل�أن الر�أ�س بتاريخ املعارك ،وجغرافية التح�صينات؛ لأنه يجدر بهن �أي�ض ًا ،الإح�سا�س ببارود املدفع ،مثل تذوق الرجال لعطر امل�سك" .و�إذا �أراد لهن "كانت" ،الإملام مبا يكفي ،بغية تبلور قدرتهن على ن�سج �أحاديث، فين�صحهن ،ب�ضرورة جتنب كل ا�ستعرا�ض للمعارف املو�سوعية" :جيد �أن الن�ساء بو�سعهن الت�سلية، وهن يت�أملن خريطة العامل ب�أكمله �أو �أكرث �أجزائه �أهمية .لكن لي�س من ال�ضروري �أبد ًا� ،أن يعرفن فروع الأقاليم و�صناعاتها وحكامها وكذا قوتها� .أي�ض ًا ،من غري املجدي توفرهن على معرفة وا�سعة حول الكون، �إذا مل يخول لهن ذلك �إمكانية تقييم بهاء جمال ليلة �صيفية و كنا قادرات على �إدراك �أنه يف ال�سماء توجد �أي�ض ًا عوامل وخملوقات �أكرث جما ًال". �ألي�س غريب ًا ،فيما �أظن ونحن نقر�أ هذا� ،أن ال�شرق القرو�سطي �ضم م�ستبدين مثل ه���ارون الر�شيد يبحثون عن ج��واري متعلمات ،بينما فال�سفة مثل "كانت" يف �أوروبا الأنوار ،يحلمون بن�ساء جاهالت؟ �أي ع��ائ��ق غ��ري��ب انت�صب بطريقة م�صطنعة بني اجلمال والذكاء! فف�ضاء "كانت" ،الي�سكنه فقط نوع �إن�ساين واحد ،بل اثنان :واحد ،موهوب مبلكة التفكري العدد
والثاين مبلكة الإح�سا�س ،وال�سيما اال�ست�سالم للنظر. و�أن��ا جال�سة يف املقهى الباري�سي ،ت�ساءلت عن جميع ه��ذه الأل��غ��از امل��ت��وال��ي��ة .ه��ل ت��وج��د �صلة بني اغتيال �إدغاربو ل�شهرزاد ،وكذا الف�صل الذي �أقامه كانط بني الذكاء واجلمال؟ .ولكي نعود �إىل �إدغاربو، ف�صحيح �أن الأمريكي يخ�ص �شهرزاد بدماغ متطور جد ًا ،لي�س كما ال�ش�أن مع "تيوفيل غوتيي". ثالث �سنوات ،قبل �صدور كتاب �إدغاربو� ،سيقتل بدوره الكاتب الفرن�سي �شهرزاد يف ن�سخته عن �ألف ليلة وليلة ،لكن هذه امل��رة ،كان امل�برر حق ًا خمزي ًا ويفتقد للإلهام .ف�إذا قتل �إدغ��ار بو� ،شهرزاد لأنها تعرف كثري ًا ،فهي عند تيوفيل غوتيي التعرف كفاية. م��ا ال��ذي يجعل ال��رج��ال ،يحلمون بجمال مثايل خمتلف� ،سواء انتموا �إىل الغرب �أو ال�شرق ،ال�شمال �أو اجلنوب؟ وماذا ميكن لهذا االختالف� ،أن يعلمنا ح��ول الثقافتني؟ مل��اذا يتمنى رج��ل متنور ج��د ًا مثل "كانت" ،رفيقة ينتزع دماغها كي ت�ؤدي دور البلهاء، ح��ت��ى ول���و ك��ان��ت �أك�ث�ر اط�ل�اع��� ًا م��ن��ه؟.ه��ل العنف املفرو�ض على ن�ساء ال�شرق ،م�صدره �أن الإقرار لهن مبلكة التفكري �سيجعلهن على قدم امل�ساواة .بينما يف الغرب ،تتميز الأ�شياء �أكرث بطابع الليونة ،مادام م�سرح ال�سلطة يدبر االلتبا�س بني الذكورة والذكاء؟. هكذا �شعرت ،بعياء ج�سدي وبرجفة .بد�أت �أترقب ع���ودة ج���اك ،لكني ت��ذك��رت �أن���ه دائ���م ال��ت���أخ��ر مثل مغربي .مع ذلك ت�شري �ساعتي� ،أن��ه الزال��ت �أمامي خم�س ع�شرة دقيقة على املوعد املحدد�" :أهم�س �إىل نف�سي� :سبب مر�ضي هو ق��راءة "كانت" من جهة، و�أكواب القهوة الثالث التي تناولتها من جهة ثانية". لقد ،غاب عني� ،أنه يف الغرب كل �شيء قوي ،ابتداء من القهوة 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
31
الثقافة العربية في إيطاليا العمارة والنحت والرسم والموسيقا واآلداب عناوين التواصل الثقافة هي هوية كل �أمة وعنوان بنائها ،وهي املبادئ والقيم الرا�سخة واملقومات التي متيزها .وال تعني ثقافة �أمة �إهمال ثقافة الآخر ،بل يجب االنفتاح على الثقافات الأخرى والتفاعل معها والأخذ منها بعد غربلتها مبا يتنا�سب مع ثقافتنا. الثقافة هي هوية كل �أمة وعنوان بنائها ،وهي املبادئ والقيم الرا�سخة واملقومات التي متيزها .وال تعني ثقافة �أمة �إهمال ثقافة الآخر ،بل يجب االنفتاح على الثقافات الأخ��رى والتفاعل معها والأخ��ذ منها بعد غربلتها مبا يتنا�سب مع ثقافتنا. ول����ق����د ت�����ش��ك��ل��ت ج����ذور الثقافة العربية قبل الإ�سالم، �سها �شر ّيف ث��م �أغ��ن��اه��ا ال���ق���ر�آن ال��ك��رمي �سوريا فانت�شرت يف م�شارق الأر���ض وم����غ����ارب����ه����ا .وق������د م���ار����س امل�ست�شرقون عملية �إق�صاء وان��ت��ق��ا���ص ل��ت��اري��خ ال�����ش��رق احل�ضاري .وك��ان هناك ت�آمر على ثقافتنا العربية قد و�صف يو�سف ال�شاروين امل�ست�شرقني ب����أن���ه���م" :ال ي��ع��ن��ي��ه��م �أدب��ن��ا ك�أعمال فنية� .إن ما يهمهم هو ما ي�ستخل�صونه منه ل�شعوبهم حضارة 32
العدد
7
لفهم نف�سية جمتمعاتنا ،ومعرفة نواحي ال�شعف والقوة فيها" .وعلى الرغم من ذلك ماتزال الثقافة العربية توا�صل انت�شارها يف البالد الأخرى ،وخا�صة يف ميادين اللغة والأدب واملخطوطات العربية .ويف ثقافتنا العربية �أ�سماء رائدة فاعلة يف احلوار احل���������ض����اري ،ك�����ش��ف��ت ع��ن ال�ث�راء الإن�����س��اين والتاريخي واحل�����ض��اري ل��ل��أدب والفكر ال��ع��رب��ي�ين .ول���ق���د �صححت خربات الرتجمة املتخ�ص�صة ب�������الأدب ال���ع���رب���ي ال�����ص��ورة امل�شوهة التي زرعها البع�ض، وبنت ج�سر ًا لتبادل املعرفة وال��ث��ق��اف��ات .وه���ن���اك بع�ض امل�ستعربني ممن ع�شقوا لغتنا العربية بعد اط�لاع��ه��م على ثقافتنا العربية املليئة باخلري وال��ع��دال��ة وامل��ح��ب��ة وال�����س�لام
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
والبعيدة عن العن�صرية والظلم ،والتي ال تتنكر للرتاث وال تغم�ض عينيها عن متطلبات اليوم. وقد �سعى كثري منهم �إىل تفعيل العالقات بني العرب والغرب من خالل الرتجمة ،و�سعى بع�ضهم �أي�ض ًا �إىل نقل ال�صورة احلقيقية عن تراثنا وثقافتنا بكل �أمانة للغرب ب�شكل عام والإيطالية ب�شكل خا�ص. �إن العالقات التاريخية بني �إيطالية والعامل العربي قدمية ومتجددة .فقد كانت �إيطاليا وراء �إن�شاء �أول مطبعة حديثة مل�صر .ويرجع الف�ضل يف ت�صميم جامعة القاهرة �إىل معماريني �إيطاليني ،وذلك بحكم العالقات القوية التي كانت تربط الأمري �أحمد ف�ؤاد بحكام �إيطاليا �آنذاك .كما ا�ستمر �إر�سال البعثات امل�صرية �إىل �إيطاليا لتعلم فنون العمارة والنحت والر�سم واملو�سيقا والآداب حتى بعد احلرب العاملية الثانية. �إن ال�صالت التاريخية التي ربطت �إيطاليا – وخا�صة �صقلية -بالعرب وال�شرق الإ�سالمي – قدمية حيث انت�شرت احل�ضارة العربية الإ�سالمية يف �صقلية �سنة 827م .وقد ترك العرب يف جزيرة �صقلية كثري ًا من العدد
عاداتهم وتقاليدهم التي ال تزال باقية حتى الآن ،كما تركوا �ألفاظ ًا عربية كثرية يف اللغة ال�صقلية والإيطالية. وال تزال مدن كثرية يف اجلزيرة حتمل �أ�سماء عربية، ففي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباين العرب �أحدهما قلعة العزيزة والآخر ق�صر القبة .وا�ستمرار ًا لهذه ال�صالت التاريخية القدمية التي ربطت �إيطاليا – وخا�صة �صقلية -بالعرب وال�شرق الإ�سالمي ،ومن �أج��ل تعميق الن�شاط الثقايف العربي قامت جمموعة من الأك��ادمي�ين الليبني بت�أ�سي�س �أكادميية ليبية يف �صقلية ،وه��ذه الأك��ادمي��ي��ة ع��ب��ارة ع��ن جهة م�ستقلة ت�ستفيد من املنحة املالية من وزارة اخلارجية الليبية ومن خم�ص�صات دعم التبادل الثقايف مع اجلامعات الإيطالية. والري���ب يف �أن العالقات الثقافية التاريخية بني �إيطاليا ودول املتو�سط كانت قائمة منذ �أيام الرومان الذين قدموا �إىل ال�شرق و�أخ��ذوا منه .وهناك العديد من املن�ش�آت املعمارية التي بناها مهند�سون �إيطاليون يف ون�صب �ساحة �سورية مثل امل�شفى الطلياين يف دم�شقْ ، 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
33
أي���ض���ًا االه���ت���م���ام ب��ت��ق��دي��م ن��ت��اج��ات��ن��ا األدب����ي����ة وال���ف���ك���ري���ة م��ت��رج��م��ة إل����ى ل��غ��ات��ه��م
إذا ك���ن���ا ن����ري����د ح���������وارًا ح����ض����اري����ًا م�����ع ال�����غ�����رب ف��ع��ل��ي��ن��ا
كانت �إيطاليا وراء �إن�شاء �أول مطبعة حديثة مل�صر. ويرجع الف�ضل يف ت�صميم جامعة القاهرة �إىل معماريني �إيطاليني ال�شهداء (املرجة) ،والكني�سة الالتينية يف الالذقية، �إ�ضافة �إىل الت�أثر والت�أثري يف ال�شوارع والأ�سواق والأبنية. ويف الع�صر احل��دي��ث ا�ستمرت ع�لاق��ات التعاون وال��ت��ب��ادل الثقايف ب�ين �إيطاليا ودول البحر الأبي�ض املتو�سط ومنها �سورية ولبنان ،وم��ن �ضمن برنامج التعاون ال�سوري الإيطايل امل�شرتك وخا�صة يف جمال الآثار ت�سلمت �سورية عام � 2007أربع لوحات ف�سيف�سائية متثل نفائ�س �أث��ري��ة رائ��ع��ة ت��ع��ود للقرنني اخلام�س وال�ساد�س امليالديني بعد �أن جرى ترميمها يف �إيطاليا، واجلدير ذك��ره هو �أن تلك اللوحات املرممة عر�ضت �ضمن املعر�ض الأث��ري "مكعبات على طريق دم�شق.. ف�سيف�ساء من ال�شرق" ال��ذي �أقيم يف متحف مدينة رافينا الإيطالية ،وال��ذي �شهد �إقبا ًال مميز ًا وجناح ًا كبري ًا حيث زاره ما يتجاوز � 55ألف زائر خالل ثالثة �أ�شهر. ومت ت�أ�سي�س �أول دار ن�شر باللغة العربية يف روما (�شرق – غرب ) عام ،1979وت�سعى هذه الدار �إىل بناء ج�سور بني ال�شعوب عرب الأدب ،واالنفتاح يف املجاالت الأدبية بغية تعزيز احلوار بني الثقافات املختلفة .وحتاول ربط الأدب العربي ب��الآداب الأجنبية عن طريق الرتجمة املبا�شرة ،وتقوم حالي ًا بالرتجمة للإيطالية والإجنليزية يف الوقت نف�سه. ونذكر �أي�ض ًا مركز "ابن ر�شد" ،وهو جمعية تر�أ�ستها نائبة جمل�س النواب الإيطايل املغربية الأ�صل �سعاد ال�سباعي .وي�سعى هذا املركز �إىل دعم وت�شجيع حوار حقيقي بني ال�شرق والغرب من �أجل فهم �أف�ضل للثقافة الإ�سالمية يف �إيطاليا. ولتدعيم هذه العالقات ولتعميق الن�شاط الثقايف العربي قامت احلكومة الإيطالية ب�إحداث ق�سم اللغة العربية والدرا�سات الإ�سالمية يف جامعات �إيطاليا، 34
العدد
7
و�أث��ن��اء الدرا�سة يتعرف الطلبة �إىل التاريخ العربي القدمي والتاريخ الإ�سالمي والأدب العربي. ولقد تخرج منها �أعداد كبرية ومن جن�سيات خمتلفة. وقام عدد منهم بت�أليف عدد من الكتب عن احل�ضارة العربية ،ون�شروا مقاالت وبحوث ًا يف املجالت الإيطالية والأجنبية ،وحاولوا �إعطاء الوجه ال�صحيح احل�ضاري للعرب. ومن طالبه املتفوقني واملهتمني بالثقافة العربية نذكر منهم :امل�ستعربة الإيطالية الدكتورة �إيزابيال كامريا دافليتو ،وهي �أكادميية ومرتجمة وناقدة .در�ست اللغة العربية على يد امل�ست�شرق الإيطايل ال�شهري فران�شي�سكو غابريللي يف جامعة روما .وهي �أ�ستاذة كر�سي يف الأدب العربي املعا�صر يف كلية الدرا�سات ال�شرقية بجامعة روما ،كما �أنها ع�ضو جلنة حتكيم يف اجلائزة الدولية للرواية العربية (بوكر) ،وع�ضو جلنة الدرا�سات العليا والدكتوراه يف بحوث ح�ضارة وثقافات جمتمعات �آ�سيا و�إفريقيا بجامعة روما. وف��ازت الدكتورة �إيزابيال بعدة جوائز منها جائزة (كافور جرينزانى) للرتجمة عام ،2006واجلائزة القومية للرتجمة التى يقدمها املجل�س الأعلى للرتجمة مب�صر عام .2006وجائزة (�سان جريوالمو) للرتجمة- عام .1995وهي ع�ضو دائم باجلائزة الإيطالية القومية للرتجمة ،وجائزة ال�شارقة للثقافة العربية ب�إ�شراف اليون�سكو .كتبت العديد من الأبحاث واملقاالت الأدبية التي يدور �أغلبها حول الأدب العربي املعا�صر ون�شرتها يف خمتلف املجالت الإيطالية والعاملية .و�ألفت العديد من الكتب عن الأدب العربي ،منها (مائة ع��ام من الثقافة الفل�سطينية) .ولقد قامت برتجمة الأدب العربي املعا�صر �إىل لغتها مبفردها ،حيث ترجمت �إىل الإيطالية اثنتي ع�شرة رواية و�أكرث من �سبعني ق�صة.
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
جامعة ميالنو
ومن الكتب التي ترجمتها (مريمار) لنجيب حمفوظ، و(�سدا�سية الأي��ام ال�ستة) لإميل حبيبي ،و(رج��ال يف ال�شم�س ) ورواي��ة ( العودة �إىل حيفا ) و( �أم �سعد ) لغ�سان كنفاين ،ورواي��ة ( �أ�صوات ) ل�سليمان فيا�ض، و(خم��ت��ارات ق�ص�صية) لغادة ال�سمان ،وخمتارات ق�ص�صية لكاتبات �سعوديات. كانت تطمح من خالل الرتجمة والكتابة يف ال�صحافة �إىل دح�ض الأفكار املغلوطة عن العامل العربي؛ فهي ت��رى �أن الأدب العربي يحمل خ�صو�صيات عميقة، وله معان �إن�سانية ال ي�ستهان بها .وتفتخر مبا قدمته من كتب مرتجمة برغم ال�صعوبات ،وتقول" :هذا هو النجاح احلقيقي يف احلياة بالن�سبة �إيل ،وهو جناح �أفخر به ،و�أ�شعر بعمق الر�ضا لأنني �ساعدت �شبابنا على معرفة الآخر من دون �أن يكتفوا مبا ي�سمعونه عنه من و�سائل الإعالم ،والذي �شوهته ال�سيا�سة �أي�ض ًا ،بل �أن يتعمقوا يف معرفة الآخ��ر معرفة مبا�شرة" .قامت احلكومة الإيطالية بتكرميها ومنحتها و�سام ًا جلهودها يف التعريف بالثقافات الأخر ى ،واتهمها دعاة التع�صب بالتطرف الإ�سالمي. ومن امل�ستعربني الذين �أ ْث��روا التفاعل احل�ضاري، الدكتور فران�شي�سكو ليجو ،فقد تعمق بدرا�سة اللغة العربية وح�صل على الدكتوراه بالدرا�سات ال�شرقية من
العدد
جامعة لوريينتايل بنابويل .وهو يد ِّر�س اللغة العربية يف اجلامعات الإيطالية ويقوم برتجمة العديد من الآثار الإبداعية العربية �إىل اللغة الإيطالية. ويرى الدكتور فران�شي�سكو ب�أن ما يرتجم �إىل اللغة الإيطالية قليل ج��د ًا وال يعك�س ث��راء الإب���داع العربي القدمي منه واحلديث. وم��ن الكتب التي ترجمها( :مو�سم الهجرة �إىل ال�شمال) للأديب الطيب �صالح ،و(ذاك��رة اجل�سد) لأحالم م�ستغامني ،ورواية (البق والقر�صان) لعمارة اخلو�ص؛ وذلك لولعه بالثقافة العربية وحماولة منه لتعريف القارئ الأوروبي بالثقافة العربية .كما �أنه ترجم العديد من الربامج التلفزيونية والأفالم الوثائقية حول م�سلمي �صقلية و�شارك يف عدد منها .وترجم العديد من البحوث النقدية العربية �إىل الإيطالية. ونذكر �أي�ض ًا امل�ستعرب (�أيرو�س بلدي�سريا ) �أ�ستاذ اللغة والآداب العربية يف جامعة "كافو�سكري" يف البندقية املتخ�ص�ص ب��الأدب ال�سوري احلديث ،ن�شر يف �إيطاليا يف عام 2007كتابه ( التجوال ا�ست�شراق ًا ) لريوي ذكرياته يف �أواخر ال�ستينات و�أوائل ال�سبعينات، خ�لال رحالته ك�سائح طالب ا�ست�شراق يف منطقتنا العربية. ً وهناك �أي�ضا امل�ستعربة الإيطالية الدكتورة د َر�ست
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
35
متحف ترا�ستيفريي
اللغة العربية يف جامعة تورينو الإيطالية ،ثم قامت بتدري�س اللغة العربية (الكال�سيكية العربية واحلديثة واللهجة ال�سورية) ،والأدب العربي (ع�صر ما قبل الإ���س�لام ،ال�شعر العربي الكال�سيكي واحل��دي��ث) يف اجلامعات الإيطالية ،وترجمت بع�ض ًا من الكتب. و�أي�ض ًا ممن ع�شقوا الثقافة العربية امل�ست�شرقة الدكتورة �أ ّن���ا ماريا ن ّلينو املتوفية ع��ام ،1974ابنة امل�ست�شرق الراحل كارلو �ألفون�سو ن ّلينو� ،أ�ستاذ الدرا�سات العربية الإ�سالمية وع�ضو يف جممع اللغة العربية عام .1932فقد اهتمت ماريا �آن���ذاك بال�شعر اجلاهلي و�أ�صدرت �أول درا�سة لها بعنوان "خمتلف طبعات كتاب جمهرة �أ�شعار العرب" ،و�أ�صدرت «�شعر النابغة اجلعدي» (روما �سنة .)1953ثم قامت برتجمة الق�صائد التالية �إىل اللغة الإيطالية :معلقة امر�ؤ القي�س – معلقة عمرو بن كلثوم – معلقة احلارث بن ِح ّلزة – الربدة لكعب بن زهري .ون�شرت هذه الرتجمات �ضمن كتاب "تاريخ الأدب العربي ،ت�أليف مينجانتي وڤ��ن�تروين -عام � ."1971أما بالن�سبة �إىل �أدب الع�صر احلديث فلم تهتم مار ّيا ن ّلينو �سوى ب�أدب طه ح�سني ،فكتبت مقالة عن «طه ح�سني و�إيطاليا» ،كذلك ترجمت اجلزء الثالث 36
العدد
7
من كتاب «الأيام» لطه ح�سني .وب�سبب عملها يف «معهد ال�شرق» ويف جملة «ال�شرق احلديث» اهتمت بال�ش�ؤون ال�سيا�سية واالجتماعية يف البالد العربية املعا�صرة. وهناك الإيطالية فران�شي�سكا ماريا كوراو احلا�صلة على الدكتوراه يف الدرا�سات الإ�سالمية وفقه اللغة العربية يف جامعة روما والتي نقلت عدد ًا من الكتب بني اللغتني العربية والإيطالية. ً وتعزيز ًا لن�شر الثقافة العربية يف �إيطاليا وت�أكيدا لدور التفاعل احل�ضاري بني الثقافتني قام ال�شاعر واملرتجم (منري مزيد) برتجمة 300ق�صيدة من ال�شعر الإيطايل املعا�صر للعربية ،و�صدر له يف �إيطاليا 6جمموعات �شعرية يف كتاب واحد حتت عنوان (عناقيد من دالية ال�سماء ،) ...وحالي ًا �سوف ت�صدر له 6جمموعات �أخ��رى .و�أجن��ز م�شروع ًا عبارة عن ح��وار بني ال�شرق وال��غ��رب بينه وب�ين ال�شاعر الإي��ط��ايل ميكيلي كاكمو بق�صائد جمعت يف كتاب واحد حتت عنوان (ق�صائد بلغة النور) �سعي ًا منهم �إىل �أن يعم ال�سالم بني �شعوب العامل مهما تعددت الثقافات ،حيث �أن ما يوحد بني هذه ال�شعوب هو الإن�سانية. ومن املتميزين ممن حاولوا تفعيل العالقات بني
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�سعى كثري من امل�ستعربني �إىل تفعيل العالقات بني العرب والغرب من خالل الرتجمة
العرب و�إيطاليا القا�ص والأدي��ب وال�شاعر واملرتجم الأردين الراحل (عي�سى الناعوري) .كتب يف بع�ض ال�صحف الإي��ط��ال��ي��ة ،و�أل��ق��ى حم��ا���ض��رات يف بع�ض اجلامعات الإيطالية و�شارك يف عدة م�ؤمترات ،منها م�ؤمتر الدرا�سات العربية الإ�سالمية يف رافيللو �إيطاليا .1966ونال ميدالية ثقافية ف�ضية من وزارة اخلارجية الإيطالية عام 1963وع�ضوية �شرف يف املركز الإيطايل العربي يف روما. وذك��ر امل�ستعرب الإي��ط��ايل ال�شهري (فران�شي�سكو غربييلي ) يف �إح��دى اجلرائد الإيطالية عام 1971 �أن عي�سى الناعوري من �أقدر مرتجمي ال�شعر والنرث الإيطاليني .وتُرجمت الكثري من �أعماله الق�ص�صية وال�شعرية والعديد من حما�ضراته �إىل لغات غربية خمتلفة منها(:الإيطالية والإ���س��ب��ان��ي��ة والفرن�سية والرو�سية واملجرية والرومانية والإجنليزية). ويف ثقافتنا العربية �أ�سماء كثرية رائ���دة فاعلة يف احل���وار احل�ضاري وك�شفت عن ال�ث�راء الإن�ساين والتاريخي واحل�ضاري للأدب والفكر العربيني .ولقد عرفت اخلربات الرتجمية املتخ�ص�صة بالأدب العربي الغنى احل�ضاري العربي ،و�صححت ال�صورة امل�شوهة التي زرعها البع�ض ،ومنهم �أي�ض ًا على �سبيل املثال ال احل�صر ،الأدي��ب وال�شاعر العراقي املقيم ب�إيطاليا (يون�س �صديق توفيق) الذي يعمل يف جمال ال�صحافة والرتجمة والكتابة الأدب��ي��ة .وهو الآن ي�شغل من�صب �أ�ستاذ اللغة والأدب العربي يف جامعة جنوة "كلية العدد
اللغات" .يكتب يف �صحف �إيطالية عديدة� .أ�س�س�س دار احلكمة وه��و مركز ثقايف عربي �إيطايل عام 2000ون�شر العديد من الأع��م��ال الأدب��ي��ة الرتاثية العربية والتي ترجمها �إىل اللغة الإيطالية مثل بع�ض كتب اجلاحظ ،والإم���ام �أب��و حامد ال��غ��زايل ،وال�شيخ ال�صويف اب��ن عربي ،وج�بران خليل ج�بران ،و�أخ��رى لأعمال ق�ص�صية لكاتبات عربيات ،كما ن�شر ديوان �شعر بالعربية والإيطالية بعنوان "ح�ضور ال�سيدة البابلية" و�آخر بعنوان "القمر بني اليدين" ،وكتاب ًا لتعليم اللغة العربية للأجانب "ال�سالم عليكم" ،وكتاب ًا عن الإ�سالم بعنوان "�إ�سالم". و�أي�ض ًا هناك الدكتور العراقي مالك الوا�سطي ،وهو �شاعر ومرتجم ي�شغل من�صب �أ�ستاذ لغة يف كلية الآداب والفل�سفة /جامعة نابويل -ق�سم الدرا�سات الآ�سيوية منذ عام .1989 ومن الأ�سماء الهامة يف تفعيل دور التفاعل احل�ضاري الدكتور الباحث التون�سي (عز الدين عناية) ،وهو من املخت�صني العرب وامل�سلمني القالئل يف علم الأدي��ان. وهو مدر�س يف جامعة "الأورينتايل" يف نابويل ،ويف جامعة روما ال�سابيين�سا. وهناك �أي�ض ًا الكاتبة واملرتجمة املغربية �أ�سماء غريب املقيمة يف �إيطاليا ،والتي قامت بكثري من الن�شاطات التي تدور حول التعريف بقدرات وكفاءات املر�أة العربية وت�صحيح املفاهيم اخلاطئة التي يحملها الغرب عن الثقافة العربية وعن الإ�سالم .وقامت برتجمة العديد من الكتب من العربية �إىل الإيطالية وبالعك�س ،كما �أنها ترجمت عم ًال كام ًال لل�شاعرة ال�سورية مرمي جنمة و�ساهمت يف قامو�س �صقليا حت��ت ع��ن��وان (�أ���ص��داء �شرقية بكتابات غربية). �أم��ا بالن�سبة لرتجمة القر�آن الكرمي فتعد ترجمة 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
37
د .عز الدين عناية
عي�سى الناعوري
امل�ست�شرق �أ ِل ّ�ساندرو باوزاين حتى يومنا هذا الأكرث دقة يف التعبري والأو�ضح يف لغة الو�صول .ونتمنى �أن يكون هناك دعم م�ؤ�س�ساتي ،والعمل مع مرتجمني �أكفاء على ترجمات �أف�ضل و�أعمق للقر�آن الكرمي لوجود �صعوبات يف ترجمة القر�آن.. ولبناء اجل�سور بني العامل العربي و�إيطاليا مت ت�أ�سي�س "جالية العامل العربي يف �إيطاليا" (كو -ماي) بروما التي تهدف �إىل بناء ج�سر للحوار بني �إيطاليا وخمتلف البلدان من �أ�صول عربية بهدف الو�صول �إىل اندماج كامل ما بني احل�����ض��ارات ،وهجرة مربجمة وم�ؤهلة على �أ�سا�س احتياجات عامل العمل يف �إيطاليا ،ل�ضمان احلقوق والواجبات .ومن �أهدافها �أي�ض ًا تعزيز احلوار الثقايف والديني داخل احل�ضارات والثقافات املختلفة، وتعزيز التعاون مع الرابطات وال�سفارات العربية لدى �إيطاليا بهدف �إيجاد قنوات ات�صال مرجعية للتبادل الثقايف واملهني ،وت�أ�سي�س و�سائل �إع�لام وات�صاالت، و�صحف يف اللغة العربية. و�أي�ض ًا من �أجل تعزيز التبادل الثقايف وتعزيز احلوار والتفاهم بني �إيطاليا والعامل العربي مت �إن�شاء قناة راي ميد عام ،2003وهي قناة حكومية �إخبارية ثقافية تبث باللغتني العربية والإيطالية. وتقود �إيطاليا �أكرب حركة يف �أوروبا للتقريب بني �شمال البحر املتو�سط وجنوبه ففي عام 2009مت االحتفال مبعر�ض تورينو� -إيطاليا الدويل للكتاب ،وذلك ب�صدور �أول كتاب يف م�شروع ترجمة �أدب الأطفال ،وي�ضم ع�شرة ق�ص�ص لأه��م م�ؤلفي ق�ص�ص ورواي���ات الأط��ف��ال يف م�صر .ولزيادة التبادل والتوا�صل يف املجاالت الثقافية والفنية والفكرية تقام الكثري من املعار�ض ،ونذكر 38
العدد
7
د� .إيزابيال كامريا دافليتو
من هذه املعار�ض معر�ض الإ�سالم يف �صقلية .وتُعترب الدكتورة �شريين مال من �أبرز وجوه احلركة الت�شكيلية يف �إيطاليا ،وقد ح�صلت على جائزة الإبداع الأوىل يف �إيطاليا للفن الت�شكيلي يف العام ،1996و�شاركت يف ع ّدة معار�ض فردية وجماعية يف �إيطاليا ودول �أوروبية �أخرى ،كان �آخرها يف املركز الثقايف العربي يف مدريد. ومن املعار�ض التي حتاول بناء ج�سور بني احل�ضارتني ال�شرقية والغربية وتعزز العالقات الثقافية بني البلدين، وت�ستعر�ض ام��ت��زاج الفن الإي��ط��ايل بالفن ال�سعودي معر�ض ( نوافذ) الذي �أقيم يف 10-6-2009م ب�إيطاليا يف متحف روم��ا ترا�ستيفريي .ا�شرتك يف تنظيمهجمعية النه�ضة ووزارة الثقافة ال�سعودية وال�سفارة الإيطالية. ويهدف املعر�ض �إىل التعريف بثقافات الآخر وكيفية االندماج فيها والتعامل معها بخط متواز يحفظ لكل ثقافة خ�صو�صيتها .كما �أنه يهدف �إىل دعم العالقات الفكرية والثقافية بني ال�سعودية و�إيطاليا والتبادل امل��ع��ريف وال��ت��وا���ص��ل ب�ين الثقافتني وت��ب��ادل اخل�برات واال�ستفادة من التجارب الن�سائية يف املجتمعات الأخرى وع َ ر�ضت فيه املهارات وبالتعاون مع ال�سفارة الإيطاليةُ . الفردية التي تتمتع بها املر�أة يف خمتلف جماالت احلياة يف كلتا الثقافتني من حرف يدوية وت�صوير فوتوغرايف و�أدب وطبخ �شعبي. ولقد نظمت و�شاركت الفنانة الت�شكيلية العربية املقيمة ب�إيطاليا ( فاطمة لوتاه) مبعر�ض يف �إيطاليا �شارك فيه ثالثون فنان ًا ت�شكيلي ًا وقد �شاركت فاطمة لوتاه بلوحاتها عن ( امل�أ�ساة العراقية ).وتعد مثل هذه الأن�شطة مبنزلة تعاون ثقايف ،غايته ن�شر الود و�إذكاء
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
جامعة جنوة
روح التقارب بني البلدين. ولأهمية البعد الثقايف يف العالقات بني �إيطاليا وم�صر تقوم الدولتان بتنظيم العديد من الأن�شطة الثقافية (معار�ض -عرو�ض فنية -ندوات�-أم�سيات �إعالمية و�سياحية ) من خالل املركز الثقايف امل�صري بروما ،ونظريه الإيطايل بالقاهرة ،والأكادميية امل�صرية للفنون بروم. ً �إن كل ما ذكرناه �سابقا ،وعلى الرغم من وجود زهاء مليون عربي يف �إيطاليا ،وعلى الرغم من جهود بع�ض امل�ستعربني الكبرية يف الرتجمة وجهود بع�ض العرب املقيمني يف اخلارج املهتمني بنقل �آدابنا �إىل الغرب ،ف�إن علينا االع�تراف مبحدودية احل�ضور ل�ل�آداب العربية يف �إيطاليا ،وي�ؤكد ذلك الدكتور الباحث التون�سي عز الدين عناية حني يقول":ال تتجاوز �أعمال الرتجمة بني اجلانبني العربي والإيطايل ،على مدى تاريخ اللغتني، 650عم ًال ،وقد كانت ح�صلية ما ترجمه العرب من الإيطالية ،ما يفوق ن�صف ذل��ك الرقم بقليل ،وهي ح�صيلة متد ّنية بني لغتني وح�ضارتني متجاورتني.... والعرب �أه��ل ح�ضارة عريقة ،لكن للأ�سف تنت�شر ب�ش�أنهم الأحكام امل�سبقة والأقاويل املغر�ضة ،دون م�ساع ج��ادة لتطوير عمل ثقايف ي�ص ّوب تلك االنحرافات وين�شر �صائب املعرفة .لذلك حال الثقافة العربية يف العدد
�إيطاليا مو�سوم بال ُيتم .ذلك �أن الفكر العربي احلديث والدرا�سات العربية املعا�صرة جمهولة يف �إيطاليا .هناك اهتمام حمدود مبجال الأدب ،حيث تُرجمت جمموعة من الروايات العربية ،وما عدا ذلك من تاريخ ،ودين، و�سيا�سة ،وفكر ،وفل�سفة ،فال ُيعرف عنه �شيء .لذلك ج ّل الكتاب العرب الكبار املعا�صرين هم جمهولون وراء ال�ضفة الأخرى". �إن الرتجمة هي مفتاح التعرف على ثقافة الآخر ،ومبا �أنها و�سيلة التفاعل احل�ضاري فال ي�صح �أن يتم ترك امل�ستعربني اجلادين واملخل�صني واملحبني بالفعل للثقافة العربية ي�صارعون وحدهم من �أجل ن�شر ترجماتهم. ونحن عندما نريد حوار ًا ح�ضاري ًا مع الغرب علينا �أي�ض ًا االهتمام بتقدمي نتاجاتنا الأدبية والفكرية مرتجمة �إىل لغاتهم ،ولكن بوجود دعم م�ؤ�س�ساتي ينظم عملية الرتجمة ويدعمها مالي ًا. ونحن نتمنى من امل�ؤ�س�سات الثقافية العربية ت�شجيع امل�شاريع الثقافية بن�شر الثقافة العربية القائمة على املبادرات الغربية ومتويلها وم�ساعدتها .كمانتمنى من وزارات الثقافة يف البالد العربية �أن تقوم بدعم ال�ش�أن الثقايف الوطني ودعم اجلهات وامل�ؤ�س�سات التي تبادر �إىل الرتجمة والتعريف ب�آدابنا وت�شجيع دور الن�شر الأجنبية ال�ستقبال الأعمال الإبداعية العربية
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
39
نصوص خالدة لرواد الثقافة في اإلمارات
الشيخ مبارك بن سيف الناخي..
المثقف الشامل يبدو �أن هذه املنطقة كانت ،ويف حقب متعاقبة من تاريخها ،على موعد مع رعيل من الرجال الأقوياء ممن امتلكوا املوهبة الأدبية واملقدرة الإبداعية لتقدمي �أعمال �أدبية وفنية عظيمة ومتميزة قيا�س ًا بزمانها .وحني وجدنا �أنهم مل يكونوا ي�أبهون ب�ضنك املا�ضي وق�سوته وما رافقه من �شظف العي�ش وال�شح واملحل وقلة الإمكانيات ومل يتطرق الي�أ�س �إىل قلوبهم مثلما حدث ل�شعوب كثرية افتقرت �إىل املبدعني بافتقارها �إىل الإبداع حتت حجة قلة الإمكانيات .فقد �أثبت املبدعون الإماراتيون خط�أ هذا اال�ستنتاج مبا وكمي يف نوعي يف امل�ضمون قدموه من �إنتاج ّ ّ املح�صول الرتاكمي حلقبة ما قبل ع�رص البرتول.
ثقافة
د .ح�سن قايد ال�صبيحي الإمارات
40
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ف��������ر َد م�����ب�����ارك ب�����ن س���ي���ف ال����ن����اخ����ي م���ظ���ل���ت���ه ال���ث���ق���اف���ي���ة
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
41
ع��ل��ى إم����ارت����ه وإم��������ارات ال����دول����ة ب��أج��م��ع��ه��ا ،ف���ض�ل� ًا ع���ن ام����ت����دادات����ه ال��خ��ل��ي��ج��ي��ة
�إن املتاح من ال�تراث الإم��ارات��ي يف �شكله الفردي واجلماعي ي�شي بكل و�ضوح بارتفاع القامات الأدبية والدعوية وحتى الفل�سفية يف الإم��ارات القدمية التي �أ ْث��رت احليا َة الثقافية ،وق ّدمت لنا �شخ�صيات �أدبية وفكرية ،ويف �أوقات �سابقة لع�صر البرتول حني كانت البيئة الثقافية قرينة لل�صحراء الزرع فيها والمناء، وحني كان الواقع االجتماعي املحيط به�ؤالء املبدعني يفتقر �إىل النزر الي�سري من روافد الفكر واملعرفة ،فال كتاب لالطالع ،وال جملة ملتابعة ال�ش�أن الثقايف ،وال م�صادر للمعلومات مثل و�سائل الإع�لام اجلماهريية من �صحافة و�إذاعة وتلفزيون. وعلى العك�س من ذلك ف�إن املكتبة الإماراتية وعلى توا�ضعها تزخر بالعديد من املراجع القيمة والوثائق املحققة والكثري من كتب ال�تراث ،تراث �أولئك الآباء
والأجداد ومب�ستويات تت�سم باجلودة يف االختيار والقوة يف التناول والنقاء ال�سياق وعلى درجة ترتك يف النف�س م�شاعر ال�سعادة والإعجاب والإ�شادة والتمجيد .فقد ترك �أولئك الأفذاذ من ورائهم تراث ًا عظيم ًا و�أ�سفار ًا بديعة وك�أن حياة املحل التي �صبغت تلك الأزمان مل تكن يف ح�سبانهم ومل تفت من ع�ضدهم �أوتفقدهم الأمل وم�ضوا يتابعون احلركة الثقافية ويكتبون يف الدوريات العربية يف م�صر والعراق وي�صدرون ال�صحف ،ويحملون راية الإ�سالم �إىل بالد بعيدة يف حتد مل�صاعب الزمان واملكان ق ّل �أن يوجد له يف حينه مثيل. ومع �أن العديد من املبدعني الإماراتيني املعا�صرين حر�صوا �أ�شد احلر�ص على العناية ب�إبداع �أولئك الرواد و�إنتاجهم ،وتناوبوا بحما�س كبريوع�شق داف��ق وحن ّو �صادق على كتابة تاريخ الإم���ارات وم��ا تركه ال��رواد
الأوائل من �إبداع� ،إال ان الوفاء احلقيقي لذلك الرعيل الفذ يتطلب املزيد من البحث امل�ستمر والدرا�سة املت�أنية والتدقيق املمنهج ،لعل جديد ًا ذا قيمة �أو�إ�ضافة خالقة تف�سح الطريق ملزيد من املعرفة ملكونات جديدة لهذا الفكر واالهتداء �إىل جتليات جديدة يف مكونه العام. وقد �شاءت امل�صادفة اجلميلة �أن حتل بيننا جملة الإمارات الثقافية ك�ساحة ثقافية جديدة وجميلة تعتني بال�ش�أن الثقايف املحلي ب�شكل خا�ص والعربي والإن�ساين ب�شكل عام .و�سنحت يل الفر�صة عرب دعوة كرمية من �إدارة املجلة للم�ساهمة يف الكتابة فيها �ضمن خطة عامة تبنتها �إدارة املجلة تلح �ضمن ثوابتها املهنية على ت�شجيع الكتاب الإماراتيني للكتابة يف ال�ش�ؤون الفكرية والأدبية ،و�إث��راء البحث يف �ش�ؤون الإم��ارات ب�إحاطة �شاملة لل�ش�أن الفكري والأدبي ،وك ّل ماله �صلة بالإمارات من قريب �أوبعيد .وجاءت اللحظة املنا�سبة لإطالق فكرة ظلت ت��راودين لزمن طويل ال�ستعرا�ض جانب من املخطوطات والن�صو�ص الفكرية لعدد من رواد الثقافة يف الإمارات ،ممن تركوا جليلنا تراث ًا ثري ًا جدير ًا بالعناية والتخليد. �أما املنهج الذي مت اختياره للعر�ض �ضمن هذال�سياق فيت�ساوق مع هدف التوثيق ال�صارم الذي نحر�ص عليه، فقد وقع اختيارنا على منهج التوثيق الن�صي ملختارات من تراث الإمارات ،و�أن نرتك الن�ص الأ�صلي كما ورد على يد �صاحبه يعرب عن نف�سه دون �أدنى تدخل ،كما 42
العدد
7
ي��ح��دث ل��دى بع�ض ال��ن��ق��اد ال��ذي��ن، وبغر�ض ت�أكيد ال��ذات ،يعمدون �إىل �إقحام تف�سريات و�أح��ك��ام ال فائدة حقيقية منها� ،إال مب��ا يلبي غ��رور �أ�صحابها .فعرب الن�صو�ص املكت�ؤبة ب�أيدي ا�صحابها نقرتب كثري ًا من املعنى احلقيقي للن�ص ،و من فهم التجربة احلقيقية للكاتب وا�ست�شرافها ،والتعرف على البيئة املحيطة به واالهتداء �إىل امل�ضمون. و�سوف نحر�ص على �أن تكون مقارباتنا يف ن�صو�صنا املختارة مطابقة لل�صور (اجلرافيكية) طبق الأ�صل وبخط الكاتب نف�سه .وهذا �أمر مهم لت�أكيد امل�صداقية وجت��ن��ب ال�����ش��ك��وك واالرت���ي���اب وال��ب��ع��د ع��ن التهومي �أوالفر�ضيات الواهية والتجريد املفتعل الذي ،وللأ�سف، ي�صاحب الكثري من الكتابات الوثائقية القائمة على احليال والتلفيق وال�سرد التجريدي الأجوف. و�سوف يكون �أول من نحتفي به يف هذه ال�سل�سلة، ال�شيخ العالمة الأدي��ب ال�شاعر املعلم امل���ؤرخ الرتبوي والتاجر مبارك بن �سيف الناخي .وال عجب يف ر�صد هذه ال�سل�سلة الطويلة من الألقاب ،فقد كان الرجل مثقف ًا �شام ًال بحق ،حيث �إن��ه ،وب�شهادة ما تركه لنا من تراث قد �شغل زمانه الإماراتي ال�شارقي اخلليجي ب�إنتاجه املتفرد ،وف��ر َد مظلته الثقافية على �إمارته و�إم�����ارات ال��دول��ة ب�أجمعها ،ف� ً ضال ع��ن ام��ت��دادات��ه اخلليجية التي نقر�ؤها يف ثنايا ن�صو�صه التي �ضمنها الكثري من ر�ؤ�آه يف مرا�سالته لأقرانه من مثقفي دول اخلليج ب�أجمعها. ولدى ا�ستكمال القراءة ملا تبقى من هذه املادة �سوف نكت�شف وبالوثائق املخطوطة وبالن�صو�ص �أنه كان ذلك الرجل ال��ذي ظ ّل لزمان طويل حمط �أنظار املثقفني
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
املكتبة الإماراتية ،على توا�ضعها، تزخر بالعديد من املراجع القيمة والوثائق املحققة والكثري من كتب الرتاث
كان لدى الناخي موهبة كبرية يف اخلطابة ،وهو ينوع يف خطبه بني اللجوء �إىل الكناية والرتميز ،وبني القول املبا�شر
العرب من م�صر �إىل الهند� ،إىل دول اخلليج العربي واجلنوب العربي وايران. اول مايذكر عن الناخي �أنه مثل الكثريين من �أبناء جيله �شديد االهتمام ب�ش�ؤون موطنه .وغالب ًا ما كان ذلك الهم جت�سيد ًا على تناوالته ل�ش�ؤون وطنه الإمارات ووطنه العربي الكبري ومن ثم �أمته الإ�سالمية على ات�ساعها. فقد ا�ستاثرت الإمارات بل ّبه وم�شاعره وعواطفه ،ومل هم �سوى ذلك ال�شعور باحلمل الثقيل الذي يكن له من ٍّ ً يقع على كاهل املواطن .وكان الناخي يزداد �أملا كلما ازداد اجلهل تف�شي ًا بني قومه ،ولهذا جنده يحر�ص على اختيار مهنة التدري�س يف الإمارات ويف قطر ،ويعبرّ عن ولهه مبهنته عرب املرا�سالت امل�ستمرة ل��رواد التعليم يف كل مكان .وقد جل�أ �إىل كتابة ال�شعر ليعرب عن �أمله و�أوج��اع �شعبه ،فكتب الق�صيدة تلو الق�صيدة ،ينادي فيها �أبناء قومه ،ويحثهم على الإق��ب��ال على العلم، ويطالب �أن تن�شر �أغرا�سه يف الريا�ض العربية املعطاء. فنجده يقول: م� �ت ��ى �أرى ال � ��وط � ��ن امل � �ح � �ب� ��وب م �ن �ت �ب �ه �اً م � � � ��ن ال � � � � ��رق � � � � ��اد جم� � � � � � � ��داً غ � �ي� ��ر و�� � �س� � �ن � ��ان حم � � � ِّل � � �ق � � �اً ف� � � ��ى �� � �س� � �م � ��اء ال � � �ع� � ��ز م� �ت� �ب� �ع� �اً رب ال� � � �ن� � � �ج � � ��اة وم � � � � � ��ا يف �أر�� � � � � �ض � � � � ��ه وان
رع� � � � � � � � � � � ��اك اهلل م� � � � � � ��ن خ� � � � � � ��ل ه� � � �م � � ��ام ل� � � � � � � ��ه ف� � � � � � � ��ى ك� � � � � � � ��ل ح� � � � �ل� � � � �ب � � � ��ة اب� � � � �ت� � � � �ك � � � ��ار ف � ��ان� � �ه� � �� � ��ض ب � ��ال� � �ق � ��ري� � �� � ��ض ل � � �ك� � ��ل ق� � ��وم ف � � � �م� � � ��ا ك � � ��ال� � � ��� � � �ش� � � �ع � � ��ر ل � � � �ل � � � ��أق � � � � � � � ��وام ن� � � ��ار والت � � � �ي � � � ��أ�� � � ��س و�إن ج� � �ه� � �ل � ��وا وم � � ��ات � � ��وا ف � � � � � � � � � � ��إن امل� � � � � � � � � � ��وت ي � � �ع � � �ق � � �ب � � ��ه ان � � �ت � � �� � � �ش � � ��ار
وكان حكيم ًا وملتزم ًا �أ�شد االلتزام ب�ش�ؤون جمتمعه. ومل يكن هذا االلتزام مقت�صر ًا على �إمارته ال�شارقة فقط ،بل جنده يف �أحد الن�صو�ص يحث حاكم ر�أ�س اخليمة على ال�ضرب بيد من حديد على قطاع الطرق حفاظ ًا على النظام والقانون ،فقد كان من �أ�صحاب ال��ر�أي واحلكمة ي�ست�شريه احلكام ،وي�أخذون بر�أيه، فيقدم ن�صائحة لهم خال�صة ويدعو اىل اال�صالح
وكما نرى ف�إن الناخي بدا يف هذه الق�صيدة وك�أنه ميتدح وي�شيد ب�صديقه العالمة ال�شيخ املطوع ،غري �أنه قي�ض �شعره للبوح بالعديد من حتديات ع�صره و�شجون زمانه فتنقل من الرثاء على حال قومه والتمرد على قيود تلك املرحلة ،وبث روح احلما�س بني �أهله و�أبناء وطنه ،جنده ينتقل �إىل اجلانب العروبي الطاغي على �شاعريته وانتمائه القومي ،فقد كتب يف �إحدى ق�صائده:
العدد
الداخلى والق�ضاء على الفنت التى تنخر يف كيان املجتمع �إذ يقول حلاكم ر�أ�س اخليمة: م � � ��ا يف ال � �� � �س � �ك � ��ون ويف الأن� � � � � � � ��اة راح � � ��ة ف � ��ان� � �ه� � �� � ��ض وج� � � � � � ��رد ل� � �ل� � ��� � �ش � ��رور ح� ��� �س ��ام ��ا ف � � � � � � � � � � ��إذا رك� � � � �ب � � � ��ت ف� � � �ك � � ��ل �� � � �ش � � ��ر ق � ��اب � ��ع و�إذا غ � � �� � � �ض � � �ب� � ��ت ف � � �ك � � �ل � � �ه� � ��م �آالم � � � � � � � ��ا وللناخي رحمه اهلل ق�صائد يجمع فيها �أك�ثر من غر�ض �شعري يف ق�صيدة واح��دة ،كما هو احل��ال يف ق�صيدته التي ميتدح بها �صديقه امل��رح��وم ال�شيخ عبداهلل بن �صالح املطوع ،ومطلعها" :عهدتك �شاعر ًا ولك اقتدار". ً والق�صيدة تتالف من ثالثة ع�شر بيتا ،يقول فيها: ع � � �ه� � ��دت� � ��ك � � � � �ش� � � ��اع� � � ��راً ول� � � � � ��ك اق� � � �ت � � ��دار و� � � �ش � � �ه � � �م � ��ا م � � � � ��اج � � � � ��داً ول � � � � � ��ك اف� � �ت� � �ك � ��ار
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
43
ك ��م ذا ع �ل��ى ال �� �ض �ي��م ن �� �ص�بر �أي� �ه ��ا ال �ع��رب م� � � � ��اذا ال � �� � �ش � �ق� ��اء وم� � � � � ��اذا ال� � � � ��ذل وال� �ن� ��� �ص ��ب ومي�ضي : امل � � � � � � ��وت واهلل خ � �ي� ��ر م � � � ��ن ح� �ي ��ات� �ك� �م ��و ف � �ح� ��ال � �ك� ��م ه � � �ك� � ��ذا ي � �ق � �� � �ض� ��ي ب � � ��ه ال� �ع� �ج ��ب وكان لدى الناخي موهبة كبرية يف اخلطابة ،وهو ينوع يف خطبه ب�ين اللجوء �إىل الكناية والرتميز، وبني القول املبا�شر .وهناك خطبته ال�شهرية امل�سماة: "الفئران" ،والتي تركت �أثر ًا كبري ًا بني الأدباء والكتاب يف املنطقة ،وتناقلتها و�سائل االعالم .فقد �سار على نهج اب��ن املقفع يف كليلة ودمنة و�أج���اد �أمي��ا �إج��ادة. وب��د�أت ق�صة الفئران التي �ألقاها يف النادي الأدب��ي يف يوم االثنني 3دي�سمرب عام 1973حني �ألقى حطبة احتجاجية على ل�سان ف�أر يتحدث �إىل جموع الفئران، وبد�أها بالقول" :مع�شر الفئران الأ�شاو�س� ...أردنا �أن نعي�ش فى �أ�سرابنا وحتت اجل��دران معر�ضني �أنف�سنا للهالك وال�برد والدو�س ب��الأق��دام وعر�ضة للأمطار والرطوبة ،را�ضني بالقليل ،متنازلني عن جميع النعم التى خ ّولها اهلل لبنى �آدم ،فهم يف نعيم ونحن فى جحيم ،النكاد نخرج من �أ�سرابنا ال�ستن�شاق الهواء ب�ضع دقائق �إال انهال علينا من يف البيوت من كبري و�صغري ،من ذكر و�أنثى ّ ينق�ضون انق�ضا�ض ال�صقر على �صيدته والأ�سد على فري�سته دون حق وبال رحمة �أو�شفقة .هذا ديدنهم .وهذا د�أبهم ،ي�سعون للق�ضاء علينا وا�ستئ�صال �ش�أفتنا بال هوادة ،يحاربوننا حرب �إب��ادة تقتي ًال وجتريح ًا باحلديد والع�صي ،وبالألواح وبالنعال ،وبكل �شيء ي���ؤذي وي���ؤمل ويقتل ،طاملا نحن قبلنا هذه الأعمال الفظيعة منهم .وقد طلبنا منهم �إيقافها ومنعها ،ولكن �أبى اهلل �إال �أن يتمادوا فى غيهم 44
العدد
7
و�ضاللهم ،ويف جورهم وظلمهم وعدوانهم. والذي حدا بالناخي �إىل مثل هذا الأ�سلوب يف الكتابة كما جاء على ل�سان مبارك اخلاطر امل���ؤرخ القطري املعروف "�أنه رمبا تكون حادثة معينة �أ ّث��رت فيه� ،أو �أن تكون �إفراز ًا لرتاكم خمالفات �سلوكية �أو اجتماعية ر�آها ت�ضرب ن�سيج جمتمعه املحافظ� ،أو رمبا ما كان ي�شعر به من �ضغوط ممار�سات �سلطوية بريطانية على �شعبه يف الإمارات �أو البالد العربية". �أما اجلزء الذاتي من خطبة الفئران ،فقد �سار على النحو التايل: و�أخري ًا حيث ال يجدي الت�صالح معهم ،وال التفاهم م��ع عقالئهم وزع��م��ائ��ه��م� ،صممنا على حماربتهم وعدائهمِ ،وك ْلنا لهم ال�صاع،و�أهبنا ب�شعوبنا �أن توحد كلمتها ،و�أن تعبئ �صفوفها ،و�أن تقف لهم باملر�صاد �آناء الليل و�أطراف النهار .ولتقري�ض �أرجلهم و�أيديهم، ولأكل كتبهم وثيابهم ومفرو�شاتهم وجميع حوائجهم و�أم��ت��ع��ت��ه��م ،كلوها ب�أ�ضرا�سكم احل����ادة ،مزقوها ب�أرجلكم ،خ ّربوا لهم ك ّل �شيء ،وحينذاك �سيعرفون جيد ًا من هم مع�شر الفئران. ذلك هو الق�سم الأ�صغر من ن�ص مع�شر الفئران الذى �شكله الناخي فى ر�ؤية انتقالية ،من ع�صيان مدين احتجاجي ظهر كما قلنا يف �صورة مرافعة، بها ق��در كبري م��ن ال�شكوى وال��ت�برم� ،إىل مرحلة �إجراء تنفيذي من قبل املحتجني وهي نقلة مواجهة مهمة ي�شى املنظر العام بها �أنه �صادر عن ذهنية ا�ضطرت �أن ترد على ما اعتربته �ضغوط ًا ،فلم جتد من و�سيلة �سوى ترك االجتاه ال�سلمي واالنتقال �إىل املقاومة الفعلية .ي�أتي الناخي بهذه اللوحة للن�صف ال�صغري من مع�شر الفئران ،وك�أنه يقول على ل�سانه: مكره �أخاك البطل
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ملف العدد �سليمان العي�سى �شاعر الطفولة العذب د .ريا�ض نع�سان �آغا التخييل يف �أدب الأطفال د� .سمر روحي الفي�صل �أدب الأطفال و�إ�شكالية التعريف د .حممد البدوي القراءة الو�سيطة لأدب الطفل ترجمة :خلود اجلرايحي يف �أدب الطفل د .حممد الغزي البحث عن بطل د .عبد الرحيم امل�ؤدن �أدب الطفل مقاربة �سيكيلوجية د .ر�شيد اخلدميي �آليات �إنتاج �شعر الأطفال الطاهر لكنيزي حدثتنا مرية للمي�س املرزوقي �سامح كعو�ش ال�صورة ال�سينمائية وت�أثريها على الطفل العربي ف�ؤاد زويريق م�سرح الطفل يف الإمارات د.هيثم يحيى اخلواجة
ملف العدد
د .ريا�ض نع�سان �آغا
سليمان العيسى �شاعر الطفولة العذب
حين وجد الكبار عاجزين عن تحقيق الحلم، توجه إلى األطفال ،ليرى فيهم فرح الحياة ال ميكن لأحد �أن يكتب عن �أدب الطفولة املعا�رص عند العرب ،دون �أن يتوقف طوي ً ال عند �أهم ثروة �أدبية قدمها �شاعر الطفولة العذب وجه �سليمان العي�سى ،و�أح�سب �أنه ال�شاعر العربي الوحيد الذي ّ ّ جل �شعره للأطفال متفرغ ًا لرتبيتهم واالرتقاء بذائقتهم الأدبية على مدى �ستني عام ًا ،يغني لهم ويدعونا �إىل الغناء معهم ،وقد حفظت الأجيال ق�صائد �سليمان ،وتربى عليها املاليني من �أبناء العروبة .ولقد كتبت مرات عن �سليمان ،ولكن هذه املقالة �أثرية عندي؛ لأن �صديقي �سليمان العي�سى �أحبها ون�رشها يف كتاب �سريته ،ويحزنني �أنه اليوم طريح الفرا�ش يف �إحدى م�شايف دم�شق، حيث املحطة الأخرية من حياة حافلة بالإبداع. 46
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
هو �شيطان �شعر حت��ول �إىل م�لاك ،حام ًال �شعلة وهاجة حمراء� ،سرعان ما حتولت �إىل وردة بي�ضاء، ي�ضوع منها الطيب والنقاء ،هو اليوم يتجاوز الت�سعني من العمر ،لكن قلبه ما يزال قلب طفل ينب�ض بالفرح، برغم كل معاناة ال�شيخوخة والعجز ،ما كلمته مرة حتى ح�ين ق��ع��د� ،إال ك��ان��ت النكتة الطريفة معرب ًا للحديث معه ،وه��ب حياته لأم��ت��ه وغنى لها �أجمل �أ�شعاره ،لكنه حني وجد الكبار عاجزين عن حتقيق احللم ،توجه �إىل الأطفال ،لريى فيهم فرح احلياة وجمدها احلقيقي ،فهم امل�ستقبل ،وهم ال�شباب الذي �سيملأ ال�ساحة غد ًا �أو بعد غد ،يقول �سليمان "�إنهم امتدادي وامتدادك يف هذه الأر�ض ،هم النبات الذي تبحث عنه �أر�ضنا العربية لتعود �إليها دورتها الدموية التي تعطلت �ألف عام ،وعروبتها التي جفت �ألف عام.. �إنني �أكتب لل�صغار لأ�سليهم ،ربمّ ا كانت �أية لعبة �أو كرة � ْأج��دى و�أنفع يف هذا املجال ،لكنني �أنقل �إليهم العدد
جتربتي الإن�سانية� ،أنقل �إليهم همومي و�أحالمي". ال �أذكر متى عرفت �سليمان العي�سى ،و�أح�سب �أن كثريين مثلي يت�ساءلون� ،أترانا عرفناه يوم ولدنا �أم كان من قبل يف الذاكرة؟ فقد كانت �أ�شعاره وال تزال تقدم وجبة غنية خليال الطفولة من ثدي ال�شاعرية العذبة ال�صافية ير�ضعونها مع حليب الأمهات ،وتلك حالة مل يحققها �شاعر قبله ،كما �أن ق�صائده القومية والإن�سانية للكبار كانت تهدر على كل ل�سان ،ولقد كنت طالب ًا يف دار املعلمني يف حلب مطلع ال�ستينيات من القرن املا�ضي ،وكان الأ�ستاذ �سليمان يد ّر�س الأدب يف الدار ،ويف ثانوية امل�أمون ال�شهرية ،ومل �أحظ ب�أن �أدر�س يف �صفه ،وهذا ما دفعني فيما بعد �إىل احلر�ص على حتقيق م��ا ف��ات��ن��ي ،فهرعت �إل��ي��ه �أدر�����س على �شاعريته ،و�أحظى ب�صحبته و�صداقته. كان �سليمان العي�سى واحد ًا من رواد حركة القومية العربية منذ �أوا�سط القرن الع�شرين ،اقرتن ا�سمه 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
47
ح���م���ام���ة ب����ي����ض����اء ،ت���ه���ده���د ل���ل���ص���غ���ار ،وت���ح���ك���ي ل���ه���م ق���ب���ي���ل ال����ن����وم، ع�����ن ال����م����ع����ري و ال���م���ت���ن���ب���ي وأب�������ي ت�����م�����ام ،وت����ق����ص رواي����������ات ال���س���ن���دب���اد
�أ�س�س �سليمان العي�سى مع �صديقه �صدقي �إ�سماعيل جريدة (الكلب) التي نبح فيها كبار املبدعني، وتهاو�شوا مع احلكومات، وع�ضوا ال�سيا�سات، وع�ضتهم
با�سم الأر�سوزي وعفلق وغامن و�سواهم من م�ؤ�س�سي احلركة التي �سرعان ما ت�سلمت احلكم يف العراق و�سورية ،لكنه مل يقرتب من احلكم يوم ًا لقد �أم�سك باحللم ،وترك ل�سواه احلكم ،واحتفظ باملن�صب الذي ال ميلك �أن مينحه �إياه �أحد ،وال �أن يعزله منه �أحد، وهو من�صب ال�شاعر الذي يحكم القلوب ،وفوجئنا ب�أن �شاعرنا ال يخت�ص نف�سه ب�شيء من متع احلياة وقد باتت ي�سرية ،فكل من حكموا ال�شام ،كانوا من تالمذته �أو من تالمذتهم ،وكلهم يعر�ضون على ال�شاعر ما يريد مع في�ض من احلب والتقدير ،لكنه مل يكن يريد �شيئ ًا لنف�سه ،فقد كان احللم الذي عا�ش حياته كلها يزرك�شه وينمقه ،هو �أن يرى �أمته قوية متتلك �سيادتها و�إرادتها ،وتعود �إىل دورها احل�ضاري العظيم. ك��ان احللم يتوهج يف مطلع ال�ستينيات ،حركات انقالبية هنا وه��ن��اك ،و���ش��ع��ارات و�أه���ازي���ج تهتف للعروبة ،وبع�ض النا�س ين�شدون ق�صيدة �سليمان ال�شهرية "يا �شباب العرب هيا وانطلق يا موكبي". لكن املوكب توقف عن ال�سري فج�أة يف نك�سة يونيو ،67 وكانت فجيعة ال�شاعر الكربى حني ر�أى احللم ي�صري �أ�ضغاث ًا. فقد ال�شاعر ثقته بقدرة الكبار على حتقيق �أحالم الأم��ة ،فان�صرف ب�إبداعه �إىل من يحملون الأم��ل، ومن ي�صنعون امل�ستقبل� ،إىل الطفولة التي مل تلوث، وهي حتتاج �إىل ينابيع ت�ستقي منها العقيدة والإميان، وتعلمها ال�شعر بو�صفه �إبداع �أمة ،ولغة حتمل البيان، 48
العدد
7
وتطرب الآذان ،وت�صوغ ثقافة تر�سخ يف الوجدان، وهكذا حتول �سليمان ،من �شاعر ال�شعلة احلمراء، �إىل حمامة بي�ضاء ،تهدهد لل�صغار ،وحتكي لهم قبيل النوم ،عن املعري و املتنبي و�أبي متام ،وتق�ص روايات ال�سندباد. و�أول ما تلثغ به الطفولة يف بالدي ق�صيدة ع�صماء ال يوجد طفل يف ال�شام وما حولها مل يبد�أ بها �شدوه العذب اجلميل هي" :ماما ماما ،يا �أنغاما ،متلأ قلبي، بندى احلب� ،أنت ن�شيدي ،عيدك عيدي ،ب�سمة �أمي، �سر وجودي� ،أنا ع�صفور ملء الدار ،قبلة ماما �ضوء نهاري" �أو �أغنيته العذبة التي هي من��وذج لأغنياته التي ُي��ع ِّ��رف فيها ال�صغار �إىل قيمة العمل "عمي من�صور جنار ،ي�ضحك يف يده املن�شار ،قلت لعمي، عندي لعبة ،ا�صنع يل بيت ًا للعبة ،هز الر�أ�س وقال� ،أنا �أه��وى الأطفال" .لقد عاد ال�شاعر �سليمان خمل�ص ًا ملهنة التعليم ،ليبد�أ ال��در���س من جديد مع تالمذة �صغار ج��د ًا ،بع�ضهم دون اخلام�سة ،و�أك��د �أن بناء الأمة يبد�أ من �صناع امل�ستقبل ،فان�صرف �إليهم وراح يعلمهم معنى الوحدة والتعاون "من زهرة واحدة ،ال ي�صنع الربيع" ،ويحكي لهم عن �أ�صلنا العربي كيال يظنوا �أنهم بال جذور: و�أبعد نحن من عب�س ،ومن م�ضر نعم �أبع ْد حمورابي وه��اين بعل ،بع�ض عطائنا الأخ�ل� ْد ل�ن��ا بلقي�س والأه � � ��رام ،وال �ب��ردي وامل�ع�ب� ْد وم��ن زيتوننا عي�سى ،وم��ن �صحرائنا �أح�م� ْد
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�ألي�س هذا بع�ض ما عناه ابن املقفع حني حتدث عن ال�سهل املمتنع؟ و�أح�سب �أن �أول �أبيات حفظتها ل�سليمان العي�سى هي تلك التي قر�أتها يف جملة العربي يف ال�ستينيات، ولي�ست لدي الق�صيدة الآن كي �أقب�س منها ،و�أخ�شى �أن تخونني الذاكرة بعد عقود ،لكنني �أظن �أنها تلك االعتذارية العذبة التي مهدت لها املجلة بقولها �إن ال�شاعر �سليمان العي�سى كان يف الكفرون على مائدة طعام و�إىل جواره �صبية ح�سناء ،ودون �أن ينتبه هوى ك���أ���س م��ن ي��د ال�شاعر على ث��وب ال��ف��ت��اة ،وب��دا �أنها انزعجت فقال لها ال�شاعر معتذر ًا ال ت� � �ل � ��وم� � �ي� � �ن � ��ي ول� � � � ��وم� � � � ��ي ال� � �ق � ��دح � ��ا �أ� � � � � �س � � � � �ك� � � � ��رت� � � � ��ه ل� � � �ف� � � �ت � � ��ة ف � ��ان� � ��� � �س� � �ف� � �ح � ��ا ق� � � � � �ط � � � � ��رة � � � � � �ش� � � � ��اع� � � � ��رة ح � � � �ن � � � ��ت �إىل �� � � �ش � � ��اط � � ��ئ ال � � �� � � �س � � �ح� � ��ر ف � � � � �ط� � � � ��ارت ف � ��رح � ��ا جن � � �م � � ��ة ب � � �ي � � �� � � �ض� � ��اء ف � � � � � ��رت م� � � � ��ن ي � � ��دي ف� � �ه� � �ب� � �ي� � �ه � ��ا يف ال � � � � �ن� � � � ��دام� � � � ��ى م� � �ط � ��رح � ��ا �إىل �آخر هذا االعتذار الرقيق الذكي املبدع. لقد تعرفت على �سليمان العي�سى عن قرب ،و عرفت الكثري من �أ�سرار �إبداعه وبع�ضها امتالء قلبه باملحبة، وترفعه عن ال�صغائر ،ولطفه ودماثته ،وح�سن لقائه، وب�شا�شة ترحيبه ،وتعرفت على �شيء من ذاك املخزون الرثي العجيب مما يحفظ من طفولته �شعر ًا ونرث ًا، وهو ميتح منه ،فيدخله �إىل م�شغله الفني لي�أخذ منه النكهة وال�سالف ،وي�ضيف �إليه من لدنه ما تقتطفه العدد
ال��روح القلقة املعذبة يف �سراحها وهواج�سها وهي تعاود الأرق ،فت�صوغه �شعر ًا .ومنه تعلمت يوم كان احلوار م�شتد ًا حول الق�صيدة القدمية واجلديدة �أن "ال�شعر هو النب�ض احلي وراء البيت" .وهكذا بب�ساطة و�ضع �سليمان يده على النار التي يتوهج منها الإبداع، وهو يقتب�س منها جمرة النب�ضة احلية ويعاف امليتة الباردة ،وقد �أتيح يل �أن �أح��اوره م��رات على �شا�شة التليفزيون ،وه��و املتحدث ال��ع��ذب الفيا�ض ،ال��ذي يغرف من بحر ثقافته الوا�سعة ،و�سر جماله ال�صايف �صدقه وب�ساطته. لقد �أطلق �سليمان العي�سى هدير �صوته حني كان احللم موار ًا �شديد التوق ،وكان ينعك�س على لغته يف مثل قوله: مب� �� �ْ�س� � َم� �ـ� �ع ��ي ،و ِن � �ـ � �ـ � �ـ� ��دا ُء َه � � � � � � ْد ُر َي � �� � �ض� � ُّ�ج َ ف� � �ي� � �ه � ��ا ،وم � � � � � ��ات احل� � � � � � � � ُّ�ب ،ف� � �ه � ��ي ُزق� � �ـ� � �ـ � ��اء ك � ��ال � ��دوح� � �ةِ ..ان� �ط� �ل� � َق ��تْ مت� � ��دُّ ف��رو َع �ه �ـ��ا يف الأف� � � � � � � ��قِ ،ح �ي ��ن م � ��� َ��ض� ��ى َي � � ��جِ � � � ُّ�ف امل� � �ـ � ��ا ُء َه � � � � � � ْد ٌر ي� � �� ِ� ��ض � � ُّ�ج ...ويف ف� � �ـ� � �ـ� � ��ؤادي ه� � � ��د�أ ٌة م� � ��ذب� � ��وح � � �ـ � � �ـ � � � ٌة ،و� � �س � �ك � �ي � �ن � �ـ � �ـ � �ـ � � ٌة ب � �ل � �ه � �ـ � �ـ� ��ا ُء خ� � ��رج� � ��وا ،و�آث � � � � ��رت ال � � � ِف � � �ـ � � � َرا َر ب �ع��زل �ت �ـ �ـ��ي ف ��ال� �ب� �ي� �ـ� �ـ� �ـ ��ت ح � � � ��ويل وح � � �� � � �ش � � � ٌة خ� ��ر� � �س � �ـ � �ـ� ��ا ُء ال� ��� �س ��اح� � ُة ال � �ك �ب��رى َت� � َغ� �ـ� �ـ� �� � ُّ�ص رح ��ا ُب� �ـ� �ـ� � َه ��ا ب � ��الأب � ��ري� � �ـ� � �ـ� � �ـ � ��اءِ ،وت� � �ع� � �� �ِ ��ص � � ُ�ف الأ�� � �ص� � �ـ� � �ـ � ��دا ُء � � �س � �ن � �ع ��ودَُ ..ح� � � ْن � � َ�ج � ��ر ٌة ت� ��� �ص� �ي� � ُح ،وه �ت �ف �ـ �ـ � ٌة مت �� �ض �ـ �ـ ��ي م � ��ع ال� �ت� ��� �ص� �ف� �ي ��قِ ،ف � �ه� ��ي َه � � َب � �ـ� ��ا ُء 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
49
�شيطان �شعر حتول �إىل مالك ،حام ًال �شعلة وهاجة حمراء� ،سرعان ما حتولت �إىل وردة بي�ضاء ،ي�ضوع منها الطيب والنقاء
لكن هذا الهدير ي�صري �سكون ًا وح�شة و�أ�سى ووح�شة، حني يواجه حقيقة االنك�سار الذي حاق بالأمة ،وحني �صار احلديث عن العودة �أغنية للنواح: م� ��� �ض ��ت ال � �� � �س � �ن� ��ون وخ� �ي� �م� �ت ��ي مم� � � ��دودة ف � � � ��وق � � � ��ي ت� � �ق� � �ه� � �ق � ��ه ح � � ��ول� � � �ه � � ��ا ال� � �ن� � �ك� � �ب � ��اء ال� � � �ي � � ��وم ت� �ك� �ت� ��� �س ��ح ال � � � �ب � � � ُ �روق � � �س � �م� ��اءن� ��ا، ومت� � � � � � � � ��وج ف � � �ي � � �ه� � ��ا ال� � � � � �ع � � � � ��زة ال� � �ق� � �ع� � ��� � �س � ��اء ويحق ل�شاعرنا وهو يعي�ش انك�سار احللم �أن ينكر ك�أ�سه وع���وده ،و�أن ي�س�أل �شظايا النجوم يف الوتر املحموم: هل فيك �شهقة من ق�صيدِ ؟ ب�سمة؟ وردة؟ بقية طفل مل يزل يغزل الر�ؤى بن�شيدي؟ وزعته ق�صائد احلب يف الدنيا فكان الرماد حب احل�صيدِ يا �صديقي نحن كنا على �شفة اجلمر عطا�شاً �إىل رحيق الوجود هل ظفرنا بقطرة؟ ح�سبنا حلظة بعمر اخللود و�سليمان العي�سى �شاعر م�سرحي ،وق��د كانت م�سرحيته ال�شعرية ال�شهرية (الإزار اجل��ري��ح) م��ق��ررة على ط�لاب ال��ب��ك��ال��وري��ا ،لقد ع ّرفنا فيها �أ�ستاذنا (�أب��و معن) على �ضخامة موقف كنا منر عليه م��رور العابرين ،وال نت�أمله كما فعل ال�شاعر الكبري� ،إنه موقف جبلة بن الأيهم ال�شاعر الغ�ساين امل�سيحي ،حني تعر�ض المتحان ال��والء بني بيزنطة امل�سيحية وب�ين �إ���س�لام قومه ،فاختار ال��وق��وف مع 50
العدد
7
العروبة امل�سلمة ،وحارب العدو املحتل� ،إنها م�سرحية هامة يف �أدبنا العربي لأنها تقتحم االنتماء ،وينجح الوالء للعروبة يف امتحان حا�سم مثري. ولو �أن �أب��ا معن �أمعن يف كتابة امل�سرح ال�شعري لزود الأدب امل�سرحي العربي بكنوز من الإبداع ،وقد
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
من ذا ميلك �أن يب�سط اللغة، و�أن ميلأها حلن ًا طروب ًا لي�صري ن�شيد ًا و�أغنيات يرددها ماليني �أطفال العرب؟
فعل ذلك فيما كتب للأطفال من م�سرحيات �شعرية وغنائيات ،و�أعتقد �أنه �أول �شاعر عربي كبري ،يقتحم ع��امل الطفولة ال��ذي يهابه املبدعون ،لأن الكتابة للكبار �أمر يح�سنه الكثريون ،ولكن من ذا ميلك �أن يب�سط اللغة ،و�أن ميلأها حلن ًا طروب ًا لي�صري ن�شيد ًا و�أغنيات ي��ردده��ا ماليني �أط��ف��ال ال��ع��رب ،وم��ن ذا ي�ستطيع �أن ي�صوغ الفكرة اجلليلة ال�صعبة العميقة فيجعلها ي�سرية لطيفة ي�ستوعبها الأطفال وهي تن�سل �إىل الال�شعور ،وتدخل يف الوجدان بال ا�ستئذان؟ �إن��ه ال�شاعر املتمكن من �أدوات��ه ،املج ّرب يف بيانه، وهو املعلم الذي مار�س خطاب الب�سطاء من النا�س حني كان يطوف القرى ،ويعلم الفالحني الأميني القراءة والكتابة ،وي�صوغ لهم �أهازيج حب العروبة والوطن. و�سليمان العي�سى �شاعر يت�أرجح بني مدر�ستني، مدر�سة التجديد ومدر�سة التقليد ،ولكنه مل ي�شغل نف�سه ب���إع�لان االنتماء �إىل واح��دة دون الأخ��رى، فهذه مهمة النقاد يرون �أي املدار�س خ ّرجته و�أيها ك��ان فيها معلم ًا؟ وق��د خرجته م��در���س��ة التقليد، لي�صري �أ�ستاذ ًا يف مدر�سة التجديد ،ولكنه مل ّ ي�شتط على �أرك��ان الق�صيد ،فحتى يف ق�صائده احلديثة �أو النرثية ،ت�سمع مو�سيقا ال�شعر الطربة تتمايل راق�صة بني الكلمات ،و�سر ذاك� ،أن �أبا معن فنان ط��روب ،ال تتوقف املو�سيقا عن العزف والغناء يف داخله. و�سليمان العي�سى بقي وهو على عتبة الت�سعني من العمر يحن �إىل ِن ّده القدمي ،وهو موج البحر الهادر: ِن � � � � � � � � � � � � � � � � �دّان ي� � � � � � ��ا �أم� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج ن� � �ح � ��ن ق� ��� �ص� �ي ��دة ع� �ط� ��� �ش ��ى ول� � � � � ّج ث � ��ائ � ��ر م � �ت � �م ��رد ُ العدد
�� ُ� ��ص � � � ّب� � ��ي ع� � �ل � ��ى ع� � �ي� � �ن � � ّ�ي �آخ� � � � � ��ر ق � �ط� ��رة يف � � � �ص � � ��در ع � ��و� � �س � �ج � ��ة امل� � �غ� � �ي � ��ب َت� � � � � � � ��ر ّد ُد ولعل كثريين ال يعرفون �أن �سليمان العي�سى واحد من كبار ال�شعراء الظرفاء ال�ساخرين ،وقد �أ�س�س مع �صديقه الأديب الراحل �صدقي �إ�سماعيل جريدة (الكلب) التي نبح فيها كبار املبدعني ،وتهاو�شوا مع احلكومات ،وع�ضوا ال�سيا�سات ،وع�ضتهم ،وهذه املجلة فريدة يف بابها ،وقد �صدرت جمموعة قبل �سنني يف كتاب يحمل عنوان (الكلب) ،وهي ت�ؤرخ لل�سيا�سة من جانب �ساخر �ضاحك ظريف. و�سليمان العي�سى ع�ضو يف جممع اللغة العربية، وقد �أم�ضى جل عمله الوظيفي موجه ًا تربوي ًا عام ًا للغة العربية يف وزارة الرتبية ،وق��د راف��ق زوجته الأديبة الدكتورة ملك �أبي�ض يف رحلتها منذ مطالع الت�سعينيات �إىل اليمن حيث عملت �أ�ستاذة وباحثة يف اجلامعة .وقد �أحب �سليمان �أهل اليمن و�أحبوه، وبات ديوانه ال�شعري عن اليمن ذروة انتاجه الأدبي. وال يتيح يل امل��ج��ال �أن �أ�سهب يف احل��دي��ث عن �أ���س��ت��اذي و���ص��دي��ق��ي �أب���ي م��ع��ن ،ول���و �أن���ه ات�����س��ع ملا توقفت ،ففي قلبي في�ض من احلب له ،ومن الوفاء لأ�ستاذيته ،ومن التقدير ملكانته ال�سامية يف ثقافتنا ويف �أدب��ن��ا ال��ع��رب��ي احل��دي��ث ،وم��ن امل��ع��رف��ة لقدره بو�صفه رجل موقف ومبد�أ ،و�أحمد اهلل �أن التقدم يف ال�سن ،واحلزن املفجع على ما �آل �إليه حال الأمة ،مل يوقفاه عن العطاء ،وهو الذي قال يوم ًا: ومت� ��وت �آخ� ��ر ب��اق��ة خم���ض��وب��ة ب ��دم ال�ن �ه��ا ِر و�أظ ��ل ع�بر امل��وج حل�ن�اً كاملحيط ب�لا ق ��را ِر 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
51
ملف العدد
التّخييل فـي �أدب الأطفـال
د� .سمر روحي الفي�صل جامعة الإمارات
لي�س هناك �إن�سان دون خيال؛ ل ّأن الب�رش ميتازون من احليوانات بالعقل .واخليال قوة من قوى هذا العقل� ،أو مهارة من ّ فظي العليا� ،ش�أنه مهارات ال ّتفكري ال ّل ّ يف ذلك �ش�أن اال�ستنتاج واال�ستنباط والإدراك واملوازنة وال ّتحليل والترّ كيب. وهناك �أح��ادي��ث علم ّية كثرية منو العقل عند الإن�سان، عن ّ مو ت�شري ك ّلها �إىل � ّأن هذا ال ّن ّ منو القوى �أو املهارات، يعني ّ ً ً ون�ضجها �شيئا ف�شيئا .و�إذا منو ق� ُ ���صرت احل��دي��ث على ّ �تّ � :إن م��ه��ارة اخل��ي��ال ق��ل� ُ الإن�سان ُيولد وه��و ميلك �إمكان ّية اخل��ي��ال .وك ّلما من��ا وزاد عمره ا ّت�ضحت هذه الإمكان ّية وتبلورت واتجّ ��ه��ت �إىل �أن ُت�صبح ��وة عقل ّية .وق��د قيل � ّإن ق� ّ الإم��ك��ان�� ّي��ة ت� ّت�����ض��ح وع��م��ر ّ الطفل �سنتان ،ويكتمل ن�ضجها قوة عندما يبلغ الثّانية وت�صبح ّ ع�شة من عمره ،وك�أ ّنها تبد�أ من رْ ِّ ّ الطفولة املبكرة وتن�ضج يف �أخريات مرحلة ّ الطفولة املت� ّأخرة. 52
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ال �أم��ل��ك م��ن املعرفة العلم ّية م��ا ي�ؤهّ لني لتقدمي تف�صيالت دقيقة عن مراحل من ّو اخليال عند ّ الطفل، ولك ّنني الحظتُ �أنّ هناك اتّفاق ًا علم ّي ًا على �أنّ الأطفال الأ�سوياء ك ّلهم ،دون � ّأي ا�ستثناء ،يولدون وهم ميلكون القدرة على اخليال� ،أو �إمكان ّية اخليال .و�أنّ هذه الإمكان ّية تنمو لديهم جميع ًا دون � ّأي ا�ستثناء �أي�ض ًا. بيد �أ ّنه لي�س من املحتّم �أن يبلغ ال ّنم ّو مرحلة ال ّن�ضج لدى الأطفال ك ّلهم .وبتعبري �آخر �أقول� :إذا كان من ال ّثابت علم ّي ًا من ُّو �إمكان ّية اخليال عند الطفل ،فمن ال ّثابت علم ّي ًا �أي�ض ًا �أال يت�ساوى الأطفال يف هذا ال ّنم ّو، و�أن تبدو الفروق الفرد ّية وا�ضحة بينهم يف مقدار من ّو اخليال ون�ضجه .وهذا يعني ،عندي� ،شيئ ًا ذا بال ،هو �أنّ الأدب والترّ بية واملدار�س اخللف ّية ال تخلق اخليال عند ّ الطفل ،بل تعمل على تنميته وقيادته �إىل ال ّن�ضج. ول��و ك��ان اخليال ين�ضج وح��دَ ه دون ع��ون من البيئة املحيطة ّ بالطفل ملا كانت هناك حاجة �إىل الأدب والترّ بية� .أي �أنّ اخليال الذي ينمو ع�شوائ ّي ًا فرد ّياً أعم ،مرحلة ال ّن�ضج .ولك ّننا �إذا ال يبلغ ،يف الغالب ال ّ و ّفرنا له من خالل الأدب والترّ بية واملدار�س اخللف ّية مثريات متكاملة اتجّ��ه ،دون ري��ب� ،إىل ال ّن�ضج ،مع حمافظته على الفروق الفرد ّية بني الأطفال يف ال ّن�ضج نف�سه. وال � ّ أ�شك يف �أنّ اخليال حاجة �ضرور ّية للإن�سان؛ لأ ّنه ً يخلعه من الواقع املحيط به ،ويجعله يت�ص ّور واقعا �آخر �أكرث مالءمة له ،و�أ�ش ّد قرب ًا من �أحالمه وتطلُّعاته. ولوال اخليال ملا تق َّدم الإن�سان ،وملا تط ّور الواقع الذي يعي�ش فيه .وت��ب��دو ه��ذه الوظيفة �أك�ثر فعال ّية لدى ّ الطفل؛ لأ ّنه يعي�ش يف اخليال وينمو بو�ساطته ،وميلك ا�ستناد ًا �إليه خم ِّيلة ن�شطة �أو كليلة ،ت�ساعد �شخ�ص ّيته ال�سليم �أو تدفع بها نحو واقع مل ترتبط به على ال ّنم ّو ّ العدد
بعد ،وال متلك ما ي�ؤهّ لها لفهمه .وقد جعلتُ هديف، هنا ،حتليل ه��ذا الأم��ر ا�ستناد ًا �إىل �أدب الأطفال وحدَ ه ،ور�أيتُ من املفيد �أن نالحظ انطالق ال ّلغة وعلم ال َّنفْ�س مما �أ�شرتُ �إليه يف �أثناء حتديدهما اخليال ب�أ ّنه التّ�ص ُّور �أو ّ الظنّ �أو التّوهُّم .فهما ،يف ذلك، ُي��ح�� ّددان �سمتي اخليال الأ�سا�س ّيتني :االرت��ف��اع فوق ال�صور .ويكادان ُي�ص ِّرحان ب�أنّ اخليال الواقع وتكوين ّ ال�صور ال ين�سخ ما ي�ض ّمه الواقع ،بل يف �أثناء ت�شكيله ّ ينتخب منه جزئ ّيات ُيك ِّون منها �صورة ال مثيل لها يف بيئته وواقعه .وهذا ما قادين �إىل الفر�ض ّية الآتية� :إذا ح ّر�ضنا خيال ّ الطفل على ال ّنم ّو وقدناه �إىل ال ّن�ضج جنحنا يف جت�سيد وظيفة تربو ّية �أ�سا�س ّية يف حياة البديهي �أال يكون التّحري�ض جمتمعنا وم�ستقبله .ومن ّ يتج�سد فيها نظر ّي ًا ،بل عمل ّي ًا من خالل الو�سيلة التي َّ اخليال ،وهي �أدب الأطفال .ففي هذا الأدب تخييل؛ لل�صور من �أمور َ منتخ َبة �أي جت�سيد للخيال وت�شكيل ّ الطفلّ . من واقع ّ أدبي والطفل ّ يحب هذا التّخييل ال ّ لأ ّنه ل�صيق باخليال ،يعي�ش فيه وميتح منه كما �سبق القول ،ومن َث َّ��م يت�أثر بهذا التّخييل الأدب ّ���ي ،فينمو خياله و ُيح ِّلق بو�ساطته بعيد ًا عن م�شكالته ،ف ُيح ّقق ما يتم ّناه وير�سمه لنف�سه .وقد تت�ش ّكل لديه نتيجة ن�ضج خياله خم ِّيلة قادرة يف امل�ستقبل على قيادة �صاحبها ج�سد بنف�سه ما تخ ّيله ،فينتقل من التّخييل �إىل �أن ُي ّ املادي املكتوب االفرتا�ضي أدبي ّ ّ املعنوي �إىل التّخييل ال ّ ّ ً املرئي �أو كليهما معا .وال � ّ أ�شك يف �أنّ هذا ك ّله ال �أو ّ أدبي حتلي ًال نقد ّياً يتّ�ضح �إذا مل ُنح ِّلل �أنواع التّخييل ال ّ ق��ادر ًا على حتديد �أثرها يف خيال ّ العربي. الطفل ّ ولك ّنني �س�أكتفي ،هنا ،بتحليل نوعني لي�س غري من املرئي والتّخييل املقروء. هذه الأنواع ،هما :التّخييل ّ
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
53
ال���خ���ي���ال ع���ن���د ال� ّ ���ط����ف����ل ،ب����ل ت���ع���م���ل ع���ل���ى ت��ن��م��ي��ت��ه وق����ي����ادت����ه إل�����ى ال��� ّن���ض���ج
األدب وال����تّ����رب����ي����ة وال��������م��������دارس ال���خ���ل���ف��� ّي���ة ال ت��خ��ل��ق
الأديب قد يالم�س اخلرافة �إذا ر�أى �أنّه قادر بو�ساطتها على حتقيق ما مل ي�ستطع حتقيقه بغريها ،خ�صو�ص ًا �إذا كان يهدف �إىل تر�سيخ قيم �إن�سان ّية غري مرتبطة بطبيعتها مبجتمع معي
املرئي: - 1التّخييل ّ العربي، ��رزت ،بعد جناح التّلفاز يف غزو البيت ب ْ ّ ق�ضايا �أ�سا�س ّية يف تربية ال ّ��ط��ف��ل� ،أب��رزه��ا اتّ�ساع املعارف ،واالتّ�صال بالعامل ،وال ّت�أ ُّثر بالقيم ،وال ّتغيرُّ ��وي .و�أُ���ض��ي��ف ْ��ت �إىل ه��ذه الق�ضايا يف ال ّر�صيد ال�� ّل��غ ّ ق�ض ّية جديدة بعد انت�شار الف�ضائ ّيات العرب ّية ،هي ّلفازي َط َوال اليوم وزيادة �ساعات ا�ستمرار البثّ الت ّ امل�شاهدة ل��دى الأط��ف��ال العرب .وراف��ق ذل��ك جناح والعربي يف حتويل ال ّن�صو�ص الأدب ّية أجنبي ّ التّلفاز ال ّ �إىل �أ�شرطة مرئ ّية ،ما جعل �ساعات امل�شاهدة لدى الأطفال العرب طويلة ،تبع ًا لإمكان ّية انتقال ّ الطفل ب�سهولة من ّ ال�ساعات حمطة عرب ّية �إىل �أخرى ملتابعة ّ كل منها .وزاد من ارتباط ّ املخ�ص�صة له يف ٍّ الطفل َّ بامل�سل�سالت وال ّر�سوم املتح ِّركة امل�ستم َّدة من ن�صو�ص ّقني يف �صناعة الأ�شرطة ،وما �أدب ّية ذلك التّق ُّدم الت ّ رافقه من متعة يف العر�ض ،ومن توظيف ف ّن ّي للم�ؤ ّثرات وال�سمع ّية .وال ّنتيجة البديه ّية لذلك ك ّله هي الب�صر ّية ّ املرئي احت ّل املكانة الأوىل يف ال ّت�أثري يف �أنّ التّخييل ّ خيال ّ الطفل. ولكنْ ،ما طبيعة هذا ال ّت�أثري يف خيال ّ الطفل؟� .إنّ ال�س�ؤال حتتاج �إىل �أن نتذ ّكر ،قبل الإجابة عن هذا ّ املرئي نف�سه الرتباطها � ّأي �شيء �آخر ،طبيعة التّخييل ّ بطبيعة ال ّت�أثري يف خيال ّ املرئي الطفل .فالتّخييل ّ م�شخ�ص ّ هو عر�ض م��ا ّد ّي َّ لل�شخ�ص ّيات واحل��وادث وال�صراعات واحلركات ،بحيث تكون هناك والأمكنة ّ مالمح حم�� َّددة لك ّل �شخ�ص ّية من ّ ال�شخ�ص ّيات ،ال تتغيرّ وال تتب ّدل َط�� َوال ّ ال�شريط �أو امل�سل�سل� ،سواء �أكانت من الإن�سان �أم احليوان .كذلك الأمر بال ّن�سبة �إىل الأمكنة التي تتح ّرك فيها ه��ذه ّ ال�شخ�ص ّيات،
54
العدد
7
ال�صراع واحلركة، والأفعال التي تقوم بها ،ومواقع ّ �إ�ضافة �إىل الأ�صوات املح َّددة ،وامل�ؤ ِّثرات املو�سيق ّية امل�صاحبة لها. الق�صة وال ّرواية التي يعر�ضها ك ُّل �شيءٍ حم َّدد يف ّ املرئي� .أما ما يفعله التّلفاز .هذه هي طبيعة التّخييل ّ ّ الطفل فال يخرج عن م�شاهدة هذه الأ�شياء املح َّددة ً ومتابعتها� .أي �أ ّنه لن يتخ َّيل �شيئا يف �أثناء امل�شاهدة؛ لأنّ ما ي�شاهده حم َّد ٌد ال ي�ضط ّره �إىل ا�ستعمال خياله يف تكوين �أ ّية �صورة ،ما ي�ضعف هذا اخليال بد ًال من جمده بحيث يبقى دون � ّأي تغيري من بداية تنميته� ،أو ُي ِّ امل�شاهدة �إىل نهايتها .وكلما كرثت �ساعات امل�شاهدة زادت فر�ص �إ�ضعاف خيال ّ الطفل؛ لأنّ هذا اخليال يعتاد الك�سل واخلمول مادام ك ُّل �شيء �أمامه حم َّدد ًا. ال�صور املح َّددة ال ال�سرعة التي تتواىل فيها ّ بل �إنّ ّ ً ت�سمح خليال ّ الطفل بالعمل ،تبعا حلاجة هذا اخليال �إىل ف�سحة من الوقت لت�أ ُّمل ّ ال�صورة ال�شيء وتكوين ّ ال�صور انطالق ًا منه .وفقدان فر�صة ال ّت�أ ُّمل نتيجة ّ املح َّددة املتالحقة ي�ؤ ّثر ت�أثري ًا �سلب ّي ًا �آخر نابع ًا من �أنّ ال ّت�أ ُّمل �أ ّول دليل على ن�شاط اخليال وحركته يف اتجّ اه ال�صورة .ف�إذا َف َقد ّ الطفل هذا ال ّت�أ ُّمل خ�سر ت�شكيل ّ ال�صورة خياله فر�صة انتخاب اجلزئ ّيات التي ُي�ش ِّكل ّ منها ،وخ�سر يف الوقت نف�سه فر�ص تدريب خياله على ال�صور يحتاج �إىل ن�ضج القدرة ال ّت�أ ُّمل؛ لأنّ ت�شكيل ّ هني يف املوجودات. على ال ّت�أ ُّمل ال ّذ ّ لل�صورة امل��ح�� َّددة على لبي ّ وال يقت�صر الأث��ر ّ ال�س ّ لبي) ما �سبق ،بل ميت ّد �إىل َغ ْر�س عادة (التّل ّقي ّ ال�س ّ يف ّ ال�صور لبي هو التقاط ّ الطفل .وهذا التّل ّقي ّ ال�س ّ و�إيداعها ال ّذهن ،دون � ّأي جهد من ّ الطفل يف ا�ستعمال خياله .ف�إذا اعتاد هذا ّ لبي اعتاد يف الطفل التّل ّقي ّ ال�س ّ الوقت نف�سه عدم ا�ستعمال خياله ،ما يجعله يف مواقف
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
احلياة ك ّلها �سلب ّي ًا ،يطلب ال ّراحة والأم��ر اجلاهز، ويتذ ّمر من �أ ّية حماولة لدفعه �إىل العمل داخل الأ�سرة واملدر�سة وخارجهما .ف���إذا َ�س َرد املعلم �أو الأب �أو ق�صة طلب منه �صور ًا تجُ ّ�سدها؛ لأ ّنه اعتاد الأ ّم عليه ّ ً جميء التّخييل �إليه جاهزا ،ومل يعتد املبادرة �إىل اتي .وما هو �أ�ش ّد خطر ًا يف هذه احلال تقييد تخ ُّيله ال ّذ ّ خيال ّ ال�صور املح َّددة اجلاهزة، الطفل ،وتكبيله بعادة ّ واال�ست�سالم لل ّراحة والك�سل وك ّل ما ينـتج عن التّل ّقي لبي. ّ ال�س ّ ولي�س التّقييد بالأمر الهينِّ ؛ لأ ّن��ه يعني �أنّ خيال ّ العربي لن ينطلق ح ّر ًا ،فيجاوز الواقع واملعروف الطفل ّ
العدد
وامل����أل���وف ،وي��خ�ترق اجل��ب��ال والأن���ه���ار ،ويعلو فوق احلواجز والعوائق ،ويروح ُيح ِّلق و ُين�شئ �صور ًا ال مثيل خيال لها يف واقعه ،ولي�ست هناك �إمكان ّية لتل ّقيها بغري ٍ ح ٍّر موازٍ خليال �صانعها .هذا اخليال احل ّر هو الذي يمُ ّهد لالخرتاعات ،وي�ساعد على تغيري الواقع الأليم، الظلم ّ ويدفع �صاحبه �إىل مناه�ضة ّ والظاملني وال ّدفاع عن الأبرياء و�أ�صحاب احلقوق .بل �إ ّنه اخليال الذي يجعل احلياة �أكرث جما ًال يف عيني ّ الطفل؛ لأ ّنها ت�صبح يهب لن�صرة ال ّنا�س حياة ذات معنى لديه ،فيها َمنْ ُّ وم�ساعدتهمَ ،وم���نْ يندفع خل�ير املجتمع وتق ُّدمه، ال�سعادة َومنْ يهاجم الأ�شرار ويعالج الأدواء ومينح ّ
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
55
�إذا اعتاد هذا ّ لبي اعتاد يف الوقت نف�سه عدم ا�ستعمال الطفل التّلقّي ّ ال�س ّ الراحة والأمر اجلاهز، خياله ،ما يجعله يف مواقف احلياة ك ّلها �سلب ّي ًا ،يطلب ّ ويتذ ّمر من �أ ّية حماولة لدفعه �إىل العمل داخل الأ�سرة واملدر�سة وخارجهما
ال�سبب قيل �إنّ احل ّر ّية عماد اخليال، للآخرين .ولهذا ّ فال خيال دون ح ّر ّية .وحني ُنق ِّيد خيال ّ بال�صور الطفل ّ اجلاهزة ف�إ ّننا مننعه من التّمتُّع بثمار احل ّر ّية ،فيغدو كلي ًال ال يجاوز �سطح الواقع ،وال ي�ستطيع ال ّنهو�ض بالأحالم والأماين ،وال ي�ساعد على من ّو التّ�ص ُّور ،وال احل�س الإن�سا ّ واالجتماعي الذي ين ميلك املبادرة وال ّ ّ يدفعه �إىل االندماج يف الآخرين وتقدمي العون لهم. و�سرنى ،يف هذه احلال ،طف ًال ُي ْ�سلم قياده �إىل غريه؛ لأ ّنه ال ي�ستطيع �أن يقود نف�سه يف حياة مملوءة باخلري وال ّ�����ش�� ّر م���ادام خياله مق َّيد ًا ع��اج��ز ًا ع��ن االنطالق بح ّر ّية. - 2التّخييل املقروء: رمزي؛ لأنّ ال ّلغة املكتوبة هي التّخييل املقروء تخييل ّ الو�سيلة الوحيدة فيه� .إ ّنه تخييل بو�ساطة ال ّلغة� ،أو هو تخييل ت�صنعه ال ّلغة .ولي�س املراد هنا رمز ّية احلروف ال�صورة التي والكلمات يف ال ّلغة ،بل امل��راد رمز ّية ّ خا�ص يف ت�شبيه ير�سمها اجتماع الكلمات على نحو ّ م�سرحي. ق�ص�صي �أو �أو ا�ستعارة �شعر ّية� ،أو يف حدث ّ ّ وال�صورة هنا �صورة جماز ّية ولي�ست واقع ّية� ،صورة ّ وج�سدتها الكلمات .ف�إذا رغبنا يف معرفة َبنـَتْها املخ ّيلة َّ ً ال�صورة وجب علينا �أن نقر�أ الكلمات �أ ّوال .وقد حتتاج ّ ال�صور ّ ال�شعر ّية، ال�صور ،كما هي احل��ال يف ّ بع�ض ّ �إىل ت�أ ُّم ٍل وحتليل ملعرفة العالقات بني �أطرافها قبل ال ّنجاح يف فهمها وتخ ُّيل داللتها .تلك هي طبيعة التّخييل املقروء ،والب ّد ّ للطفل من �أن يتعامل مع هذه ّ الق�صة �أو الق�صيدة. الطبيعة يف �أثناء قراءته ّ يحتاج ّ الطفل ،قبل � ّأي �شيء �آخر� ،إىل �إتقان �آل ّية القراءة مبا تعنيه هذه الآل ّية من ق��درة على حتليل ال ّرموز ال ّلغو ّية و�إعادة تركيبهاّ .ثم عليه �إجادة مهارة 56
العدد
7
القراءة ،بحيث يقر�أ قراءة �إنعام وتد ُّبر ليتم ّكن من �ص املقروء .وعليه �أخ�ير ًا �أن يجاوز فهم معاين ال ّن ّ الكلمات والأ�سطر ب�سرعة مقبولة ليتم ّكن من الإحاطة �ص املقروء يف �أق�صر زمن ممكن .وك ّلما بدالالت ال ّن ّ ر�سخت يف ّ الطفل عادة املطالعة بد�أ ُيج ِّود يف مهارة القراءة ،ويتقن اقتنا�ص �إيحاءات الكلمات واجلمل، وميلك ت�ص ُّور ًا ذات ّي ًا للمقروء .وهذا يعني �أنّ ّ الطفل ال ي�ستطيع الإفادة من التّخييل املقروء �إذا مل يكن قادر ًا ال�سليمة .ويف ذلك فوائد ع�� ّدة تربو ّية على القراءة ّ ولغو ّية ،يجنيها ّ الق�صة �أو الق�صيدة. الطفل وهو يقر�أ ّ ويه ّمني ،هنا ،الترّ كيز على الفوائد املرتبطة بتنمية خيال ّ الطفل ،وهي: ال�ف��ائ��دة الأوىل :ه��ي �أنّ ال�� ّ���ص��ورة التي يتل ّقاها ّ الطفل من التّخييل املقروء ال ُي ْ�شترَ ط فيها �أن تطابق القا�ص �أو ّ ال�شاعر .فقد ال�صورة التي ر�سمتها خم ّيلة ّ ّ تكون قريـبة منها �أو بعيدة عنها ،حتيط بها �أو تحُ ِّلق يف مناخها ،ت�ستجيب لهيكلها �أو تبني هيك ًال جديد ًا. ال�صورة هو التّفاوت بني وم�س ّوغ ذلك التّع ُّدد يف تل ّقي ّ ُ الأطفال يف املخ ّيلة التي تل ّقت الكلمات التي �أن�شئت ال�صورة منها ،ويف قدرة هذه املخ ّيلة على ترجمتها ّ ال�صورة يف ترجمة ذات ّية .فاملخ ّيلة ال ّن�شطة ت��درك ّ الق�صة ،وت��روح ت�ضيف �إليها �أبعاد ًا جديدة ،فتخلق ّ لنف�سها �صورتها ال ّذات ّية .كذلك الأم��ر بال ّن�سبة �إىل املخ ّيلة ال��ك�����س��ول .فهي جتهد يف �إدراك ال�� ّ���ص��ورة الق�ص�ص ّية ،وقد ُي�ضط ّر �صاحبها �إىل القراءة غري ال�صورة ،وينجح يف الإحاطة بها، م ّرة ّ ليلم بجزئيات ّ املتو�سطة ال ّن�شاط فهي ك ّلها �أو معظمها� .أ ّما املخ ّيلة ّ ال�صورة الق�ص�ص ّية ،وتدركها دون جهد كبري، تالحق ّ ولك ّنها تلتزم بها وال تحُ ِّلق فوقها؛ لأنّ م�ستوى ن�شاطها ال�صورة التي ال ي�سمح لها بغري ذلك .وهذا يعني �أنّ ّ
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ي�ض ّمها التّخييل الأدب ّ��ي تواجه ثالث خم ِّيالت عند ثالثة �أنواع من الأطفال ،فتتع ّدد وتتكثرّ وت�صبح ثالث �صور ،بل �أكرث من ذلك �إذا تذ ّكرنا �أنّ ّ الطفل ذا املخ ّيلة ال�صورة الأ�صل ّية التي ابتدعها الكاتب، ال ّن�شطة يدرك ّ ويـبني لنف�سه �صورة �أخرى جديدة .وال يقت�صر تع ُّدد الق�صة ال�صور على هذا الأمر ،بل يجاوزه كثري ًا؛ لأنّ ّ ّ ي�ضم جمموعة من �أو الق�صيدة بناء تخييلي مر ّكبّ ، ّ ال�صور التي تت�ضافر وتتكامل من �أجل تقدمي البناء ّ فالق�صة ،على �سبيل التّمثيل ال احل�صر، املتخ َّيل. ّ مك ّونة من جمموعة من احل���وادث املتخ َّيلة ،يف ك ّل حدث �صورة تبدو يف �شكل مغامرة� ،أو يف �شكل و�صف لإحدى ّ ال�شخ�ص ّيات� ،أو يف �شكل حتديد للمكان� ،أو يف �شكل �صراع� ،أو يف �أ�شكال �أخرى ي�ستدعيها التّخييل الق�صةّ . ال�صور ويفر�ضها مو�ضوع والطفل يتل ّقى ّ ّ ال�صور لديه ���ص��ور ًة تلو الأخ���رى مبخ ّيلته ،فتتع ّدد ّ الق�ص�صي مبا فيه ال�سياق حتّى يكتمل يف خم ّيلته ّ ّ الق�صة �أو من مو�ضوع ومغزى و�شخ�ص ّيات ،فيدرك ّ �ص ال�صورة الك ّل ّية لها على ال ّرغم من تع ُّدد �صور ال ّن ّ ّ يف خم ّيلة ّ الطفل القارئ. الفائدة ال ّثانية :هي �أنّ التّخييل املقروء يح ِّر�ض العدد
خيال ّ الطفل على ال ّن�شاط مهما تكن املخ ّيلة التي ميلكها هذا ّ الطفل .ولع ّلنا الحظنا ،يف �أثناء احلديث ال�صورة عن الفائدة الأوىل ،تلك الإ���ش��ارة �إىل �أنّ ّ أدبي ح َّر�ضت املخ ّيلة الك�سول التي ي�ض ّمها التّخييل ال ّ واملتو�سطة ال ّن�شاط وال ّن�شطة؛ �أي �أنّ َّ كل تخييل مقروء ّ قادر على حتري�ض خيال ّ الطفل القارئ ،ودفعه �إىل بال�صورة �أو �إدراكها �أو بذل اجلهد يف �سبيل ال ّلحاق ّ ال�صور البناء فوقهاّ ،ثم بذل جهد �آخر يف اجلمع بني ّ للق�صة �أو الق�صيدة يف �سبيل الإدراك العام املك ِّونة ّ �ص ،والقب�ض ع��ل��ى هيكله ودالالت����ه للتّخييل يف ال ّن ّ و�شخ�ص ّياته ومو�ضوعه .وال � ّ أ�شك يف �أنّ التّحري�ض الذي تدعو �إليه قراءة ق�ص�ص الأطفال �أو ق�صائدهم ف َّعال دائ��م�� ًا .فاملخ ّيلة التي يح ّر�ضها على ال ّن�شاط تتغيرّ نتيجة التّحري�ض ،فتتق ّدم وت�صبح �أكرث ن�شاط ًا. وه��ذا وا�ضح من �أ ّننا لو طلبنا من طفل ذي خم ّيلة ق�صة ،ف�إنّ خم ّيلة هذا ّ الطفل �ستن�شط ك�سول �أن يقر�أ ّ ً الق�صة، فتبذل جهد ًا كبريا يف �إدراك �إح��دى �صور ّ الق�صة جمتمع ًة .ف�إذا وجهود ًا فائقة يف �إدراك �صور ّ طلبنا من ّ الق�صة نف�سها بعد الطفل نف�سه �أن يقر�أ ّ ً حني ،ف�إ ّننا �سنالحظ �أنّ خم ّيلته �ستبذل جهدا �أق ّل 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
57
وإذا كان خيال ّ الطفل يرنو إلى األبطال األسطور ّيين ،فإنّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مما بذلته يف �أثناء القراءة الأوىل للإحاطة ب�صور الق�صة .و�إذا ك ّررنا التّجربة مرة ثالثة ف�إ ّننا �سنالحظ ّ تناق�ص اجلهد املبذول ومن�� ّو القدرة على الإحاطة الق�صة ،ما يعني �أنّ تكرار التّخييل الأدب ّ��ي ب�صور ّ ً ً يح ّر�ض خيال ّ الطفل على ال ّنم ّو �شيئا ف�شيئا ،في�صبح �أكرث قدرة على التّحليق ،وتغدو املخ ّيلة نتيجة ذلك �أكرث ن�شاط ًا� ،إ�ضافة �إىل ت�أثري ذلك يف من ّو اجلانب ّخييلي من �شخ�ص ّية ّ الطفل يف الوقت نف�سه. الت ّ الطفل ال يت�ص ّور دائماً الفائدة ال ّثالثة :هي �أنّ خيال ّ أدبي. �صورة مطابقة ّ لل�صورة التي ي�ض ّمها التّخييل ال ّ فالقا�ص ي�ستعمل الو�صف يف جت�سيد ّ ال�شخ�ص ّية ّ وحتديد مالحمها كما يت�ص ّورها يف خم ّيلته املبدعة. ول��ك��نّ ّ الطفل ال��ذي ي��ق��ر�أ الو�صف يف �أث��ن��اء قراءته الق�صة ال يت�ص ّور ّ القا�ص، ال�شخ�ص ّية كما ت�ص ّورها ّ ّ القا�ص ،بل يت�ص ّور وال ي�ستنبط مالحمها كما ح َّددها ّ ّ ال�شخ�ص ّية على ال ّنحو ال��ذي �أدرك���ه من الكلماتّ ، وبح�سب ن�شاط خم ّيلته .وم��ن َث َّ��م ير�سم يف ذهنه �صور ًة لهذه ّ ال�شخ�ص ّية خا�ص ًة به وحدَ ه .وث ّمة دالالت كثرية على �أنّ ّ الطفل نف�سه حري�ص على امتالك اتي �ضمن حر�صه على مت ُّيز �شخ�ص ّيته من ت�ص ّوره ال ّذ ّ ً �شخ�ص ّيات �أقرانه .ويبدو ذلك وا�ضحا يف �أ ّنه يرجع الق�صة �إىل �صفحات كان غري م�� ّرة يف �أثناء ق��راءة ّ قر�أها لرياجع �شيئ ًا فيها .وهذه العودة تعني �أ ّنه راغب ال�سياق� ،أو نتيجة يف ت�أ ُّمل ما كان قر�أه ل ُيع ّدله يف �ضوء ّ ال�صفحات التّالية .ويتّخذ ال�صور التي ق ّدمتها له ّ ّ حدث �أو و�صف التّعديل �أ�شكا ًال ع ّدة ،منها :مراجعة ٍ �أو عبارة مع ّينة �أو موقف �أو عالقة بني ّ ال�شخ�ص ّيات. ومهما تتع ّدد �أ�شكال التّعديل ف�إنّ وراءها حماول ًة لبناء اتي ،ينه�ض بها ّ الطفل يف �أثناء القراءة، التّ�ص ُّور ال ّذ ّ ويرى فيها متعة وخ�صو�ص ّية ،ويخرج منها بخيال �أكرث 58
العدد
7
من ّو ًا وخم ّيلة �أكرث ن�شاط ًا .وعندما ين�ضج خياله ف�إنّ عودته وت�أ ُّمله يقودان خم ّيلته �إىل التّحليق وبناء ت�ص ُّور أدبي ذاتي بعيد عن ّ ال�صور التي يطرحها التّخييل ال ّ ّ املهم بعد ذلك املدى الذي يبلغه الق�صة .ولي�س من ّ يف ّ التّحليق .فقد ي�ضع ّ الطفل يف �أث��ن��اء حتليقه نف�سه بد ًال من البطل ،ويروح يتخ ّيل حوادث مغايرة يراها ج�سد �أكرث حتقيق ًا ل�سياق ّ الق�صة ومو�ضوعها .وقد ُي ِّ يف امل�ستقبل القريب �أو البعيد ما يتخ ّيله ،وقد يمُ ّهد له ب�أعمال و�أقوال ،وما �إىل ذلك من �أمور يقود �إليها التّحليق .وهذه الأمور مه ّمة تربو ّي ًا ،ولكنّ �أه ّم ّيتها ال ت��وازي �أه ّم ّية التّحليق نف�سه؛ لأنّ ح ّر ّية اخليال هي التي تبني �شخ�ص ّية م�ستق ّلة ق��ادرة على الإب��داع يف امل�ستقبل. ال�ف��ائ��دة ال� ّراب�ع��ة :هي العالقة بني التّ�ص ُّور لدى الكاتب والتّ�ص ُّور لدى ّ القا�ص الطفل القارئ .ذلك �أنّ ّ الق�صة، ميلك خم ّيلة تفعل ِف ْع َلها يف �أث��ن��اء �إب���داع ّ ال�صور بالكلمات ،وجتعلها جتتمع يف �سياق فرت�سم ّ الق�ص�صي؛ القا�ص هو التّخييل ماتع مقنع م�ؤ ّثرَ . وع َم ُل ّ ّ القا�ص .و�إذا كان ّ الطفل هو �أي جت�سيد ما تخ َّيله هذا ّ ً الق�ص�صي ويبني انطالقا منه الذي يقر�أ هذا التّخييل ّ اتي كما �سبق القول ،ف�إنّ ذلك ّ يدل على �أنّ ت�ص ُّوره ال ّذ ّ هناك عالقة مفيدة بني ت�ص ُّور الكاتب وت�ص ُّور ّ الطفل حتتاج �إىل حتليل ُي ِّ القا�ص و�ضح طبيعتها .ف�إذا كان ّ ير�سم بالكلمات �صور ًا حم�� َّددة فهل يعني ذل��ك �أنّ اتي لدى ّ الطفل هو �إدراك �أق�صى ما يبلغه التّ�ص ّور ال ّذ ّ ال�صور كما ح ّددها القا�ص؟ .احل�� ُّق �أنّ ح ّر ّية هذه ّ بوي معاً. حتليق خيال ّ أدبي والترّ ّ الطفل هي الهدف ال ّ ويف ّ القا�ص الطريق �إىل هذا الهدف لن يكون ت�ص ّور ّ غري مرحلة تخييل ّية ،ي�صل ّ الطفل �إليها �أو يلتزم بها �أو حتول خم ّيلته دون بلوغها .وهي يف احلاالت ك ّلها مرحلة
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
غري الزب��ة؛ لأ ّنها جم�� ّرد حم ِّر�ض خليال ّ الطفل على ال ّنم ّو وال ّن�شاط مادام التّحري�ض يحتاج �إىل حم ِّر�ض، وال يتحقَّق دون وجوده .ومن َث َّم ف�إنّ العالقة بني ت�ص ّور اتي عند ّ الطفل هي عالقة و�سيلة الكاتب والتّ�ص ّور ال ّذ ّ املج�سد يف تخييل بهدف .الو�سيلة هي ت�ص ُّور الكاتب َّ ق�ص�صي ،والهدف هو تنمية خيال ّ الطفل و�إتاحة ّ الفر�ص حل ّر ّية حتليقه .ومن املفيد �أال يفهم �أحد �أنّ اتي ّ للطفل تبع ًا التّخييل الق�ص�صي ُيق ِّيد التّ�ص ّور ال ّذ ّ ّ لربطه به ودفعه �إىل االنطالق منه .ذلك لأنّ خيال ّ الق�ص�صي ،وال ميكن �أن الطفل غري مق َّيد بالتّخييل ّ ً فالقا�ص يتق ّيد به مادام هذا التّخييل نابعا من ال ّلغة. ّ قادر على �أن يح ّدد ت�ص ّوره بو�ساطة ال ّلغة ،ولك ّنه غري قادر على �إحكام هذه ال ّلغة وحجب الإيحاءات عنها الق�ص�صي .ولو رغب يف �أثناء ا�ستعمالها يف تخييله ّ هائي احلا�سم لت�ص ّوره القا�ص يف التّحديد ال ّل ّ ّ غوي ال ّن ّ ملا ا�ستطاع ذلك؛ لأنّ رمز ّية ال ّلغة تبقى �أكرث انفتاحاً اخلا�صة بالقارئ. ��ردي وال�� ّت���أوي�لات على الفهم ال��ف ّ ّ ق�صة قا�صان ّ تلك هي طبيعة ال ّلغة ،حتّى �إذا ق��ر�أ ّ للأطفال خرجا بفهمني وت�أويلني خمتلفني� ،ش�أنهما يف الق�صة نف�سها وخرجا بفهمني ذلك �ش�أن طفلني قر�أا ّ �آخرين وت�أويلني مغايرين. الفائدة اخلام�سة :هي �أ ّنه �إذا كان تخييل الكاتب ال ُيق ِّيد تخييل ّ الطفل تبع ًا لكون العالقة بني التّخييلني ل��غ��و ّي��ة ،ف����إنّ ه��ن��اك ���س���ؤا ًال ت��ث�يره ه��ذه ال��ع�لاق��ة بني التّخييلني ،هو :ما املدى امل�سموح به لتحليق اخليال يف �أدب الأطفال؟� .أرى �أ ّننا �إذا ت�ش ّبثنا بح ّر ّية حتليق خيال ّ وتربوي ،ف�إ ّنه من الطفل على �أ ّنه هدف �أدب ّ��ي ّ البديهي �أال نحجر على ح ّر ّية خيال الأدي��ب ،ف ُنحدِّ د ّ له مدىً يقف حتليق خياله عنده .فنحن بذلك ُنق ِّيد خياله ،ومننع عنه احل ّر ّية التي ُيح ّلق ب�أجنحتها فوق العدد
ال��واق��ع ل ُيق ّدم واق��ع�� ًا تخييل ّي ًا ج��دي��د ًاُ ،يبهج ّ الطفل ويرفعه فوق واقعه و ُيع ِّلمه التّحليق يف الوقت نف�سه. على �أ ّن��ن��ا م�ضط ّرون �إىل �أن نتذ ّكر دائ��م�� ًا �أنّ �أدب الأطفال مزيج متقن من الفنّ والترّ بية .وترجمة هذا املزيج ،هنا ،تعني �أ ّننا نعي �أه ّم ّية تربية خيال ّ الطفل على ح ّر ّية التّحليق ،ولك ّننا نرغب يف �أن ُن ِّ وظف هذه ً احل ّر ّية توظيف ًا �آخر هو �إبقاء ّ الطفل مرتبطا بواقعه مهما ح َّلق فوقه وابتعد عنه .فهذا االرتباط بالواقع هو ال��ذي يجعل �شخ�ص ّية ّ الطفل اجتماع ّية مبقدار ما هي فرد ّية .ومن َث َّم ف�إ ّنني �أعتقد �أنّ �أ ّية مغامرة ق�صة ،يجب �أن ت�ؤ ّدي هدف ًا اجتماع ّي ًا خيال ّية ،يف �أ ّية ّ ً ً �أو �أخالق ّي ًا �أو وطن ّيا �أو �إن�سان ّيا �أو غري ذلك ،من خالل القيم املبثوثة فيها .و�إذا كان خيال ّ الطفل يرنو �إىل الأبطال الأ�سطور ّيني ،ف�إ ّنه من املفيد �أن نر�سم بال ّلغة بط ًال �أ�سطور ّي ًا يحارب من �أج��ل املجتمع ،ويغالب ال�صعاب م��ن �أج��ل ن�صرة احل��قّ واملظلوم و�إع���ادة ّ احلقوق �إىل �أ�صحابها .وبذلك يجد الطفل يف التّخييل معنى �سامي ًا ومث ًال �أعلى وحياة ت�ستحقّ �أن املقروء ً يعي�ش فيها الإن�سان ويعمل دون �أن مينع عن الآخرين العي�ش والعمل .و�إذا كان ذلك نوع ًا من تقييد ح ّر ّية خيال الكاتب ،ف�إ ّنه لي�س نوع ًا من التّقييد َ احل�� ْر ّيف، وال التّعليمات املح ّددة التي تفر�ض قائمة باملمنوعات واملح ّرمات وم��ا �إىل ذل��ك مما ُيق ِّيد ح ّر ّية الأدي��ب، بل هو قيد احل ّر ّية� ،أو ح ّر ّية القيد �إنْ جاز التّعبري. وهو قيد ال ي�صل باخليال �إىل مدى اخلرافة من �أجل اخل��راف��ة ذات��ه��ا؛ لأنّ ه��ذا امل��دى غري مفيد يف ربط ّ الطفل بواقعه ،ولكنّ الأديب قد يالم�س اخلرافة �إذا ر�أى �أ ّن��ه ق��ادر بو�ساطتها على حتقيق ما مل ي�ستطع حتقيقه بغريها ،خ�صو�ص ًا �إذا كان يهدف �إىل تر�سيخ قيم �إن�سان ّية غري مرتبطة بطبيعتها مبجتمع معينّ 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
59
الحق والمظلوم وإع���ادة الحقوق إل��ى أصحابها الصعاب من أج��ل نصرة ّ المجتمع ،ويغالب ّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه من المفيــد أن نرسم بال ّلغة بطال ً أسطور ّيًا يحارب من أجل
أدب األطفال وإشكالية التعريف ملف العدد
قد يبدو تعريف "�أدب الأطفال" اليوم بديهي ًا �أو كر�س الواقع الثقايف والأدبي هذا النوع ب�سيط ًا ،بعد � ّأن ّ تقر من الكتابةّ . لكن خمتلف الدرا�سات يف املو�ضوع ّ ب�صعوبة التحديد لأنه يطرح ق�ضايا ويثري �إ�شكاالت تتع ّلق بوجوده وعالقته ببق ّية الفنون الأدبية. � ّإن �صيغة الت�سمية (�أدب الأطفال) قد توحي للوهلة الأوىل ب�أنها تعني الأدب املن�سوب �إىل الأطفال ،والذي يكتبه �أو ينتجه الأطفال ،واحلقيقة تتمثل يف � ّأن �أدب املوجه �إىل الأطفال الأطفال املتعارف عليه هو الأدب ّ �سواء كان كاتبه �صغرياً �أو كبرياً.
حممد البدوي د. ّ
تون�س
60
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
تقول دينيز �إي�سكاربيت" :ما من �شيء �أكرث غمو�ض ًا من مفهوم �أدب الطفولة وال�شباب ،ذلك �أن موقف الرا�شد م��ن الطفولة غام�ض ،وي��ع��ود ذل��ك �إىل �أنّ الطفولة وال�شباب مرحلتان مليئتان بالغمو�ض". ّ ويلخ�ص عبد اهلل �أبو هيف هذه ال�صعوبة يف مفتتح كتابه "تنمية ثقافة الطفل" بقوله" :ت�شري جتربة قرن من الزمن من الكتابة للطفل �إىل �أن ث ّمة ت�ش ّك ًال ملفهوم �أدب الأطفال يختلف عن مفهوم الأدب �أو �أدب الرا�شدين .وا�ستُخدم هذا امل�صطلح ل�ضرورة التمييز والبحث .ويكمن هذا االختالف يف الطبيعة الرتبوية لأدب الأطفال ،التي تنه�ض على خ�صو�صيات منائية ونف�سية ومعرفية كثرية ،وت�ستدعي يف الوقت نف�سه اعتبارات فنية متعددة". ونظر ًا �إىل �أنّ الآداب الإنكليزية �أعرق يف عالقتها ب�أدب الأطفال فقد ورد يف باب تعريف �أدب الأطفال يف دائ��رة امل��ع��ارف الربيطانية�" :أدب الأط��ف��ال هو يتم جمموعة الأعمال املكتوبة وال�صور امل�صاحبة التي ّ �إنتاجها بهدف �إمتاع ال�صغار �أو تكوينهم ،وي�شمل هذا النوع من الأدب �سل�سلة كبرية من الأعمال منها �أعمال كال�سيكية م�شهورة من الأدب العاملي ،وكتب م�ص ّورة
العدد
خ�صي�صا للأطفال، وق�ص�ص ي�سرية القراءة ّ موجهة ّ وحكايات ع��ن اجل���نّ ،و�أخ���رى مثل ّية و�أغ���ان �شعبية وترنيمات و�أعمال �أخرى �أُنتجت �أ�سا�سا للتداول عرب ال�سماع. ً �إنّ �أدب الطفل ظاهرة حديثة ن�سب ّيا مل تظهر بجالء وا�ستقاللية �إ ّال يف الن�صف الثاين من القرن الثامن ع�شر ،ويعزى تطوره املت�أخر �إىل عوامل اقت�صادية و�أخرى اجتماعية". وبالرغم من ا�ستقرار مفهوم �أدب الأطفال على �أ�سا�س �أ ّن��ه الإنتاج الأدب��ي املوجه للطفل ،وانت�شاره يف خمتلف الثقافات احل��دي��ث��ة ،ف����إنّ الت�شكيك يف �شرعية وجوده ويف ن�سبة الإبداع فيه ما زالت تخامر بع�ض الأذهان يف �أورو ّبا نف�سها .وهذا ما عبرّ ت عنه "روين ليون" Renée Léonيف كتابها "�أدب الأطفال يف املدار�س" ال�صادر �سنة " :2000هل يوجد �أدب للأطفال؟ وهل يقوم م�ؤ ّلفوه بعمل �إبداعي؟ وهل �أنتج �أعما ًال ف ّنية ؟ وهل ميكن �أن ن�أخذه م�أخذ اجل ّد؟ يجيب القارئ الذي خرب هذا امليدان على ك ّل هذه الأ�سئلة باملوافقة .وم��ع ذل��ك ،وبرغم التطور الذي عرفه �أدب الأطفال والتن ّوع والنجاح ال��ذي ال ّ ي�شك
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
61
� ّإن االنتماء ال�صريح لأدب الأطفال مي ّثل عقد ًا �ضمني ًا بني الباث (امل�ؤلف) واملتقبل (القارئ) .ويبدو هذا الأمر من خالل التعبري ال�صريح عن الوعي بكتابة �أدب خم�صو�ص، موجه �إىل فئة خم�صو�صة ّ
فيهما �أحد ،يجد هذا الأدب �صعوبة يف اخلروج من ه��ذا احل�صار ال��ذي و�ضعته فيه الأح��ك��ام امل�سبقة املت�ص ّلبة .ون�سبة هذا الأدب �إىل الأطفال ما زالت تبدو تهجينية .فهو لي�س الأدب احلقّ �أو الأدب الكبري". ولي�س غريب ًا �أن جند بع�ض الدرا�سات تتحدث حيناً عن "�أدب الطفل" وحين ًا �آخ��ر عن "كتاب الطفل" وه��ي تعني امل��ف��ه��وم نف�سه .فالكاتبة "جينيفياف �أرفو-فو�شي" Geneviève Arfeux-Vaucherيف كتابها "ال�شيخوخة واملوت يف �أدب الطفل" تتحدث يف �أكرث من مو�ضع عن "كتاب الطفل�" :إنّ حتليل �صور ربر ًا ال�شيخوخة يف الكتب ّ املوجهة �إىل الأطفال يجد م ّ يف اخلطابات احلديثة عن ال�شيخوخة .وهي و�إن كانت املوجه �إىل الأطفال "�أدب الطفل". تق�صد بالكتاب ّ ً فمثل ه��ذا التعبري ي�ترج��م �ضمنيا ع��دم االقتناع باندراج هذا الفنّ من الكتابة يف باب "الأدب"ّ .ثم �إنّ م�صطلح "كتاب" قد يفيد �أمناط ًا �أخرى من الكتابة كالن�صو�ص العلمية ،والكتب القائمة على ال�صورة، غري �أنّ الواقع الثقايف ك ّر�س م�صطلح "�أدب الأطفال" ف�سار على الأل�سن. ومن �أبرز الباحثني يف جمال �أدب الأطفال هادي نعمان الهيتي ،وق��د �أورد التعريف ال��ت��ايل�" :أدب الأط��ف��ال يف جمموعه هو الآث��ار الف ّنية التي ت�ص ّور �أف��ك��ار ًا و�إح�سا�سات و�أخيلة تتفق وم��دارك الأطفال الق�صة وال�شعر وامل�سرحية واملقالة وتتخذ �أ�شكال ّ والأغنية". و ُيعترب علي احل��دي��دي م��ن �أوائ���ل املهت ّمني بهذا الأدب ،وكتب يف ذلك ع ّدة �أعمال من �أبرزها كتاب "يف �أدب الأطفال" ،و�أثبت فيه حماولة لتعريف هذا النمط من الكتابة�" :أدب الأطفال خربة لغوية يف �شكل خا�صة للأطفال فيما بني الثانية ف ّني يبدعه الف ّنان ّ 62
العدد
7
والثانية ع�شرة �أو �أكرث قليال يعي�شونه ويتفاعلون معه فيمنحهم املتعة والت�سلية ويدخل على قلوبهم البهجة واملرح وين ّمي فيهم الإح�سا�س باجلمال وتذ ّوقه ويق ّوي تقديرهم للخري وحم ّبته ويطلق العنان خلياالتهم وطاقاتهم الإبداعية ويبني فيهم الإن�سان". وبالرغم من حماولة علي احلديدي تف�صيل القول، يح�س بق�صور هذا التعريف عن التعبري و�إجمال فهو ّ القول يف هذا ال�ضرب من الكتابة. وقد ُت�ؤ ّثر بع�ض االجتاهات الإيديولوجية فى تعريف �أدب الأطفال فتّتخذ منه منرب ًا لن�شر الأفكار ،وحتقيق جمتمع وفق ت�ص ّور خم�صو�ص .ويف هذا ال�صدد يع ّرف جنيب الكيالين �أدب الأطفال" :وب�إيجاز �شديد ميكننا القول �إنّ �أدب الأطفال ال يختلف يف مفهومه عن الأدب خا�صة" العام (الإ�سالمي) �إ ّال كونه ّ موجها �إىل "فئة ّ هي الأطفال". �أم��ا �أحمد امل�صلح فقد نقل اخل�لاف امل��وج��ود يف تعريف الأدب عموم ًا وع�ّب�رّ ع ّما ي��رد من خلط بني الثقافة والأدب" :ث ّمة مفهومان لأدب الأطفال درج على ا�ستعمالهما الدار�سون...املفهوم الأول ح�ضاري عام وينطلق من �شمولية مدلول م�صطلح الثقافة، ووف��ق ه��ذا املفهوم ف���إن �أدب الأط��ف��ال يعني ك�� ّل ما يكتب للطفل ،وما يكتب عن الطفل يف �آن واحد ،ويف خمتلف فروع الثقافة الإن�سانية...ووفق هذا الت�ص ّور العام يتخذ �أدب الطفل �أ�شكا ًال عدة ويكتب يف جماالت وا�سعة خمتلفة. �أ ّما املفهوم الثاين لأدب الأطفال فينطلق من موقف متخ�ص�ص يح ّدد �سماته العامة والأ�سا�سية �أدب ّ���ي ّ ا�ستناد ًا �إىل مق ّدمات نظرية نقدية ح�سمت مدلول كلمة (�أدب) تاريخي ًا وتعبريي ًا .ووف��ق هذا الت�ص ّور يتح ّدد مفهوم �أدب الأط��ف��ال �ضمن معايري نظرية
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
الأج��ن��ا���س الأدب���ي���ة ،الق�صة والق�صيدة وال��رواي��ة وامل�سرحية املكتوبة� ...إلخ ،مبعنى �آخر �ضمن �سمات الن�ص الأدبي. وخ�صائ�ص ّ وهذا التق�سيم الثنائي يرت ّدد عند �أكرث من باحث، ويف كتاب "�أدب الأطفال :مبادئه ومقوماته الأ�سا�سية" ملحمد حممود ر�ضوان و�أحمد جنيب حديث عن �أدب واخلا�ص : الأطفال مبعنييه العام ّ (�أ) � -أدب الأط��ف��ال مبعناه العام يعني الإنتاج العقلي املد ّون يف كتب موجهة للأطفال يف �شتّى فروع املعرفة .وبهذا يدخل يف هذا املفهوم : ك��ت��ب الأط���ف���ال الإع�لام��ي��ة ال��ت��ي مت��ث��ل �أق���وىاالجتاهات العاملية احلديثة. وكتب الأطفال امل�ص ّورة التي ال ميكن ا�ستبعادهامن �إطار عمل (�أدب الأطفال) رغم �أنها رمبا ال حتوي ن�ص مكتوب. � ّأي ّ ً املب�سطة..والكتب املدر�سية و�أي�ضا كتب العلوم ّالتي يجب �أن ترتفع ك ّلها �إىل م�ستوى �أدب الأطفال ال�شائق ب�أ�ساليبه ومق ّوماته ال�سليمة.. ��ا���ص وه��و يعني (ب)– �أدب الأط��ف��ال مبعناه اخل ّ الكالم اجل ّيد ال��ذي يحدث يف نفو�س الأطفال متعة ف ّنية�...سواء �أكان �شعر ًا �أم نرث ًا..و�سواء �أكان تعبري ًا �شفوي ًا بالكالم�..أم حترير ًا بالكتابة ..ويدخل يف هذا املفهوم ق�ص�ص الأط��ف��ال وم�سرحياتهم و�أغانيهم و�أنا�شيدهم ،وا�ستعرا�ضاتهم الغنائية ،وما �إىل ذلك. و�أدب الأط��ف��ال اجل ّيد هو ال��ذي يراعي خ�صائ�ص الطفولة واحتياجاتها يف �إط���ار م��ن امل��ث��ل والقيم والنماذج واالنطباعات ال�سليمة. وهذه التعريفات على �أهميتها �أهملت �إىل ح ّد كبري عدد ًا من اجلوانب الها ّمة يف حتديد هذا النمط من الكتابة للأطفال ،فلم جند فيما ّ اطلعنا عليه من �أعار العدد
هذه اجلوانب اهتمام ًا ،وال ب ّد لك ّل تعريف �أن ي�ضعها يف احل�سبان. لقد ا�ستق ّر هذا الأدب يف الأذهان ومنا بفعل تو ّفر جملة من العنا�صر التي تعلن ب�صفة �صريحة و�ضمنية املوجه انتماء هذا العمل �إىل الأدب ،و�إىل اجلمهور ّ �إليه ،ومن بني هذه العنا�صر نذكر: �أ – ب -االنتماء ال�صريح �إىل �أدب الأطفال �إنّ االنتماء ال�صريح لأدب الأط��ف��ال مي ّثل عقد ًا �ضمني ًا بني الباث (امل�ؤلف) واملتقبل (القارئ) .ويبدو ه��ذا الأم���ر م��ن خ�لال التعبري ال�صريح ع��ن الوعي موجه �إىل فئة خم�صو�صة، بكتابة �أدب خم�صو�صّ ، وذل��ك من خ�لال ان��خ��راط �أغلب الكتب يف �سال�سل ي�ضع امل�ؤلفون منذ البداية يف ح�سابهم �أ ّنها موجهة �إىل الأطفال ويكون الت�صريح على غالف الكتاب .وقد يح ّدد الكاتب يف بع�ض احل��االت الفئة العمرية التي يتوجه �إليها يف كتابه .ولكنّ �أغلب النا�شرين والكتاب ّ يتعمدون �إهمال هذه اجلزئية حتى ال ي�ؤثر ذلك يف املبيعات من خالل ح�صرها يف مرحلة عمرية مع ّينة، ومثل هذا الإجراء يتجاوز اجلانب البيداغوجي .وقد ال يكون االنتماء �إىل �أدب الأطفال وا�ضح ًا و�صريح ًا وظ��اه��ر ًا من بداية الكتاب ،و�إمن��ا ي�أتي ذك��ره على الغالف يف ظهر الكتاب من خالل فقرة تو�ضيحية. �أ – ج :اعتماد ال�صور والر�سوم : تكاد امل�ؤلفات التي تُق ّدم �إىل الأط��ف��ال تقرتن يف اجلملة بعدد من الر�سوم واللوحات ،تتجاوز الغالف اخل��ارج��ي �إىل ال�صفحات الداخلية .وه��ي طريقة تهدف �إىل ترغيب الطفل يف املطالعة ،وت�ساعده على مت ّثل بع�ض العنا�صر وال�شخ�صيات ،وجتعل القراءة مريحة وممتعة ،خ�صو�ص ًا �إذا كانت ال�صور م ّلونة. ومل تعر خمتلف التعريفات ه��ذا اجلانب الأ�سا�سي 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
63
النصف الثاني من القرن الثامن عشر ،ويعزى تطوره المتأخر إلى عوامل اقتصادية وأخرى اجتماعية
إن أدب الطفل ظاهرة حديثة نسب ّيًا لم تظهر بجالء واستقاللية إ ّال في ّ
مكانته ،ولي�س غريب ًا �أحيان ًا �أن ت�أخذ ال�صور م�ساحة �أكرب من تلك التي ت�أخذها الكتابة .ومل ترت ّدد بع�ض دور الن�شر يف �إ���ص��دار �سال�سل تقوم على م�ساهمة الطفل يف تلوين بع�ض الر�سوم لتنمية ملكة الت�صوير لديه وجلعل العالقة بينه وبني الكتاب �أمنت. ومل ترت ّدد دور ن�شر �أخرى يف �إ�صدار ق�ص�ص لكتّاب م�شهورين من�شورة من قبل يف جم�ل ّات �أدبية ،على �أ�سا�س �أنها ق�ص�ص للكبار ،ولع ّل ال ّنا�شرين ا�ستندوا 64
العدد
7
�إىل م��ا يف ه��ذه الق�ص�ص م��ن ذك��ري��ات الطفولة، و�أ ّك��دوه��ا بجملة من ال�صور والر�سوم لتحويل هذه الق�ص�ص �إىل ق�ص�ص للأطفال .ففي مو�ضوع ق�ص�ص خا�صة بالأطفال م�صطفى خريف املن�شورة يف �سال�سل ّ ال ب ّد �أن ن�شري �إىل �أ ّنه �سبق �أن ن�شرها يف جم ّالت يف اخلم�سينات من بينها "الزيتونة" .على �أ�سا�س �أ ّنها ق�ص�ص للكبار ،وال ّ �شك �أنّ هذا الأمر يطرح �أكرث من م�شكلة تت�صل بتاريخ �أدب الأطفال يف تون�س ،وبتعريف
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ظهر يف ال�سنوات الأخرية م�صطلح �آخر هو "�أدب اليافعني" ليفيد املعنى نف�سه الوارد يف امل�صطلحني ال�سابقني .و�إذا كان "اليافع هو من �شارف البلوغ" ف� ّإن هذا امل�صطلح قد يبقى غائم ًا كم�صطلح "ال�شباب" و"النّا�شئة" �أو "املراهقة" ق�صة الأطفال ،هل هي التي تتحدث عن الأطفال� ،أم ّ هي التي تتحدث �إليهم بت�ص ّور حم ّدد. �أ ّما ق�ص�ص الطيب الرتيكي امل ّوجهة �إىل الأطفال فقد ���ص��درت ب��دوره��ا قبل اال�ستقالل يف امل��ج�ل ّات امل�شهورة يف اخلم�سينات على �أ�سا�س �أ ّنها ق�ص�ص للكبار .وقد �أعاد �صياغة احلوار وح ّوله من الدارجة �إىل الف�صحى ،و�أ�ضاف جمموعة من الر�سوم حتّى تن�سجم واجلمهور اجلديد من الأطفال. و�إذا ما خلت ق�ص�ص الأطفال من الر�سوم وال�صور، فيعود الأم��ر يف ذلك �إىل رغبة امل�ؤلف �أو النا�شر يف ّ التق�شف ،واقت�صاد تكاليف �إخراج الكتاب .وغالب ًا ما تكون هذه الق�ص�ص يف طبعات بائ�سة ورديئة ،ال حت ّقق الرغبة يف الإقبال عليها� ،إ ّال �أن يكون الطفل مكره ًا على ذلك. ل�سائل �أن يت�ساءل ه��ل �أدب الأط��ف��ال واح���د �أم متع ّدد؟ وما الذي مي ّيزه عن "�أدب النا�شئني" �أو "�أدب ال�شباب"؟ تختلف الت�سمية باختالف دور الن�شر .وظهر يف ال�سنوات الأخرية م�صطلح �آخر هو "�أدب اليافعني" ليفيد املعنى نف�سه الوارد يف امل�صطلحني ال�سابقني. و�إذا ك��ان "اليافع هو من �شارف البلوغ" ف���إنّ هذا امل�صطلح ق��د يبقى غ��ائ��م�� ًا كم�صطلح "ال�شباب" و"ال ّنا�شئة" �أو "املراهقة" .و�إذا كان امل�صطلح الأخري نادر اال�ستعمال مقرتن ًا بعبارة "�أدب" ف�إ ّنه �أكرث تواتر ًا يف الدرا�سات املت�صلة بهذه الفرتة. وللخروج بتعريف ت�أليفي لأدب الأطفال منيل �إىل اعتماد ما جاء يف دائ��رة املعارف الربيطانية ،لأ ّنه ي�أخذ بعني االعتبار الن�صو�ص وال�صور امل�صاحبة وير ّكز على املتق ّبل املعني بهذا الأدب وي�صبح تعريف �أدب الأط��ف��ال ه��و " :الأع��م��ال املكتوبة والن�صو�ص العدد
يتم �إنتاجها جلمهور الأط��ف��ال يف امل�صاحبة التي ّ خمتلف �أعمارهم يف تعبري منا�سب و�أ�سلوب �ش ّيق يجمع بني اللغة والر�سوم من �أجل تكوينهم والرتفيه عنهم". وهذا التعريف ال يلغي اجلوانب التي قد ال يراعيها بع�ض من يتوجهون �إىل الأطفال بغري علم ،متوهمني �أن الأدب يقف عند حجم الكتاب �أو عند املوا�ضيع امل�ستمدة من عامل احليوان بينما الطفل حمتاج �إىل خمتلف املوا�ضيع �شرط �أن تراعي قدرة املتقبل على مت ّثل ما يتوجه به الكاتب �إليه .ومثل هذا التعريف �سيح ّدد حقيقة الق�صة ,وتفيد هذه الدقة يف التعريف م�ؤرخي الأدب فال يو ّرطون �أنف�سهم يف اعتبار ق�صة ما ق�صة للأطفال. مبجرد ورودها على �أل�سنة احليوان ّ ولو كان الأم��ر على هذا النحو العتربنا كتاب كليلة ودم��ن��ة �أول عمل ل�ل�أط��ف��ال ول��غ�ّيررّ ه��ذا الكثري من امل�سلمات يف تاريخ هذا الأدب. وم���ن ���ش���أن ال��و���ص��ول �إىل حت��دي��د ت��ع��ري��ف "�أدب الأطفال" �أن يقود �إىل الت�سا�ؤل عن م�صادره املتنوعة وكيف ّمت��ت اال�ستفادة منها .و�إذا ك��ان ه��ذا الأدب غزير ًا وحقق يف �سنوات قليلة انت�شار ًا معترب ًا فاق يف بع�ض الأحيان ما ّمت ن�شره للكهول ،ف�إننا نت�ساءل عن جودة هذه الن�صو�ص اجلديدة وقيمتها الإبداعية؛ لأن تطور هذا الأدب يف كل البلدان العربية مل ت�صحبه حركة نقدية ت��ق�� ّوم الن�صو�ص وتوجهها وتنبه �إىل كثري مما يت�س ّرب �إليها �سواء ب�سبب اجل�شع املادي �أو ب�سبب اجلهل ب�أ�ساليب الكتابة .ونرجو �أن ت�شهد الأيام القادمة ن�ش�أة هذه احلركة النقدية 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
65
تأليف إنريكي ريكليمي وفيليب مونيتا
القراءة الوسيطة ألدب الطفل كأداة للتعرف على األبجدية الشعورية ملف العدد
ترجمة:
خلود اجلرايحي م�صر
يف هذه العملية يتفاعل القارئ البالغ بو�صفه و�سيط ًا ناق ًال للخربة ال�شعورية "اخليالية" بني ال�شخ�صيات يف احلكاية والطفل وبني العمليات الواقعية التي متيز �سياق احلكاية والتجربة احليوية للطفل دون �أن توجههم القراءة لتعلم �شعور معني .وبهذا تعمل القراءة الو�سيطة لأدب الطفل ك����أداة ليتعرف الأط��ف��ال على الأبجدية ال�شعورية لهم� ،أي �أنها عملية ت�سمح للطفل مبعرفة امل�شاعر اخلا�صة به وللآخرين مكونة بذلك� ،أ�سا�س ال�شعور بامل�شاركة وال�سلوك النافع للمجتمع. كما تناق�ش املقالة �أهمية عملية القراءة الو�سيطة لأدب الطفل ،بو�صفها �أداة ت�ساعد يف العملية الدرا�سية وال�سماح بالتفاعل بني اجلوانب املعرفية واالنفعالية يف التعليم الأ�سا�سي. نحو �إعادة نظر للعامل ال�شعوري �إن حت�سني املهارات العاطفية يف قاعة الدرا�سة، 66
العدد
7
ت�سمح ال��ق��راءة خ�لال مرحلة الطفولة ل��ل��ط��ف��ل ال���ق���ارئ ،ب��اك��ت�����ش��اف ع���وامل اخليال ،التي تتمثل فيها عوامل واقعية خمتلفة ،وتتميز ب�سل�سلة من التفاعالت االجتماعية والعمليات ال�شعورية .ويف ه��ذا املقال ت�برز �إ�سهامات ق��راءة �أدب الطفل يف النمو العاطفي واالجتماعي للأطفال من خالل العملية امل�سماه " القراءة الو�سيطة ". �أ�صبح مو�ضوع ًا للبحث واملراقبة م���ؤخ��ر ًا .وقد �أكد الأدب املرتبط بعلمي النف�س والرتبية� ،أهمية منو ال�شعور االجتماعي والعاطفي ال�سليم خالل مرحلة ما قبل املدر�سة ومراحل التعليم الأ�سا�سي ،ومع ذلك، فبالرغم من جتلي �أثرهما الإيجابي يف عملية النمو ال��درا���س��ي, ،وك��ذل��ك منو امل��ه��ارات االجتماعية فقد ُو�ضع يف االعتبار الفوائد االقت�صادية التي تقت�ضي اال�ستثمار يف امل��راح��ل الأب��ت��دائ��ي��ة ،وك��ذل��ك الأب��ع��اد العاطفية املوجودة يف ن�شاط القاعة الدرا�سية ،مبا ي�ؤثر بال�سلب يف منو الطالب والطالبات وقدرتهم على قيامهم باملهام الدرا�سية. �إن العرف ال�سائد يف علم النف�س املتعلق بعمليتي الرتبية والتعليم وارتباطهما باملهام العلمية قد غيرّ فكرة �أن املدر�سة مكان للتعلم املحدد من �أجل جتميع املعلومات .ومعروف �أن تلك الفكرة تق�صي البعد العاطفي الذي ما زال مهم ًال ب�شكل عام يف
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
67
ي���ؤك���د األدب ال���م���رت���ب���ط ب��ع��ل��م��ي ال���ن���ف���س وال���ت���رب���ي���ة ،أه���م���ي���ة ن���م���و ال��ش��ع��ور االج����ت����م����اع����ي وال����ع����اط����ف����ي ال���س���ل���ي���م خ���ل��ال م���رح���ل���ة م�����ا ق���ب���ل ال���م���درس���ة
عمليات التعليم الأ�سا�سي. هذا االنف�صال بني ما هو معريف وما هو عاطفي، له ج��ذور عميقة ،قد يكون م�سلم ًا بها يف الفل�سفة الكال�سيكية :فعلى �سبيل امل��ث��ال ح���ددت املدر�سة الرواقية مفهوم امل�شاعر باعتبارها�" :أحكام ًا مغلوطة عن العامل ومكانة كل ف��رد فيه� ،إنها �صورة زائفة وم��دم��رة ل��ر�ؤي��ة احلياة" .وق��د �أك���د املنهج العلمي الراديكايل لأوائل القرن الع�شرين االنف�صال بني ما هو معريف وما هو عاطفي .ولكن ،مع بداية احلرب العاملية الثانية واكت�شاف �أث��ره��ا يف الأط��ف��ال ،ومع جتلي �أزمة الفكر احلديث ،ظهرت حماوالت العتبار امل�شاعر �شك ًال �صاحل ًا للمعرفة وفهم العامل. ففي �إطار تلك املراجعة للعامل ال�شعوري ،توحدت عنا�صر من اجتاهات عدة ،وتداخلت �أفكار لنماذج جمعت بني امل�شاعر واخل�برات الإن�سانية املختلفة، وخا�صة تلك املرتبطة بالتعليم الأ�سا�سي.
يف هذا النمط التعليمي اجلديد ،برز دور امل�شاعر على نطاق وا�سع ،,ويف وقت ق�صري روجعت وظهرت حم���اوالت لتكاملها م��ع التعليم .وب��ال��رغ��م �أن تلك املراجعات ال تزال بعيدة عن االنتظام وامل�شاركة� .إال �أنها اعتربت جزء ًا من التفاعالت اليومية التي تلعب دور ًا رئي�س ًا يف جميع جماالت احلياة. و ب��ن��اء ع��ل��ى ذل���ك ظ��ه��رت من����اذج خم��ت��ل��ف��ة من الدرا�سات التي ت�ؤكد منو املهارات العاطفية ،ك�شكل م��ن �أ���ش��ك��ال ال��وق��اي��ة �ضد امل�شكالت ال��ت��ي ت���ؤث��ر يف تفاعالت الأط��ف��ال املختلفة .وهناك �أمثلة لهذا يف جماالت :التعليم والعالقات االجتماعية والعائلية. فكل �شكل من �أ�شكال التعليم ،يقدم ر�ؤي��ة خا�صة للنمو العاطفي ،,وكثري منها قد اختار الرتكيز على الفرد ( الطفل) كعن�صر معزول ذي طبيعة منطية واح��دة من حيث اال�ستجابة للتعلم .مما ينتج عنه ـ عادة ـ �إق�صاء و�إهما ٌل له�ؤالء الأطفال غري املنتظمني
�إن قبول �أ�شكال اخليال التي يقدمها الأدب ت�سمح للقارئ باكت�شاف احلاالت ال�شعورية لل�شخ�صيات التي تعي�ش يف الن�ص عاطفي ًا يف التفاعالت املدر�سية .ه��ذا املفهوم ي�سوقنا �إىل منظور مزدوج يقر بت�سمية ثنائية للتالميذ :جيد �أو �سيئ� .إنه جزء من تقليد طويل من القبول �أو الإق�صاء الذي ال يزال مطبق ًا يف كثري من القاعات الدرا�سية. يف ذات الوقت كثرية هي الن�شاطات التي تطرح بعيد ًا عن ال�سياق االعتيادي للطفل �أو الطفلة يف اجلل�سات العالجية �أو جل�سات الدعم التي تبعد �إىل حد كبري ـ يف كثري من الأحيان ـ عن طبيعة حياتهما اليومية .,وهكذا يتعامالن مع تلك الن�شاطات كعملية بعيدة ومنف�صلة عنهما م���ؤك��دة فيهما ( الطفل �أو الطفلة ) ال�شعور باالختالف وعدم االنتماء �إىل اجلماعة. تلك العمليات ـ املذكورة ـ تت�ضمن على الأقل جانبني من النق�ص :الأول مرتبط بت�صنيف الطالب ال�سيىء املو�ضوع يف الت�شخي�ص الأول� ،أم��ا الثاين فمرتبط بالإبعاد والإق�صاء نتيجة للأول .هذا اجلانب الثاين من وجهة نظرنا هو �أكرث تعقيد ًا من اجلانب الأول؛ لأنهم يق�صون الطفل �أو الطفلة بهدف م�ساعدتهما �أو مبعنى �آخر ليكونا جيدين. و قد راجعنا ـ ب�شكل حمدد ـ �أهمية االنفعال ومنو امل��ه��ارات العاطفية للأطفال ،وطبيعة امل�ساعدات املقدمة ملن لديهم �صعوبات يف ه��ذا ال�صدد .ومع ذلك الحظنا �أن �آليات امل�ساعدة نف�سها ،جتلب معها خماطر التكوين يف مناخ غري طبيعي ،و�أي�ض ًا �إمكانية توجيه ت�صرفاتهم �إىل االنزواء. يف ه��ذا امل��ق��ال ن��ت��ن��اول اق�تراح��ات من��و امل��ه��ارات االجتماعية العاطفية ،وال�سيما معرفة الأبجدية ال�شعورية املدركة كعملية تفاعل ت�شبه �أ�شكال املهارات العاطفية التي تعزز فهم امل�شاعر اخلا�صة والعامة عند الطفل. 68
العدد
7
بنية اخليال وعملية القراءة: يف بحث �سابق لنا ،قدمنا بنية اخليال كمفهوم تف�سريي لعملية ال��ق��راءة التي يت�شكل من خاللها الن�ص الأدب���ي ،وم��ن ثم كيفية �إع��ادة �صياغته يف ظل التلقي الفردي لفعل ال��ق��راءة .وترتكز ه��ذه الفكرة على تفاعل مفهومي "الن�ص املعلن" و"الآلية املنف�صلة للخيال" اللذين ي�سمحان -ب�إيجاز -للطفل القارئ بتلقي التعبري الأدب��ي كبناء ق��ادر على متثيل حياته اليومية ،على ال��رغ��م م��ن �أن ه��ذا الأدب ذا الطبيعة اخليالية ال يتطابق ب�شكل مبا�شر مع الواقع. و بناء على ذل��ك ،نعتقد �أن قبول �أ�شكال اخليال التي يقدمها الأدب ي�سمح للقارئ باكت�شاف احلاالت ال�شعورية لل�شخ�صيات التي تعي�ش يف الن�ص .وهي قادرة ـ �أي�ض ًا ـ على متثيل احلاالت ال�شعورية اخلا�صة باحلياة الإن�سانية ،والتفاعل يف عامل حمكوم بقواعد حمددة من االحتماليات التي تبدو معقولة يف عيون القارئ .وبالتايل ،دائما توجد االحتماليات التي متيز احلكايات اجليدة ،وقد يتعرف الطفل القارئ على تلك احلاالت ال�شعورية من خالل تقم�ص ال�شخ�صيات التي تعي�ش تفاعالت ومواقف مماثلة ملواقفه .كما ميكنه مالحظة الأحا�سي�س والقيم وال�سلوكيات التي قد تعجبه �أو ال تعجبه وي�ستطيع �أن يالحظ ـ �أي�ض ًا ـ الأ���س��ب��اب التي حتمل ال�شخ�صيات على الت�صرف �أو على ال�شعور بطريقة معينة ،وم��ا قد تثريه تلك الت�صرفات وامل�شاعر من نتائج. �إذ ًا ،نحن ندافع عن الن�ص الأدب��ي ،وخا�صة �أدب الطفل ،بو�صفه جما ًال للتفاعل والتعرف على الأبجدية ال�شعورية للطفل القارئ �أو امل�ستمع .,فعندما ننظر
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
حكاية الق�صة من �أكرث اال�سرتاتيجيات ا�ستخدام ًا يف عملية الو�ساطة لتحفيز الأطفال على القراءة
للعامل اخليايل كتمثيل لعامل الواقع ي�سمح لنا الن�ص مبعرفة احلاالت ال�شعورية للآخرين ،وكما تقول باحثة الأنرثبولوجي مي�شيل بوتي :ي�ساعدنا الكتّاب يف فهم احلاالت ال�شعورية التي منر بها لتهدئتها ومعرفتها ب�شكل �أف�ضل والتفاعل معها .بف�ضل ق�ص�صهم نكتب ق�ص�صنا بني ال�سطور". و بهذا يكون كل خيال �أدبي غو�ص ًا يف الفرد وم�ساراته الداخلية ،وتكون عملية القراءة �إمكانية جيدة لقراءة العامل ب�شكل �أف�ضل ،وال�شكل اخلا�ص مل�شاركتنا فيه. طور كثري من الكتّاب من بينهم (بيتلهيم و�سريبريا و�سو�سا) فكرة الأدب بو�صفها م�ساحة لرتجمة امل�سارات الداخلية للطفل .وبهذا ال�شكل ،على �سبيل املثال ،قدم ( برونو بيتلهيم) تف�سري ًا لإعادة الطفل القراءة للق�صة نف�سها مرات عديدة :تلك الق�صة ت�أتي مب�ستويات من البنى الالواعية وجتيب على �إ�شكاليات وا�ضطرابات نف�سية حم��ددة خا�صة مبرحلة التطور عنده .وب�شكل �أبعد من هذا املثال وتف�سريه اخلا�ص يهمنا ت�أكيد فكرة االت�صال املبكر واملكثف لأدب الطفل ،والأدب عموم ًا، كنطاق خم�ص�ص ملعرفة احلاالت ال�شعورية للآخرين وبالتايل احتمالية معرفة والتحكم يف �أنف�سنا. القراءة الو�سيطة لأدب الطفل:
عندما نتحدث ع��ن امل��داخ��ل الأوىل ل�ل��أدب من ال�ضروري الإ�شارة لو�سيط القراءة ،وهو ال�شخ�ص البالغ ال��ذي يي�سر م��داخ��ل الكتاب الأوىل للطفل، ب�أ�سلوب ي�سوده االنفعال العاطفي والإب��داع يف �أثناء القراءة املريحة واملقبولة .وهنا ُيظهر الو�سيط �سعادته اخلا�صة للقراءة ،ليبذر يف الطفل تلك امل�شاعر .وهنا، نحن نتحدث عن الطفل وخرباته الناق�صة للقراءة. فالو�سيط ناقل حقيقي للكتب هدفه تي�سري مدخل العدد
عاطفي بني الأدب والطفل. ً م��ن �أك�ث�ر اال�سرتاتيجيات ا�ستخداما يف عملية الو�ساطة لتحفيز الأطفال على القراءة هي حكاية الق�صة ،واملتخذة من برامج متعددة للت�شجيع على القراءة يف العقود الأخ�يرة ،حيث يقر�أ �شخ�ص بالغ ب�صوت مرتفع ق�صة لطفل �أو �أكرث م�ستخدم ًا �أ�سلوب ًا جمي ًال ق���ادر ًا على �إث���ارة عواطف الطفل ،وه��ذا ما ن�سميه القارئ امل�ؤثر. �إن قيام الو�سيط بحكاية الق�صة هو ات�صال له بالق�صة ،ويف الوقت نف�سه ات�صال بامل�ستمعني ،و�أخري ًا هو ات�صال للم�ستمعني بالق�صة .تلك العملية التفاعلية بني (الن�ص والراوي واملتلقي) تهدف ب�شكل �أ�سا�سي الت�صال الطفل باحلكاية ،,وهذا يتحقق ب�شكل جيد بف�ضل قدرة الو�سيط على تو�صيل الأحا�سي�س والأجواء ال�شعورية اخلا�صة باحلكاية وبذلك ي�سمح باكت�شاف تلك العوامل املروية للطفل امل�ستمع من حالل ما ن�سميه "القراءة الو�سيطة". �أم��ا بخ�صو�ص اجل��وان��ب غ�ير الكالمية ف���إن لغة اجل�سد هي الطريقة املثلى لرتتيب �أحداث احلكاية، وح�شد احلاالت ال�شعورية التي تنقلها ،حيث يتحول املعنى املعرب لإ�شارات وحركات اجل�سد �إىل ممر �أو ج�سر يعرب �إىل داخل الق�صة .التوتر �أو الهدوء يف جزء معني ال�سعادة �أو احلزن التي ت�شعر بها ال�شخ�صيات �أو الده�شة الناجتة عن عبارة غري متوقعة .,كل ذلك قد يظهر يف تعبريات وجه القارئ الو�سيط وج�سده. وهكذا تدمج عمليات القراءة الو�سيطة بني عدد من اللغات التي تُنتج من قبل الو�سيط ،وتي�سر للطفل املداخل العاطفية للكتاب ،ومن ثم تنقل له احلاالت ال�شعورية املختلفة التي تعي�شها ال�شخ�صيات على مدار الق�صة 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
69
في أدب الطفل عناصر فنية كثيرة ومتنوعة
ملف العدد
كانت جتربتي مع الق�ص�ص الأوىل التي ق��ر�أت �أر�سخ التجارب يف الذاكرة والوجدان .و مازلت �أذكر �إىل اليوم عناوين الق�ص�ص التي قر�أتها يف حداثتي الأوىل ،كما � يّأن مازلت �أذكر �ألوان �صورها ،و�أ�شكال حروفها وروائح �أوراقها. الن�ص ،يف ذلك الوقت ،من�سلخ ًا عن العامل ،ومل مل يكن ّ تكن الكلمات منف�صلة عن الطبيعة ،كانت القراءة نظراً و �شم ًا� ،أي كانت التهام ًا للعامل عن طريق الكلمات. مل�س ًا و ّ
د .حممد الغزي تون�س
الق�صة فح�سب ،و �إنمّ ا كنت الواقع �أنيّ مل �أكن �أقر�أ ّ �أدنو من ّ ال�شخو�ص ف�أب�صرها ،و �أم ّد يدي �إىل الأ�شياء ف�أمل�سها� ،أي �إنّ القراءة كانت ا�ستنفارا لك ّل اجلوارح ،و اذكاء جلميع احلوا�س� ،أي كانت بعبارة �أخرى عيدا من �أعياد اجل�سد و اخليال و ال ّروح. كان ذلك يف عهد مل نعرف خالله و�سائل معرف ّية �أخرى تخاطبنا �أو حتاورنا .كان الكتاب ،على عهدنا، الو�سيلة الوحيدة التي نفزع �إليها طلبا للمعرفة حين ًا و للإمتاع يف �أكرث الأحيان. غري �أنّ الع�صر بات غري الع�صر و باتت و�سائل �أخرى جديدة تخاطب الطفل بل جتتذبه بل ت�ستحوذ عليه لع ّل �أه ّمها ال�صورة التي �أ�صبحت لها �سطوة على �أطفالنا كبرية. كيف ميكن �أن ي�ستعيد الكتاب ح�ضوره؟ وماهي العنا�صر التي ينبغي �أن تتوافر فيه حتّى ي�سرتجع منزلته؟ يخطئ ال��ك��ث�يرون ح�ين ي��ع��ت�برون ك��ت��اب الأط��ف��ال 70
العدد
7
ن�ص ًا �أدب ّي ًا فح�سب ،مه ّونني ،يف الوقت ذاته ،من �ش�أن ّ العنا�صر الأخرى يعتربونها جم ّرد هوام�ش وذيول لي�س لها من غاية �سوى الإي�ضاح والإب��ان��ة� ،إي�ضاح معاين الن�ص الأدبي والإبانة عن غاياته و �أهدافه. ّ هذا الفهم اخلاطئ لق�ص�ص الأطفال قد يكون من الأ�سباب العميقة التي �أ�سهمت يف تدهور منزلة الكتاب وت��راج��ع مكانته .كتاب الأط��ف��ال هو الكتاب ال��ذي ال يتو�سل بالكلمات فح�سب لإيقاد جذوة اخليال يف ّ الطفل، ّ ً يتو�سل بالألوان و الأ�شكال �أي�ضا؛ �أي �إ ّنه ال ي�ستخدم بل ّ لغة واحدة (لغة الكالم فح�سب) ،و�إنمّ ا ي�ستخدم لغات عديدة (لغة الأل��وان و الأ�شكال و الرموز و الأ�صوات) ليح ّقق مقا�صده و�أهدافه؛ لهذا احتاج كتاب الأطفال �إىل مبدعني كرث ترتافد �أعمالهم وتتعا�ضد لتك ّون يف �آخر الأمر عم ًال واحد ًا. كتاب الأطفال يف حاجة �إىل عنا�صر فن ّية كثرية لعلّ �أه ّمها: ن�ص يكتبه مبدع يدرك �أ�سرار لعبة الكتابة ويعرف • ّ
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
كيف ن�صنع حركة نقدية للأطفال؟ نحن نق ّر بغياب حركة نقد ّية جا ّدة تواكب كتاب ّ الطفل العربي و تقر�ؤه قراءة مت�أ ّملة ،قراءة ال تكتفي بالتقومي، ّ وان كان التقومي يف هذا املجال �ضرورة ،و �إنمّ ا تعمل على ا�ستقراء رموزه وا�ستق�صاء الأ�سئلة التي ينطوي عليها، العربي الي�ش ّكل ر�ؤية والقليل الذي كتب عن �أدب الأطفال ّ يعت ّد بها. عربي للطفل بيد �أنّ من الن ّقاد من ينفي وجود كتاب ّ بلغ درجة من ال ّن�ضج ي�ستحقّ معها �صياغة حركة نقد ّية العربي الطفلي تواكبه ،وتتابعه ،مه ّون ًا من �ش�أن الأدب ّ ّ الذي ظ ّل ّ يف �أغلب مناذجه اقتبا�س ًا لن�صو�ص �أجنب ّية �أو ا�سرتجاع ًا لن�صو�ص تراث ّية .وال�س�ؤال الذي ظ ّل يثار دائم ًا ه��و :كيف ن�صنع حركة نقد ّية لكتاب الطفل؟ وال�س�ؤال الذي يثريه هذا ال�س�ؤال هو :هل النقد نتيجة "تخطيط م�سبق "؟ أدبي هو الذي يخلق نقده وين�شئه �إن�شاء �ألي�س ّ الن�ص ال ّ 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
71
ال���م���دون االق���ت���ب���اس م���ن ال����ت����راث ل���م ي��ق��ت��ص��ر ف���ي أدب األط����ف����ال ع��ل��ى ال����ت����راث ّ ال��ش��ف��وي وم���ا ي��ب��ط��ن��ه م���ن رم����وز وك��ن��اي��ات ف��ح��س��ب ،وإنّ���م���ا ش��م��ل أي��ض��ا ال���ت���راث ّ
م�آزقها وم�ضايقها على ح ّد عبارة النقاد القدامى. • ر�سوم ينجزها فنّان حقيقي يدرك �أنّ ال ّر�سوم ن�ص الكلمات ،و لن�ص �سابق هو ّ لي�ست جم ّرد تو�ضيح ّ �إنمّ ا هي �إبداع �آخر ين�ضاف �إىل الإبداع الأ ّول دون �أن يذوب فيه فت�صبح ال ّر�سوم عندئذ مثل الكلمات م�صدر بالن�ص املكتوب و ت�ؤ ّثر فيه. تخييل و �إيحاء تت�أ ّثر ّ • الت�صميم و الإخ���راج� :إنّ ت�صميم الكتاب مثل ت�صميم البيت توظيف للف�ضاء ،ف�ضاء الورقة و ت�أثيث له يف �آن .لهذا وجب �أن تط ّوع م�ساحة الكتابة ال�ض ّيقة حتّى تكون قادرة على ا�ست�ضافة الطفل واالحتفاء به ،وكما هو ّ ال�ش�أن بالن�سبة �إىل البيت ينبغي �أن تتيح هذه امل�ساحة ّ يتح�س�س الأ�شياء ويكت�شف. للطفل �أن يلعب ويتع ّلم و ّ يج�سه ويحت�ضنه �إنّ الطفل ال يقر�أ الكتاب فح�سب ،بل ّ وربمّ ا �أخذه معه �إىل ال�سرير ليقا�سمه و�سادته وغطاءه ون��ور م�صباحه .ك ّل هذا ي�ؤ ّكد �أنّ الكتاب عنده لي�س جم ّرد حروف و كلمات ،و�إنمّ ا هو كيان وج�سد وحياة. يف ثقافتنا العرب ّية تهوين وا�ضح من �ش�أن الأدب
املوجه للأطفال فك�أنّ هذا ال�ضرب من الأدب مي ّثل ّ ال ّدرجة ال ّدنيا من الكتابة ،لك�أ ّنه يتح ّدر من �شجرة ن�سب جمهولة .لهذا �أ�شاح عنه الن ّقاد فلم ينعطفوا عليه بالدرا�سة و التّحليل .فلي�س غريب ًا بعد هذا �أن يظ ّل خارج الأدب على اندراجه فيه ،قابع ًا يف حوا ّفه ي�صبو �إىل �شرع ّية نقد ّية ت�س ّوغ ح�ضوره. الطفلي تنه�ض له �أ�سباب هذا التّهوين من �ش�أن الأدب ّ عديدة لع ّل �أه ّمها �سببان اثنان� :أ ّولهما االعتقاد ب�أنّ الكتابة للأطفال عمل �سهل ال يحتاج �إىل موهبة ت�سنده �أو ثقافة تدعمه .وثانيهما :اعتبار الطفل ،بحكم حداثة �سلبي �س ّنه ،عاجز ًا عن التقومي و التمييز ،فهو متقبل ّ لي�س له القدرة على املفا�ضلة واملوازنة والإمياء �إىل ماهو �أحقّ بالقراءة ،و ماهو �أجدر بالإهمال و الن�سيان.
���ص����ًا أدب����� ّي�����ًا ف��ح��س��ب ي���خ���ط���ئ ال���ك���ث���ي���رون ح���ي���ن ي���ع���ت���ب���رون ك����ت����اب األط�����ف�����ال ن� ّ
يج�سه � ّإن الطفل ال يقر�أ الكتاب فح�سب ،بل ّ ويحت�ضنه وربمّ ا �أخذه معه �إىل ال�سرير ليقا�سمه و�سادته وغطاءه ونور م�صباحه
دون تخطيط �سابق؟ �ألي�س يف النقد جانب �إبداعي االجتماعي بالثقا ّيف، يجعله وليد مناخ عام يتداخل فيه ّ اتي ؟ ّثم هل هذه احلركة النقد ّية تتع ّلق واجلماعي بال ّذ ّ ّ بن�ص الكتاب �أم بر�سومه �أم بطرق �إخراجه �أم بهذه ّ فن�ص ال�س�ؤال حت ّدث عن " كتاب العنا�صر جمتمعة؟ ّ الطفل" ،ومل يتح ّدث عن " �أدب ّ الطفل" ،وهذا يعني �أ ّنه ي�شري بطريقة خف ّية� ،إىل ك ّل العنا�صر التي ذكرنا يف تداخلها وت�شابكها والتي ت�ؤلف جمتمعة كتاب ّ الطفل. و�إذا اعتربنا هذه العنا�صر جمتمعة هي التي ت�صنع كتاب ّ الطفل ،فهل لدينا ن ّقاد لهم من اخلربة يف جماالت الكتابة وال ّر�سوم و الإخراج ما مي ّكنهم من قراءة كتاب ال�صنف من الطفل قراءة متع ّمقة؟ .و�إذا عدمنا هذا ّ الن ّقاد فهل نكتفي بقراءة كتاب ّ الطفل قراءة م ّف ّككة، فيقر�ؤه بع�ضنا قراءة فن ّية ،و يقر�ؤه بع�ضنا قراءة �أدب ّية، ويقر�ؤه بع�ضنا قراءة تقن ّية جمال ّية؟ هكذا تتوالد الأ�سئلة من الأ�سئلة ،فال تقف بنا عند لكني �س�أكتفي ح ّد معلوم .لن �أجيب على هذا ال�س�ؤال ّ بو�ضع �شروط عا ّمة قد تهيئ� ،إن حت ّققت ،ملناخ ي�سهم يف �صنع احلركة النقد ّية التي ننتظرها .ولع ّل �أه ّمها: 1ـ العمل على �إ���ص��دار "بيبليوغرافيا" للم�ؤلفات الطفل ّية العرب ّية لتكون عون ًا للباحثني يعودون �إليها متى العربي ،وجتدر الإ�شارة �أرادوا ،لدرا�سة �أدب الأطفال ّ �إىل �أنّ بع�ض البالد العرب ّية قد �أ�صدر "بيبليوغرافيا"، خا�صة ب��ه .لهذا وج��ب العود �إليها لال�ستعانة بها و تطويرها. 2ـ �ضرورة �إدراج �أدب ّ الطفولة يف مناهج اجلامعات العرب ّية مثلما ّمت �إدراج الآداب ال�شعب ّية و الفولكلور .فمن �ش�أن �إدراج هذا الأدب �أن يح ّفز ّ الطالب و الأكادمييني على االهتمام به ،و قراءته و درا�سته. 3ـ �ضرورة توجيه طلبة املاج�ستري والدكتوراه يف 72
العدد
7
العربي �إىل اتخاذ �أدب ّ الطفولة حمور ًا لر�سائلهم الوطن ّ ودرا�ساتهم .وميكن ،بهذه الطريقة �إن�شاء نواة حلركة نقد ّية ر�صينة تعنى ب�أدب الطفل و تقر�ؤه قراءة جادة. 4ـ العمل على بعث جائزة للنقد العربي الذي ينعطف على �أدب ّ الطفل العربي بال ّنظر والت�أ ّمل. تلك هي يف نظري اخلطوات الأوىل التي ينبغي �أن نخطوها حتّى نهيئ ّ الظروف املالئمة لبعث حركة نقد ّية ت�ستتب تواكب �أدب الطفولة ،بيد �أنّ هذه احلركة لن ّ مق ّوماتها �إال حني نط ّور �أدبنا ّ فلي من خالل التجديد الط ّ يف �أ�ساليبه وموا�ضيعه ،وا�ست�شراف �آف���اق تعبري ّية وجمال ّية جديدةّ ، فتط ّور النقد من تط ّور الأدب و ازدهار الأ ّول الب ّد �أن يف�ضي اىل ازدهار الثاين يف �ضرب من التداعي الذي ال ير ّد. الطفلي عندنا ظ�� ّل ،يف وينبغي الإق���رار �أنّ الأدب ّ الكثري من الأحيان ا�ستعادة للرتاث ،يكتفي با�ستن�ساخه. �أدب الأطفال والرتاث من خ�صائ�ص الأدب احلديث ،ك ّل الأدب احلديث �أ ّنه التفت �إىل املا�ضي م�ستدعي ًا كثري ًا من ن�صو�صه حماو ًال الن�ص القدمي؛ فا�ستدعاء �أن مي ّد الأثر احلديث بق ّوة ّ إبداعي ميت ّد بعيد ًا يف الرتاث ا�ستدعاء ملخزون ّ فكري و� ّ الزمن ،وا�ستح�ضار جلملة من القيم مازالت �إىل اليوم توجه حياتنا وتفكرينا .فالرتاث ،بهذا املعنى ،لي�س ّ ك ّل ما ترك الأ�سالف و�إنمّ��ا هو ما تب ّقى بعد �أن طوى الن�سيان ك ّل �شيء. لكنّ الكثري من كتّابنا ارت�� ّدوا ،مع ذلك� ،إىل تراثنا يقتب�سون منه ق�ص�ص ًا للأطفال ،م�ستلهمني طرائقه يف الأداء ،و�أ�ساليب ت�صريف القول. ه��ذا االقتبا�س مل يقت�صر يف �أدب الأط��ف��ال على ال�ت�راث امل���د ّون فح�سب ،و�إنمّ���ا �شمل �أي�ضا ال�تراث
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
نقر بغياب حركة نقد ّية جا ّدة تواكب نحن ّ كتاب ّ العربي و تقر�ؤه قراءة مت�أ ّملة الطفل ّ
ال�شفوي وما يبطنه من رم��وز وكنايات .هكذا وجدنا ّ الكثري من كتّاب الأطفال ي�سرتفدون احلكايات ال�شعب ّية ينقلونها من اللهجات املح ّلية �إىل اللغة الف�صحى ،وربمّ ا ت�ص ّرفوا فيها لتكون �أقرب �إىل وجدان الطفل احلديث، و�أقدر على �ش ّد انتباهه و�إثارة خياله .لقد بدا الرتاث ال�شعبي مبا ينطوي عليه من فانتازيا وغرائب ّية واحتفال ّ باخلوارق وطرافة يف ر�سم مالمح ال�شخ�صيات قادر ًا على خماطبة الطفل والت�أثري فيه� .أ�ضف �إىل ك ّل ه ّذا انطواء هذا الرتاث على خربة �إن�سان ّية عميقة عبرّ ت عن نف�سها من خالل الرموز .فهذا ال�تراث كما قال "هريدر" م�ستودع جتارب الأ ّمة وبقايا خرباتها؛ عندما كان الإن�سان يحلم لأ ّن��ه مل يكن يعرف ويعتقد لأ ّن��ه مل يكن ي��رى .وه��ذه التجارب ترت ّد �إىل �أح��ق��اب بعيدة، �إىل الوحدة العتيقة بني الذات واملو�ضوع� ،إىل الإن�سان ب�سبب من هذا ت�شابهت على وجه احلقيقة والإطالقٍ . اخلرافات ت�شابه ًا مذه ًال يف كثري من الثقافات فهي �شخ�صي تنطوي على خياالت �شاملة ذات طابع غري ّ وه��ذه اخلياالت ،كما يقول يونغ ،تن�ش�أ من الال�شعور اجلمعي الذي يورث �ش�أنه �ش�أن العنا�صر املورفولوج ّية ّ يف ج�سم الإن�سان. ال�شعبي يف كتب الأطفال هذه العودة �إىل امل��وروث ّ مل تواكبها ،كما �أ�سلفنا ،حركة نقد ّية تر�صد الظاهرة وتف ّككها ّثم تدر�سها وتت�أ ّولها .وما من ّ �شك يف �أنّ هذا العمل(عمل الر�صد والتفكيك والدرا�سة والت�أويل) من الطفلي الذي �ش�أنه �أن يط ّور هذا النمط من الأدب ّ ال�شعبي ّ وي�ضخه بدماء جديدة. ا�ستند �إىل املوروث ّ وال�س�ؤال الذي نريد �أن نثريه يف هذه الورقة هو :كيف ال�شعبي عندما �أقدموا على تعامل الكت ّاب مع املوروث ّ نقله �إىل الأطفال؟ �إنّ امل��ت���أ ّم��ل يف الق�ص�ص الطفل ّية التي ا�ستدعت العدد
ال�شعبي يلحظ �أنّ كتّابنا اكتفوا با�ستعادة امل���وروث ّ ال�شعبي دون تغيري �أو حتوير �أو تطوير ن�صو�ص الرتاث ّ وربمّ ا مهروها ب�أ�سمائهم ،ون�سبوها �إىل �أنف�سهم واحلال �أ ّنهم اقت�صروا على نقلها فلم يحدثوا فيها �صفة �أو يك�سبوهاف�ضيلة. �إنّ ه�ؤالء الكتّاب وهم ي�ستدعون هذه الن�صو�ص �إنمّ ا يح ّولون فعل الكتابة �إىل فعل �أجوف ،خال من ك ّل معنى. فالعالقة بني الرتاث والكتابة تطابق العالقة القائمة بني اللغة والكالم .ف�إذا كان الرتاث مثل اللغة مي ّثل امل�شرتك الذاتي املختلف. امل�ؤتلف ف�إنّ الكتابة ،مثل الكالم ،متثل ّ الرتاث هو �سلطان اجلماعة� ،أ ّما فعل الكتابة فهو �سلطة الفرد تفتح يف مملكة ال�ضرورة ك ّوة احلر ّية. لكنّ كثري ًا من كتّابنا ا�ست�سهلوا فعل الكتابة ،فعمدوا �إىل ال�تراث يختارون بع�ض مناذجه ،وينقلونها �إىل الأطفال دون �إ�ضافة تذكر. والواقع �أنّ ال�تراث ال ميكن �أن ي�ستم ّر �إال �إذا �أعاد كتّابنا �إب��داع��ه واب��ت��ك��اره� .أ ّم���ا �إذا اكتفوا ب��اج�تراره وحماكاته ف�إ ّنهم يفرغونه من معناه ،يح ّولون لألأء ناره �إىل رماد .ففي ك ّل تراث �إمكانات م�ضمرة وطاقات خف ّية ينبغي اكت�شافها وتطويرها ،وهذه الطاقات والإمكانات هي التي جتعل الرتاث منفتح ًا على امل�ستقبل ،متج ّدد ًا با�ستمرار ،قاب ًال لقراءات كثرية �أي لكتابات كثرية. �إنّ �أدب الأطفال ال يختلف من حيث اجلوهر عن �أدب الكبار .فطبيعة الأدب واحدة و�إن اختلفت طرائق الكتابة لن�ص �سابق �أو ا�ستدراك عليه والأداء؛ فكالهما تطوير ّ �أو جتاوز له� .أ ّما �إذا حت ّول الأدب �إىل تقليد لن�صو�ص قدمية ف�إ ّنه يفقد وظيفته الأوىل وهي وظيفة الإبداع، لي�صبح دون جدوى .الإبداع هو ،يف املقام الأ ّول ،دعوة �إىل احللم ،واجرتاح لأ�سئلة جديدة ،وخلق لعامل جديد على �أنقا�ض عامل قدمي 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
73
البحث عن بطل
ملف العدد
في القصة الموجهة لألطفال والفتيان
د .عبد الرحيم م�ؤدن املغرب
هل يوجد بطل يف ق�صة الأطفال والفتيان يف الأدب العربي احلديث ،واملعا�رص يت�سم بالدميومة واال�ستمرار؟ �إذا كان الأمر كذلك ،ما مالحمه؟ وظائفه؟ انعكا�ساته على الذات ـ ذات الطفل والفتى ـ فكري ًا وجمالي ًا و�سلوكي ًا؟ اجلواب على هذه الت�سا�ؤالت� ،سيكون حمور هذا املقال داخلة ،بهدف �إثراء النقا�ش، خا�صة �أن وجود بطل دائم ،باملوا�صفات ال�سابقة ،يعد عن�رصاً هام ًا من عنا�رص الهوية� ،إن مل يكن دافع ًا من دوافع تكوينها واملحافظة عليها. ت�شخي�ص �أويل قد ي�ستغرب املرء حالي ًا خلو الأدب العربي املوجه للأطفال والفتيان من بطل دائ��م ،ي�سكن الذاكرة وال���وج���دان ،فالن�ص ،يف ه��ذا ال�سياق ،ي��ق��وم على البطولة ،وه��ذه البطولة ق��د تتوفر يف الإن�����س��ان �أو احليوان� ،أو النبات .البطل قد يكون �صغري ًا �أو كبري ًا، ذكر ًا �أو �أنثى ،قوي ًا �أو �ضعيف ًا ،جمي ًال �أو قبيح ًا ،من حلم ودم (واقعي) �أو من ورق (متخيل) .فالبطولة �ضرورة ن�صية ،وقبل ذلك هي �ضرورة نف�سية متنح الطفل والفتى� ،أداة لتف�سري ما يحيط به ،والتعامل مع عنا�صره بدقة واقتناع .والبطل ،بهذا املعنى ،قد يكون حام ًال قيم ًا حم��ددة وم��واق��ف يحر�ص الكاتب على تقدميها �أو متريرها عرب مراحل الن�ص .وباملقابل يوجد البطل امل�ضاد لهذه القيم الذي يعرقل ذلك، ولكنه يدعم �شرعية البطل الذي ينت�صر له الطفل. الفرق بني الأدب�ين يكمن يف ك��ون البطل يف �أدب 74
العدد
7
الكبار ر�ؤي��ة من ال��ر�ؤي��ات ال�سائدة ،يف حني يكون البطل يف �أدب الأط��ف��ال والفتيان �أداة لتخلق هذه الر�ؤية التي تبنى ،درج��ة درج��ة و�صو ًال �إىل الهدف منها ،وهو حتول الر�ؤية �إىل منوذج لالحتذاء .ولن ي�صل البطل ،بالن�سبة �إىل الطفل� ،أو الفتى� ،إىل هذه املرحلة �إال بعد اقتناع هذا الأخ�ير بوجوده بجانبه يف خمتلف اللحظات واملواقف� ،أي ي�صبح جزء ًا من املعي�ش اليومي لهذا الطفل �أو الفتى. مفهوم البطولة ال �أق�صد بالبطل املرادفات اللغوية والداللية: بطل� /شجاع /ق��وي /ج��ريء /ف��ار���س�..إل��خ ،وما �شئت م��ن ا�ستن�ساخ �صور الأق��وي��اء مثل (هرقل) و(�شم�شون) (�أخيل) (عنرتة)… �أخري ًا قد توظف هذه ال�شخ�صيات يف �سياق معني يخدم هدف ًا حمدد ًا، غري �أن البطل الذي قد يكون كائن ًا �ضعيف ًا ،يتحول
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
75
ال���ب���ط���ول���ة ال ت�������رادف ال���ج���م���ال أو ص���ف���ات ال���ج���س���م ال���ري���اض���ي ال���ب���دي���ع���ة؛ ف���أح���دب ن����وت����ردام ت���ح���ول ف���ي ش���ري���ط م���وج���ه ل��ل��ف��ت��ي��ان إل����ى أع���ل���ى م���راح���ل ال��ب��ط��ول��ة اإلن��س��ان��ي��ة
يف الن�ص الق�ص�صي �إىل كائن منت�صر على قوة خارقة( ،فالنامو�سة تنت�صر على الأ�سد) و(عقلة الأ�صبع والغولة) .كل ذلك معادلة لبطولة ال�ضعيف على القوي .فالقوة هنا مكت�سبة ،ولي�ست جاهزة ،كما �أنها قائمة على العقل واملنطق ح�سب طبيعة املواجهة. وال �أق�صد بذلك الذكاء والنباهة ،فال�سذاجة قد جتد لها مكان ًا يف ق�ص�ص الأطفال والفتيان مبختلف مرادفاتها (بع�ض مواقف جحا مث ًال). قد ال ت��رادف البطولة� ،أي�ض ًا ،اجلمال �أو �صفات اجل�سم الريا�ضي البديعة؛ ف�أحدب نوتردام حتول يف �شريط موجه للفتيان �إىل �أعلى مراحل البطولة الإن�سانية العا�شقة للجمال واحلرية وح��ب احلياة ورف�ض الظلم .وال �أق�صد بالبطولة الغنى والرتف �أو �سلطة املال التي قد ال تكون حا�سمة ،يف العديد من الإبداعات املوجهة للأطفال والفتيان �أمام انت�صار الف�ضائل وال�صفات املعنوية.
وق��د ال يكون البطل هو العامل واملثقف؛ لأن هذا الأخري قد يعرف �شيئ ًا وتغيب عنه �أ�شياء .فالعلم هو اكت�ساب مهارات معينة من خالل قراءة واقع ما. والبطولة لي�ست ق�ضية جاهزة بناء على تعليمات ر���س��م��ي��ة ،ب��ل ه��ي م��ت��م��ردة راف�����ض��ة ل��ك��ل التعاليم الر�سمية. ً البطل املقرتح ،كما �سيت�ضح الحقا ،هو كل ذلك، دون �أن يكون ك��ذل��ك .البطل ،بهذا املعنى ،ره��ان املجتمع على �أدب �سي�صبح �أداة للتحرر من الكوابح والإكراهات املادية والنف�سية من جهة ،وا�ستخراج �أق�صى ما يتمتع به الطفل �أو الفتى ،من �إمكانات ومقومات حتقق التوا�صل واال�ستمرار من ناحية، واملتعة وال�سعادة. فالبطولة ،بهذا املعنى ،تطهري للذات من عنا�صر الت�شويه ،وك�شف جلوهرها الإن�ساين الواحد واملوحد بني بني الإن�سان يف كل مكان وزمان.
�شخ�صية جحا �صاحلة لكل زمان ومكان، وحتمل مالحمها ح�سب الع�صر �أحيان ًا، وح�سب رغبات ،و�أهداف ،املتعاملني معها �أحيان ًا �أخرى جحا :منوذج تطبيقي جحا والآخرون
من �أغ��رب الغرائب ،افتقاد �شخ�صية جحا لأية مرجعية حكائية حمددة .ولكن كيف تقدم �شخ�صية جحا يف �أدب الأطفال والفتيان؟ يق َّدم جحا ك�شخ�صية ما�ضوية منت�سبة �إىل تراث الطرائف وال��ن��وادر .وهو �أق��رب �إىل �أخبار احلمقى واملغفلني واملعتوهني الذي ي�سخر منهم املجتمع .وهو، كذلك� ،أق��رب �إىل البهلوان الذي ي�ضحك الآخرين بال�ضحك على نف�سه ،ويقدم ما يرغب فيه الآخرون �أي ما يحملون عنه من �أفكار متداولة عن ال�ضحك والإ�ضحاك التي كونوها عن �شخ�صيته املح�صورة يف هذه الوظيفة دون غريها .وهو بذلك ميار�س �سلوكه من خالل ح�صار املتلقني الذين �صنعوا منه �صورة الذكي البليد �أو "البليد الذكي" .وهذا ما جعل منه مادة ا�ستهالكية تكتفي بال�ضحك املجاين. ه��ذه هي ال�صورة املتداولة عن ه��ذه ال�شخ�صية املتخيلة ال��ت��ي �أ�صبحت يف امل��راح��ل ال�لاح��ق��ة �إىل الآن ،جم�سدة يف م�سلكيات اجتماعية ميار�س فيها �أ�صحابها الفهلوة والقدرة على التخل�ص من امل�آزق وامل��ط��ب��ات ،ب��ن��وع م��ن ال�شيطنة املحببة ال��ت��ي تثري ال�ضحك والإعجاب دون �أن تثري ال�سخط �أو احلقد عليها .وهي يف الوقت ذاته ،ال تتجاوز �سقف التنكيت �أو الإ�ضحاك غري الهادف. "جحا" و"جحا " �أو جحا كما يرى نف�سه
ُوجد جحا ،ب�أ�سماء عديدة ،يف الوقت الذي فر�ض فيه التجمع الإن�ساين �صراع امل�صالح من جهة ،وتعدد احلاجات ،واالحتياجات �أي�ضا ،من جهة ثانية .ومن ثم ف�شخ�صية جحا �صاحلة لكل زمان ومكان ،وحتمل 76
العدد
7
مالحمها ح�سب الع�صر �أح��ي��ان�� ًا ،وح�سب رغبات، و�أهداف ،املتعاملني معها �أحيان ًا �أخرى .وهي بذلك قد حتمل العديد من الأ�سماء وال�سمات ح�سب كل مرحلة (ال�شاطر /امل�ضحك /البهلوان /الأعرابي �أو البدوي) ف�ضال عن �أ�سماء حملية مبناطق خمتلفة. ويف كل الأحوال تظل �شخ�صية جحا حاملة ل�سمة �أ�سا�سية ه��ي ال��ذك��اء �أو ال�شيطنة وال��ق��درة على ح�سن التخل�ص ،مع ف�سح املجال املختلف التنويعات امل�ستوحاة من طبيعة املرحلة وحاجيات النا�س .هو جحا الواحد واملتعدد يف �آن واحد .وعلى هذا الأ�سا�س مل تعد �شخ�صيته ملك ًا للما�ضي ،بل هي �شخ�صية متجددة بتجدد الأ�سئلة. وهكذا ت�صبح �شخ�صية جحا �ضمري ًا للع�صر الذي تلب�س فيه �شخ�صيته قناع البالدة والتبلد لإخفاء حقيقته القائمة على فهم �أ���س��رار اللعبة .ويف هذا ال�سياق ميكن مقارنة �شخ�صية الف�أر "ميكي ماو�س" ب�شخ�صية جحا يف �صراعه ال��دائ��م م��ع "جريي"؛ �أي �صراع ال�ضعيف مع القوي� ،أو العقل مع القوة �أو املرونة مع الت�شدد �أو ما �شئت من الثنائيات� .أقول� ،إن هذا ال�صراع بني ميكي وجريي �أو بني جحا والآخر، يعك�س املالحظات التالية: �إن لـميكي م��او���س خ�صائ�ص ثانبة (�سرعة/ ���ض���آل��ة احل��ج��م /ذك����اء /م�لام��ح حم��ب��ب��ة /لبا�س دائ�����م ..ال����خ) .وه���ذا ال��ث��ب��ات ال مي��ن��ع م��ن جت��دد الوظائف تبع ًا لتجدد الأح��داث وامل�سلكيات (مثال ال�صراع بني ميكي وجريي قد ت�ستخدم فيه �أحدث الو�سائل التكنولوجية) .ويحمل الف�أر ميكي ماو�س خ�ب�رات الأج��ي��ال ال�سابقة وال�لاح��ق��ة� ،أي يحمل قيم املجتمع الأمريكي ال��ذي ينتمي �إليه (تقدي�س العمل /اخت�صار ال��زم��ن /ح��ب احل��ي��اة واحلر�ص
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
البطولة تطهري للذات من عنا�صر الت�شويه، وك�شف جلوهرها الإن�ساين الواحد بني بني الإن�سان يف كل مكان وزمان
على مم��ار���س��ة امل��ت��ع املختلفة /ال��ذات��ي��ة املطلقة/ الرباجماتية /القوة اجل�سدية) ،حيث ي�ؤدي املنتمي �إىل املارينز مثل �شخ�صية بوبي Popyكل الأعمال ال�صعبة يف الباخرة وال�شارع �أو يف املعمل وامل�صنع واحلقل وامل�ؤ�س�سات املختلفة. �أم��ا جحا ،فهو على النقي�ض م��ن ذل��ك ،فهو ذو مالمح ثابتة ج�سد ًا ولبا�س ًا و�سلوك ًا ومعجم ًا .يتغري الع�صر دون �أن يتغري جحا ،فهو �شخ�صية ما�ضوية �أقرب �إىل احلفريات التي قد تثري الف�ضول دون �أن تثري التفاعل �أو التوا�صل .فحاجز املفارقة الزمنية يلعب دوره يف تعميق الهوة بني ال�شخ�صية (جحا) واملتلقي (الطفل �أو الفتى) الذي يتماهى ،عادة ،مع ال�شخ�صية احلاملة خلربات �إن�سانية عديدة. ويف ح��ال��ة وج���ود رواي����ات ع��دي��دة� ،أو خمتلفة، ل�شخ�صية ج��ح��ا ،ف���إن الطابع امل��ا���ض��وي ال ي��غ��ادره من حيث الر�ؤية والوظيفة ،مما يعمق من عزلتها التدريجية عن احلياة �أو واق��ع الطفل والفتى .وال يحمل جحا نتيجة لذلك ،قيم املجتمع العربي احلالية كما هو ال�ش�أن عند ميكي ماو�س ،بل يظل جحا �أ�سري القيم املا�ضوية الثابتة ،ويعيد �إنتاج حلظات ال�ضحك ال�����س��اذج .وب�سبب ذل��ك ت�صبح ���ص��ورة جحا �صورة منطية ثابتة ،دون �أن ت�ساير حتوالت املجتمع املختلفة. ومعنى ذل��ك �أن جحا بطل جاهز �سلعة معلبة ال ميكن تغيريها �إال بانتهاء �صالحيتها �أو فقدانها مل�ستهلكها .ونتيجة لذلك ت�صبح �شخ�صيته خا�ضعة ل��رغ��ب��ات اخل����ارج ،دون �أن ت�صدر ع��ن مقوماتها الذاتية .فالطفل �أو الفتى عند تعامله مع ال�شخ�صية، خا�صة يف الن�ص الق�ص�صي ،ال يختلف عن الكبري ال�شرتاكهما يف م��لء ال��ف��راغ��ات م��ن جهة وجتديد قطع الغيار املتال�شية يف ال�شخ�صية من جهة ثانية، العدد
ورب��ط��ه��ا ،م��ن ج��ه��ة ث��ال��ث��ة ،ب�أ�سئلتها وحاجياتها و�أهدافها امل�سايرة للع�صر. خطاطة بطل دائم مفرت�ض ال نعني ب��ال��دمي��وم��ة اخل��ل��ود �أو ال��ث��ب��ات ال��دائ��م. فال�شخ�صية يف �أدب الأكفال �أو الفتيان ،قابلة للحذف �أحيان ًا� ،أو النق�صان وال��زي��ادة �أحيان ًا �أخ��رى .غري �أن ال�شخ�صية ذاتها قد تت�سم بالدميومة �إذا كانت دالة على �سلوك �إن�ساين �أو قيم حمددة مرتبطة كما قال ابن خلدون بطبيعة املجتمع الب�شري �أو التجمع الإن�ساين. يف الطريق �إىل بطل دائم ال ميكن ف�صل ه��ذا االق�ت�راح ع��ن ���ش��روط عامة وخا�صة ،تتحكم يف �إنتاج الق�صة العربية املوجهة للأطفال والفتيان منها: املناف�سة ال�شر�سة للمنابر االحرتافية الأجنبية،فكر ًا وطبع ًا وجمالية ،واملدعمة بن�شاط جمعيات حقوقية ومدنية تفر�ض منوذج ًا حمدد ًا على املجتمع العربي واملجتمعات املتخلفة عامة. بالرغم من الرتاجع الن�سبي للنزعة التعليمية(الوعظية) ف���إن ذل��ك ال مينع من وج��وده��ا بن�سب متفاوتة يف هذا املنتوج الذي �أ�صبح ملحق ًا يف كثري من الأحيان للمقررات التعليمية ،بل �إن بع�ض كتاب ه��ذا النوع ال ي�ترددون يف الت�أليف امل�ساير للمقرر التعليمي ،مقرر ًا ومو�ضوعات ،عو�ض ف�سح املجال للمتخيل يف عالقته بالواقع. ً وبذلك ي�صبح هذا الأدب انفتاحا على عواملمعينة ت�ساعد على الك�شف واالك��ت�����ش��اف ،واملتعة والإمتاع. 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
77
الن�صو�ص امل�ستوردة تخلق البطل النمطي ح�سب موا�صفات دولية غالبة�،أي ح�سب معايري دولية مقننة.
�سيطرة الكبار ،يف هذا امليدان ،على الأطفالوالفتيان .فما زال امل���ؤل��ف ك��ب�ير ًا ،م��ا ع��دا جت��ارب حم���دودة ال ت��ت��ج��اوز ال��ت��ج��رب��ة امل��خ��ت�بري��ة لأه���داف حمددة. وهذا �أنتج بدوره منظور ًا ي�ؤمن به الكبار ويقومعلى اعتقاد خاطئ يرى يف الطفل كائن ًا قا�صر ًا يف حني هو كائن اجتماعي ميلك معرفة معينة ،وي�ستعمل حوا�سه اخلم�س �أي ي�شارك ،بطريقة �أو ب�أخرى ،يف بناء ت�صور ما عن العامل .فمن ال�سذاجة تقدمي ن�ص �أدب��ي ما يتحدث عن ع��وامل وردي��ة ،والفقر منت�شر بكل م��ك��ان� ،أون�����ص يتحدث ع��ن ال���ورود وال��زه��ور، وعند خ��روج الطفل من مدر�سته ي�صطدم ب�أكوام القاذورات وجبال الأزبال. فالن�ص املالئم هو الذي يدفع بالطفل �إىل الت�سا�ؤل عن م�صدر الأزبال ،بهدف التجاوز ،ولي�س عن طريق املغالطة� ،أو حجب الر�ؤية بزهور ورقية ال وجود لها �إال يف الورق!!.. تهمي�ش ه���ذا الأدب ال���ذي م��ا زال ك��ث�ير منالنا�شرين وامل�س�ؤولني والكتاب واملوزعني يعتربونه جمرد �أدب �أطفال �أو (عيال) باملعنى القدحي .ون�سبة ما يتلقاه الطفل العربي وا�ضحة يف هذا املجال. غلبة املكتوب على امل�سموع واملرئي ،وغلبة املحكيعلى امل�صور �أو ال�سينمائي ،وال�شعري على امل�سرحي، وهذا ما نلم�سه من خ�صا�ص مريع يف الق�ص�ص امل�صورة التي مازلنا ن�ستوردها من اخلارج (�أمريكا /اليابان)، واالكتفاء بدبلجتها ،دون �أن ترتجم ق�ضايا الطفل �أو الفتى العربي ،خا�صة �أن املرحلة احلالية تعرف ازدهار ًا ف�ضائي ًا فظيع ًا جعل من التقنية بداية ونهاية، دون االلتفات �إىل حمموالتها الفكرية مثل الدعوة �إىل قهر القوة التكنولوجية عو�ض الت�سامح واحرتام الآخر، 78
العدد
7
واالنت�صار للفرد قبل اجلماعة ،ومتجيد �أ�ساليب الدهاء وال�شيطنة املغرية ب�أحدث التقنيات. مكونات هذا البطل املفرت�ض �أ�صبح من الثابت ،من خالل جتارب عديدة �ضرورة وجود البطل الذي ي�ساير عوامل الطفل �أو الفتى ،فكر ًا وعمر ًا ونف�سية ،ف�شخ�صية جحا امل�شار �إليها �سابق ًا، على �سبيل املثال ال احل�صر ،ال يجب �أن تظل �أ�سرية �صورها النمطية املرتبطة بالبالهة والإ���ض��ح��اك ال�ساذج ،بل يجب �أن ت�ساير هذه ال�شخ�صية �أ�سئلة املتلقي (الطفل �أو الفتى) من جهة ،و�أ�سئلة الع�صر م��ن جهة ثانية .فجحا �شخ�صية معا�صرة لنا كل وقت وحني ،والكاتب الذي يوظفها ،يف �سياق معني، يبعثها ،م��ن ج��دي��د ،يف اللحظة احل��ال��ي��ة ،ولهدف حم��دد ي�لائ��م املرحلة و�أ�سئلتها م��ن ح��روب وغ��زو وا�ضطهاد املختلف ،وم�سح الهويات و�إره��اب�..إل��خ. ولتحقيق ذلك نقرتح الآتي: ال��وع��ي بطبيعة ال��ن�����ص امل��وج��ه �إىل الأط��ف��الوالفتيان فكري ًا وجمالي ًا .ومن ح�سن احلظ �أ�صبحنا نتوفر على بع�ض ال��ت��ج��ارب لكبار الكتاب يف هذا امل��ج��ال (يعقوب ال�����ش��اروين� /صنع اهلل ابراهيم/ زك��ري��ا ت���ام���ر )..ف�����ض�ل ًا ع��ن دور متخ�ص�صة يف ه��ذا املجال (العربي الكويتية /دار الفتى العربي �سابق ًا) وجمالت خا�صة بالأطفال والفتيان (العربي ال�صغري /م��اج��د� /سال�سل الق�ص�ص امل�صورة). ن�ضيف �إىل ذلك كبار الر�سامني بطفولتهم الدائمة (بهجت /اللباد /حجازي /حلمي التوين). هذا الو�ضع اجلديد ،بالرغم من بع�ض �سلبياته،يعد خطوة هامة يف هذا املجال .فال�صراع م�ستقب ًال هو �صراع حول الطفل قبل الرثوة البرتولية �أو غريها
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
79
ي�����ق�����دم ج����ح����ا ك���ش���خ���ص���ي���ة م����اض����وي����ة م���ن���ت���س���ب���ة إل�������ى ت��������راث ال����ط����رائ����ف َّ وال������ن������وادر .وه�����و أق������رب إل�����ى أخ����ب����ار ال��ح��م��ق��ى وال��م��غ��ف��ل��ي��ن وال��م��ع��ت��وه��ي��ن
من الرثوات. ال��واح��د ت��������ق��������دمي ال����ب����ط����ل(�شخ�صية معينة) با�سم ثابت ،و�سمات معينة ،ولكن ب�أفعال متجددة ت�ؤمن بامل�ستقبل ،وتر�سخ يف الوقت ذات��ه الت�سامح دون تفريط ،واح�ت�رام الآخ���ر دون �ضعف �أو ان��ع��زال ،و تبادل اخل�برات دون تبعية �أو ت�شويه. االب��ت��ع��اد ع��ن ال�شخ�صية النمطية ال��ت��ي تثريامل��ل��ل ل���دى ال��ط��ف��ل �أو ال��ف��ت��ى ،ومت��ن��ع��ه م���ن متعة الك�شف واالكت�شاف �سواء تعلق الأم��ر ب�إعادة �إنتاج ال�شخ�صيات ال�تراث��ي��ة� ،أو تعلق الأم���ر با�ستن�ساخ �أبطال م�ستوردين من ن�صو�ص تخلق بطوالت وهمية عو�ض �أن ت�ستنبت هذه البطولة من واقعها اخلا�ص. فالن�صو�ص امل�ستوردة تخلق البطل النمطي ح�سب موا�صفات دول��ي��ة غ��ال��ب��ة�،أي ح�سب معايري دولية مقننة. ال مي��ك��ن ف�صل ال��ب��ط��ل يف �أدب الأط���ف���ال �أوالفتيان عن واقع يهم�ش البطولة يف املقرر التعليمي،
�أو يف احل��ي��اة اليومية (يف ب����ل����دان ع���دي���دة ي�����وظ�����ف الإ������ش�����ه�����ار يف امل���ن���ت���وج ال�����س��ل��ع��ي لتمجيد ال��ب��ط��ول��ة ،مثل طبع ال�صور �أو النماذج املختلفة لبطوالت الأبطال على قم�صان الأط��ف��ال� ،أو يف املل�صقات الإ�شهارية ،والفقرات الإذاع��ي��ة والتلفزية ،واملهرجانات املختلفة� ..إلخ) .ن�ضيف �إىل ذلك غياب امل��ج��ال االج��ت��م��اع��ي �أو ن��درت��ه م��ن منتزهات وم�����س��ارح ودور �شباب وم�لاع��ب؛ ف��الإب��داع املوجه للأطفال والفتيان ه��و ممار�سة للحوا�س اخلم�س املتفاعلة يف �شخ�صية الطفل �أو الفتى. يف عاملنا العربي �أ�صبحت البطولة تهور ًا �إن مل تكن �إرهاب ًا ،وانت�صارنا على ما يعرقل م�سريتنا التنموية، ال جند له �صدى يف هذه الكتابة ،بل �إن هذه الأخرية قد تدعم كل ما ينفر من هذه البطولة. بالرغم من انخراط املجتمع العربي يف منظومةاالتفاقيات الدولية اخلا�صة بالأطفال والفتيان، ف�إن الرتكيز يف ذلك يتم عادة على اجلانب املادي (ت�شغيل الأطفال مث ًال) الذي ال يخلو من �أهمية ،مع �إهمال للجانب الفني واجلمايل ،بل �إن م�ساعدات دولية متعددة يتم حتويلها نحو جماالت ال عالقة لها بالأطفال �أو الفتيان .فاجلانب املادي على �أهميته، ال يجب �أن يلغي اجلانب الرمزي �أي الن�ص الثقايف املوجه للطفل �أو الفتى خا�صة �أن طبيعة هذا الن�ص قد ت�سمح ب�إثارة �أ�سئلة عديدة منها و�ضعية الطفل يف املجتمع ب�أ�ساليب خمتلفة
أدب الطفل
مقاربة سيكولوجية
الحاجة إلى الشعور باألمن والحرية
ملف العدد من امل�سلم به� ،أن �أدب الطفل �أ�صبح ذا �أهمية بالغة يف �صقل مواهب الطفل ويف جعله يعي�ش حلظة وجوده كفرد ينتمي �إىل جمتمع حمدد يت�أثر بقيمه كما ي�ؤثر فيه .فهو نابع من االعتقاد الرا�سخ بكون مرحلة الطفولة تعد من �أ�سا�سيات انبناء �شخ�صية الإن�سان. و�س�أحاول ق��در امل�ستطاع �أن �أت��ن��اول الظاهرة من وجهة نظر �سيكولوجية تهدف �إىل تبيان ما ميكن �أن ي�ؤ�صل وي�ؤ�س�س لثقافة �أدب الطفل.
د .ر�شيد اخلدميي املغرب
�إن الأدب على العموم وج��د م��ع وج��ود الإن�سان، حني ب��د�أ الإن�سان يحاكي الطبيعة ،ويقلد حركات و�أ�صوات مكوناتها ،فا�ستطاع بهذه املحاكاة �أن يخلد �أعما ًال �أدبية وجمالية توارثت عرب �أجيال وعلى مر تاريخ الب�شرية .فالطفل اجتماعي منذ يومه الأول، �أو يكاد ،من وجهة نظر ال�سلوك الوراثي� ،أي الغرائز املجتمعية ...من حيث هو رهني بالتكوين ال�سيكو- ب��ي��ول��وج��ي للج�سم .فالطفل ي��ح��اول االت�����ص��ال مع الآخرين .واجلميع يعلم مدى ت�شدد الأطفال يف هذه النقطة بالذات� ،إذ يحتاجون ال�صحبة دائم ًا ...لكن يوجد �إىل جانب امليوالت املجتمعية الداخلية ،جمتمع خارجي يعنى به جممل العالقات التي تقام بينهم 80
العدد
7
من خارجهم :كاللغة ،واملبادالت الثقافية ،والأعمال الأخالقية والقانونية. �إن ح�ضور �أدب الطفل كان وال زال ح�ضور ًا م�ؤكد ًا وفعلي ًا ،قد متظهر يف �شكل جمموعة من الأ�صناف الأدب��ي��ة ،ولعل �أب��رزه��ا م��ا كانت تقوم ب��ه الأم��ه��ات واجلدات يف ما يعرف ب�أ�سلوب احلكي ،حيث ي�سردن حكايات وق�ص�ص ،عبارة عن �أ�ساطري يف معناها الوا�سع ،لأطفالهن قبيل اخللود للنوم .وقد لعبت هذه احلكايات الليلية دور ًا مهم ًا يف ت�شكيل احل�س اجلمايل والفني لدى املتلقي وذل��ك من خالل �إط�لاق العنان ملخيلته فيبد�أ يف ت�صور �أبطال احلكاية و�أحداثها. هذا الأدب ال�شفهي املتوارث �أك�سب الفرد فر�صة
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
81
لغة الطفل وح��رك��ات��ه وت��ح��رك��ات��ه كلها ذات دالل���ة بالنسبة إل��ى غ��ي��ره م��ن األط��ف��ال
التحول من ما هو �شفهي �إىل ما هو مكتوب ،فبد�أت بذلك حركية تدوين �أدب الطفل من خالل جمموعة من الق�ص�ص واحلكايات والأنا�شيد املوجهة بالأ�سا�س �إىل الطفل. وال�س�ؤال ال��ذي يطرح نف�سه يف ه��ذا ال�صدد ،هو ماذا يق�صد ب�أدب الطفل ،مبعنى هل من الطفل �إىل الطفل� ،أم من الرا�شد �إىل الطفل؟ مم��ا ال �شك فيه �أن �أدب الطفل ل��ه خ�صو�صيات ومميزات متيزه عن غريه� ،إذ �أن لكل مرحلة عمرية ما مييزها عن الباقي .فمرحلة الطفولة هي املرحلة الأكرث تعقيد ًا ،ملا ت�شكله من �أهمية يف حياة الفرد .فالطفل بحق هو �أبو الرا�شد ،مبعنى �أن �شخ�صية الفرد تت�شكل
وتتخذ مالحمها �إبان فرتة الطفولة ،فكل ت�أخر �أو عدم ن�ضج �أو متاعب نف�سية اجتماعية فهي ترجع بالأ�سا�س �إىل املراحل الأوىل التي عا�شها الإن�سان .ومن جانب �آخر فعامل الطفولة ال يفهمه �إال من كان طف ًال؛ فلغة الطفل وحركاته وحتركاته كلها ذات داللة بالن�سبة �إىل غريه من الأطفال .فبقدر ما يتو�صل الطفل �إىل فهم الآخر وفهم ذاته على ال�سواء ،ويخ�ضع تفكريه لقواعد من�سجمة بالقدر ال�ضروري لتحقيق مو�ضوعية �صعبة املنال ،بقدرما يتو�صل �إىل اخل��روج من ذات��ه والوعي بذاته ،يف �آن واحد� ،أي �أنه ميوقع ذاته بني الآخرين ،من خارجها ،ويكت�شف يف الوقت نف�سه �شخ�صيته و�شخ�صية كل واحد �آخر ممن يحيطون به.
�إذ ًا ،فكل م��ا يوجه �إىل الطفل يجب �أن يحرتم خ�صو�صية الطفولة �أو بالأحرى �أن يحرتم كل مرحلة منائية على ح��دة .وكما هو معلوم ،ف���إن الطفل مير ب�أربع مراحل �أ�سا�سية يف منوه العقلي وال�سيكولوجي، بحيث جند يف املرحلة الأوىل من النمو ،تكون العمليات الذهنية مطبوعة ب�أفعال الذكاء احل�سي – احلركي، فهذا الذكاء العملي ال�صرف ،برغم كونه ال يوظف ك�أدوات له �سوى الإدراكات واحلركات ،دون �أي مقدرة على التمثل والتفكري ،يدل مع ذلك على املجهود الذي تبذله الذات لفهم ظروفها خالل ال�سنوات الأوىل من الوجود. وعندما يبلغ العامني تبد�أ مرحلة ثانية متتد �إىل ال�سنة ال�سابعة �أو الثامنة ،ويتميز ظهورها بتكوين الوظيفة الرمزية �أو الداللية .وهذه الوظيفة ت�سمح بتمثل الأ�شياء واحل��وادث غري املدركة راهن ًا ،وذلك عن طريق التذكر بوا�سطة الرموز والعالمات املتميزة، على غ��رار م��ا يجري يف اللعب ال��رم��زي ،والتقليد امل�ؤخر ،وال�صورة الذهنية ،والر�سم ...كل ذلك يجعل الطفل يدخل يف مرحلة ثالثة يتي�سر فيها للطفل ،على عك�س املرحلة ال�سابقة ،حل بع�ض امل�شكالت ،وذلك ب�سبب اال�ستبطانات والتن�سيقات وان�سالخات مركزية ال���ذات .وتظهر يف �سن احل��ادي��ة ع�شرة �إىل الثانية ع�شرة مرحلة رابعة ،تبلغ قر�ص توازنها يف م�ستوى املراهقة .وال�سمة العامة لهذه املرحلة هي اكت�ساب نوع جديد من اال�ستدالل ،ال يجري فقط على الأ�شياء �أو الوقائع املمكن متثلها مبا�شرة ،و�إمنا كذلك على الفر�ضيات. من ذلك يتبني �أن �أدب الطفل ال ي�شكل ا�ستثناء �أو خروج ًا عن هذه القاعدة .ويبقى �أن منيز بني �صنفني خمتلفني من حيث امل�صدر ،ف�إما �أن يكون �أدب الطفل 82
العدد
7
من �إنتاج الرا�شد موجه �إىل الطفل ،و�إما �أن يكون من الطفل و�إليه .ف���إذا تعلق الأم��ر بال�صنف الثاين ف�إن احلديث عنه يكون من باب حت�صيل حا�صل ،بحيث، وكما �سلف ذك��ره ،ال يفهم الطفل �إال الطفل ،فكل ما ينتجه الأطفال يكون مقبو ًال بدرجة عليا من قبل غريهم. و �أما �إن كان من �إنتاج الرا�شد ،فما على هذا الأخري �سوى �أن ي�أخذ بعني االعتبار خ�صو�صيات كل مرحلة منائية حتى يجعل املادة الأدبية تلقى ا�ستح�سان ًا وقبو ًال من طرف من وجهت �إليهم. ي�����ض��اف �إىل م��ا ���س��ب��ق ،وج���ب عليه �أن ي�ضع يف احل�سبان �أه��م احل��اج��ات النف�سية التي يحتاجها الطفل ،ويرغب يف �أن يلم�سها داخل كل �إنتاج �أدبي حتى ي�شعر بوجود ذاته فيها ،وبالتايل تزداد رغبته يف طلب تلك الإنتاجات .ومن هذه احلاجات �أذكر: احلاجة �إىل ال�شعور بالأمن :ميثل ال�شعور بالأمن �أ�سا�س امل��ب��ادرة عند الأط��ف��ال ،فال يجوز تخويفهم �أو حتميلهم م�شكالت تفوق طاقاتهم مثل امل�شكالت العائلية كما يجب ت�شجيع الطفل على التغلب على الف�شل �إذا تعر�ض له. احل��اج��ة �إىل احل��ري��ة ،وتعني ب��ه��ذه احل��اج��ة �أن تعطى للطفل احلرية التي تنا�سب طبيعته يف الن�شاط واحلركة والتفكري مع تعديل �سلوكه واجتاهه. ال بد من الإ�شارة �إىل �أن �إ�شباع تلك احلاجات �شيء �أ�سا�سي يف عملية �إنتاج كل ما هو �أدب��ي خم�ص�ص للطفل. ميكن القول� ،إن كل ما يتعلق بالطفولة يت�سم بالتعقد والتداخل ،قد يبدو الأمر �سه ًال يف متناول الرا�شد، لكن يف حقيقة الأم��ر� ،إن هناك �صعوبة جتعل الفرد الدار�س يقف وقفة ت�أمل وحرية جتاه الظاهرة
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
83
آليات إنتاج شعر األطفال
ملف العدد
الطاهر لكنيزي املغرب
مو�ضوع �آليات �إنتاج ِ�شعر الأطفال ،ف� ّإن � ّأول معنى ل�شعر الأطفال ،يتبادر كلما �أُثري ُ �إىل الأذهان ،هو تلك املحفوظات والأنا�شيد التي نادراً ما ّ يفكر فيها املد ّر�س ،والتي ي�ستظهرها الأطفال يف املدر�سة ،على هام�ش الدرو�س. بالرغم من �أن �أهمية درو���س الأنا�شيد ال تقل عن �أهمية الدرو�س الأخرى التي يعتربها بع�ض املدر�سني �أنها تتميز بال�صرامة ،لأنها �أ�سا�س الثقافة والتعليم، ف�إنهم يعتربون ح�صتها (وق ّلما تخ�ص�ص لها ح�صة) على �أن��ه��ا �ضياع للوقت ،ون�شاط يبعث على اللهو والت�سلية وم��ن ب��اب " وال�شعراء يتبعهم الغاوون". كما �أنهم ال يدركون �أنه من خاللها ي�ستنبط الطفل معاين ال�سلم وال�سالم والإخال�ص والوفاء والرحمة والتعاون والعطف والإن�سانية وال�صدق واحلب واخلري واجلمال ،وكل القيم النبيلة التي ال ي�ستطيع الطفل �إدراك��ه��ا بامللمو�س �إال ع�ْب رْ من��اذج يق ّدمها الكاتب. مي�س بع�ض الكبار وقليل م ّنا من يدرك �أن ال�شعر الذي ّ يف ال�صميم ،ميكن �أن يفعل كذلك بقدر ما يف ال�صغار �أي�ض ًا. من بني الت�سا�ؤالت التي ميكن �أن تطرح حول مو�ضوع بع�ض �آليات �إنتاج �شعر الأطفال ،هناك �س�ؤال يلح على 84
العدد
7
كل مهتم بهذا املو�ضوع ،وهو :كيف ميكن للكبار تدبيج ن�صو�ص �شعرية للأطفال تر�سم عوامل الطفولة مبعجم يع ّو�ض كلماتهم املتلعثمة ،ويعبرّ عما ي�ؤ ّثث خميلتهم تعج الف�ضفا�ضة ،وغ�ير امل��ح��ددة الأب���ع���اد ،وال��ت��ي ّ باملخلوقات العجيبة ،والأحالم الالزوردية التي ال �أحد ال�صغار �أنف�سهم؟ ي�ص ّدقها ويعمل على حتقيقها �إال ّ كيف ال�سبيل �إىل كتابة ن�ص ي�ست�سيغه الأط��ف��ال، وير ّددونه ك�أية �أغنية ت�ش ّد بتالبيب �أرواحهم ،وتن�سرب بني الفينة والأخ��رى من بني حناياهم لتتك�سر على �شفاههم ،فينت�شون ل�سماعها ويطربون م�ستمعيهم؟ من املعلوم �أن هناك �صعوبات كثرية تكتنف الكتابة للأطفال ،فتغدو �أ�صعب من الكتابة للكبار .وقد يرى البع�ض �أن كل من ف�شل يف الو�صول �إىل الكبار عرب كتاباته يتجه نحو الأطفال� .أي �أنه عندما تعوزه �أدوات وقدرات قمين ًة ب�إثارة جمهور القراء الرا�شدين ،ف�إنه يح ّول جمرى كتاباته نحو حقول ال�صغار؛ بيد �أنني
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
كيف السبيل إل��ى كتابة نص يستسيغه األط��ف��ال ،وي��ر ّددون��ه كأية أغنية
من بني هذه الآليات -1م�ع��رف��ة امل�ت�ل�ق��ي� :إن كتابة ن�صو�ص �شعرية للأطفال رافد من علوم الرتبية وفن يتطلب الإملام مبراحل منو الطفل ،والتوغل يف عامله ،و�سرب �أغوار وجدانه ،وتطلعاته و�أحالمه ،وا�ستكناه العوامل امل�ؤثرة يف �شخ�صيته وحميطه م��ن دي��ن وع���ادات وتقاليد. وبالتايل فالكاتب يجب �أن يكون خمالط ًا للأطفال، قريب ًا منهم ،يح�سن اال�ستماع �إليهم وحماورتهم، العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
85
تشد بتالبيب أرواحهم ،وتنسرب بين الفينة واألخ��رى من بين حناياهم لتتكسر على شفاههم؟ ّ
�أرى �أنه كما للكتابة للرا�شدين خ�صو�صياتها ،فللكتابة املوجهة لل�صغار خ�صو�صيات �أخرى .االختالف �إذ ًا ال يعدو �أن يكون �سوى نوعية املتلقي ،والآليات التي لن توجهه من دونها. يتحقق الإبداع مهما كان ّ
والقدرة على تتبع وفهم �أفكارهم و�أفعالهم من خالل املالحظة الد�ؤوبة. -2ث�ق��اف��ة م�ت�ع��ددة امل �� �ش��ارب :ي��ق��ول مثل فرن�سي" :الكي�س الفارغ ال ي�ستوي قائم ًا". �إن ثاين عامل م�ساعد على الولوج �إىل كتابة الأطفال هو القراءة ،فالقراءة ،ثم القراءة، فهي �ص ّمام الأمان لكل مثقف �إن مل نقل لكل متعلم .والطفولة هي مرحلة ال�شحن التي تتز ّود فيها خزّانات الذاكرة واملخيلة .وكل عملية �إف���راغ ال تتم �إال بعد ال�شحن طبع ًا. فالكتب هي ال��رواف��د التي يتغذى منها نهر الكتابة؛ فكلما ك�ثرت وتنوعت انهمر �سيل �شحت ّ جف الإب���داع دافق ًا مرتقرق ًا ،وكلما ّ النهر حتى لن يب ّلل منقار يراع .فعن طريق القراءة �أي�ض ًا تت�شكل ذاك��رة الطفل ويتكون ذوقه الفني .وال��ذوق الفني �أو ال�شعري كما يقول ن��زار قباين "عجينة تت�شكل مبا نراه، ون�سمعه ،ونقر�ؤه يف طفولتنا" من خالل املثال ال�سابق ميكن �أن نهم�س يف �أذن كل من يتوجه بالكتابة �إىل الأطفال� ،أنه يجب عليه �أال يقلل من قدرة القارئ ال�صغري على تعلم وحفظ كلمات جديدة ،غريبة عليه� .إن �أح�سن و�سيلة لإغناء ر�صيده اللغوي هي �أن ي�صادف هذه الكلمات يف �سياق م�ؤثر ج��� ّذاب ،وت��ك�� ّون لديه ���ص��ور ًا وا�ضحة يتمثلها، فتجعله يفهم معناها من خالل ال�سياق. �إذا كان هاج�س الكاتب هو الإثارة والإفادة والت�سلية، فيجب �أال مي ّرر كل ِعربة �أو د ْر���س �أو مغزى بطريقة فجة ،على �شكل و�صايا ون�صائح متطرق ر�أ�س مبا�شرة ّ الطفل ،وتذكره بالأوامر والنواهي التي يتلقاها يف املنزل فينفر منها؛ بل يجب �أن يبلور املغزى(الق�صد)
هناك �صعوبات كثرية تكتنف الكتابة للأطفال ،فتغدو �أ�صعب من الكتابة للكبار
بتواز مع منو احلبكة التي قد تكون �إجابة عن �أ�سئلة ت�ؤرق الطفل حني ال يجد لها جواب ًا عند �أبويه .يكفي �أن تتميز ن�صو�ص الكاتب بفنية تتوخى جمالية الأ�سلوب وتذكي املخيلة الرتياد عوامل �أخرى. -3ا��س�ت�ع��ادة ال�ط�ف��ول��ة :لي�ست الكتابة للأطفال التدين والنزول �إىل ال�صغار ،واالق�تراب من عاملهم ولغتهم ،و�إمنا القدرة على جماراتهم يف نزقهم ،وخفة روحهم ،و�شغبهم ،واندها�شهم من الأ�شياء املحيطة بهم ،مبعنى �أن على من يكتب للأطفال يجب �أن يكون فع ًال ما يزال يح�ضن بداخله طفال .ويف هذا ال�صدد يعتقد بودلري �أن "ال�شاعر مثل الطفل ال�صغري م�سكون بالده�شة ،وال مي ّل من التحديث يف كل االجتاهات، وم��ن االهتمام بكل �شيء حتى التي تبدو للآخرين غارق ًة �أو جم ّلل ًة بالتفاهة ،فهو مثل طفل �صغري يرى كل �شيء جديد ًا :ال�صور والألوان والوجوه�" .إنه كذلك، مثل كتكوت ينقف كل يوم ،بل كل �آن بي�ضة الأحداث؛ مي�سح عن عينيه غب�ش اللحظة ،لريى احلياة بده�شة م��ول��ود ج��دي��د .ال ب��د للكاتب �أن ي�ستعيد طفولته، وي�سائل الطفل ال��ذي كانه ذات مرحلة عمرية� ،أو الذي مازال بداخله يف حالة كمون .عليه �أن ين�صت �إىل قلبه ،و�أهوائه ،وانفعاالته ،ووجدانه ،وان�شغاالته، واهتماماته و�أحا�سي�سه. واه ٌم من يظنّ �أنّ الطفولة مرحل ٌة عمرية من ّر منها خ�لال حياتنا ،ومتى قطعناها قطعنا معها البتّة. �إنها �أروم��ة تلك ال ّلينة ،والتي ال ق��درة للزمان على ا�ستئ�صالها من تربة النف�س .فكلما هطلت عليها ّ زخات من غمائم املا�ضي� ،أورقت فربعمت و�أزهرت، ث ّ��م �أث��م��رت .وللتدليل على ه���ذا ،ل��ن �أحيلكم على الفل�سفة� ،أو علم النف�س ،وعلم االجتماع� ،أو الطب النف�ساين؛ بل على �أنف�سكم .هل منكم من مل تندلق 86
العدد
7
منه بعفوية �ضحكة طفل ّية يف غمرة اجل ّد �أو احلزن حتى ،حتى لقد يخجل من كونه را�شدا و�صدرت عنه هذه احلركة برباءة الأطفال؟ من منكم من مل تنخرط يداه بتلقائية يف عملية لهو وت�سلية� ،أو ت ُع ْج به قدماه على ف�سحة من اللعب� ،أي نوع من اللعب الذي هو من تخ�ص الأطفال ،برغم امل�س�ؤولية بني الأن�شطة التي ّ التي ت�س ّيجه بعو�سج االلتزامات اليومية املبتذلة؟ من منكم من مل يتفح�ص ،ويتلم�س برغبة طفل وده�شته لعب ًة ا�شرتاها البنه وقد يزاحمه �أحيان ًا يف اللعب بها؟ ميكن القول �إنه كلما ا�ستطاع ال�شاعر الو�صول �إىل نف�سه (الطفل ال��ذي ك��ان��ه) ،ا�ستطاع الو�صول �إىل ال�صغار .فال�شاعر الطفل يكتب مبهارة عالية وفنية تتجلى فيها روح الطفولة ال�شفافة املع ّلبة بالرباءة، وبلغة ت�صاغ مبهارة وفنية ،تت�ساوق وفني َة اخليال وع��وا َمل��ه التي ت�سحر خميل َة الطفل ووج��دا َن��ه ،لأنها نابعة من روح �شاعر ي�ستعيد طفولته بال�شعر ،كما يقول حممد �شكري" :حني نفقد طفولتنا ،ال يعيدها لنا �إال ال�شعر ".ويف ال�سياق نف�سه يقول نزار قباين: "الطفل وال�شاعر هما ال�ساحران الوحيدان القادران على حتويل الكون �إىل كرة بنف�سجية معدومة الوزن". -4الر�صيد اللغوي :اللغة ،و�أق�صد بها املعجم؛ فالكلمة كائن ح ّ��ي لها ج ْر�سها ،ولونها ،ومزاجها، وطعمها ،ورائحتها .وي��رى "نت�شه" �أن" :لكل كلمة رائحتَها ،فكما �أن هناك تنا�سق ًا وتنافر ًا للروائح، فللكلمات كذلك" .على املبدع ،قبل �أن ُيقحم الألفاظ ويعجم عودَها ،ويتذو َقها يف �سياق ما� ،أن يتع ّرف عليها َ حوا�سه حتى ت�ش ّكل ف�سيف�ساء ،وال ي�شعر القارئ بكامل ّ بتنافر بينها. عندما يقول �أحدهم �إن بع�ض الكلمات ع�ص ّي ٌة على �إدراك الطفل (التلميذ) �أو �إنها لي�ست يف متناوله؛
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ف�إنه ين�سى �أن هذا الطفل ال ميلك ر�صيد ًا لغوي ًا مه ّم ًا، ميكننا �أن نقارنه مع ما نحن ب�صدد تلقينه �إياه؛ فه ّمنا يف العملية الرتبوية هو تزويدُه مبا مي ّكنه من التعبري ويح�س به ،بطريقة عما يريده ،وعما يعتمل بداخله ّ �سليمة و�سل�سة تتيح له التوا�صل مع الآخرين .ذالك �أن الأم��ر ال يتعلق �إال بكلمات متداولة و�أخ��رى غري متداولة ،ولهذا يجب �أال نتح ّفظ من تلقني نا�شئتنا ك ّل م�ستويات اللغة. �إن طفلني لهما العمر نف�سه ،لن يكون لهما حتماً امل�ستوى الثقايف نف�سه ،واحلا�صل الذكائي ذات��ه، وامليول والأه��واء والأح�لام والت�صورات نف�سها ،حتى لو كانا ت��و�أم�ين؛ فما بالنا باختالف العمر والبيئة والأ���س��رة .ه��ل كنا نفهم ك��ل الكلمات التي وظفها ال�شعراء ال��ذي��ن �سبق ذك��ره��م؟ بالطبع ال؛ بيد �أن القراءة املنتجة للإدها�ش ،والربط الفني بني الأبيات، والتجان�س اللفظي ،وجمالية اللغة وطفوحها ،ورونق الكلمة ،و�سال�سة النظم ،ور�شاقة التعبري ،والدالالت امل���ؤث��رة ،وال��ق��درة على اب��ت��ك��ار التغيريات ب�صورة ت�شكيلية ،حيث تغدو املفردات �ألوان ًا تر�سم لوحات حتيل على الواقع ،كل هذه العوامل �أو بع�ضها كانت توفر لنا متعة و�سعادة ،وتدفعنا �إىل البحث عن معنى ما �أ ْبهم علينا ،فتزداد ن�شوتنا عندما تتجلى لنا الفكرة املطروحة بو�ضوح ،وغالب ًا ما ندرك بع�ضها باحلد�س. �أنا من الذين ي�ؤمنون ب�أن الكلمات كالعملة ،ويجب تداولها و�إال جمدت فماتت ،ومبوتها تنح�سر اللغة. ومن الفرو�ض على ال��ذي يكتب للأطفال �أن ميتلك نا�صية لغة ث ّرة ومتع ّددة امل�ستويات ،حتى يكون حافز ًا ن�صو�صه لإغناء وتطوير وتنمية لغة الطفل ،وتكونَ ُ ج�سر ًا يعرب عربها القارئ ال�صغري نحو قارات �أخرى. -5الإي �ق��اع :للمو�سيقا كذلك دور ف ّعال يف دوزن��ة العدد
م�شاعر الطفل وحت�سي�سه ب�أن هناك نظام ًا يف الكون برغم جت ّلي االرجت��ال والفو�ضى؛ �إنها تبثُّ فيه ملكة الإيقاع ،وتع ّود �أذنه على ا�ست�ساغة كل ما هو متناغم ورخيم ين�ضح بالغنائية؛ والأم هي �أ ّو ُل مع ّلم لل�شعر عرب ترديدها ملقطوعات و�أهازيج ممو�سقة ،والتي ين�صت كلي حتى ينام على هدهدة �إليها الطفل باهتمام وتداع ّ الإيقاع ولو كان رتيب ًا رتابة الالزمة .قد ي�ستغرق م ّنا ُ ن�ص يعتمد الوزنَ ، حفظ �أغنية وقت ًا �أق ّل ّ مما ي�ستغرقه ّ �أو الإيقا َع الداخلي ،كما �أن هذا الأخري ي�أخذ م ّنا كذلك، وقتا �أق�� ّل من ال��ذي يحتاجه ُ ن�ص منثور .فلكي حفظ ّ نح ّبب �إىل الأطفال الن�صو�ص ال�شعرية ،ي�ستح�سن �أن تكون موزونة ومقفاة لت�سهيل ا�ستذكارها ،وترديدها فتح�صل الفائدة املرجوة منها. -6الطبع �أم التطبع :قد يظن امل��رء �أن الكتابة للأطفال �أو الكتابة عامة ت�ستدعي انتظار الإلهام كي تتوا�شج الكلمات وتن�ساب طيعة رائقة حتى �آخر كلمة يف الن�ص .غري �أنها تتطلب نظام ًا وحت�ضري ًا وا�ستعداد ًا نف�سي ًا ومادي ًا .يقول "بول فالريي"�" :إن الإلهام يوحي لنا ِب َبيت �شعري ،ولكن العمل مينحنا الثاين" .وهذا يعني �أن �إتقان الكتابة ي�ستدعي العمل بج ّد واحلفر با�ستمرار يف عوامل الطفولة حتى يكون الن�ص حتفة، وقد ن�شوهها �إن �أ�ضفنا �أو حذفنا �شيئ ًا منها� .أما نزار ال�شعرّ ، قباين فيقول�" :أنا من �أ ّمة تتنف�س ّ وتتم�شط به، د�سم وترتديه .ك ّل الأطفال عندنا يولدون ويف حليبهم َ َ ر�سائل ح ّبهم الأوىل ال�شعر ،وكل �شباب بالدي يكتبون �شعرا". ً فهل يكفي �أن تكون ممار�سا ل�شيء ما لتتق َنه� ،أم �أن هناك جين ًة يرثها من يكون منذور ًا للكتابة للأطفال، �أم �أنه ال غنى للكاتب عن �أحدهما :املوهبة التي تن ّمى باملمار�سة وال�صقل والتهذيب؟ 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
87
ت���ت���زود ف��ي��ه��ا خ����زّ ان����ات ال����ذاك����رة وال��م��خ��ي��ل��ة ال��ط��ف��ول��ة ه���ي م��رح��ل��ة ال��ش��ح��ن ال���ت���ي ّ
نزار قباين" :الطفل وال�شاعر هما ال�ساحران الوحيدان القادران على حتويل الكون �إىل كرة بنف�سجية معدومة الوزن"
للروائية لميس المرزوقي
قراءة في «ح ّدثتنا ميرة» الكتابة لألطفال كما تحكيها الطفولة أو تحاكيها اللغة امل�ستعيدة حلظات املا�ضي الطفلي ال ميكن �إال �أن تكون جزءاً من �سرية ذاتية تر�سم �أ�شكال البدايات اجلميلة للحياة التي يعي�شها الكاتب يف ال وعيه ،لي�س بالأم�س فقط ،بل يف احلا�رض وامل�ستقبل ،ملا ت�شكله هذه البدايات بالن�سبة �إليه من �سبب حياة و�إب��داع ،يحفزه دائم ًا على النظر يف املا�ضي ،ال �إليه. يت�شكل هذا العامل الطفلي يف الرواية الأوىل للقا�صة ملي�س "حدثتنا مرية" ،وال�صادرة عن دار فار�س املرزوقي ،رواية ّ "�صف�صافة" الإماراتية امل�رصية ،والتي مقرها القاهرة ،بدعم م�ؤ�س�سة الإمارات للنفع االجتماعي. وملي�س املرزوقي هي كاتبة وفنانة ت�شكيلية �إماراتية ولدت يف عام 1977ب�أبوظبي ،حا�صلة على بكالوريو�س الرتبية، و�صدر لها ديوان �شعر بعنوان "�شفاه �أيب�سها الرعب" ،ولها رواية حتت الطبع بعنوان "رائحة الطني".
ملف العدد
�سامح كعو�ش فل�سطني
88
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
اللغة امل�ستعيدة حلظات املا�ضي الطفلي ال ميكن �إال �أن تكون جزء ًا من �سرية ذاتية تر�سم �أ�شكال البدايات اجلميلة للحياة التي يعي�شها الكاتب يف ال وعيه ،لي�س بالأم�س فقط ،بل يف احلا�ضر وامل�ستقبل ،ملا ت�شكله هذه البدايات بالن�سبة �إليه من �سبب حياة و�إب��داع، يحفزه دائم ًا على النظر يف املا�ضي ،ال �إليه. يت�شكل ه���ذا ال��ع��امل الطفلي يف ال���رواي���ة الأوىل للقا�صة ملي�س فار�س املرزوقي ،رواية "ح ّدثتنا مرية"، وال�صادرة عن دار "�صف�صافة" الإماراتية امل�صرية، والتي مقرها القاهرة ،بدعم م�ؤ�س�سة الإمارات للنفع االجتماعي. ومل��ي�����س امل���رزوق���ي ه��ي ك��ات��ب��ة وف��ن��ان��ة ت�شكيلية �إماراتية ولدت يف عام 1977ب�أبوظبي ،حا�صلة على بكالوريو�س الرتبية ،و�صدر لها ديوان �شعر بعنوان "�شفاه �أيب�سها الرعب" ،ولها رواي��ة حتت الطبع العدد
بعنوان "رائحة الطني". يف رواي��ت��ه��ا "ح ّدثتنا مرية" ت�����ص�� ّور ال��ع��ي��ن��ان ال�صغريتان مكان ًا حلمي ًا من الطفولة للبيت الإماراتي القدمي ،وت�شي مبا هو �أبعد من جمرد النقل لل�صورة يف �سياق التحديق اال�ستدعائي لأ�شياء الذاكرة عن البيت والأهل و�شجرة ال�سدر الكبرية مقابل التفا�صيل ال�صغرية يف الو�سائد /الإغفاء ،تقول" :حني �أذكر منزلنا القدمي �أ�شعر ب�شيء ي�شبه النعا�س ،فقد كانت �شجرة ال�سدر الكبرية تن�شر ظ ّلها على الو�سائد امل�ستلقية حتتها ،والتي �أحببت كثري ًا الإغفاء بينها". ويف "حدثتنا مرية" تتناول ملي�س بلغة �شعرية ،فرتة تكون وعي طفلة ما بني املدر�سة واملكتبة وحيها ،حيث تر�صد مرية الواقع املحيط بها ،فهي "مل تكتف ب�أن تكون عينها للإب�صار فقط ،ب��ل ر���ص��دت ك��ل �شيء وح��اول��ت ق��در ا�ستطاعتها �أن حتتفظ ب�شيء من طفولتها حتى اليوم. والكتابة امل�ستعيدة حلظات املا�ضي ال ميكن �أن ن�سميها �سرية ذاتية باملفهوم العادي للت�سمية ،يف غاياتها الإخ��ب��اري��ة ال�����س��ردي��ة� ،إذا مل ي��ق�ترن ذلك بالبحث يف رمزية ال��دالالت الزمنية واملكانية التي تخ ّلدها املفردة الذاتية يف كتابة ما ي�شبه ال�سرية، وال يتماهى بها ،كما ال ميكن �أن نلزمها باالنتماء �إىل �أدب الطفل ،هذا �إن كان وارد ًا �أ�ص ًال �أن نف�صل بني الأدب بك ّله و�أدب الطفل �أو ما يحكيه الأطفال، فهنا حت ّدثنا م�يرة ع ّما يقع يف الأدب الكبري� ،أدب التفا�صيل وامل�شاعر التي تقع يف التناق�ض والت�ضاد، بل هو �أدب ال�صورة التي تر�سمها املخيلة بعن�صر الر�ؤيا احللمية ،تراه بعينني �صغريتني لكنهما تت�سعان لرواية الكون ك ّله� ،إذ تتكئ على الثابت الوجداين �ضد املتحول الآين يف املكان والزمان ،ولكنها تقيم توازن ًا 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
89
التي تجذبنا إليها بكثير ثقة ،إل��ى مجهول نفس الكاتبة كما ه��و ،ببراءة طفلة وحلم إنسان
تتقن لميس ال��م��رزوق��ي ت��ق��ن��ي��ات ال��س��رد البسيطة،
"حدثتنا مرية" ت�ص ّور العينان ال�صغريتان مكان ًا حلمي ًا يف ّ من الطفولة للبيت الإماراتي القدمي ،وت�شي مبا هو �أبعد يف �سياق التحديق اال�ستدعائي لأ�شياء الذاكرة
غريب ًا ب�ين البيت ال��ق��دمي والبيت اجل��دي��د ،ف��الأول �ساحته وا�سعة� ،أما البيت اجلديد فحديقته وا�سعة، تقول ملي�س املرزوقي يف الرواية على ل�سان مرية" :مل يتبق من �صورة املنزل القدمي �سوى بع�ض الذكريات ال�ضبابية� ،ساحته الوا�سعة حتيط بها غرف عديدة للنوم واجللو�س ،لكنني �أذكر متام ًا كيف كنا نرافق والدي �أنا و�أخي ال�صغري ،حني كان ي�شرف على جتهيز احلديقة للبيت اجلديد". هي الكتابة ذاتها عند ملي�س فار�س امل��رزوق��ي يف ن�صو�ص "ا�ستعارة"" ،نذالة"" ،مو�سى"�" ،سلطة"، "املنزل القدمي"" ،مينو"" ،منى الريال"" ،الإ�صبع ال�ساد�س"" ،الوار�ش"�" ،سمرة البحر"" ،م�سبحة والدي"" ،عبا�س"" ،لأنها خمتلفة"" ،الكنز"، "تخييم"" ،فكرة"" ،موعد معه"" ،الك�شمة"، "حماولة"" ،رف�ض"" ،خم�سة دراهم"" ،مل يكن هناك رو�ضة"" ،تدريب �شاق"" ،الهدية"" ،جتميل �إجباري"" ،حتت ال�سرير"" ،كف �صغرية"" ،ال�شارة اخل�ضراء". كلها ن�صو�ص ت�ش ّكل حال ًة روائية رائعة نعم ،بل �إنها حالة منف�صلة بذاتها عن الرواية لتقع يف احلياة كما ت�ستعيدها عينا الطفلة "مرية" يف م�ساحة �صغرية بحجم حبة كهرمان يف م�سبحة والدها ،وبها ،وعربها، ت�ستح�ضر طقو�س الكتابة ال�سحرية يف الرواية ،والتي تت�سع لعامل كبري ،يكون فيه الأم�ير فار�س الأح�لام متحجر ًا ،ما�سور ًا يف بلورة زجاجية ،كما يف احلكايات، ينتظر احل�سناء اجلميلة لتحرره بقبلة ،وهو قاب ٌع يف رمزية احلكاية بال�سحر وال�شر ،واملخلوقات العجيبة املتحولة ،ت��ق��ول ملي�س امل��رزوق��ي يف ن�ص "م�سبحة والدي"" :لوالدي م�سبح ٌة �صفراء جميلة� ،سمعته مرار ًا ير ّدد �أنها ثمينة ،لأنّ كل حب ٍة من ح ّباتها حتوي 90
العدد
7
حتجرت داخل حجر الكهرمان ،كنت ح�شرة �صغرية ّ �أجل�س �إىل جواره حني مددت يدي �إليها وهو ينقلها من ك ٍّ��ف �إىل �أخ��رى ،ولأن��ه منهمك يف احلديث �إىل ع ّمي� ،أعطاين امل�سبحة دون �أن ينظر �إ ّ يل ،م�سكت بها وحت�س�ستُ �أحجارها ال�صفراء الناعمة� ،صرت �أت�أمل ّ تلك احل�شرات ال�صغرية النائمة يف الداخل ،بدت يل وك�أنها قد جت ّمدت فج�أة ،ف ّكرتُ لو �أنه حدث يل ما حتجرتُ فج�أة؟". حدث للح�شرات ال�صغرية ،ماذا لو ّ �إنّ جم��م��وع م���ا ك��ت��ب��ت��ه م���ن ن�����ص��و���ص امل��ج��م��وع��ة الق�ص�صية التي ت�شكلت ك��رواي��ة بعنوان "ح ّدثتنا مرية" ،ما هو �إال لقطة فوتوغرافية بانورامية تقع يف الدراما الإن�سانية ،ومتتد من غرفة الطفلة يف بيتها لت�صل بها �إىل �أق�صى ما ميكن لقدميها من م�سري، �إىل بيت اخلالة املال�صق لبيتهم ،حيث غرفة ابنة اخلالة التي ترتاح �إليها نف�س البطلة "مرية" دون غريها. ت�ستعيد القا�صة ذاك��رة مكان يختزل مدن البيئة املحلية و�أبنيتها ،و���ش��وارع��ه��ا ،و�أح��ي��اءه��ا وبيوتها، عرب فرتة زمنية متتد من �سبعينات القرن الع�شرين وحتى يومنا ه��ذا ،فالكاتبة تر�صد بعيون الطفلة م�يرة ،ت��ارة ،وعيون ال��راوي��ة /الطفلة ،ت��ارة �أخ��رى، تطورات املجتمع الإماراتي وحتوالته ،مقدمة م�شاهد مفعمة باخل�صو�صية من هذا الواقع وب�شره وعاداته ومفرداته ،فك�أنها ت�ؤ�س�س لأدب خا�ص بالطفل ،هو �أدب ا�ستعادي روائ���ي ،ي��رى يف امل�ستقبل ،وي�ؤ�س�س ال�ستنها�ض ال��ذك��ري��ات كعامل م�ؤ�س�س للم�ستقبل الالحق. كما ت�ص ّور ملي�س املرزوقي حلظات احلياة اليومية لطفل ٍة امتلكت عني الكامريا ف�أخذت ت�ص ّور ك ّل �شيء لال �شيء ،ك�أمنا تريد �أن تقول ":اللحظة لي�ست لنا،
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�إنها حالة منف�صلة بذاتها عن الرواية لتقع يف احلياة كما ت�ستعيدها عينا الطفلة "مرية" يف م�ساحة �صغرية بحجم حبة كهرمان يف م�سبحة والدها
وال ميكن امتالكها"� ،أو هي ب�شارة املبدع بالقيامة الأخ�يرة لأ�شيائنا اجلميلة التي نحتفظ بها حني ال حتفظها لنا احلياة مبرورها ال�سريع العابر ،يف ن�ص بل�سان بطلتها ،وا�صف ًة "جتميل �إجباري" تقول القا�صة ِ �أفعال الطفلة "مرية"" :دلفتُ خارج ًة من باب املنزل اخلارجي ،كان ال�شارع هادئ ًا ج�� ّد ًا� ،سرتُ مبحاذاة احلائط امل�شرتك بني منزلنا ومنزل خالتي ،ت�س ّللتُ �إىل منزل خالتي كل�ص حمرتف ،كان باب احلديقة منفذ �إىل املنزل من مغلق ًا ،مما جعلني �أبحث عن ٍ خالل الباب اجلانبي ال�صغري ،وجدت ُه مفتوح ًا لأنّ خادمتهم كانت قد بعثت �شيئ ًا من الن�شاط يف احلو�ش رحبت بي با�سم ًة، ب�إيقادها ال�ضو ا�ستعداد ًا للخبزّ ، جل�ست �إىل جانبها �أراق��ب ما تفعل ،كنت م�ستمتع ًة برائحة اخلبز الطازج املمزوج بانتعا�ش ال�صباح". قريب �إذ ًا� ،إنه البوح ال�شعري يف الرواية ،مبا هو ٌ قريب ح ّد الت�صاق البيت �إىل النف�س وحميم ،ومبا هو ٌ بالبيت ،واجلدار باجلدار ،بل واحتاد الرح بالروح كما لو �أن الطفلة "مرية" هي ذاتها ابنة اخلالة "عائ�شة"، �أو هي الكاتبة نف�سها ،يف حلظة احتاد ال�شخو�ص يف الرواية ذات البطلة الوحيدة وال�شخ�صية الواحدة "مرية" ،التي تفعل يف احلياة وتلعب �أدوار البطولة �إذ ت�سند �إليها القا�صة الأفعال ك ّلها "اجتهتُ ..متنيتُ �أبلغتُها"� ،أما الإبالغ كذروة �أوىل يف احلبكة ال�سردية فال تقف عند فعل الإبالغ /البوح بل ت�ستكمل حكايتها بالفعل امل�ضارع امل�ستمر واملفتوح على امل�ستقبل كما أنعم" ،تقول يف الأف��ع��ال "�س�أق�ضي� /أن �أن��د� ّ��س /ل َ القا�صة ملي�س امل��رزوق��ي يف الن�ص نف�سه وا�صف ًة ما فعلته "مرية" يف ذل��ك النهار" :اجتهت نحو غرفة ابنة خالتي عائ�شة ،كانت حمط غبطتي ،فهي تنعم بنوم هانئ �صباح اجلمعة ،ال يفزعها كابو�س احل ّنة العدد
الأ�سبوعي مثلي ،فخالتي لي�ست من الن�ساء املح ّبات للح ّنة ،كم مت ّنيت لو �أنني ابنتها ،ا�ستيقظت عائ�شة فرح ًة بر�ؤيتي عندهم� ،أبلغتها ب�أنني �س�أق�ضي ال�صباح أند�س يف فرا�شها لأنعم بقليل من هنا ،طلبت منها �أن � ّ الدفء". بالذكريات ت�ستعيد الكاتبة اللحظة التي لي�ست لنا، وال ميكننا امتالكها �إال بعني الناظر �إىل نف�سه ،يغرتف من �أعماقه اخلفية َ �شكل حلظ ٍة �أخ��رى يبنيها على �شاكلة املا�ضي الأويل ،ويبني منها بنية ن�صه الرمزي �أو ًال ،مهما اق�ت�رب م��ن ال�سردية ملو�ضوع اللحظة امل�ستعادة. ذكريات الطفلة التي تكتبها ملي�س فار�س املرزوقي لي�ست ما�ضوية الزمن و�إن كان �شكلها يبدو كذلك، فهي تتعمد �إحالة املا�ضي على ما هو م�ستقبلي يف ن�صو�صها من �أوراق مرية ،فهي على �سبيل املثال تعمد �إىل الرتميز احلكائي ،حني حت ّمل الدرهم الذي جتده على الأر���ض دالالت الكنز احلقيقي الذي ت�شري �إليه عبارة "�إفتح يا �سم�سم" ،ال كربنامج تلفزيوين ،بل كمفتاح �أ�سطوري يفتح الأب��واب يف ال وعي الذاكرة اجلمعية العربية على الع�صر الذهبي ال��ذي عا�شه العرب حاف ًال بالذهب والكنوز ،واجلواهر النفي�سة، يف �أح�لام امل��غ��ارة ،وكنز علي بابا والأرب��ع�ين ل�ص ًا، والذي عا�شته الكاتبة كحدث يف طفولتها حمفو ٍر يف ذاكرتها حتى حلظة تخليده بالكتابة. حت���اول ملي�س امل��رزوق��ي �أن تلتقط اخل��ي��ط ال��ذي يجمع الآن ب�أم�س ،يف ما ي�شبه بناء الذاكرة الب�صرية الفلمية ،بني الأم�س الذي تربع يف ت�صوير حيثياته، من حلظة خروجها �إىل ال�شارع املغطى يومها بالرمال الكثيفة ،حتى حلظة التقاطها الدرهم عن الأر���ض، والآن كلحظة متخيلة يف الال وع��ي ،تر�سم للكاتبة، 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
91
يف ارتقاء اللحظة الإن�سانية املعبرّ ة ،كنز ًا يحلم به ب�شري على وجه الأر���ض ،وبه تتحقق له �أحالمه ك ّل ٍّ امل�ؤجلة ،بكثري �صرب ومعاناة ،وقليل حيلة ،تقول يف الن�ص":ات�سعت فرحتي /فتحت قب�ضتي لأراه م�ستلقي ًا ف��وق بقايا ال��رم��ال يف ك ّفي املت�سخة /رفعتُ ك ّفي/ ق ّربت ُه من عيني و�صرتُ �أت�أ ّمله مبحبة( ،درهم)� ،إنه درهم ،ما �أعظم فرحتي!". تتقن ملي�س املرزوقي تقنيات ال�سرد الب�سيطة ،التي جتذبنا �إليها بكثري ثقة� ،إىل جمهول نف�س الكاتبة كما هو ،ب�براءة طفلة وحلم �إن�سان ،بني الدرهم كقيمة حقيقية لطفلة �أدركت منذ بدايات وعيها �أن الأر�ض ال دراهم ،و�إن جمعت تنبت ذهب ًا ،و�أنّ ال�سماء ال متطر َ قريباتها ال�صغريات ليحفرن يف الأر�ض فجوة ات�سعت ك ّلما ات�سعت م�ساحة احللم بالعثور على الكنز حيث ��دت هي كنزها ال�صغري ،والكنز كقيمة حلمية، وج ْ متخيلة ،حتيل احلياة �أجمل ،بالإ�شارة �إىل ما يُ�سكتُ عمر ال الإن�سان عن ا�ستجداء احلظ كنز ًا م�ؤج ًال ،يف ٍ 92
العدد
7
مير ثاني ًة ،تقول ":كان الدرهم كنز ًا عظيم ًا لطفل ٍة بحر�ص �شديد ،ورك�ضتُ �إىل املنزل/ مثلي� /أم�سكت ُه ٍ جمعتُ �أخ��وات��ي ال�صغريات وب��ن��ات ع�� ّم��ي /عقدتُ اجتماع ًا طارئ ًا". هي الكتابة الإماراتية احلديثة ،التي تتناول من البيئة املحلية حلظات خلود اللمحة الإبداعية الكتابية، مب��ا ي�شري �إىل ن�ضوج البيئة االفرتا�ضية للكتابة، والبنية التحتية لت�شكل الن�ص ال�سردي من موجودات احل��االت الوجدانية واحلياتية التي يعي�شها الكاتب واملبدع حلظة ا�ستخراجه حرب كتابته من جحر الال وعي الغارق يف املا�ضوية ،يف ما ي�شبه �سبات الطفل. فها هي ملي�س فار�س املرزوقي تتخذ من �شكل التذكر حالة كتابية م�ستقبلية ،حتيل الأفعال "خرجتُ وقفتُ ، جلتُ بنظري ،رميتُ بنعلي ،هرولتُ ،و�صلتُ ،عاودتُ � "...إىل �أفعال اجلماعة التي ا�شرتكت معها يف فعل احلفر عن الكنز ،ف�إذا به يتحول �إىل فعل اعرتا�ض وقطع طريق ،رمبا هو يف احلقيقة حديث ال �إرادي
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
93
��ب إل����ى ال��ن��ف��س وح��م��ي��م ،وب��م��ا هو إن����ه ال���ب���وح ال��ش��ع��ري ف���ي ال����رواي����ة ،ب��م��ا ه���و ق���ري� ٌ ���د ال��ت��ص��اق ال��ب��ي��ت ب��ال��ب��ي��ت ،وال����ج����دار ب���ال���ج���دار ،ب���ل وات���ح���اد ال�����رح ب���ال���روح ق���ري� ٌ ��ب ح� ّ
با�سم �آالف املعذبني يف الأر���ض ،احلاملني بدرهم �أو قطعة خبز� ،أو هو ا�ست�شراف الكاتبة للآتي من الكالم ينتم �إىل عامل الفقراء ،مهما بالغ يف الذي يفنى �إن مل ِ الرمزية وال�شفافية الكال�سيكية الفارغة من االنتماء الواقعي احلقيقي لعامل ب�شر ،ق��ال عنهم ال��روائ��ي ال�سوري ذات ي��وم�" ،إنهم الذين يجعلون الأدب من حلم ودم". ملي�س فار�س املرزوقي تكتب �أحالم مرية ال�صغرية يف �أوراق��ه��ا ،لتقول لنا بل�سان الطفلة ما ال ي�ستطيع الكبار ق��ول��ه ،م��ن �أن احل��ي��اة ال تبت�سم لنا دائ��م�� ًا، �أو �أن احلكاية التي ن�ستعيدها ك�� ّل ي��وم تفتقر �إىل املو�ضوعية يف كونها ال تتحقق �إال يف حفر ٍة عميق ٍة يف الذاكرة ،ال يف ال�شارع كما �ص ّورتها ملي�س ،بقولها": تذ ّكرت ال�صغريات اللواتي تركتهنّ يبحثن عن كنزي املزعوم /فخرجتُ لأرى ماذا يفعلن /مل �أ ّر �أي ًا منهنّ لكنني وجدت احلفرة قد ازدادت ات�ساع ًا وعمق ًا". نعم هي احلفرة التي انحفرت عميق ًا يف الذاكرة، يف حلم الإن�سان الأول بدرهم يقيه املر�ض ،واجلوع، واحلاجة والعوز ،ك���أن ملي�س املرزوقي تقف بالكتابة عند حلظة امل�صري الإن�ساين ،يف املف�صل الوجودي بني ما هو �إن�ساين وما هو ال �إن�ساين ،وهي بذلك تتقن حماكمة الذاكرة التي �أعطت للدرهم قيم ًة لي�ست فيه، و�إن كان ذا دالالت حتتمل الفرح واالكتفاء واالقتناع ب�أن الكنز موجود ،حني تطرح �أ�سئلة الوجود الأزلية، حول حاجة الإن�سان ورغباته ،و�ضرورة حتقق �إن�سانيته ال بالكنز امل��زع��وم ،وال بالدرهم كقيمة م��ادي��ة ،بل با�ستعادة اللحظة احلافلة بال�سعادة وال�براءة التي يع ّلمنا الأط��ف��ال كيف نحياها ،فال تت�سرب من بني �أيدينا يف زحمة امل�صالح واملاديات الثقيلة على قلوبنا. �إنه املكان الإماراتي� ،إنه الإن�سان هنا
تتكئ امل��رزوق��ي يف �سردها على ما وعته الطفلة "مرية" من �أحالم ور�ؤى وهي تعاين احلياة اليومية يف املكان القريب ،املكان املمتد على �شاطئ اخلليج العربي ،حيث ق��وارب ال�صيادين وقراقري ال�صيد، مبيالد جديد والرمل الذهبي احلامل حلم البحارة ٍ لذاكرة حبلى بالكنوز واللآلئ. كانت "مرية" ت��راق��ب �أب��اه��ا يف عمله اليومي يف �صناعة القراقري ،داخ��ل غرفة خلف امل��ن��زل ،وهي التي كانت ت�شاركه العمل يف هذه ال�صناعة الأقرب �إىل قلب الوالد البحار /ال�صياد ،وهي التي عاي�شت البحر قدمي ًا كطفلة وحا�ضر ًا كقا�صة ،تقول ملي�س املرزوقي يف ن�ص "�سمرة البحر"�" :ساعات طويلة يق�ضيها والدي يف �صنع القراقري ،داخل غرفة خا�صة خلف املنزل ،كانت �أقرب �إىل م�شغل �أو م�صنع �صغري تتم فيه �صناعة الكثري من الأ�شياء ك�شباك ال�صيد ب�أنواعها وبع�ض �أعمال النجارة". �إن��ه��ا ال��ع��ادة املمتدة منذ الطفولة �إىل الكهولة، وبينهما ع��م�� ٌر م��ن الق�ص ال�����س��ردي ال�شفيف ك�أنه الهم�س يف �أذن امل��ك��ان الإم���ارات���ي ،ت��ق��ول "مرية" الطفلة /الذاكرة" :كعادتي حني يذهب وال��دي �إىل البحر �أظل �أراق��ب حت�ضرياته لأرافقه �إىل ال�شاطئ برفقة جمموعتي ال�صغرية ،نلعب بالرمال ،ونرتقي بع�ض الزوارق الرا�سية على ال�شاطئ ،لكنني ويف ذلك اليوم �أثاء لعبي ،ملحت اختالف ًا ح ّل بلون مياه البحر القريبة من ال�شاطئ� ،إذ ا�ستحالت �إىل لون �أقرب �إىل البني� ،أعلم الآن �أنّ ذلك كان انعكا�س ًا للون �أع�شاب عيني البحر وطحالبه ،اندفعت الدموع �ساخنة �إىل ّ لتالم�س خدي و�أنا �أنظر �إىل البحر الوا�سع الذي �أح ّبه والدي ب�شدة� ،صرت �أبكي ظن ًا مني �أن والدي غرق يف البحر فانت�شر لونه لي�صبغ املياه"
ملف العدد
ف�ؤاد زويريق
كاتب وناقد �سينمائي مغربي مقيم بهولندا
الصورة السينمائية
وتـ�أثيـرها فـي الطفـل العربي سينما الطفل في العالم العربي خجولة ما زال الطفل يف املجتمعات العربية يعاين من �أَدواءِ التهمي�ش ومن �أغالل املمار�سات القمعية يف الأ��سرة واملدر�سة وال�شارع� .إنها ممار�سات جتعل منه كائنا خجو ً ال منطوي ًا على نف�سه ،كائن ًا غري مبادر� ،إذ ال قدرة له على مواجهة احلياة مبفرده، ممار�سات تفر�ض عليه الر�ضوخ �إىل م�شيئة من هم �أكرب منه �س ّن ًا وفكراً و�سلوك ًا� ،أو مبعنى �أدق تتعر�ض �شخ�صيته الربيئة �إىل الطم�س املمنهج ،وبذلك تتحول �سلوكاته يف النهاية من اال�ستقاللية والتفرد �إىل الو�صاية واخلنوع ،وهي و�صاية متار�سها عليه ق�رساً ،وال تنتج لنا �إال �أفراداً غري نا�ضجني اجتماعي ًا ،قا�رصين �سلوكي ًا وفكري ًا برغم جتاوزهم مرحلة الر�شد ،فيكون اخلا�رس الأكرب هو املجتمع. 94
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ه��ذه العملية املنظمة دفعت بالعديد من العلماء النف�سانيني واملحللني ال�سيكولوجيني �إىل التعمق يف درا�سة تربية الطفل داخل املجتمع العربي ،واخلروج بتو�صيات وق��رارات ودرا�سات خمجلة ،جعلتنا نحن العرب يف ال�صفوف املت�أخرة يف هذا املجال ،وجعلت �أطفالنا ه��م الأك�ث�ر معاناة والأك�ث�ر تعر�ضا ل�سوء املعاملة ،ه��ذه املعاملة التي ترجع باخل�سارة على �أوطاننا وتقف حاجز ًا بني تقدمها وازدهارها ل�سبب ب�سيط جد ًا ،وهو ارتباط الطفل باملواطن ،فطفل اليوم هو رجل امل�ستقبل ،و�إذا اكت�سب الطفل تربية �صاحلة مبعايري علمية مدرو�سة ف�ستعود ،بال �شك ،بالنفع على هذا على املواطن الرا�شد ،وقد يتجلى هذا النفع يف الت�ضحية بذاته ل�صالح جمتمعه ووطنه. ال �شك يف �أن هذه الرتبية وال�سلوكات تنعك�س على كل املجاالت املرتبطة بالطفل ،من لعب وعلم و�إبداع وفن وثقافة وترفيه و�أدب ...جماالت تتعر�ض بدورها للو�صاية من لدن البالغني ،هذه الو�صاية جتعل الطفل
العدد
جمرد مفعول به ،وم�ستهلك الغري ،بد ًال من �أن يكون فاع ًال وم�شارك ًا يف جمال يخ�صه دون غريه ،فتكون الكارثة �أ�شد و�أعظم ،وتكون النتيجة �سلبية وعبثية غري ق��ادرة على جم��اراة ري��اح التغيري والتقدم التي تعرفها باقي الأمم. من بني الو�سائل القادرة على احتواء الطفل والت�أثري فيه ،ال�صورة مبفهومها املركب ال�شامل ،و�سينما الطفل جزء ال يتجز�أ من هذه ال�صورة؛ �إذ تعترب و�سيلة حيوية تعتمد عليها الدول املتقدمة يف تربية الن�شء، وتُبلغ من خاللها عدة ر�سائل ،يفهمها الطفل وحده ت�ساعده على بناء �شخ�صية حمورية فاعلة� ،شخ�صية قادرة على امل�ساهمة والفعل؛ لأن هذه ال�سينما تُخلق من داخ��ل املجتمع الطفويل و ِب َيد الطفل نف�سه ،وال يكون البالغ فيها �إال جمرد مر�شد وموجه. وبالن�سبة �إىل العامل العربي ،وللأ�سف ال�شديد، ف�سينما الطفل تنعدم مت��ام�� ًا ،وحت��ل حملها �سينما �أخ���رى ،ق��د ت�سمى ب���أي ا�سم �آخ��ر غ�ير ه��ذ اال�سم،
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
95
ال��م��ج��االت ال��م��رت��ب��ط��ة ب��ال��ط��ف��ل ،م��ن ل��ع��ب وع��ل��م وإب�����داع وف���ن وث��ق��اف��ة وت��رف��ي��ه وأدب
ال ش���ك ف���ي أن ه����ذه ال��ت��رب��ي��ة وال���س���ل���وك���ات ت��ن��ع��ك��س ع��ل��ى كل
النظرة الدونية والتقزمي الذي يتعر�ض له الطفل ،بالإ�ضافة �إىل اعتباره مادة غري ربحية ،هي عوامل �أخرى �ساهمت بكل ت�أكيد يف تعطيل حركة الإنتاج الفيلمي اخلا�ص بالطفل برغم حماوالت بع�ض املنتجني واملخرجني �إنتاج �أفالم خا�صة بالطفل .غري �أنها تفتقر �إىل الأ�ساليب التقنية والبيداغوجية وال�سي�سيولوجية...الالزمة لتوجيهها �إىل الطفل مبا�شرة ،فتكون بذلك خمالفة للمعايري املعرتف بها دولي ًا يف هذا الت�صنيف .وال�سبب يف هذا يرجع �إىل عدم �إ�شراك الطفل من جهة يف مثل هذه امل�شاريع ،واالعتماد فقط على ر�ؤي��ة البالغ ب�صفته �أدرى مب�صلحة طفله ،وعدم االعتماد على خرباء يف جمال الطفولة من جهة �أخرى ،لأ�سباب عدة قد تكون مادية� ،أو قد تكون ا�ست�سها ًال للأمر �أو عدم مباالة. النظرة الدونية والتقزمي الذي يتعر�ض له الطفل، بالإ�ضافة �إىل اعتباره مادة غري ربحية ،هي عوامل �أخ��رى �ساهمت بكل ت�أكيد يف تعطيل حركة الإنتاج الفيلمي اخلا�ص بالطفل ،ودفعت �إىل اقت�صار كل املنتجني العرب تقريب ًا على ال�سينما التجارية املوجهة للبالغني ،وعدم االهتمام بالطفل باعتباره ج��زء ًا ال يتجز�أ من الن�سيج االجتماعي .ف ُفر�ض على الو�سائل ال�سمعية الب�صرية املهتمة بربامج الطفل التوجه �إىل الغرب ال�سترياد امل��واد ال�لازم��ة لتغطية براجمها، ف�أ�صبحنا بذلك �أمام فخ ا�ستالبي و�إمربيايل للفكر العربي باعتبار الطفل القاعدة الأ�سا�سية للفكر امل�ستقبلي ،الأم��ر ال��ذي قد يدفعنا �إىل ال��دخ��ول يف متاهة قد تلغي ،وعرب مراحل قد ال ن�شعر بها ،هويتنا العربية امل�ستقلة .قد يعترب البع�ض هذا الكالم مبالغ ًا فيه ،لكن للأ�سف هذا هو الواقع .وقد بد�أنا ن�ست�شعره ونح�سه ،فالعامل املتح�ضر �أ�صبح يعتمد على ال�صورة باعتبارها �أك�ثر ق��درة على ال��ت���أث�ير ،و�أب��ل��غ م��ن �أي كلمة ميكن �أن تقال �أو تكتب ،واعتماده هذا مل ينبع من ف��راغ ،بل فر�ضته ال�ضرورة و�أوجبته الظروف التكنولوجية التي نعي�شها يف الوقت احلا�ضر ،من 96
العدد
7
انت�شا ٍر يف الف�ضائيات والقنوات التلفزيونية وتطو ٍر يف التقنيات ال�سينمائية� ،إ�ضافة �إىل االنت�شار الوا�سع ل�شبكة الإنرتنت ،التي �أ�صبحت عامل ًا م�ستق ًال بذاته ،له كل القدرة على تفكيك �أنظمة دول بكاملها وتفكيكها. فما بالك بفكر طفويل م�ستعد ال�ستقبال �أي �شيء دون مراقبة ومتحي�ص؟. تتفرع �سينما الطفل �إىل ثالثة �أنواع؛ هناك �أفالم الر�سوم املتحركة �أوال��ك��ارت��ون التي تنتج خ�صو�ص ًا للطفل مع ا�ستثناءات قليلة ،هذه الأفالم التي تبتعد ع��ن ال��واق��ع ومت��ن��ح ال��ط��ف��ل م��ا يحلم ب��ه م��ن خ�لال �شخ�صيات معينة ،قد تكون على هيئة حيوان �أو ح�شرة �أو ب�شر .وهي �أكرث انت�شار ًا وت�أثري ًا .هناك كذلك �أفالم روائية ق�صرية �أو طويلة قد متتح من الواقع مادتها، و ُي�شكل الأطفال �شخ�صيتها و�أبطالها ،ويكون للكبار فيها �أدوار حمدودة وحمددة الغري ،وهذا النوع مهم يف تو�صيل الر�سائل �إىل الطفل وتوعيته؛ لكونه ينطلق من حياته اليومية املعي�شة� .أم��ا النوع الثالث فهو الفيلم الوثائقي �أو الت�سجيلي اخلا�ص بالطفل وهو �أقل انت�شارا ومتعة بالن�سبة �إىل الأطفال. مما ال �شك فيه �أن �سينما الطفل �أو ال�صورة ب�صفة عامة ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بالرتبية ،خ�صو�ص ًا يف هذا الوقت بالذات الذي �أ�صبح فيه الطفل يجل�س �أمام التلفاز �أو احلا�سوب مدة طويلة ي�ستقبل فيها دون رقابة كل الإنتاجات ال��ق��ادرة على الت�أثري يف �سلوكاته وانفعاالته ،والتحكم يف رغباته وفكره ،ومن هنا ينبغي للقائمني على هذا ال�ش�أن �إع��ادة النظر يف الإنتاجات امل�ستوردة ،والعمل على �إنتاج �أفالم عربية حملية قادرة على مناف�سة الآخ��ر ،واخلروج م��ن حت��ت ع��ب��اءت��ه� ،أف�ل�ام حت�ترم هويتنا وتكر�س تقاليدنا وثقافتنا العربية
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
مسرح الطفل في اإلمارات بني الواقع والطموح ال ريب يف �أن مل�رسح الطفل خ�صو�صيته وتفرده ،وتنطلق هذه اخل�صو�صية من كونه يتوجه �إىل الطفل ،ومن �أبعاده وت�أثريه الكبري وارتباط عنا�رصه بالرتبويات واجلماليات الب�رصية واملعرفة والثقافة وغري ذلك .ويكفي �أن �أذكر ب�أن م�سارح الأطفال يف العامل وجدت �أ�سا�س ًا من �أجل عملية تنموية تربوية. قبل �أن �أب��د�أ حديثي عن م�سرح الطفل يف دولة الإم�����ارات ال��ع��رب��ي��ة امل��ت��ح��دة ال ب��د �أن �أ���ش�ير �إىل العنا�صر التالية: �أ -امل�سرحية �شكل فني �أدبي يعالج مو�ضوع ًا على خ�شبة امل�سرح بلغة ال�شعر �أو النرث وتعتمد يف عنا�صرها على احلبكة ،واحل����وار ،وال�شخ�صيات وال�����ص��راع، واحلدث ،ويقيدها زمان ومكان معينان. ب -االهتمام مب�سرح الطفل يف الع�صر احلديث غدا �ضرورة الزبة لأمرين :الأول ،عالقته باللعب والفكاهة والغناء واملو�سيقا واملتعة وال�شعر والإث��ارة والإدها�ش وغري ذلك .والثاين ،كونه نافذة مهمة يطل املبدع من خاللها على الطفل لتعميق معرفته وثقافته وتعزيز بع�ض الرتبويات والأخالقيات وال�سلوكيات. ج -م����ادام احل��دي��ث عن م�سرح الطفل ،باعتبار
�أن امل�سرح املدر�سي يختلف عن م�سرح الطفل ،ف�إن التف�صيل يف امل�سرح املدر�سي �سيكون غائب ًا؛ لأن ذلك يحتاج �إىل ورقة �أخرى وبحث �آخر. د � -إن �أول الإجن���ازات التي تقوم بها امل�ؤ�س�سات الثقافية واجلهات املعنية ت�شجع املبدعني على الكتابة وحتفزهم ،لأن التجديد يف هذا امل�سرح �أهم �أ�سلحة البقاء و�أقوى و�سائل الت�أثري يف الطفل. �إن تقدمي م�سرحيات مدر�سية ومهرجانات خا�صة للم�سرح امل��در���س��ي ال يعني اه��ت��م��ام�� ًا عميق ًا بهذا امل�سرح؛ لأن امل�سرح التعليمي يحتاج �إىل منهجيات وا�سرتاتيجيات ،وم��ا ينطبق على امل�سرح املدر�سي ينطبق على الطفل �أي�ض ًا ،ولهذا ف�إن تقدمي م�سرحية للطفل ه��ن��ا وه��ن��اك ب��ع��ي��د ًا ع��ن التن�سيق وال��ر�ؤي��ة والتخطيط واملنهجية ال يعني �أن م�سرح الطفل يف بلد من البلدان مزدهر �أو ي�سري يف الطريق ال�سليمة. ل��ق��د ح��دث��ت ت���راك���م���ات يف امل�����س��رح امل��در���س��ي وم�����س��رح ال��ط��ف��ل ح��ت��ى قيام د .هيثم اخلواجة
ملف العدد
�سوريا
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
97
م���س���رح ال��ط��ف��ل ف���ي اإلم�������ارات ب����دأ م���ن خ��ل�ال ال��م��س��رح ال���م���درس���ي ق��ب��ل ال��س��ب��ع��ي��ن��ات، وه����ذه ال���ب���داي���ة اق��ت��ص��رت ع��ل��ى ت��ق��دي��م ب��ع��ض ال��م��س��رح��ي��ات ال��ت��اري��خ��ي��ة أو االج��ت��م��اع��ي��ة
االحت���اد يف دول��ة الإم����ارات العربية املتحدة ،وه��ذه الرتاكمات كانت �سبب املنا�سبات �أو اجتهادات معلم �أو مدر�سة ب�سبب احتفالية ما. ودليلنا على ذلك عدم وجود م�سرح خا�ص للطفل، وع���دم وج���ود مطبوعات ل��ه ،وع���دم وج���ود ن�صو�ص م�سرحية مطبوعة ودرا�سات �أي�ض ًا. وما �إن قام االحتاد حتى بد�أت تتبلور مالمح قيام دولة ع�صرية لها منهجها و�سماتها و�أ�سلوبها عمراني ًا واقت�صادي ًا وفني ًا وجتاري ًا و�سياحي ًا وثقافي ًا وغري ذلك. ومع مرور ال�سنني وظهور العوملة ودع��وات وحماوالت ت�سميم وت�شويه ثقافة الكبار وال�صغار ،وخا�صة فيما يتعلق باللغة التي متثل الهوية والفنون وال�سلوكيات وغري ذلك ..مع ظهور كل ذلك كان الب ّد من الت�سلح مبا يجابه احلمالت املد�سو�سة واملحاوالت املفرو�ضة ،وكان من الأ�سلحة القوية التي اعتمدتها دول اخلليج العربي الثقافة امل�ضادة ،ومنها امل�سرح باعتباره يعلي من قيمة العقل ويعزز دور الوعي وير�سخ قيم ًا و�سلوكيات وثقافات نوعية. كل ذل��ك حفز على دف��ع م�سرية م�سرح الطفل يف الإمارات ل�صيانة قيم الطفل وثقافته ،وحمايته ،و�شحذ فكره ،و�إغناء ب�صريته. بعد ما تقدم كيف كانت البدايات يف م�سرح الطفل يف الإمارات ؟ �إن م�سرح الطفل يف الإمارات بد�أ من خالل امل�سرح املدر�سي قبل ال�سبعينات ،وهذه البداية اقت�صرت على تقدمي بع�ض امل�سرحيات التاريخية �أو االجتماعية املقتب�سة �أو املعدة �أو امل�ؤلفة يف نهاية العام الدرا�سي �أو يف منا�سبة من املنا�سبات ،وقد بقي الأمر كذلك �إىل �أن �أ�شرقت �شم�س االحتاد حيث بد�أت مالمح امل�سرح املدر�سي تظهر جلية �سواء �أكان ذلك يف نهاية العام 98
العدد
7
ال��درا���س��ي ع�بر املهرجانات امل�سرحية املدر�سية �أم من خالل املنا�سبات .ويف �أوائ��ل الت�سعينات ظهرت امل��ح��اوالت الأوىل مل�سرحة املناهج ومل يكتب لهذا االجتاه النمو والتطور حتى الآن. �أم��ا عن بدايات امل�سرح الطفلي يف الإم���ارات فقد كانت يف ثمانينات القرن املا�ضي حيث قدم عبد اهلل الأ���س��ت��اذ و�سعاد ج��واد جمموعة م�سرحيات هادفة ومهمة من خ�لال م�سرح ليلى يف �أبوظبي كما قدم حم�سن حممد منذ عام 1982يف النادي الأهلي ثالث م�سرحيات�( :أنا والعفريت ،والطيور ،والرحمة) .وقدم امل�سرح الوطني م�سرحية (طيور ال�سعد) وم�سرح كلباء (البئر املهجورة) ،وقدم م�سرح خور فكان م�سرحية (حار�سو الغابة). و�ضمن اجلهود الفردية ،قدم م�سرح ر�أ�س اخليمة الوطني حماولة مهمة عام ،1993فعر�ض م�سرحية حكاية ميهوب من ت�أليف هيثم يحيى اخلواجة و�إخراج �أ�شرف فوزي،التي تعترب �أول م�سرحية يف دولة الإمارات العربية املتحدة مت�سرح املناهج املدر�سية. وب��ن��اء على م��ا ت��ق��دم م��ن ح���راك ومم��ه��دات فقد بدعم انطلق مهرجان م�سرح الطفل الأول عام ٍ 2005 إ�شراف من جمعية امل�سرحيني ،وبالتعاون مع دائرة و� ٍ الثقافة والإعالم بال�شارقة. و�إذا �أردنا �أن جنيب عن �س�ؤال مفاده ما الهدف من هذا املهرجان؟ ف�سرعان ما نت�أكد �أن هذا املهرجان يهدف �إىل �إيجاد حالة فنية متنوعة موجهة �إىل الطفل للنهو�ض به ثقافي ًا ومعرفي ًا و�أخالقي ًا و�سلوكي ًا ،كما يهدف �إىل االرت��ق��اء مب�سرح الطفل وحتفيز الفرق امل�سرحية للإبداع بهذا امليدان ،وتعميق دور امل�سرح يف احلياة املعا�صرة ،والأخذ بيد الطفولة املبدعة. وبالفعل فقد متت دعوة الفرق امل�سرحية يف الإمارات
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
الن�ص امل�سرحي الناجح ال بد �أن يت�ضمن معانيه الداللية ويعتمد على احلكاية امل�شوقة واخليال والتخييل
�إىل امل�شاركة يف مهرجان م�سرح الطفل ،كما �ألفت جلنة م�شاهدة وتقييم للعرو�ض من خرية امل�سرحيني املواطنني والعرب الذين ا�شتغلوا بهذا الفن ت�أليف ًا ومتثي ًال و�إخراج ًا ،كما عملت جمعية امل�سرحيني على اختيار جلنة حتكيم م�شهود لها باخلربة بهذا الفن، و�شكلت جلنة حتكيم �أخرى من الأطفال تكون م�صاحبة للجنة التحكيم الأوىل ،وقررت �أن تكرم يف كل مهرجان �شخ�صية �أو �أكرث لها �أثرها يف ميدان م�سرح الطفل.
ويف ال���دورة ال�سابعة جميع امل�ؤلفني واملخرجني من الإمارات .و�إذا كان عدد العرو�ض قد تراجع ،ف�إن ذلك يعود �إىل حر�ص اللجنة العليا املنظمة على ا�ستبعاد العرو�ض الهابطة وتقدمي العرو�ض اجليدة فقط. ثمة مالحظة �أجد من اجلدير الإ�شارة �إليها وهي �أن الكثري من العرو�ض خ�ضعت لأحادية الر�ؤية.
يف رحاب املو�ضوعات تنوعت م��و���ض��وع��ات امل�سرحيات ال��ت��ي ق��دم��ت يف مهرجان م�سرح الطفل على مدى الدورات ال�سبع ،فقد اعتمد بع�ضها على الرتاث (جنون الأ�شباح) ،والآخر على البيئة (قطرة ماء) ،والثالث على الواقع الأ�سري – االجتماعي (العقد ال�ضائع – كوكو يا ثعلوب)، والرابع على الأدب العاملي (�أنا و�ساندريال) ،واخلام�س على اخلري وال�شر (من��ول ال�شجاع ،مملكة النحل)، وال�ساد�س على التعاون (املهرج والدمى). ويف ق����راءة متفح�صة مل��ا مت ت��ق��دمي��ه يف دورات امل��ه��رج��ان جن��د �أن���ه يف ال����دورة ال��راب��ع��ة واخلام�سة وال�ساد�سة �شاركت ت�سعة عرو�ض يف كل دورة� ،أما يف جمال الت�أليف يف الدورة ال�ساد�سة فكان هناك �أربعة كتاب عرب وخم�سة كتاب �إماراتيني. ويف الدورة اخلام�سة �شارك كاتبان عربيان ،و�سبعة من الكتاب الإماراتيني. ويف الدورة الرابعة �أربعة كتاب عرب ،وخم�سة من الكتاب الإماراتيني. �أما يف الإخ��راج يف ال��دورة ال�ساد�سة فنلحظ ثالثة خم��رج�ين ع���رب و���س��ت��ة خم��رج�ين �إم���ارات���ي�ي�ن ،ويف اخلام�سة خمرج عربي واح��د ،ويف الرابعة خمرجان
يقول مارك توين �" :إن م�سرح الأطفال من �أعظم اخرتاعات القرن الع�شرين� ،إنه �أقوى معلم للأخالق، لأن درو�سه ال تلقن بطريقة مرهقة ومملة ،بل باحلركة املتطورة التي تبعث على احلما�سة ،فت�صل مبا�شرة �إىل قلوب الأطفال كما �أن كتب الأخالق ال يتعدى ت�أثريها العقل ،ولكن حني تبد�أ ال��درو���س رحلتها مع م�سرح الأط��ف��ال ،ف�إنها ال تتوقف يف منت�صف الطريق ،بل مت�ضي �إىل غايتها". �إن ما تقدم يعني �أن �أوىل م�شكالت الأطفال هي يف امل��و���ض��وع��ات امل��ط��روح��ة� ،أي يف اخ��ت��ي��ار الن�ص املالئم الذي يعجب الطفل وميتعه وير�سخ فيه القيم وال�سلوكيات الإيجابية ويزيد معرفته� ،إذ ال يكفي �أن �أق��دم مقوالت �إن�سانية مهمة وطروحات معرفية �أو ثقافية ،لكن املهم �أك�ثر �أن ي��رد ذل��ك ع�بر الفن امل�سرحي الذي يت�ضمن احلركة واللعب واملتعة والإثارة والإدها�ش. يف امل�سرحيات التي عر�ضتها تربز م�سرحية احلوا�س اخلم�س ،وم�سرحية �شكر ًا ب��اب��ا ،وم�سرحية قطرة م��اء ،وم�سرحية مملكة النحل ،وم�سرحية هيا نلعب وم�سرحية منول ال�شجاع�..إلخ �أما م�سرحية املهرج والدمى فهي تنتمي �إىل امل�سرح
العدد
ر�ؤية فنية : - 1الن�ص امل�سرحي
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
99
التفاعلي ،فيما اعتمدت م�سرحية جنون الأ�شباح على ال�صراع بني اخلري وال�شر ،ولكنها قفزت على منطوق احلكاية فافتقدت �إىل امل�سوغات الدرامية ،وم�سرحية منول ال�شجاع �سارت احلكاية على خط �أحادي بعيد ًا ع��ن التلوين والإث����ارة والت�شويق� .أم��ا م�سرحية �أن��ا و�ساندريال فقدمت القيم الأخالقية والرتبوية عرب تنويع درامي وت�شويق حكائي جميل .واهتمت م�سرحية مملكة النحل بالدراما االجتماعية عرب �إبراز الثنائية ال�ضدية يف احلياة (اخلري وال�شر). وم�سرحية �سعدون و�أبطال الكرتون �سارت باجتاه الثنائية ذاتها مع دمج وا�ضح بني الواقع الفني والواقع االف�ترا���ض��ي واحل��ر���ص على الت�شويق والإث����ارة� .أم��ا م�سرحية مدينة الع�سل – التي �أع��دت عن م�سرحية عزيز ني�سني (الع�سل املربطم) فقد �أثبتت وعي ًا يف التقاط جوهر احلكاية الرئي�سة والتقاط ال��درام��ا فيها على الرغم من االلتبا�س الذي بدا وا�ضح ًا عند الأطفال يف معرفة �أبعاد بع�ض ال�شخ�صيات ودورها من مثل �شخ�صية املختار و�شخ�صية رئي�س البلدية بقي �أن ن�شري �إىل �أن الكاتب امل�سرحي املبدع هو الذي يهتم بجمهور الأطفال فيقدم لهم ما يرغبون عرب الفن واجلمال� .إن تفاعل الطفل النف�سي مع امل�سرح ال ي�أتي من خالل الهذر والت�سطيح والتهريج و�إ�ضاعة الوقت مبقوالت �ضعيفة �أو تافهة ،و�إمنا من خالل ثقافة فنية �شاملة تعترب ج��زء ًا ال يتجز�أ من عملية تطور الذات لديه وعرب �أبعاد جمالية ت�شكل جوهر املعنى والداللة لأنها تتيح للطفل اكت�شافات مهمة وتغني ب�صريته. �إن هذه النماذج ت�ؤكد وجود عرو�ض م�سرحية جيدة ومهمة ،لكن هذا ال يكفي باعتبار �أن الطموح ي�ستدعي القول �إننا بحاجة كبرية �إىل مزيد من الن�صو�ص اجليدة. وبناء على ذلك ولدى قراءة الن�صو�ص التي عر�ضت 100
العدد
7
يف مهرجانات م�سرح الطفل يف الإمارات خل�صت �إىل �أن اجتاهات احلكاية ذات منحيني :الأول ،ينحو منحى احلكاية الكال�سيكية ذات اخل��ط ال��درام��ي الواحد، والثاين ينحو منحى احلكاية داخل احلكاية عرب لعبة امل�سرح داخل امل�سرح ،كما تو�صلت �إىل �ضرورة الدعوة واالنتباه �إىل ما يلي: - 1االبتعاد عن االقتبا�س والإعداد ما �أمكن� ،إال �إذا كان االقتبا�س والإع��داد مب�ستوى الت�أليف الأ�صلي وال ي�شوهه �أو يقلل من قيمته. - 2الت�صدي �إىل موا�ضيع معا�صرة - 3االهتمام بالبيئة ومفرداتها احلالية - 4الرتكيز على �إن�سانية الإن�سان - 5االهتمام باخليال العلمي - 6الإ�صرار على ال�صراع واملتعة والإدها�ش والت�شويق - 7النظرة �إىل الرتاث من منظور متحرك يتطلع �إىل احلا�ضر وامل�ستقبل � - 8إهمال اخلطابية واملبا�شرة وتغييبها �إن ال��ن�����ص امل�����س��رح��ي ال��ن��اج��ح ال ب��د �أن يت�ضمن معانيه الداللية ويعتمد على احلكاية امل�شوقة واخليال والتخييل ،و�أن يكون ال�صراع متواجد ًا يف الن�ص من �أول احلكاية �إىل �آخرها �إ�ضافة �إىل اللعب والت�شويق ور�سم ال�شخو�ص من الداخل واخلارج من خالل ر�ؤية متميزة، كما البد �أن تكون ال�شخو�ص نامية حمركة للأحداث ولها متيزها وعمقها لكي تطرح �أ�سئلتها وتقنع املتلقي. وال ميكن �أن يقبل ن�ص م�سرحي طفلي لي�س فيه دراما باعتبار �أن امل�سرح يهتم بالفعل ال بال�سرد ،ولهذا ف�إن م�سارات اال�شتغال على الدراما الطفلية ال تثمر �إذا ما كانت خالية من اجلماليات وامل�ؤثرات والعطاءات التي جتذب الطفل ،كما ال ميكن �أن يقبل عر�ض م�سرحي
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
- 2اللغة امل�سرحية
تعمل اللغة – ال��ت��ي تعترب �أداة تو�صيل للمتلقي الطفل على ر�سم ال�شخ�صيات و�سرد الأح��داث عرب لغة حوارية موظفة ،وهي ت�سهم �إ�سهام ًا كبري ًا يف �إثارة الوعي ملعرفة ما يدور على اخل�شبة ،وعلى الرغم من هذه الوظائف وغريها ف�إن الالفت يف م�سرح الطفل الإماراتي االهتمام باللهجة العامية ،و�إهمال الف�صحى �إذ نلحظ �أن ما قدم من عرو�ض م�سرحية عرب �سبع دورات تتغلب فيها العامية على الف�صحى. البع�ض يدعي ب�أن من ال�ضروري تكري�س اللهجات املحلية والبع�ض يدعي ب�أنها �أهون على املمثل ومتنحه فر�صة التعبري ب�صدق من ال��داخ��ل والبع�ض الآخ��ر يدعي ب�أن الف�صحى �صعبة. لكن هذه الدعوات مبجملها بهتت �أمام معرفة دور الف�صحى يف م�سرح الطفل معرفة �صحيحة ،وامل�ؤ�سف �أن البع�ض �إذا قرر �أن يت�صدى لن�ص م�سرحي كتب بالف�صحى ،ف�إن �أول ما يفعله هو حتويله �إىل العامية. �إن طفل اليوم يعي�ش ازدواج��ي��ة لغوية ،كما يعاين من تنازع لغوي بني قوة الإجنليزية وع��دم االهتمام بالعربية يف جماالت التوظيف واحلياة العملية ،ولهذا ف���إن تكري�س الف�صحى ���ض��رورة .وامل�سرح م��ن �أه��م القنوات لتحقيق ذلك. القراءة الإخراجية.. يعتقد البع�ض ب�أن القراءة الإخراجية للن�ص الطفلي �سهلة وب�سيطة و�أن الطفل يقبل كل �شيء وميكن �أن العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
101
إن ت��ق��دي��م م��س��رح��ي��ات م��درس��ي��ة وم��ه��رج��ان��ات خ��اص��ة ل��ل��م��س��رح ال��م��درس��ي ال ي��ع��ن��ي اهتمامًا ع��م��ي��ق��ًا ب��ه��ذا ال��م��س��رح؛ ألن ال��م��س��رح ال��ت��ع��ل��ي��م��ي ي��ح��ت��اج إل���ى م��ن��ه��ج��ي��ات واس��ت��رات��ي��ج��ي��ات
ال يهتم ب��واق��ع الطفل �آخ���ذ ًا بعني االع��ت��ب��ار الع�صر التكنولوجي احلديث الذي تو�سعت فيه قنوات الرتبية والتن�شئة
ن�ضحك عليه ب���أي �أ�سلوب ك��ان .وقد ن�سي ه���ؤالء ب�أن هند�سة م�سرح الطفل �صعبة ج��د ًا و�أن �أي��ة حركة �أو �سلوك يف العر�ض البد �أن يكون له م�سوغ ،و�أن طفل ال��ي��وم ذك��ي ج��د ًا ول��دي��ه خ�برة وا�سعة ا�ستمدها من احل�ضارة املعا�صرة واملخرتعات احلديثة ،ولهذا فهو ال يتقبل الهذر على اخل�شبة ،وال ين�شد �إىل �سفا�سف الأم���ور يف العر�ض ،لأن��ه يتطلع لأن��ه ي��رى ما يده�ش ويثري ..من هنا نرى ب�أن املخرج يف العر�ض امل�سرحي الطفلي يتحمل م�س�ؤولية كبرية يف التوا�صل مع جمهور الأطفال باعتباره الو�سيط الفاعل وامل�ؤثر بني امل�ؤلف واملتلقي ،ولهذا عليه �أن ي�ؤمن مب�سرح الطفل و�أن يتفهم �أبعاده وف�ضاءاته ودوره وهدفه ومفرداته وجمالياته، �إ�ضافة �إىل مهام كثرية تقع عليه لكي يغدو العر�ض مقنع ًا� ،إذ البد �أن يح�سب ح�ساب ًا لأ�صغر جزئية و�أن يكون حذر ًا جد ًا يف قراءته الإخراجية. �أنا ال �أنكر ب�أن بع�ض القراءات الإخراجية يف بع�ض العرو�ض عرب مهرجانات م�سرح الطفل كانت جيدة، ولكنني �أ�شري �إىل �أن الكثري من القراءات كانت �ساذجة ال ترقى �إىل م�ستوى طفل اليوم الذي يرى العامل عرب االنرتنت والتلفاز والآي باد وغري ذلك من خمرتعات و�ألعاب. و�إذا ك��ان الن�ص اجليد +املخرج اجليد +املمثل اجليد +ي���ؤدي �إىل عر�ض جيد ،ف���إن الأول��وي��ة دائم ًا الختيار الن�ص املطروح ثم للمخرج الذي يعرف كيف يقر�أ الن�ص. �إننا بحاجة غلى م�سرح للطفل ي�أخذ يف احل�سبان حتقيق املعايري التي ت�ضمن و�صوله �إىل الأطفال ب�صورة �سل�سة حمقق ًا الفائدة واملتعة يف �آن واحد ،وم�ساهم ًا يف تن�شئة الطفل على القيم الأ�صيلة التي ين�شدها جمتمعنا العربي
102
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
التشكيلي عبد الرحمن زينل
المواءمة بين التراث والمعاصرة تشكيل
د .حممود �شاهني �سوريا
ُي�صنف الفنان الت�شكيلي عبد الرحمن زينل �ضمن الأ�سماء الرائدة يف الت�شكيل الإماراتي املعا�رص ،له جتربة فن ّية طويلة ومتنوعة الأ�ساليب واالجتاهات، لكنها ظلت �ضمن ال�ضفاف الوا�سعة للواقع ّية، ول�صيقة مبو�ضوعات البيئة ال�شعب ّية املتمثلة باملر�أة، والبيت ،واملراكب ،واملعامل الأثر ّية ،وال�صيد ... وغري ذلك من مظاهر احلياة ال�شعب ّية الإمارات ّية املتفردة بجملة من اخل�صائ�ص واملقومات. الفنان زينل من مواليد دبي عام ،1951در�س فن الديكور يف القاهرة وعمل رئي�س ًا للق�سم املعني بهذا الفن يف تلفزيون دبي .تابع درا�سته العليا للفنون يف �أدنربة ب�سكوتلندا .له م�شاركات عديدة يف املعار�ض الت�شكيل ّية الإمارات ّية الداخل ّية واخلارج ّية ،كما �أقام ب�ضعة معار�ض فرد ّية لأعماله التي ح�صلت على عدة جوائز. العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
103
تعود البدايات الأوىل لتجربة الفنان عبد الرحمن زينل �إىل عقد �ستينيات القرن املا�ضي ،وهو (كما يقول زميله الفنان عبد الرحيم �سامل) من م�ؤ�س�سي حركة الفن الت�شكيلي يف دولة الإمارات العرب ّية املتحدة .بد�أ هذه التجربة بقوة الفتة ،التزم فيها ال�صيغة الواقع ّية، لكنه كان متطور ًا يف ا�ستخدامه لرموز البيئة املحل ّية، وملح ًا على �إبراز فكرة �أو مو�ضوع لوحته ،بطريقة واع ّية، عرب تقاطعات لون ّية حر�ص على تواجدها فيها ،للتحلل من �سطوة الت�سجيل ّية ،والإحاطة بجوانب م�ضامينها املختلفة .هذه امل�ضامني التي كان يجهد الفنان زينل النتخابها والتعبري عنها ب�صورة مثال ّية ،تتقارب مع الواقع ،لكنها ال تقع �أ�سرية حلرف ّيته الت�سجيل ّية اجلامدة. مو�ضوعات �أعماله يقول الفنان عبد الرحمن زينل �إنه يعالج يف لوحاته امل�شكالت االجتماع ّية ،والق�ضايا ال�سيا�س ّية ال�ساخنة، لكن ب�صيغة حديثة ،ور�ؤي���ة تراث ّية ،ومفهوم جديد، ي�ستعري مفرداته من البيئة حوله .كما كر�س جانب ًا 104
العدد
7
من جتربته الفن ّية ملكافحة الآفات التي تفتك باملجتمع كاملخدرات التي يراها نوع ًا من االنتحار الذاتي البطيء الذي ميار�سه متعاطيها دون وعي �أو �إدراك منه للنهاية امل�أ�ساو ّية التي تنتظره ،بل على العك�س ،يخاجله �شعور زائف وخمادع ،بطول العمر ،وبهجة احلياة .وللتعبري عن حالة هذا الواهم ،ي�ستخدم الفنان زينل جملة من الرموز وامل��ف��ردات ،منها قيامه بت�صويره وه��و يفقد حياته بالتدريج� ،أو يت�سرب عمره من بني يديه كما يت�سرب الرمل من �أعلى �إىل �أ�سفل ،يف قارورة ال�ساعة الرمل ّية .وللتعبري عن احلرب التي تغتال الطفولة� ،ص ّور ر�صا�صة وهي تق�صف ر�أ�س الوردة ،والورود والأزاهري يف لوحات الفنان عبد الرحمن زينل ،تجُ ّ�سد رمز ّية عالية ،ت�أتي دوم ًا على خلف ّية تراث ّية .كما و�ضع الفنان جمموعة من الر�سوم للأطفال ،وكر�س العديد من �أعماله للق�ضية الفل�سطينية ،وب�شكل خا�ص انتفا�ضات ال�شعب الفل�سطيني املتكررة ،حيث ا�ستخدم للتعبري عنها� ،إىل جانب املفردات الواقع ّية ،الرمز والإ�شارة ،ما عمق داللة املو�ضوع ،وزاد من قوة تعبريه.
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
ال�صحايف الذي ي�ضع نف�سه مكان الناقد الفني ،و ُيطلق �أحكامه دون اللجوء �إىل الفنان نف�سه .هكذا ناقد ،يف الغالب ،يجرح �إح�سا�س الفنان وال يخدمه .من جانب �آخر ،يجب على الناقد الفني �أن ميتلك فل�سفة نقد ّية، ومنهج ي�سري عليه ،والكثري من املو�ضوع ّية واملحبة والثقافة النظر ّية والعمل ّية. وي�ؤكد الفنان زينل� ،أنه على الرغم من ق�صر عمر احلركة الفن ّية الت�شكيل ّية الإم��ارات�� ّي��ة ،ف�إنها تبدو اليوم يف �أح�سن ح��ال ،وتقف جنب ًا �إىل جنب ،مع حركات مماثلة ،يف دول متقدمة ،والف�ضل يف ذلك يعود �إىل اجتهاد الفنانني العاملني يف حقولها الذين 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
105
ح���رك���ة ال���ف���ن ال��ت��ش��ك��ي��ل��ي ،ف���ي أي دول������ة ،ت��ح��ت��اج إل����ى وق����ت ط���وي���ل ،ك���ي تتمكن آن معًا م���ن ف����رز ف��ن��ان��ي��ن رواد ،وه�����ذا ال���زم���ن ي��ح��ت��اج��ه ال���ف���ن���ان وال��م��ت��ل��ق��ي ف���ي ٍ
الت�شكيل الإماراتي يرى الفنان زينل �أن حركة الفن الت�شكيلي ،يف �أي دولة، حت��ت��اج �إىل وق���ت ط��وي��ل ،كي تتمكن من ف��رز فنانني رواد، وه��ذا الزمن يحتاجه الفنان واملتلقي يف � ٍآن م��ع�� ًا :الفنان، ليكت�سب اخل�ب�رة ال��ت��ق��ان�� ّي��ة، وامل��ع��ارف التوليف ّية ،وال�صيغ ال��ت��ع��ب�ير ّي��ة ،وال��ث��ق��اف��ة الفن ّية النظر ّية العميقة القادرة على توجيهه �إىل املوا�ضيع الهادفة واملفيدة .واملتلقي القادر على التفاعل مع املنجز الب�صري ل��ه��ذا ال���ف���ن���ان ،و�إدراك ما يحمل م��ن �أف���ك���ار ،وي�ستمتع مب��ا ي��رف��ل ب��ه م��ن جماليات. وعملية التوا�صل ه��ذه حتتاج �إىل �أن ي�ضع الفنان املتلقي يف ذهنه� ،أثناء اجرتاحه فعل الإب��داع ،و�أن يجتهد املتلقي بدوره ،يف تطوير ثقافته الفن ّية ،وت�شذيب ذائقته الب�صر ّية ،عرب الإكثار من زيارة املعار�ض ،واالحتكاك بالعمل الفني ،ليتمكن من التوا�صل ال�صحيح مع هذا العمل. هذا ب�شكل عام� ،أما بالن�سبة حلركة الفن الت�شكيلي يف دولة الإمارات العربية املتحدة ،فريى الفنان عبد الرحمن زينل �أن الفنان ال��ذي ي�شتغل فيها مظلوم ومه�ضوم حقه من قبل اجلمهور والنقاد يف � ٍآن مع ًا، م�شري ًا �إىل �أن من يفهم و ُيق ّيم الفن الت�شكيلي ،لي�س هو
�إن املتاحف التخ�ص�ص ّية ،توفر فر�صة للفنانني واملتابعني والدار�سني والباحثني يف علوم الفن واجتاهاته، لتحديد م�سار وتطور الفنون متكنوا من �إث��ب��ات وج��وده��م املتميز ،عرب نتاجات �إبداع ّية جديدة ،نالت ا�ستح�سان املتلقني والنقاد مع ًا ،لكنه ي�ستدرك م�ؤكد ًا� ،أن �أبرز الإ�شكاليات التي يعاين منها الفن الت�شكيلي الإماراتي اليوم ،االندفاع غ�ير امل�ب�رر ،لبع�ض فنانيه ،نحو امل��دار���س الفن ّية احلديثة ،واال�شتغال عليها ،دون معرفتهم ب�أ�صولها، �أو قناعتهم بها!!. م��ع ذل��ك ،ي���ؤك��د الفنان عبد الرحمن زي��ن��ل �أن الفنان الت�شكيلي الإم��ارات��ي املعا�صر ،قطع �شوط ًا كبري ًا يف م�سريته الفن ّية احل�ضار ّية ،خالل مرحلة زمن ّية ق�صرية ،وقد �شد الأنظار �إليه ،ومل يبق �سوى �أن يتجاوز ح��دود املحل ّية واخل���روج �إىل العامل ّية، م�ؤكد ًا يف الوقت نف�سه ،على �ضرورة التو�سع �أكرث، بن�شر �صاالت عر�ض الفن الت�شكيلي اجلاد ،و�إ�شادة متاحف للفن الإماراتي احلديث واملعا�صر ،حتفظ �أبرز نتاجاته وتوثقها ،وتوفر يف الوقت نف�سه ،فر�صة للمهتمني والباحثني ،م��ن �أج��ل درا���س��ة ه��ذا اللون من الثقافة الب�صر ّية العامل ّية الراقية وامل��ق��روءة من قبل النا�س ،كل النا�س ،بغ�ض النظر عن اللغة التي يتحدثون بها ،وحتى الثقافة النظر ّية التي ميتلكونها ،ذلك لأن الأثر الفني الت�شكيلي امل�سطح (ال��ل��وح��ة) واملج�سم (النحت) ق��ادر على مغازلة العني ،وهدهدة الإح�سا�س ،دون و�سيط �أو ترجمة، متام ًا كما تفعل املو�سيقا. �إن املتاحف التخ�ص�ص ّية ،توفر فر�صة للفنانني وامل��ت��اب��ع�ين وال��دار���س�ين وال��ب��اح��ث�ين يف ع��ل��وم الفن واجتاهاته ،لتحديد م�سار وتطور الفنون التي باتت اليوم ،العنوان الأبرز لتطور الأمم ،وتقدم وال�شعوب، و�أف�����ض��ل ،ح���اوي���ات ت��اري��خ��ه��ا ال���ذي ي��ر���ص��د حركة ح�ضارتها ويوثق لها. 106
العدد
7
واقع ّية متلونة �أق��ر غالبية ال��دار���س�ين لفن عبد الرحمن زينل، بنزوعه الدائم للتجديد الأ�سلوبي ،والتجريب التقاين، والتنويع امل�ضموين ،لكن �ضمن ال�ضفاف الوا�سعة للواقع ّية املتماه ّية �أح��ي��ان�� ًا بال�سوريال ّية ،و�أحيان ًا بالزخرف ّية. فالفنان اللبناين والباحث يف علوم الفن الدكتور
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
زينل� :إن لوحتي ت�أثري ّية انطباع ّية، و� ّ أف�ضل الأ�سلوب الواقعي على الرغم من جتربتي للأ�ساليب الأخرى
حممود �أم��ه��ز ،ي��رى �أن عبد الرحمن زينل يتبع يف جتربته الفن ّية املنهج الواقعي ،ولكن ب�أ�سلوب خمتلف و�أكرث حترر ًا من عملية املحاكاة للواقع نف�سه ،ك�أمنا يحاول �أن يبتعد عن هذا الواقع الذي يحاكيه ب�إ�ضفاء طابع الغرابة على لوحاته ،وذلك با�ستخدام م�ساحات لون ّية (منوكروم ّية)� .أي ذات لون واحد ،فيها �شيء من ال�سوريال ّية ،وهو ما ي�ؤكده الفنان زينل بقوله� :إن لوحتي ت�أثري ّية انطباع ّية ،و� ّ أف�ضل الأ�سلوب الواقعي العدد
على الرغم من جتربتي للأ�ساليب الأخ��رى .وي�ؤكد �أنه يف بداياته ت�أثر بفنانني عامليني �أمثال :فان كوخ، ومانيه .ثم بد�أ يبحر و ُير ّكز يف لوحاته على البيئة، ومعاجلة املو�ضوعات الإن�سان ّية ،متعمد ًا �أن تقول اللوحة ق�صة ما� ،أو �أن ُتعبرّ عن فكرة بعينها ،وهو ال مييل �إىل التجريد �أو املدار�س الفن ّية احلديثة ،لأنه يراها بعيدة عن الواقع اخلليجي والعربي ،م�ؤكد ًا �أن على من يريد ر�سم الرتاث ،عليه �أن ير�سمه مدفوع ًا بهاج�س البحث والدرا�سة والإ�ضافة ،وهو �شخ�صي ًا، ي�ستخدم الزخرفة يف لوحاته ،كعن�صر جمايل ي�أتي مكم ًال للوحة� ،أو ُي�شكل خلف ّية لها ،ويف النهاية ،يبقى لكل فنان توجهاته و�أ�سلوبه الذي مييزه عن الآخرين. وي���ؤك��د ال��ف��ن��ان وال��ن��اق��د الفل�سطيني امل��ق��ي��م يف الإم��ارات الدكتور عبد الكرمي ال�سيد �أن الفنان عبد الرحمن زينل كبقية زمالئه ،ذو �أ�سلوب غري وا�ضح املعامل .فقد كانت �أعماله مزيج ًا من املدار�س الفن ّية املختلفة ،وه��ذا املزيج ،ميكن ر�ؤيته حتى يف العمل الفني الواحد .كما ميكن �أن نالحظ فيه خروج ًا عن امل�ألوف ،فهو ال ينقل الطبيعة كما هي� ،إمنا ي�ضيف �إليها �شيئ ًا يجعها مميزة ر�سم ًا ول��ون�� ًا .وي�ستدرك الدكتور ال�سيد قائ ًال� :إن هذه احلالة اقت�صرت على البدايات الأوىل لتجربة زينل التي مل ترق �إىل امل�ستوى املطلوب م��ن الن�ضج الفني ،ومل ت���دل(يف حينها) على �شخ�صية فن ّية ،لكنها �أ�شارت ب�شكل �أو ب�آخر، �إىل امتالك الفنان زينل للموهبة ،واملقدرة الفن ّية، والطموح لإثبات الوجود الفني املتميز ،الأم��ر الذي دفعه لل�سفر �إىل القاهرة ،ودرا�سة الفن فيها ،وبعد �إنهائه لهذه الدرا�سة ،ب��د�أت مرحلة الن�ضج الفني يف جتربته ،و�أخ��ذت �أعماله يف التكامل املو�ضوعي والتكويني ،وب��د�أ �أ�سلوبه ي�أخذ بعد ًا واقعي ًا ذا ح�س 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
107
لوين و�آخر رمزي ًا ،وبالتدريج ،تعمقت جتربته الفكر ّية التي عبرّ عنها ب�أ�سلوب رمزي هند�سي ،عك�س مدى ا�ستفادته من اخت�صا�صه الأك��ادمي��ي (الديكور). تتالت بعدها التطورات والإ�ضافات يف جتربته ،ليبدو من خاللها جمدد ًا يف كل �شيء. قراءة يف �أعماله املت�أمل يف �أعمال الفنان عبد الرحمن زينل ،يجد �أن��ه��ا (رغ��م تلونها الأ�سلوبي وال�صياغي ونزوعها الدائم للبحث والتجريب يف ا�ستخدام التقانات اللون ّية املختلفة) مل تغادر ال�ضفاف الوا�سعة لل�صياغة اللون ّية التي عالج من خاللها الطبيعة اخللو ّية ،واملراكب يف عر�ض البحر ،والبيوت الريف ّية ،وبع�ض الآث��ار الدار�سة ،واملعامل احل�ضار ّية املتميزة يف الإم��ارات، واملر�أة بني �أح�ضان الطبيعة ،بلبا�سها التقليدي .كما قام بر�صد حياة ال�صيادين �ضمن و�ضعيات وقطوعات خمتلفة ،طرزها ب���الأدوات وال��رم��وز الل�صيقة بهذه احلياة كدفة ال�سفن واملراكب ،ون�شر �شباك ال�صيد، 108
العدد
7
�أو قيام البحارة برتقها وترميمها .كما ر�سم مظاهر ال�صيد ال�ب�ري ،ف�����ص�� ّور ال�صقور �ضمن و�ضعيات الفتة ،ويف �أطر طبيع ّية مفعمة بالرومان�س ّية ،ومطرزة باخليال. يجمع الفنان زينل يف معاجلة لوحاته بني القدرات التعبري ّية العال ّية للخط (ال��ر���س��م) وال��ل��ون ،وهما الأدات�����ان الرئي�ستان لبناء ال��ل��وح��ة ،والتعبري عن م�ضمونها .فاخلط لديه �صريح وم�ستمر ،ي�سحبه من العجينة اللون ّية نف�سها ،والأل���وان لديه ب�شكل عام، �شفيفة ،تتو�ضع �ضمن م�ساحات وا�سعة ،متحركة، ت��وح��ي ب��ت��ي��ارات حتيط بقر�ص ال�شم�س �أو القمر، �أو تنداح عن ه��ذا القر�ص لتبدو وك�أنها �أث��واب من احلرير� ،أو دوائر �أحدثتها ح�صاة �ألقيت فوق �سطح م��اء راك��د .وبالتدريج �أخ��ذت �أل��وان��ه تتكثف وتتنوع وتتباين حمموالت �سطوحها من التكنيك �أو امللم�س، �أو طريقة مدها فوق �سطح اللوحة ،مف�صح ًة بذلك، عن كوامنه التجديد ّية التحديث ّية ،لكن دون �أن تفقد درجات �ألوانه ،جتان�سها وتوافقها وان�سجامها ،ي�سعفها
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
يف ذلك ،اعتماده على اخلطوط اللينة الناعمة ،يف ت�أطري وحتديد هيكلية عنا�صر ومفردات اللوحة ،من ماء وتراب وحجارة ،بحيث حتولت �إىل هيئات خيال ّية مركبة ،تذكرنا كتقنية ،وطريقة معاجلة ،بالفنون الغرافيك ّية ال�صين ّية �أو اليابان ّية ،وال �سيما املُنفَّذ منها على �سطوح و�سيطة (كاحلجر (الليتوغراف)، �أو اخل�شب� ،أو املعدن� ،أو اللينوليوم) وامل�ستن�سخة بالطباعة اليدو ّية. وال��ف��ن��ان زي��ن��ل ،متمكن م��ن الن�سب الت�شريح ّية ال�صحيحة ،ولديه اخلربة الوا�ضحة يف التعامل مع و�سائل و�أدوات تعبريه الواقع ّية ،وي�سهب بدرا�سة متو�ضع عنا�صر اللوحة ومفرداتها يف تكوينها الذي يغلب عليه التكوين الهرمي امل�ستقر والرا�سخ. املالحظة الالفتة يف جتربة الفنان عبد الرحمن زينل ،حماولته الدائمة ،حقن الواقع ّية يف �أعماله، ب��ال��رم��وز والإ����ش���ارات ،وتطريزها ب��اخل��ي��االت ،ما مينحها م�سحة �سوريال ّية ،تعك�س رغبة ملحاحة ل��دي��ه ،لت�صعيد القيم التعبري ّية ل��ه��ذه الواقع ّية، وتعميق دالالتها ،ومن ثم الن�أي بها عن الوقوع يف مطب الواقع ّية الت�سجيل ّية الباردة واجلامدة .هذا الرغبة الوا�ضحة لدى الفنان زينل برتميز الواقع، وح��ق��ن��ه ب��احل��ل��م وال��ت��خ��ي��ل ،ت��ن��م ع��ن ع��م��ق ثقافته الب�صر ّية ،واطالعاته الوا�سعة الطيف ،على تاريخ الفنون ومدار�سها واجتاهاتها ،الأمر الذي ي�شعره ب�ضرورة تطوير وجتديد و�سائل و�أدوات تعبريه التي تتنامى وتت�صعد دون �أن تفقد بو�صلتها الواقع ّية احلا�ضنة لنب�ض البيئة الإم��ارات�� ّي��ة وخ�صائ�صها العدد
امل��ت��ف��ردة ال��ت��ي ي��ج��ب �أن ت��ب��ق��ى ال��ه��اج�����س الأول والرئي�س ،لكل مبدع ي�سعى للتوا�صل مع ال�شرائح الوا�سعة من النا�س� ،سواء داخل البالد �أو خارجها، وال �سيما يف ع�صرنا احل��ايل ال��ذي ت�سعى العوملة جاهدة ،لق�ضم هذه اخل�صائ�ص املتفردة ،متهيد ًا وتوطئ ًة لتعميم الأمنوذج الإن�ساين الواحد املحكوم باال�ستالب واال�ستهالك وفقدان ال ُهو ّية واملالمح. وهذا الهدف حتديد ًا ،ما ت�سعى �إليه ،فنون العبث وال�صرعات ال�ضائعة واملُ�ض ّيعة ،والتي قد ت�سود لفرتة ،لكنها زائلة ال حمالة ،بدليل العودة املظفرة للفنون الواقع ّية الر�صينة امل�ستندة �إىل الإرث العميق واملرتاكم ،للح�ضارة الإن�سان ّية ،يف البالد التي خلقت هذه الفنون العابثة و�ص ّدرتها لبقية بلدان العامل، يف مرحلة كانت تعاين فيها ،من تعقيدات الثورة ال�صناع ّية ،وتداعيات احلروب العامل ّية الفتاكة ،وما خلفته من �آثار �سلب ّية مريعة� ،أعطبت ج�سد الإن�سان الأوربي وروحه يف � ٍآن مع ًا!! 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
109
الفنانة السعودية عال حجازي:
أد ّون هواجسي في الرسم والتلوين اللون حين يكسر مفاهيم السا ئد عند السعوديات متثّل الفنانة ال�سعودية عال حجازي امل��ول��ودة يف طرابل�س منوذج ًا مهم ًا الم��ر�أة ا�ستطاعت �أن حتقق وجودها الإن�ساين عرب اللون واخل��ط ،عرب �أحالمها امللونة وت�أثيث روحها ب�أعمال فنية عربت عن هواج�سها الإن�سانية التي انزاحت نحو حلم الطفولة وجتلياته يف �إبداعاتها الفنية. ومل تكتف ُعال يف العمل على اللوحة فقط ،بل �أ�صبحت من الفتيات امل�ؤثرات يف املجتمع ال�سعودي من خالل �أن�شطتها الفاعلة يف عقد ور�ش الر�سم لالطفال ،كما لو �أنها تريد بناء جيل يحمل راية احلرية والت�ألق والعمل على التغيري الناعم يف املجتمع ال�سعودي من خالل توريط العائلة ال�سعودية يف مناخات الإبداع.
تشكيل
حممد العامري الأردن
110
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ُعرفت ال�سعودية عال حجازي بحيوتها العالية يف احلر�ص على امل�شاركات اخلارجية يف ال��دول العربية و�أوروب���ا لتقدم من��وذج�� ًا مغاير ًا عما هو معروف عن املر�أة ال�سعودية ،وا�ستطاعت �أن حتقق ح�ضور ًا مهم ًا يف هذا املجال بفوزها مبجموعة من اجلوائز الفنية. خرجت عال حجازي �إىل عامل الفنون منذ �أكرث من ع�شرين عام ًا ،د�ؤوب��ة يف تطوير جتربتها من خالل انتظامها يف دورات للر�سم والغرافيك يف العاملني العربي والغربي ،وقد �ساهم يف بث روح املغامرة كونها خرجت من عائلة مثقفة �ساعدتها على متابعة حلمها يف الر�سم والكتابة على حد �سواء. العدد
مقاربات الت�شكيل وال�شعر ا�ستفادت عال حجازي من الكتابة واملتابعات الأدبية لل�شعراء الكبار يف تغذية عملها الفني بن�صو�ص �شعرية كمقاربة بني الفعل اللوين يف الت�شكيل وبني ال�صورة ال�شعرية؛ فقد ا�شتغلت على كثري من ق�صائد دروي�ش وبع�ض ال�شعراء ال��ع��رب و���ص��و ًال �إىل ا�ستخدامتها الن�صية يف العمل الفني لبع�ض كتاباتها التي تتمحور حول حرية املر�أة ومتردها يف املجتمعات الذكورية. و�أ�صبحت العبارة املكتوبة �شقيقة عملها الفني، حيث ال يكاد يخلو من حرفية �أو عبارات ن�صية من املمكن �أن يقر�أها امل�شاهد لأعمالها الفنية ،بل �أ �صبح ذلك من مميزات عملها الفني الذي يجمع بني التعبريية والتجريدية واحلروفية العربية .وهذا منح 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
111
ف��ي طبيعة أع��م��ال��ه��ا ال��ت��ي تمتلك ال��ص��دق��ي��ة وح����رارة التعبير ال��ف��ن��ي ب�لا تصنع أو تكلف
إن ط����ف����ول����ة ع���ل��ا م��ت��ح��ق��ق��ة
عملت حجازي على تغذية عملها الفني بن�صو�ص �شعرية كمقاربة بني الفعل اللوين يف الت�شكيل وبني ال�صورة ال�شعرية
�أعمالها �صفة ال�شرقية ،كما لو �أنها حتوك �سجادة عربية مو�شومة بعنا�صر ومفردات �شرقية. وت�صبح اللوحة الفنية ،بو�صفها مدونة ،م�شفوعة بالفعل الكتابي والب�صري على حد �سواء ،فهي تقوم بفعل ذل��ك ع�بر �أك�ثر م��ن فعل ،منها احلفر داخ��ل امل�ساحات الطرية �أي �إحداث حزوز يف ال�سطح لت�صبح 112
العدد
7
تلك احلزور ك�أثر غائر يف م�ساحات التلوين، �إ���ض��اف��ة �إىل ذل��ك الكتابة باللون والر�سم و�إح�����داث م�����س��اح��ات �أ���س��ا���س��ي��ة يف ال�سطح الت�صويري ،فغالب ًا ما تكون ال�سيادة للون الأحمر الذي يحمل فيما بعد تلك العنا�صر من منمنمات وزحارف وحروف و�أحفورات، فحني ت�صبح اللوحة مدونة للفنان جندها ق��د ان��زاح��ت ن��ح��و ال�صدقية وال��ع��ف��وي��ة يف التعبري ع��ن ال���ذات ،ال���ذات الطازجة التي تبوح ب�أ�سرارها عرب �إيهامات ا�شارية وتعاويذ مطل�سمة �أ�شبه بحرز يحر�س هواج�س الفنانة. ت���ق���ول ع�ل�ا ح���ج���ازي" :اللوحة ع��ن��دي ذك��ري��ات ،وم��د ّون��ات� ،أد ّون عليها ذاكرتي، �أ�صو ّرها على هيئة رموز تعارفنا عليها حني تعاركنا فت�صاحلنا ،فت�ش ّكلنا على هيئة لوحة، وحني ُيقتنى عملي الت�شكيلي� ،أ�صاب باحلزن، لأنني ارت�ضيت بيع روحي� ،إنها �ضريبة جناح الفنان الت�شكيلي �أن يفرح لأعماله وهي تع ّلق على ج��دران ال��ع��امل ،ولكن يف الوقت نف�سه ُي�صاب بال�شجن لهروب لوحاته منه". ن�ستطيع �أن ي�ست�شف من قولها �إنها تدون ح��االت خا�صة ج���د ًا ،ح��ال��ة ع�شق م��ث�ل ًا �أو حالة ف��راق �أو خ�صام ،فهي ال ت�ترك حتى ال��ل��ح��ظ��ات ال��ع��اب��رة م��ن ال��ه��روب لتقب�ض عليها ،وت�سجلها يف �سياق عمل فني يحمل تلك احلالة �أو احلادثة. والغريب �أن عال حجازي حتى يف حلظاتها اخلا�صة ت�سجل كل �شيء من كالم و�أحا�سي�س ،ت�سجل ذاكرة الأ�صدقاء والأحبة ،وت�سجل كذلك ذاك��رة الأمكنة بدقة متناهية.
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
عال حجازي« :ال�صفحة البي�ضاء �أكرهها ،لذا �أ�شخبط عليها ب�أي �شيء ..املهم �أال تبقى بي�ضاء»
الر�سم بو�صفه حياكة لونية تن�شغل الفنانة حجازي بتاريح حلظة تكون العمل الفني الذي يبد�أ من نقطة ب�سيطة او مربع زخريف ليتوالد عرب تكرارية العنا�صر وال��وح��دات الزخرفية والكتابية ،لت�صبح اللوحة كو�شم يف ظاهر ال�سطخ الت�صويري. ال��و���ش��م املحت�شد بعنا�صر ���ش��رق��ي��ة �أ�شبه بتعاويذ جداتنا اللواتي كتنب على مناديلهن �أ���س��ط��ر ًا م��ن ن��ور الع�شق ،وحت���اول ع�لا �أن تن�سج ذكرياتها اجلميلة واملحزنة يف �سياق �سجادة �شرقية �صنعتها هي بنف�سها� ،سجادة ت�شتم منها رائحة العزلة ال�صافية التي تثري يف خياالتها ك��ل تلك التفا�صيل ال�صغرية والدقيقة يف لوحاتها. حت���اول ع�لا ح��ج��ازي �أن تر�سم خياالت ذكرياتها وحمزونها الب�صري ال��ذي ورثته منذ طفولتها بامل�شاهدة واملماحكة لي�صبح خ��زان�� ًا ب�صري ًا مهم ًا لطبيعة ما تنتجه من عمل فني. وهي تن�سج اجلمل الب�صرية جملة جملة عرب جتاورات العنا�صر املتوالدة واملت�شابهة ،ك�أنها تكرر مربع ًا يختلف مبحتوياته عن املجاور له وي�شبهه يف ال�شكل ،تلك التكرارية التي كانت حا�ضرة يف توالد الزخرفة الإ�سالمية القائمة على املثلث واملربع والدائرة ،لكننا هنا جند اختالفات جذرية حيث يتنمط العمل عرب تكرار الفعل الغفوي لي�صبح حقيقة بعيدة عن امل�صادفة ،ويتحرك كم�سار يعرب عن خ�صو�صية التجربة و�صفاتها املو�ضوعية. ففعل القلق لدى الفنانة ي�ضعها �أمام �س�ؤال قا�س،
العدد
���س���ؤال وج��وده��ا ومتطلباته الإب��داع��ي��ة ،ه��ذا القلق �أعطاها القوة الهائلة يف التجاوز والبحث عن مناطق �أخ��رى ت�ؤثث من خاللها ال��ذات الإبداعية ،مل تكتف بال�سطح الت�صويري النبيل� ،أو اللوحة امل�سندية بل ذهبت �إىل �أ�شكال �أخ��رى كالكرا�سي والطاوالت ومكعبات اخل�شب ،تلك الأ�شكال �أ�صبحت بالن�سبة �إىل حجازي مثار جدل يف �إمكانية حتويلها من �أثاث 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
113
تقليدي �إىل �أن ي�صبح عم ًال فني ًا ،فر�سمت على الكرا�سي لتعيد وجودها ب�صيغة �أكرث جمالية ،وكذلك الطاولة التي ت�ستقبل احل���وارات و�أح��ادي��ث الع�شاق لي�صبح مدار �س�ؤالها الفني القلق الذي قادها بالت�أكيد �إىل التجريب امل�ستمر؛ لتقف �أمام مفاج�آت العمل يف 114
العدد
7
حتوالته التجريبية واالختبارية لل�شكل والتقنية. الت�شخي�صية التعبريية وهام�ش الفعل الزخريف املت�أمل لت�شخي�صيات حجازي ي��درك متام ًا مدى ارتباطها بالطفولة كمادة ع�ضوية يف تفكريها الفني، و�أتذكر هنا طبيعة �ألعاب البنات يف مرحلة الطفولة، حيث تبدو تلك الأ�شكال مثل دُمى �صنعتها يد فطرية، ويف مواقع �أخ��رى �أق��رب �إىل فزاعات احلقول التي حتر�س تلك احلقول من الطيور اجلائعة كوهم يتمثل �شك ًال �إن�ساني ًا. �أعتقد �أن ذهاب الفنانة �إىل تلك املنطقة ين�سجم مع طبيعتها الفنية واهتماماتها ب�أفكار الطفولة، وجند ذلك يف اهتمامها الوا�ضح بتعليم الأطفال يف الور�ش الفنية ومراقبتهم يف فعل الر�سم والتلوين، ه��ذا الأم���ر ب��دا وا���ض��ح�� ًا يف ت�شخي�صاتها الأق��رب �إىل الت�شخي�صيات الطفولية الفرحة (العري�س وال��ع��رو���س) ،وط��ف��ل ميتطي مكن�سة م��ث�ل ًا �إ�ضافة �إىل طبيعة �ألوانها ال�صريحة التي تظهر �أي�ض ًا يف ر�سومات الأط��ف��ال ،ففي معظم ر�سوماتها لل�شكل الإن�����س��اين جندها تر�سم الأ���ش��ك��ال يف مواجهة مع امل�شاهد حم�صنة بهوام�ش زخ��رف��ي��ة تنتقل تلك
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
موقع �آخر يت�سيد احلرف اللوحة كاملة بال �أ�شكال، �إنها الرحلة التبادلية بني ح�ضور الرمز احل��رويف ك�شكل م�شفر وبني الت�شخي�ص والزخرف واحلركات التزيينية يف جممل العمل الفني. �إن طفولة عال متحققة يف طبيعة �أعمالها التي 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
115
أدون عليها ذاك���رت���ي ،أص���و ّره���ا على ع�لا ح��ج��ازي" :ال��ل��وح��ة ع��ن��دي ذك���ري���ات، وم���دون���اتّ ، ّ ّ فتشكلنا ع��ل��ى هيئة ل��وح��ة" هيئة رم���وز ت��ع��ارف��ن��ا عليها ح��ي��ن ت��ع��ارك��ن��ا فتصالحنا،
الزخارف �إىل منت ال�شكل الإن�ساين؛ لي�صبح الإن�سان يف لوحاتها مو�شى بالفعل ال��زخ��ريف واملنمنمات �أي�ض ًا ،و�أ�ستطيع القول �إن الفنانة قد �أف��ادت من طبيعة املخطوطات العربية القدمية التي جتمع بني الفعل الكتابي والت�شخي�ص الإن�ساين الذي يعرب عن حدث ما ب�صورة غري مبا�شرة. لكن عال ا�ستطاعت �أن تنقل �إح�سا�سها ال�صادق �إىل �أ�شكالها عرب لغة �أقرب �إىل التزينية التي ت�شبه تزيني املن�سوجات ال�شعبية ،حيث تبدو املر�أة املر�سومة وقد ظهرت بثوب مزين بالنباتات والورود والزخارف، كما لو �أنها تطرز ثوب ًا �شعبي ًا لر�سوماتها الإن�سانية التي ت�صب يف مناخات التعبري الفطري مما �أعطى �أ�شكالها الإن�سانية قيم ًا فنية غري تقليدية .و�أذك��ر يف هذا ال�سياق قول بيكا�سو�" :أمتنى �أن �أعود طف ًال يف الر�سم" .كذلك الفنانة ا�ستطاعت بذكائها �أن ت�ستدرج الطفولة وطبيعة الأ�شكال الطفولية لت�ضعها ب�سياق عمل فني معا�صر ،عمل يخ�ص طبيعة حياتها و�أحالمها املتوالدة يف تلك املنطقة. ف��ت��ارة ت��ت��م��ازج الكتابة م��ع ال��رم��وز والإ����ش���ارات، وتارة �أخرى تن�سجم والزخارف ب�شتى �أنواعها .ويف
متتلك ال�صدقية وحرارة التعبري الفني بال ت�صنع �أو تكلف ،حيث يقول عنها الفنان الكويتي حميد خزعل: "عال حجازي فنانة ت�صادق زمن ال�براءة ،وتلفت النظر بعفوية يف فكرة وت�شكيل معامله الب�صرية التي ت�ستمد خ�صو�صيتها من فكرة املزج بني ر�ؤية الفنانة وع���امل ر���س��وم الأط���ف���ال ال���ذي حتكمه خ�صائ�صه الب�صرية والعقلية والع�ضلية". وت���ؤك��د الفنانة ذل��ك بقولها«:ال�صفحة البي�ضاء �أكرهها ،لذا �أ�شخبط عليها ب�أي �شيء ..املهم �أال تبقى 116
العدد
7
بي�ضاء»� .إنها تعيدنا �إىل زمن ال�براءة� ،إىل زمن �إن وقعت فيه يدك على �صفحة بي�ضاء وتركتها على حالها اعتُرب ذلك خطيئة!". جتربة عال حجازي ت�شكل جتربة نوعية يف الت�شكيل ال�����س��ع��ودي وال��ع��رب��ي ،وق��د حققت ذل��ك ع�بر كدها ومثابرتها يف تطوير جتربتها على ال�صعيد الذاتي والثقايف ،وعرب متابعة الور�ش واالنتظام يف ور�شات متخ�ص�صة يف �أوروبا وال�ساحة العربية .وا�ستطاعت بجر�أتها الفنية يف ا�ستخداماتها للألوان القوية �إىل جانب املو�ضوعات املطروحة �أن ت�شكل عالمة مهمة يف الت�شكيل ال�سعودي. وقد تفردت يف تناول تلك املو�ضوعات التي ع�شقتها ع�شق ًا ا�ستثنائي ًا انعك�س على قوة عملها و�صدقيته ،تلك القوة التي تكونت يف تفا�صيل اجلمل الفنية املحت�شدة يف مربع اللوحة ،والتي �شكلت مبجملها مناخ ًا عاطفي ًا عربت عنه عال دون مواربة �أو وجل ،ترتك ليدها وقلبه �أن ي�سجال تاريخ نب�ضها يف ال�صادق قي تطرزاتها اللونية ،والتي حتتاج �إىل �صرب نا�سك ع�شق احللج والن�سج مثل منلة تنقل قمحها بال كلل �أو ملل. ه��ذه املثابرة التي �أ���ش��ارت �إليها الفنانة يف �أحد لقاءاتها ال�صحفية�" :أعمل و�أر�سم دون ملل ،فامللل
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
عدوي ،وحني يهاجمني �أل ّونه فرح ًا بفر�شاتي ،جم ّددة خاليا الرتابة يف لوحاتي ،ومن الطبيعي لأي ناجح ومثابر �أن يلقى النجاح و�إن ت�أخر و�صوله". العبارة املكتوبة ..قراءة �أم �صورة؟ �إن ال��ت�����س��ا�ؤل ال��ذي يواجهك يف �أع��م��ال الفنانة هو ارتكازها على العبارات الأدب��ي��ة املحا�ضرة يف لوحاتها ،فهل جاءت تلك العبارات كي تقر�أ �أم �أنها عالمة ب�صرية تتحول يف �سياق ال�صورة الب�صرية �إىل العمل الفني؟ �إن تلك الت�سا�ؤالت تثري يف خواطر امل�شاهد �أكرث من فكرة ،فاجلملة امل��ق��روءة يف تلك الأع��م��ال هي حم�ض فخ للتورط بالعمل نف�سه ،وحماولة لدعوة املتلقي لربط تلك احلروف ببع�ضها كي ت�شكل جم ًال �أي�ضا ،لوحة �أ�شبه ب�أحجية ب�صرية تبد�أ من احلرف وال تنتهي به، �إنها كتابة ت�شكيلة �أو مدونات تخ�ص كل واحد منا، تنتظم يف �سياق القراءة والفعل الب�صري على حد �سواء ،فاجلمع بني تلك احلالتني م�س�ألة مربكة ،لكن الفنانة ا�ستطاعت �أن جتد حلو ًال ب�صرية ذكية لهذه املعادلة عرب تلغيز تلك العبارات ،كي تنجو من ورطة العدد
الفعل الكتابي والو�صول به �إىل الفعل الب�صري؛ �أي ت�شفري الكتابة لتقرتب من فكرة الطل�سم امل��وارب الذي ين�سجم مع جمموعة اجلمل اللونية واملعاجلات احلطوطبة من خطوط لينة وياب�سة وبقع لونية ،كي ت�صل بكل ذلك �إىل قيم فاعلة يف العمل الفني دون التخلي عن مو�ضاعاتها الرئي�سية. يف نهاية الأم��ر تظل الفنانة عال حجازي واح��دة م��ن الفنانات العربيات ال��ل��وات��ي يحققن جناحات متتالية عرب الإميان التام ب�أهمية الإبداع ومدى ت�أثريه الإيجابي يف م�س�ألة تغيري املجتمعات والنهو�ض بها �إىل ذوقية راقية م�ؤثثة بالفعل الثقايف لكل �أمة. وهي فنانة مل تزل تثري الأ�سئلة بجر�أتها يف الكتابة والر�سم على حد ���س��واء ،عرب موا�صلتها يف تطوير خطابها الإبداعي ،وعرب الإ�شراف على �إيجاد جيل جديد من الأطفال ميتلك �أدواته التعبريية يف الك�شف عن هواج�سه االجتماعية والنف�سية. تقول عال حجازي" :اللغة العربية �صوتي ،لكنّ اللون أب�سط هويتي ،وجودي يف حياة مملوءة بالتعقيداتّ � ، مفرداتها بلوحة لونية� ،أخ��ت��زن بها فكري ،و�أكمل نق�صي بها ،وكلما زادت جت��ارب��ي� ،أُث��ري��ت لوحاتي بق�ص�ص ترافق مراحلي الت�شكيلية" 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
117
قراءة في ديوان
«األرض قنبلة موقوتة» للشاعر د .منصور الحماطي
و�صلني م�ؤخراً الديوان الأول لل�شاعر الدكتور من�صور احل��م��اط��ي ،وع��ن��وان��ه "الأر�ض قنبلة موقوتة" ،وقد �صدرت طبعته الأوىل يف مار�س املا�ضي ثم �صدرت له طبعة ثانية يف �أبريل .2012 قد �أه��دى ال�شاعر ديوانه ال�صغري ال��ذي يحوي 15ق�صيدة ت��دور كلها ح��ول ق�ضايا البيئة وحقوق الإن�سان� ،إىل �أن�صار البيئة وحماة حقوق الإن�سان وكل احلاملني بغد �أف�ضل على هذا الكوكب اجلميل، يف ظل �أخوة �إن�سانية تتعاي�ش فيها الأمم وال�شعوب واحل�ضارات� .أما مقدمة الديوان فبقلم �أديب اليمن الكبري و�شاعرها ،ال�صديق د .عبدالعزيز املقالح ال��ذي يقول يف املقدمة" :مل يكن �أم���ر ًا خالي ًا من الداللة �صدور ديوان من ال�شعر عن البيئة ،فما من �شك يف �أن املحافظة على بيئة نظيفة و�أر�ض خالية
نقد
د� .شهاب غامن
الإمارات
118
العدد
7
من التلوث جزء ال يتجز�أ من واجب الإن�سان ،وهي الأ�صل يف الدين وتكاد تكون يف ال�شعر �أ�سا�سه و�أهم منطلقاته ،فالدين يدعو �إىل النظافة واالع��ت��دال وال�شعر يدعو �إىل املحبة واجلمال". مل �أط��ل��ع قبل ه��ذا ال��دي��وان على دي���وان باللغة العربية يدور حول ق�ضايا البيئة فاالهتمام ،مبو�ضوع البيئة يف الأدب حديث ن�سبي ًا يعود لنهاية القرن الع�شرين ،حتى لدى الغرب والأجانب عموم ًا .ومنذ �أ�سابيع قليلة �أه���داين ال�صديق ال�شاعر الأ�ستاذ اجلامعي الدكتور حممد �أب��و الف�ضل ب��دران كتاب ًا �صغري ًا بعنوان "النقد الأدب���ي البيئي" �صدر يف الكويت (ول��ك��ن مل ي�سجل فيه ت��اري��خ ال�صدور)، يتتبع فيه امل�ؤلف ن�ش�أة النقد الأدبي البيئي ب�أوروبا و�أمريكا وبداياته ولكنه يرى �أن هذا املنهج �أ�صبح �ضروري ًا بعد ما �آل �إليه الكون من دمار على �أيدي علماء ال���ذرة والكيمياء والأح��ي��اء .وم��ا احل��روب و�أ�سلحة الدمار ال�شامل واملجاعات وح��وادث مثل �شرنوبل والتلوث وثقب الأوزون وما �شابه �إال �أثر من �ضياع الوعي البيئي .وكما يقول د.عبداملنعم تليمة ف�إدراك الإن�سان لواقعه يتطلب وعي ًا جمالي ًا بجماليات بيئته. ويبحث د ب��دران فيما �إذا كانت هناك مالمح
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
م��ن��ص��ور ال���ح���م���اط���ي :ش���اع���ر ي��م��ن��ي ،ح���اص���ل ع��ل��ى دك���ت���وراه
ديوان الأر�ض قنبلة موقوتة كل ق�صائد الديوان منظومة على ال�شكل التفعيلي املوزون ،وقد افتتح ال�شاعر ديوانه بق�صيدة بعنوان "اعتذار" �أهداها �إىل املغفور له ب�إذن اهلل ال�شيخ العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
119
ف���ي م���ج���ال ح���ق���وق اإلن����س����ان م���ن أم درم�������ان ،وه����و ن���اش���ط اج��ت��م��اع��ي وس��ي��اس��ي
اهتمام بالبيئة يف الأدب العربي فيقول �إن هناك فرق ًا بني الو�صف اخلارجي للطبيعة ،وهو موجود يف ال�شعر العربي منذ بداياته ،وبني الوعي البيئي، فم�صطلح الأدب البيئي ي�شرتط �إح�سا�س الكاتب بالبيئة. وخالل اهتمامي ب��الأدب الهندي خالل العقدين امل��ا���ض��ي�ين اكت�شفت اه��ت��م��ام�� ًا خ��ا���ص�� ًا ل���دى بع�ض ال�����ش��ع��راء ال��ه��ن��ود امل��ع��ا���ص��ري��ن ب��ق�����ض��اي��ا ال��ب��ي��ئ��ة، وال�سيما يف والي��ة ك�ي�راال .ولعل �أ�شهرهم يف هذا املجال ال�شاعرة ال�سبعينية ال�صديقة �شجثا كماري علي ذات مرة النا�شطة يف �ش�ؤون البيئة .وقد قر�أت ّ ق�صيدة كتبتها على ل�سان طائر غادرع�شه ليجلب ال��غ��ذاء ل�صغاره ولكن عندما ع��اد بالطعام كانت �شركة الأخ�شاب قد قطعت ال�شجرة .وكانت ق�صيدة �شاعرية وم�ؤثرة وبيئية بامتياز وكانت قد ترجمتها يل من املااليامل �إىل الإنكليزية فقمت برتجمتها �إىل العربية ون�شرت الرتجمة.
زايد بن �سلطان �آل نهيان لأعماله الرائعة يف حماية البيئة واحلياة الربية يقول فيها: �سيدتي الأر����ض /ي��ا �أج��م��ل ك��وك��ب /ي��ا درة هذا الكون /معتذر ًا �سيدتي/با�سمي /وا�سم الب�شرية/ عرب التاريخ /ها �أنا ذا جئت �إليك /كي �أعلم �أ ّنا/ منذ ال�سنوات الأوىل للتاريخ الب�شري/ن�سيء �إىل �أنف�سنا /ون�سيء �إليك� /سفكنا دمنا /يف جنباتكم/ �آالف امل���رات /ونب�شنا �أح�شائك� /آالف امل��رات/ �أقيلي عرثتنا /فنحن و�إن �أخط�أنا /من �صل�صالك جئنا /وغد ًا �سنعود �إليك. وي��ق��ول من�صور احل��م��اط��ي يف ق�صيدة "ع�شق علي مثل الأر���ض وحب الإن�سان" يف �أبيات مل مير ّ معناها من قبل: حولني ي��ا رب���ي /ذرات م��ن �أوزون/ل�����س��د ثقوب الأوزون اجعلني ثلج ًا قطبي ًا /كي �أوق��ف ذوب���ان /جليد القطبني ويف ق�صيدة "جنون الع�صر" و�أي�����ض��ا ق�صيدة "فل�سفة الأعماق" يندب ال�شاعر موت احلب واملثل العليا وا�ست�شراء الظلم� .أما يف ق�صيدة "�أ�صوات من خلف ال�شم�س" فيتحدث بل�سان الكواكب الأخرى التي تقول:
د.ع��ب��دال��م��ن��ع��م ت��ل��ي��م��ة :إدراك اإلن���س���ان ل��واق��ع��ه ي��ت��ط��ل��ب وع��ي��ًا ج��م��ال��ي��ًا ب��ج��م��ال��ي��ات بيئته
ي���ا ب�����ش��ر الأر��������ض /ك��ف��وا رح����ل����ات احل�����ق�����د /ن��ح��و كواكبنا /فكواكبنا ترف�ض �أن ي�ست�شري فيها ال�شر../عودوا من حيث �أتيتم. �أم��ا يف ق�صيدة "الأر�ض قنبلة موقوتة" التي عنون بها الديوان فيتمنى ال�شاعر �أن ميتلك طبق ًا طائر ًا ليهرب به من الأر�ض التي �صار يخ�شى من انفجارها مبا تكد�س فيها من ا�سلحة نووية ونيرتوجينية وبيولوجية فقد �أ�صبحت قنبلة موقوته .وه��ذه الق�صيدة وجهها لزعماء ال��ع��امل مبنا�سبة انعقاد امل����ؤمت���ر ال�����دويل ل��ل��م��ن��اخ يف املك�سيك يف دي�سمرب .2010 �إنها �صرخة �شاعر ال ي�سمعه �أحد .حتى امل�ؤذن يف مالطة قد ي�سمعه �سائح م�سلم ملتزم. �أم���ا ق�صيدة "احلب الكبري" امل�سكونه بحب الإن�سان فيهديها �إىل الزعيم الإن�سان نل�سون مانديال مبنا�سبة اعتبار 18يوليو اليوم الدويل ملانديال الذي كر�س عمره خلدمة الإن�سانية وحقوق الإن�سان .يف ق�صيدة "الأر�ض الثكلى" التي كتبها مبنا�سبة اليوم العاملي للأر�ض يف كوبنهاجن دي�سمرب 2009الذي ف�شل ب�سبب مواقف الدول الكربى يقول: الأر�����ض ال��ث��ك��ل��ى /بفواجعها ال��ك��ون��ي��ة��� /ص��ارت تتململ /يف حركتها ح��ول ال�شم�س /فلقد ف�ض الإن�سان بكارتها /يف ال�سنوات الأوىل /من ع�صر 120
العدد
7
النه�ضة� /ضاجعها يف ليل �شتوي بالطرق الوح�شية/ �أف��ق��ده��ا �سر ج��م��ال �أن��وث��ت��ه��ا /ق��ذف ال�شرير /يف رحم بكارتها /قبح غرائزه الهمجية� /أولدها �آالف امل��رات /فواجع كونية /غرز �أظافره املت�سخة /يف وج��ه براءتها� /شوه كل مالحمها /وال��ي��وم /وعلى مر�أى من كل العامل� /ضاجعها �أوباما /مع زعماء الدول الكربى /يف كوبنهاجن /حتى �صارت حبلى/ تتململ يف حركتها حول ال�شم�س /و�صرنا نخ�شى/ �أن تقذفنا خارجها /يف كارثة كونية. يف ق�صيدة "متثال اجلد" يتح�سر لأن �أجدادنا العرب يف الأندل�س مل يكونوا هم الذين اكت�شفوا �أمريكا؛ لأنهم لو كانوا فعلوا ملا جاء الرجل الأبي�ض وا�ست�أ�صل الهنود احلمر ،ولكانت قيم ح�ضارة العرب
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
عمق وعي ال�شاعر و�إميانه بهذه الق�ضايا جعاله يعرب عن �آرائه وم�شاعره بو�ضوح
امل�سلمني �سادت فيها ب��د ًال من قيم �أ�سلحة الدمار ال�شامل للرجل الأبي�ض .ويف ق�صيدة "الأر�ض وحق الفيتو" يدين حق الفيتو للدول الكربى وما يجره من ظلم وتلوث ويقول: ..لكن حق الفيتو /جعل من الظلم� /سور العامل/ والب�شرية تت�شظى /فتن ًا وحروب ًا /والأر���ضَ /مكب ًا لنفايات الدول الكربى. يف ق�صيدة "ت�شنغ هاي" املدينة ال�صينية الكربى التي ال تنام ،والتي دخلت ع�صر نانو الوقت ،ف�أ�صبح
العدد
الزمان واملكان يرك�ضان خلفها متطر كل يوم عرق �سواعد �أبنائها على املدن التي ال تتعرق فيها �سواعد �أبنائها (وه��ل ن�شك يف �أن مدننا العربية منها بل على ر�أ�سها) ف�أ�صبحت تقول لكل ال�سفن الأجنبية كما قال هارون الر�شيد يوم ًا" :اذهبي حيث �شئت ف�إن خراجك �إيل". �أما الق�صيدة االخرية يف الديوان "رحلة �ضوء" فهي من وح��ي ث��ورات الربيع العربي ويهديها �إىل �أرواح ال�شهداء .ولأنه كتبها يف يناير � 2011أي يف بداية الربيع العربي يتحدث عن �ضوء ما زال ي�سافر �إىل فجر يتخلق يف رح��م الغيب لي�ضيء عتمة ليل الأر�ض ويقول يف �آخرها: ي��ت��وق��ف ه���ذا ال�����ض��وء /لبع�ض ال��وق��ت /ببع�ض حمطات التاريخ /وي�سجل ق�ص�ص ًا تروى /لقرون/ فيها ال�ضوء /وفيها الدم /وفيها العتمة /..ونحن هنا مازلنا /ننتظر ال�ضوء /لينري الأر���ض /ويزيل العتمة. واحلقيقة �أن ال�شعوب العربية يف بع�ض بلدان الربيع العربي ومن �ضمنها وطن ال�شاعر ما زالت تنتظر ال�ضوء ليزيل العتمة. وه��ك��ذا ر�أي��ن��ا كيف خ�ص�ص ه��ذا ال�شاعر �أول دواوينه لق�ضايا البيئة وحقوق الإن�سان ،فكان من �أوائ��ل ال�شعراء العرب يف تناول هذه املوا�ضيع من خالل ال�شعر .و�إن عمق وعي ال�شاعر و�إميانه بهذه الق�ضايا جعاله يعرب عن �آرائ��ه وم�شاعره بو�ضوح، ولكن رمبا جعله يتناول مو�ضوعات معظم ق�صائده مببا�شرة ،الأمر الذي قد يكون قلل من فنيتها على الأق��ل يف ر�أي بع�ض القراء والنقاد .وحتية تقدير لل�شاعر وال��ن��ا���ش��ط االج��ت��م��اع��ي ال��دك��ت��ور من�صور احلماطي 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
121
نقد
مناجاة النفس فـي ق�صيدة (�شدو ال�سكون)
د .عمر عتيق
للشاعرة الشيخة هند صقر القاسمي
فل�سطني
من �أب��رز الظواهر الأ�سلوبية التي تن�ساب يف ج��داول الق�صيدة تكرار الالزمة (عندما يهجع ما يف الكون) يف املقاطع الأربعة مع تغري الفعل (يهجع) يف املقطع الرابع �إىل الفعل (ي�سكن) ولهذا التغري داللة �سنقف عليها فيما بعد .وينطوي هذا التكرار يف م�ستهل مقاطع الق�صيدة على �إ�ضاءات تك�شف النقاب عن وجه الق�صيدة لتظهر مفاتنها ،وميكن ر�صد تلك الإ�ضاءات من خالل ظرف الزمان (عندما) ال��ذي يك�شف خ�صو�صية الزمن عند ال�شاعرة ،فعندما يهجع �أو ي�سكن ما يف الكون يتحقق الزمن املثايل يف وجدان ال�شاعرة ،فتعتلي الذات �صهوة �أحالمها ،وتك�رس الأمنيات �أغاللها ،ويف الزمن املثايل تختفي لوائح املحظورات ،فت�سرتخي �سجايا النف�س على �أرائك الن�شوة. واختيار الزمن والإح�سا�س به من معايري التميز واملفا�ضلة ب�ين النا�س ،فمنهم م��ن يجد يف �صخب �شهوات احل��ي��اة وب��ري��ق مكا�سبها ل��ذة يخلد �إليها، وي�صبح الزمن لديه نهارا يلهث فيه وراء متعة فانية ولي ًال يدفن فيه ج�سد ًا منهك ًا فال وقت لديه ملناجاة نف�سه فهو يك�سب ما يف ع��امل امل��ادة ويخ�سر نف�سه. ومنهم من يخلد �إىل نف�سه �سويعات كلما �ضاق �صدره، ف���إذا الم�س دفء ال�سكينة ع��اد م�سرع ًا �إىل �صخب احلياة التي تن�سيه هم�س املناجاة .ومنهم من يخ�شع 122
العدد
7
لزمن غ��روب ال�شم�س مت�أم ًال رحيلها ،ف���إذا انتهى من ت�شييع موكبها عاد �إىل جنون الرتف .ومنهم من يتلو تراتيل ال�شروق لل�شم�س ،ف�إذا مت وهجها ن�سي ما تاله و�أ�سرع ميخر عباب احلياة .فالإح�سا�س بالزمن طقو�س ت�شكل �شخ�صية الإن�سان وفق ماهية الزمن التي تتحقق فيها املناجاة. والزمن املثايل لدى ال�شاعرة هو الليل الذي تخلد �إليه ،وت�ست�أن�س به،وتتناجى مع ذاتها فيه ،ولكنه لي�س مثل ليل الآخرين� ،إذ حتر�ص ال�شاعرة على حياكة
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
123
إن���ه���ا ش����اع����رة روم���ان���س���ي���ة ح���ت���ى ال���ن���خ���اع ،و ش����اع����رة ت��ج��ي��د إع�������ادة ص��ي��اغ��ة ع���ن���اص���ر ال����وج����ود م����ن خ��ل��ال م���ن���اج���اة ال���ن���ف���س ل��ت��ح��ق��ق إن���س���ان���ي���ة االن���س���ان
ظلمة الليل بخيوط النور ،فيغدو مو�شح ًا بالأقمار وال��ن��ج��وم ،وحت��ي��ل ره��ب��ة الليل �إىل �صحبة و�أن�����س، فيبدو ناب�ض ًا بال�سامرين ،وتخلق من ال�صمت هم�س ًا ومناجاة. �إن اختيار الليل �إط���ار ًا زمني ًا يف ه��ذه الق�صيدة وغريها من الق�صائد ،يك�شف عن بع�ض اجلينات الثقافية لل�شاعرة التي تن�أى عن �ضجيج النهار �إىل �شدو �سكون الليل ،وع��ن هدير النفاق �إىل هم�سات الن�سيم ،وعن مذاق الكذب �إىل رحيق الرباءة ،ومن
العبودية �إىل احلرية والفطرة ،ماذا ميكن �أن �أقول عن �شاعرة حولت ظ�لام الليل ورهبته و�صمته �إىل رو�ضة من ريا�ض اجلنة؟ �إنها �شاعرة رومان�سية حتى النخاع ،و �شاعرة جتيد �إعادة �صياغة عنا�صر الوجود من خالل مناجاة النف�س لتحقق �إن�سانية االن�سان. يف م�ستهل املقطع الأول تعيد ال�شاعرة �صياغة نوامي�س الطبيعة من خالل بناء ا�ستعاري الفت وذلك يف قولها: ْ ال�سكون عندما يهج ُع ما يف الكونِ ي�شدو يل ح� ��ام �ل� ً ا ق� �ي� �ث ��ار َة ال �ل �ي �ـ �ـ��لِ و�أوت� � � � � ��ا ِر ال �ل �ح��ون
م��ه��م��ا اج��ت��ه��د ال��م��ت��ل��ق��ي ف��ي م��ع��رف��ة ل��غ��ة ال��س��ك��ون ل���دى ال��ش��اع��رة فسيبقى اج��ت��ه��اده متواضعًا مبهمًا مقارنة ب��ال��روع��ة أو النشوة ال��ت��ي يشع سناها ف��ي س��ك��ون ليل الشاعرة
فقد يكون هجوع الكائنات �أم��ر ًا م�ألوف ًا بو�ساطة اال���س��ت��ع��ارة والت�شخي�ص� ،إذ �إن �أن�سنة عنا�صر الطبيعة من مقومات ال�صورة الفنية يف اخلطاب ال�شعري ،و�أن�سنة الطبيعة هي الف�ضاء التي تت�شكل ف��ي��ه م��ن��اج��اة ال��ن��ف�����س ،وت��ك��م��ن الإث�����ارة الفنية يف ال�صورة اال�ستعارية التي ت�صور ال�سكون �شادي ًا، فمتى كان لل�سكون وال�صمت �شدو وغناء؟ �إن هذه الإثارة الفنية تنبع من خ�صو�صية الإح�سا�س بالزمن ذلك الإح�سا�س الذي ت�سرتخي فيه النف�س ملعانقة �أحالمها ورغباتها ،فالليل يف وج��دان ال�شاعرة له مذاق خا�ص ،يجعل امل�ستحيل ممكن ًا والبعيد قريب ًا وال�صعب ي�سري ًا. ولعل �أب��رز معامل خ�صو�صية الزمن �شبه اجلملة (يل) �إذ �إن ال�سكون ي�شدو لها وح��ده��ا ،حينما تتجرد الذات من �أقنعتها وتتحرر الأحالم والأماين من ح�صونها ،و�شدو ال�سكون لغة م�شفرة ال يفهم معانيها �إال ال�����ش��اع��رة ،ومهما اجتهد املتلقي يف معرفة لغة ال�سكون لدى ال�شاعرة ف�سيبقى اجتهاده متوا�ضع ًا مبهم ًا مقارنة بالروعة �أو الن�شوة التي ي�شع �سناها يف �سكون ليل ال�شاعرة .وه��ك��ذا هي لغة املناجاة ال يدرك كنهها �إال �صاحبها ،ويف هذا ال�سياق تتناهى �إىل وج���داين هم�سات داف��ئ��ة من ال�شاعرة� ،إذ �إن �أجمل الأ�صوات هي التي تعزف يف وجدان الإن�سان،فلن�صغ �إىل �أ�صوات �أعماقنا لن�سمع �صوت احل��ق وحل��ن الف�ضيلة و�أن��غ��ام اجل��م��ال .و�إن �أجمل اللوحات هي التي ترت�سم يف �أعماقنا ،فلنت�أمل �ألوانها و�إيحاءاتها لتكون بدي ًال عن م�شاهد القهر واحلرمان. ولي�ست الغاية من ت�صوير �شدو �سكون الليل الإخبار عن ذات ال�شاعرة ،فاملتكلم يف الق�صيدة لي�س (هند 124
العدد
7
ال�شاعرة) بل الإن�سان ال��ذي يح�سن اال�ستماع �إىل �شدو ال�سكون ،فهل تريد ال�شاعرة دعوة الإن�سان �إىل الإ�صغاء �إىل �أعماقه؟ وهل تدعو ال�شاعرة الإن�سان �إىل اخللود مع نف�سه؟ وهل تف�ضل ال�شاعرة لغة ال�سكون على لغة ال�صخب والكالم؟ ال �شك يف هذا كله ،فقد �أرادت ال�شاعرة ان تهم�س لنا ب�أن �أ�صوات ال�سكون يف �أعماقنا ت�شدو �صدق ًا وجما ًال وف�ضيلة ،وهي �أ�صوات طاهرة خال�صة من الكذب والتملق والرياء ،وذلك �أن �أ���ص��وات �أو �شدو ال�سكون يعيد للنف�س ال�صفاء وال�سكينة ،وما دام �سكون الليل مينحنا هذا الت�ألق والإ���ش��راق فلنجعل ج��وف الليايل حمراب ًا للمناجاة والت�أمل. وال تكتفي ال�شاعرة يف حتويل �صمت الليل و�سكونه �إىل �شدو وقيثارة و�أوت��ار ،بل �أ�ضافت حت��و ًال �آخ��ر يف قولها: ت � � � � � � � � �ت � � � � � � � � �ه� � � � � � � � ��ادى يف ُدج � � � � � � � � ��ان � � � � � � � � ��ا � � � � � � �ش � � � � � �م � � � � � �ع � � � � � � ُة احل� � � � � � � � � � �ل � � � � � � � � � � ِ�م مت � � � � � � � � � ��و ْج ت� � � � � � �ن � � �ث� � � ُ�ر ال � � � � � � �� � � � � � � �ض� � � � � � ��و َء � � � �ش � � �ف � � �ي � � �ف � � �اً ب� � � � �ي� � � � ��ن �أغ � � � � � � � � � �� � � � � � � � � � �ص� � � � � � � � � ��انِ امل� � � � � � � � � � � � � � � � ��رو ْج لقد حتول ظالم الليل ورهبته �إىل �شموع م�ضيئة، وظالم الليل هنا هو �أعماق الإن�سان التي تفي�ض خوف ًا وي�أ�س ًا واكتئاب ًا ،وهي �أعماق ال يبدد ظلمتها �إال �شموع احللم والأم��ل بالغد الآت��ي .و�إذا كانت ال�شاعرة قد حر�صت على توفري ال�صورة ال�صوتية ملناجاة النف�س يف املقطع الأول ف���إن حر�صها على توفري ال�صورة الب�صرية (الإ�ضاءة) ال يقل �أهمية لأن مناجاة النف�س تتحقق م��ن خ�لال الأ���ص��وات التي ت�أ�سر م�سامعنا، وال�ضوء الذي يبهر عيوننا. ول��ك��ن ه��ل تقت�صر مناجاة النف�س على توافر
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
لأن مناجاة النف�س قد �أف�ضت �إىل ن�شوة ور�سمت عذب الأماين فقد تغريت �صورة الليل التي كانت يف املقطع الأول مظللة بالدجى ف�أ�صبحت يف هذا املقطع ليال بهيج ًا
ال�صورة ال�صوتية وال�صورة الب�صرية؟ ،جتيبنا ال�شاعرة بالنفي يف نهاية املقطع حينما تر�سم لنا ف�ضاء جديد ًا ملناجاة النف�س يف قولها( :بني �أغ�صان امل���روج)� ،إذ تعمد ال�شاعرة �إىل ف�ضاء الطبيعة ل��ت��زداد مناجاة النف�س ت�ألق ًا و�شفافية وذلك يف قولها: ع� � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا ي� � � � �ه� � � � �ج� � � � � ُع م� � � � � � ��ا يف ال� � � � �ـ ك � � � � � � � � � � � ��ونِ ُي � � � �� � � � �ش � � � �ج � � � �ي � � � �ن� � � ��ي ال � � � � �غ� � � � ��دي � � � � � ْر ب� � � � � � ��اع � � � � � � �ث � � � � � � �اً ه � � � � �م � � � � �� � � � � �س � � � � �اً خ � � � �ف � � � �ي � � � �اً ر ع � � � � � �ب � � � � � � َ�ر �أط � � � � � � � � � � � � �ي � � � � � � � � � � � � � ِ �اف الأث � � � � � � � �ي � � � � � � � � ْ و ُي � � � � � � � � � � � � � � � � ��داين ن� � � � �ف� � � � ��� � � � �س � � � � َ�ي ال� � � � َّ�ظ � � � �م � � � �ـ ـ � � � � � � � � � � � � � � � � ��أى � � � � � � � � �ش � � � � � � � �ع� � � � � � � ��ا ُع احل � � � � � � � ��امل � � � �ي � � � � ْ ن ي� � � � � �ب� � � � � �ع � � � � � ُ�ث ال� � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��دف َء ب � � �ق � � �ل � � �ب� � ��ي ي � � � � � � � �ت � � � � � � � �ح� � � � � � � ��دىَ ال� � � � � � ��� � � � � � �س � � � � � ��اه � � � � � ��ري � � � � � ��نْ لو وازنا بني مطلع املقطع الأول ومطلع املقطع الثاين لتبني لنا تغري م�صدر ال�صوت ال��ذي ي�أ�سر وج��دان ال�شاعرة ،ففي املقطع الأول كان م�صدر ال�صوت هو ال�سكون يف قولها (ي�شدو يل ال�سكون) ويف الثاين �أ�صبح الغدير يف قولها( :ي�شجيني الغدير) ،ولهذا التغري دالالت ،ففي �سياق ال�سكون تعددت الأ�صوات املو�سيقية (القيثارة والأوتار والأحلان) للتخل�ص من طنني ال�صمت و�إذاب��ة جليد ال�سكون من �أجل توفري �سياق يتناغم مع مناجاة النف�س ،ويف �سياق الغدير غابت الأ���ص��وات املو�سيقية التي �صدحت يف املقطع الأول الن خرير امل��اء وم�شهد الغدير يوفران ف�ضاء نف�سيا للمناجاة. وي��ب��دو �أن مناجاة النف�س يف ه��ذا املقطع �أك�ثر رونق ًا وعمق ًا مما ورد يف املقطع الأول لأن ال�شاعرة قد ب��د�أت تتفاعل مع ذاتها� ،إذ بدا الغدير يداعب العدد
وج��دان��ه��ا فت�سمع هم�س ًا خفي ًا يحمله ن�سيم �أث�ير ين�ساب يف �أعماقها فتقرتب من الإح�سا�س بالن�شوة واالرت��واء ،وما يعزز ارتقاء مناجاة النف�س يف هذا املقطع �أن احل��ل��م ق��د �أ�صبح �شعاع ًا بعد �أن كان احل��ل��م �شمعة ت��ت��ه��ادى يف ظ�لام ال��ل��ي��ل يف املقطع الأول ،و�شتان بني ال�شمعة وال�شعاع ،فحلم ال�شاعرة يف املقطع الأول كان قلق ًا مت�أرجح ًا متناثر ًا ال يعدو حجمه م�ساحة �ضوء �شمعة يف دجى الليل� ،أما حلمها يف املقطع الثاين فقد �أ�صبح �شعاع ًا �ساطع ًا يخرتق �ستار الظلمة واخل��وف والي�أ�س لي�صل �إىل القلب باعثا فيه الدفء واحلب والطم�أنينة .ويزداد رونق املناجاة يف املقطع الثالث: ع� � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا ي� � � � �ه� � � � �ج� � � � � ُع م� � � � � � ��ا يف ال� � � � �ـ ك � � � � � � � � � � � � ��ون ي� � � � �ن� � � � ��� � � � �ش� � � � �ي� � � � �ن � � � ��ي االري � � � � � � � � � � � � ��ج �ذب الأم� � � � � � � � � � � � ��اين را� � � � � � � �س � � � � � � �م � � � � � � �اً ع� � � � � � � � � � � � � َ يف � � � � � � � �س � � � � � � �م� � � � � � ��ا ل� � � � � � � � �ي � � � � � � � ��ل ب � � � �ه � � � �ي � � � ��ج ف� � � � �ت� � � � �ح � � � �ي � � � ��ي دوح � � � � � � � � � � � � � � � � � َة ال� � � ��� � � �س� � � �م� � � �ـ ـ � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ا ِر وط � � � � � � � � � � � � �ف � � � � � � � � � � � ��ا ُء درو ْر ت ���������������� ُ �ذرف ال � � � � � � � � ��دم� � � � � � � � � � َع ُف� � � � � � ��رات� � � � � � ��ا ف� � � � � � �ي� � � � � � �ن � � � � � ��اج� � � � � � �ي� � � � � � �ه � � � � � ��ا احل� � � � � � � � � � �ب � � � � � � � � � ��و ْر وت�ضيف ال�شاعرة ف�ضاء �آخر للمناجاة يف قولها: (ين�شيني الأري��ج) ،وال يخفى �أن خرير املاء وم�شهد الغدير ون�سيم الأث�ي�ر يف املقطع ال�سابق ق��د ن�شر الأريج يف وجدان ال�شاعرة فتحققت الن�شوة ،ون�ضج ميالد ال�سعادة وهو ما جتلى يف قولها( :را�سما عذب الأم��اين) ،ولأن مناجاة النف�س قد �أف�ضت �إىل ن�شوة ور�سمت عذب الأم��اين فقد تغريت �صورة الليل التي كانت يف املقطع الأول مظللة بالدجى ف�أ�صبحت يف هذا املقطع ليال بهيج ًا. 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
125
حينما تطلب �شدو ال�سكون و�شجو الغدير ون�شوة الأريج تكون يف حالة من التوتر والظم�أ واالحتقان
وما دامت املناجاة قد غمرت وجدان ال�شاعرة فقد حتولت من مناجاة الذات �إىل مناجاة بني الطبيعة والآخ���ري���ن ،ويك�شف ه��ذا ال��ت��ح��ول �سمو امل�شاعر الإن�سانية التي ينبغي �أن تتحرر من دائرة الذات �إىل دائ��رة الآخرين الذين يتوقون لل�سعادة ولل�سكينة، ولهذا �أحيت ال�سحابة املفعمة باملاء واخل�ير دوحة ال�سمار يف قول ال�شاعرة (فتحيي دوح�� َة ال�سمـ ا ِر وطفا ُء درو ْر). وما تزال ال�شاعرة ت�سبح يف ف�ضاء مناجاة النف�س �إىل �أن ت�صل �إىل ذروة الن�شوة والر�ضا حينما يبد�أ النعا�س يداعب �أهدابها فت�سرتخي لطيف الذكريات يف قولها: ع� � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا ي� � � � �ه� � � � �ج� � � � � ُع م� � � � � � ��ا يف ال� � � � �ـ ������������س������������اب ال���������ن�������������������س���������ي��������� ْم ك������������������������ون ي������������ن������������� ُ ن� � � � � � � ��ا� � � � � � � � �ش� � � � � � � ��راً ن � � � � � �ف � � � � � �ح � � � � � �اً ن� � � � � ��دي � � � � � �اً مي ب � � � � � �ي� � � � � ��ن ط � � � � � � � � � � � � �ي � � � � � � � � � � � ��اتِ الأد ْ ف� � � � �ي� � � � �ن � � � ��اج � � � ��ي ج � � � � �ف � � � � �ن� � � � � َ�ي ال � � � ��و�� � � � �س� � � � �ـ ن� � � � � � � � � � � � � � ��ا َن ط� � � � � � � �ي � � � � � � � ُ�ف ال� � � � � � � ��ذك� � � � � � � ��ري� � � � � � � ��اتْ ي � � � � � � ��ؤن � � � � � � ��� � � � � ُ� ��س ال � � � � � �ل � � � � � �ي � � � � � � َل �� � � � �س� � � � �ن � � � ��ا ٌء م � � � � � � � � � � ��ن جن � � � � � � � � � � � � � � � � � ��و ٍم � � � � � � � � � �س � � � � � � � ��اح � � � � � � � ��راتْ فقد اكتملت ف�ضاءات املناجاة يف ه��ذا املقطع، وب���د�أت ن�شوة النف�س تن�ساب يف م�سامات اجل�سد فت�سرتخي طيات الأدمي وتتال�شى وط�أة احلياة ،ويف ف�ضاء هذا اال�سرتخاء تت�ألق �أطياف الذكريات يف ليل تفتح براعم جنومه حلم ًا وحب ًا. وميثل املقطع الأخ�ير حت��و ًال يف م�سار الق�صيدة، فقد ب���د�أت املقاطع ال�سابقة بالالزمة التكرارية الإيقاعية (عندما يهجع م��ا يف الــكون) ويج�سد تكرار الالزمة مفا�صل الوحدة الع�ضوية للق�صيدة، 126
العدد
7
�إذ ال تكتمل دالل��ة املقطع �إال بالتجاذب مع املقطع الآخ��ر .وتغري الفعل (تهجع) �إىل الفعل (ي�سكن) ال���ذي يحمل �شحنات دالل��ي��ة متثل نهاية املطاف ملناجاة النف�س يف قولها: ع � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا َي � � � �� � � � �س � � � �ك � � � � ُ�ن م � � � � � ��ا يف ال � � � �ـ ك � � � � � � � � � � ��ونِ ُت � � � �� � � � �ص � � � �غ� � � ��ي يل ال� � � � � � ُب� � � � � �ح � � � � ��و ْر ال ُت� � � � � � �ب � � � � � ��ايل ب � � � � � � � � ��أزي � � � � � � � � � ِز ال � � � � ��ري � � � � � ِ�ح �أو �� � � � � َ� � � ��س� � � � � � � � � ْ�ح� � � � � � � � � ِ�م ال � � � � � � � � � ��ده � � � � � � � � � ��و ْر ت� � � � � �ت� � � � � �ج� � � � � �ل � � � � ��ى ب� � � � � � ��� � � � � � �س� � � � � � �م� � � � � � � ٌة ق� � � �م� � � �ـ ـ� � � � � � � � � � � � ��را ب� � � � � � �ل� � � � � � �ي � � � � � ��لِ امل� � � � ��� � � � �س� � � � �ت� � � � �ح� � � � �ي � � � � ْ�ل �أرت� � � � � � � � � � � � � � � ��وي م � � � � � ��ن ح � � � � � � � � � � ��دقِ ال � � � � ��دُّ ن� � � � � �ـ ي � � � � � � � � � ��ا �� � � � � � � � �ص � � � � � � � ��دى حل� � � � � � � � � � � � � � ٍ�ن ب� � � � �ل� � � � �ي � � � � ْ�ل فالفعل(ي�سكن) يفيد ال�سكينة والطم�أنينة وهما ثمرة مناجاة النف�س ،وما دامت ال�شاعرة قد قطفت هذه الثمرة فقد حتول حمور املناجاة من مناجاة ب�ين ال�����ش��اع��رة وذات��ه��ا �إىل م��ن��اج��اة ب�ين ال�شاعرة وحميطها اخلارجي ،ولتو�ضيح هذا التحول ميكننا �أن ن�ستذكر قول ال�شاعرة يف املقطع الأول( :ي�شدو يل ال�سكون) ويف املقطع الثاين( :ي�شجيني الغدير) ويف املقطع الثالث( :ين�شيني الأري���ج) ،ففي هذه املقاطع ك��ان��ت ال�شاعرة حم���ور ًا م�ستقبال �أم��ا يف املقطع الأخري ف�أ�صبحت ال�شاعرة حمور ًا مر� ً سال يف قولها( :ت�صغي يل البحور) ،والفرق بني اال�ستقبال والإر���س��ال يف �سياق امل��ن��اج��اة �أن النف�س يف حالة اال�ستقبال حينما تطلب �شدو ال�سكون و�شجو الغدير ون�����ش��وة الأري���ج ت��ك��ون يف ح��ال��ة م��ن ال��ت��وت��ر والظم�أ واالحتقان ،ويف حالة الإر�سال حينما ي�سكن توترها ويرتوي ظم�ؤها وي�سرتخي احتقانها ت�صبح قادرة على �إلهام ما يحيط بها
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
127
عن األمس
ُت �� �س��ا ِئ � ُل �ن��ي ت� �ل � َ�ك ال � � ُّرب� ��ى وامل � �ن� ��از ُِل و َك � � � ْم ُك� �ن ��تُ َع� � َّم ��نْ ف ��ا َرق ��وه ��ا �أُ�� �س ��ا ِئ� � ُل م� � َر ْر ُت ِب�ه��ا وال�ق�ل� ُ�ب َي� ْع��ُ��ص� ُر ُه الأ��س��ى َف � �لَ � � ْم �أ َر ف �ي �ه��ا م� ��ا َر َو ْت � � � � � � ُه الأوائ� � � � � ُل خ��رائ� ُ�ب مل ُي �ب��قِ ل�ه��ا ال � َّده � ُر ��ص��ور ًة ف� � ��أي � � َ�ن امل � �غ� ��اين وامل � �ه� ��ى واخل � �م� ��ا ِئ � � ُل ت �ب �ع�ث�رتِ الأ� � �ش � �ي ��ا ُء يف َع � َر� َ��ص��ات �ه��ا ك�م��ا َب� � ْع�َث�رَ َ تْ ��س�ط� َح ال �ب �ط��ا ِح ال� � �ز ُ َّالزل
شعر
ف� �ل� � ْم ي� �ب� � َق ف �ي �ه��ا م� ��ا ي � � � ُ �روق لمِ ُ �ق �ل � ٍة ول� �ي� �� � َ�س ب �ه��ا � اَّإل ال � �ق ��ذى واجل� � �ن � ��اد ُِل و َت � � ْز ُف � � ُر ري� � ٌ�ح � َ��ص � ْر� َ��ص � ٌر يف رح��اب�ه��ا ك �م��ا زف� � ��رتْ ح ��زن� �اً ع �ل��ى امل � � ْي ��تِ ث ��ا ِك � ُل َغ� � � َدتْ ِل �ط �ي��و ِر ال� � ُب ��و ِم و ْك �ن �اً وم�ل�ج��أً وك ��م غ � � � َّر َدتْ ب��الأم ��� ِ�س ف�ي�ه��ا ال �ب�لاب � ُل
عازار َّ جنار �سوريا
128
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ٌ �شجريات َ من ال�شَّ وكِ حولها وطا َلتْ و�� � �ص � ��ا َرتْ ه� �ب ��ا ًء ل� �ل� � ِّري ��ا ِح ال ��� َّ�س �ن��ا ِب � ُل
هلل م��ا ل�ل�ع�ي��� ِ�ش ب �ع � َد رح �ي � ِل � ِه � ْم َف � ��وا ِ وم ��ا ل�ل�ه��وى ط �ع � ٌم وال ال� � َّده� � ُر ع ��اد ُِل
�أَ ُت � � ُ �وق �إىل ت�ل� َ�ك الأم��ا� �س��ي وُ�أ ْن���س�ه��ا وم� ��ا ُك� �ن ��تُ �أَ ْدرِي �أ َّن �أح�ل�اه ��ا زائ � � ُل
تمُ َ � � � ِّزق� � �ن � ��ي ذك � � ��راهُ � � � � ُم ك� � � � ّل ل �ي �ل � ٍة و َق� � ْد �أظ�ل�م��تْ بعد ال� َّرح�ي��لِ الأ��ص��ا ِئ� ُل
َل َق ْد َ�ضا َق َ�صدْري وال َّنوى قا ِت ُل الهوى ف �ي ��ا َق � �ل� � ُ�ب �إ َّن امل ُ �خ �ل �� �ص�ي َ�ن ق�ل�ا ِئ� � ُل
وحت �ت ��� ِ�ش � ُد الآه � � � ُ �ات ب �ي� َ ن �أ� �ض��ا ِل �ع��ي وي � � � � ��ر َز ُخ يف � � �ص� ��دري ق� �ت� �ي � ٌ�ل وق� ��ا ِت � � ُل
َل َق ْد َج َّرعوين ا ُ حل َّب ح َّتى تحَ َ َّط َمتْ ... ك ��ؤو� �س��ي ولمَ ْ َت �ن ��� َ�س ه ��واه ��ا امل� �ن ��از ُِل
َ ي�ق��ول��و َن يل م��ا ب� ُ عينيك ي��ا فتى �ال ت� �غ ��ورانِ يف َك �ه� ٍ�ف ودم� � ُع � َ�ك ه��امِ � ُل ؟؟
و ُك � � َّل م �� �س��ا ٍء ُت � ْب��حِ � ُر ال �ع�ي ُ�ن َن�ح��وه��ا القلب يف ُن ْعمى وال َّ الط ُ يف راحِ ُل َفال ُ
�أق� � ُ �ول َل � ُه � ْم َم ��نْ ك ��ا َن مِ � ْن � ُك � ْم ُف � ��ؤاد ُه َك�ق�ل�ب��ي َه� � َم ��تْ م ��نْ م �ق �لَ�ت �ي � ِه ج� � ُ �داول
ُت��راف �ق �ن��ي الأوه� � � ��ا ُم ح �ي� َ ن �أزو ُره� � ��ا و َت� � ْن� � َم� � ُل � ْإن م ��ا ال َم ��� َ�س � ْت �ه��ا الأن� ��امِ � � ُل
�إذا املر ُء لمَ ْ َ يع�ش ْق َي ُكنْ مث َل �صخر ٍة ج� � �م � ��اداً ب �ل��ا رو ٍح وع � �ق � � ُل � � ُه غ� ��ا ِف � � ُل
وب ح �ن �ي �ن �اً ُك� � َّل� �م ��ا ال َح ب � � ��ار ٌِق �أ ُذ ُ ووج� � � � � � ُه �أح� � �ب � ��ائ � ��ي ب� �ع� �ي� �ن � َّ�ي م � ��ا ِث� � � ُل
من ديوان ورد و�شوك
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
129
طفولة ك �� �س�ل�اف � ٍة � �س �ك � َب��ت ب� � � ��را َءة وج �ه �ه��ا يف م� �ق� �ل� �ت ��ي ف �ت��ر َّن� � �ح � ��ت �أو� � � �ص� � ��ايل ك� �غ� �م ��ام� � ٍة م � � � � َّرت ت� ��� �س ��اب � ُ�ق ظ � َّل �ه��ا وت��راك �� �ض��ت ك��ال� َّ�ط �ي� ِ�ف ع�ب� َ�ر خ �ي��ايل ه��ام �� �س � ُت �ه��ا و�� �س� ��أل� � ُت� �ه ��ا ف � �ت� ��و َّردت اجل� � � �ف � � ��ونِ ي � � � � � ُّ �رف �أل � � � � � � ُ�ف � � � �س � � ��ؤالِ �أر�أي � � ��تَ خ� � َّد ال � ��ور ِد ي �ل �ث � ُم � ُه ال � َّن��دى و�� �ش� �ق ��ائ� � َق ال� � ُّن� �ع� �م ��انِ يف الأدغ� � � � ��الِ ؟
ِك��ان��ت ع �ل��ى اخل ��دي � ِ�ن ت��رق � ُد دم �ع � ٌة ك� ��ال� ��و� � �ش� � ِ�م م � ��ر�� � �س � ��و ٌم ب � �خ � � ِّد ه �ل��الِ وت���س��اق� َ�ط��ت ب � ��أر َّق م��ن وق� � ِع ال� َّن��دى ف � � � � ��و َق ال � � � � � ُّزه� � � � ��و ِر ب� � �خ� � � َّف� � � ٍة وداللِ ه �م ��� َ�س��ت �إ َّ يل ومت� �ت� � َم ��ت ل�ث�غ��ات�ه��ا ي� ��ا � �س �ح � َر � �س �ح � َر ب� � � � ��را َء ِة الأط � �ف� ��الِ وت � �ك � � َّل � �م� ��ت ب� �ل� �ح ��اظِ � �ه ��ا ف � �ك � ��أنمَّ � ��ا ر�� � �ش� � �ق � � ُ �ات ن � �� � �ص� ��لٍ الح � � � ��قٍ ب� �ن� ��� �ص ��الِ ح � َّت��ى �أ� �ص��اب��ت م��ن ف� � ��ؤادي م�ق�ت� ً لا ف �ع �ل �م ��تُ �أنيِّ ل� ��� �س ��تُ ُك � � � ��ف َء ِن � � ��زالِ من ديوان وقفات يف زمن �ضائع
130
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
شعر د .نايف علي عبيد �سوريا
يا طيور ف � � � ��اق � � � ��داً ك� � � � ��ان ل � � �ل � � �ك� � ��رام � � � ِة �إ ّم� � � � ��ا
ح �ل �ق��ي ي� ��ا ط � �ي� ��و ُر يف اجل � � � ّو � �س �ك��رى وام �ل �ئ��ي ال� ��رو�� � َ�ض ب� ��الأغ� ��اري� ��دِ ��س�ح��را وان� �ف� �ث ��ي يف ب � ��راع � � ِ�م ال� � � � ��ور ِد روح � � �اً
ذاك � � � � � � � � � ��راً �أم � � � �� � � � �س � � � � ُه ف� � �ي� � �ب� � �ك� � �ي� � � ِه َق � � � � ْه� � � ��را
• • •
ي � �ن � �ت � ��� � ِ�ش ال � � � � � � � ��ور ُد ب � ��ا�� � �س� � �م� � �اً ُم � �� � �ش � �م � �خ � � ّرا
واب �ع �ث��ي يف ال �ن �ف��و�� ِ�س ُح � � ّب � �اً وع ��زم �اً
و�� � � � �س� � � � �م � � � ��واً ي � � � �� � � � �س� � � ��و ُد روح � � � � � � � � � �اً وف� � � �ك � � ��را
�أ ّي � � �ه� � ��ا ال� �ب� �ل� �ب� � ُل امل � � �ع � � � َذ ُب ي � ��ا خ� � ّل � َ�ي
غ� � � ��اب � � � � َر ال � � � � �ق� � � � ��و ِم ب � � ��ال� �ت ��ران� � � �ي � � � ِ�م ف � �خ� ��را
ق ��د ر�أي� � � ��تُ اخل� ��ري� � َ�ف ي �ح �م � ُل رف �� �ش �اً
راق �� �ص��ي اجل � ��دو َل ال �� �ض �ح� َ �وك وغ�ن��ي
�أخ � � �� � � �ش � � ��ى ي� � � ��أ�� � � �س� � � �اً �إذا ب� � � �ح � � ��تُ � � �ِ ��س� � � � ّرا
ع � َّل �ه��م ي �ن �ه �� �ض��و َن م ��ن � �س �ك��ر ِة ال�ل�ي��لِ
ور�أي� � � � � � � � � � � � ��تُ ال� � � ��� � � �ش� � � �ت � � ��ا َء ُي� � � � �ب � � � � ُ �رق � � � �ش � � � ّرا
�أُب � � � � � � � � � � � � ��ا ًة مي � � � �� � � � �ش� � � ��و َن ل� � � �ل� � � �ح � � ��قِ َج � � � � ْه� � � ��را
ال �أح � � � ُّ�ب ال �غ �� �ص ��و َن ت � ��ذوي وت �ع��رى
• • •
وال� � � �ط� � � �ي � � ��و َر احل � � �� � � �س� � ��ا َن ت � �� � �ص � �م� ��تُ ذع � � ��را
ب � � ْ�ل �أح� � � � ُّ�ب ال� �غ� ��� �ص ��و َن ت � � � ��زدا ُد ت �ي �ه �اً
ُك� � � ّل� � �م � ��ا ال � � �ب� � ��اغ� � � ُّ�ي ج � � � ��نَّ ح� � � �ق � � ��داً وغ � � � ��درا
�أ ّي � � �ه� � ��ا ال� �ب� �ل� �ب� � ُل امل� � � �ع� � � � ّذ ُب ي � ��ا خ � ّل ��ي
ت � � � �ك � � � � ّل � � � � ْم ف � � � � � ��أن� � � � � ��تَ ب � � ��ال� � � ��� � � �س� � � � ِّر �أدرى
و�أح � � � � � � ُّ�ب ال� � �ط� � �ي � ��و َر ت � �� � �ش� ��دو م� �ل� � ّي� �اً
وا� � �ش � �ت � �ي� ��اق � �اً وال� � � ��رو�� � �ُ ��ض ي � � � ��ذوي وي � �ع� ��رى
�إ َّن ن � � ��و َر احل� � �ي � ��ا ِة ي � �ح � �ت� ��ا ُج ع ��زم� �اً
ُح � � � � �ل � � � � � َم امل � � � � �ج� � � � ��دِ ب � � � ��ارت � � � �ق � � � ��ا ِء امل� � � �ج� � � � ّرا
�ان ت � ��ذب� � � ُل ُح� ��زن � �اً ال � � � � � ��ورو ُد احل � �� � �س� � ُ
م � �ث � �ل � �م ��ا ال� � ��� � �س� � �ي � � ُ�ف ل� � �ل� � �خ� � �ط � ��وبِ َت � � �ع � � � ّرى
م � ��ا ب� � � � ِه وال� � � � ُدج � � ��ى ي � ��زي� � � ُد �� � �س � ��واداً
ح� � � � � ��ا َ ين ال � � � � ��ر�أ� � � � ِ� ��س �� � �ص � ��ام� � �ت� � �اً ُم � �ك � �ف � �ه � � ّرا العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
131
قصتان لألطفال
إبداع
الم َمدين َ ُة األ َ ْح ِ َ َ عال ت َْ�س ُك ُن ُه الم َق ْ�ص ٌر ٍ ُي ْحكى �أ َّن ُه كانَ يف َمدي َن ِة الأ ْح ِ �ساح َر ٌة ،و َق ِد ا َّتفَقَ ال ُك ُّل على �أَ َّنها َط ِّي َب ٌة وتحُ ِ ُّب ْام َر�أَ ٌة ِ ا َ ُرات َغيرْ ِ عا ِد َي ٍة يف للجمي ِع .وكا َن ْت َت َت َم َّت ُع ِب ُقد ٍ خليرْ َ َ َ ا�س. تحَ ْ ِ الم ال ّن ِ قيق �أ ْح ِ َ خام الأ ْب َي ِ�ض ك��انَ َق ْ�ص ُر ّ ال�س ِاح َر ِة َم ْب ِني ًا ِم��نَ ال ُّر ِ َ ا َمل ْط ِل ِّي ِب َّ الذهَ ِب الأ ْ�ص َف ِرِ ،ل َهذا كانَ َي ْل َم ُع لمَ َعان ًا ُك َّلما َ ا ْن َع َك َ�س ْت َع َل ْي ِه �أ ِ���ش�� َّع�� ُة َّ فو�س ال�ش ْم ِ�سَ ،ف ُيث ُري يف ال ُّن ِ �أَ وح ٍّب و َر ْغ َب ٍة يف ا ِال ْ�س ِت ْطال ِع حا�سي�س ُمتَبا ِي َن ًة ِمنْ ُر ْع ٍب ُ َ غام َر ِة. و ُر ِ واج املُ َ كوب �أَ ْم ِ َ َ ال�صعو ُد ِ�إىل ال َق ْ�ص ِر �أ ْمر ًا َع�سري ًاَ ،ذ ِل َك �أ َّن ُه وكانَ ُّ غام َر َة ك��انَ ُمقام ًا على َج َب ٍل ِ يحب ُم َ �شام ٍخ .وا ّل��ذي ُّ ذات ال�صعو ِد َو َج َ��ب َع َل ْي ِه ُمقا َو َم ُة ت َ�ضاري�س َ�ص ْع َب ٍة ِ ُّ َ و�صخو ٍر َ�ص ْلدَ ٍة. جات ر ع ٍ ُ ُم ْن َ َ َ َ ال�صعو َد ِ�إىل �أ ْعلى َ ِا ْ�ستَطا َع ّ اجل َب ِل، ال�ش ُّ اب الأ َّو ُل ُّ عان َي ْحمِ ِ الن ُم َق َّن ِ ا�س َت ْق َب َل ُه َر ُج ِ الن َ�س ْي َفينْ ِ ِ الم َعينْ ِ َف ْ و�أَ ْد َخال ُه ِ�إىل ا َملغا َر ِة. َ�س َ�أ َل ْت ُه ال َعجو ُز: �أَخْ برِ ْ ين َعنْ ُح ْلمِ َك ا ّلذي ُيرا ِود َُك َل ْي َل َنها َر؟ ا�س يف ا َملدي َن ِة! �أنْ �أَ�ص َري َ�أ ْقوى ال ّن ِ و َل ِكنْ َحذارِ! َفال ُق َّو ُة ُ�س ْل َط ٌة خا ِد َع ٌة يمُ ْ ِكنُ �أَنْ ُتدَ ِّم َر َك.. َع َ��ج��ب�� ًاَ ..ك��� ْي َ ���ف ُت���دَ ِّم��� ُرين؟ ال ُق َّو ُة ِه َي ِ�سالحي الوحي ُد ِ�ض َّد َّ الطبي َع ِة َ وانات واحل َي ِ َ ��س��ان� ..أ ْ�ستَطي ُع ِبها وا ِلإ ْن��� ِ ال�سعا َد ِة. ِقيا َد َة َ�سفي َن ِة َحياتي َن ْح َو ِ �شاطى ِء َّ هَ ْل هَ ذا هُ َو َط َل ُب َك الأَخ ُري يا ُب َن َّي؟
م�صطفى ملح املغرب
132
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�أَ َج ْل� ..أَ َج ْل.. حام َل ًة َط ْ�ست ًا ُم�� ِل��ى َء ما ًء ال�س ِاح َر ُة ِ َ قام ِت ا َمل��� ْر�أَ ُة ّ َ ً ً و�ش َر َع ْت ت ُ ِ�س ِّر ّي ًاَ ، َقول َكالما ُم ْب َهما ،و�أ َم��� َر ِت ال َفتى عات ِمنَ املاءِ ،وما َت َب ّقى ِم ْن ُه َيغ ِْ�س ُل ْب ِه �سا ِئ َر ِب ُ�ش ْر ِب ُج ْر ٍ �أَ ْع�ضا ِئ ِه. وما كا َد ال َفتى �أَنْ َي ْن َتهِ َي َحتّى �أَ َح َّ�س َ �أ َّن ُه َ�أ ْقوى َر ُج ٍل يف ال َك ْو ِنَ .ح َم َل َّ وح َّط َم ُه ِبال َر�أْ َف ٍةُ ،ث َّم الط ْ�س َت املُ َق َّد َ�س َ َّ�ضاري�س ال َو ْع َر ُة.. َنزَ َل ْب ُ�س ْر َع ٍة دونَ �أَنْ تمَ ْ َن َع ُه الت ُ ��انَ ،ف��دا َر َب ْي َن ُه وبينْ َ يف ال�� َي�� ْو ِم ال ّثاين َ�ص َعدَ َف ًتى ث ٍ احلوا ُر التّايل: ال َعجو ِز ِ َ ما ُح ْل ُم َك �أ ُّيها ال َفتى؟ املالُ .. ُ املال وال َ�ش ْي َء َغيرْ ُ ُه! مال؟ وما َ�س َب ُب ِع ْ�ش ِق َك ال َكب ِري ِل ْل ِ لأَ َّن ُه ُ�س ْل َطتي� ..أَ ْ�ستَطي ُع َ�أنْ �أَ ْ�شترَ ِ َي العالمَ َ ُك َّلهَُ .ل َك ْم َح ِل ْمتُ �أَنْ َيكونَ يل َق ْ�ص ٌر ِمنَ َّ الذهَ ِب اخلا ِل ِ�صُ ، وخيو ٌل وحقو ٌل ممُ ْ َت َّد ٌة ِمنَ َّ ال�ش ْر ِق �إِىل ال َغ ْر ِب.. َرفي َع ٌةُ ، َف َ قاط َع ْت ُه ال َعجو ُز ُم ْ�س َتف ِْ�س َر ًة: َ �أَال تَرى �أنَّ َ ا�س ِب َكَ ،ف َتت ََح َّو ُل املال َق ْد ُيف ِْ�س ُد َعال َق َة ال ّن ِ ِمنَ �صدا َق ٍة َكر َمي ٍة �إِىل َعدا َو ٍة ُم ْ�ستَد َمي ِة؟ ال�س ِاح َر ُة! َق ْطع ًا� ..أَنا �أَرى َع ْك َ�س ما َت َر ْينَ �أَ َّيتُها ّ �لان قام ِت ال َعجو ُز�َ ،ض َر َب ْت َك ّف ًا ِب َك ٍّفَ ،فدَ َخ َل َر ُج ِ َ ً ً الن ُ�ص ْندوقا ِع ْمالقا و َق ْد ُح ِ�ش َي َذهَ با ،لمَ ّا َق ِو ّي ِان َي ْحمِ ِ َ َفتَحا ُه �أَ ْو َ�ش َك ال َفتى �أنْ َي ْفقِدَ َع ْق َلهَُ ،ف َ�ص َر َخ َم ْذهو ًال: الذهَ ِب� ..إِ َّن ُه ُ�ص ْف َر ُة َ ما �أَ ْج َم َل لمَ َعانَ َّاجل َّن ِة! َ�ضاري�س وال�سعا َد ُة َت ْغ ُم ُر ُهَ ،غيرْ َ عابِىءٍ ِبت ِ ُث َّم َنزَ َلَّ ، َ اجل َب ِل.. َيان� :أَ ْ�ص َب َح الأَ َّو ُل َعنيفاً َم�� َّر ْت َ�س َن ٌةَ ،ف َت َغيرَّ َ ال َفت ِ ا�س و َي ْ�س َت ْع ِبدُهُ ْم ،و ُك َّلما ُم ِ �شاك�س ًاَ ،يت ََح َّك ُم يف ر ِ ِقاب ال َّن ِ َ َت َق َّد َم �إِ َل ْي ِه �أ َح ٌد بال ُّن ْ�ص ِح َق َت َل ُه َغيرْ َ � ِآ�س ٍف َع َل ْي ِه .وكانَ ُ�س ّكانُ ا َملدي َن ِة َي َت�أَلمَّ ونَ ِب َ�ص ْم ٍتَ ،ل ِك َّن ُه ْم َغ�ْيُرْ ُ قادِرينَ العدد
على َتغْي ِري املُ ْن َك ِر� .أَ ّما ال َفتى ال ّثاين َف َق ْد تحَ َ َّك َم بمِ ا ِل ِه و�صغار ًاَ ،حتّى ا�س ِكبار ًا ِ يف ا َملدي َن ِة و�أَ ْ�ص َب َح َيخْ �شا ُه ال ّن ُ ا�س ا َملدي َن ِة ُّ خا�ضع َني ال�ش ْجعانُ الأَ ِ�ش ّدا ُء �أَ ْ�ص َبحوا ِ ُح ّر ُ َ َلهُُ ،م�ؤْتمَ ِرينَ ِب�أ ْم ِر ِه. �أَ ّما ال َفتى ال ّثا ِلثُ ،ا ّلذي كانَ َي ْط َم ُح بِدَ ْو ِر ِه �إِىل ُ�صعو ِد َ اجل َب ِلَ ،ف َق ْد �آلمَ َ�� ُه ما َح��دَ َث ِل ْل َمدي َن ِة ِب َ�س َب ِب ال َف َت َيينْ ِ َ ِّ ا�س؛ الأ َّو ُل بمِ ا ِل ِه وال ّثاين ال�ش ّري َر ْي ِن ال ّل َذ ْي ِن َم َلكا ال ّن َ ِب ُق َّو ِت ِه. ً ال�س ّك ِان. كانَ ال َفتى ال ّثا ِلثُ محَ ْ بوبا ِمنْ َلد ُِن َجمي ِع ُّ َ يوخ ا َملدي َن ِة: قال َل ُه �أَ َح ُد ُ�ش ِ َ ال�س ِاح َر ِة َّ الط ِّي َب ِة�ِ ..إنَّ الأ ْم�� َر ال ُب�� َّد ِم��نْ ِ�إخْ ��ب��ا ِر َّ َي ْ�س َتف ِْح ُل ِب ِ�ش َّد ٍة ..و�إِ َّن َك ُم َ�ؤ َّه ٌل ِل َهذا الأ ْم ِر ِب َف ْ�ض ِل ُخ ُل ِق َك و ُن ْب ِل َك َ جاع ِت َك.. و�ش َ ا�س ُم ُه وهَ َكذا َق�� َّر َر ال َفتى ال ّثا ِلثُ املُجا َز َف َة ،وك��انَ ْ ُع َم َر. َ ْبال ،ود ََخ َل ا�س ِتق ٍ ا�س ُت ْق ِب َل �أ ْح َ�سنَ ْ َ�ص َعدَ �إِىل ال َق ْ�ص ِر َف ْ َ �إِىل ُغ ْر َف ٍة َع َل ْيها ُن ٌ قو�ش محَ ْ فو َر ٌة ِب�أ ْح ُر ٍف َغري َب ٍة .قا َل ِت ال َعجو ُز: َ ري �أ ْر َعنُ ِم ْث َل ال َّل َذ ْي ِن َ�س َب َ قاك؟! �أَجا َء ِب َك ُح ْل ٌم َكب ٌَن َظ َر �إِ َل ْيها ُع َم ُر ُمعا ِتب ًا و�أَ ْط َر َق َي ْبكي ُبكا ًء ُم ّر ًا.. ماذا َحدَ َث َل َك يا ُب َن َّي! َ �����س ْ��د ِت ا َمل��دي�� َن�� َة ،دونَ َق ْ�ص ٍد ِم�� ْن ِ��ك� ،أ َّيتُها َل�� َق ْ��د �أَ ْف َ ال�س ِاح َر ُة َّ الط ِّي َب ُة! ّ َ فت ا َمل ْر�أ ُة ُم َت َو ِّت َر ًة و َر َّد ْت: َو َق ِ َ َك�� ْي َ��ف تجَ ْ ��� ُر ُ�ؤ على َق��� ْو ِل هَ ��ذا؟ �أتَ�� ْع�� َت�ِبُرِ ُ ين َم ْ�صدَ ر ًا ِل ْل َف�سا ِد؟! َيان با�ش ٍر ..ال َفت ِ َل َق ْد �أَ ْف َ�س ْد ِت ا َملدي َن َة ِب َ�ش ْك ٍل َغيرْ ِ ُم ِ واجباتِهِ ما َ ذان َم َن ْحتِهِ ما َ و�ش َرعا ال َّل ِ املال وال ُق َّو َة َن ِ�سيا ِ ران ال َف�سا َد ُّ ا�س َعلى َي ْن ُ�ش ِ والظ ْل َم يف ا َملدي َن ِة� ..إِنَّ ال ّن َ وح ْلمي يا َ�سيِّدَ تي� ،إِنْ كانَ يل َو ْ�ش ِك ا ِال ْنهِ يا ِر وا َمل ْو ِتُ .. 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
133
ُح ْل ٌم ،هُ َو �أَنْ ت َْ�سترَ ِ ّدي ِم ْن ُهما ما َم َن ْحتِهِ ما َع�سى ا َملدي َن ُة مان. ال�س ْل ِم والأَ ِ �أَنْ َت ْن َع َم ِب ِّ َو َق َف ِت ا َمل��ر�أَ ُة َم َّر ًة �أُخْ ��رىَ ،ل ِك َّنها دومنا تَوت ٍُّر ،كا َن ْت �سام ٌة َع َ ري�ض ٌة ،وقا َل ْت: َت ْرت َِ�س ُم على محُ َ ّياها ا ْب ِت َ َل َق ْد ُك ْنتُ َم ْ��د ِر َك�� ًة لمِ��ا َ�س َي ْح ُ�ص ُل�ِ ..إ َّن��ه��ا تجَ ْ ِ��ر َب�� ٌةَطيعان ُمقا َو َم َة �أَ ْد َخ ْل ُت ُهما فيها؛ �أَ َردْتُ َ�أنْ �أَ ْع ِر َف هَ ْل َي ْ�ست ِ وات َوم َل ّذ ِات َ َّ طان يف احليا ِة� ،أَ ْم �أَ َّن ُهما َ�س َي ْ�س ُق ِ ال�ش َه ِ الها ِو َي ِة! َ قال ُع َم ُر ُم َت َل ِّهف ًا: َ ال�س ِاح َر ُة َ وما َاحلكي َم ُة؟ احل ُّل �أ َّيتُها ّ َ َ ال�س ِاح َر ُة ِل ُع َم َر ما ًء ُم َق َّد�س ًا و�أ َم َر ْت ُه ِب�أنْ َي ُر َّ�ش �أَ ْع َط ِت ّ ال�شا َّبينْ ِ ِّ ِب ِه ّ ال�ش ّري َر ْي ِن. َ ولمَ ّا َف َع َل ا ْنتَهى �أ ْم ُرهُ ما :ال َفتى ال َق ِو ُّي َف َقدَ ُع ْن ُفوا َن ُه مام ُه ِ�إ ّال ال ُبكا ُء على َما�ضي ِه َ ميل ِ اجل ِ و�ش َّد َتهَُ ،ف َل ْم َي ْبقَ �أَ َ ُ َ بيث �صيب بمِ َ َر ٍ�ض َخ ٍ ال�س ِ راب ،و َب ْعدَ �أ ّي ٍام �أ َ املُ ْن َق ِر ِ�ض َك َّ َ َ َف َق َعد يف ا َ خل�لا ِء ال �أ َح��د ُيبايل ِب ِه ِ�إىل �أنْ ماتَ َم ْي َت ًة َ بيح ًةَ ،ف َت َع َّف َن ْت ُج َّث ُت ُه وط��ا َر ْت يف الأ ْرج��ا ِء را ِئ َحتُها َق َ َ ال َكري َه ُة ،ولأ ّنها لمَ ْ تجَ ِ ْد َمنْ َي ْد ِف ُنهاَ ،ف َق ْد هَ َج َم ْت َع َل ْيها ال ُّن�سو ُر اجلا ِئ َع ُة هُ جوم ًا َ�ش ِر�س ًا. َ َب ْي َنما ال َفتى ال َغ ِن ُّي �أَ�ضا َع َث ْر َو َت ُه ُك َّلها ،و َبدَ �أ َيت ََ�س َّو ُل و�س َق َط ْت ُم ْع َظ ُم ال�صدَ ِ ا�س َّ قاتُ ،ث َّم َب ِل َي ْت ِثيا ُب ُه َ ال ّن َ َ �أَ ْ�سنا ِن ِه وا ْب َي َّ�ض ِن ْ�ص ُف َ�ش ْع ِر ِه� ،أ ّما ال ِّن ْ�ص ُف ال ّثاين َف َق ْد تَ�سا َق َط ِب َ�س َب ِب ا َمل َر ِ�ض َّ العنيد. ال�شديد ِوال َفق ِْر ِ َ َ َ َي ُ ا�س �أَ ّن ُه ماتَ َم ْي َت ًة �أ ْق�سى و�أ ْ�س َو�أ ِمنْ َم ْي َت ِة قول ال ّن ُ َ َ واح��دَ ًة ،و َت َع َّط َل ِت ال َّر ُج ِل الأ َّو ِل�ُ :ش َّل ْت �أ ْطرا ُف ُه ُد ْف َع ًة ِ َ َّواح ُف َت ْل َذ ُع ُه وا�س ِهَ ،فكا َن ِت العقار ُِب والز ِ احل َر َك ُة يف َح ِّ ُ َ �صيب ِب َ�ش َل ٍل ُك ّل ٍّيَ ،ل َق ْد ُح ِر َم دونَ �أنْ ُيقا ِو ُمَ ،حتّى ِل�سا ُن ُه �أ َ راخ! َحتّى ِمنَ ال ُبكا ِء ُّ وال�ص ِ ال�س ّكانُ َم��� َّر ْت َ�أ ْ���ش�� ُه�� ٌر َفمات َِت ال��� ّ��س ِ ��اح�� َر ُةِ ،ا ْج�� َت�� َم�� َع ُّ ا�س َب َكوا َع َل ْيها و َد َفنوها يف َم ٍ كان َن ٍ ري ِمنَ ال َّن ِ ظيفَ .كث ٌ 134
العدد
7
يوخ ُموع �صا ِد َق ٍة .وتمَ َّ يف َنف ِْ�س ال َل ْي َل ِة ْاج ِتما ٌع ب َني ُ�ش ِ ِبد ٍ َ َ ا َملدي َن ِة �أ ْ�س َف َر َع ِن اخْ ِتيا ِر ال َفتى ُّ ال�شجا ِع ُع َم َر �أمري ًا ْ الم ُ َع َل ْيهِ ْم ،وهَ َكذا َ وط َم�أني َن ٍة وكانَ عا�ش ِت ا َملدي َن ُة ِب َ�س ٍ ناع ِة ُع َم َر َ جاع ِت ِه. و�ش َ َذ ِل َك ِب َف ْ�ض ِل َق َ
آة الن في المِ ْر ِ ِ ط ْف ِ �إِذا ُك ْن َت َتعْبرُ ُ َّ ئي�س َّي ت َْ�ستَطي ُع �أَنْ ُت ْب ِ�ص َر ال�شا ِر َع ال َّر ِ ُّجاج َّي ِة. الواج ِ َ�ص ّف ًا َطوي ًال ِمنَ ا َملقاهي ِ هات الز ِ ذات ِ ال َكرا�سي َّ ظامِ ،ومنَ ال ّد ِاخ ِل والطا ِوالتُ ُم ْ�ص َط َّف ٌة ِب ِن ٍ َت ْن َب ِعثُ ال َّروا ِئ ُح َّ ال�شهِ َّي ُة� .إِ َّن ُه َو ْقتُ ال َغداءَِ .حرا َر ُة ُيو ْن ُيو َت ْل َ�س ُع ال ُوجو َه َل ْ�سع ًاَ ..حتّى ال ّر ُيح ا ّلتي َت ُه ُّب َبينْ َ ال َف ْي َن ِة والأُخْ رى َت ُكونُ جا َّف ًة تجَ ْ َر ُح َ احل ْلقَ . َج َل َ�س َ�سم ُري َم َع �أُ ْ�س َر ِت ِه على طا ِو َل ٍة َنظي َف ٍة .كانَ ُع ْم ُر ُه ا ْثني َع َ�ش َر عام ًاَ ..و�سي ٌم َ وذ ِك ٌّي و َل ِك َّن ُه َم َّيا ٌل ِ�إىل َّ ال�ش َغ ِب �أَ ْحيان ًا ..كا َن ِت الأُ ْ�س َر ُة َت ْن َع ُم ِب َ�سعا َد ٍة عار َِم ٍة. تان ،رُبمَّ ا اجل َه ِة الأُخْ ��رى ِط ْف ٌل َع ْينا ُه ُم ْغ َر ْو ِر َق ِ يف ِ َ َ َ َ ِب َ�س َب ِب اخل�� ْو ِف� ،أ ْو ِب َ�س َب ِب امل َر ِ�ض� ،أ ْو ِب َ�س َب ِب َح��را َر ِة ُيو ْن ُيو� ،أَ ْو ِب َ�س َب ِب اجلو ِع� ،أَ ْو ِب َ�س َب ِب هَ ِذ ِه الأَ ْ�شيا ِء ُك ِّلها. وع ْل َب َة َ�سجا ِئ َر� :إِ َّن�� ُه ك��انَ َي ْحمِ ُل ُ�ص ْندوق ًا َ�صغري ًا ُ يمَ ْ َتهِ نُ َع َم َلينْ ِ يف ال َو ْق ِت َنف ِْ�س ِهَ :ي ْبدو �أَ َّن ُه محَ ْ ٌ ظوظ؛ َيبي ُع ْ�سيط ،و ُي َل ِّم ُع الأَ ْحذ َي َة! ال�سجا ِئ َر ِبال َّتق ِ َّ ً الم��ع��ا َل ْو ُنها َ قال ك��انَ ُك َّلما َر�أى َ���س�� ّي��ا َر ًة َج��دي��دَ ًة ِ خاط ُبها: ُي ِ َ وك ِ�إىل َي ْو ِم ال ّد ِين! َم ْلعو ٌن �أ ُب ِال�سعيدَ ُة َتتَنا َو ُل َغدا َءها .املا ُء ا َمل ْع ِدنيِ ُّ ُذو الأُ ْ�س َر ُة َّ َّ الط ْع ِم ا ُ كال ُمث َري ٍة. ذيذ يف ِق ّن ٍ حل ْل ِو ال َّل ِ ينات ِ ذات �أَ ْ�ش ٍ الأَ ْط ُ باق ال َب ْي�ضا ُء ال َّن ِق َّي ُة َ ال�س َل َط ُةُ .ث َّم تو�ض ُع َف ْو َقها َّ
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ْروم �أَ ْطبا ٌق �أُخْ ��رى �أَ ْك�َبُرَ ُ َقلي ًال و َق ْد ُم ِل َئ ْت ِبال َّل ِ حم ا َملف ِ عاب ِّ الطف ِْل ال َآخ ِر �أَنْ َي َ �سيل َ�ش ْوق ًا �إِ َل ْي ِه! ا َّلذي �أَ ْو َ�ش َك ُل ُ ُث َّ��م َن��زَ َل ِ��ت الأَ ْي���دي ال َّر�شي َق ُة املُ��دَ َّر َب�� ُة على ال ّل ْح ِم وال�سكاك ِني ُنزو ًال ال َر ْح َم َة وا�س َط ِة ا َمل ِ وال�س َل َط ِة ِب ِ الع ِق َّ َّ في ِه وال َ�ش َف َق َة! ُ ا�س ُينادو َن ُه ال َفتى ،يف ِ اجل َه ِة الأخْ رى ،ال َ ا�سم َلهُ؛ ال ّن ُ َ خان ،وت��ا َر ًة مبا�س ِح الأ ْح ِ��ذ َي�� ِة ،وت��ا َر ًة ِببا ِئ ِع ال ُّد ِ َط�� ْور ًا ِ َ تيمَ . داخ َل ِخ ْر َق ٍة ِمنَ قيل �أ َّن ُه ُو ِجدَ ُم َك َّوم ًا ِ �أُخْ رى ِبال َي ِ مام ٍةِ .ا ْل َت َق َط ْت ُه ْام�� َر�أَ ٌة ال َّث ْو ِب البايل ِ داخ َ��ل ِب ْر ِ ميل ُق َ ال�شا ِر ِع َي ْل َت ِق ُط ِك ْ�س َر َة ا ُ و َر َّب ْت ُه ُث َّم مات َْتَ ،ف َخ َر َج ِ�إىل َّ خل ْب ِز ال�س ْودا َء املُ َب َّل َل َة ِبال َع َر ِق وال ُّذ ِّل وا َ خل ْو ِف. َّ ُح ِر َم ِمنْ َت َع ِّل ِم ا ُ روف ِومنْ َت َعلُّ ِم َ نان ِومنْ َت َعلُّ ِم احل ِ حل ِ الأَ َم ِ��ل .كانَ َي ْع َت ِق ُد دا ِئم ًا َ�أنَّ الأَ َم َ��ل َ�ش ْم َع ٌة َ�س ْودا ُء َق ْد �أَ ْط َف َ�أتْها ال ّر ُيح ..ال َي ْح ُل ُم ِب َ�ش ْيءٍ ،و َل ِكنْ ال َ�ش َّك �أَ َّن ُه َي َت َ�ألمَّ ُ الم َر�أَ ٍة ماما� ،أَ ْو ِل َر ُج ٍل ِل َ�ش ْيءٍ ِ واح ٍدَ :ذ ِل َك �أَ َّن ُه لمَ ْ َي ُق ْل ْ جي ِة ِع َن ٍب َ�صغ َري ٍة ،ج��ا َء ْت َج ّرا َف ٌة بابا�ِ ..إ َّن ُه ِم ْث َل ُ�ش رَْ َ غا�ض َب ٌة وا ْق َت َل َعتْها ا ْق ِتالعا! ِ َ راه َّيةَ :ل َق ْد �أ ْز َع َج ُه تيم َن ْظ َر َة َك ِ َ�سم ُري َي ْن ُظ ُر ِ�إىل ال َي ِ تيم ِب َن ْظ َر ِت ِه املُخي َف ِة و ُلعا ِب ِه ا ّلذي َي ُ احلق ِْد.. �سيل َك ِ ال َي ُ ُ َ باق ُ وغ ِ�س َل ِت وه َي َتتَثا َء ُبُ ..د ِف َع َث َمنُ الأ ْط ِ قام ِت الأ ْ�س َر ُة ْ َ ُ َ ال�س ّيا َر َة الفَخْ َم َة ع مي اجل ب ك ر م ث ابون ال�ص ب دي ي ِ َّ َ ِ َ الأَ ْ ِ ّ ُ َّ اللاّ ِم َع َل ْو ُنها.. ال�س ّيا َر ِة َ وقال: َن َظ َر ال َي ُ تيم َ�ص ْو َب َّ وك ِ�إىل َي ْو ِم ال ّد ِين! َم ْلعو ٌن �أَ ُب ِاحلا�سوب ،ان َفت ََح ْت ��ام ِ يف ا َمل�سا ِء َج َل َ�س َ�سم ُري �أَم َ قام مام ُه َعوالمِ ُ َغري َب ٌةَ .م َّر ْت َ �أَ َ �ساع ٌة َف َ�ش َع َر ِبال َّت َع ِبَ ، يون :كانَ مام ال ِّت ِل ِفزْ ِ وتَنا َو َل َع�صري ًا ُم ْن ِع�ش ًاُ ،ث َّم َج َل َ�س �أَ َ را�ص َن ِة ال َب ْح ُر �أَ ْز َر َق �أَ ْز َر َقِ ،منْ َب ٍ عيد تَرا َء ْت َ�سفي َن ُة ال َق ِ �لام َ���س�� ْودا َء ،ال َ�ش َّك �أَنَّ َم ْع َر َك ًة َ�شديدَ ًة ُمزَ َّي َن ًة ِب���أَ ْع ٍ را�ص َن ِة�َ ..ش َع َر َ�سم ُري ِبال َّن ْو ِم َ�س َت ْندَ ِل ُع َبينْ َ ال َب َط ِل و َبينْ َ ال َق ِ العدد
اجل َه ِة الأُخْ رى ُي ِ ال�سفي َن ُة ا ْقترَ َ َب ْتِ ،منَ ِ داع ُب ُجفو َنهَُ ، را�ص َن ِة جاع ٍة َف ْو َق َ�سفي َن ِة ال َق ِ َي ْق ِف ُز ال َب َط ُل ب ِا ْرتمِ ا َء ٍة ُ�ش َ اجل َ راع ُه الأَ َب ِد َّي َ ميل ِ�ض َّد َّ ال�ش ِّر.. ِل ُي ِ وا�ص َل ِ�ص َ ً َ َ نام نوما ها ِدئا دونَ َم ْع ِرف ِة ِنها َي ِة كانَ َ�سم ُري ق ْد َ ال ِف ْل ِم املُ َ�ش ِّو ِق. تيم َي َت َو َّ�س ُد ِق ْط َع ًة ِمنَ يف ال�� َو ْق ِ��ت َنف ِْ�س ِه ك��ان ال َي ُ ُراب ا َمل ْ�س ِج ِدَ .ر َف َع َر�أْ َ�س ُه �إِىل الكا ْر ِ تون املُت َِّ�س ِخ َف ْو َق ت ِ نجُ وه َي َت ْل َم ُع ِب َح َن ٍق ..ت ََخ َّي َل ل ِوَ ال�سما ِء َف َر�أى َوم يو ْن ُيو ْ َّ باح؟ هَ ْل يمُ ْ ِكنُ ا�صطا َد ِ واح��دَ ًة ِم ْنها!هَ ْل ت ُْ�ش ِب ُه امل ِْ�ص َ ْ َ َ َب ْي ُعها؟ وهَ ْل يمُ ْ ِكنُ �أنْ ُت َل ِّم َع الأ ْح ِذ َّي َة؟! عو�ض َ واح�� ٌد َح�� َر َم�� ُه ال�� َّن�� ْو َم :ال َب ُ واحل َ�شراتُ َ���ش ْ��ي ٌء ِ الأخْ رى ال ّال ِ�س َع ُة. َبدَ �أَ َي َت َق َّل ُب يمُ ْ َن ًة و ُي ْ�س َر ًةَ ،حتّى َو َجدَ َنف َْ�س ُه ال َي ْ�ش ُع ُر نام َ وغ َّط يف ال َّن ْو ِم. ِب َ�ش ْيءٍ َ . ُ را�ش ِه ِب ٍر ْف ٍق. َح َم َل ِت الأ ُّم ا ْب َنها َ�سم َري و َو َ�ض َع ْت ُه يف ِف ِ �أَ ْط َف َ�أ ِت ال ّنو َر َف�سا َد َظال ٌم َك ٌ ثيف ..وكانَ ال َب ْيتُ خا ِلي ًا، َ الم ا ّلتي َتت ََج َّو ُل َج ْذال َن ًة َبينْ َ َ �ساعتَها�ِ ،إ ّال ِمنْ َب ْع ِ�ض الأ ْح ِ ال ُغ َر ِف! َ تيم َف َل ْم ُي َغ ِّط ِه �أ َحدٌ ..ال ُّنو ُر لمَ ْ َي ْن َط ِف ْئ َط َ وال �أَ ّما ال َي ُ جوم ا ّلتي كا َن ْت ُم ِ�ش َّع ًة يف الأَ ْعلىِ ،ه َي ال َّل ْي ِل ..لأَنَّ ال ُّن َ ال�سما َء! َم ُ �صابيح اللهَّ ِ ا ّلتي َز َّينَ ِبها َّ 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
135
دراسة
الرحلة من النص الشفاهي إلى النص المكتوب �أ�سماء الزرعوين الإمارات
الأ�صل يف تاريخ التدوين نابع من الن�ص ال�شفاهي ،بل �إن اللغة املكتوبة لي�ست �إال ترجمان ًا م�ؤكداً لتلك الأ�صوات ال�صادرة عن الب�رش ،والتي خا�ضت معرتك التطور البيولوجي والتاريخي؛ لكي تتحول تباع ًا �إىل لغات متعددة كما نرى الآن يف العامل كله.
الكتابة بهذا املعنى ترجمة م�ؤكدة لتلك ال��دالالت ال���ص��وت�ي��ة امل �ق��رون��ة ب� ��دالالت ق��ام��و��س�ي��ة ،ح�ت��ى �إن ال لي�س �إال �صوتاً احل ��رف امل�ك�ت��وب بو�صفه ت�شكي ً توا�ضع متابعوه على �أن ي��أخ��ذ �شك ً ال حم ��دداً ،ويف ع �ل��وم الأل �� �س �ن �ي��ات احل��دي �ث��ة ال �ك �ث�ير م ��ن امل �ع��ارف املتعلقة بالعالقة بني اللغة وال�صوت ،وقد توا�ضع علماء الأل�سنيات على �أن اللغة املكتوبة عبارة عن خوارزميات ت�شكيلية ت�ستقي �أبعادها الكتابية من ال �� �ص��وت امل �ن �ط��وق ،وب �ه��ذا امل�ع�ن��ى ي �ح��دث ن ��وع من الرتا�سل املنطقي ال�شكلي بني اللغة بو�صفها �صوتاً، واللغة بو�صفها كتابة. م��ن ه ��ذا امل�ن�ط�ل��ق الأ� �س��ا� �س��ي مي�ك�ن�ن��ا الإق� � ��رار ب ��أن الن�ص ال�شفاهي �سابق على الن�ص املكتوب ،والدليل القاطع املانع واملاثل �إىل يومنا ه��ذا �سنالحظه يف تلك اللغات التي مازالت �شفاهية وال ُتكتب ،كما هو احل��ال بالن�سبة �إىل العديد م��ن اللغات واللهجات الأفريكانية والآ�سيوية .وه��ذه دالل��ة وا�ضحة على �أ�سبقية املُ�شافهة على الكتابة. على امل�ستوى التاريخي ،كانت الآداب ال�شفاهية تمُ ثل 136
العدد
7
حالة مركزية يف انتقال امل�ع��ارف م��ن ف��رد �إىل �آخ��ر، ويف تاريخنا اخلا�ص �سنجد �أن فقه التدوين الكتابي للمعارف كان مقروناً بالتلقي ال�شفاهي للمعرفة ،وقد تك ّر�س ه��ذا التقليد من خ�لال امل��دار���س واجلامعات التي م��ازال��ت حتر�ص �إىل يومنا ه��ذا على �أن يكون الأ�ستاذ املدر�س و�سيلة �أ�سا�سية يف نقل املعرفة. يف الآداب ال�سردية التاريخية جند �أن "احلكي" �ش ّكل نقطة مركزية يف تلك الآداب ،وكلنا يعرف حكايات اجل ��دات ال�ت��ي ك��ان��ت مت�ث��ل قيمة ثقافية وت��رب��وي��ة �ساهمت �إىل حد كبري يف تنمية اخليال والإدراك، ومعرفة �أحوال الوجود و�أ�ساطري التاريخ. ويف امل�سرح الإغريقي التاريخي كانت حالة التمازج بني املنطوق واملرئي تكثف االت�صاالت غري اللفظية الواقفة يف حد الرتجمة امل�ؤكدة للأ�صوات ،متاماً كما هو احلال يف الكتابة. ويف الرتاث العربي ،جند "م�سرح احلكواتي" الذي يعتمد على �شكل من �أ�شكال املونودراما ال�شفاهية ال�ت��ي يتم ّتع بها احل��اك��ي ال �ق��ارئ ،ول�ع��ل ه��ذا النوع من الفن احلكواتي خري �شاهد على مركزية الأداء
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
اللغة املكتوبة عبارة عن خوارزميات ت�شكيلية ت�ستقي �أبعادها الكتابية من ال�صوت املنطوق ال�صوتي و�أهميته ال�شفاهي يف نقل احلكاية ،وما يحيط بها من عوامل وتعبريات. جمتمع دولة الإمارات� ،ش�أنه مثل �ش�أن كل املجتمعات وال�شعوب ،جند فيه الق�ص�ص واحلكايات ال�شعبية، ذات الثقافة ال�شفاهية متعددة الأن�ساق والأ�شكال. وه��و جمتمع ك��ان يعي�ش يف عزلة �شخ�صية بحتة، فعلى الرغم من ب�ساطة النا�س وطبيعتهم النادرة ف�إنهم كانوا كثريي احليطة واحل��ذر من االت�صال بالآخر� ،سواء كان قريباً �أم بعيداً ،الأمر الذي �ساعد على بروز حالة من االنعزال وعدم الت�أثر بالأفكار اجل��دي��دة .ل��ذا ،ت�ع��ددت ال��رم��وز والإ� �ش��ارات لديهم، واختلفت مدلوالتها يف حياتهم ويف �أدبهم؛ فالأدب ال�شعبي ،وعلى الرغم مما يتميز به من ب�ساطة يف ال�شكل ،جند فيه غمو�ضاً يف امل�ضمون. وم��ن �أه��م ال�ع��وام��ل ال�ت��ي ��س��اع��دت يف ظ�ه��ور الأدب ال�شفهي: التعليم القر�آين يف الكتاتيب ،والذي كان يعتمد على احلفظ والتلقني ،ويعترب احلفظ دون فهم عتبة انطالق �سابقة لفهم حمتوى املادة املحفوظة� ،سواء كانت قر�آناً كرمياً �أو �شعراً. �أ�� �ص ��وات ال �ب �ح��ارة امل�تراف �ق��ة م��ع رح �ل�ات ال�غ��و���ص وال�ت�ج��ارة البحرية ،وال�ت��ي كانت حتمل يف طياتها الأن�ي�ن وال�شجن واحل�ن�ين �أي���ض�اً ،مم��ا ميكن تتبع تدوينه الأ�سا�سي من خالل الت�سجيالت ال�صوتية التي بقيت منذ تلك الأيام. ح �ك��اي��ات اجل� ��دات ال �ت��ي �أ� �س �ه �م��ت يف ن �ق��ل م �ع��ارف ال ��وج ��ود وال �ط �ب �ي �ع��ة وال� �ت ��اري ��خ ،وك� � ّر�� �س ��ت ل��دى الطفولة خيا ًال خ�صباً من الق�ص�ص التي عُرفت يف جمتمع الإم��ارات باخلروفة وجمعها خراريف، ومن �أ�سمائها اخلريريفة ،وهي حكاية مغناة تقال العدد
ملن بلغوا الثانية من العمر و�أكرث. الفنون الب�صرية امل�ستندة على احلروفية العربية وال�ق��ادم��ة �أ��ص� ً لا م��ن الآي ��ات القر�آنية والن�صو�ص ال�شعرية التي تك ّر�ست يف الذاكرة ال�صوتية قبل �أن تتحول �إىل فنون ب�صرية. ت��أخ��ر التعليم النظامي يف دول��ة الإم � ��ارات؛ فثمة اخ�ت�لاف ح��ول ت��اري��خ �إن���ش��اء �أول م��در��س��ة نظامية ظهرت يف �أبوظبي ،وهي مدر�سة ابن خلف ،فهنالك من ي�ؤكد �أن ذلك كان عام ،1902و�آخ��رون يقولون �إنها �أن�شئت عام 1912م� .أما يف دبي فقد �أن�ش�أ تاجر ال�ل��ؤل��ؤ ال�شيخ �أح�م��د ب��ن دمل��وك مدر�سة الأحمدية ع��ام 1912م� .أم��ا يف ال�شارقة فكانت هناك مدر�سة التيمية املحمودية التي �أن�ش�أها ال�شيخ علي املحمود عام .1920وقد ت�أخر ظهور الق�صة املكتوبة ب�سبب ت��أخ��ر التعليم ،ومل تنت�شر تلك الق�ص�ص �إال حني �صدرت اجلرائد واملجالت ،وكانت مو�ضوعاتها حول ال�صحراء والبحر والنخلة ،كما تناولت بعد ذلك ق�ضايا ال��زواج من الأجنبيات� .أم��ا �أول من كتب �أو ن�شر ق�صة يف احلقيقة فيمكن احل��دي��ث ع��ن جيل، ولي�س عن فرد واح��د ،مثل :عبداهلل �صقر و�شيخة الناخي وحممد املر وم��رمي جمعة ف��رج .ثم توالت الكتابات على يد الرعيل الأول ،من �أمثال :علي �أبو الري�ش وعبد احلميد �أحمد ونا�صر جربان و�إبراهيم مبارك و�أمينة بو�شهاب� .أما �أول جمموعة ق�ص�صية �صدرت فهي "اخل�شبة" لعبداهلل �صقر عام .1975 و�أول رواي��ة �إم��ارات�ي��ة كانت �شاهندة للكاتب را�شد عبداهلل النعيمي ،و�صدرت عام 1971م. على خط ُم ّت�صل ،ميكننا تتبع �أث��ر ال ُبعد ال�صوتي ال�شفاهي يف فنون التلفزيون وال�سينما امل�سرح ،مما ي�ستحق وقفة مطولة يف مقال قادم ب�إذن اهلل 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
137
أنت أيُّها المالك؟ من َ إبراهيم الكوني يبحث عن البراءة األولى
دراسة
د .يو�سف حطيني �شرح الكاتب
138
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
عندما ت�صافح عيناك عنوان رواية"من �أنت �أيها املالك" ،جتد نف�سك م�شغو ً مير عليك وقت طويل ،و�أنت تطالع ال بهذا العنوان املثري .ولن ّ ال�صفحات الأوىل ،قبل �أن تدرك � ّأن ال�شغل ال�شاغل لهذه الرواية هو البحث عن الهوية التي متنح الإن�سان معنى وجوده ،و� ّأن املالك ب�سا بن هو يف حقيقته �أنت و�أنا و�إبراهيم الكوين م�سي ّ و"م�سي بن ّ ّ م�سي ن�سن" ،ذلك البطل الروائي الذي حمل على عاتقه عبء اال�سم ّ ّ يت�شكل من خالل االنتماء �إىل املكان، والهوية ،ور�أى � ّأن حتقيقهما و�أ ّنه� ،أي املالك ،لي�س جمرد رجل ينتمي �إىل �أقلية عرقية م�سلوبة احلرية ،بل هو �أي�ض ًا رجل يردد يف ت�ضاعيف خيباته املتكررة �صدى ّ كل املعذبني الباحثني عن ذواتهم يف مواجهة �إرادة التغييب.
ت��ق��وم حكاية ه��ذه ال��رواي��ة على ث�لاث ح��رك��ات: م�سي للبحث عن ا�سم تتلخ�ص احلركة الأوىل يف رحلة ّ ابنه ،وتبد�أ الثانية حني ينطلق �إىل ال�صحراء دلي ًال لـ "�شركة التنقيب عن النفط" التي يكت�شف فيما بعد �أنها ع�صابة ل�سرقة الآثار ،بينما تبد�أ الثالثة مع �سعيه �إىل التط ّهر من رج�س اخلط�أ الذي نتجت عنه �سرقة احلجر املقد�س ،وال تنتهي �إال حني ي�ضحي بابنه على مذبح ال�صحراء. �أو َال – رح��ل��ة ال��ب��ح��ث ع��ن ا���س��م ال���وري���ث� :إي��ق��اع االنتظار: حت ّمل الرواية عبء عقدتها للقارئ منذ جملتها الأوىل ،فهي ال متهله حتى ي�ستوعب اجل�� ّو العام� ،أو البيئة الزمنية واملكانية التي يجري فيها احلدث ،كما اعتاد �أن يفعل كتّاب الرواية التقليدية ،بل ت�ضع القارئ يف �أت��ون العمل الروائي مع ظهور ال�سياق االبتدائي ي�سجل ا�سم م�سي� ،إذ يريد �أن ّ الذي يلخ�ص م�شكلة ّ العدد
مولوده اجلديد ،فتعرت�ضه عوائق �أولها �أن اال�سم الذي اختاره للمولود لي�س من النوع الذي توافق عليه دائرة ال�سجل املدين: م�سي �شهادة الوالدة �أمام موظف ال�سجل "و�ضع ّ املدين وقال: يوجرتن!حدجه املوظف با�ستفهام ،ف�أ�ضاف: يوجرتن! ا�سم املولود يوجرتن!انحنى موظف ال�سج ّل على القرطا�س املت ّوج ب�شعار "م�ست�شفى الوالدة" قبل �أن ي�ستنكر: يوجرتن؟!".تت�صاعد احلكاية وتتعقد الأم��ور التي تبدو لأول م�سي املتكررة، وهلة ب�سيطة ج���د ًا ،نتيجة �أخ��ط��اء ّ ابتدا ًء باخلطيئة الكربى لهذا القادم من ال�صحراء، �أعني :جهله بخ�صال املدينة وموظفي الدولة الذين ي��رون يف "جموع اخللق التي تُقبل عليهم �ضرب ًا من 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
139
قطعان �أنعام". وقد �أفرزت هذه اخلطيئة جمموعة م��ن اخل��ط��اي��ا ،ف��ه��و ي��ق��ول ملوظف ال�سجل م�ستكرب ًا" :يوجرتن ا�سم ككل الأ�سماء" ،و�إذ يقول موظف ال�سج ّل عبارة "مل �أ�سمع با�سم كهذا م�سي ي�ضيف خطيئة من قبل" ،ف�إن ّ �أخ���رى �إىل خطاياه املتالحقة� ،إذ يقول للموظف" :اجلهل بال�شيء ال يعني عدم وجود ال�شيء". م�سي �إىل املدينة ،وهو �إنّ ق��دوم ّ يحمل يف روح���ه ب���راءة ال�صحراء وعنفوانها ومتردها يوقعه يف ذلك ال��ن��وع م��ن الأخ��ط��اء ال��ذي يتلخ�ص يف �أن يطالب املرء بحقه يف جمتمع مدين ال يعرتف بوجود املرء ذاته؛ لذلك ينتظر �أيام ًا و�أ�سابيع ،وال مي ّل من املطالبة بحقه ،يف �أن يعطي ابنه ا�سم ًا الئق ًا ،بل �إنه يتجا�سر ذات مرة ويطلب مقابلة رئي�س الدائرة فتكون النتيجة قهقة جماعية كريهة.. وما ذلك �إال لأنه جاهل باملدينة التي ظنّ �أنه يعرفها. م�سي لقوانني املدينة املفرتَ�ضة �إنّ ع��دم �إدراك ّ مكان ًا جلزء معتبرَ من الرواية كان لعبة فنية ذكية من �إبراهيم الكوين؛ لأن هذا اجلهل �أعطى الرواية نوع ًا من الإث��ارة التي تتك�شف خيوطها �شيئ ًا ف�شيئ ًا؛ م�سي ّ يو�ضح له فحني يلتقي رئي�س جلنة الأ�سماء مع ّ �س َّر رف�ض ا�سم يوجرتن ،فيوجرتن ا�سم يحيل على املا�ضي ،واملجتمع املديني ال��ذي ّ ي�شك يف كل �شيئ يرف�ض املا�ضي على �سبيل االحرتاز: " ...فما معنى جتاهل الأ�سماء الواردة يف القائمة املعتمدة يف ه��ذه ال��دي��ار منذ �سنوات ،والبحث يف 140
العدد
7
ع��ه��ود الظلمات ع��ن �أ���س��م��اء مريبة ب��دع��وى ال��وف��اء لو�صايا الأ�سالف". م�سي امل�سكون بو�صايا الأ���س�لاف ،وروح غري �أنّ ّ ال�صحراء يرف�ض الر�ؤية املدينية لهذا الأم��ر ويعلن لرجل ي�ستجوبه يف اللجنة الأمنية�" :إكبار الأ�سالف ال يه ّدد وحدة الهوية .لأن �شروط �أي وحدة هوية �إمنا تكمن يف ّمل �شمل الأجزاء". م�سي يف ع��ن��اده ،ويف ا�ستفزازه لقوانني وي�ستم ُّر ّ املدينة التي يجهلها ،م�ستند ًا �إىل قوانني ال�صحراء التي ت�سكن روح��ه ،حتى ينتهي به الأم���ر ،ب��د ًال من احل�صول على وثيقة ملولوده اجلديد� ،إىل م�صادرة وثيقته هو ،وما يرتتب على ذلك من �أو�ضاع قانونية جتعل وجوده غري �شرعي. ويغلب على احل��رك��ة الأوىل م��ن حكاية ال��رواي��ة يتج�سد ُبطئ ًا يف حركة احلدث، �إيقاع االنتظار الذي ّ وا�ست�سالم ًا ملجتمع املدينة واملدنية الذي يقوده من
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
م�سي لقوانني املدينة املف َ رت�ضة مكان ًا � ّإن عدم �إدراك ّ جلزء معتبرَ من الرواية كان لعبة فنية ذكية من �إبراهيم الكوين؛ لأن هذا اجلهل �أعطى الرواية نوع ًا من الإثارة التي تتك�شف خيوطها �شيئ ًا ف�شيئ ًا
م�سي وموظف انتظار لآخ��ر .فاللقاء االفتتاحي بني ّ ال�سجل ينتهي ب�أن يعطي املوظف �إي�صا ًال باال�ستالم م�سي ،ويطلب منه االنتظار حلظة ،تتحول �ساعات �إىل ّ م�سي: و�أيام ًا و�شهور ًا ،يقول ّ �شب فيه الر�ضيع ومل يعد طف ًال". "انتظرتُ زمن ًا َّلذلك �أدرك "�أنّ البلية لي�س �أن نهلك ،ولكن �أن ننتظر". م�سي يف ردهات ال�سجل املدين حتى نهاية ينتظر ّ الدوام ،تتوفى زوجته ،فيدفنها ويعود لالنتظار ،و�إذ يعييه االنتظار �أيام ًا و�أ�سابيع و�شهور ًا ،يجد نف�سه يف م�سي الذي احرتف هذا مواجهة انتظار �آخر .غري �أنّ ّ االنتظار يف احلركة الأوىل للحكاية ،مل يكن وحيد ًا، فثمة قرينه مو�سى ،وثمة �آخ��رون ينتظرون ،ومنهم ذلك الرجل الذي يقول له: "�أال�صق هذا اجلدار منذ �شهور! منذ �شهور؟ ظهري نبتة يف هذا اجلدار".هذا الرجل يدرك متام ًا قدرة املدينة الفائقة على مل�سي قانط ًا� :إنك لن جعل النا�س ينتظرون ،فقد قال ّ تفوز مبقابلة رئي�س الدائرة "�إذا مل يقم الي�أ�س بكن�س احل�شود التي ت�سبقك يف القائمة ،و�إذا مل يكن�س املوت من �أمامك البقية الباقية". ثم ي�ضيف�" :إذا ابت�سم لك احلظ يوم ًا و�أفلحت يف الدخول �إىل ما وراء هذا الباب ،فال حت�سب هذا الفوز نهاية مطاف ،لأنه لن يكون �سوى بداية املطاف؛ لأن الكاهن ال��ذي يقبع خلف هذا الباب �سيجد طريقة يعيدك مبوجبها �إىل نقطة االنطالق". ثانيا – رحلة ال�صحراء� :ضياع االنتماء: ولأنّ جمتمع املدينة ال يعرتف �إال بالوثائق الر�سمية، فقد قادت م�شكل ٌة �صغري ٌة االبنَ يوجرتن �إىل املعتقل، العدد
م�سي يف رحالت االنتظار وهنا يتدخل مو�سى (قرين ّ م�سي يف دهاليز ال�سجل املدين) ليعقد من وراء ظهر ّ �صفقة ،تخل�ص مو�سى من انتظاره ،وال يدركها �إال مت�أخر ًا� ،إذ يخربه �أنّ هناك رج ًال ميكن �أن ّ يتدخل م�سي لإخراج يوجرتن من املعتقل ،يف مقابل �أن يقوم ّ بقيادة هذا الرجل �إىل ال�صحراء يف رحلة البحث عن الذهب الأ�سود. م�سي يوافق على �أن ولأنّ الأبناء مبخلة جمبنة ف�إنّ ّ يقود القافلة �إىل ال�صحراء ،وينطلق يف هذه الرحلة مع (ال��ب��اي) �صاحب �شركة التنقيب ال��ذي يكت�شف م�سي بعد فوات الأوان �أنه من ل�صو�ص الآثار� ،إ�ضافة ّ �إىل بع�ض اخلرباء والع ّمال .ويع ّرفنا الروائي يف خالل هذه الرحلة عن كثب على احلجر املقد�س الذي يتح ّدث م�سي ،والكوين من ورائه ،بطريقة �صوفية" :كان عنه ّ احلجر م�سبوك ًا من �صلد �صقيل ،نا�صع ،غريب عن ح��ج��ارة �صحراء ال�صلد ال�����س��وداء ،يقف م�ستدير ًا كقاعدة حلجر �آخر ،يلتحم به التحام ًا ،ينت�صب فوقه ليك ّون ق ّمة مثلثة الأ�ضالع ،مزبورة برموز الأبجدية القدمية بل�سان اللغة القدمية ال�ضائعة التي مل يعد يف ال�صحراء من ي�ستطيع �أن يفك طل�سماتها منذ زمن بعيد". م�سي و�سط ال�صحراء يف مكيدة ويقع امل�سكني ّ (الباي) �إذ ّ يدل ابنه على احلجر املق ّد�س ،ويح ّدث م�سي عن القبائل التي كانت "تنحر قربان ًا يف �أزمنة ّ املحنة ،ث َّ��م تذهب لت�ستجري باحلجر بدهن ال�صلد ب�شحم القربان ،فال تلبث البلية �أن تنق�شع". غري �أنّ يوجرتن الذي كرب بعيد ًا عن رعاية �أمه التي توفيت ،وبعيد ًا عن رعاية �أبيه امل�شغول بت�سجيله ،كان له يف احلجر ر�أي �آخر: "لو كان ما تقوله عن طبيعة احلجر ال�سحرية 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
141
�صحيح ًا فلماذا مل يفلح يف �إن��ق��اذ ال�صحراء من اجل���دب ال���ذي ���ش�� ّت��ت �شمل ال��ق��ب��ائ��ل يف ال�����س��ن��وات الأخرية؟". مثل ه��ذه اللغة ال��ت��ي ت��ف��ارق منطق الأب مل تعد غريبة عليه� ،إذ �إنَّ يوجرتن كان قد �أخ�بره ب�أن�صع بيان ّ ملخ�ص ر�ؤيته لتلك املعركة التي خا�ضها الأب يف �سبيل ت�سجيل ا�سمه يف ال�سجل ،قال يوجرتن: �أن �أحيا يف املدينة با�سم مفرتَ�ض �أهون عندي من�أن �أحيا يف هذا العدم با�سم مكت�سب". وال ينتهي الأم��ر عند ه��ذا احل�� ّد ،فالباي ي�ستعني ب��االب��ن ،مثلما تك�شف �شخ�صية نزيه الفا�ضل ،يف الو�صول �إىل احلجر املق ّد�س ،ويف تهريبه مع جمموعة �أخ���رى م��ن الآث���ار خ��ارج ال��ب�لاد .وق��د عنى ه��ذا �أنَّ م�سي من �أج��ل ابنه كانت بال ف��ائ��دة ،و�أنّ ت�ضحية ّ معركة اال�سم كانت ت�شبه معارك دون كي�شوت على الرغم من �أ ّن��ه مل يكن يحارب فر�سان ال��ه��واء ،بل فر�سان ال�سجل املدين املدججني بالقوانني؛ ذلك لأنّ هذه املعركة انتهت بهزمية مزدوجة� ،إذ �إنه خ�سر �أمه الكربى ال�صحراء ،وخ�سر ابنه �أي�ض ًا. من هنا يبدو �أن املعركة الكربى التي خا�ضها الأب من �أجل اال�سم عدمية اجلدوى ،و�أنّ االبن �شريك مع �أع�ضاء املحفل الذين يريدون م�صادرة اال�سم فقط، بل م�صادرة التاريخ ،ب�سبب ما يحيل عليه من املعاين النبيلة يف لغة الأ�سالف ،فهو يقول ملو�سى" :يوجرتن كلمة تعني "البطل الأكرب"!. ثالثا ـ البحث عن االنتماء من جديد: م�سي رحلة البحث عن انتماء جديد حني يفقد يبد�أ ّ َّ كل �شيء يف املدينة ،فال يكون �أمامه �إال �أن يبيع البيت لريحل �إىل ال�صحراء .لقد خ�سر معركته يف فر�ض ا�سم البنه يف دائرة ال�سجل املدين ،وخ�سر ابنه الذي مل 142
العدد
7
يكن ممتن ًا لأبيه ب�سبب �إ�صراره على هذا اال�سم ،كما خ�سر هذا الأب امل�سكني ا�سمه هو �إذ �صودرت وثيقته، وخان عهده مع ال�صحراء �إذ قاد �إليها الأغراب" .كان عليه �أن يختار الرحيل �إذا �شاء �أن يتج ّنب الرتحيل". وقبل بدء رحلة العودة التي يرف�ض االبن �أن يرافق الأب فيها يبحث الأب ا�ستعادة براءة براءة روحه بعد �أن خان عهد ال�صحراء ،لذلك يقرر �أن ينتقم لها، م�سي عن قربانه وقبل �أن يقودنا الروائي �إىل بحث ّ يق ّدم لنا مقطع ًا �سردي ًا ا�سرتجاعي ًا من �أبدع املقاطع م�سي التي �أخذها هدية من �أبيه يتحدث فيه عن مدية ّ ال��ذي د ّرب��ه على ا�ستخدامها" :د ّربه على ا�ستخدام املدية طوي ًال ،ومل يتوقف عن التمرين �إال يف اليوم الذي ا�ستطاع �أن ينحر باملدية ذئب ًا". م�سي ه��دف واح��د لكي يحقق انتقامه ك��ان �أم��ام ّ لل�صحراء ،ولكي يط ّهر نف�سه ،فهناك الباي الذي �سرق احلجر ،وعبث بروح ال�صحراء وتاريخها ،لذلك ف�إ ّنه "ذهب �إىل مق ّر �شركة التنقيب عن النفط .هناك اعرت�ضه الع�س�س ،فرابط على ر�صيف ال�شارع املقابل. يرت�صد �شبح الباي ،ولكن الرجل مكث يوم ًا كام ًال وهو ّ مل يظهر". مل�سي عن غري �أن النب�أ ال��ذي حمله نزيه الفا�ضل ّ م�سي يتجه اجتاه ًا �آخر� ،إذ يلج�أ �إىل فرار الباي جعل ّ ال�سلطة /املخفر ،ليبلغها �أنّ بع�ض �ضعاف النفو�س ي�ستولون ع��ل��ى روح ال�����ص��ح��راء اخلبيئة يف حجر الأ�سالف ،ليقوموا بتهريبه �إىل ما وراء البحار ،فال يلقى من ال�سلطة �إال التجاهل" :ال�سلطات مل تعد ترى فيها ا�ستنزاف ًا لكنوز الوطن التاريخية ،بل حترير ًا للأر�ض من رج�س الوثن". م�سي ب�إعادة و�إذ يف ّر الباي باحلجر املقد�س يف ّكر ّ روح ال�صحراء ال�ضائعة �إليها ،ولكنّ "ال�صحراء ال
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
"م�سي" رحلة البحث عن انتماء جديد حني يفقد َّ كل يبد�أ ّ �شيء يف املدينة ،فال يكون �أمامه �إال �أن يبيع البيت لريحل �إىل ال�صحراء .لقد خ�سر معركته يف فر�ض ا�سم البنه يف دائرة ال�سجل املدين ت�ستعيد روحها ال�ضائعة امل�ستجرية ب�شجرة الرمت �إال م�سي �إىل ابنه يوجرتن بقربان ج�سيم" .لذلك يذهب ّ وي��غ��ر���س ن�صل امل��دي��ة يف رق��ب��ت��ه" :ا�ستق َّر الن�صل املغ�سول بروح الإله الأبدي يف نحر ال�سليل فخ َّر االبن �أر�ض ًا .انبثق الدم غزير ًا من النحر لي�سيل عرب الأر�ض لريوي �شجرة الرمت". الظم�أى َ و�إنَّ ظهور �صورة املوت املفزعة يف احلركة الثالثة حلكاية الرواية يقوم على الت�أ�سي�س الروائي لطغيان م�سي، �إي��ق��اع ال�صحراء ،وتقدي�س روحها من قبل ّ البطل ال�صحراوي الغ ّر ال��ذي وج��د نف�سه يف حالة جمابهة م�أ�ساوية مع املدنية الغادرة؛ لذلك جنده دائم ًا م�سكون ًا برباءتها ،فهي �أ ّم��ه التي كانت ت�صبرّ ه على غيبوبة االنتظار" :ا�ستعان على هذا الغول بالغيبوبة. ال ينكر �أنه ر ّو�ض نف�سه عليها طوي ًال م�ستنجد ًا بو�صايا �أ ّمه الكربى :ال�صحراء؛ لأنّ احلياة يف ذلك الوطن لي�ست �سوى انتظار طويل ،بل انتظار �أب��دي ال ي�ضع لأبديته نهاية �إال النهاية الطبيعية التي هي املوت". �إن��ه��ا ال�����ص��ح��راء ال�����س��اح��رة الغام�ضة ،املوح�شة م�سي حريته عرب ال�ضياع فيها، الغريبة ،التي يجد ّ ويجد فيها املُ َع ّلم الأ ّول ال��ذي يفوق �أي ُم َع ّلم ،و�إذ ي�س�أله رجل اال�ستجواب عن اجلامعات التي تلقى فيها تعليمه يقول" :ال�صحراء يف م�سرية تعليمي كانت �أوىل اجلامعات". م�سي مل يكن راغب ًا عن التعليم ،ومل يكن �إذ ًا؛ ف�إنّ ّ راغب ًا عن قوانني الطبيعة ،وكان م�ستع ّد ًا للتقيد ب�أي م�سي مع ابنه يقول قانون ت�س ّنه ال�صحراء .ففي حوار ّ له �إن الإن�سان يف ال�صحراء ي�ستطيع �أن يطلق على نف�سه �أي ا�سم دون �أن يخالف اللوائح. "لن يخالف اللوائح ،لأنه ال وجود يف ال�صحراءللوائح. العدد
م�سي من دنيا غيبته: ّ احتج ّ تخطئ! يف ال�صحراء لوائح �أ�ش ّد �صرام ًة منلوائح العمران ،ولكن �سرها يف �أنها لوائح � ِّأمنا الطبيعة ولي�ست لوائح �أخينا الإن�سان". ل��ذل��ك ف��م��ن الطبيعي �أن ي��ج��د امل��ت��ت��ب��ع لل�سياق م�سي على العودة �إىل الروائي �إ�صرار ًا دائم ًا من قبل ّ ال�صحراء ،من مثل قوله: "القافلة التي ال تعود �إىل الوراء قافلة مفقودة". "ال مف ّر من العودة �إىل ال�صحراء �إذا �شئنا �أنن�ستعيد الهوية". "يف ال�صحراء ي�أخذ الآباء �أبناءهم من �أح�ضان�أمهاتهم ليعيدوهم �إىل �أح�ضان �أمهم الكربى� ،أمهم احلقيقية ال�صحراء ،لتعلمهم احلكمة". م�سي طبيعي ًا وم�أ�ساوي ًا، من هنا يبدو ما �أقدم عليه ّ غري �أنّ الأهم �أن ذلك الفعل كان م�س ّوغ ًا فني ًا يف ظ ّل الداخلي املذهل لل�صحراء �إزاء املدينة هذا احل�ضور ّ التي ّ تك�شر عن �أنيابها دون رحمة يف وجه اجلاهلني ال��ذي��ن ال ي��درك��ون قوانينها الظاملة التي حت�� ّول ك ّل موظف يف الدولة قامع ًا من طراز مرعب .فحني ذهب م�سي �إىل م�ست�شفى ال���والدة ملقابلة رئي�س ال�ش�ؤون ّ الإدارية وجد �أن الأ�سماء املدونة التي تنتظر مقابلته بالآالف ،و�إذ تناول القلم ليكتب ا�سمه تردد ثم �س�أل �أمني ال�س ّر ربع �س�ؤال: "هل ميكن..ولكن �أمني ال�س ّر قاطعه بح ّدة: ال ميكن!"�إنّ مثل هذا اجلفاء يف الر ّد يبدو من خالل الرواية �سمة غ�ير �أ�صيلة م��ن �سمات ال�شخ�صية ،ب��ل هي مكت�سبة بفعل الوجود يف الوظيفة ،وهذا بال�ضبط ما م�سي الذي ر�أى �أنّ موظف ال�سجل يناف�س كان يع ّذب ّ 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
143
رب الأرباب يف قدرته (رب الأرباب) بل يفوقه ""لأن ّ مل يبخل بالروح التي نفخها يف الوليد ليهبه احلياة. ولكن م��ارد ال�سج ّل ي�ستطيع �أن يحجب هذه احلياة الرب". التي نالها الوليد باملجان من ّ م�سي ويوجرتن والآخرون: ّ م�سي بجدراة م�ساحة الن�ص منذ �صفحته يحتل ّ الأوىل حتى �صفحته الأخرية ،فينو�س بني اال�ست�سالم ُ فيحاول والتم ّرد� :إنه روح تتوثب ،حتنّ �إىل التم ّرد، يدجنها ،فينجح حين ًا ،ويخفق ق��ان��ونُ املدينة �أن ّ �أحيان ًا� :إذ يجربه قانون املدينة على االنتظار ،ولكنه يقب�ض على جمر قلبه املتوهج ،الذي كثري ًا ما ينت�صر على اجلنب الذي تفر�ضه عليه قوانني ال�سجل املدين. وي�ستطيع املرء �أن يقر�أ كثري ًا من الأن�ساق اللغوية التي م�سي ،فهو بعد عدة جوالت من االنتظار ت�شي بتمرد ّ اليومي جابه ع�ضو املحفل ،و"ق ّرر �أن يجاهر باحتجاج ر�آه من ح ّقه فتم ّرد ( )...قال ب�صوت ّمن عن نفاد ال�صرب: "�إذا كنت �أ�ستطيع �أن �أنتظر هنا �إىل الأبد يف هذا املعتقل ،فه ّل تظنّ �أن بو�سع الإن�سان ال��ذي ينتظر ميالده الثاين �أن ينتظر �أكرث مما انتظر؟". غري �أنّ ع�ضو املحفل ال��ذي ي�ستفهم عن امليالد الثاين (وهو يق�صد توثيق ا�سم املولود يف ال�سجالت) م�سي ،و�أن يعيده �إىل حظرية ي�ستطيع �أن ّ يدجن مت ّرد ّ القانون ،بعد �أن يهدده بالنقل �إىل م�شفى الأمرا�ض العقلية. �أم��ا يوجرتن االب��ن ال��ذي خالف �أب��اه يف كثري من ال�صفات ،فقد ا�شرتك معه يف �صفة �أ�سا�سية هي التمرد ،بل �إنّ مت�� ّرد االب��ن ج��اء �أك�ثر ب���روز ًا ،و�أك�ثر ق��درة على الت�صعيد ال��درام��ي ذل��ك �أن��ه ك��ان عنيف ًا وم�ستمر ًاوموجه ًا �ضد الأب مبا�شرة يف �أكرث الأحيان، 144
العدد
7
يف ح�ين ج���اء مت��� ّرد الأب م���وارب��� ًا وغ�ي�ر ق���ادر على اال�ستمرار. وقد بدا هذا التم ّرد منذ ظهور يوجرتن ،ال ا�سمه، يف �أثناء الفعل الروائي� ،إذ قادته العزلة الناجتة عن االخ��ت�لاف م��ع الآخ���ر �إىل مواجهات انتهت ب��ه �إىل املخفر �أو ًال ،و�إىل خروج االبن من البيت ثاني ًا و�إىل موته �أخري ًا .وثمة �سياقات لغوية عديدة تظهر الوجه الأب��رز لتم ّرد يوجرتن �ض ّد �أبيه ،ذلك التمرد الذي �صدم الأب ال��ذي خ�ضع ل�شركة التنقيب ،لأنّ و َّ يل العهد �أن�ساه العهد ،كما يقول �إبراهيم الكوين .ومن تلك ال�سياقات احلوارات ال�ساخنة التي كانت جتري بينهما احلوار التايل الذي يبد�ؤه االبن: "ماذا ميكن لإن�����س��ان مثلي �أن يفعل يف مكانكال�صحراء التي تتغنى بها ك�أنها جنات عدن؟! وماذا ميكن لإن�سان مثلك �أن يفعل يف مدينة التعرتف به". م�سي ويف ح��وار �آخ��ر يتج ّر�أ االب��ن �أك�ثر �إذ يتهم ّ امل�سكني ب�أنه كان وراء كل املتاعب التي عاناها ،فيقول له: "�أنكرتني هذه املدينة ب�سبب خطيئتك �أنت! خطيئتي �أنا؟ �أمل يكن الت�شبث بذلك اال�سم الغبي يوجرتنحماقة بال مربر؟ اال�سم هوية ،ومل يكن يوم ًا حماقة!".وثمة ح َ م�سي وابنه �شخ�صيات �أخ��رى ،ال تبلغ ��ول ّ م��ا بلغته ه��ات��ان ال�شخ�صيان م��ن احل�����ض��ور و�أب���رز تلك ال�شخ�صيات �شخ�صية مو�سى ال��ذي انتظر مع املنتظرين ،ولكنه قرر �أن ينهي انتظاره باالحتيال على م�سي ل�صالح الباي ،ونزيه الفا�ضل الذي بدا ح�ضوره، ّ �أو ب���ال ّ أدق رج��وع��ه �إىل ال�سرد ،حاجة فنية بحتة،
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
هذه الرواية قادرة على �أن ت�سلب انتباه القارئ منذ �سطرها الأول �إىل �سطرها الأخري ،وذلك بف�ضل ت�ضافر احلكاية مع اللغة
مل�سي ،فيما عر�ضت الرواية وظيفتها نقل الأخ��ب��ار ّ �شخ�صيات عابرة كثرية ،من مثل موظفي ال�سجل، والباي واجل��ار العجوز وال�ساعي .وتبدو �أهمية هذه ال�شخ�صيات العابرة من خالل بع�ض املقوالت التي ت�ؤ�س�س لها؛ فال�ساعي مث ًال يق ّدم املقوالت التالية: "الغريب �أن ي�سود هذا الوباء يف دائرة ت�ستخرج�شهادات امليالد للأحياء ،ويغيب يف الدائرة املجاورة املخ ّولة با�ستخراج �شهادات الوفاة". "ما �سيجري دوم ًا �أ�سو�أ مما جرى". "�إذا كانت الدنيا �شقوة �صغرى ف�إنّ الذر ّية هي�شقوتنا الكربى!". وث��� ّم���ة م�لاح��ظ��ة ال ت��خ��ط��ئ��ه��ا ال��ع�ين ه���ي توجيه االهتمام من قبل �إبراهيم الكوين لل�صفات الداخلية لل�شخ�صيات� ،إذ ت��ب��دو �شخ�صياته ذات كثافة �سيكولوجية الفتة ،وق ّلما ي�ستثمر ال�صفات اجل�سدية لل�شخ�صيات ،اللهم �إال �إذا كانت ال�صفات اجل�سدية ذاتها تقوم بر�سم بيئة نف�سية ت�ؤثر على من حولها ،من مثل و�صف رئي�س جلنة الأ�سماء ،ونظاراته الطبية، وامللفات الثخينة املو�ضوعة �أم��ام��ه على املن�ضدة، واللوحة املعلقة خلفه على اجل��دار ،تلك اللوحة التي ال تقوم بدورها الت�أطريي التزيني فح�سب ،بل بدورها املرتبط بجوهر احلكاية �أي�ض ًا� ،إذ ث ّمة فيها خملوقات ّ ه�شة مت ّثل الأطفال الذين ال �أ�سماء لهم ،وهذا يعني م�سي ّ مر�شح لالن�ضمام ملخلوقاتها" :يف رقعة �أنّ ابن ّ �سماوية اللون ،ر�سمت على طول اجلدار ،رفرفت تلك املخلوقات ّ اله�شة (�أو هكذا تخ ّيل حلظتها) ،ب�أجنحة ً �صغرية ،حاملة �أبدانا ك�أج�سام الع�صافري� ،أو رمبا يف حجم النحل ،لتهيم يف ذلك الف�ضاء املمهور بنتف من عهن نا�صع ،منفو�ش� ،شبيه بقطع ال�سحب العقيمة، فتبدو يف ذلك الفراغ �أكرث ه�شا�شة وعجز ًا واغرتاب ًا". العدد
نقول باخت�صار� :إنّ ه��ذه ال��رواي��ة ق��ادرة على �أن ت�سلب انتباه القارئ منذ �سطرها الأول �إىل �سطرها الأخ�ي�ر ،وذل���ك بف�ضل ت�ضافر احلكاية م��ع اللغة: فاحلكاية الالهثة ال تنتهي �إال بالدم امل��راق ،واللغة تر�سم �إطاريها اجلغرافيني (املدينة وال�صحراء) القادرين على �أن ي�شحنا القارئ مب�شاعر مت�ضادة، ت�سهم يف �إعطاء الرواية ميزة القدرة على الإقناع والإدها�ش 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
145
السر الغامض لتشارلز ديكنز ()1870 - 1812 ترجمة �صدر يف �إنكلرتا عن دار بنغوين للن�رش كتاب "ت�شارلز ديكنز� :سرية حياة" للكاتبة "كلري تومالني" يف (� )527صفحة. ويف ه��ذه املنا�سبة ن�رشت جملة "ذا نيويورك ريفيو �أوف بوك�س" يف عددها ال�صادر يف 16 �آب (�أغ�سط�س) 2012املقالة التالية بقلم الأديبة الأمريكية "جوي�س كارول �أوت�س". "حياة �أي �شخ�ص ميتلك مواهب عظيمة �ستكون كتاب ًا حزين ًا بالن�سبة �إليه( ".ت�شارلز ديكنز يف عام .)1869
ترجمة و�إعداد:
توفيق الأ�سدي بقلم:
جوي�س كارول �أوت�س
146
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
147
ال���ش���خ���ص األك�����ث�����ر غ���م���وض���ًا ف�����ي ح����ي����اة ت����ش����ارل����ز دي���ك���ن���ز ه�����و أب��������وه "ج�����ون دي���ك���ن���ز" ال������ذي ك�����ان ف����ي ال���س���اب���ع���ة وال���ع���ش���ري���ن م����ن ال���ع���م���ر ح���ي���ن ول�����د ت��ش��ارل��ز
هل ديكنز �أعظم الروائيني الإنكليز؟ هناك قلة ميكن �أن جتادل �ضد الفكرة القائلة �إنه �أكرث الروائيني الإنكليز العظام �إنكليزية ،و�أن �أف�ضل رواياته" :البيت الكئيب" و"الآمال الكبرية" و"دوريت ال�صغرية" و"دومبي وابنه" و"�صديقنا امل�شرتك" و"ديفيد كوبرفيلد" هي �أعمال تدل على عبقرية فائقة مرتعة باحليوية واخل��ي��ال وعلى �شيء ي�شبه الوحي احلار ج��د ًا� .إن موهبته يف ت�صوير ال�شخ�صيات عظيمة بقدر موهبة �شك�سبري� ،أما براعاته املتعددة ك�صاحب �أ�سلوب نرثي فهي باهرة. ديكنز المع جد ًا ك�صاحب �أ�سلوب يف الكتابة ،كما �أن ر�ؤيته للعامل �شديدة اخل�صو�صية ومع ذلك فهي قوية الأثر .ولو كانت روايات ديكنز تعاين من "عيوب" هي الإ�سراف يف امليلودراما والنزعة العاطفية وال ُعقد امل�ستنبطة ونهايات �سعيدة م�صطنعة ،ف���إن هذه هي عيوب ع�صره ،ولكنه مل يكن يتمتع ،برغم كل عظمته، بالروح املتمردة التي جتعله يقاومها .كان يف �أعماقه حمب ًا لإر�ضاء اجلماهري ،وفنان ًا م�سرحي ًا ،دون �أي اهتمام يف ه��دم تقاليد ال��رواي��ة كما �سيفعل الحق ًا خلفا�ؤه العظام مثل "د.هـ .لورن�س" و"دجيمز جوي�س"
و"فرجينيا وولف"؛ كما �أن��ه مل يت�أمل يف امل��ن��اورات امل�����ض��ادة الدقيقة والتهكمية ال��ت��ي ت�سود العالقات الإن�سانية كما فعلت "جورج �إليوت" (ماري �آن �إيفانز) و"توما�س هاردي" اللذين جلبا �إىل الرواية الإنكليزية عن�صر ًا من الواقعية علم النف�سانية مل تُ�ستك�شف من قبل .ومع ذلك ف�إن ديكنز �ضمن الكتاب الإنكليز ،وكما و�صف نف�سه ذات مرة" :ن�صف هازل ون�صف جدي". �إنه "ن�سيج وحده". ال�شخ�ص الأكرث غمو�ض ًا يف حياة ت�شارلز ديكنز هو أ�ب��وه "جون ديكنز" ال��ذي كان يف ال�سابعة والع�شرين من العمر حني ولد ت�شارلز .كان جون ابن ًا لرئي�س خدم وخادمة يعمالن لدى �أ�سرة نبيلة .وك��ان طموح جون يتعدى العمل خادم ًا بدوره ،وقد ا�ستطاع يف �سن �صغرية �أن ينال وظيفة يف املكتب املايل للبحرية الربيطانية تدر عليه ما يوازي "ثروة باملقارنة مع ما كان �أبوه (رئي�س اخلدم) يناله كراتب ".ملاذا كان جون ديكنز حمظي ًا �إىل هذا احلد وم�سرف ًا يف �إنفاق املال خالل حياته كلها؟ تقرتح "تومالني" م�ؤلفة هذه ال�سرية اجلديدة �أنه رمبا كان االبن غري ال�شرعي لرب عمل �أبيه �أو لأحد �أ�صدقاء رب العمل هذا من طبقة اجلنتلمان.
ويف هذه املنا�سبة ن�شرت جملة "ذا نيويورك ريفيو �أوف بوك�س" يف عددها ال�صادر يف � 16آب (�أغ�سط�س) 2012املقالة التالية بقلم الأديبة الأمريكية "جوي�س كارول �أوت�س"()1
ك��ان ل��دى ج��ون مكتبة كبرية من "الكتب الثمينة" كان ابنه ت�شارلز ينغم�س يف القراءة فيها .كان جون �شخ�صية "متميزة" وهو النموذج الذي بنى عليه ت�شارلز �شخ�صيته الأ�شهر "ميكاوبر" .لقد ا�ضطر ت�شارلز مع ال�شهرة والرثوة اللتني نالهما �إىل دفع ديون �أبيه و�أخيه ثم �أوالده العديدين وجرى ذلك مرات عديدة. �أما الدراما الكربى �أو ال�صدمة امل�ستدمية يف طفولة ت�شارلز فكانت جتربته التي امتدت ل�سنة كاملة يف معمل مليء باجلرذان ل�صنع ال�صباغ الأ�سود للأحذية قرب نهر "التيمز" ،حني كان يف الثانية ع�شرة من عمره وذلك بعد �سجن �أبيه يف "حب�س املدينني" عام (.)1824 بالن�سبة �إىل ت�شارلز الطفل كانت ال�صدمة الناجمة عن التغيري يف حياته هائلة وقد فاقم منها معرفته �أن �أبويه اللذين يحبانه وافقا فور ًا على �إخ�ضاعه ابنهما الالمع الذكاء للعبودية .يقول: "مل تبدر �أي �إمياءة من �أحد .كان �أبي و�أمي را�ضيني متام ًا ،وك�أين كنت يف الع�شرين من عمري وقد تفوقت يف الدرا�سة الثانوية وها�أنذا �س�أدخل جامعة كامربيدج ملتابعة درا�ستي". يف املعمل كان عمل ت�شارلز الطفل �سه ًال� ،أال وهو تغطية علب ال�صباغ ول�صق الل�صاقات عليها .وكانوا ي�سمونه هناك "اجلنتلمان ال�صغري" .ولكن الرعب من هذا الو�ضع ظل دون تغيري .يقول: "ال ميكن لأي كلمات �أن تعرب عن الأمل ال�س ّري لروحي ...الإح�سا�س ب�أين مه َمل متام ًا وبال �أمل ... لقد تعر�ضت طبيعتي كلها للحزن ولإذالل"... كانت خيانة �أبويه له �أمر ًا ال ميكن غفرانه ،وكانت تلك ال�سنة التي ق�ضاها يف املعمل مذ ّلة له ،ومع ذلك ،فبعد ع�شرين عام ًا منها اع�ترف ل�صديقه احلميم "جون فو�سرت" ،وه��و �أول من كتب �سرية حياة ديكنز ،ب�أن 148
العدد
7
معمل ال�صباغ الأ�سود منحه الت�صميم على املثابرة: "كل �شيء ممكن �أمام الإرادة التي جتعله ممكن ًا". وبالطبع ،ف�إن عبوديته كعامل يف �سن الطفولة �ستزوده ككاتب مبنظور مع خربة عملية ومعلومات وافية وكذلك بقدرة طبيعية على فهم الفقراء العاملني يف ظروف �أ�شبه بالعبودية ومن جميع الأعمار؛ وهذان �أمران الزما ديكنز طوال حياته. من املده�ش �أن ديكنز مل يكن تلميذ ًا جيد ًا يف املدر�سة التي �أر�سله �إليها والداه يف النهاية ،وهكذا انتهى تعليمه الر�سمي وهو يف �سن اخلام�سة ع�شرة حني بد�أ ي�صبح ّ عجل مدخن ًا مدمن ًا ،وهو �إدمان الزمه بقية حياته ورمبا ّ يف وفاته املبكرة. ك��ان �أول عمل له يف مكتب حم��ام ،ولكن اهتمامه بالقانون �سرعان ما تال�شى حني بد�أ يكتب وين�شر كتاباته �أو ًال ك�صحفي .وكان �أول كتاب له هو "ا�سكت�شات بوز" ( )1836وتبعه "�أوراق بيكويك" الذي ن�شره م�سل� ً سال يف ال�صحف �أو ًال ،ثم ككتاب وحقق �أف�ضل املبيعات. ولكنه �سرعان ما �شغف بامل�سرح و�شارك يف متثيل بع�ض امل�سرحيات كها ٍو .و�صلته عدة دع��وات لري�شح نف�سه للربملان ولكنه رف�ضها. يف تلك الفرتة قد �سبق لديكنز ووق��ع يف �شراك احل��ب �إىل ح��د ال��ي���أ���س ،ومت رف�ضه م��ن قبل فتاة جميلة فاتنة احل�سن ا�سمها "ماريا بيدنل" .كان هو يف الثامنة ع�شرة وهي يف الع�شرين .مل تكن هذه ربحة متبادلة ،ولذلك بقي العاطفة الرومان�سية امل ّ ديكنز ل�سنوات كثرية حمبط ًا وحمطم القلب ،مما جعله يعرتف �أن��ه ل�شدة كبحه لعواطفه وانفعاالته �أ�صبح غ�ير ق��ادر على �أن يظهر �أي عاطفة حتى لأوالده .وق��د خ ّلد ديكنز ماريا يف �شخ�صيتني يف �أعماله" :دورا" يف "ديفيد كوبرفيلد" ( )1850و
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
"حياة �أي �شخ�ص ميتلك مواهب عظيمة �ستكون كتاب ًا حزين ًا بالن�سبة �إليه( ".ت�شارلز ديكنز يف عام .)1869
"فلورا فنت�شينغ" يف "دوريت ال�صغرية (.)1857 برغم ق�سوة والديه والالم�س�ؤولية املزمنة التي �أبداها �أب��وه� ،إال �أن ت�شارلز ك���أي �شخ�ص ينتمي �إىل الع�صر الفيكتوري كان يرى الأ�سرة ك�شيء مثايل .برغم �أنه ك��ان ما ي��زال مفتون ًا مب��اري بيدنل �إال �أن��ه ت��زوج من "كاثرين هوغارث" ابنة رب عمله �صاحب ال�صحيفة التي كان يعمل فيها .وقد اعترب ذلك فيما بعد �أ�سو�أ خط�أ ارتكبه يف حياته .رزق ت�شارلز منها بع�شرة �أوالد �أحب بع�ضهم ومل يحب بع�ضهم الآخر وا�ضع ًا كل اللوم على زوجته لكرثة ما �أجنبا من �أوالد .وحني و�صل �إىل �سن ال�ساد�سة والأربعني �أهمل زوجته متام ًا ووق��ع يف حب ممثلة يف الثامنة ع�شرة من عمرها تدعى "�إلني ترنان" .مل يطلق ت�شارلز زوجته ،فقد كان من �ش�أن ذلك �أن ي�شكل ف�ضيحة ،بل راح يعي�ش مع "�إلني" حتى وفاته. وبرغم كل هذه التعقيدات مل يتوقف عن الكتابة ،لي�س كتابة الروايات فح�سب ،بل الر�سائل الرائعة التي يقدر عددها ب�أربعة ع�شر �ألف ر�سالة .كما كان يحب قراءة مقاطع من رواياته �أمام اجلمهور لقاء �أجر .وقد فعل ذلك مرات عديدة يف اململكة املتحدة والواليات املتحدة الأمريكية حيث كان النا�شرون ين�شرون كتبه دون �أن يدفعوا له �أي تعوي�ض. برغم كل التعقيدات التي �شابت حياته ،وبرغم كل القراءات العامة التي كان يكرث منها ،ا�ستطاع ديكنز �أن يكتب رواياته التي ال ت�ضاهى خالل �سبعة ع�شر عام ًا" :دومبي وابنه" (" ،)1848ديفيد كوبرفيلد" (" ،)1850املنزل الكئيب" (�" ،)1853أوقات ع�صيبة" (" ،)1854دوريت ال�صغرية" ()1857 "ق�صة مدينتني" ( ،)1859و"الآمال الكبرية" ( ،)1861و"�صديقنا امل�شرتك" ( .)1865كان ذا طاقة م�سعورة �إمنا خ�صبة .كان يقول�":إن مل �أ�ستطع العدد
ال�سري ب�سرعة ونحو البعيد ،النفجرتُ وهلكتُ ". �أهم جزء من كتاب "تومالني" هذا عن �سرية ديكنز هو النقد املل َهم ل��رواي��ات ديكنز .تقول عن "البيت الكئيب"" :خميلته اجلريئة دائم ًا تعر�ض الآن م�شاهد قدمية وم�ستوحاة وك���أن �شك�سبري هو من كتبها� ".أما عن "ديفيد كوبرفيلد" فتقول" :حتفة مبنية على قدرة ديكنز على النب�ش يف جتربة حياته وحتويلها ومنحها قوة الأ�سطورة". كما �أن تومالني ك��ان��ت ق��د ن�شرت ع��ام ()1990 �سرية حلياة ع�شيقة ديكنز املمثلة ال�سابقة �إلني ترنان" بعنوان"املر�أة اخلفية". جاءت نهاية ديكنز فجائية و�صاعقة يف الثامن من حزيران (يونيو) ،1870يف منزله يف "غادز هيل": "جل�س و�س�ألته جورجينيا هوغارث �إن كان ي�شعر باملر�ض ف�أجابها�( :أجل� ،أنا مري�ض جد ًا وطوال هذه ال�ساعة الأخ�ي�رة ).قالت �إنها �سرت�سل وراء الطبيب فرف�ض وقال �إنه �سيتناول الغداء ثم يذهب �إىل لندن. بذل جهد ًا ليتغلب على النوبة التي �أ�صابته ...ثم قالت له( :تعال وا�ضطجع) وكان �آخر ما قاله�( :أجل ،على الأر�ض). تقول تومالني" :كان الأث��ر الذي تركه ديكنز �أ�شبه بذلك الذي يخلفه نيزك". بقي �أن ن�س�أل كيف �ستتم مقارنة ال�سرية التي كتبتها كلري تومالني مع مرور الوقت ب�سري �أخ��رى كتلك التي كتبها كل من "بيرت �أكرويد ومايكل �ساليرت (،)2009 وروبرت فريهري�ست ( ،)2011وكلها تعتمد على �سرية احلياة التي كتبها "جون فور�سرت" ون�شرها يف ثالثة جملدات بني عامي ()1872-1874؟ يبقى هذا ال�س�ؤال مفتوح ًا ومثري ًا لالهتمام 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
149
يوسا واإليروسية
دراسة
وفتـنـة الروايــة "األدب الخيالي ال يعيد إنتاج الحياة ،بل هو ينفيها بأن يضع في مواجهتها خدعة توهم بأنها تحل محلها".. م .ب .يو�سا
يغو�ص الكاتب العاملي البريويف "ماريو بارغا�س يو�سا"، احلائز على جائزة نوبل يف الآداب لعام ،2010بتعانق الإبداع والنقد يف �شخ�صيته الروائية الفذة ،يف عامل الرواية ببحوره ال�شا�سعة ،وجتليات مبدعيها العظام الذين عربوا وع�َّب�وا عن الإن�سانية ،من خالل رواي��ات كربى/ التاريخ رَّ عالمات روائية ُكتبت يف خالل القرن الع�رشين ،و�أثرت ت�أثرياً كبرياً يف م�سرية الفن الروائي ،حيث تتج�سد من خالل تلك النماذج املقروءة بوعي الفنان املبدع ،الر�ؤية الرئي�سية لهذا املنت الإبداعي النقدي ،الذي يحوي بني �ضفتيه عدداً من النماذج الرا�سخة يف �ضمري تاريخ الأدب والرواية خا�صة ،تعالج حالة من ح��االت االحتياج الإن�ساين متمثلة يف "الإيرو�سية"، والتي يرجع �أ�صلها كم�صطلح يف امليثولوجيا الإغريقية� ،إىل "�إيرو�س" وهو الإل��ه امل�س�ؤول عن الرغبة ،واحلب واجلن�س، وعبِ َد ك�إله للخ�صوبة ،والتي تبدو يف هذا ال�سياق كملمح ُ من املالمح الرئي�سة التي جتمع الب�رش ،والتي يقدمها يو�سا يف مقدمة الطبعة العربية املرتجمة عن الإ�سبانية ،والتي قام بها املرتجم التون�سي وليد �سليمان ،لكتابه�" :إيرو�س يف الرواية"، قائ ً ال�" :إن هذه املقاالت هي ،قبل كل �شيء ،ر�سالة حب واعرتاف باجلميل لأولئك الذين ع�شت بف�ضل كتبهم ،خالل فتنة القراءة ،يف عامل جميل ،متما�سك ومفاجئ وكامل، متكنت بف�ضله من فهم العامل ال��ذي �أعي�ش فيه ب�شكل �أف�ضل ،ومن �إدراك كل ما ينق�صه �أو يكفيه ليكون قاب ً ال للمقارنة مع هذه العوامل الرائعة التي يخلقها الأدب العظيم".
حممد عطية حممود م�صر
150
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ولوجاً �إىل عامل الإيرو�سية يف الكتابة الروائية، والتي تتباين حماورها من خالل الطرح الروائي لهذه االخ�ت�ي��ارات احلا�سمة يف ت��اري��خ رواي��ة القرن الع�شرين ،وال��ذي ك��ان يعج مبزيد م��ن ال�صراعات والأيديولوجيات املتناحرة واحل��روب العظمى ،من خ�لال �أح��داث��ه اجل���س��ام ال�ت��ي �ساهمت ب�شكل كبري يف تغيري خ��ري�ط��ة ال��وع��ي الإن �� �س��اين واالج�ت�م��اع��ي واالقت�صادي ،ومن ثم النف�سي ،كما عانقت مزيداً من املذاهب الفكرية والثقافية اجلديدة ،والتقليدية الرا�سخة على حد ال�سواء. ف�م��ن خ�ل�ال "املوت يف البندقية" ل���ـ "توما�س مان" ،ير�صد "ماريو بارغا�س يو�سا" ملمحاً مهماً م��ن مالمح الكتابة ال��روائ�ي��ة ،خمتلطة بالتجربة الإن�سانية بها ،على نحو م��ا ي�ق��ول" :بعد قراءتها و�إعادة قراءتها ،ينتابنا دائماً �شعور مربك ب�أن �أمراً العدد
ملغزاً ق��د بقي يف الن�ص بعيداً ع��ن امل�ت�ن��اول ،حتى بعد قراءته بت�أن �أك�ثر .ثمة خلفية قامتة وعنيفة، �شبه منفرة ،لها عالقة ،بالقدر نف�سه ،بروح البطل وبالتجربة امل�شرتكة للجن�س الب�شري ،وه��ي نزعة خفية تظهر جم��دداً على نحو مفاجئ وتثري فينا ال��رع��ب� ،إن �ن��ا ك�ن��ا ن�ظ��ن �أن �ن��ا تخل�صنا منها نهائياً بت�أثري من الثقافة� ،أو الإميان� ،أو الأخالق العامة �أو جمرد الرغبة يف البقاء اجتماعياً". ومت�ث��ل ال�ت�ج��رب��ة الإن���س��ان�ي��ة امل�غ��اي��رة امل�ع��ان�ق��ة ملا ي�ع�تري ح�ي��اة الب�شر ال���س��ري��ة �أو امل���س�ك��وت عنها يف جم�ت�م��ع ي�ب�ح��ث دوم � �اً ع��ن ال�ف���ض�ي�ل��ة وال�ت�ط�ه��ر يف ظاهره ،و�إن ت��وارت خلفها العديد من االحتياجات النف�سية /االجتماعية ،غ��اي� ًة مُثلى للكتابة التي تعانق تلك الأح ��وال التي تتباين وتختلف ،لكنها قد تقع حتماً يف �إ�سار تلك التجارب التي يقع فيها 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
151
ب��ارغ��اس يوسا" ملمحًا مهمًا من مالمح الكتابة ال��روائ��ي��ة ،مختلطة بالتجربة اإلنسانية بها
م��ن خ�ل�ال "ال��م��وت ف��ي ال��ب��ن��دق��ي��ة" ل��ـ "ت��وم��اس م����ان" ،ي��رص��د "م��اري��و
تعالج رواية "المحراب" لـ وليم فوكنر ،تلك العالقات التي يتشابك فيها الجنس مع اإلجرام مع السادية
الفرد /الإن�سان فري�سة ً مل�شاعره املتناق�ضة وف�ضاء الواقع الذي يدور يف فلكه ،وذلك على النقي�ض من الغاية الأخ ��رى ال�ت��ي مفادها �أن "العقل والنظام والف�ضيلة ت�ضمن رق��ي املجتمع الب�شري ،ولكنها ن��ادراً ما تكفي لتحقيق �سعادة الأف��راد الذين تكون غ��رائ��زه��م املكبوتة با�سم اخل�ير االجتماعي دائما باملر�صاد" ،ليربز هنا النموذج الإي��رو��س��ي /ال�شاذ اج�ت�م��اع�ي�اً ،وع�ل��ى م�ستوى ال � ُع��رف الإن �� �س��اين وم��ا ا�صطلح عليه من تقاليد عقيدية وموروثة ،بح�ضور طاغ ٍ للعالقة غري الطبيعية بني بطل الن�ص والفتى اجلميل ،الذي يجمعه به �شغف ورغبةُ ،تعد من قبيل اخل��روج عن الن�سق ال�سليم للعالقات االجتماعية /اجلن�سية ال���س��وي��ة ،وم��ا ي�ن�ج��م م��ن ع��ر���ض تلك العالقة؛ للخروج بنتيجة ُتعد يف �صالح الف�ضيلة وال�ع�ف��ة واالل �ت��زام الأخ�لاق��ي ب��الأط��ر االجتماعية ال�صحيحة التي ال يت�أذى منها املجتمع وال ُي�ضار، وكما يقول" :ذلك هو الت�أويل االجتماعي للوباء املراوغ الذي ت�سلل ،ب�شكل غري حم�سو�س� ،إىل املدينة اجلميلة ذات البحريات لكي يقو�ض �أ�س�سها ،مثلما ت�سللت �سموم ال�شبق �إىل روح الأدي��ب ذي الأخ�لاق الرفيعة". ذل��ك املنحى ال��ذي ي�شري �إليه يو�سا ،يتطابق مع النهاية الكا�شفة لبطل الرواية التي قد يتحقق فيها من غاية الإن�سان /الكاتب يف حياة �سليمة ال اعتوار ف�ي�ه��ا ،تت�سق م��ع م��ا حت�ك��م ب��ه الأخ�ل��اق وال�ع�ق�ي��دة وال �ث �ق��اف��ة ،وحت � ��اول ت��روي ����ض ال �ف��رد يف م��واج�ه��ة انحرافه ،تعرت�ضها الأهواء العري�ضة القائمة على هام�ش املجتمع ،واملتمثلة يف نزعة االنحراف ،وذلك "�أن هذه املحاوالت التي تبقى دائما ن�سبية ،ذلك �أنه مثلما يحدث له ،تولد جمدداً بانتظام هذه الرغبة 152
العدد
7
يف ا�ستعادة ال�سيادة الكلية املكبلة لدى الفرد با�سم التعاي�ش االجتماعي ،للمطالبة ب�أن ال تكون احلياة ال و�سلماً وان�ضباطاً فقط ،و�إمن��ا �أي�ضا جنوناً عق ً وعنفاً وفو�ضى عارمة". يف حني تعالج رواية "املحراب" لـ وليم فوكرن ،تلك العالقات التي يت�شابك فيها اجلن�س مع الإجرام مع ال�سادية ،مع خليط من الأعمال املنحطة �أخالقياً واجتماعياً ،حيث ير�صد هنا ،يو�سا ـ ب��داي��ة ـ ً �سمة من ال�سمات املميزة لأدب فوكرنُ ،يعد ت�أ�صي ً ال لفن الكتابة الروائية املغايرة ،وكخربة من خربات ال�سرد ب�صورة ع��ام��ة" :يف ك��ل رواي ��ة ،يكون ـ �أي الأ�سلوب الذي تكتب به وترتيب ظهور الأحداث امل�سرودة ـ هو ما يحدد ثراء �أو فقر ،وعمق �أو تفاهة حكايتها� .أما لدى روائيني مثل فوكرن ،فيكون ال�شكل حم�سو�ساً و�شديد احل�ضور يف ال�سرد� ،إىل درجة �أنه يلعب دور البطل ويت�صرف مثل �شخ�صية من حلم ودم ،حيث يكون حا�ضراً فيه كواقعة ،ال �أكرث وال �أقل من تلك العواطف� ،أو اجلرائم �أو ال�ك��وارث التي تطر�أ على حبكته". وبحيث يع ِّرج على القيمة الأخالقية كمرتكز من مرتكزات العالقة ال�ضدية مع مفهوم الإيرو�سية املرتبط دائما باجلن�س املحرم ،ال��ذي قد ي�صل �إىل زن��ا امل �ح��ارم ،وحم��اول��ة مقاومتها ب��امل��د الأخ�لاق��ي ال��ذي ي��واج��ه ب��ه ال�ن�ق��اد برغبتهم غ�ير ال��واع�ي��ة يف تقدمي الأع��ذار الأخالقية التي يقول عنها يو�سا، �أنها "حم�ض حماولة افتداء لذلك العامل ال�سلبي الذي ت�صفه الرواية على نحو ال رجعة فيه" ،قائ ً ال يف مو�ضع �آخر�" :إننا ن�صطدم هنا ،مرة �أخرى ،بهذا الإ��ص��رار املوغل يف القدم ال��ذي يبدو �أن الأدب لن يتحرر منه �أب��داً ،على �أن تقوم الق�صائد والأعمال
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
متثل هذه الرواية ،بالن�سبة ليو�سا ،كما متثل للأجيال التي عا�صرت �إبداعات "هرني ميلر" ،ذلك الوهج الذي يجعل منها جنة ً لل�شياطني ،ومالذ ًا لراغبي انتهاك املقد�سات بجميع �أنواعها
الق�ص�صية ،ب�شكل �أو ب ��آخ��ر ،بوظيفة احل��ث على الف�ضيلة كي حتظى بقبول املجتمع". ل�ي�برز ال�ت���س��ا�ؤل ن��اب�ع�اً م��ن قلب احل ��دث /العمل الروائي الذي اختلطت فيه الأمور وعاث فيه ال�شر والف�ساد خمتلطاً بالعنف والعمل �ضد اجتاه احلياة، على نحو م��ا يجعل م��ن ال�ن�م��اذج امل�ط��روح��ة بالغة الت�شوه والوقوع يف براثن الرذيلة بتعمد مقيت؛ مما يدفع لعالمة ا�ستفهام كبرية ت�ستهدف احلياة التي تطفو على �سطحها ك��ل تلك ال �ق��ذارات والنتوءات ال�ت��ي ال ميكن �أن يج ِّملها ال �ف��ن ،وال ي�سكت عنها �أبداً يف الوقت ذاته" :هل هذه القذارة املتحركة هي الإن�سانية؟ هل نحن هكذا؟! كال هذه هي الإن�سانية التي اخرتعها فوكرن ،مع قدرة على الإقناع جتعلنا ن�صدق ـ على الأقل خالل قراءة كتابه الذي ي�شدنا حتى النهاية ـ �أننا ل�سنا �إزاء عمل متخيل و�إمنا �إزاء احلياة" .غري �أن��ه ي�ؤكد وظيفة من وظائف الأدب اخل �ي��ايل /امل�ت���ص��ور ،ك�ب��دي��ل ع��ن ال��واق��ع �أو جممل ل��ه ع�ل��ى ن�ح��و م��ن حم��اول��ة �إدراك /حتقيق م��ا ال مي�ك��ن �إدراك � ��ه ،وحم��اول��ة �إي �ج��اد �صيغة للتعاي�ش، ب�ين "املالئكة ال��ذي��ن ت��ري��ده��م املجموعة �أف��راده��ا احل�صريني و�أولئك ال�شياطني الذين ال تريدهم �أن يوجدوا �أي�ضاً ،يف الوقت ذات��ه ،مهما كانت الثقافة التي يولدون فيها رفيعة �أو مهما كانت �سيادة الدين يف املجتمع الذي يولدون فيه". مدار ال�سرطان ،وجماليات القبح متثل ه��ذه ال��رواي��ة ،بالن�سبة ليو�سا ،كما متثل ل�ل�أج�ي��ال ال�ت��ي ع��ا��ص��رت �إب��داع��ات "هرني ميلر"، ذل��ك ال��وه��ج ال ��ذي يجعل منها ج�ن��ة ً لل�شياطني، وم�لاذاً لراغبي انتهاك املقد�سات بجميع �أنواعها، العدد
وه��و االن�ت�ه��اك ال��ذي ي�شري �إل�ي��ه ،بو�صفه على �أن��ه هو "الذي جعل الكتابة على م��دى التاريخ حتدياً ملا تقت�ضيه لياقة الع�صر ،وتعكرياً لأن��واع التناغم االجتماعي وا�ستعرا�ضاً جماهريياً لكل القاذورات والأو� �س��اخ التي ي�سعى املجتمع ـ وه��و محُ ��ق يف ذلك �أحياناً ـ �إىل قمعها". �إذن فالرهان هنا على قدرة الكاتب /الرواية على اخرتاق هذه الأج��واء لتح�صيل قيمة جمالية لهذا القبح على م�ستوى الكتابة الإب��داع�ي��ة ،وجت�سيدا لكل ما قبيح من خ�لال منت املجتمع ال��ذي يزخر بنماذجه ال�شائهة م��ن خ�لال (وظ�ي�ف��ة) االنتهاك التي تخرتق كل �شيء ـ �إن ج��از لنا التعبري ـ حيث تعي�ش ال��رواي��ة يف الأج ��واء اخللفية ملدينة باري�س بوجهها احل�ضاري ،فيما بني احلربني العامليتني، وح�ي��ث ت�ب�رز ت�ل��ك ال�ن�م��اذج ال��دال��ة ع�ل��ى االن�ح�لال والت�شرذم وال�ضياع ،كوجه �آخر للعملة غري مرغوب فيه" :وهو هام�ش تتكون جغرافيته م��ن مواخري وح ��ان ��ات وف �ن ��ادق م���ش�ب��وه��ة و�أك� � ��واخ وب �ي��وت ق��ذرة ومطاعم بائ�سة ،وحدائق و�ساحات و�شوارع جتتذب املت�شردين". بالإ�ضافة اىل احل�ضور الطاغي للمكان كخلفية ووع��اء ل�ل�أح��داث والتمازجات الإيرو�سية اخلفية وامل�ع�ل�ن��ة ،ت�ب�رز قيمة امل�ع��اجل��ة ال�ف�ن�ي��ة وال��روائ�ي��ة لهذا العمل الذي تبدو فيه �سمات الراوي ،كتقنية كتابة ،و�سمة م��ن �سمات العمل ال��روائ��ي ،يف هذا النموذج لـ هرني ،وكمحرك رئي�س للعمل مت�شبع ب�ك��ل ع�ن��ا��ص��ره م��ن ح�ي��وان�ي��ة م�ف��رط��ة ،و�شخ�صية مبتذلة تخرتق كل حمظور لت�سرب غ��وره واقعياً وروائياً " �إن الراوي ـ ال�شخ�صية يف مدار ال�سرطان ه��و االب�ت�ك��ار ال�ك�ب�ير ل�ه��ذه ال��رواي��ة و�أع �ظ��م جن��اح 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
153
�أي حنني تثريه هذه الدعوة �إىل الال م�س�ؤولية التامة و�إىل تلك الفو�ضى احلياتية واجلن�سية التي �سبقت ظهور املجتمع والقواعد واملمنوعات والقانون؟
يحققه هرني ميلر روائياً". كما ي�شري �إىل �أن البنية ال��روائ�ي��ة ال�ت��ي متثلت ب�ه��ا ال ��رواي ��ة م��ا ه��ي �إال جم�م��وع��ة م��ن امل���ش��اه��د/ ال �ل��وح��ات /ال �ب��ورت��ري �ه��ات امل�ن�ف���ص�ل��ة ع��ن بع�ضها، والتي ال يجمعها �إال براعة الروائي الذي ن�سج تلك ال�شخ�صية الروائية /الراوي العليم /ال�شاهد على تلك ال�صور املتالحقة �أو امل�ت�ج��اورة على نحو من �سماته القادرة على اخرتاق املحظورات� ،إ�ضافة �إىل تهمي�ش ب��اق��ي ال�شخ�صيات الثانوية حل�ساب تلك الرنج�سية الطاغية على �أدائه و�شخ�صيته التي رمبا نبعت من ذات الكاتب وخ�صو�صياته ،والتي تعتمد ه��ذه اخللخلة ال��روائ �ي��ة ال�ت��ي رمب��ا �أدت �إىل ع��دم الرتابط بني وحدات العمل الروائي �أحياناً� ،إال �أنها قد ت�ؤدي �إىل ذاك ال�شعور املج�سد للحالة التي يقول عنها يو�سا" :ويف املقابل ،يجد القارئ نف�سه يف هذا الكتاب م�شدوداً منذ اجلملة الأوىل ،ويتوا�صل �سحر الكلمات حتى النهاية� ،ضمن ه��ذا الت�أمل اخلا�شع الذي تنتهي فيه الرحلة �إىل �أقاليم احلياة الهام�شية وكهوف اجلن�س". هنا ي�ق�ترن امل�ق��د���س باملدن�س على نحو م��ا يرى "جورج باتاي" م��ن �أن "التجربة الإي��رو� �س �ي��ة (ال�شبقية) تتوازى مع التجربة ال�صوفية يف كونهما في�ضني ال ت�ستوعبهما اللغة" ،وذل ��ك م��ن حيث التقابل وامل�ف��ارق��ة ال�لاذع��ة ال�ت��ي جتعل م��ن قيمة اجل�ن����س� ،أح�ي��ان�اً ،قيمة م��وازي��ة ل��ذاك التطلع �إىل الطهر والنقاء ،وللإ�شارة �إىل هذا التجاور الطبيعي ال� ��ذي ي���س��م ال �ع�لاق��ة ب�ي�ن ال �� �ض��دي��ن /امل�ت�ق��اب�ل�ين، فرمبا �أدت الطرق املعبدة طبيعيا بجاللها و�سموها ورقيها الفطري� ،إىل تلك اجل��زر الأخ��رى امل�ضادة لطبيعتها وانغما�سها يف املدن�س واملحرم ،واملتوارية 154
العدد
7
على امتداد بحر احلياة ،تلميحاً �إىل الوجود الأزيل لتلك العالقات املت�شابكة املت�ضادة ،ولكنه يعقد جدل ال�س�ؤال القائم ،عرب املبدع املتابع والإن�سان يف فكر يو�سا ال��ذي رمب��ا ك��ان يبتغي دائ �م �اً ،ويلتم�س تلك البقعة امل�ضيئة من النف�س التي تدمن الف�ضيلة كما تدمن �أ�سئلة الوجود ،التي دائما ما تثري ال�شكوك: "ولكن ،حتى واحل��ال تلك� ،أي حنني تثريه هذه الدعوة �إىل الال م�س�ؤولية التامة و�إىل تلك الفو�ضى احل�ي��ات�ي��ة واجلن�سية ال�ت��ي �سبقت ظ�ه��ور املجتمع والقواعد واملمنوعات والقانون؟". الأدب العظيم مل يكن �إيرو�سي ًا فقط ك �م��ا ي�ل�م��ح م��ن خ�ل�ال ت�ع��ر��ض��ه ل �ن �م��وذج رواي ��ة "ح�سناء من روما" لـ "�ألربتو مورافيا" ،بداية ً �إىل تلك ال�سمات التي قد تعرت�ض تلك املوجات امل�ت��دف�ق��ة م��ن الأدب الإي��رو� �س��ي اخل��ال ����ص ،ال��ذي رمب��ا ك��ان مم� ً لا ،باعتماده ـ بح�سب يو�سا ـ بالغة تنفذ فيها التنويعات املمكنة للتجربة الغرامية ب���س��رع��ة ،وت�صبح م�ت�ك��ررة ب�شكل ميكانيكي؛ مما يعطي انطباعاً بالال واقعية ،وبنزوات لي�س لها �أي عالقة بالتجربة املو�ضوعية ،م�شرياً �إىل الواقعية ال �ت��ي جت �م��ع ه ��ذه ال ��رواي ��ة مب�لام��ح الإي��رو� �س �ي��ة ف�ي�ه��ا ،لتختلط وت �ق��دم � �ص��ورة للحياة بواقعيتها وجتاوزاتها على حد ال�سواء ،يف قوله" :بالرغم من �أن �شخ�صية �أدريانا متار�س احلب بكرثة ،لأ�سباب مهنية �أو لأ�سباب �شخ�صية ،ال يظهر اجلن�س �ضمن البهرج املهيب واملثري الذي يقت�ضيه ذلك اجلن�س الأدبي ،ولكن باعتباره ن�شاطاً حمبطاً نف�سياً يربز فيه �أ�سو�أ ما يف رجال ون�ساء هذا العمل الروائي: ع�ن��ف ��س��ون��زون�ي��و ،ه��واج����س �أ��س�ت��اري�ن��ا الأودي �ب �ي��ة،
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
املر�أة/الطفلة تقفز رواي��ة "لوليتا" لـ"فالدميري نابوكوف"؛ ل �ت �ع �ق��د ع�ل�اق ��ات ج ��دي ��دة م ��ن ع�ل�اق ��ات امل �ف �ه��وم الإي��رو� �س��ي ل �ل��رواي��ة /من��ط امل� ��ر�أة /احل �ي��اة ،حيث ينفذ �إليها الكتاب م�ستنبطاً هذا احل�س املغاير الذي حتدثه الرواية كتابة ً وقراءة ً ،حيث تبدو �أهميتها من كونها جتذر لظاهرة جديدة هي ظاهرة امل��ر�أة /الطفلة التي تعي�ش التحرر فطريا ،وتتجلى فيها مظاهر الفتنة والغواية دون علمها بذلك ،والتي العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
155
إن األدب العظيم لم يكن أبدًا إيروسيًا فقط ،وإن كنت أشك في وجود أدب ال يكون ،من بين أمور أخرى ،إيروسيًا أيضا
برودة قلب جاكوبو ،وعقلية جيزيال التجارية". ه�ن��ا ت�ب��دو الت�شكيلة ال�غ��ري�ب��ة ال�ت��ي تعقد ج��دل ال�ع�لاق��ة ب�ين امل��دن����س يف ف�ع��ل اجل�ن����س الإي��رو� �س��ي، وال �ت �ف��اع�لات النف�سية ال �ت��ي ت�ث�ير ه��ذه ال�ع�لاق��ات ال�شائكة التي تتناول مزيجاً من تعامالت العنف والتداعيات النف�سية وامل��ادي��ة لل�شخو�ص امل�شاركة يف واق��ع احل��دث ،ال��ذي يحوي �إىل جانب �إيرو�سية بطلته ،واقع هذه النماذج املجاورة� ،إال �أنه تتعادل فيه كل ال�سلبيات التي تعرت�ض املجتمع ،وذل��ك ات�ساقا مع ر�ؤية يو�سا القائمة على قوله�" :إن الأدب العظيم مل يكن �أبداً �إيرو�سياً فقط ،و�إن كنت �أ�شك يف وجود �أدب ال يكون ،من بني �أمور �أخرى� ،إيرو�سياً �أي�ضاً". م�شرياً �إىل ملمح من مالمح عبقرية الرواية ،كدال على �أهمية الوجود الإن�ساين بت�شكيالته املتمايزة التي تثري طعم احلياة يف املنت الروائي ،الذي يحتفي بالنف�س الب�شرية قدر احتفائه مبالمح الإيرو�سية التي ت�شكل جانباً �آخر من جوانب احلياة ،والزم يف الآن ذات��ه " :فرباعة مورافيا يف ر�سم البورتريهات النف�سية ت�صل يف هذه الرواية ،مثلما هو ال�ش�أن يف روايتي "�أغو�سطينو" و"االمتثايل"� ،إىل قمتها".
رمب��ا رم ��زت ،بح�سب ي��و��س��ا ،يف ال�لاوع��ي �إىل ث��ورة الأخ�ل�اق املعا�صرة ،وال�ت��ي يقدمها بقوله" :وعلى نحو م��ا ،تعترب رواي��ة لوليتا من الأح��داث املمهدة لع�صر الت�سامح اجلن�سي ومن م�سبباته ما يف ذلك ��ش��ك ،وع�ن��دم��ا ن�ق��ول "ع�صر ال�ت���س��ام��ح اجلن�سي" ف�إننا نعني تال�شي التابوهات بني مراهقي الواليات امل�ت�ح��دة و�أوروب � ��ا ال�غ��رب�ي��ة ،ال ��ذي �سيبلغ �أ� �ش��ده يف �ستينيات القرن الع�شرين". كما ير�صد عرب التق�صي املمتد لأح��داث الرواية تلك العالقات االجتماعية ال�شائهة التي تروم ذاك االنفراط و التدحرج نحو هاوية اجلن�س ـ �إن جاز لنا التعبري ـ يف �سلوك الرجل العجوز املاكر الذي يهوى تلك املر�أة /الطفلة ،لوليتا من خالل ن�سق حياتي ي�شغف بالغواية ،والتي ي�ضعها يف زاوية مفتوحة على الأحداث الروائية التي جعلت من جميع ال�شخو�ص امل�ج��اورة دم��ى متحركة�" :أكرث م��ن غ��واي��ة الرجل املاكر للحورية ال�صغرية ،قد تكون �أك�بر وقاحة يف ال��رواي��ة هي التدين �إىل م�ستوى الدمى املتحركة ال�سخيفة ال��ذي بلغته ال�شخ�صيات الإن�سانية التي تظهر يف الرواية" حيث ت�أتي النتائج االجتماعية القا�سية لتحوالت وتطورات تلك الرغبات ،دائماً �ضد م�صلحة مناذج ال��واق��ع املحيط ،مما يح َّولهم �إىل دم��ى تنتفي من خاللها �أدميتهم ،ويف هذا �إ�شارة �إىل ق�سوة الواقع امل��ادي ال��ذي ُيلقي بظالله على العالقات ال�شائهة التي تغلفه بتوايل جرائم نف�س و�صراعات �أخ��رى تكون من جريرة الفعل الفا�ضح املتدين يف �أ�سا�سه ال�شهواين املتعلق باالجتاه الإيرو�سي يف احلياة.. وكما متتد النظرة التقنية للكتابة لتحط جدلية الربط بني فكر ال��روائ��ي ل��دى نابوكوف ،وروائ��ي
ل��س��ت م���ت���أك���دًا م��م��ا إذا ك����ان ن���اب���وك���وف ق���د اخ���ت���رع ه����ذه ال��ح��ك��اي��ة ل���غ���اي���ات رم���زي���ة، ول������دى ان���ط���ب���اع ب���أن���ه ك����ان ل���دي���ه ،م��ث��ل��م��ا ل����دى ب���ورخ���ي���س ،ش���ك وازدراء ل��ل��ح��داث��ة ّ
مثل بورخي�س ،يف ه��ذا املقام ،ح��ول ماهية تقدمي ه��ذه ال� ��ر�ؤى امل�ت��داخ�ل��ة ال �ت��ي ت���س�ت�ه��دف املجتمع، مبع�ضالته وم�شكالته امل�ؤرقة ،والتي رمبا دفعت �إىل �إع�م��ال الفكر ال��رم��زي وال��داليل ،كتقنية من تقنيات الإب��داع ال��روائ��ي ـ كما يقول يو�سا ـ �ضمن �أ�سئلة الكتابة يف ه��ذه احللقات الروائية املت�صلة املنف�صلة ،متعام ً ال معها بفكر النفي لهذا العار�ض ال �ف �ك��ري �أو ال �ت ��أوي �ل��ي ل�ل�ن����ص ال ��روائ ��ي ل��دي�ه�م��ا: "ل�ست مت�أكداً مما �إذا كان نابوكوف قد اخرتع هذه احل�ك��اي��ة ل�غ��اي��ات رم��زي��ة ،ول��دىّ ان�ط�ب��اع ب��أن��ه كان لديه ،مثلما لدى بورخي�س� ،شك وازدراء للحداثة واحلياة التي كانا ينظران �إليها ب�سخرية وم�سافة م��ن ج��زي��رة الأف �ك��ار وال�ك�ت��ب وال �ن��زوات ال�ت��ي كانا منقطعني فيها عن العامل ومن�صرفني عنه بف�ضل �أل�ع��اب الفكر املذهلة التي كانت ت�صهر ال��واق��ع يف متاهة من الكلمات وال�صور الرباقة". اجل�سد حزين للأ�سف يف رواي ��ة "بيت اجل�م�ي�لات النائمات" ل�ل��روائ��ي الياباين "يا�سوناري كاواباتا" ،تبدو عالقة تنوع جديد حتكم امل�سار الإيرو�سي لروايات هذا الكتاب، حيث ترتكز ال��رواي��ة �إىل معاجلة حالة م��ن امل��وات اجل�سدي لدى العجائز الكبار الذين يفقدون لذة احل�ي��اة وفحولتها العري�ضة ،التما�سا للذة بديلة قد ت�شعل احلياة مرة �أخ��رى وتنفخ النار يف الرماد امل �ه��دور ..بهذا املعنى ي�سعى الكتاب جل��دل عالقة تنا�ص ب�ين امل ��وروث ال�ت��ورات��ي يف ق�صة امل�ل��ك داود، واحلالة التي يعي�شها بطل الن�ص الياباين (�إغو�شي) يف م �ن��زل ال�ف�ت�ي��ات اجل �م �ي�لات �أو ف�ت�ي��ات ال�ترف�ي��ه (اجلي�شا) املتعارف عليهن يف املجتمع الياباين ،مع 156
العدد
7
معنى الأ�سطورة القدمية التي تقول" :منذ القدم، حاول ال�شيوخ �أن ي�ستخدموا رائحة الفتيات ك�إك�سري لل�شباب" .ومن هذه الزاوية التي تفتح باب الن�ص ع�ل��ى م���ص��راع�ي��ه لتلقي ف �ك��رة ال�ل�ع��ب ع�ل��ى هام�ش اجلن�س �أو الإي�ح��اء به على نحو مما قد يعيد هذه الفورة ال�سابقة للج�سد امليت ،ويف هذا تبدو املفارقة ال�ت��ي ت�شعل ج��دل العالقة ب�ين ال��واق�ع��ي واملتخيل يف مفهوم جديد من مفاهيم الإيرو�سية التي تكاد تكون منغلقة على �أ�سرارها ،لينتزع الكاتب هنا رمبا تعريفاً جديداً لها ،حيث تتمثل بـ" :نزوة وم�سرح، و�إع �ل��اء ل�ل�غ��ري��زة اجل�ن���س�ي��ة يف ح�ف��ل �أب �ط��ال��ه هم الأ�شباح الغام�ضون للرغبة الذين يحركهم اخليال ويتوق �إىل جت�سيدهم ،بحثاً عن لذة عابرة هي �أ�شبه ب�سراب يبدو قريبا ولكنه ال ميكن �إدراكه �أبداً". وحيث تلعب الإيرو�سية فيها هذا الدور الأ�سا�سي، م��ن خ�ل�ال ب��راع��ة روائ �ي��ة ف ��ذة ت�ستند �إىل امل��زي��د م��ن امل �ف��ردات وال��دق��ائ��ق املاثلة للعيان ،ف�ض ً ال عن دقة و�صف اجل�سد الأنثوي والرغبات الطائ�شة �أو الأحا�سي�س الرقيقة التي توقظها ،وهو من �أكرث ما يجعل العمل الروائي م�ؤثراً ،وهو من �أكرث عنا�صره �إلغازاً وتلميحاً ،من خالل ت�صوير حلظة االنت�شاء التي يعي�شها بطل الرواية ،مع واقعه املحيط خالل نومه �إىل جوار الفاتنة ال�صغرية ،وي�شعره بالرغبة كما ي�سمع �أزيز النحل ،وبح�سب تعبري يو�سا ،الذي يتابع " :كثريا ما توحي بجو من ال�شهوانية الطاغية حيث كل الأ�شياء املحيطة :الغطاء الكهربائي ،لوحة امل�شهد اخلريفي� ،ستائر املخمل القرمزية وحتى تالطم الأم��واج البعيدة ،تطغى عليها م�سحة من ال�شهوانية والرغبة". ذل ��ك �أن اجل �ن ����س ،مب� �ف ��ردات وج� � ��وده ،وع�م�ل�ي��ة
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
االف �ت �ق��اد امل�ق��اب�ل��ة ل�ه��ذا ال��وج��ود، والتي تعانيها هذه ال�شريحة من العجائز ،لهو املحك الذي يظهر م��ا ه��و ب�شع وح��زي��ن ومقب�ض يف ال �� �ش �ي �خ��وخ��ة ،م ��ع ح �� �ض��ور �شبح امل��وت مقرتنا بالعجز واخلمول، وب��امل�ق��ارن��ة ال�ظ��امل��ة ب�ين م��ا تهبه احلياة لتلك الفتيات من ن�ضارة وتفتح و�صالبة وم��رون��ة فائقة، وم � ��ا ت �� �ض��ن ب� ��ه ع �ل ��ى ال �ع �ج��ائ��ز ل � �ي � �� � �ص �ي�روا ك� �ق� �ط ��ع ال� �ق� �م ��ا� ��ش املكرم�شة �أو ي�صلوا �إىل درج��ة الوعي احل��اد مبدى االنحطاط اجل�سدي واق�تراب املوت الذي يت�سحب على كل الأع�ضاء. والأقرب �إىل هذه احلالة هو التعبري مب�شهد موت �أح��د العجائز ،متوهما بن�صره على احل�ي��اة بتلك العملية الإيرو�سية املتخيلة ،وهو من قبيل ا�ست�شراف احل��ال القادمة من خ�لال تعاقب الأي��ام وال�سنني، لتكتمل الدورة التي ال منا�ص من �إغالقها يوماً ما، والتي تق�ضي على الوهم بحقيقة امل��وت ،املناق�ضة للحياة ذاتها" :ولكن الوهم ميكن �أن يتال�شى مع امل��وت ،مثلما ح��دث م��ع ف��وك��ورا ،ذل��ك ال�شيخ ال��ذي انتقل �إىل العامل الآخ��ر �أثناء �إح��دى ليايل ال�شبق املتخيل هذه" .وت�صل الرواية �إىل مدى من النجاح يف مقاربة املفهوم الإيرو�سي يف هذا الن�سق احلياتي املغاير ،الذي يجعل من الإيرو�سية " :لعبة مثرية وخ�ط�يرة ميكنها �أن ت�ثري الإن���س��ان ومتنحه نوعا من االمتالء ،كما ميكن �أن جتعله يدمر الآخرين ويدمر نف�سه". ك �م��ا ت���ص��ل ب�ب�راع��ة ال ��روائ ��ي يف ب �ي��ان احلقيقة العدد
الإن���س��ان�ي��ة الثابتة املت�سقة م��ع ه��ذا ال�ت��وق ملعانقة املتخيل واملنتهك ،حني يفكر الروائي بوعي حاد يكاد يتماهى مع وعي ال�شخ�صية ،ا�ستنادا �إىل مقولته: "فكل ن��وع م��ن ال�ل�ا �إن �� �س��اين ي�صبح م��ع ال��زم��ن �إن�سانياً .ويف ظالم العامل توجد كل �أنواع االنتهاكات م�سجونة" .ليعود يو�سا طارحاً �س�ؤال الرواية و�س�ؤال القراءة الإبداعية الثاقبة�" :أهي املفارقة املتمثلة يف �أن اجلن�س ،م�صدر اللذة الأك�ثر غنى بالن�سبة �إىل الإن���س��ان ،ه��و �أي���ض�اً بئر مظلمة مليئة ب��الإح�ب��اط والعذاب والعنف؟ كيف ال ت�ستطيع احل�ضارة ،يف ما يتعلق بهذه امل�س�ألة� ،أن تتخل�ص من الهمجية". خامتة يقول ماريو بارغا�س يو�سا ،يف �أحد حواراته: " لقد كنت تلميذاً جلان بول �سارتر الذي كان يعترب الكلمات �أف �ع��ا ًال ،و�أن الأدب ميكن �أن يغري احلياة .ال ت��زال ه��ذه الأف�ك��ار �صاحلة لغاية اليوم. ث�م��ة م�ت�ع��ة ك �ب�يرة يف ال �ق ��راءة ل�ك��ن ال�ك�ل�م��ات التي جندها يف الكتب هي �ألغام �صغرية موجهة لتفجر الوعي والذاكرة والت�صرفات" 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
157
مدار وذاكرتان
د .حممد فاحت زغل
اخلراط ادوارد ّ
و
رواية «رامة والتنين» 158
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
مي�شال بوتور
رواية«التح ّول»
منظور إبداعي جديد في المشهد الروائي
غواية ال�سرديات و�إعادة كتابة الواقع
"الحساسية الجديدة"
ومل يكن ذلك بغائب عن بالنا ،ونحن ن��روم قراءة امل�تن ال��روائ��ي للكاتبني املبدعني .لكنّ �ضيق م�ساحة القول ح ّد من �أفق تعاملنا مع هذا املنت� ،آملني يف حتقق م�ساحة �أكرث ات�ساع ًا لتحليلنا لهذا املنت الإبداعي الذي يظ ّل عالم ًة بارز ًة يف �سريورة الإبداع الروائي العربي. ي��رى مي�شيل بوتور �أن ال��روائ��ي لي�س هو َم��ن ي�ضع الرواية ،بل الرواية هي التي ت�ضع نف�سها بنف�سها. وعن تعريفه للرواية اجلديدة وكيفية كتابتها يقول: ال �أ�ستطيع �أن �أب��د�أ بكتابة رواي��ة �إال بعد �أن �أك��ون قد در�ست تنظيمها �شهور ًا عديدة ،واالبتداء من اللحظة التي �أجدين فيها مالك ًا املخططات ال�ضرورية التي تبدو يل فاعليتها معربة وكافية بالن�سبة �إىل املنطقة التي العدد
ا�ستدعتني يف بادئ الأمر .و�إذا ما ت�سلحت بهذه الآلة وبهذه البو�صلة ،وبهذا املخطط امل�ؤقت ،ف�إين �أبد�أ رحلتي التنقيبية و�أبد�أ املراجعة. �أم��ا �إدوارد اخل��راط فينظر �إىل الكتابة الروائية على �أنها اقتحام احلقيقة�" :أعرف �أنني ال �أملك �إال الكتابة �سالح ًا للتغيري ..تغيري ال��ذات ،وتغيري الآخر، وتغيري الوطن ،وتغيري العامل ،رمبا� ،إىل �أف�ضل رمبا.. �أو �أدف أ� يف برد الوح�شة والوحدة� ..أو �أروح يف حر العنف واالختناق ..لأنني �أمتنى �أن �أقتحم مقدار خطوة يف �ساحة احلقيقة التي ال حدود لها ،لأنني �أمتنى �أن ترتفع معرفتي ومعرفتكم بالذات وبالعامل ولو كان ذلك مقدار قامة.. 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
159
استحدث الخراط على المستوى اللغوي كتابة روائية جديدة سماها" :الحساسية الجديدة" ،مستقاة من المدرسة الفرنسية
ال تكتمل الر�ؤي ُة التحليلي ُة والنقدي ُة لروايتي "رامة والتنني" لإدوارد اخلراط، ورواية "التحول" ملي�شال بوتور من دون �أن حترتق �أ�صابعنا يف امل�رشوع الروائي لكل منهما ،لأنهما ميثالن تياراً جديداً ظهر يف الرواية العربية ممثلة ب�إدوارد اخلراط والرواية الأوروبية التي قامت على يد مي�شال بوتور ،وهو ما �أطلق عليه م�صطلح "احل�سا�سية اجلديدة" .وذلك �ضمن مقاربة �شاملة للوقوف على خ�صائ�ص البعد الداليل واجلمايل وعنا�رص اخلطاب الروائي من خالل م�ستويات ال�رسد والزمن وال�صيغة وال�شخ�صيات ،وم�ستويات ت�شخي�ص اللغة .ذلك ل ّأن مثل هذه القراءة ال�شاملة واملتكاملة هي القادرة وحدها على الك�شف عن روائية �إدوارد اخلراط ومي�شال بوتور وخ�صائ�ص الكتابة عندهما ،مفهوم ًا و�أدا َة ٍ فعل ور�ؤي ًة �إىل العامل والذات.
ادوارد الخراط: الكتابة الروائية هي اقتحام الحقيقة، وأعرف أنني ال أملك إال الكتابة سالحًا للتغيير
تناول اخلراط يف رواياته عرب "احل�سا�سية اجلديدة" مو�ضوعات كثرية ومتنوعة منها� :صورة الذات� ،صورة الآخ����ر ،احل���ب وف��ق��دان احل���ب ،احل��ل��م ،ال��ك��اب��و���س، الأ�ساطري ،الطفولة ،اللغة ،املكان ،الهذيان ،القلق، احلرية ،الغربة ،املوت ،وغريها الكثري مما يحتاج �إىل مقاربات نقدية �أكرث عمق ًا ليظهر مدى ما قدمه اخلراط للرواية العربية من قيمة م�ضافة يف املنت الروائي العربي املعا�صر. ينه�ض البنا ُء ال�سردي يف رواية "رامة والتنني" حول جتربة احلب ال�ضائع ،التي يعي�شها مثقف م�صري قبطي تكونت ثقافته باعتباره (قبطي ًا) ينظر �إىل الأ�شياء، و�إىل تاريخ جمتمعه ولغته ،من منظور فهمه اخلا�ص لتاريخه الذاتي ،عرب عالقة خا�صة جتمعه مع رامة تلك املر�أة الإلهية العرافة الطفلة ال�ضاحكة احلارة التع�سة، العابثة الداعرة القدي�سة العذراء الأبدية". ولهذا يراها "ميخائيل" غريبة� ،أو �أنها لي�ست من �ساللة الب�شر ،لكن رامة ام��ر�أة من حلم ودم ،فكيف ر�سم ال�صويف هذا اجل�سد ،كما يراها ج��زء ًا منه ،ال انف�صال له عنها. ه��ذه املمر�ضة التي تقر�أ اللغات القدمية ،وتكتب ال��رواي��ات ،وتعمل يف ترميم الآث��ار ،وتطوي ع�شاقها. توم�ض يف حياة "ميخائيل" وتختفي ،فيهتف�" :أحبك حب ًا كام ًال ،نهائي ًا ،دون حتديد" ،وير�سم ميخائيل هذا احلب كجوهر ومطلق .ومنذ هذه البداية �سينفي ميخائيل � -ش�أن ال�صويف� -أن يكون احلب من قبيل الكفاءة� ،أو عدمها ،فلي�س فعل احلب هو املو�ضوع ،بل احلب نف�سه. يقول ميخائيل خماطب ًا رام��ة" :املعرفة املحقة هي معرفة من �أحب .هذه هي املعرفة ،فيم تفكرين؟ كيف حت�سني؟ م��اذا تقر�أين؟ مب حتلمني؟ كيف تتنف�سني 160
العدد
7
حتى؟ ماخطاباتك ،ر�ؤاك ،هذياناتك املخبوءة؟ ماذا يف حقيبتك؟ لي�س هذا ف�ضو ًال ،واملعرفة لي�ست امللكية وال ال�سيطرة ،هي احلق ،وحدها ،هي احلب". و�إذا كانت عالقة رامة مبيخائيل ،عالقة تناق�ض يف ميدان الع�شق ،ف�إنهما يوغالن باملقابل يف ع�شق عميق، �إنه ع�شق الوطن. ا�ستحدث اخلراط على امل�ستوى اللغوي كتابة روائية جديدة �سماها" :احل�سا�سية اجلديدة" ،م�ستقاة من املدر�سة الفرن�سية ،وابتكر مفهوم ًا �آخر يف و�صف انفتاح الن�ص الروائي َو َ�س َم ُه بـ" :الكتابة عرب النوعية" ،كما ا�ستحدث م�صطلح "منطقة ما بني الذاتيات" ليقدم من خالله �سريته الذاتية روائي ًا ،يف ت�ساوق مع م�سارات الواقع امل�صري ،بكل ما يتخلله من �أح��داث ووقائع يف ن�سق جمايل مميز ،ومن زوايا فل�سفية متعددة الدالالت والأبعاد. كتابات اخلراط ال�سردية ،تقوم على ا�ستح�ضار قوي لعوامل الأ�سطورة واحللم والرمز مع ًا ،بحيث يتم �صهر
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ميشال بوتور: الروائي ليس هو َمن يضع الرواية ،بل الرواية هي التي تضع نفسها بنفسها
كل ذلك يف بوتقة الكتابة ال�سردية ،من منظور �إبداعي له فرادته ومتيزه يف امل�شهد الروائي العربي .وهذا النوع من الكتابة اجلديدة فتح جم��رى جديد ًا يف الرواية العربية ،وانتهج ح�سا�سية فنية مغايرة ملا كان م�ألوف ًا من قبل مما �أطلق عليه فيما بعد بـ"احل�سا�سية اجلديدة". �أما مي�شال بوتور الأديب الفرن�سي املعروف ،فقد كان �صاحب ر�ؤي��ة فل�سفية و�أدبية �شبيهة برامبو ،وفيكتور هوجو ،وهو متعدد املواهب فهو �شاعر ،وباحث ،وناقد، وفنان ،وم���ؤرخ ،وم�صور فوتوغرايف ،ويعد �أح��د رواد الرواية اجلديدة التي �شاعت بني اعوام 1939و،1970 حيث خا�ض مع جمموعة من الروائيني الفرن�سيني �أمثال :كلود �سيمون ،وناتايل �ساروت ،و�آالن روب ،جتربة �أدبية �سموها "الرواية الفرن�سية اجلديدة". مل يقت�صر نتاج بوتور على الأعمال الروائية �إذ كتب العديد من الدرا�سات النقدية الفنية ،وله م�شاركات عديدة يف املجاالت التي ذكرنها �آن��ف��ا ً ،وح�صل على عدة جوائز ،منها :جائزة فينيون عن كتابه "ا�ستخدام
العدد
الوقت" وجائزة النقد وغريها. ً ت�ستقل ال�شخ�صية املركزية والوحيدة تقريبا يف رواية "التحول" ذات �صباح القطار ال�سريع (باري�س – روما) ،وهدفه مفاج�أة ع�شيقة له يف روما حيث يحمل معه لها خرب �إيجاد وظيفة متكنهما من العي�ش مع ًا يف باري�س �إذ يف نيته �أن ينف�صل عن زوجته و�أوالده حمدث ًا يف هذا حتو ًال كبري ًا يف حياته الباهتة والكئيبة ،ويف �أثناء الطريق ي�صبح هذا الهارب من واقعه لعبة ملجموعة من الذكريات املبهمة. ت��دور �أح��داث ال��رواي��ة التي ي�سردها بوتور يف وقت ق�صري ال يتجاوز � 24ساعة ،ويف ف�ضاء مغلق هو عربة القطار ،وهذا الف�ضاء ال تطر�أ عليه �إال تغيريات طفيفة، غري �أنه يتذكر �أي�ض ًا رحالت عديدة قام بها ي�أخذ يف تذكرها. تبدو رواي��ة بوتور �سرد ًا لأزم��ة ال تتجاوز مدتها 24 �ساعة م�سرحها عربة ال�سكة احلديد ،وبطلها رجل متزوج م�ؤم ًال �أن العي�ش مع ع�شيقة بد ًال من العي�ش مع زوجة قد تتيح له حياة �أف�ضل؛ لذا ف�إن بوتور �أن�ش�أ روايته على خلفية نف�سية مرتابطة متام ًا ،وهو بني امر�أتني: امر�أة ت�شيخ يومي ًا ،و�أخرى كانت تبدو له قبل ليل الرعب يف عربة القطار ك�أنها ال�شباب الدائم ،وهو �أي�ض ًا بني مدينتني (باري�س وروما). عربة تقل �أنا�س ًا متنوعني جمعهم القدر كرفاق طريق ي�شكلون خمت�صرا للب�شرية ،وي�شكلون ف�ضاء الرواية حيث يتوقف الكاتب عند الكثري منهم. تنبع �أح���داث ه��ذه ال��رواي��ة ال�شديدة الواقعية من العجائبي مرتبطة باحلالة الفيزيائية �أو باحلالة الذهنية لل�شخ�صية وت�صبح معاد ًال لق�صتك �أنت �أيها القارئ عندما يتحدث الكاتب مبا�شرة �إىل القارئ من �أنت؟ �إىل �أين تذهب؟ عماذا تبحث؟ من حتب؟ ماذا 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
161
أن��ش��أ ب��وت��ور رواي��ت��ه ع��ل��ى خلفية نفسية م��ت��راب��ط��ة ت��م��ام��ًا ،وه���و ب��ي��ن ام��رأت��ي��ن :ام����رأة تشيخ ي��وم��ي��ًا ،وأخ����رى ك��ان��ت ت��ب��دو ل��ه ق��ب��ل ل��ي��ل ال��رع��ب ف��ي ع��رب��ة ال��ق��ط��ار ك��أن��ه��ا ال��ش��ب��اب ال��دائ��م
تريد؟ ماذا تنتظر؟ ماذا ت�شعر؟ هذه الأ�سئلة قدمها الكاتب ك�شكوى مطروحة على جميع الذين ي�شاركونه العربة يقدمها عرب �شخ�ص جمهول يرتدي مالب�سك نف�سها ،ويحمل يف يده حقيبة �سفرك عي َنها يف احللم ،يقب�ض رجال ال�شرطة عليك وتعود ال�شخ�صية �إىل نقطة البداية ،والكتاب ينتهي يف الوقت الذي يتهي�أ لكتابته تت�صل نهايته ببدايته. تعترب هذه الرواية التي �صدرت عام 1957واحدة من �أهم روايات القرن الع�شرين ملا �أحدثته من تغيري يف بنية الرواية و�أ�سلوب تناول ال�شخ�صيات. ي�ستخدم الكاتب ال�ضمري "�أنت" وهو من �أ�ساليب مدر�سة احل�سا�سية اجلديدة من بداية ال��رواي��ة �إىل نهايتها كي ي�صف رحلة رجل يف قطاره من باري�س �إىل روما ليلتقي بحبيبته ،وي�شعر القارئ با�ستخدام ال�ضمري "�أنت" �أنه معني بالأفكار التي ت�أتي �إليه دون توقف. ميكن �أن نعترب رواي��ة "التحول" ك�أمنوذج متكامل حلركة ال��رواي��ة اجل��دي��دة التي ظهرت يف فرن�سا يف خم�سينيات القرن الع�شرين ،ومن بني خ�صائ�صها �أنها ترف�ض �أن تويل �أهمية رئي�سة للحبكة ،وتعنى بكل ما يحيط بالق�صة الأ�سا�سية. 162
العدد
7
ي�شعر ال��ق��ارئ بتطابق يف التوجه للكتابة نف�سها عند كل من بوتور واخل��راط النتمائهما �إىل املدر�سة نف�سها ،ففي الف�صل الثالث من رواية "رامة والتنني" التي �صدرت عام 1980حديث عن ال�صعود �إىل ذروة البهجة وو�صف لل�سالمل ال�ضيقة التي ي�صعدها الراوي (ميخائيل) خلف رامة (مع�شوقته) يف لوكاندة فيكتوريا بالإ�سكندرية ،وهي ترقى الدرجات املتعرجة ،ويكاد يتعرث بطرف ال�سجاد الأحمر الكابي وهو غائب االنتباه، يف ده�شة من �أناقة هذا الفندق الذي ال يعرفه ،وظهرها القوي الن�شط منحن �أمامه� ،صاعدة تنهج ،ثم تهتف، وتعود �إليه ،و�صدرها يرتفع ويهبط ،ويخفق �أمام عينيه، وهي تقول :ال� ،صعدنا ال�سالمل اخلط�أ ،لي�س من هنا.. جعلتني �آخذ االجتاه اخلط�أ ،انزل من هنا ..تعال "ثم يتجه ميخائيل ورامة �إىل �سلم �آخر يو�صف ب�أنه �أكرث �ضيق ًا ،وتفتح له باب غرفتها ويجد نف�سه فج�أة معها، وحدهما. ير�صد الكاتب احلوارات اخل�صبة بني رامة وميخائيل حول احلياة واحلب ،لكنه دوم ًا يتذكر "التنني" الوح�ش الكابو�س واخل��وف احلقيقي فيقول لنف�سه" :مل �أقتل التنني� ،أعي�ش معه� ،أ�سنانه مغروزة يف قلبي" .يفر�ض الع�شق الأ�سطوري بني ميخائيل ورامة لغة �شاعرية يف كثري من احلوارات حتى الفل�سفي منها� ،أو ما بينه وبني نف�سه في�ضفي بعد ًا عميق ًا على ر�ؤية ميخائيل لرامة، فر�ؤيته لها تقرتب من التقدي�س؛ لأنها هي معبودته التي هيمنت على كل كيانه .غري �أننا نالحظ �إ�ضافة �إىل اللغة ال�شاعرية التي ا�ستخدمها اخلراط تنويع ًا يف اللغة �صهره كله يف بوتقة التخييل الروائي ،فجاء بلغة جديدة جتمع بني ف�صاحة املكتوب وبالغة ال�شفوي ،وكلها تعمل على حتقيق املتعة. يقول مي�شيل بوتور� :إن لتعبري "رواية جديدة" معنى
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
تاريخي ًا وا�ضح ًا ،والأمر يتعلق ببع�ض الروائيني الذين ا�شتهروا فج�أة ح��وايل �سنة .1956ومن الوا�ضح �أنه كان له�ؤالء الروائيني على اختالفهم نقاط م�شرتكة، ولي�س من قبيل امل�صادفات �أن يكون الق�سم الأكرب من كتبهم قد قامت بن�شره دار ن�شر واحدة ،ويف الدرو�س التي �ألقيتها عن فن الرواية الفرن�سي يف القرن الع�شرين كنت جم�بر ًا على تقدمي الأ�شياء على هذه ال�صورة، وعلى القبول باالنتماء �إىل "الرواية اجلديدة". ويقول اخل��راط" :مل �أتوقف يف حقيقة الأم��ر عن كتابة ال�شعر ولكنه كان مدرج ًا �أو مندرج ًا �أو من�صهر ًا يف �سياق الق�ص�ص �أو ال�سرد� .إال �أنني يف ذات يوم خطر يل يف �إحدى النزوات الإبداعية �أن �أ�ستخل�ص من "رامة والتنني" ورواية "الزمن الآخر" بالتحديد تلك الفقرات التي ت�صورت �أنها ق�صائد م�ستقلة� ،أو التي ميكن �أن تت�صور باعتبارها ق�صائد م�ستقلة .هي لي�ست م�ستقلة، هي يف احلقيقة مندرجة من�صهرة يف ن�سيج العمل الروائي كله ،ولكني با�ستخال�ص تلك الفقرات وبكتابتها على �شكل �إيقاعي خا�ص غري ال�شكل ال�سردي املطرد، لعلني ا�ستخرجت منها �أي�ض ًا� ،إيقاع ًا �آخ��ر ،وبالتايل ا�ستخرجت منها معنى �أو داللة �أخرى لعلها كانت كامنة غري �سافرة يف الن�سيج الروائي ،وهو ما يكون ق�سم ًا هام ًا من كتابي "طغيان �سطوة الطوايا". ي��ول��د اجل��دي��د دوم���� ًا ،وم��ن طبع احل��ي��اة �أن ت�أتي باملفاج�آت وم��ن طبع الب�شر اكت�شاف اجلديد ،فلكل جيل �أف��ك��اره ونظرته ومفهومه ,وبطبيعة احل��ال ف�إن االكت�شافات عملية م�شروعة �أمام تعاقب الأجيال. ميكن الت�أكيد ،كما يقول عبد املالك �أ�شهبون� ،أن هذه العدد
"احل�سا�سية اجلديدة" كانت نتيجة �إرها�صات ميالد زم���ن ع��رب��ي ج��دي��د يف امل�����ش��رق وامل���غ���رب� .إن���ه زم��ن احلداثة االجتماعية الذي ينقل العالقات االجتماعية من الواحد �إىل املتعدد ،ومن املتجان�س �إىل املختلف، ومن الثابت املقد�س �إىل املتحول الذي ال قدا�سة فيه. �إن الرواية اجلديدة �أ�صبحت تفرت�ض قارئ ًا جديد ًا، له م�ؤهالت قرائية معينة ،وهذه امل�ؤهالت هي نتيجة جلملة من املعطيات القرائية التي ال يتم تعديلها �إال يف التوا�صل مع الن�ص ذاته ،توا�ص ًال فعا ًال وخالق ًا. �إن العامل الروائي اجلديد ،ب�شكل عام ،يقوم ب�إعادة كتابة الواقع وفق ت�صورات مغايرة ،وكتابة الواقع هذه قد تكون �أف�ضل �أو �أ�سو�أ من الواقع املعي�ش .فهي ،بذلك ال�صنيع ،تعمل على �شحذ خيال القارئ ،غار�سة بذلك جرثومة عدم الر�ضى يف دواخله ،خملخلة طبيعة �إدراكه للأ�شياء والعالئق وامل�صائر الإن�سانية 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
163
تجربة األم
بني الوهم واحلقيقة يوحي عنوان الرواية La maternitéيف جوانب منه �إىل "فن الأمومة" .لكن الروائي ماتيو �سيموين Mathieu Simonetا�ستعمله للداللة على املكان الذي ق�ضت فيه والدته "با�سكال � "Pascaleأيامها الأخرية (كان ي�سمى فيما قبل بـ "م�شفى الوالدة" ،و�أ�صبح ،فيما بعد ،مركزاً مل�ساعدة املر�ضى يف حاالت حرجة على ا�سرتجاع الأمل يف احلياة) .كانت ،حينئذ ،تعت�رص �أمل ًا وهي تقاوم ،ب�شجاعة وعناد نادرين ،مر�ض ال�رسطان الذي اكت�سح ج�سدها ُمره�ص ًا بنهايتها الو�شيكة .ويعترب ماتيو �سيموين ،وهو حمام بباري�س ،من الروائيني ال�شباب الذين لفتوا انتباه النقاد بقدراتهم على ابتداع طرق فنية جديدة لإعادة ت�شخي�ص الواقع .وبعد ال�صدى الذي خلفته روايته الأوىل (الكرا�سات البي�ضاء) يف ال�صحافة الفرن�سية� ،أ�صدر عمله الثاين (م�شفى الوالدة) الذي حاز على جائزة القراء امل�سلمة من جملة " �أك�سربي�س" ،وحقق رقم ًا قيا�سي ًا يف مبيعاته.
نقد
د.حممد الداهي املغرب
تر�صد الرواية تالثة م�صائر متباينة يف مناحيها وم�ساراتها ،لكنها ،يف جمملها ،ت�ستمد ن�سغها من جت��ارب م�شرتكة مريرة وج��راح غائرة و�أليمة .وهو ما جعل كل م�صري على حدة يتوج�س من امل�ستقبل، ويداري اللحظة الآنية ،ويهيم يف متاهة املا�ضي بحث ًا عن اجتثاث خملفات الأمل من منابتها� .أ�صيبت الأ ّم مبر�ض �سرطان الثدي الذي اجتاح ج�سدها مره�ص ًا بنهايتها الو�شيكة .ويعاين الأب من ا�ضطرابات نف�سية حادة �أودت به �إىل حافة اجلنون ،وهو ما جعله ميا ًال �إىل العزلة واالنطواء ..يج ّرت االبن (ال�سارد) ذكريات 164
العدد
7
�أليمة ترتبط بتعر�ضه �إىل اغت�صاب حمتمل من لدن �شخ�ص جمهول ُيرجح �أن يكون هو والده. وجد ال�سارد يف احلكي خري و�سيلة للتخل�ص من ثقل املا�ضي الأليم ،وتوطيد م�صاحلة مع الذات والآخرين، وفتح م�سارب و�شق قنوات حر�ص ًا على الإم�ساك بتالبيب الأ�ضواء الهاربة والأحالم املنفلتة� .شرع يف كتابة رواية جديدة مو�سومة بـ" الكرا�سات البي�ضاء" مدون ًا حمكياته الذاتية التي ت�ستوعب جتاربه وت�أمالته يف احلياة. وحفز والديه على االنخراط يف م�شروع احلكي لت�سليط مزيد من الأ�ضواء على اجلوانب الداجية يف حيواتهم
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
امل�شرتكة ،وملء ثقوب الذاكرة ،ومعاينة حدث معني من زوايا ور�ؤى خمتلفة .ا�ستجابت والدته طوع ًا لطلبه، و�أ�ضحت ،يف �أوج انفعالها وامتعا�ضها من املر�ض الذي توغل يف ج�سدها ،ترد على �أ�سئلته بالربيد الإلكرتوين �أو بتدوين �شذرات من خواطرها �أو حياتها يف �أوراق متفرقة .مل ي�ست�سغ الأب االنخراط يف م�شروع احلكي، لكنه تورط تدريجي ًا يف �شركه ،وهو يحرت�س من �إثارة مو�ضوع االغت�صاب الذي ُيحتمل �أن ابنه تعر�ض �إليه؛ مما حر�ضه على ممار�سة ال�شذوذ اجلن�سي بح�سرة و�أمل �شديدين .اعتاد الأب على التمل�ص من الأ�سئلة احلرجة التي يوجهها له ابنه �سعي ًا �إىل الك�شف عن حقائق مغفية .كان يداوم على قراءة مدونة ابنه حتى يكون على ب ّينة مما يكتب ،وعلى �أهبة للتدخل يف الوقت املنا�سب لنهيه عن النب�ش يف ما�ضيهما امل�شرتك الذي قد يك�شف عما يحدث ت�صدع ًا يف عالقتهما. تق�صد ال�سارد �أن ُيب ّئر معظم �أحداث الرواية على الأم حر�ص ًا على بيان حالتها النف�سية واالنفعالية ،وهي جتتاز فرتة ع�صيبة من عمرها ،وعلى �إعطائها الكلمة ال�ستح�ضار جتاربها يف احلياة ومواقفها و�أحا�سي�سها حيال الوجود .وقد ا�ضطر ،بهدف توريطها يف فعل العدد
احلكي� ،إىل توجيه �أ�سئلة حمددة �إل��ي��ه��ا وح��ف��زه��ا ع��ل��ى الإج���اب���ة عنها .و�أ�شرك ،يف هذا ال�صدد، ك���ل م���ن خ��ال��ط��ت��ه��م يف احل��ي��اة (الأق���ارب ،الطبيب ،املمر�ضة، الق�سي�س ،امل���ر����ض���ى ،)...مل��لء ُف��رج��ات ال��ذاك��رة وبيا�ضاتها، والإدالء مبعلومات �إ�ضافية .كما كاتب م�س�ؤولني من اخت�صا�صات خمتلفة مل��واف��ات��ه ب���آرائ��ه��م عن املوت (�إيزابيل بوزان�صون عاملة نف�سانية� ،ألتيز عراف� ،إزابيل بلونديو حمللة نف�سانية، دانيل لوكمبت طبيبة� ،أرنو ق�سي�س ،جون لوك حملل نف�ساين .)..وهكذا اتخذت بنية الرواية �صبغة حوارية ُم ْ�شرعة على احتماالت وت���أوي�لات عديدة ،وم�شيدة على �أر�ضية ن�صو�ص ومرجعيات فكرية خمتلفة. التزم ،خاللها ال�سارد ،بالكتابة ال�شذرية التي تلتقط الأخبار واالنفعاالت يف �صخبها وعنفوانها وتلقائيتها. وعمد ،يف الآن نف�سه� ،إىل تذويب ملفوظات الآخرين يف �سبيكة ال�سرد �إىل حد ي�صعب فيه التمييز بني قول ال�سارد وكالم ال�شخ�صيات. ���س��ع��ى ال�����س��ارد ،م��ن خ�ل�ال ال��ت��ف��ات��ات��ه ال��رم��زي��ة والإن�سانية� ،إىل االق�تراب من �أمه والتغلغل �أكرث يف عواملها ،وفهم كثري من �أ�سرارها املُلتب�سة و�أحالمها املحبطة .كانت تكرث من عتابه لكونه مل ينتبه �إىل ت��ده��ور �صحتها ،ومل ي��ب��ادر �إىل نهيها ع��ن معاقرة اخلمر برغم مالزمة القنينة ل�سريرها. تزوجت يف ريعان �شبابها ،وبعد �شهرين من الزواج انف�صلت عن �شريكها ب�سبب عالقته ال�شاذة مع ب�ستاين بفندق املامونية يف مدينة مراك�ش ،وعدم قدرته على 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
165
ال������رواي������ة ع���ل���ى األم ح����رص����ًا ع���ل���ى ب����ي����ان ح���ال���ت���ه���ا ال���ن���ف���س���ي���ة واالن���ف���ع���ال���ي���ة
ت����ق����ص����د ال��������س��������ارد أن ُي������ب������ ّئ������ر م����ع����ظ����م أح���������داث
الرواية ،يف جمملها ،عبارة عن �شذرات خمتلفة ا�ستقاها ال�سارد من �أقالم �أ�صحابها �أو �أفواههم
�إح�سا�سها ب�أنوثتها وتلبية رغباتها اجلن�سية .تزوجت، فيما بعد� ،شخ�ص ًا �آخر هو والد ال�سارد .وبعد �شهرين �أي�ض ًا من قرانهما رحل �إىل البريو ّثم عاد جمنون ًا. ملا علمت �أن ثديها م�صاب بداء ال�سرطان� ،أ�ضحت احلياة ،بالن�سبة �إليها ،جحيم ًا ال يطاق .اجتاح الداء عظامها ،و�أن��ه��ك ج�سدها ،وبعرث �أوراق��ه��ا .وه��و ما جعلها �أكرث ت�شا�ؤم ًا وتربم ًا من احلياة. �أ�ضحى ال�سارد� ،أكرث من �أي وقت م�ضى ،مهموم ًا بالتفا�صيل التي تهم م�سار والد ْيه يف احلياة .يريد �أن يعرف عنهما �أ�شياء كثرية .وهذا ما حر�ضه على ا�ستف�سارهما عن كثري من الق�ضايا ..كيف تورطا يف احل��ب �أول م��رة؟ ما موقفهما من احلياة وامل��وت وال���زواج؟ كيف ينظران �إىل اجل�سد بعد �أن تفارقه الروح؟ ومن بني الأ�سئلة احلرجة التي وجهها ال�سارد �إىل والديه �س�ؤال يهم ما �أن راودتهما فكرة االنتحار يف يوم من الأيام .جاء جواب الأم على النحو الآتي" :نعم حدث يل ذلك مرة يف حياتي ..كنت �أ�سكن �صحبة ��ادرت املنزل لق�ضاء عطلة نهاية الأ�سبوع �أختي ..غ ِ يف مكان �آخ��ر ..كنت �أ�شعر ب�أمل حاد يف �أ�ضرا�سي.. تناولتُ م�سكن ًا ..لكنه مل يكن له �أي �أثر �إيجابي... علي ..من تناولتُ كل الأدوية املتوفرة لدي� ...أغمي ّ ح�سن احل��ظ ع��ادت �أختي �إىل املنزل ال�سرتجاع ما ن�سيته فوجدتني جثة هامدة� ..أجريت حتليالت دقيقة، وخ�ضعت حل�ص�ص العالج النف�سي ..وملا فتحت عيني، وجدت نف�سي يف عامل بديع ..كنت يف �شرفة مزدانة بالأزهار ،فظننت �أنني يف جنة" .ومما ا�سرتجعه الأب عن حماولة انتحاره ن��ورد ما يلي " :انتابتني فكرة االنتحار ملا كانت يل عالقة مع "هالي�سا" ،وجدت نف�سها حام ًال بجنني يف �شهره الرابع �أو اخلام�س. مل يغم�ض يل جفن خالل مدة احلمل� ..صرخت يف 166
العدد
7
وجهها حمر�ض ًا �إياها على الإجها�ض� .شرعت �أبحث عن رابطة عنق وعن مكان منا�سب ل�شنق نف�سي ...ملا و�ضعت رابطة العنق ظننت �أن هالي�سا مل تغادرين ،بل ق�صدت عيادة للإجها�ض ..تراجعت عن قراري ،ثم وا�صلت كتابة اجلزء الثاين من روايتي "مانكو" التي، و�إن كانت رديئة ،تر�صد ن�ش�أتي. وبقدر ما يتوغل مر�ض ال�سرطان يف ج�سد الأم بقدر ما تتوطد رغبتها يف احلكي ،وي��راوده��ا �شعور عارم بعدم تناول الأدوية حر�ص ًا على الرحيل عاج ًال �إىل العامل الآخر .ما يرعبها �أ�سا�س ًا لي�س املوت ،و�إمنا الأمل ال��ذي يعت�صر �أح�شاءها ويهد كيانها" :لي�ست �أم��ي خائفة من امل��وت� .إن��ه جم��رد �سبات عميق .ما يخيفها هو مكابدتها للأمل ..تعرف �أن موتها و�شيك لذلك ال ترى �أي جدوى من ا�ستئناف ح�ص�ص العالج الكيميائي". ملا اطلعت الأم على ما كتبه ابنها عنها عاتبته على عدم ذكر كثري من املعطيات التي �صدعت بها .وجدت نف�سها �أحيان ًا �أمام امر�أة ال ت�شبهها .وعندما تعاين مدى مطابقتها لها ت�شعر ب�سعادة عارمة .حفزته على موا�صلة م�شروع الكتابة معتزة مب�ؤهالته وقدراته. ومن �شدة �إعجابها وافتتانها بعوامله اخليالية حفزت طبيبها على االط�لاع على مدونته واال�ستمتاع مبا تزخر به من حمكيات ذاتية مفعمة بامل�شاعر والأهواء املت�ضاربة. إحلاحها مما �أ�سهم يف تدهور حالتها ال�صحية � ُ على �إدم��ان اخلمر والتدخني ،وعدم تناول ال��دواء.. بعد ف�ترة انتظار طويلة و�شاقة ا�ستجاب مركز" جون دروكا" لطلبها بعد �شغور �سرير؛ نظر ًا لقدرته اال�ستيعابية ال�ضيقة (�ست وث�لاث��ون غرفة) يتعذر عليه ا�ستيعاب كل املر�ضى ،يف حاالت حرجة ،الذين
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�سعى ال�سارد ،من خالل التفاتاته الرمزية والإن�سانية� ،إىل االقرتاب من �أمه والتغلغل �أكرث يف عواملها ،وفهم كثري من �أ�سرارها املُلتب�سة و�أحالمها املحبطة ي�صرون ،من خالل طلباتهم املتكررة ،على اال�ست�شفاء به .ال تُقدم لهم الإ�سعافات ال�ضرورية فح�سب ،و�إمنا تزرع يف �أنف�سهم جرعات �إ�ضافية من الأمل لال�ستمتاع مبا تبقى من عمرهمُ .منع عنها التدخني لي�س لت�أثريه ال�سلبي يف ج�سدها فقط ،و�إمنا ملا يحمله من خطورة بتفجري الأك�سجني املتوفر يف غرفة الإنعا�ش .عا�شت الأم �أي��ام�� ًا م��ع��دودات يف امل��رك��ز ،ثم فارقت احلياة خملفة وراءه��ا �أ���س��رار ًا كثرية حتتاج �إىل مزيد من الوقت الفت�ضا�ضها وتبديد غمو�ضها. ال��رواي��ة ،يف جمملها ،عبارة عن �شذرات خمتلفة ا�ستقاها ال�سارد من �أق�لام �أ�صحابها �أو �أفواههم. وق��د حر�ص �أحيان ًا على ا�ستجوابهم وا�ستف�سارهم حول ق�ضايا معينة �سعي ًا �إىل فهم طبيعة العالقة التي كانت جتمعهم ب�أمه ،وحر�ص ًا على ا�ستجماع كثري من ال�شهادات واملعطيات التي تهم م�سارها وجتربتها يف احلياة ،وال�سيما حني �أنهكها مر�ض ال�سرطان .يلج�أ �أحيان ًا �إىل معاودة ال�س�ؤال نف�سه ب�صيغ خمتلفة على فرتات متباعدة .وهو ما يجعل اجلواب يتلون ب�ألوان ال��ظ��روف املختلفة ،وي�صطبغ ب���أه��واء �شتى �أملتها احلاالت النف�سية التي تعرتي كل �شخ�صية على حدة. تق�صد ال�سارد �أن يعيد كتابة �أقوال الآخرين كما هي حمافظ ًا على �أ�صالتها الأ�سلوبية و�شحنتها الداللية. وال يتدخل �إال للتعليق عليها ،و�إ���ض��اف��ة معلومات جديدة �إليها ،وتبويبها ح�سب ترتيبها الزمني .ومل يخل التوليف من املفارقات الزمنية التي �أف�ضت �إىل ت�شابك الأزمنة وتداخلها ،والإكثار ،خ�صو�ص ًا ،من اال�سرتجاعات املتماثلة حكائي ًا. ا�ستعان ال�سارد بتقنية اليوميات التي �أ�سعفته على ر�صد اللحظات ال�صعبة واحلرجة التي قا�ست منها الأم ،واكتوى ،هو �أي�ض ًا بجمراتها .لقد حر�ص على العدد
ا�ستجالء كل حلظة على حدة مبا حتمله من مواقف وم�شاعر �إن�سانية يف غاية الرهافة والرقة .كان يعرف، من خالل تقارير الطبيب وتدهور �صحة الأم� ،أنها متر على جفن الردى .ولهذا ارت�أى �أن يقدر كل حلظة ويعطيها العناية امل�ستحقة لعله يفلح يف ا�ستجماع �أكرب قدر من املعلومات عنها ،وي�ضمد جراحها ،وي�شعرها مبكانتها يف قلبه ،وي�ساعدها على ا�سرتجاع ثقتها بنف�سها. ي��ن��درج ه��ذا امل�����ش��روع يف �إط���ار التخييل ال��ذات��ي، وينطبق عليه التعريف احل�صري الذي اقرتحه �سريج دبروف�سكي مللء اخلانة الفارغة امل�ستغلقة على فهم فيليب لوجون بحكم عدم �إيجاد مثال منا�سب لتعليلها. ي�شرتط �سريج دبروف�سكي يف التخييل الذاتي توفره، عالوة على �سمات �أخرى ،على خا�صيتني جوهريتني، وهما الهوية اال�سمية ،وال��ه��وي��ة اجلن�سية (�إدراج العمل يف خانة ال��رواي��ة) .تتوفر رواي��ة الأمومة على اخلا�صيتني مع ًا ،وهو ما يجعلها �أقرب �إىل التعريف احل�صري ل�سريج دوبروف�سكي .حر�ص ال�سارد على �إدراج م�شروعه �ضمن خانة ال��رواي��ة م�برم�� ًا عقد ًا تخييلي ًا مع ال��ق��ارئ ،مفاده �أن ما ُيحكى هو �ضرب ميت ب�صلة �إىل التجربة ال�شخ�صية. من اخليال ،وال ّ وبقدر ما نتوغل يف الرواية يت�ضح �أن ال�سارد يحمل ا�سم الكاتب "ماتيو �سيموين" م�ؤدي ًا دورين متباينني: ي�ستح�ضر ،من جهة ،حياته ال�شخ�صية مركز ًا على جتربته الإبداعية (تورطه يف كتابة الرواية وانبهاره بالوقع الذي تخلفه لدى الآخرين" وم�ساره التعليمي واملهني .وعالقته احلميمة ب�أ ّمه على وجه اخل�صو�ص و�أ�ضفى ،من جهة �أخرى� ،صبغة تخييلية على الأحداث املروية معتمد ًا على �شهادات حقيقية �أو مفرت�ضة حول الأم خ�صو�ص ًا واملوت عموم ًا 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
167
من المسرح إلى السينما
تينيسي ..كازان ..وبراندو
في عربة اسمها الرغبة جمعت رواية (عربة ا�سمها الرغبة) مرتني بني الثالثي تيني�سي وليامز م�ؤلفا و�إليا كازان خمرجا ومارلون براندو ممثال ،الأوىل يف العام 1947م على خ�شبة امل�رسح ،والثانية يف العام 1951م يف فيلم �سينمائي.. عربة تيني�سي وليامز التي قادها �إليا كازان و�صل بها مارلون براندو �إىل مكانة مل ي�صل �إليها ممثل �آخر يف تاريخ ال�سينما الأمريكية ،مل تزد الرواية م�ؤلفها وخمرجها �شهرة على �شهرتهما، فقد ك��ان��ا م��ع��روف�ين يف الو�سطني امل�رسحي وال�سينمائي الأمريكيني وحظيا بقبول وا�سع النطاق من جانب اجلمهور والنقاد ،لكنها كانت فاحتة اخلري وال�شهرة واالنطالق للممثل ال�صاعد �آنذاك مارلون براندو الذي ا�ستطاع �أن يخطف الأ�ضواء عن طريق �أدائه املميز واجلديد �آنذاك م�ستعينا مبا ميلك من كاريزما وح�ضور.
سينما
مانيا �سويد �صحافية
168
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ثالوث امل�سرح الأمريكي �شهد القرن الع�شرين حياة الثالثة الكبار �أ�صحاب ال��ف�����ض��ل يف ال��ن�����ض��ج احل��ق��ي��ق��ي ل��ل��رواي��ة امل�سرحية الأم���ري���ك���ي���ة ،ي���وج�ي�ن �أون���ي���ل (1888م1953:م) و�آرث����ر ميلر (1915م2005:م) وتيني�سي وليامز (1911م1983:م) ..وج��ود ه���ؤالء الثالثة الكبار يف زمن واحد جعل امل�سرح الأمريكي ي�صل �إىل �أوج ن�ضجه ويناف�س امل�سارح العريقة يف فرن�سا و�إيطاليا وبريطانيا.. ولدت يف الواليات املتحدة الأمريكية �آنذاك الروايات اخلالدة :الإمرباطور جونز لأونيل ،موت بائع متجول مليلر ،عربة ا�سمها الرغبة لتيني�سي وليامز.. مل ي�ستطع النقاد والأكادمييون �أن يجمعوا كلمتهم على تقدمي �أحد الثالثة على الآخرين ،فانق�سمت الآراء بني مف�ضل لهذا ومرجح لذاك ،لكن مبعيار اجلوائز ف�إن يوجني ي�أتي يف املقدمة لأنه الوحيد بني الثالثة الذي ح�صل على جائزة نوبل يف الأدب عام 1936م، غري �أن ما مييز تيني�سي وليامز عن قرينيه �أنه كان العدد
الأكرث قدرة على ثرب �أغوار النف�س الإن�سانية والتقاط التعبري احلركي الظاهري املرتجم ملا يخفيه الباطن، وقد ظهر ذلك جليا يف عربة ا�سمها الرغبة التي ميكن ت�صنيفها من بني �أهم ما كتب للم�سرح اعتمادا على ما يدور داخل النف�س الإن�سانية وعلى الدقة يف اختيار احلركات اخلارجية املعربة عن التفاعالت ،ويبدو �أن حياة وليامز ال�شخ�صية كان لها �أثر مبا�شر على �أعماله من ه��ذه الوجهة� ،إذ عانى من االكتئاب لفرتة من الزمن وطارده هاج�س الإ�صابة باجلنون. من امل�سرح �إىل ال�سينما ك��ت��ب تيني�سي ول��ي��ام��ز ال���رواي���ة امل�سرحية عربة ا�سمها الرغبة قا�صدا �أن تكون ال�شخ�صية الأوىل فيها �شخ�صية ن�سائية تدعى بالن�ش دوب��وا ،تبد�أ بها �أح���داث ال��رواي��ة وتنتهي ،ه��ي ال�شخ�صية الرئي�سة بح�سب امل�ؤلف ،لكن الأقدار �شاءت غري ذلك� ،إذ ر�أى كال من تيني�سي وليامز و�إليا كازان �أنهما �أمام ممثل
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
169
"ع����رب����ة اس���م���ه���ا ال���رغ���ب���ة" م����ن أوائ�������ل ال���ن���م���اذج ال����روائ����ي����ة ال���ن���اج���ح���ة ال��ت��ي ك��ت��ب��ت ل���ل���م���س���رح ،وش���ج���ع ن��ج��اح��ه��ا م��س��رح��ي��ًا ع���ل���ى ن��ق��ل��ه��ا إل�����ى ال��س��ي��ن��م��ا
غري �أن ما مييز تيني�سي وليامز عن قرينيه �أنه كان الأكرث قدرة على �سرب �أغوار النف�س الإن�سانية ،والتقاط التعبري احلركي الظاهري املرتجم ملا يخفيه الباطن
تيني�سي ويليامز
�إليا كازان
�صاعد ميلك موهبة غري اعتيادية وقبول وا�سع النطاق لدى اجلمهور وح�ضور غري م�سبوق يف تاريخ امل�سرح الأمريكي يدعى مارلون براندو ،فحني قدم العر�ض امل�سرحي تفجرت طاقة براندو �أثناء متثيل �شخ�صية �ستانلي كوال�سكي فجذب الأن��ظ��ار وحظي ب�إعجاب اجلمهور والنقاد ،وفر�ض الأم��ر الواقع نف�سه لتكون �شخ�صية �ستانلي هي ال�شخ�صية الرئي�سة يف امل�سرحية بدال من �شخ�صية دوبوا التي �أرادها امل�ؤلف ،ومل يكن أ�م��ام املخرج وامل���ؤل��ف �إال الر�ضوخ �أم��ام ه��ذا الواقع الذي على ما يبدو �أنه �أعجبهما فقررا يف العام 1951م حتويل الرواية �إىل عمل �سينمائي يقوم فيه مارلون براندو (1924م2004:م) ب�أداء الدور نف�سه الذي �أداه على خ�شبة امل�سرح وهو دور �ستانلي كوال�سكي ،وت�شاركه فيفيان يل (1913م1967:م) يف دور بالن�ش دوبوا وكيم هنرت (1922م2002:م) يف دور �ستيال.. �أب������دع امل���خ���رج ال���ي���ون���اين الأ�����ص����ل �إل���ي���ا ك����ازان (1909م2003:م) يف �إخراج الرواية �سينمائيا مثلما �أبدع يف �إخراجها م�سرحيا ،لكنه مل ي�ستطع �أن يتخل�ص من الطابع امل�سرحي يف الإخراج ال�سينمائي� ،إما لأنه كان مت�أثرا �إىل حد بعيد مبا قدمه من قبل على خ�شبة امل�سرح والق��ى �إعجابا من اجلمهور وا�ستح�سانا من النقاد وبالتايل �أراد �أن يعزف على الوتر نف�سه مادام قد �أعجب النا�س ،و�إما لأن الرواية بطبيعتها م�سرحية حم��دودة الأماكن وال�شخ�صيات وتعتمد يف الأ�سا�س على االنفعاالت وامل�شاعر الوجدانية �أكرث من اعتمادها على احلركة وتعدد الأم��اك��ن وبالتايل مل ت�سعفه يف �إ�ضفاء الطابع ال�سينمائي عليها ،لكن يف كل الأحوال 170
العدد
7
مارلون براندو
حتى مع هذه املالحظة التي ال تنق�ص من قيمة الفيلم ف�إنه يعد من بني �أهم ما قدمته ال�سينما الأمريكية يف العقد ال�ساد�س من القرن الع�شرين ،بل ال مبالغة �إذا اعرتفنا ب�أن هذه الرواية على وجه اخل�صو�ص تعد من �أوائل النماذج الروائية الناجحة التي كتبت للم�سرح و�شجع جناحها م�سرحيا على نقلها �إىل ال�سينما باملخرج واملمثلني �أنف�سهم ،وهي التجربة التي دفعت بالكثري من امل�ؤلفني واملخرجني يف �أنحاء خمتلفة من العامل على تكرارها يف بلدانهم. �إ�شكالية اال�سم A streetcar named desireهذا هو اال�سم الأ�صلي للرواية ،وتعريبه (عربة ا�سمها الرغبة) هو ا�سم عربة الرتام التي �أقلت بالن�ش دوبوا من حيث كانت تقيم �إىل مقر �إقامتها اجلديد يف منزل �أختها �ستيال ،هروبا من بع�ض ال�ضغوط النف�سية التي كانت تعاين منها ،ويفر�ض هذا اال�سم الغريب ت�سا�ؤالت :هل ق�صد امل�ؤلف اختيار هذا اال�سم من خياله تعبريا عن ما �سيدور من �أحداث الرواية يف املكان الذي نقلت العربة دوبوا �إليه؟ �أم �أن اختيار اال�سم ما هو �إال رمز حلرية الإن�سان يف االختيار واالنتقال من حميط اجتماعي �إىل �آخر؟ �أم �أن للأمر عالقة مبا ت�سوقنا �إليه الأقدار و�إن كان ظاهرنا ينبئ بدور �إرادي خلطواتنا نحو امل�صائر؟ �أم �أنها منهجية بع�ض الكتاب الذين يلتقطون م�شهدا عابرا معربا من الرواية �أو الق�صة وي�ضعونه عنوانا لها؟ �إنها جمرد افرتا�ضات حتتمل اخلط�أ وحتتمل ال�صواب.. غري �أن املثري يف �أم��ر ه��ذا اال�سم �أن��ه يغيب متاما
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ح�ضور مارلون براندو وقبوله وو�سامته ابتلعت كل تلك ال�صفات، ومل يعد امل�شاهد يرى �إال كاريزما ذلك الرجل املفتول الع�ضالت
عند م�شاهدة العر�ض امل�سرحي ،و�إذا حاول م�شاهد امل�سرحية �أن يتذكره �أثناء العر�ض ف�إنه ال يجد �أي جمال للربط بينه وبني ما يعر�ض �أمامه من �أحداث ،يف حني �أن م�شاهد الفيلم عند متابعة العر�ض ال�سينمائي يجد �أنه �صادف منا�سبة واحدة فقط تربز فيها العالقة بني اال�سم والأح���داث ال�سينمائية ،وه��ي منا�سبة ال ت�ستغرق �سوى ب�ضع حلظات تركب فيها بالن�ش دوبوا عربة الرتام متجهة �إىل نيو �أورليانز حيث تقيم �أختها �ستيال ،وتعامل املخرج مع تلك اللحظات بحركة ن�صف دائرية للكامريا ت�صور عربة الرتام التي حتمل الرقم 922واال�سم DESIREتعبريا عن املعاين اخلا�صة التي يحتملها هذا اال�سم بح�سب وجهة نظر امل�ؤلف واملخرج بطبيعة احلال. �شخ�صية �ستانلي كوال�سكي ر�سم تيني�سي وليامز تلك ال�شخ�صية يف روايته قا�صدا �إح��داث قدر من النفور بني امل�شاهد وبينها، �إم��ا رغبة يف ت�سليط الأ�ضواء على البطلة احلقيقية التي كان يق�صدها وهي �شخ�صية بالن�ش دوبوا وك�سب التعاطف واالنتباه جتاهها ،و�إم��ا يف حماولة للهروب من و�صفه بالذكوري النزعة فقدم �صورة ل�شريحة اجتماعية منفرة من الرجال يف مقابل �صورة رقيقة حمببة للمر�أة ،وعلى �أي االحتمالني �أخفق ويليامز، رمبا لو اعرت�ض على اختيار مارلون براندو لأداء الدور الختلف الأمر وحتقق له ما �أراد ،لكن هكذا �شاء القدر، �أن ي���ؤدى ال��دور كما كتب لكن �شخ�صية م�ؤديه طغت على ال�شخ�صية الروائية وتركت �أثرها فيمن �شاهدها،
العدد
فال�شخ�صية يف الرواية هي �شخ�صية ال�شاب ال�سكري، الفو�ضوي ،الع��ب ال���ورق� ،سريع الغ�ضب واالنفعال، عنيف الطبع ،لكن ح�ضور وق��ب��ول وو�سامة مارلون براندو ابتلعت كل تلك ال�صفات ومل يعد امل�شاهد يرى �إال كاريزما ذلك الرجل املفتول الع�ضالت.. نحن هنا �أمام حالة ا�ستثنائية من حاالت االنقالب غري املق�صود من جانب املمثل على ما �أراده امل�ؤلف وما �أراده املخرج ،املثري للده�شة والإعجاب معا �أن هذا االنقالب قوبل برتحاب من مبدع الن�ص و�صانع الفيلم لأنه �سري الأمور �إىل الأف�ضل ،نعم �سارت الأحداث كما �أرادها امل�ؤلف وال�صورة كما �أرادها املخرج لكن الأداء قلب الأم��ور ر�أ�سا على عقب� ،أراده��ا تيني�سي وليامز و�إليا كازان (بالن�ش دوبوا) وفر�ضها مارلون براندو (�ستانلي كوالي�سكي) �إذن هي حالة نادرة من احلاالت التي ا�ستطاع فيها املمثل ب�أدائه �أن يغري من واجهة الرواية من دون �أن مي�س جوهرها ،فاملعتاد �أن يكون التغيري من جانب املخرج ويف الغالب يلقى اعرتا�ضات من جانب امل�ؤلف ،بل والأهم من ذلك �أن املمثل يف هذه احلالة النادرة متكن من �إقناع كال من امل�ؤلف واملخرج بقبول الأم��ور على ما �آلت �إليه ،ودليل قبولهما �أنهما عاي�شا ذل��ك منذ العر�ض امل�سرحي قبل ال�شروع يف �إنتاج الفيلم بنحو �أربعة �أعوام ،ومع ذلك مل يرتددا يف اختيار املمثل نف�سه لأداء الدور. تلك التجربة الرائدة التي قدمها مارلون براندو و�سمحت برحابة �صدر من جانب ال��روائ��ي واملخرج ب�إجراء تغيري حموري عفوي على العمل الفني ت�ؤكد على �أن ال�شخ�صيات املتحركة الناب�ضة باحلياة �إذا �صدقت يف �أداءه���ا ف�إنها من دون �شك تتفوق على ال�شخ�صيات الورقية �أو اخليالية مهما اجتهد كال من امل�ؤلف واملخرج يف حماولة تغليبها 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
171
سيرة
د .عمرو عبد العزيز منري م�صر
كان احلجيج ي�أتون مكة عرب قوافل �أربع :الأوىل م��ن ب�لاد امل��غ��رب م���روراً مب�رص ،وهي قافلة برية؛ والثانية من م�رص ،وهذه القافلة حتمل معها ك�سوة الكعبة؛ والثالثة قافلة �ج��اج ال�شام وت�ضم احل� ّ َ القادمني من تتاريا وما حولها وتركيا والأنا�ضول و�أر�ض كنعان؛ �أما القافلة الرابعة فهي قافلة الهند، وحت��م��ل ب�����ض��ائ��ع قيمة وخم��ت��ارة ي�شرتي منها احل��ج��اج على خمتلف جن�سياتهم يف مكة.
172
العدد
7
مشاهدات حاج عثماني في مكة وت�صل ه��ذه القوافل مكة قبل عيد الأ���ض��ح��ى ب�ستة �أي���ام على الأق�����ل .وال����ش���ك يف �أن حم��ام��ل احلجاج كانت تتعر�ض لكثري من الأه���وال واملتاعب وامل�����ش��اق ،فال يكاد ي�صل احلاج �إىل مكة وي�ؤدي الفري�ضة ومن ثم يعود �إىل دياره �إال ر�أى املوت ن�صب عينيه م َّرات وم َّرات .وهذه الأحداث واملخاوف ال َّبد �أن جتد طريقها �إىل مذ ّكرات احلجاج وحكاياتهم ومروياتهم، َّ فقد ي��ق��وم احل���اج ب�سرد رحلته وتكراره �شهور ًا وده��ور ًا .ك ٌ رث هم من دون��وا رحالتهم و�أ�سهبوا يف و�صف الطريق والقافلة والأماكن ال��ت��ي م����� ُّروا ب��ه��ا و���ش��ع��ائ��ر احل��ج وامل�صاعب التي واجهتهم �أثناء �أدائ��ه��ا ،لكننا جند اختالف ًا بني مدوناتهم من الناحيتني ال�شكلية وال��ب��ن��ي��وي��ة ،ف��ب��ع�����ض��ه��م اع��ت��م��د الو�صف الدقيق وال��ع�ين املتتبعة لكل �أث���ر �َ��ص�� ُغ�� َر �أم َك�ب�ر ،ث��م م ّر
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
م��رور الكرام على ذك��ر ال�شعائر ال��دي��ن��ي��ة ،وبع�ضهم الآخ���ر ذكر �شعائر احلج وا�ستفا�ض بال�شرح والو�صف لكل جزئياتها ،ومل ي� ِأت على ذك��ر الرحلة �إال بعموميات ي�سرية ،ومنهم من عر�ض م�سائل فقهية وبينّ الآراء والفتاوى فيها، ومنهم م��ن حت َّ���دث ع��ن الطبيعة واهتم باملكان وبالرثوات الباطنية َّ وب��ال��ن�����ش��اط االق��ت�����ص��ادي وغ�ير ذل��ك..وم��ن��ه��م م��ن ق���دم ل��ن��ا كل م��ا �سبق .وخ�ير مثال على ذلك ال��رح��ال��ة ال��ع��ث��م��اين �أول��ي��ا جلبي الذي زار الكثري من البلدان ور�أى �آالف امل��دن ،ولكنه �شعر باحلزن والك�آبه لعدم قيامه باحلج وزيارة الأم��اك��ن املقد�سة ،فحزم �أم��ره، و�أعد عدته للقيام بالرحلة الرابعة ع�شرة والأخ�يرة يف حياته ،وهي رحلة احلجاز وم�صر ،فا�سرتاح عدة �أ�شهر و�أع��د غلمانه ،ورافق قافلة احلج الرتكي يف مو�سم حج
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
173
ك���ان مساكين م��ك��ة يعيشون دوم���ًا ع��ل��ى ال��ص��رة ال��ت��ي يبعث ب��ه��ا ال��س��ل��ط��ان العثماني، وعلى القمح وال���رز التي ترسل إليهم م��ن مصر ث��م اليمن وال��زي��ل��ع وم��ن األم��اك��ن األخ��رى
�سنة (1082هـ 1671/م) ،والتي كانت ت�ضم حجاج كل دول البلقان و�إ�ستانبول .و�شاهد وو�صف لنا م��را���س��م ت��ودي��ع القافلة وت�سليم اجلمل الذي يحمل املحمل ،وكيف �أن ال�سلطان بنف�سه ويف معيته ال�صدر الأع��ظ��م و�شيخ الإ�سالم قد ح�ضروا هذه املرا�سم ،وكانت فرقة املو�سيقا ال�سلطانية تعزف �أم��ام ق�صر ال�سلطان قبل موعد قيام القافلة بزمن طويل لإعالم اجل��م��ي��ع ب���اق�ت�راب م��وع��د ق��ي��ام القافلة ،فيقدم الأمراء والأثرياء و�أه���ل اخل�ير وامل�شتاقون لزيارة
البيت هداياهم لتكون يف عهدة �أم�ير القافلة حيث يو�صلها لأهل مكة واملدينة وجم��اوري احلرمني ال�شريفني. ويف و�صف دقيق وممتع ي�صف لنا الكاتب رحلته منذ �أن قامت م��ن �إ���س��ت��ان��ب��ول ح��ت��ى ان��ت��ه��ى من �أداء �شعائر احل���ج ،وي��ق��دم لنا �شعور امل�سلم امل�ؤمن يف مواجهة ال�صعاب ،ويف �أن القافلة كانت تتحمل ما ال يطاق من برد ،وجوع وع��ط�����ش وه���ى ت��ع�بر ال�����ص��ح��راء ال��ق��اح��ل��ة .ك��ل ذل���ك ���ش��وق�� ًا �إيل بيت اهلل احل��رام .وكثري ًا ما كان
يتحفنا ببع�ض �أ�شعاره اجليا�شة وت�ضرعاته وتو�سالته يف احلرم ال��ن��ب��وي و�أم�����ام �أ���س��ت��ار الكعبة ال�شريفة ،وينقل لنا ذلك الإ�شراق النف�سي الذي ي�شعر به كل م�ؤمن ي�سعده اهلل بزيارة بلده احلرام، �إىل �آخ���ر ال��ك�لام اجلميل ال��ذي ي���ردده ك��ل م��ن زار مكة املكرمة وعرف م�شقة ال�سفر �إليها .فلما �أح��ل بها فا�ض قلبه بنور وحمبة و�شوق تن�سيه ما لقي من َن�صب وجت��ع��ل��ه يتمنى ل��و ا���س��ت��ط��اع �أن يزورها كل حني. وجن���د ل��دي��ه و���ص��ف�� ًا للحرمني
ك���ان���ت ف���رق���ة ال��م��وس��ي��ق��ا ال��س��ل��ط��ان��ي��ة ت���ع���زف أم�����ام ق��ص��ر ال��س��ل��ط��ان ق��ب��ل م��وع��د ق��ي��ام ق��اف��ل��ة ال��ح��ج ب��زم��ن ط��وي��ل إلع��ل�ام ال��ج��م��ي��ع ب���اق���ت���راب م��وع��د ق��ي��ام ال��ق��اف��ل��ة
ال�شريفني وم��ا فيهما م��ن حتف وع��دد امل���آذن والأب���واب والأعمدة وال�شبابيك و�أط�����وال ك��ل منها، وتعريف كامل وم�ستفي�ض ب�سكان البقيع م��ن �أ���ص��ح��اب ر���س��ول اهلل ���ص��ل��ى اهلل ع��ل��ي��ه و����س���ل���م .كما ي�صف لنا و���ص�� ًف��ا دق��ي�� ًق��ا ك��ل ما كان ي�صادفه من قالع وح�صون وم�ساجد وتكايا ،ويعرفنا ب�أقطاب ال��ع��ل��م ،وجن���د و���ص��ف�� ًا ل�ل�أو���ض��اع االج���ت���م���اع���ي���ة واالق���ت�������ص���ادي���ة والإداري��ة والت�شكيالت الع�سكرية وال��ت��ق�����س��ي��م��ات الإداري������ة لل�شام واحلجاز. ويحدثنا عن �أهل مكة وف�ضائلهم وجميل �أفعالهم ومكارمهم ،ويقف 174
العدد
7
ط��وي�ل ًا عند �إطعامهم الفقراء، ويعطينا �صورة عن م�ساكني مكة الذين يعي�شون دوم ًا على ال�صرة التي يبعث بها ال�سلطان العثماين، وع��ل��ى القمح وال���رز ال��ت��ي تر�سل �إليهم من م�صر ثم اليمن والزيلع وم��ن الأم��اك��ن الأخ����رى .وي�صف حمامات مكة وم��ا بها من رخام ونقو�ش وزخ��ارف بديعة وعددها لت�صل �إىل مائة وت�سعة و�أربعني ح��م��ام�� ًا م���ا ب�ي�ن ع����ام وخ��ا���ص، والتي كانت �سبب ًا يف جعل مظهر �سكان مكة الئق ًا نظيف ًا ،وك�أنهم لي�سوا من بني الب�شر ،فوجوههم تت�سم بالب�شر وتعلوها االبت�سامة. وي�صف �أطباخ مكة ،ب�أنها نظيفة نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
و�شهية ،و�أن �أ�شهرها الهري�سة، كما �أ�شار �إىل �أن الفواكه املوجودة بها هى احلبحب والبطيخ والعنب واخل����وخ ال��ت��ي جت��ل��ب م��ن مدينة العبا�س ،و�أن البلد الأمني ال يخلو من الفواكه �صيف ًا وال �شتاء .ويذكر �أن مكة املكرمة حتيط بها خم�س ع�����ش��رة م���زرع���ة ،وه���ي الأم��اك��ن التي يت�سامر فيها الأ�شراف ،وبها تثمر �أ���ش��ج��ار النخيل وال��روم��ان واخلوخ والليمون والعنب ،وي�صف �أن��واع العطورات ،وال �سيما الورد والريحان والبخور. وي�صف �أمزجة الأهايل يف مكة املكرمة ب�أنهم يتع�صبون ب�سرعة، و�أن معظمهم �ضعفاء البنية ب�سبب
ال يكاد احلاج ي�صل �إىل مكة وي�ؤدي الفري�ضة ومن ثم يعود �إىل دياره �إال ومرات مرات َّ ر�أى املوت ن�صب عينيه َّ
ت���أث�ير احل���رارة ال�شديدة واملياه عليهم ،و�أنهم ال ي�شتغلون بالعلم، و�إمن����ا كلهم جت���ار ،و�أ����ش���ار �إىل وجود 1300حمل جتاري يف البلد الأمني ،وثالثة جممعات للأ�سواق، وهى �سوق ال�شام ،وال�سوق القريب من باب ال�سالم ،والثالثة قريبة م���ن ال��ث��ان��ي��ة ،وحت����وى خم�سني دك����ان���� ًا ،م��ع��ظ��م��ه��ا خم�ص�صة للأقم�شة والعطارة ،و�أن بها �أنف�س امل��ج��وه��رات وال��ع��ط��ورات �إال �أن��ه ا�شتكى من غالء �أ�سعارها. و�أ����ش���ار �إىل �أن �أه�����ايل مكة م�سرفون م��ب��ذرون ب�سبب ال�ثراء ال���ذي مي��ت��ازون ب��ه ،و�أن رجالها م��غ��ل��وب��ون ع��ل��ى �أم���ره���م يف وج��ه الن�ساء ،و�أنهن ال يطبخن الطعام يف منازلهن. ومي��ت��دح ن�ساء مكة باجلمال واللطافة وخفة الروح ما يجعلهن كحوريات اجلنة ،فهن مالئكيات امل��ظ��ه��ر ع��ل��ى ���س��م��اه��ن م�لاح��ة ال��ب�����ش��ر م���ا ي��ج��ع��ل��ه��ن يتبخرتن كالطواوي�س يف حدائق اجلمال ط�����اه�����رات ع���ف���ي���ف���ات امل��ظ��ه��ر واملخرب ،لهن جاريات حب�شيات الواحدة منهن يف �سمرة العنرب اخل����ام ،يتعطرن ب���أج��ود �أن���واع ال��ع��ط��ر ال����ف���� َّواح وم����ا �إن متر �إحداهن بالقرب من الرجل حتى
ينفذ العطر �إىل �أعماق دماغه. وي���ق���دم ل��ن��ا م�����ش��اه��دات��ه عن ع������ادات �أه�����ل م��ك��ة يف جتهيز اجلنائز وال�صالة عليها ودفنها يف مقربة املعال ،و�أنهم يحرتمون امل��ي��ت ك��ث�ير ًا ،م�����ش�ير ًا �إىل �أنهم يزورون هذه املقربة يومي االثنني واجل��م��ع��ة ،و�أن���ه���م ي���ك�ث�رون من قراءة القر�آن الكرمي ،كما �أفا�ض �أوليا جلبي يف احلديث عن مقربة املعال و�أ�شهر املدفونني فيها يف الإ�سالم. ويكرث �أوليا جلبي من احلكايات التي �سمع بها يف مكة ،وخا�صة عن املجاورين ،وهم يف العادة من كبار ال�شيوخ الذين يقررون ترك بالدهم وق�ضاء بقية �أعمارهم جماورين يف مكة ،وقبل كل هذا الين�سى �أن ي�صف ل��ن��ا �شعوره ك��ح��اج �إىل ب��ي��ت اهلل ط���اف مع �بر ،ورج��ا ،ودع��ا، الطائفني ،وك َّ و�سعى ،و�صلى ،وحني وقف �أمام احلجر الأ�سود حال بينهما خلق كثري ،فانتظر فرجة ليدنو منه ري من ُه قبله؛ ويقبله لأن َمنْ هُ َو خ ٌ حم��م��د ر���س��ول اهلل وب��ع��ده �أم�ير امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب الذي قال" :واهلل �إين �أعلم �أنك حجر ال ت�ضر وال تنفع ول��وال �أن ر�سول اهلل قبلك م��ا قبلتك" .وي�صلى العدد
7
�أوليا جلبي يف مقام �إبراهيم ويف حجر �إ�سماعيل ور�أى كيف حتنو الوجوه عليه وكيف حتنو اجلباه ال�شماء على غ�ي�ره؛ لأن���ه وح��ده ذو اجل�لال والإك��رام ،وج��اء دور ال�سعي بني ال�صفا واملروة لي�سعى �أوليا جلبي بينهما ،وي�صف لنا م�شاهد العطاء ما بني ابن ي�سعى ب�أمه و�أب يحمل ابنه .ون�ست�شعر الهيبة يف م�شاهداته حني يدخل ب��ن��ا �إىل ال��ب��ي��ت ال��ع��ت��ي��ق لنجد �أنف�سنا معه يف بيت لكل النا�س ولكل الأجنا�س ،وما �إن يدخلوه حتى تذوب فروق اللون واجلن�س وي�صبحوا بنعمة اهلل �إخوان ًا ،ك ٌّل �إليه م�شوق ،يطوفون وقد جا�ؤوا من كل فج عميق �إليه ،يهرعون م���ه���رول�ي�ن وزاح�����ف��ي��ن ي��ح��ث��ون اخلطى ،وم��ن ك��ان منهم قعيد ًا جاء حممو ًال على حمفة .وقد ال ت�سعف اللغة الختالفها وتفاوتها ف���ت���ن���وب ال���ع���ي���ون والأي��������دي يف التعبري .ويتم �أوليا جلبي طواف ال���وداع بقوله" :اللهم ال جتعله �آخ���ر ال��ع��ه��د م��ن بيتك احل���رام و�إن جعلته فعو�ضني عنه باجلنة يا �أرح��م الراحمني" .ونرى معه كيف �إذا ا�ستبد ال�شوق بامل�سلم �إىل البيت العتيق ف�إنه ال يعرف ال�صعب �أو امل�ستحيل
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
175
الشرق
فـي مر�آة الفنانني الفرن�سيني
من القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين ( )1930 - 1800 فنون
�إعداد:
هدى الزين باري�س
ك��ث�رت ال���درا����س���ات ال��ف��ك��ري��ة والأدب��ي��ة يف املكتبة العربية حول نظرة الغربيني �إىل ال�شرق عرب ال��ع�����ص��ور .ل��ك��ن ال��ت��ي��ار ال��ف��ن��ي اال�ست�شراقي مل ي�صبح �شعبي ًا �إال يف القرن التا�سع ع�شر لأ�سباب متعددة ،منها ازدهار التجارة بني بلدان ال�شرق وتطور املوا�صالت �إىل ال�����ش��رق ،م��ا ج��ع��ل م�����ش��روع ال�سفر �إىل ه��ذه البلدان املغرقة بخ�صو�صيتها وت��ف��رده��ا رحلة ممتعة وغنية بت�أثرياتها وعمقها. وقد كان تتايل الأحداث ال�سيا�سية 176
العدد
7
االجن��ذاب لل�رشق وحماولة اكت�شاف الآخر الذي يعي�ش على �أر�ض هي منبع الأدي���ان و�أ���ص��ل التاريخ واحل�ضارات الإن�سانية القدمية ،فلل�رشق جاذبيته اخل��ا���ص��ة ب��و���ص��ف��ه ع���امل الأ���س��اط�ير وح��ك��اي��ات �أل���ف ل��ي��ل��ة ،وروائ����ع الفن املعماري وتقاليد وعادات تعك�س عوامل من الغمو�ض واالختالف.
واحلمالت الع�سكرية على بلدان ال�شرق يف مطلع القرن التا�سع ع�شر م��ن �أه��م الأ���س��ب��اب لال�ست�شراق الفني الفرن�سي ،وم��ن �أه��م تلك الأح��داث احلملة الفرن�سية على م�صر ،1798واحل��رب اليونانية ،1821واحتالل اجلزائر ،1830 واح��ت�لال دول امل��غ��رب ال��ع��رب��ي. وق��د ت��رك لنا ال��ر���س��ام��ون ت��راث�� ًا غني ًا ب��الأل��وان وال��وج��وه والرموز واحل�����ي�����وات ال���ت���ي ���ش��اه��دوه��ا وا�ستعادوها عندما عادوا لباري�س ولندن يف مرا�سمهم .ويف �أحيان نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
كثرية مل ي�سافر فيها الر�سامون اك��ت��ف��وا ب��االع��ت��م��اد على الوثائق والكتب الإثنوغرافية التي �أعدها رح���ال���ة ودب��ل��وم��ا���س��ي��ون وك��ت��اب و�شعراء عن امل�شرق ،وا�ستعادوا من هذه امل��واد اخل��ام �صورة عن ال�شرق عك�ست يف الغالب حتيزهم ومواقفهم اجلاهزة �أو االنتقائية عن ال�شرقي -العربي والفار�سي والرتكي. وك��������ان اه����ت����م����ام ال���ر����س���م اال����س���ت�������ش���راق���ي ،ال�ب�ري���ط���اين والفرن�سي ،و�إن اختلفا يف املعاجلة
ومتيز الر�سومات الفرن�سية بح�س ال�صدمة والف�ضائحية ،وال �سيما �أن���ه ك��ان من�صب ًا على ع��دد من املالمح واملو�ضوعات ،من �أهمها ع��امل احل���رمي وال��ن�����س��اء .ف��امل��ر�أة كانت �شخ�صية تنب�ض بال�شاعرية والرهافة والغمو�ض وبجمال �آ�سر يثري املخيلة والإب�����داع ،كما �أن تفا�صيل احلياة اليومية وطقو�س ال�شرق و�سحره وع��ادات ال�شعوب ال��ع��رب��ي��ة والإ���س�لام��ي��ة الدينية واالجتماعية جت�سدت يف معظم لوحات كبار الفنانني الفرن�سيني
امل�ست�شرقني . فال�شرق ه��و «ع���امل الأح�ل�ام» وه����و امل���غ���ام���رة وال��ت�رح����ال عرب احل�ضارات ال�شرقية ..بغمو�ضها ودفئها وغرائبيتها ..واالجنذاب �إىل ال�����ش��رق مل يعد جم��رد حلم رومان�سي يف ارت��ي��اد ال�صحراء واكت�شاف العادات والتقاليد .بل هو حماولة اكت�شاف جديدة لل�شرق القدمي� ،أ�صل التاريخ والإن�سانية ومهبط االديان ال�سماوية وحمط احل�������ض���ارات ال���ق���دمي���ة ،وم��ث��ار الأح�����داث ال�سيا�سية يف ال��ق��رن العدد
7
التا�سع ع�شر. لقد ج�سد الفنانون امل�ست�شرقون روح ال�����ش��رق يف ت��ع��ب�يره��م عن العديد من املوا�ضيع التي مل�سوها يف ت��رح��ال��ه��م يف ب��ل��دان ع��دي��دة (امل��غ��رب ال��ع��رب��ي وم�����ص��ر ومكة و�سوريا وفل�سطني ولبنان وتركيا) وج�������س���دوا ب��ري�����ش��ت��ه��م احل���رب والعنف ،والن�ساء ،وال�صحراء، والأ���س��واق ،وال��ع��ادات والتقاليد، وخ�صو�صية الدين الإ�سالمي يف هذه املجتمعات. وك��ان��ت ر���س��وم امل�ست�شرقني
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
177
ك��ان��ت رس����وم المستشرقين ع��ن ال��ش��رق ت��ح��م��ل ال��ت��ج��دد ف��ي مضمونها وشكلها
احلملة على م�صر لوحة جلان جريوم
جاك ماجوريل
هرني ماتيي�س
ن�صر الدين ديننه
ع���ن ال�����ش��رق حت��م��ل ال��ت��ج��دد يف م�ضمونها و�شكلها ،حيث �سيطرت الأل����وان املبهجة وال��زاه��ي��ة التي ت��ع�بر ع��ن ���ص��ف��اء ال�����س��م��اء ول��ون ال�صحراء وح��دة ال�شم�س ،ولون الأزي�����اء امل��زرك�����ش��ة ،وج��م��ال فن العمارة ،ما جعل لوحاتهم ت�أخذ خ�����ص��و���ص��ي��ة ال�����ش��رق يف �سحر الأل����وان ال���ذي اع��ت�بره الفنانون الغربيون انت�صار ًا على الأل��وان التقليدية القامتة والكئيبة للر�سم الفرن�سي. وه���ذا التيار اال�ست�شراقي يف ال��ر���س��م ط��ب��ع ال��ر���س��م الفرن�سي وال���س��ي��م��ا يف �أع���م���ال م��ات��ي�����س، ودوالكروا ،وماجوريل ،وجون ليون جريوم ،و�إتيان دينيه الذي اعتنق الإ����س�ل�ام ول��ق��ب بن�صر ال��دي��ن دينيه ،و�آخ��ري��ن .وه����ؤالء حققوا العديد من اللوحات ال�شهرية من ا�ستلهام موا�ضيعهم م��ن بلدن عديدة من امل�شرق العربي ،وبلدان املغرب العربي. غ�ير �أن امل��ق��ارب��ة الأوىل بني ال�شرق وال��غ��رب تعود �إىل تاريخ
�أب��ع��د م��ن ال��ق��رن ال��ت��ا���س��ع ع�شر عندما نذكر �آثار الفتح الإ�سالمي يف �إ�سبانيا منذ ال��ق��رن الثامن امل��ي�لادي وت��ب��ل��ورت ه��ذه العالقة التاريخية يف ال��ق��رون الو�سطى م��ع ان��ط�لاق��ة احل���رب ال�صليبية (ال��ق��رن ال�����س��اد���س ع�����ش��ر) .وقد ظهر الت�أثري الإ���س�لام��ي يف تلك الفرتة يف فن العمارة الفرن�سية يف النقو�ش واملحفورات والتطاريز وامل��ن��م��ن��م��ات .وب��ع�����ض ال��ر���س��وم ال��ت��زي��ي��ن��ي��ة ل��ن��م��اذج و�أ���س��اط�ير م�ستمدة م��ن ال�����ش��رق م��ث��ل �أب��ي الهول وجلجام�ش ،وهذه الر�سوم جندها وا�ضحة يف كاتدرائيات ليون و�سان داملان واخلط الكويف لعبارة «ما�شاء اهلل» التي تزين كني�سة دوبوي وكاتدرائية راد. كما انعك�س ال�شرق يف خميلة الر�سام الفرن�سي والغربي يف مطلع القرن املا�ضي عرب حكايات �ألف ليلة وليلة .حيث احتل هذا العمل الأدبي الهام �آفاق ًا وا�سعة للتخيل حيث جند الر�سام الفرن�سي جان بات�ست فامنور ير�سم ال�سالطني
واحل���ر����س واخل�����ص��ي��ان واخل���دم والأم�ي�رات والأزي���اء الرتكية بني �أعوام 1671-1737م.
178
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�أهم الر�سامني امل�ست�شرقني الفرن�سيني �أوجيني دوالكروا رائد اال�ست�شراق الفني
يعترب الفنان الفرن�سي دوالكروا 1863 - 1798من �أ�شهر الفنانني الفرن�سيني الذين ر�سموا ال�شرق، وق��دم��وا �أج��م��ل ال��ل��وح��ات الفنية ال��ت��ي زي��ن��ت ك�ب�ري���ات امل��ت��اح��ف العاملية ،وقد زار دوالكروا املغرب م��ع امل��ب��ع��وث اخل��ا���ص للحكومة الفرن�سية الكونت �شارل دومورناي لإجراء مفاو�ضات دبلوما�سية مع ال�سلطان عبد الرحمن ،وانطلقت رحلة دوالكروا على منت الل�ؤل�ؤة يف 11كانون الثاين 1832من مرف�أ (طولون) لتدوم �ستة �أ�شهر .وقد وج��د يف ال�شرق مايده�ش عينيه ومي�ل�أ ذاك��رت��ه وخميلته ب�أ�شياء و�ألوان غري م�ألوفة لعينيه حتى �إنه
لوحة عن تقاليد اجلزائر للر�سام جان لوي جريوم
لوحة عن املغرب يف معر�ض كوندي لديالكروا
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
179
لوحة نابليون وم�صر جلريوم
كتب لأخيه قائ ًال�" :إنني �أعي�ش ك�أنني يف حلم ،و�أنظر �إىل الأ�شياء بف�ضول خ�شية �أن تهرب مني". وهكذا وقع دوالكروا �أ�سري الع�شق ل��ل�����ش��رق ،وا���س��ت��ه��وت��ه التفا�صيل ال�صغرية يف الطبيعة والأزي����اء وال��وج��وه وال��ع��ادات .وك��ان ي��دون هذا يف �أوراقه �أو لوحاته ،وجاءت م�����ش��اه��دات��ه يف امل���غ���رب منوعة وغنية مثل الأع��ي��اد والأع��را���س واالح��ت��ف��االت ال�شعبية .واعترب ال��ن��ق��اد �أن ل��وح��ات��ه ه���ذه ت�شكل مرحلة مهمة ومميزة يف م�سريته الفنية. وق�������د ك����ان����ت م�������ش���اه���دات���ه وانطباعاته يف يومياته التي كتبها بعد ع�شرين ع��ام�� ًا م��ن رحلته، وكتب عنها قائ ًال: مل �أب���د�أ ب���إجن��از �شيء مقبول 180
العدد
7
يف �أثناء رحلتي �إىل املغرب �إال يف اللحظة التي ن�سيت فيها التفا�صيل ال�صغرية ،ال �أتذكر فقط اجلوانب ال�شاعرية ال��ت��ي جت��ذب االنتباه للوهلة الأوىل. وك��ت��ب ال��ن��اق��د الفرن�سي بيار غرا�سييه يف كتاب دوالك���روا يف املغرب �سنة " :1963لقد جتاوز ال��واق��ع �أح�لام��ه عو�ض �أن يجعل منه جم��رد م���دون ع���ادي ل�شرق �سطحي وغ�ير �أ�صيل ،جعل منه بعد �أن قتل لديه الواقعية� ،شاعر النور واللون ال��ذي ا�ستخدم من غرائبية عا�شها يوم ًا عم ًال فني ًا ال يحده ع�صر وال حتتويه حدود". �أم���ا ب��ودل�ير ،فقد ك��ان �شديد الإعجاب بدوالكروا ،وهو يعتربه م���ن �أك��ث�ر ال��ف��ن��ان�ين مت���اي���ز ًا يف الع�صور القدمية واحلديثة حتى نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
�إن��ه كتب له ق�صيدة يف جمموعة �أزه���ار ال�شر .ول��وح��ات دوالك��روا تعر�ض يف متحف اللوفر بباري�س وم��ت��ح��ف ���ش��ان��ت��ي��ي ويف متاحف �أوروب���ا و�أم�يرك��ا ال�شمالية ،ومن �أجملها :فانتازيا ،قائد مغربي يف زيارة قبيلة ،ن�ساء جزائريات، مرور عابر. هرني ماتي�س ورحلته املغربية
الفنان الفرن�سي ماتي�س الذي ول���د ع���ام 1869ت���أث��ر بال�شرق قبل زيارته للمغرب عام ،1906 فقد ك��ان �شغفه وا���ض��ح�� ًا بالفن العربي بعد زيارته ملعار�ض الفن الإ�سالمي التي �أقيمت يف باري�س ،1894 – 1893وق��د ب��دا هذا الت�أثر وا�ضح ًا يف معظم ر�سوماته خا�صة يف لوحة ال�سجادة احلمراء
انعكس الشرق في مخيلة الرسام الفرنسي والغربي في مطلع القرن الماضي عبر حكايات ألف ليلة وليلة
رحلة احلج التيان دينيه
1906ولوحة اجلزائرية .1909 و�أ�سهمت رحالته �إىل املغرب يف حتول فني وا�ضح .وكما يقول ماتي�س�" :إن رحالتي �إىل املغرب �أ���س��ه��م��ت يف حت���ول ك���ان يحتاج �إل��ي��ه ف��ن��ي� ،إذ ع���اودت االت�صال بالطبيعة ب�صورة �أوثق ،وهذا مامل ت�ستطع �إجنازه نظرة فنية �ضيقة مثل الوح�شية". كانت زيارة ماتي�س �إىل الأندل�س حافلة بالبعد اجلمايل والفني، فقد تنقل بني قرطبة وغرناطة و�إ�شبيلية مت�أم ًال معاملها الأثرية من م�ساجد وق�صور وحدائق .ثم قرر امل�ضي �أبعد يف بحثه اجلمايل، ف�سافر �إىل املغرب فكانت رحلته �إىل طنجة عام 1913حا�سمة يف بحثه الفني ،وهي التي �سمحت له بعد �أربعني عام ًا بتحقيق التمازج
لوحة امل�ؤذن لدينيه العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
181
املغرب يف لوحات ماتيي�س
ر�سوم لن�ساء من املغرب لدوالكروا يف معر�ض كوندي
182
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
بني عاملني من التقاليد الفكرية؛ مرحلة غنية بالأعمال الفنية التي تتالت الواحدة بعد الأخرى فر�سم ل��وح��ات��ه ال��ت��ال��ي��ة :على ال�شرفة، ب��اب الق�صبة ،املقهى املغربي. ويف رب��ي��ع 1913ع��ر���ض ماتي�س 14لوحة مم��ا ر�سمه يف املغرب يف غ���ال�ي�ري ب��رم��ن��ه��امي ج���ون، وا�ستقبلها النقاد ا�ستقبا ًال جيد ًا، ومل ي�ستخدم ماتي�س �ألوانا مبهرة كما فعل الفنانون امل�ست�شرقون، ب��ل ا���س��ت��خ��دم الأل������وان ال��داك��ن��ة حيث نرى اللون الأ�سود يف معظم لوحاته خا�صة يف لوحته ال�شهرية (املغاربة)� ،إال �أن لوحات ماتي�س امل�ستوحاة من ال�شرق عربت عن �صفاء وب�ساطة وجت��ري��د يقارب ال��روح��ان��ي��ة مم��ا ي��ب��دو وا���ض��ح�� ًا ت����أث���ره ب��ف��ن ال��زخ��رف��ة العربية والإ�سالمية. دون �شك كانت حملة نابليون بونابرت على م�صر التقاء فريد ًا ل��ل�����ش��رق وال����غ����رب .وق����د دف��ع��ت احل��م��ل��ة الفرن�سية وم���ا رافقها من معارك بع�ض الر�سامني �إىل ا�ستلهام بع�ض الأعمال البطولية لت�صوير مرحلة من حياة بونابرت يف ال��ف�ترة ال�شرقية .وم��ن �أب��رز ه����ؤالء ج��ان �أن��ط��ون غ��رو 1771 1835 -ال����ذي �أع��ط��ى ال��ر���س��م
املدر�سة اال�ست�شراقية الفرن�سية مليئة ب�أ�سماء عديدة لر�سامني ا�ستلهموا من ال�شرق �أجمل لوحاتهم ،ومزجوا بني ح�ضارة عا�شوا فيها وح�ضارة ع�شقوها
هرني ماتي�س ولوحاته عن املغرب
اال�س�شراقي دف��ع�� ًا دون �أن تط�أ قدمه �أر�ض ال�شرق ،حيث ا�ستقى م��ع��ل��وم��ات��ه ،و�أغ��ن��ى خميلته من درا�سة الوثائق الدبلوما�سية وكتب ال��رح��ال��ة وت��ق��اري��ر الع�سكريني. ومن �أهم لوحاته لوحة حمفوظة يف متحف (ن��ان��ت) ه��ي معركة النا�صرة ،1801ولوحة (م�صابون بالطاعون يف يافا) ،1804وهي حم��ف��وظ��ة يف م��ت��ح��ف ال��ل��وف��ر. واللوحة الثالثة (معركة �أبي قري) ،1806وهي حمفوظة يف متحف فر�ساي ،وفيها يربز الفنان الأزياء والأ���س��ل��ح��ة والأع���ل��ام و���ض��راوة امل��ع��ارك� .أم���ا ال��ف��ن��ان والنحات والر�سام (ج��ول روب�ير �أوغ�ست) فقد اعترب من رواد اال�ست�شراق يف فرن�سا و�أ ّثر يف الفنانني الذين �أت��وا بعده مثل دوالك���روا وفرينيه وجرييكو وبونيتيغون و�شامبارتان. �أم���ا ال��ر���س��ام دي��ك��ان فقد بهرته �أل��وان ال�شرق و�أ���ض��وا�ؤه يف تركيا حيث بقي يف �إزم�ي�ر م��دة �سنة.
ه����ذه ال��رح��ل��ة ال�ترك��ي��ة �أع��ط��ت �أعماله نفحة �شرقية ،وعرف �أنه كيميائي الألوان من خالل �إبرازه للألوان الزاهية واحل��ادة خا�صة يف لوحاته ال�شرقية ،مثل لوحات (ا�سرتاحة القافلة� ،أوالد �أتراك يلهون مع �سلحفاة� ،شارع يف �إزمري وغريها). ويعترب الفنان (م��اري�لا) من ع�شاق ال�شرق ،خا�صة عندما زار �سوريا ولبنان وم�صر ،وكان يوقع ر�سائله با�سم امل�صري برو�سبري ماريال ،وكان �إنتاجه الفني يعك�س غ��زارة املو�ضوعات ال�شرقية� ،إذ قدم حوايل 500عمل فني �شرقي. وم��ن �أه��م لوحاته (م�شاهد من �سوريا ،1843مقهى على �أح��د ط����رق ����س���وري���ا ،1844م�شهد الالذقية ،م�شهد من طرطو�س)، �إ�ضافة �إىل لوحات من م�شاهد لبنان وم�صر وال��ق��د���س وتركيا واجلزائر. ك��ان ماريال مبهور ًا بامل�شاهد العدد
7
الطبيعية واملباين الأثرية ،وظلت موا�ضيعه تعك�س م�شاهد عامة وب��ان��ورام��ي��ة �أك�ث�ر م��ن اهتمامه بالتفا�صيل الدقيقة حلياة النا�س واملوا�ضيع التي ت�ستلهم العادات وال��ت��ق��ال��ي��د ال�����ش��رق��ي��ة واحل��ي��اة اخلا�صة ل�سكان البلد مثلما فعل الفنانون وامل�ست�شرقون. وت��ع��ددت �أ�سباب الرحيل �إىل ال�����ش��رق لكل ف��ن��ان ح�سب ر�ؤي��ت��ه اخل��ا���ص��ة ،فنجد �أن ه��م الفنان جيم�س تي�سو كان ا�ستطالع الأبنية التاريخية ووج��د غايته يف م�صر لري�سم احل��ي��اة اليومية للنا�س، وجمعت الكاتبة ليفي ثورنتون بني ه�ؤالء الرحالة كلهم. دينيه بني اال�ست�شراق الفني والإ�سالمي
الر�سام الفرن�سي �إيتيان دينيه، �أو ن�صر الدين ا�سمان ل�شخ�ص واحد هو الر�سام الفرن�سي �إيتيان دينيه الذي عا�ش يف بداية القرن
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
183
جت�سدت تفا�صيل احلياة اليومية وطقو�س ال�شرق و�سحره وعادات ال�شعوب العربية والإ�سالمية الدينية واالجتماعية يف معظم لوحات كبار الفنانني الفرن�سيني امل�ست�شرقني لوحة ر�سمها الكروا يف املغرب
الع�شرين مغامرة مثرية ابتد�أت ف�صولها يف باري�س وانتهت بقرية �صغرية يف جنوب اجلزائر ،ا�سمها بو�سعادة التي �أو���ص��ى �أن يدفن فيها بعد وفاته. وق��د احتل دينيه موقع ًا مهم ًا يف تاريخ اال�ست�شراق ،وواك��ب يف نهاية القرن التا�سع ع�شر ومطلع القرن الع�شرين �أكرث من تيار فني: الواقعية والرمزية واالنطباعية. و���ش��ارك يف معر�ض االنطباعيني عام 1888قبل �أن يعتمد الر�سم الواقعي يف ت�صوير احلياة اليومية يف اجل��زائ��ر .ك��ان��ت رح��ل��ة دينيه عام � 1885إىل اجلزائر انعطاف ًا مهم ًا يف حياته الفنية وال�شخ�صية، ف��ع��ن��دم��ا و����ص���ل �إىل (ورق���ل���ة والأغ���واط) ،وكان عمره اليتجاوز الثالثة والع�شرين� ،أقام يف جنوب اجلزائر ،يف هذه املنطقة ال�ساحرة لعدة �شهور ،وقرر الإقامة الدائمة يف اجل���زائ���ر يف ق��ري��ة بو�سعادة ،1904حيث تعلم اللغة العربية، وعا�ش احلياة اليومية اجلزائرية. 184
العدد
7
كما ت�أثر بالديانة الإ�سالمية واعتنق الإ�سالم عام ،1913كما قام ب�أداء فري�ضة احلج ،واتخذ لنف�سه ا�سم ن�صر الدين دينيه ا�سم ًا �إ�سالمي ًا بعد اعتناقه ال��دي��ن الإ���س�لام��ي. وقدم دينيه للإن�سانية �أجمل لوحاته الت�صويرية للوجوه واحلياة يف قبيلة وادي نائل ال�شهرية بوجوه �صباياها و���ش��ج��اع��ة �شبابها وو���س��ام��ت��ه��م، وجت����اوزت لوحاته اال�ست�شراقية 400ل��وح��ة م��ن �أب���رزه���ا( :ر�سم ���س��ل��ي��م��ان ب���ن �إب����راه����ي����م ،وج��ه ع��رب��ي ،ال��ف�لاح ال�����ص��غ�ير ،فتاة ت�ضع احل��ج��اب ،بدوية �صغرية). ور�سم دينيه م�شاهد من احلياة اليومية م��ث��ل� :ساحة بو�سعادة، وبد ٌو يجل�سون قرب اخليمة ،وريح ال�سموم ،ويوم عيد ،ون�ساء م�سنات، وم�شاهد ال�صيد ،و�شجار ليلي يف بو�سعادة� ،إ�ضافة �إىل لوحات متثل م�شاهد حربية وطبيعية ودينية، وراق�������ص���ات ،و�أل����ع����اب ال�صبية وغ�يره��ا ..وات�سمت لوحاته ذات الطابع الديني بالتقوى ،واعتربت نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
من �أجمل اللوحات اال�ست�شراقية التي �صورت احلج ،والطواف حول الكعبة ،وم�شهد املدينة امل��ن��ورة، وقرب الر�سول الكرمي. ميكن و�صف معظم �أعماله قبل �سنة 1900ب�أنها "م�شاهد ب�شرية واقعية ومعا�صرة .وبعد اعتناقه الإ�سالم ،بد�أ بر�سم املو�ضوعات الدينية. اع��ت�بر دي��ن��ي��ي��ه م��داف��ع�� ًا عن بالثقافة الإ�سالمية ككاتب ،حيث �أ���ص��در ك��ت��اب ال�����ش��رق وال��غ��رب، والذي ت�صدى فيه للرد على كبار امل�ست�شرقني الغربيني .فربهن ع��ل��ى ع���دم اال���س��ت��ق��ام��ة اخللقية للوي�س ب��رت��ران��د ،و�أظ��ه��ر �سخف ليون رو���ش ال��ذي اعتنق الإ�سالم لأ�سباب غري م�صرح عنها على حد تعبريه. وكان ن�شط ًا يف ترجمة الأدب ال��ع��رب��ي �إىل ال��ل��غ��ة الفرن�سية. وم�����ن ب��ي�ن �أع����م����ال����ه ت��رج��م��ة ل��ق�����ص��ي��دة ملحمية ل��ع��ن�ترة بن �شداد �سنة .1898
جاك ماجوريل.. عا�شق مراك�ش
�أح��ب جاك ماجوريل مراك�ش، وفنت ب�سحرها ،ولذلك عا�ش فيها، واع��ت�بر امل��غ��رب ب��ل��ده .ويف بيته املراك�شي زاره ون�ستون ت�شر�شل، و�أغلب الر�سامني الأوربيني بعد �أن ب��د�أ يفر�ض ح�ضوره يف املعار�ض ال��ع��دي��دة ال��ت��ي ي�����ش��ارك فيها يف املغرب وفرن�سا .وقد �صدر كتاب �ضخم للناقد الفرن�سي فيلك�س مار�سيالك تناول فيه جتربة هذا الر�سام الذي اقرتن ا�سمه مبدينة مراك�ش. م��راك�����ش ال��ت��ي ���س��ح��رت��ه بكل تفا�صيلها ،و�أمكنتها ،ورائحتها، و�أنوارها ،و�أهلها .وقد �سجل كل ما فيها يف لوحاته عرب لعبة الألوان ال�ساحرة وامل�شعة واملت�ألقة .ومل تكن مراك�ش نهاية املطاف� ،إذ بد�أ �سنة 1921رحالته �إىل منطقة الأط��ل�����س��ي ال��ت��ي ب��ه��رت��ه ،ووق��ف مدهو�ش ًا �أم��ام الق�صور واجلبال واحلياة يف القرى ،وال �سيما تلك املنعزلة ،واملبنية بيوتها من الطني ب���أل��وان خ�لاب��ة .ويف �سنة 1923 ب��د�أ يف بناء بيته يف بو�صف�صاف يف م��راك�����ش ،و�صمم بنف�سه كل تفا�صيله معتمد ًا على الأل���وان الثالثة :الأزرق والأخ�ضر والأحمر
ن�ساء من مراك�ش ماجوريل
املراة يف لوحة م�ست�شرق
ال��ق��امت ،م�ستخدم ًا �إي��اه��ا �أي�ض ًا يف ال��دي��ك��ور ال��داخ��ل��ي .واع��ت��ب��ار ًا من �سنة 1930التفت ماجوريل �إىل فنه الت�شكيلي ،فر�سم لوحته ال�شهرية (ال�سوداوات العاريات) ال���ل���وات���ي ر���س��م��ه��ن يف ح��دائ��ق��ه الفخمة و�أبرز جمالهن .ويف �سنة 1934عر�ض �إنتاجه يف غالريي �شار بانتيه يف باري�س ،وبلغ عدد ل��وح��ات��ه ( )115ل���وح���ة ،منها 95لوحة لل�سوداوات العاريات. العدد
7
ب��ع��د احل�����رب ال��ع��امل��ي��ة ال��ث��ان��ي��ة جت��ول ماجوريل يف ال�����س��ودان ثم غينيا بحث ًا عن ج��ذور عار�ضاته اجل���م���ي�ل�ات ،ل��ي�����س��ج��ل م�����ش��اه��د احلياة اليومية للنا�س ،كما فعل يف رح��ل��ت��ه امل��غ��رب��ي��ة .ويف ه��ذه املرحلة تنوعت �أل��وان��ه ،و�أ�صبح هناك تناغم بني �ألوان �أكرث عنف ًا و�ألوان �أكرث حيوية ،وا�ستطاع من خ�لال جتربته الفنية �أن ميزج بني احل�ضارات ال�شرقية والغربية لإعطاء فن ح�ضاري متميز. وامل����در�����س����ة اال���س��ت�����ش��راق��ي��ة الفرن�سية مليئة ب�أ�سماء عديدة لر�سامني ا�ستلهموا م��ن ال�شرق �أج��م��ل ل��وح��ات��ه��م ،وا���س��ت��ط��اع��وا �أن مي��زج��وا ب�ين ح�ضارة عا�شوا ف��ي��ه��ا وح�������ض���ارة ع�����ش��ق��وه��ا من خ�لال رحالتهم �أو �إقامتهم يف ال�شرق؛ ليحققوا �أجمل اللوحات الفنية التي عك�ست ع�شق الفنان ال��غ��رب��ي ل��ل�����ش��رق ،ال����ذي اع��ت�بر غذاء للم�شاعر ،و�إغناء للتجربة الإن�سانية والفنية
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
185
من تأليف الدكتور سامي القباني..
ٌ قطوف من الحياة
كتاب للدكتور �سامي �صدر عن دار العلم للماليني يف بريوت �صيف عام ،2012 ٌ القباين ،جراح القلب ال�شهري ،و�صاحب جملة (طبيبك) العريقة� .أما عنوان الكتاب فهو( :قطوف من احلياة) ،ويقع يف �أربعمئة من ال�صفحات املليئة مبا هو مفيدٌ وممتع. يقول نا�رش الكتاب روحي بعلبكي" :ينتقي الدكتور القباين قطوفه من احلا�رض ومن مما يخربه ّ كل �إن�سان يف � ّأي زمن و� ّأي مكان ،فيفيد من التاريخ والفل�سفة املا�ضيّ ، والأدب ،ويربط بني الإن�سان واحلدث". يقول القباين يف مقدمة كتابه" :وها �أنذا بعد �أربعني االجتماعي) عن عادات �سيئة منت�شرة يف املجتمع مثل حو ًال ،ويف حوزتي عد ٌد ال ي�ستهان به من الأحاديث كتبتُها �صوت املذياع العايل ،ورم��ي الأو���س��اخ �أم��ام اجل�يران، ّ وتنخع بع�ض الرجال �أو ب�صقهم على م��ر�أى النا�س، و�أنا يف �أحوال �شتّى من االبتهاج �أو التك ّدر ،والر�ضا �أو التذمر ..يف �أحوال اليقني والتفا�ؤل ،والت�أمل والت�سا�ؤل .وهجوم املنتظرين على باب احلافلة ،و�سري ال�سيارات لكنّ الدافع وراءها كان دوم ًا االرتقاء بالإن�سان العربي دون مراعاة لأب�سط قواعد املرور .ويف كل هذه املوا�ضع غياب �ضمرينا االجتماعي �أو �ضعفه ،وقد يكون نحو الأف�ضل". ُيالحظ ُ كل ذلك جاء ب�أ�سلوب �أدبي راقٍ ،و�إن توا�ضع الكاتب الو�صول �إليه �أ�صعب من حماربة الأمية والفقر. ويف مقال �آخر يدعو الكاتب العرب �إىل �أن يكونوا (�أكرث بالقول�( :أن��ا ل�ستُ �أدي��ب�� ًا) ،لأن الكلمات ال ت�أتي �إليه د ّق ًة يف تعبريهم) حتى ال ن�ؤاخذ يف طواعية� ،إذ �أ ِل��ف لغة العلم التي ال جوانبها ال�سلبية ،فم�ألوف �أن النا�س ت�ست�سيغ املبا َلغ فيه من الكالم ،وال كل يبالغون يف كالمهم" :طفلي م�صاب ما هو غري مد ّقق �أو مو ّثق. د .غالب خاليلي بح ّمى حمرقة" ،ومثل ذلك املبالغة وقد ق�سم الكاتب كتابه �إىل �سبعة بعدد امل�صابني يف �أي ح��ادث ،وغري �أج���زاء ه��ي :اجتماعيات ووطنيات ذلك يف احلياة وال�سيا�سة� .أما مقال و�إن�����س��ان��ي��ات ونف�سيات وت��رب��وي��ات (مزمار احلي) فيتحدث عن �أولئك وفل�سفيات و�صحة وعلوم .ومب��ا �أنّ الذين ي�سافرون للعالج يف اخلارج، الكتاب غري �أكادميي ،ف�إن الإحاطة برغم امل�شقة ،رمبا ب�سبب قلة الثقة يف به �صعبة ،ويحتاج كل مو�ضوع �إىل طبنا� ،أو رواج الدعاية لبع�ض البلدان ق��راءة مت�أ ّنية ،ليح�صل القارئ منه الأج��ن��ب��ي��ة �أو ب�سبب "عقدة تفوق على فائدة دائمة مهما �أعاد قراءته. الأجنبي"� .إن للطبيعة الإن�سانية باع ًا يف اجلانب االجتماعي ،يتحدث كتاب كبري ًا يف ت�سبيب هذه الظاهرة ،وهي م���ق���ال (ح���ت���ى ي��ت��ك��ام��ل ���ض��م�يرن��ا 186
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
187
لست أدي��ب��ًا) ،ألن الكلمات راق ،وإن ت��واض��ع الكاتب بالقول( :أن��ا ُ أس��ل��وب القباني أدب��ي ٍ ال ت��أت��ي إل��ي��ه ط��واع��ي��ة ،إذ أ ِل���ف لغة العلم ال��ت��ي ال تستسيغ ال��م��ب��ا َل��غ فيه م��ن الكالم
طبيعة جت�سيم املحا�سن وامليزات خارج بيئتنا ،وتعظيم املثالب وال�سيئات داخلها. (يف ال�صني) ويف �أول �صباح له يف مدينة "�شنغهاي"، وقف الكاتب م�شدوه ًا �أمام �صفوف الرجال والن�ساء من كل الأعمار على الر�صيف ،يقومون بحركات من�سجمة ب�سواعدهم و�أرجلهم ور�ؤو�سهم و�أج�سامهم .يدعونها "املالكمة اخليالية" �أو "تاي ت�شي �شوان" ،وهي فل�سفة �صينية عريقة ،مبد�ؤها �أن كل ما يف الكون يت�شكل من تفاعل الـ"ين" (القوة ال�سلبية ومت ّثل الأنوثة وال�سكون واللطف والتقوى) والـ"يانغ" (القوة الإيجابية ومتثل الذكورة واحلركة والقوة والرحمة) ..واالثنان يك ّمالن بع�ضهما ،ويتفاعالن يف تكوين كل �شيء ،جماد �أو حي. ويف (النا�س واخل��راف��ات) نرى خرافات كثرية مثل الت�شا�ؤم من القطة ال�سوداء والرقم ،13على �أنها كما يقول املفكر �أدم��ون��د ي��ورك" :هي ديانة ذوي العقول الواهنة" .ومع ذلك ال ميلك اجل��راح �أن مي�سك نف�سه من التفا�ؤل عندما يقول له مري�ض" :حكيم .توكل على اهلل ،ف�أنا �أ�شعر �أين �س�أخرج من العملية مثل ال�شعرة من العجني"! ،وال من الت�شا�ؤم حني يقول عك�س ذلك. يف اجلانب الوطني ،ت�شي بع�ض العنوانات مب�ضامينها، (فلي�س الفتى من قال :كان �أبي) ،و(ال�سيا�سة وغوغائية
التعبري ال يجتمعان) ،فيما نحتاج �إىل �أخذ (درو�س من طري الإ َو ّز) وهي تهاجر� ،إذ ت�صطف ا�صطفاف ًا على �شكل حرف Vمت�آزر ًة وموفر ًة الطاقة. �إن الكاتب يحلم بامل�ستقبل الأف�ضل الذي ال ه ّوة فيه بني دولنا وبني الدول املتقدمة ،وال دول متت�ص ثرواته. يحلم يف مقال (هل تعرف من �أنت؟) ب�أن يعرف العربي �أن كثري ًا من املنجزات املهمة يف العامل ذات �أ�صل عربي، فابن خلدون م�ؤ�س�س علم االجتماع عربي ،وابن النفي�س مكت�شف ال���دورة الدموية ال�صغرى قبل ه��اريف عربي دم�شقي ،و�أب��و العالء املعري كتب ر�سالة الغفران قبل دانتي ..والأمثلة ال حت�صى منذ عهد قدمو�س .ويف (يوم يف �سان فران�سي�سكو) يقارن الكاتب بني جمال غابات تلك املنطقة ونظافتها وتق ّدمها التقني ،لكنه يعود فريى قلة الأم��ن والأم��ان ال�سيما يف الليل ،وقلة التعاطف مع الأهل امل�سنني الذين يرتكهم �أهلوهم يف دور الرعاية .يف مقال (ابد�أ بنف�سك) يتحدث الكاتب عن �أحوال العرب الراهنة ،التي تذكر بنبوءة الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم حني قال" :يو�شك �أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على ق�صعتها" .قيل�" :أمن ق ّل ٍة نحن يا ر�سول اهلل يومئذ؟" قال" :بل �أنتم كثري ..لكنكم غثاء (زبد) كغثاء ال�سيل!" .واحلل هو �أن يبد�أ كل منا بنف�سه يف الإ�صالح،
ب���د م��ن أن ي��ش��ع��ر ب��ال��م��ت��ع��ة الخالصة إن م��ن ي��ق��رأ ك��ت��اب (ق��ط��وف م��ن ال��ح��ي��اة) ال ّ
بطل مثل �صالح الدين. و�إال لن يجدي �أ ّم ًة منخور ًة ظهو ُر ٍ يف اجلانب الإن�ساين ،يو�ضح القباين يف مقال (اخلري ال يتج ّز�أ) �أننا كثري ًا ما نعادل النجاح يف احلياة ،خط�أً، بالو�صول �إىل نتائج ملمو�سة� .إن النجاح يبد�أ ب�أول خطو ٍة �سام ،وعمل اخل�ير ،والثواب عليه ،يتحقق نحو ه ٍ ��دف ٍ بالنية ال�صادقة قبل الفعل� .أما مقال (لو تبادل النا�س �أحذيتهم) فيبني بنظر ٍة مثالية �أنه لو و�ضع الإن�سان نف�سه مكان الآخر يف �أي اختالف ر� ٍأي �أو م�شكل ٍة ف�ستتغيرّ الكثري من املفاهيم ،وتلغى الكثري من العادات ،فمن �سيتج ّر�أ عندها على خيانة �إخوانه �إذا التزم اجلميع باحرتام م�شاعر الآخ��ري��ن؟ وهكذا يف مقال (�إغاثة امللهوف ال حتتاج �إىل �ضجة) نرى �أنه من ال�سهل ،عندما يتخبط �إن�سان يف م�شكلة لي�ست من �صنعه� ،أن نرتك الأمور ت�أخذ جمراها ،و�أن ن�شيح بوجهنا وك�أن الأمر ال يعنينا متجاهلني ؤمن كرب ًة، ما جاء يف احلديث ال�شريف" :من ف َّرج عن م� ٍ ف ّرج اهلل عنه بها كرب ًة من ُك َرب يوم القيامة" ،متنا�سني �أننا مع َّر�ضون للوقوع يف ال�شدة والأزمات ك�سائر الب�شر، و�أننا �سنتطلع عندئذ �إىل من ينقذنا مما نحن فيه. يف مقال (االختيار ال�صعب امل�ش ّرف) ق�صة طبيبة �أمريكية تبرَّ عت �صيف ًا بالعمل على �سفينة نرويجية. بعد �إقالع ال�سفينة اكت�شفت الطبيبة �أن باب قمرتها بال مفتاح ،فتوجهت �إىل القبطان ،لكنها فوجئت به يرمقها بنظرة فيها ا�ستغراب وا�ستهجان ،وكث ٍري من االعتزاز، مركب وهو يقول" :رمبا ن�س َي ْت �سيدتي �أنها تبحر على ٍ ن�سب �إىل اليابانيني تقدي�س نرويجي"! .من هذا القبيل ُي َ العمل اجلماعي َّ املنظم ،وللعرب الكرم وال�شهامة، ولل�صينيني احللم و ُبعد الر�ؤية. ويبني مقال (ال�شرق �شرق والغرب غ��رب) اعتقاد الغربي ب���أن احلياة هي كل ما �سيخرب وميلك ،ولهذا يتكالب على كل ما يجلب للنف�س اللذة؛ �أما ال�شرقي فعنده 188
العدد
7
قناعة مبا ُق ِ�سم له من ّ حظ ورزق؛ وتو ّقع "احل�ساب" بعد املوت؛ وتبجيل الأبوين حتى بعد العجز؛ و�إيثار �شظف العي�ش �إذا كان يف ذلك حفظ ملاء الوجه؛ وقبول فقدان الأحبة على �أنه ق�ضاء اهلل؛ واال�ستعداد للت�ضحية بالنف�س يف �سبيل غاية �أ�سمى ..وعلى هذا قال الأديب الربيطاين رديارد كيبلنغ :ال�شرق �شرق ،والغرب غرب ولن يلتقيا". يف اجلانب النف�سي ،ي�ضع لنا الكاتب (احل ّ��ب حتت ��ب �صانع الأعاجيب) يف املجهر) ويبني لنا �أن (احل ّ مقالني فريدين للمح ّبني والع�شاق ،ويبني لنا �أن (النجاح بالدرجة الأوىل ا�ستعداد ذهني) ،و�أنّ (الطويل جميل والق�صري جميل) ،وك��ذا الأبي�ض والأ���س��ود ،واملمتلئ والنحيف ،وعلى املرء �أي�� ًا كان �شكله �أال تريعه غمزات امل�ستهزئني� .إن (م�صري الإن�سان مبتناول يديه) ما عمل على حتقيق هدفه و�أخل�ص يف ذلك .و�إن (�سحر االبت�سامة) ال يقاوم وله نتائج �إيجابية جد ًا ،و�إن (لكل م�صيبة وجه ًا م�شرق ًا) نتعلم منه در�س ًا ما ،وما على املرء �سوى (�أن ينزع القناع الزائف) امل�ستعار ،و(يتخل�ص من عقدة ّ املحطة يف حياته) ،فيعي�ش وقته ،وال ي�ؤجل كل �شيء جميل �إىل امل�ستقبل الذي يكون عل ُمه عند اهلل. يف اجلانب الرتبوي :يف مقال (ال تهدر وقتك) يقول الكاتب :ي�ؤملني منظر ال�شباب يت�س ّكعون يف الطرقات و�أمكنة اللهو ،وت�ضايقني ر�ؤية ّ املوظفني يحت�سون ك�ؤو�س ال�شاي ،ويمُ �ضون اجلزء الأكرب من دوامهم يف مقابالت �شخ�صية ،ويح ُّز يف نف�سي منظر من ي�ؤ ُّمون املقهى كل يوم ال يخرجون �إال ورئاتهم م�شبعة بالدخان! .ت�ص َّور �أنك قطعت عهد ًا على نف�سك �أن تقر�أ ع�شر �صفحات من كتاب قبل النوم كل ليلة ،وت�ص ّور �أنك تهرول خم�س دقائق كل �صباح قبل ذهابك للعمل ،ولنفر�ض �أنك خ�ص�صت �ساعتني يف الأ�سبوع لتتع َّلم لغة جديدة� ،إنك َّ حتقق الكثري .ثم يعلمنا الكاتب (�أن نتع ّلم من ف�شلنا)
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
ينتقي الدكتور القباين قطوفه من احلا�ضر مما يخربه ّ كل �إن�سان يف � ّأي ومن املا�ضيّ ، زمن و� ّأي مكان ،فيفيد من التاريخ والفل�سفة والأدب ،ويربط بني الإن�سان واحلدث
املهم فجميع النا�س معر�ضون للف�شل الطفيف� ،أو حتى ّ كالتنحية عن من�صب� ،أو �إ�ضاعة �صفقة جتارية� ،أو نكبة تفرق بني �أفراد العائلة ،وهذا م�صدر للك�آبة والقنوط. �إن الف�شل معلم كبري لوعرفنا كيف ن�ستثمره .يف مقال (العمل والإت��ق��ان) ن��رى �أننا كثري ًا ما نفتقد للإتقان يف عملنا .والأمثلة �أكرث من �أن حت�صى ،فهل حدث �أن بي�سر وتغلق �أبوابها دروجها ٍ اقتنيت خزان ًة للثياب تفتح ُ يحب من �أحدكم بدقة ،ور�سولنا الكرمي يقول�" :إن اهلل ُّ �إذا عمل عم ًال �أن يتقنه"؟ ويف احلياة املليئة بالعمل والهموم يطلب الكاتب (�أال نن�سى حمطات الوقوف)� .إن الرتحال بدون حمطات الرحالة قبل �أن يبلغ وجهته� .إن مرهق ،وقد يق�ضي على َّ الغرب الذي ا�ستقينا منه رتابة العمل �س َبقنا �إىل �إدراك هذه احلقيقة الب�سيطة ،فرتى اجلميع ،حتى �أهم رئي�س، يتقيد بقواعد العطلة تقيد ًا تام ًا ،فال ي�أتي �أمر ًا يتع َّلق من قريب �أو بعيد باملهنة .وي�ؤكد الكاتب �أن على املرء �أن يتعلم (فن الإ�صغاء) و�أن يكون (مر�آة �صادقة لنف�سه) ،و�أنه (�آن الأوان لإ�صالح طريقتنا يف التعليم) ،و�أن (ن�شجع �أوال َدن���ا على االبتكار) ،و�أن نع ّلمهم (ف��نّ الب�ساطة)، وكيف يختارون مهنهم .و�أخري ًا يبينّ الكاتب �أن (ذكرى ميالد املرء) بدع ٌة غربي ٌة لكنها لي�ست بال�ضرورة تقليد ًا �سيئ ًا ،فهي منا�سب ٌة يقف املرء عندها ليلتقط �أنفا�سه. يف اجلانب الفل�سفي ،يخربنا الكاتب �أنه (كما ننظر �إليها تكون احلياة) ،فاحلياة لي�ست جمموعة احلظوظ، بل هي مواقف املرء من تلك احلظوظ ،و�أن ب�إمكان املرء �إغناء حياته وحياة الآخرين �إن ا�ستخدم طاقته الإيجابية وذكاءه .كما �أن احلياة حتتاج منا �إىل (العزم وال�صرب واحلكمة) ،و�أنه لي�س بالإمكان دائما �إيجاد حل واقعي (عندما تُعدم احللول) ،فكيف ميكن �إخبار الزوج مبا ميكن �أن يع ّكر �صفو حياته كلها ،وكذا �أي �شخ�ص �آخر؟. العدد
ويحدثنا الكاتب عن ال�سعادة فيقول (�إنها ذلك املطلب امل��راوغ) .نعم ،كلنا ن�سعى وراءه��ا ،فنحن نن�شد امل�أكل الطيب واملرتبة الأعلى ،ونختار املنظر اجلميل. بع�ض النا�س يك ّدون لي�صبحوا من الأثرياء ،لكنهم يخ�سرون الكثري من راح��ة بالهم و�سعادتهم البيتية.. والطب ي�سعى حلل امل�شاكل املر�ضية ون�شر التوعية، لكنه ينتهي بوفرة من امل�سنني العجزة الذين ي�شكلون �أعباء على الدولة من الوجهة االجتماعية واملالية! .يقول بول غيبونز�" :إننا نعي�ش يف جمتمع ا�ستطاع �أن ي� ِّؤمن لنا مكا�سب مادية كثرية ،وهذا �أمر يدعو �إىل الغبطة والر�ضا ..لكني �صرت م�ؤمن ًا� ،أننا دفعنا ثمن ًا روحي ًا غالي ًا مقابل هذا النزف والتقدم". ال�صحة والعلوم :يحدثنا الكاتب عن (نعمة ويف ق�سم ّ امل�شي) �أقل الريا�ضات كلفة وم�شقة ،وال ت�ستلزم ملعب ًا خا�ص ًا وال وقتا معين ًا .وفوائدها تتناول ك ّل ع�ضو بل ك ّل ّ خلية ،وتتعدى ذلك �إىل قدرتها على مترين الذهن� ،إذ تُتيح خلاليا الدماغ �أن ت�ستيقظ من رقادها وت�ستعيد حيويتها ،كما مت ِّرن وت�صقل العاطفة وتن ّمي �إح�سا�سنا بجمالالطبيعة. و�أخ�ير ًا يعود الكاتب الطبيب �إىل الطب ،فيختتم كتابه مبقال يذ ّكر فيه الأطباء بـ (ت��راث �أبقراط) وق�سمه ال�شهري ونذكر منه� :أن �أع ّد من ع ّلمني الطب مبنزلة والدي ،و�أن �أنفق عليه �إذا �صار حمتاج ًا ،و�أن �أعامل �أفراد عائلته ك�إخوة يل ،و�أن �أع ّلمهم احلرفة �إن رغبوا بغري مقابل ،وكذا �أع ّلمها لأوالدي ولكل من تع ّهد �أن يكون طبيب ًا ،و�أن �أ�ستخدم علمي يف �شفاء املر�ضى، و�أال �أع��ط��ي ع�لاج�� ًا ف��ت��اك�� ًا ،و�أال �أ�ستغ ّل �صنعتي يف اقرتاف املنكرات والأذى ،و�أن �أحتا�شى التع ّدي على أحد ب�أي �شيء �أراه �أو �أ�سمعه، احلرمات ،و�أال �أبوح ل ٍ و�أع ّد هذه الأمور �أ�سرار ًا مق ّد�سة 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
189
تحديات ورهانات المسرح اإلماراتي "وجدت �أن ال�صيغة الأكرث منا�سبة لطرح هذا الكتاب هي االنطالق من التجربة الذاتية يف معاي�شتي لهذا امل�رسح ،وللكثري من ق�ضاياه الراهنة ،وحماولة طرح الأ�سئلة التي طاملا طرحتها كتابات عدة من خالل عملي يف ال�صحافة املحلية " هذه هي وجهة النظر التي قر�أ بها ال�شاعر والباحث ال�سوري ح�سام مريو لراهن امل�رسح الإماراتي يف كتابه اجلديد" :ق�ضايا راهنة يف امل�رسح الإماراتي" ال�صادر حديث ًا عن دار العني بالقاهرة. حاول ح�سام مريو الإجابة عن �أ�سئلة الفن والإبداع التي يطرحها امل�سرح العربي ب�صفة عامة وامل�سرح الإم��رات��ي ب�صفة خا�صة� .إذن التجربة الذاتية هي ال�صيغة الأكرث منا�سبة لطرح �أ�سئلة الراهن ال�شائكة، برغم �أنه طرح بع�ض هذه الأ�سئلة قبل ذلك من خالل
كتاب
هويدا �صالح م�صر
190
العدد
7
املقاالت ال�صحفية التي ك��ان يكتبها عن امل�سرح من خالل عمله بال�صحافة ،ومعاي�شته للق�ضايا والن�صو�ص امل�سرحية التي كانت تقدم يف الإمارات. ح��ر���ص م�ي�رو يف ه���ذا ال��ك��ت��اب على ت��ن��اول من��اذج بعينها ،وجت���ارب م�سرحية لها �ألقها اخلا�ص الذي نتج عن اهتمام دولة الإم��ارات بالإبداع ب�صفة عامة وامل�سرح ب�صفة خا�صة ،لذا �أوقفت الكثري من الفعاليات واملهرجانات لتناق�ش الق�ضايا امل�سرحية مثل :مهرجان الإم��ارات مل�سرح الطفل ،ومهرجان ال�شارقة للم�سرح املدر�سي ،ومهرجان دبي مل�سرح ال�شباب ،ومهرجان ال�شارقة للم�سرح اجلامعي ،يف دورته الأوىل. وي�ؤكد مريو �أن هذه التجارب امل�سرحية هي جتارب حديثة ن�سبي ًا ،ومل ُ تخل مقاربته لها من بع�ض النقد الفني ���س��واء فيما يتعلق بف�ضاء احلكاية ،والأداء، والإخ���راج ،وال�سينوغرافيا ،بالإ�ضافة �إىل ك��ون تلك القراءات �شكال من �أ�شكال التوثيق الذي ميكن �أن يعود �إليه الباحثون والنقاد لدرا�سته فيما بعد ب�شكل �أكرث دقة والغو�ص يف حتليله من زوايا نظر �أخرى.
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
191
ك��ش��ف ف��ي��ه م���ي���رو ع���ن ال��ن��س��ق ال���ص���راع���ي ال�����ذي ي��ح��ك��م ب��ن��ي��ة ال��ع��ق��ل ال��ع��رب��ي، س�����ؤال ال���ه���وي���ة ال�����ذي ي��ت��ص��ارع��ه ن��س��ق��ان ث��ق��اف��ي��ًا ه���م���ا :ال����ت����راث وال��م��ع��اص��رة
�ص ّدر مريو كتابه مبقدمة تاريخية عن تطور امل�سرح يف ال��وط��ن العربي منذ امل�سرح ال�شعري ال��ذي كان �شك ًال م�سرحي ًا طرحت من خالله العديد من الق�ضايا االجتماعية يف �إط��اره��ا التاريخي ،م���رور ًا بانفتاج املجتمع العربي على ثقافة الغرب واال�ستفادة من م�سرح �شك�سبري وموليري ،كما يتوقف عند م�شكلة غياب اجلانب التقني يف التجربة العربية حتى غد هذا اجلانب �أ�صيل يف املعاجلات الدرامية العربية. كذلك قدم قراءة لو�ضعية امل�سرح يف عقد ال�ستينيات من القرن املا�ضي ،وظهور �أ�شكال م�سرحية متطورة، توفرت فيها عنا�صر امل�سرحة يف الن�صو�ص التي �أخذت تبدو �أكرث متا�سك ًا على م�ستوى التطور الدرامي للن�ص، وعلى م�ستوى لغة احل��وار بني �شخو�ص امل�سرحية� ،أو على م�ستوى ا�ستخدام املونولوج الداخلي لل�شخ�صيات ت�أثر ًا بامل�سرح الغربي� ،أو على ت�صاعد الإيقاع يف بناء حبكة العمل ،وقد توافق كل هذا مع االطالع على جتارب عاملية متعددة االجتاهات وامل�شارب� .إىل جانب منو الوعي القومي العربي واالن�شغال بالق�ضايا ال�سيا�سية واالجتماعية ،واال�شتغال على الق�ضايا ال��ك�برى .يف م�صر قام امل�سرحيون با�ستلهام ق�ضايا التحرر والن�ضال القومي ورف�ض كل �أ�شكال هيمنة اال�ستعمار ،ويف لبنان كانت التجربة الرحبانية �آخ��ذة يف الرت�سخ والتو�سع جماهرييا .ثم جاء عقدا ال�سبعينيات والثمانينيات وظ��ه��رت م�����س��ارح يف ب��ل��دان ع��رب��ي��ة خمتلفة وك��ان��ت
التطورات ال�سيا�سية يف الوطن العربي ت�أخذ اجتاهات خمتلفة �أ�سهمت يف �إنتاج جتارب م�سرحية جديدة ذات طابع تفاعلي خمتلف مع اجلمهور ،وثمة منوذجان مبثالن حقبتي ال�سبعينيات والثمانينيات هما امل�سرح ال�سيا�سي املقاوم واملونودراما .كذلك عقد الت�سعينيات حيث �أخذ العامل يف التغري �سريع ًا ،فهو عقد التحوالت ال��ك�برى ،وت��زاي��دت �سطوة العوملة و�سقطت كثري من املرجعيات الفكرية التي كان امل�سرح العربي يتكئ عليها. ثم يعر�ض م�يرو يف نهاية الف�صل عن التحديات الراهنة التي تواجه امل�سرح الإماراتي ،باعتباره جزء ًا من امل�سرح العربي ،من حيث الت�أ�صيل لفن امل�سرح واالنطالق به ملواكبة املتغريات. ي�أتي الف�صل الثاين حتت عنوان":امل�سرح الإماراتي و�س�ؤال الهوية واحلداثة" ك�شف فيه مريو عن الن�سق ال�صراعي الذي يحكم لي�س امل�سرح العربي والإماراتي فقط� ،إمن��ا يحكم بنية العقل العربي� ،س�ؤال الهوية الذي يت�صارعه ن�سقان ثقافي ًا هما :الرتاث واملعا�صرة. و���ض��ع م�يرو ي��ده على م�شكلة امل�سرح العربي التي تتلخ�ص يف الذهاب �إىل الرتاث من دون م�صاحبات عقالنية ،فظهرت التجريبية اجلديدة التي توافقت مع �إ�شكالية الأ�صالة واملعا�صرة يف الثقافة العربية ليدخل �إىل امل�سرح الإماراتي الذي حتولت فيه م�س�ألة الهوية وما تت�ضمنه من مرجعيات تراثية �إىل �س�ؤال رئي�س يف هذا امل�سرح ،فوجد الفنانون �أنف�سهم �أمام �س�ؤال كبري
ال ي��ت��وس��ل ال��ع��رض ب��ال��ت��راث م��ن أج���ل إب����راز م��س��أل��ة ال��ه��وي��ة ،وإن��م��ا ي��ت��ح��دث ع��ن ع�لاق��ة صريحة وم��ب��اش��رة ،ع��ن ع�لاق��ة اإلن��س��ان ب��ال��ح��داث��ة ،وه��و إن��س��ان ف��ي ذات ال��وق��ت غير منقطع ع��ن ج��ذوره
ه��و :كيف نوفق ب�ين م��ا ا�ستقر يف الوجدان من تراث وبني املعا�صرة واحل��داث��ة التي نعي�ش جتلياتها يف تفا�صيل حياتنا ،فنحن ،كما �أ�شار الكاتب حني نتحدث عن الرتاث فال بد من الإ���ش��ارة �إىل �أن ا�ستخدام العنا�صر الرتاثية لي�س قيمة يف حد ذاته ،و�إمنا القيمة هي يف �شكل توظيف الرتاث داخل العر�ض امل�سرحي. وقد قارب ح�سام مريو منوذجني يف امل�سرح الإماراتي هما م�سرحية "الفطام" التي قدمت يف الدورة التا�سعة ع�شرة ملهرجان �أيام ال�شارقة امل�سرحية للمخرج علي جمال ،وهو عر�ض ي�شكل منوذج ًا مهم ًا للمقاربة التي تتخذ من الرتاث بوابة لطرح م�شكلة �إن�سانية تبقى راهنة على الدوام ،وبعد حتليله .يرى امل�ؤلف �أن معاجلة هذا العمل والر�ؤية الإخراجية قد ا�ستثمرت الفكر احلداثي املتمثل يف تناق�ضات ال�شخ�صية يف العمل الفني، ومقاربتها ب�شكل يحتمل البعدين الواقعي والرمزي الذي ينزاح �إىل ت�أويالت متعددة لدى املتلقي. يالم�س عر�ض "فطام " الذاكرة اجلماعية للإمارات، فهو ينهل من تراثها ،وي�ستعني ب�أحد �أهم رموزها وهو " النوخذة" والنوخذة هو ربان ال�سفينة ،ويت�صف بالقوة، وال�شجاعة وال�صرب ،وما زال رمز ًا للكثري من الأعمال امل�سرحية ةال�سردية وال�شعرية يف االم��ارات ،فهو جزء را�سخ يف التاريخ وال��وج��دان ،وق��د ا�ستعاده العر�ض م�ستفيد ًا م��ن ت���أث�ير ه��ذه ال�شخ�صية وو�ضعها �أم��ام تناق�ضات�إن�سانية. النموذج الثاين هو عر�ض “بايته" الذي قدم على الدورة احلادية والع�شرين من مهرجان �أيام ال�شارقة امل�سرحية ،وهو من ت�أليف مرعي احلليان و�إخراج ناجي 192
العدد
7
احل��اي ،وهو عر�ض ينتمي �إىل ما ي�سمى بالكوميديا ال�سوداء م�ستفيد ًا مما ميتلكه هذا امل�سرح من �إمكانات لطرح ق�ضايا ت�ؤرق املجتمع الإماراتي ،ويناق�ش م�س�ألة الهوية ،لكنه يناق�شها بطرح ب�سيط غري معقد ،كذلك يقارب ال�سيا�سة من جانبيها االقت�صادي واالجتماعي، م��ن حيث يبدو الإن�����س��ان حم��ا���ص��ر ًا يف لقمة عي�شه، و�صحته و�أطفاله .جاءت الر�ؤية الإخراجية للعمل متزج بني الواقعية والكوميديا واالتكاء على قدرات املمثلني، وا�ستخدام �سينوغرافيا تنا�سب حكاية العر�ض. ال يتو�سل العر�ض ب��ال�تراث من �أج��ل �إب���راز م�س�ألة الهوية ،و�إمنا يتحدث عن عالقة �صريحة ومبا�شرة ،عن عالقة الإن�سان باحلداثة ،وهو �إن�سان يف ذات الوقت غري منقطع عن جذوره. ً يف الف�صل الثالث خ�ص�ص ح�سام م�يرو بابا عن "م�سرح الطفل"و�أكد �أنه مل يتم االتفاق على تعريف حمدد مل�سرح الطفل وموا�صفاته ،ومن الذي يقوم به، و�أي املراحل العمرية التي يتوجه �إليها ،فالعملية كما يرى الكاتب معقدة جد ًا لتداخل املراحل التي يتوجه �إليها .ثم حتدث عن مهرجان الإم��ارات مل�سرح الطفل و�أ�سئلة التجريب ،متتبعا ال����دورات املتعاقبة لهذا املهرجان كما يعر�ض عدة مناذج من عرو�ض املهرجان ويقوم بالتعليق عليها ،ويفرد حم��ور ًا ح��ول (امل�سرح املدر�سي) ال��ذي عاي�ش ن�ش�أته وتكوره �أثناء عمله يف جمموعة م�سارح ال�شارقة التي ارت����أت ع�بر خطتها
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
م�سرح لل�شباب هو �أمر فيه الكثري من يرى مريو �أن تخ�صي�ص ٍ احليوية،لكنه ي�أخذ عليه غياب احل�ضور الإبداعي لل�شابات من حيث الت�أليف والتمثيل والإخراج وهو ح�ضور ال يعك�س ن�سبة ال�شابات �إىل ال�شباب �أال تكتفي بتنظيم مهرجان خا�ص بهذا امل�سرح قدر اهتمامها ب�أن يكون هذا املهرجان تتويجا جلملة من الأن�شطة والفعاليات التي ترتبط ع�ضويا بتطوير هذا امل�سرح ،فكان مهرجان ال�شارقة للم�سرح املدر�سي حيث �أو�ضحت عرو�ض املهرجان التي قامت بها امل�ؤ�س�سة بني 1و � 8أغ�سط�س 2011الدور الذي لعبته تلك الفعاليات يف �إن�ضاج عرو�ض م�سرحية متنوعة من حيث الأفكار والأداء والإخراج ،ومن ثم �إقبال املدار�س على امل�شاركة يف املهرجان. وا�ستعر�ض امل�ؤلف يف هذا الباب تعالقات امل�ؤ�س�سات امل�سرحية باملجتمع ،ودورها يف تنمية املجتمع املحلي، وتنظيم جمموعة من الور�ش يف عدة مناطق يف ال�شارقة لتوفري �أك�بر قدر من م�شاركة املدار�س يف املهرجان، وتوقف عند بع�ض ور�ش املهرجان مثل :ور�شة الت�أليف للم�سرح املدر�سي وور�شة الإخ���راج ،وور�شة الديكور، وور�شة ال�سينوغرافيا .ثم ا�ستعر�ض كذلك مناذج من العرو�ض التي تقدم لهذا املهرجان. ثم ا�ستعر�ض لنا ما ُ�سمي مب�سرح ال�شباب الذي ر�آه يحمل بعد ًا نه�ضوي ًا مينح ال�شباب فر�صة التعبري عن ذواتهم وق�ضاياهم وم�شكالتهم و�إبداعاتهم .كذلك م�سرح لل�شباب هو �أم��ر فيه يرى مريو �أن تخ�صي�ص ٍ الكثري من احليوية ،وحتدث عن مهرجان دبي مل�سرح ال�شباب ،لكنه ي�أخذ عليه غياب احل�ضور الإبداعي لل�شابات من حيث الت�أليف والتمثيل والإخ���راج وهو ح�ضور ال يعك�س ن�سبة ال�شابات �إىل ال�شباب ،ويو�صي الكاتب ب�أن يكون لهن ح�ضور ملحوظ ،فمن الطبيعي �أن يعول على املهرجان جتذير حالة من التناف�س بني اجليل اجلديد� ،شبابه و�شاباته. ثم عر�ض الكاتب للم�سرح اجلامعي� ،أرخ لن�ش�أته، م�ؤكد ًا �أن مهرجان امل�سرح اجلامعي يف جزء منه يعك�س العدد
حاجة امل�سرح املحرتف نف�سه لاللتحام باحلا�ضنة اجلامعية الأك��ادمي��ي��ة ،وخا�صة �أن بع�ض امل�سرحيني من ال�شباب اجلامعيني املنفتحني على ثورة االت�صال والتكنولوجيا هم ثروة حقيقية للم�سرح نف�سه ،و�إذا مت ا�ستغاللها كما يجب ف�سوف يتمكن امل�سرح من طرح �أ�سئلة جديدة من داخ��ل امل�سرح ،و�أن تعك�س جملة املتغريات التي يعي�شها العامل من خالل ه�ؤالء ال�شباب الذين يحملون داخلهم الكثري من الأ�سئلة. �أخري ًا ختم امل�ؤلف كتابه باحلديث عن �أعمال �صاحب ال�سمو ال�شيخ �سلطان بن حممد القا�سمي ع�ضو املجل�س الأع��ل��ى حاكم ال�شارقة امل�سرحية ،وع��ر���ض لثمانية ن�صو�ص م�سرحية هي“ :عودة هوالكو" و"الق�ضية" و"الواقع �صورة طبق الأ�صل" و"الإ�سكندر الأكرب" و"النمرود" و"�شم�شون اجلبار" و"احلجر الأ�سود" و"طورغوت" ،ه��ذه الأع��م��ال التي انبثقت من رغبة �صاحب ال�سمو حاكم ال�شارقة يف طرح مواقف حمددة من ق�ضايا بعينها ،وتوقف امل�ؤلف عن املنطق النقدي ل�صاحب ال�سمو حاكم ال�شارقة يف �أعماله امل�سرحية الذي يت�سم ببعد ا�ست�شرايف للم�ستقبل ،وهو ما يعترب جزء ًا مهم ًا من �أي عملية نقدية على م�ستوى التاريخ. وخل�ص مريو �إىل القول "�إن جميع �أعمال �صاحب ال�سمو حاكم ال�شارقة ،حتظى بتوازن كبري بني البطل ال��ف��رد واجل��م��اع��ة ،حيث ت��وج��د املجاميع الب�شرية دائ��م�� ًاك��ج��زء رئي�س م��ن حكاية العمل ،وم��ن الفعل الدرامي ،وهي م�س�ألة مهمة يف كتابة هذا النوع من امل�سرح" ،ف�لا ميكن يف نهاية امل��ط��اف الكتابة عن التاريخ من دون �أن يكون للمجموع �أو ال�شعب دور يف ذل��ك التاريخ ،وبالتايل يف الن�ص امل�سرحي نف�سه، وعدم ترك هذا الأمر للر�ؤية الإخراجية ،و�إمنا تثبيته كجزء من املنت الرئي�س للن�ص 7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
193
أخيرًا..
كم نحن بحاجة إلى النقد؟!! منذ �أن متكن الإن�سان من معرفة اللغة� ،أو �إذا �صح التعبري متكن من ممار�ستها ،انطلقت الب�شرية يف عوامل حقيقية من االكت�شاف واالخرتاع والتطور ،ويعترب كثري من العلماء �أن انطالقة الإن�سان اللغوية ال يوازيها �أي حدث �شهدته الب�شرية يف الأهمية .ومن ه�ؤالء العلماء الدكتور جون �سرييل� ،صاحب كتا َبي (بناء الواقع االجتماعي من الطبيعة �إىل الثقافة)، و(العقل واللغة واملجتمع) ،حيث قال يف هذا اجلانب�" :إن م�ؤ�س�سات كالنقود واحلكومة وامللكية اخلا�صة والزواج والألعاب، تتطلب وجود اللغة ،بينما ال حتتاج اللغة يف وجودها �إىل �أي من امل�ؤ�س�سات الأخرى" .وهذه حقيقة ماثلة ،فمن خالل اللغة بنى الإن�سان احل�ضارات ،وو�ضع يده على االكت�شافات واملخرتعات ،وانبثقت ملكاته ومواهبه يف �شتى املجاالت، فكان ال�شعر والذكريات والق�ص�ص واحلكايا ،وعلوم �إن�سانية كثرية ال تعد وال حت�صى .ومن خالل اكت�شاف الكتابة متكن الإن�سان من حفظ لغته وطورها ،وحفظ �إنتاجه الإن�ساين ،وكل ما يدور يف ذهنه من �أفكار وتطلعات .ويف كثري من الأحيان حول هذه الأحالم والر�ؤى �إىل �إنتاج كتابي تطور تباع ًا حتى بات اليوم يطلق عليه الإنتاج الإن�ساين الذي ي�ضم ال�شعر والرواية والق�صة وامل�سرح والنرث والنقد ...الخ .لكن ال ميكن لنا اعتبار النقد مالزم ًا �أو جزء ًا من العلوم الأدبية و�إنتاجها فح�سب ،فهو يرافق كل العلوم الإن�سانية� ،سواء كانت تطبيقية �أو نظرية ،وميتد �إىل كل عمل �إن�ساين �أي�ض ًا. لقد �أتاحت مرونة النقد له �أن ي�شمل كل منجز �إن�ساين ،مهما يكن ويف �أي زمن حدث؛ لأنه يهتم بكل ما يكتب وما ينطق ويج�سم .وال تقت�صر وظيفة النقد على �إظهار العيوب واملالحظات فح�سب ،بل �إنه يظهر الإيجابيات واملحا�سن و ُينحت ّ �أي�ض ًا ،وي�أتي ب�صور خمتلفة �سواء كانت مكتوبة �أو �ضمن حوارات تلفزيونية �أو �إذاعية �أو يف �إطار خطب جماهريية ،وغريها من الو�سائل احلديثة �أو القدمية .وهذه جميعها جوانب معروفة. يقال �إن تطور النقد ينعك�س �إيجابي ًا على املنجز واحلقل الذي تعمق فيه بالدرا�سة والبحث .ويف ظني �أن هذه حقيقة ال تقبل اجلدال ،فالنقد يطور ال يهدم ..و�إذا �أخذنا النقد يف جماله الأدبي ،ف�ستكون هناك مالحظة تتعلق باحلركة النقدية العربية نف�سها ،حيث يعدها البع�ض �ضعيفة ،متنا�سني �أن حركة الت�أليف والن�شر ب�صفة عامة �ضعيفة على امل�ستوى العربي، وهي ال تتواكب مع عدد �سكان الوطن العربي الذي جتاوز تعدادهم الثالثمائة واخلم�سني مليون ن�سمة� .إن الإح�صاءات يف هذا املجال م�ؤملة ،ففي جمال الإ�صدارات هناك كتاب واحد ي�صدر لكل اثني ع�شر �ألف مواطن عربي ،بينما هناك كتاب لكل ت�سعمائة �أملاين ،وكتاب لكل خم�سمائة مواطن يف بريطاين .وتبع ًا لهذه احلالة ،ف�إن احلركة النقدية �أي�ض ًا تعاين ق�صور ًا بالغ ًا ،وهذه نتيجة طبيعية .لكن على الرغم من �شح ما ينتج ويتم ت�أليفه ،ف�إن النقد وقف عاجز ًا عن مواكبة تلك املنجزات وما يتم ن�شره .وال �شك يف �أن الوطن العربي برمته وعلى امتداده من اخلليج حتى املحيط يعاين ندرة يف النقاد، و�أق�صد النقاد امللهمني ،مع التقدير لكل الأ�سماء اجلميلة يف هذا احلقل التي �أثرت �ساحتنا الأدبية ،لكنها غري كافية، فنحن نحتاج �إىل املزيد من النقد العميق واملتذوق؛ فامل�ؤلف ي�سعده النقد ،وي�شعر ب�صدق النقد وفائدته �أكرث من �سواه فاطمة املزروعي
194
العدد
7
نوفمبر ـ تشرين الثاني 2012 /
نادي تراث الإمارات ي�صدر
ة ي ف ا ا ق ث ل أ ل ا ف املجلة ض ض ل ع ربي ًا
الآن
ك��ت��اب ي���وزع جم��ان�� ًا م��ع ال��ع��دد ك��ل �شهر
ت�ت��وف��ر ف�ـ��ي م�ك�ت�ب��ات ال��وط��ن ال �ع��رب��ي و�أوروب � ��ا