culture_emirates_7

Page 1

‫مجلة شهرية تُعنى بشؤون الثقافة والفكر‬

‫العـدد‬

‫‪7‬‬

‫ـ نوفمرب ـ ت�رشين الثاين ـ‬

‫‪2012‬‬

‫التخييل يف �أدب الأطفال ‪ -‬د‪� .‬سمر روحي الفي�صل‬

‫ال�شيخة هند القا�سمي ومناجاة النف�س‪..‬‬

‫د‪ .‬عمر عتيق‬

‫قراءة يف (حدثتنا مرية) للمي�س املرزوقي‬ ‫�سامح كعو�ش‬

‫الأر�ض قنبلة موقوتة‪ ،‬ديوان احلماطي‪..‬‬ ‫د‪� .‬شهاب غامن‬

‫عبد الرحمن زينل واملواءمة بني الرتاث والع�صر‬ ‫د‪ .‬حممود �شاهني‬

‫امل�سرح يف الإمارات‬

‫‪ -‬هويدا �صالح‬

‫ملف العدد‬

‫أدب الطفولة العربي‬

‫الشرق في مرآة الفنانين الفرنسيين‬

‫إبراهيم الكوني‪:‬‬ ‫من أنت أيها المالك؟‬



‫عامل «ح�سني �شريف» الت�شكيلي‬ ‫العدد املقبل‬


‫‪172‬‬

‫‪102‬‬ ‫‪190‬‬

‫‪88‬‬

‫‪102‬‬

‫‪138‬‬

‫‪4‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪186‬‬

‫‪46‬‬


‫محتويات‬

‫رئي�س مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم‬

‫�سمو ال�شيخ‬

‫�سلطان بن زايد �آل نهيان‬

‫فكر‬

‫‪ - 8‬ال�رشق والغرب – االختالف الثقايف والقيمي‬ ‫�أحمد يو�سف داوود‬

‫‪ - 18‬فل�سفة الفن عند هيغل‬ ‫رم�ضان ب�سطاوي�سي حممد‬

‫‪ - 24‬الذكاء �أم اجلمال‬ ‫فاطمة املرني�سي ترجمة‪� :‬سعيد بوخليط‬

‫مجلة شهرية تُعنى بشؤون الثقافة والفكر‬ ‫ت��ص��در ع��ن م��رك��ز س��ل��ط��ان ب��ن زاي���د للثقافة واإلع�ل�ام‬

‫‪ - 32‬الثقافة العربية يف �إيطاليا‬ ‫�سهى �رشيف‬

‫‪ - 40‬ن�صو�ص خالدة لرواد الثقافة يف الإمارات‬ ‫د‪.‬ح�سن قايد ال�صبيحي‬

‫رئيـ�س التحــريـ ــر‬

‫‪ ‬د‪ .‬ريــا�ض نع�ســان �آغــا‬

‫ملف العدد‬

‫‪� - 46‬سليمان العي�سى �شاعر الطفولة العذب‬ ‫د‪ .‬ريا�ض نع�سان �آغا‬

‫مـديـ ـ ــر التحريـ ـ ــر‬

‫‪ - 52‬التخييل يف �أدب الأطفال‬ ‫د‪� .‬سمر روحي الفي�صل‬

‫‪ ‬د‪ .‬مـحـمـد فـاتـح زغــل‬

‫‪� - 60‬أدب الأطفال و�إ�شكالية التعريف‬ ‫د‪ .‬حممد البدوي‬

‫املـديـ ـ ــر الـفـنـ ــي‬

‫‪ ‬فـــواز ناظـــم‬

‫‪ - 66‬القراءة الو�سيطة لأدب الطفل‬ ‫ترجمة خلود اجلرايحي‬

‫ر�سامون م�شاركون‬

‫‪ - 70‬يف �أدب الطفل‬ ‫د‪ .‬حممد الغزي‬

‫‪ ‬ح�سكو ح�سكو‬ ‫عبد الكرمي البيك‬ ‫عدنان عبد الرحمن‬

‫‪ - 74‬البحث عن بطل‬ ‫د‪ .‬عبد الرحيم امل�ؤدن‬

‫‪� - 80‬أدب الطفل مقاربة �سيكولوجية‬ ‫د‪ .‬ر�شيد اخلدميي‬

‫املرا�سلون‬

‫�أحمد ال�شهاوي (م�صر)‬ ‫هدى الزين (باري�س)‬ ‫عبداهلل املتقي (املغرب)‬ ‫فايزة م�صطفى (اجلزائر)‬ ‫فاطمة بن حممود (تون�س)‬ ‫م�صطفى رمزي (�سوريا)‬

‫‪� - 84‬آليات �إنتاج �شعر الأطفال‬ ‫الطاهر لكنيزي‬ ‫‪ - 88‬حدثتنا مرية ملي�س املرزوقي‬ ‫�سامح كعو�ش‬

‫‪ - 94‬ال�صورة ال�سينمائية وت�أثريها على الطفل العربي‬

‫ف�ؤاد زويريق‬

‫التـحـريــر‬

‫‪ - 97‬م�رسح الطفل يف الإمارات‬ ‫د‪.‬هيثم يحيى اخلواجة‬

‫‪dr.riadagha@hotmail.com‬‬ ‫‪fatehz@yahoo.com‬‬

‫ت�شكيل‬

‫ ‬

‫‪ - 102‬الفنان الت�شكيلي عبد الرحمن زينل املواءمة بني‬ ‫الرتاث واملعا�رصة‬ ‫د‪.‬حممود �شاهني‬ ‫‪ - 110‬الفنانة ال�سعودية عال حجازي‬ ‫جممد العامري‬

‫هـاتف‪00971 2 4916333 :‬‬

‫فـاك�س‪00971 2 2221288 :‬‬

‫�أبوظبي للإعالم ‪ -‬توزيع‬ ‫الرقم املجاين‪8002220 :‬‬ ‫فاك�س‪+971 - 02-4145050 :‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪distribution@admedia.ae‬‬

‫‪5‬‬


‫‪158‬‬

‫�ضيف العدد الفنان االنطباعي العاملي فين�سنت فان غوخ‬ ‫‪6‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫سؤال الثقافة‬ ‫يوم للطفولة يف العامل‬ ‫جميل �أن يخ�ص�ص العامل يوماً لالحتفال بالطفولة‪،‬‬ ‫وق��د اختارته الأمم املتحدة تو�صية لأع�ضائها عام‬ ‫‪ 1954‬واختارت ج ّل دول العامل �أن يكون هذا اليوم هو‬ ‫اخلام�س من نوفمرب من كل عام‪ ،‬تكرمياً لكونه يوم‬ ‫�إعالن حقوق الطفل‪ ،‬وهو يوم يهدف �إىل تعزيز قيم‬ ‫الت�آخي بني �أطفال العامل‪ ،‬و�إىل االحتفاء بالطفولة‬ ‫مرحاً ولعباً وفنوناً و�إبداعاً‪.‬‬ ‫وق��د �آث��رن��ا يف جملة الإم� ��ارات الثقافية �أن نواكب‬ ‫احلدث‪ ،‬و�أن يكون ملف هذا العدد عن �أدب الطفولة‬ ‫وف �ن��ون �ه��ا‪ ،‬ل �ن ��ؤدي ج� ��زءاً م��ن واج �ب �ن��ا جت ��اه ف�ل��ذات‬ ‫�أك �ب��ادن��ا‪ ،‬م�ست�ضيئني بقب�سات م��ن فكر امل�غ�ف��ور له‬ ‫ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬وقد كان‬ ‫االهتمام بالطفولة ورعايتها من خمتلف اجلوانب‬ ‫يف مقدمة اهتماماته‪ ،‬وهو ال��ذي �أ�صدر �سنة ‪2003‬‬ ‫القانون االحتادي رقم (‪ )1‬القا�ضي ب�إن�شاء املجل�س‬ ‫الأعلى للأمومة والطفولة‪ .‬وتفخر الإم��ارات اليوم‬ ‫مبا يحظى به �أطفالها من رعاية واهتمام من قيادة‬ ‫الدولة‪ ،‬وعلى ر�أ�سها �صاحب ال�سمو ال�شيخ خليفة بن‬ ‫زايد �آل نهيان رئي�س الدولة حفظه اهلل‪ .‬وهذا امللف‬ ‫الذي تقدمه الإم��ارات الثقافية لقرائها‪ ،‬هو خطوة‬ ‫م��ن خ�ط��وات ك�ث�يرة �أع��ده��ا م��رك��ز زاي��د ب��ن �سلطان‬ ‫للثقافة والإع�ل�ام بتوجيه من �سمو ال�شيخ �سلطان‬ ‫بن زايد �آل نهيان‪ ،‬للنهو�ض واالرتقاء بثقافة الطفل‬ ‫العربي عموماً‪ ،‬والإماراتي خ�صو�صاً‪.‬‬ ‫�إننا نق ّدر ما يواجهه الطفل العربي من معاناة على‬ ‫�صعد خمتلفة‪ ،‬وهو ما يدعو الأمة �إىل مزيد من‬ ‫االهتمام برعاية الطفولة لأنها �صناعة امل�ستقبل‪،‬‬ ‫وندعو اهلل �أن يكون القادم من الأيام �أجمل و�أبهى‬ ‫للطفولة مرددين مع �شاعر �سورية الكبري بدوي‬ ‫اجلبل دعاءه ال�شهري‪:‬‬ ‫رب م � ��ن �أج� � � ��ل ال� �ط� �ف ��ول ��ة وح ��ده ��ا‬ ‫وي � � ��ا ّ‬ ‫ً‬ ‫�أف � ��� ��ض ب� ��رك� ��ات ال �� �س �ل��م �� �ش ��رق� �ا وم� �غ ��رب ��ا‬

‫نقد و�إبداع‬

‫‪ - 118‬الأر�ض قنبلة موقوتة‬ ‫د‪� .‬شهاب غامن‬

‫‪ - 122‬مناجاة النف�س يف ق�صيدة �شدو ال�سكون‬ ‫لل�شاعرة ال�شيخة هند �صقر القا�سمي‬ ‫د‪.‬عمر عتيق‬ ‫‪ - 128‬عن الأم�س ق�صيدة �شعر‬ ‫عازار جنار‬

‫‪ - 131‬يا طيور‬ ‫د‪ .‬نايف علي عبيد‬

‫‪ - 132‬ق�صتان للأطفال‬ ‫م�صطفى ملح‬

‫‪ - 136‬الرحلة من الن�ص ال�شفاهي �إىل الن�ص املكتوب‬ ‫�أ�سماء الزرعوين‬

‫‪ - 138‬من �أنت �أيها املالك لإبراهيم الكوين‬ ‫د‪ .‬يو�سف حطيني‬ ‫‪ - 146‬ال�رس الغام�ض لت�شارلز ديكنز‬

‫توفيق الأ�سدي‬

‫‪ - 150‬يو�سا والإيرو�سية وفتنة الرواية‬ ‫حممد عطية حممود‬

‫اخلراط ومي�شال بوتور‬ ‫‪ - 158‬مدار وذاكرتان‪ ،‬ادوارد ّ‬ ‫د‪ .‬حممد فاحت زغل‬ ‫‪ - 164‬جتربة الأم بني الوهم واحلقيقة‬ ‫د‪ .‬حممد الداهي‬

‫‪ - 168‬تيني�سي‪ ..‬كازان‪ ..‬وبراندو‪ ..‬يف عربة ا�سمها الرغبة‬ ‫مانيا �سويد‬

‫‪ - 172‬م�شاهدات حاج عثماين يف مكة‬ ‫د‪ .‬عمرو عبد العزيز منري‬

‫‪ - 176‬ال�رشق يف مر�آة الفنانني الفرن�سيني‬ ‫هدى الزين‬

‫‪ - 186‬قطوف من احلياة للدكتور �سامي �صربي القباين‬ ‫د‪.‬غالب خاليلي‬

‫‪ - 190‬امل�رسح يف الإمارات‬ ‫هويدا �صالح‬

‫‪� - 194‬أما بعد‬ ‫فاطمة املزروعي‬

‫د‪ .‬ريا�ض نع�سان �آغا‬ ‫رئي�س التحريــر‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪7‬‬


‫فكر‬ ‫�أحمد يو�سف داود‬ ‫�سوريا‬

‫الشرق والغرب‪..‬‬

‫االختالف الثقافي والقيمي‬ ‫يذكر �أرنولد توينبي يف كتابه (تاريخ الب�رشية) �أن �أوروب��ا ظلت حتى‬ ‫وقت مت�أخر من القرن الع�رشين تعترب �سائر ال�شعوب والأمم غري الأوروبية‬ ‫(خارج التاريخ ) حتى "يت�أوربوا"‪� ،‬أي حتى يلتحقوا ب�أوروبا يف نظم‬ ‫معي�شتهم وطرائق تفكريهم و�سلوكهم ومنظومات قيمهم‪ ،‬ويف طرائق‬ ‫بناء م�ؤ�س�ساتهم‪ :‬ال�سيا�سية‪ ،‬والقانونية واالقت�صادية‪� ..‬إىل �آخره‪ .‬وبالتايل‬ ‫حتى ي�أخذوا بثقافة �أوروبا باملعنى ال�شامل لكلمة (ثقافة)‪ .‬وقد ذكر ذلك‬ ‫باعتباره م�أخذاً م�شين ًا على �أوروبا‪.‬‬ ‫ي�ؤكد املفكر العربي الكبري �إدوارد �سعيد ‪ -‬الذي عا�ش‬ ‫منذ يفاعته حتى وفاته يف الواليات املتحدة‪ ،‬ودر�س‬ ‫ود ّر�س وحا�ضر يف كربيات جامعاتها وانطلقت منها‬ ‫�شهرته التي �أ�صبحت عاملية‪� ،‬أن �أوروب��ا منذ بدء ما‬ ‫�سمته ع�صر نه�ضتها قد تعاملت مع بقية �أمم العامل‬ ‫على مقيا�س ع��دائ��ه��ا التاريخي للعرب خ�صو�ص ًا‬ ‫وللم�سلمني عموم ًا؛ باعتبارهم الأمنوذج لتلك الأمم‬ ‫دون ا�ستثناء‪ ،‬فكان ذلك م�سوغ ًا فكري ًا �أ�سا�سي ًا من‬ ‫م�سوغات حروبها اال�ستعمارية وحروبها الإبادية من‬ ‫�أجل اال�ستيطان يف قارتي العامل اجلديد‪ ،‬ويف فل�سطني‬ ‫‪8‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫وجنوب �إفريقيا من العامل القدمي‪.‬‬ ‫�أم��ا ال�شاعر الإنكليزي رودي��ار كبلنغ ال��ذي عا�ش يف‬ ‫الثلث الأخ�ير من القرن التا�سع ع�شر والثلث الأول‬ ‫من القرن الع�شرين فقد قال يف ق�صيدة م�شهورة‪:‬‬ ‫"ال�شرق �شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"‪ .‬ف�أكد بهذا‬ ‫التق�سيم �أن �أوروبا الغربية وا�ستطاالتها اال�ستيطانية‬ ‫هي (غ��رب) و�أن بقية العامل هو(�شرق) على مثال‬ ‫ب�لاد العرب امل�سلمني الذين هم يف الفكر الغربي‬ ‫(�أقدم اخل�صوم)‪.‬‬ ‫�إن هذا يقودنا �إىل وجوب النظر يف الفروق الأ�سا�سية‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫لقد قاد ادع��اء األخ��ذ بالمعجزة اإلغريقية كمرجعية عليا للنهضة األوروبية‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪9‬‬

‫إلى تجريد منجزات تلك النهضة من أية روحية حقيقية‪ ،‬مثلما جردها من أية منظومة قيمية‬

‫ب�ين الثقافة العربية ال��ت��ي �أق���� ّرت �أ���ص��ول��ه��ا بظهور‬ ‫الإ���س�لام‪ ،‬وت��ط��ورت �أن�ساقها‪ :‬املفهومية والقيمية‬ ‫والعلمية وال�سلوكية االجتماعية‪ ..‬وغريها‪ ،‬بالتفاعل‬ ‫مع خمتلف ما تهي�أ لها االت�صال به من الثقافات‬ ‫املعا�صرة لها خالل �أكرث من �سبعة قرون‪.‬‬ ‫لي�س لدى �أي م�سلم ذرة �شك يف �أن الثقافة العربية‬ ‫الإ�سالمية ا�ستندت يف تكونها وتطورها �إىل (مرجعية‬ ‫�إلهية) متثلت يف القر�آن الكرمي املوحى به من اهلل‬ ‫�صح من احلديث‬ ‫�إىل النبي حممد (���ص)‪ ،‬ويف ما ّ‬ ‫الذي ثبت نقله عن النبي املو�صوف يف القر�آن ب�أنه‬

‫"ما ينطق عن الهوى"‪ .‬وقد �شهدت هذه املرجعية‬ ‫حرب ًا غربية �شعواء عليها منذ ق��رون طويلة‪ ،‬لكنها‬ ‫بلغت احل ّد الأعلى من ال�ضراوة ال�سافلة خالل العقود‬ ‫الثالثة املا�ضية وخ�صو�ص ًا يف ال�سنوات الأخرية‪.‬‬ ‫وال ترجع ه��ذه ال�ضراوة �إىل خ�لاف ذي �أهمية بني‬ ‫م�سيحية �أوروبا وبني الإ�سالم املرتبط بالقر�آن والذي‬ ‫"نزل بل�سان عربي مبني"‪ .‬وخ�صو�ص ًا �أن الدعوة‬ ‫�إىل احلوار العاملي للأديان‪ ،‬ولقاءات هذا احلوار قد‬ ‫�أ�صبحت الآن واحدة من املطالب امللحوظة يف عالقات‬ ‫عاملنا الراهن‪ ،‬و�إن تكن غري ذات جدوى حا�سمة يف‬


‫مالكومل برادبريه‬

‫بيري رو�سيه‬

‫هذه العالقات املحكومة بامل�صالح‪،‬ح�سب تقديري‪.‬‬ ‫ويف احلقيقة ترجع تلك الهجمة ال�ضارية �إىل الإطار‬ ‫الفكري العام الذي بنيت عليه (نه�ضة �أوروبا!)‪ ،‬و�إىل‬ ‫النظام القيمي املرتابط معه يف ٍ ّ‬ ‫موحد يتكامل‬ ‫(كل) ّ‬ ‫مع ا�ستهدافات �أ�سا�سية مل تزل ثابتة منذ بدء النه�ضة‬ ‫حتى هذه اللحظة‪ .‬وميكن القول �إن �سائر منجزات‬ ‫النه�ضة يف �سائر امليادين الفكرية والعلمية والتقنية‬ ‫و�ضعت‪ -‬يف املح�صلة‬ ‫والدبية والفنية وغريها قد ِ‬ ‫الإجمالية لتطورها حتى الآن يف خانة العدائية لبقية‬ ‫�شعوب العامل‪ ،‬وخانة العدوانية ال�شر�سة عليها‪ .‬وقد‬ ‫و�صلت حال ال�شرا�سة هذه �إىل �أن تندفع �أوروبا ذاتها‬ ‫نحو االنتحار الذاتي يف جملة من احلروب‪ ،‬كان من‬ ‫�أبرزها و�آخرها احلربان العامليتان الأوىل والثانية‪،‬‬ ‫مم��ا �أدى الن��ت��ق��ال ال���دور ال��ق��ي��ادي منها �إىل �أب��رز‬ ‫ا�ستطاالتها اال�ستيطانية‪ :‬الواليات املتحدة الأمريكية‪.‬‬ ‫�أم���ا مل���اذا ك��ان��ت – والت����زال‪ -‬العدائية والعدوانية‬ ‫الأوروبية‪/‬الأمريكية ال�شديدة موجهة �ضد العرب‬ ‫ب�شكل خا�ص و�ضد امل�سلمني ب�شكل ع��ام‪ ،‬ف���إن لذلك‬ ‫�أ�سباب ًا تاريخية وجيو ا�سرتاتيجية معقدة‪ .‬فالوطن‬ ‫العربي يواجه �أوروب���ا جغرافي ًا من اجلنوب باجتاه‬ ‫�إفريقيا‪ ،‬وم��ن ال�شرق باجتاه �آ�سيا مواجهة كاملة‬ ‫ت��ق��ري��ب�� ًا‪ ..‬كما يحتوي على �أه���م امل��م��رات البحرية‬ ‫اال�سرتاتيجية العاملية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل امتالكه –‬ ‫‪10‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫روديارد كبلنغ‬

‫وعمقه الإ�سالمي‪� -‬أهم ثروات العامل الرثوة الطاقية‪/‬‬ ‫ن�سغ احل�ضارة احلديثة ون�سغ احلياة الب�شرية كلها‪.‬‬ ‫�أم��ا بالن�سبة �إىل العالقات التاريخية واحل�سا�سية‬ ‫العدائية املتولدة عنها ف�إنها ترجع �إىل القرن الثالث‬ ‫ع�شر قبل امليالد‪( :‬غزوتي �شعوب البحر) على �آ�سيا‬ ‫ال�صغرى وم�صر و�سوريا �آنذاك‪ ،‬وكان عمر ح�ضاراتها‬ ‫يزيد على �ألفي عام بينما مل تكن تلك ال�شعوب الغازية‬ ‫القادمة من �أوروب���ا قد خرجت تقريب ًا من مرحلة‬ ‫ال��زراع��ة �شبه امل��رحت��ل��ة‪ .‬وا�ستمرت ال��غ��زوت��ان نحو‬ ‫قرن كامل قبل �إنهائهما‪ .‬وبعد ذلك توالت احلروب‬ ‫واحل��روب امل�ضادة من غزو الفر�س لليونان القدمية‬ ‫�إىل غزو الإ�سكندر املكدوين لل�شرق كله‪ ،‬حيث و�صل‬ ‫بجيو�شه �إىل �أفغان�ستان‪� ،‬إىل احتالل روم��ا مل�صر‬ ‫و�سوريا و�آ�سيا ال�صغرى‪ ،‬ثم دخول العرب امل�سلمني‬ ‫�إىل الأندل�س و�إقامتهم ح�ضارة مزدهرة فيها دامت‬ ‫نحو ًا من �سبعة ق��رون‪ ،‬و�أخ�ي�ر ًا‪ :‬احل��روب ال�صليبية‬ ‫التي ب��د�أت يف نهاية القرن احل��ادي ع�شر امليالدي‪،‬‬ ‫وا�ستمرت �أكرث من قرنني الحقني‪ .‬لكن ابتداء ع�صر‬ ‫نه�ضة �أوروبا ال ي�ؤ ّرخ له ر�سمي ًا �إ ّال يف عام ‪ 1492‬عام‬ ‫�سقوط غرناطة �آخر معاقل العرب يف الأندل�س‪ ،‬بعد‬ ‫��روب متقطعة �ضد بقية احلوا�ضر العربية هناك‬ ‫ح ٍ‬ ‫دامت �أق ّل بقليل من خم�سة قرون متوا�صلة‪.‬‬ ‫�إن هذا كله قد لعب دور ًا حموري ًا يف ا�ستبناء �أوروبا‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫للنظام الفكري‪ /‬القيمي الذي ارتكزت عليه نه�ضة‬ ‫�أوروب���ا وا�ستهدافاتها وتطوراتها‪� ،‬أي �إن ذل��ك لعب‬ ‫دور املحفز الرئي�سي يف ت�ش ّكل ثقافة �أوروبا احلديثة‬ ‫ٌ‬ ‫مرتابط �صميمي ًا ب�صرف‬ ‫برمتها‪ ،‬ومبا هي ك ٌّل متكام ٌل‬ ‫النظر عن ميادينها ومتظهرات معطياتها الواقعية‬ ‫ال�شمولية‪.‬‬ ‫بعد كل ما تق ّدم ن�ستطيع الآن �إجراء مقاربة �سريعة‬ ‫�أو م��وج��زة لأ���س�����س ذل��ك ال��ن��ظ��ام الفكري‪/‬القيمي‬ ‫وا�ستهدافاته مما قامت عليه نه�ضة �أوروبا وتطورت‬ ‫منه ثقافتها اجما ًال‪ ،‬كيما نتمكن بعد ذلك من �إجراء‬ ‫مقارنة بني �أهم مرتكزات ك ّل من الثقافتني العربية‬ ‫والأوروبية‪ ،‬ونخل�ص �إىل ما قد يكون ذا �أهمية بالغة‬ ‫من النتائج والفروقات اجلذرية بينهما‪.‬‬ ‫ميكننا �إيجاز النظام الفكري‪/‬القيمي وا�ستهدافاته‬ ‫يف تلك النه�ضة بالت�سمية ال�شائعة املعروفة‪( :‬نظرية‬ ‫املركزية الأوروبية)‪� ،‬أو بالأحرى (متركز �أوروبا على‬ ‫ذاتها) وفق ًا لإ�شارة توميبي يف بدء هذه املقالة‪.‬‬ ‫�إن التمركز على الذات هو ٌ‬ ‫مر�ض ي�صيب ال�شخ�صية‬ ‫ الفردية واجلمعية ‪ -‬وي�ش ّوه تفكريها و�سلوكها‪،‬‬‫وبالتايل نظرتها �إىل الواقع و�إىل الآخرين‪ ،‬فتت�ش ّوه‬ ‫بذلك عالقاتها معهم‪ ،‬وي�ؤدي هذا �إىل انحراف مع ّقد‬ ‫ومع�ضل يف تقومي ال�شخ�صية امل�صابة بالتمركز املذكور‬ ‫لكل ما يحيط بها وما تراه �أو تواجهه‪ .‬ويتعزّز بذلك‬ ‫العدد‬

‫انحراف القيم التي و ّلدها ذلك املر�ض الذي يجب‬ ‫�أن نالحظ �أنه يف حال �إ�صابة اجلماعات واملجتمعات‬ ‫به ي�صبح �أ�شد فداحة و�ضرر ًا‪ ،‬وت�صبح ال�شخ�صية‬ ‫�أ���ش�� ّد ان��ح��راف�� ًا‪ ،‬وه��ذا هو ح��ال �أوروب���ا وا�ستطاالتها‬ ‫اال�ستيطانية منذ بداية (نه�ضتها!) حتى الآن‪ .‬و�إذا‬ ‫كانت الثقافة العربية الإ�سالمية قد اعتمدت �إجما ًال‬ ‫على مرجعيتها الإلهية ف�إن �أوروبا قد انتقت لنف�سها‬ ‫انتقا ًء (مرجعية مفربكة) فربكة كاملة‪ ،‬فقد زعم‬ ‫منظروها – ومازالوا – �أنّ النه�ضة قد ا�ستندت �إىل‬ ‫احد‬ ‫(معجزتني!!) اثنتني مل ي�ستفد �أ�صحابهما من ٍ‬ ‫قبلهما وهما‪:‬‬ ‫ املعجزة الإغريقية يف الفل�سفة والعلوم‪.‬‬‫ املعجزة العربانية يف ( التوحيد!)‬‫فق�سموا‬ ‫ثم �أكملوا الفربكة باخرتاع النظرية العرقية‪ّ ،‬‬ ‫العامل القدمي �إىل عرقني اثنني‪:‬‬ ‫ العرق ال�سامي اخلامل‪.‬‬‫ العرق الآري املبدع‪.‬‬‫وينفي الربوفي�سور( بيري رو�سي) يف كتابه (مدينة‬ ‫�إيزي�س‪ -‬التاريخ احلقيقي للعرب) هاتني املعجزتني‬ ‫�سامي لي�ست‬ ‫ويدح�ضهما بقوة‪� .‬إن��ه ي�ؤكد �أن كلمة‬ ‫ّ‬ ‫�أكرث من ن�سبة �إىل �شخ�صية �أ�سطورية هي(�سام بن‬ ‫نوح)‪ ،‬ولذلك ف�إن احلديث عن (عرق �سامي) لي�س‬ ‫�إ ّال �أكذوبة معرفية كربى لإلغاء العرب الذين مل�ؤوا‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪11‬‬


‫تبعًا للتوجه المادي النفعي المبتذل كمحور الستهدافات النهضة‪ ،‬فإن درجة إنسانية هذا (اإلنسان)‬ ‫تتحدد بحجم ملكيته للثروة‪ .‬وكلما كبرت تلك الثروة كثرت حقوقه وتضاءلت واجباته‪ ،‬والعكس صحيح!‬ ‫ّ‬

‫ح��و���ض املتو�سط مب��ا �أب��دع��وه‬ ‫منذ بدء احل�ضارة‪ .‬ثم ي�ضيف‬ ‫�أن الإغريق مل يكونوا �إ ّال �شرفة‬ ‫يف ذلك البناء العربي ال�ضخم‬ ‫باعرتاف هريودوت�س نف�سه!‪.‬‬ ‫�أم���ا ع��ن ال��ع��رق الآري املبدع‬ ‫ال�����ذي ت���زع���م �أوروب��������ا �أن��ه��ا‬ ‫والإغ���ري���ق م��ع�� ًا ينتمون �إل��ي��ه‬ ‫�صاف"‬ ‫فيقول‪�" :‬إنه اخ�تراع ٍ‬ ‫م��ن �أج��ل التقابل م��ع �أك��ذوب��ة‬ ‫ال��ع��رق ال�سامي اخل��ام��ل! ويف‬ ‫املمار�سة العملية الأوروبية نرى‬ ‫�أن الن�سبة لل�سامية اقت�صرت‬ ‫املمجدين بحجة‬ ‫على اليهود َّ‬ ‫�أن ال�سيد امل�سيح ظهر بينهم!‪.‬‬ ‫وال �شك �أن وراء الأكمة ما وراءها كما يقال! على �أن ما‬ ‫يهمنا لي�س هو الأخذ مبعجزة التوحيد عند العربانيني‪،‬‬ ‫فالأوروبيون حتى وقت مت�أخر ما كانوا يطيقون اليهود‬ ‫من جهة‪ ،‬ومن جهة �أخ��رى هم مل يتمكنوا من متثل‬ ‫الروحية اجلليلة يف امل�سيحية‪ ،‬كما �أنهم مل يعملوا يوم ًا‬ ‫بقيمها النبيلة لأ�سباب كثرية لي�س هنا مو�ضع اخلو�ض‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫�إن ما يهمنا هو ادع��اء الأخ��ذ باملعجزة الإغريقية‪،‬‬ ‫واالخرتاع املفربك للنظرية العرقية مع ادعاء االنتماء‬ ‫�إىل العرق الوحيد املتف ّوق!‪ .‬لقد ق��اد ادع��اء الأخ��ذ‬ ‫باملعجزة الإغريقية كمرجعية عليا للنه�ضة الأوروبية‬ ‫�إىل جتريد منجزات تلك النه�ضة م��ن �أي��ة روحية‬ ‫حقيقية‪ ،‬مثلما جردها من �أية منظومة قيمية با�ستثناء‬ ‫(القيم النفعية) التي ال تتجاوز ح ّد (الفردية) �شبه‬ ‫املطلقة‪ .‬وهي يف نهاية املطاف منظومة قيم حمورها‬ ‫‪12‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫هو متلُّك ال�ثروة ب�أية و�سيلة متاحة ومن � ّأي (�آخر)‬ ‫حتى لو كان مواطن ًا وج��ار ًا‪� .‬أ ّم��ا خملوقات البلدان‬ ‫غري الأوروبية‪ ،‬فكل ما لديهم مباح �أو قيد اال�ستباحة‬ ‫تبع ًا الحتياجات الأوروبيني‪ ،‬ولو ت���أ ْورب املالكون من‬ ‫تلك املخلوقات‪ ،‬لأن ذلك يف الأ�صل حق للعرق املتفوق‬ ‫وحده ح�سب اعتبارات �أوروبا!‪ .‬و�إذا �أ�ضفنا �إىل ذلك‬ ‫ما يرتتب على فكرة (العرق املتف ّوق) من عن�صرية‬ ‫مقيتة وازدراء م�شني وم��ن ح ٍ��ق يف التالعب املاكر‬ ‫مب�صائر (الأعراق الدنيا اخلاملة!) ف�إننا �سن�صل �إىل‬ ‫كثري من النتائج اخلطرية‪ ،‬من �أهمها‪:‬‬ ‫ �إنّ (الإن�����س��ان) ه��و الأوروب����ي الأبي�ض ذو الأ�صل‬‫الآري فقط!‪ .‬و�سيتط ّور ذل��ك يف ال��والي��ات املتحدة‬ ‫لي�صبح‪( :‬الأوروب��ي الربوت�ستانتي من العرق الأجنلو‬ ‫�سك�سوين)‪.‬‬ ‫ ت��ب��ع�� ًا ل��ل��ت��وج��ه امل�����ادي ال��ن��ف��ع��ي امل��ب��ت��ذل كمحور‬‫ال���س��ت��ه��داف��ات النه�ضة‪ ،‬ف����إن درج���ة �إن�سانية هذا‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ولد م�صطلح احلداثة ر�سمي ًا على يد ال�شاعر الفرن�سي بودلري عام ‪1848‬‬ ‫الذي علم با�سم ( عام ربيع ال�شعوب)‪ .‬وبرغم �أن هذا امل�صطلح جرى‬ ‫ح�صره يف ال�شعر خ�صو�ص ًا‬ ‫(الإن�سان) تتح ّدد بحجم ملكيته للرثوة‪ .‬وكلما كربت‬ ‫تلك الرثوة كرثت حقوقه وت�ضاءلت واجباته‪ ،‬والعك�س‬ ‫�صحيح!‬ ‫ يح ّدد الأم���ران ال�سابقان معنى الفردية ومداها‬‫و�أهميتها‪ :‬لي�س فقط يف التك ّون الطبقي الداخلي‬ ‫للمجتمع الغربي الواحد‪� ،‬أو بني الأف��راد من طبقات‬ ‫خمتلفة‪� ،‬أو ب�ين الأف���راد داخ��ل الطبقة ال��واح��دة‪..‬‬ ‫بل هما �أي�ض ًا ‪ -‬و�أ�سا�س ًا‪ -‬ي�صوغان طبيعة الر�ؤية‬ ‫العامة لأم��ور مثل‪ :‬احل��ب وال���زواج واجلن�س وحرية‬ ‫الرجل وامل��ر�أة‪ ،‬وللكيفية التي ت�صاغ وفقها عالقات‬ ‫البن ّوة والأب ّوة‪ ،‬وم�سائل الإنفاق واال�ست�ضافة �إىل �آخر‬ ‫القائمة الطويلة للعالقات االجتماعية الب�سيطة‪ .‬وهي‬ ‫جميع ًا ق�ضايا تدور حولها الن�شاطات الفنية والفكرية‬ ‫والأدبية عموم ًا‪ ،‬كما �أنها حمكومة بالنفعية اخلال�صة‬ ‫والأنانية‪ ،‬مثلما �أنّ لها انعكا�سات وارتكا�سات ال ميكن‬ ‫ح�صرها‪.‬‬ ‫ ح�� ّف��زت النفعية ال��ف��ردي��ة وارت��ب��اط جملة القيم‬‫بامتالك الرثوة على �أمرين يف غاية الأهمية‪� :‬أولهما‬ ‫هو البحث يف ميادين العلوم املختلفة‪ -‬بال ا�ستثناء ‪-‬‬ ‫بحث ًا جتريبي ًا متوا�ص ًال من �أجل املزيد من اكت�شاف‬ ‫جملة ال��ق��وان�ين اخل��ا���ص��ة بكل ع��ل��م‪ ،‬وال��ع��ام��ل على‬ ‫تو�سع �أ�سواق العمل القائمة �إىل‬ ‫تطوير التقنيات التي ّ‬ ‫وحت�سن �أداءه��ا حت�سيناً‬ ‫احل��دود الق�صوى املمكنة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫متواتر االرتقاء‪ .‬وهذا كله يخلق مزيد ًا من احلاجات‬ ‫ال�ضرورية املتجددة للم�ستهلكني فيقود با�ستمرا ٍر �إىل‬ ‫املزيد من الربحية واملزيد من تركيم الرثوات‪ .‬ثانيهما‬ ‫هو �أن التطور ال�صناعي الوا�سع خلق‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫م���وروث اجل�شع التاريخي الطويل الم��ت�لاك ث��روات‬ ‫الآخرين غري الأوربيني‪ ،‬حاجة ملحة لغزو بقية بلدان‬ ‫العامل بذريعة افتتاح �أ�سواق جديدة‪ ،‬واحل�صول على‬ ‫العدد‬

‫امل��واد الأولية الالزمة لل�صناعة‪ ،‬والحق ًا‪ :‬لل�سيطرة‬ ‫على امل�صادر الطاقية‪ .‬فا�ستكمل ا�ستعمار ما تبقى من‬ ‫�آ�سيا و�إفريقيا خالل القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين‪،‬‬ ‫بينما عملت ال��والي��ات املتحدة على ب�سط هيمنتها‬ ‫ونفوذها الكامل يف الأمريكتني ال�شمالية واجلنوبية‬ ‫وما حولهما من اجلذر منذ ا�ستقاللها عام ‪ 1776‬ومل‬ ‫ت�سلم من ذلك �إ ّال كندا‪ .‬واحتاج هذا اال�ستعمار �إىل‬ ‫ع�سكرة وا�سعة راح��ت ت��زداد ات�ساع ًا وتطور ًا يف �آلة‬ ‫احلرب مع ازدي��اد حدة الت�صارع بني خمتلف الدول‬ ‫امل�ستعمِ رة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ ول��د م�صطلح احل��داث��ة ر�سميا على ي��د ال�شاعر‬‫الفرن�سي بودلري عام ‪ 1848‬الذي علم با�سم ( عام‬ ‫ربيع ال�شعوب)‪ .‬وبرغم �أن هذا امل�صطلح جرى ح�صره‬ ‫يف ال�شعر خ�صو�ص ًا‪ ،‬ويف الأدب والفن ب�شكل عام ف�إنه‬ ‫�شامل يف �أوروبا) ّ‬ ‫ودل عليه‪.‬‬ ‫قد انبثق من ( مناخ تطو ٍر ٍ‬ ‫ويتمثل ذلك املناخ ال�شامل يف انتقال ال�صناعة و�أدوات‬ ‫النقل التجارية البحرية خ�صو�ص ًا �إىل املكننة‪ ،‬هذا من‬ ‫جهة‪ ..‬ومن جهة �أخرى جرى انتقال وا�سع من الريف‬ ‫وم��ن امل�ستعمرات �إىل امل��دن الأوروب��ي��ة التي راح��ت‬ ‫بهذا االنتقال ت�أخذ �شكلها احلديث مثلما تتو�ضح‬ ‫فيها التق�سيمات الطبقية‪ ،‬وتتولد فيها اللغة الواحدة‬ ‫م��ن خالئط اللهجات املحل ّية‪ ،‬وم��ن لغات ولكنات‬ ‫��اب خمتلفة وتلك‬ ‫القادمني م��ن امل�ستعمرات لأ���س��ب ٍ‬ ‫اللغات �أحدثت تغيريات جذرية‪ :‬تعبريية ومفهومية‪،‬‬ ‫يف الفنون القولية للأجنا�س الأدبية اجلديدة‪ .‬وهكذا‬ ‫مت اعتبارها احلامل احلداثي الرئي�سي لأجواء ذلك‬ ‫التطور وم�ستجراته‪ .‬وبرغم كرثة الكتب ال�صادرة عن‬ ‫(احلداثة) ف�إن �أحد ًا مل ي�ستطع حتديد مدلولها بدقة‬ ‫�أو و�ضع تعريف �شامل يو�ضح مفهومها تو�ضيح ًا �شافي ًا‪،‬‬ ‫لكن امل�صطلح �شاع وع ّمم عاملي ًا باعتباره دا ًال على �أحد‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪13‬‬


‫األم�����ة ال��ع��رب��ي��ة ل���م ت���ع���رف م��ن��اخ��ًا ت���ط���وري���ًا م��ش��اب��ه��ًا ل��م��ن��اخ ال���ح���داث���ة ف���ي أوروب�����ا‬

‫�أهم منجزات النه�ضة‪ .‬وقد جعله هذا االعتبار املطلب‬ ‫الأهم ملثقفي امل�ستعمرات‪ ،‬خا�صة بعد اال�ستقالل‪.‬‬ ‫ يزعم الغرب الأوروب��ي وا�ستطاالته اال�ستيطانية ‪-‬‬‫خ�صو�ص ًا دولة الواليات املتحدة – �أن النه�ضة قامت‬ ‫على العلمانية واتباع مبد�أ ف�صل الدين عن الدولة‪،‬‬ ‫لكن ما حدث حقيقة هو �أن مبد�أ النفعية املطلقة وغري‬ ‫امل�شروطة ب�أي �شرط‪ ،‬والذي كان – وال يزال – �أ�سا�س‬ ‫النه�ضة وغايتها الكلية‪ ،‬مل يكن ممكن التحقق �إ ّال‬ ‫ب�إلغاء كل ما هو روحي و�إزالته من م�سار تلك النه�ضة‬ ‫و�صريورتها‪.‬‬ ‫وب�صرف النظر عن تاريخ الكهنوت الأوروبي وعالقته‬ ‫بالنفعية قبل بدء النه�ضة بقرون كثرية‪ ،‬ومن موقع‬ ‫التحكم بالنا�س واحلكام النبالء وامل��ل��وك‪ ،‬ف���إن ما‬ ‫فعله النه�ضويون لي�س �أكرث من �أنهم و�ضعوا الدين‬ ‫ورج���ال الكهنوت يف خدمة ال��دول��ة اجل��دي��دة‪ ،‬دول��ة‬ ‫الطغمة الر�أ�سمالية ال�صاعدة‪� .‬إنّ البعثات التب�شريية‬

‫‪14‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫كانت غالب ًا ما ت�سبق اجليو�ش �إىل البلدان امل�ستهدفة‬ ‫باال�ستعمار من �أج��ل التمهيد لتقبله و�إق��ام��ة نقاط‬ ‫ارتكاز له‪ ،‬و�إذا ت�أخرت ج��اءت لتعمل على ذلك يف‬ ‫ظله!‪� .‬أما اجلهاز املفاهيمي حلكام الواليات املتحدة‬ ‫فقد ب��د�أ قبل ا�ستقاللها مبئة و�سبعني عام ًا جهاز ًا‬ ‫ديني ًا‪( :‬كالفاني ًا – بروت�ستنتي ًا‪� -‬أجنليكاني ًا مه ّود ًا)‪،‬‬ ‫كل من االقت�صاد‬ ‫وهو م�ستمر حتى الآن بتحكمه يف ٍ‬ ‫وال�سيا�سة‪ ،‬وغريهما بامتياز �شامل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ يف �ضوء كل ما �سبق ذكره يت�ضح جليا ما الذي تعنيه‬‫فع ًال م�صطلحات مثل احلرية والدميقراطية وحقوق‬ ‫الإن�سان‪ ،‬وغريها مما يكرث الغربيون الإمربياليون من‬ ‫ترديده يف وجه كل �أم�� ٍة ترف�ض هيمنتهم‪ .‬و�سنكتفي‬ ‫بهذه الإ�شارة جتنب ًا للتكرار والإطالة‪.‬‬ ‫ يف بلد ك��ال��والي��ات املتحدة حيث ال ت��وج��د ح��دود‬‫حلرية البحث عن ال�ثروة �أو اقتنا�صها ب�أية و�سيلة‪،‬‬ ‫كان �أمر ًا طبيعيا �أن تن�ش�أ املافيات و�أن تتوطد �صالتها‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�أكد النبي العربي (�ص) �أنه "ال ف�ضل لعربي على‬ ‫�أعجمي‪ ،‬وال لأبي�ض على �أ�سود �إ ّال بالتقوى"‪.‬‬ ‫وهذه القاعدة اجلذرية للثقافة العربية ت�شري‬ ‫�إىل االختالف القطعي مع ثقافة �أوروبا‬

‫و�أن ( َت َت َب ْنينَ َ) امتداداتها داخل الأجهزة احلاكمة‪.‬‬ ‫ومع التطورات العا�صفة يف الن�صف الأول من القرن‬ ‫الع�شرين‪ ،‬تطورت ا�ساليب عملها وتنوعت ميادين‬ ‫ن�شاطاتها �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ومع و�صول ذلك البلد �إىل مركز القيادة للمع�سكر‬ ‫الإمربيايل املد َّمر بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬بد�أت‬ ‫الأج��ه��زة املخت�صة هناك بتطوير نوعي للمافيوية‬ ‫بنى جديدة م�ستحدثة لها‪ ،‬وراحت تعمل على‬ ‫وب�إنتاج ً‬ ‫ً‬ ‫ن�شرها حيثما �أمكنها ذل��ك‪ :‬خ�صو�صا يف الأو�ساط‬ ‫الإدارية واالقت�صادية وال�سيا�سية ملختلف دول العامل‬ ‫الثالث‪ -‬كما كان ي�سمى يف زمن احلرب الباردة –‬ ‫بغية اخرتاقها و�إحلاق تلك الدول بها وب�سيا�ساتها �إىل‬ ‫�أق�صى‬ ‫ح��دٍّ ممكن‪ .‬وق��د تنامى تعميم تلك املافيوية عاملياً‬ ‫خ�لال ال��رب��ع الأخ�ي�ر م��ن ال��ق��رن الع�شرين وم��ا تاله‬ ‫من �سنوات القرن اجلديد‪ ،‬وظهر املزيد من ال�صيغ‬ ‫املافيوية التي مل يكن لبع�ضها مثيل من قبل‪.‬‬ ‫ومنذ نهاية ال�سبعينيات من القرن املا�ضي تفاقم‬ ‫النزوع اال�ستهالكي يف العامل ومع ذلك التفاقم تعززت‬ ‫ثقافة اال�ستهالك التي حولتها املتغريات املعقدة �إىل‬ ‫ثقافة ف�ساد و�إف�ساد‪� ،‬أنهكت الكثري من بلدان العامل‪،‬‬ ‫ومل ت�سلم من ذلك حتى �أمريكا ذاتها‪ ،‬ويف الوقت عينه‬ ‫راحت الب�شرية ت�شهد موجة عاتية من التحلل‪ :‬ثقافي ًا‬ ‫وقيمي ًا و�أخالقي ًا‪ ،‬بلغت ذروتها مع االنت�شار ال�سريع‬ ‫ملا �أنتجته (الثورة التكنو �إلكرتونية) من خمرتعات‬ ‫�أحدثت تغيريات مذهلة وجذرية وح��ادة الت�أثري يف‬ ‫جممل الأو�ضاع الب�شرية عموم ًا‪ .‬وباملقابل‪ ،‬وبالتوازي‬ ‫مع ذلك كله عملت الدوائر الإمربيالية املت�صهينة‬ ‫على ت�شجيع نهو�ض الأ�صوليات يف العامل‪ ،‬وعلى �إعادة‬ ‫بنينتها مافيوي ًا‪ ،‬ف�أ�س�ست بذلك النت�شار ثقافة القتل‬ ‫العدد‬

‫والتدمري ملجرد القتل والتدمري حتت يافطات �شعارية‬ ‫كبرية‪ ،‬مع مالحظة �أن ذلك يتم جتيري نتائجه ل�صالح‬ ‫خمططات تلك الدوائر وا�ستهدافاته املعروفة‪.‬‬ ‫تلك كانت ن َب ٌذ موجزة جد ًا عن بع�ض �أهم العنا�صر‬ ‫املكونة لثقافة ال��غ��رب الأوروب����ي منذ ب��دء نه�ضته‪،‬‬ ‫وللتطورات املرتتبة على (عنا�صر التكوين) تلك عرب‬ ‫ب�ضعة قرون‪ ،‬وقد جتاوزنا عمد ًا بع�ض العنا�صر الهامة‬ ‫الأخرى كظاهرتي اال�ست�شراق واال�ستغراب‪ ،‬و�أ�شكال‬ ‫الثقافة العن�صرية داخل املجتمعات الغربية‪ ،‬و�صو ًال‬ ‫�إىل ما بات يعرف الآن با�سم (ثقافة ديفو�س)‪ .‬لكن‬ ‫التحليل وال�شرح يقت�ضيان الإطالة‪ ،‬وهذا ما نحاول‬ ‫حتا�شيه هنا‪.‬‬ ‫واملهم بالن�سبة �إلينا الآن هو �إلقاء نظرة �سريعة على‬ ‫ثقافتنا العربية‪� :‬أهم �أ�صولها ‪� -‬سريورة تطورها ‪-‬‬ ‫واقعها الراهن و�إف��رازات��ه‪� ...‬إلخ‪ .‬والأه��م هو �إظهار‬ ‫�أوج��ه االختالف اجلذرية بينها وب�ين ثقافة الغرب‬ ‫الإمربيايل‪ ،‬وهل ميكن التقا�ؤهما يف �آفاق جديدة �أم‬ ‫ال ؟!‪ .‬ولن يفوتنا التوكيد هنا �أن الكائن الب�شري هو‬ ‫خملوق ثقايف �أو ًال و�أخ�ير ًا‪ .‬و�سنبد�أ مبا نحن ب�صدد‬ ‫�إظ��ه��اره بالتذكري مبا كنا �أ�شرنا �إليه قب ًال من �أن‬ ‫مرجعية الثقافة العربية الإ�سالمية هي (مرجعية‬ ‫�إلهية) وبناء على ذلك ميكن �أن نقول ما يلي‪:‬‬ ‫ن�صت هذه املرجعية على �أن الإن�سان م�ستخلف يف‬ ‫ ّ‬‫الأر�ض‪ ،‬وعلى �أن امللك كله هلل‪ .‬فالإن�سان هكذا لي�س‬ ‫�أكرث من (منتفع) بخريات الأر�ض ال يحق له العبث‬ ‫مبا هو م�ستخلف فيه وال الإخ�لال بتوازناته‪ .‬ونحن‬ ‫هنا �أمام قاعدة افرتاق جذرية مع نظريتها يف ثقافة‬ ‫النه�ضة الأوروب��ي��ة‪ :‬قاعدة النفعية واحل�صول على‬ ‫ال�ثروة ب�أية و�سيلة‪ ،‬وتقدير درج��ة �إن�سانية الإن�سان‬ ‫بحجم ثروته!‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪15‬‬


‫إن ال��ح��داث��ة ال��ت��ي كثر الحديث عنها منذ منتصف ال��ق��رن الماضي ل��م تستطع أن ت��وج��د أفقًا‬ ‫لغويًا مختلفًا كثيرًا عن األف��ق القديم‪ ،‬في الشعر على وج��ه الخصوص‪ ،‬وف��ي غيره بصفة عامة‬

‫�إن التمركز على الذات هو ٌ‬ ‫مر�ض ي�صيب ال�شخ�صية‬ ‫ الفردية واجلمعية‪ -‬وي�ش ّوه تفكريها و�سلوكها‪،‬‬‫وبالتايل نظرتها �إىل الواقع و�إىل الآخرين‬

‫ن�صت هذه املرجعية �أي�ض ًا على �أن النا�س خلقوا‬ ‫ ّ‬‫من "نف�س واحدة"‪ ،‬وه��ذه النف�س خلق اهلل منها‬ ‫زوجها ثم بث من االثنني "رجا ًال كثري ًا ون�ساء"‪،‬‬ ‫وجعل اخللق "�شعوب ًا وقبائل" ليتوا�صلوا عن طريق‬ ‫ال��ت��ع��ارف‪ .‬ث��م ح�� ّدد �سبحانه ب��د ّق��ة قطعية م��ن هو‬ ‫الأكرم عنده �إذ قال "�إن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم"‪.‬‬ ‫والتقوى هي ال��ت��زام ما �أم��ر به اهلل واالنتهاء عما‬ ‫نهى عنه‪ ،‬وق��د �أك��د النبي العربي (���ص) �أن��ه "ال‬ ‫ف�ضل لعربي على �أعجمي‪ ،‬وال لأبي�ض على �أ�سود �إ ّال‬ ‫بالتقوى"‪ .‬وهذه القاعدة اجلذرية للثقافة العربية‬ ‫ت�شري �إىل االختالف القطعي مع ثقافة �أوروب��ا التي‬ ‫تعتمد على العرقية والعن�صرية‪.‬‬ ‫ن�صت هذه املرجعية كذلك على �أن "من قتل نف�س ًا‬ ‫ ّ‬‫بغري نف�س �أو ف�ساد يف الأر�ض فك�أمنا قتل النا�س جميع ًا‬ ‫ومن �أحياها فك�أمنا �أحيا النا�س جميع ًا"‪ .‬ومما ال ريب‬ ‫فيه �أن هذه القاعدة مل تكن تطبق دائم ًا خالل التاريخ‬ ‫العربي‪ :‬ال يف احلروب املختلفة‪ ،‬وال من قبل الطغاة‬ ‫من ال��والة واحلكام‪ ..‬غري �أن وجودها غالب ًا ما كان‬ ‫رادع ًا عن الإ�سراف يف القتل‪� ،‬أو حتى دافع ًا قوي ًا للعفو‬ ‫يف ظروف كثرية‪ .‬وبالت�أكيد ال ميكن �أن تُقارن القاعدة‬ ‫(النه�ضوية!) التي تبيح القتل والتدمري والإبادة من‬ ‫�أجل امتالك الرثوات �أو يف ال�صراعات على امتالكها‪،‬‬ ‫مب�ضمون هذه القاعدة الثقافية العربية‪.‬‬ ‫ ون�صت مرجعية ثقافتنا �أي�ض ًا على �أن اهلل ح ّرم‬‫الربا يف �أكرث من مو�ضع من القر�آن الكرمي‪ .‬ويف حجة‬ ‫الوداع ح ّرمه النبي ( �ص) و�أ�سقط ما كان منه على‬ ‫النا�س �آنذاك يف خطبته امل�شهورة يف تلك احلجة‪.‬‬ ‫توعد اهلل �سبحانه يف القر�آن الكرمي من يكنزون‬ ‫ ّ‬‫املال وال ينفقونه يف �سبيل اهلل ب�أ�شد العذاب يف الآخرة‪.‬‬ ‫وجعل �أي�ض ًا للفقراء ق��در ًا معلوم ًا من �أموالهم كما‬ ‫‪16‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫و�ص ّنفت جمموعة الإنفاقات‬ ‫جعله لل�سائل واملحروم‪ُ .‬‬ ‫�أو ال�صدقات �إىل ما هو فر�ض ي���ؤ َّدى �إىل بيت مال‬ ‫واخلراج)‪ ،‬و�إىل ما هو �إح�سا ٌن جرى‬ ‫امل�سلمني (الزكاة ِ‬ ‫ّ‬ ‫احل�ض عليه يف كثري من الن�صو�ص القر�آنية ون�صو�ص‬ ‫ال�س ّنة النبوية‪ ،‬ويف �أحوال غري قليلة‪.‬‬ ‫ عموم ًا �إن من يقر�أ الأوامر والنواهي التي �أمر بها‬‫القر�آن الكرمي وال�س ّنة النبو ّية يجد �أنها تتناول خمتلف‬ ‫جوانب احلياة‪ ،‬فتنظمها تنظيم ًا متوازن ًا يجعل التوازن‬ ‫قائم ًا يف الأو�ضاع االجتماعية عامة ومينع الإخالل بها‬ ‫نهائي ًا‪ .‬وتف�صيل ذلك يطول كثري ًا لكننا نذكر على‬ ‫وجه اخل�صو�ص ما يتعلق ب�أداء الأمانات �إىل �أهلها‪،‬‬ ‫وم��ا يتعلق منها بتحرمي الغ�ش والر�شوة والتالعب‬ ‫بالكيل وامليزان‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫من امل���ؤك��د �أن ه��ذه القواعد مبجملها‪ -‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫منها ما يتعلق ب�أمور املال‪ -‬قد ُخرقت منذ �أن حتولت‬ ‫اخلالفة �إىل ( ُملك ع�ضو�ض)!‪ .‬وم��ع والدة الكثري‬ ‫من املذاهب املتحاربة فيما بينها نتيجة للخالفات‬ ‫بني امل�سلمني ونتيجة للتفاعالت الثقافية ذات العمق‬ ‫الوا�سع مع فل�سفة اليونان من جهة‪ ،‬ومع منقوالت من‬ ‫الديانات‪ :‬املجو�سية وال�صابئية والهندية الوافدة ومع‬ ‫اليهودية الق ّرائية والقبالية (الرب ّية) وغريها من‬ ‫جهة �أخرى‪ ،‬ثم متزّق الدولة الإ�سالمية �إىل �إمارات‬ ‫وممالك �صغرية غالب ًا ما كانت متحاربة �أي�ض ًا من‬ ‫جهة ثالثة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ما رافق ذلك كله من ا�ستئثار‬ ‫احلكام وال�سالطني وق��ادة اجلند واملتنفذين باملال‬ ‫العام وم��وارده‪� ،‬أ�صبحت اخلروقات فادحة فا�ضحة‬ ‫وخم ّلة بالإ�سالم ال�صحيح ‪ -‬يف م�ستوى النخبة على‬ ‫الأق��ل‪ -‬لكنّ ب�سطاء النا�س قد ظ ّلوا ملتزمني بتلك‬ ‫ال��ق��واع��د ال��ت��زام�� ًا م��ق��ب��و ًال �إىل ح�� ّد ك��ب�ير‪ .‬ويالحظ‬ ‫هنا �أن اللغة العربية الف�صحى ال تزال ثابتة املعامل‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ميكننا �إيجاز النظام الفكري‪/‬القيمي‬ ‫وا�ستهدافاته يف تلك النه�ضة بالت�سمية ال�شائعة‬ ‫املعروفة‪( :‬نظرية املركزية الأوروبية)‪� ،‬أو‬ ‫بالأحرى (متركز �أوروبا على ذاتها)‬

‫متثال ابن خلدون‬

‫واملحموالت منذ �صدر الإ�سالم‪ ،‬ورمبا منذ ما قبله‬ ‫بقرون كثرية‪ .‬ولذلك ف�إن احلداثة التي كرث احلديث‬ ‫عنها منذ منت�صف القرن املا�ضي مل ت�ستطع �أن توجد‬ ‫�أفق ًا لغوي ًا خمتلف ًا كثري ًا عن الأفق القدمي‪ ،‬يف ال�شعر‬ ‫على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬ويف غريه ب�صفة عامة‪.‬‬ ‫ويف تقديرنا �أن �أهم �سبب لذلك هو �أن بلدان الأمة‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة مل ت��ع��رف م��ن��اخ�� ًا ت��ط��وري�� ًا م�شابه ًا ملناخ‬ ‫احل��داث��ة يف �أوروب����ا‪ .‬كما �أنّ ثبات حم��م��والت اللغة‬ ‫(وهي حمموالت رعوية‪ -‬زراعية‪ِ -‬حرفية‪ ،‬مل تدخلها‬ ‫م�ستجدات معا�صرة دخ��و ًال حقيقي ًا) قد حال بدوره‬ ‫دون �إنتاج احلداثة الأدبية‪/‬الفنية املطلوبة‪.‬‬ ‫وت�شري طبيعة اللغة العربية ال�سائدة منذ م��ا قبل‬ ‫الإ����س�ل�ام ب��ق��رون (اال���ش��ت��ق��اق‪ -‬ع�لاق��ات �سال�سل‬ ‫الألفاظ‪ ..‬وما �إىل ذلك) �إىل ا�ستمرار البنية القرابية‬ ‫يف ال��واق��ع االج��ت��م��اع��ي‪ ،‬و�إىل ا���س��ت��م��رار الرتاتبية‬ ‫االجتماعية املرتبطة بالقرابة واملتحكمة عموم ًا‬ ‫بالعالقات املجتمعية‪ ،‬الأمر الذي يعني انعدام االنتقال‬ ‫�إىل (املجتمع) باملعنى الأوروبي املعا�صر‪ .‬وبالتايل �إىل‬ ‫بنية ال�سلطات يف خمتلف البلدان العربية‪.‬‬ ‫�أ ّما يف جمال االقت�صاد‪ ،‬فنظر ًا �إىل التبعية التي وقعت‬ ‫فيها �أقطار الوطن العربي للغرب الأوروب��ي‪ ،‬ونظر ًا‬

‫العدد‬

‫�إىل النهب ال��ذي �ساد احلقبة اال�ستعمارية وجعل‬ ‫من ه��ذه الأق��ط��ار جم�� ّرد �أ���س��واق لت�صريف منتجات‬ ‫الغرب وم�صدر ًا للمواد الأولية – وخ�صو�ص ًا للموارد‬ ‫الطاقية‪ :‬النفط‪ -‬ف�إنّ ال�صناعة ظلت ب�سيطة ب�سبب‬ ‫م�صادرة الغرب لقيامها‪ ،‬كما راح��ت ت��زداد جتزئة‬ ‫هذا الوطن وخالفات �أقطاره حتى �إنّ تبادل الكتب‬ ‫بينها مث ًال تكاد تكون �شديدة ال�ض�آلة‪ ،‬ال بل معدومة‬ ‫يف بع�ض الأحيان بني كثري من هذه الأقطار‪.‬‬ ‫�إنّ ما هو منتظر وم�أمول �أن يحقق العرب قفزة باجتاه‬ ‫موحدة على غرار‬ ‫الت�صنيع الالزم وباجتاه خلق �سوق ّ‬ ‫ال�سوق الأوروبية امل�شرتكة مث ًال‪ ،‬فتتحقق بالتايل حال‬ ‫ثقافية متوائمة مع منجزات تلك القفزة‪ .‬و�سيزداد‬ ‫ا�شتغال املرجعية الإلهية التي هي ‪ -‬كما �سبق �أن‬ ‫حددنا بع�ض تف�صيالتها‪ -‬يف منتهى الإن�سانية والنبل‬ ‫والرقي الأخالقي‪ .‬و�إذا ما حدث ذلك ف�سوف حتقق‬ ‫الأمة العربية نقلة نوعية كربى يف ارتقاء احل�ضارة‬ ‫و�إ�صالح عطبها القائم الآن‪ ،‬وتلك مهمة قامت بها‬ ‫هذه الأمة م ّرات عديدة عرب التاريخ‪.‬‬ ‫�إذا ما ُعدنا الآن �إىل املقارنة بني �أ�س�س املرجعيتني‬ ‫اللتني تتواجهان يف احلقيقة تواجه ًا جذري ًا ف�إننا‬ ‫�سوف ندرك مدى اختالف ال�شرق العربي الإ�سالمي‬ ‫عن الغرب و�أبعاده‪ ،‬ونعرف �أنهما غري قادرين فع ًال‬ ‫على االلتقاء يف نهاية املطاف ما مل تتغري نظرة‬ ‫ال��غ��رب �إىل ال��ع��امل وتتغري الأ���س�����س املرجعية التي‬ ‫يتعامل بها معه كي تكت�سب بعد ًا �أخالقي ًا �إن�ساني ًا‬ ‫ه��ادف�� ًا �إىل جعل التقدم العلمي والتقني مك ّر�س ًا‬ ‫خلدمة الب�شرية جمعاء والح�ترام �إن�سانية الب�شر‬ ‫وامل�ساواة بينهم �أينما وج��دوا‪ .‬ومن دون ذلك ف�إنّ‬ ‫ذلك التق ّدم �سيظل خم ًّال �إخ ً‬ ‫الال فادح ًا حتى بالبقاء‬ ‫ذاته للجن�س الب�شري على هذا الكوكب‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪17‬‬


‫فلسفة الفن عند هيغل‬ ‫يرتبط تحليل هيغل الجمالي‬ ‫ارتباط ًا وثيق ًا برؤيته الفلسفية‬ ‫والسياسية واالجتماعية‬ ‫فكر‬

‫�إن درا�سات هيغل عن تاريخ الفن‪ ،‬والفنون اجلميلة‪:‬‬ ‫العمارة‪ ،‬النحت‪ ،‬املو�سيقا‪ ،‬الفن الت�شكيلي‪ ،‬وال�شعر‬ ‫هي مو�سوعة ت�ساعدنا يف التعرف على تاريخية‬ ‫الفنون الأوروبية املعا�رصة‪ ،‬وال �سيما �أن هيغل قد‬ ‫ا�ستوعب ما �سبقه من كتابات الفال�سفة وعلماء‬ ‫اجلمال ال�سابقني عليه‪ ،‬ولذلك ف�إن فل�سفته جتمع‬ ‫�آراء ال�سابقني عليه وتدير حواراً جدلي ًا معهم ابتداء‬ ‫من �أفالطون حتى كانط‪ ،‬وهو يعيد بناء اال�ستطيقا‬ ‫يف احل�ضارة الغربية على �ضوء التطور الفل�سفي الذي‬ ‫حلق باحل�ضارة الأوروبية‪.‬‬

‫د‪ .‬رم�ضان ب�سطاوي�سي‬ ‫م�صر‬

‫ه ��ذه ال ��ر�ؤي ��ة اجل��دل �ي��ة ل�ل�ف��ن ت��رب�ط��ه ب��ال�ت��اري��خ‬ ‫وبالواقع االجتماعي والثقايف للح�ضارة الغربية‪،‬‬ ‫�سوف تعيننا على �إدارة حوار ثقايف نقدي بني ثقافتنا‬ ‫العربية وبني ثقافة احل�ضارة الغربية املعا�صرة التي‬ ‫ت�ستند يف كثري من �أ�س�سها اجلوهرية �إىل فل�سفة‬ ‫هيغل‪ ،‬ولذلك ف�إن عر�ض فل�سفة هيغل هو �أمر هام‪،‬‬ ‫لكي يتم االنتقال �إىل حتليل علم اجلمال املعا�صر‪،‬‬ ‫ولكي يتم بعد ذلك نقد هذه االجتاهات املعا�صرة‪.‬‬ ‫وال �ه��دف م��ن درا� �س��ة هيغل ه��و ت�أ�سي�س فل�سفة‬ ‫ل�ل�ن�ق��د الأدب� � ��ي وال �ف �ن��ي‪ ،‬مب �ع �ن��ى حت �ل �ي��ل الأ� �س ����س‬ ‫الفل�سفية واملعرفية التي ت�ستند �إليها النظريات‬ ‫‪18‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ال�ن�ق��دي��ة يف حتليل ال�ن���ص��و���ص الأدب �ي��ة والأع �م��ال‬ ‫الفنية‪ ،‬مما يك�شف الطابع الأيديولوجي واملعريف‬ ‫لهذه النظريات وع��ن اجل��وان��ب املتباينة لل��أدوات‬ ‫الإجرائية التي ي�ستخدمها الناقد يف حتليل الأعمال‬ ‫الفنية‪.‬‬ ‫ي��رت�ب��ط حت�ل�ي��ل ه�ي�غ��ل اجل �م��ايل ارت �ب��اط �اً وث�ي�ق�اً‬ ‫بر�ؤيته الفل�سفية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ف�إنه ال ميكن عزل الفن عن احل�ضارة لديه‪ ،‬ولذلك‬ ‫ف�إن كل �سمات ن�سقه الفل�سفي امليتافيزيقي تظهر يف‬ ‫ر�ؤيته للفن ب�شكل وا�ضح‪ .‬وهو ي�ضع الفن يف �صف‬ ‫واحد مع الدين والفل�سفة‪ ،‬وي�صبح الفن بذلك �أحد‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪19‬‬

‫إن المقصود بالجمال عند هيغل هو الجمال الفني الذي تبدعه الروح اإلنسانية‪ ،‬وليس الجمال‬ ‫الطبيعي‪ ،‬ولذلك فهو يرفض النزعة الطبيعية في الفن التي تبغي تقليد الطبيعة أو تصويرها كما هي‬

‫الطرق ملعرفة حقائق الروح الكلية‪.‬‬ ‫�إن نظرية هيغل اجلمالية ال تهدف �إىل فر�ض‬ ‫��ش��روط وق��واع��د ل�ل�إن�ت��اج الفني‪ ،‬و�إمن ��ا ت�سعى �إىل‬ ‫معرفة طبيعة اجلمال‪� ،‬أي معرفة طبيعة الفن‪.‬‬ ‫�إن ح��اج��ة الإن �� �س��ان �إىل الن�شاط اجل �م��ايل تنبع‬ ‫م ��ن رغ �ب �ت��ه يف م �ع��رف��ة ذات � ��ه‪ ،‬وت �ل �ب �ي��ة اح �ت �ي��اج��ات‬ ‫روحية عميقة لديه‪ ،‬ولذلك يربط هيغل الن�شاط‬ ‫اجلمايل بالأ�شكال املتنوعة للممار�سة الإن�سانية‪،‬‬ ‫ويربطه بالعامل املحيط بالإن�سان‪ ،‬والأ�شياء حتتفظ‬ ‫بوجودها امل�ستقل احل��ر يف العالقة اجلمالية‪ ،‬لأن‬ ‫الإن�سان حني يتلقى العمل الفني ف�إنه يت�أمله دون �أن‬

‫ي�ستهلكه كما هو احلال يف املو�ضوعات التي يتعامل‬ ‫معها الإن���س��ان ت�ع��ام� ً‬ ‫لا عمل ّياً ب�ه��دف �سد حاجاته‬ ‫الرئي�سية مثل اجلوع والعط�ش‪.‬‬ ‫�إن امل �ق �� �ص��ود ب��اجل �م��ال ع �ن��د ه�ي�غ��ل ه��و اجل �م��ال‬ ‫الفني الذي تبدعه الروح الإن�سانية‪ ،‬ولي�س اجلمال‬ ‫الطبيعي‪ ،‬ولذلك فهو يرف�ض النزعة الطبيعية يف‬ ‫الفن التي تبغي تقليد الطبيعة �أو ت�صويرها كما‬ ‫هي‪.‬‬ ‫�إن وظيفة الفن هي الك�شف عن احلقيقة ب�شكل‬ ‫ح�سي‪ ،‬وغ��اي��ة الفن تنبع م��ن ذات��ه‪ ،‬م��ن خ�لال هذا‬ ‫الت�صوير وذلك الك�شف‪ ،‬وينفي هيغل �أن يكون للفن‬


‫اهتمامات اإلنسان المهنية والهموم المختلفة التي تحيط به قد طبعت الوجه اإلنساني بطابع القبح والبشاعة‬

‫جورج فردرك هيغل (‪)1831 - 1970‬‬

‫غايات �أخرى مثل الوعظ والتطهري‪ ،‬لأن هذا معناه‬ ‫�أن الفن يتحول �إىل جمرد �أداة وو�سيلة ولي�س غاية‪.‬‬ ‫ومهمة الن�شاط الفني بو�صفه ن�شاطاً روح � ّي �اً �أن‬ ‫يجعل وحدة الذاتي واملو�ضوعي املحققة يف الدولة‬ ‫مدركة بالوعي‪.‬‬ ‫ينتمي ال�ف��ن �إىل دائ ��رة ال ��روح امل�ط�ل��ق‪ ،‬وغايته‬ ‫ه��ي الت�صوير احل�سي للمطلق ذات ��ه‪ ،‬ول��ذل��ك ف��إن‬ ‫م�ضمون الفن هو الفكرة‪ ،‬و�شكل الفن هو التج�سيد‬ ‫احل�سي‪ ،‬وف�ك��رة اجلميل‪ ،‬عند هيغل‪ ،‬لي�ست فكرة‬ ‫منطقية جم��ردة‪ ،‬ب��ل فكرة تتج�سد يف ال��واق��ع بعد‬ ‫�أن تدخل يف وح��دة مبا�شرة معه‪ .‬واملق�صود باملثال‬ ‫يف الفن هو ال��واق��ع امل�صاغ يف تطابق مع مفهومه‪،‬‬ ‫ولذلك يعترب املثال هو املفهوم اجلمايل الرئي�سي‬ ‫عند هيغل‪ ،‬الذي كر�س كتابه "اال�ستطيقا"‪ ،‬لدرا�سة‬ ‫املثال وتطوره‪ ،‬وتنوع الفن وغناه يرجع �إىل تطور‬ ‫املثال‪ ،‬كما �أن اختالف الأ�شكال وال�صور الفنية تابع‬ ‫لطبيعة العالقة بني الفكرة و�شكلها اخلارجي‪� ،‬أي‬ ‫تابع لتطور املثال‪ ،‬فحني يكون املثال جم��رداً‪ ،‬ف�إن‬ ‫التج�سيد اخل��ارج��ي يكون جم��رداً‪ ،‬وه��ذا م��ا يظهر‬ ‫يف ال�صورة الرمزية للفن‪ ،‬ويت�ضح يف الفن ال�شرقي‬ ‫وفن العمارة ب�شكل خا�ص‪ ،‬وحني يتطابق املثال مع‬ ‫‪20‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫التج�سيد اخلارجي‪ ،‬تظهر �صورة الفن الكال�سيكي‪،‬‬ ‫التي تتج�سد يف عامل الفن الإغريقي القدمي وفن‬ ‫ال�ن�ح��ت وح�ي�ن ي�صبح التج�سيد اخل��ارج��ي جم��رد‬ ‫�إ�شارة جمردة ومظهراً للمثال الروحي‪ ،‬ف�إنه تظهر‬ ‫ال�صورة الرومانتيكية للفن التي تتج�سد يف فنون‬ ‫الت�صوير واملو�سيقا وال�شعر‪.‬‬ ‫لقد ق��دم هيغل حتليله للمقوالت اجلمالية من‬ ‫خالل التاريخ العيني للب�شرية‪ ،‬فحني ي�صف الأنواع‬ ‫والأ�شكال الفنية‪ ،‬ف�إنه يقدمها من خ�لال التطور‬ ‫التاريخي للح�ضارة الإن�سانية ولذلك ف�إن فل�سفته‬ ‫لتاريخ الفن‪ ،‬تخ�ضع لنف�س التطور املنطقي الذي‬ ‫يتبعه يف فل�سفته لتاريخ العامل‪ .‬وي��رد هيغل �سبب‬ ‫تطور ف��ن م��ا �إىل تطور امل�ضمون‪ ،‬ال��ذي ينتج عن‬ ‫تطور احل�ضارة التي منا فيها الفن ذاته‪ ،‬ولهذا ف�إن‬ ‫فكرته عن �سيادة فن ما – مثل العمارة يف احل�ضارات‬ ‫ال�شرقية‪ ،‬وال�ن�ح��ت يف احل���ض��ارة الإغ��ري�ق�ي��ة – يف‬ ‫فرتة تاريخية حمددة دون غريه من الفنون‪ ،‬يرجع‬ ‫�إىل �أن لكل مرحلة تاريخية ف ّناً �أ�سا�س ّياً يعرب عن‬ ‫هذه املرحلة‪ .‬ولذلك تتحدد الأ�شكال الفنية بحالة‬ ‫العامل العامة‪ ،‬فمث ً‬ ‫ال يرتبط ظهور امللحمة ب�سيادة‬ ‫الع�صر البطويل‪ ،‬وظهور البطل امل�ستقل احلر‪ ،‬لأن‬ ‫حالة العامل احل�ضارية وخمتلف ال�شروط التي يجد‬ ‫الإن�سان نف�سه فيها‪ ،‬ت�ؤدي �إىل ظهور امللحمة‪ .‬كذلك‬ ‫ف�إن حتول الإن�سان من فرد �إىل مواطن يف دولة‪ ،‬مما‬ ‫�أ�ضفى على عالقته بالعامل طابعاً قانون ّياً‪� ،‬أدى �إىل‬ ‫ظهور النرث والرواية يف الع�صر احلديث‪.‬‬ ‫يف حتليل هيغل لل�شخ�صية الإن�سانية التي يجب‬ ‫�أن تكون مو�ضوعاً للفن‪ ،‬قدم �صورة للنمط ‪،Type‬‬ ‫التي ا�ستفاد منها بعد ذلك جورج لوكات�ش ولو�سيان‬ ‫ج��ول��دم��ان يف نظريتيهما ال��روائ�ي�ت�ين‪ ،‬فلقد ب نَّ�َّي�‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�إن حاجة الإن�سان �إىل الن�شاط‬ ‫اجلمايل تنبع من رغبته يف معرفة‬ ‫ذاته‪ ،‬وتلبية احتياجات روحية‬ ‫عميقة لديه‬ ‫هيغل �أننا حني نتخذ من الإن�سان مو�ضوعاً للتمثل‬ ‫الفني‪ ،‬يجب �أن نربز اجلوانب املختلفة يف الإن�سان‪،‬‬ ‫فال يبدو طيباً فقط‪� ،‬أو �شريراً فقط‪ ،‬و�إمن��ا تظهر‬ ‫جوانب �ضعفه وقوته‪ ،‬ويجب �أن نركز على ال�سمات‬ ‫اجلوهرية يف ت�صوير ه��ذا الإن���س��ان مثلما جن��د يف‬ ‫�آخيل عند هومريو�س‪ ،‬وروميو عند �شك�سبري‪.‬‬ ‫�إن ح��ال��ة ال �ع��امل‪ ،‬وال�ت�ح��والت ال�ك�برى لكل �أم��ة‪،‬‬ ‫وتناق�ضات الع�صر اجلوهرية هي املو�ضوع الأ�سا�سي‬ ‫للتمثيل الفني‪ ،‬وال ب��د �أال يكتفي الفنان بتقدمي‬ ‫و��ص��ف ��س��اك��ن‪ ،‬و�إمن ��ا يقدمها م��ن خ�ل�ال الأع �م��ال‬ ‫والأف�ع��ال الإن�سانية‪ ،‬لأن العمل �أو الفعل هو الذي‬ ‫ي�ك���ش��ف ع��ن غ��اي��ات الإن �� �س��ان واجت ��اه ��ه ال �ف �ك��ري‪،‬‬ ‫وتتج�سد اجتاهات الع�صر العامة الكلية ب�شكل فردي‬ ‫يف �أفكار النا�س وت�صرفاتهم عن طريق فكرة باثو�س‬ ‫‪ ،Pathos‬فالباثو�س حت��رك الفنان نحو ا�ستكمال‬ ‫عمله الإبداعي وهي التي حترك النا�س يف �أفعالهم‬ ‫و�صراعاتهم‪.‬‬ ‫تكت�سب �آراء هيغل عند الفنان �أهمية خا�صة‪ ،‬لأنه‬ ‫يرى �أن الأ�صالة والعبقرية احلقيقية لدى الفنان‬ ‫ت�ظ�ه��ر يف ق��درت��ه ع�ل��ى �إب� ��راز الطبيعة اجل��وه��ري��ة‬ ‫للع�صر وللب�شر من خ�لال ه��ذه الأ�شكال والأفعال‬ ‫الفردية‪.‬‬ ‫�إن ال�ع���ص��ر ال��ذه�ب��ي ل ل��إب ��داع ال�ف�ن��ي‪ ،‬يف ت�صور‬ ‫هيغل‪ ،‬هو الع�صر البطويل‪ ،‬لأن الإن�سان كان يتمتع‬ ‫فيه با�ستقالله وح��ري�ت��ه‪ ،‬وك��ان ال�ف��ن يحتل مكان‬ ‫ال�صدارة يف التعبري عن ت�صورات ال�شعوب ولهذا كان‬ ‫العامل الإغريقي عاملاً �شعر ّياً‪ .‬بينما الع�صر احلا�ضر‬ ‫ال مكان فيه لل�شاعرية‪ ،‬لأن الإن�سان �أ�صبح يعتمد‬ ‫على العمل والتفكري املجرد‪ ،‬وال مكان فيه لل�شعر‬ ‫احلقيقي‪ .‬ولهذا ت�ضاءلت حاجة الإن�سان �إىل الفن‪.‬‬ ‫العدد‬

‫ي �ع��زو ه�ي�غ��ل ج� ��ذور �أ� �س �ب��اب ان �ح �ط��اط ال �ف��ن يف‬ ‫الع�صر احلديث �إىل الدعوة املدر�سية والأكادميية‬ ‫ل�ب�ع��ث ال �ت�راث ال�ك�لا��س�ي�ك��ي ل�ل�ف��ن‪ ،‬و�إح �ي ��اء الآث ��ار‬ ‫الفنية القدمية‪ .‬فقد بد�أ انحطاط الفن منذ دعوة‬ ‫هورا�سيو�س املدر�سية – يف‪ :‬فن ال�شعر – لتحديد‬ ‫القواعد والأ�س�س التي يجب �أن ي�سري مبقت�ضاها‬ ‫الفنان‪ ،‬وبالطبع‪� ،‬إن الفن ال ميكن �أن ي�سري وفق‬ ‫قواعد معدة م�سبقاً‪ ،‬لأن جوهر الفن هو احلرية‪،‬‬ ‫وب��ال�ت��ايل ال ميكن بعث �أو تقليد ال�ت�راث العظيم‬ ‫للفن‪ ،‬فال ميكن �أن يظهر هومريو�س �أو �سوفوكلي�س‬ ‫�أو �شك�سبري مرة �أخرى‪ ،‬لأن ما قدموه‪ ،‬فقد �أجنزوه‬ ‫مبنتهى احل��ري��ة‪ ،‬ح�ت��ى ال�ن�ه��اي��ة‪ ،‬ب�ح�ي��ث ال ميكن‬ ‫تقليدهم من جديد‪ .‬وه��ذا يعني �أن التطور الذي‬ ‫حدث للفن‪ ،‬ال ميكن �أن يعود �إىل ال��وراء‪ ،‬فالتاريخ‬ ‫اليوناين القدمي‪ ،‬بكل ما �أبدعه يف الفن‪ ،‬درج��ة يف‬ ‫�سلم التطور املنطقي لتاريخ الفن‪ ،‬ول��ن يعود هذا‬ ‫ال�ت��اري��خ �أب� ��داً‪ .‬ول�ه��ذا ف ��إن من��ط ال�ف��ن الكال�سيكي‬ ‫ي��زده��ر م��رة واح ��دة‪ ،‬وال ميكن تقليد ��ص��ورة الفن‬ ‫الكال�سيكي‪ ،‬لأنه ال يوجد �شكل كال�سيكي فح�سب‪،‬‬ ‫و�إمن��ا م�ضمون كال�سيكي �أي���ض�اً‪ ،‬وح��ال��ة ال�ع��امل يف‬ ‫الع�صر احلديث ال ميكن �أن تقدم مثل هذا امل�ضمون‪،‬‬ ‫ول��ذل��ك ف� ��إن ال�سعي امل�ح�م��وم وراء ال�ت�راث الفني‬ ‫القدمي يقود �إىل نزعة مدر�سية تهدم الفن ذاته‪.‬‬ ‫ويرد هيغل �سبب انحطاط الفن – �أي�ضاً – �إىل‬ ‫حتطيم الرومانتيكية مل�ضمون الفن – يف مراحلها‬ ‫الأخرية – وطغيان الذاتية‪ ،‬بحيث انف�صلت متاماً‬ ‫عن �أي �شكل فني‪ ،‬وقد �أدى هذا �إىل غياب االهتمام‬ ‫مب���ش�ك�لات ال�ع���ص��ر ال �ك�برى ل ��دى ال�ف�ن��ان�ين‪ ،‬وق��د‬ ‫اق�ت�رن ��ض�ي��اع امل���ض�م��ون اجل��وه��ري ل�ل�ف��ن‪ ،‬ب��ازدي��اد‬ ‫املهارة الذاتية يف زخرفة الأعمال الإبداعية‪ .‬وهذه‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪21‬‬


‫يرى هيغل �أن الأ�صالة والعبقرية احلقيقية لدى‬ ‫الفنان تظهر يف قدرته على �إبراز الطبيعة اجلوهرية‬ ‫للع�صر وللب�شر من خالل الأ�شكال والأفعال الفردية‬

‫الق�ضية ال�ت��ي �أ� �ش��ار �إل�ي�ه��ا هيغل‪ ،‬ق��د �سبق جلوته‬ ‫و�شيلر �أن حتدثا عنها‪ ،‬فبينا �أن الع�صر احلديث‬ ‫– بطبيعته – معاد للفن‪ ،‬ولهذا كانا يهربان منه‬ ‫�إىل بعث ال�تراث اليوناين القدمي بو�صفه الع�صر‬ ‫الذهبي للفن‪ ،‬ولكن هيغل يتميز عنهما يف �أنه يرى‬ ‫�أن العودة �إىل املا�ضي هي �ضد طبيعة تطور الفن‪.‬‬ ‫وق��د �أو��ض��ح هيغل الأ��س�ب��اب التي �أدت �إىل تزايد‬ ‫النزعة ال��ذات�ي��ة يف الفن وطغيانها على ك��ل �شيء‪،‬‬ ‫وم��ن �أه��م الأ��س�ب��اب ال�ت��ي يطرحها ل��ذل��ك‪ :‬احلالة‬ ‫العامة للعامل التي ال ي�شعر الإن�سان فيها باحلرية‪.‬‬ ‫ونتيجة لهذا �أ�صبح الإن�سان ي�شعر بتبعيته الكاملة‬ ‫للدولة‪ ،‬وللأ�شياء املحيطة ب��ه‪ .‬ف�أعمال الب�شر يف‬ ‫املجتمع احلديث �أ�صبحت منف�صلة عن بع�ضها‪ ،‬لأن‬ ‫ك��ل ف��رد ال يعمل وف�ق�اً مل�صلحة ال�ك��ل ال��ذي ينتمي‬ ‫�إليه‪ ،‬و�إمن��ا وفقاً ملا متليه عليه م�صاحله الفردية‬ ‫اخلا�صة‪ .‬وذل��ك لأن الفرد ال ي�شعر باالنتماء �إىل‬ ‫الكل‪ ،‬و�إمن��ا ينتمي �إىل م�صاحله الذاتية ال�ضيقة‪.‬‬ ‫ونتيجة ل�ه��ذا يفقد الإن���س��ان ��ش�ع��وره باال�ستقالل‬ ‫واحل��ري��ة‪ ،‬لأن احل��ري��ة ال�ت��ي ي�شعر بها يف الع�صر‬ ‫احلديث‪ ،‬هي حرية ذات طابع �شكلي وقانوين‪ .‬ولهذا‬ ‫يفقد ا�ستقالله‪ ،‬وي�شعر بال�ضياع‪ ،‬لأنه ي�شعر �أنه يف‬ ‫عمله و�سيلة لغريه‪ ،‬مثلما هو يجعل الآخرين و�سيلة‬ ‫له �أي�ضاً‪ .‬وهكذا يتبدد االن�سجام والتوافق يف عالقة‬ ‫الإن�سان بالعامل املحيط به‪ ،‬ويحل ال�صراع الطبقي‬ ‫بني الب�شر حمل الوحدة بينهم‪ ،‬وت�صبح الدولة قوة‬ ‫قاهرة للإن�سان‪ ،‬وال ت�ساهم يف ت�أكيد وج��وده‪ .‬ويف‬ ‫هذه ال�صورة التي قدمها هيغل عن العامل احلديث‪،‬‬ ‫تكمن حقيقة الع�صر الذي يعادي – بطبيعة و�ضع‬ ‫الإن�سان فيه – اجلمال والفن‪.‬‬ ‫والطريق الوحيد الذي يبقى للإن�سان يف الع�صر‬ ‫‪22‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫احلديث كي ال ي�ست�سلم للواقع القائم‪ ،‬الذي يقتل‬ ‫ك��ل �أ�شكال اجل�م��ال وال�ف��ن ه��و‪� :‬أن ي�سعى الإن�سان‬ ‫نحو حريته الداخلية اخلا�صة‪ ،‬مبعنى �أن ي�ستغرق‬ ‫الإن �� �س��ان يف ذات ��ه‪ ،‬ل�ك��ي ي�شعر بحريته ال��داخ�ل�ي��ة‪،‬‬ ‫واحلقيقة �أن ه��ذا هو طريق الت�صوف �أي�ضاً‪ ،‬فما‬ ‫دام الإن���س��ان ال يجد حريته يف ال�ع��امل اخل��ارج��ي‪،‬‬ ‫فعليه �أن يبحث عن املخرج الوحيد له يف احلرية‬ ‫الداخلية للذات‪ ،‬وهذا ما �سبق �أن �سار فيه الرومان‬ ‫حني حاولوا التحرر من ازدواجية العامل عن طريق‬ ‫اال��س�ت�غ��راق يف ال ��ذات‪ ،‬وال��دل�ي��ل على ذل��ك انت�شار‬ ‫الأبيقورية والرواقية‪ ،‬من �أجل الو�صول �إىل �شكل‬ ‫جديد من احلرية‪ ،‬وهو احلرية الروحية‪.‬‬ ‫�إن احل��ال��ة ال �ع��ام��ة ل �ل �ع��امل ال ��راه ��ن ه��ي ال�ت��ي‬ ‫�أو�صلت الفن �إىل ما هو عليه‪ ،‬فالإن�سان مل يعد‬ ‫ي�ق�ن��ع ب���ص�ي��اغ��ات ال �ف��ن‪ ،‬و�إمن ��ا �أ��ص�ب��ح ي�ب�ح��ث عن‬ ‫�أ�شكال جم��ردة وحم��ددة‪ ،‬ولذلك فالإن�سان �أ�صبح‬ ‫يتحدث "عن" الفن ب�شكل جمرد‪� ،‬أكرث من تذوقه‬ ‫�أو �إب��داع الفن‪ ،‬وهذا نتيجة ميل الإن�سان املعا�صر‬ ‫�إىل �صياغة كل �شيء يف �صورة قواعد مقننة‪ .‬وقد‬ ‫�أدت ه ��ذه احل��ال��ة ال �ع��ام��ة ل�ل�ع��امل �إىل ظ �ه��ور فن‬ ‫جديد هو "النرث" الرواية‪ ،‬التي ت�ستفيد وتقرتب‬ ‫كثرياً من الفل�سفة بو�صفها �أرق��ى �أ�شكال الفكر‪.‬‬ ‫ولهذا ف��إن نهاية الفن عند هيغل تعني امل�صاحلة‬ ‫بني ال�شعر والفل�سفة‪ ،‬وه��ذا ما يظهر يف الرواية‬ ‫ب��و��ص�ف�ه��ا ف � ّن �اً �أدب� � ّي� �اً‪� .‬أم ��ا ال��ذي��ن ي �ح��اول��ون بعث‬ ‫�أ�شكال الفن القدمية‪ ،‬و�أ�ساليب احلياة القدمية‪،‬‬ ‫ف��إن�ه��م ي�ج��دون �أنف�سهم يف م��وق��ف �شبيه مبوقف‬ ‫دون كي�شوت‪ ،‬ال��ذي ح��اول بعث �أخ�لاق الفرو�سية‬ ‫يف و�سط عامل مل يعد يعرتف بها‪ ،‬وهي نتيجة –‬ ‫�أي�ضاً – للتطور اجلديل للروح املطلق‪ ،‬ولهذا ف�إن‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫عداء املجتمع احلديث للجمال‬ ‫والفن هو م�أ�ساة الروح اخلالدة‬ ‫لأن اهتمامات الإن�سان املهنية‬ ‫وال�ه�م��وم املختلفة ال�ت��ي حتيط‬ ‫ب��ه ق��د طبعت ال��وج��ه الإن�ساين‬ ‫بطابع القبح والب�شاعة‪ .‬وهيغل‬ ‫ح�ين ي��ر��ص��د ه��ذا ف��إن��ه مل ي��أت‬ ‫بجديد؛ لأن لي�سنج و�شيلر قد‬ ‫�أكدا هذا من قبل‪.‬‬ ‫ول�ك��ن ه��ذا ال يعني �أن هيغل‬ ‫ي �ق��ول مب ��وت ال �ف ��ن‪ ،‬و�إمن � ��ا هو‬ ‫ي��و��ص��ف احل��ال��ة ال��راه �ن��ة ال�ت��ي‬ ‫و��ص��ل �إل�ي�ه��ا ال�ف��ن‪ ،‬ول��ذل��ك ف��إن‬ ‫وج � � ��ود ال� �ف ��ن م� ��ره� ��ون مب ��دى‬ ‫�صراع الإن�سان ون�ضاله من �أجل‬ ‫ا��س�ترداد حريته‪ ،‬فجوهر الفن‬ ‫هو احلرية‪ ،‬ولهذا فهو يبني �أنه‬ ‫ميكن �أن يوجد اجلمال والفن يف‬ ‫الع�صر احلديث حني يهتم الفن‬ ‫بت�صوير ال�صراع بني ال�شخ�صية‬ ‫ال �ث��ائ��رة وامل �غ�ت�رب��ة � �ض��د ن�ظ��ام‬ ‫الأ��ش�ي��اء القائم وال �شعرية العالقات االجتماعية‬ ‫ال �� �س��ائ��دة‪ .‬ح�ي��ث مي�ك��ن �أن ت�ظ�ه��ر ع�ظ�م��ة الإن���س��ان‬ ‫وقدراته الكامنة‪ ،‬وبالتايل ي�سرتد الإن�سان ما فقده‬ ‫من جمال و�شعر وفن‪.‬‬ ‫ولهذا ف�إنه بعد هذه املرحلة الطويلة والعميقة‬ ‫من جماليات هيغل يت�ساءل‪ :‬هل ميكن القول ب�أن‬ ‫هيغل يقول مبرحلة جديدة من الفن‪ ،‬بعد �صورة‬ ‫الفن الرومانتيكي‪ ،‬هي مرحلة الفن احلر؟‬ ‫وم �� �ض �م��ون ه ��ذا ال �ف��ن احل ��ر ال ي�ك�ت�ف��ي ب��دائ��رة‬ ‫العدد‬

‫حم��ددة م��ن املو�ضوعات والأف �ك��ار و�إمن��ا يقدر على‬ ‫ت�صوير �أي �شيء‪ ،‬ي�شعر الإن�سان فيه بذاته‪ ،‬ويجد‬ ‫فيه حريته املفتقدة‪ ،‬وحني ذاك يرتك الفنان العنان‬ ‫ل�ل�خ�ي��ال احل ��ر‪ ،‬ل�ك��ي يعطيه امل���ض�م��ون وال�ت�ح��دي��د‬ ‫وال�شكل‪ ،‬وميكن اعتبار الرواية هي الفن الأ�سا�سي‬ ‫املعرب عن هذه املرحلة‪ ،‬مثلما كان النحت يعرب عن‬ ‫ال�صورة الكال�سيكية للفن‪ ،‬لأن م�ضمون الرواية هو‬ ‫م�ضمون الع�صر الذي يحيا فيه الإن�سان الآن‪ ،‬هذا‬ ‫جمرد ا�ستنتاج يطرحه الباحث بعد هذه ال�صحبة‬ ‫الطويلة مع �أفكار هيغل يف الفن واحل�ضارة‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪23‬‬


‫الذكاء أم الجمال؟‬ ‫ترجمة‪ :‬سعيد بوخليط‬

‫فكر‬

‫فاطمة املرني�سي ‬ ‫تون�س‬

‫‪24‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫لقد قتل �إدغار بو‪،Edgar poe‬‬ ‫متام ًا �شهرزاد يف عمله عن "�ألف‬ ‫ليلة وليلة"‪ ،‬وبطريقة مرعبة‪.‬‬ ‫الأ�سو�أ �أي�ض ًا‪� ،‬أنه �أبدى نوع ًا من‬ ‫االبتهاج‪ ،‬حيال موتها الذاتي‪:‬‬ ‫"كلما ا���ش��ت��د ال���وث���اق عليها‪،‬‬ ‫�أح�ست �أكرث باملتعة"‪ .‬فماذا فعلت‬ ‫�شهرزاد‪ ،‬كي تتعر�ض لعقاب من‬ ‫هذا النوع؟‪ .‬لقد و�صفت طوي ً‬ ‫ال‬ ‫للملك‪� ،‬آخر االكت�شافات العلمية‬ ‫اجل���اري���ة يف ال���غ���رب‪ :‬امل��ن��ظ��ار‬ ‫الفلكي‪ ،‬و الإب���راق الكهربائي‬ ‫وكذا الت�صوير الذكوري‪.‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫لكن من �أي��ن ا�ستمدت �شهرزاد معلوماتها‪ ،‬وهي‬ ‫تعي�ش يف �شبه عزلة؟‪ .‬بوا�سطة �سندباد‪ ،‬الذي قادته‬ ‫�أ�سفاره �إىل اكت�شاف التطور التكنولوجي‪ ،‬الذي تنعم‬ ‫فيه �أوروب��ا‪ .‬غري �أن �شهريار‪ ،‬اعترب �أحاديثها غري‬ ‫قابلة للت�صديق‪ ،‬وا�صف ًا �إياها بالكذب‪" :‬توقفي‪.! ‬‬ ‫ي�صرخ يف وجهها‪ .‬ال �أري���د‪ ،‬وال ميكنني �أن �أحتمل‬ ‫�أكرث‪ ،‬لقد �أ�صابتني �أكاذيبك ب�صداع ر�أ�سي فظيع‪،...‬‬ ‫هل تعتقدين �أين �أبله؟‪ .‬بعد التفكري ملي ًا‪� ،‬أ�صدر يف‬ ‫حقك قرار املوت خنق ًا"‪.‬‬ ‫ردة فعل‪ ،‬رج��ل جاهل‪ ،‬ف��اج���أه العلم‪ .‬مما ِي�ؤكد‬ ‫العنوان الفرعي ال�شهري للحكاية‪ :‬احلقيقة �أكرثغرابة‬ ‫م��ن اخل��ي��ال‪ .‬م��ع ذل��ك‪ ،‬فالفكرة التي انطلق منها‬ ‫�إدغ��ار �آالن بو‪ ،‬جتعل من �شهرزاد ام��ر�أة تنتمي �إىل‬ ‫تلم بالفتوحات‬ ‫القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬مت�أهبة علمي ًا‪ّ ،‬‬ ‫التكنولوجية للغربيني‪ ،‬املج�سدة لهيمنتهم الع�سكرية‪.‬‬ ‫كان ميكن �أن ت�ساعد �شهريار على �سرقة �أ�سرارهم‪،‬‬ ‫لو �أرخ��ى ال�سمع �إىل زوجته ال�شابة‪ ،‬مما �سيجنب‬ ‫العامل الإ�سالمي اال�ستعمار‪.‬لكن يف ه��ذه احلالة‪،‬‬ ‫�سيتحتم على �إدغ��ار �آالن ب��و‪� ،‬إعطاء �شهرزاد دور‬ ‫بطلة ومقاومة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫التفوق التكنولوجي‪ ،‬من منح حقا الغرب �إمكانية‬ ‫اجتياح �أرا�ضي ال�شرق‪ ،‬طيلة القرن الـ‪ .19‬نابليون‪،‬‬ ‫جن��ح يف حملته اخلاطفة على م�صر �سنة ‪،1801‬‬ ‫بف�ضل علمائه �أكرث من جنوده‪� .‬إذ ًا‪ ،‬لو �أن�صت �شهريار‬ ‫ملخربته ال�شابة ال�ستطاعت الإمرباطورية الإ�سالمية‬ ‫مواجهة الغزو‪ .‬هذا ال�سيناريو‪ ،‬كان �سيعيد ل�شهرزاد‬ ‫دورها باعتبارها �صاحبة ر�ؤية ا�سرتاجتية‪ .‬غري �أن‬ ‫�إدغار بو‪ ،‬اتبع م�سار ًا �آخر‪ ،‬مف� ً‬ ‫ضال خيانة �شهرزاد‪،‬‬ ‫ب�أن ربطها مبيكيافيلي بل الأكرث فظاعة‪ ،‬حواء‪.‬‬ ‫حواء املغوية‪ ،‬غري موجودة يف الإ�سالم‪ .‬لقد قدم‬ ‫العدد‬

‫القر�آن‪ ،‬حق ًا رواي��ة عن ال�سقوط‪ .‬الثعبان مث ًال‪ ،‬ال‬ ‫�أثر له كلي ًا‪ .‬ولكي يحذر �إدغاربو جيد ًا القارئ‪ ،‬من‬ ‫"الأمرية ال�سيا�سية"‪� ،‬أخربه �أنها لي�ست فقط قارئة‬ ‫ملكيافيلي‪ ،‬بل هي "تنحدر من حواء مبا�شرة‪ ،‬بالتايل‬ ‫رمبا ورثت ال�سلل ال�سبعة للأقاويل والتي كما نعلم‪،‬‬ ‫اقتطفتها ال�سيدة الأوىل يف التاريخ‪ ،‬من �أ�شجارحديقة‬ ‫عدن"‪� .‬شهرزاد �إدغاربو‪ ،‬جد �شيطانية‪ ،‬لن ت�صري‬ ‫حواء �إىل جوارها غري تلميذة مبتدئة‪�" :‬أ�ضيف بهذا‬ ‫اخل�صو�ص‪� ،‬أنها تدرك كيفية تخ�صيب وتنمية هذه‬ ‫ال�سلل �إىل غاية العدد‪."77‬‬ ‫الوعي‪ ،‬ت�سكنه جمموعة خطايا �أ�صيلة‪ .‬فكيف‪،‬‬ ‫بو�سع �شهرزاد النجاة من الإدانة؟ لكن‪ ،‬ما �صدمني‬ ‫�أكرث‪ ،‬ا�ستكانة �شهرزاد �إدغار بو‪� ،‬إىل م�صريها بحيث‬ ‫مل تبحث �أب��د ًا عن منفذ للخال�ص‪ ،‬ومل حت��اول قط‬ ‫معار�ضة اجلملة التي تلفظ بها زوجها امل�ش�ؤوم‪ .‬ال!‬ ‫لقد قبلت املوت با�ست�سالم‪" :‬متيز‪ ،‬امللك ب�صرامته‬ ‫املفرطة‪ ،‬وال يرتاجع �أب��د ًا عما يلتزم به من أ�ق��وال‪.‬‬ ‫�شهرزاد‪ ،‬قبلت طواعية م�صريها"‪.‬‬ ‫هذا االمتثال‪ ،‬خلخل كياين �إىل درجة �إزعاج �إقامتي‬ ‫يف باري�س‪ .‬فال ميكنني‪ ،‬منع نف�سي من التعاطف مع‬ ‫�شهرزاد‪ ،‬هاته املنهزمة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬امل��ر�أة امل�سلمة‬ ‫املعا�صرة‪ ،‬ت�شبهها‪ :‬المتلك �سالح ًا �ضد العنف غري‬ ‫كلماتها‪ .‬الرجل امل�سلم‪ ،‬قد يجيز لنف�سه‪� ،‬أن ي�صري‬ ‫قدري ًا‪ ،‬بينما امل��ر�أة فال ينبغي لها �أن تكون كذلك‪،‬‬ ‫بل تنا�ضل وتنا�ضل كي تغري و�ضعها‪ ،‬هذا ماتنم عنه‬ ‫ر�سالة �شهرزاد‪.‬‬ ‫جدتي يا�سمينة‪ ،‬كررت يل هذا القول با�ستمرار‪،‬‬ ‫وبقيت �أقاويلها حمفورة بعمق يف دواخلي‪ .‬الحظوا‪،‬‬ ‫�إيران فرتة الثورة الإ�سالمية‪� :‬صارت الن�سوة مقاتالت‬ ‫�شر�سات يف ال�شارع‪ .‬الأ�ستاذة اجلامعية الإيرانية‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪25‬‬

‫لكن‪ ،‬ما صدمني أكثر‪ ،‬استكانة شهرزاد إدغار بو‪ ،‬إلى مصيرها بحيث لم تبحث أبدًا عن منفذ للخالص‬

‫الوعي‪ ،‬تسكنه مجموعة خطايا أصيلة‪ .‬فكيف‪ ،‬بوسع شهرزاد النجاة من اإلدانة؟‬


‫لقد اكتسبت النساء‪ ،‬وعيًا جديدًا ب��دوره��ن؛ ألنهن رفضن االستسالم لخوفهن من قهر البوليس‬

‫"هاليه �إي�سفاندياردي"‪ ،‬التي نفيت �إىل الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية‪ ،‬ع��ادت �إىل بلدها ك�صحافية‪،‬‬ ‫ومتكنت من �إثبات التايل‪" :‬لقد اكت�سبت الن�ساء‪،‬‬ ‫وع��ي�� ًا ج��دي��د ًا ب��دوره��ن؛ لأن��ه��ن رف�ضن اال�ست�سالم‬ ‫خلوفهن من قهر البولي�س‪ ،‬وك��ذا ن�ضالهن اليومي‬ ‫ق�صد احل�صول على حقهن يف العمل‪ ،‬وبحثهن عن‬ ‫و�سيلة لتغيري النظام املتعلق باللبا�س‪ ،‬وكذا دفاعهن‬ ‫داخل ردهات املحاكم عن حقهن يف الطالق"‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬انزعجت من النهاية‪ ،‬التي هي�أها �إدغاربو‬ ‫ل�شهرزاد‪ .‬ينبغي علي التوقف عن التفكري‪ ،‬و�أكتفي‬ ‫بتملي الربيق الهادئ لنهر ال�سني‪�" :‬أظن‪ ،‬هذا مايثري‬ ‫اخلوف‪� ،‬إنها تخفي جمال العامل"‪.‬‬ ‫قررت �إذ ًا‪ ،‬اتباع عالج نف�سي على الطريقة العربية‪،‬‬ ‫التي ترتكز على �أن يتكلم ال�شخ�ص عن م�شكالته لكل‬ ‫العامل‪ ،‬دون مباالة بحنق امل�ستمعني‪ .‬لكن ذات يوم‪،‬‬ ‫�سيالم�س �أحد ما‪� ،‬شيئ ًا جوهري ًا لعالجك‪ ،‬ينت�شلك‬ ‫من الهاج�س‪ ،‬كما يوفر لك امل�صاريف التي تتطلبها‬ ‫ا�ست�شارة خمت�ص‪ .‬املنهجية فعالة لكنها �سلبية‪:‬‬ ‫�ستفقدك ع��دد ًا مهم ًا من �أ�صدقائك‪ .‬لذلك‪ ،‬كنت‬ ‫على و�شك ت�ضييع �صداقتي مع كري�ستني‪ ،‬النا�شرة‬ ‫الفرن�سية املكلفة ب�أعمايل‪ ،‬والتي �أحرتم جدا �آراءها‪.‬‬ ‫لقد حذرتني من م�س�ألة‪� ،‬أنني �أجازف بتبديد جولتي‬ ‫التي ت�ستهدف الرفع من املبيعات‪� ،‬إذا وا�صلت دون‬ ‫ت��وق��ف‪ ،‬ال��ك�لام ع��ن �إدغ���ار ب��و‪ .‬ق��ال��ت يل‪�" :‬إذا مل‬ ‫تتكلمي عن نف�سك �أثناء لقاءاتك ال�صحافية‪ ،‬فال‬ ‫تنتظري من الآخرين‪ ،‬القيام بذلك‪� .‬سيكتبون عن‬ ‫�إدغاربو‪ ،‬ولن يلتفتوا �إليك"‪.‬‬ ‫خالل كل مرة‪� ،‬أعد كري�ستني �أين �س�أحر�س على‬ ‫هذا الأمر‪ ،‬لكن على الفور �أ�سقط يف املطب نف�سه‪،‬‬ ‫م�ستعيدة ا�ستمارة الأ�سئلة حول احلرمي العربي وكذا‬ ‫‪26‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�إدغ��ارب��و‪� ،‬إىل غاية اليوم ال��ذي التقيت فيه جاك‪.‬‬ ‫هذا الأخ�ير‪� ،‬سيلقي ب�أوراقه على الطاولة‪" :‬لرنكز‬ ‫�أو ًال على كتاباتك‪ ،‬كي �أ�ستجمع �شيئ ًا بو�سعي الكتابة‬ ‫عنه يف ج��ري��دت��ي‪ .‬بعد ذل���ك‪ ،‬ميكننا بحث تاريخ‬ ‫احل��رمي هذا"‪ .‬برغم اقتناعي‪ ،‬بجوهر اجل��واب مل‬ ‫�أ�ستطع كبت نف�سي عن الرد‪�" :‬إنك تتكلم مثل خليفة‪.‬‬ ‫�ست�ساعدين �إذا قبلت �شروطك‪.‬هل ميكنك �صياغة‬ ‫اجلملة بطريقة �أقل ا�ستبدادية‪ ،‬و�أن تكون وا�ضح ًا‬ ‫بخ�صو�ص مايطويه ر�أ�سك من حيثيات؟‬ ‫ً‬ ‫ميكنني بالفعل‪� ،‬أن �أك��ون �أكرث و�ضوحا‪� ،‬سرتتكز‬ ‫م�ساعدتي‪ ،‬على ا�ستدراجك �إىل حرميي اخلا�ص‪.‬‬ ‫�أو ًال‪� ،‬س�أعريك �أحد كتبي‪ ،‬ثم �أ�صطحبك �إىل متحف‬ ‫ح��ي��ث �ستلتقني ج����واري امل��ف�����ض�لات‪ .‬ل��ك��ن‪ ،‬مقابل‬ ‫م�ساهمتي الثمينة‪� ،‬ستعملني بدورك على ا�ست�ضافتي‬ ‫�إىل ح��رمي ه��ارون الر�شيد‪� .‬أن��ا متيقن‪� ،‬أن �إج��راء‬ ‫مقارنة بني حرميي وحرميك‪� ،‬سيكون خ�صب ًا‪� ،‬سواء‬ ‫بالن�سبة �إليك �أو �إيل"‪.‬‬ ‫ا�ستح�سنت االق�تراح‪ ،‬و�أن��ا �أحد�س �سهولة �إدخال‬ ‫ج��اك �إىل ح��رمي ه���ارون الر�شيد‪ .‬فمثل كثري من‬ ‫ال��ع��رب‪ ،‬اجن��ذب��ت خا�صة �إىل الر�شيد �أو "الفاتن‬ ‫امل�ستبد" ح�سب تعبري �صديقي ك��م��ال‪ .‬لقد ق��ر�أت‬ ‫بنهم‪ ،‬كل ماكتب عن مغامراته داخل حرميه اخلا�ص‬ ‫�أو خ��ارج��ه‪� .‬أع���رف ك��ل التفا�صيل ع��ن��ه‪� ،‬أطعمته‬ ‫املف�ضلة ومالب�سه وطبع ًا حكاياته الغرامية‪ .‬يكفي‪،‬‬ ‫�أن �أنع�ش ذكرياتي و�أنا �أ�ستعيد واحدة من زياراتي‬ ‫للمكتبة الوطنية‪ ،‬حيث توجد خمطوطات عربية‬ ‫نفي�سة‪��� ،‬س��رق جلها م��ن قبل �ضباط اال�ستعمار‪.‬‬ ‫وبينما حلق تفكريي‪ ،‬نحو متثل هذه ال�صلة العجيبة‬ ‫التي جتمع بني اال�ستعمار والعلم‪� ،‬أعادين جاك �إىل‬ ‫احلقيقة قائال‪�" :‬أما فيما يخ�ص �صياغة ملتم�ساتي‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫بطريقة �أقل ا�ستبدادية‪ -‬يتحدث وهو يداعب ربطة‬ ‫عنقه الأنيقة من نوع كينزو‪ -‬فاجتنبي عدم توقيفي‬ ‫عن الكالم بطريقة فجائية‪ ،‬مهما كان مربرك بهذا‬ ‫اخل�صو�ص؛ لأن من �ش�أن ذلك‪� ،‬إف�ساد املتعة‪ .‬قيمة‬ ‫هذا النوع من التعاون‪ ،‬بالن�سبة �إىل فرن�سي �شقي كما‬ ‫العدد‬

‫احلال معي‪� ،‬سحقته الأعباء االجتماعية وال�ضرائب‪،‬‬ ‫تكمن يف قدرتي على �أن �أتقم�ص خمتلف �أدوار هارون‬ ‫الر�شيد‪.‬‬ ‫ ماذا يعني هذا؟ ت�ساءلت بنربة مل�ؤها ال�شك‪.‬‬‫ هذا يعني‪� ،‬أنه ال ينبغي عليك مقاطعة كالمي‪،‬‬‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪27‬‬


‫حتى ولو �أدليت ببالهة‪ .‬دوين مالحظاتك يف ورقة‪،‬‬ ‫وحاويل �أن تد�سيها �إيل �سر ًا‪ ،‬عند احلاجة"‪.‬‬ ‫مل �أ�ستطع متالك نف�سي عن ال�ضحك‪ ،‬و�أنا �أتبني‬ ‫هذا املنطق م�ألوف ًا لدي‪ .‬فقد د�أب املغاربة بدورهم‬ ‫على ا�ستغالل الت�ساهل الن�سائي‪ ،‬بكيفية جيدة‪� .‬إذ ًا‪،‬‬ ‫فهل تعترب �سمة م�شرتكة لدى �ساكنة البحر البي�ض‬ ‫املتو�سط؟‬ ‫تفح�صت وجه جاك‪ ،‬و�أنا �أبحث بني مالحمه عن‬ ‫مايبدو متو�سطي ًا‪ .‬مل‪� ،‬أعرث على �شيء‪ .‬هو رجل �أنيق‪،‬‬ ‫يف اخلم�سينات من عمره‪ ،‬طويل القامة �أو بالأحرى‬ ‫نحيف بالرغم من بداية �أعرا�ض �سمنة‪ ،‬ال يخفيها‬ ‫�أب���د ًا‪� ،‬شعر �أ�شيب مرتب بعناية‪ ،‬وعينان زرق��اوان‬ ‫�ساحران‪ ،‬ي�ضفيان عليه مالمح ج��ن‪ .‬لكن‪ ،‬مثلما‬ ‫�سي�شرح يل فيما بعد‪ ،‬فال �صلة جتمعه بعائلة اجلن‪.‬‬ ‫ال��زرق��ة ال�شديدة لعينيه‪ ،‬م��رده��ا ان��ح��داره من‬ ‫منطقة "بروتان"‪� .‬أما ات�صافه بال�سخرية‪ ،‬فب�سبب‪:‬‬ ‫"جتربتي طالق‪ ،‬عا�شهما �سابق ًا‪ ،‬وما ترتب عنهما‬ ‫من انك�سارات"‪ .‬لقد اعرتف يل‪ ،‬بهذه املنا�سبة �أن‬ ‫كري�ستني‪ ،‬مثلت جاريته املف�ضلة‪ ،‬لو مل متيزها تلك‬ ‫الثقة املفرطة يف ذاتها‪ .‬حينما‪ ،‬طلبت منه تو�ضيحات‬ ‫�أك�ث�ر‪� ،‬أك��د يل �أن ك��ل ال��رج��ال‪ ،‬ي�أ�سرهم جمالها‪:‬‬ ‫"جميعهم‪ ،‬يع�شقونها تقريب ًا‪ .‬ونحن‪ -‬ال�صحافيني‪-‬‬ ‫نتكلم عن م�ؤلفاتها فقط‪ ،‬كي تتاح لنا فر�صة �أن‬ ‫ن�شرب �إىل جانبها ك�أ�س �شامبانيا‪ .‬هذا مينحك فكرة‬ ‫عن م�ستوى حرميها"‪.‬‬ ‫حتم ًا‪ ،‬يف باري�س ينجذب ال��رج��ال نحو الن�ساء‬ ‫اللواتي حققن جناح ًا يف مهنهن‪ .‬لكن‪ ،‬ج��اك يقر‬ ‫رف�ضه للمناف�سة‪ ،‬و�أن��ه �إذا ت���أت��ى ل��ه �أن يعي�ش مع‬ ‫كري�ستني‪ ،‬ف�سيكون يف جزيرة مهجورة‪ .‬ثم �أخ��رج‬ ‫كتاب ًا لأوفيد ‪" ovide‬فن احلب"‪ ،‬وقد �أحاطني علم ًا‬ ‫‪28‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ب�أن هذا الباري�سيني املثقفني وحدهم يواظبون على‬ ‫قراءة هذا امل�ؤلف‪.‬‬ ‫ج��اك‪ ،‬متخ�ص�ص يف تاريخ الفن‪ ،‬ل��ذا احرتقت‬ ‫�شوق ًا كي ي�صطحبني �إىل حرميه املف�ضل‪ .‬اهتمامه‬ ‫بامل�شرق‪� ،‬سمح له كي‪" :‬ي�أخذ امل�سافات ال�ضرورية‪،‬‬ ‫بغية ت�شكيل مالحظة متجردة عن معطيات احلياة‬ ‫الباري�سية‪ ،‬و�أي�ضا ي�سرع �إىل االرمت��اء يف �أح�ضان‬ ‫ط��ائ��رة تقلع ���ص��وب م��راك�����ش‪ ،‬م��ا �إن ت�سوء �أح���وال‬ ‫الطق�س"‪ .‬ويف�سر تعلقه اخلا�ص جد ًا بن�ساء احلرمي‪،‬‬ ‫بتاريخ طفولته؛ فقد كانت له �أختان‪ ،‬مع غياب �إخوة‬ ‫ذكور‪.‬‬ ‫ً‬ ‫�شكلت‪ ،‬الدعابة �سالحا لدى جاك‪ ،‬وكذا خمتلف‬ ‫الأ�شخا�ص ال��ذي��ن متيزهم ح�سا�سية مفرطة‪ .‬بل‬ ‫هذا ال�سحر نف�سه‪ ،‬من مينح املثقفني العرب قدرة‬ ‫كبرية على االنفالت؛ فلي�س مبقدورك �أب��د ًا‪� ،‬إدراك‬ ‫هل ميزحون �أم العك�س‪ .‬يرتكون ل ِ��ك وح��دك‪� ،‬أمر‬ ‫تقييمهم‪ ،‬و�إذا اعتقدت ب�شكل مت�سرع ج��د ًا �أنهم‬ ‫يتكلمون بجد‪ ،‬فال �شك �أن ِ��ك جتازفني نحو الأ�سو�أ‪.‬‬ ‫أنك‬ ‫فلي�س ا�ستثناء �أن معجب ًا عربي ًا يكرر �أمامك‪ِ � ،‬‬ ‫رائعة �إىل م�ستوى �أن��ك تكت�شفني نف�سك‪ ،‬تتفتحني‬ ‫مثل وردة جميلة‪ .‬لكن‪� ،‬إياك والظن �أنه عا�شق هائم‪،‬‬ ‫عنك‪ ،‬قبل انق�ضاء ن�صف‬ ‫م��ادام �سين�سى كل �شيء ِ‬ ‫�ساعة‪.‬‬ ‫هذا النموذج من الرجال‪ ،‬يحبط عزمية الن�ساء‪،‬‬ ‫كي ال يفرطن يف الوفاء‪ .‬اللهم‪� ،‬إال املازو�شيات منهن‬ ‫طبع ًا‪.‬‬ ‫ح�ين‪ ،‬حت��دث��ت �إىل كري�ستني ع��ن و�سامة ج��اك‪،‬‬ ‫حذرتني قائلة‪" :‬بناء على مهنته ك�صحايف‪ ،‬فهو‬ ‫ممتاز‪ .‬ما �إن يقول كالم ًا ح�سن ًا عن كتاب من الكتب‪،‬‬ ‫حتى ي�سرع �آالف الفرن�سيني نحو املكتبات القتنائه‪.‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫لقد انتابني �شعور بالهلع‪ ،‬و�أنا �أطلع على التمييز الذي �أقامه‬ ‫"كانت" بني الذهني والإغواء‪ .‬كم هذا االختيار مرعب‪ :‬اجلمال‬ ‫�أو الذكاء! �أفق ي�أخذ رنين ًا‪ ،‬كالآتي‪" :‬املال �أو احلياة!"‬ ‫لكني ال �أثق به كثري ًا"‪ .‬حينما التم�ست منها تف�سري ًا‬ ‫دون �أن �أخربها طبع ًا‪� ،‬أن الرجل كان ينوي الرحيل‬‫بها ليعي�شا مع ًا يف جزيرة يباب‪� -‬ستو�ضح طبيعة‬ ‫العالقة القائمة بني النا�شرين وال�صحافيني‪�" :‬إننا‬ ‫مثل حرمي‪ ،‬ي�سكن قلب باري�س"‪ .‬ودون رغبة‪ ،‬يف مزيد‬ ‫من اال�ستطراد‪ ،‬خل�صت �إىل �أن جاك �شخ�ص غيور‪،‬‬ ‫عجز عن تدبر �أم��ره مع ن�ساء حقبته‪�" :‬إنه �صاحب‬ ‫نزعة ذكورية‪ ،‬من وراء مظهره املثري"‪.‬‬ ‫�س�أجنح‪ ،‬يف جعلها ت�ضحك‪ ،‬حينما عقبت على‬ ‫كالمها بالقول �إن��ه يف مدينة ال��رب��اط �أق��در ب�شكل‬ ‫خا�ص الذكوريني‪� ،‬أولئك من يظهرون كل �شيء‪ ،‬وال‬ ‫ميوهون عن لعبتهم‪.‬‬ ‫بعد ه��ذا النقا�ش‪ ،‬ق��ررت اخل�ضوع �إىل ال�شروط‬ ‫التي و�ضعها جاك‪ .‬تركته‪ ،‬ي�ساجل كتابي‪ ،‬و�أنا �أترقب‬ ‫�صدور مقالته‪ .‬ثم‪ ،‬بعد ذلك �شرع يف تفعيل منظوره‪.‬‬ ‫علي ق��راءة‬ ‫متثلت اخلطوة الأوىل‪ ،‬يف �أن اق�ترح ّ‬ ‫كتاب عجيب‪ ،‬حمله معه �إىل مقهى �شارع ريفويل‪،‬‬ ‫الواقع �أمام متحف اللوفر‪ ،‬حيث حددنا موعد لقائنا‪:‬‬ ‫"�أخربين �أنه الف�ضاء النموذجي بالن�سبة �إىل املثقفني‬ ‫الذين يعانون‪ .‬ت�ؤثث املكان مقاعد من اجللد الأحمر‬ ‫و�أ�سقف عالية تتلف ال�ضجيج‪ ،‬وكذا �آالت لتح�ضري‬ ‫القهوة متطورة جد ًا‪� .‬س�أعود �إليك بعد �ساعتني‪ ،‬كي‬ ‫�أقدم �إليك �أول جارية تنتمي �إىل حرميي‪� .‬ساعتان‪،‬‬ ‫هي بال�ضبط امل��دة التي تكفيك ق�صد االنتهاء من‬ ‫قراءة هذا الكتاب"‪.‬‬ ‫الكتاب املق�صود‪ ،‬مل�ؤلفه �إميانويل كانت وعنوانه‪:‬‬ ‫مالحظات ح��ول الإح�سا�س باجلميل والعظيم‪� .‬إن‬ ‫الطريقة الوحيدة‪ ،‬لفهم الغربيني كما نبهني جاك‪،‬‬ ‫تكمن يف ق��راءة فال�سفتهم‪ .‬ومبا �أين ال �أخفي �أبدا‬ ‫جهلي‪ -‬كي ال �أ�ضيع فر�صة متنحني �إمكانية التعلم‪-‬‬ ‫العدد‬

‫اعرتفت له ب�أين مل �أقر�أ "كانت" �أبد ًا‪� .‬أعلم‪ ،‬فقط �أنه‬ ‫فيل�سوف �أملاين‪ ،‬ومثقفو �أوروبا ي�سعدهم اال�ست�شهاد‬ ‫به‪ .‬انده�ش ج��اك‪ ،‬ثم ب��ادرين بال�س�ؤال عما قر�أته‬ ‫خ�لال حقبة درا���س��ات��ي‪� .‬أخ�برت��ه‪� ،‬أين حفظت �أو ًال‬ ‫ال��ق��ر�آن ع��ن ظهر قلب يف املدر�سة االبتدائية‪ ،‬ثم‬ ‫ال�شعر اجلاهلي يف املدر�سة الثانوية‪ ،‬لذلك انعدمت‬ ‫ممكنات لقائي ب�إميانويل كانت خالل فرتة وجودي‬ ‫مبدينة فا�س‪.‬‬ ‫ً‬ ‫�ضاحك ًا‪� ،‬سيعلق جاك على جوابي‪ ،‬م�ستح�سنا عدم‬ ‫معرفتي بهذا الفيل�سوف؛ لأن��ه مل يكن بتات ًا لطيف ًا‬ ‫مع الن�ساء‪ .‬مع �أن هذا الفيل�سوف مينح مفتاح ًا عن‬ ‫دواعي اغتيال �شهرزاد من طرف �إدغار بو‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬ي�ؤكد كانت �أن دماغ امر�أة "عادية"‪ ،‬مربمج‬ ‫لـ "احل�سا�سية الأكرث نعومة"‪ ،‬بالتايل عليها التخلي‬ ‫ع��ن "التنظريات واملفاهيم امل��ج��ردة‪ .‬ه��ي‪ ،‬مفيدة‬ ‫لكنها جافة"‪ .‬و�أن ت�ترك ه��ذه امل��ي��ادي��ن املعرفية‬ ‫للرجال؛ "لأن امل���ر�أة‪ ،‬عندما تثابر على الدرا�سة‬ ‫املتعبة �أو التفكري الذي ال يبهج املزاج‪ ،‬ف�إن من �ش�أن‬ ‫ذلك �إنهاك ما مييز جن�سها من خ�صائ�ص‪ ،‬وقد ال‬ ‫ت�شكل مو�ضوع تقدير الفت‪ ،‬ب�سبب ندرة الن�ساء يف‬ ‫ه��ذا امل��ج��ال‪ .‬كما �أنها �ستق�ضي على املفاتن التي‬ ‫بوا�سطتها متار�س ت�أثري ًا على الرجل"‪.‬‬ ‫لقد انتابني �شعور بالهلع‪ ،‬و�أنا �أطلع على التمييز‬ ‫الذي �أقامه "كانت" بني الذهني والإغواء‪ .‬كم‪ ،‬هذا‬ ‫االختيار مرعب‪ :‬اجلمال �أو الذكاء! �أفق ي�أخذ رنين ًا‪،‬‬ ‫كالآتي‪" :‬املال �أو احلياة!"‪.‬‬ ‫ر�سالة "كانت" قاعدية‪ :‬الأنوثة هي اجلمال‪ ،‬بينما‬ ‫الذكورة �سمو‪ .‬الأخري ي�شري طبع ًا‪� ،‬إىل القدرة على‬ ‫التفكري‪ ،‬واالرتقاء عن امل�ستوى احليواين وامل��ادي‪.‬‬ ‫وكان حري�ص ًا‪ ،‬على احرتام هذا التمايز؛ لأن امر�أة‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪29‬‬


‫ملّا تالم�س ال�سمو‪ ،‬تنعت على‬ ‫الفور بالب�شاعة‪.‬‬ ‫ع��ل��ى النقي�ض م��ن ه���ارون‬ ‫ال����ر�����ش����ي����د‪ ،‬ال���������ذي ب���ق���در‬ ‫ماي�ستهويه جمال الن�ساء‪ ،‬يلح‬ ‫كذلك على ذكائهن‪ ،‬و�أدى يف‬ ‫�سبيل حتقيق رغ��ب��ت��ه‪ ،‬مبالغ‬ ‫مالية �ضخمة كي ي�ستقطب �إىل‬ ‫حرميه �أك�ثر اجل��واري نباهة‪.‬‬ ‫�سيع�شق "كانت" الن�ساء ال�صامتات؛ لأنه �إذا �أدى‬ ‫اكت�ساب املعرفة باملر�أة �إىل فقدانها فتنتها‪ ،‬فتلك‬ ‫التي �ستظهر هذه املعرفة قد ت�صل حد ق�ضائها على‬ ‫�أنوثتها‪�" :‬إن امر�أة يزخر ر�أ�سها‪ ،‬بفكر الإغريق كما‬ ‫احلال مع ال�سيدة دا�سيي‪� ،‬أو تتكلم عن امليكانيكا مثل‬ ‫الماركيز دو �شاتلي‪ ،‬فبو�سعها �أي�ض ًا �أن تنبت حلية"‪.‬‬ ‫ال�سيدة دا�سيي (‪ ،)1654-1720‬كانت قد ترجمت‬ ‫الإلياذة والأودي�سا‪� .‬أما الماركيز دو �شاتلي‪� ،‬صديقة‬ ‫ف��ول��ت�ير‪ ،‬ف��ق��د ف���ازت �سنة ‪ 1738‬ب��ج��ائ��زة تتويج ًا‬ ‫لأبحاثها حول طبيعة النار‪� .‬إذ ًا‪ ،‬هكذا ع�صر الأنوار‬ ‫والتقدم‪.‬‬ ‫�أعتقد‪� ،‬أن ه��ذا االن�شطار القا�سي بني اجلمال‬ ‫والذكاء‪ ،‬ي�شكل اختالف ًا جوهري ًا بني ال�شرق والغرب‪.‬‬ ‫وكلما‪ ،‬عدت بذاكرتي بعيد ًا‪� ،‬أ�ستعيد دائم ًا �صدى‬ ‫ك�ل�ام‪��� ،‬س��واء مبا�شرة ح�ين ارت��ك��اب��ي حل��م��اق��ة‪� ،‬أو‬ ‫بطريقة غ�ير مبا�شرة ب�ين طيات كتاباتي‪ ،‬حينما‬ ‫الت�صل طبع ًا امر�أة بلهاء �إىل حتقيق �أي �شيء‪ .‬د�أبت‬ ‫يا�سمينة‪ ،‬على �أن تكرر �أمامي"جمالك هنا"‪ ،‬هكذا‬ ‫تكرر يل م�شرية �إىل ر�أ�سها الذي تلفه عمامة‪.‬‬ ‫�أتذكر"تو ّدد"‪ .‬ذل��ك‪� ،‬أن يا�سمينة التي ال تعرف‬ ‫القراءة و الكتابة‪ ،‬كانت تطلب من �أبناء عمي الأكرب‬ ‫‪30‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�سن ًا‪� ،‬أن ي��ق��ر�ؤوا يل ويعيدوا‬ ‫ق���راءة ت��اري��خ "تو ّدد" �إح��دى‬ ‫بطالت "�ألف ليلة وليلة"‪ ،‬كي‬ ‫�أ�ستوعب الدر�س جيد ًا‪:‬‬ ‫"�س�أل اخلليفة‪ ،‬ت���ودد‪ :‬ما‬ ‫ا����س���م���ك؟‪� .‬أج���اب���ت���ه‪ :‬ا���س��م��ي‬ ‫ت����ودد‪ .‬ث��م ���س���أل��ه��ا ب��ع��د ذل��ك‪:‬‬ ‫ي��ات��ودد‪ ،‬ماهي امل��ج��االت التي‬ ‫ت��ت��ف��وق�ين ف���ي���ه���ا؟‪� .‬أج���اب���ت���ه‪:‬‬ ‫�سيدي‪� ،‬أن��ا مت�ضلعة يف النحو وال�شعر والق�ضاء‬ ‫والتف�سري والفل�سفة‪� .‬أع���رف املو�سيقا وال�شعائر‬ ‫املقد�سة واحل�ساب وعلم م�ساحة الأر�ض والهند�سة‬ ‫وحكايات القدامى‪ ....‬كما در�ست العلوم الدقيقة‬ ‫والهند�سة وال��ط��ب واملنطق وال��ب�لاغ��ة و الرتكيب‪.‬‬ ‫لقد حفظت �أ�شياء كثرية عن ظهر قلب‪ ،‬و�أنا �شغوفة‬ ‫بال�شعر‪� ،‬أتقن العزف على �آلة العود‪ ،‬و�أع��رف �سلم‬ ‫الأنغام والعالمات املو�سيقية والتدوينات املو�سيقية‪،‬‬ ‫وكذا كيفية زيادة ال�صوت املو�سيقي �أو تخفي�ضه‪� .‬إذا‬ ‫�شدوت ورق�صت ف�إين �أغوي‪ .‬و�إذا‪ ،‬لب�ست وتعطرت‪،‬‬ ‫ف�إين �أ�صعق‪� .‬إجما ًال‪ ،‬لقد بلغت قمة الكمال‪ ،‬بحيث‬ ‫الأغنى ثقافة من بو�سعه حق ًا تقديري"‪.‬‬ ‫يف ه��ذا امل�شهد‪ ،‬تعر�ض ت��ودد وه��ي � َأم���ة‪ ،‬نف�سها‬ ‫للبيع‪ .‬لذلك‪ ،‬فالدقائق القليلة التي منحها �إياها‬ ‫اخلليفة‪ ،‬قدمت لها حظ ًا ا�ستثنائي ًا كي تفنت موالها‪،‬‬ ‫و يختارها للعمل على ت�سليته‪ .‬ثم تتفوق لي�س فقط‬ ‫على باقي ن�ساء احلرمي‪ ،‬ولكن �أي�ض ًا على جل الرجال‬ ‫من العلماء والفنانني‪ ،‬الذين كانوا ي�ترددون على‬ ‫الق�صر‪.‬‬ ‫نالحظ ج��ي��د ًا‪� ،‬أن ام��ر�أة تنتمي لن�ساء احل��رمي‪،‬‬ ‫لي�س لها من �أمل �إذا �أرادت �إثارة االنتباه‪ ،‬غري تثقيف‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫التاريخ واجلغرافيا‪ ،‬كالريا�ضيات معارف �أي�ض ًا ميكنها تبديد‬ ‫جمال الفتيات‪�" :‬إنهن لن ميلأن الر�أ�س بتاريخ املعارك‪،‬‬ ‫وجغرافية التح�صينات؛ لأنه يجدر بهن �أي�ض ًا‪ ،‬الإح�سا�س ببارود‬ ‫املدفع‪ ،‬مثل تذوق الرجال لعطر امل�سك"‬ ‫نف�سها‪ .‬لذلك‪ ،‬لو �آمنت بر�أي "كانت"‪ ،‬وبقيت جاهلة‪،‬‬ ‫ف�سيكون الأمر انتحار ًا من طرفها‪ .‬مادام الفيل�سوف‬ ‫الأمل���اين‪ ،‬يعتقد �أن��ه ال ينبغي على الن�ساء درا�سة‬ ‫الهند�سة والفلك والتاريخ‪ ،‬وه��ي معارف �أ�سا�سية‬ ‫لن�ساء احل��رمي املتميزات بحد �أدن��ى من الطموح‪.‬‬ ‫يكتب كانط‪" :‬لن يفقد جمالهن �شيئ ًا من قوته‪� ،‬إذا مل‬ ‫يدركن ماتخيله �ألغاروتي ‪ Algarotti‬بالن�سبة �إليهن‬ ‫بخ�صو�ص مو�ضوع اجلاذبية عند نيوتن"‪.‬‬ ‫التاريخ واجلغرافيا‪ ،‬كالريا�ضيات معارف �أي�ضاً‬ ‫ميكنها تبديد ج��م��ال ال��ف��ت��ي��ات‪�" :‬إنهن ل��ن مي�ل�أن‬ ‫الر�أ�س بتاريخ املعارك‪ ،‬وجغرافية التح�صينات؛ لأنه‬ ‫يجدر بهن �أي�ض ًا‪ ،‬الإح�سا�س ببارود املدفع‪ ،‬مثل تذوق‬ ‫الرجال لعطر امل�سك"‪ .‬و�إذا �أراد لهن "كانت"‪ ،‬الإملام‬ ‫مبا يكفي‪ ،‬بغية تبلور قدرتهن على ن�سج �أحاديث‪،‬‬ ‫فين�صحهن‪ ،‬ب�ضرورة جتنب كل ا�ستعرا�ض للمعارف‬ ‫املو�سوعية‪" :‬جيد �أن الن�ساء بو�سعهن الت�سلية‪،‬‬ ‫وهن يت�أملن خريطة العامل ب�أكمله �أو �أكرث �أجزائه‬ ‫�أهمية‪ .‬لكن لي�س من ال�ضروري �أبد ًا‪� ،‬أن يعرفن فروع‬ ‫الأقاليم و�صناعاتها وحكامها وكذا قوتها‪� .‬أي�ض ًا‪ ،‬من‬ ‫غري املجدي توفرهن على معرفة وا�سعة حول الكون‪،‬‬ ‫�إذا مل يخول لهن ذلك �إمكانية تقييم بهاء جمال ليلة‬ ‫�صيفية و كنا قادرات على �إدراك �أنه يف ال�سماء توجد‬ ‫�أي�ض ًا عوامل وخملوقات �أكرث جما ًال"‪.‬‬ ‫�ألي�س غريب ًا‪ ،‬فيما �أظن ونحن نقر�أ هذا‪� ،‬أن ال�شرق‬ ‫القرو�سطي �ضم م�ستبدين مثل ه���ارون الر�شيد‬ ‫يبحثون عن ج��واري متعلمات‪ ،‬بينما فال�سفة مثل‬ ‫"كانت" يف �أوروبا الأنوار‪ ،‬يحلمون بن�ساء جاهالت؟‬ ‫�أي ع��ائ��ق غ��ري��ب انت�صب بطريقة م�صطنعة بني‬ ‫اجلمال والذكاء! فف�ضاء "كانت"‪ ،‬الي�سكنه فقط نوع‬ ‫�إن�ساين واحد‪ ،‬بل اثنان‪ :‬واحد‪ ،‬موهوب مبلكة التفكري‬ ‫العدد‬

‫والثاين مبلكة الإح�سا�س‪ ،‬وال�سيما اال�ست�سالم للنظر‪.‬‬ ‫و�أن��ا جال�سة يف املقهى الباري�سي‪ ،‬ت�ساءلت عن‬ ‫جميع ه��ذه الأل��غ��از امل��ت��وال��ي��ة‪ .‬ه��ل ت��وج��د �صلة بني‬ ‫اغتيال �إدغاربو ل�شهرزاد‪ ،‬وكذا الف�صل الذي �أقامه‬ ‫كانط بني الذكاء واجلمال؟‪ .‬ولكي نعود �إىل �إدغاربو‪،‬‬ ‫ف�صحيح �أن الأمريكي يخ�ص �شهرزاد بدماغ متطور‬ ‫جد ًا‪ ،‬لي�س كما ال�ش�أن مع "تيوفيل غوتيي"‪.‬‬ ‫ثالث �سنوات‪ ،‬قبل �صدور كتاب �إدغاربو‪� ،‬سيقتل‬ ‫بدوره الكاتب الفرن�سي �شهرزاد يف ن�سخته عن �ألف‬ ‫ليلة وليلة‪ ،‬لكن هذه امل��رة‪ ،‬كان امل�برر حق ًا خمزي ًا‬ ‫ويفتقد للإلهام‪ .‬ف�إذا قتل �إدغ��ار بو‪� ،‬شهرزاد لأنها‬ ‫تعرف كثري ًا‪ ،‬فهي عند تيوفيل غوتيي التعرف كفاية‪.‬‬ ‫م��ا ال��ذي يجعل ال��رج��ال‪ ،‬يحلمون بجمال مثايل‬ ‫خمتلف‪� ،‬سواء انتموا �إىل الغرب �أو ال�شرق‪ ،‬ال�شمال‬ ‫�أو اجلنوب؟ وماذا ميكن لهذا االختالف‪� ،‬أن يعلمنا‬ ‫ح��ول الثقافتني؟ مل��اذا يتمنى رج��ل متنور ج��د ًا مثل‬ ‫"كانت"‪ ،‬رفيقة ينتزع دماغها كي ت�ؤدي دور البلهاء‪،‬‬ ‫ح��ت��ى ول���و ك��ان��ت �أك�ث�ر اط�ل�اع��� ًا م��ن��ه؟‪.‬ه��ل العنف‬ ‫املفرو�ض على ن�ساء ال�شرق‪ ،‬م�صدره �أن الإقرار لهن‬ ‫مبلكة التفكري �سيجعلهن على قدم امل�ساواة‪ .‬بينما‬ ‫يف الغرب‪ ،‬تتميز الأ�شياء �أكرث بطابع الليونة‪ ،‬مادام‬ ‫م�سرح ال�سلطة يدبر االلتبا�س بني الذكورة والذكاء؟‪.‬‬ ‫هكذا �شعرت‪ ،‬بعياء ج�سدي وبرجفة‪ .‬بد�أت �أترقب‬ ‫ع���ودة ج���اك‪ ،‬لكني ت��ذك��رت �أن���ه دائ���م ال��ت���أخ��ر مثل‬ ‫مغربي‪ .‬مع ذلك ت�شري �ساعتي‪� ،‬أن��ه الزال��ت �أمامي‬ ‫خم�س ع�شرة دقيقة على املوعد املحدد‪�" :‬أهم�س �إىل‬ ‫نف�سي‪� :‬سبب مر�ضي هو ق��راءة "كانت" من جهة‪،‬‬ ‫و�أكواب القهوة الثالث التي تناولتها من جهة ثانية"‪.‬‬ ‫لقد‪ ،‬غاب عني‪� ،‬أنه يف الغرب كل �شيء قوي‪ ،‬ابتداء‬ ‫من القهوة‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪31‬‬


‫الثقافة العربية‬ ‫في إيطاليا‬ ‫العمارة والنحت والرسم والموسيقا واآلداب عناوين التواصل‬ ‫الثقافة هي هوية كل �أمة وعنوان بنائها‪ ،‬وهي املبادئ والقيم‬ ‫الرا�سخة واملقومات التي متيزها‪ .‬وال تعني ثقافة �أمة �إهمال‬ ‫ثقافة الآخر‪ ،‬بل يجب االنفتاح على الثقافات الأخرى والتفاعل‬ ‫معها والأخذ منها بعد غربلتها مبا يتنا�سب مع ثقافتنا‪.‬‬ ‫الثقافة هي هوية كل �أمة وعنوان بنائها‪ ،‬وهي املبادئ‬ ‫والقيم الرا�سخة واملقومات التي متيزها‪ .‬وال تعني ثقافة‬ ‫�أمة �إهمال ثقافة الآخر‪ ،‬بل يجب االنفتاح على الثقافات‬ ‫الأخ��رى والتفاعل معها والأخ��ذ منها بعد غربلتها مبا‬ ‫يتنا�سب مع ثقافتنا‪.‬‬ ‫ول����ق����د ت�����ش��ك��ل��ت ج����ذور‬ ‫الثقافة العربية قبل الإ�سالم‪،‬‬ ‫�سها �شر ّيف‬ ‫ث��م �أغ��ن��اه��ا ال���ق���ر�آن ال��ك��رمي‬ ‫�سوريا‬ ‫فانت�شرت يف م�شارق الأر���ض‬ ‫وم����غ����ارب����ه����ا‪ .‬وق������د م���ار����س‬ ‫امل�ست�شرقون عملية �إق�صاء‬ ‫وان��ت��ق��ا���ص ل��ت��اري��خ ال�����ش��رق‬ ‫احل�ضاري‪ .‬وك��ان هناك ت�آمر‬ ‫على ثقافتنا العربية قد و�صف‬ ‫يو�سف ال�شاروين امل�ست�شرقني‬ ‫ب����أن���ه���م‪" :‬ال ي��ع��ن��ي��ه��م �أدب��ن��ا‬ ‫ك�أعمال فنية‪� .‬إن ما يهمهم هو‬ ‫ما ي�ستخل�صونه منه ل�شعوبهم‬ ‫حضارة‬ ‫‪32‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫لفهم نف�سية جمتمعاتنا‪ ،‬ومعرفة نواحي ال�شعف والقوة‬ ‫فيها"‪ .‬وعلى الرغم من ذلك ماتزال الثقافة العربية‬ ‫توا�صل انت�شارها يف البالد الأخرى‪ ،‬وخا�صة يف ميادين‬ ‫اللغة والأدب واملخطوطات العربية‪ .‬ويف ثقافتنا العربية‬ ‫�أ�سماء رائدة فاعلة يف احلوار‬ ‫احل���������ض����اري‪ ،‬ك�����ش��ف��ت ع��ن‬ ‫ال�ث�راء الإن�����س��اين والتاريخي‬ ‫واحل�����ض��اري ل��ل��أدب والفكر‬ ‫ال��ع��رب��ي�ين‪ .‬ول���ق���د �صححت‬ ‫خربات الرتجمة املتخ�ص�صة‬ ‫ب�������الأدب ال���ع���رب���ي ال�����ص��ورة‬ ‫امل�شوهة التي زرعها البع�ض‪،‬‬ ‫وبنت ج�سر ًا لتبادل املعرفة‬ ‫وال��ث��ق��اف��ات‪ .‬وه���ن���اك بع�ض‬ ‫امل�ستعربني ممن ع�شقوا لغتنا‬ ‫العربية بعد اط�لاع��ه��م على‬ ‫ثقافتنا العربية املليئة باخلري‬ ‫وال��ع��دال��ة وامل��ح��ب��ة وال�����س�لام‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫والبعيدة عن العن�صرية والظلم‪ ،‬والتي ال تتنكر للرتاث‬ ‫وال تغم�ض عينيها عن متطلبات اليوم‪.‬‬ ‫وقد �سعى كثري منهم �إىل تفعيل العالقات بني العرب‬ ‫والغرب من خالل الرتجمة‪ ،‬و�سعى بع�ضهم �أي�ض ًا �إىل‬ ‫نقل ال�صورة احلقيقية عن تراثنا وثقافتنا بكل �أمانة‬ ‫للغرب ب�شكل عام والإيطالية ب�شكل خا�ص‪.‬‬ ‫�إن العالقات التاريخية بني �إيطالية والعامل العربي‬ ‫قدمية ومتجددة‪ .‬فقد كانت �إيطاليا وراء �إن�شاء �أول‬ ‫مطبعة حديثة مل�صر‪ .‬ويرجع الف�ضل يف ت�صميم جامعة‬ ‫القاهرة �إىل معماريني �إيطاليني‪ ،‬وذلك بحكم العالقات‬ ‫القوية التي كانت تربط الأمري �أحمد ف�ؤاد بحكام �إيطاليا‬ ‫�آنذاك‪ .‬كما ا�ستمر �إر�سال البعثات امل�صرية �إىل �إيطاليا‬ ‫لتعلم فنون العمارة والنحت والر�سم واملو�سيقا والآداب‬ ‫حتى بعد احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫�إن ال�صالت التاريخية التي ربطت �إيطاليا – وخا�صة‬ ‫�صقلية‪ -‬بالعرب وال�شرق الإ�سالمي – قدمية حيث‬ ‫انت�شرت احل�ضارة العربية الإ�سالمية يف �صقلية �سنة‬ ‫‪ 827‬م‪ .‬وقد ترك العرب يف جزيرة �صقلية كثري ًا من‬ ‫العدد‬

‫عاداتهم وتقاليدهم التي ال تزال باقية حتى الآن‪ ،‬كما‬ ‫تركوا �ألفاظ ًا عربية كثرية يف اللغة ال�صقلية والإيطالية‪.‬‬ ‫وال تزال مدن كثرية يف اجلزيرة حتمل �أ�سماء عربية‪،‬‬ ‫ففي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباين العرب‬ ‫�أحدهما قلعة العزيزة والآخر ق�صر القبة‪ .‬وا�ستمرار ًا‬ ‫لهذه ال�صالت التاريخية القدمية التي ربطت �إيطاليا‬ ‫– وخا�صة �صقلية‪ -‬بالعرب وال�شرق الإ�سالمي‪ ،‬ومن‬ ‫�أج��ل تعميق الن�شاط الثقايف العربي قامت جمموعة‬ ‫من الأك��ادمي�ين الليبني بت�أ�سي�س �أكادميية ليبية يف‬ ‫�صقلية‪ ،‬وه��ذه الأك��ادمي��ي��ة ع��ب��ارة ع��ن جهة م�ستقلة‬ ‫ت�ستفيد من املنحة املالية من وزارة اخلارجية الليبية‬ ‫ومن خم�ص�صات دعم التبادل الثقايف مع اجلامعات‬ ‫الإيطالية‪.‬‬ ‫والري���ب يف �أن العالقات الثقافية التاريخية بني‬ ‫�إيطاليا ودول املتو�سط كانت قائمة منذ �أيام الرومان‬ ‫الذين قدموا �إىل ال�شرق و�أخ��ذوا منه‪ .‬وهناك العديد‬ ‫من املن�ش�آت املعمارية التي بناها مهند�سون �إيطاليون يف‬ ‫ون�صب �ساحة‬ ‫�سورية مثل امل�شفى الطلياين يف دم�شق‪ْ ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪33‬‬

‫أي���ض���ًا االه���ت���م���ام ب��ت��ق��دي��م ن��ت��اج��ات��ن��ا األدب����ي����ة وال���ف���ك���ري���ة م��ت��رج��م��ة إل����ى ل��غ��ات��ه��م‬

‫إذا ك���ن���ا ن����ري����د ح���������وارًا ح����ض����اري����ًا م�����ع ال�����غ�����رب ف��ع��ل��ي��ن��ا‬


‫كانت �إيطاليا وراء �إن�شاء �أول مطبعة حديثة مل�صر‪.‬‬ ‫ويرجع الف�ضل يف ت�صميم جامعة القاهرة �إىل معماريني �إيطاليني‬ ‫ال�شهداء (املرجة)‪ ،‬والكني�سة الالتينية يف الالذقية‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل الت�أثر والت�أثري يف ال�شوارع والأ�سواق والأبنية‪.‬‬ ‫ويف الع�صر احل��دي��ث ا�ستمرت ع�لاق��ات التعاون‬ ‫وال��ت��ب��ادل الثقايف ب�ين �إيطاليا ودول البحر الأبي�ض‬ ‫املتو�سط ومنها �سورية ولبنان‪ ،‬وم��ن �ضمن برنامج‬ ‫التعاون ال�سوري الإيطايل امل�شرتك وخا�صة يف جمال‬ ‫الآثار ت�سلمت �سورية عام ‪� 2007‬أربع لوحات ف�سيف�سائية‬ ‫متثل نفائ�س �أث��ري��ة رائ��ع��ة ت��ع��ود للقرنني اخلام�س‬ ‫وال�ساد�س امليالديني بعد �أن جرى ترميمها يف �إيطاليا‪،‬‬ ‫واجلدير ذك��ره هو �أن تلك اللوحات املرممة عر�ضت‬ ‫�ضمن املعر�ض الأث��ري "مكعبات على طريق دم�شق‪..‬‬ ‫ف�سيف�ساء من ال�شرق" ال��ذي �أقيم يف متحف مدينة‬ ‫رافينا الإيطالية‪ ،‬وال��ذي �شهد �إقبا ًال مميز ًا وجناح ًا‬ ‫كبري ًا حيث زاره ما يتجاوز ‪� 55‬ألف زائر خالل ثالثة‬ ‫�أ�شهر‪.‬‬ ‫ومت ت�أ�سي�س �أول دار ن�شر باللغة العربية يف روما (�شرق‬ ‫– غرب ) عام ‪ ،1979‬وت�سعى هذه الدار �إىل بناء ج�سور‬ ‫بني ال�شعوب عرب الأدب‪ ،‬واالنفتاح يف املجاالت الأدبية‬ ‫بغية تعزيز احلوار بني الثقافات املختلفة‪ .‬وحتاول ربط‬ ‫الأدب العربي ب��الآداب الأجنبية عن طريق الرتجمة‬ ‫املبا�شرة‪ ،‬وتقوم حالي ًا بالرتجمة للإيطالية والإجنليزية‬ ‫يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫ونذكر �أي�ض ًا مركز "ابن ر�شد"‪ ،‬وهو جمعية تر�أ�ستها‬ ‫نائبة جمل�س النواب الإيطايل املغربية الأ�صل �سعاد‬ ‫ال�سباعي‪ .‬وي�سعى هذا املركز �إىل دعم وت�شجيع حوار‬ ‫حقيقي بني ال�شرق والغرب من �أجل فهم �أف�ضل للثقافة‬ ‫الإ�سالمية يف �إيطاليا‪.‬‬ ‫ولتدعيم هذه العالقات ولتعميق الن�شاط الثقايف‬ ‫العربي قامت احلكومة الإيطالية ب�إحداث ق�سم اللغة‬ ‫العربية والدرا�سات الإ�سالمية يف جامعات �إيطاليا‪،‬‬ ‫‪34‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫و�أث��ن��اء الدرا�سة يتعرف الطلبة �إىل التاريخ العربي‬ ‫القدمي والتاريخ الإ�سالمي والأدب العربي‪.‬‬ ‫ولقد تخرج منها �أعداد كبرية ومن جن�سيات خمتلفة‪.‬‬ ‫وقام عدد منهم بت�أليف عدد من الكتب عن احل�ضارة‬ ‫العربية‪ ،‬ون�شروا مقاالت وبحوث ًا يف املجالت الإيطالية‬ ‫والأجنبية‪ ،‬وحاولوا �إعطاء الوجه ال�صحيح احل�ضاري‬ ‫للعرب‪.‬‬ ‫ومن طالبه املتفوقني واملهتمني بالثقافة العربية نذكر‬ ‫منهم‪ :‬امل�ستعربة الإيطالية الدكتورة �إيزابيال كامريا‬ ‫دافليتو‪ ،‬وهي �أكادميية ومرتجمة وناقدة‪ .‬در�ست اللغة‬ ‫العربية على يد امل�ست�شرق الإيطايل ال�شهري فران�شي�سكو‬ ‫غابريللي يف جامعة روما‪ .‬وهي �أ�ستاذة كر�سي يف الأدب‬ ‫العربي املعا�صر يف كلية الدرا�سات ال�شرقية بجامعة‬ ‫روما‪ ،‬كما �أنها ع�ضو جلنة حتكيم يف اجلائزة الدولية‬ ‫للرواية العربية (بوكر)‪ ،‬وع�ضو جلنة الدرا�سات العليا‬ ‫والدكتوراه يف بحوث ح�ضارة وثقافات جمتمعات �آ�سيا‬ ‫و�إفريقيا بجامعة روما‪.‬‬ ‫وف��ازت الدكتورة �إيزابيال بعدة جوائز منها جائزة‬ ‫(كافور جرينزانى) للرتجمة عام ‪ ،2006‬واجلائزة‬ ‫القومية للرتجمة التى يقدمها املجل�س الأعلى للرتجمة‬ ‫مب�صر عام ‪ .2006‬وجائزة (�سان جريوالمو) للرتجمة‪-‬‬ ‫عام ‪ .1995‬وهي ع�ضو دائم باجلائزة الإيطالية القومية‬ ‫للرتجمة‪ ،‬وجائزة ال�شارقة للثقافة العربية ب�إ�شراف‬ ‫اليون�سكو‪ .‬كتبت العديد من الأبحاث واملقاالت الأدبية‬ ‫التي يدور �أغلبها حول الأدب العربي املعا�صر ون�شرتها‬ ‫يف خمتلف املجالت الإيطالية والعاملية‪ .‬و�ألفت العديد‬ ‫من الكتب عن الأدب العربي‪ ،‬منها (مائة ع��ام من‬ ‫الثقافة الفل�سطينية)‪ .‬ولقد قامت برتجمة الأدب‬ ‫العربي املعا�صر �إىل لغتها مبفردها‪ ،‬حيث ترجمت �إىل‬ ‫الإيطالية اثنتي ع�شرة رواية و�أكرث من �سبعني ق�صة‪.‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫جامعة ميالنو‬

‫ومن الكتب التي ترجمتها (مريمار) لنجيب حمفوظ‪،‬‬ ‫و(�سدا�سية الأي��ام ال�ستة) لإميل حبيبي‪ ،‬و(رج��ال يف‬ ‫ال�شم�س ) ورواي��ة ( العودة �إىل حيفا ) و( �أم �سعد )‬ ‫لغ�سان كنفاين‪ ،‬ورواي��ة ( �أ�صوات ) ل�سليمان فيا�ض‪،‬‬ ‫و(خم��ت��ارات ق�ص�صية) لغادة ال�سمان‪ ،‬وخمتارات‬ ‫ق�ص�صية لكاتبات �سعوديات‪.‬‬ ‫كانت تطمح من خالل الرتجمة والكتابة يف ال�صحافة‬ ‫�إىل دح�ض الأفكار املغلوطة عن العامل العربي؛ فهي‬ ‫ت��رى �أن الأدب العربي يحمل خ�صو�صيات عميقة‪،‬‬ ‫وله معان �إن�سانية ال ي�ستهان بها‪ .‬وتفتخر مبا قدمته‬ ‫من كتب مرتجمة برغم ال�صعوبات‪ ،‬وتقول‪" :‬هذا هو‬ ‫النجاح احلقيقي يف احلياة بالن�سبة �إيل‪ ،‬وهو جناح‬ ‫�أفخر به‪ ،‬و�أ�شعر بعمق الر�ضا لأنني �ساعدت �شبابنا‬ ‫على معرفة الآخر من دون �أن يكتفوا مبا ي�سمعونه عنه‬ ‫من و�سائل الإعالم‪ ،‬والذي �شوهته ال�سيا�سة �أي�ض ًا‪ ،‬بل‬ ‫�أن يتعمقوا يف معرفة الآخ��ر معرفة مبا�شرة"‪ .‬قامت‬ ‫احلكومة الإيطالية بتكرميها ومنحتها و�سام ًا جلهودها‬ ‫يف التعريف بالثقافات الأخر ‏ى ‏‪ ،‬واتهمها دعاة التع�صب‬ ‫بالتطرف الإ�سالمي‏‪.‬‬ ‫ومن امل�ستعربني الذين �أ ْث��روا التفاعل احل�ضاري‪،‬‬ ‫الدكتور فران�شي�سكو ليجو‪ ،‬فقد تعمق بدرا�سة اللغة‬ ‫العربية وح�صل على الدكتوراه بالدرا�سات ال�شرقية من‬

‫العدد‬

‫جامعة لوريينتايل بنابويل‪ .‬وهو يد ِّر�س اللغة العربية يف‬ ‫اجلامعات الإيطالية ويقوم برتجمة العديد من الآثار‬ ‫الإبداعية العربية �إىل اللغة الإيطالية‪.‬‬ ‫ويرى الدكتور فران�شي�سكو ب�أن ما يرتجم �إىل اللغة‬ ‫الإيطالية قليل ج��د ًا وال يعك�س ث��راء الإب���داع العربي‬ ‫القدمي منه واحلديث‪.‬‬ ‫وم��ن الكتب التي ترجمها‪( :‬مو�سم الهجرة �إىل‬ ‫ال�شمال) للأديب الطيب �صالح‪ ،‬و(ذاك��رة اجل�سد)‬ ‫لأحالم م�ستغامني‪ ،‬ورواية (البق والقر�صان) لعمارة‬ ‫اخلو�ص؛ وذلك لولعه بالثقافة العربية وحماولة منه‬ ‫لتعريف القارئ الأوروبي بالثقافة العربية‪ .‬كما �أنه ترجم‬ ‫العديد من الربامج التلفزيونية والأفالم الوثائقية حول‬ ‫م�سلمي �صقلية و�شارك يف عدد منها‪ .‬وترجم العديد من‬ ‫البحوث النقدية العربية �إىل الإيطالية‪.‬‬ ‫ونذكر �أي�ض ًا امل�ستعرب (�أيرو�س بلدي�سريا ) �أ�ستاذ‬ ‫اللغة والآداب العربية يف جامعة "كافو�سكري" يف‬ ‫البندقية املتخ�ص�ص ب��الأدب ال�سوري احلديث‪ ،‬ن�شر‬ ‫يف �إيطاليا يف عام ‪ 2007‬كتابه ( التجوال ا�ست�شراق ًا )‬ ‫لريوي ذكرياته يف �أواخر ال�ستينات و�أوائل ال�سبعينات‪،‬‬ ‫خ�لال رحالته ك�سائح طالب ا�ست�شراق يف منطقتنا‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهناك �أي�ضا امل�ستعربة الإيطالية الدكتورة د َر�ست‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪35‬‬


‫متحف ترا�ستيفريي‬

‫اللغة العربية يف جامعة تورينو الإيطالية‪ ،‬ثم قامت‬ ‫بتدري�س اللغة العربية (الكال�سيكية العربية واحلديثة‬ ‫واللهجة ال�سورية)‪ ،‬والأدب العربي (ع�صر ما قبل‬ ‫الإ���س�لام‪ ،‬ال�شعر العربي الكال�سيكي واحل��دي��ث) يف‬ ‫اجلامعات الإيطالية‪ ،‬وترجمت بع�ض ًا من الكتب‪.‬‬ ‫و�أي�ض ًا ممن ع�شقوا الثقافة العربية امل�ست�شرقة‬ ‫الدكتورة �أ ّن���ا ماريا ن ّلينو املتوفية ع��ام ‪ ،1974‬ابنة‬ ‫امل�ست�شرق الراحل كارلو �ألفون�سو ن ّلينو‪� ،‬أ�ستاذ الدرا�سات‬ ‫العربية الإ�سالمية وع�ضو يف جممع اللغة العربية عام‬ ‫‪ .1932‬فقد اهتمت ماريا �آن���ذاك بال�شعر اجلاهلي‬ ‫و�أ�صدرت �أول درا�سة لها بعنوان "خمتلف طبعات كتاب‬ ‫جمهرة �أ�شعار العرب"‪ ،‬و�أ�صدرت «�شعر النابغة اجلعدي»‬ ‫(روما �سنة ‪ .)1953‬ثم قامت برتجمة الق�صائد التالية‬ ‫�إىل اللغة الإيطالية‪ :‬معلقة امر�ؤ القي�س – معلقة عمرو‬ ‫بن كلثوم – معلقة احلارث بن ِح ّلزة – الربدة لكعب‬ ‫بن زهري‪ .‬ون�شرت هذه الرتجمات �ضمن كتاب "تاريخ‬ ‫الأدب العربي‪ ،‬ت�أليف مينجانتي وڤ��ن�تروين ‪ -‬عام‬ ‫‪� ."1971‬أما بالن�سبة �إىل �أدب الع�صر احلديث فلم‬ ‫تهتم مار ّيا ن ّلينو �سوى ب�أدب طه ح�سني‪ ،‬فكتبت مقالة‬ ‫عن «طه ح�سني و�إيطاليا»‪ ،‬كذلك ترجمت اجلزء الثالث‬ ‫‪36‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫من كتاب «الأيام» لطه ح�سني‪ .‬وب�سبب عملها يف «معهد‬ ‫ال�شرق» ويف جملة «ال�شرق احلديث» اهتمت بال�ش�ؤون‬ ‫ال�سيا�سية واالجتماعية يف البالد العربية املعا�صرة‪.‬‬ ‫وهناك الإيطالية فران�شي�سكا ماريا كوراو احلا�صلة‬ ‫على الدكتوراه يف الدرا�سات الإ�سالمية وفقه اللغة‬ ‫العربية يف جامعة روما والتي نقلت عدد ًا من الكتب بني‬ ‫اللغتني العربية والإيطالية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وتعزيز ًا لن�شر الثقافة العربية يف �إيطاليا وت�أكيدا لدور‬ ‫التفاعل احل�ضاري بني الثقافتني قام ال�شاعر واملرتجم‬ ‫(منري مزيد) برتجمة ‪ 300‬ق�صيدة من ال�شعر الإيطايل‬ ‫املعا�صر للعربية‪ ،‬و�صدر له يف �إيطاليا ‪ 6‬جمموعات‬ ‫�شعرية يف كتاب واحد حتت عنوان (عناقيد من دالية‬ ‫ال�سماء‪ ،) ...‬وحالي ًا �سوف ت�صدر له ‪ 6‬جمموعات‬ ‫�أخ��رى‪ .‬و�أجن��ز م�شروع ًا عبارة عن ح��وار بني ال�شرق‬ ‫وال��غ��رب بينه وب�ين ال�شاعر الإي��ط��ايل ميكيلي كاكمو‬ ‫بق�صائد جمعت يف كتاب واحد حتت عنوان (ق�صائد‬ ‫بلغة النور) �سعي ًا منهم �إىل �أن يعم ال�سالم بني �شعوب‬ ‫العامل مهما تعددت الثقافات‪ ،‬حيث �أن ما يوحد بني هذه‬ ‫ال�شعوب هو الإن�سانية‪.‬‬ ‫ومن املتميزين ممن حاولوا تفعيل العالقات بني‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�سعى كثري من امل�ستعربني �إىل‬ ‫تفعيل العالقات بني العرب‬ ‫والغرب من خالل الرتجمة‬

‫العرب و�إيطاليا القا�ص والأدي��ب وال�شاعر واملرتجم‬ ‫الأردين الراحل (عي�سى الناعوري)‪ .‬كتب يف بع�ض‬ ‫ال�صحف الإي��ط��ال��ي��ة‪ ،‬و�أل��ق��ى حم��ا���ض��رات يف بع�ض‬ ‫اجلامعات الإيطالية و�شارك يف عدة م�ؤمترات‪ ،‬منها‬ ‫م�ؤمتر الدرا�سات العربية الإ�سالمية يف رافيللو �إيطاليا‬ ‫‪ .1966‬ونال ميدالية ثقافية ف�ضية من وزارة اخلارجية‬ ‫الإيطالية عام ‪ 1963‬وع�ضوية �شرف يف املركز الإيطايل‬ ‫العربي يف روما‪.‬‬ ‫وذك��ر امل�ستعرب الإي��ط��ايل ال�شهري (فران�شي�سكو‬ ‫غربييلي ) يف �إح��دى اجلرائد الإيطالية عام ‪1971‬‬ ‫�أن عي�سى الناعوري من �أقدر مرتجمي ال�شعر والنرث‬ ‫الإيطاليني‪ .‬وتُرجمت الكثري من �أعماله الق�ص�صية‬ ‫وال�شعرية والعديد من حما�ضراته �إىل لغات غربية‬ ‫خمتلفة منها‪(:‬الإيطالية والإ���س��ب��ان��ي��ة والفرن�سية‬ ‫والرو�سية واملجرية والرومانية والإجنليزية)‪.‬‬ ‫ويف ثقافتنا العربية �أ�سماء كثرية رائ���دة فاعلة‬ ‫يف احل���وار احل�ضاري وك�شفت عن ال�ث�راء الإن�ساين‬ ‫والتاريخي واحل�ضاري للأدب والفكر العربيني‪ .‬ولقد‬ ‫عرفت اخلربات الرتجمية املتخ�ص�صة بالأدب العربي‬ ‫الغنى احل�ضاري العربي‪ ،‬و�صححت ال�صورة امل�شوهة‬ ‫التي زرعها البع�ض‪ ،‬ومنهم �أي�ض ًا على �سبيل املثال ال‬ ‫احل�صر‪ ،‬الأدي��ب وال�شاعر العراقي املقيم ب�إيطاليا‬ ‫(يون�س �صديق توفيق) الذي يعمل يف جمال ال�صحافة‬ ‫والرتجمة والكتابة الأدب��ي��ة‪ .‬وهو الآن ي�شغل من�صب‬ ‫�أ�ستاذ اللغة والأدب العربي يف جامعة جنوة "كلية‬ ‫العدد‬

‫اللغات"‪ .‬يكتب يف �صحف �إيطالية عديدة‪� .‬أ�س�س�س‬ ‫دار احلكمة وه��و مركز ثقايف عربي �إيطايل عام‬ ‫‪ 2000‬ون�شر العديد من الأع��م��ال الأدب��ي��ة الرتاثية‬ ‫العربية والتي ترجمها �إىل اللغة الإيطالية مثل بع�ض‬ ‫كتب اجلاحظ‪ ،‬والإم���ام �أب��و حامد ال��غ��زايل‪ ،‬وال�شيخ‬ ‫ال�صويف اب��ن عربي‪ ،‬وج�بران خليل ج�بران‪ ،‬و�أخ��رى‬ ‫لأعمال ق�ص�صية لكاتبات عربيات‪ ،‬كما ن�شر ديوان �شعر‬ ‫بالعربية والإيطالية بعنوان "ح�ضور ال�سيدة البابلية"‬ ‫و�آخر بعنوان "القمر بني اليدين"‪ ،‬وكتاب ًا لتعليم اللغة‬ ‫العربية للأجانب "ال�سالم عليكم"‪ ،‬وكتاب ًا عن الإ�سالم‬ ‫بعنوان "�إ�سالم"‪.‬‬ ‫و�أي�ض ًا هناك الدكتور العراقي مالك الوا�سطي‪ ،‬وهو‬ ‫�شاعر ومرتجم ي�شغل من�صب �أ�ستاذ لغة يف كلية الآداب‬ ‫والفل�سفة ‪ /‬جامعة نابويل ‪ -‬ق�سم الدرا�سات الآ�سيوية‬ ‫منذ عام ‪.1989‬‬ ‫ومن الأ�سماء الهامة يف تفعيل دور التفاعل احل�ضاري‬ ‫الدكتور الباحث التون�سي (عز الدين عناية)‪ ،‬وهو من‬ ‫املخت�صني العرب وامل�سلمني القالئل يف علم الأدي��ان‪.‬‬ ‫وهو مدر�س يف جامعة "الأورينتايل" يف نابويل‪ ،‬ويف‬ ‫جامعة روما ال�سابيين�سا‪.‬‬ ‫وهناك �أي�ض ًا الكاتبة واملرتجمة املغربية �أ�سماء غريب‬ ‫املقيمة يف �إيطاليا‪ ،‬والتي قامت بكثري من الن�شاطات‬ ‫التي تدور حول التعريف بقدرات وكفاءات املر�أة العربية‬ ‫وت�صحيح املفاهيم اخلاطئة التي يحملها الغرب عن‬ ‫الثقافة العربية وعن الإ�سالم‪ .‬وقامت برتجمة العديد‬ ‫من الكتب من العربية �إىل الإيطالية وبالعك�س‪ ،‬كما �أنها‬ ‫ترجمت عم ًال كام ًال لل�شاعرة ال�سورية مرمي جنمة‬ ‫و�ساهمت يف قامو�س �صقليا حت��ت ع��ن��وان (�أ���ص��داء‬ ‫�شرقية بكتابات غربية)‪.‬‬ ‫�أم��ا بالن�سبة لرتجمة القر�آن الكرمي فتعد ترجمة‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪37‬‬


‫د‪ .‬عز الدين عناية‬

‫عي�سى الناعوري‬

‫امل�ست�شرق �أ ِل ّ�ساندرو باوزاين حتى يومنا هذا الأكرث دقة‬ ‫يف التعبري والأو�ضح يف لغة الو�صول‪ .‬ونتمنى �أن يكون‬ ‫هناك دعم م�ؤ�س�ساتي‪ ،‬والعمل مع مرتجمني �أكفاء على‬ ‫ترجمات �أف�ضل و�أعمق للقر�آن الكرمي لوجود �صعوبات‬ ‫يف ترجمة القر�آن‪..‬‬ ‫ولبناء اجل�سور بني العامل العربي و�إيطاليا مت ت�أ�سي�س‬ ‫"جالية العامل العربي يف �إيطاليا" (كو‪ -‬ماي) بروما‬ ‫التي تهدف �إىل بناء ج�سر للحوار بني �إيطاليا وخمتلف‬ ‫البلدان من �أ�صول عربية بهدف الو�صول �إىل اندماج‬ ‫كامل ما بني احل�����ض��ارات‪ ،‬وهجرة مربجمة وم�ؤهلة‬ ‫على �أ�سا�س احتياجات عامل العمل يف �إيطاليا‪ ،‬ل�ضمان‬ ‫احلقوق والواجبات‪ .‬ومن �أهدافها �أي�ض ًا تعزيز احلوار‬ ‫الثقايف والديني داخل احل�ضارات والثقافات املختلفة‪،‬‬ ‫وتعزيز التعاون مع الرابطات وال�سفارات العربية لدى‬ ‫�إيطاليا بهدف �إيجاد قنوات ات�صال مرجعية للتبادل‬ ‫الثقايف واملهني‪ ،‬وت�أ�سي�س و�سائل �إع�لام وات�صاالت‪،‬‬ ‫و�صحف يف اللغة العربية‪.‬‬ ‫و�أي�ض ًا من �أجل تعزيز التبادل الثقايف وتعزيز احلوار‬ ‫والتفاهم بني �إيطاليا والعامل العربي مت �إن�شاء قناة راي‬ ‫ميد عام ‪ ،2003‬وهي قناة حكومية �إخبارية ثقافية تبث‬ ‫باللغتني العربية والإيطالية‪.‬‬ ‫وتقود �إيطاليا �أكرب حركة يف �أوروبا للتقريب بني �شمال‬ ‫البحر املتو�سط وجنوبه ففي عام ‪ 2009‬مت االحتفال‬ ‫مبعر�ض تورينو‪� -‬إيطاليا الدويل للكتاب‪ ،‬وذلك ب�صدور‬ ‫�أول كتاب يف م�شروع ترجمة �أدب الأطفال‪ ،‬وي�ضم ع�شرة‬ ‫ق�ص�ص لأه��م م�ؤلفي ق�ص�ص ورواي���ات الأط��ف��ال يف‬ ‫م�صر‪ .‬ولزيادة التبادل والتوا�صل يف املجاالت الثقافية‬ ‫والفنية والفكرية تقام الكثري من املعار�ض‪ ،‬ونذكر‬ ‫‪38‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫د‪� .‬إيزابيال كامريا دافليتو‬

‫من هذه املعار�ض معر�ض الإ�سالم يف �صقلية‪ .‬وتُعترب‬ ‫الدكتورة �شريين مال من �أبرز وجوه احلركة الت�شكيلية‬ ‫يف �إيطاليا‪ ،‬وقد ح�صلت على جائزة الإبداع الأوىل يف‬ ‫�إيطاليا للفن الت�شكيلي يف العام ‪ ،1996‬و�شاركت يف‬ ‫ع ّدة معار�ض فردية وجماعية يف �إيطاليا ودول �أوروبية‬ ‫�أخرى‪ ،‬كان �آخرها يف املركز الثقايف العربي يف مدريد‪.‬‬ ‫ومن املعار�ض التي حتاول بناء ج�سور بني احل�ضارتني‬ ‫ال�شرقية والغربية وتعزز العالقات الثقافية بني البلدين‪،‬‬ ‫وت�ستعر�ض ام��ت��زاج الفن الإي��ط��ايل بالفن ال�سعودي‬ ‫معر�ض ( نوافذ) الذي �أقيم يف ‪10-6-2009‬م ب�إيطاليا‬ ‫ يف متحف روم��ا ترا�ستيفريي‪ .‬ا�شرتك يف تنظيمه‬‫جمعية النه�ضة ووزارة الثقافة ال�سعودية وال�سفارة‬ ‫الإيطالية‪.‬‬ ‫ويهدف املعر�ض �إىل التعريف بثقافات الآخر وكيفية‬ ‫االندماج فيها والتعامل معها بخط متواز يحفظ لكل‬ ‫ثقافة خ�صو�صيتها‪ .‬كما �أنه يهدف �إىل دعم العالقات‬ ‫الفكرية والثقافية بني ال�سعودية و�إيطاليا والتبادل‬ ‫امل��ع��ريف وال��ت��وا���ص��ل ب�ين الثقافتني وت��ب��ادل اخل�برات‬ ‫واال�ستفادة من التجارب الن�سائية يف املجتمعات الأخرى‬ ‫وع َ‬ ‫ر�ضت فيه املهارات‬ ‫وبالتعاون مع ال�سفارة الإيطالية‪ُ .‬‬ ‫الفردية التي تتمتع بها املر�أة يف خمتلف جماالت احلياة‬ ‫يف كلتا الثقافتني من حرف يدوية وت�صوير فوتوغرايف‬ ‫و�أدب وطبخ �شعبي‪.‬‬ ‫ولقد نظمت و�شاركت الفنانة الت�شكيلية العربية‬ ‫املقيمة ب�إيطاليا ( فاطمة لوتاه) مبعر�ض يف �إيطاليا‬ ‫�شارك فيه ثالثون فنان ًا ت�شكيلي ًا وقد �شاركت فاطمة‬ ‫لوتاه بلوحاتها عن ( امل�أ�ساة العراقية )‪.‬وتعد مثل هذه‬ ‫الأن�شطة مبنزلة تعاون ثقايف‪ ،‬غايته ن�شر الود و�إذكاء‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫جامعة جنوة‬

‫روح التقارب بني البلدين‪.‬‬ ‫ولأهمية البعد الثقايف يف العالقات بني �إيطاليا‬ ‫وم�صر تقوم الدولتان بتنظيم العديد من الأن�شطة‬ ‫الثقافية (معار�ض ‪ -‬عرو�ض فنية ‪ -‬ندوات‪�-‬أم�سيات‬ ‫�إعالمية و�سياحية ) من خالل املركز الثقايف امل�صري‬ ‫بروما‪ ،‬ونظريه الإيطايل بالقاهرة‪ ،‬والأكادميية امل�صرية‬ ‫للفنون بروم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫�إن كل ما ذكرناه �سابقا‪ ،‬وعلى الرغم من وجود زهاء‬ ‫مليون عربي يف �إيطاليا‪ ،‬وعلى الرغم من جهود بع�ض‬ ‫امل�ستعربني الكبرية يف الرتجمة وجهود بع�ض العرب‬ ‫املقيمني يف اخلارج املهتمني بنقل �آدابنا �إىل الغرب‪ ،‬ف�إن‬ ‫علينا االع�تراف مبحدودية احل�ضور ل�ل�آداب العربية‬ ‫يف �إيطاليا‪ ،‬وي�ؤكد ذلك الدكتور الباحث التون�سي عز‬ ‫الدين عناية حني يقول‪":‬ال تتجاوز �أعمال الرتجمة بني‬ ‫اجلانبني العربي والإيطايل‪ ،‬على مدى تاريخ اللغتني‪،‬‬ ‫‪ 650‬عم ًال‪ ،‬وقد كانت ح�صلية ما ترجمه العرب من‬ ‫الإيطالية‪ ،‬ما يفوق ن�صف ذل��ك الرقم بقليل‪ ،‬وهي‬ ‫ح�صيلة متد ّنية بني لغتني وح�ضارتني متجاورتني‪....‬‬ ‫والعرب �أه��ل ح�ضارة عريقة‪ ،‬لكن للأ�سف تنت�شر‬ ‫ب�ش�أنهم الأحكام امل�سبقة والأقاويل املغر�ضة‪ ،‬دون م�ساع‬ ‫ج��ادة لتطوير عمل ثقايف ي�ص ّوب تلك االنحرافات‬ ‫وين�شر �صائب املعرفة‪ .‬لذلك حال الثقافة العربية يف‬ ‫العدد‬

‫�إيطاليا مو�سوم بال ُيتم‪ .‬ذلك �أن الفكر العربي احلديث‬ ‫والدرا�سات العربية املعا�صرة جمهولة يف �إيطاليا‪ .‬هناك‬ ‫اهتمام حمدود مبجال الأدب‪ ،‬حيث تُرجمت جمموعة‬ ‫من الروايات العربية‪ ،‬وما عدا ذلك من تاريخ‪ ،‬ودين‪،‬‬ ‫و�سيا�سة‪ ،‬وفكر‪ ،‬وفل�سفة‪ ،‬فال ُيعرف عنه �شيء‪ .‬لذلك‬ ‫ج ّل الكتاب العرب الكبار املعا�صرين هم جمهولون وراء‬ ‫ال�ضفة الأخرى‪".‬‬ ‫�إن الرتجمة هي مفتاح التعرف على ثقافة الآخر‪ ،‬ومبا‬ ‫�أنها و�سيلة التفاعل احل�ضاري فال ي�صح �أن يتم ترك‬ ‫امل�ستعربني اجلادين واملخل�صني واملحبني بالفعل للثقافة‬ ‫العربية ي�صارعون وحدهم من �أجل ن�شر ترجماتهم‪.‬‬ ‫ونحن عندما نريد حوار ًا ح�ضاري ًا مع الغرب علينا �أي�ض ًا‬ ‫االهتمام بتقدمي نتاجاتنا الأدبية والفكرية مرتجمة‬ ‫�إىل لغاتهم‪ ،‬ولكن بوجود دعم م�ؤ�س�ساتي ينظم عملية‬ ‫الرتجمة ويدعمها مالي ًا‪.‬‬ ‫ونحن نتمنى من امل�ؤ�س�سات الثقافية العربية ت�شجيع‬ ‫امل�شاريع الثقافية بن�شر الثقافة العربية القائمة على‬ ‫املبادرات الغربية ومتويلها وم�ساعدتها‪ .‬كمانتمنى من‬ ‫وزارات الثقافة يف البالد العربية �أن تقوم بدعم ال�ش�أن‬ ‫الثقايف الوطني ودعم اجلهات وامل�ؤ�س�سات التي تبادر‬ ‫�إىل الرتجمة والتعريف ب�آدابنا وت�شجيع دور الن�شر‬ ‫الأجنبية ال�ستقبال الأعمال الإبداعية العربية‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪39‬‬


‫نصوص خالدة لرواد الثقافة في اإلمارات‬

‫الشيخ مبارك بن سيف الناخي‪..‬‬

‫المثقف الشامل‬ ‫يبدو �أن هذه املنطقة كانت‪ ،‬ويف حقب متعاقبة‬ ‫من تاريخها‪ ،‬على موعد مع رعيل من الرجال‬ ‫الأقوياء ممن امتلكوا املوهبة الأدبية واملقدرة‬ ‫الإبداعية لتقدمي �أعمال �أدبية وفنية عظيمة‬ ‫ومتميزة قيا�س ًا بزمانها‪ .‬وحني وجدنا �أنهم مل‬ ‫يكونوا ي�أبهون ب�ضنك املا�ضي وق�سوته وما رافقه‬ ‫من �شظف العي�ش وال�شح واملحل وقلة الإمكانيات‬ ‫ومل يتطرق الي�أ�س �إىل قلوبهم مثلما حدث‬ ‫ل�شعوب كثرية افتقرت �إىل املبدعني بافتقارها �إىل‬ ‫الإبداع حتت حجة قلة الإمكانيات‪ .‬فقد �أثبت‬ ‫املبدعون الإماراتيون خط�أ هذا اال�ستنتاج مبا‬ ‫وكمي يف‬ ‫نوعي يف امل�ضمون‬ ‫قدموه من �إنتاج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املح�صول الرتاكمي حلقبة ما قبل ع�رص البرتول‪.‬‬

‫ثقافة‬

‫د‪ .‬ح�سن قايد ال�صبيحي‬ ‫الإمارات‬

‫‪40‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ف��������ر َد م�����ب�����ارك ب�����ن س���ي���ف ال����ن����اخ����ي م���ظ���ل���ت���ه ال���ث���ق���اف���ي���ة‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪41‬‬

‫ع��ل��ى إم����ارت����ه وإم��������ارات ال����دول����ة ب��أج��م��ع��ه��ا‪ ،‬ف���ض�ل� ًا ع���ن ام����ت����دادات����ه ال��خ��ل��ي��ج��ي��ة‬

‫�إن املتاح من ال�تراث الإم��ارات��ي يف �شكله الفردي‬ ‫واجلماعي ي�شي بكل و�ضوح بارتفاع القامات الأدبية‬ ‫والدعوية وحتى الفل�سفية يف الإم��ارات القدمية التي‬ ‫�أ ْث��رت احليا َة الثقافية‪ ،‬وق ّدمت لنا �شخ�صيات �أدبية‬ ‫وفكرية‪ ،‬ويف �أوقات �سابقة لع�صر البرتول حني كانت‬ ‫البيئة الثقافية قرينة لل�صحراء الزرع فيها والمناء‪،‬‬ ‫وحني كان الواقع االجتماعي املحيط به�ؤالء املبدعني‬ ‫يفتقر �إىل النزر الي�سري من روافد الفكر واملعرفة‪ ،‬فال‬ ‫كتاب لالطالع‪ ،‬وال جملة ملتابعة ال�ش�أن الثقايف‪ ،‬وال‬ ‫م�صادر للمعلومات مثل و�سائل الإع�لام اجلماهريية‬ ‫من �صحافة و�إذاعة وتلفزيون‪.‬‬ ‫وعلى العك�س من ذلك ف�إن املكتبة الإماراتية وعلى‬ ‫توا�ضعها تزخر بالعديد من املراجع القيمة والوثائق‬ ‫املحققة والكثري من كتب ال�تراث‪ ،‬تراث �أولئك الآباء‬

‫والأجداد ومب�ستويات تت�سم باجلودة يف االختيار والقوة‬ ‫يف التناول والنقاء ال�سياق وعلى درجة ترتك يف النف�س‬ ‫م�شاعر ال�سعادة والإعجاب والإ�شادة والتمجيد‪ .‬فقد‬ ‫ترك �أولئك الأفذاذ من ورائهم تراث ًا عظيم ًا و�أ�سفار ًا‬ ‫بديعة وك�أن حياة املحل التي �صبغت تلك الأزمان مل تكن‬ ‫يف ح�سبانهم ومل تفت من ع�ضدهم �أوتفقدهم الأمل‬ ‫وم�ضوا يتابعون احلركة الثقافية ويكتبون يف الدوريات‬ ‫العربية يف م�صر والعراق وي�صدرون ال�صحف‪ ،‬ويحملون‬ ‫راية الإ�سالم �إىل بالد بعيدة يف حتد مل�صاعب الزمان‬ ‫واملكان ق ّل �أن يوجد له يف حينه مثيل‪.‬‬ ‫ومع �أن العديد من املبدعني الإماراتيني املعا�صرين‬ ‫حر�صوا �أ�شد احلر�ص على العناية ب�إبداع �أولئك الرواد‬ ‫و�إنتاجهم‪ ،‬وتناوبوا بحما�س كبريوع�شق داف��ق وحن ّو‬ ‫�صادق على كتابة تاريخ الإم���ارات وم��ا تركه ال��رواد‬


‫الأوائل من �إبداع‪� ،‬إال ان الوفاء احلقيقي لذلك الرعيل‬ ‫الفذ يتطلب املزيد من البحث امل�ستمر والدرا�سة املت�أنية‬ ‫والتدقيق املمنهج‪ ،‬لعل جديد ًا ذا قيمة �أو�إ�ضافة خالقة‬ ‫تف�سح الطريق ملزيد من املعرفة ملكونات جديدة لهذا‬ ‫الفكر واالهتداء �إىل جتليات جديدة يف مكونه العام‪.‬‬ ‫وقد �شاءت امل�صادفة اجلميلة �أن حتل بيننا جملة‬ ‫الإمارات الثقافية ك�ساحة ثقافية جديدة وجميلة تعتني‬ ‫بال�ش�أن الثقايف املحلي ب�شكل خا�ص والعربي والإن�ساين‬ ‫ب�شكل عام‪ .‬و�سنحت يل الفر�صة عرب دعوة كرمية من‬ ‫�إدارة املجلة للم�ساهمة يف الكتابة فيها �ضمن خطة‬ ‫عامة تبنتها �إدارة املجلة تلح �ضمن ثوابتها املهنية‬ ‫على ت�شجيع الكتاب الإماراتيني للكتابة يف ال�ش�ؤون‬ ‫الفكرية والأدبية‪ ،‬و�إث��راء البحث يف �ش�ؤون الإم��ارات‬ ‫ب�إحاطة �شاملة لل�ش�أن الفكري والأدبي‪ ،‬وك ّل ماله �صلة‬ ‫بالإمارات من قريب �أوبعيد‪ .‬وجاءت اللحظة املنا�سبة‬ ‫لإطالق فكرة ظلت ت��راودين لزمن طويل ال�ستعرا�ض‬ ‫جانب من املخطوطات والن�صو�ص الفكرية لعدد من‬ ‫رواد الثقافة يف الإمارات‪ ،‬ممن تركوا جليلنا تراث ًا ثري ًا‬ ‫جدير ًا بالعناية والتخليد‪.‬‬ ‫�أما املنهج الذي مت اختياره للعر�ض �ضمن هذال�سياق‬ ‫فيت�ساوق مع هدف التوثيق ال�صارم الذي نحر�ص عليه‪،‬‬ ‫فقد وقع اختيارنا على منهج التوثيق الن�صي ملختارات‬ ‫من تراث الإمارات‪ ،‬و�أن نرتك الن�ص الأ�صلي كما ورد‬ ‫على يد �صاحبه يعرب عن نف�سه دون �أدنى تدخل‪ ،‬كما‬ ‫‪42‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ي��ح��دث ل��دى بع�ض ال��ن��ق��اد ال��ذي��ن‪،‬‬ ‫وبغر�ض ت�أكيد ال��ذات‪ ،‬يعمدون �إىل‬ ‫�إقحام تف�سريات و�أح��ك��ام ال فائدة‬ ‫حقيقية منها‪� ،‬إال مب��ا يلبي غ��رور‬ ‫�أ�صحابها‪ .‬فعرب الن�صو�ص املكت�ؤبة‬ ‫ب�أيدي ا�صحابها نقرتب كثري ًا من‬ ‫املعنى احلقيقي للن�ص‪ ،‬و من فهم‬ ‫التجربة احلقيقية للكاتب وا�ست�شرافها‪ ،‬والتعرف على‬ ‫البيئة املحيطة به واالهتداء �إىل امل�ضمون‪.‬‬ ‫و�سوف نحر�ص على �أن تكون مقارباتنا يف ن�صو�صنا‬ ‫املختارة مطابقة لل�صور (اجلرافيكية) طبق الأ�صل‬ ‫وبخط الكاتب نف�سه‪ .‬وهذا �أمر مهم لت�أكيد امل�صداقية‬ ‫وجت��ن��ب ال�����ش��ك��وك واالرت���ي���اب وال��ب��ع��د ع��ن التهومي‬ ‫�أوالفر�ضيات الواهية والتجريد املفتعل الذي‪ ،‬وللأ�سف‪،‬‬ ‫ي�صاحب الكثري من الكتابات الوثائقية القائمة على‬ ‫احليال والتلفيق وال�سرد التجريدي الأجوف‪.‬‬ ‫و�سوف يكون �أول من نحتفي به يف هذه ال�سل�سلة‪،‬‬ ‫ال�شيخ العالمة الأدي��ب ال�شاعر املعلم امل���ؤرخ الرتبوي‬ ‫والتاجر مبارك بن �سيف الناخي‪ .‬وال عجب يف ر�صد‬ ‫هذه ال�سل�سلة الطويلة من الألقاب‪ ،‬فقد كان الرجل‬ ‫مثقف ًا �شام ًال بحق‪ ،‬حيث �إن��ه‪ ،‬وب�شهادة ما تركه لنا‬ ‫من تراث قد �شغل زمانه الإماراتي ال�شارقي اخلليجي‬ ‫ب�إنتاجه املتفرد‪ ،‬وف��ر َد مظلته الثقافية على �إمارته‬ ‫و�إم�����ارات ال��دول��ة ب�أجمعها‪ ،‬ف� ً‬ ‫ضال ع��ن ام��ت��دادات��ه‬ ‫اخلليجية التي نقر�ؤها يف ثنايا ن�صو�صه التي �ضمنها‬ ‫الكثري من ر�ؤ�آه يف مرا�سالته لأقرانه من مثقفي دول‬ ‫اخلليج ب�أجمعها‪.‬‬ ‫ولدى ا�ستكمال القراءة ملا تبقى من هذه املادة �سوف‬ ‫نكت�شف وبالوثائق املخطوطة وبالن�صو�ص �أنه كان ذلك‬ ‫الرجل ال��ذي ظ ّل لزمان طويل حمط �أنظار املثقفني‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫املكتبة الإماراتية‪ ،‬على توا�ضعها‪،‬‬ ‫تزخر بالعديد من املراجع‬ ‫القيمة والوثائق املحققة والكثري‬ ‫من كتب الرتاث‬

‫كان لدى الناخي موهبة كبرية يف‬ ‫اخلطابة‪ ،‬وهو ينوع يف خطبه بني‬ ‫اللجوء �إىل الكناية والرتميز‪ ،‬وبني‬ ‫القول املبا�شر‬

‫العرب من م�صر �إىل الهند‪� ،‬إىل دول اخلليج العربي‬ ‫واجلنوب العربي وايران‪.‬‬ ‫اول مايذكر عن الناخي �أنه مثل الكثريين من �أبناء‬ ‫جيله �شديد االهتمام ب�ش�ؤون موطنه‪ .‬وغالب ًا ما كان‬ ‫ذلك الهم جت�سيد ًا على تناوالته ل�ش�ؤون وطنه الإمارات‬ ‫ووطنه العربي الكبري ومن ثم �أمته الإ�سالمية على‬ ‫ات�ساعها‪.‬‬ ‫فقد ا�ستاثرت الإمارات بل ّبه وم�شاعره وعواطفه‪ ،‬ومل‬ ‫هم �سوى ذلك ال�شعور باحلمل الثقيل الذي‬ ‫يكن له من ٍّ‬ ‫ً‬ ‫يقع على كاهل املواطن‪ .‬وكان الناخي يزداد �أملا كلما‬ ‫ازداد اجلهل تف�شي ًا بني قومه‪ ،‬ولهذا جنده يحر�ص على‬ ‫اختيار مهنة التدري�س يف الإمارات ويف قطر‪ ،‬ويعبرّ عن‬ ‫ولهه مبهنته عرب املرا�سالت امل�ستمرة ل��رواد التعليم‬ ‫يف كل مكان‪ .‬وقد جل�أ �إىل كتابة ال�شعر ليعرب عن �أمله‬ ‫و�أوج��اع �شعبه‪ ،‬فكتب الق�صيدة تلو الق�صيدة‪ ،‬ينادي‬ ‫فيها �أبناء قومه‪ ،‬ويحثهم على الإق��ب��ال على العلم‪،‬‬ ‫ويطالب �أن تن�شر �أغرا�سه يف الريا�ض العربية املعطاء‪.‬‬ ‫فنجده يقول‪:‬‬ ‫م� �ت ��ى �أرى ال � ��وط � ��ن امل � �ح � �ب� ��وب م �ن �ت �ب �ه �اً‬ ‫م � � � ��ن ال � � � � ��رق � � � � ��اد جم� � � � � � � ��داً غ � �ي� ��ر و�� � �س� � �ن � ��ان‬ ‫حم � � � ِّل � � �ق � � �اً ف� � � ��ى �� � �س� � �م � ��اء ال � � �ع� � ��ز م� �ت� �ب� �ع� �اً‬ ‫رب ال� � � �ن� � � �ج � � ��اة وم � � � � � ��ا يف �أر�� � � � � �ض � � � � ��ه وان‬

‫رع� � � � � � � � � � � ��اك اهلل م� � � � � � ��ن خ� � � � � � ��ل ه� � � �م � � ��ام‬ ‫ل� � � � � � � ��ه ف� � � � � � � ��ى ك� � � � � � � ��ل ح� � � � �ل� � � � �ب � � � ��ة اب� � � � �ت� � � � �ك � � � ��ار‬ ‫ف � ��ان� � �ه� � �� � ��ض ب � ��ال� � �ق � ��ري� � �� � ��ض ل � � �ك� � ��ل ق� � ��وم‬ ‫ف � � � �م� � � ��ا ك � � ��ال� � � ��� � � �ش� � � �ع � � ��ر ل � � � �ل � � � ��أق � � � � � � � ��وام ن� � � ��ار‬ ‫والت � � � �ي � � � ��أ�� � � ��س و�إن ج� � �ه� � �ل � ��وا وم � � ��ات � � ��وا‬ ‫ف � � � � � � � � � � ��إن امل� � � � � � � � � � ��وت ي � � �ع � � �ق � � �ب � � ��ه ان � � �ت � � �� � � �ش � � ��ار‬

‫وكان حكيم ًا وملتزم ًا �أ�شد االلتزام ب�ش�ؤون جمتمعه‪.‬‬ ‫ومل يكن هذا االلتزام مقت�صر ًا على �إمارته ال�شارقة‬ ‫فقط‪ ،‬بل جنده يف �أحد الن�صو�ص يحث حاكم ر�أ�س‬ ‫اخليمة على ال�ضرب بيد من حديد على قطاع الطرق‬ ‫حفاظ ًا على النظام والقانون‪ ،‬فقد كان من �أ�صحاب‬ ‫ال��ر�أي واحلكمة ي�ست�شريه احلكام‪ ،‬وي�أخذون بر�أيه‪،‬‬ ‫فيقدم ن�صائحة لهم خال�صة ويدعو اىل اال�صالح‬

‫وكما نرى ف�إن الناخي بدا يف هذه الق�صيدة وك�أنه‬ ‫ميتدح وي�شيد ب�صديقه العالمة ال�شيخ املطوع‪ ،‬غري �أنه‬ ‫قي�ض �شعره للبوح بالعديد من حتديات ع�صره و�شجون‬ ‫زمانه فتنقل من الرثاء على حال قومه والتمرد على‬ ‫قيود تلك املرحلة‪ ،‬وبث روح احلما�س بني �أهله و�أبناء‬ ‫وطنه‪ ،‬جنده ينتقل �إىل اجلانب العروبي الطاغي على‬ ‫�شاعريته وانتمائه القومي‪ ،‬فقد كتب يف �إحدى ق�صائده‪:‬‬

‫العدد‬

‫الداخلى والق�ضاء على الفنت التى تنخر يف كيان‬ ‫املجتمع �إذ يقول حلاكم ر�أ�س اخليمة‪:‬‬ ‫م � � ��ا يف ال � �� � �س � �ك � ��ون ويف الأن� � � � � � � ��اة راح � � ��ة‬ ‫ف � ��ان� � �ه� � �� � ��ض وج� � � � � � ��رد ل� � �ل� � ��� � �ش � ��رور ح� ��� �س ��ام ��ا‬ ‫ف � � � � � � � � � � ��إذا رك� � � � �ب � � � ��ت ف� � � �ك � � ��ل �� � � �ش � � ��ر ق � ��اب � ��ع‬ ‫و�إذا غ � � �� � � �ض � � �ب� � ��ت ف � � �ك � � �ل � � �ه� � ��م �آالم � � � � � � � ��ا‬ ‫وللناخي رحمه اهلل ق�صائد يجمع فيها �أك�ثر من‬ ‫غر�ض �شعري يف ق�صيدة واح��دة‪ ،‬كما هو احل��ال يف‬ ‫ق�صيدته التي ميتدح بها �صديقه امل��رح��وم ال�شيخ‬ ‫عبداهلل بن �صالح املطوع‪ ،‬ومطلعها‪" :‬عهدتك �شاعر ًا‬ ‫ولك اقتدار"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والق�صيدة تتالف من ثالثة ع�شر بيتا‪ ،‬يقول فيها‪:‬‬ ‫ع � � �ه� � ��دت� � ��ك � � � � �ش� � � ��اع� � � ��راً ول� � � � � ��ك اق� � � �ت � � ��دار‬ ‫و� � � �ش � � �ه � � �م � ��ا م � � � � ��اج � � � � ��داً ول � � � � � ��ك اف� � �ت� � �ك � ��ار‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪43‬‬


‫ك ��م ذا ع �ل��ى ال �� �ض �ي��م ن �� �ص�بر �أي� �ه ��ا ال �ع��رب‬ ‫م� � � � ��اذا ال � �� � �ش � �ق� ��اء وم� � � � � ��اذا ال� � � � ��ذل وال� �ن� ��� �ص ��ب‬ ‫ومي�ضي ‪:‬‬ ‫امل � � � � � � ��وت واهلل خ � �ي� ��ر م � � � ��ن ح� �ي ��ات� �ك� �م ��و‬ ‫ف � �ح� ��ال � �ك� ��م ه � � �ك� � ��ذا ي � �ق � �� � �ض� ��ي ب � � ��ه ال� �ع� �ج ��ب‬ ‫وكان لدى الناخي موهبة كبرية يف اخلطابة‪ ،‬وهو‬ ‫ينوع يف خطبه ب�ين اللجوء �إىل الكناية والرتميز‪،‬‬ ‫وبني القول املبا�شر‪ .‬وهناك خطبته ال�شهرية امل�سماة‪:‬‬ ‫"الفئران"‪ ،‬والتي تركت �أثر ًا كبري ًا بني الأدباء والكتاب‬ ‫يف املنطقة‪ ،‬وتناقلتها و�سائل االعالم‪ .‬فقد �سار على‬ ‫نهج اب��ن املقفع يف كليلة ودمنة و�أج���اد �أمي��ا �إج��ادة‪.‬‬ ‫وب��د�أت ق�صة الفئران التي �ألقاها يف النادي الأدب��ي‬ ‫يف يوم االثنني ‪ 3‬دي�سمرب عام ‪ 1973‬حني �ألقى حطبة‬ ‫احتجاجية على ل�سان ف�أر يتحدث �إىل جموع الفئران‪،‬‬ ‫وبد�أها بالقول‪" :‬مع�شر الفئران الأ�شاو�س‪� ...‬أردنا �أن‬ ‫نعي�ش فى �أ�سرابنا وحتت اجل��دران معر�ضني �أنف�سنا‬ ‫للهالك وال�برد والدو�س ب��الأق��دام وعر�ضة للأمطار‬ ‫والرطوبة‪ ،‬را�ضني بالقليل‪ ،‬متنازلني عن جميع النعم‬ ‫التى خ ّولها اهلل لبنى �آدم‪ ،‬فهم يف نعيم ونحن فى‬ ‫جحيم‪ ،‬النكاد نخرج من �أ�سرابنا ال�ستن�شاق الهواء‬ ‫ب�ضع دقائق �إال انهال علينا من يف البيوت من كبري‬ ‫و�صغري‪ ،‬من ذكر و�أنثى ّ‬ ‫ينق�ضون انق�ضا�ض ال�صقر‬ ‫على �صيدته والأ�سد على فري�سته دون حق وبال رحمة‬ ‫�أو�شفقة‪ .‬هذا ديدنهم‪ .‬وهذا د�أبهم‪ ،‬ي�سعون للق�ضاء‬ ‫علينا وا�ستئ�صال �ش�أفتنا بال هوادة‪ ،‬يحاربوننا حرب‬ ‫�إب��ادة تقتي ًال وجتريح ًا باحلديد والع�صي‪ ،‬وبالألواح‬ ‫وبالنعال‪ ،‬وبكل �شيء ي���ؤذي وي���ؤمل ويقتل‪ ،‬طاملا نحن‬ ‫قبلنا هذه الأعمال الفظيعة منهم‪ .‬وقد طلبنا منهم‬ ‫�إيقافها ومنعها‪ ،‬ولكن �أبى اهلل �إال �أن يتمادوا فى غيهم‬ ‫‪44‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫و�ضاللهم‪ ،‬ويف جورهم وظلمهم وعدوانهم‪.‬‬ ‫والذي حدا بالناخي �إىل مثل هذا الأ�سلوب يف الكتابة‬ ‫كما جاء على ل�سان مبارك اخلاطر امل���ؤرخ القطري‬ ‫املعروف "�أنه رمبا تكون حادثة معينة �أ ّث��رت فيه‪� ،‬أو‬ ‫�أن تكون �إفراز ًا لرتاكم خمالفات �سلوكية �أو اجتماعية‬ ‫ر�آها ت�ضرب ن�سيج جمتمعه املحافظ‪� ،‬أو رمبا ما كان‬ ‫ي�شعر به من �ضغوط ممار�سات �سلطوية بريطانية على‬ ‫�شعبه يف الإمارات �أو البالد العربية"‪.‬‬ ‫�أما اجلزء الذاتي من خطبة الفئران‪ ،‬فقد �سار على‬ ‫النحو التايل‪:‬‬ ‫و�أخري ًا حيث ال يجدي الت�صالح معهم‪ ،‬وال التفاهم‬ ‫م��ع عقالئهم وزع��م��ائ��ه��م‪� ،‬صممنا على حماربتهم‬ ‫وعدائهم‪ِ ،‬وك ْلنا لهم ال�صاع‪،‬و�أهبنا ب�شعوبنا �أن توحد‬ ‫كلمتها‪ ،‬و�أن تعبئ �صفوفها‪ ،‬و�أن تقف لهم باملر�صاد‬ ‫�آناء الليل و�أطراف النهار‪ .‬ولتقري�ض �أرجلهم و�أيديهم‪،‬‬ ‫ولأكل كتبهم وثيابهم ومفرو�شاتهم وجميع حوائجهم‬ ‫و�أم��ت��ع��ت��ه��م‪ ،‬كلوها ب�أ�ضرا�سكم احل����ادة‪ ،‬مزقوها‬ ‫ب�أرجلكم‪ ،‬خ ّربوا لهم ك ّل �شيء‪ ،‬وحينذاك �سيعرفون‬ ‫جيد ًا من هم مع�شر الفئران‪.‬‬ ‫ذلك هو الق�سم الأ�صغر من ن�ص مع�شر الفئران‬ ‫الذى �شكله الناخي فى ر�ؤية انتقالية‪ ،‬من ع�صيان‬ ‫مدين احتجاجي ظهر كما قلنا يف �صورة مرافعة‪،‬‬ ‫بها ق��در كبري م��ن ال�شكوى وال��ت�برم‪� ،‬إىل مرحلة‬ ‫�إجراء تنفيذي من قبل املحتجني وهي نقلة مواجهة‬ ‫مهمة ي�شى املنظر العام بها �أنه �صادر عن ذهنية‬ ‫ا�ضطرت �أن ترد على ما اعتربته �ضغوط ًا‪ ،‬فلم جتد‬ ‫من و�سيلة �سوى ترك االجتاه ال�سلمي واالنتقال �إىل‬ ‫املقاومة الفعلية‪ .‬ي�أتي الناخي بهذه اللوحة للن�صف‬ ‫ال�صغري من مع�شر الفئران‪ ،‬وك�أنه يقول على ل�سانه‪:‬‬ ‫مكره �أخاك البطل‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ملف العدد‬ ‫�سليمان العي�سى �شاعر الطفولة العذب‬ ‫د‪ .‬ريا�ض نع�سان �آغا‬ ‫التخييل يف �أدب الأطفال‬ ‫د‪� .‬سمر روحي الفي�صل‬ ‫�أدب الأطفال و�إ�شكالية التعريف‬ ‫د‪ .‬حممد البدوي‬ ‫القراءة الو�سيطة لأدب الطفل‬ ‫ترجمة‪ :‬خلود اجلرايحي‬ ‫يف �أدب الطفل‬ ‫د‪ .‬حممد الغزي‬ ‫البحث عن بطل‬ ‫د‪ .‬عبد الرحيم امل�ؤدن‬ ‫�أدب الطفل مقاربة �سيكيلوجية‬ ‫د‪ .‬ر�شيد اخلدميي‬ ‫�آليات �إنتاج �شعر الأطفال‬ ‫الطاهر لكنيزي‬ ‫حدثتنا مرية للمي�س املرزوقي‬ ‫�سامح كعو�ش‬ ‫ال�صورة ال�سينمائية وت�أثريها على الطفل العربي‬ ‫ف�ؤاد زويريق‬ ‫م�سرح الطفل يف الإمارات‬ ‫د‪.‬هيثم يحيى اخلواجة‬


‫ملف العدد‬

‫د‪ .‬ريا�ض نع�سان �آغا‬

‫سليمان العيسى‬ ‫�شاعر الطفولة العذب‬

‫حين وجد الكبار عاجزين عن تحقيق الحلم‪،‬‬ ‫توجه إلى األطفال‪ ،‬ليرى فيهم فرح الحياة‬ ‫ال ميكن لأحد �أن يكتب عن �أدب الطفولة املعا�رص عند العرب‪ ،‬دون‬ ‫�أن يتوقف طوي ً‬ ‫ال عند �أهم ثروة �أدبية قدمها �شاعر الطفولة العذب‬ ‫وجه‬ ‫�سليمان العي�سى‪ ،‬و�أح�سب �أنه ال�شاعر العربي الوحيد الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫جل �شعره للأطفال متفرغ ًا لرتبيتهم واالرتقاء بذائقتهم الأدبية‬ ‫على مدى �ستني عام ًا‪ ،‬يغني لهم ويدعونا �إىل الغناء معهم‪ ،‬وقد‬ ‫حفظت الأجيال ق�صائد �سليمان‪ ،‬وتربى عليها املاليني من �أبناء‬ ‫العروبة‪ .‬ولقد كتبت مرات عن �سليمان‪ ،‬ولكن هذه املقالة �أثرية‬ ‫عندي؛ لأن �صديقي �سليمان العي�سى �أحبها ون�رشها يف كتاب‬ ‫�سريته‪ ،‬ويحزنني �أنه اليوم طريح الفرا�ش يف �إحدى م�شايف دم�شق‪،‬‬ ‫حيث املحطة الأخرية من حياة حافلة بالإبداع‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫هو �شيطان �شعر حت��ول �إىل م�لاك‪ ،‬حام ًال �شعلة‬ ‫وهاجة حمراء‪� ،‬سرعان ما حتولت �إىل وردة بي�ضاء‪،‬‬ ‫ي�ضوع منها الطيب والنقاء‪ ،‬هو اليوم يتجاوز الت�سعني‬ ‫من العمر‪ ،‬لكن قلبه ما يزال قلب طفل ينب�ض بالفرح‪،‬‬ ‫برغم كل معاناة ال�شيخوخة والعجز‪ ،‬ما كلمته مرة‬ ‫حتى ح�ين ق��ع��د‪� ،‬إال ك��ان��ت النكتة الطريفة معرب ًا‬ ‫للحديث معه‪ ،‬وه��ب حياته لأم��ت��ه وغنى لها �أجمل‬ ‫�أ�شعاره‪ ،‬لكنه حني وجد الكبار عاجزين عن حتقيق‬ ‫احللم‪ ،‬توجه �إىل الأطفال‪ ،‬لريى فيهم فرح احلياة‬ ‫وجمدها احلقيقي‪ ،‬فهم امل�ستقبل‪ ،‬وهم ال�شباب الذي‬ ‫�سيملأ ال�ساحة غد ًا �أو بعد غد‪ ،‬يقول �سليمان "�إنهم‬ ‫امتدادي وامتدادك يف هذه الأر�ض‪ ،‬هم النبات الذي‬ ‫تبحث عنه �أر�ضنا العربية لتعود �إليها دورتها الدموية‬ ‫التي تعطلت �ألف عام‪ ،‬وعروبتها التي جفت �ألف عام‪..‬‬ ‫�إنني �أكتب لل�صغار لأ�سليهم‪ ،‬ربمّ ا كانت �أية لعبة �أو‬ ‫كرة � ْأج��دى و�أنفع يف هذا املجال‪ ،‬لكنني �أنقل �إليهم‬ ‫العدد‬

‫جتربتي الإن�سانية‪� ،‬أنقل �إليهم همومي و�أحالمي"‪.‬‬ ‫ال �أذكر متى عرفت �سليمان العي�سى‪ ،‬و�أح�سب �أن‬ ‫كثريين مثلي يت�ساءلون‪� ،‬أترانا عرفناه يوم ولدنا �أم‬ ‫كان من قبل يف الذاكرة؟ فقد كانت �أ�شعاره وال تزال‬ ‫تقدم وجبة غنية خليال الطفولة من ثدي ال�شاعرية‬ ‫العذبة ال�صافية ير�ضعونها مع حليب الأمهات‪ ،‬وتلك‬ ‫حالة مل يحققها �شاعر قبله‪ ،‬كما �أن ق�صائده القومية‬ ‫والإن�سانية للكبار كانت تهدر على كل ل�سان‪ ،‬ولقد كنت‬ ‫طالب ًا يف دار املعلمني يف حلب مطلع ال�ستينيات من‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬وكان الأ�ستاذ �سليمان يد ّر�س الأدب‬ ‫يف الدار‪ ،‬ويف ثانوية امل�أمون ال�شهرية‪ ،‬ومل �أحظ ب�أن‬ ‫�أدر�س يف �صفه‪ ،‬وهذا ما دفعني فيما بعد �إىل احلر�ص‬ ‫على حتقيق م��ا ف��ات��ن��ي‪ ،‬فهرعت �إل��ي��ه �أدر�����س على‬ ‫�شاعريته‪ ،‬و�أحظى ب�صحبته و�صداقته‪.‬‬ ‫كان �سليمان العي�سى واحد ًا من رواد حركة القومية‬ ‫العربية منذ �أوا�سط القرن الع�شرين‪ ،‬اقرتن ا�سمه‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪47‬‬

‫ح���م���ام���ة ب����ي����ض����اء‪ ،‬ت���ه���ده���د ل���ل���ص���غ���ار‪ ،‬وت���ح���ك���ي ل���ه���م ق���ب���ي���ل ال����ن����وم‪،‬‬ ‫ع�����ن ال����م����ع����ري و ال���م���ت���ن���ب���ي وأب�������ي ت�����م�����ام‪ ،‬وت����ق����ص رواي����������ات ال���س���ن���دب���اد‬

‫�أ�س�س �سليمان‬ ‫العي�سى مع‬ ‫�صديقه �صدقي‬ ‫�إ�سماعيل‬ ‫جريدة (الكلب)‬ ‫التي نبح فيها‬ ‫كبار املبدعني‪،‬‬ ‫وتهاو�شوا مع‬ ‫احلكومات‪،‬‬ ‫وع�ضوا‬ ‫ال�سيا�سات‪،‬‬ ‫وع�ضتهم‬


‫با�سم الأر�سوزي وعفلق وغامن و�سواهم من م�ؤ�س�سي‬ ‫احلركة التي �سرعان ما ت�سلمت احلكم يف العراق‬ ‫و�سورية‪ ،‬لكنه مل يقرتب من احلكم يوم ًا لقد �أم�سك‬ ‫باحللم‪ ،‬وترك ل�سواه احلكم‪ ،‬واحتفظ باملن�صب الذي‬ ‫ال ميلك �أن مينحه �إياه �أحد‪ ،‬وال �أن يعزله منه �أحد‪،‬‬ ‫وهو من�صب ال�شاعر الذي يحكم القلوب‪ ،‬وفوجئنا ب�أن‬ ‫�شاعرنا ال يخت�ص نف�سه ب�شيء من متع احلياة وقد‬ ‫باتت ي�سرية‪ ،‬فكل من حكموا ال�شام‪ ،‬كانوا من تالمذته‬ ‫�أو من تالمذتهم‪ ،‬وكلهم يعر�ضون على ال�شاعر ما‬ ‫يريد مع في�ض من احلب والتقدير‪ ،‬لكنه مل يكن يريد‬ ‫�شيئ ًا لنف�سه‪ ،‬فقد كان احللم الذي عا�ش حياته كلها‬ ‫يزرك�شه وينمقه‪ ،‬هو �أن يرى �أمته قوية متتلك �سيادتها‬ ‫و�إرادتها‪ ،‬وتعود �إىل دورها احل�ضاري العظيم‪.‬‬ ‫ك��ان احللم يتوهج يف مطلع ال�ستينيات‪ ،‬حركات‬ ‫انقالبية هنا وه��ن��اك‪ ،‬و���ش��ع��ارات و�أه���ازي���ج تهتف‬ ‫للعروبة‪ ،‬وبع�ض النا�س ين�شدون ق�صيدة �سليمان‬ ‫ال�شهرية "يا �شباب العرب هيا وانطلق يا موكبي"‪.‬‬ ‫لكن املوكب توقف عن ال�سري فج�أة يف نك�سة يونيو ‪،67‬‬ ‫وكانت فجيعة ال�شاعر الكربى حني ر�أى احللم ي�صري‬ ‫�أ�ضغاث ًا‪.‬‬ ‫فقد ال�شاعر ثقته بقدرة الكبار على حتقيق �أحالم‬ ‫الأم��ة‪ ،‬فان�صرف ب�إبداعه �إىل من يحملون الأم��ل‪،‬‬ ‫ومن ي�صنعون امل�ستقبل‪� ،‬إىل الطفولة التي مل تلوث‪،‬‬ ‫وهي حتتاج �إىل ينابيع ت�ستقي منها العقيدة والإميان‪،‬‬ ‫وتعلمها ال�شعر بو�صفه �إبداع �أمة‪ ،‬ولغة حتمل البيان‪،‬‬ ‫‪48‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫وتطرب الآذان‪ ،‬وت�صوغ ثقافة تر�سخ يف الوجدان‪،‬‬ ‫وهكذا حتول �سليمان‪ ،‬من �شاعر ال�شعلة احلمراء‪،‬‬ ‫�إىل حمامة بي�ضاء‪ ،‬تهدهد لل�صغار‪ ،‬وحتكي لهم قبيل‬ ‫النوم‪ ،‬عن املعري و املتنبي و�أبي متام‪ ،‬وتق�ص روايات‬ ‫ال�سندباد‪.‬‬ ‫و�أول ما تلثغ به الطفولة يف بالدي ق�صيدة ع�صماء‬ ‫ال يوجد طفل يف ال�شام وما حولها مل يبد�أ بها �شدوه‬ ‫العذب اجلميل هي‪" :‬ماما ماما‪ ،‬يا �أنغاما‪ ،‬متلأ قلبي‪،‬‬ ‫بندى احلب‪� ،‬أنت ن�شيدي‪ ،‬عيدك عيدي‪ ،‬ب�سمة �أمي‪،‬‬ ‫�سر وجودي‪� ،‬أنا ع�صفور ملء الدار‪ ،‬قبلة ماما �ضوء‬ ‫نهاري" �أو �أغنيته العذبة التي هي من��وذج لأغنياته‬ ‫التي ُي��ع ِّ��رف فيها ال�صغار �إىل قيمة العمل "عمي‬ ‫من�صور جنار‪ ،‬ي�ضحك يف يده املن�شار‪ ،‬قلت لعمي‪،‬‬ ‫عندي لعبة‪ ،‬ا�صنع يل بيت ًا للعبة‪ ،‬هز الر�أ�س وقال‪� ،‬أنا‬ ‫�أه��وى الأطفال"‪ .‬لقد عاد ال�شاعر �سليمان خمل�ص ًا‬ ‫ملهنة التعليم‪ ،‬ليبد�أ ال��در���س من جديد مع تالمذة‬ ‫�صغار ج��د ًا‪ ،‬بع�ضهم دون اخلام�سة‪ ،‬و�أك��د �أن بناء‬ ‫الأمة يبد�أ من �صناع امل�ستقبل‪ ،‬فان�صرف �إليهم وراح‬ ‫يعلمهم معنى الوحدة والتعاون "من زهرة واحدة‪ ،‬ال‬ ‫ي�صنع الربيع"‪ ،‬ويحكي لهم عن �أ�صلنا العربي كيال‬ ‫يظنوا �أنهم بال جذور‪:‬‬ ‫و�أبعد نحن من عب�س‪ ،‬ومن م�ضر نعم �أبع ْد‬ ‫حمورابي وه��اين بعل‪ ،‬بع�ض عطائنا الأخ�ل� ْد‬ ‫ل�ن��ا بلقي�س والأه � � ��رام‪ ،‬وال �ب��ردي وامل�ع�ب� ْد‬ ‫وم��ن زيتوننا عي�سى‪ ،‬وم��ن �صحرائنا �أح�م� ْد‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�ألي�س هذا بع�ض ما عناه ابن املقفع حني حتدث عن‬ ‫ال�سهل املمتنع؟‬ ‫و�أح�سب �أن �أول �أبيات حفظتها ل�سليمان العي�سى‬ ‫هي تلك التي قر�أتها يف جملة العربي يف ال�ستينيات‪،‬‬ ‫ولي�ست لدي الق�صيدة الآن كي �أقب�س منها‪ ،‬و�أخ�شى‬ ‫�أن تخونني الذاكرة بعد عقود‪ ،‬لكنني �أظن �أنها تلك‬ ‫االعتذارية العذبة التي مهدت لها املجلة بقولها �إن‬ ‫ال�شاعر �سليمان العي�سى كان يف الكفرون على مائدة‬ ‫طعام و�إىل جواره �صبية ح�سناء‪ ،‬ودون �أن ينتبه هوى‬ ‫ك���أ���س م��ن ي��د ال�شاعر على ث��وب ال��ف��ت��اة‪ ،‬وب��دا �أنها‬ ‫انزعجت فقال لها ال�شاعر معتذر ًا‬ ‫ال ت� � �ل � ��وم� � �ي� � �ن � ��ي ول� � � � ��وم� � � � ��ي ال� � �ق � ��دح � ��ا‬ ‫�أ� � � � � �س � � � � �ك� � � � ��رت� � � � ��ه ل� � � �ف� � � �ت � � ��ة ف � ��ان� � ��� � �س� � �ف� � �ح � ��ا‬ ‫ق� � � � � �ط � � � � ��رة � � � � � �ش� � � � ��اع� � � � ��رة ح � � � �ن � � � ��ت �إىل‬ ‫�� � � �ش � � ��اط � � ��ئ ال � � �� � � �س � � �ح� � ��ر ف � � � � �ط� � � � ��ارت ف � ��رح � ��ا‬ ‫جن � � �م � � ��ة ب � � �ي � � �� � � �ض� � ��اء ف � � � � � ��رت م� � � � ��ن ي � � ��دي‬ ‫ف� � �ه� � �ب� � �ي� � �ه � ��ا يف ال � � � � �ن� � � � ��دام� � � � ��ى م� � �ط � ��رح � ��ا‬ ‫�إىل �آخر هذا االعتذار الرقيق الذكي املبدع‪.‬‬ ‫لقد تعرفت على �سليمان العي�سى عن قرب‪ ،‬و عرفت‬ ‫الكثري من �أ�سرار �إبداعه وبع�ضها امتالء قلبه باملحبة‪،‬‬ ‫وترفعه عن ال�صغائر‪ ،‬ولطفه ودماثته‪ ،‬وح�سن لقائه‪،‬‬ ‫وب�شا�شة ترحيبه‪ ،‬وتعرفت على �شيء من ذاك املخزون‬ ‫الرثي العجيب مما يحفظ من طفولته �شعر ًا ونرث ًا‪،‬‬ ‫وهو ميتح منه‪ ،‬فيدخله �إىل م�شغله الفني لي�أخذ منه‬ ‫النكهة وال�سالف‪ ،‬وي�ضيف �إليه من لدنه ما تقتطفه‬ ‫العدد‬

‫ال��روح القلقة املعذبة يف �سراحها وهواج�سها وهي‬ ‫تعاود الأرق‪ ،‬فت�صوغه �شعر ًا‪ .‬ومنه تعلمت يوم كان‬ ‫احلوار م�شتد ًا حول الق�صيدة القدمية واجلديدة �أن‬ ‫"ال�شعر هو النب�ض احلي وراء البيت"‪ .‬وهكذا بب�ساطة‬ ‫و�ضع �سليمان يده على النار التي يتوهج منها الإبداع‪،‬‬ ‫وهو يقتب�س منها جمرة النب�ضة احلية ويعاف امليتة‬ ‫الباردة‪ ،‬وقد �أتيح يل �أن �أح��اوره م��رات على �شا�شة‬ ‫التليفزيون‪ ،‬وه��و املتحدث ال��ع��ذب الفيا�ض‪ ،‬ال��ذي‬ ‫يغرف من بحر ثقافته الوا�سعة‪ ،‬و�سر جماله ال�صايف‬ ‫�صدقه وب�ساطته‪.‬‬ ‫لقد �أطلق �سليمان العي�سى هدير �صوته حني كان‬ ‫احللم موار ًا �شديد التوق‪ ،‬وكان ينعك�س على لغته يف‬ ‫مثل قوله‪:‬‬ ‫مب� �� �ْ�س� � َم� �ـ� �ع ��ي‪ ،‬و ِن � �ـ � �ـ � �ـ� ��دا ُء‬ ‫َه � � � � � � ْد ُر َي � �� � �ض� � ُّ�ج َ‬ ‫ف� � �ي� � �ه � ��ا‪ ،‬وم � � � � � ��ات احل� � � � � � � � ُّ�ب‪ ،‬ف� � �ه � ��ي ُزق� � �ـ� � �ـ � ��اء‬ ‫ك � ��ال � ��دوح� � �ةِ‪ ..‬ان� �ط� �ل� � َق ��تْ مت� � ��دُّ ف��رو َع �ه �ـ��ا‬ ‫يف الأف� � � � � � � ��قِ ‪ ،‬ح �ي ��ن م � ��� َ��ض� ��ى َي � � ��جِ � � � ُّ�ف امل� � �ـ � ��ا ُء‬ ‫َه � � � � � � ْد ٌر ي� � �� ِ� ��ض � � ُّ�ج‪ ...‬ويف ف� � �ـ� � �ـ� � ��ؤادي ه� � � ��د�أ ٌة‬ ‫م� � ��ذب� � ��وح � � �ـ � � �ـ � � � ٌة‪ ،‬و� � �س � �ك � �ي � �ن � �ـ � �ـ � �ـ � � ٌة ب � �ل � �ه � �ـ � �ـ� ��ا ُء‬ ‫خ� � ��رج� � ��وا‪ ،‬و�آث � � � � ��رت ال � � � ِف � � �ـ � � � َرا َر ب �ع��زل �ت �ـ �ـ��ي‬ ‫ف ��ال� �ب� �ي� �ـ� �ـ� �ـ ��ت ح � � � ��ويل وح � � �� � � �ش � � � ٌة خ� ��ر� � �س � �ـ � �ـ� ��ا ُء‬ ‫ال� ��� �س ��اح� � ُة ال � �ك �ب��رى َت� � َغ� �ـ� �ـ� �� � ُّ�ص رح ��ا ُب� �ـ� �ـ� � َه ��ا‬ ‫ب � ��الأب � ��ري� � �ـ� � �ـ� � �ـ � ��اءِ‪ ،‬وت� � �ع� � �� �ِ ��ص � � ُ�ف الأ�� � �ص� � �ـ� � �ـ � ��دا ُء‬ ‫� � �س � �ن � �ع ��ودُ‪َ ..‬ح� � � ْن � � َ�ج � ��ر ٌة ت� ��� �ص� �ي� � ُح‪ ،‬وه �ت �ف �ـ �ـ � ٌة‬ ‫مت �� �ض �ـ �ـ ��ي م � ��ع ال� �ت� ��� �ص� �ف� �ي ��قِ ‪ ،‬ف � �ه� ��ي َه � � َب � �ـ� ��ا ُء‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪49‬‬


‫�شيطان �شعر حتول �إىل مالك‪ ،‬حام ًال‬ ‫�شعلة وهاجة حمراء‪� ،‬سرعان ما‬ ‫حتولت �إىل وردة بي�ضاء‪ ،‬ي�ضوع منها‬ ‫الطيب والنقاء‬

‫لكن هذا الهدير ي�صري �سكون ًا وح�شة و�أ�سى ووح�شة‪،‬‬ ‫حني يواجه حقيقة االنك�سار الذي حاق بالأمة‪ ،‬وحني‬ ‫�صار احلديث عن العودة �أغنية للنواح‪:‬‬ ‫م� ��� �ض ��ت ال � �� � �س � �ن� ��ون وخ� �ي� �م� �ت ��ي مم� � � ��دودة‬ ‫ف � � � ��وق � � � ��ي ت� � �ق� � �ه� � �ق � ��ه ح � � ��ول� � � �ه � � ��ا ال� � �ن� � �ك� � �ب � ��اء‬ ‫ال� � � �ي � � ��وم ت� �ك� �ت� ��� �س ��ح ال � � � �ب � � � ُ‬ ‫�روق � � �س � �م� ��اءن� ��ا‪،‬‬ ‫ومت� � � � � � � � ��وج ف � � �ي � � �ه� � ��ا ال� � � � � �ع � � � � ��زة ال� � �ق� � �ع� � ��� � �س � ��اء‬ ‫ويحق ل�شاعرنا وهو يعي�ش انك�سار احللم �أن ينكر‬ ‫ك�أ�سه وع���وده‪ ،‬و�أن ي�س�أل �شظايا النجوم يف الوتر‬ ‫املحموم‪:‬‬ ‫هل فيك �شهقة من ق�صيدِ ؟ ب�سمة؟ وردة؟‬ ‫بقية طفل مل يزل يغزل الر�ؤى بن�شيدي؟‬ ‫وزعته ق�صائد احلب يف الدنيا‬ ‫فكان الرماد حب احل�صيدِ‬ ‫يا �صديقي نحن كنا على �شفة اجلمر‬ ‫عطا�شاً �إىل رحيق الوجود‬ ‫هل ظفرنا بقطرة؟‬ ‫ح�سبنا حلظة بعمر اخللود‬ ‫و�سليمان العي�سى �شاعر م�سرحي‪ ،‬وق��د كانت‬ ‫م�سرحيته ال�شعرية ال�شهرية (الإزار اجل��ري��ح)‬ ‫م��ق��ررة على ط�لاب ال��ب��ك��ال��وري��ا‪ ،‬لقد ع ّرفنا فيها‬ ‫�أ�ستاذنا (�أب��و معن) على �ضخامة موقف كنا منر‬ ‫عليه م��رور العابرين‪ ،‬وال نت�أمله كما فعل ال�شاعر‬ ‫الكبري‪� ،‬إنه موقف جبلة بن الأيهم ال�شاعر الغ�ساين‬ ‫امل�سيحي‪ ،‬حني تعر�ض المتحان ال��والء بني بيزنطة‬ ‫امل�سيحية وب�ين �إ���س�لام قومه‪ ،‬فاختار ال��وق��وف مع‬ ‫‪50‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫العروبة امل�سلمة‪ ،‬وحارب العدو املحتل‪� ،‬إنها م�سرحية‬ ‫هامة يف �أدبنا العربي لأنها تقتحم االنتماء‪ ،‬وينجح‬ ‫الوالء للعروبة يف امتحان حا�سم مثري‪.‬‬ ‫ولو �أن �أب��ا معن �أمعن يف كتابة امل�سرح ال�شعري‬ ‫لزود الأدب امل�سرحي العربي بكنوز من الإبداع‪ ،‬وقد‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫من ذا ميلك �أن يب�سط اللغة‪،‬‬ ‫و�أن ميلأها حلن ًا طروب ًا لي�صري‬ ‫ن�شيد ًا و�أغنيات يرددها ماليني‬ ‫�أطفال العرب؟‬

‫فعل ذلك فيما كتب للأطفال من م�سرحيات �شعرية‬ ‫وغنائيات‪ ،‬و�أعتقد �أنه �أول �شاعر عربي كبري‪ ،‬يقتحم‬ ‫ع��امل الطفولة ال��ذي يهابه املبدعون‪ ،‬لأن الكتابة‬ ‫للكبار �أمر يح�سنه الكثريون‪ ،‬ولكن من ذا ميلك �أن‬ ‫يب�سط اللغة‪ ،‬و�أن ميلأها حلن ًا طروب ًا لي�صري ن�شيد ًا‬ ‫و�أغنيات ي��ردده��ا ماليني �أط��ف��ال ال��ع��رب‪ ،‬وم��ن ذا‬ ‫ي�ستطيع �أن ي�صوغ الفكرة اجلليلة ال�صعبة العميقة‬ ‫فيجعلها ي�سرية لطيفة ي�ستوعبها الأطفال وهي تن�سل‬ ‫�إىل الال�شعور‪ ،‬وتدخل يف الوجدان بال ا�ستئذان؟‬ ‫�إن��ه ال�شاعر املتمكن من �أدوات��ه‪ ،‬املج ّرب يف بيانه‪،‬‬ ‫وهو املعلم الذي مار�س خطاب الب�سطاء من النا�س حني‬ ‫كان يطوف القرى‪ ،‬ويعلم الفالحني الأميني القراءة‬ ‫والكتابة‪ ،‬وي�صوغ لهم �أهازيج حب العروبة والوطن‪.‬‬ ‫و�سليمان العي�سى �شاعر يت�أرجح بني مدر�ستني‪،‬‬ ‫مدر�سة التجديد ومدر�سة التقليد‪ ،‬ولكنه مل ي�شغل‬ ‫نف�سه ب���إع�لان االنتماء �إىل واح��دة دون الأخ��رى‪،‬‬ ‫فهذه مهمة النقاد يرون �أي املدار�س خ ّرجته و�أيها‬ ‫ك��ان فيها معلم ًا؟ وق��د خرجته م��در���س��ة التقليد‪،‬‬ ‫لي�صري �أ�ستاذ ًا يف مدر�سة التجديد‪ ،‬ولكنه مل ّ‬ ‫ي�شتط‬ ‫على �أرك��ان الق�صيد‪ ،‬فحتى يف ق�صائده احلديثة‬ ‫�أو النرثية‪ ،‬ت�سمع مو�سيقا ال�شعر الطربة تتمايل‬ ‫راق�صة بني الكلمات‪ ،‬و�سر ذاك‪� ،‬أن �أبا معن فنان‬ ‫ط��روب‪ ،‬ال تتوقف املو�سيقا عن العزف والغناء يف‬ ‫داخله‪.‬‬ ‫و�سليمان العي�سى بقي وهو على عتبة الت�سعني من‬ ‫العمر يحن �إىل ِن ّده القدمي‪ ،‬وهو موج البحر الهادر‪:‬‬ ‫ِن � � � � � � � � � � � � � � � � �دّان ي� � � � � � ��ا �أم� � � � � � � � � � � � � � � � ��واج ن� � �ح � ��ن‬ ‫ق� ��� �ص� �ي ��دة ع� �ط� ��� �ش ��ى ول� � � � � ّج ث � ��ائ � ��ر م � �ت � �م ��رد ُ‬ ‫العدد‬

‫�� ُ� ��ص � � � ّب� � ��ي ع� � �ل � ��ى ع� � �ي� � �ن � � ّ�ي �آخ� � � � � ��ر ق � �ط� ��رة‬ ‫يف � � � �ص � � ��در ع � ��و� � �س � �ج � ��ة امل� � �غ� � �ي � ��ب َت� � � � � � � ��ر ّد ُد‬ ‫ولعل كثريين ال يعرفون �أن �سليمان العي�سى واحد‬ ‫من كبار ال�شعراء الظرفاء ال�ساخرين‪ ،‬وقد �أ�س�س‬ ‫مع �صديقه الأديب الراحل �صدقي �إ�سماعيل جريدة‬ ‫(الكلب) التي نبح فيها كبار املبدعني‪ ،‬وتهاو�شوا مع‬ ‫احلكومات‪ ،‬وع�ضوا ال�سيا�سات‪ ،‬وع�ضتهم‪ ،‬وهذه‬ ‫املجلة فريدة يف بابها‪ ،‬وقد �صدرت جمموعة قبل‬ ‫�سنني يف كتاب يحمل عنوان (الكلب)‪ ،‬وهي ت�ؤرخ‬ ‫لل�سيا�سة من جانب �ساخر �ضاحك ظريف‪.‬‬ ‫و�سليمان العي�سى ع�ضو يف جممع اللغة العربية‪،‬‬ ‫وقد �أم�ضى جل عمله الوظيفي موجه ًا تربوي ًا عام ًا‬ ‫للغة العربية يف وزارة الرتبية‪ ،‬وق��د راف��ق زوجته‬ ‫الأديبة الدكتورة ملك �أبي�ض يف رحلتها منذ مطالع‬ ‫الت�سعينيات �إىل اليمن حيث عملت �أ�ستاذة وباحثة‬ ‫يف اجلامعة‪ .‬وقد �أحب �سليمان �أهل اليمن و�أحبوه‪،‬‬ ‫وبات ديوانه ال�شعري عن اليمن ذروة انتاجه الأدبي‪.‬‬ ‫وال يتيح يل امل��ج��ال �أن �أ�سهب يف احل��دي��ث عن‬ ‫�أ���س��ت��اذي و���ص��دي��ق��ي �أب���ي م��ع��ن‪ ،‬ول���و �أن���ه ات�����س��ع ملا‬ ‫توقفت‪ ،‬ففي قلبي في�ض من احلب له‪ ،‬ومن الوفاء‬ ‫لأ�ستاذيته‪ ،‬ومن التقدير ملكانته ال�سامية يف ثقافتنا‬ ‫ويف �أدب��ن��ا ال��ع��رب��ي احل��دي��ث‪ ،‬وم��ن امل��ع��رف��ة لقدره‬ ‫بو�صفه رجل موقف ومبد�أ‪ ،‬و�أحمد اهلل �أن التقدم يف‬ ‫ال�سن‪ ،‬واحلزن املفجع على ما �آل �إليه حال الأمة‪ ،‬مل‬ ‫يوقفاه عن العطاء‪ ،‬وهو الذي قال يوم ًا‪:‬‬ ‫ومت� ��وت �آخ� ��ر ب��اق��ة خم���ض��وب��ة ب ��دم ال�ن �ه��ا ِر‬ ‫و�أظ ��ل ع�بر امل��وج حل�ن�اً كاملحيط ب�لا ق ��را ِر‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪51‬‬


‫ملف العدد‬

‫التّخييل‬ ‫فـي �أدب الأطفـال‬

‫د‪� .‬سمر روحي الفي�صل‬ ‫جامعة الإمارات‬

‫لي�س هناك �إن�سان دون خيال؛ ل ّأن الب�رش‬ ‫ميتازون من احليوانات بالعقل‪ .‬واخليال‬ ‫قوة من قوى هذا العقل‪� ،‬أو مهارة من‬ ‫ّ‬ ‫فظي العليا‪� ،‬ش�أنه‬ ‫مهارات ال ّتفكري ال ّل ّ‬ ‫يف ذلك �ش�أن اال�ستنتاج واال�ستنباط‬ ‫والإدراك واملوازنة وال ّتحليل والترّ كيب‪.‬‬ ‫وهناك �أح��ادي��ث علم ّية كثرية‬ ‫منو العقل عند الإن�سان‪،‬‬ ‫عن ّ‬ ‫مو‬ ‫ت�شري ك ّلها �إىل � ّأن هذا ال ّن ّ‬ ‫منو القوى �أو املهارات‪،‬‬ ‫يعني ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ون�ضجها �شيئا ف�شيئا‪ .‬و�إذا‬ ‫منو‬ ‫ق�‬ ‫ُ‬ ‫���صرت احل��دي��ث على ّ‬ ‫�ت‪ّ � :‬إن‬ ‫م��ه��ارة اخل��ي��ال ق��ل� ُ‬ ‫الإن�سان ُيولد وه��و ميلك‬ ‫�إمكان ّية اخل��ي��ال‪ .‬وك ّلما‬ ‫من��ا وزاد عمره ا ّت�ضحت‬ ‫هذه الإمكان ّية وتبلورت‬ ‫واتجّ ��ه��ت �إىل �أن ُت�صبح‬ ‫��وة عقل ّية‪ .‬وق��د قيل � ّإن‬ ‫ق� ّ‬ ‫الإم��ك��ان�� ّي��ة ت� ّت�����ض��ح وع��م��ر‬ ‫ّ‬ ‫الطفل �سنتان‪ ،‬ويكتمل ن�ضجها‬ ‫قوة عندما يبلغ الثّانية‬ ‫وت�صبح ّ‬ ‫ع�شة من عمره‪ ،‬وك�أ ّنها تبد�أ من‬ ‫رْ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الطفولة املبكرة وتن�ضج يف �أخريات‬ ‫مرحلة ّ‬ ‫الطفولة املت� ّأخرة‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ال �أم��ل��ك م��ن املعرفة العلم ّية م��ا ي�ؤهّ لني لتقدمي‬ ‫تف�صيالت دقيقة عن مراحل من ّو اخليال عند ّ‬ ‫الطفل‪،‬‬ ‫ولك ّنني الحظتُ �أنّ هناك اتّفاق ًا علم ّي ًا على �أنّ الأطفال‬ ‫الأ�سوياء ك ّلهم‪ ،‬دون � ّأي ا�ستثناء‪ ،‬يولدون وهم ميلكون‬ ‫القدرة على اخليال‪� ،‬أو �إمكان ّية اخليال‪ .‬و�أنّ هذه‬ ‫الإمكان ّية تنمو لديهم جميع ًا دون � ّأي ا�ستثناء �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫بيد �أ ّنه لي�س من املحتّم �أن يبلغ ال ّنم ّو مرحلة ال ّن�ضج‬ ‫لدى الأطفال ك ّلهم‪ .‬وبتعبري �آخر �أقول‪� :‬إذا كان من‬ ‫ال ّثابت علم ّي ًا من ُّو �إمكان ّية اخليال عند الطفل‪ ،‬فمن‬ ‫ال ّثابت علم ّي ًا �أي�ض ًا �أال يت�ساوى الأطفال يف هذا ال ّنم ّو‪،‬‬ ‫و�أن تبدو الفروق الفرد ّية وا�ضحة بينهم يف مقدار من ّو‬ ‫اخليال ون�ضجه‪ .‬وهذا يعني‪ ،‬عندي‪� ،‬شيئ ًا ذا بال‪ ،‬هو‬ ‫�أنّ الأدب والترّ بية واملدار�س اخللف ّية ال تخلق اخليال‬ ‫عند ّ‬ ‫الطفل‪ ،‬بل تعمل على تنميته وقيادته �إىل ال ّن�ضج‪.‬‬ ‫ول��و ك��ان اخليال ين�ضج وح��دَ ه دون ع��ون من البيئة‬ ‫املحيطة ّ‬ ‫بالطفل ملا كانت هناك حاجة �إىل الأدب‬ ‫والترّ بية‪� .‬أي �أنّ اخليال الذي ينمو ع�شوائ ّي ًا فرد ّياً‬ ‫أعم‪ ،‬مرحلة ال ّن�ضج‪ .‬ولك ّننا �إذا‬ ‫ال يبلغ‪ ،‬يف الغالب ال ّ‬ ‫و ّفرنا له من خالل الأدب والترّ بية واملدار�س اخللف ّية‬ ‫مثريات متكاملة اتجّ��ه‪ ،‬دون ري��ب‪� ،‬إىل ال ّن�ضج‪ ،‬مع‬ ‫حمافظته على الفروق الفرد ّية بني الأطفال يف ال ّن�ضج‬ ‫نف�سه‪.‬‬ ‫وال � ّ‬ ‫أ�شك يف �أنّ اخليال حاجة �ضرور ّية للإن�سان؛ لأ ّنه‬ ‫ً‬ ‫يخلعه من الواقع املحيط به‪ ،‬ويجعله يت�ص ّور واقعا �آخر‬ ‫�أكرث مالءمة له‪ ،‬و�أ�ش ّد قرب ًا من �أحالمه وتطلُّعاته‪.‬‬ ‫ولوال اخليال ملا تق َّدم الإن�سان‪ ،‬وملا تط ّور الواقع الذي‬ ‫يعي�ش فيه‪ .‬وت��ب��دو ه��ذه الوظيفة �أك�ثر فعال ّية لدى‬ ‫ّ‬ ‫الطفل؛ لأ ّنه يعي�ش يف اخليال وينمو بو�ساطته‪ ،‬وميلك‬ ‫ا�ستناد ًا �إليه خم ِّيلة ن�شطة �أو كليلة‪ ،‬ت�ساعد �شخ�ص ّيته‬ ‫ال�سليم �أو تدفع بها نحو واقع مل ترتبط به‬ ‫على ال ّنم ّو ّ‬ ‫العدد‬

‫بعد‪ ،‬وال متلك ما ي�ؤهّ لها لفهمه‪ .‬وقد جعلتُ هديف‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬حتليل ه��ذا الأم��ر ا�ستناد ًا �إىل �أدب الأطفال‬ ‫وحدَ ه‪ ،‬ور�أيتُ من املفيد �أن نالحظ انطالق ال ّلغة وعلم‬ ‫ال َّنفْ�س مما �أ�شرتُ �إليه يف �أثناء حتديدهما اخليال‬ ‫ب�أ ّنه التّ�ص ُّور �أو ّ‬ ‫الظنّ �أو التّوهُّم‪ .‬فهما‪ ،‬يف ذلك‪،‬‬ ‫ُي��ح�� ّددان �سمتي اخليال الأ�سا�س ّيتني‪ :‬االرت��ف��اع فوق‬ ‫ال�صور‪ .‬ويكادان ُي�ص ِّرحان ب�أنّ اخليال‬ ‫الواقع وتكوين ّ‬ ‫ال�صور ال ين�سخ ما ي�ض ّمه الواقع‪ ،‬بل‬ ‫يف �أثناء ت�شكيله ّ‬ ‫ينتخب منه جزئ ّيات ُيك ِّون منها �صورة ال مثيل لها يف‬ ‫بيئته وواقعه‪ .‬وهذا ما قادين �إىل الفر�ض ّية الآتية‪� :‬إذا‬ ‫ح ّر�ضنا خيال ّ‬ ‫الطفل على ال ّنم ّو وقدناه �إىل ال ّن�ضج‬ ‫جنحنا يف جت�سيد وظيفة تربو ّية �أ�سا�س ّية يف حياة‬ ‫البديهي �أال يكون التّحري�ض‬ ‫جمتمعنا وم�ستقبله‪ .‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫يتج�سد فيها‬ ‫نظر ّي ًا‪ ،‬بل عمل ّي ًا من خالل الو�سيلة التي َّ‬ ‫اخليال‪ ،‬وهي �أدب الأطفال‪ .‬ففي هذا الأدب تخييل؛‬ ‫لل�صور من �أمور َ‬ ‫منتخ َبة‬ ‫�أي جت�سيد للخيال وت�شكيل ّ‬ ‫الطفل‪ّ .‬‬ ‫من واقع ّ‬ ‫أدبي‬ ‫والطفل ّ‬ ‫يحب هذا التّخييل ال ّ‬ ‫لأ ّنه ل�صيق باخليال‪ ،‬يعي�ش فيه وميتح منه كما �سبق‬ ‫القول‪ ،‬ومن َث َّ��م يت�أثر بهذا التّخييل الأدب ّ���ي‪ ،‬فينمو‬ ‫خياله و ُيح ِّلق بو�ساطته بعيد ًا عن م�شكالته‪ ،‬ف ُيح ّقق ما‬ ‫يتم ّناه وير�سمه لنف�سه‪ .‬وقد تت�ش ّكل لديه نتيجة ن�ضج‬ ‫خياله خم ِّيلة قادرة يف امل�ستقبل على قيادة �صاحبها‬ ‫ج�سد بنف�سه ما تخ ّيله‪ ،‬فينتقل من التّخييل‬ ‫�إىل �أن ُي ّ‬ ‫املادي املكتوب‬ ‫االفرتا�ضي‬ ‫أدبي ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعنوي �إىل التّخييل ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫املرئي �أو كليهما معا‪ .‬وال � ّ‬ ‫أ�شك يف �أنّ هذا ك ّله ال‬ ‫�أو‬ ‫ّ‬ ‫أدبي حتلي ًال نقد ّياً‬ ‫يتّ�ضح �إذا مل ُنح ِّلل �أنواع التّخييل ال ّ‬ ‫ق��ادر ًا على حتديد �أثرها يف خيال ّ‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫الطفل‬ ‫ّ‬ ‫ولك ّنني �س�أكتفي‪ ،‬هنا‪ ،‬بتحليل نوعني لي�س غري من‬ ‫املرئي والتّخييل املقروء‪.‬‬ ‫هذه الأنواع‪ ،‬هما‪ :‬التّخييل ّ‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪53‬‬

‫ال���خ���ي���ال ع���ن���د ال� ّ‬ ‫���ط����ف����ل‪ ،‬ب����ل ت���ع���م���ل ع���ل���ى ت��ن��م��ي��ت��ه وق����ي����ادت����ه إل�����ى ال��� ّن���ض���ج‬

‫األدب وال����تّ����رب����ي����ة وال��������م��������دارس ال���خ���ل���ف��� ّي���ة ال ت��خ��ل��ق‬


‫الأديب قد يالم�س اخلرافة �إذا ر�أى �أنّه قادر بو�ساطتها على‬ ‫حتقيق ما مل ي�ستطع حتقيقه بغريها‪ ،‬خ�صو�ص ًا �إذا كان يهدف‬ ‫�إىل تر�سيخ قيم �إن�سان ّية غري مرتبطة بطبيعتها مبجتمع معي‬

‫املرئي‪:‬‬ ‫‪ - 1‬التّخييل‬ ‫ّ‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫��رزت‪ ،‬بعد جناح التّلفاز يف غزو البيت‬ ‫ب ْ‬ ‫ّ‬ ‫ق�ضايا �أ�سا�س ّية يف تربية ال ّ��ط��ف��ل‪� ،‬أب��رزه��ا اتّ�ساع‬ ‫املعارف‪ ،‬واالتّ�صال بالعامل‪ ،‬وال ّت�أ ُّثر بالقيم‪ ،‬وال ّتغيرُّ‬ ‫��وي‪ .‬و�أُ���ض��ي��ف ْ��ت �إىل ه��ذه الق�ضايا‬ ‫يف ال ّر�صيد ال�� ّل��غ ّ‬ ‫ق�ض ّية جديدة بعد انت�شار الف�ضائ ّيات العرب ّية‪ ،‬هي‬ ‫ّلفازي َط َوال اليوم وزيادة �ساعات‬ ‫ا�ستمرار البثّ الت ّ‬ ‫امل�شاهدة ل��دى الأط��ف��ال العرب‪ .‬وراف��ق ذل��ك جناح‬ ‫والعربي يف حتويل ال ّن�صو�ص الأدب ّية‬ ‫أجنبي‬ ‫ّ‬ ‫التّلفاز ال ّ‬ ‫�إىل �أ�شرطة مرئ ّية‪ ،‬ما جعل �ساعات امل�شاهدة لدى‬ ‫الأطفال العرب طويلة‪ ،‬تبع ًا لإمكان ّية انتقال ّ‬ ‫الطفل‬ ‫ب�سهولة من ّ‬ ‫ال�ساعات‬ ‫حمطة عرب ّية �إىل �أخرى ملتابعة ّ‬ ‫كل منها‪ .‬وزاد من ارتباط ّ‬ ‫املخ�ص�صة له يف ٍّ‬ ‫الطفل‬ ‫َّ‬ ‫بامل�سل�سالت وال ّر�سوم املتح ِّركة امل�ستم َّدة من ن�صو�ص‬ ‫ّقني يف �صناعة الأ�شرطة‪ ،‬وما‬ ‫�أدب ّية ذلك التّق ُّدم الت ّ‬ ‫رافقه من متعة يف العر�ض‪ ،‬ومن توظيف ف ّن ّي للم�ؤ ّثرات‬ ‫وال�سمع ّية‪ .‬وال ّنتيجة البديه ّية لذلك ك ّله هي‬ ‫الب�صر ّية ّ‬ ‫املرئي احت ّل املكانة الأوىل يف ال ّت�أثري يف‬ ‫�أنّ التّخييل‬ ‫ّ‬ ‫خيال ّ‬ ‫الطفل‪.‬‬ ‫ولكنْ ‪ ،‬ما طبيعة هذا ال ّت�أثري يف خيال ّ‬ ‫الطفل؟‪� .‬إنّ‬ ‫ال�س�ؤال حتتاج �إىل �أن نتذ ّكر‪ ،‬قبل‬ ‫الإجابة عن هذا ّ‬ ‫املرئي نف�سه الرتباطها‬ ‫� ّأي �شيء �آخر‪ ،‬طبيعة التّخييل ّ‬ ‫بطبيعة ال ّت�أثري يف خيال ّ‬ ‫املرئي‬ ‫الطفل‪ .‬فالتّخييل‬ ‫ّ‬ ‫م�شخ�ص ّ‬ ‫هو عر�ض م��ا ّد ّي َّ‬ ‫لل�شخ�ص ّيات واحل��وادث‬ ‫وال�صراعات واحلركات‪ ،‬بحيث تكون هناك‬ ‫والأمكنة ّ‬ ‫مالمح حم�� َّددة لك ّل �شخ�ص ّية من ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّيات‪ ،‬ال‬ ‫تتغيرّ وال تتب ّدل َط�� َوال ّ‬ ‫ال�شريط �أو امل�سل�سل‪� ،‬سواء‬ ‫�أكانت من الإن�سان �أم احليوان‪ .‬كذلك الأمر بال ّن�سبة‬ ‫�إىل الأمكنة التي تتح ّرك فيها ه��ذه ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّيات‪،‬‬

‫‪54‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ال�صراع واحلركة‪،‬‬ ‫والأفعال التي تقوم بها‪ ،‬ومواقع ّ‬ ‫�إ�ضافة �إىل الأ�صوات املح َّددة‪ ،‬وامل�ؤ ِّثرات املو�سيق ّية‬ ‫امل�صاحبة لها‪.‬‬ ‫الق�صة وال ّرواية التي يعر�ضها‬ ‫ك ُّل �شيءٍ حم َّدد يف ّ‬ ‫املرئي‪� .‬أما ما يفعله‬ ‫التّلفاز‪ .‬هذه هي طبيعة التّخييل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطفل فال يخرج عن م�شاهدة هذه الأ�شياء املح َّددة‬ ‫ً‬ ‫ومتابعتها‪� .‬أي �أ ّنه لن يتخ َّيل �شيئا يف �أثناء امل�شاهدة؛‬ ‫لأنّ ما ي�شاهده حم َّد ٌد ال ي�ضط ّره �إىل ا�ستعمال خياله‬ ‫يف تكوين �أ ّية �صورة‪ ،‬ما ي�ضعف هذا اخليال بد ًال من‬ ‫جمده بحيث يبقى دون � ّأي تغيري من بداية‬ ‫تنميته‪� ،‬أو ُي ِّ‬ ‫امل�شاهدة �إىل نهايتها‪ .‬وكلما كرثت �ساعات امل�شاهدة‬ ‫زادت فر�ص �إ�ضعاف خيال ّ‬ ‫الطفل؛ لأنّ هذا اخليال‬ ‫يعتاد الك�سل واخلمول مادام ك ُّل �شيء �أمامه حم َّدد ًا‪.‬‬ ‫ال�صور املح َّددة ال‬ ‫ال�سرعة التي تتواىل فيها ّ‬ ‫بل �إنّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ت�سمح خليال ّ‬ ‫الطفل بالعمل‪ ،‬تبعا حلاجة هذا اخليال‬ ‫�إىل ف�سحة من الوقت لت�أ ُّمل ّ‬ ‫ال�صورة‬ ‫ال�شيء وتكوين ّ‬ ‫ال�صور‬ ‫انطالق ًا منه‪ .‬وفقدان فر�صة ال ّت�أ ُّمل نتيجة ّ‬ ‫املح َّددة املتالحقة ي�ؤ ّثر ت�أثري ًا �سلب ّي ًا �آخر نابع ًا من �أنّ‬ ‫ال ّت�أ ُّمل �أ ّول دليل على ن�شاط اخليال وحركته يف اتجّ اه‬ ‫ال�صورة‪ .‬ف�إذا َف َقد ّ‬ ‫الطفل هذا ال ّت�أ ُّمل خ�سر‬ ‫ت�شكيل ّ‬ ‫ال�صورة‬ ‫خياله فر�صة انتخاب اجلزئ ّيات التي ُي�ش ِّكل ّ‬ ‫منها‪ ،‬وخ�سر يف الوقت نف�سه فر�ص تدريب خياله على‬ ‫ال�صور يحتاج �إىل ن�ضج القدرة‬ ‫ال ّت�أ ُّمل؛ لأنّ ت�شكيل ّ‬ ‫هني يف املوجودات‪.‬‬ ‫على ال ّت�أ ُّمل ال ّذ ّ‬ ‫لل�صورة امل��ح�� َّددة على‬ ‫لبي ّ‬ ‫وال يقت�صر الأث��ر ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫لبي)‬ ‫ما �سبق‪ ،‬بل ميت ّد �إىل َغ ْر�س عادة (التّل ّقي ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫ال�صور‬ ‫لبي هو التقاط ّ‬ ‫الطفل‪ .‬وهذا التّل ّقي ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫و�إيداعها ال ّذهن‪ ،‬دون � ّأي جهد من ّ‬ ‫الطفل يف ا�ستعمال‬ ‫خياله‪ .‬ف�إذا اعتاد هذا ّ‬ ‫لبي اعتاد يف‬ ‫الطفل التّل ّقي ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫الوقت نف�سه عدم ا�ستعمال خياله‪ ،‬ما يجعله يف مواقف‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫احلياة ك ّلها �سلب ّي ًا‪ ،‬يطلب ال ّراحة والأم��ر اجلاهز‪،‬‬ ‫ويتذ ّمر من �أ ّية حماولة لدفعه �إىل العمل داخل الأ�سرة‬ ‫واملدر�سة وخارجهما‪ .‬ف���إذا َ�س َرد املعلم �أو الأب �أو‬ ‫ق�صة طلب منه �صور ًا تجُ ّ�سدها؛ لأ ّنه اعتاد‬ ‫الأ ّم عليه ّ‬ ‫ً‬ ‫جميء التّخييل �إليه جاهزا‪ ،‬ومل يعتد املبادرة �إىل‬ ‫اتي‪ .‬وما هو �أ�ش ّد خطر ًا يف هذه احلال تقييد‬ ‫تخ ُّيله ال ّذ ّ‬ ‫خيال ّ‬ ‫ال�صور املح َّددة اجلاهزة‪،‬‬ ‫الطفل‪ ،‬وتكبيله بعادة ّ‬ ‫واال�ست�سالم لل ّراحة والك�سل وك ّل ما ينـتج عن التّل ّقي‬ ‫لبي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ولي�س التّقييد بالأمر الهينِّ ؛ لأ ّن��ه يعني �أنّ خيال‬ ‫ّ‬ ‫العربي لن ينطلق ح ّر ًا‪ ،‬فيجاوز الواقع واملعروف‬ ‫الطفل‬ ‫ّ‬

‫العدد‬

‫وامل����أل���وف‪ ،‬وي��خ�ترق اجل��ب��ال والأن���ه���ار‪ ،‬ويعلو فوق‬ ‫احلواجز والعوائق‪ ،‬ويروح ُيح ِّلق و ُين�شئ �صور ًا ال مثيل‬ ‫خيال‬ ‫لها يف واقعه‪ ،‬ولي�ست هناك �إمكان ّية لتل ّقيها بغري ٍ‬ ‫ح ٍّر موازٍ خليال �صانعها‪ .‬هذا اخليال احل ّر هو الذي‬ ‫يمُ ّهد لالخرتاعات‪ ،‬وي�ساعد على تغيري الواقع الأليم‪،‬‬ ‫الظلم ّ‬ ‫ويدفع �صاحبه �إىل مناه�ضة ّ‬ ‫والظاملني وال ّدفاع‬ ‫عن الأبرياء و�أ�صحاب احلقوق‪ .‬بل �إ ّنه اخليال الذي‬ ‫يجعل احلياة �أكرث جما ًال يف عيني ّ‬ ‫الطفل؛ لأ ّنها ت�صبح‬ ‫يهب لن�صرة ال ّنا�س‬ ‫حياة ذات معنى لديه‪ ،‬فيها َمنْ ُّ‬ ‫وم�ساعدتهم‪َ ،‬وم���نْ يندفع خل�ير املجتمع وتق ُّدمه‪،‬‬ ‫ال�سعادة‬ ‫َومنْ يهاجم الأ�شرار ويعالج الأدواء ومينح ّ‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪55‬‬


‫�إذا اعتاد هذا ّ‬ ‫لبي اعتاد يف الوقت نف�سه عدم ا�ستعمال‬ ‫الطفل التّلقّي ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫الراحة والأمر اجلاهز‪،‬‬ ‫خياله‪ ،‬ما يجعله يف مواقف احلياة ك ّلها �سلب ّي ًا‪ ،‬يطلب ّ‬ ‫ويتذ ّمر من �أ ّية حماولة لدفعه �إىل العمل داخل الأ�سرة واملدر�سة وخارجهما‬

‫ال�سبب قيل �إنّ احل ّر ّية عماد اخليال‪،‬‬ ‫للآخرين‪ .‬ولهذا ّ‬ ‫فال خيال دون ح ّر ّية‪ .‬وحني ُنق ِّيد خيال ّ‬ ‫بال�صور‬ ‫الطفل ّ‬ ‫اجلاهزة ف�إ ّننا مننعه من التّمتُّع بثمار احل ّر ّية‪ ،‬فيغدو‬ ‫كلي ًال ال يجاوز �سطح الواقع‪ ،‬وال ي�ستطيع ال ّنهو�ض‬ ‫بالأحالم والأماين‪ ،‬وال ي�ساعد على من ّو التّ�ص ُّور‪ ،‬وال‬ ‫احل�س الإن�سا ّ‬ ‫واالجتماعي الذي‬ ‫ين‬ ‫ميلك املبادرة وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫يدفعه �إىل االندماج يف الآخرين وتقدمي العون لهم‪.‬‬ ‫و�سرنى‪ ،‬يف هذه احلال‪ ،‬طف ًال ُي ْ�سلم قياده �إىل غريه؛‬ ‫لأ ّنه ال ي�ستطيع �أن يقود نف�سه يف حياة مملوءة باخلري‬ ‫وال ّ�����ش�� ّر م���ادام خياله مق َّيد ًا ع��اج��ز ًا ع��ن االنطالق‬ ‫بح ّر ّية‪.‬‬ ‫‪ - 2‬التّخييل املقروء‪:‬‬ ‫رمزي؛ لأنّ ال ّلغة املكتوبة هي‬ ‫التّخييل املقروء تخييل ّ‬ ‫الو�سيلة الوحيدة فيه‪� .‬إ ّنه تخييل بو�ساطة ال ّلغة‪� ،‬أو هو‬ ‫تخييل ت�صنعه ال ّلغة‪ .‬ولي�س املراد هنا رمز ّية احلروف‬ ‫ال�صورة التي‬ ‫والكلمات يف ال ّلغة‪ ،‬بل امل��راد رمز ّية ّ‬ ‫خا�ص يف ت�شبيه‬ ‫ير�سمها اجتماع الكلمات على نحو ّ‬ ‫م�سرحي‪.‬‬ ‫ق�ص�صي �أو‬ ‫�أو ا�ستعارة �شعر ّية‪� ،‬أو يف حدث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال�صورة هنا �صورة جماز ّية ولي�ست واقع ّية‪� ،‬صورة‬ ‫ّ‬ ‫وج�سدتها الكلمات‪ .‬ف�إذا رغبنا يف معرفة‬ ‫َبنـَتْها املخ ّيلة َّ‬ ‫ً‬ ‫ال�صورة وجب علينا �أن نقر�أ الكلمات �أ ّوال‪ .‬وقد حتتاج‬ ‫ّ‬ ‫ال�صور ّ‬ ‫ال�شعر ّية‪،‬‬ ‫ال�صور‪ ،‬كما هي احل��ال يف ّ‬ ‫بع�ض ّ‬ ‫�إىل ت�أ ُّم ٍل وحتليل ملعرفة العالقات بني �أطرافها قبل‬ ‫ال ّنجاح يف فهمها وتخ ُّيل داللتها‪ .‬تلك هي طبيعة‬ ‫التّخييل املقروء‪ ،‬والب ّد ّ‬ ‫للطفل من �أن يتعامل مع هذه‬ ‫ّ‬ ‫الق�صة �أو الق�صيدة‪.‬‬ ‫الطبيعة يف �أثناء قراءته ّ‬ ‫يحتاج ّ‬ ‫الطفل‪ ،‬قبل � ّأي �شيء �آخر‪� ،‬إىل �إتقان �آل ّية‬ ‫القراءة مبا تعنيه هذه الآل ّية من ق��درة على حتليل‬ ‫ال ّرموز ال ّلغو ّية و�إعادة تركيبها‪ّ .‬ثم عليه �إجادة مهارة‬ ‫‪56‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫القراءة‪ ،‬بحيث يقر�أ قراءة �إنعام وتد ُّبر ليتم ّكن من‬ ‫�ص املقروء‪ .‬وعليه �أخ�ير ًا �أن يجاوز‬ ‫فهم معاين ال ّن ّ‬ ‫الكلمات والأ�سطر ب�سرعة مقبولة ليتم ّكن من الإحاطة‬ ‫�ص املقروء يف �أق�صر زمن ممكن‪ .‬وك ّلما‬ ‫بدالالت ال ّن ّ‬ ‫ر�سخت يف ّ‬ ‫الطفل عادة املطالعة بد�أ ُيج ِّود يف مهارة‬ ‫القراءة‪ ،‬ويتقن اقتنا�ص �إيحاءات الكلمات واجلمل‪،‬‬ ‫وميلك ت�ص ُّور ًا ذات ّي ًا للمقروء‪ .‬وهذا يعني �أنّ ّ‬ ‫الطفل ال‬ ‫ي�ستطيع الإفادة من التّخييل املقروء �إذا مل يكن قادر ًا‬ ‫ال�سليمة‪ .‬ويف ذلك فوائد ع�� ّدة تربو ّية‬ ‫على القراءة ّ‬ ‫ولغو ّية‪ ،‬يجنيها ّ‬ ‫الق�صة �أو الق�صيدة‪.‬‬ ‫الطفل وهو يقر�أ ّ‬ ‫ويه ّمني‪ ،‬هنا‪ ،‬الترّ كيز على الفوائد املرتبطة بتنمية‬ ‫خيال ّ‬ ‫الطفل‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ال�ف��ائ��دة الأوىل‪ :‬ه��ي �أنّ ال�� ّ���ص��ورة التي يتل ّقاها‬ ‫ّ‬ ‫الطفل من التّخييل املقروء ال ُي ْ�شترَ ط فيها �أن تطابق‬ ‫القا�ص �أو ّ‬ ‫ال�شاعر‪ .‬فقد‬ ‫ال�صورة التي ر�سمتها خم ّيلة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تكون قريـبة منها �أو بعيدة عنها‪ ،‬حتيط بها �أو تحُ ِّلق‬ ‫يف مناخها‪ ،‬ت�ستجيب لهيكلها �أو تبني هيك ًال جديد ًا‪.‬‬ ‫ال�صورة هو التّفاوت بني‬ ‫وم�س ّوغ ذلك التّع ُّدد يف تل ّقي ّ‬ ‫ُ‬ ‫الأطفال يف املخ ّيلة التي تل ّقت الكلمات التي �أن�شئت‬ ‫ال�صورة منها‪ ،‬ويف قدرة هذه املخ ّيلة على ترجمتها‬ ‫ّ‬ ‫ال�صورة يف‬ ‫ترجمة ذات ّية‪ .‬فاملخ ّيلة ال ّن�شطة ت��درك ّ‬ ‫الق�صة‪ ،‬وت��روح ت�ضيف �إليها �أبعاد ًا جديدة‪ ،‬فتخلق‬ ‫ّ‬ ‫لنف�سها �صورتها ال ّذات ّية‪ .‬كذلك الأم��ر بال ّن�سبة �إىل‬ ‫املخ ّيلة ال��ك�����س��ول‪ .‬فهي جتهد يف �إدراك ال�� ّ���ص��ورة‬ ‫الق�ص�ص ّية‪ ،‬وقد ُي�ضط ّر �صاحبها �إىل القراءة غري‬ ‫ال�صورة‪ ،‬وينجح يف الإحاطة بها‪،‬‬ ‫م ّرة ّ‬ ‫ليلم بجزئيات ّ‬ ‫املتو�سطة ال ّن�شاط فهي‬ ‫ك ّلها �أو معظمها‪� .‬أ ّما املخ ّيلة ّ‬ ‫ال�صورة الق�ص�ص ّية‪ ،‬وتدركها دون جهد كبري‪،‬‬ ‫تالحق ّ‬ ‫ولك ّنها تلتزم بها وال تحُ ِّلق فوقها؛ لأنّ م�ستوى ن�شاطها‬ ‫ال�صورة التي‬ ‫ال ي�سمح لها بغري ذلك‪ .‬وهذا يعني �أنّ ّ‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ي�ض ّمها التّخييل الأدب ّ��ي تواجه ثالث خم ِّيالت عند‬ ‫ثالثة �أنواع من الأطفال‪ ،‬فتتع ّدد وتتكثرّ وت�صبح ثالث‬ ‫�صور‪ ،‬بل �أكرث من ذلك �إذا تذ ّكرنا �أنّ ّ‬ ‫الطفل ذا املخ ّيلة‬ ‫ال�صورة الأ�صل ّية التي ابتدعها الكاتب‪،‬‬ ‫ال ّن�شطة يدرك ّ‬ ‫ويـبني لنف�سه �صورة �أخرى جديدة‪ .‬وال يقت�صر تع ُّدد‬ ‫الق�صة‬ ‫ال�صور على هذا الأمر‪ ،‬بل يجاوزه كثري ًا؛ لأنّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�ضم جمموعة من‬ ‫�أو الق�صيدة بناء‬ ‫تخييلي مر ّكب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�صور التي تت�ضافر وتتكامل من �أجل تقدمي البناء‬ ‫ّ‬ ‫فالق�صة‪ ،‬على �سبيل التّمثيل ال احل�صر‪،‬‬ ‫املتخ َّيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مك ّونة من جمموعة من احل���وادث املتخ َّيلة‪ ،‬يف ك ّل‬ ‫حدث �صورة تبدو يف �شكل مغامرة‪� ،‬أو يف �شكل و�صف‬ ‫لإحدى ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّيات‪� ،‬أو يف �شكل حتديد للمكان‪� ،‬أو يف‬ ‫�شكل �صراع‪� ،‬أو يف �أ�شكال �أخرى ي�ستدعيها التّخييل‬ ‫الق�صة‪ّ .‬‬ ‫ال�صور‬ ‫ويفر�ضها مو�ضوع‬ ‫والطفل يتل ّقى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صور لديه‬ ‫���ص��ور ًة تلو الأخ���رى مبخ ّيلته‪ ،‬فتتع ّدد ّ‬ ‫الق�ص�صي مبا فيه‬ ‫ال�سياق‬ ‫حتّى يكتمل يف خم ّيلته ّ‬ ‫ّ‬ ‫الق�صة �أو‬ ‫من مو�ضوع ومغزى و�شخ�ص ّيات‪ ،‬فيدرك ّ‬ ‫�ص‬ ‫ال�صورة الك ّل ّية لها على ال ّرغم من تع ُّدد �صور ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف خم ّيلة ّ‬ ‫الطفل القارئ‪.‬‬ ‫الفائدة ال ّثانية‪ :‬هي �أنّ التّخييل املقروء يح ِّر�ض‬ ‫العدد‬

‫خيال ّ‬ ‫الطفل على ال ّن�شاط مهما تكن املخ ّيلة التي‬ ‫ميلكها هذا ّ‬ ‫الطفل‪ .‬ولع ّلنا الحظنا‪ ،‬يف �أثناء احلديث‬ ‫ال�صورة‬ ‫عن الفائدة الأوىل‪ ،‬تلك الإ���ش��ارة �إىل �أنّ ّ‬ ‫أدبي ح َّر�ضت املخ ّيلة الك�سول‬ ‫التي ي�ض ّمها التّخييل ال ّ‬ ‫واملتو�سطة ال ّن�شاط وال ّن�شطة؛ �أي �أنّ َّ‬ ‫كل تخييل مقروء‬ ‫ّ‬ ‫قادر على حتري�ض خيال ّ‬ ‫الطفل القارئ‪ ،‬ودفعه �إىل‬ ‫بال�صورة �أو �إدراكها �أو‬ ‫بذل اجلهد يف �سبيل ال ّلحاق ّ‬ ‫ال�صور‬ ‫البناء فوقها‪ّ ،‬ثم بذل جهد �آخر يف اجلمع بني ّ‬ ‫للق�صة �أو الق�صيدة يف �سبيل الإدراك العام‬ ‫املك ِّونة ّ‬ ‫�ص‪ ،‬والقب�ض ع��ل��ى هيكله ودالالت����ه‬ ‫للتّخييل يف ال ّن ّ‬ ‫و�شخ�ص ّياته ومو�ضوعه‪ .‬وال � ّ‬ ‫أ�شك يف �أنّ التّحري�ض‬ ‫الذي تدعو �إليه قراءة ق�ص�ص الأطفال �أو ق�صائدهم‬ ‫ف َّعال دائ��م�� ًا‪ .‬فاملخ ّيلة التي يح ّر�ضها على ال ّن�شاط‬ ‫تتغيرّ نتيجة التّحري�ض‪ ،‬فتتق ّدم وت�صبح �أكرث ن�شاط ًا‪.‬‬ ‫وه��ذا وا�ضح من �أ ّننا لو طلبنا من طفل ذي خم ّيلة‬ ‫ق�صة‪ ،‬ف�إنّ خم ّيلة هذا ّ‬ ‫الطفل �ستن�شط‬ ‫ك�سول �أن يقر�أ ّ‬ ‫ً‬ ‫الق�صة‪،‬‬ ‫فتبذل جهد ًا كبريا يف �إدراك �إح��دى �صور ّ‬ ‫الق�صة جمتمع ًة‪ .‬ف�إذا‬ ‫وجهود ًا فائقة يف �إدراك �صور ّ‬ ‫طلبنا من ّ‬ ‫الق�صة نف�سها بعد‬ ‫الطفل نف�سه �أن يقر�أ ّ‬ ‫ً‬ ‫حني‪ ،‬ف�إ ّننا �سنالحظ �أنّ خم ّيلته �ستبذل جهدا �أق ّل‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪57‬‬


‫وإذا كان خيال ّ‬ ‫الطفل يرنو إلى األبطال األسطور ّيين‪ ،‬فإنّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مما بذلته يف �أثناء القراءة الأوىل للإحاطة ب�صور‬ ‫الق�صة‪ .‬و�إذا ك ّررنا التّجربة مرة ثالثة ف�إ ّننا �سنالحظ‬ ‫ّ‬ ‫تناق�ص اجلهد املبذول ومن�� ّو القدرة على الإحاطة‬ ‫الق�صة‪ ،‬ما يعني �أنّ تكرار التّخييل الأدب ّ��ي‬ ‫ب�صور ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يح ّر�ض خيال ّ‬ ‫الطفل على ال ّنم ّو �شيئا ف�شيئا‪ ،‬في�صبح‬ ‫�أكرث قدرة على التّحليق‪ ،‬وتغدو املخ ّيلة نتيجة ذلك‬ ‫�أكرث ن�شاط ًا‪� ،‬إ�ضافة �إىل ت�أثري ذلك يف من ّو اجلانب‬ ‫ّخييلي من �شخ�ص ّية ّ‬ ‫الطفل يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫الت ّ‬ ‫الطفل ال يت�ص ّور دائماً‬ ‫الفائدة ال ّثالثة‪ :‬هي �أنّ خيال ّ‬ ‫أدبي‪.‬‬ ‫�صورة مطابقة ّ‬ ‫لل�صورة التي ي�ض ّمها التّخييل ال ّ‬ ‫فالقا�ص ي�ستعمل الو�صف يف جت�سيد ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّية‬ ‫ّ‬ ‫وحتديد مالحمها كما يت�ص ّورها يف خم ّيلته املبدعة‪.‬‬ ‫ول��ك��نّ ّ‬ ‫الطفل ال��ذي ي��ق��ر�أ الو�صف يف �أث��ن��اء قراءته‬ ‫الق�صة ال يت�ص ّور ّ‬ ‫القا�ص‪،‬‬ ‫ال�شخ�ص ّية كما ت�ص ّورها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القا�ص‪ ،‬بل يت�ص ّور‬ ‫وال ي�ستنبط مالحمها كما ح َّددها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّية على ال ّنحو ال��ذي �أدرك���ه من الكلماتّ ‪،‬‬ ‫وبح�سب ن�شاط خم ّيلته‪ .‬وم��ن َث َّ��م ير�سم يف ذهنه‬ ‫�صور ًة لهذه ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّية خا�ص ًة به وحدَ ه‪ .‬وث ّمة دالالت‬ ‫كثرية على �أنّ ّ‬ ‫الطفل نف�سه حري�ص على امتالك‬ ‫اتي �ضمن حر�صه على مت ُّيز �شخ�ص ّيته من‬ ‫ت�ص ّوره ال ّذ ّ‬ ‫ً‬ ‫�شخ�ص ّيات �أقرانه‪ .‬ويبدو ذلك وا�ضحا يف �أ ّنه يرجع‬ ‫الق�صة �إىل �صفحات كان‬ ‫غري م�� ّرة يف �أثناء ق��راءة ّ‬ ‫قر�أها لرياجع �شيئ ًا فيها‪ .‬وهذه العودة تعني �أ ّنه راغب‬ ‫ال�سياق‪� ،‬أو نتيجة‬ ‫يف ت�أ ُّمل ما كان قر�أه ل ُيع ّدله يف �ضوء ّ‬ ‫ال�صفحات التّالية‪ .‬ويتّخذ‬ ‫ال�صور التي ق ّدمتها له ّ‬ ‫ّ‬ ‫حدث �أو و�صف‬ ‫التّعديل �أ�شكا ًال ع ّدة‪ ،‬منها‪ :‬مراجعة ٍ‬ ‫�أو عبارة مع ّينة �أو موقف �أو عالقة بني ّ‬ ‫ال�شخ�ص ّيات‪.‬‬ ‫ومهما تتع ّدد �أ�شكال التّعديل ف�إنّ وراءها حماول ًة لبناء‬ ‫اتي‪ ،‬ينه�ض بها ّ‬ ‫الطفل يف �أثناء القراءة‪،‬‬ ‫التّ�ص ُّور ال ّذ ّ‬ ‫ويرى فيها متعة وخ�صو�ص ّية‪ ،‬ويخرج منها بخيال �أكرث‬ ‫‪58‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫من ّو ًا وخم ّيلة �أكرث ن�شاط ًا‪ .‬وعندما ين�ضج خياله ف�إنّ‬ ‫عودته وت�أ ُّمله يقودان خم ّيلته �إىل التّحليق وبناء ت�ص ُّور‬ ‫أدبي‬ ‫ذاتي بعيد عن ّ‬ ‫ال�صور التي يطرحها التّخييل ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫املهم بعد ذلك املدى الذي يبلغه‬ ‫الق�صة‪ .‬ولي�س من ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫التّحليق‪ .‬فقد ي�ضع ّ‬ ‫الطفل يف �أث��ن��اء حتليقه نف�سه‬ ‫بد ًال من البطل‪ ،‬ويروح يتخ ّيل حوادث مغايرة يراها‬ ‫ج�سد‬ ‫�أكرث حتقيق ًا ل�سياق ّ‬ ‫الق�صة ومو�ضوعها‪ .‬وقد ُي ِّ‬ ‫يف امل�ستقبل القريب �أو البعيد ما يتخ ّيله‪ ،‬وقد يمُ ّهد‬ ‫له ب�أعمال و�أقوال‪ ،‬وما �إىل ذلك من �أمور يقود �إليها‬ ‫التّحليق‪ .‬وهذه الأمور مه ّمة تربو ّي ًا‪ ،‬ولكنّ �أه ّم ّيتها ال‬ ‫ت��وازي �أه ّم ّية التّحليق نف�سه؛ لأنّ ح ّر ّية اخليال هي‬ ‫التي تبني �شخ�ص ّية م�ستق ّلة ق��ادرة على الإب��داع يف‬ ‫امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ال�ف��ائ��دة ال� ّراب�ع��ة‪ :‬هي العالقة بني التّ�ص ُّور لدى‬ ‫الكاتب والتّ�ص ُّور لدى ّ‬ ‫القا�ص‬ ‫الطفل القارئ‪ .‬ذلك �أنّ‬ ‫ّ‬ ‫الق�صة‪،‬‬ ‫ميلك خم ّيلة تفعل ِف ْع َلها يف �أث��ن��اء �إب���داع ّ‬ ‫ال�صور بالكلمات‪ ،‬وجتعلها جتتمع يف �سياق‬ ‫فرت�سم ّ‬ ‫الق�ص�صي؛‬ ‫القا�ص هو التّخييل‬ ‫ماتع مقنع م�ؤ ّثر‪َ .‬‬ ‫وع َم ُل ّ‬ ‫ّ‬ ‫القا�ص‪ .‬و�إذا كان ّ‬ ‫الطفل هو‬ ‫�أي جت�سيد ما تخ َّيله هذا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الق�ص�صي ويبني انطالقا منه‬ ‫الذي يقر�أ هذا التّخييل‬ ‫ّ‬ ‫اتي كما �سبق القول‪ ،‬ف�إنّ ذلك ّ‬ ‫يدل على �أنّ‬ ‫ت�ص ُّوره ال ّذ ّ‬ ‫هناك عالقة مفيدة بني ت�ص ُّور الكاتب وت�ص ُّور ّ‬ ‫الطفل‬ ‫حتتاج �إىل حتليل ُي ِّ‬ ‫القا�ص‬ ‫و�ضح طبيعتها‪ .‬ف�إذا كان‬ ‫ّ‬ ‫ير�سم بالكلمات �صور ًا حم�� َّددة فهل يعني ذل��ك �أنّ‬ ‫اتي لدى ّ‬ ‫الطفل هو �إدراك‬ ‫�أق�صى ما يبلغه التّ�ص ّور ال ّذ ّ‬ ‫ال�صور كما ح ّددها القا�ص؟‪ .‬احل�� ُّق �أنّ ح ّر ّية‬ ‫هذه ّ‬ ‫بوي معا‪ً.‬‬ ‫حتليق خيال ّ‬ ‫أدبي والترّ ّ‬ ‫الطفل هي الهدف ال ّ‬ ‫ويف ّ‬ ‫القا�ص‬ ‫الطريق �إىل هذا الهدف لن يكون ت�ص ّور‬ ‫ّ‬ ‫غري مرحلة تخييل ّية‪ ،‬ي�صل ّ‬ ‫الطفل �إليها �أو يلتزم بها �أو‬ ‫حتول خم ّيلته دون بلوغها‪ .‬وهي يف احلاالت ك ّلها مرحلة‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫غري الزب��ة؛ لأ ّنها جم�� ّرد حم ِّر�ض خليال ّ‬ ‫الطفل على‬ ‫ال ّنم ّو وال ّن�شاط مادام التّحري�ض يحتاج �إىل حم ِّر�ض‪،‬‬ ‫وال يتحقَّق دون وجوده‪ .‬ومن َث َّم ف�إنّ العالقة بني ت�ص ّور‬ ‫اتي عند ّ‬ ‫الطفل هي عالقة و�سيلة‬ ‫الكاتب والتّ�ص ّور ال ّذ ّ‬ ‫املج�سد يف تخييل‬ ‫بهدف‪ .‬الو�سيلة هي ت�ص ُّور الكاتب َّ‬ ‫ق�ص�صي‪ ،‬والهدف هو تنمية خيال ّ‬ ‫الطفل و�إتاحة‬ ‫ّ‬ ‫الفر�ص حل ّر ّية حتليقه‪ .‬ومن املفيد �أال يفهم �أحد �أنّ‬ ‫اتي ّ‬ ‫للطفل تبع ًا‬ ‫التّخييل‬ ‫الق�ص�صي ُيق ِّيد التّ�ص ّور ال ّذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫لربطه به ودفعه �إىل االنطالق منه‪ .‬ذلك لأنّ خيال‬ ‫ّ‬ ‫الق�ص�صي‪ ،‬وال ميكن �أن‬ ‫الطفل غري مق َّيد بالتّخييل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فالقا�ص‬ ‫يتق ّيد به مادام هذا التّخييل نابعا من ال ّلغة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قادر على �أن يح ّدد ت�ص ّوره بو�ساطة ال ّلغة‪ ،‬ولك ّنه غري‬ ‫قادر على �إحكام هذه ال ّلغة وحجب الإيحاءات عنها‬ ‫الق�ص�صي‪ .‬ولو رغب‬ ‫يف �أثناء ا�ستعمالها يف تخييله‬ ‫ّ‬ ‫هائي احلا�سم لت�ص ّوره‬ ‫القا�ص يف التّحديد ال ّل ّ‬ ‫ّ‬ ‫غوي ال ّن ّ‬ ‫ملا ا�ستطاع ذلك؛ لأنّ رمز ّية ال ّلغة تبقى �أكرث انفتاحاً‬ ‫اخلا�صة بالقارئ‪.‬‬ ‫��ردي وال�� ّت���أوي�لات‬ ‫على الفهم ال��ف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ق�صة‬ ‫قا�صان ّ‬ ‫تلك هي طبيعة ال ّلغة‪ ،‬حتّى �إذا ق��ر�أ ّ‬ ‫للأطفال خرجا بفهمني وت�أويلني خمتلفني‪� ،‬ش�أنهما يف‬ ‫الق�صة نف�سها وخرجا بفهمني‬ ‫ذلك �ش�أن طفلني قر�أا ّ‬ ‫�آخرين وت�أويلني مغايرين‪.‬‬ ‫الفائدة اخلام�سة‪ :‬هي �أ ّنه �إذا كان تخييل الكاتب‬ ‫ال ُيق ِّيد تخييل ّ‬ ‫الطفل تبع ًا لكون العالقة بني التّخييلني‬ ‫ل��غ��و ّي��ة‪ ،‬ف����إنّ ه��ن��اك ���س���ؤا ًال ت��ث�يره ه��ذه ال��ع�لاق��ة بني‬ ‫التّخييلني‪ ،‬هو‪ :‬ما املدى امل�سموح به لتحليق اخليال‬ ‫يف �أدب الأطفال؟‪� .‬أرى �أ ّننا �إذا ت�ش ّبثنا بح ّر ّية حتليق‬ ‫خيال ّ‬ ‫وتربوي‪ ،‬ف�إ ّنه من‬ ‫الطفل على �أ ّنه هدف �أدب ّ��ي‬ ‫ّ‬ ‫البديهي �أال نحجر على ح ّر ّية خيال الأدي��ب‪ ،‬ف ُنحدِّ د‬ ‫ّ‬ ‫له مدىً يقف حتليق خياله عنده‪ .‬فنحن بذلك ُنق ِّيد‬ ‫خياله‪ ،‬ومننع عنه احل ّر ّية التي ُيح ّلق ب�أجنحتها فوق‬ ‫العدد‬

‫ال��واق��ع ل ُيق ّدم واق��ع�� ًا تخييل ّي ًا ج��دي��د ًا‪ُ ،‬يبهج ّ‬ ‫الطفل‬ ‫ويرفعه فوق واقعه و ُيع ِّلمه التّحليق يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫على �أ ّن��ن��ا م�ضط ّرون �إىل �أن نتذ ّكر دائ��م�� ًا �أنّ �أدب‬ ‫الأطفال مزيج متقن من الفنّ والترّ بية‪ .‬وترجمة هذا‬ ‫املزيج‪ ،‬هنا‪ ،‬تعني �أ ّننا نعي �أه ّم ّية تربية خيال ّ‬ ‫الطفل‬ ‫على ح ّر ّية التّحليق‪ ،‬ولك ّننا نرغب يف �أن ُن ِّ‬ ‫وظف هذه‬ ‫ً‬ ‫احل ّر ّية توظيف ًا �آخر هو �إبقاء ّ‬ ‫الطفل مرتبطا بواقعه‬ ‫مهما ح َّلق فوقه وابتعد عنه‪ .‬فهذا االرتباط بالواقع‬ ‫هو ال��ذي يجعل �شخ�ص ّية ّ‬ ‫الطفل اجتماع ّية مبقدار‬ ‫ما هي فرد ّية‪ .‬ومن َث َّم ف�إ ّنني �أعتقد �أنّ �أ ّية مغامرة‬ ‫ق�صة‪ ،‬يجب �أن ت�ؤ ّدي هدف ًا اجتماع ّي ًا‬ ‫خيال ّية‪ ،‬يف �أ ّية ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫�أو �أخالق ّي ًا �أو وطن ّيا �أو �إن�سان ّيا �أو غري ذلك‪ ،‬من خالل‬ ‫القيم املبثوثة فيها‪ .‬و�إذا كان خيال ّ‬ ‫الطفل يرنو �إىل‬ ‫الأبطال الأ�سطور ّيني‪ ،‬ف�إ ّنه من املفيد �أن نر�سم بال ّلغة‬ ‫بط ًال �أ�سطور ّي ًا يحارب من �أج��ل املجتمع‪ ،‬ويغالب‬ ‫ال�صعاب م��ن �أج��ل ن�صرة احل��قّ واملظلوم و�إع���ادة‬ ‫ّ‬ ‫احلقوق �إىل �أ�صحابها‪ .‬وبذلك يجد الطفل يف التّخييل‬ ‫معنى �سامي ًا ومث ًال �أعلى وحياة ت�ستحقّ �أن‬ ‫املقروء ً‬ ‫يعي�ش فيها الإن�سان ويعمل دون �أن مينع عن الآخرين‬ ‫العي�ش والعمل‪ .‬و�إذا كان ذلك نوع ًا من تقييد ح ّر ّية‬ ‫خيال الكاتب‪ ،‬ف�إ ّنه لي�س نوع ًا من التّقييد َ‬ ‫احل�� ْر ّيف‪،‬‬ ‫وال التّعليمات املح ّددة التي تفر�ض قائمة باملمنوعات‬ ‫واملح ّرمات وم��ا �إىل ذل��ك مما ُيق ِّيد ح ّر ّية الأدي��ب‪،‬‬ ‫بل هو قيد احل ّر ّية‪� ،‬أو ح ّر ّية القيد �إنْ جاز التّعبري‪.‬‬ ‫وهو قيد ال ي�صل باخليال �إىل مدى اخلرافة من �أجل‬ ‫اخل��راف��ة ذات��ه��ا؛ لأنّ ه��ذا امل��دى غري مفيد يف ربط‬ ‫ّ‬ ‫الطفل بواقعه‪ ،‬ولكنّ الأديب قد يالم�س اخلرافة �إذا‬ ‫ر�أى �أ ّن��ه ق��ادر بو�ساطتها على حتقيق ما مل ي�ستطع‬ ‫حتقيقه بغريها‪ ،‬خ�صو�ص ًا �إذا كان يهدف �إىل تر�سيخ‬ ‫قيم �إن�سان ّية غري مرتبطة بطبيعتها مبجتمع معينّ‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪59‬‬

‫الحق والمظلوم وإع���ادة الحقوق إل��ى أصحابها‬ ‫الصعاب من أج��ل نصرة‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع‪ ،‬ويغالب ّ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه من المفيــد أن نرسم بال ّلغة بطال ً أسطور ّيًا يحارب من أجل‬


‫أدب األطفال‬ ‫وإشكالية التعريف‬ ‫ملف العدد‬

‫قد يبدو تعريف "�أدب الأطفال" اليوم بديهي ًا �أو‬ ‫كر�س الواقع الثقايف والأدبي هذا النوع‬ ‫ب�سيط ًا‪ ،‬بعد � ّأن ّ‬ ‫تقر‬ ‫من الكتابة‪ّ .‬‬ ‫لكن خمتلف الدرا�سات يف املو�ضوع ّ‬ ‫ب�صعوبة التحديد لأنه يطرح ق�ضايا ويثري �إ�شكاالت‬ ‫تتع ّلق بوجوده وعالقته ببق ّية الفنون الأدبية‪.‬‬ ‫� ّإن �صيغة الت�سمية (�أدب الأطفال) قد توحي للوهلة‬ ‫الأوىل ب�أنها تعني الأدب املن�سوب �إىل الأطفال‪ ،‬والذي‬ ‫يكتبه �أو ينتجه الأطفال‪ ،‬واحلقيقة تتمثل يف � ّأن �أدب‬ ‫املوجه �إىل الأطفال‬ ‫الأطفال املتعارف عليه هو الأدب ّ‬ ‫�سواء كان كاتبه �صغرياً �أو كبرياً‪.‬‬

‫حممد البدوي‬ ‫د‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تون�س‬

‫‪60‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫تقول دينيز �إي�سكاربيت‪" :‬ما من �شيء �أكرث غمو�ض ًا‬ ‫من مفهوم �أدب الطفولة وال�شباب‪ ،‬ذلك �أن موقف‬ ‫الرا�شد م��ن الطفولة غام�ض‪ ،‬وي��ع��ود ذل��ك �إىل �أنّ‬ ‫الطفولة وال�شباب مرحلتان مليئتان بالغمو�ض"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويلخ�ص عبد اهلل �أبو هيف هذه ال�صعوبة يف مفتتح‬ ‫كتابه "تنمية ثقافة الطفل" بقوله‪" :‬ت�شري جتربة‬ ‫قرن من الزمن من الكتابة للطفل �إىل �أن ث ّمة ت�ش ّك ًال‬ ‫ملفهوم �أدب الأطفال يختلف عن مفهوم الأدب �أو �أدب‬ ‫الرا�شدين‪ .‬وا�ستُخدم هذا امل�صطلح ل�ضرورة التمييز‬ ‫والبحث‪ .‬ويكمن هذا االختالف يف الطبيعة الرتبوية‬ ‫لأدب الأطفال‪ ،‬التي تنه�ض على خ�صو�صيات منائية‬ ‫ونف�سية ومعرفية كثرية‪ ،‬وت�ستدعي يف الوقت نف�سه‬ ‫اعتبارات فنية متعددة"‪.‬‬ ‫ونظر ًا �إىل �أنّ الآداب الإنكليزية �أعرق يف عالقتها‬ ‫ب�أدب الأطفال فقد ورد يف باب تعريف �أدب الأطفال‬ ‫يف دائ��رة امل��ع��ارف الربيطانية‪�" :‬أدب الأط��ف��ال هو‬ ‫يتم‬ ‫جمموعة الأعمال املكتوبة وال�صور امل�صاحبة التي ّ‬ ‫�إنتاجها بهدف �إمتاع ال�صغار �أو تكوينهم‪ ،‬وي�شمل هذا‬ ‫النوع من الأدب �سل�سلة كبرية من الأعمال منها �أعمال‬ ‫كال�سيكية م�شهورة من الأدب العاملي‪ ،‬وكتب م�ص ّورة‬

‫العدد‬

‫خ�صي�صا للأطفال‪،‬‬ ‫وق�ص�ص ي�سرية القراءة ّ‬ ‫موجهة ّ‬ ‫وحكايات ع��ن اجل���نّ ‪ ،‬و�أخ���رى مثل ّية و�أغ���ان �شعبية‬ ‫وترنيمات و�أعمال �أخرى �أُنتجت �أ�سا�سا للتداول عرب‬ ‫ال�سماع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫�إنّ �أدب الطفل ظاهرة حديثة ن�سب ّيا مل تظهر بجالء‬ ‫وا�ستقاللية �إ ّال يف الن�صف الثاين من القرن الثامن‬ ‫ع�شر‪ ،‬ويعزى تطوره املت�أخر �إىل عوامل اقت�صادية‬ ‫و�أخرى اجتماعية"‪.‬‬ ‫وبالرغم من ا�ستقرار مفهوم �أدب الأطفال على‬ ‫�أ�سا�س �أ ّن��ه الإنتاج الأدب��ي املوجه للطفل‪ ،‬وانت�شاره‬ ‫يف خمتلف الثقافات احل��دي��ث��ة‪ ،‬ف����إنّ الت�شكيك يف‬ ‫�شرعية وجوده ويف ن�سبة الإبداع فيه ما زالت تخامر‬ ‫بع�ض الأذهان يف �أورو ّبا نف�سها‪ .‬وهذا ما عبرّ ت عنه‬ ‫"روين ليون" ‪ Renée Léon‬يف كتابها "�أدب الأطفال‬ ‫يف املدار�س" ال�صادر �سنة ‪" :2000‬هل يوجد �أدب‬ ‫للأطفال؟ وهل يقوم م�ؤ ّلفوه بعمل �إبداعي؟ وهل �أنتج‬ ‫�أعما ًال ف ّنية ؟ وهل ميكن �أن ن�أخذه م�أخذ اجل ّد؟‬ ‫يجيب القارئ الذي خرب هذا امليدان على ك ّل هذه‬ ‫الأ�سئلة باملوافقة‪ .‬وم��ع ذل��ك‪ ،‬وبرغم التطور الذي‬ ‫عرفه �أدب الأطفال والتن ّوع والنجاح ال��ذي ال ّ‬ ‫ي�شك‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪61‬‬


‫� ّإن االنتماء ال�صريح لأدب الأطفال مي ّثل عقد ًا �ضمني ًا بني‬ ‫الباث (امل�ؤلف) واملتقبل (القارئ)‪ .‬ويبدو هذا الأمر من‬ ‫خالل التعبري ال�صريح عن الوعي بكتابة �أدب خم�صو�ص‪،‬‬ ‫موجه �إىل فئة خم�صو�صة‬ ‫ّ‬

‫فيهما �أحد‪ ،‬يجد هذا الأدب �صعوبة يف اخلروج من‬ ‫ه��ذا احل�صار ال��ذي و�ضعته فيه الأح��ك��ام امل�سبقة‬ ‫املت�ص ّلبة‪ .‬ون�سبة هذا الأدب �إىل الأطفال ما زالت تبدو‬ ‫تهجينية‪ .‬فهو لي�س الأدب احلقّ �أو الأدب الكبري"‪.‬‬ ‫ولي�س غريب ًا �أن جند بع�ض الدرا�سات تتحدث حيناً‬ ‫عن "�أدب الطفل" وحين ًا �آخ��ر عن "كتاب الطفل"‬ ‫وه��ي تعني امل��ف��ه��وم نف�سه‪ .‬فالكاتبة "جينيفياف‬ ‫�أرفو‪-‬فو�شي" ‪ Geneviève Arfeux-Vaucher‬يف‬ ‫كتابها "ال�شيخوخة واملوت يف �أدب الطفل" تتحدث يف‬ ‫�أكرث من مو�ضع عن "كتاب الطفل‪�" :‬إنّ حتليل �صور‬ ‫ربر ًا‬ ‫ال�شيخوخة يف الكتب ّ‬ ‫املوجهة �إىل الأطفال يجد م ّ‬ ‫يف اخلطابات احلديثة عن ال�شيخوخة‪ .‬وهي و�إن كانت‬ ‫املوجه �إىل الأطفال "�أدب الطفل"‪.‬‬ ‫تق�صد بالكتاب ّ‬ ‫ً‬ ‫فمثل ه��ذا التعبري ي�ترج��م �ضمنيا ع��دم االقتناع‬ ‫باندراج هذا الفنّ من الكتابة يف باب "الأدب"‪ّ .‬ثم �إنّ‬ ‫م�صطلح "كتاب" قد يفيد �أمناط ًا �أخرى من الكتابة‬ ‫كالن�صو�ص العلمية‪ ،‬والكتب القائمة على ال�صورة‪،‬‬ ‫غري �أنّ الواقع الثقايف ك ّر�س م�صطلح "�أدب الأطفال"‬ ‫ف�سار على الأل�سن‪.‬‬ ‫ومن �أبرز الباحثني يف جمال �أدب الأطفال هادي‬ ‫نعمان الهيتي‪ ،‬وق��د �أورد التعريف ال��ت��ايل‪�" :‬أدب‬ ‫الأط��ف��ال يف جمموعه هو الآث��ار الف ّنية التي ت�ص ّور‬ ‫�أف��ك��ار ًا و�إح�سا�سات و�أخيلة تتفق وم��دارك الأطفال‬ ‫الق�صة وال�شعر وامل�سرحية واملقالة‬ ‫وتتخذ �أ�شكال‬ ‫ّ‬ ‫والأغنية‪".‬‬ ‫و ُيعترب علي احل��دي��دي م��ن �أوائ���ل املهت ّمني بهذا‬ ‫الأدب‪ ،‬وكتب يف ذلك ع ّدة �أعمال من �أبرزها كتاب‬ ‫"يف �أدب الأطفال"‪ ،‬و�أثبت فيه حماولة لتعريف هذا‬ ‫النمط من الكتابة‪�" :‬أدب الأطفال خربة لغوية يف �شكل‬ ‫خا�صة للأطفال فيما بني الثانية‬ ‫ف ّني يبدعه الف ّنان ّ‬ ‫‪62‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫والثانية ع�شرة �أو �أكرث قليال يعي�شونه ويتفاعلون معه‬ ‫فيمنحهم املتعة والت�سلية ويدخل على قلوبهم البهجة‬ ‫واملرح وين ّمي فيهم الإح�سا�س باجلمال وتذ ّوقه ويق ّوي‬ ‫تقديرهم للخري وحم ّبته ويطلق العنان خلياالتهم‬ ‫وطاقاتهم الإبداعية ويبني فيهم الإن�سان‪".‬‬ ‫وبالرغم من حماولة علي احلديدي تف�صيل القول‪،‬‬ ‫يح�س بق�صور هذا التعريف عن التعبري و�إجمال‬ ‫فهو ّ‬ ‫القول يف هذا ال�ضرب من الكتابة‪.‬‬ ‫وقد ُت�ؤ ّثر بع�ض االجتاهات الإيديولوجية فى تعريف‬ ‫�أدب الأطفال فتّتخذ منه منرب ًا لن�شر الأفكار‪ ،‬وحتقيق‬ ‫جمتمع وفق ت�ص ّور خم�صو�ص‪ .‬ويف هذا ال�صدد يع ّرف‬ ‫جنيب الكيالين �أدب الأطفال‪" :‬وب�إيجاز �شديد ميكننا‬ ‫القول �إنّ �أدب الأطفال ال يختلف يف مفهومه عن الأدب‬ ‫خا�صة"‬ ‫العام (الإ�سالمي) �إ ّال كونه ّ‬ ‫موجها �إىل "فئة ّ‬ ‫هي الأطفال"‪.‬‬ ‫�أم��ا �أحمد امل�صلح فقد نقل اخل�لاف امل��وج��ود يف‬ ‫تعريف الأدب عموم ًا وع�ّب�رّ ع ّما ي��رد من خلط بني‬ ‫الثقافة والأدب‪" :‬ث ّمة مفهومان لأدب الأطفال درج‬ ‫على ا�ستعمالهما الدار�سون‪...‬املفهوم الأول ح�ضاري‬ ‫عام وينطلق من �شمولية مدلول م�صطلح الثقافة‪،‬‬ ‫ووف��ق ه��ذا املفهوم ف���إن �أدب الأط��ف��ال يعني ك�� ّل ما‬ ‫يكتب للطفل‪ ،‬وما يكتب عن الطفل يف �آن واحد‪ ،‬ويف‬ ‫خمتلف فروع الثقافة الإن�سانية‪...‬ووفق هذا الت�ص ّور‬ ‫العام يتخذ �أدب الطفل �أ�شكا ًال عدة ويكتب يف جماالت‬ ‫وا�سعة خمتلفة‪.‬‬ ‫�أ ّما املفهوم الثاين لأدب الأطفال فينطلق من موقف‬ ‫متخ�ص�ص يح ّدد �سماته العامة والأ�سا�سية‬ ‫�أدب ّ���ي‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستناد ًا �إىل مق ّدمات نظرية نقدية ح�سمت مدلول‬ ‫كلمة (�أدب) تاريخي ًا وتعبريي ًا‪ .‬ووف��ق هذا الت�ص ّور‬ ‫يتح ّدد مفهوم �أدب الأط��ف��ال �ضمن معايري نظرية‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫الأج��ن��ا���س الأدب���ي���ة‪ ،‬الق�صة والق�صيدة وال��رواي��ة‬ ‫وامل�سرحية املكتوبة‪� ...‬إلخ‪ ،‬مبعنى �آخر �ضمن �سمات‬ ‫الن�ص الأدبي‪.‬‬ ‫وخ�صائ�ص ّ‬ ‫وهذا التق�سيم الثنائي يرت ّدد عند �أكرث من باحث‪،‬‬ ‫ويف كتاب "�أدب الأطفال‪ :‬مبادئه ومقوماته الأ�سا�سية"‬ ‫ملحمد حممود ر�ضوان و�أحمد جنيب حديث عن �أدب‬ ‫واخلا�ص ‪:‬‬ ‫الأطفال مبعنييه العام‬ ‫ّ‬ ‫(�أ) ‪� -‬أدب الأط��ف��ال مبعناه العام يعني الإنتاج‬ ‫العقلي املد ّون يف كتب موجهة للأطفال يف �شتّى فروع‬ ‫املعرفة‪ .‬وبهذا يدخل يف هذا املفهوم ‪:‬‬ ‫ ك��ت��ب الأط���ف���ال الإع�لام��ي��ة ال��ت��ي مت��ث��ل �أق���وى‬‫االجتاهات العاملية احلديثة‪.‬‬ ‫ وكتب الأطفال امل�ص ّورة التي ال ميكن ا�ستبعادها‬‫من �إطار عمل (�أدب الأطفال) رغم �أنها رمبا ال حتوي‬ ‫ن�ص مكتوب‪.‬‬ ‫� ّأي ّ‬ ‫ً‬ ‫املب�سطة‪..‬والكتب املدر�سية‬ ‫ و�أي�ضا كتب العلوم ّ‬‫التي يجب �أن ترتفع ك ّلها �إىل م�ستوى �أدب الأطفال‬ ‫ال�شائق ب�أ�ساليبه ومق ّوماته ال�سليمة‪..‬‬ ‫��ا���ص وه��و يعني‬ ‫(ب)– �أدب الأط��ف��ال مبعناه اخل ّ‬ ‫الكالم اجل ّيد ال��ذي يحدث يف نفو�س الأطفال متعة‬ ‫ف ّنية‪�...‬سواء �أكان �شعر ًا �أم نرث ًا‪..‬و�سواء �أكان تعبري ًا‬ ‫�شفوي ًا بالكالم‪�..‬أم حترير ًا بالكتابة‪ ..‬ويدخل يف هذا‬ ‫املفهوم ق�ص�ص الأط��ف��ال وم�سرحياتهم و�أغانيهم‬ ‫و�أنا�شيدهم‪ ،‬وا�ستعرا�ضاتهم الغنائية‪ ،‬وما �إىل ذلك‪.‬‬ ‫و�أدب الأط��ف��ال اجل ّيد هو ال��ذي يراعي خ�صائ�ص‬ ‫الطفولة واحتياجاتها يف �إط���ار م��ن امل��ث��ل والقيم‬ ‫والنماذج واالنطباعات ال�سليمة‪.‬‬ ‫وهذه التعريفات على �أهميتها �أهملت �إىل ح ّد كبري‬ ‫عدد ًا من اجلوانب الها ّمة يف حتديد هذا النمط من‬ ‫الكتابة للأطفال‪ ،‬فلم جند فيما ّ‬ ‫اطلعنا عليه من �أعار‬ ‫العدد‬

‫هذه اجلوانب اهتمام ًا‪ ،‬وال ب ّد لك ّل تعريف �أن ي�ضعها‬ ‫يف احل�سبان‪.‬‬ ‫لقد ا�ستق ّر هذا الأدب يف الأذهان ومنا بفعل تو ّفر‬ ‫جملة من العنا�صر التي تعلن ب�صفة �صريحة و�ضمنية‬ ‫املوجه‬ ‫انتماء هذا العمل �إىل الأدب‪ ،‬و�إىل اجلمهور ّ‬ ‫�إليه‪ ،‬ومن بني هذه العنا�صر نذكر‪:‬‬ ‫�أ – ب ‪ -‬االنتماء ال�صريح �إىل �أدب الأطفال‬ ‫�إنّ االنتماء ال�صريح لأدب الأط��ف��ال مي ّثل عقد ًا‬ ‫�ضمني ًا بني الباث (امل�ؤلف) واملتقبل (القارئ)‪ .‬ويبدو‬ ‫ه��ذا الأم���ر م��ن خ�لال التعبري ال�صريح ع��ن الوعي‬ ‫موجه �إىل فئة خم�صو�صة‪،‬‬ ‫بكتابة �أدب خم�صو�ص‪ّ ،‬‬ ‫وذل��ك من خ�لال ان��خ��راط �أغلب الكتب يف �سال�سل‬ ‫ي�ضع امل�ؤلفون منذ البداية يف ح�سابهم �أ ّنها موجهة‬ ‫�إىل الأطفال ويكون الت�صريح على غالف الكتاب‪ .‬وقد‬ ‫يح ّدد الكاتب يف بع�ض احل��االت الفئة العمرية التي‬ ‫يتوجه �إليها يف كتابه‪ .‬ولكنّ �أغلب النا�شرين والكتاب‬ ‫ّ‬ ‫يتعمدون �إهمال هذه اجلزئية حتى ال ي�ؤثر ذلك يف‬ ‫املبيعات من خالل ح�صرها يف مرحلة عمرية مع ّينة‪،‬‬ ‫ومثل هذا الإجراء يتجاوز اجلانب البيداغوجي‪ .‬وقد‬ ‫ال يكون االنتماء �إىل �أدب الأطفال وا�ضح ًا و�صريح ًا‬ ‫وظ��اه��ر ًا من بداية الكتاب‪ ،‬و�إمن��ا ي�أتي ذك��ره على‬ ‫الغالف يف ظهر الكتاب من خالل فقرة تو�ضيحية‪.‬‬ ‫�أ – ج‪ :‬اعتماد ال�صور والر�سوم ‪:‬‬ ‫تكاد امل�ؤلفات التي تُق ّدم �إىل الأط��ف��ال تقرتن يف‬ ‫اجلملة بعدد من الر�سوم واللوحات‪ ،‬تتجاوز الغالف‬ ‫اخل��ارج��ي �إىل ال�صفحات الداخلية‪ .‬وه��ي طريقة‬ ‫تهدف �إىل ترغيب الطفل يف املطالعة‪ ،‬وت�ساعده على‬ ‫مت ّثل بع�ض العنا�صر وال�شخ�صيات‪ ،‬وجتعل القراءة‬ ‫مريحة وممتعة‪ ،‬خ�صو�ص ًا �إذا كانت ال�صور م ّلونة‪.‬‬ ‫ومل تعر خمتلف التعريفات ه��ذا اجلانب الأ�سا�سي‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪63‬‬

‫النصف الثاني من القرن الثامن عشر‪ ،‬ويعزى تطوره المتأخر إلى عوامل اقتصادية وأخرى اجتماعية‬

‫إن أدب الطفل ظاهرة حديثة نسب ّيًا لم تظهر بجالء واستقاللية إ ّال في‬ ‫ّ‬


‫مكانته‪ ،‬ولي�س غريب ًا �أحيان ًا �أن ت�أخذ ال�صور م�ساحة‬ ‫�أكرب من تلك التي ت�أخذها الكتابة‪ .‬ومل ترت ّدد بع�ض‬ ‫دور الن�شر يف �إ���ص��دار �سال�سل تقوم على م�ساهمة‬ ‫الطفل يف تلوين بع�ض الر�سوم لتنمية ملكة الت�صوير‬ ‫لديه وجلعل العالقة بينه وبني الكتاب �أمنت‪.‬‬ ‫ومل ترت ّدد دور ن�شر �أخرى يف �إ�صدار ق�ص�ص لكتّاب‬ ‫م�شهورين من�شورة من قبل يف جم�ل ّات �أدبية‪ ،‬على‬ ‫�أ�سا�س �أنها ق�ص�ص للكبار‪ ،‬ولع ّل ال ّنا�شرين ا�ستندوا‬ ‫‪64‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�إىل م��ا يف ه��ذه الق�ص�ص م��ن ذك��ري��ات الطفولة‪،‬‬ ‫و�أ ّك��دوه��ا بجملة من ال�صور والر�سوم لتحويل هذه‬ ‫الق�ص�ص �إىل ق�ص�ص للأطفال‪ .‬ففي مو�ضوع ق�ص�ص‬ ‫خا�صة بالأطفال‬ ‫م�صطفى خريف املن�شورة يف �سال�سل ّ‬ ‫ال ب ّد �أن ن�شري �إىل �أ ّنه �سبق �أن ن�شرها يف جم ّالت يف‬ ‫اخلم�سينات من بينها "الزيتونة"‪ .‬على �أ�سا�س �أ ّنها‬ ‫ق�ص�ص للكبار‪ ،‬وال ّ‬ ‫�شك �أنّ هذا الأمر يطرح �أكرث من‬ ‫م�شكلة تت�صل بتاريخ �أدب الأطفال يف تون�س‪ ،‬وبتعريف‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ظهر يف ال�سنوات الأخرية م�صطلح �آخر هو "�أدب اليافعني"‬ ‫ليفيد املعنى نف�سه الوارد يف امل�صطلحني ال�سابقني‪ .‬و�إذا كان‬ ‫"اليافع هو من �شارف البلوغ" ف� ّإن هذا امل�صطلح قد يبقى‬ ‫غائم ًا كم�صطلح "ال�شباب" و"النّا�شئة" �أو "املراهقة"‬ ‫ق�صة الأطفال‪ ،‬هل هي التي تتحدث عن الأطفال‪� ،‬أم‬ ‫ّ‬ ‫هي التي تتحدث �إليهم بت�ص ّور حم ّدد‪.‬‬ ‫�أ ّما ق�ص�ص الطيب الرتيكي امل ّوجهة �إىل الأطفال‬ ‫فقد ���ص��درت ب��دوره��ا قبل اال�ستقالل يف امل��ج�ل ّات‬ ‫امل�شهورة يف اخلم�سينات على �أ�سا�س �أ ّنها ق�ص�ص‬ ‫للكبار‪ .‬وقد �أعاد �صياغة احلوار وح ّوله من الدارجة‬ ‫�إىل الف�صحى‪ ،‬و�أ�ضاف جمموعة من الر�سوم حتّى‬ ‫تن�سجم واجلمهور اجلديد من الأطفال‪.‬‬ ‫و�إذا ما خلت ق�ص�ص الأطفال من الر�سوم وال�صور‪،‬‬ ‫فيعود الأم��ر يف ذلك �إىل رغبة امل�ؤلف �أو النا�شر يف‬ ‫ّ‬ ‫التق�شف‪ ،‬واقت�صاد تكاليف �إخراج الكتاب‪ .‬وغالب ًا ما‬ ‫تكون هذه الق�ص�ص يف طبعات بائ�سة ورديئة‪ ،‬ال حت ّقق‬ ‫الرغبة يف الإقبال عليها‪� ،‬إ ّال �أن يكون الطفل مكره ًا‬ ‫على ذلك‪.‬‬ ‫ل�سائل �أن يت�ساءل ه��ل �أدب الأط��ف��ال واح���د �أم‬ ‫متع ّدد؟ وما الذي مي ّيزه عن "�أدب النا�شئني" �أو "�أدب‬ ‫ال�شباب"؟‬ ‫تختلف الت�سمية باختالف دور الن�شر‪ .‬وظهر يف‬ ‫ال�سنوات الأخرية م�صطلح �آخر هو "�أدب اليافعني"‬ ‫ليفيد املعنى نف�سه الوارد يف امل�صطلحني ال�سابقني‪.‬‬ ‫و�إذا ك��ان "اليافع هو من �شارف البلوغ" ف���إنّ هذا‬ ‫امل�صطلح ق��د يبقى غ��ائ��م�� ًا كم�صطلح "ال�شباب"‬ ‫و"ال ّنا�شئة" �أو "املراهقة"‪ .‬و�إذا كان امل�صطلح الأخري‬ ‫نادر اال�ستعمال مقرتن ًا بعبارة "�أدب" ف�إ ّنه �أكرث تواتر ًا‬ ‫يف الدرا�سات املت�صلة بهذه الفرتة‪.‬‬ ‫وللخروج بتعريف ت�أليفي لأدب الأطفال منيل �إىل‬ ‫اعتماد ما جاء يف دائ��رة املعارف الربيطانية‪ ،‬لأ ّنه‬ ‫ي�أخذ بعني االعتبار الن�صو�ص وال�صور امل�صاحبة‬ ‫وير ّكز على املتق ّبل املعني بهذا الأدب وي�صبح تعريف‬ ‫�أدب الأط��ف��ال ه��و‪ " :‬الأع��م��ال املكتوبة والن�صو�ص‬ ‫العدد‬

‫يتم �إنتاجها جلمهور الأط��ف��ال يف‬ ‫امل�صاحبة التي ّ‬ ‫خمتلف �أعمارهم يف تعبري منا�سب و�أ�سلوب �ش ّيق‬ ‫يجمع بني اللغة والر�سوم من �أجل تكوينهم والرتفيه‬ ‫عنهم‪".‬‬ ‫وهذا التعريف ال يلغي اجلوانب التي قد ال يراعيها‬ ‫بع�ض من يتوجهون �إىل الأطفال بغري علم‪ ،‬متوهمني‬ ‫�أن الأدب يقف عند حجم الكتاب �أو عند املوا�ضيع‬ ‫امل�ستمدة من عامل احليوان بينما الطفل حمتاج �إىل‬ ‫خمتلف املوا�ضيع �شرط �أن تراعي قدرة املتقبل على‬ ‫مت ّثل ما يتوجه به الكاتب �إليه‪ .‬ومثل هذا التعريف‬ ‫�سيح ّدد حقيقة الق�صة‪ ,‬وتفيد هذه الدقة يف التعريف‬ ‫م�ؤرخي الأدب فال يو ّرطون �أنف�سهم يف اعتبار ق�صة ما‬ ‫ق�صة للأطفال‪.‬‬ ‫مبجرد ورودها على �أل�سنة احليوان ّ‬ ‫ولو كان الأم��ر على هذا النحو العتربنا كتاب كليلة‬ ‫ودم��ن��ة �أول عمل ل�ل�أط��ف��ال ول��غ�ّيررّ ه��ذا الكثري من‬ ‫امل�سلمات يف تاريخ هذا الأدب‪.‬‬ ‫وم���ن ���ش���أن ال��و���ص��ول �إىل حت��دي��د ت��ع��ري��ف "�أدب‬ ‫الأطفال" �أن يقود �إىل الت�سا�ؤل عن م�صادره املتنوعة‬ ‫وكيف ّمت��ت اال�ستفادة منها‪ .‬و�إذا ك��ان ه��ذا الأدب‬ ‫غزير ًا وحقق يف �سنوات قليلة انت�شار ًا معترب ًا فاق يف‬ ‫بع�ض الأحيان ما ّمت ن�شره للكهول‪ ،‬ف�إننا نت�ساءل عن‬ ‫جودة هذه الن�صو�ص اجلديدة وقيمتها الإبداعية؛ لأن‬ ‫تطور هذا الأدب يف كل البلدان العربية مل ت�صحبه‬ ‫حركة نقدية ت��ق�� ّوم الن�صو�ص وتوجهها وتنبه �إىل‬ ‫كثري مما يت�س ّرب �إليها �سواء ب�سبب اجل�شع املادي �أو‬ ‫ب�سبب اجلهل ب�أ�ساليب الكتابة‪ .‬ونرجو �أن ت�شهد الأيام‬ ‫القادمة ن�ش�أة هذه احلركة النقدية‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪65‬‬


‫تأليف إنريكي ريكليمي وفيليب مونيتا‬

‫القراءة الوسيطة ألدب الطفل‬ ‫كأداة للتعرف على األبجدية الشعورية‬ ‫ملف العدد‬

‫ترجمة‪:‬‬

‫خلود اجلرايحي‬ ‫م�صر‬

‫يف هذه العملية يتفاعل القارئ البالغ بو�صفه و�سيط ًا‬ ‫ناق ًال للخربة ال�شعورية "اخليالية" بني ال�شخ�صيات‬ ‫يف احلكاية والطفل وبني العمليات الواقعية التي متيز‬ ‫�سياق احلكاية والتجربة احليوية للطفل دون �أن توجههم‬ ‫القراءة لتعلم �شعور معني‪ .‬وبهذا تعمل القراءة الو�سيطة‬ ‫لأدب الطفل ك����أداة ليتعرف الأط��ف��ال على الأبجدية‬ ‫ال�شعورية لهم‪� ،‬أي �أنها عملية ت�سمح للطفل مبعرفة‬ ‫امل�شاعر اخلا�صة به وللآخرين مكونة بذلك‪� ،‬أ�سا�س‬ ‫ال�شعور بامل�شاركة وال�سلوك النافع للمجتمع‪.‬‬ ‫كما تناق�ش املقالة �أهمية عملية القراءة الو�سيطة‬ ‫لأدب الطفل‪ ،‬بو�صفها �أداة ت�ساعد يف العملية الدرا�سية‬ ‫وال�سماح بالتفاعل بني اجلوانب املعرفية واالنفعالية‬ ‫يف التعليم الأ�سا�سي‪.‬‬ ‫نحو �إعادة نظر للعامل ال�شعوري‬ ‫�إن حت�سني املهارات العاطفية يف قاعة الدرا�سة‪،‬‬ ‫‪66‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ت�سمح ال��ق��راءة خ�لال مرحلة الطفولة‬ ‫ل��ل��ط��ف��ل ال���ق���ارئ‪ ،‬ب��اك��ت�����ش��اف ع���وامل‬ ‫اخليال‪ ،‬التي تتمثل فيها عوامل واقعية‬ ‫خمتلفة‪ ،‬وتتميز ب�سل�سلة من التفاعالت‬ ‫االجتماعية والعمليات ال�شعورية‪ .‬ويف‬ ‫ه��ذا املقال ت�برز �إ�سهامات ق��راءة �أدب‬ ‫الطفل يف النمو العاطفي واالجتماعي‬ ‫للأطفال من خالل العملية امل�سماه "‬ ‫القراءة الو�سيطة "‪.‬‬ ‫�أ�صبح مو�ضوع ًا للبحث واملراقبة م���ؤخ��ر ًا‪ .‬وقد �أكد‬ ‫الأدب املرتبط بعلمي النف�س والرتبية‪� ،‬أهمية منو‬ ‫ال�شعور االجتماعي والعاطفي ال�سليم خالل مرحلة‬ ‫ما قبل املدر�سة ومراحل التعليم الأ�سا�سي‪ ،‬ومع ذلك‪،‬‬ ‫فبالرغم من جتلي �أثرهما الإيجابي يف عملية النمو‬ ‫ال��درا���س��ي‪, ،‬وك��ذل��ك منو امل��ه��ارات االجتماعية فقد‬ ‫ُو�ضع يف االعتبار الفوائد االقت�صادية التي تقت�ضي‬ ‫اال�ستثمار يف امل��راح��ل الأب��ت��دائ��ي��ة‪ ،‬وك��ذل��ك الأب��ع��اد‬ ‫العاطفية املوجودة يف ن�شاط القاعة الدرا�سية‪ ،‬مبا‬ ‫ي�ؤثر بال�سلب يف منو الطالب والطالبات وقدرتهم على‬ ‫قيامهم باملهام الدرا�سية‪.‬‬ ‫�إن العرف ال�سائد يف علم النف�س املتعلق بعمليتي‬ ‫الرتبية والتعليم وارتباطهما باملهام العلمية قد‬ ‫غيرّ فكرة �أن املدر�سة مكان للتعلم املحدد من �أجل‬ ‫جتميع املعلومات‪ .‬ومعروف �أن تلك الفكرة تق�صي‬ ‫البعد العاطفي الذي ما زال مهم ًال ب�شكل عام يف‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪67‬‬

‫ي���ؤك���د األدب ال���م���رت���ب���ط ب��ع��ل��م��ي ال���ن���ف���س وال���ت���رب���ي���ة‪ ،‬أه���م���ي���ة ن���م���و ال��ش��ع��ور‬ ‫االج����ت����م����اع����ي وال����ع����اط����ف����ي ال���س���ل���ي���م خ���ل��ال م���رح���ل���ة م�����ا ق���ب���ل ال���م���درس���ة‬

‫عمليات التعليم الأ�سا�سي‪.‬‬ ‫هذا االنف�صال بني ما هو معريف وما هو عاطفي‪،‬‬ ‫له ج��ذور عميقة‪ ،‬قد يكون م�سلم ًا بها يف الفل�سفة‬ ‫الكال�سيكية‪ :‬فعلى �سبيل امل��ث��ال ح���ددت املدر�سة‬ ‫الرواقية مفهوم امل�شاعر باعتبارها‪�" :‬أحكام ًا مغلوطة‬ ‫عن العامل ومكانة كل ف��رد فيه‪� ،‬إنها �صورة زائفة‬ ‫وم��دم��رة ل��ر�ؤي��ة احلياة"‪ .‬وق��د �أك���د املنهج العلمي‬ ‫الراديكايل لأوائل القرن الع�شرين االنف�صال بني ما‬ ‫هو معريف وما هو عاطفي‪ .‬ولكن‪ ،‬مع بداية احلرب‬ ‫العاملية الثانية واكت�شاف �أث��ره��ا يف الأط��ف��ال‪ ،‬ومع‬ ‫جتلي �أزمة الفكر احلديث‪ ،‬ظهرت حماوالت العتبار‬ ‫امل�شاعر �شك ًال �صاحل ًا للمعرفة وفهم العامل‪.‬‬ ‫ففي �إطار تلك املراجعة للعامل ال�شعوري‪ ،‬توحدت‬ ‫عنا�صر من اجتاهات عدة‪ ،‬وتداخلت �أفكار لنماذج‬ ‫جمعت بني امل�شاعر واخل�برات الإن�سانية املختلفة‪،‬‬ ‫وخا�صة تلك املرتبطة بالتعليم الأ�سا�سي‪.‬‬

‫يف هذا النمط التعليمي اجلديد‪ ،‬برز دور امل�شاعر‬ ‫على نطاق وا�سع‪ ،,‬ويف وقت ق�صري روجعت وظهرت‬ ‫حم���اوالت لتكاملها م��ع التعليم‪ .‬وب��ال��رغ��م �أن تلك‬ ‫املراجعات ال تزال بعيدة عن االنتظام وامل�شاركة‪� .‬إال‬ ‫�أنها اعتربت جزء ًا من التفاعالت اليومية التي تلعب‬ ‫دور ًا رئي�س ًا يف جميع جماالت احلياة‪.‬‬ ‫و ب��ن��اء ع��ل��ى ذل���ك ظ��ه��رت من����اذج خم��ت��ل��ف��ة من‬ ‫الدرا�سات التي ت�ؤكد منو املهارات العاطفية‪ ،‬ك�شكل‬ ‫م��ن �أ���ش��ك��ال ال��وق��اي��ة �ضد امل�شكالت ال��ت��ي ت���ؤث��ر يف‬ ‫تفاعالت الأط��ف��ال املختلفة‪ .‬وهناك �أمثلة لهذا يف‬ ‫جماالت‪ :‬التعليم والعالقات االجتماعية والعائلية‪.‬‬ ‫فكل �شكل من �أ�شكال التعليم‪ ،‬يقدم ر�ؤي��ة خا�صة‬ ‫للنمو العاطفي‪ ،,‬وكثري منها قد اختار الرتكيز على‬ ‫الفرد ( الطفل) كعن�صر معزول ذي طبيعة منطية‬ ‫واح��دة من حيث اال�ستجابة للتعلم‪ .‬مما ينتج عنه ـ‬ ‫عادة ـ �إق�صاء و�إهما ٌل له�ؤالء الأطفال غري املنتظمني‬


‫�إن قبول �أ�شكال اخليال التي يقدمها‬ ‫الأدب ت�سمح للقارئ باكت�شاف‬ ‫احلاالت ال�شعورية لل�شخ�صيات التي‬ ‫تعي�ش يف الن�ص‬ ‫عاطفي ًا يف التفاعالت املدر�سية‪ .‬ه��ذا املفهوم‬ ‫ي�سوقنا �إىل منظور مزدوج يقر بت�سمية ثنائية‬ ‫للتالميذ‪ :‬جيد �أو �سيئ‪� .‬إنه جزء من تقليد‬ ‫طويل من القبول �أو الإق�صاء الذي ال يزال‬ ‫مطبق ًا يف كثري من القاعات الدرا�سية‪.‬‬ ‫يف ذات الوقت كثرية هي الن�شاطات التي تطرح بعيد ًا‬ ‫عن ال�سياق االعتيادي للطفل �أو الطفلة يف اجلل�سات‬ ‫العالجية �أو جل�سات الدعم التي تبعد �إىل حد كبري ـ يف‬ ‫كثري من الأحيان ـ عن طبيعة حياتهما اليومية‪ .,‬وهكذا‬ ‫يتعامالن مع تلك الن�شاطات كعملية بعيدة ومنف�صلة‬ ‫عنهما م���ؤك��دة فيهما ( الطفل �أو الطفلة ) ال�شعور‬ ‫باالختالف وعدم االنتماء �إىل اجلماعة‪.‬‬ ‫تلك العمليات ـ املذكورة ـ تت�ضمن على الأقل جانبني‬ ‫من النق�ص‪ :‬الأول مرتبط بت�صنيف الطالب ال�سيىء‬ ‫املو�ضوع يف الت�شخي�ص الأول‪� ،‬أم��ا الثاين فمرتبط‬ ‫بالإبعاد والإق�صاء نتيجة للأول‪ .‬هذا اجلانب الثاين‬ ‫من وجهة نظرنا هو �أكرث تعقيد ًا من اجلانب الأول؛‬ ‫لأنهم يق�صون الطفل �أو الطفلة بهدف م�ساعدتهما �أو‬ ‫مبعنى �آخر ليكونا جيدين‪.‬‬ ‫و قد راجعنا ـ ب�شكل حمدد ـ �أهمية االنفعال ومنو‬ ‫امل��ه��ارات العاطفية للأطفال‪ ،‬وطبيعة امل�ساعدات‬ ‫املقدمة ملن لديهم �صعوبات يف ه��ذا ال�صدد‪ .‬ومع‬ ‫ذلك الحظنا �أن �آليات امل�ساعدة نف�سها‪ ،‬جتلب معها‬ ‫خماطر التكوين يف مناخ غري طبيعي‪ ،‬و�أي�ض ًا �إمكانية‬ ‫توجيه ت�صرفاتهم �إىل االنزواء‪.‬‬ ‫يف ه��ذا امل��ق��ال ن��ت��ن��اول اق�تراح��ات من��و امل��ه��ارات‬ ‫االجتماعية العاطفية‪ ،‬وال�سيما معرفة الأبجدية‬ ‫ال�شعورية املدركة كعملية تفاعل ت�شبه �أ�شكال املهارات‬ ‫العاطفية التي تعزز فهم امل�شاعر اخلا�صة والعامة‬ ‫عند الطفل‪.‬‬ ‫‪68‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫بنية اخليال وعملية القراءة‪:‬‬ ‫يف بحث �سابق لنا‪ ،‬قدمنا بنية اخليال‬ ‫كمفهوم تف�سريي لعملية ال��ق��راءة التي‬ ‫يت�شكل من خاللها الن�ص الأدب���ي‪ ،‬وم��ن ثم‬ ‫كيفية �إع��ادة �صياغته يف ظل التلقي الفردي لفعل‬ ‫ال��ق��راءة‪ .‬وترتكز ه��ذه الفكرة على تفاعل مفهومي‬ ‫"الن�ص املعلن" و"الآلية املنف�صلة للخيال" اللذين‬ ‫ي�سمحان ‪ -‬ب�إيجاز ‪ -‬للطفل القارئ بتلقي التعبري‬ ‫الأدب��ي كبناء ق��ادر على متثيل حياته اليومية‪ ،‬على‬ ‫ال��رغ��م م��ن �أن ه��ذا الأدب ذا الطبيعة اخليالية ال‬ ‫يتطابق ب�شكل مبا�شر مع الواقع‪.‬‬ ‫و بناء على ذل��ك‪ ،‬نعتقد �أن قبول �أ�شكال اخليال‬ ‫التي يقدمها الأدب ي�سمح للقارئ باكت�شاف احلاالت‬ ‫ال�شعورية لل�شخ�صيات التي تعي�ش يف الن�ص‪ .‬وهي‬ ‫قادرة ـ �أي�ض ًا ـ على متثيل احلاالت ال�شعورية اخلا�صة‬ ‫باحلياة الإن�سانية‪ ،‬والتفاعل يف عامل حمكوم بقواعد‬ ‫حمددة من االحتماليات التي تبدو معقولة يف عيون‬ ‫القارئ‪ .‬وبالتايل‪ ،‬دائما توجد االحتماليات التي متيز‬ ‫احلكايات اجليدة‪ ،‬وقد يتعرف الطفل القارئ على‬ ‫تلك احلاالت ال�شعورية من خالل تقم�ص ال�شخ�صيات‬ ‫التي تعي�ش تفاعالت ومواقف مماثلة ملواقفه‪ .‬كما‬ ‫ميكنه مالحظة الأحا�سي�س والقيم وال�سلوكيات التي‬ ‫قد تعجبه �أو ال تعجبه وي�ستطيع �أن يالحظ ـ �أي�ض ًا ـ‬ ‫الأ���س��ب��اب التي حتمل ال�شخ�صيات على الت�صرف‬ ‫�أو على ال�شعور بطريقة معينة‪ ،‬وم��ا قد تثريه تلك‬ ‫الت�صرفات وامل�شاعر من نتائج‪.‬‬ ‫�إذ ًا‪ ،‬نحن ندافع عن الن�ص الأدب��ي‪ ،‬وخا�صة �أدب‬ ‫الطفل‪ ،‬بو�صفه جما ًال للتفاعل والتعرف على الأبجدية‬ ‫ال�شعورية للطفل القارئ �أو امل�ستمع‪ .,‬فعندما ننظر‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫حكاية الق�صة من �أكرث‬ ‫اال�سرتاتيجيات ا�ستخدام ًا يف عملية‬ ‫الو�ساطة لتحفيز الأطفال على‬ ‫القراءة‬

‫للعامل اخليايل كتمثيل لعامل الواقع ي�سمح لنا الن�ص‬ ‫مبعرفة احلاالت ال�شعورية للآخرين‪ ،‬وكما تقول باحثة‬ ‫الأنرثبولوجي مي�شيل بوتي‪ :‬ي�ساعدنا الكتّاب يف فهم‬ ‫احلاالت ال�شعورية التي منر بها لتهدئتها ومعرفتها‬ ‫ب�شكل �أف�ضل والتفاعل معها‪ .‬بف�ضل ق�ص�صهم نكتب‬ ‫ق�ص�صنا بني ال�سطور"‪.‬‬ ‫و بهذا يكون كل خيال �أدبي غو�ص ًا يف الفرد وم�ساراته‬ ‫الداخلية‪ ،‬وتكون عملية القراءة �إمكانية جيدة لقراءة‬ ‫العامل ب�شكل �أف�ضل‪ ،‬وال�شكل اخلا�ص مل�شاركتنا فيه‪.‬‬ ‫طور كثري من الكتّاب من بينهم (بيتلهيم و�سريبريا‬ ‫و�سو�سا) فكرة الأدب بو�صفها م�ساحة لرتجمة امل�سارات‬ ‫الداخلية للطفل‪ .‬وبهذا ال�شكل‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬قدم‬ ‫( برونو بيتلهيم) تف�سري ًا لإعادة الطفل القراءة للق�صة‬ ‫نف�سها مرات عديدة‪ :‬تلك الق�صة ت�أتي مب�ستويات من‬ ‫البنى الالواعية وجتيب على �إ�شكاليات وا�ضطرابات‬ ‫نف�سية حم��ددة خا�صة مبرحلة التطور عنده‪ .‬وب�شكل‬ ‫�أبعد من هذا املثال وتف�سريه اخلا�ص يهمنا ت�أكيد فكرة‬ ‫االت�صال املبكر واملكثف لأدب الطفل‪ ،‬والأدب عموم ًا‪،‬‬ ‫كنطاق خم�ص�ص ملعرفة احلاالت ال�شعورية للآخرين‬ ‫وبالتايل احتمالية معرفة والتحكم يف �أنف�سنا‪.‬‬ ‫القراءة الو�سيطة لأدب الطفل‪:‬‬

‫عندما نتحدث ع��ن امل��داخ��ل الأوىل ل�ل��أدب من‬ ‫ال�ضروري الإ�شارة لو�سيط القراءة‪ ،‬وهو ال�شخ�ص‬ ‫البالغ ال��ذي يي�سر م��داخ��ل الكتاب الأوىل للطفل‪،‬‬ ‫ب�أ�سلوب ي�سوده االنفعال العاطفي والإب��داع يف �أثناء‬ ‫القراءة املريحة واملقبولة‪ .‬وهنا ُيظهر الو�سيط �سعادته‬ ‫اخلا�صة للقراءة‪ ،‬ليبذر يف الطفل تلك امل�شاعر‪ .‬وهنا‪،‬‬ ‫نحن نتحدث عن الطفل وخرباته الناق�صة للقراءة‪.‬‬ ‫فالو�سيط ناقل حقيقي للكتب هدفه تي�سري مدخل‬ ‫العدد‬

‫عاطفي بني الأدب والطفل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫م��ن �أك�ث�ر اال�سرتاتيجيات ا�ستخداما يف عملية‬ ‫الو�ساطة لتحفيز الأطفال على القراءة هي حكاية‬ ‫الق�صة‪ ،‬واملتخذة من برامج متعددة للت�شجيع على‬ ‫القراءة يف العقود الأخ�يرة‪ ،‬حيث يقر�أ �شخ�ص بالغ‬ ‫ب�صوت مرتفع ق�صة لطفل �أو �أكرث م�ستخدم ًا �أ�سلوب ًا‬ ‫جمي ًال ق���ادر ًا على �إث���ارة عواطف الطفل‪ ،‬وه��ذا ما‬ ‫ن�سميه القارئ امل�ؤثر‪.‬‬ ‫�إن قيام الو�سيط بحكاية الق�صة هو ات�صال له‬ ‫بالق�صة‪ ،‬ويف الوقت نف�سه ات�صال بامل�ستمعني‪ ،‬و�أخري ًا‬ ‫هو ات�صال للم�ستمعني بالق�صة‪ .‬تلك العملية التفاعلية‬ ‫بني (الن�ص والراوي واملتلقي) تهدف ب�شكل �أ�سا�سي‬ ‫الت�صال الطفل باحلكاية‪ ،,‬وهذا يتحقق ب�شكل جيد‬ ‫بف�ضل قدرة الو�سيط على تو�صيل الأحا�سي�س والأجواء‬ ‫ال�شعورية اخلا�صة باحلكاية وبذلك ي�سمح باكت�شاف‬ ‫تلك العوامل املروية للطفل امل�ستمع من حالل ما ن�سميه‬ ‫"القراءة الو�سيطة"‪.‬‬ ‫�أم��ا بخ�صو�ص اجل��وان��ب غ�ير الكالمية ف���إن لغة‬ ‫اجل�سد هي الطريقة املثلى لرتتيب �أحداث احلكاية‪،‬‬ ‫وح�شد احلاالت ال�شعورية التي تنقلها‪ ،‬حيث يتحول‬ ‫املعنى املعرب لإ�شارات وحركات اجل�سد �إىل ممر �أو‬ ‫ج�سر يعرب �إىل داخل الق�صة‪ .‬التوتر �أو الهدوء يف جزء‬ ‫معني ال�سعادة �أو احلزن التي ت�شعر بها ال�شخ�صيات �أو‬ ‫الده�شة الناجتة عن عبارة غري متوقعة‪ .,‬كل ذلك قد‬ ‫يظهر يف تعبريات وجه القارئ الو�سيط وج�سده‪.‬‬ ‫وهكذا تدمج عمليات القراءة الو�سيطة بني عدد‬ ‫من اللغات التي تُنتج من قبل الو�سيط‪ ،‬وتي�سر للطفل‬ ‫املداخل العاطفية للكتاب‪ ،‬ومن ثم تنقل له احلاالت‬ ‫ال�شعورية املختلفة التي تعي�شها ال�شخ�صيات على‬ ‫مدار الق�صة‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪69‬‬


‫في أدب الطفل‬ ‫عناصر فنية كثيرة ومتنوعة‬

‫ ملف العدد‬

‫كانت جتربتي مع الق�ص�ص الأوىل التي ق��ر�أت �أر�سخ‬ ‫التجارب يف الذاكرة والوجدان‪ .‬و مازلت �أذكر �إىل اليوم‬ ‫عناوين الق�ص�ص التي قر�أتها يف حداثتي الأوىل‪ ،‬كما � يّأن‬ ‫مازلت �أذكر �ألوان �صورها‪ ،‬و�أ�شكال حروفها وروائح �أوراقها‪.‬‬ ‫الن�ص‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬من�سلخ ًا عن العامل‪ ،‬ومل‬ ‫مل يكن‬ ‫ّ‬ ‫تكن الكلمات منف�صلة عن الطبيعة‪ ،‬كانت القراءة نظراً و‬ ‫�شم ًا‪� ،‬أي كانت التهام ًا للعامل عن طريق الكلمات‪.‬‬ ‫مل�س ًا و ّ‬

‫د‪ .‬حممد الغزي‬ ‫تون�س‬

‫الق�صة فح�سب‪ ،‬و �إنمّ ا كنت‬ ‫الواقع �أنيّ مل �أكن �أقر�أ ّ‬ ‫�أدنو من ّ‬ ‫ال�شخو�ص ف�أب�صرها‪ ،‬و �أم ّد يدي �إىل الأ�شياء‬ ‫ف�أمل�سها‪� ،‬أي �إنّ القراءة كانت ا�ستنفارا لك ّل اجلوارح‪ ،‬و‬ ‫اذكاء جلميع احلوا�س‪� ،‬أي كانت بعبارة �أخرى عيدا من‬ ‫�أعياد اجل�سد و اخليال و ال ّروح‪.‬‬ ‫كان ذلك يف عهد مل نعرف خالله و�سائل معرف ّية‬ ‫�أخرى تخاطبنا �أو حتاورنا‪ .‬كان الكتاب‪ ،‬على عهدنا‪،‬‬ ‫الو�سيلة الوحيدة التي نفزع �إليها طلبا للمعرفة حين ًا و‬ ‫للإمتاع يف �أكرث الأحيان‪.‬‬ ‫غري �أنّ الع�صر بات غري الع�صر و باتت و�سائل �أخرى‬ ‫جديدة تخاطب الطفل بل جتتذبه بل ت�ستحوذ عليه لع ّل‬ ‫�أه ّمها ال�صورة التي �أ�صبحت لها �سطوة على �أطفالنا‬ ‫كبرية‪.‬‬ ‫كيف ميكن �أن ي�ستعيد الكتاب ح�ضوره؟ وماهي‬ ‫العنا�صر التي ينبغي �أن تتوافر فيه حتّى ي�سرتجع‬ ‫منزلته؟‬ ‫يخطئ ال��ك��ث�يرون ح�ين ي��ع��ت�برون ك��ت��اب الأط��ف��ال‬ ‫‪70‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ن�ص ًا �أدب ّي ًا فح�سب‪ ،‬مه ّونني‪ ،‬يف الوقت ذاته‪ ،‬من �ش�أن‬ ‫ّ‬ ‫العنا�صر الأخرى يعتربونها جم ّرد هوام�ش وذيول لي�س‬ ‫لها من غاية �سوى الإي�ضاح والإب��ان��ة‪� ،‬إي�ضاح معاين‬ ‫الن�ص الأدبي والإبانة عن غاياته و �أهدافه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هذا الفهم اخلاطئ لق�ص�ص الأطفال قد يكون من‬ ‫الأ�سباب العميقة التي �أ�سهمت يف تدهور منزلة الكتاب‬ ‫وت��راج��ع مكانته‪ .‬كتاب الأط��ف��ال هو الكتاب ال��ذي ال‬ ‫يتو�سل بالكلمات فح�سب لإيقاد جذوة اخليال يف ّ‬ ‫الطفل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يتو�سل بالألوان و الأ�شكال �أي�ضا؛ �أي �إ ّنه ال ي�ستخدم‬ ‫بل ّ‬ ‫لغة واحدة (لغة الكالم فح�سب)‪ ،‬و�إنمّ ا ي�ستخدم لغات‬ ‫عديدة (لغة الأل��وان و الأ�شكال و الرموز و الأ�صوات)‬ ‫ليح ّقق مقا�صده و�أهدافه؛ لهذا احتاج كتاب الأطفال‬ ‫�إىل مبدعني كرث ترتافد �أعمالهم وتتعا�ضد لتك ّون يف‬ ‫�آخر الأمر عم ًال واحد ًا‪.‬‬ ‫كتاب الأطفال يف حاجة �إىل عنا�صر فن ّية كثرية لعلّ‬ ‫�أه ّمها‪:‬‬ ‫ن�ص يكتبه مبدع يدرك �أ�سرار لعبة الكتابة ويعرف‬ ‫• ّ‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫كيف ن�صنع حركة نقدية للأطفال؟‬ ‫نحن نق ّر بغياب حركة نقد ّية جا ّدة تواكب كتاب ّ‬ ‫الطفل‬ ‫العربي و تقر�ؤه قراءة مت�أ ّملة‪ ،‬قراءة ال تكتفي بالتقومي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وان كان التقومي يف هذا املجال �ضرورة‪ ،‬و �إنمّ ا تعمل على‬ ‫ا�ستقراء رموزه وا�ستق�صاء الأ�سئلة التي ينطوي عليها‪،‬‬ ‫العربي الي�ش ّكل ر�ؤية‬ ‫والقليل الذي كتب عن �أدب الأطفال‬ ‫ّ‬ ‫يعت ّد بها‪.‬‬ ‫عربي للطفل‬ ‫بيد �أنّ من الن ّقاد من ينفي وجود كتاب ّ‬ ‫بلغ درجة من ال ّن�ضج ي�ستحقّ معها �صياغة حركة نقد ّية‬ ‫العربي‬ ‫الطفلي‬ ‫تواكبه‪ ،‬وتتابعه‪ ،‬مه ّون ًا من �ش�أن الأدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذي ظ ّل ّ يف �أغلب مناذجه اقتبا�س ًا لن�صو�ص �أجنب ّية‬ ‫�أو ا�سرتجاع ًا لن�صو�ص تراث ّية‪ .‬وال�س�ؤال الذي ظ ّل يثار‬ ‫دائم ًا ه��و‪ :‬كيف ن�صنع حركة نقد ّية لكتاب الطفل؟‬ ‫وال�س�ؤال الذي يثريه هذا ال�س�ؤال هو‪ :‬هل النقد نتيجة‬ ‫"تخطيط م�سبق "؟‬ ‫أدبي هو الذي يخلق نقده وين�شئه �إن�شاء‬ ‫�ألي�س ّ‬ ‫الن�ص ال ّ‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪71‬‬

‫ال���م���دون‬ ‫االق���ت���ب���اس م���ن ال����ت����راث ل���م ي��ق��ت��ص��ر ف���ي أدب األط����ف����ال ع��ل��ى ال����ت����راث‬ ‫ّ‬ ‫ال��ش��ف��وي وم���ا ي��ب��ط��ن��ه م���ن رم����وز وك��ن��اي��ات‬ ‫ف��ح��س��ب‪ ،‬وإنّ���م���ا ش��م��ل أي��ض��ا ال���ت���راث‬ ‫ّ‬

‫م�آزقها وم�ضايقها على ح ّد عبارة النقاد القدامى‪.‬‬ ‫• ر�سوم ينجزها فنّان حقيقي يدرك �أنّ ال ّر�سوم‬ ‫ن�ص الكلمات‪ ،‬و‬ ‫لن�ص �سابق هو ّ‬ ‫لي�ست جم ّرد تو�ضيح ّ‬ ‫�إنمّ ا هي �إبداع �آخر ين�ضاف �إىل الإبداع الأ ّول دون �أن‬ ‫يذوب فيه فت�صبح ال ّر�سوم عندئذ مثل الكلمات م�صدر‬ ‫بالن�ص املكتوب و ت�ؤ ّثر فيه‪.‬‬ ‫تخييل و �إيحاء تت�أ ّثر ّ‬ ‫• الت�صميم و الإخ���راج‪� :‬إنّ ت�صميم الكتاب مثل‬ ‫ت�صميم البيت توظيف للف�ضاء‪ ،‬ف�ضاء الورقة و ت�أثيث له‬ ‫يف �آن‪ .‬لهذا وجب �أن تط ّوع م�ساحة الكتابة ال�ض ّيقة حتّى‬ ‫تكون قادرة على ا�ست�ضافة الطفل واالحتفاء به‪ ،‬وكما هو‬ ‫ّ‬ ‫ال�ش�أن بالن�سبة �إىل البيت ينبغي �أن تتيح هذه امل�ساحة‬ ‫ّ‬ ‫يتح�س�س الأ�شياء ويكت�شف‪.‬‬ ‫للطفل �أن يلعب ويتع ّلم و ّ‬ ‫يج�سه ويحت�ضنه‬ ‫�إنّ الطفل ال يقر�أ الكتاب فح�سب‪ ،‬بل ّ‬ ‫وربمّ ا �أخذه معه �إىل ال�سرير ليقا�سمه و�سادته وغطاءه‬ ‫ون��ور م�صباحه‪ .‬ك ّل هذا ي�ؤ ّكد �أنّ الكتاب عنده لي�س‬ ‫جم ّرد حروف و كلمات‪ ،‬و�إنمّ ا هو كيان وج�سد وحياة‪.‬‬ ‫يف ثقافتنا العرب ّية تهوين وا�ضح من �ش�أن الأدب‬

‫املوجه للأطفال فك�أنّ هذا ال�ضرب من الأدب مي ّثل‬ ‫ّ‬ ‫ال ّدرجة ال ّدنيا من الكتابة‪ ،‬لك�أ ّنه يتح ّدر من �شجرة‬ ‫ن�سب جمهولة‪ .‬لهذا �أ�شاح عنه الن ّقاد فلم ينعطفوا عليه‬ ‫بالدرا�سة و التّحليل‪ .‬فلي�س غريب ًا بعد هذا �أن يظ ّل خارج‬ ‫الأدب على اندراجه فيه‪ ،‬قابع ًا يف حوا ّفه ي�صبو �إىل‬ ‫�شرع ّية نقد ّية ت�س ّوغ ح�ضوره‪.‬‬ ‫الطفلي تنه�ض له �أ�سباب‬ ‫هذا التّهوين من �ش�أن الأدب‬ ‫ّ‬ ‫عديدة لع ّل �أه ّمها �سببان اثنان‪� :‬أ ّولهما االعتقاد ب�أنّ‬ ‫الكتابة للأطفال عمل �سهل ال يحتاج �إىل موهبة ت�سنده‬ ‫�أو ثقافة تدعمه‪ .‬وثانيهما‪ :‬اعتبار الطفل‪ ،‬بحكم حداثة‬ ‫�سلبي‬ ‫�س ّنه‪ ،‬عاجز ًا عن التقومي و التمييز‪ ،‬فهو متقبل ّ‬ ‫لي�س له القدرة على املفا�ضلة واملوازنة والإمياء �إىل ماهو‬ ‫�أحقّ بالقراءة‪ ،‬و ماهو �أجدر بالإهمال و الن�سيان‪.‬‬


‫���ص����ًا أدب����� ّي�����ًا ف��ح��س��ب‬ ‫ي���خ���ط���ئ ال���ك���ث���ي���رون ح���ي���ن ي���ع���ت���ب���رون ك����ت����اب األط�����ف�����ال ن� ّ‬

‫يج�سه‬ ‫� ّإن الطفل ال يقر�أ الكتاب فح�سب‪ ،‬بل ّ‬ ‫ويحت�ضنه وربمّ ا �أخذه معه �إىل ال�سرير‬ ‫ليقا�سمه و�سادته وغطاءه ونور م�صباحه‬

‫دون تخطيط �سابق؟ �ألي�س يف النقد جانب �إبداعي‬ ‫االجتماعي بالثقا ّيف‪،‬‬ ‫يجعله وليد مناخ عام يتداخل فيه‬ ‫ّ‬ ‫اتي ؟ ّثم هل هذه احلركة النقد ّية تتع ّلق‬ ‫واجلماعي بال ّذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بن�ص الكتاب �أم بر�سومه �أم بطرق �إخراجه �أم بهذه‬ ‫ّ‬ ‫فن�ص ال�س�ؤال حت ّدث عن " كتاب‬ ‫العنا�صر جمتمعة؟ ّ‬ ‫الطفل"‪ ،‬ومل يتح ّدث عن " �أدب ّ‬ ‫الطفل"‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫�أ ّنه ي�شري بطريقة خف ّية‪� ،‬إىل ك ّل العنا�صر التي ذكرنا‬ ‫يف تداخلها وت�شابكها والتي ت�ؤلف جمتمعة كتاب ّ‬ ‫الطفل‪.‬‬ ‫و�إذا اعتربنا هذه العنا�صر جمتمعة هي التي ت�صنع‬ ‫كتاب ّ‬ ‫الطفل‪ ،‬فهل لدينا ن ّقاد لهم من اخلربة يف جماالت‬ ‫الكتابة وال ّر�سوم و الإخراج ما مي ّكنهم من قراءة كتاب‬ ‫ال�صنف من‬ ‫الطفل قراءة متع ّمقة؟‪ .‬و�إذا عدمنا هذا ّ‬ ‫الن ّقاد فهل نكتفي بقراءة كتاب ّ‬ ‫الطفل قراءة م ّف ّككة‪،‬‬ ‫فيقر�ؤه بع�ضنا قراءة فن ّية‪ ،‬و يقر�ؤه بع�ضنا قراءة �أدب ّية‪،‬‬ ‫ويقر�ؤه بع�ضنا قراءة تقن ّية جمال ّية؟‬ ‫هكذا تتوالد الأ�سئلة من الأ�سئلة‪ ،‬فال تقف بنا عند‬ ‫لكني �س�أكتفي‬ ‫ح ّد معلوم‪ .‬لن �أجيب على هذا ال�س�ؤال ّ‬ ‫بو�ضع �شروط عا ّمة قد تهيئ‪� ،‬إن حت ّققت‪ ،‬ملناخ ي�سهم‬ ‫يف �صنع احلركة النقد ّية التي ننتظرها‪ .‬ولع ّل �أه ّمها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ العمل على �إ���ص��دار "بيبليوغرافيا" للم�ؤلفات‬ ‫الطفل ّية العرب ّية لتكون عون ًا للباحثني يعودون �إليها متى‬ ‫العربي‪ ،‬وجتدر الإ�شارة‬ ‫�أرادوا‪ ،‬لدرا�سة �أدب الأطفال‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �أنّ بع�ض البالد العرب ّية قد �أ�صدر "بيبليوغرافيا"‪،‬‬ ‫خا�صة ب��ه‪ .‬لهذا وج��ب العود �إليها لال�ستعانة بها و‬ ‫تطويرها‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ �ضرورة �إدراج �أدب ّ‬ ‫الطفولة يف مناهج اجلامعات‬ ‫العرب ّية مثلما ّمت �إدراج الآداب ال�شعب ّية و الفولكلور‪ .‬فمن‬ ‫�ش�أن �إدراج هذا الأدب �أن يح ّفز ّ‬ ‫الطالب و الأكادمييني‬ ‫على االهتمام به‪ ،‬و قراءته و درا�سته‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ �ضرورة توجيه طلبة املاج�ستري والدكتوراه يف‬ ‫‪72‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫العربي �إىل اتخاذ �أدب ّ‬ ‫الطفولة حمور ًا لر�سائلهم‬ ‫الوطن‬ ‫ّ‬ ‫ودرا�ساتهم‪ .‬وميكن‪ ،‬بهذه الطريقة �إن�شاء نواة حلركة‬ ‫نقد ّية ر�صينة تعنى ب�أدب الطفل و تقر�ؤه قراءة جادة‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ العمل على بعث جائزة للنقد العربي الذي ينعطف‬ ‫على �أدب ّ‬ ‫الطفل العربي بال ّنظر والت�أ ّمل‪.‬‬ ‫تلك هي يف نظري اخلطوات الأوىل التي ينبغي �أن‬ ‫نخطوها حتّى نهيئ ّ‬ ‫الظروف املالئمة لبعث حركة نقد ّية‬ ‫ت�ستتب‬ ‫تواكب �أدب الطفولة‪ ،‬بيد �أنّ هذه احلركة لن‬ ‫ّ‬ ‫مق ّوماتها �إال حني نط ّور �أدبنا ّ‬ ‫فلي من خالل التجديد‬ ‫الط ّ‬ ‫يف �أ�ساليبه وموا�ضيعه‪ ،‬وا�ست�شراف �آف���اق تعبري ّية‬ ‫وجمال ّية جديدة‪ّ ،‬‬ ‫فتط ّور النقد من تط ّور الأدب و ازدهار‬ ‫الأ ّول الب ّد �أن يف�ضي اىل ازدهار الثاين يف �ضرب من‬ ‫التداعي الذي ال ير ّد‪.‬‬ ‫الطفلي عندنا ظ�� ّل‪ ،‬يف‬ ‫وينبغي الإق���رار �أنّ الأدب‬ ‫ّ‬ ‫الكثري من الأحيان ا�ستعادة للرتاث‪ ،‬يكتفي با�ستن�ساخه‪.‬‬ ‫�أدب الأطفال والرتاث‬ ‫من خ�صائ�ص الأدب احلديث‪ ،‬ك ّل الأدب احلديث �أ ّنه‬ ‫التفت �إىل املا�ضي م�ستدعي ًا كثري ًا من ن�صو�صه حماو ًال‬ ‫الن�ص القدمي؛ فا�ستدعاء‬ ‫�أن مي ّد الأثر احلديث بق ّوة ّ‬ ‫إبداعي ميت ّد بعيد ًا يف‬ ‫الرتاث ا�ستدعاء ملخزون ّ‬ ‫فكري و� ّ‬ ‫الزمن‪ ،‬وا�ستح�ضار جلملة من القيم مازالت �إىل اليوم‬ ‫توجه حياتنا وتفكرينا‪ .‬فالرتاث‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬لي�س‬ ‫ّ‬ ‫ك ّل ما ترك الأ�سالف و�إنمّ��ا هو ما تب ّقى بعد �أن طوى‬ ‫الن�سيان ك ّل �شيء‪.‬‬ ‫لكنّ الكثري من كتّابنا ارت�� ّدوا‪ ،‬مع ذلك‪� ،‬إىل تراثنا‬ ‫يقتب�سون منه ق�ص�ص ًا للأطفال‪ ،‬م�ستلهمني طرائقه يف‬ ‫الأداء‪ ،‬و�أ�ساليب ت�صريف القول‪.‬‬ ‫ه��ذا االقتبا�س مل يقت�صر يف �أدب الأط��ف��ال على‬ ‫ال�ت�راث امل���د ّون فح�سب‪ ،‬و�إنمّ���ا �شمل �أي�ضا ال�تراث‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫نقر بغياب حركة نقد ّية جا ّدة تواكب‬ ‫نحن ّ‬ ‫كتاب ّ‬ ‫العربي و تقر�ؤه قراءة مت�أ ّملة‬ ‫الطفل‬ ‫ّ‬

‫ال�شفوي وما يبطنه من رم��وز وكنايات‪ .‬هكذا وجدنا‬ ‫ّ‬ ‫الكثري من كتّاب الأطفال ي�سرتفدون احلكايات ال�شعب ّية‬ ‫ينقلونها من اللهجات املح ّلية �إىل اللغة الف�صحى‪ ،‬وربمّ ا‬ ‫ت�ص ّرفوا فيها لتكون �أقرب �إىل وجدان الطفل احلديث‪،‬‬ ‫و�أقدر على �ش ّد انتباهه و�إثارة خياله‪ .‬لقد بدا الرتاث‬ ‫ال�شعبي مبا ينطوي عليه من فانتازيا وغرائب ّية واحتفال‬ ‫ّ‬ ‫باخلوارق وطرافة يف ر�سم مالمح ال�شخ�صيات قادر ًا‬ ‫على خماطبة الطفل والت�أثري فيه‪� .‬أ�ضف �إىل ك ّل ه ّذا‬ ‫انطواء هذا الرتاث على خربة �إن�سان ّية عميقة عبرّ ت‬ ‫عن نف�سها من خالل الرموز‪ .‬فهذا ال�تراث كما قال‬ ‫"هريدر" م�ستودع جتارب الأ ّمة وبقايا خرباتها؛ عندما‬ ‫كان الإن�سان يحلم لأ ّن��ه مل يكن يعرف ويعتقد لأ ّن��ه مل‬ ‫يكن ي��رى‪ .‬وه��ذه التجارب ترت ّد �إىل �أح��ق��اب بعيدة‪،‬‬ ‫�إىل الوحدة العتيقة بني الذات واملو�ضوع‪� ،‬إىل الإن�سان‬ ‫ب�سبب من هذا ت�شابهت‬ ‫على وجه احلقيقة والإطالق‪ٍ .‬‬ ‫اخلرافات ت�شابه ًا مذه ًال يف كثري من الثقافات فهي‬ ‫�شخ�صي‬ ‫تنطوي على خياالت �شاملة ذات طابع غري‬ ‫ّ‬ ‫وه��ذه اخلياالت‪ ،‬كما يقول يونغ‪ ،‬تن�ش�أ من الال�شعور‬ ‫اجلمعي الذي يورث �ش�أنه �ش�أن العنا�صر املورفولوج ّية‬ ‫ّ‬ ‫يف ج�سم الإن�سان‪.‬‬ ‫ال�شعبي يف كتب الأطفال‬ ‫هذه العودة �إىل امل��وروث‬ ‫ّ‬ ‫مل تواكبها‪ ،‬كما �أ�سلفنا‪ ،‬حركة نقد ّية تر�صد الظاهرة‬ ‫وتف ّككها ّثم تدر�سها وتت�أ ّولها‪ .‬وما من ّ‬ ‫�شك يف �أنّ هذا‬ ‫العمل(عمل الر�صد والتفكيك والدرا�سة والت�أويل) من‬ ‫الطفلي الذي‬ ‫�ش�أنه �أن يط ّور هذا النمط من الأدب‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعبي ّ‬ ‫وي�ضخه بدماء جديدة‪.‬‬ ‫ا�ستند �إىل املوروث‬ ‫ّ‬ ‫وال�س�ؤال الذي نريد �أن نثريه يف هذه الورقة هو‪ :‬كيف‬ ‫ال�شعبي عندما �أقدموا على‬ ‫تعامل الكت ّاب مع املوروث‬ ‫ّ‬ ‫نقله �إىل الأطفال؟‬ ‫�إنّ امل��ت���أ ّم��ل يف الق�ص�ص الطفل ّية التي ا�ستدعت‬ ‫العدد‬

‫ال�شعبي يلحظ �أنّ كتّابنا اكتفوا با�ستعادة‬ ‫امل���وروث‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعبي دون تغيري �أو حتوير �أو تطوير‬ ‫ن�صو�ص الرتاث‬ ‫ّ‬ ‫وربمّ ا مهروها ب�أ�سمائهم‪ ،‬ون�سبوها �إىل �أنف�سهم واحلال‬ ‫�أ ّنهم اقت�صروا على نقلها فلم يحدثوا فيها �صفة �أو‬ ‫يك�سبوهاف�ضيلة‪.‬‬ ‫�إنّ ه�ؤالء الكتّاب وهم ي�ستدعون هذه الن�صو�ص �إنمّ ا‬ ‫يح ّولون فعل الكتابة �إىل فعل �أجوف‪ ،‬خال من ك ّل معنى‪.‬‬ ‫فالعالقة بني الرتاث والكتابة تطابق العالقة القائمة بني‬ ‫اللغة والكالم‪ .‬ف�إذا كان الرتاث مثل اللغة مي ّثل امل�شرتك‬ ‫الذاتي املختلف‪.‬‬ ‫امل�ؤتلف ف�إنّ الكتابة‪ ،‬مثل الكالم‪ ،‬متثل‬ ‫ّ‬ ‫الرتاث هو �سلطان اجلماعة‪� ،‬أ ّما فعل الكتابة فهو �سلطة‬ ‫الفرد تفتح يف مملكة ال�ضرورة ك ّوة احلر ّية‪.‬‬ ‫لكنّ كثري ًا من كتّابنا ا�ست�سهلوا فعل الكتابة‪ ،‬فعمدوا‬ ‫�إىل ال�تراث يختارون بع�ض مناذجه‪ ،‬وينقلونها �إىل‬ ‫الأطفال دون �إ�ضافة تذكر‪.‬‬ ‫والواقع �أنّ ال�تراث ال ميكن �أن ي�ستم ّر �إال �إذا �أعاد‬ ‫كتّابنا �إب��داع��ه واب��ت��ك��اره‪� .‬أ ّم���ا �إذا اكتفوا ب��اج�تراره‬ ‫وحماكاته ف�إ ّنهم يفرغونه من معناه‪ ،‬يح ّولون لألأء ناره‬ ‫�إىل رماد‪ .‬ففي ك ّل تراث �إمكانات م�ضمرة وطاقات خف ّية‬ ‫ينبغي اكت�شافها وتطويرها‪ ،‬وهذه الطاقات والإمكانات‬ ‫هي التي جتعل الرتاث منفتح ًا على امل�ستقبل‪ ،‬متج ّدد ًا‬ ‫با�ستمرار‪ ،‬قاب ًال لقراءات كثرية �أي لكتابات كثرية‪.‬‬ ‫�إنّ �أدب الأطفال ال يختلف من حيث اجلوهر عن �أدب‬ ‫الكبار‪ .‬فطبيعة الأدب واحدة و�إن اختلفت طرائق الكتابة‬ ‫لن�ص �سابق �أو ا�ستدراك عليه‬ ‫والأداء؛ فكالهما تطوير ّ‬ ‫�أو جتاوز له‪� .‬أ ّما �إذا حت ّول الأدب �إىل تقليد لن�صو�ص‬ ‫قدمية ف�إ ّنه يفقد وظيفته الأوىل وهي وظيفة الإبداع‪،‬‬ ‫لي�صبح دون جدوى‪ .‬الإبداع هو‪ ،‬يف املقام الأ ّول‪ ،‬دعوة‬ ‫�إىل احللم‪ ،‬واجرتاح لأ�سئلة جديدة‪ ،‬وخلق لعامل جديد‬ ‫على �أنقا�ض عامل قدمي‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪73‬‬


‫البحث‬ ‫عن بطل‬

‫ملف العدد‬

‫في القصة الموجهة‬ ‫لألطفال والفتيان‬

‫د‪ .‬عبد الرحيم م�ؤدن‬ ‫املغرب‬

‫هل يوجد بطل يف ق�صة الأطفال والفتيان يف الأدب العربي احلديث‪ ،‬واملعا�رص‬ ‫يت�سم بالدميومة واال�ستمرار؟ �إذا كان الأمر كذلك‪ ،‬ما مالحمه؟ وظائفه؟ انعكا�ساته‬ ‫على الذات ـ ذات الطفل والفتى ـ فكري ًا وجمالي ًا و�سلوكي ًا؟‬ ‫اجلواب على هذه الت�سا�ؤالت‪� ،‬سيكون حمور هذا املقال داخلة‪ ،‬بهدف �إثراء النقا�ش‪،‬‬ ‫خا�صة �أن وجود بطل دائم‪ ،‬باملوا�صفات ال�سابقة‪ ،‬يعد عن�رصاً هام ًا من عنا�رص‬ ‫الهوية‪� ،‬إن مل يكن دافع ًا من دوافع تكوينها واملحافظة عليها‪.‬‬ ‫ت�شخي�ص �أويل‬ ‫قد ي�ستغرب املرء حالي ًا خلو الأدب العربي املوجه‬ ‫للأطفال والفتيان من بطل دائ��م‪ ،‬ي�سكن الذاكرة‬ ‫وال���وج���دان‪ ،‬فالن�ص‪ ،‬يف ه��ذا ال�سياق‪ ،‬ي��ق��وم على‬ ‫البطولة‪ ،‬وه��ذه البطولة ق��د تتوفر يف الإن�����س��ان �أو‬ ‫احليوان‪� ،‬أو النبات‪ .‬البطل قد يكون �صغري ًا �أو كبري ًا‪،‬‬ ‫ذكر ًا �أو �أنثى‪ ،‬قوي ًا �أو �ضعيف ًا‪ ،‬جمي ًال �أو قبيح ًا‪ ،‬من‬ ‫حلم ودم (واقعي) �أو من ورق (متخيل)‪ .‬فالبطولة‬ ‫�ضرورة ن�صية‪ ،‬وقبل ذلك هي �ضرورة نف�سية متنح‬ ‫الطفل والفتى‪� ،‬أداة لتف�سري ما يحيط به‪ ،‬والتعامل مع‬ ‫عنا�صره بدقة واقتناع‪ .‬والبطل‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬قد يكون‬ ‫حام ًال قيم ًا حم��ددة وم��واق��ف يحر�ص الكاتب على‬ ‫تقدميها �أو متريرها عرب مراحل الن�ص‪ .‬وباملقابل‬ ‫يوجد البطل امل�ضاد لهذه القيم الذي يعرقل ذلك‪،‬‬ ‫ولكنه يدعم �شرعية البطل الذي ينت�صر له الطفل‪.‬‬ ‫الفرق بني الأدب�ين يكمن يف ك��ون البطل يف �أدب‬ ‫‪74‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫الكبار ر�ؤي��ة من ال��ر�ؤي��ات ال�سائدة‪ ،‬يف حني يكون‬ ‫البطل يف �أدب الأط��ف��ال والفتيان �أداة لتخلق هذه‬ ‫الر�ؤية التي تبنى‪ ،‬درج��ة درج��ة و�صو ًال �إىل الهدف‬ ‫منها‪ ،‬وهو حتول الر�ؤية �إىل منوذج لالحتذاء‪ .‬ولن‬ ‫ي�صل البطل‪ ،‬بالن�سبة �إىل الطفل‪� ،‬أو الفتى‪� ،‬إىل هذه‬ ‫املرحلة �إال بعد اقتناع هذا الأخ�ير بوجوده بجانبه‬ ‫يف خمتلف اللحظات واملواقف‪� ،‬أي ي�صبح جزء ًا من‬ ‫املعي�ش اليومي لهذا الطفل �أو الفتى‪.‬‬ ‫مفهوم البطولة‬ ‫ال �أق�صد بالبطل املرادفات اللغوية والداللية‪:‬‬ ‫بطل‪� /‬شجاع‪ /‬ق��وي‪ /‬ج��ريء‪ /‬ف��ار���س‪�..‬إل��خ‪ ،‬وما‬ ‫�شئت م��ن ا�ستن�ساخ �صور الأق��وي��اء مثل (هرقل)‬ ‫و(�شم�شون) (�أخيل) (عنرتة)… �أخري ًا قد توظف‬ ‫هذه ال�شخ�صيات يف �سياق معني يخدم هدف ًا حمدد ًا‪،‬‬ ‫غري �أن البطل الذي قد يكون كائن ًا �ضعيف ًا‪ ،‬يتحول‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪75‬‬

‫ال���ب���ط���ول���ة ال ت�������رادف ال���ج���م���ال أو ص���ف���ات ال���ج���س���م ال���ري���اض���ي ال���ب���دي���ع���ة؛ ف���أح���دب‬ ‫ن����وت����ردام ت���ح���ول ف���ي ش���ري���ط م���وج���ه ل��ل��ف��ت��ي��ان إل����ى أع���ل���ى م���راح���ل ال��ب��ط��ول��ة اإلن��س��ان��ي��ة‬

‫يف الن�ص الق�ص�صي �إىل كائن منت�صر على قوة‬ ‫خارقة‪( ،‬فالنامو�سة تنت�صر على الأ�سد) و(عقلة‬ ‫الأ�صبع والغولة)‪ .‬كل ذلك معادلة لبطولة ال�ضعيف‬ ‫على القوي‪ .‬فالقوة هنا مكت�سبة‪ ،‬ولي�ست جاهزة‪ ،‬كما‬ ‫�أنها قائمة على العقل واملنطق ح�سب طبيعة املواجهة‪.‬‬ ‫وال �أق�صد بذلك الذكاء والنباهة‪ ،‬فال�سذاجة قد‬ ‫جتد لها مكان ًا يف ق�ص�ص الأطفال والفتيان مبختلف‬ ‫مرادفاتها (بع�ض مواقف جحا مث ًال)‪.‬‬ ‫قد ال ت��رادف البطولة‪� ،‬أي�ض ًا‪ ،‬اجلمال �أو �صفات‬ ‫اجل�سم الريا�ضي البديعة؛ ف�أحدب نوتردام حتول‬ ‫يف �شريط موجه للفتيان �إىل �أعلى مراحل البطولة‬ ‫الإن�سانية العا�شقة للجمال واحلرية وح��ب احلياة‬ ‫ورف�ض الظلم‪ .‬وال �أق�صد بالبطولة الغنى والرتف �أو‬ ‫�سلطة املال التي قد ال تكون حا�سمة‪ ،‬يف العديد من‬ ‫الإبداعات املوجهة للأطفال والفتيان �أمام انت�صار‬ ‫الف�ضائل وال�صفات املعنوية‪.‬‬

‫وق��د ال يكون البطل هو العامل واملثقف؛ لأن هذا‬ ‫الأخري قد يعرف �شيئ ًا وتغيب عنه �أ�شياء‪ .‬فالعلم هو‬ ‫اكت�ساب مهارات معينة من خالل قراءة واقع ما‪.‬‬ ‫والبطولة لي�ست ق�ضية جاهزة بناء على تعليمات‬ ‫ر���س��م��ي��ة‪ ،‬ب��ل ه��ي م��ت��م��ردة راف�����ض��ة ل��ك��ل التعاليم‬ ‫الر�سمية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫البطل املقرتح‪ ،‬كما �سيت�ضح الحقا‪ ،‬هو كل ذلك‪،‬‬ ‫دون �أن يكون ك��ذل��ك‪ .‬البطل‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬ره��ان‬ ‫املجتمع على �أدب �سي�صبح �أداة للتحرر من الكوابح‬ ‫والإكراهات املادية والنف�سية من جهة‪ ،‬وا�ستخراج‬ ‫�أق�صى ما يتمتع به الطفل �أو الفتى‪ ،‬من �إمكانات‬ ‫ومقومات حتقق التوا�صل واال�ستمرار من ناحية‪،‬‬ ‫واملتعة وال�سعادة‪.‬‬ ‫فالبطولة‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬تطهري للذات من عنا�صر‬ ‫الت�شويه‪ ،‬وك�شف جلوهرها الإن�ساين الواحد واملوحد‬ ‫بني بني الإن�سان يف كل مكان وزمان‪.‬‬


‫�شخ�صية جحا �صاحلة لكل زمان ومكان‪،‬‬ ‫وحتمل مالحمها ح�سب الع�صر �أحيان ًا‪،‬‬ ‫وح�سب رغبات‪ ،‬و�أهداف‪ ،‬املتعاملني معها‬ ‫�أحيان ًا �أخرى‬ ‫جحا‪ :‬منوذج تطبيقي‬ ‫جحا والآخرون‬

‫من �أغ��رب الغرائب‪ ،‬افتقاد �شخ�صية جحا لأية‬ ‫مرجعية حكائية حمددة‪ .‬ولكن كيف تقدم �شخ�صية‬ ‫جحا يف �أدب الأطفال والفتيان؟‬ ‫يق َّدم جحا ك�شخ�صية ما�ضوية منت�سبة �إىل تراث‬ ‫الطرائف وال��ن��وادر‪ .‬وهو �أق��رب �إىل �أخبار احلمقى‬ ‫واملغفلني واملعتوهني الذي ي�سخر منهم املجتمع‪ .‬وهو‪،‬‬ ‫كذلك‪� ،‬أق��رب �إىل البهلوان الذي ي�ضحك الآخرين‬ ‫بال�ضحك على نف�سه‪ ،‬ويقدم ما يرغب فيه الآخرون‬ ‫�أي ما يحملون عنه من �أفكار متداولة عن ال�ضحك‬ ‫والإ�ضحاك التي كونوها عن �شخ�صيته املح�صورة يف‬ ‫هذه الوظيفة دون غريها‪ .‬وهو بذلك ميار�س �سلوكه‬ ‫من خالل ح�صار املتلقني الذين �صنعوا منه �صورة‬ ‫الذكي البليد �أو "البليد الذكي"‪ .‬وهذا ما جعل منه‬ ‫مادة ا�ستهالكية تكتفي بال�ضحك املجاين‪.‬‬ ‫ه��ذه هي ال�صورة املتداولة عن ه��ذه ال�شخ�صية‬ ‫املتخيلة ال��ت��ي �أ�صبحت يف امل��راح��ل ال�لاح��ق��ة �إىل‬ ‫الآن‪ ،‬جم�سدة يف م�سلكيات اجتماعية ميار�س فيها‬ ‫�أ�صحابها الفهلوة والقدرة على التخل�ص من امل�آزق‬ ‫وامل��ط��ب��ات‪ ،‬ب��ن��وع م��ن ال�شيطنة املحببة ال��ت��ي تثري‬ ‫ال�ضحك والإعجاب دون �أن تثري ال�سخط �أو احلقد‬ ‫عليها‪ .‬وهي يف الوقت ذاته‪ ،‬ال تتجاوز �سقف التنكيت‬ ‫�أو الإ�ضحاك غري الهادف‪.‬‬ ‫"جحا" و"جحا " �أو جحا كما يرى نف�سه‬

‫ُوجد جحا‪ ،‬ب�أ�سماء عديدة‪ ،‬يف الوقت الذي فر�ض‬ ‫فيه التجمع الإن�ساين �صراع امل�صالح من جهة‪ ،‬وتعدد‬ ‫احلاجات‪ ،‬واالحتياجات �أي�ضا‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬ومن‬ ‫ثم ف�شخ�صية جحا �صاحلة لكل زمان ومكان‪ ،‬وحتمل‬ ‫‪76‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫مالحمها ح�سب الع�صر �أح��ي��ان�� ًا‪ ،‬وح�سب رغبات‪،‬‬ ‫و�أهداف‪ ،‬املتعاملني معها �أحيان ًا �أخرى‪ .‬وهي بذلك‬ ‫قد حتمل العديد من الأ�سماء وال�سمات ح�سب كل‬ ‫مرحلة (ال�شاطر ‪ /‬امل�ضحك ‪ /‬البهلوان ‪ /‬الأعرابي‬ ‫�أو البدوي) ف�ضال عن �أ�سماء حملية مبناطق خمتلفة‪.‬‬ ‫ويف كل الأحوال تظل �شخ�صية جحا حاملة ل�سمة‬ ‫�أ�سا�سية ه��ي ال��ذك��اء �أو ال�شيطنة وال��ق��درة على‬ ‫ح�سن التخل�ص‪ ،‬مع ف�سح املجال املختلف التنويعات‬ ‫امل�ستوحاة من طبيعة املرحلة وحاجيات النا�س‪ .‬هو‬ ‫جحا الواحد واملتعدد يف �آن واحد‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س‬ ‫مل تعد �شخ�صيته ملك ًا للما�ضي‪ ،‬بل هي �شخ�صية‬ ‫متجددة بتجدد الأ�سئلة‪.‬‬ ‫وهكذا ت�صبح �شخ�صية جحا �ضمري ًا للع�صر الذي‬ ‫تلب�س فيه �شخ�صيته قناع البالدة والتبلد لإخفاء‬ ‫حقيقته القائمة على فهم �أ���س��رار اللعبة‪ .‬ويف هذا‬ ‫ال�سياق ميكن مقارنة �شخ�صية الف�أر "ميكي ماو�س"‬ ‫ب�شخ�صية جحا يف �صراعه ال��دائ��م م��ع "جريي"؛‬ ‫�أي �صراع ال�ضعيف مع القوي‪� ،‬أو العقل مع القوة �أو‬ ‫املرونة مع الت�شدد �أو ما �شئت من الثنائيات‪� .‬أقول‪� ،‬إن‬ ‫هذا ال�صراع بني ميكي وجريي �أو بني جحا والآخر‪،‬‬ ‫يعك�س املالحظات التالية‪:‬‬ ‫�إن لـميكي م��او���س خ�صائ�ص ثانبة (�سرعة‪/‬‬ ‫���ض���آل��ة احل��ج��م‪ /‬ذك����اء‪ /‬م�لام��ح حم��ب��ب��ة‪ /‬لبا�س‬ ‫دائ�����م‪ ..‬ال����خ)‪ .‬وه���ذا ال��ث��ب��ات ال مي��ن��ع م��ن جت��دد‬ ‫الوظائف تبع ًا لتجدد الأح��داث وامل�سلكيات (مثال‬ ‫ال�صراع بني ميكي وجريي قد ت�ستخدم فيه �أحدث‬ ‫الو�سائل التكنولوجية)‪ .‬ويحمل الف�أر ميكي ماو�س‬ ‫خ�ب�رات الأج��ي��ال ال�سابقة وال�لاح��ق��ة‪� ،‬أي يحمل‬ ‫قيم املجتمع الأمريكي ال��ذي ينتمي �إليه (تقدي�س‬ ‫العمل‪ /‬اخت�صار ال��زم��ن‪ /‬ح��ب احل��ي��اة واحلر�ص‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫البطولة تطهري للذات من عنا�صر الت�شويه‪،‬‬ ‫وك�شف جلوهرها الإن�ساين الواحد بني بني‬ ‫الإن�سان يف كل مكان وزمان‬

‫على مم��ار���س��ة امل��ت��ع املختلفة‪ /‬ال��ذات��ي��ة املطلقة‪/‬‬ ‫الرباجماتية‪ /‬القوة اجل�سدية)‪ ،‬حيث ي�ؤدي املنتمي‬ ‫�إىل املارينز مثل �شخ�صية بوبي ‪ Popy‬كل الأعمال‬ ‫ال�صعبة يف الباخرة وال�شارع �أو يف املعمل وامل�صنع‬ ‫واحلقل وامل�ؤ�س�سات املختلفة‪.‬‬ ‫�أم��ا جحا‪ ،‬فهو على النقي�ض م��ن ذل��ك‪ ،‬فهو ذو‬ ‫مالمح ثابتة ج�سد ًا ولبا�س ًا و�سلوك ًا ومعجم ًا‪ .‬يتغري‬ ‫الع�صر دون �أن يتغري جحا‪ ،‬فهو �شخ�صية ما�ضوية‬ ‫�أقرب �إىل احلفريات التي قد تثري الف�ضول دون �أن‬ ‫تثري التفاعل �أو التوا�صل‪ .‬فحاجز املفارقة الزمنية‬ ‫يلعب دوره يف تعميق الهوة بني ال�شخ�صية (جحا)‬ ‫واملتلقي (الطفل �أو الفتى) الذي يتماهى‪ ،‬عادة‪ ،‬مع‬ ‫ال�شخ�صية احلاملة خلربات �إن�سانية عديدة‪.‬‬ ‫ويف ح��ال��ة وج���ود رواي����ات ع��دي��دة‪� ،‬أو خمتلفة‪،‬‬ ‫ل�شخ�صية ج��ح��ا‪ ،‬ف���إن الطابع امل��ا���ض��وي ال ي��غ��ادره‬ ‫من حيث الر�ؤية والوظيفة‪ ،‬مما يعمق من عزلتها‬ ‫التدريجية عن احلياة �أو واق��ع الطفل والفتى‪ .‬وال‬ ‫يحمل جحا نتيجة لذلك‪ ،‬قيم املجتمع العربي احلالية‬ ‫كما هو ال�ش�أن عند ميكي ماو�س‪ ،‬بل يظل جحا �أ�سري‬ ‫القيم املا�ضوية الثابتة‪ ،‬ويعيد �إنتاج حلظات ال�ضحك‬ ‫ال�����س��اذج‪ .‬وب�سبب ذل��ك ت�صبح ���ص��ورة جحا �صورة‬ ‫منطية ثابتة‪ ،‬دون �أن ت�ساير حتوالت املجتمع املختلفة‪.‬‬ ‫ومعنى ذل��ك �أن جحا بطل جاهز �سلعة معلبة ال‬ ‫ميكن تغيريها �إال بانتهاء �صالحيتها �أو فقدانها‬ ‫مل�ستهلكها‪ .‬ونتيجة لذلك ت�صبح �شخ�صيته خا�ضعة‬ ‫ل��رغ��ب��ات اخل����ارج‪ ،‬دون �أن ت�صدر ع��ن مقوماتها‬ ‫الذاتية‪ .‬فالطفل �أو الفتى عند تعامله مع ال�شخ�صية‪،‬‬ ‫خا�صة يف الن�ص الق�ص�صي‪ ،‬ال يختلف عن الكبري‬ ‫ال�شرتاكهما يف م��لء ال��ف��راغ��ات م��ن جهة وجتديد‬ ‫قطع الغيار املتال�شية يف ال�شخ�صية من جهة ثانية‪،‬‬ ‫العدد‬

‫ورب��ط��ه��ا‪ ،‬م��ن ج��ه��ة ث��ال��ث��ة‪ ،‬ب�أ�سئلتها وحاجياتها‬ ‫و�أهدافها امل�سايرة للع�صر‪.‬‬ ‫خطاطة بطل دائم مفرت�ض‬ ‫ال نعني ب��ال��دمي��وم��ة اخل��ل��ود �أو ال��ث��ب��ات ال��دائ��م‪.‬‬ ‫فال�شخ�صية يف �أدب الأكفال �أو الفتيان‪ ،‬قابلة للحذف‬ ‫�أحيان ًا‪� ،‬أو النق�صان وال��زي��ادة �أحيان ًا �أخ��رى‪ .‬غري‬ ‫�أن ال�شخ�صية ذاتها قد تت�سم بالدميومة �إذا كانت‬ ‫دالة على �سلوك �إن�ساين �أو قيم حمددة مرتبطة كما‬ ‫قال ابن خلدون بطبيعة املجتمع الب�شري �أو التجمع‬ ‫الإن�ساين‪.‬‬ ‫يف الطريق �إىل بطل دائم‬ ‫ال ميكن ف�صل ه��ذا االق�ت�راح ع��ن ���ش��روط عامة‬ ‫وخا�صة‪ ،‬تتحكم يف �إنتاج الق�صة العربية املوجهة‬ ‫للأطفال والفتيان منها‪:‬‬ ‫ املناف�سة ال�شر�سة للمنابر االحرتافية الأجنبية‪،‬‬‫فكر ًا وطبع ًا وجمالية‪ ،‬واملدعمة بن�شاط جمعيات‬ ‫حقوقية ومدنية تفر�ض منوذج ًا حمدد ًا على املجتمع‬ ‫العربي واملجتمعات املتخلفة عامة‪.‬‬ ‫ بالرغم من الرتاجع الن�سبي للنزعة التعليمية‬‫(الوعظية) ف���إن ذل��ك ال مينع من وج��وده��ا بن�سب‬ ‫متفاوتة يف هذا املنتوج الذي �أ�صبح ملحق ًا يف كثري‬ ‫من الأحيان للمقررات التعليمية‪ ،‬بل �إن بع�ض كتاب‬ ‫ه��ذا النوع ال ي�ترددون يف الت�أليف امل�ساير للمقرر‬ ‫التعليمي‪ ،‬مقرر ًا ومو�ضوعات‪ ،‬عو�ض ف�سح املجال‬ ‫للمتخيل يف عالقته بالواقع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ وبذلك ي�صبح هذا الأدب انفتاحا على عوامل‬‫معينة ت�ساعد على الك�شف واالك��ت�����ش��اف‪ ،‬واملتعة‬ ‫والإمتاع‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪77‬‬


‫الن�صو�ص امل�ستوردة تخلق البطل النمطي‬ ‫ح�سب موا�صفات دولية غالبة‪�،‬أي ح�سب‬ ‫معايري دولية مقننة‪.‬‬

‫ �سيطرة الكبار‪ ،‬يف هذا امليدان‪ ،‬على الأطفال‬‫والفتيان‪ .‬فما زال امل���ؤل��ف ك��ب�ير ًا‪ ،‬م��ا ع��دا جت��ارب‬ ‫حم���دودة ال ت��ت��ج��اوز ال��ت��ج��رب��ة امل��خ��ت�بري��ة لأه���داف‬ ‫حمددة‪.‬‬ ‫ وهذا �أنتج بدوره منظور ًا ي�ؤمن به الكبار ويقوم‬‫على اعتقاد خاطئ يرى يف الطفل كائن ًا قا�صر ًا يف‬ ‫حني هو كائن اجتماعي ميلك معرفة معينة‪ ،‬وي�ستعمل‬ ‫حوا�سه اخلم�س �أي ي�شارك‪ ،‬بطريقة �أو ب�أخرى‪ ،‬يف‬ ‫بناء ت�صور ما عن العامل‪ .‬فمن ال�سذاجة تقدمي ن�ص‬ ‫�أدب��ي ما يتحدث عن ع��وامل وردي��ة‪ ،‬والفقر منت�شر‬ ‫بكل م��ك��ان‪� ،‬أون�����ص يتحدث ع��ن ال���ورود وال��زه��ور‪،‬‬ ‫وعند خ��روج الطفل من مدر�سته ي�صطدم ب�أكوام‬ ‫القاذورات وجبال الأزبال‪.‬‬ ‫فالن�ص املالئم هو الذي يدفع بالطفل �إىل الت�سا�ؤل‬ ‫عن م�صدر الأزبال‪ ،‬بهدف التجاوز‪ ،‬ولي�س عن طريق‬ ‫املغالطة‪� ،‬أو حجب الر�ؤية بزهور ورقية ال وجود لها‬ ‫�إال يف الورق!!‪..‬‬ ‫ تهمي�ش ه���ذا الأدب ال���ذي م��ا زال ك��ث�ير من‬‫النا�شرين وامل�س�ؤولني والكتاب واملوزعني يعتربونه‬ ‫جمرد �أدب �أطفال �أو (عيال) باملعنى القدحي‪ .‬ون�سبة‬ ‫ما يتلقاه الطفل العربي وا�ضحة يف هذا املجال‪.‬‬ ‫ غلبة املكتوب على امل�سموع واملرئي‪ ،‬وغلبة املحكي‬‫على امل�صور �أو ال�سينمائي‪ ،‬وال�شعري على امل�سرحي‪،‬‬ ‫وهذا ما نلم�سه من خ�صا�ص مريع يف الق�ص�ص امل�صورة‬ ‫التي مازلنا ن�ستوردها من اخلارج (�أمريكا‪ /‬اليابان)‪،‬‬ ‫واالكتفاء بدبلجتها‪ ،‬دون �أن ترتجم ق�ضايا الطفل‬ ‫�أو الفتى العربي‪ ،‬خا�صة �أن املرحلة احلالية تعرف‬ ‫ازدهار ًا ف�ضائي ًا فظيع ًا جعل من التقنية بداية ونهاية‪،‬‬ ‫دون االلتفات �إىل حمموالتها الفكرية مثل الدعوة �إىل‬ ‫قهر القوة التكنولوجية عو�ض الت�سامح واحرتام الآخر‪،‬‬ ‫‪78‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫واالنت�صار للفرد قبل اجلماعة‪ ،‬ومتجيد �أ�ساليب الدهاء‬ ‫وال�شيطنة املغرية ب�أحدث التقنيات‪.‬‬ ‫مكونات هذا البطل املفرت�ض‬ ‫�أ�صبح من الثابت‪ ،‬من خالل جتارب عديدة �ضرورة‬ ‫وجود البطل الذي ي�ساير عوامل الطفل �أو الفتى‪ ،‬فكر ًا‬ ‫وعمر ًا ونف�سية‪ ،‬ف�شخ�صية جحا امل�شار �إليها �سابق ًا‪،‬‬ ‫على �سبيل املثال ال احل�صر‪ ،‬ال يجب �أن تظل �أ�سرية‬ ‫�صورها النمطية املرتبطة بالبالهة والإ���ض��ح��اك‬ ‫ال�ساذج‪ ،‬بل يجب �أن ت�ساير هذه ال�شخ�صية �أ�سئلة‬ ‫املتلقي (الطفل �أو الفتى) من جهة‪ ،‬و�أ�سئلة الع�صر‬ ‫م��ن جهة ثانية‪ .‬فجحا �شخ�صية معا�صرة لنا كل‬ ‫وقت وحني‪ ،‬والكاتب الذي يوظفها‪ ،‬يف �سياق معني‪،‬‬ ‫يبعثها‪ ،‬م��ن ج��دي��د‪ ،‬يف اللحظة احل��ال��ي��ة‪ ،‬ولهدف‬ ‫حم��دد ي�لائ��م املرحلة و�أ�سئلتها م��ن ح��روب وغ��زو‬ ‫وا�ضطهاد املختلف‪ ،‬وم�سح الهويات و�إره��اب‪�..‬إل��خ‪.‬‬ ‫ولتحقيق ذلك نقرتح الآتي‪:‬‬ ‫ ال��وع��ي بطبيعة ال��ن�����ص امل��وج��ه �إىل الأط��ف��ال‬‫والفتيان فكري ًا وجمالي ًا‪ .‬ومن ح�سن احلظ �أ�صبحنا‬ ‫نتوفر على بع�ض ال��ت��ج��ارب لكبار الكتاب يف هذا‬ ‫امل��ج��ال (يعقوب ال�����ش��اروين‪� /‬صنع اهلل ابراهيم‪/‬‬ ‫زك��ري��ا ت���ام���ر‪ )..‬ف�����ض�ل ًا ع��ن دور متخ�ص�صة يف‬ ‫ه��ذا املجال (العربي الكويتية‪ /‬دار الفتى العربي‬ ‫�سابق ًا) وجمالت خا�صة بالأطفال والفتيان (العربي‬ ‫ال�صغري‪ /‬م��اج��د‪� /‬سال�سل الق�ص�ص امل�صورة‪).‬‬ ‫ن�ضيف �إىل ذلك كبار الر�سامني بطفولتهم الدائمة‬ ‫(بهجت‪ /‬اللباد‪ /‬حجازي‪ /‬حلمي التوين)‪.‬‬ ‫ هذا الو�ضع اجلديد‪ ،‬بالرغم من بع�ض �سلبياته‪،‬‬‫يعد خطوة هامة يف هذا املجال‪ .‬فال�صراع م�ستقب ًال‬ ‫هو �صراع حول الطفل قبل الرثوة البرتولية �أو غريها‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪79‬‬

‫ي�����ق�����دم ج����ح����ا ك���ش���خ���ص���ي���ة م����اض����وي����ة م���ن���ت���س���ب���ة إل�������ى ت��������راث ال����ط����رائ����ف‬ ‫َّ‬ ‫وال������ن������وادر‪ .‬وه�����و أق������رب إل�����ى أخ����ب����ار ال��ح��م��ق��ى وال��م��غ��ف��ل��ي��ن وال��م��ع��ت��وه��ي��ن‬

‫من الرثوات‪.‬‬ ‫ال��واح��د‬ ‫ ت��������ق��������دمي ال����ب����ط����ل‬‫(�شخ�صية معينة) با�سم ثابت‪ ،‬و�سمات معينة‪ ،‬ولكن‬ ‫ب�أفعال متجددة ت�ؤمن بامل�ستقبل‪ ،‬وتر�سخ يف الوقت‬ ‫ذات��ه الت�سامح دون تفريط‪ ،‬واح�ت�رام الآخ���ر دون‬ ‫�ضعف �أو ان��ع��زال‪ ،‬و تبادل اخل�برات دون تبعية �أو‬ ‫ت�شويه‪.‬‬ ‫ االب��ت��ع��اد ع��ن ال�شخ�صية النمطية ال��ت��ي تثري‬‫امل��ل��ل ل���دى ال��ط��ف��ل �أو ال��ف��ت��ى‪ ،‬ومت��ن��ع��ه م���ن متعة‬ ‫الك�شف واالكت�شاف �سواء تعلق الأم��ر ب�إعادة �إنتاج‬ ‫ال�شخ�صيات ال�تراث��ي��ة‪� ،‬أو تعلق الأم���ر با�ستن�ساخ‬ ‫�أبطال م�ستوردين من ن�صو�ص تخلق بطوالت وهمية‬ ‫عو�ض �أن ت�ستنبت هذه البطولة من واقعها اخلا�ص‪.‬‬ ‫فالن�صو�ص امل�ستوردة تخلق البطل النمطي ح�سب‬ ‫موا�صفات دول��ي��ة غ��ال��ب��ة‪�،‬أي ح�سب معايري دولية‬ ‫مقننة‪.‬‬ ‫ ال مي��ك��ن ف�صل ال��ب��ط��ل يف �أدب الأط���ف���ال �أو‬‫الفتيان عن واقع يهم�ش البطولة يف املقرر التعليمي‪،‬‬

‫�أو يف احل��ي��اة اليومية‬ ‫(يف ب����ل����دان ع���دي���دة‬ ‫ي�����وظ�����ف الإ������ش�����ه�����ار‬ ‫يف امل���ن���ت���وج ال�����س��ل��ع��ي‬ ‫لتمجيد ال��ب��ط��ول��ة‪ ،‬مثل‬ ‫طبع ال�صور �أو النماذج‬ ‫املختلفة لبطوالت الأبطال‬ ‫على قم�صان الأط��ف��ال‪� ،‬أو يف‬ ‫املل�صقات الإ�شهارية‪ ،‬والفقرات‬ ‫الإذاع��ي��ة والتلفزية‪ ،‬واملهرجانات‬ ‫املختلفة‪� ..‬إلخ)‪ .‬ن�ضيف �إىل ذلك غياب‬ ‫امل��ج��ال االج��ت��م��اع��ي �أو ن��درت��ه م��ن منتزهات‬ ‫وم�����س��ارح ودور �شباب وم�لاع��ب؛ ف��الإب��داع املوجه‬ ‫للأطفال والفتيان ه��و ممار�سة للحوا�س اخلم�س‬ ‫املتفاعلة يف �شخ�صية الطفل �أو الفتى‪.‬‬ ‫يف عاملنا العربي �أ�صبحت البطولة تهور ًا �إن مل تكن‬ ‫�إرهاب ًا‪ ،‬وانت�صارنا على ما يعرقل م�سريتنا التنموية‪،‬‬ ‫ال جند له �صدى يف هذه الكتابة‪ ،‬بل �إن هذه الأخرية‬ ‫قد تدعم كل ما ينفر من هذه البطولة‪.‬‬ ‫ بالرغم من انخراط املجتمع العربي يف منظومة‬‫االتفاقيات الدولية اخلا�صة بالأطفال والفتيان‪،‬‬ ‫ف�إن الرتكيز يف ذلك يتم عادة على اجلانب املادي‬ ‫(ت�شغيل الأطفال مث ًال) الذي ال يخلو من �أهمية‪ ،‬مع‬ ‫�إهمال للجانب الفني واجلمايل‪ ،‬بل �إن م�ساعدات‬ ‫دولية متعددة يتم حتويلها نحو جماالت ال عالقة لها‬ ‫بالأطفال �أو الفتيان‪ .‬فاجلانب املادي على �أهميته‪،‬‬ ‫ال يجب �أن يلغي اجلانب الرمزي �أي الن�ص الثقايف‬ ‫املوجه للطفل �أو الفتى خا�صة �أن طبيعة هذا الن�ص‬ ‫قد ت�سمح ب�إثارة �أ�سئلة عديدة منها و�ضعية الطفل يف‬ ‫املجتمع ب�أ�ساليب خمتلفة‬


‫أدب الطفل‬

‫مقاربة سيكولوجية‬ ‫ ‬

‫الحاجة إلى الشعور باألمن والحرية‬

‫ملف العدد‬ ‫من امل�سلم به‪� ،‬أن �أدب الطفل �أ�صبح ذا �أهمية بالغة‬ ‫يف �صقل مواهب الطفل ويف جعله يعي�ش حلظة‬ ‫وجوده كفرد ينتمي �إىل جمتمع حمدد يت�أثر بقيمه‬ ‫كما ي�ؤثر فيه‪ .‬فهو نابع من االعتقاد الرا�سخ بكون‬ ‫مرحلة الطفولة تعد من �أ�سا�سيات انبناء �شخ�صية‬ ‫الإن�سان‪.‬‬ ‫و�س�أحاول ق��در امل�ستطاع �أن �أت��ن��اول الظاهرة من‬ ‫وجهة نظر �سيكولوجية تهدف �إىل تبيان ما ميكن �أن‬ ‫ي�ؤ�صل وي�ؤ�س�س لثقافة �أدب الطفل‪.‬‬

‫د‪ .‬ر�شيد اخلدميي‬ ‫املغرب‬

‫�إن الأدب على العموم وج��د م��ع وج��ود الإن�سان‪،‬‬ ‫حني ب��د�أ الإن�سان يحاكي الطبيعة‪ ،‬ويقلد حركات‬ ‫و�أ�صوات مكوناتها‪ ،‬فا�ستطاع بهذه املحاكاة �أن يخلد‬ ‫�أعما ًال �أدبية وجمالية توارثت عرب �أجيال وعلى مر‬ ‫تاريخ الب�شرية‪ .‬فالطفل اجتماعي منذ يومه الأول‪،‬‬ ‫�أو يكاد‪ ،‬من وجهة نظر ال�سلوك الوراثي‪� ،‬أي الغرائز‬ ‫املجتمعية‪ ...‬من حيث هو رهني بالتكوين ال�سيكو‪-‬‬ ‫ب��ي��ول��وج��ي للج�سم‪ .‬فالطفل ي��ح��اول االت�����ص��ال مع‬ ‫الآخرين‪ .‬واجلميع يعلم مدى ت�شدد الأطفال يف هذه‬ ‫النقطة بالذات‪� ،‬إذ يحتاجون ال�صحبة دائم ًا‪ ...‬لكن‬ ‫يوجد �إىل جانب امليوالت املجتمعية الداخلية‪ ،‬جمتمع‬ ‫خارجي يعنى به جممل العالقات التي تقام بينهم‬ ‫‪80‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫من خارجهم‪ :‬كاللغة‪ ،‬واملبادالت الثقافية‪ ،‬والأعمال‬ ‫الأخالقية والقانونية‪.‬‬ ‫�إن ح�ضور �أدب الطفل كان وال زال ح�ضور ًا م�ؤكد ًا‬ ‫وفعلي ًا‪ ،‬قد متظهر يف �شكل جمموعة من الأ�صناف‬ ‫الأدب��ي��ة‪ ،‬ولعل �أب��رزه��ا م��ا كانت تقوم ب��ه الأم��ه��ات‬ ‫واجلدات يف ما يعرف ب�أ�سلوب احلكي‪ ،‬حيث ي�سردن‬ ‫حكايات وق�ص�ص‪ ،‬عبارة عن �أ�ساطري يف معناها‬ ‫الوا�سع‪ ،‬لأطفالهن قبيل اخللود للنوم‪ .‬وقد لعبت هذه‬ ‫احلكايات الليلية دور ًا مهم ًا يف ت�شكيل احل�س اجلمايل‬ ‫والفني لدى املتلقي وذل��ك من خالل �إط�لاق العنان‬ ‫ملخيلته فيبد�أ يف ت�صور �أبطال احلكاية و�أحداثها‪.‬‬ ‫هذا الأدب ال�شفهي املتوارث �أك�سب الفرد فر�صة‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪81‬‬

‫لغة الطفل وح��رك��ات��ه وت��ح��رك��ات��ه كلها ذات دالل���ة بالنسبة إل��ى غ��ي��ره م��ن األط��ف��ال‬

‫التحول من ما هو �شفهي �إىل ما هو مكتوب‪ ،‬فبد�أت‬ ‫بذلك حركية تدوين �أدب الطفل من خالل جمموعة‬ ‫من الق�ص�ص واحلكايات والأنا�شيد املوجهة بالأ�سا�س‬ ‫�إىل الطفل‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال ال��ذي يطرح نف�سه يف ه��ذا ال�صدد‪ ،‬هو‬ ‫ماذا يق�صد ب�أدب الطفل‪ ،‬مبعنى هل من الطفل �إىل‬ ‫الطفل‪� ،‬أم من الرا�شد �إىل الطفل؟‬ ‫مم��ا ال �شك فيه �أن �أدب الطفل ل��ه خ�صو�صيات‬ ‫ومميزات متيزه عن غريه‪� ،‬إذ �أن لكل مرحلة عمرية ما‬ ‫مييزها عن الباقي‪ .‬فمرحلة الطفولة هي املرحلة الأكرث‬ ‫تعقيد ًا‪ ،‬ملا ت�شكله من �أهمية يف حياة الفرد‪ .‬فالطفل‬ ‫بحق هو �أبو الرا�شد‪ ،‬مبعنى �أن �شخ�صية الفرد تت�شكل‬

‫وتتخذ مالحمها �إبان فرتة الطفولة‪ ،‬فكل ت�أخر �أو عدم‬ ‫ن�ضج �أو متاعب نف�سية اجتماعية فهي ترجع بالأ�سا�س‬ ‫�إىل املراحل الأوىل التي عا�شها الإن�سان‪ .‬ومن جانب‬ ‫�آخر فعامل الطفولة ال يفهمه �إال من كان طف ًال؛ فلغة‬ ‫الطفل وحركاته وحتركاته كلها ذات داللة بالن�سبة �إىل‬ ‫غريه من الأطفال‪ .‬فبقدر ما يتو�صل الطفل �إىل فهم‬ ‫الآخر وفهم ذاته على ال�سواء‪ ،‬ويخ�ضع تفكريه لقواعد‬ ‫من�سجمة بالقدر ال�ضروري لتحقيق مو�ضوعية �صعبة‬ ‫املنال‪ ،‬بقدرما يتو�صل �إىل اخل��روج من ذات��ه والوعي‬ ‫بذاته‪ ،‬يف �آن واحد‪� ،‬أي �أنه ميوقع ذاته بني الآخرين‪ ،‬من‬ ‫خارجها‪ ،‬ويكت�شف يف الوقت نف�سه �شخ�صيته و�شخ�صية‬ ‫كل واحد �آخر ممن يحيطون به‪.‬‬


‫�إذ ًا‪ ،‬فكل م��ا يوجه �إىل الطفل يجب �أن يحرتم‬ ‫خ�صو�صية الطفولة �أو بالأحرى �أن يحرتم كل مرحلة‬ ‫منائية على ح��دة‪ .‬وكما هو معلوم‪ ،‬ف���إن الطفل مير‬ ‫ب�أربع مراحل �أ�سا�سية يف منوه العقلي وال�سيكولوجي‪،‬‬ ‫بحيث جند يف املرحلة الأوىل من النمو‪ ،‬تكون العمليات‬ ‫الذهنية مطبوعة ب�أفعال الذكاء احل�سي – احلركي‪،‬‬ ‫فهذا الذكاء العملي ال�صرف‪ ،‬برغم كونه ال يوظف‬ ‫ك�أدوات له �سوى الإدراكات واحلركات‪ ،‬دون �أي مقدرة‬ ‫على التمثل والتفكري‪ ،‬يدل مع ذلك على املجهود الذي‬ ‫تبذله الذات لفهم ظروفها خالل ال�سنوات الأوىل من‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫وعندما يبلغ العامني تبد�أ مرحلة ثانية متتد �إىل‬ ‫ال�سنة ال�سابعة �أو الثامنة‪ ،‬ويتميز ظهورها بتكوين‬ ‫الوظيفة الرمزية �أو الداللية‪ .‬وهذه الوظيفة ت�سمح‬ ‫بتمثل الأ�شياء واحل��وادث غري املدركة راهن ًا‪ ،‬وذلك‬ ‫عن طريق التذكر بوا�سطة الرموز والعالمات املتميزة‪،‬‬ ‫على غ��رار م��ا يجري يف اللعب ال��رم��زي‪ ،‬والتقليد‬ ‫امل�ؤخر‪ ،‬وال�صورة الذهنية‪ ،‬والر�سم‪ ...‬كل ذلك يجعل‬ ‫الطفل يدخل يف مرحلة ثالثة يتي�سر فيها للطفل‪ ،‬على‬ ‫عك�س املرحلة ال�سابقة‪ ،‬حل بع�ض امل�شكالت‪ ،‬وذلك‬ ‫ب�سبب اال�ستبطانات والتن�سيقات وان�سالخات مركزية‬ ‫ال���ذات‪ .‬وتظهر يف �سن احل��ادي��ة ع�شرة �إىل الثانية‬ ‫ع�شرة مرحلة رابعة‪ ،‬تبلغ قر�ص توازنها يف م�ستوى‬ ‫املراهقة‪ .‬وال�سمة العامة لهذه املرحلة هي اكت�ساب‬ ‫نوع جديد من اال�ستدالل‪ ،‬ال يجري فقط على الأ�شياء‬ ‫�أو الوقائع املمكن متثلها مبا�شرة‪ ،‬و�إمنا كذلك على‬ ‫الفر�ضيات‪.‬‬ ‫من ذلك يتبني �أن �أدب الطفل ال ي�شكل ا�ستثناء �أو‬ ‫خروج ًا عن هذه القاعدة‪ .‬ويبقى �أن منيز بني �صنفني‬ ‫خمتلفني من حيث امل�صدر‪ ،‬ف�إما �أن يكون �أدب الطفل‬ ‫‪82‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫من �إنتاج الرا�شد موجه �إىل الطفل‪ ،‬و�إما �أن يكون من‬ ‫الطفل و�إليه‪ .‬ف���إذا تعلق الأم��ر بال�صنف الثاين ف�إن‬ ‫احلديث عنه يكون من باب حت�صيل حا�صل‪ ،‬بحيث‪،‬‬ ‫وكما �سلف ذك��ره‪ ،‬ال يفهم الطفل �إال الطفل‪ ،‬فكل‬ ‫ما ينتجه الأطفال يكون مقبو ًال بدرجة عليا من قبل‬ ‫غريهم‪.‬‬ ‫و �أما �إن كان من �إنتاج الرا�شد‪ ،‬فما على هذا الأخري‬ ‫�سوى �أن ي�أخذ بعني االعتبار خ�صو�صيات كل مرحلة‬ ‫منائية حتى يجعل املادة الأدبية تلقى ا�ستح�سان ًا وقبو ًال‬ ‫من طرف من وجهت �إليهم‪.‬‬ ‫ي�����ض��اف �إىل م��ا ���س��ب��ق‪ ،‬وج���ب عليه �أن ي�ضع يف‬ ‫احل�سبان �أه��م احل��اج��ات النف�سية التي يحتاجها‬ ‫الطفل‪ ،‬ويرغب يف �أن يلم�سها داخل كل �إنتاج �أدبي‬ ‫حتى ي�شعر بوجود ذاته فيها‪ ،‬وبالتايل تزداد رغبته يف‬ ‫طلب تلك الإنتاجات‪ .‬ومن هذه احلاجات �أذكر‪:‬‬ ‫احلاجة �إىل ال�شعور بالأمن‪ :‬ميثل ال�شعور بالأمن‬ ‫�أ�سا�س امل��ب��ادرة عند الأط��ف��ال‪ ،‬فال يجوز تخويفهم‬ ‫�أو حتميلهم م�شكالت تفوق طاقاتهم مثل امل�شكالت‬ ‫العائلية كما يجب ت�شجيع الطفل على التغلب على‬ ‫الف�شل �إذا تعر�ض له‪.‬‬ ‫احل��اج��ة �إىل احل��ري��ة‪ ،‬وتعني ب��ه��ذه احل��اج��ة �أن‬ ‫تعطى للطفل احلرية التي تنا�سب طبيعته يف الن�شاط‬ ‫واحلركة والتفكري مع تعديل �سلوكه واجتاهه‪.‬‬ ‫ال بد من الإ�شارة �إىل �أن �إ�شباع تلك احلاجات �شيء‬ ‫�أ�سا�سي يف عملية �إنتاج كل ما هو �أدب��ي خم�ص�ص‬ ‫للطفل‪.‬‬ ‫ميكن القول‪� ،‬إن كل ما يتعلق بالطفولة يت�سم بالتعقد‬ ‫والتداخل‪ ،‬قد يبدو الأمر �سه ًال يف متناول الرا�شد‪،‬‬ ‫لكن يف حقيقة الأم��ر‪� ،‬إن هناك �صعوبة جتعل الفرد‬ ‫الدار�س يقف وقفة ت�أمل وحرية جتاه الظاهرة‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪83‬‬


‫آليات‬ ‫إنتاج‬ ‫شعر‬ ‫األطفال‬

‫ملف العدد‬

‫الطاهر لكنيزي‬ ‫املغرب‬

‫مو�ضوع �آليات �إنتاج ِ�شعر الأطفال‪ ،‬ف� ّإن � ّأول معنى ل�شعر الأطفال‪ ،‬يتبادر‬ ‫كلما �أُثري‬ ‫ُ‬ ‫�إىل الأذهان‪ ،‬هو تلك املحفوظات والأنا�شيد التي نادراً ما ّ‬ ‫يفكر فيها املد ّر�س‪ ،‬والتي‬ ‫ي�ستظهرها الأطفال يف املدر�سة‪ ،‬على هام�ش الدرو�س‪.‬‬ ‫بالرغم من �أن �أهمية درو���س الأنا�شيد ال تقل عن‬ ‫�أهمية الدرو�س الأخرى التي يعتربها بع�ض املدر�سني‬ ‫�أنها تتميز بال�صرامة‪ ،‬لأنها �أ�سا�س الثقافة والتعليم‪،‬‬ ‫ف�إنهم يعتربون ح�صتها (وق ّلما تخ�ص�ص لها ح�صة)‬ ‫على �أن��ه��ا �ضياع للوقت‪ ،‬ون�شاط يبعث على اللهو‬ ‫والت�سلية وم��ن ب��اب "‪ ‬وال�شعراء يتبعهم الغاوون"‪.‬‬ ‫كما �أنهم ال يدركون �أنه من خاللها ي�ستنبط الطفل‬ ‫معاين ال�سلم وال�سالم والإخال�ص والوفاء والرحمة‬ ‫والتعاون والعطف والإن�سانية وال�صدق واحلب واخلري‬ ‫واجلمال‪ ،‬وكل القيم النبيلة التي ال ي�ستطيع الطفل‬ ‫�إدراك��ه��ا بامللمو�س �إال ع�ْب رْ من��اذج يق ّدمها الكاتب‪.‬‬ ‫مي�س بع�ض الكبار‬ ‫وقليل م ّنا من يدرك �أن ال�شعر الذي ّ‬ ‫يف ال�صميم‪ ،‬ميكن �أن يفعل كذلك بقدر ما يف ال�صغار‬ ‫�أي�ض ًا‪.‬‬ ‫من بني الت�سا�ؤالت التي ميكن �أن تطرح حول مو�ضوع‬ ‫بع�ض �آليات �إنتاج �شعر الأطفال‪ ،‬هناك �س�ؤال يلح على‬ ‫‪84‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫كل مهتم بهذا املو�ضوع‪ ،‬وهو‪ :‬كيف ميكن للكبار تدبيج‬ ‫ن�صو�ص �شعرية للأطفال تر�سم عوامل الطفولة مبعجم‬ ‫يع ّو�ض كلماتهم املتلعثمة‪ ،‬ويعبرّ عما ي�ؤ ّثث خميلتهم‬ ‫تعج‬ ‫الف�ضفا�ضة‪ ،‬وغ�ير امل��ح��ددة الأب���ع���اد‪ ،‬وال��ت��ي ّ‬ ‫باملخلوقات العجيبة‪ ،‬والأحالم الالزوردية التي ال �أحد‬ ‫ال�صغار �أنف�سهم؟‬ ‫ي�ص ّدقها ويعمل على حتقيقها �إال ّ‬ ‫كيف ال�سبيل �إىل كتابة ن�ص ي�ست�سيغه الأط��ف��ال‪،‬‬ ‫وير ّددونه ك�أية �أغنية ت�ش ّد بتالبيب �أرواحهم‪ ،‬وتن�سرب‬ ‫بني الفينة والأخ��رى من بني حناياهم لتتك�سر على‬ ‫�شفاههم‪ ،‬فينت�شون ل�سماعها ويطربون م�ستمعيهم؟‬ ‫من املعلوم �أن هناك �صعوبات كثرية تكتنف الكتابة‬ ‫للأطفال‪ ،‬فتغدو �أ�صعب من الكتابة للكبار‪ .‬وقد يرى‬ ‫البع�ض �أن كل من ف�شل يف الو�صول �إىل الكبار عرب‬ ‫كتاباته يتجه نحو الأطفال‪� .‬أي �أنه عندما تعوزه �أدوات‬ ‫وقدرات قمين ًة ب�إثارة جمهور القراء الرا�شدين‪ ،‬ف�إنه‬ ‫يح ّول جمرى كتاباته نحو حقول ال�صغار؛ بيد �أنني‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫كيف السبيل إل��ى كتابة نص يستسيغه األط��ف��ال‪ ،‬وي��ر ّددون��ه كأية أغنية‬

‫من بني هذه الآليات‬ ‫‪ -1‬م�ع��رف��ة امل�ت�ل�ق��ي‪� :‬إن كتابة ن�صو�ص �شعرية‬ ‫للأطفال رافد من علوم الرتبية وفن يتطلب الإملام‬ ‫مبراحل منو الطفل‪ ،‬والتوغل يف عامله‪ ،‬و�سرب �أغوار‬ ‫وجدانه‪ ،‬وتطلعاته و�أحالمه‪ ،‬وا�ستكناه العوامل امل�ؤثرة‬ ‫يف �شخ�صيته وحميطه م��ن دي��ن وع���ادات وتقاليد‪.‬‬ ‫وبالتايل فالكاتب يجب �أن يكون خمالط ًا للأطفال‪،‬‬ ‫قريب ًا منهم‪ ،‬يح�سن اال�ستماع �إليهم وحماورتهم‪،‬‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪85‬‬

‫تشد بتالبيب أرواحهم‪ ،‬وتنسرب بين الفينة واألخ��رى من بين حناياهم لتتكسر على شفاههم؟‬ ‫ّ‬

‫�أرى �أنه كما للكتابة للرا�شدين خ�صو�صياتها‪ ،‬فللكتابة‬ ‫املوجهة لل�صغار خ�صو�صيات �أخرى‪ .‬االختالف �إذ ًا ال‬ ‫يعدو �أن يكون �سوى نوعية املتلقي‪ ،‬والآليات التي لن‬ ‫توجهه من دونها‪.‬‬ ‫يتحقق الإبداع مهما كان ّ‬

‫والقدرة على تتبع وفهم �أفكارهم و�أفعالهم‬ ‫من خالل املالحظة الد�ؤوبة‪.‬‬ ‫‪ -2‬ث�ق��اف��ة م�ت�ع��ددة امل �� �ش��ارب‪ :‬ي��ق��ول مثل‬ ‫فرن�سي‪" :‬الكي�س الفارغ ال ي�ستوي قائم ًا"‪.‬‬ ‫�إن ثاين عامل م�ساعد على الولوج �إىل كتابة‬ ‫الأطفال هو القراءة‪ ،‬فالقراءة‪ ،‬ثم القراءة‪،‬‬ ‫فهي �ص ّمام الأمان لكل مثقف �إن مل نقل لكل‬ ‫متعلم‪ .‬والطفولة هي مرحلة ال�شحن التي‬ ‫تتز ّود فيها خزّانات الذاكرة واملخيلة‪ .‬وكل‬ ‫عملية �إف���راغ ال تتم �إال بعد ال�شحن طبع ًا‪.‬‬ ‫فالكتب هي ال��رواف��د التي يتغذى منها نهر‬ ‫الكتابة؛ فكلما ك�ثرت وتنوعت انهمر �سيل‬ ‫�شحت ّ‬ ‫جف‬ ‫الإب���داع دافق ًا مرتقرق ًا‪ ،‬وكلما ّ‬ ‫النهر حتى لن يب ّلل منقار يراع‪ .‬فعن طريق‬ ‫القراءة �أي�ض ًا تت�شكل ذاك��رة الطفل ويتكون‬ ‫ذوقه الفني‪ .‬وال��ذوق الفني �أو ال�شعري كما‬ ‫يقول ن��زار قباين "عجينة تت�شكل مبا نراه‪،‬‬ ‫ون�سمعه‪ ،‬ونقر�ؤه يف طفولتنا"‬ ‫من خالل املثال ال�سابق ميكن �أن نهم�س يف �أذن‬ ‫كل من يتوجه بالكتابة �إىل الأطفال‪� ،‬أنه يجب عليه‬ ‫�أال يقلل من قدرة القارئ ال�صغري على تعلم وحفظ‬ ‫كلمات جديدة‪ ،‬غريبة عليه‪� .‬إن �أح�سن و�سيلة لإغناء‬ ‫ر�صيده اللغوي هي �أن ي�صادف هذه الكلمات يف �سياق‬ ‫م�ؤثر ج��� ّذاب‪ ،‬وت��ك�� ّون لديه ���ص��ور ًا وا�ضحة يتمثلها‪،‬‬ ‫فتجعله يفهم معناها من خالل ال�سياق‪.‬‬ ‫�إذا كان هاج�س الكاتب هو الإثارة والإفادة والت�سلية‪،‬‬ ‫فيجب �أال مي ّرر كل ِعربة �أو د ْر���س �أو مغزى بطريقة‬ ‫فجة‪ ،‬على �شكل و�صايا ون�صائح متطرق ر�أ�س‬ ‫مبا�شرة ّ‬ ‫الطفل‪ ،‬وتذكره بالأوامر والنواهي التي يتلقاها يف‬ ‫املنزل فينفر منها؛ بل يجب �أن يبلور املغزى(الق�صد)‬


‫هناك �صعوبات كثرية تكتنف‬ ‫الكتابة للأطفال‪ ،‬فتغدو‬ ‫�أ�صعب من الكتابة للكبار‬

‫بتواز مع منو احلبكة التي قد تكون �إجابة عن �أ�سئلة‬ ‫ت�ؤرق الطفل حني ال يجد لها جواب ًا عند �أبويه‪ .‬يكفي �أن‬ ‫تتميز ن�صو�ص الكاتب بفنية تتوخى جمالية الأ�سلوب‬ ‫وتذكي املخيلة الرتياد عوامل �أخرى‪.‬‬ ‫‪ -3‬ا��س�ت�ع��ادة ال�ط�ف��ول��ة‪ :‬لي�ست الكتابة للأطفال‬ ‫التدين والنزول �إىل ال�صغار‪ ،‬واالق�تراب من عاملهم‬ ‫ولغتهم‪ ،‬و�إمنا القدرة على جماراتهم يف نزقهم‪ ،‬وخفة‬ ‫روحهم‪ ،‬و�شغبهم‪ ،‬واندها�شهم من الأ�شياء املحيطة‬ ‫بهم‪ ،‬مبعنى �أن على من يكتب للأطفال يجب �أن يكون‬ ‫فع ًال ما يزال يح�ضن بداخله طفال‪ .‬ويف هذا ال�صدد‬ ‫يعتقد بودلري �أن "ال�شاعر مثل الطفل ال�صغري م�سكون‬ ‫بالده�شة‪ ،‬وال مي ّل من التحديث يف كل االجتاهات‪،‬‬ ‫وم��ن االهتمام بكل �شيء حتى التي تبدو للآخرين‬ ‫غارق ًة �أو جم ّلل ًة بالتفاهة‪ ،‬فهو مثل طفل �صغري يرى كل‬ ‫�شيء جديد ًا‪ :‬ال�صور والألوان والوجوه‪�" .‬إنه كذلك‪،‬‬ ‫مثل كتكوت ينقف كل يوم‪ ،‬بل كل �آن بي�ضة الأحداث؛‬ ‫مي�سح عن عينيه غب�ش اللحظة‪ ،‬لريى احلياة بده�شة‬ ‫م��ول��ود ج��دي��د‪ .‬ال ب��د للكاتب �أن ي�ستعيد طفولته‪،‬‬ ‫وي�سائل الطفل ال��ذي كانه ذات مرحلة عمرية‪� ،‬أو‬ ‫الذي مازال بداخله يف حالة كمون‪ .‬عليه �أن ين�صت‬ ‫�إىل قلبه‪ ،‬و�أهوائه‪ ،‬وانفعاالته‪ ،‬ووجدانه‪ ،‬وان�شغاالته‪،‬‬ ‫واهتماماته و�أحا�سي�سه‪.‬‬ ‫واه ٌم من يظنّ �أنّ الطفولة مرحل ٌة عمرية من ّر منها‬ ‫خ�لال حياتنا‪ ،‬ومتى قطعناها قطعنا معها البتّة‪.‬‬ ‫�إنها �أروم��ة تلك ال ّلينة‪ ،‬والتي ال ق��درة للزمان على‬ ‫ا�ستئ�صالها من تربة النف�س‪ .‬فكلما هطلت عليها‬ ‫ّ‬ ‫زخات من غمائم املا�ضي‪� ،‬أورقت فربعمت و�أزهرت‪،‬‬ ‫ث ّ��م �أث��م��رت‪ .‬وللتدليل على ه���ذا‪ ،‬ل��ن �أحيلكم على‬ ‫الفل�سفة‪� ،‬أو علم النف�س‪ ،‬وعلم االجتماع‪� ،‬أو الطب‬ ‫النف�ساين؛ بل على �أنف�سكم‪ .‬هل منكم من مل تندلق‬ ‫‪86‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫منه بعفوية �ضحكة طفل ّية يف غمرة اجل ّد �أو احلزن‬ ‫حتى‪ ،‬حتى لقد يخجل من كونه را�شدا و�صدرت عنه‬ ‫هذه احلركة برباءة الأطفال؟ من منكم من مل تنخرط‬ ‫يداه بتلقائية يف عملية لهو وت�سلية‪� ،‬أو ت ُع ْج به قدماه‬ ‫على ف�سحة من اللعب‪� ،‬أي نوع من اللعب الذي هو من‬ ‫تخ�ص الأطفال‪ ،‬برغم امل�س�ؤولية‬ ‫بني الأن�شطة التي ّ‬ ‫التي ت�س ّيجه بعو�سج االلتزامات اليومية املبتذلة؟ من‬ ‫منكم من مل يتفح�ص‪ ،‬ويتلم�س برغبة طفل وده�شته‬ ‫لعب ًة ا�شرتاها البنه وقد يزاحمه �أحيان ًا يف اللعب بها؟‬ ‫ميكن القول �إنه كلما ا�ستطاع ال�شاعر الو�صول �إىل‬ ‫نف�سه (الطفل ال��ذي ك��ان��ه)‪ ،‬ا�ستطاع الو�صول �إىل‬ ‫ال�صغار‪ .‬فال�شاعر الطفل يكتب مبهارة عالية وفنية‬ ‫تتجلى فيها روح الطفولة ال�شفافة املع ّلبة بالرباءة‪،‬‬ ‫وبلغة ت�صاغ مبهارة وفنية‪ ،‬تت�ساوق وفني َة اخليال‬ ‫وع��وا َمل��ه التي ت�سحر خميل َة الطفل ووج��دا َن��ه‪ ،‬لأنها‬ ‫نابعة من روح �شاعر ي�ستعيد طفولته بال�شعر‪ ،‬كما‬ ‫يقول حممد �شكري‪" :‬حني نفقد طفولتنا‪ ،‬ال يعيدها‬ ‫لنا �إال ال�شعر‪ ".‬ويف ال�سياق نف�سه يقول نزار قباين‪:‬‬ ‫"الطفل وال�شاعر هما ال�ساحران الوحيدان القادران‬ ‫على حتويل الكون �إىل كرة بنف�سجية معدومة الوزن"‪.‬‬ ‫‪ -4‬الر�صيد اللغوي‪ :‬اللغة‪ ،‬و�أق�صد بها املعجم؛‬ ‫فالكلمة كائن ح ّ��ي لها ج ْر�سها‪ ،‬ولونها‪ ،‬ومزاجها‪،‬‬ ‫وطعمها‪ ،‬ورائحتها‪ .‬وي��رى "نت�شه" �أن‪" :‬لكل كلمة‬ ‫رائحتَها‪ ،‬فكما �أن هناك تنا�سق ًا وتنافر ًا للروائح‪،‬‬ ‫فللكلمات كذلك"‪ .‬على املبدع‪ ،‬قبل �أن ُيقحم الألفاظ‬ ‫ويعجم عودَها‪ ،‬ويتذو َقها‬ ‫يف �سياق ما‪� ،‬أن يتع ّرف عليها‬ ‫َ‬ ‫حوا�سه حتى ت�ش ّكل ف�سيف�ساء‪ ،‬وال ي�شعر القارئ‬ ‫بكامل ّ‬ ‫بتنافر بينها‪.‬‬ ‫عندما يقول �أحدهم �إن بع�ض الكلمات ع�ص ّي ٌة على‬ ‫�إدراك الطفل (التلميذ) �أو �إنها لي�ست يف متناوله؛‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ف�إنه ين�سى �أن هذا الطفل ال ميلك ر�صيد ًا لغوي ًا مه ّم ًا‪،‬‬ ‫ميكننا �أن نقارنه مع ما نحن ب�صدد تلقينه �إياه؛ فه ّمنا‬ ‫يف العملية الرتبوية هو تزويدُه مبا مي ّكنه من التعبري‬ ‫ويح�س به‪ ،‬بطريقة‬ ‫عما يريده‪ ،‬وعما يعتمل بداخله‬ ‫ّ‬ ‫�سليمة و�سل�سة تتيح له التوا�صل مع الآخرين‪ .‬ذالك‬ ‫�أن الأم��ر ال يتعلق �إال بكلمات متداولة و�أخ��رى غري‬ ‫متداولة‪ ،‬ولهذا يجب �أال نتح ّفظ من تلقني نا�شئتنا ك ّل‬ ‫م�ستويات اللغة‪.‬‬ ‫�إن طفلني لهما العمر نف�سه‪ ،‬لن يكون لهما حتماً‬ ‫امل�ستوى الثقايف نف�سه‪ ،‬واحلا�صل الذكائي ذات��ه‪،‬‬ ‫وامليول والأه��واء والأح�لام والت�صورات نف�سها‪ ،‬حتى‬ ‫لو كانا ت��و�أم�ين؛ فما بالنا باختالف العمر والبيئة‬ ‫والأ���س��رة‪ .‬ه��ل كنا نفهم ك��ل الكلمات التي وظفها‬ ‫ال�شعراء ال��ذي��ن �سبق ذك��ره��م؟ بالطبع ال؛ بيد �أن‬ ‫القراءة املنتجة للإدها�ش‪ ،‬والربط الفني بني الأبيات‪،‬‬ ‫والتجان�س اللفظي‪ ،‬وجمالية اللغة وطفوحها‪ ،‬ورونق‬ ‫الكلمة‪ ،‬و�سال�سة النظم‪ ،‬ور�شاقة التعبري‪ ،‬والدالالت‬ ‫امل���ؤث��رة‪ ،‬وال��ق��درة على اب��ت��ك��ار التغيريات ب�صورة‬ ‫ت�شكيلية‪ ،‬حيث تغدو املفردات �ألوان ًا تر�سم لوحات‬ ‫حتيل على الواقع‪ ،‬كل هذه العوامل �أو بع�ضها كانت‬ ‫توفر لنا متعة و�سعادة‪ ،‬وتدفعنا �إىل البحث عن معنى‬ ‫ما �أ ْبهم علينا‪ ،‬فتزداد ن�شوتنا عندما تتجلى لنا الفكرة‬ ‫املطروحة بو�ضوح‪ ،‬وغالب ًا ما ندرك بع�ضها باحلد�س‪.‬‬ ‫�أنا من الذين ي�ؤمنون ب�أن الكلمات كالعملة‪ ،‬ويجب‬ ‫تداولها و�إال جمدت فماتت‪ ،‬ومبوتها تنح�سر اللغة‪.‬‬ ‫ومن الفرو�ض على ال��ذي يكتب للأطفال �أن ميتلك‬ ‫نا�صية لغة ث ّرة ومتع ّددة امل�ستويات‪ ،‬حتى يكون حافز ًا‬ ‫ن�صو�صه‬ ‫لإغناء وتطوير وتنمية لغة الطفل‪ ،‬وتكونَ‬ ‫ُ‬ ‫ج�سر ًا يعرب عربها القارئ ال�صغري نحو قارات �أخرى‪.‬‬ ‫‪ -5‬الإي �ق��اع‪ :‬للمو�سيقا كذلك دور ف ّعال يف دوزن��ة‬ ‫العدد‬

‫م�شاعر الطفل وحت�سي�سه ب�أن هناك نظام ًا يف الكون‬ ‫برغم جت ّلي االرجت��ال والفو�ضى؛ �إنها تبثُّ فيه ملكة‬ ‫الإيقاع‪ ،‬وتع ّود �أذنه على ا�ست�ساغة كل ما هو متناغم‬ ‫ورخيم ين�ضح بالغنائية؛ والأم هي �أ ّو ُل مع ّلم لل�شعر عرب‬ ‫ترديدها ملقطوعات و�أهازيج ممو�سقة‪ ،‬والتي ين�صت‬ ‫كلي حتى ينام على هدهدة‬ ‫�إليها الطفل باهتمام وتداع ّ‬ ‫الإيقاع ولو كان رتيب ًا رتابة الالزمة‪ .‬قد ي�ستغرق م ّنا‬ ‫ُ‬ ‫ن�ص يعتمد الوزنَ ‪،‬‬ ‫حفظ �أغنية وقت ًا �أق ّل ّ‬ ‫مما ي�ستغرقه ّ‬ ‫�أو الإيقا َع الداخلي‪ ،‬كما �أن هذا الأخري ي�أخذ م ّنا كذلك‪،‬‬ ‫وقتا �أق�� ّل من ال��ذي يحتاجه ُ‬ ‫ن�ص منثور‪ .‬فلكي‬ ‫حفظ ّ‬ ‫نح ّبب �إىل الأطفال الن�صو�ص ال�شعرية‪ ،‬ي�ستح�سن �أن‬ ‫تكون موزونة ومقفاة لت�سهيل ا�ستذكارها‪ ،‬وترديدها‬ ‫فتح�صل الفائدة املرجوة منها‪.‬‬ ‫‪ -6‬الطبع �أم التطبع‪ :‬قد يظن امل��رء �أن الكتابة‬ ‫للأطفال �أو الكتابة عامة ت�ستدعي انتظار الإلهام كي‬ ‫تتوا�شج الكلمات وتن�ساب طيعة رائقة حتى �آخر كلمة‬ ‫يف الن�ص‪ .‬غري �أنها تتطلب نظام ًا وحت�ضري ًا وا�ستعداد ًا‬ ‫نف�سي ًا ومادي ًا‪ .‬يقول "بول فالريي"‪�" :‬إن الإلهام يوحي‬ ‫لنا ِب َبيت �شعري‪ ،‬ولكن العمل مينحنا الثاين"‪ .‬وهذا‬ ‫يعني �أن �إتقان الكتابة ي�ستدعي العمل بج ّد واحلفر‬ ‫با�ستمرار يف عوامل الطفولة حتى يكون الن�ص حتفة‪،‬‬ ‫وقد ن�شوهها �إن �أ�ضفنا �أو حذفنا �شيئ ًا منها‪� .‬أما نزار‬ ‫ال�شعر‪ّ ،‬‬ ‫قباين فيقول‪�" :‬أنا من �أ ّمة تتنف�س ّ‬ ‫وتتم�شط به‪،‬‬ ‫د�سم‬ ‫وترتديه‪ .‬ك ّل الأطفال عندنا يولدون ويف حليبهم َ‬ ‫َ‬ ‫ر�سائل ح ّبهم الأوىل‬ ‫ال�شعر‪ ،‬وكل �شباب بالدي يكتبون‬ ‫�شعرا"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فهل يكفي �أن تكون ممار�سا ل�شيء ما لتتق َنه‪� ،‬أم �أن‬ ‫هناك جين ًة يرثها من يكون منذور ًا للكتابة للأطفال‪،‬‬ ‫�أم �أنه ال غنى للكاتب عن �أحدهما‪ :‬املوهبة التي تن ّمى‬ ‫باملمار�سة وال�صقل والتهذيب؟‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪87‬‬

‫ت���ت���زود ف��ي��ه��ا خ����زّ ان����ات ال����ذاك����رة وال��م��خ��ي��ل��ة‬ ‫ال��ط��ف��ول��ة ه���ي م��رح��ل��ة ال��ش��ح��ن ال���ت���ي‬ ‫ّ‬

‫نزار قباين‪" :‬الطفل وال�شاعر هما‬ ‫ال�ساحران الوحيدان القادران على‬ ‫حتويل الكون �إىل كرة بنف�سجية‬ ‫معدومة الوزن"‬


‫للروائية لميس المرزوقي‬

‫قراءة في «ح ّدثتنا ميرة»‬ ‫الكتابة لألطفال كما تحكيها الطفولة أو تحاكيها‬ ‫اللغة امل�ستعيدة حلظات املا�ضي الطفلي ال ميكن �إال �أن‬ ‫تكون جزءاً من �سرية ذاتية تر�سم �أ�شكال البدايات اجلميلة‬ ‫للحياة التي يعي�شها الكاتب يف ال وعيه‪ ،‬لي�س بالأم�س‬ ‫فقط‪ ،‬بل يف احلا�رض وامل�ستقبل‪ ،‬ملا ت�شكله هذه البدايات‬ ‫بالن�سبة �إليه من �سبب حياة و�إب��داع‪ ،‬يحفزه دائم ًا على‬ ‫النظر يف املا�ضي‪ ،‬ال �إليه‪.‬‬ ‫يت�شكل هذا العامل الطفلي يف الرواية الأوىل للقا�صة ملي�س‬ ‫"حدثتنا مرية"‪ ،‬وال�صادرة عن دار‬ ‫فار�س املرزوقي‪ ،‬رواية‬ ‫ّ‬ ‫"�صف�صافة" الإماراتية امل�رصية‪ ،‬والتي مقرها القاهرة‪ ،‬بدعم‬ ‫م�ؤ�س�سة الإمارات للنفع االجتماعي‪.‬‬ ‫وملي�س املرزوقي هي كاتبة وفنانة ت�شكيلية �إماراتية ولدت‬ ‫يف عام ‪ 1977‬ب�أبوظبي‪ ،‬حا�صلة على بكالوريو�س الرتبية‪،‬‬ ‫و�صدر لها ديوان �شعر بعنوان "�شفاه �أيب�سها الرعب"‪ ،‬ولها‬ ‫رواية حتت الطبع بعنوان "رائحة الطني"‪.‬‬

‫ملف العدد‬

‫�سامح كعو�ش‬ ‫فل�سطني‬

‫‪88‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫اللغة امل�ستعيدة حلظات املا�ضي الطفلي ال ميكن �إال‬ ‫�أن تكون جزء ًا من �سرية ذاتية تر�سم �أ�شكال البدايات‬ ‫اجلميلة للحياة التي يعي�شها الكاتب يف ال وعيه‪ ،‬لي�س‬ ‫بالأم�س فقط‪ ،‬بل يف احلا�ضر وامل�ستقبل‪ ،‬ملا ت�شكله‬ ‫هذه البدايات بالن�سبة �إليه من �سبب حياة و�إب��داع‪،‬‬ ‫يحفزه دائم ًا على النظر يف املا�ضي‪ ،‬ال �إليه‪.‬‬ ‫يت�شكل ه���ذا ال��ع��امل الطفلي يف ال���رواي���ة الأوىل‬ ‫للقا�صة ملي�س فار�س املرزوقي‪ ،‬رواية "ح ّدثتنا مرية"‪،‬‬ ‫وال�صادرة عن دار "�صف�صافة" الإماراتية امل�صرية‪،‬‬ ‫والتي مقرها القاهرة‪ ،‬بدعم م�ؤ�س�سة الإمارات للنفع‬ ‫االجتماعي‪.‬‬ ‫ومل��ي�����س امل���رزوق���ي ه��ي ك��ات��ب��ة وف��ن��ان��ة ت�شكيلية‬ ‫�إماراتية ولدت يف عام ‪ 1977‬ب�أبوظبي‪ ،‬حا�صلة على‬ ‫بكالوريو�س الرتبية‪ ،‬و�صدر لها ديوان �شعر بعنوان‬ ‫"�شفاه �أيب�سها الرعب"‪ ،‬ولها رواي��ة حتت الطبع‬ ‫العدد‬

‫بعنوان "رائحة الطني"‪.‬‬ ‫يف رواي��ت��ه��ا "ح ّدثتنا مرية" ت�����ص�� ّور ال��ع��ي��ن��ان‬ ‫ال�صغريتان مكان ًا حلمي ًا من الطفولة للبيت الإماراتي‬ ‫القدمي‪ ،‬وت�شي مبا هو �أبعد من جمرد النقل لل�صورة‬ ‫يف �سياق التحديق اال�ستدعائي لأ�شياء الذاكرة عن‬ ‫البيت والأهل و�شجرة ال�سدر الكبرية مقابل التفا�صيل‬ ‫ال�صغرية يف الو�سائد‪ /‬الإغفاء‪ ،‬تقول‪" :‬حني �أذكر‬ ‫منزلنا القدمي �أ�شعر ب�شيء ي�شبه النعا�س‪ ،‬فقد كانت‬ ‫�شجرة ال�سدر الكبرية تن�شر ظ ّلها على الو�سائد‬ ‫امل�ستلقية حتتها‪ ،‬والتي �أحببت كثري ًا الإغفاء بينها"‪.‬‬ ‫ويف "حدثتنا مرية" تتناول ملي�س بلغة �شعرية‪ ،‬فرتة‬ ‫تكون وعي طفلة ما بني املدر�سة واملكتبة وحيها‪ ،‬حيث‬ ‫تر�صد مرية الواقع املحيط بها‪ ،‬فهي "مل تكتف ب�أن‬ ‫تكون عينها للإب�صار فقط‪ ،‬ب��ل ر���ص��دت ك��ل �شيء‬ ‫وح��اول��ت ق��در ا�ستطاعتها �أن حتتفظ ب�شيء من‬ ‫طفولتها حتى اليوم‪.‬‬ ‫والكتابة امل�ستعيدة حلظات املا�ضي ال ميكن �أن‬ ‫ن�سميها �سرية ذاتية باملفهوم العادي للت�سمية‪ ،‬يف‬ ‫غاياتها الإخ��ب��اري��ة ال�����س��ردي��ة‪� ،‬إذا مل ي��ق�ترن ذلك‬ ‫بالبحث يف رمزية ال��دالالت الزمنية واملكانية التي‬ ‫تخ ّلدها املفردة الذاتية يف كتابة ما ي�شبه ال�سرية‪،‬‬ ‫وال يتماهى بها‪ ،‬كما ال ميكن �أن نلزمها باالنتماء‬ ‫�إىل �أدب الطفل‪ ،‬هذا �إن كان وارد ًا �أ�ص ًال �أن نف�صل‬ ‫بني الأدب بك ّله و�أدب الطفل �أو ما يحكيه الأطفال‪،‬‬ ‫فهنا حت ّدثنا م�يرة ع ّما يقع يف الأدب الكبري‪� ،‬أدب‬ ‫التفا�صيل وامل�شاعر التي تقع يف التناق�ض والت�ضاد‪،‬‬ ‫بل هو �أدب ال�صورة التي تر�سمها املخيلة بعن�صر‬ ‫الر�ؤيا احللمية‪ ،‬تراه بعينني �صغريتني لكنهما تت�سعان‬ ‫لرواية الكون ك ّله‪� ،‬إذ تتكئ على الثابت الوجداين �ضد‬ ‫املتحول الآين يف املكان والزمان‪ ،‬ولكنها تقيم توازن ًا‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪89‬‬

‫التي تجذبنا إليها بكثير ثقة‪ ،‬إل��ى مجهول نفس الكاتبة كما ه��و‪ ،‬ببراءة طفلة وحلم إنسان‬

‫تتقن لميس ال��م��رزوق��ي ت��ق��ن��ي��ات ال��س��رد البسيطة‪،‬‬


‫"حدثتنا مرية" ت�ص ّور العينان ال�صغريتان مكان ًا حلمي ًا‬ ‫يف ّ‬ ‫من الطفولة للبيت الإماراتي القدمي‪ ،‬وت�شي مبا هو �أبعد‬ ‫يف �سياق التحديق اال�ستدعائي لأ�شياء الذاكرة‬

‫غريب ًا ب�ين البيت ال��ق��دمي والبيت اجل��دي��د‪ ،‬ف��الأول‬ ‫�ساحته وا�سعة‪� ،‬أما البيت اجلديد فحديقته وا�سعة‪،‬‬ ‫تقول ملي�س املرزوقي يف الرواية على ل�سان مرية‪" :‬مل‬ ‫يتبق من �صورة املنزل القدمي �سوى بع�ض الذكريات‬ ‫ال�ضبابية‪� ،‬ساحته الوا�سعة حتيط بها غرف عديدة‬ ‫للنوم واجللو�س‪ ،‬لكنني �أذكر متام ًا كيف كنا نرافق‬ ‫والدي �أنا و�أخي ال�صغري‪ ،‬حني كان ي�شرف على جتهيز‬ ‫احلديقة للبيت اجلديد"‪.‬‬ ‫هي الكتابة ذاتها عند ملي�س فار�س امل��رزوق��ي يف‬ ‫ن�صو�ص "ا�ستعارة"‪" ،‬نذالة"‪" ،‬مو�سى"‪�" ،‬سلطة"‪،‬‬ ‫"املنزل القدمي"‪" ،‬مينو"‪" ،‬منى الريال"‪" ،‬الإ�صبع‬ ‫ال�ساد�س"‪" ،‬الوار�ش"‪�" ،‬سمرة البحر"‪" ،‬م�سبحة‬ ‫والدي"‪" ،‬عبا�س"‪" ،‬لأنها خمتلفة"‪" ،‬الكنز"‪،‬‬ ‫"تخييم"‪" ،‬فكرة"‪" ،‬موعد معه"‪" ،‬الك�شمة"‪،‬‬ ‫"حماولة"‪" ،‬رف�ض"‪" ،‬خم�سة دراهم"‪" ،‬مل يكن‬ ‫هناك رو�ضة"‪" ،‬تدريب �شاق"‪" ،‬الهدية"‪" ،‬جتميل‬ ‫�إجباري"‪" ،‬حتت ال�سرير"‪" ،‬كف �صغرية"‪" ،‬ال�شارة‬ ‫اخل�ضراء"‪.‬‬ ‫كلها ن�صو�ص ت�ش ّكل حال ًة روائية رائعة نعم‪ ،‬بل �إنها‬ ‫حالة منف�صلة بذاتها عن الرواية لتقع يف احلياة كما‬ ‫ت�ستعيدها عينا الطفلة "مرية" يف م�ساحة �صغرية‬ ‫بحجم حبة كهرمان يف م�سبحة والدها‪ ،‬وبها‪ ،‬وعربها‪،‬‬ ‫ت�ستح�ضر طقو�س الكتابة ال�سحرية يف الرواية‪ ،‬والتي‬ ‫تت�سع لعامل كبري‪ ،‬يكون فيه الأم�ير فار�س الأح�لام‬ ‫متحجر ًا‪ ،‬ما�سور ًا يف بلورة زجاجية‪ ،‬كما يف احلكايات‪،‬‬ ‫ينتظر احل�سناء اجلميلة لتحرره بقبلة‪ ،‬وهو قاب ٌع يف‬ ‫رمزية احلكاية بال�سحر وال�شر‪ ،‬واملخلوقات العجيبة‬ ‫املتحولة‪ ،‬ت��ق��ول ملي�س امل��رزوق��ي يف ن�ص "م�سبحة‬ ‫والدي"‪" :‬لوالدي م�سبح ٌة �صفراء جميلة‪� ،‬سمعته‬ ‫مرار ًا ير ّدد �أنها ثمينة‪ ،‬لأنّ كل حب ٍة من ح ّباتها حتوي‬ ‫‪90‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫حتجرت داخل حجر الكهرمان‪ ،‬كنت‬ ‫ح�شرة �صغرية ّ‬ ‫�أجل�س �إىل جواره حني مددت يدي �إليها وهو ينقلها‬ ‫من ك ٍّ��ف �إىل �أخ��رى‪ ،‬ولأن��ه منهمك يف احلديث �إىل‬ ‫ع ّمي‪� ،‬أعطاين امل�سبحة دون �أن ينظر �إ ّ‬ ‫يل‪ ،‬م�سكت بها‬ ‫وحت�س�ستُ �أحجارها ال�صفراء الناعمة‪� ،‬صرت �أت�أمل‬ ‫ّ‬ ‫تلك احل�شرات ال�صغرية النائمة يف الداخل‪ ،‬بدت يل‬ ‫وك�أنها قد جت ّمدت فج�أة‪ ،‬ف ّكرتُ لو �أنه حدث يل ما‬ ‫حتجرتُ فج�أة؟"‪.‬‬ ‫حدث للح�شرات ال�صغرية‪ ،‬ماذا لو ّ‬ ‫�إنّ جم��م��وع م���ا ك��ت��ب��ت��ه م���ن ن�����ص��و���ص امل��ج��م��وع��ة‬ ‫الق�ص�صية التي ت�شكلت ك��رواي��ة بعنوان "ح ّدثتنا‬ ‫مرية"‪ ،‬ما هو �إال لقطة فوتوغرافية بانورامية تقع يف‬ ‫الدراما الإن�سانية‪ ،‬ومتتد من غرفة الطفلة يف بيتها‬ ‫لت�صل بها �إىل �أق�صى ما ميكن لقدميها من م�سري‪،‬‬ ‫�إىل بيت اخلالة املال�صق لبيتهم‪ ،‬حيث غرفة ابنة‬ ‫اخلالة التي ترتاح �إليها نف�س البطلة "مرية" دون‬ ‫غريها‪.‬‬ ‫ت�ستعيد القا�صة ذاك��رة مكان يختزل مدن البيئة‬ ‫املحلية و�أبنيتها‪ ،‬و���ش��وارع��ه��ا‪ ،‬و�أح��ي��اءه��ا وبيوتها‪،‬‬ ‫عرب فرتة زمنية متتد من �سبعينات القرن الع�شرين‬ ‫وحتى يومنا ه��ذا‪ ،‬فالكاتبة تر�صد بعيون الطفلة‬ ‫م�يرة‪ ،‬ت��ارة‪ ،‬وعيون ال��راوي��ة‪ /‬الطفلة‪ ،‬ت��ارة �أخ��رى‪،‬‬ ‫تطورات املجتمع الإماراتي وحتوالته‪ ،‬مقدمة م�شاهد‬ ‫مفعمة باخل�صو�صية من هذا الواقع وب�شره وعاداته‬ ‫ومفرداته‪ ،‬فك�أنها ت�ؤ�س�س لأدب خا�ص بالطفل‪ ،‬هو‬ ‫�أدب ا�ستعادي روائ���ي‪ ،‬ي��رى يف امل�ستقبل‪ ،‬وي�ؤ�س�س‬ ‫ال�ستنها�ض ال��ذك��ري��ات كعامل م�ؤ�س�س للم�ستقبل‬ ‫الالحق‪.‬‬ ‫كما ت�ص ّور ملي�س املرزوقي حلظات احلياة اليومية‬ ‫لطفل ٍة امتلكت عني الكامريا ف�أخذت ت�ص ّور ك ّل �شيء‬ ‫لال �شيء‪ ،‬ك�أمنا تريد �أن تقول‪ ":‬اللحظة لي�ست لنا‪،‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�إنها حالة منف�صلة بذاتها عن الرواية لتقع يف احلياة كما‬ ‫ت�ستعيدها عينا الطفلة "مرية" يف م�ساحة �صغرية بحجم‬ ‫حبة كهرمان يف م�سبحة والدها‬

‫وال ميكن امتالكها"‪� ،‬أو هي ب�شارة املبدع بالقيامة‬ ‫الأخ�يرة لأ�شيائنا اجلميلة التي نحتفظ بها حني ال‬ ‫حتفظها لنا احلياة مبرورها ال�سريع العابر‪ ،‬يف ن�ص‬ ‫بل�سان بطلتها‪ ،‬وا�صف ًة‬ ‫"جتميل �إجباري" تقول القا�صة ِ‬ ‫�أفعال الطفلة "مرية"‪" :‬دلفتُ خارج ًة من باب املنزل‬ ‫اخلارجي‪ ،‬كان ال�شارع هادئ ًا ج�� ّد ًا‪� ،‬سرتُ مبحاذاة‬ ‫احلائط امل�شرتك بني منزلنا ومنزل خالتي‪ ،‬ت�س ّللتُ‬ ‫�إىل منزل خالتي كل�ص حمرتف‪ ،‬كان باب احلديقة‬ ‫منفذ �إىل املنزل من‬ ‫مغلق ًا‪ ،‬مما جعلني �أبحث عن ٍ‬ ‫خالل الباب اجلانبي ال�صغري‪ ،‬وجدت ُه مفتوح ًا لأنّ‬ ‫خادمتهم كانت قد بعثت �شيئ ًا من الن�شاط يف احلو�ش‬ ‫رحبت بي با�سم ًة‪،‬‬ ‫ب�إيقادها ال�ضو ا�ستعداد ًا للخبز‪ّ ،‬‬ ‫جل�ست �إىل جانبها �أراق��ب ما تفعل‪ ،‬كنت م�ستمتع ًة‬ ‫برائحة اخلبز الطازج املمزوج بانتعا�ش ال�صباح"‪.‬‬ ‫قريب‬ ‫�إذ ًا‪� ،‬إنه البوح ال�شعري يف الرواية‪ ،‬مبا هو ٌ‬ ‫قريب ح ّد الت�صاق البيت‬ ‫�إىل النف�س وحميم‪ ،‬ومبا هو ٌ‬ ‫بالبيت‪ ،‬واجلدار باجلدار‪ ،‬بل واحتاد الرح بالروح كما‬ ‫لو �أن الطفلة "مرية" هي ذاتها ابنة اخلالة "عائ�شة"‪،‬‬ ‫�أو هي الكاتبة نف�سها‪ ،‬يف حلظة احتاد ال�شخو�ص يف‬ ‫الرواية ذات البطلة الوحيدة وال�شخ�صية الواحدة‬ ‫"مرية"‪ ،‬التي تفعل يف احلياة وتلعب �أدوار البطولة‬ ‫�إذ ت�سند �إليها القا�صة الأفعال ك ّلها "اجتهتُ ‪ ..‬متنيتُ‬ ‫�أبلغتُها"‪� ،‬أما الإبالغ كذروة �أوىل يف احلبكة ال�سردية‬ ‫فال تقف عند فعل الإبالغ‪ /‬البوح بل ت�ستكمل حكايتها‬ ‫بالفعل امل�ضارع امل�ستمر واملفتوح على امل�ستقبل كما‬ ‫أنعم"‪ ،‬تقول‬ ‫يف الأف��ع��ال "�س�أق�ضي‪� /‬أن �أن��د� ّ��س‪ /‬ل َ‬ ‫القا�صة ملي�س امل��رزوق��ي يف الن�ص نف�سه وا�صف ًة ما‬ ‫فعلته "مرية" يف ذل��ك النهار‪" :‬اجتهت نحو غرفة‬ ‫ابنة خالتي عائ�شة‪ ،‬كانت حمط غبطتي‪ ،‬فهي تنعم‬ ‫بنوم هانئ �صباح اجلمعة‪ ،‬ال يفزعها كابو�س احل ّنة‬ ‫العدد‬

‫الأ�سبوعي مثلي‪ ،‬فخالتي لي�ست من الن�ساء املح ّبات‬ ‫للح ّنة‪ ،‬كم مت ّنيت لو �أنني ابنتها‪ ،‬ا�ستيقظت عائ�شة‬ ‫فرح ًة بر�ؤيتي عندهم‪� ،‬أبلغتها ب�أنني �س�أق�ضي ال�صباح‬ ‫أند�س يف فرا�شها لأنعم بقليل من‬ ‫هنا‪ ،‬طلبت منها �أن � ّ‬ ‫الدفء"‪.‬‬ ‫بالذكريات ت�ستعيد الكاتبة اللحظة التي لي�ست لنا‪،‬‬ ‫وال ميكننا امتالكها �إال بعني الناظر �إىل نف�سه‪ ،‬يغرتف‬ ‫من �أعماقه اخلفية َ‬ ‫�شكل حلظ ٍة �أخ��رى يبنيها على‬ ‫�شاكلة املا�ضي الأويل‪ ،‬ويبني منها بنية ن�صه الرمزي‬ ‫�أو ًال‪ ،‬مهما اق�ت�رب م��ن ال�سردية ملو�ضوع اللحظة‬ ‫امل�ستعادة‪.‬‬ ‫ذكريات الطفلة التي تكتبها ملي�س فار�س املرزوقي‬ ‫لي�ست ما�ضوية الزمن و�إن كان �شكلها يبدو كذلك‪،‬‬ ‫فهي تتعمد �إحالة املا�ضي على ما هو م�ستقبلي يف‬ ‫ن�صو�صها من �أوراق مرية‪ ،‬فهي على �سبيل املثال تعمد‬ ‫�إىل الرتميز احلكائي‪ ،‬حني حت ّمل الدرهم الذي جتده‬ ‫على الأر���ض دالالت الكنز احلقيقي الذي ت�شري �إليه‬ ‫عبارة "�إفتح يا �سم�سم"‪ ،‬ال كربنامج تلفزيوين‪ ،‬بل‬ ‫كمفتاح �أ�سطوري يفتح الأب��واب يف ال وعي الذاكرة‬ ‫اجلمعية العربية على الع�صر الذهبي ال��ذي عا�شه‬ ‫العرب حاف ًال بالذهب والكنوز‪ ،‬واجلواهر النفي�سة‪،‬‬ ‫يف �أح�لام امل��غ��ارة‪ ،‬وكنز علي بابا والأرب��ع�ين ل�ص ًا‪،‬‬ ‫والذي عا�شته الكاتبة كحدث يف طفولتها حمفو ٍر يف‬ ‫ذاكرتها حتى حلظة تخليده بالكتابة‪.‬‬ ‫حت���اول ملي�س امل��رزوق��ي �أن تلتقط اخل��ي��ط ال��ذي‬ ‫يجمع الآن ب�أم�س‪ ،‬يف ما ي�شبه بناء الذاكرة الب�صرية‬ ‫الفلمية‪ ،‬بني الأم�س الذي تربع يف ت�صوير حيثياته‪،‬‬ ‫من حلظة خروجها �إىل ال�شارع املغطى يومها بالرمال‬ ‫الكثيفة‪ ،‬حتى حلظة التقاطها الدرهم عن الأر���ض‪،‬‬ ‫والآن كلحظة متخيلة يف الال وع��ي‪ ،‬تر�سم للكاتبة‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪91‬‬


‫يف ارتقاء اللحظة الإن�سانية املعبرّ ة‪ ،‬كنز ًا يحلم به‬ ‫ب�شري على وجه الأر���ض‪ ،‬وبه تتحقق له �أحالمه‬ ‫ك ّل‬ ‫ٍّ‬ ‫امل�ؤجلة‪ ،‬بكثري �صرب ومعاناة‪ ،‬وقليل حيلة‪ ،‬تقول يف‬ ‫الن�ص‪":‬ات�سعت فرحتي‪ /‬فتحت قب�ضتي لأراه م�ستلقي ًا‬ ‫ف��وق بقايا ال��رم��ال يف ك ّفي املت�سخة‪ /‬رفعتُ ك ّفي‪/‬‬ ‫ق ّربت ُه من عيني و�صرتُ �أت�أ ّمله مبحبة‪( ،‬درهم)‪� ،‬إنه‬ ‫درهم‪ ،‬ما �أعظم فرحتي!"‪.‬‬ ‫تتقن ملي�س املرزوقي تقنيات ال�سرد الب�سيطة‪ ،‬التي‬ ‫جتذبنا �إليها بكثري ثقة‪� ،‬إىل جمهول نف�س الكاتبة كما‬ ‫هو‪ ،‬ب�براءة طفلة وحلم �إن�سان‪ ،‬بني الدرهم كقيمة‬ ‫حقيقية لطفلة �أدركت منذ بدايات وعيها �أن الأر�ض ال‬ ‫دراهم‪ ،‬و�إن جمعت‬ ‫تنبت ذهب ًا‪ ،‬و�أنّ ال�سماء ال متطر‬ ‫َ‬ ‫قريباتها ال�صغريات ليحفرن يف الأر�ض فجوة ات�سعت‬ ‫ك ّلما ات�سعت م�ساحة احللم بالعثور على الكنز حيث‬ ‫��دت هي كنزها ال�صغري‪ ،‬والكنز كقيمة حلمية‪،‬‬ ‫وج ْ‬ ‫متخيلة‪ ،‬حتيل احلياة �أجمل‪ ،‬بالإ�شارة �إىل ما يُ�سكتُ‬ ‫عمر ال‬ ‫الإن�سان عن ا�ستجداء احلظ كنز ًا م�ؤج ًال‪ ،‬يف ٍ‬ ‫‪92‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫مير ثاني ًة‪ ،‬تقول‪ ":‬كان الدرهم كنز ًا عظيم ًا لطفل ٍة‬ ‫بحر�ص �شديد‪ ،‬ورك�ضتُ �إىل املنزل‪/‬‬ ‫مثلي‪� /‬أم�سكت ُه‬ ‫ٍ‬ ‫جمعتُ �أخ��وات��ي ال�صغريات وب��ن��ات ع�� ّم��ي‪ /‬عقدتُ‬ ‫اجتماع ًا طارئ ًا"‪.‬‬ ‫هي الكتابة الإماراتية احلديثة‪ ،‬التي تتناول من‬ ‫البيئة املحلية حلظات خلود اللمحة الإبداعية الكتابية‪،‬‬ ‫مب��ا ي�شري �إىل ن�ضوج البيئة االفرتا�ضية للكتابة‪،‬‬ ‫والبنية التحتية لت�شكل الن�ص ال�سردي من موجودات‬ ‫احل��االت الوجدانية واحلياتية التي يعي�شها الكاتب‬ ‫واملبدع حلظة ا�ستخراجه حرب كتابته من جحر الال‬ ‫وعي الغارق يف املا�ضوية‪ ،‬يف ما ي�شبه �سبات الطفل‪.‬‬ ‫فها هي ملي�س فار�س املرزوقي تتخذ من �شكل التذكر‬ ‫حالة كتابية م�ستقبلية‪ ،‬حتيل الأفعال "خرجتُ وقفتُ ‪،‬‬ ‫جلتُ بنظري‪ ،‬رميتُ بنعلي‪ ،‬هرولتُ ‪ ،‬و�صلتُ ‪ ،‬عاودتُ‬ ‫‪� "...‬إىل �أفعال اجلماعة التي ا�شرتكت معها يف فعل‬ ‫احلفر عن الكنز‪ ،‬ف�إذا به يتحول �إىل فعل اعرتا�ض‬ ‫وقطع طريق‪ ،‬رمبا هو يف احلقيقة حديث ال �إرادي‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪93‬‬

‫��ب إل����ى ال��ن��ف��س وح��م��ي��م‪ ،‬وب��م��ا هو‬ ‫إن����ه ال���ب���وح ال��ش��ع��ري ف���ي ال����رواي����ة‪ ،‬ب��م��ا ه���و ق���ري� ٌ‬ ‫���د ال��ت��ص��اق ال��ب��ي��ت ب��ال��ب��ي��ت‪ ،‬وال����ج����دار ب���ال���ج���دار‪ ،‬ب���ل وات���ح���اد ال�����رح ب���ال���روح‬ ‫ق���ري� ٌ‬ ‫��ب ح� ّ‬

‫با�سم �آالف املعذبني يف الأر���ض‪ ،‬احلاملني بدرهم �أو‬ ‫قطعة خبز‪� ،‬أو هو ا�ست�شراف الكاتبة للآتي من الكالم‬ ‫ينتم �إىل عامل الفقراء‪ ،‬مهما بالغ يف‬ ‫الذي يفنى �إن مل ِ‬ ‫الرمزية وال�شفافية الكال�سيكية الفارغة من االنتماء‬ ‫الواقعي احلقيقي لعامل ب�شر‪ ،‬ق��ال عنهم ال��روائ��ي‬ ‫ال�سوري ذات ي��وم‪�" ،‬إنهم الذين يجعلون الأدب من‬ ‫حلم ودم"‪.‬‬ ‫ملي�س فار�س املرزوقي تكتب �أحالم مرية ال�صغرية‬ ‫يف �أوراق��ه��ا‪ ،‬لتقول لنا بل�سان الطفلة ما ال ي�ستطيع‬ ‫الكبار ق��ول��ه‪ ،‬م��ن �أن احل��ي��اة ال تبت�سم لنا دائ��م�� ًا‪،‬‬ ‫�أو �أن احلكاية التي ن�ستعيدها ك�� ّل ي��وم تفتقر �إىل‬ ‫املو�ضوعية يف كونها ال تتحقق �إال يف حفر ٍة عميق ٍة يف‬ ‫الذاكرة‪ ،‬ال يف ال�شارع كما �ص ّورتها ملي�س‪ ،‬بقولها‪":‬‬ ‫تذ ّكرت ال�صغريات اللواتي تركتهنّ يبحثن عن كنزي‬ ‫املزعوم‪ /‬فخرجتُ لأرى ماذا يفعلن‪ /‬مل �أ ّر �أي ًا منهنّ‬ ‫لكنني وجدت احلفرة قد ازدادت ات�ساع ًا وعمق ًا"‪.‬‬ ‫نعم هي احلفرة التي انحفرت عميق ًا يف الذاكرة‪،‬‬ ‫يف حلم الإن�سان الأول بدرهم يقيه املر�ض‪ ،‬واجلوع‪،‬‬ ‫واحلاجة والعوز‪ ،‬ك���أن ملي�س املرزوقي تقف بالكتابة‬ ‫عند حلظة امل�صري الإن�ساين‪ ،‬يف املف�صل الوجودي‬ ‫بني ما هو �إن�ساين وما هو ال �إن�ساين‪ ،‬وهي بذلك تتقن‬ ‫حماكمة الذاكرة التي �أعطت للدرهم قيم ًة لي�ست فيه‪،‬‬ ‫و�إن كان ذا دالالت حتتمل الفرح واالكتفاء واالقتناع‬ ‫ب�أن الكنز موجود‪ ،‬حني تطرح �أ�سئلة الوجود الأزلية‪،‬‬ ‫حول حاجة الإن�سان ورغباته‪ ،‬و�ضرورة حتقق �إن�سانيته‬ ‫ال بالكنز امل��زع��وم‪ ،‬وال بالدرهم كقيمة م��ادي��ة‪ ،‬بل‬ ‫با�ستعادة اللحظة احلافلة بال�سعادة وال�براءة التي‬ ‫يع ّلمنا الأط��ف��ال كيف نحياها‪ ،‬فال تت�سرب من بني‬ ‫�أيدينا يف زحمة امل�صالح واملاديات الثقيلة على قلوبنا‪.‬‬ ‫�إنه املكان الإماراتي‪� ،‬إنه الإن�سان هنا‬

‫تتكئ امل��رزوق��ي يف �سردها على ما وعته الطفلة‬ ‫"مرية" من �أحالم ور�ؤى وهي تعاين احلياة اليومية‬ ‫يف املكان القريب‪ ،‬املكان املمتد على �شاطئ اخلليج‬ ‫العربي‪ ،‬حيث ق��وارب ال�صيادين وقراقري ال�صيد‪،‬‬ ‫مبيالد جديد‬ ‫والرمل الذهبي احلامل حلم البحارة‬ ‫ٍ‬ ‫لذاكرة حبلى بالكنوز واللآلئ‪.‬‬ ‫كانت "مرية" ت��راق��ب �أب��اه��ا يف عمله اليومي يف‬ ‫�صناعة القراقري‪ ،‬داخ��ل غرفة خلف امل��ن��زل‪ ،‬وهي‬ ‫التي كانت ت�شاركه العمل يف هذه ال�صناعة الأقرب‬ ‫�إىل قلب الوالد البحار‪ /‬ال�صياد‪ ،‬وهي التي عاي�شت‬ ‫البحر قدمي ًا كطفلة وحا�ضر ًا كقا�صة‪ ،‬تقول ملي�س‬ ‫املرزوقي يف ن�ص "�سمرة البحر"‪�" :‬ساعات طويلة‬ ‫يق�ضيها والدي يف �صنع القراقري‪ ،‬داخل غرفة خا�صة‬ ‫خلف املنزل‪ ،‬كانت �أقرب �إىل م�شغل �أو م�صنع �صغري‬ ‫تتم فيه �صناعة الكثري من الأ�شياء ك�شباك ال�صيد‬ ‫ب�أنواعها وبع�ض �أعمال النجارة"‪.‬‬ ‫�إن��ه��ا ال��ع��ادة املمتدة منذ الطفولة �إىل الكهولة‪،‬‬ ‫وبينهما ع��م�� ٌر م��ن الق�ص ال�����س��ردي ال�شفيف ك�أنه‬ ‫الهم�س يف �أذن امل��ك��ان الإم���ارات���ي‪ ،‬ت��ق��ول "مرية"‬ ‫الطفلة‪ /‬الذاكرة‪" :‬كعادتي حني يذهب وال��دي �إىل‬ ‫البحر �أظل �أراق��ب حت�ضرياته لأرافقه �إىل ال�شاطئ‬ ‫برفقة جمموعتي ال�صغرية‪ ،‬نلعب بالرمال‪ ،‬ونرتقي‬ ‫بع�ض الزوارق الرا�سية على ال�شاطئ‪ ،‬لكنني ويف ذلك‬ ‫اليوم �أثاء لعبي‪ ،‬ملحت اختالف ًا ح ّل بلون مياه البحر‬ ‫القريبة من ال�شاطئ‪� ،‬إذ ا�ستحالت �إىل لون �أقرب �إىل‬ ‫البني‪� ،‬أعلم الآن �أنّ ذلك كان انعكا�س ًا للون �أع�شاب‬ ‫عيني‬ ‫البحر وطحالبه‪ ،‬اندفعت الدموع �ساخنة �إىل ّ‬ ‫لتالم�س خدي و�أنا �أنظر �إىل البحر الوا�سع الذي �أح ّبه‬ ‫والدي ب�شدة‪� ،‬صرت �أبكي ظن ًا مني �أن والدي غرق يف‬ ‫البحر فانت�شر لونه لي�صبغ املياه"‬


‫ملف العدد‬

‫ف�ؤاد زويريق‬

‫كاتب وناقد �سينمائي مغربي مقيم بهولندا‬

‫الصورة السينمائية‬

‫وتـ�أثيـرها فـي الطفـل العربي‬ ‫سينما الطفل في العالم العربي خجولة‬ ‫ما زال الطفل يف املجتمعات العربية يعاين من �أَدواءِ التهمي�ش ومن �أغالل املمار�سات‬ ‫القمعية يف الأ��سرة واملدر�سة وال�شارع‪� .‬إنها ممار�سات جتعل منه كائنا خجو ً‬ ‫ال‬ ‫منطوي ًا على نف�سه‪ ،‬كائن ًا غري مبادر‪� ،‬إذ ال قدرة له على مواجهة احلياة مبفرده‪،‬‬ ‫ممار�سات تفر�ض عليه الر�ضوخ �إىل م�شيئة من هم �أكرب منه �س ّن ًا وفكراً و�سلوك ًا‪� ،‬أو‬ ‫مبعنى �أدق تتعر�ض �شخ�صيته الربيئة �إىل الطم�س املمنهج‪ ،‬وبذلك تتحول �سلوكاته‬ ‫يف النهاية من اال�ستقاللية والتفرد �إىل الو�صاية واخلنوع‪ ،‬وهي و�صاية متار�سها عليه‬ ‫ق�رساً‪ ،‬وال تنتج لنا �إال �أفراداً غري نا�ضجني اجتماعي ًا‪ ،‬قا�رصين �سلوكي ًا وفكري ًا برغم‬ ‫جتاوزهم مرحلة الر�شد‪ ،‬فيكون اخلا�رس الأكرب هو املجتمع‪.‬‬ ‫‪94‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ه��ذه العملية املنظمة دفعت بالعديد من العلماء‬ ‫النف�سانيني واملحللني ال�سيكولوجيني �إىل التعمق يف‬ ‫درا�سة تربية الطفل داخل املجتمع العربي‪ ،‬واخلروج‬ ‫بتو�صيات وق��رارات ودرا�سات خمجلة‪ ،‬جعلتنا نحن‬ ‫العرب يف ال�صفوف املت�أخرة يف هذا املجال‪ ،‬وجعلت‬ ‫�أطفالنا ه��م الأك�ث�ر معاناة والأك�ث�ر تعر�ضا ل�سوء‬ ‫املعاملة‪ ،‬ه��ذه املعاملة التي ترجع باخل�سارة على‬ ‫�أوطاننا وتقف حاجز ًا بني تقدمها وازدهارها ل�سبب‬ ‫ب�سيط جد ًا‪ ،‬وهو ارتباط الطفل باملواطن‪ ،‬فطفل اليوم‬ ‫هو رجل امل�ستقبل‪ ،‬و�إذا اكت�سب الطفل تربية �صاحلة‬ ‫مبعايري علمية مدرو�سة ف�ستعود‪ ،‬بال �شك‪ ،‬بالنفع على‬ ‫هذا على املواطن الرا�شد‪ ،‬وقد يتجلى هذا النفع يف‬ ‫الت�ضحية بذاته ل�صالح جمتمعه ووطنه‪.‬‬ ‫ال �شك يف �أن هذه الرتبية وال�سلوكات تنعك�س على‬ ‫كل املجاالت املرتبطة بالطفل‪ ،‬من لعب وعلم و�إبداع‬ ‫وفن وثقافة وترفيه و�أدب‪ ...‬جماالت تتعر�ض بدورها‬ ‫للو�صاية من لدن البالغني‪ ،‬هذه الو�صاية جتعل الطفل‬

‫العدد‬

‫جمرد مفعول به‪ ،‬وم�ستهلك الغري‪ ،‬بد ًال من �أن يكون‬ ‫فاع ًال وم�شارك ًا يف جمال يخ�صه دون غريه‪ ،‬فتكون‬ ‫الكارثة �أ�شد و�أعظم‪ ،‬وتكون النتيجة �سلبية وعبثية‬ ‫غري ق��ادرة على جم��اراة ري��اح التغيري والتقدم التي‬ ‫تعرفها باقي الأمم‪.‬‬ ‫من بني الو�سائل القادرة على احتواء الطفل والت�أثري‬ ‫فيه‪ ،‬ال�صورة مبفهومها املركب ال�شامل‪ ،‬و�سينما‬ ‫الطفل جزء ال يتجز�أ من هذه ال�صورة؛ �إذ تعترب و�سيلة‬ ‫حيوية تعتمد عليها الدول املتقدمة يف تربية الن�شء‪،‬‬ ‫وتُبلغ من خاللها عدة ر�سائل‪ ،‬يفهمها الطفل وحده‬ ‫ت�ساعده على بناء �شخ�صية حمورية فاعلة‪� ،‬شخ�صية‬ ‫قادرة على امل�ساهمة والفعل؛ لأن هذه ال�سينما تُخلق‬ ‫من داخ��ل املجتمع الطفويل و ِب َيد الطفل نف�سه‪ ،‬وال‬ ‫يكون البالغ فيها �إال جمرد مر�شد وموجه‪.‬‬ ‫وبالن�سبة �إىل العامل العربي‪ ،‬وللأ�سف ال�شديد‪،‬‬ ‫ف�سينما الطفل تنعدم مت��ام�� ًا‪ ،‬وحت��ل حملها �سينما‬ ‫�أخ���رى‪ ،‬ق��د ت�سمى ب���أي ا�سم �آخ��ر غ�ير ه��ذ اال�سم‪،‬‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪95‬‬

‫ال��م��ج��االت ال��م��رت��ب��ط��ة ب��ال��ط��ف��ل‪ ،‬م��ن ل��ع��ب وع��ل��م وإب�����داع وف���ن وث��ق��اف��ة وت��رف��ي��ه وأدب‬

‫ال ش���ك ف���ي أن ه����ذه ال��ت��رب��ي��ة وال���س���ل���وك���ات ت��ن��ع��ك��س ع��ل��ى كل‬


‫النظرة الدونية والتقزمي الذي يتعر�ض له الطفل‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل اعتباره مادة غري ربحية‪ ،‬هي عوامل �أخرى �ساهمت بكل‬ ‫ت�أكيد يف تعطيل حركة الإنتاج الفيلمي اخلا�ص بالطفل‬ ‫برغم حماوالت بع�ض املنتجني واملخرجني �إنتاج �أفالم‬ ‫خا�صة بالطفل‪ .‬غري �أنها تفتقر �إىل الأ�ساليب التقنية‬ ‫والبيداغوجية وال�سي�سيولوجية‪...‬الالزمة لتوجيهها‬ ‫�إىل الطفل مبا�شرة‪ ،‬فتكون بذلك خمالفة للمعايري‬ ‫املعرتف بها دولي ًا يف هذا الت�صنيف‪ .‬وال�سبب يف هذا‬ ‫يرجع �إىل عدم �إ�شراك الطفل من جهة يف مثل هذه‬ ‫امل�شاريع‪ ،‬واالعتماد فقط على ر�ؤي��ة البالغ ب�صفته‬ ‫�أدرى مب�صلحة طفله‪ ،‬وعدم االعتماد على خرباء يف‬ ‫جمال الطفولة من جهة �أخرى‪ ،‬لأ�سباب عدة قد تكون‬ ‫مادية‪� ،‬أو قد تكون ا�ست�سها ًال للأمر �أو عدم مباالة‪.‬‬ ‫النظرة الدونية والتقزمي الذي يتعر�ض له الطفل‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل اعتباره مادة غري ربحية‪ ،‬هي عوامل‬ ‫�أخ��رى �ساهمت بكل ت�أكيد يف تعطيل حركة الإنتاج‬ ‫الفيلمي اخلا�ص بالطفل‪ ،‬ودفعت �إىل اقت�صار كل‬ ‫املنتجني العرب تقريب ًا على ال�سينما التجارية املوجهة‬ ‫للبالغني‪ ،‬وعدم االهتمام بالطفل باعتباره ج��زء ًا ال‬ ‫يتجز�أ من الن�سيج االجتماعي‪ .‬ف ُفر�ض على الو�سائل‬ ‫ال�سمعية الب�صرية املهتمة بربامج الطفل التوجه �إىل‬ ‫الغرب ال�سترياد امل��واد ال�لازم��ة لتغطية براجمها‪،‬‬ ‫ف�أ�صبحنا بذلك �أمام فخ ا�ستالبي و�إمربيايل للفكر‬ ‫العربي باعتبار الطفل القاعدة الأ�سا�سية للفكر‬ ‫امل�ستقبلي‪ ،‬الأم��ر ال��ذي قد يدفعنا �إىل ال��دخ��ول يف‬ ‫متاهة قد تلغي‪ ،‬وعرب مراحل قد ال ن�شعر بها‪ ،‬هويتنا‬ ‫العربية امل�ستقلة‪ .‬قد يعترب البع�ض هذا الكالم مبالغ ًا‬ ‫فيه‪ ،‬لكن للأ�سف هذا هو الواقع‪ .‬وقد بد�أنا ن�ست�شعره‬ ‫ونح�سه‪ ،‬فالعامل املتح�ضر �أ�صبح يعتمد على ال�صورة‬ ‫باعتبارها �أك�ثر ق��درة على ال��ت���أث�ير‪ ،‬و�أب��ل��غ م��ن �أي‬ ‫كلمة ميكن �أن تقال �أو تكتب‪ ،‬واعتماده هذا مل ينبع‬ ‫من ف��راغ‪ ،‬بل فر�ضته ال�ضرورة و�أوجبته الظروف‬ ‫التكنولوجية التي نعي�شها يف الوقت احلا�ضر‪ ،‬من‬ ‫‪96‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫انت�شا ٍر يف الف�ضائيات والقنوات التلفزيونية وتطو ٍر‬ ‫يف التقنيات ال�سينمائية‪� ،‬إ�ضافة �إىل االنت�شار الوا�سع‬ ‫ل�شبكة الإنرتنت‪ ،‬التي �أ�صبحت عامل ًا م�ستق ًال بذاته‪ ،‬له‬ ‫كل القدرة على تفكيك �أنظمة دول بكاملها وتفكيكها‪.‬‬ ‫فما بالك بفكر طفويل م�ستعد ال�ستقبال �أي �شيء دون‬ ‫مراقبة ومتحي�ص؟‪.‬‬ ‫تتفرع �سينما الطفل �إىل ثالثة �أنواع؛ هناك �أفالم‬ ‫الر�سوم املتحركة �أوال��ك��ارت��ون التي تنتج خ�صو�ص ًا‬ ‫للطفل مع ا�ستثناءات قليلة‪ ،‬هذه الأفالم التي تبتعد‬ ‫ع��ن ال��واق��ع ومت��ن��ح ال��ط��ف��ل م��ا يحلم ب��ه م��ن خ�لال‬ ‫�شخ�صيات معينة‪ ،‬قد تكون على هيئة حيوان �أو ح�شرة‬ ‫�أو ب�شر‪ .‬وهي �أكرث انت�شار ًا وت�أثري ًا‪ .‬هناك كذلك �أفالم‬ ‫روائية ق�صرية �أو طويلة قد متتح من الواقع مادتها‪،‬‬ ‫و ُي�شكل الأطفال �شخ�صيتها و�أبطالها‪ ،‬ويكون للكبار‬ ‫فيها �أدوار حمدودة وحمددة الغري‪ ،‬وهذا النوع مهم‬ ‫يف تو�صيل الر�سائل �إىل الطفل وتوعيته؛ لكونه ينطلق‬ ‫من حياته اليومية املعي�شة‪� .‬أم��ا النوع الثالث فهو‬ ‫الفيلم الوثائقي �أو الت�سجيلي اخلا�ص بالطفل وهو �أقل‬ ‫انت�شارا ومتعة بالن�سبة �إىل الأطفال‪.‬‬ ‫مما ال �شك فيه �أن �سينما الطفل �أو ال�صورة ب�صفة‬ ‫عامة ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بالرتبية‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف‬ ‫هذا الوقت بالذات الذي �أ�صبح فيه الطفل يجل�س‬ ‫�أمام التلفاز �أو احلا�سوب مدة طويلة ي�ستقبل فيها‬ ‫دون رقابة كل الإنتاجات ال��ق��ادرة على الت�أثري يف‬ ‫�سلوكاته وانفعاالته‪ ،‬والتحكم يف رغباته وفكره‪ ،‬ومن‬ ‫هنا ينبغي للقائمني على هذا ال�ش�أن �إع��ادة النظر‬ ‫يف الإنتاجات امل�ستوردة‪ ،‬والعمل على �إنتاج �أفالم‬ ‫عربية حملية قادرة على مناف�سة الآخ��ر‪ ،‬واخلروج‬ ‫م��ن حت��ت ع��ب��اءت��ه‪� ،‬أف�ل�ام حت�ترم هويتنا وتكر�س‬ ‫تقاليدنا وثقافتنا العربية‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫مسرح الطفل في اإلمارات‬ ‫بني الواقع والطموح‬ ‫ال ريب يف �أن مل�رسح الطفل خ�صو�صيته وتفرده‪ ،‬وتنطلق هذه اخل�صو�صية‬ ‫من كونه يتوجه �إىل الطفل‪ ،‬ومن �أبعاده وت�أثريه الكبري وارتباط عنا�رصه‬ ‫بالرتبويات واجلماليات الب�رصية واملعرفة والثقافة وغري ذلك‪ .‬ويكفي �أن �أذكر‬ ‫ب�أن م�سارح الأطفال يف العامل وجدت �أ�سا�س ًا من �أجل عملية تنموية تربوية‪.‬‬ ‫قبل �أن �أب��د�أ حديثي عن م�سرح الطفل يف دولة‬ ‫الإم�����ارات ال��ع��رب��ي��ة امل��ت��ح��دة ال ب��د �أن �أ���ش�ير �إىل‬ ‫العنا�صر التالية‪:‬‬ ‫‌�أ ‪ -‬امل�سرحية �شكل فني �أدبي يعالج مو�ضوع ًا على‬ ‫خ�شبة امل�سرح بلغة ال�شعر �أو النرث وتعتمد يف عنا�صرها‬ ‫على احلبكة‪ ،‬واحل����وار‪ ،‬وال�شخ�صيات وال�����ص��راع‪،‬‬ ‫واحلدث‪ ،‬ويقيدها زمان ومكان معينان‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬االهتمام مب�سرح الطفل يف الع�صر احلديث غدا‬ ‫‌‬ ‫�ضرورة الزبة لأمرين‪ :‬الأول‪ ،‬عالقته باللعب والفكاهة‬ ‫والغناء واملو�سيقا واملتعة وال�شعر والإث��ارة والإدها�ش‬ ‫وغري ذلك‪ .‬والثاين‪ ،‬كونه نافذة مهمة يطل املبدع من‬ ‫خاللها على الطفل لتعميق معرفته وثقافته وتعزيز‬ ‫بع�ض الرتبويات والأخالقيات وال�سلوكيات‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬م����ادام احل��دي��ث عن‬ ‫م�سرح الطفل‪ ،‬باعتبار‬

‫�أن امل�سرح املدر�سي يختلف عن م�سرح الطفل‪ ،‬ف�إن‬ ‫التف�صيل يف امل�سرح املدر�سي �سيكون غائب ًا؛ لأن ذلك‬ ‫يحتاج �إىل ورقة �أخرى وبحث �آخر‪.‬‬ ‫د ‪� -‬إن �أول الإجن���ازات التي تقوم بها امل�ؤ�س�سات‬ ‫الثقافية واجلهات املعنية ت�شجع املبدعني على الكتابة‬ ‫وحتفزهم‪ ،‬لأن التجديد يف هذا امل�سرح �أهم �أ�سلحة‬ ‫البقاء و�أقوى و�سائل الت�أثري يف الطفل‪.‬‬ ‫�إن تقدمي م�سرحيات مدر�سية ومهرجانات خا�صة‬ ‫للم�سرح امل��در���س��ي ال يعني اه��ت��م��ام�� ًا عميق ًا بهذا‬ ‫امل�سرح؛ لأن امل�سرح التعليمي يحتاج �إىل منهجيات‬ ‫وا�سرتاتيجيات‪ ،‬وم��ا ينطبق على امل�سرح املدر�سي‬ ‫ينطبق على الطفل �أي�ض ًا‪ ،‬ولهذا ف�إن تقدمي م�سرحية‬ ‫للطفل ه��ن��ا وه��ن��اك ب��ع��ي��د ًا ع��ن التن�سيق وال��ر�ؤي��ة‬ ‫والتخطيط واملنهجية ال يعني �أن م�سرح‬ ‫الطفل يف بلد من البلدان مزدهر �أو ي�سري‬ ‫يف الطريق ال�سليمة‪.‬‬ ‫ل��ق��د ح��دث��ت ت���راك���م���ات يف امل�����س��رح‬ ‫امل��در���س��ي وم�����س��رح ال��ط��ف��ل ح��ت��ى قيام‬ ‫د‪ .‬هيثم اخلواجة‬

‫ملف العدد‬

‫�سوريا‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪97‬‬


‫م���س���رح ال��ط��ف��ل ف���ي اإلم�������ارات ب����دأ م���ن خ��ل�ال ال��م��س��رح ال���م���درس���ي ق��ب��ل ال��س��ب��ع��ي��ن��ات‪،‬‬ ‫وه����ذه ال���ب���داي���ة اق��ت��ص��رت ع��ل��ى ت��ق��دي��م ب��ع��ض ال��م��س��رح��ي��ات ال��ت��اري��خ��ي��ة أو االج��ت��م��اع��ي��ة‬

‫االحت���اد يف دول��ة الإم����ارات العربية املتحدة‪ ،‬وه��ذه‬ ‫الرتاكمات كانت �سبب املنا�سبات �أو اجتهادات معلم �أو‬ ‫مدر�سة ب�سبب احتفالية ما‪.‬‬ ‫ودليلنا على ذلك عدم وجود م�سرح خا�ص للطفل‪،‬‬ ‫وع���دم وج���ود مطبوعات ل��ه‪ ،‬وع���دم وج���ود ن�صو�ص‬ ‫م�سرحية مطبوعة ودرا�سات �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫وما �إن قام االحتاد حتى بد�أت تتبلور مالمح قيام‬ ‫دولة ع�صرية لها منهجها و�سماتها و�أ�سلوبها عمراني ًا‬ ‫واقت�صادي ًا وفني ًا وجتاري ًا و�سياحي ًا وثقافي ًا وغري ذلك‪.‬‬ ‫ومع مرور ال�سنني وظهور العوملة ودع��وات وحماوالت‬ ‫ت�سميم وت�شويه ثقافة الكبار وال�صغار‪ ،‬وخا�صة فيما‬ ‫يتعلق باللغة التي متثل الهوية والفنون وال�سلوكيات‬ ‫وغري ذلك‪ ..‬مع ظهور كل ذلك كان الب ّد من الت�سلح مبا‬ ‫يجابه احلمالت املد�سو�سة واملحاوالت املفرو�ضة‪ ،‬وكان‬ ‫من الأ�سلحة القوية التي اعتمدتها دول اخلليج العربي‬ ‫الثقافة امل�ضادة‪ ،‬ومنها امل�سرح باعتباره يعلي من‬ ‫قيمة العقل ويعزز دور الوعي وير�سخ قيم ًا و�سلوكيات‬ ‫وثقافات نوعية‪.‬‬ ‫كل ذل��ك حفز على دف��ع م�سرية م�سرح الطفل يف‬ ‫الإمارات ل�صيانة قيم الطفل وثقافته‪ ،‬وحمايته‪ ،‬و�شحذ‬ ‫فكره‪ ،‬و�إغناء ب�صريته‪.‬‬ ‫بعد ما تقدم كيف كانت البدايات يف م�سرح الطفل‬ ‫يف الإمارات ؟‬ ‫�إن م�سرح الطفل يف الإمارات بد�أ من خالل امل�سرح‬ ‫املدر�سي قبل ال�سبعينات‪ ،‬وهذه البداية اقت�صرت على‬ ‫تقدمي بع�ض امل�سرحيات التاريخية �أو االجتماعية‬ ‫املقتب�سة �أو املعدة �أو امل�ؤلفة يف نهاية العام الدرا�سي �أو‬ ‫يف منا�سبة من املنا�سبات‪ ،‬وقد بقي الأمر كذلك �إىل‬ ‫�أن �أ�شرقت �شم�س االحتاد حيث بد�أت مالمح امل�سرح‬ ‫املدر�سي تظهر جلية �سواء �أكان ذلك يف نهاية العام‬ ‫‪98‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ال��درا���س��ي ع�بر املهرجانات امل�سرحية املدر�سية �أم‬ ‫من خالل املنا�سبات‪ .‬ويف �أوائ��ل الت�سعينات ظهرت‬ ‫امل��ح��اوالت الأوىل مل�سرحة املناهج ومل يكتب لهذا‬ ‫االجتاه النمو والتطور حتى الآن‪.‬‬ ‫�أم��ا عن بدايات امل�سرح الطفلي يف الإم���ارات فقد‬ ‫كانت يف ثمانينات القرن املا�ضي حيث قدم عبد اهلل‬ ‫الأ���س��ت��اذ و�سعاد ج��واد جمموعة م�سرحيات هادفة‬ ‫ومهمة من خ�لال م�سرح ليلى يف �أبوظبي كما قدم‬ ‫حم�سن حممد منذ عام ‪ 1982‬يف النادي الأهلي ثالث‬ ‫م�سرحيات‪�( :‬أنا والعفريت‪ ،‬والطيور‪ ،‬والرحمة)‪ .‬وقدم‬ ‫امل�سرح الوطني م�سرحية (طيور ال�سعد) وم�سرح كلباء‬ ‫(البئر املهجورة)‪ ،‬وقدم م�سرح خور فكان م�سرحية‬ ‫(حار�سو الغابة)‪.‬‬ ‫و�ضمن اجلهود الفردية‪ ،‬قدم م�سرح ر�أ�س اخليمة‬ ‫الوطني حماولة مهمة عام ‪ ،1993‬فعر�ض م�سرحية‬ ‫حكاية ميهوب من ت�أليف هيثم يحيى اخلواجة و�إخراج‬ ‫�أ�شرف فوزي‪،‬التي تعترب �أول م�سرحية يف دولة الإمارات‬ ‫العربية املتحدة مت�سرح املناهج املدر�سية‪.‬‬ ‫وب��ن��اء على م��ا ت��ق��دم م��ن ح���راك ومم��ه��دات فقد‬ ‫بدعم‬ ‫انطلق مهرجان م�سرح الطفل الأول عام ‪ٍ 2005‬‬ ‫إ�شراف من جمعية امل�سرحيني‪ ،‬وبالتعاون مع دائرة‬ ‫و� ٍ‬ ‫الثقافة والإعالم بال�شارقة‪.‬‬ ‫و�إذا �أردنا �أن جنيب عن �س�ؤال مفاده ما الهدف من‬ ‫هذا املهرجان؟ ف�سرعان ما نت�أكد �أن هذا املهرجان‬ ‫يهدف �إىل �إيجاد حالة فنية متنوعة موجهة �إىل الطفل‬ ‫للنهو�ض به ثقافي ًا ومعرفي ًا و�أخالقي ًا و�سلوكي ًا‪ ،‬كما‬ ‫يهدف �إىل االرت��ق��اء مب�سرح الطفل وحتفيز الفرق‬ ‫امل�سرحية للإبداع بهذا امليدان‪ ،‬وتعميق دور امل�سرح يف‬ ‫احلياة املعا�صرة‪ ،‬والأخذ بيد الطفولة املبدعة‪.‬‬ ‫وبالفعل فقد متت دعوة الفرق امل�سرحية يف الإمارات‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫الن�ص امل�سرحي الناجح ال بد �أن‬ ‫يت�ضمن معانيه الداللية ويعتمد على‬ ‫احلكاية امل�شوقة واخليال والتخييل‬

‫�إىل امل�شاركة يف مهرجان م�سرح الطفل‪ ،‬كما �ألفت‬ ‫جلنة م�شاهدة وتقييم للعرو�ض من خرية امل�سرحيني‬ ‫املواطنني والعرب الذين ا�شتغلوا بهذا الفن ت�أليف ًا‬ ‫ومتثي ًال و�إخراج ًا‪ ،‬كما عملت جمعية امل�سرحيني على‬ ‫اختيار جلنة حتكيم م�شهود لها باخلربة بهذا الفن‪،‬‬ ‫و�شكلت جلنة حتكيم �أخرى من الأطفال تكون م�صاحبة‬ ‫للجنة التحكيم الأوىل‪ ،‬وقررت �أن تكرم يف كل مهرجان‬ ‫�شخ�صية �أو �أكرث لها �أثرها يف ميدان م�سرح الطفل‪.‬‬

‫ويف ال���دورة ال�سابعة جميع امل�ؤلفني واملخرجني من‬ ‫الإمارات‪ .‬و�إذا كان عدد العرو�ض قد تراجع‪ ،‬ف�إن ذلك‬ ‫يعود �إىل حر�ص اللجنة العليا املنظمة على ا�ستبعاد‬ ‫العرو�ض الهابطة وتقدمي العرو�ض اجليدة فقط‪.‬‬ ‫ثمة مالحظة �أجد من اجلدير الإ�شارة �إليها وهي �أن‬ ‫الكثري من العرو�ض خ�ضعت لأحادية الر�ؤية‪.‬‬

‫يف رحاب املو�ضوعات‬ ‫تنوعت م��و���ض��وع��ات امل�سرحيات ال��ت��ي ق��دم��ت يف‬ ‫مهرجان م�سرح الطفل على مدى الدورات ال�سبع‪ ،‬فقد‬ ‫اعتمد بع�ضها على الرتاث (جنون الأ�شباح)‪ ،‬والآخر‬ ‫على البيئة (قطرة ماء)‪ ،‬والثالث على الواقع الأ�سري‬ ‫– االجتماعي (العقد ال�ضائع – كوكو يا ثعلوب)‪،‬‬ ‫والرابع على الأدب العاملي (�أنا و�ساندريال)‪ ،‬واخلام�س‬ ‫على اخلري وال�شر (من��ول ال�شجاع‪ ،‬مملكة النحل)‪،‬‬ ‫وال�ساد�س على التعاون (املهرج والدمى)‪.‬‬ ‫ويف ق����راءة متفح�صة مل��ا مت ت��ق��دمي��ه يف دورات‬ ‫امل��ه��رج��ان جن��د �أن���ه يف ال����دورة ال��راب��ع��ة واخلام�سة‬ ‫وال�ساد�سة �شاركت ت�سعة عرو�ض يف كل دورة‪� ،‬أما يف‬ ‫جمال الت�أليف يف الدورة ال�ساد�سة فكان هناك �أربعة‬ ‫كتاب عرب وخم�سة كتاب �إماراتيني‪.‬‬ ‫ويف الدورة اخلام�سة �شارك كاتبان عربيان‪ ،‬و�سبعة‬ ‫من الكتاب الإماراتيني‪.‬‬ ‫ويف الدورة الرابعة �أربعة كتاب عرب‪ ،‬وخم�سة من‬ ‫الكتاب الإماراتيني‪.‬‬ ‫�أما يف الإخ��راج يف ال��دورة ال�ساد�سة فنلحظ ثالثة‬ ‫خم��رج�ين ع���رب و���س��ت��ة خم��رج�ين �إم���ارات���ي�ي�ن‪ ،‬ويف‬ ‫اخلام�سة خمرج عربي واح��د‪ ،‬ويف الرابعة خمرجان‬

‫يقول مارك توين ‪�" :‬إن م�سرح الأطفال من �أعظم‬ ‫اخرتاعات القرن الع�شرين‪� ،‬إنه �أقوى معلم للأخالق‪،‬‬ ‫لأن درو�سه ال تلقن بطريقة مرهقة ومملة‪ ،‬بل باحلركة‬ ‫املتطورة التي تبعث على احلما�سة‪ ،‬فت�صل مبا�شرة �إىل‬ ‫قلوب الأطفال كما �أن كتب الأخالق ال يتعدى ت�أثريها‬ ‫العقل‪ ،‬ولكن حني تبد�أ ال��درو���س رحلتها مع م�سرح‬ ‫الأط��ف��ال‪ ،‬ف�إنها ال تتوقف يف منت�صف الطريق‪ ،‬بل‬ ‫مت�ضي �إىل غايتها"‪.‬‬ ‫�إن ما تقدم يعني �أن �أوىل م�شكالت الأطفال هي‬ ‫يف امل��و���ض��وع��ات امل��ط��روح��ة‪� ،‬أي يف اخ��ت��ي��ار الن�ص‬ ‫املالئم الذي يعجب الطفل وميتعه وير�سخ فيه القيم‬ ‫وال�سلوكيات الإيجابية ويزيد معرفته‪� ،‬إذ ال يكفي‬ ‫�أن �أق��دم مقوالت �إن�سانية مهمة وطروحات معرفية‬ ‫�أو ثقافية‪ ،‬لكن املهم �أك�ثر �أن ي��رد ذل��ك ع�بر الفن‬ ‫امل�سرحي الذي يت�ضمن احلركة واللعب واملتعة والإثارة‬ ‫والإدها�ش‪.‬‬ ‫يف امل�سرحيات التي عر�ضتها تربز م�سرحية احلوا�س‬ ‫اخلم�س‪ ،‬وم�سرحية �شكر ًا ب��اب��ا‪ ،‬وم�سرحية قطرة‬ ‫م��اء‪ ،‬وم�سرحية مملكة النحل‪ ،‬وم�سرحية هيا نلعب‬ ‫وم�سرحية منول ال�شجاع‪�..‬إلخ‬ ‫�أما م�سرحية املهرج والدمى فهي تنتمي �إىل امل�سرح‬

‫العدد‬

‫ر�ؤية فنية ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬الن�ص امل�سرحي‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪99‬‬


‫التفاعلي‪ ،‬فيما اعتمدت م�سرحية جنون الأ�شباح على‬ ‫ال�صراع بني اخلري وال�شر‪ ،‬ولكنها قفزت على منطوق‬ ‫احلكاية فافتقدت �إىل امل�سوغات الدرامية‪ ،‬وم�سرحية‬ ‫منول ال�شجاع �سارت احلكاية على خط �أحادي بعيد ًا‬ ‫ع��ن التلوين والإث����ارة والت�شويق‪� .‬أم��ا م�سرحية �أن��ا‬ ‫و�ساندريال فقدمت القيم الأخالقية والرتبوية عرب‬ ‫تنويع درامي وت�شويق حكائي جميل‪ .‬واهتمت م�سرحية‬ ‫مملكة النحل بالدراما االجتماعية عرب �إبراز الثنائية‬ ‫ال�ضدية يف احلياة (اخلري وال�شر)‪.‬‬ ‫وم�سرحية �سعدون و�أبطال الكرتون �سارت باجتاه‬ ‫الثنائية ذاتها مع دمج وا�ضح بني الواقع الفني والواقع‬ ‫االف�ترا���ض��ي واحل��ر���ص على الت�شويق والإث����ارة‪� .‬أم��ا‬ ‫م�سرحية مدينة الع�سل – التي �أع��دت عن م�سرحية‬ ‫عزيز ني�سني (الع�سل املربطم) فقد �أثبتت وعي ًا يف‬ ‫التقاط جوهر احلكاية الرئي�سة والتقاط ال��درام��ا‬ ‫فيها على الرغم من االلتبا�س الذي بدا وا�ضح ًا عند‬ ‫الأطفال يف معرفة �أبعاد بع�ض ال�شخ�صيات ودورها من‬ ‫مثل �شخ�صية املختار و�شخ�صية رئي�س البلدية‬ ‫بقي �أن ن�شري �إىل �أن الكاتب امل�سرحي املبدع هو الذي‬ ‫يهتم بجمهور الأطفال فيقدم لهم ما يرغبون عرب الفن‬ ‫واجلمال‪� .‬إن تفاعل الطفل النف�سي مع امل�سرح ال ي�أتي‬ ‫من خالل الهذر والت�سطيح والتهريج و�إ�ضاعة الوقت‬ ‫مبقوالت �ضعيفة �أو تافهة‪ ،‬و�إمنا من خالل ثقافة فنية‬ ‫�شاملة تعترب ج��زء ًا ال يتجز�أ من عملية تطور الذات‬ ‫لديه وعرب �أبعاد جمالية ت�شكل جوهر املعنى والداللة‬ ‫لأنها تتيح للطفل اكت�شافات مهمة وتغني ب�صريته‪.‬‬ ‫�إن هذه النماذج ت�ؤكد وجود عرو�ض م�سرحية جيدة‬ ‫ومهمة‪ ،‬لكن هذا ال يكفي باعتبار �أن الطموح ي�ستدعي‬ ‫القول �إننا بحاجة كبرية �إىل مزيد من الن�صو�ص اجليدة‪.‬‬ ‫وبناء على ذلك ولدى قراءة الن�صو�ص التي عر�ضت‬ ‫‪100‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫يف مهرجانات م�سرح الطفل يف الإمارات خل�صت �إىل‬ ‫�أن اجتاهات احلكاية ذات منحيني‪ :‬الأول‪ ،‬ينحو منحى‬ ‫احلكاية الكال�سيكية ذات اخل��ط ال��درام��ي الواحد‪،‬‬ ‫والثاين ينحو منحى احلكاية داخل احلكاية عرب لعبة‬ ‫امل�سرح داخل امل�سرح‪ ،‬كما تو�صلت �إىل �ضرورة الدعوة‬ ‫واالنتباه �إىل ما يلي‪:‬‬ ‫‪ - 1‬االبتعاد عن االقتبا�س والإعداد ما �أمكن‪� ،‬إال �إذا‬ ‫كان االقتبا�س والإع��داد مب�ستوى الت�أليف الأ�صلي وال‬ ‫ي�شوهه �أو يقلل من قيمته‪.‬‬ ‫‪ - 2‬الت�صدي �إىل موا�ضيع معا�صرة‬ ‫‪ - 3‬االهتمام بالبيئة ومفرداتها احلالية‬ ‫‪ - 4‬الرتكيز على �إن�سانية الإن�سان‬ ‫‪ - 5‬االهتمام باخليال العلمي‬ ‫‪ - 6‬الإ�صرار على ال�صراع واملتعة والإدها�ش والت�شويق‬ ‫‪ - 7‬النظرة �إىل الرتاث من منظور متحرك يتطلع‬ ‫�إىل احلا�ضر وامل�ستقبل‬ ‫‪� - 8‬إهمال اخلطابية واملبا�شرة وتغييبها‬ ‫�إن ال��ن�����ص امل�����س��رح��ي ال��ن��اج��ح ال ب��د �أن يت�ضمن‬ ‫معانيه الداللية ويعتمد على احلكاية امل�شوقة واخليال‬ ‫والتخييل‪ ،‬و�أن يكون ال�صراع متواجد ًا يف الن�ص من �أول‬ ‫احلكاية �إىل �آخرها �إ�ضافة �إىل اللعب والت�شويق ور�سم‬ ‫ال�شخو�ص من الداخل واخلارج من خالل ر�ؤية متميزة‪،‬‬ ‫كما البد �أن تكون ال�شخو�ص نامية حمركة للأحداث‬ ‫ولها متيزها وعمقها لكي تطرح �أ�سئلتها وتقنع املتلقي‪.‬‬ ‫وال ميكن �أن يقبل ن�ص م�سرحي طفلي لي�س فيه دراما‬ ‫باعتبار �أن امل�سرح يهتم بالفعل ال بال�سرد‪ ،‬ولهذا ف�إن‬ ‫م�سارات اال�شتغال على الدراما الطفلية ال تثمر �إذا ما‬ ‫كانت خالية من اجلماليات وامل�ؤثرات والعطاءات التي‬ ‫جتذب الطفل‪ ،‬كما ال ميكن �أن يقبل عر�ض م�سرحي‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫‪ - 2‬اللغة امل�سرحية‬

‫تعمل اللغة – ال��ت��ي تعترب �أداة تو�صيل للمتلقي‬ ‫الطفل على ر�سم ال�شخ�صيات و�سرد الأح��داث عرب‬ ‫لغة حوارية موظفة‪ ،‬وهي ت�سهم �إ�سهام ًا كبري ًا يف �إثارة‬ ‫الوعي ملعرفة ما يدور على اخل�شبة‪ ،‬وعلى الرغم من‬ ‫هذه الوظائف وغريها ف�إن الالفت يف م�سرح الطفل‬ ‫الإماراتي االهتمام باللهجة العامية‪ ،‬و�إهمال الف�صحى‬ ‫�إذ نلحظ �أن ما قدم من عرو�ض م�سرحية عرب �سبع‬ ‫دورات تتغلب فيها العامية على الف�صحى‪.‬‬ ‫البع�ض يدعي ب�أن من ال�ضروري تكري�س اللهجات‬ ‫املحلية والبع�ض يدعي ب�أنها �أهون على املمثل ومتنحه‬ ‫فر�صة التعبري ب�صدق من ال��داخ��ل والبع�ض الآخ��ر‬ ‫يدعي ب�أن الف�صحى �صعبة‪.‬‬ ‫لكن هذه الدعوات مبجملها بهتت �أمام معرفة دور‬ ‫الف�صحى يف م�سرح الطفل معرفة �صحيحة‪ ،‬وامل�ؤ�سف‬ ‫�أن البع�ض �إذا قرر �أن يت�صدى لن�ص م�سرحي كتب‬ ‫بالف�صحى‪ ،‬ف�إن �أول ما يفعله هو حتويله �إىل العامية‪.‬‬ ‫�إن طفل اليوم يعي�ش ازدواج��ي��ة لغوية‪ ،‬كما يعاين‬ ‫من تنازع لغوي بني قوة الإجنليزية وع��دم االهتمام‬ ‫بالعربية يف جماالت التوظيف واحلياة العملية‪ ،‬ولهذا‬ ‫ف���إن تكري�س الف�صحى ���ض��رورة‪ .‬وامل�سرح م��ن �أه��م‬ ‫القنوات لتحقيق ذلك‪.‬‬ ‫القراءة الإخراجية‪..‬‬ ‫يعتقد البع�ض ب�أن القراءة الإخراجية للن�ص الطفلي‬ ‫�سهلة وب�سيطة و�أن الطفل يقبل كل �شيء وميكن �أن‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪101‬‬

‫إن ت��ق��دي��م م��س��رح��ي��ات م��درس��ي��ة وم��ه��رج��ان��ات خ��اص��ة ل��ل��م��س��رح ال��م��درس��ي ال ي��ع��ن��ي اهتمامًا‬ ‫ع��م��ي��ق��ًا ب��ه��ذا ال��م��س��رح؛ ألن ال��م��س��رح ال��ت��ع��ل��ي��م��ي ي��ح��ت��اج إل���ى م��ن��ه��ج��ي��ات واس��ت��رات��ي��ج��ي��ات‬

‫ال يهتم ب��واق��ع الطفل �آخ���ذ ًا بعني االع��ت��ب��ار الع�صر‬ ‫التكنولوجي احلديث الذي تو�سعت فيه قنوات الرتبية‬ ‫والتن�شئة‬

‫ن�ضحك عليه ب���أي �أ�سلوب ك��ان‪ .‬وقد ن�سي ه���ؤالء ب�أن‬ ‫هند�سة م�سرح الطفل �صعبة ج��د ًا و�أن �أي��ة حركة �أو‬ ‫�سلوك يف العر�ض البد �أن يكون له م�سوغ‪ ،‬و�أن طفل‬ ‫ال��ي��وم ذك��ي ج��د ًا ول��دي��ه خ�برة وا�سعة ا�ستمدها من‬ ‫احل�ضارة املعا�صرة واملخرتعات احلديثة‪ ،‬ولهذا فهو‬ ‫ال يتقبل الهذر على اخل�شبة‪ ،‬وال ين�شد �إىل �سفا�سف‬ ‫الأم���ور يف العر�ض‪ ،‬لأن��ه يتطلع لأن��ه ي��رى ما يده�ش‬ ‫ويثري‪ ..‬من هنا نرى ب�أن املخرج يف العر�ض امل�سرحي‬ ‫الطفلي يتحمل م�س�ؤولية كبرية يف التوا�صل مع جمهور‬ ‫الأطفال باعتباره الو�سيط الفاعل وامل�ؤثر بني امل�ؤلف‬ ‫واملتلقي‪ ،‬ولهذا عليه �أن ي�ؤمن مب�سرح الطفل و�أن يتفهم‬ ‫�أبعاده وف�ضاءاته ودوره وهدفه ومفرداته وجمالياته‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل مهام كثرية تقع عليه لكي يغدو العر�ض‬ ‫مقنع ًا‪� ،‬إذ البد �أن يح�سب ح�ساب ًا لأ�صغر جزئية و�أن‬ ‫يكون حذر ًا جد ًا يف قراءته الإخراجية‪.‬‬ ‫�أنا ال �أنكر ب�أن بع�ض القراءات الإخراجية يف بع�ض‬ ‫العرو�ض عرب مهرجانات م�سرح الطفل كانت جيدة‪،‬‬ ‫ولكنني �أ�شري �إىل �أن الكثري من القراءات كانت �ساذجة‬ ‫ال ترقى �إىل م�ستوى طفل اليوم الذي يرى العامل عرب‬ ‫االنرتنت والتلفاز والآي باد وغري ذلك من خمرتعات‬ ‫و�ألعاب‪.‬‬ ‫و�إذا ك��ان الن�ص اجليد ‪ +‬املخرج اجليد‪ +‬املمثل‬ ‫اجليد ‪ +‬ي���ؤدي �إىل عر�ض جيد‪ ،‬ف���إن الأول��وي��ة دائم ًا‬ ‫الختيار الن�ص املطروح ثم للمخرج الذي يعرف كيف‬ ‫يقر�أ الن�ص‪.‬‬ ‫�إننا بحاجة غلى م�سرح للطفل ي�أخذ يف احل�سبان‬ ‫حتقيق املعايري التي ت�ضمن و�صوله �إىل الأطفال ب�صورة‬ ‫�سل�سة حمقق ًا الفائدة واملتعة يف �آن واحد‪ ،‬وم�ساهم ًا‬ ‫يف تن�شئة الطفل على القيم الأ�صيلة التي ين�شدها‬ ‫جمتمعنا العربي‬


‫‪102‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫التشكيلي عبد الرحمن زينل‬

‫المواءمة بين التراث‬ ‫والمعاصرة‬ ‫تشكيل‬

‫د‪ .‬حممود �شاهني‬ ‫�سوريا‬

‫ُي�صنف الفنان الت�شكيلي عبد الرحمن زينل �ضمن‬ ‫الأ�سماء الرائدة يف الت�شكيل الإماراتي املعا�رص‪ ،‬له‬ ‫جتربة فن ّية طويلة ومتنوعة الأ�ساليب واالجتاهات‪،‬‬ ‫لكنها ظلت �ضمن ال�ضفاف الوا�سعة للواقع ّية‪،‬‬ ‫ول�صيقة مبو�ضوعات البيئة ال�شعب ّية املتمثلة باملر�أة‪،‬‬ ‫والبيت‪ ،‬واملراكب‪ ،‬واملعامل الأثر ّية‪ ،‬وال�صيد ‪...‬‬ ‫وغري ذلك من مظاهر احلياة ال�شعب ّية الإمارات ّية‬ ‫املتفردة بجملة من اخل�صائ�ص واملقومات‪.‬‬ ‫الفنان زينل من مواليد دبي عام ‪ ،1951‬در�س‬ ‫فن الديكور يف القاهرة وعمل رئي�س ًا للق�سم‬ ‫املعني بهذا الفن يف تلفزيون دبي‪ .‬تابع درا�سته‬ ‫العليا للفنون يف �أدنربة ب�سكوتلندا‪ .‬له م�شاركات‬ ‫عديدة يف املعار�ض الت�شكيل ّية الإمارات ّية الداخل ّية‬ ‫واخلارج ّية‪ ،‬كما �أقام ب�ضعة معار�ض فرد ّية لأعماله‬ ‫التي ح�صلت على عدة جوائز‪.‬‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪103‬‬


‫تعود البدايات الأوىل لتجربة الفنان عبد الرحمن‬ ‫زينل �إىل عقد �ستينيات القرن املا�ضي‪ ،‬وهو (كما يقول‬ ‫زميله الفنان عبد الرحيم �سامل) من م�ؤ�س�سي حركة‬ ‫الفن الت�شكيلي يف دولة الإمارات العرب ّية املتحدة‪ .‬بد�أ‬ ‫هذه التجربة بقوة الفتة‪ ،‬التزم فيها ال�صيغة الواقع ّية‪،‬‬ ‫لكنه كان متطور ًا يف ا�ستخدامه لرموز البيئة املحل ّية‪،‬‬ ‫وملح ًا على �إبراز فكرة �أو مو�ضوع لوحته‪ ،‬بطريقة واع ّية‪،‬‬ ‫عرب تقاطعات لون ّية حر�ص على تواجدها فيها‪ ،‬للتحلل‬ ‫من �سطوة الت�سجيل ّية‪ ،‬والإحاطة بجوانب م�ضامينها‬ ‫املختلفة‪ .‬هذه امل�ضامني التي كان يجهد الفنان زينل‬ ‫النتخابها والتعبري عنها ب�صورة مثال ّية‪ ،‬تتقارب مع‬ ‫الواقع‪ ،‬لكنها ال تقع �أ�سرية حلرف ّيته الت�سجيل ّية اجلامدة‪.‬‬ ‫مو�ضوعات �أعماله‬ ‫يقول الفنان عبد الرحمن زينل �إنه يعالج يف لوحاته‬ ‫امل�شكالت االجتماع ّية‪ ،‬والق�ضايا ال�سيا�س ّية ال�ساخنة‪،‬‬ ‫لكن ب�صيغة حديثة‪ ،‬ور�ؤي���ة تراث ّية‪ ،‬ومفهوم جديد‪،‬‬ ‫ي�ستعري مفرداته من البيئة حوله‪ .‬كما كر�س جانب ًا‬ ‫‪104‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫من جتربته الفن ّية ملكافحة الآفات التي تفتك باملجتمع‬ ‫كاملخدرات التي يراها نوع ًا من االنتحار الذاتي البطيء‬ ‫الذي ميار�سه متعاطيها دون وعي �أو �إدراك منه للنهاية‬ ‫امل�أ�ساو ّية التي تنتظره‪ ،‬بل على العك�س‪ ،‬يخاجله �شعور‬ ‫زائف وخمادع‪ ،‬بطول العمر‪ ،‬وبهجة احلياة‪ .‬وللتعبري‬ ‫عن حالة هذا الواهم‪ ،‬ي�ستخدم الفنان زينل جملة من‬ ‫الرموز وامل��ف��ردات‪ ،‬منها قيامه بت�صويره وه��و يفقد‬ ‫حياته بالتدريج‪� ،‬أو يت�سرب عمره من بني يديه كما‬ ‫يت�سرب الرمل من �أعلى �إىل �أ�سفل‪ ،‬يف قارورة ال�ساعة‬ ‫الرمل ّية‪ .‬وللتعبري عن احلرب التي تغتال الطفولة‪� ،‬ص ّور‬ ‫ر�صا�صة وهي تق�صف ر�أ�س الوردة‪ ،‬والورود والأزاهري‬ ‫يف لوحات الفنان عبد الرحمن زينل‪ ،‬تجُ ّ�سد رمز ّية‬ ‫عالية‪ ،‬ت�أتي دوم ًا على خلف ّية تراث ّية‪ .‬كما و�ضع الفنان‬ ‫جمموعة من الر�سوم للأطفال‪ ،‬وكر�س العديد من‬ ‫�أعماله للق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬وب�شكل خا�ص انتفا�ضات‬ ‫ال�شعب الفل�سطيني املتكررة‪ ،‬حيث ا�ستخدم للتعبري‬ ‫عنها‪� ،‬إىل جانب املفردات الواقع ّية‪ ،‬الرمز والإ�شارة‪ ،‬ما‬ ‫عمق داللة املو�ضوع‪ ،‬وزاد من قوة تعبريه‪.‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫ال�صحايف الذي ي�ضع نف�سه مكان الناقد الفني‪ ،‬و ُيطلق‬ ‫�أحكامه دون اللجوء �إىل الفنان نف�سه‪ .‬هكذا ناقد‪ ،‬يف‬ ‫الغالب‪ ،‬يجرح �إح�سا�س الفنان وال يخدمه‪ .‬من جانب‬ ‫�آخر‪ ،‬يجب على الناقد الفني �أن ميتلك فل�سفة نقد ّية‪،‬‬ ‫ومنهج ي�سري عليه‪ ،‬والكثري من املو�ضوع ّية واملحبة‬ ‫والثقافة النظر ّية والعمل ّية‪.‬‬ ‫وي�ؤكد الفنان زينل‪� ،‬أنه على الرغم من ق�صر عمر‬ ‫احلركة الفن ّية الت�شكيل ّية الإم��ارات�� ّي��ة‪ ،‬ف�إنها تبدو‬ ‫اليوم يف �أح�سن ح��ال‪ ،‬وتقف جنب ًا �إىل جنب‪ ،‬مع‬ ‫حركات مماثلة‪ ،‬يف دول متقدمة‪ ،‬والف�ضل يف ذلك‬ ‫يعود �إىل اجتهاد الفنانني العاملني يف حقولها الذين‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪105‬‬

‫ح���رك���ة ال���ف���ن ال��ت��ش��ك��ي��ل��ي‪ ،‬ف���ي أي دول������ة‪ ،‬ت��ح��ت��اج إل����ى وق����ت ط���وي���ل‪ ،‬ك���ي تتمكن‬ ‫آن معًا‬ ‫م���ن ف����رز ف��ن��ان��ي��ن رواد‪ ،‬وه�����ذا ال���زم���ن ي��ح��ت��اج��ه ال���ف���ن���ان وال��م��ت��ل��ق��ي ف���ي ٍ‬

‫الت�شكيل الإماراتي‬ ‫يرى الفنان زينل �أن حركة‬ ‫الفن الت�شكيلي‪ ،‬يف �أي دولة‪،‬‬ ‫حت��ت��اج �إىل وق���ت ط��وي��ل‪ ،‬كي‬ ‫تتمكن من ف��رز فنانني رواد‪،‬‬ ‫وه��ذا الزمن يحتاجه الفنان‬ ‫واملتلقي يف � ٍآن م��ع�� ًا‪ :‬الفنان‪،‬‬ ‫ليكت�سب اخل�ب�رة ال��ت��ق��ان�� ّي��ة‪،‬‬ ‫وامل��ع��ارف التوليف ّية‪ ،‬وال�صيغ‬ ‫ال��ت��ع��ب�ير ّي��ة‪ ،‬وال��ث��ق��اف��ة الفن ّية‬ ‫النظر ّية العميقة القادرة على‬ ‫توجيهه �إىل املوا�ضيع الهادفة‬ ‫واملفيدة‪ .‬واملتلقي القادر على‬ ‫التفاعل مع املنجز الب�صري‬ ‫ل��ه��ذا ال���ف���ن���ان‪ ،‬و�إدراك ما‬ ‫يحمل م��ن �أف���ك���ار‪ ،‬وي�ستمتع‬ ‫مب��ا ي��رف��ل ب��ه م��ن جماليات‪.‬‬ ‫وعملية التوا�صل ه��ذه حتتاج‬ ‫�إىل �أن ي�ضع الفنان املتلقي‬ ‫يف ذهنه‪� ،‬أثناء اجرتاحه فعل‬ ‫الإب��داع‪ ،‬و�أن يجتهد املتلقي بدوره‪ ،‬يف تطوير ثقافته‬ ‫الفن ّية‪ ،‬وت�شذيب ذائقته الب�صر ّية‪ ،‬عرب الإكثار من‬ ‫زيارة املعار�ض‪ ،‬واالحتكاك بالعمل الفني‪ ،‬ليتمكن من‬ ‫التوا�صل ال�صحيح مع هذا العمل‪.‬‬ ‫هذا ب�شكل عام‪� ،‬أما بالن�سبة حلركة الفن الت�شكيلي‬ ‫يف دولة الإمارات العربية املتحدة‪ ،‬فريى الفنان عبد‬ ‫الرحمن زينل �أن الفنان ال��ذي ي�شتغل فيها مظلوم‬ ‫ومه�ضوم حقه من قبل اجلمهور والنقاد يف � ٍآن مع ًا‪،‬‬ ‫م�شري ًا �إىل �أن من يفهم و ُيق ّيم الفن الت�شكيلي‪ ،‬لي�س هو‬


‫�إن املتاحف التخ�ص�ص ّية‪ ،‬توفر‬ ‫فر�صة للفنانني واملتابعني والدار�سني‬ ‫والباحثني يف علوم الفن واجتاهاته‪،‬‬ ‫لتحديد م�سار وتطور الفنون‬ ‫متكنوا من �إث��ب��ات وج��وده��م املتميز‪ ،‬عرب نتاجات‬ ‫�إبداع ّية جديدة‪ ،‬نالت ا�ستح�سان املتلقني والنقاد‬ ‫مع ًا‪ ،‬لكنه ي�ستدرك م�ؤكد ًا‪� ،‬أن �أبرز الإ�شكاليات التي‬ ‫يعاين منها الفن الت�شكيلي الإماراتي اليوم‪ ،‬االندفاع‬ ‫غ�ير امل�ب�رر‪ ،‬لبع�ض فنانيه‪ ،‬نحو امل��دار���س الفن ّية‬ ‫احلديثة‪ ،‬واال�شتغال عليها‪ ،‬دون معرفتهم ب�أ�صولها‪،‬‬ ‫�أو قناعتهم بها!!‪.‬‬ ‫م��ع ذل��ك‪ ،‬ي���ؤك��د الفنان عبد الرحمن زي��ن��ل �أن‬ ‫الفنان الت�شكيلي الإم��ارات��ي املعا�صر‪ ،‬قطع �شوط ًا‬ ‫كبري ًا يف م�سريته الفن ّية احل�ضار ّية‪ ،‬خالل مرحلة‬ ‫زمن ّية ق�صرية‪ ،‬وقد �شد الأنظار �إليه‪ ،‬ومل يبق �سوى‬ ‫�أن يتجاوز ح��دود املحل ّية واخل���روج �إىل العامل ّية‪،‬‬ ‫م�ؤكد ًا يف الوقت نف�سه‪ ،‬على �ضرورة التو�سع �أكرث‪،‬‬ ‫بن�شر �صاالت عر�ض الفن الت�شكيلي اجلاد‪ ،‬و�إ�شادة‬ ‫متاحف للفن الإماراتي احلديث واملعا�صر‪ ،‬حتفظ‬ ‫�أبرز نتاجاته وتوثقها‪ ،‬وتوفر يف الوقت نف�سه‪ ،‬فر�صة‬ ‫للمهتمني والباحثني‪ ،‬م��ن �أج��ل درا���س��ة ه��ذا اللون‬ ‫من الثقافة الب�صر ّية العامل ّية الراقية وامل��ق��روءة‬ ‫من قبل النا�س‪ ،‬كل النا�س‪ ،‬بغ�ض النظر عن اللغة‬ ‫التي يتحدثون بها‪ ،‬وحتى الثقافة النظر ّية التي‬ ‫ميتلكونها‪ ،‬ذلك لأن الأثر الفني الت�شكيلي امل�سطح‬ ‫(ال��ل��وح��ة) واملج�سم (النحت) ق��ادر على مغازلة‬ ‫العني‪ ،‬وهدهدة الإح�سا�س‪ ،‬دون و�سيط �أو ترجمة‪،‬‬ ‫متام ًا كما تفعل املو�سيقا‪.‬‬ ‫�إن املتاحف التخ�ص�ص ّية‪ ،‬توفر فر�صة للفنانني‬ ‫وامل��ت��اب��ع�ين وال��دار���س�ين وال��ب��اح��ث�ين يف ع��ل��وم الفن‬ ‫واجتاهاته‪ ،‬لتحديد م�سار وتطور الفنون التي باتت‬ ‫اليوم‪ ،‬العنوان الأبرز لتطور الأمم‪ ،‬وتقدم وال�شعوب‪،‬‬ ‫و�أف�����ض��ل‪ ،‬ح���اوي���ات ت��اري��خ��ه��ا ال���ذي ي��ر���ص��د حركة‬ ‫ح�ضارتها ويوثق لها‪.‬‬ ‫‪106‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫واقع ّية متلونة‬ ‫�أق��ر غالبية ال��دار���س�ين لفن عبد الرحمن زينل‪،‬‬ ‫بنزوعه الدائم للتجديد الأ�سلوبي‪ ،‬والتجريب التقاين‪،‬‬ ‫والتنويع امل�ضموين‪ ،‬لكن �ضمن ال�ضفاف الوا�سعة‬ ‫للواقع ّية املتماه ّية �أح��ي��ان�� ًا بال�سوريال ّية‪ ،‬و�أحيان ًا‬ ‫بالزخرف ّية‪.‬‬ ‫فالفنان اللبناين والباحث يف علوم الفن الدكتور‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫زينل‪� :‬إن لوحتي ت�أثري ّية انطباع ّية‪،‬‬ ‫و� ّ‬ ‫أف�ضل الأ�سلوب الواقعي على الرغم‬ ‫من جتربتي للأ�ساليب الأخرى‬

‫حممود �أم��ه��ز‪ ،‬ي��رى �أن عبد الرحمن زينل يتبع يف‬ ‫جتربته الفن ّية املنهج الواقعي‪ ،‬ولكن ب�أ�سلوب خمتلف‬ ‫و�أكرث حترر ًا من عملية املحاكاة للواقع نف�سه‪ ،‬ك�أمنا‬ ‫يحاول �أن يبتعد عن هذا الواقع الذي يحاكيه ب�إ�ضفاء‬ ‫طابع الغرابة على لوحاته‪ ،‬وذلك با�ستخدام م�ساحات‬ ‫لون ّية (منوكروم ّية)‪� .‬أي ذات لون واحد‪ ،‬فيها �شيء‬ ‫من ال�سوريال ّية‪ ،‬وهو ما ي�ؤكده الفنان زينل بقوله‪� :‬إن‬ ‫لوحتي ت�أثري ّية انطباع ّية‪ ،‬و� ّ‬ ‫أف�ضل الأ�سلوب الواقعي‬ ‫العدد‬

‫على الرغم من جتربتي للأ�ساليب الأخ��رى‪ .‬وي�ؤكد‬ ‫�أنه يف بداياته ت�أثر بفنانني عامليني �أمثال‪ :‬فان كوخ‪،‬‬ ‫ومانيه‪ .‬ثم بد�أ يبحر و ُير ّكز يف لوحاته على البيئة‪،‬‬ ‫ومعاجلة املو�ضوعات الإن�سان ّية‪ ،‬متعمد ًا �أن تقول‬ ‫اللوحة ق�صة ما‪� ،‬أو �أن ُتعبرّ عن فكرة بعينها‪ ،‬وهو ال‬ ‫مييل �إىل التجريد �أو املدار�س الفن ّية احلديثة‪ ،‬لأنه‬ ‫يراها بعيدة عن الواقع اخلليجي والعربي‪ ،‬م�ؤكد ًا �أن‬ ‫على من يريد ر�سم الرتاث‪ ،‬عليه �أن ير�سمه مدفوع ًا‬ ‫بهاج�س البحث والدرا�سة والإ�ضافة‪ ،‬وهو �شخ�صي ًا‪،‬‬ ‫ي�ستخدم الزخرفة يف لوحاته‪ ،‬كعن�صر جمايل ي�أتي‬ ‫مكم ًال للوحة‪� ،‬أو ُي�شكل خلف ّية لها‪ ،‬ويف النهاية‪ ،‬يبقى‬ ‫لكل فنان توجهاته و�أ�سلوبه الذي مييزه عن الآخرين‪.‬‬ ‫وي���ؤك��د ال��ف��ن��ان وال��ن��اق��د الفل�سطيني امل��ق��ي��م يف‬ ‫الإم��ارات الدكتور عبد الكرمي ال�سيد �أن الفنان عبد‬ ‫الرحمن زينل كبقية زمالئه‪ ،‬ذو �أ�سلوب غري وا�ضح‬ ‫املعامل‪ .‬فقد كانت �أعماله مزيج ًا من املدار�س الفن ّية‬ ‫املختلفة‪ ،‬وه��ذا املزيج‪ ،‬ميكن ر�ؤيته حتى يف العمل‬ ‫الفني الواحد‪ .‬كما ميكن �أن نالحظ فيه خروج ًا عن‬ ‫امل�ألوف‪ ،‬فهو ال ينقل الطبيعة كما هي‪� ،‬إمنا ي�ضيف‬ ‫�إليها �شيئ ًا يجعها مميزة ر�سم ًا ول��ون�� ًا‪ .‬وي�ستدرك‬ ‫الدكتور ال�سيد قائ ًال‪� :‬إن هذه احلالة اقت�صرت على‬ ‫البدايات الأوىل لتجربة زينل التي مل ترق �إىل امل�ستوى‬ ‫املطلوب م��ن الن�ضج الفني‪ ،‬ومل ت���دل(يف حينها)‬ ‫على �شخ�صية فن ّية‪ ،‬لكنها �أ�شارت ب�شكل �أو ب�آخر‪،‬‬ ‫�إىل امتالك الفنان زينل للموهبة‪ ،‬واملقدرة الفن ّية‪،‬‬ ‫والطموح لإثبات الوجود الفني املتميز‪ ،‬الأم��ر الذي‬ ‫دفعه لل�سفر �إىل القاهرة‪ ،‬ودرا�سة الفن فيها‪ ،‬وبعد‬ ‫�إنهائه لهذه الدرا�سة‪ ،‬ب��د�أت مرحلة الن�ضج الفني‬ ‫يف جتربته‪ ،‬و�أخ��ذت �أعماله يف التكامل املو�ضوعي‬ ‫والتكويني‪ ،‬وب��د�أ �أ�سلوبه ي�أخذ بعد ًا واقعي ًا ذا ح�س‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪107‬‬


‫لوين و�آخر رمزي ًا‪ ،‬وبالتدريج‪ ،‬تعمقت جتربته الفكر ّية‬ ‫التي عبرّ عنها ب�أ�سلوب رمزي هند�سي‪ ،‬عك�س مدى‬ ‫ا�ستفادته من اخت�صا�صه الأك��ادمي��ي (الديكور)‪.‬‬ ‫تتالت بعدها التطورات والإ�ضافات يف جتربته‪ ،‬ليبدو‬ ‫من خاللها جمدد ًا يف كل �شيء‪.‬‬ ‫قراءة يف �أعماله‬ ‫املت�أمل يف �أعمال الفنان عبد الرحمن زينل‪ ،‬يجد‬ ‫�أن��ه��ا (رغ��م تلونها الأ�سلوبي وال�صياغي ونزوعها‬ ‫الدائم للبحث والتجريب يف ا�ستخدام التقانات اللون ّية‬ ‫املختلفة) مل تغادر ال�ضفاف الوا�سعة لل�صياغة اللون ّية‬ ‫التي عالج من خاللها الطبيعة اخللو ّية‪ ،‬واملراكب‬ ‫يف عر�ض البحر‪ ،‬والبيوت الريف ّية‪ ،‬وبع�ض الآث��ار‬ ‫الدار�سة‪ ،‬واملعامل احل�ضار ّية املتميزة يف الإم��ارات‪،‬‬ ‫واملر�أة بني �أح�ضان الطبيعة‪ ،‬بلبا�سها التقليدي‪ .‬كما‬ ‫قام بر�صد حياة ال�صيادين �ضمن و�ضعيات وقطوعات‬ ‫خمتلفة‪ ،‬طرزها ب���الأدوات وال��رم��وز الل�صيقة بهذه‬ ‫احلياة كدفة ال�سفن واملراكب‪ ،‬ون�شر �شباك ال�صيد‪،‬‬ ‫‪108‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�أو قيام البحارة برتقها وترميمها‪ .‬كما ر�سم مظاهر‬ ‫ال�صيد ال�ب�ري‪ ،‬ف�����ص�� ّور ال�صقور �ضمن و�ضعيات‬ ‫الفتة‪ ،‬ويف �أطر طبيع ّية مفعمة بالرومان�س ّية‪ ،‬ومطرزة‬ ‫باخليال‪.‬‬ ‫يجمع الفنان زينل يف معاجلة لوحاته بني القدرات‬ ‫التعبري ّية العال ّية للخط (ال��ر���س��م) وال��ل��ون‪ ،‬وهما‬ ‫الأدات�����ان الرئي�ستان لبناء ال��ل��وح��ة‪ ،‬والتعبري عن‬ ‫م�ضمونها‪ .‬فاخلط لديه �صريح وم�ستمر‪ ،‬ي�سحبه من‬ ‫العجينة اللون ّية نف�سها‪ ،‬والأل���وان لديه ب�شكل عام‪،‬‬ ‫�شفيفة‪ ،‬تتو�ضع �ضمن م�ساحات وا�سعة‪ ،‬متحركة‪،‬‬ ‫ت��وح��ي ب��ت��ي��ارات حتيط بقر�ص ال�شم�س �أو القمر‪،‬‬ ‫�أو تنداح عن ه��ذا القر�ص لتبدو وك�أنها �أث��واب من‬ ‫احلرير‪� ،‬أو دوائر �أحدثتها ح�صاة �ألقيت فوق �سطح‬ ‫م��اء راك��د‪ .‬وبالتدريج �أخ��ذت �أل��وان��ه تتكثف وتتنوع‬ ‫وتتباين حمموالت �سطوحها من التكنيك �أو امللم�س‪،‬‬ ‫�أو طريقة مدها فوق �سطح اللوحة‪ ،‬مف�صح ًة بذلك‪،‬‬ ‫عن كوامنه التجديد ّية التحديث ّية‪ ،‬لكن دون �أن تفقد‬ ‫درجات �ألوانه‪ ،‬جتان�سها وتوافقها وان�سجامها‪ ،‬ي�سعفها‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫يف ذلك‪ ،‬اعتماده على اخلطوط اللينة الناعمة‪ ،‬يف‬ ‫ت�أطري وحتديد هيكلية عنا�صر ومفردات اللوحة‪ ،‬من‬ ‫ماء وتراب وحجارة‪ ،‬بحيث حتولت �إىل هيئات خيال ّية‬ ‫مركبة‪ ،‬تذكرنا كتقنية‪ ،‬وطريقة معاجلة‪ ،‬بالفنون‬ ‫الغرافيك ّية ال�صين ّية �أو اليابان ّية‪ ،‬وال �سيما املُنفَّذ‬ ‫منها على �سطوح و�سيطة (كاحلجر (الليتوغراف)‪،‬‬ ‫�أو اخل�شب‪� ،‬أو املعدن‪� ،‬أو اللينوليوم) وامل�ستن�سخة‬ ‫بالطباعة اليدو ّية‪.‬‬ ‫وال��ف��ن��ان زي��ن��ل‪ ،‬متمكن م��ن الن�سب الت�شريح ّية‬ ‫ال�صحيحة‪ ،‬ولديه اخلربة الوا�ضحة يف التعامل مع‬ ‫و�سائل و�أدوات تعبريه الواقع ّية‪ ،‬وي�سهب بدرا�سة‬ ‫متو�ضع عنا�صر اللوحة ومفرداتها يف تكوينها الذي‬ ‫يغلب عليه التكوين الهرمي امل�ستقر والرا�سخ‪.‬‬ ‫املالحظة الالفتة يف جتربة الفنان عبد الرحمن‬ ‫زينل‪ ،‬حماولته الدائمة‪ ،‬حقن الواقع ّية يف �أعماله‪،‬‬ ‫ب��ال��رم��وز والإ����ش���ارات‪ ،‬وتطريزها ب��اخل��ي��االت‪ ،‬ما‬ ‫مينحها م�سحة �سوريال ّية‪ ،‬تعك�س رغبة ملحاحة‬ ‫ل��دي��ه‪ ،‬لت�صعيد القيم التعبري ّية ل��ه��ذه الواقع ّية‪،‬‬ ‫وتعميق دالالتها‪ ،‬ومن ثم الن�أي بها عن الوقوع يف‬ ‫مطب الواقع ّية الت�سجيل ّية الباردة واجلامدة‪ .‬هذا‬ ‫الرغبة الوا�ضحة لدى الفنان زينل برتميز الواقع‪،‬‬ ‫وح��ق��ن��ه ب��احل��ل��م وال��ت��خ��ي��ل‪ ،‬ت��ن��م ع��ن ع��م��ق ثقافته‬ ‫الب�صر ّية‪ ،‬واطالعاته الوا�سعة الطيف‪ ،‬على تاريخ‬ ‫الفنون ومدار�سها واجتاهاتها‪ ،‬الأمر الذي ي�شعره‬ ‫ب�ضرورة تطوير وجتديد و�سائل و�أدوات تعبريه التي‬ ‫تتنامى وتت�صعد دون �أن تفقد بو�صلتها الواقع ّية‬ ‫احلا�ضنة لنب�ض البيئة الإم��ارات�� ّي��ة وخ�صائ�صها‬ ‫العدد‬

‫امل��ت��ف��ردة ال��ت��ي ي��ج��ب �أن ت��ب��ق��ى ال��ه��اج�����س الأول‬ ‫والرئي�س‪ ،‬لكل مبدع ي�سعى للتوا�صل مع ال�شرائح‬ ‫الوا�سعة من النا�س‪� ،‬سواء داخل البالد �أو خارجها‪،‬‬ ‫وال �سيما يف ع�صرنا احل��ايل ال��ذي ت�سعى العوملة‬ ‫جاهدة‪ ،‬لق�ضم هذه اخل�صائ�ص املتفردة‪ ،‬متهيد ًا‬ ‫وتوطئ ًة لتعميم الأمنوذج الإن�ساين الواحد املحكوم‬ ‫باال�ستالب واال�ستهالك وفقدان ال ُهو ّية واملالمح‪.‬‬ ‫وهذا الهدف حتديد ًا‪ ،‬ما ت�سعى �إليه‪ ،‬فنون العبث‬ ‫وال�صرعات ال�ضائعة واملُ�ض ّيعة‪ ،‬والتي قد ت�سود‬ ‫لفرتة‪ ،‬لكنها زائلة ال حمالة‪ ،‬بدليل العودة املظفرة‬ ‫للفنون الواقع ّية الر�صينة امل�ستندة �إىل الإرث العميق‬ ‫واملرتاكم‪ ،‬للح�ضارة الإن�سان ّية‪ ،‬يف البالد التي خلقت‬ ‫هذه الفنون العابثة و�ص ّدرتها لبقية بلدان العامل‪،‬‬ ‫يف مرحلة كانت تعاين فيها‪ ،‬من تعقيدات الثورة‬ ‫ال�صناع ّية‪ ،‬وتداعيات احلروب العامل ّية الفتاكة‪ ،‬وما‬ ‫خلفته من �آثار �سلب ّية مريعة‪� ،‬أعطبت ج�سد الإن�سان‬ ‫الأوربي وروحه يف � ٍآن مع ًا!!‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪109‬‬


‫الفنانة السعودية عال حجازي‪:‬‬

‫أد ّون هواجسي‬ ‫في الرسم والتلوين‬ ‫اللون حين يكسر مفاهيم السا ئد عند السعوديات‬ ‫متثّل الفنانة ال�سعودية عال حجازي امل��ول��ودة يف‬ ‫طرابل�س منوذج ًا مهم ًا الم��ر�أة ا�ستطاعت �أن حتقق‬ ‫وجودها الإن�ساين عرب اللون واخل��ط‪ ،‬عرب �أحالمها‬ ‫امللونة وت�أثيث روحها ب�أعمال فنية عربت عن هواج�سها‬ ‫الإن�سانية التي انزاحت نحو حلم الطفولة وجتلياته يف‬ ‫�إبداعاتها الفنية‪.‬‬ ‫ومل تكتف ُعال يف العمل على اللوحة فقط‪ ،‬بل �أ�صبحت‬ ‫من الفتيات امل�ؤثرات يف املجتمع ال�سعودي من خالل‬ ‫�أن�شطتها الفاعلة يف عقد ور�ش الر�سم لالطفال‪ ،‬كما لو‬ ‫�أنها تريد بناء جيل يحمل راية احلرية والت�ألق والعمل‬ ‫على التغيري الناعم يف املجتمع ال�سعودي من خالل‬ ‫توريط العائلة ال�سعودية يف مناخات الإبداع‪.‬‬

‫تشكيل‬

‫حممد العامري‬ ‫الأردن‬

‫‪110‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ُعرفت ال�سعودية عال حجازي بحيوتها العالية‬ ‫يف احلر�ص على امل�شاركات اخلارجية يف ال��دول‬ ‫العربية و�أوروب���ا لتقدم من��وذج�� ًا مغاير ًا عما هو‬ ‫معروف عن املر�أة ال�سعودية‪ ،‬وا�ستطاعت �أن حتقق‬ ‫ح�ضور ًا مهم ًا يف هذا املجال بفوزها مبجموعة من‬ ‫اجلوائز الفنية‪.‬‬ ‫خرجت عال حجازي �إىل عامل الفنون منذ �أكرث‬ ‫من ع�شرين عام ًا‪ ،‬د�ؤوب��ة يف تطوير جتربتها من‬ ‫خالل انتظامها يف دورات للر�سم والغرافيك يف‬ ‫العاملني العربي والغربي‪ ،‬وقد �ساهم يف بث روح‬ ‫املغامرة كونها خرجت من عائلة مثقفة �ساعدتها‬ ‫على متابعة حلمها يف الر�سم والكتابة على حد‬ ‫�سواء‪.‬‬ ‫العدد‬

‫مقاربات الت�شكيل وال�شعر‬ ‫ا�ستفادت عال حجازي من الكتابة واملتابعات الأدبية‬ ‫لل�شعراء الكبار يف تغذية عملها الفني بن�صو�ص �شعرية‬ ‫كمقاربة بني الفعل اللوين يف الت�شكيل وبني ال�صورة‬ ‫ال�شعرية؛ فقد ا�شتغلت على كثري من ق�صائد دروي�ش‬ ‫وبع�ض ال�شعراء ال��ع��رب و���ص��و ًال �إىل ا�ستخدامتها‬ ‫الن�صية يف العمل الفني لبع�ض كتاباتها التي تتمحور‬ ‫حول حرية املر�أة ومتردها يف املجتمعات الذكورية‪.‬‬ ‫و�أ�صبحت العبارة املكتوبة �شقيقة عملها الفني‪،‬‬ ‫حيث ال يكاد يخلو من حرفية �أو عبارات ن�صية من‬ ‫املمكن �أن يقر�أها امل�شاهد لأعمالها الفنية‪ ،‬بل �أ‬ ‫�صبح ذلك من مميزات عملها الفني الذي يجمع بني‬ ‫التعبريية والتجريدية واحلروفية العربية‪ .‬وهذا منح‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪111‬‬

‫ف��ي طبيعة أع��م��ال��ه��ا ال��ت��ي تمتلك ال��ص��دق��ي��ة وح����رارة التعبير ال��ف��ن��ي ب�لا تصنع أو تكلف‬

‫إن ط����ف����ول����ة ع���ل��ا م��ت��ح��ق��ق��ة‬


‫عملت حجازي على تغذية‬ ‫عملها الفني بن�صو�ص �شعرية‬ ‫كمقاربة بني الفعل اللوين يف‬ ‫الت�شكيل وبني ال�صورة ال�شعرية‬

‫�أعمالها �صفة ال�شرقية‪ ،‬كما لو �أنها حتوك �سجادة‬ ‫عربية مو�شومة بعنا�صر ومفردات �شرقية‪.‬‬ ‫وت�صبح اللوحة الفنية‪ ،‬بو�صفها مدونة‪ ،‬م�شفوعة‬ ‫بالفعل الكتابي والب�صري على حد �سواء‪ ،‬فهي تقوم‬ ‫بفعل ذل��ك ع�بر �أك�ثر م��ن فعل‪ ،‬منها احلفر داخ��ل‬ ‫امل�ساحات الطرية �أي �إحداث حزوز يف ال�سطح لت�صبح‬ ‫‪112‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫تلك احلزور ك�أثر غائر يف م�ساحات التلوين‪،‬‬ ‫�إ���ض��اف��ة �إىل ذل��ك الكتابة باللون والر�سم‬ ‫و�إح�����داث م�����س��اح��ات �أ���س��ا���س��ي��ة يف ال�سطح‬ ‫الت�صويري‪ ،‬فغالب ًا ما تكون ال�سيادة للون‬ ‫الأحمر الذي يحمل فيما بعد تلك العنا�صر‬ ‫من منمنمات وزحارف وحروف و�أحفورات‪،‬‬ ‫فحني ت�صبح اللوحة مدونة للفنان جندها‬ ‫ق��د ان��زاح��ت ن��ح��و ال�صدقية وال��ع��ف��وي��ة يف‬ ‫التعبري ع��ن ال���ذات‪ ،‬ال���ذات الطازجة التي‬ ‫تبوح ب�أ�سرارها عرب �إيهامات ا�شارية وتعاويذ‬ ‫مطل�سمة �أ�شبه بحرز يحر�س هواج�س الفنانة‪.‬‬ ‫ت���ق���ول ع�ل�ا ح���ج���ازي‪" :‬اللوحة ع��ن��دي‬ ‫ذك��ري��ات‪ ،‬وم��د ّون��ات‪� ،‬أد ّون عليها ذاكرتي‪،‬‬ ‫�أ�صو ّرها على هيئة رموز تعارفنا عليها حني‬ ‫تعاركنا فت�صاحلنا‪ ،‬فت�ش ّكلنا على هيئة لوحة‪،‬‬ ‫وحني ُيقتنى عملي الت�شكيلي‪� ،‬أ�صاب باحلزن‪،‬‬ ‫لأنني ارت�ضيت بيع روحي‪� ،‬إنها �ضريبة جناح‬ ‫الفنان الت�شكيلي �أن يفرح لأعماله وهي تع ّلق‬ ‫على ج��دران ال��ع��امل‪ ،‬ولكن يف الوقت نف�سه‬ ‫ُي�صاب بال�شجن لهروب لوحاته منه"‪.‬‬ ‫ن�ستطيع �أن ي�ست�شف من قولها �إنها تدون‬ ‫ح��االت خا�صة ج���د ًا‪ ،‬ح��ال��ة ع�شق م��ث�ل ًا �أو‬ ‫حالة ف��راق �أو خ�صام‪ ،‬فهي ال ت�ترك حتى‬ ‫ال��ل��ح��ظ��ات ال��ع��اب��رة م��ن ال��ه��روب لتقب�ض‬ ‫عليها‪ ،‬وت�سجلها يف �سياق عمل فني يحمل تلك‬ ‫احلالة �أو احلادثة‪.‬‬ ‫والغريب �أن عال حجازي حتى يف حلظاتها اخلا�صة‬ ‫ت�سجل كل �شيء من كالم و�أحا�سي�س‪ ،‬ت�سجل ذاكرة‬ ‫الأ�صدقاء والأحبة‪ ،‬وت�سجل كذلك ذاك��رة الأمكنة‬ ‫بدقة متناهية‪.‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫عال حجازي‪« :‬ال�صفحة البي�ضاء‬ ‫�أكرهها‪ ،‬لذا �أ�شخبط عليها ب�أي‬ ‫�شيء‪ ..‬املهم �أال تبقى بي�ضاء»‬

‫الر�سم بو�صفه حياكة لونية‬ ‫تن�شغل الفنانة حجازي بتاريح حلظة تكون‬ ‫العمل الفني الذي يبد�أ من نقطة ب�سيطة او‬ ‫مربع زخريف ليتوالد عرب تكرارية العنا�صر‬ ‫وال��وح��دات الزخرفية والكتابية‪ ،‬لت�صبح‬ ‫اللوحة كو�شم يف ظاهر ال�سطخ الت�صويري‪.‬‬ ‫ال��و���ش��م املحت�شد بعنا�صر ���ش��رق��ي��ة �أ�شبه‬ ‫بتعاويذ جداتنا اللواتي كتنب على مناديلهن‬ ‫�أ���س��ط��ر ًا م��ن ن��ور الع�شق‪ ،‬وحت���اول ع�لا �أن‬ ‫تن�سج ذكرياتها اجلميلة واملحزنة يف �سياق‬ ‫�سجادة �شرقية �صنعتها هي بنف�سها‪� ،‬سجادة‬ ‫ت�شتم منها رائحة العزلة ال�صافية التي تثري‬ ‫يف خياالتها ك��ل تلك التفا�صيل ال�صغرية‬ ‫والدقيقة يف لوحاتها‪.‬‬ ‫حت���اول ع�لا ح��ج��ازي �أن تر�سم خياالت‬ ‫ذكرياتها وحمزونها الب�صري ال��ذي ورثته‬ ‫منذ طفولتها بامل�شاهدة واملماحكة لي�صبح‬ ‫خ��زان�� ًا ب�صري ًا مهم ًا لطبيعة ما تنتجه من‬ ‫عمل فني‪.‬‬ ‫وهي تن�سج اجلمل الب�صرية جملة جملة عرب‬ ‫جتاورات العنا�صر املتوالدة واملت�شابهة‪ ،‬ك�أنها‬ ‫تكرر مربع ًا يختلف مبحتوياته عن املجاور له‬ ‫وي�شبهه يف ال�شكل‪ ،‬تلك التكرارية التي كانت‬ ‫حا�ضرة يف توالد الزخرفة الإ�سالمية القائمة‬ ‫على املثلث واملربع والدائرة‪ ،‬لكننا هنا جند اختالفات‬ ‫جذرية حيث يتنمط العمل عرب تكرار الفعل الغفوي‬ ‫لي�صبح حقيقة بعيدة عن امل�صادفة‪ ،‬ويتحرك كم�سار‬ ‫يعرب عن خ�صو�صية التجربة و�صفاتها املو�ضوعية‪.‬‬ ‫ففعل القلق لدى الفنانة ي�ضعها �أمام �س�ؤال قا�س‪،‬‬

‫العدد‬

‫���س���ؤال وج��وده��ا ومتطلباته الإب��داع��ي��ة‪ ،‬ه��ذا القلق‬ ‫�أعطاها القوة الهائلة يف التجاوز والبحث عن مناطق‬ ‫�أخ��رى ت�ؤثث من خاللها ال��ذات الإبداعية‪ ،‬مل تكتف‬ ‫بال�سطح الت�صويري النبيل‪� ،‬أو اللوحة امل�سندية‬ ‫بل ذهبت �إىل �أ�شكال �أخ��رى كالكرا�سي والطاوالت‬ ‫ومكعبات اخل�شب‪ ،‬تلك الأ�شكال �أ�صبحت بالن�سبة‬ ‫�إىل حجازي مثار جدل يف �إمكانية حتويلها من �أثاث‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪113‬‬


‫تقليدي �إىل �أن ي�صبح عم ًال فني ًا‪ ،‬فر�سمت على‬ ‫الكرا�سي لتعيد وجودها ب�صيغة �أكرث جمالية‪ ،‬وكذلك‬ ‫الطاولة التي ت�ستقبل احل���وارات و�أح��ادي��ث الع�شاق‬ ‫لي�صبح مدار �س�ؤالها الفني القلق الذي قادها بالت�أكيد‬ ‫�إىل التجريب امل�ستمر؛ لتقف �أمام مفاج�آت العمل يف‬ ‫‪114‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫حتوالته التجريبية واالختبارية لل�شكل والتقنية‪.‬‬ ‫الت�شخي�صية التعبريية وهام�ش الفعل الزخريف‬ ‫املت�أمل لت�شخي�صيات حجازي ي��درك متام ًا مدى‬ ‫ارتباطها بالطفولة كمادة ع�ضوية يف تفكريها الفني‪،‬‬ ‫و�أتذكر هنا طبيعة �ألعاب البنات يف مرحلة الطفولة‪،‬‬ ‫حيث تبدو تلك الأ�شكال مثل دُمى �صنعتها يد فطرية‪،‬‬ ‫ويف مواقع �أخ��رى �أق��رب �إىل فزاعات احلقول التي‬ ‫حتر�س تلك احلقول من الطيور اجلائعة كوهم يتمثل‬ ‫�شك ًال �إن�ساني ًا‪.‬‬ ‫�أعتقد �أن ذهاب الفنانة �إىل تلك املنطقة ين�سجم‬ ‫مع طبيعتها الفنية واهتماماتها ب�أفكار الطفولة‪،‬‬ ‫وجند ذلك يف اهتمامها الوا�ضح بتعليم الأطفال يف‬ ‫الور�ش الفنية ومراقبتهم يف فعل الر�سم والتلوين‪،‬‬ ‫ه��ذا الأم���ر ب��دا وا���ض��ح�� ًا يف ت�شخي�صاتها الأق��رب‬ ‫�إىل الت�شخي�صيات الطفولية الفرحة (العري�س‬ ‫وال��ع��رو���س)‪ ،‬وط��ف��ل ميتطي مكن�سة م��ث�ل ًا �إ�ضافة‬ ‫�إىل طبيعة �ألوانها ال�صريحة التي تظهر �أي�ض ًا يف‬ ‫ر�سومات الأط��ف��ال‪ ،‬ففي معظم ر�سوماتها لل�شكل‬ ‫الإن�����س��اين جندها تر�سم الأ���ش��ك��ال يف مواجهة مع‬ ‫امل�شاهد حم�صنة بهوام�ش زخ��رف��ي��ة تنتقل تلك‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫موقع �آخر يت�سيد احلرف اللوحة كاملة بال �أ�شكال‪،‬‬ ‫�إنها الرحلة التبادلية بني ح�ضور الرمز احل��رويف‬ ‫ك�شكل م�شفر وبني الت�شخي�ص والزخرف واحلركات‬ ‫التزيينية يف جممل العمل الفني‪.‬‬ ‫�إن طفولة عال متحققة يف طبيعة �أعمالها التي‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪115‬‬

‫أدون عليها ذاك���رت���ي‪ ،‬أص���و ّره���ا على‬ ‫ع�لا ح��ج��ازي‪" :‬ال��ل��وح��ة ع��ن��دي ذك���ري���ات‪،‬‬ ‫وم���دون���ات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتشكلنا ع��ل��ى هيئة ل��وح��ة"‬ ‫هيئة رم���وز ت��ع��ارف��ن��ا عليها ح��ي��ن ت��ع��ارك��ن��ا فتصالحنا‪،‬‬

‫الزخارف �إىل منت ال�شكل الإن�ساين؛ لي�صبح الإن�سان‬ ‫يف لوحاتها مو�شى بالفعل ال��زخ��ريف واملنمنمات‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬و�أ�ستطيع القول �إن الفنانة قد �أف��ادت من‬ ‫طبيعة املخطوطات العربية القدمية التي جتمع بني‬ ‫الفعل الكتابي والت�شخي�ص الإن�ساين الذي يعرب عن‬ ‫حدث ما ب�صورة غري مبا�شرة‪.‬‬ ‫لكن عال ا�ستطاعت �أن تنقل �إح�سا�سها ال�صادق‬ ‫�إىل �أ�شكالها عرب لغة �أقرب �إىل التزينية التي ت�شبه‬ ‫تزيني املن�سوجات ال�شعبية‪ ،‬حيث تبدو املر�أة املر�سومة‬ ‫وقد ظهرت بثوب مزين بالنباتات والورود والزخارف‪،‬‬ ‫كما لو �أنها تطرز ثوب ًا �شعبي ًا لر�سوماتها الإن�سانية‬ ‫التي ت�صب يف مناخات التعبري الفطري مما �أعطى‬ ‫�أ�شكالها الإن�سانية قيم ًا فنية غري تقليدية‪ .‬و�أذك��ر‬ ‫يف هذا ال�سياق قول بيكا�سو‪�" :‬أمتنى �أن �أعود طف ًال‬ ‫يف الر�سم"‪ .‬كذلك الفنانة ا�ستطاعت بذكائها �أن‬ ‫ت�ستدرج الطفولة وطبيعة الأ�شكال الطفولية لت�ضعها‬ ‫ب�سياق عمل فني معا�صر‪ ،‬عمل يخ�ص طبيعة حياتها‬ ‫و�أحالمها املتوالدة يف تلك املنطقة‪.‬‬ ‫ف��ت��ارة ت��ت��م��ازج الكتابة م��ع ال��رم��وز والإ����ش���ارات‪،‬‬ ‫وتارة �أخرى تن�سجم والزخارف ب�شتى �أنواعها‪ .‬ويف‬


‫متتلك ال�صدقية وحرارة التعبري الفني بال ت�صنع �أو‬ ‫تكلف‪ ،‬حيث يقول عنها الفنان الكويتي حميد خزعل‪:‬‬ ‫"عال حجازي فنانة ت�صادق زمن ال�براءة‪ ،‬وتلفت‬ ‫النظر بعفوية يف فكرة وت�شكيل معامله الب�صرية التي‬ ‫ت�ستمد خ�صو�صيتها من فكرة املزج بني ر�ؤية الفنانة‬ ‫وع���امل ر���س��وم الأط���ف���ال ال���ذي حتكمه خ�صائ�صه‬ ‫الب�صرية والعقلية والع�ضلية"‪.‬‬ ‫وت���ؤك��د الفنانة ذل��ك بقولها‪«:‬ال�صفحة البي�ضاء‬ ‫�أكرهها‪ ،‬لذا �أ�شخبط عليها ب�أي �شيء‪ ..‬املهم �أال تبقى‬ ‫‪116‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫بي�ضاء»‪� .‬إنها تعيدنا �إىل زمن ال�براءة‪� ،‬إىل زمن �إن‬ ‫وقعت فيه يدك على �صفحة بي�ضاء وتركتها على حالها‬ ‫اعتُرب ذلك خطيئة!"‪.‬‬ ‫جتربة عال حجازي ت�شكل جتربة نوعية يف الت�شكيل‬ ‫ال�����س��ع��ودي وال��ع��رب��ي‪ ،‬وق��د حققت ذل��ك ع�بر كدها‬ ‫ومثابرتها يف تطوير جتربتها على ال�صعيد الذاتي‬ ‫والثقايف‪ ،‬وعرب متابعة الور�ش واالنتظام يف ور�شات‬ ‫متخ�ص�صة يف �أوروبا وال�ساحة العربية‪ .‬وا�ستطاعت‬ ‫بجر�أتها الفنية يف ا�ستخداماتها للألوان القوية �إىل‬ ‫جانب املو�ضوعات املطروحة �أن ت�شكل عالمة مهمة يف‬ ‫الت�شكيل ال�سعودي‪.‬‬ ‫وقد تفردت يف تناول تلك املو�ضوعات التي ع�شقتها‬ ‫ع�شق ًا ا�ستثنائي ًا انعك�س على قوة عملها و�صدقيته‪ ،‬تلك‬ ‫القوة التي تكونت يف تفا�صيل اجلمل الفنية املحت�شدة‬ ‫يف مربع اللوحة‪ ،‬والتي �شكلت مبجملها مناخ ًا عاطفي ًا‬ ‫عربت عنه عال دون مواربة �أو وجل‪ ،‬ترتك ليدها وقلبه‬ ‫�أن ي�سجال تاريخ نب�ضها يف ال�صادق قي تطرزاتها‬ ‫اللونية‪ ،‬والتي حتتاج �إىل �صرب نا�سك ع�شق احللج‬ ‫والن�سج مثل منلة تنقل قمحها بال كلل �أو ملل‪.‬‬ ‫ه��ذه املثابرة التي �أ���ش��ارت �إليها الفنانة يف �أحد‬ ‫لقاءاتها ال�صحفية‪�" :‬أعمل و�أر�سم دون ملل‪ ،‬فامللل‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫عدوي‪ ،‬وحني يهاجمني �أل ّونه فرح ًا بفر�شاتي‪ ،‬جم ّددة‬ ‫خاليا الرتابة يف لوحاتي‪ ،‬ومن الطبيعي لأي ناجح‬ ‫ومثابر �أن يلقى النجاح و�إن ت�أخر و�صوله"‪.‬‬ ‫العبارة املكتوبة‪ ..‬قراءة �أم �صورة؟‬ ‫�إن ال��ت�����س��ا�ؤل ال��ذي يواجهك يف �أع��م��ال الفنانة‬ ‫هو ارتكازها على العبارات الأدب��ي��ة املحا�ضرة يف‬ ‫لوحاتها‪ ،‬فهل جاءت تلك العبارات كي تقر�أ �أم �أنها‬ ‫عالمة ب�صرية تتحول يف �سياق ال�صورة الب�صرية‬ ‫�إىل العمل الفني؟‬ ‫�إن تلك الت�سا�ؤالت تثري يف خواطر امل�شاهد �أكرث‬ ‫من فكرة‪ ،‬فاجلملة امل��ق��روءة يف تلك الأع��م��ال هي‬ ‫حم�ض فخ للتورط بالعمل نف�سه‪ ،‬وحماولة لدعوة‬ ‫املتلقي لربط تلك احلروف ببع�ضها كي ت�شكل جم ًال‬ ‫�أي�ضا‪ ،‬لوحة �أ�شبه ب�أحجية ب�صرية تبد�أ من احلرف‬ ‫وال تنتهي به‪،‬‬ ‫�إنها كتابة ت�شكيلة �أو مدونات تخ�ص كل واحد منا‪،‬‬ ‫تنتظم يف �سياق القراءة والفعل الب�صري على حد‬ ‫�سواء‪ ،‬فاجلمع بني تلك احلالتني م�س�ألة مربكة‪ ،‬لكن‬ ‫الفنانة ا�ستطاعت �أن جتد حلو ًال ب�صرية ذكية لهذه‬ ‫املعادلة عرب تلغيز تلك العبارات‪ ،‬كي تنجو من ورطة‬ ‫العدد‬

‫الفعل الكتابي والو�صول به �إىل الفعل الب�صري؛ �أي‬ ‫ت�شفري الكتابة لتقرتب من فكرة الطل�سم امل��وارب‬ ‫الذي ين�سجم مع جمموعة اجلمل اللونية واملعاجلات‬ ‫احلطوطبة من خطوط لينة وياب�سة وبقع لونية‪ ،‬كي‬ ‫ت�صل بكل ذلك �إىل قيم فاعلة يف العمل الفني دون‬ ‫التخلي عن مو�ضاعاتها الرئي�سية‪.‬‬ ‫يف نهاية الأم��ر تظل الفنانة عال حجازي واح��دة‬ ‫م��ن الفنانات العربيات ال��ل��وات��ي يحققن جناحات‬ ‫متتالية عرب الإميان التام ب�أهمية الإبداع ومدى ت�أثريه‬ ‫الإيجابي يف م�س�ألة تغيري املجتمعات والنهو�ض بها �إىل‬ ‫ذوقية راقية م�ؤثثة بالفعل الثقايف لكل �أمة‪.‬‬ ‫وهي فنانة مل تزل تثري الأ�سئلة بجر�أتها يف الكتابة‬ ‫والر�سم على حد ���س��واء‪ ،‬عرب موا�صلتها يف تطوير‬ ‫خطابها الإبداعي‪ ،‬وعرب الإ�شراف على �إيجاد جيل‬ ‫جديد من الأطفال ميتلك �أدواته التعبريية يف الك�شف‬ ‫عن هواج�سه االجتماعية والنف�سية‪.‬‬ ‫تقول عال حجازي‪" :‬اللغة العربية �صوتي‪ ،‬لكنّ اللون‬ ‫أب�سط‬ ‫هويتي‪ ،‬وجودي يف حياة مملوءة بالتعقيدات‪ّ � ،‬‬ ‫مفرداتها بلوحة لونية‪� ،‬أخ��ت��زن بها فكري‪ ،‬و�أكمل‬ ‫نق�صي بها‪ ،‬وكلما زادت جت��ارب��ي‪� ،‬أُث��ري��ت لوحاتي‬ ‫بق�ص�ص ترافق مراحلي الت�شكيلية"‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪117‬‬


‫قراءة في ديوان‬

‫«األرض قنبلة موقوتة»‬ ‫للشاعر د‪ .‬منصور الحماطي‬

‫و�صلني م�ؤخراً الديوان الأول لل�شاعر الدكتور‬ ‫من�صور احل��م��اط��ي‪ ،‬وع��ن��وان��ه "الأر�ض قنبلة‬ ‫موقوتة"‪ ،‬وقد �صدرت طبعته الأوىل يف مار�س‬ ‫املا�ضي ثم �صدرت له طبعة ثانية يف �أبريل ‪.2012‬‬ ‫قد �أه��دى ال�شاعر ديوانه ال�صغري ال��ذي يحوي‬ ‫‪ 15‬ق�صيدة ت��دور كلها ح��ول ق�ضايا البيئة وحقوق‬ ‫الإن�سان‪� ،‬إىل �أن�صار البيئة وحماة حقوق الإن�سان‬ ‫وكل احلاملني بغد �أف�ضل على هذا الكوكب اجلميل‪،‬‬ ‫يف ظل �أخوة �إن�سانية تتعاي�ش فيها الأمم وال�شعوب‬ ‫واحل�ضارات‪� .‬أما مقدمة الديوان فبقلم �أديب اليمن‬ ‫الكبري و�شاعرها‪ ،‬ال�صديق د‪ .‬عبدالعزيز املقالح‬ ‫ال��ذي يقول يف املقدمة‪" :‬مل يكن �أم���ر ًا خالي ًا من‬ ‫الداللة �صدور ديوان من ال�شعر عن البيئة‪ ،‬فما من‬ ‫�شك يف �أن املحافظة على بيئة نظيفة و�أر�ض خالية‬

‫نقد‬

‫د‪� .‬شهاب غامن‬

‫الإمارات‬

‫‪118‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫من التلوث جزء ال يتجز�أ من واجب الإن�سان‪ ،‬وهي‬ ‫الأ�صل يف الدين وتكاد تكون يف ال�شعر �أ�سا�سه و�أهم‬ ‫منطلقاته‪ ،‬فالدين يدعو �إىل النظافة واالع��ت��دال‬ ‫وال�شعر يدعو �إىل املحبة واجلمال"‪.‬‬ ‫مل �أط��ل��ع قبل ه��ذا ال��دي��وان على دي���وان باللغة‬ ‫العربية يدور حول ق�ضايا البيئة فاالهتمام‪ ،‬مبو�ضوع‬ ‫البيئة يف الأدب حديث ن�سبي ًا يعود لنهاية القرن‬ ‫الع�شرين‪ ،‬حتى لدى الغرب والأجانب عموم ًا‪ .‬ومنذ‬ ‫�أ�سابيع قليلة �أه���داين ال�صديق ال�شاعر الأ�ستاذ‬ ‫اجلامعي الدكتور حممد �أب��و الف�ضل ب��دران كتاب ًا‬ ‫�صغري ًا بعنوان "النقد الأدب���ي البيئي" �صدر يف‬ ‫الكويت (ول��ك��ن مل ي�سجل فيه ت��اري��خ ال�صدور)‪،‬‬ ‫يتتبع فيه امل�ؤلف ن�ش�أة النقد الأدبي البيئي ب�أوروبا‬ ‫و�أمريكا وبداياته ولكنه يرى �أن هذا املنهج �أ�صبح‬ ‫�ضروري ًا بعد ما �آل �إليه الكون من دمار على �أيدي‬ ‫علماء ال���ذرة والكيمياء والأح��ي��اء‪ .‬وم��ا احل��روب‬ ‫و�أ�سلحة الدمار ال�شامل واملجاعات وح��وادث مثل‬ ‫�شرنوبل والتلوث وثقب الأوزون وما �شابه �إال �أثر‬ ‫من �ضياع الوعي البيئي‪ .‬وكما يقول د‪.‬عبداملنعم‬ ‫تليمة ف�إدراك الإن�سان لواقعه يتطلب وعي ًا جمالي ًا‬ ‫بجماليات بيئته‪.‬‬ ‫ويبحث د ب��دران فيما �إذا كانت هناك مالمح‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫م��ن��ص��ور ال���ح���م���اط���ي‪ :‬ش���اع���ر ي��م��ن��ي‪ ،‬ح���اص���ل ع��ل��ى دك���ت���وراه‬

‫ديوان الأر�ض قنبلة موقوتة‬ ‫كل ق�صائد الديوان منظومة على ال�شكل التفعيلي‬ ‫املوزون‪ ،‬وقد افتتح ال�شاعر ديوانه بق�صيدة بعنوان‬ ‫"اعتذار" �أهداها �إىل املغفور له ب�إذن اهلل ال�شيخ‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪119‬‬

‫ف���ي م���ج���ال ح���ق���وق اإلن����س����ان م���ن أم درم�������ان‪ ،‬وه����و ن���اش���ط اج��ت��م��اع��ي وس��ي��اس��ي‬

‫اهتمام بالبيئة يف الأدب العربي فيقول �إن هناك‬ ‫فرق ًا بني الو�صف اخلارجي للطبيعة‪ ،‬وهو موجود‬ ‫يف ال�شعر العربي منذ بداياته‪ ،‬وبني الوعي البيئي‪،‬‬ ‫فم�صطلح الأدب البيئي ي�شرتط �إح�سا�س الكاتب‬ ‫بالبيئة‪.‬‬ ‫وخالل اهتمامي ب��الأدب الهندي خالل العقدين‬ ‫امل��ا���ض��ي�ين اكت�شفت اه��ت��م��ام�� ًا خ��ا���ص�� ًا ل���دى بع�ض‬ ‫ال�����ش��ع��راء ال��ه��ن��ود امل��ع��ا���ص��ري��ن ب��ق�����ض��اي��ا ال��ب��ي��ئ��ة‪،‬‬ ‫وال�سيما يف والي��ة ك�ي�راال‪ .‬ولعل �أ�شهرهم يف هذا‬ ‫املجال ال�شاعرة ال�سبعينية ال�صديقة �شجثا كماري‬ ‫علي ذات مرة‬ ‫النا�شطة يف �ش�ؤون البيئة‪ .‬وقد قر�أت ّ‬ ‫ق�صيدة كتبتها على ل�سان طائر غادرع�شه ليجلب‬ ‫ال��غ��ذاء ل�صغاره ولكن عندما ع��اد بالطعام كانت‬ ‫�شركة الأخ�شاب قد قطعت ال�شجرة‪ .‬وكانت ق�صيدة‬ ‫�شاعرية وم�ؤثرة وبيئية بامتياز وكانت قد ترجمتها‬ ‫يل من املااليامل �إىل الإنكليزية فقمت برتجمتها �إىل‬ ‫العربية ون�شرت الرتجمة‪.‬‬

‫زايد بن �سلطان �آل نهيان لأعماله الرائعة يف حماية‬ ‫البيئة واحلياة الربية يقول فيها‪:‬‬ ‫�سيدتي الأر����ض‪ /‬ي��ا �أج��م��ل ك��وك��ب‪ /‬ي��ا درة هذا‬ ‫الكون‪ /‬معتذر ًا �سيدتي‪/‬با�سمي‪ /‬وا�سم الب�شرية‪/‬‬ ‫عرب التاريخ‪ /‬ها �أنا ذا جئت �إليك‪ /‬كي �أعلم �أ ّنا‪/‬‬ ‫منذ ال�سنوات الأوىل للتاريخ الب�شري‪/‬ن�سيء �إىل‬ ‫�أنف�سنا‪ /‬ون�سيء �إليك‪� /‬سفكنا دمنا‪ /‬يف جنباتكم‪/‬‬ ‫�آالف امل���رات‪ /‬ونب�شنا �أح�شائك‪� /‬آالف امل��رات‪/‬‬ ‫�أقيلي عرثتنا‪ /‬فنحن و�إن �أخط�أنا‪ /‬من �صل�صالك‬ ‫جئنا‪ /‬وغد ًا �سنعود �إليك‪.‬‬ ‫وي��ق��ول من�صور احل��م��اط��ي يف ق�صيدة "ع�شق‬ ‫علي مثل‬ ‫الأر���ض وحب الإن�سان" يف �أبيات مل مير ّ‬ ‫معناها من قبل‪:‬‬ ‫حولني ي��ا رب���ي‪ /‬ذرات م��ن �أوزون‪/‬ل�����س��د ثقوب‬ ‫الأوزون‬ ‫اجعلني ثلج ًا قطبي ًا‪ /‬كي �أوق��ف ذوب���ان‪ /‬جليد‬ ‫القطبني‬ ‫ويف ق�صيدة "جنون الع�صر" و�أي�����ض��ا ق�صيدة‬ ‫"فل�سفة الأعماق" يندب ال�شاعر موت احلب واملثل‬ ‫العليا وا�ست�شراء الظلم‪� .‬أما يف ق�صيدة "�أ�صوات‬ ‫من خلف ال�شم�س" فيتحدث بل�سان الكواكب الأخرى‬ ‫التي تقول‪:‬‬


‫د‪.‬ع��ب��دال��م��ن��ع��م ت��ل��ي��م��ة‪ :‬إدراك اإلن���س���ان ل��واق��ع��ه ي��ت��ط��ل��ب وع��ي��ًا ج��م��ال��ي��ًا ب��ج��م��ال��ي��ات بيئته‬

‫ي���ا ب�����ش��ر الأر��������ض‪ /‬ك��ف��وا‬ ‫رح����ل����ات احل�����ق�����د‪ /‬ن��ح��و‬ ‫كواكبنا‪ /‬فكواكبنا ترف�ض �أن‬ ‫ي�ست�شري فيها ال�شر‪../‬عودوا‬ ‫من حيث �أتيتم‪.‬‬ ‫�أم��ا يف ق�صيدة "الأر�ض‬ ‫قنبلة موقوتة" التي عنون‬ ‫بها الديوان فيتمنى ال�شاعر‬ ‫�أن ميتلك طبق ًا طائر ًا ليهرب‬ ‫به من الأر�ض التي �صار يخ�شى‬ ‫من انفجارها مبا تكد�س فيها‬ ‫من ا�سلحة نووية ونيرتوجينية‬ ‫وبيولوجية فقد �أ�صبحت قنبلة‬ ‫موقوته‪ .‬وه��ذه الق�صيدة وجهها‬ ‫لزعماء ال��ع��امل مبنا�سبة انعقاد‬ ‫امل����ؤمت���ر ال�����دويل ل��ل��م��ن��اخ يف‬ ‫املك�سيك يف دي�سمرب ‪.2010‬‬ ‫�إنها �صرخة �شاعر ال ي�سمعه‬ ‫�أحد‪ .‬حتى امل�ؤذن يف مالطة قد ي�سمعه �سائح م�سلم‬ ‫ملتزم‪.‬‬ ‫�أم���ا ق�صيدة "احلب الكبري" امل�سكونه بحب‬ ‫الإن�سان فيهديها �إىل الزعيم الإن�سان نل�سون مانديال‬ ‫مبنا�سبة اعتبار ‪ 18‬يوليو اليوم الدويل ملانديال الذي‬ ‫كر�س عمره خلدمة الإن�سانية وحقوق الإن�سان‪ .‬يف‬ ‫ق�صيدة "الأر�ض الثكلى" التي كتبها مبنا�سبة اليوم‬ ‫العاملي للأر�ض يف كوبنهاجن دي�سمرب ‪ 2009‬الذي‬ ‫ف�شل ب�سبب مواقف الدول الكربى يقول‪:‬‬ ‫الأر�����ض ال��ث��ك��ل��ى‪ /‬بفواجعها ال��ك��ون��ي��ة‪��� /‬ص��ارت‬ ‫تتململ‪ /‬يف حركتها ح��ول ال�شم�س‪ /‬فلقد ف�ض‬ ‫الإن�سان بكارتها‪ /‬يف ال�سنوات الأوىل‪ /‬من ع�صر‬ ‫‪120‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫النه�ضة‪� /‬ضاجعها يف ليل �شتوي بالطرق الوح�شية‪/‬‬ ‫�أف��ق��ده��ا �سر ج��م��ال �أن��وث��ت��ه��ا‪ /‬ق��ذف ال�شرير‪ /‬يف‬ ‫رحم بكارتها‪ /‬قبح غرائزه الهمجية‪� /‬أولدها �آالف‬ ‫امل��رات‪ /‬فواجع كونية‪ /‬غرز �أظافره املت�سخة‪ /‬يف‬ ‫وج��ه براءتها‪� /‬شوه كل مالحمها‪ /‬وال��ي��وم‪ /‬وعلى‬ ‫مر�أى من كل العامل‪� /‬ضاجعها �أوباما‪ /‬مع زعماء‬ ‫الدول الكربى‪ /‬يف كوبنهاجن‪ /‬حتى �صارت حبلى‪/‬‬ ‫تتململ يف حركتها حول ال�شم�س‪ /‬و�صرنا نخ�شى‪/‬‬ ‫�أن تقذفنا خارجها‪ /‬يف كارثة كونية‪.‬‬ ‫يف ق�صيدة "متثال اجلد" يتح�سر لأن �أجدادنا‬ ‫العرب يف الأندل�س مل يكونوا هم الذين اكت�شفوا‬ ‫�أمريكا؛ لأنهم لو كانوا فعلوا ملا جاء الرجل الأبي�ض‬ ‫وا�ست�أ�صل الهنود احلمر‪ ،‬ولكانت قيم ح�ضارة العرب‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫عمق وعي ال�شاعر و�إميانه بهذه‬ ‫الق�ضايا جعاله يعرب عن �آرائه‬ ‫وم�شاعره بو�ضوح‬

‫امل�سلمني �سادت فيها ب��د ًال من قيم �أ�سلحة الدمار‬ ‫ال�شامل للرجل الأبي�ض‪ .‬ويف ق�صيدة "الأر�ض وحق‬ ‫الفيتو" يدين حق الفيتو للدول الكربى وما يجره من‬ ‫ظلم وتلوث ويقول‪:‬‬ ‫‪..‬لكن حق الفيتو‪ /‬جعل من الظلم‪� /‬سور العامل‪/‬‬ ‫والب�شرية تت�شظى‪ /‬فتن ًا وحروب ًا‪ /‬والأر���ض‪َ /‬مكب ًا‬ ‫لنفايات الدول الكربى‪.‬‬ ‫يف ق�صيدة "ت�شنغ هاي" املدينة ال�صينية الكربى‬ ‫التي ال تنام‪ ،‬والتي دخلت ع�صر نانو الوقت‪ ،‬ف�أ�صبح‬

‫العدد‬

‫الزمان واملكان يرك�ضان خلفها متطر كل يوم عرق‬ ‫�سواعد �أبنائها على املدن التي ال تتعرق فيها �سواعد‬ ‫�أبنائها (وه��ل ن�شك يف �أن مدننا العربية منها بل‬ ‫على ر�أ�سها) ف�أ�صبحت تقول لكل ال�سفن الأجنبية‬ ‫كما قال هارون الر�شيد يوم ًا‪" :‬اذهبي حيث �شئت‬ ‫ف�إن خراجك �إيل"‪.‬‬ ‫�أما الق�صيدة االخرية يف الديوان "رحلة �ضوء"‬ ‫فهي من وح��ي ث��ورات الربيع العربي ويهديها �إىل‬ ‫�أرواح ال�شهداء‪ .‬ولأنه كتبها يف يناير ‪� 2011‬أي يف‬ ‫بداية الربيع العربي يتحدث عن �ضوء ما زال ي�سافر‬ ‫�إىل فجر يتخلق يف رح��م الغيب لي�ضيء عتمة ليل‬ ‫الأر�ض ويقول يف �آخرها‪:‬‬ ‫ي��ت��وق��ف ه���ذا ال�����ض��وء‪ /‬لبع�ض ال��وق��ت‪ /‬ببع�ض‬ ‫حمطات التاريخ‪ /‬وي�سجل ق�ص�ص ًا تروى‪ /‬لقرون‪/‬‬ ‫فيها ال�ضوء‪ /‬وفيها الدم‪ /‬وفيها العتمة‪ /..‬ونحن‬ ‫هنا مازلنا‪ /‬ننتظر ال�ضوء‪ /‬لينري الأر���ض‪ /‬ويزيل‬ ‫العتمة‪.‬‬ ‫واحلقيقة �أن ال�شعوب العربية يف بع�ض بلدان‬ ‫الربيع العربي ومن �ضمنها وطن ال�شاعر ما زالت‬ ‫تنتظر ال�ضوء ليزيل العتمة‪.‬‬ ‫وه��ك��ذا ر�أي��ن��ا كيف خ�ص�ص ه��ذا ال�شاعر �أول‬ ‫دواوينه لق�ضايا البيئة وحقوق الإن�سان‪ ،‬فكان من‬ ‫�أوائ��ل ال�شعراء العرب يف تناول هذه املوا�ضيع من‬ ‫خالل ال�شعر‪ .‬و�إن عمق وعي ال�شاعر و�إميانه بهذه‬ ‫الق�ضايا جعاله يعرب عن �آرائ��ه وم�شاعره بو�ضوح‪،‬‬ ‫ولكن رمبا جعله يتناول مو�ضوعات معظم ق�صائده‬ ‫مببا�شرة‪ ،‬الأمر الذي قد يكون قلل من فنيتها على‬ ‫الأق��ل يف ر�أي بع�ض القراء والنقاد‪ .‬وحتية تقدير‬ ‫لل�شاعر وال��ن��ا���ش��ط االج��ت��م��اع��ي ال��دك��ت��ور من�صور‬ ‫احلماطي‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪121‬‬


‫نقد‬

‫مناجاة النفس‬ ‫فـي ق�صيدة (�شدو ال�سكون)‬

‫د‪ .‬عمر عتيق‬

‫للشاعرة الشيخة هند صقر القاسمي‬

‫فل�سطني‬

‫من �أب��رز الظواهر الأ�سلوبية التي تن�ساب يف ج��داول‬ ‫الق�صيدة تكرار الالزمة (عندما يهجع ما يف الكون) يف‬ ‫املقاطع الأربعة مع تغري الفعل (يهجع) يف املقطع الرابع‬ ‫�إىل الفعل (ي�سكن) ولهذا التغري داللة �سنقف عليها فيما‬ ‫بعد‪ .‬وينطوي هذا التكرار يف م�ستهل مقاطع الق�صيدة‬ ‫على �إ�ضاءات تك�شف النقاب عن وجه الق�صيدة لتظهر‬ ‫مفاتنها‪ ،‬وميكن ر�صد تلك الإ�ضاءات من خالل ظرف‬ ‫الزمان (عندما) ال��ذي يك�شف خ�صو�صية الزمن عند‬ ‫ال�شاعرة‪ ،‬فعندما يهجع �أو ي�سكن ما يف الكون يتحقق‬ ‫الزمن املثايل يف وجدان ال�شاعرة‪ ،‬فتعتلي الذات �صهوة‬ ‫�أحالمها‪ ،‬وتك�رس الأمنيات �أغاللها‪ ،‬ويف الزمن املثايل‬ ‫تختفي لوائح املحظورات‪ ،‬فت�سرتخي �سجايا النف�س على‬ ‫�أرائك الن�شوة‪.‬‬ ‫واختيار الزمن والإح�سا�س به من معايري التميز‬ ‫واملفا�ضلة ب�ين النا�س‪ ،‬فمنهم م��ن يجد يف �صخب‬ ‫�شهوات احل��ي��اة وب��ري��ق مكا�سبها ل��ذة يخلد �إليها‪،‬‬ ‫وي�صبح الزمن لديه نهارا يلهث فيه وراء متعة فانية‬ ‫ولي ًال يدفن فيه ج�سد ًا منهك ًا فال وقت لديه ملناجاة‬ ‫نف�سه فهو يك�سب ما يف ع��امل امل��ادة ويخ�سر نف�سه‪.‬‬ ‫ومنهم من يخلد �إىل نف�سه �سويعات كلما �ضاق �صدره‪،‬‬ ‫ف���إذا الم�س دفء ال�سكينة ع��اد م�سرع ًا �إىل �صخب‬ ‫احلياة التي تن�سيه هم�س املناجاة ‪ .‬ومنهم من يخ�شع‬ ‫‪122‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫لزمن غ��روب ال�شم�س مت�أم ًال رحيلها‪ ،‬ف���إذا انتهى‬ ‫من ت�شييع موكبها عاد �إىل جنون الرتف‪ .‬ومنهم من‬ ‫يتلو تراتيل ال�شروق لل�شم�س‪ ،‬ف�إذا مت وهجها ن�سي ما‬ ‫تاله و�أ�سرع ميخر عباب احلياة‪ .‬فالإح�سا�س بالزمن‬ ‫طقو�س ت�شكل �شخ�صية الإن�سان وفق ماهية الزمن‬ ‫التي تتحقق فيها املناجاة‪.‬‬ ‫والزمن املثايل لدى ال�شاعرة هو الليل الذي تخلد‬ ‫�إليه‪ ،‬وت�ست�أن�س به‪،‬وتتناجى مع ذاتها فيه‪ ،‬ولكنه لي�س‬ ‫مثل ليل الآخرين‪� ،‬إذ حتر�ص ال�شاعرة على حياكة‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪123‬‬

‫إن���ه���ا ش����اع����رة روم���ان���س���ي���ة ح���ت���ى ال���ن���خ���اع‪ ،‬و ش����اع����رة ت��ج��ي��د إع�������ادة ص��ي��اغ��ة‬ ‫ع���ن���اص���ر ال����وج����ود م����ن خ��ل��ال م���ن���اج���اة ال���ن���ف���س ل��ت��ح��ق��ق إن���س���ان���ي���ة االن���س���ان‬

‫ظلمة الليل بخيوط النور‪ ،‬فيغدو مو�شح ًا بالأقمار‬ ‫وال��ن��ج��وم‪ ،‬وحت��ي��ل ره��ب��ة الليل �إىل �صحبة و�أن�����س‪،‬‬ ‫فيبدو ناب�ض ًا بال�سامرين‪ ،‬وتخلق من ال�صمت هم�س ًا‬ ‫ومناجاة‪.‬‬ ‫�إن اختيار الليل �إط���ار ًا زمني ًا يف ه��ذه الق�صيدة‬ ‫وغريها من الق�صائد‪ ،‬يك�شف عن بع�ض اجلينات‬ ‫الثقافية لل�شاعرة التي تن�أى عن �ضجيج النهار �إىل‬ ‫�شدو �سكون الليل‪ ،‬وع��ن هدير النفاق �إىل هم�سات‬ ‫الن�سيم‪ ،‬وعن مذاق الكذب �إىل رحيق الرباءة‪ ،‬ومن‬

‫العبودية �إىل احلرية والفطرة‪ ،‬ماذا ميكن �أن �أقول‬ ‫عن �شاعرة حولت ظ�لام الليل ورهبته و�صمته �إىل‬ ‫رو�ضة من ريا�ض اجلنة؟ �إنها �شاعرة رومان�سية حتى‬ ‫النخاع‪ ،‬و �شاعرة جتيد �إعادة �صياغة عنا�صر الوجود‬ ‫من خالل مناجاة النف�س لتحقق �إن�سانية االن�سان‪.‬‬ ‫يف م�ستهل املقطع الأول تعيد ال�شاعرة �صياغة نوامي�س‬ ‫الطبيعة من خالل بناء ا�ستعاري الفت وذلك يف قولها‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ال�سكون‬ ‫عندما يهج ُع ما يف الكونِ ي�شدو يل‬ ‫ح� ��ام �ل� ً‬ ‫ا ق� �ي� �ث ��ار َة ال �ل �ي �ـ �ـ��لِ و�أوت� � � � � ��ا ِر ال �ل �ح��ون‬


‫م��ه��م��ا اج��ت��ه��د ال��م��ت��ل��ق��ي ف��ي م��ع��رف��ة ل��غ��ة ال��س��ك��ون ل���دى ال��ش��اع��رة فسيبقى اج��ت��ه��اده‬ ‫متواضعًا مبهمًا مقارنة ب��ال��روع��ة أو النشوة ال��ت��ي يشع سناها ف��ي س��ك��ون ليل الشاعرة‬

‫فقد يكون هجوع الكائنات �أم��ر ًا م�ألوف ًا بو�ساطة‬ ‫اال���س��ت��ع��ارة والت�شخي�ص‪� ،‬إذ �إن �أن�سنة عنا�صر‬ ‫الطبيعة من مقومات ال�صورة الفنية يف اخلطاب‬ ‫ال�شعري‪ ،‬و�أن�سنة الطبيعة هي الف�ضاء التي تت�شكل‬ ‫ف��ي��ه م��ن��اج��اة ال��ن��ف�����س‪ ،‬وت��ك��م��ن الإث�����ارة الفنية يف‬ ‫ال�صورة اال�ستعارية التي ت�صور ال�سكون �شادي ًا‪،‬‬ ‫فمتى كان لل�سكون وال�صمت �شدو وغناء؟ �إن هذه‬ ‫الإثارة الفنية تنبع من خ�صو�صية الإح�سا�س بالزمن‬ ‫ذلك الإح�سا�س الذي ت�سرتخي فيه النف�س ملعانقة‬ ‫�أحالمها ورغباتها‪ ،‬فالليل يف وج��دان ال�شاعرة له‬ ‫مذاق خا�ص‪ ،‬يجعل امل�ستحيل ممكن ًا والبعيد قريب ًا‬ ‫وال�صعب ي�سري ًا‪.‬‬ ‫ولعل �أب��رز معامل خ�صو�صية الزمن �شبه اجلملة‬ ‫(يل) �إذ �إن ال�سكون ي�شدو لها وح��ده��ا‪ ،‬حينما‬ ‫تتجرد الذات من �أقنعتها وتتحرر الأحالم والأماين‬ ‫من ح�صونها‪ ،‬و�شدو ال�سكون لغة م�شفرة ال يفهم‬ ‫معانيها �إال ال�����ش��اع��رة‪ ،‬ومهما اجتهد املتلقي يف‬ ‫معرفة لغة ال�سكون لدى ال�شاعرة ف�سيبقى اجتهاده‬ ‫متوا�ضع ًا مبهم ًا مقارنة بالروعة �أو الن�شوة التي‬ ‫ي�شع �سناها يف �سكون ليل ال�شاعرة‪ .‬وه��ك��ذا هي‬ ‫لغة املناجاة ال يدرك كنهها �إال �صاحبها‪ ،‬ويف هذا‬ ‫ال�سياق تتناهى �إىل وج���داين هم�سات داف��ئ��ة من‬ ‫ال�شاعرة‪� ،‬إذ �إن �أجمل الأ�صوات هي التي تعزف يف‬ ‫وجدان الإن�سان‪،‬فلن�صغ �إىل �أ�صوات �أعماقنا لن�سمع‬ ‫�صوت احل��ق وحل��ن الف�ضيلة و�أن��غ��ام اجل��م��ال‪ .‬و�إن‬ ‫�أجمل اللوحات هي التي ترت�سم يف �أعماقنا‪ ،‬فلنت�أمل‬ ‫�ألوانها و�إيحاءاتها لتكون بدي ًال عن م�شاهد القهر‬ ‫واحلرمان‪.‬‬ ‫ولي�ست الغاية من ت�صوير �شدو �سكون الليل الإخبار‬ ‫عن ذات ال�شاعرة‪ ،‬فاملتكلم يف الق�صيدة لي�س (هند‬ ‫‪124‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ال�شاعرة) بل الإن�سان ال��ذي يح�سن اال�ستماع �إىل‬ ‫�شدو ال�سكون‪ ،‬فهل تريد ال�شاعرة دعوة الإن�سان �إىل‬ ‫الإ�صغاء �إىل �أعماقه؟ وهل تدعو ال�شاعرة الإن�سان �إىل‬ ‫اخللود مع نف�سه؟ وهل تف�ضل ال�شاعرة لغة ال�سكون‬ ‫على لغة ال�صخب والكالم؟ ال �شك يف هذا كله‪ ،‬فقد‬ ‫�أرادت ال�شاعرة ان تهم�س لنا ب�أن �أ�صوات ال�سكون يف‬ ‫�أعماقنا ت�شدو �صدق ًا وجما ًال وف�ضيلة‪ ،‬وهي �أ�صوات‬ ‫طاهرة خال�صة من الكذب والتملق والرياء‪ ،‬وذلك‬ ‫�أن �أ���ص��وات �أو �شدو ال�سكون يعيد للنف�س ال�صفاء‬ ‫وال�سكينة‪ ،‬وما دام �سكون الليل مينحنا هذا الت�ألق‬ ‫والإ���ش��راق فلنجعل ج��وف الليايل حمراب ًا للمناجاة‬ ‫والت�أمل‪.‬‬ ‫وال تكتفي ال�شاعرة يف حتويل �صمت الليل و�سكونه‬ ‫�إىل �شدو وقيثارة و�أوت��ار‪ ،‬بل �أ�ضافت حت��و ًال �آخ��ر يف‬ ‫قولها‪:‬‬ ‫ت � � � � � � � � �ت � � � � � � � � �ه� � � � � � � � ��ادى يف ُدج � � � � � � � � ��ان � � � � � � � � ��ا‬ ‫� � � � � � �ش � � � � � �م � � � � � �ع � � � � � � ُة احل� � � � � � � � � � �ل � � � � � � � � � � ِ�م مت � � � � � � � � � ��و ْج‬ ‫ت� � � � � � �ن � � �ث� � � ُ�ر ال � � � � � � �� � � � � � � �ض� � � � � � ��و َء � � � �ش � � �ف � � �ي � � �ف � � �اً‬ ‫ب� � � � �ي� � � � ��ن �أغ � � � � � � � � � �� � � � � � � � � � �ص� � � � � � � � � ��انِ امل� � � � � � � � � � � � � � � � ��رو ْج‬ ‫لقد حتول ظالم الليل ورهبته �إىل �شموع م�ضيئة‪،‬‬ ‫وظالم الليل هنا هو �أعماق الإن�سان التي تفي�ض خوف ًا‬ ‫وي�أ�س ًا واكتئاب ًا‪ ،‬وهي �أعماق ال يبدد ظلمتها �إال �شموع‬ ‫احللم والأم��ل بالغد الآت��ي‪ .‬و�إذا كانت ال�شاعرة قد‬ ‫حر�صت على توفري ال�صورة ال�صوتية ملناجاة النف�س‬ ‫يف املقطع الأول ف���إن حر�صها على توفري ال�صورة‬ ‫الب�صرية (الإ�ضاءة) ال يقل �أهمية لأن مناجاة النف�س‬ ‫تتحقق م��ن خ�لال الأ���ص��وات التي ت�أ�سر م�سامعنا‪،‬‬ ‫وال�ضوء الذي يبهر عيوننا‪.‬‬ ‫ول��ك��ن ه��ل تقت�صر مناجاة النف�س على توافر‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫لأن مناجاة النف�س قد �أف�ضت �إىل ن�شوة ور�سمت‬ ‫عذب الأماين فقد تغريت �صورة الليل التي كانت‬ ‫يف املقطع الأول مظللة بالدجى ف�أ�صبحت يف هذا‬ ‫املقطع ليال بهيج ًا‬

‫ال�صورة ال�صوتية وال�صورة الب�صرية؟‪ ،‬جتيبنا‬ ‫ال�شاعرة بالنفي يف نهاية املقطع حينما تر�سم‬ ‫لنا ف�ضاء جديد ًا ملناجاة النف�س يف قولها‪( :‬بني‬ ‫�أغ�صان امل���روج)‪� ،‬إذ تعمد ال�شاعرة �إىل ف�ضاء‬ ‫الطبيعة ل��ت��زداد مناجاة النف�س ت�ألق ًا و�شفافية‬ ‫وذلك يف قولها‪:‬‬ ‫ع� � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا ي� � � � �ه� � � � �ج� � � � � ُع م� � � � � � ��ا يف ال� � � � �ـ‬ ‫ك � � � � � � � � � � � ��ونِ ُي � � � �� � � � �ش � � � �ج � � � �ي � � � �ن� � � ��ي ال � � � � �غ� � � � ��دي � � � � � ْر‬ ‫ب� � � � � � ��اع � � � � � � �ث � � � � � � �اً ه � � � � �م � � � � �� � � � � �س � � � � �اً خ � � � �ف � � � �ي � � � �اً‬ ‫ر‬ ‫ع � � � � � �ب � � � � � � َ�ر �أط � � � � � � � � � � � � �ي � � � � � � � � � � � � � ِ‬ ‫�اف الأث � � � � � � � �ي � � � � � � � � ْ‬ ‫و ُي � � � � � � � � � � � � � � � � ��داين ن� � � � �ف� � � � ��� � � � �س � � � � َ�ي ال� � � � َّ�ظ � � � �م � � � �ـ‬ ‫ـ � � � � � � � � � � � � � � � � ��أى � � � � � � � � �ش � � � � � � � �ع� � � � � � � ��ا ُع احل � � � � � � � ��امل � � � �ي � � � � ْ‬ ‫ن‬ ‫ي� � � � � �ب� � � � � �ع � � � � � ُ�ث ال� � � � � � � � � � � � � � � � � � � ��دف َء ب � � �ق � � �ل � � �ب� � ��ي‬ ‫ي � � � � � � � �ت � � � � � � � �ح� � � � � � � ��دىَ ال� � � � � � ��� � � � � � �س � � � � � ��اه � � � � � ��ري � � � � � ��نْ‬ ‫لو وازنا بني مطلع املقطع الأول ومطلع املقطع الثاين‬ ‫لتبني لنا تغري م�صدر ال�صوت ال��ذي ي�أ�سر وج��دان‬ ‫ال�شاعرة‪ ،‬ففي املقطع الأول كان م�صدر ال�صوت هو‬ ‫ال�سكون يف قولها (ي�شدو يل ال�سكون) ويف الثاين‬ ‫�أ�صبح الغدير يف قولها‪( :‬ي�شجيني الغدير)‪ ،‬ولهذا‬ ‫التغري دالالت‪ ،‬ففي �سياق ال�سكون تعددت الأ�صوات‬ ‫املو�سيقية (القيثارة والأوتار والأحلان) للتخل�ص من‬ ‫طنني ال�صمت و�إذاب��ة جليد ال�سكون من �أجل توفري‬ ‫�سياق يتناغم مع مناجاة النف�س‪ ،‬ويف �سياق الغدير‬ ‫غابت الأ���ص��وات املو�سيقية التي �صدحت يف املقطع‬ ‫الأول الن خرير امل��اء وم�شهد الغدير يوفران ف�ضاء‬ ‫نف�سيا للمناجاة‪.‬‬ ‫وي��ب��دو �أن مناجاة النف�س يف ه��ذا املقطع �أك�ثر‬ ‫رونق ًا وعمق ًا مما ورد يف املقطع الأول لأن ال�شاعرة‬ ‫قد ب��د�أت تتفاعل مع ذاتها‪� ،‬إذ بدا الغدير يداعب‬ ‫العدد‬

‫وج��دان��ه��ا فت�سمع هم�س ًا خفي ًا يحمله ن�سيم �أث�ير‬ ‫ين�ساب يف �أعماقها فتقرتب من الإح�سا�س بالن�شوة‬ ‫واالرت��واء‪ ،‬وما يعزز ارتقاء مناجاة النف�س يف هذا‬ ‫املقطع �أن احل��ل��م ق��د �أ�صبح �شعاع ًا بعد �أن كان‬ ‫احل��ل��م �شمعة ت��ت��ه��ادى يف ظ�لام ال��ل��ي��ل يف املقطع‬ ‫الأول‪ ،‬و�شتان بني ال�شمعة وال�شعاع‪ ،‬فحلم ال�شاعرة‬ ‫يف املقطع الأول كان قلق ًا مت�أرجح ًا متناثر ًا ال يعدو‬ ‫حجمه م�ساحة �ضوء �شمعة يف دجى الليل‪� ،‬أما حلمها‬ ‫يف املقطع الثاين فقد �أ�صبح �شعاع ًا �ساطع ًا يخرتق‬ ‫�ستار الظلمة واخل��وف والي�أ�س لي�صل �إىل القلب‬ ‫باعثا فيه الدفء واحلب والطم�أنينة‪ .‬ويزداد رونق‬ ‫املناجاة يف املقطع الثالث‪:‬‬ ‫ع� � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا ي� � � � �ه� � � � �ج� � � � � ُع م� � � � � � ��ا يف ال� � � � �ـ‬ ‫ك � � � � � � � � � � � � ��ون ي� � � � �ن� � � � ��� � � � �ش� � � � �ي� � � � �ن � � � ��ي االري � � � � � � � � � � � � ��ج‬ ‫�ذب الأم� � � � � � � � � � � � ��اين‬ ‫را� � � � � � � �س � � � � � � �م � � � � � � �اً ع� � � � � � � � � � � � � َ‬ ‫يف � � � � � � � �س � � � � � � �م� � � � � � ��ا ل� � � � � � � � �ي � � � � � � � ��ل ب � � � �ه � � � �ي � � � ��ج‬ ‫ف� � � � �ت� � � � �ح � � � �ي � � � ��ي دوح � � � � � � � � � � � � � � � � � َة ال� � � ��� � � �س� � � �م� � � �ـ‬ ‫ـ � � � � � � � � � � � � � � � � � ��ا ِر وط � � � � � � � � � � � � �ف � � � � � � � � � � � ��ا ُء درو ْر‬ ‫ت ���������������� ُ‬ ‫�ذرف ال � � � � � � � � ��دم� � � � � � � � � � َع ُف� � � � � � ��رات� � � � � � ��ا‬ ‫ف� � � � � � �ي� � � � � � �ن � � � � � ��اج� � � � � � �ي� � � � � � �ه � � � � � ��ا احل� � � � � � � � � � �ب � � � � � � � � � ��و ْر‬ ‫وت�ضيف ال�شاعرة ف�ضاء �آخر للمناجاة يف قولها‪:‬‬ ‫(ين�شيني الأري��ج)‪ ،‬وال يخفى �أن خرير املاء وم�شهد‬ ‫الغدير ون�سيم الأث�ي�ر يف املقطع ال�سابق ق��د ن�شر‬ ‫الأريج يف وجدان ال�شاعرة فتحققت الن�شوة‪ ،‬ون�ضج‬ ‫ميالد ال�سعادة وهو ما جتلى يف قولها‪( :‬را�سما عذب‬ ‫الأم��اين)‪ ،‬ولأن مناجاة النف�س قد �أف�ضت �إىل ن�شوة‬ ‫ور�سمت عذب الأم��اين فقد تغريت �صورة الليل التي‬ ‫كانت يف املقطع الأول مظللة بالدجى ف�أ�صبحت يف‬ ‫هذا املقطع ليال بهيج ًا‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪125‬‬


‫حينما تطلب �شدو ال�سكون و�شجو الغدير ون�شوة الأريج تكون‬ ‫يف حالة من التوتر والظم�أ واالحتقان‬

‫وما دامت املناجاة قد غمرت وجدان ال�شاعرة فقد‬ ‫حتولت من مناجاة الذات �إىل مناجاة بني الطبيعة‬ ‫والآخ���ري���ن‪ ،‬ويك�شف ه��ذا ال��ت��ح��ول �سمو امل�شاعر‬ ‫الإن�سانية التي ينبغي �أن تتحرر من دائرة الذات �إىل‬ ‫دائ��رة الآخرين الذين يتوقون لل�سعادة ولل�سكينة‪،‬‬ ‫ولهذا �أحيت ال�سحابة املفعمة باملاء واخل�ير دوحة‬ ‫ال�سمار يف قول ال�شاعرة (فتحيي دوح�� َة ال�سمـ ا ِر‬ ‫وطفا ُء درو ْر)‪.‬‬ ‫وما تزال ال�شاعرة ت�سبح يف ف�ضاء مناجاة النف�س‬ ‫�إىل �أن ت�صل �إىل ذروة الن�شوة والر�ضا حينما يبد�أ‬ ‫النعا�س يداعب �أهدابها فت�سرتخي لطيف الذكريات‬ ‫يف قولها‪:‬‬ ‫ع� � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا ي� � � � �ه� � � � �ج� � � � � ُع م� � � � � � ��ا يف ال� � � � �ـ‬ ‫������������س������������اب ال���������ن�������������������س���������ي��������� ْم‬ ‫ك������������������������ون ي������������ن�������������‬ ‫ُ‬ ‫ن� � � � � � � ��ا� � � � � � � � �ش� � � � � � � ��راً ن � � � � � �ف � � � � � �ح � � � � � �اً ن� � � � � ��دي � � � � � �اً‬ ‫مي‬ ‫ب � � � � � �ي� � � � � ��ن ط � � � � � � � � � � � � �ي � � � � � � � � � � � ��اتِ‬ ‫الأد ْ‬ ‫ف� � � � �ي� � � � �ن � � � ��اج � � � ��ي ج � � � � �ف � � � � �ن� � � � � َ�ي ال � � � ��و�� � � � �س� � � � �ـ‬ ‫ن� � � � � � � � � � � � � � ��ا َن ط� � � � � � � �ي � � � � � � � ُ�ف ال� � � � � � � ��ذك� � � � � � � ��ري� � � � � � � ��اتْ‬ ‫ي � � � � � � ��ؤن � � � � � � ��� � � � � ُ� ��س ال � � � � � �ل � � � � � �ي � � � � � � َل �� � � � �س� � � � �ن � � � ��ا ٌء‬ ‫م � � � � � � � � � � ��ن جن � � � � � � � � � � � � � � � � � ��و ٍم � � � � � � � � � �س � � � � � � � ��اح � � � � � � � ��راتْ‬ ‫فقد اكتملت ف�ضاءات املناجاة يف ه��ذا املقطع‪،‬‬ ‫وب���د�أت ن�شوة النف�س تن�ساب يف م�سامات اجل�سد‬ ‫فت�سرتخي طيات الأدمي وتتال�شى وط�أة احلياة‪ ،‬ويف‬ ‫ف�ضاء هذا اال�سرتخاء تت�ألق �أطياف الذكريات يف‬ ‫ليل تفتح براعم جنومه حلم ًا وحب ًا‪.‬‬ ‫وميثل املقطع الأخ�ير حت��و ًال يف م�سار الق�صيدة‪،‬‬ ‫فقد ب���د�أت املقاطع ال�سابقة بالالزمة التكرارية‬ ‫الإيقاعية (عندما يهجع م��ا يف الــكون) ويج�سد‬ ‫تكرار الالزمة مفا�صل الوحدة الع�ضوية للق�صيدة‪،‬‬ ‫‪126‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�إذ ال تكتمل دالل��ة املقطع �إال بالتجاذب مع املقطع‬ ‫الآخ��ر‪ .‬وتغري الفعل (تهجع) �إىل الفعل (ي�سكن)‬ ‫ال���ذي يحمل �شحنات دالل��ي��ة متثل نهاية املطاف‬ ‫ملناجاة النف�س يف قولها‪:‬‬ ‫ع � � � �ن � � � ��دم � � � ��ا َي � � � �� � � � �س � � � �ك � � � � ُ�ن م � � � � � ��ا يف ال � � � �ـ‬ ‫ك � � � � � � � � � � ��ونِ ُت � � � �� � � � �ص � � � �غ� � � ��ي يل ال� � � � � � ُب� � � � � �ح � � � � ��و ْر‬ ‫ال ُت� � � � � � �ب � � � � � ��ايل ب � � � � � � � � ��أزي � � � � � � � � � ِز ال � � � � ��ري � � � � � ِ�ح‬ ‫�أو �� � � � � َ� � � ��س� � � � � � � � � ْ�ح� � � � � � � � � ِ�م ال � � � � � � � � � ��ده � � � � � � � � � ��و ْر‬ ‫ت� � � � � �ت� � � � � �ج� � � � � �ل � � � � ��ى ب� � � � � � ��� � � � � � �س� � � � � � �م� � � � � � � ٌة ق� � � �م� � � �ـ‬ ‫ـ� � � � � � � � � � � � ��را ب� � � � � � �ل� � � � � � �ي � � � � � ��لِ امل� � � � ��� � � � �س� � � � �ت� � � � �ح� � � � �ي � � � � ْ�ل‬ ‫�أرت� � � � � � � � � � � � � � � ��وي م � � � � � ��ن ح � � � � � � � � � � ��دقِ ال � � � � ��دُّ ن� � � � � �ـ‬ ‫ي � � � � � � � � � ��ا �� � � � � � � � �ص � � � � � � � ��دى حل� � � � � � � � � � � � � � ٍ�ن ب� � � � �ل� � � � �ي � � � � ْ�ل‬ ‫فالفعل(ي�سكن) يفيد ال�سكينة والطم�أنينة وهما‬ ‫ثمرة مناجاة النف�س‪ ،‬وما دامت ال�شاعرة قد قطفت‬ ‫هذه الثمرة فقد حتول حمور املناجاة من مناجاة‬ ‫ب�ين ال�����ش��اع��رة وذات��ه��ا �إىل م��ن��اج��اة ب�ين ال�شاعرة‬ ‫وحميطها اخلارجي‪ ،‬ولتو�ضيح هذا التحول ميكننا‬ ‫�أن ن�ستذكر قول ال�شاعرة يف املقطع الأول‪( :‬ي�شدو‬ ‫يل ال�سكون) ويف املقطع الثاين‪( :‬ي�شجيني الغدير)‬ ‫ويف املقطع الثالث‪( :‬ين�شيني الأري���ج)‪ ،‬ففي هذه‬ ‫املقاطع ك��ان��ت ال�شاعرة حم���ور ًا م�ستقبال �أم��ا يف‬ ‫املقطع الأخري ف�أ�صبحت ال�شاعرة حمور ًا مر� ً‬ ‫سال يف‬ ‫قولها‪( :‬ت�صغي يل البحور)‪ ،‬والفرق بني اال�ستقبال‬ ‫والإر���س��ال يف �سياق امل��ن��اج��اة �أن النف�س يف حالة‬ ‫اال�ستقبال حينما تطلب �شدو ال�سكون و�شجو الغدير‬ ‫ون�����ش��وة الأري���ج ت��ك��ون يف ح��ال��ة م��ن ال��ت��وت��ر والظم�أ‬ ‫واالحتقان‪ ،‬ويف حالة الإر�سال حينما ي�سكن توترها‬ ‫ويرتوي ظم�ؤها وي�سرتخي احتقانها ت�صبح قادرة‬ ‫على �إلهام ما يحيط بها‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪127‬‬


‫عن األمس‬

‫ُت �� �س��ا ِئ � ُل �ن��ي ت� �ل � َ�ك ال � � ُّرب� ��ى وامل � �ن� ��از ُِل‬ ‫و َك � � � ْم ُك� �ن ��تُ َع� � َّم ��نْ ف ��ا َرق ��وه ��ا �أُ�� �س ��ا ِئ� � ُل‬ ‫م� � َر ْر ُت ِب�ه��ا وال�ق�ل� ُ�ب َي� ْع��ُ��ص� ُر ُه الأ��س��ى‬ ‫َف � �لَ � � ْم �أ َر ف �ي �ه��ا م� ��ا َر َو ْت � � � � � � ُه الأوائ� � � � � ُل‬ ‫خ��رائ� ُ�ب مل ُي �ب��قِ ل�ه��ا ال � َّده � ُر ��ص��ور ًة‬ ‫ف� � ��أي � � َ�ن امل � �غ� ��اين وامل � �ه� ��ى واخل � �م� ��ا ِئ � � ُل‬ ‫ت �ب �ع�ث�رتِ الأ� � �ش � �ي ��ا ُء يف َع � َر� َ��ص��ات �ه��ا‬ ‫ك�م��ا َب� � ْع�َث�رَ َ تْ ��س�ط� َح ال �ب �ط��ا ِح ال� � �ز ُ‬ ‫َّالزل‬

‫شعر‬

‫ف� �ل� � ْم ي� �ب� � َق ف �ي �ه��ا م� ��ا ي � � � ُ‬ ‫�روق لمِ ُ �ق �ل � ٍة‬ ‫ول� �ي� �� � َ�س ب �ه��ا � اَّإل ال � �ق ��ذى واجل� � �ن � ��اد ُِل‬ ‫و َت � � ْز ُف � � ُر ري� � ٌ�ح � َ��ص � ْر� َ��ص � ٌر يف رح��اب�ه��ا‬ ‫ك �م��ا زف� � ��رتْ ح ��زن� �اً ع �ل��ى امل � � ْي ��تِ ث ��ا ِك � ُل‬ ‫َغ� � � َدتْ ِل �ط �ي��و ِر ال� � ُب ��و ِم و ْك �ن �اً وم�ل�ج��أً‬ ‫وك ��م غ � � � َّر َدتْ ب��الأم ��� ِ�س ف�ي�ه��ا ال �ب�لاب � ُل‬

‫عازار َّ‬ ‫جنار‬ ‫�سوريا‬

‫‪128‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ٌ‬ ‫�شجريات َ‬ ‫من ال�شَّ وكِ حولها‬ ‫وطا َلتْ‬ ‫و�� � �ص � ��ا َرتْ ه� �ب ��ا ًء ل� �ل� � ِّري ��ا ِح ال ��� َّ�س �ن��ا ِب � ُل‬

‫هلل م��ا ل�ل�ع�ي��� ِ�ش ب �ع � َد رح �ي � ِل � ِه � ْم‬ ‫َف � ��وا ِ‬ ‫وم ��ا ل�ل�ه��وى ط �ع � ٌم وال ال� � َّده� � ُر ع ��اد ُِل‬

‫�أَ ُت � � ُ‬ ‫�وق �إىل ت�ل� َ�ك الأم��ا� �س��ي وُ�أ ْن���س�ه��ا‬ ‫وم� ��ا ُك� �ن ��تُ �أَ ْدرِي �أ َّن �أح�ل�اه ��ا زائ � � ُل‬

‫تمُ َ � � � ِّزق� � �ن � ��ي ذك � � ��راهُ � � � � ُم ك� � � � ّل ل �ي �ل � ٍة‬ ‫و َق� � ْد �أظ�ل�م��تْ بعد ال� َّرح�ي��لِ الأ��ص��ا ِئ� ُل‬

‫َل َق ْد َ�ضا َق َ�صدْري وال َّنوى قا ِت ُل الهوى‬ ‫ف �ي ��ا َق � �ل� � ُ�ب �إ َّن امل ُ �خ �ل �� �ص�ي َ�ن ق�ل�ا ِئ� � ُل‬

‫وحت �ت ��� ِ�ش � ُد الآه � � � ُ‬ ‫�ات ب �ي� َ‬ ‫ن �أ� �ض��ا ِل �ع��ي‬ ‫وي � � � � ��ر َز ُخ يف � � �ص� ��دري ق� �ت� �ي � ٌ�ل وق� ��ا ِت � � ُل‬

‫َل َق ْد َج َّرعوين ا ُ‬ ‫حل َّب ح َّتى تحَ َ َّط َمتْ ‪...‬‬ ‫ك ��ؤو� �س��ي ولمَ ْ َت �ن ��� َ�س ه ��واه ��ا امل� �ن ��از ُِل‬

‫َ‬ ‫ي�ق��ول��و َن يل م��ا ب� ُ‬ ‫عينيك ي��ا فتى‬ ‫�ال‬ ‫ت� �غ ��ورانِ يف َك �ه� ٍ�ف ودم� � ُع � َ�ك ه��امِ � ُل ؟؟‬

‫و ُك � � َّل م �� �س��ا ٍء ُت � ْب��حِ � ُر ال �ع�ي ُ�ن َن�ح��وه��ا‬ ‫القلب يف ُن ْعمى وال َّ‬ ‫الط ُ‬ ‫يف راحِ ُل‬ ‫َفال‬ ‫ُ‬

‫�أق� � ُ‬ ‫�ول َل � ُه � ْم َم ��نْ ك ��ا َن مِ � ْن � ُك � ْم ُف � ��ؤاد ُه‬ ‫َك�ق�ل�ب��ي َه� � َم ��تْ م ��نْ م �ق �لَ�ت �ي � ِه ج� � ُ‬ ‫�داول‬

‫ُت��راف �ق �ن��ي الأوه� � � ��ا ُم ح �ي� َ‬ ‫ن �أزو ُره� � ��ا‬ ‫و َت� � ْن� � َم� � ُل � ْإن م ��ا ال َم ��� َ�س � ْت �ه��ا الأن� ��امِ � � ُل‬

‫�إذا املر ُء لمَ ْ َ‬ ‫يع�ش ْق َي ُكنْ مث َل �صخر ٍة‬ ‫ج� � �م � ��اداً ب �ل��ا رو ٍح وع � �ق � � ُل � � ُه غ� ��ا ِف � � ُل‬

‫وب ح �ن �ي �ن �اً ُك� � َّل� �م ��ا ال َح ب � � ��ار ٌِق‬ ‫�أ ُذ ُ‬ ‫ووج� � � � � � ُه �أح� � �ب � ��ائ � ��ي ب� �ع� �ي� �ن � َّ�ي م � ��ا ِث� � � ُل‬

‫من ديوان ورد و�شوك‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪129‬‬


‫طفولة‬ ‫ك �� �س�ل�اف � ٍة � �س �ك � َب��ت ب� � � ��را َءة وج �ه �ه��ا‬ ‫يف م� �ق� �ل� �ت ��ي ف �ت��ر َّن� � �ح � ��ت �أو� � � �ص� � ��ايل‬ ‫ك� �غ� �م ��ام� � ٍة م � � � � َّرت ت� ��� �س ��اب � ُ�ق ظ � َّل �ه��ا‬ ‫وت��راك �� �ض��ت ك��ال� َّ�ط �ي� ِ�ف ع�ب� َ�ر خ �ي��ايل‬ ‫ه��ام �� �س � ُت �ه��ا و�� �س� ��أل� � ُت� �ه ��ا ف � �ت� ��و َّردت‬ ‫اجل� � � �ف � � ��ونِ ي � � � � � ُّ‬ ‫�رف �أل � � � � � � ُ�ف � � � �س � � ��ؤالِ‬ ‫�أر�أي � � ��تَ خ� � َّد ال � ��ور ِد ي �ل �ث � ُم � ُه ال � َّن��دى‬ ‫و�� �ش� �ق ��ائ� � َق ال� � ُّن� �ع� �م ��انِ يف الأدغ� � � � ��الِ ؟‬

‫ِك��ان��ت ع �ل��ى اخل ��دي � ِ�ن ت��رق � ُد دم �ع � ٌة‬ ‫ك� ��ال� ��و� � �ش� � ِ�م م � ��ر�� � �س � ��و ٌم ب � �خ � � ِّد ه �ل��الِ‬ ‫وت���س��اق� َ�ط��ت ب � ��أر َّق م��ن وق� � ِع ال� َّن��دى‬ ‫ف � � � � ��و َق ال � � � � � ُّزه� � � � ��و ِر ب� � �خ� � � َّف� � � ٍة وداللِ‬ ‫ه �م ��� َ�س��ت �إ َّ‬ ‫يل ومت� �ت� � َم ��ت ل�ث�غ��ات�ه��ا‬ ‫ي� ��ا � �س �ح � َر � �س �ح � َر ب� � � � ��را َء ِة الأط � �ف� ��الِ‬ ‫وت � �ك � � َّل � �م� ��ت ب� �ل� �ح ��اظِ � �ه ��ا ف � �ك � ��أنمَّ � ��ا‬ ‫ر�� � �ش� � �ق � � ُ‬ ‫�ات ن � �� � �ص� ��لٍ الح � � � ��قٍ ب� �ن� ��� �ص ��الِ‬ ‫ح � َّت��ى �أ� �ص��اب��ت م��ن ف� � ��ؤادي م�ق�ت� ً‬ ‫لا‬ ‫ف �ع �ل �م ��تُ �أنيِّ ل� ��� �س ��تُ ُك � � � ��ف َء ِن � � ��زالِ‬ ‫من ديوان وقفات يف زمن �ضائع‬

‫‪130‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫شعر‬ ‫د‪ .‬نايف علي عبيد‬ ‫�سوريا‬

‫يا طيور‬ ‫ف � � � ��اق � � � ��داً ك� � � � ��ان ل � � �ل � � �ك� � ��رام � � � ِة �إ ّم� � � � ��ا‬

‫ح �ل �ق��ي ي� ��ا ط � �ي� ��و ُر يف اجل � � � ّو � �س �ك��رى‬ ‫وام �ل �ئ��ي ال� ��رو�� � َ�ض ب� ��الأغ� ��اري� ��دِ ��س�ح��را‬ ‫وان� �ف� �ث ��ي يف ب � ��راع � � ِ�م ال� � � � ��ور ِد روح � � �اً‬

‫ذاك � � � � � � � � � ��راً �أم � � � �� � � � �س � � � � ُه ف� � �ي� � �ب� � �ك� � �ي� � � ِه َق � � � � ْه� � � ��را‬

‫• • •‬

‫ي � �ن � �ت � ��� � ِ�ش ال � � � � � � � ��ور ُد ب � ��ا�� � �س� � �م� � �اً ُم � �� � �ش � �م � �خ � � ّرا‬

‫واب �ع �ث��ي يف ال �ن �ف��و�� ِ�س ُح � � ّب � �اً وع ��زم �اً‬

‫و�� � � � �س� � � � �م � � � ��واً ي � � � �� � � � �س� � � ��و ُد روح � � � � � � � � � �اً وف� � � �ك � � ��را‬

‫�أ ّي � � �ه� � ��ا ال� �ب� �ل� �ب� � ُل امل � � �ع � � � َذ ُب ي � ��ا خ� � ّل � َ�ي‬

‫غ� � � ��اب � � � � َر ال � � � � �ق� � � � ��و ِم ب � � ��ال� �ت ��ران� � � �ي � � � ِ�م ف � �خ� ��را‬

‫ق ��د ر�أي� � � ��تُ اخل� ��ري� � َ�ف ي �ح �م � ُل رف �� �ش �اً‬

‫راق �� �ص��ي اجل � ��دو َل ال �� �ض �ح� َ‬ ‫�وك وغ�ن��ي‬

‫�أخ � � �� � � �ش � � ��ى ي� � � ��أ�� � � �س� � � �اً �إذا ب� � � �ح � � ��تُ � � �ِ ��س� � � � ّرا‬

‫ع � َّل �ه��م ي �ن �ه �� �ض��و َن م ��ن � �س �ك��ر ِة ال�ل�ي��لِ‬

‫ور�أي� � � � � � � � � � � � ��تُ ال� � � ��� � � �ش� � � �ت � � ��ا َء ُي� � � � �ب � � � � ُ‬ ‫�رق � � � �ش � � � ّرا‬

‫�أُب � � � � � � � � � � � � ��ا ًة مي � � � �� � � � �ش� � � ��و َن ل� � � �ل� � � �ح � � ��قِ َج � � � � ْه� � � ��را‬

‫ال �أح � � � ُّ�ب ال �غ �� �ص ��و َن ت � ��ذوي وت �ع��رى‬

‫• • •‬

‫وال� � � �ط� � � �ي � � ��و َر احل � � �� � � �س� � ��ا َن ت � �� � �ص � �م� ��تُ ذع � � ��را‬

‫ب � � ْ�ل �أح� � � � ُّ�ب ال� �غ� ��� �ص ��و َن ت � � � ��زدا ُد ت �ي �ه �اً‬

‫ُك� � � ّل� � �م � ��ا ال � � �ب� � ��اغ� � � ُّ�ي ج � � � ��نَّ ح� � � �ق � � ��داً وغ � � � ��درا‬

‫�أ ّي � � �ه� � ��ا ال� �ب� �ل� �ب� � ُل امل� � � �ع� � � � ّذ ُب ي � ��ا خ � ّل ��ي‬

‫ت � � � �ك � � � � ّل � � � � ْم ف � � � � � ��أن� � � � � ��تَ ب � � ��ال� � � ��� � � �س� � � � ِّر �أدرى‬

‫و�أح � � � � � � ُّ�ب ال� � �ط� � �ي � ��و َر ت � �� � �ش� ��دو م� �ل� � ّي� �اً‬

‫وا� � �ش � �ت � �ي� ��اق � �اً وال� � � ��رو�� � �ُ ��ض ي � � � ��ذوي وي � �ع� ��رى‬

‫�إ َّن ن � � ��و َر احل� � �ي � ��ا ِة ي � �ح � �ت� ��ا ُج ع ��زم� �اً‬

‫ُح � � � � �ل � � � � � َم امل � � � � �ج� � � � ��دِ ب � � � ��ارت � � � �ق � � � ��ا ِء امل� � � �ج� � � � ّرا‬

‫�ان ت � ��ذب� � � ُل ُح� ��زن � �اً‬ ‫ال � � � � � ��ورو ُد احل � �� � �س� � ُ‬

‫م � �ث � �ل � �م ��ا ال� � ��� � �س� � �ي � � ُ�ف ل� � �ل� � �خ� � �ط � ��وبِ َت � � �ع � � � ّرى‬

‫م � ��ا ب� � � � ِه وال� � � � ُدج � � ��ى ي � ��زي� � � ُد �� � �س � ��واداً‬

‫ح� � � � � ��ا َ‬ ‫ين ال � � � � ��ر�أ� � � � ِ� ��س �� � �ص � ��ام� � �ت� � �اً ُم � �ك � �ف � �ه � � ّرا‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪131‬‬


‫قصتان لألطفال‬

‫إبداع‬

‫الم‬ ‫َمدين َ ُة األ َ ْح ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عال ت َْ�س ُك ُن ُه‬ ‫الم َق ْ�ص ٌر ٍ‬ ‫ُي ْحكى �أ َّن ُه كانَ يف َمدي َن ِة الأ ْح ِ‬ ‫�ساح َر ٌة‪ ،‬و َق ِد ا َّتفَقَ ال ُك ُّل على �أَ َّنها َط ِّي َب ٌة وتحُ ِ ُّب‬ ‫ْام َر�أَ ٌة ِ‬ ‫ا َ‬ ‫ُرات َغيرْ ِ عا ِد َي ٍة يف‬ ‫للجمي ِع‪ .‬وكا َن ْت َت َت َم َّت ُع ِب ُقد ٍ‬ ‫خليرْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ا�س‪.‬‬ ‫تحَ ْ ِ‬ ‫الم ال ّن ِ‬ ‫قيق �أ ْح ِ‬ ‫َ‬ ‫خام الأ ْب َي ِ�ض‬ ‫ك��انَ َق ْ�ص ُر ّ‬ ‫ال�س ِاح َر ِة َم ْب ِني ًا ِم��نَ ال ُّر ِ‬ ‫َ‬ ‫ا َمل ْط ِل ِّي ِب َّ‬ ‫الذهَ ِب الأ ْ�ص َف ِر‪ِ ،‬ل َهذا كانَ َي ْل َم ُع لمَ َعان ًا ُك َّلما‬ ‫َ‬ ‫ا ْن َع َك َ�س ْت َع َل ْي ِه �أ ِ���ش�� َّع�� ُة َّ‬ ‫فو�س‬ ‫ال�ش ْم ِ�س‪َ ،‬ف ُيث ُري يف ال ُّن ِ‬ ‫�أَ‬ ‫وح ٍّب و َر ْغ َب ٍة يف ا ِال ْ�س ِت ْطال ِع‬ ‫حا�سي�س ُمتَبا ِي َن ًة ِمنْ ُر ْع ٍب ُ‬ ‫َ‬ ‫غام َر ِة‪.‬‬ ‫و ُر ِ‬ ‫واج املُ َ‬ ‫كوب �أَ ْم ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال�صعو ُد ِ�إىل ال َق ْ�ص ِر �أ ْمر ًا َع�سري ًا‪َ ،‬ذ ِل َك �أ َّن ُه‬ ‫وكانَ ُّ‬ ‫غام َر َة‬ ‫ك��انَ ُمقام ًا على َج َب ٍل ِ‬ ‫يحب ُم َ‬ ‫�شام ٍخ‪ .‬وا ّل��ذي ُّ‬ ‫ذات‬ ‫ال�صعو ِد َو َج َ��ب َع َل ْي ِه ُمقا َو َم ُة ت‬ ‫َ�ضاري�س َ�ص ْع َب ٍة ِ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫و�صخو ٍر َ�ص ْلدَ ٍة‪.‬‬ ‫جات‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُم ْن َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال�صعو َد ِ�إىل �أ ْعلى َ‬ ‫ِا ْ�ستَطا َع ّ‬ ‫اجل َب ِل‪،‬‬ ‫ال�ش ُّ‬ ‫اب الأ َّو ُل ُّ‬ ‫عان َي ْحمِ ِ‬ ‫الن ُم َق َّن ِ‬ ‫ا�س َت ْق َب َل ُه َر ُج ِ‬ ‫الن َ�س ْي َفينْ ِ ِ‬ ‫الم َعينْ ِ‬ ‫َف ْ‬ ‫و�أَ ْد َخال ُه ِ�إىل ا َملغا َر ِة‪.‬‬ ‫َ�س َ�أ َل ْت ُه ال َعجو ُز‪:‬‬ ‫�أَخْ برِ ْ ين َعنْ ُح ْلمِ َك ا ّلذي ُيرا ِود َُك َل ْي َل َنها َر؟‬ ‫ا�س يف ا َملدي َن ِة!‬ ‫�أنْ �أَ�ص َري َ�أ ْقوى ال ّن ِ‬ ‫و َل ِكنْ َحذارِ! َفال ُق َّو ُة ُ�س ْل َط ٌة خا ِد َع ٌة يمُ ْ ِكنُ‬ ‫�أَنْ ُتدَ ِّم َر َك‪..‬‬ ‫َع َ��ج��ب�� ًا‪َ ..‬ك��� ْي َ‬ ‫���ف ُت���دَ ِّم��� ُرين؟‬ ‫ال ُق َّو ُة ِه َي ِ�سالحي الوحي ُد‬ ‫ِ�ض َّد َّ‬ ‫الطبي َع ِة َ‬ ‫وانات‬ ‫واحل َي ِ‬ ‫َ‬ ‫��س��ان‪� ..‬أ ْ�ستَطي ُع ِبها‬ ‫وا ِلإ ْن��� ِ‬ ‫ال�سعا َد ِة‪.‬‬ ‫ِقيا َد َة َ�سفي َن ِة َحياتي َن ْح َو ِ‬ ‫�شاطى ِء َّ‬ ‫هَ ْل هَ ذا هُ َو َط َل ُب َك الأَخ ُري يا ُب َن َّي؟‬

‫م�صطفى ملح‬ ‫املغرب‬

‫‪132‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�أَ َج ْل‪� ..‬أَ َج ْل‪..‬‬ ‫حام َل ًة َط ْ�ست ًا ُم�� ِل��ى َء ما ًء‬ ‫ال�س ِاح َر ُة ِ‬ ‫َ‬ ‫قام ِت ا َمل��� ْر�أَ ُة ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫و�ش َر َع ْت ت ُ‬ ‫ِ�س ِّر ّي ًا‪َ ،‬‬ ‫َقول َكالما ُم ْب َهما‪ ،‬و�أ َم��� َر ِت ال َفتى‬ ‫عات ِمنَ املاءِ‪ ،‬وما َت َب ّقى ِم ْن ُه َيغ ِْ�س ُل ْب ِه �سا ِئ َر‬ ‫ِب ُ�ش ْر ِب ُج ْر ٍ‬ ‫�أَ ْع�ضا ِئ ِه‪.‬‬ ‫وما كا َد ال َفتى �أَنْ َي ْن َتهِ َي َحتّى �أَ َح َّ�س َ �أ َّن ُه َ�أ ْقوى َر ُج ٍل‬ ‫يف ال َك ْو ِن‪َ .‬ح َم َل َّ‬ ‫وح َّط َم ُه ِبال َر�أْ َف ٍة‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫الط ْ�س َت املُ َق َّد َ�س َ‬ ‫َّ�ضاري�س ال َو ْع َر ُة‪..‬‬ ‫َنزَ َل ْب ُ�س ْر َع ٍة دونَ �أَنْ تمَ ْ َن َع ُه الت‬ ‫ُ‬ ‫��ان‪َ ،‬ف��دا َر َب ْي َن ُه وبينْ َ‬ ‫يف ال�� َي�� ْو ِم ال ّثاين َ�ص َعدَ َف ًتى ث ٍ‬ ‫احلوا ُر التّايل‪:‬‬ ‫ال َعجو ِز ِ‬ ‫َ‬ ‫ما ُح ْل ُم َك �أ ُّيها ال َفتى؟‬ ‫املال‪ُ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫املال وال َ�ش ْي َء َغيرْ ُ ُه!‬ ‫مال؟‬ ‫وما َ�س َب ُب ِع ْ�ش ِق َك ال َكب ِري ِل ْل ِ‬ ‫لأَ َّن ُه ُ�س ْل َطتي‪� ..‬أَ ْ�ستَطي ُع َ�أنْ �أَ ْ�شترَ ِ َي العالمَ َ ُك َّلهُ‪َ .‬ل َك ْم‬ ‫َح ِل ْمتُ �أَنْ َيكونَ يل َق ْ�ص ٌر ِمنَ َّ‬ ‫الذهَ ِب اخلا ِل ِ�ص‪ُ ،‬‬ ‫وخيو ٌل‬ ‫وحقو ٌل ممُ ْ َت َّد ٌة ِمنَ َّ‬ ‫ال�ش ْر ِق �إِىل ال َغ ْر ِب‪..‬‬ ‫َرفي َع ٌة‪ُ ،‬‬ ‫َف َ‬ ‫قاط َع ْت ُه ال َعجو ُز ُم ْ�س َتف ِْ�س َر ًة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫�أَال تَرى �أنَّ َ‬ ‫ا�س ِب َك‪َ ،‬ف َتت َ​َح َّو ُل‬ ‫املال َق ْد ُيف ِْ�س ُد َعال َق َة ال ّن ِ‬ ‫ِمنَ �صدا َق ٍة َكر َمي ٍة �إِىل َعدا َو ٍة ُم ْ�ستَد َمي ِة؟‬ ‫ال�س ِاح َر ُة!‬ ‫َق ْطع ًا‪� ..‬أَنا �أَرى َع ْك َ�س ما َت َر ْينَ �أَ َّيتُها ّ‬ ‫�لان‬ ‫قام ِت ال َعجو ُز‪�َ ،‬ض َر َب ْت َك ّف ًا ِب َك ٍّف‪َ ،‬فدَ َخ َل َر ُج ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الن ُ�ص ْندوقا ِع ْمالقا و َق ْد ُح ِ�ش َي َذهَ با‪ ،‬لمَ ّا‬ ‫َق ِو ّي ِان َي ْحمِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َفتَحا ُه �أَ ْو َ�ش َك ال َفتى �أنْ َي ْفقِدَ َع ْق َلهُ‪َ ،‬ف َ�ص َر َخ َم ْذهو ًال‪:‬‬ ‫الذهَ ِب‪� ..‬إِ َّن ُه ُ�ص ْف َر ُة َ‬ ‫ ما �أَ ْج َم َل لمَ َعانَ َّ‬‫اجل َّن ِة!‬ ‫َ�ضاري�س‬ ‫وال�سعا َد ُة َت ْغ ُم ُر ُه‪َ ،‬غيرْ َ عابِىءٍ ِبت‬ ‫ِ‬ ‫ُث َّم َنزَ َل‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫اجل َب ِل‪..‬‬ ‫َيان‪� :‬أَ ْ�ص َب َح الأَ َّو ُل َعنيفاً‬ ‫َم�� َّر ْت َ�س َن ٌة‪َ ،‬ف َت َغيرَّ َ ال َفت ِ‬ ‫ا�س و َي ْ�س َت ْع ِبدُهُ ْم‪ ،‬و ُك َّلما‬ ‫ُم ِ‬ ‫�شاك�س ًا‪َ ،‬يت َ​َح َّك ُم يف ر ِ‬ ‫ِقاب ال َّن ِ‬ ‫َ‬ ‫َت َق َّد َم �إِ َل ْي ِه �أ َح ٌد بال ُّن ْ�ص ِح َق َت َل ُه َغيرْ َ � ِآ�س ٍف َع َل ْي ِه‪ .‬وكانَ‬ ‫ُ�س ّكانُ ا َملدي َن ِة َي َت�أَلمَّ ونَ ِب َ�ص ْم ٍت‪َ ،‬ل ِك َّن ُه ْم َغ�ْيُرْ ُ قادِرينَ‬ ‫العدد‬

‫على َتغْي ِري املُ ْن َك ِر‪� .‬أَ ّما ال َفتى ال ّثاين َف َق ْد تحَ َ َّك َم بمِ ا ِل ِه‬ ‫و�صغار ًا‪َ ،‬حتّى‬ ‫ا�س ِكبار ًا ِ‬ ‫يف ا َملدي َن ِة و�أَ ْ�ص َب َح َيخْ �شا ُه ال ّن ُ‬ ‫ا�س ا َملدي َن ِة ُّ‬ ‫خا�ضع َني‬ ‫ال�ش ْجعانُ الأَ ِ�ش ّدا ُء �أَ ْ�ص َبحوا ِ‬ ‫ُح ّر ُ‬ ‫َ‬ ‫َلهُ‪ُ ،‬م�ؤْتمَ ِرينَ ِب�أ ْم ِر ِه‪.‬‬ ‫�أَ ّما ال َفتى ال ّثا ِلثُ ‪ ،‬ا ّلذي كانَ َي ْط َم ُح بِدَ ْو ِر ِه �إِىل ُ�صعو ِد‬ ‫َ‬ ‫اجل َب ِل‪َ ،‬ف َق ْد �آلمَ َ�� ُه ما َح��دَ َث ِل ْل َمدي َن ِة ِب َ�س َب ِب ال َف َت َيينْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ا�س؛ الأ َّو ُل بمِ ا ِل ِه وال ّثاين‬ ‫ال�ش ّري َر ْي ِن ال ّل َذ ْي ِن َم َلكا ال ّن َ‬ ‫ِب ُق َّو ِت ِه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال�س ّك ِان‪.‬‬ ‫كانَ ال َفتى ال ّثا ِلثُ محَ ْ بوبا ِمنْ َلد ُِن َجمي ِع ُّ‬ ‫َ‬ ‫يوخ ا َملدي َن ِة‪:‬‬ ‫قال َل ُه �أَ َح ُد ُ�ش ِ‬ ‫َ‬ ‫ال�س ِاح َر ِة َّ‬ ‫الط ِّي َب ِة‪�ِ ..‬إنَّ الأ ْم�� َر‬ ‫ ال ُب�� َّد ِم��نْ ِ�إخْ ��ب��ا ِر ّ‬‫َ‬ ‫َي ْ�س َتف ِْح ُل ِب ِ�ش َّد ٍة‪ ..‬و�إِ َّن َك ُم َ�ؤ َّه ٌل ِل َهذا الأ ْم ِر ِب َف ْ�ض ِل ُخ ُل ِق َك‬ ‫و ُن ْب ِل َك َ‬ ‫جاع ِت َك‪..‬‬ ‫و�ش َ‬ ‫ا�س ُم ُه‬ ‫وهَ َكذا َق�� َّر َر ال َفتى ال ّثا ِلثُ املُجا َز َف َة‪ ،‬وك��انَ ْ‬ ‫ُع َم َر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْبال‪ ،‬ود َ​َخ َل‬ ‫ا�س ِتق ٍ‬ ‫ا�س ُت ْق ِب َل �أ ْح َ�سنَ ْ‬ ‫َ�ص َعدَ �إِىل ال َق ْ�ص ِر َف ْ‬ ‫َ‬ ‫�إِىل ُغ ْر َف ٍة َع َل ْيها ُن ٌ‬ ‫قو�ش محَ ْ فو َر ٌة ِب�أ ْح ُر ٍف َغري َب ٍة‪ .‬قا َل ِت‬ ‫ال َعجو ُز‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ري �أ ْر َعنُ ِم ْث َل ال َّل َذ ْي ِن َ�س َب َ‬ ‫قاك؟!‬ ‫ �أَجا َء ِب َك ُح ْل ٌم َكب ٌ‬‫َن َظ َر �إِ َل ْيها ُع َم ُر ُمعا ِتب ًا و�أَ ْط َر َق َي ْبكي ُبكا ًء ُم ّر ًا‪..‬‬ ‫ماذا َحدَ َث َل َك يا ُب َن َّي!‬ ‫َ‬ ‫�����س ْ��د ِت ا َمل��دي�� َن�� َة‪ ،‬دونَ َق ْ�ص ٍد ِم�� ْن ِ��ك‪� ،‬أ َّيتُها‬ ‫َل�� َق ْ��د �أَ ْف َ‬ ‫ال�س ِاح َر ُة َّ‬ ‫الط ِّي َب ُة!‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فت ا َمل ْر�أ ُة ُم َت َو ِّت َر ًة و َر َّد ْت‪:‬‬ ‫َو َق ِ‬ ‫َ‬ ‫َك�� ْي َ��ف تجَ ْ ��� ُر ُ�ؤ على َق��� ْو ِل هَ ��ذا؟ �أتَ�� ْع�� َت�ِبُرِ ُ ين َم ْ�صدَ ر ًا‬ ‫ِل ْل َف�سا ِد؟!‬ ‫َيان‬ ‫با�ش ٍر‪ ..‬ال َفت ِ‬ ‫َل َق ْد �أَ ْف َ�س ْد ِت ا َملدي َن َة ِب َ�ش ْك ٍل َغيرْ ِ ُم ِ‬ ‫واجباتِهِ ما َ‬ ‫ذان َم َن ْحتِهِ ما َ‬ ‫و�ش َرعا‬ ‫ال َّل ِ‬ ‫املال وال ُق َّو َة َن ِ�سيا ِ‬ ‫ران ال َف�سا َد ُّ‬ ‫ا�س َعلى‬ ‫َي ْن ُ�ش ِ‬ ‫والظ ْل َم يف ا َملدي َن ِة‪� ..‬إِنَّ ال ّن َ‬ ‫وح ْلمي يا َ�سيِّدَ تي‪� ،‬إِنْ كانَ يل‬ ‫َو ْ�ش ِك ا ِال ْنهِ يا ِر وا َمل ْو ِت‪ُ ..‬‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪133‬‬


‫ُح ْل ٌم‪ ،‬هُ َو �أَنْ ت َْ�سترَ ِ ّدي ِم ْن ُهما ما َم َن ْحتِهِ ما َع�سى ا َملدي َن ُة‬ ‫مان‪.‬‬ ‫ال�س ْل ِم والأَ ِ‬ ‫�أَنْ َت ْن َع َم ِب ِّ‬ ‫َو َق َف ِت ا َمل��ر�أَ ُة َم َّر ًة �أُخْ ��رى‪َ ،‬ل ِك َّنها دومنا تَوت ٍُّر‪ ،‬كا َن ْت‬ ‫�سام ٌة َع َ‬ ‫ري�ض ٌة‪ ،‬وقا َل ْت‪:‬‬ ‫َت ْرت َِ�س ُم على محُ َ ّياها ا ْب ِت َ‬ ‫ َل َق ْد ُك ْنتُ َم ْ��د ِر َك�� ًة لمِ��ا َ�س َي ْح ُ�ص ُل‪�ِ ..‬إ َّن��ه��ا تجَ ْ ِ��ر َب�� ٌة‬‫َطيعان ُمقا َو َم َة‬ ‫�أَ ْد َخ ْل ُت ُهما فيها؛ �أَ َردْتُ َ�أنْ �أَ ْع ِر َف هَ ْل َي ْ�ست ِ‬ ‫وات َوم َل ّذ ِات َ‬ ‫َّ‬ ‫طان يف‬ ‫احليا ِة‪� ،‬أَ ْم �أَ َّن ُهما َ�س َي ْ�س ُق ِ‬ ‫ال�ش َه ِ‬ ‫الها ِو َي ِة!‬ ‫َ‬ ‫قال ُع َم ُر ُم َت َل ِّهف ًا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ال�س ِاح َر ُة َ‬ ‫ وما َ‬‫احلكي َم ُة؟‬ ‫احل ُّل �أ َّيتُها ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال�س ِاح َر ُة ِل ُع َم َر ما ًء ُم َق َّد�س ًا و�أ َم َر ْت ُه ِب�أنْ َي ُر َّ�ش‬ ‫�أَ ْع َط ِت ّ‬ ‫ال�شا َّبينْ ِ ِّ‬ ‫ِب ِه ّ‬ ‫ال�ش ّري َر ْي ِن‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ولمَ ّا َف َع َل ا ْنتَهى �أ ْم ُرهُ ما‪ :‬ال َفتى ال َق ِو ُّي َف َقدَ ُع ْن ُفوا َن ُه‬ ‫مام ُه ِ�إ ّال ال ُبكا ُء على َما�ضي ِه َ‬ ‫ميل‬ ‫ِ‬ ‫اجل ِ‬ ‫و�ش َّد َتهُ‪َ ،‬ف َل ْم َي ْبقَ �أَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بيث‬ ‫�صيب بمِ َ َر ٍ�ض َخ ٍ‬ ‫ال�س ِ‬ ‫راب‪ ،‬و َب ْعدَ �أ ّي ٍام �أ َ‬ ‫املُ ْن َق ِر ِ�ض َك َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َف َق َعد يف ا َ‬ ‫خل�لا ِء ال �أ َح��د ُيبايل ِب ِه ِ�إىل �أنْ ماتَ َم ْي َت ًة‬ ‫َ‬ ‫بيح ًة‪َ ،‬ف َت َع َّف َن ْت ُج َّث ُت ُه وط��ا َر ْت يف الأ ْرج��ا ِء را ِئ َحتُها‬ ‫َق َ‬ ‫َ‬ ‫ال َكري َه ُة‪ ،‬ولأ ّنها لمَ ْ تجَ ِ ْد َمنْ َي ْد ِف ُنها‪َ ،‬ف َق ْد هَ َج َم ْت َع َل ْيها‬ ‫ال ُّن�سو ُر اجلا ِئ َع ُة هُ جوم ًا َ�ش ِر�س ًا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َب ْي َنما ال َفتى ال َغ ِن ُّي �أَ�ضا َع َث ْر َو َت ُه ُك َّلها‪ ،‬و َبدَ �أ َيت َ​َ�س َّو ُل‬ ‫و�س َق َط ْت ُم ْع َظ ُم‬ ‫ال�صدَ ِ‬ ‫ا�س َّ‬ ‫قات‪ُ ،‬ث َّم َب ِل َي ْت ِثيا ُب ُه َ‬ ‫ال ّن َ‬ ‫َ‬ ‫�أَ ْ�سنا ِن ِه وا ْب َي َّ�ض ِن ْ�ص ُف َ�ش ْع ِر ِه‪� ،‬أ ّما ال ِّن ْ�ص ُف ال ّثاين َف َق ْد‬ ‫تَ�سا َق َط ِب َ�س َب ِب ا َمل َر ِ�ض َّ‬ ‫العنيد‪.‬‬ ‫ال�شديد ِوال َفق ِْر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َي ُ‬ ‫ا�س �أَ ّن ُه ماتَ َم ْي َت ًة �أ ْق�سى و�أ ْ�س َو�أ ِمنْ َم ْي َت ِة‬ ‫قول ال ّن ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫واح��دَ ًة‪ ،‬و َت َع َّط َل ِت‬ ‫ال َّر ُج ِل الأ َّو ِل‪�ُ :‬ش َّل ْت �أ ْطرا ُف ُه ُد ْف َع ًة ِ‬ ‫َ‬ ‫َّواح ُف َت ْل َذ ُع ُه‬ ‫وا�س ِه‪َ ،‬فكا َن ِت العقار ُِب والز ِ‬ ‫احل َر َك ُة يف َح ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�صيب ِب َ�ش َل ٍل ُك ّل ٍّي‪َ ،‬ل َق ْد ُح ِر َم‬ ‫دونَ �أنْ ُيقا ِو ُم‪َ ،‬حتّى ِل�سا ُن ُه �أ َ‬ ‫راخ!‬ ‫َحتّى ِمنَ ال ُبكا ِء ُّ‬ ‫وال�ص ِ‬ ‫ال�س ّكانُ‬ ‫َم��� َّر ْت َ�أ ْ���ش�� ُه�� ٌر َفمات َِت ال��� ّ��س ِ‬ ‫��اح�� َر ُة‪ِ ،‬ا ْج�� َت�� َم�� َع ُّ‬ ‫ا�س َب َكوا َع َل ْيها‬ ‫و َد َفنوها يف َم ٍ‬ ‫كان َن ٍ‬ ‫ري ِمنَ ال َّن ِ‬ ‫ظيف‪َ .‬كث ٌ‬ ‫‪134‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫يوخ‬ ‫ُموع �صا ِد َق ٍة‪ .‬وتمَ َّ يف َنف ِْ�س ال َل ْي َل ِة ْاج ِتما ٌع ب َني ُ�ش ِ‬ ‫ِبد ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ا َملدي َن ِة �أ ْ�س َف َر َع ِن اخْ ِتيا ِر ال َفتى ُّ‬ ‫ال�شجا ِع ُع َم َر �أمري ًا‬ ‫ْ‬ ‫الم ُ‬ ‫َع َل ْيهِ ْم‪ ،‬وهَ َكذا َ‬ ‫وط َم�أني َن ٍة وكانَ‬ ‫عا�ش ِت ا َملدي َن ُة ِب َ�س ٍ‬ ‫ناع ِة ُع َم َر َ‬ ‫جاع ِت ِه‪.‬‬ ‫و�ش َ‬ ‫َذ ِل َك ِب َف ْ�ض ِل َق َ‬

‫آة‬ ‫الن في المِ ْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط ْف ِ‬ ‫�إِذا ُك ْن َت َتعْبرُ ُ َّ‬ ‫ئي�س َّي ت َْ�ستَطي ُع �أَنْ ُت ْب ِ�ص َر‬ ‫ال�شا ِر َع ال َّر ِ‬ ‫ُّجاج َّي ِة‪.‬‬ ‫الواج ِ‬ ‫َ�ص ّف ًا َطوي ًال ِمنَ ا َملقاهي ِ‬ ‫هات الز ِ‬ ‫ذات ِ‬ ‫ال َكرا�سي َّ‬ ‫ظام‪ِ ،‬ومنَ ال ّد ِاخ ِل‬ ‫والطا ِوالتُ ُم ْ�ص َط َّف ٌة ِب ِن ٍ‬ ‫َت ْن َب ِعثُ ال َّروا ِئ ُح َّ‬ ‫ال�شهِ َّي ُة‪� .‬إِ َّن ُه َو ْقتُ ال َغداءِ‪َ .‬حرا َر ُة ُيو ْن ُيو‬ ‫َت ْل َ�س ُع ال ُوجو َه َل ْ�سع ًا‪َ ..‬حتّى ال ّر ُيح ا ّلتي َت ُه ُّب َبينْ َ ال َف ْي َن ِة‬ ‫والأُخْ رى َت ُكونُ جا َّف ًة تجَ ْ َر ُح َ‬ ‫احل ْلقَ ‪.‬‬ ‫َج َل َ�س َ�سم ُري َم َع �أُ ْ�س َر ِت ِه على طا ِو َل ٍة َنظي َف ٍة‪ .‬كانَ ُع ْم ُر ُه‬ ‫ا ْثني َع َ�ش َر عام ًا‪َ ..‬و�سي ٌم َ‬ ‫وذ ِك ٌّي و َل ِك َّن ُه َم َّيا ٌل ِ�إىل َّ‬ ‫ال�ش َغ ِب‬ ‫�أَ ْحيان ًا‪ ..‬كا َن ِت الأُ ْ�س َر ُة َت ْن َع ُم ِب َ�سعا َد ٍة عار َِم ٍة‪.‬‬ ‫تان‪ ،‬رُبمَّ ا‬ ‫اجل َه ِة الأُخْ ��رى ِط ْف ٌل َع ْينا ُه ُم ْغ َر ْو ِر َق ِ‬ ‫يف ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِب َ�س َب ِب اخل�� ْو ِف‪� ،‬أ ْو ِب َ�س َب ِب امل َر ِ�ض‪� ،‬أ ْو ِب َ�س َب ِب َح��را َر ِة‬ ‫ُيو ْن ُيو‪� ،‬أَ ْو ِب َ�س َب ِب اجلو ِع‪� ،‬أَ ْو ِب َ�س َب ِب هَ ِذ ِه الأَ ْ�شيا ِء ُك ِّلها‪.‬‬ ‫وع ْل َب َة َ�سجا ِئ َر‪� :‬إِ َّن�� ُه‬ ‫ك��انَ َي ْحمِ ُل ُ�ص ْندوق ًا َ�صغري ًا ُ‬ ‫يمَ ْ َتهِ نُ َع َم َلينْ ِ يف ال َو ْق ِت َنف ِْ�س ِه‪َ :‬ي ْبدو �أَ َّن ُه محَ ْ ٌ‬ ‫ظوظ؛ َيبي ُع‬ ‫ْ�سيط‪ ،‬و ُي َل ِّم ُع الأَ ْحذ َي َة!‬ ‫ال�سجا ِئ َر ِبال َّتق ِ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫الم��ع��ا َل ْو ُنها َ‬ ‫قال‬ ‫ك��انَ ُك َّلما َر�أى َ���س�� ّي��ا َر ًة َج��دي��دَ ًة ِ‬ ‫خاط ُبها‪:‬‬ ‫ُي ِ‬ ‫َ‬ ‫وك ِ�إىل َي ْو ِم ال ّد ِين!‬ ‫ َم ْلعو ٌن �أ ُب ِ‬‫ال�سعيدَ ُة َتتَنا َو ُل َغدا َءها‪ .‬املا ُء ا َمل ْع ِدنيِ ُّ ُذو‬ ‫الأُ ْ�س َر ُة َّ‬ ‫َّ‬ ‫الط ْع ِم ا ُ‬ ‫كال ُمث َري ٍة‪.‬‬ ‫ذيذ يف ِق ّن ٍ‬ ‫حل ْل ِو ال َّل ِ‬ ‫ينات ِ‬ ‫ذات �أَ ْ�ش ٍ‬ ‫الأَ ْط ُ‬ ‫باق ال َب ْي�ضا ُء ال َّن ِق َّي ُة َ‬ ‫ال�س َل َط ُة‪ُ .‬ث َّم‬ ‫تو�ض ُع َف ْو َقها َّ‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ْروم‬ ‫�أَ ْطبا ٌق �أُخْ ��رى �أَ ْك�َبُرَ ُ َقلي ًال و َق ْد ُم ِل َئ ْت ِبال َّل ِ‬ ‫حم ا َملف ِ‬ ‫عاب ِّ‬ ‫الطف ِْل ال َآخ ِر �أَنْ َي َ‬ ‫�سيل َ�ش ْوق ًا �إِ َل ْي ِه!‬ ‫ا َّلذي �أَ ْو َ�ش َك ُل ُ‬ ‫ُث َّ��م َن��زَ َل ِ��ت الأَ ْي���دي ال َّر�شي َق ُة املُ��دَ َّر َب�� ُة على ال ّل ْح ِم‬ ‫وال�سكاك ِني ُنزو ًال ال َر ْح َم َة‬ ‫وا�س َط ِة ا َمل ِ‬ ‫وال�س َل َط ِة ِب ِ‬ ‫الع ِق َّ‬ ‫َّ‬ ‫في ِه وال َ�ش َف َق َة!‬ ‫ُ‬ ‫ا�س ُينادو َن ُه‬ ‫ال َفتى‪ ،‬يف ِ‬ ‫اجل َه ِة الأخْ رى‪ ،‬ال َ‬ ‫ا�سم َلهُ؛ ال ّن ُ‬ ‫َ‬ ‫خان‪ ،‬وت��ا َر ًة‬ ‫مبا�س ِح الأ ْح ِ��ذ َي�� ِة‪ ،‬وت��ا َر ًة ِببا ِئ ِع ال ُّد ِ‬ ‫َط�� ْور ًا ِ‬ ‫َ‬ ‫تيم‪َ .‬‬ ‫داخ َل ِخ ْر َق ٍة ِمنَ‬ ‫قيل �أ َّن ُه ُو ِجدَ ُم َك َّوم ًا ِ‬ ‫�أُخْ رى ِبال َي ِ‬ ‫مام ٍة‪ِ .‬ا ْل َت َق َط ْت ُه ْام�� َر�أَ ٌة‬ ‫ال َّث ْو ِب البايل ِ‬ ‫داخ َ��ل ِب ْر ِ‬ ‫ميل ُق َ‬ ‫ال�شا ِر ِع َي ْل َت ِق ُط ِك ْ�س َر َة ا ُ‬ ‫و َر َّب ْت ُه ُث َّم مات َْت‪َ ،‬ف َخ َر َج ِ�إىل َّ‬ ‫خل ْب ِز‬ ‫ال�س ْودا َء املُ َب َّل َل َة ِبال َع َر ِق وال ُّذ ِّل وا َ‬ ‫خل ْو ِف‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُح ِر َم ِمنْ َت َع ِّل ِم ا ُ‬ ‫روف ِومنْ َت َعلُّ ِم َ‬ ‫نان ِومنْ َت َعلُّ ِم‬ ‫احل ِ‬ ‫حل ِ‬ ‫الأَ َم ِ��ل‪ .‬كانَ َي ْع َت ِق ُد دا ِئم ًا َ�أنَّ الأَ َم َ��ل َ�ش ْم َع ٌة َ�س ْودا ُء َق ْد‬ ‫�أَ ْط َف َ�أتْها ال ّر ُيح‪ ..‬ال َي ْح ُل ُم ِب َ�ش ْيءٍ ‪ ،‬و َل ِكنْ ال َ�ش َّك �أَ َّن ُه َي َت َ�ألمَّ ُ‬ ‫الم َر�أَ ٍة ماما‪� ،‬أَ ْو ِل َر ُج ٍل‬ ‫ِل َ�ش ْيءٍ ِ‬ ‫واح ٍد‪َ :‬ذ ِل َك �أَ َّن ُه لمَ ْ َي ُق ْل ْ‬ ‫جي ِة ِع َن ٍب َ�صغ َري ٍة‪ ،‬ج��ا َء ْت َج ّرا َف ٌة‬ ‫بابا‪�ِ ..‬إ َّن ُه ِم ْث َل ُ�ش رَْ َ‬ ‫غا�ض َب ٌة وا ْق َت َل َعتْها ا ْق ِتالعا!‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫راه َّية‪َ :‬ل َق ْد �أ ْز َع َج ُه‬ ‫تيم َن ْظ َر َة َك ِ‬ ‫َ�سم ُري َي ْن ُظ ُر ِ�إىل ال َي ِ‬ ‫تيم ِب َن ْظ َر ِت ِه املُخي َف ِة و ُلعا ِب ِه ا ّلذي َي ُ‬ ‫احلق ِْد‪..‬‬ ‫�سيل َك ِ‬ ‫ال َي ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫باق ُ‬ ‫وغ ِ�س َل ِت‬ ‫وه َي َتتَثا َء ُب‪ُ ..‬د ِف َع َث َمنُ الأ ْط ِ‬ ‫قام ِت الأ ْ�س َر ُة ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال�س ّيا َر َة الفَخْ َم َة‬ ‫ع‬ ‫مي‬ ‫اجل‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ابون‬ ‫ال�ص‬ ‫ب‬ ‫دي‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫َّ َ ِ َ‬ ‫الأَ ْ ِ ّ‬ ‫ُ َّ‬ ‫اللاّ ِم َع َل ْو ُنها‪..‬‬ ‫ال�س ّيا َر ِة َ‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫َن َظ َر ال َي ُ‬ ‫تيم َ�ص ْو َب َّ‬ ‫وك ِ�إىل َي ْو ِم ال ّد ِين!‬ ‫ َم ْلعو ٌن �أَ ُب ِ‬‫احلا�سوب‪ ،‬ان َفت َ​َح ْت‬ ‫��ام‬ ‫ِ‬ ‫يف ا َمل�سا ِء َج َل َ�س َ�سم ُري �أَم َ‬ ‫قام‬ ‫مام ُه َعوالمِ ُ َغري َب ٌة‪َ .‬م َّر ْت َ‬ ‫�أَ َ‬ ‫�ساع ٌة َف َ�ش َع َر ِبال َّت َع ِب‪َ ،‬‬ ‫يون‪ :‬كانَ‬ ‫مام ال ِّت ِل ِفزْ ِ‬ ‫وتَنا َو َل َع�صري ًا ُم ْن ِع�ش ًا‪ُ ،‬ث َّم َج َل َ�س �أَ َ‬ ‫را�ص َن ِة‬ ‫ال َب ْح ُر �أَ ْز َر َق �أَ ْز َر َق‪ِ ،‬منْ َب ٍ‬ ‫عيد تَرا َء ْت َ�سفي َن ُة ال َق ِ‬ ‫�لام َ���س�� ْودا َء‪ ،‬ال َ�ش َّك �أَنَّ َم ْع َر َك ًة َ�شديدَ ًة‬ ‫ُمزَ َّي َن ًة ِب���أَ ْع ٍ‬ ‫را�ص َن ِة‪�َ ..‬ش َع َر َ�سم ُري ِبال َّن ْو ِم‬ ‫َ�س َت ْندَ ِل ُع َبينْ َ ال َب َط ِل و َبينْ َ ال َق ِ‬ ‫العدد‬

‫اجل َه ِة الأُخْ رى‬ ‫ُي ِ‬ ‫ال�سفي َن ُة ا ْقترَ َ َب ْت‪ِ ،‬منَ ِ‬ ‫داع ُب ُجفو َنهُ‪َ ،‬‬ ‫را�ص َن ِة‬ ‫جاع ٍة َف ْو َق َ�سفي َن ِة ال َق ِ‬ ‫َي ْق ِف ُز ال َب َط ُل ب ِا ْرتمِ ا َء ٍة ُ�ش َ‬ ‫اجل َ‬ ‫راع ُه الأَ َب ِد َّي َ‬ ‫ميل ِ�ض َّد َّ‬ ‫ال�ش ِّر‪..‬‬ ‫ِل ُي ِ‬ ‫وا�ص َل ِ�ص َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نام نوما ها ِدئا دونَ َم ْع ِرف ِة ِنها َي ِة‬ ‫كانَ َ�سم ُري ق ْد َ‬ ‫ال ِف ْل ِم املُ َ�ش ِّو ِق‪.‬‬ ‫تيم َي َت َو َّ�س ُد ِق ْط َع ًة ِمنَ‬ ‫يف ال�� َو ْق ِ��ت َنف ِْ�س ِه ك��ان ال َي ُ‬ ‫ُراب ا َمل ْ�س ِج ِد‪َ .‬ر َف َع َر�أْ َ�س ُه �إِىل‬ ‫الكا ْر ِ‬ ‫تون املُت َِّ�س ِخ َف ْو َق ت ِ‬ ‫نجُ‬ ‫وه َي َت ْل َم ُع ِب َح َن ٍق‪ ..‬ت َ​َخ َّي َل ل ِوَ‬ ‫ال�سما ِء َف َر�أى َوم يو ْن ُيو ْ‬ ‫َّ‬ ‫باح؟ هَ ْل يمُ ْ ِكنُ‬ ‫ا�صطا َد ِ‬ ‫واح��دَ ًة ِم ْنها!هَ ْل ت ُْ�ش ِب ُه امل ِْ�ص َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َب ْي ُعها؟ وهَ ْل يمُ ْ ِكنُ �أنْ ُت َل ِّم َع الأ ْح ِذ َّي َة؟!‬ ‫عو�ض َ‬ ‫واح�� ٌد َح�� َر َم�� ُه ال�� َّن�� ْو َم‪ :‬ال َب ُ‬ ‫واحل َ�شراتُ‬ ‫َ���ش ْ��ي ٌء ِ‬ ‫الأخْ رى ال ّال ِ�س َع ُة‪.‬‬ ‫َبدَ �أَ َي َت َق َّل ُب يمُ ْ َن ًة و ُي ْ�س َر ًة‪َ ،‬حتّى َو َجدَ َنف َْ�س ُه ال َي ْ�ش ُع ُر‬ ‫نام َ‬ ‫وغ َّط يف ال َّن ْو ِم‪.‬‬ ‫ِب َ�ش ْيءٍ ‪َ .‬‬ ‫ُ‬ ‫را�ش ِه ِب ٍر ْف ٍق‪.‬‬ ‫َح َم َل ِت الأ ُّم ا ْب َنها َ�سم َري و َو َ�ض َع ْت ُه يف ِف ِ‬ ‫�أَ ْط َف َ�أ ِت ال ّنو َر َف�سا َد َظال ٌم َك ٌ‬ ‫ثيف‪ ..‬وكانَ ال َب ْيتُ خا ِلي ًا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الم ا ّلتي َتت َ​َج َّو ُل َج ْذال َن ًة َبينْ َ‬ ‫َ‬ ‫�ساعتَها‪�ِ ،‬إ ّال ِمنْ َب ْع ِ�ض الأ ْح ِ‬ ‫ال ُغ َر ِف!‬ ‫َ‬ ‫تيم َف َل ْم ُي َغ ِّط ِه �أ َحدٌ‪ ..‬ال ُّنو ُر لمَ ْ َي ْن َط ِف ْئ َط َ‬ ‫وال‬ ‫�أَ ّما ال َي ُ‬ ‫جوم ا ّلتي كا َن ْت ُم ِ�ش َّع ًة يف الأَ ْعلى‪ِ ،‬ه َي‬ ‫ال َّل ْي ِل‪ ..‬لأَنَّ ال ُّن َ‬ ‫ال�سما َء!‬ ‫َم‬ ‫ُ‬ ‫�صابيح اللهَّ ِ ا ّلتي َز َّينَ ِبها َّ‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪135‬‬


‫دراسة‬

‫الرحلة‬ ‫من النص الشفاهي‬ ‫إلى النص المكتوب‬ ‫�أ�سماء الزرعوين‬ ‫الإمارات‬

‫الأ�صل يف تاريخ التدوين نابع من الن�ص ال�شفاهي‪ ،‬بل‬ ‫�إن اللغة املكتوبة لي�ست �إال ترجمان ًا م�ؤكداً لتلك الأ�صوات‬ ‫ال�صادرة عن الب�رش‪ ،‬والتي خا�ضت معرتك التطور البيولوجي‬ ‫والتاريخي؛ لكي تتحول تباع ًا �إىل لغات متعددة كما نرى‬ ‫الآن يف العامل كله‪.‬‬

‫الكتابة بهذا املعنى ترجمة م�ؤكدة لتلك ال��دالالت‬ ‫ال���ص��وت�ي��ة امل �ق��رون��ة ب� ��دالالت ق��ام��و��س�ي��ة‪ ،‬ح�ت��ى �إن‬ ‫ال لي�س �إال �صوتاً‬ ‫احل ��رف امل�ك�ت��وب بو�صفه ت�شكي ً‬ ‫توا�ضع متابعوه على �أن ي��أخ��ذ �شك ً‬ ‫ال حم ��دداً‪ ،‬ويف‬ ‫ع �ل��وم الأل �� �س �ن �ي��ات احل��دي �ث��ة ال �ك �ث�ير م ��ن امل �ع��ارف‬ ‫املتعلقة بالعالقة بني اللغة وال�صوت‪ ،‬وقد توا�ضع‬ ‫علماء الأل�سنيات على �أن اللغة املكتوبة عبارة عن‬ ‫خوارزميات ت�شكيلية ت�ستقي �أبعادها الكتابية من‬ ‫ال �� �ص��وت امل �ن �ط��وق‪ ،‬وب �ه��ذا امل�ع�ن��ى ي �ح��دث ن ��وع من‬ ‫الرتا�سل املنطقي ال�شكلي بني اللغة بو�صفها �صوتاً‪،‬‬ ‫واللغة بو�صفها كتابة‪.‬‬ ‫م��ن ه ��ذا امل�ن�ط�ل��ق الأ� �س��ا� �س��ي مي�ك�ن�ن��ا الإق� � ��رار ب ��أن‬ ‫الن�ص ال�شفاهي �سابق على الن�ص املكتوب‪ ،‬والدليل‬ ‫القاطع املانع واملاثل �إىل يومنا ه��ذا �سنالحظه يف‬ ‫تلك اللغات التي مازالت �شفاهية وال ُتكتب‪ ،‬كما هو‬ ‫احل��ال بالن�سبة �إىل العديد م��ن اللغات واللهجات‬ ‫الأفريكانية والآ�سيوية‪ .‬وه��ذه دالل��ة وا�ضحة على‬ ‫�أ�سبقية املُ�شافهة على الكتابة‪.‬‬ ‫على امل�ستوى التاريخي‪ ،‬كانت الآداب ال�شفاهية تمُ ثل‬ ‫‪136‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫حالة مركزية يف انتقال امل�ع��ارف م��ن ف��رد �إىل �آخ��ر‪،‬‬ ‫ويف تاريخنا اخلا�ص �سنجد �أن فقه التدوين الكتابي‬ ‫للمعارف كان مقروناً بالتلقي ال�شفاهي للمعرفة‪ ،‬وقد‬ ‫تك ّر�س ه��ذا التقليد من خ�لال امل��دار���س واجلامعات‬ ‫التي م��ازال��ت حتر�ص �إىل يومنا ه��ذا على �أن يكون‬ ‫الأ�ستاذ املدر�س و�سيلة �أ�سا�سية يف نقل املعرفة‪.‬‬ ‫يف الآداب ال�سردية التاريخية جند �أن "احلكي" �ش ّكل‬ ‫نقطة مركزية يف تلك الآداب‪ ،‬وكلنا يعرف حكايات‬ ‫اجل ��دات ال�ت��ي ك��ان��ت مت�ث��ل قيمة ثقافية وت��رب��وي��ة‬ ‫�ساهمت �إىل حد كبري يف تنمية اخليال والإدراك‪،‬‬ ‫ومعرفة �أحوال الوجود و�أ�ساطري التاريخ‪.‬‬ ‫ويف امل�سرح الإغريقي التاريخي كانت حالة التمازج‬ ‫بني املنطوق واملرئي تكثف االت�صاالت غري اللفظية‬ ‫الواقفة يف حد الرتجمة امل�ؤكدة للأ�صوات‪ ،‬متاماً‬ ‫كما هو احلال يف الكتابة‪.‬‬ ‫ويف الرتاث العربي‪ ،‬جند "م�سرح احلكواتي" الذي‬ ‫يعتمد على �شكل من �أ�شكال املونودراما ال�شفاهية‬ ‫ال�ت��ي يتم ّتع بها احل��اك��ي ال �ق��ارئ‪ ،‬ول�ع��ل ه��ذا النوع‬ ‫من الفن احلكواتي خري �شاهد على مركزية الأداء‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫اللغة املكتوبة عبارة عن خوارزميات‬ ‫ت�شكيلية ت�ستقي �أبعادها الكتابية من‬ ‫ال�صوت املنطوق‬ ‫ال�صوتي و�أهميته ال�شفاهي يف نقل احلكاية‪ ،‬وما‬ ‫يحيط بها من عوامل وتعبريات‪.‬‬ ‫جمتمع دولة الإمارات‪� ،‬ش�أنه مثل �ش�أن كل املجتمعات‬ ‫وال�شعوب‪ ،‬جند فيه الق�ص�ص واحلكايات ال�شعبية‪،‬‬ ‫ذات الثقافة ال�شفاهية متعددة الأن�ساق والأ�شكال‪.‬‬ ‫وه��و جمتمع ك��ان يعي�ش يف عزلة �شخ�صية بحتة‪،‬‬ ‫فعلى الرغم من ب�ساطة النا�س وطبيعتهم النادرة‬ ‫ف�إنهم كانوا كثريي احليطة واحل��ذر من االت�صال‬ ‫بالآخر‪� ،‬سواء كان قريباً �أم بعيداً‪ ،‬الأمر الذي �ساعد‬ ‫على بروز حالة من االنعزال وعدم الت�أثر بالأفكار‬ ‫اجل��دي��دة‪ .‬ل��ذا‪ ،‬ت�ع��ددت ال��رم��وز والإ� �ش��ارات لديهم‪،‬‬ ‫واختلفت مدلوالتها يف حياتهم ويف �أدبهم؛ فالأدب‬ ‫ال�شعبي‪ ،‬وعلى الرغم مما يتميز به من ب�ساطة يف‬ ‫ال�شكل‪ ،‬جند فيه غمو�ضاً يف امل�ضمون‪.‬‬ ‫وم��ن �أه��م ال�ع��وام��ل ال�ت��ي ��س��اع��دت يف ظ�ه��ور الأدب‬ ‫ال�شفهي‪:‬‬ ‫التعليم القر�آين يف الكتاتيب‪ ،‬والذي كان يعتمد على‬ ‫احلفظ والتلقني‪ ،‬ويعترب احلفظ دون فهم عتبة‬ ‫انطالق �سابقة لفهم حمتوى املادة املحفوظة‪� ،‬سواء‬ ‫كانت قر�آناً كرمياً �أو �شعراً‪.‬‬ ‫�أ�� �ص ��وات ال �ب �ح��ارة امل�تراف �ق��ة م��ع رح �ل�ات ال�غ��و���ص‬ ‫وال�ت�ج��ارة البحرية‪ ،‬وال�ت��ي كانت حتمل يف طياتها‬ ‫الأن�ي�ن وال�شجن واحل�ن�ين �أي���ض�اً‪ ،‬مم��ا ميكن تتبع‬ ‫تدوينه الأ�سا�سي من خالل الت�سجيالت ال�صوتية‬ ‫التي بقيت منذ تلك الأيام‪.‬‬ ‫ح �ك��اي��ات اجل� ��دات ال �ت��ي �أ� �س �ه �م��ت يف ن �ق��ل م �ع��ارف‬ ‫ال ��وج ��ود وال �ط �ب �ي �ع��ة وال� �ت ��اري ��خ‪ ،‬وك� � ّر�� �س ��ت ل��دى‬ ‫الطفولة خيا ًال خ�صباً من الق�ص�ص التي عُرفت‬ ‫يف جمتمع الإم��ارات باخلروفة وجمعها خراريف‪،‬‬ ‫ومن �أ�سمائها اخلريريفة‪ ،‬وهي حكاية مغناة تقال‬ ‫العدد‬

‫ملن بلغوا الثانية من العمر و�أكرث‪.‬‬ ‫الفنون الب�صرية امل�ستندة على احلروفية العربية‬ ‫وال�ق��ادم��ة �أ��ص� ً‬ ‫لا م��ن الآي ��ات القر�آنية والن�صو�ص‬ ‫ال�شعرية التي تك ّر�ست يف الذاكرة ال�صوتية قبل �أن‬ ‫تتحول �إىل فنون ب�صرية‪.‬‬ ‫ت��أخ��ر التعليم النظامي يف دول��ة الإم � ��ارات؛ فثمة‬ ‫اخ�ت�لاف ح��ول ت��اري��خ �إن���ش��اء �أول م��در��س��ة نظامية‬ ‫ظهرت يف �أبوظبي‪ ،‬وهي مدر�سة ابن خلف‪ ،‬فهنالك‬ ‫من ي�ؤكد �أن ذلك كان عام ‪ ،1902‬و�آخ��رون يقولون‬ ‫�إنها �أن�شئت عام ‪1912‬م‪� .‬أما يف دبي فقد �أن�ش�أ تاجر‬ ‫ال�ل��ؤل��ؤ ال�شيخ �أح�م��د ب��ن دمل��وك مدر�سة الأحمدية‬ ‫ع��ام ‪1912‬م‪� .‬أم��ا يف ال�شارقة فكانت هناك مدر�سة‬ ‫التيمية املحمودية التي �أن�ش�أها ال�شيخ علي املحمود‬ ‫عام ‪ .1920‬وقد ت�أخر ظهور الق�صة املكتوبة ب�سبب‬ ‫ت��أخ��ر التعليم‪ ،‬ومل تنت�شر تلك الق�ص�ص �إال حني‬ ‫�صدرت اجلرائد واملجالت‪ ،‬وكانت مو�ضوعاتها حول‬ ‫ال�صحراء والبحر والنخلة‪ ،‬كما تناولت بعد ذلك‬ ‫ق�ضايا ال��زواج من الأجنبيات‪� .‬أم��ا �أول من كتب �أو‬ ‫ن�شر ق�صة يف احلقيقة فيمكن احل��دي��ث ع��ن جيل‪،‬‬ ‫ولي�س عن فرد واح��د‪ ،‬مثل‪ :‬عبداهلل �صقر و�شيخة‬ ‫الناخي وحممد املر وم��رمي جمعة ف��رج‪ .‬ثم توالت‬ ‫الكتابات على يد الرعيل الأول‪ ،‬من �أمثال‪ :‬علي �أبو‬ ‫الري�ش وعبد احلميد �أحمد ونا�صر جربان و�إبراهيم‬ ‫مبارك و�أمينة بو�شهاب‪� .‬أما �أول جمموعة ق�ص�صية‬ ‫�صدرت فهي "اخل�شبة" لعبداهلل �صقر عام ‪.1975‬‬ ‫و�أول رواي��ة �إم��ارات�ي��ة كانت �شاهندة للكاتب را�شد‬ ‫عبداهلل النعيمي‪ ،‬و�صدرت عام ‪1971‬م‪.‬‬ ‫على خط ُم ّت�صل‪ ،‬ميكننا تتبع �أث��ر ال ُبعد ال�صوتي‬ ‫ال�شفاهي يف فنون التلفزيون وال�سينما امل�سرح‪ ،‬مما‬ ‫ي�ستحق وقفة مطولة يف مقال قادم ب�إذن اهلل‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪137‬‬


‫أنت أيُّها المالك؟‬ ‫من َ‬ ‫إبراهيم الكوني يبحث عن البراءة األولى‬

‫دراسة‬

‫د‪ .‬يو�سف حطيني‬ ‫�شرح الكاتب‬

‫‪138‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫عندما ت�صافح عيناك عنوان رواية"من �أنت �أيها املالك"‪ ،‬جتد نف�سك‬ ‫م�شغو ً‬ ‫مير عليك وقت طويل‪ ،‬و�أنت تطالع‬ ‫ال بهذا العنوان املثري‪ .‬ولن ّ‬ ‫ال�صفحات الأوىل‪ ،‬قبل �أن تدرك � ّأن ال�شغل ال�شاغل لهذه الرواية‬ ‫هو البحث عن الهوية التي متنح الإن�سان معنى وجوده‪ ،‬و� ّأن املالك‬ ‫ب�سا بن‬ ‫هو يف حقيقته �أنت و�أنا و�إبراهيم الكوين‬ ‫م�سي ّ‬ ‫و"م�سي بن ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�سي ن�سن"‪ ،‬ذلك البطل الروائي الذي حمل على عاتقه عبء اال�سم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يت�شكل من خالل االنتماء �إىل املكان‪،‬‬ ‫والهوية‪ ،‬ور�أى � ّأن حتقيقهما‬ ‫و�أ ّنه‪� ،‬أي املالك‪ ،‬لي�س جمرد رجل ينتمي �إىل �أقلية عرقية م�سلوبة‬ ‫احلرية‪ ،‬بل هو �أي�ض ًا رجل يردد يف ت�ضاعيف خيباته املتكررة �صدى‬ ‫ّ‬ ‫كل املعذبني الباحثني عن ذواتهم يف مواجهة �إرادة التغييب‪.‬‬

‫ت��ق��وم حكاية ه��ذه ال��رواي��ة على ث�لاث ح��رك��ات‪:‬‬ ‫م�سي للبحث عن ا�سم‬ ‫تتلخ�ص احلركة الأوىل يف رحلة ّ‬ ‫ابنه‪ ،‬وتبد�أ الثانية حني ينطلق �إىل ال�صحراء دلي ًال لـ‬ ‫"�شركة التنقيب عن النفط" التي يكت�شف فيما بعد‬ ‫�أنها ع�صابة ل�سرقة الآثار‪ ،‬بينما تبد�أ الثالثة مع �سعيه‬ ‫�إىل التط ّهر من رج�س اخلط�أ الذي نتجت عنه �سرقة‬ ‫احلجر املقد�س‪ ،‬وال تنتهي �إال حني ي�ضحي بابنه على‬ ‫مذبح ال�صحراء‪.‬‬ ‫�أو َال – رح��ل��ة ال��ب��ح��ث ع��ن ا���س��م ال���وري���ث‪� :‬إي��ق��اع‬ ‫االنتظار‪:‬‬ ‫حت ّمل الرواية عبء عقدتها للقارئ منذ جملتها‬ ‫الأوىل‪ ،‬فهي ال متهله حتى ي�ستوعب اجل�� ّو العام‪� ،‬أو‬ ‫البيئة الزمنية واملكانية التي يجري فيها احلدث‪ ،‬كما‬ ‫اعتاد �أن يفعل كتّاب الرواية التقليدية‪ ،‬بل ت�ضع القارئ‬ ‫يف �أت��ون العمل الروائي مع ظهور ال�سياق االبتدائي‬ ‫ي�سجل ا�سم‬ ‫م�سي‪� ،‬إذ يريد �أن ّ‬ ‫الذي يلخ�ص م�شكلة ّ‬ ‫العدد‬

‫مولوده اجلديد‪ ،‬فتعرت�ضه عوائق �أولها �أن اال�سم الذي‬ ‫اختاره للمولود لي�س من النوع الذي توافق عليه دائرة‬ ‫ال�سجل املدين‪:‬‬ ‫م�سي �شهادة الوالدة �أمام موظف ال�سجل‬ ‫"و�ضع ّ‬ ‫املدين وقال‪:‬‬ ‫ يوجرتن!‬‫حدجه املوظف با�ستفهام‪ ،‬ف�أ�ضاف‪:‬‬ ‫ يوجرتن! ا�سم املولود يوجرتن!‬‫انحنى موظف ال�سج ّل على القرطا�س املت ّوج ب�شعار‬ ‫"م�ست�شفى الوالدة" قبل �أن ي�ستنكر‪:‬‬ ‫ يوجرتن؟!"‪.‬‬‫تت�صاعد احلكاية وتتعقد الأم��ور التي تبدو لأول‬ ‫م�سي املتكررة‪،‬‬ ‫وهلة ب�سيطة ج���د ًا‪ ،‬نتيجة �أخ��ط��اء ّ‬ ‫ابتدا ًء باخلطيئة الكربى لهذا القادم من ال�صحراء‪،‬‬ ‫�أعني‪ :‬جهله بخ�صال املدينة وموظفي الدولة الذين‬ ‫ي��رون يف "جموع اخللق التي تُقبل عليهم �ضرب ًا من‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪139‬‬


‫قطعان �أنعام"‪.‬‬ ‫وقد �أفرزت هذه اخلطيئة جمموعة‬ ‫م��ن اخل��ط��اي��ا‪ ،‬ف��ه��و ي��ق��ول ملوظف‬ ‫ال�سجل م�ستكرب ًا‪" :‬يوجرتن ا�سم‬ ‫ككل الأ�سماء"‪ ،‬و�إذ يقول موظف‬ ‫ال�سج ّل عبارة "مل �أ�سمع با�سم كهذا‬ ‫م�سي ي�ضيف خطيئة‬ ‫من قبل"‪ ،‬ف�إن ّ‬ ‫�أخ���رى �إىل خطاياه املتالحقة‪� ،‬إذ‬ ‫يقول للموظف‪" :‬اجلهل بال�شيء ال‬ ‫يعني عدم وجود ال�شيء"‪.‬‬ ‫م�سي �إىل املدينة‪ ،‬وهو‬ ‫�إنّ ق��دوم ّ‬ ‫يحمل يف روح���ه ب���راءة ال�صحراء‬ ‫وعنفوانها ومتردها يوقعه يف ذلك‬ ‫ال��ن��وع م��ن الأخ��ط��اء ال��ذي يتلخ�ص‬ ‫يف �أن يطالب املرء بحقه يف جمتمع‬ ‫مدين ال يعرتف بوجود املرء ذاته؛ لذلك ينتظر �أيام ًا‬ ‫و�أ�سابيع‪ ،‬وال مي ّل من املطالبة بحقه‪ ،‬يف �أن يعطي ابنه‬ ‫ا�سم ًا الئق ًا‪ ،‬بل �إنه يتجا�سر ذات مرة ويطلب مقابلة‬ ‫رئي�س الدائرة فتكون النتيجة قهقة جماعية كريهة‪..‬‬ ‫وما ذلك �إال لأنه جاهل باملدينة التي ظنّ �أنه يعرفها‪.‬‬ ‫م�سي لقوانني املدينة املفرتَ�ضة‬ ‫�إنّ ع��دم �إدراك ّ‬ ‫مكان ًا جلزء معتبرَ من الرواية كان لعبة فنية ذكية‬ ‫من �إبراهيم الكوين؛ لأن هذا اجلهل �أعطى الرواية‬ ‫نوع ًا من الإث��ارة التي تتك�شف خيوطها �شيئ ًا ف�شيئ ًا؛‬ ‫م�سي ّ‬ ‫يو�ضح له‬ ‫فحني يلتقي رئي�س جلنة الأ�سماء مع ّ‬ ‫�س َّر رف�ض ا�سم يوجرتن‪ ،‬فيوجرتن ا�سم يحيل على‬ ‫املا�ضي‪ ،‬واملجتمع املديني ال��ذي ّ‬ ‫ي�شك يف كل �شيئ‬ ‫يرف�ض املا�ضي على �سبيل االحرتاز‪:‬‬ ‫"‪ ...‬فما معنى جتاهل الأ�سماء الواردة يف القائمة‬ ‫املعتمدة يف ه��ذه ال��دي��ار منذ �سنوات‪ ،‬والبحث يف‬ ‫‪140‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ع��ه��ود الظلمات ع��ن �أ���س��م��اء مريبة ب��دع��وى ال��وف��اء‬ ‫لو�صايا الأ�سالف"‪.‬‬ ‫م�سي امل�سكون بو�صايا الأ���س�لاف‪ ،‬وروح‬ ‫غري �أنّ ّ‬ ‫ال�صحراء يرف�ض الر�ؤية املدينية لهذا الأم��ر ويعلن‬ ‫لرجل ي�ستجوبه يف اللجنة الأمنية‪�" :‬إكبار الأ�سالف‬ ‫ال يه ّدد وحدة الهوية‪ .‬لأن �شروط �أي وحدة هوية �إمنا‬ ‫تكمن يف ّمل �شمل الأجزاء"‪.‬‬ ‫م�سي يف ع��ن��اده‪ ،‬ويف ا�ستفزازه لقوانني‬ ‫وي�ستم ُّر ّ‬ ‫املدينة التي يجهلها‪ ،‬م�ستند ًا �إىل قوانني ال�صحراء‬ ‫التي ت�سكن روح��ه‪ ،‬حتى ينتهي به الأم���ر‪ ،‬ب��د ًال من‬ ‫احل�صول على وثيقة ملولوده اجلديد‪� ،‬إىل م�صادرة‬ ‫وثيقته هو‪ ،‬وما يرتتب على ذلك من �أو�ضاع قانونية‬ ‫جتعل وجوده غري �شرعي‪.‬‬ ‫ويغلب على احل��رك��ة الأوىل م��ن حكاية ال��رواي��ة‬ ‫يتج�سد ُبطئ ًا يف حركة احلدث‪،‬‬ ‫�إيقاع االنتظار الذي ّ‬ ‫وا�ست�سالم ًا ملجتمع املدينة واملدنية الذي يقوده من‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫م�سي لقوانني املدينة املف َ‬ ‫رت�ضة مكان ًا‬ ‫� ّإن عدم �إدراك ّ‬ ‫جلزء معتبرَ من الرواية كان لعبة فنية ذكية من‬ ‫�إبراهيم الكوين؛ لأن هذا اجلهل �أعطى الرواية نوع ًا‬ ‫من الإثارة التي تتك�شف خيوطها �شيئ ًا ف�شيئ ًا‬

‫م�سي وموظف‬ ‫انتظار لآخ��ر‪ .‬فاللقاء االفتتاحي بني ّ‬ ‫ال�سجل ينتهي ب�أن يعطي املوظف �إي�صا ًال باال�ستالم‬ ‫م�سي‪ ،‬ويطلب منه االنتظار حلظة‪ ،‬تتحول �ساعات‬ ‫�إىل ّ‬ ‫م�سي‪:‬‬ ‫و�أيام ًا و�شهور ًا‪ ،‬يقول ّ‬ ‫�شب فيه الر�ضيع ومل يعد طف ًال"‪.‬‬ ‫ "انتظرتُ زمن ًا َّ‬‫لذلك �أدرك "�أنّ البلية لي�س �أن نهلك‪ ،‬ولكن �أن‬ ‫ننتظر"‪.‬‬ ‫م�سي يف ردهات ال�سجل املدين حتى نهاية‬ ‫ينتظر ّ‬ ‫الدوام‪ ،‬تتوفى زوجته‪ ،‬فيدفنها ويعود لالنتظار‪ ،‬و�إذ‬ ‫يعييه االنتظار �أيام ًا و�أ�سابيع و�شهور ًا‪ ،‬يجد نف�سه يف‬ ‫م�سي الذي احرتف هذا‬ ‫مواجهة انتظار �آخر‪ .‬غري �أنّ ّ‬ ‫االنتظار يف احلركة الأوىل للحكاية‪ ،‬مل يكن وحيد ًا‪،‬‬ ‫فثمة قرينه مو�سى‪ ،‬وثمة �آخ��رون ينتظرون‪ ،‬ومنهم‬ ‫ذلك الرجل الذي يقول له‪:‬‬ ‫ "�أال�صق هذا اجلدار منذ �شهور!‬‫ منذ �شهور؟‬‫ ظهري نبتة يف هذا اجلدار"‪.‬‬‫هذا الرجل يدرك متام ًا قدرة املدينة الفائقة على‬ ‫مل�سي قانط ًا‪� :‬إنك لن‬ ‫جعل النا�س ينتظرون‪ ،‬فقد قال ّ‬ ‫تفوز مبقابلة رئي�س الدائرة "�إذا مل يقم الي�أ�س بكن�س‬ ‫احل�شود التي ت�سبقك يف القائمة‪ ،‬و�إذا مل يكن�س املوت‬ ‫من �أمامك البقية الباقية"‪.‬‬ ‫ثم ي�ضيف‪�" :‬إذا ابت�سم لك احلظ يوم ًا و�أفلحت يف‬ ‫الدخول �إىل ما وراء هذا الباب‪ ،‬فال حت�سب هذا الفوز‬ ‫نهاية مطاف‪ ،‬لأنه لن يكون �سوى بداية املطاف؛ لأن‬ ‫الكاهن ال��ذي يقبع خلف هذا الباب �سيجد طريقة‬ ‫يعيدك مبوجبها �إىل نقطة االنطالق"‪.‬‬ ‫ثانيا – رحلة ال�صحراء‪� :‬ضياع االنتماء‪:‬‬ ‫ولأنّ جمتمع املدينة ال يعرتف �إال بالوثائق الر�سمية‪،‬‬ ‫فقد قادت م�شكل ٌة �صغري ٌة االبنَ يوجرتن �إىل املعتقل‪،‬‬ ‫العدد‬

‫م�سي يف رحالت االنتظار‬ ‫وهنا يتدخل مو�سى (قرين ّ‬ ‫م�سي‬ ‫يف دهاليز ال�سجل املدين) ليعقد من وراء ظهر ّ‬ ‫�صفقة‪ ،‬تخل�ص مو�سى من انتظاره‪ ،‬وال يدركها �إال‬ ‫مت�أخر ًا‪� ،‬إذ يخربه �أنّ هناك رج ًال ميكن �أن ّ‬ ‫يتدخل‬ ‫م�سي‬ ‫لإخراج يوجرتن من املعتقل‪ ،‬يف مقابل �أن يقوم ّ‬ ‫بقيادة هذا الرجل �إىل ال�صحراء يف رحلة البحث عن‬ ‫الذهب الأ�سود‪.‬‬ ‫م�سي يوافق على �أن‬ ‫ولأنّ الأبناء مبخلة جمبنة ف�إنّ ّ‬ ‫يقود القافلة �إىل ال�صحراء‪ ،‬وينطلق يف هذه الرحلة‬ ‫مع (ال��ب��اي) �صاحب �شركة التنقيب ال��ذي يكت�شف‬ ‫م�سي بعد فوات الأوان �أنه من ل�صو�ص الآثار‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫ّ‬ ‫�إىل بع�ض اخلرباء والع ّمال‪ .‬ويع ّرفنا الروائي يف خالل‬ ‫هذه الرحلة عن كثب على احلجر املقد�س الذي يتح ّدث‬ ‫م�سي‪ ،‬والكوين من ورائه‪ ،‬بطريقة �صوفية‪" :‬كان‬ ‫عنه ّ‬ ‫احلجر م�سبوك ًا من �صلد �صقيل‪ ،‬نا�صع‪ ،‬غريب عن‬ ‫ح��ج��ارة �صحراء ال�صلد ال�����س��وداء‪ ،‬يقف م�ستدير ًا‬ ‫كقاعدة حلجر �آخر‪ ،‬يلتحم به التحام ًا‪ ،‬ينت�صب فوقه‬ ‫ليك ّون ق ّمة مثلثة الأ�ضالع‪ ،‬مزبورة برموز الأبجدية‬ ‫القدمية بل�سان اللغة القدمية ال�ضائعة التي مل يعد يف‬ ‫ال�صحراء من ي�ستطيع �أن يفك طل�سماتها منذ زمن‬ ‫بعيد"‪.‬‬ ‫م�سي و�سط ال�صحراء يف مكيدة‬ ‫ويقع امل�سكني ّ‬ ‫(الباي) �إذ ّ‬ ‫يدل ابنه على احلجر املق ّد�س‪ ،‬ويح ّدث‬ ‫م�سي عن القبائل التي كانت "تنحر قربان ًا يف �أزمنة‬ ‫ّ‬ ‫املحنة‪ ،‬ث َّ��م تذهب لت�ستجري باحلجر بدهن ال�صلد‬ ‫ب�شحم القربان‪ ،‬فال تلبث البلية �أن تنق�شع"‪.‬‬ ‫غري �أنّ يوجرتن الذي كرب بعيد ًا عن رعاية �أمه التي‬ ‫توفيت‪ ،‬وبعيد ًا عن رعاية �أبيه امل�شغول بت�سجيله‪ ،‬كان‬ ‫له يف احلجر ر�أي �آخر‪:‬‬ ‫"لو كان ما تقوله عن طبيعة احلجر ال�سحرية‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪141‬‬


‫�صحيح ًا فلماذا مل يفلح يف �إن��ق��اذ ال�صحراء من‬ ‫اجل���دب ال���ذي ���ش�� ّت��ت �شمل ال��ق��ب��ائ��ل يف ال�����س��ن��وات‬ ‫الأخرية؟"‪.‬‬ ‫مثل ه��ذه اللغة ال��ت��ي ت��ف��ارق منطق الأب مل تعد‬ ‫غريبة عليه‪� ،‬إذ �إنَّ يوجرتن كان قد �أخ�بره ب�أن�صع‬ ‫بيان ّ‬ ‫ملخ�ص ر�ؤيته لتلك املعركة التي خا�ضها الأب يف‬ ‫�سبيل ت�سجيل ا�سمه يف ال�سجل‪ ،‬قال يوجرتن‪:‬‬ ‫ �أن �أحيا يف املدينة با�سم مفرتَ�ض �أهون عندي من‬‫�أن �أحيا يف هذا العدم با�سم مكت�سب"‪.‬‬ ‫وال ينتهي الأم��ر عند ه��ذا احل�� ّد‪ ،‬فالباي ي�ستعني‬ ‫ب��االب��ن‪ ،‬مثلما تك�شف �شخ�صية نزيه الفا�ضل‪ ،‬يف‬ ‫الو�صول �إىل احلجر املق ّد�س‪ ،‬ويف تهريبه مع جمموعة‬ ‫�أخ���رى م��ن الآث���ار خ��ارج ال��ب�لاد‪ .‬وق��د عنى ه��ذا �أنَّ‬ ‫م�سي من �أج��ل ابنه كانت بال ف��ائ��دة‪ ،‬و�أنّ‬ ‫ت�ضحية ّ‬ ‫معركة اال�سم كانت ت�شبه معارك دون كي�شوت على‬ ‫الرغم من �أ ّن��ه مل يكن يحارب فر�سان ال��ه��واء‪ ،‬بل‬ ‫فر�سان ال�سجل املدين املدججني بالقوانني؛ ذلك لأنّ‬ ‫هذه املعركة انتهت بهزمية مزدوجة‪� ،‬إذ �إنه خ�سر �أمه‬ ‫الكربى ال�صحراء‪ ،‬وخ�سر ابنه �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫من هنا يبدو �أن املعركة الكربى التي خا�ضها الأب‬ ‫من �أجل اال�سم عدمية اجلدوى‪ ،‬و�أنّ االبن �شريك مع‬ ‫�أع�ضاء املحفل الذين يريدون م�صادرة اال�سم فقط‪،‬‬ ‫بل م�صادرة التاريخ‪ ،‬ب�سبب ما يحيل عليه من املعاين‬ ‫النبيلة يف لغة الأ�سالف‪ ،‬فهو يقول ملو�سى‪" :‬يوجرتن‬ ‫كلمة تعني "البطل الأكرب"!‪.‬‬ ‫ثالثا ـ البحث عن االنتماء من جديد‪:‬‬ ‫م�سي رحلة البحث عن انتماء جديد حني يفقد‬ ‫يبد�أ ّ‬ ‫َّ‬ ‫كل �شيء يف املدينة‪ ،‬فال يكون �أمامه �إال �أن يبيع البيت‬ ‫لريحل �إىل ال�صحراء‪ .‬لقد خ�سر معركته يف فر�ض‬ ‫ا�سم البنه يف دائرة ال�سجل املدين‪ ،‬وخ�سر ابنه الذي مل‬ ‫‪142‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫يكن ممتن ًا لأبيه ب�سبب �إ�صراره على هذا اال�سم‪ ،‬كما‬ ‫خ�سر هذا الأب امل�سكني ا�سمه هو �إذ �صودرت وثيقته‪،‬‬ ‫وخان عهده مع ال�صحراء �إذ قاد �إليها الأغراب‪" .‬كان‬ ‫عليه �أن يختار الرحيل �إذا �شاء �أن يتج ّنب الرتحيل"‪.‬‬ ‫وقبل بدء رحلة العودة التي يرف�ض االبن �أن يرافق‬ ‫الأب فيها يبحث الأب ا�ستعادة براءة براءة روحه بعد‬ ‫�أن خان عهد ال�صحراء‪ ،‬لذلك يقرر �أن ينتقم لها‪،‬‬ ‫م�سي عن قربانه‬ ‫وقبل �أن يقودنا الروائي �إىل بحث ّ‬ ‫يق ّدم لنا مقطع ًا �سردي ًا ا�سرتجاعي ًا من �أبدع املقاطع‬ ‫م�سي التي �أخذها هدية من �أبيه‬ ‫يتحدث فيه عن مدية ّ‬ ‫ال��ذي د ّرب��ه على ا�ستخدامها‪" :‬د ّربه على ا�ستخدام‬ ‫املدية طوي ًال‪ ،‬ومل يتوقف عن التمرين �إال يف اليوم‬ ‫الذي ا�ستطاع �أن ينحر باملدية ذئب ًا"‪.‬‬ ‫م�سي ه��دف واح��د لكي يحقق انتقامه‬ ‫ك��ان �أم��ام ّ‬ ‫لل�صحراء‪ ،‬ولكي يط ّهر نف�سه‪ ،‬فهناك الباي الذي‬ ‫�سرق احلجر‪ ،‬وعبث بروح ال�صحراء وتاريخها‪ ،‬لذلك‬ ‫ف�إ ّنه "ذهب �إىل مق ّر �شركة التنقيب عن النفط‪ .‬هناك‬ ‫اعرت�ضه الع�س�س‪ ،‬فرابط على ر�صيف ال�شارع املقابل‪.‬‬ ‫يرت�صد �شبح الباي‪ ،‬ولكن الرجل‬ ‫مكث يوم ًا كام ًال وهو ّ‬ ‫مل يظهر"‪.‬‬ ‫مل�سي عن‬ ‫غري �أن النب�أ ال��ذي حمله نزيه الفا�ضل ّ‬ ‫م�سي يتجه اجتاه ًا �آخر‪� ،‬إذ يلج�أ �إىل‬ ‫فرار الباي جعل ّ‬ ‫ال�سلطة‪ /‬املخفر‪ ،‬ليبلغها �أنّ بع�ض �ضعاف النفو�س‬ ‫ي�ستولون ع��ل��ى روح ال�����ص��ح��راء اخلبيئة يف حجر‬ ‫الأ�سالف‪ ،‬ليقوموا بتهريبه �إىل ما وراء البحار‪ ،‬فال‬ ‫يلقى من ال�سلطة �إال التجاهل‪" :‬ال�سلطات مل تعد ترى‬ ‫فيها ا�ستنزاف ًا لكنوز الوطن التاريخية‪ ،‬بل حترير ًا‬ ‫للأر�ض من رج�س الوثن"‪.‬‬ ‫م�سي ب�إعادة‬ ‫و�إذ يف ّر الباي باحلجر املقد�س يف ّكر ّ‬ ‫روح ال�صحراء ال�ضائعة �إليها‪ ،‬ولكنّ "ال�صحراء ال‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫"م�سي" رحلة البحث عن انتماء جديد حني يفقد َّ‬ ‫كل‬ ‫يبد�أ ّ‬ ‫�شيء يف املدينة‪ ،‬فال يكون �أمامه �إال �أن يبيع البيت لريحل‬ ‫�إىل ال�صحراء‪ .‬لقد خ�سر معركته يف فر�ض ا�سم البنه يف‬ ‫دائرة ال�سجل املدين‬ ‫ت�ستعيد روحها ال�ضائعة امل�ستجرية ب�شجرة الرمت �إال‬ ‫م�سي �إىل ابنه يوجرتن‬ ‫بقربان ج�سيم"‪ .‬لذلك يذهب ّ‬ ‫وي��غ��ر���س ن�صل امل��دي��ة يف رق��ب��ت��ه‪" :‬ا�ستق َّر الن�صل‬ ‫املغ�سول بروح الإله الأبدي يف نحر ال�سليل فخ َّر االبن‬ ‫�أر�ض ًا‪ .‬انبثق الدم غزير ًا من النحر لي�سيل عرب الأر�ض‬ ‫لريوي �شجرة الرمت"‪.‬‬ ‫الظم�أى َ‬ ‫و�إنَّ ظهور �صورة املوت املفزعة يف احلركة الثالثة‬ ‫حلكاية الرواية يقوم على الت�أ�سي�س الروائي لطغيان‬ ‫م�سي‪،‬‬ ‫�إي��ق��اع ال�صحراء‪ ،‬وتقدي�س روحها من قبل ّ‬ ‫البطل ال�صحراوي الغ ّر ال��ذي وج��د نف�سه يف حالة‬ ‫جمابهة م�أ�ساوية مع املدنية الغادرة؛ لذلك جنده دائم ًا‬ ‫م�سكون ًا برباءتها‪ ،‬فهي �أ ّم��ه التي كانت ت�صبرّ ه على‬ ‫غيبوبة االنتظار‪" :‬ا�ستعان على هذا الغول بالغيبوبة‪.‬‬ ‫ال ينكر �أنه ر ّو�ض نف�سه عليها طوي ًال م�ستنجد ًا بو�صايا‬ ‫�أ ّمه الكربى‪ :‬ال�صحراء؛ لأنّ احلياة يف ذلك الوطن‬ ‫لي�ست �سوى انتظار طويل‪ ،‬بل انتظار �أب��دي ال ي�ضع‬ ‫لأبديته نهاية �إال النهاية الطبيعية التي هي املوت"‪.‬‬ ‫�إن��ه��ا ال�����ص��ح��راء ال�����س��اح��رة الغام�ضة‪ ،‬املوح�شة‬ ‫م�سي حريته عرب ال�ضياع فيها‪،‬‬ ‫الغريبة‪ ،‬التي يجد ّ‬ ‫ويجد فيها املُ َع ّلم الأ ّول ال��ذي يفوق �أي ُم َع ّلم‪ ،‬و�إذ‬ ‫ي�س�أله رجل اال�ستجواب عن اجلامعات التي تلقى فيها‬ ‫تعليمه يقول‪" :‬ال�صحراء يف م�سرية تعليمي كانت �أوىل‬ ‫اجلامعات"‪.‬‬ ‫م�سي مل يكن راغب ًا عن التعليم‪ ،‬ومل يكن‬ ‫�إذ ًا؛ ف�إنّ ّ‬ ‫راغب ًا عن قوانني الطبيعة‪ ،‬وكان م�ستع ّد ًا للتقيد ب�أي‬ ‫م�سي مع ابنه يقول‬ ‫قانون ت�س ّنه ال�صحراء‪ .‬ففي حوار ّ‬ ‫له �إن الإن�سان يف ال�صحراء ي�ستطيع �أن يطلق على‬ ‫نف�سه �أي ا�سم دون �أن يخالف اللوائح‪.‬‬ ‫ "لن يخالف اللوائح‪ ،‬لأنه ال وجود يف ال�صحراء‬‫للوائح‪.‬‬ ‫العدد‬

‫م�سي من دنيا غيبته‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫احتج ّ‬ ‫ تخطئ! يف ال�صحراء لوائح �أ�ش ّد �صرام ًة من‬‫لوائح العمران‪ ،‬ولكن �سرها يف �أنها لوائح � ِّأمنا الطبيعة‬ ‫ولي�ست لوائح �أخينا الإن�سان"‪.‬‬ ‫ل��ذل��ك ف��م��ن الطبيعي �أن ي��ج��د امل��ت��ت��ب��ع لل�سياق‬ ‫م�سي على العودة �إىل‬ ‫الروائي �إ�صرار ًا دائم ًا من قبل ّ‬ ‫ال�صحراء‪ ،‬من مثل قوله‪:‬‬ ‫ "القافلة التي ال تعود �إىل الوراء قافلة مفقودة"‪.‬‬‫ "ال مف ّر من العودة �إىل ال�صحراء �إذا �شئنا �أن‬‫ن�ستعيد الهوية"‪.‬‬ ‫ "يف ال�صحراء ي�أخذ الآباء �أبناءهم من �أح�ضان‬‫�أمهاتهم ليعيدوهم �إىل �أح�ضان �أمهم الكربى‪� ،‬أمهم‬ ‫احلقيقية ال�صحراء‪ ،‬لتعلمهم احلكمة"‪.‬‬ ‫م�سي طبيعي ًا وم�أ�ساوي ًا‪،‬‬ ‫من هنا يبدو ما �أقدم عليه ّ‬ ‫غري �أنّ الأهم �أن ذلك الفعل كان م�س ّوغ ًا فني ًا يف ظ ّل‬ ‫الداخلي املذهل لل�صحراء �إزاء املدينة‬ ‫هذا احل�ضور‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫تك�شر عن �أنيابها دون رحمة يف وجه اجلاهلني‬ ‫ال��ذي��ن ال ي��درك��ون قوانينها الظاملة التي حت�� ّول ك ّل‬ ‫موظف يف الدولة قامع ًا من طراز مرعب‪ .‬فحني ذهب‬ ‫م�سي �إىل م�ست�شفى ال���والدة ملقابلة رئي�س ال�ش�ؤون‬ ‫ّ‬ ‫الإدارية وجد �أن الأ�سماء املدونة التي تنتظر مقابلته‬ ‫بالآالف‪ ،‬و�إذ تناول القلم ليكتب ا�سمه تردد ثم �س�أل‬ ‫�أمني ال�س ّر ربع �س�ؤال‪:‬‬ ‫ "هل ميكن‪..‬‬‫ولكن �أمني ال�س ّر قاطعه بح ّدة‪:‬‬ ‫ ال ميكن!"‬‫�إنّ مثل هذا اجلفاء يف الر ّد يبدو من خالل الرواية‬ ‫�سمة غ�ير �أ�صيلة م��ن �سمات ال�شخ�صية‪ ،‬ب��ل هي‬ ‫مكت�سبة بفعل الوجود يف الوظيفة‪ ،‬وهذا بال�ضبط ما‬ ‫م�سي الذي ر�أى �أنّ موظف ال�سجل يناف�س‬ ‫كان يع ّذب ّ‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪143‬‬


‫رب الأرباب‬ ‫يف قدرته (رب الأرباب) بل يفوقه ""لأن ّ‬ ‫مل يبخل بالروح التي نفخها يف الوليد ليهبه احلياة‪.‬‬ ‫ولكن م��ارد ال�سج ّل ي�ستطيع �أن يحجب هذه احلياة‬ ‫الرب"‪.‬‬ ‫التي نالها الوليد باملجان من ّ‬ ‫م�سي ويوجرتن والآخرون‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫م�سي بجدراة م�ساحة الن�ص منذ �صفحته‬ ‫يحتل ّ‬ ‫الأوىل حتى �صفحته الأخرية‪ ،‬فينو�س بني اال�ست�سالم‬ ‫ُ‬ ‫فيحاول‬ ‫والتم ّرد‪� :‬إنه روح تتوثب‪ ،‬حتنّ �إىل التم ّرد‪،‬‬ ‫يدجنها‪ ،‬فينجح حين ًا‪ ،‬ويخفق‬ ‫ق��ان��ونُ املدينة �أن ّ‬ ‫�أحيان ًا‪� :‬إذ يجربه قانون املدينة على االنتظار‪ ،‬ولكنه‬ ‫يقب�ض على جمر قلبه املتوهج‪ ،‬الذي كثري ًا ما ينت�صر‬ ‫على اجلنب الذي تفر�ضه عليه قوانني ال�سجل املدين‪.‬‬ ‫وي�ستطيع املرء �أن يقر�أ كثري ًا من الأن�ساق اللغوية التي‬ ‫م�سي‪ ،‬فهو بعد عدة جوالت من االنتظار‬ ‫ت�شي بتمرد ّ‬ ‫اليومي جابه ع�ضو املحفل‪ ،‬و"ق ّرر �أن يجاهر باحتجاج‬ ‫ر�آه من ح ّقه فتم ّرد (‪ )...‬قال ب�صوت ّمن عن نفاد‬ ‫ال�صرب‪:‬‬ ‫"�إذا كنت �أ�ستطيع �أن �أنتظر هنا �إىل الأبد يف هذا‬ ‫املعتقل‪ ،‬فه ّل تظنّ �أن بو�سع الإن�سان ال��ذي ينتظر‬ ‫ميالده الثاين �أن ينتظر �أكرث مما انتظر؟"‪.‬‬ ‫غري �أنّ ع�ضو املحفل ال��ذي ي�ستفهم عن امليالد‬ ‫الثاين (وهو يق�صد توثيق ا�سم املولود يف ال�سجالت)‬ ‫م�سي‪ ،‬و�أن يعيده �إىل حظرية‬ ‫ي�ستطيع �أن ّ‬ ‫يدجن مت ّرد ّ‬ ‫القانون‪ ،‬بعد �أن يهدده بالنقل �إىل م�شفى الأمرا�ض‬ ‫العقلية‪.‬‬ ‫�أم��ا يوجرتن االب��ن ال��ذي خالف �أب��اه يف كثري من‬ ‫ال�صفات‪ ،‬فقد ا�شرتك معه يف �صفة �أ�سا�سية هي‬ ‫التمرد‪ ،‬بل �إنّ مت�� ّرد االب��ن ج��اء �أك�ثر ب���روز ًا‪ ،‬و�أك�ثر‬ ‫ق��درة على الت�صعيد ال��درام��ي ذل��ك �أن��ه ك��ان عنيف ًا‬ ‫وم�ستمر ًاوموجه ًا �ضد الأب مبا�شرة يف �أكرث الأحيان‪،‬‬ ‫‪144‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫يف ح�ين ج���اء مت��� ّرد الأب م���وارب��� ًا وغ�ي�ر ق���ادر على‬ ‫اال�ستمرار‪.‬‬ ‫وقد بدا هذا التم ّرد منذ ظهور يوجرتن‪ ،‬ال ا�سمه‪،‬‬ ‫يف �أثناء الفعل الروائي‪� ،‬إذ قادته العزلة الناجتة عن‬ ‫االخ��ت�لاف م��ع الآخ���ر �إىل مواجهات انتهت ب��ه �إىل‬ ‫املخفر �أو ًال‪ ،‬و�إىل خروج االبن من البيت ثاني ًا و�إىل‬ ‫موته �أخري ًا‪ .‬وثمة �سياقات لغوية عديدة تظهر الوجه‬ ‫الأب��رز لتم ّرد يوجرتن �ض ّد �أبيه‪ ،‬ذلك التمرد الذي‬ ‫�صدم الأب ال��ذي خ�ضع ل�شركة التنقيب‪ ،‬لأنّ و َّ‬ ‫يل‬ ‫العهد �أن�ساه العهد‪ ،‬كما يقول �إبراهيم الكوين‪ .‬ومن‬ ‫تلك ال�سياقات احلوارات ال�ساخنة التي كانت جتري‬ ‫بينهما احلوار التايل الذي يبد�ؤه االبن‪:‬‬ ‫ "ماذا ميكن لإن�����س��ان مثلي �أن يفعل يف مكان‬‫كال�صحراء التي تتغنى بها ك�أنها جنات عدن؟!‬ ‫ وماذا ميكن لإن�سان مثلك �أن يفعل يف مدينة ال‬‫تعرتف به"‪.‬‬ ‫م�سي‬ ‫ويف ح��وار �آخ��ر يتج ّر�أ االب��ن �أك�ثر �إذ يتهم ّ‬ ‫امل�سكني ب�أنه كان وراء كل املتاعب التي عاناها‪ ،‬فيقول‬ ‫له‪:‬‬ ‫ "�أنكرتني هذه املدينة ب�سبب خطيئتك �أنت!‬‫ خطيئتي �أنا؟‬‫ �أمل يكن الت�شبث بذلك اال�سم الغبي يوجرتن‬‫حماقة بال مربر؟‬ ‫ اال�سم هوية‪ ،‬ومل يكن يوم ًا حماقة!"‪.‬‬‫وثمة ح َ‬ ‫م�سي وابنه �شخ�صيات �أخ��رى‪ ،‬ال تبلغ‬ ‫��ول ّ‬ ‫م��ا بلغته ه��ات��ان ال�شخ�صيان م��ن احل�����ض��ور و�أب���رز‬ ‫تلك ال�شخ�صيات �شخ�صية مو�سى ال��ذي انتظر مع‬ ‫املنتظرين‪ ،‬ولكنه قرر �أن ينهي انتظاره باالحتيال على‬ ‫م�سي ل�صالح الباي‪ ،‬ونزيه الفا�ضل الذي بدا ح�ضوره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أو ب���ال ّ‬ ‫أدق رج��وع��ه �إىل ال�سرد‪ ،‬حاجة فنية بحتة‪،‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫هذه الرواية قادرة على �أن ت�سلب‬ ‫انتباه القارئ منذ �سطرها الأول �إىل‬ ‫�سطرها الأخري‪ ،‬وذلك بف�ضل ت�ضافر‬ ‫احلكاية مع اللغة‬

‫مل�سي‪ ،‬فيما عر�ضت الرواية‬ ‫وظيفتها نقل الأخ��ب��ار ّ‬ ‫�شخ�صيات عابرة كثرية‪ ،‬من مثل موظفي ال�سجل‪،‬‬ ‫والباي واجل��ار العجوز وال�ساعي‪ .‬وتبدو �أهمية هذه‬ ‫ال�شخ�صيات العابرة من خالل بع�ض املقوالت التي‬ ‫ت�ؤ�س�س لها؛ فال�ساعي مث ًال يق ّدم املقوالت التالية‪:‬‬ ‫ "الغريب �أن ي�سود هذا الوباء يف دائرة ت�ستخرج‬‫�شهادات امليالد للأحياء‪ ،‬ويغيب يف الدائرة املجاورة‬ ‫املخ ّولة با�ستخراج �شهادات الوفاة"‪.‬‬ ‫ "ما �سيجري دوم ًا �أ�سو�أ مما جرى"‪.‬‬‫ "�إذا كانت الدنيا �شقوة �صغرى ف�إنّ الذر ّية هي‬‫�شقوتنا الكربى!"‪.‬‬ ‫وث��� ّم���ة م�لاح��ظ��ة ال ت��خ��ط��ئ��ه��ا ال��ع�ين ه���ي توجيه‬ ‫االهتمام من قبل �إبراهيم الكوين لل�صفات الداخلية‬ ‫لل�شخ�صيات‪� ،‬إذ ت��ب��دو �شخ�صياته ذات كثافة‬ ‫�سيكولوجية الفتة‪ ،‬وق ّلما ي�ستثمر ال�صفات اجل�سدية‬ ‫لل�شخ�صيات‪ ،‬اللهم �إال �إذا كانت ال�صفات اجل�سدية‬ ‫ذاتها تقوم بر�سم بيئة نف�سية ت�ؤثر على من حولها‪ ،‬من‬ ‫مثل و�صف رئي�س جلنة الأ�سماء‪ ،‬ونظاراته الطبية‪،‬‬ ‫وامللفات الثخينة املو�ضوعة �أم��ام��ه على املن�ضدة‪،‬‬ ‫واللوحة املعلقة خلفه على اجل��دار‪ ،‬تلك اللوحة التي‬ ‫ال تقوم بدورها الت�أطريي التزيني فح�سب‪ ،‬بل بدورها‬ ‫املرتبط بجوهر احلكاية �أي�ض ًا‪� ،‬إذ ث ّمة فيها خملوقات‬ ‫ّ‬ ‫ه�شة مت ّثل الأطفال الذين ال �أ�سماء لهم‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫م�سي ّ‬ ‫مر�شح لالن�ضمام ملخلوقاتها‪" :‬يف رقعة‬ ‫�أنّ ابن ّ‬ ‫�سماوية اللون‪ ،‬ر�سمت على طول اجلدار‪ ،‬رفرفت تلك‬ ‫املخلوقات ّ‬ ‫اله�شة (�أو هكذا تخ ّيل حلظتها)‪ ،‬ب�أجنحة‬ ‫ً‬ ‫�صغرية‪ ،‬حاملة �أبدانا ك�أج�سام الع�صافري‪� ،‬أو رمبا يف‬ ‫حجم النحل‪ ،‬لتهيم يف ذلك الف�ضاء املمهور بنتف من‬ ‫عهن نا�صع‪ ،‬منفو�ش‪� ،‬شبيه بقطع ال�سحب العقيمة‪،‬‬ ‫فتبدو يف ذلك الفراغ �أكرث ه�شا�شة وعجز ًا واغرتاب ًا"‪.‬‬ ‫العدد‬

‫نقول باخت�صار‪� :‬إنّ ه��ذه ال��رواي��ة ق��ادرة على �أن‬ ‫ت�سلب انتباه القارئ منذ �سطرها الأول �إىل �سطرها‬ ‫الأخ�ي�ر‪ ،‬وذل���ك بف�ضل ت�ضافر احلكاية م��ع اللغة‪:‬‬ ‫فاحلكاية الالهثة ال تنتهي �إال بالدم امل��راق‪ ،‬واللغة‬ ‫تر�سم �إطاريها اجلغرافيني (املدينة وال�صحراء)‬ ‫القادرين على �أن ي�شحنا القارئ مب�شاعر مت�ضادة‪،‬‬ ‫ت�سهم يف �إعطاء الرواية ميزة القدرة على الإقناع‬ ‫والإدها�ش‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪145‬‬


‫السر الغامض‬ ‫لتشارلز ديكنز (‪)1870 - 1812‬‬ ‫ترجمة‬ ‫�صدر يف �إنكلرتا عن دار بنغوين للن�رش كتاب‬ ‫"ت�شارلز ديكنز‪� :‬سرية حياة" للكاتبة "كلري تومالني"‬ ‫يف (‪� )527‬صفحة‪.‬‬ ‫ويف ه��ذه املنا�سبة ن�رشت جملة "ذا نيويورك‬ ‫ريفيو �أوف بوك�س" يف عددها ال�صادر يف ‪16‬‬ ‫�آب (�أغ�سط�س) ‪ 2012‬املقالة التالية بقلم الأديبة‬ ‫الأمريكية "جوي�س كارول �أوت�س"‪.‬‬ ‫"حياة �أي �شخ�ص ميتلك مواهب عظيمة �ستكون‬ ‫كتاب ًا حزين ًا بالن�سبة �إليه‪( ".‬ت�شارلز ديكنز يف عام‬ ‫‪.)1869‬‬

‫ترجمة و�إعداد‪:‬‬

‫توفيق الأ�سدي‬ ‫بقلم‪:‬‬

‫جوي�س كارول �أوت�س‬

‫‪146‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪147‬‬

‫ال���ش���خ���ص األك�����ث�����ر غ���م���وض���ًا ف�����ي ح����ي����اة ت����ش����ارل����ز دي���ك���ن���ز ه�����و أب��������وه "ج�����ون‬ ‫دي���ك���ن���ز" ال������ذي ك�����ان ف����ي ال���س���اب���ع���ة وال���ع���ش���ري���ن م����ن ال���ع���م���ر ح���ي���ن ول�����د ت��ش��ارل��ز‬

‫هل ديكنز �أعظم الروائيني الإنكليز؟ هناك قلة‬ ‫ميكن �أن جتادل �ضد الفكرة القائلة �إنه �أكرث الروائيني‬ ‫الإنكليز العظام �إنكليزية‪ ،‬و�أن �أف�ضل رواياته‪" :‬البيت‬ ‫الكئيب" و"الآمال الكبرية" و"دوريت ال�صغرية"‬ ‫و"دومبي وابنه" و"�صديقنا امل�شرتك" و"ديفيد‬ ‫كوبرفيلد" هي �أعمال تدل على عبقرية فائقة مرتعة‬ ‫باحليوية واخل��ي��ال وعلى �شيء ي�شبه الوحي احلار‬ ‫ج��د ًا‪� .‬إن موهبته يف ت�صوير ال�شخ�صيات عظيمة‬ ‫بقدر موهبة �شك�سبري‪� ،‬أما براعاته املتعددة ك�صاحب‬ ‫�أ�سلوب نرثي فهي باهرة‪.‬‬ ‫ديكنز المع جد ًا ك�صاحب �أ�سلوب يف الكتابة‪ ،‬كما‬ ‫�أن ر�ؤيته للعامل �شديدة اخل�صو�صية ومع ذلك فهي‬ ‫قوية الأثر‪ .‬ولو كانت روايات ديكنز تعاين من "عيوب"‬ ‫هي الإ�سراف يف امليلودراما والنزعة العاطفية وال ُعقد‬ ‫امل�ستنبطة ونهايات �سعيدة م�صطنعة‪ ،‬ف���إن هذه هي‬ ‫عيوب ع�صره‪ ،‬ولكنه مل يكن يتمتع‪ ،‬برغم كل عظمته‪،‬‬ ‫بالروح املتمردة التي جتعله يقاومها‪ .‬كان يف �أعماقه‬ ‫حمب ًا لإر�ضاء اجلماهري‪ ،‬وفنان ًا م�سرحي ًا‪ ،‬دون �أي‬ ‫اهتمام يف ه��دم تقاليد ال��رواي��ة كما �سيفعل الحق ًا‬ ‫خلفا�ؤه العظام مثل "د‪.‬هـ‪ .‬لورن�س" و"دجيمز جوي�س"‬

‫و"فرجينيا وولف"؛ كما �أن��ه مل يت�أمل يف امل��ن��اورات‬ ‫امل�����ض��ادة الدقيقة والتهكمية ال��ت��ي ت�سود العالقات‬ ‫الإن�سانية كما فعلت "جورج �إليوت" (ماري �آن �إيفانز)‬ ‫و"توما�س هاردي" اللذين جلبا �إىل الرواية الإنكليزية‬ ‫عن�صر ًا من الواقعية علم النف�سانية مل تُ�ستك�شف من‬ ‫قبل‪ .‬ومع ذلك ف�إن ديكنز �ضمن الكتاب الإنكليز‪ ،‬وكما‬ ‫و�صف نف�سه ذات مرة‪" :‬ن�صف هازل ون�صف جدي"‪.‬‬ ‫�إنه "ن�سيج وحده"‪.‬‬ ‫ال�شخ�ص الأكرث غمو�ض ًا يف حياة ت�شارلز ديكنز هو‬ ‫أ�ب��وه "جون ديكنز" ال��ذي كان يف ال�سابعة والع�شرين‬ ‫من العمر حني ولد ت�شارلز‪ .‬كان جون ابن ًا لرئي�س خدم‬ ‫وخادمة يعمالن لدى �أ�سرة نبيلة‪ .‬وك��ان طموح جون‬ ‫يتعدى العمل خادم ًا بدوره‪ ،‬وقد ا�ستطاع يف �سن �صغرية‬ ‫�أن ينال وظيفة يف املكتب املايل للبحرية الربيطانية تدر‬ ‫عليه ما يوازي "ثروة باملقارنة مع ما كان �أبوه (رئي�س‬ ‫اخلدم) يناله كراتب‪ ".‬ملاذا كان جون ديكنز حمظي ًا‬ ‫�إىل هذا احلد وم�سرف ًا يف �إنفاق املال خالل حياته كلها؟‬ ‫تقرتح "تومالني" م�ؤلفة هذه ال�سرية اجلديدة �أنه رمبا‬ ‫كان االبن غري ال�شرعي لرب عمل �أبيه �أو لأحد �أ�صدقاء‬ ‫رب العمل هذا من طبقة اجلنتلمان‪.‬‬


‫ويف هذه املنا�سبة ن�شرت جملة "ذا نيويورك ريفيو �أوف بوك�س" يف‬ ‫عددها ال�صادر يف ‪� 16‬آب (�أغ�سط�س) ‪ 2012‬املقالة التالية بقلم‬ ‫الأديبة الأمريكية "جوي�س كارول �أوت�س"(‪)1‬‬

‫ك��ان ل��دى ج��ون مكتبة كبرية من "الكتب الثمينة"‬ ‫كان ابنه ت�شارلز ينغم�س يف القراءة فيها‪ .‬كان جون‬ ‫�شخ�صية "متميزة" وهو النموذج الذي بنى عليه ت�شارلز‬ ‫�شخ�صيته الأ�شهر "ميكاوبر"‪ .‬لقد ا�ضطر ت�شارلز مع‬ ‫ال�شهرة والرثوة اللتني نالهما �إىل دفع ديون �أبيه و�أخيه‬ ‫ثم �أوالده العديدين وجرى ذلك مرات عديدة‪.‬‬ ‫�أما الدراما الكربى �أو ال�صدمة امل�ستدمية يف طفولة‬ ‫ت�شارلز فكانت جتربته التي امتدت ل�سنة كاملة يف معمل‬ ‫مليء باجلرذان ل�صنع ال�صباغ الأ�سود للأحذية قرب‬ ‫نهر "التيمز"‪ ،‬حني كان يف الثانية ع�شرة من عمره‬ ‫وذلك بعد �سجن �أبيه يف "حب�س املدينني" عام (‪.)1824‬‬ ‫بالن�سبة �إىل ت�شارلز الطفل كانت ال�صدمة الناجمة عن‬ ‫التغيري يف حياته هائلة وقد فاقم منها معرفته �أن �أبويه‬ ‫اللذين يحبانه وافقا فور ًا على �إخ�ضاعه ابنهما الالمع‬ ‫الذكاء للعبودية‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫"مل تبدر �أي �إمياءة من �أحد‪ .‬كان �أبي و�أمي را�ضيني‬ ‫متام ًا‪ ،‬وك�أين كنت يف الع�شرين من عمري وقد تفوقت‬ ‫يف الدرا�سة الثانوية وها�أنذا �س�أدخل جامعة كامربيدج‬ ‫ملتابعة درا�ستي‪".‬‬ ‫يف املعمل كان عمل ت�شارلز الطفل �سه ًال‪� ،‬أال وهو‬ ‫تغطية علب ال�صباغ ول�صق الل�صاقات عليها‪ .‬وكانوا‬ ‫ي�سمونه هناك "اجلنتلمان ال�صغري"‪ .‬ولكن الرعب من‬ ‫هذا الو�ضع ظل دون تغيري‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫"ال ميكن لأي كلمات �أن تعرب عن الأمل ال�س ّري‬ ‫لروحي‪ ...‬الإح�سا�س ب�أين مه َمل متام ًا وبال �أمل ‪...‬‬ ‫لقد تعر�ضت طبيعتي كلها للحزن ولإذالل‪"...‬‬ ‫كانت خيانة �أبويه له �أمر ًا ال ميكن غفرانه‪ ،‬وكانت تلك‬ ‫ال�سنة التي ق�ضاها يف املعمل مذ ّلة له‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فبعد‬ ‫ع�شرين عام ًا منها اع�ترف ل�صديقه احلميم "جون‬ ‫فو�سرت"‪ ،‬وه��و �أول من كتب �سرية حياة ديكنز‪ ،‬ب�أن‬ ‫‪148‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫معمل ال�صباغ الأ�سود منحه الت�صميم على املثابرة‪:‬‬ ‫"كل �شيء ممكن �أمام الإرادة التي جتعله ممكن ًا‪".‬‬ ‫وبالطبع‪ ،‬ف�إن عبوديته كعامل يف �سن الطفولة �ستزوده‬ ‫ككاتب مبنظور مع خربة عملية ومعلومات وافية وكذلك‬ ‫بقدرة طبيعية على فهم الفقراء العاملني يف ظروف‬ ‫�أ�شبه بالعبودية ومن جميع الأعمار؛ وهذان �أمران الزما‬ ‫ديكنز طوال حياته‪.‬‬ ‫من املده�ش �أن ديكنز مل يكن تلميذ ًا جيد ًا يف املدر�سة‬ ‫التي �أر�سله �إليها والداه يف النهاية‪ ،‬وهكذا انتهى تعليمه‬ ‫الر�سمي وهو يف �سن اخلام�سة ع�شرة حني بد�أ ي�صبح‬ ‫ّ‬ ‫عجل‬ ‫مدخن ًا مدمن ًا‪ ،‬وهو �إدمان الزمه بقية حياته ورمبا ّ‬ ‫يف وفاته املبكرة‪.‬‬ ‫ك��ان �أول عمل له يف مكتب حم��ام‪ ،‬ولكن اهتمامه‬ ‫بالقانون �سرعان ما تال�شى حني بد�أ يكتب وين�شر كتاباته‬ ‫�أو ًال ك�صحفي‪ .‬وكان �أول كتاب له هو "ا�سكت�شات بوز"‬ ‫(‪ )1836‬وتبعه "�أوراق بيكويك" الذي ن�شره م�سل� ً‬ ‫سال‬ ‫يف ال�صحف �أو ًال‪ ،‬ثم ككتاب وحقق �أف�ضل املبيعات‪.‬‬ ‫ولكنه �سرعان ما �شغف بامل�سرح و�شارك يف متثيل بع�ض‬ ‫امل�سرحيات كها ٍو‪ .‬و�صلته عدة دع��وات لري�شح نف�سه‬ ‫للربملان ولكنه رف�ضها‪.‬‬ ‫يف تلك الفرتة قد �سبق لديكنز ووق��ع يف �شراك‬ ‫احل��ب �إىل ح��د ال��ي���أ���س‪ ،‬ومت رف�ضه م��ن قبل فتاة‬ ‫جميلة فاتنة احل�سن ا�سمها "ماريا بيدنل"‪ .‬كان‬ ‫هو يف الثامنة ع�شرة وهي يف الع�شرين‪ .‬مل تكن هذه‬ ‫ربحة متبادلة‪ ،‬ولذلك بقي‬ ‫العاطفة الرومان�سية امل ّ‬ ‫ديكنز ل�سنوات كثرية حمبط ًا وحمطم القلب‪ ،‬مما‬ ‫جعله يعرتف �أن��ه ل�شدة كبحه لعواطفه وانفعاالته‬ ‫�أ�صبح غ�ير ق��ادر على �أن يظهر �أي عاطفة حتى‬ ‫لأوالده‪ .‬وق��د خ ّلد ديكنز ماريا يف �شخ�صيتني يف‬ ‫�أعماله‪" :‬دورا" يف "ديفيد كوبرفيلد" (‪ )1850‬و‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫"حياة �أي �شخ�ص ميتلك مواهب عظيمة �ستكون كتاب ًا‬ ‫حزين ًا بالن�سبة �إليه‪( ".‬ت�شارلز ديكنز يف عام ‪.)1869‬‬

‫"فلورا فنت�شينغ" يف "دوريت ال�صغرية (‪.)1857‬‬ ‫برغم ق�سوة والديه والالم�س�ؤولية املزمنة التي �أبداها‬ ‫�أب��وه‪� ،‬إال �أن ت�شارلز ك���أي �شخ�ص ينتمي �إىل الع�صر‬ ‫الفيكتوري كان يرى الأ�سرة ك�شيء مثايل‪ .‬برغم �أنه‬ ‫ك��ان ما ي��زال مفتون ًا مب��اري بيدنل �إال �أن��ه ت��زوج من‬ ‫"كاثرين هوغارث" ابنة رب عمله �صاحب ال�صحيفة‬ ‫التي كان يعمل فيها‪ .‬وقد اعترب ذلك فيما بعد �أ�سو�أ‬ ‫خط�أ ارتكبه يف حياته‪ .‬رزق ت�شارلز منها بع�شرة �أوالد‬ ‫�أحب بع�ضهم ومل يحب بع�ضهم الآخر وا�ضع ًا كل اللوم‬ ‫على زوجته لكرثة ما �أجنبا من �أوالد‪ .‬وحني و�صل �إىل‬ ‫�سن ال�ساد�سة والأربعني �أهمل زوجته متام ًا ووق��ع يف‬ ‫حب ممثلة يف الثامنة ع�شرة من عمرها تدعى "�إلني‬ ‫ترنان"‪ .‬مل يطلق ت�شارلز زوجته‪ ،‬فقد كان من �ش�أن ذلك‬ ‫�أن ي�شكل ف�ضيحة‪ ،‬بل راح يعي�ش مع "�إلني" حتى وفاته‪.‬‬ ‫وبرغم كل هذه التعقيدات مل يتوقف عن الكتابة‪ ،‬لي�س‬ ‫كتابة الروايات فح�سب‪ ،‬بل الر�سائل الرائعة التي يقدر‬ ‫عددها ب�أربعة ع�شر �ألف ر�سالة‪ .‬كما كان يحب قراءة‬ ‫مقاطع من رواياته �أمام اجلمهور لقاء �أجر‪ .‬وقد فعل‬ ‫ذلك مرات عديدة يف اململكة املتحدة والواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية حيث كان النا�شرون ين�شرون كتبه دون �أن‬ ‫يدفعوا له �أي تعوي�ض‪.‬‬ ‫برغم كل التعقيدات التي �شابت حياته‪ ،‬وبرغم كل‬ ‫القراءات العامة التي كان يكرث منها‪ ،‬ا�ستطاع ديكنز‬ ‫�أن يكتب رواياته التي ال ت�ضاهى خالل �سبعة ع�شر‬ ‫عام ًا‪" :‬دومبي وابنه" (‪" ،)1848‬ديفيد كوبرفيلد"‬ ‫(‪" ،)1850‬املنزل الكئيب" (‪�" ،)1853‬أوقات‬ ‫ع�صيبة" (‪" ،)1854‬دوريت ال�صغرية" (‪)1857‬‬ ‫"ق�صة مدينتني" (‪ ،)1859‬و"الآمال الكبرية"‬ ‫(‪ ،)1861‬و"�صديقنا امل�شرتك" (‪ .)1865‬كان ذا‬ ‫طاقة م�سعورة �إمنا خ�صبة‪ .‬كان يقول‪�":‬إن مل �أ�ستطع‬ ‫العدد‬

‫ال�سري ب�سرعة ونحو البعيد‪ ،‬النفجرتُ وهلكتُ ‪".‬‬ ‫�أهم جزء من كتاب "تومالني" هذا عن �سرية ديكنز‬ ‫هو النقد املل َهم ل��رواي��ات ديكنز‪ .‬تقول عن "البيت‬ ‫الكئيب"‪" :‬خميلته اجلريئة دائم ًا تعر�ض الآن م�شاهد‬ ‫قدمية وم�ستوحاة وك���أن �شك�سبري هو من كتبها‪� ".‬أما‬ ‫عن "ديفيد كوبرفيلد" فتقول‪" :‬حتفة مبنية على قدرة‬ ‫ديكنز على النب�ش يف جتربة حياته وحتويلها ومنحها قوة‬ ‫الأ�سطورة‪".‬‬ ‫كما �أن تومالني ك��ان��ت ق��د ن�شرت ع��ام (‪)1990‬‬ ‫�سرية حلياة ع�شيقة ديكنز املمثلة ال�سابقة �إلني ترنان"‬ ‫بعنوان"املر�أة اخلفية"‪.‬‬ ‫جاءت نهاية ديكنز فجائية و�صاعقة يف الثامن من‬ ‫حزيران (يونيو) ‪ ،1870‬يف منزله يف "غادز هيل"‪:‬‬ ‫"جل�س و�س�ألته جورجينيا هوغارث �إن كان ي�شعر‬ ‫باملر�ض ف�أجابها‪�( :‬أجل‪� ،‬أنا مري�ض جد ًا وطوال هذه‬ ‫ال�ساعة الأخ�ي�رة‪ ).‬قالت �إنها �سرت�سل وراء الطبيب‬ ‫فرف�ض وقال �إنه �سيتناول الغداء ثم يذهب �إىل لندن‪.‬‬ ‫بذل جهد ًا ليتغلب على النوبة التي �أ�صابته‪ ...‬ثم قالت‬ ‫له‪( :‬تعال وا�ضطجع) وكان �آخر ما قاله‪�( :‬أجل‪ ،‬على‬ ‫الأر�ض)‪.‬‬ ‫تقول تومالني‪" :‬كان الأث��ر الذي تركه ديكنز �أ�شبه‬ ‫بذلك الذي يخلفه نيزك‪".‬‬ ‫بقي �أن ن�س�أل كيف �ستتم مقارنة ال�سرية التي كتبتها‬ ‫كلري تومالني مع مرور الوقت ب�سري �أخ��رى كتلك التي‬ ‫كتبها كل من "بيرت �أكرويد ومايكل �ساليرت (‪،)2009‬‬ ‫وروبرت فريهري�ست (‪ ،)2011‬وكلها تعتمد على �سرية‬ ‫احلياة التي كتبها "جون فور�سرت" ون�شرها يف ثالثة‬ ‫جملدات بني عامي (‪)1872-1874‬؟ يبقى هذا ال�س�ؤال‬ ‫مفتوح ًا ومثري ًا لالهتمام‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪149‬‬


‫يوسا واإليروسية‬

‫دراسة‬

‫وفتـنـة الروايــة‬ ‫"األدب الخيالي ال يعيد إنتاج الحياة‪ ،‬بل هو‬ ‫ينفيها بأن يضع في مواجهتها خدعة توهم‬ ‫بأنها تحل محلها‪"..‬‬ ‫م‪ .‬ب‪ .‬يو�سا‬

‫يغو�ص الكاتب العاملي البريويف "ماريو بارغا�س يو�سا"‪،‬‬ ‫احلائز على جائزة نوبل يف الآداب لعام ‪ ،2010‬بتعانق‬ ‫الإبداع والنقد يف �شخ�صيته الروائية الفذة‪ ،‬يف عامل الرواية‬ ‫ببحوره ال�شا�سعة‪ ،‬وجتليات مبدعيها العظام الذين عربوا‬ ‫وع�َّب�وا عن الإن�سانية‪ ،‬من خالل رواي��ات كربى‪/‬‬ ‫التاريخ‬ ‫رَّ‬ ‫عالمات روائية ُكتبت يف خالل القرن الع�رشين‪ ،‬و�أثرت ت�أثرياً‬ ‫كبرياً يف م�سرية الفن الروائي‪ ،‬حيث تتج�سد من خالل تلك‬ ‫النماذج املقروءة بوعي الفنان املبدع‪ ،‬الر�ؤية الرئي�سية لهذا املنت‬ ‫الإبداعي النقدي‪ ،‬الذي يحوي بني �ضفتيه عدداً من النماذج‬ ‫الرا�سخة يف �ضمري تاريخ الأدب والرواية خا�صة‪ ،‬تعالج حالة‬ ‫من ح��االت االحتياج الإن�ساين متمثلة يف "الإيرو�سية"‪،‬‬ ‫والتي يرجع �أ�صلها كم�صطلح يف امليثولوجيا الإغريقية‪� ،‬إىل‬ ‫"�إيرو�س" وهو الإل��ه امل�س�ؤول عن الرغبة‪ ،‬واحلب واجلن�س‪،‬‬ ‫وعبِ َد ك�إله للخ�صوبة‪ ،‬والتي تبدو يف هذا ال�سياق كملمح‬ ‫ُ‬ ‫من املالمح الرئي�سة التي جتمع الب�رش‪ ،‬والتي يقدمها يو�سا يف‬ ‫مقدمة الطبعة العربية املرتجمة عن الإ�سبانية‪ ،‬والتي قام بها‬ ‫املرتجم التون�سي وليد �سليمان‪ ،‬لكتابه‪�" :‬إيرو�س يف الرواية"‪،‬‬ ‫قائ ً‬ ‫ال‪�" :‬إن هذه املقاالت هي‪ ،‬قبل كل �شيء‪ ،‬ر�سالة حب‬ ‫واعرتاف باجلميل لأولئك الذين ع�شت بف�ضل كتبهم‪ ،‬خالل‬ ‫فتنة القراءة‪ ،‬يف عامل جميل‪ ،‬متما�سك ومفاجئ وكامل‪،‬‬ ‫متكنت بف�ضله من فهم العامل ال��ذي �أعي�ش فيه ب�شكل‬ ‫�أف�ضل‪ ،‬ومن �إدراك كل ما ينق�صه �أو يكفيه ليكون قاب ً‬ ‫ال‬ ‫للمقارنة مع هذه العوامل الرائعة التي يخلقها الأدب العظيم"‪.‬‬

‫حممد عطية حممود‬ ‫م�صر‬

‫‪150‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ولوجاً �إىل عامل الإيرو�سية يف الكتابة الروائية‪،‬‬ ‫والتي تتباين حماورها من خالل الطرح الروائي‬ ‫لهذه االخ�ت�ي��ارات احلا�سمة يف ت��اري��خ رواي��ة القرن‬ ‫الع�شرين‪ ،‬وال��ذي ك��ان يعج مبزيد م��ن ال�صراعات‬ ‫والأيديولوجيات املتناحرة واحل��روب العظمى‪ ،‬من‬ ‫خ�لال �أح��داث��ه اجل���س��ام ال�ت��ي �ساهمت ب�شكل كبري‬ ‫يف تغيري خ��ري�ط��ة ال��وع��ي الإن �� �س��اين واالج�ت�م��اع��ي‬ ‫واالقت�صادي‪ ،‬ومن ثم النف�سي‪ ،‬كما عانقت مزيداً‬ ‫من املذاهب الفكرية والثقافية اجلديدة‪ ،‬والتقليدية‬ ‫الرا�سخة على حد ال�سواء‪.‬‬ ‫ف�م��ن خ�ل�ال "املوت يف البندقية" ل���ـ "توما�س‬ ‫مان"‪ ،‬ير�صد "ماريو بارغا�س يو�سا" ملمحاً مهماً‬ ‫م��ن مالمح الكتابة ال��روائ�ي��ة‪ ،‬خمتلطة بالتجربة‬ ‫الإن�سانية بها‪ ،‬على نحو م��ا ي�ق��ول‪" :‬بعد قراءتها‬ ‫و�إعادة قراءتها‪ ،‬ينتابنا دائماً �شعور مربك ب�أن �أمراً‬ ‫العدد‬

‫ملغزاً ق��د بقي يف الن�ص بعيداً ع��ن امل�ت�ن��اول‪ ،‬حتى‬ ‫بعد قراءته بت�أن �أك�ثر‪ .‬ثمة خلفية قامتة وعنيفة‪،‬‬ ‫�شبه منفرة‪ ،‬لها عالقة‪ ،‬بالقدر نف�سه‪ ،‬بروح البطل‬ ‫وبالتجربة امل�شرتكة للجن�س الب�شري‪ ،‬وه��ي نزعة‬ ‫خفية تظهر جم��دداً على نحو مفاجئ وتثري فينا‬ ‫ال��رع��ب‪� ،‬إن �ن��ا ك�ن��ا ن�ظ��ن �أن �ن��ا تخل�صنا منها نهائياً‬ ‫بت�أثري من الثقافة‪� ،‬أو الإميان‪� ،‬أو الأخالق العامة �أو‬ ‫جمرد الرغبة يف البقاء اجتماعياً"‪.‬‬ ‫ومت�ث��ل ال�ت�ج��رب��ة الإن���س��ان�ي��ة امل�غ��اي��رة امل�ع��ان�ق��ة ملا‬ ‫ي�ع�تري ح�ي��اة الب�شر ال���س��ري��ة �أو امل���س�ك��وت عنها يف‬ ‫جم�ت�م��ع ي�ب�ح��ث دوم � �اً ع��ن ال�ف���ض�ي�ل��ة وال�ت�ط�ه��ر يف‬ ‫ظاهره‪ ،‬و�إن ت��وارت خلفها العديد من االحتياجات‬ ‫النف�سية ‪ /‬االجتماعية‪ ،‬غ��اي� ًة مُثلى للكتابة التي‬ ‫تعانق تلك الأح ��وال التي تتباين وتختلف‪ ،‬لكنها‬ ‫قد تقع حتماً يف �إ�سار تلك التجارب التي يقع فيها‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪151‬‬

‫ب��ارغ��اس يوسا" ملمحًا مهمًا من مالمح الكتابة ال��روائ��ي��ة‪ ،‬مختلطة بالتجربة اإلنسانية بها‬

‫م��ن خ�ل�ال "ال��م��وت ف��ي ال��ب��ن��دق��ي��ة" ل��ـ "ت��وم��اس م����ان"‪ ،‬ي��رص��د "م��اري��و‬


‫تعالج رواية "المحراب" لـ وليم فوكنر‪ ،‬تلك العالقات التي يتشابك فيها الجنس مع اإلجرام مع السادية‬

‫الفرد‪ /‬الإن�سان فري�سة ً مل�شاعره املتناق�ضة وف�ضاء‬ ‫الواقع الذي يدور يف فلكه‪ ،‬وذلك على النقي�ض من‬ ‫الغاية الأخ ��رى ال�ت��ي مفادها �أن "العقل والنظام‬ ‫والف�ضيلة ت�ضمن رق��ي املجتمع الب�شري‪ ،‬ولكنها‬ ‫ن��ادراً ما تكفي لتحقيق �سعادة الأف��راد الذين تكون‬ ‫غ��رائ��زه��م املكبوتة با�سم اخل�ير االجتماعي دائما‬ ‫باملر�صاد"‪ ،‬ليربز هنا النموذج الإي��رو��س��ي‪ /‬ال�شاذ‬ ‫اج�ت�م��اع�ي�اً‪ ،‬وع�ل��ى م�ستوى ال � ُع��رف الإن �� �س��اين وم��ا‬ ‫ا�صطلح عليه من تقاليد عقيدية وموروثة‪ ،‬بح�ضور‬ ‫طاغ ٍ للعالقة غري الطبيعية بني بطل الن�ص والفتى‬ ‫اجلميل‪ ،‬الذي يجمعه به �شغف ورغبة‪ُ ،‬تعد من قبيل‬ ‫اخل��روج عن الن�سق ال�سليم للعالقات االجتماعية‬ ‫‪ /‬اجلن�سية ال���س��وي��ة‪ ،‬وم��ا ي�ن�ج��م م��ن ع��ر���ض تلك‬ ‫العالقة؛ للخروج بنتيجة ُتعد يف �صالح الف�ضيلة‬ ‫وال�ع�ف��ة واالل �ت��زام الأخ�لاق��ي ب��الأط��ر االجتماعية‬ ‫ال�صحيحة التي ال يت�أذى منها املجتمع وال ُي�ضار‪،‬‬ ‫وكما يقول‪" :‬ذلك هو الت�أويل االجتماعي للوباء‬ ‫املراوغ الذي ت�سلل‪ ،‬ب�شكل غري حم�سو�س‪� ،‬إىل املدينة‬ ‫اجلميلة ذات البحريات لكي يقو�ض �أ�س�سها‪ ،‬مثلما‬ ‫ت�سللت �سموم ال�شبق �إىل روح الأدي��ب ذي الأخ�لاق‬ ‫الرفيعة"‪.‬‬ ‫ذل��ك املنحى ال��ذي ي�شري �إليه يو�سا‪ ،‬يتطابق مع‬ ‫النهاية الكا�شفة لبطل الرواية التي قد يتحقق فيها‬ ‫من غاية الإن�سان‪ /‬الكاتب يف حياة �سليمة ال اعتوار‬ ‫ف�ي�ه��ا‪ ،‬تت�سق م��ع م��ا حت�ك��م ب��ه الأخ�ل��اق وال�ع�ق�ي��دة‬ ‫وال �ث �ق��اف��ة‪ ،‬وحت � ��اول ت��روي ����ض ال �ف��رد يف م��واج�ه��ة‬ ‫انحرافه‪ ،‬تعرت�ضها الأهواء العري�ضة القائمة على‬ ‫هام�ش املجتمع‪ ،‬واملتمثلة يف نزعة االنحراف‪ ،‬وذلك‬ ‫"�أن هذه املحاوالت التي تبقى دائما ن�سبية‪ ،‬ذلك �أنه‬ ‫مثلما يحدث له‪ ،‬تولد جمدداً بانتظام هذه الرغبة‬ ‫‪152‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫يف ا�ستعادة ال�سيادة الكلية املكبلة لدى الفرد با�سم‬ ‫التعاي�ش االجتماعي‪ ،‬للمطالبة ب�أن ال تكون احلياة‬ ‫ال و�سلماً وان�ضباطاً فقط‪ ،‬و�إمن��ا �أي�ضا جنوناً‬ ‫عق ً‬ ‫وعنفاً وفو�ضى عارمة"‪.‬‬ ‫يف حني تعالج رواية "املحراب" لـ وليم فوكرن‪ ،‬تلك‬ ‫العالقات التي يت�شابك فيها اجلن�س مع الإجرام مع‬ ‫ال�سادية‪ ،‬مع خليط من الأعمال املنحطة �أخالقياً‬ ‫واجتماعياً‪ ،‬حيث ير�صد هنا‪ ،‬يو�سا ـ ب��داي��ة ـ ً �سمة‬ ‫من ال�سمات املميزة لأدب فوكرن‪ُ ،‬يعد ت�أ�صي ً‬ ‫ال لفن‬ ‫الكتابة الروائية املغايرة‪ ،‬وكخربة من خربات ال�سرد‬ ‫ب�صورة ع��ام��ة‪" :‬يف ك��ل رواي ��ة‪ ،‬يكون ـ �أي الأ�سلوب‬ ‫الذي تكتب به وترتيب ظهور الأحداث امل�سرودة ـ هو‬ ‫ما يحدد ثراء �أو فقر‪ ،‬وعمق �أو تفاهة حكايتها‪� .‬أما‬ ‫لدى روائيني مثل فوكرن‪ ،‬فيكون ال�شكل حم�سو�ساً‬ ‫و�شديد احل�ضور يف ال�سرد‪� ،‬إىل درجة �أنه يلعب دور‬ ‫البطل ويت�صرف مثل �شخ�صية من حلم ودم‪ ،‬حيث‬ ‫يكون حا�ضراً فيه كواقعة‪ ،‬ال �أكرث وال �أقل من تلك‬ ‫العواطف‪� ،‬أو اجلرائم �أو ال�ك��وارث التي تطر�أ على‬ ‫حبكته"‪.‬‬ ‫وبحيث يع ِّرج على القيمة الأخالقية كمرتكز من‬ ‫مرتكزات العالقة ال�ضدية مع مفهوم الإيرو�سية‬ ‫املرتبط دائما باجلن�س املحرم‪ ،‬ال��ذي قد ي�صل �إىل‬ ‫زن��ا امل �ح��ارم‪ ،‬وحم��اول��ة مقاومتها ب��امل��د الأخ�لاق��ي‬ ‫ال��ذي ي��واج��ه ب��ه ال�ن�ق��اد برغبتهم غ�ير ال��واع�ي��ة يف‬ ‫تقدمي الأع��ذار الأخالقية التي يقول عنها يو�سا‪،‬‬ ‫�أنها "حم�ض حماولة افتداء لذلك العامل ال�سلبي‬ ‫الذي ت�صفه الرواية على نحو ال رجعة فيه"‪ ،‬قائ ً‬ ‫ال‬ ‫يف مو�ضع �آخر‪�" :‬إننا ن�صطدم هنا‪ ،‬مرة �أخرى‪ ،‬بهذا‬ ‫الإ��ص��رار املوغل يف القدم ال��ذي يبدو �أن الأدب لن‬ ‫يتحرر منه �أب��داً‪ ،‬على �أن تقوم الق�صائد والأعمال‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫متثل هذه الرواية‪ ،‬بالن�سبة ليو�سا‪ ،‬كما متثل للأجيال التي‬ ‫عا�صرت �إبداعات "هرني ميلر"‪ ،‬ذلك الوهج الذي يجعل منها‬ ‫جنة ً لل�شياطني‪ ،‬ومالذ ًا لراغبي انتهاك املقد�سات بجميع �أنواعها‬

‫الق�ص�صية‪ ،‬ب�شكل �أو ب ��آخ��ر‪ ،‬بوظيفة احل��ث على‬ ‫الف�ضيلة كي حتظى بقبول املجتمع"‪.‬‬ ‫ل�ي�برز ال�ت���س��ا�ؤل ن��اب�ع�اً م��ن قلب احل ��دث‪ /‬العمل‬ ‫الروائي الذي اختلطت فيه الأمور وعاث فيه ال�شر‬ ‫والف�ساد خمتلطاً بالعنف والعمل �ضد اجتاه احلياة‪،‬‬ ‫على نحو م��ا يجعل م��ن ال�ن�م��اذج امل�ط��روح��ة بالغة‬ ‫الت�شوه والوقوع يف براثن الرذيلة بتعمد مقيت؛ مما‬ ‫يدفع لعالمة ا�ستفهام كبرية ت�ستهدف احلياة التي‬ ‫تطفو على �سطحها ك��ل تلك ال �ق��ذارات والنتوءات‬ ‫ال�ت��ي ال ميكن �أن يج ِّملها ال �ف��ن‪ ،‬وال ي�سكت عنها‬ ‫�أبداً يف الوقت ذاته‪" :‬هل هذه القذارة املتحركة هي‬ ‫الإن�سانية؟ هل نحن هكذا؟! كال هذه هي الإن�سانية‬ ‫التي اخرتعها فوكرن‪ ،‬مع قدرة على الإقناع جتعلنا‬ ‫ن�صدق ـ على الأقل خالل قراءة كتابه الذي ي�شدنا‬ ‫حتى النهاية ـ �أننا ل�سنا �إزاء عمل متخيل و�إمنا �إزاء‬ ‫احلياة"‪ .‬غري �أن��ه ي�ؤكد وظيفة من وظائف الأدب‬ ‫اخل �ي��ايل‪ /‬امل�ت���ص��ور‪ ،‬ك�ب��دي��ل ع��ن ال��واق��ع �أو جممل‬ ‫ل��ه ع�ل��ى ن�ح��و م��ن حم��اول��ة �إدراك ‪ /‬حتقيق م��ا ال‬ ‫مي�ك��ن �إدراك � ��ه‪ ،‬وحم��اول��ة �إي �ج��اد �صيغة للتعاي�ش‪،‬‬ ‫ب�ين "املالئكة ال��ذي��ن ت��ري��ده��م املجموعة �أف��راده��ا‬ ‫احل�صريني و�أولئك ال�شياطني الذين ال تريدهم �أن‬ ‫يوجدوا �أي�ضاً‪ ،‬يف الوقت ذات��ه‪ ،‬مهما كانت الثقافة‬ ‫التي يولدون فيها رفيعة �أو مهما كانت �سيادة الدين‬ ‫يف املجتمع الذي يولدون فيه"‪.‬‬ ‫مدار ال�سرطان‪ ،‬وجماليات القبح‬ ‫متثل ه��ذه ال��رواي��ة‪ ،‬بالن�سبة ليو�سا‪ ،‬كما متثل‬ ‫ل�ل�أج�ي��ال ال�ت��ي ع��ا��ص��رت �إب��داع��ات "هرني ميلر"‪،‬‬ ‫ذل��ك ال��وه��ج ال ��ذي يجعل منها ج�ن��ة ً لل�شياطني‪،‬‬ ‫وم�لاذاً لراغبي انتهاك املقد�سات بجميع �أنواعها‪،‬‬ ‫العدد‬

‫وه��و االن�ت�ه��اك ال��ذي ي�شري �إل�ي��ه‪ ،‬بو�صفه على �أن��ه‬ ‫هو "الذي جعل الكتابة على م��دى التاريخ حتدياً‬ ‫ملا تقت�ضيه لياقة الع�صر‪ ،‬وتعكرياً لأن��واع التناغم‬ ‫االجتماعي وا�ستعرا�ضاً جماهريياً لكل القاذورات‬ ‫والأو� �س��اخ التي ي�سعى املجتمع ـ وه��و محُ ��ق يف ذلك‬ ‫�أحياناً ـ �إىل قمعها"‪.‬‬ ‫�إذن فالرهان هنا على قدرة الكاتب ‪ /‬الرواية على‬ ‫اخرتاق هذه الأج��واء لتح�صيل قيمة جمالية لهذا‬ ‫القبح على م�ستوى الكتابة الإب��داع�ي��ة‪ ،‬وجت�سيدا‬ ‫لكل ما قبيح من خ�لال منت املجتمع ال��ذي يزخر‬ ‫بنماذجه ال�شائهة م��ن خ�لال (وظ�ي�ف��ة) االنتهاك‬ ‫التي تخرتق كل �شيء ـ �إن ج��از لنا التعبري ـ حيث‬ ‫تعي�ش ال��رواي��ة يف الأج ��واء اخللفية ملدينة باري�س‬ ‫بوجهها احل�ضاري‪ ،‬فيما بني احلربني العامليتني‪،‬‬ ‫وح�ي��ث ت�ب�رز ت�ل��ك ال�ن�م��اذج ال��دال��ة ع�ل��ى االن�ح�لال‬ ‫والت�شرذم وال�ضياع‪ ،‬كوجه �آخر للعملة غري مرغوب‬ ‫فيه‪" :‬وهو هام�ش تتكون جغرافيته م��ن مواخري‬ ‫وح ��ان ��ات وف �ن ��ادق م���ش�ب��وه��ة و�أك� � ��واخ وب �ي��وت ق��ذرة‬ ‫ومطاعم بائ�سة‪ ،‬وحدائق و�ساحات و�شوارع جتتذب‬ ‫املت�شردين"‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة اىل احل�ضور الطاغي للمكان كخلفية‬ ‫ووع��اء ل�ل�أح��داث والتمازجات الإيرو�سية اخلفية‬ ‫وامل�ع�ل�ن��ة‪ ،‬ت�ب�رز قيمة امل�ع��اجل��ة ال�ف�ن�ي��ة وال��روائ�ي��ة‬ ‫لهذا العمل الذي تبدو فيه �سمات الراوي‪ ،‬كتقنية‬ ‫كتابة‪ ،‬و�سمة م��ن �سمات العمل ال��روائ��ي‪ ،‬يف هذا‬ ‫النموذج لـ هرني‪ ،‬وكمحرك رئي�س للعمل مت�شبع‬ ‫ب�ك��ل ع�ن��ا��ص��ره م��ن ح�ي��وان�ي��ة م�ف��رط��ة‪ ،‬و�شخ�صية‬ ‫مبتذلة تخرتق كل حمظور لت�سرب غ��وره واقعياً‬ ‫وروائياً " �إن الراوي ـ ال�شخ�صية يف مدار ال�سرطان‬ ‫ه��و االب�ت�ك��ار ال�ك�ب�ير ل�ه��ذه ال��رواي��ة و�أع �ظ��م جن��اح‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪153‬‬


‫�أي حنني تثريه هذه الدعوة �إىل الال م�س�ؤولية التامة و�إىل‬ ‫تلك الفو�ضى احلياتية واجلن�سية التي �سبقت ظهور املجتمع‬ ‫والقواعد واملمنوعات والقانون؟‬

‫يحققه هرني ميلر روائياً"‪.‬‬ ‫كما ي�شري �إىل �أن البنية ال��روائ�ي��ة ال�ت��ي متثلت‬ ‫ب�ه��ا ال ��رواي ��ة م��ا ه��ي �إال جم�م��وع��ة م��ن امل���ش��اه��د‪/‬‬ ‫ال �ل��وح��ات‪ /‬ال �ب��ورت��ري �ه��ات امل�ن�ف���ص�ل��ة ع��ن بع�ضها‪،‬‬ ‫والتي ال يجمعها �إال براعة الروائي الذي ن�سج تلك‬ ‫ال�شخ�صية الروائية‪ /‬الراوي العليم ‪ /‬ال�شاهد على‬ ‫تلك ال�صور املتالحقة �أو امل�ت�ج��اورة على نحو من‬ ‫�سماته القادرة على اخرتاق املحظورات‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫تهمي�ش ب��اق��ي ال�شخ�صيات الثانوية حل�ساب تلك‬ ‫الرنج�سية الطاغية على �أدائه و�شخ�صيته التي رمبا‬ ‫نبعت من ذات الكاتب وخ�صو�صياته‪ ،‬والتي تعتمد‬ ‫ه��ذه اخللخلة ال��روائ �ي��ة ال�ت��ي رمب��ا �أدت �إىل ع��دم‬ ‫الرتابط بني وحدات العمل الروائي �أحياناً‪� ،‬إال �أنها‬ ‫قد ت�ؤدي �إىل ذاك ال�شعور املج�سد للحالة التي يقول‬ ‫عنها يو�سا‪" :‬ويف املقابل‪ ،‬يجد القارئ نف�سه يف هذا‬ ‫الكتاب م�شدوداً منذ اجلملة الأوىل‪ ،‬ويتوا�صل �سحر‬ ‫الكلمات حتى النهاية‪� ،‬ضمن ه��ذا الت�أمل اخلا�شع‬ ‫الذي تنتهي فيه الرحلة �إىل �أقاليم احلياة الهام�شية‬ ‫وكهوف اجلن�س"‪.‬‬ ‫هنا ي�ق�ترن امل�ق��د���س باملدن�س على نحو م��ا يرى‬ ‫"جورج باتاي" م��ن �أن "التجربة الإي��رو� �س �ي��ة‬ ‫(ال�شبقية) تتوازى مع التجربة ال�صوفية يف كونهما‬ ‫في�ضني ال ت�ستوعبهما اللغة"‪ ،‬وذل ��ك م��ن حيث‬ ‫التقابل وامل�ف��ارق��ة ال�لاذع��ة ال�ت��ي جتعل م��ن قيمة‬ ‫اجل�ن����س‪� ،‬أح�ي��ان�اً‪ ،‬قيمة م��وازي��ة ل��ذاك التطلع �إىل‬ ‫الطهر والنقاء‪ ،‬وللإ�شارة �إىل هذا التجاور الطبيعي‬ ‫ال� ��ذي ي���س��م ال �ع�لاق��ة ب�ي�ن ال �� �ض��دي��ن‪ /‬امل�ت�ق��اب�ل�ين‪،‬‬ ‫فرمبا �أدت الطرق املعبدة طبيعيا بجاللها و�سموها‬ ‫ورقيها الفطري‪� ،‬إىل تلك اجل��زر الأخ��رى امل�ضادة‬ ‫لطبيعتها وانغما�سها يف املدن�س واملحرم‪ ،‬واملتوارية‬ ‫‪154‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫على امتداد بحر احلياة‪ ،‬تلميحاً �إىل الوجود الأزيل‬ ‫لتلك العالقات املت�شابكة املت�ضادة‪ ،‬ولكنه يعقد جدل‬ ‫ال�س�ؤال القائم‪ ،‬عرب املبدع املتابع والإن�سان يف فكر‬ ‫يو�سا ال��ذي رمب��ا ك��ان يبتغي دائ �م �اً‪ ،‬ويلتم�س تلك‬ ‫البقعة امل�ضيئة من النف�س التي تدمن الف�ضيلة كما‬ ‫تدمن �أ�سئلة الوجود‪ ،‬التي دائما ما تثري ال�شكوك‪:‬‬ ‫"ولكن‪ ،‬حتى واحل��ال تلك‪� ،‬أي حنني تثريه هذه‬ ‫الدعوة �إىل الال م�س�ؤولية التامة و�إىل تلك الفو�ضى‬ ‫احل�ي��ات�ي��ة واجلن�سية ال�ت��ي �سبقت ظ�ه��ور املجتمع‬ ‫والقواعد واملمنوعات والقانون؟"‪.‬‬ ‫الأدب العظيم مل يكن �إيرو�سي ًا فقط‬ ‫ك �م��ا ي�ل�م��ح م��ن خ�ل�ال ت�ع��ر��ض��ه ل �ن �م��وذج رواي ��ة‬ ‫"ح�سناء من روما" لـ "�ألربتو مورافيا"‪ ،‬بداية‬ ‫ً �إىل تلك ال�سمات التي قد تعرت�ض تلك املوجات‬ ‫امل�ت��دف�ق��ة م��ن الأدب الإي��رو� �س��ي اخل��ال ����ص‪ ،‬ال��ذي‬ ‫رمب��ا ك��ان مم� ً‬ ‫لا‪ ،‬باعتماده ـ بح�سب يو�سا ـ بالغة‬ ‫تنفذ فيها التنويعات املمكنة للتجربة الغرامية‬ ‫ب���س��رع��ة‪ ،‬وت�صبح م�ت�ك��ررة ب�شكل ميكانيكي؛ مما‬ ‫يعطي انطباعاً بالال واقعية‪ ،‬وبنزوات لي�س لها �أي‬ ‫عالقة بالتجربة املو�ضوعية‪ ،‬م�شرياً �إىل الواقعية‬ ‫ال �ت��ي جت �م��ع ه ��ذه ال ��رواي ��ة مب�لام��ح الإي��رو� �س �ي��ة‬ ‫ف�ي�ه��ا‪ ،‬لتختلط وت �ق��دم � �ص��ورة للحياة بواقعيتها‬ ‫وجتاوزاتها على حد ال�سواء‪ ،‬يف قوله‪" :‬بالرغم من‬ ‫�أن �شخ�صية �أدريانا متار�س احلب بكرثة‪ ،‬لأ�سباب‬ ‫مهنية �أو لأ�سباب �شخ�صية‪ ،‬ال يظهر اجلن�س �ضمن‬ ‫البهرج املهيب واملثري الذي يقت�ضيه ذلك اجلن�س‬ ‫الأدبي‪ ،‬ولكن باعتباره ن�شاطاً حمبطاً نف�سياً يربز‬ ‫فيه �أ�سو�أ ما يف رجال ون�ساء هذا العمل الروائي‪:‬‬ ‫ع�ن��ف ��س��ون��زون�ي��و‪ ،‬ه��واج����س �أ��س�ت��اري�ن��ا الأودي �ب �ي��ة‪،‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫املر�أة‪/‬الطفلة‬ ‫تقفز رواي��ة "لوليتا" لـ"فالدميري نابوكوف"؛‬ ‫ل �ت �ع �ق��د ع�ل�اق ��ات ج ��دي ��دة م ��ن ع�ل�اق ��ات امل �ف �ه��وم‬ ‫الإي��رو� �س��ي ل �ل��رواي��ة‪ /‬من��ط امل� ��ر�أة ‪ /‬احل �ي��اة‪ ،‬حيث‬ ‫ينفذ �إليها الكتاب م�ستنبطاً هذا احل�س املغاير الذي‬ ‫حتدثه الرواية كتابة ً وقراءة ً‪ ،‬حيث تبدو �أهميتها‬ ‫من كونها جتذر لظاهرة جديدة هي ظاهرة امل��ر�أة‬ ‫‪ /‬الطفلة التي تعي�ش التحرر فطريا‪ ،‬وتتجلى فيها‬ ‫مظاهر الفتنة والغواية دون علمها بذلك‪ ،‬والتي‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪155‬‬

‫إن األدب العظيم لم يكن أبدًا إيروسيًا فقط‪ ،‬وإن كنت أشك في وجود أدب ال يكون‪ ،‬من بين أمور أخرى‪ ،‬إيروسيًا أيضا‬

‫برودة قلب جاكوبو‪ ،‬وعقلية جيزيال التجارية"‪.‬‬ ‫ه�ن��ا ت�ب��دو الت�شكيلة ال�غ��ري�ب��ة ال�ت��ي تعقد ج��دل‬ ‫ال�ع�لاق��ة ب�ين امل��دن����س يف ف�ع��ل اجل�ن����س الإي��رو� �س��ي‪،‬‬ ‫وال �ت �ف��اع�لات النف�سية ال �ت��ي ت�ث�ير ه��ذه ال�ع�لاق��ات‬ ‫ال�شائكة التي تتناول مزيجاً من تعامالت العنف‬ ‫والتداعيات النف�سية وامل��ادي��ة لل�شخو�ص امل�شاركة‬ ‫يف واق��ع احل��دث‪ ،‬ال��ذي يحوي �إىل جانب �إيرو�سية‬ ‫بطلته‪ ،‬واقع هذه النماذج املجاورة‪� ،‬إال �أنه تتعادل فيه‬ ‫كل ال�سلبيات التي تعرت�ض املجتمع‪ ،‬وذل��ك ات�ساقا‬ ‫مع ر�ؤية يو�سا القائمة على قوله‪�" :‬إن الأدب العظيم‬ ‫مل يكن �أبداً �إيرو�سياً فقط‪ ،‬و�إن كنت �أ�شك يف وجود‬ ‫�أدب ال يكون‪ ،‬من بني �أمور �أخرى‪� ،‬إيرو�سياً �أي�ضاً"‪.‬‬ ‫م�شرياً �إىل ملمح من مالمح عبقرية الرواية‪ ،‬كدال‬ ‫على �أهمية الوجود الإن�ساين بت�شكيالته املتمايزة‬ ‫التي تثري طعم احلياة يف املنت الروائي‪ ،‬الذي يحتفي‬ ‫بالنف�س الب�شرية قدر احتفائه مبالمح الإيرو�سية‬ ‫التي ت�شكل جانباً �آخر من جوانب احلياة‪ ،‬والزم يف‬ ‫الآن ذات��ه‪ " :‬فرباعة مورافيا يف ر�سم البورتريهات‬ ‫النف�سية ت�صل يف هذه الرواية‪ ،‬مثلما هو ال�ش�أن يف‬ ‫روايتي "�أغو�سطينو" و"االمتثايل"‪� ،‬إىل قمتها"‪.‬‬

‫رمب��ا رم ��زت‪ ،‬بح�سب ي��و��س��ا‪ ،‬يف ال�لاوع��ي �إىل ث��ورة‬ ‫الأخ�ل�اق املعا�صرة‪ ،‬وال�ت��ي يقدمها بقوله‪" :‬وعلى‬ ‫نحو م��ا‪ ،‬تعترب رواي��ة لوليتا من الأح��داث املمهدة‬ ‫لع�صر الت�سامح اجلن�سي ومن م�سبباته ما يف ذلك‬ ‫��ش��ك‪ ،‬وع�ن��دم��ا ن�ق��ول "ع�صر ال�ت���س��ام��ح اجلن�سي"‬ ‫ف�إننا نعني تال�شي التابوهات بني مراهقي الواليات‬ ‫امل�ت�ح��دة و�أوروب � ��ا ال�غ��رب�ي��ة‪ ،‬ال ��ذي �سيبلغ �أ� �ش��ده يف‬ ‫�ستينيات القرن الع�شرين"‪.‬‬ ‫كما ير�صد عرب التق�صي املمتد لأح��داث الرواية‬ ‫تلك العالقات االجتماعية ال�شائهة التي تروم ذاك‬ ‫االنفراط و التدحرج نحو هاوية اجلن�س ـ �إن جاز لنا‬ ‫التعبري ـ يف �سلوك الرجل العجوز املاكر الذي يهوى‬ ‫تلك املر�أة ‪ /‬الطفلة‪ ،‬لوليتا من خالل ن�سق حياتي‬ ‫ي�شغف بالغواية‪ ،‬والتي ي�ضعها يف زاوية مفتوحة على‬ ‫الأحداث الروائية التي جعلت من جميع ال�شخو�ص‬ ‫امل�ج��اورة دم��ى متحركة‪�" :‬أكرث م��ن غ��واي��ة الرجل‬ ‫املاكر للحورية ال�صغرية‪ ،‬قد تكون �أك�بر وقاحة يف‬ ‫ال��رواي��ة هي التدين �إىل م�ستوى الدمى املتحركة‬ ‫ال�سخيفة ال��ذي بلغته ال�شخ�صيات الإن�سانية التي‬ ‫تظهر يف الرواية"‬ ‫حيث ت�أتي النتائج االجتماعية القا�سية لتحوالت‬ ‫وتطورات تلك الرغبات‪ ،‬دائماً �ضد م�صلحة مناذج‬ ‫ال��واق��ع املحيط‪ ،‬مما يح َّولهم �إىل دم��ى تنتفي من‬ ‫خاللها �أدميتهم‪ ،‬ويف هذا �إ�شارة �إىل ق�سوة الواقع‬ ‫امل��ادي ال��ذي ُيلقي بظالله على العالقات ال�شائهة‬ ‫التي تغلفه بتوايل جرائم نف�س و�صراعات �أخ��رى‬ ‫تكون من جريرة الفعل الفا�ضح املتدين يف �أ�سا�سه‬ ‫ال�شهواين املتعلق باالجتاه الإيرو�سي يف احلياة‪..‬‬ ‫وكما متتد النظرة التقنية للكتابة لتحط جدلية‬ ‫الربط بني فكر ال��روائ��ي ل��دى نابوكوف‪ ،‬وروائ��ي‬


‫ل��س��ت م���ت���أك���دًا م��م��ا إذا ك����ان ن���اب���وك���وف ق���د اخ���ت���رع ه����ذه ال��ح��ك��اي��ة ل���غ���اي���ات رم���زي���ة‪،‬‬ ‫ول������دى ان���ط���ب���اع ب���أن���ه ك����ان ل���دي���ه‪ ،‬م��ث��ل��م��ا ل����دى ب���ورخ���ي���س‪ ،‬ش���ك وازدراء ل��ل��ح��داث��ة‬ ‫ّ‬

‫مثل بورخي�س‪ ،‬يف ه��ذا املقام‪ ،‬ح��ول ماهية تقدمي‬ ‫ه��ذه ال� ��ر�ؤى امل�ت��داخ�ل��ة ال �ت��ي ت���س�ت�ه��دف املجتمع‪،‬‬ ‫مبع�ضالته وم�شكالته امل�ؤرقة‪ ،‬والتي رمبا دفعت‬ ‫�إىل �إع�م��ال الفكر ال��رم��زي وال��داليل‪ ،‬كتقنية من‬ ‫تقنيات الإب��داع ال��روائ��ي ـ كما يقول يو�سا ـ �ضمن‬ ‫�أ�سئلة الكتابة يف ه��ذه احللقات الروائية املت�صلة‬ ‫املنف�صلة‪ ،‬متعام ً‬ ‫ال معها بفكر النفي لهذا العار�ض‬ ‫ال �ف �ك��ري �أو ال �ت ��أوي �ل��ي ل�ل�ن����ص ال ��روائ ��ي ل��دي�ه�م��ا‪:‬‬ ‫"ل�ست مت�أكداً مما �إذا كان نابوكوف قد اخرتع هذه‬ ‫احل�ك��اي��ة ل�غ��اي��ات رم��زي��ة‪ ،‬ول��دىّ ان�ط�ب��اع ب��أن��ه كان‬ ‫لديه‪ ،‬مثلما لدى بورخي�س‪� ،‬شك وازدراء للحداثة‬ ‫واحلياة التي كانا ينظران �إليها ب�سخرية وم�سافة‬ ‫م��ن ج��زي��رة الأف �ك��ار وال�ك�ت��ب وال �ن��زوات ال�ت��ي كانا‬ ‫منقطعني فيها عن العامل ومن�صرفني عنه بف�ضل‬ ‫�أل�ع��اب الفكر املذهلة التي كانت ت�صهر ال��واق��ع يف‬ ‫متاهة من الكلمات وال�صور الرباقة"‪.‬‬ ‫اجل�سد حزين للأ�سف‬ ‫يف رواي ��ة "بيت اجل�م�ي�لات النائمات" ل�ل��روائ��ي‬ ‫الياباين "يا�سوناري كاواباتا"‪ ،‬تبدو عالقة تنوع‬ ‫جديد حتكم امل�سار الإيرو�سي لروايات هذا الكتاب‪،‬‬ ‫حيث ترتكز ال��رواي��ة �إىل معاجلة حالة م��ن امل��وات‬ ‫اجل�سدي لدى العجائز الكبار الذين يفقدون لذة‬ ‫احل�ي��اة وفحولتها العري�ضة‪ ،‬التما�سا للذة بديلة‬ ‫قد ت�شعل احلياة مرة �أخ��رى وتنفخ النار يف الرماد‬ ‫امل �ه��دور‪ ..‬بهذا املعنى ي�سعى الكتاب جل��دل عالقة‬ ‫تنا�ص ب�ين امل ��وروث ال�ت��ورات��ي يف ق�صة امل�ل��ك داود‪،‬‬ ‫واحلالة التي يعي�شها بطل الن�ص الياباين (�إغو�شي)‬ ‫يف م �ن��زل ال�ف�ت�ي��ات اجل �م �ي�لات �أو ف�ت�ي��ات ال�ترف�ي��ه‬ ‫(اجلي�شا) املتعارف عليهن يف املجتمع الياباين‪ ،‬مع‬ ‫‪156‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫معنى الأ�سطورة القدمية التي تقول‪" :‬منذ القدم‪،‬‬ ‫حاول ال�شيوخ �أن ي�ستخدموا رائحة الفتيات ك�إك�سري‬ ‫لل�شباب"‪ .‬ومن هذه الزاوية التي تفتح باب الن�ص‬ ‫ع�ل��ى م���ص��راع�ي��ه لتلقي ف �ك��رة ال�ل�ع��ب ع�ل��ى هام�ش‬ ‫اجلن�س �أو الإي�ح��اء به على نحو مما قد يعيد هذه‬ ‫الفورة ال�سابقة للج�سد امليت‪ ،‬ويف هذا تبدو املفارقة‬ ‫ال�ت��ي ت�شعل ج��دل العالقة ب�ين ال��واق�ع��ي واملتخيل‬ ‫يف مفهوم جديد من مفاهيم الإيرو�سية التي تكاد‬ ‫تكون منغلقة على �أ�سرارها‪ ،‬لينتزع الكاتب هنا رمبا‬ ‫تعريفاً جديداً لها‪ ،‬حيث تتمثل بـ‪" :‬نزوة وم�سرح‪،‬‬ ‫و�إع �ل��اء ل�ل�غ��ري��زة اجل�ن���س�ي��ة يف ح�ف��ل �أب �ط��ال��ه هم‬ ‫الأ�شباح الغام�ضون للرغبة الذين يحركهم اخليال‬ ‫ويتوق �إىل جت�سيدهم‪ ،‬بحثاً عن لذة عابرة هي �أ�شبه‬ ‫ب�سراب يبدو قريبا ولكنه ال ميكن �إدراكه �أبداً"‪.‬‬ ‫وحيث تلعب الإيرو�سية فيها هذا الدور الأ�سا�سي‪،‬‬ ‫م��ن خ�ل�ال ب��راع��ة روائ �ي��ة ف ��ذة ت�ستند �إىل امل��زي��د‬ ‫م��ن امل �ف��ردات وال��دق��ائ��ق املاثلة للعيان‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫ال عن‬ ‫دقة و�صف اجل�سد الأنثوي والرغبات الطائ�شة �أو‬ ‫الأحا�سي�س الرقيقة التي توقظها‪ ،‬وهو من �أكرث ما‬ ‫يجعل العمل الروائي م�ؤثراً‪ ،‬وهو من �أكرث عنا�صره‬ ‫�إلغازاً وتلميحاً‪ ،‬من خالل ت�صوير حلظة االنت�شاء‬ ‫التي يعي�شها بطل الرواية‪ ،‬مع واقعه املحيط خالل‬ ‫نومه �إىل جوار الفاتنة ال�صغرية‪ ،‬وي�شعره بالرغبة‬ ‫كما ي�سمع �أزيز النحل‪ ،‬وبح�سب تعبري يو�سا‪ ،‬الذي‬ ‫يتابع‪ " :‬كثريا ما توحي بجو من ال�شهوانية الطاغية‬ ‫حيث كل الأ�شياء املحيطة‪ :‬الغطاء الكهربائي‪ ،‬لوحة‬ ‫امل�شهد اخلريفي‪� ،‬ستائر املخمل القرمزية وحتى‬ ‫تالطم الأم��واج البعيدة‪ ،‬تطغى عليها م�سحة من‬ ‫ال�شهوانية والرغبة"‪.‬‬ ‫ذل ��ك �أن اجل �ن ����س‪ ،‬مب� �ف ��ردات وج� � ��وده‪ ،‬وع�م�ل�ي��ة‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫االف �ت �ق��اد امل�ق��اب�ل��ة ل�ه��ذا ال��وج��ود‪،‬‬ ‫والتي تعانيها هذه ال�شريحة من‬ ‫العجائز‪ ،‬لهو املحك الذي يظهر‬ ‫م��ا ه��و ب�شع وح��زي��ن ومقب�ض يف‬ ‫ال �� �ش �ي �خ��وخ��ة‪ ،‬م ��ع ح �� �ض��ور �شبح‬ ‫امل��وت مقرتنا بالعجز واخلمول‪،‬‬ ‫وب��امل�ق��ارن��ة ال�ظ��امل��ة ب�ين م��ا تهبه‬ ‫احلياة لتلك الفتيات من ن�ضارة‬ ‫وتفتح و�صالبة وم��رون��ة فائقة‪،‬‬ ‫وم � ��ا ت �� �ض��ن ب� ��ه ع �ل ��ى ال �ع �ج��ائ��ز‬ ‫ل � �ي � �� � �ص �ي�روا ك� �ق� �ط ��ع ال� �ق� �م ��ا� ��ش‬ ‫املكرم�شة �أو ي�صلوا �إىل درج��ة الوعي احل��اد مبدى‬ ‫االنحطاط اجل�سدي واق�تراب املوت الذي يت�سحب‬ ‫على كل الأع�ضاء‪.‬‬ ‫والأقرب �إىل هذه احلالة هو التعبري مب�شهد موت‬ ‫�أح��د العجائز‪ ،‬متوهما بن�صره على احل�ي��اة بتلك‬ ‫العملية الإيرو�سية املتخيلة‪ ،‬وهو من قبيل ا�ست�شراف‬ ‫احل��ال القادمة من خ�لال تعاقب الأي��ام وال�سنني‪،‬‬ ‫لتكتمل الدورة التي ال منا�ص من �إغالقها يوماً ما‪،‬‬ ‫والتي تق�ضي على الوهم بحقيقة امل��وت‪ ،‬املناق�ضة‬ ‫للحياة ذاتها‪" :‬ولكن الوهم ميكن �أن يتال�شى مع‬ ‫امل��وت‪ ،‬مثلما ح��دث م��ع ف��وك��ورا‪ ،‬ذل��ك ال�شيخ ال��ذي‬ ‫انتقل �إىل العامل الآخ��ر �أثناء �إح��دى ليايل ال�شبق‬ ‫املتخيل هذه"‪ .‬وت�صل الرواية �إىل مدى من النجاح‬ ‫يف مقاربة املفهوم الإيرو�سي يف هذا الن�سق احلياتي‬ ‫املغاير‪ ،‬الذي يجعل من الإيرو�سية‪ " :‬لعبة مثرية‬ ‫وخ�ط�يرة ميكنها �أن ت�ثري الإن���س��ان ومتنحه نوعا‬ ‫من االمتالء‪ ،‬كما ميكن �أن جتعله يدمر الآخرين‬ ‫ويدمر نف�سه"‪.‬‬ ‫ك �م��ا ت���ص��ل ب�ب�راع��ة ال ��روائ ��ي يف ب �ي��ان احلقيقة‬ ‫العدد‬

‫الإن���س��ان�ي��ة الثابتة املت�سقة م��ع ه��ذا ال�ت��وق ملعانقة‬ ‫املتخيل واملنتهك‪ ،‬حني يفكر الروائي بوعي حاد يكاد‬ ‫يتماهى مع وعي ال�شخ�صية‪ ،‬ا�ستنادا �إىل مقولته‪:‬‬ ‫"فكل ن��وع م��ن ال�ل�ا �إن �� �س��اين ي�صبح م��ع ال��زم��ن‬ ‫�إن�سانياً‪ .‬ويف ظالم العامل توجد كل �أنواع االنتهاكات‬ ‫م�سجونة"‪ .‬ليعود يو�سا طارحاً �س�ؤال الرواية و�س�ؤال‬ ‫القراءة الإبداعية الثاقبة‪�" :‬أهي املفارقة املتمثلة يف‬ ‫�أن اجلن�س‪ ،‬م�صدر اللذة الأك�ثر غنى بالن�سبة �إىل‬ ‫الإن���س��ان‪ ،‬ه��و �أي���ض�اً بئر مظلمة مليئة ب��الإح�ب��اط‬ ‫والعذاب والعنف؟ كيف ال ت�ستطيع احل�ضارة‪ ،‬يف ما‬ ‫يتعلق بهذه امل�س�ألة‪� ،‬أن تتخل�ص من الهمجية"‪.‬‬ ‫خامتة‬ ‫يقول ماريو بارغا�س يو�سا‪ ،‬يف �أحد حواراته‪:‬‬ ‫" لقد كنت تلميذاً جلان بول �سارتر الذي كان‬ ‫يعترب الكلمات �أف �ع��ا ًال‪ ،‬و�أن الأدب ميكن �أن يغري‬ ‫احلياة‪ .‬ال ت��زال ه��ذه الأف�ك��ار �صاحلة لغاية اليوم‪.‬‬ ‫ث�م��ة م�ت�ع��ة ك �ب�يرة يف ال �ق ��راءة ل�ك��ن ال�ك�ل�م��ات التي‬ ‫جندها يف الكتب هي �ألغام �صغرية موجهة لتفجر‬ ‫الوعي والذاكرة والت�صرفات"‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪157‬‬


‫مدار وذاكرتان‬

‫د‪ .‬حممد فاحت زغل‬

‫اخلراط‬ ‫ادوارد‬ ‫ّ‬

‫و‬

‫رواية «رامة والتنين»‬ ‫‪158‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫مي�شال بوتور‬

‫رواية«التح ّول»‬


‫منظور إبداعي جديد في المشهد الروائي‬

‫غواية ال�سرديات و�إعادة كتابة الواقع‬

‫"الحساسية الجديدة"‬

‫ومل يكن ذلك بغائب عن بالنا‪ ،‬ونحن ن��روم قراءة‬ ‫امل�تن ال��روائ��ي للكاتبني املبدعني‪ .‬لكنّ �ضيق م�ساحة‬ ‫القول ح ّد من �أفق تعاملنا مع هذا املنت‪� ،‬آملني يف حتقق‬ ‫م�ساحة �أكرث ات�ساع ًا لتحليلنا لهذا املنت الإبداعي الذي‬ ‫يظ ّل عالم ًة بارز ًة يف �سريورة الإبداع الروائي العربي‪.‬‬ ‫ي��رى مي�شيل بوتور �أن ال��روائ��ي لي�س هو َم��ن ي�ضع‬ ‫الرواية‪ ،‬بل الرواية هي التي ت�ضع نف�سها بنف�سها‪.‬‬ ‫وعن تعريفه للرواية اجلديدة وكيفية كتابتها يقول‪:‬‬ ‫ال �أ�ستطيع �أن �أب��د�أ بكتابة رواي��ة �إال بعد �أن �أك��ون قد‬ ‫در�ست تنظيمها �شهور ًا عديدة‪ ،‬واالبتداء من اللحظة‬ ‫التي �أجدين فيها مالك ًا املخططات ال�ضرورية التي تبدو‬ ‫يل فاعليتها معربة وكافية بالن�سبة �إىل املنطقة التي‬ ‫العدد‬

‫ا�ستدعتني يف بادئ الأمر‪ .‬و�إذا ما ت�سلحت بهذه الآلة‬ ‫وبهذه البو�صلة‪ ،‬وبهذا املخطط امل�ؤقت‪ ،‬ف�إين �أبد�أ رحلتي‬ ‫التنقيبية و�أبد�أ املراجعة‪.‬‬ ‫�أم��ا �إدوارد اخل��راط فينظر �إىل الكتابة الروائية‬ ‫على �أنها اقتحام احلقيقة‪�" :‬أعرف �أنني ال �أملك �إال‬ ‫الكتابة �سالح ًا للتغيري‪ ..‬تغيري ال��ذات‪ ،‬وتغيري الآخر‪،‬‬ ‫وتغيري الوطن‪ ،‬وتغيري العامل‪ ،‬رمبا‪� ،‬إىل �أف�ضل رمبا‪..‬‬ ‫�أو �أدف أ� يف برد الوح�شة والوحدة‪� ..‬أو �أروح يف حر العنف‬ ‫واالختناق‪ ..‬لأنني �أمتنى �أن �أقتحم مقدار خطوة يف‬ ‫�ساحة احلقيقة التي ال حدود لها‪ ،‬لأنني �أمتنى �أن ترتفع‬ ‫معرفتي ومعرفتكم بالذات وبالعامل ولو كان ذلك مقدار‬ ‫قامة‪..‬‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪159‬‬

‫استحدث الخراط على المستوى اللغوي كتابة روائية جديدة‬ ‫سماها‪" :‬الحساسية الجديدة"‪ ،‬مستقاة من المدرسة الفرنسية‬

‫ال تكتمل الر�ؤي ُة التحليلي ُة والنقدي ُة لروايتي "رامة والتنني" لإدوارد اخلراط‪،‬‬ ‫ورواية "التحول" ملي�شال بوتور من دون �أن حترتق �أ�صابعنا يف امل�رشوع‬ ‫الروائي لكل منهما‪ ،‬لأنهما ميثالن تياراً جديداً ظهر يف الرواية العربية ممثلة‬ ‫ب�إدوارد اخلراط والرواية الأوروبية التي قامت على يد مي�شال بوتور‪ ،‬وهو‬ ‫ما �أطلق عليه م�صطلح "احل�سا�سية اجلديدة"‪ .‬وذلك �ضمن مقاربة �شاملة‬ ‫للوقوف على خ�صائ�ص البعد الداليل واجلمايل وعنا�رص اخلطاب الروائي‬ ‫من خالل م�ستويات ال�رسد والزمن وال�صيغة وال�شخ�صيات‪ ،‬وم�ستويات‬ ‫ت�شخي�ص اللغة‪ .‬ذلك ل ّأن مثل هذه القراءة ال�شاملة واملتكاملة هي القادرة‬ ‫وحدها على الك�شف عن روائية �إدوارد اخلراط ومي�شال بوتور وخ�صائ�ص‬ ‫الكتابة عندهما‪ ،‬مفهوم ًا و�أدا َة ٍ‬ ‫فعل ور�ؤي ًة �إىل العامل والذات‪.‬‬


‫ادوارد الخراط‪:‬‬ ‫الكتابة الروائية هي اقتحام الحقيقة‪،‬‬ ‫وأعرف أنني ال أملك إال الكتابة سالحًا‬ ‫للتغيير‬

‫تناول اخلراط يف رواياته عرب "احل�سا�سية اجلديدة"‬ ‫مو�ضوعات كثرية ومتنوعة منها‪� :‬صورة الذات‪� ،‬صورة‬ ‫الآخ����ر‪ ،‬احل���ب وف��ق��دان احل���ب‪ ،‬احل��ل��م‪ ،‬ال��ك��اب��و���س‪،‬‬ ‫الأ�ساطري‪ ،‬الطفولة‪ ،‬اللغة‪ ،‬املكان‪ ،‬الهذيان‪ ،‬القلق‪،‬‬ ‫احلرية‪ ،‬الغربة‪ ،‬املوت‪ ،‬وغريها الكثري مما يحتاج �إىل‬ ‫مقاربات نقدية �أكرث عمق ًا ليظهر مدى ما قدمه اخلراط‬ ‫للرواية العربية من قيمة م�ضافة يف املنت الروائي العربي‬ ‫املعا�صر‪.‬‬ ‫ينه�ض البنا ُء ال�سردي يف رواية "رامة والتنني" حول‬ ‫جتربة احلب ال�ضائع‪ ،‬التي يعي�شها مثقف م�صري قبطي‬ ‫تكونت ثقافته باعتباره (قبطي ًا) ينظر �إىل الأ�شياء‪،‬‬ ‫و�إىل تاريخ جمتمعه ولغته‪ ،‬من منظور فهمه اخلا�ص‬ ‫لتاريخه الذاتي‪ ،‬عرب عالقة خا�صة جتمعه مع رامة تلك‬ ‫املر�أة الإلهية العرافة الطفلة ال�ضاحكة احلارة التع�سة‪،‬‬ ‫العابثة الداعرة القدي�سة العذراء الأبدية"‪.‬‬ ‫ولهذا يراها "ميخائيل" غريبة‪� ،‬أو �أنها لي�ست من‬ ‫�ساللة الب�شر‪ ،‬لكن رامة ام��ر�أة من حلم ودم‪ ،‬فكيف‬ ‫ر�سم ال�صويف هذا اجل�سد‪ ،‬كما يراها ج��زء ًا منه‪ ،‬ال‬ ‫انف�صال له عنها‪.‬‬ ‫ه��ذه املمر�ضة التي تقر�أ اللغات القدمية‪ ،‬وتكتب‬ ‫ال��رواي��ات‪ ،‬وتعمل يف ترميم الآث��ار‪ ،‬وتطوي ع�شاقها‪.‬‬ ‫توم�ض يف حياة "ميخائيل" وتختفي‪ ،‬فيهتف‪�" :‬أحبك‬ ‫حب ًا كام ًال‪ ،‬نهائي ًا‪ ،‬دون حتديد"‪ ،‬وير�سم ميخائيل‬ ‫هذا احلب كجوهر ومطلق‪ .‬ومنذ هذه البداية �سينفي‬ ‫ميخائيل ‪� -‬ش�أن ال�صويف‪� -‬أن يكون احلب من قبيل‬ ‫الكفاءة‪� ،‬أو عدمها‪ ،‬فلي�س فعل احلب هو املو�ضوع‪ ،‬بل‬ ‫احلب نف�سه‪.‬‬ ‫يقول ميخائيل خماطب ًا رام��ة‪" :‬املعرفة املحقة هي‬ ‫معرفة من �أحب‪ .‬هذه هي املعرفة‪ ،‬فيم تفكرين؟ كيف‬ ‫حت�سني؟ م��اذا تقر�أين؟ مب حتلمني؟ كيف تتنف�سني‬ ‫‪160‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫حتى؟ ماخطاباتك‪ ،‬ر�ؤاك‪ ،‬هذياناتك املخبوءة؟ ماذا‬ ‫يف حقيبتك؟ لي�س هذا ف�ضو ًال‪ ،‬واملعرفة لي�ست امللكية وال‬ ‫ال�سيطرة‪ ،‬هي احلق‪ ،‬وحدها‪ ،‬هي احلب"‪.‬‬ ‫و�إذا كانت عالقة رامة مبيخائيل‪ ،‬عالقة تناق�ض يف‬ ‫ميدان الع�شق‪ ،‬ف�إنهما يوغالن باملقابل يف ع�شق عميق‪،‬‬ ‫�إنه ع�شق الوطن‪.‬‬ ‫ا�ستحدث اخلراط على امل�ستوى اللغوي كتابة روائية‬ ‫جديدة �سماها‪" :‬احل�سا�سية اجلديدة"‪ ،‬م�ستقاة من‬ ‫املدر�سة الفرن�سية‪ ،‬وابتكر مفهوم ًا �آخر يف و�صف انفتاح‬ ‫الن�ص الروائي َو َ�س َم ُه بـ‪" :‬الكتابة عرب النوعية"‪ ،‬كما‬ ‫ا�ستحدث م�صطلح "منطقة ما بني الذاتيات" ليقدم‬ ‫من خالله �سريته الذاتية روائي ًا‪ ،‬يف ت�ساوق مع م�سارات‬ ‫الواقع امل�صري‪ ،‬بكل ما يتخلله من �أح��داث ووقائع يف‬ ‫ن�سق جمايل مميز‪ ،‬ومن زوايا فل�سفية متعددة الدالالت‬ ‫والأبعاد‪.‬‬ ‫كتابات اخلراط ال�سردية‪ ،‬تقوم على ا�ستح�ضار قوي‬ ‫لعوامل الأ�سطورة واحللم والرمز مع ًا‪ ،‬بحيث يتم �صهر‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ميشال بوتور‪:‬‬ ‫الروائي ليس هو َمن يضع الرواية‪ ،‬بل‬ ‫الرواية هي التي تضع نفسها بنفسها‬

‫كل ذلك يف بوتقة الكتابة ال�سردية‪ ،‬من منظور �إبداعي‬ ‫له فرادته ومتيزه يف امل�شهد الروائي العربي‪ .‬وهذا النوع‬ ‫من الكتابة اجلديدة فتح جم��رى جديد ًا يف الرواية‬ ‫العربية‪ ،‬وانتهج ح�سا�سية فنية مغايرة ملا كان م�ألوف ًا من‬ ‫قبل مما �أطلق عليه فيما بعد بـ"احل�سا�سية اجلديدة"‪.‬‬ ‫�أما مي�شال بوتور الأديب الفرن�سي املعروف‪ ،‬فقد كان‬ ‫�صاحب ر�ؤي��ة فل�سفية و�أدبية �شبيهة برامبو‪ ،‬وفيكتور‬ ‫هوجو‪ ،‬وهو متعدد املواهب فهو �شاعر‪ ،‬وباحث‪ ،‬وناقد‪،‬‬ ‫وفنان‪ ،‬وم���ؤرخ‪ ،‬وم�صور فوتوغرايف‪ ،‬ويعد �أح��د رواد‬ ‫الرواية اجلديدة التي �شاعت بني اعوام ‪ 1939‬و‪،1970‬‬ ‫حيث خا�ض مع جمموعة من الروائيني الفرن�سيني‬ ‫�أمثال‪ :‬كلود �سيمون‪ ،‬وناتايل �ساروت‪ ،‬و�آالن روب‪ ،‬جتربة‬ ‫�أدبية �سموها "الرواية الفرن�سية اجلديدة"‪.‬‬ ‫مل يقت�صر نتاج بوتور على الأعمال الروائية �إذ كتب‬ ‫العديد من الدرا�سات النقدية الفنية‪ ،‬وله م�شاركات‬ ‫عديدة يف املجاالت التي ذكرنها �آن��ف��ا ً‪ ،‬وح�صل على‬ ‫عدة جوائز‪ ،‬منها‪ :‬جائزة فينيون عن كتابه "ا�ستخدام‬

‫العدد‬

‫الوقت" وجائزة النقد وغريها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ت�ستقل ال�شخ�صية املركزية والوحيدة تقريبا يف‬ ‫رواية "التحول" ذات �صباح القطار ال�سريع (باري�س –‬ ‫روما)‪ ،‬وهدفه مفاج�أة ع�شيقة له يف روما حيث يحمل‬ ‫معه لها خرب �إيجاد وظيفة متكنهما من العي�ش مع ًا يف‬ ‫باري�س �إذ يف نيته �أن ينف�صل عن زوجته و�أوالده حمدث ًا‬ ‫يف هذا حتو ًال كبري ًا يف حياته الباهتة والكئيبة‪ ،‬ويف �أثناء‬ ‫الطريق ي�صبح هذا الهارب من واقعه لعبة ملجموعة من‬ ‫الذكريات املبهمة‪.‬‬ ‫ت��دور �أح��داث ال��رواي��ة التي ي�سردها بوتور يف وقت‬ ‫ق�صري ال يتجاوز ‪� 24‬ساعة‪ ،‬ويف ف�ضاء مغلق هو عربة‬ ‫القطار‪ ،‬وهذا الف�ضاء ال تطر�أ عليه �إال تغيريات طفيفة‪،‬‬ ‫غري �أنه يتذكر �أي�ض ًا رحالت عديدة قام بها ي�أخذ يف‬ ‫تذكرها‪.‬‬ ‫تبدو رواي��ة بوتور �سرد ًا لأزم��ة ال تتجاوز مدتها ‪24‬‬ ‫�ساعة م�سرحها عربة ال�سكة احلديد‪ ،‬وبطلها رجل‬ ‫متزوج م�ؤم ًال �أن العي�ش مع ع�شيقة بد ًال من العي�ش مع‬ ‫زوجة قد تتيح له حياة �أف�ضل؛ لذا ف�إن بوتور �أن�ش�أ روايته‬ ‫على خلفية نف�سية مرتابطة متام ًا‪ ،‬وهو بني امر�أتني‪:‬‬ ‫امر�أة ت�شيخ يومي ًا‪ ،‬و�أخرى كانت تبدو له قبل ليل الرعب‬ ‫يف عربة القطار ك�أنها ال�شباب الدائم‪ ،‬وهو �أي�ض ًا بني‬ ‫مدينتني (باري�س وروما)‪.‬‬ ‫عربة تقل �أنا�س ًا متنوعني جمعهم القدر كرفاق طريق‬ ‫ي�شكلون خمت�صرا للب�شرية‪ ،‬وي�شكلون ف�ضاء الرواية‬ ‫حيث يتوقف الكاتب عند الكثري منهم‪.‬‬ ‫تنبع �أح���داث ه��ذه ال��رواي��ة ال�شديدة الواقعية من‬ ‫العجائبي مرتبطة باحلالة الفيزيائية �أو باحلالة‬ ‫الذهنية لل�شخ�صية وت�صبح معاد ًال لق�صتك �أنت �أيها‬ ‫القارئ عندما يتحدث الكاتب مبا�شرة �إىل القارئ من‬ ‫�أنت؟ �إىل �أين تذهب؟ عماذا تبحث؟ من حتب؟ ماذا‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪161‬‬


‫أن��ش��أ ب��وت��ور رواي��ت��ه ع��ل��ى خلفية نفسية م��ت��راب��ط��ة ت��م��ام��ًا‪ ،‬وه���و ب��ي��ن ام��رأت��ي��ن‪ :‬ام����رأة تشيخ‬ ‫ي��وم��ي��ًا‪ ،‬وأخ����رى ك��ان��ت ت��ب��دو ل��ه ق��ب��ل ل��ي��ل ال��رع��ب ف��ي ع��رب��ة ال��ق��ط��ار ك��أن��ه��ا ال��ش��ب��اب ال��دائ��م‬

‫تريد؟ ماذا تنتظر؟ ماذا ت�شعر؟‬ ‫هذه الأ�سئلة قدمها الكاتب ك�شكوى مطروحة على‬ ‫جميع الذين ي�شاركونه العربة يقدمها عرب �شخ�ص‬ ‫جمهول يرتدي مالب�سك نف�سها‪ ،‬ويحمل يف يده حقيبة‬ ‫�سفرك عي َنها يف احللم‪ ،‬يقب�ض رجال ال�شرطة عليك‬ ‫وتعود ال�شخ�صية �إىل نقطة البداية‪ ،‬والكتاب ينتهي يف‬ ‫الوقت الذي يتهي�أ لكتابته تت�صل نهايته ببدايته‪.‬‬ ‫تعترب هذه الرواية التي �صدرت عام ‪ 1957‬واحدة من‬ ‫�أهم روايات القرن الع�شرين ملا �أحدثته من تغيري يف بنية‬ ‫الرواية و�أ�سلوب تناول ال�شخ�صيات‪.‬‬ ‫ي�ستخدم الكاتب ال�ضمري "�أنت" وهو من �أ�ساليب‬ ‫مدر�سة احل�سا�سية اجلديدة من بداية ال��رواي��ة �إىل‬ ‫نهايتها كي ي�صف رحلة رجل يف قطاره من باري�س �إىل‬ ‫روما ليلتقي بحبيبته‪ ،‬وي�شعر القارئ با�ستخدام ال�ضمري‬ ‫"�أنت" �أنه معني بالأفكار التي ت�أتي �إليه دون توقف‪.‬‬ ‫ميكن �أن نعترب رواي��ة "التحول" ك�أمنوذج متكامل‬ ‫حلركة ال��رواي��ة اجل��دي��دة التي ظهرت يف فرن�سا يف‬ ‫خم�سينيات القرن الع�شرين‪ ،‬ومن بني خ�صائ�صها �أنها‬ ‫ترف�ض �أن تويل �أهمية رئي�سة للحبكة‪ ،‬وتعنى بكل ما‬ ‫يحيط بالق�صة الأ�سا�سية‪.‬‬ ‫‪162‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ي�شعر ال��ق��ارئ بتطابق يف التوجه للكتابة نف�سها‬ ‫عند كل من بوتور واخل��راط النتمائهما �إىل املدر�سة‬ ‫نف�سها‪ ،‬ففي الف�صل الثالث من رواية "رامة والتنني"‬ ‫التي �صدرت عام ‪ 1980‬حديث عن ال�صعود �إىل ذروة‬ ‫البهجة وو�صف لل�سالمل ال�ضيقة التي ي�صعدها الراوي‬ ‫(ميخائيل) خلف رامة (مع�شوقته) يف لوكاندة فيكتوريا‬ ‫بالإ�سكندرية‪ ،‬وهي ترقى الدرجات املتعرجة‪ ،‬ويكاد‬ ‫يتعرث بطرف ال�سجاد الأحمر الكابي وهو غائب االنتباه‪،‬‬ ‫يف ده�شة من �أناقة هذا الفندق الذي ال يعرفه‪ ،‬وظهرها‬ ‫القوي الن�شط منحن �أمامه‪� ،‬صاعدة تنهج‪ ،‬ثم تهتف‪،‬‬ ‫وتعود �إليه‪ ،‬و�صدرها يرتفع ويهبط‪ ،‬ويخفق �أمام عينيه‪،‬‬ ‫وهي تقول‪ :‬ال‪� ،‬صعدنا ال�سالمل اخلط�أ‪ ،‬لي�س من هنا‪..‬‬ ‫جعلتني �آخذ االجتاه اخلط�أ‪ ،‬انزل من هنا‪ ..‬تعال "ثم‬ ‫يتجه ميخائيل ورامة �إىل �سلم �آخر يو�صف ب�أنه �أكرث‬ ‫�ضيق ًا‪ ،‬وتفتح له باب غرفتها ويجد نف�سه فج�أة معها‪،‬‬ ‫وحدهما‪.‬‬ ‫ير�صد الكاتب احلوارات اخل�صبة بني رامة وميخائيل‬ ‫حول احلياة واحلب‪ ،‬لكنه دوم ًا يتذكر "التنني" الوح�ش‬ ‫الكابو�س واخل��وف احلقيقي فيقول لنف�سه‪" :‬مل �أقتل‬ ‫التنني‪� ،‬أعي�ش معه‪� ،‬أ�سنانه مغروزة يف قلبي"‪ .‬يفر�ض‬ ‫الع�شق الأ�سطوري بني ميخائيل ورامة لغة �شاعرية يف‬ ‫كثري من احلوارات حتى الفل�سفي منها‪� ،‬أو ما بينه وبني‬ ‫نف�سه في�ضفي بعد ًا عميق ًا على ر�ؤية ميخائيل لرامة‪،‬‬ ‫فر�ؤيته لها تقرتب من التقدي�س؛ لأنها هي معبودته التي‬ ‫هيمنت على كل كيانه‪ .‬غري �أننا نالحظ �إ�ضافة �إىل‬ ‫اللغة ال�شاعرية التي ا�ستخدمها اخلراط تنويع ًا يف اللغة‬ ‫�صهره كله يف بوتقة التخييل الروائي‪ ،‬فجاء بلغة جديدة‬ ‫جتمع بني ف�صاحة املكتوب وبالغة ال�شفوي‪ ،‬وكلها تعمل‬ ‫على حتقيق املتعة‪.‬‬ ‫يقول مي�شيل بوتور‪� :‬إن لتعبري "رواية جديدة" معنى‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫تاريخي ًا وا�ضح ًا‪ ،‬والأمر يتعلق ببع�ض الروائيني الذين‬ ‫ا�شتهروا فج�أة ح��وايل �سنة ‪ .1956‬ومن الوا�ضح �أنه‬ ‫كان له�ؤالء الروائيني على اختالفهم نقاط م�شرتكة‪،‬‬ ‫ولي�س من قبيل امل�صادفات �أن يكون الق�سم الأكرب من‬ ‫كتبهم قد قامت بن�شره دار ن�شر واحدة‪ ،‬ويف الدرو�س‬ ‫التي �ألقيتها عن فن الرواية الفرن�سي يف القرن الع�شرين‬ ‫كنت جم�بر ًا على تقدمي الأ�شياء على هذه ال�صورة‪،‬‬ ‫وعلى القبول باالنتماء �إىل "الرواية اجلديدة"‪.‬‬ ‫ويقول اخل��راط‪" :‬مل �أتوقف يف حقيقة الأم��ر عن‬ ‫كتابة ال�شعر ولكنه كان مدرج ًا �أو مندرج ًا �أو من�صهر ًا‬ ‫يف �سياق الق�ص�ص �أو ال�سرد‪� .‬إال �أنني يف ذات يوم خطر‬ ‫يل يف �إحدى النزوات الإبداعية �أن �أ�ستخل�ص من "رامة‬ ‫والتنني" ورواية "الزمن الآخر" بالتحديد تلك الفقرات‬ ‫التي ت�صورت �أنها ق�صائد م�ستقلة‪� ،‬أو التي ميكن �أن‬ ‫تت�صور باعتبارها ق�صائد م�ستقلة‪ .‬هي لي�ست م�ستقلة‪،‬‬ ‫هي يف احلقيقة مندرجة من�صهرة يف ن�سيج العمل‬ ‫الروائي كله‪ ،‬ولكني با�ستخال�ص تلك الفقرات وبكتابتها‬ ‫على �شكل �إيقاعي خا�ص غري ال�شكل ال�سردي املطرد‪،‬‬ ‫لعلني ا�ستخرجت منها �أي�ض ًا‪� ،‬إيقاع ًا �آخ��ر‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ا�ستخرجت منها معنى �أو داللة �أخرى لعلها كانت كامنة‬ ‫غري �سافرة يف الن�سيج الروائي‪ ،‬وهو ما يكون ق�سم ًا هام ًا‬ ‫من كتابي "طغيان �سطوة الطوايا"‪.‬‬ ‫ي��ول��د اجل��دي��د دوم���� ًا‪ ،‬وم��ن طبع احل��ي��اة �أن ت�أتي‬ ‫باملفاج�آت وم��ن طبع الب�شر اكت�شاف اجلديد‪ ،‬فلكل‬ ‫جيل �أف��ك��اره ونظرته ومفهومه‪ ,‬وبطبيعة احل��ال ف�إن‬ ‫االكت�شافات عملية م�شروعة �أمام تعاقب الأجيال‪.‬‬ ‫ميكن الت�أكيد‪ ،‬كما يقول عبد املالك �أ�شهبون‪� ،‬أن هذه‬ ‫العدد‬

‫"احل�سا�سية اجلديدة" كانت نتيجة �إرها�صات ميالد‬ ‫زم���ن ع��رب��ي ج��دي��د يف امل�����ش��رق وامل���غ���رب‪� .‬إن���ه زم��ن‬ ‫احلداثة االجتماعية الذي ينقل العالقات االجتماعية‬ ‫من الواحد �إىل املتعدد‪ ،‬ومن املتجان�س �إىل املختلف‪،‬‬ ‫ومن الثابت املقد�س �إىل املتحول الذي ال قدا�سة فيه‪.‬‬ ‫�إن الرواية اجلديدة �أ�صبحت تفرت�ض قارئ ًا جديد ًا‪،‬‬ ‫له م�ؤهالت قرائية معينة‪ ،‬وهذه امل�ؤهالت هي نتيجة‬ ‫جلملة من املعطيات القرائية التي ال يتم تعديلها �إال يف‬ ‫التوا�صل مع الن�ص ذاته‪ ،‬توا�ص ًال فعا ًال وخالق ًا‪.‬‬ ‫�إن العامل الروائي اجلديد‪ ،‬ب�شكل عام‪ ،‬يقوم ب�إعادة‬ ‫كتابة الواقع وفق ت�صورات مغايرة‪ ،‬وكتابة الواقع هذه‬ ‫قد تكون �أف�ضل �أو �أ�سو�أ من الواقع املعي�ش‪ .‬فهي‪ ،‬بذلك‬ ‫ال�صنيع‪ ،‬تعمل على �شحذ خيال القارئ‪ ،‬غار�سة بذلك‬ ‫جرثومة عدم الر�ضى يف دواخله‪ ،‬خملخلة طبيعة �إدراكه‬ ‫للأ�شياء والعالئق وامل�صائر الإن�سانية‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪163‬‬


‫تجربة األم‬

‫بني الوهم واحلقيقة‬ ‫يوحي عنوان الرواية ‪ La maternité‬يف جوانب منه �إىل‬ ‫"فن الأمومة"‪ .‬لكن الروائي ماتيو �سيموين ‪Mathieu‬‬ ‫‪ Simonet‬ا�ستعمله للداللة على املكان الذي ق�ضت فيه‬ ‫والدته "با�سكال ‪� "Pascale‬أيامها الأخرية (كان ي�سمى‬ ‫فيما قبل بـ "م�شفى الوالدة"‪ ،‬و�أ�صبح‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬مركزاً‬ ‫مل�ساعدة املر�ضى يف حاالت حرجة على ا�سرتجاع الأمل يف‬ ‫احلياة) ‪ .‬كانت ‪ ،‬حينئذ‪ ،‬تعت�رص �أمل ًا وهي تقاوم‪ ،‬ب�شجاعة‬ ‫وعناد نادرين‪ ،‬مر�ض ال�رسطان الذي اكت�سح ج�سدها‬ ‫ُمره�ص ًا بنهايتها الو�شيكة‪ .‬ويعترب ماتيو �سيموين‪ ،‬وهو‬ ‫حمام بباري�س‪ ،‬من الروائيني ال�شباب الذين لفتوا انتباه‬ ‫النقاد بقدراتهم على ابتداع طرق فنية جديدة لإعادة‬ ‫ت�شخي�ص الواقع‪ .‬وبعد ال�صدى الذي خلفته روايته الأوىل‬ ‫(الكرا�سات البي�ضاء) يف ال�صحافة الفرن�سية‪� ،‬أ�صدر عمله‬ ‫الثاين (م�شفى الوالدة) الذي حاز على جائزة القراء امل�سلمة‬ ‫من جملة " �أك�سربي�س"‪ ،‬وحقق رقم ًا قيا�سي ًا يف مبيعاته‪.‬‬

‫نقد‬

‫د‪.‬حممد الداهي‬ ‫املغرب‬

‫تر�صد الرواية تالثة م�صائر متباينة يف مناحيها‬ ‫وم�ساراتها‪ ،‬لكنها‪ ،‬يف جمملها‪ ،‬ت�ستمد ن�سغها من‬ ‫جت��ارب م�شرتكة مريرة وج��راح غائرة و�أليمة‪ .‬وهو‬ ‫ما جعل كل م�صري على حدة يتوج�س من امل�ستقبل‪،‬‬ ‫ويداري اللحظة الآنية‪ ،‬ويهيم يف متاهة املا�ضي بحث ًا‬ ‫عن اجتثاث خملفات الأمل من منابتها‪� .‬أ�صيبت الأ ّم‬ ‫مبر�ض �سرطان الثدي الذي اجتاح ج�سدها مره�ص ًا‬ ‫بنهايتها الو�شيكة‪ .‬ويعاين الأب من ا�ضطرابات نف�سية‬ ‫حادة �أودت به �إىل حافة اجلنون‪ ،‬وهو ما جعله ميا ًال‬ ‫�إىل العزلة واالنطواء‪ ..‬يج ّرت االبن (ال�سارد) ذكريات‬ ‫‪164‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�أليمة ترتبط بتعر�ضه �إىل اغت�صاب حمتمل من لدن‬ ‫�شخ�ص جمهول ُيرجح �أن يكون هو والده‪.‬‬ ‫وجد ال�سارد يف احلكي خري و�سيلة للتخل�ص من ثقل‬ ‫املا�ضي الأليم‪ ،‬وتوطيد م�صاحلة مع الذات والآخرين‪،‬‬ ‫وفتح م�سارب و�شق قنوات حر�ص ًا على الإم�ساك بتالبيب‬ ‫الأ�ضواء الهاربة والأحالم املنفلتة‪� .‬شرع يف كتابة رواية‬ ‫جديدة مو�سومة بـ" الكرا�سات البي�ضاء" مدون ًا حمكياته‬ ‫الذاتية التي ت�ستوعب جتاربه وت�أمالته يف احلياة‪.‬‬ ‫وحفز والديه على االنخراط يف م�شروع احلكي لت�سليط‬ ‫مزيد من الأ�ضواء على اجلوانب الداجية يف حيواتهم‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫امل�شرتكة‪ ،‬وملء ثقوب الذاكرة‪ ،‬ومعاينة حدث معني‬ ‫من زوايا ور�ؤى خمتلفة‪ .‬ا�ستجابت والدته طوع ًا لطلبه‪،‬‬ ‫و�أ�ضحت‪ ،‬يف �أوج انفعالها وامتعا�ضها من املر�ض الذي‬ ‫توغل يف ج�سدها‪ ،‬ترد على �أ�سئلته بالربيد الإلكرتوين‬ ‫�أو بتدوين �شذرات من خواطرها �أو حياتها يف �أوراق‬ ‫متفرقة‪ .‬مل ي�ست�سغ الأب االنخراط يف م�شروع احلكي‪،‬‬ ‫لكنه تورط تدريجي ًا يف �شركه‪ ،‬وهو يحرت�س من �إثارة‬ ‫مو�ضوع االغت�صاب الذي ُيحتمل �أن ابنه تعر�ض �إليه؛‬ ‫مما حر�ضه على ممار�سة ال�شذوذ اجلن�سي بح�سرة‬ ‫و�أمل �شديدين‪ .‬اعتاد الأب على التمل�ص من الأ�سئلة‬ ‫احلرجة التي يوجهها له ابنه �سعي ًا �إىل الك�شف عن‬ ‫حقائق مغفية‪ .‬كان يداوم على قراءة مدونة ابنه حتى‬ ‫يكون على ب ّينة مما يكتب‪ ،‬وعلى �أهبة للتدخل يف الوقت‬ ‫املنا�سب لنهيه عن النب�ش يف ما�ضيهما امل�شرتك الذي‬ ‫قد يك�شف عما يحدث ت�صدع ًا يف عالقتهما‪.‬‬ ‫تق�صد ال�سارد �أن ُيب ّئر معظم �أحداث الرواية على‬ ‫الأم حر�ص ًا على بيان حالتها النف�سية واالنفعالية‪ ،‬وهي‬ ‫جتتاز فرتة ع�صيبة من عمرها‪ ،‬وعلى �إعطائها الكلمة‬ ‫ال�ستح�ضار جتاربها يف احلياة ومواقفها و�أحا�سي�سها‬ ‫حيال الوجود‪ .‬وقد ا�ضطر‪ ،‬بهدف توريطها يف فعل‬ ‫العدد‬

‫احلكي‪� ،‬إىل توجيه �أ�سئلة حمددة‬ ‫�إل��ي��ه��ا وح��ف��زه��ا ع��ل��ى الإج���اب���ة‬ ‫عنها‪ .‬و�أ�شرك‪ ،‬يف هذا ال�صدد‪،‬‬ ‫ك���ل م���ن خ��ال��ط��ت��ه��م يف احل��ي��اة‬ ‫(الأق���ارب‪ ،‬الطبيب‪ ،‬املمر�ضة‪،‬‬ ‫الق�سي�س‪ ،‬امل���ر����ض���ى‪ ،)...‬مل��لء‬ ‫ُف��رج��ات ال��ذاك��رة وبيا�ضاتها‪،‬‬ ‫والإدالء مبعلومات �إ�ضافية‪ .‬كما‬ ‫كاتب م�س�ؤولني من اخت�صا�صات‬ ‫خمتلفة مل��واف��ات��ه ب���آرائ��ه��م عن‬ ‫املوت (�إيزابيل بوزان�صون عاملة‬ ‫نف�سانية‪� ،‬ألتيز عراف‪� ،‬إزابيل بلونديو حمللة نف�سانية‪،‬‬ ‫دانيل لوكمبت طبيبة‪� ،‬أرنو ق�سي�س‪ ،‬جون لوك حملل‬ ‫نف�ساين‪ .)..‬وهكذا اتخذت بنية الرواية �صبغة حوارية‬ ‫ُم ْ�شرعة على احتماالت وت���أوي�لات عديدة‪ ،‬وم�شيدة‬ ‫على �أر�ضية ن�صو�ص ومرجعيات فكرية خمتلفة‪.‬‬ ‫التزم‪ ،‬خاللها ال�سارد‪ ،‬بالكتابة ال�شذرية التي تلتقط‬ ‫الأخبار واالنفعاالت يف �صخبها وعنفوانها وتلقائيتها‪.‬‬ ‫وعمد‪ ،‬يف الآن نف�سه‪� ،‬إىل تذويب ملفوظات الآخرين‬ ‫يف �سبيكة ال�سرد �إىل حد ي�صعب فيه التمييز بني قول‬ ‫ال�سارد وكالم ال�شخ�صيات‪.‬‬ ‫���س��ع��ى ال�����س��ارد‪ ،‬م��ن خ�ل�ال ال��ت��ف��ات��ات��ه ال��رم��زي��ة‬ ‫والإن�سانية‪� ،‬إىل االق�تراب من �أمه والتغلغل �أكرث يف‬ ‫عواملها‪ ،‬وفهم كثري من �أ�سرارها املُلتب�سة و�أحالمها‬ ‫املحبطة‪ .‬كانت تكرث من عتابه لكونه مل ينتبه �إىل‬ ‫ت��ده��ور �صحتها‪ ،‬ومل ي��ب��ادر �إىل نهيها ع��ن معاقرة‬ ‫اخلمر برغم مالزمة القنينة ل�سريرها‪.‬‬ ‫تزوجت يف ريعان �شبابها‪ ،‬وبعد �شهرين من الزواج‬ ‫انف�صلت عن �شريكها ب�سبب عالقته ال�شاذة مع ب�ستاين‬ ‫بفندق املامونية يف مدينة مراك�ش‪ ،‬وعدم قدرته على‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪165‬‬

‫ال������رواي������ة ع���ل���ى األم ح����رص����ًا ع���ل���ى ب����ي����ان ح���ال���ت���ه���ا ال���ن���ف���س���ي���ة واالن���ف���ع���ال���ي���ة‬

‫ت����ق����ص����د ال��������س��������ارد أن ُي������ب������ ّئ������ر م����ع����ظ����م أح���������داث‬


‫الرواية‪ ،‬يف جمملها‪ ،‬عبارة عن‬ ‫�شذرات خمتلفة ا�ستقاها ال�سارد من‬ ‫�أقالم �أ�صحابها �أو �أفواههم‬

‫�إح�سا�سها ب�أنوثتها وتلبية رغباتها اجلن�سية‪ .‬تزوجت‪،‬‬ ‫فيما بعد‪� ،‬شخ�ص ًا �آخر هو والد ال�سارد‪ .‬وبعد �شهرين‬ ‫�أي�ض ًا من قرانهما رحل �إىل البريو ّثم عاد جمنون ًا‪.‬‬ ‫ملا علمت �أن ثديها م�صاب بداء ال�سرطان‪� ،‬أ�ضحت‬ ‫احلياة‪ ،‬بالن�سبة �إليها‪ ،‬جحيم ًا ال يطاق‪ .‬اجتاح الداء‬ ‫عظامها‪ ،‬و�أن��ه��ك ج�سدها‪ ،‬وبعرث �أوراق��ه��ا‪ .‬وه��و ما‬ ‫جعلها �أكرث ت�شا�ؤم ًا وتربم ًا من احلياة‪.‬‬ ‫�أ�ضحى ال�سارد‪� ،‬أكرث من �أي وقت م�ضى‪ ،‬مهموم ًا‬ ‫بالتفا�صيل التي تهم م�سار والد ْيه يف احلياة‪ .‬يريد‬ ‫�أن يعرف عنهما �أ�شياء كثرية‪ .‬وهذا ما حر�ضه على‬ ‫ا�ستف�سارهما عن كثري من الق�ضايا‪ ..‬كيف تورطا‬ ‫يف احل��ب �أول م��رة؟ ما موقفهما من احلياة وامل��وت‬ ‫وال���زواج؟ كيف ينظران �إىل اجل�سد بعد �أن تفارقه‬ ‫الروح؟ ومن بني الأ�سئلة احلرجة التي وجهها ال�سارد‬ ‫�إىل والديه �س�ؤال يهم ما �أن راودتهما فكرة االنتحار يف‬ ‫يوم من الأيام‪ .‬جاء جواب الأم على النحو الآتي‪" :‬نعم‬ ‫حدث يل ذلك مرة يف حياتي‪ ..‬كنت �أ�سكن �صحبة‬ ‫��ادرت املنزل لق�ضاء عطلة نهاية الأ�سبوع‬ ‫�أختي‪ ..‬غ ِ‬ ‫يف مكان �آخ��ر‪ ..‬كنت �أ�شعر ب�أمل حاد يف �أ�ضرا�سي‪..‬‬ ‫تناولتُ م�سكن ًا‪ ..‬لكنه مل يكن له �أي �أثر �إيجابي‪...‬‬ ‫علي‪ ..‬من‬ ‫تناولتُ كل الأدوية املتوفرة لدي‪� ...‬أغمي ّ‬ ‫ح�سن احل��ظ ع��ادت �أختي �إىل املنزل ال�سرتجاع ما‬ ‫ن�سيته فوجدتني جثة هامدة‪� ..‬أجريت حتليالت دقيقة‪،‬‬ ‫وخ�ضعت حل�ص�ص العالج النف�سي‪ ..‬وملا فتحت عيني‪،‬‬ ‫وجدت نف�سي يف عامل بديع‪ ..‬كنت يف �شرفة مزدانة‬ ‫بالأزهار‪ ،‬فظننت �أنني يف جنة"‪ .‬ومما ا�سرتجعه الأب‬ ‫عن حماولة انتحاره ن��ورد ما يلي‪ " :‬انتابتني فكرة‬ ‫االنتحار ملا كانت يل عالقة مع "هالي�سا"‪ ،‬وجدت‬ ‫نف�سها حام ًال بجنني يف �شهره الرابع �أو اخلام�س‪.‬‬ ‫مل يغم�ض يل جفن خالل مدة احلمل‪� ..‬صرخت يف‬ ‫‪166‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫وجهها حمر�ض ًا �إياها على الإجها�ض‪� .‬شرعت �أبحث‬ ‫عن رابطة عنق وعن مكان منا�سب ل�شنق نف�سي‪ ...‬ملا‬ ‫و�ضعت رابطة العنق ظننت �أن هالي�سا مل تغادرين‪ ،‬بل‬ ‫ق�صدت عيادة للإجها�ض‪ ..‬تراجعت عن قراري‪ ،‬ثم‬ ‫وا�صلت كتابة اجلزء الثاين من روايتي "مانكو" التي‪،‬‬ ‫و�إن كانت رديئة‪ ،‬تر�صد ن�ش�أتي‪.‬‬ ‫وبقدر ما يتوغل مر�ض ال�سرطان يف ج�سد الأم‬ ‫بقدر ما تتوطد رغبتها يف احلكي‪ ،‬وي��راوده��ا �شعور‬ ‫عارم بعدم تناول الأدوية حر�ص ًا على الرحيل عاج ًال‬ ‫�إىل العامل الآخر‪ .‬ما يرعبها �أ�سا�س ًا لي�س املوت‪ ،‬و�إمنا‬ ‫الأمل ال��ذي يعت�صر �أح�شاءها ويهد كيانها‪" :‬لي�ست‬ ‫�أم��ي خائفة من امل��وت‪� .‬إن��ه جم��رد �سبات عميق‪ .‬ما‬ ‫يخيفها هو مكابدتها للأمل‪ ..‬تعرف �أن موتها و�شيك‬ ‫لذلك ال ترى �أي جدوى من ا�ستئناف ح�ص�ص العالج‬ ‫الكيميائي"‪.‬‬ ‫ملا اطلعت الأم على ما كتبه ابنها عنها عاتبته على‬ ‫عدم ذكر كثري من املعطيات التي �صدعت بها‪ .‬وجدت‬ ‫نف�سها �أحيان ًا �أمام امر�أة ال ت�شبهها‪ .‬وعندما تعاين‬ ‫مدى مطابقتها لها ت�شعر ب�سعادة عارمة‪ .‬حفزته على‬ ‫موا�صلة م�شروع الكتابة معتزة مب�ؤهالته وقدراته‪.‬‬ ‫ومن �شدة �إعجابها وافتتانها بعوامله اخليالية حفزت‬ ‫طبيبها على االط�لاع على مدونته واال�ستمتاع مبا‬ ‫تزخر به من حمكيات ذاتية مفعمة بامل�شاعر والأهواء‬ ‫املت�ضاربة‪.‬‬ ‫إحلاحها‬ ‫مما �أ�سهم يف تدهور حالتها ال�صحية � ُ‬ ‫على �إدم��ان اخلمر والتدخني‪ ،‬وعدم تناول ال��دواء‪..‬‬ ‫بعد ف�ترة انتظار طويلة و�شاقة ا�ستجاب مركز"‬ ‫جون دروكا" لطلبها بعد �شغور �سرير؛ نظر ًا لقدرته‬ ‫اال�ستيعابية ال�ضيقة (�ست وث�لاث��ون غرفة) يتعذر‬ ‫عليه ا�ستيعاب كل املر�ضى‪ ،‬يف حاالت حرجة‪ ،‬الذين‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫�سعى ال�سارد‪ ،‬من خالل التفاتاته‬ ‫الرمزية والإن�سانية‪� ،‬إىل االقرتاب من‬ ‫�أمه والتغلغل �أكرث يف عواملها‪ ،‬وفهم كثري‬ ‫من �أ�سرارها املُلتب�سة و�أحالمها املحبطة‬ ‫ي�صرون‪ ،‬من خالل طلباتهم املتكررة‪ ،‬على اال�ست�شفاء‬ ‫به‪ .‬ال تُقدم لهم الإ�سعافات ال�ضرورية فح�سب‪ ،‬و�إمنا‬ ‫تزرع يف �أنف�سهم جرعات �إ�ضافية من الأمل لال�ستمتاع‬ ‫مبا تبقى من عمرهم‪ُ .‬منع عنها التدخني لي�س لت�أثريه‬ ‫ال�سلبي يف ج�سدها فقط‪ ،‬و�إمنا ملا يحمله من خطورة‬ ‫بتفجري الأك�سجني املتوفر يف غرفة الإنعا�ش‪ .‬عا�شت‬ ‫الأم �أي��ام�� ًا م��ع��دودات يف امل��رك��ز‪ ،‬ثم فارقت احلياة‬ ‫خملفة وراءه��ا �أ���س��رار ًا كثرية حتتاج �إىل مزيد من‬ ‫الوقت الفت�ضا�ضها وتبديد غمو�ضها‪.‬‬ ‫ال��رواي��ة‪ ،‬يف جمملها‪ ،‬عبارة عن �شذرات خمتلفة‬ ‫ا�ستقاها ال�سارد من �أق�لام �أ�صحابها �أو �أفواههم‪.‬‬ ‫وق��د حر�ص �أحيان ًا على ا�ستجوابهم وا�ستف�سارهم‬ ‫حول ق�ضايا معينة �سعي ًا �إىل فهم طبيعة العالقة التي‬ ‫كانت جتمعهم ب�أمه‪ ،‬وحر�ص ًا على ا�ستجماع كثري من‬ ‫ال�شهادات واملعطيات التي تهم م�سارها وجتربتها يف‬ ‫احلياة‪ ،‬وال�سيما حني �أنهكها مر�ض ال�سرطان‪ .‬يلج�أ‬ ‫�أحيان ًا �إىل معاودة ال�س�ؤال نف�سه ب�صيغ خمتلفة على‬ ‫فرتات متباعدة‪ .‬وهو ما يجعل اجلواب يتلون ب�ألوان‬ ‫ال��ظ��روف املختلفة‪ ،‬وي�صطبغ ب���أه��واء �شتى �أملتها‬ ‫احلاالت النف�سية التي تعرتي كل �شخ�صية على حدة‪.‬‬ ‫تق�صد ال�سارد �أن يعيد كتابة �أقوال الآخرين كما هي‬ ‫حمافظ ًا على �أ�صالتها الأ�سلوبية و�شحنتها الداللية‪.‬‬ ‫وال يتدخل �إال للتعليق عليها‪ ،‬و�إ���ض��اف��ة معلومات‬ ‫جديدة �إليها‪ ،‬وتبويبها ح�سب ترتيبها الزمني‪ .‬ومل‬ ‫يخل التوليف من املفارقات الزمنية التي �أف�ضت �إىل‬ ‫ت�شابك الأزمنة وتداخلها‪ ،‬والإكثار‪ ،‬خ�صو�ص ًا‪ ،‬من‬ ‫اال�سرتجاعات املتماثلة حكائي ًا‪.‬‬ ‫ا�ستعان ال�سارد بتقنية اليوميات التي �أ�سعفته على‬ ‫ر�صد اللحظات ال�صعبة واحلرجة التي قا�ست منها‬ ‫الأم‪ ،‬واكتوى‪ ،‬هو �أي�ض ًا بجمراتها‪ .‬لقد حر�ص على‬ ‫العدد‬

‫ا�ستجالء كل حلظة على حدة مبا حتمله من مواقف‬ ‫وم�شاعر �إن�سانية يف غاية الرهافة والرقة‪ .‬كان يعرف‪،‬‬ ‫من خالل تقارير الطبيب وتدهور �صحة الأم‪� ،‬أنها‬ ‫متر على جفن الردى‪ .‬ولهذا ارت�أى �أن يقدر كل حلظة‬ ‫ويعطيها العناية امل�ستحقة لعله يفلح يف ا�ستجماع �أكرب‬ ‫قدر من املعلومات عنها‪ ،‬وي�ضمد جراحها‪ ،‬وي�شعرها‬ ‫مبكانتها يف قلبه‪ ،‬وي�ساعدها على ا�سرتجاع ثقتها‬ ‫بنف�سها‪.‬‬ ‫ي��ن��درج ه��ذا امل�����ش��روع يف �إط���ار التخييل ال��ذات��ي‪،‬‬ ‫وينطبق عليه التعريف احل�صري الذي اقرتحه �سريج‬ ‫دبروف�سكي مللء اخلانة الفارغة امل�ستغلقة على فهم‬ ‫فيليب لوجون بحكم عدم �إيجاد مثال منا�سب لتعليلها‪.‬‬ ‫ي�شرتط �سريج دبروف�سكي يف التخييل الذاتي توفره‪،‬‬ ‫عالوة على �سمات �أخرى‪ ،‬على خا�صيتني جوهريتني‪،‬‬ ‫وهما الهوية اال�سمية‪ ،‬وال��ه��وي��ة اجلن�سية (�إدراج‬ ‫العمل يف خانة ال��رواي��ة)‪ .‬تتوفر رواي��ة الأمومة على‬ ‫اخلا�صيتني مع ًا‪ ،‬وهو ما يجعلها �أقرب �إىل التعريف‬ ‫احل�صري ل�سريج دوبروف�سكي‪ .‬حر�ص ال�سارد على‬ ‫�إدراج م�شروعه �ضمن خانة ال��رواي��ة م�برم�� ًا عقد ًا‬ ‫تخييلي ًا مع ال��ق��ارئ‪ ،‬مفاده �أن ما ُيحكى هو �ضرب‬ ‫ميت ب�صلة �إىل التجربة ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫من اخليال‪ ،‬وال ّ‬ ‫وبقدر ما نتوغل يف الرواية يت�ضح �أن ال�سارد يحمل‬ ‫ا�سم الكاتب "ماتيو �سيموين" م�ؤدي ًا دورين متباينني‪:‬‬ ‫ي�ستح�ضر‪ ،‬من جهة‪ ،‬حياته ال�شخ�صية مركز ًا على‬ ‫جتربته الإبداعية (تورطه يف كتابة الرواية وانبهاره‬ ‫بالوقع الذي تخلفه لدى الآخرين" وم�ساره التعليمي‬ ‫واملهني‪ .‬وعالقته احلميمة ب�أ ّمه على وجه اخل�صو�ص‬ ‫و�أ�ضفى‪ ،‬من جهة �أخرى‪� ،‬صبغة تخييلية على الأحداث‬ ‫املروية معتمد ًا على �شهادات حقيقية �أو مفرت�ضة حول‬ ‫الأم خ�صو�ص ًا واملوت عموم ًا‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪167‬‬


‫من المسرح إلى السينما‬

‫تينيسي‪ ..‬كازان‪ ..‬وبراندو‬

‫في عربة اسمها الرغبة‬ ‫جمعت رواية (عربة ا�سمها الرغبة) مرتني بني‬ ‫الثالثي تيني�سي وليامز م�ؤلفا و�إليا كازان خمرجا‬ ‫ومارلون براندو ممثال‪ ،‬الأوىل يف العام ‪1947‬م‬ ‫على خ�شبة امل�رسح‪ ،‬والثانية يف العام ‪1951‬م‬ ‫يف فيلم �سينمائي‪..‬‬ ‫عربة تيني�سي وليامز التي قادها �إليا كازان و�صل‬ ‫بها مارلون براندو �إىل مكانة مل ي�صل �إليها‬ ‫ممثل �آخر يف تاريخ ال�سينما الأمريكية‪ ،‬مل تزد‬ ‫الرواية م�ؤلفها وخمرجها �شهرة على �شهرتهما‪،‬‬ ‫فقد ك��ان��ا م��ع��روف�ين يف الو�سطني امل�رسحي‬ ‫وال�سينمائي الأمريكيني وحظيا بقبول وا�سع‬ ‫النطاق من جانب اجلمهور والنقاد‪ ،‬لكنها‬ ‫كانت فاحتة اخلري وال�شهرة واالنطالق للممثل‬ ‫ال�صاعد �آنذاك مارلون براندو الذي ا�ستطاع �أن‬ ‫يخطف الأ�ضواء عن طريق �أدائه املميز واجلديد‬ ‫�آنذاك م�ستعينا مبا ميلك من كاريزما وح�ضور‪.‬‬

‫سينما‬

‫مانيا �سويد‬ ‫�صحافية‬

‫‪168‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ثالوث امل�سرح الأمريكي‬ ‫�شهد القرن الع�شرين حياة الثالثة الكبار �أ�صحاب‬ ‫ال��ف�����ض��ل يف ال��ن�����ض��ج احل��ق��ي��ق��ي ل��ل��رواي��ة امل�سرحية‬ ‫الأم���ري���ك���ي���ة‪ ،‬ي���وج�ي�ن �أون���ي���ل (‪1888‬م‪1953:‬م)‬ ‫و�آرث����ر ميلر (‪1915‬م‪2005:‬م) وتيني�سي وليامز‬ ‫(‪1911‬م‪1983:‬م)‪ ..‬وج��ود ه���ؤالء الثالثة الكبار يف‬ ‫زمن واحد جعل امل�سرح الأمريكي ي�صل �إىل �أوج ن�ضجه‬ ‫ويناف�س امل�سارح العريقة يف فرن�سا و�إيطاليا وبريطانيا‪..‬‬ ‫ولدت يف الواليات املتحدة الأمريكية �آنذاك الروايات‬ ‫اخلالدة‪ :‬الإمرباطور جونز لأونيل‪ ،‬موت بائع متجول‬ ‫مليلر‪ ،‬عربة ا�سمها الرغبة لتيني�سي وليامز‪..‬‬ ‫مل ي�ستطع النقاد والأكادمييون �أن يجمعوا كلمتهم‬ ‫على تقدمي �أحد الثالثة على الآخرين‪ ،‬فانق�سمت الآراء‬ ‫بني مف�ضل لهذا ومرجح لذاك‪ ،‬لكن مبعيار اجلوائز‬ ‫ف�إن يوجني ي�أتي يف املقدمة لأنه الوحيد بني الثالثة‬ ‫الذي ح�صل على جائزة نوبل يف الأدب عام ‪1936‬م‪،‬‬ ‫غري �أن ما مييز تيني�سي وليامز عن قرينيه �أنه كان‬ ‫العدد‬

‫الأكرث قدرة على ثرب �أغوار النف�س الإن�سانية والتقاط‬ ‫التعبري احلركي الظاهري املرتجم ملا يخفيه الباطن‪،‬‬ ‫وقد ظهر ذلك جليا يف عربة ا�سمها الرغبة التي ميكن‬ ‫ت�صنيفها من بني �أهم ما كتب للم�سرح اعتمادا على‬ ‫ما يدور داخل النف�س الإن�سانية وعلى الدقة يف اختيار‬ ‫احلركات اخلارجية املعربة عن التفاعالت‪ ،‬ويبدو �أن‬ ‫حياة وليامز ال�شخ�صية كان لها �أثر مبا�شر على �أعماله‬ ‫من ه��ذه الوجهة‪� ،‬إذ عانى من االكتئاب لفرتة من‬ ‫الزمن وطارده هاج�س الإ�صابة باجلنون‪.‬‬ ‫من امل�سرح �إىل ال�سينما‬ ‫ك��ت��ب تيني�سي ول��ي��ام��ز ال���رواي���ة امل�سرحية عربة‬ ‫ا�سمها الرغبة قا�صدا �أن تكون ال�شخ�صية الأوىل‬ ‫فيها �شخ�صية ن�سائية تدعى بالن�ش دوب��وا‪ ،‬تبد�أ بها‬ ‫�أح���داث ال��رواي��ة وتنتهي‪ ،‬ه��ي ال�شخ�صية الرئي�سة‬ ‫بح�سب امل�ؤلف‪ ،‬لكن الأقدار �شاءت غري ذلك‪� ،‬إذ ر�أى‬ ‫كال من تيني�سي وليامز و�إليا كازان �أنهما �أمام ممثل‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪169‬‬

‫"ع����رب����ة اس���م���ه���ا ال���رغ���ب���ة" م����ن أوائ�������ل ال���ن���م���اذج ال����روائ����ي����ة ال���ن���اج���ح���ة ال��ت��ي‬ ‫ك��ت��ب��ت ل���ل���م���س���رح‪ ،‬وش���ج���ع ن��ج��اح��ه��ا م��س��رح��ي��ًا ع���ل���ى ن��ق��ل��ه��ا إل�����ى ال��س��ي��ن��م��ا‬

‫غري �أن ما مييز تيني�سي‬ ‫وليامز عن قرينيه‬ ‫�أنه كان الأكرث قدرة‬ ‫على �سرب �أغوار النف�س‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬والتقاط‬ ‫التعبري احلركي‬ ‫الظاهري املرتجم ملا‬ ‫يخفيه الباطن‬


‫تيني�سي ويليامز‬

‫�إليا كازان‬

‫�صاعد ميلك موهبة غري اعتيادية وقبول وا�سع النطاق‬ ‫لدى اجلمهور وح�ضور غري م�سبوق يف تاريخ امل�سرح‬ ‫الأمريكي يدعى مارلون براندو‪ ،‬فحني قدم العر�ض‬ ‫امل�سرحي تفجرت طاقة براندو �أثناء متثيل �شخ�صية‬ ‫�ستانلي كوال�سكي فجذب الأن��ظ��ار وحظي ب�إعجاب‬ ‫اجلمهور والنقاد‪ ،‬وفر�ض الأم��ر الواقع نف�سه لتكون‬ ‫�شخ�صية �ستانلي هي ال�شخ�صية الرئي�سة يف امل�سرحية‬ ‫بدال من �شخ�صية دوبوا التي �أرادها امل�ؤلف‪ ،‬ومل يكن‬ ‫أ�م��ام املخرج وامل���ؤل��ف �إال الر�ضوخ �أم��ام ه��ذا الواقع‬ ‫الذي على ما يبدو �أنه �أعجبهما فقررا يف العام ‪1951‬م‬ ‫حتويل الرواية �إىل عمل �سينمائي يقوم فيه مارلون‬ ‫براندو (‪1924‬م‪2004:‬م) ب�أداء الدور نف�سه الذي �أداه‬ ‫على خ�شبة امل�سرح وهو دور �ستانلي كوال�سكي‪ ،‬وت�شاركه‬ ‫فيفيان يل (‪1913‬م‪1967:‬م) يف دور بالن�ش دوبوا‬ ‫وكيم هنرت (‪1922‬م‪2002:‬م) يف دور �ستيال‪..‬‬ ‫�أب������دع امل���خ���رج ال���ي���ون���اين الأ�����ص����ل �إل���ي���ا ك����ازان‬ ‫(‪1909‬م‪2003:‬م) يف �إخراج الرواية �سينمائيا مثلما‬ ‫�أبدع يف �إخراجها م�سرحيا‪ ،‬لكنه مل ي�ستطع �أن يتخل�ص‬ ‫من الطابع امل�سرحي يف الإخراج ال�سينمائي‪� ،‬إما لأنه‬ ‫كان مت�أثرا �إىل حد بعيد مبا قدمه من قبل على خ�شبة‬ ‫امل�سرح والق��ى �إعجابا من اجلمهور وا�ستح�سانا من‬ ‫النقاد وبالتايل �أراد �أن يعزف على الوتر نف�سه مادام‬ ‫قد �أعجب النا�س‪ ،‬و�إما لأن الرواية بطبيعتها م�سرحية‬ ‫حم��دودة الأماكن وال�شخ�صيات وتعتمد يف الأ�سا�س‬ ‫على االنفعاالت وامل�شاعر الوجدانية �أكرث من اعتمادها‬ ‫على احلركة وتعدد الأم��اك��ن وبالتايل مل ت�سعفه يف‬ ‫�إ�ضفاء الطابع ال�سينمائي عليها‪ ،‬لكن يف كل الأحوال‬ ‫‪170‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫مارلون براندو‬

‫حتى مع هذه املالحظة التي ال تنق�ص من قيمة الفيلم‬ ‫ف�إنه يعد من بني �أهم ما قدمته ال�سينما الأمريكية يف‬ ‫العقد ال�ساد�س من القرن الع�شرين‪ ،‬بل ال مبالغة �إذا‬ ‫اعرتفنا ب�أن هذه الرواية على وجه اخل�صو�ص تعد من‬ ‫�أوائل النماذج الروائية الناجحة التي كتبت للم�سرح‬ ‫و�شجع جناحها م�سرحيا على نقلها �إىل ال�سينما‬ ‫باملخرج واملمثلني �أنف�سهم‪ ،‬وهي التجربة التي دفعت‬ ‫بالكثري من امل�ؤلفني واملخرجني يف �أنحاء خمتلفة من‬ ‫العامل على تكرارها يف بلدانهم‪.‬‬ ‫�إ�شكالية اال�سم‬ ‫‪ A streetcar named desire‬هذا هو اال�سم الأ�صلي‬ ‫للرواية‪ ،‬وتعريبه (عربة ا�سمها الرغبة) هو ا�سم عربة‬ ‫الرتام التي �أقلت بالن�ش دوبوا من حيث كانت تقيم �إىل‬ ‫مقر �إقامتها اجلديد يف منزل �أختها �ستيال‪ ،‬هروبا من‬ ‫بع�ض ال�ضغوط النف�سية التي كانت تعاين منها‪ ،‬ويفر�ض‬ ‫هذا اال�سم الغريب ت�سا�ؤالت‪ :‬هل ق�صد امل�ؤلف اختيار‬ ‫هذا اال�سم من خياله تعبريا عن ما �سيدور من �أحداث‬ ‫الرواية يف املكان الذي نقلت العربة دوبوا �إليه؟ �أم �أن‬ ‫اختيار اال�سم ما هو �إال رمز حلرية الإن�سان يف االختيار‬ ‫واالنتقال من حميط اجتماعي �إىل �آخر؟ �أم �أن للأمر‬ ‫عالقة مبا ت�سوقنا �إليه الأقدار و�إن كان ظاهرنا ينبئ‬ ‫بدور �إرادي خلطواتنا نحو امل�صائر؟ �أم �أنها منهجية‬ ‫بع�ض الكتاب الذين يلتقطون م�شهدا عابرا معربا من‬ ‫الرواية �أو الق�صة وي�ضعونه عنوانا لها؟ �إنها جمرد‬ ‫افرتا�ضات حتتمل اخلط�أ وحتتمل ال�صواب‪..‬‬ ‫غري �أن املثري يف �أم��ر ه��ذا اال�سم �أن��ه يغيب متاما‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ح�ضور مارلون براندو وقبوله‬ ‫وو�سامته ابتلعت كل تلك ال�صفات‪،‬‬ ‫ومل يعد امل�شاهد يرى �إال كاريزما ذلك‬ ‫الرجل املفتول الع�ضالت‬

‫عند م�شاهدة العر�ض امل�سرحي‪ ،‬و�إذا حاول م�شاهد‬ ‫امل�سرحية �أن يتذكره �أثناء العر�ض ف�إنه ال يجد �أي‬ ‫جمال للربط بينه وبني ما يعر�ض �أمامه من �أحداث‪ ،‬يف‬ ‫حني �أن م�شاهد الفيلم عند متابعة العر�ض ال�سينمائي‬ ‫يجد �أنه �صادف منا�سبة واحدة فقط تربز فيها العالقة‬ ‫بني اال�سم والأح���داث ال�سينمائية‪ ،‬وه��ي منا�سبة ال‬ ‫ت�ستغرق �سوى ب�ضع حلظات تركب فيها بالن�ش دوبوا‬ ‫عربة الرتام متجهة �إىل نيو �أورليانز حيث تقيم �أختها‬ ‫�ستيال‪ ،‬وتعامل املخرج مع تلك اللحظات بحركة ن�صف‬ ‫دائرية للكامريا ت�صور عربة الرتام التي حتمل الرقم‬ ‫‪ 922‬واال�سم ‪ DESIRE‬تعبريا عن املعاين اخلا�صة‬ ‫التي يحتملها هذا اال�سم بح�سب وجهة نظر امل�ؤلف‬ ‫واملخرج بطبيعة احلال‪.‬‬ ‫�شخ�صية �ستانلي كوال�سكي‬ ‫ر�سم تيني�سي وليامز تلك ال�شخ�صية يف روايته‬ ‫قا�صدا �إح��داث قدر من النفور بني امل�شاهد وبينها‪،‬‬ ‫�إم��ا رغبة يف ت�سليط الأ�ضواء على البطلة احلقيقية‬ ‫التي كان يق�صدها وهي �شخ�صية بالن�ش دوبوا وك�سب‬ ‫التعاطف واالنتباه جتاهها‪ ،‬و�إم��ا يف حماولة للهروب‬ ‫من و�صفه بالذكوري النزعة فقدم �صورة ل�شريحة‬ ‫اجتماعية منفرة من الرجال يف مقابل �صورة رقيقة‬ ‫حمببة للمر�أة‪ ،‬وعلى �أي االحتمالني �أخفق ويليامز‪،‬‬ ‫رمبا لو اعرت�ض على اختيار مارلون براندو لأداء الدور‬ ‫الختلف الأمر وحتقق له ما �أراد‪ ،‬لكن هكذا �شاء القدر‪،‬‬ ‫�أن ي���ؤدى ال��دور كما كتب لكن �شخ�صية م�ؤديه طغت‬ ‫على ال�شخ�صية الروائية وتركت �أثرها فيمن �شاهدها‪،‬‬

‫العدد‬

‫فال�شخ�صية يف الرواية هي �شخ�صية ال�شاب ال�سكري‪،‬‬ ‫الفو�ضوي‪ ،‬الع��ب ال���ورق‪� ،‬سريع الغ�ضب واالنفعال‪،‬‬ ‫عنيف الطبع‪ ،‬لكن ح�ضور وق��ب��ول وو�سامة مارلون‬ ‫براندو ابتلعت كل تلك ال�صفات ومل يعد امل�شاهد يرى‬ ‫�إال كاريزما ذلك الرجل املفتول الع�ضالت‪..‬‬ ‫نحن هنا �أمام حالة ا�ستثنائية من حاالت االنقالب‬ ‫غري املق�صود من جانب املمثل على ما �أراده امل�ؤلف وما‬ ‫�أراده املخرج‪ ،‬املثري للده�شة والإعجاب معا �أن هذا‬ ‫االنقالب قوبل برتحاب من مبدع الن�ص و�صانع الفيلم‬ ‫لأنه �سري الأمور �إىل الأف�ضل‪ ،‬نعم �سارت الأحداث كما‬ ‫�أرادها امل�ؤلف وال�صورة كما �أرادها املخرج لكن الأداء‬ ‫قلب الأم��ور ر�أ�سا على عقب‪� ،‬أراده��ا تيني�سي وليامز‬ ‫و�إليا كازان (بالن�ش دوبوا) وفر�ضها مارلون براندو‬ ‫(�ستانلي كوالي�سكي) �إذن هي حالة نادرة من احلاالت‬ ‫التي ا�ستطاع فيها املمثل ب�أدائه �أن يغري من واجهة‬ ‫الرواية من دون �أن مي�س جوهرها‪ ،‬فاملعتاد �أن يكون‬ ‫التغيري من جانب املخرج ويف الغالب يلقى اعرتا�ضات‬ ‫من جانب امل�ؤلف‪ ،‬بل والأهم من ذلك �أن املمثل يف هذه‬ ‫احلالة النادرة متكن من �إقناع كال من امل�ؤلف واملخرج‬ ‫بقبول الأم��ور على ما �آلت �إليه‪ ،‬ودليل قبولهما �أنهما‬ ‫عاي�شا ذل��ك منذ العر�ض امل�سرحي قبل ال�شروع يف‬ ‫�إنتاج الفيلم بنحو �أربعة �أعوام‪ ،‬ومع ذلك مل يرتددا يف‬ ‫اختيار املمثل نف�سه لأداء الدور‪.‬‬ ‫تلك التجربة الرائدة التي قدمها مارلون براندو‬ ‫و�سمحت برحابة �صدر من جانب ال��روائ��ي واملخرج‬ ‫ب�إجراء تغيري حموري عفوي على العمل الفني ت�ؤكد‬ ‫على �أن ال�شخ�صيات املتحركة الناب�ضة باحلياة �إذا‬ ‫�صدقت يف �أداءه���ا ف�إنها من دون �شك تتفوق على‬ ‫ال�شخ�صيات الورقية �أو اخليالية مهما اجتهد كال من‬ ‫امل�ؤلف واملخرج يف حماولة تغليبها‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪171‬‬


‫سيرة‬

‫د‪ .‬عمرو عبد العزيز منري‬ ‫م�صر‬

‫كان احلجيج ي�أتون مكة‬ ‫عرب قوافل �أربع‪ :‬الأوىل‬ ‫م��ن ب�لاد امل��غ��رب م���روراً‬ ‫مب�رص‪ ،‬وهي قافلة برية؛‬ ‫والثانية من م�رص‪ ،‬وهذه‬ ‫القافلة حتمل معها ك�سوة‬ ‫الكعبة؛ والثالثة قافلة‬ ‫�ج��اج‬ ‫ال�شام وت�ضم احل� ّ َ‬ ‫القادمني من تتاريا وما‬ ‫حولها وتركيا والأنا�ضول‬ ‫و�أر�ض كنعان؛ �أما القافلة‬ ‫الرابعة فهي قافلة الهند‪،‬‬ ‫وحت��م��ل ب�����ض��ائ��ع قيمة‬ ‫وخم��ت��ارة ي�شرتي منها‬ ‫احل��ج��اج على خمتلف‬ ‫جن�سياتهم يف مكة‪.‬‬

‫‪172‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫مشاهدات‬ ‫حاج عثماني‬ ‫في مكة‬ ‫وت�صل ه��ذه القوافل مكة قبل‬ ‫عيد الأ���ض��ح��ى ب�ستة �أي���ام على‬ ‫الأق�����ل‪ .‬وال����ش���ك يف �أن حم��ام��ل‬ ‫احلجاج كانت تتعر�ض لكثري من‬ ‫الأه���وال واملتاعب وامل�����ش��اق‪ ،‬فال‬ ‫يكاد ي�صل احلاج �إىل مكة وي�ؤدي‬ ‫الفري�ضة ومن ثم يعود �إىل دياره‬ ‫�إال ر�أى املوت ن�صب عينيه م َّرات‬ ‫وم َّرات‪ .‬وهذه الأحداث واملخاوف‬ ‫ال َّبد �أن جتد طريقها �إىل مذ ّكرات‬ ‫احلجاج وحكاياتهم ومروياتهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فقد ي��ق��وم احل���اج ب�سرد رحلته‬ ‫وتكراره �شهور ًا وده��ور ًا‪ .‬ك ٌ‬ ‫رث هم‬ ‫من دون��وا رحالتهم و�أ�سهبوا يف‬ ‫و�صف الطريق والقافلة والأماكن‬ ‫ال��ت��ي م����� ُّروا ب��ه��ا و���ش��ع��ائ��ر احل��ج‬ ‫وامل�صاعب التي واجهتهم �أثناء‬ ‫�أدائ��ه��ا‪ ،‬لكننا جند اختالف ًا بني‬ ‫مدوناتهم من الناحيتني ال�شكلية‬ ‫وال��ب��ن��ي��وي��ة‪ ،‬ف��ب��ع�����ض��ه��م اع��ت��م��د‬ ‫الو�صف الدقيق وال��ع�ين املتتبعة‬ ‫لكل �أث���ر �َ��ص�� ُغ�� َر �أم َك�ب�ر‪ ،‬ث��م م ّر‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫م��رور الكرام على ذك��ر ال�شعائر‬ ‫ال��دي��ن��ي��ة‪ ،‬وبع�ضهم الآخ���ر ذكر‬ ‫�شعائر احلج وا�ستفا�ض بال�شرح‬ ‫والو�صف لكل جزئياتها‪ ،‬ومل ي� ِأت‬ ‫على ذك��ر الرحلة �إال بعموميات‬ ‫ي�سرية‪ ،‬ومنهم من عر�ض م�سائل‬ ‫فقهية وبينّ الآراء والفتاوى فيها‪،‬‬ ‫ومنهم م��ن حت َّ���دث ع��ن الطبيعة‬ ‫واهتم باملكان وبالرثوات الباطنية‬ ‫َّ‬ ‫وب��ال��ن�����ش��اط االق��ت�����ص��ادي وغ�ير‬ ‫ذل��ك‪..‬وم��ن��ه��م م��ن ق���دم ل��ن��ا كل‬ ‫م��ا �سبق‪ .‬وخ�ير مثال على ذلك‬ ‫ال��رح��ال��ة ال��ع��ث��م��اين �أول��ي��ا جلبي‬ ‫الذي زار الكثري من البلدان ور�أى‬ ‫�آالف امل��دن‪ ،‬ولكنه �شعر باحلزن‬ ‫والك�آبه لعدم قيامه باحلج وزيارة‬ ‫الأم��اك��ن املقد�سة‪ ،‬فحزم �أم��ره‪،‬‬ ‫و�أعد عدته للقيام بالرحلة الرابعة‬ ‫ع�شرة والأخ�يرة يف حياته‪ ،‬وهي‬ ‫رحلة احلجاز وم�صر‪ ،‬فا�سرتاح‬ ‫عدة �أ�شهر و�أع��د غلمانه‪ ،‬ورافق‬ ‫قافلة احلج الرتكي يف مو�سم حج‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪173‬‬

‫ك���ان مساكين م��ك��ة يعيشون دوم���ًا ع��ل��ى ال��ص��رة ال��ت��ي يبعث ب��ه��ا ال��س��ل��ط��ان العثماني‪،‬‬ ‫وعلى القمح وال���رز التي ترسل إليهم م��ن مصر ث��م اليمن وال��زي��ل��ع وم��ن األم��اك��ن األخ��رى‬

‫�سنة (‪1082‬هـ ‪1671/‬م)‪ ،‬والتي‬ ‫كانت ت�ضم حجاج كل دول البلقان‬ ‫و�إ�ستانبول‪ .‬و�شاهد وو�صف لنا‬ ‫م��را���س��م ت��ودي��ع القافلة وت�سليم‬ ‫اجلمل الذي يحمل املحمل‪ ،‬وكيف‬ ‫�أن ال�سلطان بنف�سه ويف معيته‬ ‫ال�صدر الأع��ظ��م و�شيخ الإ�سالم‬ ‫قد ح�ضروا هذه املرا�سم‪ ،‬وكانت‬ ‫فرقة املو�سيقا ال�سلطانية تعزف‬ ‫�أم��ام ق�صر ال�سلطان قبل موعد‬ ‫قيام القافلة بزمن طويل لإعالم‬ ‫اجل��م��ي��ع ب���اق�ت�راب م��وع��د ق��ي��ام‬ ‫القافلة‪ ،‬فيقدم الأمراء والأثرياء‬ ‫و�أه���ل اخل�ير وامل�شتاقون لزيارة‬

‫البيت هداياهم لتكون يف عهدة‬ ‫�أم�ير القافلة حيث يو�صلها لأهل‬ ‫مكة واملدينة وجم��اوري احلرمني‬ ‫ال�شريفني‪.‬‬ ‫ويف و�صف دقيق وممتع ي�صف‬ ‫لنا الكاتب رحلته منذ �أن قامت‬ ‫م��ن �إ���س��ت��ان��ب��ول ح��ت��ى ان��ت��ه��ى من‬ ‫�أداء �شعائر احل���ج‪ ،‬وي��ق��دم لنا‬ ‫�شعور امل�سلم امل�ؤمن يف مواجهة‬ ‫ال�صعاب‪ ،‬ويف �أن القافلة كانت‬ ‫تتحمل ما ال يطاق من برد‪ ،‬وجوع‬ ‫وع��ط�����ش وه���ى ت��ع�بر ال�����ص��ح��راء‬ ‫ال��ق��اح��ل��ة‪ .‬ك��ل ذل���ك ���ش��وق�� ًا �إيل‬ ‫بيت اهلل احل��رام‪ .‬وكثري ًا ما كان‬

‫يتحفنا ببع�ض �أ�شعاره اجليا�شة‬ ‫وت�ضرعاته وتو�سالته يف احلرم‬ ‫ال��ن��ب��وي و�أم�����ام �أ���س��ت��ار الكعبة‬ ‫ال�شريفة‪ ،‬وينقل لنا ذلك الإ�شراق‬ ‫النف�سي الذي ي�شعر به كل م�ؤمن‬ ‫ي�سعده اهلل بزيارة بلده احلرام‪،‬‬ ‫�إىل �آخ���ر ال��ك�لام اجلميل ال��ذي‬ ‫ي���ردده ك��ل م��ن زار مكة املكرمة‬ ‫وعرف م�شقة ال�سفر �إليها‪ .‬فلما‬ ‫�أح��ل بها فا�ض قلبه بنور وحمبة‬ ‫و�شوق تن�سيه ما لقي من َن�صب‬ ‫وجت��ع��ل��ه يتمنى ل��و ا���س��ت��ط��اع �أن‬ ‫يزورها كل حني‪.‬‬ ‫وجن���د ل��دي��ه و���ص��ف�� ًا للحرمني‬


‫ك���ان���ت ف���رق���ة ال��م��وس��ي��ق��ا ال��س��ل��ط��ان��ي��ة ت���ع���زف أم�����ام ق��ص��ر ال��س��ل��ط��ان ق��ب��ل م��وع��د‬ ‫ق��ي��ام ق��اف��ل��ة ال��ح��ج ب��زم��ن ط��وي��ل إلع��ل�ام ال��ج��م��ي��ع ب���اق���ت���راب م��وع��د ق��ي��ام ال��ق��اف��ل��ة‬

‫ال�شريفني وم��ا فيهما م��ن حتف‬ ‫وع��دد امل���آذن والأب���واب والأعمدة‬ ‫وال�شبابيك و�أط�����وال ك��ل منها‪،‬‬ ‫وتعريف كامل وم�ستفي�ض ب�سكان‬ ‫البقيع م��ن �أ���ص��ح��اب ر���س��ول اهلل‬ ‫���ص��ل��ى اهلل ع��ل��ي��ه و����س���ل���م‪ .‬كما‬ ‫ي�صف لنا و���ص�� ًف��ا دق��ي�� ًق��ا ك��ل ما‬ ‫كان ي�صادفه من قالع وح�صون‬ ‫وم�ساجد وتكايا‪ ،‬ويعرفنا ب�أقطاب‬ ‫ال��ع��ل��م‪ ،‬وجن���د و���ص��ف�� ًا ل�ل�أو���ض��اع‬ ‫االج���ت���م���اع���ي���ة واالق���ت�������ص���ادي���ة‬ ‫والإداري��ة والت�شكيالت الع�سكرية‬ ‫وال��ت��ق�����س��ي��م��ات الإداري������ة لل�شام‬ ‫واحلجاز‪.‬‬ ‫ويحدثنا عن �أهل مكة وف�ضائلهم‬ ‫وجميل �أفعالهم ومكارمهم‪ ،‬ويقف‬ ‫‪174‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ط��وي�ل ًا عند �إطعامهم الفقراء‪،‬‬ ‫ويعطينا �صورة عن م�ساكني مكة‬ ‫الذين يعي�شون دوم ًا على ال�صرة‬ ‫التي يبعث بها ال�سلطان العثماين‪،‬‬ ‫وع��ل��ى القمح وال���رز ال��ت��ي تر�سل‬ ‫�إليهم من م�صر ثم اليمن والزيلع‬ ‫وم��ن الأم��اك��ن الأخ����رى‪ .‬وي�صف‬ ‫حمامات مكة وم��ا بها من رخام‬ ‫ونقو�ش وزخ��ارف بديعة وعددها‬ ‫لت�صل �إىل مائة وت�سعة و�أربعني‬ ‫ح��م��ام�� ًا م���ا ب�ي�ن ع����ام وخ��ا���ص‪،‬‬ ‫والتي كانت �سبب ًا يف جعل مظهر‬ ‫�سكان مكة الئق ًا نظيف ًا‪ ،‬وك�أنهم‬ ‫لي�سوا من بني الب�شر‪ ،‬فوجوههم‬ ‫تت�سم بالب�شر وتعلوها االبت�سامة‪.‬‬ ‫وي�صف �أطباخ مكة‪ ،‬ب�أنها نظيفة‬ ‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫و�شهية‪ ،‬و�أن �أ�شهرها الهري�سة‪،‬‬ ‫كما �أ�شار �إىل �أن الفواكه املوجودة‬ ‫بها هى احلبحب والبطيخ والعنب‬ ‫واخل����وخ ال��ت��ي جت��ل��ب م��ن مدينة‬ ‫العبا�س‪ ،‬و�أن البلد الأمني ال يخلو‬ ‫من الفواكه �صيف ًا وال �شتاء‪ .‬ويذكر‬ ‫�أن مكة املكرمة حتيط بها خم�س‬ ‫ع�����ش��رة م���زرع���ة‪ ،‬وه���ي الأم��اك��ن‬ ‫التي يت�سامر فيها الأ�شراف‪ ،‬وبها‬ ‫تثمر �أ���ش��ج��ار النخيل وال��روم��ان‬ ‫واخلوخ والليمون والعنب‪ ،‬وي�صف‬ ‫�أن��واع العطورات‪ ،‬وال �سيما الورد‬ ‫والريحان والبخور‪.‬‬ ‫وي�صف �أمزجة الأهايل يف مكة‬ ‫املكرمة ب�أنهم يتع�صبون ب�سرعة‪،‬‬ ‫و�أن معظمهم �ضعفاء البنية ب�سبب‬


‫ال يكاد احلاج ي�صل �إىل مكة وي�ؤدي‬ ‫الفري�ضة ومن ثم يعود �إىل دياره �إال‬ ‫ومرات‬ ‫مرات َّ‬ ‫ر�أى املوت ن�صب عينيه َّ‬

‫ت���أث�ير احل���رارة ال�شديدة واملياه‬ ‫عليهم‪ ،‬و�أنهم ال ي�شتغلون بالعلم‪،‬‬ ‫و�إمن����ا كلهم جت���ار‪ ،‬و�أ����ش���ار �إىل‬ ‫وجود ‪ 1300‬حمل جتاري يف البلد‬ ‫الأمني‪ ،‬وثالثة جممعات للأ�سواق‪،‬‬ ‫وهى �سوق ال�شام‪ ،‬وال�سوق القريب‬ ‫من باب ال�سالم‪ ،‬والثالثة قريبة‬ ‫م���ن ال��ث��ان��ي��ة‪ ،‬وحت����وى خم�سني‬ ‫دك����ان���� ًا‪ ،‬م��ع��ظ��م��ه��ا خم�ص�صة‬ ‫للأقم�شة والعطارة‪ ،‬و�أن بها �أنف�س‬ ‫امل��ج��وه��رات وال��ع��ط��ورات �إال �أن��ه‬ ‫ا�شتكى من غالء �أ�سعارها‪.‬‬ ‫و�أ����ش���ار �إىل �أن �أه�����ايل مكة‬ ‫م�سرفون م��ب��ذرون ب�سبب ال�ثراء‬ ‫ال���ذي مي��ت��ازون ب��ه‪ ،‬و�أن رجالها‬ ‫م��غ��ل��وب��ون ع��ل��ى �أم���ره���م يف وج��ه‬ ‫الن�ساء‪ ،‬و�أنهن ال يطبخن الطعام‬ ‫يف منازلهن‪.‬‬ ‫ومي��ت��دح ن�ساء مكة باجلمال‬ ‫واللطافة وخفة الروح ما يجعلهن‬ ‫كحوريات اجلنة‪ ،‬فهن مالئكيات‬ ‫امل��ظ��ه��ر ع��ل��ى ���س��م��اه��ن م�لاح��ة‬ ‫ال��ب�����ش��ر م���ا ي��ج��ع��ل��ه��ن يتبخرتن‬ ‫كالطواوي�س يف حدائق اجلمال‬ ‫ط�����اه�����رات ع���ف���ي���ف���ات امل��ظ��ه��ر‬ ‫واملخرب‪ ،‬لهن جاريات حب�شيات‬ ‫الواحدة منهن يف �سمرة العنرب‬ ‫اخل����ام‪ ،‬يتعطرن ب���أج��ود �أن���واع‬ ‫ال��ع��ط��ر ال����ف���� َّواح وم����ا �إن متر‬ ‫�إحداهن بالقرب من الرجل حتى‬

‫ينفذ العطر �إىل �أعماق دماغه‪.‬‬ ‫وي���ق���دم ل��ن��ا م�����ش��اه��دات��ه عن‬ ‫ع������ادات �أه�����ل م��ك��ة يف جتهيز‬ ‫اجلنائز وال�صالة عليها ودفنها‬ ‫يف مقربة املعال‪ ،‬و�أنهم يحرتمون‬ ‫امل��ي��ت ك��ث�ير ًا‪ ،‬م�����ش�ير ًا �إىل �أنهم‬ ‫يزورون هذه املقربة يومي االثنني‬ ‫واجل��م��ع��ة‪ ،‬و�أن���ه���م ي���ك�ث�رون من‬ ‫قراءة القر�آن الكرمي‪ ،‬كما �أفا�ض‬ ‫�أوليا جلبي يف احلديث عن مقربة‬ ‫املعال و�أ�شهر املدفونني فيها يف‬ ‫الإ�سالم‪.‬‬ ‫ويكرث �أوليا جلبي من احلكايات‬ ‫التي �سمع بها يف مكة‪ ،‬وخا�صة‬ ‫عن املجاورين‪ ،‬وهم يف العادة من‬ ‫كبار ال�شيوخ الذين يقررون ترك‬ ‫بالدهم وق�ضاء بقية �أعمارهم‬ ‫جماورين يف مكة‪ ،‬وقبل كل هذا‬ ‫الين�سى �أن ي�صف ل��ن��ا �شعوره‬ ‫ك��ح��اج �إىل ب��ي��ت اهلل ط���اف مع‬ ‫�بر‪ ،‬ورج��ا‪ ،‬ودع��ا‪،‬‬ ‫الطائفني‪ ،‬وك َّ‬ ‫و�سعى‪ ،‬و�صلى‪ ،‬وحني وقف �أمام‬ ‫احلجر الأ�سود حال بينهما خلق‬ ‫كثري‪ ،‬فانتظر فرجة ليدنو منه‬ ‫ري من ُه قبله؛‬ ‫ويقبله لأن َمنْ هُ َو خ ٌ‬ ‫حم��م��د ر���س��ول اهلل وب��ع��ده �أم�ير‬ ‫امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب الذي‬ ‫قال‪" :‬واهلل �إين �أعلم �أنك حجر‬ ‫ال ت�ضر وال تنفع ول��وال �أن ر�سول‬ ‫اهلل قبلك م��ا قبلتك"‪ .‬وي�صلى‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫�أوليا جلبي يف مقام �إبراهيم ويف‬ ‫حجر �إ�سماعيل ور�أى كيف حتنو‬ ‫الوجوه عليه وكيف حتنو اجلباه‬ ‫ال�شماء على غ�ي�ره؛ لأن���ه وح��ده‬ ‫ذو اجل�لال والإك��رام‪ ،‬وج��اء دور‬ ‫ال�سعي بني ال�صفا واملروة لي�سعى‬ ‫�أوليا جلبي بينهما‪ ،‬وي�صف لنا‬ ‫م�شاهد العطاء ما بني ابن ي�سعى‬ ‫ب�أمه و�أب يحمل ابنه‪ .‬ون�ست�شعر‬ ‫الهيبة يف م�شاهداته حني يدخل‬ ‫ب��ن��ا �إىل ال��ب��ي��ت ال��ع��ت��ي��ق لنجد‬ ‫�أنف�سنا معه يف بيت لكل النا�س‬ ‫ولكل الأجنا�س‪ ،‬وما �إن يدخلوه‬ ‫حتى تذوب فروق اللون واجلن�س‬ ‫وي�صبحوا بنعمة اهلل �إخوان ًا‪ ،‬ك ٌّل‬ ‫�إليه م�شوق‪ ،‬يطوفون وقد جا�ؤوا‬ ‫من كل فج عميق �إليه‪ ،‬يهرعون‬ ‫م���ه���رول�ي�ن وزاح�����ف��ي��ن ي��ح��ث��ون‬ ‫اخلطى‪ ،‬وم��ن ك��ان منهم قعيد ًا‬ ‫جاء حممو ًال على حمفة‪ .‬وقد ال‬ ‫ت�سعف اللغة الختالفها وتفاوتها‬ ‫ف���ت���ن���وب ال���ع���ي���ون والأي��������دي يف‬ ‫التعبري‪ .‬ويتم �أوليا جلبي طواف‬ ‫ال���وداع بقوله‪" :‬اللهم ال جتعله‬ ‫�آخ���ر ال��ع��ه��د م��ن بيتك احل���رام‬ ‫و�إن جعلته فعو�ضني عنه باجلنة‬ ‫يا �أرح��م الراحمني"‪ .‬ونرى معه‬ ‫كيف �إذا ا�ستبد ال�شوق بامل�سلم‬ ‫�إىل البيت العتيق ف�إنه ال يعرف‬ ‫ال�صعب �أو امل�ستحيل‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪175‬‬


‫الشرق‬

‫فـي مر�آة الفنانني‬ ‫الفرن�سيني‬

‫من القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين‬ ‫( ‪)1930 - 1800‬‬ ‫فنون‬

‫�إعداد‪:‬‬

‫هدى الزين‬ ‫باري�س‬

‫ك��ث�رت ال���درا����س���ات ال��ف��ك��ري��ة‬ ‫والأدب��ي��ة يف املكتبة العربية حول‬ ‫نظرة الغربيني �إىل ال�شرق عرب‬ ‫ال��ع�����ص��ور‪ .‬ل��ك��ن ال��ت��ي��ار ال��ف��ن��ي‬ ‫اال�ست�شراقي مل ي�صبح �شعبي ًا �إال‬ ‫يف القرن التا�سع ع�شر لأ�سباب‬ ‫متعددة‪ ،‬منها ازدهار التجارة بني‬ ‫بلدان ال�شرق وتطور املوا�صالت‬ ‫�إىل ال�����ش��رق‪ ،‬م��ا ج��ع��ل م�����ش��روع‬ ‫ال�سفر �إىل ه��ذه البلدان املغرقة‬ ‫بخ�صو�صيتها وت��ف��رده��ا رحلة‬ ‫ممتعة وغنية بت�أثرياتها وعمقها‪.‬‬ ‫وقد كان تتايل الأحداث ال�سيا�سية‬ ‫‪176‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫االجن��ذاب لل�رشق وحماولة اكت�شاف‬ ‫الآخر الذي يعي�ش على �أر�ض هي منبع‬ ‫الأدي���ان و�أ���ص��ل التاريخ واحل�ضارات‬ ‫الإن�سانية القدمية‪ ،‬فلل�رشق جاذبيته‬ ‫اخل��ا���ص��ة ب��و���ص��ف��ه ع���امل الأ���س��اط�ير‬ ‫وح��ك��اي��ات �أل���ف ل��ي��ل��ة‪ ،‬وروائ����ع الفن‬ ‫املعماري وتقاليد وعادات تعك�س عوامل‬ ‫من الغمو�ض واالختالف‪.‬‬

‫واحلمالت الع�سكرية على بلدان‬ ‫ال�شرق يف مطلع القرن التا�سع ع�شر‬ ‫م��ن �أه��م الأ���س��ب��اب لال�ست�شراق‬ ‫الفني الفرن�سي‪ ،‬وم��ن �أه��م تلك‬ ‫الأح��داث احلملة الفرن�سية على‬ ‫م�صر ‪ ،1798‬واحل��رب اليونانية‬ ‫‪ ،1821‬واحتالل اجلزائر ‪،1830‬‬ ‫واح��ت�لال دول امل��غ��رب ال��ع��رب��ي‪.‬‬ ‫وق��د ت��رك لنا ال��ر���س��ام��ون ت��راث�� ًا‬ ‫غني ًا ب��الأل��وان وال��وج��وه والرموز‬ ‫واحل�����ي�����وات ال���ت���ي ���ش��اه��دوه��ا‬ ‫وا�ستعادوها عندما عادوا لباري�س‬ ‫ولندن يف مرا�سمهم‪ .‬ويف �أحيان‬ ‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫كثرية مل ي�سافر فيها الر�سامون‬ ‫اك��ت��ف��وا ب��االع��ت��م��اد على الوثائق‬ ‫والكتب الإثنوغرافية التي �أعدها‬ ‫رح���ال���ة ودب��ل��وم��ا���س��ي��ون وك��ت��اب‬ ‫و�شعراء عن امل�شرق‪ ،‬وا�ستعادوا‬ ‫من هذه امل��واد اخل��ام �صورة عن‬ ‫ال�شرق عك�ست يف الغالب حتيزهم‬ ‫ومواقفهم اجلاهزة �أو االنتقائية‬ ‫عن ال�شرقي‪ -‬العربي والفار�سي‬ ‫والرتكي‪.‬‬ ‫وك��������ان اه����ت����م����ام ال���ر����س���م‬ ‫اال����س���ت�������ش���راق���ي‪ ،‬ال�ب�ري���ط���اين‬ ‫والفرن�سي‪ ،‬و�إن اختلفا يف املعاجلة‬


‫ومتيز الر�سومات الفرن�سية بح�س‬ ‫ال�صدمة والف�ضائحية‪ ،‬وال �سيما‬ ‫�أن���ه ك��ان من�صب ًا على ع��دد من‬ ‫املالمح واملو�ضوعات‪ ،‬من �أهمها‬ ‫ع��امل احل���رمي وال��ن�����س��اء‪ .‬ف��امل��ر�أة‬ ‫كانت �شخ�صية تنب�ض بال�شاعرية‬ ‫والرهافة والغمو�ض وبجمال �آ�سر‬ ‫يثري املخيلة والإب�����داع‪ ،‬كما �أن‬ ‫تفا�صيل احلياة اليومية وطقو�س‬ ‫ال�شرق و�سحره وع��ادات ال�شعوب‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة والإ���س�لام��ي��ة الدينية‬ ‫واالجتماعية جت�سدت يف معظم‬ ‫لوحات كبار الفنانني الفرن�سيني‬

‫امل�ست�شرقني ‪.‬‬ ‫فال�شرق ه��و «ع���امل الأح�ل�ام»‬ ‫وه����و امل���غ���ام���رة وال��ت�رح����ال عرب‬ ‫احل�ضارات ال�شرقية‪ ..‬بغمو�ضها‬ ‫ودفئها وغرائبيتها‪ ..‬واالجنذاب‬ ‫�إىل ال�����ش��رق مل يعد جم��رد حلم‬ ‫رومان�سي يف ارت��ي��اد ال�صحراء‬ ‫واكت�شاف العادات والتقاليد‪ .‬بل‬ ‫هو حماولة اكت�شاف جديدة لل�شرق‬ ‫القدمي‪� ،‬أ�صل التاريخ والإن�سانية‬ ‫ومهبط االديان ال�سماوية وحمط‬ ‫احل�������ض���ارات ال���ق���دمي���ة‪ ،‬وم��ث��ار‬ ‫الأح�����داث ال�سيا�سية يف ال��ق��رن‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫التا�سع ع�شر‪.‬‬ ‫لقد ج�سد الفنانون امل�ست�شرقون‬ ‫روح ال�����ش��رق يف ت��ع��ب�يره��م عن‬ ‫العديد من املوا�ضيع التي مل�سوها‬ ‫يف ت��رح��ال��ه��م يف ب��ل��دان ع��دي��دة‬ ‫(امل��غ��رب ال��ع��رب��ي وم�����ص��ر ومكة‬ ‫و�سوريا وفل�سطني ولبنان وتركيا)‬ ‫وج�������س���دوا ب��ري�����ش��ت��ه��م احل���رب‬ ‫والعنف‪ ،‬والن�ساء‪ ،‬وال�صحراء‪،‬‬ ‫والأ���س��واق‪ ،‬وال��ع��ادات والتقاليد‪،‬‬ ‫وخ�صو�صية الدين الإ�سالمي يف‬ ‫هذه املجتمعات‪.‬‬ ‫وك��ان��ت ر���س��وم امل�ست�شرقني‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪177‬‬

‫ك��ان��ت رس����وم المستشرقين ع��ن ال��ش��رق ت��ح��م��ل ال��ت��ج��دد ف��ي مضمونها وشكلها‬

‫احلملة على م�صر لوحة جلان جريوم‬


‫جاك ماجوريل‬

‫هرني ماتيي�س‬

‫ن�صر الدين ديننه‬

‫ع���ن ال�����ش��رق حت��م��ل ال��ت��ج��دد يف‬ ‫م�ضمونها و�شكلها‪ ،‬حيث �سيطرت‬ ‫الأل����وان املبهجة وال��زاه��ي��ة التي‬ ‫ت��ع�بر ع��ن ���ص��ف��اء ال�����س��م��اء ول��ون‬ ‫ال�صحراء وح��دة ال�شم�س‪ ،‬ولون‬ ‫الأزي�����اء امل��زرك�����ش��ة‪ ،‬وج��م��ال فن‬ ‫العمارة‪ ،‬ما جعل لوحاتهم ت�أخذ‬ ‫خ�����ص��و���ص��ي��ة ال�����ش��رق يف �سحر‬ ‫الأل����وان ال���ذي اع��ت�بره الفنانون‬ ‫الغربيون انت�صار ًا على الأل��وان‬ ‫التقليدية القامتة والكئيبة للر�سم‬ ‫الفرن�سي‪.‬‬ ‫وه���ذا التيار اال�ست�شراقي يف‬ ‫ال��ر���س��م ط��ب��ع ال��ر���س��م الفرن�سي‬ ‫وال���س��ي��م��ا يف �أع���م���ال م��ات��ي�����س‪،‬‬ ‫ودوالكروا‪ ،‬وماجوريل‪ ،‬وجون ليون‬ ‫جريوم‪ ،‬و�إتيان دينيه الذي اعتنق‬ ‫الإ����س�ل�ام ول��ق��ب بن�صر ال��دي��ن‬ ‫دينيه‪ ،‬و�آخ��ري��ن‪ .‬وه����ؤالء حققوا‬ ‫العديد من اللوحات ال�شهرية من‬ ‫ا�ستلهام موا�ضيعهم م��ن بلدن‬ ‫عديدة من امل�شرق العربي‪ ،‬وبلدان‬ ‫املغرب العربي‪.‬‬ ‫‏ غ�ير �أن امل��ق��ارب��ة الأوىل بني‬ ‫ال�شرق وال��غ��رب تعود �إىل تاريخ‬

‫�أب��ع��د م��ن ال��ق��رن ال��ت��ا���س��ع ع�شر‬ ‫عندما نذكر �آثار الفتح الإ�سالمي‬ ‫يف �إ�سبانيا منذ ال��ق��رن الثامن‬ ‫امل��ي�لادي وت��ب��ل��ورت ه��ذه العالقة‬ ‫التاريخية يف ال��ق��رون الو�سطى‬ ‫م��ع ان��ط�لاق��ة احل���رب ال�صليبية‬ ‫(ال��ق��رن ال�����س��اد���س ع�����ش��ر)‪ .‬وقد‬ ‫ظهر الت�أثري الإ���س�لام��ي يف تلك‬ ‫الفرتة يف فن العمارة الفرن�سية‬ ‫يف النقو�ش واملحفورات والتطاريز‬ ‫وامل��ن��م��ن��م��ات‪ .‬وب��ع�����ض ال��ر���س��وم‬ ‫ال��ت��زي��ي��ن��ي��ة ل��ن��م��اذج و�أ���س��اط�ير‬ ‫م�ستمدة م��ن ال�����ش��رق م��ث��ل �أب��ي‬ ‫الهول وجلجام�ش‪ ،‬وهذه الر�سوم‬ ‫جندها وا�ضحة يف كاتدرائيات‬ ‫ليون و�سان داملان واخلط الكويف‬ ‫لعبارة «ما�شاء اهلل» التي تزين‬ ‫كني�سة دوبوي وكاتدرائية راد‪.‬‏‬ ‫كما انعك�س ال�شرق يف خميلة‬ ‫الر�سام الفرن�سي والغربي يف مطلع‬ ‫القرن املا�ضي عرب حكايات �ألف‬ ‫ليلة وليلة‪ .‬حيث احتل هذا العمل‬ ‫الأدبي الهام �آفاق ًا وا�سعة للتخيل‬ ‫حيث جند الر�سام الفرن�سي جان‬ ‫بات�ست فامنور ير�سم ال�سالطني‬

‫واحل���ر����س واخل�����ص��ي��ان واخل���دم‬ ‫والأم�ي�رات والأزي���اء الرتكية بني‬ ‫�أعوام ‪1671-1737‬م‪.‬‬

‫‪178‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫�أهم الر�سامني امل�ست�شرقني‬ ‫الفرن�سيني‬ ‫�أوجيني دوالكروا رائد‬ ‫اال�ست�شراق الفني‏‬

‫يعترب الفنان الفرن�سي دوالكروا‬ ‫‪ 1863 - 1798‬من �أ�شهر الفنانني‬ ‫الفرن�سيني الذين ر�سموا ال�شرق‪،‬‬ ‫وق��دم��وا �أج��م��ل ال��ل��وح��ات الفنية‬ ‫ال��ت��ي زي��ن��ت ك�ب�ري���ات امل��ت��اح��ف‬ ‫العاملية‪ ،‬وقد زار دوالكروا املغرب‬ ‫م��ع امل��ب��ع��وث اخل��ا���ص للحكومة‬ ‫الفرن�سية الكونت �شارل دومورناي‬ ‫لإجراء مفاو�ضات دبلوما�سية مع‬ ‫ال�سلطان عبد الرحمن‪ ،‬وانطلقت‬ ‫رحلة دوالكروا على منت الل�ؤل�ؤة يف‬ ‫‪ 11‬كانون الثاين ‪ 1832‬من مرف�أ‬ ‫(طولون) لتدوم �ستة �أ�شهر‪ .‬وقد‬ ‫وج��د يف ال�شرق مايده�ش عينيه‬ ‫ومي�ل�أ ذاك��رت��ه وخميلته ب�أ�شياء‬ ‫و�ألوان غري م�ألوفة لعينيه حتى �إنه‬


‫لوحة عن تقاليد اجلزائر للر�سام جان لوي جريوم‬

‫لوحة عن املغرب يف معر�ض كوندي لديالكروا‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪179‬‬


‫لوحة نابليون وم�صر جلريوم‬

‫كتب لأخيه قائ ًال‪�" :‬إنني �أعي�ش‬ ‫ك�أنني يف حلم‪ ،‬و�أنظر �إىل الأ�شياء‬ ‫بف�ضول خ�شية �أن تهرب مني"‪.‬‬ ‫وهكذا وقع دوالكروا �أ�سري الع�شق‬ ‫ل��ل�����ش��رق‪ ،‬وا���س��ت��ه��وت��ه التفا�صيل‬ ‫ال�صغرية يف الطبيعة والأزي����اء‬ ‫وال��وج��وه وال��ع��ادات‪ .‬وك��ان ي��دون‬ ‫هذا يف �أوراقه �أو لوحاته‪ ،‬وجاءت‬ ‫م�����ش��اه��دات��ه يف امل���غ���رب منوعة‬ ‫وغنية مثل الأع��ي��اد والأع��را���س‬ ‫واالح��ت��ف��االت ال�شعبية‪ .‬واعترب‬ ‫ال��ن��ق��اد �أن ل��وح��ات��ه ه���ذه ت�شكل‬ ‫مرحلة مهمة ومميزة يف م�سريته‬ ‫الفنية‪.‬‏‬ ‫وق�������د ك����ان����ت م�������ش���اه���دات���ه‬ ‫وانطباعاته يف يومياته التي كتبها‬ ‫بعد ع�شرين ع��ام�� ًا م��ن رحلته‪،‬‬ ‫وكتب عنها قائ ًال‪:‬‬ ‫مل �أب���د�أ ب���إجن��از �شيء مقبول‬ ‫‪180‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫يف �أثناء رحلتي �إىل املغرب �إال يف‬ ‫اللحظة التي ن�سيت فيها التفا�صيل‬ ‫ال�صغرية‪ ،‬ال �أتذكر فقط اجلوانب‬ ‫ال�شاعرية ال��ت��ي جت��ذب االنتباه‬ ‫للوهلة الأوىل‪.‬‬ ‫وك��ت��ب ال��ن��اق��د الفرن�سي بيار‬ ‫غرا�سييه يف كتاب دوالك���روا يف‬ ‫املغرب �سنة ‪" :1963‬لقد جتاوز‬ ‫ال��واق��ع �أح�لام��ه عو�ض �أن يجعل‬ ‫منه جم��رد م���دون ع���ادي ل�شرق‬ ‫�سطحي وغ�ير �أ�صيل‪ ،‬جعل منه‬ ‫بعد �أن قتل لديه الواقعية‪� ،‬شاعر‬ ‫النور واللون ال��ذي ا�ستخدم من‬ ‫غرائبية عا�شها يوم ًا عم ًال فني ًا ال‬ ‫يحده ع�صر وال حتتويه حدود"‪.‬‬ ‫�أم���ا ب��ودل�ير‪ ،‬فقد ك��ان �شديد‬ ‫الإعجاب بدوالكروا‪ ،‬وهو يعتربه‬ ‫م���ن �أك��ث�ر ال��ف��ن��ان�ين مت���اي���ز ًا يف‬ ‫الع�صور القدمية واحلديثة حتى‬ ‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫�إن��ه كتب له ق�صيدة يف جمموعة‬ ‫�أزه���ار ال�شر‪ .‬ول��وح��ات دوالك��روا‬ ‫تعر�ض يف متحف اللوفر بباري�س‬ ‫وم��ت��ح��ف ���ش��ان��ت��ي��ي ويف متاحف‬ ‫�أوروب���ا و�أم�يرك��ا ال�شمالية‪ ،‬ومن‬ ‫�أجملها‪ :‬فانتازيا‪ ،‬قائد مغربي‬ ‫يف زيارة قبيلة‪ ،‬ن�ساء جزائريات‪،‬‬ ‫مرور عابر‪.‬‬ ‫هرني ماتي�س ورحلته املغربية‏‬

‫الفنان الفرن�سي ماتي�س الذي‬ ‫ول���د ع���ام ‪ 1869‬ت���أث��ر بال�شرق‬ ‫قبل زيارته للمغرب عام ‪،1906‬‬ ‫فقد ك��ان �شغفه وا���ض��ح�� ًا بالفن‬ ‫العربي بعد زيارته ملعار�ض الفن‬ ‫الإ�سالمي التي �أقيمت يف باري�س‬ ‫‪ ،1894 – 1893‬وق��د ب��دا هذا‬ ‫الت�أثر وا�ضح ًا يف معظم ر�سوماته‬ ‫خا�صة يف لوحة ال�سجادة احلمراء‬


‫انعكس الشرق في مخيلة الرسام الفرنسي والغربي في مطلع القرن الماضي عبر حكايات ألف ليلة وليلة‬

‫رحلة احلج التيان دينيه‬

‫‪ 1906‬ولوحة اجلزائرية ‪.1909‬‏‬ ‫و�أ�سهمت رحالته �إىل املغرب‬ ‫يف حتول فني وا�ضح‪ .‬وكما يقول‬ ‫ماتي�س‪�" :‬إن رحالتي �إىل املغرب‬ ‫�أ���س��ه��م��ت يف حت���ول ك���ان يحتاج‬ ‫�إل��ي��ه ف��ن��ي‪� ،‬إذ ع���اودت االت�صال‬ ‫بالطبيعة ب�صورة �أوثق‪ ،‬وهذا مامل‬ ‫ت�ستطع �إجنازه نظرة فنية �ضيقة‬ ‫مثل الوح�شية"‪.‬‬ ‫‏ كانت زيارة ماتي�س �إىل الأندل�س‬ ‫حافلة بالبعد اجلمايل والفني‪،‬‬ ‫فقد تنقل بني قرطبة وغرناطة‬ ‫و�إ�شبيلية مت�أم ًال معاملها الأثرية‬ ‫من م�ساجد وق�صور وحدائق‪ .‬ثم‬ ‫قرر امل�ضي �أبعد يف بحثه اجلمايل‪،‬‬ ‫ف�سافر �إىل املغرب فكانت رحلته‬ ‫�إىل طنجة عام ‪ 1913‬حا�سمة يف‬ ‫بحثه الفني‪ ،‬وهي التي �سمحت له‬ ‫بعد �أربعني عام ًا بتحقيق التمازج‬

‫لوحة امل�ؤذن لدينيه‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪181‬‬


‫املغرب يف لوحات ماتيي�س‬

‫ر�سوم لن�ساء من املغرب لدوالكروا يف معر�ض كوندي‬

‫‪182‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫بني عاملني من التقاليد الفكرية؛‬ ‫مرحلة غنية بالأعمال الفنية التي‬ ‫تتالت الواحدة بعد الأخرى فر�سم‬ ‫ل��وح��ات��ه ال��ت��ال��ي��ة‪ :‬على ال�شرفة‪،‬‬ ‫ب��اب الق�صبة‪ ،‬املقهى املغربي‪.‬‬ ‫ويف رب��ي��ع ‪ 1913‬ع��ر���ض ماتي�س‬ ‫‪ 14‬لوحة مم��ا ر�سمه يف املغرب‬ ‫يف غ���ال�ي�ري ب��رم��ن��ه��امي ج���ون‪،‬‬ ‫وا�ستقبلها النقاد ا�ستقبا ًال جيد ًا‪،‬‬ ‫ومل ي�ستخدم ماتي�س �ألوانا مبهرة‬ ‫كما فعل الفنانون امل�ست�شرقون‪،‬‬ ‫ب��ل ا���س��ت��خ��دم الأل������وان ال��داك��ن��ة‬ ‫حيث نرى اللون الأ�سود يف معظم‬ ‫لوحاته خا�صة يف لوحته ال�شهرية‬ ‫(املغاربة)‪� ،‬إال �أن لوحات ماتي�س‬ ‫امل�ستوحاة من ال�شرق عربت عن‬ ‫�صفاء وب�ساطة وجت��ري��د يقارب‬ ‫ال��روح��ان��ي��ة مم��ا ي��ب��دو وا���ض��ح�� ًا‬ ‫ت����أث���ره ب��ف��ن ال��زخ��رف��ة العربية‬ ‫والإ�سالمية‪.‬‏‬ ‫دون �شك كانت حملة نابليون‬ ‫بونابرت على م�صر التقاء فريد ًا‬ ‫ل��ل�����ش��رق وال����غ����رب‪ .‬وق����د دف��ع��ت‬ ‫احل��م��ل��ة الفرن�سية وم���ا رافقها‬ ‫من معارك بع�ض الر�سامني �إىل‬ ‫ا�ستلهام بع�ض الأعمال البطولية‬ ‫لت�صوير مرحلة من حياة بونابرت‬ ‫يف ال��ف�ترة ال�شرقية‪ .‬وم��ن �أب��رز‬ ‫ه����ؤالء ج��ان �أن��ط��ون غ��رو ‪1771‬‬ ‫‪ 1835 -‬ال����ذي �أع��ط��ى ال��ر���س��م‬


‫املدر�سة اال�ست�شراقية‬ ‫الفرن�سية مليئة‬ ‫ب�أ�سماء عديدة‬ ‫لر�سامني ا�ستلهموا‬ ‫من ال�شرق �أجمل‬ ‫لوحاتهم‪ ،‬ومزجوا بني‬ ‫ح�ضارة عا�شوا فيها‬ ‫وح�ضارة ع�شقوها‬

‫هرني ماتي�س ولوحاته عن املغرب‬

‫اال�س�شراقي دف��ع�� ًا دون �أن تط�أ‬ ‫قدمه �أر�ض ال�شرق‪ ،‬حيث ا�ستقى‬ ‫م��ع��ل��وم��ات��ه‪ ،‬و�أغ��ن��ى خميلته من‬ ‫درا�سة الوثائق الدبلوما�سية وكتب‬ ‫ال��رح��ال��ة وت��ق��اري��ر الع�سكريني‪.‬‬ ‫ومن �أهم لوحاته لوحة حمفوظة‬ ‫يف متحف (ن��ان��ت) ه��ي معركة‬ ‫النا�صرة ‪ ،1801‬ولوحة (م�صابون‬ ‫بالطاعون يف يافا) ‪ ،1804‬وهي‬ ‫حم��ف��وظ��ة يف م��ت��ح��ف ال��ل��وف��ر‪.‬‬ ‫واللوحة الثالثة (معركة �أبي قري)‬ ‫‪ ،1806‬وهي حمفوظة يف متحف‬ ‫فر�ساي‪ ،‬وفيها يربز الفنان الأزياء‬ ‫والأ���س��ل��ح��ة والأع���ل��ام و���ض��راوة‬ ‫امل��ع��ارك‪� .‬أم���ا ال��ف��ن��ان والنحات‬ ‫والر�سام (ج��ول روب�ير �أوغ�ست)‬ ‫فقد اعترب من رواد اال�ست�شراق‬ ‫يف فرن�سا و�أ ّثر يف الفنانني الذين‬ ‫�أت��وا بعده مثل دوالك���روا وفرينيه‬ ‫وجرييكو وبونيتيغون و�شامبارتان‪.‬‬ ‫�أم���ا ال��ر���س��ام دي��ك��ان فقد بهرته‬ ‫�أل��وان ال�شرق و�أ���ض��وا�ؤه يف تركيا‬ ‫حيث بقي يف �إزم�ي�ر م��دة �سنة‪.‬‬

‫ه����ذه ال��رح��ل��ة ال�ترك��ي��ة �أع��ط��ت‬ ‫�أعماله نفحة �شرقية‪ ،‬وعرف �أنه‬ ‫كيميائي الألوان من خالل �إبرازه‬ ‫للألوان الزاهية واحل��ادة خا�صة‬ ‫يف لوحاته ال�شرقية‪ ،‬مثل لوحات‬ ‫(ا�سرتاحة القافلة‪� ،‬أوالد �أتراك‬ ‫يلهون مع �سلحفاة‪� ،‬شارع يف �إزمري‬ ‫وغريها)‪.‬‏‬ ‫ويعترب الفنان (م��اري�لا) من‬ ‫ع�شاق ال�شرق‪ ،‬خا�صة عندما زار‬ ‫�سوريا ولبنان وم�صر‪ ،‬وكان يوقع‬ ‫ر�سائله با�سم امل�صري برو�سبري‬ ‫ماريال‪ ،‬وكان �إنتاجه الفني يعك�س‬ ‫غ��زارة املو�ضوعات ال�شرقية‪� ،‬إذ‬ ‫قدم حوايل ‪ 500‬عمل فني �شرقي‪.‬‬ ‫وم��ن �أه��م لوحاته (م�شاهد من‬ ‫�سوريا ‪ ،1843‬مقهى على �أح��د‬ ‫ط����رق ����س���وري���ا ‪ ،1844‬م�شهد‬ ‫الالذقية‪ ،‬م�شهد من طرطو�س)‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل لوحات من م�شاهد‬ ‫لبنان وم�صر وال��ق��د���س وتركيا‬ ‫واجلزائر‪.‬‏‬ ‫ك��ان ماريال مبهور ًا بامل�شاهد‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫الطبيعية واملباين الأثرية‪ ،‬وظلت‬ ‫موا�ضيعه تعك�س م�شاهد عامة‬ ‫وب��ان��ورام��ي��ة �أك�ث�ر م��ن اهتمامه‬ ‫بالتفا�صيل الدقيقة حلياة النا�س‬ ‫واملوا�ضيع التي ت�ستلهم العادات‬ ‫وال��ت��ق��ال��ي��د ال�����ش��رق��ي��ة واحل��ي��اة‬ ‫اخلا�صة ل�سكان البلد مثلما فعل‬ ‫الفنانون وامل�ست�شرقون‪.‬‬ ‫وت��ع��ددت �أ�سباب الرحيل �إىل‬ ‫ال�����ش��رق لكل ف��ن��ان ح�سب ر�ؤي��ت��ه‬ ‫اخل��ا���ص��ة‪ ،‬فنجد �أن ه��م الفنان‬ ‫جيم�س تي�سو كان ا�ستطالع الأبنية‬ ‫التاريخية ووج��د غايته يف م�صر‬ ‫لري�سم احل��ي��اة اليومية للنا�س‪،‬‬ ‫وجمعت الكاتبة ليفي ثورنتون بني‬ ‫ه�ؤالء الرحالة كلهم‪.‬‏‬ ‫دينيه بني اال�ست�شراق الفني‬ ‫والإ�سالمي‏‬

‫الر�سام الفرن�سي �إيتيان دينيه‪،‬‬ ‫�أو ن�صر الدين ا�سمان ل�شخ�ص‬ ‫واحد هو الر�سام الفرن�سي �إيتيان‬ ‫دينيه الذي عا�ش يف بداية القرن‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪183‬‬


‫جت�سدت تفا�صيل‬ ‫احلياة اليومية‬ ‫وطقو�س ال�شرق و�سحره‬ ‫وعادات ال�شعوب‬ ‫العربية والإ�سالمية‬ ‫الدينية واالجتماعية‬ ‫يف معظم لوحات كبار‬ ‫الفنانني الفرن�سيني‬ ‫امل�ست�شرقني‬ ‫لوحة ر�سمها الكروا يف املغرب‬

‫الع�شرين مغامرة مثرية ابتد�أت‬ ‫ف�صولها يف باري�س وانتهت بقرية‬ ‫�صغرية يف جنوب اجلزائر‪ ،‬ا�سمها‬ ‫بو�سعادة التي �أو���ص��ى �أن يدفن‬ ‫فيها بعد وفاته‪.‬‬ ‫وق��د احتل دينيه موقع ًا مهم ًا‬ ‫يف تاريخ اال�ست�شراق‪ ،‬وواك��ب يف‬ ‫نهاية القرن التا�سع ع�شر ومطلع‬ ‫القرن الع�شرين �أكرث من تيار فني‪:‬‬ ‫الواقعية والرمزية واالنطباعية‪.‬‬ ‫و���ش��ارك يف معر�ض االنطباعيني‬ ‫عام ‪ 1888‬قبل �أن يعتمد الر�سم‬ ‫الواقعي يف ت�صوير احلياة اليومية‬ ‫يف اجل��زائ��ر‪ .‬ك��ان��ت رح��ل��ة دينيه‬ ‫عام ‪� 1885‬إىل اجلزائر انعطاف ًا‬ ‫مهم ًا يف حياته الفنية وال�شخ�صية‪،‬‬ ‫ف��ع��ن��دم��ا و����ص���ل �إىل (ورق���ل���ة‬ ‫والأغ���واط)‪ ،‬وكان عمره اليتجاوز‬ ‫الثالثة والع�شرين‪� ،‬أقام يف جنوب‬ ‫اجلزائر‪ ،‬يف هذه املنطقة ال�ساحرة‬ ‫لعدة �شهور‪ ،‬وقرر الإقامة الدائمة‬ ‫يف اجل���زائ���ر يف ق��ري��ة بو�سعادة‬ ‫‪ ،1904‬حيث تعلم اللغة العربية‪،‬‬ ‫وعا�ش احلياة اليومية اجلزائرية‪.‬‬ ‫‪184‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫كما ت�أثر بالديانة الإ�سالمية واعتنق‬ ‫الإ�سالم عام ‪ ،1913‬كما قام ب�أداء‬ ‫فري�ضة احلج‪ ،‬واتخذ لنف�سه ا�سم‬ ‫ن�صر الدين دينيه ا�سم ًا �إ�سالمي ًا‬ ‫بعد اعتناقه ال��دي��ن الإ���س�لام��ي‪.‬‬ ‫وقدم دينيه للإن�سانية �أجمل لوحاته‬ ‫الت�صويرية للوجوه واحلياة يف قبيلة‬ ‫وادي نائل ال�شهرية بوجوه �صباياها‬ ‫و���ش��ج��اع��ة �شبابها وو���س��ام��ت��ه��م‪،‬‬ ‫وجت����اوزت لوحاته اال�ست�شراقية‬ ‫‪ 400‬ل��وح��ة م��ن �أب���رزه���ا‪( :‬ر�سم‬ ‫���س��ل��ي��م��ان ب���ن �إب����راه����ي����م‪ ،‬وج��ه‬ ‫ع��رب��ي‪ ،‬ال��ف�لاح ال�����ص��غ�ير‪ ،‬فتاة‬ ‫ت�ضع احل��ج��اب‪ ،‬بدوية �صغرية)‪.‬‬ ‫ور�سم دينيه م�شاهد من احلياة‬ ‫اليومية م��ث��ل‪� :‬ساحة بو�سعادة‪،‬‬ ‫وبد ٌو يجل�سون قرب اخليمة‪ ،‬وريح‬ ‫ال�سموم‪ ،‬ويوم عيد‪ ،‬ون�ساء م�سنات‪،‬‬ ‫وم�شاهد ال�صيد‪ ،‬و�شجار ليلي يف‬ ‫بو�سعادة‪� ،‬إ�ضافة �إىل لوحات متثل‬ ‫م�شاهد حربية وطبيعية ودينية‪،‬‬ ‫وراق�������ص���ات‪ ،‬و�أل����ع����اب ال�صبية‬ ‫وغ�يره��ا‪ ..‬وات�سمت لوحاته ذات‬ ‫الطابع الديني بالتقوى‪ ،‬واعتربت‬ ‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫من �أجمل اللوحات اال�ست�شراقية‬ ‫التي �صورت احلج‪ ،‬والطواف حول‬ ‫الكعبة‪ ،‬وم�شهد املدينة امل��ن��ورة‪،‬‬ ‫وقرب الر�سول الكرمي‪.‬‬ ‫ميكن و�صف معظم �أعماله قبل‬ ‫�سنة ‪ 1900‬ب�أنها "م�شاهد ب�شرية‬ ‫واقعية ومعا�صرة‪ .‬وبعد اعتناقه‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬بد�أ بر�سم املو�ضوعات‬ ‫الدينية‪.‬‬ ‫اع��ت�بر دي��ن��ي��ي��ه م��داف��ع�� ًا عن‬ ‫بالثقافة الإ�سالمية ككاتب‪ ،‬حيث‬ ‫�أ���ص��در ك��ت��اب ال�����ش��رق وال��غ��رب‪،‬‬ ‫والذي ت�صدى فيه للرد على كبار‬ ‫امل�ست�شرقني الغربيني‪ .‬فربهن‬ ‫ع��ل��ى ع���دم اال���س��ت��ق��ام��ة اخللقية‬ ‫للوي�س ب��رت��ران��د‪ ،‬و�أظ��ه��ر �سخف‬ ‫ليون رو���ش ال��ذي اعتنق الإ�سالم‬ ‫لأ�سباب غري م�صرح عنها على‬ ‫حد تعبريه‪.‬‬ ‫وكان ن�شط ًا يف ترجمة الأدب‬ ‫ال��ع��رب��ي �إىل ال��ل��غ��ة الفرن�سية‪.‬‬ ‫وم�����ن ب��ي�ن �أع����م����ال����ه ت��رج��م��ة‬ ‫ل��ق�����ص��ي��دة ملحمية ل��ع��ن�ترة بن‬ ‫�شداد �سنة ‪.1898‬‬


‫جاك ماجوريل‪..‬‏ عا�شق مراك�ش‏‬

‫�أح��ب جاك ماجوريل مراك�ش‪،‬‬ ‫وفنت ب�سحرها‪ ،‬ولذلك عا�ش فيها‪،‬‬ ‫واع��ت�بر امل��غ��رب ب��ل��ده‪ .‬ويف بيته‬ ‫املراك�شي زاره ون�ستون ت�شر�شل‪،‬‬ ‫و�أغلب الر�سامني الأوربيني بعد �أن‬ ‫ب��د�أ يفر�ض ح�ضوره يف املعار�ض‬ ‫ال��ع��دي��دة ال��ت��ي ي�����ش��ارك فيها يف‬ ‫املغرب وفرن�سا‪ .‬وقد �صدر كتاب‬ ‫�ضخم للناقد الفرن�سي فيلك�س‬ ‫مار�سيالك تناول فيه جتربة هذا‬ ‫الر�سام الذي اقرتن ا�سمه مبدينة‬ ‫مراك�ش‪.‬‬ ‫م��راك�����ش ال��ت��ي ���س��ح��رت��ه بكل‬ ‫تفا�صيلها‪ ،‬و�أمكنتها‪ ،‬ورائحتها‪،‬‬ ‫و�أنوارها‪ ،‬و�أهلها‪ .‬وقد �سجل كل ما‬ ‫فيها يف لوحاته عرب لعبة الألوان‬ ‫ال�ساحرة وامل�شعة واملت�ألقة‪ .‬ومل‬ ‫تكن مراك�ش نهاية املطاف‪� ،‬إذ بد�أ‬ ‫�سنة ‪ 1921‬رحالته �إىل منطقة‬ ‫الأط��ل�����س��ي ال��ت��ي ب��ه��رت��ه‪ ،‬ووق��ف‬ ‫مدهو�ش ًا �أم��ام الق�صور واجلبال‬ ‫واحلياة يف القرى‪ ،‬وال �سيما تلك‬ ‫املنعزلة‪ ،‬واملبنية بيوتها من الطني‬ ‫ب���أل��وان خ�لاب��ة‪ .‬ويف �سنة ‪1923‬‬ ‫ب��د�أ يف بناء بيته يف بو�صف�صاف‬ ‫يف م��راك�����ش‪ ،‬و�صمم بنف�سه كل‬ ‫تفا�صيله معتمد ًا على الأل���وان‬ ‫الثالثة‪ :‬الأزرق والأخ�ضر والأحمر‬

‫ن�ساء من مراك�ش ماجوريل‬

‫املراة يف لوحة م�ست�شرق‬

‫ال��ق��امت‪ ،‬م�ستخدم ًا �إي��اه��ا �أي�ض ًا‬ ‫يف ال��دي��ك��ور ال��داخ��ل��ي‪ .‬واع��ت��ب��ار ًا‬ ‫من �سنة ‪ 1930‬التفت ماجوريل‬ ‫�إىل فنه الت�شكيلي‪ ،‬فر�سم لوحته‬ ‫ال�شهرية (ال�سوداوات العاريات)‬ ‫ال���ل���وات���ي ر���س��م��ه��ن يف ح��دائ��ق��ه‬ ‫الفخمة و�أبرز جمالهن‪ .‬ويف �سنة‬ ‫‪ 1934‬عر�ض �إنتاجه يف غالريي‬ ‫�شار بانتيه يف باري�س‪ ،‬وبلغ عدد‬ ‫ل��وح��ات��ه (‪ )115‬ل���وح���ة‪ ،‬منها‬ ‫‪ 95‬لوحة لل�سوداوات العاريات‪.‬‬ ‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫ب��ع��د احل�����رب ال��ع��امل��ي��ة ال��ث��ان��ي��ة‬ ‫جت��ول ماجوريل يف ال�����س��ودان ثم‬ ‫غينيا بحث ًا عن ج��ذور عار�ضاته‬ ‫اجل���م���ي�ل�ات‪ ،‬ل��ي�����س��ج��ل م�����ش��اه��د‬ ‫احلياة اليومية للنا�س‪ ،‬كما فعل‬ ‫يف رح��ل��ت��ه امل��غ��رب��ي��ة‪ .‬ويف ه��ذه‬ ‫املرحلة تنوعت �أل��وان��ه‪ ،‬و�أ�صبح‬ ‫هناك تناغم بني �ألوان �أكرث عنف ًا‬ ‫و�ألوان �أكرث حيوية‪ ،‬وا�ستطاع من‬ ‫خ�لال جتربته الفنية �أن ميزج‬ ‫بني احل�ضارات ال�شرقية والغربية‬ ‫لإعطاء فن ح�ضاري متميز‪.‬‏‬ ‫وامل����در�����س����ة اال���س��ت�����ش��راق��ي��ة‬ ‫الفرن�سية مليئة ب�أ�سماء عديدة‬ ‫لر�سامني ا�ستلهموا م��ن ال�شرق‬ ‫�أج��م��ل ل��وح��ات��ه��م‪ ،‬وا���س��ت��ط��اع��وا‬ ‫�أن مي��زج��وا ب�ين ح�ضارة عا�شوا‬ ‫ف��ي��ه��ا وح�������ض���ارة ع�����ش��ق��وه��ا من‬ ‫خ�لال رحالتهم �أو �إقامتهم يف‬ ‫ال�شرق؛ ليحققوا �أجمل اللوحات‬ ‫الفنية التي عك�ست ع�شق الفنان‬ ‫ال��غ��رب��ي ل��ل�����ش��رق‪ ،‬ال����ذي اع��ت�بر‬ ‫غذاء للم�شاعر‪ ،‬و�إغناء للتجربة‬ ‫الإن�سانية والفنية‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪185‬‬


‫من تأليف الدكتور سامي القباني‪..‬‬

‫ٌ‬ ‫قطوف من الحياة‬

‫كتاب للدكتور �سامي‬ ‫�صدر عن دار العلم للماليني يف بريوت �صيف عام ‪،2012‬‬ ‫ٌ‬ ‫القباين‪ ،‬جراح القلب ال�شهري‪ ،‬و�صاحب جملة (طبيبك) العريقة‪� .‬أما عنوان الكتاب‬ ‫فهو‪( :‬قطوف من احلياة)‪ ،‬ويقع يف �أربعمئة من ال�صفحات املليئة مبا هو مفيدٌ وممتع‪.‬‬ ‫يقول نا�رش الكتاب روحي بعلبكي‪" :‬ينتقي الدكتور القباين قطوفه من احلا�رض ومن‬ ‫مما يخربه ّ‬ ‫كل �إن�سان يف � ّأي زمن و� ّأي مكان‪ ،‬فيفيد من التاريخ والفل�سفة‬ ‫املا�ضي‪ّ ،‬‬ ‫والأدب‪ ،‬ويربط بني الإن�سان واحلدث"‪.‬‬ ‫يقول القباين يف مقدمة كتابه‪" :‬وها �أنذا بعد �أربعني االجتماعي) عن عادات �سيئة منت�شرة يف املجتمع مثل‬ ‫حو ًال‪ ،‬ويف حوزتي عد ٌد ال ي�ستهان به من الأحاديث كتبتُها �صوت املذياع العايل‪ ،‬ورم��ي الأو���س��اخ �أم��ام اجل�يران‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتنخع بع�ض الرجال �أو ب�صقهم على م��ر�أى النا�س‪،‬‬ ‫و�أنا يف �أحوال �شتّى من االبتهاج �أو التك ّدر‪ ،‬والر�ضا �أو‬ ‫التذمر‪ ..‬يف �أحوال اليقني والتفا�ؤل‪ ،‬والت�أمل والت�سا�ؤل‪ .‬وهجوم املنتظرين على باب احلافلة‪ ،‬و�سري ال�سيارات‬ ‫لكنّ الدافع وراءها كان دوم ًا االرتقاء بالإن�سان العربي دون مراعاة لأب�سط قواعد املرور‪ .‬ويف كل هذه املوا�ضع‬ ‫غياب �ضمرينا االجتماعي �أو �ضعفه‪ ،‬وقد يكون‬ ‫نحو الأف�ضل"‪.‬‬ ‫ُيالحظ ُ‬ ‫كل ذلك جاء ب�أ�سلوب �أدبي راقٍ ‪ ،‬و�إن توا�ضع الكاتب الو�صول �إليه �أ�صعب من حماربة الأمية والفقر‪.‬‬ ‫ويف مقال �آخر يدعو الكاتب العرب �إىل �أن يكونوا (�أكرث‬ ‫بالقول‪�( :‬أن��ا ل�ستُ �أدي��ب�� ًا)‪ ،‬لأن الكلمات ال ت�أتي �إليه‬ ‫د ّق ًة يف تعبريهم) حتى ال ن�ؤاخذ يف‬ ‫طواعية‪� ،‬إذ �أ ِل��ف لغة العلم التي ال‬ ‫جوانبها ال�سلبية‪ ،‬فم�ألوف �أن النا�س‬ ‫ت�ست�سيغ املبا َلغ فيه من الكالم‪ ،‬وال كل‬ ‫يبالغون يف كالمهم‪" :‬طفلي م�صاب‬ ‫ما هو غري مد ّقق �أو مو ّثق‪.‬‬ ‫د‪ .‬غالب خاليلي‬ ‫بح ّمى حمرقة"‪ ،‬ومثل ذلك املبالغة‬ ‫وقد ق�سم الكاتب كتابه �إىل �سبعة‬ ‫بعدد امل�صابني يف �أي ح��ادث‪ ،‬وغري‬ ‫�أج���زاء ه��ي‪ :‬اجتماعيات ووطنيات‬ ‫ذلك يف احلياة وال�سيا�سة‪� .‬أما مقال‬ ‫و�إن�����س��ان��ي��ات ونف�سيات وت��رب��وي��ات‬ ‫(مزمار احلي) فيتحدث عن �أولئك‬ ‫وفل�سفيات و�صحة وعلوم‪ .‬ومب��ا �أنّ‬ ‫الذين ي�سافرون للعالج يف اخلارج‪،‬‬ ‫الكتاب غري �أكادميي‪ ،‬ف�إن الإحاطة‬ ‫برغم امل�شقة‪ ،‬رمبا ب�سبب قلة الثقة يف‬ ‫به �صعبة‪ ،‬ويحتاج كل مو�ضوع �إىل‬ ‫طبنا‪� ،‬أو رواج الدعاية لبع�ض البلدان‬ ‫ق��راءة مت�أ ّنية‪ ،‬ليح�صل القارئ منه‬ ‫الأج��ن��ب��ي��ة �أو ب�سبب "عقدة تفوق‬ ‫على فائدة دائمة مهما �أعاد قراءته‪.‬‬ ‫الأجنبي"‪� .‬إن للطبيعة الإن�سانية باع ًا‬ ‫يف اجلانب االجتماعي‪ ،‬يتحدث‬ ‫كتاب‬ ‫كبري ًا يف ت�سبيب هذه الظاهرة‪ ،‬وهي‬ ‫م���ق���ال (ح���ت���ى ي��ت��ك��ام��ل ���ض��م�يرن��ا‬ ‫‪186‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪187‬‬

‫لست أدي��ب��ًا)‪ ،‬ألن الكلمات‬ ‫راق‪ ،‬وإن ت��واض��ع الكاتب بالقول‪( :‬أن��ا‬ ‫ُ‬ ‫أس��ل��وب القباني أدب��ي ٍ‬ ‫ال ت��أت��ي إل��ي��ه ط��واع��ي��ة‪ ،‬إذ أ ِل���ف لغة العلم ال��ت��ي ال تستسيغ ال��م��ب��ا َل��غ فيه م��ن الكالم‬

‫طبيعة جت�سيم املحا�سن وامليزات خارج بيئتنا‪ ،‬وتعظيم‬ ‫املثالب وال�سيئات داخلها‪.‬‬ ‫(يف ال�صني) ويف �أول �صباح له يف مدينة "�شنغهاي"‪،‬‬ ‫وقف الكاتب م�شدوه ًا �أمام �صفوف الرجال والن�ساء من‬ ‫كل الأعمار على الر�صيف‪ ،‬يقومون بحركات من�سجمة‬ ‫ب�سواعدهم و�أرجلهم ور�ؤو�سهم و�أج�سامهم‪ .‬يدعونها‬ ‫"املالكمة اخليالية" �أو "تاي ت�شي �شوان"‪ ،‬وهي فل�سفة‬ ‫�صينية عريقة‪ ،‬مبد�ؤها �أن كل ما يف الكون يت�شكل من‬ ‫تفاعل الـ"ين" (القوة ال�سلبية ومت ّثل الأنوثة وال�سكون‬ ‫واللطف والتقوى) والـ"يانغ" (القوة الإيجابية ومتثل‬ ‫الذكورة واحلركة والقوة والرحمة)‪ ..‬واالثنان يك ّمالن‬ ‫بع�ضهما‪ ،‬ويتفاعالن يف تكوين كل �شيء‪ ،‬جماد �أو حي‪.‬‬ ‫ويف (النا�س واخل��راف��ات) نرى خرافات كثرية مثل‬ ‫الت�شا�ؤم من القطة ال�سوداء والرقم ‪ ،13‬على �أنها كما‬ ‫يقول املفكر �أدم��ون��د ي��ورك‪" :‬هي ديانة ذوي العقول‬ ‫الواهنة"‪ .‬ومع ذلك ال ميلك اجل��راح �أن مي�سك نف�سه‬ ‫من التفا�ؤل عندما يقول له مري�ض‪" :‬حكيم‪ .‬توكل على‬ ‫اهلل‪ ،‬ف�أنا �أ�شعر �أين �س�أخرج من العملية مثل ال�شعرة من‬ ‫العجني"!‪ ،‬وال من الت�شا�ؤم حني يقول عك�س ذلك‪.‬‬ ‫يف اجلانب الوطني‪ ،‬ت�شي بع�ض العنوانات مب�ضامينها‪،‬‬ ‫(فلي�س الفتى من قال‪ :‬كان �أبي)‪ ،‬و(ال�سيا�سة وغوغائية‬

‫التعبري ال يجتمعان)‪ ،‬فيما نحتاج �إىل �أخذ (درو�س من‬ ‫طري الإ َو ّز) وهي تهاجر‪� ،‬إذ ت�صطف ا�صطفاف ًا على �شكل‬ ‫حرف ‪ V‬مت�آزر ًة وموفر ًة الطاقة‪.‬‬ ‫�إن الكاتب يحلم بامل�ستقبل الأف�ضل الذي ال ه ّوة فيه‬ ‫بني دولنا وبني الدول املتقدمة‪ ،‬وال دول متت�ص ثرواته‪.‬‬ ‫يحلم يف مقال (هل تعرف من �أنت؟) ب�أن يعرف العربي‬ ‫�أن كثري ًا من املنجزات املهمة يف العامل ذات �أ�صل عربي‪،‬‬ ‫فابن خلدون م�ؤ�س�س علم االجتماع عربي‪ ،‬وابن النفي�س‬ ‫مكت�شف ال���دورة الدموية ال�صغرى قبل ه��اريف عربي‬ ‫دم�شقي‪ ،‬و�أب��و العالء املعري كتب ر�سالة الغفران قبل‬ ‫دانتي‪ ..‬والأمثلة ال حت�صى منذ عهد قدمو�س‪ .‬ويف (يوم‬ ‫يف �سان فران�سي�سكو) يقارن الكاتب بني جمال غابات‬ ‫تلك املنطقة ونظافتها وتق ّدمها التقني‪ ،‬لكنه يعود فريى‬ ‫قلة الأم��ن والأم��ان ال�سيما يف الليل‪ ،‬وقلة التعاطف مع‬ ‫الأهل امل�سنني الذين يرتكهم �أهلوهم يف دور الرعاية‪ .‬يف‬ ‫مقال (ابد�أ بنف�سك) يتحدث الكاتب عن �أحوال العرب‬ ‫الراهنة‪ ،‬التي تذكر بنبوءة الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫حني قال‪" :‬يو�شك �أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى‬ ‫الأكلة على ق�صعتها"‪ .‬قيل‪�" :‬أمن ق ّل ٍة نحن يا ر�سول اهلل‬ ‫يومئذ؟" قال‪" :‬بل �أنتم كثري‪ ..‬لكنكم غثاء (زبد) كغثاء‬ ‫ال�سيل!"‪ .‬واحلل هو �أن يبد�أ كل منا بنف�سه يف الإ�صالح‪،‬‬


‫ب���د م��ن أن ي��ش��ع��ر ب��ال��م��ت��ع��ة الخالصة‬ ‫إن م��ن ي��ق��رأ ك��ت��اب (ق��ط��وف م��ن ال��ح��ي��اة) ال ّ‬

‫بطل مثل �صالح الدين‪.‬‬ ‫و�إال لن يجدي �أ ّم ًة منخور ًة ظهو ُر ٍ‬ ‫يف اجلانب الإن�ساين‪ ،‬يو�ضح القباين يف مقال (اخلري‬ ‫ال يتج ّز�أ) �أننا كثري ًا ما نعادل النجاح يف احلياة‪ ،‬خط�أً‪،‬‬ ‫بالو�صول �إىل نتائج ملمو�سة‪� .‬إن النجاح يبد�أ ب�أول خطو ٍة‬ ‫�سام‪ ،‬وعمل اخل�ير‪ ،‬والثواب عليه‪ ،‬يتحقق‬ ‫نحو ه ٍ‬ ‫��دف ٍ‬ ‫بالنية ال�صادقة قبل الفعل‪� .‬أما مقال (لو تبادل النا�س‬ ‫�أحذيتهم) فيبني بنظر ٍة مثالية �أنه لو و�ضع الإن�سان نف�سه‬ ‫مكان الآخر يف �أي اختالف ر� ٍأي �أو م�شكل ٍة ف�ستتغيرّ الكثري‬ ‫من املفاهيم‪ ،‬وتلغى الكثري من العادات‪ ،‬فمن �سيتج ّر�أ‬ ‫عندها على خيانة �إخوانه �إذا التزم اجلميع باحرتام‬ ‫م�شاعر الآخ��ري��ن؟ وهكذا يف مقال (�إغاثة امللهوف ال‬ ‫حتتاج �إىل �ضجة) نرى �أنه من ال�سهل‪ ،‬عندما يتخبط‬ ‫�إن�سان يف م�شكلة لي�ست من �صنعه‪� ،‬أن نرتك الأمور ت�أخذ‬ ‫جمراها‪ ،‬و�أن ن�شيح بوجهنا وك�أن الأمر ال يعنينا متجاهلني‬ ‫ؤمن كرب ًة‪،‬‬ ‫ما جاء يف احلديث ال�شريف‪" :‬من ف َّرج عن م� ٍ‬ ‫ف ّرج اهلل عنه بها كرب ًة من ُك َرب يوم القيامة"‪ ،‬متنا�سني‬ ‫�أننا مع َّر�ضون للوقوع يف ال�شدة والأزمات ك�سائر الب�شر‪،‬‬ ‫و�أننا �سنتطلع عندئذ �إىل من ينقذنا مما نحن فيه‪.‬‬ ‫يف مقال (االختيار ال�صعب امل�ش ّرف) ق�صة طبيبة‬ ‫�أمريكية تبرَّ عت �صيف ًا بالعمل على �سفينة نرويجية‪.‬‬ ‫بعد �إقالع ال�سفينة اكت�شفت الطبيبة �أن باب قمرتها بال‬ ‫مفتاح‪ ،‬فتوجهت �إىل القبطان‪ ،‬لكنها فوجئت به يرمقها‬ ‫بنظرة فيها ا�ستغراب وا�ستهجان‪ ،‬وكث ٍري من االعتزاز‪،‬‬ ‫مركب‬ ‫وهو يقول‪" :‬رمبا ن�س َي ْت �سيدتي �أنها تبحر على ٍ‬ ‫ن�سب �إىل اليابانيني تقدي�س‬ ‫نرويجي"!‪ .‬من هذا القبيل ُي َ‬ ‫العمل اجلماعي َّ‬ ‫املنظم‪ ،‬وللعرب الكرم وال�شهامة‪،‬‬ ‫ولل�صينيني احللم و ُبعد الر�ؤية‪.‬‬ ‫ويبني مقال (ال�شرق �شرق والغرب غ��رب) اعتقاد‬ ‫الغربي ب���أن احلياة هي كل ما �سيخرب وميلك‪ ،‬ولهذا‬ ‫يتكالب على كل ما يجلب للنف�س اللذة؛ �أما ال�شرقي فعنده‬ ‫‪188‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫قناعة مبا ُق ِ�سم له من ّ‬ ‫حظ ورزق؛ وتو ّقع "احل�ساب" بعد‬ ‫املوت؛ وتبجيل الأبوين حتى بعد العجز؛ و�إيثار �شظف‬ ‫العي�ش �إذا كان يف ذلك حفظ ملاء الوجه؛ وقبول فقدان‬ ‫الأحبة على �أنه ق�ضاء اهلل؛ واال�ستعداد للت�ضحية بالنف�س‬ ‫يف �سبيل غاية �أ�سمى‪ ..‬وعلى هذا قال الأديب الربيطاين‬ ‫رديارد كيبلنغ‪ :‬ال�شرق �شرق‪ ،‬والغرب غرب ولن يلتقيا"‪.‬‬ ‫يف اجلانب النف�سي‪ ،‬ي�ضع لنا الكاتب (احل ّ��ب حتت‬ ‫��ب �صانع الأعاجيب) يف‬ ‫املجهر) ويبني لنا �أن (احل ّ‬ ‫مقالني فريدين للمح ّبني والع�شاق‪ ،‬ويبني لنا �أن (النجاح‬ ‫بالدرجة الأوىل ا�ستعداد ذهني)‪ ،‬و�أنّ (الطويل جميل‬ ‫والق�صري جميل)‪ ،‬وك��ذا الأبي�ض والأ���س��ود‪ ،‬واملمتلئ‬ ‫والنحيف‪ ،‬وعلى املرء �أي�� ًا كان �شكله �أال تريعه غمزات‬ ‫امل�ستهزئني‪� .‬إن (م�صري الإن�سان مبتناول يديه) ما‬ ‫عمل على حتقيق هدفه و�أخل�ص يف ذلك‪ .‬و�إن (�سحر‬ ‫االبت�سامة) ال يقاوم وله نتائج �إيجابية جد ًا‪ ،‬و�إن (لكل‬ ‫م�صيبة وجه ًا م�شرق ًا) نتعلم منه در�س ًا ما‪ ،‬وما على املرء‬ ‫�سوى (�أن ينزع القناع الزائف) امل�ستعار‪ ،‬و(يتخل�ص من‬ ‫عقدة ّ‬ ‫املحطة يف حياته)‪ ،‬فيعي�ش وقته‪ ،‬وال ي�ؤجل كل �شيء‬ ‫جميل �إىل امل�ستقبل الذي يكون عل ُمه عند اهلل‪.‬‬ ‫يف اجلانب الرتبوي‪ :‬يف مقال (ال تهدر وقتك) يقول‬ ‫الكاتب‪ :‬ي�ؤملني منظر ال�شباب يت�س ّكعون يف الطرقات‬ ‫و�أمكنة اللهو‪ ،‬وت�ضايقني ر�ؤية ّ‬ ‫املوظفني يحت�سون ك�ؤو�س‬ ‫ال�شاي‪ ،‬ويمُ �ضون اجلزء الأكرب من دوامهم يف مقابالت‬ ‫�شخ�صية‪ ،‬ويح ُّز يف نف�سي منظر من ي�ؤ ُّمون املقهى كل‬ ‫يوم ال يخرجون �إال ورئاتهم م�شبعة بالدخان!‪ .‬ت�ص َّور‬ ‫�أنك قطعت عهد ًا على نف�سك �أن تقر�أ ع�شر �صفحات‬ ‫من كتاب قبل النوم كل ليلة‪ ،‬وت�ص ّور �أنك تهرول خم�س‬ ‫دقائق كل �صباح قبل ذهابك للعمل‪ ،‬ولنفر�ض �أنك‬ ‫خ�ص�صت �ساعتني يف الأ�سبوع لتتع َّلم لغة جديدة‪� ،‬إنك‬ ‫َّ‬ ‫حتقق الكثري‪ .‬ثم يعلمنا الكاتب (�أن نتع ّلم من ف�شلنا)‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫ينتقي الدكتور القباين قطوفه من احلا�ضر‬ ‫مما يخربه ّ‬ ‫كل �إن�سان يف � ّأي‬ ‫ومن املا�ضي‪ّ ،‬‬ ‫زمن و� ّأي مكان‪ ،‬فيفيد من التاريخ والفل�سفة‬ ‫والأدب‪ ،‬ويربط بني الإن�سان واحلدث‬

‫املهم‬ ‫فجميع النا�س معر�ضون للف�شل الطفيف‪� ،‬أو حتى ّ‬ ‫كالتنحية عن من�صب‪� ،‬أو �إ�ضاعة �صفقة جتارية‪� ،‬أو نكبة‬ ‫تفرق بني �أفراد العائلة‪ ،‬وهذا م�صدر للك�آبة والقنوط‪.‬‬ ‫�إن الف�شل معلم كبري لوعرفنا كيف ن�ستثمره‪ .‬يف مقال‬ ‫(العمل والإت��ق��ان) ن��رى �أننا كثري ًا ما نفتقد للإتقان‬ ‫يف عملنا‪ .‬والأمثلة �أكرث من �أن حت�صى‪ ،‬فهل حدث �أن‬ ‫بي�سر وتغلق �أبوابها‬ ‫دروجها ٍ‬ ‫اقتنيت خزان ًة للثياب تفتح ُ‬ ‫يحب من �أحدكم‬ ‫بدقة‪ ،‬ور�سولنا الكرمي يقول‪�" :‬إن اهلل ُّ‬ ‫�إذا عمل عم ًال �أن يتقنه"؟‬ ‫ويف احلياة املليئة بالعمل والهموم يطلب الكاتب (�أال‬ ‫نن�سى حمطات الوقوف)‪� .‬إن الرتحال بدون حمطات‬ ‫الرحالة قبل �أن يبلغ وجهته‪� .‬إن‬ ‫مرهق‪ ،‬وقد يق�ضي على َّ‬ ‫الغرب الذي ا�ستقينا منه رتابة العمل �س َبقنا �إىل �إدراك‬ ‫هذه احلقيقة الب�سيطة‪ ،‬فرتى اجلميع‪ ،‬حتى �أهم رئي�س‪،‬‬ ‫يتقيد بقواعد العطلة تقيد ًا تام ًا‪ ،‬فال ي�أتي �أمر ًا يتع َّلق من‬ ‫قريب �أو بعيد باملهنة‪ .‬وي�ؤكد الكاتب �أن على املرء �أن يتعلم‬ ‫(فن الإ�صغاء) و�أن يكون (مر�آة �صادقة لنف�سه)‪ ،‬و�أنه‬ ‫(�آن الأوان لإ�صالح طريقتنا يف التعليم)‪ ،‬و�أن (ن�شجع‬ ‫�أوال َدن���ا على االبتكار)‪ ،‬و�أن نع ّلمهم (ف��نّ الب�ساطة)‪،‬‬ ‫وكيف يختارون مهنهم‪ .‬و�أخري ًا يبينّ الكاتب �أن (ذكرى‬ ‫ميالد املرء) بدع ٌة غربي ٌة لكنها لي�ست بال�ضرورة تقليد ًا‬ ‫�سيئ ًا‪ ،‬فهي منا�سب ٌة يقف املرء عندها ليلتقط �أنفا�سه‪.‬‬ ‫يف اجلانب الفل�سفي‪ ،‬يخربنا الكاتب �أنه (كما ننظر‬ ‫�إليها تكون احلياة)‪ ،‬فاحلياة لي�ست جمموعة احلظوظ‪،‬‬ ‫بل هي مواقف املرء من تلك احلظوظ‪ ،‬و�أن ب�إمكان املرء‬ ‫�إغناء حياته وحياة الآخرين �إن ا�ستخدم طاقته الإيجابية‬ ‫وذكاءه‪ .‬كما �أن احلياة حتتاج منا �إىل (العزم وال�صرب‬ ‫واحلكمة)‪ ،‬و�أنه لي�س بالإمكان دائما �إيجاد حل واقعي‬ ‫(عندما تُعدم احللول)‪ ،‬فكيف ميكن �إخبار الزوج مبا‬ ‫ميكن �أن يع ّكر �صفو حياته كلها‪ ،‬وكذا �أي �شخ�ص �آخر؟‪.‬‬ ‫العدد‬

‫ويحدثنا الكاتب عن ال�سعادة فيقول (�إنها ذلك املطلب‬ ‫امل��راوغ)‪ .‬نعم‪ ،‬كلنا ن�سعى وراءه��ا‪ ،‬فنحن نن�شد امل�أكل‬ ‫الطيب واملرتبة الأعلى‪ ،‬ونختار املنظر اجلميل‪.‬‬ ‫بع�ض النا�س يك ّدون لي�صبحوا من الأثرياء‪ ،‬لكنهم‬ ‫يخ�سرون الكثري من راح��ة بالهم و�سعادتهم البيتية‪..‬‬ ‫والطب ي�سعى حلل امل�شاكل املر�ضية ون�شر التوعية‪،‬‬ ‫لكنه ينتهي بوفرة من امل�سنني العجزة الذين ي�شكلون‬ ‫�أعباء على الدولة من الوجهة االجتماعية واملالية!‪ .‬يقول‬ ‫بول غيبونز‪�" :‬إننا نعي�ش يف جمتمع ا�ستطاع �أن ي� ِّؤمن‬ ‫لنا مكا�سب مادية كثرية‪ ،‬وهذا �أمر يدعو �إىل الغبطة‬ ‫والر�ضا‪ ..‬لكني �صرت م�ؤمن ًا‪� ،‬أننا دفعنا ثمن ًا روحي ًا غالي ًا‬ ‫مقابل هذا النزف والتقدم"‪.‬‬ ‫ال�صحة والعلوم‪ :‬يحدثنا الكاتب عن (نعمة‬ ‫ويف ق�سم‬ ‫ّ‬ ‫امل�شي) �أقل الريا�ضات كلفة وم�شقة‪ ،‬وال ت�ستلزم ملعب ًا‬ ‫خا�ص ًا وال وقتا معين ًا‪ .‬وفوائدها تتناول ك ّل ع�ضو بل ك ّل‬ ‫ّ‬ ‫خلية‪ ،‬وتتعدى ذلك �إىل قدرتها على مترين الذهن‪� ،‬إذ‬ ‫تُتيح خلاليا الدماغ �أن ت�ستيقظ من رقادها وت�ستعيد‬ ‫حيويتها‪ ،‬كما مت ِّرن وت�صقل العاطفة وتن ّمي �إح�سا�سنا‬ ‫بجمالالطبيعة‪.‬‬ ‫و�أخ�ير ًا يعود الكاتب الطبيب �إىل الطب‪ ،‬فيختتم‬ ‫كتابه مبقال يذ ّكر فيه الأطباء بـ (ت��راث �أبقراط)‬ ‫وق�سمه ال�شهري ونذكر منه‪� :‬أن �أع ّد من ع ّلمني الطب‬ ‫مبنزلة والدي‪ ،‬و�أن �أنفق عليه �إذا �صار حمتاج ًا‪ ،‬و�أن‬ ‫�أعامل �أفراد عائلته ك�إخوة يل‪ ،‬و�أن �أع ّلمهم احلرفة �إن‬ ‫رغبوا بغري مقابل‪ ،‬وكذا �أع ّلمها لأوالدي ولكل من تع ّهد‬ ‫�أن يكون طبيب ًا‪ ،‬و�أن �أ�ستخدم علمي يف �شفاء املر�ضى‪،‬‬ ‫و�أال �أع��ط��ي ع�لاج�� ًا ف��ت��اك�� ًا‪ ،‬و�أال �أ�ستغ ّل �صنعتي يف‬ ‫اقرتاف املنكرات والأذى‪ ،‬و�أن �أحتا�شى التع ّدي على‬ ‫أحد ب�أي �شيء �أراه �أو �أ�سمعه‪،‬‬ ‫احلرمات‪ ،‬و�أال �أبوح ل ٍ‬ ‫و�أع ّد هذه الأمور �أ�سرار ًا مق ّد�سة‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪189‬‬


‫تحديات ورهانات‬ ‫المسرح اإلماراتي‬ ‫"وجدت �أن ال�صيغة الأكرث منا�سبة لطرح هذا الكتاب هي االنطالق من التجربة الذاتية‬ ‫يف معاي�شتي لهذا امل�رسح‪ ،‬وللكثري من ق�ضاياه الراهنة‪ ،‬وحماولة طرح الأ�سئلة التي طاملا‬ ‫طرحتها كتابات عدة من خالل عملي يف ال�صحافة املحلية " هذه هي وجهة النظر‬ ‫التي قر�أ بها ال�شاعر والباحث ال�سوري ح�سام مريو لراهن امل�رسح الإماراتي يف كتابه‬ ‫اجلديد‪" :‬ق�ضايا راهنة يف امل�رسح الإماراتي" ال�صادر حديث ًا عن دار العني بالقاهرة‪.‬‬ ‫حاول ح�سام مريو الإجابة عن �أ�سئلة الفن والإبداع‬ ‫التي يطرحها امل�سرح العربي ب�صفة عامة وامل�سرح‬ ‫الإم��رات��ي ب�صفة خا�صة‪� .‬إذن التجربة الذاتية هي‬ ‫ال�صيغة الأكرث منا�سبة لطرح �أ�سئلة الراهن ال�شائكة‪،‬‬ ‫برغم �أنه طرح بع�ض هذه الأ�سئلة قبل ذلك من خالل‬

‫كتاب‬

‫هويدا �صالح‬ ‫م�صر‬

‫‪190‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫املقاالت ال�صحفية التي ك��ان يكتبها عن امل�سرح من‬ ‫خالل عمله بال�صحافة‪ ،‬ومعاي�شته للق�ضايا والن�صو�ص‬ ‫امل�سرحية التي كانت تقدم يف الإمارات‪.‬‬ ‫ح��ر���ص م�ي�رو يف ه���ذا ال��ك��ت��اب على ت��ن��اول من��اذج‬ ‫بعينها‪ ،‬وجت���ارب م�سرحية لها �ألقها اخلا�ص الذي‬ ‫نتج عن اهتمام دولة الإم��ارات بالإبداع ب�صفة عامة‬ ‫وامل�سرح ب�صفة خا�صة‪ ،‬لذا �أوقفت الكثري من الفعاليات‬ ‫واملهرجانات لتناق�ش الق�ضايا امل�سرحية مثل‪ :‬مهرجان‬ ‫الإم��ارات مل�سرح الطفل‪ ،‬ومهرجان ال�شارقة للم�سرح‬ ‫املدر�سي‪ ،‬ومهرجان دبي مل�سرح ال�شباب‪ ،‬ومهرجان‬ ‫ال�شارقة للم�سرح اجلامعي‪ ،‬يف دورته الأوىل‪.‬‬ ‫وي�ؤكد مريو �أن هذه التجارب امل�سرحية هي جتارب‬ ‫حديثة ن�سبي ًا‪ ،‬ومل ُ‬ ‫تخل مقاربته لها من بع�ض النقد‬ ‫الفني ���س��واء فيما يتعلق بف�ضاء احلكاية‪ ،‬والأداء‪،‬‬ ‫والإخ���راج‪ ،‬وال�سينوغرافيا‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ك��ون تلك‬ ‫القراءات �شكال من �أ�شكال التوثيق الذي ميكن �أن يعود‬ ‫�إليه الباحثون والنقاد لدرا�سته فيما بعد ب�شكل �أكرث دقة‬ ‫والغو�ص يف حتليله من زوايا نظر �أخرى‪.‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪191‬‬

‫ك��ش��ف ف��ي��ه م���ي���رو ع���ن ال��ن��س��ق ال���ص���راع���ي ال�����ذي ي��ح��ك��م ب��ن��ي��ة ال��ع��ق��ل ال��ع��رب��ي‪،‬‬ ‫س�����ؤال ال���ه���وي���ة ال�����ذي ي��ت��ص��ارع��ه ن��س��ق��ان ث��ق��اف��ي��ًا ه���م���ا‪ :‬ال����ت����راث وال��م��ع��اص��رة‬

‫�ص ّدر مريو كتابه مبقدمة تاريخية عن تطور امل�سرح‬ ‫يف ال��وط��ن العربي منذ امل�سرح ال�شعري ال��ذي كان‬ ‫�شك ًال م�سرحي ًا طرحت من خالله العديد من الق�ضايا‬ ‫االجتماعية يف �إط��اره��ا التاريخي‪ ،‬م���رور ًا بانفتاج‬ ‫املجتمع العربي على ثقافة الغرب واال�ستفادة من م�سرح‬ ‫�شك�سبري وموليري‪ ،‬كما يتوقف عند م�شكلة غياب اجلانب‬ ‫التقني يف التجربة العربية حتى غد هذا اجلانب �أ�صيل‬ ‫يف املعاجلات الدرامية العربية‪.‬‬ ‫كذلك قدم قراءة لو�ضعية امل�سرح يف عقد ال�ستينيات‬ ‫من القرن املا�ضي‪ ،‬وظهور �أ�شكال م�سرحية متطورة‪،‬‬ ‫توفرت فيها عنا�صر امل�سرحة يف الن�صو�ص التي �أخذت‬ ‫تبدو �أكرث متا�سك ًا على م�ستوى التطور الدرامي للن�ص‪،‬‬ ‫وعلى م�ستوى لغة احل��وار بني �شخو�ص امل�سرحية‪� ،‬أو‬ ‫على م�ستوى ا�ستخدام املونولوج الداخلي لل�شخ�صيات‬ ‫ت�أثر ًا بامل�سرح الغربي‪� ،‬أو على ت�صاعد الإيقاع يف بناء‬ ‫حبكة العمل‪ ،‬وقد توافق كل هذا مع االطالع على جتارب‬ ‫عاملية متعددة االجتاهات وامل�شارب‪� .‬إىل جانب منو‬ ‫الوعي القومي العربي واالن�شغال بالق�ضايا ال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬واال�شتغال على الق�ضايا ال��ك�برى‪ .‬يف‬ ‫م�صر قام امل�سرحيون با�ستلهام ق�ضايا التحرر والن�ضال‬ ‫القومي ورف�ض كل �أ�شكال هيمنة اال�ستعمار‪ ،‬ويف لبنان‬ ‫كانت التجربة الرحبانية �آخ��ذة يف الرت�سخ والتو�سع‬ ‫جماهرييا‪ .‬ثم جاء عقدا ال�سبعينيات والثمانينيات‬ ‫وظ��ه��رت م�����س��ارح يف ب��ل��دان ع��رب��ي��ة خمتلفة وك��ان��ت‬

‫التطورات ال�سيا�سية يف الوطن العربي ت�أخذ اجتاهات‬ ‫خمتلفة �أ�سهمت يف �إنتاج جتارب م�سرحية جديدة ذات‬ ‫طابع تفاعلي خمتلف مع اجلمهور‪ ،‬وثمة منوذجان‬ ‫مبثالن حقبتي ال�سبعينيات والثمانينيات هما امل�سرح‬ ‫ال�سيا�سي املقاوم واملونودراما‪ .‬كذلك عقد الت�سعينيات‬ ‫حيث �أخذ العامل يف التغري �سريع ًا‪ ،‬فهو عقد التحوالت‬ ‫ال��ك�برى‪ ،‬وت��زاي��دت �سطوة العوملة و�سقطت كثري من‬ ‫املرجعيات الفكرية التي كان امل�سرح العربي يتكئ عليها‪.‬‬ ‫ثم يعر�ض م�يرو يف نهاية الف�صل عن التحديات‬ ‫الراهنة التي تواجه امل�سرح الإماراتي‪ ،‬باعتباره جزء ًا‬ ‫من امل�سرح العربي‪ ،‬من حيث الت�أ�صيل لفن امل�سرح‬ ‫واالنطالق به ملواكبة املتغريات‪.‬‬ ‫ي�أتي الف�صل الثاين حتت عنوان‪":‬امل�سرح الإماراتي‬ ‫و�س�ؤال الهوية واحلداثة" ك�شف فيه مريو عن الن�سق‬ ‫ال�صراعي الذي يحكم لي�س امل�سرح العربي والإماراتي‬ ‫فقط‪� ،‬إمن��ا يحكم بنية العقل العربي‪� ،‬س�ؤال الهوية‬ ‫الذي يت�صارعه ن�سقان ثقافي ًا هما‪ :‬الرتاث واملعا�صرة‪.‬‬ ‫و���ض��ع م�يرو ي��ده على م�شكلة امل�سرح العربي التي‬ ‫تتلخ�ص يف الذهاب �إىل الرتاث من دون م�صاحبات‬ ‫عقالنية‪ ،‬فظهرت التجريبية اجلديدة التي توافقت مع‬ ‫�إ�شكالية الأ�صالة واملعا�صرة يف الثقافة العربية ليدخل‬ ‫�إىل امل�سرح الإماراتي الذي حتولت فيه م�س�ألة الهوية‬ ‫وما تت�ضمنه من مرجعيات تراثية �إىل �س�ؤال رئي�س يف‬ ‫هذا امل�سرح‪ ،‬فوجد الفنانون �أنف�سهم �أمام �س�ؤال كبري‬


‫ال ي��ت��وس��ل ال��ع��رض ب��ال��ت��راث م��ن أج���ل إب����راز م��س��أل��ة ال��ه��وي��ة‪ ،‬وإن��م��ا ي��ت��ح��دث ع��ن ع�لاق��ة صريحة‬ ‫وم��ب��اش��رة‪ ،‬ع��ن ع�لاق��ة اإلن��س��ان ب��ال��ح��داث��ة‪ ،‬وه��و إن��س��ان ف��ي ذات ال��وق��ت غير منقطع ع��ن ج��ذوره‬

‫ه��و‪ :‬كيف نوفق ب�ين م��ا ا�ستقر يف‬ ‫الوجدان من تراث وبني املعا�صرة‬ ‫واحل��داث��ة التي نعي�ش جتلياتها يف‬ ‫تفا�صيل حياتنا‪ ،‬فنحن‪ ،‬كما �أ�شار‬ ‫الكاتب حني نتحدث عن الرتاث فال‬ ‫بد من الإ���ش��ارة �إىل �أن ا�ستخدام‬ ‫العنا�صر الرتاثية لي�س قيمة يف حد‬ ‫ذاته‪ ،‬و�إمنا القيمة هي يف �شكل توظيف الرتاث داخل‬ ‫العر�ض امل�سرحي‪.‬‬ ‫وقد قارب ح�سام مريو منوذجني يف امل�سرح الإماراتي‬ ‫هما م�سرحية "الفطام" التي قدمت يف الدورة التا�سعة‬ ‫ع�شرة ملهرجان �أيام ال�شارقة امل�سرحية للمخرج علي‬ ‫جمال‪ ،‬وهو عر�ض ي�شكل منوذج ًا مهم ًا للمقاربة التي‬ ‫تتخذ من الرتاث بوابة لطرح م�شكلة �إن�سانية تبقى راهنة‬ ‫على الدوام‪ ،‬وبعد حتليله‪ .‬يرى امل�ؤلف �أن معاجلة هذا‬ ‫العمل والر�ؤية الإخراجية قد ا�ستثمرت الفكر احلداثي‬ ‫املتمثل يف تناق�ضات ال�شخ�صية يف العمل الفني‪،‬‬ ‫ومقاربتها ب�شكل يحتمل البعدين الواقعي والرمزي الذي‬ ‫ينزاح �إىل ت�أويالت متعددة لدى املتلقي‪.‬‬ ‫يالم�س عر�ض "فطام " الذاكرة اجلماعية للإمارات‪،‬‬ ‫فهو ينهل من تراثها‪ ،‬وي�ستعني ب�أحد �أهم رموزها وهو "‬ ‫النوخذة" والنوخذة هو ربان ال�سفينة‪ ،‬ويت�صف بالقوة‪،‬‬ ‫وال�شجاعة وال�صرب‪ ،‬وما زال رمز ًا للكثري من الأعمال‬ ‫امل�سرحية ةال�سردية وال�شعرية يف االم��ارات‪ ،‬فهو جزء‬ ‫را�سخ يف التاريخ وال��وج��دان‪ ،‬وق��د ا�ستعاده العر�ض‬ ‫م�ستفيد ًا م��ن ت���أث�ير ه��ذه ال�شخ�صية وو�ضعها �أم��ام‬ ‫تناق�ضات�إن�سانية‪.‬‬ ‫النموذج الثاين هو عر�ض “بايته" الذي قدم على‬ ‫الدورة احلادية والع�شرين من مهرجان �أيام ال�شارقة‬ ‫امل�سرحية‪ ،‬وهو من ت�أليف مرعي احلليان و�إخراج ناجي‬ ‫‪192‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫احل��اي‪ ،‬وهو عر�ض ينتمي �إىل ما ي�سمى بالكوميديا‬ ‫ال�سوداء م�ستفيد ًا مما ميتلكه هذا امل�سرح من �إمكانات‬ ‫لطرح ق�ضايا ت�ؤرق املجتمع الإماراتي‪ ،‬ويناق�ش م�س�ألة‬ ‫الهوية‪ ،‬لكنه يناق�شها بطرح ب�سيط غري معقد‪ ،‬كذلك‬ ‫يقارب ال�سيا�سة من جانبيها االقت�صادي واالجتماعي‪،‬‬ ‫م��ن حيث يبدو الإن�����س��ان حم��ا���ص��ر ًا يف لقمة عي�شه‪،‬‬ ‫و�صحته و�أطفاله‪ .‬جاءت الر�ؤية الإخراجية للعمل متزج‬ ‫بني الواقعية والكوميديا واالتكاء على قدرات املمثلني‪،‬‬ ‫وا�ستخدام �سينوغرافيا تنا�سب حكاية العر�ض‪.‬‬ ‫ال يتو�سل العر�ض ب��ال�تراث من �أج��ل �إب���راز م�س�ألة‬ ‫الهوية‪ ،‬و�إمنا يتحدث عن عالقة �صريحة ومبا�شرة‪ ،‬عن‬ ‫عالقة الإن�سان باحلداثة‪ ،‬وهو �إن�سان يف ذات الوقت‬ ‫غري منقطع عن جذوره‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يف الف�صل الثالث خ�ص�ص ح�سام م�يرو بابا عن‬ ‫"م�سرح الطفل"و�أكد �أنه مل يتم االتفاق على تعريف‬ ‫حمدد مل�سرح الطفل وموا�صفاته‪ ،‬ومن الذي يقوم به‪،‬‬ ‫و�أي املراحل العمرية التي يتوجه �إليها‪ ،‬فالعملية كما‬ ‫يرى الكاتب معقدة جد ًا لتداخل املراحل التي يتوجه‬ ‫�إليها‪ .‬ثم حتدث عن مهرجان الإم��ارات مل�سرح الطفل‬ ‫و�أ�سئلة التجريب‪ ،‬متتبعا ال����دورات املتعاقبة لهذا‬ ‫املهرجان كما يعر�ض عدة مناذج من عرو�ض املهرجان‬ ‫ويقوم بالتعليق عليها‪ ،‬ويفرد حم��ور ًا ح��ول (امل�سرح‬ ‫املدر�سي) ال��ذي عاي�ش ن�ش�أته وتكوره �أثناء عمله يف‬ ‫جمموعة م�سارح ال�شارقة التي ارت����أت ع�بر خطتها‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫م�سرح لل�شباب هو �أمر فيه الكثري من‬ ‫يرى مريو �أن تخ�صي�ص‬ ‫ٍ‬ ‫احليوية‪،‬لكنه ي�أخذ عليه غياب احل�ضور الإبداعي لل�شابات‬ ‫من حيث الت�أليف والتمثيل والإخراج وهو ح�ضور ال يعك�س‬ ‫ن�سبة ال�شابات �إىل ال�شباب‬ ‫�أال تكتفي بتنظيم مهرجان خا�ص بهذا امل�سرح قدر‬ ‫اهتمامها ب�أن يكون هذا املهرجان تتويجا جلملة من‬ ‫الأن�شطة والفعاليات التي ترتبط ع�ضويا بتطوير هذا‬ ‫امل�سرح‪ ،‬فكان مهرجان ال�شارقة للم�سرح املدر�سي حيث‬ ‫�أو�ضحت عرو�ض املهرجان التي قامت بها امل�ؤ�س�سة بني‬ ‫‪ 1‬و ‪� 8‬أغ�سط�س ‪ 2011‬الدور الذي لعبته تلك الفعاليات‬ ‫يف �إن�ضاج عرو�ض م�سرحية متنوعة من حيث الأفكار‬ ‫والأداء والإخراج‪ ،‬ومن ثم �إقبال املدار�س على امل�شاركة‬ ‫يف املهرجان‪.‬‬ ‫وا�ستعر�ض امل�ؤلف يف هذا الباب تعالقات امل�ؤ�س�سات‬ ‫امل�سرحية باملجتمع‪ ،‬ودورها يف تنمية املجتمع املحلي‪،‬‬ ‫وتنظيم جمموعة من الور�ش يف عدة مناطق يف ال�شارقة‬ ‫لتوفري �أك�بر قدر من م�شاركة املدار�س يف املهرجان‪،‬‬ ‫وتوقف عند بع�ض ور�ش املهرجان مثل‪ :‬ور�شة الت�أليف‬ ‫للم�سرح املدر�سي وور�شة الإخ���راج‪ ،‬وور�شة الديكور‪،‬‬ ‫وور�شة ال�سينوغرافيا‪ .‬ثم ا�ستعر�ض كذلك مناذج من‬ ‫العرو�ض التي تقدم لهذا املهرجان‪.‬‬ ‫ثم ا�ستعر�ض لنا ما ُ�سمي مب�سرح ال�شباب الذي ر�آه‬ ‫يحمل بعد ًا نه�ضوي ًا مينح ال�شباب فر�صة التعبري عن‬ ‫ذواتهم وق�ضاياهم وم�شكالتهم و�إبداعاتهم‪ .‬كذلك‬ ‫م�سرح لل�شباب هو �أم��ر فيه‬ ‫يرى مريو �أن تخ�صي�ص‬ ‫ٍ‬ ‫الكثري من احليوية‪ ،‬وحتدث عن مهرجان دبي مل�سرح‬ ‫ال�شباب‪ ،‬لكنه ي�أخذ عليه غياب احل�ضور الإبداعي‬ ‫لل�شابات من حيث الت�أليف والتمثيل والإخ���راج وهو‬ ‫ح�ضور ال يعك�س ن�سبة ال�شابات �إىل ال�شباب‪ ،‬ويو�صي‬ ‫الكاتب ب�أن يكون لهن ح�ضور ملحوظ‪ ،‬فمن الطبيعي �أن‬ ‫يعول على املهرجان جتذير حالة من التناف�س بني اجليل‬ ‫اجلديد‪� ،‬شبابه و�شاباته‪.‬‬ ‫ثم عر�ض الكاتب للم�سرح اجلامعي‪� ،‬أرخ لن�ش�أته‪،‬‬ ‫م�ؤكد ًا �أن مهرجان امل�سرح اجلامعي يف جزء منه يعك�س‬ ‫العدد‬

‫حاجة امل�سرح املحرتف نف�سه لاللتحام باحلا�ضنة‬ ‫اجلامعية الأك��ادمي��ي��ة‪ ،‬وخا�صة �أن بع�ض امل�سرحيني‬ ‫من ال�شباب اجلامعيني املنفتحني على ثورة االت�صال‬ ‫والتكنولوجيا هم ثروة حقيقية للم�سرح نف�سه‪ ،‬و�إذا مت‬ ‫ا�ستغاللها كما يجب ف�سوف يتمكن امل�سرح من طرح‬ ‫�أ�سئلة جديدة من داخ��ل امل�سرح‪ ،‬و�أن تعك�س جملة‬ ‫املتغريات التي يعي�شها العامل من خالل ه�ؤالء ال�شباب‬ ‫الذين يحملون داخلهم الكثري من الأ�سئلة‪.‬‬ ‫�أخري ًا ختم امل�ؤلف كتابه باحلديث عن �أعمال �صاحب‬ ‫ال�سمو ال�شيخ �سلطان بن حممد القا�سمي ع�ضو املجل�س‬ ‫الأع��ل��ى حاكم ال�شارقة امل�سرحية‪ ،‬وع��ر���ض لثمانية‬ ‫ن�صو�ص م�سرحية هي‪“ :‬عودة هوالكو" و"الق�ضية"‬ ‫و"الواقع �صورة طبق الأ�صل" و"الإ�سكندر الأكرب"‬ ‫و"النمرود" و"�شم�شون اجلبار" و"احلجر الأ�سود"‬ ‫و"طورغوت"‪ ،‬ه��ذه الأع��م��ال التي انبثقت من رغبة‬ ‫�صاحب ال�سمو حاكم ال�شارقة يف طرح مواقف حمددة‬ ‫من ق�ضايا بعينها‪ ،‬وتوقف امل�ؤلف عن املنطق النقدي‬ ‫ل�صاحب ال�سمو حاكم ال�شارقة يف �أعماله امل�سرحية‬ ‫الذي يت�سم ببعد ا�ست�شرايف للم�ستقبل‪ ،‬وهو ما يعترب‬ ‫جزء ًا مهم ًا من �أي عملية نقدية على م�ستوى التاريخ‪.‬‬ ‫وخل�ص مريو �إىل القول "�إن جميع �أعمال �صاحب‬ ‫ال�سمو حاكم ال�شارقة‪ ،‬حتظى بتوازن كبري بني البطل‬ ‫ال��ف��رد واجل��م��اع��ة‪ ،‬حيث ت��وج��د املجاميع الب�شرية‬ ‫دائ��م�� ًاك��ج��زء رئي�س م��ن حكاية العمل‪ ،‬وم��ن الفعل‬ ‫الدرامي‪ ،‬وهي م�س�ألة مهمة يف كتابة هذا النوع من‬ ‫امل�سرح"‪ ،‬ف�لا ميكن يف نهاية امل��ط��اف الكتابة عن‬ ‫التاريخ من دون �أن يكون للمجموع �أو ال�شعب دور يف‬ ‫ذل��ك التاريخ‪ ،‬وبالتايل يف الن�ص امل�سرحي نف�سه‪،‬‬ ‫وعدم ترك هذا الأمر للر�ؤية الإخراجية‪ ،‬و�إمنا تثبيته‬ ‫كجزء من املنت الرئي�س للن�ص‬ ‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬

‫‪193‬‬


‫أخيرًا‪..‬‬

‫كم نحن بحاجة‬ ‫إلى النقد؟!!‬ ‫منذ �أن متكن الإن�سان من معرفة اللغة‪� ،‬أو �إذا �صح التعبري متكن من ممار�ستها‪ ،‬انطلقت الب�شرية يف عوامل حقيقية من‬ ‫االكت�شاف واالخرتاع والتطور‪ ،‬ويعترب كثري من العلماء �أن انطالقة الإن�سان اللغوية ال يوازيها �أي حدث �شهدته الب�شرية‬ ‫يف الأهمية‪ .‬ومن ه�ؤالء العلماء الدكتور جون �سرييل‪� ،‬صاحب كتا َبي (بناء الواقع االجتماعي من الطبيعة �إىل الثقافة)‪،‬‬ ‫و(العقل واللغة واملجتمع)‪ ،‬حيث قال يف هذا اجلانب‪�" :‬إن م�ؤ�س�سات كالنقود واحلكومة وامللكية اخلا�صة والزواج والألعاب‪،‬‬ ‫تتطلب وجود اللغة‪ ،‬بينما ال حتتاج اللغة يف وجودها �إىل �أي من امل�ؤ�س�سات الأخرى"‪ .‬وهذه حقيقة ماثلة‪ ،‬فمن خالل‬ ‫اللغة بنى الإن�سان احل�ضارات‪ ،‬وو�ضع يده على االكت�شافات واملخرتعات‪ ،‬وانبثقت ملكاته ومواهبه يف �شتى املجاالت‪،‬‬ ‫فكان ال�شعر والذكريات والق�ص�ص واحلكايا‪ ،‬وعلوم �إن�سانية كثرية ال تعد وال حت�صى‪ .‬ومن خالل اكت�شاف الكتابة متكن‬ ‫الإن�سان من حفظ لغته وطورها‪ ،‬وحفظ �إنتاجه الإن�ساين‪ ،‬وكل ما يدور يف ذهنه من �أفكار وتطلعات‪ .‬ويف كثري من الأحيان‬ ‫حول هذه الأحالم والر�ؤى �إىل �إنتاج كتابي تطور تباع ًا حتى بات اليوم يطلق عليه الإنتاج الإن�ساين الذي ي�ضم ال�شعر‬ ‫والرواية والق�صة وامل�سرح والنرث والنقد‪ ...‬الخ‪ .‬لكن ال ميكن لنا اعتبار النقد مالزم ًا �أو جزء ًا من العلوم الأدبية و�إنتاجها‬ ‫فح�سب‪ ،‬فهو يرافق كل العلوم الإن�سانية‪� ،‬سواء كانت تطبيقية �أو نظرية‪ ،‬وميتد �إىل كل عمل �إن�ساين �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫لقد �أتاحت مرونة النقد له �أن ي�شمل كل منجز �إن�ساين‪ ،‬مهما يكن ويف �أي زمن حدث؛ لأنه يهتم بكل ما يكتب وما ينطق‬ ‫ويج�سم‪ .‬وال تقت�صر وظيفة النقد على �إظهار العيوب واملالحظات فح�سب‪ ،‬بل �إنه يظهر الإيجابيات واملحا�سن‬ ‫و ُينحت ّ‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬وي�أتي ب�صور خمتلفة �سواء كانت مكتوبة �أو �ضمن حوارات تلفزيونية �أو �إذاعية �أو يف �إطار خطب جماهريية‪ ،‬وغريها‬ ‫من الو�سائل احلديثة �أو القدمية‪ .‬وهذه جميعها جوانب معروفة‪.‬‬ ‫يقال �إن تطور النقد ينعك�س �إيجابي ًا على املنجز واحلقل الذي تعمق فيه بالدرا�سة والبحث‪ .‬ويف ظني �أن هذه حقيقة ال‬ ‫تقبل اجلدال‪ ،‬فالنقد يطور ال يهدم‪ ..‬و�إذا �أخذنا النقد يف جماله الأدبي‪ ،‬ف�ستكون هناك مالحظة تتعلق باحلركة النقدية‬ ‫العربية نف�سها‪ ،‬حيث يعدها البع�ض �ضعيفة‪ ،‬متنا�سني �أن حركة الت�أليف والن�شر ب�صفة عامة �ضعيفة على امل�ستوى العربي‪،‬‬ ‫وهي ال تتواكب مع عدد �سكان الوطن العربي الذي جتاوز تعدادهم الثالثمائة واخلم�سني مليون ن�سمة‪� .‬إن الإح�صاءات‬ ‫يف هذا املجال م�ؤملة‪ ،‬ففي جمال الإ�صدارات هناك كتاب واحد ي�صدر لكل اثني ع�شر �ألف مواطن عربي‪ ،‬بينما هناك‬ ‫كتاب لكل ت�سعمائة �أملاين‪ ،‬وكتاب لكل خم�سمائة مواطن يف بريطاين‪ .‬وتبع ًا لهذه احلالة‪ ،‬ف�إن احلركة النقدية �أي�ض ًا تعاين‬ ‫ق�صور ًا بالغ ًا‪ ،‬وهذه نتيجة طبيعية‪ .‬لكن على الرغم من �شح ما ينتج ويتم ت�أليفه‪ ،‬ف�إن النقد وقف عاجز ًا عن مواكبة تلك‬ ‫املنجزات وما يتم ن�شره‪ .‬وال �شك يف �أن الوطن العربي برمته وعلى امتداده من اخلليج حتى املحيط يعاين ندرة يف النقاد‪،‬‬ ‫و�أق�صد النقاد امللهمني‪ ،‬مع التقدير لكل الأ�سماء اجلميلة يف هذا احلقل التي �أثرت �ساحتنا الأدبية‪ ،‬لكنها غري كافية‪،‬‬ ‫فنحن نحتاج �إىل املزيد من النقد العميق واملتذوق؛ فامل�ؤلف ي�سعده النقد‪ ،‬وي�شعر ب�صدق النقد وفائدته �أكرث من �سواه‬ ‫فاطمة املزروعي‬

‫‪194‬‬

‫العدد‬

‫‪7‬‬

‫نوفمبر ـ تشرين الثاني ‪2012 /‬‬


‫نادي تراث الإمارات ي�صدر‬

‫ة‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ث‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫املجلة‬ ‫ض‬ ‫ض‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ربي ًا‬

‫الآن‬

‫ك��ت��اب ي���وزع جم��ان�� ًا م��ع ال��ع��دد ك��ل �شهر‬

‫ت�ت��وف��ر ف�ـ��ي م�ك�ت�ب��ات ال��وط��ن ال �ع��رب��ي و�أوروب � ��ا‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.