turath_156

Page 1

‫زايد والدم العربي‬ ‫يف ذكرى حرب �أكتوبر‬ ‫تراثية ثقافية منوعة ت�صدر عن نادي تــــــــــــــــراث الإمـارات العـدد ‪� 156‬أكتوبر ‪2012‬‬

‫ارتياد اآلفاق‪..‬‬

‫ال�صديق �إىل البيت‬ ‫رحلة‬ ‫ّ‬ ‫العتيق ‪1883‬م‬

‫مجلس العلوم‪..‬‬

‫هل كانت الإمارات مهد‬ ‫الإن�سان احلديث؟‬

‫ألسنة عربية‪..‬‬

‫�أغاين الغزل يف تراث‬ ‫البحرين‬

‫قال الراوي‪..‬‬

‫(�س َر ْي َ�س ْر َذ ْه ُبو)‪..‬طاردة‬ ‫ْ‬ ‫�إخوتها ومنقذتهم‬

‫مع العدد‬ ‫كتاب‬ ‫الشهري‬

‫الصورة الذهنية‬

‫للتراث‬

‫في عيون‬ ‫المصريين‬



‫صوت من المستقبل‬ ‫الناس أصناف يف عقولهم‪ :‬فصنف عقولهم مغمورة بشهواتهم‪ ،‬فهم‬ ‫يكدون يف طلبها ونيلها‪،‬‬ ‫حظوظهم‬ ‫ال يُبصرون بها إال‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫املعجلة‪ ،‬فلذلك ّ‬ ‫ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر‪.‬‬ ‫يحرضون على‬ ‫وصنف عقولهم منتبهة‪ ،‬لكنها خملوطة ُ‬ ‫بسبات اجلهل‪ ،‬فهم ّ‬

‫كملوا يف ِج ِب َّل ِتهم األوىل‪ ،‬وهذا‬ ‫اخلري واكتسابه‪ ،‬ويخطئون كثريًا‪ ،‬وذلك أنهم مل َي ُ‬ ‫الع ّباد اجلهلة والعلماء الفجرة‪ ،‬كما أن النعت األول موجود يف‬ ‫ٌ‬ ‫نعت موجود يف ُ‬ ‫طالبي الدنيا بكل حيلة وحمالة‪.‬‬ ‫وصنف عقولهم ذكية ملتهبة‪ ،‬لكنها َع ِم َية من اآلجلة‪ ،‬فهي تدأب يف نيل‬ ‫والسمعة الربانية‪ ،‬وهذا نعت‬ ‫احلظوظ بالعلم واملعرفة والوصايا اللطيفة‬ ‫ُّ‬ ‫موجود يف العلماء الذين مل تثلج صدورهم بالعلم‪ ،‬وال َّ‬ ‫حق عندهم احلق‬ ‫وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون يف طلبها السيوف احلداد‪،‬‬ ‫اليقني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويطيلون إىل نيلها السواعد الشداد‪ ،‬فهم بالكيد واحليلة يسعون يف طلب اللذة‬ ‫ويف طلب الراحة‪.‬‬ ‫وصنف عقولهم مضيئة مبا فاء عليها من عند اهلل تعاىل باللطف اخلفي‪،‬‬ ‫واالصطفاء السني‪ ،‬واالجتباء الزكي‪ ،‬فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون‬ ‫باآلخرة‪ ،‬فرتاهم حضورًا وهم َغ َيب‪ ،‬وأشياعًا وهم متباينون‪.‬‬ ‫وكل صنف من هؤالء مراتبهم خمتلفة‪ ،‬وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ‪.‬‬ ‫أبوحيان التوحيدي‬


‫محتويات العدد‬ ‫تراثية ثقافية منوعة‬ ‫ت�صدر عن‬ ‫مركز زايد للدرا�سات والبحوث‬ ‫بنادي تراث الإمارات‬

‫امل�شــرف العــام‬

‫حبيـب ال�صــايـغ‬ ‫اال�سـتـ�شـارة العـلـمـيــة‬

‫�أ‪ .‬د‪ .‬ح�سـن حمـمـد النابـودة‬ ‫�أ‪.‬د‪ .‬يحيى حممد حممـود‬ ‫�أ ‪ .‬حنفي جايل‬

‫املر�صد‪� :‬أعلن مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم عن تد�شينه مل�ؤمتر دويل جامع حول «الأدب‬ ‫‪14‬‬ ‫العربي والعامل»‪ ،‬ينعقد كل عامني ملناق�شة جوانب اخللل الكامن يف «التلقي العربي» على عدة �صعد‬ ‫�أبرزها �أزمات القراءة والرتجمة‪ ،‬وي�سعى امل�ؤمتر الذي ت�ست�ضيف �أبوظبي دورته الأوىل يف دي�سمرب املقبل‬ ‫بح�ضور نخبة من الأدباء واملفكرين العرب والأجانب‪� ،‬إىل توثيق منجز الأدب العربي على خارطة الإرث‬ ‫الثقايف العاملي‪ ،‬لإعادة اعتباره املفقود �أو املغيب‪.‬‬ ‫ق�ضية للنقا�ش‪ :‬الرتاث هو الذاكرة الأمينة لكل جمتمع‪ ،‬وهو املخزون الذي تلج�أ �إليه ال�شعوب‬ ‫‪24‬‬ ‫لت�ستلهم منه اخلربات املرتاكمة يف مواجهة ظروف احلياة �أو االحتكاك بالثقافات الأخرى‪.‬‬ ‫ولكنه كم�صطلح لي�س بهذه الب�ساطة فهو كلمة يختلف مدلولها ومفهومها من �شخ�ص لآخر وفق ًا لثقافته‬ ‫وخرباته‪ ،‬اخلطري �أن �صورتنا عن الرتاث هي التي حتكم طبيعة عالقتنا معه ومدى �إفادتنا منه‪ ،‬هنا‬ ‫ا�ستطالع حول ال�صورة الذهنية للرتاث يف عيون امل�صريني‪ ،‬وهو فاحتة �سل�سلة من التحقيقات نتحرى‬ ‫خاللها �صورة ذلك امل�صطلح يف عيون العرب‪.‬‬

‫مدير التحرير‬

‫وليد عالء الدين‬ ‫هيئة التحرير‬

‫�شـم�سـة حـمـد الظاهـري‬ ‫فاطمة نايع املـنـ�صـوري‬ ‫حممــد �سعد النمـــر‬ ‫املـراجـعـة والـتـدقـيـق‬

‫د‪ .‬حمـمـد فـاتــح زغـل‬ ‫املديـر الفنـي‬

‫فــواز نـاظــم‬ ‫ر�س ــوم‬

‫حـ�سـن �إدلـبـي‬ ‫حممد بريم‬ ‫الإخراج والت�صميم‬

‫�إيـنـا�س درويـ�ش‬ ‫هـاتف‪00971 2 2223000 :‬‬ ‫فـاك�س‪00971 2 6651115 :‬‬ ‫�ص‪.‬ب‪� :‬أبو ظبي ‪27765‬‬

‫‪Email: turathmag1@gmail.com‬‬

‫مدير التحرير‬

‫‪waleedalaa@hotmail.com‬‬

‫�أبوظبي للإعالم ‪ -‬توزيع‬

‫الرقم املجاين‪8002220 :‬‬ ‫لالت�صال من اخلارج ‪00971 2 4145000 :‬‬ ‫فاك�س ‪00971 2 4145050 :‬‬ ‫‪distribution@admedia.ae‬‬

‫�ساحة احلوار‪ :‬حممد امليموين؛ ا�سم يعرفه جمتمع ال ُكتاب واملثقفني املغاربة‪ ،‬منوذج مبدع امتزج‬ ‫‪36‬‬ ‫فيه املوروث الديني العربي‪ ،‬والثقافات املغربية والإ�سبانية والفرن�سية‪ .‬تعرفه مدينته باملثقف‬ ‫طيب القلب ووافر الأدب‪� .‬أحد رواد احلداثة املتفائلني واملحبني للأجيال ال�شعرية يف املنطقة‪ .‬يف �ساحة‬ ‫احلوار حتدث امليموين عن بدايات التكوين را�صد ًا حتوالت ال�شعرية يف جيل ب�أكمله‪ ،‬و�أكد امليموين �أن‬ ‫تراث االن�سان هو املِف�صل الدقيق يف هويته‪ ،‬وعليه �أال ميل قراءته الواعية الناقدة بق�صد هدم الأوهام‬ ‫والت�صورات امل�سبقة‪ ،‬م�ؤكد ًا �ضرورة �أن نعيد قراءة تراثنا بجر�أة تك�شف موقعنا منه وموقعه منا‪ ،‬بحيث‬ ‫نبني حا�ضر ًا وم�ستقب ًال رافعته وركيزته تراثنا الإيجابي‪ ،‬وال نكتفي بجعله �سكن ًا ونهمل البناء فوقه �أو‬ ‫التطوير‪ ،‬و�إال انتهينا �إىل احل�ضي�ض للأبد‪.‬‬ ‫وجه يف املر�آة‪� :‬إذا كانت الأقدار اختارت ال�شيخ عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬ابن حلب‪ ،‬لي�صبح مبعوث‬ ‫‪46‬‬ ‫العناية الإلهية لتنوير الوجدان العربي‪ ،‬ف�إنه قد اختار �أن يفعل ذلك كما ينبغي فعله؛ فانطلق‬ ‫يف مقاومته لال�ستبداد من فكرتني �أ�سا�سيتني هما جتديد اخلطاب الديني و�إ�صالح التعليم‪ ،‬و�أعلن‬ ‫�أن جتديد الدين البد و�أن ينبني على الفعل والرغبة يف التغري ومقاومة الظاملني ولي�س على الت�سليم‬ ‫والر�ضا‪ ،‬و�أن النه�ضة تقوم على الدين العامل والعلم الواعي‪ ،‬وارتكز مذهبه الأخالقي على �أن الإرادة‬ ‫هي �أم الأخالق و�أن اال�ستبداد يقتل �إرادة النا�س فيدفعهم �إىل الرياء والنفاق‪.‬‬ ‫ارتياد الآفاق‪ :‬رحلة ال�صديق �إىل البيت العتيق‪� ،‬إحدى �أ�شهر الرحالت احلجازية‪ ،‬وهي رحلة‬ ‫‪54‬‬ ‫تعليمية ت�ستفي�ض يف �شرح �ش�ؤون الفقه وال�شعائر الإ�سالمية‪ ،‬وال �سيما ما يتعلق منها باملنا�سك‬ ‫والواجبات والفرو�ض اليومية املرتتبة على احلاج‪ ،‬والرحالة يجهد نف�سه ويجهد قارئه معه يف متابعة‬ ‫كل ما يخطر‪ ،‬وما ال يخطر‪ ،‬يف بال امل�سلم الذي ينوي التوجه �إىل بيت اهلل احلرام لي�ؤدي فري�ضة احلج‬ ‫والعمرة‪ .‬وال يرتك م�س�ألة وال �شاردة من امل�سائل املتعلقة بالأماكن املقد�سة وكيفية زيارتها وما قيل فيها‬ ‫مما تعددت فيها االجتهادات والآراء واملرويات وا�ست�أثرت باهتمام الفقهاء والباحثني و�شغلت حيزا من‬ ‫مدوناتهم‪� .‬إال وكان لها مكان يف منت رحلته ون�صيب من البحث والتدقيق حيث ي�أخذها من م�صادرها‬ ‫وي�ستعر�ض �أ�سانيدها كما وردت يف �أحاديث ومدونات �أئمة املذاهب الإ�سالمية و�أبرز علمائها‪.‬‬ ‫أيضاً القا�ص �سعيد الكفراوي يكتب عن عفيفي مطر‪ ،‬والدكتور �سعيد يقطني يكتب عن االنتقائية‬ ‫وال�شمولية يف الرتاث العربي الإ�سالمي‪ ،‬والدكتور معجب الزهراين ير�صد مالمح فكر التوح�ش‪،‬‬ ‫والروائي جمال الغيطاين ير�صد تلك امل�سافة بني ال�شاعر مادح ًا ومتغني ًا بذاته يف ال�شعر العربي‪ ،‬ويف‬ ‫الذكرى التا�سعة والثالثني حلرب �أكتوبر ي�ستعيد ال�صحايف ه�شام علي موقف الراحل الكبري ال�شيخ زايد‬ ‫بن �سلطان �آل نهيان وقدا�سة الدم العربي‪ ،‬ويكتب الدكتور �أمين بكر عن �سناء مو�سى التي تر�سم بغنائها‬ ‫الوطن‪ ،‬ويختتم ال�شاعر حبيب ال�صايغ العدد بت�سا�ؤله‪ :‬ملاذا ال تفكر يف زرع �شجرة؟‬


‫‪126‬‬

‫يا هال‬

‫ي‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ال‬

‫سؤال التراث‬

‫املو�سع الذي �أجرته (تراث) يف القاهرة‪ ،‬والذي ند�شن‬ ‫يف اال�ستطالع ّ‬ ‫به �سل�سلة ا�ستطالعات تهدف �إىل حتري مالمح ال�صورة الذهنية‬

‫‪136‬‬

‫‪46‬‬

‫‪54‬‬

‫سعر النسخة‬

‫الإمارات العربية املتحدة ‪ 10‬دراهم ‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية ‪ 10‬رياالت‬ ‫ الكويت دينار واحد ‪� -‬سلطنة عمان ‪ 800‬بي�سة ‪ -‬قطر ‪ 10‬رياالت ‪-‬‬‫مملكة البحرين دينار واحد ‪ -‬اليمن ‪ 200‬ريال ‪ -‬م�صر ‪ 5‬جنيهات ‪-‬‬ ‫ال�سودان ‪ 250‬جنيهاً ‪ -‬لبنان ‪ 5000‬لرية ‪� -‬سورية ‪ 100‬لرية ‪ -‬اململكة‬ ‫الإردنية الها�شمية ديناران ‪ -‬العراق‪ 2500 :‬دينار ‪ -‬فل�سطني ديناران ‪-‬‬ ‫اململكة املغربية ‪ 20‬درهماً ‪ -‬اجلماهريية الليبية ‪ 4‬دنانري ‪ -‬اجلمهورية‬ ‫التون�سية ديناران ‪ -‬بريطانيا ‪ 3‬جنيهات ‪� -‬سوي�سرا ‪ 7‬فرنكات ‪ -‬دول‬ ‫االحتاد الأوروبي ‪ 4‬يورو ‪ -‬الواليات املتحدة الأمريكية وكندا ‪ 5‬دوالرات‪.‬‬ ‫االشتراكات‬

‫للأفراد داخل الدولة‪ »100« :‬درهم ‪ /‬للأفراد من خارج الدولة‪»150« :‬‬ ‫درهماً ‪ /‬للم�ؤ�س�سات داخل الدولة‪ »150« :‬درهماً ‪ /‬للم�ؤ�س�سات من‬ ‫خارج الدولة‪ »200« :‬درهم‪.‬‬

‫العربية حول الرتاث‪� ،‬سعينا �إىل التعرف على مالمح ال�صورة‬ ‫الذهنية للرتاث بني �شرائح املجتمع امل�صري املختلفة‪ ،‬لنعرف‬ ‫كيف يفهم امل�صريون الرتاث‪ ،‬وب�أي �صورة يرتبطون به ويتمثلونه يف‬ ‫حياتهم اليومية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تباينت الآراء وفقا مل�ستويات وعي وثقافة امل�شاركني وتخ�ص�صاتهم‬ ‫واهتماماتهم‪� ،‬إال �أنها يف جمملها ك�شفت عن فجوة كبرية بني‬ ‫ال�صورة امل�أمولة للرتاث بني النا�س‪ ،‬وال�صورة الذهنية ال�سائدة عنه‪،‬‬ ‫والتي تعتمد يف م�صادرها ‪-‬يف الغالب الأعم‪ -‬على ما يتلقاه النا�س‬ ‫يف امل�ؤ�س�سة التعليمية‪ ،‬املتهمة بالتحيز وتغليب ال�سيا�سي على الثقايف‪،‬‬ ‫وعلى ما يبثه الإعالم بو�سائله املختلفة‪ ،‬وهو بدوره متهم باالتهامات‬ ‫نف�سها‪� ،‬إ�ضافة �إىل اتهامات �أخرى بالت�سطيح واجتزاء املعلومات‪.‬‬ ‫ك�شف هذا اال�ستطالع‪ ،‬عن ما ي�شبه القطيعة مع الرتاث‪ ،‬فعلى‬ ‫الرغم من وجوده كفكرة غائمة يف خلفية كل من ا�ستطلعنا �آراءهم‪،‬‬ ‫وحر�صهم على التعبري عن حنينهم البالغ �إليه وحزنهم لعدم االهتمام‬ ‫به ومطالبتهم مبزيد من العناية به وتطويره‪ ...‬الخ‪� ،‬إال �أن ت�شتت ًا‬ ‫وا�ضح ًا يف تلك املداخالت يك�شف قدر الت�شتت املماثل يف الروافد‬ ‫الأ�صلية املعنية بتعريف النا�س برتاثهم وتنمية وعيهم ب�أهميته‬ ‫وكيفية متثله يف حياتهم‪ ،‬ويف مقدمة تلك الروافد التعليم والإعالم‪.‬‬ ‫حر�صت (تراث) على طرح ت�سا�ؤالت موحدة على مناذج من �شرائح‬ ‫خمتلفة الأعمار والثقافات واخللفيات االجتماعية يف ال�شارع‬ ‫امل�صري‪ ،‬وا�ستقت �إجاباتهم‪ ،‬ونخطط ال�ستكمال الت�سا�ؤل يف �شوارع‬ ‫العامل العربي مب�شرقه ومغربه‪ ،‬متهيد ًا لطرح هذه الإجابات على‬ ‫خمت�صني بغية تقدمي قراءات وتقييمات علمية‪ ،‬رمبا تكون �شارة بدء‬ ‫المتالك برامج عمل عربي متكاملة حللحلة هذه الق�ضية املعقدة‪.‬‬ ‫ما نقوم به جمرد حماولة للإم�ساك بالفكرة‪ ،‬والبحث عن مداخل‬ ‫للإجابة على عديد من الت�سا�ؤالت‪ :‬هل تكمن الأزمة يف امل�صطلح‬ ‫نف�سه‪ :‬تراث‪� ،‬أم يف ت�صوراتنا حول امل�صطلح‪� ،‬أم تكمن يف ممار�ساتنا‬ ‫جتاه ما نعده تراث ًا وفقا لتلك الت�صورات؟‬ ‫ال �شك يف �أن الق�ضية �أعقد من �أن نحظى ب�إجابة �سل�سة عليها‪ ،‬ولكن‬ ‫ال نرى بد ًا من تكرار الت�سا�ؤل وحماولة الإم�ساك بخيوط الإجابات‪،‬‬ ‫فال�س�ؤال وحده هو القادر على حل �أزمة تردي مالمح �صورتنا الذهنية‬ ‫عن الرتاث‪ ،‬وبالتايل �أزمة تعاطينا معه‪ ،‬وال�س�ؤال وحده هو القادر‬ ‫على حتويل ذلك الرتاث �إىل خيوط حية يف ن�سيجنا احلي‪ ،‬تنمو معنا‬ ‫وننمو بها ونحن من�ضي نحو امل�ستقبل‪.‬‬

‫«تراث»‬


‫‪6‬‬

‫الشهر‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫تحت رعاية سلطان بن زايد‬

‫�سعيد املناعي ومرمي ال�شنا�صي �أثناء تكرمي الفائزين‬

‫نادي تراث االمارات يك ّرم الفائزين‬ ‫يف «بيئتنا بعد�سة الكامريا»‬ ‫�أبوظبي‪ -‬حممود ا�سماعيل بدر‬

‫نظم نادي تراث االمارات ال�شهر الفائت يف‬ ‫امل�سرح الوطني ب�أبوظبي‪ ،‬احلفل اخلتامي‬ ‫لإعالن نتائج م�سابقة بيئتنا بعد�سة الكامريا‬ ‫‪ 2012‬يف دورت�ه��ا ال�سابعة‪ ،‬والتي �أقيمت‬ ‫حتت �شعار «ال�صحراء تنب�ض باحلياة»‪،‬‬ ‫و�أ�� �ش ��رف ع�ل��ى تنفيذها وح���دة البحوث‬ ‫البيئية يف ال�ن��ادي بالتعاون والتن�سيق مع‬ ‫وزارة البيئة واملياه‪ ،‬برعاية كرمية من �سمو‬ ‫ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د �آل نهيان ممثل‬ ‫�صاحب ال�سمو رئي�س ال��دول��ة رئي�س نادي‬ ‫تراث الإم��ارات مب�شاركة نحو ‪ 225‬م�صور ًا‬ ‫وم�صورة‪ ،‬وح�ضور الدكتورة مرمي ال�شنا�صي‬ ‫الوكيل امل�ساعد لقطاع ال�شئون الفنية يف‬ ‫وزارة البيئة واملياه و�سعيد علي املناعي مدير‬ ‫�إدارة الأن�شطة وال�سباقات بالإنابة‪ ،‬وعبد‬ ‫الكرمي �آل علي رئي�س وحدة البحوث البيئية‬

‫يف النادي‪ ،‬وعدد من �أولياء �أمور امل�شاركني‪،‬‬ ‫واملهتمني مبجال البيئة من عدة م�ؤ�س�سات‬ ‫وهيئات وطنية ‪.‬‬ ‫و�أل�ق��ى حممد التميمي كلمة ال�ن��ادي �أكد‬ ‫فيها اهتمام نادي تراث االمارات ب�أن تكون‬ ‫م�سابقة هذا العام كما يف الأع��وام ال�سابقة‬ ‫من�سجمة مع التوجهات احلكومية البيئية‬ ‫ليبقى النادي رديف ًا نوعي ًا للجهود احلكومية‬ ‫يف املجال البيئي وغريه من املجاالت‪ ،‬م�شريا‬ ‫�إىل حر�ص ال�ن��ادي �أن يكون مو�ضوع هذا‬ ‫العام ا�ستجابة لل�شعار ال��ذي �أعلنته وزارة‬ ‫البيئة واملياة ليوم البيئة الوطني «ال�صحراء‬ ‫تنب�ض باحلياة»‪ ،‬ون��وه يف كلمته اىل �أهمية‬ ‫ال��دع��م ال��ذي يقدمه �سمو ال�شيخ �سلطان‬ ‫بن زاي��د �آل نهيان لن�شاطات النادي بوجه‬ ‫عام وامل�سابقة بوجه خا�ص‪ ،‬و�أن توا�صلها‬

‫وجناحها وتطورها منوط بتوجيهات �سموه‬ ‫وحر�صه على تطوير هذه الفعالية وتكوين‬ ‫قاعدة �شبابية للت�صوير البيئي للإ�سهام يف‬ ‫حتقيق بيئة م�ستدامة يف الدولة‪.‬‬ ‫من جانبها �أكدت الدكتورة مرمي ال�شنا�صي‬ ‫يف كلمتها �أهمية الدعم الذي يقدّمه �سمو‬ ‫ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د �آل نهيان ممثلل‬ ‫�صاحب ال�سمو رئي�س ال��دول��ة رئي�س نادي‬ ‫ت��راث االم��ارات للربامج البيئية يف الدولة‬ ‫على امل�ستويات كافة‪ ،‬وقالت يف �سياق مت�صل‬ ‫�إن ال���ص�ح��راء يف دول ��ة االم� ��ارات حتظى‬ ‫مبكانة ه��ام��ة يف وج ��دان �أب �ن��اء االم ��ارات‬ ‫ب��إع�ت�ب��اره��ا ج ��زءا �أ��س��ا��س�ي��ا م��ن البيئات‬ ‫الطبيعية وتراثا ومكونا للحياة يف املا�ضي‬ ‫واحلا�ضر وامل�ستقبل ‪ ،‬و�أ�ضافت ‪� :‬إن دولة‬ ‫االم� ��ارات ت��ؤم��ن ب���أن البيئة ال�صحراوية‬


‫جانب من احل�ضور يف حفل تكرمي الفائزين مب�سابقة «بيئتنا بعد�سة الكامريا»‬

‫ناب�ضة باحلياة‪ ،‬واملحافظة على مواردها‬ ‫وعنا�صرها مطلب �أ�سا�سي‪ ،‬ون�ؤكد على‬ ‫� �ض��رورة م��وا��ص�ل��ة ه��ذا ال�ن�ه��ج التنموي‬ ‫وت �ط��وي��ره وت�شجيع ك��ل �أن���واع الأن�شطة‬ ‫التنموية التي تقام يف البيئة ال�صحراوية‬ ‫واال� �س �ت �م �ت��اع ب�ه��ا م��ع االل� �ت ��زام مب�ب��ادئ‬ ‫اال�ستخدام الر�شيد من �أج��ل املحافظة‬ ‫ع�ل��ى ن �ق��اء ه��ذه ال�ب�ي�ئ��ة ول�ت�ب�ق��ى ناب�ضة‬ ‫باحلياة ملختلف الأجيال‪.‬‬ ‫و�ألقى يو�سف جا�سم علي كلمة امل�شاركني‬ ‫ن �ق��ل خ�لال �ه��ا ب��ا� �س��م زم�ل�ائ ��ه ال���ش�ك��ر‬ ‫والتقدير ل�سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل‬ ‫نهيان جلهوده ودعمه النوعي للم�سابقة‬ ‫منذ انطالقتها ما جعلها ركن ًا قوي ًا من‬ ‫�أرك� ��ان ال�ن���ش��اط ال�ب�ي�ئ��ي ال ��ذي ت�شهده‬ ‫الدولة عاما بعد ع��ام‪.‬وق��ام �سعيد علي‬ ‫املناعي والدكتورة مرمي ال�شنا�صي وعبد‬ ‫ال �ك��رمي �آل ع �ل��ي ب�ت�ك��رمي ال�ف��ائ��زي��ن يف‬ ‫مو�ضوعي امل�سابقة التي �شارك فيها نحو‬ ‫‪ 225‬م�صور ًا وم�صورة‪ ،‬ق ّدموا ‪� 910‬صورة‬ ‫يف مو�ضوعيها‪ :‬الزهور ال�صحراوية يف‬ ‫الدولة‪ ،‬والطيور ال�صحراوية يف الدولة‪.‬‬ ‫وح�صد مايكل ج��اوت فيال�سكو املركز‬

‫الأول يف مو�ضوع الزهور ال�صحراوية ونال‬ ‫جائزة مالية بقيمة ثالثني �أل��ف دره��م ‪،‬‬ ‫وجاء حممد عتيق حارب حممد يف املركز‬ ‫ال �ث��اين وح���ص��ل ع�ل��ى خم�سة وع�شرين‬ ‫�ألف درهم ‪ ،‬وحقق املركز الثالث يو�سف‬ ‫جا�سم �إبراهيم العلي ونال ع�شرين �ألف‬ ‫دره ��م‪ ،‬ويف امل��رك��ز ال��راب��ع م��وزة حممد‬ ‫الفال�سي ونالت خم�سة ع�شر �ألف درهم‪،‬‬ ‫وذهب املركز اخلام�س للمت�سابقة مرمي‬ ‫عبد اهلل حممد الغفلي ونالت ع�شرة �آالف‬ ‫درهم‪ ،‬وال�ساد�س بابليتو رامو�س تاي�سون‬ ‫ونال ت�سعة �آالف درهم‪ ،‬وال�سابع رودريك‬ ‫كوباكوب باري وح�صل على ثمانية �آالف‬ ‫دره��م‪ ،‬والثامن �سعاد خليفة حميد بن‬ ‫رك��ا���ض ون��ال��ت �سبعة �آالف دره��م‪ .‬ون��ال‬ ‫الفائزون يف مو�ضوع الطيور ال�صحراوية‬ ‫جوائز م�ساوية ملثيلتها يف املو�ضوع الأول‬ ‫‪،‬وحل املت�سابق خليفة �أحمد مو�سى خادم‬ ‫ال�ظ��اه��ري يف امل��رك��ز الأول‪ ،‬ويف املركز‬ ‫الثاين �أحمد عبد اللطيف يو�سف �آل علي‪،‬‬ ‫والثالث �سي�سلو بريجنويل كرير‪ ،‬والرابع‬ ‫حممد ابراهيم حممد امل�شريف‪ ،‬واخلام�س‬ ‫كري�ستوفر ميلر‪ ،‬وال�ساد�س يو�سف جا�سم‬

‫اب��راه �ي��م ال �ع �ل��ي‪ ،‬وال �� �س��اب��ع اح �م��د عبد‬ ‫الرحمن احمد �شهيل ‪ ،‬والثامن حممد‬ ‫عتيق ح��ارب حممد ‪ .‬فيما حجبت جلنة‬ ‫حتكيم امل�سابقة جوائز املركزين التا�سع‬ ‫والعا�شر يف كال املو�ضوعني‪ ،‬ومت تكرمي‬ ‫�أع�ضاء جلنة حتكيم امل�سابقة املكونة من‬ ‫الدكتور جمال جمعة مدين وحممد عبد‬ ‫اهلل املرزوقي والدكتورة �شذى �إ�سماعيل‬ ‫جيبوري وزينة ح�سني ب��اه��ارون‪ ،‬كما مت‬ ‫تكرمي العديد من امل�ؤ�س�سات والهيئات‬ ‫والأف � � ��راد ال��ذي��ن �أ� �س �ه �م��وا يف �إجن ��اح‬ ‫امل�سابقة ‪.‬‬ ‫وع�ق��ب خ�ت��ام ح�ف��ل ت�ك��رمي ال�ف��ائ��زي��ن يف‬ ‫امل���س��اب�ق��ة مت ّ اف �ت �ت��اح م �ع��ر���ض ال���ص��ور‬ ‫ال�ف��وت��وغ��راف�ي��ة وال ��ذي ت�ضمن ن�ح��و ‪76‬‬ ‫� �ص��ورة خم �ت��ارة م��ن �إج��م��ايل ال���ص��ور‬ ‫امل�شاركة‪ ،‬والتي ت�برز �أهمية مو�ضوعي‬ ‫امل���س��اب�ق��ة والأم ��اك ��ن ال �ت��ي ت�ع�ي����ش فيها‬ ‫ال�ط�ي��ور وال��زه��ور يف ال��دول��ة‪ ،‬ك�م��ا ت�برز‬ ‫م �ه��ارات وم��واه��ب امل���ش��ارك�ين يف جم��ال‬ ‫الت�صوير البيئي و�أه �م �ي��ة ت�ن��وع وث��راء‬ ‫ال �ب �ي �ئ��ة ال �� �ص �ح��راوي��ة ال�ب�ري��ة يف دول��ة‬ ‫االمارات العربية املتحدة‬


‫‪8‬‬

‫الشهر‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫نادي تراث الإمارات‬ ‫ي�شارك يف معر�ض ال�صيد والفرو�سية‬ ‫ال�سامرائي‬ ‫�أبوظبي ‪ -‬حم ّمد رجب‬ ‫ّ‬ ‫اخ�ت�ت��م ن ��ادي ت ��راث الإم � ��ارات ال�شهر‬ ‫الفائت م�شاركته املتميزة يف فعاليات‬ ‫معر�ض ال�صيد وال�ف��رو��س�ي��ة «�أب��وظ�ب��ي‬ ‫‪ »2012‬ال��ذي �أق�ي��م يف �أر� ��ض املعار�ض‬ ‫ب�أبوظبي يف الفرتة من اخلام�س وحتى‬ ‫الثامن من �سبتمرب الفائت‪.‬‬ ‫�شارك نادي تراث الإمارات يف فعاليات‬ ‫الدورة ملعر�ض ال�صيد والفرو�سية بعد �أن‬ ‫حر�ص على امل�شاركة الفاعلة يف الدورات‬ ‫ال�سابقة بنا ًء على توجيهات �سمو ال�شيخ‬ ‫�سلطان بن زايد �آل نهيان ممثل �صاحب‬ ‫ال�سمو رئي�س الدولة رئي�س ن��ادي تراث‬

‫الإمارات‪ ،‬وذلك ملا للمعر�ض من ارتباط‬ ‫وث �ي��ق ب� ��أه ��داف ال��ن��ادي ور� �س��ال �ت��ه من‬ ‫جانب‪ ،‬وللأهمية اخلا�صة التي ميثلها‬ ‫املعر�ض‪ ،‬حيث يعد منرب ًا مميز ًا للتوا�صل‬ ‫م��ع مم�ث�ل�ين ع��ن خم�ت�ل��ف احل �� �ض��ارات‬ ‫وال�شعوب وفر�صة ثمينة لع�شاق الرتاث‬ ‫لإطالعهم على مفردات ال�تراث املحلي‬ ‫الذي يحر�ص النادي على املحافظة عليه‬ ‫ون�شره وتعليم وتثقيف وت��دري��ب اجليل‬ ‫اجلديد للتم�سك ب��ه‪ ،‬وذل��ك عرب خطط‬ ‫وب��رام��ج م��درو� �س��ة وزاخ� ��رة بالأن�شطة‬ ‫والفعاليات الرتاثية املتنوعة وال�شاملة‪.‬‬

‫ا�شتمل جناح ال �ن��ادي يف املعر�ض على‬ ‫قرية تراثية متكاملة حتكي للزائرين‬ ‫حياة �أيام املا�ضي التي كان يعي�شها ابن‬ ‫الإم � ��ارات‪ ،‬وتعرفهم بتفا�صيل املكان‬ ‫واحل��رف التقليدية ال�شعبية القدمية‪،‬‬ ‫ف���ض� ً‬ ‫لا ع��ن ع��رو���ض �إدارات و�أق �� �س��ام‬ ‫ومراكز النادي‪ ،‬وفعالياته املختلفة التي‬ ‫جتمع ما بني الرتاث والثقافة والفنون‪.‬‬ ‫�شارك فر�سان نادي تراث الإم��ارات يف‬ ‫حفل افتتاح املعر�ض با�ستعرا�ض مميز‬ ‫�أم ��ام احل���ض��ور‪ ،‬وق��دم��وا ا�ستعرا�ضات‬ ‫يومية يف �صالة الفرو�سية نالت �إعجاب‬


‫تعليم النا�شئة هدف من �أهداف م�شاركة نادي تراث الإمارات باملعر �ض‬

‫احل�ضور ملا �أبدعوه من مهارات فرو�سية‬ ‫متقدمة يف احلركة ويف التقاط الهدف‪،‬‬ ‫كما ��ش��ارك ق�سم الهجن يف ال�ن��ادي يف‬ ‫عرو�ض الهجن �أم��ام جمهور املعر�ض‪،‬‬ ‫وحظيت عرو�ضهم �إعجاب اجلميع‪.‬‬ ‫ا��س�ت�ق�ط��ب ج �ن��اح ال� �ن��ادي خ�ل�ال �أي ��ام‬ ‫املعر�ض الأربعة �أع��داد ًا كبرية من كبار‬ ‫م �� �س ��ؤويل ال��دول��ة‪ ،‬وال��وف��ود ال�سياحية‬ ‫والعائالت وجمهور من املقيمني داخل‬ ‫وخ��ارج ال��دول��ة‪ ،‬حيث وف � ّر اجل�ن��اح لهم‬ ‫جل�سة �ضيافة عربية يف بيت َ‬ ‫ال�ش َعر وركن‬ ‫املقهى ال�شعبي‪.‬‬ ‫يذكر �أن جناح ال�ن��ادي �أ�ستقبل خالل‬ ‫�أي���ام امل�ع��ر���ض ع���دد ًا م��ن الف�ضائيات‬ ‫لت�سجيل ح ��وارات وت�ق��اري��ر خا�صة عن‬ ‫تراث الإمارات وم�شاركة النادي يف هذا‬ ‫املعر�ض ال�تراث��ي‪ ،‬وق��د �شارك يف جناح‬

‫النادي كل من وحدة املتاحف واملقتنيات‬ ‫مبركز زاي��د للدرا�سات والبحوث‪ ،‬التي‬ ‫عر�ضت للجمهور لأول م ّرة فيلم ًا خا�ص ًا‬ ‫وخ���ص���ص��ت رك ��ن � �ص��ور ي���روي ل�سرية‬ ‫وم �� �س�يرة امل �غ �ف��ور ل��ه ب � ��إذن اهلل تعاىل‬ ‫ال�شيخ زاي��د بن �سلطان �آل نهيان طيب‬ ‫اهلل ث��راه‪ ،‬بالتعاون مع حم ّمد اخلالدي‬ ‫امل���ص��ور اخل��ا���ص للمغفور ل��ه‪� ،‬إ��ض��اف� ًة‬ ‫�إىل عر�ض لوحة و�شهادة من مو�سوعة‬

‫المعرض ضم ركن صور‬ ‫يروي سيرة ومسيرة‬ ‫الشيخ زايد بن سلطان‬ ‫آل نهيان «طيب اهلل‬ ‫ثراه» ‪ ،‬بالتعاون مع‬ ‫محمد الخالدي المصور‬ ‫ّ‬ ‫الخاص للمغفور له‬

‫غيني�س ل�ل��أرق��ام القيا�سية ع��ن �أك�بر‬ ‫جمموعة ط��واب��ع ت�شكل جُمتمع ًة �صورة‬ ‫كبرية للمغفور له ب�إذن اهلل‪ ،‬ولوحة متثل‬ ‫� �ص��ور ًا ل��ه ط�ي��ب اهلل ث ��راه‪ ،‬وه��و ي�شهد‬ ‫عر�ض ًا لل�صقور يف مزرعة عني اجلوهرة‬ ‫باملغرب عام ‪1996‬م‪ ،‬ولوحتني لرحلتني‬ ‫لل�صيد يف ال �ب��اك �� �س �ت��ان ع��ام��ي ‪1994‬‬ ‫و‪1998‬م‪.‬‬ ‫فيما �شاركت �إدارة الإع�لام والعالقات‬ ‫العامة بالنادي بعر�ض �إ�صدارات النادي‬ ‫ومركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم‬ ‫ال�ت��ي تنوعت ب�ين الإ�� �ص ��دارات الأدب �ي��ة‬ ‫والرتاثية والفكرية‪ ،‬ودواوين ل�شعراء من‬ ‫الإم��ارات‪ ،‬والكتب وال��دواوي��ن املُحققة‪،‬‬ ‫وجم�ل�ات ت ��راث‪ ،‬والإم� ��ارات الثقافية‪،‬‬ ‫والإع�لام والع�صر‪ ،‬وجملة بيت ال�شعر‪،‬‬ ‫بينما �شاركت �إ�سطبالت ور�سان بجناح‬


‫‪10‬‬

‫الشهر‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫من جناح النادي يف معر�ض ال�صيد والفرو�سية‬

‫متميز‪ ،‬وعر�ضت وحدة البحوث البيئية‬ ‫العديد من‪ ‬الإ�صدارات البيئية كالأطل�س‬ ‫البحري لإمارة �أبوظبي‪ ،‬بن�سختيه العربي‬ ‫والإجن �ل �ي��زي‪ ،‬واللعبة البيئية‪ ،‬واللعبة‬ ‫البيئية على �شا�شة اللم�س واملخ�ص�صة‬ ‫ل�ل��أط��ف��ال‪ ،‬وخ���ص���ص��ت رك��ن�� ًا ل���ص��ور‬ ‫م�سابقة بيئتنا بعد�سة الكامريا‪ ،‬وركن ًا‬ ‫مل�سابقة �إبداع من النفايات‪.‬‬ ‫‪ ‬كما نظمت �إدارة الأن�شطة وال�سباقات‬ ‫البحرية معر�ض ًا ج�سد اهتمام النادي‬ ‫بريا�ضات ال�صيد والفرو�سية والرماية‪،‬‬ ‫وق��دم��ت ف�ق��رات تراثية لطالب مراكز‬ ‫ال� �ن ��ادي ل�ل�ب�ن�ين وال� �ب� �ن ��ات‪ ،‬وع��ر� �ض��ت‬ ‫�أف�ل�ام� � ًا ت��وث�ي�ق�ي��ة ل�ل�أن �� �ش �ط��ة‪ ،‬ووزع ��ت‬ ‫ن�شرات ومطبوعات تعريفية ب�أن�شطة‬ ‫الإدارة‪� ،‬إ� �ض��اف � ًة �إىل �إج���راء عمليات‬

‫ت�سجيل ع�ضوية �شباب النادي‪ ،‬يف حني‬ ‫عر�ض ق�سم ال�سباقات البحرية حمم ًال‬ ‫تراثي ًا �شراعي ًا‪ ،‬وع��دد ًا من امل�ستلزمات‬ ‫البحرية‪� ،‬أما القرية الرتاثية ف�أعدت‬ ‫للجمهور منوذج ًا لقرية تراثية متكاملة‬ ‫ت�ألفت م��ن دك��اك�ين احلرفيني والبيوت‬ ‫القدمية كبيت العني‪ ،‬وبيت البحر والرب‪،‬‬ ‫واحل���ض�يرة‪ ،‬واملقهى ال�شعبي‪ ،‬والركن‬ ‫البحري لعر�ض �شباك ال�صيد القدمية‪،‬‬

‫شاركت أمهات‬ ‫المشغل النسائي‬ ‫بالقرية التراثية بعرض‬ ‫أنواع اللؤلؤ المختلفة‬ ‫وطريقة و أدوات وزنه‬ ‫للجمهور‬

‫ورك��ن ال�ط� ّوا���ش ال��ذي ع��ر���ض للجمهور‬ ‫�أن��واع الل�ؤل�ؤ املختلفة‪ ،‬وطريقة و�أدوات‬ ‫وزن الل�ؤل�ؤ مبقايي�س خا�صة‪ ،‬مع م�شاركة‬ ‫�أمهات امل�شغل الن�سائي بالقرية الرتاثية‪،‬‬ ‫ويف امل�شغل الن�سائي بال�سمحة وتقدمي‬ ‫ال�ضيافة للجمهور يف بيت ال�شعر‪.‬‬ ‫و�شاركت «قرية بوذيب للقدرة» مبجموعة‬ ‫م��ن ال���ص��ور وع��رو���ض ال�ف�ي��دي��و لإب ��راز‬ ‫ن�شاطاتها يف خمتلف جم��االت �سباقات‬ ‫الفرو�سية‪ ،‬ومدر�سة الإم ��ارات لل�شراع‬ ‫التي عر�ضت الدروع وقوارب الأوبتم�ست‬ ‫والليزر‪ ،‬وكذلك �أدوات ريا�ضة الكايت‬ ‫��س�يرف‪ ،‬والتزلج على امل��اء‪ ،‬وال�ق��وارب‬ ‫الرملية‪ ،‬ووفرت ركن ًا عر�ضت فيه �صور ًا‬ ‫لأن���ش�ط��ة وم �� �ش��ارك��ات امل��در� �س��ة داخ��ل‬ ‫وخارج الدولة‬


‫‪..‬وخالد بن �سلطان بن زايد �آل نهيان يزور املعر�ض‬ ‫�أبوظبي ‪ -‬خالد ملكاوي‬ ‫زار ال�شيخ خالد بن �سلطان بن زايد �آل‬ ‫ن�ه�ي��ان ال�شهر ال�ف��ائ��ت م�ع��ر���ض ال�صيد‬ ‫والفرو�سية «�أبوظبي ‪2012‬م» وجتول بني‬ ‫�أجنحته مبدي ًا �إعجابه بامل�ستوى املتقدم‬ ‫الذي و�صل �إليه املعر�ض‪.‬‬ ‫وجت��ول ال�شيخ خالد يف �أرج��اء املعر�ض‪،‬‬ ‫حيث �شاهد ع��دد ًا من الأجنحة املحلية‬ ‫والعاملية امل�شاركة التي عر�ضت �أح��دث‬ ‫�أ�سلحة ال�صيد‪ ،‬وا�ستمع �إىل �شرح من‬ ‫عدد من العار�ضني حول منتجات املعر�ض‬ ‫والتعرف على �أحدث االبتكارات يف جمال‬ ‫ال�صيد وال�ف��رو��س�ي��ة‪ ،‬م���ش�ي��د ًا مب�ستوى‬ ‫ت�ن�ظ�ي��م امل �ع��ر���ض وب �ح �ج��م امل �� �ش��ارك��ات‬ ‫وبنوعية املعرو�ضات‪ .‬و�أع��رب �سموه عن‬ ‫فخره لتنظيم دول��ة الإم���ارات ملثل هذا‬

‫احل��دث املهم ال��ذي ميثل فر�صة اللتقاء‬ ‫امل�ه�ت�م�ين وامل�ع�ن�ي�ين ب��ري��ا��ض�ت��ي ال�صيد‬ ‫والفرو�سية‪.‬‬ ‫ك�م��ا جت ��ول ��س�م��وه يف �أج �ن �ح��ة ع ��دد من‬ ‫الهيئات الثقافية‪ ،‬من بينها ن��ادي تراث‬ ‫الإم ��ارات‪� ،‬إذ ط��اف على خمتلف �أرك��ان‬ ‫اجلناح مبدي ًا �إعجابه مبحتويات اجلناح‬ ‫التي عر�ضت خمتلف مفردات الرتاث يف‬ ‫�شكله احلي‪ ،‬م�ؤكد ًا على �أهمية امل�شاركة‬ ‫يف هذا احلدث الرتاثي الدويل الذي يعمل‬ ‫على تعزيز مفاهيم احلفاظ على الرتاث‪،‬‬ ‫ون�ق�ل��ه �إىل ال�ن��ا��ش�ئ��ة م��ن �أج ��ل ربطهم‬ ‫مبوروثهم وتقاليدهم العريقة‪.‬‬ ‫و�أ�شاد ال�شيخ خالد بن �سلطان بن زايد‬ ‫�آل نهيان باالهتمام الكبري ال��ذي يوليه‬

‫�صاحب ال�سمو ال�شيخ خليفة بن زايد �آل‬ ‫نهيان رئي�س الدولة «حفظه اهلل» للرتاث‬ ‫يف خمتلف جماالته والدعم الالحمدود‬ ‫ال��ذي يحظى به املعر�ض من قبل �سموه‪،‬‬ ‫كما �أ�شاد باجلهود املباركة للفريق �أول‬ ‫�سمو ال�شيخ حممد بن زايد �آل نهيان ويل‬ ‫عهد �أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات‬ ‫امل�سلحة يف دع��م ال�تراث واحلفاظ عليه‬ ‫وغر�سه يف نفو�س وق�ل��وب �أب �ن��اء الوطن‬ ‫باعتباره ال��رك�ي��زة الأ�سا�سية يف عملية‬ ‫ال �ب �ن��اء احل�����ض��اري‪ ،‬وك��ذل��ك ب��اجل�ه��ود‬ ‫املو�صولة واملتابعة الدائمة من قبل راعي‬ ‫املعر�ض �سمو ال�شيخ حمدان بن زايد �آل‬ ‫نهيان ممثل احلاكم يف املنطقة الغربية‬ ‫رئي�س نادي �صقاري الإمارات‬


‫ ‬

‫عبق‬ ‫عبق‬

‫‪12‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ ‬

‫�آخر‬

‫الليل‪ ،‬وكنا نخرج من‬ ‫زقاق املدق‪ ،‬لنجل�س هناك‬ ‫على مقعد من رخام‪ ،‬حتت ظل النا�صر‬ ‫حممد‪ ،‬بني مق�صورة اخلارج‪ ،‬و�سبيل‬ ‫حممد علي‪ ،‬روعة املكان يف الليل‪ ،‬وعلو‬ ‫امل�سجد البهيج‪ .‬كنت �شارد الذهن‪ ،‬وليل‬ ‫املدينة الألفية يغمرين بفي�ض من عطف‬ ‫يج�سد ما فات ويحييه‪ .‬فاج�أين حممد‬ ‫عفيفي مطر ال�شاعر‪ ،‬وقد حت�س�س �شعره‬ ‫اخل�شن‪ ،‬الذى وخطه ال�شيب‪ ،‬كما يفعل‬ ‫دائم ًا‪« :‬هل تعرف؟ �أول مرة �أقول لك‬ ‫هذه احلكاية‪ ،‬ولدتني �أمي يف احلقول‪،‬‬ ‫ذهبت لتملأ جرتها من الرتعة البعيدة‬ ‫«النعناعية» ففاج�أها طلق املخا�ض‪،‬‬ ‫وهي تغم�س اجلرة باملاء‪ ،‬فدخلت بني‬ ‫�أعواد الذرة‪ ،‬ومن دون م�ساعدة من‬ ‫�أحد �أخرجتني �إىل الدنيا وو�ضعتني‬ ‫يف حجرها وعادت �إ ّ‬ ‫يل م�سرعة‪ ،‬وعلى‬ ‫�ساقيها كما قالت‪ ،‬تتحدر خيوط الدم‪،‬‬ ‫حتت �شم�س ال�صيف القادح‪ ،‬ولعلمك‬ ‫ف�إنني من يومها و�أنا �أحمل حلظة امليالد‬ ‫هذه و�شم ًا ج�سدي ًا وروحي ًا ال يزول»‪.‬‬ ‫�صمتَ حلظة‪ .‬ك�أنه يهم�س لنف�سه «مكان‬ ‫ه��و ب�����ؤرة ال��ت��ك��وي��ن اجل��ام��ع ب�ين الطمي‬ ‫والنهر والدم»‪.‬‬ ‫عاد ل�صمته‪ ،‬ثم �سمعته ين�شد ب�صوته الأليف‪:‬‬ ‫تلب�س ال�شم�س قمي�ص الدم‪،‬‬ ‫يف ركبتها جرح بعر�ض الريح‬ ‫والأف� ��ق ي�ن��اب�ي��ع م��ن دم م�ف�ت��وح��ة للطري‬ ‫والنخل‪..‬‬ ‫�سعيد الكفراوي �سالم‪� ،‬سالم هي حتى م�شرق النوم‪.‬‬ ‫وحني �صعد الآذان من مئذنة �سبط النبي‪،‬‬ ‫ودار حول امل�آذن الألفية‪� ،‬أدركنا �أن اللحظة‬ ‫قد و ّلت‪ ،‬و�أن النهار قادم‪ ،‬ومتنينا �أن يكون‬ ‫هذا النهار على نحو �أف�ضل‪.‬‬

‫محمد‬ ‫عفيفي مطر‬ ‫شهادة عن‬ ‫البكاء في‬ ‫زمن الضحك‬

‫�صحبة ووحدة‬

‫�صحبته من ال�سنني‪ ،‬فوق الأرب��ع�ين‪ ،‬حكمة‬

‫رب��ك م�سطورة يف كتاب م���ؤج��ل‪� ،‬أوغلنا يف‬ ‫الزمن‪ ،‬فوحدنا ال�شكل من خارجنا وداخلنا‪،‬‬ ‫وكنا نفكر يف ال�شيء يف زمن واح��د‪ ،‬ال�شعر‬ ‫الكثيف اخل�شن‪ ،‬و�سمرة �شم�س القرى‪ ،‬وتلك‬ ‫املالمح احلادة املتوترة‪ ،‬التي هدّها املر�ض‬ ‫القدمي‪ ،‬والب�شرة تنوء ب�صفرتها‪ ،‬والقلب‬ ‫يحيط بف�ضاء م��ن احل��ك��اي��ات والطقو�س‬ ‫ومالمح الأيام و�إرث اليتامى و�أهل ال�سكك‪،‬‬ ‫وال�صمت �أبلغ حلظات الكالم حيث نتخيل‬ ‫�أكرث مما نقول!!‬ ‫يبد�أ املناو�شة‪ ،‬ونكون هناك‪ ،‬على مقهى قليل‬ ‫من الأهمية‪ ،‬حيث يتوا�ضع النا�س‪ ،‬وميعنون‬ ‫يف مودتهم‪ ،‬واللحظات النادرة من الباقي‬ ‫من �أعمارنا مهددة بالرحيل‪ ،‬ويف قلوبنا‬ ‫معنى ملا نعيه ون�سرته!! يقول‪ ،‬و�أنا م�صغ!‬ ‫ع�شت عمري كله‪ ،‬وقلبي معلق ًا بني خمالب‬ ‫طائر جارح حممود بال�سياحات يف الأعايل‪،‬‬ ‫ع���ل���وه ف����زع ورع������ب‪ ،‬وان���ط�ل�اق���ات ك��ارث��ة‬ ‫احتماالت‪ ،‬كلما حط لي�سرتيح نفرته الده�شة‬ ‫بزياراتها املفاجئة وانفتحت م�سالك الأفق‬ ‫�أمام املعرفة املرة والغربة الف�سيحة‪.‬‬ ‫�أق�����ص عليه م��ا يف ال�ضمري م��ن حكايات‪،‬‬ ‫و�أذك���ره �أننا جئنا بالكاد من مكان واح��د‪،‬‬ ‫وخرجنا بليل حيث مدينة ال تعرف الرحمة!!‬ ‫ي�صفق بيديه‪ ،‬وي�ضحك �ضحكته التي كلما‬ ‫تذكرتها ابت�سمت‪ ،‬والتي تذكرين ببقبقة‬ ‫ينبوع‪ ،‬ويوا�صل‪ « :‬للم�صريني وطن �آخر‪ ،‬ميوج‬ ‫بالرموز واملعاين‪ ،‬ويحت�شد ب�سكانه ال�سفليني‬ ‫املنفلتني من ربقة الفهم و�ضرورات العادة‬ ‫وم�ستقرات التعليل‪ ،‬هو وطن ال�ضد واخليال‬ ‫واحلرية‪ ،‬وهو وطن ال�صدفة العمياء‪ ،‬وجمال‬ ‫ال�شر‪ ،‬وع�شوائية الأرزاق»‪ .‬يلوذ بغيابه‪ ،‬و�أنا‬ ‫�أح��دق بعيد ًا يف املعنى والداللة‪� .‬أفيق على‬ ‫غمزته يف ركبتي‪ ،‬قائ ًال‪ :‬ا�سمع دي‪ ،‬يتهي�أ‬ ‫لل�شعر‪ ،‬وقد حدق يف �أفق الليل‪ .‬ومن ديوانه‬ ‫«�أنت واحدها وهي �أع�ضا�ؤك انترثت»‪ ،‬يلقي‪:‬‬ ‫�صمت من غا�شية الإ�شراق وجالل النوم احلي‬ ‫فمن تذكر �شظايا النار الباردة وعروق املاء‬


‫املتوهج ومالم�سة النجوم املنطفئة �إذ‬ ‫تزدهر �ألوانها ويقظة الطفو على جريان‬ ‫الأحداث وعلم الن�سيان‪.‬‬

‫مل ي�سقط ال�صقر‬

‫غاب ن�صف ال�شهر الذي مي�ضيه بالعا�صمة‪،‬‬ ‫ناو�شني قلق غ��ي��اب��ه‪ ،‬م��ن بعيد ال ح�س وال‬ ‫خرب‪ ،‬اعتدت �أن �أ�ضبط وقتي على ح�ضوره‪،‬‬ ‫وان�����ص��راف��ه ال �أح���د يجيب‪ ،‬وال ر�سالة من‬ ‫قادمني‪ .‬من ال��ذي �أخربنا ب�أنهم اعتقلوه؟‬ ‫جاءت جتريدة بالليل من مباحث �أمن الدولة‬ ‫و�أخذته من القرية‪ .‬تذكرت تلك ال�سنوات‬ ‫ال�سوداء الكريهة وقلت‪ :‬جاء الدور على مطر‪.‬‬ ‫ب��د�أت البحث عنه حتى حفيت قدماي‪ ،‬وال‬ ‫�إجابة هنا �أو هناك‪ ،‬دلني �صديق طيب عادة‬ ‫ما يعرف نتائج مثل هذه الأم��ور‪ ،‬وق��ال يل‪:‬‬ ‫مطر يف مباحث أ�م��ن الدولة يف الظوغلي‪.‬‬ ‫حكى يل عفيفي بعد �أن خرج عن �إهاناتهم‪،‬‬ ‫و�أنهم �ضربوه‪ ،‬وعلقوا الكهرباء يف ج�سده‪،‬‬ ‫و�أعطوه عقار ًا للهلو�سة كان ب�سببه يرى بنته‬ ‫الطفلة معه بالزنزانة ط��وال الليل‪ ،‬معتقل‬ ‫الظوغلي مكان �سفلي ي�ستقر من زم��ان يف‬ ‫م�صر املحرو�سة‪ ،‬ويحتله عتاة املعذبني‪،‬‬ ‫املتنا�سلني بدقة احل�ساب وال�سنني من بطن‬ ‫ثورة يوليو غري املجيدة‪.‬‬ ‫بعد ذلك عرفت �أنه انتقل ملعتقل «طرة»‪ ،‬كنت‬ ‫�أعي�ش حتت وط�أة �إح�سا�س �أن الأمور مل تتغري‬ ‫�إىل ما ينبغي‪ ،‬و«طره» مثل الظوغلي‪ ،‬وكرامة‬ ‫الإن�سان بينهما بال كرامة‪ ،‬فما بالك بكربياء‬ ‫�شاعر ك��ب�ير؟! �أول النهار كنت على باب‬ ‫املعتقل‪ .‬فكرت يف �أيام حرب اخلليج‪ ،‬وفكرت‬ ‫يف موقف مطر منها‪ ،‬وانحيازه للعراق‪ ،‬كان‬ ‫ميا ًال لل�شعب العراقي‪ ،‬وك��ان م�ؤمن ًا ب�أفكار‬ ‫نظامه الذي جتاوز حدوده‪ ،‬ومل يقدر عواقبه!!‬ ‫�أعطيت بطاقة ع�ضوية احتاد الكتاب للحار�س‬ ‫وا�ستدعاين م�أمور ال�سجن بعد �أن ظن �أنني‬ ‫موفد من احتاد الكتاب‪.‬‬ ‫ا�ستدعى حممد عفيفي مطر �إيل حجرته‪،‬‬

‫وعندما ر�آين �أ�صابه الهلع وتوقف على الباب‬ ‫حلظة‪ ،‬كان يرتدي جلباب ًا مما يرتديه �أهل‬ ‫القرى‪ ،‬بعد خروجه �أخربين‪ ،‬ب�أنه ظن �أنهم‬ ‫اعتقلوين �أنا �أي�ض ًا‪ ،‬كان احلزن والأمل يطوفان‬ ‫على وجهه‪ ،‬وعينه ال ت�ستقر يف مكان‪.‬‬ ‫روعني اجل��رح املفتوح‪ ،‬واملمتد من اجلبهة‬ ‫حتى �أعلى الأنف املك�سور ب�ضراوة وعداء‪ ،‬بدا‬ ‫يل هذا اجلرح �شرير ًا على نحو مريع‪ ،‬وكنت‬ ‫�أ�سمع بداخلي �صوت ًا ي��ردد‪ :‬يا للعار‪ ..‬لقد‬ ‫عذبوه من غري رحمة!! حني خرج كتب �شعره‪:‬‬ ‫«�أق�سى من امل��وت ارتعا�ش امل��وت يف ال�شلو‬ ‫الذبيح‪ .‬كتابة �سلفت وهذا وقتها املقدور‪.‬‬ ‫فاقر�أ ما ترى �أو ال ترى من مع�صميك لكاحليك‪.‬‬ ‫م�ستحدث التعذيب بالكيمياء يك�شط من‬ ‫كالمك طينة للخلق كامللكوت ي�سطع‪.‬‬ ‫واحل�شود املبهمات‪ ،‬و�أنهر الدم‪ ،‬وامللوك على‬ ‫الأرائك يتكئ اجلالد منتظر ًا �سقوط ال�صقر»‪.‬‬

‫عفيفي وال�صايغ‬

‫يف الليل‪ ،‬قلعة �صالح ال��دي��ن مثل متاهة‪،‬‬ ‫وم�سجد اجلبار الألباين �شاهد على زمن‪،‬‬ ‫ومي��ت��ط��ي ق��م��ة اجل��ب��ل وال��ظ��ل��م��ة يف الأزق���ة‬ ‫واحل���ارات‪ ،‬وحت��ت العمائر‪ ،‬وب�ين الأ���س��وار‪،‬‬ ‫م��ن��ازل ل��ل��زم��ن وللبلى والأرواح الهائمة‬ ‫تبحث عن �أجداثها‪ ،‬ومبنى احت��اد الكتاب‬ ‫طراز مملوكي عليه �سالم اهلل م�أوى لل�شعر‬ ‫وال�����ش��ع��راء‪ ،‬ه��م ه��ن��ا ب�ين اجل��ب��ل‪ ،‬وج��ام��ع‬ ‫�سليمان با�شا البديع‪ ،‬حبيب ال�صايغ �شاعر‬ ‫من الوطن‪� ،‬شاعر له جمازاته وف�ضاء �شعره‬ ‫مماهي ًا مل�صريه‪ ،‬وم�صريه مماهي ًا للأدب‪،‬‬ ‫يتخيل دائما الفردو�س ق�صيدة من ال�شعر ‪.‬‬ ‫ينتمى ملدر�سة ينتمى لها حممد عفيفي مطر‪،‬‬ ‫ت�ؤمن بتجديد ال�شعر عرب جتديد معانيه‪،‬‬ ‫وت�ؤمن �أن حتول ف�ضاء الق�صائد �إىل احلداثة‬ ‫احلقيقية يتم عرب الوزن والإيقاع‪ ،‬وعرب اللغة‬ ‫التي تنطوي على عمق خ��ا���ص‪ ،‬وتعرب عن‬ ‫الوجود وامل�صري!!‬ ‫مطر و�أن��ا يف ال�صالة‪ ،‬وحبيب ال�صايغ على‬

‫املن�صة يرتل �شعره بحما�سة العا�شق‪ ،‬امل�ؤمن‬ ‫ب�أن اللغة �سقف العامل‪ ،‬وال�صحراء عا�صمة‬ ‫الدنيا وب�ستانها‪ ،‬وامل��وت �س�ؤال مطروح على‬ ‫ال��زم��ن‪ ،‬والع�شق ج�سد ال�صبيات يف ذروة‬ ‫ازدهاره‪ ،‬والزمن حم�ض �شوق يزين له وجع‬ ‫العمر حتى ال�صعود �إىل برزخ ال�شعر‪ ،‬حني‬ ‫انتهى �سمعت مطر يهتف لنف�سه‪� :‬أح�سنت‪.‬‬ ‫ح�ين رح��ل عفيفي ودع���ه ال�صايغ ب�أجمل‬ ‫الكالم‪ ،‬و�أج ّل الأحزان‪ ،‬ومبا يليق ب�شاعرين‬ ‫ي�شبه كل منهما الآخر‪.‬‬

‫�ساللة النور‬

‫�آخر �أيامه ذهبت به �إىل طبيب متخ�ص�ص‪،‬‬ ‫�أخربين الطبيب بت�أخر حالته‪ ،‬من عليه دورة‬ ‫امل���وت؟ �سرتت �سري ومل �أب��ح ب��ه‪� ،‬أخ�برين‬ ‫عفيفي �ضاحك ًا‪� :‬أنا هاروح يا كفراوى‪ ،‬وابت�سم‬ ‫مبرارة من يدرك اخلواتيم‪ ،‬تفكرت �أن حممد‬ ‫عفيفي مطر من �ساللة النور التي ظلت جن�س ًا‬ ‫عجيب ًا م�ل�أت رب��وع م�صر بالإبداع واملعرفة‬ ‫والثقافة واخللق الرفيع ومقاومة الظاملني‪.‬‬ ‫بعد �سبعة �أيام رحل حممد عفيفي مطر‪.‬‬ ‫وحني كنا نواريه الرتاب‪ ،‬يف مقربة بنيت على‬ ‫عجل بقريته يف ري��ف م�صر ال��ذي ع�شقه‪،‬‬ ‫وكتب عنه ملحمته‪ ،‬وحني كنت �أحمل ج�سده‬ ‫مع بع�ض �أهله دخلت معه القرب و�أودعته �أمانة‬ ‫للرمل واخل��ل��ود‪ ،‬و�سمعت �أح��ده��م ي�صيح‪:‬‬ ‫الدوام هلل‪ ..‬والزمن عابر لأعمارنا‪.‬‬ ‫و�أنا �صحت ب�صوت �سمعته �آخر اجلنازة‪.‬‬ ‫ورحمة الليل عليك يا مطر‪ ..‬رحمة اهلل عليك‬ ‫يا رجل يا جميل‪.‬‬

‫تلويحة وداع‬

‫يف تلويحة وداعه‪ ،‬وقبل �أن يرحل بقليل كتب‪:‬‬ ‫«حياتي مغ�سولة بعرقي‪ ،‬ولقمتي من ع�صارة‬ ‫كدحي وك��رمي ا�ستحقاقي مل �أغلق بابا يف‬ ‫وجه �أح��د‪ ،‬ومل �أختطف �شيئ ًا من يد �أحد‪،‬‬ ‫ومل �أكن عون ًا على كذب �أو ظلم �أو ف�ساد‪..‬‬ ‫اللهم فا�شهد‬


‫المرصد‬ ‫‪14‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ال�صايغ والدرمكي و�آغا خالل امل�ؤمتر ال�صحايف‬

‫يناق�ش خلل التلقي و�أزمات القراءة والرتجمة‬

‫«األدب العربي والعالم»‪..‬‬

‫مؤتمر نوعي يرعاه مركز سلطان للثقافة واإلعالم‬ ‫�أبوظبي – تراث‬ ‫�أعلن مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم عن تد�شينه مل�ؤمتر دويل جامع حول «الأدب‬ ‫العربي والعامل»‪ ،‬ينعقد كل عامني بهدف مناق�شة جوانب اخللل الكامن يف «التلقي‬ ‫العربي» على عدة �صعد �أبرزها �أزمات القراءة والرتجمة‪.‬‬ ‫م�ستهل امل�ؤمتر‪ ،‬نقل ال�صايغ حتيات �سمو ال�شيخ‬ ‫�سلطان بن زايد �آل نهيان ممثل �صاحب ال�سمو‬ ‫رئي�س الدولة للح�ضور‪ ،‬مثمن ًا دعم وم�ساندة‬ ‫�سموه للفعاليات والأن�شطة الثقافية والفكرية‬ ‫والإع�لام �ي��ة ال��رائ��دة وامل�م�ي��زة ال�ت��ي يرعاها‬

‫و�أعلن حبيب يو�سف ال�صايغ‪ ،‬مدير عام مركز‬ ‫�سلطان بن زايد للثقافة والإعالم‪ ،‬خالل امل�ؤمتر‬ ‫ال�صحفي الذي انعقد مبقر املركز يف �أبوظبي‬ ‫لهذا الغر�ض‪ ،‬بح�ضور الدكتور ريا�ض نع�سان‬ ‫�آغ��ا‪ ،‬م�ست�شار �سمو ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د‬ ‫�آل نهيان ورئي�س وح��دة املتاحف واملقطنيات‬ ‫يف م��رك��ز زاي ��د ل�ل��درا��س��ات و ال�ب�ح��وث جمعة‬ ‫الدرمكي‪ ،‬ولفيف من املثقفني واملهتمني بال�ش�أن الصايغ‪ :‬المؤتمر سعي‬ ‫الثقايف‪ ،‬عن انطالق الدورة الأوىل من امل�ؤمتر جاد نحو توثيق منجز‬ ‫يف العا�شر من �شهر دي�سمرب املقبل‪ ،‬وملدة يومني‪ ،‬األدب العربي على‬ ‫بفندق �أب��راج االحت��اد بالعا�صمة �أبوظبي‪.‬يف‬

‫خارطة اإلرث الثقافي‬ ‫العالمي‬

‫املركز‪ ،‬والتي مل تقت�صر على ال�ش�أن املحلي بل‬ ‫احت�ضنت ق�ضايا الفكر والثقافة العربية‪،‬‬ ‫فجعلت ا�سم املركز حا�ضر ًا كواحد من �أهم‬ ‫املراكز الثقافية والبحثية حملي ًا وعربي ًا‪.‬‬ ‫وقال ال�صايغ‪ :‬من خالل جهود املركز البحثية‬ ‫ر�صدنا ت��راج�ع� ًا يف ح��رك��ة و�آل �ي��ات ت�صدير‬ ‫الأدب العربي �إىل العامل‪ ،‬وهو ما دفعنا �إىل‬ ‫تد�شني هذا امل�ؤمتر على �أمل حتريك ال�ساكن‬ ‫عرب مناق�شة الق�ضية وبحث كافة جوانبها‬ ‫واخل��روج بتو�صيات كفيلة بعالج هذا اخللل‬ ‫الكامن يف التلقي العربي �أو التبعية الثقافية‬


‫األدب العربي كان‬ ‫منبع إلهام للعالم‬ ‫التي �ألزمنا بها �أنف�سنا دون مربر‪.‬‬ ‫وتبعيتنا الثقافية‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫أدب‬ ‫وذ ّكر ال�صايغ يف كلمته بعراقة ال‬ ‫الراهنة ال مبرر لها‬

‫م��ؤك��د ًا �أن��ه ك��ان م�صدر �إلهام لعدد الف��ت من‬ ‫ال ُكتّاب الغربيني‪ ،‬انطلقوا يف �أطروحاتهم‬ ‫مم��ا ق��دم��ه ال �ع��رب م��ن اب �ت �ك��ار يف جم��ال‬ ‫اللغة و�إ�سهامهم الأدب��ي اخل�صب باخليال‬ ‫والطقو�س واحلكم‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف ال�صايغ �أن امل�ؤمتر ي�سعى �إىل توثيق‬ ‫منجز الأدب العربي على خارطة الإرث الثقايف‬ ‫العاملي‪ ،‬لإعادة اعتباره املفقود �أو املغيب‪.‬‬ ‫و�أك��د ال�صايغ‪� ،‬أن امل�ؤمتر يعك�س ا�سرتاتيجية‬ ‫دولة الإمارات بقيادة �صاحب ال�سمو خليفة بن‬ ‫زايد �آل نهيان رئي�س الدولة‪ ،‬حفظه اهلل‪ ،‬التي‬ ‫تنظر �إىل الثقافة باعتبارها مف�ص ًال �أ�صي ًال من‬ ‫مفا�صل حركة التنمية‪ ،‬وهي ا�ستكمال ملجموعة‬ ‫من املبادرات التي جنحت يف عهد �سموه يف ربط‬ ‫الثقافة بالتنمية ارتباط ًا وثيق ًا ع�ضوي ًا و�أ�صي ًال‪.‬‬ ‫وق��ال ال�صايغ �إن امل�ؤمتر �سوف يحر�ص على‬ ‫م�شاركة كافة الأطياف املكونة للأدب العربي‪،‬‬ ‫من كتاب وروائيني وباحثني ونا�شرين ومفكرين‬ ‫ونقاد‪ ،‬وكذلك م�شاركة ممثلني نوعيني للآخر‬ ‫الذي نتحرى درا�سة عالقتنا به �أو عالقته بنا‬ ‫من الأدب��اء والكتاب وال�صحافيني والنا�شرين‬ ‫الأجانب‪ ،‬مع الرتيكو على ح�ضور �إعالمي وا�سع‬ ‫على ال�صعيدين العربي والعاملي م��ن خالل‬ ‫جمموعة ال�شركات الراعية للم�ؤمتر‪.‬‬

‫حتديات ما بعد احلداثة‬

‫وق��ال ال�صايغ �إن حم��اور ال ��دورة الأوىل من‬ ‫امل ��ؤمت��ر التي �سوف تنعقد يف احل ��ادي ع�شر‬ ‫من �شهر �سبتمرب املقبل‪� ،‬سوف حتظى بطابع‬ ‫ت�أ�سي�سي‪� ،‬إذ يناق�ش احل�ضور جمموعة من‬ ‫امل �ح��اور ال�ه��ام��ة يف مقدمتها «الأدب �أم��ام‬ ‫حت� ّدي��ات الع�صر»‪ ،‬يف حماولة للإجابة على‬ ‫ت�سا�ؤل كيف ي�ضمن الأدب موقعه فى الثقافة‬ ‫اجلديدة يف ظل العوملة واال�ستهالك الثقايف‬ ‫الذي يطغى على نظام القيم ويجرد الإن�سان‬ ‫من هويته الذاتية ويعيد ت�شكيل ذاكرته‪ ،‬وكيف‬ ‫يواجه الأدب هذه الهجمة امل�ضادة التي ت�سمى‬ ‫«ثقافة ما بعد احلداثة»‪.‬‬

‫�أزمة القراءة‬

‫كما يناق�ش امل ��ؤمت��ر«�أزم��ة ال �ق��راءة» يف ظل‬ ‫ال�تراج��ع ال�ع��امل��ي ل �ل �ق��راءة لأ� �س �ب��اب ك�ث�يرة‪،‬‬ ‫تخلق واقع ًا �سلبي ًا يطم�س �شخ�صية القارئ‪.‬‬ ‫وق��ال ال�صايغ �إن ه��ذه الأزم ��ة ب��ات��ت ت�شغل‬ ‫بع�ض ال�ع�ل�م��اء وامل�ف�ك��ري��ن ف��ى ال�ب�ح��ث عن‬ ‫�سبل امل�صاحلة بني جمهور القراءة والكتاب‬ ‫ومبدعيه‪ ،‬وا�ستي�ضاح هوية القارئ وميوله‪،‬‬ ‫و�أ� �ض��اف‪ :‬ففي ظل مقولة «روالن ب��ارت» �إن‬ ‫القارئ مبدع‪ .‬فقد �أ�صبح الت�سا�ؤل كيف ميكن‬ ‫�إعادة الطابع الإبداعي �إىل القراءة؟‬ ‫وتت�ضمن الدورة الأوىل من امل�ؤمتر عدة حماور‬ ‫�أخ ��رى ه��ي «� �ص��ورة الأدب العربي يف م��ر�آة‬ ‫العامل»‪ ،‬وحماولة الإجابة عن كيفية جمموعة‬ ‫من الت�سا�ؤالت عن كيفية قراءة الغرب للأدب‬ ‫العربي وما يعرف عنه‪ ،‬و�إىل �أي مدى تفلح‬ ‫الرتجمات الرائجة فى ت�صدير �صورة حقيقية‬ ‫للقارئ الغربي عن الأدب العربي؟ وهل يالحظ‬ ‫القارئ الغربي طابع ًا غرائبي ًا «اكزوتيكي ًا» يف‬ ‫ما يرتجم من الأدب العربي ويف ما تن�شره‬ ‫دور الن�شر الغربية؟ وكيف ميكننا الكالم عن‬ ‫عاملية الأدب؟‬

‫ر�صد املثاقفة الكونية‬

‫بدوره �أكد الدكتور ريا�ض نع�سان �آغا‪ ،‬م�ست�شار‬ ‫�سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل نهيان رئي�س‬ ‫مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم ثقته‬ ‫يف امل�ؤمتر ومنظميه‪ ،‬و�سعادته بهذه القفزة‬ ‫شريا �إىل‬ ‫النوعية للمركز نحو العاملية‪ ،‬م� ً‬ ‫�أنه قد يكون نوع ًا من التوهم ورمبا التحقق‬ ‫م��ن عاملية الأدب العربي‪ ،‬فامل�شهور وج��ود‬ ‫�إ�شكاليات حول جتني�س الإبداع‪.‬‬

‫آغا‪ :‬المثاقفة الكونية‬ ‫في حاجة إلى رصد‬ ‫و«مركز سلطان» مؤهل‬ ‫لذلك بما يمتلك من‬ ‫قدرة وبصيرة‬

‫و�أ� �ض��اف �آغ��ا �أن املو�ضوع الأخ�ط��ر ه��و حجم‬ ‫املثاقفة الكونية التي حتتاج �إىل ر�صد‪ ،‬وهذا‬ ‫ما ال ميكن �أن يقوم به �إال مركز ميتلك القدرة‬ ‫والب�صرية‪ ،‬م�شري ًا �إىل �أن مركز �سلطان بن‬ ‫زايد للثقافة والإعالم م�ؤهل للقيام بهذا الدور‪،‬‬ ‫م�شري ًا �إىل �أنه ‪-‬من خالل جتربته وما ا�ضطلع‬ ‫عليه م��ن ت��رج�م��ات‪ -‬تبينّ ل��ه ع��دم ان�ضباط‬ ‫الرتجمة ب�سبب التداخل ال�سيا�سي الثقايف‪ ،‬الفت ًا‬ ‫�إىل �ضرورة �أهمية توا�صلنا مع الآخر‪ ،‬معرب ًا عن‬ ‫�أمله يف �أن ي�ساهم امل�ؤمتر يف تقريب وتل ّم�س‬ ‫مدى االت�ساع الوهمي �أو احلقيقي يف دائرة‬ ‫الثقافة العاملية‪ ،‬م�شدد ًا على �أهمية متابعة‬ ‫ح��ال��ة التثقف‪ ،‬و�أ� �ض��اف �أن امل ��ؤمت��ر فر�صة‬ ‫لكتّاب و�أدب��اء الإم��ارات للإفادة مما ي�صب‬ ‫يف م�صلحة امل�ضمون الأعظم‪� ،‬أال وهو حوار‬ ‫الثقافات واحل�ضارات‪.‬‬

‫ح�ضور نوعي‬

‫تت�ضمن قائمة امل�شاركني يف امل�ؤمتر يف دورته‬ ‫الأوىل‪ ،‬م��ن م�صر ج�م��ال الغيطاين‪ ،‬ع�زّت‬ ‫ال�ق�م�ح��اوي‪ ،‬ع�لاء الأ� �س��واين‪� ،‬شريين �أب��و‬ ‫النجا‪ ،‬رفعت �سالم‪ ،‬عبداملنعم رم�ضان‪،‬‬ ‫مريال الطحاوي‪.‬‬ ‫ومن اليمن �أحمد زين‪ ،‬وجدي الأهدل‪ ،‬ومن‬ ‫�سوريا �أدوني�س‪� ،‬سمر يزبك‪ ،‬خالد خليفة‪،‬‬ ‫غ��ادة ال�سمان‪ ،‬ومن لبنان عبا�س بي�ضون‪،‬‬ ‫جمانة حداد‪ ،‬حنان ال�شيخ‪ ،‬عبده وازن‪ ،‬هدى‬ ‫بركات‪ ،‬ومن ال�سعودية �سعد البازعي‪ ،‬معجب‬ ‫الزهراين‪ ،‬رجاء عامل‪ ،‬ومن تون�س احلبيب‬ ‫ال�ساملي‪ ،‬حممد الغزي‪ ،‬عبدالوهاب امل�ؤدب‪،‬‬ ‫ومن اجلزائر وا�سيني الأعرج‪ ،‬ب�شري مفتي‪،‬‬ ‫ومن البحرين �أمني �صالح‪ ،‬قا�سم حداد‪ ،‬ومن‬ ‫الكويت عبدالعزيز ال�سريع‪ ،‬ليلى العثمان‪،‬‬ ‫طالب الرفاعي‪ ،‬ومن ُعمان �سيف الرحبي‪،‬‬ ‫ومن فل�سطني غ�سان زقطان‪ ،‬حزامة حبايب‪،‬‬ ‫ومن العراق �سنان �أنطون‪� ،‬صموئيل �شمعون‪،‬‬ ‫�أنعام كجه جي‪� ،‬شوقي عبد الأمري‪ ،‬ومن ليبيا‬ ‫�إبراهيم الكوين‪ ،‬ه�شام مطر‪ ،‬ومن الأردن‬ ‫فخري �صالح‪� ،‬إليا�س فركوح‪ ،‬ومن املغرب‬ ‫حممد بني�س‪ ،‬ح�سن جنمي‪ ،‬حممد ب��رادة‪،‬‬ ‫عبداللطيف اللعبي‬


‫المرصد‬ ‫‪16‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫ال�صايغ م�ستعر�ضا ً فعاليات االفتتاح‬

‫حتت عنوان «عام الرواية الإماراتية»‬

‫اتحاد الكتّاب في أبوظبي يدشن‬ ‫موسمه الثقافي الجديد‬ ‫�أبوظبي ‪ -‬حنان �شافعي‬ ‫ب�أفق جديد د�شن احتاد الكتاب والأدباء الإماراتيني مو�سمه الثقايف اجلديد ‪ 2013 - 2012‬يف احتفالية‬ ‫مميزة لفتت �إليها الأنظار ب�أجواء خرجت عن التقليدية والرتابة حيث ا�ستقبل مقر فرع االحتاد بالعا�صمة‬ ‫�أبوظبي �أع�ضاء و�ضيوف االحتفال و�سط مناخ متتزج فيه �أ�شكال الإبداع بني مو�سيقى وفن ت�شكيلي وقراءة‪.‬‬ ‫ت�ف��ا��ص�ي��ل احل �ف��ل ك��ان��ت مب�ث��اب��ة م�ق��دم��ة ملا‬ ‫يرغب القائمون على املو�سم اجلديد تو�صيله‬ ‫للجمهور م��ن �أف �ك��ار متحم�سة للتجديد‪،‬‬ ‫وانتظار ل��رد فعل �إيجابي يقوم على تبادل‬ ‫املعرفة والتفاعل املخل�ص خللق بيئة ثقافية‬ ‫حقيقية ت�ل�ي��ق ب��احت��اد ك �ت��اب دول ��ة �أث�ب�ت��ت‬ ‫جدارتها بني دول املنطقة خ�صو�صا يف فرع‬ ‫الإحت ��اد بالعا�صمة التي يتنب�أ لها اجلميع‬ ‫ب�صعود مبهر خالل �سنوات قليلة قادمة‪.‬‬ ‫وهذا هو بال�ضبط ما �أكد عليه ال�شاعر حبيب‬

‫ال�صايغ‪ ،‬رئي�س جمل�س الإدارة يف كلمته �أمام‬ ‫ال�ضيوف حيث قال «‪..‬اليوم‪� ،‬أ�صبح يف �إمكاننا‬ ‫ح��ذف ح��رف اجل��ر» م��ن م��ن ال�ع�ب��ارة التالية‬ ‫‪«:‬احت��اد كتاب الإم��ارات من �أن�شط اجلمعيات‬ ‫ذات النفع العام يف البالد« لت�صبح «احتاد كتاب‬ ‫الإمارات �أن�شط اجلمعيات ذات النفع العام يف‬ ‫البالد» م�شري ًا �إىل املكانة التي ي�شغلها االحتاد‬ ‫منذ بداية �إنطالقه والدور الذي يلعبه على �ساحة‬ ‫امل�شهد الثقايف واملعريف يف الإم ��ارات لي�صبح‬ ‫واجهة �أ�سا�سية للمجتمع والعب ًا مهم ًا لي�س فقط‬

‫على ال�صعيد املحلي ولكن �أي�ض ًا على ال�صعيد‬ ‫الإقليمي‪� ،‬إذ عرب ال�صايغ عن طموح االحتاد يف‬ ‫�أن يكون الأن�شط من بني احتادات الكتاب العرب‬ ‫جميع ًا‪ ،‬وهو �إن دل ف�إمنا يدل على موجة جديدة‬ ‫من الأن�شطة الثقافية والتواجد الفعال خالل‬ ‫الأيام القادمة ت�ضمن عدم اعرتاف هذا الكيان‬ ‫الإماراتي العربي بحرف اجلر «من» وا�ستبداله‬ ‫ب�أفعل التف�ضيل «�أف�ضل» على حد قوله‪.‬‬ ‫و�إذا كان الطموح قد ظهر جلي ًا يف كلمة ال�صايغ‬ ‫ف�إنه مل ين�س �أي�ضا الت�أكيد على املتالزمة الأهم‬


‫للطموح وهي امل�س�ؤولية‪ ،‬حيث لفت �إىل �أنه لن‬ ‫يتغا�ضى ع��ن �أي��ة تق�صري م��ن القائمني على‬ ‫�إدارة الإحتاد‪ ،‬كما لن يقبل �أية �أعذار مبا فيها‬ ‫العذر املتكرر واخلا�ص بنق�ص الدعم من قبل‬ ‫اجلهات املعنية‪ ،‬مربر ًا ذلك ب�أن ن�شاط االحتاد‬ ‫خالل ال�سنوات املا�ضية قد و�ضعه بالفعل يف‬ ‫الواجهة وبالتايل مل تعد هناك فر�صة للرتاجع‬ ‫�أو التق�صري‪ ،‬كما وعد بال�سعي للح�صول على‬ ‫مزيد من الدعم لتفعيل �أن�شطة الن�شر وكذلك‬ ‫التو�سع املتمثل يف �إفتتاح املقر اجلديد للإحتاد‬ ‫يف منطقة مع�سكر �آل نهيان يف �أبوظبي‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�إىل فتح كافة الأبواب �أمام املواهب الإماراتية‬ ‫ال�شابة لكي ت�ضع �أق��دام�ه��ا على �أول طريق‬ ‫التحقق مبا يليق باجلهود الإجتماعية والثقافية‬ ‫املبذولة على م�ستوى الإمارة والدولة‪.‬‬

‫بداية جديدة‬

‫كانت تلك العبارة عنوان الكلمة التي �ألقاها‬ ‫ال�شاعر والت�شكيلي الإماراتي‪ ،‬حممد املزروعي‬ ‫ال��ذي ت��وىل مهام الإ��ش��راف على �أن�شطة فرع‬ ‫الإحت ��اد يف �أب��وظ�ب��ي‪ .‬وق��د حر�ص يف م�ستهل‬ ‫كلمته على االع�ت�راف بف�ضل ال�سابقني ممن‬ ‫تولوا الإدارة من قبله نافي ًا عن �شعار البداية‬ ‫اجلديدة تهمة الإق�صاء لكنه يف الوقت نف�سه‬ ‫مل ي�تردد عن احل��دي��ث‪� ،‬صراحة‪ ،‬عما م�ضى‬ ‫من فتور يف دور �إحتاد الكتاب كم�ؤ�س�سة ثقافية‬ ‫م��ن املفرت�ض �أن تكون فاعلة وم ��ؤث��رة ولي�س‬ ‫فقط م�ستهلكة ملا يتم تكراره من �آليات‪ .‬وركز‬ ‫املزروعي على مكانة �أبوظبي كعا�صمة ومدينة‬ ‫�صاعدة يف املنطقة العربية وما ينبغي �أن تلعبه‬ ‫الثقافة والتفاعل الفني والتنموي من دور يف‬ ‫هذا ال�صعود م�شري ًا �إىل تعدد املواهب بني �أبناء‬ ‫الإمارات وحاجتها �إىل �إدارة واعية ال�ستثمارها‬ ‫حيث ق��ال‪«:‬ه��دف�ن��ا اجل��دي��د يف احت��اد كتاب‬ ‫و�أدباء الإمارات – فرع �أبوظبي‪ ،‬هو الإتكاء على‬ ‫الثقافة التنموية التفاعلية‪ ،‬فهذا هو ما نحن‬ ‫بحاجة �إليه‪� ،‬إذ تعاين م�ؤ�س�ساتنا الثقافية يف‬ ‫ِن َ�سب كثرية يف ُطرق عملها من عدم الإهتمام‬ ‫وقت �أ�صبحت فيه امل�ؤ�س�سة‬ ‫بذلك‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف ٍ‬ ‫التعليمية متعددة الأوج��ه‪ ،‬وكثري ُط اَّلبها‪ ،‬مبا‬ ‫يعني �أنهم بحاج ٍة �إىل م�ؤ�س�سات ثقافية موجهة‬

‫حممد املزروعي‬

‫ب�شكل عملي‪ ،‬م�ؤ�س�سات ثقافية متما�سكة يف‬ ‫عملها الإداري وا�سرتاتيجيتها التنموية ال‬ ‫االحتفالية فقط»‪.‬‬ ‫كما دعا �إىل الإهتمام باملواهب ال�شابة يف الكتابة‬ ‫على وجه اخل�صو�ص وعدم الن�شر لهم ملجرد‬ ‫الن�شر �إمنا احلر�ص على «التقييم» و «التثقيف»‬ ‫حتى يقفون على �أر�ض �صلبة ويتعلمون �ضرورة‬ ‫اال�شتغال على تطوير �أنف�سهم وه��و ما ميثل‬ ‫نقد ًا الذع� ًا لكثري من املمار�سات الثقافية يف‬ ‫الدولة لكنه ي�أتي من باب ال�شفافية والرغبة يف‬ ‫ت�أ�صيل وتنمية امل�شهد الثقايف الإماراتي ب�صورة‬ ‫حقيقية وبعيدة عن «التزييف» على حد قوله‪.‬‬

‫تنوع‬

‫ويف ح�ين خ �� ّ��ص امل��زروع��ي م��واه��ب الكتابة‬ ‫باالهتمام‪ ،‬و�أع�ل��ن ه��ذا املو�سم حت��ت عنوان‬ ‫«عام الرواية الإماراتية» باعتبار �أن للإمارات‬ ‫ر�صيد ًا جيد ًا فيها «حوايل �سبعني رواية»‪ ،‬ف�إنه‬ ‫�أعلن يف الوقت نف�سه عن خط ًة لور�ش عمل‬ ‫متنوعة ومتعددة يف املجاالت الكتابية والفنية‪،‬‬ ‫وق ��ال‪� «:‬سنقيم املعار�ض الفنية املبنية على‬ ‫التجهيز امل�سبق �ضمن �أف�ك��ار تن�شيطية بني‬ ‫الكتاب والفنانني عامة‪ .‬كما �سنقوم بتن�شيط»‬ ‫ندوة اليوم الواحد‪ ،‬وعمل عرو�ض �سينمائية‪،‬‬ ‫و�أم �� �س �ي��ات للتعريف ب��امل��ؤ��س���س��ات الثقافية‬ ‫الإماراتية‪ ،‬بغر�ض الدعاية لدورها االجتماعي‬

‫مطالبة بااللتفات‬ ‫إلى األدب اإلماراتي‬ ‫المكتوب باللغات‬ ‫األخرى‬

‫حبيب ال�صايغ‬

‫والتعريف الدوري بها خدمة للجميع‪ ،‬و�سيكون‬ ‫ج��زء ال ب ��أ���س ب��ه م��ن �أن�شطتنا م�شرتك ًا مع‬ ‫م�ؤ�س�سات �أخرى «م�شري ًا �إىل �ضرورة التعاون‬ ‫الواعي بني م�ؤ�س�سات الدولة ذات ال�صلة من‬ ‫�أجل حتقيق الهدف الأكرب وهو رعاية الأجيال‬ ‫ال�ق��ادم��ة ال�ت��ي ��س��وف ت�ت��وىل �صناعة التاريخ‬ ‫الإماراتي»‪.‬‬

‫�أدب �إماراتي بلغات �أخرى‬

‫من جانب �آخ��ر لفت امل��زروع��ي �إىل �ضرورة‬ ‫الإهتمام ب��الأدب الإماراتي املكتوب باللغات‬ ‫الأخ��رى‪ ،‬قائال «كلنا يعلم الأ�سباب املتعددة‬ ‫التي �أدت �إىل جعل بع�ض الكتاب يكتبون بلغات‬ ‫�أخرى‪ ،‬ونحن ومع �أهمية اللغة العربية‪ ،‬ن�ؤمن‬ ‫ب ��أن اللغة يف ج��زء كبري من تعريفها تعترب‬ ‫وعاء حليوات ودالالت‪ ،‬وعلينا �أن نهتم ب ُكتَّابنا‬ ‫يف اللغات الأخرى‪ ،‬ن�شاط ًا وترجمة �أي�ض ًا»‪،‬‬

‫ا�ستقطاب كوادر ثقافية �إماراتية‬

‫ولعل من م�ؤ�شرات التنوع خالل املو�سم اجلديد‬ ‫لأن�شطة �إحتاد الكتاب ا�ستقطابه لكوادر ثقافية‬ ‫�إماراتية بعيد ًا عن حقل الكتابة مثل املخرج‬ ‫الإماراتي املوهوب‪ ،‬نواف اجلناحي واملعروف‬ ‫بن�شاطه ال�سينمائي داخل وخارج دولة الإمارات‬ ‫خ�صو�ص ًا بعد جناح فيلمه الأخري «ظل البحر»‪،‬‬ ‫كذلك طلت خالل احلفل وجوه جديدة لفنانني‬ ‫ت�شكيليني وعازيف مو�سيقى ونقاد‪ ،‬ف�ض ًال عن‬ ‫�أع�ضاء الإحتاد من الكتاب و�أع�ضاء «جماعة‬ ‫الأدب» التي تلتقي مبقر االحتاد ب�أبوظبي لتقيم‬ ‫مناق�شات وندوات �أدبية و�أحيانا فنية‬


‫المرصد‬ ‫‪18‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫كي يح ّلق اجلمال‬ ‫على الروح كن�سمة‬

‫العمارة‬ ‫واألسطورة‬ ‫والروحانيات‬ ‫أولى أمسيات اتحاد‬ ‫الكتّاب في أبوظبي‬ ‫�أبوظبي – ال�شيماء خالد‬ ‫�ضمن مو�سمه الثقايف اجلديد‪،‬‬ ‫ا�ست�ضاف احتاد كتاب و�أدباء الإمارات‬ ‫فرع �أبوظبي‪ ،‬ال�شهر الفائت‪ ،‬املهند�س‬ ‫والأكادميي والفنان الدكتور طه‬ ‫الدوري يف �أم�سية بعنوان «قراءة يف‬ ‫كتاب العمارة والأ�سطورة والروحانيات‬ ‫مل�ؤلفه وليم ليثابي»‪ ،‬وهو الكتاب الذي‬ ‫ترجمه الدوري و�صدر �أخرياً �ضمن‬ ‫م�شروع «كلمة» التابع لهيئة ال�سياحة‬ ‫والثقافة يف �أبوظبي‪.‬‬ ‫�إحدى لوحات الدوري امل�ستوحاة من الكتاب‬


‫ا�ستهل ال��دوري �أم�سيته ب�سرد تفا�صيل حكاية‬ ‫بحثه ال��ذي ا�ستمر لأك�ثر م��ن ع�شر �سنوات‪،‬‬ ‫مفتّ�ش ًا عن ن�سخة من كتاب «ليثابي» يف مكتبات‬ ‫بن�سلفانيا ونيويورك ووا�شنطن‪ ،‬مدفوع ًا ب�شغفه‬ ‫مبا خ ّلفه هذا الكاتب الذي يعد قام ًة عالي ًة يف‬ ‫تطور العمارة الإجنليزية من خالل ا�سهاماته يف‬ ‫نظرية العمارة و�أفكارها‪.‬‬

‫�أ�صل الكينونة‬

‫وقال الدوري‪ :‬يرى ليثابي يف كتابه �أن العمارة ال‬ ‫ت�ستقيم دون الفل�سفة‪ ،‬وحتتاج لها حاجة الإن�سان‬ ‫للهوية وح��اج��ة اجل�سد ل �ل��روح لتخلق في�ض‬ ‫احليوية والإب��داع‪ ،‬ناهيك عن خماطبة الآخر‬ ‫عموم ًا‪ ،‬ولي�س مبا هو م�ألوف �ضرورة‪ ،‬و�أ�ضاف‪:‬‬ ‫ف��ال�ع�م��ارة – يف ر�أي� ��ه‪ -‬ف��ن ت�شكيلي ي�ستنري‬ ‫باملجرد والروحاين وق�ص�ص الأ�ساطري والوجود‬ ‫الإن�ساين‪ ،‬وي�ستحيل دونه خدمة متوا�ضعة للجهل‬ ‫وامل��ادة‪ ،‬فبينما م�آل العمارة يف ت�صميم املكان‬ ‫مغرو�سة يف �أدمي الأر���ض وقلب املجتمع‪ ،‬ف�إن‬ ‫من�ش�أها حم ّلق يف ف�ضاء الفكر املجرد‪ ،‬وهو ما‬ ‫يعتربه ليثابي فن ًا له ما لأعظم الفنون و�أغناها‬ ‫من �سمات احلرية والده�شة‪.‬‬ ‫بهذا ّ‬ ‫الطرح يرى ليثابي �أن تلك الفكرة ا�ستقرت‬ ‫عند ج��ذور الفكر املعماري العام منذ الأزل‪،‬‬ ‫فيطرح العالقة املت�أ�صلة‪� ،‬سابقة الذكر‪ ،‬حيث‬ ‫الفكر املعماري �أ�صل الكينونة للبناء و�سره فيه‬ ‫كما �س ّر ال � ّروح يف اجل�سد‪ .‬هنا ّ‬ ‫يو�ضح الفرق‬ ‫ال�شا�سع بني البناء وال�ع�م��ارة‪� ،‬إذ ب��ر�أي��ه هما‬ ‫�أم��ران منف�صالن متام ًا و�إن تداخال يف املكان‬ ‫والزمان‪ ،‬فالعمارة فكرة تتج�سد بنا ًء وحتيا بها‬ ‫الثقافات والأمم‪ ،‬وبالأخ�ص والأهم‪ ،‬الذكريات‪،‬‬ ‫ف�لا ت�ستقيم ال��ذاك��رة اجلمع ّية لأي��ة ح�ضارة‬ ‫بال عمارتها التي تن�سج بني الأر���ض وال�سماء‬ ‫ق�ص�ص ًا‪ ،‬وتراكمات ثرية بالإلهام‪ ،‬و ُمثقلة بكافة‬ ‫االحتماالت‪.‬‬ ‫ومكنون العمارة – والكالم لليثابي‪ -‬يبقى دوم ًا‬ ‫رهن الإحتماالت‪ ،‬وال يك ّون �أب��د ًا حقائق ثابتة‬ ‫جامدة قاطعة‪ ،‬املبنى ‪� -‬أي مبنى ‪ -‬منا�سبة‬ ‫للت�أمل ولت�صور م��ا ك��ان وم��ا يكون ال�ي��وم بني‬ ‫ج��دران��ه‪ ،‬وم��ا قد يكون ذات ي��وم‪ ،‬بال يقني �أو‬ ‫جزم‪ ،‬وتبقى العمارة هي الفكرة التي ت�صوغ تلك‬

‫طه الدوري‬

‫الإحتماالت و�إن بقيت �إىل ما �شاء اهلل كما هي‪ :‬‬ ‫�إحتماالت تلهب اخليال وتنع�ش الذاكرة‪ ،‬وتغذي‬ ‫احلنني اىل الذكريات‪.‬‬ ‫وقال ال��دوري‪ :‬وبالرغم من انحدار ليثابي من‬ ‫خلفية حرفية بني ت�صميم الأث��اث واملنتجات‬ ‫ال�صناعية بالإ�ضافة للمباين‪� ،‬إال �أن��ه �أظهر‬ ‫اهتمام ًا ُم َب ّكرا برتميم املباين القدمية‪ ،‬وانت�سب‬ ‫منذ بدء حياته املهنية �إىل جمعية «حماية املباين‬ ‫التاريخية» حيث ّ‬ ‫تخطت فل�سفة الرتميم حدود‬ ‫الإ�صالح �إىل �آفاق من الإرتقاء باملباين القدمية‬ ‫اىل حال تفوق ما كانت عليه يف �أوج حداثتها‪.‬‬ ‫وي ��رى ال� ��دوري �أن ه��ذا االه �ت �م��ام بالرتميم‬ ‫ي�برر دراي��ة ليثابي ال�شاملة يف علوم العمارة‬ ‫والت�صميم التي فاقت ما ُي َ‬ ‫نتظر من �شاب يف‬ ‫مطلع الثالثني من عمره‪ ،‬حني كتب كتابه هذا‪،‬‬ ‫�إال �أنه يرى �أن �شمول املو�ضوع وطموحه البارع‪،‬‬ ‫مل يخفيا حمدودية امل�صادر وميل العمل للتكهن‬ ‫يف التعبريوالإبداع الأدبي فوق ما فيه من بحث‬ ‫�أكادميي باملفهوم التقليدي‪ ،‬بيد �أنه يبقى مُم ّيز ًا‬ ‫و�سب ّاق ًا بقدر ُمذهل على حد تعبري الدوري‪.‬‬

‫الهرم الذهبي‪ ..‬و«حزقيال»‬

‫وك�شف ال��دوري يف حما�ضرته عن �سر اختياره‬ ‫للوحة ال�غ�لاف التي ر�سمها بنف�سه لرتجمة‬

‫الفرق شاسع بين البناء‬ ‫والعمارة ‪ ..‬فهما أمران‬ ‫منفصالن تمام ًا وإن‬ ‫تداخال في المكان‬ ‫والزمان‬

‫الكتاب‪ ،‬م�شري ًا �إىل �أن ال�ه��رم �أح��د الرموز‬ ‫القليلة ال�ت��ي تلتقي عندها احل �ي��اة ب��امل��وت‪،‬‬ ‫و�أ�ضاف‪ :‬فاملفهوم الفرعوين للهرم كقرب ال يكاد‬ ‫يالم�س �سطح املعنى الكوزمولوجي «علم الكون‬ ‫الفيزيائي» لهذا ال�شكل‪ ،‬ال��ذي يبقى مو�ضع‬ ‫درا��س��ات ال تنتهي من حيث قدراته الفراغية‬ ‫وت�أثريه على املحيط‪ ،‬بالإ�ضافة جلمال تكوينه‬ ‫وتفرده الب�صري‪ ،‬وق��د ارتبط �أحيانا باجلبل‬ ‫الأ�سطوري الذي ف�صل ال�سماء عن الأر���ض يف‬ ‫بع�ض �أ�ساطري ال�شعوب عن �أ�صل تكوين عاملنا‪.‬‬ ‫وا�ستعر�ض ال��دوري عدة ُ�ص َور تو�ضح ما وجده‬ ‫ليثابي عن البدايات‪ ،‬حني تكلم مث ًال عن طقو�س‬ ‫حركة االم�براط��ور يف ال�صني داخ��ل ما يعرف‬ ‫بقاعة التميز وبنائها‪ ،‬حيث كانت مب�سقطها‬ ‫امل��رب��ع جم��ا ًال يتحرك فيه احل��اك��م م��ع حركة‬ ‫ال�شم�س داخل تلك القاعات ذات الأربع بوابات‪،‬‬ ‫احتفالية تواجه اجلهات الرئي�سية يف خطوات‬ ‫ت��ردد تعاقب ال�شهور والتق�سيمات اجلزئية‬ ‫للزمن‪ ،‬حيث ي�شرح الزمن باعتباره جتزئة تق ّرب‬ ‫الأبد ّية من الإدراك الإن�ساين املحدود بطبيعته‬ ‫مبفاهيم البدايات والنهايات‪ ،‬فكما احلال يف‬ ‫اج�ت��زاء الأب��دي��ة �إىل وح��دات زمنية ُندركها‪،‬‬ ‫و ُن�سميها �سنوات و�شهور و�أيام و�ساعات ودقائق‬ ‫�وان‪ ،‬هدفت املباين الأوىل‪-‬عند التعبري عن‬ ‫وث� ٍ‬ ‫املغزى الديني‪� -‬إىل متثيل املعبود يف م�ستقره‬ ‫ال�سماوي �أو الأر�ضي �أو بالإجمال الكوين‪ ،‬بح�سب‬ ‫ما �ساد يف زمن �أو مكان من معتقد �أو فكر‪.‬‬ ‫وملزيد من التو�ضيح‪ ،‬يقول ليثابي يف كتابه‪:‬‬ ‫«مازال توجيه املعابد ِق َبل اجلهات الأربع �سمة‬ ‫عابرة للزمان وامل�ك��ان‪ ،‬فر�ؤية النبي حزقيال‬ ‫‪ Ezekiel‬يف العهد القدمي للمدينة املثالية‪ ،‬وهي‬ ‫مربعة امل�سقط بثالثة �أب��واب على كل �ضلع‪ ،‬ال‬ ‫تختلف يف خطوطها العري�ضة عن مدينة بكني‬ ‫ال�صينية كما و�صفها ماركوبولو‪ ،‬وكذلك هي‬ ‫احل��ال يف مركز ب��ورم��ا‪ ،‬وه��ذه �سمات عاملية‬ ‫ا�ستمرت وتدرجت وات�سعت‪ ،‬فالبداية دوم ًا من‬ ‫ال�شرق ـ وه��ذا نامو�س ك��وين حيث يبد�أ اليوم‬ ‫بال�شروق‪ -‬وي��أخ��ذ كل �ضلع من املربع ع��دد ًا‬ ‫فردي ًا من الأب��واب‪ ،‬يف الغالب ثالثة كي يكون‬ ‫للتكوين مركز كان فيه الباب الأو�سط باب ًا ملكي ًا‬ ‫يف البداية‪ ،‬تط ّور الحق ًا �إىل باب ر�سمي يدخله‬


‫المرصد‬ ‫‪20‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�صاحب ال�ش�أن �سواء كان حاكم ًا �أو رجل دين �أو‬ ‫�شخ�صية حمورية يف مرا�سيم احتفال ديني �أو‬ ‫وطني»‪.‬‬ ‫وي�شري ليثابي �إىل معبد التوب �أو ال�ستوبا‪ ،‬ذلك‬ ‫املعبد البوذي الذي ميتاز بات�ساقه مع دور عبادة‬ ‫�أخرى يف هند�سته القائمة على قبة تطفو على‬ ‫�سطح املاء كالفقاعة �أو اجلر�س املقلوب‪ ،‬ترتدّد‬ ‫يف جنباته االبتهاالت كما العواطف‪ ،‬فيما ال‬ ‫يختلف يف جوهره عن هياكل بابل واملك�سيك‬ ‫ك�صروح لعبادة فطرية ن�ش�أت يف النف�س مع‬ ‫بدايتها‪.‬‬

‫الن�سران‪ ..‬والبي�ضة‬

‫وان�ط�لاق� ًا م��ن ال�ع�ب��ادات ك��ان��ت ف�ك��رة التوجه‬ ‫ملركز ما �سواء يف ال�صلوات �أو يف حتديد املركز‬ ‫ٍ‬ ‫ال�سيا�سي للدولة‪ ،‬حيث اختار الإله «متوز» بابالً‬ ‫مركز ًا للعامل‪ ،‬بينما اتخذت «دلفي» هذا املوقع‬ ‫بالن�سبة لبالد الإغريق لوقوعها يف بارنا�سو�س‪،‬‬ ‫وهو جبل له يف الأدب الإغريقي ما جلبل نوح يف‬ ‫الرتاث العاملي‪ ،‬حيث جنا َمن ا�ستقر فوقه من‬ ‫طوفان كبري يف نهاية الع�صر الربونزي‪.‬‬ ‫وينري الدوري ‪-‬من خالل الكتاب‪ -‬ق�صة حتديد‬ ‫مركز الأر�ض يف دلفي قائ ًال‪ :‬لقد مت حتديد مركز‬ ‫الأر���ض يف دلفي ‪ -‬كما تروي الأ�سطورة ‪ -‬حني‬ ‫�أر�سل جوبيرت ن�سرين �شرق ًا وغرب ًا طافا الأر�ض‬ ‫والتقيا عند تلك البقعة التي �أ�صبحت معبد‬ ‫دلفي‪ ،‬وهو التكوين الذي و�صل �إلينا على قطعة‬ ‫رخ��ام ما زال��ت يف مدينة �إ�سبارطة‪ ،‬ومن هذا‬ ‫التكوين تن ّوعت �أ�شكال عديدة للن�سرين واملركز‬ ‫بينهما‪� ،‬أوكما ت�سمى ُ�س َّرة الأر�ض‪ ،‬و�أحيان ًا بقي‬ ‫املركز واخ ُت ِ�صر الن�سران يف نقو�ش على البي�ضة‪.‬‬ ‫‪ ‬وي�ضيف‪ :‬كما قام معبد دلفي حول موقع ذي‬ ‫مغزى ديني �أو قائم على العقيدة‪ ،‬ك��ان معبد‬ ‫«بعل» يف ب��اب��ل‪ ،‬كما �أن ليثابي ي��ورد يف كتابه‬ ‫م�سجد قبة ال�صخرة يف القد�س كمثال مماثل‬ ‫على معبد قائم على موقع مقد�س �أو قمة �صخرية‬ ‫مباركة‪ ،‬ذاكر ًا �أن القد�س هي �أوىل القبلتني‪ ،‬ثم‬ ‫يطرحها كقبلة للمرة الثانية يف �آخ��ر الزمان‪،‬‬ ‫حني ي�أتي احلجر الأ�سود من مكة كعرو�س لق ّبة‬ ‫ال�صخرة يف القد�س ال�شريف‪.‬‬

‫الق�صدير والعمر‪ ،‬والزهرة النحا�س واملراهقة‪،‬‬ ‫وزحل الر�صا�ص وال�شيخوخة»‪.‬‬ ‫‪ ‬ويتابع ق��ائ� ً‬ ‫لا‪ :‬تابع حامل ال�شموع ظ�ه��وره يف‬ ‫التوراة كما ظهر يف النخلة البونزية يف معبد‬ ‫دلفي‪ ،‬وقد اقرتن املركز دوم ًا باحلاكم �أو ر�أ�س‬ ‫الدولة‪ ،‬وهو يف ذات الوقت رمز وحدتها الوطنية‬ ‫وقلب ا�ستقاللها الإداري ع ّما جاورها‪ ،‬وهو ما‬ ‫حدّد �صورة كر�سي احلكم �أو العر�ش‪.‬‬

‫املتاهة‪ ..‬والدرجات ال�سبع‬

‫غالف الكتاب‬

‫هدفت المباني األولى‬ ‫إلى تمثيل المعبود‬ ‫في مستقرّه السماوي‬ ‫أو األرضي أو باإلجمال‬ ‫الكوني بحسب ما ساد‬ ‫في زمن أو مكان من‬ ‫معتقد أو فكر‬ ‫�شجرة ال�سماء‬

‫ترافق فكرة مركز الأر�ض ما يذكر عن ال�شجرة‬ ‫التي منت من مركز الأر���ض لرتفع ق ّبة ال�سماء‬ ‫�إىل مكانها‪ ،‬والتي �أخذت �أكرث من �شكل جمايل‪،‬‬ ‫فهي �شجرة حين ًا‪ ،‬وحامل �شموع حين ًا �آخر‪ ،‬وهي‬ ‫�أي�ض ًا جذع ذهبي تف ّرع وحمل يف فروعه �أوراق ًا‬ ‫و ثمار ًا من �أحجار كرمية توزعت و تلألأت بنور‬ ‫النجوم والكواكب‪ ،‬وق��د يعود ه��ذا لكون تراث‬ ‫ال�شعوب زخر بال�صالت املعنوية والكونية بني‬ ‫الأحجار الكرمية والألوان والكواكب و مداراتها‪،‬‬ ‫ويقول ليثابي‪ ..« :‬فال�شم�س هي الذهب وال�شباب‪،‬‬ ‫والقمر الف�ضة والطفولة‪ ،‬واملريخ هو احلديد‬ ‫والرجولة‪ ،‬وعطارد الزئبق وال�صبا وامل�شرتي‬

‫يربط ليثابي بين أقصى‬ ‫األرض وأدناها بالعمارة‬ ‫الفت ًا إلى التماثل بين‬ ‫بوابات المعابد البوذية‬ ‫ونظيرتهاالفينيقية‬

‫وي�ضيف ال� ��دوري‪ .. :‬ت� ��ؤدي ال��درج��ات دور ًا‬ ‫مبا�شر ًا و�آخر رمزي ًا‪ ،‬فمن ناحية ارتفع العر�ش‬ ‫ف ��وق اجل �م �ي��ع‪ ،‬وم ��ن ن��اح�ي��ة �أخ� ��رى حت��ددت‬ ‫الدرجات ب�سبع‪ ،‬وهو تقليد ا�ستمر حتى الع�صور‬ ‫ال��و��س�ط��ى‪ ،‬حم��اك��اة لت�صور تقليدي لعر�ش‬ ‫اجل�لال��ة امل�ستقر على �سبع درج ��ات دائ��ري��ة‬ ‫متناق�صة امل�ساحة وتك ِّون بالن�سبة للأر�ض قبة‬ ‫ال�سماء‪.‬‬ ‫‪ ‬وبالإبحار �أكرث يف الرموز املذكورة يف الكتاب‬ ‫ي�أخذنا ليثابي �إىل املتاهة‪ ،‬فمن رمز مر�صوف‬ ‫يف �أر�ضيات الكاتدرائيات يف �إيطاليا وفرن�سا‬ ‫و�أملانيا �إيل تق�سيمات فراغية فعلية يف الق�صور‬ ‫و�أخ��رى جمالية يف حدائق الق�صور‪ ،‬وكانت‬ ‫املتاهة حا�ضرة يف املكان تخدم يف الغالب الأعم‬ ‫هدف ًا روح�ي� ًا يف �إ��ش��ارة لطقو�س رق�ص‪ ،‬كما‬ ‫الرق�صة الهندو�سية �أو ما �شابهها من رق�صات‬ ‫يف املك�سيك‪ ،‬ولكنها كذلك موجودة يف بع�ض‬ ‫امل�سكوكات الإغريقية القدمية‪ ،‬ولعل �أ�شهر‬ ‫متاهة على الإط�لاق هي تلك الأ�سطورية ايل‬ ‫كانت يف قبو ق�صر امللك مينو�س يف كنو�سو�س يف‬ ‫كريت‪ ،‬حيث عا�ش امل�سخ الأ�سطوري امليناتور‪-‬‬ ‫خملوق بج�سم ث��ور ور�أ� ��س رج��ل‪ -‬ال��ذي كان‬ ‫يقتات على �أعداء امللك‪ ،‬وهناك دارت �أ�سطورة‬ ‫ثي�سيو�س‪ ،‬وهناك تقرر �إلقا�ؤه للميناتور‪ ،‬حني‬ ‫وقعت �آريادين �إبنة امللك يف حبه و�أعطته خيط ًا‬ ‫دخل به املتاهة م�سلح ًا ب�سيف‪ ،‬بينما �أم�سكت‬ ‫هي بطرف اخليط لي�ستدل طريقه فيما بعد‬ ‫حني ي�صرع الوح�ش‪ ،‬ويتم ّكن من اخلروج من‬ ‫املتاهة بتتبع اخل�ي��ط �إىل احل �ي��اة‪ ،‬والنهاية‬ ‫ال�سعيدة مع الأمرية‪.‬‬


‫قر�ص ال�شم�س‬

‫ويف ف�صول �أخ��رى من الكتاب ر�أى ليثابي �أنه‬ ‫من �أكرث الرموز املعمارية الكونية مبا�شرة يف‬ ‫التعبري عن م�ضمونها هو‪ :‬رمز قر�ص ال�شم�س‪،‬‬ ‫الذي يعلو البوابات ال�شرقية يف املعابد الفرعونية‬ ‫ومعابد �أمريكا اجلنوبية وغريها‪ ،‬وك�أحد الأمثلة‬ ‫للإ�ستخدام التقليدي لقر�ص ال�شم�س يف بالد‬ ‫ال�شام ه��و القر�ص ال��ذي يعلو م��داخ��ل بع�ض‬ ‫الأماكن املقد�سة‪ ،‬و بالرغم من كون هذا الرتاث‬ ‫يف جممله تراث ًا م�سيحي ًا �إال �أن قر�ص ال�شم�س‬ ‫يبدو حماط ًا بالأفعى الفرعونية كزينة تظهر‬ ‫كجزء من ت�شكيل غدا �شائع اال�ستعمال يف الفن‬ ‫البيزنطي والإيطايل‪ ،‬ويربط ليثابي بني �أق�صى‬ ‫الأر���ض و�أدن��اه��ا مبينا التماثل ال�صميمي بني‬ ‫بوابات املعابد البوذية ونظريتها الفينيقية و�إن‬ ‫تفاوتت التفا�صيل‪.‬‬ ‫بناء على ما �سبق يقول ال��دوري‪ .. :‬من املهم‬ ‫عند قراءتنا لكتاب ليثابي �أن ندرك �أن العمارة‬ ‫متثيل للكون‪ ،‬فنزعة الإبداع لدى الإن�سان �أ�صيلة‬ ‫وغريزية و�أ�سا�س يف تكوينه كما البقاء والعبادة‪،‬‬ ‫لكن الإبداع بطبيعته هو الأكرث الت�صاق ًا بالكون‬ ‫إبداعي ما‬ ‫كنموذج‪ ،‬ومهما اعتقد �أن نواة عمل � ٍ‬ ‫ذاتية‪ ..‬ال مفر من الإعرتاف ب�أن جذور الإبتكار‬ ‫الإن�ساين �ضاربة يف الطبيعة وتكويناتها مع‬ ‫تفاوت يف �أ�سلوب الطرح ودرج��ة َ‬ ‫املبا�شرة يف‬ ‫الإقتبا�س من الأ�صل الطبيعي للأ�شياء‪ ،‬فمث ًال‬ ‫ي�صف ليثابي الأر�ضية الرخامية يف �أحد ممرات‬ ‫كني�سة �آي��ا �صوفيا حيث متت مواءمة بالطات‬ ‫الرخام‪ ،‬بحيث ا�ستمرت متوجات الرخام بني‬ ‫بالطة و�أخرى مبا يحاكي �أمواج البحر‪.‬‬

‫�إلهة ال�سماء عند امل�صريني‬

‫وتتكرر يف معابد قدماء امل�صرية فكرة ر�صف‬ ‫ال�سقوف بالتزجيج‪ ،‬وتلوينها بالطالء الأزرق‪،‬‬ ‫وق��د تناثرت عليه النجوم يف متثيل مبا�شر‬ ‫لل�سماء‪ ،‬و�أحيان ًا كان التمثيل �أكرث رمزية من‬ ‫خالل �إلهة ال�سماء «تبه»‪ ،‬وقد مت��ددت بحيث‬ ‫غ� ّ�ط��ى جذعها ال�سقف وارت �ف��ع �ساقاها على‬ ‫طول اجل��دار‪ ،‬يف حني تد ّلت يداها ن��زوال على‬ ‫ط��ول اجل��دار املقابل‪ ،‬ويف كثري م��ن الأح�ي��ان‬

‫ماذا تبقى ؟ ‪ ..‬من وحي الكتاب‬

‫ال تستقيم الذاكرة‬ ‫الجمعيّة ألية حضارة‬ ‫بال عمارتها التي تنسج‬ ‫بين األرض والسماء‬ ‫قصص ًا وتراكمات ثرية‬ ‫باإللهام و ُمثقلة بكافة‬ ‫االحتماالت‬ ‫يتدىل فانو�س م��ن مركز احل�ج��رة‪� ،‬أو مركز‬ ‫املعبد‪ ،‬ومركز الكون‪ ،‬وهو يف هذه احلالة واقع‬ ‫ال�س ّرة‪،‬‬ ‫متام ًا عند مركز ج�سد الإلهة يف مو�ضع ُ‬ ‫وهذا ظهور �آخر للبي�ضة �أو كرة النور �أو مركز‬ ‫اخل�صوبة‪ ،‬وهي يف ذات الوقت الفانو�س مركز‬ ‫النور‪.‬‬ ‫من ناحية �أخ��رى ي��رى ليثابي �أن الكون حالة‬ ‫ا�ستقرار وت ��وازن دق�ي��ق يف ال�ق��وى ال�ت��ي تتيح‬ ‫بتما�سكها بقاء ال�ك��ون على ح��ال حتى يختل‬ ‫التوازن ثانية ويتغري التكوين مرة بعد مرة يف‬

‫خمتلف الأطوار‪.‬‬ ‫‪ ‬يبقى �أن ن�شري �إىل �أن ال��دوري عر�ض خالل‬ ‫الأم�سية لوحة له ا�ستوحاها من كتاب ليثابي‪،‬‬ ‫حيث ط��رح فيها منظور ًا يظهر فيه التكوين‬ ‫احل�ضاري كن�سيج من طبقات و�شرائح انب�سط‬ ‫بع�ضها وتق ّل�ص البع�ض الأخ ��ر‪ ،‬مب��ا يوحي‬ ‫ب�صراع ال يخلو من القدرية والتداخل الذي ال‬ ‫انف�صام يف عراه‪.‬‬ ‫واختتم الدوري الأم�سية مبا قاله ليثابي‪ .. « :‬كل‬ ‫ل�صق يف مكانه بدم خملوق �إن�ساين‪ ،‬تلك‬ ‫حجر �أُ ِ‬ ‫ال�صروح العمالقة من اجلهد املدفوع ب�إرادة ال‬ ‫تنثني باتت �شيئ ًا من املا�ضي‪ ،‬وعمارة كهذه مل‬ ‫تعد لنا وال للم�ستقبل‪ ،‬ما الذي �سيكون عليه �إذن‬ ‫هذا الفن يف امل�ستقبل؟ �ستبقى الر�سالة تدور‬ ‫حول الطبيعة والإن�سان‪ ،‬حول النظام واجلمال‪،‬‬ ‫لكن �سيكون املجمل ذا حالوة وب�ساطة وحرية‬ ‫وثقة ونور‪ ،‬وما عدا ذلك فقد ولىّ ‪ ،‬وهذا ح�سن‪،‬‬ ‫�إذ ك��ان �سحقا للحياة‪ ،‬يف ح�ين �أن امل�ستقبل‬ ‫�سيكون للأخذ بيد احلياة وتطويعها ‪ ..‬كي يحلق‬ ‫اجلمال على الروح كن�سمة»‬


‫‪22‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫الكالم المباح‬

‫الكالم المباح‬

‫سلسلة الحكمة‬ ‫الممتدة‬ ‫حنفي جايل‬


‫تلقيت‬

‫بع�ض ر�سائل من �أ�صدقاء وقراء �أعزاء ت�ؤيد ما جاء ويف ال�صفحة الأوىل نف�سها قول �أر�سطاطالي�س «�إن االئتالف‬ ‫يف «الكالم املباح» املن�شور يف العدد املا�ضي عن القائد باجلواهر قبل االئتالف بالأج�سام»‪ ،‬ثم نظم املتنبي‪:‬‬ ‫�أ�صادق نفي�س املرء قبل ج�سمه‬ ‫امل�ؤ�س�س ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان‪ ،‬طيب اهلل ثراه‪ ،‬واحلكمة‬ ‫و�أعرفها يف فعله والتكلم‬ ‫التي حتلى بها والتي �صبغت �أقواله وجت�سدت يف �أفعاله‪ ،‬ووافق بع�ضهم‬ ‫على �أن من �أ�سباب تلك احلكمة هي �أنه‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬كان مغرم ًا ب�أبي رحت �أقلب �أوراق املخطوطة‪ ،‬و�أقر�أ يف ال�صفحة الثانية قول‬ ‫الطيب املتنبي‪ ،‬وكان معجب ًا ب�شخ�صيته‪ ،‬حافظ ًا لأ�شعاره‪ ،‬فاهم ًا ملعانيها‪� ،‬أر�سطاطالي�س‪�« :‬إذا مل ي�صل باملال �أبناء اجلن�س وثقل به �أعداء‬ ‫النف�س فما ت�صنع الأعرا�ض بالأعوا�ض«‪ ،‬لينقلها �شعر ًا املتنبي بقوله‪:‬‬ ‫وحري�ص ًا على اال�ستزادة منها واال�ستنارة مبا فيها‪.‬‬ ‫فما �أ�ضر ب�أهل الع�شق �أنهم‬ ‫ومن ه�ؤالء الزميل الفا�ضل الدكتور يحيى حممود‪� ،‬أ�ستاذ التاريخ‬ ‫َه َو ْو وما عرفوا الدنيا وال فطنوا‬ ‫احلديث يف جامعة الإمارات‪ ،‬الذي هاتفني م�ؤيد ًا ما ذهبت �إليه‬ ‫من الرابط الذي جمع ما بني زايد واملتنبي‪ ،‬رحمهما اهلل‪ ،‬و�أ�ضاف ثم وجدت بيت ًا �شهري ًا للرجل يقول فيه‪:‬‬ ‫ومراد النفو�س �أ�صغر من‬ ‫قائ ًال‪ :‬ا�سمح يل �أن �أزيدك من ال�شعر بيت ًا‪ ،‬بل هو يف احلقيقة �س�ؤال‪،‬‬ ‫�أن نتعادى فيها و�أن نتفانا‬ ‫وقبل �أن �أجيب قال‪ :‬هل تعلم �أن هناك خيط ًا ممتد ًا عرب الزمن قد‬ ‫ً‬ ‫جمع ما بني زايد واملتنبي و�أر�سطو �أو «�أر�سطاطلي�س« كما ي�سميه لأجده منقوال عن قول �أر�سطاطالي�س‪« :‬لي�س من احلزم �إفناء النفو�س‬ ‫يف طلب ال�شهوات‪ ،‬بل يف درك العلم العلوي»‪.‬‬ ‫بع�ض الأدباء واملرتجمني؟‪.‬‬ ‫اعرتفت ب�أنه ال علم يل بذلك فقال‪ :‬احلقيقة �إن هناك عالقة م�ضيت يف مطالعة بقية �صفحات املخطوطة لأت�أكد من نب�أ املتنبي‬ ‫�أو رابط ًا جمع ما بني املتنبي و�أر�سطو‪ ،‬و�إن الأول حفظ الأخري الذي �أنب�أنيه ال�صديق الدكتور‪ ،‬حتى و�صلت �إىل البيت الذي يقول فيه‪:‬‬ ‫و�أبعد بعدنا بعد التداين‬ ‫ونقل �أفكاره �أو بع�ض ًا منها �شعر ًا ونظم ًا �إىل العربية‪ ،‬ولأن ال�شيخ‬ ‫و�أقرب قربنا قرب البعاد‬ ‫زايد رحمه اهلل قد حفظ املتنبي ون�شر �أ�شعاره و�أفكاره‪ ،‬كما جاء‬ ‫يف وقائع املجل�س الرم�ضاين ملجلتكم «تراث» فيكون مت�ص ًال ولو ملخ�ص ًا فيه قول �أر�سطاطلي�س‪�« :‬أقرب القرب مودات القلوب و�إن‬ ‫بطريق غري مبا�شر ب�أر�سطاطالي�س‪ ،‬ويكون الثالثة‪ ،‬زايد واملتنبي تباعدت الأج�سام‪ ،‬و�أبعد البعد تنافر القلوب و�إن تدانت الأج�سام»‪.‬‬ ‫فتوقفت لوهلة لأين عجبت من �أبي الطيب املتنبي‪ ،‬ذلك البدوي الذي‬ ‫و�أر�سطاطالي�س قد نهلوا من نبع احلكمة وارتووا منه‪.‬‬ ‫قلت له �إن امل�س�ألة ت�ستحق النظر‪ ،‬ولكني �أرجوك �أن تعطيني تع ّرف على �شاعر احلكمة‪ ،‬وحكيم ال�شعراء‪ ،‬وفيل�سوف اليونان الأ�شهر‬ ‫املزيد‪ ،‬فقال �س�أكفيك م�ؤونة النظر و�أكفي نف�سي م�ؤونة احلديث‪ ،‬الذي عا�ش ومات قبل امليالد‪ ،‬ف�أن�ست له روحه‪ ،‬و�أعجب به عقله‪ ،‬و�أحبه‬ ‫ثم �أهداين‪� ،‬أكرمه اهلل‪ ،‬ن�سخة من خمطوطة �صغرية عدد �صفحاتها قلبه‪ ،‬ثم عجبت للمغفور له ب�إذن اهلل تعاىل‪ ،‬ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل‬ ‫ثالث وع�شرون‪ ،‬وقيا�س �أوراقها يقارب قيا�س الورق من نوع «�إيه فور»‪ ،‬نهيان‪ ،‬الذي عا�ش يف القرن الثاين والثالثني بعد الهجرة‪ ،‬وقد اتخذ‬ ‫وقال �إنها للتدليل على �صحة ا�ستنتاجي وا�ستنتاجه‪ ،‬وهذه الن�سخة املنحى نف�سه فتعرف على واحد من �أهم �شعراء وفال�سفة العرب الذين‬ ‫من املخطوطة حمفوظة يف ق�سم املخطوطات يف جامعة امللك �سعود‪� ،‬سبقوه بحوايل ثالثني قرن ًا من الزمان‪ ،‬فوقع منه املوقع نف�سه الذي‬ ‫يف اململكة العربية ال�سعودية‪ ،‬حتت الرقم العام ‪ ،5964‬وحتت عنوان وقعه �أر�سطاطالي�س من املتنبي‪ .‬وهكذا امتدت �سل�سلة احلكمة‪ ،‬وطالت‬ ‫«الر�سالة احلامتية‪ ،‬مل�ؤلفها حممد بن احل�سن احلامتي «‪ 388‬هجرية« م�سبحة الفل�سفة‪ ،‬و�أنتج التوا�صل مبادئ طيبة �أنارت دروب �سالكيها‪.‬‬ ‫وكما يتبني من ت�صنيفها �إنها كتبت يف القرن الثامن الهجري تقدير ًا‪ ،‬وهكذا ي�صدق حديث ر�سول اهلل حممد بن عبد اهلل‪� ،‬صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم‪ :‬احلكمة �ضالة امل�ؤمن ‪� ..‬أنى وجدها تبعها‪ .‬وهكذا �أي�ض ًا ي�ستبني‬ ‫ومو�ضعها «مرافقة �شعر املتنبي لكالم �أر�سطو«‪.‬‬ ‫ومن ال�صفحة الأوىل‪ ،‬ومن دون �أية مقدمة‪ ،‬يبد�أ الكالم بـ «قال دور الفرد وت�أثريه يف الأمة‪ .‬وكثري منا قد ي�ستهني بهذا الدور‪ ،‬ولكن‬ ‫التاريخ ملئ بهكذا مناذج اهتدت فهدت‪ ،‬وعرفت فلزمت‪ ،‬كما ال يخلو‬ ‫�أر�سطو«‪ ،‬ثم يعقبه النظم‪ ،‬والبداية بقول �أر�سطاطالي�س‪�« :‬أعظم‬ ‫التاريخ من مناذج �أخرى للأ�سف �ضلت و�أ�ضلت‪ ،‬وعمت و�ص َمت‪ .‬وهكذا‬ ‫النا�س بخته من قل ماله وعظم جمده« ثم �أ�سفل منه بيت املتنبي‬ ‫يتكرر امل�شهد‪ ،‬بالإيجاب مرة وبال�سلب مرات‪ ،‬و�أبطاله يتكررون باخلري‬ ‫ال�شهري‪:‬‬ ‫وال�شر‪ ،‬والتدافع ي�ستمر‪« ،‬ليحيا من حيي عن بينة‪ ،‬ويهلك من هلك عن‬ ‫فال جمد يف الدنيا ملن قل ماله‬ ‫بينة»‪ ،‬والإميان ال يتزعزع‪ ،‬لأن «اهلل قد حكم بني العباد»‪.‬‬ ‫وال مال يف الدنيا ملن قل جمده‬ ‫ثم ي�أتي قول �أر�سطاطلي�س‪« :‬بالغريزة يتعلق الأدب ال بتقادم ال�سن»‪� ،‬إنه �صراع العلم واجلهل‪ ،‬و�صراع احلق والباطل‪ ،‬كان‪ ،‬و�سيكون منذ الأزل‬ ‫و�إىل نهايته‪� ،‬إىل �أن يرث اهلل الأر�ض ومن عليها‪ ،‬وعندها فقط �سيكون‬ ‫وهو املعنى نف�سه الذي عرب عنه املتنبي بقوله‪:‬‬ ‫القول الف�صل‪ ،‬ق ً‬ ‫وال واحد ًا‪َ ،‬‬ ‫حل ًك ٍم واحد‪« .‬ملن احلكم اليوم‪ ،‬هلل الواحد‬ ‫و�إذا احللم مل يكن يف طباع‬ ‫مل يحلم تقادم الأيام‬ ‫القهار»‬


‫قضية للنقاش‬ ‫‪24‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أ كتو بر‬ ‫‪2012‬‬


‫تختلط فيها املعلومة باخلرافة والتاريخ باحلكاية‬

‫الصورة الذهنية للتراث‬ ‫في عيون المصريين‬

‫تستمد مفرداتها من اإلعالم والتعليم‬ ‫القاهرة ـ �صفاء البيلي‬ ‫الرتاث هو الذاكرة الأمينة لكل جمتمع‪ ،‬وهو املخزون الذي تلج�أ �إليه ال�شعوب‬ ‫لت�ستلهم منه اخلربات املرتاكمة يف مواجهة ظروف احلياة �أو االحتكاك بالثقافات‬ ‫الأخرى‪ ،‬عالوة على �أنه كلمة يختلف مدلولها ومفهومها من �شخ�ص لآخر ومن‬ ‫موقع جغرايف ملوقع جغرايف مغاير ومن بيئة ثقافية لغريها‪.‬‬ ‫ف�ع�ل��ى ال��رغ��م م��ن وج� ��وده يف خ�ل�ف�ي��ة كل‬ ‫امل�ستطلعني وتعبريهم عن حنينهم البالغ‬ ‫�إليه ومطالبتهم باالهتمام به‪� ،‬إال �أن ت�شتت ًا‬ ‫وا��ض�ح� ًا يف تلك امل��داخ�لات يك�شف قدر‬ ‫الت�شتت يف الروافد الأ�صلية املعنية بتعريف‬ ‫النا�س ب��ال�تراث وتنمية وعيهم ب�أهميته‬ ‫وكيفية متثله يف حياتهم‪ ،‬ويف مقدمة تلك‬ ‫الروافد التعليم والإعالم‪.‬‬ ‫ط��رح��ت «ت� ��راث» ع� ��دد ًا م��ن ال �ت �� �س��ا�ؤالت‬ ‫امل��وح��دة ع�ل��ى � �ش��رائ��ح خمتلفة الأع �م��ار‬ ‫والثقافات واخللفيات االجتماعية وا�ستقت‬ ‫منهم الإجابات التالية‪:‬‬

‫يف ه��ذا اال�ستطالع امل��و� ّ��س��ع ال��ذي �أجرته‬ ‫«ت��راث» يف القاهرة نحاول التعرف على‬ ‫م�لام��ح ال �� �ص��ورة ال��ذه �ن �ي��ة ل �ل�ت�راث بني‬ ‫�شرائح املجتمع امل�صري املختلفة‪ ،‬كيف‬ ‫يفهمونه وب�أي �صورة يرتبطون به ويتمثلونه‬ ‫يف حياتهم اليومية‪.‬‬ ‫تباينت الآراء وفق ًا مل�ستويات وعي وثقافة‬ ‫امل�شاركني وتخ�ص�صاتهم واهتماماتهم‪� ،‬إال‬ ‫�أنها ك�شفت عن فجوة كبرية بني ال�صورة‬ ‫امل ��أم��ول��ة ل �ل�تراث ب�ين ال�ن��ا���س‪ ،‬وال���ص��ورة‬ ‫الذهنية ال�سائدة عنه‪ ،‬وال�ت��ي تعتمد يف‬ ‫م�صادرها يف الغالب الأع��م على ما تلقاه‬ ‫ال �ن��ا���س يف امل��ؤ��س���س��ة التعليمية املتهمة‬ ‫بالتحيز وتغليب ال�سيا�سي على الثقايف‪� ،‬أ�سا�س ال�شخ�صية‬ ‫والإعالم‪ ،‬املتهم باالتهامات نف�سه �إ�ضافة ب��داي��ة ي��رى ال���ش��اع��ر والإع�ل�ام ��ي «ن���ش��أت‬ ‫�إىل الت�سطيح واجتزاء املعلومات‪.‬‬ ‫ك�شف ه��ذا اال��س�ت�ط�لاع‪ ،‬ال��ذي ند�شن به‬ ‫�سل�سلة ا��س�ت�ط�لاع��ات ت�ه��دف �إىل حت��ري على كل دولة‬ ‫م�لام��ح ال���ص��ورة الذهنية العربية حول االهتمام بتراثها‬ ‫الرتاث‪ ،‬عن ما ي�شبه القطيعة مع الرتاث‪ ،‬الوطني والعمل‬

‫على تنقيته ونشره‬

‫امل���ص��ري» �أن ال�ت�راث ه��و ح�صاد خ�برات‬ ‫وخيال وواق��ع الأجيال ال�سابقة الذى تبلور‬ ‫فى �شكل �أدب��ي �أو فني حاز �إمكانية البقاء‬ ‫واال� �س �ت �م��رار‪ ،‬وي ��ؤك��د �أن��ه ا�ستقى ال�تراث‬ ‫فى بدايات التعامل معه عن طريق الكثري‬ ‫مم��ا تطرحه الكتب �أو تناقلته احلكايات‬ ‫ال�شعبية‪.‬‬ ‫وي��رى �أن �أه��م م��ا ميكن �أن ي�ستفاد منه‬ ‫احلكمة والت�سلية والرتفيه وتنمية م�شاعر‬ ‫االن �ت �م��اء واحل ����س اجل �م��ايل و�أن حاجتنا‬ ‫للرتاث حاجة عميقة فحاجتنا �إليه ال تقل‬ ‫ع��ن حاجتنا اىل ال�ف��ن والأدب والثقافة‬ ‫والدين �أي�ضا‪.‬‬ ‫وع��ن ر�أي���ه ف��ى م��دى اه�ت�م��ام امل��ؤ��س���س��ات‬ ‫الر�سمية‪ ،‬وخا�صة وزارة الرتبية والتعليم‬ ‫ب��احل��ر���ص ع�ل��ى تعليم ال �ن ����شء ��ش�ي�ئ� ًا من‬ ‫الرتاث �أكد �أن هناك اهتمام ًا مبادة تراثية‬ ‫معينه وهي �ألف ليلة وليلة‪ .‬وحكايات جحا‪.‬‬ ‫وه�ن��اك م��واد �أخ��رى ع��دي��دة �شبه جمهولة‬ ‫ينبغي �إ�ضافتها خا�صة امل��واد ذات املدلول‬


‫قضية للنقاش‬ ‫‪26‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ال�ت��اري�خ��ي‪ .‬وع��ن ر�أي ��ه ف��ى م��دى اهتمام‬ ‫الإعالم بالرتاث وال�صورة التى يقدمه بها‬ ‫قال‪ :‬من حني اىل حني نرى �صور ًا متناثرة‬ ‫منه دون خطة منهجية �سواء ما يقدم كما‬ ‫هو �أو ما تعاد �صياغته درامي ًا‪ .‬و�أ�شار �إىل‬ ‫�أن �أهم و�أكرث الربامج الإذاعية التى تقدم‬ ‫ال �ت�راث وت �ع��ر���ض ل��ه «ال�برن��ام��ج ال�ث�ق��ايف‬ ‫بالإذاعة امل�صرية»‪ ،‬وال��ذي ال ي�سمعه �أحد‬ ‫للأ�سف‪.‬‬

‫الأ�صل والف�صل‬

‫يتفق معه الكاتب امل�سرحي على الغريب‪،‬‬ ‫ح�ي��ث يعني ال�ت�راث بالن�سبة ل��ه الأ��ص��ل‬ ‫والف�صل‪ ،‬يقول‪ :‬انتمائي الكبري ل�شجرة‬ ‫الثقافة العربية واحل�ضارة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫وه��و ع�صارة التجارب وال�ع��ادات والقيم‬ ‫والأخ�لاق املتعلقة ب��الآداب والفنون التي‬ ‫تنتقل ع�بر الأزم���ان م��ن جيل �إىل جيل‪،‬‬ ‫وهو ما يراكم خربة على كافة امل�ستويات‬ ‫ي�ستفيد منها اجلميع‪ ،‬كل ح�سب توجهاته‬ ‫واهتماماته وذوق��ه وثقافته‪ ،‬ولكن يكون‬ ‫هناك خيط دقيق يربط كل ه�ؤالء يف �إيقاع‬ ‫ح�ضاري متجان�س‪.‬‬ ‫وي�ضيف‪ :‬ال ميكن �أن ن�ستغني عن الرتاث‬ ‫�إال �إذا �أردن � ��ا �أن ن�ن�ق�ط��ع م��ن ��ش�ج��رة‬ ‫احل���ض��ارة �أو �أردن ��ا �أن ن�ك��ون ب�لا ذاك��رة‬ ‫وب�لا ت��اري��خ‪ ،‬وب�لا عمق ح�ضاري يربطنا‬ ‫بال�سابقني‪.‬‬ ‫وي�ل�ف��ت ال �غ��ري��ب �إىل �أن اال� �س �ت �ف��ادة من‬ ‫ال� �ت��راث ال ف� ��رق ف �ي �ه��ا ب�ي�ن ال���ش�خ����ص‬ ‫ال �ع��ادي وال���ش�خ����ص غ�ير ال��ع��ادي‪�« ،‬إذا‬ ‫ق�صدنا بذلك املثقفني وغ�ير املثقفني»‪،‬‬ ‫ف��ال�ت�راث م��وج��ود‪ ،‬وه ��و م�ن�ت��ج ح���ض��اري‬ ‫ملن �سبقونا‪ ،‬وكل �شخ�ص ينهل منه على‬ ‫قدر حاجته وثقافته‪ ،‬كما يرى �أن الرتاث‬ ‫ه��و ال�شخ�صية‪ ،‬مبعنى جمموع ال�ع��ادات‬ ‫والقيم والأخ�لاق واخل�برات املرتاكمة يف‬ ‫الفنون والآداب عرب الزمن‪ ،‬وبدونه نكون‬ ‫ب�لا ج ��ذر‪ ،‬وب�ل�ا �شخ�صية‪ ،‬ف�ه��و حياتنا‬ ‫و�شخ�صيتنا‪.‬‬ ‫وع��ن دور الإع�لام يف التعريف بالرتاث‪،‬‬

‫�سعد ال�شطانويف‬

‫هالة م�صطفى‬

‫ضرورة تضافر الجهود‬ ‫إلعادة بناء خريطة‬ ‫لموروثاتنا القديمة‬

‫ال���ص�غ��ر‪ ،‬وتعلمت م�ن��ه ال�ك�ث�ير و�ألهمني‬ ‫� �ش �ع��ورا ب��الأ� �ص��ال��ة وال �ف �خ��ر ل �ك��ل م��ا هو‬ ‫م�صري‪ ،‬يكفي �إننا كنا والزلنا نعلم العامل‬ ‫يف كل �شيء‪ ،‬و�إن مل ن�ستفد منه‪ ،‬للأ�سف‬ ‫هذا الرتاث الذي مل نقدره حق قدره‪.‬‬ ‫كما يبدي فهمي �أ�سفه على �أن��ه ال يوجد‬ ‫اه �ت �م��ام ب �ف�ترة ت��راث �ي��ة م�ع�ي�ن��ة‪ ،‬م ��ؤك��د ًا‬ ‫�ضرورة الرتكيز علي امل��وروث احل�ضاري‬ ‫امل�صري الذي ع َّلم العامل‪ ،‬وعن ال�صورة‬ ‫ال�ت��ي يقدمها الإع�ل�ام ع��ن ال�ت�راث ي��رى‬ ‫�أنها باهتة ومتخلفة‪ ،‬وق�شور‪ ،‬مما يخلق‬ ‫انف�صا ًال ع��ن ال��واق��ع وطم�س لل�شخ�صية‬ ‫امل�صرية ودوره ��ا يف ال�ت��اري��خ الإن���س��اين‪،‬‬ ‫وت�سطيح وتهمي�ش ل��دور ال�شعب علي مر‬ ‫الع�صور والرتكيز علي دور احلاكم‪.‬‬ ‫وي��رى ال �ب��دري �أن الف�ضائيات الآن هي‬ ‫التى ت�شكل الوجدان مبا تقدمه من مواد‬ ‫�إعالمية‪ ،‬وي�ضيف �إىل �أن هناك فقر فى‬ ‫املواد الرتاثية املقدمة للجمهور‪ ،‬كما ي�ؤكد‬ ‫�أننا ك�شعوب متح�ضرة ال ميكن �أن ن�ستغني‬ ‫عن الرتاث؛ فالرتاث وقود احلا�ضر وقوة‬ ‫دفع للم�ستقبل‪ ،‬وعن�صر �إلهام لل�شباب‪.‬‬

‫يت�أ�سف الغريب قائ ًال‪ :‬للأ�سف‪ ،‬فالإعالم‬ ‫ـ بق�صد وب��دون ق�صد ـ يكر�س للقطيعة‬ ‫مع الرتاث‪ ،‬واعتباره من املا�ضي الباهت‬ ‫الذي ي�شدنا للخلف‪ ،‬وقد قامت التيارات‬ ‫الأدبية با�سم احلداثة لتدعو للقطيعة مع‬ ‫ال�تراث بزعم �أن��ه ي�ؤخرنا‪ ،‬فيما ال�تراث‬ ‫يدفعنا ل�ل�أم��ام‪ ،‬لأن م��ن ال ما�ضي ل��ه ال‬ ‫حا�ضر ل��ه‪ ،‬وال�ت�راث ه��و البنية التحتية‬ ‫التي ننطلق منها ون�ضيف �إليها‪.‬‬

‫الإعالم والرتاث احل�ضاري‬

‫�سيد ب��دري فهمي‪ ،‬م��دي��ر ع��ام بالتعليم‬ ‫الفني واجل��ودة ب ��إدارة الزينية التعليمية‬ ‫والأم�ي�ن ال�ع��ام حل��زب التجمع مبحافظه‬ ‫الأق�صر‪ ،‬فيع ِّرف الرتاث ب�أنه كل ما تركه‬ ‫لنا �أج��دادن��ا وك��ل من �سبقنا يف احلياة‪،‬‬ ‫�سواء كان مادي ًا �أو اجتماعي ًا �أو �إن�ساني ًا‬ ‫�أو فكري ًا‪.‬‬ ‫وي�شري البدري �إىل بدايات تعرفه على‬ ‫ال�تراث ق��ائ�لا‪ :‬اطلعت على ال�تراث منذ‬

‫قصور فهم معنى‬ ‫التراث يؤدي إلى‬ ‫تجهيل دوره الهام‬

‫�أفكار علمية لالهتمام بالرتاث‬

‫م�صطفى حم�م��د ال���س�ي��د ع �ل��ي‪ ،‬مهند�س‬ ‫ا�ست�شاري تخطيط عمراين وم��دن يعرف‬ ‫ال �ت�راث ب ��أن��ه ك��ل م��ا ه��و م��ت��وارث وق��اب��ل‬ ‫ل�ي��راث بحكم التقادم واالنتقال‪ ،‬ويرى‬ ‫ل� إ‬


‫�أن �أهم ا�ستفادة ميكن �أن ينالها الفرد من‬ ‫الرتاث هي املعرفة والعلم بال�شيء‪ ،‬و�أ�شار‬ ‫�إىل �ضرورة ال�تراث فى حياتنا نظر ًا لأن‬ ‫ال�تراث ع�ب��ارة ع��ن جمموعة م��ن الأمن��اط‬ ‫الثقافية‪ ،‬املادية منها واملعنوية‪ ،‬و�أهم ما‬ ‫مييزها هو ربط الفرد باجلماعة كما ت�صل‬ ‫احلا�ضر باملا�ضي‪.‬‬ ‫وعن قراءاته فى الرتاث قال‪ :‬بحكم ن�ش�أتي‬ ‫ن�ش�أة دينية‪ ،‬فقد ك��ان اهتمامي بال�شعر‬ ‫والأدب وعلوم ال�صوتيات والتجويد‪ ،‬كما‬ ‫در��س��ت ت��اري��خ ال�ع�م��ارة‪ ،‬ففيها الكثري من‬ ‫الطرز املعمارية املختلفة وما يتميز به كل‬ ‫طراز عن الأخر يف ال�شكل وامل�ضمون‪ .‬وينتقد‬ ‫علي ق�صر االهتمام على الآث��ار الفرعونية‬ ‫دون بقية الآث��ار؛ الإ�سالمي منها والقبطي‬ ‫وال��روم��اين‪ ،‬م ��ؤك��د ًا � �ض��رورة �أن ي��أخ��ذ كل‬ ‫ع�صر حظه من االهتمام‪.‬‬ ‫�أم��ا عن ال�صورة التي يقدمها الإع�لام عن‬ ‫الرتاث فريى علي �أنها �صورة �ضعيفة و�أحيان ًا‬ ‫مغلوطة وينق�صها التخ�ص�ص وال ترقى‬ ‫حلجم امل��وروث الثقايف وامل��ادي مل�صر‪ ،‬كما‬ ‫يرى �أن التليفزيون وحده الذي يقوم بالقدر‬ ‫الأكرب من هذه املهمة ولكن على ا�ستحياء‪.‬‬

‫الرتاث امل�صري والت�سويق‬

‫حم �م��د اخل� �ب�ي�ري‪ ،‬ك �ب�ير الأخ ���ص��ائ �ي�ين‬ ‫االقت�صاديني بالهيئة العامة للتخطيط‬ ‫العمراين بالقاهرة‪ ،‬مل يختلف كثري ًا عن‬ ‫�سابق ْيه يف تعريف الرتاث‪ ،‬حيث يرى �أنه‬ ‫يعني كل ما ورثناه من الأجيال ال�سابقة‪،‬‬ ‫وه��و ي�شمل ال�ع�ل��وم وال �ف �ن��ون وال�ع�م��ارة‬ ‫واملو�سيقي و�شتى املجاالت‪ ،‬و�أ�ضاف‪ :‬عن‬ ‫طريق معرفة ال�تراث ي�ستطيع الإن�سان‬ ‫ال �ع��ادي اال��س�ت�م�ت��اع مب��ا ف�ي��ه م��ن �إب��داع‬ ‫وجمال‪ ،‬فنحن نحتاج الرتاث يف حياتنا‬ ‫لنعرف ما�ضينا وعراقته و�أ�صالته‪.‬‬ ‫وع� �م ��ا �إذا ك� ��ان ق ��د ق � ��ر�أ � �ش �ي �ئ��ا م��ن‬ ‫ال�ت�راث ف�ق��د �أ� �ش��ار �إىل �أن��ه ق��ر�أ ت��راث‬ ‫امل���ص��ري�ين ال �ق��دم��اء وع ��رف ك �ث�يرا عن‬ ‫الأه��رام��ات والنحت ومعابد �أب��ى �سنبل‬ ‫والآث���ار ال�ي��ون��ان�ي��ة‪ ،‬والآث���ار القبطية‬

‫التراث المصري يحمل‬ ‫بين طياته الكثير‬ ‫مما يستفاد به في‬ ‫المستقبل‬ ‫كالكني�سة املعلقة‪ ،‬والآث���ار الإ�سالمية‬ ‫ك��امل �� �س��اج��د وامل �� �ش��رب �ي��ات وامل �� �ص��اح��ف‬ ‫وال �ق�لاع‪ ،‬وامل�ب��دع�ين يف ق ��راءة ال �ق��ر�آن‬ ‫الكرمي وعلومه ت�لاوة وجت��وي��د ًا والفنون‬ ‫واملو�سيقي والغناء القدمي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ويرى اخلبريي �أن هناك اهتماما بفرتة‬ ‫تراثية معينة دون الأخ ��رى‪ ،‬لذلك فهو‬ ‫يو�صى باالهتمام ال�شامل وترميم معظم‬ ‫الآث��ار دون متييز‪ ،‬م�ؤكد ًا �أننا يف حاجة‬ ‫ل �ت��وع �ي��ة امل �ج �ت �م��ع ب �� �ص��ورة ك��ب�ي�رة‪ ،‬مع‬ ‫الرتكيز على جهود الت�سويق الإعالمي‬ ‫املوجه للعامل للتعريف برتاثنا‪.‬‬

‫الرتاث كنز اخلربات‬

‫ال�ت�راث ه��و خ�لا��ص��ة ح �� �ض��ارات وجت��ارب‬ ‫الأج� ��داد‪ ،‬ب�ه��ذه ال�ع�ب��ارة ا�ستهلت هالة‬ ‫م�صطفى‪ ،‬املوظفة بالرتبية والتعليم‪،‬‬ ‫وكاتبة الق�صة الق�صرية حديثها‪،‬‬ ‫و�أ��ض��اف��ت‪ :‬كما �أن ال�ت�راث يعرب‬ ‫عن احلالة الإن�سانية وال�شعبية‬ ‫للأجيال التي �سبقتنا‪ ،‬ومنهم‬ ‫ن�ستخل�ص ع��ادات �ه��م وت�ق��ال�ي��ده��م‬ ‫وع�ل��وم�ه��م و�آداب� �ه ��م وف�ن��ون�ه��م‪ ،‬وم��ن‬ ‫خ�ل�ال ذل���ك ن���س�ت�ط�ي��ع احل �ك��م على‬ ‫احلقب الزمنية القدمية وفى ع�صورها‬ ‫املختلفة‪.‬‬ ‫وح��ول م��ا ميكن �أن ُي�ستفاد م��ن ال�تراث‬ ‫ق��ال��ت م�صطفى‪� :‬إن ال �ت�راث ك�ن��ز من‬ ‫اخلربات فى جماالت حياتية خمتلفة‬ ‫حياتية تاريخية ي�ستفيد الفرد‬ ‫منها يف احل�ك��م على الكثري‬

‫مم��ا يتعر�ض ل��ه ف��ى ح�ي��ات��ه ال�ي��وم�ي��ة من‬ ‫مواقف و�أح��داث‪ ،‬كما ي�ستخدمه يف و�صف‬ ‫بع�ض املواقف فى كلمات ب�سيطة كالأمثال‬ ‫ال���ش�ع�ب�ي��ة �أو ب�ع����ض ال�ق���ص����ص ال�تراث �ي��ة‬ ‫القدمية‪.‬‬ ‫كما ترى �أن الرتاث للكاتب �أو املثقف كنهر‬ ‫م�ت��دف��ق ال ين�ضب �أب� ��د ًا‪ ،‬ف�ق��د ي�ستخدمه‬ ‫ال �ك��ات��ب ك ��إ� �س �ق��اط ع �ل��ى ب�ع����ض امل��واق��ف‬ ‫ال�سيا�سية ويعرب من خالله عن ر�أيه بحرية‪،‬‬ ‫ولي�س معنى هذا �إفال�س الكاتب فى خلق‬ ‫مواقف حالية �أو عدم قدرته على التعبري‪..‬‬ ‫بل هو البحث عن الكنوز واجل��واه��ر التى‬ ‫ت�ستهوي الكاتب فيقع فى ع�شق الرتاث بكل‬ ‫�أنواعه «ال�شعبي والأدبي»‪.‬‬ ‫وت�شري �إىل �أن ال�ف��رد يتعر�ض ل�ل�تراث يف‬ ‫كل وقت من خالل ا�ستخدام بع�ض الأمثال‬ ‫ال�شعبية ولكنها بالأخ�ص تف�ضل ال�تراث‬ ‫الفرعوين وت�ستهويها معرفة تفا�صيل هذه‬ ‫احل �� �ض��ارة وت��راث �ه��ا ال ��ذي ا�ستمر لآالف‬

‫متثال نه�ضة م�رص ملختار ميثل م�رص فتاة تتطلع نحو امل�ستقبل بينما تت�شبث يدها برتاثها متمثال ً يف �أبي الهول‬


‫قضية للنقاش‬ ‫‪28‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�شارع �شعبي‪ -‬القاهرة‪ -‬متحف بروكلني‬

‫ال�سنني يبهر العامل مبدى تفوقهم فى كل‬ ‫املجاالت‪.‬‬ ‫وتعلل م�صطفى ميلها ل�ل��أدب الفرعوين‬ ‫كونه ملئ بالبالغة وزاخر بن�صائح احلكيم‬ ‫«�آين» وق�صة املالح الغريق ورائعة �شكاوى‬ ‫ال �ف�لاح ال�ف���ص�ي��ح‪ ،‬ف�تراث �ن��ا ه��و امل�ف�ه��وم‬ ‫الأ�شمل لتاريخنا وح�ضارتنا وهو جذورنا‬ ‫ال�ضاربة يف الأر�ض‪ ،‬فهل ن�ستطيع �أن ننتج‬ ‫فروعا وثمارا دون جذور؟‬

‫ال� �ت��راث ب� ��أن ��ه ك ��ل م ��ا ه ��و م� � ��وروث ع��ن‬ ‫ال�سابقني‪ ،‬كما تو�ضح �أن هناك اختالف ًا‬ ‫ف��ى �أن� ��واع ال �ت�راث‪ ،‬ف�ل��دي�ن��ا ت ��راث ثقايف‬ ‫واجتماعي وبيئي ي�شمل �أزم �ن��ة وع�صور‬ ‫ما�ضية ا�ستطاعت �أن تبقى حية و�شاهدة‬ ‫على �أ�صحابها التى مل نحياها فى وقتها‪،‬‬ ‫ولكن ببقاء هذا امل��وروث ف�إننا نحيا معها‬ ‫ون�ستعيد بخيالنا حياة ال�سابقني‪.‬‬

‫علينا الربط بين‬ ‫بني اجلهل والتجهيل‬ ‫من جانبها تع ّرف نرمني نعيم عبد اجلواد ثقافات الشعوب‬ ‫معلمة ل�غ��ة ع��رب�ي��ة ودرا���س��ات �إ��س�لام�ي��ة‪ ،‬حيث التراث اإلنساني‬ ‫يجمع كل البشر‬

‫وعما ميكن �أن ي�ستفيد الإن���س��ان العادي‬ ‫م��ن معرفته ل�ل�تراث ت�ق��ول‪ :‬الإمل��ام بتاريخ‬ ‫وح�ضارة القدماء‪ ،‬عالوة على حاجتنا له يف‬ ‫توثيق موروثاتنا لال�ستفادة منه يف تو�ضيح‬ ‫ج��ذورن��ا التى ت�ضرب ف��ى �أع�م��اق التاريخ‬ ‫الب�شري‪ ،‬ومبا �سيعود على بالدنا باخلري‬ ‫الوفري من خ�لال عر�ضه واال�ستفادة منه‬ ‫فى جلب ر�ؤو���س الأم��وال ولإتاحة الفر�صة‬ ‫أ�م��ام اجلميع لدرا�سة ه��ذا التاريخ وهذا‬ ‫املوروث الذى يرثى الب�شرية جمعاء‪.‬‬ ‫وت���ؤك��د �أن �ه��ا مل ت �ق��ر�أ �شيئا ع��ن ال�ت�راث‬ ‫ب��ل اع�ت�م��دت ف��ى ا�ستقاء معلوماتها على‬ ‫امل���ش��اه��دة وال���س�م��اع‪ ،‬ك�م��ا ال تن�سى �أن�ه��ا‬


‫در�ست بع�ض الرتاث بح�سب �سنوات التعليم‬ ‫املختلفة فتقول‪ :‬كان لدينا النذر الي�سري من‬ ‫املعلومات التى تتعلق بالآثار �إال �إنه بحكم‬ ‫التخ�ص�ص ف��إن��ه ق��د تكونت ل��دىّ معرفة‬ ‫بالرتاث الثقايف اخلا�ص بالأدباء وال�شعراء‬ ‫وما مت ح�صره فى �أمهات الكتب من هذه‬ ‫املواد العلمية والأدبية الرتاثية‪.‬‬ ‫وعن وجود اهتمام م�ؤ�س�سي بفرتة تراثية‪/‬‬ ‫تاريخية عن غريها تقول‪ :‬كنت �أظ��ن �أنه‬ ‫لي�س لدينا �إال الآث��ار الفرعونية القدمية‬ ‫وذل� ��ك ب���س�ب��ب م��ا �أح��اط �ه��ا الإع �ل��ام به‬ ‫م��ن االه�ت�م��ام وال��رع��اي��ة‪ ،‬ولكن منذ وقت‬ ‫لي�س بالقليل �ساقتني قدماي �إىل منطقة‬ ‫اجل �م��ال �ي��ة وه��ال �ن��ي م ��ا ر�أي � ��ت م ��ن �آث���ار‬ ‫�إ��س�لام�ي��ة‪ ،‬خا�صة ��ش��ارع امل�ع��ز ل��دي��ن اهلل‬ ‫الفاطمي وه��ذا الكم الهائل وال��رائ��ع من‬ ‫امل�ساجد واخلانقات والأ�سبلة وغ�ير ذلك‬ ‫من احلرف التى ا�ستطاعت الدولة توطينها‬ ‫بثوب جديد والئق فى هذا املكان احليوي‪.‬‬ ‫وطالبت عبد اجلواد‪ ،‬ب�إعادة بناء خريطة‬ ‫موروثاتنا القدمية‪ ،‬لت�شمل معلومات عن‬ ‫الع�صور التى مرت بها م�صر وتركت �أثر ًا‬ ‫ي��دل عليها‪ ،‬وق��ال��ت‪� :‬أمت�ن��ى �أن ت��رى هذه‬ ‫اخلريطة النور ويتمكن كل فرد وكل طالب‬ ‫من اقتنائها‪ ،‬كما ت�ؤكد فى ذات الوقت عدم‬ ‫ر�ضائها عن ال�صورة التي يقدمها الإعالم‬ ‫عن الرتاث‪.‬‬

‫كل �شيء قدمي تراث!‬

‫حممد �صقر‪ ،‬موظف �سابق متقاعد بامل�صانع‬ ‫احلربية‪ ،‬يحاول تعريف الرتاث بقوله‪� :‬إن‬ ‫الرتاث يعنى �أ�شياء كثرية‪ ،‬ثم يخل�ص �إىل‬ ‫�أن ك��ل �شيء ق��دمي ت��راث‪ ،‬وي�ضرب �صقر‬ ‫مثا ًال بالكتب العلمية والتاريخية والآث��ار‬ ‫القدمية‪ ،‬واملن�ش�آت القدمية مثل الأزه��ر‪،‬‬ ‫والأه��رام��ات‪ ،‬واملكتبات الدينية القدمية‪،‬‬ ‫وي�ضيف ‪ :‬بالدنا فيها ما ال يتم ح�صره من‬ ‫ال�تراث الأ�صيل‪ .‬م�ؤكد ًا �أن ال�تراث عبارة‬ ‫ع��ن ث ��روة ق��وم�ي��ة ل�ل�ب�لاد‪ .‬و�أ� �ش��ار �إىل �أن‬ ‫الإن�سان العادي يجب عليه �أن ي�ستفيد من‬ ‫تراثه بالبحث فيه والإملام مبا يحتويه هذا‬

‫حممد اخلبريي‬

‫ن�ش�أت امل�رصي‬

‫أهم استفادة يمكن أن‬ ‫ينالها الفرد من التراث‬ ‫هي المعرفة والعلم‬ ‫بالشيء‬

‫و�أعظمها احل���ض��ارة الإ��س�لام�ي��ة‪ ،‬م��ا ورد‬ ‫منها وما مل يرد‪ ،‬ما كان خري ًا وما كان غري‬ ‫ذلك‪ ،‬فهذا كله تراث لنا وللب�شرية جمعاء‪.‬‬ ‫وي�شري ال�شطانويف �إىل �أن اهتمامه بالرتاث‬ ‫ين�صب على ت��راث احل�ضارة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫مثل �سرية الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫وم��ن ب�ع��ده ��س�ير خلفائه ف��ى ع�صر دول��ة‬ ‫ال��را� �ش��دي��ن‪ ،‬وم��ن ب�ع��ده��ا ع���ص��ور ال��دول‬ ‫الأموية والعبا�سية والعثمانية والدول التي‬ ‫ان�شقت عنهم و�صو ًال �إىل الع�صور احلديثة‪،‬‬ ‫ع�صر ا��س�ت�ق�لال ال ��دول ح�سب التق�سيم‬ ‫اجلغرايف املعروف الآن‪.‬‬ ‫وع��ن م��دى ا�ستفادته م��ن ال�ت�راث يقول‪:‬‬ ‫تعلمت منه فن الإدارة يف كل �شيء‪ ،‬من خالل‬ ‫�سري الر�سول وال�صحابة والتابعني والعلماء‬ ‫م��ن بعدهم‪ ،‬تعلمت �أي���ض� ًا الثقة بالنف�س‬ ‫وكيفية الو�صول للهدف وكيفية تقبل الآخر‪.‬‬ ‫كما يرى �أننا بحاجة �إيل ال�تراث خ�صو�ص ًا‬ ‫فى الفرتة احلالية لنتعلم من درو�س التاريخ‬ ‫فيه وخ�صو�ص ًا ما يتعلق بالثورات وكيفية بناء‬ ‫الدولة‪ ،‬وقبل كل ذلك كيفية بناء النف�س‪.‬‬ ‫وي�شري ال�شطانوفى �إىل بع�ض كتب الرتاث‬ ‫التى �أثرت فيه و�أهمها �سرية الر�سول �صلى‬ ‫اهلل عليه و�سلم يف كتاب الرحيق املختوم‪،‬‬ ‫ال�ب��داي��ة والنهاية الب��ن ك�ث�ير‪ ،‬مقدمة ابن‬ ‫خلدون‪ ،‬امل�ستطرف من كل فن م�ستظرف‬ ‫ل�شهاب الدين الأب�شيهي‪.‬‬ ‫ويلفت ال�شطانويف �إىل �أن كل ما در�سه من‬

‫من علم وتاريخ وجمد‪.‬‬ ‫�أم��ا ع��ن قيمته ف��ى حياة ال�ف��رد ف��أك��د �أن��ه‬ ‫م�ف�خ��رة ل�ن��ا ي�ب�ين ل�ن��ا �أ��ص��ال�ت�ن��ا ومعدننا‬ ‫ويرفع �ش�أننا بني الأمم‪ .‬وعما �إذا كان قد‬ ‫ق��ر�أ �شيئ ًا ع��ن ال�ت�راث �أ��ش��ار �إىل �أن��ه ق��ر�أ‬ ‫كثري ًا عن تراثنا بداية من الفراعني وحياة‬ ‫الفراعني وعن الأجيال املتالحقة والأزمان‬ ‫املختلفة وال�سري الذاتية لأبطالنا و�أجدادنا‬ ‫و�شبابنا وع��ن ك��ل ��ش��ئ �أجن ��ز ف��ى ت��اري��خ‬ ‫بالدنا العريقة‪.‬‬

‫�إهمال الرتاث معناه املوت‬

‫م�صحح لغة عربية‪ ،‬يرى‬ ‫�سعد ال�شطانويف‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫�أن ال�تراث كل ما ك��ان فى ح�ضارات بالد‬ ‫العامل املختلفة‪ ،‬القدمية منها واحلديثة‬

‫كلية اللغة العربية‬ ‫تقدم وجبة دسمة تربط‬ ‫الطالب بالتراث والقيم‬ ‫وتدرس األدب الشعبي‬ ‫واآلداب الشرقية‬ ‫كالفارسية والعبرية‬


‫قضية للنقاش‬ ‫‪30‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫م�صطفى علي‬

‫مؤسسة التعليم عليها‬ ‫عبء كبير لغرس‬ ‫المعنى الصحيح‬ ‫للتراث في أطفالنا‬

‫علي الغريب‬

‫الرتاث يف املدر�سة هو بع�ض ال�سري املخت�صرة‬ ‫لبع�ض ال�صحابة مثل عبد الرحمن بن عوف‬ ‫فى املرحلة االبتدائية‪ ،‬و�أ�سماء بنت �أبي بكر‬ ‫و�أ�سامة بن زيد فى املرحلة الإعدادية‪� ،‬أما يف‬ ‫اجلامعة فيقول‪ :‬در�ست بع�ض كتب التاريخ‬ ‫املتعلقة باحل�ضارة الإ�سالمية وم��ا قبلها‪،‬‬ ‫وكذلك در�ست ال�شعر العربي بكامل ع�صوره‬ ‫و�شعرائه بداية من امرئ القي�س وحتى �أحمد‬ ‫�شوقي وحافظ �إبراهيم‪ ،‬ودر�ست �أي�ضا فن‬ ‫النرث وكتابة الرواية العربية و�أب��رز كتابها‬ ‫بالإ�ضافة للنحو وعلمائه‪ ،‬كما در�ست قطوف ًا‬ ‫م��ن الفل�سفة وامل�ن�ط��ق وال�ن�ق��د وال�ب�لاغ��ة‪.‬‬ ‫ويقرتح �شطانويف �أن يزيد االهتمام يف مناهج‬ ‫التعليم لي�شمل كل الع�صور لنعرف جميعا‬ ‫ما�ضينا وتاريخنا لنعرب �إىل م�ستقبلنا‪ ،‬كما‬ ‫يقرتح �أن تزيد ن�سبة االهتمام بالطفل‪.‬‬ ‫وعن دور الإعالم فى التعريف بالرتاث يقول‪:‬‬

‫على خطى الأجداد‪ ..‬عمال من �صعيد م�رص ي�صنعون متاثيل لل�سياح‬

‫يوجد عندنا نوعان من الإعالم �أولهما يبث‬ ‫الفتنة وي�شوه ال�تراث وخ�صو�صا الإ�سالمي‬ ‫ول�ل�أ��س��ف فهو م�شاهَ د وم ��ؤث��ر يف النا�س‪،‬‬ ‫وثانيهما �إع�لام يقدم لنا ال�تراث فى �شكل‬ ‫مب�سط ومي�سر ول�ك��ن ال �أح��د ي�شاهده �إال‬ ‫القليل و�أي�ضا هو لي�س م�ؤث ًرا‪.‬‬ ‫وق �ب��ل �أن ن�ح��ث ون��دف��ع الأداة الإع�لام �ي��ة‬ ‫نحو التعريف ب��ال�تراث واالهتمام به وهي‬ ‫م�س�ألة على �أهميتها علينا �أوال �أن نبحث‬ ‫عن متلقيها‪ ،‬وحتما �ستكون �أعدادهم كثرية‬ ‫ولكن حينما ننه�ض بالتعليم �أوال‪ ..‬كما يرى‬ ‫�أن اال�ستغناء عن الرتاث معناه املوت وحينما‬ ‫افتقدنا تراثنا ومل نعد نلتفت له �صرنا فى‬ ‫خرب كان ومل يعد لنا مكان بجوار من �أخذوا‬

‫اإلعالم ـ بقصد‬ ‫وبدون قصد ـ يكرس‬ ‫للقطيعة مع التراث‬

‫تراثنا وا�ستفادوا منه وارتفعوا به �إىل عنان‬ ‫ال�سماء ولكن ما زال عندي �أم��ل �أن نرجع‬ ‫ونتقدم ونقود العامل كما كنا‪.‬‬

‫احلل خلق تراث جديد!‬

‫يتمثل ال �ت�راث يف ع�ي�ن��ي حم�م��د ح�م��دي‪،‬‬ ‫�صحفي ��ش��اب‪ ،‬يف ك��ل م��ا ه��و خالد وباقي‬ ‫ع�ل��ى م��ر ال�ع���ص��ور‪ ،‬م��ن طبيعة وح���ض��ارة‬ ‫وف ��ن و�آث � ��ار‪ ،‬ك�م��ا يتمثل يف ك��ل جم��االت‬ ‫احل �ي��اة م��ن ط��ب وك�ي�م�ي��اء وه�ن��د��س��ة وف��ن‬ ‫وزراعة و�صناعة‪ ،‬ويرى حمدي �أنه البد من‬ ‫الرجوع والبحث والتفكري يف املا�ضي �أكرث‬ ‫من �أى وقت وبحث الأ�سباب التى �أدت اىل‬ ‫ا�ستمرارية ونهو�ض ال�تراث القدمي حتى‬ ‫الآن فى زماننا وحماولة النهو�ض والتطوير‪،‬‬ ‫مع �إتاحة فر�ص لل�شباب واملوهوبني خللق‬ ‫تراث يتواىل‪.‬‬


‫القرية الفرعونية ‪ ..‬جت�سيد حلياة امل�رصي القدمي‬

‫بني الق�شرة واجلوهر‬

‫�أم��ا فار�س �أحمد طه‪ ،‬طالب بكلية الإع�لام‬ ‫جامعة القاهرة فريى �أن ال�تراث هو الكيـان‬ ‫والت�صوير للأحداث املا�ضية التى ا�ستطيع �أن‬ ‫�أبنى مواقفي عليها فى امل�ستقبل و�أنتقي منها‬ ‫ما يتالءم مع طبيعتي‪ ،‬كما �أنه �سر ٌد للأحداث‬ ‫القدمية على مر الزمـان واملكان فى خمتلف‬ ‫الع�صـور‪ ،‬والإن�سان ال�ع��ادي الب�سيط ميكن‬ ‫�أن ي�ستفيد منه حيث ميكنه التعـرف على ما‬ ‫و�صل �إلية �أجداده وحمـاولة االنطالق من حيث‬ ‫انتهوا‪ ،‬وا�ضاف‪ :‬كما �أننا نحتاج ال�تراث يف‬ ‫حياتنا للتعـرف على تاريخ الإن�سانية وحماولة‬ ‫بناء م�ستقبل يقوم على �أعمدة الرتاث بجميع‬ ‫�أنواعها‪.‬‬ ‫ويلفت فار�س �إىل �أن��ه مل يدر�س �شيئا معينا‬ ‫م��ن ال�ت�راث بع�صوره املختلفة يف مراحل‬ ‫تعليمه �سوى بع�ض الأدب العربي فى املعهد‬ ‫الأزهري �أثناء درا�ستى باملرحلة الثانوية ويرى‬ ‫�أن االهتمام بفرتة تراثية معينة «ع�صر» دون‬ ‫الأخ��رى موجود و �أن��ه ـ على حد قوله ـ يوجد‬ ‫على ال�ساحة هاوي�س التكلم الرتاث ال�سلطوي‬ ‫مبعنـى التكلم عن احلكام ال�سابقني والذين‬ ‫فعـلوا �أ�شياء فى حق هذا البلد وي�ستغل ه�ؤالء‬ ‫الأ��ش�خ��ا���ص امل��ا��ض��ي حتى ي�ب�رروا �أفعالهم‬ ‫احلا�ضرة‪.‬‬

‫ال يمكن االستغناء‬ ‫عن التراث فهو مكون‬ ‫أساسي للشخصية‬ ‫القومية والوطنية‬ ‫وع ��ن ر�أي� ��ه يف ال �� �ص��ورة ال �ت��ي ي �ق��دم بها‬ ‫الإع�ـ�لام ال�ت�راث‪ ،‬ينتقد �أحمد ذل��ك قائ ًال‪:‬‬ ‫الإع�ل�ام مبختلف قنواته ال يهتم بالتـراث‬ ‫مبعناه الأ�صلي‪ ،‬بينما يركزون على مظهره‬ ‫اخل��ارج��ي‪ ،‬مبعنـى �أن �ه��م ي�ظ�ه��رون ال�تراث‬ ‫الذى يهتم به الر�أي العام فقط‪ .‬كما يرى �أن‬ ‫التلفزيون واالنرتنت �أهم و�سائل الإعالم التي‬ ‫يجب �أن تهتم بالرتاث عن طريق تقدمي �أفالم‬ ‫وثائقية ت�شويقية وبرامج تراثية حت��اول نقل‬ ‫الرتاث اال�سالمى وامل�سيحي ب�صورة وا�ضحة‬ ‫ك��ي يتعرف امل�صريون �أك�ثر على تاريخهم‬ ‫وح�ضارتهم‪ ،‬كما �إنه من امل�ستحيل �أن ي�ستغنى‬ ‫�أى �إن�سان �أو �شعب عن تراثه مهما كـان‪ ،‬فالأمة‬ ‫التي لي�س لها ما�ضي لن يكون لها حـا�ضر‪ ،‬وكم‬ ‫من الأمم تتمني �أن يكون لها ربع ما منتلكه من‬ ‫تراث وثقافة وح�ضارة‬


‫قضية للنقاش‬ ‫‪32‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫امل�رصيون يعتقدون �أن �ألف ليلة و ليلة جزء من تراثهم‬

‫كلمة جميلة‪..‬لكن ماذا تعني ؟‬

‫التراث في عيون الناشئة‬ ‫كان هذا ر�أي الكبار وال�شباب‪ ،‬فماذا عن ر�أي ال�صغار يف هذه الق�ضية املهمة؟‬ ‫الحظنا �أن مفهوم الرتاث عند النا�شئة يتلخ�ص يف �أنه هو كل الأ�شياء التي ورثناها من �آبائنا و�أجدادنا‪ ،‬وهو‬ ‫الأ�شياء التي لها قيمة مادية ومعنوية‪ ،‬الفتني �إىل �أن �أقرب مثال على ذلك هو الأهرامات والتماثيل املوجودة‬ ‫يف املتحف امل�صري وامل�ساجد واملباين التي عمرها ‪� 100‬سنة �أو �أكرث‪.‬‬ ‫قالت هدير عبد العزيز طالبة بال�صف الأول‬ ‫ال�ث��ان��وي‪� :‬إن�ه��ا ق��ر�أت يف �أح��د الكتب معلومة‬ ‫مهمة وهي �أن معنى كلمة «تراث» لي�س املرياث‬ ‫كما كنت �أعتقد‪ ،‬وتقول املعلومة �إن ال�تراث‬ ‫هو الأ�شياء الثمينة التي لها قيمة والتي ت�أتينا‬ ‫عرب الأجيال من �آبائنا و�أجدادنا‪� ..‬أما املرياث‬ ‫فيمكن �أن يكون فيه �أ�شياء مهمة وجيدة و�أ�شياء‬ ‫لي�س لها قيمة‪.‬وتقول هدير‪ :‬بالن�سبة يل در�ست‬ ‫يف املرحلة الإعدادية واالبتدائية عن الع�صر‬

‫الفرعوين والإ�سالمي‪ ،‬لكنني �أحب الرحالت‬ ‫وذهبت مع رحلة �إىل الإ�سكندرية و�شاهدت‬ ‫تراثها اجلميل مثل قلعة قايتباي‪ ،‬ومكتبة‬ ‫الإ�سكندرية‪.‬‬ ‫وعن �أهمية الرتاث قالت‪ :‬الرتاث هو الذي‬ ‫يعرفنا مبا�ضي �أجدادنا لنعرف كيف كانوا‬ ‫يعي�شون وي�أكلون وي�شربون‪ ،‬وحينما زرت‬ ‫املتحف امل�صري ر�أي��ت كيف ك��ان الأج��داد‬ ‫ي�صيدون‪ ،‬وكيف كانوا يزرعون ور�أيت بع�ض‬

‫البذور و�أعجبتني املومياوات الكثرية التى‬ ‫تدل على تقدم الأجداد يف التحنيط وحفظ‬ ‫الأج���س��ام‪ .‬وك��ذل��ك يحثنا املا�ضي اجلميل‬ ‫لأن نفعل مثل �أج��دادن��ا ونكون �أف�ضل مما‬ ‫نحن فيه الآن‪ .‬كما تنتقد الإع�ل�ام قائلة‪:‬‬ ‫التليفزيون يعر�ض �أحيان ًا برامج تتكلم عن‬ ‫املناطق ال�سياحية فقط‪ ،‬لكن �أريد برناجم ًا‬ ‫يتكلم عن الرتاث كما قر�أت عنه‪ .‬و�أمتنى �أن‬ ‫�أزور دول العامل لأ�شاهد تراثهم وح�ضارتهم‬


‫هدير عبد العزيز‬

‫احمد عبد احلافظ‬

‫اجليزة ‪ -‬من مقتنيات متحف بروكلني‬

‫بالرغم من �أن م�صر بلدي هي �أم احل�ضارة‪ .‬ال �أعرف معنى الرتاث!‬ ‫تراثنا �أبهر العامل‬

‫ويلتقي معها «�أحمد حممد عبد احلافظ تلميذ‬ ‫ال�صف الأول الثانوي» فيقول‪ :‬ال�تراث كلمة‬ ‫جميلة تعرب عن العراقة والقدم واحل�ضارة‪،‬‬ ‫وقد در�ست كثري ًا عن احل�ضارة الفرعونية التي‬ ‫عمرها ‪ 7000‬عام والتي بناها �أجدادنا القدماء‬ ‫امل�صريون‪.‬‬ ‫�أن��ا �أل��وم امل�س�ؤولني يف و�سائل الإع�لام لأنهم‬ ‫يهملون احل�ضارة امل�صرية وال�تراث ويهتمون‬ ‫فقط بال�سواحل والفنادق و�أريدهم �أن يهتموا‬ ‫بالرتاث القدمي �أي�ض ًا لأن من لي�س له ما�ض‬ ‫لي�س له حا�ضر �أو م�ستقبل‪.‬‬ ‫�أح��ب ق��راءة الق�ص�ص التي حتكي احلكايات‬ ‫ال�ق��دمي��ة مثل «كليلة ودم �ن��ة» كما اق ��ر�أ عن‬ ‫احل �ك��اي��ات ال �ف��رع��ون �ي��ة ون �ح��ن ال ن�ستطيع‬ ‫اال�ستغناء عن الرتاث واحل�ضارة العظيمة التي‬ ‫�أبهرت العامل كله‪.‬‬

‫�أما «عبيد اهلل حممد الطالب بال�صف ال�ساد�س‬ ‫االبتدائي» فقد قال برباءة‪� :‬أنا ال �أعرف معنى‬ ‫ال�تراث ولكني �أع��رف معنى كلمة �آث��ار‪ ،‬و�إذا‬ ‫كانت ت��راث مبعنى �آث��ار فهي الآث��ار املوجودة‬ ‫يف الأق�صر و�أ�سوان ومعبد �أبو �سنبل وم�سجد‬ ‫حممد علي بالقلعة ومتحف ُالآث ��ار واملتحف‬ ‫اال�سالمي ومتثال رم�سي�س وكل هذه الأماكن‪،‬‬ ‫و�أ�ستفيد من معرفة ال�تراث �أن �أع��رف بلدي‬ ‫وتاريخ بلدي‪.‬‬ ‫كما قال نحن نحتاج الرتاث دائم ًا لكي نتفرج‬ ‫عليه ويكون عندنا �سياح كثريون لأن م�صر‬ ‫بالدنا جميلة وفيها �آث��ار متنوعة والأج��ان��ب‬ ‫ي�ح�ب��ون زي��ارت �ه��ا‪ ،‬ل��ذل��ك ول�ل�أ� �س��ف مل �أق ��ر�أ‬

‫الناشئة‪ :‬التراث‬ ‫كلمة جميلة تعبر‬ ‫عن العراقة والقدم‬ ‫و الحضارة التي بناها‬ ‫األجداد‬

‫�شيئ ًا عن ال�تراث لكنني �سمعت و�شاهدت فى‬ ‫التليفزيون‪ ،‬كما �أن الكتب املدر�سية ومن خالل‬ ‫م��ادة الدرا�سات يوجد بها درو���س عن الآث��ار‬ ‫الفرعونية والإ�سالمية‪.‬‬ ‫ويقول �أي�ض ًا �إن امل�شهور عنده وعند �أ�صحابه‬ ‫احلكايات عن قدماء امل�صريني والفراعنة‪،‬‬ ‫ويتمنى �أن تقيم املدر�سة له ولزمالئه رحالت‬ ‫ليتعرفوا على بالدهم‪.‬‬ ‫وعن ر�أيه يف ال�صورة التي يقدمها الإعالم عن‬ ‫الرتاث يقول‪� :‬أنا ال �أقر�أ جرائد �إال بال�صدفة‬ ‫لكنني �أت �ف��رج على التليفزيون و�أ� �ش��ارك يف‬ ‫الإذاع�� ��ة امل��در� �س �ي��ة �أو م��ن خ�ل�ال م��در��س��ة‬ ‫الدرا�سات التي تتكلم معنا يف هذه املو�ضوعات‪.‬‬ ‫وي�ق��ول �إن التليفزيون �أك�ثر و�سيلة �إعالمية‬ ‫تعرفه معلومات عن الآثار «الرتاث» عن طريق‬ ‫الربامج التي تتكلم عن ال�سياحة والآثار‪ ،‬لكنه‬ ‫�أكد حبه ومتابعته لقناة نا�شيونال جيوجرافيك‬ ‫�أبوظبي لأنها «بتجيب حاجات كتري م�ش �آثار‬ ‫وب�س»! وي�ؤكد �أننا كم�صريني ال ميكن اال�ستغناء‬ ‫عن تراثنا و�آثارنا لأننا «بنحب بالدنا»‬


‫‪34‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫مدارات‬

‫مدارات‬

‫االنتقائية والشمولية‬ ‫في التراث العربي اإلسالمي‬ ‫�سادت‬

‫يف ر�ؤيتنا �إىل الرتاث العربي‬ ‫الإ�سالمي منذ ع�صر النه�ضة‬ ‫�إىل الآن ال��ر�ؤي��ة الأح ��ادي ��ة‪ .‬مت�ي��زت ه��ذه‬ ‫الر�ؤية باالنتقائية‪ ،‬وتتجلى يف �أن كل م�شتغل‬ ‫بالرتاث العربي يتعامل مع بع�ض جوانبه‪،‬‬ ‫معترب ًا ذلك �أف�ضل ما ميثله‪ ،‬وي�ستبعد ما‬ ‫يراه خمالف ًا ملا يت�صوره‪ .‬وق�سم الرتاث تبع ًا‬ ‫لذلك تق�سيمات عديدة‪ .‬فمنه ما هو �إيجابي‪،‬‬ ‫وما هو �سلبي‪ .‬ومنه ما هو متالئم مع ت�صور‬ ‫خا�ص بالدين وباملجتمع‪ ،‬وما هو غري متالئم‬ ‫معهما‪ .‬كما �أن منه ما هو تقدمي �أو رجعي‪،‬‬ ‫وما هو م��ادي �أو مثايل‪ ،‬وما هو عقالين �أو‬ ‫خرايف‪ ...‬هذا �إىل جانب التق�سيم التقليدي‬ ‫يف النظر �إىل الآداب والفنون بوجه عام‪� ،‬أي‬ ‫بني ما يندرج يف الثقافة «العاملة»‪ ،‬ونقي�ضه‬ ‫الذي يت�صل بالثقافة «ال�شعبية»‪.‬‬ ‫ي�شرتك يف حمل ه��ذه ال��ر�ؤي��ة وتقا�سمها كل‬ ‫من ا�شتغل ب��ال�تراث العربي من التقليديني‬ ‫واحلداثيني على ال�سواء‪ .‬ومبقت�ضى ذلك مت‬ ‫النظر �إىل ال�تراث وف��ق ما يج�سده من قيم‬ ‫ومت�ث�لات ينت�صر لها ه��ذا الفريق �أو ذاك‪،‬‬ ‫ويجد لها كل منهما ما يدعم ت�صوره للحياة‬ ‫والفكر باعتماد الرتاث نف�سه مادة للت�أويل �أو‬ ‫�أداة لل�صراع‪.‬‬

‫تنبني االنتقائية على خلفية �إيديولوجية‬ ‫وا�ضحة للعيان‪ .‬ف�إذا كان ال�سلفيون ومن لف‬ ‫لفهم يرون �أن التم�سك برتاث ال�سلف ال�صالح‬ ‫�أ�سا�س جتاوز التخلف‪ ،‬جند املاديني ومن �سار‬ ‫على منوالهم يكت�شفون زوايا �أخرى مناق�ضة‬ ‫من الرتاث العربي فيقدمونها دلي ًال على �أنها‬ ‫ركيزة التقدم‪ .‬وكل حزب مبا لديهم فرحون؟‬ ‫ال ميكننا تف�سري االنتقائية‪ ،‬فقط‪ ،‬باملوقف‬ ‫الإي��دي��ول��وج��ي ال ��ذي ينبني ع�ل��ى قناعات‬ ‫و�أنظمة فكرية ومعرفية يتم االنطالق منها‬ ‫خلفية لقراءة ال�تراث واتخاذ املوقف منه‪.‬‬

‫تنبني االنتقائية على‬ ‫خلفية إيديولوجية‬ ‫واضحة للعيان‪ .‬فإذا‬ ‫كان السلفيون ومن لف‬ ‫لفهم يرون أن التمسك‬ ‫بتراث السلف الصالح‬ ‫أساس تجاوز التخلف‪ ،‬نجد‬ ‫الماديين ومن سار على‬ ‫منوالهم يكتشفون زوايا‬ ‫أخرى مناقضة من التراث‬ ‫العربي فيقدمونها دليال‬ ‫على أنها ركيزة التقدم‪.‬‬ ‫وكل حزب بما لديهم‬ ‫فرحون؟‬

‫�إن كل الأط��راف تنطلق من واقعنا احلايل‪،‬‬ ‫وم��ا يزخر به من تناق�ضات وا�صطفافات‬ ‫�إيديولوجية جديدة‪ ،‬وتعمل على �إ�سقاطها‬ ‫على ال�ت�راث‪ ،‬باحثة م��ن خ�لال مواقفها‪،‬‬ ‫هنا والآن‪ ،‬عما ميكنها م��ن �سلطة ن�صية‬ ‫«م��رج�ع�ي��ة» م�ستمدة م��ن «ه �ن��اك» يف «م��ا‬ ‫م�ضى»‪ .‬ويف ه��ذا ت�أكيد على ع��دم القدرة‬ ‫على �إنتاج خطاب واقعي من�سجم ومتالئم‬ ‫مع �ضرورات الع�صر و�إكراهاته‪ ،‬من جهة‪.‬‬ ‫وم��ن جهة ثانية‪ ،‬ا�ستخدام ال�ت�راث‪ ،‬عرب‬ ‫توظيفه وتوريطه خلو�ض حروب‪ ،‬ال قبل له‪،‬‬ ‫وال عالقة له بها‪.‬‬ ‫�إن ك��ل الأط ��راف‪ ،‬وه��ي مت��ار���س االنتقائية‬ ‫يف تعاملها مع ال�تراث‪ ،‬بوعي �أو بغري وعي‪،‬‬ ‫ت�سلب منه «تاريخيتـه»‪ ،‬وت�سخرها خلدمة‬ ‫«واقعية» وهمية ومفتعلة‪� .‬آية تلك االنتقائية‬ ‫وه��ذا الت�سخري‪ ،‬جندها متجلية يف �أن كل‬ ‫طرف يقتطع ج��زء ًا من كل‪ ،‬وي�شكل �صورة‬ ‫حم��ددة ع��ن ال�ت�راث مب��ا يخدم م�صلحته‪،‬‬ ‫ويقدمها لنا على �أنها «ال�صورة» احلقيقية‬ ‫و«الكاملة»‪� .‬إنها الر�ؤية الأحادية والتجزيئية‬ ‫ل�ل�تراث‪ :‬فال�سني ي��رى ال�تراث فيما ات�صل‬ ‫بال�سنة واجلماعة‪ ،‬وال�شيعي يق�صره على ما‬ ‫ارتبط بال�شيعة‪ ،‬واملادي يركزه على ما اقرتن‬


‫�سعيد يقطني‬

‫بامللل والنحل‪ ،‬وال�صويف‪ ،...‬وهكذا دواليك‪.‬‬ ‫تعمل االنتقائية والتجزيئية على التعامل‬ ‫مع الرتاث ب�صفته جزر ًا ي�ستقل بع�ضها عن‬ ‫بع�ض‪ ،‬ولي�س باعتباره ك ًال متكام ًال غري قابل‬ ‫للتق�سيم �أو الت�شذير‪ :‬فـ«تهافت التهافت» ما‬ ‫كان ليكون لوال «تهافت الفال�سفة» مث ًال‪ .‬كما‬ ‫�أن اب��ن خ�ل��دون م��ا ك��ان ليكون ل��وال الطربي‬ ‫وامل�سعودي‪ ،‬وق�س على ذلك‪ .‬النظرة ال�شمولية‬ ‫ل �ل�تراث ال�ع��رب��ي الإ� �س�لام��ي نقي�ض ال��ر�ؤي��ة‬ ‫االنتقائية والتجزيئية التي هيمنت يف كل حقب‬ ‫الع�صر احلديث‪ ،‬ومن لدن كل الأطراف‪.‬‬ ‫تنبني ال��ر�ؤي��ة ال�شمولية على ال�تراب��ط بني‬ ‫خمتلف مكونات ال�تراث التي ت�شكلت على‬ ‫م��ر ال�ت��اري��خ‪ ،‬وجعلت ك��ل حلقاته مرتابطة‬ ‫وم�ت���ش��اب�ك��ة وم�ت�ف��اع�ل��ة م��ع بع�ضها بع�ض ًا‬ ‫مبختلف �أنواع التفاعل والت�شابك والرتابط‬ ‫التي نعرفها‪ ،‬والتي تذهب من املحاكاة �إىل‬ ‫املعار�ضة مرور ًا بالتحويل والتحوير‪.‬‬ ‫�إن ال �ف��رق ب�ي�ن ال��ر�ؤي �ت�ي�ن االن �ت �ق��ائ �ي��ة ـ‬ ‫التجزيئية وال�شمولية ـ التفاعلية فرق بني‬ ‫الت�أويل والفهم‪� ،‬أي بني الإيديولوجيا والعلم‪.‬‬ ‫وكل عالقتنا مع تراثنا ظلت عالقة ت�أويلية‬ ‫�إق�صائية و�إيديولوجية‪ ،‬ولذلك ظلت نظرتنا‬ ‫قا�صرة وحمدودة وعاجزة عن الإحاطة بكل‬

‫إن الفرق بين الرؤيتين‬ ‫االنتقائية ـ التجزيئية‪،‬‬ ‫والشمولية ـ التفاعلية‬ ‫فرق بين التأويل‬ ‫والفهم‪ ،‬أي بين‬ ‫اإليديولوجيا والعلم‪.‬‬ ‫وكل عالقتنا مع تراثنا‬ ‫ظلت عالقة تأويلية‬ ‫إقصائية وإيديولوجية‪،‬‬ ‫ولذلك ظلت نظرتنا‬ ‫قاصرة ومحدودة‬ ‫وعاجزة عن اإلحاطة‬ ‫بكل مكونات تراثنا في‬ ‫تنوعه وتعدده وغناه‬ ‫مكونات تراثنا يف تنوعه وتعدده وغناه‪� .‬إننا‬ ‫حني ن�ستبعد ج��زء ًا من ثراتنا لأننا ن��راه ال‬ ‫ميثلنا؟ منار�س �إق�صاء جلزء من ذاكرتنا‬ ‫امل�ستقبلية‪ ،‬ونلغيه م��ن دائ ��رة االه�ت�م��ام‪.‬‬ ‫وبذلك ال نتخذ‪ ،‬فقط‪ ،‬موقف ًا انتقائيا من‬ ‫«ت��راث» م��ا‪ ،‬ولكن ‪�،‬أي�ض ًا‪ ،‬من «�إن�سان» ما‬ ‫ي��رى �أن اجل��زء ال��ذي �أق�صيناه ميثله‪ .‬ويف‬ ‫ذل��ك تو�سيع ل�ل�ه��وة ب�ين م�ك��ون��ات املجتمع‬

‫العربي يف تنوعه وتعدده وغناه‪.‬‬ ‫عندما ننظر حالي ًا يف واقع الأمة العربية‬ ‫والإ�سالمية‪ ،‬وما يعرفه من ت�شرذم وانق�سام‬ ‫و�صراع‪ ،‬جند ج��زء ًا �أ�سا�سي ًا منه يعود �إىل‬ ‫مثل هذه املواقف االنتقائية من الرتاث‪ ،‬ومن‬ ‫الإن�سان‪ :‬فال�صراعات املذهبية والطائفية‬ ‫والع�صبية لي�ست �سوى جتليات لها‪ .‬كما �أن‬ ‫نزعات التكفري والتخوين «االتهام باالنتماء‬ ‫�إىل الإخوان‪ ،‬ولي�س فقط �إىل اخليانة» لي�ست‬ ‫�سوى تعبريات عن تلك الر�ؤيات التجزيئية‬ ‫والإق �� �ص��ائ �ي��ة ل�ل�آخ��ر«الإن �� �س��ان املختلف»‬ ‫ولـ«الرتاث الآخر» الذي ال نراه ميثلنا‪.‬‬ ‫بعد �أحداث احلادي ع�شر من �سبتمرب فر�ض‬ ‫علينا تبني خطاب «ح��وار احل�ضارات»‪ ،‬يف‬ ‫الوقت الذي ظل منظرو �أمريكا يتحدثون عن‬ ‫«�صدامها»‪ .‬فنظمنا امل��ؤمت��رات ح��ول حوار‬ ‫الأدي��ان وحول الت�سامح الديني‪ ،‬ولكننا‪ ،‬يف‬ ‫الوقت نف�سه‪ ،‬مل نعن باحلوار بني مذاهبنا‬ ‫الإ�سالمية وطوائفنا‪.‬‬ ‫حني نتبنى ر�ؤية �شمولية لرتاثنا فتلك بداية‬ ‫حتولنا نحو التفاعل الذي ميكننا من حتقيق‬ ‫معرفة علمية برتاثنا وبالت�سامح مع خمتلف‬ ‫املكونات العربية التي تت�صل بهذا الرتاث‬ ‫بدون متييز �أو �إق�صاء‬


‫ساحة الحوار‬ ‫‪36‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ال�شعر فن النخبة‪..‬تلك حقيقة‬

‫محمد‬ ‫الميموني‪:‬‬ ‫المراجعة الناقدة‬ ‫للتراث تضمن رقي‬ ‫حضارتنا‬


‫حاوره‪ -‬عبد الرحيم اخل�صار‬ ‫و�صلنا مدينة « تطوان»‪ ،‬و�س�ألنا عن العنوان الذي ي�سكن فيه‪ ،‬ف�أجابنا �أحدهم « من تريدون‬ ‫بالتحديد؟»‪ ،‬قلنا «حممد امليموين»‪ ،‬فا�ستوثق « ال�شاعر؟»‪.‬‬ ‫امليموين؛ ا�سم يعرفه جمتمع ال ُكتاب واملثقفني املغاربة‪ ،‬منوذج مبدع امتزج فيه املوروث الديني‬ ‫العربي‪ ،‬والثقافات املغربية والإ�سبانية والفرن�سية‪ .‬تعرفه مدينته باملثقف طيب القلب ووافر الأدب‪.‬‬ ‫�أحد رواد احلداثة املتفائلني واملحبني للأجيال ال�شعرية يف املنطقة‪.‬‬ ‫من مواليد «�شف�شاون» يف العام ‪1936‬م‪ ،‬جامعي‬ ‫ي�شتغل بالتعليم‪ ،‬بد�أ ن�شر �أعماله يف خم�سينيات‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬ن�صو�صه العميقة حتيل �إىل‬ ‫ال�س�ؤال امل�ستمر حول عاملنا �سريع التغري‪ .‬من‬ ‫�أعماله «�آخر �أعوام العقم»‪ ،‬و«احللم يف زمن‬ ‫الوهم»‪ ،‬و«طريق النهر»‪ ،‬و«ق�صائد �سائبة»‪.‬‬ ‫يف حوارنا ر�صدنا بدايات التكوين لل�شاعر‪،‬‬ ‫وعالقته بالرتاث الأدب��ي والن�ص الديني‪ ،‬يف‬ ‫حماولة لفهم التجربة ال�شعرية جليل بكامله‪.‬‬ ‫لنبد�أ م��ن الإره��ا��ص��ات الأوىل لتكوينكم‬ ‫ال�شعري‪ ،‬وهل للبيت �أو املدر�سة دور يف هذا‬ ‫التكوين؟‬ ‫احلقيقة �صادمة‪ ،‬فمدر�ستي منعدمة الأث��ر‪،‬‬ ‫�إذ مل تهتم بفن الكتابة‪ ،‬كما هو احلال يف دار‬ ‫لقمان �إىل الآن‪ ،‬با�ستثناء قلة من الأ�ساتذة‬ ‫متردوا على الن�صو�ص املك ّر�سة‪ .‬ولعل القائمني‬ ‫على و�ضع برامج التعليم يف بالدنا فاتهم ذلك‪،‬‬ ‫فكانت ال�صدف واملنا�سبات غري املربجمة‬ ‫متنف�سا للموهوبني م ّنا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫�أذك� ��ر ق��راءت��ي ق���ص�ي��دة ل���ش��وق��ي يف نهاية‬ ‫الأربعينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬القت ا�ستح�سان‬ ‫�أ�ساتذتي واملدعوين يف حفل مدر�سي‪ .‬ويف‬ ‫اخلم�سينيات يف ثانوية تطوان �شاركت مبحاولة‬ ‫�شعرية ع��ن قيمة الكتاب‪ ،‬على �إث��ره��ا متت‬ ‫دعوتي �إىل �إذاعة تطوان املحلية‪ ،‬ونلت «ديوان‬ ‫ابن زيدون» جائزة رمزية من مدير الإذاعة‪،‬‬ ‫وتلك بداية االنتباه احلقيقي �إىل م�ؤهالتي‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬وم��ن يومها وحتى الآن يالزمني‬

‫تم إهمال جيل الرواد‬ ‫في تاريخ الشعر‬ ‫المغربي المعاصر‬ ‫وقلما تجد إشارات‬ ‫خاطفة إلى دورهم‬ ‫ونصوصهم الحية‬ ‫هاج�س املحاولة كلما �أقدمت على كتابة ن�ص‪.‬‬ ‫حدثنا عن �سفرك بني مدن عدة للدرا�سة‬ ‫وع�ل�اق �ت��ه ب �ت �ج��رب �ت��ك ال �� �ش �ع��ري��ة يف ف�ت�رة‬ ‫ال�شباب؟‬ ‫يف منت�صف ال�ق��رن امل��ا��ض��ي‪ ،‬ك��ان��ت تطوان‬ ‫م��رك �زًا ثقافي ًا ف��اع� ً‬ ‫لا يف جيل ال ��رواد حيث‬ ‫الإ� �ص��دارات الثقافية متنوعة االهتمامات‪،‬‬ ‫منها «جملة املعتمد ال�شعرية» مزدوجة اللغة‬ ‫«عربية – �إ�سبانية»‪ ،‬ت�أثر جيل ال��رواد بها‪،‬‬ ‫وللأ�سف مت �إهمال هذا اجليل يف تاريخ ال�شعر‬ ‫املغربي املعا�صر‪ ،‬وقلما جتد �إ�شارات خاطفة‬ ‫�إىل دورهم ون�صو�صهم احلية‪ .‬ثم كانت الدار‬

‫اكتسبت ثروتي اللغوية‬ ‫ودرايتي باللغة العربية‬ ‫في (الكتّاب) وساعدني‬ ‫ذلك على قراءة الشعر‬ ‫العربي القديم وفهمه‬ ‫واالستمتاع به والتناغم‬ ‫مع عالمه‬

‫البي�ضاء مركز امل�غ��رب الثقايف وال�سيا�سي‬ ‫والفني والنقابي‪ ،‬كانت �إقامتي فيها مثمرة‪،‬‬ ‫ف�ك� َّون��ت َع�لاق��ات م��ع �شباب ي�ؤ�س�س ملغرب‬ ‫طموح ونا�ضج‪ ،‬وغلب على حماوالتهم طابع‬ ‫الع�صامية‪ ،‬وال�سذاجة وال�صدق‪.‬‬ ‫ويف ال�ستينيات اندجمت بكل كياين يف احلركة‬ ‫الطالبية يف الرباط وفا�س‪ ،‬والتي اجتهدت يف‬ ‫ن�شر القيم التقدمية وحتريك احلياة ال�سيا�سية‬ ‫وقتها‪ .‬وهو ما �صبغ جتاربي وقتها باملبا�شرة‬ ‫واحلما�س ون�ك��ران ال��ذات واالل �ت��زام بال َه ّـم‬ ‫اجلماعي‪.‬‬

‫ت�أثري الن�ص الديني‬

‫و�ضح لنا ت�أثري الن�ص الديني من خالل‬ ‫حفظك للقر�آن‪ ،‬يف حياتك ك�شاعر؟‬ ‫ك�أغلب جيلي يف جمتمع متم�سك بهويته الدينية‬ ‫والوطنية‪ ،‬كانت طفولتي يف ال ُكتاب القر�آين‪،‬‬ ‫و�شف�شاون رف�ضت التعاون مع االحتالل الذي‬ ‫م ّثل للآباء «تدخل الأجنبي الكافر»‪ ،‬بعد ت�آمر‬ ‫القوى اال�ستعمارية �ضد البطل «عبد الكرمي‬ ‫اخلطابي»‪ ،‬وبالتايل رف�ضت مدار�س االحتالل‬ ‫لفرتة طويلة‪ ،‬فكان التعليم الديني ً‬ ‫عو�ضا حتى‬ ‫عن تلك املدار�س الإ�سبانية التي تعاون بع�ض‬ ‫الأه ��ايل مم��ن يختلف فكرهم يف �إقامتها‪،‬‬ ‫جمايلي �إىل اكمال‬ ‫الأمر الذي �أحال كثري من‬ ‫ّ‬ ‫درا�ستهم يف «القرويني» بفا�س �أو ما يوازيها‪.‬‬ ‫وال�صدفة وحدها ما دفع بي للدرا�سة يف تلك‬ ‫امل��دار���س املختلطة يف ابتدائية �شف�شاون ثم‬ ‫ثانوية تطوان �أواخر العقدين الرابع واخلام�س‪.‬‬


‫ساحة الحوار‬ ‫‪38‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫الزميل عبد الرحيم اخل�صار يف بيت ال�شاعر حممد امليموين‬

‫يف «الكتّاب» اكت�سبت ثروتي اللغوية ودرايتي‬ ‫باللغة العربية و�أ�ساليبها و�إي�ق��اع مو�سيقاها‬ ‫املميز‪ ،‬وه��و ما �ساعدين على ق��راءة ال�شعر‬ ‫العربي القدمي وفهمه واال�ستمتاع به والتناغم‬ ‫مع عامله‪.‬‬ ‫و�أعرتف ب�أن كتابات «طه ح�سني» مما قر�أت؛‬ ‫�ساعدتني كث ًريا على هذا التذوق‪ ،‬وهو ما يف�سر‬ ‫ا�ستخدامي ل�صيغ قر�آنية و�أخ��رى من ال�شعر‬ ‫اجلاهلي وم��ا بعده م��ن الأم �ث��ال وامل�ق��ام��ات‪،‬‬ ‫وحم��اول �ت��ي لتوظيفه يف ف �� �ض��اءات وج��ودي��ة‬ ‫واجتماعية وت�أملية يف كتاباتي‪.‬‬

‫لعل جت��رب��ة عبد النا�صر يف م�صر وم��ا تبع‬ ‫سيظل الشعر ح ًيا‬ ‫ذلك من حركات ارتدادية يف عاملنا العربي‪،‬‬ ‫مهما تنكر له األميون‬ ‫و�ساعد على ظهور كتابات �سيا�سية ونقدية ال‬ ‫وإعالميو القارئ سهل‬ ‫عهد للقارئ العربي بها‪ ،‬والتغري يف ال�شكل‬ ‫االصطياد رخيص‬ ‫وامل�ضمون للق�صيدة العربية‪ ،‬هو ما جعلني‬ ‫التكلفة‪ ..‬وعلى الشاعر �أحت��ول للق�صيدة احلديثة وااله�ت�م��ام مبا‬ ‫يتطلع �إليه املواطن العربي‪ .‬وبا�ستثناء ذلك‬ ‫أن يستمر دون انتظار‬ ‫لترضية أو فليهجر الشعر ظلت بع�ض الأ�صوات تلوك �شعارات املا�ضي‬ ‫وتقلد املجيدين م��ن ��ش�ع��راء الكال�سيكية‬ ‫�أوج العطاء‪ .‬وحتى اليوم �أحتفظ ببع�ض الرفاق اجلديدة بقليل من التوفيق‪ .‬وهو ما ق�صر‬ ‫مثل عبد الكرمي الطبال‪ ،‬نتبادل نف�س االهتمام الكال�سيكية على املنا�سبات املفتعلة‪ ،‬و�ساد‬ ‫النمط احلداثي امل�شهد‪.‬‬ ‫ونتحاور بنف�س احلميمية واملتعة‪.‬‬

‫رف� ��اق ال �� �ش �ب��اب‪ ،‬م� ��اذا ع�ن�ه��م وع ��ن ق ��راءة‬ ‫م�سوداتكم بالتبادل‪ ،‬وتقا�سمكم اللذة الأوىل‬ ‫للن�ص وامل�سودات‪ ،‬ومن منهم ا�ستمر �أو توقف؟ التجربة النا�صرية ‪..‬وال�شعر‬ ‫كتابتكم للق�صيدة ال�شعرية احلديثة ما‬ ‫�شاركني كثريون ن�شوة الكتابة ولذتها التلقائية‬ ‫املبا�شرة‪ ،‬منهم من انقطع عن الكتابة‪� ،‬أو حتول داف�ع��ه‪ ،‬وكيف تخطيتم �أن�صار الكال�سيكية‬ ‫للنقد والق�صة‪ ،‬وهناك من غ ّيبهم امل��وت يف ال�شعرية العربية؟‬

‫اقر�أ تراثك بجر�أة‬ ‫ت��راث االن�سان هو املِف�صل الدقيق يف هويته‪ ،‬وعليه �أال ميل قراءته الواعية‬ ‫الناقدة بق�صد هدم الأوهام والت�صورات امل�سبقة التي ناق�ضت الرتاكم املعريف‬ ‫للإن�سان يف ع�صرنا‪ .‬لذا علينا �أن نعيد قراءة تراثنا بجر�أة تك�شف موقعنا منه‬ ‫وموقعه منا‪ ،‬بحيث نبني حا�ضراً وم�ستقب ً‬ ‫ال رافعته وركيزته تراثنا الإيجابي‪،‬‬ ‫وال نكتفي بجعله �سكناً ونهمل البناء ف��وق��ه �أو التطوير‪ ،‬و�إال انتهينا �إىل‬ ‫احل�ضي�ض للأبد‪ ،‬وال �شك يف م�ساهمة تراثنا املتينة يف البناء املعريف للح�ضارة‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬التي �ساهمت ح�ضارتنا العربية والإ�سالمية فيها بقدر عظيم‪.‬‬

‫جيلكم ب�شكل خا�ص‪ ،‬وال�شاعر املغربي على‬ ‫العموم‪ ،‬هل ت�شعر بظلم �إعالمي عربي من‬ ‫حيث ا�ستحقاق احل�ضور وال�ت��داول والقيمة‬ ‫الفنية؟‬ ‫ال�شعر فن النخبة‪ ،‬تلك حقيقة‪ .‬رمب��ا يكون‬ ‫ذلك ب�سبب قلة االهتمام الإعالمي‪ ،‬فهو �إعالم‬ ‫من�شغل با�صطياد الأميني كتابي ًا وفكري ًا بكل‬ ‫الإغ ��راءات‪ ،‬لذا على ال�شاعر �أن ي�ستمر دون‬ ‫انتظار الرت�ضية �أو اال�ستحقاق الإعالمي‪� ،‬أو‬ ‫فليهجر ال�شعر‪ ،‬فال�شعر �سيظل ح ًيا مهما تنكر‬ ‫له الأميون و�إعالميو القارئ �سهل اال�صطياد‬ ‫رخي�ص التكلفة‪ .‬وه�ن��ا �أ�سجل �أن ق�صيدة‬


‫ال�ستينيات كان حظها �أوفر‪ ،‬حيث �سادت قيم‬ ‫ثقافية و�سيا�سية مل ي�شوهها االبتذال والتحايل‬ ‫واللهاث وراء اجلاه بجهد �أقل‪.‬‬

‫املركز والهوام�ش!‬

‫قيا�ساَ م��ع احل���ض��ور ال�شعري يف امل�شرق‬ ‫العربي يف م�صر ولبنان غريهما‪� ،‬أال يعاين‬ ‫ً‬ ‫تهمي�شا؟ �أم �أن��ه يف‬ ‫ال�شعر املغربي احلداثي‬ ‫نظر النقاد واملُنظرين للأدب درجة ثانية؟‬ ‫احلق �أن قناعة مركزية بع�ض البلدان كم�صر‬ ‫ول�ب�ن��ان و�سبقهما يف ا�ستيعاب ال�ت�ح��والت‬ ‫الثقافية يومها‪ ،‬هو ما � ّأ�صل لذلك‪ ،‬ويف حني‬

‫ذات ال�شاعر‬ ‫ذات ال�شاعر تفر�ض عليه الإبداع‪،‬‬ ‫وال خيار له‪ ،‬وقارئ واحد يكفيه‪،‬‬ ‫وال �ق �� �ص �ي��دة وح��ده��ا ت�ب�ح��ث عن‬ ‫قارئها متى كانت ت�ستحق القراءة‪،‬‬ ‫وه��و ق��ارئ خا�ص‪ ،‬ال ن��ادر‪ .‬حتي‬ ‫ه�ؤالء �أ�صحاب ال�شهرة‪ ،‬قليل من‬ ‫يتذوقهم وي��درك �أ��س��رار كلمتهم‬ ‫ال�شعرية‪.‬‬ ‫ع�ل�م�ت�ن��ي ال �ع �ق��ود ال �ك �ث�يرة ال�ت��ي‬ ‫ق���ض�ي�ت�ه��ا ب���ص�ح�ب��ة ال �� �ش �ع��ر‪� ،‬أن‬ ‫ال���ش�ع��ر ال مي �ك��ن �أن ي���ص�ير ف� ًن��ا‬ ‫ج � �م ��اه �ي�ري � �اً �إال ب �ت �خ �ل �ي��ه ع��ن‬ ‫�أه ��م م �ق��وم��ات��ه‪ ،‬وه ��ي د�أب� ��ه على‬ ‫ال �ك �� �ش��ف ع ��ن ل �غ��ة خ �ف �ي��ة داخ ��ل‬ ‫ل �غ��ة اخل� �ط ��اب ال �ي��وم �ي��ة‪ .‬ه�ن��اك‬ ‫خ � �ل� ��ط ل� � � ��دى ال � �ك � �ث�ي��ري� ��ن ب�ي�ن‬ ‫«الواقع»و«ال�سائد»‪ ،‬وعند ه�ؤالء‬ ‫ف � � ��إن ال �� �ش �ع��ر ال� � ��ذي ال ي �ح��اك��ي‬ ‫م��ا ه��و � �س��ائ��د ب�ي�ن ع��ام��ة ال�ن��ا���س‬ ‫م��ن �إ� �ش��اع��ات و�أخ� �ب ��ار وه��واي��ات‬ ‫ول�غ��ط �سيا�سي و�إع�ل�ام ��ي‪� ،‬شعر‬ ‫غ�ير واق �ع��ي‪ ،‬وال��واق��ع الإن���س��اين‬ ‫يحتاج خيا ًال خ�صباً وعمقاً ودقة‬ ‫مالحظة وح��د���س‪ ،‬و�إدراك ذلك‬ ‫لي�س ب�سهولة‪ .‬و�أعرف �أن كثريين‬ ‫ال ي�شاركونني قناعتي تلك‪ ،‬لكن‬ ‫ه ��ذا م��ا خ�ل���ص��ت �إل �ي��ه جت��رب�ت��ي‪،‬‬ ‫وقد يكون غري �صواب‪.‬‬

‫ال غنى عن النقد‬ ‫المنهجي المحترف‪..‬‬ ‫ومن المؤسف أن‬ ‫يُصب اهتمام الكثير‬ ‫على أدوات القصيدة‬ ‫الشعرية وحواشيها ال‬ ‫على أحشائها‬ ‫مل يكن الأ�شقاء يف امل�شرق ت�شغلهم خارطة‬ ‫املركز والهام�ش‪ ،‬فرتى كتاب َا مغاربة �شاركوا‬ ‫ال�شرقيني يف ذلك‪ ،‬فتلهفوا على جمالت وكتب‬ ‫امل�شرق العربي ملا بها من منابع ذات مذاق‬ ‫جديد‪ ،‬وال �أرى غ�ضا�ضة يف االعرتاف بتلمذة‬ ‫الكثري من جيلنا مبا�شرة بال�سفر �إىل م�صر �أو‬ ‫العراق للدرا�سة يف جامعاتها التي �ضمت كتا ًبا‬ ‫ونقادًا ذائعي ال�صيت‪� ،‬أو بالتلمذة على قراءة‬ ‫�إبداعاتهم‪ ،‬وهو ما ظهر �أث��ره يف ال�صحافة‬ ‫والكتابة الإبداعية والنقدية يف املغرب‪ .‬وهنا ال‬ ‫نن�سى �أن التلميذ رمبا يتفوق على �أ�ستاذه‪ ،‬وال‬ ‫ينتق�ص ذلك من حق الأ�ستاذ‪ ،‬وهو ما غاب عن‬ ‫�أ�شقائنا‪� .‬أذكر حني دُعيت مع زمالء مغاربة‬ ‫للم�شاركة يف ندوة ثقافية يف الت�سعينيات يف‬ ‫«موا�سم �أ�صيلة الثقافية»‪ ،‬وارت�ضينا بحب‬ ‫وتقدير �إدارة ال�شاعر امل�صري «�أحمد عبد‬ ‫املعطي حجازي» للندوة‪ ،‬و�أتذكر من املغاربة‬ ‫احل�ضور « حممد ال�سرغيني» و« عبد الكرمي‬ ‫الطبال»‪ ،‬وم��ن امل�صريني الكثري‪ .‬ب��د�أ عبد‬ ‫املعطي حجازي بتقدمي ال�شعراء من خالل‬ ‫ُكتيب كان ُقدِّم لنا‪ ،‬و�أ�سهب يف الأو�صاف قبل‬ ‫كل �شاعر م�صري‪ ،‬يف حني ا�ستخف باملغاربة‪،‬‬ ‫بل و�أخذ يتعرث يف تهجئة �أ�سمائهم مبا يوحي‬

‫ال أرى غضاضة في‬ ‫االعتراف بتلمذة الكثير‬ ‫من جيلنا مباشرة‬ ‫بالسفر إلى مصر أو‬ ‫العراق للدراسة في‬ ‫جامعاتها التي ضمت‬ ‫كتّابا َ ونقاد ًا ذائعي‬ ‫الصيت أو بالتلمذة على‬ ‫قراءة إبداعاتهم‬

‫بجهله املطلق حتي بوجودها‪ .‬ورغم �أن ا�سمي‬ ‫جنا من التحريف‪ ،‬لكن �آث��رت االن�سحاب يف‬ ‫هدوء‪ ،‬فلم ترقني لهجة اال�ستخفاف باملغاربة‬ ‫ممن ال تقل قيمتهم وريادتهم عن الأ�شقاء‬ ‫امل�صريني‪ ،‬ومل �أ�س�أل ما حدث يف اجلل�سة بعد‬ ‫ان�سحابي‪ .‬و�أعتقد �أن داللة احلادثة وا�ضحة‬ ‫يف الإجابة على �س�ؤالك‪� .‬أما اليوم فقد تغريت‬ ‫خ��ارط��ة الثقافة و«مل يعد ه�ن��اك م��رك��ز وال‬ ‫هام�ش»‪.‬‬ ‫�أري��د �أن �أ�س�ألكم عن �سر �إ��ص��رار ال�شعراء‬ ‫املغاربة على طباعة دواوينهم طبعات خا�صة‪،‬‬ ‫رغ ��م �أن �ه��ا ال حت�ظ��ى ب��احل �ف��اوة الإع�لام�ي��ة‬ ‫وال�صحفية �أو املتابعة النقدية؟‬ ‫ذات ال�شاعر تفر�ض عليه الإبداع‪ ،‬وال خيار له‪.‬‬ ‫وقارئ واحد يكفيه‪ ،‬والق�صيدة وحدها تبحث‬ ‫عن قارئها متى كانت ت�ستحق القراءة‪ ،‬وهو‬ ‫ق��ارئ خا�ص‪ ،‬ال ن��ادر‪ .‬حتي ه ��ؤالء �أ�صحاب‬ ‫ال�شهرة‪ ،‬قليل من يتذوقون ويدركون �أ�سرار‬ ‫كلمتهمال�شعرية‪.‬‬ ‫علمتني العقود الكثرية التي ق�ضيتها ب�صحبة‬ ‫ال�شعر‪� ،‬أن ال�شعر ال ميكن �أن ي�صري ف ًنا‬ ‫جماهريي ًا �إال بتخليه عن �أهم مقوماته‪ ،‬وهي‬ ‫د�أب��ه على الك�شف عن لغة‪ ‬خفية داخ��ل لغة‬ ‫اخلطاب اليومية‪ .‬هناك خلط لدى الكثريين‬ ‫بني «الواقع» و«ال�سائد»‪ ،‬وعند ه�ؤالء ف�إن ال�شعر‬ ‫الذي ال يحاكي ما هو �سائد بني عامة النا�س‬ ‫من �إ�شاعات و�أخبار وهوايات ولغط �سيا�سي‬ ‫و�إعالمي‪� ،‬شعر غري واقعي‪ .‬والواقع الإن�ساين‬ ‫يحتاج خيا ًال خ�ص ًبا وعم ًقا ودق��ة مالحظة‬ ‫وحد�س‪ ،‬و�إدراك ذلك لي�س ب�سهولة‪ .‬و�أعرف‬ ‫�أن كث ًريا ال ي�شاركني قناعتي تلك‪ ،‬لكن هذا ما‬ ‫خل�صت �إليه جتربتي‪ ،‬وقد يكون غري �صواب‪.‬‬

‫خملفات �أزمنة االنحطاط‬

‫ب��ال�ت�ط�ب�ي��ق ع �ل��ى جت��رب �ت��ك م ��ع كتابيك‬ ‫«ال�شعر املغربي املعا�صر ‪ :‬عتبات التحديث»‪،‬‬ ‫و«��س�ب��ع خ �ط��وات رائ� ��دة ‪ :‬درا� �س��ة يف ال�شعر‬ ‫املغربي املعا�صر»‪ ،‬فهل الغياب الفادح لنقاد‬ ‫ال�شعر اليوم‪ ،‬يدفع مبمار�سة ال�شاعر كتابة‬ ‫النقد بني ق�صيدة و�أخري؟‬ ‫ال غنى عن النقد املنهجي امل�ح�ترف‪ ،‬ومن‬


‫ساحة الحوار‬ ‫‪40‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫املغربية احلديثة‪ ،‬ف�أعطى ث�م��اره يف �أوائ��ل‬ ‫ال�ستينيات‪ ،‬و�أرى �أن ت�صدي بع�ض �شعرائنا‬ ‫�إىل قراءة �شعر جمايليهم �أو متقدميهم كان‬ ‫من هذا القبيل‪ .‬فال يدرِك ما تكنه الق�صيدة‬ ‫من �أ�سرار �إال من يكابد كتابتها‪ .‬‬ ‫بعد ك��ل ه��ذا ال�ت�ح��ول ال��ذي ع��رف��ه �أدب�ن��ا‬ ‫ال �ع��رب��ي‪ ،‬ه��ل ت��راه��ن ع�ل��ى ال���ش�ع��ر امل�غ��رب��ي‬ ‫وم�ستقبله؟‬ ‫ج��ر�أة ما يبدعه ال�شعراء ال�شباب اليوم ال‬ ‫يدعونا �إىل ال�ت�خ��وف‪ ،‬ب��ل ال�ترق��ب مل�ستقبل‬ ‫�شعري ق��د ُيده�شنا‪ .‬ول�ع��ل ات���س��اع هام�ش‬ ‫نوعا من الرقابة الذاتية‬ ‫احلرية والتحرر ً‬ ‫التي حتد من �آفاق الإبداع‪� ،‬أراه الدافع لهذا‬ ‫امل�ستقبل الواعد‪ .‬‬ ‫حوار الأجيال ‪ ..‬ال�شعراء امليموين والبازي وبني�س‬

‫االنت�صار لقيم احلداثة على‬ ‫الرتاث‬

‫كيف ت��ري دع��وات الأج�ي��ال اجل��دي��دة ملا‬ ‫امل ��ؤ� �س��ف �أن ُي���ص��ب اه �ت �م��ام ال�ك�ث�ير على هناك صنف نادر من‬ ‫ميكن �أن يُ�سمى االنت�صار لقيم احل��داث��ة‬ ‫�أدوات الق�صيدة ال�شعرية وح��وا��ش�ي�ه��ا‬ ‫الكثريينال النقاد سكنهم الشعر‬ ‫على الرتاث‪ ،‬بل ومقاطعته �إن لزم؟‬ ‫على �أح�شائها‪ .‬وال ننكر �أن النقاد‬ ‫تراث االن�سان هو املِف�صل الدقيق يف هويته‪،‬‬ ‫ينجزون حتليالت نقدية عميقة‪ ،‬فيدركون ما فاختاروا التعبير عن‬ ‫وع�ل�ي��ه �أال مي��ل ق��راءت��ه ال��واع �ي��ة ال�ن��اق��دة‬ ‫مل يدركه ال�شاعر نف�سه‪ .‬وذلك منوط بالنقد حبهم وتذوقهم له‬ ‫املعني بتطور ال�شعر‪ .‬وللحقيقة هو �صنف نادر بقراءة عوالمه طواعية بق�صد ه��دم الأوه��ام والت�صورات امل�سبقة‬ ‫ّ‬ ‫التي ناق�ضت الرتاكم املعريف للإن�سان يف‬ ‫من النقاد‪ .‬و�أراهم ي�سكنهم ال�شعر‪ ،‬فاختاروا ال عجز ًا عن قوله‬ ‫ع�صرنا‪ .‬ل��ذا علينا �أن نعيد تراثنا بجر�أة‬ ‫التعبري عن حبهم وتذوقهم له بقراءة عوامله‬ ‫طواعية ال عجزًا عن ق��ول ال�شعر املبا�شر‪� .‬شعراء قبلي تخطوا بع�صاميتهم خملفات تك�شف موقعنا م�ن��ه وم��وق�ع��ه م�ن��ا‪ ،‬بحيث‬ ‫ويف جتربتي النقدية حاولت قراءة ما �أجنزه �أزم�ن��ة االنحطاط‪ ،‬و�أ�س�سوا ملدر�سة ال�شعر نبني حا�ضر ًا وم�ستقب ًال رافعته وركيزته‬ ‫تراثنا الإي�ج��اب��ي‪ ،‬وال نكتفي بجعله �سكن ًا‬ ‫ونهمل البناء فوقه �أو التطوير‪ ،‬و�إال انتهينا‬ ‫املركز والهام�ش‬ ‫�إىل احل�ضي�ض للأبد‪ .‬وال �شك يف م�ساهمة‬ ‫�أذكر حني دُعيت مع زمالء مغاربة للم�شاركة يف ندوة ثقافية يف الت�سعينيات يف تراثنا املتينة يف البناء املعريف للح�ضارة‬ ‫«موا�سم �أ�صيلة الثقافية»‪ ،‬وارت�ضينا بحب وتقدير �إدارة ال�شاعر امل�صري «�أحمد الإن�سانية التي �ساهمت ح�ضارتنا العربية‬ ‫عبد املعطي حجازي» للندوة‪ ،‬و�أتذكر من املغاربة احل�ضور«حممد ال�سرغيني» والإ�سالمية فيها بقدر عظيم‪.‬‬

‫و«ع�ب��د ال�ك��رمي الطبال» ‪ ،‬وم��ن امل�صريني الكثري‪ .‬ب��د�أ عبد املعطي حجازي‬ ‫بتقدمي ال�شعراء من خالل كتيب كان ُق�دِّم لنا‪ ،‬و�أ�سهب يف الأو�صاف قبل كل‬ ‫�شاعر م�صري‪ ،‬يف حني ا�ستخف باملغاربة‪ ،‬بل و�أخذ يتعرث يف تهجئة �أ�سمائهم‬ ‫مبا يوحي بجهله املطلق حتي بوجودهم‪ .‬ورغم �أن ا�سمي جنا من التحريف‪� ،‬إال‬ ‫�أنني �آثرت االن�سحاب يف هدوء‪ ،‬فلم ترقني لهجة اال�ستخفاف باملغاربة ممن ال‬ ‫تقل قيمتهم وريادتهم عن الأ�شقاء امل�صريني‪ ،‬ومل �أ�س�أل عما حدث يف اجلل�سة‬ ‫بعد ان�سحابي‪ .‬و�أعتقد �أن داللة احلادثة وا�ضحة‪� .‬أما اليوم فقد تغريت خارطة‬ ‫الثقافة ومل يعد هناك مركز وهام�ش‪.‬‬

‫ن��ود �أن ن�ق�ترب م��ن نظرتكم احلقيقية‬ ‫وموقفكم من الرتاث من خالل جتربتكم‬ ‫ال�شعرية؟‬ ‫ب��الإح��ال��ة �إىل م��ا �أج �ب��ت ب��ه ع��ن ال �� �س ��ؤال‬ ‫ال�سابق ف��إن �ش�أن ال�تراث الأدب��ي ج��زء من‬


‫يف حوار مع ال�شاعر عبد اللطيف اللعبي رفقة ال�شاعرين عبد الكرمي الطبال و عبد اللطيف البازي‬

‫�ش�أن ال�تراث احل�ضاري ال�ع��ام‪ ،‬ف ��إذا كان‬ ‫ذلك قاب ًال للمراجعة والتمحي�ص وهو غري‬ ‫حم�صن وال م�ن��زه‪ ،‬يجب �أن يظل مو�ضوع‬ ‫�أخ��ذ ورد‪ ،‬وليتنا ن��دم��ن امل��راج�ع��ة والنقد‬ ‫فذلك عالمة �صحة وب�شارة نه�ضة‪.‬‬ ‫بعد اثنني و�سبعني �سنة‪ ،‬ت�صبح عمود‬ ‫اخل �ي �م��ة يف امل� �ه ��رج ��ان ال ��وط �ن ��ي ل�ل���ش�ع��ر‬ ‫احل��دي��ث ب���ش�ف���ش��اون يف دورت ��ه اجل��دي��دة‪،‬‬ ‫فهل تقر�أ ذلك التكرمي كبطاقة اعرتاف‬ ‫وحب من املدينة لك؟‬ ‫جميل �أن يذكرك اجليل ال�لاح��ق‪ ،‬فيطلق‬ ‫ا�سمك على دورة امل �ه��رج��ان‪ ،‬فهو �شرف‬ ‫و�سعادة �أعادتني �إىل �صيف ‪1965‬م حيث‬ ‫ال �ف��رح ال�ب�ريء ح�ين كلفني الأخ� ��وة يف «‬ ‫جمعية �أ��ص��دق��اء املعتمد» بتقدمي فقرات‬ ‫املهرجان الأول يف �سبتمرب من العام نف�سه‪.‬‬ ‫و�أراها التفاتة طيبة منهم تعك�س تقديرهم‬ ‫لتوا�صل ال�سل�سلة ال�شعرية الذهبية‪ ،‬وتعك�س‬ ‫وعيهم وترفعهم عن �سخافة �صراع الأجيال‬ ‫التي تفرزها ذهنية مر�ضية موتورة‪ .‬وهناك‬ ‫من اجلنود املجهولني من ي�ستحق التكرمي‬

‫كتابات «طه حسين»‬ ‫ساعدتني على التذوق‬ ‫ودفعتني الستلهام‬ ‫صيغ قرآنية وأخرى‬ ‫من الشعر الجاهلي‬ ‫واألمثال والمقامات‬ ‫وتوظيفها في كتاباتي‬ ‫مم��ن ق ��دم ال�ت���ض�ح�ي��ات واجل �ه��د ح �ب � ًا يف‬ ‫الثقافة وال�شعر‪ ،‬ممن عانوا �سلطوية خانقة‬ ‫يف ال��دورات الأوىل للمهرجان يف طليعتهم‬ ‫الأ��س�ت��اذ «حممد �أح��رمي »�أم� � ّد اهلل عمره‪.‬‬ ‫ومثل ه�ؤالء يجب االنتباه لهم‪.‬‬

‫قصيدة الستينيات كان‬ ‫أوفر حظ ًا حيث سادت‬ ‫قيم ثقافية وسياسية‬ ‫لم يشوهها االبتذال‬ ‫والتحايل واللهاث وراء‬ ‫الجاه‬

‫ثيمة احللم يف جتربتكم ال�شعرية‪� ،‬أراها‬ ‫حا�ضرة يف ن�صو�ص متعددة مثل «احللم يف‬ ‫زمن الوهم» ‪ ،‬وكذلك ن�صكم املعنون «يبد�أ‬ ‫الآن م��ا ي �ت��واىل» ال ��ذي تختتمه مبقطع‬ ‫«ن �ه��ر �أح�ل�ام��ي ي �ج��ري‪ /‬ع�ك����س م��ا ت�ه��وى‬ ‫ال��ري��اح املو�سمية » ‪ ..‬يف اخل�ت��ام �أال ت��زال‬ ‫حاملًا‪ .‬وهل هناك مت�سع حللم جديد؟‬ ‫احللم هو اخليال اخلالق‪ ،‬وحلم اليقظة ال‬ ‫يخالف احلقيقة‪ ،‬و�إال فهو الوهم وال�سراب‬ ‫املتقم�ص �شكل احلقيقة‪ ،‬واحل��امل ال ميكن‬ ‫لل�سراب �أن يخدعه‪ ،‬ب��ل يتجاوزه مقتنع ًا‬ ‫ب��وج��ود م�ن�ب��ع زالل خم �ت��ف وراء خديعة‬ ‫ال�سراب تلك‪ .‬كتبت دي��واين الثاين ما بني‬ ‫�أواخ ��ر ال�ستينيات ومطلع ال�سبعينيات‪،‬‬ ‫حني كان الوهم �سائد ًا‪ ،‬فكان احللم اليقظ‬ ‫�سالحي يف الإ�صرار على جتاوز هذا الوهم‪.‬‬ ‫نعم‪� ،‬أح�ل��م وال �أت��وق��ف وغ�يري ع��ن احللم‬ ‫ب�ي�ق�ين حت�ق��ق م��ا حلمنا ب ��ه‪ ،‬و�أن ال م��رد‬ ‫الكتماله‬


‫ساحة الحوار‬ ‫‪42‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫هرِّج‬ ‫متفر ِّ ُج الم َ‬ ‫ال ُ‬ ‫حممد امليموين‬

‫ْ‬ ‫�شخ�ص �ساه ْر‪،‬‬ ‫وي�سامره ح ْل ٌم ٌ‬ ‫يقظ ناعم ْ‬ ‫بني ال َغ ْفوة والغفو ِة‬ ‫ي�أتيه قرينـ ُ ْه‬ ‫ويح ّذر ُه من حمتالٍ‬ ‫يلهو ب�سذاجتهِ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الواثق‬ ‫وهو‬ ‫مِ ن �صدق امل�ؤتـ َ َمن اخلائنْ ‪،‬‬ ‫خال�ص‬ ‫لوال خطف ُة نو ٍم‬ ‫ْ‬ ‫ملتب�س الوجهْ‪،‬‬ ‫الغائب‬ ‫يبدو فيها‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يتبني يف َ‬ ‫ال�صبح‬ ‫و�ضح‬ ‫ِ‬ ‫�أن اخلطفة كانت حدْ�ساً‬ ‫واحلل َم ر�سالة َ �إنذارٍ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫�شخ�ص مي�شي‬ ‫النا�س‬ ‫يف زحمة �أفواج ِ‬ ‫ال يرى‬ ‫مِ ن بني الرائح والغادي �أحداً‬ ‫�إال فرداً‬ ‫َيجذِ ب كل حوا�سه‬ ‫و ُيخدّر قدْراتِه‪.‬‬ ‫اجلاذب‬ ‫املنجذب على �أَثــَر‬ ‫يخطو‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُي�صغي جلميع و�صايا ُه‬ ‫هو رائدُه الواح ْد‬ ‫يف ُربع متاهتِه اخلايل‪،‬‬ ‫مالحم ُه‬ ‫امل�سلوب‬ ‫خلـَع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ال�سالب‬ ‫وتـَلـ َّب�س �شخ�صي َة‬ ‫ْ‬ ‫غائب‪.‬‬ ‫فهُما �شخ�صان ح�ضو ُرهما ْ‬ ‫ال�شخ�صينْ محَ ا‬ ‫َمن يف‬ ‫َ‬

‫�أث َر الثاين؟‬ ‫�شخ�صانِ‬ ‫ْ‬ ‫ميدان‬ ‫على هام�ش‬ ‫ينتظران الفرج َة‬ ‫ٌ‬ ‫مك�شوف عا ٍر‬ ‫وامل�سر ُح‬ ‫والــُّر ْك ُح بال �أ�ستار ْ‬ ‫رقب‬ ‫وعيونـُهما تـَتـ َ ُ‬ ‫باب ْ‬ ‫زقاق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫�ص قِر ٍد‬ ‫ع َّل ُم َر ِقـ ّ َ‬ ‫غرائب‪.‬‬ ‫ا�ص‬ ‫�أو قــ َ ّ�ص َ‬ ‫ْ‬ ‫يبدو من نفـَقٍ‬ ‫�أو ركن مهجو ْر‪،‬‬ ‫ف َيطول وقو ُفهما‬ ‫�صاخب‪.‬‬ ‫وال�ساحة ُميدان‬ ‫ْ‬ ‫ف�إذا بعيون النا�س حتا�صر ر ْكـ َنهما‬ ‫إعجاب‪،‬‬ ‫وتـُحيطهما بتحيات ال ْ‬ ‫عينْ ٌ تدعو عيناً‬ ‫لرتى ما مل تره من قـ ْب ْل‪.‬‬ ‫قال ال�شخ�صان معاً‬ ‫ِّ‬ ‫وال�شك‬ ‫وهما بني الده�شة‬ ‫و�أحال ِم الي ْقظة‪:‬‬ ‫هي عيون النا�س مفـَتـّح ٌة‬ ‫ها َ‬ ‫لكنّ مالم َح �أوج ُههِم ُك ٌ‬ ‫تل‬ ‫مِ ن طني خا ْم‬ ‫�أتـُرى هل ت�أْلفـُنا‬ ‫ت�ستغرب من غربتنا‬ ‫�أم‬ ‫ُ‬ ‫�أم ت�ضحك �أم تبكي؟‬ ‫ال فرق َ!‬ ‫فما يف ال ُّر ْكح وال امليدانِ‬ ‫�سوى العبِ دو ٍر‬

‫َي ْح�سب �أن الآخ َر‬ ‫مو�ضو ُع فكاهت ِه‬ ‫و ُم َه ِّر ُج ُفرجت ِه‬ ‫وهو املتفرج وحد ُه‬ ‫واحل َك ُم الناقدْ‪.‬‬ ‫�شخ�ص َي ْ�سرد ق�صة‬ ‫تـَفـْلِت من بني ت َذ ُّكره وتنا�سي ِه‬ ‫� ُ‬ ‫أزمان حوادثها‬ ‫و�شخو�ص حتقـُّقِها‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت�شر ُد ع ْك�س ُمراده‬ ‫أ�شخا�ص منها‬ ‫يتمرد �‬ ‫ٌ‬ ‫وي ُقودون الأحداث َ�إىل جهة �أخرى‬ ‫مل تخطر يف خلَد ال�سار ْد‪.‬‬ ‫عبثا حاول �أن َيـكبح �سل�سل َة‬ ‫الأحداث‬ ‫َ‬ ‫أ�شخا�ص‪،‬‬ ‫ويخفف من ن َزق ال‬ ‫ْ‬ ‫لكنْ‬ ‫من ي ْقدر �أن يتحكم يف النزواتْ‬ ‫َ‬ ‫ويفكك ح ْلقاتِ الزمن الدائب؟‬ ‫نف�س ُه ‪،‬‬ ‫بل من ُينجي ال�سار َد َ‬ ‫وهو البطل ال ُ‬ ‫أول‪،‬‬ ‫مما مل يتوق ْع‬ ‫من خامتة يف املنعطف احلا�س ْم!‬ ‫مار�س ‪2010‬‬


‫ـعث‬ ‫َ‬ ‫ذات ب َ ْ‬ ‫هنا �إن�سان ال �شيء لدي ِه‬ ‫ْ‬ ‫الزمان‬ ‫�إال وهلة‬ ‫وال ُيعري �سمعا لإح�صائيات املوتِ‬ ‫لكن ي�سمع ا ُ‬ ‫خلطى‬ ‫ووق َع الليل والنها ِر‬ ‫وتعاقبِ الأيا ْم‬ ‫وي�شكر الهــ ِباتِ امل�ستمر ِة‬ ‫التي تبدو عفوي ًة‬ ‫داني َة القـ ُ ْ‬ ‫طوف ‪:‬‬ ‫ا ُ‬ ‫حلـل َم‪،‬‬ ‫والـتن ُّف َ�س املعتادَ‪،‬‬ ‫والوجيب َ‪،‬‬ ‫ومذا َق ماء النب ِع‬ ‫وحتي َة ال�صبا ْح ‪.‬‬ ‫وقد يـَلقى يوما ‪،‬‬ ‫على غري ميعا ٍد ‪،‬فرح ًة‬ ‫تـُلقي �إليه ورد ًة‬ ‫ْ‬ ‫خجول‬ ‫�أو ب�سم ًة‬ ‫و�أم ً‬ ‫ال بال م�ستقبل وال �أوها ْم‪،‬‬ ‫لكنه يـَخِ ُّف الحت�ضانها‬ ‫ومي�شي يف وداعها امتناناً‬ ‫حتى تختفي يف غيمة ٍ‬

‫�أو ظِ ٍّـل �أو غبا ٍر‬ ‫ري‪.‬‬ ‫�أو منعطف �أخ ْ‬ ‫يعي �أن الوقت الذي يحيا ُه‬ ‫ني غيباً ‪،‬‬ ‫كان قبـ ْ َل ح ٍ‬ ‫ها قد �صار الآن غاربا‬ ‫يخبو �شيئا ف�شيئاً‬ ‫ْ‬ ‫الالزمان ‪.‬‬ ‫يف زمان‬ ‫من يدري‬ ‫قد تزدهر اجلذو ُر َ‬ ‫ذات بعثٍ‬ ‫املوت حتـْفاً‬ ‫وميوت ُ‬ ‫املن�سي‬ ‫ويحيا النــ ِّ ْ�س ُـي‬ ‫ُ‬ ‫يف �أزمنة الديمْ ومة ‪.‬‬ ‫هنا � ٌ‬ ‫إن�سان‬ ‫ال يرى �سِ وى نه ٍر مِ ن زمن وماء‬ ‫ذي �سبعة وجو ٍه‬ ‫وفواتٍ وثباتْ‬ ‫ُّ‬ ‫والكل ماء غارق يف املا ِء‬

‫وانعكا�س‬ ‫ومر�آة‬ ‫ٌ‬ ‫وبخار وقــ َ َّطارة‪.‬‬ ‫النجم‬ ‫ورمبا يرى �أكوانا يف �شعاع‬ ‫ِ‬ ‫�أو يف الط ْم ِي‬ ‫�أو يف ا ُ‬ ‫حل ِلم‬ ‫الهباب‪.‬‬ ‫�أو تطاي ِر‬ ‫ْ‬ ‫وقد يرى يف زرقة الكواكب العليا‬ ‫�إ َلهاً �صامتا قدميا متحديا‬ ‫يـُغريه باكت�شاف الكيميا ِء‬ ‫والطال�سم التي تـُميت َ‬ ‫املوت‬ ‫ِ‬ ‫وتـُفني مبعجزاتها الفنا ْء‬ ‫ولكنّ الإغراء ينتهي �إىل �إغوا ْء‬ ‫التبا�س‬ ‫وينتهي الكل �إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫اليقظان‬ ‫بني ما يراه احلامل‬ ‫وحدو ِد �أر�ض ال�صح ِو‬ ‫مل املنا ْم‪.‬‬ ‫وعوا ِ‬ ‫دي�سمرب‬

‫‪2009‬‬


‫‪44‬‬

‫بدائع الزهور‬

‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫تلك‬ ‫المسافة‬

‫جمال الغيطاين‬

‫ال�شعر‬

‫العربي القدمي واحلديث جزء من زادي الروحي اليومي‪� .‬أبد�أ‬ ‫وقتي به‪� ،‬أقر�أه ب�صوت مرتفع‪ ،‬وما يجد �صدى عندي �أنقله يف‬ ‫كرا�سات متمه ًال‪ ،‬وبخط �أحاول قدر الإمكان �أن يكون جمي ًال‪ ،‬وخالف كتابتي‬ ‫للأبيات التي وقع عليها اختياري‪� ،‬أجد متعة خا�صة‪ ،‬رمبا م�صدرها الإيحاء‬ ‫النف�سي ب�أنني �أ�شارك ب�شكل ما يف �إبداعها ملجرد ن�سخي لها‪.‬‬ ‫ومن خالل ق�صائد ال�شاعر �أحاول �أن �أر�سم �صورة ملالحمه احل�سية والنف�سية‪،‬‬ ‫�صورة تقريبية‪ ،‬غائمة‪ ،‬لكنني �أتلم�س جاهد ًا املالمح قدر الإمكان؛ فامل�سافة‬ ‫الفا�صلة تكون �شا�سعة‪ ،‬بني موقعي من الزمان واملكان وموقعهم هم الذي‬ ‫�أ�صبح نائي ًا ق�صي ًا‪ ،‬وكان ممكن ًا �أن يفنى متام ًا ويطويه القدم‪ ،‬لوال ما و�صلنا‬ ‫لدي �صورة خا�صة بكل منهم‪ ،‬بد ًء من �شعراء‬ ‫من �أ�شعارهم‪ ،‬هكذا ‪� ..‬أ�صبح ّ‬ ‫الع�صر اجلاهلي‪ ،‬وحتى �شعراء القرن التا�سع ع�شر الذين مل ت�صل �إلينا‬ ‫مالحمهم عرب لوحات �أو �صور‪ ،‬وهذه املالمح من �صياغة ذاكرتي‪ ،‬نابعة‬ ‫من �إبداعهم‪ ،‬و�أبيات ق�صائدهم‪ ،‬وبال �شك ف��إن �صورة ام��رئ القي�س يف‬ ‫خميلتي تختلف متام ًا عن مالمح �أبو نوا�س‪� .‬أو العبا�س بن الأحنف‪� ،‬أو و�ضاح‬ ‫اليمن‪� ،‬أو جمال الدين بن نباته‪ ،‬وابن الفار�ض ‪ ..‬وغريهم‪ ،‬ال �أكتفي بتذوق‬ ‫�أ�شعارهم فقط‪ ،‬ولكنني �أنقب عن تفا�صيل حياتهم و�أخبارهم‪ ،‬وما �أكرث ما‬ ‫حفظته امل�صادر الرتاثية‪.‬‬ ‫ودائم ًا كنت �أ�شعر بالتعاطف مع ه��ؤالء ال�شعراء‪ ،‬خا�صة �أولئك الذين ال‬ ‫ميتلكون غري مواهبهم‪ ،‬كان ال�شاعر م�ضطر ًا دائم ًا �إىل �أن ميدح �أ�صحاب‬ ‫ال�سلطان واجلاه حتى ي�ضمن قوته ومعا�شه‪ ،‬حتى �إذا تغري خاطر ال�سلطان‬ ‫عليه �أو غ�ضب منه مل يجد مفر ًا اال ا�سرت�ضائه بق�صيدة �أو الهرب يف الربية‬ ‫بحث ًا عن م�أمن‪.‬‬ ‫كثري ًا ما توقفت عند ق�صائد املتنبي التي مدح فيها رج��ال ع�صره الذين‬ ‫عرفهم‪ ،‬بدء ًا من �سيف الدولة احلمداين �إىل كافور‪� ،‬إىل بع�ض الأ�شخا�ص‬ ‫الو�ضيعني الذين كانوا يحتلون منا�صب �صغرية مثل ابن كرو�س الأعور‪ ،‬كان‬ ‫املتنبي �شديد الإح�سا�س بذاته‪ ،‬وكثري ًا ما حاولت �أن �أتخيل تلك اللحظات‬ ‫التي يجد نف�سه فيها �أمام �صاحب �سلطة‪ ،‬ال �شك �أنه ي�شعر داخله بتفوقه‬ ‫يف مواجهته ولكنه م�ضطر �إىل املديح‪� .‬أحاول �أن �أتخيل م�شاعره‪ ،‬و�أحواله‬ ‫النف�سية‪ ،‬بل ومالمح وجهه‪ ،‬كان املديح و�سيلة ال�شاعر للتقرب من �أ�صحاب‬ ‫ال�سلطة واجل��اه‪ ،‬ويف حم��اول��ة م��ن ال�شاعر للتكيف م��ع ال��واق��ع‪ ،‬والح�ترام‬ ‫ذاته‪� ،‬أوجد ال�شعر وال�شاعر هذا ال�شكل القدمي لق�صيدة املديح‪ ،‬فاجلزء‬ ‫الأول منها يبد�أ بالغزل يف املحبوبة وهنا تتحقق ذات ال�شاعر كاملة‪� .‬أو‬ ‫تبد�أ الق�صائد بالت�أمل يف �أح��وال الكون خا�صة تقلبات الدهر‪ ،‬والزمان‪،‬‬ ‫و�صروف الأحداث‪ ،‬وي�ستمر ال�شاعر هكذا ثم ينتقل فج�أة �أو بالتدريج �إىل‬ ‫ذكر املمدوح والتغزل فيه‪ ،‬و�أحيان ًا ي�ضطر ال�شاعر �إىل التعبري عن نف�سه‬ ‫يف مطلع غريب‪ ،‬مثري للت�أمل‪ ،‬و�أتوقف عند املتنبي‪ ،‬هذا ال�شاعر العبقري‪،‬‬ ‫و�أحد الأ�صوات ال�شعرية الفريدة يف تاريخ الب�شرية‪ .‬فلطاملا حاولت النفاذ‬


‫بدائع الزهور‬ ‫�إىل دخائله‪ ،‬وت�صور �أفكاره التي كان يغم�ض عينيه عليها �إذ‬ ‫ي�سعى �إىل الو�سن‪ ،‬فكيف جتتمع تلك املتناق�ضات مع ًا‪ :‬هذا‬ ‫ال�شعور القوي بالذات‪ ،‬وذلك ال�سعي املحموم �إىل ال�سلطة‪.‬‬ ‫مما ا�ستدعى نظم هذا املديح كله الذي يبدو يف موا�ضع كثرية‬ ‫�سخيف ًا‪ ،‬مبالغ ًا فيه‪ ،‬ومل يكن طموح هذا ال�شاعر العظيم �إال‬ ‫احل�صول على من�صب وايل �إحدى املقاطعات يف م�صر‪ ،‬كان‬ ‫يطمح �إىل �أن يهبه كافور والية الفيوم‪� ،‬أي من�صب يوازي يف‬ ‫ع�صرنا من�صب املحافظ‪ ،‬هذا ال�شاعر العظيم‪ ،‬كان طموحه‬ ‫�أن ي�صبح حمافظ ًا‪ ،‬ومن �أجل ذلك �أن�شد ق�صائد املديح يف‬ ‫كافور‪ ،‬حتى �إذا �شعر �أن كافور يراوغه‪� ،‬أن�شد يف جمادي‬ ‫الآخرة �سنة �ست و�أربعني وثالث مئة تلك الق�صيدة التي يقول‬ ‫يف مطلعها‪:‬‬

‫َك � �ف� ��ى ِب � � � � َ�ك دا ًء �أَن َت � � � ��رى امل َ� � � � � � َ‬ ‫�وت �� �ش ��ا ِف� �ي ��ا‬ ‫َو َح � � � �� � � � �س� � � � ُ�ب امل َ� � � �ن � � ��اي � � ��ا �أَن َي� � � � � ُك � � � ��نَّ �أَم � � ��ا ِن� � � �ي � � ��ا‬ ‫ت � � � َّن � � �ي � � � َت � � �ه� � ��ا لمَ ّ� � � � � � ��ا مَ َ‬ ‫مَ َ‬ ‫ت � � � � َّن � � � �ي� � � ��تَ �أَن َت� � � ��رى‬ ‫� �َ ��ص � ��دي� � �ق� � �اً َف� � � ��أَع� � � �ي � � ��ا �أَو َع � � � � � � � � � � ُد ّواً ُم � ��داجِ � � �ي � ��ا‬ ‫�إِذا ُك � � �ن� � ��تَ َت � ��ر� � �ض � ��ى �أَن َت � �ع � �ي � ��� � َ�ش ِب � � ��ذِ َّل� � � � ٍة‬ ‫َف � �ل � ��ا َت� � � ��� � � �س� � � � َت� � � � ِع� � � � َّد َّن ا ُ‬ ‫حل � � � �� � � � �س� � � ��ا َم ال� � � َي� � �م � ��ا ِن� � �ي � ��ا‬ ‫ومت�ضي الأبيات الرائعة معربة عن قلق املتنبي‪ .‬وخوفه‪ ،‬وبعد‬ ‫حوايل ع�شرين بيت ًا‪ ،‬ي�ضطر �إىل بدء املديح‪ ،‬فال�سلطان‪� ،‬سواء‬ ‫كان كافور �أو �سيف الدولة �أو �أي �شخ�ص �آخر‪ ،‬يف �أي زمان �أو‬ ‫مكان‪ ،‬يريد �أن ي�سمع ما يدل عليه مبا�شرة‪ ،‬هنا يقول املتنبي‪:‬‬

‫ر اجلِ � �� � �س � � ُم يف ال � ��� �َ�س� ��ر ِج را ِك � �ب � �اً‬ ‫ِب � � � َع� � ��ز ٍم َي� ��� �س�ي� ُ‬ ‫ر ال� � � َق� � �ل � � ُ�ب يف اجلِ � � ��� � �س � � ِ�م م ��ا� �ِ�ش� �ي ��ا‬ ‫ِب � � � � � ِه َو َي � � �� � � �س� �ي � ُ‬ ‫َق � � � ��وا� � ِ� � ��ص� � � � � َد ك� � � � ��اف� � � � ��و ٍر َت � � � � � � � � � � � ��وار َِك َغ � � �ي � � � ِ�ر ِه‬ ‫َو َم� � � � ��ن َق � ��� َ��ص � � َد ال � � َب � �ح � � َر ِا� � �س � � َت � � َق � � ُّ�ل ال� �� � َ�س ��وا ِق� �ي ��ا‬ ‫ن َزم� � � ��ا ِن � � � � ِه‬ ‫َف� � � � �ج � � � ��اءَت ِب � � �ن� � ��ا ِ�إن � � � �� � � � �س� � � ��ا َن َع � � �ي� � � ِ‬ ‫َو َخ � � � � � � َّل� � � � � ��ت َب � � �ي � � ��ا� � � �ض � � �اً َخ � � �ل � � � َف � � �ه� � ��ا َو َم� � � � ��آ ِق� � � � �ي � � � ��ا‬ ‫�شتان ما بني اجلزء الأول من الق�صيدة واجلزء الثاين الذي‬ ‫يحوي ذلك املديح‪ ،‬رغم �أن هذه الق�صيدة بالذات يف حاجة‬

‫�إىل وقفة �أطول‪ ،‬لأن مطلعها خمتلف متام ًا عن ق�صائد املدح‬ ‫الأخرى‪ ،‬وكثري ًا ما �أتخيل �أن املتنبي كان يعرب عن كراهيته‬ ‫لكافور واحتقاره له‪ ،‬عندما ي�ستهل ق�صيدته بقوله ( َكفى‬ ‫ِب َك دا ًء �أَن تَرى ا َملوتَ �شا ِفيا)‪ ،‬تلك االزدواجية عند ال�شاعر‬ ‫ما تزال يف حاجة �إىل درا�سة‪� ،‬إىل ت�أمل �أطول‪ ،‬لقد حاول فن‬ ‫ال�شعر العربي �أن يحل تلك االزدواجية عندما جل�أ ال�شعراء‬ ‫�إىل هذا ال�شكل لق�صيدة املديح‪ .‬ولكنه كان �أبلغ تعبري عن‬ ‫تلك االزدواجية يف موقف ال�شاعر العربي‪ ،‬وال�شعر العربي‬ ‫نف�سه‪ ،‬التعبري ال���ص��ادق ع��ن ال ��ذات‪ ،‬وامل��دي��ح امل�صطنع‬ ‫�سعي ًا وراء ا�سرت�ضاء ال�سلطان �أو طلب ًا لر�ضائه‪ .‬وهذا‬ ‫موجود حتى الآن‪ ،‬عرفت �شاعر ًا كبري ًا موهوب ًا تخ�ص�ص‬ ‫يف مديح رئي�س عربي معا�صر‪� ،‬إذا قر�أت �شعره املعرب عن‬ ‫ذاته �ستجد �شعر ًا �صادق ًا‪ ،‬يفي�ض معاناة و�إح�سا�س ًا باملوت‬ ‫وبانطواء احلياة ال�سريع‪ ،‬و�إذا �سمعت ق�صائد مدحه �سوف‬ ‫جتد جلجلة وت�شبيهات ذات رنني‪ ،‬يف ق�صائده الأوىل ي�ستخدم‬ ‫�شعر التفعيلة‪ ،‬ويف ق�صائد املدح يلج�أ �إىل الق�صيدة العمودية‬ ‫والأوزان التقليدية لأن املديح هنا ي�ستلزم ال�صنعة‪ ،‬ولذلك‬ ‫يبدو ال�شكل التقليدي �أن�سب و�أ�سهل‪.‬‬ ‫وخالل مطالعتي لأخبار ال�شعراء‪ ،‬وخالل ت�أملي لعالقاتهم‬ ‫بال�سلطة‪ ،‬كنت �أتوقف �أمام الطرف الآخر‪� ،‬أ�صحاب ال�سلطة‬ ‫�أنف�سهم‪ ،‬فبقدر حر�صهم على �إر�ضاء ال�شعراء والإغ��داق‬ ‫عليهم‪ ،‬وا�سرت�ضائهم �سعي ًا ل�سماع مديحهم بقدر �سرعة‬ ‫غ�ضبهم وق�سوة العقاب ال��ذي ينزلونه بال�شعراء �إذا بدر‬ ‫منهم ما يخالف‪� .‬أحيان ًا كان �أ�صحابا ال�سلطان ي�ستخفون‬ ‫بال�شعراء ويتخذونهم ك�أدوات للت�سلية‪ .‬ومن العبارات التي‬ ‫تتكرر كثري ًا يف م�صادر الرتاث‪ ،‬ما يقوله ال�سلطان لل�شاعر‪:‬‬ ‫قل لنا �شعر ًا يف ذلك‪ .‬وذلك يكون يف بع�ض الأحيان نوع من‬ ‫احللوى‪� .‬أو منظر طبيعي‪� .‬أو �شيئ ًا ما‪ ،‬و�سرعان ما يرجتل‬ ‫ال�شاعر اجلاهز دائم ًا بع�ض الأبيات‪ ،‬فيبدي �صاحب ال�ش�أن‬ ‫�إعجابه ور�ضاه‪ .‬وي�أمر بهدية �أو منحة‪.‬‬ ‫تلك امل�سافة بني ال�سلطان وال�شاعر‪ ،‬تلك امل�سافة بني ما‬ ‫يبطنه ال�شاعر وما يظهره‪ ،‬تلك امل�سافة بني الن�صف الأول‬ ‫للق�صيدة حيث تعرب ال��ذات عن نف�سها ب�صدق‪ ،‬والن�صف‬ ‫الثاين حيث �أبيات املديح امل�صنوعة‪ ،‬املّبالغ فيها‪ ،‬التي تثري‬ ‫ال�سخرية �أحيان ًا ‪-‬من خالل القراءة املعا�صرة‪ ،‬تلك امل�سافة‬ ‫متثل �أح��د اجل��وان��ب ال�سلبية يف الثقافة العربية قدمي ًا‪..‬‬ ‫وحتى الآن‬


‫وجه في المرآة‬ ‫‪46‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬


‫�شهيد الإ�صالح‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬

‫رائد المقاومة بالقول والفعل‬ ‫القاهرة ‪ -‬حممد ال�شافعي‬ ‫الت�صارع مع الأقدار م�س�ألة «حمالة �أوجه»‪ ،‬فعندما تختارنا الأقدار ف�إما �أن تدفعنا �إىل «�شرنقة‬ ‫االبتالء واالختبار»‪ ،‬و�إما �أن تدفع بنا �إىل ف�ضاءات رحبة من ن�شوة الفوز واالنت�صار‪ ،‬وعندما ن�سعى‬ ‫نحن �إىل �إقدارنا ف�إما �أن ن�سعى �إىل «برج �سعدنا» و�إما �أن نهوي �إىل «حفرة حتفنا»‪ ،‬ويف كل الأحوال‬ ‫ف�إننا نختار ما نعلم‪ ،‬وجنرب على ما ال نعلم‪ .‬و�إذا كانت الأقدار اختارت ال�شيخ الكواكبي لي�صبح‬ ‫مبعوث العناية الإلهية لتنوير الوجدان العربي ف�إنه قد اختار �أن يفعل ذلك كما ينبغي فعله‪.‬‬ ‫عبدالرحمن بن �أحمد بن ال�سيد م�سعود‬ ‫ابن عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬ميتد ن�سبه من‬ ‫الأب والأم �إىل الإم��ام على بن �أبي طالب‪،‬‬ ‫عن طريق الإم��ام احل�سني‪ ،‬ولذلك فلي�س‬ ‫غريب ًا �أن ي�صبح الكواكبي �شهيد ًا؛ فهو‬ ‫�سليل ال�شهداء‪.‬‬ ‫ول�ك��ن ل�ن�ب��د�أ م��ن حلظة امل�ي�لاد حيث ولد‬ ‫عبد الرحمن يف مدينة حلب عام ‪1854‬م‪،‬‬ ‫وكان والده يعمل مدر�س ًا باجلامع الأموي‪،‬‬ ‫وبعد خم�س �سنوات فقط من ميالده ماتت‬ ‫وال��دت��ه‪ ،‬رمب��ا ليعمل القدر على �أن ي�شتد‬ ‫ع��وده وي�صبح �صلب ًا �أم��ام ال�شدائد‪ ،‬وبعد‬ ‫�أن ماتت الأم �أخذته خالته �إىل حيث تعي�ش‬ ‫يف «�أن �ط��اك �ي��ة» ل�ي�ب��د�أ رح�ل�ت��ه م��ع التعليم‬ ‫وليتعلم �أي�ضا اللغتني الرتكية والفار�سية‬ ‫مما �أعطاه بعد ذلك فر�ص ًا �أكرب للقراءة‬ ‫واالطالع باللغات الثالث‪ :‬العربية والرتكية‬ ‫والفار�سية‪ .‬وبعد عدة �أعوام عاد الكواكبي‬ ‫�إىل حلب ليلتحق باملدر�سة الكواكبية حيث‬

‫تعلم العلوم الدينية وال�ل�غ��وي��ة‪ ،‬ث��م در���س‬ ‫العلوم الريا�ضية والطبيعية‪ .‬وق��د ات�سم‬ ‫الكواكبي بال�شجاعة املفرطة والتي كانت‬ ‫تت�سق مع طموحاته الالحمدودة ‪ ..‬وقد بد�أ‬ ‫حياته العملية مرتجم ًا يف مطبعة الوالية‪،‬‬ ‫ثم عمل يف جريدة «ف��رات» وهي اجلريدة‬ ‫الر�سمية يف ذل��ك ال��وق��ت وك��ان عمره ‪22‬‬ ‫�سنة وقد ت�صادف �أن بد�أ الكواكبي حياته‬ ‫ال�صحفية مع تويل ال�سلطان عبداحلميد‬ ‫ال�سلطنة يف ع ��ام ‪1876‬م‪ ،‬وق ��د ارت�ب��ط‬ ‫كالهما بالآخر ارتباط م�صري من خالل‬ ‫���ص��راع م��ري��ر ح �ي��ث ات �� �س��م ع�ب��داحل�م�ي��د‬

‫عالوة على أن‬ ‫الكواكبي مصلح مجدد‬ ‫امتلك الشجاعة على‬ ‫مواجهة الطغيان فهو‬ ‫أول مفكر عربي يكرس‬ ‫حياته إلخراج كتاب عن‬ ‫االستبداد‬

‫بالديكتاتورية واال�ستبداد والعنف بينما‬ ‫ك ��ان ال �ك��واك �ب��ي ث ��ائ ��ر ًا � �ض��د اال� �س �ت �ب��داد‬ ‫والديكتاتورية‪.‬‬ ‫ورغ��م �أن ج��ري��دة «ف���رات» ك��ان��ت جريدة‬ ‫ر�سمية �إال �أن كتابات الكواكبي كانت مليئة‬ ‫بالغمز واللمز �ضد ال�سلطان عبداحلميد‬ ‫فتم �إع �ف��ا�ؤه م��ن العمل ب��اجل��ري��دة ف�أن�ش�أ‬ ‫جريدة «ال�شهباء» وهى �أول جريدة عربية‬ ‫يف ح �ل��ب‪ ،‬وق��د �أ� �ص �ي��ب ك��ام��ل ب��ا��ش��ا وايل‬ ‫امل��دي�ن��ة ب��ال��ذع��ر مم��ا يكتب يف ال�شهباء‬ ‫فقرر تعطيلها وت�ك��رر ه��ذا التعطيل حتى‬ ‫�أ��ص��درت اجل��ري��دة ‪ 16‬ع��دد ًا ومت �إغالقها‬ ‫لأنها جتر�أت على انتقاد الواىل وال�سلطان‬ ‫بينما ك��ان��ت بقية ج��رائ��د ال�سلطنة تخلع‬ ‫على ال�سلطان عبداحلميد ك��ل الأل �ق��اب‪.‬‬ ‫وبعد عامني ت��وىل جميل با�شا نامق �شيخ‬ ‫وزراء ال��دول��ة العثمانية والي��ة حلب وك��ان‬ ‫الكواكبي قد ح�صل على ترخي�ص بجريدة‬ ‫�أخرى �أ�سماها «االعتدال» ت�صدر بالعربية‬


‫وجه في المرآة‬ ‫‪48‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ال�شيخ علي يو�سف‬

‫حممد ر�شيد ر�ضا‬

‫وال�ترك �ي��ة وام� �ت�ل��أت ه��ى الأخ � ��رى بنقد‬ ‫الواىل وال�سلطان لتلحق بعد ع�شرة �أعداد‬ ‫فقط بال�شهباء فلم يتوقف الكواكبي حيث‬ ‫�أر�سل مقاالته ب�أ�سماء م�ستعارة �إىل جرائد‬ ‫ب�يروت والأ�ستانة كما افتتح مكتب ًا يجمع‬ ‫م��اب�ين «ال�ع��ر��ض�ح��اجل��ى» وامل �ح��ام��ي فكان‬ ‫يكتب �شكاوى النا�س �ضد ال��وايل وبطانته‬ ‫كما ك��ان ي�تراف��ع �أم ��ام امل�ح��اك��م مل�صلحة‬ ‫الغالبة وال�ضعفاء حتى �أطلق عليه العامة‬ ‫«�أبوال�ضعفاء» وحتول مكتب الكواكبي اىل‬ ‫ندوة يتجمع فيها كل �أعداء الوايل لل�شكوى‬ ‫واالع�ترا���ض مما �أدى �إىل ت�ضييق ال��وايل‬ ‫على الكواكبي مما ا�ضطره �إىل غلق مكتبه‬ ‫ولزوم منزله‪� .‬إال �أنه ا�ستمر يف تتبع ف�ضائح‬ ‫وفظائع ال��وايل و�إر��س��ال�ه��ا �إىل ك��ل مكان‪،‬‬

‫رأى أن الحرية تمثل‬ ‫«شجرة الخلد» التي‬ ‫تستحق التضحية ألنها‬ ‫«روح الدين» واعتبر‬ ‫العلم أهم مظاهرها‬ ‫وقد تعر�ض ال��وايل يف ذلك الوقت ملحاولة‬ ‫اغتيال فوجدها فر�صة و�أمر بالقب�ض على‬ ‫الكواكبي بتهمة التحري�ض ولكن ال�سلطان‬ ‫�أم��ر بنقل جميل با�شا �إىل احل�ج��از و�أت��ى‬ ‫بعثمان با�شا ليتوىل والية حلب ف�أفرج عن‬ ‫الكواكبي وعمل على تقريبه وتر�ضيته فعينه‬ ‫رئي�س ًا للبلدية ولكن الكواكبي كان نوع ًا من‬ ‫الرجال غري قابل «للبيع �أو ال�شراء» حيث‬

‫ا�ستلهام الآخر‬ ‫ال غ�ضا�ضة يف �أن يكون الكواكبي ا�ستلهم �إطار كتابيه «طبائع اال�ستبداد» و«�أم‬ ‫القرى» من كتابي «يف اال�ستبداد» لفيتوريو الفيريى‪ ،‬و«م�ستقبل الإ�سالم»‬ ‫لويلفريد �سكاون بلنت‪.‬‬ ‫فقد ق��ر�أ الكواكبي كتاب الفيريي «يف اال�ستبداد» يف طبعته الرتكية التي‬ ‫ترجمها عبداهلل جودت‪ ،‬ودفعه هذا الكتاب ليعي�ش بكليته يف تلك الأفكار التي‬ ‫كانت ت�سكن خالياه ووجدانه حيث يعي�ش فع ً‬ ‫ال يف ظل حكم ا�ستبدادي بغي�ض‪،‬‬ ‫فراح الكواكبي يطرح الفكرة من خالل تراثه الإ�سالمي ومن خالل جتربته‬ ‫احلية ف�أخرج لنا كتاباً جديداً وغري م�سبوق يف الثقافة العربية والإ�سالمية‪.‬‬ ‫كما �أنه من خالل موقفه من �ألفيريي وبلنت يقدم لنا منوذجاً ملا يجب �أن‬ ‫يكون عليه تعامل املثقف العربي مع «الآخر» حيث يجب �أال ننفي هذا «الآخر»‬ ‫كما يجب �أال نقف منه موقف «العمالة الفكرية» �أو موظف العالقات العامة‬ ‫الذى يروج لأفكار هذا الآخر‬

‫كانت مبادئه هي التي حتكم كل ت�صرفاته‬ ‫ولذلك مل يتحمل الواىل �أفكار و�إ�صالحات‬ ‫الكواكبي فعزله بعد �أ�سبوع واح��د‪ ،‬وبعد‬ ‫فرتة جاء عارف با�شا والي ًا على حلب وكان‬ ‫مرت�شي ًا و�سيئ ًا فهاجمه الكواكبي بعنف‬ ‫ف�ترب����ص ب��ه ال ��وايل ح�ت��ى وق��ع ح�ج��ر على‬ ‫قن�صل �إيطاليا وهو ي�سري بعربته يف ال�شارع‬ ‫الذي ي�سكن فيه الكواكبي فتم القب�ض عليه‬ ‫وتقدميه �إىل حمكمة �صورية حكمت عليه‬ ‫بالإعدام فطلب نقل حماكمته �إىل بريوت‬ ‫وا�ستطاع احل�صول على �شهادة من قن�صل‬ ‫�إيطاليا تنفي عنه التهمه فتمت براءته‪.‬‬ ‫وع� ��اد ع �ث �م��ان ب��ا� �ش��ا وال� �ي� � ًا حل �ل��ب فعني‬ ‫ال�ك��واك�ب��ي رئي�س ًا لغرفة ال�ت�ج��ارة ف��أع��اد‬ ‫تخطيط ك��ل ��ش��يء فيها وح�ق��ق جناحات‬ ‫كبرية وبعد عامني ق��دم ا�ستقالته و�سافر‬ ‫� �س��ر ًا �إىل الأ� �س �ت��ان��ة ليجمع م ��ادة كتابه‬ ‫«طبائع اال�ستبداد» ثم عاد �إىل حلب ليتم‬ ‫تعينه «رئي�س ال�ك� ّت��اب» عند قا�ضى حلب‬ ‫ول�ك�ن��ه مل ي�غ�ير ��ش�ي�ئ� َا م��ن ط�ب��ائ�ع��ه فكان‬ ‫م���ص�يره الإع �ف��اء م��ن ه��ذه ال��وظ�ي�ف��ة مثل‬ ‫غريها‪ ،‬وعند ه��ذا احل��د �أدرك الكواكبي‬ ‫�أن طريقه مع ال�سلطة م�سدود حيث اليغريه‬ ‫وعد وال يخيفه وعيد كما �أن �صفاته التي‬ ‫جمعت ال�شجاعة وع��زة النف�س وب�ساطة‬ ‫الطبع ول�ين املع�شر وم�ساعدة ال�ضعفاء‬ ‫ون�صرة املظلومني والإميان بكرامة الإن�سان‬ ‫والقدرة على املواجهة وال�صدام‪ ،‬كل هذه‬ ‫ال�صفات حددت موقعه من ال�سلطة وخا�صة‬ ‫�سلطة الطغيان‪ ،‬بل ال نغايل اذا قلنا �إنها‬ ‫قد ح��ددت موقع كل مثقف من �أى �سلطة‬ ‫حيث البد للمثقف �أن يقف دوم ًا على «ي�سار‬ ‫ال�سلطة» ينحاز �إىل الغالبية من الغالبة‬ ‫وامل�ظ�ل��وم�ين ي��داف��ع عنهم ��ض��د جت ��اوزات‬ ‫ال�سلطة‪.‬‬

‫الهروب �إىل م�صر‬

‫املهم �أن الكواكبي �أ��ش��اع �أن��ه م�سافر �إىل‬ ‫الأ�ستانة وا�صطحب معه �إبنه كاظم «كان‬ ‫لديه �أرب��ع بنات وخم�سة �أوالد» ويف بريوت‬


‫ال�سلطان عبد احلميد الثاين‬

‫ركب ال�سفينة �إىل م�صر �سعي ًا �إىل «وطن‬ ‫ف�ك��رى» يخت�ص �أف�ك��اره ور�ؤاه‪ ،‬وق��د �سعى‬ ‫ال�ك��واك�ب��ي �إىل م�صر لأن �ه��ا كعبة الفكر‬ ‫ولأنها يف ذلك الوقت كانت ت�شهد حراك ًا‬ ‫ثقافي ًا و�سيا�سي ًا و�أفكار ًا �إ�صالحية �أ�شاعها‬ ‫الأفغانى وتلميذه حممد عبده‪ ،‬تلك الأفكار‬ ‫التي تتقاطع يف كثري من ر�ؤاه��ا مع �أفكار‬ ‫الكواكبي‪ ،‬ولي�س هذا فقط‪ ،‬ولكن اخلالف‬ ‫ب�ي�ن اخل��دي��و ع �ب��ا���س ال �ث��اين وال���س�ل�ط��ان‬ ‫عبداحلميد جعل الكواكبي مت�أكد ًا من �أن‬ ‫�سفينة خماوفه البد و�أن تر�سو على �شاطئ‬ ‫الأم��ن يف م�صر بعد كثري من ال�صراعات‬ ‫واملطاردات‪.‬‬

‫الرحالة كاف وال�سيد الفراتي‬

‫يف القاهرة بد�أ الكواكبي ين�شر مقاالته عن‬ ‫اال�ستبداد يف جريدة «امل ��ؤي��د» ل�صاحبها‬ ‫ال�شيخ على يو�سف‪ ،‬وكانت املقاالت تُن�شر‬ ‫با�سم م�ستعار هو «الرحالة ك» وظن النا�س‬ ‫�أنها لل�شيخ حممد عبده‪ ،‬ولكن العداء الذي‬ ‫كان بني علي يو�سف وحممد عبده �أكد �أن‬ ‫هذه املقاالت لكاتب �آخر‪.‬‬ ‫كما بد�أ الكواكبي ين�شر �أجزا ًء من كتابه «�أم‬ ‫القرى» يف جريدة «املنار» ل�صاحبها ال�شيخ‬ ‫حممد ر�شيد ر�ضا‪ ،‬ويف ه��ذا الكتاب �أتى‬ ‫الكواكبي بفكرة مبتكرة حيث جمع علماء‬ ‫امل�سلمني من كل ال��دول الإ�سالمية �أثناء‬ ‫احل��ج يف مكة و�أدار على �أل�سنتهم ح��وار ًا‬

‫الإمام حممد عبده‬

‫أكد الكواكبي على‬ ‫ضرورة الفصل بين‬ ‫السلطات التنفيذية‬ ‫والتشريعية والقضائية‬ ‫للحد من سلطة الحاكم‬ ‫المطلق‬ ‫حول �أ�سباب ت�أخر امل�سلمني وكيفية الق�ضاء‬ ‫على هذا الت�أخر وكانت هذه املقاالت تن�شر‬ ‫با�سم م�ستعار �أي�ض ًا هو «ال�سيد الفراتي»‪.‬‬ ‫وقبل �أن نتجول يف رح��اب هذين الكتابني‬ ‫اللذين ميثالن ثورة فكرية حقيقية نتوقف‬ ‫قلي ًال عند املنابع الفكرية لهذين الكتابني‬ ‫حيث �أكد بع�ض النقاد �أن الكواكبي قد جاء‬ ‫بالإطار الأ�سا�سي لكتابه طبائع اال�ستبداد‬ ‫من كتاب «يف اال�ستبداد» للكاتب امل�سرحي‬ ‫الإي� �ط ��ايل «ف �ي �ت��وري��و ال �ف �ي�يرى ‪– 1749‬‬ ‫‪ ،»1803‬كما جاء بالإطار الأ�سا�سي لكتابه‬ ‫�أم ال�ق��رى م��ن كتاب «م�ستقبل الإ��س�لام»‬

‫ربط دعاوى اإلصالح‬ ‫بالتعليم وصرخ قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫«يا قوم تشكون من‬ ‫الجهل وال تنفقون‬ ‫على التعليم نصف ما‬ ‫تصرفون على التدخين»‬

‫ت�أليف «ويلفريد �سكاون بلنت»‪.‬‬ ‫ول�ل�إن �� �ص��اف ف� ��إن ه ��ذه الأق ��اوي ��ل حتمل‬ ‫بع�ض احلقيقة‪ ،‬حيث قر�أ الكواكبي كتاب‬ ‫الفيريي «يف اال�ستبداد» يف طبعته الرتكية‬ ‫التي ترجمها عبداهلل ج��ودت‪ ،‬وق��د دفعه‬ ‫هذا الكتاب ليعي�ش بكليته يف تلك الأفكار‬ ‫التي كانت ت�سكن خالياه ووج��دان��ه حيث‬ ‫يعي�ش فعال يف ظل حكم ا�ستبدادي بغي�ض‪،‬‬ ‫ف��راح الكواكبي يطرح الفكرة م��ن خالل‬ ‫تراثه الإ�سالمي ومن خالل جتربته احلية‬ ‫ف�أخرج لنا كتابا جديد ًا وغري م�سبوق يف‬ ‫الثقافة العربية والإ�سالمية‪ .‬ال�شيء نف�سه‬ ‫حدث مع كتاب «م�ستقبل الإ�سالم» ت�أليف‬ ‫«بلنت»‪.‬‬ ‫ويقدم لنا موقف الكواكبي من �ألفيريي‬ ‫وبلنت منوذج ًا ملا يجب �أن يكون عليه تعامل‬ ‫امل�ث�ق��ف ال�ع��رب��ي م��ع «الآخ� ��ر» ح�ي��ث يجب‬ ‫�أال ننفي ه��ذا «الآخ��ر» كما يجب �أال نقف‬ ‫منه موقف «العمالة الفكرية» �أو موظف‬ ‫العالقات العامة ال��ذي ي��روج لأفكار هذا‬ ‫الآخر‪.‬‬ ‫الكواكبي علمنا �أن نقف �أم��ام هذا الآخر‬ ‫م��وق��ف «ال �ن��دي��ة» رغ �ب��ة م �ن��ا يف «ت�لاق��ح‬ ‫الأفكار» لأن هذا التالقح هو الذي �سيعمل‬ ‫على ميالد �أفكار ور�ؤى حقيقية مثل الأفكار‬ ‫التي �أتى بها الكواكبي يف كتابيه الرائدين‪،‬‬ ‫و�أك��ب��ر دل��ي��ل ع �ل��ى �أن ال �ك��واك �ب��ي ك��ان‬ ‫«م�ستلهم ًا» ومل يكن «ناق ًال» �أن �ألفيريي كان‬ ‫يرى يف القوة املخرج الرئي�سي للق�ضاء على‬ ‫اال�ستبداد‪ ،‬وهذا ما ذهب �إليه الأفغاين‪،‬‬ ‫بينما كان الكواكبي يرى �أن تعليم ال�شعب‬ ‫ه��و احل ��ل ل�ك��ل �إ�� �ص�ل�اح‪ ،‬وه ��ذا م��ا ذه��ب‬ ‫اليه ال�شيخ حممد عبده‪ ،‬وع�لاوة على �أن‬ ‫الكواكبي م�صلح جمدد امتلك ال�شجاعة‬ ‫على مواجهة طغيان ال�سلطان عبداحلميد‬ ‫ف�إنه ميتلك �أي�ضا �سبق ال��ري��ادة لأن��ه �أول‬ ‫مفكر عربى يكر�س حياته لإخ��راج كتاب‬ ‫عن اال�ستبداد‪ ،‬وق��د انطلق الكواكبي يف‬ ‫مقاومته لال�ستبداد من فكرتني �أ�سا�سينت‬ ‫ه�م��ا جت��دي��د اخل �ط��اب ال��دي �ن��ى و�إ� �ص�لاح‬ ‫التعليم‪ ،‬وقد و�صل �إىل لب الدين اال�سالمى‬


‫وجه في المرآة‬ ‫‪50‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫عندما �أعلن �أن جتديد هذا الدين لن يكون‬ ‫�إال بالأمر باملعروف والنهى عن املنكر ولي�س‬ ‫بالإميان بالق�ضاء والقدر فامل�سافة بينهما‬ ‫�شا�سعة فاملنهج الأول ينبني على الفعل‬ ‫والرغبة يف التغري ومقاومة الظاملني بينما‬ ‫النهج الثاين ينبني على الت�سليم والر�ضا‪.‬‬

‫جتديد النظر يف الدين‬

‫وقال الكواكبي يف هذا الإطار «ما �أحوجنا‬ ‫�إىل م��ن ي �ج��ددون النظر يف ال��دي��ن‪ ،‬نظر‬ ‫من ال يحفل بغري احلق‪ ،‬نظر من ال ي�ضيع‬ ‫النتائج بت�شوي�ش املقدمات‪ ،‬نظر من يق�صد‬ ‫�إظهار احلقيقة ال �إظهار الف�صاحة‪ ،‬نظر‬ ‫من يريد وجه ربه ال ا�ستمالة النا�س �إليه‪،‬‬ ‫وبذلك يعيدون النواق�ص املعطلة يف الدين‬ ‫ويهذبونه من ال��زوائ��د الباطلة مما يطر�أ‬ ‫ع��ادة على كل دي��ن يتقادم عهده فيحتاج‬ ‫�إىل جمددين يرجعون به �إىل �أ�صله املبني‬ ‫الربيء من متليك الإرادة ورفع البالدة عن‬ ‫كل ما ي�شني»‪.‬‬ ‫كما ق��ال «ال�ع��دل ب�ين النا�س ه��و الت�سوية‬ ‫بينهم وه��ذا هو امل��راد من قوله تعاىل‪� :‬إن‬ ‫اهلل ي�أمر بالعدل»‪ ،‬وق��د هاجم الكواكبي‬ ‫رج� � َ‬ ‫�ال ال��دي��ن ال��ذي��ن ب��اع��وا �ضمائرهم‬ ‫لل�شيطان ون�صبوا �أنف�سهم خدم ًا لل�سلطان‬ ‫امل�ستبد‪ ،‬كما �أكد على �أن الدين بذر جيد‬ ‫ال �شبهة فيه‪ ،‬ف�إذا �صادف �أر�ض ًا طيبة نبت‬ ‫ومن��ا‪ ،‬و�أر� ��ض ال��دي��ن ه��ي تلك الأم��ة التي‬ ‫�أعمى اال�ستعمار ب�صرها وب�صريتها و�أف�سد‬ ‫�أخالقها ودينها حتى �صارت التعرف للدين‬ ‫معنى غري العبادة والن�سك»‪ ،‬وبذلك ف�إن‬ ‫الكواكبي يريد الدين النافذ الأث��ر ولي�س‬ ‫الدين اجلامد املحفوظ ويرى �أن النه�ضة ال‬ ‫تقوم �إال على الدين العامل والعلم الواعي‬ ‫كما �أكد على �ضرورة الف�صل بني ال�سلطات‬ ‫التنفيذية والت�شريعية والق�ضائية وذلك‬ ‫للحد من �سلطة احلاكم املطلق‪.‬‬ ‫وقال يف ذلك «�أ�شد مراتب اال�ستبداد التي‬ ‫يتعوذ بها من ال�شيطان هي حكومة الفرد‬ ‫املطلق‪ ،‬ال��وارث للعر�ش‪ ،‬القائد للجي�ش‪،‬‬ ‫احل��ائ��ز على �سلطة دي�ن�ي��ة‪ ،‬ومل��ا �أن نقول‬

‫جمال الدين االفغاين‬

‫رغم أن األفغاني ومحمد‬ ‫عبده ورشيد رضا قبلوا‬ ‫بفكرة المستبد العادل‬ ‫إال أن الكواكبي رفض‬ ‫االستبداد تمام ًا معلي ًا‬ ‫من قيمة اإلرادة‬ ‫�إن��ه كلما قل و�صف من هذه الأو��ص��اف قل‬ ‫اال�ستبداد �إىل �أن ينتهى باحلاكم املنتخب‬ ‫امل�ؤقت وامل�س�ؤول فع ًال»‬ ‫ويف مقاومته لال�ستبداد‪ ،‬ك��ان الكواكبي‬ ‫ينطلق م��ن «ب��رن��ام��ج �إ� �ص�لاح» ي�ق��وم على‬ ‫ف�ك��رة احل��ري��ة‪ ،‬كما ك��ان �صاحب مذهب‬ ‫�أخ�ل�اق ��ي ي��رت �ك��ز ع �ل��ى ال��وع��ي الإن �� �س��اين‬ ‫باحلرية وال�ك��رام��ة‪ ،‬ويقوم على جمموعة‬ ‫من املبادئ امللزمة التي ترى �أن الإرادة �أم‬ ‫الأخالق‪ ،‬و�أن اال�ستبداد يقتل �إرادة النا�س‬ ‫فيدفعهم �إىل الرياء والنفاق‪.‬‬ ‫وق ��د و� �ض��ع ال �ك��واك �ب��ي يف ك �ت��اب��ة ط�ب��ائ��ع‬ ‫اال�ستبداد م�شروع ًا نه�ضوي ًا كام ًال ينطلق‬ ‫م��ن �أن الإ�� �س�ل�ام م ��ؤ� �س ����س ع �ل��ى �أ� �ص��ول‬ ‫دمي �ق��راط �ي��ة ت���س�ت�ه��دف امل ��راع ��اة ال�ت��ام��ة‬

‫انطلق في مقاومته‬ ‫لالستبداد من فكرتين‬ ‫أساسيتين هما تجديد‬ ‫الخطاب الديني وإصالح‬ ‫التعليم‬

‫للم�صلحة العامة‪ ،‬تلك امل�صلحة التي يجب‬ ‫�أن تدافع عنها الأمة لأنها تُكت�سب وال متنح‪،‬‬ ‫حيث يقول ع��ن طبائع اال�ستبداد «�أردت‬ ‫بذلك تنبيه الغافلني مل��ورد ال��داء الدفني‪،‬‬ ‫ع�سى �أن يعرف ال�شرقيون �أنهم املت�سببون‬ ‫مل��ا ه��م فيه‪ ،‬ف�لا يعتبون على الأغ �ي��ار وال‬ ‫على الأق��دار‪ ،‬وع�سى الذين فيهم بقية من‬ ‫احلياة ي�ستدركون �ش�أنها قبل املمات» و ُيهون‬ ‫الأم��ر على الأم��ة بت�أكيده على �أن الراعي‬ ‫ال��ذي يخيف النا�س لي�س �إال جمرد خائف‬ ‫مرتعد‪ ،‬والفرق �أن الأمة تخاف من �أوهام‬ ‫بينما خوف امل�ستبد حقيقي ومرعب‪.‬‬

‫�إ�صالح التعليم‬

‫�أم��ا عن �إ�صالح التعليم ودوره يف مقاومة‬ ‫اال�ستبداد فقد ك��ان الكواكبي يدعو �إىل‬ ‫العلم لأن��ه يوقظ الوعي الإن�ساين ويدعم‬ ‫الوعي باحلرية والكرامة‪ ،‬كما ك��ان ي�ؤكد‬ ‫على �أن وع��ي احل��ري��ة يحتاج �إىل �أن�صار‬ ‫و�أع� ��وان يتقدمهم ال�ع�ل��م ف��ال�ع�ل��م ير�سخ‬ ‫يف نفو�س النا�س �أن «احل��ري��ة �أف�ضل من‬ ‫احلياة نف�سها و�أك��رم و�أن ال�شرف �أح�سن‬ ‫م��ن املن�صب وامل���ال» كما �أن العلم ينبه‬ ‫�إىل الظلم وي ��ؤدي �إىل الرفعة والكرامة‪،‬‬ ‫والعلم ب�شكل عام ميثل خطر ًا حقيقي ًا على‬ ‫اال�ستبداد‪ .‬والعلم �أهم مظاهر احلرية التي‬ ‫متثل «�شجرة اخللد و�سقياها قطرات من‬ ‫الدم امل�سفوك» �أي �أنها ت�ستحق الت�ضحية‬ ‫وملا ال وهى«روح الدين»‪.‬‬

‫نظرية �سيا�سية متكاملة‬

‫ويف جمال الفكر ال�سيا�سي ف��إن الكواكبي‬ ‫ميتلك نظرية فكرية متكاملة ت�ؤمن باحلرية‬ ‫والدميقراطية والعروبة وقيام الدولة القومية‪،‬‬ ‫كما كان ميتلك نزعة ا�شرتاكية وا�ضحة حيث‬ ‫اعتربه م��ؤرخ��و اال�شرتاكية واح��د ًا من �أهم‬ ‫دعاتها لأنه «املنظر البارز للكفاح �ضد الإقطاع‬ ‫و�أح��د املفكرين االجتماعيني وال�سيا�سيني‬ ‫الأكرث راديكالية»‪ ،‬ورغم �أنه مل يكن مارك�سي ًا‬ ‫ومل يقر�أ مارك�س‪� ،‬إال �أنه كان يرى �أن قاعدة‬


‫امللكية ه��ى«اال���ش�ت�راك ال�ع�م��وم��ى» لأب �ن��اء‬ ‫املجتمع العاملني يف ثروة هذا املجتمع‪ ،‬كما‬ ‫كان يرف�ض منط الفردية املطلقة والطبقية‬ ‫وا�ستغالل الأقلية «من ال�سا�سة ورجال الأعمال‬ ‫» للأغلبية‪ .‬وك��ان يرف�ض وج��ود طبقة من‬ ‫الأغنياء يف املجتمع لأنها �سرتتبط بو�شائج‬ ‫قوية مع اال�ستبداد ال�سيا�سي‪ ،‬كما كان يدعو‬ ‫�إىل العدل االجتماعي‪ ،‬وكان يرى دور احلكومة‬ ‫يف امللكية العامة «النظارة والأمانة»‪ ،‬والأهم‬ ‫�أن��ه ك��ان ي��رى يف العمل املقيا�س احلقيقي‬ ‫لإن�سانية الإن�سان على �أال يعاين من الكفاف‬ ‫والذل �أو التخمة والطغيان‪.‬‬ ‫لقد كان الكواكبي عالمة فارقة يف تاريخ‬ ‫الفكر ال�سيا�سي العربي؛ حيث دع��ا �إىل‬ ‫القومية العربية من خ�لال نقل اخلالفة‬ ‫الإ� �س�لام �ي��ة م��ن ال� ��دول الإ� �س�لام �ي��ة �إىل‬ ‫ال �ع��رب‪ ،‬ك�م��ا ك��ان م��ن �أن �� �ص��ار اجلامعة‬ ‫الإ��س�لام�ي��ة‪ ،‬و�أك��د على � �ض��رورة ال�شورى‬ ‫و�� �ض ��رورة االرت� �ق ��اء ب ��الأم ��ة ل�ت�ل�ع��ب دور‬ ‫ال�شريك‪ .‬ورغم �أن الأفغاين وحممد عبده‬ ‫ور�شيد ر�ضا قد قبلوا بفكرة امل�ستبد العادل‬ ‫�إال �أن الكواكبي قد رف�ض اال�ستبداد متام ًا‬ ‫و�أعلى من قيمة الإرادة و�أك��د على �أن كل‬ ‫دعاوى الإ�صالح البد و�أن ترتبط بالتعليم‬ ‫و��ص��رخ قائال «ي��اق��وم ت�شكون م��ن اجلهل‬ ‫والتنفقون على التعليم ن�صف ما ت�صرفون‬ ‫على التدخني»‪.‬‬ ‫ورغم هذا التميز يف عامل الفكر ال�سيا�سي‬ ‫�إال �أن الكواكبي ك��ان �أق��ل متيز ًا يف الفكر‬ ‫االجتماعي حيث كان يرى امل��ر�أة «اجلن�س‬ ‫امل�ضر»‪ ،‬كما ك��ان ينظر اىل الدميقراطية‬ ‫مبنظار �أر�ستقراطي‪ ،‬رمبا لطبيعة ن�ش�أته‪،‬‬ ‫ول�ك��ن ه��ذا ال يقلل م��ن قيمة وق��ام��ة ذلك‬ ‫العمالق الذي كر�س حياته وفكره للن�ضال‬ ‫ال��وط�ن��ي و ال�ق��وم��ي واالج �ت �م��اع��ي وخ��ا���ض‬ ‫حرب ًا �ضرو�س ًا من �أجل فكرة التحرر ورفع‬ ‫راي��ة النقد الإي�ج��اب��ي مت�سلح ًا بالنزاهة‬ ‫واال�ستقامة والإمي��ان بقيم العقل وال��روح‪،‬‬ ‫ولذلك م��ازال يعي�ش يف وج��دان كل عربي‬ ‫م�صلح ًا اجتماعي ًا‪ ،‬ومفكر ًا �سيا�سي ًا وجمدد ًا‬ ‫يف الدين‪� ،‬ساهم يف بناء القومية العربية‬

‫�شاهد القرب املدفون فيه الكواكبي‬

‫و�شارك يف بعث اليقظة الإ�سالمية‪ ،‬و�أكرب‬ ‫داعية للحرية يف ال�شرق العربي وكان البد‬ ‫�أن يتوج م�شوار عطائه احلافل ‪-‬الذي ا�ستمر‬ ‫‪ 48‬عام ًا فقط‪ -‬بال�شهادة‪ ،‬حيث ا�ستطاع‬ ‫�أع��وان ال�سلطان عبداحلميد �أن يد�سوا له‬ ‫ال�سم‪ ،‬فمات �شهيد ًا يف ‪ 14‬يوليو ‪1902‬م‪،‬‬ ‫و ُدف ��ن يف مقابر «ب��اب ال��وزي��ر» باملقطم‪،‬‬

‫مذهبه األخالقي ارتكز‬ ‫على أن اإلرادة هي أم‬ ‫األخالق وأن االستبداد‬ ‫يقتل إرادة الناس‬ ‫فيدفعهم إلى الرياء‬ ‫والنفاق‬

‫وارجت��ل �شاعر النيل حافظ �إبراهيم بيتني‬ ‫من ال�شعر ُكتبا على قرب ال�شهيد‪:‬‬ ‫هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى ** هنا‬ ‫خري مظلوم هنا خري كاتب‬ ‫َ‬ ‫قفوا واق��ر�أوا «�أم الكتاب» و�سلموا **عليه‬ ‫فهذا القرب قرب الكواكبي‬ ‫وق��د �سطا �أع ��وان ال�سلطان على كتابني‬ ‫خمطوطني لل�شيخ ال�شهيد هما «العظمة‬ ‫هلل» و«� �ص �ح��ائ��ف ق��ري ����ش»‪ ،‬ول �ك �ن��ه ت��رك‬ ‫�صرخته املدوية �ضد اال�ستبداد والتي قال‬ ‫عنها‪« :‬ك�ل�م��ات ح��ق و��ص��رخ��ة يف واد‪� ،‬إن‬ ‫ذه�ب��ت ال�ي��وم م��ع ال��ري��ح فقد ت��ذه��ب غ��د ًا‬ ‫بالأوتاد»‬


‫إرهاصة‬ ‫‪52‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أ كتو بر‬ ‫‪2012‬‬

‫القصة ‪« ..‬عدودة» المرأة المعاصرة‬

‫واحدة‬

‫من �أهم املالحظات علي جتربة الق�صة‬ ‫ال�ق���ص�يرة الإم��ارات �ي��ة‪ ،‬ارت �ف��اع ن�سبة‬ ‫الن�ساء املبدعات؛ وهي ظاهرة ذات دالل��ة اجتماعية‬ ‫يف املقام الأول �إذ ت�شري �إيل العالقة بني ن�ش�أة الق�صة‬ ‫ال�ق���ص�يرة وب�ين ال�ت�غ�يرات االج�ت�م��اع�ي��ة ال�ن��اجت��ة عن‬ ‫الطفرة االقت�صادية‪� ،‬إذ �إن املر�أة هي �أول مر�آة تنعك�س‬ ‫عليها تغريات املجتمع‪.‬‬ ‫وقد كان التحول ال��ذي �شهده جمتمع الإم��ارات خالل‬ ‫عقود قليلة‪� ،‬سريع ًا بدرجة �أحدثت رجة تخلخلت علي‬ ‫�إثرها العديد من الثوابت التي اجتاحها التغري‪ .‬وهو‬ ‫ما انعك�س يف �سيطرة الطابع الغنائي‪ ،‬الذاتي‪ ،‬القريب‬ ‫من ال�شعر علي كتابات املبدعني الإماراتيني يف جمال‬ ‫وليد عالء الدين الق�صة الق�صرية‪ .‬وهو طابع �أق��رب �إيل روح امل��ر�أة‪،‬‬ ‫ف��امل��ر�أة العربية ال�ت��ي �سرعان م��ا تن�سج «ع��دودت�ه��ا»‬ ‫اخلا�صة لتلوذ بها كلما �أ�صابها الفقد‪ ،‬هي ذاتها الآن‬ ‫التي ت�سارع �إيل ن�سج ق�صتها الق�صرية كلما �شعرت‬ ‫بتحول ي�صيب الن�سيج االجتماعي الذي ن�ش�أت فيه‪.‬‬ ‫يف ق�صة «مرافئ ال�سكن» للقا�صة فاطمة ال�سويدي‪،‬‬ ‫يت�ضح يف جالء احل�س ال�شعري العايل‪ ،‬وذلك االختزال‬ ‫وتلك الكثافة التي مل ينقطع خاللها خيط ال�شجن ومل‬ ‫تخفت حدته‪ ،‬رغم تغري م�ستويات اخلطاب من متكلم‬ ‫‪/‬ال�شخ�صية الرئي�سية‪� ،‬إيل الغائب‪� ،‬إيل الراوية ب�شكل‬ ‫مينح القارئ �شعور ًا بذوبان الذاتي اخلا�ص يف العام‪،‬‬ ‫كما لو كانت الق�صة ق�صته هو‪ .‬كما يربز ذلك ال�شعور‬ ‫بالفقد وال�ضياع الذي يعرب عن فرتة �أكرث ما يعرب عن‬ ‫�شخ�ص بذاته‪.‬‬ ‫تفتتح ال�سويدي ق�صتها مبا ي�شبه بالفعل «العدودة»‪،‬‬ ‫فت�ضع القارئ مبا�شرة علي حافة ال�شعور باحلدث قبل‬ ‫وقوعه‪ ،‬ثم ت�ستدرجه معها روي��د ًا �إيل مرافئ ال�سكن‬ ‫كنت وال زلت‬ ‫حيث ا�سم الق�صة‪« :‬يف كل يوم مي�ضي ِ‬ ‫تتوغلني �أكرث يف نف�سي حتى غدت نف�سي هي نف�سك ال‬ ‫تطيق الفراق عنك‪ ،‬فكيف يريدون مني �أن ت�ستل روحك‬ ‫عني وت�أتي �أخري لتحل حملها؟»‬ ‫ه��ذا الن�ص ال��ذي ين�سكب مبا�شرة‪ ،‬تكرر ل��دي مرمي‬

‫جمعة فرج‪ ،‬يف ق�صتها «ع َّبار»‪ ،‬فـ «ع َّبار» مرمي «الن�ص»‬ ‫يحاول �أن يكون �سينمائي ًا‪ ،‬ي�ستخدم تقنيات «الفال�ش‬ ‫ب��اك» ويعتمد علي ا��س�ت��دع��اءات ال��ذاك��رة‪ ،‬وال�صورة‬ ‫الكلية تكتمل تباع ًا مع كل فقرة جديدة يف الق�صة‪،‬‬ ‫ال�ع� َّب��ار يف م��رك�ب��ه‪ ،‬ال��وج��وه ه��ي وج��وه ال�ع��اب��ري��ن معه‬ ‫بينما هو يف دنياه اخلا�صة‪ ،‬والن�ص يتحدث من داخل‬ ‫الأ�شخا�ص‪ ،‬فالأمور ال حتدث كما يراها الراوي بل كما‬ ‫ُيفرت�ض �أن تراها ال�شخ�صيات‪ ،‬حتى الهام�شية منها‬ ‫والتي مل تنل قدرها من العمق مثل املر�أة التي كان كل‬ ‫دورها �أنها نظرت �إيل الأفق فوجدته بعيد ًا وم�شو�ش ًا‪،‬‬ ‫فالأمور والر�ؤى والأ�شياء – حتي الأفق‪ -‬تتغري جميعها‬ ‫�أك�ثر من م��رة وفق ًا لإح�سا�س ال�شخ�صية التي حتتل‬ ‫�صدارة اللحظة يف الق�صة‪.‬‬ ‫و�إذا كان ن�ص «ع َّبار» قد جنح يف االنتقال بني الباطن‬ ‫واخل��ارج‪ ،‬باطن ال�شخ�صيات ما تفكر فيه‪ ،‬وخارجها‬ ‫ما ر�سمته القا�صة عنها‪ ،‬مبهارة ف�إن الأخري «اخلارج‪/‬‬ ‫امل�ظ�ه��ر» ك��ان ي ��أت��ي دائ �م � ًا لي�ضيف م ��ؤث��رات ومل�سات‬ ‫ت�ستكمل اللوحة �أو اللقطة النف�سانية‪ ،‬كما �أنه ي�أتي علي‬ ‫هيئة تدخل و�صفي يقطع اال�ستطراد ليعمقه فيما ي�شبه‬ ‫ق��راءة ن�ص م�سرحي يف ذات التوقيت ال��ذي ت�شاهد‬ ‫�أحداثه �أمامك علي خ�شبة امل�سرح‪« :‬عادة ي�شكل وجه‬ ‫الع َّبار اجلزء الأكرب من ج�سده‪ ،‬خطوط ياب�سة يبو�س‬ ‫«البذرة» يف ظهره‪ ،‬لكنه وجه م�سامل يظهر فوق زحمة‬ ‫من العظام العري�ضة‪ ،‬يف تلك اللحظة ح�ضر �أمامه‬ ‫�شيطان نرج�س‪.»....‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مل حتدد مرمي فرج زمنا �أو مكانا دقيقني لق�صتها‪،‬‬ ‫�إال �أن�ه��ا تعمدت ذك��ر ال��وق��ت‪« :‬الثانية مت��ام� ًا ‪ ...‬ثم‬ ‫الثانية وخم�س دقائق ظهر ًا» ‪ -‬هذا التحديد املتعمد‪،‬‬ ‫وك�أن املق�صود منه توجيه درجة ال�ضوء وزاوية الر�ؤية‬ ‫�أم��ام عيني امل�شاهد ‪/‬ال�ق��ارئ‪ ،‬ه��ذا ال�ف��ارق ال�صغري‬ ‫«خم�س دقائق» ال ي�شكل �شيئ ًا يف حياة ع َّبار منغم�س يف‬ ‫ال�صرب واالنتظار‪� ،‬إال �أنه من وجهة �أخري ت�أكيد علي‬ ‫�أن حياته الأخرى الأكرث �أهمية والأقرب �إليه «ذاكرته»‬ ‫لها مقايي�س تختلف‪ ،‬ت�شكل اخلم�س دقائق فيها عامل ًا‬


‫ب�أكمله مير �أم��ام عينيه بينما رك��اب ع َّبارته غارقون يف‬ ‫«مج العجوز ريقه ثم قذف به يف البحر بعيد ًا‪:‬‬ ‫�أمورهم‪ّ :‬‬ ‫«ت��ف» وانزلق ل�سانه ف��وق لثة اللحم ثم حملق يف الوجوه‬ ‫امل�شدودة للمرة الثانية دون تركيز»‪.‬‬ ‫�أكدت مرمي جمعة فرج من خالل ع َّبارها الإن�سان علي تلك‬ ‫النزعة �إيل املا�ضي‪ ،‬ولكنها �ضفرت ذلك بحرفية مع ت�سا�ؤل‬ ‫فل�سفي له مغزاه حينما �س�أل العبار نف�سه يف نهاية الق�صة‪:‬‬ ‫«‪ ..‬ملاذا يكره الدنيا �إذا كان كل �شيء فيها ال ي�سوى‪ ،‬حتى‬ ‫نرج�س ‪/‬ما�ضيه»‪ ،‬ثم تقول قبل �أن يبتلع الزحام الع ّبار‪:‬‬ ‫«‪ ..‬رتب �أفكاره وك�أمنا هي حماولة منه فقط لهدم تلك‬ ‫الهوة بينه وبني العامل»‪.‬‬ ‫م��رمي جمعة ف��رج كما يت�ضح يف ق�صتها تلك‪ ،‬ويف ق�صة‬ ‫�أخرى بعنوان «�أحمد»‪ ،‬م�شغولة بالبناء الداخلي للق�صة‪،‬‬ ‫غري مكرتثة ب�شيء �سوى االحتفاظ بذلك احل�س الإن�ساين‬ ‫ال�شفيف �إىل �آخ��ر لقطة‪ ،‬كما �أن�ه��ا واح��دة م��ن اللواتي‬ ‫ا�ستطعن بجدارة �أن يفلنت من فخ التنميط والت�صنيف‬ ‫الذي ادعاه البع�ض للكتابة ‪:‬ن�سوية وذكورية‪ ،‬وانتمت �إيل‬ ‫فئة الكتابة الإن�سانية املبدعة‪.‬‬ ‫�أم��ا القا�صة �أمينة �أب��و �شهاب فت�ستغرق ق�صتها «هياج»‬ ‫يف ح��وار ذات��ي «م��ون��ول��وج» مت بالفعل وانتهي‪ ،‬وتنقله لنا‬ ‫الراوية دومنا تدخل‪ ،‬امل��ر�أة العربية «�آمنة» املحبو�سة يف‬ ‫قف�ص �أنوثتها «‪ ..‬اكت�شفت بانزعاج �أن ثروتها الوحيدة‬ ‫هي قامتها الريانة وعيناها الوا�سعتان و�شفتاها املكتنزتان‬ ‫و�أنها ال �شيء غري ذلك»‪.‬‬ ‫وتت�ساءل القا�صة طوال الق�صة عن �أ�سباب تلك احلالة من‬ ‫الت�شيوء التي �أ�صبحت ال�صفة املميزة حلياتها بعد انتقالها‬ ‫م��ن حياتها يف احل��ي املتوا�ضع «بيت �أهلها» �إيل احلياة‬ ‫الفاخرة «حياة ال��زوج» التي �سرعان ما �ضاعت بهجتها‬ ‫وحتولت �إيل عامل جهنمي‪.‬‬ ‫ومتعن القا�صة يف جت�سيد حالة الت�شيوء التي �أ�صابت املر�أة‬ ‫بعد الطفرة االقت�صادية التي دخلت حياتها بالزواج ‪ ،‬وهي‬ ‫هنا املعادل الفني للطفرة التي �أ�صابت احلياة يف الإمارات‪،‬‬ ‫وعلينا �أن نعرف يف هذا ال�صدد �أن جزء ًا كبري من احلياة‬ ‫يف املا�ضي كانت امل��ر�أة تديره وتتحمل م�س�ؤولياته خا�صة‬

‫عندما يغيب الرجال يف رحالتهم الطويلة يف البحر ‪..« :‬‬ ‫كانت ج��زء ًا �ساكن ًا يف حميط الأ�شياء ال�ساكنة الأخ��رى‬ ‫التي تنا�صبها ال�ع��داء‪ :‬ال�ساعات الأث��ري��ة ذات القاعدة‬ ‫املنتفخة‪ ،‬وهي تهز بندولها مينة وي�سرة بد�أب يثري اجلنون‬ ‫«رمز النمطية وعدم القدرة علي التغري»‪ ،‬واللوحات ذات‬ ‫ال�سطوح الالمعة لن�سوة يعتمرن مالب�س وا�سعة من�سابة يف‬ ‫الأ�سفل وحا�سرة عند ال�صدر والكتفني ويت�أملن ببالهة‪،‬‬ ‫«الأن�ث��ى املعلقة علي اجل��دار كمو�ضوع للزينة»‪ ،‬ومقابلها‬ ‫متام ًا كان حو�ض الأ�سماك امللونة النائمة �أ�سفل احلو�ض»‪.‬‬ ‫قدر كبري من املعادالت الفنية لأنثى حتولت �إيل �شيء يف‬ ‫حياة رجل تزخر به الق�صة‪ ،‬وهو انعكا�س طبيعي للتحوالت‬ ‫االجتماعية التي �أ�صابت احلياة وت�أثرت بها امل��ر�أة‪ ،‬التي‬ ‫تنقد هنا ب�صراحة �شديدة منط احلياة الذي �سيطر علي‬ ‫املجتمع‪ ،‬حيث �أ�شارت �إىل التكلف الوا�ضح واال�ستهالكية‪،‬‬ ‫وذلك يف �سياق ت�أكيدها علي رف�ض البطلة «ال�سلبي هنا»‬ ‫حلالة الت�شيوء املفرو�ضة عليها‪.‬‬ ‫تت�ضارب ال��رغ�ب��ة ب��داخ��ل «�آم �ن��ة» امل�شتتة ب�ين حياتني ‪:‬‬ ‫القدمية وهي املعادل للحرية واالنخراط امل�ؤثر يف حركة‬ ‫املجتمع علي ب�ساطته‪ ..« :‬وظهر حيها القدمي حيث مرت‬ ‫الوجوه التي تعرفها يف قافلة طويلة ب�شكل كاريكاتوري ‪..‬‬ ‫كانوا يت�ضاحكون ويت�صايحون وينعتون بع�ضهم بالألقاب‬ ‫امل�ضحكة ‪ .....‬ويجل�سون يف الأما�سي حتت الظالل ميدون‬ ‫�أرجلهم مبا ي�سمح بها طولها ويخرتقون عاملهم املعزول‬ ‫ب�ضحكاتهم ال���س��اخ��رة املليئة بحكمة ون �ب��وءة امل��راق��ب‬ ‫ال�صامت»‪ .‬وبني عاملها اجلديد الذي «ي�ؤذيها»‪..« :‬جتتاحها‬ ‫رغبة توجيه �ضربة لعامل ي�ؤذيها»‪� .‬إال �أن متردها وثورتها مل‬ ‫يتعديا نطاق �أفكارها املرتعبة من فكرة التمرد يف الأ�سا�س‪،‬‬ ‫لأنها فقدت ال�صلة بالعاملني القدمي واجلديد‪ ،‬وهي تعقد‬ ‫املقارنة هنا حلالتها بحالة �سمكة الزينة يف احلو�ض التي‬ ‫«‪..‬غادرت قاع احلو�ض وبد�أت يف ال�سباحة يف �شكل دائري‬ ‫بحذاء اجل��دار الزجاجي‪ ،‬رفعت يدها لتك�سر احلو�ض‪،‬‬ ‫لكن منظر ال�سمكات التي كانت �ستنح�صر منتف�ضة �أمام‬ ‫عينيها �أوق�ف�ه��ا م�سلوبة احل��رك��ة‪ ،‬ف�ألقت بج�سدها فوق‬ ‫املقعد الذي ابتلعها بع�صيانها وا�ضطرابها بال حنان»‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪54‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ين�شر هذا الباب بالتعاون‬ ‫مع املركز العربي للأدب‬ ‫اجلغرايف «ارتياد الآفاق»‬ ‫ �أبوظبي ‪ -‬لندن ‪،‬الذي يرعاه‬‫ال�شاعر والباحث الإماراتي‬ ‫حممد �أحمد ال�سويدي ‪.‬‬

‫�أول �صورة فوتوغرافية للكعبة عام ‪1880‬م‪ ،‬ت�صوير ‪ -‬حممد �صادق بيه‬

‫�إحدى �أ�شهر الرحالت احلجازية‬

‫رحلة الصديق إلى البيت العتيق‬ ‫�أمين يا�سني حجازي‬ ‫هذه رحلة تعليمية ت�ستفي�ض يف �شرح �ش�ؤون الفقه وال�شعائر الإ�سالمية‪ ،‬وال �سيما ما يتعلق‬ ‫منها باملنا�سك والواجبات والفرو�ض اليومية املرتتبة على احلاج‪ ،‬و�إن كانت يف منطلقها‬ ‫وم�سارها رحلة حج �إىل الديار املقد�سة يف مكة املكرمة واملدينة املنورة‪ .‬فالرحالة يجهد نف�سه‬ ‫ويجهد قارئه معه يف متابعة كل ما يخطر‪ ،‬وما ال يخطر‪ ،‬يف بال امل�سلم الذي ينوي التوجه‬ ‫�إىل بيت اهلل احلرام لي�ؤدي فري�ضة احلج والعمرة‪ .‬والرحالة ال يرتك م�س�ألة وال �شاردة من‬ ‫امل�سائل املتعلقة بالأماكن املقد�سة وكيفية زيارتها وما قيل فيها مما تعددت فيها االجتهادات‬ ‫والآراء واملرويات وا�ست�أثرت باهتمام الفقهاء والباحثني و�شغلت حيزاً من مدوناتهم‪.‬‬


‫وفرة املعلومات‬

‫�إال وكان لها مكان يف منت رحلته ون�صيب من‬ ‫البحث والتدقيق حيث ي�أخذها من م�صادرها‬ ‫وي�ستعر�ض �أ�سانيدها كما وردت يف �أحاديث‬ ‫وم��دون��ات �أئمة امل��ذاه��ب الإ�سالمية و�أب��رز‬ ‫علمائها‪.‬‬

‫القوافل الأوىل‬

‫ب��د�أ امل�سلمون ب ��أداء فري�ضة احلج يف العام‬ ‫التا�سع للهجرة‪� ،‬أي يف العام التايل لعام‬ ‫الفتح‪ ،‬و�أ�صبحوا يتوافدون �إىل مكة من �شتى‬ ‫ديار الإ�سالم يف بقاع الأر���ض كافة‪ ،‬لي�ؤدوا‬ ‫فري�ضتهم‪ ،‬فمنهم من ي�أتيها بر ًا ومنهم من‬ ‫ي�أتيها بحر ًا‪ ،‬ومن ثم جو ًا‪.‬‬ ‫وكان ي�صل مكة قوافل �أربع‪ :‬الأوىل من بالد‬ ‫امل�غ��رب م���رور ًا مب�صر‪ ،‬وه��ي قافلة برية؛‬ ‫والثانية من م�صر‪ ،‬وهذه القافلة حتمل معها‬ ‫ك�سوة الكعبة‪ ،‬والثالثة قافلة ال�شام‪ ،‬وت�ضم‬ ‫احلجاج القادمني من بلدان �آ�سيا الو�سطى‬ ‫َّ‬ ‫وما حولها وتركيا والأنا�ضول وبالد ال�شام؛‬ ‫�أما القافلة الرابعة فهي قافلة الهند‪ ،‬وحتمل‬ ‫ب�ضائع قيمة وخمتارة ي�شرتي منها احلجاج‬ ‫على خمتلف جن�سياتهم يف مكة‪ .‬وت�صل هذه‬ ‫القوافل مكة قبل عيد الأ�ضحى ب�ستة �أيام‬ ‫على الأقل‪.‬‬ ‫احلجاج كانت تتع َّر ُ�ض‬ ‫وال�شك �أن حمامل َّ‬ ‫لكث ٍري م��ن املتاعب وامل�شاق والأه ��وال وال‬ ‫��ش� َّ�ك �أن حم��ام��ل احل�ج��اج ك��ان��ت تتعر�ض‬ ‫لكثري من الأه��وال واملتاعب وامل�شاق فال‬ ‫ي�صل احلاج �إىل مكة �أو يعود �إىل دياره �إال‬ ‫وقد ر�أى املوت ن�صب عينيه م َّرات وم َّرات‪.‬‬ ‫ه��ذه الأح� ��داث وامل �خ��اوف ال ب � َّ�د �أن جتد‬ ‫احلجاج وحكاياتهم‬ ‫طريقها �إىل مذ ّكرات َّ‬ ‫ومروياتهم‪ ،‬فقد يقوم احلاج ب�سرد وقائع‬ ‫رحلته وتكرار ما ج��رى معه‪ ،‬كلما ت�سنت‬ ‫الفر�صة لذلك‪.‬‬ ‫ك�ث ٌ�ر ه��م م��ن دون� ��وا رح�لات �ه��م و�أ��س�ه�ب��وا‬ ‫يف و� �ص��ف ال �ط��ري��ق وال �ق��اف �ل��ة والأم��اك��ن‬ ‫التي م � ُّروا بها و�شعائر احل��ج وامل�صاعب‬ ‫التي واجهتهم �أث�ن��اء �أدائ �ه��ا‪ ،‬لكننا جند‬ ‫اخ�ت�لاف� ًا ب�ين م�ستويات مدوناتهم �سواء‬ ‫م��ن حيث ال�شكل �أو البنية‪� ،‬أو بطريقة‬

‫غالف كتاب «الرحلة»‬

‫ال�سرد وجمالية الأ�سلوب وم�ستوى اللغة‪،‬‬ ‫فبع�ضهم اعتمد الو�صف الدقيق والعني‬ ‫املتتبعة لكل �أثر َ�ص ُغ َر �أم َكرب‪ ،‬وم َّر مرور ًا‬ ‫عابر ًا على ذكر ال�شعائر الدينية‪ ،‬والبع�ض‬ ‫الآخ��ر ركز على �شعائر احلج وا�ستفا�ض‬ ‫ب��ال �� �ش��رح وال��و� �ص��ف ل �ك��ل ج��زئ�ي��ات�ه��ا ومل‬ ‫يتطرق �إىل ذكر العديد من الأماكن التي‬ ‫عربها وامل��واق��ع العمرانية التي �شاهدها‬ ‫يف رحلته‪ ،‬ب��ل اكتفى بعموميات ي�سرية‪،‬‬ ‫وبي الآراء‬ ‫ومنهم من عر�ض م�سائل فقهية َنّ‬ ‫وال �ف �ت��اوى ف�ي�ه��ا‪ ،‬وم�ن�ه��م م��ن حت � َّ�دث عن‬ ‫واهتم باملكان وبالرثوات الباطنية‬ ‫الطبيعة‬ ‫َّ‬ ‫وبالن�شاط االقت�صادي وغري ذلك‪ ،‬كما فعل‬ ‫الأمري �شكيب �أر�سالن يف رحلته �إىل احلج‬ ‫«االرت�سامات اللطاف يف خاطر احلاج �إىل‬ ‫�أق��د���س م�ط��اف» �إذ �أظ�ه��ر اهتمام ًا كبري ًا‬ ‫باملكان تاريخي ًا واقت�صادي ًا وجغرافي ًا‪.‬‬ ‫ولكل نوع من الأمناط التي ذكرناها �أمثلة‬ ‫كثرية يف رحالت احلج‪.‬‬

‫تحتل الرحلة الحجازية‬ ‫المركز األول بين‬ ‫الرحالت إذ كان الحج‬ ‫إلى الديار المقدسة‬ ‫من قبل المسلمين في‬ ‫أصقاع الدولة المترامية‬ ‫األطراف من أعظم‬ ‫دوافع الرحلة‬

‫رحالتنا حممد �صديق خ��ان عمد يف كتابه‬ ‫«رح �ل��ة ال�صديق �إىل البيت العتيق» �إىل‬ ‫�ات و�أح��ادي��ثَ ملختلف‬ ‫اال�ستطراد بذكر �آي � ٍ‬ ‫الأم� ��ور املتعلقة ب��احل��ج م��ن الإح� ��رام �إىل‬ ‫ال �ط��واف �إىل ال���س�ع��ي �إىل غ�ير ذل ��ك من‬ ‫ال�شعائر‪ ،‬وقد ظهر هذا الكتاب �أول مرة يف‬ ‫تاريخ ‪ 10‬من جمادى الأوىل �سنة ‪ 1289‬من‬ ‫الهجرة يف املطبع العلوي بالهند‪ .‬وظهرت‬ ‫منه الطبعة الثانية �سنة ‪1381‬هـ‪1961 ،‬م‪.‬‬ ‫وكان يع ّلق على الأحاديث ويورد الآراء فيها‬ ‫على اختالفها‪ ،‬ومي ّيز �صحيحها من �ضعيفها‬ ‫من َح َ�سنها‪ ،‬ومل يتوانَ يف �إيراد كم هائل من‬ ‫املعلومات املفيدة للحاج حول ِّ‬ ‫كل من�سك من‬ ‫منا�سك احلج مع ذكر �آراء املذاهب فيها‪.‬‬ ‫فقد �أج��اب على كثري من الأ�سئلة التي قد‬ ‫جت��ول يف خاطر امل�سلم عن منا�سك احلج‬ ‫و�أحكامها و�شروطها وكيفية �أدائها‪ ،‬وقدمها‬ ‫لنا ب�شكل مف�صل ومرتب‪ ،‬وقد �أفرد ك ًال منها‬ ‫على حدة مما ال يرتك جما ًال للب�س �أو اخللط‬ ‫بينها‪ ،‬وهذا ما جعل ا�ستطراده على ح�ساب‬ ‫ن�ص رحلته‪ ،‬فهو مل يفرد لو�صفها �إال ع�شر‬ ‫�صفحات يف �آخر الكتاب‪� ،‬أورد خاللها �سري‬ ‫رحلته وبع�ض املعلومات العامة التي �أبقت‬ ‫تفا�صيل الرحلة حمجوبة عن �أعيننا‪.‬‬ ‫والنهج الذي اتبعه حممد �صديق ال يقلل من‬ ‫�ش�أن امل�ؤ َّلف بل يعطيه درجة بالغة الأهمية‬ ‫من حيث املعلومات القيمة التي قدمها‪ ،‬فهو‬ ‫ميتاز باهتمام بالغ بالعلم واملعرفة كما ميتاز‬ ‫ب�سعة االطالع على ذخائر الرتاث‪ ،‬وله �شغف‬ ‫وا�ضح بالبحث عن مزيد من الكتب وقراءتها‬ ‫والإف��ادة منها قدر امل�ستطاع‪ ،‬وهذا ما يبدو‬ ‫جلي ًا من خالل ذكره لعدد كبري من الكتب‬ ‫وامل�صادر‪ .‬ومثال على ذلك قوله‪:‬‬ ‫«وقد كنت ا�شرتيت من احلديدة‪:‬‬ ‫‪ - 1‬كتاب اقت�ضاء ال�صراط امل�ستقيم ملخالفة‬ ‫�أ�صحاب اجلحيم‪.‬‬ ‫‪� - 2‬إر�شاد الفحول �إىل حتقيق احلق من علم‬ ‫الأ�صول‪.‬‬ ‫‪ - 3‬نيل الأوطار �شرح منتقى الأخبار‪.‬‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪56‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫‪ - 4‬فتح القدير يف فني الرواية والدراية من‬ ‫التف�سري‪ .‬وغري ذلك مما �شغفت به‪».‬‬ ‫�إن �صديق ح�سن خان رحالة مولع بالتح�صيل‬ ‫واك�ت���س��اب ال �ع �ل��م‪ ،‬حم��ب ل�ل�م�ع��رف��ة‪ ،‬وه��ذا‬ ‫احل��ب لي�س ب�غ��ري��ب ع�ل��ى رج��ل م��ن رج��ال‬ ‫النه�ضة العربية له الكثري من امل�صنفات‬ ‫يف لغات �شتى‪ ،‬فقد ك��ان د�ؤوب � ًا يف االط�لاع‬ ‫على كل ما يتعلق بالدين وعلومه من �أمهات‬ ‫الكتب ونوادرها‪ ،‬وهذا ما دفعه �إىل الكتابة‬ ‫والت�أليف‪ ،‬وو َّلد لديه نظرة ثاقبة وفكر ًا منري ًا‬ ‫يف ا�ستك�شاف الأمور والرجوع �إىل م�صادرها‬ ‫وتقليبها على �شتى وجوهها‪.‬‬ ‫الن�ص الذي يحتفي بو�صف الطريق كما ورد‬ ‫يف منت الرحلة ال يزيد عن �صفحات ع�شر‬ ‫يحدد يوم بدء الرحلة‪ ،‬وهو يوم االثنني ‪27‬‬ ‫�شعبان ‪1285‬هـ «‪ 14‬دي�سمرب‪ /‬كانون الأول‬ ‫‪ »1868‬انطالق ًا من بهوبال يف و�سط الهند‬ ‫ح�ت��ى و��ص��ل �إىل ممبئي «ب��وم �ب��اي» ومنها‬ ‫ا�ستقل مركب ًا يف التا�سع من رم�ضان متوجه ًا‬ ‫بحر ًا �إىل ميناء جدة‪ .‬ولكن الريح مل ت�سعفه‬ ‫فقد ه��د�أت واختفت ثالثة �أي��ام مما ت�سبب‬ ‫بتوقف امل��رك��ب دومن��ا �أي ح��رك��ة‪ .‬ث��م هبت‬ ‫الريح املواتية من جديد لتدفع املركب �إىل‬ ‫مبتغاه‪ .‬وي�صف ال�صديق ح��ال امل�سافرين‬ ‫معه والأمرا�ض والآالم التي عانوها على منت‬ ‫ال�سفينة‪ .‬ومل ي�سلم رحالتنا من املر�ض فقد‬ ‫�أ�صابته احلمى وجعلته يفطر يومني �أو ثالثة‬ ‫�أيام ومن ثم يتابع �صومه‪ .‬لكن هذه الأحداث‬ ‫مل تكن لتثنيه عن تدوين كتابه «ال�صارم‬ ‫املنكي على نحر اب��ن ال�سبكي» بخط يده‪،‬‬ ‫فيقول‪« :‬ومل �أُ�ضع زمن ركوبي البحر عبث ًا»‪.‬‬

‫الو�صول و�أداء الفري�ضة‬

‫ويف ‪ 26‬رم�ضان و�صل احلديدة‪ ،‬وبعد �إقامة‬ ‫ثمانية ع�شر يوم ًا فيها‪ ،‬ق�ضى معظمها مبراجعة‬ ‫كتب احلديث‪ ،‬تابع طريقه �إىل جدة �آم ًال �أن‬ ‫ي�صلها يف �أ�سبوع‪ ،‬ولكن جتري الرياح مبا ال‬ ‫ت�شتهي ال�سفن‪ ،‬فقد ا�ستغرقت رحلة البحر‬ ‫الأحمر تلك نحو �شهر‪ ،‬وبلغ رك��اب ال�سفينة‬ ‫من الي�أ�س كل مبلغ‪ .‬وعند و�صول ال�سفينة‬ ‫مقابل َي َل ْم َلم �أحرموا بالعمرة‪ ،‬ونزلوا يف جدة‬

‫كانت محامل الحجاج‬ ‫تتعرض لكثير من‬ ‫األهوال فال يصل الحاج‬ ‫إلى مكة أو يعود إلى‬ ‫دياره إال وقد رأى الموت‬ ‫نصب عينيه مرَّات ومرَّات‬ ‫يف التا�سع من ذي القعدة‪ .‬وه��ذا يعني �أن‬ ‫رحلة البحر‪ ،‬مع �أيام التوقف واالنتظار يف‬ ‫املوانئ‪ ،‬ا�ستغرقت �شهرين كاملني‪.‬‬ ‫بعد ا�سرتاحة ثالثة �أيام من م�شقة ال�سفر‪،‬‬ ‫قام ال�صديق ب ��أداء العمرة‪ ،‬ويعرب ب�صدق‬ ‫ع��ن ��س�ع��ادت��ه ب��ال��و��ص��ول �إىل ت�ل��ك ال��دي��ار‬ ‫املباركة فيقول‪« :‬ومن �أول نظرة وقعت �إىل‬ ‫جمال الكعبة املكرمة‪ ،‬ذهلنا عن م�صائب‬ ‫ال�سفر وم�شاقه كلها‪.»..‬‬

‫ويتحدث عن �شعائر احلج و�أدائها من�سك ًا‬ ‫من�سك ًا على الرتتيب حتى الإف��ا��ض��ة �إىل‬ ‫مزدلفة ومنها �إىل ِمنى ثم �إىل م َّكة‪ .‬وهو‬ ‫ي�غ��ادر مكة يف ‪� 15‬صفر ‪1286‬هـ متوجه ًا‬ ‫�إىل املدينة في�صلها بعد ع�شرين يوم ًا‪ .‬وبعد‬ ‫«ح�ضور امل�سجد النبوي وال�سالم على املرقد‬ ‫املنور امل�صطفوي و�أ�صحابه‪ »..‬كما يقول‪،‬‬ ‫�أقام �أ�سبوع ًا يف املدينة املنورة ثم عاد �إىل‬ ‫مكة يف الثاين ع�شر من ربيع الأول‪ ،‬و�أدى‬ ‫عمرة ثانية �إ�ضافة �إىل فري�ضة احلج‪ .‬وبعد‬ ‫�أن ق��ام ب�ط��واف ال ��وداع يف �أوائ ��ل جمادى‬ ‫الأوىل‪ ،‬ا�ستقل مركب ًا من جدة �إىل ممبئي‬ ‫م��ار ًا باحلديدة‪ .‬وبعد اثنني وع�شرين يوم ًا‬ ‫م��ن معاناة �أه��وال البحر ومتاعب ال�سفر‬ ‫و�صل ميناء ممبئي‪ ،‬ومنها عاد �إىل مدينته‬ ‫بهوبال التي بلغها يف �أوائل جمادى الآخرة‬ ‫بعد رحلة حج دام��ت ثمانية �أ�شهر‪ ،‬ح�سب‬


‫احلرم ّ‬ ‫املكي ‪-‬بانورامية ‪-‬لل�سيد عبدالغفار البغدادي‪ -‬م�أخوذة عام ‪1889‬م‪ -‬من مقتنيات اليدن‬

‫ت�ق��دي��ره‪� ،‬أو ت�سعة �أ�شهر ح�سب التواريخ بحث وتدقيق‬

‫التي وردت يف ن�ص الرحلة‪ .‬ويختم الرحالة‬ ‫ح��دي�ث��ه ب��ال �ق��ول‪« :‬ون �ح��ن الآن مقيمون بـ‬ ‫«بهوبال» �إىل ما �شاء اهلل املتعال»‪.‬‬

‫م�سار الرحلة‬

‫�إن و��ص��ف م�سار الرحلة – كما �أ��ش��رت‬ ‫من قبل ال يزيد عن ع�شر �صفحات‪ ،‬لكن‬ ‫م��ا دون ��ه ال��رح��ال��ة يف م�تن رح�ل�ت��ه ميتاز‬ ‫ب��أه�م�ي��ة ع�ل�م�ي��ة‪ ،‬وخ��ا� �ص��ة يف م��ا يتعلق‬ ‫مبنا�سك احل��ج‪ ،‬جتعل ه��ذه الرحلة ذات‬ ‫قيمة معرفية بالغة‪ ،‬فكل ما ورد بني دفتي‬ ‫الكتاب يدعونا �إىل الت�أمل واملتابعة ما‬ ‫يجعله حري ًا بالقراءة املت�أنية التي تزودنا‬ ‫باملتعة واال�ستفادة م��ن ال�ل�آل��ئ املعرفية‬ ‫املكنونة يف �صدفات هذا الكتاب‪.‬‬

‫ال ب� َّ�د يل هنا �أن �أذك��ر �شيئ ًا ولو ي�سري ًا عن‬ ‫العمل الذي قمت به مع هذه الرحلة املفيدة‬ ‫واملمتعة‪ ،‬والتي �صدرت �ضمن �سل�سلة رحالت‬ ‫احلج التي ي�صدرها «املركز العربي للأدب‬ ‫اجل�غ��رايف‪-‬ارت�ي��اد الآف��اق»م �ه��داة �إىل روح‬ ‫ال��راح��ل الكبري ال�شيخ زاي ��د ب��اين نه�ضة‬ ‫الإم� � ��ارات‪ .‬ف�ق��د تعاملت م��ع ال�ن����ص على‬ ‫�أن ��ه خمطوطة بكر لأن ��ه يف احلقيقة يعج‬ ‫باملعلومات القيمة والثمينة وال�ت��ي حتتاج‬ ‫مزيد ًا من البحث حتى يتم تقدميها للقارئ‬ ‫ب�ع��د التثبت م��ن �صحتها‪ .‬والأم� ��ر ال�ث��اين‬ ‫ال��ذي �أود �أن �أ��ش�ير �إل�ي��ه ه��و ال�ع��دد الكبري‬ ‫من الأع�لام الب�شرية التي وردت يف جممل‬ ‫الكتاب والتي مل ي� ِأت �أحد على التعريف بها‬ ‫�أو حتى الإ�شارة �إليها من قبل‪ .‬وعلى �سبيل‬ ‫املثال ال احل�صر‪ ،‬ورد ا�سم �أو بالأحرى لقب‬

‫«اخلطابي‪� ،‬أو امل ��روزي» ونحن ال نعلم من‬ ‫هو الرجل �إال بالبحث والك�شف والتثبت‪ ،‬ثم‬ ‫يتبني لنا �أن «امل��روزي» قد �أُطلق على �أكرث‬ ‫من �شخ�صية‪ ،‬واحل��ال ينطبق على الكنية‬ ‫�أي�ض ًا «�أب��و �أم��ام��ة‪� ،‬أب��و يعلى‪� ،‬أب��و يو�سف»‪.‬‬ ‫وهذا ما جعلني �أتابع جميع الأعالم الواردة‬ ‫يف الكتاب و�أق��وم بذكر ترجمة لها‪ .‬وكنت‬ ‫�أوفق �أحيان ًا يف العثور على معلومات وافرة‪،‬‬ ‫و�أح�ي��ان� ًا �أخ��رى �أكتفي بالقليل ال��ذي يفي‬ ‫بك�شف اللثام عن ا�سم العلم ال��وارد ذكره‪.‬‬ ‫وقد �أ�ضفت �شروح ًا للكلمات الغريبة �أو التي‬ ‫حتتاج �إىل تعريف كم�صطلح �أو مكان �أو غري‬ ‫ذلك ليت�سنى للقارئ احل�صول على املعلومة‬ ‫من دون اللجوء �إىل معني �أو و�سيلة �إي�ضاح‬ ‫وتف�سري من خارج الكتاب‪ .‬وقد ا�ستدعى هذا‬ ‫العمل كثريا من اجلهد يف البحث والتق�صي‬ ‫للو�صول �إىل �صيغة الكتاب التي بني �أيدينا‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪58‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�أول �صورة فوتوغرافية للم�سجد النبوي ‪ -‬حممد �صادق بيه ‪1880‬م‪.‬‬

‫وقد تطلبت �إ�ضافة ما يزيد على ثالث مائة‬ ‫هام�ش‪ .‬والتزام ًا بالأمانة العلمية التي درج‬ ‫عليها العمل يف «ارت �ي��اد الآف� ��اق»‪ ،‬و�ضعت‬ ‫بجانب الهام�ش امل�ضاف حرف «م» اخت�صار ًا‬ ‫لكلمة «حم���رر»‪ .‬وه��ذه ال�ه��وام����ش تت�ضمن‬ ‫�أي�ض ًا مراجعة الآي��ات القر�آنية التي مرت‬ ‫يف منت الكتاب مع ذكر ا�سم ال�سورة متبوع ًا‬ ‫برقم الآية‪ .‬وهناك بع�ض الأخطاء الب�سيطة‬ ‫والهفوات التي قد تكون مطبعية‪ ،‬وقد �آثرت‬ ‫ت�صحيحها من دون الإ�شارة �إليها لتقديري‬ ‫�أن��ه ال ح��اج��ة ت�ستدعي ذل��ك‪ .‬وف�ض ًال عن‬ ‫ذلك‪ ،‬قمت بو�ضع ك�شاف ح�ضاري وفهار�س‬

‫يف نهاية الكتاب‪ ،‬مما ي�ساعد على �سرعة‬ ‫البحث و�سهولة تناول املعلومة املطلوبة‪.‬‬

‫مقدمة امل�ؤلف‬

‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬احلمد اهلل الذي‬ ‫وفق من �شاء متى �شاء من عباده املخل�صني‪،‬‬ ‫للرحلة �إىل بيته العتيق‪ ،‬ال��ذي جعله مثابة‬ ‫للنا�س و�أمن ًا‪ ،‬تهوي �إليه �أفئدة من النا�س‪،‬‬ ‫في�أتونه رجا ًال وعلى كل �ضامر ي�أتني من كل‬ ‫فج عميق‪.‬‬ ‫و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪،‬‬ ‫و�أ�شهد �أن حممد ًا عبده ور�سوله‪� ،‬شهادة‬

‫الرحالة‬ ‫حممد �صديق خان بن ح�سن بن علي بن لطف اهلل احل�سيني البخاري‬ ‫القنوجي‪� ،‬أبو الطيب‪ :‬من رجال النه�ضة الإ�سالمية املجددين‪ .‬ولد‬ ‫‪1248‬هـ‪1832 /‬م يف قنوج «بالهند»ون�ش�أ فيها وتعلم يف دلهي‪� ،‬سافر �إىل‬ ‫بهوبال طلباً للعي�ش ففاز برثوة وافرة‪ .‬قال يف ترجمة نف�سه‪:‬‬ ‫�ألقى ع�صا الرتحال يف حمرو�سة بهوبال‪ ،‬ف�أقام بها وتوطن ومتول‪،‬‬ ‫وا�ستوزر وناب‪ ،‬و�أ َّلف و�ص َّنف وتزوج مبلكة بهوبال‪ ،‬و ُلقب بنواب عايل‬ ‫اجلاه �أمري امللك بهادر‪ .‬له ن ّيف و�س ُّتون م�صنفاً بالعربية والفار�سية‬ ‫والهندية‪« ،‬من كتاب الأعالم خلري الدين الزركلي »‪.‬‬

‫تنجينا م��ن ك��ل خ�ط��ب و��ض�ي��ق يف احل�ي��اة‬ ‫الدنيا ويف الآخرة ب�صدق الإخال�ص وح�سن‬ ‫الت�صديق �صلى اهلل عليه وعلى �آله و�صحبه‬ ‫املقتفني �أثاره يف كل جليل ودقيق‪.‬‬ ‫وبعد‪ ،‬فقد قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‬ ‫ا�ست َ​َطا َع‬ ‫[ َوللِهّ ِ َع َلى ال َّن ِ‬ ‫ا�س ِح ُّج ا ْل َب ْي ِت َم ِن ْ‬ ‫�إِ َل ْي ِه َ�س ِبي ًال‪� ،‬سورة �آل عمران‪ ،‬الآي��ة «‪،»97‬‬ ‫وقال ر�سول اهلل «�ص َّلى اهلل عليه و�س َّلم»‪« :‬يا‬ ‫�أيها النا�س! قد فر�ض عليكم احلج فحجوا»‬ ‫�أخرجه م�سلم والن�سائي‪.‬‬ ‫وق��ال �أه��ل العلم‪ :‬احلر املكلف القادر‪� ،‬إذا‬ ‫وجد ال��زاد والراحلة و�أم��ن الطريق‪ ،‬يلزمه‬ ‫احل��ج‪ ،‬وعليه �إج�م��اع الأم��ة‪ ،‬ور�أي��ت البحر‬ ‫املحيط ومكة املكرمة واملدينة املنورة زادهما‬ ‫اهلل ت�شريف ًا وتعظيم ًا مرار ًا يف النوم‪ ،‬فر�أيت‬ ‫ليلة ك ��أين "ركبت البحر وقطعت امل�سافة‬ ‫وبلغت مكة‪ ،‬ور�أي�ت�ن��ي ك ��أين يف مكان خال‬ ‫له �أ�ساطني‪ -‬ج‪ .‬ا�سطوانة‪ :‬العمود القائم‬ ‫«ال �� �س��اري��ة»‪ -‬ف �خ��ام و�أع� �م ��دة ع �ظ��ام و�أن��ا‬ ‫جال�س فيه« وامل�سجد احلرام كذلك‪ ،‬ور�أيت‬ ‫م��رة �أخ ��رى »�أين �أدور و�أت �ف � َّرج يف �أ��س��واق‬


‫م َّكة وربوعها‪ ،‬و�أم�شي و�أختلف يف �سككها‪،‬‬ ‫وهي طيبة البناء عامرة احلانات كالبالد‬ ‫امل�أهولة" وم َّكة امل�شرفة كذلك‪ ،‬ور�أيت املدينة‬ ‫املنورة ك�أنها بلدة قدمية‪ ،‬ور�أي��ت جدرانها‬ ‫بالية ال�ب�ن��اء ورب��وع�ه��ا معمولة م��ن الطني‬ ‫وامل��اء‪ ،‬و�سككها �ض ّيقة خالية من النا�س‪،‬‬ ‫وقد وجدتها على هذه ال�صفة حني �سعدت‬ ‫باحل�ضور يف �سوحهما يف �سنة «‪ »1285‬خم�س‬ ‫وثمانني ومائتني و�ألف من الهجرة النبوية‪،‬‬ ‫على �صاحبها �أف�ضل ال�صالة والتحية‪.‬‬ ‫فحملني ه ��ذا ع�ل��ى ال��رح �ل��ة �إىل ب�ل��د اهلل‬ ‫الأمني‪ ،‬و�شد املطي �إىل م�سجد �س ّيدنا حممد‬ ‫�س ّيد املر�سلني «�ص َّلى اهلل عليه و�س َّلم» يف‬ ‫تلك ال�سنة‪ ،‬ودعاين ذلك �إىل جمع منا�سك‬ ‫احلج والعمرة ح�سب ما تبني يل من الكتاب‬ ‫وال�س َّنة‪ ،‬فجمعتهما على �سبيل االخت�صار‪،‬‬

‫تب�صرة لنف�سي وت��ذك��رة مل��ن �أخل�صه اهلل‬ ‫بخال�صة ذك��رى ال��دار‪ ،‬كيف واالب �ت��داع قد‬ ‫دخل العبادات من جميع الأن��واع‪ ،‬وعار�ض‬ ‫عن الهدي النبوي كل ُمفْرط‪ ،‬و ُم َف ّرط وخالط‬ ‫احل��ق بالباطل كل خمالط وخمبط‪ ،‬فهذا‬ ‫من�سك قد ربطت ب��الأدل��ة ودالئله مبذاهب‬ ‫الأجلة‪� ،‬ضمنته خم�سة �أبواب وخامتة‪� ،‬أعادنا‬ ‫اهلل ع��ن ال�ن��ار احلاطمة‪ ،‬و�س ّميته‪« :‬رحلة‬ ‫ال�صديق �إىل البيت العتيق»‪ ،‬واهلل �أ�س�أل �أن‬ ‫يخل�ص نيتي ويح�سن طويتي ويتقبل عملي‬ ‫وينجح �أملي‪ ،‬فقد قال يف كتابه العزيز «�أَ ِيّن‬ ‫َال �أُ ِ�ضي ُع َع َم َل َع ِام ٍل ِّمن ُكم ‪� -‬آل عمران‪ ،‬الآية»‬ ‫‪.»195« :‬‬ ‫وق��ال ر�سول اهلل «�ص َّلى اهلل عليه و�س َّلم»‪:‬‬ ‫«�إمن��ا الأعمال بالنيات و�إمن��ا لكل ام��رئ ما‬ ‫ن��وى‪ ،‬فمن كانت هجرته �إىل اهلل ور�سوله‪،‬‬

‫فهجرته �إىل اهلل ور�سوله‪ ،‬ومن كانت هجرته‬ ‫�إىل دنيا ي�صيبها �أو امر�أة يتزوجها‪ :‬فهجرته‬ ‫�إىل ما هاجر �إل�ي��ه» متفق عليه من حديث‬ ‫عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل تعاىل عنه‪.‬‬

‫و�صف الرحلة‬

‫ق ��ال ال�ع�ب��د اخل��ام��ل امل� �ت ��واري ��ص��دي��ق بن‬ ‫ح�سن بن علي احل�سيني القنوجي البخاري‬ ‫«ع �ف��ا اهلل ع�ن��ه م��ا ج �ن��اه وا�ستعمله فيما‬ ‫يحب وير�ضاه»‪ :‬قد رحلت يوم االثنني ل�سبع‬ ‫وع�شرين ‪ 27‬قد خلت من �شهر �شعبان �سنة‬ ‫خم�س وثمانني ومائتني و�ألف ‪ 1285‬الهجرية‬ ‫ املطابق ‪ 1868‬امليالدية ‪-‬على �صاحبها‬‫ال�صالة والتحية‪ ،‬غ��ب ‪� -‬أي بعد‪� -‬صالة‬ ‫الظهر من حمط رحلي «بهوبال» ‪ -‬بهوبال‪:‬‬ ‫والي��ة �إقطاعية يف اوا� �س��ط الهند �أن�ش�أها‬ ‫‪1707‬م دو�ست حممد خان اجلندي الأفغاين‪.‬‬ ‫عا�صمتها بهوبال وفيها «جامع م�سجد» الذي‬ ‫�شيدته امللكة قد�سية بيكم‪«.‬املنجد يف اللغة‬ ‫والأع�لام» عن دار امل�شرق يف بريوت ‪-‬على‬ ‫جناح ال�سالمة مغتنم ًا لكل فائدة وكرامة‪،‬‬ ‫م��ري��د ًا لت�أدية حج الإ��س�لام �إىل «بيت اهلل‬ ‫احل��رام» وو�صلت بعد ما قطعت �سبعة من‬ ‫امل�ن��ازل يف اليوم الثامن �إىل جم��رى عجلة‬ ‫النار املعروفة بالبابور‪ -‬قطار �سكة احلديد ‪-‬‬ ‫وحملت عليها الأثقال وركبتها يوم ًا وليلة ثم‬ ‫نزلت مبحرو�سة «ممبئي»‪ -‬مومباي ‪ -‬وهي‬ ‫�ساحل البحر املحيط للحجاج‪ ،‬و�أقمت بها‬ ‫منتظر ًا حل�صول املركب‪.‬‬

‫ال�سفر من ممبئي‬

‫وت �ه �ي ��أ زاد ال���س�ف��ر اث �ن��ي ع�شر ي��وم � ًا‪ ،‬ثم‬ ‫رك�ب��ت ي��وم اخلمي�س تا�سع رم���ض��ان قبيل‬ ‫��ص�لاة الع�صر يف امل��رك��ب امل�سمى بـ«فتح‬ ‫ال �� �س �ل �ط��ان»ورف �ع��وا ل�ن�ج��ر ‪ -‬ب��ال�ف��ار��س�ي��ة‪،‬‬ ‫وبالعربية تعني‪ :‬ا ِمل ْر َ�ساة ال�سفينة ذلك اليوم‬ ‫مع تو�سم الظفر وال�سكينة‪.‬‬ ‫وك��ان��ت ال��ري��ح يومئذ طيبة‪ ،‬ف�سار املركب‬ ‫�ستّني مرحلة بالتخمني‪ ،‬ثم �سكن الريح وركد‬ ‫املركب على ظهر البحر كالغدير الدائم‪ ،‬ال‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪60‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫يتحرك‪ ،‬ك�أنه امل��اء الراكد ولركبه مناكد‪،‬‬ ‫حتى �أتت ثالثة �أيام على هذه احلال‪ ،‬وت�شتت‬ ‫لأهل املركب البال‪.‬‬ ‫فلما ا�ستي�أ�سوا من جم��راه خل�صوا جني ًا‪،‬‬ ‫وختموا هذه الآية‪َ :‬اّ«ل ِ�إ َل َه ِ�إ َاّل �أَنتَ ُ�س ْب َحا َن َك‬ ‫ِ�إ ِيّن ُكنتُ ِمنَ َّ‬ ‫الظالمِ ِ َني ‪ -‬الأنبياء‪ ،‬الآية‪»87« :‬‬ ‫ كيف وقد قال تعاىل‪� :‬أثرها‪َ « :‬ونجَ َّ ْي َنا ُه ِمنَ‬‫نجي المْ ُ�ؤ ِْم ِن َني ‪ -‬الأنبياء»‪ ،‬الآية‬ ‫ا ْل َغ ِّم َو َك َذ ِل َك ُن ِ‬ ‫«‪ - »88‬فتنف�س من بركتها ال��ري��ح‪ ،‬وذهب‬ ‫العنا والتربيح‪ ،‬وكان هو به ليلة الأحد ثاين‬ ‫ع�شر ‪ 12‬رم�ضان‪.‬‬ ‫ور�أيت يف هذه الليلة باملنام‪ :‬ك�أين �أعانق من‬ ‫�شجر ال�سدر �أ�شجاره‪ ،‬و�أجتني منه ثماره‪،‬‬ ‫وث�م��ره طيب نفي�س ي�ه��واه ف� ��ؤاد ك��ل �صحيح‬ ‫ولقي�س‪ :‬م�صاب بال َغ َثيان‪ ،‬فعربت الر�ؤيا‪ :‬ببلوغ‬ ‫الأرب وح�صول املق�صود من �أر�ض العرب‪.‬‬

‫وق��د ات �ف��ق يف ب��دء رك ��وب ال�ب�ح��ر الغثيان‬ ‫وال�صداع �إىل ثالثة �أيام‪ ،‬ثم ح�صلت اخلفة‬ ‫للطبع يف اليوم الرابع‪ ،‬ووجدت املركب بيت ًا‬ ‫كاملوطن‪ ،‬و�شاهدت فيه معنى قول ال�سادة‬ ‫ال�صوفية‪ :‬ال�سفر يف الوطن‪.‬‬ ‫وك��ان رك��اب ال�سفينة نحو ًا من ث�لاث مائة‬ ‫نف�س‪ ،‬وكان الو�ضوء والغ�سل من ذلك املاء‬ ‫امل��ال��ح‪ ،‬و�أم ��ا ال�شرب ف�ك��ان �أه��ل ال�سفينة‬ ‫ا�ست�صحبوا معهم املاء العذب من "ممبئي"‬ ‫وظ��ه��رت ال �ب �ث��ور يف امل �ن �خ��ري��ن م��ن ��ش��دة‬ ‫ملوحة ماء البحر‪ ،‬واجن � َّرت تلك �إىل ح َّمى‬ ‫البدن حتى �أف�ط��رت ثالثة �أي��ام �أو يومني‪،‬‬

‫ال يكاد نص من نصوص‬ ‫الرحالت الحجازية يخلو‬ ‫جمة في‬ ‫من فوائد َّ‬ ‫الفقه وعلوم الدين‬

‫و�أمتمت بقية رم�ضان بال�سفينة باالطمئنان‬ ‫وال�سكينة‪ ،‬واجتمع يل يف هذا ال�سفر الرحلة‬ ‫للحج و�صوم رم�ضان‪ ،‬و َّمتت لنا فيه عبادتان‪.‬‬

‫الو�صول �إىل ُحديدة‬

‫وم ��ررت يف ال�سابع ع�شر م��ن ه��ذا ال�شهر‬ ‫من يوم الرحيل من «ممبئي» على �أُ�سقوطر‬ ‫«��س�ق�ط��رة» ع��دن وب ��اب �إ� �س �ك �ن��در‪ ،‬و�أل �ق��ت‬ ‫ال�سفينة مر�ساها على �ساحل ُحديدة‪ ،‬ومل ن َر‬ ‫�شيئ ًا من «ممبئي» �إىل هنا من وعثاء ال�سفر‬ ‫وك�آبة احل�ضر‪.‬‬ ‫وكتبت ب�ي��دي يف امل��رك��ب ك�ت��اب «ال���ص��ارم‬ ‫امل�ن�ك��ي ع�ل��ى ن�ح��ر اب��ن ال�سبكي» للحافظ‬ ‫ابن قدامة املقد�سي‪ -‬يف جملد و�سط‪ ،‬ومل‬ ‫�أ�ضيع زمن ركوبي البحر عبث ًا‪ ،‬وكان نزول‬ ‫«احلديدة»يوم الأحد يف ال�ساد�س والع�شرين‬


‫‪ 26‬م��ن رم���ض��ان‪ ،‬ون��زل��ت ب ��دار «القا�ضي‬ ‫ح�سني بن حم�سن‪ ،‬وال�شيخ زين العابدين»‬ ‫�سلمهما اهلل ت�ع��اىل‪ ،‬وج��زاه�م��ا خ�ي�ر ًا يوم‬ ‫الدين‪ ،‬وح�صل من جهتهم ما يحق لل�ضيف‪،‬‬ ‫من الإك��رام والإط�ع��ام وامل��روءة‪ ،‬يف ال�شتاء‬ ‫وال�صيف‪.‬‬ ‫و�أقمت هنا اثني ع�شر ‪ 12‬يوم ًا‪� ،‬أراجع كتب‬ ‫احل��دي��ث و�أكتبها ب�ي��دي م��ا �أ�ستطيع‪ ،‬ومل‬ ‫�أذه��ب �إىل امل�ساجد �إ ّال لل�صلوات اخلم�س‬ ‫لكرثة ا�شتغايل بطلب العلم‪.‬‬ ‫وف�شا خرب ر�ؤي��ة هالل �شوال باحلديدة يوم‬ ‫الثامن والع�شرين ‪ 28‬من رم�ضان‪ ،‬بح�سب‬ ‫ر�ؤي �ت �ن��ا �أه ��ل ال�سفينة‪ ،‬و� �ض��رب��ت امل��داف��ع‬ ‫للإعالم بالعيد‪ ،‬فعجبنا من ذلك وتفح�صنا‬ ‫عما هنالك‪ ،‬فقيل يوم التا�سع والع�شرين‪،‬‬ ‫ولك َّنا مل نره مع تعمق الب�صر و�إمعان النظر‪.‬‬

‫و�صليت �صالة العيد موافقة لأه��ل البلد‪،‬‬ ‫وذهبت �صبح يوم الربوع ‪� -‬أي يوم الأربعاء‬ ‫ الذي كان بح�سابنا يوم التا�سع والع�شرين‬‫�إىل امل�صلى‪ ،‬وكان الإم��ام يومئذ واخلطيب‬ ‫رج ًال �صاحل ًا ذا �شيبة ي�سمى‪ :‬بعبد الرحمن‬

‫ادخلوها ب�سالم‬ ‫وقد كنت �أقمت مب َّكة مبحلة �أهل‬ ‫الهند‪ ،‬و�أغ��دو و�أروح �إىل احلرم‬ ‫املحرتم من «باب الزيادة» و�أذكر‬ ‫ين �أَ ْح َ�س ُنواْ‬ ‫قول اهلل تعاىل‪ِّ « :‬ل ّلَذِ َ‬ ‫الحْ ُ ْ�س َنى َو ِز َي����ا َد ٌة‪ »..‬و�أرج��و منه‬ ‫���س��ب��ح��ان��ه �أن يجعلني م��ن �أه��ل‬ ‫ت��ل��ك ال�����س��ع��ادة‪ ،‬وك��ث�يراً م��ا �أم��� ُّر‬ ‫ع���ل���ى «ب������اب ال���������س��ل�ام» م��ب��ت��غ��ي��اً‬ ‫ك��ت��ب ال��ع��ل��م‪ ،‬و�أق����ول يف نف�سي‪:‬‬ ‫ادخلوها ب�سالم‪.‬‬

‫ال�شافعي‪ ،‬وك��ان حاكم البلد «�أح�م��د با�شا‬ ‫الرتكي» حا�ضر ًا بامل�صلى وحزر احلا�ضرون‬ ‫بامل�صلى‪ ،‬فكانوا نحو ًا من �ألفني من �أهل البلد‬ ‫والغرباء يف ر�أي العني‪ ،‬وم�صلى احلديدة‬ ‫ف�ضاء لي�س به بناء غري املنرب للخطبة املبني‬ ‫من الآجر والطني‪ ،‬وكانت �صالة العيد على‬ ‫مذهب ال�شافعية‪.‬‬ ‫ويف �أيام الإقامة بهذه البلدة �أهديت ن�سخاً‬ ‫م��ن ك �ت��اب��ي‪« :‬احل��ط��ة يف ذك ��ر ال���ص�ح��اح‬ ‫ال�ستة»لعلمائها و�أهل العلم املقيمني باملرادعة‬ ‫وبيت الفقيه وغريهما‪ ،‬وكلهم ا�ستح�سنوها‬ ‫ودعوا مل�ؤلفها‪.‬‬ ‫وق ��ال يل ال�شيخ علي ب��ن عبد اهلل �شارح‬ ‫البخاري ‪�-‬س َّلمه اهلل‪ -‬حني القني‪:‬‬ ‫«وج��ود مثلكم يف ه��ذا الزمان من نعم اهلل‬ ‫تعاىل لو كانوا يعقلون»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وا�ستعرت ر�سائل ال�سيد حممد الأمري«الأ ِمري‬ ‫«‪1154-1232‬هـ‪1817 - 1742 ،‬م»‪ :‬حممد‬ ‫بن حممد بن �أحمد بن عبد القادر بن عبد‬ ‫العزيز ال�سنباوي الأزه��ري‪ :‬عامل بالعربية‪،‬‬ ‫م��ن فقهاء امل��ال�ك�ي��ة‪ .‬ول��د يف ناحية �سنبو‬ ‫«مب�صر» وتعلم يف الأزه��ر و ُت��ويف بالقاهرة‪.‬‬ ‫ا�شتهر باالمري لأن جده احمد كانت له �إمرة‬ ‫يف ال�صعيد‪� .‬أك�ث�ر كتبه ح��وا�� ٍ�ش و� �ش��روح‪،‬‬ ‫�أ�شهرها «حا�شية على مغني اللبيب البن‬ ‫ه �� �ش��ام»‪ ،‬وم�ن�ه��ا «الأك �ل �ي��ل � �ش��رح خمت�صر‬ ‫خليل»‪ ،‬و«تف�سري املعوذتني» ول��ه «ثبت» يف‬ ‫�أ�سماء �شيوخه و ُنبذ من تراجمهم وتراجم‬ ‫م��ن �أخ� ��ذوا ع�ن�ه��م‪� .‬أع�ل�ام ال��زرك �ل��ي حني‬ ‫الرحيل م��ن ح��دي��دة لأج��ل النظر والنقل‪،‬‬ ‫فمنها ما نظرت فيها وا�ستفدت‪ ،‬ومنها ما‬ ‫نقلت وا�ستن�سخت‪ ،‬ثم طلعت على املركب‬ ‫ب�ع��د طلب ال�ع�ل��م‪ -‬عا�شر ‪� � 10‬ش��وال من‬‫«احلديدة» ومكثت فيه �أنتظر رفع املر�ساة‪،‬‬ ‫ومعي يف املركب ال�شيخ ح�سني احل�سام ‪�-‬إىل‬ ‫ثالثة �أي ��ام‪ -‬نتذاكر العلم و�أه�ل��ه ومعدنه‬ ‫وحم�ل��ه‪ ،‬حتى تدفقت بالربكات �أمطارنا‪،‬‬ ‫وغ َّردت ب�أحاديث احلبيب �أطيارنا‪ ،‬وقد كنت‬ ‫ا�شرتيت من احلديدة‪:‬‬ ‫‪ - 1‬كتاب اقت�ضاء ال�صراط امل�ستقيم ملخالفة‬ ‫�أ�صحاب اجلحيم‪.‬‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪62‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫‪� - 2‬إر��ش��اد الفحول �إىل حتقيق احل��ق من‬ ‫علم الأ�صول‪.‬‬ ‫‪ - 3‬نيل الأوطار �شرح منتقى الأخبار‪.‬‬ ‫‪ - 4‬فتح القدير يف فني الرواية والدراية‬ ‫من التف�سري‪.‬‬ ‫وغري ذلك مما �شغفت به‪.‬‬ ‫ويوم الثلوث «الثالثاء» رابع ع�شر من �شوال‬ ‫وقت ال�صبح رفعوا مر�ساة ال�سفينة‪ ،‬فكان‬ ‫جمموع �أي��ام الإق��ام��ة باحلديدة على هذا‬ ‫احل�ساب مع �أي��ام املكث يف املركب ثمانية‬ ‫ع�شر ي��وم� ًا‪ ،‬ومل � ُآل جهد ًا يف ه��ذه احلركة‬ ‫و�أي� ��ام ال�برك��ة م��ن حت�صيل ال�ع�ل��م النافع‬ ‫واخلري اجلاري‪.‬‬

‫زاد قليل وبحر غا�ضب‬

‫املركب من احلديدة َ�س َكنَ الهوا ُء‬ ‫و َملّ��ا َ�سا َر‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫املركب خطو ًة من‬ ‫يتحرك‬ ‫�إىل ثالثة �أيام‪ ،‬ومل‬ ‫ُ‬ ‫الريح الأزيب‪،‬‬ ‫حمل القيام‪ ،‬وبعد ذلك ه َّبت ُ‬ ‫وك ��ان �إذ ذاك زم ��ان احل��ج �أق� ��رب‪ ،‬وج��اء‬ ‫الغيم واملطر بالليل‪ ،‬ورجع املركب �إىل عقبه‬ ‫و�سار �إىل غري �صوبه‪ ،‬فمكثنا بهذه احلالة‬

‫يف البحر �إىل �أي��ام �آئ�سني عن الو�صول �إىل‬ ‫امل�أمول‪ ،‬وراج�ين من اهلل ح�صول امل�س�ؤول‪،‬‬ ‫مع �أن «جدة» من «احلديدة» م�سري �أ�سبوع ال‬ ‫غري لبطء ال�سري‪ ،‬ولكن و�صل مركبنا �إليها‬ ‫بعد نحو �شهر‪ ،‬حتى �ضاقت علينا الأر���ض‬ ‫مبا رحبت من طول الركوب وخمالفة الهواء‬ ‫وقلة املطعوم وامل�شروب‪ ،‬حتى قنعت يف اليوم‬ ‫والليلة‪ ،‬بجرعة من املاء‪ ،‬ولقيمات من الأرز‬ ‫الذي مل يخالطه �شيء من ال�سمن والإدام‪.‬‬ ‫وبلغت الأن�ف����س ال�ت�راق��ي«�أي �شارفت على‬ ‫امل��وت» يف تلك الأي ��ام‪ ،‬وك��ان��ت الأي ��دي �إىل‬ ‫ال�سماء مرفوعة والأعني والآذان ك�أنها على‬ ‫طريق جم��يء ال��ري��ح الطيب ور�ؤي ��ة «ج��دة»‬ ‫مو�ضوعة‪ ،‬ثم �سمع اهلل قول ه�ؤالء الآئ�سني‪،‬‬ ‫وه َّبت لنا ري��ح طيبة من جهة رب العاملني‬ ‫�إىل يومني‪ ،‬وكانت بالغاية �ضعيفة بال مني‬ ‫«ال �ك��ذب»‪ ،‬ولكنه �أخ��رج املركب من جممع‬ ‫اجلبال امل�ستغرقة يف املاء �إىل �ساحل النجاة‪.‬‬ ‫ور�أي �ن��ا ي��وم ال�سبت يف امل��رك��ب ه�لال ذي‬ ‫القعدة‪ ،‬ويوم الثالث منه تق َّوى الريح قلي ًال‬ ‫وجرى املركب‪.‬‬

‫ال�س َن ِة‬ ‫وي��وم الثلوث راب��ع ذي القعدة م��ن َّ‬ ‫املذكورة بعد �صالة ال�صبح اغت�سلنا و�أحرمنا‬ ‫بالعمرة‪ ،‬مع نية التمتع‪ ،‬من حماذي «يلملم»‬ ‫وذه��ب ع َّنا ما ك َّنا جن��ده من الغم والأمل‪،‬‬ ‫ورفعنا الأ�صوات بالتلبية‪ ،‬و�أخل�صنا العمل‬ ‫هلل والنية‪ ،‬وما ح�صل لنا من ال�سرور بهذا‬ ‫الإحرام ال ميكن �شرحه بالأقالم‪.‬‬ ‫ويف هذه احلالة ملا قربنا من «جدة» ‪-‬قرب‬ ‫امل��رك��ب لي ًال �إىل جبل يف امل��اء فا�ضطرب‬ ‫املعلم ل��ه ا�ضطراب ًا ��ش��دي��د ًا‪ ،‬ورب��ط �أ�شرع‬ ‫والد ْو َقل»‪ :‬خ�شبة‬ ‫ال�سفينة بالأدقال َّ‬ ‫«الد َقل َّ‬ ‫ال�سفينة يمُ َ � ُّد عليها‬ ‫طويلة ت َُ�ش ُّد يف و�سط َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ال�شراع‪« .‬ل�سان العرب» البن منظور‪ ،‬وخفت‬ ‫منه الأثقال وعمل كل تدبري خطر له بالبال‪،‬‬ ‫و�أر�سى املركب يف حمله يف احلال‪.‬‬ ‫و�أنزل املالحون �أقرب املركب لدرك حقيقة‬ ‫احلال‪ ،‬و�سعوا �إىل جوانبه‪ ،‬وعلموا �أن املركب‬ ‫ل��و ��س��ار قلي ًال لت�صادم ب��اجل�ب��ال‪ ،‬فم�ضى‬ ‫ه��ذا ال�ل�ي��ل ل�ل��رك��اب يف غ��اي��ة اال��ض�ط��راب‬ ‫ومتت تلك الليلة باال�ستغفار و�إخال�ص النية‬ ‫والتوبة وكلمة ال�شهادة على الأل�سن‪ ،‬و�سلموا‬ ‫�أنف�سهم للموت‪ ،‬ومل يكن هذا الليل �أقل من‬ ‫يوم القيامة‪ ،‬ولكن رحم اهلل علينا بال�سالمة‬ ‫حتى طلع الفجر و�شاهدنا ذل��ك اجلبل يف‬ ‫�ضوء النهار‪.‬‬ ‫وم��ن العجائب التي ال ينبغي �إخ�ف��ا�ؤه��ا �أن‬ ‫امل�لاح�ين �إذا ت���رددوا يف �أم ��ر امل��رك��ب من‬ ‫جمود الريح �أو هبوبها خمالفة �أو �شيئ ًا من‬ ‫اخلوف على ال�سفينة و�أهلها‪ ،‬كانوا يهتفون‬ ‫با�سم ال�شيخ عيدرو�س وغريه من املخلوقني‬ ‫م�ستغيثني وم���س�ت�ع�ي�ن�ين ب ��ه‪ ،‬ومل ي�ك��ون��وا‬ ‫عز َّ‬ ‫يذكرون اهلل َّ‬ ‫وجل �أبد ًا �أو يدعوه ب�أ�سمائه‬ ‫احل�سنى‪ ،‬وكنت �إذا �سمعتهم ينادون غري اهلل‬ ‫وي�ستعينون بالأولياء خفت على �أهل املركب‬ ‫خوف ًا عظيم ًا من الهالك‪.‬‬ ‫وقلت يف نف�سي‪ :‬يا هلل العجب‪ -‬كيف ي�صل‬ ‫هذا املركب ب�أهله �إىل �ساحل ال�سالمة! ف�إن‬ ‫م�شركي العرب قد كانوا ال يذكرون �آلهتهم‬ ‫الباطلة يف مثل هذا املقام‪ ،‬بل يدعون اهلل‬ ‫تعاىل وحده غري م�شركني به‪ ،‬كما حكى عنهم‬ ‫�سبحانه يف حمكم كتابه املبني‪َ « :‬ف ِ�إ َذا َر ِك ُبوا‬


‫دخول مكة و�أداء العمرة‬

‫�صورة ملجموعة من حجاج جاوى يف حج ‪1885‬م‬

‫فيِ ا ْل ُف ْل ِك د َ​َع � ُوا َهّ َ‬ ‫الدّينَ ‪-‬‬ ‫الل مخُ ْ ِل ِ�ص َني َل� ُه ِ‬ ‫العنكبوت‪» ،‬الآية‪- »65« :‬وه�ؤالء القوم الذين‬ ‫أنف�سهم امل�سلمني يدعون غري اهلل‬ ‫ُي�س ُّمون � َ‬ ‫ويهتفون ب�أ�سماء املخلوقني‪ ،‬ولقد �صدق اهلل‬ ‫تعاىل فيما قال‪َ « :‬و َما ُي�ؤ ِْمنُ �أَكْثرَ ُ هُ ْم ِباللهّ ِ �إِ َّال‬ ‫َوهُ م ُّم ْ�ش ِر ُكونَ ‪ -‬يو�سف‪ ،‬الآية‪.»106« :‬‬

‫الو�صول �إىل جدة‬

‫ولكن مل��ا كانت رحمة اهلل �سبقت غ�ضبه‪،‬‬ ‫�أو�صل �أرحم الراحمني املركب بف�ضله كيفما‬ ‫اتفق بعد اللتيا والتي «ال َّل َت َّيا والتي‪ :‬ا�سمان‬ ‫من �أ�سماء الداهية –ال�صحاح‪ -‬للجوهري‬ ‫لتي»‪� .‬إىل املنزل املق�صود‪ ،‬ورفعوا مر�ساة‬‫ال�سفينة �صبح تلك الليلة الهائلة �إىل «جدة»‬ ‫و�ألفوا الريح موافقة‪ ،‬فطوى املركب الطريق‬ ‫الباقية يف يوم وليلة وو�صل �إىل �ساحل «جدة»‬ ‫حني �صالة الظهر من يوم الأحد تا�سع ذي‬ ‫القعدة‪ ،‬واحلمد هلل على ذلك حمد ًا كثري ًا‪.‬‬ ‫والذي ح�صل لنا من م�س َر ِة القلب و�إ�شراق‬ ‫الوجه وا ُ‬ ‫علم حقائ َقها �إال‬ ‫حلبور �إذ ذاك ال َي ُ‬

‫ال�صدور‪ ،‬وكيف؟ فقد ظهرت‬ ‫العليم ِ‬ ‫ُ‬ ‫بذات ُّ‬ ‫�صورة املراد بعد �شهرين غب الي�أ�س‪ ،‬وك َّنا‬ ‫رب ال�ن��ا���س! �أق��م �سفينتنا على‬ ‫ن�ق��ول‪ :‬ي��ا َّ‬ ‫«جدة» كما ا�ستوت �سفينة نوح عليه ال�سالم‬ ‫ع�ل��ى اجل� ��ودي‪ ،‬فلي�س ذل ��ك ب�ع��زي��ز على‬ ‫ف�ضلك املجدي‪.‬‬ ‫وح�ين ن��زل��ت ب�ج��دة �أق �م��ت بها ث�لاث��ة �أي��ام‬ ‫ل�لا��س�تراح��ة م��ن ت�ع��ب ال���س�ف��ر وا��س�ت�ك��راء‬ ‫اجلمال حلمل الأثقال‪.‬‬ ‫ووج��دت بجدة املكا�سني «انتقا�ص الثمن يف‬ ‫البياعة‪ ،‬ومنه ا�شتقاق امل ّكا�س‪ ،‬لأنه ي�ستنق�صه‪.‬‬ ‫ا�س يمَ ْ ِك ُ�س النا�س ‪ -‬معجم العني‬ ‫ورج��ل م ّك ٌ‬ ‫للفراهيدي‪ :‬مك�س» من جهة الرتك ظاملني على‬ ‫النا�س ب�أخذ �أموالهم بالباطل‪.‬‬

‫ثم يوم الربوع ثاين ع�شر ذي القعدة ركبنا‬ ‫م��ن «ج� ��دة» �إىل ح��دة ب�ع��د � �ص�لاة امل�غ��رب‬ ‫ومن حدة �إىل كعبة املق�صود وعتبة اجلود‪،‬‬ ‫بعد جمع �صالة الظهر والع�صر‪ ،‬ودخلنا‬ ‫البلد الأمني بعد ن�صف الليل مع ال�سيد �أبي‬ ‫بكر امل�ط��وف ونزلنا ع��ن اجل�م��ال وم�شينا‬ ‫على الأق��دام‪ ،‬وتركنا الأحمال والأثقال مع‬ ‫اخلدام‪ ،‬ومل نعرج على �شيء‪.‬‬ ‫وق���ص��دن��ا امل�سجد احل���رام ودخ�ل�ن��ا «ب��اب‬ ‫ال�سالم» و�أ َدّينا �أعمال العمرة من الطواف‬ ‫وال�سعي واحللق على الرتتيب‪.‬‬ ‫وتي�سر لنا بحمده تعاىل ما ك َّنا نبغي من‬ ‫َّ‬ ‫تقبيل احلجر وا�ستالم الركن يف كل �شوط‪،‬‬ ‫بخلو امل�ط��اف وامل�سعى وغ�يره�م��ا م��ن كل‬ ‫مقيم وغريب‪.‬‬ ‫وم��ن �أول نظرة وقعت �إىل جمال «الكعبة‬ ‫املكرمة» ذهلنا عن م�صائب ال�سفر وم�شاقه‬ ‫كلها ك��أمن��ا مل ُن�� َ��ش��ك ب�شوكة يف الطريق‪،‬‬ ‫وهكذا �ش�أن كل م�شوق و�صديق‪ ،‬كيف والكعبة‬ ‫الزهراء ‪-‬زادها اهلل �ضياء و�سناء‪ -‬ياقوتة‬ ‫كحلية جتلو ب�صائر �أعني ال�صلحاء‪ ،‬جملوة‬ ‫للناظرين يف حلة من الكرامة �سوداء‪.‬‬ ‫وبعدما فرغنا عن ال�سعي بني ال�صفا واملروة‪،‬‬ ‫ر�أينا �أن نتم الليل بجوار الكعبة‪ ،‬فجاورناها‬ ‫�إىل الفجر بالتهجد والدعاء واال�ستغفار �إىل‬ ‫الإ��س�ف��ار‪ ،‬و�صلينا ال�صبح مع �أول جماعة‬ ‫�شافعية‪ ،‬ثم رجعنا �إىل املنزل وحلقنا الر�أ�س‬ ‫ولب�سنا املخيط وحللنا الإحرام‪.‬‬ ‫ومكثنا مب � َّك��ة منتظرين احل��ج لأن زم��ان‬ ‫ال��رح�ل��ة �إىل «امل��دي �ن��ة» ق��د م�ضى بت�أخري‬ ‫امل��رك��ب ع��ن ال��و��ص��ول‪ ،‬ول��وال ذل��ك لقدمنا‬ ‫ال��رح �ي��ل �إىل امل���س�ج��د ال �ن �ب��وي و��س�ع��دن��ا‬ ‫بال�سالم على القرب املطهر املنور الأحمدي‪،‬‬ ‫ومل نرتك اال�شتغال بالعلم يف هذه الفر�صة‬ ‫ال�ق�ل�ي�ل��ة‪� -‬أع �ن��ي �أواخ� ��ر ذي ال �ق �ع��دة‪ ،‬بل‬ ‫ح�صلنا فيها بع�ض الكتب والفوائد‪.‬‬

‫اختلفت مدونات الحجيج‬ ‫من الناحيتين الشكلية‬ ‫والبنيوية وكثيرون‬ ‫اهتموا بالشعائر الدينية �أداء منا�سك احلج‬ ‫وملا كان يوم التا�سع والع�شرين من ال�شهر‬ ‫على حساب االهتمام‬ ‫بالمكان وبالرحلة‬


‫ارتياد اآلفاق‬ ‫‪64‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫املذكور‪� ،‬شهد رجال عند قا�ضي «م َّكة» بر�ؤية‬ ‫هالل ذي احلجة وا�ستق َّر يوم الثالثني منه‬ ‫�أول يوم من ذي احلجة‪ ،‬ومل ي َر � ُ‬ ‫أهل «م َّكة»‬ ‫وغريهم من امل�سافرين الهالل �إذ ذاك‪ ،‬ولكن‬ ‫اتبع النا�س القا�ضي فيما هناك‪ ،‬ف�أحرمتُ‬ ‫ي��وم ال�تروي��ة‪ ،‬وه��و الثامن من ذي احلجة‪،‬‬ ‫وتوجهتُ �إىل ِمنى وبلغت املُنى‪ ،‬وكنت ما�شي ًا‬ ‫ثم ركبت منها �إىل عرفة‪ ،‬وفرغت من �أعمال‬ ‫احلج على الرتتيب املذكور يف هذا املن�سك‬ ‫بال�س َّن ِة ال�صحيحة‪.‬‬ ‫وعلى الوجه امل�أثور ُّ‬ ‫وق��ر�أت «احل��زب الأع�ظ��م» «كتاب »احل��زب‬ ‫الأعظم وال��ورد الأفخم«لعلي بن ال�سلطان‬ ‫حممد القاري الهروي » لعلي القاري املُ� َّ‬ ‫لا‬ ‫علي القاري‪ :‬علي بن حممد �سلطان الهروي‬ ‫«؟‪-1014‬هـ» «؟‪1606 -‬م»‪ :‬فقيه حنفي‪ ،‬من‬ ‫�صدور العلم يف ع�صره‪ .‬ولد يف هراة و�سكن‬ ‫م َّكة و ُت��ويف بها‪ .‬و�ص َّنف كتب ًا كثرية‪ ،‬منها‬ ‫«تف�سري القر�آن»‪ ،‬و«الأثمار اجلنية يف �أ�سماء‬ ‫احلنفية» و«��ش��رح الأرب �ع�ين ال�ن��ووي��ة‪ -‬ط»‪.‬‬ ‫«�أعالم الزركلي »ك َّله‪ ،‬قبل الوقوف بعرفة‪ ،‬ثم‬

‫وقفت بها ومل � ُآل جهد ًا يف الدعاء واال�ستغفار‬ ‫�إىل الغروب‪ ،‬والت�ض ّرع واالبتهال �إىل عالم‬ ‫الغيوب‪ ،‬وامل�أمول من اهلل القبول‪ ،‬ثم �أف�ضت‬ ‫منها �إىل مزدلفة‪ ،‬ومنها �إىل ِمنى‪ ،‬و�أ َّدي��تُ‬ ‫بقية الأعمال و�أتيتُ بها يف �أح�سن الأحوال‪،‬‬ ‫ومن غاية ال�شغف بعلوم ال�سنة مل �أترك كتابة‬ ‫العلم بعرفة ِومنى يف �أيام �إقامتها‪ ،‬لكن يف‬ ‫غري �أوقات املنا�سك‪ .‬وملا رجعت يوم الثالث‬ ‫ع�شر �إىل م� َّك��ة مل �أج��د قافلة ت��ذه��ب �إىل‬ ‫«املدينة»‪ ،‬ف�أقمت منتظر ًا للرفقة‪.‬‬

‫زيارة املدينة املنورة ومعاملها‬

‫و� �ش��ددت ال��رح��ل ي ��وم اخل��ام ����س ع�شر ‪15‬‬

‫من �شهر �صفر �سنة �ست وثمانني ومائتني‬ ‫و�أل��ف ‪ 1286‬الهجرية م��ن «م � َّك��ة املكرمة»‬ ‫�إىل «املدينة امل�ن��ورة» وو�صلتها يف ع�شرين‬ ‫يوم ًا خالف امليعاد لأن م�سريتها تكون اثني‬ ‫ع�شر يوم ًا غالب ًا يف املعتاد‪ ،‬ولكن اجلمالني‬ ‫مل يكونوا معنا جماملني‪ ،‬ف�ترك��وا القافلة‬ ‫«بع�سفان» و�أ�ضمروا ال�شر والعدوان‪ ،‬فكفى‬

‫اهلل امل��ؤم�ن�ين ال�غ��رب��اء �شرهم وال�ب��أ��س��اء‪،‬‬ ‫و�أو�صل اجلميع مع �سالمة املال والروح �إىل‬ ‫طابة‪ ،‬وجعل دعوتهم م�ستجابة‪.‬‬ ‫واتفقت الإق��ام��ة بهذه البلدة املباركة �إىل‬ ‫وتي�سر يل ح�ضور امل�سجد النبوي‬ ‫�أ�سبوع‪َّ ،‬‬ ‫وال �� �س�لام ع�ل��ى امل��رق��د امل �ن��ور امل�صطفوي‬ ‫و�أ�صحابه‪ ،‬وزيارة بقيعه و�شهداء �أحد‪� ،‬س َّيما‬ ‫�س ّيد ال�شهداء حمزة ر�ضي اهلل تعاىل عنه‪،‬‬ ‫وغري ذلك من امل�ساجد والآب��ار‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫«م�سجد قباء» على الوجه امل�أثور امل�سنون‪،‬‬ ‫ئت ب�أنواع الربكات‬ ‫فيا لها من بلدة طيبة ُم ِل ْ‬ ‫و�آثار من الرحمة و�أنوار من التجليات‪ ،‬كيف‬ ‫والأنوار الإلهية والربكات النبوية ترت�شح من‬ ‫جدرانها‪ ،‬وال�سكينة والوقار تتنزل كل حني‬ ‫على بنيانها‪.‬‬ ‫وا�شرتيت باملدينة‪«:‬كتاب املدخل البن احلاج»‬ ‫وه��و ك�ت��اب يحتوي على رد ب��دع املتفقهني‬ ‫وحمدثات املت�صوفني‪.‬‬ ‫و�أحرمت بالعمرة حني الرجوع منها‪ ،‬وو�صلت‬ ‫«م َّكة» يوم الثاين ع�شر من بدء ال�سفر ن�صف‬


‫الليل‪ ،‬كما و�صلت �إليها من ج��دة‪ ،‬ووجدت‬ ‫املطاف وامل�سعى خالي ًا عن النا�س «هكذا‬ ‫وردت اجلملة يف الن�ص‪ .‬وال�صحيح‪ :‬وجدت‬ ‫املطاف وامل�سعى خاليني من النا�س»‪ ،‬ف�أتيت‬ ‫ب�أعمالها على ترتيبها‪ ،‬وح�صلت يل ‪-‬بحمد‬ ‫اهلل تعاىل‪ -‬حجة وعمرتان‪.‬‬ ‫وكانت مدة �إقامتي مب َّكة وجواره تعاىل ‪�-‬أو ًال‬ ‫و�آخ��ر ًا‪ -‬نحو ًا من �أربعة �أ�شهر‪ ،‬وعندي‪� :‬أن‬ ‫حا�صل عمري كان تلك الأيام‪ ،‬والذي م�ضى‬ ‫يف غريها مل يكن �إ ّال منام ًا �أو �أحالم ًا‪ ،‬و�أرجو‬ ‫من اهلل تعاىل عود هذه الأزمان وق�ضاء بقية‬ ‫احلياة يف جوار الرحمن‪.‬‬ ‫وق��د كنت �أق�م��ت مب� َّك��ة مبحلة �أه��ل الهند‪،‬‬ ‫و�أغ��دو و�أروح �إىل احلرم املحرتم من "باب‬ ‫الزيادة" و�أذك ��ر ق��ول اهلل ت�ع��اىل‪ِّ « :‬ل� َّل� ِ�ذي��نَ‬ ‫�أَ ْح َ�س ُنو ْا الحْ ُ ْ�س َنى َو ِز َي���ا َد ٌة‪ »..‬يون�س‪ ،‬الآي��ة‪:‬‬ ‫«‪ .»26‬و�أرج��و منه �سبحانه �أن يجعلني من‬ ‫�أهل تلك ال�سعادة‪ ،‬وكثري ًا ما �أم ُّر على «باب‬ ‫ال �� �س�لام»‪ -‬مبتغي ًا كتب ال�ع�ل��م‪ ،‬و�أق���ول يف‬ ‫نف�سي‪ :‬ادخلوها ب�سالم‪.‬‬ ‫وق��د ا�شرتيت ه�ن��اك‪ - 1 :‬ك�ت��اب ال��زرق��اين‬ ‫� �ش��رح امل��وط���أ‪ - 2 ،‬وح���س��ن امل�ح��ا��ض��رة يف‬ ‫�أحوال م�صر والقاهرة‪ - 3 ،‬وتاريخ اخلمي�س‬ ‫والبيجوري على ال�شمائل‪ - 4 ،‬والتعريفات‪5 ،‬‬ ‫ ومغني اللبيب‪ - 6 ،‬والريا�ض امل�ستطابة‪7 ،‬‬‫ وبهجة املحافل �شرح ال�شمائل‪ - 8 ،‬ومواهب‬‫الرحمن‪ - 9 ،‬و�أذك��ار النووي‪ - 10 ،‬وكتاب‬ ‫التلخي�ص‪� -‬إىل غري ذلك من كتب احلديث‬ ‫والعربية وال�ت��واري��خ‪ .‬وا�ستكتب «ا�ستكتب‪:‬‬ ‫طلب �أو كلف �أح��د ًا بالكتابة‪ ،‬ومب��ا �أن��ه قام‬ ‫بالكتابة بيده فالأ�صح �أن يقول‪ :‬كتبت» بع�ض‬ ‫الر�سائل املخت�صرة واملطولة بيدي‪.‬‬

‫طواف الوداع‬

‫وط�ف��ت ل �ل��وداع يف �أوائ ��ل ج�م��ادى الأوىل‪،‬‬ ‫و�سرت �إىل «ج��دة» وركبت املركب امل�سمى‬ ‫بـ«في�ض الباري» وكان ي�سع ت�سعمائة «‪»900‬‬ ‫نف�س ��س��وى الأح �م��ال والأث� �ق ��ال‪ ،‬وم��ررت‬ ‫ب�ساحل «احلديدة» يف هذا الرجوع �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫و�أق���ام امل��رك��ب ه�ن��اك ث�لاث��ة �أي ��ام لبع�ض‬ ‫احلوائج‪ ،‬ثم �سار �إىل «ممبئي»‪.‬‬

‫حر �شديد‪ ،‬وكان الريح‬ ‫وكان الزمان زمان ٍ ّ‬ ‫ً‬ ‫�سموم ًا وم��اء البحر ن ��ارا‪ ،‬فمر�ض �أه��ل‬ ‫املركب �إ ّال من ع�صمه اهلل‪ ،‬وم��ات بع�ض‬ ‫�شدة احلر �إىل �أن طوى املركب‬ ‫القوم من َّ‬ ‫ن���ص��ف ال �ط��ري��ق‪ ،‬وم � � َّر �إىل ع��دن فجاء‬ ‫ال�برد واملطر وذه��ب املر�ض واحل��ر‪ ،‬فلما‬ ‫�آن املركب ب�ساحل «ممبئي» َّ‬ ‫�ضل املعلم‬ ‫الطريق لأج��ل غيبوبة ال�شم�س وت��راك��م‬ ‫ال�سحاب‪ ،‬وكان من قوم الن�صارى‪ ،‬و�صار‬ ‫ركاب ال�سفينة لذلك حيارى‪.‬‬ ‫وكان املو�سم مو�سم طوفان وتالطم البحر‬ ‫والأم ��واج‪ ،‬فك�سرت حجرات املركب التي‬ ‫كانت ف��وق التتق «التتق»‪ :‬كلمة فار�سية‪،‬‬ ‫تعني اخليمة‪� ،‬أو ال�ستار‪« ،‬املعجم الذهبي‬ ‫���ص ‪ »183‬ملحمد ال �ت��وجن��ي‪ .‬وال� �ش��ك �أن‬ ‫�شكل املركب وترتيب حجراته ف��وق �ستار‬ ‫�أو فوق قبة هو الذي يحدد دقة اال�ستخدام‬ ‫والغر�ض الإي�ضاحي من �صدمات امل��وج‪،‬‬ ‫وحتركت خ�شبات املركب‪ ،‬وا�ستيقن �أهله‬ ‫مبجيء امل��وت‪ ،‬و�صارت ال�سفينة يف البحر‬

‫كري�ش ٍة يف الفالة‪ ،‬و�ضاقت الأنف�س من حالوة‬ ‫احل�ي��اة حتى ج��اءت رحمة اهلل تعاىل وهو‬ ‫�أرحم الراحمني‪.‬‬ ‫و�صح ح�ساب‬ ‫ف�أخرجت ال�شم�س من مطلعها‪َّ ،‬‬ ‫ال��ر��ص��د ملعلم امل��رك��ب بطلوعها‪ ،‬و�أج ��رى‬ ‫ال�سفينة على �سواء الطريق‪ ،‬وج��اء مركب‬ ‫ال�بري��د م��ن نحو ممبئي‪ ،‬فلحق بنا و�سار‬ ‫بهذا املركب حتى �أو�صله �إىل �ساحل النجاة‪،‬‬ ‫واحلمد هلل ال��ذي بنعمه تتم ال�صاحلات‪.‬‬ ‫وقد �شاهدت يف �سفري هذا عجائب‪ ،‬ور�أيت‬ ‫فيه عدة م�صائب‪ ،‬واخ�ترت النا�س وميزت‬ ‫ال�سفهاء من الأكيا�س‪ ،‬ووقفت على ر�سوم‬ ‫القوم وبدعهم وحمدثاتهم وانهماكهم يف‬ ‫حت�سني املالب�س واملطاعم واملناكح وامل�ساكن‬ ‫وق�صر هممهم على ذلك‪ ،‬وعدم رفع ر�ؤو�سهم‬ ‫�إىل ال�سنن وما مات منها و�ضعف الإ�سالم‬ ‫وهذا �شني لأهل الدين‪ ،‬ال �س َّيما لأهل م َّكة‬ ‫واملدينة الذين هم يف خري بقاع الأر�ض وهم‬ ‫قدوة امل�سلمني خ�صو�ص ًا الأئمة منهم‬


‫من تراث الشعوب‬ ‫‪66‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫الحكمة الصينية بين الرمز والواقع‬ ‫علي كنعان‬ ‫الرتاث ال�صيني بحر وا�سع‪ ،‬ومن ال�صعب �أن نحيط به �أو بجزء ي�سري منه يف مقالة �أو كتاب‪ .‬وهو ميتد‬ ‫يف �صوره البدائية ومروياته ال�شفاهية الأ�سطورية‪� ،‬إىل ما يزيد عن خم�سة �آالف �سنة‪ .‬لكن املدون من‬ ‫هذا الرتاث ال يزيد عمره عن ثالثة �آالف �سنة �إال قليال‪ .‬وهذا التاريخ منوط �أي�ضاً باخرتاع رموز‬ ‫الكتابة ال�صينية‪ ،‬وهي لي�ست �أبجدية معدودة احلروف كالعربية والالتينية‪� ،‬إمنا هي �أ�شكال ورموز‬ ‫هريوغليفية جمردة يزيد عددها عن ثمانني �ألف �شكل‪ ،‬و�إن كان امل�ستعمل منها ال يتعدى خم�سة �آالف‪.‬‬ ‫وغالب ًا ما يرجع �أبناء ال�صني جذورهم �إىل �إليها الف�أر‪� ،‬إذ تطوع الثور حلمله على ظهره دائرة مق�سومة بخط منحن �إىل ما ي�شبه ح َّب ْتي‬ ‫الإم�براط��ور ياندي �أوال‪ ،‬ثم �إىل الإم�براط��ور عرب النهر وحني اقرتب الثور من ال�ضفة قفز فا�صوليا‪ ،‬ونواته متثل اجلنني‪.‬‬ ‫ه��وان �غ��دي وقبيلتيهما‪ ،‬و�إن ك ��ان الفا�صل الف�أر �إىل الياب�سة وكان الأول‪.‬‬ ‫الزمني بينهما نحو ‪� 500‬سنة‪ .‬ويعود لهذين‬ ‫التنني ودالالته‬ ‫اجل��دي��ن‪ ،‬وال �سيما الأول منهما‪ ،‬الف�ضل يف االن�سجام والتكامل‬ ‫يتخذ التنني يف الغرب داللة �سلبية كرمز لل�شر‬ ‫تطوير الزراعة‪ ،‬كما يرجع �إليه بدء اكت�شاف �شهد التاريخ ال�صيني �أكرث من خم�س ع�شرة والدمار والعداء‪ ،‬ولكنه يف ال�صني بعك�س ذلك‬ ‫ال �ت��داوي ب��الأع���ش��اب‪ .‬وي ��روى �أن��ه ج��رب نحو �ساللة �إمرباطورية‪ ،‬وقد مر بتطورات فكرية مت��ام � ًا‪ .‬ويف مو�ضوع الفلك ال�صيني‪ ،‬نحن‬ ‫�سبعني ع�شبة �سامة‪ ،‬وجنا من املوت �أكرث من وثقافية متعددة‪ .‬ونظر ًا العتماد ال�صني على اليوم يف �سنة التنني‪ .‬وهو ي�شكل �أهم الأبراج‬ ‫مئة م��رة‪ .‬ويبدو الهدف الرتبوي وا�ضح ًا يف الزراعة منذ �أقدم الع�صور‪ ،‬فقد ظلت العالقة ال�صينية و�إن جاء يف الرتتيب اخلام�س‪ ،‬بعد‬ ‫ه��ذه احلكاية‪ ،‬فاكت�ساب اخل�برة والعمل يف بني الإن�سان والطبيعة هي ميدان الفكر واجلدال الف�أر والثور والنمر والأرن��ب‪� .‬إنه يحتل موقع ًا‬ ‫�صالح الب�شر والتقدم يف دروب احلياة ال يتم والإبداع‪� .‬إن احلكمة ال�صينية تنطلق من مفهوم هام ًا يف مدونات الرتاث ال�صيني و�أ�ساطريه‬ ‫�إال بحب املغامرة والد�أب املتوا�صل واال�ستعداد االن�سجام والتكامل بني الإن�سان والكون‪ .‬وهذا وحكاياته‪� .‬إنه الكائن الأ�سطوري الذي ي�شمل‬ ‫للت�ضحية‪ .‬ويعود للإمرباطو الثاين الف�ضل يعني �أن عالقة الإن�سان مع الطبيعة من حوله برعايته الأن �ه��ار والبحار واملحيطات‪ ،‬كما‬ ‫يف ت�أ�سي�س النظام الإداري واعتماد منظومة لي�ست عالقة عداء و�سيطرة وتدمري ال�ستنزاف �أن��ه يطوف م��دارات الف�ضاء‪ ،‬وهو رمز القوة‬ ‫�أخالقية �شكلت الأ�سا�س احل�ضاري يف ذلك خرياتها‪ ،‬كما هي احل��ال يف املفهوم الغربي‪ ،‬واخل�ير والرحمة واحلكمة واالزده���ار‪ ،‬كما‬ ‫املجتمع ال��زراع��ي املكافح على �ضفاف نهر ولكنها عالقة حمبة وتناغم وتكامل م�ستمر يف �أن��ه رمز الإم�براط��ور‪ .‬وزائ��ر ال�صني يرى �أن‬ ‫يانغت�سي والنهر الأ�صفر ودرا��س��ة �أح��وال��ه يف احلياة ومن �أجل احلياة‪ ،‬كعالقة الطفل ب�أمه‪� ،‬صوره ومتاثيله منت�شرة على نطاق وا�سع يف‬ ‫موا�سم الفي�ضان واالنح�سار‪ .‬وم��ع الزراعة باملعنى الإيجابي الذي ي�ؤكد على التطور وجتدد الفن وال�ع�م��ارة وال��زخ��رف��ة وحتى يف نقو�ش‬ ‫مت تدجني احليوان‪ ،‬كما جرى تنظيم الإدارة احلياة‪ .‬ومن هذا املفهوم الإن�ساين واحل�ضاري الأقم�شة وزينة الأزياء وعلى �أدوات ال�صناعات‬ ‫واالهتمام باملو�سيقى والفلك والأب��راج‪ ،‬وهي ت�شكل الأ�سرة الوحدة الأ�سا�سية يف املجتمع‪ ،‬التقليدية‪ ،‬وب�ألوان متعددة بني الأحمر والأ�صفر‬ ‫�أب��راج �سنوية ولي�ست �شهرية‪ .‬وهناك العديد ويعرب عن هذه الوحدة املتكاملة يف كل �شيء والأزرق والأبي�ض‪ .‬وتقول الأ�سطورة �إن التنني‬ ‫م��ن احلكايات الأ�سطورية ح��ول احليوانات بالثنائي املتفاعل مع ًا‪ :‬اليني ‪ Yin‬واليانغ ‪ Yang‬يت�شكل من حيوانات عدة‪ :‬ر�أ�سه من الن�سر‪،‬‬ ‫التي ت�شكل الأب��راج ال�صينية‪ ،‬ومنها �أن �أقدم «الظل وال�ضوء»‪« ،‬الأر�ض وال�سماء»‪« ،‬الربودة قرناه من الغزال‪ ،‬خمالبه من النمر‪ ،‬و�أذن��اه‬ ‫الأباطرة �أراد قيا�س الزمن ف�أجرى مباراة يف واحلرارة»‪« ،‬ال�ضعف والقوة»‪« ،‬املر�أة والرجل»‪ ،‬من الثور‪ ،‬حرا�شفه من ال�سمك‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫عبور النهر �سباحة بني اثني ع�شر حيوان ًا ليطلق «املاء والنار» �إىل �آخر ما هنالك‪ .‬وهذا الثنائي �شكل ج�سمه الأفعواين‪.‬‬ ‫على كل �سنة ا�سم احليوان الفائز‪ ،‬وكان الثور لي�س متناق�ض ًا مت�صارع ًا‪ ،‬ولكنه متكامل يف ينفرد التنني بعن�صر اليانغ وح��ده‪ .‬وت�شري‬ ‫يف مقدمة تلك احليوانات لوال احليلة التي جل�أ ت��آل��ف وان�سجام ت��ام‪ .‬وه��م ي�صورونه ب�شكل احلكايات �إىل �أن للتنني ت�سعة �أب �ن��اء‪ ،‬لكل‬


‫منها ا�سم وخ�صائ�ص مميزة‪ :‬فعلى القباب‬ ‫والأب��راج نرى �صورة التنني املو�صوف بحدة‬ ‫النظر‪ ،‬وعلى �آالت العزف الوترية ير�سمون‬ ‫���ص��ورة حم��ب امل��و� �س �ي �ق��ى‪ ،‬وع �ل��ى مقاب�ض‬ ‫اخلناجر وال�سيوف نرى تنني ال�شجاعة وحب‬ ‫القتال‪ ،‬وينفرد تنني النار مبجامر البخور‪،‬‬ ‫وعلى الأع �م��دة واجل�سور ن��رى �صورة حمب‬ ‫ال�سباحة‪ ،‬وعلى الأج��را���س حم��ب اجللجلة‬ ‫والهدير‪ ..‬وهكذا �إىل �آخر القائمة‪.‬‬

‫مبد�أ التحول‬

‫العالقة وا�ضحة بني احلياة الزراعية والفلك‬ ‫والأنواء وت�شكل الف�صول‪ ،‬ومن هنا كان املبد�أ‬ ‫الأول يف الوعي والثقافة ال�صينية نابعا من‬ ‫ت��أم��ل احل��رك��ة والتحول يف ك��ل ��ش��يء‪� ،‬سواء‬ ‫يف ما يتعلق بالإن�سان �أو يف ما يحيط به من‬ ‫�أحوال الطبيعة ومظاهر الكون‪ .‬ولكن الأمور‬ ‫يف احلياة واملجتمع ال ترتك على هواها‪ ،‬وال‬ ‫بد من �إرادة الإن�سان وعمله ل�ضبطها‪ ،‬وهي‬ ‫�إرادة خري ترتكز على الرتبية وال�سري بها‬ ‫على مبد�أ الف�ضيلة النابعة من حمبة الإن�سان‬ ‫لعمل اخل�ير‪ .‬وه��ذا ما ما �أك��د عليه احلكيم‬ ‫كونفو�شيو�س يف تعاليمه‪ ،‬وكذلك احلكيم الو‬ ‫ت�سي وتعاليمه‪ .‬و�إذا كانت تعاليم احلكيم الو‬ ‫ت�سي قد �أكدت على �أهمية الطبيعة منطلقة من‬ ‫ت�أمل التناق�ض والرتابط بني املادة واحلركة يف‬ ‫ال�ضعف والقوة كالبذرة التي تنمو حتى تن�ضج‬ ‫وتقوى ثم ت�ؤول �إىل املوت‪ .‬لكن ا�ستمرار احلياة‬ ‫وتطور الآراء والنظريات وتفاعلها �أدى �إىل‬ ‫التقارب �أو الت�آلف بينها‪ ،‬فالقانون �أو الطريقة‬ ‫الذي ي�أخذ بها الإن�سان واملجتمع هي املنطلق‬ ‫للبناء احل�ضاري‪.‬‬ ‫ل�ك��ن احل �ك �م��اء مل ي �ن �ف��ردوا وح��ده��م بن�شر‬ ‫تلك التعاليم‪ ،‬بل ن��رى ال�شعراء والر�سامني‬ ‫واملو�سيقيني وحتى جنوم الأوبرا ال�صينية عرب‬ ‫الع�صور ي�سهمون جميعا يف بناء املجتمع ال�سليم‬ ‫املتوازن الذي يوا�صل م�ساعيه يف بناء ال�صرح‬ ‫احل�ضاري ويزيد احلياة ن�ضرة وخريا وجماال‪.‬‬ ‫ومن املعروف �أن احل�ضارة ال�صينية متوا�صلة‬ ‫منذ �أق��دم الع�صور‪ ،‬و�إن تخللتها ف�ترات من‬ ‫االنك�سار والفو�ضى‪ ،‬لكن التاريخ العاملي ي�ؤكد‬

‫�أن احل�ضارة ال تن�ش�أ وال ت�ستمر �إال �إذا كانت‬ ‫مبنية على قيم �إن�سانية ومبادئ �أخالقية‪،‬‬ ‫انطالقا من �أب�سط الأ�شياء‪ .‬يقول ال�شاعر‬ ‫يل �شني‪ :‬كل ب��ذرة ت��زرع يف الربيع‪� /‬ستجعل‬ ‫حم�صول اخل��ري��ف واف ��را‪ /‬ف�م��اذا �ستجلب‬ ‫احلقول اخل�صبة؟‬ ‫�إن ال�س�ؤال يف البيت الأخري يثري لدى القارئ‬ ‫املت�أمل دالالت و�إيحاءات متعددة‪ ،‬ومنها �أن‬ ‫هذه احلقول اخل�صبة قد تكون ميدانا لل�صراع‬ ‫�أو جماال لكوارث اجلراد واحلريق والفي�ضان‪،‬‬ ‫لكن علينا �أن نفكر �أي�ضا بالعمل امل�ضني الذي‬ ‫يقوم به الفالح يف تلك احلقول حتى جتود‬ ‫بالعطاء‪ .‬لذلك نرى �أن ال�شاعر املرهف مل‬ ‫ين�س يف اخلتام �أن ي�شري �إىل ما يعانيه �أبناء‬ ‫�شعبه يف بع�ض ال�سنني ب�سبب �شح املوا�سم �أو‬ ‫ب�سبب غياب العدالة �أو لأي طارئ �آخر‪ ،‬فينهي‬ ‫ق�صيدته بنربة وجدانية موجعة‪ ،‬قائال‪:‬‬ ‫ومن اجلوع ميوت الفالحون‪.‬‬

‫خال�صة احلكمة‬

‫يف ختام ه��ذه الإط�لال��ة العابرة على ملمح‬ ‫جزئي من ت��راث ال�صني وحكمتها‪� ،‬أرى من‬ ‫املفيد �أن �أورد احلكاية الآتية بني احلكيم الو‬ ‫ت�سي ومعلمه‪:‬‬ ‫ك��ان املعلم «ت�شانغ ت�سونغ» يف �أواخ��ر �أيامه‬ ‫حني قدم تلميذه الو ت�سي لعيادته والتزود من‬ ‫خال�صة حكمته‪ .‬قال املريد اللبيب‪�«:‬أال تزودين‬

‫ب�آخر كلمات احلكمة‪ ،‬يا معلمي؟»‬ ‫�أجاب املعلم‪«:‬عليك �أن تنزل من عربتك حني‬ ‫متر ببلدتك الأم» ‪.‬‬ ‫قال الو ت�سي‪«:‬نعم‪ ،‬يا معلمي‪ ..‬هذا يعني �أن‬ ‫على الإن�سان �أال ين�سى �أ�صله» ‪.‬‬ ‫وتابع املعلم‪�« :‬إذا ر�أيت �شجرة عالية‪ ،‬فتقدم‬ ‫منها وتط َّلع �إليها كما يليق بك» ‪.‬‬ ‫علي �أن �أحرتم من هم‬ ‫«نعم‪ ،‬يا معلمي‪� ..‬إن َّ‬ ‫�أكرب مني» ‪.‬‬ ‫و�أخ �ي�را ق��ال ت�شانغ ت �� �س��ون��غ‪«:‬والآن‪ ،‬انظر‬ ‫و�أخربين �إن كنت ترى ل�ساين‪ »...‬ثم فتح فمه‬ ‫بجهد وا�ضح‪.‬‬ ‫«نعم‪� ،‬أراه‪� ،»...‬أجاب الو ت�سي‪.‬‬ ‫«وهل ترى �أ�سناين؟»‬ ‫ـ ال‪ ،‬مل يبق منها �شيء!‬ ‫و�س�أل املعلم‪«:‬هل تعرف ملاذا؟»‬ ‫�أج��اب الو ت�سي‪«:‬يف تقديري �أن الل�سان بقي‬ ‫�سليما لأن��ه ط��ري م��رن‪� ،‬أم��ا الأ��س�ن��ان فقد‬ ‫�سقطت لأنها �صلبة قا�سية‪� ...‬ألي�س كذلك؟»‬ ‫وقال املعلم كلمته الأخ�يرة‪ :‬تلك هي خال�صة‬ ‫احلكمة يف العامل‪.‬‬ ‫وتفكر الو ت�سي مليا وق��ال‪«:‬ال �شيء يف العامل‬ ‫�أط��رى وال �أن��دى من امل��اء‪ ...‬وم��ع ذل��ك لي�س‬ ‫يف الوجود ما يفوقه يف التغلب على الأج�سام‬ ‫ال�صلبة‪ .‬ن�ع��م‪� ،‬إن اللطيف يغلب ال�شر�س‬ ‫القوي‪ .‬كل �إن�سان يعرف ذل��ك‪ ،‬لكن قلة من‬ ‫النا�س تعمل بهذه احلكمة» ‪.‬‬ ‫زائ��ر ال�صني ال ي��زال ي��رى مالمح م��ن هذه‬ ‫احلكمة ماثلة يف الب�سمة الآ� �س��رة والتحية‬ ‫الدافئة واملعاملة اللطيفة‪ ،‬و�أينما توجهت‬ ‫تدرك �أن تلك الأمثولة ما زالت مغرو�سة يف‬ ‫النفو�س �أعمق من ج��ذور اخل�ي��زران و�أق��وى‬ ‫من املا�س و�أغلى من الي�شب ‪ ،Jade‬وهو حجر‬ ‫كرمي يحفل به الرتاث ال�صيني حتى �إن بع�ض‬ ‫الباحثني يطلقون على �إمرباطور الي�شب ا�سم‬ ‫�إمرباطور ال�سماء‪� .‬أما قيمة التنني ومكانته‬ ‫الرتاثية بني الرمز والواقع فتبدو بو�ضوح يف �أن‬ ‫ا�سمه مقرتن بكثري من �أ�سماء اجلبال والأنهار‬ ‫وحتى املدن والقرى‪ .‬ويكفي �أن ن�شري يف اخلتام‬ ‫�أن التاريخ ال�صيني مل يتلوث با�ستعمار �أي بلد‬ ‫�آخر‪ ،‬رغم تعر�ضه لأكرث من ا�ستعمار‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪68‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬


‫املحكي�شعرا ً‬ ‫ملف ال�شعر ال�شعبي‬

‫ديوان المختارات‬

‫من عيون الشعر‬ ‫المحكي في اإلمارات‬ ‫�إعداد ‪ -‬ال�شاعر خالد علي ال�شعيبي‬ ‫�شاعر �إماراتي �شاب‪ ،‬من مواليد ‪1985‬م‪ ،‬له ن�شاط ملمو�س يف �ساح ال�شعر ال�شعبي يف الإمارات‪ ،‬وهو‬ ‫ع�ضو م�شارك يف جلان بيت ال�شعر يف �أبوظبي‪ ،‬وع�ضو جماعة ال�شعر ال�شعبي باحتاد كتاب و�أدباء‬ ‫الإمارات‪ ،‬ن�شر ق�صائده يف عدد من املطبوعات املحلية املعنية بال�شعر املحكي‪.‬‬ ‫اختار ال�شعيبي ثالث ق�صائد من عيون ال�شعر املحكي يف الإمارات‪ ،‬ر�أى �أنها متثل مناذج ملا ت�أثر به‬ ‫هو �شخ�صي ًا يف منتجه ال�شعري‪ ،‬كما �أنها �أ�سهمت يف رفد الذائقة املحلية مبا ت�ضمنته من جديد على‬ ‫م�ستوى البالغة وبناء ال�صور ‪.‬‬

‫لإر�سال ق�صائدكم‪ ،‬م�شاركاتكم ومالحظاتكم‪:‬‬

‫الربيد الإلكرتوين‪turathmag1@gmail.com :‬‬ ‫الفاك�س‪009712 6582282 :‬‬


‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪70‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫شيخ إذا سار قدام‬ ‫سالم يا‬ ‫ٍ‬ ‫ال�شاعر ‪� :‬سمو ال�شيخ الفريق �أول حممد بن زايد �آل نهيان ويل عهد �أبوظبي نائب‬ ‫القائد الأعلى للقوات امل�سلحة‬ ‫مهداة ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ خليفة بن زايد �آل نهيان‪ ،‬رئي�س الدولة‪ ،‬حفظه اهلل‪.‬‬ ‫� � � �س �ل ��ام ي � � ��ا �� � �ش� � �ي � � ٍ�خ �إذا � � � �س� � ��ار ق � � ��دام‬ ‫ك � � ��لٍ ي � �ق� ��ول ال� �ب� ��رق م � ��ن ق �ب �� �ض �ت��ه � �ش��ام‬

‫يل ج� � � � � ��ردت مي � � �ن� � ��اه ه � �ي � �ب� ��ة ح� ��� �س ��ام ��ه‬

‫�� �ش� �ي � ٍ�خ ع� ��ن ع � �ي ��ون ال� ��رم� ��د ت� ��ل االح �ل��ام‬

‫وي� � � �ت � � ��ل م� � � ��ن ع� �ي� ��ن امل� � � � �ع � � � ��ادي م � �ن ��ام ��ه‬

‫م� �ث ��ل ال � �� � �س� ��واري ف � � ��ارع ال � �ط� ��ول يل ق ��ام‬

‫رف� � � � ��ت ل � � ��ه الأع� � � � �ل� � � ��ام ح � � � ّي� � ��ت م� �ق ��ام ��ه‬

‫ذا ب � �ك � ��ر زاي � � � � ��د وامل � � � ��راي � � � ��ل واالع� � �ل � ��ام‬

‫ال � �ن � �ج ��ل اال ّول ل� �ل� ��� �ش ��رف وال� ��� �ش� �ه ��ام ��ه‬

‫�أخ� � � � � ��وي يل وق� � �ف � ��ات � ��ه ل � �ظ � �ه� ��ري ح� � ��زام‬

‫وال � �ظ � �ه� ��ر � �س �ه ��ل ال� �ك� ��� �س ��ر ل� � ��وال ح ��زام ��ه‬

‫�أخ� � � � � ��وي يل ظ � �ل� ��ه ذرى ك� � ��ل الأق� � � � � ��وام‬

‫ع � �ي � �ن� ��ه ب � � � � � ��روق ويف مي � �ي � �ن� ��ه غ� �م ��ام ��ه‬

‫ويل �أم� � � � ��ر وع� � �ه � ��د و�� � �س� � �ي � ��وف واق� �ل� ��ام‬

‫ل� � ��ه ي� �ن� �ح� �ن ��ي ظ� � ��ل اجل� � �ب � ��ل ب� ��اح �ت�رام� ��ه‬

‫ي� ��ا � �ش �ي �خ �ن��ا �آم � � ��ر وت ��رك� �� ��ض ل� ��ك اق� � ��دام‬

‫وال � � �ف� � ��ار�� � ��س اخل � � �ي� � ��ال ي � ��رخ � ��ي جل ��ام ��ه‬

‫�آم � ��ر ي ��ا ب ��و � �س �ل �ط��ان ل ��ك ط ��اع ��ة اح �� �ش��ام‬

‫�أم� � � � � � ��رك ع � �ل � �ي � �ن ��ا ي � � ��ا خ � �ل � �ي � �ف ��ة ك � ��رام � ��ه‬

‫ي � � ��ا ف � �خ � ��ر ك � � ��ل ع � � �ي� � ��ال زاي � � � � ��د واالي � � � � ��ام‬

‫ن� �ح� �ن ��ا رج � ��ال � ��ك ي � ��ا � �س �ل �� �س ��ل ال ��زع ��ام ��ه‬

‫ي� ��� �ش ��رف� �ه ��م �إخ � � ��وان � � ��ك ي � �ك� ��ون� ��ون خ � ��دام‬

‫خل� � ��وه� � ��م ال � � �ل� � ��ي ِم ال� �ث ��ري � � ��ا و� � �س� ��ام� ��ه‬

‫ي � ��ا � �ش �ي �خ �ن��ا امل � �ه � �ي ��وب خ ��دم� �ت� �ك ��م اك� � ��رام‬

‫خِ � � ْدم� ��ة � �ش �ع��ب راف � ��ع ع �ل��ى ال �ن �ج��م ه��ام��ه‬

‫حت � � ّي � �ت� ��ي ي � � ��ا �� � �س� � � ّي � ��دي م � ��� ْ��س� ��ك �� �ص� �ي ��ام‬

‫م � ��ن ق� �ل ��ب م � ��ا ي � �ج� ��رح م� � �ك � ��ارم � �ص �ي��ام��ه‬ ‫ح � � ��رٍ ع � �ل� ��ى َه� �ـ ��اخل� �� �ْ�ش� �ـ ��م ي� �ن� �ف ��ذ ك�ل�ام ��ه‬

‫و�� � �س �ل��ام ي � ��ا �� �ش� �ي � ٍ�خ ع� �ل ��ى را�� � �س � ��ي و�� �س ��ام‬

‫ي �� �ص �ب��ح ط� �م ��وح ال �ن �� �ص��ر ي �ت �ب��ع اق ��دام ��ه‬



‫المحكي شعر ًا‬ ‫‪72‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ز نجبيل‬ ‫ال�شاعر‪ :‬حممد املر بالعبد‬ ‫عِ � � � � � � � ّل م� � � ��ن م � � � � ��اك ال ت � �ت � �ب � ��ع م � �� � �ص � ��ب ال � �ن � �ه ��ر‬ ‫الج � � � � ��ل ظ� � � � ّن � � ��ك ي � � � � ��رد اب� � � �ل � � ��ج وط� � � ��رف� � � ��ك ك� �ل� �ي ��ل‬ ‫ال � � �ب � � �ح� � ��ر وان رق � � � � ��ى دم� � � �ع � � ��ه وع� � � � � � � � � ّود م� �ط ��ر‬ ‫�أ ّول � � � � � � � � � ��ه م � � �ل� � ��ح ل� � � � �ك � � � ��ن‪� ..‬آخ� � � � � � � � ��ره �� �س� �ل� ��� �س� �ب� �ي ��ل‬ ‫ال ت � � � �ل� � � ��وم ال� � � �ل� � � �ي � � ��ايل ي� � � � � ��وم ع� � � ��زم� � � ��ك ق� ��� �ص ��ر‬ ‫م� � ��ن م � �ت� ��ى ك � ��ان � ��ت ال � �غ� ��اي� ��ة ت� � �خ � ��دم ال� �� �ّ�س� �ب� �ي ��ل!!‬ ‫م � ��ن م � �ت ��ى وال� � �ط � ��ري � ��ق ال� ��� �س� �ه ��ل ي� � � � � ّرث ف � �خ ��ر!!‬ ‫ال� � � �ط � � ��وي� � � �ل � � ��ه‪ ..‬ت � � �ب � ��ي ق� � � � � � ��ر ٍم ب � � �ط � � ��ا ِن � � ��ه ط� ��وي� ��ل‬ ‫ل � � ��و ب � � ��ن �آدم ورث االجم� � � � � � ��اد ب� � �ط � ��ن وظ � �ه ��ر‬ ‫�أ�� � � �ش� � � �ه � � ��د ان� � � � � ��ه رِدي م� � � � � � � � ��ادام ك� � � � ّف � � ��ه ب� �خ� �ي ��ل‬ ‫الج � � � � � ��ل ه � � � � � ��ذا ي� � � � �ق � � � ��ال‪ :‬ف � � �ل� � ��ان ع� � �ل� � �م � ��ه غ�ت�ر‬ ‫و الج� � � � ��ل ه� � � � ��ذا ي � � � �ق � � ��ال‪ :‬ف � �ل � ��ان م� � ��ال� � ��ه م �ث �ي ��ل‬ ‫م � � � ��ن ي� � � � �ج � � � ��اوز م� � ��� � �س � ��اح � ��ة ق � � � ��درت � � � ��ه ي� �ن� �ك� ��� �س ��ر‬ ‫ي � � �ه� � ��در اج � � �م� � ��ل �� �س� �ن� �ي� �ن ��ه يف رج � � � ��ا امل� ��� �س� �ت� �ح� �ي ��ل‬ ‫وال � � �ع � � �م� � ��ر‪� � � � � ..‬س� � � ��در ٍة ي� �ج� �ن ��ي ث � �م� ��ره� ��ا ال� ��ده� ��ر‬ ‫ل � �ي� ��ن ي� � � ��رج� � � ��ع ره � � � � � � � ّ�ي احل � � � � � � ��ال م� � �ن� � �ه � ��ا ب� �ه� �ي ��ل‬ ‫م� � � ��ا ع � � �ل � ��ى ال� � � ��وق� � � ��ت ل � � � � ��وم وال ع � �ل � �ي � �ن� ��ا ع � ��ذر‬ ‫اهلل ال� � � �ل � � ��ي ِب� � �ـ� � �خ� � �ـ ِ� � �ـ� � �� �ّ ��ص � ��ات ال� � �ب� ��راي� � � � ��ا ك� �ف� �ي ��ل‬ ‫اهلل ال � � � �ل� � � ��ي ب� � ��� � �س � ��ط رزق ال� � � �ع� � � �ب � � ��اد وق � � � ��در‬ ‫و� � � ��ش ع� �ل ��ى ال� � �ق � ��اع وان م� ��ال� ��ت ع� � � ��ذوق ال �ن �خ �ي��ل‬ ‫ن �ح �� �س ��ب ا ّن� � � ��ا ب� � � ��دون ع � � �ي� � ��وب‪ ..‬واح� � �ن � ��ا ب� ��� �ش ��ر!!‬ ‫ك � � � � ��ل ك � � � � ��ا� � � � ٍ� ��س ن � � � ��ري � � � ��د خ � � �ت� � ��ام � � �ه� � ��ا زجن� � �ب� � �ي � ��ل‬


‫تفارقنا‬ ‫ال�شاعر‪� :‬سامل حممد الكعبي‬ ‫ت �ف��ارق �ن��ا وك� � ّن ��ا ن �ط �م��ح �إ ّن� � ��ا جن �ت �م��ع يف دار‬

‫ول� �ك ��نّ ال ��زم ��ن ع �ك ����س ال �ن��واي��ا � �س��ار ت � ّي��اره‬

‫ر��ض�ي�ن��ا ب��ال�ق��در واح �ن��ا ن �ه � ّل دم��وع�ن��ا م ��درار‬

‫على ذك��رى ب�ساتني الو�صال واجمل ازه��اره‬

‫�أه ��ايل ال ��دار م��ع دورة لياليهم غ��دوا ّ‬ ‫خطار‬

‫عالقتهم مع الوقت � ْأ�ضعفت ت��ارة ورا تاره‬

‫و�ش احليلة بعد ما�صار ما�ضي ح ّبهم تذكار‬

‫�شحت امطاره‬ ‫وذاك الو�صل من جور الليايل ّ‬

‫ّ‬ ‫اخمفف ال�ضيقة �سوى الأ�شعار‬ ‫بكيت ومالقيت‬

‫كتبت ومايريـ ِح ال�شاعر إ� ّال ��ص��ادق �أ�شعاره‬

‫�أال ي��ا �صاحبي ي��ا منيتي ي��ا م��ن عليك �آغ��ار‬

‫غرامك يعزف الذكرى وقلبي ت�شدو �أوتاره‬

‫على نغم التوجد وال�غ�لا وال�شوق والتذكار‬

‫تعال و�شاهد اع�صابي يف بعدك كيف منهاره‬

‫جفيت النا�س خويف من فعايل �شامت ٍ ثرثار‬

‫وان��ا عيني على ط��اري��ك يامل�ضنون ث��رث��اره‬

‫طوير ال�سعد ج ّنح عقب هجرانك وع ّني طار‬

‫وح� ّل��ق يف �سما الأف ��راح‪ ،‬داري ماهي اب��داره‬

‫�أجامل من �س�أل وا�ضحك وانا داخل خفوقي نار‬

‫ولكن من درى عن لوعة العا�شق وعن ناره‬

‫�آ� � �س ��ال اهلل ي�ل�ه�م�ن��ي � �ص�ب�ر واق � � ��اوم ال �ت � ّي��ار‬

‫�أو ان�سى ما م�ضى ‪ ..‬وارحل م َع وقتي وتياره‬


‫‪74‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫الهدم والتجميل‬ ‫يف‬

‫ألفبائية‬

‫مريه القا�سم‬

‫العادة نتوقع عندما ن�ستمع �إىل‬ ‫ن�ص غنائي‪� ،‬أننا �سرنى الن�ص‬ ‫ذات��ه ال��ذي كتبه ال�شاعر يف الأ�صل‪،‬‬ ‫و�أن �ن��ا ل��ن نلم�س ت�غ�ي�يرات يف الن�ص‬ ‫ال�غ�ن��ائ��ي‪ ،‬ول�ك��ن ت��ذه��ب ه��ذه الأف �ك��ار‬ ‫�أدراج الرياح‪ ،‬خ�صو�ص ًا عندما نعلم‬ ‫يقين ًا �أننا �أمام ن�ص خمتلف لل�شاعر‬ ‫ذاته‪ ،‬وهنا ال نعني االختالف اجلذري‪،‬‬ ‫ولكن نق�صد اختالف ًا يف ع��دة ن��واح‪،‬‬ ‫منها ت�ق��دمي وت ��أخ�ير يف الن�صو�ص‪،‬‬ ‫ت�غ�ي�ير يف ر� �س��م ال �ك �ل �م��ات‪ ،‬وحت��وي��ر‬ ‫لبع�ض املعاين‪ ،‬وتب�سيط اللغة ال�شعرية‬ ‫�إىل �أبعد حد ممكن «وك�أن امل�ستمع لن‬ ‫يفهم م��ا يقوله ال���ش��اع��ر»‪ ،‬والنتيجة‬ ‫ت�سطيح ال�صورة ال�شعرية وحتويلها‬ ‫�إىل ما �أقل من م�ستوى الب�ساطة‪� ،‬أي‬ ‫�إىل م�شهدية واقعية ولي�ست خيالية‪.‬‬ ‫�إن رغبات �شركات الإنتاج يف الكالم‬ ‫امل�ف�ه��وم ج ��د ًا‪ ،‬وال�سطحي ج ��د ًا‪ ،‬لها‬ ‫ت�أثري يف ه��ذه التحويرات‪ ،‬وكثري ًا ما‬ ‫وامللحن �إىل‬ ‫يعمد ال�شاعر مع املطرب‬ ‫ّ‬ ‫قتل الق�صيدة يف م�شهد ّيتها الأجمل‪،‬‬ ‫وحتويلها �إىل م�سخ �شعري‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ي �ق��وم ال �ل �ح��ن ب�ترم �ي��م ال�����ش��روخ يف‬ ‫الن�ص اجلديد بعد التعديالت‪ ،‬ولكنه‬ ‫ن�ص ًا مقبوال لدى‬ ‫يخرج بقدرة ق��ادر ّ‬ ‫اجلماهري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ل�ست هنا يف حمل تقييم لهذه العملية‪،‬‬ ‫فقد مررت �شخ�صي ًا بهذه احلالة من‬ ‫تفكيك الن�ص‪ ،‬وحتويل الق�صيدة �إىل‬

‫م�سار �آخر لتتما�شى مع الفنان الذي‬ ‫�سيغنيها‪ ،‬دخ�ل��ت ال�ت�ج��رب��ة م��ن ب��اب‬ ‫ن�صي‬ ‫الرغبة يف االكت�شاف‪ ،‬وم�شاهدة ّ‬ ‫ال���ش�ع��ري ك�ي��ف �سيمكنه �أن ي�صمد‬ ‫الن�ص الأ�صلي عندما �أقوم بعمل‬ ‫�أمام ّ‬ ‫مقارنة من نوع ما بينهما ‪.‬‬ ‫ي ��رى امل��ط��رب �أن ال �ن ����ص ي �ج��ب �أن‬ ‫امللحن‬ ‫يكون وا�ضح ًا و�سل�س ًا‪ ،‬ويث ّمن ّ‬ ‫ه��ذه اخلطوة ويعتربها مهمة لنجاح‬ ‫الأغ�ن�ي��ة‪ ،‬ول�ك��ن عندما نكتب الن�ص‬ ‫بعيد ًا عن اللحن‪� ،‬سنجد �أن الق�صيدة‬ ‫امل �ك �ت��وب��ة ع���اد ّي���ة‪ ،‬وق �ل �ي� ً‬ ‫لا م ��ا جند‬ ‫ن�صو�ص ًا جميلة بعد عملية «التجميل»‬ ‫التي تخ�ضع لعملية ثالثية قلم بها‬ ‫امللحن وال�شاعر املطرب‪.‬‬ ‫�أح�سب �أن هذه جدلية ت�ستحق الطرح‪،‬‬ ‫على الأق��ل يف �إط��ار �أن الن�ص ال��ذي‬ ‫يكتبه ال�شاعر ل��ه روح خ��ا��ص��ة‪ ،‬روح‬ ‫ي�صعب �أن تتكرر‪ ،‬لأن��ه ج��اء يف حالة‬ ‫خ��ا� ّ��ص��ة‪ ،‬لي�ست ح��ال��ة �صناعية «كما‬ ‫ه��ي عملية التحويل وال �ه��دم والبناء‬ ‫يف الن�ص ال�شعري»‪ ،‬ولكن حالة من‬ ‫الن�صني تظهر‬ ‫االختالف الكبري بني‬ ‫ّ‬ ‫جل ّية‪ ،‬وه��ي بحاجة �إىل ط��رح نقدي‪،‬‬ ‫لنكت�شف ح �ج��م ال �ب �ن��اء «امل �خ �ي��ايل»‬ ‫الذي ي�ضيع من �أجل توازنات الو�ضوح‬ ‫وال �غ �م��و���ض ال �ت��ي ي � ّدع �ي �ه��ا امل �ط��رب‬ ‫وامل�ل� ّ�ح��ن م��ن ن��اح�ي��ة‪ ،‬وال �ت ��أث�ير ال��ذي‬ ‫يلحق بالن�ص ال�شعري الأ��ص�ل��ي من‬ ‫ناحية �أخرى‬



‫ألسنة عربية‬ ‫‪76‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�أغاين الغزل‬ ‫يف تراث البحرين‬

‫توب توب‬ ‫يا بحر ‪..‬‬ ‫غناء على‬ ‫إيقاعات‬ ‫الفراق‬ ‫املنامة ‪ -‬يو�سف الن�شابه‬

‫جمتمع البحرين جمتمع مت�آلف‬ ‫ومتعاون وحمب للخري‪ ،‬ميتاز‬ ‫بالتقارب بني جميع �أطيافه‪.‬‬ ‫وقد زادت املهن التي امتهنها �أهل‬ ‫البحرين من عالقات الت�آلف‬ ‫والتقارب بني �أطياف املجتمع؛‬ ‫فركوب البحر ل�صيد الأ�سماك �أو‬ ‫ل�صيد الل�ؤل�ؤ يخلق املودة واملحبة‬ ‫والتفاين بني �أفراد ال�سفينة‬ ‫الواحدة وقد جتمعوا من مناطق‬ ‫وقرى متباعدة ‪.‬‬


‫والزراعة عمل جماعي يحتاج لغر�س و�سقي‬ ‫وج��ن��ي ال��ث��م��ار‪ ،‬وه��و عمل يجعل امل��زارع�ين‬ ‫متعا�ضدين ُي��ك��م��ل ك��ل منهم الآخ����ر‪ ،‬كما‬ ‫�أن م�شاركة امل���ر�أة بن�صيب كبري يف العمل‬ ‫ووق��وف��ه��ا جنب ًا �إىل جنب م��ع الأب وال��زوج‬ ‫واالب����ن واحل��ب��ي��ب ال����ذي ال ت��ب��وح ب��ه ولكن‬ ‫تف�ضحها نظراتها �أو حني يذكر ا�سمه‪ ،‬ع ّمق‬ ‫من �صالتها ببقية �أفراد جمتمعها‪ .‬كان احلب‬ ‫عفيف ًا بني �شباب وفتيات احلي‪ ،‬ومل تكن من‬ ‫و�سيلة للتعبري عنه �إال �شعر ًا �أو موا ًال يتغنى به‬ ‫لتو�صيل ر�سالة �إىل الطرف الآخر‪.‬‬ ‫ومت��ث��ل ال��غ��زل يف التغني ب��ج��م��ال املحبوب‬ ‫و�إظهار ال�شوق �إليه‪� ،‬أو جمال الطبيعة ب�ألوانها‬ ‫الزاهية وال�شكوى من فراق احلبيب وال�شكوى‬ ‫من البحر ب�أمواجه العاتية التي تكون �سبب ًا يف‬ ‫فراق الأحبة و�إظهار ال�شوق اليهم‪.‬‬ ‫والغزل هو و�صف اجلمال اخلارجي للمر�أة‪،‬‬ ‫كجمال وجهها وحما�سنها اجل�سدية‪ .‬وينق�سم‬ ‫غزل الرجل للمر�أة �إىل ق�سمني‪ :‬غزل عفيف‬ ‫وغ��زل فاح�ش‪ ،‬فالغزل العفيف هو التغني‬ ‫بجمال املر�أة ب�صورة عامة من دون الدخول‬ ‫يف التفا�صيل‪� ،‬أما الغزل الفاح�ش فهو الغزل‬ ‫«املاجن» الذي يتغنى ب�أدق التفا�صيل لبع�ض‬

‫وحادي العي�س «الإبل» يتغنى باحلداء‪ ،‬وراعي‬ ‫الغنم ي�سلي نف�سه بالغناء‪ ،‬واحلريف كان يطرق‬ ‫ب�أدواته كي ي�صاحب الغناء بنوع من االيقاع‬ ‫كما كان يفعل اخلليل بن �أحمد الفراهيدي‬ ‫حني ا�ستخل�ص بحور ال�شعر‪.‬‬

‫من �أجزاء ج�سم املر�أة بالرتكيز على مفاتنها‬ ‫ب�صورة �شهوانية‪.‬‬ ‫وقد ا�ستعان العرب على مر تاريخهم بال�شعر‪،‬‬ ‫لكونهم من �أ�شد النا�س مي ًال للتعبري عن ميلهم‬ ‫للت�أمل و�إبراز عواطفهم ال�صادقة ووجدانهم‬ ‫وم���ا ي��ج��ي�����ش يف خ��واط��ره��م م���ن م�����ش��اع��ر‪.‬‬ ‫فاملحارب يتغنى مفتخر ًا ب�أ�صله وقوته «يزجر»‪ ،‬غزل الن�سوة‬ ‫املر�أة يف الريف وبع�ض �أحياء املنامة العا�صمة‬ ‫تربت وترعرعت يف �صباها بني �صبية احلي‬ ‫تتعلم القر�آن‪ ،‬فتتحدث معهم يف خجل‪.‬‬ ‫ويف املزارع ت�شد انتباهها تلك الرجولة املتمثلة‬ ‫يف �شباب يت�سلق النخيل البا�سقات‪ ،‬و�شباب‬ ‫ي�سقي ال��زرع واق��ف ب�شموخ �أم��ام «الغرافة»‬ ‫�أو «الزاجرة» �أو قد تراه يح�ش احل�شي�ش �أو‬ ‫يقطف اللوز والتني والرمان ب�أ�صابع مدربة‬ ‫على اجلني‪.‬‬ ‫ومن هنا فا�ضت قريحة الن�سوة مبا ي�صفن به‬ ‫�أحوالهن‪ ،‬ومن �أ�شهر �أ�شعار غزل الن�سوة يف‬ ‫الرتاث البحريني‪:‬‬ ‫كان الغزل عام ً‬ ‫ال‬ ‫�أحبكم حني و�أن�سى حني واذكر حني‬ ‫مشترك ًا تعددت‬ ‫ومازادين يف حمبتكم �سوى التمحني‬ ‫صفاته بتعدد خصائص‬ ‫�أحبكم كرث ما حتمل فروخ اللوز‬

‫وصفات فئات المجتمع‬ ‫البحريني‬


‫ألسنة عربية‬ ‫‪78‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫وح�ين يتعب ي�سلي نف�سه ب�أ�شعار وم��واوي��ل‬ ‫يتغنى بها منا�شد ًا انتباه احلبيبة عن بعد‪،‬‬ ‫راف��ع�� ًا ر�أ���س��ه يف ع��ز وك��رام��ة‪ ،‬وم��ن �أ�شهر‬ ‫�أغنيات غزل الفالحني يف الرتاث البحريني‪.‬‬ ‫مريت بهل الهوى ب�شجارهم يجنون‬ ‫ابيدي �أبجني مثل ما يجنون ‬ ‫قالو �أ َكف�ض ايدك عا َكل لو جمنون‬ ‫والع�شق يبغي لطافه ما يريد اجنون ‬ ‫مريت بجويره تغ�سل امباي لومي‬ ‫و َكلت يجويره حل الوعد َكومي ‬ ‫مريت بجويرهتغ�سل مباي اليا�س‬ ‫و َكلت يجويره حل الوعد ال با�س ‬ ‫مريت بجويره تغ�سل مباي �صابون‬ ‫ ‬ ‫و َكلت يجويره حل الوعد باقوم‬ ‫مريت بجويره تغ�سل مباي عي�شي‬ ‫و َكلت يجويره حل الوعد عي�شي ‬ ‫مريت بجويره تغ�سل اليها هدوم‬ ‫و َكلت يجويره حل الوعد هاليوم ‬ ‫مرت وال �سلمت يا نا�س حمكمها‬ ‫لولو وزمرد امر�صع فو بخنـ َكـها‬ ‫هديت طريي مع الغزالن يلـ َكـاها‬ ‫َ‬ ‫ي�شفي غليل ال�صبا من حتت بخنكـها‬ ‫طريي خطاها و طري النذل وافكها‬

‫غزل الرعاة‬

‫وكرث ما حتمل اخل�شبان هيل وجوز‬ ‫و�صويحبي ما بغاين وي�ش �أ�سوي فيه‬ ‫ال هو بغاين والنيـادره ان�سيه‬ ‫وحبيبي زود البطيخ من لبه‬ ‫حبيبي راح لكني �أنا �أحبه‬ ‫يا ليتني واحلبيب يف ب�ستان‬ ‫ ‬ ‫واخلوخ والرمان ب�أيادينا‬ ‫يا ليتني وحبيبي فوفرا�ش‬ ‫ ‬ ‫وزوليه �أم الفني تغطينا ‬ ‫وملعون �أبو من جا يوعينا‬ ‫يل �صوحنب يف املعلم كنت �أنا وياه‬

‫ ‬

‫جارت عليه الأعادي واحرموين �إياه‬ ‫جعل اللي حرمني ولفي ينحرم دنياه‬ ‫ ‬ ‫ويطيح وجعان وعندي ينعتون دواه‬ ‫ال انعت وال �أداوي و�أقول الرب ال �شافاه‬

‫غزل الفالحني‬

‫�أنعم اهلل على البحرين مبياه عذبة تتدفق من‬ ‫عيون تنت�شر يف املدن والقرى لت�سقي �أر�ض ًا‬ ‫خ�صبة تنمو فيها لتطال ال�سماء نخالت‬ ‫با�سقات وف��واك��ه لذيدة وخ�����ض��راوات يانعة‬ ‫اخل�ضرة يرعاها فالح كادح ال يكل وال ميل‬

‫ول��ل��رع��اة �أ���س��ل��وب��ه��م اخل���ا����ص يف ال��ت��غ��زل‬ ‫باحلبيبة‪ ،‬نابع م��ن بيئتهم وم��ن الطبيعة‬ ‫التي يعي�شون ويعملون فيها حيث تتجلى تلك‬ ‫املفردات لتمنح �شعرهم ميزاته الرئي�سة‪،‬‬ ‫وم���ن �أ���ش��ه��ر م��ق��ط��وع��ات غ���زل ال��رع��اة يف‬ ‫البحرين‪:‬‬ ‫باهلل عليكم اخذوين عندكم ج ّمال‬ ‫اراعي جميالتكم وا�شرب حليب جمال ‬ ‫لو �سايلوكم و َكـالوا امنني هاجلمال‬ ‫ ‬ ‫ُكولوا جتيل الهوى عاي�ش بليا مال‬ ‫با هلل عليكم اخذوين عندكم راعي‬ ‫اراعي جميالتكم وا�ضرب امبـ َكراعي‬ ‫لو �سايلوكم و َكالو امنني هالراعي‬ ‫ُكولوا جتيل الهوى عاي�ش بال راعي‬


‫مواويل الغو�ص‬

‫�إن �أ���ص��ع��ب م��ا مي��ر ب��ه الإن�����س��ان ه��و ف��راق‬ ‫الأحبة‪ ،‬ومهنة الغو�ص كانت تفرق الرجال‬ ‫ع��ن �أمهاتهم و�آب��ائ��ه��م ون�سائهم وبناتهم‬ ‫و�أحبتهم‪ ،‬وهذا ما يرتدد يف �أغاين الن�سوة‬ ‫خماطبني البحر‪:‬‬ ‫توب توب يا بحر �شهرين والثالث دخل ‪...‬‬ ‫وهذا يو�ضح الفرتة التي يعاين منها الأحبة‬ ‫ف���راق احل��ب��ي��ب‪ ،‬فهم يف �أ���ش��د احل��اج��ة ملن‬ ‫يوا�سي وح�شة فراقهم مبواويل و�أغاين ين�شدها‬ ‫«النهام» ب�صوته ال�شجي وهم يف عر�ض البحر‬ ‫ي�صارعون الأمواج بع�ضالت مفتولة و�سواعد‬ ‫قوية وقلوب تخفق باحلب واحلنني للأر�ض‬ ‫ور�ؤية احلبيب بعد فراق �صعب‪:‬‬ ‫يا من بح�سنه حم�سا�صي احل�شا وا َكفى‬ ‫واطفي لهيب القلب عقب املال و ا َكفى‬ ‫يا �سعد من �ساق حمل امزمله و ا َكفى‬ ‫ا َكفت ا�ضعوين و مهجة خاطري �شالهن‬ ‫مديت ايدي ام�سلم له بعد �شالهن‬ ‫وا�شوف حظي على ذاك احلبيب ا َكفى‬

‫تمتاز كلمات «لمراداة»‬ ‫بالغزل العفيف الخاص‬ ‫بالحبيب أو الزوج الذي‬ ‫فارق في رحلة الغوص‬ ‫يا زين لو�صاف ج�سمي من �صدودك عود‬ ‫كلما ي�صد القلب روحي ت َكله عود‬ ‫يل �صاحب َكط حمد َكال به لوال‬ ‫ال ولذي باملهد جربيل �إله لوال‬ ‫لو ما يـ ُكولون وا�سمع باحلجي لوال‬ ‫ﭽنت احـﭽـي اوياك لكن بزبيبه عود‬ ‫يا نوخده يوم االثنني الع�صر فاتني‬ ‫ما �سرت بالليل �ساري للذي فاتني‬ ‫طاوعت اجيلك �أو خليت الذي فاتني‬ ‫رعبوبه الم�شت تاطي على روحي‬

‫للرعاة أسلوبهم في‬ ‫التغزل بالحبيبة النابع‬ ‫من بيئتهم ومن‬ ‫الطبيعة التي يعيشون‬ ‫ويعملون فيها‬

‫زينة طبايع ح�سني الدل والروحي‬ ‫ودي �أعاين خياله لو غدت روحي‬ ‫�ضليت مغبون ما �شفت الذي فاتني‬ ‫�شوكـي مطايا من ف َكد احلبيب �إحتن‬ ‫والروح مني كرعد العا�صفات �إحتن‬ ‫لمّ ن �سمعت احلمام الفاختات �إحتن‬ ‫�صفـ َكت راحات وجدي من �صروف الهوى‬ ‫مركب غرامي مت�شكل يف غبيب وهوى‬ ‫مع ذا والأمواج والرياح �إحتن‬

‫غزل الأعرا�س‬

‫الأعرا�س جتم ُع بني حبيبني فرتتفع الزغاريد‬ ‫والأغاين على نغمات �صفقات الأكف ودقات‬ ‫الأرج��ل التي حتمل �أج�ساد ًا تتلوى بر�شاقة‬ ‫راق�صة متجاوبة مع كلمات الأغاين املعربة‬ ‫عن فرحة التالقي‪ .‬ومن �أ�شهر مقاطع الغزل‬ ‫التي ترتدد يف �أعرا�س البحرين‪:‬‬ ‫طل و�شوف على اخليل ميدانه ‬ ‫طل و�شوف كل منظره رمانه‬ ‫طل و�شوف ياملعر�س اللي جانا‬ ‫طل و�شوف عرو�سه لو �سلطانه‬


‫ألسنة عربية‬ ‫‪80‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫طل و�شوف حوريه لو ريحانه‬ ‫طل و�شوف اقما�شه لومرجانه‬ ‫طل و�شوف ح�صباه وال دانه‬ ‫طل و�شوف �شم�س وقم ويانار‬ ‫طل و�شوف حبيبتك فرحانه‬ ‫طل و�شوف حلوة العمر فتانه‬ ‫طل و�شوف خجالنه لو نع�سانه‬ ‫طل و�شوف معر�س وتوىجانا‬ ‫طل و�شوف بيت الليله اويانا‬ ‫طل و�شوف من ت�ستقر بحذانا‬ ‫طل و�شوف �أبد فال تن�سانا‬

‫المراداة نوع من الغناء‬ ‫خاص بالنساء يؤدينه‬ ‫في المناسبات السارة‬ ‫كالعيدين والزواج‬ ‫وعودة األحباب بعد‬ ‫غياب‬

‫جل جالل اهلل واهلل واكربي‬ ‫ما يف جمال اخللق �شرواك يا علي‬

‫ومب��ا �أن �أغ���اين اجل��ل��وات ع��دي��دة ومتنوعة‬ ‫�سنكتفي باختيار بع�ض اجللوات التي يتمثل‬ ‫الغزل يف �أبياتها‪:‬‬ ‫طاير على الأغ�صان نازل بديه‬ ‫هّ وى حبيب الروح مكتوب عليه‬ ‫وات�سحجت من ع�صر وارمت ابروحها عليه عن ناظري ما غاب هو �سلوة الأحباب‬ ‫واتعجفت من ع�صر وارمت ابروحها عليه �شهر الع�سل وياه بنطري �سويه‬ ‫واتخ�ضبت من ع�صر وارمت ابروحها عليه يا ربي يا معبود تعطف عليه‬ ‫واديرمت من ع�صر وارمت ابروحها عليه بجاه النبي املختار خري الربيه‬ ‫على امليمر وعلى امليمر العني �سوده والوجه وامتكيجت من ع�صر وارمت ابروحها عليه جتعلها يا موالي عي�شه هنيه‬ ‫يطوير احلمام‬ ‫قب احمر‬ ‫يطوير احلمام‬ ‫ال ت�ضربني باملـ�شمر وانا ابنيه واتقـ�شمـر غزل اجللوات‬ ‫وه��ي خم��ت��ارات من الأغ���اين التي تغنى يف ع�سى اللي ياخذ املحبوب‬ ‫ال ت�ضربـني بالـدفـه ترى الـدنيا متعلفـه‬ ‫الأع��را���س واال���س��م م�شتق من كونها تُ�ستهل عينه ما تنام‬ ‫ال ت�ضربـني بامللـفع وانا ابنيـه وابدلـع‬ ‫ال ت�ضربني بعقالك وانا ابنيه و بت خالك ع��ادة بقول‪ :‬جل ج�لال اهلل‪ ،‬وهناك �أغنية حط ايده على امل�سند‬ ‫تكون بدايتها‪:‬‬ ‫و َكالت �شيل ايدك‬ ‫يا �سي�سبان احللو قلبي حنون عليه‬


‫ﭽـيف ا�شيل ايدي‬ ‫حط ايده على التكيه‬ ‫حط ايده على الـ َك�صه‬ ‫حط ايده على ال�شبكه‬ ‫حط ايده على انكل�س‬ ‫حط ايده على خدها‬ ‫حط ايده على اخلد‬ ‫حط ايده على النهد‬ ‫ﭼيف ا�شيل ايدي‬

‫وانا اطم�ش وانام‬ ‫ايدك الجلوات أغان تغنى في‬ ‫و َكالت �شيل‬ ‫و َكالت �شيل ايدك األعراس واسمها مشتق‬ ‫و َكالت �شيل ايك من كونها تبدأ بجملة‬ ‫و َكالت �شيل ايدك جل جالل اهلل‬

‫و َكـالت �شيل ايدك‬ ‫و َكـالت �شيل ايدك‬ ‫و َكـالت �شيل ايدك‬ ‫وانا اتخري وانام‬

‫الغزل يف �أغاين ملراداة‬

‫مل��راداة فن غنائي و�صل للبحرين من بدو‬ ‫وادي ال��دوا���س��ر‪ ،‬ومناطق �أخ���رى م��ن �شبه‬ ‫اجل��زي��رة العربية‪ ،‬وه��ذا ال��ن��وع م��ن الغناء‬ ‫خا�ص بالن�ساء ت�ؤديه يف املنا�سبات ال�سارة‪،‬‬ ‫العيدين و�أفراح الزواج وعودة احلجاج بعد‬ ‫غياب ي�صل لعدة �أ�شهر‪.‬‬ ‫ويف ع��ودة الغوا�صني بعد ثالثة �أ�شهر من‬ ‫ف��راق الأحبة خري �سبب لرتاق�ص الفتيات‬

‫والن�سوة يف «رق�صة املراداة» والتي تتم على‬ ‫�شكل جمموعتني متقابلتني ت��ف��رق بينهما‬ ‫م�سافة ت��ق��ارب ال��ث�لاث��ة �أم��ت��ار وك���ل �صف‬ ‫يقف كتفا لكتف ومت�شابكات �أ�صابع اليدين‬ ‫مرددات �أغنية وهن يتجهن ملوقف املجموعة‬ ‫الأخرى ومن ثم يعدن �إىل مكانهن‪.‬‬ ‫وتتجاوب معهن املجموعة الأخرى متجهات‬ ‫لهن مرددات �أبيات ًا من نف�س الوزن‪.‬‬ ‫مت��ت��از ك��ل��م��ات «مل������راداة» ب��ال��غ��زل العفيف‬ ‫اخلا�ص باحلبيب �أو ال��زوج ال��ذي ف��ارق يف‬ ‫رحلة الغو�ص‪ ،‬ومن �أ�شهرها‪.‬‬ ‫جدفوها على ال�سيف‬ ‫�أم احلنايــا‬

‫جدفوها على ال�سيف‬ ‫جتر املجاديف‬ ‫كلها �صبيان‬ ‫جتر املجاديف‬ ‫ال ت�صلب عليهم‬ ‫يا نـوخداهــم‬ ‫ال ت�صلب عليهم‬ ‫وال تغ�ضب عليهم‬ ‫ترى البحـر بارد‬ ‫وال تغ�ضب عليهم‬ ‫ويف الربد داوي‬ ‫يا ليني وياه‬ ‫ويف الربد داوي‬ ‫ي�شرب قهاوي‬ ‫يرعى ح�شي�ش الرب‬ ‫وي�شرب قهاوي‬ ‫يف و�سط جله‬ ‫يا ليتني وياه‬ ‫�شتاه وكي�ضه‬


‫‪82‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫جماليات‬

‫فكر‬ ‫التوحش‬ ‫ذهبنا‬

‫معجب الزهراين‬

‫يف مقال �سابق �إىل �أن مفهوم الرتاث يف املتداول‬ ‫م��ن خ�ط��اب�ن��ا امل �ع��ريف ال ي�غ�ط��ي م��ن احل �ق��ل غري‬ ‫القليل‪ .‬كما بينا دالل��ة املفارقة التي تنك�شف للوعي النقدي‬ ‫مبجرد �أن يعاين مدى غنى التجارب اجلمالية يف الواقع املعي�ش‬ ‫وفقر ذلك املفهوم املختزل يف املدونات اللغوية «خا�صة الأدبية‬ ‫والدينية»‪.‬‬ ‫ولقد تطرقت �إىل املو�ضوع ب�شكل �أك�ثر تف�صي ًال يف منا�سبة‬ ‫عابرة منذ �أ�سبوعني‪ :‬تويف �أح��د الأ�صدقاء الذين عنوا بجمع‬ ‫ال�تراث ال�شعبي يف منطقة الباحة – فيما بني الطائف و�أبها‬ ‫– فنظمت جمعية الثقافة والفنون ونادي الباحة الأدبي حفلتي‬ ‫ت�أبني للباحث الرائد‪ .‬ولأنه ترك لنا خم�سة جملدات عن الأدب‬ ‫ال�شعبي‪ ،‬ال�شعر واحلكم والأم �ث��ال‪ ،‬ف�ض ًال عن كتابات رائ��دة‬ ‫تتعلق بجغرافية امل�ك��ان و�سكانه وع��ادات�ه��م ‪ .‬ولأن �ن��ي ف�ضلت‬ ‫احل��دي��ث ع��ن منجزاته الأدب �ي��ة فقد نوهت بها وثمنت جهود‬ ‫الباحث الذي مل يكن متخ�ص�ص ًا يف هذا املجال‪ ،‬ومع ذلك دفعه‬ ‫حبه للأر�ض ووعيه به�شا�شة الثقافات ال�شعبية لإجناز ما ي�شبه‬ ‫امل�شروع الثقايف ‪.‬‬ ‫لكني تطرقت �أي�ضا �إىل حاجتنا �إىل ا�ستكمال جهود ه ��ؤالء‬

‫انهيار الثقافة التقليدية المحلية‬ ‫مع تراجع العمل الفالحي لصالح‬ ‫العمل الوظيفي والتجاري‬ ‫صاحبه سيطرة تدريجية قوية‬ ‫لخطاب إيديولوجي يُكرّه الناس‬ ‫في الفنون‪ ،‬وقد يحرّم االنشغال‬ ‫بها‪ ،‬ويجرّم من يمارسها بكل‬ ‫بساطة!‬


‫جماليات‬ ‫إلى أي مدى يمكننا الحديث عن‬ ‫جدية الجهود التي تستهدف‬ ‫حفظ التراث ونشره وتفعيله‬ ‫كعنصر ملهم للمبدعين‬ ‫والمبدعات ونحن نهمل أجمل‬ ‫فروعه ونتنكر ألكثر عناصره قربا‬ ‫من اإلبداع؟‬ ‫ال��رواد الهواة‪ ،‬لأن ال�تراث ال�شعبي هنا ‪-‬ويف كل مكان‪ -‬يجب‬ ‫�أن ي�شمل فنون الغناء واملو�سيقى والرق�صات ال�شعبية وبع�ض‬ ‫الأ�شكال الدرامية‪ ،‬ف�ض ًال عن فنون النق�ش والزخرفة الغنية‬ ‫جد ًا يف هذه املنطقة الريفية التي ت�سكنها جماعات م�ستقرة ال‬ ‫تزال تعرف ب�أ�سمائها منذ ما قبل الإ�سالم ‪.‬‬ ‫الغريب يف الأمر �أن مداخلتي يف حفلة الت�أبني هذه بدت مفاجئة‬ ‫للبع�ض و�صادمة لبع�ض �آخر‪ .‬ولي�س ال�سبب يف ذلك �أن الذائقة‬ ‫اجلمالية العربية تف�ضل ‪-‬قدمي ًا وحديث ًا‪ -‬الفنون اللغوية وتعلي‬ ‫من �ش�أنها ‪ .‬فانهيار الثقافة التقليدية املحلية مع تراجع العمل‬ ‫الفالحي ل�صالح العمل الوظيفي والتجاري �صاحبه �سيطرة‬ ‫تدريجية قوية خلطاب �إيديولوجي ُيك ّره النا�س يف الفنون‪ ،‬وقد‬ ‫يحرم االن�شغال بها‪ ،‬ويجرم من ميار�سها بكل ب�ساطة!‪ .‬ك�أن‬ ‫الإن�سان مطالب مبحو ال�شق الأجمل من ذاكرته اجلمالية التي‬ ‫ظلت حية ن�شطة �إىل قبل عقود قليلة ‪.‬‬ ‫بل �إن باحث ًا مثلي ي�ؤمن ب�أن احلداثة هي رهان العامل وم�ستقبل‬ ‫الإن�سان ال جمرد مو�ضة �أو تيار �أدب��ي فكري‪ ،‬مل يعد ي�ستطيع‬ ‫�أن يطرح ق�ضايا من ه��ذا النوع �إال �إ��ش��ارة ورم��ز ًا ‪ .‬فلي�س من‬ ‫ال�سهل �أن يقال يف م�ؤ�س�سة ر�سمية ومقام عام �أن امل��ر�أة كانت‬ ‫ت�شارك بقوة يف �إنتاج وتلقي الفنون ال�شعرية‪ ،‬وهناك �أ�سماء‬ ‫�شاعرات كبريات معروفات ال جند لهن ن�ص ًا واحد ًا من�شور ًا يف‬ ‫هذه املو�سوعة �أو يف غريها ‪.‬‬

‫�أما التذكري ب�أن هذه ال�شعرية ال تنف�صل يف �أي ثقافة �شعبية‬ ‫عن فنون الغناء والرق�ص‪ ،‬و�أن بع�ض الرق�صات كانت ت�ؤدى من‬ ‫قبل الرجال والن�ساء كاللعب وامل�سحباين واخلطوة واخلبيتي‬ ‫وال�سامري‪ ،‬فالأمر �أ�شبه ما يكون بف�ضيحة ال تطاق حتى من‬ ‫قبل النخب الثقافية ذاتها؛ فالنا�س قد متثلوا �أف�ك��ار ًا وقيم ًا‬ ‫جديدة حتط من �ش�أن الفنون‪ ،‬ومتنع منع ًا �صريح ًا �أي خطاب‬ ‫معريف يذكر النا�س باحلقائق الب�سيطة التي مل يكن اجليل الأول‬ ‫يتحرج من التعبري عنها قو ًال وممار�سة ‪.‬‬ ‫ولعل اجلانب الأكرث خطورة يف امل�س�ألة �أن هذه الظاهرة �أ�صبحت‬ ‫قائمة ملمو�سة يف جمتمعات اجلزيرة العربية‪ ،‬ويف غالبية الدول‬ ‫العربية الأخ ��رى‪ .‬م��ن هنا ينطرح ��س��ؤال �إ�شكايل ال ي�ستطيع‬ ‫الباحثون‪ ،‬وال الو�سط الفني �إغفاله �أو ح�سمه‪� :‬إىل �أي مدى‬ ‫ميكننا احلديث عن جدية اجلهود التي ت�ستهدف حفظ الرتاث‬ ‫ون�شره وتفعيله كعن�صر ملهم للمبدعني واملبدعات ونحن نهمل‬ ‫�أجمل فروعه ونتنكر لأكرث عنا�صره قربا من الإبداع ؟‬ ‫كتبت من قبل و�ضمن درا�سات �أدبية وفكرية متنوعة عن «فكر‬ ‫التوح�ش»‪ ،‬و�أعني به هذه الت�صورات املغلوطة والقيم املزيفة‬ ‫التي تنفي امل��ر�أة م��ن ع��امل الإن���س��ان �أو حتقرها ذات � ًا وعم ًال‪.‬‬ ‫و�إذا كنت قد ع��دت �إىل الق�ضية ذاتها هنا‪ ،‬فما ذل��ك �إال لأن‬ ‫فكر التوح�ش ال يعمل على ع��زل امل��ر�أة ومراقبة ح�ضورها يف‬ ‫املجال العام �إال ويختل توازن املجتمع وت�ضمر الفنون االحتفالية‬ ‫اجلماعية الأكرث عفوية و�سوية‪.‬‬ ‫نعم‪� ،‬شجرة الفنون ال ت�سهر قرب الإن�سان‪ ،‬كما كتب �أدوني�س‬ ‫ذات يوم‪ ،‬بل هي تنمو فيه كجزء �أ�صيل من كيانه الوجودي ذاته‪.‬‬ ‫وكم هو بائ�س وقبيح املجتمع الذي ُيع ّلم �أبناءه وبناته كراهية‬ ‫تراثه الأ�صيل من الفنون اجلميلة ويغريهم باملزيد من ثقافات‬ ‫اجلفاف والعنف‬


‫دراسة‬ ‫‪84‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ب�سبب �أزمة التعليم والبحث العلمي‬

‫العرب في حاجة إلىاالستشراق‬ ‫د‪ .‬مفيد الزيدي‬

‫�أ�ستاذ التاريخ العربي‪ -‬جامعة بغداد‬

‫ميثل اال�ست�شراق �أحد جوانب املعرفة الفكرية للإن�سان العربي والإ�سالمي من جهة �أنه ي�سعى‬ ‫لإعادة متثيل و�صياغة القيم واملفاهيم والأفكار املرتبطة بكل جوانب املا�ضي واحلا�ضر العربي‬ ‫والإ�سالمي وفق منظور غربي‪ ،‬وحماولة تر�سيخ الر�ؤى الغربية هذه جلعلها املنظور احلقيقي‬ ‫للتاريخ العربي والإ�سالمي‪ ،‬وجتاهل �أية ر�ؤى �أخرى عربية �أكادميية �أو غري �أكادميية تخالف‬ ‫الت�صور اال�ست�شراقي عن التاريخ العربي والإ�سالمي‪.‬‬

‫�إدوارد �سعيد‬

‫واحتلت درا��س��ة التاريخ العربي والإ�سالمي‬ ‫�أه�م�ي��ة متميزة يف ب�ل�اد ال �غ��رب‪ ،‬فظهرت‬ ‫ترجمة التينية للقر�آن الكرمي عام ‪1143‬م‪،‬‬ ‫ثم تبعتها الدرا�سات اجل��ادة للغة العربية يف‬ ‫�أملانيا خا�صة‪ ،‬ثم العالقات بني الدول الأوروبية‬ ‫والإ�سالم و�أثرها يف االهتمام باللغة العربية‬ ‫يف هولندا يف القرن ال�سابع ع�شر‪ ،‬وبعد قيام‬ ‫ال�ث��ورة الفرن�سية ع��ام ‪1789‬م �أخ��ذ احلكم‬ ‫على الإ�سالم يتبدل تدريجي ًا واحتلت فرن�سا‬ ‫ال�صدارة يف الدرا�سات العربية والإ�سالمية‪،‬‬

‫خالل حميطه وحماولة فهمه بخ�صو�صيات‬ ‫انتماءاته التاريخية‪.‬‬ ‫وقد اختلف امل�ؤرخون حول اجلذور التاريخية‬ ‫لال�ست�شراق‪ ،‬هل بد�أ على �أيدي طالب العلم‬ ‫الذين ج��اءوا �إىل ب�لاد الأندل�س ونهلوا من‬ ‫معرفتها ونقلوها �إىل �أوروبا منذ القرن الثامن‬ ‫امل �ي�لادي‪� ،‬أم �أن البداية منذ عهد بيزنطة‬ ‫التي قهرها العرب وامل�سلمون وانتزعوا منها‬ ‫الأرا� �ض��ي الوا�سعة يف ب�لاد ال���ش��ام وم�صر‬ ‫واملغرب العربي‪� ،‬أم وليدة احلروب ال�صليبية‬ ‫واالحتكاك املبا�شر بني �شعوب غرب �أوروب��ا‬ ‫�ألربت حوراين‬ ‫وال �ع��رب ع�بر البحر الأب�ي����ض املتو�سط‪� ،‬أم‬ ‫�أن�ه��ا نتيجة البعثات التب�شريية التي نقلها‬ ‫وعرف القرن التا�سع ع�شر يف حقل اال�ست�شراق‬ ‫الدومنيكان والفرن�سي�سكان والي�سوعيني �إىل‬ ‫ً‬ ‫دورا للنقد التاريخي يف نتاجاته‪ ،‬وتبعه البحث بالد ال�شرق‪ ،‬واحلقيقة �أن كل هذه العوامل‬ ‫االجتماعي يف الدرا�سات اال�ست�شراقية من �أ�سهمت يف احلركة اال�ست�شراقية‪.‬‬ ‫وظهر مفهوم اال�ست�شراق �أول م��رة كلفظة‬ ‫بقدر تنوع الصالت‬ ‫ب��االن�ك�ل �ي��زي��ة يف ع ��ام ‪1779‬م‪ ،‬ث��م تبعها‬ ‫بالفرن�سية قبل تبني الأكادميية الفرن�سية لكلمة‬ ‫والموقف من الغرب‬ ‫ً‬ ‫«ا�ست�شراق» عام ‪1838‬م‪ ،‬علما �أن امل�ست�شرقني‬ ‫تنوعت المدارس‬ ‫القدامى واك�ب��وا ع�صر احل��روب ال�صليبية‬ ‫االستشراقية والمناهج‬ ‫واهتموا بالقر�آن وترجمات الإجنيل �إىل اللغة‬ ‫التي تتباين في‬ ‫العربية‪� .‬أما الأكادمييون الكال�سيكيون فقد‬ ‫اتجاهاتها ونقدها‬

‫لالستشراق‬


‫اال�ست�رشاق يف الفن ‪ ..‬عرو�س ب�سكرة ‪ -‬فيليب بايف‪1889 ،‬‬

‫اهتموا بدرا�سة وتعمق الأدب العربي القدمي‬ ‫وحتقيق املخطوطات العربية ال �ن��ادرة‪� ،‬أما‬ ‫امل�ست�شرقون املحدثون فاهتموا �إىل جانب‬ ‫درا�ساتهم الأدبية والإ�سالمية بتقدمي الأدلة‬ ‫العلمية عن النزعة الكونيالية‪ .‬واال�ست�شراق‬ ‫يف واق��ع احل��ال هو �شكل من �أ�شكال الهيمنة‬ ‫الأوروب�ي��ة على ال�شرق �أك�ثر مما هو �أ�سلوب‬ ‫علمي‪ ،‬و�إن ع�صب اال�ست�شراق هو �سيا�سي‬ ‫ومن املمكن معرفته بدرا�سة الغرب ال ال�شرق‬ ‫لأنه م�صدره‪ ،‬و�إن امل�ست�شرقني والرحالة كانوا‬ ‫على �صلة وثيقة يف انتمائهم �إىل االمرباطورية‬ ‫الكولونيالية‪ ،‬فاال�ست�شراق �أ�سا�س ًا هو التوا�صل‬ ‫بني باحثني وجمموعة م�صالح ثم حتول �إىل‬ ‫�سلطة متار�س نف�سها على �شرق حولته �إىل‬ ‫جمرد مو�ضوع‪ ،‬وعلى م�ست�شرقني مرتبطني‬ ‫مب�ؤ�س�ساتها و�أهدافها‪ ،‬وعلى املتلقي الأوروبي‬ ‫الذي يتعامل مع نتاجها‪ ،‬بحيث فر�ضت �صورة‬ ‫واح��دة عن ال�شرق وحاربت لتثبيتها و�إرغ��ام‬ ‫ذلك املتلقي على قبولها‪.‬‬ ‫ثم �إن اال�ست�شراق مظهر من مظاهر �صلة‬ ‫الغرب بال�شرق‪ ،‬وهو بدوره نتاج لهذه ال�صلة‪،‬‬ ‫وب�ق��در اخ�ت�لاف ال�صالت وتنوعها اختلف‬ ‫اهتمام امل�ست�شرقني بال�شرق �سواء باختيار‬ ‫املو�ضوعات املدرو�سة �أو طبيعة معاجلتها‪ .‬ثم‬

‫ه�شام جعيط‬

‫عماد الدين خليل‬

‫�إن هناك ق�ضية �أخرى تتعلق بـ«اال�ستغراب»‪،‬‬ ‫وذلك لكون امل�ست�شرقني لديهم �أكرث من دافع‬ ‫ي�سوغ موقفهم من تاريخ العرب والإ��س�لام‪،‬‬ ‫�أم ��ا « امل�ستغربون» فهم الباحثون العرب‬ ‫وامل���س�ل�م��ون ال��ذي��ن ق �ل��دوا امل�ست�شرقني يف‬ ‫�آرائهم وتف�سرياتهم و�ساروا على طرائقهم‪،‬‬ ‫بل و�أ�صروا عليها بعد �أن تركها امل�ست�شرقون‬ ‫�أنف�سهم وباتت قدمية �أو معدلة يف الدوائر‬ ‫التاريخية اال�ست�شراقية نف�سها‪.‬‬ ‫من جهة �أخ��رى ف ��إن �أ�شهر املهتمني العرب‬

‫باال�ست�شراق الذين �أثبتوا وجودهم يف البحث‬ ‫اال�ست�شراقي هم عبدالعزيز ال��دوري و�صالح‬ ‫�أحمد العلي و�أح�م��د عبدالرحيم م�صطفى‬ ‫وعبداللطيف الطيباوي ومالك بن نبي وه�شام‬ ‫جعيط و�أنورعبدامللك وعرفان عبداحلميد‬ ‫وع �م��اد ال��دي��ن خ�ل�ي��ل وف � ��اروق ع�م��ر ف��وزي‬ ‫وعبداجلبار ناجي‪ ،‬ومنهم �أي�ض ًا من ا�ستوطن‬ ‫�أوروب��ا‪ ،‬و�أ�سهم يف تطور الدرا�سات العربية‬ ‫والإ�سالمية وتوجيهها علمي ًا ومو�ضوعي ًا‪،‬‬ ‫�أمثال جورج مقد�سي والربت حوراين وكمال‬


‫دراسة‬ ‫‪86‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫اال�ست�رشاق يف الفن ‪ ..‬الدراوي�ش الدوارون‪ -‬جان ليون جريوم‬

‫�أبوديب وطريف ووليد اخل��ال��دي وحم�سن‬ ‫مهدي ونبيه عبود وه�شام �شرابي حليم‬ ‫بركات وحممد �أرك ��ون‪ ،‬حيث �أ�سهموا يف‬ ‫زح��زح��ة ال�صورة التقليدية لال�ست�شراق‬ ‫النابعة من التب�شري‪ .‬ولكن احلاجة تبقى‬ ‫يف تطوير مناهج البحث العلمي وجت��اوز‬ ‫النظرة ال�ضيقة لتقدمي الأعمال التي تعرب‬ ‫عن �أ�صالتها وانتمائها للح�ضارة العربية‬ ‫والإ�سالمية‪.‬‬

‫اال�ست�شراق واملفهوم‬

‫اال�ست�شراق هو مظهر من مظاهر �صلة‬ ‫الغرب بال�شرق بال �شك‪ ،‬وهو نتاج طبيعي‬ ‫لهذه ال�صلة‪ ،‬لذلك ف�إن التنوع بني �صالت‬ ‫ال�شرق بالغرب فر�ض تنوع ًا يف اجتاهات‬ ‫اال��س�ت���ش��راق ع�بر امل��راح��ل ال�ت��اري�خ�ي��ة‪،‬‬ ‫وخا�صة يف القرن الع�شرين والعقد الأول‬ ‫م��ن ال �ق��رن احل ��ادي وال�ع���ش��ري��ن‪ ،‬فظهر‬ ‫هناك ا�ست�شراق �سيا�سي يعرب عن م�صالح‬ ‫الغرب ال�سيا�سية الكولونيالية‪ ،‬وا�ست�شراق‬ ‫ديني يرتجم دواف��ع التب�شري‪ ،‬وا�ست�شراق‬ ‫�أدب ��ي ي�ستلهم فيه بع�ض الأدب� ��اء �سحر‬

‫ال�شرق وغرائبيته‪ ،‬وا�ست�شراق �أكادميي‬ ‫جعل املعرفة همه الأ�سا�سي‪ ،‬ولذلك �أية‬ ‫حماولة من لدن امل�ؤرخني لنقد اال�ست�شراق‬ ‫ودرا� �س �ت��ه العلمية الب��د �أن ت ��أخ��ذ بعني‬ ‫االعتبار هذه احلقائق‪.‬‬ ‫والب ��د م��ن االع �ت�راف ب� ��أن ج�ه��ل ال�ع��رب‬ ‫وامل�سلمني ب�أو�ضاع جمتمعاتهم‪ ،‬وابتعادهم‬ ‫عن معرفة العلل ال�سيا�سية‪ ،‬وان�صرافهم‬ ‫ع��ن ال��درا� �س��ات العلمية ل�ل��واق��ع العربي‬ ‫والإ�سالمي جتعل اال�ست�شراق ينمو ويزداد‬ ‫�أتباعه ومنا�صروه وقرا�ؤه يف ال�شرق العربي‬ ‫والإ�سالمي كما يف الغرب �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫وامل�س�ألة الأخرى �أنه عند درا�سة اال�ست�شراق‬

‫جيل المهتمين‬ ‫باالستشراق المعاصر‬ ‫مختلف عن نخبة‬ ‫المستشرقين الرواد‪..‬‬ ‫فهم ال يعرفون غير‬ ‫اللغات األوروبية الحديثة‬ ‫وال تهمهم كثير ًا معرفة‬ ‫اللغة العربية أو اللغات‬ ‫الشرقية األخرى‬

‫بر�ؤية تاريخية البد من �إدراك �أن املوقف‬ ‫من الغرب قد خلق �أمناط ًا متباينة من نقد‬ ‫اال�ست�شراق‪ ،‬و�أن املوقف من اال�ست�شراق‬ ‫بواقع احل��ال هو ال��ذي يحدد املوقف من‬ ‫�صاحب اال�ست�شراق‪ ،‬ونق�صد به الغرب‬ ‫وم�ست�شرقيه‪ .‬لذلك فبقدر تنوع ال�صالت‬ ‫وامل��وق��ف م��ن ال �غ��رب ت �ن��وع��ت امل��دار���س‬ ‫اال�ست�شراقية وامل�ن��اه��ج ال�ت��ي تتباين يف‬ ‫اجتاهاتها ونقدها لال�ست�شراق‪ ،‬ويبدو‬ ‫�أن ال�سري وف��ق ه��ذا املنهج �أو ذاك �أم��ر‬ ‫اليحدده الهدف �أو الغاية من العمل بقدر‬ ‫ما يحدده انتماء �أ�صحابه لهذا االجت��اه‬ ‫�أو �سواه‪ ،‬وبهذا ف�إن امل�ؤرخ العربي املهتم‬ ‫باال�ست�شراق يجب عليه يف كل الأحوال �أن‬ ‫ال يبتعد عن الثوابت الإ�سالمية واحلقائق‬ ‫التاريخية يف احل�ضارة والتاريخ العربي‬ ‫الإ��س�لام��ي‪ ،‬مهما جذبته امل��ادة الفكرية‬ ‫يف الدرا�سات الغربية ور�ؤى امل�ست�شرقني‪،‬‬ ‫لكي ال يذهب بعيد ًا وراء �أفكار وحتليالت‬ ‫لآخرين لهم قناعاتهم الذاتية ومزاجهم‬ ‫ال�سيا�سي وميولهم الأدبية والفكرية والتي‬ ‫ال تتفق يف غ��ال��ب الأح �ي��ان م��ع احلقيقة‬ ‫التاريخية التي ال ميكن تغيريها ح�سب‬


‫ر�ضوان ال�سيد‬

‫الأمزجة والأغرا�ض ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ويرى الأكادميي املغربي عبداالله بلقزيز‬ ‫�أن اال��س�ت���ش��راق ال �ي��وم ه��و يف ح��ال من‬ ‫االن�سداد‪ ،‬كتب عنه مفكرون عرب �أمثال‬ ‫عبد العزيز ال��دوري و�صالح �أحمد العلي‬ ‫وعبداهلل العروي و أ�ن��ور عبدامللك وه�شام‬ ‫جعيط وادورد �سعيد وحليم بركات وه�شام‬ ‫�شرابي‪ ،‬وا�ستمر ر�ضوان ال�سيد وبن�سامل‬ ‫حمي�ش وف��اروق عمر ف��وزي وعبداجلبار‬ ‫ن��اج��ي وع �ب��دال �ن �ب��ي ا� �ص �ط �ي��ف وج��زي��ل‬ ‫عبداجلبار اجلومرد ونا�صر عبدالرزاق‬ ‫املال جا�سم‪ ،‬و آ�خ��رون‪ ،‬من منطلق �إدراك‬ ‫الثقافة العربية الإ�سالمية لرتاجع �صلة‬ ‫الفكر الغربي بها‪ ،‬مع وجود �أعداد كبرية‬ ‫من الباحثني يف ق�ضايا الأ�صولية‪ ،‬وال�شرق‬ ‫�أو� �س �ط �ي��ة يف ج��ام �ع��ات وم��راك��ز ب�ح��وث‬ ‫�أمريكية و�أوروبية‪ ،‬و�إن كتاباتهم هي على‬ ‫اختالف مع اال�ست�شراق يف عهد قمته على‬ ‫�أي��دي النخب اال�ست�شراقية التي ظهرت‬ ‫منذ الن�صف ال�ث��اين م��ن ال�ق��رن التا�سع‬ ‫ع�شر‪ ،‬والن�صف الأول من القرن الع�شرين‬ ‫وال �ت��ي ل�ه��ا م�ع��رف��ة ر�صينة باملجتمعات‬ ‫الأخرى‪.‬‬ ‫فجيل املهتمني ب��اال��س�ت���ش��راق املعا�صر‬ ‫خمتلف ع��ن نخبة امل�ست�شرقني ال��رواد‪،‬‬ ‫ف�ه��م ال ي�ع��رف��ون غ�ير ال�ل�غ��ات الأوروب��ي��ة‬ ‫احلديثة‪ ،‬وال تهمهم كثري ًا معرفة اللغة‬ ‫العربية �أو اللغات ال�شرقية الأخرى‪ ،‬لأنهم‬ ‫ي�سوغون ذل��ك بكونهم يبحثون يف علم‬ ‫االجتماع الديني وال�سيا�سي وال عالقة لهم‬

‫�صالح �أحمد العلي‬

‫حم�سن مهدي‬

‫كمال �أبوديب‬

‫بن�سامل حمي�ش‬

‫بالن�صو�ص العربية القدمية �أو احلديثة‪،‬‬ ‫واهتموا بالأ�سا�س مبناهج جديدة و�أفكار‬ ‫خمتلفة وت��دور كتاباتهم ح��ول الظواهر‬ ‫الإ� �س�لام �ي��ة امل �ع��ا� �ص��رة‪ ،‬ف �ه��م ي�ع�م�ل��ون‬ ‫م�ست�شارين لدى حكوماتهم على العك�س‬

‫من امل�ست�شرقني الأوائ��ل الذين مل يعملوا‬ ‫خلدمة ال��دول��ة‪ ،‬ب��ل عملوا الهتماماتهم‬ ‫التقليدية البعيدة عن امل�شكالت املعا�صرة‬ ‫يف اجلانب العربي والإ�سالمي‪ .‬وبهذا يبدو‬ ‫م�سرح ًا جديد ًا يف عامل اال�ست�شراق‪ ،‬بعيد ًا‬ ‫ع��ن امل�ست�شرقني الأوائ ��ل‪ ،‬ي�شكله ه ��ؤالء‬ ‫امل�ست�شرقون اجل��دد‪ ،‬و�إن العرب الزال��وا‬ ‫يف واق��ع احل��ال بحاجة �إىل اال�ست�شراق‬ ‫وك �ت��اب��ات امل�ست�شرقني ع�ل��ى ال��رغ��م من‬ ‫كل املالحظات والنقد الذي يوجه �إليها‪،‬‬ ‫وال�سبب يف ذل��ك �أزم��ة املناهج والتعليم‬ ‫وال �ب �ح��ث ال�ع�ل�م��ي ال �ع��رب��ي‪ ،‬ل��ذل��ك تبقى‬ ‫احلاجة لال�ست�شراق ودرا�سته‪ ،‬ولكن بروح‬ ‫علمية وحم��اي��دة ون �ظ��رة �أك��ادمي �ي��ة‬ ‫تعرف ماذا ت�أخذ وماذا تهمل من‬ ‫تلك الكتابات اال�ست�شراقية‬

‫المؤرخ العربي المهتم‬ ‫باالستشراق عليه أن‬ ‫ال يبتعد عن الثوابت‬ ‫اإلسالمية والحقائق‬ ‫التاريخية في الحضارة‬ ‫والتاريخ العربي‬ ‫اإلسالمي مهما جذبته‬ ‫المادة الفكرية في‬ ‫الدراسات الغربية ورؤى‬ ‫المستشرقين‬


‫نافذة على التراث‬ ‫‪88‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أ كتو بر‬ ‫‪2012‬‬

‫الذاكرة‬

‫سناء موسى‪..‬‬

‫غ��ن��اء يرسم‬ ‫وطن ًا‬

‫�أمين بكر‬

‫ال� �ث� �ق���اف� �ي���ة‪ ،‬ال� �ت� ��راث‪،‬‬ ‫الفولكلور‪ ،‬املوروث ال�شعبي‬ ‫كلها م�صطلحات ت�شري من جوانب خمتلفة �إىل‬ ‫م�ساحة يف الوعي ميكن �أن تتعرف فيها الذات‬ ‫وتتبلور من خاللها الهوية‪ .‬والوجود الفل�سطيني‬ ‫حت��دي��دا يحتاج امل��زي��د م��ن ا�ستك�شاف تلك‬ ‫امل�ساحة‪ ،‬وذل��ك باالمتداد يف الزمن و�إع��ادة‬ ‫بناء الرتاث ب�صورة متعمدة‪ ،‬مق�صودة‪ ،‬واعية‬ ‫بذاتها بو�صفها عن�صر مقاومة وبقاء‪.‬‬ ‫يف هذا الإطار يلعب احلفاظ على ذاكرة الغناء‬ ‫الفولكلوري الفل�سطيني دورا مهما؛ �إذ يقوم‬ ‫برتميم ال��ذاك��رة رمزيا‪ ،‬و�إم��داده��ا بالدماء‬ ‫الالزمة ملزيد من عمليات البناء ال�شاقة يف‬ ‫ظل حم��اوالت �أيديولوجية مكثفة للت�شوي�ش‬ ‫عليها‪ .‬لكن كيف ميكن �أن يظهر اجلهد ال�سابق‬ ‫يف العمل الفني؟ ميكن �إعطاء من��وذج لذلك‬ ‫ب�أعمال الفنانة الفل�سطينية �سناء مو�سى التي‬ ‫تقوم ب��دور وا��ض��ح يف نب�ش ال��ذاك��رة الفنية‬ ‫وترميمها ونفخ الروح فيها‪.‬‬ ‫��س�ن��اء م��و��س��ى ه��ي االب �ن��ة ال �ك�برى للفنان‬ ‫الفل�سطيني على مو�سى‪ ،‬در�ست املو�سيقى �إىل‬ ‫جانب ح�صولها على درجة الدكتوراه يف جمال‬ ‫علمي يت�صل ب�أبحاث املخ‪ ،‬و�أ�صدرت �ألبومها‬ ‫الأول «�إ��ش��راق» عام ‪ .2010‬كما �أنها طافت‬ ‫ب�أغنياتها �أرجاء الأر�ض �شرقا وغربا‪.‬‬ ‫تركز �سناء يف غنائها على ال�تراث الغنائي‬ ‫عموما والفل�سطيني خا�صة‪ .‬ويظهر همها‬ ‫الأ�سا�سي يف �إعادة �إحياء الفولكلور الفل�سطيني‬ ‫ب ��ر�ؤى مو�سيقية حديثة‪ ،‬تتنا�سب م��ع روع��ة‬ ‫هذا الرتاث عمقا وقدرة على حتديد مالمح‬ ‫ال�شخ�صية القومية‪� .‬إن�ه��ا تقوم با�ستدعاء‬ ‫خمزون تراثي رمزي‪ ،‬يحيي وعيا �آمنا بالهوية‪.‬‬ ‫وير�سم حدودا للوطن يف ذاكرة الأمة التي مل‬ ‫تفلح يف مللمة �شتات نف�سها على �أر�ض الواقع‪.‬‬ ‫�س�أقف هنا عند �إحدى �أغنيات �سناء التي حتيي‬ ‫مادة تراثية بر�ؤية جديدة‪ ،‬وهي �أغنية «جنمة‬ ‫ال�صبح» ‪ .‬وما �س�أحاول حتليله هو الهند�سة‬ ‫البنائية املده�شة للأغنية‪ ،‬التي ت�ضيف بعدا‬ ‫دالليا جديدا للن�ص اللغوي الفولكلوري‪ ،‬وهو‬ ‫ن�ص عادة ما كان يغنى يف حفالت الزواج‪.‬‬ ‫تقول كلمات الأغنية‪:‬‬

‫يا ها العري�س‪� ..‬سيم بالدك ما �أريناها‬ ‫يابدلتك‪ ..‬من جبل عجلون قطعناها‬ ‫واتف�صلت بحلب ‪ ..‬واهتزت ال�شام‬ ‫ياجنمة ال�صبح فوق ال�شام عليتي‬ ‫االجواد �أخذتي ‪ ..‬واالنذال خليتي‬ ‫ندر علي ان عادوا احبابي عـ بيتي‬ ‫ال�ضوي امل�شاعل واحني االعتاب‬ ‫وككل الأغاين الفولكلورية تتغري كلماتها كلما‬ ‫دارت على الأل���س�ن��ة‪ ،‬ف�يرى ال�شاعر �سعيد‬ ‫املحاميد �أن اجلملة الأخرية يف ال�سطر الثالث‬ ‫رمبا كانت «والدرزة بال�شام» �أي عملية احلياكة‬ ‫كانت بال�شام بعد �أن مت التف�صيل يف حلب‪،‬‬ ‫ولي�س اهتزت ال�شام‪ .‬كما يرى الروائي عبد‬ ‫الرحمن احلالق �أن تعبري «�سيم بالدك»التي‬ ‫�أظنها تعني �سمة ب�لادك �أي ما مييزها �أو‬ ‫يعرفها‪ ،‬ما هي �إال امتداد �صوتي ناجت عن تنوين‬ ‫كلمة العري�س فت�صبح «ياها العري�سن» بوجود‬ ‫ن��ون منطوقة يف �آخ��ر الكلمة‪ ،‬وبهذا ت�صبح‬ ‫اجلملة «ياها العري�سن ب�لادك ما �أريناها»‪.‬‬ ‫غري �أن ما يعنينا هنا‪ ،‬كما ا�شرت‪ ،‬هو حتليل‬ ‫بناء الأغنية الذي يلعب دورا مهما يف داللتها‪.‬‬ ‫هناك ثالثة م�ستويات من ال�صوت الإن�ساين يف‬ ‫�أغنية «جنمة ال�صبح» ‪ :‬الأول المر�أة عجوز ال‬ ‫ميكنك حتديد عمرها‪ ،‬ليبدو �صوتها �آتيا من‬ ‫بعد �سحيق ممثال مطلق الزمن‪ .‬كما تتج�سد‬ ‫ال�شروخ العميقة يف هذا ال�صوت ك�أيقونة ت�شري‬ ‫�إىل عمر الثقافة الفل�سطينية ال�ضارب يف عمق‬ ‫التاريخ‪� .‬صوت العجوز يبد�أ الغناء وحيدا كمن‬ ‫ينف�ض غبارا تراكم على وجه جمعد لكنه مل‬ ‫يزل حيا‪ ،‬ال�صوت يبد�أ وحيدا وبال �أية مقدمات‬ ‫�أو م�صاحبات مو�سيقية‪ ،‬وهو ما ي�سبب �صدمة‬ ‫�صغرية ملن ي�ستمع للمرة الأوىل متوقعا �صوت‬ ‫�سناء مو�سى ال���ش��اب‪�� ،‬ص��وت ال�ع�ج��وز يبد�أ‬ ‫جمهدا ينقطع �أك�ثر من مرة لق�صر نف�سها‪،‬‬ ‫لكنه يحمل �إ�صرارا غام�ضا على اال�ستمرار‪،‬‬ ‫وحني تبد�أ العجوز نف�سها الت�صفيق‪ ،‬تن�ضم‬ ‫تدريجيا عجائز �أخريات بالت�صفيق �أوال ك�أمنا‬ ‫يتم بعثهن مرة �أخرى ع�ضوا ع�ضوا‪ ،‬فيتلم�سن‬ ‫�أج�سادهن ويتعرفن على �أ�سمائهن ثم ي�شاركن‬ ‫بالغناء يف تلك الأيقونة ال�سحرية التي ت�شبه‬


‫آ�شوري قد ٍمي‪.‬‬ ‫جملة افتتاحية يف طق�س �إحياء � ٍّ‬ ‫مل تعد العجوز وحيدة‪ ،‬لقد ان�ضمت �إليها‬ ‫�أخريات تلئم كل واحدة منهن ما انقطع يف‬ ‫�صوت الأخرى وت�سد ال�شروخ التي ظهرت يف‬ ‫ال�صوت املنفرد‪ ،‬وك�أنهن ي�صنعن ب�أ�صواتهن‬ ‫امل��رت �ع �� �ش��ة ج �� �س��ورا ب�ي�ن م��ا� �ض��ي ال�ث�ق��اف��ة‬ ‫الفل�سطينية وحا�ضرها الآت��ي عرب امتداد‬ ‫ه��ذه الأ� �ص��وات يف ال��زم��ن ببعديه‪ :‬املا�ضي‬ ‫وامل�ستقبل‪« .‬اخل�ت�ي��ارة» ورفيقاتها يتغنني‬ ‫جميعا باملقطع الأول من الكلمات ال�سابقة‬ ‫«يا ها العري�س‪� ..‬سيم بالدك ما �أريناها‪ /‬يا‬ ‫بدلتك من جبل عجلون قطعناها‪ /‬واتف�صلت‬ ‫بحلب‪ /‬واهتزت ال�شام» مبا ميثل الالزمة‬ ‫الأ�سا�سية للأغنية‪ ،‬والتي �سيلتقي عندها كل‬ ‫الأجيال كما �سيت�ضح‪.‬‬ ‫بعد انق�ضاء �صدمة امل�ستمع يبد�أ امل�ستوى‬ ‫الثاين متمثال يف �صوت ن�سائي جمعي يبدو‬ ‫�أكرث �شبابا من �صوت العجوز لكنه لي�س ب�شباب‬ ‫�صوت �سناء مو�سى الذي مل يظهر حتى الآن‪.‬‬ ‫�إنه �صوت ن�ساء �أربعينيات‪ ،‬ك�أنه مرحلة و�سطى‬ ‫يف رحلة تاريخية طويلة لهذا الفولكلور‪ .‬ين�ضم‬ ‫�صوت الن�ساء الأربعينيات �إىل �صوت العجائز‬ ‫متغنيات جميعا باملقطع نف�سه‪.‬‬ ‫لكن �صوت الن�سوة مل يعد وحيدا‪� ،‬إذ تبد�أ‬ ‫الإيقاعات مع �صوت الن�سوة الأربعينيات‪،‬‬ ‫ك ��أن عملية الإح�ي��اء الأ�سطورية تلك تتخذ‬ ‫بعدا �أكرث زخما وبهجة‪ .‬تدخل �آالت الإيقاع‬ ‫و�آلة القانون لتنقل جميعا الإح�سا�س من حالة‬ ‫�إح�ي��اء موح�شة حمل عبئها منفردا �صوت‬ ‫العجوز ال��ذي ب��د�أ الأغنية‪/‬الطق�س‪� ،‬إىل‬ ‫ماي�شبه حالة العر�س التي وج��دت الأغنية‬ ‫بالأ�سا�س للتعبري عنها‪� ،‬إنها ت�أتي بالتاريخ‬ ‫هنا‪� ،‬أو ت�أخذنا �إل�ي��ه‪ ،‬املهم �أن ال�ن��اجت هو‬ ‫وقوع ح�س املتلقي تدريجيا‪ ،‬وب�صورة ال ميكن‬ ‫مقاومتها‪ ،‬يف قلب فل�سطني‪ :‬الرتاث الفني‪/‬‬ ‫الذاكرة ‪ /‬الوطن الذي ال ميوت‪.‬‬ ‫امل�ستوى الثالث من ال�صوت ينفجر ك�شم�س‬ ‫ت�شرق فج�أة؛ �صوت �سناء مو�سى بكل ما فيه‬ ‫�شباب �أخاذ‪ ،‬ي�أتي م�صحوبا‬ ‫من فتوة ورنني ٍ‬ ‫ب�ت��داخ��ل امل��زي��د م��ن الآالت املو�سيقية مع‬ ‫ال�غ�ن��اء حمققا ذروة احل��ال��ة االحتفالية‬

‫امل ��ر�أة‪� ،‬أو العرو�س ع�بر تاريخها‪ ،‬ف��امل��ر�أة‬ ‫هي ال�صانع الأكرب للثقافة الفولكلورية وهي‬ ‫م�ستودعها وامل�سئولة عن نقلها من جيل �إىل‬ ‫جيل‪ .‬لذلك ت�أتي عرائ�س الأم�س يف طق�س‬ ‫ي�ضاف لطق�س الإحياء‪ ،‬حيث ت�سلم اجلدات‬ ‫«عرائ�س الأم�س» خمزون الثقافة للمطربة‬ ‫ال�شابة «عرو�س اليوم»‪ ،‬وجميعهن يف حالة‬ ‫مناجاة‪ ،‬ال تخلو من ظالل البكاء والنواح‪،‬‬ ‫لهذا العري�س الذي ال يعرف �أحد بالده‪ ،‬لكنه‬ ‫يجد م�ستقرا يف تلك الأغنية‪ /‬الوطن‪.‬‬ ‫تقوم �سناء مو�سى بغناء املقطع الثاين يف‬ ‫�صورة م��وال « ياجنمة ال�صبح ف��وق ال�شام‬ ‫عليتي‪ /‬االجواد �أخذتي ‪ ..‬واالنذال خليتي‪/‬‬ ‫ن��در علي ان ع ��ادوا اح�ب��اب��ي ع �ـ بيتي‪/‬‬ ‫ال��ض��وي امل�شاعل واح�ن��ي االع�ت��اب»‬ ‫ث��م ي�ع��ود ��ص��وت العجائز اخلالد‬ ‫مت�صدرا امل�شهد لربهة‪ ،‬ليلحق به‬ ‫�صوت �سناء م��رة �أخ ��رى‪ ،‬خمتتمني‬ ‫جميعا الأغنية بتوافق بديع بني الرتاث‬ ‫واحلا�ضر بو�صفه الطريق املقرتح نحو‬ ‫امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ولعل جممل �أعمال �سناء مو�سى ت�شري �إىل‬ ‫توجه ق�صدي عميق‪ ،‬نحو تلك امل�ساحة احلرة‬ ‫متاما من الوعي‪ ،‬املتمثلة يف الرتاث الغنائي ‪،‬‬ ‫الذي ميثل تربة خ�صبة ميكن �أن نخط عليها‬ ‫احلدود الأعمق لفل�سطني‪.‬‬

‫من القامو�س‪:‬‬ ‫املو�سيقى الفولكلورية ‪Folk Music‬‬

‫املده�شة التي تتقطر منها ن�شوة ممزوجة‬ ‫ب�شجن ال ميكن جتنب �أي منهما‪ .‬يتداخل‬ ‫�صوت �سناء مع �أ�صوات العجائز‪ ،‬ويبدو �أن‬ ‫ال�صوت الو�سيط قد اختفى ليت�صدر امل�شهد‬ ‫�صوت ال�شابة‪ /‬احلا�ضر‪ ،‬وي�تراج��ع �صوت‬ ‫العجائز‪ /‬املا�ضي �إىل موقعه الطبيعي يف‬ ‫اخللفية‪ ،‬بعد �أن قام ب�إر�ساء القواعد لعملية‬ ‫الإحياء الأ�سطورية تلك على �أكمل وجه‪.‬‬ ‫لقد اقت�صرت الأ�صوات يف الأغنية على �صوت‬

‫�أب�سط تعريف للمو�سيقى الفولكلورية هو‬ ‫�أن �ه��ا امل��و��س�ي�ق��ى ال �ت��ي تنتقل ��س�م��اع��ا بني‬ ‫الأج �ي��ال �ضمن جمتمع متجان�س ثقافيا‪.‬‬ ‫وعادة ما تكون جمهولة امل�ؤلف �أو امل�صدر‪.‬‬ ‫كما �أن فولكلوريتها ت�شري �أي�ضا �إىل جمتمع‬ ‫ريفي‪ ،‬لذا متثل هذه املو�سيقى ن�ضاال من‬ ‫�أجل البقاء يف الثقافة ما قبل‪-‬ال�صناعية‬

‫‪pre-industrial culture‬‬

‫‪«Edgar, Andrew, Peter Sedjwick, eds‬‬ ‫‪Key Concepts in Cultural Theory,‬‬ ‫»‪routledge, 1999, 146- 147‬‬


‫في حضرة الشعر‬ ‫‪90‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ج�سد معامل‬ ‫ّ‬ ‫الفت ّوة برباعة‬

‫الهويّة‬

‫في شعر المتنبّي‬ ‫الغ�ضاب‬ ‫فرج‬ ‫ّ‬ ‫لي�س من ّ‬ ‫�شك يف � ّأن ك ّل ّ‬ ‫ال�شعوب تقتطع من‬ ‫لغتها ق�سما خم�صو�صا من القول حتتفي‬ ‫به � مّأيا احتفاء‪ ،‬وت�صطلح عليه ّ‬ ‫بال�شعر‪ .‬ومل‬ ‫ت�ش ّذ العرب ّية عن ذلك‪ .‬بل � ّإن ما و�صلنا من‬ ‫م�صادر غابر ال ّزمن يذكر � ّأن قبائل العرب‬ ‫تقيم الأفراح �إذا ما ولد فيها �شاعر‪ .‬ولي�س‬ ‫ذلك من الغريب باعتبار � ّأن ّ‬ ‫ال�شاعر ل�سان‬ ‫قومه وحامل علمهم‪ .‬بل هو �سالحهم يف‬ ‫املنافرات واملفاخرات‪ .‬ويع ّلل الدّار�سون ل�شعر‬ ‫العرب تلك ّ‬ ‫الظاهرة مبا يحت ّله ّ‬ ‫ال�شاعر و�شعره‬ ‫من مكانة يف املجموعة الب�شر ّية باعتبارهما‬ ‫ي�ضطلعان بوظيفة‪ .‬ولع ّل وظيفة ّ‬ ‫ال�شعر‬ ‫تتم ّثل يف ا�ستنان القيم وا�سرت�سالها‪ .‬ولع ّل‬ ‫وظيفة ّ‬ ‫تتج�سد يف ح�سن الإ�صغاء‬ ‫ال�شاعر ّ‬ ‫ملفاهيم اجلمع والقدرة على تطويعها للغتهم‬ ‫يف �أبهى معامل الفنّ والبنيان ‪.‬‬


‫م��ن ه��ذا املنطلق �شئنا �أن نتل ّم�س معامل‬ ‫القيم ّ‬ ‫ال�شعر ّية يف حما�سة املتن ّبي‪ .‬واخرتنا‬ ‫االقت�صار على �أن نح�صر البحث يف مفهوم‬ ‫تق�صي ًا ملعامل هو ّيته وو�صف ًا لها‪.‬‬ ‫«الفتى» ّ‬ ‫ويدفعنا ذلك ّ‬ ‫بال�ضرورة �إىل تناول امل�س�ألة‬ ‫ت�ن��او ًال مقارب ّي ًا‪ ،‬ي�سعى �إىل ال��وق��وف على‬ ‫خ�صائ�ص ��ص�يرورة قيمة الفت ّوة يف �شعر‬ ‫ال �ع��رب م��ن الع�صر اجل��اه�ل� ّ�ي �إىل ح��دود‬ ‫تبي ما‬ ‫القرن ال ّرابع‬ ‫الهجري‪� ،‬سعي ًا �إىل نّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سامع ي�ستغرب‬ ‫يتف ّرد به املتن ّبي‪ .‬ولع ّل ّ‬ ‫الإع�ل�ان ع��ن تخ�صي�ص العمل بحما�سة‬ ‫امل �ت �ن � ّب��ي ث � ّ�م االن ��زي ��اح ع �ن��ه ف�ي�م��ا ي�شبه‬ ‫التّناق�ض‪ .‬ولكن لنا يف ذلك �سبب رجم به‬ ‫املتن ّبي نف�سه؛ وهو ما يجدر ذكره يف هذا‬ ‫البدء‪ .‬وقد اعتمدنا يف هذه الدرا�سة ن�سخة‬ ‫دي��وان املتن ّبي ب�شرح الربقوقي ال�صادرة‬ ‫العربي بريوت‪ ،‬لبنان عام‬ ‫عن دار الكتاب‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1407‬هـ‪1986 -‬م‪.‬‬ ‫يقول ّ‬ ‫ال�شاعر‪:‬‬

‫َال جَ ْ‬ ‫ت ُ�س ُر ا ْل ُف َـ�ص َحا ُء ُت ْن�شِ ُد َه ُه َنا‬ ‫َب��� ْي��� ًت���ا َو َل�� ِك��ـ��ن��ـ��ـِّ��ي ا ْل��� ِه���ـ��� َز ْب��� ُر ا ْل��� َب���ا� ِ���س��� ُل‬ ‫مَ���ا َن��ـ��ا َل �أَهْ ����� ُل الجْ َ ��اهِ �� ِل�� َّي�� ِة ُك�� ُّل��ـ��هُ�� ْم‬ ‫���شِ �� ْع��رِي َو َال � َ��س��مِ �� َع��تْ ِب�����سِ ْ��ح��رِي َب��ا ِب�� ُل‬

‫ما يه ّمنا من هذا البيت هو ما يوحي به من‬ ‫وعي املتن ّبي بقيمة �شعره وفرادته يف تاريخ‬ ‫العربي‪ .‬و�إذا كان الأمر كما يدّعيه‬ ‫الإن�شاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعر يف �أغلب ما افتخر به عند ذكره‬ ‫�شاعر ّيته؛ ف�إ ّننا نطمح من خالل هذا العمل‬ ‫�إىل �سرب معامل القيمة ّ‬ ‫ال�شعر ّية يف مد ّونته‬ ‫من حيث ال ّت�أ�سي�س املمكن واال�سرت�سال ملا‬ ‫وقر‪ .‬وذلك بتناول الإ�شكال التّايل‪:‬‬ ‫ه��ل �إنّ مفهوم ال�ف�ت� ّوة يف حما�سة املتن ّبي‬ ‫ت�أ�سي�س ملبتدع م��ن القيم يفر�ضها جديد‬ ‫الهجري‪� ،‬أم هو جم ّرد ت� ّأ�س مبا‬ ‫القرن ال ّرابع‬ ‫ّ‬ ‫ع ّمدته جاهل ّية العرب فا�ستق ّر بهم وعنهم‬ ‫قد ا�سرت�سل؟‬ ‫تواتر م�صطلح الفت ّوة يف امل��د ّون��ة‪ ،‬ال يخلو‬ ‫ق�صيد من قري�ض املتن ّبي مدح ًا كان �أو فخر ًا‬ ‫�أو هجاء �أو رث��اء‪ ،‬م��ن ت�صاريف �صريحة‬

‫ال يخلو قصيد‬ ‫للمتنبّي مدح ًا‬ ‫كان أو فخر ًا أو‬ ‫هجاء أو رثاء من‬ ‫تصاريف صريحة‬ ‫أو ضمنيّة لمعنى‬ ‫الفت ّوة‬

‫حبيبة و�صلته فتع ّفف‪.‬‬ ‫و�أ ّما عبارة «الفت ّوة» فلم ترد غري م ّرة واحدة‬ ‫يف ال ّديوان ك ّله ين�سبها لذاته‪ .‬بل يجعلها ال‬ ‫تتع ّدى ثلث خ�صاله الأخالق ّية‪.‬‬ ‫�إ�شكال الفت ّوة يف املد ّونة مت ّثل عبارة الفت ّوة‬ ‫يف حما�سة املتن ّبي �إ�شكا ًال‪ .‬وذلك لأ ّنه �أوردها‬ ‫ب�صريح العبارة م� ّرة واح��دة لتح ّقق معنى‬ ‫جممال‪ .‬يقول ّ‬ ‫ال�شاعر‪:‬‬

‫الُ ُب���ـ��� َّوة‬ ‫َو َت��� َرى ا ْل�� ُف�� ُت�� َّو َة َوالمْ ُ���ـ��� ُر َّو َة َو ْ أ‬ ‫�أو ��ض�م�ن� ّي��ة ملعنى‬ ‫�����ي ُك�����ـ ُّ‬ ‫����ح����ـ���� ٍة � َ���ض���ـ��� َّرا ِت���ـ���هَ���ا‬ ‫�����ل مَ���� ِل����ي َ‬ ‫ِف�����ـ َّ‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫�وان‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫�‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ا�ستقراء‬ ‫أو�صل‬ ‫الفت ّوة‪ .‬وقد �‬ ‫ّ‬ ‫هُ ����نَّ ال��� َّث َ‬ ‫�ل�ا ُث المْ َ��ا ِن��ـ�� َع��اتِ��ي َل��ـ�� َّذ ِت��ي‬ ‫�أ ّن��ه ي��ورد ع�ب��ارة «ال�ف�ت� ّوة» وم��ا ق��رب منها‬ ‫فيِ َخ�� ْل�� َو ِت��ي َال خْ َ‬ ‫ال��� ْو ُف مِ ��نْ َت ِب َعـا ِتهَا‬ ‫ا�شتقاق ًا‪ ،‬ثمان و�ستّني م � ّرة‪ .‬من حتليلها‬ ‫ال�صريح ملتع ّلقات مفهوم‬ ‫يتبني لنا �أنّ ال ّذكر ّ‬ ‫الفت ّوة اال�شتقاق ّية له تواتر خم�صو�ص يف‬ ‫�شعر احلما�سة ل��دى املتن ّبي‪� .‬إذ �إ ّن��ه يورد‬ ‫عبارة «الفتى» نكرة ك ّلما و�صف بها خ ّلة‬ ‫من خالل ممدوحيه مبن فيهم �سيف ال ّدولة‬ ‫�أو يلحقها �أحيانا بذاته املتك ّلمة يف �سياق‬ ‫الفخر‪ .‬وغالبا ما يكني بهذه العبارة ال ّنكرة‬ ‫ع��ن �سمات �أخ�لاق � ّي��ة حم �م��ودة ت�ت��واف��ر يف‬ ‫املتح ّدث عنه‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وال يوردها مع ّرفة تعريف �إط�لاق «الفتَى»‬ ‫�إ ّال �إذا �أ�سندها لذاته ّ‬ ‫ال�شاعرة‪� ،‬أو ّ‬ ‫دل بها‬ ‫على مطلق القيمة الأخالق ّية يف �إطار �أبياته‬ ‫احلكم ّية‪ .‬غري �أ ّنه ّ‬ ‫يوظفها يف منا�سبة واحدة‬ ‫لتعيني الغري وهو �أحد بطارقة ال ّروم‪ ،‬ل�سبب‬ ‫بالغي نتو ّقف عنده الحقا‪� .‬أ ّما البيت فهو‪:‬‬ ‫ّ‬

‫� ىَآل ا ْل َف َتى ا ْب ُن ُ�ش ُم ْ�شقِيقٍ َف�أَ ْح َن َث ُه‬ ‫َف ًتى مِ َن َّ‬ ‫ال�ض ْربِ ُت ْن َ�سى عِ ْن َد ُه ا ْل َك ِل ُم‬

‫مفاد داللة البيت �أنّ ما يتح ّلى به ّ‬ ‫ال�شاعر‬ ‫م��ن ق�ي��م ث�ل�اث‪ ،‬وه ��ي‪ :‬ال �ف �ت � ّوة وامل� ��رو�ؤة‬ ‫والإباء؛ ينغّ�ص حياته مع املر�أة احلبيبة‪.‬‬ ‫�إذ �إنّ املع�شوقة ترى فيهنّ �ض ّرات لها‪ .‬لأنّ‬ ‫ه��ذه القيم ال ّثالث متنع ّ‬ ‫ال�شاعر املتّ�سم‬ ‫ّ‬ ‫ب�ه��ا م��ن االن���س�ي��اق وراء ط�ل��ب ال �ل� ّ�ذة يف‬ ‫جتربته احل ّب ّية‪.‬‬ ‫ويبدو �إ�شكال الفت ّوة ب ّين ًا عند املتن ّبي �إذا‬ ‫ما قار ّناه مبا ا�ستق ّر يف ّ‬ ‫الذاكرة العرب ّية‬ ‫اجل �م��ع م��ن م �ق � ّوم��ات ه��و ّي��ة ال�ف�ت��ى منذ‬ ‫ّ‬ ‫اجلاهلي‪� .‬إذ �إنّ طلب ال ّل ّذة وخو�ض‬ ‫ال�شعر‬ ‫ّ‬ ‫أ�سا�سي‬ ‫التّجربة احل ّب ّية املح�ض‪ ،‬مق ّوم �‬ ‫ّ‬ ‫م��ن مق ّومات ال�ف�ت� ّوة‪ .‬ودليلنا على ذلك‬ ‫قول طرفة‪« ،‬دي��وان طرفة بن العبد‪ .‬دار‬ ‫املعرفة‪ .‬بريوت‪-‬لبنان‪ .‬ط‪1424 .1:‬هـ ‪-‬‬ ‫‪2003‬م‪� .‬ص‪:»33-34 :‬‬

‫َو َلو َال َث َ‬ ‫ال ٌث هُ نَّ مِ نْ عِ َ‬ ‫ي�ش ِة ا ْل َف َتى‬ ‫َو َج���د َِّك لمَ ْ �أَ ْح�� َف ْ��ل مَ�� َت��ى َق��ـ��ا َم عُ�� َّودِي‬ ‫َفمِ ْن ُهنَّ َ�س ْبقِي ا ْل َعـا ِذ َالتِ ب َِ�ش ْر َبـة‬ ‫ُك�� َم�� ْي��تٍ مَ�� َت��ى مَ���ا ُت��� ْع��� َل ِب���المْ َ���ا ِء ُت�� ْز َب��ـ��دِ‬ ‫َو َك�� ِّري �إِ َذا َن��ادَى المْ ُ َ�ض ُ‬ ‫م َّن ًبا‬ ‫اف حُ َ‬ ‫َك ِ�����س��ي��دِ ا ْل�� َغ��ـ َ‬ ‫�����ض��ا َن��� َّب���هْ��� َت��� ُه المْ ُ����ـ���� َت���� َو ِّر ِد‬ ‫ري َي ْو ٍم الد َّْج ِن َوالد َّْج ُن ُم ْع َج ٌب‬ ‫َو َت ْق ِ�ص ُ‬ ‫ِب��ـ�� َب��هْ�� َك�� َن�� ٍة تحَ ْ�����تَ ال ِّ‬ ‫اف المْ ُ��� َع��� َّم���دِ‬ ‫����ط���� َر ِ‬

‫خم�ص�صة بالإ�ضافة يف‬ ‫كما �أ ّن��ه �أورده ��ا‬ ‫ّ‬ ‫منا�سبتني يتيمتني �أ�سندها فيهما ل�سيف‬ ‫الدّولة‪ ،‬و�إن كان املعنى العا ّم للبيتني ينحو‬ ‫احلكمي‪.‬‬ ‫نحو القول‬ ‫ّ‬ ‫ومل يوردها مث ّناة مع ّرفة �إ ّال يف منا�سبتني‬ ‫ذاك��ر ًا بها جند �سيف ال� ّدول��ة م � ّرة‪ ،‬و�سمة‬ ‫اجلند ا ّلتي يح ّبذها م ّرة ثانية‪.‬‬ ‫�أ ّم ��ا م ��ؤ ّن �ث��ة ف�ق��د �أورده� ��ا م � ّرت�ين يف ق�سم‬ ‫ال ّن�سيب مع ّينا بها حبيبة منوذج ّية قد جفته فمفاد هذه ّ‬ ‫تتم �أركانها‬ ‫املقطعة �أنّ الفت ّوة ال ّ‬ ‫على غري �سنن العرب يف الع�شق م ّرة‪ ،‬و�أخرى �إ ّال ب�ث�لاث‪ ،‬ه��ي‪ :‬معاقرة اخل�م��ر‪ ،‬و�إجن��اد‬


‫في حضرة الشعر‬ ‫‪92‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫هويّة الفتى في القرن‬ ‫الهجري مع‬ ‫الرّابع‬ ‫ّ‬ ‫جلي‬ ‫المتنبّي تختلف‬ ‫ّ‬ ‫عما سبق من‬ ‫االختالف ّ‬ ‫قيم عربيّة تأسيسيّة‬

‫الغري‪ ،‬وال ّلهو‪ .‬وتنبئ هذه املفارقة منذ الآن‬ ‫الهجري‬ ‫ب ��أنّ هو ّية الفتى يف القرن ال ّرابع‬ ‫ّ‬ ‫جلي االختالف ع ّما �سبق‬ ‫مع املتن ّبي تختلف ّ‬ ‫من قيم عرب ّية ت�أ�سي�س ّية‪ .‬ويبدو �أنّ تغيرّ‬ ‫املنظومة املجتمع ّية ب��اخل��روج من حظرية‬ ‫القبلي �إىل نطاق املدينة وم��ن ث ّمة‬ ‫الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الدّولة واالنتماء لأ ّمة عو�ض ًا عن بطن‬ ‫�أو عرق‪ ،‬قد �أف��رز تغ ً‬ ‫يرّا يف منظومة‬ ‫القيمي عرب‬ ‫القيم‪ .‬ولك�أنّ اال�سرت�سال‬ ‫ّ‬ ‫الزّمن ال ّ‬ ‫ينفك يع ّدل منها ويط ّوعها‬ ‫مدحيات املتن ّبي‬ ‫للجديد املحدث‪.‬‬ ‫�أو�صل ا�ستقراء ال� ّدي��وان �إىل �ضبط ثالث‬ ‫وثالثني مو�ضع ًا يرد فيها ذكر �صريح لعبارة‬ ‫معامل هو ّية الفتى يف املد ّونة‬ ‫خ�ص�صت العبارة‬ ‫ن ��ورد يف ه��ذا امل���س�ت��وى م��ن ال�ع�م��ل امل�ع��امل « َفتًى» يف باب املدح‪ .‬وقد ّ‬ ‫ال �ع��ا ّم��ة ال��وا��س�م��ة ل�ه��و ّي��ة ال�ف�ت��ى يف دي��وان بجملة م��ن ال���ّ�س�م��ات ت�ت�ردّد ب�ين احل���ّ�س� ّ�ي‬ ‫�وي‪ .‬ويحيل ك ّلها �إىل قيم حممودة‬ ‫املتن ّبي؛ مقت�صرين يف ذلك على ما �ص ّرح به وامل �ع �ن� ّ‬ ‫يتّ�صف بها املمدوح‪ ،‬فهو ّية الفتى يف املدحيات‬ ‫يف �شعره‪.‬‬ ‫تت�ش ّكل من ثالث جم��االت قيم ّية �أ�سا�س ّية‪:‬‬ ‫فخريات املتن ّبي‬ ‫�شخ�صي يتع ّلق بكرامة الأ�صل‪،‬‬ ‫�أو�صل ا�ستقراء الدّيوان �إىل ت�سع موا�ضع يرد �أ ّولهما �سلوك‬ ‫ّ‬ ‫فيها ذكر �صريح لعبارات « َفتًى» �أو «ا ْل َفتَى» من قبيل عزّة ال ّنف�س‪ ،‬والعلم‪ ،‬و�سداد ال ّر�أي‪،‬‬ ‫ال�شاعر واحلكمة‪ ،‬وطلب املجد‪َ ،‬والإقدام ّ‬ ‫وال�شجاعة‪،‬‬ ‫�أو « َفتَا ٌة» يف باب الفخر‪ .‬وقد �أ�سند ّ‬ ‫ل�ه��ذه ال �ع �ب��ارات ��س�م��ات قيم ّية دا ّل ��ة على والتّم ّكن من فنون القتال‪ .‬وثانيها �سلوك‬ ‫اجتماعي يتم ّثل يف ح�سن معاملة الغري من‬ ‫ّ‬ ‫معامل هو ّية الفتى‪ .‬وهي قيم حميدة تزين‬ ‫املتح ّلي بها‪ .‬وجنمع ذلك يف‪ :‬الوفاء بالقول‪ ،‬قبيل الترّ ّفع واحللم‪ ،‬و�إكرام الوفادة‪ ،‬وعل ّو‬ ‫وال�سخاء‪ .‬وثالثها �سلوك �سلطا ّ‬ ‫ين من‬ ‫ال�شجاعة‪ ،‬احللم عن القادحني‪ ،‬الغاية يف اله ّمة‪ّ ،‬‬ ‫ال�س�ؤدد‪ ،‬واحل��زم‪ ،‬والبط�ش‪ ،‬واملثل يف‬ ‫ال�شاعرية‪ ،‬الإباء عند ال�ضيم‪� ،‬سداد الر�أي‪ ،‬نوع ّ‬ ‫واحلربي‪.‬‬ ‫يا�سي‬ ‫ال�س‬ ‫ّهاء‬ ‫د‬ ‫وال‬ ‫القيادة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ثبات اجلنان‪ ،‬الفطنة‪ ،‬االعتداد بالنف�س‪،‬‬ ‫ال �ع �ف��ة‪ ،‬ال�ت�م��ر���س ب��احل��رب‪ ،‬ال���ص�بر على حكميات املتن ّبي‬ ‫ّ‬ ‫ال�شدائد‪ ،‬كرامة ال�صل‪ ،‬العزوف عن اللهو‪� .‬أورد ّ‬ ‫ال�شاعر يف مقطعاته احلكم ّية عبارة‬ ‫ال�سمات امل�سندة �إىل «الفتى» خم�سة ع�شر م ّرة‪� ،‬أغلبها ت�ض ّمنته‬ ‫وي�لاح��ظ م��ن خ�لال ّ‬ ‫تتم �إ ّال املدحيات وبع�ضها الآخر قيل يف �إطار الفخر‬ ‫الفتى‪� ،‬أنّ هو ّيته هو ّية مر ّكبة؛ ال ّ‬ ‫بتو ّفر جملة من حميد اخل�صال جمتمعة‪.‬‬ ‫وال ّرثاء‪ .‬وقد �أ�سند لها �سمات قيم ّية جتلي‬

‫العبارة‬ ‫َف ًتى‬ ‫ا ْل َف َتى‬ ‫ا ْل ِف ْت َي ُ‬ ‫ان‬ ‫َف َتا هَا‬ ‫َف َتا ٌة‬ ‫ا ْل ُف ُت َّو ُة‬

‫ّ‬ ‫الذوات املتع ّينة بالعبارة‬ ‫ّ‬ ‫املرثي‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬املمدوح؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعر؛ مطلق‬ ‫اجلند‬ ‫املمدوح «�سيف ال ّدولة»‬ ‫احلبيبة‬ ‫�شيمة ّ‬ ‫ال�شاعر‬

‫جدول ير�صد عبارة «الفتوة» يف ديوان املتنبي‬

‫التّواتر‬ ‫‪32‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫ال�صرب على ّ‬ ‫ال�شدائد‪ ،‬ح�سن‬ ‫معاملها‪ ،‬منها ّ‬ ‫الفعل‪ ،‬الأم��ل يف ال�ع�ط��اء‪ ،‬رج��اح��ة العقل‪،‬‬ ‫ال�سعاية‪ ،‬الإقدام‪� ،‬إ�صابة ال ّر�أي عفو ًا‪،‬‬ ‫جت ّنب ّ‬ ‫ال�سخاء‪ ،‬ح�سن‬ ‫التّع ّفف‪ ،‬ال ّر�شاد‪ ،‬القناعة‪ّ ،‬‬ ‫الق��دام‪ ،‬ال ّرفعة‬ ‫اخللق‪ ،‬االعتداد بال ّنف�س‪ ،‬إ‬ ‫ّ‬ ‫والأن��ف��ة‪ .‬ت�ب��دو ه��و ّي��ة الفتى يف املقطعات‬ ‫احلكم ّية جامعة بني مق ّومات الفت ّوة املفتخر‬ ‫ب�ه��ا‪ ،‬وم�ق� ّوم��ات ال�ف�ت� ّوة امل �م��دوح ب�ه��ا‪ .‬فهي‬ ‫ال�سلوك ّ‬ ‫خ�صي‪،‬‬ ‫ت�شمل قيما مو ّزعة على ّ‬ ‫ال�ش ّ‬ ‫متت‬ ‫ال�سلوك‬ ‫اجلمعي‪ ،‬وثالثة ّ‬ ‫و�أخ��رى على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلطاين‪ّ.‬‬ ‫ب�صالت �إىل املجال ّ‬

‫ن�سيب املتن ّبي‬

‫�ص ّرح ّ‬ ‫ال�شاعر يف باب ال ّن�سيب م ّرة واحدة‬ ‫ّ‬ ‫ا�شتقاقي من متعلقات عبارة «الفت ّوة»‬ ‫مبتع ّلق‬ ‫ّ‬ ‫وذل ��ك يف م��دح�ي�ت��ه للح�سني ب��ن �إ��س�ح��اق‬ ‫وخي‪.‬‬ ‫ال ّت ّن ّ‬

‫َف�� َت��ا ٌة َت��� َ��س��ا َوى عِ �� ْق�� ُدهَ��ا َو َك َ‬ ‫�لامُ�� َه��ا‬ ‫َو َم ْب�سِ ُمهَا الدُّ رِّيُّ فيِ حْ ُ‬ ‫ال ْ�س ِن َوال َّن ْظ ِم‬ ‫َج َف ْتنِي َك�أَ يِّن َل ْ�ستُ �أَ ْن َط َق َق ْومِ هَا‬ ‫َو�أَ ْط َع َن ُه ْم َو ُّ‬ ‫ال�شه ُْب فيِ ُ�صو َر ِة الدُّ هْ ِم‬

‫وما يلفت ال ّنظر يف هذه ّ‬ ‫ال�سمات‬ ‫املقطعة هو ّ‬ ‫اخل ْل ِق َّي ُة ا ّلتي و�سم بها الفتاة‪� .‬إذ‬ ‫امل��ا ّد ّي��ة ِ‬ ‫ً‬ ‫ب��دت رم ��زا جل�م��ال الهيئة وح�سن املظهر‬ ‫مما ّ‬ ‫يتع�شقه العرب‪ .‬ولكن القيمة الأخالق ّية‬ ‫ّ‬ ‫ا ّلتي م ّيزتها وهي اجلفاء قد خالفت ما عهد‬ ‫قيمي‬ ‫عن العرب ّيات‪� .‬إذ فيها ت�سجيل لتح ّول ّ‬ ‫ملحوظ‪ .‬فقد ا�ستق ّر يف التّجربة ّ‬ ‫ال�شعر ّية �أنّ‬ ‫املر�أة العرب ّية متيل للفتى املنطيق اجل�سور‪.‬‬ ‫و�إذا بها يف بيت املتن ّبي ُت ْل َفى متن ّكرة لذلك‪.‬‬ ‫�أ ّما ما يه ّمنا فعال فهو القيم امل�سندة للفتى‬ ‫مبا هو الوجه ال ّنقي�ض ل�سلوك املع�شوقة‪� .‬إذ‬ ‫هو رمز للمحافظة على موروث القيم‪ .‬فبينما‬ ‫جتلت �سمات الفتاة يف ‪ :‬ح�سن نظم كالمها‪،‬‬ ‫وح�سن نظم عقدها‪ ،‬وح�سن مب�سمها‪ ،‬فقد‬ ‫جتلت �سمات الفتى يف �أن��ه �أن�ط��ق ال�ق��وم‪،‬‬ ‫و�أطعن القوم‪ ،‬و�أنه ج�سور يف احلروب‪.‬‬

‫هجائيات املتن ّبي‬

‫��ص� ّرح ّ‬ ‫ال�شاعر م�� ّرة واح ��دة يف هجائياته‬ ‫بعبارة الفتى‪ ،‬قا�صد ًا بها ذاك ا ّل��ذي يقوم‬


‫ال�سلطان‪ .‬وقد �أوردها يف هجائه‬ ‫�ض ّد طغيان ّ‬ ‫ك��اف��ور حم� ّر��ض��ا م��ن يتّ�سم ب��ال�ف�ت� ّوة على‬ ‫اغتياله‪.‬‬

‫�أَ َال َف�� ًت��ى ُي����و ِر ُد ا ْل��هِ�� ْن��دِ يَّ هَ��امَ�� َت�� ُه‬ ‫َك ْي َما َت��� ُزو َل � ُ��ش�� ُك ُ‬ ‫��وك ال�� َّن��ا� ِ��س َوال�� ُّت�� َه�� ُم‬

‫مرثيات املتن ّبي‬

‫�أو� �ص��ل ا��س�ت�ق��راء امل��د ّون��ة �إىل �أنّ املتن ّبي‬ ‫يذكر عبارة الفتى يف منا�سبتني اثنتني من‬ ‫مرثياته؛ ذك��ر ًا �صريح ًا‪ .‬الأوىل يعزّي فيها‬ ‫كي‪:‬‬ ‫�سيف الدّولة عن عبده مياك الترّ ّ‬

‫ُ�س ِب ْق َنا ِ�إ ىَل الدُّ ْن َيا َفلَ ْو ع َ‬ ‫َا�ش �أَهْ ُلهَا‬ ‫مُ��� ِن��� ْع��� َن���ا ِب���هَ���ا مِ �����نْ َج��� ْي��� َئ��� ٍة َو ُذهُ ��������وبِ‬ ‫ت���� ُّل َ‬ ‫التِ�������ي مَ َ‬ ‫مَ َ‬ ‫ت��� َّل��� َك��� َه���ا ْ آ‬ ‫����ك َ���س��الِ��بٍ‬ ‫َو َف����ا َر َق����هَ����ا المْ َ���ا� ِ���ض���ي فِ������� َرا َق � َ��س�� ِل��ي��بِ‬ ‫َو َال َف ْ�ض َل فِيهَا ل َّ‬ ‫ِل�ش َجا َع ِة َوال َّندَى‬ ‫�ْب�ر ا ْل�� َف�� َت��ى َل����� ْو َال ِل��� َق���ا ِء � َ��ش�� ُق��وبِ‬ ‫َو� َ���ص رِْ‬

‫المتنبّي كان من أوفق‬ ‫شعراء العربيّة في‬ ‫ّ‬ ‫المشكلة‬ ‫تمثّل القيم‬ ‫لهويّة الفتى تمثّ ً‬ ‫ال‬ ‫تاريخانيّ ًا واعي ًا‬

‫وال ّثانية يذكر فيه فاتك ًا من خ�لال هد ّية‬ ‫�أهداه �إ ّياها يف �إقامته مب�صر‪ ،‬فريثيه‪:‬‬ ‫ويبدو ذلك يف البيت جل ّي ًا‪� .‬إذ �إنّ وقوف‬ ‫َو�أَيَّ َف���� ًت����ى � َ���س���لَ��� َب��� ْت��� ِن���ي المْ َ����� ُن ُ‬ ‫�����ون‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعر على معامل هو ّيته كان باالنت�ساب‬ ‫العربي»‪.‬‬ ‫اخلا�صة العرق ّية «ال�ع��رق‬ ‫َولمَ ْ َت������������� ْد ِر مَ��������ا َو َل���������������� َدتْ ُ�أ ُّم����������� ُه �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبنى متييزه على مقولة ال َع َر ِ�ض املتم ّثل‬ ‫ا�ستهالالت املتن ّبي‬ ‫يف معامل االخ�ت�لاف عن الأغ�ي��ار‪ ،‬بغربة‬ ‫«ال�سمات اخلِ � ْل��قِ � َّي� ِة» وغ��رب��ة اليد‬ ‫ا�ستوقفنا يف ا�ستهالالت املتن ّبي ذكره لعبارة ال��وج��ه ّ‬ ‫الفتى م�ش ً‬ ‫ّ‬ ‫ريا �إىل ذاته‪ ،‬عند مدحه ع�ضد الدّولة «ال���ّ�س�م��ات االجتماع ّية» وغ��رب��ة الل�سان‬ ‫يف مرحلته الفار�س ّية؛ وذلك ملا حتتويه العبارة‬ ‫«ال�سمات ال ّثقاف ّية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف هذا اال�ستهالل من وعي مبفهوم الهو ّية‪� .‬إذ‬ ‫ّ‬ ‫يخ�ص�صها لغة بنعت ُي َن ِّ�س ُب َها للعروبة‪ .‬وتكمن �أوفق �شعراء العرب ّية‬ ‫قيمة هذا املعنى يف �أنّ الهو ّية ال ّ‬ ‫تتو�ضح معاملها �أب� ��دى ت �ت � ّب��ع م �ع��امل ال �ق �ي��م ال ��� ّ�ش �ع��ر ّي��ة يف‬ ‫ّ‬ ‫فعال �إ ّال مبواجهتها بال ّنقي�ض‪ .‬فح ّد «النحن» حما�سة املتن ّبي‪� ،‬أنّ ه��و ّي��ة الفتى تلت�صق‬ ‫ال ّ‬ ‫يتم �إ ّال مقارنة بالـ«�آخر»‪ ،‬الغرييّ ‪ .‬ولك�أنّ �شديد االلت�صاق مبعايري �أخالق ّية مثلى‪.‬‬ ‫الهو ّية يف جوهرها‪ ،‬ما هي �إ ّال الفائ�ض املغاير و�أنّ جممل ه��ذه القيم هي امتداد مل��وروث‬ ‫ا ّل��ذي مي ّيز الكائن عن بني جن�سه‬ ‫ّ‬ ‫باخلا�صة ع��رب� ّ�ي ق��دمي نطق ب��ه �شعراء العرب ّية منذ‬ ‫على ح ّد عبارة املناطقة‪.‬‬ ‫ال ّن�ش�أة ّ‬ ‫اجلاهلي»‪ ،‬وا�سرت�سل لديهم‬ ‫«ال�شعر‬ ‫ّ‬ ‫��ان ِّ‬ ‫ال�شعْبِ طِ ي ًبا فيِ املَ�� َغ��ان‬ ‫مَ�� َغ يِ‬ ‫فاكت�سب بال ّزمن وتع ّدد التّجربة «�شعر �صدر‬ ‫بمِ َ����� ْن����� ِز َل����� ِة ال���� َّر ِب����ي���� ِع مِ َ‬ ‫�وي‪ّ ،‬‬ ‫������ن ال����� َّزمَ�����انِ الإ�سالم‪ّ ،‬‬ ‫ا�سي»‬ ‫ال�شعر الأم� ّ‬ ‫ال�شعر الع ّب ّ‬ ‫����ي فِ��ي��هَ��ا‬ ‫معامل �أكرث �شمو ًال‪ .‬ولع ّل املتن ّبي قد كان من‬ ‫َو َل����� ِك�����نَّ ا ْل��� َف��� َت���ى ا ْل���� َع���� َر ِب َّ‬ ‫����ب ا ْل���� َو ْج���� ِه َوا ْل���� َي����دِ َوال��� ِّل���� َ���س���انِ �أوف��ق �شعراء العرب ّية يف مت ّثل تلك القيم‬ ‫َغ���� ِري ُ‬ ‫امل�ش ّكلة لهو ّية الفتى‪ ،‬مت ّث ًال تاريخان ّي ًا واعي ًا‪.‬‬

‫ك�م��ا ب�ّي�نّ ال�ع�م��ل ال��و��ص�ف� ّ�ي �أنّ ت�ل��ك القيم‬ ‫ت�ص ّنف �ضمن ح�ق��ول ث�لاث��ة ك�برى‪� :‬أ ّول�ه��ا‬ ‫مم � ّي��زات ال���ّ�س�ل��وك ال���ّ�ش�خ���ص� ّ�ي‪ .‬وثانيها‬ ‫اجلمعي‪ .‬وثالثها مم ّيزات‬ ‫ال�سلوك‬ ‫مم ّيزات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلطا ّ‬ ‫ين‪ .‬واملتم ّعن يف تلك القيم‬ ‫ال�سلوك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�شكلة لهو ّية الفتى يالحظ �أنها من طينة‬ ‫الفنّ ؛ �إذ يع�سر �أن تتّ�سم بها ذات تاريخ ّية‬ ‫مهما �سمت‪ .‬وهو �أم��ر يجعل مفهوم الفتى‬ ‫قيمة من القيم ّ‬ ‫ال�شعر ّية ا ّلتي ال حتيل �إ ّال‬ ‫على ذاتها مبا هي كائن ف ّن ّي يعدمه الواقع‬ ‫ال� ّت��اري�خ� ّ�ي‪ .‬ولئن ن�سب ّ‬ ‫ال�شاعر يف �شعره‬ ‫لذاته املتك ّلمة �أو ملمدوحيه �صفة الفتى‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫ذلك ال يعدو �أن يكون �إ ّال من باب التّغ ّني مبا‬ ‫هو كامل‪ .‬ولع ّل ن�شدان الكمال من جوهر‬ ‫الفنّ ‪ .‬وبناء على ذلك نفهم جتربة املتن ّبي‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعر ّية‪ .‬فما قوله �إ ّال ِع ْل ٌم مبواطن اجلمال‬ ‫الكاملة ق�صرت عنه ق � ّوال��ة ال �ع��رب؛ وما‬ ‫ال�سحر يب ّز بها غابر‬ ‫ف ّنه �إ ّال منمنمات من ّ‬ ‫الأمم‪ .‬ولذلك ح��قّ له يف �صياله وتخ ّمطه‬ ‫عند الإن�شاد �أن يكابر؛ فيجعل نف�سه �آية‬ ‫ال� ّده��ر الفائ�ضة �شعر ًا ال ي�ج��ارى‪� .‬إذ هو‬ ‫يف م��ر�آة �شعره ق � ّوال��ة الإن ����س ا ّل��ذي يعجز‬ ‫معا�صروه عن جماراته‪ ،‬يقول يف ذلك‪:‬‬

‫�أَ َنا َ�ص ْخ َر ُة ا ْل َوادِي �إِ َذا مَا ُزوحِ ْمتُ‬ ‫َو�إِ َذا َن َ��ط��ـ��ـ��قْ��تُ َف����إِ َّن��� ِن���ي الجْ َ ���ـ���ـ���ـ��� ْو َزا ُء‬

‫يهم‬ ‫هذا فيما يتع ّلق مبعا�صريه‪� .‬أ ّم��ا فيما ّ‬ ‫ال�سابقة عليه‪ ،‬ف��إ ّن��ه‬ ‫ال� ّت�ج��رب��ة ال���ّ�ش�ع��ر ّي��ة ّ‬ ‫يحتويها اح �ت��واء‪ .‬وي �ب � ّوئ �شعره ذروة ما‬ ‫�أبدعته الإن�سان ّية من فنون القول‪� .‬إذ ي�ص ّرح‬ ‫مفتخر ًا �أ ّن��ه مل يبلغ �ش�أوه يف ّ‬ ‫ال�شاعر ّية � ّأي‬ ‫ال�سابقني‪ :‬عرب باقية من العرب العاربة‬ ‫من ّ‬ ‫«�شعراء اجلاهل ّية»‪� ،‬أو عرب بائدة من العرب‬ ‫امل�ستعربة «ح�ضارة ما بني ال ّرافدين»‪.‬‬ ‫يقول يف ذلك‪:‬‬

‫َال جَ ْ‬ ‫ت ُـ�سـ ُر ا ْل ُف َ�ص َحا ُء ُت ْن�شِ ُد َه ُه َنا‬ ‫��ا���س�� ُل‬ ‫َب�� ْي��ـ�� ًت��ا َو َل��� ِك���ـ��� ِّن���ي ا ْل����هِ���� َز ْب���� ُر ا ْل�� َب��ـ ِ‬ ‫مَ���ا َن��ـ��ا َل �أَهْ ����� ُل الجْ َ ��اهِ �� ِل�� َّي�� ِة ُك�� ُّل��ـ��هُ�� ْم‬ ‫���شِ �� ْع��رِي َو َال � َ��س��مِ �� َع��تْ ِب�����سِ ْ��ح��رِي َب��ا ِب�� ُل‬


‫أوراق تراثية‬ ‫‪94‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫المعرفة التي سطعت‬ ‫من تراث اإلنسان‬

‫فاطمة املزروعي‬ ‫�إن��ه ت��راث م��ن ال�ق�ي��م الأ��ص�ي�ل��ة وامل �ع��ارف‬ ‫احلياتية وال�ع��ادات العميقة‪ ،‬ه��ذا ال�تراث‬ ‫ال ��ذي ف�ي��ه ع�ب��ق امل��ا� �ض��ي اجل�م�ي��ل ل�ل�آب��اء‬ ‫والأج��داد‪ ،‬وال��ذي نعي�ش يف كافة تفا�صيله‬ ‫رحلة حتكي عن الإن�سان وكفاحه ال�شريف‬ ‫املتوا�صل مع كل �أجزاء احلياة من الطبيعة‬ ‫القا�سية م��رور ًا بلقمة العي�ش التي يرك�ض‬ ‫نحوها يف معارك �شبه يومية ال تتوقف‪...‬‬ ‫البد �أن ن�ؤمن بحتمية الرتاث وقيمته وعمقه‬ ‫وق�ب��ل ك��ل ه��ذا �أهميته لنا و�أن��ه ج��زء من‬ ‫املعا�صرة واحلداثة و�أن��ه ال ميكن الف�صل‬ ‫بينهما‪ ،‬م��رة �أخ��رى يقول جيم�س ب�يرك‪:‬‬ ‫"�أنت ت�ستطيع عبور الطريق‪ ،‬عندما تتحول‬ ‫�أم��ام��ك �إ��ش��ارة امل��رور �إىل ال�ل��ون الأح�م��ر‪،‬‬ ‫فتتوقف ال�سيارات‪ .‬ه��ذا جم��رد مثل يعرب‬

‫مت بناء احل�ضارة على جمموعة من املعارف والعلوم التي بد�أت‬ ‫كخرافات وخوارق للعادة مل يعرتف بها �إال قلة من العلماء‪ ،‬ثم‬ ‫تطورت �إىل قيم وتراث معريف مت توارثه من جيل �إىل �آخر حتى جاء‬ ‫من طورها ونقلها �إىل علوم وخمرتعات واكت�شافات �ساعدت الإن�سان‬ ‫على �أن يعي�ش حياة �أكرث رفاه و�صحة و�سعادة‪ .‬وهذا �صحيح فالإن�سان‬ ‫ح�صاد معارفه كما قال جيم�س بريك يف كتابه القيم عندما تغري‬ ‫العامل‪ .‬لذا من الأهمية �أن ننظر اليوم نحو ح�صادنا �سواء املعريف‬ ‫من العلوم �أو من العادات والتقاليد‪ ،‬فهي زرع الأجداد وغر�س الآباء‪،‬‬ ‫فبارك اهلل يف هذا الغر�س والزرع الذي علمنا �أن نعي�ش على �أر�ض‬ ‫ال�صحراء �أقوياء متحدين نعمرها ونبنيها‪ ،‬هذا الغر�س املبارك الذي‬ ‫جعلنا وطناً و�أمة على خريطة الكون ننعم بال�سعادة واخلري العميم‪.‬‬

‫عن الثقة الع�صرية يف الطريقة التي يتم‬ ‫بها ت�سيري املجتمع‪ ،‬وه��ي الطريقة التي‬ ‫تولدت يف الغرب الأوروب ��ي منذ ثمامنائة‬ ‫عام م�ضت‪.‬‬ ‫وال�شاهد هنا هي الثقة العمياء بتكنولوجيا‬ ‫الع�صر‪ ،‬و�أعتقد �أنها تولدت من �سل�سلة‬ ‫طويلة من املعارف التي كانت �ضاربة العمق‬ ‫يف الزمن املا�ضي حتى و�صلتنا اليوم‪ ،‬فبتنا‬

‫إننا نظلم أنفسنا‬ ‫ونقسوا عليها‪ ،‬عندما‬ ‫نحرمها من نعمة‬ ‫النظر العميق نحو‬ ‫الماضي بتفاصيله‬ ‫وعمقه‬

‫ن�ؤمن ونعتقد بفائدتها للإن�سانية ب�أ�سرها‪.‬‬ ‫نحن بحاجة ما�سة �أن نثق بقوة ما�ضينا‪،‬‬ ‫بكل معارفه وتفا�صيله‪ ،‬فال�سيئ مينحنا‬ ‫فائدة جتنبه واملفيد منه يعطينا املزيد من‬ ‫العمل لتطويره وتنميته‪.‬‬ ‫ال�ت�راث مل يكن ج��ام��د ًا �أو عالق ًا يف زمن‬ ‫ت�لا� �ش��ى ك �م��ا ق��د ي �ظ��ن ال �ب �ع ����ض‪ ،‬ال�ت�راث‬ ‫يعاين لدينا فقط من حالة من عدم الفهم‬ ‫لوظيفته ومدى ج�سارته وقوته ليكون ج�سر ًا‬ ‫متين ًا نحو املعا�صرة واحلداثة بكل ما تعني‬ ‫الكلمة‪ .‬ف��ال���ص��ورة النمطية يف الذهنية‬ ‫ال�ع��رب�ي��ة �أن ال�ت�راث ع �ب��ارة ع��ن معار�ض‬ ‫وحما�ضرات ومهرجانات تقام بني الوقت‬ ‫والآخ���ر‪ ،‬و�أن ال�ت�راث بكل م��ا حت��وي هذه‬ ‫الكلمة م��ن معنى يتجه نحو اال�ضمحالل‬


‫والن�سيان‪ ،‬ومما ي�ؤ�سف له �أن هذه النظرة‬ ‫على ق�صرها و�ضبابيتها و�أي�ض ًا �سطحيتها‬ ‫جت��د م��ن �أب� �ن ��اء ج �ل��دت �ن��ا م��ن ي� ��روج لها‬ ‫ويتبناها‪ ،‬لكن من اجلميل �أن يكون خري‬ ‫رد على �ضحالة فكر ه�ؤالء‪ ،‬هذا االهتمام‬ ‫ال�ع��امل��ي ب��ال�تراث الإن �� �س��اين ب ��أ� �س��ره‪ ،‬ول��و‬ ‫ت�ساءلنا ملاذا تتبنى منظمة عاملية كالأمم‬ ‫املتحدة واحدة من �أهم �أذرعتها يف خدمة‬ ‫الإن�سانية اليون�سكو‪ ،‬والتي توجد فيها عدة‬ ‫�أق�سام تُعنى بخدمة ال�تراث منها مركز‬ ‫�إح �ي��اء ال�ع�م��ارة الإ��س�لام�ي��ة‪ ،‬وه��ي تهدف‬ ‫عموم ًا لإنقاذ ال�تراث الإن�ساين‪� ،‬أق��ول لو‬ ‫ت�ساءلنا مل��اذا ت��أخ��ذ منظمة عاملية على‬ ‫عاتقها حماية ال�ت�راث؟ ب��ل امل�ساعدة يف‬ ‫ن�شره وترميمه‪ ،‬لأدركنا كيف تنظر الأمم‬ ‫املتح�ضرة والأك�ثر توهج ًا يف كافة العلوم‬ ‫الإن�سانية نحو التاريخ‪ ،‬ولأدرك �ن��ا �أننا ال‬ ‫نظلم تراثنا ونتجنى عليه بقدر �أننا نظلم‬ ‫�أنف�سنا ونق�سوا عليها‪ ،‬عندما نحرمها من‬ ‫نعمة النظر العميق نحو املا�ضي بتفا�صيله‬ ‫وعمقه‪ ،‬وهذا ال يعني �أن نعي�ش يف جلباب‬ ‫امل��ا� �ض��ي ون ��رك ��ن ل ��ه ون �ن �� �س��ى احل��ا� �ض��ر‬ ‫وامل�ستقبل‪ ،‬بل يجب علينا �أن نفرق وب�شكل‬ ‫دقيق بني احل�ضارة واملا�ضي وبني التاريخ‬ ‫وامل�ستقبل‪ .‬يقول فرويد �إن احل�ضارة هي‬ ‫ج�م�ل��ة الإجن � ��ازات وال �ق��واع��د ال �ت��ي متيز‬ ‫حياتنا عن حياة �أ�سالفنا‪ ..‬لكن الدكتور‬ ‫مراد وهبة كان له تعريف �أكرث دقة و�شمو ًال‬ ‫عندما قال يف املعجم الفل�سفي �إنها جملة‬ ‫من مظاهر التقدم الأدبي والفني والعلمي‬ ‫والتقني والتي تنتقل من جيل لآخر‪ .‬عندما‬ ‫�أق� ��ارن ه��ذي��ن ال�ت�ع��ري�ف�ين ل�ل�ح���ض��ارة مبا‬ ‫فعله �أجدادنا من العلماء العرب يف فرتة‬ ‫�سماها امل�ؤرخون الغرب «الع�صور املظلمة»‬ ‫وفق ًا ملا كانوا يعي�شونه من جهل وتقاتل‪،‬‬ ‫�أجد �أنه ال جدال يف �أن ذلك الع�صر كان‬ ‫ع�صر ًا ذهبي ًا يف تاريخنا العربي و�أي�ض ًا يف‬ ‫تاريخ العلوم الطبيعية والفل�سفة واملنطق‪..‬‬ ‫فالإ�سالم يف فرتة من فرتاته وبالتحديد‬ ‫قبل �ألف �سنة‪ ،‬حتول �إىل ح�ضارة متكاملة‬ ‫كانت ال�سبب يف نهو�ض ال�ع��امل وح�صول‬

‫التراث يعاني لدينا‬ ‫فقط من حالة عدم‬ ‫الفهم لوظيفته‬ ‫ومدى جسارته وقوته‬ ‫ليكون جسر ًا متين ًا نحو‬ ‫المعاصرة والحداثة‬ ‫الثورة ال�صناعية وظهور الكم الهائل من‬ ‫االخرتاعات يف القرن الع�شرين‪� .‬إن علوم‬ ‫الطبيعة كالفيزياء والكيمياء والأح �ي��اء‬ ‫واجليولوجيا مت ت�أ�سي�سها �أو لنقل مت الت�أثري‬ ‫فيها وجتديدها و�إ�ضافة حقائق ونظريات‬ ‫مهمة �إليها‪ ،‬مت بوا�سطة العلماء امل�سلمني‪..‬‬ ‫ال زال ال �غ��رب ي�ك��رم�ه��م وي��ذك��ره��م حتى‬ ‫اليوم‪ ..‬فبينما كانت �أوروبا متر بحالة من‬ ‫الفو�ضى كان علماء احل�ضارة الإ�سالمية‬ ‫ي� �ج ��رون جت��ارب �ه��م وي �ك �ت �ب��ون �أب �ح��اث �ه��م‬ ‫ونظرياتهم لت�أ�سي�س احل�ضارات القادمة‪..‬‬ ‫وال�شواهد والأدل��ة يف هذا ال�سياق عديدة‬ ‫ومتنوعة �أ��س��وق �إح��داه��ا وه��و ع��ن العامل‬ ‫حم �م��د ب��ن م��و� �س��ى اخل ��وارزم ��ي م��ؤ��س����س‬ ‫اجل�ب�ر واحل �� �س��اب‪ ،‬ال ��ذي اك�ت���ش��ف قيمة‬ ‫ال�صفر وو��ض��ع م�ن��ازل ل�ل�أع��داد ك��الآح��اد‬ ‫والع�شرات واملئات‪ ..‬وهو �أي�ض ًا الذي �أوجد‬ ‫"اللوغارمت" وهذه الكلمة �أ�صلها خوارزم‬ ‫اقتبا�س ًا م��ن ا�سم م�ؤ�س�سها‪ ،‬ه��ذا النوع‬ ‫م��ن العمليات احل�سابية ه��و ال��ذي تعتمد‬ ‫عليه لغات الربجمة التي تقوم بت�صميم‬ ‫�أنظمة احلا�سب الآيل اليوم‪ ..‬لذلك �سمي‬ ‫اخلوارزمي ب�أبو احلا�سوب –�أال يعترب هذا‬ ‫من ال�تراث‪ -‬فهو الذي مهد الخ�تراع هذا‬ ‫اجلهاز العظيم قبل �ألف ومئتي �سنة!‪..‬‬ ‫م��ن ه ��ذا امل �ن �ط �ل��ق‪ ،‬ات �ع �ج��ب م��ن التنكر‬ ‫والن�سيان حل�ضارتنا وتاريخنا –تراثنا‪-‬‬ ‫يف هذا اجليل‪ ..‬حيث �أ�صبح تقم�ص املظهر‬ ‫وال�ت���ص��رف��ات ال�غ��رب�ي��ة م��ن ح�ي��ث امللب�س‬ ‫والكالم هو الدليل على التمدن والتطور‪..‬‬ ‫�صحيح �أن ظروف ًا م�ضطربة كاال�ستعمار‬ ‫واالقت�صاد وال�سيا�سة �أث��رت يف ا�ستمرار‬ ‫�صعود احل�ضارة العربية الإ�سالمية لكن‬ ‫ه��ذا التعرث ط��ال ج��د ًا! من ر�أي��ي يجب �أن‬ ‫يتم زرع الفخر واالنتماء للهوية العربية‬

‫والوطنية‪ ..‬فال تتوقع من �شاب امتلأ ذهنه‬ ‫ب��اع�ت�ق��ادات م�ؤ�سفة ع��ن ماهية التطور‪،‬‬ ‫ويظهر م��دى مت��دن��ه وت��واك�ب��ه م��ع الع�صر‬ ‫بو�ساطة ثيابه التي يحر�ص �أن تكون �آخر‬ ‫ال�صيحات‪ ،‬و�أجهزته التي ي�ستعملها من‬ ‫�أج ��ل ال�ترف�ي��ه وت���ص��رف��ات��ه املقتب�سة من‬ ‫جن��وم الغناء الغربي‪ ..‬ال تتوقع من هذه‬ ‫ال�شاكلة �أن تبني جم��د ًا �أو فخر ًا عربي ًا‪..‬‬ ‫�أو �أن ت�ضيف �شيئ ًا ل��وط�ن�ه��ا‪� .‬إن غر�س‬ ‫االنتماء واحل��ب والفخر للتاريخ العربي‬ ‫لدى ال�شباب هو اخلطوة الأوىل واملثالية‬ ‫لبناء ح�ضارة عربية ت�سود العامل بوا�سطة‬ ‫ال �� �س�لام‪ ،‬ول �ق��د �أح���س�ن��ت ال��دك �ت��ورة حنة‬ ‫�آرن��ت‪ ،‬يف كتابها «بني املا�ضي وامل�ستقبل»‬ ‫وهي تدافع عن املا�ضي وعن العلماء الذين‬ ‫�أث���روا الإن���س��ان�ي��ة ب ��آرائ �ه��م ونظرياتهم‪،‬‬ ‫حيث قالت‪" :‬ن�ستطيع �أن نرد على �أولئك‬ ‫الذين كثري ًا ما يقولون لنا �إن �أفالطون‬ ‫�أو غ�يره م��ن ع�ظ�م��اء ال�ك�ت��اب الأق��دم�ين‪،‬‬ ‫ق��د ج��اء م��ن ين�سخ فل�سفتهم ويبطلها‪،‬‬ ‫ون�ستطيع �أن ندرك �أنه حتى لو كان انتقاد‬ ‫بع�ضهم لأف�لاط��ون �صحيح ًا‪ ،‬ف�ق��د تظل‬ ‫رفقة �أفالطون �أف�ضل من رفقة منتقديه‪.‬‬ ‫وعلى كل فلنتذكر ما ينبغي �أن يكون عليه‬ ‫ال�شخ�ص املثقف يف ع��رف ال��روم��ان وهم‬ ‫�أول �شعب اهتم بالثقافة اهتمام ًا جدي ًا‬ ‫كاهتمامنا حني قالوا‪ :‬املثقف هو ال�شخ�ص‬ ‫الذي يح�سن اختيار رفاقه من بني الرجال‪،‬‬ ‫وم��ن ب�ين الأ��ش�ي��اء وم��ن ب�ين الأف �ك��ار‪ ،‬من‬ ‫احلا�ضر ومن املا�ضي على �سواء‪ .‬واملهمة‬ ‫ي�سرية ولي�ست مع�ضلة كبرية‪ ،‬ففي الوطن‬ ‫العربي ع�شرات الع�شرات من امل�ؤ�س�سات‬ ‫والهيئات التي مت �إن�شا�ؤها من �أجل حماية‬ ‫ال�ت�راث ون���ش��ره‪ ،‬وم��ا ع�ل��ى ه��ذه الهيئات‬ ‫�إال تطوير �أ�ساليبها وتغيري من��ط عملها‬ ‫ليكون �أك�ثر �إنتاجية وفعالية‪ ،‬وت�صميم‬ ‫برامج ت�ستهدف �أطياف املجتمع املختلفة‬ ‫وخا�صة الفتيات وال�شباب وجذبهم بربامج‬ ‫م�شوقة وم�سابقات وفعاليات فيها الرتفيه‬ ‫والت�سلية والتعريف بعمق ح�ضارتنا و�إرثنا‬ ‫الإن�ساين والفكري‬


‫قال الراوي‬ ‫‪96‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫من �أ�شهر احلكايا ال�شعبية احل�سانية‬

‫س ْر َذ ْهبُو» ‪..‬‬ ‫«سر َ ْي َ‬ ‫ْ‬

‫طاردة إخوتها‬ ‫ومنقذتهم‬


‫د‪ .‬بوزيد الغلى‬ ‫«�س َر ْي َ�س ْر َذهْ ُبو» من �أمتع و�أبدع الأُن�سوجات ال�شعبية احل�سانية و�أكرثها توليداً‬ ‫تعد حكاية ْ‬ ‫للداللة وطرداً لل َماللة ب�إبقائها لأفق التوقع واالنتظار منفتحاً ممتداً لدى ال�سامع من �أحداث‬ ‫البداية اىل وم�ضات النهاية‪ ،‬فهي مبثابة �أحبولة درامية ماتعة ت ْعمد �إىل توريط املتلقي يف فخ‬ ‫متعة التلقي انتظاراً مل�آالت �أحداث تبد�أ بوالدة وليدة ُو�صفت بطاردة �إخوتها ال�سبع وال تنتهي‬ ‫بف َرح ب ْل ُه قرح ُلقياهم بعد مغامرة �شبيهة مبطاردة ح ْلم غ�سل عا ٍر ظل يالزمها منذ �صرخة‬ ‫اال�ستهالل �إىل حني بلوغها احل ُلم‪.‬‬

‫ونظر ًا ل�سحر ه��ذه احلكاية الآ�سر و ُد ُن� ّوه��ا‬ ‫الغامر من الأنني الإن�ساين الناجم عن الظلم‬ ‫وال�ب ْ�ري احل��اد وامل� ��ؤمل للم�شاكل واملتاعب‬ ‫وامل�صاعب‪ ،‬ف�إنها حتولت م��ن �أق�صو�صة‬ ‫ترتدد �أ�صدا�ؤها يف الآكام والآجام وم�ضارب‬ ‫اخليام يف ليايل ال�سمر املقمرة �أو على �ضوء‬ ‫النار املُ�ض َرمة �إىل �أغنية تطرب ال�سامعني‬ ‫وتلهب حما�سة اليافعني وتذكر الغافلني ب�أنني‬ ‫واملحبطني‪.‬‬ ‫امل�شردين واملبعدين والآبقني ْ‬ ‫وقبل �أن نقطف قطوفا دانية متدلية من‬ ‫غدق باملعاين‬ ‫غ�صون حكاية �شعبية �أعالها ِ‬ ‫و�أدناها ع ِبق بالدالالت املتواردة واملتوالدة‬ ‫م��ن �أرح���ام �شتى ت�صل ه��ذا امل�تن املتني‬ ‫بياني ًا وداللي ًا بعوامل الديانات والأ�ساطري‬ ‫والأ��ش�ع��ار والأقا�صي�ص واحل�ك��اي��ات التي‬ ‫ُت َت ْو ِئمها خميلة ال���س��ارد‪ ،‬ال ب��د �أن ن�سيخ‬ ‫ال�سمع ل �ل��راوي وه��و ي�ق��ول‪َ « :‬ك��ال��و خال َكة‬ ‫امر�أة عندها ا�سبع �أوالد ذكور‪»...‬‬

‫ِم ْ�صعاد �أم ِم ْرغاية!‬

‫زعموا ان ام��ر�أة «�أم» �أجنبت �سبعة �أبناء‪،‬‬ ‫وظلت تتوق مليالد �أن�ث��ى‪ ،‬ومل��ا ك� رُ​ُبر �أبنا�ؤها‬ ‫وعلموا بقرب و�ضعها مولود ًا جديد ًا‪ ،‬خرجوا‬ ‫يف قطعة �إب��ل‪ ،‬وابتعدوا عن منازل �أهلهم‪،‬‬

‫قبل أن تودعهما قطعت‬ ‫األم لسانها واستودعته‬ ‫بنتها وأشارت عليها‬ ‫بحفظه وصونه وعدم‬ ‫التفريط به‬ ‫و�أم � ��روا اخل���ادم « ال َأم � ��ة» �أن تخربهم‬ ‫ب��امل��ول��ود ذك ��ر ًا ك��ان �أم �أن �ث��ى‪ ،‬ف��ان ك��ان‬ ‫ذك ��ر ًا‪� ،‬أ� �ش��ارت �إليهم ب�ـ ِ«م� ْ���ص�ع��اد»‪�-‬أي‬ ‫ا ِمل� ْع� َ���ص��د‪ -‬وه��و ع��ود حت�� ّرك ب��ه وتُع�صد‬ ‫الع�صيدة �أثناء الطهو‪ -‬و�إن كانت �أنثى‬ ‫ـ‪«:‬م ْر َغاية»‪ ،‬وهي‬ ‫رفعت �أو �أ�شارت �إليهم ِب ِ‬ ‫املغرفة التي يغرف بها الطعام‪.‬‬ ‫�أجنبت الأم بنت ًا‪ ،‬لكن اخل��ادم ‪�-‬أي ال َأم��ة‪-‬‬ ‫َذه �ل��ت ع��ن ال��و��ص�ي��ة‪ ،‬ف��رف�ع��ت امل�صعاد‪/‬‬ ‫املع�صد ب��دل امل��رغ��اي��ة‪ /‬امل�غ��رف��ة‪ ،‬فانطلق‬

‫قطران‬ ‫وجدتا نهر ًا من ِ‬ ‫فأ َمرتها «كمبة»‬ ‫بالتوقف عند ضفته ثم‬ ‫باغتت الفتاة وألقتها‬ ‫في النهر َ‬ ‫فطالها‬ ‫القطران واسو ّدت‬ ‫بشرتها‬

‫الإخ��وة يف الفالة وتفرقوا أ�ي��ادي �سب�أ‪ ،‬ومل‬ ‫يعرث لهم على خرب‪.‬‬ ‫كربت «�سري�سر ذهبو» مع مرور ال�سنني‪ ،‬وهي‬ ‫ال ت��دري �شيئا عما ح�صل‪ ،‬ولكن النا�س‪-‬‬ ‫وهُ م أ� ُّ‬ ‫من من ال�صبح‪ -‬مل يربحوا ذكر ق�صة‬ ‫اختفاء �إخوتها‪.‬‬ ‫وذات ي ��وم‪ ،‬بينما ك��ان��ت تلهو وت�ل�ع��ب مع‬ ‫�صويحباتها من بنات احلي‪ ،‬طفقن يهمزنها‬ ‫ويغمزنها وي�صفنها بالنح�س ال ��ذي ح ّل‬ ‫ب�أهلها‪ ،‬وين َعتْنها بطاردة �إخوانها‪.‬‬ ‫�ساء كالمهن الالذع الطفلة‪ ،‬وح ّز يف نف�سها‬ ‫�أن تو�صف مبا ن َعتْنها به‪ ،‬فانكف�أت على نف�سها‬ ‫تبكي وت�ن��وح‪ ،‬وازو َّرت عن �أمها ال تك ّلمها‪،‬‬ ‫وامتنعت عن امل�أكل وامل�شرب‪.‬‬ ‫ا�ستاءت والدتها كثري ًا وبقيت يف حرية و ٍّ‬ ‫�شك‬ ‫من �أم��ر ابنتها‪� ،‬إذ حت�س�ست من حم ّياها‬ ‫الكئيب ال��ذي بدت عليه عالمات ال�شحوب‬ ‫والذبول �أن ه ّم ًا ثقيال �أ ّمل بها‪ ،‬وهي ت ُِ�س ُّره يف‬ ‫نف�سها وال تبديه لها‪ ،‬فاقرتبت منها و�ض ّمتها‬ ‫�إىل �صدرها‪ ،‬و توددت �إليها وتو�سلت راجية‬ ‫منها �أال تكتمها خ�ب�ر ًا �أو � �س � ّر ًا‪ ،‬و�س�ألتها‬ ‫عما نزل بها و�أب��دل فرحتها ك�آب ًة‪ ،‬و�أورثها‬ ‫ق�ع��ود ًا وان ��زواء وانكفاء‪ ،‬فنرثت لها ما يف‬ ‫وهم‪ ،‬و�أخربتها ب�أن‬ ‫حقينة �صدرها من غم ٍّ‬


‫قال الراوي‬ ‫‪98‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�صويحباتها ين َعتْنها بامل�ش�ؤومة التي تف َّرق‬ ‫�إخوتها يوم ميالدها‪ ،‬فقالت الأم‪ :‬كذبن يا‬ ‫حت�س ْد َنك لأنك �أجملهن‪ ،‬ومتى‬ ‫ُبنيتي‪� ،‬إمنا ُ‬ ‫علمهن بهذا الهراء الذي تفرتي َنهُ‪ ،‬وقد كنّ‬ ‫�صبايا يف مثل �سنك؟‪.‬‬

‫رحلة البحث عن اليقني‬

‫خفف ك�لام الأم م��ن ح��زن وك��آب��ة البنت‪،‬‬ ‫ولكنها ظ�ل��ت حت�م��ل ب�ين ج��وان�ح�ه��ا رغبة‬ ‫وتطلع ًا ملعرفة احلقيقة‪ ،‬وكلما كربت وا�شتد‬ ‫عودها احت ّد واحتدم يف قلبها ال�س�ؤال عن‬ ‫حقيقة ما يزعمه النا�س وتكذبه �أمها‪ ،‬فلما‬ ‫بلغت احللم عقدت العزم على طرد ال�شك‬ ‫باليقني‪ ،‬و�أقنعت �أمها �أنها ال حمالة �سائرة‬ ‫ت�سائل الركبان عن �إخوانها‪ ،‬ف�أ�شفقت الأم‬ ‫حلالها ّ‬ ‫الهم‬ ‫ورق قلبها لها وقد اخْ رتمها ّ‬ ‫نحاف ًة‪ ،‬فجهزت لها َج�ه��ازه��ا‪ ،‬واخ�ت��ارت‬ ‫لها جم ًال �أبي�ض من �أجود جمالها‪ ،‬و�أمرت‬ ‫اخلادم ‪/‬ال َأمة «ك ْمبة» �أن ت�صطحبها وتقود‬ ‫بها اجلمل‪ ،‬و�أو�صتها �أن ترعاها وتعتني‬ ‫ب���ش��ؤون�ه��ا ح�ت��ى ت�ن��ال مبتغاها‪ ،‬وق�ب��ل �أن‬ ‫تودعهما قطعت الأم ل�سانها‪ ،‬وا�ستودعته‬ ‫بنتها‪ ،‬و�أ�شارت عليها بحفظه و�صونه وعدم‬ ‫التفريط به‪.‬‬ ‫اعتلت البنت ظهر مطيتها وانطلقت وال َأمة‬ ‫تقود بها‪ ،‬وقطعتا م�ف��ازات ق�ف��ار ًا‪ ،‬وطال‬ ‫بهما امل�سري حتى غلب العياء على ال َأم��ة‪،‬‬ ‫ف��ا��س�ت��أذن��ت �سيدتها �أن جُتل�سها جنبها‬ ‫على املطية ك��ي ت�سرتيح م��ن عناء امل�شي‬ ‫ال�شديد الذي تف ّلحت ب�سببه قدماها‪ ،‬غري‬ ‫�أن ال�شجر واحلجر ول�سان الأم ت�صايحوا‬ ‫ج�م�ي�ع� ًا‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال ت��دع�ي�ه��ا ت��رك��ب معك‪،‬‬ ‫أن�سيت و�صية �أمك؟‪.‬‬ ‫ويحك‪ِ � ،‬‬ ‫تابعتا ال�سفر الطويل ال�شاق‪ ،‬وال َأمة تكابد‬ ‫العناء والعياء‪ ،‬وتلتم�س من �سيدتها ك ّرة‬ ‫بعد �أخرى �أن ت ُْدنيها وجتل�سها حيث جتل�س‪،‬‬ ‫في�صيح الل�سان وال�شجر واحل�ج��ر‪ :‬ال‪ ،‬ال‬ ‫تفعلي‪� ،‬إياك �أن تع�صي �أمر �أمك‪.‬‬ ‫ا�ستمر احل��ال على ذل��ك حتى خ��ارت قوى‬ ‫ال َأمة ومل تعد تقوى على ال�سري على الأقدام‪،‬‬ ‫فا�ست�أذنت �سيدتها �أن تنزال بواد فيه نخل‬

‫زوجات األخوة‬ ‫أطعمنها بيضة‬ ‫حنش فنَما من‬ ‫جرائها في بطنها‬ ‫ثعبان ثم ُقلن ألخيها ‪:‬‬ ‫إن أختك حامل من زنا‬ ‫ري‪ ،‬فوافقت‪ّ ،‬‬ ‫وحطتا الرحال بذلك‬ ‫ومتر وف ٌ‬ ‫الوادي لأخذ ن�صيب من الراحة‪.‬‬ ‫�آوت البنت «�سري�سر ذهبو» �إىل ظل نخلة‪،‬‬ ‫وجل�ست ت�أكل التمر‪ ،‬ودلفت �إليها ال َأم��ة‬ ‫ثم قالت‪ :‬ناوليني الل�سان كي �أ�ضعه على‬ ‫ُعرجون نخلة لئال ينْتنَ َ �أو يتعفن‪ ،‬ففعلت‪،‬‬ ‫وب �ع��د �أن ا��س�تراح�ت��ا ق�ل�ي� ً‬ ‫لا و�أط �ف ��أت��ا ن��ار‬ ‫اجلوع‪ ،‬تز ّودتا من التمر‪ ،‬و�أخذتا متاعهما‬ ‫ووا�صلتا م�سريهما بحث ًا عن الإخ��وة حتى‬ ‫ا�ست�شعرت ال َأمة التعب ينتابها من جديد‪،‬‬ ‫فالتم�ست ك ّرة �أخرى من �سيدتها �أن تُركبها‬ ‫جنبها‪ ،‬ف�إذا ب�أ�صداء الأ�صوات ت ُع ُّم الف�ضاء‬ ‫�آتية من بعيد‪ ،‬فتذكرت «�سري�سر ذهبو»‬ ‫ل�سان �أمها‪ ،‬و�س�ألت اخل��ادم‪ /‬ال َأم��ة عنه‪،‬‬ ‫ف�أجابت‪ :‬لقد ن�سيته �إذ �أوينا �إىل النخلة‪،‬‬ ‫وقد ابتعدنا كثري ًا عن ال��وادي‪ ،‬ولن نرجع‬ ‫على �أع�ق��اب�ن��ا م��رة �أخ ��رى‪� .‬أحل��ت الفتاة‬ ‫على الأم��ة �أن ت��رت��دا على �آث��اره�م��ا بحث ًا‬ ‫عن الل�سان‪ ،‬لكنها نهرتها ب�شدة وع ّنفتها‪،‬‬ ‫فالذت بال�صمت‪ ،‬ووا�صلتا امل�سري‪.‬‬

‫خيانة «كمبة»‬

‫�أنهك العياء «كمبة» والتم�ست من «�سري�سر‬ ‫ذهبو» �أن جتل�سها معها على ظهر املطية‪،‬‬ ‫لكنها �أبت‪ ،‬ف�أرغمتها «كمبة» على النزول‬ ‫بالقوة و�أكرهتها على �أن تقود بها اجلمل‪،‬‬ ‫ومل جت��د ُب�� ّد ًا م��ن تلبية طلبها‪ ،‬فرتجلت‬ ‫و�أم�سكت با ُ‬ ‫خلطام‪ ،‬و«كمبة» ت�سخر منها‬

‫مست قطرات من دمها‬ ‫ّ‬ ‫ثوب أخيها ولم يفلح‬ ‫في محوها فانطلق إلى‬ ‫الحكيم فأخبرها أن بينه‬ ‫وبين الفتاة صلة رحم‬

‫وتنفجر �ضحك ًا‪ ،‬وتكيل لها ال�سب وال�شتم‪.‬‬

‫نهر اللنب‬

‫وا�صلتا ال�سري طوي ًال‪ ،‬والتعب يت�سلل �شيئ ًا‬ ‫ف�شيئ ًا �إىل الفتاة‪ ،‬وكلما ه ّمت بالتوقف‬ ‫قلي ًال لال�سرتاحة نهرتها «كمبة» ب�شدة‬ ‫�آمرة �إياها بالإ�سراع‪ ،‬حتى �ألفيتا نهر ًا �أو‬ ‫وادي ًا من اللنب‪ ،‬ف�أمرتها بالتوقف و�أجربتها‬ ‫على م�ساعدتها للنزول من على اجلمل‪،‬‬ ‫ث��م عمدت �إىل �شعرها الناعم فق�صته‪،‬‬ ‫ثم ق�صت �شعرها املجعد و�أل�صقت مكانه‬ ‫جدائل من �شعر الفتاة الناعم بوا�سطة‬ ‫«ال� ْع� ْل� ّ�ك» �أي ال�صمغ العربي‪ ،‬ث��م ارمت��ت‬ ‫بوادي اللنب فتغيرّ لون ب�شرتها‪ ،‬و�أ�صبحت‬ ‫بي�ضا َء نقية‪.‬‬

‫نهر القطران‬

‫ع��ادت «ك�م�ب��ة» بعد اال�ستحمام وامتطت‬ ‫امل�ط�ي��ة‪ ،‬وا�ست�أنفتا م��ن ج��دي��د �سفْرتهما‬ ‫ال �� �ش��اق��ة ح �ت��ى ا� �س �ت �ب � ّد ال �ت �ع��ب ب��ال�ف�ت��اة‬ ‫فنا�شدتها �أن ت�سمح ل�ه��ا ب��ال��رك��وب �إىل‬ ‫جنبها‪ ،‬لكنها رف�ضت‪ ،‬ف�أ�صبحت الفتاة‬ ‫ت�سري بتثاقل �شديد وك�أنها حت ُبو حتى وجدتا‬ ‫قطران‪ ،‬ف� َأمرتها «كمبة» بالتوقف‬ ‫نهر ًا من ِ‬ ‫عند �ضفته‪ ،‬ثم نزلت عن املطية‪ ،‬وباغتت‬ ‫الفتاة و�ألقتها يف النهر‪َ ،‬‬ ‫فطالها القطران‬ ‫وا�سو ّدت ب�شرتها‪ ،‬ثم �أخذت «كمبة» املاكرة‬ ‫ب�ق��اي��ا � �ش � ْع��ره��ا امل �ج �ع��د ف��أل���ص�ق�ت��ه على‬ ‫ر�أ�سها‪ ،‬ف�أ�صبحت �شعثا َء جمعدة ال�شعر‪،‬‬ ‫ثم وا�صلتا رحلتهما حتى بدت لهما خيام‬ ‫من�صوبة يف فالة‪ ،‬فاجتهتا �صوبها‪ ،‬ونزلتا‬ ‫�ضيفات على �أهلها‪.‬‬ ‫حدثت «كمبة» النا�س عن �سبب َمقدمهما‬ ‫و�س�ألتهم عن الإخ��وة ال�سبع‪ ،‬وذك��روا لها‬ ‫�إخوة ذكور ًا يدعى �أكربهم �أحمد ي�سكنون‬ ‫غري بعيد عن مقامهم‪ ،‬ف�صاحت «�سري�سر‬ ‫ذهبو»‪ :‬هُ ْم واهلل �إخوتي‪،‬‬ ‫واف��رح �ت��اه‪ ،‬ن �ظ��رت �إل�ي�ه��ا «ك�م�ب��ة» � �ش��زْ راً‬ ‫ون�ه��رت�ه��ا‪ ،‬ث��م انطلقتا رف �ق��ة بع�ض �أه��ل‬ ‫اخليام حتى و�صلتا منازل الإخ��وة ال�سبع‪،‬‬


‫ف���س��ارع��ت «ك�م�ب��ة» �إىل ال �ن��زول م��ن على‬ ‫املطية وهي ت�صيح ب�أعلى �صوتها‪ :‬يا �أحمد‪،‬‬ ‫�أنا �أختكم «�سري�سر ذهبو»‪.‬‬

‫لقاء الأخوة‬

‫فرح الإخ��وة مبقدم �أختهم ونحروا و�أكلوا‬ ‫و�شربوا وابتهجوا‪� ،‬إذ مل يعلموا من ذي قبل‬ ‫�أن لهم �أخت ًا‪ ،‬وظلوا يكرمونها ويغدقون لها‬ ‫العطايا‪� ،‬أما «�سري�سر ذهبو» ال�سوداء فقد‬ ‫عاملوها معاملة اخل��دم والعبيد والإم��اء‪،‬‬

‫حتتطب وت��رع��ى اخل�ي��ول‪ ،‬وتق�ضي النهار‬ ‫تبكي وتنتحب وتبتلع ريق الأ�سف واحل�سرة‪،‬‬ ‫وال تروح �إال �ضامرة خاوية طاوية‪ ،‬وال جتد‬ ‫من الطعام �إال ما ُ‬ ‫ف�ضل عنهم‪ ،‬فازدادت مع‬ ‫مرور الليايل و�سوء احلال نحافة وك�آبة‪.‬‬

‫وبينما كان يسير في‬ ‫الفالة أبصر نسر ًا ينقض‬ ‫على حنش فبادر إلى‬ ‫نجدته فشكر له الثعبان‬ ‫صنيعه ووعد برد الجميل‬

‫وذات ي��وم خ��رج �أخ��وه��ا الأك�ب�ر �أح�م��د يف‬ ‫طلب حاجة‪ ،‬ف�سمع �صوت ًا �شجي ًا ينبعث من‬ ‫املرعى فاجته نحوه‪ ،‬ف�إذا باخليول تبدو من‬ ‫بعيد وهي ترتاق�ص ُم ْن ِت�شية ُم�ست�أن�سة بهذا‬ ‫ال�صوت ال�شجي‪ ،‬ودلف نحوها ف�إذا بال َأمة‬ ‫الراعية تن�شد وتغني ب�صوت رائق‪ ،‬والدموع‬ ‫ت�ب�ل��ل خ��دي �ه��ا‪ ،‬واخل �ي��ول ت ��دور ح��وال�ي�ه��ا‪،‬‬ ‫ف �ج��ذب �ه��ا ج ��ذب� � ًا ���ش��دي��د ًا م ��ن ذراع �ي �ه��ا‬ ‫وع ّنفها و�ضربها �ضرب ًا �أليما وهو ي�صرخ‬ ‫يف وج�ه�ه��ا‪ :‬مل �أر��س�ل�ن��اك؟ للغناء واللهو‬


‫قال الراوي‬ ‫‪100‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫من�صوبات‪ ،‬و�أن يتخذ لنف�سه مكان ًا ّ‬ ‫يطلع من‬ ‫خالله على كل ما يحدث يف اخليمة دون �أن‬ ‫ي��راه من بداخلها‪ ،‬ثم �أ�شار عليه ِبذبح كب�ش‬ ‫�سمني وطهوه وتقدميه للوافدتني‪ ،‬ولينظر ما‬ ‫الذي �ست�صنعان؟‪.‬‬

‫�أمي‪� ،‬أمي التي ال �أعرف عنها خرب ًا �سوى �أين‬ ‫تركتها وحيدة‪ .‬امتلأت «كمبة» حنق ًا وغيظ ًا من‬ ‫تذكرها �أمها فعاجلتها ب�ضربة �أ�سقطت اللحم‬ ‫جت�سر بعد على م ّد يدها لتناول‬ ‫من يدها‪ ،‬ومل ُ‬ ‫الطعام‪� ،‬أما «كمبة» فقد وا�صلت الأكل ب�شراهة‬ ‫حتى �شبعت‪.‬‬

‫�أم للرعي‪� ،‬أل �ه��ذا ت��روح اخل�ي��ول خما�ص ًا‬ ‫وق��د ك��ان��ت ت��روح م��ن ق� ْب� ُ�ل ب�ط��ان� ًا؟‪ .‬خلف‬ ‫ال�ضرب جروح ًا ت ُنز وتنزف يف ج�سد الفتاة‬ ‫وم�ست قطرات من دمها ثوب‬ ‫امل�سكينة‪ّ ،‬‬ ‫�أحمد الذي عاد �إىل خيمته و�سارع �إىل نزع‬ ‫ثيابه وغ�سلها وتطهريها من �آثار الدم‪ ،‬لكنه مل‬ ‫يفلح يف حموها و�إزالتها بعد حماوالت عديدة وليمة للأخت والأمة‬ ‫متكررة‪ ،‬فانده�ش وانتا َبه قلق وخوف‪ ،‬فانطلق عاد �أحمد �إىل خيمته و�أمر �أهله ب�إعداد الوليمة‪ ،‬عقاب «كمبة»‬ ‫�إىل احلكيم ‪/‬القا�ضي ّ‬ ‫وق�ص عليه الق�صة‪ .‬ودع��ا �إليها ك ًّال من «كمبة» و«�سري�سر ذهبو» اكت�شف �أحمد و�إخوانه �أمر «كمبة»‪ ،‬ور�أوا‬ ‫�صمت احلكيم مل ّيا ثم �س�أله‪ :‬هل تربطك بهذه‬ ‫ُم�ظ�ه��ر ًا لهما احل �ف��اوة و مجُ ��دد ًا ب�أم �أعينهم كل ما �صنعت‪ ،‬فا�ستيقنوا من‬ ‫امل��ر�أة عالقة دم �أو رحم ؟ فقال‪ :‬ال‪ ،‬ال �أظن‪،‬‬ ‫ال�ترح �ي��ب ب �ه �م��ا‪ ،‬وج �ل ����س مبكان مكرها وخداعها‪ ،‬وقرروا �أن ينزلوا بها ما‬ ‫ث��م حكى ل��ه م��ا ك��ان م��ن �أم��ر �أخ�ت��ه وال َأم ��ة و‬ ‫خفي يرقبهما‪ ،‬ف�إذا بـ«كمبة» تلتهم ت�ستحقه من عقاب ج��زا ًء وفاق ًا لت�ضليلها‬ ‫مقدمهما بعد �سفر طويل‪ .‬وبعد �سماع الق�صة‬ ‫وال�سقط «املعدة والأمعاء» ل�ه��م وان�ت�ح��ال�ه��ا ��ص�ف��ة �أخ �ت �ه��م‪ ،‬ف�ن��زع��وا‬ ‫الر�أ�س ِّ‬ ‫من مبتدئها �إىل منتهاها‪ ،‬حدثه احلكيم ب�أن‬ ‫ثم ت�أكل اللحم ب�شراهة‪ ،‬بينما مل املظالت ال�سبع «ال َب ْن َيات»‪ ،‬و�سارع �أكربهم‬ ‫يف الأمر �شبهة قرابة دموية و�أوعز �إليه‬ ‫تتناول الفتاة �سوى قطعة من اللحم‪� ،‬إىل معانقة �أخته احلقيقية ملتم�س ًا منها‬ ‫�أن ين�صب خيمة كبرية ويجعل حتتها‬ ‫والدموع تغالبها وهي تقول‪� :‬آه لو العفو وال�صفح عما بدر منه‪ ،‬ثم �أمر �إخوته‬ ‫�سبع « َب ْنيات» �أي مظالت �صغريات‬ ‫ا�ستطعت �أن �أبعث هذا اللحم �إىل �أن يقربوا ل��ه �أرب �ع��ة ج�م��ال‪ ،‬و�أح �ك��م ربط‬ ‫�أط ��راف «ك�م�ب��ة» م��ع �أخ�ف��اف�ه��ا «�أرج �ل �ه��ا»‪،‬‬ ‫و�ضرب اجلمال فد َّبت وحتركت ب�سرعة‪،‬‬ ‫فتقطعت «كمبة» ُمزَ ع ًا وراح كل جمل بجزء‬ ‫منها‪ .‬رج��ع �أح�م��د �إىل احلكيم و�أخ�بره‬ ‫مب��ا ك ��ان م��ن �أم� ��ر «ك �م �ب��ة» امل �خ��ادع��ة‬ ‫وم�صريها‪ ،‬ثم �س�أله‪ :‬كيف ال�سبيل‬ ‫�إىل تخلي�ص �أخته من ال�سواد الذي‬ ‫اعرتى ب�شرتها وغيرَّ �سحنتها؟‬ ‫�أ� � �ش� ��ار ع �ل �ي��ه احل �ك �ي��م �أن‬ ‫يلتم�س «ع �ك��ة» وه��ي ع�ب��ارة‬ ‫ع��ن ك�ي����س ج �ل��دي ك��ال� ِق��رب��ة‬ ‫ي�خ��زن فيه خليط م��ن التمر‬ ‫واملاء وال�سمن‪ ،‬وهو �شبيه مبا كانت‬ ‫ت�سميه العرب َ‬ ‫وال�س ْمنُ‬ ‫باحل ْي�س ‪ -‬ال َّت ْم ُر َّ‬ ‫احل ْي ُـ�س‪� ،‬إ َّال �أ َّنه لمَ ْ يخت ِلط‪ْ،‬‬ ‫َمع ًا ُث َّم الأ ِق� ْ�ط َ‬ ‫وي�سميه �أهل ال�صحراء بال ُّر ِّب»‪ ،‬وي�ضع �أخته‬ ‫فيها �أيام ًا معدودات حتى يتحلل عنها ما‬ ‫علق بها من �سواد‪.‬‬

‫غرية زوجات الأخوة‬

‫عاد �أحمد اىل �أهله و�صنع ما �أمره احلكيم‬ ‫به‪ ،‬ومكثت �أخته بالعكة �أيام ًا ثم �شق اجللد‬ ‫و�أخ��رج�ه��ا بي�ضاء نقية ت�س ُّر الناظرين‪،‬‬


‫انبعث من قعر البئر‬ ‫المطمور صوت رخيم‬ ‫ينادي‪ :‬أيتها الخيول‬ ‫و�ألب�سها ملحفة جميلة زادتها بهاء وجما ًال‪ ،‬الوديعة ال تأكلي شعري‬ ‫ف�أعجبت بها زوجات �إخوانها �إعجاب ًا ت�سللت وتردد في المكان صدى‬ ‫من ف ْرطه الغرية �إىل قلوبهن‪ ،‬ف�أ�صبحن‬ ‫أغنيات شجية شدت‬ ‫ي�ضايقنها ويرتب�صن بها الدوائر ‪.‬‬ ‫انتباه الخيول‬ ‫وذات ي��وم د ّب ��رن مكيدة للتخل�ص منها‬

‫�إذ �أطعمنها بي�ضة حن�ش و�أجربنها على‬ ‫ابتالعها‪ ،‬ف َنما م��ن جرائها يف بطنها‬ ‫ثعبان‪ ،‬ثم ُقلن لأخيها �أحمد‪� :‬إن �أختك‬ ‫فاقرتب‬ ‫حامل من زنا‪ ،‬و�إذا �شئت الت�أكد‬ ‫ْ‬ ‫من بطنها وا�ستم ْع �إىل حركة جنينها‪.‬‬ ‫احم ّر وجه الرجل من الغ�ضب‪ ،‬وحتينّ فر�صة‬ ‫الختبار �صدقهن‪ ،‬فاقرتب من �أخته وو�ضع ر�أ�سه‬ ‫على فخذها وق��ال‪ :‬يا ابنة أ�م��ي‪ُ ،‬ح ّكي ر�أ�سي‪،‬‬ ‫وحينها �سمع حركة ُمريبة يف بطنها‪ ،‬فوقع يف‬ ‫نف�سه �صدق الن�سوة‪ ،‬وج ّرها جر ًا عنيف ًا ورماها‬ ‫يف قعر بئر‪ ،‬وانهال عليها باحلجارة حتى َطمرها‬ ‫و َردم البئر‪ ،‬ثم ان�صرف ‪.‬‬

‫البئر واخليول‬

‫وج��دت «�سري�سر ذهبو» بقاع البئر مغارة‬ ‫َ‬ ‫الذت بها واختب�أت فيها زمن ًا طوي ًال حتى‬ ‫ّ‬ ‫ط��ال �شعرها و�أط �ل��ت بع�ض خ�صالته من‬ ‫خارج البئر ونبتت كما تنبت الأع�شاب الربية‪.‬‬ ‫ير بعيد ع��ن امل�ك��ان‪ ،‬كانت ُ‬ ‫خيل رجل‬ ‫وغ� َ‬ ‫غني ترعى على مقربة من البئر‪ ،‬وتق�ضم‬ ‫الأع�شاب املنت�شرة على جنباته‪ ،‬وحتاول‬ ‫ق�ضم �شعر ال �ف �ت��اة ال ��ذي ال مت �ي��زه عن‬ ‫الأع�شاب‪ ،‬فينبعث �صوت رخيم من قعر‬ ‫البئر املطمور‪� :‬أيتها اخليول الوديعة‪ ،‬ال‬ ‫ت�أكلي �شعري‪ ،‬ثم ي�تردد يف املكان �صدى‬ ‫�أغنيات �شجية ت�ش ّد انتباه اخليول التي‬ ‫ت�صغي بانت�شاء وتلف وت��دور ح��ول املكان‬ ‫وال تربحه حتى تغيب �شم�س النهار فرتوح‬ ‫�ضامرة جوعى‪.‬‬ ‫وم��ع م��رور الأي ��ام‪� ،‬أ��ص��اب اخل�ي��ول ه��زال‬ ‫�شديد‪ ،‬فانتبه �صاحبها ل�سوء حالها ف�س�أل‬ ‫جتد اخليول الكلأ الكايف �أم‬ ‫الراعي‪ :‬هل ُ‬ ‫�أن املرعى قد �أجدب و�أ�ضحى ُمقفرا بعد‬ ‫�أن كان ُم ْر ِبع ًا؟‬ ‫�أجابه الراعي‪� :‬إن الأر���ض ال تزال خ�صبة‬ ‫وم�ل�آى بالأع�شاب‪ ،‬ولكن اخليول تن�شغل‬

‫ب�صوت ��ش��ادٍ ينبعث م��ن ج��وف البئر‪ ،‬مل‬ ‫وتوعده بالعقاب‬ ‫ي�صدق الرجل كالم الراعي ّ‬ ‫�إن كذب عليه‪ .‬ويف ال�صباح ا�صطحبه �إىل‬ ‫املرعي ليرُ يه حقيقة ما روى له‪.‬‬

‫زواج �سري�سر بالرجل الرثي‬

‫ر�أى ال��رج��ل ب ��أم عينيه اخل�ي��ول ت�ن��زَ ع �إىل‬ ‫اال�ستمتاع بالغناء ال �ع��ذب ال ��ذي ال ُي��رى‬ ‫م�صدره‪ ،‬وبد�أ يحفر مبعونة الراعي ويزيل‬ ‫احلجارة املركومة على البئر حتى بلغ مو�ضع‬ ‫امل��اء‪ ،‬ف���إذا ب��ام��ر�أة جميلة �شديدة بيا�ض‬ ‫الب�شرة �شديدة �سواد ال�شعر تَظهر وتُطل‬ ‫بر�أ�سها من مغارة بجانب ا ُ‬ ‫جل ّب‪ ،‬ف�أخرجها‬ ‫و�أكرمها و�س�ألها من تكون؟ ومن الذي �ألقاها‬ ‫يف القليب‪ ،‬وبعد مدة تزوجها و�أجنب منها‬ ‫بهي الطلعة‪.‬‬ ‫طف ًال جمي ًال ّ‬ ‫و��س��ارت بخرب زواج�ه��ا و�إجن��اب�ه��ا الركبان‬ ‫وتناهى �إىل �إخوتها ما انتهت �إليه من �سكينة‬ ‫وطم�أنينة يف ع�صمة رج��ل غ�ن��ي‪ ،‬فخرج‬ ‫�أكربهم يتح�س�س خربها‪ ،‬فاهتدى �إىل احلي‬ ‫الذي تقيم فيه‪ ،‬و�أقام متن ِّكر ًا ق ْرب منزلها‪.‬‬ ‫وبينما كان ي�سري يف الفالة ذات يوم‪� ،‬أب�صر‬ ‫ن�سر ًا يريد �أن ينق�ض على حن�ش فبادر �إىل‬ ‫جندته‪ ،‬ف�شكر له الثعبان �صنيعه‪ ،‬ووعد برد‬ ‫اجلميل عاج ًال �أم �آج ًال ‪.‬‬

‫تعصم‬ ‫فكرت في حيلة ْ‬ ‫بها إخوتها من المكيدة‬ ‫دون أن يتفطن لها‬ ‫زوجها وأصحابه ونجحت‬

‫�إنقاذها لإخوتها‬

‫مكث الأخ �أيام ًا باحلي يرتب�ص ويرت�صد للقاء‬ ‫�أخته �إىل �أن ر�آها ذات �صباح وهي يف طريقها‬ ‫�إىل املنزل فا�ستوقفها ليتحدث �إليها‪ ،‬فل َم َحه‬ ‫زوجها من بعيد وغا َفله حم��او ًال قتله ب�سكني‪،‬‬ ‫لكن احلن�ش كان �أ�سرع من طعنته‪� ،‬إذ التوى على‬ ‫رقبته وهدده بالقتل �إن مل يلق ما بيده ويرتك‬ ‫الرجل مي�ضي حلال �سبيله �سامل ًا‪ ،‬ف�ألقى الزوج‬ ‫املُدية وهو يرتعد ف َرق ًا وخوف ًا من الثعبان‪.‬‬ ‫ع��اد �أحمد �إىل �أهله �سامل ًا معافى و�أخ�بر‬ ‫�إخوته بكل ما ج��رى‪ ،‬و�أنب�أهم عن �أختهم‬ ‫التي حتول حالها �إىل �أح�سن حال‪ ،‬و�أجمعوا‬ ‫�أم ��ره ��م ع �ل��ى � �ش��د ال ��رح ��ال �إىل امل �ك��ان‬ ‫الذي تقيم فيه ‪ .‬وملا علم زوجها ب� ْأمرهم‬ ‫ف ّكر ود ّب��ر بمِ ع ّية �أ�صحابه خطة للإغارة‬ ‫عليهم واخل�لا���ص منهم‪ ،‬لكن «�سري�سر‬ ‫ذه�ب��و» �سمعت جن��واه��م واطلعت على ما‬ ‫ُيبيتونه لإخوانها من غدر وغيلة‪ ،‬ف�ساءها‬ ‫م��ا ي�ك�ي��دون‪ ،‬وف�ك��رت يف حيلة ت ْع�صم بها‬ ‫�إخ��وت�ه��ا م��ن امل�ك�ي��دة دون �أن يتفطن لها‬ ‫زوجها و�أ�صحابه‪ ،‬وملا ا�سودّت فحمة الليل‬ ‫�أخذت �إ ْبرة وطفقت توخز طفلها وتغْرزها‬ ‫رج�ل��ه‪ ،‬فتنهمر دموعه ويعلو �صراخه‪،‬‬ ‫يف ْ‬ ‫وتتظاهر مبحاولة تهدئته و�إ�سكاته‪ ،‬وهي‬ ‫تغني له ُم�شعرة و ُمنا�شدة �أخاها بالهرب‬ ‫وفق اخلطة التي �ض ّمنتها �أغنيتها‪:‬‬ ‫اح َم ْد َ�سدّي‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا َي ْ‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا َيا ْو ْل ْد امِّي‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا هْ ربو هّ ْربو‬ ‫ا�س ْعدُو‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا ْوال ّن ْ‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا ْن ْف ُخو املْ ْ�س َكي‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا َخ ُّلو ْه ْم ْتكي‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا ا ْر ْكبو امل َ ْل ُجو ْم‬ ‫�أَ َر َر ْيدّا َخ ّلو امل َ ْك ُعو ْم‬ ‫ا�ستمع االخ��وة و�أن�صتوا ج�ي��د ًا لأغنيتها‬ ‫وفهموا معناها‪ ،‬فنفخوا ال ِق َرب وو�ضعوها‬ ‫ف��وق �أفر�شة نومهم‪ ،‬و َك َعموا الإب��ل كي ال‬ ‫ُي�سمع لها رغاء‪ ،‬وامتطوا اجلياد وانطلقوا‬ ‫يف الفالة‬


‫‪102‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫سيمياء‬

‫في أسئلة‬ ‫ال ُهوية‬ ‫السردية‬

‫عائ�شة الدرمكي‬ ‫‏‪aishaaldarmaki@hotmail.com‬‬

‫عندما‬

‫ن��ود درا�سة خطاب الأدب‬ ‫امل ��روي ف���إن �أول م��ا ميكن‬ ‫مالحظته هو اختالفه عن الن�ص الأدبي‬ ‫املكتوب‪ ،‬ففي خطاب الن�ص الأدبي املروي‬ ‫نعرث على �صوت الراوي بال�ضرورة‪ ،‬وهذا‬ ‫ال�صوت يخرتق ن�سيج امللفوظ بعنا�صر‬ ‫امللفوظية بو�صفها م��ؤ��ش��رات ال�شخ�ص‬ ‫املتلفظ‪ ،‬ومكان وزم��ان التلفظ‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�إىل كيفيات التلفظ التي حت��دد موقف‬ ‫املتلفظ من فعل التلفظ ذاته‪ ،‬مثل موقف‬ ‫ال�ت��أك�ي��د وال�ي�ق�ين وال���ش��ك واالح �ت �م��ال‪،‬‬ ‫�إ��ض��اف��ة �إىل م ��ؤ� �ش��رات �أخ ��رى ال حتدد‬ ‫موقف املتلفظ من فعل التلفظ ذاته ‪ ،‬بل‬ ‫حتدد موقفه مما يقول‪.‬وهذا يعني �أن من‬ ‫�أب��رز خ�صائ�ص ملفوظ ه��ذا املقام كما‬ ‫يقول عبد الوا�سع حيمر‪ ،‬ح�ضور �صوت‬ ‫املتلفظ و�صياغة ملفوظه اعتماد ًا على‬ ‫�ضمائر احل�ضور‪ ،‬وبالذات �ضمري الذات‬ ‫املتلفظة‪ ،‬بو�صفه مركز املقام «الإ�شاري»‬ ‫و�ضمري املخاطب ال��ذي يقابله يف ذلك‬ ‫املقام‪ ،‬وي�شاركه فيه كما يعتمد ملفوظ‬ ‫ه��ذا اخلطاب على عالمات لغوية‪ ،‬من‬ ‫�ش�أن بع�ضها �أن يحيل على مقام التلفظ‪،‬‬ ‫من حيث وجود الذات املتلفظة يف الزمان‬ ‫واملكان مثل‪ ،‬الآن‪ ،‬وهنا‪ ،‬وهناك‪ ،‬ومن‬ ‫�ش�أن بع�ضها الآخر �أن يحيل على امل�سافة‬ ‫التي يقيمها ال�صوت املتلفظ يف امللفوظ‬ ‫�إزاء ما يعلنه‪ ،‬ويقوله يف ملفوظه مثل �صيغ‬ ‫ال�شك والريب والرتجيح‪ ،‬ومن ذلك لفظة‬ ‫«رمب��ا» و«ق��د» و«ممكن» و«يقال»‪ ،‬ي�ضاف‬ ‫�إىل ذل��ك �أي�ض ًا ان�ف�لات بع�ض عنا�صر‬ ‫اخلطاب �أو مكوناته �أثناء احلديث فكل‬ ‫را ٍو يروي احلكاية كما �سمعها وقد ي�ضيف‬ ‫�أو يحذف ق�صد ًا �أو بغري ق�صد‪ ،‬ثم قدرة‬ ‫الراوي على اال�سرت�سال و�سبك اخلطاب‬ ‫ب�شكل �أكرث �أدبية‪ ،‬الذي ي�صنع الت�شاكل‬ ‫ال�سردي يف الن�ص بحيث تظهر احلكاية‬ ‫وك�أنها متتالية من الأح��داث يكون فيها‬

‫املمثلون كائنات حية فاعلة �أو منفعلة مع‬ ‫احلدث يف احلبكة احلكائية‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الثيمة هي جمموعة من القيم‬ ‫املتناثرة داخ��ل الن�ص والقابلة للتج�سد‬ ‫يف م�سارات متنوعة يف الن�ص الأدبي ف�إن‬ ‫«ال ُهوية» بو�صفها ثيمة عامة للن�ص الأدبي‬ ‫امل��روي خا�صة حتتاج دوم� ًا �إىل التكثيف‬ ‫والرتكيز الذي �إىل �سي�ؤدي �إىل ما ي�سمى‬ ‫بـ«البعد الثيمي»‪ ،‬وهذا البعد يتم تركيزه‬ ‫وتكثيفه يف «احلبكة» التي ت�شكل الوحدات‬ ‫ال�سردية ال�صغرى التي يت�شكل منها ال�سرد‬ ‫ال��ذي ي�شكل امل��ادة احلكائية يف الن�ص‬ ‫الأدبي املروي �أو املكتوب‪ ،‬ذلك لأنه يقوم‬ ‫برتكيب امل��ادة التخيلية‪ ،‬وينظم العالقة‬ ‫بينها وبني املرجعيات الثقافية والوقائعية‪،‬‬ ‫مم��ا يجعلها ت��ن��درج ��ض�م��ن ع�لاق��ات‬ ‫مزدوجة مع تلك املرجعيات التي تتمثل يف‬ ‫ال�شخو�ص والأحداث والأزمنة والف�ضاءات‬ ‫املكانية‪ ،‬كل ذلك �سي�شكل الن�ص الأدبي‬ ‫عن طريق احلبكة التي �ستتكفل بالهوية‬ ‫املفهومة �سردي ًا والتي ميكن �أن تدعى‬ ‫هوية «ال�شخ�صية»‪ ،‬لأن مفهوم �صياغة‬ ‫احلبكة حني انتقاله من �سري الأح��داث‬ ‫�إىل �شخ�صيات ال�سرد الق�ص�صي يولد‬ ‫كما يقول ريكور «ديالكتيك ال�شخ�صية‬ ‫الذي هو بال�ضبط ديالكتيك الهوية العينية‬ ‫والهوية الذاتية» ‪.‬‬ ‫�إن احلبكة متثل يف الن�ص احلكائي هُ وية‬ ‫خا�صة م��ن حيث �أن �ه��ا تتميز بعبارات‬ ‫دينامية على �أن �ه��ا تناف�س ب�ين مطلب‬ ‫تعر�ض‬ ‫التوافق والت�سليم بوجود تنافرات ِّ‬ ‫ه��ذه الهوية للخطر‪ ،‬وذل��ك حتى نهاية‬ ‫الق�صة ك�م��ا ي�ع�بر ع��ن ذل��ك ري �ك��ور يف‬ ‫كتابه«الزمان وال�سرد»‪ ،‬وهو هنا يق�صد‬ ‫بكلمة «توافق» مبد�أ النظام الذي يرت�أ�س‬ ‫ما يدعوه �أر�سطو يف «فن ال�شعر» بتن�سيق‬ ‫ال��وق��ائ��ع‪� ،‬أم��ا كلمة «ت�ن��اف��ر» فيعني بها‬ ‫تقلبات ال��ده��ر واحل��ظ ال�ت��ي جتعل من‬


‫سيمياء‬

‫احلبكة تغيري ًا م�ضبوط ًا انطالق ًا من و�ضع �أويل وو�صو ًال‬ ‫�إىل و�ضع نهائي‪ ،‬وعلى ذلك ف�إنه يطبق هنا تعبري الت�صوير‬ ‫�أو الر�سم على فن الت�أليف‪ ،‬الذي يقوم بعمل التو�سط بني‬ ‫التوافق والتنافر ‪� .‬إن هذا الرتابط بني احلكاية واحلبكة‬ ‫وال�شخ�صية طرحه �أر�سطو كونه م�سلمة يف كتابه «فن‬ ‫ال�شعر»‪ ،‬وهناك يبدو الرتابط وثيق ًا �إىل درج��ة �أن��ه ي�أخذ‬ ‫�صورة التبعية‪ ،‬فال�شخ�صية يف احلكاية مع ميزاتها بوحدتها‬ ‫ومتف�صلها الداخلي يف عملية �صياغة احلبكة‪ ،‬حتافظ على‬ ‫امتداد املحكي على هوية مرتابطة مع هوية احلكاية نف�سها‬ ‫التي متت �صياغتها �سلف ًا ‪� ،‬إذ جند �أن ال�شخ�صية تتفرد‬ ‫بخ�صائ�صها احل�سنة �أو ال�سيئة وتظل حمافظة عليها حتى‬ ‫نهاية احلكاية ‪.‬وعلى �أن املرويات ت�ساعد على حتويل الغريب‬ ‫�إىل م�ألوف‪ ،‬حني تو ِّفر البنية والقدرة على التوقع والرتابط‬ ‫وعلى ذلك فهي مماثلة ملخطط الأحداث امل�ألوفة يف احلياة‬ ‫اليومية‪ ،‬ويبدو �أن حتويل التجربة �إىل مرويات‪� ،‬سمة �أ�سا�سية‬ ‫يف �سعي الإن�سان �إىل �صناعة املعنى‪� ،‬إذ يعتقد ت�شاندلر �أن‬ ‫ال��رواة ميلكون «اال�ستعداد �أو التهي�ؤ لتنظيم التجربة يف‬ ‫�شكل �سردي‪ ،‬وي�شجعهم على ذلك الت�آلف مع املجتمع حيث‬ ‫تبنى طرق ثقافتهم يف احلكاية»‪ ،‬لكن �إىل �أي مدى ميكن �أن‬ ‫نقول ب�أن الرواة لديهم هذه القدرة ؟ و�أن احلكاية �ستتفرد‬ ‫بثقافة وهوية خا�صة جد ًا �إذا ما عرفنا �أن احلكاية ال تخرج‬ ‫عن �أبعادها احل�ضارية واملعرفية ال�ضاربة يف القدم ‪� ،‬إذ‬ ‫�سنجد يف كثري من احلكايات يف الوطن العربي على �سبيل‬ ‫املثال مت�شابهة متام ًا �أو تكاد – �إذا ا�ستثنينا بع�ض التفا�صيل‬ ‫الدقيقة‪ ،-‬وهذا الت�شابه ال يعني �أي�ض ًا وال يدل على تقارب‬ ‫تلك ال�شعوب �أو تباعدها حيث �سنجد حكايات تبتعد بنا عن‬ ‫الإطار املعريف العربي �إىل �إطارات عاملية رومانية �أو يونانية‬ ‫�ضاربة يف القدم‪� ،‬أو قد تعود بنا �إىل �أعمق و�أبعد من ذلك‬ ‫فبع�ض احلكايات تبتعد يف حبكتها �إىل الوثنية القدمية �سيما‬ ‫احلكايات اخلرافية �أو الأ�ساطري ‪.‬‬ ‫يخربنا املنظر ال�سردي الرو�سي فالدميري بروب يف كتابه‬ ‫«موفولوجيا احلكاية» �أنه ح َّلل مئة حكاية من حكايات اجلن‪،‬‬ ‫وكلها ت�ستند �إىل تركيبة �أ�سا�سية واح��دة‪ ،‬واخ�ت��زال هذه‬ ‫احلكايات �إىل ما يقارب الثالثني وظيفة‪ ،‬يف حماولة لدرا�سة‬ ‫الأ�شكال وو�ضع القوانني التي حتكم بنية احلكاية‪� ،‬إ َّال �أنه بعد‬ ‫هذا اجلهد الكبري يف التحليل والتقنني يختم بحثه ب�أهمية‬ ‫درا�سة البنى الداخلية للحكاية من ناحية وتعذر احلكم‬ ‫النهائي على ق��درة تلك القوانني على اح�ت��واء احلكايات‬

‫جميعها فهناك حكايات ذات �أمن��اط بنائية متفردة ‪ .‬و�إن‬ ‫كان هذا ر�أي بروب الذي تعمق طوي ًال يف درا�سة احلكايات‬ ‫نواح متعددة‪،‬‬ ‫ف�إن الأمر �سيبقى دوم ًا مثار نقا�ش وجدل من ٍ‬ ‫ذلك لأن هُ وية احلكاية خا�صة والأدب عامة �إمنا هي هُ وية‬ ‫�شكلية وال تتعدى �أن تكون كذلك‪ ،‬وما �أق�صده هنا هو تلك‬ ‫الإ�ضافات التي ي�ضيفها الرواة والواحد تلو الآخر عرب حقب‬ ‫تاريخية متتابعة على م�ستوى تفا�صيل ال�شكل كالف�ضاء‬ ‫الزماين �أو املكاين �أو رمبا اللبا�س �أو ا ُ‬ ‫حللي �أو رمبا م�سميات‬ ‫الأ�شياء والأدوات وهكذا �سنجد �أن احلبكة تظل كما هي يف‬ ‫كل الأحوال‪ ،‬ولو �أخذنا حكاية «�سندريال» على �سبيل املثال‬ ‫ف ��إن احلبكة �ستبقى مرتبطة بالفتاة اليتيمة املعذبة من‬ ‫ِقبل زوجة الأب‪ ،‬والتي �سوف تنقذها قوى خارقة من هذا‬ ‫العذاب‪ ،‬و�سوف تلتقي بالرجل الذي ميثل املكاف�أة عرب عتبة‬ ‫معينة «احل ��ذاء‪ ،‬ال�شعرة ‪ ،»...‬ه��ذه احلبكة �سنجدها يف‬ ‫احلكايات كلها التي تدور يف هذا الإطار �إ َّال �أن ال�شكل �سيتغري‬ ‫بعد ذلك كثري ًا عندما تكون احلكاية يف دولة من دول اخلليج‬ ‫العربي مث ًال بدء ًا من امل�سمى وانتها ًء بالتفا�صيل الدقيقة‪،‬‬ ‫وهي تختلف �أي�ض ًا حتى يف وجودها يف هذه الدول‪ ،‬بل الأكرث‬ ‫من ذلك قد تختلف حتى يف الدولة الواحدة من منطقة �إىل‬ ‫�أخرى �أو قرية و�أخرى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫�إننا نتحدث هنا عن هُ وية ت�أخذ عمقا تاريخيا من ناحية‬ ‫احلبكة واملو�ضوع والبنية‪ ،‬وبعد ًا مميز ًا من ناحية ال�شكل‪،‬‬ ‫وهي هُ وية تعرب عن وعي الذات ال�ساردة ب�أهمية احلبكة من‬ ‫ناحية ‪ -‬التي متثل امل�ضمون ‪ -‬و�أهمية ال�شكل من ناحية �أخرى‬ ‫ولوال ذلك لبقيت احلكاية ذات ُبعد عام غري م�ستقر‪ ،‬وهما‬ ‫مع ًا – �أي ال�شكل وامل�ضمون – ي�شكالن خطاب ًا اجتماعي ًا‬ ‫يعترب مبثابة الظاهرة االجتماعية اخلا�صة التي يتميز بها كل‬ ‫�شعب على حدة «�سواء �أكان �شعب عام �أو خا�ص»‪ ،‬ليو�صف‬ ‫هذا اخلطاب ب�أنه – كما يقول باختني «اجتماعي يف جمموع‬ ‫جم��االت وج��وده وعنا�صره‪ ،‬ابتداء من ال�صورة ال�سمعية‬ ‫وو�صو ًال �إىل الت�صنيفات الداللية الأكرث جتريد ًا»‪.‬‬ ‫يف احلقيقة �إننا ال ن�ستطيع �أن نف�صل كثري ًا يف مثل هذا‬ ‫املو�ضع عن �س�ؤال ال ُهوية ال�سردية املميزة‪ ،‬لأن ال ُهوية يف‬ ‫الأدب عامة حتكمها عنا�صر متعددة بدء ًا من املكون اللغوي‬ ‫ومنه �إىل اخلطاب ثم البنيات ال�سردية والعنا�صر ال�سردية‬ ‫التي ت�شكل هذا الن�ص‪ ،‬وانتها ًء بالعالقات الداخلية التي‬ ‫حتكم الن�ص ثم وظائفه ‪ .‬ولعلنا يف مقاالت قادمة �سنفرد‬ ‫لكل من تلك العنا�صر مقا ًال خا�ص ًا به‬


‫طقوس‬ ‫‪104‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫ين�سبه الباحثون باخلط�أ �إىل الفنون ال�شعبية‬

‫الزار ‪..‬‬

‫طقس أم فن؟‬ ‫ٌ‬ ‫�أبوظبي‪ -‬عبد اجلليل ال�سعد‬

‫يختلف النا�س كما تختلف تف�سريات املفكرين واملنظرين ملجموعة امل�صطلحات‬ ‫ال�شعبية ال�شائعة يف املجتمع‪� ،‬إما بغياب التف�سري املبدئي الأول وتاريخ هذه‬ ‫التف�سريات‪� ،‬أو ب�إقحامات مغر�ضة لطم�س �أو تغيري هذا اال�صطالح‪� ،‬إما لغر�ض‬ ‫خا�ص �أو لطم�سه حتويره ليخدم فئات معينة �أو جمموعات خا�صة‪� ،‬أو ملجرد‬ ‫كونه منافياً للعرف �أو الدين �أو العادات املتوارثة‪.‬‬


‫الزار لي�س فن ًا �شعبي ًا‬

‫و«ال� � ��زار» م��ن امل���ص�ط�ل�ح��ات ال �ت��ي �أ� �س��يء‬ ‫ا�ستعمالها �أو ا�ستخدامها‪ ،‬كونه طريقة عالج‬ ‫�أو طق�س ًا �أو فن ًا �شعبي ًا �أو تعوي�ض ًا لعمل الطبيب‬ ‫ال�شعبي كطبيب �أم��را���ض نف�سية «�شيخ �أو‬ ‫�شيخة الزار»‪ ،‬وقد ا�ستمر هذا التخبط حتى‬ ‫يومنا هذا ما بني تخبط البحاثة الرتاثيني �أو‬ ‫املثقفني التنظرييني �أو دعاة الفنون ال�شعبية‬ ‫واعتقادهم بتبعية ال��زار لعلم �أو م�صطلح‬ ‫الفنون ال�شعبية ال�ستخدامه �أدوات مو�سيقية‬ ‫�شعبية وامتالكه حلنه البدائي اخلا�ص «�أ�سوة‬ ‫بالفنون ال�شعبية وجمموعة الأحلان املتقاربة‬ ‫واملت�شابهة بني فن الزار ومتايل فن ال�سامري‬ ‫وقرب �أحل��ان الليوه مع �أحل��ان ال��زار» وعامل‬ ‫الأداء «احلركة �أو الرق�ص جم��از ًا» وختام ًا‬

‫عرفت الصومال قديما‬ ‫فن ًا أو طقس ًا يسمي‬ ‫«السار» وهو قريب من‬ ‫الزار ويعتقد أن التسمية‬ ‫هي جزء منها أتت من‬ ‫هذا االسم‬

‫ال �� �ص��وت و� � �ض� ��رورة ج�ه��وري�ت��ه‬ ‫كباقي الفنون ال�شعبية‪ ،‬لذا طغى‬ ‫احلذر معظم املناق�شات يف هذا ال�ش�أن‬ ‫كما طغى الطم�س والبعد عن التنقيب يف‬ ‫�أ�صل وامتداد الزار حملي ًا �أو عربي ًا �أو عاملياً‬ ‫لالرتباطات التي ميلكها يف موقع الفعل عند‬ ‫ممار�سته والنظرة العامة له‪.‬‬ ‫ت�أخذ كلمة زار يف اللغة اجلانب ال�سيئ من‬ ‫الزيارة‪� ،‬أي �أن هذا الإن�سان قد زاره جني �أو‬ ‫روح �أو م�س مل ي�دُع‪ ،‬وا�ستوطن ج�سد‬ ‫هذا الإن�سان‪ ،‬كما تعني اقرتان ًا‬ ‫� �ش �ي �ط��ان �ي � ًا ب��الإن �� �س��ان‪،‬‬ ‫والب ��د م��ن �إخ��راج��ه‬ ‫ك��ي يعي�ش ه��ذا‬ ‫الإن���س��ان حياته‬ ‫الطبيعية‪.‬‬ ‫يقال �إن الزار لغوياً‬ ‫�أتت من اللغة الأمهرية‬ ‫ثم انتقلت كما هي �إىل العربية مبعنى زيارة‬ ‫مبا حتويه هذه الزيارة من طقو�س وعادات‬ ‫ومو�سيقي وقناعات خا�صة وعامة‪ ،‬واملق�صود‬ ‫ب��ال��زي��ارة ه��ي احل��ال��ة غ�ير امل�ستقرة �أو‬ ‫الثابتة لوجود هذا اجلن يف الإن�سان‪،‬‬


‫طقوس‬ ‫‪106‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫وهي لي�ست دائمة كون الزار حالة مر�ضية غري‬ ‫ثابتة �أو عامة «الزار ال ي�صيب كل النا�س» وهي‬ ‫م�ؤقتة ‪ -‬كما ال��زي��ارة‪ -‬كونها قابلة للإبراء‬ ‫واملعاجلة واالنتهاء بطريقة �أو ب�أخرى‪ ،‬ووجد‬ ‫يف ال���ص��وم��ال ق��دمي � ًا ف��ن �أو طق�س ي�سمي‬ ‫«ال�سار» وهو قريب من الزار كذلك ويعتقد �أن‬ ‫الت�سمية �أو جزء منها �أتت من هذا اال�سم‪.‬‬ ‫�أ�صل الزار علمي ًا ومنطقي ًا كما ُعرف وتداول‬ ‫حفل �أو احتفال ذو حالة خا�صة ج��د ًا‪ ،‬يقام‬ ‫بغر�ض ط��رد الأرواح وال�شياطني بتقدمي‬ ‫نوع مميز من الأ�ضاحي والقرابني بح�ضور‬ ‫��ص��اح��ب ال �ع�لاق��ة و�أداء ب�ع����ض احل��رك��ات‬ ‫والرق�صات �شبه الإميائية كرق�ص ذي �إيقاع‬ ‫�شديد ال�سرعة وع��ايل ال�صوت ي�سهم فيه‬ ‫بع�ض املخت�صني واحل�ضور �أحيانا‪ ،‬وي�سبب‬ ‫ال ��زار ملعتقديه وممار�سيه حالة انت�شائية‬ ‫للمري�ض وامل ��ؤدي واحل�ضور كال بقدر معني‬ ‫وح�سب موقعه من الطق�س‪ ،‬واحلالة متعارف‬ ‫عليها يف الفنون ال�شعبية وهي الدخول يف حالة‬ ‫الأداء تغذيها املو�سيقى وامل�شاركة اجلماعية‪،‬‬ ‫لكن الزار ميتلك حالته اخلا�صة من االنت�شاء‬ ‫خلا�صية املعاجلة والعالقة باجلن والأرواح‬ ‫وعامل الغيبيات الذي من املفرت�ض �أن يعي�شه‬ ‫�ساحر الزار �أو طبيبه �أو القيم على املعاجلة‬ ‫و�أتباعه من امل��ؤدي��ن والعازفني واملن�شدين‬ ‫لكلماته و�أحل��ان��ه و�شالته للت�أثري بهذا على‬ ‫عالج �أو اجلني والروح املتلب�ساه‪،‬‬ ‫املري�ض �أو املُ ْ‬ ‫وذلك �سواء كان الطبيب �أو املعالج رج ًال �أو‬ ‫ام��ر�أة �شيخ ًا �أم �شيخة‪ ،‬فالطقو�س واملكان‬ ‫وال�شخ�صيات والأ�ضاحي ال تختلف يف �أي من‬ ‫هذه الأمور يف الزار‪.‬‬ ‫يرجع بع�ض البحاثة ال��زار كطق�س �أو فن �أو‬ ‫ع��ادة �إيل حركة ال��رق وت�أثر منطقة اخلليج‬ ‫ب��ال��رق�ي��ق امل�ج�ل��وب�ين م��ن � �س��واح��ل �أف��ري�ق�ي��ا‬ ‫ومعهم لغتهم وفنونهم وعاداتهم ومنها الليوه‬ ‫والزار والطنبورة وجمموعة الفنون والعادات‬ ‫والأكالت ذات الأ�صل الأفريقي �إ�ضافة حلملة‬ ‫وناقلي ه��ذه الفنون وال �ع��ادات واملعتقدات‪،‬‬ ‫وا� �س �ت �م��ر م�ع�ظ�م�ه��ا ب ��أ� �س �م��ائ �ه��ا الأ� �ص �ل �ي��ة‬ ‫وقواعدها‪ ،‬بينما امتزج الآخر باللون العربي‪،‬‬ ‫و�إن مل تخف البع�ض منها �أ�صولها الأفريقية‬


‫�أما باال�سم �أو املمار�سة الوا�ضحة واملُت�سم بها‬ ‫اجلن�س الأفريقي‪.‬‬

‫الزار طق�س �أفريقي‬

‫يعترب ال��زار �أ��ص� ً‬ ‫لا طق�س ًا �أفريقي ًا وي�سمى‬ ‫ح�سب املنطقة التي قدم منها �أو با�سم اجلن‬ ‫القادم من تلك املنطقة‪ ،‬فالزار احلب�شي �أتى‬ ‫من احلب�شة «وي�سمى كذلك زار احلبو�ش»‬ ‫واملمبا�سي من ممبا�سا والنوبي من النوبة‪،‬‬ ‫كما وج��د ال��زار البانياين «البانيان تعريف‬ ‫للهندو�سي يف الهند»‪ ،‬وت�سمى �أو تن�سب �إىل‬ ‫املنطقة التي قدم منها هذا اجلني �أو ذاك‬ ‫مثل الزار املغربي وامل�صري والبدوي والرتكي‬ ‫ويكمن اختالفها يف الت�سمية م��ن م�صدر‬ ‫الت�سمية ولي�ست الطقو�س فهي مت�شابهة‬ ‫وذات �أ�س�س �شبه ثابتة وممار�سات وطقو�س‬ ‫�شبه موحدة تعتمد كما ذكرنا على منع هذا‬

‫جاءت كلمة الزار من‬ ‫اللغة األمهرية ثم‬ ‫انتقلت إلى العربية‬ ‫بمعنى زيارة بما تحويه‬ ‫هذه الزيارة من طقوس‬ ‫وعادات وموسيقى‬ ‫وقناعات خاصة وعامة‬ ‫االقرتان ال�شيطاين بني الأن�سي واجلني‪� ،‬أما‬ ‫م�ؤدي هذا الطق�س �أو �شيوخه و�شيخاته ف�إما‬ ‫يتوارثون هذه ال�صفة �أب ًا عن جد �أو بالتعيني‬ ‫وتتم يف حالة وفاة �أحد من �شيوخ �أو �شيخات‬ ‫الزار حيث يتم تعيني خليفة له بالإجماع وعادة‬ ‫ما تكون لأكرثهم قرب ًا لل�شيخ ومعرفة بالزار‪،‬‬ ‫يعتمد التلب�س باجلان على نوع اجلان وهي ما‬ ‫حتدد طريقة �إخراجه فالزار احلب�شي تعني‬

‫�أن اجلني حب�شي الأ�صل والنوبي واملمبا�سي‬ ‫كذلك‪.‬‬

‫بيوت الزار‬

‫تختلف بيوت الزار من منطقة لأخرى �أو �شيخ‬ ‫لآخر لكنها ثابتة للكثري من دور �أو بيوت الزار‪،‬‬ ‫فهي دار �أو بيت غالب ًا ما ي�سكنه ال�شيخ وتكون‬ ‫به حجرة خا�صة لطقو�س الزار ويف منت�صفها‬ ‫حجرة م�ستطيلة كبرية ت�سمي «املكيد» يغطي‬ ‫�سقفها �أحيان ًا ب�أقم�شة متعددة الألوان ويو�ضع‬ ‫يف امل�ك�ي��د الأك� ��واب وامل��ر� �ش��ات وال�صحون‬ ‫وم�ساند للجلو�س ومباخر وتفر�ش �أر�ضها‬ ‫بال�سجاد‪ ،‬كما يوجد على جدرانها املرايات‬ ‫وال�صور الدينية‪ ،‬وتوجد جفران «زبيل» يوجد‬ ‫بها بع�ض النرثة «وهي املك�سرات» لتنرث علي‬ ‫ر�أ�س الزار عند عمل ال�ضيفة له «واملق�صود‬ ‫ال�ضيافة» والرتحيب به‪ ،‬وتعلق الطبول على‬


‫طقوس‬ ‫‪108‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫حبل �أما الدفوف فتو�ضع مكان جلو�س ال�صغار‬ ‫ومن ي�أتي للم�شاهدة واال�ستمتاع‪ ،‬ويف تكوين‬ ‫ال��دار ت�شابه بينها وال��دور ال�شعبية �أو حجر‬ ‫الأداء فيها مبا حتويه‪ ،‬ك��ون ال��زار منا�سبة‬ ‫لقاء واجتماع وفرح �إ�ضافة لكونه عالج ًا‪ ،‬وهو‬ ‫موروث اجتماعي �أكرث منه ديني ًا‪ ،‬وهي املفارقة‬ ‫�أو ال�س�ؤال يف متييزه ما بني الفن والطق�س‪.‬‬

‫مرا�سم الزار‬

‫تبد�أ مرا�سم ال��زار بالدخول �إىل املكيد‬ ‫«حجرة ال��زار» حيث تك�سر �أرب��ع بي�ضات‬ ‫دج� ��اج يف زواي � ��ا دار ال � ��زار «ك�ط�ق����س‬ ‫اح�ت�رازي» وي�ن�ثر امل�شموم وال��ري�ح��ان يف‬ ‫احل��و���ش اخل��ارج��ي «امل���ش�م��وم ي��رم��ز �إىل‬ ‫االح �ت �ف��ال �ي��ة»‪ ،‬ث��م ت�ب�خ��ر ال� ��دار باللبان‬ ‫والطيب �إيذان ًا بافتتاح ال��دار وا�ستئذان ًا‬

‫وحفرة «وت�سمى حفرة ال��دم وفيها تنحر‬ ‫الذبائح» وحفرة لت�سخني الدفوف والليوان‬ ‫املفتوح‪ ،‬وال��دار ت�سمي دار ال��زار للرجال‬ ‫�أو �شيخ الزار‪� ،‬أما للن�ساء فت�سمى �شيخة‬ ‫الزار وي�سمى مكانها املكيد‪.‬‬

‫مم��ن ي�سكن ال ��دار م��ن ج��ان‪ ،‬ث��م يدخل‬ ‫�أهل الدار مقدمني القدم اليمنى‪ ،‬ليدخل‬ ‫م��ري��دو «ال�ت��اب�ع��ون �أو امل���س��اع��دون ل�شيخ‬ ‫ال��زار» ال�شيخ لتطييب ال��دار ور�ش زواياه‬ ‫مب��اء ال���ورد ون�ث�ر ال��ري �ح��ان ع�ل��ى الطبل‬ ‫وي��دخ�ل��ون متطيبني ليجل�سوا بعد ذل��ك‪،‬‬ ‫تكون دار الزار مزودة �أو ملحق ًا بها مطبخ الرق�ص والأداء يف الزار‬ ‫ت�ك�ت���س��ب احل ��رك ��ة «ال ��رق� �� ��ص» والأداء‬ ‫«الكلمات واملو�سيقى» يف الزار حالة خا�صة‬ ‫ال متتلك انتماء �أو عالقة مبا�شرة بفن‬ ‫تكتسب الحركة‬ ‫خا�ص �أو طق�س فني معني‪ ،‬فالرق�ص يف‬ ‫واألداء بالكلمات‬ ‫الزار هو رق�ص طق�سي ي�ؤدى وفق ًا ل�شعائر‬ ‫والموسيقى في الزار ومعتقدات دينية خا�صة تكون �أ�سا�س ًا لهذا‬ ‫الرق�ص ال��ذي ي�صاحبه حركات �إيقاعية‬ ‫حالة خاصة ال انتماء‬ ‫وت�شجيعية م�صاحبة تعتمد احل�م��ا���س‪،‬‬ ‫لها أو عالقة مباشرة‬ ‫والرق�ص عادة ما يتطابق يف حركاته مع‬

‫بفن خاص أو طقس‬ ‫فني معين‬


‫الكثري من فنون الأداء؛ فالرق�ص م�شي ًا‬ ‫�إىل الأم��ام مقارب لفن ال�صوت ال�شعبي‬ ‫وح��رك��ة ال��ر�أ���س وااله �ت��زاز ث��م اجللو�س على‬ ‫الركبتني بعد االرتعا�شة القوية وال��رك��وع مع‬ ‫الطبل ن�صف ركوع تت�شابه مع جمموعة فنون‬ ‫منها ال�سامري‪ ،‬كما تت�شابه طقو�س امل�شاركة‬ ‫يف ال��رق����ص بطقو�س ف�ن��ون �أخ ��رى‪ ،‬ويق�سم‬ ‫الغناء والرق�ص ما بني املغني وهو املطرب ذو‬ ‫ال�صوت ال�شجي والقوي وكرا�سي ال��زار وهم‬ ‫م�ست�شارون ومعاونون ل�شيخ ال��زار �أو �شيخة‬ ‫الزار‪ ،‬والأفراد وهم امللتزمون بح�ضور الزار‬ ‫ك�أ�صدقاء‪ ،‬وللزار الكثري من �أغانيه �أو �شيالته‬ ‫و�أك�ثره��ا باللغة العربية و�إن خالط بع�ضها‬ ‫امل���ص�ط�ل�ح��ات اخل��ارج��ة ع��ن ال�ل�غ��ة وتعتمد‬ ‫الت�سبيح والتكبري يف �أغلبها مثل هذه ال�شيلة‪:‬‬ ‫النبي �صلوا عليه �صلوا علـيه‬

‫�صلوات اهلل عليه‬ ‫النبي ذاك املليح ذاك املـليح‬ ‫قوله قول �صحيح‬ ‫النبي يا من ح�ضر يا من ح�ضر‬ ‫النبي خري الب�شر‬ ‫النبي من عادته من عادته‬ ‫املكارم �شيمته‬ ‫النبي يف عادته يف عادته‬

‫فار�ش �سجادته‬ ‫الغزال رادتـه ثم رادته‬ ‫وال�ضب �سلم عليه‬

‫كما تقدم �شيالت كثرية �أخ��رى للزار احلب�شي‬ ‫�أو القادري وهي �شالت تغنى مع ال��زار‪ ،‬و�شلة‬ ‫ال �ق��ادري ت� ��ؤدى كغناء دي�ن��ي اق�ت�رن باحلركة‬ ‫القادرية عام ‪ 488‬هجري �أو نبع منها‪ ،‬وللقادرية‬ ‫�أنواعها ومناطقها املقرتنة بوجودها ومناطق‬ ‫تواجدها‪ ،‬كما قد ال يقدم الغناء ال�ق��ادري يف‬ ‫بع�ض املناطق‪ ،‬وقد مت لدى بع�ض املجتهدين من‬ ‫يخطئ البحاثة التراثيون‬ ‫خرباء املو�سيقى بتنويت �شالت ال��زار مبختلف‬ ‫في اعتقادهم بتبعية‬ ‫�أنواعه‪ ،‬ونقول �إنه وحتى اليوم مل ميكن الإملام‬ ‫الزار للفنون الشعبية‬ ‫بالزار كطق�س �أو كفن و�إن ا�ستمتعت به �شخ�صي ًا‬ ‫لمجرد استخدامه أدوات كفن ونظرت �إليه كفن كذلك يقاوم االندثار �أو‬ ‫الغياب �ش�أنه �ش�أن باقي فنون الأداء التقليدية‬ ‫موسيقية شعبية‬

‫وامتالكه لحنه البدائي‬ ‫الخاص‬


‫‪110‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫هنا ‪ ..‬وهناك‬

‫عن البط األسود‬ ‫والمنفى وبهجة اللقاء‬ ‫ع�شت يوم ًا كبطة «�سوداء»‪ ،‬بطة قبيحة منبوذة من كل‬ ‫ف�صيل البط‪ ،‬حتى �أخواتها؟ هل مرت عليك �سنني من‬ ‫الك�آبة واالكتئاب لأن كل من حولك‪� ،‬أهلك و�أ�صحابك واجل�يران‬ ‫ونوافذ الإعالم‪ ،‬تقول لك �إنك مكروه وغري مرغوب فيك لأنك غري‬ ‫كنت بنت ًا ال حتب ارتداء‬ ‫مطابق للموا�صفات املحلية للمجتمع؟ فلو ِ‬ ‫لالحقتك قذائف النقد‪« :‬ت�صريف‬ ‫الف�ساتني وتف�ضل اللعب بالكرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كبنت‪� ..‬أخف�ضي من �صوتك‪ .‬الب�سي ف�ستانك والعبي بالعرو�سة مثل‬ ‫فكربت و�أن��ت تفعلني ما ير�ضي الآخرين وتخبئني‬ ‫باقي البنات»‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫رغباتك احلقيقية‪ .‬ولو كنت �صبيا يتفتح للحياة لقالوا لك «ال تبكي‬ ‫ف�أنت رج��ل»‪ ،‬فكربت و�أن��ت تكتم البكاء حتى احتب�ست دموعك يف‬ ‫بحرية داخل روحك وظلت ت�ضغط عليك ت�ستحثك �أن تفتح �أبواب‬ ‫ال�سد حتى ينهمر املاء‪ .‬ولو كنت فنان ًا لن�صحوك �أن «تدر�س �شيئ ًا‬ ‫مفيدا»‪ .‬ولو كنت حتلم �أن تكون عاملا لقالوا «كن واقعي ًا»‪.‬‬ ‫لو كنت �أح��د ه���ؤالء فعليك �أن تعلم �أن هناك بط ًا �أ�سود �آخ��ر مير‬ ‫بنف�س الرحلة القا�سية‪� .‬إنها حكاية نا�س كرث حا�صرهم املجتمع‬ ‫وطاردهم ونفاهم عن ذواتهم لأن املجتمع �سيجد دوم ًا عيب ًا فينا‪،‬‬ ‫ف�إما �أننا ال منتلك اجلمال «ح�سب موا�صفات هذا املجتمع» �أو �أننا ال‬ ‫نقدم فرو�ض الطاعة‪� ،‬أو �أن ف�ضولنا يزعج الآخرين‪� ،‬أو �أن �أفكارنا‬ ‫ال تتفق مع الأفكار ال�سائدة‪ .‬تتعدد الأ�سباب‪ ،‬واملنفى واحد‪.‬‬ ‫وقد عربت احلكاية ال�شعبية «البطة ال�سوداء»‪ ،‬بن�سخها املختلفة‬ ‫ال��ت��ي ت�ت�ردد يف ث��ق��اف��ات ع��دة م��ن��ذ ق���رون‪ ،‬ع��ن �أزم���ة ال�شخ�ص‬ ‫املختلف‪ .‬تناولت امل�آزق التي يقع فيها هذا املنبوذ‪ ،‬وامل�صري امل�ؤمل‬ ‫الذي يرتب�ص به‪ .‬و�صورت احلكاية تلك الرحلة‪ :‬م�شاعر النفي‬ ‫واالغ�ت�راب وامل���رارة‪ ،‬ال��ه��رب وامل��ق��اوم��ة‪ ،‬حلظات االنك�سار‪ ،‬ثم‬ ‫مفاج�أة اكت�شاف الذات‪.‬‬ ‫ت��ق��ول احل��ك��اي��ة �إن ال��ب��ط��ة الأم رق���دت ف��وق بي�ضها ح��ت��ى فق�س‬

‫هل‬

‫بطات �صغرية جميلة املنظر‪ ،‬لكن بي�ضة واح��دة‪� ،‬أكرب من باقي‬ ‫البي�ض‪ ،‬ت�أخرت يف الفق�س‪ .‬وعندما حدث املراد‪ ،‬خرج منها فرخ‬ ‫بط ر�آه اجلميع غريب املنظر‪ ،‬ال بل �إن��ه قبيح‪ .‬وكرب فرخ البط‬ ‫وهو يعاين ال�ضرب والركل وال�سخرية من باقي البط‪ .‬فر فرخ‬ ‫البط ه��ارب�� ًا من ه��ذا ال��ع��ذاب‪ ،‬ويف رحلة ال��ه��روب قابل غرباء‬ ‫ا�ستكملوا ال�سخرية منه واحل��ط م��ن �ش�أنه ومهاجمته‪ .‬فمث ًال‬ ‫عندما �آوته امر�أة عجوز‪ ،‬ظن ًا منها �أنه قد يفق�س بي�ض ًا �أو رمبا‬ ‫ت�أكله حممر ًا بالزبد يف يوم ما‪ ،‬حا�صرته الدجاجة والقط يف هذا‬ ‫البيت‪� .‬سخرت منه الدجاجة «ما هو نفعك �إذن �إن كنت ال تفق�س‬ ‫بي�ضا!»‪ .‬وق��ال القط «كما �أن��ك ال ت�صطاد الفئران‪� .‬إن��ك لكائن‬ ‫عدمي النفع»‪ .‬رد عليهما فرخ البط «ما �أحب فعله هو العوم حتت‬ ‫ال�سماء الزرقاء الوا�سعة �أو يف املاء الأزرق البارد»‪ .‬مل يفهم القط‬ ‫ه��ذا الكالم ال��ذي �سماه «غبي ًا»‪ .‬وقهقهت الدجاجة وه��ي تقول‬ ‫«ما هي املتعة يف ابتالل ج�سدي يف املاء‪ .‬كم �أنت �أحمق!»‪ .‬وظل‬ ‫فرخ البط يخرج من حفرة �صغرية ليقع يف حفرة �أكرب‪ ،‬ينجو من‬ ‫يدي الفالحة ال�شر�سة‪ ،‬وي�أتي‬ ‫مطاردة القطط والكالب فيقع يف ّ‬ ‫ال�شتاء فيرتكه جوعان ًا وعلى حافة امل��وت‪ .‬وعندما �أتى الربيع‪،‬‬ ‫قفز فرخ البط القبيح يف النهر وبد�أ يلعب يف املاء‪ .‬ثم ملح بجعتني‬ ‫ت�سبحان نحوه‪ ،‬ومن كرثة ما قابل من �ضرب و�إي��ذاء‪ ،‬ظن �أنهما‬ ‫�سوف تهاجمانه‪ .‬اقرتبا �أكرث‪ ،‬فقرر فرخ البط اال�ست�سالم ملوته‬ ‫الو�شيك‪ .‬قال لنف�سه «امل��وت على �أي��دي تلك الكائنات اجلميلة‬ ‫�أرحم من املوت ب�سكني الفالحة ال�شر�سة �أو �أنياب ذئاب الغابة»‪.‬‬ ‫وعندما �أحنى ر�أ�سه �إذعان ًا للموت‪ ،‬ر�أى بجعة رائعة اجلمال‪� .‬أخذ‬ ‫الأمر منه حلظات من الذهول كي يدرك �أن تلك ال�صورة اجلميلة‬ ‫هي �صورته‪ .‬وعندما رفع ر�أ�سه ر�أى البجعات تدور حوله راق�صة‬ ‫وهي تلقي ال�سالم‪ ،‬فرق�ص معها وكيانه ينتف�ض بالبهجة‪ .‬وعا�ش‬


‫د‪�.‬سحر املوجي‬

‫فرخ البط القبيح‪ ،‬الذي اكت�شف �أنه بجعة‪ ،‬بني قبيلته و�أهله من‬ ‫البجع‪� ،‬سعيد ًا �إىل الأبد‪.‬‬ ‫تر�سم احلكاية ا�ستعارة ملعاناة الأ�شخا�ص املختلفني عن ال�سائد‪،‬‬ ‫والذين ي�صعب عليهم االن�صياع �إىل قوالب املجتمع الرا�سخة‬ ‫ك�أنها اليقني ال�صلب‪ .‬تر�سم لنا القوالب ح��دود ًا وحت��ذرن��ا �أال‬ ‫نغامر ب�شيء جديد‪ ،‬وتن�صحنا �أن ن�ؤثر ال�سالمة ونعي�ش مثل باقي‬ ‫النا�س‪ .‬تت�سرب هذه الأفكار من كل ال�شقوق‪ ،‬من �أدمغة املحيطني‬ ‫بنا ومن �صفحات اجلرائد وو�سائل الإعالم‪ .‬فالبنات يتعلمن منذ‬ ‫نعومة الأظافر االن�صياع وكتم رغباتهن املختلفة‪� :‬أن يكن فنانات‬ ‫مث ًال �أو عاملات ف�ضاء‪ .‬والأوالد يتعلمون درو�س الرجولة املبكرة يف‬ ‫البيت وبني �أ�صحاب املدر�سة‪ .‬واجلميع ي�سمعون من الكبار مديح‬ ‫الطاعة ليل نهار‪ .‬وتدريجي ًا نتعلم مداراة الف�ضول وو�أد الأ�سئلة‬ ‫وجتاهل الأفكار املبدعة التي ترتدد داخلنا‪.‬‬ ‫يق�صق�ص املجتمع �أجنحة الكثريين فيحول بينهم وبني التحليق‬ ‫لأنه يدافع عن ا�ستقراره‪� ،‬إنه يخاف املجهول والأفكار اجلديدة‬ ‫واملغامرات غري م�أمونة العواقب‪ .‬يحدد املجتمع تعريفات �ضيقة‬ ‫جد ًا ملاهية النجاح �أو االكتمال امل�أمول يف �أي �شيء كاجلمال مث ًال‬ ‫�أو القوة �أو الرجولة �أو الأنوثة �أو ال�سلوك الطيب‪ ،‬ثم ينظر �إىل‬ ‫من يخالف تلك التعريفات بعني الغ�ضب‪ .‬نحاول الت�أقلم‪ ،‬لكننا‬ ‫ن�صطدم ب�سلم املعايري هذا ونتعرث لأننا‪ ،‬وياللأ�سف‪ ،‬ل�سنا على‬ ‫م�ستوى املتوقع‪ .‬ولأن املجتمع �أقوى من الفرد‪ ،‬خا�صة عندما يكون‬ ‫الواحد منا �صغري ًا وه�ش ًا ومل يتعرف على نف�سه بعد‪ ،‬فنحن يف‬ ‫البداية ن�صدق �صورتنا يف م��ر�آة هذا املجتمع‪ :‬كائنات �ضعيفة‬ ‫وعاجزة وغري مقبولة يف حميطها‪ .‬منا من ي�ست�سلم ويعي�ش بط‬ ‫�أ�سود ملفوظ‪ ،‬ومنا من يقاوم مثل فرخ البط يف احلكاية‪.‬‬ ‫ولكي نفهم الأزم��ة علينا �أن نعود �إىل ال���وراء‪� ،‬إىل حلظة يولد‬

‫فيها طفل جديد‪ ،‬ومنذ حلظة والدت��ه يحمل على كتفيه توقعات‬ ‫املحيطني ب��ه‪� :‬سيكرب ليكون طبيب ًا �أو مهند�س ًا‪ ،‬و�سيكون طف ًال‬ ‫مطيع ًا طيب ًا خدوم ًا حمب ًا لأهله متفاني ًا‪�...‬إىل �آخر القائمة التي‬ ‫ت�صف الطفل «املالئكي»‪ .‬ولكن‪ :‬ماذا لو كان الطفل ف�ضولي ًا �أو‬ ‫كثري احلركة �أو لديه ميول فنية‪ ،‬ماذا لو كان �أي �شيء ال يتوقعه‬ ‫الأب��وان ولي�سا م�ستعدين للتعامل معه؟ ي�صر الكثري من الآب��اء‬ ‫على �إعادة ت�شكيل الطفل على هواهم‪ ،‬والنتيجة‪ ،‬لو �أنهم جنحوا‬ ‫يف �إعادة ت�شكيل «العجينة»‪� ،‬أنه �سي�صبح م�سخ ًا‪ ،‬جمرد �شخ�ص‬ ‫بائ�س يعي�ش يف جلد �إن�سان �آخ��ر‪ ،‬وه��ذا هو املنفى امل���ؤب��د‪ .‬لكن‬ ‫بع�ض البط الأ�سود يظهر مقاومة �شر�سة‪ ،‬ففي داخله �صوت يقول‬ ‫«رمبا �أنا ل�ست بالقبح الذي يظنونه! رمبا هنالك �شيء يف احلياة‬ ‫ي�ستحق �أن �أعاين من �أجله!»‪ .‬نقع فنقوم مرة �أخرى‪ ،‬نتلقى لكمة‬ ‫فنكتم الأمل ون�ستكمل ال�سري‪ .‬ويف حلظة مفاجئة تكتمل الرحلة‪:‬‬ ‫لقد عرثنا على ف�صيل الب�شر ال��ذي ننتمي �إليه‪ .‬و�ساعتها جند‬ ‫غذاء �أرواحنا املنهكة بعد �سنني من املجاعة‪ ،‬جند حنان ًا وقبو ًال‬ ‫و�إعجاب ًا‪ ،‬فتتفجر فينا ينابيع البهجة والإبداع‪.‬‬ ‫�صحيح �أن النفي والت�شريد واللفظ من قبل املجتمع هو جتربة‬ ‫م�ؤملة‪ ،‬لكنها �أي�ض ًا جتربة خا�صة جد ًا لأنها تعني �أننا نلد �أنف�سنا‬ ‫من جديد‪ .‬يف �أثناء رحلة الهروب نتعلم تفادي الفخاخ والتعرف‬ ‫على العدو وعلى ال�صديق‪ .‬تقوى عظامنا مع الركالت والرف�س‬ ‫وال�ضرب‪ ،‬نظل نت�شبث باحلياة‪ ،‬ثم جند �أنف�سنا يف حلظة وقد‬ ‫�أ�صبحنا �أق���وى و�أج��م��ل و�أك�ث�ر حكمة‪ .‬لقد تعرفنا على ذوات��ن��ا‬ ‫احلقيقية‪ .‬ينتهي زمن الغربة عندما جند الف�صيل الذي ننتمي‬ ‫�إليه‪ ،‬قبيلتنا الأ�صلية‪ .‬ننظر �إىل ه�ؤالء بعجب وف�ضول‪ ،‬ثم ن�شعر‬ ‫مبوجات الفرح تغمرنا وه��م ينظرون �إلينا مبحبة‪ .‬ثم نرق�ص‬ ‫جميع ًا رق�صة اللقاء‬

‫هنا ‪..‬وهناك‬


‫مجلس العلوم‬ ‫‪112‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�صفحات ُتعنى بتج�سري‬ ‫تلك امل�سافة التي �أخفقنا‬ ‫« نحن العرب» يف‬ ‫جت�سريها‪ ،‬تلك امل�سافة‬ ‫ال�صغرية جداً‪ ،‬اخلطرية‬ ‫للغاية بني النظرية‬ ‫والتطبيق‪.‬‬

‫�س�ؤال تطرحه اكت�شافات �أثرية‬

‫هل كانت اإلمارات‬ ‫مهد اإلنسان الحديث؟‬

‫حفريات الإمارات تقلب نظرية تطور الب�رشية ر�أ�سا ً على عقب‬

‫د‪�.‬سمري عالء الدين‬

‫�أخ�صائي جراحة القلب وال�صدر مب�ست�شفى دبي‬

‫يعد العثور على �أدوات ب�شرية �أثرية ‪-‬يقدر عمرها مبا يناهز املائة �ألف عام‪ -‬يف الإمارات العربية املتحدة م�ؤ�شراً اىل‬ ‫احتمال �أن �أجدادنا الأوائل قد هجروا �أفريقيا يف وقت مبكر‪� ،‬أي منذ ‪� 125‬ألف عام‪ .‬يف حني �أن الدالئل اجلينية‬ ‫للإن�سان قد �أثبتت منذ زمن �أن الإن�سان احلديث قد هجر �أفريقيا منذ ‪� 60‬ألف عام فقط‪.‬‬ ‫وبات من �شبه امل�ؤكد �أن هذه الأدوات من �صنع‬ ‫يد الإن�سان من �أجدادنا �أو الب�شر البدائيني‪،‬‬ ‫ولي�س م��ن �صنع كائنات �أخ ��رى‪ .‬يعد هذا‬ ‫الك�شف من �أعظم االكت�شافات الأثرية‪ ،‬لأنه‬ ‫قد يغري جذري ًا النظرية التي بناها العلماء‬ ‫اعتماد ًا على تتبع اجلينات الب�شرية والتي‬

‫ت�ؤكد �أن الإن�سان احلديث ُوجد يف �أفريقيا‪ ،‬الك�شف العلمي املذهل‪ ،‬واملتمثل يف �ستني �ألف‬ ‫ومنها هاجر لبقية العامل‪ ،‬لأن هذه النظرية عام‪.‬‬ ‫تتجاهل الفرق الزمني الذي دلل عليه هذا �إذن هل ن�ستطيع �أن نقول �إن الإمارات كانت‬ ‫مهد الإن�سان احلديث‪ ،‬وانطلق منها ليعمر‬ ‫االكتشافات األثرية‬ ‫العامل؟ مازال فهمنا ملتى وكيف تطور الإن�سان‬ ‫اإلماراتية قد تغير جذري ًا‬ ‫احلديث يحتاج ملراجعة وبحث جديدين!‬

‫النظرية التي بناها‬ ‫العلماء‬


‫و�ضعوا ح ًال مل�شكلة الإيدز يف ‪� 3‬أ�سابيع!‬

‫براعة العبي اإلنترنت‬ ‫لحلالمشاكلالعلميةالمستعصية‬ ‫‏‪ Foldit‬هي لعبة كمبيوتر على االنرتنت تطرح على الالعبني امكانية‬ ‫ت�شكيل �أ�شكال ثالثية الأبعاد للربوتينات «وهي اجلزيئات التي تدير اجل�سم‬ ‫الب�شرى»‪ .‬احتار العلماء لأع��وام طويلة يف ماهية ال�شكل ثالثي الأبعاد‬ ‫للربوتني املوجود يف �أج�سام مر�ضى الإي��دز والذي ي�سبب نق�ص املناعة و‬ ‫ي�سمى ‪ ،retroviral proteases‬ولهذا مل يكونوا قادرين على تطوير �أدوية‬ ‫لإيقاف مفعول هذا الربوتني ال�سر‪ .‬كان لغز ًا علمي ًا عملت على فك �شفرته‬ ‫�أمهر العقول العلمية على مر عقود‪ ،‬ولكن بال جدوى‪ ،‬بينما ا�ستطاع العبو‬ ‫لعبة ‪ Foldit‬حل هذا اللغز يف ثالثة �أ�سابيع فقط!‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال الذي يواجه العلماء الآن‪ :‬هل ميكن ا�ستغالل براعة العبي �ألعاب‬ ‫الإنرتنت التي قد ت�شكل قوة مذهلة‪� ،‬إذا ما وجهت توجيه ًا �صائب ًا‪ ،‬يف حل‬ ‫امل�شاكل العلمية؟‬

‫تقريب ًا يف خفة الهواء ‪..‬‬

‫المعدن األقل كثافة في العالم‬ ‫مع‪ ‬كثافة �أقل من واحد مليغرام لكل �سنتيمرت‬ ‫مكعب‪� ،‬أي حوايل ‪ 1000‬مرة �أقل كثافة من املاء‪،‬‬ ‫تعترب هذه امل��ادة اال�سفنجية الطابع «‪Ultra-‬‬ ‫‪� »light Metallic Micro lattice‬أخف املواد‬ ‫وزن � ًا على وجه الأر���ض حتى �أن��ه ميكن و�ضعها‬ ‫ب�سهولة على زغب بذرة نبات الهندباء الربي‪،‬‬ ‫كما �أنها �أخف من الإيروجيل ‪« Aerogel‬مادة‬ ‫�صلبة جافة م�سامية م�صنعة من ال�سيليكا يتم‬ ‫ا�ستبدال ال�سائل بها بغاز‪ ،‬وهي بالغة خفة الوزن‬ ‫و�شديدة العزل للحرارة‪ ،‬ويطلق عليها لذلك‬

‫لماذا يشكل التوصل‬ ‫لتصنيع معدن في خفة‬ ‫الهواء ثورة علمية؟‬ ‫يرى العلماء في هذا‬ ‫السؤال الجسر بين‬ ‫النظرية والتطبيق‬

‫الدخان املجمد»‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال‪ ،‬ملاذا ي�شكل التو�صل لت�صنيع هذه املادة‬ ‫ثورة علمية؟‬ ‫ع��ادة ما تكون امل��واد فائقة اخلفة م�صنعة من‬ ‫عنا�صر �شتى‪ ،‬مثل فقاعات الأيروجل‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫املعدن اجلديد يتكون من عن�صر واحد متكرر‪.‬‬ ‫ال�سر وراء هذه اخلفة الفائقة يف الوزن واملرونة‬ ‫البالغة هو طبيعة تنظيمها ال�شبكي‪ ،‬حتى �أن �أحد‬ ‫العلماء الذين �شاركوا يف ت�صميمه قارن تنظيمها‬ ‫الهيكلي بربج ايفل‪� .‬إذا �أردت �أن ت�ضغط هذا‬ ‫املعدن �سوف يرتد ب�سرعة �شديدة �إىل حجمه‬ ‫الأ��ص�ل��ي‪ ،‬ل��ذا ف��إن��ه ميتلك �إم�ك��ان�ي��ات خارقة‬ ‫عند ا�ستخدامه كعازل لل�صوت واحل��رارة ويف‬ ‫امت�صا�ص الطاقة وال�صدمات واالهتزازات‪ ،‬هل‬ ‫تتخيل مقدمة �سيارتك عند ا�صطدامها يف حال‬ ‫ا�ستخدام هذا املعدن يف �صنعها!‬


‫مجلس العلوم‬ ‫‪114‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ت�ؤكد �إمكانية الوالدة العذرية الربية‬

‫تكاثر بعض الثعابين بدون جنس‬

‫الأفعى نحا�سية الر�أ�س ت�ضع �صغريا ً يظهر بني لفات الأم‬

‫تتعدى بع�ض الثعابني يف الربية الطريقة‬ ‫التقليدية من االلتقاء اجلن�سي بني الأب‬ ‫والأم لتكوين ال���ص�غ��ار‪ ،‬ه��ذا م��ا �أك��ده‬ ‫ال �ب��اح �ث��ون م��ن خ�ل�ال �إج� ��راء ع ��دد من‬ ‫البحوث اجلينية‪.‬‬ ‫كما يقول وارن ب��وث م��ن جامعة تول�سا‬ ‫يف والي ��ة �أوك�لاه��وم��ا‪��« :‬ش��وه��د التكاثر‬ ‫ب��دون التقاء جن�سي يف بع�ض املخلوقات‬ ‫يف الأ�سر مثل الثعابني و�أ�سماك القر�ش‬ ‫وتنني الكومودو‪ .‬ولكن حتى الآن مل يكن‬ ‫ه�ن��اك �أي دل�ي��ل ق��اط��ع ل �ل��والدة العذرية‬ ‫الربية بني الأن��واع التي تتكاثر عادة عن‬ ‫طريق االت�صال اجلن�سي» و�أكمل معلق ًا‬

‫"كما ه��و م�ع�ل��وم �أن ��ه يف ‪ 80‬ن��وع � ًا من‬ ‫احليوانات الفقرية يتحمل عبء التنا�سل‬ ‫جن�س واحد فقط من تلقاء نف�سه ‪.‬‬ ‫فح�ص ب��وث وزم�ل�ا�ؤه ف�ضالت ع�شرات‬ ‫الأف� ��اع� ��ي ذات ال� ��ر�ؤو�� ��س ال�ن�ح��ا��س�ي��ة‬ ‫‪ Copperheads‬والأف��اع��ي ذات الفم‬

‫بحوث جينية أكدت‬ ‫إمكانية حدوث الوالدة‬ ‫العذرية بين الحيوانات‬ ‫في البرية‪ ..‬فكيف‬ ‫يستفيد البشر من هذا‬ ‫الكشف؟‬

‫ال �ق �ط �ن��ي ‪ Cottonmouths‬ال��ت��ي مت‬ ‫ا�صطيادها يف الربية‪ .‬وجد الفريق «حالة‬ ‫واح��دة يف كل ن��وع» ثعبان ًا ُول��د من دون‬ ‫ذكر‪.‬‬ ‫و�أظ�ه��رت االخ�ت�ب��ارات اجلينية للحم�ض‬ ‫النووي ‪ DNA‬للأفاعي ال�صغرية والأم‪،‬‬ ‫وتلك التي تبدو �أنها من الأب‪ ،‬كلها كانت‬ ‫متطابقة يف مواقع متعددة‪ ،‬مما يجعل‬ ‫الفر�صة �ضئيلة �أن الثعبان الأب كان‬ ‫�ضالع ًا فع ًال يف العملية الإجنابية‪ .‬و�س�ؤال‬ ‫ال�ع�ل��م‪ :‬كيف ميكن اال��س�ت�ف��ادة م��ن هذا‬ ‫الك�شف يف خدمة احلياة الب�شرية؟‬


‫على الرغم من ت�سميتها ال�شر�سة‬

‫الحيتان القاتلة ‪..‬‬ ‫أطفال مدللة تحتاج لـ«ماما»‬ ‫على الرغم من ت�سميتهم ال�شر�سة‪ :‬احليتان‬ ‫القاتلة ‪ ،Killer Whales‬فهي يف الواقع‬ ‫الأوالد املدللة لـ «ماما»‪.‬‬ ‫ل�سبب وجيه‪ ،‬فطبقا لدرا�سة �ضمت حوايل‬ ‫‪ 600‬دولفني �أوكرا‪ ،‬املعروف �أي�ضا با�سم‬ ‫احليتان القاتلة‪ ،‬تبني �أن وجود الأم بالقرب‬ ‫منها يزيد من فر�ص االبن �إىل حد كبري يف‬ ‫البقاء على قيد احلياة‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة للأم‪ ،‬ف�إن البقاء بالقرب من‬ ‫االب��ن ال ميثل فقط عطف الأم على ولدها‬ ‫�أثناء العمل‪ ،‬ولكنه نابع من غريزة فطرية‬ ‫ل ��دى الأم ل�ل�ح�ف��اظ ع�ل��ى �أوالده � ��ا ون�سل‬ ‫�أوالدها‪.‬‬ ‫هل يف�سر هذا �أن �أنثى احلوت القاتل ‪-‬مثل‬ ‫الإن�سان‪ -‬تعمر �أعوام ًا كثرية حتى بعد �أن‬ ‫تتخطى �سن الإجناب؟‬ ‫�إن فكرة �أن الأم�ه��ات يعمرن لفرتة �أط��ول‬ ‫م��ن ال�لازم��ة ل�ل�إجن��اب م��ن �أج��ل م�ساعدة‬ ‫الأط�ف��ال على �إجن��اب املزيد من الأطفال‬ ‫تعود �إىل ما يقرب من ‪ 50‬عام ًا‪ ،‬حيث لوحظ‬

‫تعيش الحيتان القاتلة‬ ‫كالبشر في مجموعات‬ ‫اجتماعية مركبة تضم‬ ‫أبناءهم وبناتهم‪..‬‬ ‫ويتساءل العلماء لماذا‬ ‫تستفيد الحيتان الذكور‬ ‫أكثر من اإلناث من‬ ‫أمهاتهم؟‬ ‫يف كثري م��ن ال��درا� �س��ات ال�ت��ي �أج��ري��ت يف‬ ‫املجتمعات البدائية وغريها من املجتمعات‬ ‫�أن وج��ود الأم يح�سن من البقاء على قيد‬ ‫احلياة للأبناء والأحفاد‪.‬‬ ‫تعمر احليتان القاتلة حتى عمر الت�سعني‬ ‫بينما تتوقف عن الإجناب يف عمر الثالثني‬ ‫�أو الأربعني‪ .‬كما �أنها هي واحل��وت املر�شد‬ ‫‪ Pilot Whale‬فقط‪ ،‬ب�صرف النظر عن‬ ‫الب�شر‪ ،‬هما ف�صيلتا احليوان الوحيدتان‬ ‫اللتان تتعر�ض �أنثاهما النقطاع الطمث‪.‬‬

‫وك �م��ا ع�ن��د ب�ن��ي الإن �� �س��ان تعي�ش احليتان‬ ‫القاتلة يف جمموعات اجتماعية مركبة ت�ضم‬ ‫�أب �ن��اءه��م وبناتهم‪ .‬وع�ن��دم��ا يفقد احل��وت‬ ‫القاتل الذكر �صغري ال�سن �أم��ه يكون �أكرث‬ ‫عر�ضة بثالثة �أ�ضعاف للموت بعدها‪ ،‬مقارنة‬ ‫باحلوت الذى مل يفقد �أمه‪� .‬أما عندما يفقد‬ ‫�أمه وهو يف عمر الثالثني �أو �أكرب ف�إن فر�ص‬ ‫موته تت�ضاعف �إىل ثماين �أ�ضعاف‪.‬‬ ‫�أم ��ا �إن ��اث احل ��وت ال�ق��ات��ل ال�لائ��ي يفقدن‬ ‫�أمهاتهن وهن �صغار فال يت�أثرن‪� ،‬أم��ا �إذا‬ ‫فقدنها وه��ن ك�ب��ار فيزيد م�ع��دل وفاتهن‬ ‫بحوايل ‪� 2,7‬ضعف فقط‪ ،‬مقارنة بقريناتهن‬ ‫الالتي مل تفقدن �أمهاتهن‪.‬‬ ‫مل ي�ع��رف العلماء ال�سبب وراء ا�ستفادة‬ ‫احل �ي �ت��ان ال ��ذك ��ور �أك �ث�ر م��ن الإن � ��اث من‬ ‫�أمهاتهم‪ .‬يبدو �أن االمهات ي�ساعدن الذكور‬ ‫يف اقتنا�ص الفري�سة ويدفعن عنهم خماطر‬ ‫احليتان املعتدية الأخرى‬


‫استطالع‬ ‫‪116‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫كانت �أ�شهر ميناء بري بني م�صر وال�شام‬

‫«قاطية»السيناوية‬

‫بيوت فقيرة‬ ‫وشجرات زيتون تقاوم العطش‬ ‫�سيناء ‪� -‬سامل �أبو �شبانه‬ ‫�إذا �سافرت من الوادي تريد �سيناء؛ �سوف تعرب قناة ال�سوي�س عند القنطرة‪ ،‬ولو تقدمت بال�سيارة م�سافة‬ ‫ن�صف ال�ساعة �أو �أقل تقريباً؛ ف�إنك بعد ‪ 40‬كيلومرتاً �سوف تطل على املنظر من فوق كثيب عالٍ ‪ ،‬اخل�ضرة‬ ‫القامتة لغابة نخيل يلفها ال�ضباب الرقيق‪ ،‬الطريق يتعرج كثعبان �أ�سود اللون‪ .‬يف املدى البعيد كثبان رمال‬ ‫تغرق يف غاللة زرقاء‪ ،‬بعد ‪ 500‬مرت مييناً على الطريق الدو ّ‬ ‫يل ال�ساحلي «القنطرة‪-‬العري�ش‪ -‬رفح» تكون‬ ‫يف قرية رابعة‪ ،‬ولو تقدمت م�سافة كيلومرتين ون�صف مييناً ماراً بقرية اجلنانني على نف�س الطريق‬ ‫الذي ي�صل بني الطريق ال�ساحلي‪ -‬ماراً عرب ال�صحراء غرباً ‪ -‬بالقنطرة‪ ،‬ت�شارف قرية «قاطية» على نف�س‬ ‫الطريق امل�س ّمى زيق «قاطية»؛ �إذن فهذه هي «قاطية»‪.‬‬


‫احللم‪..‬‬

‫بعد النك�سة واح �ت�لال «�إ��س��رائ�ي��ل» ل�سيناء‬ ‫عام‪1967‬م حاول �أبي الذهاب �إىل نخالته يف‬ ‫«قاطية»؛ ولكنه مل ي�ستطع؛ فظل يحاول حتى‬ ‫ح�صل بعد حم��اوالت م�ضنية على ت�صريح‬ ‫م��ن ق��وات حفظ ال�سالم «‪»UN‬؛ ومبوجبه‬ ‫ا�ستطاع العبور �إىل �سيناء لأيام عام ‪1970‬م‬ ‫لالعتناء بنخالته يف «قاطية»‪ ،‬وعاد �سعيد ًا‬ ‫فخور ًا لأنه حفظ نخالته من املوت؛ بل وغر�س‬ ‫ف�سائل جديدة عا�ش منها ما عا�ش ومات منها‬ ‫الكثري؛ ظل يفاخر ‪-‬رحمه اهلل ‪-‬بواحدة منها‬ ‫زرعها بيده حتى مات‪.‬‬ ‫�أجزم �أن لالحتالل ال�صهيوين ف� ً‬ ‫ضال علينا‬ ‫نحن ب��دو �سيناء و�إن مل ي�سع لذلك‪ .‬وذلك‬ ‫لأنه �أو ًال‪ :‬لفت �أنظار القيادة ال�سيا�سية �إىل‬ ‫�أهمية �سيناء و� �ض��رورة تنميتها‪ ،‬وه��ذا مل‬ ‫يحدث من قبل‪ .‬لقد كانت‪ -‬وما زالت‪�-‬سيناء‬ ‫مهملة ط��وال ع�شرات ال�سنني ومل ي�شرب‬ ‫�أهلها املاء �إال ماحل ًا ال ي�ساغ طعمه من �آبار‬ ‫ب��دائ�ي��ة‪ ،‬ناهيك ع��ن ال �ط��رق‪ ،‬وع��دم وج��ود‬ ‫و�سائل ات�صال وانعدام باقي اخلدمات‪ .‬ثاني ًا‪:‬‬ ‫�أل�ه��ب االح�ت�لال ج��ذوة ال�شوق �إىل الأر���ض‬ ‫التي مل يعرتف �أهلي بغريها وطن ًا؛ فقرروا‬ ‫�أن يقت�سموا �أر�ضهم بينهم ويزرعوها نخ ًال‪،‬‬ ‫ويبنوا فيها الدور حت�سب ًا للعودة املرتقبة‪.‬‬ ‫ك��ل ه��ذا و�أن ��ا �أح �ل��م �أن �أرى م�سقط ر�أ���س‬ ‫�آب��ائ��ي؛ كلما �سمعت كلمة �سيناء ت�برق يف‬ ‫خميلتي غابات النخيل والزيتون و�أ�سراب‬ ‫الطيور املهاجرة مثل‪ :‬ال�سمان‪ ،‬ا َملرعى‪ ,‬العبد‬ ‫والزنزون وغريها التي كنت �أ�سمع من �أبي‬ ‫كيف كانوا ي�صطادونها بالدبو�س؛ وهو ع�صا‬ ‫تنتهى بقطعة م��ن احل��دي��د‪ ،‬يه�ش �أحدهم‬ ‫ال�ط�ير ال ��ذي يلبد يف هي�ش النخل وبقايا‬ ‫الأع�شاب‪ ،‬ف��إذا طار رم��اه الآخ��ر بالدبو�س؛‬ ‫فيقع الطائر‪.‬‬

‫العودة للجذور‪..‬‬

‫يف عام ‪1986‬م زرت «قاطية» زيارة طويلة‬ ‫أ�سمنتي‬ ‫ن�سبي ًا‪� .‬أذكر كانت البيوت من حجر �‬ ‫ّ‬ ‫ي�صنعه �أبنا�ؤها ب�أيديهم ويبنونها ب�أيديهم‬

‫�أي�ض ًا‪� ،‬سطوحها من �صفيح يحولها لأفران‬ ‫�صيف ًا وت�صبح ��ش��دي��دة ال�ب�رودة �شتاء؛‬ ‫بيوت بائ�سة فقرية املفرو�ض �أنها منحة‬ ‫من بع�ض الدول الأجنبية‪ ،‬ولكنها ُ�سرقت‬ ‫بالطبع‪ ،‬وما و�صل منها �إال القليل وبع�ض‬ ‫الأط�ع�م��ة املحفوظة «امل�ع�ل�ب��ات»‪� .‬أ�شجار‬ ‫الزيتون النحيلة التي تقاوم العط�ش هزيلة‬ ‫فلم يكن �أحد يهتم بها لأن جتارة الزيت‬ ‫ال تعطي م��ردود ًا ذا �أهمية‪� .‬أت�ق� ّدم جهة‬ ‫ح��و���ض ال�ن�خ�ي��ل ب�ع��دم��ا ��ش�ع��رت ب��اجل��وع؛‬

‫�أقطف الرطب من نخيالت بطول قامتي‪،‬‬ ‫بل �أق�صر؛ تلمع عيوين بلذة وامتنان؛ فهذه‬ ‫الأر���ض �أعطت �أهلي احلرية وال�شجاعة‬ ‫واحلكمة‪ .‬وك�أين �أ�سمع �أ�صواتهم يتنقلون‬ ‫عليها بخفة الفهود بعزمية و�إ�صرار‪.‬‬ ‫ملّا ر�أيت «قاطية» وقتها مل يكن هناك فرق‬ ‫البدوي‬ ‫كبري بني «عرب �أبو ذكري» اجليتو‬ ‫ّ‬ ‫مهجر ًا م��ع �أه�ل��ي‪ ،‬وبني‬ ‫ال��ذي ع�شت فيه ّ‬ ‫«قاطية»‪� ،‬سوى �أن «قاطية» �أرحب و�أو�سع‬ ‫و�أعمق؛ فهي الأ�صل الذي انتقل منه �إ ّ‬ ‫يل‬


‫استطالع‬ ‫‪118‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫وال�شهود‪ ،‬وجمباها يف كل يوم �ألف دينار من‬ ‫الذهب‪ .‬وال يجوز عليها �أح��د من ال�شام �إال‬ ‫برباءة من م�صر وال من م�صر �إال برباءة من‬ ‫ال�شام احتياط ًا على �أموال النا�س وتوقي ًا من‬ ‫اجلوا�سي�س العراقيني‪ ،‬وطريقها يف �ضمان‬ ‫العرب قد ُوكلوا بحفظه‪.»...‬‬ ‫هذه هي «قاطية» التي كانت يف الزمان الغابر‬ ‫ميناء بر ّي ًا مهم ًا؛ وبها بئر بناها �إبراهيم با�شا‬ ‫لي�شرب منها احلجاج وت�سمى �إىل الآن «بري‬ ‫حجاج»‪.‬‬

‫هنا «قاطية»‪..‬‬

‫الوراثي عابر ًا �أ�صالب رجال كرث‪،‬‬ ‫اجلني‬ ‫ّ‬ ‫يهدر يف نواته‪� :‬ضجيج قوافل وهدير جيو�ش‬ ‫وابتهال امل�أخوذين ب�أرباب ال�صحراء ؛ ف�أنا‬ ‫مازلت كلما ر�أي��ت رم��ا ًال �صفراء و�أع�شاب ًا‬ ‫على �صدرها تقاوم الفناء‪ ،‬ر ّدين احلنني‬ ‫�إىل «قاطية» موطن �آبائي و أ�ج��دادي‪ .‬فلما‬ ‫ه��اج��رت ع��ن «ع ��رب �أب ��و ذك ��ري» اجليتو‬ ‫البدوي منذ ع�شرين عام ًا مل �أ�شعر مبرارة‬ ‫ّ‬ ‫الفراق؛ لأنني تركت فرع ًا �إىل ال�شجرة‪.‬‬ ‫فما ع�شته هناك كان تهيئة و�إعداد ًا للعودة‬ ‫�إىل اجلذور ومنا ًء فيها‪.‬‬

‫هذه الأر�ض الرملية«الرب�ص» بلغة البدو متتد‬ ‫م�سافات بعيدة؛ قطنها �أه��ل «قاطية» ومل‬ ‫يقرتبوا من البحر؛ لأن البحر له رهبة يف‬ ‫نفو�س البدو‪� ،‬إنهم يج ّلونه ويذبحون الذبائح‬ ‫على �شاطئه كل عام تقريب ًا‪ .‬فاملا ّر من «قاطية»‬ ‫�سيكون على ميينه ال�سبخة‪ ،‬وهي �أر�ض ملحية‬ ‫متتد م�سافة ثالثة كيلومرتات جنوب «رابعة»‬ ‫و�شمال غرب «قاطية»‪ ،‬حتدها بقعة النخيل‬ ‫التي ت�ضم �أن��واع � ًا متعددة م��ن البلح مثل‪:‬‬ ‫في الماضي كان لكل احلياين‪ ،‬العامري‪ ،‬بنات عي�شة‪ ،‬ال�سياحي‪.‬‬ ‫تف�صلها بيوت متناثرة‪ .‬يف اخلريف من كل‬ ‫قبيلة مقعد خاص بها‬ ‫ع��ام تنت�شر «امل �� �ش��رات» ب�ين النخيل‪ ،‬وهي‬ ‫ولكن حالي ًا أصبح لكل‬ ‫خ�صا�ص من جريد النخيل مفرو�شة �أر�ضها‬ ‫عشيرة مقعدها الخاص‬ ‫تلم الن�ساء وال�صبايا البلح الرطب‬ ‫باجلريد؛ ّ‬ ‫بعدما كثر الناس‬ ‫فيها وي�صنعن منه العجوة ال�سيناوية املميزة‬ ‫والتمر‪ .‬حول البيوت ت�صطف �أ�شجار الزيتون‬ ‫�إ�ضاءة قدمية‪..‬‬ ‫وال��رم��ان وم��زارع اخل�ضراوات وكلها ت�سقى‬ ‫ق��ال اب��ن بطوطة‪« :‬وم��ن منازلها " قطية " مب��اء ج��و ّيف حيث �إن ترعة ال�سالم مل ت�صل‬ ‫امل���ش�ه��ورة؛ وب�ه��ا ت ��ؤخ��ذ ال��زك��اة م��ن النا�س «قاطية» وانتهت قبل م�سافة �أربعة كيلومرتات‬ ‫وتفت�ش �أمتعتهم‪ ،‬و ُيبحث ع ّما لديهم �أ�شد جنوب غربها‪.‬‬ ‫البحث‪ .‬وفيها ال��دواوي��ن والعمال والكتاب‬

‫�إذن لري النخالت‬ ‫بعد النك�سة واحتالل «�إ�سرائيل» ل�سيناء ع��ام «‪ »1967‬ح��اول �أب��ي الذهاب‬ ‫�إىل نخالته يف «قاطية»؛ ولكنه مل ي�ستطع؛ فظل يحاول حتى ح�صل بعد‬ ‫حماوالت م�ضنية على ت�صريح من قوات حفظ ال�سالم «‪»UN‬؛ ومبوجبه‬ ‫ا�ستطاع العبور �إيل �سيناء لأيام عام «‪ »1970‬لالعتناء بنخالته يف «قاطية»‪،‬‬ ‫وعاد �سعيداً فخوراً لأنه حفظ نخالته من املوت؛ بل وغر�س ف�سائل جديدة‬ ‫عا�ش منها ما عا�ش ومات منها الكثري؛ ظل ‪-‬رحمه اهلل ‪ -‬حتى مات‪ ،‬يفاخر‬ ‫بواحدة منها زرعها بيده‪.‬‬

‫قبائل «قاطية»‪..‬‬

‫من �أ�شهر قبائل «قاطية»‪ :‬قبيلة «ال�سماعنة»‬ ‫وم���ن ع �� �ش��ائ��ره��ا ال �� �ش �ب��ان��ات واحل ��وام ��دة‬ ‫وال��زق��ازق��ة‪ ،‬قبيلة «العلو ّية» وم��ن ع�شائرها‬ ‫الفرارجة‪ ،‬اجليوب‪ ،‬الرايات‪ ،‬قبيلة «القطاو ّية»‬ ‫ومن ع�شائرها‪ :‬ال�شاعر والقوا�سمة‪ ،‬وقبيلة‬ ‫«البيا�ض ّية» ومن ع�شائرها‪ :‬املوالكة والنجادوة‬


‫�أطفال يتزجلون علي رمال �سيناء‬

‫والعمور‪ .‬كما يقيم بها بع�ض املوظفني من‬ ‫�أبناء الوادي �سعي ًا وراء احلافز املا ّ‬ ‫يل وب�ساطة‬ ‫احلياة‪.‬‬ ‫الن�شاط الرئي�س يف «قاطية» هو الزراعة‪.‬‬ ‫وت�شتهر «قاطية» بزراعة الزيتون‪ ،‬النخيل‪،‬‬ ‫الرمان‪ ،‬و�أن��واع الفاكهة‪ :‬الكنتالوب‪ ،‬التني‪،‬‬ ‫اجل��واف��ة‪� .‬أي�ضا اخل �� �ض��راوات‪ :‬ال�ب�ن��دورة‪،‬‬ ‫اخليار‪ ،‬الفلفل‪ ،‬وغريها‪ .‬كما يوجد بها جتارة‬ ‫زيت الزيتون ال��ذي ُيع�صر مبعا�صرها‪ .‬كما‬ ‫يوجد بها طبقة املوظفني العاملني بالقطاع‬ ‫احل�ك��وم��ي‪ ،‬وبع�ض منهم يتاجر يف ال�سلع‬ ‫اال�ستهالكية‪ ،‬ويربي ال�ب��دوي بجانب ذلك‬ ‫احليوانات‪ :‬مثل الأغنام واملاعز بالإ�ضافة‬ ‫للطيور املنزلية‪ .‬كما يوجد بها بع�ض الأن�شطة‬ ‫الثانوية‪ :‬كعالج الك�سور والكدمات عن طريق‬ ‫الطب ال�شعبي‪ ،‬والكي بالنار‪ ،‬وي�شتهر فيها‬ ‫احل ��اج «ط�ل��ب داود �أب ��و ��ص�ق��ر»‪ .‬كما تقوم‬ ‫الن�ساء ب�صناعة العجوة والتمر من �أنواع البلح‬ ‫يلم ال�شباب‬ ‫ال�سينائي املميز يف «قاطية»؛ ّ‬

‫كلما رأيت رما ً‬ ‫ال صفراء‬ ‫وأعشاب ًا على صدرها‬ ‫تقاوم الفناء ر ّدني‬ ‫الحنين إلى «قاطية»‬ ‫موطن آبائي وأجدادي‬ ‫البلح من النخيل يف �أوانٍ م�صنوعة من خو�ص‬ ‫النخيل «م�شنة» �أعلى النخلة؛ فتتلقاها الن�ساء‬ ‫وبذهنب بها �إىل امل�ش ّرة‪ ،‬يغ�سل الرطب وتُنزع‬ ‫عنه ق�شرته ال�سمراء وال �ن��وى؛ ث��م يعر�ض‬ ‫لل�شم�س ملدة �أي��ام‪ ،‬وي�صنع على �شكل قر�ص‬ ‫كبري م��ن ال�ع�ج��وة يو�ضع يف ال�شم�س مرة‬ ‫�أخرى؛ ثم يعجن مباء قليل؛ ويخزن بعد ذلك‬ ‫يف �أكيا�س بال�ستيكية ويو�ضع يف �صفائح‪.‬‬ ‫جمتمع «قاطية» جمتمع ذكوري؛ رغم خروج‬ ‫امل��ر�أة للعمل وم�شاركتها ال��زوج يف الوظيفة‬ ‫احلكومية و�أعمال الزراعة مثل جمع الزيتون‬ ‫والرمان والبلح‪ ،‬لكن ما زال املجتمع ذكوري ًا‪.‬‬

‫وتنق�سم احل �ي��اة االج�ت�م��اع�ي��ة يف جمتمع‬ ‫«قاطية» كالآتي‪ :‬جمتمع الرجال ويتجمعون‬ ‫يف املقعد وهو ما ي�سمى بالديوان يف �أماكن‬ ‫�أخ���رى‪ .‬م�ك��ان لتجمع ال��رج��ال ي�ت��داول��ون‬ ‫فيه كل ما يعرت�ضهم من مواقف حياتية؛‬ ‫ولق�ضاء ال��وق��ت يف احل��دي��ث وال�سمر‪ .‬به‬ ‫ركوة نار و�أدوات ل�صناعة ال�شاي والقهوة‪،‬‬ ‫يتطوع �أحد الرواد من ال�شباب ب�صناعتها‪،‬‬ ‫و�أغطية وفر�ش لل�ضيوف؛ كما �أن��ه مكان‬ ‫لتلقي العزاء و�إق��ام��ة ال��والئ��م‪ .‬وبالطبع ال‬ ‫حت�ضر الن�ساء هذه الوالئم‪ .‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫�أنه مكان التقا�ضي بني النا�س عرف ّيا‪ .‬ولكل‬ ‫قبيلة مقعد خا�ص بها؛ ولكن حالي ًا �أ�صبح‬ ‫لكل ع�شرية مقعدها اخل��ا���ص بعدما كرث‬ ‫النا�س‪.‬‬ ‫جمتمع الن�ساء يف الأ�سا�س تبقى امل��ر�أة يف‬ ‫بيتها وتقوم على �ش�ؤونه؛ ولكنهن يتوا�صلن‬ ‫م��ع �أق��رب��ائ �ه��ن و��ص��دي�ق��ات�ه��ن ب��ال��زي��ارات‬ ‫وتبادل االحتياجات اليومية وق�ضاء الوقت‬


‫استطالع‬ ‫‪120‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫وذلك يف البيوت‪ .‬وال يوجد مكان خم�صو�ص‬ ‫لتجمعهن مثل الرجال‪.‬‬

‫التقاليد والعادات‬

‫�دوي تكون‬ ‫يف «قاطية» كما يف � ّأي جمتمع ب� ّ‬ ‫العادات والتقاليد قدمية موغلة يف القدم؛‬ ‫وت�ق��وم على اح�ت�رام الكبري واجل ��ار‪ ،‬حرمة‬ ‫املر�أة وعدم امل�سا�س بها؛ حتى لو اعتدت على‬ ‫الرجل بال�سباب فال يجب �أن يرد عليها‪ ،‬ولكن‬ ‫عليه �أن ي�شكوها لأهلها؛ ف��إن اعتدى عليها‬ ‫�أ�صبح حقه �ضائع ًا‪ ،‬بل عليه �أن يواجه ت�أديب ًا‬ ‫�صارم ًا‪ .‬االحتكام للكبار من الق�ضاة يف كل ما‬ ‫مي�س حياتهم من خالفات و�صراعات‪ .‬ويعترب‬

‫يتم يف �أمور كثرية‪.‬‬ ‫مجتمع «قاطية» مجتمع‬ ‫م��ا زال ال �ب��دوي ينظر لغري ال �ب��دوي نظرة‬ ‫ذكوري رغم خروج المرأة خمتلفة؛ لي�ست ا�ستعالء ولكنها نظرة �إىل‬ ‫للعمل ومشاركتها‬ ‫من ال يعرف حرمة التقاليد البدوية‪ ،‬وعليه‬ ‫الزوج في الوظيفة‬ ‫ف�إنه عندما يوجه البدوي لبدوي مثله توبيخ ًا‬ ‫جلهله بالعرف يقول له «�أنت فالح»‪ .‬الع�صبية‬ ‫الحكومية وأعمال‬ ‫للأهل «العائلة‪ -‬القبيلة» مازالت من العادات‬ ‫الزراعة مثل جمع‬ ‫�دوي‪ ،‬امل�شاركة يف الأف��راح‬ ‫املت�أ�صلة يف ال �ب� ّ‬ ‫الزيتون والرمان والبلح‬ ‫وامل� ��آمت بالطعام وامل��وا��س��اة؛ فكل عائلة من‬ ‫الع�شرية عليها �صناعة الطعام للمعزين «غداء‬ ‫جمتمع «قاطية» االخت�صام لل�شرطة مبا�شرة �أو ع�شاء» ح�سب التق�سيم املتبع بينهم‪ .‬وي َقدّم‬ ‫من دون اللجوء للق�ضاء العريف عيب ًا كبري ًا يف ال�شباب والرجال الطعام يف �صوان للمعزين‬ ‫حق الرجل‪ .‬و�إن كان االحتكام لل�شرطة املدنية يف املقعد؛ وغالب ًا ما يكون الرثيد وعليه طبقة‬


‫قليلة م��ن الأرز وال�سالطة واللحم‪� .‬أي�ض ًا‬ ‫يف الأف��راح يهنئون بع�ضهم بع�ض ًا ويحملون‬ ‫«ال �ه �ن��ا» للعري�س و�أه �ل��ه وغ��ال �ب � ًا م��ا يكون‬ ‫كميات من ال�سكر وال�شاي والدقيق �أو الأرز‬ ‫وامل�شروبات الغازية بالإ�ضافة �إىل ال�صابون‬ ‫وال�شيكوالتة وبع�ضهم ي�ق��دم «ال �ق��ود» وهو‬ ‫عبارة عن خروف �أو معز على �سبيل الهدية‬ ‫بالإ�ضافة �إىل «النقوط» وهو مبلغ مايل يقدم‬ ‫للعري�س �أو والده يوم ال�صباحية‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا من العادات يف جمتمع «قاطية» زواج‬ ‫ا ألق��ارب فالبدوي يف�ضل زواج ابنه �أو ابنته‬ ‫من العائلة �أو الع�شرية �أو القبيلة لكن هذا‬ ‫الأمر ق ّلت حدته بع�ض ال�شيء‪ ،‬و�أ�صبح الزواج‬ ‫بني القبائل �أو حتى بني الوافدين من الوادي‬ ‫م�ستهجن ًا بع�ض ال�شيء؛ لكنه لي�س حمرم ًا‬ ‫من ناحية العرف؛ و�صار البدوي يزوج بناته‬ ‫و�أوالده من القبائل الأخرى بل من الفالحني‬ ‫ومن الوافدين �إليها‪.‬‬

‫بقايا م�سجد ال�سلطان بيرب�س‬

‫الأزياء‪..‬‬

‫الأزياء الرجالية‪ :‬هي الثوب البدوي «اجلالبية»‬ ‫وامل�ح��رم��ة البي�ضاء �أو احل �م��راء وه��ي غطاء‬ ‫للر�أ�س؛ و�إن كان غالبية ال�شباب ال يرتدونها‪ .‬يف‬ ‫بع�ض املنا�سبات يرتدون البنطلون والقمي�ص �أو‬ ‫البدل كما يف الأفراح لكن امل�شهور هو اجلالبية‪.‬‬ ‫كذلك العباءة وه��ي ت�صنع من قما�ش �صوف‬ ‫فاخر وغ��ايل الثمن‪ ،‬ك��ان هناك متخ�ص�صون‬ ‫يف �صناعتها من الرتزية و�إن ع� ّزوا الآن نظر ًا‬ ‫للإقبال على العباءة اجلاهزة من دول اخلليج‪،‬‬ ‫وهي �شرط �ضروري من �شروط الوجاهة للبدويّ ‪.‬‬ ‫ال�ب��دويّ الينتعل من الأح��ذي��ة �إال «ال�صندل �أو‬ ‫ال�شب�شب» وال ينتعل «اجلزمة» �إال نادر ًا‪.‬‬ ‫الأزياء الن�سائية‪ :‬تلب�س املر�أة يف حياتها اليومية‬ ‫ال�ع�ب��اءة وه��ي م��ا ي�سمى يف ال ��وادي اجلالبية‬ ‫والطرحة؛ �أما زيّ اخلروج فهو العباءة ال�سمراء‬ ‫والطرحة ال�سمراء؛ والفتيات الآن يلب�سن مالب�س‬ ‫خ��روج ك��امل��دن‪� ،‬أم��ا العجائز فيلب�سن الثوب‬ ‫البدوي الأ�سمر بال تطريز وت�ضع املر�أة العجوز‬ ‫على ر�أ�سها «القناع» وهو خمار �أ�سود اللون يغطي‬ ‫ر�أ�سها ورقبتها وتلف به وجهها فال يبني منه‬ ‫�سوي عينيها‪ .‬وقد كان ثوب البدوية الأ�سمر هذا‬

‫ت ّلة الآثار‬

‫كلما سمعت كلمة‬ ‫سيناء تبرق في‬ ‫مخيلتي غابات النخيل‬ ‫والزيتون وأسراب الطيور‬ ‫المهاجرة مثل السمان‬ ‫مرعى والعبد‬ ‫وال َ‬ ‫والزنزون‬ ‫يطرز منذ �سنوات بخيوط ملونة و�أ�شكال بديعة‬ ‫حتى �إن كل قبيلة كان لها طراز معني يف التطريز‬ ‫تعرف به وي�ستدل على القبيلة ب�ألوانها و�أ�شكالها‪.‬‬ ‫وللأ�سف يكاد يكون قد انقر�ض هذا الثوب املميز‬ ‫والبديع؛ الذي كانت املر�أة البدوية تتزين به يف‬ ‫خروجها قبل الزواج �أم بعده‪.‬‬

‫الزواج‪..‬‬

‫يف الأ��س��ا���س يف�ضل ال �ب��دوي �أن ي�ت��زوج من‬ ‫�أقربائه كما يف�ضل زواج بناته من العائلة؛ لكن‬ ‫يف ال�سنوات الأخرية �أ�صبح الزواج متاح ًا بني‬ ‫القبائل؛ بل وبني الوافدين من �أبناء الوادي‪.‬‬ ‫و�أ�صبح الزواج مكلف ًا للأب وللزوج؛ فالأب عليه‬ ‫�أن يجهز ابنته‪ ،‬وال��زوج عليه �أن يبني البيت‬ ‫ويجهزه؛ و�إن كان ال��زواج يف املجتمع البدوي‬ ‫�أي�سر بع�ض ال�شيء من املدن‪ .‬طقو�س الزواج‬ ‫تقوم على طعام العر�س وذلك بذبح الذبائح‬ ‫من الغنم �أو املاعز ويقدم غداء وع�شاء وكذلك‬ ‫الإع�ل�ان ع��ن ال ��زواج بتعليق الزينة وحفلة‬ ‫الزواج م�ساء والغالب الآن هو فرق « ‪DJ‬‬ ‫»و �إن ك��ان بع�ضهم يحنّ لل�سامر؛ فيقف‬ ‫ال�شباب �صف ًا واح��د ًا ي�صفقون ب�أيديهم‬ ‫م��رددي��ن داح �ي��وه داح �ي��وه‪ ،‬وق��د ترق�ص‬


‫استطالع‬ ‫‪122‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫حو�ض النخيل يف قرية قاطية‬

‫بع�ض الفتيات رق�صة احلا�شي وهي تلب�س‬ ‫الزي البدوي؛ ولكن هذا نادر الآن للأ�سف‪.‬‬

‫التعليم‪..‬‬

‫ينت�شر التعليم بني �أف��راد املجتمع البدوي‬ ‫يف «ق��اط �ي��ة» م��ا ب�ين ال�ت�ع�ل�ي��م اجل��ام�ع��ي‬ ‫وامل�ت��و��س��ط؛ فيوجد يف «ق��اط�ي��ة» مدر�سة‬ ‫ابتدائية و�أخ ��رى �إع��دادي��ة ومعهد ديني‬ ‫وم��در��س��ة ثانوية ع��ام��ة وث��ان��وي��ة زراع�ي��ة‪.‬‬ ‫والتعليم ينت�شر بني الأوالد والبنات بال‬ ‫ا�ستثناء‪ .‬وخريجو اجلامعات من ال�شباب‬ ‫وال�ب�ن��ات ك�ثر يف «ق��اط�ي��ة» مثل الهند�سة‬ ‫وال �ت �ج��ارة والآداب وال�ترب �ي��ة وغ�يره��ا‪.‬‬ ‫ومازالت الن�سبة العامة خلريجي اجلامعة‬ ‫قليلة بع�ض ال�شيء‪.‬‬

‫هذه األرض أعطت‬ ‫أهلي الحرية والشجاعة‬ ‫والحكمة وكأني أسمع‬ ‫أصواتهم يتنقلون‬ ‫عليها بخفة الفهود‬ ‫بعزيمة وإصرار‬ ‫املباين الأث��ري��ة من الع�صرين الإ�سالمي‬ ‫واليوناين‪ .‬كما يوجد بها بئر ماء رممها‬ ‫�إب��راه �ي��م ب��ا� �ش��ا ب��ن حم �م��د ع �ل��ي ح��اك��م‬ ‫م���ص��ر يف ب��داي��ة ال �ق��رن ال�ت��ا��س��ع ع�شر‪،‬‬ ‫ث��م رمم �ه��ا اخل��دي��و ع�ب��ا���س ع�ن��د زي��ارت��ه‬

‫للبحر في نفوس بدو‬ ‫الآثار‪..‬‬ ‫«قاطية» رهبة يسكنون‬ ‫من �أهم الآثار يف «قاطية»‪:‬‬ ‫«ت � ّل قاطية » وتنت�شر على �سطحه بقايا بعيد ًا عنه ويذبحون‬ ‫الذبائح على شاطئه‬ ‫كل عام تقريب ًا‬

‫للعري�ش وي�سمى «بري حجاج»‪ .‬كما ت�ضم‬ ‫م�سجد ًا م��ن الع�صر العثماين ومنطقة‬ ‫�صناعية و�سوق املدينة‪ .‬وتدل �آثار �سيناء‬ ‫القدمية علي وجود طريق حربي قدمي وهو‬ ‫«طريق حور�س» الذي يقطع �سيناء‪ ،‬وكان‬ ‫هذا الطريق يبد�أ من القنطرة احلالية‪،‬‬ ‫ويتجه �شما ًال فيمر على تل احلري ثم بري‬ ‫رومانة بالقرب من املحمدية‪ ،‬ومن قطية‬ ‫يتجه �إىل العري�ش‪ .‬وقد ورد ذكر املوقع يف‬ ‫العديد من املقاالت التاريخية التي تتحدث‬ ‫عن‪� ‬شمال �سيناء؛‪ ‬وخا�صة املقال ال�شهري‬ ‫للعامل الإجنليزي‪�« ‬ألن جاردنر»‪ ‬عن‪ ‬طريق‬ ‫حور�س؛‪ ‬حيث مت حت��دي��د امل��وق��ع ك��أح��د‬ ‫النقاط اخل�صبة من مواقع طريق حور�س‪.‬‬ ‫وكذلك �أثناء �أعمال الأثري الفرن�سي‪« ‬جان‬ ‫كليدا»‪ ‬وقت حفر‪ ‬قناة ال�سوي�س‪� .‬إال �أن‬ ‫امل��وق��ع مل جت� ِ�ر فيه �أع�م��ال حفائر عملية‬ ‫منظمة �إال من جانب بعثة الآثار امل�صرية‬ ‫التابعة لقطاع‪ ‬الآثار الإ�سالمية؛‪ ‬حيث‬


‫�إىل طبقات من الع�صر الفرعوين «الدولة‬ ‫امل�صرية احلديثة» للدولة احلديثة؛‪ ‬وهو‬ ‫الأمر الذي يو�ضح �صعوبة حتديد املواقع‬ ‫الآث ��ري ��ة وحت�ق�ي�ق�ه��ا ب �ن��اء ع �ل��ى م��ا ورد‬ ‫بالنقو�ش وامل���ص��ادر ال�ق��دمي��ة‪ ،‬م��ن دون‬ ‫وج��ود نتائج تثبت ذلك من خالل �أعمال‬ ‫احلفائر باملوقع‪.‬‬

‫اخلامتة والبداية‪..‬‬

‫ا�شجار الزيتون‬

‫مت ال� �ك� ��� �ش���ف ع�� ��ن ب � �ق� ��اي� ��ا م �� �س �ج��د‬ ‫وم���س��اك��ن و��ص�ه��ري��ج للمياه من‪ ‬الع�صر‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬حتديد ًا زمن‪ ‬املماليك‪ .‬وهو‬ ‫م�سجد «الظاهر بيرب�س» و«ق�ب��ة ال�شيخ‬ ‫املزين»‪ .‬ورغم حتديد املوقع مبعرفة �ألن‬

‫جاردنر ك�أحد نقاط طريق حور�س احلربي‬ ‫القدمي بني‪ ‬م�صر‪ ‬وفل�سطني‪ ‬وعلى �أ�سا�س‬ ‫نق�ش امللك‪� ‬سيتي الأول‪ ‬امل�شهور بالكرنك‬ ‫�إال �أن الآث��ار التي ك�شف عنها باملوقع ال‬ ‫ت�ؤكد وجود �أي طبقات تعود بتاريخ املوقع‬

‫ق��د تنمو ال��ف��روع وت�ستطيل خ ��ارج بقعة‬ ‫ال�شجرة؛ لكنها تظ ّل حمكومة باجلذر الذي‬ ‫ي�ضرب يف �أعماق الأر�ض وال يفارقها برغم‬ ‫اجلفاف ون��درة امل��اء‪ ،‬ال يفكر يف الهرب �أو‬ ‫املغادرة؛ فهو حمكوم بقدره وجتربته‪ ،‬وعليه‬ ‫�أن يظل يف �أر�ضه حتى يحني �أجله؛ فيدفن يف‬ ‫نف�س البقعة‪ .‬هكذا دوم ًا �أفكر يف �سامل �أبو‬ ‫�شبانه الفرع الذي ا�ستطال وتنقل يف �أر�ض‬ ‫اهلل لكنه حمكوم بقدر اجلذور‬


‫حكايات من الذاكرة‬ ‫‪124‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫يف ذكرى حرب �أكتوبر‬

‫زايد ‪..‬‬

‫و الدم العربي‬ ‫القاهرة ‪ -‬ه�شام علي‬ ‫بعد عودتي �إىل املدر�سة من الإجازة الإجبارية‬ ‫التي ح�صلنا عليها ب�سبب حرب �أكتوبر عام‬ ‫‪1973‬م‪ ،‬كلفنا معلم اللغة العربية بكتابة‬ ‫مو�ضوع تعبري حول‪ ،‬الت�ضامن العربي مع‬ ‫م�صر �أثناء احلرب‪ ،‬وكيف مت ا�ستخدام‬ ‫«�سالح البرتول» يف مواجهة الدول‬ ‫الكربى التي انحازت �إىل «�إ�سرائيل»‪.‬‬ ‫وت�شجيعاً لنا وعدنا الأ�ستاذ عبد‬ ‫الفتاح‪ ،‬بقراءة املو�ضوع الذي يح�صل‬ ‫على �أعلى الدرجات يف �إذاعة‬ ‫املدر�سة‪ ..‬لكن بعد حتية العلم‪.‬‬


‫�أج��واء احل��رب التي كنا نعي�شها يف البيت‬ ‫وال�شارع‪ ،‬على �صفحات اجلرائد واملجالت‪،‬‬ ‫جعلت كتابة املو�ضوع �سه ًال ومي�سر ًا‪ ،‬لكن‬ ‫الأ� �ص �ع��ب مت�ث��ل يف االخ �ت �ي��ار ب�ين امل��واق��ف‬ ‫العربية من �أجل ت�سليط ال�ضوء عليه‪ ..‬لكن‬ ‫بناء على ن�صيحة من والدي‪ ،‬اخرتت الرتكيز‬ ‫على موقف املغفور له ب�إذن اهلل ال�شيخ زايد‬ ‫«طيب اهلل ثراه»‪ ،‬و�أن �أنطلق فيه من عبارته‬ ‫املدوية‪« :‬البرتول العربي لي�س �أغلى من الدم‬ ‫ق�ص‬ ‫العربي»‪ ،‬خ�صو�ص ًا و�أن �أبي من كرثة ما ّ‬ ‫يل عنه‪� ،‬أقنعني ب��أن��ه �شريك لنا يف الث�أر‬ ‫لدماء �شهداء �شارعنا‪� ..‬أحمد وعبد احلليم‬ ‫و�سيد وحممود عبد احلكم‪.‬‬ ‫وازداد انحيازي �أكرث للمغفور له ال�شيخ زايد‪،‬‬ ‫بعد �أن ب��د�أت رحلة توثيق املعلومات التي‬ ‫�سوف �أ�ستعني بها من اجلرائد واملجالت‪.‬‬ ‫�أذك��ر �أن �إح��دى ال�صحف كانت تن�شر عنه‬ ‫مقا ًال مع �صورة تخطف النظر من �أول وهلة‬ ‫�أ�شعرتني �أن هذا الرجل لي�س من الزمان‬ ‫الذي نعي�ش فيه‪ ،‬بل قادم �إلينا من ع�صور‬ ‫ال�صحابة‪� ،‬أو �أحد الفر�سان الذين كنا ن�سمع‬ ‫حكايتهم يف الليايل القمرية يف القرية‪.‬‬ ‫كثري من النا�س رمبا ال يعلمون �أن��ه عندما‬ ‫تناقلت و�سائل الإع�ل�ام العربية والغربية‬ ‫خرب ب��دء امل�ع��ارك على اجلبهتني امل�صرية‬ ‫وال�سورية‪ ،‬ك��ان «طيب اهلل ث��راه» يف رحلة‬ ‫خا�صة يف بريطانيا‪ ،‬ومبجرد �أن ت�أكد من‬ ‫�صدق الأخبار التي تطريها وك��االت الأنباء‬ ‫العاملية من م�ست�شاريه‪ ،‬مل يفكر يف ح�سابات‬ ‫�سيا�سية معقدة‪ ،‬ومل يجل�س لريتب �أوراق‬ ‫دولته النا�شئة ح�سب م�صاحلها مع ال��دول‬ ‫الكربى‪ ،‬بل اختار االنحياز املبكر لأمته العربية‬ ‫يف هذه احلرب املقد�سة‪� .‬أ�صدر �أوامره الفورية‬ ‫مل�ست�شاريه ب�شراء م�ست�شفيات متنقلة من‬ ‫�أوروبا وجتهيزها باملعدات الطبية والتموينية‬ ‫و�إر�سالها �إىل اجلبهة امل�صرية وال�سورية‪.‬‬ ‫ورغ��م ال�ضائقة املالية التي كانت مت��ر بها‬ ‫�أبوظبي يف ه��ذا الوقت‪ ،‬ك��ان �أول من �أر�سل‬ ‫دعم ًا مالي ًا حتت ح�ساب املعارك‪ ،‬بعد �أن جمع‬ ‫رج��ال البنوك يف بريطانيا‪ ،‬وا�ستدان منهم‬ ‫‪ 100‬مليون جنيه �إ�سرتليني ب�ضمان البرتول!‬

‫الراحل يوسف شاهين‬ ‫أخبرني أن من أهم‬ ‫مشاريعهالمؤجلةفيلم‬ ‫اسمه «معجزة زايد»‪ ،‬فلماذا‬ ‫ال نرى فيلم ًا سينمائي ًا يوثق‬ ‫لمعجزةالراحلالكبير؟‬ ‫املفاج�أة التي �أتوقف �أمامها اليوم كثري ًا‪،‬‬ ‫مت�أم ًال يف عبقرية ه��ذا الرجل هي �إميانه‬ ‫امل�ب�ك��ر ب��أه�م�ي��ة الإع�ل��ام‪ ،‬وم��ا ل��ه م��ن دور‬ ‫حا�سم يف الفوز باملعركة �أو خ�سارتها‪ ،‬هذا‬ ‫الفهم يغيب اليوم عن كثري من قادة �أمتنا‬ ‫العربية‪ .‬فقد اكت�شف «طيب اهلل ث��راه» �أن‬ ‫معظم و�سائل الإع�لام الغربية والأمريكية‪،‬‬ ‫تتناول �سري امل�ع��ارك بطريقة منحازة �إىل‬ ‫«�إ�سرائيل»بل وتتعمد ت�شويه احلقائق و�إخفاء‬ ‫الكثري من املعلومات! الأمر الذي جعله يجمع‬ ‫م�ست�شاريه وي�أمرهم باال�ستعانة ‪-‬وعلى نفقته‬ ‫ال�شخ�صية‪ -‬ب�أكرث من ‪� 40‬شخ�صية �إعالمية‬ ‫من امل�شهود لها بالكفاءة واملهنية على م�ستوى‬ ‫ال�ع��امل‪ ،‬لتغطية �أخ�ب��ار احل��رب‪ ،‬وم��ن خالل‬ ‫ات�صاالته التي ال تتوقف مع القيادة امل�صرية‬ ‫وال�سورية‪ ،‬رت��ب لهم جميع الأم��ور‪ ،‬ليقوموا‬ ‫مبهمتهم‪ ،‬بعيد ًا عن التعقيدات الروتينية التي‬ ‫تظهر يف مثل هذه الأيام‪.‬‬

‫وتبد�أ املعركة الكربى‬

‫عندما ت��دف��ق ال�سالح ع�بر اجل�سر اجل��وي‬ ‫الأمريكي �إىل «�إ�سرائيل»‪� ،‬أوفد زايد –رحمه‬ ‫اهلل‪ -‬وزير النفط الإماراتي حام ًال توجيهات‬ ‫بالده بقرار قطع النفط نهائي ًا عن الدول التي‬ ‫ت�ساند «�إ�سرائيل»‪ ،‬الأمر الذي �أجرب الإذاعات‬ ‫العاملية على قطع �إر�سالها‪ ،‬لتعلن هذا النب�أ؛‬ ‫فقد كان القرار بداية ملعركة النفط‪ ،‬وعندها‬

‫لم يفكر زايد في حسابات‬ ‫سياسية معقدة ولم‬ ‫يجلس ليرتب أوراق دولته‬ ‫الناشئة حسب مصالحها‬ ‫مع الدول الكبرى‪ ..‬بل‬ ‫اختار االنحياز المبكر ألمته‬ ‫العربية في هذه الحرب‬ ‫المقدسة‬

‫انهالت عليه التهديدات ب�أن عليه �أن يتحمل‬ ‫تبعات ذلك القرار‪ ،‬لكنه «طيب اهلل ثراه» مل‬ ‫يجر ات�صاالت �سرية‪،‬‬ ‫يهتز ومل يرتبك‪ ،‬ومل ِ‬ ‫ً‬ ‫فقط خ��رج على و�سائل الإع�ل�ام ق��ائ�لا‪�«:‬إن‬ ‫الذين قدّموا دماءهم يف معركة ال�شرف‪ ،‬قد‬ ‫تقدموا ال�صفوف كلها‪ ،‬و�إن النفط العربي‬ ‫لي�س �أغلى من الدم العربي»‪ ،‬وم�ضيف ًا‪�«:‬إننا‬ ‫على ا�ستعداد �إىل العودة �إىل �أكل التمر مرة‬ ‫�أخ ��رى‪ ،‬فلي�س هناك ف��ارق زمني كبري بني‬ ‫رفاهية النفط و�أن نعود �إىل �أكل التمر»‪.‬‬ ‫ورغم ما و�صله عن وجود خمططات �أمريكية‬ ‫بريطانية يتم الرتتيب لها يف اخلفاء ل�شن‬ ‫هجوم على �آب��ار البرتول يف ال��دول اخلليجية‬ ‫الكربى‪ ،‬ال�سعودية والكويت والإمارات‪� ،‬إال �أنه‬ ‫ت�شبث «طيب اهلل ثراه» مبوقفه و�أدار املعركة‬ ‫بقوة «امل�ستغني»الذي ال يعنيه م��ال �أو حكم‬ ‫�أو رفاهية‪ ،‬وا�ضع ًا ن�صب عينيه �شرف �أمته‬ ‫العربية وعروبته التي جتري يف دمائه و�أرواح‬ ‫�أبنائه و�أ�شقائه الذين يقاتلون على اجلبهة‪.‬‬ ‫ويزداد الفخر بالإمارات وقائدها وم�ؤ�س�سها‪،‬‬ ‫عندما تعلم �أن الإمارات فتحت ر�سمي ًا مكاتب‬ ‫للتطوع يف املعركة‪ ،‬وفر�ضت �ضريبة جهاد على‬ ‫التجار‪ ،‬وال�شركات العاملة فيها ونظمت مكاتب‬ ‫للتربع ال�شعبي‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل تربع العاملني‬ ‫فيها مبرتب �شهر كامل مببادرة ذاتية‪.‬‬ ‫واحل ��دي ��ث ع��ن م��واق �ف��ه «ط �ي��ب اهلل ث ��راه»‬ ‫ال��رج��ول�ي��ة ال ميكن اخت�صارها يف معركة‬ ‫البرتول لعام ‪ 1973‬وحدها‪ ،‬رغم �أنها تكفيه‬ ‫لدخول التاريخ من �أو�سع �أبوابه‪.‬‬ ‫�أذك ��ر �أن��ه يف اللقاء الوحيد ال��ذي جمعني‬ ‫باملخرج الكبري ال��راح��ل يو�سف �شاهني يف‬ ‫مكتبه‪� ،‬أخربين �أن من �أهم م�شاريعه امل�ؤجلة‬ ‫فيلم ا�سمه «معجزة زاي ��د»‪ ،‬و�أخ ��ذ �شاهني‬ ‫ي�ستفي�ض بحما�سه املعهود عندما يتحم�س‬ ‫لفكرة �أو مل�شروع فني جديد‪ ،‬الفت ًا �إىل �أهمية‬ ‫توثيق حياة هذا القائد املعجزة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ازداد حما�سي �أكرث لـ«معجزة زايد» عندما قدّر‬ ‫يل زيارة الإمارات‪ ،‬وقتها تذكرت �أول مو�ضوع‬ ‫تعبري كتبته يف حياتي‪ ،‬وفهمت كذلك �سر‬ ‫اختيار �أ�ستاذ عبد الفتاح معلم اللغة العربية‬ ‫مو�ضوعي لقراءته يف الإذاعة املدر�سية‬


‫موسيقا‬ ‫‪126‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫أغان عربية‬ ‫�صورته يف كلمات �أربع � ٍ‬

‫العودسيد األغنيات‬ ‫�أمل �سعد‬ ‫لي�س غريباً �أن حتتل �آلة العود و�أنغامها مكاناً مميزاً يف كلمات الأغاين العربية‪،‬‬ ‫بحكم ما متتلكه هذه الآلة من ح�ضور يف وجدان �شعراء الأغنية العرب‪ ،‬وما يلم�سونه‬ ‫ويعرفونه من عمق �إح�سا�س م�ستمعيهم بها‪� ،‬سواء يف ذلك �شعراء الف�صحى �أو العامية‪.‬‬ ‫ويكون العود‪ ،‬مبا ميتلكه من طاقات تعبريية‪ ،‬ومبا يرتبط به من �ألوان وظالل‬ ‫و�إيحاءات‪ ،‬يف بع�ض الأحيان جزءاً من �أغنية‪� ،‬إذ ت ِر ُد �صورة مفردة له هنا �أو هناك‪ ،‬لكنه‬ ‫يف �أحيان �أخرى‪ ،‬ي�صبح مو�ضوعاً للأغنية كلها‪ ،‬واملحور الذي تدور حوله‪ .‬وفيما يبدو‪،‬‬ ‫ف�إن العود وحده هو من لقي هذا االهتمام من جانب ُك َّتاب الأغاين و�شعرائها‪ ،‬فلم‬ ‫حتظ �أي من الآالت املو�سيقية بعدد من الأغنيات مثلما حظيت �آلة العود‪ .‬وال �أعتقد �أن‬ ‫من يعرف الذائقة العربية ومكوناتها اجلمالية يجد يف هذا مثاراً للده�شة‪.‬‬


‫�سيد دروي�ش‬

‫ريا�ض ال�سنباطي‬

‫و� �س��وف ن �ح��اول يف �إط�لال��ة ��س��ري�ع��ة على‬ ‫«�أغ �ن �ي��ات ال��ع��ود» �أن ن�ت�ع��رف ع�ل��ى ه��ذه‬ ‫ال �ظ��اه��رة‪ ،‬ب��ادئ�ين «ب��ال �� �ص��ور امل �ف��ردة»‪،‬‬ ‫و�صو ًال �إىل �إلقاء نظرة �سريعة على �أجواء‬ ‫�أرب��ع �أغنيات ات�خ��ذت ال�ع��ود عنوان ًا لها‪،‬‬ ‫وهي �أغنيات‪« :‬غنيت على ع��ودي» للفنان‬ ‫ع�ب��ده ال���س��روج��ي‪ ،‬و«ع�ل��ى ع ��ودي» للفنان‬ ‫ري��ا���ض ال�سنباطي‪ ،‬و«ي��ا ع��ود»‪ ،‬و«ع��ودك‬ ‫رنان» لل�سيدة فريوز‪.‬‬

‫صور العود «المفردة»‬ ‫تتكرر في أغنيات شتى‬ ‫عن األوطان وعن‬ ‫العشق والحنين إلى‬ ‫األمكنة والذكريات‬ ‫مرتبطة دوم ًا باكتمال‬ ‫األلق وسياحات الروح‬

‫العود‪� :‬صور مفردة‬

‫�إىل الأم�ك�ن��ة وال��ذك��ري��ات‪ ،‬مرتبطة دوم � ًا‬ ‫باكتمال الألق‪ ،‬و�سياحات الروح يف �أكوان‬ ‫م��ن االن �� �س �ج��ام وال �� �ص �ف��اء‪ .‬ف�ح�ين يكتب‬ ‫م ��أم��ون ال���ش�ن��اوي ع��ن �أي ��ام ال��ر��ض��ا التي‬ ‫ذه�ب��ت وب�ق�ي��ت يف النف�س ذك��راه��ا‪ ،‬ف ��إن‬ ‫�أن �غ��ام ال�ع��ود تتداعى �إىل خ�ي��ال ال�شاعر‬ ‫الرقيق لتعرب عن هذا الفردو�س املفقود‪.‬‬ ‫الربيع الذاهب‪ ،‬يف الأغنية اخلالدة لفريد‬ ‫الأطر�ش‪ ،‬يتج�سد عود ًا ونغم ًا‪:‬‬

‫تظهر � �ص��ورة ال �ع��ود امل �ف��ردة يف الأغ ��اين‬ ‫العربية احلديثة منذ وقت مبكر‪ ،‬تطريز ًا‬ ‫بخيوط من الندى والنور‪ ،‬كما يف املو�شح‬ ‫ال�تراث��ي «ي��ا ��ش��ادي الأحل ��ان» ال��ذي حلنه‬ ‫ال�شيخ �سيد دروي�ش يف ع�شرينيات القرن‬ ‫امل��ا� �ض��ي‪ ،‬وي �ب��دو ف�ي��ه ذل��ك الإحل� ��اح على‬ ‫االرت� �ب ��اط ال ��وج ��ودي ب�ي�ن ن �غ �م��ات ال �ع��ود‬ ‫والو�صول اجلمعي �إىل ن�شوة الطرب ‪:‬‬

‫ي � � ��ا �� �ش� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ ��ادي الأحل � � �ـ � � �ـ� � � ْ‬ ‫�ان‬ ‫�أ� �ْ�س ��مِ � � ْع � �ـ � �ـ � �ن ��ا رن� �ـ�َّ �ـ� �ـ� �ـ� �ـ ��ة ال � �ع � �ي ��دان‬ ‫واط � � � � � � � � � ِر ْب َم � � � � ��نْ يف احل � � � � ْ‬ ‫�ان‬ ‫واح� ��� �س� �ب� �ن ��ام ��ن ب� �ي � ِ�ن ال � � ُّن� ��دم� ��ان‬

‫��ص��ور ال�ع��ود «امل �ف��ردة» تتكرر يف �أغنيات‬ ‫�شتى‪ ،‬عن الأوط��ان وع��ن الع�شق واحلنني‬

‫فريد الأطر�ش‬

‫ي� � �ن � ��اج � ��ي ال� � �ل� � �ي � ��ل و�أ� � � � � �س � � � � ��راره‬

‫هذه ال�صور «املفردة» للعود تتكرر ب�صورة‬ ‫الفتة للنظر عند ال�شاعر اللبناين الكبري‬ ‫�سعيد عقل‪ ،‬لت�شدو بها فريوز‪ .‬ويف ع�شقه‬ ‫ال�صويف لل�شام‪ ،‬تبدو �صورة العود قريبة‬ ‫�إىل خياله اخل�صب‪ .‬ففي الأغنية العذبة‬ ‫«يا �شام» ت�شدو فريوز‪:‬‬

‫ط ��اب ��ت ال� ��ذك� ��رى ف �م��ن راج � � ٍ�ع‬ ‫ب � ��ي ك � �م� ��ا ال � � �ع � ��ود �إىل ال � �ط� ��رب‬

‫�إن� ��ه احل �ن�ين �إىل زم ��ن ال �ط �ي��ب‪ ،‬ول �ي��ايل‬ ‫الو�صل‪� ،‬ش�أنه �ش�أن م�أمون ال�شناوي الذي‬ ‫يحن �إىل ربيع ال��ذك��ري��ات‪ ،‬و�أي��ام الر�ضا‬ ‫وال�صفاء‪ .‬ويكرر �سعيد عقل �صورة العود‬ ‫يف ق�صيدته «كللت بالغار»‪� ،‬إحدى ترنيمات‬ ‫ع�شقه ل�ل���ش��ام‪ ،‬و�أي �� �ض � ًا ب���ص��وت ال�سيدة‬ ‫فريوز‪:‬‬

‫�أواه ب�ضــــــع غمامات م�شـــــردة‬ ‫يف الأفق بع�ض ر�ؤى والبع�ض �أحالم‬ ‫ك� � � � � � ��ان ال � � �ن � � �� � � �س � � �ي� � ��م غ� � � �ن � � ��و ْه‬ ‫�ســـــ�ألتهن �أظ َّل ْل ُت َّنها ُ�صـــــــــــبحا‬ ‫ال � � �ن � � �ي � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ� � ��ل ي� � �غ� � �ن� � �ي� � �ـ� � �ه � ��ا‬ ‫�شـــــــام التــــي وحدها للعـــود �أنغام‬ ‫وم� � � � � ِّي� � � � � ُت � � � ��ه الحْ � � �ل � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ� � ��و ْه‬ ‫ِت � � � � ْف � � � �� � � َ� ��ض � � � ��ل ت � � �ع � � �ي� � ��د ف � �ي � �ه� ��ا رمبا ميكن ت�ص ُّور جزء من هذا االرتباط‬ ‫وم� ��وج� ��ه ال � �ه � ��ادي ك � ��ان ع� ��وده‬ ‫احلميم ب�ين ال�ع��ود وال���ش��ام ب��ال�ع��ودة �إىل‬ ‫ون � � � � � � ��ور ال� � �ب� � �ـ� � �ـ� � �ـ� � �ـ � ��در �أوت� � � � � � � � ��اره حقيقة �أن �أول ظهور للعود كان يف منطقة‬ ‫اجل��زي��رة ال�سورية‪ ،‬قبل نحو ‪ 2500‬عام‬ ‫ي �ن �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��اغ��ي ال � � � ��ورد وخ � � ��دوده‬


‫موسيقا‬ ‫‪128‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫امل �ق��ال �أف �ك��ار �أرب ��ع �أغ�ن�ي��ات رق�ي�ق��ة‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫«غنيت على ع ��ودي» ال�ت��ي يغنيها الفنان‬ ‫عبده ال�سروجي «كلمات‪� :‬إبراهيم �شحاتة‪،‬‬ ‫و�أحلان‪ :‬حممد املوجي»‪ ،‬و«يا عود» لل�سيدة‬ ‫فريوز «كلمات و�أحل��ان الأخوين رحباين»‪،‬‬ ‫و«عودك رنان» لل�سيدة فريوز �أي�ض ًا «كلمات‬ ‫و�أحل� ��ان زي ��اد ال��رح �ب��اين»‪ ،‬وع �ل��ى ع��ودي‬ ‫ل�ل�ف�ن��ان ري��ا���ض ال���س�ن�ب��اط��ي «م��ن �أحل��ان��ه‬ ‫وكلمات ح�سني ال�سيد»‪ .‬وتك�شف الأغنيات‬ ‫الأرب��ع‪ ،‬عن ثراء العامل الذي يتحرك فيه‬ ‫العود‪ ،‬ومالءمته حلاالت وجدانية و�إن�سانية‬ ‫��ش�ت��ى‪ ،‬ب�ين ال��ه��دوء وال �� �ص �خ��ب‪ ،‬وال �ف��رح‬ ‫والأمل‪ ،‬واالبت�سامات والدموع‪.‬‬

‫الأخوان رحباين‬

‫م��ن امل �ي�لاد‪� ،‬أو م��ا ي��زي��د على ذل��ك‪ ،‬غري‬ ‫�أن االت�ب��اط ال��روح��ي واجل�م��ايل هو الأك�ثر‬ ‫ح�ضور ًا وفاعلية‪.‬‬ ‫ويعود ال�شاعر ثالثة �إىل العود يف �أغنية‬ ‫يحمل عنوانها جزء ًا حميم ًا من �آلة العود‪:‬‬ ‫«الع��ب ال��ري���ش��ة»‪ ،‬وك ��أمن��ا ح��دي��ث الري�شة‬ ‫�إىل الأوتار هو مفتتح العامل املتماوج‬

‫لم تحظ أي من اآلالت‬ ‫الموسيقية بعدد‬ ‫من األغنيات مثلما‬ ‫حظيت آلة العود ومن‬ ‫يعرف الذائقة العربية‬ ‫ومكوناتها الجمالية‬ ‫ال يجد في هذا مثار ًا‬ ‫للدهشة‬ ‫بالعبري ومو�سيقى اللون وازدهاء الرباعم‪.‬‬ ‫يبد�أ ال�شاعر ق�صيدته بالري�شة‪:‬‬

‫الع� � � � � ��بِ ال� � � ِّري� � ��� � �ش � ��ة واهْ � � �ـ � � �ـ � � � َو‬ ‫وا� � � �ض � � �ف � � �ـ ُ� � �ـ � ��ر ال � � � � ُع � � � � ْم � � � � َر ورو ْد‬ ‫ويعود ثانية‪ ،‬وفق منطق اجلمال‪� ،‬إىل العود‬ ‫والأوتار‪ ،‬ليكت�شف املو�سيقى الكونية يف كل‬ ‫املوجودات‪:‬‬

‫ل � � ��ك ه � � � ��ذا ال� � � ��ري � � � � ُح ع� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ ��و ُد‬ ‫وال � � �غ � � �م � � �ـ � � �ـ� � ��ام� � � ُ‬ ‫�ات وت � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � � ْر‬

‫�أغنيات العود‬

‫كما �أ�سلفنا‪ ،‬ف�إن هناك �أغنيات ُخ�ص�صت‬ ‫ل�ه��ذه الآل��ة املو�سيقية ال�ف��ري��دة‪ .‬ويتناول‬

‫‪ - 1‬غنيت على عودي «عبده‬ ‫ال�سروجي»‬

‫«غ�ن�ي��ت ع�ل��ى ع���ودي» ه��ي �أغ �ن �ي��ة رق�ي�ق��ة‪،‬‬ ‫حتفل بفرح غامر ي�شيع يف ك��ل جوانبها‪.‬‬ ‫طابت فيها الأم��اين ودن��ت‪ ،‬وان�ساب �ضوء‬ ‫القمر على ال��وج��ود ليغمره ب�صفائه‪...‬‬ ‫ليل للو�صال وال��وف��اء وال�� ِّ��س� ْ�ح��ر‪ ،‬وحمبون‬ ‫باقون على العهد‪ ،‬يت�ساقون ك�ؤو�س الود‪،‬‬ ‫ويكت�شفون معنى جديد ًا للوجود كله‪.‬‬ ‫واملقطع الأول يف الأغنية يك�شف عن معظم‬ ‫�سماتها‪ ،‬وي�ب��دو فيه احل��ر���ص على تزيني‬ ‫الأغنية وتطريزها مبو�سيقى لفظية رقيقة‬ ‫ت�ستند �إىل ت��راث عربي ف�صيح �ضارب يف‬ ‫القدم‪ُ ،‬يعنى باجلنا�س وا�ستخدام الألفاظ‬ ‫املت�شابهة �أو املتطابقة ملعان خمتلفة‪ ،‬كما‬ ‫ي�ستند �إىل تراث عامي يف م�صر ويف �سواها‬ ‫ل�صيق ب��ال��وج��دان‬ ‫م��ن ال�ب�ل��دان ال�ع��رب�ي��ة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال�شعبي‪ُ ،‬يعلى م��ن � �ش ��أن ه��ذا ال �ن��وع من‬ ‫مو�سيقى اللفظ‪ ،‬وتبدو �أكمل ال�صور لذلك‬ ‫يف بع�ض �أل��وان «امل��وال»‪� ،‬إذ تنتهي املقاطع‬ ‫بكلمة واحدة نطق ًا‪ ،‬لكن املعنى يختلف يف‬ ‫كل مرة‪ .‬تُفتتح الأغنية بهذا املقطع‪:‬‬ ‫غنيت على عودي � �س��اع��ة ظ �ه ��ور ب ��دري‬ ‫هــز الهنــا عودي غ� � َّن ��ايل م �ـ �ـ��ن ب �ـ �ـ��دري‬ ‫ت�ستخدم الأغنية كلمة «ع��ودي» مبعنيني‪،‬‬ ‫وكلمة «بدري» مبعنيني �أي�ض ًا‪ ،‬وقد حافظت‬ ‫الأغنية يف كل مقاطعها على هذه اخلا�صية‪،‬‬


‫بحيث باتت �أبرز �سماتها‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫�شبهة «ال�صنعة» التي حتيط بهذا النوع‬ ‫من الزينة اللفظية‪ ،‬ف�إنها بقيت يف حدود‬ ‫تع�سف �أو‬ ‫القبول وال��رق��ة‪ ،‬ومل يب ُد فيها ُّ‬ ‫�ضغط على الكلمات ينفر منه ال��ذوق‪ ،‬بل‬ ‫بقيت فيه اللمحة ال�شعبية الذكية‪:‬‬ ‫�سِ ْحر الوجود َم ْعنا‬ ‫وعــرفنا ل ـُ ْه معنى‬ ‫احلر�ص على «الزينة» يف الأغنية لي�س �أبرز‬ ‫مالحمها اللفظية فقط‪ ،‬بل �إن «العود» يف‬ ‫الأغنية يدخل يف �إط��ار «الزينة» وال ينفذ‬ ‫�إىل قلبها كما هي حال الأغنيات الثالث‬ ‫التي �سنتحدث عنها الحق ًا‪ .‬فالأغنية التي‬ ‫تتكون من ث�لاث مقاطع ينتهي كل مقطع‬ ‫منها بال�شطرات الثالث التالية‪:‬‬ ‫وفرحت انا بدري‬ ‫وملَّا الح بدري‬ ‫غنيت على عودي‬ ‫العود هنا «زينة»‪ ،‬و�إط��ار لل�صورة‪ .‬تنتهي‬ ‫امل�ق��اط��ع دائ �م��ا ع�ن��د ه��ذا ال�ع��ا��ش��ق ال��ذي‬ ‫انت�شى برحيق اللقاء‪ ،‬فغنى على ع��وده‪،‬‬ ‫ومن هذا ال�شطر الأخري اكت�سبت الأغنية‬ ‫ا��س�م�ه��ا‪� .‬إن ق�ل��ب ال �� �ص��ورة ه��و اللحظة‬ ‫ال��ن��ادرة ال �ت��ي اج�ت�م�ع��ت فيها امل �� �س��رات‪،‬‬ ‫وارتوت الأعني والأرواح بالقرب والو�صال‪،‬‬ ‫والعود �أحد تفا�صيلها‪� .‬إنه يبقى واحد ًا من‬ ‫�أهم م�شاهد ال�صورة من دون �شك‪ ،‬لكنه‬ ‫لي�س كل �شيء يف الأغنية‪ ...‬لي�س قطبها‬ ‫الذي منه تبد�أ و�إليه تنتهي‪ ،‬كما هي حال‬ ‫الأغنيات الأخرى التي �سنحاول االقرتاب‬ ‫من عاملها‪.‬‬

‫‪ - 2‬يا عود «فريوز»‬

‫ي��اع��ود‪ ،‬هي �أغنية ق�صرية كتبها وحلنها‬ ‫الأخ� � ��وان رح��ب��اين و���ش��دت ب �ه��ا ف�ي�روز‪.‬‬ ‫والالفت للنظر �أنها تغني مب�صاحبة �آلة‬ ‫ال �ع��ود وح��ده��ا‪ ،‬دون �أي �آالت مو�سيقية‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬لتكون الأغنية «عن العود» وحده‪،‬‬ ‫و«بالعود» وحده �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫عبا�سي الطابع‬ ‫والعود يف هذه الأغنية عود‬ ‫ُّ‬

‫كامل ال�شناوي‬

‫�سعيد عقل‬

‫على الأغلب‪ ،‬عود �ألف ليلة وليلة و�أم�سيات‬ ‫ال�سهر والأن�س والكا�سات امل�شع�شعة‪ .‬هو‬ ‫ع��ود «ا�ست�شراقي» �إذا �صح التعبري‪ ،‬يئن‬ ‫فتنبعث يف النف�س ذكريات زم��ن خيايل‪،‬‬ ‫ويتوجع فيم�ضي �إىل �آخر الكون ي�ستح�ضر‬ ‫ق�صور ًا رخامية ونوافري وج��واري تتطاير‬ ‫غالئلهن يف رق�صات مفعمة مبباهج احل�س‬ ‫املتقد‪ .‬تقول كلمات الأغنية‪:‬‬ ‫احكي َع �سهرياتْ‬ ‫ِف ق�صو ْر ك اِّل رخام‬ ‫ونوافيــــــــر‬ ‫وت�شع�شِ ع الكا�ساتْ‬ ‫َع خ�صـــو ْر تتلــوى‬ ‫وحري ِر يطري‬

‫�أج �� �س��اد ب�ضة �شبه ع��اري��ة‪ ،‬م�ط��وي��ة على‬ ‫العود‪ ،‬فيما العيون الغام�ضة مطوية على‬ ‫�أ��س��راره��ا‪ ،‬حمجوبة وراء غالئل الدخان‬ ‫وغ�لائ��ل احل��ري��ر و�أغ�ل�ال �أجنحة احل��رمي‬ ‫ومكائدها التي ال تنتهي دواعيها‪.‬‬ ‫ه��ذا ال�ع��امل امل��زخ��رف حزين م��ن داخله‪،‬‬ ‫وهو معنى عرب عنه ت�صوي ٌر � َّأخاذ للفنانني‬ ‫ال�ع�ب�ق��ري�ين‪ ،‬الأخ��وي��ن رح �ب��اين‪ ،‬ل�صوت‬ ‫العود‪� ...‬إنه يف هذه الأغنية م�سكون بالأمل‪:‬‬

‫مِ �ت�ك��ي ع�ل��ى امل �خ �م� ْ�ل ت�ت��وج� ْع‬

‫�إن� ��ه ع� ��ا ٌمل ن��اع��م‪ ،‬ل�ك�ن��ه يف ع�م�ق��ه مثري‬ ‫ل�ل�أ��س��ى‪ ،‬ت���س��ري يف �أن �غ��ام ع��وده رن��ة �أمل‬ ‫وحزن‪ .‬رمبا هي عبقرية الأخوين رحباين‬ ‫التي تلم�س جوهر احلقيقة‪ ،‬و�إنْ بذكاء فني‬ ‫الأغنية �أق��رب �إىل لوحة �أوروب�ي��ة ر�سمت مذهل‪ ،‬و�إدراك عميق لوحدة روح الأغنية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قبل ب�ضعة ق��رون لل�شرق الفاتن ‪ ،‬حيث وغ�ل�االت ب��ال�غ��ة ال��ره��اف��ة ت��راه��ا الأع�ي�ن‬ ‫الباحثة عما وراء ال�سطوح‪.‬‬ ‫ال�ن�م�ن�م��ات وال�ن�ق��و���ش ال�ثري��ة‪ ،‬تتو�سطها‬ ‫ويف كثافة �شعرية تتبادل فيها احلوا�س‬ ‫�أدوارها‪� ،‬صوت ًا ولون ًا ومل�س ًا وحركة‪ ،‬ي�صف‬ ‫ثمة إلحاح على االرتباط ال�شاعران وجع الأوتار‪ ،‬وجمالها الأ�سيان‪،‬‬ ‫و�أنينها الذاهب �إىل �أقا�صي الوجود‪:‬‬ ‫الوجودي بين نغمات‬ ‫و�صوتك َ‬ ‫ي�ش ِّتي �أقما ْر‬ ‫العود والوصول‬ ‫َ‬ ‫ي�ش ِّتي حال‬ ‫الجمعي إلى نشوة‬ ‫وغيم وزنابق �سو ْد يا عو ْد‬

‫الطرب‬


‫موسيقا‬ ‫‪130‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫العود يف الأغنية �إعالن حب‪ ،‬ت�ستعذبه روح‬ ‫احلبيبة فت�ستعيد نغماته م��رات وم��رات‪،‬‬ ‫وت���س��أل ال �ع��ازف امل�ح��ب اع�تراف � ًا �صريح ًا‬ ‫ب��أن ه��ذه النغمات لها وح��ده��ا‪ ...‬وتطلبها‬ ‫عالية قوية توقظ النائمني‪ ،‬وتُبلغ العامل‬ ‫بحبها‪ .‬العود يف الأغنية خارج عن هدوئه‬ ‫امل �ع �ه��ود‪ ،‬وم �ت �م��رد ع�ل��ى ال�ق�ي��د احل��ري��ري‬ ‫للطرب ال ��وادع‪ ...‬هو ع��و ٌد ه��ادر‪ ،‬ج��ريء‪،‬‬ ‫رن ��ان‪ ،‬واث ��ق‪ ،‬يتحكم يف ع��واط��ف احل�شد‬ ‫امل�أخوذ بطزاجة اللحن و�سخونته‪ ،‬وينفعل‬ ‫به عازفه يف حلظات انخطاف واجن��ذاب‬ ‫حتى لتخ�شى احلبيبة انقطاع الأوتار‪� ...‬إنه‬ ‫عود ال ي�سمح للب�شر �أن يناموا‪ ،‬لأن احلياة‪،‬‬ ‫يف تلك اللحظة املتوهجة لإع�لان الع�شق‪،‬‬ ‫ت�ستحق �أن تعا�ش‪.‬‬

‫‪ - 4‬على عودي «ريا�ض ال�سنباطي»‬

‫هي‪� ،‬إذن‪ ،‬ق�صيدة خماتلة‪ ،‬تعطي نف�سها‬ ‫ل�ك� ِّ�ل متلق على ق��در م��ا مي�ضي يف ك�شف‬ ‫�أ���س��راره��ا‪ ،‬ل�ك��ن ك� � َّل م�ت�ل��ق واج � � ٌد فيها‪،‬‬ ‫بال�ضرورة‪ ،‬ج�م��ا ًال تهيم ب��ه روح��ه‪ ،‬وه��ذا‬ ‫�أحد �أ�سرار عبقرية الثالثي الفني العظيم‬ ‫ال��ذي قدمها‪ :‬ف�ي�روز‪ ،‬وعا�صي ومن�صور‬ ‫الرحباين‪.‬‬

‫‪ - 3‬عودك رنان «فريوز»‬

‫«ع��ودك رن��ان» هي �أح��دث الأغنيات الأربع‬ ‫زمن ًا‪� ،‬ألفها وحلنها الفنان اجلميل زياد‬ ‫الرحباين‪ ،‬بجر�أته املعهوده‪ ،‬ونزقه الفني‬ ‫امل�م �ت��ع‪ ،‬وب�ح�ث��ه ع��ن حل �ظ��ات ال مي�ك��ن �أن‬ ‫تنتمي �إال �إل�ي��ه‪ ،‬وم�ساحات بكر �إن�سانية‬ ‫وعاطفية لي�س ل�سواه �أن يرتاد جماهلها‪.‬‬ ‫«ع��ودك رن��ان» �أغنية تتفجر حياة وحيوية‪،‬‬ ‫وتتج�سد ب�شر ًا لهم �أ�سما�ؤهم ووجودهم‪،‬‬

‫يف ملمح درامي ال تخطئ العني ن�سبته �إىل‬ ‫�صاحبه‪ ...‬دراما ناب�ضة بالدفء‪� ،‬أبطالها‬ ‫ع��ازف م�ستهام‪ ،‬وعا�شقة ن�شوى بر�سائل‬ ‫غ��رام تنقلها الأوت ��ار‪ ...‬وح��وار بني الكلمة‬ ‫والنغمة‪ ،‬بني ال�شفاه والوتر‪.‬‬ ‫ر�سخت قرون من الغناء ا�ستخدام ال�ضمري‬ ‫َّ‬ ‫امل��ذك��ر ح�ين ال �ك�لام ع��ن احل�ب�ي�ب��ة‪ ،‬وح�ين‬ ‫تتكلم احلبيبة �أي�ض ًا‪ .‬لكن اجتماع الب�ساطة‬ ‫واجلر�أة الفنية يطيح هذا التبادل الق�سري‪،‬‬ ‫لت�ستخدم الأغنية ال�ضمري امل�ؤنث وا�ضح ًا‬ ‫و�صريح ًا‪ِ « :‬د ْق َ�ض َّلك ِد ْق ِق ّلي النغْمي ِل ِكي»‪.‬‬ ‫بالب�ساطة نف�سها واجل� ��ر�أة ذات �ه��ا متنح‬ ‫الأغنية العازف العا�شق‪ ،‬املع�شوق �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫«علي» فينه�ض‬ ‫�شهادة وجود‪ ،‬متنحه ا�سم ًا ّ‬ ‫ب�شر ًا �سوي ًا‪ ،‬م�شيع ًا يف الأغنية مناخ ًا من‬ ‫الألفة والقرب‪.‬‬

‫على ع��ودي هي الأغنية الأخ�يرة يف قائمة‬ ‫الأغنيات الأرب��ع التي جنتلي بع�ض �أ�سرار‬ ‫جمالها‪ .‬وعلى الرغم من �أن الأغنية تعود‬ ‫�إىل عام ‪ ،1952‬حني ظهرت �ضمن �أحداث‬ ‫فيلم «حبيب قلبي» الذي لعب بطولته ريا�ض‬ ‫ال�سنباطي‪ ،‬ف�إنني ر�أيت �أن من الأن�سب �أن‬ ‫نقف �أمامها يف خامتة الرحلة‪ ،‬فالعظمة‬ ‫تليق بالنهايات‪ ،‬وجالل اجلمال وهيبته يف‬ ‫هذه الأغنية يجعالن منها التمام الذي ال‬ ‫يتبعه �إال النق�ص‪.‬‬ ‫نحن �أم��ام عمل بالغ الفخامة‪ ،‬ي�ستح�ضر‬ ‫�أج� ��واء الأ� �س��اط�ير وال�ق��د��س�ي��ة‪ ،‬م�ف��ردات��ه‬ ‫ه��ي ال��رك��وع وال�سجود واخل �ل��ود وعرائ�س‬ ‫ال�ف�ك��ر ورب� ��ات الإل� �ه���ام‪ ...‬دن �ي��ا جمبولة‬ ‫م��ن فتنة العابد ومكابدات الفنان وعزلته‬ ‫�وف ال���س�ح��ر ودم� ��و ٌع تعاند‬ ‫ال�ه��ائ�م��ة وط �ي� ِ‬ ‫ال�ع�ي��ون لتن�سكب يف نغمات ال �ع��ود‪« .‬على‬ ‫ع��ودي» هي الأغنية الأط��ول بني الأغنيات‬ ‫الأربع‪ ،‬تتيه مبقدمة مو�سيقية �ساحرة حاملة‬ ‫ي�ؤديها فريق كبري من العازفني‪ ،‬ليطل من‬ ‫ورائها ال�صوت ال�شجي احل�سا�س لريا�ض‬ ‫ال�سنباطي‪ ،‬وتتواىل م�شاهدها ومقاطعها‬ ‫يف ثراء باذخ تتجاوز معه ب�ساطة الأغنيات‬ ‫الثالث ال�سابقة‪� .‬إذا كان جمال الأغنيات‬ ‫الثالث هو جمال احلديقة املزهوة بالربيع‪،‬‬


‫ف�إن �أغنية «على عودي» تكتنز جمال الغابة‬ ‫ال�شا�سعة وروعتها‪.‬‬ ‫تر�سم الأغنية �صورة الفنان الرومانتيكي‬ ‫توحد‬ ‫ك�أ�صفى و�أ�صدق ما تكون‪ ،‬ذلك الذي َّ‬ ‫يف وج��د ��ص��ويف م��ع نغمات ع ��وده‪ ،‬وحتقق‬ ‫فيها وجوده احلق‪ ...‬على العود يكون النوم‬ ‫وال�صحو‪ ،‬والفرح واحل��زن‪ ،‬والدموع التي‬ ‫يحب�سها كربياء الفنان ت�سيل دافئة على‬ ‫الأوتار‪:‬‬ ‫ ‬ ‫دموعي حار ِْمها من عيني‬ ‫و�أب ُد ْرها على عودي‬ ‫وال �ف �ن��ان‪ ،‬ك�ك��ل ال��روم��ان�ت�ي�ك�ي�ين‪ ،‬عا�شق‬ ‫ل�ل�ع��زل��ة‪ ،‬يحيا داخ ��ل ذات ��ه‪ ،‬وي�ق�ي��م كونه‬ ‫اخلا�ص يف قلبه الذي يت�سع للعامل‪ ،‬ولي�س‬ ‫َّثم �إال العود يبوح مبكنون الروح‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ـــا�س فـي دنيته ْم‬ ‫�أ�سـيب الن ْ‬ ‫ُ‬ ‫واخــد نغمي و�أحلـــاين‬ ‫ ‬ ‫وابات �سهرانْ ِف حريته ْم‬ ‫�أنــا والعـــو ْد ووِجداين‬ ‫ه��ذه الأف �ك��ار املحلقة‪ ،‬تكت�سي لغة �أنيقة‬ ‫م�شرقة‪ ،‬مت �صقلها بعناية لتالئم ث��راء‬ ‫ال�شعور وتعدد م�ستوياته يف الأغنية‪� .‬إنها‬ ‫ت� ّ‬ ‫�رق‪ ،‬حينما يريد �شاعرها‪� ،‬إىل �أق�صى‬ ‫حدود الرقة‪:‬‬ ‫ ‬ ‫�شفـــايف نامية وبتحلــ ْم‬ ‫وفوق منها الكالم �صاحي‬ ‫ ‬ ‫ونظرة عني فيها البل�س ْم‬ ‫يقول للعني قومي ارتاحي‬ ‫ترتكنا م�أخوذي اللب بالروعة‪ ،‬متحررين‪-‬‬ ‫ل �ل �ح �ظ��ات‪ -‬م ��ن ق �ي��ود ال ��زم ��ان وامل �ك��ان‬ ‫واجل�سد‪ ،‬هائمني مع نغمات العود الذي‬ ‫جت���س��دت يف �أن �غ��ام��ه م�لام��ح ه��ذا ال�ك��ون‬ ‫ال�سحري الرحيب‪.‬‬

‫دعوة �إىل اجلمال‬

‫�إن هذه القراءة للأغنيات الأرب��ع‪ ،‬حماولة‬ ‫لتف�سري بع�ض جمالياتها املرتبطة بالفكرة‬ ‫ب�شكل �أ�سا�سي‪ ...‬حماولة للك�شف عن جزء‬ ‫من ثرائها‪ ...‬جزء من كنوزها التي رمبا مل‬

‫المقطع األول‬ ‫من أغنية‬ ‫«غنيت على عودي»‬ ‫حفلت بفرح غامر‬ ‫أشيع في كل جوانبها‬ ‫وطابت فيها األماني‬ ‫ودنت‬

‫نكت�شفها بعد‪� .‬إنها قراءة حتاول يف حقيقتها‬ ‫�أن حتفز اجلمهور �إىل التفاعل مع الأغنية‬ ‫بطرق �أخ��رى‪ ،‬فالعمل الفني العظيم تتعدد‬ ‫ر�ؤاه ويتنوع الإح�سا�س به بتعدد املتلقني وتنوع‬

‫عاملهم وحاالتهم الوجدانية وال�شعورية‪� .‬إننا‬ ‫يف كل مرة نعاي�ش فيها العمل الفني العظيم‪،‬‬ ‫نكت�شف مناطق من اجلمال مل نكن قد و�صلنا‬ ‫�إليها بعد‪ ،‬وهذا هو �أق�صى ما حتاول قراءتي‬ ‫للأغنيات الأربع ال�سابقة �أن حت ِّر�ض عليه‪� .‬إن‬ ‫قراءتي يف حقيقتها دعوة �إىل �سماع الأغنيات‬ ‫الأربع من جديد‪.‬‬ ‫و�أخري ًا‪ ،‬ف�إن هذه القراءة للأفكار والكلمات‪،‬‬ ‫رمب��ا تكون يف حاجة �إىل ق ��راءة مو�سيقية‬ ‫موازية‪ ،‬تك�شف جماليات اللحن واملو�سيقى‪،‬‬ ‫وعبقرية املو�سيقيني واملغنني الذين �أهدونا‬ ‫هذا الرتاث العظيم‪ ،‬وما �أكرث امل�ؤهلني لذلك‬ ‫يف عاملنا العربي العا�شق ملو�سيقاه الأ�صيلة‬


‫مسرح‬ ‫‪132‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫البطل الرتاجيدي امل�سلم منوذج ًا‬

‫من خمطوطة م�آ�ساة احلالج‬

‫شفرات التراث‬ ‫في النقد المسرحي‬ ‫د‪ .‬عالء اجلابري‬ ‫«�أريد �أن تهب ثقافات كل الأرا�ضي مبحاذاة منزيل‪ ،‬وبكل حرية‪ ،‬لكني �أرف�ض �أن �أنقلب بهبوب �أي واحدة‬ ‫منها»‪..‬غاندي‬ ‫ح�صى من الألوان‪ .‬قطعة ف�سي�سفاء يبدو جمالها تبعا‬ ‫يبدو الن�ص النقدي ككرة زجاجية تعك�س ما ال ُي َ‬ ‫لزاوية النظر‪ ،‬ورمبا يجوز لنا �أن نركز على درا�سة ملمح من اخلطاب النقدي‪ ،‬ال يف م�ستوى �صدقه؛‬ ‫فذلك معيار �أخالقي خارج احل�ساب‪ ،‬وال يف م�ستوى �صحته‪ ،‬برغم كونه معياراً مو�ضوعياً‪ ،‬ولكن يف م�ستوى‬ ‫ات�ساقه مع ملمح التمايز؛ فالنقد‪�-‬أحيانا‪ -‬فرع من اخل�صو�صية ولي�س �أ�ص ً‬ ‫ال للتقريرية والنمطية ‪.‬‬


‫حت��اول ال�سطور التالية البحث عن ح�ضور‬ ‫ال���ش�ف��رات الثقافية امل�م�ي��زة يف اخل�ط��اب‬ ‫النقدي‪ ،‬لنت�ساءل هل �ساهم جتمد النقد عند‬ ‫الأخ��ذ يف عدم تطور الفن امل�سرحي تطور ًا‬ ‫ملمو�س ًا؟ �أم �أن اتكاء اخلطاب النقدي على‬ ‫تكوين حلمته و�سداته من «مو�ضوعه»‪ ،‬دون‬ ‫كبري اعتبار للخطابات الإن�سانية املتعددة‬ ‫التي تتداخل مع املكونات املجتمعية �سبب‬ ‫�آخر‪ ،‬ذلك �أنها ت�شكل حدود املمار�سة النقدية‬ ‫وتنظم قنواتها املختلفة؟‬

‫النقد كن�ص جمتمعي‬

‫�إن الن�ص ال�ن�ق��دي‪ -‬مهما اع�ت�برن��اه بنية‬ ‫فردية– يكتمل يف بنية جمتمعية كاملة‪ ،‬رمبا‬ ‫–على الأقل– بو�صفه ن�شاط ًا �إن�ساني ًا‪.‬‬ ‫جماراة لياكب�سون الذي يرى �أن بويطيقا عهد‬ ‫�أو فرتة ما‪ ،‬قد ي�سيطر عليها عن�صر غالب‬ ‫م�شتق من ن�سق غري �أدب��ي‪ ،‬فالأمر ذات��ه قد‬ ‫ين�سحب على النقد بتوجهات الفرتة و�سيطرة‬ ‫توجهات فكرية – ت�ؤثر يف النقد �أك�ثر من‬ ‫الإبداع الذي حتكمه الفردية– وكذا ت�ؤثرغلبة‬ ‫�أفكار بعينها على ثراء الت�أمل‪ ،‬وتقم�ص روح‬ ‫الأدب؛ فان�سالخ النقد عن الن�ص وروحه رمبا‬ ‫و�صل حد اال�ستحالة‪.‬‬ ‫و�إذا كان املمثل الذي ي�ؤدي دور ًا ما‪ ،‬يتقم�ص‬ ‫فيه روح �شخ�ص من ح�ضارة �أخ��رى يحتاج‬ ‫�إىل درا�سة ال�سمات املميزة لتلك احل�ضارة‬ ‫كي يكون مقنع ًا ومقبو ًال‪ ،‬وجماري ًا روح الن�ص‬ ‫واملتلقني‪ ،‬فالأمر على التقعيد النقدي ‪-‬الأكرث‬ ‫دميومة‪ -‬رمبا كان �أكرث ح�ضور ًا وبروز ًا ‪.‬‬ ‫ب��ارت – مثال – بعد �أن زار اليابان ثالث‬ ‫م��رات نظر �إليها على �أنها ن�ص‪ ،‬ومن واقع‬ ‫ق��راءت��ه ل�ه��ذا الن�ص �أ� �ص��در ك�ت��اب� ًا بعنوان‬ ‫«�إمرباطورية العالمات»‪ ،‬وكان الكتاب لدى‬ ‫املفكرين اليابانيني «كتاب ًا �صادم ًا»؛ لأنها‬ ‫قراءة من خارج الثقافة ل�صلب ثقافة �أخرى‪.‬‬ ‫�إن روح الن�ص جزء من روح الثقافة‪.‬‬

‫ولكن الأمر لي�س على �إطالقه؛ فبع�ض الأفكار‬ ‫خا�ص مبجتمع دون غريه‪ ،‬متام ًا كالإمياءات‬ ‫وال � ُع��رف ول�غ��ة اجل���س��د‪ ،‬وال �ت��ي تتمايز من‬ ‫جمتمع لآخ��ر يف بع�ض الأم��ور‪� .‬إن املنظومة‬ ‫املرجعية ال�ت��ي متيز جمتمع ًا م��ا يجب �أن‬ ‫تكون حا�ضرة بالفعل– ف�ض ًال عن ح�ضورها‬ ‫بالقوة – يف ت�شكيل مناحي الن�شاط الإن�ساين‬ ‫و�أبرزها الأدب و أ�م��وره‪ .‬وكما يحمل الإن�سان‬ ‫معه – �شاء �أم ك��ره – تاريخه فهو يحمل‬ ‫ثقافته وفكره‪ ،‬وكما يقول عابد اجلابري �إن‬ ‫هناك يف الع�صر احلا�ضر قاعدة «عرفية»‬ ‫تتحدد مبوجبها «اجلن�سية الثقافية» لكل‬ ‫مفكر‪ ،‬ه��ذه القاعدة تقت�ضي �أن املثقف ال‬ ‫ين�سب �إىل ثقافة معينة �إال �إذا ك��ان يفكر‬ ‫داخلها‪ .‬والتفكري داخل ثقافة معينة ال يعني‬ ‫التفكري يف ق�ضاياها‪ ،‬بل التفكري بوا�سطتها‪.‬‬ ‫ول �ع��ل التفكري ب��وا��س�ط��ة ال�ث�ق��اف��ة العربية‬ ‫يقت�ضي ح�ضور ًا –�أو اعتبار ًا– لبع�ض الأمور‬

‫انسقنا وراء مقوالت‬ ‫وأحكام جاهزة وكما‬ ‫استوردنا فن المسرح‬ ‫آثرنا السالمة فأردنا شراء‬ ‫خ�صو�صية املجتمعات‬ ‫�إننا ال نعادي نقل �أفكار غرينا �أو الت�أثر بها‪ ،‬الصفقة كاملة فكان‬ ‫استيراد النقد المسرحي‬

‫الأ�سا�سية التي ارت�أى البحث �إغفال بع�ضها يف‬ ‫ثنايا الأمور النقدية ‪.‬‬

‫�إ�شكالية الأحكام اجلاهزة‬

‫ي�ستح�ضر النقد ك�ث�ير ًا م��ن الق�ضايا التي‬ ‫تربز �إ�شكالياتها يف منا�سبات �شتى‪ ،‬ال مكان‬ ‫فيها للكلمة الف�صل‪ ،‬ولكن جتمد «تناولها»‬ ‫عند �أحكام جاهزة‪ ،‬و�صلت لدى البع�ض �إىل‬ ‫درج��ة القدا�سة‪ .‬ن�ضرب مثال هنا بق�ضية‬ ‫تعيد طرح نف�سها بني حني و�آخر‪ ،‬نعني البطل‬ ‫الرتاجيدي امل�سلم‪� ،‬أو الذي يرى اجلنة ثواب ًا‬ ‫ل��ه‪ ،‬ويدخل يف �صراع حمتوم منذ البداية‪،‬‬ ‫ويطلب اجلنة يف الآخ ��رة‪ ،‬ولي�س ال�ف��وز يف‬ ‫الدنيا �أو العمل الدرامي املاثل‪ .‬ورمبا كانت‬ ‫نقطة �أ�سا�سية يف تناول م�سرحيات من مثل‬ ‫«احل �ل�اج»؛ فقد ي�صل البع�ض يف تناولها‬ ‫بو�صفها حمك ًا الختبار م�صداقية اعتبار‬ ‫مثل هذا العمل عم ًال تراجيدي ًا من الأ�سا�س‬ ‫�أم يجب – طبق ًا الجت��اه ما– احلكم على‬ ‫ه��ذا العمل و«�أم�ث��ال��ه» بالنفي خ��ارج دائ��رة‬ ‫الرتاجيديا‪ ،‬ونعني بـ«�أمثاله» تلك الأعمال‬ ‫ال�ت��ي يت�صدر فيها بطل ذو ق�ضية دينية‬ ‫عم ًال م�سرحي ًا‪ ،‬بحيث يكون باعثه الديني‬ ‫�أ��س��ا���س لق�ضيته‪ ،‬وي�ك��ون ال �ث��واب الأخ ��روي‬ ‫ن�صب عينه‪ .‬و�إذا كنا –كما �سيت�ضح– نرى‬ ‫�أ�سا�س الرف�ض لدى الراف�ضني غياب الوعي‬


‫مسرح‬ ‫‪134‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫حممد عابد اجلابري‬

‫عبد ال�سالم امل�سدي‬

‫علي الراعي‬

‫باخل�صو�صية الثقافية العربية‪ ،‬وبداهة متاهي‬ ‫النقد واملجتمع‪ ،‬ف�إننا ال نخفي كذلك «غمز»‬ ‫النقد الذي مل يكتف بالتزام موقع رد الفعل‬ ‫لالجتاهات الإب��داع�ي��ة‪ ،‬حتى �صار ‪-‬بتعبري‬ ‫الدكتور عبد ال�سالم امل�سدي‪�« -‬سجني الأخذ»‬ ‫كما قد يت�ضح من هذه الق�ضية ذات الداللة‬ ‫على �شفرة ثقافية غائبة عن النقد امل�سرحي ‪.‬‬

‫إن الوعي بطبيعة‬ ‫العقلية المختلفة‬ ‫يفرض علينا أن نتوقع‬ ‫بط ً‬ ‫ال مختلف ًا ال يتحتم أن‬ ‫يكون صراعه األساسي‬ ‫مع السماء‬

‫فيه ال�سماء على الأر���ض‪ ،‬وتر�سم اخلطوط‬ ‫العري�ضة مل�سار حياتهم‪ ،‬تاركة لهم الت�صرف‬ ‫يف معظم الأم ��ور‪ ،‬وبرغم ذل��ك تلعب ال��دور‬ ‫الأ�سا�سي فيها دون �أن ي�صري الفرد جمرد‬ ‫لعبة يف يد القدر‪ ،‬ويكون الإن�سان– يف الوقت‬ ‫ذاته– قانع ًا مبا يفعله‪ ،‬وهذه الإ�شكالية توفر‬ ‫للعمل قدر ًا من التوتر‪� ،‬أو التنافر‪ ،‬بني املعي�ش‬ ‫واملثايل‪ ،‬وبني �أوام��ر ال�سماء ورغبات الب�شر‬ ‫بني الواقع والطموح املالئكي‪ ،‬مما يزيد من‬ ‫عدم الهارمونية يف م�سار ال�شخ�صية التي –‬ ‫عادة – ما يجنح �إىل الرتدد �أو النفور الكلي‪،‬‬ ‫وهو ما ينفي التوجه الأحادي للحدث‪ ،‬و يوفر‬ ‫لل�شخ�صية جال ًال تراجيدي ًا عميق ًا حني يرى‬ ‫نظام الكون ال ي�سري وفق عقيدته‪ ،‬مما يحدث‬ ‫به �صدع ًا من ن��وع م��ا‪ ،‬ال ي�صل �إىل الإحل��اد‬ ‫�أو التمرد‪ ،‬ولكنه ميزق ال��ذات‪� .‬إن��ه نوع من‬ ‫ا�ستبطان املعتقدات ومراجعتها على حم ّكات‬ ‫احل��وار والواقع والأر���ض بعيد ًا عن التلقني‪،‬‬ ‫واملثايل‪ ،‬وال�سماوي ‪.‬‬

‫مفهوم جديد للم�أ�ساة‬ ‫فكان ا�سترياد النقد امل�سرحي‪ ،‬ويف غمرة‬ ‫ال تريد ه��ذه ال�سطور �أن تنت�صر لدين على رك�ض النقد ب�صفة عامة– والنقد امل�سرحي‬ ‫ح�ساب �آخ ��ر‪� ،‬أو ب�ي��ان م��دى �صالحية كون ب�صفة خا�صة– وراء الأخ���ذ ال التفاعل‪،‬‬ ‫البطل الرتاجيدي م�سلم ًا‪� ،‬أو اختبار �أهليته ويف فورة التبعية الثقافية‪ ،‬مل نفطن �إىل �أن‬ ‫ل��ذل��ك؛ ف��أغ�ل��ب ال�ظ��ن �أن راف���ض��ي امل�سحة ب�إمكاننا– ف�ضال وعن وجوبه علينا– تقدمي‬ ‫الدينية للبطل الرتاجيدي يت�ساوى لديهم مفهوم ج��دي��د ل�ل�م��أ��س��اة‪ ،‬مفهوم ينبع من‬ ‫امل�سلم وغريه‪ ،‬كما حدث يف تناول «ريت�شاردز» ثقافتنا العربية الإ�سالمية‪ ،‬ومن خ�صو�صياتها‬ ‫لهذه الق�ضية؛ فر�أى �أن �أقل م�سحة دينية يف الثقافية والفكرية‪ ،‬مفهوم خا�ص‪ .‬ال ليتماهى‬ ‫امل�سرحية من تلك الأدي��ان التي تقدم اجلنة م��ع مفهومات «الآخ��ري��ن» للم�أ�ساة‪ ،‬ولكن‬ ‫للبطل الرتاجيدي تعوي�ض ًا له تكون مدمرة ليناق�ضه‪� ،‬أو ليحل حمله‪ ،‬بحيث يكون اخلالف‬ ‫للأثر الرتاجيدي ‪.‬‬ ‫فيه بني ال�سماء والب�شر‪� ،‬أو العقل والنقل طبق ًا‬ ‫لقد ان�سقنا وراء مقوالت و�أحكام جاهزة‪ ،‬للم�صطلح الإ�سالمي‪ ،‬خا�ص ًا بالفهم والت�أويل‪،‬‬ ‫وكما ا�ستوردنا – �إال قلي ًال – ف��ن امل�سرح دون قدرية لي�ست من الإ�سالم‪ ،‬وال ميتد �إىل بطل خمتلف‬ ‫�آثرنا ال�سالمة ف�أردنا �شراء ال�صفقة كاملة‪ ،‬قبول �أوامر ال�سماء �أو رف�ضها‪ ،‬مفهوم تهيمن �إن ال��وع��ي بطبيعة العقلية املختلفة‪ ،‬والتي‬ ‫يتبلور يف ظلها املبدعون العرب‪ ،‬يفر�ض علينا‬ ‫مواءمة الواقع احل�ضاري‬ ‫�أن نتوقع بط ًال خمتلف ًا‪ ،‬بطل ال يتحتم – يف‬ ‫�إطار هذه اخللفية البديهية– �أن يكون �صراعه‬ ‫�إن ال��وع��ي بطبيعة العقلية املختلفة‪ ،‬وال�ت��ي يتبلور يف ظلها املبدعون‬ ‫الأ�سا�سي مع ال�سماء‪ .‬يجب �أن نتقبل �أبطالنا‬ ‫العرب‪ ،‬يفر�ض علينا �أن نتوقع بط ً‬ ‫ال خمتلفاً‪ ،‬بطل ال يتحتم – يف �إطار‬ ‫يف �إطارنا نحن «فرناه �شهيدا‪ ،‬ال منتحرا �أو‬ ‫هذه اخللفية البديهية– �أن يكون �صراعه الأ�سا�سي مع ال�سماء‪ .‬يجب �أن‬ ‫�إره��اب�ي��ا» ال يف �إط��ار غرينا‪ ،‬و�أن نالئم بني‬ ‫نتقبل �أبطالنا يف �إطارنا نحن «فرناه �شهيداً‪ ،‬ال منتحراً �أو �إرهابياً» ال يف‬ ‫البطل الرتاجيدي –وهو منا– وب�ين واقعه‬ ‫�إطار غرينا‪ ،‬و�أن نالئم بني البطل الرتاجيدي –وهو منا– وبني واقعه‬ ‫احل�ضاري و خلفياته الثقافية ‪.‬‬


‫روالن بارت‬

‫ياكب�سون‬

‫ميجيل دي �أونامونو‬

‫احل�ضاري و خلفياته الثقافية ‪.‬‬ ‫يف امل�آ�سي اليونانية‪ ،‬تكون املعرفة «كما يف‬ ‫حالة �أوديب» مدمرة للبطل‪ ،‬وممثلة لنهايته‪،‬‬ ‫فيما تكون املعرفة املنرية لدى البطل امل�سلم‬ ‫«�أو على وج��ه �أدق �صاحب الق�ضية ذات‬ ‫اخللفية الدينية» ب��داي��ة للجوهر احلقيقي‬ ‫ل�صراعه «كما فعل احلالج حني وعي طبيعة‬ ‫ال�صراع فخلع خرقته‪ ،‬ومن ثم بد�أت م�أ�ساته»‬ ‫لينتقل ال�صراع م��ن ال�سماء �إىل الأر���ض‪.‬‬ ‫�إن هذا التغري يف مفهوم امل�أ�ساة هو متايز‬ ‫�إن�ساين‪ ،‬واكت�ساب ح�ضاري يف جوهره‪ ،‬قد‬ ‫يرف�ضه البع�ض ملجرد امل�سحة الدينية متام ًا‬ ‫كما رف�ضوا ت��ردد احل�لاج بينما قبلوا تردد‬ ‫«هاملت»‪ ،‬واجتهدوا يف تربيره وت�سويغه‪� .‬إن‬ ‫التمايز بني البطل الرتاجيدي امل�سلم وغريه‬ ‫نتاج طبيعي ملناخ �آخر‪.‬‬ ‫و�إذا ت�ساءل البع�ض عن الأث��ر الرتاجيدي‬ ‫مل�أ�ساة –�إذا �سلموا باعتبارها كذلك – يعرف‬ ‫بطلها منذ بدايتها م��ا ه��و �صائر �إل�ي��ه من‬ ‫م�صري حمتوم‪ ،‬جاز لنا �أن نرى مع الدكتور‬ ‫علي الراعي �أنه يبقى للم�أ�ساة ذلك ال�شعور‬ ‫املم�ض امل�ؤ�سي‪ ،‬الذي ي�شعر به بطل امل�أ�ساة‪،‬‬ ‫وهو مقدم على �إلقاء نف�سه �إىل الآتون‪ ،‬ال�شعور‬ ‫ال��ذي يقول واه � ًا للإن�سانية‪ ،‬ما كان �أغنانا‬ ‫جميعا عن هذا القتال لو �أن اخلري يقرر له‬ ‫الن�صر‪� ،‬أو لو �أن �أن�صار ال�شر يرجعون عن‬ ‫غيهم «امل�سرح يف الوطن العربي ‪ ،»166 :‬هذا‬ ‫مع وعينا الكامل ب�أنه لي�س من ال�ضروري �أن‬ ‫يرتادف املوت وامل�أ�ساة‪ ،‬ولكنه –املوت– �أحد‬

‫التغير في مفهوم‬ ‫المأساة تمايز حضاري‬ ‫قد يرفضه البعض‬ ‫لمجرد المسحة الدينية‬ ‫كما رفضوا تردد‬ ‫«الحالج» بينما قبلوا تردد‬ ‫«هاملت»‬

‫ك��ان معاد ًال الختيار ال�شخ�صيات املقموعة‬ ‫واملقهورة واملهم�شة يف التاريخ العربي‪ ،‬والتي‬ ‫�أهملها التاريخ الر�سمي ‪ /‬خطاب ال�سلطة‬ ‫‪ ،‬ليبد�أ تزييف تاريخ الوطن بتزييف تاريخ‬ ‫�أف � ��راده‪ ،‬ف�ي�ك��ون �سعى احل�ل�اج �إىل حتفه‬ ‫–بغ�ض النظر عن ك��ون اجلنة م�صريه–‬ ‫يعادل �سعي �صاحب ق�ضية ما �إىل حقيقة‬ ‫عدل اجتماعي يت�صوره‪،‬‬ ‫يبحث عنها‪� ،‬أو �إىل ٍ‬ ‫طاملا �أن��ه ال ي��رى طريقا �آخ��ر‪ ،‬ومل ُي� َت��ح له‬ ‫غريه بعد ما اختاره‪ .‬الأم��ر ذات��ه ين�سحب‬ ‫على «احل�سني» يف حربه غ�ير املتكافئة‪،‬‬ ‫واملح�سومة نتيجتها قبل البداية‪ ،‬وكذلك‬ ‫يف «غ�ي�لان الدم�شقي»‪ ،‬يف ��ص��راع��ه بني‬ ‫ال�ق��دري��ة ال�ت��ي ات�خ��ذه��ا الأم��وي��ون و�سيلة‬ ‫لتع�ضيد ملكهم‪ ،‬وبني االختيار الذي يدعو‬ ‫له «غيالن الدم�شقي» �أو «غيالن القدري»‪.‬‬ ‫�إن ال�صراع وهو جوهر الرتاجيديا‪ ،‬وطبقا‬ ‫ل�شرتاو�س‪ ،‬فال�صراع ال ميثل فقط قلب العملية‬ ‫امل�سرحية‪ ،‬ب��ل ي�شكل �أ�سا�س ك��ل الأن�شطة‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬وهو ر�ؤية للعامل ت�ستند �إىل الإميان‬ ‫واليقني يف مبد�أ ما‪ ،‬واحلل ال يكمن‪ ،‬كما يرى‬ ‫«�أونامونو»‪ ،‬يف انت�صار �أحدهما على الآخر‬ ‫و�إمن��ا يف احلفاظ على ه��ذا ال�صراع قائما‬ ‫دون مهادنة ‪.‬‬ ‫ال يجب �أن يكون هناك �أ�سف �أو حزن حقيقيني‬ ‫على الأب�ط��ال الرتاجيديني ال�شهداء‪ ،‬حيث‬ ‫�أنهم �سيكونون مو�ضع العطف وال�شفقة �إذا ما‬ ‫بقوا �أحياء‬

‫مظاهرها‪ ،‬وه��ذا احل��زن اجلليل رمب��ا كان‬ ‫جوهر امل�أ�ساة‪ ،‬و خا�صة �إذا نتج عن مت�سك‬ ‫مببد�أ م�ستحق ي�ست�أهل الت�ضحية يف �سبيله‪ ،‬و‬ ‫يحارب يف �سبيله كل بطل حتى باملعنى الذي‬ ‫يفهمه �أوالد البلد‪ ،‬دون �أ�صحاب الياقات‬ ‫املن�شاة‪ .‬و�إذا ك��ان امل��وت ‪ /‬ال�شهادة متثل‬ ‫هزمية الفرد الوقتية فانه انت�صار رائع للمبد�أ‬ ‫الذي هو ر�أ�س الأمر كله‪ ،‬ومعنى اال�ست�شهاد‬ ‫يعجز عن فهمه من مل يولد فيه و ي�ؤمن به‬ ‫ويتمثله‪ ،‬وي�صري داخ ًال يف ذاته الناقدة ‪.‬‬

‫احلالج مثال للمهم�شني‬

‫�إن اخ �ت �ي��ار احل�ل�اج ع�ل��ى �سبيل امل �ث��ال –‬

‫في المآسي اليونانية‬ ‫تكون المعرفة مدمرة‬ ‫للبطل وممثلة لنهايته‬ ‫فيما تكون بداية للجوهر‬ ‫الحقيقي لصراع البطل‬ ‫المسلم‬


‫دراما‬ ‫‪136‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫مخرج بدرجة مناضل‬

‫إسماعيل عبد الحافظ‬ ‫القاهرة‪ -‬حممد ال�سيد عيد‬ ‫ظهر التلفزيون امل�صري للوجود يف يوليو عام ‪1960‬م‪ ،‬وقبل ظهوره الر�سمي كان‬ ‫هناك بث جتريبي‪ ،‬وكان من املواد التي بثها خالل فرتة التجريب �أعمال درامية منها‬ ‫‪«:‬م�شاكل فتلة»‪ ،‬و«الفر�سان الثالثة» الذي كتبه ومثله عبد املنعم مدبويل‪ ،‬وكانت‬ ‫هذه الأعمال من �إخراج روبري �صايغ‪ ،‬الذى در�س الإخراج التلفزيوين يف باري�س‪ .‬وهذا‬ ‫معناه بب�ساطة‪� :‬أن الدراما كانت جزءاً من مكونات التلفزيون امل�صري منذ ن�ش�أته ‪.‬‬


‫واحلقيقة �أن التلفزيون امل�صري مل يبد�أ يف‬ ‫�صناعة الدراما من فراغ‪ ،‬فقد �سبقته جتربة‬ ‫م�صرية طويلة م��ع ف��ن ال�سينما‪ ،‬وه��و فن‬ ‫يعتمد �أي�ض ًا علي الدراما امل�صورة ‪ .‬وخالل‬ ‫م�سرية ال�سينما �صار لدى م�صر جمموعة من‬ ‫الكتاب‪ ،‬وخمرجي ال�سينما‪ ،‬وفنيي الإ�ضاءة‪،‬‬ ‫والت�صوير‪ ،‬والديكور‪ ،‬واملاكياج‪ ،‬واملالب�س‪،‬‬ ‫وغريها من عنا�صر العملية ال�سينمائية التي‬ ‫ميكن �أن يعتمد عليها التلفزيون الوليد يف‬ ‫بداية حياته‪.‬‬ ‫ل�ك��ن ك��ان ه �ن��اك � �ش��يء ج��دي��د ب ��د�أ ال�ع��امل‬ ‫ي�ستخدمه غ�ير ال�شريط ال�سينمائي‪ ،‬وهو‬ ‫ال�ف�ي��دي��و‪ ،‬وق���ررت م�صر �أن ت��دخ��ل جم��ال‬ ‫الفيديو‪ .‬و�أر�سلت ال�شباب يف بعثات لدرا�سته‪.‬‬ ‫كما ان���ش��أت معهد ًا للتدريب التلفزيوين‪،‬‬ ‫وال��ش��ك �أن ه��ذا كله �أ�سهم يف ح��ل م�شكلة‬ ‫العنا�صر الفنية التي يحتاجها التلفزيون‬ ‫امل�صري البازغ‪.‬‬ ‫ويقول تاريخ التلفزيون �إن��ه كان هناك جيل‬ ‫�أول من املخرجني امل�ؤ�س�سني‪� ،‬أهمهم‪ :‬نور‬ ‫ال��دم��ردا���ش‪ ،‬اب��راه �ي��م ال���ص�ح��ن‪ ،‬يو�سف‬ ‫م��رزوق‪ ،‬فايز حجاب‪ ،‬حماده عبد الوهاب‪،‬‬ ‫�أحمد عثمان‪ ،‬عمر بدر الدين‪.‬‬ ‫بعد هذا اجليل جاء جيل �آخر‪ ،‬تعلم علي �أيدى‬ ‫�سابقيه‪ ،‬وبع�ضهم �سافر يف بعثات خارجية‬ ‫لدرا�سة الإخ��راج‪ ،‬ومن هذا اجليل اجلديد‪:‬‬ ‫يحيى العلمي‪ ،‬حممد فا�ضل‪� ،‬إنعام حممد‬ ‫علي‪ ،‬علية يا�سني‪ ،‬علوية زكي‪ ،‬جميدة جنم‪،‬‬ ‫ابراهيم ال�شقنقريي‪ ،‬وجيه ال�شناوي‪� ،‬سامي‬ ‫حممد علي‪ ،‬فخر ال��دي��ن ��ص�لاح‪ ،‬عبد اهلل‬ ‫ال�شيخ‪.‬‬ ‫ومنهم كذلك‪ ،‬ا�سماعيل عبد احلافظ‪ ،‬الذي‬ ‫غيبه املوت عن عاملنا �أخري ًا‪� ،‬إنه �أحد �أعالم‬ ‫اجليل ال�ث��اين م��ن رواد الإخ���راج ال��درام��ي‬ ‫التلفزيوين ال يف م�صر وحدها بل يف الوطن‬ ‫العربي كله‪.‬‬ ‫ولد ا�سماعيل عبد احلافظ يف قرية اخلادمية‬ ‫مبحافظة كفر ال�شيخ‪ ،‬يف ‪ 15‬مار�س ‪1941‬م‪،‬‬ ‫والتحق بكلية الآداب جامعة ع�ين �شم�س‪،‬‬ ‫ودر�س بق�سم اللغات ال�شرقية‪ ،‬وكان ترتيبه‬ ‫الأول علي دفعته «دفعة ‪1963‬م»‪ ،‬مما �أعطاه‬

‫أعماله مع عكاشة‬ ‫رصدت التاريخ االجتماعي‬ ‫والسياسي لمصر‬ ‫وتصلح وثيقة للتأريخ‬ ‫للمجتمع المصري خالل‬ ‫المئة سنة الماضية‬ ‫احلق يف �أن يكون معيد ًا باجلامعة‪� ،‬إال �أنه‬ ‫ف�ضل �أن يعمل بالإخراج‪� ،‬إذ حلم ب�أن يكون‬ ‫خمرج ًا تلفزيوني ًا ‪.‬‬ ‫�أثناء وجود ا�سماعيل يف �آداب عني �شم�س كان‬ ‫هناك زميل �آخر‪ ،‬بلدياته‪ ،‬يدر�س معه يف نف�س‬ ‫الكلية‪ ،‬لكن يف ق�سم االجتماع‪ ،‬و�شاء لهما القدر‬ ‫�أن يرتبطا ببع�ضهما بعد ذل��ك طوي ًال‪ ،‬هذا‬ ‫الزميل ال�شاب هو الكاتب �أ�سامة �أنور عكا�شة‪.‬‬ ‫وقبل �أن نوا�صل م�سريتنا مع ا�سماعيل عبد‬ ‫احلافظ البد �أن نتوقف عند املحافظة التي‬ ‫ينتمي �إليها‪ ،‬وهي حمافظة كفر ال�شيخ ‪ .‬هذه‬ ‫املحافظة قبل ثورة يوليو �شهدت تفاوت ًا طبقي ًا‬ ‫ح��اد ًا‪ ،‬ك��ان الغني فيها غني ًا‪ ،‬وك��ان الفقري‬ ‫فيها معدم ًا‪ .‬وه��ذا التفاوت الطبقي �أف��رز‬ ‫بعد ثورة يوليو تيار ًا ي�ساري ًا قوي ًا بني مثقفي‬ ‫املحافظة‪ ،‬ورغ��م �أن ث��ورة يوليو كانت ترفع‬ ‫راية اال�شرتاكية �إال �أن التيارات الي�سارية يف‬ ‫كفر ال�شيخ كانت ت�سبب لها ازعاج ًا كبري ًا ‪.‬‬ ‫املهم �أن مثقفي كفر ال�شيخ كانوا غالب ًا من‬ ‫�أن�صار اال�شرتاكية‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪،‬‬ ‫وتقريب التفاوت بني الطبقات‪ ،‬وغري ذلك‬ ‫من الأفكار التي تقف �إيل جوار الفقراء من‬ ‫�أبناء الوطن ‪.‬‬ ‫وعادة يرتبط الإميان بهذه الأفكار بنوع حمدد‬ ‫من الفن‪ ،‬وهو الفن امللتزم بق�ضايا املجتمع ‪.‬‬ ‫و�أذكر �أنه كان معي يف كلية �آداب ا�سكندرية‬ ‫�شاعر من كفر ال�شيخ كان اليكف عن قوله‬

‫تراث عبد الحافظ في‬ ‫حاجة لرسائل علمية‬ ‫تقف عند أعماله الفنية‬ ‫لتبين رؤيته لكل عنصر‬ ‫من عناصر اإلخراج ودوره‬ ‫في البناء الفني‬

‫‪« :‬احلديث عن الأ�شجار خيانة»‪ ،‬فااللتزام‬ ‫�أهم من االهتمام بجمال الطبيعة وما �شابهها‬ ‫من مو�ضوعات‪ .‬بل �إن ه��ذا ال�شاعر الذى‬ ‫ينتمي لكفر ال�شيخ كان يرى �أن �أحمد �شوقي‬ ‫لي�س �شاعر ًا‪ ،‬لأن مقيا�س ال�شاعرية عنده هو‬ ‫االلتزام بق�ضايا املجتمع‪ ،‬والن�ضال الطبقي‪،‬‬ ‫والدفاع عن الربوليتاريا ‪.‬‬ ‫مل يكن ك��ل الي�ساريني املنت�سبني �إيل كفر‬ ‫ال�شيخ بهذه احلدة‪ ،‬لكن كان بينهم املعتدلون‪،‬‬ ‫ال��ذي��ن �آم �ن��وا بالفن امل�ل�ت��زم دون �شطط‪،‬‬ ‫و�أبدعوا �أعمالهم الرائعة يف ظل هذا املفهوم‪،‬‬ ‫ومن ه�ؤالء الفنانني ا�سماعيل عبد احلافظ‪.‬‬ ‫ي�ق��ول ا�سماعيل عبد احل��اف��ظ ع��ن نف�سه‪:‬‬ ‫«الق�ضايا بالن�سبة يل حم�سوبة بداخلي‪� ،‬أنا‬ ‫مع الإن�سان امل�صري وم��ع �آماله وتطلعاته‪.‬‬ ‫الأ�شكال قد تختلف ولكن امل�ضمون هو هو‪،‬‬ ‫وحني �أختار عم ًال ما فالبد �أن يكون متفق ًا مع‬ ‫قناعاتي و�أ�سعي بد�أب لكي �أ�ؤكد وجهة نظري‬ ‫يف ق�ضايا وهموم امل��واط��ن‪ ،‬ق�ضايا التحرر‬ ‫الوطني»‪ .‬وال�شك �أن هذا االلتزام هو �سبب‬ ‫كل املعارك التي خا�ضها خمرجنا الكبري‪،‬‬ ‫وهي �سبب مهم من �أ�سباب متيزه‪ ،‬كم �أنها‬ ‫يف ر�أي��ي‪ -‬من �أه��م الأ�سباب التي جمعت‬‫بني ا�سماعيل عبد احلافظ وم�ؤلفيه �أ�صحاب‬ ‫وجهات النظر اجلريئة‪ ،‬القادرين على فهم‬ ‫وحتليل ونقد الواقع‪� ،‬أمثال‪ :‬جالل الغزايل‪،‬‬ ‫وفتحية الع�سال‪ ،‬وي�سري اجلندي‪ ،‬و�أ�سامة‬ ‫�أنور عكا�شة ‪.‬‬

‫نقطة البداية‬

‫بد�أ ا�سماعيل حياته الفنية عام ‪1964‬م‪ ،‬بعد‬ ‫تعيينه بالتلفزيون‪ ،‬وج��اء تعيينه يف مراقبة‬ ‫الأطفال‪ ،‬ورغم �أن العمل يف الأطفال مل يكن‬ ‫همه الأول �إال �أنه تعرف يف هذه الإدارة علي‬


‫دراما‬ ‫‪138‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫�أ�سامة �أنور عكا�شة‬

‫ي�رسي اجلندي‬

‫االلتزام هو سبب كل‬ ‫المعارك التي خاضها‬ ‫عبد الحافظ ولكنه سبب‬ ‫مهم من أسباب تميزه‬

‫فتحية الع�سال‬

‫رجل �أثر ت�أثري ًا مهم ًا يف حياته‪ ،‬هذا الرجل‬ ‫هو املخرج �أحمد عثمان ‪ .‬يقول ا�سماعيل عن‬ ‫علي‬ ‫هذا الرجل‪« :‬هو �صاحب الف�ضل الأول ّ‬ ‫يف دخويل هذا املجال «جمال الإخراج»‪ ،‬وهو‬ ‫رج��ل �أ�صيل ج��د ًا‪ ،‬وم��ن النا�س الذين لفتوا‬ ‫نظري لأ�شياء مهمة جد ًا‪ ،‬وكان �صاحب خربة‪،‬‬ ‫وكان نا�صح ًا �أمين ًا‪ ،‬كان يقول لك كل ما عنده‪،‬‬ ‫ُيعلمه لك ويرتك لك حرية الأخذ والرد»‪.‬‬ ‫و�أح� �م ��د ع�ث�م��ان ه��و ال� ��ذى ن�ق��ل ا�سماعيل‬ ‫عبداحلافظ معه �إيل �إدارة التمثيليات‪ ،‬وهناك‬ ‫بد�أ ا�سماعيل عبد احلافظ م�سريته احلقيقية‪.‬‬

‫العمل الأول‬

‫ال�شباب ‪ .‬لكن خمرجنا ا�ستطاع �أن يقنع امل�ؤلف‬ ‫�صربى عبد القادر ب�أن يكتب له متثيلية التزيد‬ ‫مدتها ع��ن ن�صف �ساعة ب�ع�ن��وان «ومت�ضي‬ ‫احل �ي��اة»‪� ،‬إال �أن��ه مل يكن را�ضي ًا كل الر�ضي‬ ‫عن هذه التجربة‪ ،‬وعلي العك�س من ذلك كان‬ ‫يتحدث بكل فخر واع�ت��زاز عن العمل الثاين‬ ‫الذى �أخرجه‪ ،‬ويعتربه من �أهم �أعماله‪ ،‬وهو‬ ‫�سباعية من حلقات مت�صلة منف�صلة كتبها‬ ‫�سيد مو�سي وكرم النجار‪ ،‬و�أرخا فيها لل�شارع‬ ‫امل�صري‪ .‬وقد كان من املقرر �أن تكون م�سل�س ًال‬ ‫لوال �أن �أوقفتها الرقابة بعد احللقة ال�سابعة ‪.‬‬

‫غ�ير م��رغ��وب فيها‪ .‬واحلقيقة �أن ال��ذي��ن مل‬ ‫يعي�شوا ه��ذه ال�ف�ترة ال ميكنهم �أن يتخيلوا‬ ‫و�ضع الرقابة‪ ،‬التي كانت ترى كل امل��واد قبل‬ ‫بثها‪ ،‬وم��ن حقها �أن حت��ذف م��ا ت��راه ما�س ًا‬ ‫بالنظام‪� ،‬أو يتحدث عن �سلبياته‪ .‬وكثري ًا ما‬ ‫كان الرقيب حمدود الثقافة �أو جبان ًا يخ�شي‬ ‫ي�شتم فيه‬ ‫امل�ساءلة‪ ،‬فيبادر ب�إلغاء �أي �شيء ّ‬ ‫�أنه ميكن �أن ي�سبب له امل�ساءلة لو تركه مير‪.‬‬ ‫ويف ع��ام ‪1974‬م ق��دم خم��رج�ن��ا جمموعة‬ ‫�سهرات عن دور �أجهزة الإعالم يف غ�سيل مخ‬ ‫املواطنني‪ .‬كما قدم �سهرة ا�ستخدم فيها لأول‬ ‫مرة فن احليل «ال�تروك��اج» يف الفيديو‪ ،‬لكن‬ ‫الأخطر �أنه قدم �أربع �سهرات كتبها له جالل‬ ‫الغزايل‪ ،‬وهو من الكتاب الرواد‪ ،‬وهاجم فيها‬ ‫االنفتاح االقت�صادي‪ ،‬وبعد هذه ال�سهرات ُمنع‬ ‫ا�سماعيل �ست �سنوات تقريب ًا من �إخ��راج �أى‬ ‫عمل درامي للتلفزيون حتي عام ‪1980‬م ‪.‬‬

‫م�سل�سالن البد �أن يعر�ضا‬

‫مل يتوقف خمرجنا عن �إ�صراره علي �أن يقول‬ ‫كلمته‪ ،‬ففي عام ‪1978‬م قدم لل�شركة الكويتية‬ ‫م�سل�س ًال ب�ع�ن��وان «ر�أ�� ��س ال �ق��ط» م��ن ت�أليف‬ ‫جالل الغزايل‪ ،‬ولعلنا الحظنا اقرتانه يف هذه‬ ‫املرحلة بهذا امل�ؤلف الواعي الذى اليقدم �سوى‬ ‫مو�ضوعات ج��ادة و�ساخنة‪ ،‬ويقول ا�سماعيل‬ ‫عن ه��ذا امل�سل�سل‪« :‬ح��ورب من �أجهزة الأم��ن‬ ‫امل�صرية‪ ،‬و�أجهزة الإعالم ومت �إعدامه»‪ ،‬ومل تكن‬ ‫هذه هي املرة الوحيدة التي مينع فيها م�سل�سل‬ ‫ملخرجنا امل�صر علي امل�شاركة بر�أيه يف حركة‬ ‫توايل املنع‬ ‫املجتمع‪ ،‬فقد منع التلفزيون �أي�ض ًا عر�ض م�سل�سل‬ ‫بعد هذه ال�سباعية بد�أ امل�س�ؤولون يف التلفزيون «العودة للحياة» الذى كتبته فتحية الع�سال عن‬ ‫ينظرون ال�سماعيل عبد احل��اف��ظ باعتباره ق�صة لعبداهلل الطوخي ب�سبب مناق�شته لق�ضايا‬ ‫خمرج ًا حمب ًا للم�شاكل‪ ،‬يتناول مو�ضوعات عمالية‪ .‬ول��ذا فنحن نت�ساءل‪� :‬أاليجب البحث‬ ‫عن هذين امل�سل�سلني الآن وعر�ضهما واحلفاظ‬ ‫عليهما باعتبارهما �شاهدين علي فرتة حرجة‬ ‫«رأس القط» و«العودة‬ ‫من تاريخ م�صر؟ لقد تغريت الظروف ويجب �أن‬ ‫للحياة» مسلسالن‬ ‫ن�صلح �أخطاء املا�ضي ‪.‬‬

‫قابل ا�سماعيل �أكرث من م�شكلة قبل �أن ي�صري منعتهما الرقابة البد من‬ ‫خمرج ًا‪ ،‬وم��ن �أه��م ه��ذه امل�شاكل �أن الكتّاب البحث عنهما وعرضهما العودة للبيت الكبري‬ ‫الكبار مل يوافقوا علي �أن يكتبوا له ولزمالئه باعتبارهما شاهدين علي عاد ا�سماعيل عبد احلافظ للتلفزيون امل�صري‬ ‫فترة حرجة من تاريخ مصر‬


‫عام ‪1980‬م بعد �أن تولت م�س�ؤوليته ال�سيدة‬ ‫متا�ضر توفيق‪ ،‬ع��اد بنا ًء علي دع��وة منها‪،‬‬ ‫وقدم م�سل�سل «احلب واحلقيقة»‪ ،‬ويف ت�سجيله‬ ‫ل�سريته الذاتية املن�شورة يف كتاب «فن الدراما‬ ‫التلفزيونية»‪ ،‬يقول عن هذا امل�سل�سل‪ « :‬فوجئنا‬ ‫بال�صحافة ت�شن حملة �شعواء وهجوم ًا �شنيع ًا‬ ‫اليت�صل بالنقد من قريب �أو من بعيد‪ ،‬وهم‬ ‫يلمحون يف كتاباتهم ب�أن امل�سل�سل غمز وملز‬ ‫ل�شخ�صيات عامة وم�س�ؤولني يف قمة ال�سلطة‪،‬‬ ‫وهاجت الدنيا وماجت‪ ،‬ودخل العمل ومبدعوه‬ ‫يف دور حتدٍ رهيب‪ ،‬ومل يعذبني كل هذا لأن‬ ‫املهم عندى هو �أنني قلت كلمتي وكل ما �أريد»‪.‬‬

‫م�سل�سل من التاريخ الإ�سالمي‬

‫رغم ارتباط ا�سماعيل عبد احلافظ بالدراما‬ ‫االج�ت�م��اع�ي��ة ف�ق��د �أخ� ��رج يف ع ��ام ‪1981‬م‬ ‫م�سل�سل «خيول الن�صر» وهو من ت�أليف طه‬ ‫�شلبي‪ ،‬و�أح��داث��ه ت��دور يف الع�صر الأم��وي‪،‬‬ ‫وتركز علي احلجاج بن يو�سف الثقفي‪ ،‬ولنا‬ ‫�أن نفهم طبيعة الق�ضية املطروحة م��ادام‬ ‫البطل هو احلجاج ‪.‬‬

‫وم�سل�سل رمزي‬

‫وح�ين ت�شتد الرقابة يلج�أ الكتاب والفنانون‬ ‫عادة للرمز‪ ،‬وللمعادل املو�ضوعي‪ ،‬وهذا مافعله‬ ‫ا�سماعيل عبد احلافظ مع امل�ؤلف عبد القادر‬ ‫جنيب‪ ،‬يف م�سل�سل عنوانه «�أيوب البحر»‪ ،‬لكنه‬ ‫مل ير�ض عن هذه التجربة‪ ،‬وكتب يقول‪« :‬يبدو‬ ‫�أن الرمز الذى ا�ضطررنا �إليه يف هذا الوقت كان‬ ‫م�سيطر ًا علينا واهتممنا به �أكرث مما اهتممنا‬ ‫بالواقع‪ ،‬و�أعتقد �أن اخلط�أ يف تكنيك الكتابة‪،‬‬ ‫ومي�ك��ن �أن يعجب امل�ث�ق��ف‪ ،‬ول�ك��ن توجهنا يف‬ ‫الأ�سا�س هم النا�س العاديون والب�سطاء‪ ،‬واخلط�أ‬ ‫�أين و�ضعت الرمز علي املن�ضدة و�أخذت �أحاوره‬ ‫دون اهتمام بو�ضع الواقع وعالقاته �أو ًال»‪.‬‬

‫بسبب مهاجمته االنفتاح‬ ‫االقتصادي ُمنع عبد‬ ‫الحافظ ست سنوات من‬ ‫إخراج أي عمل درامي‬ ‫للتلفزيون حتي عام‬ ‫‪1980‬م‬ ‫مع خمرجنا الكبري‪ ،‬وهو ا�سم �أ�سامة �أنور‬ ‫عكا�شة‪ .‬ق��دم ه��ذا الثنائي املتوافق فكري ًا‬ ‫وفني ًا جمموعة من الأع�م��ال الرائعة‪ ،‬لعل‬ ‫من املنا�سب �أن نتذكر �أهمها مع ًا‪ :‬ال�شهد‬ ‫والدموع «ج��زءان»‪ ،‬ليايل احللمية «خم�سة‬ ‫�أج ��زاء»‪� ،‬أهالينا‪ ،‬ام��ر�أة من زم��ن احلب‪،‬‬ ‫امل�صراوية «ج ��زءان»‪ .‬كانت ه��ذه الأعمال‬ ‫تر�صد التاريخ االجتماعي وال�سيا�سي مل�صر‪،‬‬ ‫وتعتمد علي البطوالت اجلماعية‪ ،‬و�سمتها‬ ‫العامة الواقعية ‪ .‬وال �شك �أنها ت�صلح وثيقة‬ ‫للت�أريخ للمجتمع امل�صري خالل املئة �سنة‬ ‫املا�ضية‪ .‬وهي م�سل�سالت ذات طبيعة نقدية‪،‬‬ ‫متيل للدفاع عن حقوق الفقراء‪ ،‬وتنحاز �إيل‬ ‫جتربة عبد النا�صر يف العدالة االجتماعية‪،‬‬ ‫لكنها تنتقد �أخطاءها‪ ،‬وال تر�ضى بوجه عام‬ ‫عن املرحلة ال�ساداتية وال املرحلة املباركية ‪.‬‬

‫ثم جاء �أ�سامة‬ ‫�إذا كان ا�سم جالل الغزايل ت��ردد كثري ًا يف م�سل�سل الوحدة الوطنية‬

‫املرحلة ال�سابقة‪ ،‬ففي املرحلة التاليىة‬ ‫�سنجد ا�سم ًا �آخر يحتل ال�صدارة يف التعاون‬

‫من الروايات التي �أعجبتني عند �صدورها‬ ‫رواي��ة بهاء طاهر «خالتي �صفية وال��دي��ر»‪،‬‬

‫وحني كنت �أعمل مع يحيى العلمي يف الزيني‬ ‫بركات‪ ،‬قلت له �إن لدي فكرة رائعة ميكن‬ ‫�أن تكون هي عملنا القادم ‪� .‬س�ألني يحيى‪:‬‬ ‫ماهي؟ قلت‪ :‬رواي��ة مده�شة ا�سمها خالتي‬ ‫�صفية وال��دي��ر‪ ،‬ونه�ض يحيى العلمي �إيل‬ ‫مكتبة لديه و�أخ��رج منها �سيناريو م�سل�سل‬ ‫خالتي �صفية والدير‪ ،‬وقال يل جيت مت�أخر‬ ‫ي��ا �أ��س�ت��اذ‪ .‬وبعد ف�ترة لي�ست وج�ي��زة خرج‬ ‫م�سل�سل خالتي �صفية والدير للنور من �إخراج‬ ‫ا�سماعيل عبد احل��اف��ظ‪ ،‬وح�ق��ق امل�سل�سل‬ ‫جن��اح� ًا ك �ب� ً‬ ‫يرا‪ ،‬لأن��ه ت�ن��اول ق�ضية تهم كل‬ ‫امل�صريني ‪ .‬وكتبت ال�سيناريو لهذا امل�سل�سل‬ ‫ال�سيدة ي�سر ال�سيوي‪ .‬وال �شك �أن ا�سماعيل‬ ‫عبد احلافظ كان م�ؤمن ًا بالوحدة الوطنية‪،‬‬ ‫وق��د عاجلها مع �أ�سامة يف ليايل احللمية‪،‬‬ ‫لكنه قدمها هنا باعتبارها ه��ي املو�ضوع‬ ‫املحوري ‪ .‬و�أخري ًا‪ ،‬هذه عجالة عن خمرجنا‬ ‫املتميز ا�سماعيل عبد احلافظ‪ ،‬اعتمدت فيها‬ ‫علي ما كتبه الرجل نف�سه عن نف�سه‪ ،‬لكن‬ ‫امل�ؤكد �أنها ال تفيه حقه‪ ،‬فالرجل يف حاجة‬ ‫لر�سائل علمية تقف عند �أعماله الفنية‬ ‫لتبني جمالياتها‪ ،‬وتظهر لنا كيف ا�ستطاع‬ ‫�أن يعرب عن �أفكاره من خالل ن�صو�ص �أجاد‬ ‫اختيار م�ؤلفيها‪ ،‬ور�ؤي�ت��ه لكل عن�صر من‬ ‫عنا�صر الإخ��راج‪ ،‬ودوره يف البناء الفني‪،‬‬ ‫وغ�ير ذل��ك م��ن الق�ضايا ال�ت��ي حت��دد لنا‬ ‫مكانة الرجل بني املخرجني‪ ،‬والتي ميكن‬ ‫�أن تكون نربا�س ًا للمخرجني ال�صاعدين من‬ ‫الأجيال القادمة‬


‫تشكيل‬ ‫‪140‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫تتحدى منطية الن�ص‬

‫يد الحناء ‪..‬‬

‫تجربة جديدة لمحمد كانو‬ ‫�أبوظبي ‪� -‬سامح كعو�ش‬ ‫فني مغاير وحداثي‪ ،‬يجمع تقنيات التجريد‬ ‫لي�س �أجمل من �أن ينتقل امل�شاهد بعينيه يف م�ساحات خلقٍ ٍّ‬ ‫الفني والت�أ ّمل اللوين يف �أبعد امتداداته الالمرئية‪ ،‬ولكن امل�شار �إليها بالداللة الفنية ذات القيمة وامل�ضمون‬ ‫العميقني والبعيدين‪ ،‬وبخا�صة حني يكون املتلقي �أمام �أعمال الفنان الت�شكيلي حممد عبد اللطيف كانو‪ ،‬يف‬ ‫جمموعة �أعماله الفنية التي ا�ستمد ثيمتها من احلناء وجماليات �أ�شكالها ور�سومها على اليد‪.‬‬


‫اليد هنا ت�صبح امل�شرتك الفني واملعريف‬ ‫مع ًا يف م�ساحة املنجز الفني والإب��داع��ي‪،‬‬ ‫فهي �أداة الإ�شارة وامل�شار �إليه يف �آنٍ مع ًا‪،‬‬ ‫حني تكون دال ًة على رمزية الوقوف والتو ّقف‬ ‫املروري‪ ،‬م�ستمد ًة من �أقرب الأ�شكال �إىل روح‬ ‫احلياة املعا�صرة ورموز املدن والقيادة فيها‬ ‫وازدحامها بال�سيارات وامل��ارة‪ ،‬واليد �أي�ض ًا‬ ‫املدلول والداللة حني تكون يد الأنثى العربية‬ ‫اخلليجية وهي حمنا ٌة ب�صبغ ٍة اعتادتها �أيدي‬ ‫�أمهاتنا وجداتنا وبناتنا وزوجاتنا و�أخواتنا‬ ‫وحبيباتنا‪ ،‬وه��ي اليد التي ت�صبح حامل َة‬ ‫قيمة العراقة والأ�صالة والهوية الإماراتية‬ ‫اخل��ال���ص��ة‪� ،‬إذ ت�صبح ع�م�ل ًا فني ًا ي��زدان‬ ‫ب�أ�شكال الر�سم باحلناء‪ ،‬فحين ًا هو م�شربية‬ ‫وح�ي�ن� ًا ه��و امل��زه��ري��ة وال��زه��ور ب�أ�شكالها‬ ‫املختلفة‪ ،‬وحين ًا هو العناقيد املتدلية عن‬ ‫عرائ�شها‪� ،‬أو النجوم ال�سابحة يف ف�ضاءات‬ ‫لونية زرقاء‪� ،‬أو الأه ّلة يف �سعيها �إىل الأعلى‬ ‫كمرجعية زمنية مكانية مع ًا‪ ،‬تقع يف �صلب‬ ‫االنتماء الديني والهوية الإ�سالمية العربية‬ ‫الإماراتية‪� ،‬أو هو الزنابق املمتدة ب�أعناقها‬ ‫�إىل ال�ضوء ال�ساقط عليها من �أعلى‪� ،‬أو ما هو‬ ‫�أقرب �إىل احلياة املعا�صرة حني يبدو جلي ًا‬ ‫لنا �أن الفنان حممد كانو ميلأ م�ساحة الكف‬ ‫مبزيج رائع من الر�سوم باخلطوط والأ�شكال‬ ‫الهند�سية الأق��رب �إىل «ك��ودات» كمبيوترية‬ ‫ال تكاد ت��راه��ا العني امل �ج��ردة‪ ،‬ولكنها هنا‬ ‫«كودات» فنية عالية الت�صميم والبداع‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الكف معادل للن�ص‬

‫ي�شري الفنان الت�شكيلي حممد عبد اللطيف‬ ‫كانو �إىل �أن مو�ضوع �أع�م��ال��ه يف جمموعة‬ ‫«يد احلناء ت�صبغ �إ�شارات التوقف» هو اليد‬ ‫املحناة نف�سها‪ ،‬ويعترب �أن �إ�شارة التوقف التي‬ ‫يج�سدها يف عمله الفني «حتمل املقايي�س‬ ‫امل�ت�ع��ارف عليها بح�سب �إت�ف��اق�ي��ة «فيينا»‬ ‫اخلا�صة ب�إ�شارات املرور وعالمات الطرق‪،‬‬ ‫على �شكل ثماين اال�ضالع بطول ‪� 75‬سم لكل‬ ‫�ضلع‪ ،‬و�إط��ار �أبي�ض بعر�ض ‪ 20‬ملم‪ ،‬وت�شري‬ ‫عالمة التوقف‪ ،‬بح�سب الإتفاقية ذاتها‪،‬‬ ‫بالن�ص �إىل الأمر بالوقوف‪ ،‬باللغة الإنكليزية‬

‫الفنان حممد كانو‬

‫�أو اللغة املحلية‪ ،‬وقد ت�ستعمل بع�ض الدول‪،‬‬ ‫كما يف جمل�س التعاون لدول اخلليج العربي‪،‬‬ ‫اللغتني مع ًا‪ ،‬مع الكتابة العربية يف الق�سم‬ ‫الأعلى من �إ�شارة التوقف»‪.‬‬ ‫وي�ضيف الفنان كانو‪« :‬الن�ص‪ ،‬هذا ما �أحتداه‬ ‫هنا‪ ،‬ومفهومي الفني ير�شدين �إىل التحدي‬ ‫للنمطية التقليدية يف الإ�شارة بالن�ص‪ ،‬ب�أمر‬ ‫ال��وق��وف » ق��ف‪ ،‬با�ستخدام اليد املفتوحة‬ ‫«ال �ك��ف» مل��ا ي�ضيفه ه��ذا ال�شكل الب�صري‬ ‫احلافل بالدالالت الرمزية لل�صورة الكونية‬ ‫املتعارف عليها»‪ ،‬وه��و يعمد �إىل التخفيف‬ ‫من حدة �صورة الكف التي ت�أمر بالتو ّقف‪،‬‬

‫اليد في تجربة كانو‬ ‫مشترك فني ومعرفي‬ ‫فهي أداة اإلشارة‬ ‫آن مع ًا‬ ‫والمشار إليه في ٍ‬

‫عرب �إ�ضافة جماليات الزينة العربية لن�ساء‬ ‫اخلليج العربي‪ ،‬والعنا�صر الفنية امل�ستوحاة‬ ‫م��ن �أ� �ش �ك��ال احل �ن��اء ال �ت��ي ير�سمنها على‬ ‫�أي��دي �ه��نّ ‪ ،‬ك��أن��ه يف حلظة ت�شكيل اللوحة‪،‬‬ ‫ي�ستك�شف عوامل من احلناء ب�ألوان مغايرة‬ ‫للأحمر الأ��ص�ل��ي امل�ع�ت��اد‪ ،‬ملتقط ًا الداللة‬ ‫ذات�ه��ا ليو�صلها للمتلقي‪ ،‬و�إن ب�شكل �أك�ثر‬ ‫جمالي ًة وحيا ًة‪.‬‬ ‫ي�ستلهم الفنان الت�شكيلي حممد عبد اللطيف‬ ‫كانو احل�ضور ال��داليل وامل�ع��ريف للحناء يف‬ ‫ذاك��رة املكان الإماراتي خا�ص ًة‪ ،‬واخلليجي‬ ‫ال�ع��رب��ي ع��ام � ًة‪ ،‬لي�شري �إىل �أ� �ص��ل احل�ن��اء‬ ‫�شجري �صغري القامة‪،‬‬ ‫نبات‬ ‫ٍّ‬ ‫امل�ستخرج من ٍ‬ ‫هذا الطالء امل�ستخدم منذ �آالف ال�سنني يف‬ ‫الزينة وال�صباغة على اجللد‪ ،‬زينة اجل�سد‪،‬‬ ‫ال�شعر‪ ،‬الأظافر‪ ،‬احلرير وال�صوف واجللود‪،‬‬


‫تشكيل‬ ‫‪142‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬

‫‪2012‬‬

‫الفنان مع جمهوره يف �أحد معار�ضه الفنية يف الإمارات‬

‫وقد كان احلناء ُي�ستخدم يف كث ٍري من البلدان‬ ‫العربية للزينة يف الأع �ي��اد واالح �ت �ف��االت‪،‬‬ ‫ففي املغرب‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬ي�ستخدم يف‬ ‫�صباغة ال�صوف وزخرفة الطبول والأدوات‬ ‫امل�صنوعة من اجللد‪ ،‬كما ُي�ستعمل احلناء‬ ‫كعالج طبيعي للفطريات‪.‬‬ ‫ولأن‪ ،‬يف �صباغة اجل�ل��د ب��احل�ن��اء‪ ،‬يو�ضع‬ ‫م�سحوق احلناء �أو م�ستخرج اللون من الأوراق‬ ‫الن�ضرة‪ ،‬على اجللد املراد تزيينه‪ ،‬ملدة من‬ ‫ال��زم��ن ت�ط��ول لتمتد ط��وال ليلة كاملة‪� ،‬أو‬ ‫تق�صر لب�ضع �ساعات‪ ،‬ويدوم الر�سم باحلناء‬ ‫ملدة ترتاوح بني �أيام قليلة �أو �أ�شهر �أحيان ًا‪،‬‬ ‫بح�سب نوعية احل�ن��اء امل�ستخدم‪ ،‬ونوعية‬ ‫اجللد‪ ،‬واملدة التي ُي�سمح بها للحناء �أن يبقى‬ ‫على اجللد‪ ،‬وهو يف حت� ّول من لونه الأ�صلي‬ ‫الربتقايل �إىل ل��ونٍ داك� ٍ�ن �أق��رب �إىل البني‬

‫املحمر‪ ،‬نرى الفنان حممد كانو ينتظر طوي ًال‬ ‫�إىل �أن تكتمل فكرة العمل ل��دي��ه‪ ،‬وي�صرب‬ ‫على التدقيق يف ت�صميم خطوطه و�أ�شكال‬ ‫عمله �إذ يكاد يطابق بني �أ�شكال احلناء على‬ ‫�أيادي الن�سوة يف جمتمعاتنا العربية واملجتمع‬ ‫الإماراتي ب�شكل خا�ص‪ ،‬و�أ�شكال احلناء يف‬ ‫العمل الفني‪ ،‬يف ر�سالة يو�صلها �إىل متلقي‬ ‫ه��ذا الفن يف ال�ع��امل‪� ،‬إذ يكفي �أن نقول ما‬ ‫مل ينطق ب��ه ل�سان الفنان ك��ان��و‪ ،‬ول�ك��ن مع‬

‫تحتفي مجموعة كانو‬ ‫بالداللة المفاهيمية‬ ‫للرقم سبعة في‬ ‫اإلسالم بالخلفيات‬ ‫اللونية السبع‬ ‫المستخدمة فيها‬

‫اعتقاده اليقني به‪�« ،‬أن��ا ر�سول هذا ال�شرق‬ ‫�إليكم‪ ،‬وهذه جمالياتنا التي نفخر ب�أن نخ�ص‬ ‫ن�ساءنا بها»‪ ،‬و�أي ر�سالة ح�ضارية �أعظم من‬ ‫ر�سال ٍة فنية يو�صلها فنان ت�شكيلي �إىل العامل‬ ‫م�ستوحية اليد‪ /‬الأنثى‪ ،‬مبا ت�شري �إليه من‬ ‫دالالت عظمة هذا الدين الإ�سالمي وفرادة‬ ‫نظرته �إىل امل��ر�أة واح�ت�رام جمالها‪� ،‬أو ما‬ ‫ميكن �أن يظهر منه للغري!‪.‬‬ ‫والزينة باحلناء كانت و�ستظل طق�س ًا جمتمعياً‬ ‫من طقو�س ا�ستجالب الربكة والفرح واحلظ‬ ‫اجليد‪ ،‬وهي ُ�س ّن ٌة من �سنن الر�سول حممد‬ ‫�ص ّلى اهلل عليه و�س ّلم‪ ،‬اعتادها فكان ي�صبغ‬ ‫حليته ال�شريفة باحلناء‪ ،‬وامل�سلمون رج��ا ًال‬ ‫ون�سا ًء ي�سريون على نهجه ويطبقون ُ�س ّنته‬ ‫يف الزينة ب��احل�ن��اء‪ ،‬كما ت�ستخدم احلناء‬ ‫يف التقاليد ال�شعبية امل��وروث��ة‪ ،‬واخلا�صة‬


‫بالأعرا�س وطقو�س ال��زواج‪� ،‬إذ ت�ستخدمها‬ ‫ال�ع��رائ����س ت�ع�ب�ير ًا عما يغمرهن يف حلظة‬ ‫�رح و�أم� ٍ�ل بحياة �سعيدة وحظ‬ ‫ال��زواج من ف� ٍ‬ ‫ح���س��ن‪ ،‬وي �ق��وم ف��ن ال��ر��س��م ب��احل �ن��اء على‬ ‫�أر� �ض �ي��ة ع��رق�ي��ة ت��رت�ب��ط ب��ال�تراث الثقايف‬ ‫العربي الإ�سالمي‪ ،‬حيث تُ�ستخدم فيه �أ�شكال‬ ‫الهند�سة وعنا�صر الزخرفة الإ�سالمية‪.‬‬

‫دالالت الرقم �سبعة‬

‫كما ي�شي عمل الفنان عبد اللطيف كانو‬ ‫يف جمموعته التي تتخذ احلناء ثيمة لها‪،‬‬ ‫ب��دالل��ة �إ��ض��اف�ي��ة ه��ي دالل��ة ال��رق��م �سبعة‪،‬‬ ‫فالرقم بالن�سبة �إليه يلعب دور ًا حموري ًا‬ ‫يف ه ��ذه امل �ج �م��وع��ة‪ ،‬ي��ق��ول‪« :‬ا��س�ت�ل�ه�م��ت‬ ‫فكرة �إجنازها نتيجة حوار دار بيني وبني‬ ‫ال�ف�ن��ان املفاهيمي ر�شيد قري�شي‪ ،‬ال��ذي‬ ‫�أدرك الداللة املفاهيمية للرقم �سبعة يف‬ ‫الإ���س�ل�ام‪ ،‬فمجموعة »ي��د احل �ن��اء ت�صبغ‬ ‫�إ�شارات التو ّقف« تعك�س دالالت الرقم �سبعة‬ ‫باخللفيات اللونية ال�سبع امل�ستخدمة فيها‪،‬‬ ‫وبرقم ‪ 14‬املرتبط بعدد �أ�شكال اليد املح ّناة‬ ‫امل�ستخدمة يف اللوحات»‪.‬‬ ‫�إذ ًا‪ ،‬يف ه ��ذه امل�ج�م��وع��ة ال�ف�ن�ي��ة‪ ،‬يرتكز‬ ‫ال�ك�ث�ير ال�ك�ث�ير م��ن اه �ت �م��ام حم�م��د كانو‬ ‫ب��امل��وروث ال�شعبي وال�ت�راث‪ ،‬وت�برز الهوية‬ ‫املجتمعية والوطنية التي يحمل ر�سالتها‬ ‫ع�بر عمله الفني‪ ،‬فهو ال يكتفي بالداللة‬ ‫امل�ع��رف�ي��ة ذات ال�ع�لاق��ة باملجتمع وقيمه‬ ‫الفنية عرب ا�ستخدام احلناء‪ ،‬بل ي�ضيف‬ ‫ع�لاق�ت��ه ال��داخ�ل�ي��ة الإمي��ان �ي��ة ومرجعيته‬ ‫الفكرية الدينية‪� ،‬إذ ي�ستح�ضر الرقم �سبعة‬ ‫كعدد لآيات �سورة الفاحتة‪ ،‬والتي يرددها‬ ‫امل�سلمون يف ك ّل �صالة‪ ،‬كما ي�ضيف �إليها‬ ‫دالل��ة الرقم �سبعة يف «ال�شهادة»‪� ،‬شهادة‬ ‫�أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممد ًا عبده ور�سوله‪،‬‬ ‫وهي امل�ؤلفة من �سبع كلمات عربية هي «ال‪،‬‬ ‫إ�ل��ه‪� ،‬إال‪ ،‬اهلل‪ ،‬حممد‪ ،‬ر�سول‪ ،‬اهلل»‪ ،‬وهي‬ ‫الكلمات ذاتها التي يتلوها الآب��اء يف �آذان‬ ‫امل��وال�ي��د اجل ��دد‪ ،‬وي��ردده��ا ك � ّل م��ن يعتنق‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬يف والدته اجلديدة وانتمائه �إىل‬ ‫دين احلق‪.‬‬

‫بل وي�شري �إىل ما يتوجب على احل��اج �إىل‬ ‫بيت اهلل احلرام‪ ،‬عند دخوله مكة املباركة‬ ‫من فرائ�ض‪� ،‬ضمن �أم��و ٍر عديدة‪� ،‬إذ عليه‬ ‫�أن يدور حول الكعبة امل�ش ّرفة �سبع م ّرات‪،‬‬ ‫على �س ّن ٍة ا�ست ّنها نبي اهلل �إبراهيم‪ ،‬عليه‬ ‫ال�سالم‪ ،‬و�أن يقطع ك��ل ح��اج امل�سافة بني‬ ‫�رات م�شي ًا �أو‬ ‫جبلي ال�صفا وامل��روة �سبع م� ٍ‬ ‫هرول ًة‪ ،‬تكرمي ًا لهاجر �أم امل�ؤمنني‪ ،‬زوجة‬ ‫�إبراهيم‪ ،‬عليهما ال�سالم‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل �أن‬ ‫من طقو�س احل��ج املقد�س عند امل�سلمني‪،‬‬ ‫رجم ال�شيطان ب�سبع جمرات يف منى‪ ،‬قبيل‬ ‫انطالق حجاج بيت اهلل احل��رام‪� ،‬إىل جبل‬ ‫عرفات‪ ،‬كما ي�شري الرقم �سبعة �إىل حكاية‬ ‫�أهل الكهف ال�سبعة التي وردت يف القر�آن‬ ‫الكرمي يف �سورة الكهف‪ .‬ت�ضم املجموعة ‪98‬‬ ‫عم ًال فني ًا‪ ،‬بقيا�س ‪�75‬سم ‪� 75 x‬سم‪ ،‬كل‬ ‫لوحة يف ‪ 14‬ت�صميم لـ«يد احلناء»‪ ،‬ب�ست‬ ‫خلفيات لونية هي الأحمر‪ ،‬الأزرق‪ ،‬الأخ�ضر‬ ‫الفاحت‪ ،‬الربتقايل الفاحت‪ ،‬الأخ�ضر الداكن‪،‬‬ ‫وال�ب�رت��ق��ايل ال ��داك ��ن‪ ،‬حت�ت���ض��ن عن�صر‬ ‫ال �ت �� �ض��اد امل�ت�م�ث��ل ب��ال�ن����ص «قف‪»Stop/‬‬ ‫بالأبي�ض‪ ،‬والكف املزخرف باحلناء‪� ،‬أما‬ ‫اخللفية ال�سابعة فبلون الأ�صفر‪ ،‬حتت�ضن‬ ‫الأ�سود كعن�صر مفارقة لونية‪.‬‬ ‫�أجن� ��زت الأع� �م ��ال ع �ل��ى امل �ع��دن امل�ط�ل��ي‪،‬‬ ‫امل�شابه لل�شكل الأ�صلي لإ�شارات التو ّقف‪،‬‬ ‫ّمت تركيبها على اخل�شب‪ ،‬لت�صبح جاهز ًة‬ ‫للعر�ض‪.‬‬ ‫ه��ذه امل�ج�م��وع��ة م�سبوقة ب�ع��دد م��ن �ستة‬ ‫�أع �م��ال �أ�صلية ب��ال�ل��ون الأح �م��ر للفنان لـ‬ ‫«يد احلناء ت�صبغ �إ�شارات التو ّقف»‪ ،‬وقد‬ ‫اختريت واحدة منها من قبل دار «�سوذبي»‬ ‫ملعر�ضهم للفن الت�شكيلي العربي املعا�صر‪،‬‬ ‫�ضمن «�شباك‪ :‬نافذة على الثقافة العربية‬

‫ال يكتفي كانو بالداللة‬ ‫المعرفية عبر استخدام‬ ‫الحناء بل يستوحي‬ ‫المرجعية الفكرية‬ ‫والدينية للمجتمع‬

‫املعا�صرة»‪ ،‬وهي فعالية ثقافية هامة انعقدت‬ ‫يف لندن‪ ،‬ملدة ثالثة �أ�سابيع يف الفرتة من ‪4‬‬ ‫لغاية ‪ 24‬يوليو‪ ،2011 ،‬بتنظيم من عمدة‬ ‫مدينة لندن‪ ،‬ويعد مهرجان «�شباك» «املفردة‬ ‫العربية للنافذة ‪ ،»window‬واحد ًا من �أهم‬ ‫الفعاليات الثقافية اللندنية‪ ،‬حيث ا�شتمل‬ ‫على جمموعة من فعاليات الفن الت�شكيلي‪،‬‬ ‫الأف�ل�ام‪ ،‬املو�سيقى‪ ،‬الأع �م��ال امل�سرحية‪،‬‬ ‫الرق�ص‪ ،‬الأدب‪ ،‬فن العمارة‪ ،‬املحا�ضرات‬ ‫وال �ن��دوات احل��واري��ة‪ ،‬ف��اق ع��دده��ا ال �ـ ‪70‬‬ ‫فعالية انعقدت يف �أكرث من ‪ 30‬موقع ًا ثقافي ًا‪،‬‬ ‫و�ضمت هيئة املهرجان اال�ست�شارية عددا من‬ ‫كبار املخت�صني بالثقافة والفنون‪ ،‬من بينهم‬ ‫«�شينا واغ�ستاف» م�س�ؤولة معر�ض «‪»Tate‬‬ ‫للفن العاملي احلديث واملعا�صر‪« ،‬فينيتيا‬ ‫بورتر» من�سقة جمموعة املقتنيات الإ�سالمية‬ ‫يف املتحف الربيطاين‪ ،‬و «روك�سان زان��د»‬ ‫رئي�س دار «�سوذبي» للمزادات يف ال�شرق‬ ‫الأو�سط واخلليج‬


‫سوق الكتب‬ ‫‪144‬‬ ‫الـعــــدد‬ ‫‪156‬‬ ‫�أكتوبر‬ ‫‪2012‬‬

‫ي�ستعر�ض تاريخ املغرب‬

‫مذكرات صحافي وثالثة ملوك‬ ‫�إدري�س علو�ش‬

‫عن من�شورات �أخبار اليوم يف اململكة املغربية‪� ،‬صدر كتاب لقيدوم‬ ‫ال�صحافة املغربية م�صطفى العلوي يحمل عنوان مذكرات �صحايف‬ ‫وثالثة ملوك‪ ،‬وهو يف �شكل حوار مفتوح وم�سرت�سل عن م�سارات‬ ‫وم�سارب هذا ال�صحفي الذي عاي�ش جتربة ثالثة ملوك حكموا املغرب‬ ‫احلديث‪�،‬أعد �أ�سئلته ال�صحفي يون�س م�سكني‪.‬‬ ‫الكتاب من القطع املتو�سط‪ ،‬ويقع يف حدود‬ ‫‪� 320‬صفحة وي��دور يف فلك �أرب�ع��ة ع�شرة‬ ‫ف�صال �صمم غالفه الفنان ال�سوداين طارق‬ ‫جربيل ‪.‬‬ ‫نقر�أ يف ظهر غالف الكتاب‪« :‬يقول املفكر‬ ‫امل�غ��رب��ي ع�ب��د اهلل ال �ع��روي‪ ،‬يف م��ذك��رات��ه‬ ‫«خواطر ال�صباح» �إن عدو رجل ال�سيا�سة‬ ‫هو امل�ؤرخ لأنه يذكر ويتذكر»‪.‬‬ ‫وال�صحايف ه��و م� ��ؤرخ اللحظة‪ ،‬و�صانع‬ ‫�إحدى املواد الأولية لكتابة التاريخ‪ .‬يف هذا‬ ‫امل�ؤلف‪ ،‬يعر�ض ال�صحايف م�صطفى العلوي‬ ‫ج��زءا �أ�سا�سي ًا من ذاك��رت��ه �أم��ام القراء‪،‬‬ ‫ويحدثهم عن جتربته ال�صحافية املمتدة‬ ‫�إىل �أك�ثر م��ن ن�صف ق��رن‪ ،‬عا�ش خاللها‬ ‫يف رح��اب «�صاحبة اجل�لال��ة»‪ ،‬وواج��ه كل‬ ‫�صروف الدهر‪ ،‬من االعتقال واالختطاف‬ ‫�إىل الت�ضييق �إىل املحاكمات ال�شهرية‪ ،‬حتى‬ ‫�إن حياته كانت يف خطر عند اقرتابه �أكرث‬ ‫من الالزم من خطوط التما�س اخلطرية‪.‬‬ ‫م���ص�ط�ف��ى ال �ع �ل��وي ع �م �ي��د ال���ص�ح��اف�ي�ين‬ ‫املغاربة‪ ،‬يقدم �شهادة على ع�صر كامل مل‬ ‫تكن فيه عالقة ال�صحافة بال�سيا�سة كلها‬ ‫«�سمن على ع�سل» يف بالد مازالت مل جتد‬

‫طريقها بعد �إىل ن��ادي الدميوقراطيات‬ ‫احل��دي�ث��ة‪ ،‬حيث ال�صحافة �سلطة رابعة‪،‬‬ ‫وح�ي��ث ال�صحافيون ��ش��رك��اء يف �صناعة‬ ‫الر�أي العام‪.‬‬ ‫�أهمية الكتاب تكمن يف ا�ستح�ضاره لأهم‬ ‫حم �ط��ات ت��اري��خ امل��غ��رب احل��دي��ث ال��ذي‬ ‫واكبته ال�صحافة املغربية �إعالميا وبروح‬ ‫مهنية ع��ال �ي��ة‪ ،‬وه ��ي ال �ت��ي ك��ان��ت ب�صدد‬ ‫الإرها�صات الأوىل لت�شييد �صرح ال�صحافة‬ ‫املغربية الناطقة باللغة العربية �إبان مرحلة‬ ‫اال�ستقالل املنقو�ص �أو «ال�شكلي» ال��ذي‬ ‫ح�صل عليه امل�غ��رب بعد معاهدة «ايك�س‬ ‫ليبان»‪ ،‬وك��ان لقيدوم ال�صحافة املغربية‬ ‫م�صطفى العلوي دور ًا ب��ارز ًا وفعا ًال يف هذا‬ ‫احل�ضور‪ ،‬خ�صو�ص ًا وهو ال�صحايف الإ�شكايل‬ ‫ال��ذي مل ت�ستهوه املرجعيات احلزبية مبا‬ ‫فيها املرجعية اال�شرتاكية التي يعود الف�ضل‬ ‫لل�شهيد املهدي بن بركة يف تر�سيخ تقاليدها‬ ‫وا�ستحداثها يف احلقل ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫يف الف�صل الأول من الكتاب ي��ورد قيدوم‬ ‫ال�صحافة املغربية م�صطفى العلوي �أن‬ ‫ج��ري��دة «الب�صائر» اجل��زائ��ري��ة التي كان‬ ‫ي�صدرها ال�شيخ الب�شري الإبراهيمي كانت‬

‫مبثابة املدر�سة الأوىل لل�صحافة املغربية‪،‬‬ ‫وه ��ي ال �ت��ي �أوق� ��دت ف�ي��ه �شعلة احل�م��ا���س‬ ‫المتهان ال�صحافة واتخاذها م�سار ًا حلياته‬ ‫امل�ه�ن�ي��ة‪ ،‬وق��د ك��ان ل�ه��ا ب��ال��غ ال�ت��أث�ير على‬ ‫عقله و�إح�سا�سه وقلبه‪ ،‬وهو ال�شاب �آنذاك‪.‬‬ ‫ومنذ �سنة ‪ 1951‬ك��ان يطلع عليها بعدما‬ ‫يتم تهريبها من اجلزائر‪ ،‬وهو برفقة �أبيه‬ ‫م��ع جمموعة م��ن رم��وز احل��رك��ة الوطنية‬ ‫التي كانت تنا�ضل �سر ًا من �أجل ا�ستقالل‬ ‫املغرب ليفاجئ ذات ي��وم مبن ج��اء يخرب‬ ‫�أب ��اه ب ��إح��راق الن�سخ امل��وج��ودة يف البيت‬ ‫م��ن ج��ري��دة الب�صائر لأن ع�ين امل�ستعمر‬ ‫الفرن�سي علمت مبو�ضوع ق��راءت�ه��ا‪ .‬وهو‬ ‫ما حفزه يف امل�ستقبل لإ�صدار العديد من‬ ‫ال�صحف‪ ،‬ن��ذك��ر منها امل�شاهد‪� ،‬أط�ي��اف‬ ‫الدنيا‪ ،‬الكوالي�س‪ ،‬والأ��س�ب��وع ال�صحفي‪،‬‬ ‫وال� �ت ��ي ط��ال �ت �ه��ا ق�� ��رارات امل �ن��ع واحل �ج��ز‬ ‫وامل�صادرة والت�ضييق املايل‪ ،‬ومع ذلك ظل‬ ‫ال�صحفي م�صطفى العلوي راف�ع� ًا �شعار‬ ‫التحدي موا�صال جتربته ال�صحفية التي‬ ‫جتاوزت اخلم�سة عقود من الزمن‪.‬‬ ‫ويذكر قيدوم ال�صحافة املغربية �أن املغرب‬ ‫مل يكن يتوفر على قانون لل�صحافة‪ ،‬ومل‬


‫يكن قد �صدر بعد قانون احلريات العامة‪-‬‬ ‫�صدر �سنة ‪1958‬م يف امل�غ��رب‪ -‬ب��ل كانت‬ ‫الت�شريعات التي و�ضعت على عهد احلماية‬ ‫الفرن�سية‪ ،‬هي ما يقنن الولوج �إىل املجال‬ ‫الإع�لام��ي والعمل فيه‪ .‬وم��ن �أج��ل �إ�صدار‬ ‫جريدة جديدة‪ ،‬ك��ان قانون ‪1914‬م يلزم‬ ‫املعني بالأمر بتقدمي طلب‪ ،‬وانتظار مر�سوم‬ ‫يوقعه الوزير‪ ،‬ويخوله ال�شروع يف �إ�صدار‬ ‫ال�صحيفة اجلديدة حتت م�س�ؤوليته‪ .‬وهو‬ ‫م��ا فعله ال�صحفي م�صطفى ال�ع�ل��وي يف‬ ‫‪ 2‬يوليو �سنة ‪1956‬م ط��ال�ب� ًا الرتخي�ص‬ ‫ملجلة �أ�سبوعية حت��ت ع�ن��وان «امل�شاهد»‪،‬‬ ‫وهي املجلة التي كانت مثار جدل و�سجال‬ ‫وب�سببها غ�ضب امل �ل��ك ال��راح��ل احل�سن‬ ‫الثاين من �شقيقه الأم�ير م��والي عبد اهلل‬ ‫لأن��ه �سعى ل�صفقة �شرائها مببلغ �سبعة‬ ‫ماليني �سنتيم مغربية بعدما توقفت عن‬ ‫ال�صدور لأن �أكرث من جهة نافدة يف احلكم‬ ‫وال�سلطة �سعت لال�ستيالء عليها‪.‬‬ ‫وب�سبب افتتاحية للم�شاهد انتقد فيها‬ ‫ال�صحفي م�صطفى العلوي وزير الفالحة‬ ‫حممد ال�شرقاوي الع�ضو القيادي يف حزب‬ ‫ال�شورى واال�ستقالل �آن��ذاك �سيجد نف�سه‬ ‫�أم��ام املحاكم‪ ،‬وهي املرة الأوىل يف تاريخ‬ ‫امل �غ��رب احل��دي��ث ال ��ذي ي�ت��م فيها تقدمي‬ ‫ال�صحافة املغربية �إىل رده��ات املحاكم‪،‬‬ ‫الأم��ر ال��ذي �أزع��ج امللك حممد اخلام�س‬ ‫الذي عاتب وزيره لأنه �أقدم على حماكمة‬ ‫ال�صحافة يف �شخ�ص م�صطفى العلوي‬ ‫�صاحب جملة ال�شاهد‪.‬‬ ‫امل �ل��ك حم �م��د اخل��ام ����س ومب �ج��رد ع��ودت��ه‬ ‫م��ن امل �ن �ف��ى �إب� ��ان ح �� �ص��ول امل��غ��رب على‬ ‫ا�ستقالله �سنة ‪1956‬م ظ��ل على متا�س‬ ‫مبا�شر مع رم��وز احلركة الوطنية ورم��وز‬ ‫ال���ص�ح��اف��ة امل �غ��رب �ي��ة‪ ،‬ب�ح�ي��ث ك ��ان يقيم‬ ‫با�ستمرار لقاءات توا�صلية مع ال�صحافيني‬ ‫ح��ول ق�ضايا ال�ش�أن العام املغربي و�أف��اق‬ ‫م�ستقبله‪ ،‬وهو النهج الذي �سار عليه امللك‬ ‫احل�سن الثاين �أيام كان ولي ًا لعهد اململكة‪،‬‬ ‫ومبجرد �أن ينتهي امللك حممد اخلام�س‬ ‫لقاءه مع ال�صحفيني‪ ،‬ك��ان ي�أخذهم معه‬

‫�إىل مقر �إقامته اخلا�صة ليوا�صلوا احلوار‬ ‫والنقا�ش حول ا�سرتاتيجيات تدبري �ش�ؤون‬ ‫الدولة املغربية امل�ستقلة حديثا‪ .‬وه��ذا ما‬ ‫�أك��د عليه ال�صحفي م�صطفى العلوي يف‬ ‫كتابه م��ذك��رات �صحفي وث�لاث��ة ملوك يف‬ ‫�أكرث من مرة‪.‬‬ ‫ورغ ��م ق��رب ق �ي��دوم ال���ص�ح��اف��ة املغربية‬ ‫م�صطفى ال �ع �ل��وي م��ن دوائ���ر احل �ك��م يف‬ ‫املغرب فهو مل ي�سلم من مقالب تناق�ضات‬ ‫امل���ص��ال��ح ب�ين م �� �س ��ؤويل ال��دول��ة و�أج �ه��زة‬ ‫اال�ستخبارات التي كان يتزعمها اجلرنال‬ ‫�أفقري العقل املدبر النقالبي ‪،1972 - 1971‬‬ ‫هذا الأخري الذي كان يتعامل مع ال�صحافة‬ ‫ب �ح��ذر � �ش��دي��د‪ ،‬وه ��و ال ��ذي زج ب�صاحب‬ ‫ال�ك�ت��اب يف م�ت��اه��ات امل�ج�ه��ول و��س��رادي��ب‬ ‫ال�سجون املعتمة بعد اختطافه وتعذيبه �إىل‬ ‫درج��ة �أن ال��دود نبت يف �أخم�ص قدميه‪،‬‬ ‫ول��وال �أن أ�ح��د معارفه ال��ذي كان نزي ًال يف‬ ‫معتقل «دار املقري» الرهيب التقاه �صدفة‬ ‫وع��اجل��ه‪ ،‬لكان الرجل الآن يف خرب كان‪.‬‬

‫أهمية الكتاب تكمن في‬ ‫استحضاره ألهم محطات‬ ‫تاريخ المغرب الحديث‬ ‫الذي واكبته الصحافة‬ ‫المغربية إعالمي ًا وبروح‬ ‫مهنية عالية‬

‫وهو الأ�ستاذ املكي زاكواغ الذي د َّر�س اللغة‬ ‫الفرن�سية لل�صحفي م�صطفى العلوي يف‬ ‫مدار�س حممد اخلام�س والذي عنه يقول‪:‬‬ ‫«هو الذي كان يعلمني ال�صرب والثبات‪ ،‬وهو‬ ‫ينزع من �شقوق �أقدامي‪ ،‬الديدان املتولدة‬ ‫من تعفن ال��دم‪ ،‬حتت �أن�ظ��ار من ال زال��وا‬ ‫على قيد احلياة من رفاق املعتقل»‪.‬‬ ‫تكمن �أهمية الكتاب كذلك يف كونه ي�ؤ ّرخ‬ ‫لأه ��م امل��راح��ل ال �ت��ي قطعتها ال�صحافة‬ ‫املغربية لتكون �شاهدة على التحوالت التي‬ ‫عرفها املغرب منذ ب��زوغ فجر اال�ستقالل‬ ‫مرور ًا بدور الأحزاب الوطنية ورموز احلركة‬ ‫الوطنية من �أمثال املهدي بن بركة وعالل‬ ‫الفا�سي وعبد ال�ك��رمي اخلطابي‪ ،‬يف بناء‬ ‫�صرح املغرب اجلديد الذي مل يرق برغم كل‬ ‫املحاوالت �إىل طموحات ال�شعب املغربي بكل‬ ‫مكوناته يف بناء مغرب املواطنة واحلداثة‬ ‫والدميقراطية‪ ،‬لأن��ه ك��ان دوم � ًا هناك من‬ ‫يعرقل هذا امل�سار وي�ضع متاري�س امل�ؤامرات‬ ‫ليح�صن م�صاحله وامتيازاته‪.‬‬ ‫الكتاب يعد بحق نافذة على �أح��داث مهمة‬ ‫عرفها املغرب وكانت ال�صحافة املغربية يف‬ ‫عمق احلدث م�سلطة ال�ضوء على تفا�صيلها‬ ‫يرويها قيدوم ال�صحافة املغربية م�صطفى‬ ‫العلوي ب�أ�سلوب �سل�س و�شيق يفتح �شهية القارئ‬ ‫على موا�صلة القراءة دون كلل �أو ملل نذكر من‬ ‫�أهم هذه املحطات الواردة يف الكتاب‪:‬‬ ‫ب� ��داي� ��ة اال�� �س� �ت� �ق�ل�ال‪� ،‬أح� � � ��داث ال��ري��ف‬ ‫‪1958‬م‪،‬اختطاف املهدي بن بركة ‪1965‬م‪،‬‬ ‫ال�صراع بني حزب اال�ستقالل وحزب ال�شورى‪،‬‬ ‫والدة االحتاد الوطني للقوات ال�شعبية‪ ،‬انقالب‬ ‫الع�سكر �سنتي ‪1972 - 1971‬م‪.‬‬ ‫وال �ك �ت��اب يف ج��وه��ره م��ذك��رات حتكي كما‬ ‫ورد على ل�سان م�صطفى ال�ع�ل��وي‪« :‬ه��ذه‬ ‫املذكرات �أ�سطر فيها العرب التي ا�ستخل�صتها‬ ‫م��ن ح�ي��ات��ي‪ ،‬وم��ن جت��ارب��ي‪ ،‬وم��ن معاناتي‬ ‫ومقا�ساتي‪� ،‬أنا الذي قطعت �أو�صال قدمي من‬ ‫هول التعذيب الذي �أ�سال الدمع من عيوين‪،‬‬ ‫والدم من �أقدامي يف دار املقري‪ ،‬ال من �أجل‬ ‫انقالب دبرته‪ ،‬وال �سالح حملته‪ ،‬و�إمن��ا من‬ ‫�أجل مقال كتبته»‬


‫كالم أخير‬

‫شجرة وحيدة‬ ‫حبيب ال�صايغ‬

‫هل زرعت مرة �شجرة؟‪� ..‬س�ؤال ب�سيط جد ًا‪،‬‬ ‫لكنه‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬مفاجئ‪ .‬ملاذا ال‬ ‫تفكر فع ًال يف زرع �شجرة؟ تع ّلم فقط كيف‬ ‫ت�ضع البذور يف الرتبة ثم ابد�أ يف ال�سقاية‬ ‫والرعاية‪ .‬حاول �أن تتعلم من فالح عتيق‪،‬‬ ‫وحاول �أي�ض ًا �أن تقتب�س منه �شرارة حبه‬ ‫لل�شجرة ومت�سكه بها‪.‬‬ ‫�سوف تنتظر طلوع ال�شجرة من الرتبة يوم ًا‬ ‫بعد يوم و�ساعة بعد �ساعة‪ ،‬وعندما تن�شق‬ ‫الأر�ض عن �شجرتك يقفز قلبك ناحية‬ ‫ال�شم�س ويتكلم بالنيابة عنك وبالأ�صالة عن‬ ‫نف�سه ‪.‬‬ ‫ثم تكرب �شجرتك جذع ًا وفروع ًا وغ�صون ًا‪،‬‬ ‫ثم تثمر‪ ،‬ثم تخ�ضر وتخ�ضر‪ ،‬و�أنت تراقب‬ ‫وت�شتاق‪.‬‬ ‫بع�ض �أبجدية احلب التعلق ب�شجرة وحيدة‬ ‫بينك وبينها عالقة الفكرة والبذور‪.‬‬ ‫ال�شجرة الوحيدة تقول ما ال تقوله احلديقة‪،‬‬ ‫وعندما تكون بني قلبك الوحيد و�شجرتك‬ ‫الوحيدة حكاية االنتظار والأ�سرار‪ ،‬ف�إن‬

‫وردة حمراء‬ ‫تكرب يوميًا‬ ‫وترمتي على اجلدار‬ ‫بينما اجلدار اجملاور‬ ‫يكتم حزنه يف أعماقه‬ ‫وال يتحرك‪.‬‬

‫ال�شجرة تتحول‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف الليل‪� ،‬إىل‬ ‫غابة‪.‬‬ ‫وميكن �أن تتحول �شجرتك الوحيدة بني الليل‬ ‫والفجر �إىل جنة خ�ضراء تتحدث بلغات عدة‪،‬‬ ‫لكنها تف�ضل يف معظم الأحيان‪� ،‬أن تتكلم بلغة‬ ‫الأ�شجار‪ :‬ال�صمت املطوق ب�أهزوجة الرياح‪.‬‬ ‫اقرتب من �شجرتك يف ال�شتاء وقل لها‬ ‫ق�صيدة غزل من املطر والثلج‪ .‬اقرتب منها يف‬ ‫ال�صيف خ�صو�ص ًا وهي ت�ستحم باملايوه على‬ ‫�شاطئ القمر‪ .‬اقرتب من �شجرتك يف الربيع‬ ‫خ�صو�ص ًا حني تقيم حفلة تعارفها ال�سنوية‬ ‫وتدعو الفرا�شات �إىل مهرجان الدمع‪ ،‬لكن‬ ‫حذار �أن تقرتب منها يف اخلريف‪.‬‬ ‫�شجرتك الوحيدة يف اخلريف تن�شغل عنك‬ ‫بالغيبة والنميمة‪ ،‬وبرتديد النكات ال�سخيفة‪،‬‬ ‫ومبمار�سة الهوايات العادية كحل الكلمات‬ ‫املتقاطعة وجمع الطوابع واالنتحار‪.‬‬



‫يصدر كل شهر ويوزع مجاناً مع مجلة تراث‬

‫يــــة‬

‫هــد‬ ‫مع‬

‫جملة‬

‫العدد المقبل‬

‫تراث‬

‫(‪)7‬‬

‫در كـل‬

‫يـ�شـــ‬ ‫يوزع‬

‫و‬

‫جمانـ ًا مع‬

‫غي‬ ‫ال ِ‬ ‫جي ُه الب َ آنِي َّ ْة‬ ‫ل َّتو ِ‬ ‫ال ُقرْ‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ءا ِ‬ ‫ِقرَا َ‬ ‫لِل‬

‫�شــهر‬

‫جمـلة‬

‫تراث‬

‫تاب‬

‫(‪)6‬‬

‫الك‬ ‫الكرمي‬ ‫هذا‬ ‫نه يف قراآنه ره يف‬ ‫ك�‬ ‫اهلل �سبحا لتي�سري ذ تيعاب‬ ‫ءات�ه؛‬ ‫يه وا�س‬ ‫مة‬ ‫را‬ ‫ةً من‬ ‫ير معان‬ ‫قت�ست حك ج��ه ق�‬ ‫كب‬ ‫ا تتغاير اأو از يف ت�س� ام بها ك� ياتها‪،‬‬ ‫اأن اوة‪ ،‬والإيج �س لاهتم ت من روا ها كلٌّ‬ ‫ب‬ ‫تثبُّ‬ ‫لت‬ ‫ا حكامه‪ ،‬وق َّي بنقلها وال جاج لها اأو اللغ�ي‬ ‫حت‬ ‫اأ لماء ُعن�ا يهها وال اتخذ منها عت�سد‬ ‫لع‬ ‫ج‬ ‫ف‬ ‫ا ما ُعن�ا بت� ومنزعه؛ جة ملذهبه‪ ،‬وا ترجيح‬ ‫هه‬ ‫ك �سب ُم َّتج عدته اأو ح حكام اأو يف ج�هها‬ ‫ح‬ ‫قا‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ب هدًا على �ستنباط ا كلم ببع�س و وكانت‬ ‫د �سعد‬ ‫سا‬ ‫ا‬ ‫� الفقيه يف وت��سَّ ل املت مذهب غريه‪ ،‬اللغ�ي‬ ‫حمم‬ ‫بها‬ ‫خر‪،‬‬ ‫لتحليل‬ ‫د �سعد‬ ‫رد‬ ‫�ص يف‬ ‫حكم على اآ هبه اأو يف هي ا‬ ‫د‪� .‬أحم‬ ‫ىل ذلك‬ ‫متخ�ص يعمل‬ ‫مذ‬ ‫ت�جيه‬ ‫يف اإثبات مي ًعا اإ‬ ‫ك �ادمي��ي الأدب � �ي‪ ،‬بق�سم‬ ‫يف ال‬ ‫ج‬ ‫يلتهم‬ ‫انيها‪،‬‬ ‫سرها‪ .‬جتاهات‬ ‫�اح�ث �أ وال�ن�ق��د �س��اع��د ًا س ��ات‬ ‫�س‬ ‫مع‬ ‫�‬ ‫ب� ل�ب�اغ��ة س �ت �اذ ًا م�� وال ��درا�� � جامعة‬ ‫و لنح�ي لعنا ال هذه ال لبحث يف �ة على‬ ‫ا �ال�ي� ًا اأ� � ��رب �ي��ة رتبية‪،‬‬ ‫�‬ ‫ح� ��ة ال �ع كلية ال‬ ‫وا زغ من خ ان ُيعني با ي��ة امل �رتت �ب جلزري‬ ‫جم� �ال‬ ‫غ‬ ‫�ل �‬ ‫ة‪،‬‬ ‫غ�‬ ‫ك�‬ ‫ال لإ�سامي س‪ ،‬م�سر‪� .‬ات يف س� ��ل‬ ‫وب جت��اهٌ اآخ��ر � ��ه ال�ب�ا جعلها ابن ا وجهًا‬ ‫ا ني �سم� م� ��ؤل� �ف�� �ا (الأ�� � ثرها‬ ‫ج‬ ‫�)‬ ‫ا � ُّم����س الأو افها‪ ،‬حتى ت ‪911‬ه كرمي‪.‬‬ ‫ع �ه ع� � �دة س �ه‪ ،‬م �ن �ه� �سيب�يه واأ طبيق‬ ‫�ل‬ ‫ال‬ ‫(‬ ‫ل� � خ �� �س �� � يف كتاب )‪( ،‬الت �ا���س‬ ‫وت يرها واخت ال�سي�طي يف القراآن ي بثَّها‬ ‫غا‬ ‫ت � لباغية الباغي ين وخ�� اغي‬ ‫لت‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ت ت‪832‬ه�) از الباغ الباغية ا راءات‬ ‫ا يف البحث�ي ‪ -‬امل� �ع ��اطبيق الب طبيق‬ ‫الإعج ظ�اهر ههم للق‬ ‫(‬ ‫�ب �اغ� )‪( ،‬الت ��ة)‪ ،‬الت ية)‪،‬‬ ‫ف على‬ ‫ن وج�ه تتبع ال‬ ‫ت�جي‬ ‫ال رتاكيب ال�ب�ي��ان�ي �ر البديعدرا�سة‬ ‫م ذا الكتاب ي يف معر�س ا؛ ثم ال�ق� وبيان‬ ‫ال ‪-‬ال �� �س ��ر ‪-‬ال���س� العربية‪ :‬مدخل‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ه‬ ‫اغ��ي اغة )‪ ،‬و(‬ ‫ه ما ُء ال�سلف ها‪ ،‬ور�سد اأو حتليله اأثرها‬ ‫ال�ب�‬ ‫الب رفية‬ ‫ت‬ ‫ها‬ ‫عل‬ ‫ري‬ ‫(نظرية �س�ل املع ربية)‪.‬‬ ‫ت�اترة وغ لإ�سارة اإلي خلال�س اأو حركة‬ ‫يف الأ غة الع‬ ‫اغي ا �سب يف‬ ‫م يف ا‬ ‫امل‬ ‫البا‬ ‫طرائقه حث الب ها املنا‬ ‫اإىل‬ ‫م�قع‬ ‫لب‬ ‫ا‬ ‫يف‬ ‫اأثرها تقع بذلك يدها‪.‬‬ ‫وجتد‬ ‫ى‬ ‫به؛ حت لباغة‬ ‫�سيل ا‬ ‫تاأ‬

‫جية‬

‫تراتي‬

‫اس‬

‫الفكر التربوي التراثي‬ ‫الخطيب البغدادي أنموذج ًا‬ ‫للدكتور بوزيد الغلى‬

‫التأ‬ ‫ويل ا‬ ‫لـدال‬ ‫لي‬ ‫سرحان‬ ‫هيثم �‬

‫د‪.‬‬

‫رات‬

‫�شدا‬ ‫إا ‪2 0 1‬‬ ‫‪2‬‬

‫�أحمد‬

‫�سعد‬

‫حممد‬

‫�سعد‬

‫صدر ضمن سلسلة كتاب تراث‪:‬‬

‫اليمن ‪ ،1929‬انطباعات ومشاهدات البعثة السوفيتية‬ ‫األملانية السينامئية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬سعيد دبعي‬ ‫تعدد الرواية يف الشعر الجاهيل‪ ،‬د‪ .‬أمين بكر‬ ‫ذاكرة الطني‪ ،‬شواهد من الرتاث املعامري والعسكري‬ ‫يف مدينة العني‪ ،‬د‪ .‬محمد فاتح صالح زعل‬ ‫حكمة األجداد يف تراث مجتمع اإلمارات‬ ‫دراسة سوسيولوجية يف األمثال الشعبية‪ ،‬د‪ .‬أحمد محمود الخليل‬ ‫تأريخ القدامى للشعر إىل نهاية القرن الرابع‬ ‫مدونة املرزباين أمنوذجاً ‪ ،‬د‪ .‬محمد حبيبي‬ ‫اسرتاتيجية التأويل الداليل عند املعتزلة‪ ,‬الدكتور هيثم رسحان‬ ‫التوجيه البالغي للقراءات القرآنية‪ ،‬د‪ .‬أحمد سعد محمد سعد‬ ‫رسائل البرشى يف السياحة بأملانيا وسويرسا عام ‪ ،1889‬حسن توفيق العدل‬ ‫مثرات ناضجات من جنان الشعر العريب‪ ،‬د‪ .‬عايدي عيل جمعة‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.