زايد والدم العربي يف ذكرى حرب �أكتوبر تراثية ثقافية منوعة ت�صدر عن نادي تــــــــــــــــراث الإمـارات العـدد � 156أكتوبر 2012
ارتياد اآلفاق..
ال�صديق �إىل البيت رحلة ّ العتيق 1883م
مجلس العلوم..
هل كانت الإمارات مهد الإن�سان احلديث؟
ألسنة عربية..
�أغاين الغزل يف تراث البحرين
قال الراوي..
(�س َر ْي َ�س ْر َذ ْه ُبو)..طاردة ْ �إخوتها ومنقذتهم
مع العدد كتاب الشهري
الصورة الذهنية
للتراث
في عيون المصريين
صوت من المستقبل الناس أصناف يف عقولهم :فصنف عقولهم مغمورة بشهواتهم ،فهم يكدون يف طلبها ونيلها، حظوظهم ال يُبصرون بها إال َ َّ املعجلة ،فلذلك ّ ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر. يحرضون على وصنف عقولهم منتبهة ،لكنها خملوطة ُ بسبات اجلهل ،فهم ّ
كملوا يف ِج ِب َّل ِتهم األوىل ،وهذا اخلري واكتسابه ،ويخطئون كثريًا ،وذلك أنهم مل َي ُ الع ّباد اجلهلة والعلماء الفجرة ،كما أن النعت األول موجود يف ٌ نعت موجود يف ُ طالبي الدنيا بكل حيلة وحمالة. وصنف عقولهم ذكية ملتهبة ،لكنها َع ِم َية من اآلجلة ،فهي تدأب يف نيل والسمعة الربانية ،وهذا نعت احلظوظ بالعلم واملعرفة والوصايا اللطيفة ُّ موجود يف العلماء الذين مل تثلج صدورهم بالعلم ،وال َّ حق عندهم احلق وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون يف طلبها السيوف احلداد، اليقني، ّ ويطيلون إىل نيلها السواعد الشداد ،فهم بالكيد واحليلة يسعون يف طلب اللذة ويف طلب الراحة. وصنف عقولهم مضيئة مبا فاء عليها من عند اهلل تعاىل باللطف اخلفي، واالصطفاء السني ،واالجتباء الزكي ،فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون باآلخرة ،فرتاهم حضورًا وهم َغ َيب ،وأشياعًا وهم متباينون. وكل صنف من هؤالء مراتبهم خمتلفة ،وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ. أبوحيان التوحيدي
محتويات العدد تراثية ثقافية منوعة ت�صدر عن مركز زايد للدرا�سات والبحوث بنادي تراث الإمارات
امل�شــرف العــام
حبيـب ال�صــايـغ اال�سـتـ�شـارة العـلـمـيــة
�أ .د .ح�سـن حمـمـد النابـودة �أ.د .يحيى حممد حممـود �أ .حنفي جايل
املر�صد� :أعلن مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم عن تد�شينه مل�ؤمتر دويل جامع حول «الأدب 14 العربي والعامل» ،ينعقد كل عامني ملناق�شة جوانب اخللل الكامن يف «التلقي العربي» على عدة �صعد �أبرزها �أزمات القراءة والرتجمة ،وي�سعى امل�ؤمتر الذي ت�ست�ضيف �أبوظبي دورته الأوىل يف دي�سمرب املقبل بح�ضور نخبة من الأدباء واملفكرين العرب والأجانب� ،إىل توثيق منجز الأدب العربي على خارطة الإرث الثقايف العاملي ،لإعادة اعتباره املفقود �أو املغيب. ق�ضية للنقا�ش :الرتاث هو الذاكرة الأمينة لكل جمتمع ،وهو املخزون الذي تلج�أ �إليه ال�شعوب 24 لت�ستلهم منه اخلربات املرتاكمة يف مواجهة ظروف احلياة �أو االحتكاك بالثقافات الأخرى. ولكنه كم�صطلح لي�س بهذه الب�ساطة فهو كلمة يختلف مدلولها ومفهومها من �شخ�ص لآخر وفق ًا لثقافته وخرباته ،اخلطري �أن �صورتنا عن الرتاث هي التي حتكم طبيعة عالقتنا معه ومدى �إفادتنا منه ،هنا ا�ستطالع حول ال�صورة الذهنية للرتاث يف عيون امل�صريني ،وهو فاحتة �سل�سلة من التحقيقات نتحرى خاللها �صورة ذلك امل�صطلح يف عيون العرب.
مدير التحرير
وليد عالء الدين هيئة التحرير
�شـم�سـة حـمـد الظاهـري فاطمة نايع املـنـ�صـوري حممــد �سعد النمـــر املـراجـعـة والـتـدقـيـق
د .حمـمـد فـاتــح زغـل املديـر الفنـي
فــواز نـاظــم ر�س ــوم
حـ�سـن �إدلـبـي حممد بريم الإخراج والت�صميم
�إيـنـا�س درويـ�ش هـاتف00971 2 2223000 : فـاك�س00971 2 6651115 : �ص.ب� :أبو ظبي 27765
Email: turathmag1@gmail.com
مدير التحرير
waleedalaa@hotmail.com
�أبوظبي للإعالم -توزيع
الرقم املجاين8002220 : لالت�صال من اخلارج 00971 2 4145000 : فاك�س 00971 2 4145050 : distribution@admedia.ae
�ساحة احلوار :حممد امليموين؛ ا�سم يعرفه جمتمع ال ُكتاب واملثقفني املغاربة ،منوذج مبدع امتزج 36 فيه املوروث الديني العربي ،والثقافات املغربية والإ�سبانية والفرن�سية .تعرفه مدينته باملثقف طيب القلب ووافر الأدب� .أحد رواد احلداثة املتفائلني واملحبني للأجيال ال�شعرية يف املنطقة .يف �ساحة احلوار حتدث امليموين عن بدايات التكوين را�صد ًا حتوالت ال�شعرية يف جيل ب�أكمله ،و�أكد امليموين �أن تراث االن�سان هو املِف�صل الدقيق يف هويته ،وعليه �أال ميل قراءته الواعية الناقدة بق�صد هدم الأوهام والت�صورات امل�سبقة ،م�ؤكد ًا �ضرورة �أن نعيد قراءة تراثنا بجر�أة تك�شف موقعنا منه وموقعه منا ،بحيث نبني حا�ضر ًا وم�ستقب ًال رافعته وركيزته تراثنا الإيجابي ،وال نكتفي بجعله �سكن ًا ونهمل البناء فوقه �أو التطوير ،و�إال انتهينا �إىل احل�ضي�ض للأبد. وجه يف املر�آة� :إذا كانت الأقدار اختارت ال�شيخ عبد الرحمن الكواكبي ،ابن حلب ،لي�صبح مبعوث 46 العناية الإلهية لتنوير الوجدان العربي ،ف�إنه قد اختار �أن يفعل ذلك كما ينبغي فعله؛ فانطلق يف مقاومته لال�ستبداد من فكرتني �أ�سا�سيتني هما جتديد اخلطاب الديني و�إ�صالح التعليم ،و�أعلن �أن جتديد الدين البد و�أن ينبني على الفعل والرغبة يف التغري ومقاومة الظاملني ولي�س على الت�سليم والر�ضا ،و�أن النه�ضة تقوم على الدين العامل والعلم الواعي ،وارتكز مذهبه الأخالقي على �أن الإرادة هي �أم الأخالق و�أن اال�ستبداد يقتل �إرادة النا�س فيدفعهم �إىل الرياء والنفاق. ارتياد الآفاق :رحلة ال�صديق �إىل البيت العتيق� ،إحدى �أ�شهر الرحالت احلجازية ،وهي رحلة 54 تعليمية ت�ستفي�ض يف �شرح �ش�ؤون الفقه وال�شعائر الإ�سالمية ،وال �سيما ما يتعلق منها باملنا�سك والواجبات والفرو�ض اليومية املرتتبة على احلاج ،والرحالة يجهد نف�سه ويجهد قارئه معه يف متابعة كل ما يخطر ،وما ال يخطر ،يف بال امل�سلم الذي ينوي التوجه �إىل بيت اهلل احلرام لي�ؤدي فري�ضة احلج والعمرة .وال يرتك م�س�ألة وال �شاردة من امل�سائل املتعلقة بالأماكن املقد�سة وكيفية زيارتها وما قيل فيها مما تعددت فيها االجتهادات والآراء واملرويات وا�ست�أثرت باهتمام الفقهاء والباحثني و�شغلت حيزا من مدوناتهم� .إال وكان لها مكان يف منت رحلته ون�صيب من البحث والتدقيق حيث ي�أخذها من م�صادرها وي�ستعر�ض �أ�سانيدها كما وردت يف �أحاديث ومدونات �أئمة املذاهب الإ�سالمية و�أبرز علمائها. أيضاً القا�ص �سعيد الكفراوي يكتب عن عفيفي مطر ،والدكتور �سعيد يقطني يكتب عن االنتقائية وال�شمولية يف الرتاث العربي الإ�سالمي ،والدكتور معجب الزهراين ير�صد مالمح فكر التوح�ش، والروائي جمال الغيطاين ير�صد تلك امل�سافة بني ال�شاعر مادح ًا ومتغني ًا بذاته يف ال�شعر العربي ،ويف الذكرى التا�سعة والثالثني حلرب �أكتوبر ي�ستعيد ال�صحايف ه�شام علي موقف الراحل الكبري ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان وقدا�سة الدم العربي ،ويكتب الدكتور �أمين بكر عن �سناء مو�سى التي تر�سم بغنائها الوطن ،ويختتم ال�شاعر حبيب ال�صايغ العدد بت�سا�ؤله :ملاذا ال تفكر يف زرع �شجرة؟
126
يا هال
ي ا ه ال
سؤال التراث
املو�سع الذي �أجرته (تراث) يف القاهرة ،والذي ند�شن يف اال�ستطالع ّ به �سل�سلة ا�ستطالعات تهدف �إىل حتري مالمح ال�صورة الذهنية
136
46
54
سعر النسخة
الإمارات العربية املتحدة 10دراهم -اململكة العربية ال�سعودية 10رياالت الكويت دينار واحد � -سلطنة عمان 800بي�سة -قطر 10رياالت -مملكة البحرين دينار واحد -اليمن 200ريال -م�صر 5جنيهات - ال�سودان 250جنيهاً -لبنان 5000لرية � -سورية 100لرية -اململكة الإردنية الها�شمية ديناران -العراق 2500 :دينار -فل�سطني ديناران - اململكة املغربية 20درهماً -اجلماهريية الليبية 4دنانري -اجلمهورية التون�سية ديناران -بريطانيا 3جنيهات � -سوي�سرا 7فرنكات -دول االحتاد الأوروبي 4يورو -الواليات املتحدة الأمريكية وكندا 5دوالرات. االشتراكات
للأفراد داخل الدولة »100« :درهم /للأفراد من خارج الدولة»150« : درهماً /للم�ؤ�س�سات داخل الدولة »150« :درهماً /للم�ؤ�س�سات من خارج الدولة »200« :درهم.
العربية حول الرتاث� ،سعينا �إىل التعرف على مالمح ال�صورة الذهنية للرتاث بني �شرائح املجتمع امل�صري املختلفة ،لنعرف كيف يفهم امل�صريون الرتاث ،وب�أي �صورة يرتبطون به ويتمثلونه يف حياتهم اليومية. ً تباينت الآراء وفقا مل�ستويات وعي وثقافة امل�شاركني وتخ�ص�صاتهم واهتماماتهم� ،إال �أنها يف جمملها ك�شفت عن فجوة كبرية بني ال�صورة امل�أمولة للرتاث بني النا�س ،وال�صورة الذهنية ال�سائدة عنه، والتي تعتمد يف م�صادرها -يف الغالب الأعم -على ما يتلقاه النا�س يف امل�ؤ�س�سة التعليمية ،املتهمة بالتحيز وتغليب ال�سيا�سي على الثقايف، وعلى ما يبثه الإعالم بو�سائله املختلفة ،وهو بدوره متهم باالتهامات نف�سها� ،إ�ضافة �إىل اتهامات �أخرى بالت�سطيح واجتزاء املعلومات. ك�شف هذا اال�ستطالع ،عن ما ي�شبه القطيعة مع الرتاث ،فعلى الرغم من وجوده كفكرة غائمة يف خلفية كل من ا�ستطلعنا �آراءهم، وحر�صهم على التعبري عن حنينهم البالغ �إليه وحزنهم لعدم االهتمام به ومطالبتهم مبزيد من العناية به وتطويره ...الخ� ،إال �أن ت�شتت ًا وا�ضح ًا يف تلك املداخالت يك�شف قدر الت�شتت املماثل يف الروافد الأ�صلية املعنية بتعريف النا�س برتاثهم وتنمية وعيهم ب�أهميته وكيفية متثله يف حياتهم ،ويف مقدمة تلك الروافد التعليم والإعالم. حر�صت (تراث) على طرح ت�سا�ؤالت موحدة على مناذج من �شرائح خمتلفة الأعمار والثقافات واخللفيات االجتماعية يف ال�شارع امل�صري ،وا�ستقت �إجاباتهم ،ونخطط ال�ستكمال الت�سا�ؤل يف �شوارع العامل العربي مب�شرقه ومغربه ،متهيد ًا لطرح هذه الإجابات على خمت�صني بغية تقدمي قراءات وتقييمات علمية ،رمبا تكون �شارة بدء المتالك برامج عمل عربي متكاملة حللحلة هذه الق�ضية املعقدة. ما نقوم به جمرد حماولة للإم�ساك بالفكرة ،والبحث عن مداخل للإجابة على عديد من الت�سا�ؤالت :هل تكمن الأزمة يف امل�صطلح نف�سه :تراث� ،أم يف ت�صوراتنا حول امل�صطلح� ،أم تكمن يف ممار�ساتنا جتاه ما نعده تراث ًا وفقا لتلك الت�صورات؟ ال �شك يف �أن الق�ضية �أعقد من �أن نحظى ب�إجابة �سل�سة عليها ،ولكن ال نرى بد ًا من تكرار الت�سا�ؤل وحماولة الإم�ساك بخيوط الإجابات، فال�س�ؤال وحده هو القادر على حل �أزمة تردي مالمح �صورتنا الذهنية عن الرتاث ،وبالتايل �أزمة تعاطينا معه ،وال�س�ؤال وحده هو القادر على حتويل ذلك الرتاث �إىل خيوط حية يف ن�سيجنا احلي ،تنمو معنا وننمو بها ونحن من�ضي نحو امل�ستقبل.
«تراث»
6
الشهر
الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
تحت رعاية سلطان بن زايد
�سعيد املناعي ومرمي ال�شنا�صي �أثناء تكرمي الفائزين
نادي تراث االمارات يك ّرم الفائزين يف «بيئتنا بعد�سة الكامريا» �أبوظبي -حممود ا�سماعيل بدر
نظم نادي تراث االمارات ال�شهر الفائت يف امل�سرح الوطني ب�أبوظبي ،احلفل اخلتامي لإعالن نتائج م�سابقة بيئتنا بعد�سة الكامريا 2012يف دورت�ه��ا ال�سابعة ،والتي �أقيمت حتت �شعار «ال�صحراء تنب�ض باحلياة»، و�أ�� �ش ��رف ع�ل��ى تنفيذها وح���دة البحوث البيئية يف ال�ن��ادي بالتعاون والتن�سيق مع وزارة البيئة واملياه ،برعاية كرمية من �سمو ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د �آل نهيان ممثل �صاحب ال�سمو رئي�س ال��دول��ة رئي�س نادي تراث الإم��ارات مب�شاركة نحو 225م�صور ًا وم�صورة ،وح�ضور الدكتورة مرمي ال�شنا�صي الوكيل امل�ساعد لقطاع ال�شئون الفنية يف وزارة البيئة واملياه و�سعيد علي املناعي مدير �إدارة الأن�شطة وال�سباقات بالإنابة ،وعبد الكرمي �آل علي رئي�س وحدة البحوث البيئية
يف النادي ،وعدد من �أولياء �أمور امل�شاركني، واملهتمني مبجال البيئة من عدة م�ؤ�س�سات وهيئات وطنية . و�أل�ق��ى حممد التميمي كلمة ال�ن��ادي �أكد فيها اهتمام نادي تراث االمارات ب�أن تكون م�سابقة هذا العام كما يف الأع��وام ال�سابقة من�سجمة مع التوجهات احلكومية البيئية ليبقى النادي رديف ًا نوعي ًا للجهود احلكومية يف املجال البيئي وغريه من املجاالت ،م�شريا �إىل حر�ص ال�ن��ادي �أن يكون مو�ضوع هذا العام ا�ستجابة لل�شعار ال��ذي �أعلنته وزارة البيئة واملياة ليوم البيئة الوطني «ال�صحراء تنب�ض باحلياة» ،ون��وه يف كلمته اىل �أهمية ال��دع��م ال��ذي يقدمه �سمو ال�شيخ �سلطان بن زاي��د �آل نهيان لن�شاطات النادي بوجه عام وامل�سابقة بوجه خا�ص ،و�أن توا�صلها
وجناحها وتطورها منوط بتوجيهات �سموه وحر�صه على تطوير هذه الفعالية وتكوين قاعدة �شبابية للت�صوير البيئي للإ�سهام يف حتقيق بيئة م�ستدامة يف الدولة. من جانبها �أكدت الدكتورة مرمي ال�شنا�صي يف كلمتها �أهمية الدعم الذي يقدّمه �سمو ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د �آل نهيان ممثلل �صاحب ال�سمو رئي�س ال��دول��ة رئي�س نادي ت��راث االم��ارات للربامج البيئية يف الدولة على امل�ستويات كافة ،وقالت يف �سياق مت�صل �إن ال���ص�ح��راء يف دول ��ة االم� ��ارات حتظى مبكانة ه��ام��ة يف وج ��دان �أب �ن��اء االم ��ارات ب��إع�ت�ب��اره��ا ج ��زءا �أ��س��ا��س�ي��ا م��ن البيئات الطبيعية وتراثا ومكونا للحياة يف املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل ،و�أ�ضافت � :إن دولة االم� ��ارات ت��ؤم��ن ب���أن البيئة ال�صحراوية
جانب من احل�ضور يف حفل تكرمي الفائزين مب�سابقة «بيئتنا بعد�سة الكامريا»
ناب�ضة باحلياة ،واملحافظة على مواردها وعنا�صرها مطلب �أ�سا�سي ،ون�ؤكد على � �ض��رورة م��وا��ص�ل��ة ه��ذا ال�ن�ه��ج التنموي وت �ط��وي��ره وت�شجيع ك��ل �أن���واع الأن�شطة التنموية التي تقام يف البيئة ال�صحراوية واال� �س �ت �م �ت��اع ب�ه��ا م��ع االل� �ت ��زام مب�ب��ادئ اال�ستخدام الر�شيد من �أج��ل املحافظة ع�ل��ى ن �ق��اء ه��ذه ال�ب�ي�ئ��ة ول�ت�ب�ق��ى ناب�ضة باحلياة ملختلف الأجيال. و�ألقى يو�سف جا�سم علي كلمة امل�شاركني ن �ق��ل خ�لال �ه��ا ب��ا� �س��م زم�ل�ائ ��ه ال���ش�ك��ر والتقدير ل�سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل نهيان جلهوده ودعمه النوعي للم�سابقة منذ انطالقتها ما جعلها ركن ًا قوي ًا من �أرك� ��ان ال�ن���ش��اط ال�ب�ي�ئ��ي ال ��ذي ت�شهده الدولة عاما بعد ع��ام.وق��ام �سعيد علي املناعي والدكتورة مرمي ال�شنا�صي وعبد ال �ك��رمي �آل ع �ل��ي ب�ت�ك��رمي ال�ف��ائ��زي��ن يف مو�ضوعي امل�سابقة التي �شارك فيها نحو 225م�صور ًا وم�صورة ،ق ّدموا � 910صورة يف مو�ضوعيها :الزهور ال�صحراوية يف الدولة ،والطيور ال�صحراوية يف الدولة. وح�صد مايكل ج��اوت فيال�سكو املركز
الأول يف مو�ضوع الزهور ال�صحراوية ونال جائزة مالية بقيمة ثالثني �أل��ف دره��م ، وجاء حممد عتيق حارب حممد يف املركز ال �ث��اين وح���ص��ل ع�ل��ى خم�سة وع�شرين �ألف درهم ،وحقق املركز الثالث يو�سف جا�سم �إبراهيم العلي ونال ع�شرين �ألف دره ��م ،ويف امل��رك��ز ال��راب��ع م��وزة حممد الفال�سي ونالت خم�سة ع�شر �ألف درهم، وذهب املركز اخلام�س للمت�سابقة مرمي عبد اهلل حممد الغفلي ونالت ع�شرة �آالف درهم ،وال�ساد�س بابليتو رامو�س تاي�سون ونال ت�سعة �آالف درهم ،وال�سابع رودريك كوباكوب باري وح�صل على ثمانية �آالف دره��م ،والثامن �سعاد خليفة حميد بن رك��ا���ض ون��ال��ت �سبعة �آالف دره��م .ون��ال الفائزون يف مو�ضوع الطيور ال�صحراوية جوائز م�ساوية ملثيلتها يف املو�ضوع الأول ،وحل املت�سابق خليفة �أحمد مو�سى خادم ال�ظ��اه��ري يف امل��رك��ز الأول ،ويف املركز الثاين �أحمد عبد اللطيف يو�سف �آل علي، والثالث �سي�سلو بريجنويل كرير ،والرابع حممد ابراهيم حممد امل�شريف ،واخلام�س كري�ستوفر ميلر ،وال�ساد�س يو�سف جا�سم
اب��راه �ي��م ال �ع �ل��ي ،وال �� �س��اب��ع اح �م��د عبد الرحمن احمد �شهيل ،والثامن حممد عتيق ح��ارب حممد .فيما حجبت جلنة حتكيم امل�سابقة جوائز املركزين التا�سع والعا�شر يف كال املو�ضوعني ،ومت تكرمي �أع�ضاء جلنة حتكيم امل�سابقة املكونة من الدكتور جمال جمعة مدين وحممد عبد اهلل املرزوقي والدكتورة �شذى �إ�سماعيل جيبوري وزينة ح�سني ب��اه��ارون ،كما مت تكرمي العديد من امل�ؤ�س�سات والهيئات والأف � � ��راد ال��ذي��ن �أ� �س �ه �م��وا يف �إجن ��اح امل�سابقة . وع�ق��ب خ�ت��ام ح�ف��ل ت�ك��رمي ال�ف��ائ��زي��ن يف امل���س��اب�ق��ة مت ّ اف �ت �ت��اح م �ع��ر���ض ال���ص��ور ال�ف��وت��وغ��راف�ي��ة وال ��ذي ت�ضمن ن�ح��و 76 � �ص��ورة خم �ت��ارة م��ن �إج��م��ايل ال���ص��ور امل�شاركة ،والتي ت�برز �أهمية مو�ضوعي امل���س��اب�ق��ة والأم ��اك ��ن ال �ت��ي ت�ع�ي����ش فيها ال�ط�ي��ور وال��زه��ور يف ال��دول��ة ،ك�م��ا ت�برز م �ه��ارات وم��واه��ب امل���ش��ارك�ين يف جم��ال الت�صوير البيئي و�أه �م �ي��ة ت�ن��وع وث��راء ال �ب �ي �ئ��ة ال �� �ص �ح��راوي��ة ال�ب�ري��ة يف دول��ة االمارات العربية املتحدة
8
الشهر
الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
نادي تراث الإمارات ي�شارك يف معر�ض ال�صيد والفرو�سية ال�سامرائي �أبوظبي -حم ّمد رجب ّ اخ�ت�ت��م ن ��ادي ت ��راث الإم � ��ارات ال�شهر الفائت م�شاركته املتميزة يف فعاليات معر�ض ال�صيد وال�ف��رو��س�ي��ة «�أب��وظ�ب��ي »2012ال��ذي �أق�ي��م يف �أر� ��ض املعار�ض ب�أبوظبي يف الفرتة من اخلام�س وحتى الثامن من �سبتمرب الفائت. �شارك نادي تراث الإمارات يف فعاليات الدورة ملعر�ض ال�صيد والفرو�سية بعد �أن حر�ص على امل�شاركة الفاعلة يف الدورات ال�سابقة بنا ًء على توجيهات �سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل نهيان ممثل �صاحب ال�سمو رئي�س الدولة رئي�س ن��ادي تراث
الإمارات ،وذلك ملا للمعر�ض من ارتباط وث �ي��ق ب� ��أه ��داف ال��ن��ادي ور� �س��ال �ت��ه من جانب ،وللأهمية اخلا�صة التي ميثلها املعر�ض ،حيث يعد منرب ًا مميز ًا للتوا�صل م��ع مم�ث�ل�ين ع��ن خم�ت�ل��ف احل �� �ض��ارات وال�شعوب وفر�صة ثمينة لع�شاق الرتاث لإطالعهم على مفردات ال�تراث املحلي الذي يحر�ص النادي على املحافظة عليه ون�شره وتعليم وتثقيف وت��دري��ب اجليل اجلديد للتم�سك ب��ه ،وذل��ك عرب خطط وب��رام��ج م��درو� �س��ة وزاخ� ��رة بالأن�شطة والفعاليات الرتاثية املتنوعة وال�شاملة.
ا�شتمل جناح ال �ن��ادي يف املعر�ض على قرية تراثية متكاملة حتكي للزائرين حياة �أيام املا�ضي التي كان يعي�شها ابن الإم � ��ارات ،وتعرفهم بتفا�صيل املكان واحل��رف التقليدية ال�شعبية القدمية، ف���ض� ً لا ع��ن ع��رو���ض �إدارات و�أق �� �س��ام ومراكز النادي ،وفعالياته املختلفة التي جتمع ما بني الرتاث والثقافة والفنون. �شارك فر�سان نادي تراث الإم��ارات يف حفل افتتاح املعر�ض با�ستعرا�ض مميز �أم ��ام احل���ض��ور ،وق��دم��وا ا�ستعرا�ضات يومية يف �صالة الفرو�سية نالت �إعجاب
تعليم النا�شئة هدف من �أهداف م�شاركة نادي تراث الإمارات باملعر �ض
احل�ضور ملا �أبدعوه من مهارات فرو�سية متقدمة يف احلركة ويف التقاط الهدف، كما ��ش��ارك ق�سم الهجن يف ال�ن��ادي يف عرو�ض الهجن �أم��ام جمهور املعر�ض، وحظيت عرو�ضهم �إعجاب اجلميع. ا��س�ت�ق�ط��ب ج �ن��اح ال� �ن��ادي خ�ل�ال �أي ��ام املعر�ض الأربعة �أع��داد ًا كبرية من كبار م �� �س ��ؤويل ال��دول��ة ،وال��وف��ود ال�سياحية والعائالت وجمهور من املقيمني داخل وخ��ارج ال��دول��ة ،حيث وف � ّر اجل�ن��اح لهم جل�سة �ضيافة عربية يف بيت َ ال�ش َعر وركن املقهى ال�شعبي. يذكر �أن جناح ال�ن��ادي �أ�ستقبل خالل �أي���ام امل�ع��ر���ض ع���دد ًا م��ن الف�ضائيات لت�سجيل ح ��وارات وت�ق��اري��ر خا�صة عن تراث الإمارات وم�شاركة النادي يف هذا املعر�ض ال�تراث��ي ،وق��د �شارك يف جناح
النادي كل من وحدة املتاحف واملقتنيات مبركز زاي��د للدرا�سات والبحوث ،التي عر�ضت للجمهور لأول م ّرة فيلم ًا خا�ص ًا وخ���ص���ص��ت رك ��ن � �ص��ور ي���روي ل�سرية وم �� �س�يرة امل �غ �ف��ور ل��ه ب � ��إذن اهلل تعاىل ال�شيخ زاي��د بن �سلطان �آل نهيان طيب اهلل ث��راه ،بالتعاون مع حم ّمد اخلالدي امل���ص��ور اخل��ا���ص للمغفور ل��ه� ،إ��ض��اف� ًة �إىل عر�ض لوحة و�شهادة من مو�سوعة
المعرض ضم ركن صور يروي سيرة ومسيرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب اهلل ثراه» ،بالتعاون مع محمد الخالدي المصور ّ الخاص للمغفور له
غيني�س ل�ل��أرق��ام القيا�سية ع��ن �أك�بر جمموعة ط��واب��ع ت�شكل جُمتمع ًة �صورة كبرية للمغفور له ب�إذن اهلل ،ولوحة متثل � �ص��ور ًا ل��ه ط�ي��ب اهلل ث ��راه ،وه��و ي�شهد عر�ض ًا لل�صقور يف مزرعة عني اجلوهرة باملغرب عام 1996م ،ولوحتني لرحلتني لل�صيد يف ال �ب��اك �� �س �ت��ان ع��ام��ي 1994 و1998م. فيما �شاركت �إدارة الإع�لام والعالقات العامة بالنادي بعر�ض �إ�صدارات النادي ومركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم ال�ت��ي تنوعت ب�ين الإ�� �ص ��دارات الأدب �ي��ة والرتاثية والفكرية ،ودواوين ل�شعراء من الإم��ارات ،والكتب وال��دواوي��ن املُحققة، وجم�ل�ات ت ��راث ،والإم� ��ارات الثقافية، والإع�لام والع�صر ،وجملة بيت ال�شعر، بينما �شاركت �إ�سطبالت ور�سان بجناح
10
الشهر
الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
من جناح النادي يف معر�ض ال�صيد والفرو�سية
متميز ،وعر�ضت وحدة البحوث البيئية العديد من الإ�صدارات البيئية كالأطل�س البحري لإمارة �أبوظبي ،بن�سختيه العربي والإجن �ل �ي��زي ،واللعبة البيئية ،واللعبة البيئية على �شا�شة اللم�س واملخ�ص�صة ل�ل��أط��ف��ال ،وخ���ص���ص��ت رك��ن�� ًا ل���ص��ور م�سابقة بيئتنا بعد�سة الكامريا ،وركن ًا مل�سابقة �إبداع من النفايات. كما نظمت �إدارة الأن�شطة وال�سباقات البحرية معر�ض ًا ج�سد اهتمام النادي بريا�ضات ال�صيد والفرو�سية والرماية، وق��دم��ت ف�ق��رات تراثية لطالب مراكز ال� �ن ��ادي ل�ل�ب�ن�ين وال� �ب� �ن ��ات ،وع��ر� �ض��ت �أف�ل�ام� � ًا ت��وث�ي�ق�ي��ة ل�ل�أن �� �ش �ط��ة ،ووزع ��ت ن�شرات ومطبوعات تعريفية ب�أن�شطة الإدارة� ،إ� �ض��اف � ًة �إىل �إج���راء عمليات
ت�سجيل ع�ضوية �شباب النادي ،يف حني عر�ض ق�سم ال�سباقات البحرية حمم ًال تراثي ًا �شراعي ًا ،وع��دد ًا من امل�ستلزمات البحرية� ،أما القرية الرتاثية ف�أعدت للجمهور منوذج ًا لقرية تراثية متكاملة ت�ألفت م��ن دك��اك�ين احلرفيني والبيوت القدمية كبيت العني ،وبيت البحر والرب، واحل���ض�يرة ،واملقهى ال�شعبي ،والركن البحري لعر�ض �شباك ال�صيد القدمية،
شاركت أمهات المشغل النسائي بالقرية التراثية بعرض أنواع اللؤلؤ المختلفة وطريقة و أدوات وزنه للجمهور
ورك��ن ال�ط� ّوا���ش ال��ذي ع��ر���ض للجمهور �أن��واع الل�ؤل�ؤ املختلفة ،وطريقة و�أدوات وزن الل�ؤل�ؤ مبقايي�س خا�صة ،مع م�شاركة �أمهات امل�شغل الن�سائي بالقرية الرتاثية، ويف امل�شغل الن�سائي بال�سمحة وتقدمي ال�ضيافة للجمهور يف بيت ال�شعر. و�شاركت «قرية بوذيب للقدرة» مبجموعة م��ن ال���ص��ور وع��رو���ض ال�ف�ي��دي��و لإب ��راز ن�شاطاتها يف خمتلف جم��االت �سباقات الفرو�سية ،ومدر�سة الإم ��ارات لل�شراع التي عر�ضت الدروع وقوارب الأوبتم�ست والليزر ،وكذلك �أدوات ريا�ضة الكايت ��س�يرف ،والتزلج على امل��اء ،وال�ق��وارب الرملية ،ووفرت ركن ًا عر�ضت فيه �صور ًا لأن���ش�ط��ة وم �� �ش��ارك��ات امل��در� �س��ة داخ��ل وخارج الدولة
..وخالد بن �سلطان بن زايد �آل نهيان يزور املعر�ض �أبوظبي -خالد ملكاوي زار ال�شيخ خالد بن �سلطان بن زايد �آل ن�ه�ي��ان ال�شهر ال�ف��ائ��ت م�ع��ر���ض ال�صيد والفرو�سية «�أبوظبي 2012م» وجتول بني �أجنحته مبدي ًا �إعجابه بامل�ستوى املتقدم الذي و�صل �إليه املعر�ض. وجت��ول ال�شيخ خالد يف �أرج��اء املعر�ض، حيث �شاهد ع��دد ًا من الأجنحة املحلية والعاملية امل�شاركة التي عر�ضت �أح��دث �أ�سلحة ال�صيد ،وا�ستمع �إىل �شرح من عدد من العار�ضني حول منتجات املعر�ض والتعرف على �أحدث االبتكارات يف جمال ال�صيد وال�ف��رو��س�ي��ة ،م���ش�ي��د ًا مب�ستوى ت�ن�ظ�ي��م امل �ع��ر���ض وب �ح �ج��م امل �� �ش��ارك��ات وبنوعية املعرو�ضات .و�أع��رب �سموه عن فخره لتنظيم دول��ة الإم���ارات ملثل هذا
احل��دث املهم ال��ذي ميثل فر�صة اللتقاء امل�ه�ت�م�ين وامل�ع�ن�ي�ين ب��ري��ا��ض�ت��ي ال�صيد والفرو�سية. ك�م��ا جت ��ول ��س�م��وه يف �أج �ن �ح��ة ع ��دد من الهيئات الثقافية ،من بينها ن��ادي تراث الإم ��ارات� ،إذ ط��اف على خمتلف �أرك��ان اجلناح مبدي ًا �إعجابه مبحتويات اجلناح التي عر�ضت خمتلف مفردات الرتاث يف �شكله احلي ،م�ؤكد ًا على �أهمية امل�شاركة يف هذا احلدث الرتاثي الدويل الذي يعمل على تعزيز مفاهيم احلفاظ على الرتاث، ون�ق�ل��ه �إىل ال�ن��ا��ش�ئ��ة م��ن �أج ��ل ربطهم مبوروثهم وتقاليدهم العريقة. و�أ�شاد ال�شيخ خالد بن �سلطان بن زايد �آل نهيان باالهتمام الكبري ال��ذي يوليه
�صاحب ال�سمو ال�شيخ خليفة بن زايد �آل نهيان رئي�س الدولة «حفظه اهلل» للرتاث يف خمتلف جماالته والدعم الالحمدود ال��ذي يحظى به املعر�ض من قبل �سموه، كما �أ�شاد باجلهود املباركة للفريق �أول �سمو ال�شيخ حممد بن زايد �آل نهيان ويل عهد �أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات امل�سلحة يف دع��م ال�تراث واحلفاظ عليه وغر�سه يف نفو�س وق�ل��وب �أب �ن��اء الوطن باعتباره ال��رك�ي��زة الأ�سا�سية يف عملية ال �ب �ن��اء احل�����ض��اري ،وك��ذل��ك ب��اجل�ه��ود املو�صولة واملتابعة الدائمة من قبل راعي املعر�ض �سمو ال�شيخ حمدان بن زايد �آل نهيان ممثل احلاكم يف املنطقة الغربية رئي�س نادي �صقاري الإمارات
عبق عبق
12 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�آخر
الليل ،وكنا نخرج من زقاق املدق ،لنجل�س هناك على مقعد من رخام ،حتت ظل النا�صر حممد ،بني مق�صورة اخلارج ،و�سبيل حممد علي ،روعة املكان يف الليل ،وعلو امل�سجد البهيج .كنت �شارد الذهن ،وليل املدينة الألفية يغمرين بفي�ض من عطف يج�سد ما فات ويحييه .فاج�أين حممد عفيفي مطر ال�شاعر ،وقد حت�س�س �شعره اخل�شن ،الذى وخطه ال�شيب ،كما يفعل دائم ًا« :هل تعرف؟ �أول مرة �أقول لك هذه احلكاية ،ولدتني �أمي يف احلقول، ذهبت لتملأ جرتها من الرتعة البعيدة «النعناعية» ففاج�أها طلق املخا�ض، وهي تغم�س اجلرة باملاء ،فدخلت بني �أعواد الذرة ،ومن دون م�ساعدة من �أحد �أخرجتني �إىل الدنيا وو�ضعتني يف حجرها وعادت �إ ّ يل م�سرعة ،وعلى �ساقيها كما قالت ،تتحدر خيوط الدم، حتت �شم�س ال�صيف القادح ،ولعلمك ف�إنني من يومها و�أنا �أحمل حلظة امليالد هذه و�شم ًا ج�سدي ًا وروحي ًا ال يزول». �صمتَ حلظة .ك�أنه يهم�س لنف�سه «مكان ه��و ب�����ؤرة ال��ت��ك��وي��ن اجل��ام��ع ب�ين الطمي والنهر والدم». عاد ل�صمته ،ثم �سمعته ين�شد ب�صوته الأليف: تلب�س ال�شم�س قمي�ص الدم، يف ركبتها جرح بعر�ض الريح والأف� ��ق ي�ن��اب�ي��ع م��ن دم م�ف�ت��وح��ة للطري والنخل.. �سعيد الكفراوي �سالم� ،سالم هي حتى م�شرق النوم. وحني �صعد الآذان من مئذنة �سبط النبي، ودار حول امل�آذن الألفية� ،أدركنا �أن اللحظة قد و ّلت ،و�أن النهار قادم ،ومتنينا �أن يكون هذا النهار على نحو �أف�ضل.
محمد عفيفي مطر شهادة عن البكاء في زمن الضحك
�صحبة ووحدة
�صحبته من ال�سنني ،فوق الأرب��ع�ين ،حكمة
رب��ك م�سطورة يف كتاب م���ؤج��ل� ،أوغلنا يف الزمن ،فوحدنا ال�شكل من خارجنا وداخلنا، وكنا نفكر يف ال�شيء يف زمن واح��د ،ال�شعر الكثيف اخل�شن ،و�سمرة �شم�س القرى ،وتلك املالمح احلادة املتوترة ،التي هدّها املر�ض القدمي ،والب�شرة تنوء ب�صفرتها ،والقلب يحيط بف�ضاء م��ن احل��ك��اي��ات والطقو�س ومالمح الأيام و�إرث اليتامى و�أهل ال�سكك، وال�صمت �أبلغ حلظات الكالم حيث نتخيل �أكرث مما نقول!! يبد�أ املناو�شة ،ونكون هناك ،على مقهى قليل من الأهمية ،حيث يتوا�ضع النا�س ،وميعنون يف مودتهم ،واللحظات النادرة من الباقي من �أعمارنا مهددة بالرحيل ،ويف قلوبنا معنى ملا نعيه ون�سرته!! يقول ،و�أنا م�صغ! ع�شت عمري كله ،وقلبي معلق ًا بني خمالب طائر جارح حممود بال�سياحات يف الأعايل، ع���ل���وه ف����زع ورع������ب ،وان���ط�ل�اق���ات ك��ارث��ة احتماالت ،كلما حط لي�سرتيح نفرته الده�شة بزياراتها املفاجئة وانفتحت م�سالك الأفق �أمام املعرفة املرة والغربة الف�سيحة. �أق�����ص عليه م��ا يف ال�ضمري م��ن حكايات، و�أذك���ره �أننا جئنا بالكاد من مكان واح��د، وخرجنا بليل حيث مدينة ال تعرف الرحمة!! ي�صفق بيديه ،وي�ضحك �ضحكته التي كلما تذكرتها ابت�سمت ،والتي تذكرين ببقبقة ينبوع ،ويوا�صل « :للم�صريني وطن �آخر ،ميوج بالرموز واملعاين ،ويحت�شد ب�سكانه ال�سفليني املنفلتني من ربقة الفهم و�ضرورات العادة وم�ستقرات التعليل ،هو وطن ال�ضد واخليال واحلرية ،وهو وطن ال�صدفة العمياء ،وجمال ال�شر ،وع�شوائية الأرزاق» .يلوذ بغيابه ،و�أنا �أح��دق بعيد ًا يف املعنى والداللة� .أفيق على غمزته يف ركبتي ،قائ ًال :ا�سمع دي ،يتهي�أ لل�شعر ،وقد حدق يف �أفق الليل .ومن ديوانه «�أنت واحدها وهي �أع�ضا�ؤك انترثت» ،يلقي: �صمت من غا�شية الإ�شراق وجالل النوم احلي فمن تذكر �شظايا النار الباردة وعروق املاء
املتوهج ومالم�سة النجوم املنطفئة �إذ تزدهر �ألوانها ويقظة الطفو على جريان الأحداث وعلم الن�سيان.
مل ي�سقط ال�صقر
غاب ن�صف ال�شهر الذي مي�ضيه بالعا�صمة، ناو�شني قلق غ��ي��اب��ه ،م��ن بعيد ال ح�س وال خرب ،اعتدت �أن �أ�ضبط وقتي على ح�ضوره، وان�����ص��راف��ه ال �أح���د يجيب ،وال ر�سالة من قادمني .من ال��ذي �أخربنا ب�أنهم اعتقلوه؟ جاءت جتريدة بالليل من مباحث �أمن الدولة و�أخذته من القرية .تذكرت تلك ال�سنوات ال�سوداء الكريهة وقلت :جاء الدور على مطر. ب��د�أت البحث عنه حتى حفيت قدماي ،وال �إجابة هنا �أو هناك ،دلني �صديق طيب عادة ما يعرف نتائج مثل هذه الأم��ور ،وق��ال يل: مطر يف مباحث أ�م��ن الدولة يف الظوغلي. حكى يل عفيفي بعد �أن خرج عن �إهاناتهم، و�أنهم �ضربوه ،وعلقوا الكهرباء يف ج�سده، و�أعطوه عقار ًا للهلو�سة كان ب�سببه يرى بنته الطفلة معه بالزنزانة ط��وال الليل ،معتقل الظوغلي مكان �سفلي ي�ستقر من زم��ان يف م�صر املحرو�سة ،ويحتله عتاة املعذبني، املتنا�سلني بدقة احل�ساب وال�سنني من بطن ثورة يوليو غري املجيدة. بعد ذلك عرفت �أنه انتقل ملعتقل «طرة» ،كنت �أعي�ش حتت وط�أة �إح�سا�س �أن الأمور مل تتغري �إىل ما ينبغي ،و«طره» مثل الظوغلي ،وكرامة الإن�سان بينهما بال كرامة ،فما بالك بكربياء �شاعر ك��ب�ير؟! �أول النهار كنت على باب املعتقل .فكرت يف �أيام حرب اخلليج ،وفكرت يف موقف مطر منها ،وانحيازه للعراق ،كان ميا ًال لل�شعب العراقي ،وك��ان م�ؤمن ًا ب�أفكار نظامه الذي جتاوز حدوده ،ومل يقدر عواقبه!! �أعطيت بطاقة ع�ضوية احتاد الكتاب للحار�س وا�ستدعاين م�أمور ال�سجن بعد �أن ظن �أنني موفد من احتاد الكتاب. ا�ستدعى حممد عفيفي مطر �إيل حجرته،
وعندما ر�آين �أ�صابه الهلع وتوقف على الباب حلظة ،كان يرتدي جلباب ًا مما يرتديه �أهل القرى ،بعد خروجه �أخربين ،ب�أنه ظن �أنهم اعتقلوين �أنا �أي�ض ًا ،كان احلزن والأمل يطوفان على وجهه ،وعينه ال ت�ستقر يف مكان. روعني اجل��رح املفتوح ،واملمتد من اجلبهة حتى �أعلى الأنف املك�سور ب�ضراوة وعداء ،بدا يل هذا اجلرح �شرير ًا على نحو مريع ،وكنت �أ�سمع بداخلي �صوت ًا ي��ردد :يا للعار ..لقد عذبوه من غري رحمة!! حني خرج كتب �شعره: «�أق�سى من امل��وت ارتعا�ش امل��وت يف ال�شلو الذبيح .كتابة �سلفت وهذا وقتها املقدور. فاقر�أ ما ترى �أو ال ترى من مع�صميك لكاحليك. م�ستحدث التعذيب بالكيمياء يك�شط من كالمك طينة للخلق كامللكوت ي�سطع. واحل�شود املبهمات ،و�أنهر الدم ،وامللوك على الأرائك يتكئ اجلالد منتظر ًا �سقوط ال�صقر».
عفيفي وال�صايغ
يف الليل ،قلعة �صالح ال��دي��ن مثل متاهة، وم�سجد اجلبار الألباين �شاهد على زمن، ومي��ت��ط��ي ق��م��ة اجل��ب��ل وال��ظ��ل��م��ة يف الأزق���ة واحل���ارات ،وحت��ت العمائر ،وب�ين الأ���س��وار، م��ن��ازل ل��ل��زم��ن وللبلى والأرواح الهائمة تبحث عن �أجداثها ،ومبنى احت��اد الكتاب طراز مملوكي عليه �سالم اهلل م�أوى لل�شعر وال�����ش��ع��راء ،ه��م ه��ن��ا ب�ين اجل��ب��ل ،وج��ام��ع �سليمان با�شا البديع ،حبيب ال�صايغ �شاعر من الوطن� ،شاعر له جمازاته وف�ضاء �شعره مماهي ًا مل�صريه ،وم�صريه مماهي ًا للأدب، يتخيل دائما الفردو�س ق�صيدة من ال�شعر . ينتمى ملدر�سة ينتمى لها حممد عفيفي مطر، ت�ؤمن بتجديد ال�شعر عرب جتديد معانيه، وت�ؤمن �أن حتول ف�ضاء الق�صائد �إىل احلداثة احلقيقية يتم عرب الوزن والإيقاع ،وعرب اللغة التي تنطوي على عمق خ��ا���ص ،وتعرب عن الوجود وامل�صري!! مطر و�أن��ا يف ال�صالة ،وحبيب ال�صايغ على
املن�صة يرتل �شعره بحما�سة العا�شق ،امل�ؤمن ب�أن اللغة �سقف العامل ،وال�صحراء عا�صمة الدنيا وب�ستانها ،وامل��وت �س�ؤال مطروح على ال��زم��ن ،والع�شق ج�سد ال�صبيات يف ذروة ازدهاره ،والزمن حم�ض �شوق يزين له وجع العمر حتى ال�صعود �إىل برزخ ال�شعر ،حني انتهى �سمعت مطر يهتف لنف�سه� :أح�سنت. ح�ين رح��ل عفيفي ودع���ه ال�صايغ ب�أجمل الكالم ،و�أج ّل الأحزان ،ومبا يليق ب�شاعرين ي�شبه كل منهما الآخر.
�ساللة النور
�آخر �أيامه ذهبت به �إىل طبيب متخ�ص�ص، �أخربين الطبيب بت�أخر حالته ،من عليه دورة امل���وت؟ �سرتت �سري ومل �أب��ح ب��ه� ،أخ�برين عفيفي �ضاحك ًا� :أنا هاروح يا كفراوى ،وابت�سم مبرارة من يدرك اخلواتيم ،تفكرت �أن حممد عفيفي مطر من �ساللة النور التي ظلت جن�س ًا عجيب ًا م�ل�أت رب��وع م�صر بالإبداع واملعرفة والثقافة واخللق الرفيع ومقاومة الظاملني. بعد �سبعة �أيام رحل حممد عفيفي مطر. وحني كنا نواريه الرتاب ،يف مقربة بنيت على عجل بقريته يف ري��ف م�صر ال��ذي ع�شقه، وكتب عنه ملحمته ،وحني كنت �أحمل ج�سده مع بع�ض �أهله دخلت معه القرب و�أودعته �أمانة للرمل واخل��ل��ود ،و�سمعت �أح��ده��م ي�صيح: الدوام هلل ..والزمن عابر لأعمارنا. و�أنا �صحت ب�صوت �سمعته �آخر اجلنازة. ورحمة الليل عليك يا مطر ..رحمة اهلل عليك يا رجل يا جميل.
تلويحة وداع
يف تلويحة وداعه ،وقبل �أن يرحل بقليل كتب: «حياتي مغ�سولة بعرقي ،ولقمتي من ع�صارة كدحي وك��رمي ا�ستحقاقي مل �أغلق بابا يف وجه �أح��د ،ومل �أختطف �شيئ ًا من يد �أحد، ومل �أكن عون ًا على كذب �أو ظلم �أو ف�ساد.. اللهم فا�شهد
المرصد 14 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ال�صايغ والدرمكي و�آغا خالل امل�ؤمتر ال�صحايف
يناق�ش خلل التلقي و�أزمات القراءة والرتجمة
«األدب العربي والعالم»..
مؤتمر نوعي يرعاه مركز سلطان للثقافة واإلعالم �أبوظبي – تراث �أعلن مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم عن تد�شينه مل�ؤمتر دويل جامع حول «الأدب العربي والعامل» ،ينعقد كل عامني بهدف مناق�شة جوانب اخللل الكامن يف «التلقي العربي» على عدة �صعد �أبرزها �أزمات القراءة والرتجمة. م�ستهل امل�ؤمتر ،نقل ال�صايغ حتيات �سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل نهيان ممثل �صاحب ال�سمو رئي�س الدولة للح�ضور ،مثمن ًا دعم وم�ساندة �سموه للفعاليات والأن�شطة الثقافية والفكرية والإع�لام �ي��ة ال��رائ��دة وامل�م�ي��زة ال�ت��ي يرعاها
و�أعلن حبيب يو�سف ال�صايغ ،مدير عام مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم ،خالل امل�ؤمتر ال�صحفي الذي انعقد مبقر املركز يف �أبوظبي لهذا الغر�ض ،بح�ضور الدكتور ريا�ض نع�سان �آغ��ا ،م�ست�شار �سمو ال�شيخ �سلطان ب��ن زاي��د �آل نهيان ورئي�س وح��دة املتاحف واملقطنيات يف م��رك��ز زاي ��د ل�ل��درا��س��ات و ال�ب�ح��وث جمعة الدرمكي ،ولفيف من املثقفني واملهتمني بال�ش�أن الصايغ :المؤتمر سعي الثقايف ،عن انطالق الدورة الأوىل من امل�ؤمتر جاد نحو توثيق منجز يف العا�شر من �شهر دي�سمرب املقبل ،وملدة يومني ،األدب العربي على بفندق �أب��راج االحت��اد بالعا�صمة �أبوظبي.يف
خارطة اإلرث الثقافي العالمي
املركز ،والتي مل تقت�صر على ال�ش�أن املحلي بل احت�ضنت ق�ضايا الفكر والثقافة العربية، فجعلت ا�سم املركز حا�ضر ًا كواحد من �أهم املراكز الثقافية والبحثية حملي ًا وعربي ًا. وقال ال�صايغ :من خالل جهود املركز البحثية ر�صدنا ت��راج�ع� ًا يف ح��رك��ة و�آل �ي��ات ت�صدير الأدب العربي �إىل العامل ،وهو ما دفعنا �إىل تد�شني هذا امل�ؤمتر على �أمل حتريك ال�ساكن عرب مناق�شة الق�ضية وبحث كافة جوانبها واخل��روج بتو�صيات كفيلة بعالج هذا اخللل الكامن يف التلقي العربي �أو التبعية الثقافية
األدب العربي كان منبع إلهام للعالم التي �ألزمنا بها �أنف�سنا دون مربر. وتبعيتنا الثقافية العربي، أدب وذ ّكر ال�صايغ يف كلمته بعراقة ال الراهنة ال مبرر لها
م��ؤك��د ًا �أن��ه ك��ان م�صدر �إلهام لعدد الف��ت من ال ُكتّاب الغربيني ،انطلقوا يف �أطروحاتهم مم��ا ق��دم��ه ال �ع��رب م��ن اب �ت �ك��ار يف جم��ال اللغة و�إ�سهامهم الأدب��ي اخل�صب باخليال والطقو�س واحلكم. و�أ�ضاف ال�صايغ �أن امل�ؤمتر ي�سعى �إىل توثيق منجز الأدب العربي على خارطة الإرث الثقايف العاملي ،لإعادة اعتباره املفقود �أو املغيب. و�أك��د ال�صايغ� ،أن امل�ؤمتر يعك�س ا�سرتاتيجية دولة الإمارات بقيادة �صاحب ال�سمو خليفة بن زايد �آل نهيان رئي�س الدولة ،حفظه اهلل ،التي تنظر �إىل الثقافة باعتبارها مف�ص ًال �أ�صي ًال من مفا�صل حركة التنمية ،وهي ا�ستكمال ملجموعة من املبادرات التي جنحت يف عهد �سموه يف ربط الثقافة بالتنمية ارتباط ًا وثيق ًا ع�ضوي ًا و�أ�صي ًال. وق��ال ال�صايغ �إن امل�ؤمتر �سوف يحر�ص على م�شاركة كافة الأطياف املكونة للأدب العربي، من كتاب وروائيني وباحثني ونا�شرين ومفكرين ونقاد ،وكذلك م�شاركة ممثلني نوعيني للآخر الذي نتحرى درا�سة عالقتنا به �أو عالقته بنا من الأدب��اء والكتاب وال�صحافيني والنا�شرين الأجانب ،مع الرتيكو على ح�ضور �إعالمي وا�سع على ال�صعيدين العربي والعاملي م��ن خالل جمموعة ال�شركات الراعية للم�ؤمتر.
حتديات ما بعد احلداثة
وق��ال ال�صايغ �إن حم��اور ال ��دورة الأوىل من امل ��ؤمت��ر التي �سوف تنعقد يف احل ��ادي ع�شر من �شهر �سبتمرب املقبل� ،سوف حتظى بطابع ت�أ�سي�سي� ،إذ يناق�ش احل�ضور جمموعة من امل �ح��اور ال�ه��ام��ة يف مقدمتها «الأدب �أم��ام حت� ّدي��ات الع�صر» ،يف حماولة للإجابة على ت�سا�ؤل كيف ي�ضمن الأدب موقعه فى الثقافة اجلديدة يف ظل العوملة واال�ستهالك الثقايف الذي يطغى على نظام القيم ويجرد الإن�سان من هويته الذاتية ويعيد ت�شكيل ذاكرته ،وكيف يواجه الأدب هذه الهجمة امل�ضادة التي ت�سمى «ثقافة ما بعد احلداثة».
�أزمة القراءة
كما يناق�ش امل ��ؤمت��ر«�أزم��ة ال �ق��راءة» يف ظل ال�تراج��ع ال�ع��امل��ي ل �ل �ق��راءة لأ� �س �ب��اب ك�ث�يرة، تخلق واقع ًا �سلبي ًا يطم�س �شخ�صية القارئ. وق��ال ال�صايغ �إن ه��ذه الأزم ��ة ب��ات��ت ت�شغل بع�ض ال�ع�ل�م��اء وامل�ف�ك��ري��ن ف��ى ال�ب�ح��ث عن �سبل امل�صاحلة بني جمهور القراءة والكتاب ومبدعيه ،وا�ستي�ضاح هوية القارئ وميوله، و�أ� �ض��اف :ففي ظل مقولة «روالن ب��ارت» �إن القارئ مبدع .فقد �أ�صبح الت�سا�ؤل كيف ميكن �إعادة الطابع الإبداعي �إىل القراءة؟ وتت�ضمن الدورة الأوىل من امل�ؤمتر عدة حماور �أخ ��رى ه��ي «� �ص��ورة الأدب العربي يف م��ر�آة العامل» ،وحماولة الإجابة عن كيفية جمموعة من الت�سا�ؤالت عن كيفية قراءة الغرب للأدب العربي وما يعرف عنه ،و�إىل �أي مدى تفلح الرتجمات الرائجة فى ت�صدير �صورة حقيقية للقارئ الغربي عن الأدب العربي؟ وهل يالحظ القارئ الغربي طابع ًا غرائبي ًا «اكزوتيكي ًا» يف ما يرتجم من الأدب العربي ويف ما تن�شره دور الن�شر الغربية؟ وكيف ميكننا الكالم عن عاملية الأدب؟
ر�صد املثاقفة الكونية
بدوره �أكد الدكتور ريا�ض نع�سان �آغا ،م�ست�شار �سمو ال�شيخ �سلطان بن زايد �آل نهيان رئي�س مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم ثقته يف امل�ؤمتر ومنظميه ،و�سعادته بهذه القفزة شريا �إىل النوعية للمركز نحو العاملية ،م� ً �أنه قد يكون نوع ًا من التوهم ورمبا التحقق م��ن عاملية الأدب العربي ،فامل�شهور وج��ود �إ�شكاليات حول جتني�س الإبداع.
آغا :المثاقفة الكونية في حاجة إلى رصد و«مركز سلطان» مؤهل لذلك بما يمتلك من قدرة وبصيرة
و�أ� �ض��اف �آغ��ا �أن املو�ضوع الأخ�ط��ر ه��و حجم املثاقفة الكونية التي حتتاج �إىل ر�صد ،وهذا ما ال ميكن �أن يقوم به �إال مركز ميتلك القدرة والب�صرية ،م�شري ًا �إىل �أن مركز �سلطان بن زايد للثقافة والإعالم م�ؤهل للقيام بهذا الدور، م�شري ًا �إىل �أنه -من خالل جتربته وما ا�ضطلع عليه م��ن ت��رج�م��ات -تبينّ ل��ه ع��دم ان�ضباط الرتجمة ب�سبب التداخل ال�سيا�سي الثقايف ،الفت ًا �إىل �ضرورة �أهمية توا�صلنا مع الآخر ،معرب ًا عن �أمله يف �أن ي�ساهم امل�ؤمتر يف تقريب وتل ّم�س مدى االت�ساع الوهمي �أو احلقيقي يف دائرة الثقافة العاملية ،م�شدد ًا على �أهمية متابعة ح��ال��ة التثقف ،و�أ� �ض��اف �أن امل ��ؤمت��ر فر�صة لكتّاب و�أدب��اء الإم��ارات للإفادة مما ي�صب يف م�صلحة امل�ضمون الأعظم� ،أال وهو حوار الثقافات واحل�ضارات.
ح�ضور نوعي
تت�ضمن قائمة امل�شاركني يف امل�ؤمتر يف دورته الأوىل ،م��ن م�صر ج�م��ال الغيطاين ،ع�زّت ال�ق�م�ح��اوي ،ع�لاء الأ� �س��واين� ،شريين �أب��و النجا ،رفعت �سالم ،عبداملنعم رم�ضان، مريال الطحاوي. ومن اليمن �أحمد زين ،وجدي الأهدل ،ومن �سوريا �أدوني�س� ،سمر يزبك ،خالد خليفة، غ��ادة ال�سمان ،ومن لبنان عبا�س بي�ضون، جمانة حداد ،حنان ال�شيخ ،عبده وازن ،هدى بركات ،ومن ال�سعودية �سعد البازعي ،معجب الزهراين ،رجاء عامل ،ومن تون�س احلبيب ال�ساملي ،حممد الغزي ،عبدالوهاب امل�ؤدب، ومن اجلزائر وا�سيني الأعرج ،ب�شري مفتي، ومن البحرين �أمني �صالح ،قا�سم حداد ،ومن الكويت عبدالعزيز ال�سريع ،ليلى العثمان، طالب الرفاعي ،ومن ُعمان �سيف الرحبي، ومن فل�سطني غ�سان زقطان ،حزامة حبايب، ومن العراق �سنان �أنطون� ،صموئيل �شمعون، �أنعام كجه جي� ،شوقي عبد الأمري ،ومن ليبيا �إبراهيم الكوين ،ه�شام مطر ،ومن الأردن فخري �صالح� ،إليا�س فركوح ،ومن املغرب حممد بني�س ،ح�سن جنمي ،حممد ب��رادة، عبداللطيف اللعبي
المرصد 16 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
ال�صايغ م�ستعر�ضا ً فعاليات االفتتاح
حتت عنوان «عام الرواية الإماراتية»
اتحاد الكتّاب في أبوظبي يدشن موسمه الثقافي الجديد �أبوظبي -حنان �شافعي ب�أفق جديد د�شن احتاد الكتاب والأدباء الإماراتيني مو�سمه الثقايف اجلديد 2013 - 2012يف احتفالية مميزة لفتت �إليها الأنظار ب�أجواء خرجت عن التقليدية والرتابة حيث ا�ستقبل مقر فرع االحتاد بالعا�صمة �أبوظبي �أع�ضاء و�ضيوف االحتفال و�سط مناخ متتزج فيه �أ�شكال الإبداع بني مو�سيقى وفن ت�شكيلي وقراءة. ت�ف��ا��ص�ي��ل احل �ف��ل ك��ان��ت مب�ث��اب��ة م�ق��دم��ة ملا يرغب القائمون على املو�سم اجلديد تو�صيله للجمهور م��ن �أف �ك��ار متحم�سة للتجديد، وانتظار ل��رد فعل �إيجابي يقوم على تبادل املعرفة والتفاعل املخل�ص خللق بيئة ثقافية حقيقية ت�ل�ي��ق ب��احت��اد ك �ت��اب دول ��ة �أث�ب�ت��ت جدارتها بني دول املنطقة خ�صو�صا يف فرع الإحت ��اد بالعا�صمة التي يتنب�أ لها اجلميع ب�صعود مبهر خالل �سنوات قليلة قادمة. وهذا هو بال�ضبط ما �أكد عليه ال�شاعر حبيب
ال�صايغ ،رئي�س جمل�س الإدارة يف كلمته �أمام ال�ضيوف حيث قال «..اليوم� ،أ�صبح يف �إمكاننا ح��ذف ح��رف اجل��ر» م��ن م��ن ال�ع�ب��ارة التالية «:احت��اد كتاب الإم��ارات من �أن�شط اجلمعيات ذات النفع العام يف البالد« لت�صبح «احتاد كتاب الإمارات �أن�شط اجلمعيات ذات النفع العام يف البالد» م�شري ًا �إىل املكانة التي ي�شغلها االحتاد منذ بداية �إنطالقه والدور الذي يلعبه على �ساحة امل�شهد الثقايف واملعريف يف الإم ��ارات لي�صبح واجهة �أ�سا�سية للمجتمع والعب ًا مهم ًا لي�س فقط
على ال�صعيد املحلي ولكن �أي�ض ًا على ال�صعيد الإقليمي� ،إذ عرب ال�صايغ عن طموح االحتاد يف �أن يكون الأن�شط من بني احتادات الكتاب العرب جميع ًا ،وهو �إن دل ف�إمنا يدل على موجة جديدة من الأن�شطة الثقافية والتواجد الفعال خالل الأيام القادمة ت�ضمن عدم اعرتاف هذا الكيان الإماراتي العربي بحرف اجلر «من» وا�ستبداله ب�أفعل التف�ضيل «�أف�ضل» على حد قوله. و�إذا كان الطموح قد ظهر جلي ًا يف كلمة ال�صايغ ف�إنه مل ين�س �أي�ضا الت�أكيد على املتالزمة الأهم
للطموح وهي امل�س�ؤولية ،حيث لفت �إىل �أنه لن يتغا�ضى ع��ن �أي��ة تق�صري م��ن القائمني على �إدارة الإحتاد ،كما لن يقبل �أية �أعذار مبا فيها العذر املتكرر واخلا�ص بنق�ص الدعم من قبل اجلهات املعنية ،مربر ًا ذلك ب�أن ن�شاط االحتاد خالل ال�سنوات املا�ضية قد و�ضعه بالفعل يف الواجهة وبالتايل مل تعد هناك فر�صة للرتاجع �أو التق�صري ،كما وعد بال�سعي للح�صول على مزيد من الدعم لتفعيل �أن�شطة الن�شر وكذلك التو�سع املتمثل يف �إفتتاح املقر اجلديد للإحتاد يف منطقة مع�سكر �آل نهيان يف �أبوظبي� ،إ�ضافة �إىل فتح كافة الأبواب �أمام املواهب الإماراتية ال�شابة لكي ت�ضع �أق��دام�ه��ا على �أول طريق التحقق مبا يليق باجلهود الإجتماعية والثقافية املبذولة على م�ستوى الإمارة والدولة.
بداية جديدة
كانت تلك العبارة عنوان الكلمة التي �ألقاها ال�شاعر والت�شكيلي الإماراتي ،حممد املزروعي ال��ذي ت��وىل مهام الإ��ش��راف على �أن�شطة فرع الإحت ��اد يف �أب��وظ�ب��ي .وق��د حر�ص يف م�ستهل كلمته على االع�ت�راف بف�ضل ال�سابقني ممن تولوا الإدارة من قبله نافي ًا عن �شعار البداية اجلديدة تهمة الإق�صاء لكنه يف الوقت نف�سه مل ي�تردد عن احل��دي��ث� ،صراحة ،عما م�ضى من فتور يف دور �إحتاد الكتاب كم�ؤ�س�سة ثقافية م��ن املفرت�ض �أن تكون فاعلة وم ��ؤث��رة ولي�س فقط م�ستهلكة ملا يتم تكراره من �آليات .وركز املزروعي على مكانة �أبوظبي كعا�صمة ومدينة �صاعدة يف املنطقة العربية وما ينبغي �أن تلعبه الثقافة والتفاعل الفني والتنموي من دور يف هذا ال�صعود م�شري ًا �إىل تعدد املواهب بني �أبناء الإمارات وحاجتها �إىل �إدارة واعية ال�ستثمارها حيث ق��ال«:ه��دف�ن��ا اجل��دي��د يف احت��اد كتاب و�أدباء الإمارات – فرع �أبوظبي ،هو الإتكاء على الثقافة التنموية التفاعلية ،فهذا هو ما نحن بحاجة �إليه� ،إذ تعاين م�ؤ�س�ساتنا الثقافية يف ِن َ�سب كثرية يف ُطرق عملها من عدم الإهتمام وقت �أ�صبحت فيه امل�ؤ�س�سة بذلك ،خ�صو�ص ًا يف ٍ التعليمية متعددة الأوج��ه ،وكثري ُط اَّلبها ،مبا يعني �أنهم بحاج ٍة �إىل م�ؤ�س�سات ثقافية موجهة
حممد املزروعي
ب�شكل عملي ،م�ؤ�س�سات ثقافية متما�سكة يف عملها الإداري وا�سرتاتيجيتها التنموية ال االحتفالية فقط». كما دعا �إىل الإهتمام باملواهب ال�شابة يف الكتابة على وجه اخل�صو�ص وعدم الن�شر لهم ملجرد الن�شر �إمنا احلر�ص على «التقييم» و «التثقيف» حتى يقفون على �أر�ض �صلبة ويتعلمون �ضرورة اال�شتغال على تطوير �أنف�سهم وه��و ما ميثل نقد ًا الذع� ًا لكثري من املمار�سات الثقافية يف الدولة لكنه ي�أتي من باب ال�شفافية والرغبة يف ت�أ�صيل وتنمية امل�شهد الثقايف الإماراتي ب�صورة حقيقية وبعيدة عن «التزييف» على حد قوله.
تنوع
ويف ح�ين خ �� ّ��ص امل��زروع��ي م��واه��ب الكتابة باالهتمام ،و�أع�ل��ن ه��ذا املو�سم حت��ت عنوان «عام الرواية الإماراتية» باعتبار �أن للإمارات ر�صيد ًا جيد ًا فيها «حوايل �سبعني رواية» ،ف�إنه �أعلن يف الوقت نف�سه عن خط ًة لور�ش عمل متنوعة ومتعددة يف املجاالت الكتابية والفنية، وق ��ال� «:سنقيم املعار�ض الفنية املبنية على التجهيز امل�سبق �ضمن �أف�ك��ار تن�شيطية بني الكتاب والفنانني عامة .كما �سنقوم بتن�شيط» ندوة اليوم الواحد ،وعمل عرو�ض �سينمائية، و�أم �� �س �ي��ات للتعريف ب��امل��ؤ��س���س��ات الثقافية الإماراتية ،بغر�ض الدعاية لدورها االجتماعي
مطالبة بااللتفات إلى األدب اإلماراتي المكتوب باللغات األخرى
حبيب ال�صايغ
والتعريف الدوري بها خدمة للجميع ،و�سيكون ج��زء ال ب ��أ���س ب��ه م��ن �أن�شطتنا م�شرتك ًا مع م�ؤ�س�سات �أخرى «م�شري ًا �إىل �ضرورة التعاون الواعي بني م�ؤ�س�سات الدولة ذات ال�صلة من �أجل حتقيق الهدف الأكرب وهو رعاية الأجيال ال�ق��ادم��ة ال�ت��ي ��س��وف ت�ت��وىل �صناعة التاريخ الإماراتي».
�أدب �إماراتي بلغات �أخرى
من جانب �آخ��ر لفت امل��زروع��ي �إىل �ضرورة الإهتمام ب��الأدب الإماراتي املكتوب باللغات الأخ��رى ،قائال «كلنا يعلم الأ�سباب املتعددة التي �أدت �إىل جعل بع�ض الكتاب يكتبون بلغات �أخرى ،ونحن ومع �أهمية اللغة العربية ،ن�ؤمن ب ��أن اللغة يف ج��زء كبري من تعريفها تعترب وعاء حليوات ودالالت ،وعلينا �أن نهتم ب ُكتَّابنا يف اللغات الأخرى ،ن�شاط ًا وترجمة �أي�ض ًا»،
ا�ستقطاب كوادر ثقافية �إماراتية
ولعل من م�ؤ�شرات التنوع خالل املو�سم اجلديد لأن�شطة �إحتاد الكتاب ا�ستقطابه لكوادر ثقافية �إماراتية بعيد ًا عن حقل الكتابة مثل املخرج الإماراتي املوهوب ،نواف اجلناحي واملعروف بن�شاطه ال�سينمائي داخل وخارج دولة الإمارات خ�صو�ص ًا بعد جناح فيلمه الأخري «ظل البحر»، كذلك طلت خالل احلفل وجوه جديدة لفنانني ت�شكيليني وعازيف مو�سيقى ونقاد ،ف�ض ًال عن �أع�ضاء الإحتاد من الكتاب و�أع�ضاء «جماعة الأدب» التي تلتقي مبقر االحتاد ب�أبوظبي لتقيم مناق�شات وندوات �أدبية و�أحيانا فنية
المرصد 18 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
كي يح ّلق اجلمال على الروح كن�سمة
العمارة واألسطورة والروحانيات أولى أمسيات اتحاد الكتّاب في أبوظبي �أبوظبي – ال�شيماء خالد �ضمن مو�سمه الثقايف اجلديد، ا�ست�ضاف احتاد كتاب و�أدباء الإمارات فرع �أبوظبي ،ال�شهر الفائت ،املهند�س والأكادميي والفنان الدكتور طه الدوري يف �أم�سية بعنوان «قراءة يف كتاب العمارة والأ�سطورة والروحانيات مل�ؤلفه وليم ليثابي» ،وهو الكتاب الذي ترجمه الدوري و�صدر �أخرياً �ضمن م�شروع «كلمة» التابع لهيئة ال�سياحة والثقافة يف �أبوظبي. �إحدى لوحات الدوري امل�ستوحاة من الكتاب
ا�ستهل ال��دوري �أم�سيته ب�سرد تفا�صيل حكاية بحثه ال��ذي ا�ستمر لأك�ثر م��ن ع�شر �سنوات، مفتّ�ش ًا عن ن�سخة من كتاب «ليثابي» يف مكتبات بن�سلفانيا ونيويورك ووا�شنطن ،مدفوع ًا ب�شغفه مبا خ ّلفه هذا الكاتب الذي يعد قام ًة عالي ًة يف تطور العمارة الإجنليزية من خالل ا�سهاماته يف نظرية العمارة و�أفكارها.
�أ�صل الكينونة
وقال الدوري :يرى ليثابي يف كتابه �أن العمارة ال ت�ستقيم دون الفل�سفة ،وحتتاج لها حاجة الإن�سان للهوية وح��اج��ة اجل�سد ل �ل��روح لتخلق في�ض احليوية والإب��داع ،ناهيك عن خماطبة الآخر عموم ًا ،ولي�س مبا هو م�ألوف �ضرورة ،و�أ�ضاف: ف��ال�ع�م��ارة – يف ر�أي� ��ه -ف��ن ت�شكيلي ي�ستنري باملجرد والروحاين وق�ص�ص الأ�ساطري والوجود الإن�ساين ،وي�ستحيل دونه خدمة متوا�ضعة للجهل وامل��ادة ،فبينما م�آل العمارة يف ت�صميم املكان مغرو�سة يف �أدمي الأر���ض وقلب املجتمع ،ف�إن من�ش�أها حم ّلق يف ف�ضاء الفكر املجرد ،وهو ما يعتربه ليثابي فن ًا له ما لأعظم الفنون و�أغناها من �سمات احلرية والده�شة. بهذا ّ الطرح يرى ليثابي �أن تلك الفكرة ا�ستقرت عند ج��ذور الفكر املعماري العام منذ الأزل، فيطرح العالقة املت�أ�صلة� ،سابقة الذكر ،حيث الفكر املعماري �أ�صل الكينونة للبناء و�سره فيه كما �س ّر ال � ّروح يف اجل�سد .هنا ّ يو�ضح الفرق ال�شا�سع بني البناء وال�ع�م��ارة� ،إذ ب��ر�أي��ه هما �أم��ران منف�صالن متام ًا و�إن تداخال يف املكان والزمان ،فالعمارة فكرة تتج�سد بنا ًء وحتيا بها الثقافات والأمم ،وبالأخ�ص والأهم ،الذكريات، ف�لا ت�ستقيم ال��ذاك��رة اجلمع ّية لأي��ة ح�ضارة بال عمارتها التي تن�سج بني الأر���ض وال�سماء ق�ص�ص ًا ،وتراكمات ثرية بالإلهام ،و ُمثقلة بكافة االحتماالت. ومكنون العمارة – والكالم لليثابي -يبقى دوم ًا رهن الإحتماالت ،وال يك ّون �أب��د ًا حقائق ثابتة جامدة قاطعة ،املبنى � -أي مبنى -منا�سبة للت�أمل ولت�صور م��ا ك��ان وم��ا يكون ال�ي��وم بني ج��دران��ه ،وم��ا قد يكون ذات ي��وم ،بال يقني �أو جزم ،وتبقى العمارة هي الفكرة التي ت�صوغ تلك
طه الدوري
الإحتماالت و�إن بقيت �إىل ما �شاء اهلل كما هي : �إحتماالت تلهب اخليال وتنع�ش الذاكرة ،وتغذي احلنني اىل الذكريات. وقال ال��دوري :وبالرغم من انحدار ليثابي من خلفية حرفية بني ت�صميم الأث��اث واملنتجات ال�صناعية بالإ�ضافة للمباين� ،إال �أن��ه �أظهر اهتمام ًا ُم َب ّكرا برتميم املباين القدمية ،وانت�سب منذ بدء حياته املهنية �إىل جمعية «حماية املباين التاريخية» حيث ّ تخطت فل�سفة الرتميم حدود الإ�صالح �إىل �آفاق من الإرتقاء باملباين القدمية اىل حال تفوق ما كانت عليه يف �أوج حداثتها. وي ��رى ال� ��دوري �أن ه��ذا االه �ت �م��ام بالرتميم ي�برر دراي��ة ليثابي ال�شاملة يف علوم العمارة والت�صميم التي فاقت ما ُي َ نتظر من �شاب يف مطلع الثالثني من عمره ،حني كتب كتابه هذا، �إال �أنه يرى �أن �شمول املو�ضوع وطموحه البارع، مل يخفيا حمدودية امل�صادر وميل العمل للتكهن يف التعبريوالإبداع الأدبي فوق ما فيه من بحث �أكادميي باملفهوم التقليدي ،بيد �أنه يبقى مُم ّيز ًا و�سب ّاق ًا بقدر ُمذهل على حد تعبري الدوري.
الهرم الذهبي ..و«حزقيال»
وك�شف ال��دوري يف حما�ضرته عن �سر اختياره للوحة ال�غ�لاف التي ر�سمها بنف�سه لرتجمة
الفرق شاسع بين البناء والعمارة ..فهما أمران منفصالن تمام ًا وإن تداخال في المكان والزمان
الكتاب ،م�شري ًا �إىل �أن ال�ه��رم �أح��د الرموز القليلة ال�ت��ي تلتقي عندها احل �ي��اة ب��امل��وت، و�أ�ضاف :فاملفهوم الفرعوين للهرم كقرب ال يكاد يالم�س �سطح املعنى الكوزمولوجي «علم الكون الفيزيائي» لهذا ال�شكل ،ال��ذي يبقى مو�ضع درا��س��ات ال تنتهي من حيث قدراته الفراغية وت�أثريه على املحيط ،بالإ�ضافة جلمال تكوينه وتفرده الب�صري ،وق��د ارتبط �أحيانا باجلبل الأ�سطوري الذي ف�صل ال�سماء عن الأر���ض يف بع�ض �أ�ساطري ال�شعوب عن �أ�صل تكوين عاملنا. وا�ستعر�ض ال��دوري عدة ُ�ص َور تو�ضح ما وجده ليثابي عن البدايات ،حني تكلم مث ًال عن طقو�س حركة االم�براط��ور يف ال�صني داخ��ل ما يعرف بقاعة التميز وبنائها ،حيث كانت مب�سقطها امل��رب��ع جم��ا ًال يتحرك فيه احل��اك��م م��ع حركة ال�شم�س داخل تلك القاعات ذات الأربع بوابات، احتفالية تواجه اجلهات الرئي�سية يف خطوات ت��ردد تعاقب ال�شهور والتق�سيمات اجلزئية للزمن ،حيث ي�شرح الزمن باعتباره جتزئة تق ّرب الأبد ّية من الإدراك الإن�ساين املحدود بطبيعته مبفاهيم البدايات والنهايات ،فكما احلال يف اج�ت��زاء الأب��دي��ة �إىل وح��دات زمنية ُندركها، و ُن�سميها �سنوات و�شهور و�أيام و�ساعات ودقائق �وان ،هدفت املباين الأوىل-عند التعبري عن وث� ٍ املغزى الديني� -إىل متثيل املعبود يف م�ستقره ال�سماوي �أو الأر�ضي �أو بالإجمال الكوين ،بح�سب ما �ساد يف زمن �أو مكان من معتقد �أو فكر. وملزيد من التو�ضيح ،يقول ليثابي يف كتابه: «مازال توجيه املعابد ِق َبل اجلهات الأربع �سمة عابرة للزمان وامل�ك��ان ،فر�ؤية النبي حزقيال Ezekielيف العهد القدمي للمدينة املثالية ،وهي مربعة امل�سقط بثالثة �أب��واب على كل �ضلع ،ال تختلف يف خطوطها العري�ضة عن مدينة بكني ال�صينية كما و�صفها ماركوبولو ،وكذلك هي احل��ال يف مركز ب��ورم��ا ،وه��ذه �سمات عاملية ا�ستمرت وتدرجت وات�سعت ،فالبداية دوم ًا من ال�شرق ـ وه��ذا نامو�س ك��وين حيث يبد�أ اليوم بال�شروق -وي��أخ��ذ كل �ضلع من املربع ع��دد ًا فردي ًا من الأب��واب ،يف الغالب ثالثة كي يكون للتكوين مركز كان فيه الباب الأو�سط باب ًا ملكي ًا يف البداية ،تط ّور الحق ًا �إىل باب ر�سمي يدخله
المرصد 20 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�صاحب ال�ش�أن �سواء كان حاكم ًا �أو رجل دين �أو �شخ�صية حمورية يف مرا�سيم احتفال ديني �أو وطني». وي�شري ليثابي �إىل معبد التوب �أو ال�ستوبا ،ذلك املعبد البوذي الذي ميتاز بات�ساقه مع دور عبادة �أخرى يف هند�سته القائمة على قبة تطفو على �سطح املاء كالفقاعة �أو اجلر�س املقلوب ،ترتدّد يف جنباته االبتهاالت كما العواطف ،فيما ال يختلف يف جوهره عن هياكل بابل واملك�سيك ك�صروح لعبادة فطرية ن�ش�أت يف النف�س مع بدايتها.
الن�سران ..والبي�ضة
وان�ط�لاق� ًا م��ن ال�ع�ب��ادات ك��ان��ت ف�ك��رة التوجه ملركز ما �سواء يف ال�صلوات �أو يف حتديد املركز ٍ ال�سيا�سي للدولة ،حيث اختار الإله «متوز» بابالً مركز ًا للعامل ،بينما اتخذت «دلفي» هذا املوقع بالن�سبة لبالد الإغريق لوقوعها يف بارنا�سو�س، وهو جبل له يف الأدب الإغريقي ما جلبل نوح يف الرتاث العاملي ،حيث جنا َمن ا�ستقر فوقه من طوفان كبري يف نهاية الع�صر الربونزي. وينري الدوري -من خالل الكتاب -ق�صة حتديد مركز الأر�ض يف دلفي قائ ًال :لقد مت حتديد مركز الأر���ض يف دلفي -كما تروي الأ�سطورة -حني �أر�سل جوبيرت ن�سرين �شرق ًا وغرب ًا طافا الأر�ض والتقيا عند تلك البقعة التي �أ�صبحت معبد دلفي ،وهو التكوين الذي و�صل �إلينا على قطعة رخ��ام ما زال��ت يف مدينة �إ�سبارطة ،ومن هذا التكوين تن ّوعت �أ�شكال عديدة للن�سرين واملركز بينهما� ،أوكما ت�سمى ُ�س َّرة الأر�ض ،و�أحيان ًا بقي املركز واخ ُت ِ�صر الن�سران يف نقو�ش على البي�ضة. وي�ضيف :كما قام معبد دلفي حول موقع ذي مغزى ديني �أو قائم على العقيدة ،ك��ان معبد «بعل» يف ب��اب��ل ،كما �أن ليثابي ي��ورد يف كتابه م�سجد قبة ال�صخرة يف القد�س كمثال مماثل على معبد قائم على موقع مقد�س �أو قمة �صخرية مباركة ،ذاكر ًا �أن القد�س هي �أوىل القبلتني ،ثم يطرحها كقبلة للمرة الثانية يف �آخ��ر الزمان، حني ي�أتي احلجر الأ�سود من مكة كعرو�س لق ّبة ال�صخرة يف القد�س ال�شريف.
الق�صدير والعمر ،والزهرة النحا�س واملراهقة، وزحل الر�صا�ص وال�شيخوخة». ويتابع ق��ائ� ً لا :تابع حامل ال�شموع ظ�ه��وره يف التوراة كما ظهر يف النخلة البونزية يف معبد دلفي ،وقد اقرتن املركز دوم ًا باحلاكم �أو ر�أ�س الدولة ،وهو يف ذات الوقت رمز وحدتها الوطنية وقلب ا�ستقاللها الإداري ع ّما جاورها ،وهو ما حدّد �صورة كر�سي احلكم �أو العر�ش.
املتاهة ..والدرجات ال�سبع
غالف الكتاب
هدفت المباني األولى إلى تمثيل المعبود في مستقرّه السماوي أو األرضي أو باإلجمال الكوني بحسب ما ساد في زمن أو مكان من معتقد أو فكر �شجرة ال�سماء
ترافق فكرة مركز الأر�ض ما يذكر عن ال�شجرة التي منت من مركز الأر���ض لرتفع ق ّبة ال�سماء �إىل مكانها ،والتي �أخذت �أكرث من �شكل جمايل، فهي �شجرة حين ًا ،وحامل �شموع حين ًا �آخر ،وهي �أي�ض ًا جذع ذهبي تف ّرع وحمل يف فروعه �أوراق ًا و ثمار ًا من �أحجار كرمية توزعت و تلألأت بنور النجوم والكواكب ،وق��د يعود ه��ذا لكون تراث ال�شعوب زخر بال�صالت املعنوية والكونية بني الأحجار الكرمية والألوان والكواكب و مداراتها، ويقول ليثابي ..« :فال�شم�س هي الذهب وال�شباب، والقمر الف�ضة والطفولة ،واملريخ هو احلديد والرجولة ،وعطارد الزئبق وال�صبا وامل�شرتي
يربط ليثابي بين أقصى األرض وأدناها بالعمارة الفت ًا إلى التماثل بين بوابات المعابد البوذية ونظيرتهاالفينيقية
وي�ضيف ال� ��دوري .. :ت� ��ؤدي ال��درج��ات دور ًا مبا�شر ًا و�آخر رمزي ًا ،فمن ناحية ارتفع العر�ش ف ��وق اجل �م �ي��ع ،وم ��ن ن��اح�ي��ة �أخ� ��رى حت��ددت الدرجات ب�سبع ،وهو تقليد ا�ستمر حتى الع�صور ال��و��س�ط��ى ،حم��اك��اة لت�صور تقليدي لعر�ش اجل�لال��ة امل�ستقر على �سبع درج ��ات دائ��ري��ة متناق�صة امل�ساحة وتك ِّون بالن�سبة للأر�ض قبة ال�سماء. وبالإبحار �أكرث يف الرموز املذكورة يف الكتاب ي�أخذنا ليثابي �إىل املتاهة ،فمن رمز مر�صوف يف �أر�ضيات الكاتدرائيات يف �إيطاليا وفرن�سا و�أملانيا �إيل تق�سيمات فراغية فعلية يف الق�صور و�أخ��رى جمالية يف حدائق الق�صور ،وكانت املتاهة حا�ضرة يف املكان تخدم يف الغالب الأعم هدف ًا روح�ي� ًا يف �إ��ش��ارة لطقو�س رق�ص ،كما الرق�صة الهندو�سية �أو ما �شابهها من رق�صات يف املك�سيك ،ولكنها كذلك موجودة يف بع�ض امل�سكوكات الإغريقية القدمية ،ولعل �أ�شهر متاهة على الإط�لاق هي تلك الأ�سطورية ايل كانت يف قبو ق�صر امللك مينو�س يف كنو�سو�س يف كريت ،حيث عا�ش امل�سخ الأ�سطوري امليناتور- خملوق بج�سم ث��ور ور�أ� ��س رج��ل -ال��ذي كان يقتات على �أعداء امللك ،وهناك دارت �أ�سطورة ثي�سيو�س ،وهناك تقرر �إلقا�ؤه للميناتور ،حني وقعت �آريادين �إبنة امللك يف حبه و�أعطته خيط ًا دخل به املتاهة م�سلح ًا ب�سيف ،بينما �أم�سكت هي بطرف اخليط لي�ستدل طريقه فيما بعد حني ي�صرع الوح�ش ،ويتم ّكن من اخلروج من املتاهة بتتبع اخل�ي��ط �إىل احل �ي��اة ،والنهاية ال�سعيدة مع الأمرية.
قر�ص ال�شم�س
ويف ف�صول �أخ��رى من الكتاب ر�أى ليثابي �أنه من �أكرث الرموز املعمارية الكونية مبا�شرة يف التعبري عن م�ضمونها هو :رمز قر�ص ال�شم�س، الذي يعلو البوابات ال�شرقية يف املعابد الفرعونية ومعابد �أمريكا اجلنوبية وغريها ،وك�أحد الأمثلة للإ�ستخدام التقليدي لقر�ص ال�شم�س يف بالد ال�شام ه��و القر�ص ال��ذي يعلو م��داخ��ل بع�ض الأماكن املقد�سة ،و بالرغم من كون هذا الرتاث يف جممله تراث ًا م�سيحي ًا �إال �أن قر�ص ال�شم�س يبدو حماط ًا بالأفعى الفرعونية كزينة تظهر كجزء من ت�شكيل غدا �شائع اال�ستعمال يف الفن البيزنطي والإيطايل ،ويربط ليثابي بني �أق�صى الأر���ض و�أدن��اه��ا مبينا التماثل ال�صميمي بني بوابات املعابد البوذية ونظريتها الفينيقية و�إن تفاوتت التفا�صيل. بناء على ما �سبق يقول ال��دوري .. :من املهم عند قراءتنا لكتاب ليثابي �أن ندرك �أن العمارة متثيل للكون ،فنزعة الإبداع لدى الإن�سان �أ�صيلة وغريزية و�أ�سا�س يف تكوينه كما البقاء والعبادة، لكن الإبداع بطبيعته هو الأكرث الت�صاق ًا بالكون إبداعي ما كنموذج ،ومهما اعتقد �أن نواة عمل � ٍ ذاتية ..ال مفر من الإعرتاف ب�أن جذور الإبتكار الإن�ساين �ضاربة يف الطبيعة وتكويناتها مع تفاوت يف �أ�سلوب الطرح ودرج��ة َ املبا�شرة يف الإقتبا�س من الأ�صل الطبيعي للأ�شياء ،فمث ًال ي�صف ليثابي الأر�ضية الرخامية يف �أحد ممرات كني�سة �آي��ا �صوفيا حيث متت مواءمة بالطات الرخام ،بحيث ا�ستمرت متوجات الرخام بني بالطة و�أخرى مبا يحاكي �أمواج البحر.
�إلهة ال�سماء عند امل�صريني
وتتكرر يف معابد قدماء امل�صرية فكرة ر�صف ال�سقوف بالتزجيج ،وتلوينها بالطالء الأزرق، وق��د تناثرت عليه النجوم يف متثيل مبا�شر لل�سماء ،و�أحيان ًا كان التمثيل �أكرث رمزية من خالل �إلهة ال�سماء «تبه» ،وقد مت��ددت بحيث غ� ّ�ط��ى جذعها ال�سقف وارت �ف��ع �ساقاها على طول اجل��دار ،يف حني تد ّلت يداها ن��زوال على ط��ول اجل��دار املقابل ،ويف كثري م��ن الأح�ي��ان
ماذا تبقى ؟ ..من وحي الكتاب
ال تستقيم الذاكرة الجمعيّة ألية حضارة بال عمارتها التي تنسج بين األرض والسماء قصص ًا وتراكمات ثرية باإللهام و ُمثقلة بكافة االحتماالت يتدىل فانو�س م��ن مركز احل�ج��رة� ،أو مركز املعبد ،ومركز الكون ،وهو يف هذه احلالة واقع ال�س ّرة، متام ًا عند مركز ج�سد الإلهة يف مو�ضع ُ وهذا ظهور �آخر للبي�ضة �أو كرة النور �أو مركز اخل�صوبة ،وهي يف ذات الوقت الفانو�س مركز النور. من ناحية �أخ��رى ي��رى ليثابي �أن الكون حالة ا�ستقرار وت ��وازن دق�ي��ق يف ال�ق��وى ال�ت��ي تتيح بتما�سكها بقاء ال�ك��ون على ح��ال حتى يختل التوازن ثانية ويتغري التكوين مرة بعد مرة يف
خمتلف الأطوار. يبقى �أن ن�شري �إىل �أن ال��دوري عر�ض خالل الأم�سية لوحة له ا�ستوحاها من كتاب ليثابي، حيث ط��رح فيها منظور ًا يظهر فيه التكوين احل�ضاري كن�سيج من طبقات و�شرائح انب�سط بع�ضها وتق ّل�ص البع�ض الأخ ��ر ،مب��ا يوحي ب�صراع ال يخلو من القدرية والتداخل الذي ال انف�صام يف عراه. واختتم الدوري الأم�سية مبا قاله ليثابي .. « :كل ل�صق يف مكانه بدم خملوق �إن�ساين ،تلك حجر �أُ ِ ال�صروح العمالقة من اجلهد املدفوع ب�إرادة ال تنثني باتت �شيئ ًا من املا�ضي ،وعمارة كهذه مل تعد لنا وال للم�ستقبل ،ما الذي �سيكون عليه �إذن هذا الفن يف امل�ستقبل؟ �ستبقى الر�سالة تدور حول الطبيعة والإن�سان ،حول النظام واجلمال، لكن �سيكون املجمل ذا حالوة وب�ساطة وحرية وثقة ونور ،وما عدا ذلك فقد ولىّ ،وهذا ح�سن، �إذ ك��ان �سحقا للحياة ،يف ح�ين �أن امل�ستقبل �سيكون للأخذ بيد احلياة وتطويعها ..كي يحلق اجلمال على الروح كن�سمة»
22 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
الكالم المباح
الكالم المباح
سلسلة الحكمة الممتدة حنفي جايل
تلقيت
بع�ض ر�سائل من �أ�صدقاء وقراء �أعزاء ت�ؤيد ما جاء ويف ال�صفحة الأوىل نف�سها قول �أر�سطاطالي�س «�إن االئتالف يف «الكالم املباح» املن�شور يف العدد املا�ضي عن القائد باجلواهر قبل االئتالف بالأج�سام» ،ثم نظم املتنبي: �أ�صادق نفي�س املرء قبل ج�سمه امل�ؤ�س�س ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل نهيان ،طيب اهلل ثراه ،واحلكمة و�أعرفها يف فعله والتكلم التي حتلى بها والتي �صبغت �أقواله وجت�سدت يف �أفعاله ،ووافق بع�ضهم على �أن من �أ�سباب تلك احلكمة هي �أنه ،رحمه اهلل ،كان مغرم ًا ب�أبي رحت �أقلب �أوراق املخطوطة ،و�أقر�أ يف ال�صفحة الثانية قول الطيب املتنبي ،وكان معجب ًا ب�شخ�صيته ،حافظ ًا لأ�شعاره ،فاهم ًا ملعانيها� ،أر�سطاطالي�س�« :إذا مل ي�صل باملال �أبناء اجلن�س وثقل به �أعداء النف�س فما ت�صنع الأعرا�ض بالأعوا�ض« ،لينقلها �شعر ًا املتنبي بقوله: وحري�ص ًا على اال�ستزادة منها واال�ستنارة مبا فيها. فما �أ�ضر ب�أهل الع�شق �أنهم ومن ه�ؤالء الزميل الفا�ضل الدكتور يحيى حممود� ،أ�ستاذ التاريخ َه َو ْو وما عرفوا الدنيا وال فطنوا احلديث يف جامعة الإمارات ،الذي هاتفني م�ؤيد ًا ما ذهبت �إليه من الرابط الذي جمع ما بني زايد واملتنبي ،رحمهما اهلل ،و�أ�ضاف ثم وجدت بيت ًا �شهري ًا للرجل يقول فيه: ومراد النفو�س �أ�صغر من قائ ًال :ا�سمح يل �أن �أزيدك من ال�شعر بيت ًا ،بل هو يف احلقيقة �س�ؤال، �أن نتعادى فيها و�أن نتفانا وقبل �أن �أجيب قال :هل تعلم �أن هناك خيط ًا ممتد ًا عرب الزمن قد ً جمع ما بني زايد واملتنبي و�أر�سطو �أو «�أر�سطاطلي�س« كما ي�سميه لأجده منقوال عن قول �أر�سطاطالي�س« :لي�س من احلزم �إفناء النفو�س يف طلب ال�شهوات ،بل يف درك العلم العلوي». بع�ض الأدباء واملرتجمني؟. اعرتفت ب�أنه ال علم يل بذلك فقال :احلقيقة �إن هناك عالقة م�ضيت يف مطالعة بقية �صفحات املخطوطة لأت�أكد من نب�أ املتنبي �أو رابط ًا جمع ما بني املتنبي و�أر�سطو ،و�إن الأول حفظ الأخري الذي �أنب�أنيه ال�صديق الدكتور ،حتى و�صلت �إىل البيت الذي يقول فيه: و�أبعد بعدنا بعد التداين ونقل �أفكاره �أو بع�ض ًا منها �شعر ًا ونظم ًا �إىل العربية ،ولأن ال�شيخ و�أقرب قربنا قرب البعاد زايد رحمه اهلل قد حفظ املتنبي ون�شر �أ�شعاره و�أفكاره ،كما جاء يف وقائع املجل�س الرم�ضاين ملجلتكم «تراث» فيكون مت�ص ًال ولو ملخ�ص ًا فيه قول �أر�سطاطلي�س�« :أقرب القرب مودات القلوب و�إن بطريق غري مبا�شر ب�أر�سطاطالي�س ،ويكون الثالثة ،زايد واملتنبي تباعدت الأج�سام ،و�أبعد البعد تنافر القلوب و�إن تدانت الأج�سام». فتوقفت لوهلة لأين عجبت من �أبي الطيب املتنبي ،ذلك البدوي الذي و�أر�سطاطالي�س قد نهلوا من نبع احلكمة وارتووا منه. قلت له �إن امل�س�ألة ت�ستحق النظر ،ولكني �أرجوك �أن تعطيني تع ّرف على �شاعر احلكمة ،وحكيم ال�شعراء ،وفيل�سوف اليونان الأ�شهر املزيد ،فقال �س�أكفيك م�ؤونة النظر و�أكفي نف�سي م�ؤونة احلديث ،الذي عا�ش ومات قبل امليالد ،ف�أن�ست له روحه ،و�أعجب به عقله ،و�أحبه ثم �أهداين� ،أكرمه اهلل ،ن�سخة من خمطوطة �صغرية عدد �صفحاتها قلبه ،ثم عجبت للمغفور له ب�إذن اهلل تعاىل ،ال�شيخ زايد بن �سلطان �آل ثالث وع�شرون ،وقيا�س �أوراقها يقارب قيا�س الورق من نوع «�إيه فور» ،نهيان ،الذي عا�ش يف القرن الثاين والثالثني بعد الهجرة ،وقد اتخذ وقال �إنها للتدليل على �صحة ا�ستنتاجي وا�ستنتاجه ،وهذه الن�سخة املنحى نف�سه فتعرف على واحد من �أهم �شعراء وفال�سفة العرب الذين من املخطوطة حمفوظة يف ق�سم املخطوطات يف جامعة امللك �سعود� ،سبقوه بحوايل ثالثني قرن ًا من الزمان ،فوقع منه املوقع نف�سه الذي يف اململكة العربية ال�سعودية ،حتت الرقم العام ،5964وحتت عنوان وقعه �أر�سطاطالي�س من املتنبي .وهكذا امتدت �سل�سلة احلكمة ،وطالت «الر�سالة احلامتية ،مل�ؤلفها حممد بن احل�سن احلامتي « 388هجرية« م�سبحة الفل�سفة ،و�أنتج التوا�صل مبادئ طيبة �أنارت دروب �سالكيها. وكما يتبني من ت�صنيفها �إنها كتبت يف القرن الثامن الهجري تقدير ًا ،وهكذا ي�صدق حديث ر�سول اهلل حممد بن عبد اهلل� ،صلى اهلل عليه و�سلم :احلكمة �ضالة امل�ؤمن � ..أنى وجدها تبعها .وهكذا �أي�ض ًا ي�ستبني ومو�ضعها «مرافقة �شعر املتنبي لكالم �أر�سطو«. ومن ال�صفحة الأوىل ،ومن دون �أية مقدمة ،يبد�أ الكالم بـ «قال دور الفرد وت�أثريه يف الأمة .وكثري منا قد ي�ستهني بهذا الدور ،ولكن التاريخ ملئ بهكذا مناذج اهتدت فهدت ،وعرفت فلزمت ،كما ال يخلو �أر�سطو« ،ثم يعقبه النظم ،والبداية بقول �أر�سطاطالي�س�« :أعظم التاريخ من مناذج �أخرى للأ�سف �ضلت و�أ�ضلت ،وعمت و�ص َمت .وهكذا النا�س بخته من قل ماله وعظم جمده« ثم �أ�سفل منه بيت املتنبي يتكرر امل�شهد ،بالإيجاب مرة وبال�سلب مرات ،و�أبطاله يتكررون باخلري ال�شهري: وال�شر ،والتدافع ي�ستمر« ،ليحيا من حيي عن بينة ،ويهلك من هلك عن فال جمد يف الدنيا ملن قل ماله بينة» ،والإميان ال يتزعزع ،لأن «اهلل قد حكم بني العباد». وال مال يف الدنيا ملن قل جمده ثم ي�أتي قول �أر�سطاطلي�س« :بالغريزة يتعلق الأدب ال بتقادم ال�سن»� ،إنه �صراع العلم واجلهل ،و�صراع احلق والباطل ،كان ،و�سيكون منذ الأزل و�إىل نهايته� ،إىل �أن يرث اهلل الأر�ض ومن عليها ،وعندها فقط �سيكون وهو املعنى نف�سه الذي عرب عنه املتنبي بقوله: القول الف�صل ،ق ً وال واحد ًاَ ، حل ًك ٍم واحد« .ملن احلكم اليوم ،هلل الواحد و�إذا احللم مل يكن يف طباع مل يحلم تقادم الأيام القهار»
قضية للنقاش 24 الـعــــدد 156 �أ كتو بر 2012
تختلط فيها املعلومة باخلرافة والتاريخ باحلكاية
الصورة الذهنية للتراث في عيون المصريين
تستمد مفرداتها من اإلعالم والتعليم القاهرة ـ �صفاء البيلي الرتاث هو الذاكرة الأمينة لكل جمتمع ،وهو املخزون الذي تلج�أ �إليه ال�شعوب لت�ستلهم منه اخلربات املرتاكمة يف مواجهة ظروف احلياة �أو االحتكاك بالثقافات الأخرى ،عالوة على �أنه كلمة يختلف مدلولها ومفهومها من �شخ�ص لآخر ومن موقع جغرايف ملوقع جغرايف مغاير ومن بيئة ثقافية لغريها. ف�ع�ل��ى ال��رغ��م م��ن وج� ��وده يف خ�ل�ف�ي��ة كل امل�ستطلعني وتعبريهم عن حنينهم البالغ �إليه ومطالبتهم باالهتمام به� ،إال �أن ت�شتت ًا وا��ض�ح� ًا يف تلك امل��داخ�لات يك�شف قدر الت�شتت يف الروافد الأ�صلية املعنية بتعريف النا�س ب��ال�تراث وتنمية وعيهم ب�أهميته وكيفية متثله يف حياتهم ،ويف مقدمة تلك الروافد التعليم والإعالم. ط��رح��ت «ت� ��راث» ع� ��دد ًا م��ن ال �ت �� �س��ا�ؤالت امل��وح��دة ع�ل��ى � �ش��رائ��ح خمتلفة الأع �م��ار والثقافات واخللفيات االجتماعية وا�ستقت منهم الإجابات التالية:
يف ه��ذا اال�ستطالع امل��و� ّ��س��ع ال��ذي �أجرته «ت��راث» يف القاهرة نحاول التعرف على م�لام��ح ال �� �ص��ورة ال��ذه �ن �ي��ة ل �ل�ت�راث بني �شرائح املجتمع امل�صري املختلفة ،كيف يفهمونه وب�أي �صورة يرتبطون به ويتمثلونه يف حياتهم اليومية. تباينت الآراء وفق ًا مل�ستويات وعي وثقافة امل�شاركني وتخ�ص�صاتهم واهتماماتهم� ،إال �أنها ك�شفت عن فجوة كبرية بني ال�صورة امل ��أم��ول��ة ل �ل�تراث ب�ين ال�ن��ا���س ،وال���ص��ورة الذهنية ال�سائدة عنه ،وال�ت��ي تعتمد يف م�صادرها يف الغالب الأع��م على ما تلقاه ال �ن��ا���س يف امل��ؤ��س���س��ة التعليمية املتهمة بالتحيز وتغليب ال�سيا�سي على الثقايف� ،أ�سا�س ال�شخ�صية والإعالم ،املتهم باالتهامات نف�سه �إ�ضافة ب��داي��ة ي��رى ال���ش��اع��ر والإع�ل�ام ��ي «ن���ش��أت �إىل الت�سطيح واجتزاء املعلومات. ك�شف ه��ذا اال��س�ت�ط�لاع ،ال��ذي ند�شن به �سل�سلة ا��س�ت�ط�لاع��ات ت�ه��دف �إىل حت��ري على كل دولة م�لام��ح ال���ص��ورة الذهنية العربية حول االهتمام بتراثها الرتاث ،عن ما ي�شبه القطيعة مع الرتاث ،الوطني والعمل
على تنقيته ونشره
امل���ص��ري» �أن ال�ت�راث ه��و ح�صاد خ�برات وخيال وواق��ع الأجيال ال�سابقة الذى تبلور فى �شكل �أدب��ي �أو فني حاز �إمكانية البقاء واال� �س �ت �م��رار ،وي ��ؤك��د �أن��ه ا�ستقى ال�تراث فى بدايات التعامل معه عن طريق الكثري مم��ا تطرحه الكتب �أو تناقلته احلكايات ال�شعبية. وي��رى �أن �أه��م م��ا ميكن �أن ي�ستفاد منه احلكمة والت�سلية والرتفيه وتنمية م�شاعر االن �ت �م��اء واحل ����س اجل �م��ايل و�أن حاجتنا للرتاث حاجة عميقة فحاجتنا �إليه ال تقل ع��ن حاجتنا اىل ال�ف��ن والأدب والثقافة والدين �أي�ضا. وع��ن ر�أي���ه ف��ى م��دى اه�ت�م��ام امل��ؤ��س���س��ات الر�سمية ،وخا�صة وزارة الرتبية والتعليم ب��احل��ر���ص ع�ل��ى تعليم ال �ن ����شء ��ش�ي�ئ� ًا من الرتاث �أكد �أن هناك اهتمام ًا مبادة تراثية معينه وهي �ألف ليلة وليلة .وحكايات جحا. وه�ن��اك م��واد �أخ��رى ع��دي��دة �شبه جمهولة ينبغي �إ�ضافتها خا�صة امل��واد ذات املدلول
قضية للنقاش 26 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ال�ت��اري�خ��ي .وع��ن ر�أي ��ه ف��ى م��دى اهتمام الإعالم بالرتاث وال�صورة التى يقدمه بها قال :من حني اىل حني نرى �صور ًا متناثرة منه دون خطة منهجية �سواء ما يقدم كما هو �أو ما تعاد �صياغته درامي ًا .و�أ�شار �إىل �أن �أهم و�أكرث الربامج الإذاعية التى تقدم ال �ت�راث وت �ع��ر���ض ل��ه «ال�برن��ام��ج ال�ث�ق��ايف بالإذاعة امل�صرية» ،وال��ذي ال ي�سمعه �أحد للأ�سف.
الأ�صل والف�صل
يتفق معه الكاتب امل�سرحي على الغريب، ح�ي��ث يعني ال�ت�راث بالن�سبة ل��ه الأ��ص��ل والف�صل ،يقول :انتمائي الكبري ل�شجرة الثقافة العربية واحل�ضارة الإ�سالمية. وه��و ع�صارة التجارب وال�ع��ادات والقيم والأخ�لاق املتعلقة ب��الآداب والفنون التي تنتقل ع�بر الأزم���ان م��ن جيل �إىل جيل، وهو ما يراكم خربة على كافة امل�ستويات ي�ستفيد منها اجلميع ،كل ح�سب توجهاته واهتماماته وذوق��ه وثقافته ،ولكن يكون هناك خيط دقيق يربط كل ه�ؤالء يف �إيقاع ح�ضاري متجان�س. وي�ضيف :ال ميكن �أن ن�ستغني عن الرتاث �إال �إذا �أردن � ��ا �أن ن�ن�ق�ط��ع م��ن ��ش�ج��رة احل���ض��ارة �أو �أردن ��ا �أن ن�ك��ون ب�لا ذاك��رة وب�لا ت��اري��خ ،وب�لا عمق ح�ضاري يربطنا بال�سابقني. وي�ل�ف��ت ال �غ��ري��ب �إىل �أن اال� �س �ت �ف��ادة من ال� �ت��راث ال ف� ��رق ف �ي �ه��ا ب�ي�ن ال���ش�خ����ص ال �ع��ادي وال���ش�خ����ص غ�ير ال��ع��ادي�« ،إذا ق�صدنا بذلك املثقفني وغ�ير املثقفني»، ف��ال�ت�راث م��وج��ود ،وه ��و م�ن�ت��ج ح���ض��اري ملن �سبقونا ،وكل �شخ�ص ينهل منه على قدر حاجته وثقافته ،كما يرى �أن الرتاث ه��و ال�شخ�صية ،مبعنى جمموع ال�ع��ادات والقيم والأخ�لاق واخل�برات املرتاكمة يف الفنون والآداب عرب الزمن ،وبدونه نكون ب�لا ج ��ذر ،وب�ل�ا �شخ�صية ،ف�ه��و حياتنا و�شخ�صيتنا. وع��ن دور الإع�لام يف التعريف بالرتاث،
�سعد ال�شطانويف
هالة م�صطفى
ضرورة تضافر الجهود إلعادة بناء خريطة لموروثاتنا القديمة
ال���ص�غ��ر ،وتعلمت م�ن��ه ال�ك�ث�ير و�ألهمني � �ش �ع��ورا ب��الأ� �ص��ال��ة وال �ف �خ��ر ل �ك��ل م��ا هو م�صري ،يكفي �إننا كنا والزلنا نعلم العامل يف كل �شيء ،و�إن مل ن�ستفد منه ،للأ�سف هذا الرتاث الذي مل نقدره حق قدره. كما يبدي فهمي �أ�سفه على �أن��ه ال يوجد اه �ت �م��ام ب �ف�ترة ت��راث �ي��ة م�ع�ي�ن��ة ،م ��ؤك��د ًا �ضرورة الرتكيز علي امل��وروث احل�ضاري امل�صري الذي ع َّلم العامل ،وعن ال�صورة ال�ت��ي يقدمها الإع�ل�ام ع��ن ال�ت�راث ي��رى �أنها باهتة ومتخلفة ،وق�شور ،مما يخلق انف�صا ًال ع��ن ال��واق��ع وطم�س لل�شخ�صية امل�صرية ودوره ��ا يف ال�ت��اري��خ الإن���س��اين، وت�سطيح وتهمي�ش ل��دور ال�شعب علي مر الع�صور والرتكيز علي دور احلاكم. وي��رى ال �ب��دري �أن الف�ضائيات الآن هي التى ت�شكل الوجدان مبا تقدمه من مواد �إعالمية ،وي�ضيف �إىل �أن هناك فقر فى املواد الرتاثية املقدمة للجمهور ،كما ي�ؤكد �أننا ك�شعوب متح�ضرة ال ميكن �أن ن�ستغني عن الرتاث؛ فالرتاث وقود احلا�ضر وقوة دفع للم�ستقبل ،وعن�صر �إلهام لل�شباب.
يت�أ�سف الغريب قائ ًال :للأ�سف ،فالإعالم ـ بق�صد وب��دون ق�صد ـ يكر�س للقطيعة مع الرتاث ،واعتباره من املا�ضي الباهت الذي ي�شدنا للخلف ،وقد قامت التيارات الأدبية با�سم احلداثة لتدعو للقطيعة مع ال�تراث بزعم �أن��ه ي�ؤخرنا ،فيما ال�تراث يدفعنا ل�ل�أم��ام ،لأن م��ن ال ما�ضي ل��ه ال حا�ضر ل��ه ،وال�ت�راث ه��و البنية التحتية التي ننطلق منها ون�ضيف �إليها.
الإعالم والرتاث احل�ضاري
�سيد ب��دري فهمي ،م��دي��ر ع��ام بالتعليم الفني واجل��ودة ب ��إدارة الزينية التعليمية والأم�ي�ن ال�ع��ام حل��زب التجمع مبحافظه الأق�صر ،فيع ِّرف الرتاث ب�أنه كل ما تركه لنا �أج��دادن��ا وك��ل من �سبقنا يف احلياة، �سواء كان مادي ًا �أو اجتماعي ًا �أو �إن�ساني ًا �أو فكري ًا. وي�شري البدري �إىل بدايات تعرفه على ال�تراث ق��ائ�لا :اطلعت على ال�تراث منذ
قصور فهم معنى التراث يؤدي إلى تجهيل دوره الهام
�أفكار علمية لالهتمام بالرتاث
م�صطفى حم�م��د ال���س�ي��د ع �ل��ي ،مهند�س ا�ست�شاري تخطيط عمراين وم��دن يعرف ال �ت�راث ب ��أن��ه ك��ل م��ا ه��و م��ت��وارث وق��اب��ل ل�ي��راث بحكم التقادم واالنتقال ،ويرى ل� إ
�أن �أهم ا�ستفادة ميكن �أن ينالها الفرد من الرتاث هي املعرفة والعلم بال�شيء ،و�أ�شار �إىل �ضرورة ال�تراث فى حياتنا نظر ًا لأن ال�تراث ع�ب��ارة ع��ن جمموعة م��ن الأمن��اط الثقافية ،املادية منها واملعنوية ،و�أهم ما مييزها هو ربط الفرد باجلماعة كما ت�صل احلا�ضر باملا�ضي. وعن قراءاته فى الرتاث قال :بحكم ن�ش�أتي ن�ش�أة دينية ،فقد ك��ان اهتمامي بال�شعر والأدب وعلوم ال�صوتيات والتجويد ،كما در��س��ت ت��اري��خ ال�ع�م��ارة ،ففيها الكثري من الطرز املعمارية املختلفة وما يتميز به كل طراز عن الأخر يف ال�شكل وامل�ضمون .وينتقد علي ق�صر االهتمام على الآث��ار الفرعونية دون بقية الآث��ار؛ الإ�سالمي منها والقبطي وال��روم��اين ،م ��ؤك��د ًا � �ض��رورة �أن ي��أخ��ذ كل ع�صر حظه من االهتمام. �أم��ا عن ال�صورة التي يقدمها الإع�لام عن الرتاث فريى علي �أنها �صورة �ضعيفة و�أحيان ًا مغلوطة وينق�صها التخ�ص�ص وال ترقى حلجم امل��وروث الثقايف وامل��ادي مل�صر ،كما يرى �أن التليفزيون وحده الذي يقوم بالقدر الأكرب من هذه املهمة ولكن على ا�ستحياء.
الرتاث امل�صري والت�سويق
حم �م��د اخل� �ب�ي�ري ،ك �ب�ير الأخ ���ص��ائ �ي�ين االقت�صاديني بالهيئة العامة للتخطيط العمراين بالقاهرة ،مل يختلف كثري ًا عن �سابق ْيه يف تعريف الرتاث ،حيث يرى �أنه يعني كل ما ورثناه من الأجيال ال�سابقة، وه��و ي�شمل ال�ع�ل��وم وال �ف �ن��ون وال�ع�م��ارة واملو�سيقي و�شتى املجاالت ،و�أ�ضاف :عن طريق معرفة ال�تراث ي�ستطيع الإن�سان ال �ع��ادي اال��س�ت�م�ت��اع مب��ا ف�ي��ه م��ن �إب��داع وجمال ،فنحن نحتاج الرتاث يف حياتنا لنعرف ما�ضينا وعراقته و�أ�صالته. وع� �م ��ا �إذا ك� ��ان ق ��د ق � ��ر�أ � �ش �ي �ئ��ا م��ن ال�ت�راث ف�ق��د �أ� �ش��ار �إىل �أن��ه ق��ر�أ ت��راث امل���ص��ري�ين ال �ق��دم��اء وع ��رف ك �ث�يرا عن الأه��رام��ات والنحت ومعابد �أب��ى �سنبل والآث���ار ال�ي��ون��ان�ي��ة ،والآث���ار القبطية
التراث المصري يحمل بين طياته الكثير مما يستفاد به في المستقبل كالكني�سة املعلقة ،والآث���ار الإ�سالمية ك��امل �� �س��اج��د وامل �� �ش��رب �ي��ات وامل �� �ص��اح��ف وال �ق�لاع ،وامل�ب��دع�ين يف ق ��راءة ال �ق��ر�آن الكرمي وعلومه ت�لاوة وجت��وي��د ًا والفنون واملو�سيقي والغناء القدمي. ً ويرى اخلبريي �أن هناك اهتماما بفرتة تراثية معينة دون الأخ ��رى ،لذلك فهو يو�صى باالهتمام ال�شامل وترميم معظم الآث��ار دون متييز ،م�ؤكد ًا �أننا يف حاجة ل �ت��وع �ي��ة امل �ج �ت �م��ع ب �� �ص��ورة ك��ب�ي�رة ،مع الرتكيز على جهود الت�سويق الإعالمي املوجه للعامل للتعريف برتاثنا.
الرتاث كنز اخلربات
ال�ت�راث ه��و خ�لا��ص��ة ح �� �ض��ارات وجت��ارب الأج� ��داد ،ب�ه��ذه ال�ع�ب��ارة ا�ستهلت هالة م�صطفى ،املوظفة بالرتبية والتعليم، وكاتبة الق�صة الق�صرية حديثها، و�أ��ض��اف��ت :كما �أن ال�ت�راث يعرب عن احلالة الإن�سانية وال�شعبية للأجيال التي �سبقتنا ،ومنهم ن�ستخل�ص ع��ادات �ه��م وت�ق��ال�ي��ده��م وع�ل��وم�ه��م و�آداب� �ه ��م وف�ن��ون�ه��م ،وم��ن خ�ل�ال ذل���ك ن���س�ت�ط�ي��ع احل �ك��م على احلقب الزمنية القدمية وفى ع�صورها املختلفة. وح��ول م��ا ميكن �أن ُي�ستفاد م��ن ال�تراث ق��ال��ت م�صطفى� :إن ال �ت�راث ك�ن��ز من اخلربات فى جماالت حياتية خمتلفة حياتية تاريخية ي�ستفيد الفرد منها يف احل�ك��م على الكثري
مم��ا يتعر�ض ل��ه ف��ى ح�ي��ات��ه ال�ي��وم�ي��ة من مواقف و�أح��داث ،كما ي�ستخدمه يف و�صف بع�ض املواقف فى كلمات ب�سيطة كالأمثال ال���ش�ع�ب�ي��ة �أو ب�ع����ض ال�ق���ص����ص ال�تراث �ي��ة القدمية. كما ترى �أن الرتاث للكاتب �أو املثقف كنهر م�ت��دف��ق ال ين�ضب �أب� ��د ًا ،ف�ق��د ي�ستخدمه ال �ك��ات��ب ك ��إ� �س �ق��اط ع �ل��ى ب�ع����ض امل��واق��ف ال�سيا�سية ويعرب من خالله عن ر�أيه بحرية، ولي�س معنى هذا �إفال�س الكاتب فى خلق مواقف حالية �أو عدم قدرته على التعبري.. بل هو البحث عن الكنوز واجل��واه��ر التى ت�ستهوي الكاتب فيقع فى ع�شق الرتاث بكل �أنواعه «ال�شعبي والأدبي». وت�شري �إىل �أن ال�ف��رد يتعر�ض ل�ل�تراث يف كل وقت من خالل ا�ستخدام بع�ض الأمثال ال�شعبية ولكنها بالأخ�ص تف�ضل ال�تراث الفرعوين وت�ستهويها معرفة تفا�صيل هذه احل �� �ض��ارة وت��راث �ه��ا ال ��ذي ا�ستمر لآالف
متثال نه�ضة م�رص ملختار ميثل م�رص فتاة تتطلع نحو امل�ستقبل بينما تت�شبث يدها برتاثها متمثال ً يف �أبي الهول
قضية للنقاش 28 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�شارع �شعبي -القاهرة -متحف بروكلني
ال�سنني يبهر العامل مبدى تفوقهم فى كل املجاالت. وتعلل م�صطفى ميلها ل�ل��أدب الفرعوين كونه ملئ بالبالغة وزاخر بن�صائح احلكيم «�آين» وق�صة املالح الغريق ورائعة �شكاوى ال �ف�لاح ال�ف���ص�ي��ح ،ف�تراث �ن��ا ه��و امل�ف�ه��وم الأ�شمل لتاريخنا وح�ضارتنا وهو جذورنا ال�ضاربة يف الأر�ض ،فهل ن�ستطيع �أن ننتج فروعا وثمارا دون جذور؟
ال� �ت��راث ب� ��أن ��ه ك ��ل م ��ا ه ��و م� � ��وروث ع��ن ال�سابقني ،كما تو�ضح �أن هناك اختالف ًا ف��ى �أن� ��واع ال �ت�راث ،ف�ل��دي�ن��ا ت ��راث ثقايف واجتماعي وبيئي ي�شمل �أزم �ن��ة وع�صور ما�ضية ا�ستطاعت �أن تبقى حية و�شاهدة على �أ�صحابها التى مل نحياها فى وقتها، ولكن ببقاء هذا امل��وروث ف�إننا نحيا معها ون�ستعيد بخيالنا حياة ال�سابقني.
علينا الربط بين بني اجلهل والتجهيل من جانبها تع ّرف نرمني نعيم عبد اجلواد ثقافات الشعوب معلمة ل�غ��ة ع��رب�ي��ة ودرا���س��ات �إ��س�لام�ي��ة ،حيث التراث اإلنساني يجمع كل البشر
وعما ميكن �أن ي�ستفيد الإن���س��ان العادي م��ن معرفته ل�ل�تراث ت�ق��ول :الإمل��ام بتاريخ وح�ضارة القدماء ،عالوة على حاجتنا له يف توثيق موروثاتنا لال�ستفادة منه يف تو�ضيح ج��ذورن��ا التى ت�ضرب ف��ى �أع�م��اق التاريخ الب�شري ،ومبا �سيعود على بالدنا باخلري الوفري من خ�لال عر�ضه واال�ستفادة منه فى جلب ر�ؤو���س الأم��وال ولإتاحة الفر�صة أ�م��ام اجلميع لدرا�سة ه��ذا التاريخ وهذا املوروث الذى يرثى الب�شرية جمعاء. وت���ؤك��د �أن �ه��ا مل ت �ق��ر�أ �شيئا ع��ن ال�ت�راث ب��ل اع�ت�م��دت ف��ى ا�ستقاء معلوماتها على امل���ش��اه��دة وال���س�م��اع ،ك�م��ا ال تن�سى �أن�ه��ا
در�ست بع�ض الرتاث بح�سب �سنوات التعليم املختلفة فتقول :كان لدينا النذر الي�سري من املعلومات التى تتعلق بالآثار �إال �إنه بحكم التخ�ص�ص ف��إن��ه ق��د تكونت ل��دىّ معرفة بالرتاث الثقايف اخلا�ص بالأدباء وال�شعراء وما مت ح�صره فى �أمهات الكتب من هذه املواد العلمية والأدبية الرتاثية. وعن وجود اهتمام م�ؤ�س�سي بفرتة تراثية/ تاريخية عن غريها تقول :كنت �أظ��ن �أنه لي�س لدينا �إال الآث��ار الفرعونية القدمية وذل� ��ك ب���س�ب��ب م��ا �أح��اط �ه��ا الإع �ل��ام به م��ن االه�ت�م��ام وال��رع��اي��ة ،ولكن منذ وقت لي�س بالقليل �ساقتني قدماي �إىل منطقة اجل �م��ال �ي��ة وه��ال �ن��ي م ��ا ر�أي � ��ت م ��ن �آث���ار �إ��س�لام�ي��ة ،خا�صة ��ش��ارع امل�ع��ز ل��دي��ن اهلل الفاطمي وه��ذا الكم الهائل وال��رائ��ع من امل�ساجد واخلانقات والأ�سبلة وغ�ير ذلك من احلرف التى ا�ستطاعت الدولة توطينها بثوب جديد والئق فى هذا املكان احليوي. وطالبت عبد اجلواد ،ب�إعادة بناء خريطة موروثاتنا القدمية ،لت�شمل معلومات عن الع�صور التى مرت بها م�صر وتركت �أثر ًا ي��دل عليها ،وق��ال��ت� :أمت�ن��ى �أن ت��رى هذه اخلريطة النور ويتمكن كل فرد وكل طالب من اقتنائها ،كما ت�ؤكد فى ذات الوقت عدم ر�ضائها عن ال�صورة التي يقدمها الإعالم عن الرتاث.
كل �شيء قدمي تراث!
حممد �صقر ،موظف �سابق متقاعد بامل�صانع احلربية ،يحاول تعريف الرتاث بقوله� :إن الرتاث يعنى �أ�شياء كثرية ،ثم يخل�ص �إىل �أن ك��ل �شيء ق��دمي ت��راث ،وي�ضرب �صقر مثا ًال بالكتب العلمية والتاريخية والآث��ار القدمية ،واملن�ش�آت القدمية مثل الأزه��ر، والأه��رام��ات ،واملكتبات الدينية القدمية، وي�ضيف :بالدنا فيها ما ال يتم ح�صره من ال�تراث الأ�صيل .م�ؤكد ًا �أن ال�تراث عبارة ع��ن ث ��روة ق��وم�ي��ة ل�ل�ب�لاد .و�أ� �ش��ار �إىل �أن الإن�سان العادي يجب عليه �أن ي�ستفيد من تراثه بالبحث فيه والإملام مبا يحتويه هذا
حممد اخلبريي
ن�ش�أت امل�رصي
أهم استفادة يمكن أن ينالها الفرد من التراث هي المعرفة والعلم بالشيء
و�أعظمها احل���ض��ارة الإ��س�لام�ي��ة ،م��ا ورد منها وما مل يرد ،ما كان خري ًا وما كان غري ذلك ،فهذا كله تراث لنا وللب�شرية جمعاء. وي�شري ال�شطانويف �إىل �أن اهتمامه بالرتاث ين�صب على ت��راث احل�ضارة الإ�سالمية، مثل �سرية الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم وم��ن ب�ع��ده ��س�ير خلفائه ف��ى ع�صر دول��ة ال��را� �ش��دي��ن ،وم��ن ب�ع��ده��ا ع���ص��ور ال��دول الأموية والعبا�سية والعثمانية والدول التي ان�شقت عنهم و�صو ًال �إىل الع�صور احلديثة، ع�صر ا��س�ت�ق�لال ال ��دول ح�سب التق�سيم اجلغرايف املعروف الآن. وع��ن م��دى ا�ستفادته م��ن ال�ت�راث يقول: تعلمت منه فن الإدارة يف كل �شيء ،من خالل �سري الر�سول وال�صحابة والتابعني والعلماء م��ن بعدهم ،تعلمت �أي���ض� ًا الثقة بالنف�س وكيفية الو�صول للهدف وكيفية تقبل الآخر. كما يرى �أننا بحاجة �إيل ال�تراث خ�صو�ص ًا فى الفرتة احلالية لنتعلم من درو�س التاريخ فيه وخ�صو�ص ًا ما يتعلق بالثورات وكيفية بناء الدولة ،وقبل كل ذلك كيفية بناء النف�س. وي�شري ال�شطانوفى �إىل بع�ض كتب الرتاث التى �أثرت فيه و�أهمها �سرية الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم يف كتاب الرحيق املختوم، ال�ب��داي��ة والنهاية الب��ن ك�ث�ير ،مقدمة ابن خلدون ،امل�ستطرف من كل فن م�ستظرف ل�شهاب الدين الأب�شيهي. ويلفت ال�شطانويف �إىل �أن كل ما در�سه من
من علم وتاريخ وجمد. �أم��ا ع��ن قيمته ف��ى حياة ال�ف��رد ف��أك��د �أن��ه م�ف�خ��رة ل�ن��ا ي�ب�ين ل�ن��ا �أ��ص��ال�ت�ن��ا ومعدننا ويرفع �ش�أننا بني الأمم .وعما �إذا كان قد ق��ر�أ �شيئ ًا ع��ن ال�ت�راث �أ��ش��ار �إىل �أن��ه ق��ر�أ كثري ًا عن تراثنا بداية من الفراعني وحياة الفراعني وعن الأجيال املتالحقة والأزمان املختلفة وال�سري الذاتية لأبطالنا و�أجدادنا و�شبابنا وع��ن ك��ل ��ش��ئ �أجن ��ز ف��ى ت��اري��خ بالدنا العريقة.
�إهمال الرتاث معناه املوت
م�صحح لغة عربية ،يرى �سعد ال�شطانويف، ِّ �أن ال�تراث كل ما ك��ان فى ح�ضارات بالد العامل املختلفة ،القدمية منها واحلديثة
كلية اللغة العربية تقدم وجبة دسمة تربط الطالب بالتراث والقيم وتدرس األدب الشعبي واآلداب الشرقية كالفارسية والعبرية
قضية للنقاش 30 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
م�صطفى علي
مؤسسة التعليم عليها عبء كبير لغرس المعنى الصحيح للتراث في أطفالنا
علي الغريب
الرتاث يف املدر�سة هو بع�ض ال�سري املخت�صرة لبع�ض ال�صحابة مثل عبد الرحمن بن عوف فى املرحلة االبتدائية ،و�أ�سماء بنت �أبي بكر و�أ�سامة بن زيد فى املرحلة الإعدادية� ،أما يف اجلامعة فيقول :در�ست بع�ض كتب التاريخ املتعلقة باحل�ضارة الإ�سالمية وم��ا قبلها، وكذلك در�ست ال�شعر العربي بكامل ع�صوره و�شعرائه بداية من امرئ القي�س وحتى �أحمد �شوقي وحافظ �إبراهيم ،ودر�ست �أي�ضا فن النرث وكتابة الرواية العربية و�أب��رز كتابها بالإ�ضافة للنحو وعلمائه ،كما در�ست قطوف ًا م��ن الفل�سفة وامل�ن�ط��ق وال�ن�ق��د وال�ب�لاغ��ة. ويقرتح �شطانويف �أن يزيد االهتمام يف مناهج التعليم لي�شمل كل الع�صور لنعرف جميعا ما�ضينا وتاريخنا لنعرب �إىل م�ستقبلنا ،كما يقرتح �أن تزيد ن�سبة االهتمام بالطفل. وعن دور الإعالم فى التعريف بالرتاث يقول:
على خطى الأجداد ..عمال من �صعيد م�رص ي�صنعون متاثيل لل�سياح
يوجد عندنا نوعان من الإعالم �أولهما يبث الفتنة وي�شوه ال�تراث وخ�صو�صا الإ�سالمي ول�ل�أ��س��ف فهو م�شاهَ د وم ��ؤث��ر يف النا�س، وثانيهما �إع�لام يقدم لنا ال�تراث فى �شكل مب�سط ومي�سر ول�ك��ن ال �أح��د ي�شاهده �إال القليل و�أي�ضا هو لي�س م�ؤث ًرا. وق �ب��ل �أن ن�ح��ث ون��دف��ع الأداة الإع�لام �ي��ة نحو التعريف ب��ال�تراث واالهتمام به وهي م�س�ألة على �أهميتها علينا �أوال �أن نبحث عن متلقيها ،وحتما �ستكون �أعدادهم كثرية ولكن حينما ننه�ض بالتعليم �أوال ..كما يرى �أن اال�ستغناء عن الرتاث معناه املوت وحينما افتقدنا تراثنا ومل نعد نلتفت له �صرنا فى خرب كان ومل يعد لنا مكان بجوار من �أخذوا
اإلعالم ـ بقصد وبدون قصد ـ يكرس للقطيعة مع التراث
تراثنا وا�ستفادوا منه وارتفعوا به �إىل عنان ال�سماء ولكن ما زال عندي �أم��ل �أن نرجع ونتقدم ونقود العامل كما كنا.
احلل خلق تراث جديد!
يتمثل ال �ت�راث يف ع�ي�ن��ي حم�م��د ح�م��دي، �صحفي ��ش��اب ،يف ك��ل م��ا ه��و خالد وباقي ع�ل��ى م��ر ال�ع���ص��ور ،م��ن طبيعة وح���ض��ارة وف ��ن و�آث � ��ار ،ك�م��ا يتمثل يف ك��ل جم��االت احل �ي��اة م��ن ط��ب وك�ي�م�ي��اء وه�ن��د��س��ة وف��ن وزراعة و�صناعة ،ويرى حمدي �أنه البد من الرجوع والبحث والتفكري يف املا�ضي �أكرث من �أى وقت وبحث الأ�سباب التى �أدت اىل ا�ستمرارية ونهو�ض ال�تراث القدمي حتى الآن فى زماننا وحماولة النهو�ض والتطوير، مع �إتاحة فر�ص لل�شباب واملوهوبني خللق تراث يتواىل.
القرية الفرعونية ..جت�سيد حلياة امل�رصي القدمي
بني الق�شرة واجلوهر
�أم��ا فار�س �أحمد طه ،طالب بكلية الإع�لام جامعة القاهرة فريى �أن ال�تراث هو الكيـان والت�صوير للأحداث املا�ضية التى ا�ستطيع �أن �أبنى مواقفي عليها فى امل�ستقبل و�أنتقي منها ما يتالءم مع طبيعتي ،كما �أنه �سر ٌد للأحداث القدمية على مر الزمـان واملكان فى خمتلف الع�صـور ،والإن�سان ال�ع��ادي الب�سيط ميكن �أن ي�ستفيد منه حيث ميكنه التعـرف على ما و�صل �إلية �أجداده وحمـاولة االنطالق من حيث انتهوا ،وا�ضاف :كما �أننا نحتاج ال�تراث يف حياتنا للتعـرف على تاريخ الإن�سانية وحماولة بناء م�ستقبل يقوم على �أعمدة الرتاث بجميع �أنواعها. ويلفت فار�س �إىل �أن��ه مل يدر�س �شيئا معينا م��ن ال�ت�راث بع�صوره املختلفة يف مراحل تعليمه �سوى بع�ض الأدب العربي فى املعهد الأزهري �أثناء درا�ستى باملرحلة الثانوية ويرى �أن االهتمام بفرتة تراثية معينة «ع�صر» دون الأخ��رى موجود و �أن��ه ـ على حد قوله ـ يوجد على ال�ساحة هاوي�س التكلم الرتاث ال�سلطوي مبعنـى التكلم عن احلكام ال�سابقني والذين فعـلوا �أ�شياء فى حق هذا البلد وي�ستغل ه�ؤالء الأ��ش�خ��ا���ص امل��ا��ض��ي حتى ي�ب�رروا �أفعالهم احلا�ضرة.
ال يمكن االستغناء عن التراث فهو مكون أساسي للشخصية القومية والوطنية وع ��ن ر�أي� ��ه يف ال �� �ص��ورة ال �ت��ي ي �ق��دم بها الإع�ـ�لام ال�ت�راث ،ينتقد �أحمد ذل��ك قائ ًال: الإع�ل�ام مبختلف قنواته ال يهتم بالتـراث مبعناه الأ�صلي ،بينما يركزون على مظهره اخل��ارج��ي ،مبعنـى �أن �ه��م ي�ظ�ه��رون ال�تراث الذى يهتم به الر�أي العام فقط .كما يرى �أن التلفزيون واالنرتنت �أهم و�سائل الإعالم التي يجب �أن تهتم بالرتاث عن طريق تقدمي �أفالم وثائقية ت�شويقية وبرامج تراثية حت��اول نقل الرتاث اال�سالمى وامل�سيحي ب�صورة وا�ضحة ك��ي يتعرف امل�صريون �أك�ثر على تاريخهم وح�ضارتهم ،كما �إنه من امل�ستحيل �أن ي�ستغنى �أى �إن�سان �أو �شعب عن تراثه مهما كـان ،فالأمة التي لي�س لها ما�ضي لن يكون لها حـا�ضر ،وكم من الأمم تتمني �أن يكون لها ربع ما منتلكه من تراث وثقافة وح�ضارة
قضية للنقاش 32 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
امل�رصيون يعتقدون �أن �ألف ليلة و ليلة جزء من تراثهم
كلمة جميلة..لكن ماذا تعني ؟
التراث في عيون الناشئة كان هذا ر�أي الكبار وال�شباب ،فماذا عن ر�أي ال�صغار يف هذه الق�ضية املهمة؟ الحظنا �أن مفهوم الرتاث عند النا�شئة يتلخ�ص يف �أنه هو كل الأ�شياء التي ورثناها من �آبائنا و�أجدادنا ،وهو الأ�شياء التي لها قيمة مادية ومعنوية ،الفتني �إىل �أن �أقرب مثال على ذلك هو الأهرامات والتماثيل املوجودة يف املتحف امل�صري وامل�ساجد واملباين التي عمرها � 100سنة �أو �أكرث. قالت هدير عبد العزيز طالبة بال�صف الأول ال�ث��ان��وي� :إن�ه��ا ق��ر�أت يف �أح��د الكتب معلومة مهمة وهي �أن معنى كلمة «تراث» لي�س املرياث كما كنت �أعتقد ،وتقول املعلومة �إن ال�تراث هو الأ�شياء الثمينة التي لها قيمة والتي ت�أتينا عرب الأجيال من �آبائنا و�أجدادنا� ..أما املرياث فيمكن �أن يكون فيه �أ�شياء مهمة وجيدة و�أ�شياء لي�س لها قيمة.وتقول هدير :بالن�سبة يل در�ست يف املرحلة الإعدادية واالبتدائية عن الع�صر
الفرعوين والإ�سالمي ،لكنني �أحب الرحالت وذهبت مع رحلة �إىل الإ�سكندرية و�شاهدت تراثها اجلميل مثل قلعة قايتباي ،ومكتبة الإ�سكندرية. وعن �أهمية الرتاث قالت :الرتاث هو الذي يعرفنا مبا�ضي �أجدادنا لنعرف كيف كانوا يعي�شون وي�أكلون وي�شربون ،وحينما زرت املتحف امل�صري ر�أي��ت كيف ك��ان الأج��داد ي�صيدون ،وكيف كانوا يزرعون ور�أيت بع�ض
البذور و�أعجبتني املومياوات الكثرية التى تدل على تقدم الأجداد يف التحنيط وحفظ الأج���س��ام .وك��ذل��ك يحثنا املا�ضي اجلميل لأن نفعل مثل �أج��دادن��ا ونكون �أف�ضل مما نحن فيه الآن .كما تنتقد الإع�ل�ام قائلة: التليفزيون يعر�ض �أحيان ًا برامج تتكلم عن املناطق ال�سياحية فقط ،لكن �أريد برناجم ًا يتكلم عن الرتاث كما قر�أت عنه .و�أمتنى �أن �أزور دول العامل لأ�شاهد تراثهم وح�ضارتهم
هدير عبد العزيز
احمد عبد احلافظ
اجليزة -من مقتنيات متحف بروكلني
بالرغم من �أن م�صر بلدي هي �أم احل�ضارة .ال �أعرف معنى الرتاث! تراثنا �أبهر العامل
ويلتقي معها «�أحمد حممد عبد احلافظ تلميذ ال�صف الأول الثانوي» فيقول :ال�تراث كلمة جميلة تعرب عن العراقة والقدم واحل�ضارة، وقد در�ست كثري ًا عن احل�ضارة الفرعونية التي عمرها 7000عام والتي بناها �أجدادنا القدماء امل�صريون. �أن��ا �أل��وم امل�س�ؤولني يف و�سائل الإع�لام لأنهم يهملون احل�ضارة امل�صرية وال�تراث ويهتمون فقط بال�سواحل والفنادق و�أريدهم �أن يهتموا بالرتاث القدمي �أي�ض ًا لأن من لي�س له ما�ض لي�س له حا�ضر �أو م�ستقبل. �أح��ب ق��راءة الق�ص�ص التي حتكي احلكايات ال�ق��دمي��ة مثل «كليلة ودم �ن��ة» كما اق ��ر�أ عن احل �ك��اي��ات ال �ف��رع��ون �ي��ة ون �ح��ن ال ن�ستطيع اال�ستغناء عن الرتاث واحل�ضارة العظيمة التي �أبهرت العامل كله.
�أما «عبيد اهلل حممد الطالب بال�صف ال�ساد�س االبتدائي» فقد قال برباءة� :أنا ال �أعرف معنى ال�تراث ولكني �أع��رف معنى كلمة �آث��ار ،و�إذا كانت ت��راث مبعنى �آث��ار فهي الآث��ار املوجودة يف الأق�صر و�أ�سوان ومعبد �أبو �سنبل وم�سجد حممد علي بالقلعة ومتحف ُالآث ��ار واملتحف اال�سالمي ومتثال رم�سي�س وكل هذه الأماكن، و�أ�ستفيد من معرفة ال�تراث �أن �أع��رف بلدي وتاريخ بلدي. كما قال نحن نحتاج الرتاث دائم ًا لكي نتفرج عليه ويكون عندنا �سياح كثريون لأن م�صر بالدنا جميلة وفيها �آث��ار متنوعة والأج��ان��ب ي�ح�ب��ون زي��ارت �ه��ا ،ل��ذل��ك ول�ل�أ� �س��ف مل �أق ��ر�أ
الناشئة :التراث كلمة جميلة تعبر عن العراقة والقدم و الحضارة التي بناها األجداد
�شيئ ًا عن ال�تراث لكنني �سمعت و�شاهدت فى التليفزيون ،كما �أن الكتب املدر�سية ومن خالل م��ادة الدرا�سات يوجد بها درو���س عن الآث��ار الفرعونية والإ�سالمية. ويقول �أي�ض ًا �إن امل�شهور عنده وعند �أ�صحابه احلكايات عن قدماء امل�صريني والفراعنة، ويتمنى �أن تقيم املدر�سة له ولزمالئه رحالت ليتعرفوا على بالدهم. وعن ر�أيه يف ال�صورة التي يقدمها الإعالم عن الرتاث يقول� :أنا ال �أقر�أ جرائد �إال بال�صدفة لكنني �أت �ف��رج على التليفزيون و�أ� �ش��ارك يف الإذاع�� ��ة امل��در� �س �ي��ة �أو م��ن خ�ل�ال م��در��س��ة الدرا�سات التي تتكلم معنا يف هذه املو�ضوعات. وي�ق��ول �إن التليفزيون �أك�ثر و�سيلة �إعالمية تعرفه معلومات عن الآثار «الرتاث» عن طريق الربامج التي تتكلم عن ال�سياحة والآثار ،لكنه �أكد حبه ومتابعته لقناة نا�شيونال جيوجرافيك �أبوظبي لأنها «بتجيب حاجات كتري م�ش �آثار وب�س»! وي�ؤكد �أننا كم�صريني ال ميكن اال�ستغناء عن تراثنا و�آثارنا لأننا «بنحب بالدنا»
34 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
مدارات
مدارات
االنتقائية والشمولية في التراث العربي اإلسالمي �سادت
يف ر�ؤيتنا �إىل الرتاث العربي الإ�سالمي منذ ع�صر النه�ضة �إىل الآن ال��ر�ؤي��ة الأح ��ادي ��ة .مت�ي��زت ه��ذه الر�ؤية باالنتقائية ،وتتجلى يف �أن كل م�شتغل بالرتاث العربي يتعامل مع بع�ض جوانبه، معترب ًا ذلك �أف�ضل ما ميثله ،وي�ستبعد ما يراه خمالف ًا ملا يت�صوره .وق�سم الرتاث تبع ًا لذلك تق�سيمات عديدة .فمنه ما هو �إيجابي، وما هو �سلبي .ومنه ما هو متالئم مع ت�صور خا�ص بالدين وباملجتمع ،وما هو غري متالئم معهما .كما �أن منه ما هو تقدمي �أو رجعي، وما هو م��ادي �أو مثايل ،وما هو عقالين �أو خرايف ...هذا �إىل جانب التق�سيم التقليدي يف النظر �إىل الآداب والفنون بوجه عام� ،أي بني ما يندرج يف الثقافة «العاملة» ،ونقي�ضه الذي يت�صل بالثقافة «ال�شعبية». ي�شرتك يف حمل ه��ذه ال��ر�ؤي��ة وتقا�سمها كل من ا�شتغل ب��ال�تراث العربي من التقليديني واحلداثيني على ال�سواء .ومبقت�ضى ذلك مت النظر �إىل ال�تراث وف��ق ما يج�سده من قيم ومت�ث�لات ينت�صر لها ه��ذا الفريق �أو ذاك، ويجد لها كل منهما ما يدعم ت�صوره للحياة والفكر باعتماد الرتاث نف�سه مادة للت�أويل �أو �أداة لل�صراع.
تنبني االنتقائية على خلفية �إيديولوجية وا�ضحة للعيان .ف�إذا كان ال�سلفيون ومن لف لفهم يرون �أن التم�سك برتاث ال�سلف ال�صالح �أ�سا�س جتاوز التخلف ،جند املاديني ومن �سار على منوالهم يكت�شفون زوايا �أخرى مناق�ضة من الرتاث العربي فيقدمونها دلي ًال على �أنها ركيزة التقدم .وكل حزب مبا لديهم فرحون؟ ال ميكننا تف�سري االنتقائية ،فقط ،باملوقف الإي��دي��ول��وج��ي ال ��ذي ينبني ع�ل��ى قناعات و�أنظمة فكرية ومعرفية يتم االنطالق منها خلفية لقراءة ال�تراث واتخاذ املوقف منه.
تنبني االنتقائية على خلفية إيديولوجية واضحة للعيان .فإذا كان السلفيون ومن لف لفهم يرون أن التمسك بتراث السلف الصالح أساس تجاوز التخلف ،نجد الماديين ومن سار على منوالهم يكتشفون زوايا أخرى مناقضة من التراث العربي فيقدمونها دليال على أنها ركيزة التقدم. وكل حزب بما لديهم فرحون؟
�إن كل الأط��راف تنطلق من واقعنا احلايل، وم��ا يزخر به من تناق�ضات وا�صطفافات �إيديولوجية جديدة ،وتعمل على �إ�سقاطها على ال�ت�راث ،باحثة م��ن خ�لال مواقفها، هنا والآن ،عما ميكنها م��ن �سلطة ن�صية «م��رج�ع�ي��ة» م�ستمدة م��ن «ه �ن��اك» يف «م��ا م�ضى» .ويف ه��ذا ت�أكيد على ع��دم القدرة على �إنتاج خطاب واقعي من�سجم ومتالئم مع �ضرورات الع�صر و�إكراهاته ،من جهة. وم��ن جهة ثانية ،ا�ستخدام ال�ت�راث ،عرب توظيفه وتوريطه خلو�ض حروب ،ال قبل له، وال عالقة له بها. �إن ك��ل الأط ��راف ،وه��ي مت��ار���س االنتقائية يف تعاملها مع ال�تراث ،بوعي �أو بغري وعي، ت�سلب منه «تاريخيتـه» ،وت�سخرها خلدمة «واقعية» وهمية ومفتعلة� .آية تلك االنتقائية وه��ذا الت�سخري ،جندها متجلية يف �أن كل طرف يقتطع ج��زء ًا من كل ،وي�شكل �صورة حم��ددة ع��ن ال�ت�راث مب��ا يخدم م�صلحته، ويقدمها لنا على �أنها «ال�صورة» احلقيقية و«الكاملة»� .إنها الر�ؤية الأحادية والتجزيئية ل�ل�تراث :فال�سني ي��رى ال�تراث فيما ات�صل بال�سنة واجلماعة ،وال�شيعي يق�صره على ما ارتبط بال�شيعة ،واملادي يركزه على ما اقرتن
�سعيد يقطني
بامللل والنحل ،وال�صويف ،...وهكذا دواليك. تعمل االنتقائية والتجزيئية على التعامل مع الرتاث ب�صفته جزر ًا ي�ستقل بع�ضها عن بع�ض ،ولي�س باعتباره ك ًال متكام ًال غري قابل للتق�سيم �أو الت�شذير :فـ«تهافت التهافت» ما كان ليكون لوال «تهافت الفال�سفة» مث ًال .كما �أن اب��ن خ�ل��دون م��ا ك��ان ليكون ل��وال الطربي وامل�سعودي ،وق�س على ذلك .النظرة ال�شمولية ل �ل�تراث ال�ع��رب��ي الإ� �س�لام��ي نقي�ض ال��ر�ؤي��ة االنتقائية والتجزيئية التي هيمنت يف كل حقب الع�صر احلديث ،ومن لدن كل الأطراف. تنبني ال��ر�ؤي��ة ال�شمولية على ال�تراب��ط بني خمتلف مكونات ال�تراث التي ت�شكلت على م��ر ال�ت��اري��خ ،وجعلت ك��ل حلقاته مرتابطة وم�ت���ش��اب�ك��ة وم�ت�ف��اع�ل��ة م��ع بع�ضها بع�ض ًا مبختلف �أنواع التفاعل والت�شابك والرتابط التي نعرفها ،والتي تذهب من املحاكاة �إىل املعار�ضة مرور ًا بالتحويل والتحوير. �إن ال �ف��رق ب�ي�ن ال��ر�ؤي �ت�ي�ن االن �ت �ق��ائ �ي��ة ـ التجزيئية وال�شمولية ـ التفاعلية فرق بني الت�أويل والفهم� ،أي بني الإيديولوجيا والعلم. وكل عالقتنا مع تراثنا ظلت عالقة ت�أويلية �إق�صائية و�إيديولوجية ،ولذلك ظلت نظرتنا قا�صرة وحمدودة وعاجزة عن الإحاطة بكل
إن الفرق بين الرؤيتين االنتقائية ـ التجزيئية، والشمولية ـ التفاعلية فرق بين التأويل والفهم ،أي بين اإليديولوجيا والعلم. وكل عالقتنا مع تراثنا ظلت عالقة تأويلية إقصائية وإيديولوجية، ولذلك ظلت نظرتنا قاصرة ومحدودة وعاجزة عن اإلحاطة بكل مكونات تراثنا في تنوعه وتعدده وغناه مكونات تراثنا يف تنوعه وتعدده وغناه� .إننا حني ن�ستبعد ج��زء ًا من ثراتنا لأننا ن��راه ال ميثلنا؟ منار�س �إق�صاء جلزء من ذاكرتنا امل�ستقبلية ،ونلغيه م��ن دائ ��رة االه�ت�م��ام. وبذلك ال نتخذ ،فقط ،موقف ًا انتقائيا من «ت��راث» م��ا ،ولكن �،أي�ض ًا ،من «�إن�سان» ما ي��رى �أن اجل��زء ال��ذي �أق�صيناه ميثله .ويف ذل��ك تو�سيع ل�ل�ه��وة ب�ين م�ك��ون��ات املجتمع
العربي يف تنوعه وتعدده وغناه. عندما ننظر حالي ًا يف واقع الأمة العربية والإ�سالمية ،وما يعرفه من ت�شرذم وانق�سام و�صراع ،جند ج��زء ًا �أ�سا�سي ًا منه يعود �إىل مثل هذه املواقف االنتقائية من الرتاث ،ومن الإن�سان :فال�صراعات املذهبية والطائفية والع�صبية لي�ست �سوى جتليات لها .كما �أن نزعات التكفري والتخوين «االتهام باالنتماء �إىل الإخوان ،ولي�س فقط �إىل اخليانة» لي�ست �سوى تعبريات عن تلك الر�ؤيات التجزيئية والإق �� �ص��ائ �ي��ة ل�ل�آخ��ر«الإن �� �س��ان املختلف» ولـ«الرتاث الآخر» الذي ال نراه ميثلنا. بعد �أحداث احلادي ع�شر من �سبتمرب فر�ض علينا تبني خطاب «ح��وار احل�ضارات» ،يف الوقت الذي ظل منظرو �أمريكا يتحدثون عن «�صدامها» .فنظمنا امل��ؤمت��رات ح��ول حوار الأدي��ان وحول الت�سامح الديني ،ولكننا ،يف الوقت نف�سه ،مل نعن باحلوار بني مذاهبنا الإ�سالمية وطوائفنا. حني نتبنى ر�ؤية �شمولية لرتاثنا فتلك بداية حتولنا نحو التفاعل الذي ميكننا من حتقيق معرفة علمية برتاثنا وبالت�سامح مع خمتلف املكونات العربية التي تت�صل بهذا الرتاث بدون متييز �أو �إق�صاء
ساحة الحوار 36 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ال�شعر فن النخبة..تلك حقيقة
محمد الميموني: المراجعة الناقدة للتراث تضمن رقي حضارتنا
حاوره -عبد الرحيم اخل�صار و�صلنا مدينة « تطوان» ،و�س�ألنا عن العنوان الذي ي�سكن فيه ،ف�أجابنا �أحدهم « من تريدون بالتحديد؟» ،قلنا «حممد امليموين» ،فا�ستوثق « ال�شاعر؟». امليموين؛ ا�سم يعرفه جمتمع ال ُكتاب واملثقفني املغاربة ،منوذج مبدع امتزج فيه املوروث الديني العربي ،والثقافات املغربية والإ�سبانية والفرن�سية .تعرفه مدينته باملثقف طيب القلب ووافر الأدب. �أحد رواد احلداثة املتفائلني واملحبني للأجيال ال�شعرية يف املنطقة. من مواليد «�شف�شاون» يف العام 1936م ،جامعي ي�شتغل بالتعليم ،بد�أ ن�شر �أعماله يف خم�سينيات القرن املا�ضي ،ن�صو�صه العميقة حتيل �إىل ال�س�ؤال امل�ستمر حول عاملنا �سريع التغري .من �أعماله «�آخر �أعوام العقم» ،و«احللم يف زمن الوهم» ،و«طريق النهر» ،و«ق�صائد �سائبة». يف حوارنا ر�صدنا بدايات التكوين لل�شاعر، وعالقته بالرتاث الأدب��ي والن�ص الديني ،يف حماولة لفهم التجربة ال�شعرية جليل بكامله. لنبد�أ م��ن الإره��ا��ص��ات الأوىل لتكوينكم ال�شعري ،وهل للبيت �أو املدر�سة دور يف هذا التكوين؟ احلقيقة �صادمة ،فمدر�ستي منعدمة الأث��ر، �إذ مل تهتم بفن الكتابة ،كما هو احلال يف دار لقمان �إىل الآن ،با�ستثناء قلة من الأ�ساتذة متردوا على الن�صو�ص املك ّر�سة .ولعل القائمني على و�ضع برامج التعليم يف بالدنا فاتهم ذلك، فكانت ال�صدف واملنا�سبات غري املربجمة متنف�سا للموهوبني م ّنا. ً �أذك� ��ر ق��راءت��ي ق���ص�ي��دة ل���ش��وق��ي يف نهاية الأربعينيات من القرن املا�ضي ،القت ا�ستح�سان �أ�ساتذتي واملدعوين يف حفل مدر�سي .ويف اخلم�سينيات يف ثانوية تطوان �شاركت مبحاولة �شعرية ع��ن قيمة الكتاب ،على �إث��ره��ا متت دعوتي �إىل �إذاعة تطوان املحلية ،ونلت «ديوان ابن زيدون» جائزة رمزية من مدير الإذاعة، وتلك بداية االنتباه احلقيقي �إىل م�ؤهالتي ال�شعرية ،وم��ن يومها وحتى الآن يالزمني
تم إهمال جيل الرواد في تاريخ الشعر المغربي المعاصر وقلما تجد إشارات خاطفة إلى دورهم ونصوصهم الحية هاج�س املحاولة كلما �أقدمت على كتابة ن�ص. حدثنا عن �سفرك بني مدن عدة للدرا�سة وع�ل�اق �ت��ه ب �ت �ج��رب �ت��ك ال �� �ش �ع��ري��ة يف ف�ت�رة ال�شباب؟ يف منت�صف ال�ق��رن امل��ا��ض��ي ،ك��ان��ت تطوان م��رك �زًا ثقافي ًا ف��اع� ً لا يف جيل ال ��رواد حيث الإ� �ص��دارات الثقافية متنوعة االهتمامات، منها «جملة املعتمد ال�شعرية» مزدوجة اللغة «عربية – �إ�سبانية» ،ت�أثر جيل ال��رواد بها، وللأ�سف مت �إهمال هذا اجليل يف تاريخ ال�شعر املغربي املعا�صر ،وقلما جتد �إ�شارات خاطفة �إىل دورهم ون�صو�صهم احلية .ثم كانت الدار
اكتسبت ثروتي اللغوية ودرايتي باللغة العربية في (الكتّاب) وساعدني ذلك على قراءة الشعر العربي القديم وفهمه واالستمتاع به والتناغم مع عالمه
البي�ضاء مركز امل�غ��رب الثقايف وال�سيا�سي والفني والنقابي ،كانت �إقامتي فيها مثمرة، ف�ك� َّون��ت َع�لاق��ات م��ع �شباب ي�ؤ�س�س ملغرب طموح ونا�ضج ،وغلب على حماوالتهم طابع الع�صامية ،وال�سذاجة وال�صدق. ويف ال�ستينيات اندجمت بكل كياين يف احلركة الطالبية يف الرباط وفا�س ،والتي اجتهدت يف ن�شر القيم التقدمية وحتريك احلياة ال�سيا�سية وقتها .وهو ما �صبغ جتاربي وقتها باملبا�شرة واحلما�س ون�ك��ران ال��ذات واالل �ت��زام بال َه ّـم اجلماعي.
ت�أثري الن�ص الديني
و�ضح لنا ت�أثري الن�ص الديني من خالل حفظك للقر�آن ،يف حياتك ك�شاعر؟ ك�أغلب جيلي يف جمتمع متم�سك بهويته الدينية والوطنية ،كانت طفولتي يف ال ُكتاب القر�آين، و�شف�شاون رف�ضت التعاون مع االحتالل الذي م ّثل للآباء «تدخل الأجنبي الكافر» ،بعد ت�آمر القوى اال�ستعمارية �ضد البطل «عبد الكرمي اخلطابي» ،وبالتايل رف�ضت مدار�س االحتالل لفرتة طويلة ،فكان التعليم الديني ً عو�ضا حتى عن تلك املدار�س الإ�سبانية التي تعاون بع�ض الأه ��ايل مم��ن يختلف فكرهم يف �إقامتها، جمايلي �إىل اكمال الأمر الذي �أحال كثري من ّ درا�ستهم يف «القرويني» بفا�س �أو ما يوازيها. وال�صدفة وحدها ما دفع بي للدرا�سة يف تلك امل��دار���س املختلطة يف ابتدائية �شف�شاون ثم ثانوية تطوان �أواخر العقدين الرابع واخلام�س.
ساحة الحوار 38 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
الزميل عبد الرحيم اخل�صار يف بيت ال�شاعر حممد امليموين
يف «الكتّاب» اكت�سبت ثروتي اللغوية ودرايتي باللغة العربية و�أ�ساليبها و�إي�ق��اع مو�سيقاها املميز ،وه��و ما �ساعدين على ق��راءة ال�شعر العربي القدمي وفهمه واال�ستمتاع به والتناغم مع عامله. و�أعرتف ب�أن كتابات «طه ح�سني» مما قر�أت؛ �ساعدتني كث ًريا على هذا التذوق ،وهو ما يف�سر ا�ستخدامي ل�صيغ قر�آنية و�أخ��رى من ال�شعر اجلاهلي وم��ا بعده م��ن الأم �ث��ال وامل�ق��ام��ات، وحم��اول �ت��ي لتوظيفه يف ف �� �ض��اءات وج��ودي��ة واجتماعية وت�أملية يف كتاباتي.
لعل جت��رب��ة عبد النا�صر يف م�صر وم��ا تبع سيظل الشعر ح ًيا ذلك من حركات ارتدادية يف عاملنا العربي، مهما تنكر له األميون و�ساعد على ظهور كتابات �سيا�سية ونقدية ال وإعالميو القارئ سهل عهد للقارئ العربي بها ،والتغري يف ال�شكل االصطياد رخيص وامل�ضمون للق�صيدة العربية ،هو ما جعلني التكلفة ..وعلى الشاعر �أحت��ول للق�صيدة احلديثة وااله�ت�م��ام مبا يتطلع �إليه املواطن العربي .وبا�ستثناء ذلك أن يستمر دون انتظار لترضية أو فليهجر الشعر ظلت بع�ض الأ�صوات تلوك �شعارات املا�ضي وتقلد املجيدين م��ن ��ش�ع��راء الكال�سيكية �أوج العطاء .وحتى اليوم �أحتفظ ببع�ض الرفاق اجلديدة بقليل من التوفيق .وهو ما ق�صر مثل عبد الكرمي الطبال ،نتبادل نف�س االهتمام الكال�سيكية على املنا�سبات املفتعلة ،و�ساد النمط احلداثي امل�شهد. ونتحاور بنف�س احلميمية واملتعة.
رف� ��اق ال �� �ش �ب��اب ،م� ��اذا ع�ن�ه��م وع ��ن ق ��راءة م�سوداتكم بالتبادل ،وتقا�سمكم اللذة الأوىل للن�ص وامل�سودات ،ومن منهم ا�ستمر �أو توقف؟ التجربة النا�صرية ..وال�شعر كتابتكم للق�صيدة ال�شعرية احلديثة ما �شاركني كثريون ن�شوة الكتابة ولذتها التلقائية املبا�شرة ،منهم من انقطع عن الكتابة� ،أو حتول داف�ع��ه ،وكيف تخطيتم �أن�صار الكال�سيكية للنقد والق�صة ،وهناك من غ ّيبهم امل��وت يف ال�شعرية العربية؟
اقر�أ تراثك بجر�أة ت��راث االن�سان هو املِف�صل الدقيق يف هويته ،وعليه �أال ميل قراءته الواعية الناقدة بق�صد هدم الأوهام والت�صورات امل�سبقة التي ناق�ضت الرتاكم املعريف للإن�سان يف ع�صرنا .لذا علينا �أن نعيد قراءة تراثنا بجر�أة تك�شف موقعنا منه وموقعه منا ،بحيث نبني حا�ضراً وم�ستقب ً ال رافعته وركيزته تراثنا الإيجابي، وال نكتفي بجعله �سكناً ونهمل البناء ف��وق��ه �أو التطوير ،و�إال انتهينا �إىل احل�ضي�ض للأبد ،وال �شك يف م�ساهمة تراثنا املتينة يف البناء املعريف للح�ضارة الإن�سانية ،التي �ساهمت ح�ضارتنا العربية والإ�سالمية فيها بقدر عظيم.
جيلكم ب�شكل خا�ص ،وال�شاعر املغربي على العموم ،هل ت�شعر بظلم �إعالمي عربي من حيث ا�ستحقاق احل�ضور وال�ت��داول والقيمة الفنية؟ ال�شعر فن النخبة ،تلك حقيقة .رمب��ا يكون ذلك ب�سبب قلة االهتمام الإعالمي ،فهو �إعالم من�شغل با�صطياد الأميني كتابي ًا وفكري ًا بكل الإغ ��راءات ،لذا على ال�شاعر �أن ي�ستمر دون انتظار الرت�ضية �أو اال�ستحقاق الإعالمي� ،أو فليهجر ال�شعر ،فال�شعر �سيظل ح ًيا مهما تنكر له الأميون و�إعالميو القارئ �سهل اال�صطياد رخي�ص التكلفة .وه�ن��ا �أ�سجل �أن ق�صيدة
ال�ستينيات كان حظها �أوفر ،حيث �سادت قيم ثقافية و�سيا�سية مل ي�شوهها االبتذال والتحايل واللهاث وراء اجلاه بجهد �أقل.
املركز والهوام�ش!
قيا�ساَ م��ع احل���ض��ور ال�شعري يف امل�شرق العربي يف م�صر ولبنان غريهما� ،أال يعاين ً تهمي�شا؟ �أم �أن��ه يف ال�شعر املغربي احلداثي نظر النقاد واملُنظرين للأدب درجة ثانية؟ احلق �أن قناعة مركزية بع�ض البلدان كم�صر ول�ب�ن��ان و�سبقهما يف ا�ستيعاب ال�ت�ح��والت الثقافية يومها ،هو ما � ّأ�صل لذلك ،ويف حني
ذات ال�شاعر ذات ال�شاعر تفر�ض عليه الإبداع، وال خيار له ،وقارئ واحد يكفيه، وال �ق �� �ص �ي��دة وح��ده��ا ت�ب�ح��ث عن قارئها متى كانت ت�ستحق القراءة، وه��و ق��ارئ خا�ص ،ال ن��ادر .حتي ه�ؤالء �أ�صحاب ال�شهرة ،قليل من يتذوقهم وي��درك �أ��س��رار كلمتهم ال�شعرية. ع�ل�م�ت�ن��ي ال �ع �ق��ود ال �ك �ث�يرة ال�ت��ي ق���ض�ي�ت�ه��ا ب���ص�ح�ب��ة ال �� �ش �ع��ر� ،أن ال���ش�ع��ر ال مي �ك��ن �أن ي���ص�ير ف� ًن��ا ج � �م ��اه �ي�ري � �اً �إال ب �ت �خ �ل �ي��ه ع��ن �أه ��م م �ق��وم��ات��ه ،وه ��ي د�أب� ��ه على ال �ك �� �ش��ف ع ��ن ل �غ��ة خ �ف �ي��ة داخ ��ل ل �غ��ة اخل� �ط ��اب ال �ي��وم �ي��ة .ه�ن��اك خ � �ل� ��ط ل� � � ��دى ال � �ك � �ث�ي��ري� ��ن ب�ي�ن «الواقع»و«ال�سائد» ،وعند ه�ؤالء ف � � ��إن ال �� �ش �ع��ر ال� � ��ذي ال ي �ح��اك��ي م��ا ه��و � �س��ائ��د ب�ي�ن ع��ام��ة ال�ن��ا���س م��ن �إ� �ش��اع��ات و�أخ� �ب ��ار وه��واي��ات ول�غ��ط �سيا�سي و�إع�ل�ام ��ي� ،شعر غ�ير واق �ع��ي ،وال��واق��ع الإن���س��اين يحتاج خيا ًال خ�صباً وعمقاً ودقة مالحظة وح��د���س ،و�إدراك ذلك لي�س ب�سهولة .و�أعرف �أن كثريين ال ي�شاركونني قناعتي تلك ،لكن ه ��ذا م��ا خ�ل���ص��ت �إل �ي��ه جت��رب�ت��ي، وقد يكون غري �صواب.
ال غنى عن النقد المنهجي المحترف.. ومن المؤسف أن يُصب اهتمام الكثير على أدوات القصيدة الشعرية وحواشيها ال على أحشائها مل يكن الأ�شقاء يف امل�شرق ت�شغلهم خارطة املركز والهام�ش ،فرتى كتاب َا مغاربة �شاركوا ال�شرقيني يف ذلك ،فتلهفوا على جمالت وكتب امل�شرق العربي ملا بها من منابع ذات مذاق جديد ،وال �أرى غ�ضا�ضة يف االعرتاف بتلمذة الكثري من جيلنا مبا�شرة بال�سفر �إىل م�صر �أو العراق للدرا�سة يف جامعاتها التي �ضمت كتا ًبا ونقادًا ذائعي ال�صيت� ،أو بالتلمذة على قراءة �إبداعاتهم ،وهو ما ظهر �أث��ره يف ال�صحافة والكتابة الإبداعية والنقدية يف املغرب .وهنا ال نن�سى �أن التلميذ رمبا يتفوق على �أ�ستاذه ،وال ينتق�ص ذلك من حق الأ�ستاذ ،وهو ما غاب عن �أ�شقائنا� .أذكر حني دُعيت مع زمالء مغاربة للم�شاركة يف ندوة ثقافية يف الت�سعينيات يف «موا�سم �أ�صيلة الثقافية» ،وارت�ضينا بحب وتقدير �إدارة ال�شاعر امل�صري «�أحمد عبد املعطي حجازي» للندوة ،و�أتذكر من املغاربة احل�ضور « حممد ال�سرغيني» و« عبد الكرمي الطبال» ،وم��ن امل�صريني الكثري .ب��د�أ عبد املعطي حجازي بتقدمي ال�شعراء من خالل ُكتيب كان ُقدِّم لنا ،و�أ�سهب يف الأو�صاف قبل كل �شاعر م�صري ،يف حني ا�ستخف باملغاربة، بل و�أخذ يتعرث يف تهجئة �أ�سمائهم مبا يوحي
ال أرى غضاضة في االعتراف بتلمذة الكثير من جيلنا مباشرة بالسفر إلى مصر أو العراق للدراسة في جامعاتها التي ضمت كتّابا َ ونقاد ًا ذائعي الصيت أو بالتلمذة على قراءة إبداعاتهم
بجهله املطلق حتي بوجودها .ورغم �أن ا�سمي جنا من التحريف ،لكن �آث��رت االن�سحاب يف هدوء ،فلم ترقني لهجة اال�ستخفاف باملغاربة ممن ال تقل قيمتهم وريادتهم عن الأ�شقاء امل�صريني ،ومل �أ�س�أل ما حدث يف اجلل�سة بعد ان�سحابي .و�أعتقد �أن داللة احلادثة وا�ضحة يف الإجابة على �س�ؤالك� .أما اليوم فقد تغريت خ��ارط��ة الثقافة و«مل يعد ه�ن��اك م��رك��ز وال هام�ش». �أري��د �أن �أ�س�ألكم عن �سر �إ��ص��رار ال�شعراء املغاربة على طباعة دواوينهم طبعات خا�صة، رغ ��م �أن �ه��ا ال حت�ظ��ى ب��احل �ف��اوة الإع�لام�ي��ة وال�صحفية �أو املتابعة النقدية؟ ذات ال�شاعر تفر�ض عليه الإبداع ،وال خيار له. وقارئ واحد يكفيه ،والق�صيدة وحدها تبحث عن قارئها متى كانت ت�ستحق القراءة ،وهو ق��ارئ خا�ص ،ال ن��ادر .حتي ه ��ؤالء �أ�صحاب ال�شهرة ،قليل من يتذوقون ويدركون �أ�سرار كلمتهمال�شعرية. علمتني العقود الكثرية التي ق�ضيتها ب�صحبة ال�شعر� ،أن ال�شعر ال ميكن �أن ي�صري ف ًنا جماهريي ًا �إال بتخليه عن �أهم مقوماته ،وهي د�أب��ه على الك�شف عن لغة خفية داخ��ل لغة اخلطاب اليومية .هناك خلط لدى الكثريين بني «الواقع» و«ال�سائد» ،وعند ه�ؤالء ف�إن ال�شعر الذي ال يحاكي ما هو �سائد بني عامة النا�س من �إ�شاعات و�أخبار وهوايات ولغط �سيا�سي و�إعالمي� ،شعر غري واقعي .والواقع الإن�ساين يحتاج خيا ًال خ�ص ًبا وعم ًقا ودق��ة مالحظة وحد�س ،و�إدراك ذلك لي�س ب�سهولة .و�أعرف �أن كث ًريا ال ي�شاركني قناعتي تلك ،لكن هذا ما خل�صت �إليه جتربتي ،وقد يكون غري �صواب.
خملفات �أزمنة االنحطاط
ب��ال�ت�ط�ب�ي��ق ع �ل��ى جت��رب �ت��ك م ��ع كتابيك «ال�شعر املغربي املعا�صر :عتبات التحديث»، و«��س�ب��ع خ �ط��وات رائ� ��دة :درا� �س��ة يف ال�شعر املغربي املعا�صر» ،فهل الغياب الفادح لنقاد ال�شعر اليوم ،يدفع مبمار�سة ال�شاعر كتابة النقد بني ق�صيدة و�أخري؟ ال غنى عن النقد املنهجي امل�ح�ترف ،ومن
ساحة الحوار 40 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
املغربية احلديثة ،ف�أعطى ث�م��اره يف �أوائ��ل ال�ستينيات ،و�أرى �أن ت�صدي بع�ض �شعرائنا �إىل قراءة �شعر جمايليهم �أو متقدميهم كان من هذا القبيل .فال يدرِك ما تكنه الق�صيدة من �أ�سرار �إال من يكابد كتابتها . بعد ك��ل ه��ذا ال�ت�ح��ول ال��ذي ع��رف��ه �أدب�ن��ا ال �ع��رب��ي ،ه��ل ت��راه��ن ع�ل��ى ال���ش�ع��ر امل�غ��رب��ي وم�ستقبله؟ ج��ر�أة ما يبدعه ال�شعراء ال�شباب اليوم ال يدعونا �إىل ال�ت�خ��وف ،ب��ل ال�ترق��ب مل�ستقبل �شعري ق��د ُيده�شنا .ول�ع��ل ات���س��اع هام�ش نوعا من الرقابة الذاتية احلرية والتحرر ً التي حتد من �آفاق الإبداع� ،أراه الدافع لهذا امل�ستقبل الواعد . حوار الأجيال ..ال�شعراء امليموين والبازي وبني�س
االنت�صار لقيم احلداثة على الرتاث
كيف ت��ري دع��وات الأج�ي��ال اجل��دي��دة ملا امل ��ؤ� �س��ف �أن ُي���ص��ب اه �ت �م��ام ال�ك�ث�ير على هناك صنف نادر من ميكن �أن يُ�سمى االنت�صار لقيم احل��داث��ة �أدوات الق�صيدة ال�شعرية وح��وا��ش�ي�ه��ا الكثريينال النقاد سكنهم الشعر على الرتاث ،بل ومقاطعته �إن لزم؟ على �أح�شائها .وال ننكر �أن النقاد تراث االن�سان هو املِف�صل الدقيق يف هويته، ينجزون حتليالت نقدية عميقة ،فيدركون ما فاختاروا التعبير عن وع�ل�ي��ه �أال مي��ل ق��راءت��ه ال��واع �ي��ة ال�ن��اق��دة مل يدركه ال�شاعر نف�سه .وذلك منوط بالنقد حبهم وتذوقهم له املعني بتطور ال�شعر .وللحقيقة هو �صنف نادر بقراءة عوالمه طواعية بق�صد ه��دم الأوه��ام والت�صورات امل�سبقة ّ التي ناق�ضت الرتاكم املعريف للإن�سان يف من النقاد .و�أراهم ي�سكنهم ال�شعر ،فاختاروا ال عجز ًا عن قوله ع�صرنا .ل��ذا علينا �أن نعيد تراثنا بجر�أة التعبري عن حبهم وتذوقهم له بقراءة عوامله طواعية ال عجزًا عن ق��ول ال�شعر املبا�شر� .شعراء قبلي تخطوا بع�صاميتهم خملفات تك�شف موقعنا م�ن��ه وم��وق�ع��ه م�ن��ا ،بحيث ويف جتربتي النقدية حاولت قراءة ما �أجنزه �أزم�ن��ة االنحطاط ،و�أ�س�سوا ملدر�سة ال�شعر نبني حا�ضر ًا وم�ستقب ًال رافعته وركيزته تراثنا الإي�ج��اب��ي ،وال نكتفي بجعله �سكن ًا ونهمل البناء فوقه �أو التطوير ،و�إال انتهينا املركز والهام�ش �إىل احل�ضي�ض للأبد .وال �شك يف م�ساهمة �أذكر حني دُعيت مع زمالء مغاربة للم�شاركة يف ندوة ثقافية يف الت�سعينيات يف تراثنا املتينة يف البناء املعريف للح�ضارة «موا�سم �أ�صيلة الثقافية» ،وارت�ضينا بحب وتقدير �إدارة ال�شاعر امل�صري «�أحمد الإن�سانية التي �ساهمت ح�ضارتنا العربية عبد املعطي حجازي» للندوة ،و�أتذكر من املغاربة احل�ضور«حممد ال�سرغيني» والإ�سالمية فيها بقدر عظيم.
و«ع�ب��د ال�ك��رمي الطبال» ،وم��ن امل�صريني الكثري .ب��د�أ عبد املعطي حجازي بتقدمي ال�شعراء من خالل كتيب كان ُق�دِّم لنا ،و�أ�سهب يف الأو�صاف قبل كل �شاعر م�صري ،يف حني ا�ستخف باملغاربة ،بل و�أخذ يتعرث يف تهجئة �أ�سمائهم مبا يوحي بجهله املطلق حتي بوجودهم .ورغم �أن ا�سمي جنا من التحريف� ،إال �أنني �آثرت االن�سحاب يف هدوء ،فلم ترقني لهجة اال�ستخفاف باملغاربة ممن ال تقل قيمتهم وريادتهم عن الأ�شقاء امل�صريني ،ومل �أ�س�أل عما حدث يف اجلل�سة بعد ان�سحابي .و�أعتقد �أن داللة احلادثة وا�ضحة� .أما اليوم فقد تغريت خارطة الثقافة ومل يعد هناك مركز وهام�ش.
ن��ود �أن ن�ق�ترب م��ن نظرتكم احلقيقية وموقفكم من الرتاث من خالل جتربتكم ال�شعرية؟ ب��الإح��ال��ة �إىل م��ا �أج �ب��ت ب��ه ع��ن ال �� �س ��ؤال ال�سابق ف��إن �ش�أن ال�تراث الأدب��ي ج��زء من
يف حوار مع ال�شاعر عبد اللطيف اللعبي رفقة ال�شاعرين عبد الكرمي الطبال و عبد اللطيف البازي
�ش�أن ال�تراث احل�ضاري ال�ع��ام ،ف ��إذا كان ذلك قاب ًال للمراجعة والتمحي�ص وهو غري حم�صن وال م�ن��زه ،يجب �أن يظل مو�ضوع �أخ��ذ ورد ،وليتنا ن��دم��ن امل��راج�ع��ة والنقد فذلك عالمة �صحة وب�شارة نه�ضة. بعد اثنني و�سبعني �سنة ،ت�صبح عمود اخل �ي �م��ة يف امل� �ه ��رج ��ان ال ��وط �ن ��ي ل�ل���ش�ع��ر احل��دي��ث ب���ش�ف���ش��اون يف دورت ��ه اجل��دي��دة، فهل تقر�أ ذلك التكرمي كبطاقة اعرتاف وحب من املدينة لك؟ جميل �أن يذكرك اجليل ال�لاح��ق ،فيطلق ا�سمك على دورة امل �ه��رج��ان ،فهو �شرف و�سعادة �أعادتني �إىل �صيف 1965م حيث ال �ف��رح ال�ب�ريء ح�ين كلفني الأخ� ��وة يف « جمعية �أ��ص��دق��اء املعتمد» بتقدمي فقرات املهرجان الأول يف �سبتمرب من العام نف�سه. و�أراها التفاتة طيبة منهم تعك�س تقديرهم لتوا�صل ال�سل�سلة ال�شعرية الذهبية ،وتعك�س وعيهم وترفعهم عن �سخافة �صراع الأجيال التي تفرزها ذهنية مر�ضية موتورة .وهناك من اجلنود املجهولني من ي�ستحق التكرمي
كتابات «طه حسين» ساعدتني على التذوق ودفعتني الستلهام صيغ قرآنية وأخرى من الشعر الجاهلي واألمثال والمقامات وتوظيفها في كتاباتي مم��ن ق ��دم ال�ت���ض�ح�ي��ات واجل �ه��د ح �ب � ًا يف الثقافة وال�شعر ،ممن عانوا �سلطوية خانقة يف ال��دورات الأوىل للمهرجان يف طليعتهم الأ��س�ت��اذ «حممد �أح��رمي »�أم� � ّد اهلل عمره. ومثل ه�ؤالء يجب االنتباه لهم.
قصيدة الستينيات كان أوفر حظ ًا حيث سادت قيم ثقافية وسياسية لم يشوهها االبتذال والتحايل واللهاث وراء الجاه
ثيمة احللم يف جتربتكم ال�شعرية� ،أراها حا�ضرة يف ن�صو�ص متعددة مثل «احللم يف زمن الوهم» ،وكذلك ن�صكم املعنون «يبد�أ الآن م��ا ي �ت��واىل» ال ��ذي تختتمه مبقطع «ن �ه��ر �أح�ل�ام��ي ي �ج��ري /ع�ك����س م��ا ت�ه��وى ال��ري��اح املو�سمية » ..يف اخل�ت��ام �أال ت��زال حاملًا .وهل هناك مت�سع حللم جديد؟ احللم هو اخليال اخلالق ،وحلم اليقظة ال يخالف احلقيقة ،و�إال فهو الوهم وال�سراب املتقم�ص �شكل احلقيقة ،واحل��امل ال ميكن لل�سراب �أن يخدعه ،ب��ل يتجاوزه مقتنع ًا ب��وج��ود م�ن�ب��ع زالل خم �ت��ف وراء خديعة ال�سراب تلك .كتبت دي��واين الثاين ما بني �أواخ ��ر ال�ستينيات ومطلع ال�سبعينيات، حني كان الوهم �سائد ًا ،فكان احللم اليقظ �سالحي يف الإ�صرار على جتاوز هذا الوهم. نعم� ،أح�ل��م وال �أت��وق��ف وغ�يري ع��ن احللم ب�ي�ق�ين حت�ق��ق م��ا حلمنا ب ��ه ،و�أن ال م��رد الكتماله
ساحة الحوار 42 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
هرِّج متفر ِّ ُج الم َ ال ُ حممد امليموين
ْ �شخ�ص �ساه ْر، وي�سامره ح ْل ٌم ٌ يقظ ناعم ْ بني ال َغ ْفوة والغفو ِة ي�أتيه قرينـ ُ ْه ويح ّذر ُه من حمتالٍ يلهو ب�سذاجتهِ، ُ الواثق وهو مِ ن �صدق امل�ؤتـ َ َمن اخلائنْ ، خال�ص لوال خطف ُة نو ٍم ْ ملتب�س الوجهْ، الغائب يبدو فيها ُ َ يتبني يف َ ال�صبح و�ضح ِ �أن اخلطفة كانت حدْ�ساً واحلل َم ر�سالة َ �إنذارٍ. ْ �شخ�ص مي�شي النا�س يف زحمة �أفواج ِ ال يرى مِ ن بني الرائح والغادي �أحداً �إال فرداً َيجذِ ب كل حوا�سه و ُيخدّر قدْراتِه. اجلاذب املنجذب على �أَثــَر يخطو ُ ْ ُي�صغي جلميع و�صايا ُه هو رائدُه الواح ْد يف ُربع متاهتِه اخلايل، مالحم ُه امل�سلوب خلـَع َ ُ ال�سالب وتـَلـ َّب�س �شخ�صي َة ْ غائب. فهُما �شخ�صان ح�ضو ُرهما ْ ال�شخ�صينْ محَ ا َمن يف َ
�أث َر الثاين؟ �شخ�صانِ ْ ميدان على هام�ش ينتظران الفرج َة ٌ مك�شوف عا ٍر وامل�سر ُح والــُّر ْك ُح بال �أ�ستار ْ رقب وعيونـُهما تـَتـ َ ُ باب ْ زقاق، َ �ص قِر ٍد ع َّل ُم َر ِقـ ّ َ غرائب. ا�ص �أو قــ َ ّ�ص َ ْ يبدو من نفـَقٍ �أو ركن مهجو ْر، ف َيطول وقو ُفهما �صاخب. وال�ساحة ُميدان ْ ف�إذا بعيون النا�س حتا�صر ر ْكـ َنهما إعجاب، وتـُحيطهما بتحيات ال ْ عينْ ٌ تدعو عيناً لرتى ما مل تره من قـ ْب ْل. قال ال�شخ�صان معاً ِّ وال�شك وهما بني الده�شة و�أحال ِم الي ْقظة: هي عيون النا�س مفـَتـّح ٌة ها َ لكنّ مالم َح �أوج ُههِم ُك ٌ تل مِ ن طني خا ْم �أتـُرى هل ت�أْلفـُنا ت�ستغرب من غربتنا �أم ُ �أم ت�ضحك �أم تبكي؟ ال فرق َ! فما يف ال ُّر ْكح وال امليدانِ �سوى العبِ دو ٍر
َي ْح�سب �أن الآخ َر مو�ضو ُع فكاهت ِه و ُم َه ِّر ُج ُفرجت ِه وهو املتفرج وحد ُه واحل َك ُم الناقدْ. �شخ�ص َي ْ�سرد ق�صة تـَفـْلِت من بني ت َذ ُّكره وتنا�سي ِه � ُ أزمان حوادثها و�شخو�ص حتقـُّقِها ُ ْ ت�شر ُد ع ْك�س ُمراده أ�شخا�ص منها يتمرد � ٌ وي ُقودون الأحداث َ�إىل جهة �أخرى مل تخطر يف خلَد ال�سار ْد. عبثا حاول �أن َيـكبح �سل�سل َة الأحداث َ أ�شخا�ص، ويخفف من ن َزق ال ْ لكنْ من ي ْقدر �أن يتحكم يف النزواتْ َ ويفكك ح ْلقاتِ الزمن الدائب؟ نف�س ُه ، بل من ُينجي ال�سار َد َ وهو البطل ال ُ أول، مما مل يتوق ْع من خامتة يف املنعطف احلا�س ْم! مار�س 2010
ـعث َ ذات ب َ ْ هنا �إن�سان ال �شيء لدي ِه ْ الزمان �إال وهلة وال ُيعري �سمعا لإح�صائيات املوتِ لكن ي�سمع ا ُ خلطى ووق َع الليل والنها ِر وتعاقبِ الأيا ْم وي�شكر الهــ ِباتِ امل�ستمر ِة التي تبدو عفوي ًة داني َة القـ ُ ْ طوف : ا ُ حلـل َم، والـتن ُّف َ�س املعتادَ، والوجيب َ، ومذا َق ماء النب ِع وحتي َة ال�صبا ْح . وقد يـَلقى يوما ، على غري ميعا ٍد ،فرح ًة تـُلقي �إليه ورد ًة ْ خجول �أو ب�سم ًة و�أم ً ال بال م�ستقبل وال �أوها ْم، لكنه يـَخِ ُّف الحت�ضانها ومي�شي يف وداعها امتناناً حتى تختفي يف غيمة ٍ
�أو ظِ ٍّـل �أو غبا ٍر ري. �أو منعطف �أخ ْ يعي �أن الوقت الذي يحيا ُه ني غيباً ، كان قبـ ْ َل ح ٍ ها قد �صار الآن غاربا يخبو �شيئا ف�شيئاً ْ الالزمان . يف زمان من يدري قد تزدهر اجلذو ُر َ ذات بعثٍ املوت حتـْفاً وميوت ُ املن�سي ويحيا النــ ِّ ْ�س ُـي ُ يف �أزمنة الديمْ ومة . هنا � ٌ إن�سان ال يرى �سِ وى نه ٍر مِ ن زمن وماء ذي �سبعة وجو ٍه وفواتٍ وثباتْ ُّ والكل ماء غارق يف املا ِء
وانعكا�س ومر�آة ٌ وبخار وقــ َ َّطارة. النجم ورمبا يرى �أكوانا يف �شعاع ِ �أو يف الط ْم ِي �أو يف ا ُ حل ِلم الهباب. �أو تطاي ِر ْ وقد يرى يف زرقة الكواكب العليا �إ َلهاً �صامتا قدميا متحديا يـُغريه باكت�شاف الكيميا ِء والطال�سم التي تـُميت َ املوت ِ وتـُفني مبعجزاتها الفنا ْء ولكنّ الإغراء ينتهي �إىل �إغوا ْء التبا�س وينتهي الكل �إىل ٍ ُ اليقظان بني ما يراه احلامل وحدو ِد �أر�ض ال�صح ِو مل املنا ْم. وعوا ِ دي�سمرب
2009
44
بدائع الزهور
الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
تلك المسافة
جمال الغيطاين
ال�شعر
العربي القدمي واحلديث جزء من زادي الروحي اليومي� .أبد�أ وقتي به� ،أقر�أه ب�صوت مرتفع ،وما يجد �صدى عندي �أنقله يف كرا�سات متمه ًال ،وبخط �أحاول قدر الإمكان �أن يكون جمي ًال ،وخالف كتابتي للأبيات التي وقع عليها اختياري� ،أجد متعة خا�صة ،رمبا م�صدرها الإيحاء النف�سي ب�أنني �أ�شارك ب�شكل ما يف �إبداعها ملجرد ن�سخي لها. ومن خالل ق�صائد ال�شاعر �أحاول �أن �أر�سم �صورة ملالحمه احل�سية والنف�سية، �صورة تقريبية ،غائمة ،لكنني �أتلم�س جاهد ًا املالمح قدر الإمكان؛ فامل�سافة الفا�صلة تكون �شا�سعة ،بني موقعي من الزمان واملكان وموقعهم هم الذي �أ�صبح نائي ًا ق�صي ًا ،وكان ممكن ًا �أن يفنى متام ًا ويطويه القدم ،لوال ما و�صلنا لدي �صورة خا�صة بكل منهم ،بد ًء من �شعراء من �أ�شعارهم ،هكذا � ..أ�صبح ّ الع�صر اجلاهلي ،وحتى �شعراء القرن التا�سع ع�شر الذين مل ت�صل �إلينا مالحمهم عرب لوحات �أو �صور ،وهذه املالمح من �صياغة ذاكرتي ،نابعة من �إبداعهم ،و�أبيات ق�صائدهم ،وبال �شك ف��إن �صورة ام��رئ القي�س يف خميلتي تختلف متام ًا عن مالمح �أبو نوا�س� .أو العبا�س بن الأحنف� ،أو و�ضاح اليمن� ،أو جمال الدين بن نباته ،وابن الفار�ض ..وغريهم ،ال �أكتفي بتذوق �أ�شعارهم فقط ،ولكنني �أنقب عن تفا�صيل حياتهم و�أخبارهم ،وما �أكرث ما حفظته امل�صادر الرتاثية. ودائم ًا كنت �أ�شعر بالتعاطف مع ه��ؤالء ال�شعراء ،خا�صة �أولئك الذين ال ميتلكون غري مواهبهم ،كان ال�شاعر م�ضطر ًا دائم ًا �إىل �أن ميدح �أ�صحاب ال�سلطان واجلاه حتى ي�ضمن قوته ومعا�شه ،حتى �إذا تغري خاطر ال�سلطان عليه �أو غ�ضب منه مل يجد مفر ًا اال ا�سرت�ضائه بق�صيدة �أو الهرب يف الربية بحث ًا عن م�أمن. كثري ًا ما توقفت عند ق�صائد املتنبي التي مدح فيها رج��ال ع�صره الذين عرفهم ،بدء ًا من �سيف الدولة احلمداين �إىل كافور� ،إىل بع�ض الأ�شخا�ص الو�ضيعني الذين كانوا يحتلون منا�صب �صغرية مثل ابن كرو�س الأعور ،كان املتنبي �شديد الإح�سا�س بذاته ،وكثري ًا ما حاولت �أن �أتخيل تلك اللحظات التي يجد نف�سه فيها �أمام �صاحب �سلطة ،ال �شك �أنه ي�شعر داخله بتفوقه يف مواجهته ولكنه م�ضطر �إىل املديح� .أحاول �أن �أتخيل م�شاعره ،و�أحواله النف�سية ،بل ومالمح وجهه ،كان املديح و�سيلة ال�شاعر للتقرب من �أ�صحاب ال�سلطة واجل��اه ،ويف حم��اول��ة م��ن ال�شاعر للتكيف م��ع ال��واق��ع ،والح�ترام ذاته� ،أوجد ال�شعر وال�شاعر هذا ال�شكل القدمي لق�صيدة املديح ،فاجلزء الأول منها يبد�أ بالغزل يف املحبوبة وهنا تتحقق ذات ال�شاعر كاملة� .أو تبد�أ الق�صائد بالت�أمل يف �أح��وال الكون خا�صة تقلبات الدهر ،والزمان، و�صروف الأحداث ،وي�ستمر ال�شاعر هكذا ثم ينتقل فج�أة �أو بالتدريج �إىل ذكر املمدوح والتغزل فيه ،و�أحيان ًا ي�ضطر ال�شاعر �إىل التعبري عن نف�سه يف مطلع غريب ،مثري للت�أمل ،و�أتوقف عند املتنبي ،هذا ال�شاعر العبقري، و�أحد الأ�صوات ال�شعرية الفريدة يف تاريخ الب�شرية .فلطاملا حاولت النفاذ
بدائع الزهور �إىل دخائله ،وت�صور �أفكاره التي كان يغم�ض عينيه عليها �إذ ي�سعى �إىل الو�سن ،فكيف جتتمع تلك املتناق�ضات مع ًا :هذا ال�شعور القوي بالذات ،وذلك ال�سعي املحموم �إىل ال�سلطة. مما ا�ستدعى نظم هذا املديح كله الذي يبدو يف موا�ضع كثرية �سخيف ًا ،مبالغ ًا فيه ،ومل يكن طموح هذا ال�شاعر العظيم �إال احل�صول على من�صب وايل �إحدى املقاطعات يف م�صر ،كان يطمح �إىل �أن يهبه كافور والية الفيوم� ،أي من�صب يوازي يف ع�صرنا من�صب املحافظ ،هذا ال�شاعر العظيم ،كان طموحه �أن ي�صبح حمافظ ًا ،ومن �أجل ذلك �أن�شد ق�صائد املديح يف كافور ،حتى �إذا �شعر �أن كافور يراوغه� ،أن�شد يف جمادي الآخرة �سنة �ست و�أربعني وثالث مئة تلك الق�صيدة التي يقول يف مطلعها:
َك � �ف� ��ى ِب � � � � َ�ك دا ًء �أَن َت � � � ��رى امل َ� � � � � � َ �وت �� �ش ��ا ِف� �ي ��ا َو َح � � � �� � � � �س� � � � ُ�ب امل َ� � � �ن � � ��اي � � ��ا �أَن َي� � � � � ُك � � � ��نَّ �أَم � � ��ا ِن� � � �ي � � ��ا ت � � � َّن � � �ي � � � َت � � �ه� � ��ا لمَ ّ� � � � � � ��ا مَ َ مَ َ ت � � � � َّن � � � �ي� � � ��تَ �أَن َت� � � ��رى � �َ ��ص � ��دي� � �ق� � �اً َف� � � ��أَع� � � �ي � � ��ا �أَو َع � � � � � � � � � � ُد ّواً ُم � ��داجِ � � �ي � ��ا �إِذا ُك � � �ن� � ��تَ َت � ��ر� � �ض � ��ى �أَن َت � �ع � �ي � ��� � َ�ش ِب � � ��ذِ َّل� � � � ٍة َف � �ل � ��ا َت� � � ��� � � �س� � � � َت� � � � ِع� � � � َّد َّن ا ُ حل � � � �� � � � �س� � � ��ا َم ال� � � َي� � �م � ��ا ِن� � �ي � ��ا ومت�ضي الأبيات الرائعة معربة عن قلق املتنبي .وخوفه ،وبعد حوايل ع�شرين بيت ًا ،ي�ضطر �إىل بدء املديح ،فال�سلطان� ،سواء كان كافور �أو �سيف الدولة �أو �أي �شخ�ص �آخر ،يف �أي زمان �أو مكان ،يريد �أن ي�سمع ما يدل عليه مبا�شرة ،هنا يقول املتنبي:
ر اجلِ � �� � �س � � ُم يف ال � ��� �َ�س� ��ر ِج را ِك � �ب � �اً ِب � � � َع� � ��ز ٍم َي� ��� �س�ي� ُ ر ال� � � َق� � �ل � � ُ�ب يف اجلِ � � ��� � �س � � ِ�م م ��ا� �ِ�ش� �ي ��ا ِب � � � � � ِه َو َي � � �� � � �س� �ي � ُ َق � � � ��وا� � ِ� � ��ص� � � � � َد ك� � � � ��اف� � � � ��و ٍر َت � � � � � � � � � � � ��وار َِك َغ � � �ي � � � ِ�ر ِه َو َم� � � � ��ن َق � ��� َ��ص � � َد ال � � َب � �ح � � َر ِا� � �س � � َت � � َق � � ُّ�ل ال� �� � َ�س ��وا ِق� �ي ��ا ن َزم� � � ��ا ِن � � � � ِه َف� � � � �ج � � � ��اءَت ِب � � �ن� � ��ا ِ�إن � � � �� � � � �س� � � ��ا َن َع � � �ي� � � ِ َو َخ � � � � � � َّل� � � � � ��ت َب � � �ي � � ��ا� � � �ض � � �اً َخ � � �ل � � � َف � � �ه� � ��ا َو َم� � � � ��آ ِق� � � � �ي � � � ��ا �شتان ما بني اجلزء الأول من الق�صيدة واجلزء الثاين الذي يحوي ذلك املديح ،رغم �أن هذه الق�صيدة بالذات يف حاجة
�إىل وقفة �أطول ،لأن مطلعها خمتلف متام ًا عن ق�صائد املدح الأخرى ،وكثري ًا ما �أتخيل �أن املتنبي كان يعرب عن كراهيته لكافور واحتقاره له ،عندما ي�ستهل ق�صيدته بقوله ( َكفى ِب َك دا ًء �أَن تَرى ا َملوتَ �شا ِفيا) ،تلك االزدواجية عند ال�شاعر ما تزال يف حاجة �إىل درا�سة� ،إىل ت�أمل �أطول ،لقد حاول فن ال�شعر العربي �أن يحل تلك االزدواجية عندما جل�أ ال�شعراء �إىل هذا ال�شكل لق�صيدة املديح .ولكنه كان �أبلغ تعبري عن تلك االزدواجية يف موقف ال�شاعر العربي ،وال�شعر العربي نف�سه ،التعبري ال���ص��ادق ع��ن ال ��ذات ،وامل��دي��ح امل�صطنع �سعي ًا وراء ا�سرت�ضاء ال�سلطان �أو طلب ًا لر�ضائه .وهذا موجود حتى الآن ،عرفت �شاعر ًا كبري ًا موهوب ًا تخ�ص�ص يف مديح رئي�س عربي معا�صر� ،إذا قر�أت �شعره املعرب عن ذاته �ستجد �شعر ًا �صادق ًا ،يفي�ض معاناة و�إح�سا�س ًا باملوت وبانطواء احلياة ال�سريع ،و�إذا �سمعت ق�صائد مدحه �سوف جتد جلجلة وت�شبيهات ذات رنني ،يف ق�صائده الأوىل ي�ستخدم �شعر التفعيلة ،ويف ق�صائد املدح يلج�أ �إىل الق�صيدة العمودية والأوزان التقليدية لأن املديح هنا ي�ستلزم ال�صنعة ،ولذلك يبدو ال�شكل التقليدي �أن�سب و�أ�سهل. وخالل مطالعتي لأخبار ال�شعراء ،وخالل ت�أملي لعالقاتهم بال�سلطة ،كنت �أتوقف �أمام الطرف الآخر� ،أ�صحاب ال�سلطة �أنف�سهم ،فبقدر حر�صهم على �إر�ضاء ال�شعراء والإغ��داق عليهم ،وا�سرت�ضائهم �سعي ًا ل�سماع مديحهم بقدر �سرعة غ�ضبهم وق�سوة العقاب ال��ذي ينزلونه بال�شعراء �إذا بدر منهم ما يخالف� .أحيان ًا كان �أ�صحابا ال�سلطان ي�ستخفون بال�شعراء ويتخذونهم ك�أدوات للت�سلية .ومن العبارات التي تتكرر كثري ًا يف م�صادر الرتاث ،ما يقوله ال�سلطان لل�شاعر: قل لنا �شعر ًا يف ذلك .وذلك يكون يف بع�ض الأحيان نوع من احللوى� .أو منظر طبيعي� .أو �شيئ ًا ما ،و�سرعان ما يرجتل ال�شاعر اجلاهز دائم ًا بع�ض الأبيات ،فيبدي �صاحب ال�ش�أن �إعجابه ور�ضاه .وي�أمر بهدية �أو منحة. تلك امل�سافة بني ال�سلطان وال�شاعر ،تلك امل�سافة بني ما يبطنه ال�شاعر وما يظهره ،تلك امل�سافة بني الن�صف الأول للق�صيدة حيث تعرب ال��ذات عن نف�سها ب�صدق ،والن�صف الثاين حيث �أبيات املديح امل�صنوعة ،املّبالغ فيها ،التي تثري ال�سخرية �أحيان ًا -من خالل القراءة املعا�صرة ،تلك امل�سافة متثل �أح��د اجل��وان��ب ال�سلبية يف الثقافة العربية قدمي ًا.. وحتى الآن
وجه في المرآة 46 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�شهيد الإ�صالح
عبد الرحمن الكواكبي
رائد المقاومة بالقول والفعل القاهرة -حممد ال�شافعي الت�صارع مع الأقدار م�س�ألة «حمالة �أوجه» ،فعندما تختارنا الأقدار ف�إما �أن تدفعنا �إىل «�شرنقة االبتالء واالختبار» ،و�إما �أن تدفع بنا �إىل ف�ضاءات رحبة من ن�شوة الفوز واالنت�صار ،وعندما ن�سعى نحن �إىل �إقدارنا ف�إما �أن ن�سعى �إىل «برج �سعدنا» و�إما �أن نهوي �إىل «حفرة حتفنا» ،ويف كل الأحوال ف�إننا نختار ما نعلم ،وجنرب على ما ال نعلم .و�إذا كانت الأقدار اختارت ال�شيخ الكواكبي لي�صبح مبعوث العناية الإلهية لتنوير الوجدان العربي ف�إنه قد اختار �أن يفعل ذلك كما ينبغي فعله. عبدالرحمن بن �أحمد بن ال�سيد م�سعود ابن عبد الرحمن الكواكبي ،ميتد ن�سبه من الأب والأم �إىل الإم��ام على بن �أبي طالب، عن طريق الإم��ام احل�سني ،ولذلك فلي�س غريب ًا �أن ي�صبح الكواكبي �شهيد ًا؛ فهو �سليل ال�شهداء. ول�ك��ن ل�ن�ب��د�أ م��ن حلظة امل�ي�لاد حيث ولد عبد الرحمن يف مدينة حلب عام 1854م، وكان والده يعمل مدر�س ًا باجلامع الأموي، وبعد خم�س �سنوات فقط من ميالده ماتت وال��دت��ه ،رمب��ا ليعمل القدر على �أن ي�شتد ع��وده وي�صبح �صلب ًا �أم��ام ال�شدائد ،وبعد �أن ماتت الأم �أخذته خالته �إىل حيث تعي�ش يف «�أن �ط��اك �ي��ة» ل�ي�ب��د�أ رح�ل�ت��ه م��ع التعليم وليتعلم �أي�ضا اللغتني الرتكية والفار�سية مما �أعطاه بعد ذلك فر�ص ًا �أكرب للقراءة واالطالع باللغات الثالث :العربية والرتكية والفار�سية .وبعد عدة �أعوام عاد الكواكبي �إىل حلب ليلتحق باملدر�سة الكواكبية حيث
تعلم العلوم الدينية وال�ل�غ��وي��ة ،ث��م در���س العلوم الريا�ضية والطبيعية .وق��د ات�سم الكواكبي بال�شجاعة املفرطة والتي كانت تت�سق مع طموحاته الالحمدودة ..وقد بد�أ حياته العملية مرتجم ًا يف مطبعة الوالية، ثم عمل يف جريدة «ف��رات» وهي اجلريدة الر�سمية يف ذل��ك ال��وق��ت وك��ان عمره 22 �سنة وقد ت�صادف �أن بد�أ الكواكبي حياته ال�صحفية مع تويل ال�سلطان عبداحلميد ال�سلطنة يف ع ��ام 1876م ،وق ��د ارت�ب��ط كالهما بالآخر ارتباط م�صري من خالل ���ص��راع م��ري��ر ح �ي��ث ات �� �س��م ع�ب��داحل�م�ي��د
عالوة على أن الكواكبي مصلح مجدد امتلك الشجاعة على مواجهة الطغيان فهو أول مفكر عربي يكرس حياته إلخراج كتاب عن االستبداد
بالديكتاتورية واال�ستبداد والعنف بينما ك ��ان ال �ك��واك �ب��ي ث ��ائ ��ر ًا � �ض��د اال� �س �ت �ب��داد والديكتاتورية. ورغ��م �أن ج��ري��دة «ف���رات» ك��ان��ت جريدة ر�سمية �إال �أن كتابات الكواكبي كانت مليئة بالغمز واللمز �ضد ال�سلطان عبداحلميد فتم �إع �ف��ا�ؤه م��ن العمل ب��اجل��ري��دة ف�أن�ش�أ جريدة «ال�شهباء» وهى �أول جريدة عربية يف ح �ل��ب ،وق��د �أ� �ص �ي��ب ك��ام��ل ب��ا��ش��ا وايل امل��دي�ن��ة ب��ال��ذع��ر مم��ا يكتب يف ال�شهباء فقرر تعطيلها وت�ك��رر ه��ذا التعطيل حتى �أ��ص��درت اجل��ري��دة 16ع��دد ًا ومت �إغالقها لأنها جتر�أت على انتقاد الواىل وال�سلطان بينما ك��ان��ت بقية ج��رائ��د ال�سلطنة تخلع على ال�سلطان عبداحلميد ك��ل الأل �ق��اب. وبعد عامني ت��وىل جميل با�شا نامق �شيخ وزراء ال��دول��ة العثمانية والي��ة حلب وك��ان الكواكبي قد ح�صل على ترخي�ص بجريدة �أخرى �أ�سماها «االعتدال» ت�صدر بالعربية
وجه في المرآة 48 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ال�شيخ علي يو�سف
حممد ر�شيد ر�ضا
وال�ترك �ي��ة وام� �ت�ل��أت ه��ى الأخ � ��رى بنقد الواىل وال�سلطان لتلحق بعد ع�شرة �أعداد فقط بال�شهباء فلم يتوقف الكواكبي حيث �أر�سل مقاالته ب�أ�سماء م�ستعارة �إىل جرائد ب�يروت والأ�ستانة كما افتتح مكتب ًا يجمع م��اب�ين «ال�ع��ر��ض�ح��اجل��ى» وامل �ح��ام��ي فكان يكتب �شكاوى النا�س �ضد ال��وايل وبطانته كما ك��ان ي�تراف��ع �أم ��ام امل�ح��اك��م مل�صلحة الغالبة وال�ضعفاء حتى �أطلق عليه العامة «�أبوال�ضعفاء» وحتول مكتب الكواكبي اىل ندوة يتجمع فيها كل �أعداء الوايل لل�شكوى واالع�ترا���ض مما �أدى �إىل ت�ضييق ال��وايل على الكواكبي مما ا�ضطره �إىل غلق مكتبه ولزوم منزله� .إال �أنه ا�ستمر يف تتبع ف�ضائح وفظائع ال��وايل و�إر��س��ال�ه��ا �إىل ك��ل مكان،
رأى أن الحرية تمثل «شجرة الخلد» التي تستحق التضحية ألنها «روح الدين» واعتبر العلم أهم مظاهرها وقد تعر�ض ال��وايل يف ذلك الوقت ملحاولة اغتيال فوجدها فر�صة و�أمر بالقب�ض على الكواكبي بتهمة التحري�ض ولكن ال�سلطان �أم��ر بنقل جميل با�شا �إىل احل�ج��از و�أت��ى بعثمان با�شا ليتوىل والية حلب ف�أفرج عن الكواكبي وعمل على تقريبه وتر�ضيته فعينه رئي�س ًا للبلدية ولكن الكواكبي كان نوع ًا من الرجال غري قابل «للبيع �أو ال�شراء» حيث
ا�ستلهام الآخر ال غ�ضا�ضة يف �أن يكون الكواكبي ا�ستلهم �إطار كتابيه «طبائع اال�ستبداد» و«�أم القرى» من كتابي «يف اال�ستبداد» لفيتوريو الفيريى ،و«م�ستقبل الإ�سالم» لويلفريد �سكاون بلنت. فقد ق��ر�أ الكواكبي كتاب الفيريي «يف اال�ستبداد» يف طبعته الرتكية التي ترجمها عبداهلل جودت ،ودفعه هذا الكتاب ليعي�ش بكليته يف تلك الأفكار التي كانت ت�سكن خالياه ووجدانه حيث يعي�ش فع ً ال يف ظل حكم ا�ستبدادي بغي�ض، فراح الكواكبي يطرح الفكرة من خالل تراثه الإ�سالمي ومن خالل جتربته احلية ف�أخرج لنا كتاباً جديداً وغري م�سبوق يف الثقافة العربية والإ�سالمية. كما �أنه من خالل موقفه من �ألفيريي وبلنت يقدم لنا منوذجاً ملا يجب �أن يكون عليه تعامل املثقف العربي مع «الآخر» حيث يجب �أال ننفي هذا «الآخر» كما يجب �أال نقف منه موقف «العمالة الفكرية» �أو موظف العالقات العامة الذى يروج لأفكار هذا الآخر
كانت مبادئه هي التي حتكم كل ت�صرفاته ولذلك مل يتحمل الواىل �أفكار و�إ�صالحات الكواكبي فعزله بعد �أ�سبوع واح��د ،وبعد فرتة جاء عارف با�شا والي ًا على حلب وكان مرت�شي ًا و�سيئ ًا فهاجمه الكواكبي بعنف ف�ترب����ص ب��ه ال ��وايل ح�ت��ى وق��ع ح�ج��ر على قن�صل �إيطاليا وهو ي�سري بعربته يف ال�شارع الذي ي�سكن فيه الكواكبي فتم القب�ض عليه وتقدميه �إىل حمكمة �صورية حكمت عليه بالإعدام فطلب نقل حماكمته �إىل بريوت وا�ستطاع احل�صول على �شهادة من قن�صل �إيطاليا تنفي عنه التهمه فتمت براءته. وع� ��اد ع �ث �م��ان ب��ا� �ش��ا وال� �ي� � ًا حل �ل��ب فعني ال�ك��واك�ب��ي رئي�س ًا لغرفة ال�ت�ج��ارة ف��أع��اد تخطيط ك��ل ��ش��يء فيها وح�ق��ق جناحات كبرية وبعد عامني ق��دم ا�ستقالته و�سافر � �س��ر ًا �إىل الأ� �س �ت��ان��ة ليجمع م ��ادة كتابه «طبائع اال�ستبداد» ثم عاد �إىل حلب ليتم تعينه «رئي�س ال�ك� ّت��اب» عند قا�ضى حلب ول�ك�ن��ه مل ي�غ�ير ��ش�ي�ئ� َا م��ن ط�ب��ائ�ع��ه فكان م���ص�يره الإع �ف��اء م��ن ه��ذه ال��وظ�ي�ف��ة مثل غريها ،وعند ه��ذا احل��د �أدرك الكواكبي �أن طريقه مع ال�سلطة م�سدود حيث اليغريه وعد وال يخيفه وعيد كما �أن �صفاته التي جمعت ال�شجاعة وع��زة النف�س وب�ساطة الطبع ول�ين املع�شر وم�ساعدة ال�ضعفاء ون�صرة املظلومني والإميان بكرامة الإن�سان والقدرة على املواجهة وال�صدام ،كل هذه ال�صفات حددت موقعه من ال�سلطة وخا�صة �سلطة الطغيان ،بل ال نغايل اذا قلنا �إنها قد ح��ددت موقع كل مثقف من �أى �سلطة حيث البد للمثقف �أن يقف دوم ًا على «ي�سار ال�سلطة» ينحاز �إىل الغالبية من الغالبة وامل�ظ�ل��وم�ين ي��داف��ع عنهم ��ض��د جت ��اوزات ال�سلطة.
الهروب �إىل م�صر
املهم �أن الكواكبي �أ��ش��اع �أن��ه م�سافر �إىل الأ�ستانة وا�صطحب معه �إبنه كاظم «كان لديه �أرب��ع بنات وخم�سة �أوالد» ويف بريوت
ال�سلطان عبد احلميد الثاين
ركب ال�سفينة �إىل م�صر �سعي ًا �إىل «وطن ف�ك��رى» يخت�ص �أف�ك��اره ور�ؤاه ،وق��د �سعى ال�ك��واك�ب��ي �إىل م�صر لأن �ه��ا كعبة الفكر ولأنها يف ذلك الوقت كانت ت�شهد حراك ًا ثقافي ًا و�سيا�سي ًا و�أفكار ًا �إ�صالحية �أ�شاعها الأفغانى وتلميذه حممد عبده ،تلك الأفكار التي تتقاطع يف كثري من ر�ؤاه��ا مع �أفكار الكواكبي ،ولي�س هذا فقط ،ولكن اخلالف ب�ي�ن اخل��دي��و ع �ب��ا���س ال �ث��اين وال���س�ل�ط��ان عبداحلميد جعل الكواكبي مت�أكد ًا من �أن �سفينة خماوفه البد و�أن تر�سو على �شاطئ الأم��ن يف م�صر بعد كثري من ال�صراعات واملطاردات.
الرحالة كاف وال�سيد الفراتي
يف القاهرة بد�أ الكواكبي ين�شر مقاالته عن اال�ستبداد يف جريدة «امل ��ؤي��د» ل�صاحبها ال�شيخ على يو�سف ،وكانت املقاالت تُن�شر با�سم م�ستعار هو «الرحالة ك» وظن النا�س �أنها لل�شيخ حممد عبده ،ولكن العداء الذي كان بني علي يو�سف وحممد عبده �أكد �أن هذه املقاالت لكاتب �آخر. كما بد�أ الكواكبي ين�شر �أجزا ًء من كتابه «�أم القرى» يف جريدة «املنار» ل�صاحبها ال�شيخ حممد ر�شيد ر�ضا ،ويف ه��ذا الكتاب �أتى الكواكبي بفكرة مبتكرة حيث جمع علماء امل�سلمني من كل ال��دول الإ�سالمية �أثناء احل��ج يف مكة و�أدار على �أل�سنتهم ح��وار ًا
الإمام حممد عبده
أكد الكواكبي على ضرورة الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية للحد من سلطة الحاكم المطلق حول �أ�سباب ت�أخر امل�سلمني وكيفية الق�ضاء على هذا الت�أخر وكانت هذه املقاالت تن�شر با�سم م�ستعار �أي�ض ًا هو «ال�سيد الفراتي». وقبل �أن نتجول يف رح��اب هذين الكتابني اللذين ميثالن ثورة فكرية حقيقية نتوقف قلي ًال عند املنابع الفكرية لهذين الكتابني حيث �أكد بع�ض النقاد �أن الكواكبي قد جاء بالإطار الأ�سا�سي لكتابه طبائع اال�ستبداد من كتاب «يف اال�ستبداد» للكاتب امل�سرحي الإي� �ط ��ايل «ف �ي �ت��وري��و ال �ف �ي�يرى – 1749 ،»1803كما جاء بالإطار الأ�سا�سي لكتابه �أم ال�ق��رى م��ن كتاب «م�ستقبل الإ��س�لام»
ربط دعاوى اإلصالح بالتعليم وصرخ قائ ً ال: «يا قوم تشكون من الجهل وال تنفقون على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين»
ت�أليف «ويلفريد �سكاون بلنت». ول�ل�إن �� �ص��اف ف� ��إن ه ��ذه الأق ��اوي ��ل حتمل بع�ض احلقيقة ،حيث قر�أ الكواكبي كتاب الفيريي «يف اال�ستبداد» يف طبعته الرتكية التي ترجمها عبداهلل ج��ودت ،وق��د دفعه هذا الكتاب ليعي�ش بكليته يف تلك الأفكار التي كانت ت�سكن خالياه ووج��دان��ه حيث يعي�ش فعال يف ظل حكم ا�ستبدادي بغي�ض، ف��راح الكواكبي يطرح الفكرة م��ن خالل تراثه الإ�سالمي ومن خالل جتربته احلية ف�أخرج لنا كتابا جديد ًا وغري م�سبوق يف الثقافة العربية والإ�سالمية .ال�شيء نف�سه حدث مع كتاب «م�ستقبل الإ�سالم» ت�أليف «بلنت». ويقدم لنا موقف الكواكبي من �ألفيريي وبلنت منوذج ًا ملا يجب �أن يكون عليه تعامل امل�ث�ق��ف ال�ع��رب��ي م��ع «الآخ� ��ر» ح�ي��ث يجب �أال ننفي ه��ذا «الآخ��ر» كما يجب �أال نقف منه موقف «العمالة الفكرية» �أو موظف العالقات العامة ال��ذي ي��روج لأفكار هذا الآخر. الكواكبي علمنا �أن نقف �أم��ام هذا الآخر م��وق��ف «ال �ن��دي��ة» رغ �ب��ة م �ن��ا يف «ت�لاق��ح الأفكار» لأن هذا التالقح هو الذي �سيعمل على ميالد �أفكار ور�ؤى حقيقية مثل الأفكار التي �أتى بها الكواكبي يف كتابيه الرائدين، و�أك��ب��ر دل��ي��ل ع �ل��ى �أن ال �ك��واك �ب��ي ك��ان «م�ستلهم ًا» ومل يكن «ناق ًال» �أن �ألفيريي كان يرى يف القوة املخرج الرئي�سي للق�ضاء على اال�ستبداد ،وهذا ما ذهب �إليه الأفغاين، بينما كان الكواكبي يرى �أن تعليم ال�شعب ه��و احل ��ل ل�ك��ل �إ�� �ص�ل�اح ،وه ��ذا م��ا ذه��ب اليه ال�شيخ حممد عبده ،وع�لاوة على �أن الكواكبي م�صلح جمدد امتلك ال�شجاعة على مواجهة طغيان ال�سلطان عبداحلميد ف�إنه ميتلك �أي�ضا �سبق ال��ري��ادة لأن��ه �أول مفكر عربى يكر�س حياته لإخ��راج كتاب عن اال�ستبداد ،وق��د انطلق الكواكبي يف مقاومته لال�ستبداد من فكرتني �أ�سا�سينت ه�م��ا جت��دي��د اخل �ط��اب ال��دي �ن��ى و�إ� �ص�لاح التعليم ،وقد و�صل �إىل لب الدين اال�سالمى
وجه في المرآة 50 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
عندما �أعلن �أن جتديد هذا الدين لن يكون �إال بالأمر باملعروف والنهى عن املنكر ولي�س بالإميان بالق�ضاء والقدر فامل�سافة بينهما �شا�سعة فاملنهج الأول ينبني على الفعل والرغبة يف التغري ومقاومة الظاملني بينما النهج الثاين ينبني على الت�سليم والر�ضا.
جتديد النظر يف الدين
وقال الكواكبي يف هذا الإطار «ما �أحوجنا �إىل م��ن ي �ج��ددون النظر يف ال��دي��ن ،نظر من ال يحفل بغري احلق ،نظر من ال ي�ضيع النتائج بت�شوي�ش املقدمات ،نظر من يق�صد �إظهار احلقيقة ال �إظهار الف�صاحة ،نظر من يريد وجه ربه ال ا�ستمالة النا�س �إليه، وبذلك يعيدون النواق�ص املعطلة يف الدين ويهذبونه من ال��زوائ��د الباطلة مما يطر�أ ع��ادة على كل دي��ن يتقادم عهده فيحتاج �إىل جمددين يرجعون به �إىل �أ�صله املبني الربيء من متليك الإرادة ورفع البالدة عن كل ما ي�شني». كما ق��ال «ال�ع��دل ب�ين النا�س ه��و الت�سوية بينهم وه��ذا هو امل��راد من قوله تعاىل� :إن اهلل ي�أمر بالعدل» ،وق��د هاجم الكواكبي رج� � َ �ال ال��دي��ن ال��ذي��ن ب��اع��وا �ضمائرهم لل�شيطان ون�صبوا �أنف�سهم خدم ًا لل�سلطان امل�ستبد ،كما �أكد على �أن الدين بذر جيد ال �شبهة فيه ،ف�إذا �صادف �أر�ض ًا طيبة نبت ومن��ا ،و�أر� ��ض ال��دي��ن ه��ي تلك الأم��ة التي �أعمى اال�ستعمار ب�صرها وب�صريتها و�أف�سد �أخالقها ودينها حتى �صارت التعرف للدين معنى غري العبادة والن�سك» ،وبذلك ف�إن الكواكبي يريد الدين النافذ الأث��ر ولي�س الدين اجلامد املحفوظ ويرى �أن النه�ضة ال تقوم �إال على الدين العامل والعلم الواعي كما �أكد على �ضرورة الف�صل بني ال�سلطات التنفيذية والت�شريعية والق�ضائية وذلك للحد من �سلطة احلاكم املطلق. وقال يف ذلك «�أ�شد مراتب اال�ستبداد التي يتعوذ بها من ال�شيطان هي حكومة الفرد املطلق ،ال��وارث للعر�ش ،القائد للجي�ش، احل��ائ��ز على �سلطة دي�ن�ي��ة ،ومل��ا �أن نقول
جمال الدين االفغاين
رغم أن األفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا قبلوا بفكرة المستبد العادل إال أن الكواكبي رفض االستبداد تمام ًا معلي ًا من قيمة اإلرادة �إن��ه كلما قل و�صف من هذه الأو��ص��اف قل اال�ستبداد �إىل �أن ينتهى باحلاكم املنتخب امل�ؤقت وامل�س�ؤول فع ًال» ويف مقاومته لال�ستبداد ،ك��ان الكواكبي ينطلق م��ن «ب��رن��ام��ج �إ� �ص�لاح» ي�ق��وم على ف�ك��رة احل��ري��ة ،كما ك��ان �صاحب مذهب �أخ�ل�اق ��ي ي��رت �ك��ز ع �ل��ى ال��وع��ي الإن �� �س��اين باحلرية وال�ك��رام��ة ،ويقوم على جمموعة من املبادئ امللزمة التي ترى �أن الإرادة �أم الأخالق ،و�أن اال�ستبداد يقتل �إرادة النا�س فيدفعهم �إىل الرياء والنفاق. وق ��د و� �ض��ع ال �ك��واك �ب��ي يف ك �ت��اب��ة ط�ب��ائ��ع اال�ستبداد م�شروع ًا نه�ضوي ًا كام ًال ينطلق م��ن �أن الإ�� �س�ل�ام م ��ؤ� �س ����س ع �ل��ى �أ� �ص��ول دمي �ق��راط �ي��ة ت���س�ت�ه��دف امل ��راع ��اة ال�ت��ام��ة
انطلق في مقاومته لالستبداد من فكرتين أساسيتين هما تجديد الخطاب الديني وإصالح التعليم
للم�صلحة العامة ،تلك امل�صلحة التي يجب �أن تدافع عنها الأمة لأنها تُكت�سب وال متنح، حيث يقول ع��ن طبائع اال�ستبداد «�أردت بذلك تنبيه الغافلني مل��ورد ال��داء الدفني، ع�سى �أن يعرف ال�شرقيون �أنهم املت�سببون مل��ا ه��م فيه ،ف�لا يعتبون على الأغ �ي��ار وال على الأق��دار ،وع�سى الذين فيهم بقية من احلياة ي�ستدركون �ش�أنها قبل املمات» و ُيهون الأم��ر على الأم��ة بت�أكيده على �أن الراعي ال��ذي يخيف النا�س لي�س �إال جمرد خائف مرتعد ،والفرق �أن الأمة تخاف من �أوهام بينما خوف امل�ستبد حقيقي ومرعب.
�إ�صالح التعليم
�أم��ا عن �إ�صالح التعليم ودوره يف مقاومة اال�ستبداد فقد ك��ان الكواكبي يدعو �إىل العلم لأن��ه يوقظ الوعي الإن�ساين ويدعم الوعي باحلرية والكرامة ،كما ك��ان ي�ؤكد على �أن وع��ي احل��ري��ة يحتاج �إىل �أن�صار و�أع� ��وان يتقدمهم ال�ع�ل��م ف��ال�ع�ل��م ير�سخ يف نفو�س النا�س �أن «احل��ري��ة �أف�ضل من احلياة نف�سها و�أك��رم و�أن ال�شرف �أح�سن م��ن املن�صب وامل���ال» كما �أن العلم ينبه �إىل الظلم وي ��ؤدي �إىل الرفعة والكرامة، والعلم ب�شكل عام ميثل خطر ًا حقيقي ًا على اال�ستبداد .والعلم �أهم مظاهر احلرية التي متثل «�شجرة اخللد و�سقياها قطرات من الدم امل�سفوك» �أي �أنها ت�ستحق الت�ضحية وملا ال وهى«روح الدين».
نظرية �سيا�سية متكاملة
ويف جمال الفكر ال�سيا�سي ف��إن الكواكبي ميتلك نظرية فكرية متكاملة ت�ؤمن باحلرية والدميقراطية والعروبة وقيام الدولة القومية، كما كان ميتلك نزعة ا�شرتاكية وا�ضحة حيث اعتربه م��ؤرخ��و اال�شرتاكية واح��د ًا من �أهم دعاتها لأنه «املنظر البارز للكفاح �ضد الإقطاع و�أح��د املفكرين االجتماعيني وال�سيا�سيني الأكرث راديكالية» ،ورغم �أنه مل يكن مارك�سي ًا ومل يقر�أ مارك�س� ،إال �أنه كان يرى �أن قاعدة
امللكية ه��ى«اال���ش�ت�راك ال�ع�م��وم��ى» لأب �ن��اء املجتمع العاملني يف ثروة هذا املجتمع ،كما كان يرف�ض منط الفردية املطلقة والطبقية وا�ستغالل الأقلية «من ال�سا�سة ورجال الأعمال » للأغلبية .وك��ان يرف�ض وج��ود طبقة من الأغنياء يف املجتمع لأنها �سرتتبط بو�شائج قوية مع اال�ستبداد ال�سيا�سي ،كما كان يدعو �إىل العدل االجتماعي ،وكان يرى دور احلكومة يف امللكية العامة «النظارة والأمانة» ،والأهم �أن��ه ك��ان ي��رى يف العمل املقيا�س احلقيقي لإن�سانية الإن�سان على �أال يعاين من الكفاف والذل �أو التخمة والطغيان. لقد كان الكواكبي عالمة فارقة يف تاريخ الفكر ال�سيا�سي العربي؛ حيث دع��ا �إىل القومية العربية من خ�لال نقل اخلالفة الإ� �س�لام �ي��ة م��ن ال� ��دول الإ� �س�لام �ي��ة �إىل ال �ع��رب ،ك�م��ا ك��ان م��ن �أن �� �ص��ار اجلامعة الإ��س�لام�ي��ة ،و�أك��د على � �ض��رورة ال�شورى و�� �ض ��رورة االرت� �ق ��اء ب ��الأم ��ة ل�ت�ل�ع��ب دور ال�شريك .ورغم �أن الأفغاين وحممد عبده ور�شيد ر�ضا قد قبلوا بفكرة امل�ستبد العادل �إال �أن الكواكبي قد رف�ض اال�ستبداد متام ًا و�أعلى من قيمة الإرادة و�أك��د على �أن كل دعاوى الإ�صالح البد و�أن ترتبط بالتعليم و��ص��رخ قائال «ي��اق��وم ت�شكون م��ن اجلهل والتنفقون على التعليم ن�صف ما ت�صرفون على التدخني». ورغم هذا التميز يف عامل الفكر ال�سيا�سي �إال �أن الكواكبي ك��ان �أق��ل متيز ًا يف الفكر االجتماعي حيث كان يرى امل��ر�أة «اجلن�س امل�ضر» ،كما ك��ان ينظر اىل الدميقراطية مبنظار �أر�ستقراطي ،رمبا لطبيعة ن�ش�أته، ول�ك��ن ه��ذا ال يقلل م��ن قيمة وق��ام��ة ذلك العمالق الذي كر�س حياته وفكره للن�ضال ال��وط�ن��ي و ال�ق��وم��ي واالج �ت �م��اع��ي وخ��ا���ض حرب ًا �ضرو�س ًا من �أجل فكرة التحرر ورفع راي��ة النقد الإي�ج��اب��ي مت�سلح ًا بالنزاهة واال�ستقامة والإمي��ان بقيم العقل وال��روح، ولذلك م��ازال يعي�ش يف وج��دان كل عربي م�صلح ًا اجتماعي ًا ،ومفكر ًا �سيا�سي ًا وجمدد ًا يف الدين� ،ساهم يف بناء القومية العربية
�شاهد القرب املدفون فيه الكواكبي
و�شارك يف بعث اليقظة الإ�سالمية ،و�أكرب داعية للحرية يف ال�شرق العربي وكان البد �أن يتوج م�شوار عطائه احلافل -الذي ا�ستمر 48عام ًا فقط -بال�شهادة ،حيث ا�ستطاع �أع��وان ال�سلطان عبداحلميد �أن يد�سوا له ال�سم ،فمات �شهيد ًا يف 14يوليو 1902م، و ُدف ��ن يف مقابر «ب��اب ال��وزي��ر» باملقطم،
مذهبه األخالقي ارتكز على أن اإلرادة هي أم األخالق وأن االستبداد يقتل إرادة الناس فيدفعهم إلى الرياء والنفاق
وارجت��ل �شاعر النيل حافظ �إبراهيم بيتني من ال�شعر ُكتبا على قرب ال�شهيد: هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى ** هنا خري مظلوم هنا خري كاتب َ قفوا واق��ر�أوا «�أم الكتاب» و�سلموا **عليه فهذا القرب قرب الكواكبي وق��د �سطا �أع ��وان ال�سلطان على كتابني خمطوطني لل�شيخ ال�شهيد هما «العظمة هلل» و«� �ص �ح��ائ��ف ق��ري ����ش» ،ول �ك �ن��ه ت��رك �صرخته املدوية �ضد اال�ستبداد والتي قال عنها« :ك�ل�م��ات ح��ق و��ص��رخ��ة يف واد� ،إن ذه�ب��ت ال�ي��وم م��ع ال��ري��ح فقد ت��ذه��ب غ��د ًا بالأوتاد»
إرهاصة 52 الـعــــدد 156 �أ كتو بر 2012
القصة « ..عدودة» المرأة المعاصرة
واحدة
من �أهم املالحظات علي جتربة الق�صة ال�ق���ص�يرة الإم��ارات �ي��ة ،ارت �ف��اع ن�سبة الن�ساء املبدعات؛ وهي ظاهرة ذات دالل��ة اجتماعية يف املقام الأول �إذ ت�شري �إيل العالقة بني ن�ش�أة الق�صة ال�ق���ص�يرة وب�ين ال�ت�غ�يرات االج�ت�م��اع�ي��ة ال�ن��اجت��ة عن الطفرة االقت�صادية� ،إذ �إن املر�أة هي �أول مر�آة تنعك�س عليها تغريات املجتمع. وقد كان التحول ال��ذي �شهده جمتمع الإم��ارات خالل عقود قليلة� ،سريع ًا بدرجة �أحدثت رجة تخلخلت علي �إثرها العديد من الثوابت التي اجتاحها التغري .وهو ما انعك�س يف �سيطرة الطابع الغنائي ،الذاتي ،القريب من ال�شعر علي كتابات املبدعني الإماراتيني يف جمال وليد عالء الدين الق�صة الق�صرية .وهو طابع �أق��رب �إيل روح امل��ر�أة، ف��امل��ر�أة العربية ال�ت��ي �سرعان م��ا تن�سج «ع��دودت�ه��ا» اخلا�صة لتلوذ بها كلما �أ�صابها الفقد ،هي ذاتها الآن التي ت�سارع �إيل ن�سج ق�صتها الق�صرية كلما �شعرت بتحول ي�صيب الن�سيج االجتماعي الذي ن�ش�أت فيه. يف ق�صة «مرافئ ال�سكن» للقا�صة فاطمة ال�سويدي، يت�ضح يف جالء احل�س ال�شعري العايل ،وذلك االختزال وتلك الكثافة التي مل ينقطع خاللها خيط ال�شجن ومل تخفت حدته ،رغم تغري م�ستويات اخلطاب من متكلم /ال�شخ�صية الرئي�سية� ،إيل الغائب� ،إيل الراوية ب�شكل مينح القارئ �شعور ًا بذوبان الذاتي اخلا�ص يف العام، كما لو كانت الق�صة ق�صته هو .كما يربز ذلك ال�شعور بالفقد وال�ضياع الذي يعرب عن فرتة �أكرث ما يعرب عن �شخ�ص بذاته. تفتتح ال�سويدي ق�صتها مبا ي�شبه بالفعل «العدودة»، فت�ضع القارئ مبا�شرة علي حافة ال�شعور باحلدث قبل وقوعه ،ثم ت�ستدرجه معها روي��د ًا �إيل مرافئ ال�سكن كنت وال زلت حيث ا�سم الق�صة« :يف كل يوم مي�ضي ِ تتوغلني �أكرث يف نف�سي حتى غدت نف�سي هي نف�سك ال تطيق الفراق عنك ،فكيف يريدون مني �أن ت�ستل روحك عني وت�أتي �أخري لتحل حملها؟» ه��ذا الن�ص ال��ذي ين�سكب مبا�شرة ،تكرر ل��دي مرمي
جمعة فرج ،يف ق�صتها «ع َّبار» ،فـ «ع َّبار» مرمي «الن�ص» يحاول �أن يكون �سينمائي ًا ،ي�ستخدم تقنيات «الفال�ش ب��اك» ويعتمد علي ا��س�ت��دع��اءات ال��ذاك��رة ،وال�صورة الكلية تكتمل تباع ًا مع كل فقرة جديدة يف الق�صة، ال�ع� َّب��ار يف م��رك�ب��ه ،ال��وج��وه ه��ي وج��وه ال�ع��اب��ري��ن معه بينما هو يف دنياه اخلا�صة ،والن�ص يتحدث من داخل الأ�شخا�ص ،فالأمور ال حتدث كما يراها الراوي بل كما ُيفرت�ض �أن تراها ال�شخ�صيات ،حتى الهام�شية منها والتي مل تنل قدرها من العمق مثل املر�أة التي كان كل دورها �أنها نظرت �إيل الأفق فوجدته بعيد ًا وم�شو�ش ًا، فالأمور والر�ؤى والأ�شياء – حتي الأفق -تتغري جميعها �أك�ثر من م��رة وفق ًا لإح�سا�س ال�شخ�صية التي حتتل �صدارة اللحظة يف الق�صة. و�إذا كان ن�ص «ع َّبار» قد جنح يف االنتقال بني الباطن واخل��ارج ،باطن ال�شخ�صيات ما تفكر فيه ،وخارجها ما ر�سمته القا�صة عنها ،مبهارة ف�إن الأخري «اخلارج/ امل�ظ�ه��ر» ك��ان ي ��أت��ي دائ �م � ًا لي�ضيف م ��ؤث��رات ومل�سات ت�ستكمل اللوحة �أو اللقطة النف�سانية ،كما �أنه ي�أتي علي هيئة تدخل و�صفي يقطع اال�ستطراد ليعمقه فيما ي�شبه ق��راءة ن�ص م�سرحي يف ذات التوقيت ال��ذي ت�شاهد �أحداثه �أمامك علي خ�شبة امل�سرح« :عادة ي�شكل وجه الع َّبار اجلزء الأكرب من ج�سده ،خطوط ياب�سة يبو�س «البذرة» يف ظهره ،لكنه وجه م�سامل يظهر فوق زحمة من العظام العري�ضة ،يف تلك اللحظة ح�ضر �أمامه �شيطان نرج�س.».... ً ً مل حتدد مرمي فرج زمنا �أو مكانا دقيقني لق�صتها، �إال �أن�ه��ا تعمدت ذك��ر ال��وق��ت« :الثانية مت��ام� ًا ...ثم الثانية وخم�س دقائق ظهر ًا» -هذا التحديد املتعمد، وك�أن املق�صود منه توجيه درجة ال�ضوء وزاوية الر�ؤية �أم��ام عيني امل�شاهد /ال�ق��ارئ ،ه��ذا ال�ف��ارق ال�صغري «خم�س دقائق» ال ي�شكل �شيئ ًا يف حياة ع َّبار منغم�س يف ال�صرب واالنتظار� ،إال �أنه من وجهة �أخري ت�أكيد علي �أن حياته الأخرى الأكرث �أهمية والأقرب �إليه «ذاكرته» لها مقايي�س تختلف ،ت�شكل اخلم�س دقائق فيها عامل ًا
ب�أكمله مير �أم��ام عينيه بينما رك��اب ع َّبارته غارقون يف «مج العجوز ريقه ثم قذف به يف البحر بعيد ًا: �أمورهمّ : «ت��ف» وانزلق ل�سانه ف��وق لثة اللحم ثم حملق يف الوجوه امل�شدودة للمرة الثانية دون تركيز». �أكدت مرمي جمعة فرج من خالل ع َّبارها الإن�سان علي تلك النزعة �إيل املا�ضي ،ولكنها �ضفرت ذلك بحرفية مع ت�سا�ؤل فل�سفي له مغزاه حينما �س�أل العبار نف�سه يف نهاية الق�صة: « ..ملاذا يكره الدنيا �إذا كان كل �شيء فيها ال ي�سوى ،حتى نرج�س /ما�ضيه» ،ثم تقول قبل �أن يبتلع الزحام الع ّبار: « ..رتب �أفكاره وك�أمنا هي حماولة منه فقط لهدم تلك الهوة بينه وبني العامل». م��رمي جمعة ف��رج كما يت�ضح يف ق�صتها تلك ،ويف ق�صة �أخرى بعنوان «�أحمد» ،م�شغولة بالبناء الداخلي للق�صة، غري مكرتثة ب�شيء �سوى االحتفاظ بذلك احل�س الإن�ساين ال�شفيف �إىل �آخ��ر لقطة ،كما �أن�ه��ا واح��دة م��ن اللواتي ا�ستطعن بجدارة �أن يفلنت من فخ التنميط والت�صنيف الذي ادعاه البع�ض للكتابة :ن�سوية وذكورية ،وانتمت �إيل فئة الكتابة الإن�سانية املبدعة. �أم��ا القا�صة �أمينة �أب��و �شهاب فت�ستغرق ق�صتها «هياج» يف ح��وار ذات��ي «م��ون��ول��وج» مت بالفعل وانتهي ،وتنقله لنا الراوية دومنا تدخل ،امل��ر�أة العربية «�آمنة» املحبو�سة يف قف�ص �أنوثتها « ..اكت�شفت بانزعاج �أن ثروتها الوحيدة هي قامتها الريانة وعيناها الوا�سعتان و�شفتاها املكتنزتان و�أنها ال �شيء غري ذلك». وتت�ساءل القا�صة طوال الق�صة عن �أ�سباب تلك احلالة من الت�شيوء التي �أ�صبحت ال�صفة املميزة حلياتها بعد انتقالها م��ن حياتها يف احل��ي املتوا�ضع «بيت �أهلها» �إيل احلياة الفاخرة «حياة ال��زوج» التي �سرعان ما �ضاعت بهجتها وحتولت �إيل عامل جهنمي. ومتعن القا�صة يف جت�سيد حالة الت�شيوء التي �أ�صابت املر�أة بعد الطفرة االقت�صادية التي دخلت حياتها بالزواج ،وهي هنا املعادل الفني للطفرة التي �أ�صابت احلياة يف الإمارات، وعلينا �أن نعرف يف هذا ال�صدد �أن جزء ًا كبري من احلياة يف املا�ضي كانت امل��ر�أة تديره وتتحمل م�س�ؤولياته خا�صة
عندما يغيب الرجال يف رحالتهم الطويلة يف البحر ..« : كانت ج��زء ًا �ساكن ًا يف حميط الأ�شياء ال�ساكنة الأخ��رى التي تنا�صبها ال�ع��داء :ال�ساعات الأث��ري��ة ذات القاعدة املنتفخة ،وهي تهز بندولها مينة وي�سرة بد�أب يثري اجلنون «رمز النمطية وعدم القدرة علي التغري» ،واللوحات ذات ال�سطوح الالمعة لن�سوة يعتمرن مالب�س وا�سعة من�سابة يف الأ�سفل وحا�سرة عند ال�صدر والكتفني ويت�أملن ببالهة، «الأن�ث��ى املعلقة علي اجل��دار كمو�ضوع للزينة» ،ومقابلها متام ًا كان حو�ض الأ�سماك امللونة النائمة �أ�سفل احلو�ض». قدر كبري من املعادالت الفنية لأنثى حتولت �إيل �شيء يف حياة رجل تزخر به الق�صة ،وهو انعكا�س طبيعي للتحوالت االجتماعية التي �أ�صابت احلياة وت�أثرت بها امل��ر�أة ،التي تنقد هنا ب�صراحة �شديدة منط احلياة الذي �سيطر علي املجتمع ،حيث �أ�شارت �إىل التكلف الوا�ضح واال�ستهالكية، وذلك يف �سياق ت�أكيدها علي رف�ض البطلة «ال�سلبي هنا» حلالة الت�شيوء املفرو�ضة عليها. تت�ضارب ال��رغ�ب��ة ب��داخ��ل «�آم �ن��ة» امل�شتتة ب�ين حياتني : القدمية وهي املعادل للحرية واالنخراط امل�ؤثر يف حركة املجتمع علي ب�ساطته ..« :وظهر حيها القدمي حيث مرت الوجوه التي تعرفها يف قافلة طويلة ب�شكل كاريكاتوري .. كانوا يت�ضاحكون ويت�صايحون وينعتون بع�ضهم بالألقاب امل�ضحكة .....ويجل�سون يف الأما�سي حتت الظالل ميدون �أرجلهم مبا ي�سمح بها طولها ويخرتقون عاملهم املعزول ب�ضحكاتهم ال���س��اخ��رة املليئة بحكمة ون �ب��وءة امل��راق��ب ال�صامت» .وبني عاملها اجلديد الذي «ي�ؤذيها»..« :جتتاحها رغبة توجيه �ضربة لعامل ي�ؤذيها»� .إال �أن متردها وثورتها مل يتعديا نطاق �أفكارها املرتعبة من فكرة التمرد يف الأ�سا�س، لأنها فقدت ال�صلة بالعاملني القدمي واجلديد ،وهي تعقد املقارنة هنا حلالتها بحالة �سمكة الزينة يف احلو�ض التي «..غادرت قاع احلو�ض وبد�أت يف ال�سباحة يف �شكل دائري بحذاء اجل��دار الزجاجي ،رفعت يدها لتك�سر احلو�ض، لكن منظر ال�سمكات التي كانت �ستنح�صر منتف�ضة �أمام عينيها �أوق�ف�ه��ا م�سلوبة احل��رك��ة ،ف�ألقت بج�سدها فوق املقعد الذي ابتلعها بع�صيانها وا�ضطرابها بال حنان»
ارتياد اآلفاق 54 الـعــــدد 156 أكتوبر 2012
ين�شر هذا الباب بالتعاون مع املركز العربي للأدب اجلغرايف «ارتياد الآفاق» �أبوظبي -لندن ،الذي يرعاهال�شاعر والباحث الإماراتي حممد �أحمد ال�سويدي .
�أول �صورة فوتوغرافية للكعبة عام 1880م ،ت�صوير -حممد �صادق بيه
�إحدى �أ�شهر الرحالت احلجازية
رحلة الصديق إلى البيت العتيق �أمين يا�سني حجازي هذه رحلة تعليمية ت�ستفي�ض يف �شرح �ش�ؤون الفقه وال�شعائر الإ�سالمية ،وال �سيما ما يتعلق منها باملنا�سك والواجبات والفرو�ض اليومية املرتتبة على احلاج ،و�إن كانت يف منطلقها وم�سارها رحلة حج �إىل الديار املقد�سة يف مكة املكرمة واملدينة املنورة .فالرحالة يجهد نف�سه ويجهد قارئه معه يف متابعة كل ما يخطر ،وما ال يخطر ،يف بال امل�سلم الذي ينوي التوجه �إىل بيت اهلل احلرام لي�ؤدي فري�ضة احلج والعمرة .والرحالة ال يرتك م�س�ألة وال �شاردة من امل�سائل املتعلقة بالأماكن املقد�سة وكيفية زيارتها وما قيل فيها مما تعددت فيها االجتهادات والآراء واملرويات وا�ست�أثرت باهتمام الفقهاء والباحثني و�شغلت حيزاً من مدوناتهم.
وفرة املعلومات
�إال وكان لها مكان يف منت رحلته ون�صيب من البحث والتدقيق حيث ي�أخذها من م�صادرها وي�ستعر�ض �أ�سانيدها كما وردت يف �أحاديث وم��دون��ات �أئمة امل��ذاه��ب الإ�سالمية و�أب��رز علمائها.
القوافل الأوىل
ب��د�أ امل�سلمون ب ��أداء فري�ضة احلج يف العام التا�سع للهجرة� ،أي يف العام التايل لعام الفتح ،و�أ�صبحوا يتوافدون �إىل مكة من �شتى ديار الإ�سالم يف بقاع الأر���ض كافة ،لي�ؤدوا فري�ضتهم ،فمنهم من ي�أتيها بر ًا ومنهم من ي�أتيها بحر ًا ،ومن ثم جو ًا. وكان ي�صل مكة قوافل �أربع :الأوىل من بالد امل�غ��رب م���رور ًا مب�صر ،وه��ي قافلة برية؛ والثانية من م�صر ،وهذه القافلة حتمل معها ك�سوة الكعبة ،والثالثة قافلة ال�شام ،وت�ضم احلجاج القادمني من بلدان �آ�سيا الو�سطى َّ وما حولها وتركيا والأنا�ضول وبالد ال�شام؛ �أما القافلة الرابعة فهي قافلة الهند ،وحتمل ب�ضائع قيمة وخمتارة ي�شرتي منها احلجاج على خمتلف جن�سياتهم يف مكة .وت�صل هذه القوافل مكة قبل عيد الأ�ضحى ب�ستة �أيام على الأقل. احلجاج كانت تتع َّر ُ�ض وال�شك �أن حمامل َّ لكث ٍري م��ن املتاعب وامل�شاق والأه ��وال وال ��ش� َّ�ك �أن حم��ام��ل احل�ج��اج ك��ان��ت تتعر�ض لكثري من الأه��وال واملتاعب وامل�شاق فال ي�صل احلاج �إىل مكة �أو يعود �إىل دياره �إال وقد ر�أى املوت ن�صب عينيه م َّرات وم َّرات. ه��ذه الأح� ��داث وامل �خ��اوف ال ب � َّ�د �أن جتد احلجاج وحكاياتهم طريقها �إىل مذ ّكرات َّ ومروياتهم ،فقد يقوم احلاج ب�سرد وقائع رحلته وتكرار ما ج��رى معه ،كلما ت�سنت الفر�صة لذلك. ك�ث ٌ�ر ه��م م��ن دون� ��وا رح�لات �ه��م و�أ��س�ه�ب��وا يف و� �ص��ف ال �ط��ري��ق وال �ق��اف �ل��ة والأم��اك��ن التي م � ُّروا بها و�شعائر احل��ج وامل�صاعب التي واجهتهم �أث�ن��اء �أدائ �ه��ا ،لكننا جند اخ�ت�لاف� ًا ب�ين م�ستويات مدوناتهم �سواء م��ن حيث ال�شكل �أو البنية� ،أو بطريقة
غالف كتاب «الرحلة»
ال�سرد وجمالية الأ�سلوب وم�ستوى اللغة، فبع�ضهم اعتمد الو�صف الدقيق والعني املتتبعة لكل �أثر َ�ص ُغ َر �أم َكرب ،وم َّر مرور ًا عابر ًا على ذكر ال�شعائر الدينية ،والبع�ض الآخ��ر ركز على �شعائر احلج وا�ستفا�ض ب��ال �� �ش��رح وال��و� �ص��ف ل �ك��ل ج��زئ�ي��ات�ه��ا ومل يتطرق �إىل ذكر العديد من الأماكن التي عربها وامل��واق��ع العمرانية التي �شاهدها يف رحلته ،ب��ل اكتفى بعموميات ي�سرية، وبي الآراء ومنهم من عر�ض م�سائل فقهية َنّ وال �ف �ت��اوى ف�ي�ه��ا ،وم�ن�ه��م م��ن حت � َّ�دث عن واهتم باملكان وبالرثوات الباطنية الطبيعة َّ وبالن�شاط االقت�صادي وغري ذلك ،كما فعل الأمري �شكيب �أر�سالن يف رحلته �إىل احلج «االرت�سامات اللطاف يف خاطر احلاج �إىل �أق��د���س م�ط��اف» �إذ �أظ�ه��ر اهتمام ًا كبري ًا باملكان تاريخي ًا واقت�صادي ًا وجغرافي ًا. ولكل نوع من الأمناط التي ذكرناها �أمثلة كثرية يف رحالت احلج.
تحتل الرحلة الحجازية المركز األول بين الرحالت إذ كان الحج إلى الديار المقدسة من قبل المسلمين في أصقاع الدولة المترامية األطراف من أعظم دوافع الرحلة
رحالتنا حممد �صديق خ��ان عمد يف كتابه «رح �ل��ة ال�صديق �إىل البيت العتيق» �إىل �ات و�أح��ادي��ثَ ملختلف اال�ستطراد بذكر �آي � ٍ الأم� ��ور املتعلقة ب��احل��ج م��ن الإح� ��رام �إىل ال �ط��واف �إىل ال���س�ع��ي �إىل غ�ير ذل ��ك من ال�شعائر ،وقد ظهر هذا الكتاب �أول مرة يف تاريخ 10من جمادى الأوىل �سنة 1289من الهجرة يف املطبع العلوي بالهند .وظهرت منه الطبعة الثانية �سنة 1381هـ1961 ،م. وكان يع ّلق على الأحاديث ويورد الآراء فيها على اختالفها ،ومي ّيز �صحيحها من �ضعيفها من َح َ�سنها ،ومل يتوانَ يف �إيراد كم هائل من املعلومات املفيدة للحاج حول ِّ كل من�سك من منا�سك احلج مع ذكر �آراء املذاهب فيها. فقد �أج��اب على كثري من الأ�سئلة التي قد جت��ول يف خاطر امل�سلم عن منا�سك احلج و�أحكامها و�شروطها وكيفية �أدائها ،وقدمها لنا ب�شكل مف�صل ومرتب ،وقد �أفرد ك ًال منها على حدة مما ال يرتك جما ًال للب�س �أو اخللط بينها ،وهذا ما جعل ا�ستطراده على ح�ساب ن�ص رحلته ،فهو مل يفرد لو�صفها �إال ع�شر �صفحات يف �آخر الكتاب� ،أورد خاللها �سري رحلته وبع�ض املعلومات العامة التي �أبقت تفا�صيل الرحلة حمجوبة عن �أعيننا. والنهج الذي اتبعه حممد �صديق ال يقلل من �ش�أن امل�ؤ َّلف بل يعطيه درجة بالغة الأهمية من حيث املعلومات القيمة التي قدمها ،فهو ميتاز باهتمام بالغ بالعلم واملعرفة كما ميتاز ب�سعة االطالع على ذخائر الرتاث ،وله �شغف وا�ضح بالبحث عن مزيد من الكتب وقراءتها والإف��ادة منها قدر امل�ستطاع ،وهذا ما يبدو جلي ًا من خالل ذكره لعدد كبري من الكتب وامل�صادر .ومثال على ذلك قوله: «وقد كنت ا�شرتيت من احلديدة: - 1كتاب اقت�ضاء ال�صراط امل�ستقيم ملخالفة �أ�صحاب اجلحيم. � - 2إر�شاد الفحول �إىل حتقيق احلق من علم الأ�صول. - 3نيل الأوطار �شرح منتقى الأخبار.
ارتياد اآلفاق 56 الـعــــدد 156 أكتوبر 2012
- 4فتح القدير يف فني الرواية والدراية من التف�سري .وغري ذلك مما �شغفت به». �إن �صديق ح�سن خان رحالة مولع بالتح�صيل واك�ت���س��اب ال �ع �ل��م ،حم��ب ل�ل�م�ع��رف��ة ،وه��ذا احل��ب لي�س ب�غ��ري��ب ع�ل��ى رج��ل م��ن رج��ال النه�ضة العربية له الكثري من امل�صنفات يف لغات �شتى ،فقد ك��ان د�ؤوب � ًا يف االط�لاع على كل ما يتعلق بالدين وعلومه من �أمهات الكتب ونوادرها ،وهذا ما دفعه �إىل الكتابة والت�أليف ،وو َّلد لديه نظرة ثاقبة وفكر ًا منري ًا يف ا�ستك�شاف الأمور والرجوع �إىل م�صادرها وتقليبها على �شتى وجوهها. الن�ص الذي يحتفي بو�صف الطريق كما ورد يف منت الرحلة ال يزيد عن �صفحات ع�شر يحدد يوم بدء الرحلة ،وهو يوم االثنني 27 �شعبان 1285هـ « 14دي�سمرب /كانون الأول »1868انطالق ًا من بهوبال يف و�سط الهند ح�ت��ى و��ص��ل �إىل ممبئي «ب��وم �ب��اي» ومنها ا�ستقل مركب ًا يف التا�سع من رم�ضان متوجه ًا بحر ًا �إىل ميناء جدة .ولكن الريح مل ت�سعفه فقد ه��د�أت واختفت ثالثة �أي��ام مما ت�سبب بتوقف امل��رك��ب دومن��ا �أي ح��رك��ة .ث��م هبت الريح املواتية من جديد لتدفع املركب �إىل مبتغاه .وي�صف ال�صديق ح��ال امل�سافرين معه والأمرا�ض والآالم التي عانوها على منت ال�سفينة .ومل ي�سلم رحالتنا من املر�ض فقد �أ�صابته احلمى وجعلته يفطر يومني �أو ثالثة �أيام ومن ثم يتابع �صومه .لكن هذه الأحداث مل تكن لتثنيه عن تدوين كتابه «ال�صارم املنكي على نحر اب��ن ال�سبكي» بخط يده، فيقول« :ومل �أُ�ضع زمن ركوبي البحر عبث ًا».
الو�صول و�أداء الفري�ضة
ويف 26رم�ضان و�صل احلديدة ،وبعد �إقامة ثمانية ع�شر يوم ًا فيها ،ق�ضى معظمها مبراجعة كتب احلديث ،تابع طريقه �إىل جدة �آم ًال �أن ي�صلها يف �أ�سبوع ،ولكن جتري الرياح مبا ال ت�شتهي ال�سفن ،فقد ا�ستغرقت رحلة البحر الأحمر تلك نحو �شهر ،وبلغ رك��اب ال�سفينة من الي�أ�س كل مبلغ .وعند و�صول ال�سفينة مقابل َي َل ْم َلم �أحرموا بالعمرة ،ونزلوا يف جدة
كانت محامل الحجاج تتعرض لكثير من األهوال فال يصل الحاج إلى مكة أو يعود إلى دياره إال وقد رأى الموت نصب عينيه مرَّات ومرَّات يف التا�سع من ذي القعدة .وه��ذا يعني �أن رحلة البحر ،مع �أيام التوقف واالنتظار يف املوانئ ،ا�ستغرقت �شهرين كاملني. بعد ا�سرتاحة ثالثة �أيام من م�شقة ال�سفر، قام ال�صديق ب ��أداء العمرة ،ويعرب ب�صدق ع��ن ��س�ع��ادت��ه ب��ال��و��ص��ول �إىل ت�ل��ك ال��دي��ار املباركة فيقول« :ومن �أول نظرة وقعت �إىل جمال الكعبة املكرمة ،ذهلنا عن م�صائب ال�سفر وم�شاقه كلها.»..
ويتحدث عن �شعائر احلج و�أدائها من�سك ًا من�سك ًا على الرتتيب حتى الإف��ا��ض��ة �إىل مزدلفة ومنها �إىل ِمنى ثم �إىل م َّكة .وهو ي�غ��ادر مكة يف � 15صفر 1286هـ متوجه ًا �إىل املدينة في�صلها بعد ع�شرين يوم ًا .وبعد «ح�ضور امل�سجد النبوي وال�سالم على املرقد املنور امل�صطفوي و�أ�صحابه »..كما يقول، �أقام �أ�سبوع ًا يف املدينة املنورة ثم عاد �إىل مكة يف الثاين ع�شر من ربيع الأول ،و�أدى عمرة ثانية �إ�ضافة �إىل فري�ضة احلج .وبعد �أن ق��ام ب�ط��واف ال ��وداع يف �أوائ ��ل جمادى الأوىل ،ا�ستقل مركب ًا من جدة �إىل ممبئي م��ار ًا باحلديدة .وبعد اثنني وع�شرين يوم ًا م��ن معاناة �أه��وال البحر ومتاعب ال�سفر و�صل ميناء ممبئي ،ومنها عاد �إىل مدينته بهوبال التي بلغها يف �أوائل جمادى الآخرة بعد رحلة حج دام��ت ثمانية �أ�شهر ،ح�سب
احلرم ّ املكي -بانورامية -لل�سيد عبدالغفار البغدادي -م�أخوذة عام 1889م -من مقتنيات اليدن
ت�ق��دي��ره� ،أو ت�سعة �أ�شهر ح�سب التواريخ بحث وتدقيق
التي وردت يف ن�ص الرحلة .ويختم الرحالة ح��دي�ث��ه ب��ال �ق��ول« :ون �ح��ن الآن مقيمون بـ «بهوبال» �إىل ما �شاء اهلل املتعال».
م�سار الرحلة
�إن و��ص��ف م�سار الرحلة – كما �أ��ش��رت من قبل ال يزيد عن ع�شر �صفحات ،لكن م��ا دون ��ه ال��رح��ال��ة يف م�تن رح�ل�ت��ه ميتاز ب��أه�م�ي��ة ع�ل�م�ي��ة ،وخ��ا� �ص��ة يف م��ا يتعلق مبنا�سك احل��ج ،جتعل ه��ذه الرحلة ذات قيمة معرفية بالغة ،فكل ما ورد بني دفتي الكتاب يدعونا �إىل الت�أمل واملتابعة ما يجعله حري ًا بالقراءة املت�أنية التي تزودنا باملتعة واال�ستفادة م��ن ال�ل�آل��ئ املعرفية املكنونة يف �صدفات هذا الكتاب.
ال ب� َّ�د يل هنا �أن �أذك��ر �شيئ ًا ولو ي�سري ًا عن العمل الذي قمت به مع هذه الرحلة املفيدة واملمتعة ،والتي �صدرت �ضمن �سل�سلة رحالت احلج التي ي�صدرها «املركز العربي للأدب اجل�غ��رايف-ارت�ي��اد الآف��اق»م �ه��داة �إىل روح ال��راح��ل الكبري ال�شيخ زاي ��د ب��اين نه�ضة الإم� � ��ارات .ف�ق��د تعاملت م��ع ال�ن����ص على �أن ��ه خمطوطة بكر لأن ��ه يف احلقيقة يعج باملعلومات القيمة والثمينة وال�ت��ي حتتاج مزيد ًا من البحث حتى يتم تقدميها للقارئ ب�ع��د التثبت م��ن �صحتها .والأم� ��ر ال�ث��اين ال��ذي �أود �أن �أ��ش�ير �إل�ي��ه ه��و ال�ع��دد الكبري من الأع�لام الب�شرية التي وردت يف جممل الكتاب والتي مل ي� ِأت �أحد على التعريف بها �أو حتى الإ�شارة �إليها من قبل .وعلى �سبيل املثال ال احل�صر ،ورد ا�سم �أو بالأحرى لقب
«اخلطابي� ،أو امل ��روزي» ونحن ال نعلم من هو الرجل �إال بالبحث والك�شف والتثبت ،ثم يتبني لنا �أن «امل��روزي» قد �أُطلق على �أكرث من �شخ�صية ،واحل��ال ينطبق على الكنية �أي�ض ًا «�أب��و �أم��ام��ة� ،أب��و يعلى� ،أب��و يو�سف». وهذا ما جعلني �أتابع جميع الأعالم الواردة يف الكتاب و�أق��وم بذكر ترجمة لها .وكنت �أوفق �أحيان ًا يف العثور على معلومات وافرة، و�أح�ي��ان� ًا �أخ��رى �أكتفي بالقليل ال��ذي يفي بك�شف اللثام عن ا�سم العلم ال��وارد ذكره. وقد �أ�ضفت �شروح ًا للكلمات الغريبة �أو التي حتتاج �إىل تعريف كم�صطلح �أو مكان �أو غري ذلك ليت�سنى للقارئ احل�صول على املعلومة من دون اللجوء �إىل معني �أو و�سيلة �إي�ضاح وتف�سري من خارج الكتاب .وقد ا�ستدعى هذا العمل كثريا من اجلهد يف البحث والتق�صي للو�صول �إىل �صيغة الكتاب التي بني �أيدينا
ارتياد اآلفاق 58 الـعــــدد 156 أكتوبر 2012
�أول �صورة فوتوغرافية للم�سجد النبوي -حممد �صادق بيه 1880م.
وقد تطلبت �إ�ضافة ما يزيد على ثالث مائة هام�ش .والتزام ًا بالأمانة العلمية التي درج عليها العمل يف «ارت �ي��اد الآف� ��اق» ،و�ضعت بجانب الهام�ش امل�ضاف حرف «م» اخت�صار ًا لكلمة «حم���رر» .وه��ذه ال�ه��وام����ش تت�ضمن �أي�ض ًا مراجعة الآي��ات القر�آنية التي مرت يف منت الكتاب مع ذكر ا�سم ال�سورة متبوع ًا برقم الآية .وهناك بع�ض الأخطاء الب�سيطة والهفوات التي قد تكون مطبعية ،وقد �آثرت ت�صحيحها من دون الإ�شارة �إليها لتقديري �أن��ه ال ح��اج��ة ت�ستدعي ذل��ك .وف�ض ًال عن ذلك ،قمت بو�ضع ك�شاف ح�ضاري وفهار�س
يف نهاية الكتاب ،مما ي�ساعد على �سرعة البحث و�سهولة تناول املعلومة املطلوبة.
مقدمة امل�ؤلف
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ،احلمد اهلل الذي وفق من �شاء متى �شاء من عباده املخل�صني، للرحلة �إىل بيته العتيق ،ال��ذي جعله مثابة للنا�س و�أمن ًا ،تهوي �إليه �أفئدة من النا�س، في�أتونه رجا ًال وعلى كل �ضامر ي�أتني من كل فج عميق. و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له، و�أ�شهد �أن حممد ًا عبده ور�سوله� ،شهادة
الرحالة حممد �صديق خان بن ح�سن بن علي بن لطف اهلل احل�سيني البخاري القنوجي� ،أبو الطيب :من رجال النه�ضة الإ�سالمية املجددين .ولد 1248هـ1832 /م يف قنوج «بالهند»ون�ش�أ فيها وتعلم يف دلهي� ،سافر �إىل بهوبال طلباً للعي�ش ففاز برثوة وافرة .قال يف ترجمة نف�سه: �ألقى ع�صا الرتحال يف حمرو�سة بهوبال ،ف�أقام بها وتوطن ومتول، وا�ستوزر وناب ،و�أ َّلف و�ص َّنف وتزوج مبلكة بهوبال ،و ُلقب بنواب عايل اجلاه �أمري امللك بهادر .له ن ّيف و�س ُّتون م�صنفاً بالعربية والفار�سية والهندية« ،من كتاب الأعالم خلري الدين الزركلي ».
تنجينا م��ن ك��ل خ�ط��ب و��ض�ي��ق يف احل�ي��اة الدنيا ويف الآخرة ب�صدق الإخال�ص وح�سن الت�صديق �صلى اهلل عليه وعلى �آله و�صحبه املقتفني �أثاره يف كل جليل ودقيق. وبعد ،فقد قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيز ا�ست ََطا َع [ َوللِهّ ِ َع َلى ال َّن ِ ا�س ِح ُّج ا ْل َب ْي ِت َم ِن ْ �إِ َل ْي ِه َ�س ِبي ًال� ،سورة �آل عمران ،الآي��ة «،»97 وقال ر�سول اهلل «�ص َّلى اهلل عليه و�س َّلم»« :يا �أيها النا�س! قد فر�ض عليكم احلج فحجوا» �أخرجه م�سلم والن�سائي. وق��ال �أه��ل العلم :احلر املكلف القادر� ،إذا وجد ال��زاد والراحلة و�أم��ن الطريق ،يلزمه احل��ج ،وعليه �إج�م��اع الأم��ة ،ور�أي��ت البحر املحيط ومكة املكرمة واملدينة املنورة زادهما اهلل ت�شريف ًا وتعظيم ًا مرار ًا يف النوم ،فر�أيت ليلة ك ��أين "ركبت البحر وقطعت امل�سافة وبلغت مكة ،ور�أي�ت�ن��ي ك ��أين يف مكان خال له �أ�ساطني -ج .ا�سطوانة :العمود القائم «ال �� �س��اري��ة» -ف �خ��ام و�أع� �م ��دة ع �ظ��ام و�أن��ا جال�س فيه« وامل�سجد احلرام كذلك ،ور�أيت م��رة �أخ ��رى »�أين �أدور و�أت �ف � َّرج يف �أ��س��واق
م َّكة وربوعها ،و�أم�شي و�أختلف يف �سككها، وهي طيبة البناء عامرة احلانات كالبالد امل�أهولة" وم َّكة امل�شرفة كذلك ،ور�أيت املدينة املنورة ك�أنها بلدة قدمية ،ور�أي��ت جدرانها بالية ال�ب�ن��اء ورب��وع�ه��ا معمولة م��ن الطني وامل��اء ،و�سككها �ض ّيقة خالية من النا�س، وقد وجدتها على هذه ال�صفة حني �سعدت باحل�ضور يف �سوحهما يف �سنة « »1285خم�س وثمانني ومائتني و�ألف من الهجرة النبوية، على �صاحبها �أف�ضل ال�صالة والتحية. فحملني ه ��ذا ع�ل��ى ال��رح �ل��ة �إىل ب�ل��د اهلل الأمني ،و�شد املطي �إىل م�سجد �س ّيدنا حممد �س ّيد املر�سلني «�ص َّلى اهلل عليه و�س َّلم» يف تلك ال�سنة ،ودعاين ذلك �إىل جمع منا�سك احلج والعمرة ح�سب ما تبني يل من الكتاب وال�س َّنة ،فجمعتهما على �سبيل االخت�صار،
تب�صرة لنف�سي وت��ذك��رة مل��ن �أخل�صه اهلل بخال�صة ذك��رى ال��دار ،كيف واالب �ت��داع قد دخل العبادات من جميع الأن��واع ،وعار�ض عن الهدي النبوي كل ُمفْرط ،و ُم َف ّرط وخالط احل��ق بالباطل كل خمالط وخمبط ،فهذا من�سك قد ربطت ب��الأدل��ة ودالئله مبذاهب الأجلة� ،ضمنته خم�سة �أبواب وخامتة� ،أعادنا اهلل ع��ن ال�ن��ار احلاطمة ،و�س ّميته« :رحلة ال�صديق �إىل البيت العتيق» ،واهلل �أ�س�أل �أن يخل�ص نيتي ويح�سن طويتي ويتقبل عملي وينجح �أملي ،فقد قال يف كتابه العزيز «�أَ ِيّن َال �أُ ِ�ضي ُع َع َم َل َع ِام ٍل ِّمن ُكم � -آل عمران ،الآية» .»195« : وق��ال ر�سول اهلل «�ص َّلى اهلل عليه و�س َّلم»: «�إمن��ا الأعمال بالنيات و�إمن��ا لكل ام��رئ ما ن��وى ،فمن كانت هجرته �إىل اهلل ور�سوله،
فهجرته �إىل اهلل ور�سوله ،ومن كانت هجرته �إىل دنيا ي�صيبها �أو امر�أة يتزوجها :فهجرته �إىل ما هاجر �إل�ي��ه» متفق عليه من حديث عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل تعاىل عنه.
و�صف الرحلة
ق ��ال ال�ع�ب��د اخل��ام��ل امل� �ت ��واري ��ص��دي��ق بن ح�سن بن علي احل�سيني القنوجي البخاري «ع �ف��ا اهلل ع�ن��ه م��ا ج �ن��اه وا�ستعمله فيما يحب وير�ضاه» :قد رحلت يوم االثنني ل�سبع وع�شرين 27قد خلت من �شهر �شعبان �سنة خم�س وثمانني ومائتني و�ألف 1285الهجرية املطابق 1868امليالدية -على �صاحبهاال�صالة والتحية ،غ��ب � -أي بعد� -صالة الظهر من حمط رحلي «بهوبال» -بهوبال: والي��ة �إقطاعية يف اوا� �س��ط الهند �أن�ش�أها 1707م دو�ست حممد خان اجلندي الأفغاين. عا�صمتها بهوبال وفيها «جامع م�سجد» الذي �شيدته امللكة قد�سية بيكم«.املنجد يف اللغة والأع�لام» عن دار امل�شرق يف بريوت -على جناح ال�سالمة مغتنم ًا لكل فائدة وكرامة، م��ري��د ًا لت�أدية حج الإ��س�لام �إىل «بيت اهلل احل��رام» وو�صلت بعد ما قطعت �سبعة من امل�ن��ازل يف اليوم الثامن �إىل جم��رى عجلة النار املعروفة بالبابور -قطار �سكة احلديد - وحملت عليها الأثقال وركبتها يوم ًا وليلة ثم نزلت مبحرو�سة «ممبئي» -مومباي -وهي �ساحل البحر املحيط للحجاج ،و�أقمت بها منتظر ًا حل�صول املركب.
ال�سفر من ممبئي
وت �ه �ي ��أ زاد ال���س�ف��ر اث �ن��ي ع�شر ي��وم � ًا ،ثم رك�ب��ت ي��وم اخلمي�س تا�سع رم���ض��ان قبيل ��ص�لاة الع�صر يف امل��رك��ب امل�سمى بـ«فتح ال �� �س �ل �ط��ان»ورف �ع��وا ل�ن�ج��ر -ب��ال�ف��ار��س�ي��ة، وبالعربية تعني :ا ِمل ْر َ�ساة ال�سفينة ذلك اليوم مع تو�سم الظفر وال�سكينة. وك��ان��ت ال��ري��ح يومئذ طيبة ،ف�سار املركب �ستّني مرحلة بالتخمني ،ثم �سكن الريح وركد املركب على ظهر البحر كالغدير الدائم ،ال
ارتياد اآلفاق 60 الـعــــدد 156 أكتوبر 2012
يتحرك ،ك�أنه امل��اء الراكد ولركبه مناكد، حتى �أتت ثالثة �أيام على هذه احلال ،وت�شتت لأهل املركب البال. فلما ا�ستي�أ�سوا من جم��راه خل�صوا جني ًا، وختموا هذه الآيةَ :اّ«ل ِ�إ َل َه ِ�إ َاّل �أَنتَ ُ�س ْب َحا َن َك ِ�إ ِيّن ُكنتُ ِمنَ َّ الظالمِ ِ َني -الأنبياء ،الآية»87« : كيف وقد قال تعاىل� :أثرهاَ « :ونجَ َّ ْي َنا ُه ِمنَنجي المْ ُ�ؤ ِْم ِن َني -الأنبياء» ،الآية ا ْل َغ ِّم َو َك َذ ِل َك ُن ِ « - »88فتنف�س من بركتها ال��ري��ح ،وذهب العنا والتربيح ،وكان هو به ليلة الأحد ثاين ع�شر 12رم�ضان. ور�أيت يف هذه الليلة باملنام :ك�أين �أعانق من �شجر ال�سدر �أ�شجاره ،و�أجتني منه ثماره، وث�م��ره طيب نفي�س ي�ه��واه ف� ��ؤاد ك��ل �صحيح ولقي�س :م�صاب بال َغ َثيان ،فعربت الر�ؤيا :ببلوغ الأرب وح�صول املق�صود من �أر�ض العرب.
وق��د ات �ف��ق يف ب��دء رك ��وب ال�ب�ح��ر الغثيان وال�صداع �إىل ثالثة �أيام ،ثم ح�صلت اخلفة للطبع يف اليوم الرابع ،ووجدت املركب بيت ًا كاملوطن ،و�شاهدت فيه معنى قول ال�سادة ال�صوفية :ال�سفر يف الوطن. وك��ان رك��اب ال�سفينة نحو ًا من ث�لاث مائة نف�س ،وكان الو�ضوء والغ�سل من ذلك املاء امل��ال��ح ،و�أم ��ا ال�شرب ف�ك��ان �أه��ل ال�سفينة ا�ست�صحبوا معهم املاء العذب من "ممبئي" وظ��ه��رت ال �ب �ث��ور يف امل �ن �خ��ري��ن م��ن ��ش��دة ملوحة ماء البحر ،واجن � َّرت تلك �إىل ح َّمى البدن حتى �أف�ط��رت ثالثة �أي��ام �أو يومني،
ال يكاد نص من نصوص الرحالت الحجازية يخلو جمة في من فوائد َّ الفقه وعلوم الدين
و�أمتمت بقية رم�ضان بال�سفينة باالطمئنان وال�سكينة ،واجتمع يل يف هذا ال�سفر الرحلة للحج و�صوم رم�ضان ،و َّمتت لنا فيه عبادتان.
الو�صول �إىل ُحديدة
وم ��ررت يف ال�سابع ع�شر م��ن ه��ذا ال�شهر من يوم الرحيل من «ممبئي» على �أُ�سقوطر «��س�ق�ط��رة» ع��دن وب ��اب �إ� �س �ك �ن��در ،و�أل �ق��ت ال�سفينة مر�ساها على �ساحل ُحديدة ،ومل ن َر �شيئ ًا من «ممبئي» �إىل هنا من وعثاء ال�سفر وك�آبة احل�ضر. وكتبت ب�ي��دي يف امل��رك��ب ك�ت��اب «ال���ص��ارم امل�ن�ك��ي ع�ل��ى ن�ح��ر اب��ن ال�سبكي» للحافظ ابن قدامة املقد�سي -يف جملد و�سط ،ومل �أ�ضيع زمن ركوبي البحر عبث ًا ،وكان نزول «احلديدة»يوم الأحد يف ال�ساد�س والع�شرين
26م��ن رم���ض��ان ،ون��زل��ت ب ��دار «القا�ضي ح�سني بن حم�سن ،وال�شيخ زين العابدين» �سلمهما اهلل ت�ع��اىل ،وج��زاه�م��ا خ�ي�ر ًا يوم الدين ،وح�صل من جهتهم ما يحق لل�ضيف، من الإك��رام والإط�ع��ام وامل��روءة ،يف ال�شتاء وال�صيف. و�أقمت هنا اثني ع�شر 12يوم ًا� ،أراجع كتب احل��دي��ث و�أكتبها ب�ي��دي م��ا �أ�ستطيع ،ومل �أذه��ب �إىل امل�ساجد �إ ّال لل�صلوات اخلم�س لكرثة ا�شتغايل بطلب العلم. وف�شا خرب ر�ؤي��ة هالل �شوال باحلديدة يوم الثامن والع�شرين 28من رم�ضان ،بح�سب ر�ؤي �ت �ن��ا �أه ��ل ال�سفينة ،و� �ض��رب��ت امل��داف��ع للإعالم بالعيد ،فعجبنا من ذلك وتفح�صنا عما هنالك ،فقيل يوم التا�سع والع�شرين، ولك َّنا مل نره مع تعمق الب�صر و�إمعان النظر.
و�صليت �صالة العيد موافقة لأه��ل البلد، وذهبت �صبح يوم الربوع � -أي يوم الأربعاء الذي كان بح�سابنا يوم التا�سع والع�شرين�إىل امل�صلى ،وكان الإم��ام يومئذ واخلطيب رج ًال �صاحل ًا ذا �شيبة ي�سمى :بعبد الرحمن
ادخلوها ب�سالم وقد كنت �أقمت مب َّكة مبحلة �أهل الهند ،و�أغ��دو و�أروح �إىل احلرم املحرتم من «باب الزيادة» و�أذكر ين �أَ ْح َ�س ُنواْ قول اهلل تعاىلِّ « :ل ّلَذِ َ الحْ ُ ْ�س َنى َو ِز َي����ا َد ٌة »..و�أرج��و منه ���س��ب��ح��ان��ه �أن يجعلني م��ن �أه��ل ت��ل��ك ال�����س��ع��ادة ،وك��ث�يراً م��ا �أم��� ُّر ع���ل���ى «ب������اب ال���������س��ل�ام» م��ب��ت��غ��ي��اً ك��ت��ب ال��ع��ل��م ،و�أق����ول يف نف�سي: ادخلوها ب�سالم.
ال�شافعي ،وك��ان حاكم البلد «�أح�م��د با�شا الرتكي» حا�ضر ًا بامل�صلى وحزر احلا�ضرون بامل�صلى ،فكانوا نحو ًا من �ألفني من �أهل البلد والغرباء يف ر�أي العني ،وم�صلى احلديدة ف�ضاء لي�س به بناء غري املنرب للخطبة املبني من الآجر والطني ،وكانت �صالة العيد على مذهب ال�شافعية. ويف �أيام الإقامة بهذه البلدة �أهديت ن�سخاً م��ن ك �ت��اب��ي« :احل��ط��ة يف ذك ��ر ال���ص�ح��اح ال�ستة»لعلمائها و�أهل العلم املقيمني باملرادعة وبيت الفقيه وغريهما ،وكلهم ا�ستح�سنوها ودعوا مل�ؤلفها. وق ��ال يل ال�شيخ علي ب��ن عبد اهلل �شارح البخاري �-س َّلمه اهلل -حني القني: «وج��ود مثلكم يف ه��ذا الزمان من نعم اهلل تعاىل لو كانوا يعقلون». َ وا�ستعرت ر�سائل ال�سيد حممد الأمري«الأ ِمري «1154-1232هـ1817 - 1742 ،م» :حممد بن حممد بن �أحمد بن عبد القادر بن عبد العزيز ال�سنباوي الأزه��ري :عامل بالعربية، م��ن فقهاء امل��ال�ك�ي��ة .ول��د يف ناحية �سنبو «مب�صر» وتعلم يف الأزه��ر و ُت��ويف بالقاهرة. ا�شتهر باالمري لأن جده احمد كانت له �إمرة يف ال�صعيد� .أك�ث�ر كتبه ح��وا�� ٍ�ش و� �ش��روح، �أ�شهرها «حا�شية على مغني اللبيب البن ه �� �ش��ام» ،وم�ن�ه��ا «الأك �ل �ي��ل � �ش��رح خمت�صر خليل» ،و«تف�سري املعوذتني» ول��ه «ثبت» يف �أ�سماء �شيوخه و ُنبذ من تراجمهم وتراجم م��ن �أخ� ��ذوا ع�ن�ه��م� .أع�ل�ام ال��زرك �ل��ي حني الرحيل م��ن ح��دي��دة لأج��ل النظر والنقل، فمنها ما نظرت فيها وا�ستفدت ،ومنها ما نقلت وا�ستن�سخت ،ثم طلعت على املركب ب�ع��د طلب ال�ع�ل��م -عا�شر � � 10ش��وال من«احلديدة» ومكثت فيه �أنتظر رفع املر�ساة، ومعي يف املركب ال�شيخ ح�سني احل�سام �-إىل ثالثة �أي ��ام -نتذاكر العلم و�أه�ل��ه ومعدنه وحم�ل��ه ،حتى تدفقت بالربكات �أمطارنا، وغ َّردت ب�أحاديث احلبيب �أطيارنا ،وقد كنت ا�شرتيت من احلديدة: - 1كتاب اقت�ضاء ال�صراط امل�ستقيم ملخالفة �أ�صحاب اجلحيم.
ارتياد اآلفاق 62 الـعــــدد 156 أكتوبر 2012
� - 2إر��ش��اد الفحول �إىل حتقيق احل��ق من علم الأ�صول. - 3نيل الأوطار �شرح منتقى الأخبار. - 4فتح القدير يف فني الرواية والدراية من التف�سري. وغري ذلك مما �شغفت به. ويوم الثلوث «الثالثاء» رابع ع�شر من �شوال وقت ال�صبح رفعوا مر�ساة ال�سفينة ،فكان جمموع �أي��ام الإق��ام��ة باحلديدة على هذا احل�ساب مع �أي��ام املكث يف املركب ثمانية ع�شر ي��وم� ًا ،ومل � ُآل جهد ًا يف ه��ذه احلركة و�أي� ��ام ال�برك��ة م��ن حت�صيل ال�ع�ل��م النافع واخلري اجلاري.
زاد قليل وبحر غا�ضب
املركب من احلديدة َ�س َكنَ الهوا ُء و َملّ��ا َ�سا َر ُ ْ املركب خطو ًة من يتحرك �إىل ثالثة �أيام ،ومل ُ الريح الأزيب، حمل القيام ،وبعد ذلك ه َّبت ُ وك ��ان �إذ ذاك زم ��ان احل��ج �أق� ��رب ،وج��اء الغيم واملطر بالليل ،ورجع املركب �إىل عقبه و�سار �إىل غري �صوبه ،فمكثنا بهذه احلالة
يف البحر �إىل �أي��ام �آئ�سني عن الو�صول �إىل امل�أمول ،وراج�ين من اهلل ح�صول امل�س�ؤول، مع �أن «جدة» من «احلديدة» م�سري �أ�سبوع ال غري لبطء ال�سري ،ولكن و�صل مركبنا �إليها بعد نحو �شهر ،حتى �ضاقت علينا الأر���ض مبا رحبت من طول الركوب وخمالفة الهواء وقلة املطعوم وامل�شروب ،حتى قنعت يف اليوم والليلة ،بجرعة من املاء ،ولقيمات من الأرز الذي مل يخالطه �شيء من ال�سمن والإدام. وبلغت الأن�ف����س ال�ت�راق��ي«�أي �شارفت على امل��وت» يف تلك الأي ��ام ،وك��ان��ت الأي ��دي �إىل ال�سماء مرفوعة والأعني والآذان ك�أنها على طريق جم��يء ال��ري��ح الطيب ور�ؤي ��ة «ج��دة» مو�ضوعة ،ثم �سمع اهلل قول ه�ؤالء الآئ�سني، وه َّبت لنا ري��ح طيبة من جهة رب العاملني �إىل يومني ،وكانت بالغاية �ضعيفة بال مني «ال �ك��ذب» ،ولكنه �أخ��رج املركب من جممع اجلبال امل�ستغرقة يف املاء �إىل �ساحل النجاة. ور�أي �ن��ا ي��وم ال�سبت يف امل��رك��ب ه�لال ذي القعدة ،ويوم الثالث منه تق َّوى الريح قلي ًال وجرى املركب.
ال�س َن ِة وي��وم الثلوث راب��ع ذي القعدة م��ن َّ املذكورة بعد �صالة ال�صبح اغت�سلنا و�أحرمنا بالعمرة ،مع نية التمتع ،من حماذي «يلملم» وذه��ب ع َّنا ما ك َّنا جن��ده من الغم والأمل، ورفعنا الأ�صوات بالتلبية ،و�أخل�صنا العمل هلل والنية ،وما ح�صل لنا من ال�سرور بهذا الإحرام ال ميكن �شرحه بالأقالم. ويف هذه احلالة ملا قربنا من «جدة» -قرب امل��رك��ب لي ًال �إىل جبل يف امل��اء فا�ضطرب املعلم ل��ه ا�ضطراب ًا ��ش��دي��د ًا ،ورب��ط �أ�شرع والد ْو َقل» :خ�شبة ال�سفينة بالأدقال َّ «الد َقل َّ ال�سفينة يمُ َ � ُّد عليها طويلة ت َُ�ش ُّد يف و�سط َّ ِّ ال�شراع« .ل�سان العرب» البن منظور ،وخفت منه الأثقال وعمل كل تدبري خطر له بالبال، و�أر�سى املركب يف حمله يف احلال. و�أنزل املالحون �أقرب املركب لدرك حقيقة احلال ،و�سعوا �إىل جوانبه ،وعلموا �أن املركب ل��و ��س��ار قلي ًال لت�صادم ب��اجل�ب��ال ،فم�ضى ه��ذا ال�ل�ي��ل ل�ل��رك��اب يف غ��اي��ة اال��ض�ط��راب ومتت تلك الليلة باال�ستغفار و�إخال�ص النية والتوبة وكلمة ال�شهادة على الأل�سن ،و�سلموا �أنف�سهم للموت ،ومل يكن هذا الليل �أقل من يوم القيامة ،ولكن رحم اهلل علينا بال�سالمة حتى طلع الفجر و�شاهدنا ذل��ك اجلبل يف �ضوء النهار. وم��ن العجائب التي ال ينبغي �إخ�ف��ا�ؤه��ا �أن امل�لاح�ين �إذا ت���رددوا يف �أم ��ر امل��رك��ب من جمود الريح �أو هبوبها خمالفة �أو �شيئ ًا من اخلوف على ال�سفينة و�أهلها ،كانوا يهتفون با�سم ال�شيخ عيدرو�س وغريه من املخلوقني م�ستغيثني وم���س�ت�ع�ي�ن�ين ب ��ه ،ومل ي�ك��ون��وا عز َّ يذكرون اهلل َّ وجل �أبد ًا �أو يدعوه ب�أ�سمائه احل�سنى ،وكنت �إذا �سمعتهم ينادون غري اهلل وي�ستعينون بالأولياء خفت على �أهل املركب خوف ًا عظيم ًا من الهالك. وقلت يف نف�سي :يا هلل العجب -كيف ي�صل هذا املركب ب�أهله �إىل �ساحل ال�سالمة! ف�إن م�شركي العرب قد كانوا ال يذكرون �آلهتهم الباطلة يف مثل هذا املقام ،بل يدعون اهلل تعاىل وحده غري م�شركني به ،كما حكى عنهم �سبحانه يف حمكم كتابه املبنيَ « :ف ِ�إ َذا َر ِك ُبوا
دخول مكة و�أداء العمرة
�صورة ملجموعة من حجاج جاوى يف حج 1885م
فيِ ا ْل ُف ْل ِك د ََع � ُوا َهّ َ الدّينَ - الل مخُ ْ ِل ِ�ص َني َل� ُه ِ العنكبوت» ،الآية- »65« :وه�ؤالء القوم الذين أنف�سهم امل�سلمني يدعون غري اهلل ُي�س ُّمون � َ ويهتفون ب�أ�سماء املخلوقني ،ولقد �صدق اهلل تعاىل فيما قالَ « :و َما ُي�ؤ ِْمنُ �أَكْثرَ ُ هُ ْم ِباللهّ ِ �إِ َّال َوهُ م ُّم ْ�ش ِر ُكونَ -يو�سف ،الآية.»106« :
الو�صول �إىل جدة
ولكن مل��ا كانت رحمة اهلل �سبقت غ�ضبه، �أو�صل �أرحم الراحمني املركب بف�ضله كيفما اتفق بعد اللتيا والتي «ال َّل َت َّيا والتي :ا�سمان من �أ�سماء الداهية –ال�صحاح -للجوهري لتي»� .إىل املنزل املق�صود ،ورفعوا مر�ساةال�سفينة �صبح تلك الليلة الهائلة �إىل «جدة» و�ألفوا الريح موافقة ،فطوى املركب الطريق الباقية يف يوم وليلة وو�صل �إىل �ساحل «جدة» حني �صالة الظهر من يوم الأحد تا�سع ذي القعدة ،واحلمد هلل على ذلك حمد ًا كثري ًا. والذي ح�صل لنا من م�س َر ِة القلب و�إ�شراق الوجه وا ُ علم حقائ َقها �إال حلبور �إذ ذاك ال َي ُ
ال�صدور ،وكيف؟ فقد ظهرت العليم ِ ُ بذات ُّ �صورة املراد بعد �شهرين غب الي�أ�س ،وك َّنا رب ال�ن��ا���س! �أق��م �سفينتنا على ن�ق��ول :ي��ا َّ «جدة» كما ا�ستوت �سفينة نوح عليه ال�سالم ع�ل��ى اجل� ��ودي ،فلي�س ذل ��ك ب�ع��زي��ز على ف�ضلك املجدي. وح�ين ن��زل��ت ب�ج��دة �أق �م��ت بها ث�لاث��ة �أي��ام ل�لا��س�تراح��ة م��ن ت�ع��ب ال���س�ف��ر وا��س�ت�ك��راء اجلمال حلمل الأثقال. ووج��دت بجدة املكا�سني «انتقا�ص الثمن يف البياعة ،ومنه ا�شتقاق امل ّكا�س ،لأنه ي�ستنق�صه. ا�س يمَ ْ ِك ُ�س النا�س -معجم العني ورج��ل م ّك ٌ للفراهيدي :مك�س» من جهة الرتك ظاملني على النا�س ب�أخذ �أموالهم بالباطل.
ثم يوم الربوع ثاين ع�شر ذي القعدة ركبنا م��ن «ج� ��دة» �إىل ح��دة ب�ع��د � �ص�لاة امل�غ��رب ومن حدة �إىل كعبة املق�صود وعتبة اجلود، بعد جمع �صالة الظهر والع�صر ،ودخلنا البلد الأمني بعد ن�صف الليل مع ال�سيد �أبي بكر امل�ط��وف ونزلنا ع��ن اجل�م��ال وم�شينا على الأق��دام ،وتركنا الأحمال والأثقال مع اخلدام ،ومل نعرج على �شيء. وق���ص��دن��ا امل�سجد احل���رام ودخ�ل�ن��ا «ب��اب ال�سالم» و�أ َدّينا �أعمال العمرة من الطواف وال�سعي واحللق على الرتتيب. وتي�سر لنا بحمده تعاىل ما ك َّنا نبغي من َّ تقبيل احلجر وا�ستالم الركن يف كل �شوط، بخلو امل�ط��اف وامل�سعى وغ�يره�م��ا م��ن كل مقيم وغريب. وم��ن �أول نظرة وقعت �إىل جمال «الكعبة املكرمة» ذهلنا عن م�صائب ال�سفر وم�شاقه كلها ك��أمن��ا مل ُن�� َ��ش��ك ب�شوكة يف الطريق، وهكذا �ش�أن كل م�شوق و�صديق ،كيف والكعبة الزهراء -زادها اهلل �ضياء و�سناء -ياقوتة كحلية جتلو ب�صائر �أعني ال�صلحاء ،جملوة للناظرين يف حلة من الكرامة �سوداء. وبعدما فرغنا عن ال�سعي بني ال�صفا واملروة، ر�أينا �أن نتم الليل بجوار الكعبة ،فجاورناها �إىل الفجر بالتهجد والدعاء واال�ستغفار �إىل الإ��س�ف��ار ،و�صلينا ال�صبح مع �أول جماعة �شافعية ،ثم رجعنا �إىل املنزل وحلقنا الر�أ�س ولب�سنا املخيط وحللنا الإحرام. ومكثنا مب � َّك��ة منتظرين احل��ج لأن زم��ان ال��رح�ل��ة �إىل «امل��دي �ن��ة» ق��د م�ضى بت�أخري امل��رك��ب ع��ن ال��و��ص��ول ،ول��وال ذل��ك لقدمنا ال��رح �ي��ل �إىل امل���س�ج��د ال �ن �ب��وي و��س�ع��دن��ا بال�سالم على القرب املطهر املنور الأحمدي، ومل نرتك اال�شتغال بالعلم يف هذه الفر�صة ال�ق�ل�ي�ل��ة� -أع �ن��ي �أواخ� ��ر ذي ال �ق �ع��دة ،بل ح�صلنا فيها بع�ض الكتب والفوائد.
اختلفت مدونات الحجيج من الناحيتين الشكلية والبنيوية وكثيرون اهتموا بالشعائر الدينية �أداء منا�سك احلج وملا كان يوم التا�سع والع�شرين من ال�شهر على حساب االهتمام بالمكان وبالرحلة
ارتياد اآلفاق 64 الـعــــدد 156 أكتوبر 2012
املذكور� ،شهد رجال عند قا�ضي «م َّكة» بر�ؤية هالل ذي احلجة وا�ستق َّر يوم الثالثني منه �أول يوم من ذي احلجة ،ومل ي َر � ُ أهل «م َّكة» وغريهم من امل�سافرين الهالل �إذ ذاك ،ولكن اتبع النا�س القا�ضي فيما هناك ،ف�أحرمتُ ي��وم ال�تروي��ة ،وه��و الثامن من ذي احلجة، وتوجهتُ �إىل ِمنى وبلغت املُنى ،وكنت ما�شي ًا ثم ركبت منها �إىل عرفة ،وفرغت من �أعمال احلج على الرتتيب املذكور يف هذا املن�سك بال�س َّن ِة ال�صحيحة. وعلى الوجه امل�أثور ُّ وق��ر�أت «احل��زب الأع�ظ��م» «كتاب »احل��زب الأعظم وال��ورد الأفخم«لعلي بن ال�سلطان حممد القاري الهروي » لعلي القاري املُ� َّ لا علي القاري :علي بن حممد �سلطان الهروي «؟-1014هـ» «؟1606 -م» :فقيه حنفي ،من �صدور العلم يف ع�صره .ولد يف هراة و�سكن م َّكة و ُت��ويف بها .و�ص َّنف كتب ًا كثرية ،منها «تف�سري القر�آن» ،و«الأثمار اجلنية يف �أ�سماء احلنفية» و«��ش��رح الأرب �ع�ين ال�ن��ووي��ة -ط». «�أعالم الزركلي »ك َّله ،قبل الوقوف بعرفة ،ثم
وقفت بها ومل � ُآل جهد ًا يف الدعاء واال�ستغفار �إىل الغروب ،والت�ض ّرع واالبتهال �إىل عالم الغيوب ،وامل�أمول من اهلل القبول ،ثم �أف�ضت منها �إىل مزدلفة ،ومنها �إىل ِمنى ،و�أ َّدي��تُ بقية الأعمال و�أتيتُ بها يف �أح�سن الأحوال، ومن غاية ال�شغف بعلوم ال�سنة مل �أترك كتابة العلم بعرفة ِومنى يف �أيام �إقامتها ،لكن يف غري �أوقات املنا�سك .وملا رجعت يوم الثالث ع�شر �إىل م� َّك��ة مل �أج��د قافلة ت��ذه��ب �إىل «املدينة» ،ف�أقمت منتظر ًا للرفقة.
زيارة املدينة املنورة ومعاملها
و� �ش��ددت ال��رح��ل ي ��وم اخل��ام ����س ع�شر 15
من �شهر �صفر �سنة �ست وثمانني ومائتني و�أل��ف 1286الهجرية م��ن «م � َّك��ة املكرمة» �إىل «املدينة امل�ن��ورة» وو�صلتها يف ع�شرين يوم ًا خالف امليعاد لأن م�سريتها تكون اثني ع�شر يوم ًا غالب ًا يف املعتاد ،ولكن اجلمالني مل يكونوا معنا جماملني ،ف�ترك��وا القافلة «بع�سفان» و�أ�ضمروا ال�شر والعدوان ،فكفى
اهلل امل��ؤم�ن�ين ال�غ��رب��اء �شرهم وال�ب��أ��س��اء، و�أو�صل اجلميع مع �سالمة املال والروح �إىل طابة ،وجعل دعوتهم م�ستجابة. واتفقت الإق��ام��ة بهذه البلدة املباركة �إىل وتي�سر يل ح�ضور امل�سجد النبوي �أ�سبوعَّ ، وال �� �س�لام ع�ل��ى امل��رق��د امل �ن��ور امل�صطفوي و�أ�صحابه ،وزيارة بقيعه و�شهداء �أحد� ،س َّيما �س ّيد ال�شهداء حمزة ر�ضي اهلل تعاىل عنه، وغري ذلك من امل�ساجد والآب��ار ،خ�صو�ص ًا «م�سجد قباء» على الوجه امل�أثور امل�سنون، ئت ب�أنواع الربكات فيا لها من بلدة طيبة ُم ِل ْ و�آثار من الرحمة و�أنوار من التجليات ،كيف والأنوار الإلهية والربكات النبوية ترت�شح من جدرانها ،وال�سكينة والوقار تتنزل كل حني على بنيانها. وا�شرتيت باملدينة«:كتاب املدخل البن احلاج» وه��و ك�ت��اب يحتوي على رد ب��دع املتفقهني وحمدثات املت�صوفني. و�أحرمت بالعمرة حني الرجوع منها ،وو�صلت «م َّكة» يوم الثاين ع�شر من بدء ال�سفر ن�صف
الليل ،كما و�صلت �إليها من ج��دة ،ووجدت املطاف وامل�سعى خالي ًا عن النا�س «هكذا وردت اجلملة يف الن�ص .وال�صحيح :وجدت املطاف وامل�سعى خاليني من النا�س» ،ف�أتيت ب�أعمالها على ترتيبها ،وح�صلت يل -بحمد اهلل تعاىل -حجة وعمرتان. وكانت مدة �إقامتي مب َّكة وجواره تعاىل �-أو ًال و�آخ��ر ًا -نحو ًا من �أربعة �أ�شهر ،وعندي� :أن حا�صل عمري كان تلك الأيام ،والذي م�ضى يف غريها مل يكن �إ ّال منام ًا �أو �أحالم ًا ،و�أرجو من اهلل تعاىل عود هذه الأزمان وق�ضاء بقية احلياة يف جوار الرحمن. وق��د كنت �أق�م��ت مب� َّك��ة مبحلة �أه��ل الهند، و�أغ��دو و�أروح �إىل احلرم املحرتم من "باب الزيادة" و�أذك ��ر ق��ول اهلل ت�ع��اىلِّ « :ل� َّل� ِ�ذي��نَ �أَ ْح َ�س ُنو ْا الحْ ُ ْ�س َنى َو ِز َي���ا َد ٌة »..يون�س ،الآي��ة: « .»26و�أرج��و منه �سبحانه �أن يجعلني من �أهل تلك ال�سعادة ،وكثري ًا ما �أم ُّر على «باب ال �� �س�لام» -مبتغي ًا كتب ال�ع�ل��م ،و�أق���ول يف نف�سي :ادخلوها ب�سالم. وق��د ا�شرتيت ه�ن��اك - 1 :ك�ت��اب ال��زرق��اين � �ش��رح امل��وط���أ - 2 ،وح���س��ن امل�ح��ا��ض��رة يف �أحوال م�صر والقاهرة - 3 ،وتاريخ اخلمي�س والبيجوري على ال�شمائل - 4 ،والتعريفات5 ، ومغني اللبيب - 6 ،والريا�ض امل�ستطابة7 ، وبهجة املحافل �شرح ال�شمائل - 8 ،ومواهبالرحمن - 9 ،و�أذك��ار النووي - 10 ،وكتاب التلخي�ص� -إىل غري ذلك من كتب احلديث والعربية وال�ت��واري��خ .وا�ستكتب «ا�ستكتب: طلب �أو كلف �أح��د ًا بالكتابة ،ومب��ا �أن��ه قام بالكتابة بيده فالأ�صح �أن يقول :كتبت» بع�ض الر�سائل املخت�صرة واملطولة بيدي.
طواف الوداع
وط�ف��ت ل �ل��وداع يف �أوائ ��ل ج�م��ادى الأوىل، و�سرت �إىل «ج��دة» وركبت املركب امل�سمى بـ«في�ض الباري» وكان ي�سع ت�سعمائة «»900 نف�س ��س��وى الأح �م��ال والأث� �ق ��ال ،وم��ررت ب�ساحل «احلديدة» يف هذا الرجوع �أي�ض ًا، و�أق���ام امل��رك��ب ه�ن��اك ث�لاث��ة �أي ��ام لبع�ض احلوائج ،ثم �سار �إىل «ممبئي».
حر �شديد ،وكان الريح وكان الزمان زمان ٍ ّ ً �سموم ًا وم��اء البحر ن ��ارا ،فمر�ض �أه��ل املركب �إ ّال من ع�صمه اهلل ،وم��ات بع�ض �شدة احلر �إىل �أن طوى املركب القوم من َّ ن���ص��ف ال �ط��ري��ق ،وم � � َّر �إىل ع��دن فجاء ال�برد واملطر وذه��ب املر�ض واحل��ر ،فلما �آن املركب ب�ساحل «ممبئي» َّ �ضل املعلم الطريق لأج��ل غيبوبة ال�شم�س وت��راك��م ال�سحاب ،وكان من قوم الن�صارى ،و�صار ركاب ال�سفينة لذلك حيارى. وكان املو�سم مو�سم طوفان وتالطم البحر والأم ��واج ،فك�سرت حجرات املركب التي كانت ف��وق التتق «التتق» :كلمة فار�سية، تعني اخليمة� ،أو ال�ستار« ،املعجم الذهبي ���ص »183ملحمد ال �ت��وجن��ي .وال� �ش��ك �أن �شكل املركب وترتيب حجراته ف��وق �ستار �أو فوق قبة هو الذي يحدد دقة اال�ستخدام والغر�ض الإي�ضاحي من �صدمات امل��وج، وحتركت خ�شبات املركب ،وا�ستيقن �أهله مبجيء امل��وت ،و�صارت ال�سفينة يف البحر
كري�ش ٍة يف الفالة ،و�ضاقت الأنف�س من حالوة احل�ي��اة حتى ج��اءت رحمة اهلل تعاىل وهو �أرحم الراحمني. و�صح ح�ساب ف�أخرجت ال�شم�س من مطلعهاَّ ، ال��ر��ص��د ملعلم امل��رك��ب بطلوعها ،و�أج ��رى ال�سفينة على �سواء الطريق ،وج��اء مركب ال�بري��د م��ن نحو ممبئي ،فلحق بنا و�سار بهذا املركب حتى �أو�صله �إىل �ساحل النجاة، واحلمد هلل ال��ذي بنعمه تتم ال�صاحلات. وقد �شاهدت يف �سفري هذا عجائب ،ور�أيت فيه عدة م�صائب ،واخ�ترت النا�س وميزت ال�سفهاء من الأكيا�س ،ووقفت على ر�سوم القوم وبدعهم وحمدثاتهم وانهماكهم يف حت�سني املالب�س واملطاعم واملناكح وامل�ساكن وق�صر هممهم على ذلك ،وعدم رفع ر�ؤو�سهم �إىل ال�سنن وما مات منها و�ضعف الإ�سالم وهذا �شني لأهل الدين ،ال �س َّيما لأهل م َّكة واملدينة الذين هم يف خري بقاع الأر�ض وهم قدوة امل�سلمني خ�صو�ص ًا الأئمة منهم
من تراث الشعوب 66 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
الحكمة الصينية بين الرمز والواقع علي كنعان الرتاث ال�صيني بحر وا�سع ،ومن ال�صعب �أن نحيط به �أو بجزء ي�سري منه يف مقالة �أو كتاب .وهو ميتد يف �صوره البدائية ومروياته ال�شفاهية الأ�سطورية� ،إىل ما يزيد عن خم�سة �آالف �سنة .لكن املدون من هذا الرتاث ال يزيد عمره عن ثالثة �آالف �سنة �إال قليال .وهذا التاريخ منوط �أي�ضاً باخرتاع رموز الكتابة ال�صينية ،وهي لي�ست �أبجدية معدودة احلروف كالعربية والالتينية� ،إمنا هي �أ�شكال ورموز هريوغليفية جمردة يزيد عددها عن ثمانني �ألف �شكل ،و�إن كان امل�ستعمل منها ال يتعدى خم�سة �آالف. وغالب ًا ما يرجع �أبناء ال�صني جذورهم �إىل �إليها الف�أر� ،إذ تطوع الثور حلمله على ظهره دائرة مق�سومة بخط منحن �إىل ما ي�شبه ح َّب ْتي الإم�براط��ور ياندي �أوال ،ثم �إىل الإم�براط��ور عرب النهر وحني اقرتب الثور من ال�ضفة قفز فا�صوليا ،ونواته متثل اجلنني. ه��وان �غ��دي وقبيلتيهما ،و�إن ك ��ان الفا�صل الف�أر �إىل الياب�سة وكان الأول. الزمني بينهما نحو � 500سنة .ويعود لهذين التنني ودالالته اجل��دي��ن ،وال �سيما الأول منهما ،الف�ضل يف االن�سجام والتكامل يتخذ التنني يف الغرب داللة �سلبية كرمز لل�شر تطوير الزراعة ،كما يرجع �إليه بدء اكت�شاف �شهد التاريخ ال�صيني �أكرث من خم�س ع�شرة والدمار والعداء ،ولكنه يف ال�صني بعك�س ذلك ال �ت��داوي ب��الأع���ش��اب .وي ��روى �أن��ه ج��رب نحو �ساللة �إمرباطورية ،وقد مر بتطورات فكرية مت��ام � ًا .ويف مو�ضوع الفلك ال�صيني ،نحن �سبعني ع�شبة �سامة ،وجنا من املوت �أكرث من وثقافية متعددة .ونظر ًا العتماد ال�صني على اليوم يف �سنة التنني .وهو ي�شكل �أهم الأبراج مئة م��رة .ويبدو الهدف الرتبوي وا�ضح ًا يف الزراعة منذ �أقدم الع�صور ،فقد ظلت العالقة ال�صينية و�إن جاء يف الرتتيب اخلام�س ،بعد ه��ذه احلكاية ،فاكت�ساب اخل�برة والعمل يف بني الإن�سان والطبيعة هي ميدان الفكر واجلدال الف�أر والثور والنمر والأرن��ب� .إنه يحتل موقع ًا �صالح الب�شر والتقدم يف دروب احلياة ال يتم والإبداع� .إن احلكمة ال�صينية تنطلق من مفهوم هام ًا يف مدونات الرتاث ال�صيني و�أ�ساطريه �إال بحب املغامرة والد�أب املتوا�صل واال�ستعداد االن�سجام والتكامل بني الإن�سان والكون .وهذا وحكاياته� .إنه الكائن الأ�سطوري الذي ي�شمل للت�ضحية .ويعود للإمرباطو الثاين الف�ضل يعني �أن عالقة الإن�سان مع الطبيعة من حوله برعايته الأن �ه��ار والبحار واملحيطات ،كما يف ت�أ�سي�س النظام الإداري واعتماد منظومة لي�ست عالقة عداء و�سيطرة وتدمري ال�ستنزاف �أن��ه يطوف م��دارات الف�ضاء ،وهو رمز القوة �أخالقية �شكلت الأ�سا�س احل�ضاري يف ذلك خرياتها ،كما هي احل��ال يف املفهوم الغربي ،واخل�ير والرحمة واحلكمة واالزده���ار ،كما املجتمع ال��زراع��ي املكافح على �ضفاف نهر ولكنها عالقة حمبة وتناغم وتكامل م�ستمر يف �أن��ه رمز الإم�براط��ور .وزائ��ر ال�صني يرى �أن يانغت�سي والنهر الأ�صفر ودرا��س��ة �أح��وال��ه يف احلياة ومن �أجل احلياة ،كعالقة الطفل ب�أمه� ،صوره ومتاثيله منت�شرة على نطاق وا�سع يف موا�سم الفي�ضان واالنح�سار .وم��ع الزراعة باملعنى الإيجابي الذي ي�ؤكد على التطور وجتدد الفن وال�ع�م��ارة وال��زخ��رف��ة وحتى يف نقو�ش مت تدجني احليوان ،كما جرى تنظيم الإدارة احلياة .ومن هذا املفهوم الإن�ساين واحل�ضاري الأقم�شة وزينة الأزياء وعلى �أدوات ال�صناعات واالهتمام باملو�سيقى والفلك والأب��راج ،وهي ت�شكل الأ�سرة الوحدة الأ�سا�سية يف املجتمع ،التقليدية ،وب�ألوان متعددة بني الأحمر والأ�صفر �أب��راج �سنوية ولي�ست �شهرية .وهناك العديد ويعرب عن هذه الوحدة املتكاملة يف كل �شيء والأزرق والأبي�ض .وتقول الأ�سطورة �إن التنني م��ن احلكايات الأ�سطورية ح��ول احليوانات بالثنائي املتفاعل مع ًا :اليني Yinواليانغ Yangيت�شكل من حيوانات عدة :ر�أ�سه من الن�سر، التي ت�شكل الأب��راج ال�صينية ،ومنها �أن �أقدم «الظل وال�ضوء»« ،الأر�ض وال�سماء»« ،الربودة قرناه من الغزال ،خمالبه من النمر ،و�أذن��اه الأباطرة �أراد قيا�س الزمن ف�أجرى مباراة يف واحلرارة»« ،ال�ضعف والقوة»« ،املر�أة والرجل» ،من الثور ،حرا�شفه من ال�سمك� ،إ�ضافة �إىل عبور النهر �سباحة بني اثني ع�شر حيوان ًا ليطلق «املاء والنار» �إىل �آخر ما هنالك .وهذا الثنائي �شكل ج�سمه الأفعواين. على كل �سنة ا�سم احليوان الفائز ،وكان الثور لي�س متناق�ض ًا مت�صارع ًا ،ولكنه متكامل يف ينفرد التنني بعن�صر اليانغ وح��ده .وت�شري يف مقدمة تلك احليوانات لوال احليلة التي جل�أ ت��آل��ف وان�سجام ت��ام .وه��م ي�صورونه ب�شكل احلكايات �إىل �أن للتنني ت�سعة �أب �ن��اء ،لكل
منها ا�سم وخ�صائ�ص مميزة :فعلى القباب والأب��راج نرى �صورة التنني املو�صوف بحدة النظر ،وعلى �آالت العزف الوترية ير�سمون ���ص��ورة حم��ب امل��و� �س �ي �ق��ى ،وع �ل��ى مقاب�ض اخلناجر وال�سيوف نرى تنني ال�شجاعة وحب القتال ،وينفرد تنني النار مبجامر البخور، وعلى الأع �م��دة واجل�سور ن��رى �صورة حمب ال�سباحة ،وعلى الأج��را���س حم��ب اجللجلة والهدير ..وهكذا �إىل �آخر القائمة.
مبد�أ التحول
العالقة وا�ضحة بني احلياة الزراعية والفلك والأنواء وت�شكل الف�صول ،ومن هنا كان املبد�أ الأول يف الوعي والثقافة ال�صينية نابعا من ت��أم��ل احل��رك��ة والتحول يف ك��ل ��ش��يء� ،سواء يف ما يتعلق بالإن�سان �أو يف ما يحيط به من �أحوال الطبيعة ومظاهر الكون .ولكن الأمور يف احلياة واملجتمع ال ترتك على هواها ،وال بد من �إرادة الإن�سان وعمله ل�ضبطها ،وهي �إرادة خري ترتكز على الرتبية وال�سري بها على مبد�أ الف�ضيلة النابعة من حمبة الإن�سان لعمل اخل�ير .وه��ذا ما ما �أك��د عليه احلكيم كونفو�شيو�س يف تعاليمه ،وكذلك احلكيم الو ت�سي وتعاليمه .و�إذا كانت تعاليم احلكيم الو ت�سي قد �أكدت على �أهمية الطبيعة منطلقة من ت�أمل التناق�ض والرتابط بني املادة واحلركة يف ال�ضعف والقوة كالبذرة التي تنمو حتى تن�ضج وتقوى ثم ت�ؤول �إىل املوت .لكن ا�ستمرار احلياة وتطور الآراء والنظريات وتفاعلها �أدى �إىل التقارب �أو الت�آلف بينها ،فالقانون �أو الطريقة الذي ي�أخذ بها الإن�سان واملجتمع هي املنطلق للبناء احل�ضاري. ل�ك��ن احل �ك �م��اء مل ي �ن �ف��ردوا وح��ده��م بن�شر تلك التعاليم ،بل ن��رى ال�شعراء والر�سامني واملو�سيقيني وحتى جنوم الأوبرا ال�صينية عرب الع�صور ي�سهمون جميعا يف بناء املجتمع ال�سليم املتوازن الذي يوا�صل م�ساعيه يف بناء ال�صرح احل�ضاري ويزيد احلياة ن�ضرة وخريا وجماال. ومن املعروف �أن احل�ضارة ال�صينية متوا�صلة منذ �أق��دم الع�صور ،و�إن تخللتها ف�ترات من االنك�سار والفو�ضى ،لكن التاريخ العاملي ي�ؤكد
�أن احل�ضارة ال تن�ش�أ وال ت�ستمر �إال �إذا كانت مبنية على قيم �إن�سانية ومبادئ �أخالقية، انطالقا من �أب�سط الأ�شياء .يقول ال�شاعر يل �شني :كل ب��ذرة ت��زرع يف الربيع� /ستجعل حم�صول اخل��ري��ف واف ��را /ف�م��اذا �ستجلب احلقول اخل�صبة؟ �إن ال�س�ؤال يف البيت الأخري يثري لدى القارئ املت�أمل دالالت و�إيحاءات متعددة ،ومنها �أن هذه احلقول اخل�صبة قد تكون ميدانا لل�صراع �أو جماال لكوارث اجلراد واحلريق والفي�ضان، لكن علينا �أن نفكر �أي�ضا بالعمل امل�ضني الذي يقوم به الفالح يف تلك احلقول حتى جتود بالعطاء .لذلك نرى �أن ال�شاعر املرهف مل ين�س يف اخلتام �أن ي�شري �إىل ما يعانيه �أبناء �شعبه يف بع�ض ال�سنني ب�سبب �شح املوا�سم �أو ب�سبب غياب العدالة �أو لأي طارئ �آخر ،فينهي ق�صيدته بنربة وجدانية موجعة ،قائال: ومن اجلوع ميوت الفالحون.
خال�صة احلكمة
يف ختام ه��ذه الإط�لال��ة العابرة على ملمح جزئي من ت��راث ال�صني وحكمتها� ،أرى من املفيد �أن �أورد احلكاية الآتية بني احلكيم الو ت�سي ومعلمه: ك��ان املعلم «ت�شانغ ت�سونغ» يف �أواخ��ر �أيامه حني قدم تلميذه الو ت�سي لعيادته والتزود من خال�صة حكمته .قال املريد اللبيب�«:أال تزودين
ب�آخر كلمات احلكمة ،يا معلمي؟» �أجاب املعلم«:عليك �أن تنزل من عربتك حني متر ببلدتك الأم» . قال الو ت�سي«:نعم ،يا معلمي ..هذا يعني �أن على الإن�سان �أال ين�سى �أ�صله» . وتابع املعلم�« :إذا ر�أيت �شجرة عالية ،فتقدم منها وتط َّلع �إليها كما يليق بك» . علي �أن �أحرتم من هم «نعم ،يا معلمي� ..إن َّ �أكرب مني» . و�أخ �ي�را ق��ال ت�شانغ ت �� �س��ون��غ«:والآن ،انظر و�أخربين �إن كنت ترى ل�ساين »...ثم فتح فمه بجهد وا�ضح. «نعم� ،أراه� ،»...أجاب الو ت�سي. «وهل ترى �أ�سناين؟» ـ ال ،مل يبق منها �شيء! و�س�أل املعلم«:هل تعرف ملاذا؟» �أج��اب الو ت�سي«:يف تقديري �أن الل�سان بقي �سليما لأن��ه ط��ري م��رن� ،أم��ا الأ��س�ن��ان فقد �سقطت لأنها �صلبة قا�سية� ...ألي�س كذلك؟» وقال املعلم كلمته الأخ�يرة :تلك هي خال�صة احلكمة يف العامل. وتفكر الو ت�سي مليا وق��ال«:ال �شيء يف العامل �أط��رى وال �أن��دى من امل��اء ...وم��ع ذل��ك لي�س يف الوجود ما يفوقه يف التغلب على الأج�سام ال�صلبة .ن�ع��م� ،إن اللطيف يغلب ال�شر�س القوي .كل �إن�سان يعرف ذل��ك ،لكن قلة من النا�س تعمل بهذه احلكمة» . زائ��ر ال�صني ال ي��زال ي��رى مالمح م��ن هذه احلكمة ماثلة يف الب�سمة الآ� �س��رة والتحية الدافئة واملعاملة اللطيفة ،و�أينما توجهت تدرك �أن تلك الأمثولة ما زالت مغرو�سة يف النفو�س �أعمق من ج��ذور اخل�ي��زران و�أق��وى من املا�س و�أغلى من الي�شب ،Jadeوهو حجر كرمي يحفل به الرتاث ال�صيني حتى �إن بع�ض الباحثني يطلقون على �إمرباطور الي�شب ا�سم �إمرباطور ال�سماء� .أما قيمة التنني ومكانته الرتاثية بني الرمز والواقع فتبدو بو�ضوح يف �أن ا�سمه مقرتن بكثري من �أ�سماء اجلبال والأنهار وحتى املدن والقرى .ويكفي �أن ن�شري يف اخلتام �أن التاريخ ال�صيني مل يتلوث با�ستعمار �أي بلد �آخر ،رغم تعر�ضه لأكرث من ا�ستعمار
المحكي شعر ًا 68 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
املحكي�شعرا ً ملف ال�شعر ال�شعبي
ديوان المختارات
من عيون الشعر المحكي في اإلمارات �إعداد -ال�شاعر خالد علي ال�شعيبي �شاعر �إماراتي �شاب ،من مواليد 1985م ،له ن�شاط ملمو�س يف �ساح ال�شعر ال�شعبي يف الإمارات ،وهو ع�ضو م�شارك يف جلان بيت ال�شعر يف �أبوظبي ،وع�ضو جماعة ال�شعر ال�شعبي باحتاد كتاب و�أدباء الإمارات ،ن�شر ق�صائده يف عدد من املطبوعات املحلية املعنية بال�شعر املحكي. اختار ال�شعيبي ثالث ق�صائد من عيون ال�شعر املحكي يف الإمارات ،ر�أى �أنها متثل مناذج ملا ت�أثر به هو �شخ�صي ًا يف منتجه ال�شعري ،كما �أنها �أ�سهمت يف رفد الذائقة املحلية مبا ت�ضمنته من جديد على م�ستوى البالغة وبناء ال�صور .
لإر�سال ق�صائدكم ،م�شاركاتكم ومالحظاتكم:
الربيد الإلكرتوينturathmag1@gmail.com : الفاك�س009712 6582282 :
المحكي شعر ًا 70 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
شيخ إذا سار قدام سالم يا ٍ ال�شاعر � :سمو ال�شيخ الفريق �أول حممد بن زايد �آل نهيان ويل عهد �أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات امل�سلحة مهداة ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ خليفة بن زايد �آل نهيان ،رئي�س الدولة ،حفظه اهلل. � � � �س �ل ��ام ي � � ��ا �� � �ش� � �ي � � ٍ�خ �إذا � � � �س� � ��ار ق � � ��دام ك � � ��لٍ ي � �ق� ��ول ال� �ب� ��رق م � ��ن ق �ب �� �ض �ت��ه � �ش��ام
يل ج� � � � � ��ردت مي � � �ن� � ��اه ه � �ي � �ب� ��ة ح� ��� �س ��ام ��ه
�� �ش� �ي � ٍ�خ ع� ��ن ع � �ي ��ون ال� ��رم� ��د ت� ��ل االح �ل��ام
وي� � � �ت � � ��ل م� � � ��ن ع� �ي� ��ن امل� � � � �ع � � � ��ادي م � �ن ��ام ��ه
م� �ث ��ل ال � �� � �س� ��واري ف � � ��ارع ال � �ط� ��ول يل ق ��ام
رف� � � � ��ت ل � � ��ه الأع� � � � �ل� � � ��ام ح � � � ّي� � ��ت م� �ق ��ام ��ه
ذا ب � �ك � ��ر زاي � � � � ��د وامل � � � ��راي � � � ��ل واالع� � �ل � ��ام
ال � �ن � �ج ��ل اال ّول ل� �ل� ��� �ش ��رف وال� ��� �ش� �ه ��ام ��ه
�أخ� � � � � ��وي يل وق� � �ف � ��ات � ��ه ل � �ظ � �ه� ��ري ح� � ��زام
وال � �ظ � �ه� ��ر � �س �ه ��ل ال� �ك� ��� �س ��ر ل� � ��وال ح ��زام ��ه
�أخ� � � � � ��وي يل ظ � �ل� ��ه ذرى ك� � ��ل الأق� � � � � ��وام
ع � �ي � �ن� ��ه ب � � � � � ��روق ويف مي � �ي � �ن� ��ه غ� �م ��ام ��ه
ويل �أم� � � � ��ر وع� � �ه � ��د و�� � �س� � �ي � ��وف واق� �ل� ��ام
ل� � ��ه ي� �ن� �ح� �ن ��ي ظ� � ��ل اجل� � �ب � ��ل ب� ��اح �ت�رام� ��ه
ي� ��ا � �ش �ي �خ �ن��ا �آم � � ��ر وت ��رك� �� ��ض ل� ��ك اق� � ��دام
وال � � �ف� � ��ار�� � ��س اخل � � �ي� � ��ال ي � ��رخ � ��ي جل ��ام ��ه
�آم � ��ر ي ��ا ب ��و � �س �ل �ط��ان ل ��ك ط ��اع ��ة اح �� �ش��ام
�أم� � � � � � ��رك ع � �ل � �ي � �ن ��ا ي � � ��ا خ � �ل � �ي � �ف ��ة ك � ��رام � ��ه
ي � � ��ا ف � �خ � ��ر ك � � ��ل ع � � �ي� � ��ال زاي � � � � ��د واالي � � � � ��ام
ن� �ح� �ن ��ا رج � ��ال � ��ك ي � ��ا � �س �ل �� �س ��ل ال ��زع ��ام ��ه
ي� ��� �ش ��رف� �ه ��م �إخ � � ��وان � � ��ك ي � �ك� ��ون� ��ون خ � ��دام
خل� � ��وه� � ��م ال � � �ل� � ��ي ِم ال� �ث ��ري � � ��ا و� � �س� ��ام� ��ه
ي � ��ا � �ش �ي �خ �ن��ا امل � �ه � �ي ��وب خ ��دم� �ت� �ك ��م اك� � ��رام
خِ � � ْدم� ��ة � �ش �ع��ب راف � ��ع ع �ل��ى ال �ن �ج��م ه��ام��ه
حت � � ّي � �ت� ��ي ي � � ��ا �� � �س� � � ّي � ��دي م � ��� ْ��س� ��ك �� �ص� �ي ��ام
م � ��ن ق� �ل ��ب م � ��ا ي � �ج� ��رح م� � �ك � ��ارم � �ص �ي��ام��ه ح � � ��رٍ ع � �ل� ��ى َه� �ـ ��اخل� �� �ْ�ش� �ـ ��م ي� �ن� �ف ��ذ ك�ل�ام ��ه
و�� � �س �ل��ام ي � ��ا �� �ش� �ي � ٍ�خ ع� �ل ��ى را�� � �س � ��ي و�� �س ��ام
ي �� �ص �ب��ح ط� �م ��وح ال �ن �� �ص��ر ي �ت �ب��ع اق ��دام ��ه
المحكي شعر ًا 72 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ز نجبيل ال�شاعر :حممد املر بالعبد عِ � � � � � � � ّل م� � � ��ن م � � � � ��اك ال ت � �ت � �ب � ��ع م � �� � �ص � ��ب ال � �ن � �ه ��ر الج � � � � ��ل ظ� � � � ّن � � ��ك ي � � � � ��رد اب� � � �ل � � ��ج وط� � � ��رف� � � ��ك ك� �ل� �ي ��ل ال � � �ب � � �ح� � ��ر وان رق � � � � ��ى دم� � � �ع � � ��ه وع� � � � � � � � � ّود م� �ط ��ر �أ ّول � � � � � � � � � ��ه م � � �ل� � ��ح ل� � � � �ك � � � ��ن� ..آخ� � � � � � � � ��ره �� �س� �ل� ��� �س� �ب� �ي ��ل ال ت � � � �ل� � � ��وم ال� � � �ل� � � �ي � � ��ايل ي� � � � � ��وم ع� � � ��زم� � � ��ك ق� ��� �ص ��ر م� � ��ن م � �ت� ��ى ك � ��ان � ��ت ال � �غ� ��اي� ��ة ت� � �خ � ��دم ال� �� �ّ�س� �ب� �ي ��ل!! م � ��ن م � �ت ��ى وال� � �ط � ��ري � ��ق ال� ��� �س� �ه ��ل ي� � � � � ّرث ف � �خ ��ر!! ال� � � �ط � � ��وي� � � �ل � � ��ه ..ت � � �ب � ��ي ق� � � � � � ��ر ٍم ب � � �ط � � ��ا ِن � � ��ه ط� ��وي� ��ل ل � � ��و ب � � ��ن �آدم ورث االجم� � � � � � ��اد ب� � �ط � ��ن وظ � �ه ��ر �أ�� � � �ش� � � �ه � � ��د ان� � � � � ��ه رِدي م� � � � � � � � ��ادام ك� � � � ّف � � ��ه ب� �خ� �ي ��ل الج � � � � � ��ل ه � � � � � ��ذا ي� � � � �ق � � � ��ال :ف � � �ل� � ��ان ع� � �ل� � �م � ��ه غ�ت�ر و الج� � � � ��ل ه� � � � ��ذا ي � � � �ق � � ��ال :ف � �ل � ��ان م� � ��ال� � ��ه م �ث �ي ��ل م � � � ��ن ي� � � � �ج � � � ��اوز م� � ��� � �س � ��اح � ��ة ق � � � ��درت � � � ��ه ي� �ن� �ك� ��� �س ��ر ي � � �ه� � ��در اج � � �م� � ��ل �� �س� �ن� �ي� �ن ��ه يف رج � � � ��ا امل� ��� �س� �ت� �ح� �ي ��ل وال � � �ع � � �م� � ��ر� � � � � ..س� � � ��در ٍة ي� �ج� �ن ��ي ث � �م� ��ره� ��ا ال� ��ده� ��ر ل � �ي� ��ن ي� � � ��رج� � � ��ع ره � � � � � � � ّ�ي احل � � � � � � ��ال م� � �ن� � �ه � ��ا ب� �ه� �ي ��ل م� � � ��ا ع � � �ل � ��ى ال� � � ��وق� � � ��ت ل � � � � ��وم وال ع � �ل � �ي � �ن� ��ا ع � ��ذر اهلل ال� � � �ل � � ��ي ِب� � �ـ� � �خ� � �ـ ِ� � �ـ� � �� �ّ ��ص � ��ات ال� � �ب� ��راي� � � � ��ا ك� �ف� �ي ��ل اهلل ال � � � �ل� � � ��ي ب� � ��� � �س � ��ط رزق ال� � � �ع� � � �ب � � ��اد وق � � � ��در و� � � ��ش ع� �ل ��ى ال� � �ق � ��اع وان م� ��ال� ��ت ع� � � ��ذوق ال �ن �خ �ي��ل ن �ح �� �س ��ب ا ّن� � � ��ا ب� � � ��دون ع � � �ي� � ��وب ..واح� � �ن � ��ا ب� ��� �ش ��ر!! ك � � � � ��ل ك � � � � ��ا� � � � ٍ� ��س ن � � � ��ري � � � ��د خ � � �ت� � ��ام � � �ه� � ��ا زجن� � �ب� � �ي � ��ل
تفارقنا ال�شاعر� :سامل حممد الكعبي ت �ف��ارق �ن��ا وك� � ّن ��ا ن �ط �م��ح �إ ّن� � ��ا جن �ت �م��ع يف دار
ول� �ك ��نّ ال ��زم ��ن ع �ك ����س ال �ن��واي��ا � �س��ار ت � ّي��اره
ر��ض�ي�ن��ا ب��ال�ق��در واح �ن��ا ن �ه � ّل دم��وع�ن��ا م ��درار
على ذك��رى ب�ساتني الو�صال واجمل ازه��اره
�أه ��ايل ال ��دار م��ع دورة لياليهم غ��دوا ّ خطار
عالقتهم مع الوقت � ْأ�ضعفت ت��ارة ورا تاره
و�ش احليلة بعد ما�صار ما�ضي ح ّبهم تذكار
�شحت امطاره وذاك الو�صل من جور الليايل ّ
ّ اخمفف ال�ضيقة �سوى الأ�شعار بكيت ومالقيت
كتبت ومايريـ ِح ال�شاعر إ� ّال ��ص��ادق �أ�شعاره
�أال ي��ا �صاحبي ي��ا منيتي ي��ا م��ن عليك �آغ��ار
غرامك يعزف الذكرى وقلبي ت�شدو �أوتاره
على نغم التوجد وال�غ�لا وال�شوق والتذكار
تعال و�شاهد اع�صابي يف بعدك كيف منهاره
جفيت النا�س خويف من فعايل �شامت ٍ ثرثار
وان��ا عيني على ط��اري��ك يامل�ضنون ث��رث��اره
طوير ال�سعد ج ّنح عقب هجرانك وع ّني طار
وح� ّل��ق يف �سما الأف ��راح ،داري ماهي اب��داره
�أجامل من �س�أل وا�ضحك وانا داخل خفوقي نار
ولكن من درى عن لوعة العا�شق وعن ناره
�آ� � �س ��ال اهلل ي�ل�ه�م�ن��ي � �ص�ب�ر واق � � ��اوم ال �ت � ّي��ار
�أو ان�سى ما م�ضى ..وارحل م َع وقتي وتياره
74 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
الهدم والتجميل يف
ألفبائية
مريه القا�سم
العادة نتوقع عندما ن�ستمع �إىل ن�ص غنائي� ،أننا �سرنى الن�ص ذات��ه ال��ذي كتبه ال�شاعر يف الأ�صل، و�أن �ن��ا ل��ن نلم�س ت�غ�ي�يرات يف الن�ص ال�غ�ن��ائ��ي ،ول�ك��ن ت��ذه��ب ه��ذه الأف �ك��ار �أدراج الرياح ،خ�صو�ص ًا عندما نعلم يقين ًا �أننا �أمام ن�ص خمتلف لل�شاعر ذاته ،وهنا ال نعني االختالف اجلذري، ولكن نق�صد اختالف ًا يف ع��دة ن��واح، منها ت�ق��دمي وت ��أخ�ير يف الن�صو�ص، ت�غ�ي�ير يف ر� �س��م ال �ك �ل �م��ات ،وحت��وي��ر لبع�ض املعاين ،وتب�سيط اللغة ال�شعرية �إىل �أبعد حد ممكن «وك�أن امل�ستمع لن يفهم م��ا يقوله ال���ش��اع��ر» ،والنتيجة ت�سطيح ال�صورة ال�شعرية وحتويلها �إىل ما �أقل من م�ستوى الب�ساطة� ،أي �إىل م�شهدية واقعية ولي�ست خيالية. �إن رغبات �شركات الإنتاج يف الكالم امل�ف�ه��وم ج ��د ًا ،وال�سطحي ج ��د ًا ،لها ت�أثري يف ه��ذه التحويرات ،وكثري ًا ما وامللحن �إىل يعمد ال�شاعر مع املطرب ّ قتل الق�صيدة يف م�شهد ّيتها الأجمل، وحتويلها �إىل م�سخ �شعري ،وبالتايل ي �ق��وم ال �ل �ح��ن ب�ترم �ي��م ال�����ش��روخ يف الن�ص اجلديد بعد التعديالت ،ولكنه ن�ص ًا مقبوال لدى يخرج بقدرة ق��ادر ّ اجلماهري. ّ ل�ست هنا يف حمل تقييم لهذه العملية، فقد مررت �شخ�صي ًا بهذه احلالة من تفكيك الن�ص ،وحتويل الق�صيدة �إىل
م�سار �آخر لتتما�شى مع الفنان الذي �سيغنيها ،دخ�ل��ت ال�ت�ج��رب��ة م��ن ب��اب ن�صي الرغبة يف االكت�شاف ،وم�شاهدة ّ ال���ش�ع��ري ك�ي��ف �سيمكنه �أن ي�صمد الن�ص الأ�صلي عندما �أقوم بعمل �أمام ّ مقارنة من نوع ما بينهما . ي ��رى امل��ط��رب �أن ال �ن ����ص ي �ج��ب �أن امللحن يكون وا�ضح ًا و�سل�س ًا ،ويث ّمن ّ ه��ذه اخلطوة ويعتربها مهمة لنجاح الأغ�ن�ي��ة ،ول�ك��ن عندما نكتب الن�ص بعيد ًا عن اللحن� ،سنجد �أن الق�صيدة امل �ك �ت��وب��ة ع���اد ّي���ة ،وق �ل �ي� ً لا م ��ا جند ن�صو�ص ًا جميلة بعد عملية «التجميل» التي تخ�ضع لعملية ثالثية قلم بها امللحن وال�شاعر املطرب. �أح�سب �أن هذه جدلية ت�ستحق الطرح، على الأق��ل يف �إط��ار �أن الن�ص ال��ذي يكتبه ال�شاعر ل��ه روح خ��ا��ص��ة ،روح ي�صعب �أن تتكرر ،لأن��ه ج��اء يف حالة خ��ا� ّ��ص��ة ،لي�ست ح��ال��ة �صناعية «كما ه��ي عملية التحويل وال �ه��دم والبناء يف الن�ص ال�شعري» ،ولكن حالة من الن�صني تظهر االختالف الكبري بني ّ جل ّية ،وه��ي بحاجة �إىل ط��رح نقدي، لنكت�شف ح �ج��م ال �ب �ن��اء «امل �خ �ي��ايل» الذي ي�ضيع من �أجل توازنات الو�ضوح وال �غ �م��و���ض ال �ت��ي ي � ّدع �ي �ه��ا امل �ط��رب وامل�ل� ّ�ح��ن م��ن ن��اح�ي��ة ،وال �ت ��أث�ير ال��ذي يلحق بالن�ص ال�شعري الأ��ص�ل��ي من ناحية �أخرى
ألسنة عربية 76 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�أغاين الغزل يف تراث البحرين
توب توب يا بحر .. غناء على إيقاعات الفراق املنامة -يو�سف الن�شابه
جمتمع البحرين جمتمع مت�آلف ومتعاون وحمب للخري ،ميتاز بالتقارب بني جميع �أطيافه. وقد زادت املهن التي امتهنها �أهل البحرين من عالقات الت�آلف والتقارب بني �أطياف املجتمع؛ فركوب البحر ل�صيد الأ�سماك �أو ل�صيد الل�ؤل�ؤ يخلق املودة واملحبة والتفاين بني �أفراد ال�سفينة الواحدة وقد جتمعوا من مناطق وقرى متباعدة .
والزراعة عمل جماعي يحتاج لغر�س و�سقي وج��ن��ي ال��ث��م��ار ،وه��و عمل يجعل امل��زارع�ين متعا�ضدين ُي��ك��م��ل ك��ل منهم الآخ����ر ،كما �أن م�شاركة امل���ر�أة بن�صيب كبري يف العمل ووق��وف��ه��ا جنب ًا �إىل جنب م��ع الأب وال��زوج واالب����ن واحل��ب��ي��ب ال����ذي ال ت��ب��وح ب��ه ولكن تف�ضحها نظراتها �أو حني يذكر ا�سمه ،ع ّمق من �صالتها ببقية �أفراد جمتمعها .كان احلب عفيف ًا بني �شباب وفتيات احلي ،ومل تكن من و�سيلة للتعبري عنه �إال �شعر ًا �أو موا ًال يتغنى به لتو�صيل ر�سالة �إىل الطرف الآخر. ومت��ث��ل ال��غ��زل يف التغني ب��ج��م��ال املحبوب و�إظهار ال�شوق �إليه� ،أو جمال الطبيعة ب�ألوانها الزاهية وال�شكوى من فراق احلبيب وال�شكوى من البحر ب�أمواجه العاتية التي تكون �سبب ًا يف فراق الأحبة و�إظهار ال�شوق اليهم. والغزل هو و�صف اجلمال اخلارجي للمر�أة، كجمال وجهها وحما�سنها اجل�سدية .وينق�سم غزل الرجل للمر�أة �إىل ق�سمني :غزل عفيف وغ��زل فاح�ش ،فالغزل العفيف هو التغني بجمال املر�أة ب�صورة عامة من دون الدخول يف التفا�صيل� ،أما الغزل الفاح�ش فهو الغزل «املاجن» الذي يتغنى ب�أدق التفا�صيل لبع�ض
وحادي العي�س «الإبل» يتغنى باحلداء ،وراعي الغنم ي�سلي نف�سه بالغناء ،واحلريف كان يطرق ب�أدواته كي ي�صاحب الغناء بنوع من االيقاع كما كان يفعل اخلليل بن �أحمد الفراهيدي حني ا�ستخل�ص بحور ال�شعر.
من �أجزاء ج�سم املر�أة بالرتكيز على مفاتنها ب�صورة �شهوانية. وقد ا�ستعان العرب على مر تاريخهم بال�شعر، لكونهم من �أ�شد النا�س مي ًال للتعبري عن ميلهم للت�أمل و�إبراز عواطفهم ال�صادقة ووجدانهم وم���ا ي��ج��ي�����ش يف خ��واط��ره��م م���ن م�����ش��اع��ر. فاملحارب يتغنى مفتخر ًا ب�أ�صله وقوته «يزجر» ،غزل الن�سوة املر�أة يف الريف وبع�ض �أحياء املنامة العا�صمة تربت وترعرعت يف �صباها بني �صبية احلي تتعلم القر�آن ،فتتحدث معهم يف خجل. ويف املزارع ت�شد انتباهها تلك الرجولة املتمثلة يف �شباب يت�سلق النخيل البا�سقات ،و�شباب ي�سقي ال��زرع واق��ف ب�شموخ �أم��ام «الغرافة» �أو «الزاجرة» �أو قد تراه يح�ش احل�شي�ش �أو يقطف اللوز والتني والرمان ب�أ�صابع مدربة على اجلني. ومن هنا فا�ضت قريحة الن�سوة مبا ي�صفن به �أحوالهن ،ومن �أ�شهر �أ�شعار غزل الن�سوة يف الرتاث البحريني: كان الغزل عام ً ال �أحبكم حني و�أن�سى حني واذكر حني مشترك ًا تعددت ومازادين يف حمبتكم �سوى التمحني صفاته بتعدد خصائص �أحبكم كرث ما حتمل فروخ اللوز
وصفات فئات المجتمع البحريني
ألسنة عربية 78 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
وح�ين يتعب ي�سلي نف�سه ب�أ�شعار وم��واوي��ل يتغنى بها منا�شد ًا انتباه احلبيبة عن بعد، راف��ع�� ًا ر�أ���س��ه يف ع��ز وك��رام��ة ،وم��ن �أ�شهر �أغنيات غزل الفالحني يف الرتاث البحريني. مريت بهل الهوى ب�شجارهم يجنون ابيدي �أبجني مثل ما يجنون قالو �أ َكف�ض ايدك عا َكل لو جمنون والع�شق يبغي لطافه ما يريد اجنون مريت بجويره تغ�سل امباي لومي و َكلت يجويره حل الوعد َكومي مريت بجويرهتغ�سل مباي اليا�س و َكلت يجويره حل الوعد ال با�س مريت بجويره تغ�سل مباي �صابون و َكلت يجويره حل الوعد باقوم مريت بجويره تغ�سل مباي عي�شي و َكلت يجويره حل الوعد عي�شي مريت بجويره تغ�سل اليها هدوم و َكلت يجويره حل الوعد هاليوم مرت وال �سلمت يا نا�س حمكمها لولو وزمرد امر�صع فو بخنـ َكـها هديت طريي مع الغزالن يلـ َكـاها َ ي�شفي غليل ال�صبا من حتت بخنكـها طريي خطاها و طري النذل وافكها
غزل الرعاة
وكرث ما حتمل اخل�شبان هيل وجوز و�صويحبي ما بغاين وي�ش �أ�سوي فيه ال هو بغاين والنيـادره ان�سيه وحبيبي زود البطيخ من لبه حبيبي راح لكني �أنا �أحبه يا ليتني واحلبيب يف ب�ستان واخلوخ والرمان ب�أيادينا يا ليتني وحبيبي فوفرا�ش وزوليه �أم الفني تغطينا وملعون �أبو من جا يوعينا يل �صوحنب يف املعلم كنت �أنا وياه
جارت عليه الأعادي واحرموين �إياه جعل اللي حرمني ولفي ينحرم دنياه ويطيح وجعان وعندي ينعتون دواه ال انعت وال �أداوي و�أقول الرب ال �شافاه
غزل الفالحني
�أنعم اهلل على البحرين مبياه عذبة تتدفق من عيون تنت�شر يف املدن والقرى لت�سقي �أر�ض ًا خ�صبة تنمو فيها لتطال ال�سماء نخالت با�سقات وف��واك��ه لذيدة وخ�����ض��راوات يانعة اخل�ضرة يرعاها فالح كادح ال يكل وال ميل
ول��ل��رع��اة �أ���س��ل��وب��ه��م اخل���ا����ص يف ال��ت��غ��زل باحلبيبة ،نابع م��ن بيئتهم وم��ن الطبيعة التي يعي�شون ويعملون فيها حيث تتجلى تلك املفردات لتمنح �شعرهم ميزاته الرئي�سة، وم���ن �أ���ش��ه��ر م��ق��ط��وع��ات غ���زل ال��رع��اة يف البحرين: باهلل عليكم اخذوين عندكم ج ّمال اراعي جميالتكم وا�شرب حليب جمال لو �سايلوكم و َكـالوا امنني هاجلمال ُكولوا جتيل الهوى عاي�ش بليا مال با هلل عليكم اخذوين عندكم راعي اراعي جميالتكم وا�ضرب امبـ َكراعي لو �سايلوكم و َكالو امنني هالراعي ُكولوا جتيل الهوى عاي�ش بال راعي
مواويل الغو�ص
�إن �أ���ص��ع��ب م��ا مي��ر ب��ه الإن�����س��ان ه��و ف��راق الأحبة ،ومهنة الغو�ص كانت تفرق الرجال ع��ن �أمهاتهم و�آب��ائ��ه��م ون�سائهم وبناتهم و�أحبتهم ،وهذا ما يرتدد يف �أغاين الن�سوة خماطبني البحر: توب توب يا بحر �شهرين والثالث دخل ... وهذا يو�ضح الفرتة التي يعاين منها الأحبة ف���راق احل��ب��ي��ب ،فهم يف �أ���ش��د احل��اج��ة ملن يوا�سي وح�شة فراقهم مبواويل و�أغاين ين�شدها «النهام» ب�صوته ال�شجي وهم يف عر�ض البحر ي�صارعون الأمواج بع�ضالت مفتولة و�سواعد قوية وقلوب تخفق باحلب واحلنني للأر�ض ور�ؤية احلبيب بعد فراق �صعب: يا من بح�سنه حم�سا�صي احل�شا وا َكفى واطفي لهيب القلب عقب املال و ا َكفى يا �سعد من �ساق حمل امزمله و ا َكفى ا َكفت ا�ضعوين و مهجة خاطري �شالهن مديت ايدي ام�سلم له بعد �شالهن وا�شوف حظي على ذاك احلبيب ا َكفى
تمتاز كلمات «لمراداة» بالغزل العفيف الخاص بالحبيب أو الزوج الذي فارق في رحلة الغوص يا زين لو�صاف ج�سمي من �صدودك عود كلما ي�صد القلب روحي ت َكله عود يل �صاحب َكط حمد َكال به لوال ال ولذي باملهد جربيل �إله لوال لو ما يـ ُكولون وا�سمع باحلجي لوال ﭽنت احـﭽـي اوياك لكن بزبيبه عود يا نوخده يوم االثنني الع�صر فاتني ما �سرت بالليل �ساري للذي فاتني طاوعت اجيلك �أو خليت الذي فاتني رعبوبه الم�شت تاطي على روحي
للرعاة أسلوبهم في التغزل بالحبيبة النابع من بيئتهم ومن الطبيعة التي يعيشون ويعملون فيها
زينة طبايع ح�سني الدل والروحي ودي �أعاين خياله لو غدت روحي �ضليت مغبون ما �شفت الذي فاتني �شوكـي مطايا من ف َكد احلبيب �إحتن والروح مني كرعد العا�صفات �إحتن لمّ ن �سمعت احلمام الفاختات �إحتن �صفـ َكت راحات وجدي من �صروف الهوى مركب غرامي مت�شكل يف غبيب وهوى مع ذا والأمواج والرياح �إحتن
غزل الأعرا�س
الأعرا�س جتم ُع بني حبيبني فرتتفع الزغاريد والأغاين على نغمات �صفقات الأكف ودقات الأرج��ل التي حتمل �أج�ساد ًا تتلوى بر�شاقة راق�صة متجاوبة مع كلمات الأغاين املعربة عن فرحة التالقي .ومن �أ�شهر مقاطع الغزل التي ترتدد يف �أعرا�س البحرين: طل و�شوف على اخليل ميدانه طل و�شوف كل منظره رمانه طل و�شوف ياملعر�س اللي جانا طل و�شوف عرو�سه لو �سلطانه
ألسنة عربية 80 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
طل و�شوف حوريه لو ريحانه طل و�شوف اقما�شه لومرجانه طل و�شوف ح�صباه وال دانه طل و�شوف �شم�س وقم ويانار طل و�شوف حبيبتك فرحانه طل و�شوف حلوة العمر فتانه طل و�شوف خجالنه لو نع�سانه طل و�شوف معر�س وتوىجانا طل و�شوف بيت الليله اويانا طل و�شوف من ت�ستقر بحذانا طل و�شوف �أبد فال تن�سانا
المراداة نوع من الغناء خاص بالنساء يؤدينه في المناسبات السارة كالعيدين والزواج وعودة األحباب بعد غياب
جل جالل اهلل واهلل واكربي ما يف جمال اخللق �شرواك يا علي
ومب��ا �أن �أغ���اين اجل��ل��وات ع��دي��دة ومتنوعة �سنكتفي باختيار بع�ض اجللوات التي يتمثل الغزل يف �أبياتها: طاير على الأغ�صان نازل بديه هّ وى حبيب الروح مكتوب عليه وات�سحجت من ع�صر وارمت ابروحها عليه عن ناظري ما غاب هو �سلوة الأحباب واتعجفت من ع�صر وارمت ابروحها عليه �شهر الع�سل وياه بنطري �سويه واتخ�ضبت من ع�صر وارمت ابروحها عليه يا ربي يا معبود تعطف عليه واديرمت من ع�صر وارمت ابروحها عليه بجاه النبي املختار خري الربيه على امليمر وعلى امليمر العني �سوده والوجه وامتكيجت من ع�صر وارمت ابروحها عليه جتعلها يا موالي عي�شه هنيه يطوير احلمام قب احمر يطوير احلمام ال ت�ضربني باملـ�شمر وانا ابنيه واتقـ�شمـر غزل اجللوات وه��ي خم��ت��ارات من الأغ���اين التي تغنى يف ع�سى اللي ياخذ املحبوب ال ت�ضربـني بالـدفـه ترى الـدنيا متعلفـه الأع��را���س واال���س��م م�شتق من كونها تُ�ستهل عينه ما تنام ال ت�ضربـني بامللـفع وانا ابنيـه وابدلـع ال ت�ضربني بعقالك وانا ابنيه و بت خالك ع��ادة بقول :جل ج�لال اهلل ،وهناك �أغنية حط ايده على امل�سند تكون بدايتها: و َكالت �شيل ايدك يا �سي�سبان احللو قلبي حنون عليه
ﭽـيف ا�شيل ايدي حط ايده على التكيه حط ايده على الـ َك�صه حط ايده على ال�شبكه حط ايده على انكل�س حط ايده على خدها حط ايده على اخلد حط ايده على النهد ﭼيف ا�شيل ايدي
وانا اطم�ش وانام ايدك الجلوات أغان تغنى في و َكالت �شيل و َكالت �شيل ايدك األعراس واسمها مشتق و َكالت �شيل ايك من كونها تبدأ بجملة و َكالت �شيل ايدك جل جالل اهلل
و َكـالت �شيل ايدك و َكـالت �شيل ايدك و َكـالت �شيل ايدك وانا اتخري وانام
الغزل يف �أغاين ملراداة
مل��راداة فن غنائي و�صل للبحرين من بدو وادي ال��دوا���س��ر ،ومناطق �أخ���رى م��ن �شبه اجل��زي��رة العربية ،وه��ذا ال��ن��وع م��ن الغناء خا�ص بالن�ساء ت�ؤديه يف املنا�سبات ال�سارة، العيدين و�أفراح الزواج وعودة احلجاج بعد غياب ي�صل لعدة �أ�شهر. ويف ع��ودة الغوا�صني بعد ثالثة �أ�شهر من ف��راق الأحبة خري �سبب لرتاق�ص الفتيات
والن�سوة يف «رق�صة املراداة» والتي تتم على �شكل جمموعتني متقابلتني ت��ف��رق بينهما م�سافة ت��ق��ارب ال��ث�لاث��ة �أم��ت��ار وك���ل �صف يقف كتفا لكتف ومت�شابكات �أ�صابع اليدين مرددات �أغنية وهن يتجهن ملوقف املجموعة الأخرى ومن ثم يعدن �إىل مكانهن. وتتجاوب معهن املجموعة الأخرى متجهات لهن مرددات �أبيات ًا من نف�س الوزن. مت��ت��از ك��ل��م��ات «مل������راداة» ب��ال��غ��زل العفيف اخلا�ص باحلبيب �أو ال��زوج ال��ذي ف��ارق يف رحلة الغو�ص ،ومن �أ�شهرها. جدفوها على ال�سيف �أم احلنايــا
جدفوها على ال�سيف جتر املجاديف كلها �صبيان جتر املجاديف ال ت�صلب عليهم يا نـوخداهــم ال ت�صلب عليهم وال تغ�ضب عليهم ترى البحـر بارد وال تغ�ضب عليهم ويف الربد داوي يا ليني وياه ويف الربد داوي ي�شرب قهاوي يرعى ح�شي�ش الرب وي�شرب قهاوي يف و�سط جله يا ليتني وياه �شتاه وكي�ضه
82 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
جماليات
فكر التوحش ذهبنا
معجب الزهراين
يف مقال �سابق �إىل �أن مفهوم الرتاث يف املتداول م��ن خ�ط��اب�ن��ا امل �ع��ريف ال ي�غ�ط��ي م��ن احل �ق��ل غري القليل .كما بينا دالل��ة املفارقة التي تنك�شف للوعي النقدي مبجرد �أن يعاين مدى غنى التجارب اجلمالية يف الواقع املعي�ش وفقر ذلك املفهوم املختزل يف املدونات اللغوية «خا�صة الأدبية والدينية». ولقد تطرقت �إىل املو�ضوع ب�شكل �أك�ثر تف�صي ًال يف منا�سبة عابرة منذ �أ�سبوعني :تويف �أح��د الأ�صدقاء الذين عنوا بجمع ال�تراث ال�شعبي يف منطقة الباحة – فيما بني الطائف و�أبها – فنظمت جمعية الثقافة والفنون ونادي الباحة الأدبي حفلتي ت�أبني للباحث الرائد .ولأنه ترك لنا خم�سة جملدات عن الأدب ال�شعبي ،ال�شعر واحلكم والأم �ث��ال ،ف�ض ًال عن كتابات رائ��دة تتعلق بجغرافية امل�ك��ان و�سكانه وع��ادات�ه��م .ولأن �ن��ي ف�ضلت احل��دي��ث ع��ن منجزاته الأدب �ي��ة فقد نوهت بها وثمنت جهود الباحث الذي مل يكن متخ�ص�ص ًا يف هذا املجال ،ومع ذلك دفعه حبه للأر�ض ووعيه به�شا�شة الثقافات ال�شعبية لإجناز ما ي�شبه امل�شروع الثقايف . لكني تطرقت �أي�ضا �إىل حاجتنا �إىل ا�ستكمال جهود ه ��ؤالء
انهيار الثقافة التقليدية المحلية مع تراجع العمل الفالحي لصالح العمل الوظيفي والتجاري صاحبه سيطرة تدريجية قوية لخطاب إيديولوجي يُكرّه الناس في الفنون ،وقد يحرّم االنشغال بها ،ويجرّم من يمارسها بكل بساطة!
جماليات إلى أي مدى يمكننا الحديث عن جدية الجهود التي تستهدف حفظ التراث ونشره وتفعيله كعنصر ملهم للمبدعين والمبدعات ونحن نهمل أجمل فروعه ونتنكر ألكثر عناصره قربا من اإلبداع؟ ال��رواد الهواة ،لأن ال�تراث ال�شعبي هنا -ويف كل مكان -يجب �أن ي�شمل فنون الغناء واملو�سيقى والرق�صات ال�شعبية وبع�ض الأ�شكال الدرامية ،ف�ض ًال عن فنون النق�ش والزخرفة الغنية جد ًا يف هذه املنطقة الريفية التي ت�سكنها جماعات م�ستقرة ال تزال تعرف ب�أ�سمائها منذ ما قبل الإ�سالم . الغريب يف الأمر �أن مداخلتي يف حفلة الت�أبني هذه بدت مفاجئة للبع�ض و�صادمة لبع�ض �آخر .ولي�س ال�سبب يف ذلك �أن الذائقة اجلمالية العربية تف�ضل -قدمي ًا وحديث ًا -الفنون اللغوية وتعلي من �ش�أنها .فانهيار الثقافة التقليدية املحلية مع تراجع العمل الفالحي ل�صالح العمل الوظيفي والتجاري �صاحبه �سيطرة تدريجية قوية خلطاب �إيديولوجي ُيك ّره النا�س يف الفنون ،وقد يحرم االن�شغال بها ،ويجرم من ميار�سها بكل ب�ساطة! .ك�أن الإن�سان مطالب مبحو ال�شق الأجمل من ذاكرته اجلمالية التي ظلت حية ن�شطة �إىل قبل عقود قليلة . بل �إن باحث ًا مثلي ي�ؤمن ب�أن احلداثة هي رهان العامل وم�ستقبل الإن�سان ال جمرد مو�ضة �أو تيار �أدب��ي فكري ،مل يعد ي�ستطيع �أن يطرح ق�ضايا من ه��ذا النوع �إال �إ��ش��ارة ورم��ز ًا .فلي�س من ال�سهل �أن يقال يف م�ؤ�س�سة ر�سمية ومقام عام �أن امل��ر�أة كانت ت�شارك بقوة يف �إنتاج وتلقي الفنون ال�شعرية ،وهناك �أ�سماء �شاعرات كبريات معروفات ال جند لهن ن�ص ًا واحد ًا من�شور ًا يف هذه املو�سوعة �أو يف غريها .
�أما التذكري ب�أن هذه ال�شعرية ال تنف�صل يف �أي ثقافة �شعبية عن فنون الغناء والرق�ص ،و�أن بع�ض الرق�صات كانت ت�ؤدى من قبل الرجال والن�ساء كاللعب وامل�سحباين واخلطوة واخلبيتي وال�سامري ،فالأمر �أ�شبه ما يكون بف�ضيحة ال تطاق حتى من قبل النخب الثقافية ذاتها؛ فالنا�س قد متثلوا �أف�ك��ار ًا وقيم ًا جديدة حتط من �ش�أن الفنون ،ومتنع منع ًا �صريح ًا �أي خطاب معريف يذكر النا�س باحلقائق الب�سيطة التي مل يكن اجليل الأول يتحرج من التعبري عنها قو ًال وممار�سة . ولعل اجلانب الأكرث خطورة يف امل�س�ألة �أن هذه الظاهرة �أ�صبحت قائمة ملمو�سة يف جمتمعات اجلزيرة العربية ،ويف غالبية الدول العربية الأخ ��رى .م��ن هنا ينطرح ��س��ؤال �إ�شكايل ال ي�ستطيع الباحثون ،وال الو�سط الفني �إغفاله �أو ح�سمه� :إىل �أي مدى ميكننا احلديث عن جدية اجلهود التي ت�ستهدف حفظ الرتاث ون�شره وتفعيله كعن�صر ملهم للمبدعني واملبدعات ونحن نهمل �أجمل فروعه ونتنكر لأكرث عنا�صره قربا من الإبداع ؟ كتبت من قبل و�ضمن درا�سات �أدبية وفكرية متنوعة عن «فكر التوح�ش» ،و�أعني به هذه الت�صورات املغلوطة والقيم املزيفة التي تنفي امل��ر�أة م��ن ع��امل الإن���س��ان �أو حتقرها ذات � ًا وعم ًال. و�إذا كنت قد ع��دت �إىل الق�ضية ذاتها هنا ،فما ذل��ك �إال لأن فكر التوح�ش ال يعمل على ع��زل امل��ر�أة ومراقبة ح�ضورها يف املجال العام �إال ويختل توازن املجتمع وت�ضمر الفنون االحتفالية اجلماعية الأكرث عفوية و�سوية. نعم� ،شجرة الفنون ال ت�سهر قرب الإن�سان ،كما كتب �أدوني�س ذات يوم ،بل هي تنمو فيه كجزء �أ�صيل من كيانه الوجودي ذاته. وكم هو بائ�س وقبيح املجتمع الذي ُيع ّلم �أبناءه وبناته كراهية تراثه الأ�صيل من الفنون اجلميلة ويغريهم باملزيد من ثقافات اجلفاف والعنف
دراسة 84 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ب�سبب �أزمة التعليم والبحث العلمي
العرب في حاجة إلىاالستشراق د .مفيد الزيدي
�أ�ستاذ التاريخ العربي -جامعة بغداد
ميثل اال�ست�شراق �أحد جوانب املعرفة الفكرية للإن�سان العربي والإ�سالمي من جهة �أنه ي�سعى لإعادة متثيل و�صياغة القيم واملفاهيم والأفكار املرتبطة بكل جوانب املا�ضي واحلا�ضر العربي والإ�سالمي وفق منظور غربي ،وحماولة تر�سيخ الر�ؤى الغربية هذه جلعلها املنظور احلقيقي للتاريخ العربي والإ�سالمي ،وجتاهل �أية ر�ؤى �أخرى عربية �أكادميية �أو غري �أكادميية تخالف الت�صور اال�ست�شراقي عن التاريخ العربي والإ�سالمي.
�إدوارد �سعيد
واحتلت درا��س��ة التاريخ العربي والإ�سالمي �أه�م�ي��ة متميزة يف ب�ل�اد ال �غ��رب ،فظهرت ترجمة التينية للقر�آن الكرمي عام 1143م، ثم تبعتها الدرا�سات اجل��ادة للغة العربية يف �أملانيا خا�صة ،ثم العالقات بني الدول الأوروبية والإ�سالم و�أثرها يف االهتمام باللغة العربية يف هولندا يف القرن ال�سابع ع�شر ،وبعد قيام ال�ث��ورة الفرن�سية ع��ام 1789م �أخ��ذ احلكم على الإ�سالم يتبدل تدريجي ًا واحتلت فرن�سا ال�صدارة يف الدرا�سات العربية والإ�سالمية،
خالل حميطه وحماولة فهمه بخ�صو�صيات انتماءاته التاريخية. وقد اختلف امل�ؤرخون حول اجلذور التاريخية لال�ست�شراق ،هل بد�أ على �أيدي طالب العلم الذين ج��اءوا �إىل ب�لاد الأندل�س ونهلوا من معرفتها ونقلوها �إىل �أوروبا منذ القرن الثامن امل �ي�لادي� ،أم �أن البداية منذ عهد بيزنطة التي قهرها العرب وامل�سلمون وانتزعوا منها الأرا� �ض��ي الوا�سعة يف ب�لاد ال���ش��ام وم�صر واملغرب العربي� ،أم وليدة احلروب ال�صليبية واالحتكاك املبا�شر بني �شعوب غرب �أوروب��ا �ألربت حوراين وال �ع��رب ع�بر البحر الأب�ي����ض املتو�سط� ،أم �أن�ه��ا نتيجة البعثات التب�شريية التي نقلها وعرف القرن التا�سع ع�شر يف حقل اال�ست�شراق الدومنيكان والفرن�سي�سكان والي�سوعيني �إىل ً دورا للنقد التاريخي يف نتاجاته ،وتبعه البحث بالد ال�شرق ،واحلقيقة �أن كل هذه العوامل االجتماعي يف الدرا�سات اال�ست�شراقية من �أ�سهمت يف احلركة اال�ست�شراقية. وظهر مفهوم اال�ست�شراق �أول م��رة كلفظة بقدر تنوع الصالت ب��االن�ك�ل �ي��زي��ة يف ع ��ام 1779م ،ث��م تبعها بالفرن�سية قبل تبني الأكادميية الفرن�سية لكلمة والموقف من الغرب ً «ا�ست�شراق» عام 1838م ،علما �أن امل�ست�شرقني تنوعت المدارس القدامى واك�ب��وا ع�صر احل��روب ال�صليبية االستشراقية والمناهج واهتموا بالقر�آن وترجمات الإجنيل �إىل اللغة التي تتباين في العربية� .أما الأكادمييون الكال�سيكيون فقد اتجاهاتها ونقدها
لالستشراق
اال�ست�رشاق يف الفن ..عرو�س ب�سكرة -فيليب بايف1889 ،
اهتموا بدرا�سة وتعمق الأدب العربي القدمي وحتقيق املخطوطات العربية ال �ن��ادرة� ،أما امل�ست�شرقون املحدثون فاهتموا �إىل جانب درا�ساتهم الأدبية والإ�سالمية بتقدمي الأدلة العلمية عن النزعة الكونيالية .واال�ست�شراق يف واق��ع احل��ال هو �شكل من �أ�شكال الهيمنة الأوروب�ي��ة على ال�شرق �أك�ثر مما هو �أ�سلوب علمي ،و�إن ع�صب اال�ست�شراق هو �سيا�سي ومن املمكن معرفته بدرا�سة الغرب ال ال�شرق لأنه م�صدره ،و�إن امل�ست�شرقني والرحالة كانوا على �صلة وثيقة يف انتمائهم �إىل االمرباطورية الكولونيالية ،فاال�ست�شراق �أ�سا�س ًا هو التوا�صل بني باحثني وجمموعة م�صالح ثم حتول �إىل �سلطة متار�س نف�سها على �شرق حولته �إىل جمرد مو�ضوع ،وعلى م�ست�شرقني مرتبطني مب�ؤ�س�ساتها و�أهدافها ،وعلى املتلقي الأوروبي الذي يتعامل مع نتاجها ،بحيث فر�ضت �صورة واح��دة عن ال�شرق وحاربت لتثبيتها و�إرغ��ام ذلك املتلقي على قبولها. ثم �إن اال�ست�شراق مظهر من مظاهر �صلة الغرب بال�شرق ،وهو بدوره نتاج لهذه ال�صلة، وب�ق��در اخ�ت�لاف ال�صالت وتنوعها اختلف اهتمام امل�ست�شرقني بال�شرق �سواء باختيار املو�ضوعات املدرو�سة �أو طبيعة معاجلتها .ثم
ه�شام جعيط
عماد الدين خليل
�إن هناك ق�ضية �أخرى تتعلق بـ«اال�ستغراب»، وذلك لكون امل�ست�شرقني لديهم �أكرث من دافع ي�سوغ موقفهم من تاريخ العرب والإ��س�لام، �أم ��ا « امل�ستغربون» فهم الباحثون العرب وامل���س�ل�م��ون ال��ذي��ن ق �ل��دوا امل�ست�شرقني يف �آرائهم وتف�سرياتهم و�ساروا على طرائقهم، بل و�أ�صروا عليها بعد �أن تركها امل�ست�شرقون �أنف�سهم وباتت قدمية �أو معدلة يف الدوائر التاريخية اال�ست�شراقية نف�سها. من جهة �أخ��رى ف ��إن �أ�شهر املهتمني العرب
باال�ست�شراق الذين �أثبتوا وجودهم يف البحث اال�ست�شراقي هم عبدالعزيز ال��دوري و�صالح �أحمد العلي و�أح�م��د عبدالرحيم م�صطفى وعبداللطيف الطيباوي ومالك بن نبي وه�شام جعيط و�أنورعبدامللك وعرفان عبداحلميد وع �م��اد ال��دي��ن خ�ل�ي��ل وف � ��اروق ع�م��ر ف��وزي وعبداجلبار ناجي ،ومنهم �أي�ض ًا من ا�ستوطن �أوروب��ا ،و�أ�سهم يف تطور الدرا�سات العربية والإ�سالمية وتوجيهها علمي ًا ومو�ضوعي ًا، �أمثال جورج مقد�سي والربت حوراين وكمال
دراسة 86 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
اال�ست�رشاق يف الفن ..الدراوي�ش الدوارون -جان ليون جريوم
�أبوديب وطريف ووليد اخل��ال��دي وحم�سن مهدي ونبيه عبود وه�شام �شرابي حليم بركات وحممد �أرك ��ون ،حيث �أ�سهموا يف زح��زح��ة ال�صورة التقليدية لال�ست�شراق النابعة من التب�شري .ولكن احلاجة تبقى يف تطوير مناهج البحث العلمي وجت��اوز النظرة ال�ضيقة لتقدمي الأعمال التي تعرب عن �أ�صالتها وانتمائها للح�ضارة العربية والإ�سالمية.
اال�ست�شراق واملفهوم
اال�ست�شراق هو مظهر من مظاهر �صلة الغرب بال�شرق بال �شك ،وهو نتاج طبيعي لهذه ال�صلة ،لذلك ف�إن التنوع بني �صالت ال�شرق بالغرب فر�ض تنوع ًا يف اجتاهات اال��س�ت���ش��راق ع�بر امل��راح��ل ال�ت��اري�خ�ي��ة، وخا�صة يف القرن الع�شرين والعقد الأول م��ن ال �ق��رن احل ��ادي وال�ع���ش��ري��ن ،فظهر هناك ا�ست�شراق �سيا�سي يعرب عن م�صالح الغرب ال�سيا�سية الكولونيالية ،وا�ست�شراق ديني يرتجم دواف��ع التب�شري ،وا�ست�شراق �أدب ��ي ي�ستلهم فيه بع�ض الأدب� ��اء �سحر
ال�شرق وغرائبيته ،وا�ست�شراق �أكادميي جعل املعرفة همه الأ�سا�سي ،ولذلك �أية حماولة من لدن امل�ؤرخني لنقد اال�ست�شراق ودرا� �س �ت��ه العلمية الب��د �أن ت ��أخ��ذ بعني االعتبار هذه احلقائق. والب ��د م��ن االع �ت�راف ب� ��أن ج�ه��ل ال�ع��رب وامل�سلمني ب�أو�ضاع جمتمعاتهم ،وابتعادهم عن معرفة العلل ال�سيا�سية ،وان�صرافهم ع��ن ال��درا� �س��ات العلمية ل�ل��واق��ع العربي والإ�سالمي جتعل اال�ست�شراق ينمو ويزداد �أتباعه ومنا�صروه وقرا�ؤه يف ال�شرق العربي والإ�سالمي كما يف الغرب �أي�ض ًا. وامل�س�ألة الأخرى �أنه عند درا�سة اال�ست�شراق
جيل المهتمين باالستشراق المعاصر مختلف عن نخبة المستشرقين الرواد.. فهم ال يعرفون غير اللغات األوروبية الحديثة وال تهمهم كثير ًا معرفة اللغة العربية أو اللغات الشرقية األخرى
بر�ؤية تاريخية البد من �إدراك �أن املوقف من الغرب قد خلق �أمناط ًا متباينة من نقد اال�ست�شراق ،و�أن املوقف من اال�ست�شراق بواقع احل��ال هو ال��ذي يحدد املوقف من �صاحب اال�ست�شراق ،ونق�صد به الغرب وم�ست�شرقيه .لذلك فبقدر تنوع ال�صالت وامل��وق��ف م��ن ال �غ��رب ت �ن��وع��ت امل��دار���س اال�ست�شراقية وامل�ن��اه��ج ال�ت��ي تتباين يف اجتاهاتها ونقدها لال�ست�شراق ،ويبدو �أن ال�سري وف��ق ه��ذا املنهج �أو ذاك �أم��ر اليحدده الهدف �أو الغاية من العمل بقدر ما يحدده انتماء �أ�صحابه لهذا االجت��اه �أو �سواه ،وبهذا ف�إن امل�ؤرخ العربي املهتم باال�ست�شراق يجب عليه يف كل الأحوال �أن ال يبتعد عن الثوابت الإ�سالمية واحلقائق التاريخية يف احل�ضارة والتاريخ العربي الإ��س�لام��ي ،مهما جذبته امل��ادة الفكرية يف الدرا�سات الغربية ور�ؤى امل�ست�شرقني، لكي ال يذهب بعيد ًا وراء �أفكار وحتليالت لآخرين لهم قناعاتهم الذاتية ومزاجهم ال�سيا�سي وميولهم الأدبية والفكرية والتي ال تتفق يف غ��ال��ب الأح �ي��ان م��ع احلقيقة التاريخية التي ال ميكن تغيريها ح�سب
ر�ضوان ال�سيد
الأمزجة والأغرا�ض ال�سيا�سية. ويرى الأكادميي املغربي عبداالله بلقزيز �أن اال��س�ت���ش��راق ال �ي��وم ه��و يف ح��ال من االن�سداد ،كتب عنه مفكرون عرب �أمثال عبد العزيز ال��دوري و�صالح �أحمد العلي وعبداهلل العروي و أ�ن��ور عبدامللك وه�شام جعيط وادورد �سعيد وحليم بركات وه�شام �شرابي ،وا�ستمر ر�ضوان ال�سيد وبن�سامل حمي�ش وف��اروق عمر ف��وزي وعبداجلبار ن��اج��ي وع �ب��دال �ن �ب��ي ا� �ص �ط �ي��ف وج��زي��ل عبداجلبار اجلومرد ونا�صر عبدالرزاق املال جا�سم ،و آ�خ��رون ،من منطلق �إدراك الثقافة العربية الإ�سالمية لرتاجع �صلة الفكر الغربي بها ،مع وجود �أعداد كبرية من الباحثني يف ق�ضايا الأ�صولية ،وال�شرق �أو� �س �ط �ي��ة يف ج��ام �ع��ات وم��راك��ز ب�ح��وث �أمريكية و�أوروبية ،و�إن كتاباتهم هي على اختالف مع اال�ست�شراق يف عهد قمته على �أي��دي النخب اال�ست�شراقية التي ظهرت منذ الن�صف ال�ث��اين م��ن ال�ق��رن التا�سع ع�شر ،والن�صف الأول من القرن الع�شرين وال �ت��ي ل�ه��ا م�ع��رف��ة ر�صينة باملجتمعات الأخرى. فجيل املهتمني ب��اال��س�ت���ش��راق املعا�صر خمتلف ع��ن نخبة امل�ست�شرقني ال��رواد، ف�ه��م ال ي�ع��رف��ون غ�ير ال�ل�غ��ات الأوروب��ي��ة احلديثة ،وال تهمهم كثري ًا معرفة اللغة العربية �أو اللغات ال�شرقية الأخرى ،لأنهم ي�سوغون ذل��ك بكونهم يبحثون يف علم االجتماع الديني وال�سيا�سي وال عالقة لهم
�صالح �أحمد العلي
حم�سن مهدي
كمال �أبوديب
بن�سامل حمي�ش
بالن�صو�ص العربية القدمية �أو احلديثة، واهتموا بالأ�سا�س مبناهج جديدة و�أفكار خمتلفة وت��دور كتاباتهم ح��ول الظواهر الإ� �س�لام �ي��ة امل �ع��ا� �ص��رة ،ف �ه��م ي�ع�م�ل��ون م�ست�شارين لدى حكوماتهم على العك�س
من امل�ست�شرقني الأوائ��ل الذين مل يعملوا خلدمة ال��دول��ة ،ب��ل عملوا الهتماماتهم التقليدية البعيدة عن امل�شكالت املعا�صرة يف اجلانب العربي والإ�سالمي .وبهذا يبدو م�سرح ًا جديد ًا يف عامل اال�ست�شراق ،بعيد ًا ع��ن امل�ست�شرقني الأوائ ��ل ،ي�شكله ه ��ؤالء امل�ست�شرقون اجل��دد ،و�إن العرب الزال��وا يف واق��ع احل��ال بحاجة �إىل اال�ست�شراق وك �ت��اب��ات امل�ست�شرقني ع�ل��ى ال��رغ��م من كل املالحظات والنقد الذي يوجه �إليها، وال�سبب يف ذل��ك �أزم��ة املناهج والتعليم وال �ب �ح��ث ال�ع�ل�م��ي ال �ع��رب��ي ،ل��ذل��ك تبقى احلاجة لال�ست�شراق ودرا�سته ،ولكن بروح علمية وحم��اي��دة ون �ظ��رة �أك��ادمي �ي��ة تعرف ماذا ت�أخذ وماذا تهمل من تلك الكتابات اال�ست�شراقية
المؤرخ العربي المهتم باالستشراق عليه أن ال يبتعد عن الثوابت اإلسالمية والحقائق التاريخية في الحضارة والتاريخ العربي اإلسالمي مهما جذبته المادة الفكرية في الدراسات الغربية ورؤى المستشرقين
نافذة على التراث 88 الـعــــدد 156 �أ كتو بر 2012
الذاكرة
سناء موسى..
غ��ن��اء يرسم وطن ًا
�أمين بكر
ال� �ث� �ق���اف� �ي���ة ،ال� �ت� ��راث، الفولكلور ،املوروث ال�شعبي كلها م�صطلحات ت�شري من جوانب خمتلفة �إىل م�ساحة يف الوعي ميكن �أن تتعرف فيها الذات وتتبلور من خاللها الهوية .والوجود الفل�سطيني حت��دي��دا يحتاج امل��زي��د م��ن ا�ستك�شاف تلك امل�ساحة ،وذل��ك باالمتداد يف الزمن و�إع��ادة بناء الرتاث ب�صورة متعمدة ،مق�صودة ،واعية بذاتها بو�صفها عن�صر مقاومة وبقاء. يف هذا الإطار يلعب احلفاظ على ذاكرة الغناء الفولكلوري الفل�سطيني دورا مهما؛ �إذ يقوم برتميم ال��ذاك��رة رمزيا ،و�إم��داده��ا بالدماء الالزمة ملزيد من عمليات البناء ال�شاقة يف ظل حم��اوالت �أيديولوجية مكثفة للت�شوي�ش عليها .لكن كيف ميكن �أن يظهر اجلهد ال�سابق يف العمل الفني؟ ميكن �إعطاء من��وذج لذلك ب�أعمال الفنانة الفل�سطينية �سناء مو�سى التي تقوم ب��دور وا��ض��ح يف نب�ش ال��ذاك��رة الفنية وترميمها ونفخ الروح فيها. ��س�ن��اء م��و��س��ى ه��ي االب �ن��ة ال �ك�برى للفنان الفل�سطيني على مو�سى ،در�ست املو�سيقى �إىل جانب ح�صولها على درجة الدكتوراه يف جمال علمي يت�صل ب�أبحاث املخ ،و�أ�صدرت �ألبومها الأول «�إ��ش��راق» عام .2010كما �أنها طافت ب�أغنياتها �أرجاء الأر�ض �شرقا وغربا. تركز �سناء يف غنائها على ال�تراث الغنائي عموما والفل�سطيني خا�صة .ويظهر همها الأ�سا�سي يف �إعادة �إحياء الفولكلور الفل�سطيني ب ��ر�ؤى مو�سيقية حديثة ،تتنا�سب م��ع روع��ة هذا الرتاث عمقا وقدرة على حتديد مالمح ال�شخ�صية القومية� .إن�ه��ا تقوم با�ستدعاء خمزون تراثي رمزي ،يحيي وعيا �آمنا بالهوية. وير�سم حدودا للوطن يف ذاكرة الأمة التي مل تفلح يف مللمة �شتات نف�سها على �أر�ض الواقع. �س�أقف هنا عند �إحدى �أغنيات �سناء التي حتيي مادة تراثية بر�ؤية جديدة ،وهي �أغنية «جنمة ال�صبح» .وما �س�أحاول حتليله هو الهند�سة البنائية املده�شة للأغنية ،التي ت�ضيف بعدا دالليا جديدا للن�ص اللغوي الفولكلوري ،وهو ن�ص عادة ما كان يغنى يف حفالت الزواج. تقول كلمات الأغنية:
يا ها العري�س� ..سيم بالدك ما �أريناها يابدلتك ..من جبل عجلون قطعناها واتف�صلت بحلب ..واهتزت ال�شام ياجنمة ال�صبح فوق ال�شام عليتي االجواد �أخذتي ..واالنذال خليتي ندر علي ان عادوا احبابي عـ بيتي ال�ضوي امل�شاعل واحني االعتاب وككل الأغاين الفولكلورية تتغري كلماتها كلما دارت على الأل���س�ن��ة ،ف�يرى ال�شاعر �سعيد املحاميد �أن اجلملة الأخرية يف ال�سطر الثالث رمبا كانت «والدرزة بال�شام» �أي عملية احلياكة كانت بال�شام بعد �أن مت التف�صيل يف حلب، ولي�س اهتزت ال�شام .كما يرى الروائي عبد الرحمن احلالق �أن تعبري «�سيم بالدك»التي �أظنها تعني �سمة ب�لادك �أي ما مييزها �أو يعرفها ،ما هي �إال امتداد �صوتي ناجت عن تنوين كلمة العري�س فت�صبح «ياها العري�سن» بوجود ن��ون منطوقة يف �آخ��ر الكلمة ،وبهذا ت�صبح اجلملة «ياها العري�سن ب�لادك ما �أريناها». غري �أن ما يعنينا هنا ،كما ا�شرت ،هو حتليل بناء الأغنية الذي يلعب دورا مهما يف داللتها. هناك ثالثة م�ستويات من ال�صوت الإن�ساين يف �أغنية «جنمة ال�صبح» :الأول المر�أة عجوز ال ميكنك حتديد عمرها ،ليبدو �صوتها �آتيا من بعد �سحيق ممثال مطلق الزمن .كما تتج�سد ال�شروخ العميقة يف هذا ال�صوت ك�أيقونة ت�شري �إىل عمر الثقافة الفل�سطينية ال�ضارب يف عمق التاريخ� .صوت العجوز يبد�أ الغناء وحيدا كمن ينف�ض غبارا تراكم على وجه جمعد لكنه مل يزل حيا ،ال�صوت يبد�أ وحيدا وبال �أية مقدمات �أو م�صاحبات مو�سيقية ،وهو ما ي�سبب �صدمة �صغرية ملن ي�ستمع للمرة الأوىل متوقعا �صوت �سناء مو�سى ال���ش��اب�� ،ص��وت ال�ع�ج��وز يبد�أ جمهدا ينقطع �أك�ثر من مرة لق�صر نف�سها، لكنه يحمل �إ�صرارا غام�ضا على اال�ستمرار، وحني تبد�أ العجوز نف�سها الت�صفيق ،تن�ضم تدريجيا عجائز �أخريات بالت�صفيق �أوال ك�أمنا يتم بعثهن مرة �أخرى ع�ضوا ع�ضوا ،فيتلم�سن �أج�سادهن ويتعرفن على �أ�سمائهن ثم ي�شاركن بالغناء يف تلك الأيقونة ال�سحرية التي ت�شبه
آ�شوري قد ٍمي. جملة افتتاحية يف طق�س �إحياء � ٍّ مل تعد العجوز وحيدة ،لقد ان�ضمت �إليها �أخريات تلئم كل واحدة منهن ما انقطع يف �صوت الأخرى وت�سد ال�شروخ التي ظهرت يف ال�صوت املنفرد ،وك�أنهن ي�صنعن ب�أ�صواتهن امل��رت �ع �� �ش��ة ج �� �س��ورا ب�ي�ن م��ا� �ض��ي ال�ث�ق��اف��ة الفل�سطينية وحا�ضرها الآت��ي عرب امتداد ه��ذه الأ� �ص��وات يف ال��زم��ن ببعديه :املا�ضي وامل�ستقبل« .اخل�ت�ي��ارة» ورفيقاتها يتغنني جميعا باملقطع الأول من الكلمات ال�سابقة «يا ها العري�س� ..سيم بالدك ما �أريناها /يا بدلتك من جبل عجلون قطعناها /واتف�صلت بحلب /واهتزت ال�شام» مبا ميثل الالزمة الأ�سا�سية للأغنية ،والتي �سيلتقي عندها كل الأجيال كما �سيت�ضح. بعد انق�ضاء �صدمة امل�ستمع يبد�أ امل�ستوى الثاين متمثال يف �صوت ن�سائي جمعي يبدو �أكرث �شبابا من �صوت العجوز لكنه لي�س ب�شباب �صوت �سناء مو�سى الذي مل يظهر حتى الآن. �إنه �صوت ن�ساء �أربعينيات ،ك�أنه مرحلة و�سطى يف رحلة تاريخية طويلة لهذا الفولكلور .ين�ضم �صوت الن�ساء الأربعينيات �إىل �صوت العجائز متغنيات جميعا باملقطع نف�سه. لكن �صوت الن�سوة مل يعد وحيدا� ،إذ تبد�أ الإيقاعات مع �صوت الن�سوة الأربعينيات، ك ��أن عملية الإح�ي��اء الأ�سطورية تلك تتخذ بعدا �أكرث زخما وبهجة .تدخل �آالت الإيقاع و�آلة القانون لتنقل جميعا الإح�سا�س من حالة �إح�ي��اء موح�شة حمل عبئها منفردا �صوت العجوز ال��ذي ب��د�أ الأغنية/الطق�س� ،إىل ماي�شبه حالة العر�س التي وج��دت الأغنية بالأ�سا�س للتعبري عنها� ،إنها ت�أتي بالتاريخ هنا� ،أو ت�أخذنا �إل�ي��ه ،املهم �أن ال�ن��اجت هو وقوع ح�س املتلقي تدريجيا ،وب�صورة ال ميكن مقاومتها ،يف قلب فل�سطني :الرتاث الفني/ الذاكرة /الوطن الذي ال ميوت. امل�ستوى الثالث من ال�صوت ينفجر ك�شم�س ت�شرق فج�أة؛ �صوت �سناء مو�سى بكل ما فيه �شباب �أخاذ ،ي�أتي م�صحوبا من فتوة ورنني ٍ ب�ت��داخ��ل امل��زي��د م��ن الآالت املو�سيقية مع ال�غ�ن��اء حمققا ذروة احل��ال��ة االحتفالية
امل ��ر�أة� ،أو العرو�س ع�بر تاريخها ،ف��امل��ر�أة هي ال�صانع الأكرب للثقافة الفولكلورية وهي م�ستودعها وامل�سئولة عن نقلها من جيل �إىل جيل .لذلك ت�أتي عرائ�س الأم�س يف طق�س ي�ضاف لطق�س الإحياء ،حيث ت�سلم اجلدات «عرائ�س الأم�س» خمزون الثقافة للمطربة ال�شابة «عرو�س اليوم» ،وجميعهن يف حالة مناجاة ،ال تخلو من ظالل البكاء والنواح، لهذا العري�س الذي ال يعرف �أحد بالده ،لكنه يجد م�ستقرا يف تلك الأغنية /الوطن. تقوم �سناء مو�سى بغناء املقطع الثاين يف �صورة م��وال « ياجنمة ال�صبح ف��وق ال�شام عليتي /االجواد �أخذتي ..واالنذال خليتي/ ن��در علي ان ع ��ادوا اح�ب��اب��ي ع �ـ بيتي/ ال��ض��وي امل�شاعل واح�ن��ي االع�ت��اب» ث��م ي�ع��ود ��ص��وت العجائز اخلالد مت�صدرا امل�شهد لربهة ،ليلحق به �صوت �سناء م��رة �أخ ��رى ،خمتتمني جميعا الأغنية بتوافق بديع بني الرتاث واحلا�ضر بو�صفه الطريق املقرتح نحو امل�ستقبل. ولعل جممل �أعمال �سناء مو�سى ت�شري �إىل توجه ق�صدي عميق ،نحو تلك امل�ساحة احلرة متاما من الوعي ،املتمثلة يف الرتاث الغنائي ، الذي ميثل تربة خ�صبة ميكن �أن نخط عليها احلدود الأعمق لفل�سطني.
من القامو�س: املو�سيقى الفولكلورية Folk Music
املده�شة التي تتقطر منها ن�شوة ممزوجة ب�شجن ال ميكن جتنب �أي منهما .يتداخل �صوت �سناء مع �أ�صوات العجائز ،ويبدو �أن ال�صوت الو�سيط قد اختفى ليت�صدر امل�شهد �صوت ال�شابة /احلا�ضر ،وي�تراج��ع �صوت العجائز /املا�ضي �إىل موقعه الطبيعي يف اخللفية ،بعد �أن قام ب�إر�ساء القواعد لعملية الإحياء الأ�سطورية تلك على �أكمل وجه. لقد اقت�صرت الأ�صوات يف الأغنية على �صوت
�أب�سط تعريف للمو�سيقى الفولكلورية هو �أن �ه��ا امل��و��س�ي�ق��ى ال �ت��ي تنتقل ��س�م��اع��ا بني الأج �ي��ال �ضمن جمتمع متجان�س ثقافيا. وعادة ما تكون جمهولة امل�ؤلف �أو امل�صدر. كما �أن فولكلوريتها ت�شري �أي�ضا �إىل جمتمع ريفي ،لذا متثل هذه املو�سيقى ن�ضاال من �أجل البقاء يف الثقافة ما قبل-ال�صناعية
pre-industrial culture
«Edgar, Andrew, Peter Sedjwick, eds Key Concepts in Cultural Theory, »routledge, 1999, 146- 147
في حضرة الشعر 90 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ج�سد معامل ّ الفت ّوة برباعة
الهويّة
في شعر المتنبّي الغ�ضاب فرج ّ لي�س من ّ �شك يف � ّأن ك ّل ّ ال�شعوب تقتطع من لغتها ق�سما خم�صو�صا من القول حتتفي به � مّأيا احتفاء ،وت�صطلح عليه ّ بال�شعر .ومل ت�ش ّذ العرب ّية عن ذلك .بل � ّإن ما و�صلنا من م�صادر غابر ال ّزمن يذكر � ّأن قبائل العرب تقيم الأفراح �إذا ما ولد فيها �شاعر .ولي�س ذلك من الغريب باعتبار � ّأن ّ ال�شاعر ل�سان قومه وحامل علمهم .بل هو �سالحهم يف املنافرات واملفاخرات .ويع ّلل الدّار�سون ل�شعر العرب تلك ّ الظاهرة مبا يحت ّله ّ ال�شاعر و�شعره من مكانة يف املجموعة الب�شر ّية باعتبارهما ي�ضطلعان بوظيفة .ولع ّل وظيفة ّ ال�شعر تتم ّثل يف ا�ستنان القيم وا�سرت�سالها .ولع ّل وظيفة ّ تتج�سد يف ح�سن الإ�صغاء ال�شاعر ّ ملفاهيم اجلمع والقدرة على تطويعها للغتهم يف �أبهى معامل الفنّ والبنيان .
م��ن ه��ذا املنطلق �شئنا �أن نتل ّم�س معامل القيم ّ ال�شعر ّية يف حما�سة املتن ّبي .واخرتنا االقت�صار على �أن نح�صر البحث يف مفهوم تق�صي ًا ملعامل هو ّيته وو�صف ًا لها. «الفتى» ّ ويدفعنا ذلك ّ بال�ضرورة �إىل تناول امل�س�ألة ت�ن��او ًال مقارب ّي ًا ،ي�سعى �إىل ال��وق��وف على خ�صائ�ص ��ص�يرورة قيمة الفت ّوة يف �شعر ال �ع��رب م��ن الع�صر اجل��اه�ل� ّ�ي �إىل ح��دود تبي ما القرن ال ّرابع الهجري� ،سعي ًا �إىل نّ ّ ال�سامع ي�ستغرب يتف ّرد به املتن ّبي .ولع ّل ّ الإع�ل�ان ع��ن تخ�صي�ص العمل بحما�سة امل �ت �ن � ّب��ي ث � ّ�م االن ��زي ��اح ع �ن��ه ف�ي�م��ا ي�شبه التّناق�ض .ولكن لنا يف ذلك �سبب رجم به املتن ّبي نف�سه؛ وهو ما يجدر ذكره يف هذا البدء .وقد اعتمدنا يف هذه الدرا�سة ن�سخة دي��وان املتن ّبي ب�شرح الربقوقي ال�صادرة العربي بريوت ،لبنان عام عن دار الكتاب ّ 1407هـ1986 -م. يقول ّ ال�شاعر:
َال جَ ْ ت ُ�س ُر ا ْل ُف َـ�ص َحا ُء ُت ْن�شِ ُد َه ُه َنا َب��� ْي��� ًت���ا َو َل�� ِك��ـ��ن��ـ��ـِّ��ي ا ْل��� ِه���ـ��� َز ْب��� ُر ا ْل��� َب���ا� ِ���س��� ُل مَ���ا َن��ـ��ا َل �أَهْ ����� ُل الجْ َ ��اهِ �� ِل�� َّي�� ِة ُك�� ُّل��ـ��هُ�� ْم ���شِ �� ْع��رِي َو َال � َ��س��مِ �� َع��تْ ِب�����سِ ْ��ح��رِي َب��ا ِب�� ُل
ما يه ّمنا من هذا البيت هو ما يوحي به من وعي املتن ّبي بقيمة �شعره وفرادته يف تاريخ العربي .و�إذا كان الأمر كما يدّعيه الإن�شاد ّ ّ ال�شاعر يف �أغلب ما افتخر به عند ذكره �شاعر ّيته؛ ف�إ ّننا نطمح من خالل هذا العمل �إىل �سرب معامل القيمة ّ ال�شعر ّية يف مد ّونته من حيث ال ّت�أ�سي�س املمكن واال�سرت�سال ملا وقر .وذلك بتناول الإ�شكال التّايل: ه��ل �إنّ مفهوم ال�ف�ت� ّوة يف حما�سة املتن ّبي ت�أ�سي�س ملبتدع م��ن القيم يفر�ضها جديد الهجري� ،أم هو جم ّرد ت� ّأ�س مبا القرن ال ّرابع ّ ع ّمدته جاهل ّية العرب فا�ستق ّر بهم وعنهم قد ا�سرت�سل؟ تواتر م�صطلح الفت ّوة يف امل��د ّون��ة ،ال يخلو ق�صيد من قري�ض املتن ّبي مدح ًا كان �أو فخر ًا �أو هجاء �أو رث��اء ،م��ن ت�صاريف �صريحة
ال يخلو قصيد للمتنبّي مدح ًا كان أو فخر ًا أو هجاء أو رثاء من تصاريف صريحة أو ضمنيّة لمعنى الفت ّوة
حبيبة و�صلته فتع ّفف. و�أ ّما عبارة «الفت ّوة» فلم ترد غري م ّرة واحدة يف ال ّديوان ك ّله ين�سبها لذاته .بل يجعلها ال تتع ّدى ثلث خ�صاله الأخالق ّية. �إ�شكال الفت ّوة يف املد ّونة مت ّثل عبارة الفت ّوة يف حما�سة املتن ّبي �إ�شكا ًال .وذلك لأ ّنه �أوردها ب�صريح العبارة م� ّرة واح��دة لتح ّقق معنى جممال .يقول ّ ال�شاعر:
الُ ُب���ـ��� َّوة َو َت��� َرى ا ْل�� ُف�� ُت�� َّو َة َوالمْ ُ���ـ��� ُر َّو َة َو ْ أ �أو ��ض�م�ن� ّي��ة ملعنى �����ي ُك�����ـ ُّ ����ح����ـ���� ٍة � َ���ض���ـ��� َّرا ِت���ـ���هَ���ا �����ل مَ���� ِل����ي َ ِف�����ـ َّ إىل � �وان � ي د � ل ا ا�ستقراء أو�صل الفت ّوة .وقد � ّ هُ ����نَّ ال��� َّث َ �ل�ا ُث المْ َ��ا ِن��ـ�� َع��اتِ��ي َل��ـ�� َّذ ِت��ي �أ ّن��ه ي��ورد ع�ب��ارة «ال�ف�ت� ّوة» وم��ا ق��رب منها فيِ َخ�� ْل�� َو ِت��ي َال خْ َ ال��� ْو ُف مِ ��نْ َت ِب َعـا ِتهَا ا�شتقاق ًا ،ثمان و�ستّني م � ّرة .من حتليلها ال�صريح ملتع ّلقات مفهوم يتبني لنا �أنّ ال ّذكر ّ الفت ّوة اال�شتقاق ّية له تواتر خم�صو�ص يف �شعر احلما�سة ل��دى املتن ّبي� .إذ �إ ّن��ه يورد عبارة «الفتى» نكرة ك ّلما و�صف بها خ ّلة من خالل ممدوحيه مبن فيهم �سيف ال ّدولة �أو يلحقها �أحيانا بذاته املتك ّلمة يف �سياق الفخر .وغالبا ما يكني بهذه العبارة ال ّنكرة ع��ن �سمات �أخ�لاق � ّي��ة حم �م��ودة ت�ت��واف��ر يف املتح ّدث عنه. ْ َ وال يوردها مع ّرفة تعريف �إط�لاق «الفتَى» �إ ّال �إذا �أ�سندها لذاته ّ ال�شاعرة� ،أو ّ دل بها على مطلق القيمة الأخالق ّية يف �إطار �أبياته احلكم ّية .غري �أ ّنه ّ يوظفها يف منا�سبة واحدة لتعيني الغري وهو �أحد بطارقة ال ّروم ،ل�سبب بالغي نتو ّقف عنده الحقا� .أ ّما البيت فهو: ّ
� ىَآل ا ْل َف َتى ا ْب ُن ُ�ش ُم ْ�شقِيقٍ َف�أَ ْح َن َث ُه َف ًتى مِ َن َّ ال�ض ْربِ ُت ْن َ�سى عِ ْن َد ُه ا ْل َك ِل ُم
مفاد داللة البيت �أنّ ما يتح ّلى به ّ ال�شاعر م��ن ق�ي��م ث�ل�اث ،وه ��ي :ال �ف �ت � ّوة وامل� ��رو�ؤة والإباء؛ ينغّ�ص حياته مع املر�أة احلبيبة. �إذ �إنّ املع�شوقة ترى فيهنّ �ض ّرات لها .لأنّ ه��ذه القيم ال ّثالث متنع ّ ال�شاعر املتّ�سم ّ ب�ه��ا م��ن االن���س�ي��اق وراء ط�ل��ب ال �ل� ّ�ذة يف جتربته احل ّب ّية. ويبدو �إ�شكال الفت ّوة ب ّين ًا عند املتن ّبي �إذا ما قار ّناه مبا ا�ستق ّر يف ّ الذاكرة العرب ّية اجل �م��ع م��ن م �ق � ّوم��ات ه��و ّي��ة ال�ف�ت��ى منذ ّ اجلاهلي� .إذ �إنّ طلب ال ّل ّذة وخو�ض ال�شعر ّ أ�سا�سي التّجربة احل ّب ّية املح�ض ،مق ّوم � ّ م��ن مق ّومات ال�ف�ت� ّوة .ودليلنا على ذلك قول طرفة« ،دي��وان طرفة بن العبد .دار املعرفة .بريوت-لبنان .ط1424 .1:هـ - 2003م� .ص:»33-34 :
َو َلو َال َث َ ال ٌث هُ نَّ مِ نْ عِ َ ي�ش ِة ا ْل َف َتى َو َج���د َِّك لمَ ْ �أَ ْح�� َف ْ��ل مَ�� َت��ى َق��ـ��ا َم عُ�� َّودِي َفمِ ْن ُهنَّ َ�س ْبقِي ا ْل َعـا ِذ َالتِ ب َِ�ش ْر َبـة ُك�� َم�� ْي��تٍ مَ�� َت��ى مَ���ا ُت��� ْع��� َل ِب���المْ َ���ا ِء ُت�� ْز َب��ـ��دِ َو َك�� ِّري �إِ َذا َن��ادَى المْ ُ َ�ض ُ م َّن ًبا اف حُ َ َك ِ�����س��ي��دِ ا ْل�� َغ��ـ َ �����ض��ا َن��� َّب���هْ��� َت��� ُه المْ ُ����ـ���� َت���� َو ِّر ِد ري َي ْو ٍم الد َّْج ِن َوالد َّْج ُن ُم ْع َج ٌب َو َت ْق ِ�ص ُ ِب��ـ�� َب��هْ�� َك�� َن�� ٍة تحَ ْ�����تَ ال ِّ اف المْ ُ��� َع��� َّم���دِ ����ط���� َر ِ
خم�ص�صة بالإ�ضافة يف كما �أ ّن��ه �أورده ��ا ّ منا�سبتني يتيمتني �أ�سندها فيهما ل�سيف الدّولة ،و�إن كان املعنى العا ّم للبيتني ينحو احلكمي. نحو القول ّ ومل يوردها مث ّناة مع ّرفة �إ ّال يف منا�سبتني ذاك��ر ًا بها جند �سيف ال� ّدول��ة م � ّرة ،و�سمة اجلند ا ّلتي يح ّبذها م ّرة ثانية. �أ ّم ��ا م ��ؤ ّن �ث��ة ف�ق��د �أورده� ��ا م � ّرت�ين يف ق�سم ال ّن�سيب مع ّينا بها حبيبة منوذج ّية قد جفته فمفاد هذه ّ تتم �أركانها املقطعة �أنّ الفت ّوة ال ّ على غري �سنن العرب يف الع�شق م ّرة ،و�أخرى �إ ّال ب�ث�لاث ،ه��ي :معاقرة اخل�م��ر ،و�إجن��اد
في حضرة الشعر 92 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
هويّة الفتى في القرن الهجري مع الرّابع ّ جلي المتنبّي تختلف ّ عما سبق من االختالف ّ قيم عربيّة تأسيسيّة
الغري ،وال ّلهو .وتنبئ هذه املفارقة منذ الآن الهجري ب ��أنّ هو ّية الفتى يف القرن ال ّرابع ّ جلي االختالف ع ّما �سبق مع املتن ّبي تختلف ّ من قيم عرب ّية ت�أ�سي�س ّية .ويبدو �أنّ تغيرّ املنظومة املجتمع ّية ب��اخل��روج من حظرية القبلي �إىل نطاق املدينة وم��ن ث ّمة الفكر ّ الدّولة واالنتماء لأ ّمة عو�ض ًا عن بطن �أو عرق ،قد �أف��رز تغ ً يرّا يف منظومة القيمي عرب القيم .ولك�أنّ اال�سرت�سال ّ الزّمن ال ّ ينفك يع ّدل منها ويط ّوعها مدحيات املتن ّبي للجديد املحدث. �أو�صل ا�ستقراء ال� ّدي��وان �إىل �ضبط ثالث وثالثني مو�ضع ًا يرد فيها ذكر �صريح لعبارة معامل هو ّية الفتى يف املد ّونة خ�ص�صت العبارة ن ��ورد يف ه��ذا امل���س�ت��وى م��ن ال�ع�م��ل امل�ع��امل « َفتًى» يف باب املدح .وقد ّ ال �ع��ا ّم��ة ال��وا��س�م��ة ل�ه��و ّي��ة ال�ف�ت��ى يف دي��وان بجملة م��ن ال���ّ�س�م��ات ت�ت�ردّد ب�ين احل���ّ�س� ّ�ي �وي .ويحيل ك ّلها �إىل قيم حممودة املتن ّبي؛ مقت�صرين يف ذلك على ما �ص ّرح به وامل �ع �ن� ّ يتّ�صف بها املمدوح ،فهو ّية الفتى يف املدحيات يف �شعره. تت�ش ّكل من ثالث جم��االت قيم ّية �أ�سا�س ّية: فخريات املتن ّبي �شخ�صي يتع ّلق بكرامة الأ�صل، �أو�صل ا�ستقراء الدّيوان �إىل ت�سع موا�ضع يرد �أ ّولهما �سلوك ّ فيها ذكر �صريح لعبارات « َفتًى» �أو «ا ْل َفتَى» من قبيل عزّة ال ّنف�س ،والعلم ،و�سداد ال ّر�أي، ال�شاعر واحلكمة ،وطلب املجدَ ،والإقدام ّ وال�شجاعة، �أو « َفتَا ٌة» يف باب الفخر .وقد �أ�سند ّ ل�ه��ذه ال �ع �ب��ارات ��س�م��ات قيم ّية دا ّل ��ة على والتّم ّكن من فنون القتال .وثانيها �سلوك اجتماعي يتم ّثل يف ح�سن معاملة الغري من ّ معامل هو ّية الفتى .وهي قيم حميدة تزين املتح ّلي بها .وجنمع ذلك يف :الوفاء بالقول ،قبيل الترّ ّفع واحللم ،و�إكرام الوفادة ،وعل ّو وال�سخاء .وثالثها �سلوك �سلطا ّ ين من ال�شجاعة ،احللم عن القادحني ،الغاية يف اله ّمةّ ، ال�س�ؤدد ،واحل��زم ،والبط�ش ،واملثل يف ال�شاعرية ،الإباء عند ال�ضيم� ،سداد الر�أي ،نوع ّ واحلربي. يا�سي ال�س ّهاء د وال القيادة، ّ ّ ّ ثبات اجلنان ،الفطنة ،االعتداد بالنف�س، ال �ع �ف��ة ،ال�ت�م��ر���س ب��احل��رب ،ال���ص�بر على حكميات املتن ّبي ّ ال�شدائد ،كرامة ال�صل ،العزوف عن اللهو� .أورد ّ ال�شاعر يف مقطعاته احلكم ّية عبارة ال�سمات امل�سندة �إىل «الفتى» خم�سة ع�شر م ّرة� ،أغلبها ت�ض ّمنته وي�لاح��ظ م��ن خ�لال ّ تتم �إ ّال املدحيات وبع�ضها الآخر قيل يف �إطار الفخر الفتى� ،أنّ هو ّيته هو ّية مر ّكبة؛ ال ّ بتو ّفر جملة من حميد اخل�صال جمتمعة. وال ّرثاء .وقد �أ�سند لها �سمات قيم ّية جتلي
العبارة َف ًتى ا ْل َف َتى ا ْل ِف ْت َي ُ ان َف َتا هَا َف َتا ٌة ا ْل ُف ُت َّو ُة
ّ الذوات املتع ّينة بالعبارة ّ املرثي ال�شاعر ،املمدوح؛ ّ ّ ال�شاعر؛ مطلق اجلند املمدوح «�سيف ال ّدولة» احلبيبة �شيمة ّ ال�شاعر
جدول ير�صد عبارة «الفتوة» يف ديوان املتنبي
التّواتر 32 29 2 2 2 1
ال�صرب على ّ ال�شدائد ،ح�سن معاملها ،منها ّ الفعل ،الأم��ل يف ال�ع�ط��اء ،رج��اح��ة العقل، ال�سعاية ،الإقدام� ،إ�صابة ال ّر�أي عفو ًا، جت ّنب ّ ال�سخاء ،ح�سن التّع ّفف ،ال ّر�شاد ،القناعةّ ، الق��دام ،ال ّرفعة اخللق ،االعتداد بال ّنف�س ،إ ّ والأن��ف��ة .ت�ب��دو ه��و ّي��ة الفتى يف املقطعات احلكم ّية جامعة بني مق ّومات الفت ّوة املفتخر ب�ه��ا ،وم�ق� ّوم��ات ال�ف�ت� ّوة امل �م��دوح ب�ه��ا .فهي ال�سلوك ّ خ�صي، ت�شمل قيما مو ّزعة على ّ ال�ش ّ متت ال�سلوك اجلمعي ،وثالثة ّ و�أخ��رى على ّ ّ ال�سلطاينّ. ب�صالت �إىل املجال ّ
ن�سيب املتن ّبي
�ص ّرح ّ ال�شاعر يف باب ال ّن�سيب م ّرة واحدة ّ ا�شتقاقي من متعلقات عبارة «الفت ّوة» مبتع ّلق ّ وذل ��ك يف م��دح�ي�ت��ه للح�سني ب��ن �إ��س�ح��اق وخي. ال ّت ّن ّ
َف�� َت��ا ٌة َت��� َ��س��ا َوى عِ �� ْق�� ُدهَ��ا َو َك َ �لامُ�� َه��ا َو َم ْب�سِ ُمهَا الدُّ رِّيُّ فيِ حْ ُ ال ْ�س ِن َوال َّن ْظ ِم َج َف ْتنِي َك�أَ يِّن َل ْ�ستُ �أَ ْن َط َق َق ْومِ هَا َو�أَ ْط َع َن ُه ْم َو ُّ ال�شه ُْب فيِ ُ�صو َر ِة الدُّ هْ ِم
وما يلفت ال ّنظر يف هذه ّ ال�سمات املقطعة هو ّ اخل ْل ِق َّي ُة ا ّلتي و�سم بها الفتاة� .إذ امل��ا ّد ّي��ة ِ ً ب��دت رم ��زا جل�م��ال الهيئة وح�سن املظهر مما ّ يتع�شقه العرب .ولكن القيمة الأخالق ّية ّ ا ّلتي م ّيزتها وهي اجلفاء قد خالفت ما عهد قيمي عن العرب ّيات� .إذ فيها ت�سجيل لتح ّول ّ ملحوظ .فقد ا�ستق ّر يف التّجربة ّ ال�شعر ّية �أنّ املر�أة العرب ّية متيل للفتى املنطيق اجل�سور. و�إذا بها يف بيت املتن ّبي ُت ْل َفى متن ّكرة لذلك. �أ ّما ما يه ّمنا فعال فهو القيم امل�سندة للفتى مبا هو الوجه ال ّنقي�ض ل�سلوك املع�شوقة� .إذ هو رمز للمحافظة على موروث القيم .فبينما جتلت �سمات الفتاة يف :ح�سن نظم كالمها، وح�سن نظم عقدها ،وح�سن مب�سمها ،فقد جتلت �سمات الفتى يف �أن��ه �أن�ط��ق ال�ق��وم، و�أطعن القوم ،و�أنه ج�سور يف احلروب.
هجائيات املتن ّبي
��ص� ّرح ّ ال�شاعر م�� ّرة واح ��دة يف هجائياته بعبارة الفتى ،قا�صد ًا بها ذاك ا ّل��ذي يقوم
ال�سلطان .وقد �أوردها يف هجائه �ض ّد طغيان ّ ك��اف��ور حم� ّر��ض��ا م��ن يتّ�سم ب��ال�ف�ت� ّوة على اغتياله.
�أَ َال َف�� ًت��ى ُي����و ِر ُد ا ْل��هِ�� ْن��دِ يَّ هَ��امَ�� َت�� ُه َك ْي َما َت��� ُزو َل � ُ��ش�� ُك ُ ��وك ال�� َّن��ا� ِ��س َوال�� ُّت�� َه�� ُم
مرثيات املتن ّبي
�أو� �ص��ل ا��س�ت�ق��راء امل��د ّون��ة �إىل �أنّ املتن ّبي يذكر عبارة الفتى يف منا�سبتني اثنتني من مرثياته؛ ذك��ر ًا �صريح ًا .الأوىل يعزّي فيها كي: �سيف الدّولة عن عبده مياك الترّ ّ
ُ�س ِب ْق َنا ِ�إ ىَل الدُّ ْن َيا َفلَ ْو ع َ َا�ش �أَهْ ُلهَا مُ��� ِن��� ْع��� َن���ا ِب���هَ���ا مِ �����نْ َج��� ْي��� َئ��� ٍة َو ُذهُ ��������وبِ ت���� ُّل َ التِ�������ي مَ َ مَ َ ت��� َّل��� َك��� َه���ا ْ آ ����ك َ���س��الِ��بٍ َو َف����ا َر َق����هَ����ا المْ َ���ا� ِ���ض���ي فِ������� َرا َق � َ��س�� ِل��ي��بِ َو َال َف ْ�ض َل فِيهَا ل َّ ِل�ش َجا َع ِة َوال َّندَى �ْب�ر ا ْل�� َف�� َت��ى َل����� ْو َال ِل��� َق���ا ِء � َ��ش�� ُق��وبِ َو� َ���ص رِْ
المتنبّي كان من أوفق شعراء العربيّة في ّ المشكلة تمثّل القيم لهويّة الفتى تمثّ ً ال تاريخانيّ ًا واعي ًا
وال ّثانية يذكر فيه فاتك ًا من خ�لال هد ّية �أهداه �إ ّياها يف �إقامته مب�صر ،فريثيه: ويبدو ذلك يف البيت جل ّي ًا� .إذ �إنّ وقوف َو�أَيَّ َف���� ًت����ى � َ���س���لَ��� َب��� ْت��� ِن���ي المْ َ����� ُن ُ �����ون ّ ال�شاعر على معامل هو ّيته كان باالنت�ساب العربي». اخلا�صة العرق ّية «ال�ع��رق َولمَ ْ َت������������� ْد ِر مَ��������ا َو َل���������������� َدتْ ُ�أ ُّم����������� ُه �إىل ّ ّ وبنى متييزه على مقولة ال َع َر ِ�ض املتم ّثل ا�ستهالالت املتن ّبي يف معامل االخ�ت�لاف عن الأغ�ي��ار ،بغربة «ال�سمات اخلِ � ْل��قِ � َّي� ِة» وغ��رب��ة اليد ا�ستوقفنا يف ا�ستهالالت املتن ّبي ذكره لعبارة ال��وج��ه ّ الفتى م�ش ً ّ ريا �إىل ذاته ،عند مدحه ع�ضد الدّولة «ال���ّ�س�م��ات االجتماع ّية» وغ��رب��ة الل�سان يف مرحلته الفار�س ّية؛ وذلك ملا حتتويه العبارة «ال�سمات ال ّثقاف ّية». ّ يف هذا اال�ستهالل من وعي مبفهوم الهو ّية� .إذ ّ يخ�ص�صها لغة بنعت ُي َن ِّ�س ُب َها للعروبة .وتكمن �أوفق �شعراء العرب ّية قيمة هذا املعنى يف �أنّ الهو ّية ال ّ تتو�ضح معاملها �أب� ��دى ت �ت � ّب��ع م �ع��امل ال �ق �ي��م ال ��� ّ�ش �ع��ر ّي��ة يف ّ فعال �إ ّال مبواجهتها بال ّنقي�ض .فح ّد «النحن» حما�سة املتن ّبي� ،أنّ ه��و ّي��ة الفتى تلت�صق ال ّ يتم �إ ّال مقارنة بالـ«�آخر» ،الغرييّ .ولك�أنّ �شديد االلت�صاق مبعايري �أخالق ّية مثلى. الهو ّية يف جوهرها ،ما هي �إ ّال الفائ�ض املغاير و�أنّ جممل ه��ذه القيم هي امتداد مل��وروث ا ّل��ذي مي ّيز الكائن عن بني جن�سه ّ باخلا�صة ع��رب� ّ�ي ق��دمي نطق ب��ه �شعراء العرب ّية منذ على ح ّد عبارة املناطقة. ال ّن�ش�أة ّ اجلاهلي» ،وا�سرت�سل لديهم «ال�شعر ّ ��ان ِّ ال�شعْبِ طِ ي ًبا فيِ املَ�� َغ��ان مَ�� َغ يِ فاكت�سب بال ّزمن وتع ّدد التّجربة «�شعر �صدر بمِ َ����� ْن����� ِز َل����� ِة ال���� َّر ِب����ي���� ِع مِ َ �ويّ ، ������ن ال����� َّزمَ�����انِ الإ�سالمّ ، ا�سي» ال�شعر الأم� ّ ال�شعر الع ّب ّ ����ي فِ��ي��هَ��ا معامل �أكرث �شمو ًال .ولع ّل املتن ّبي قد كان من َو َل����� ِك�����نَّ ا ْل��� َف��� َت���ى ا ْل���� َع���� َر ِب َّ ����ب ا ْل���� َو ْج���� ِه َوا ْل���� َي����دِ َوال��� ِّل���� َ���س���انِ �أوف��ق �شعراء العرب ّية يف مت ّثل تلك القيم َغ���� ِري ُ امل�ش ّكلة لهو ّية الفتى ،مت ّث ًال تاريخان ّي ًا واعي ًا.
ك�م��ا ب�ّي�نّ ال�ع�م��ل ال��و��ص�ف� ّ�ي �أنّ ت�ل��ك القيم ت�ص ّنف �ضمن ح�ق��ول ث�لاث��ة ك�برى� :أ ّول�ه��ا مم � ّي��زات ال���ّ�س�ل��وك ال���ّ�ش�خ���ص� ّ�ي .وثانيها اجلمعي .وثالثها مم ّيزات ال�سلوك مم ّيزات ّ ّ ال�سلطا ّ ين .واملتم ّعن يف تلك القيم ال�سلوك ّ ّ ّ ّ امل�شكلة لهو ّية الفتى يالحظ �أنها من طينة الفنّ ؛ �إذ يع�سر �أن تتّ�سم بها ذات تاريخ ّية مهما �سمت .وهو �أم��ر يجعل مفهوم الفتى قيمة من القيم ّ ال�شعر ّية ا ّلتي ال حتيل �إ ّال على ذاتها مبا هي كائن ف ّن ّي يعدمه الواقع ال� ّت��اري�خ� ّ�ي .ولئن ن�سب ّ ال�شاعر يف �شعره لذاته املتك ّلمة �أو ملمدوحيه �صفة الفتى ،ف�إنّ ذلك ال يعدو �أن يكون �إ ّال من باب التّغ ّني مبا هو كامل .ولع ّل ن�شدان الكمال من جوهر الفنّ .وبناء على ذلك نفهم جتربة املتن ّبي ّ ال�شعر ّية .فما قوله �إ ّال ِع ْل ٌم مبواطن اجلمال الكاملة ق�صرت عنه ق � ّوال��ة ال �ع��رب؛ وما ال�سحر يب ّز بها غابر ف ّنه �إ ّال منمنمات من ّ الأمم .ولذلك ح��قّ له يف �صياله وتخ ّمطه عند الإن�شاد �أن يكابر؛ فيجعل نف�سه �آية ال� ّده��ر الفائ�ضة �شعر ًا ال ي�ج��ارى� .إذ هو يف م��ر�آة �شعره ق � ّوال��ة الإن ����س ا ّل��ذي يعجز معا�صروه عن جماراته ،يقول يف ذلك:
�أَ َنا َ�ص ْخ َر ُة ا ْل َوادِي �إِ َذا مَا ُزوحِ ْمتُ َو�إِ َذا َن َ��ط��ـ��ـ��قْ��تُ َف����إِ َّن��� ِن���ي الجْ َ ���ـ���ـ���ـ��� ْو َزا ُء
يهم هذا فيما يتع ّلق مبعا�صريه� .أ ّم��ا فيما ّ ال�سابقة عليه ،ف��إ ّن��ه ال� ّت�ج��رب��ة ال���ّ�ش�ع��ر ّي��ة ّ يحتويها اح �ت��واء .وي �ب � ّوئ �شعره ذروة ما �أبدعته الإن�سان ّية من فنون القول� .إذ ي�ص ّرح مفتخر ًا �أ ّن��ه مل يبلغ �ش�أوه يف ّ ال�شاعر ّية � ّأي ال�سابقني :عرب باقية من العرب العاربة من ّ «�شعراء اجلاهل ّية»� ،أو عرب بائدة من العرب امل�ستعربة «ح�ضارة ما بني ال ّرافدين». يقول يف ذلك:
َال جَ ْ ت ُـ�سـ ُر ا ْل ُف َ�ص َحا ُء ُت ْن�شِ ُد َه ُه َنا ��ا���س�� ُل َب�� ْي��ـ�� ًت��ا َو َل��� ِك���ـ��� ِّن���ي ا ْل����هِ���� َز ْب���� ُر ا ْل�� َب��ـ ِ مَ���ا َن��ـ��ا َل �أَهْ ����� ُل الجْ َ ��اهِ �� ِل�� َّي�� ِة ُك�� ُّل��ـ��هُ�� ْم ���شِ �� ْع��رِي َو َال � َ��س��مِ �� َع��تْ ِب�����سِ ْ��ح��رِي َب��ا ِب�� ُل
أوراق تراثية 94 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
المعرفة التي سطعت من تراث اإلنسان
فاطمة املزروعي �إن��ه ت��راث م��ن ال�ق�ي��م الأ��ص�ي�ل��ة وامل �ع��ارف احلياتية وال�ع��ادات العميقة ،ه��ذا ال�تراث ال ��ذي ف�ي��ه ع�ب��ق امل��ا� �ض��ي اجل�م�ي��ل ل�ل�آب��اء والأج��داد ،وال��ذي نعي�ش يف كافة تفا�صيله رحلة حتكي عن الإن�سان وكفاحه ال�شريف املتوا�صل مع كل �أجزاء احلياة من الطبيعة القا�سية م��رور ًا بلقمة العي�ش التي يرك�ض نحوها يف معارك �شبه يومية ال تتوقف... البد �أن ن�ؤمن بحتمية الرتاث وقيمته وعمقه وق�ب��ل ك��ل ه��ذا �أهميته لنا و�أن��ه ج��زء من املعا�صرة واحلداثة و�أن��ه ال ميكن الف�صل بينهما ،م��رة �أخ��رى يقول جيم�س ب�يرك: "�أنت ت�ستطيع عبور الطريق ،عندما تتحول �أم��ام��ك �إ��ش��ارة امل��رور �إىل ال�ل��ون الأح�م��ر، فتتوقف ال�سيارات .ه��ذا جم��رد مثل يعرب
مت بناء احل�ضارة على جمموعة من املعارف والعلوم التي بد�أت كخرافات وخوارق للعادة مل يعرتف بها �إال قلة من العلماء ،ثم تطورت �إىل قيم وتراث معريف مت توارثه من جيل �إىل �آخر حتى جاء من طورها ونقلها �إىل علوم وخمرتعات واكت�شافات �ساعدت الإن�سان على �أن يعي�ش حياة �أكرث رفاه و�صحة و�سعادة .وهذا �صحيح فالإن�سان ح�صاد معارفه كما قال جيم�س بريك يف كتابه القيم عندما تغري العامل .لذا من الأهمية �أن ننظر اليوم نحو ح�صادنا �سواء املعريف من العلوم �أو من العادات والتقاليد ،فهي زرع الأجداد وغر�س الآباء، فبارك اهلل يف هذا الغر�س والزرع الذي علمنا �أن نعي�ش على �أر�ض ال�صحراء �أقوياء متحدين نعمرها ونبنيها ،هذا الغر�س املبارك الذي جعلنا وطناً و�أمة على خريطة الكون ننعم بال�سعادة واخلري العميم.
عن الثقة الع�صرية يف الطريقة التي يتم بها ت�سيري املجتمع ،وه��ي الطريقة التي تولدت يف الغرب الأوروب ��ي منذ ثمامنائة عام م�ضت. وال�شاهد هنا هي الثقة العمياء بتكنولوجيا الع�صر ،و�أعتقد �أنها تولدت من �سل�سلة طويلة من املعارف التي كانت �ضاربة العمق يف الزمن املا�ضي حتى و�صلتنا اليوم ،فبتنا
إننا نظلم أنفسنا ونقسوا عليها ،عندما نحرمها من نعمة النظر العميق نحو الماضي بتفاصيله وعمقه
ن�ؤمن ونعتقد بفائدتها للإن�سانية ب�أ�سرها. نحن بحاجة ما�سة �أن نثق بقوة ما�ضينا، بكل معارفه وتفا�صيله ،فال�سيئ مينحنا فائدة جتنبه واملفيد منه يعطينا املزيد من العمل لتطويره وتنميته. ال�ت�راث مل يكن ج��ام��د ًا �أو عالق ًا يف زمن ت�لا� �ش��ى ك �م��ا ق��د ي �ظ��ن ال �ب �ع ����ض ،ال�ت�راث يعاين لدينا فقط من حالة من عدم الفهم لوظيفته ومدى ج�سارته وقوته ليكون ج�سر ًا متين ًا نحو املعا�صرة واحلداثة بكل ما تعني الكلمة .ف��ال���ص��ورة النمطية يف الذهنية ال�ع��رب�ي��ة �أن ال�ت�راث ع �ب��ارة ع��ن معار�ض وحما�ضرات ومهرجانات تقام بني الوقت والآخ���ر ،و�أن ال�ت�راث بكل م��ا حت��وي هذه الكلمة م��ن معنى يتجه نحو اال�ضمحالل
والن�سيان ،ومما ي�ؤ�سف له �أن هذه النظرة على ق�صرها و�ضبابيتها و�أي�ض ًا �سطحيتها جت��د م��ن �أب� �ن ��اء ج �ل��دت �ن��ا م��ن ي� ��روج لها ويتبناها ،لكن من اجلميل �أن يكون خري رد على �ضحالة فكر ه�ؤالء ،هذا االهتمام ال�ع��امل��ي ب��ال�تراث الإن �� �س��اين ب ��أ� �س��ره ،ول��و ت�ساءلنا ملاذا تتبنى منظمة عاملية كالأمم املتحدة واحدة من �أهم �أذرعتها يف خدمة الإن�سانية اليون�سكو ،والتي توجد فيها عدة �أق�سام تُعنى بخدمة ال�تراث منها مركز �إح �ي��اء ال�ع�م��ارة الإ��س�لام�ي��ة ،وه��ي تهدف عموم ًا لإنقاذ ال�تراث الإن�ساين� ،أق��ول لو ت�ساءلنا مل��اذا ت��أخ��ذ منظمة عاملية على عاتقها حماية ال�ت�راث؟ ب��ل امل�ساعدة يف ن�شره وترميمه ،لأدركنا كيف تنظر الأمم املتح�ضرة والأك�ثر توهج ًا يف كافة العلوم الإن�سانية نحو التاريخ ،ولأدرك �ن��ا �أننا ال نظلم تراثنا ونتجنى عليه بقدر �أننا نظلم �أنف�سنا ونق�سوا عليها ،عندما نحرمها من نعمة النظر العميق نحو املا�ضي بتفا�صيله وعمقه ،وهذا ال يعني �أن نعي�ش يف جلباب امل��ا� �ض��ي ون ��رك ��ن ل ��ه ون �ن �� �س��ى احل��ا� �ض��ر وامل�ستقبل ،بل يجب علينا �أن نفرق وب�شكل دقيق بني احل�ضارة واملا�ضي وبني التاريخ وامل�ستقبل .يقول فرويد �إن احل�ضارة هي ج�م�ل��ة الإجن � ��ازات وال �ق��واع��د ال �ت��ي متيز حياتنا عن حياة �أ�سالفنا ..لكن الدكتور مراد وهبة كان له تعريف �أكرث دقة و�شمو ًال عندما قال يف املعجم الفل�سفي �إنها جملة من مظاهر التقدم الأدبي والفني والعلمي والتقني والتي تنتقل من جيل لآخر .عندما �أق� ��ارن ه��ذي��ن ال�ت�ع��ري�ف�ين ل�ل�ح���ض��ارة مبا فعله �أجدادنا من العلماء العرب يف فرتة �سماها امل�ؤرخون الغرب «الع�صور املظلمة» وفق ًا ملا كانوا يعي�شونه من جهل وتقاتل، �أجد �أنه ال جدال يف �أن ذلك الع�صر كان ع�صر ًا ذهبي ًا يف تاريخنا العربي و�أي�ض ًا يف تاريخ العلوم الطبيعية والفل�سفة واملنطق.. فالإ�سالم يف فرتة من فرتاته وبالتحديد قبل �ألف �سنة ،حتول �إىل ح�ضارة متكاملة كانت ال�سبب يف نهو�ض ال�ع��امل وح�صول
التراث يعاني لدينا فقط من حالة عدم الفهم لوظيفته ومدى جسارته وقوته ليكون جسر ًا متين ًا نحو المعاصرة والحداثة الثورة ال�صناعية وظهور الكم الهائل من االخرتاعات يف القرن الع�شرين� .إن علوم الطبيعة كالفيزياء والكيمياء والأح �ي��اء واجليولوجيا مت ت�أ�سي�سها �أو لنقل مت الت�أثري فيها وجتديدها و�إ�ضافة حقائق ونظريات مهمة �إليها ،مت بوا�سطة العلماء امل�سلمني.. ال زال ال �غ��رب ي�ك��رم�ه��م وي��ذك��ره��م حتى اليوم ..فبينما كانت �أوروبا متر بحالة من الفو�ضى كان علماء احل�ضارة الإ�سالمية ي� �ج ��رون جت��ارب �ه��م وي �ك �ت �ب��ون �أب �ح��اث �ه��م ونظرياتهم لت�أ�سي�س احل�ضارات القادمة.. وال�شواهد والأدل��ة يف هذا ال�سياق عديدة ومتنوعة �أ��س��وق �إح��داه��ا وه��و ع��ن العامل حم �م��د ب��ن م��و� �س��ى اخل ��وارزم ��ي م��ؤ��س����س اجل�ب�ر واحل �� �س��اب ،ال ��ذي اك�ت���ش��ف قيمة ال�صفر وو��ض��ع م�ن��ازل ل�ل�أع��داد ك��الآح��اد والع�شرات واملئات ..وهو �أي�ض ًا الذي �أوجد "اللوغارمت" وهذه الكلمة �أ�صلها خوارزم اقتبا�س ًا م��ن ا�سم م�ؤ�س�سها ،ه��ذا النوع م��ن العمليات احل�سابية ه��و ال��ذي تعتمد عليه لغات الربجمة التي تقوم بت�صميم �أنظمة احلا�سب الآيل اليوم ..لذلك �سمي اخلوارزمي ب�أبو احلا�سوب –�أال يعترب هذا من ال�تراث -فهو الذي مهد الخ�تراع هذا اجلهاز العظيم قبل �ألف ومئتي �سنة!.. م��ن ه ��ذا امل �ن �ط �ل��ق ،ات �ع �ج��ب م��ن التنكر والن�سيان حل�ضارتنا وتاريخنا –تراثنا- يف هذا اجليل ..حيث �أ�صبح تقم�ص املظهر وال�ت���ص��رف��ات ال�غ��رب�ي��ة م��ن ح�ي��ث امللب�س والكالم هو الدليل على التمدن والتطور.. �صحيح �أن ظروف ًا م�ضطربة كاال�ستعمار واالقت�صاد وال�سيا�سة �أث��رت يف ا�ستمرار �صعود احل�ضارة العربية الإ�سالمية لكن ه��ذا التعرث ط��ال ج��د ًا! من ر�أي��ي يجب �أن يتم زرع الفخر واالنتماء للهوية العربية
والوطنية ..فال تتوقع من �شاب امتلأ ذهنه ب��اع�ت�ق��ادات م�ؤ�سفة ع��ن ماهية التطور، ويظهر م��دى مت��دن��ه وت��واك�ب��ه م��ع الع�صر بو�ساطة ثيابه التي يحر�ص �أن تكون �آخر ال�صيحات ،و�أجهزته التي ي�ستعملها من �أج ��ل ال�ترف�ي��ه وت���ص��رف��ات��ه املقتب�سة من جن��وم الغناء الغربي ..ال تتوقع من هذه ال�شاكلة �أن تبني جم��د ًا �أو فخر ًا عربي ًا.. �أو �أن ت�ضيف �شيئ ًا ل��وط�ن�ه��ا� .إن غر�س االنتماء واحل��ب والفخر للتاريخ العربي لدى ال�شباب هو اخلطوة الأوىل واملثالية لبناء ح�ضارة عربية ت�سود العامل بوا�سطة ال �� �س�لام ،ول �ق��د �أح���س�ن��ت ال��دك �ت��ورة حنة �آرن��ت ،يف كتابها «بني املا�ضي وامل�ستقبل» وهي تدافع عن املا�ضي وعن العلماء الذين �أث���روا الإن���س��ان�ي��ة ب ��آرائ �ه��م ونظرياتهم، حيث قالت" :ن�ستطيع �أن نرد على �أولئك الذين كثري ًا ما يقولون لنا �إن �أفالطون �أو غ�يره م��ن ع�ظ�م��اء ال�ك�ت��اب الأق��دم�ين، ق��د ج��اء م��ن ين�سخ فل�سفتهم ويبطلها، ون�ستطيع �أن ندرك �أنه حتى لو كان انتقاد بع�ضهم لأف�لاط��ون �صحيح ًا ،ف�ق��د تظل رفقة �أفالطون �أف�ضل من رفقة منتقديه. وعلى كل فلنتذكر ما ينبغي �أن يكون عليه ال�شخ�ص املثقف يف ع��رف ال��روم��ان وهم �أول �شعب اهتم بالثقافة اهتمام ًا جدي ًا كاهتمامنا حني قالوا :املثقف هو ال�شخ�ص الذي يح�سن اختيار رفاقه من بني الرجال، وم��ن ب�ين الأ��ش�ي��اء وم��ن ب�ين الأف �ك��ار ،من احلا�ضر ومن املا�ضي على �سواء .واملهمة ي�سرية ولي�ست مع�ضلة كبرية ،ففي الوطن العربي ع�شرات الع�شرات من امل�ؤ�س�سات والهيئات التي مت �إن�شا�ؤها من �أجل حماية ال�ت�راث ون���ش��ره ،وم��ا ع�ل��ى ه��ذه الهيئات �إال تطوير �أ�ساليبها وتغيري من��ط عملها ليكون �أك�ثر �إنتاجية وفعالية ،وت�صميم برامج ت�ستهدف �أطياف املجتمع املختلفة وخا�صة الفتيات وال�شباب وجذبهم بربامج م�شوقة وم�سابقات وفعاليات فيها الرتفيه والت�سلية والتعريف بعمق ح�ضارتنا و�إرثنا الإن�ساين والفكري
قال الراوي 96 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
من �أ�شهر احلكايا ال�شعبية احل�سانية
س ْر َذ ْهبُو» .. «سر َ ْي َ ْ
طاردة إخوتها ومنقذتهم
د .بوزيد الغلى «�س َر ْي َ�س ْر َذهْ ُبو» من �أمتع و�أبدع الأُن�سوجات ال�شعبية احل�سانية و�أكرثها توليداً تعد حكاية ْ للداللة وطرداً لل َماللة ب�إبقائها لأفق التوقع واالنتظار منفتحاً ممتداً لدى ال�سامع من �أحداث البداية اىل وم�ضات النهاية ،فهي مبثابة �أحبولة درامية ماتعة ت ْعمد �إىل توريط املتلقي يف فخ متعة التلقي انتظاراً مل�آالت �أحداث تبد�أ بوالدة وليدة ُو�صفت بطاردة �إخوتها ال�سبع وال تنتهي بف َرح ب ْل ُه قرح ُلقياهم بعد مغامرة �شبيهة مبطاردة ح ْلم غ�سل عا ٍر ظل يالزمها منذ �صرخة اال�ستهالل �إىل حني بلوغها احل ُلم.
ونظر ًا ل�سحر ه��ذه احلكاية الآ�سر و ُد ُن� ّوه��ا الغامر من الأنني الإن�ساين الناجم عن الظلم وال�ب ْ�ري احل��اد وامل� ��ؤمل للم�شاكل واملتاعب وامل�صاعب ،ف�إنها حتولت م��ن �أق�صو�صة ترتدد �أ�صدا�ؤها يف الآكام والآجام وم�ضارب اخليام يف ليايل ال�سمر املقمرة �أو على �ضوء النار املُ�ض َرمة �إىل �أغنية تطرب ال�سامعني وتلهب حما�سة اليافعني وتذكر الغافلني ب�أنني واملحبطني. امل�شردين واملبعدين والآبقني ْ وقبل �أن نقطف قطوفا دانية متدلية من غدق باملعاين غ�صون حكاية �شعبية �أعالها ِ و�أدناها ع ِبق بالدالالت املتواردة واملتوالدة م��ن �أرح���ام �شتى ت�صل ه��ذا امل�تن املتني بياني ًا وداللي ًا بعوامل الديانات والأ�ساطري والأ��ش�ع��ار والأقا�صي�ص واحل�ك��اي��ات التي ُت َت ْو ِئمها خميلة ال���س��ارد ،ال ب��د �أن ن�سيخ ال�سمع ل �ل��راوي وه��و ي�ق��ولَ « :ك��ال��و خال َكة امر�أة عندها ا�سبع �أوالد ذكور»...
ِم ْ�صعاد �أم ِم ْرغاية!
زعموا ان ام��ر�أة «�أم» �أجنبت �سبعة �أبناء، وظلت تتوق مليالد �أن�ث��ى ،ومل��ا ك� رُُبر �أبنا�ؤها وعلموا بقرب و�ضعها مولود ًا جديد ًا ،خرجوا يف قطعة �إب��ل ،وابتعدوا عن منازل �أهلهم،
قبل أن تودعهما قطعت األم لسانها واستودعته بنتها وأشارت عليها بحفظه وصونه وعدم التفريط به و�أم � ��روا اخل���ادم « ال َأم � ��ة» �أن تخربهم ب��امل��ول��ود ذك ��ر ًا ك��ان �أم �أن �ث��ى ،ف��ان ك��ان ذك ��ر ًا� ،أ� �ش��ارت �إليهم ب�ـ ِ«م� ْ���ص�ع��اد»�-أي ا ِمل� ْع� َ���ص��د -وه��و ع��ود حت�� ّرك ب��ه وتُع�صد الع�صيدة �أثناء الطهو -و�إن كانت �أنثى ـ«:م ْر َغاية» ،وهي رفعت �أو �أ�شارت �إليهم ِب ِ املغرفة التي يغرف بها الطعام. �أجنبت الأم بنت ًا ،لكن اخل��ادم �-أي ال َأم��ة- َذه �ل��ت ع��ن ال��و��ص�ي��ة ،ف��رف�ع��ت امل�صعاد/ املع�صد ب��دل امل��رغ��اي��ة /امل�غ��رف��ة ،فانطلق
قطران وجدتا نهر ًا من ِ فأ َمرتها «كمبة» بالتوقف عند ضفته ثم باغتت الفتاة وألقتها في النهر َ فطالها القطران واسو ّدت بشرتها
الإخ��وة يف الفالة وتفرقوا أ�ي��ادي �سب�أ ،ومل يعرث لهم على خرب. كربت «�سري�سر ذهبو» مع مرور ال�سنني ،وهي ال ت��دري �شيئا عما ح�صل ،ولكن النا�س- وهُ م أ� ُّ من من ال�صبح -مل يربحوا ذكر ق�صة اختفاء �إخوتها. وذات ي ��وم ،بينما ك��ان��ت تلهو وت�ل�ع��ب مع �صويحباتها من بنات احلي ،طفقن يهمزنها ويغمزنها وي�صفنها بالنح�س ال ��ذي ح ّل ب�أهلها ،وين َعتْنها بطاردة �إخوانها. �ساء كالمهن الالذع الطفلة ،وح ّز يف نف�سها �أن تو�صف مبا ن َعتْنها به ،فانكف�أت على نف�سها تبكي وت�ن��وح ،وازو َّرت عن �أمها ال تك ّلمها، وامتنعت عن امل�أكل وامل�شرب. ا�ستاءت والدتها كثري ًا وبقيت يف حرية و ٍّ �شك من �أم��ر ابنتها� ،إذ حت�س�ست من حم ّياها الكئيب ال��ذي بدت عليه عالمات ال�شحوب والذبول �أن ه ّم ًا ثقيال �أ ّمل بها ،وهي ت ُِ�س ُّره يف نف�سها وال تبديه لها ،فاقرتبت منها و�ض ّمتها �إىل �صدرها ،و توددت �إليها وتو�سلت راجية منها �أال تكتمها خ�ب�ر ًا �أو � �س � ّر ًا ،و�س�ألتها عما نزل بها و�أب��دل فرحتها ك�آب ًة ،و�أورثها ق�ع��ود ًا وان ��زواء وانكفاء ،فنرثت لها ما يف وهم ،و�أخربتها ب�أن حقينة �صدرها من غم ٍّ
قال الراوي 98 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�صويحباتها ين َعتْنها بامل�ش�ؤومة التي تف َّرق �إخوتها يوم ميالدها ،فقالت الأم :كذبن يا حت�س ْد َنك لأنك �أجملهن ،ومتى ُبنيتي� ،إمنا ُ علمهن بهذا الهراء الذي تفرتي َنهُ ،وقد كنّ �صبايا يف مثل �سنك؟.
رحلة البحث عن اليقني
خفف ك�لام الأم م��ن ح��زن وك��آب��ة البنت، ولكنها ظ�ل��ت حت�م��ل ب�ين ج��وان�ح�ه��ا رغبة وتطلع ًا ملعرفة احلقيقة ،وكلما كربت وا�شتد عودها احت ّد واحتدم يف قلبها ال�س�ؤال عن حقيقة ما يزعمه النا�س وتكذبه �أمها ،فلما بلغت احللم عقدت العزم على طرد ال�شك باليقني ،و�أقنعت �أمها �أنها ال حمالة �سائرة ت�سائل الركبان عن �إخوانها ،ف�أ�شفقت الأم حلالها ّ الهم ورق قلبها لها وقد اخْ رتمها ّ نحاف ًة ،فجهزت لها َج�ه��ازه��ا ،واخ�ت��ارت لها جم ًال �أبي�ض من �أجود جمالها ،و�أمرت اخلادم /ال َأمة «ك ْمبة» �أن ت�صطحبها وتقود بها اجلمل ،و�أو�صتها �أن ترعاها وتعتني ب���ش��ؤون�ه��ا ح�ت��ى ت�ن��ال مبتغاها ،وق�ب��ل �أن تودعهما قطعت الأم ل�سانها ،وا�ستودعته بنتها ،و�أ�شارت عليها بحفظه و�صونه وعدم التفريط به. اعتلت البنت ظهر مطيتها وانطلقت وال َأمة تقود بها ،وقطعتا م�ف��ازات ق�ف��ار ًا ،وطال بهما امل�سري حتى غلب العياء على ال َأم��ة، ف��ا��س�ت��أذن��ت �سيدتها �أن جُتل�سها جنبها على املطية ك��ي ت�سرتيح م��ن عناء امل�شي ال�شديد الذي تف ّلحت ب�سببه قدماها ،غري �أن ال�شجر واحلجر ول�سان الأم ت�صايحوا ج�م�ي�ع� ًا :ال ،ال ،ال ت��دع�ي�ه��ا ت��رك��ب معك، أن�سيت و�صية �أمك؟. ويحكِ � ، تابعتا ال�سفر الطويل ال�شاق ،وال َأمة تكابد العناء والعياء ،وتلتم�س من �سيدتها ك ّرة بعد �أخرى �أن ت ُْدنيها وجتل�سها حيث جتل�س، في�صيح الل�سان وال�شجر واحل�ج��ر :ال ،ال تفعلي� ،إياك �أن تع�صي �أمر �أمك. ا�ستمر احل��ال على ذل��ك حتى خ��ارت قوى ال َأمة ومل تعد تقوى على ال�سري على الأقدام، فا�ست�أذنت �سيدتها �أن تنزال بواد فيه نخل
زوجات األخوة أطعمنها بيضة حنش فنَما من جرائها في بطنها ثعبان ثم ُقلن ألخيها : إن أختك حامل من زنا ري ،فوافقتّ ، وحطتا الرحال بذلك ومتر وف ٌ الوادي لأخذ ن�صيب من الراحة. �آوت البنت «�سري�سر ذهبو» �إىل ظل نخلة، وجل�ست ت�أكل التمر ،ودلفت �إليها ال َأم��ة ثم قالت :ناوليني الل�سان كي �أ�ضعه على ُعرجون نخلة لئال ينْتنَ َ �أو يتعفن ،ففعلت، وب �ع��د �أن ا��س�تراح�ت��ا ق�ل�ي� ً لا و�أط �ف ��أت��ا ن��ار اجلوع ،تز ّودتا من التمر ،و�أخذتا متاعهما ووا�صلتا م�سريهما بحث ًا عن الإخ��وة حتى ا�ست�شعرت ال َأمة التعب ينتابها من جديد، فالتم�ست ك ّرة �أخرى من �سيدتها �أن تُركبها جنبها ،ف�إذا ب�أ�صداء الأ�صوات ت ُع ُّم الف�ضاء �آتية من بعيد ،فتذكرت «�سري�سر ذهبو» ل�سان �أمها ،و�س�ألت اخل��ادم /ال َأم��ة عنه، ف�أجابت :لقد ن�سيته �إذ �أوينا �إىل النخلة، وقد ابتعدنا كثري ًا عن ال��وادي ،ولن نرجع على �أع�ق��اب�ن��ا م��رة �أخ ��رى� .أحل��ت الفتاة على الأم��ة �أن ت��رت��دا على �آث��اره�م��ا بحث ًا عن الل�سان ،لكنها نهرتها ب�شدة وع ّنفتها، فالذت بال�صمت ،ووا�صلتا امل�سري.
خيانة «كمبة»
�أنهك العياء «كمبة» والتم�ست من «�سري�سر ذهبو» �أن جتل�سها معها على ظهر املطية، لكنها �أبت ،ف�أرغمتها «كمبة» على النزول بالقوة و�أكرهتها على �أن تقود بها اجلمل، ومل جت��د ُب�� ّد ًا م��ن تلبية طلبها ،فرتجلت و�أم�سكت با ُ خلطام ،و«كمبة» ت�سخر منها
مست قطرات من دمها ّ ثوب أخيها ولم يفلح في محوها فانطلق إلى الحكيم فأخبرها أن بينه وبين الفتاة صلة رحم
وتنفجر �ضحك ًا ،وتكيل لها ال�سب وال�شتم.
نهر اللنب
وا�صلتا ال�سري طوي ًال ،والتعب يت�سلل �شيئ ًا ف�شيئ ًا �إىل الفتاة ،وكلما ه ّمت بالتوقف قلي ًال لال�سرتاحة نهرتها «كمبة» ب�شدة �آمرة �إياها بالإ�سراع ،حتى �ألفيتا نهر ًا �أو وادي ًا من اللنب ،ف�أمرتها بالتوقف و�أجربتها على م�ساعدتها للنزول من على اجلمل، ث��م عمدت �إىل �شعرها الناعم فق�صته، ثم ق�صت �شعرها املجعد و�أل�صقت مكانه جدائل من �شعر الفتاة الناعم بوا�سطة «ال� ْع� ْل� ّ�ك» �أي ال�صمغ العربي ،ث��م ارمت��ت بوادي اللنب فتغيرّ لون ب�شرتها ،و�أ�صبحت بي�ضا َء نقية.
نهر القطران
ع��ادت «ك�م�ب��ة» بعد اال�ستحمام وامتطت امل�ط�ي��ة ،وا�ست�أنفتا م��ن ج��دي��د �سفْرتهما ال �� �ش��اق��ة ح �ت��ى ا� �س �ت �ب � ّد ال �ت �ع��ب ب��ال�ف�ت��اة فنا�شدتها �أن ت�سمح ل�ه��ا ب��ال��رك��وب �إىل جنبها ،لكنها رف�ضت ،ف�أ�صبحت الفتاة ت�سري بتثاقل �شديد وك�أنها حت ُبو حتى وجدتا قطران ،ف� َأمرتها «كمبة» بالتوقف نهر ًا من ِ عند �ضفته ،ثم نزلت عن املطية ،وباغتت الفتاة و�ألقتها يف النهرَ ، فطالها القطران وا�سو ّدت ب�شرتها ،ثم �أخذت «كمبة» املاكرة ب�ق��اي��ا � �ش � ْع��ره��ا امل �ج �ع��د ف��أل���ص�ق�ت��ه على ر�أ�سها ،ف�أ�صبحت �شعثا َء جمعدة ال�شعر، ثم وا�صلتا رحلتهما حتى بدت لهما خيام من�صوبة يف فالة ،فاجتهتا �صوبها ،ونزلتا �ضيفات على �أهلها. حدثت «كمبة» النا�س عن �سبب َمقدمهما و�س�ألتهم عن الإخ��وة ال�سبع ،وذك��روا لها �إخوة ذكور ًا يدعى �أكربهم �أحمد ي�سكنون غري بعيد عن مقامهم ،ف�صاحت «�سري�سر ذهبو» :هُ ْم واهلل �إخوتي، واف��رح �ت��اه ،ن �ظ��رت �إل�ي�ه��ا «ك�م�ب��ة» � �ش��زْ راً ون�ه��رت�ه��ا ،ث��م انطلقتا رف �ق��ة بع�ض �أه��ل اخليام حتى و�صلتا منازل الإخ��وة ال�سبع،
ف���س��ارع��ت «ك�م�ب��ة» �إىل ال �ن��زول م��ن على املطية وهي ت�صيح ب�أعلى �صوتها :يا �أحمد، �أنا �أختكم «�سري�سر ذهبو».
لقاء الأخوة
فرح الإخ��وة مبقدم �أختهم ونحروا و�أكلوا و�شربوا وابتهجوا� ،إذ مل يعلموا من ذي قبل �أن لهم �أخت ًا ،وظلوا يكرمونها ويغدقون لها العطايا� ،أما «�سري�سر ذهبو» ال�سوداء فقد عاملوها معاملة اخل��دم والعبيد والإم��اء،
حتتطب وت��رع��ى اخل�ي��ول ،وتق�ضي النهار تبكي وتنتحب وتبتلع ريق الأ�سف واحل�سرة، وال تروح �إال �ضامرة خاوية طاوية ،وال جتد من الطعام �إال ما ُ ف�ضل عنهم ،فازدادت مع مرور الليايل و�سوء احلال نحافة وك�آبة.
وبينما كان يسير في الفالة أبصر نسر ًا ينقض على حنش فبادر إلى نجدته فشكر له الثعبان صنيعه ووعد برد الجميل
وذات ي��وم خ��رج �أخ��وه��ا الأك�ب�ر �أح�م��د يف طلب حاجة ،ف�سمع �صوت ًا �شجي ًا ينبعث من املرعى فاجته نحوه ،ف�إذا باخليول تبدو من بعيد وهي ترتاق�ص ُم ْن ِت�شية ُم�ست�أن�سة بهذا ال�صوت ال�شجي ،ودلف نحوها ف�إذا بال َأمة الراعية تن�شد وتغني ب�صوت رائق ،والدموع ت�ب�ل��ل خ��دي �ه��ا ،واخل �ي��ول ت ��دور ح��وال�ي�ه��ا، ف �ج��ذب �ه��ا ج ��ذب� � ًا ���ش��دي��د ًا م ��ن ذراع �ي �ه��ا وع ّنفها و�ضربها �ضرب ًا �أليما وهو ي�صرخ يف وج�ه�ه��ا :مل �أر��س�ل�ن��اك؟ للغناء واللهو
قال الراوي 100 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
من�صوبات ،و�أن يتخذ لنف�سه مكان ًا ّ يطلع من خالله على كل ما يحدث يف اخليمة دون �أن ي��راه من بداخلها ،ثم �أ�شار عليه ِبذبح كب�ش �سمني وطهوه وتقدميه للوافدتني ،ولينظر ما الذي �ست�صنعان؟.
�أمي� ،أمي التي ال �أعرف عنها خرب ًا �سوى �أين تركتها وحيدة .امتلأت «كمبة» حنق ًا وغيظ ًا من تذكرها �أمها فعاجلتها ب�ضربة �أ�سقطت اللحم جت�سر بعد على م ّد يدها لتناول من يدها ،ومل ُ الطعام� ،أما «كمبة» فقد وا�صلت الأكل ب�شراهة حتى �شبعت.
�أم للرعي� ،أل �ه��ذا ت��روح اخل�ي��ول خما�ص ًا وق��د ك��ان��ت ت��روح م��ن ق� ْب� ُ�ل ب�ط��ان� ًا؟ .خلف ال�ضرب جروح ًا ت ُنز وتنزف يف ج�سد الفتاة وم�ست قطرات من دمها ثوب امل�سكينةّ ، �أحمد الذي عاد �إىل خيمته و�سارع �إىل نزع ثيابه وغ�سلها وتطهريها من �آثار الدم ،لكنه مل يفلح يف حموها و�إزالتها بعد حماوالت عديدة وليمة للأخت والأمة متكررة ،فانده�ش وانتا َبه قلق وخوف ،فانطلق عاد �أحمد �إىل خيمته و�أمر �أهله ب�إعداد الوليمة ،عقاب «كمبة» �إىل احلكيم /القا�ضي ّ وق�ص عليه الق�صة .ودع��ا �إليها ك ًّال من «كمبة» و«�سري�سر ذهبو» اكت�شف �أحمد و�إخوانه �أمر «كمبة» ،ور�أوا �صمت احلكيم مل ّيا ثم �س�أله :هل تربطك بهذه ُم�ظ�ه��ر ًا لهما احل �ف��اوة و مجُ ��دد ًا ب�أم �أعينهم كل ما �صنعت ،فا�ستيقنوا من امل��ر�أة عالقة دم �أو رحم ؟ فقال :ال ،ال �أظن، ال�ترح �ي��ب ب �ه �م��ا ،وج �ل ����س مبكان مكرها وخداعها ،وقرروا �أن ينزلوا بها ما ث��م حكى ل��ه م��ا ك��ان م��ن �أم��ر �أخ�ت��ه وال َأم ��ة و خفي يرقبهما ،ف�إذا بـ«كمبة» تلتهم ت�ستحقه من عقاب ج��زا ًء وفاق ًا لت�ضليلها مقدمهما بعد �سفر طويل .وبعد �سماع الق�صة وال�سقط «املعدة والأمعاء» ل�ه��م وان�ت�ح��ال�ه��ا ��ص�ف��ة �أخ �ت �ه��م ،ف�ن��زع��وا الر�أ�س ِّ من مبتدئها �إىل منتهاها ،حدثه احلكيم ب�أن ثم ت�أكل اللحم ب�شراهة ،بينما مل املظالت ال�سبع «ال َب ْن َيات» ،و�سارع �أكربهم يف الأمر �شبهة قرابة دموية و�أوعز �إليه تتناول الفتاة �سوى قطعة من اللحم� ،إىل معانقة �أخته احلقيقية ملتم�س ًا منها �أن ين�صب خيمة كبرية ويجعل حتتها والدموع تغالبها وهي تقول� :آه لو العفو وال�صفح عما بدر منه ،ثم �أمر �إخوته �سبع « َب ْنيات» �أي مظالت �صغريات ا�ستطعت �أن �أبعث هذا اللحم �إىل �أن يقربوا ل��ه �أرب �ع��ة ج�م��ال ،و�أح �ك��م ربط �أط ��راف «ك�م�ب��ة» م��ع �أخ�ف��اف�ه��ا «�أرج �ل �ه��ا»، و�ضرب اجلمال فد َّبت وحتركت ب�سرعة، فتقطعت «كمبة» ُمزَ ع ًا وراح كل جمل بجزء منها .رج��ع �أح�م��د �إىل احلكيم و�أخ�بره مب��ا ك ��ان م��ن �أم� ��ر «ك �م �ب��ة» امل �خ��ادع��ة وم�صريها ،ثم �س�أله :كيف ال�سبيل �إىل تخلي�ص �أخته من ال�سواد الذي اعرتى ب�شرتها وغيرَّ �سحنتها؟ �أ� � �ش� ��ار ع �ل �ي��ه احل �ك �ي��م �أن يلتم�س «ع �ك��ة» وه��ي ع�ب��ارة ع��ن ك�ي����س ج �ل��دي ك��ال� ِق��رب��ة ي�خ��زن فيه خليط م��ن التمر واملاء وال�سمن ،وهو �شبيه مبا كانت ت�سميه العرب َ وال�س ْمنُ باحل ْي�س -ال َّت ْم ُر َّ احل ْي ُـ�س� ،إ َّال �أ َّنه لمَ ْ يخت ِلطْ، َمع ًا ُث َّم الأ ِق� ْ�ط َ وي�سميه �أهل ال�صحراء بال ُّر ِّب» ،وي�ضع �أخته فيها �أيام ًا معدودات حتى يتحلل عنها ما علق بها من �سواد.
غرية زوجات الأخوة
عاد �أحمد اىل �أهله و�صنع ما �أمره احلكيم به ،ومكثت �أخته بالعكة �أيام ًا ثم �شق اجللد و�أخ��رج�ه��ا بي�ضاء نقية ت�س ُّر الناظرين،
انبعث من قعر البئر المطمور صوت رخيم ينادي :أيتها الخيول و�ألب�سها ملحفة جميلة زادتها بهاء وجما ًال ،الوديعة ال تأكلي شعري ف�أعجبت بها زوجات �إخوانها �إعجاب ًا ت�سللت وتردد في المكان صدى من ف ْرطه الغرية �إىل قلوبهن ،ف�أ�صبحن أغنيات شجية شدت ي�ضايقنها ويرتب�صن بها الدوائر . انتباه الخيول وذات ي��وم د ّب ��رن مكيدة للتخل�ص منها
�إذ �أطعمنها بي�ضة حن�ش و�أجربنها على ابتالعها ،ف َنما م��ن جرائها يف بطنها ثعبان ،ثم ُقلن لأخيها �أحمد� :إن �أختك فاقرتب حامل من زنا ،و�إذا �شئت الت�أكد ْ من بطنها وا�ستم ْع �إىل حركة جنينها. احم ّر وجه الرجل من الغ�ضب ،وحتينّ فر�صة الختبار �صدقهن ،فاقرتب من �أخته وو�ضع ر�أ�سه على فخذها وق��ال :يا ابنة أ�م��يُ ،ح ّكي ر�أ�سي، وحينها �سمع حركة ُمريبة يف بطنها ،فوقع يف نف�سه �صدق الن�سوة ،وج ّرها جر ًا عنيف ًا ورماها يف قعر بئر ،وانهال عليها باحلجارة حتى َطمرها و َردم البئر ،ثم ان�صرف .
البئر واخليول
وج��دت «�سري�سر ذهبو» بقاع البئر مغارة َ الذت بها واختب�أت فيها زمن ًا طوي ًال حتى ّ ط��ال �شعرها و�أط �ل��ت بع�ض خ�صالته من خارج البئر ونبتت كما تنبت الأع�شاب الربية. ير بعيد ع��ن امل�ك��ان ،كانت ُ خيل رجل وغ� َ غني ترعى على مقربة من البئر ،وتق�ضم الأع�شاب املنت�شرة على جنباته ،وحتاول ق�ضم �شعر ال �ف �ت��اة ال ��ذي ال مت �ي��زه عن الأع�شاب ،فينبعث �صوت رخيم من قعر البئر املطمور� :أيتها اخليول الوديعة ،ال ت�أكلي �شعري ،ثم ي�تردد يف املكان �صدى �أغنيات �شجية ت�ش ّد انتباه اخليول التي ت�صغي بانت�شاء وتلف وت��دور ح��ول املكان وال تربحه حتى تغيب �شم�س النهار فرتوح �ضامرة جوعى. وم��ع م��رور الأي ��ام� ،أ��ص��اب اخل�ي��ول ه��زال �شديد ،فانتبه �صاحبها ل�سوء حالها ف�س�أل جتد اخليول الكلأ الكايف �أم الراعي :هل ُ �أن املرعى قد �أجدب و�أ�ضحى ُمقفرا بعد �أن كان ُم ْر ِبع ًا؟ �أجابه الراعي� :إن الأر���ض ال تزال خ�صبة وم�ل�آى بالأع�شاب ،ولكن اخليول تن�شغل
ب�صوت ��ش��ادٍ ينبعث م��ن ج��وف البئر ،مل وتوعده بالعقاب ي�صدق الرجل كالم الراعي ّ �إن كذب عليه .ويف ال�صباح ا�صطحبه �إىل املرعي ليرُ يه حقيقة ما روى له.
زواج �سري�سر بالرجل الرثي
ر�أى ال��رج��ل ب ��أم عينيه اخل�ي��ول ت�ن��زَ ع �إىل اال�ستمتاع بالغناء ال �ع��ذب ال ��ذي ال ُي��رى م�صدره ،وبد�أ يحفر مبعونة الراعي ويزيل احلجارة املركومة على البئر حتى بلغ مو�ضع امل��اء ،ف���إذا ب��ام��ر�أة جميلة �شديدة بيا�ض الب�شرة �شديدة �سواد ال�شعر تَظهر وتُطل بر�أ�سها من مغارة بجانب ا ُ جل ّب ،ف�أخرجها و�أكرمها و�س�ألها من تكون؟ ومن الذي �ألقاها يف القليب ،وبعد مدة تزوجها و�أجنب منها بهي الطلعة. طف ًال جمي ًال ّ و��س��ارت بخرب زواج�ه��ا و�إجن��اب�ه��ا الركبان وتناهى �إىل �إخوتها ما انتهت �إليه من �سكينة وطم�أنينة يف ع�صمة رج��ل غ�ن��ي ،فخرج �أكربهم يتح�س�س خربها ،فاهتدى �إىل احلي الذي تقيم فيه ،و�أقام متن ِّكر ًا ق ْرب منزلها. وبينما كان ي�سري يف الفالة ذات يوم� ،أب�صر ن�سر ًا يريد �أن ينق�ض على حن�ش فبادر �إىل جندته ،ف�شكر له الثعبان �صنيعه ،ووعد برد اجلميل عاج ًال �أم �آج ًال .
تعصم فكرت في حيلة ْ بها إخوتها من المكيدة دون أن يتفطن لها زوجها وأصحابه ونجحت
�إنقاذها لإخوتها
مكث الأخ �أيام ًا باحلي يرتب�ص ويرت�صد للقاء �أخته �إىل �أن ر�آها ذات �صباح وهي يف طريقها �إىل املنزل فا�ستوقفها ليتحدث �إليها ،فل َم َحه زوجها من بعيد وغا َفله حم��او ًال قتله ب�سكني، لكن احلن�ش كان �أ�سرع من طعنته� ،إذ التوى على رقبته وهدده بالقتل �إن مل يلق ما بيده ويرتك الرجل مي�ضي حلال �سبيله �سامل ًا ،ف�ألقى الزوج املُدية وهو يرتعد ف َرق ًا وخوف ًا من الثعبان. ع��اد �أحمد �إىل �أهله �سامل ًا معافى و�أخ�بر �إخوته بكل ما ج��رى ،و�أنب�أهم عن �أختهم التي حتول حالها �إىل �أح�سن حال ،و�أجمعوا �أم ��ره ��م ع �ل��ى � �ش��د ال ��رح ��ال �إىل امل �ك��ان الذي تقيم فيه .وملا علم زوجها ب� ْأمرهم ف ّكر ود ّب��ر بمِ ع ّية �أ�صحابه خطة للإغارة عليهم واخل�لا���ص منهم ،لكن «�سري�سر ذه�ب��و» �سمعت جن��واه��م واطلعت على ما ُيبيتونه لإخوانها من غدر وغيلة ،ف�ساءها م��ا ي�ك�ي��دون ،وف�ك��رت يف حيلة ت ْع�صم بها �إخ��وت�ه��ا م��ن امل�ك�ي��دة دون �أن يتفطن لها زوجها و�أ�صحابه ،وملا ا�سودّت فحمة الليل �أخذت �إ ْبرة وطفقت توخز طفلها وتغْرزها رج�ل��ه ،فتنهمر دموعه ويعلو �صراخه، يف ْ وتتظاهر مبحاولة تهدئته و�إ�سكاته ،وهي تغني له ُم�شعرة و ُمنا�شدة �أخاها بالهرب وفق اخلطة التي �ض ّمنتها �أغنيتها: اح َم ْد َ�سدّي �أَ َر َر ْيدّا َي ْ �أَ َر َر ْيدّا َيا ْو ْل ْد امِّي �أَ َر َر ْيدّا هْ ربو هّ ْربو ا�س ْعدُو �أَ َر َر ْيدّا ْوال ّن ْ �أَ َر َر ْيدّا ْن ْف ُخو املْ ْ�س َكي �أَ َر َر ْيدّا َخ ُّلو ْه ْم ْتكي �أَ َر َر ْيدّا ا ْر ْكبو امل َ ْل ُجو ْم �أَ َر َر ْيدّا َخ ّلو امل َ ْك ُعو ْم ا�ستمع االخ��وة و�أن�صتوا ج�ي��د ًا لأغنيتها وفهموا معناها ،فنفخوا ال ِق َرب وو�ضعوها ف��وق �أفر�شة نومهم ،و َك َعموا الإب��ل كي ال ُي�سمع لها رغاء ،وامتطوا اجلياد وانطلقوا يف الفالة
102 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
سيمياء
في أسئلة ال ُهوية السردية
عائ�شة الدرمكي aishaaldarmaki@hotmail.com
عندما
ن��ود درا�سة خطاب الأدب امل ��روي ف���إن �أول م��ا ميكن مالحظته هو اختالفه عن الن�ص الأدبي املكتوب ،ففي خطاب الن�ص الأدبي املروي نعرث على �صوت الراوي بال�ضرورة ،وهذا ال�صوت يخرتق ن�سيج امللفوظ بعنا�صر امللفوظية بو�صفها م��ؤ��ش��رات ال�شخ�ص املتلفظ ،ومكان وزم��ان التلفظ� ،إ�ضافة �إىل كيفيات التلفظ التي حت��دد موقف املتلفظ من فعل التلفظ ذاته ،مثل موقف ال�ت��أك�ي��د وال�ي�ق�ين وال���ش��ك واالح �ت �م��ال، �إ��ض��اف��ة �إىل م ��ؤ� �ش��رات �أخ ��رى ال حتدد موقف املتلفظ من فعل التلفظ ذاته ،بل حتدد موقفه مما يقول.وهذا يعني �أن من �أب��رز خ�صائ�ص ملفوظ ه��ذا املقام كما يقول عبد الوا�سع حيمر ،ح�ضور �صوت املتلفظ و�صياغة ملفوظه اعتماد ًا على �ضمائر احل�ضور ،وبالذات �ضمري الذات املتلفظة ،بو�صفه مركز املقام «الإ�شاري» و�ضمري املخاطب ال��ذي يقابله يف ذلك املقام ،وي�شاركه فيه كما يعتمد ملفوظ ه��ذا اخلطاب على عالمات لغوية ،من �ش�أن بع�ضها �أن يحيل على مقام التلفظ، من حيث وجود الذات املتلفظة يف الزمان واملكان مثل ،الآن ،وهنا ،وهناك ،ومن �ش�أن بع�ضها الآخر �أن يحيل على امل�سافة التي يقيمها ال�صوت املتلفظ يف امللفوظ �إزاء ما يعلنه ،ويقوله يف ملفوظه مثل �صيغ ال�شك والريب والرتجيح ،ومن ذلك لفظة «رمب��ا» و«ق��د» و«ممكن» و«يقال» ،ي�ضاف �إىل ذل��ك �أي�ض ًا ان�ف�لات بع�ض عنا�صر اخلطاب �أو مكوناته �أثناء احلديث فكل را ٍو يروي احلكاية كما �سمعها وقد ي�ضيف �أو يحذف ق�صد ًا �أو بغري ق�صد ،ثم قدرة الراوي على اال�سرت�سال و�سبك اخلطاب ب�شكل �أكرث �أدبية ،الذي ي�صنع الت�شاكل ال�سردي يف الن�ص بحيث تظهر احلكاية وك�أنها متتالية من الأح��داث يكون فيها
املمثلون كائنات حية فاعلة �أو منفعلة مع احلدث يف احلبكة احلكائية. و�إذا كانت الثيمة هي جمموعة من القيم املتناثرة داخ��ل الن�ص والقابلة للتج�سد يف م�سارات متنوعة يف الن�ص الأدبي ف�إن «ال ُهوية» بو�صفها ثيمة عامة للن�ص الأدبي امل��روي خا�صة حتتاج دوم� ًا �إىل التكثيف والرتكيز الذي �إىل �سي�ؤدي �إىل ما ي�سمى بـ«البعد الثيمي» ،وهذا البعد يتم تركيزه وتكثيفه يف «احلبكة» التي ت�شكل الوحدات ال�سردية ال�صغرى التي يت�شكل منها ال�سرد ال��ذي ي�شكل امل��ادة احلكائية يف الن�ص الأدبي املروي �أو املكتوب ،ذلك لأنه يقوم برتكيب امل��ادة التخيلية ،وينظم العالقة بينها وبني املرجعيات الثقافية والوقائعية، مم��ا يجعلها ت��ن��درج ��ض�م��ن ع�لاق��ات مزدوجة مع تلك املرجعيات التي تتمثل يف ال�شخو�ص والأحداث والأزمنة والف�ضاءات املكانية ،كل ذلك �سي�شكل الن�ص الأدبي عن طريق احلبكة التي �ستتكفل بالهوية املفهومة �سردي ًا والتي ميكن �أن تدعى هوية «ال�شخ�صية» ،لأن مفهوم �صياغة احلبكة حني انتقاله من �سري الأح��داث �إىل �شخ�صيات ال�سرد الق�ص�صي يولد كما يقول ريكور «ديالكتيك ال�شخ�صية الذي هو بال�ضبط ديالكتيك الهوية العينية والهوية الذاتية» . �إن احلبكة متثل يف الن�ص احلكائي هُ وية خا�صة م��ن حيث �أن �ه��ا تتميز بعبارات دينامية على �أن �ه��ا تناف�س ب�ين مطلب تعر�ض التوافق والت�سليم بوجود تنافرات ِّ ه��ذه الهوية للخطر ،وذل��ك حتى نهاية الق�صة ك�م��ا ي�ع�بر ع��ن ذل��ك ري �ك��ور يف كتابه«الزمان وال�سرد» ،وهو هنا يق�صد بكلمة «توافق» مبد�أ النظام الذي يرت�أ�س ما يدعوه �أر�سطو يف «فن ال�شعر» بتن�سيق ال��وق��ائ��ع� ،أم��ا كلمة «ت�ن��اف��ر» فيعني بها تقلبات ال��ده��ر واحل��ظ ال�ت��ي جتعل من
سيمياء
احلبكة تغيري ًا م�ضبوط ًا انطالق ًا من و�ضع �أويل وو�صو ًال �إىل و�ضع نهائي ،وعلى ذلك ف�إنه يطبق هنا تعبري الت�صوير �أو الر�سم على فن الت�أليف ،الذي يقوم بعمل التو�سط بني التوافق والتنافر � .إن هذا الرتابط بني احلكاية واحلبكة وال�شخ�صية طرحه �أر�سطو كونه م�سلمة يف كتابه «فن ال�شعر» ،وهناك يبدو الرتابط وثيق ًا �إىل درج��ة �أن��ه ي�أخذ �صورة التبعية ،فال�شخ�صية يف احلكاية مع ميزاتها بوحدتها ومتف�صلها الداخلي يف عملية �صياغة احلبكة ،حتافظ على امتداد املحكي على هوية مرتابطة مع هوية احلكاية نف�سها التي متت �صياغتها �سلف ًا � ،إذ جند �أن ال�شخ�صية تتفرد بخ�صائ�صها احل�سنة �أو ال�سيئة وتظل حمافظة عليها حتى نهاية احلكاية .وعلى �أن املرويات ت�ساعد على حتويل الغريب �إىل م�ألوف ،حني تو ِّفر البنية والقدرة على التوقع والرتابط وعلى ذلك فهي مماثلة ملخطط الأحداث امل�ألوفة يف احلياة اليومية ،ويبدو �أن حتويل التجربة �إىل مرويات� ،سمة �أ�سا�سية يف �سعي الإن�سان �إىل �صناعة املعنى� ،إذ يعتقد ت�شاندلر �أن ال��رواة ميلكون «اال�ستعداد �أو التهي�ؤ لتنظيم التجربة يف �شكل �سردي ،وي�شجعهم على ذلك الت�آلف مع املجتمع حيث تبنى طرق ثقافتهم يف احلكاية» ،لكن �إىل �أي مدى ميكن �أن نقول ب�أن الرواة لديهم هذه القدرة ؟ و�أن احلكاية �ستتفرد بثقافة وهوية خا�صة جد ًا �إذا ما عرفنا �أن احلكاية ال تخرج عن �أبعادها احل�ضارية واملعرفية ال�ضاربة يف القدم � ،إذ �سنجد يف كثري من احلكايات يف الوطن العربي على �سبيل املثال مت�شابهة متام ًا �أو تكاد – �إذا ا�ستثنينا بع�ض التفا�صيل الدقيقة ،-وهذا الت�شابه ال يعني �أي�ض ًا وال يدل على تقارب تلك ال�شعوب �أو تباعدها حيث �سنجد حكايات تبتعد بنا عن الإطار املعريف العربي �إىل �إطارات عاملية رومانية �أو يونانية �ضاربة يف القدم� ،أو قد تعود بنا �إىل �أعمق و�أبعد من ذلك فبع�ض احلكايات تبتعد يف حبكتها �إىل الوثنية القدمية �سيما احلكايات اخلرافية �أو الأ�ساطري . يخربنا املنظر ال�سردي الرو�سي فالدميري بروب يف كتابه «موفولوجيا احلكاية» �أنه ح َّلل مئة حكاية من حكايات اجلن، وكلها ت�ستند �إىل تركيبة �أ�سا�سية واح��دة ،واخ�ت��زال هذه احلكايات �إىل ما يقارب الثالثني وظيفة ،يف حماولة لدرا�سة الأ�شكال وو�ضع القوانني التي حتكم بنية احلكاية� ،إ َّال �أنه بعد هذا اجلهد الكبري يف التحليل والتقنني يختم بحثه ب�أهمية درا�سة البنى الداخلية للحكاية من ناحية وتعذر احلكم النهائي على ق��درة تلك القوانني على اح�ت��واء احلكايات
جميعها فهناك حكايات ذات �أمن��اط بنائية متفردة .و�إن كان هذا ر�أي بروب الذي تعمق طوي ًال يف درا�سة احلكايات نواح متعددة، ف�إن الأمر �سيبقى دوم ًا مثار نقا�ش وجدل من ٍ ذلك لأن هُ وية احلكاية خا�صة والأدب عامة �إمنا هي هُ وية �شكلية وال تتعدى �أن تكون كذلك ،وما �أق�صده هنا هو تلك الإ�ضافات التي ي�ضيفها الرواة والواحد تلو الآخر عرب حقب تاريخية متتابعة على م�ستوى تفا�صيل ال�شكل كالف�ضاء الزماين �أو املكاين �أو رمبا اللبا�س �أو ا ُ حللي �أو رمبا م�سميات الأ�شياء والأدوات وهكذا �سنجد �أن احلبكة تظل كما هي يف كل الأحوال ،ولو �أخذنا حكاية «�سندريال» على �سبيل املثال ف ��إن احلبكة �ستبقى مرتبطة بالفتاة اليتيمة املعذبة من ِقبل زوجة الأب ،والتي �سوف تنقذها قوى خارقة من هذا العذاب ،و�سوف تلتقي بالرجل الذي ميثل املكاف�أة عرب عتبة معينة «احل ��ذاء ،ال�شعرة ،»...ه��ذه احلبكة �سنجدها يف احلكايات كلها التي تدور يف هذا الإطار �إ َّال �أن ال�شكل �سيتغري بعد ذلك كثري ًا عندما تكون احلكاية يف دولة من دول اخلليج العربي مث ًال بدء ًا من امل�سمى وانتها ًء بالتفا�صيل الدقيقة، وهي تختلف �أي�ض ًا حتى يف وجودها يف هذه الدول ،بل الأكرث من ذلك قد تختلف حتى يف الدولة الواحدة من منطقة �إىل �أخرى �أو قرية و�أخرى . ً ً �إننا نتحدث هنا عن هُ وية ت�أخذ عمقا تاريخيا من ناحية احلبكة واملو�ضوع والبنية ،وبعد ًا مميز ًا من ناحية ال�شكل، وهي هُ وية تعرب عن وعي الذات ال�ساردة ب�أهمية احلبكة من ناحية -التي متثل امل�ضمون -و�أهمية ال�شكل من ناحية �أخرى ولوال ذلك لبقيت احلكاية ذات ُبعد عام غري م�ستقر ،وهما مع ًا – �أي ال�شكل وامل�ضمون – ي�شكالن خطاب ًا اجتماعي ًا يعترب مبثابة الظاهرة االجتماعية اخلا�صة التي يتميز بها كل �شعب على حدة «�سواء �أكان �شعب عام �أو خا�ص» ،ليو�صف هذا اخلطاب ب�أنه – كما يقول باختني «اجتماعي يف جمموع جم��االت وج��وده وعنا�صره ،ابتداء من ال�صورة ال�سمعية وو�صو ًال �إىل الت�صنيفات الداللية الأكرث جتريد ًا». يف احلقيقة �إننا ال ن�ستطيع �أن نف�صل كثري ًا يف مثل هذا املو�ضع عن �س�ؤال ال ُهوية ال�سردية املميزة ،لأن ال ُهوية يف الأدب عامة حتكمها عنا�صر متعددة بدء ًا من املكون اللغوي ومنه �إىل اخلطاب ثم البنيات ال�سردية والعنا�صر ال�سردية التي ت�شكل هذا الن�ص ،وانتها ًء بالعالقات الداخلية التي حتكم الن�ص ثم وظائفه .ولعلنا يف مقاالت قادمة �سنفرد لكل من تلك العنا�صر مقا ًال خا�ص ًا به
طقوس 104 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
ين�سبه الباحثون باخلط�أ �إىل الفنون ال�شعبية
الزار ..
طقس أم فن؟ ٌ �أبوظبي -عبد اجلليل ال�سعد
يختلف النا�س كما تختلف تف�سريات املفكرين واملنظرين ملجموعة امل�صطلحات ال�شعبية ال�شائعة يف املجتمع� ،إما بغياب التف�سري املبدئي الأول وتاريخ هذه التف�سريات� ،أو ب�إقحامات مغر�ضة لطم�س �أو تغيري هذا اال�صطالح� ،إما لغر�ض خا�ص �أو لطم�سه حتويره ليخدم فئات معينة �أو جمموعات خا�صة� ،أو ملجرد كونه منافياً للعرف �أو الدين �أو العادات املتوارثة.
الزار لي�س فن ًا �شعبي ًا
و«ال� � ��زار» م��ن امل���ص�ط�ل�ح��ات ال �ت��ي �أ� �س��يء ا�ستعمالها �أو ا�ستخدامها ،كونه طريقة عالج �أو طق�س ًا �أو فن ًا �شعبي ًا �أو تعوي�ض ًا لعمل الطبيب ال�شعبي كطبيب �أم��را���ض نف�سية «�شيخ �أو �شيخة الزار» ،وقد ا�ستمر هذا التخبط حتى يومنا هذا ما بني تخبط البحاثة الرتاثيني �أو املثقفني التنظرييني �أو دعاة الفنون ال�شعبية واعتقادهم بتبعية ال��زار لعلم �أو م�صطلح الفنون ال�شعبية ال�ستخدامه �أدوات مو�سيقية �شعبية وامتالكه حلنه البدائي اخلا�ص «�أ�سوة بالفنون ال�شعبية وجمموعة الأحلان املتقاربة واملت�شابهة بني فن الزار ومتايل فن ال�سامري وقرب �أحل��ان الليوه مع �أحل��ان ال��زار» وعامل الأداء «احلركة �أو الرق�ص جم��از ًا» وختام ًا
عرفت الصومال قديما فن ًا أو طقس ًا يسمي «السار» وهو قريب من الزار ويعتقد أن التسمية هي جزء منها أتت من هذا االسم
ال �� �ص��وت و� � �ض� ��رورة ج�ه��وري�ت��ه كباقي الفنون ال�شعبية ،لذا طغى احلذر معظم املناق�شات يف هذا ال�ش�أن كما طغى الطم�س والبعد عن التنقيب يف �أ�صل وامتداد الزار حملي ًا �أو عربي ًا �أو عاملياً لالرتباطات التي ميلكها يف موقع الفعل عند ممار�سته والنظرة العامة له. ت�أخذ كلمة زار يف اللغة اجلانب ال�سيئ من الزيارة� ،أي �أن هذا الإن�سان قد زاره جني �أو روح �أو م�س مل ي�دُع ،وا�ستوطن ج�سد هذا الإن�سان ،كما تعني اقرتان ًا � �ش �ي �ط��ان �ي � ًا ب��الإن �� �س��ان، والب ��د م��ن �إخ��راج��ه ك��ي يعي�ش ه��ذا الإن���س��ان حياته الطبيعية. يقال �إن الزار لغوياً �أتت من اللغة الأمهرية ثم انتقلت كما هي �إىل العربية مبعنى زيارة مبا حتويه هذه الزيارة من طقو�س وعادات ومو�سيقي وقناعات خا�صة وعامة ،واملق�صود ب��ال��زي��ارة ه��ي احل��ال��ة غ�ير امل�ستقرة �أو الثابتة لوجود هذا اجلن يف الإن�سان،
طقوس 106 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
وهي لي�ست دائمة كون الزار حالة مر�ضية غري ثابتة �أو عامة «الزار ال ي�صيب كل النا�س» وهي م�ؤقتة -كما ال��زي��ارة -كونها قابلة للإبراء واملعاجلة واالنتهاء بطريقة �أو ب�أخرى ،ووجد يف ال���ص��وم��ال ق��دمي � ًا ف��ن �أو طق�س ي�سمي «ال�سار» وهو قريب من الزار كذلك ويعتقد �أن الت�سمية �أو جزء منها �أتت من هذا اال�سم. �أ�صل الزار علمي ًا ومنطقي ًا كما ُعرف وتداول حفل �أو احتفال ذو حالة خا�صة ج��د ًا ،يقام بغر�ض ط��رد الأرواح وال�شياطني بتقدمي نوع مميز من الأ�ضاحي والقرابني بح�ضور ��ص��اح��ب ال �ع�لاق��ة و�أداء ب�ع����ض احل��رك��ات والرق�صات �شبه الإميائية كرق�ص ذي �إيقاع �شديد ال�سرعة وع��ايل ال�صوت ي�سهم فيه بع�ض املخت�صني واحل�ضور �أحيانا ،وي�سبب ال ��زار ملعتقديه وممار�سيه حالة انت�شائية للمري�ض وامل ��ؤدي واحل�ضور كال بقدر معني وح�سب موقعه من الطق�س ،واحلالة متعارف عليها يف الفنون ال�شعبية وهي الدخول يف حالة الأداء تغذيها املو�سيقى وامل�شاركة اجلماعية، لكن الزار ميتلك حالته اخلا�صة من االنت�شاء خلا�صية املعاجلة والعالقة باجلن والأرواح وعامل الغيبيات الذي من املفرت�ض �أن يعي�شه �ساحر الزار �أو طبيبه �أو القيم على املعاجلة و�أتباعه من امل��ؤدي��ن والعازفني واملن�شدين لكلماته و�أحل��ان��ه و�شالته للت�أثري بهذا على عالج �أو اجلني والروح املتلب�ساه، املري�ض �أو املُ ْ وذلك �سواء كان الطبيب �أو املعالج رج ًال �أو ام��ر�أة �شيخ ًا �أم �شيخة ،فالطقو�س واملكان وال�شخ�صيات والأ�ضاحي ال تختلف يف �أي من هذه الأمور يف الزار. يرجع بع�ض البحاثة ال��زار كطق�س �أو فن �أو ع��ادة �إيل حركة ال��رق وت�أثر منطقة اخلليج ب��ال��رق�ي��ق امل�ج�ل��وب�ين م��ن � �س��واح��ل �أف��ري�ق�ي��ا ومعهم لغتهم وفنونهم وعاداتهم ومنها الليوه والزار والطنبورة وجمموعة الفنون والعادات والأكالت ذات الأ�صل الأفريقي �إ�ضافة حلملة وناقلي ه��ذه الفنون وال �ع��ادات واملعتقدات، وا� �س �ت �م��ر م�ع�ظ�م�ه��ا ب ��أ� �س �م��ائ �ه��ا الأ� �ص �ل �ي��ة وقواعدها ،بينما امتزج الآخر باللون العربي، و�إن مل تخف البع�ض منها �أ�صولها الأفريقية
�أما باال�سم �أو املمار�سة الوا�ضحة واملُت�سم بها اجلن�س الأفريقي.
الزار طق�س �أفريقي
يعترب ال��زار �أ��ص� ً لا طق�س ًا �أفريقي ًا وي�سمى ح�سب املنطقة التي قدم منها �أو با�سم اجلن القادم من تلك املنطقة ،فالزار احلب�شي �أتى من احلب�شة «وي�سمى كذلك زار احلبو�ش» واملمبا�سي من ممبا�سا والنوبي من النوبة، كما وج��د ال��زار البانياين «البانيان تعريف للهندو�سي يف الهند» ،وت�سمى �أو تن�سب �إىل املنطقة التي قدم منها هذا اجلني �أو ذاك مثل الزار املغربي وامل�صري والبدوي والرتكي ويكمن اختالفها يف الت�سمية م��ن م�صدر الت�سمية ولي�ست الطقو�س فهي مت�شابهة وذات �أ�س�س �شبه ثابتة وممار�سات وطقو�س �شبه موحدة تعتمد كما ذكرنا على منع هذا
جاءت كلمة الزار من اللغة األمهرية ثم انتقلت إلى العربية بمعنى زيارة بما تحويه هذه الزيارة من طقوس وعادات وموسيقى وقناعات خاصة وعامة االقرتان ال�شيطاين بني الأن�سي واجلني� ،أما م�ؤدي هذا الطق�س �أو �شيوخه و�شيخاته ف�إما يتوارثون هذه ال�صفة �أب ًا عن جد �أو بالتعيني وتتم يف حالة وفاة �أحد من �شيوخ �أو �شيخات الزار حيث يتم تعيني خليفة له بالإجماع وعادة ما تكون لأكرثهم قرب ًا لل�شيخ ومعرفة بالزار، يعتمد التلب�س باجلان على نوع اجلان وهي ما حتدد طريقة �إخراجه فالزار احلب�شي تعني
�أن اجلني حب�شي الأ�صل والنوبي واملمبا�سي كذلك.
بيوت الزار
تختلف بيوت الزار من منطقة لأخرى �أو �شيخ لآخر لكنها ثابتة للكثري من دور �أو بيوت الزار، فهي دار �أو بيت غالب ًا ما ي�سكنه ال�شيخ وتكون به حجرة خا�صة لطقو�س الزار ويف منت�صفها حجرة م�ستطيلة كبرية ت�سمي «املكيد» يغطي �سقفها �أحيان ًا ب�أقم�شة متعددة الألوان ويو�ضع يف امل�ك�ي��د الأك� ��واب وامل��ر� �ش��ات وال�صحون وم�ساند للجلو�س ومباخر وتفر�ش �أر�ضها بال�سجاد ،كما يوجد على جدرانها املرايات وال�صور الدينية ،وتوجد جفران «زبيل» يوجد بها بع�ض النرثة «وهي املك�سرات» لتنرث علي ر�أ�س الزار عند عمل ال�ضيفة له «واملق�صود ال�ضيافة» والرتحيب به ،وتعلق الطبول على
طقوس 108 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
حبل �أما الدفوف فتو�ضع مكان جلو�س ال�صغار ومن ي�أتي للم�شاهدة واال�ستمتاع ،ويف تكوين ال��دار ت�شابه بينها وال��دور ال�شعبية �أو حجر الأداء فيها مبا حتويه ،ك��ون ال��زار منا�سبة لقاء واجتماع وفرح �إ�ضافة لكونه عالج ًا ،وهو موروث اجتماعي �أكرث منه ديني ًا ،وهي املفارقة �أو ال�س�ؤال يف متييزه ما بني الفن والطق�س.
مرا�سم الزار
تبد�أ مرا�سم ال��زار بالدخول �إىل املكيد «حجرة ال��زار» حيث تك�سر �أرب��ع بي�ضات دج� ��اج يف زواي � ��ا دار ال � ��زار «ك�ط�ق����س اح�ت�رازي» وي�ن�ثر امل�شموم وال��ري�ح��ان يف احل��و���ش اخل��ارج��ي «امل���ش�م��وم ي��رم��ز �إىل االح �ت �ف��ال �ي��ة» ،ث��م ت�ب�خ��ر ال� ��دار باللبان والطيب �إيذان ًا بافتتاح ال��دار وا�ستئذان ًا
وحفرة «وت�سمى حفرة ال��دم وفيها تنحر الذبائح» وحفرة لت�سخني الدفوف والليوان املفتوح ،وال��دار ت�سمي دار ال��زار للرجال �أو �شيخ الزار� ،أما للن�ساء فت�سمى �شيخة الزار وي�سمى مكانها املكيد.
مم��ن ي�سكن ال ��دار م��ن ج��ان ،ث��م يدخل �أهل الدار مقدمني القدم اليمنى ،ليدخل م��ري��دو «ال�ت��اب�ع��ون �أو امل���س��اع��دون ل�شيخ ال��زار» ال�شيخ لتطييب ال��دار ور�ش زواياه مب��اء ال���ورد ون�ث�ر ال��ري �ح��ان ع�ل��ى الطبل وي��دخ�ل��ون متطيبني ليجل�سوا بعد ذل��ك، تكون دار الزار مزودة �أو ملحق ًا بها مطبخ الرق�ص والأداء يف الزار ت�ك�ت���س��ب احل ��رك ��ة «ال ��رق� �� ��ص» والأداء «الكلمات واملو�سيقى» يف الزار حالة خا�صة ال متتلك انتماء �أو عالقة مبا�شرة بفن تكتسب الحركة خا�ص �أو طق�س فني معني ،فالرق�ص يف واألداء بالكلمات الزار هو رق�ص طق�سي ي�ؤدى وفق ًا ل�شعائر والموسيقى في الزار ومعتقدات دينية خا�صة تكون �أ�سا�س ًا لهذا الرق�ص ال��ذي ي�صاحبه حركات �إيقاعية حالة خاصة ال انتماء وت�شجيعية م�صاحبة تعتمد احل�م��ا���س، لها أو عالقة مباشرة والرق�ص عادة ما يتطابق يف حركاته مع
بفن خاص أو طقس فني معين
الكثري من فنون الأداء؛ فالرق�ص م�شي ًا �إىل الأم��ام مقارب لفن ال�صوت ال�شعبي وح��رك��ة ال��ر�أ���س وااله �ت��زاز ث��م اجللو�س على الركبتني بعد االرتعا�شة القوية وال��رك��وع مع الطبل ن�صف ركوع تت�شابه مع جمموعة فنون منها ال�سامري ،كما تت�شابه طقو�س امل�شاركة يف ال��رق����ص بطقو�س ف�ن��ون �أخ ��رى ،ويق�سم الغناء والرق�ص ما بني املغني وهو املطرب ذو ال�صوت ال�شجي والقوي وكرا�سي ال��زار وهم م�ست�شارون ومعاونون ل�شيخ ال��زار �أو �شيخة الزار ،والأفراد وهم امللتزمون بح�ضور الزار ك�أ�صدقاء ،وللزار الكثري من �أغانيه �أو �شيالته و�أك�ثره��ا باللغة العربية و�إن خالط بع�ضها امل���ص�ط�ل�ح��ات اخل��ارج��ة ع��ن ال�ل�غ��ة وتعتمد الت�سبيح والتكبري يف �أغلبها مثل هذه ال�شيلة: النبي �صلوا عليه �صلوا علـيه
�صلوات اهلل عليه النبي ذاك املليح ذاك املـليح قوله قول �صحيح النبي يا من ح�ضر يا من ح�ضر النبي خري الب�شر النبي من عادته من عادته املكارم �شيمته النبي يف عادته يف عادته
فار�ش �سجادته الغزال رادتـه ثم رادته وال�ضب �سلم عليه
كما تقدم �شيالت كثرية �أخ��رى للزار احلب�شي �أو القادري وهي �شالت تغنى مع ال��زار ،و�شلة ال �ق��ادري ت� ��ؤدى كغناء دي�ن��ي اق�ت�رن باحلركة القادرية عام 488هجري �أو نبع منها ،وللقادرية �أنواعها ومناطقها املقرتنة بوجودها ومناطق تواجدها ،كما قد ال يقدم الغناء ال�ق��ادري يف بع�ض املناطق ،وقد مت لدى بع�ض املجتهدين من يخطئ البحاثة التراثيون خرباء املو�سيقى بتنويت �شالت ال��زار مبختلف في اعتقادهم بتبعية �أنواعه ،ونقول �إنه وحتى اليوم مل ميكن الإملام الزار للفنون الشعبية بالزار كطق�س �أو كفن و�إن ا�ستمتعت به �شخ�صي ًا لمجرد استخدامه أدوات كفن ونظرت �إليه كفن كذلك يقاوم االندثار �أو الغياب �ش�أنه �ش�أن باقي فنون الأداء التقليدية موسيقية شعبية
وامتالكه لحنه البدائي الخاص
110 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
هنا ..وهناك
عن البط األسود والمنفى وبهجة اللقاء ع�شت يوم ًا كبطة «�سوداء» ،بطة قبيحة منبوذة من كل ف�صيل البط ،حتى �أخواتها؟ هل مرت عليك �سنني من الك�آبة واالكتئاب لأن كل من حولك� ،أهلك و�أ�صحابك واجل�يران ونوافذ الإعالم ،تقول لك �إنك مكروه وغري مرغوب فيك لأنك غري كنت بنت ًا ال حتب ارتداء مطابق للموا�صفات املحلية للمجتمع؟ فلو ِ لالحقتك قذائف النقد« :ت�صريف الف�ساتني وتف�ضل اللعب بالكرة، ِ كبنت� ..أخف�ضي من �صوتك .الب�سي ف�ستانك والعبي بالعرو�سة مثل فكربت و�أن��ت تفعلني ما ير�ضي الآخرين وتخبئني باقي البنات»، ِ رغباتك احلقيقية .ولو كنت �صبيا يتفتح للحياة لقالوا لك «ال تبكي ف�أنت رج��ل» ،فكربت و�أن��ت تكتم البكاء حتى احتب�ست دموعك يف بحرية داخل روحك وظلت ت�ضغط عليك ت�ستحثك �أن تفتح �أبواب ال�سد حتى ينهمر املاء .ولو كنت فنان ًا لن�صحوك �أن «تدر�س �شيئ ًا مفيدا» .ولو كنت حتلم �أن تكون عاملا لقالوا «كن واقعي ًا». لو كنت �أح��د ه���ؤالء فعليك �أن تعلم �أن هناك بط ًا �أ�سود �آخ��ر مير بنف�س الرحلة القا�سية� .إنها حكاية نا�س كرث حا�صرهم املجتمع وطاردهم ونفاهم عن ذواتهم لأن املجتمع �سيجد دوم ًا عيب ًا فينا، ف�إما �أننا ال منتلك اجلمال «ح�سب موا�صفات هذا املجتمع» �أو �أننا ال نقدم فرو�ض الطاعة� ،أو �أن ف�ضولنا يزعج الآخرين� ،أو �أن �أفكارنا ال تتفق مع الأفكار ال�سائدة .تتعدد الأ�سباب ،واملنفى واحد. وقد عربت احلكاية ال�شعبية «البطة ال�سوداء» ،بن�سخها املختلفة ال��ت��ي ت�ت�ردد يف ث��ق��اف��ات ع��دة م��ن��ذ ق���رون ،ع��ن �أزم���ة ال�شخ�ص املختلف .تناولت امل�آزق التي يقع فيها هذا املنبوذ ،وامل�صري امل�ؤمل الذي يرتب�ص به .و�صورت احلكاية تلك الرحلة :م�شاعر النفي واالغ�ت�راب وامل���رارة ،ال��ه��رب وامل��ق��اوم��ة ،حلظات االنك�سار ،ثم مفاج�أة اكت�شاف الذات. ت��ق��ول احل��ك��اي��ة �إن ال��ب��ط��ة الأم رق���دت ف��وق بي�ضها ح��ت��ى فق�س
هل
بطات �صغرية جميلة املنظر ،لكن بي�ضة واح��دة� ،أكرب من باقي البي�ض ،ت�أخرت يف الفق�س .وعندما حدث املراد ،خرج منها فرخ بط ر�آه اجلميع غريب املنظر ،ال بل �إن��ه قبيح .وكرب فرخ البط وهو يعاين ال�ضرب والركل وال�سخرية من باقي البط .فر فرخ البط ه��ارب�� ًا من ه��ذا ال��ع��ذاب ،ويف رحلة ال��ه��روب قابل غرباء ا�ستكملوا ال�سخرية منه واحل��ط م��ن �ش�أنه ومهاجمته .فمث ًال عندما �آوته امر�أة عجوز ،ظن ًا منها �أنه قد يفق�س بي�ض ًا �أو رمبا ت�أكله حممر ًا بالزبد يف يوم ما ،حا�صرته الدجاجة والقط يف هذا البيت� .سخرت منه الدجاجة «ما هو نفعك �إذن �إن كنت ال تفق�س بي�ضا!» .وق��ال القط «كما �أن��ك ال ت�صطاد الفئران� .إن��ك لكائن عدمي النفع» .رد عليهما فرخ البط «ما �أحب فعله هو العوم حتت ال�سماء الزرقاء الوا�سعة �أو يف املاء الأزرق البارد» .مل يفهم القط ه��ذا الكالم ال��ذي �سماه «غبي ًا» .وقهقهت الدجاجة وه��ي تقول «ما هي املتعة يف ابتالل ج�سدي يف املاء .كم �أنت �أحمق!» .وظل فرخ البط يخرج من حفرة �صغرية ليقع يف حفرة �أكرب ،ينجو من يدي الفالحة ال�شر�سة ،وي�أتي مطاردة القطط والكالب فيقع يف ّ ال�شتاء فيرتكه جوعان ًا وعلى حافة امل��وت .وعندما �أتى الربيع، قفز فرخ البط القبيح يف النهر وبد�أ يلعب يف املاء .ثم ملح بجعتني ت�سبحان نحوه ،ومن كرثة ما قابل من �ضرب و�إي��ذاء ،ظن �أنهما �سوف تهاجمانه .اقرتبا �أكرث ،فقرر فرخ البط اال�ست�سالم ملوته الو�شيك .قال لنف�سه «امل��وت على �أي��دي تلك الكائنات اجلميلة �أرحم من املوت ب�سكني الفالحة ال�شر�سة �أو �أنياب ذئاب الغابة». وعندما �أحنى ر�أ�سه �إذعان ًا للموت ،ر�أى بجعة رائعة اجلمال� .أخذ الأمر منه حلظات من الذهول كي يدرك �أن تلك ال�صورة اجلميلة هي �صورته .وعندما رفع ر�أ�سه ر�أى البجعات تدور حوله راق�صة وهي تلقي ال�سالم ،فرق�ص معها وكيانه ينتف�ض بالبهجة .وعا�ش
د�.سحر املوجي
فرخ البط القبيح ،الذي اكت�شف �أنه بجعة ،بني قبيلته و�أهله من البجع� ،سعيد ًا �إىل الأبد. تر�سم احلكاية ا�ستعارة ملعاناة الأ�شخا�ص املختلفني عن ال�سائد، والذين ي�صعب عليهم االن�صياع �إىل قوالب املجتمع الرا�سخة ك�أنها اليقني ال�صلب .تر�سم لنا القوالب ح��دود ًا وحت��ذرن��ا �أال نغامر ب�شيء جديد ،وتن�صحنا �أن ن�ؤثر ال�سالمة ونعي�ش مثل باقي النا�س .تت�سرب هذه الأفكار من كل ال�شقوق ،من �أدمغة املحيطني بنا ومن �صفحات اجلرائد وو�سائل الإعالم .فالبنات يتعلمن منذ نعومة الأظافر االن�صياع وكتم رغباتهن املختلفة� :أن يكن فنانات مث ًال �أو عاملات ف�ضاء .والأوالد يتعلمون درو�س الرجولة املبكرة يف البيت وبني �أ�صحاب املدر�سة .واجلميع ي�سمعون من الكبار مديح الطاعة ليل نهار .وتدريجي ًا نتعلم مداراة الف�ضول وو�أد الأ�سئلة وجتاهل الأفكار املبدعة التي ترتدد داخلنا. يق�صق�ص املجتمع �أجنحة الكثريين فيحول بينهم وبني التحليق لأنه يدافع عن ا�ستقراره� ،إنه يخاف املجهول والأفكار اجلديدة واملغامرات غري م�أمونة العواقب .يحدد املجتمع تعريفات �ضيقة جد ًا ملاهية النجاح �أو االكتمال امل�أمول يف �أي �شيء كاجلمال مث ًال �أو القوة �أو الرجولة �أو الأنوثة �أو ال�سلوك الطيب ،ثم ينظر �إىل من يخالف تلك التعريفات بعني الغ�ضب .نحاول الت�أقلم ،لكننا ن�صطدم ب�سلم املعايري هذا ونتعرث لأننا ،وياللأ�سف ،ل�سنا على م�ستوى املتوقع .ولأن املجتمع �أقوى من الفرد ،خا�صة عندما يكون الواحد منا �صغري ًا وه�ش ًا ومل يتعرف على نف�سه بعد ،فنحن يف البداية ن�صدق �صورتنا يف م��ر�آة هذا املجتمع :كائنات �ضعيفة وعاجزة وغري مقبولة يف حميطها .منا من ي�ست�سلم ويعي�ش بط �أ�سود ملفوظ ،ومنا من يقاوم مثل فرخ البط يف احلكاية. ولكي نفهم الأزم��ة علينا �أن نعود �إىل ال���وراء� ،إىل حلظة يولد
فيها طفل جديد ،ومنذ حلظة والدت��ه يحمل على كتفيه توقعات املحيطني ب��ه� :سيكرب ليكون طبيب ًا �أو مهند�س ًا ،و�سيكون طف ًال مطيع ًا طيب ًا خدوم ًا حمب ًا لأهله متفاني ًا�...إىل �آخر القائمة التي ت�صف الطفل «املالئكي» .ولكن :ماذا لو كان الطفل ف�ضولي ًا �أو كثري احلركة �أو لديه ميول فنية ،ماذا لو كان �أي �شيء ال يتوقعه الأب��وان ولي�سا م�ستعدين للتعامل معه؟ ي�صر الكثري من الآب��اء على �إعادة ت�شكيل الطفل على هواهم ،والنتيجة ،لو �أنهم جنحوا يف �إعادة ت�شكيل «العجينة»� ،أنه �سي�صبح م�سخ ًا ،جمرد �شخ�ص بائ�س يعي�ش يف جلد �إن�سان �آخ��ر ،وه��ذا هو املنفى امل���ؤب��د .لكن بع�ض البط الأ�سود يظهر مقاومة �شر�سة ،ففي داخله �صوت يقول «رمبا �أنا ل�ست بالقبح الذي يظنونه! رمبا هنالك �شيء يف احلياة ي�ستحق �أن �أعاين من �أجله!» .نقع فنقوم مرة �أخرى ،نتلقى لكمة فنكتم الأمل ون�ستكمل ال�سري .ويف حلظة مفاجئة تكتمل الرحلة: لقد عرثنا على ف�صيل الب�شر ال��ذي ننتمي �إليه .و�ساعتها جند غذاء �أرواحنا املنهكة بعد �سنني من املجاعة ،جند حنان ًا وقبو ًال و�إعجاب ًا ،فتتفجر فينا ينابيع البهجة والإبداع. �صحيح �أن النفي والت�شريد واللفظ من قبل املجتمع هو جتربة م�ؤملة ،لكنها �أي�ض ًا جتربة خا�صة جد ًا لأنها تعني �أننا نلد �أنف�سنا من جديد .يف �أثناء رحلة الهروب نتعلم تفادي الفخاخ والتعرف على العدو وعلى ال�صديق .تقوى عظامنا مع الركالت والرف�س وال�ضرب ،نظل نت�شبث باحلياة ،ثم جند �أنف�سنا يف حلظة وقد �أ�صبحنا �أق���وى و�أج��م��ل و�أك�ث�ر حكمة .لقد تعرفنا على ذوات��ن��ا احلقيقية .ينتهي زمن الغربة عندما جند الف�صيل الذي ننتمي �إليه ،قبيلتنا الأ�صلية .ننظر �إىل ه�ؤالء بعجب وف�ضول ،ثم ن�شعر مبوجات الفرح تغمرنا وه��م ينظرون �إلينا مبحبة .ثم نرق�ص جميع ًا رق�صة اللقاء
هنا ..وهناك
مجلس العلوم 112 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�صفحات ُتعنى بتج�سري تلك امل�سافة التي �أخفقنا « نحن العرب» يف جت�سريها ،تلك امل�سافة ال�صغرية جداً ،اخلطرية للغاية بني النظرية والتطبيق.
�س�ؤال تطرحه اكت�شافات �أثرية
هل كانت اإلمارات مهد اإلنسان الحديث؟
حفريات الإمارات تقلب نظرية تطور الب�رشية ر�أ�سا ً على عقب
د�.سمري عالء الدين
�أخ�صائي جراحة القلب وال�صدر مب�ست�شفى دبي
يعد العثور على �أدوات ب�شرية �أثرية -يقدر عمرها مبا يناهز املائة �ألف عام -يف الإمارات العربية املتحدة م�ؤ�شراً اىل احتمال �أن �أجدادنا الأوائل قد هجروا �أفريقيا يف وقت مبكر� ،أي منذ � 125ألف عام .يف حني �أن الدالئل اجلينية للإن�سان قد �أثبتت منذ زمن �أن الإن�سان احلديث قد هجر �أفريقيا منذ � 60ألف عام فقط. وبات من �شبه امل�ؤكد �أن هذه الأدوات من �صنع يد الإن�سان من �أجدادنا �أو الب�شر البدائيني، ولي�س م��ن �صنع كائنات �أخ ��رى .يعد هذا الك�شف من �أعظم االكت�شافات الأثرية ،لأنه قد يغري جذري ًا النظرية التي بناها العلماء اعتماد ًا على تتبع اجلينات الب�شرية والتي
ت�ؤكد �أن الإن�سان احلديث ُوجد يف �أفريقيا ،الك�شف العلمي املذهل ،واملتمثل يف �ستني �ألف ومنها هاجر لبقية العامل ،لأن هذه النظرية عام. تتجاهل الفرق الزمني الذي دلل عليه هذا �إذن هل ن�ستطيع �أن نقول �إن الإمارات كانت مهد الإن�سان احلديث ،وانطلق منها ليعمر االكتشافات األثرية العامل؟ مازال فهمنا ملتى وكيف تطور الإن�سان اإلماراتية قد تغير جذري ًا احلديث يحتاج ملراجعة وبحث جديدين!
النظرية التي بناها العلماء
و�ضعوا ح ًال مل�شكلة الإيدز يف � 3أ�سابيع!
براعة العبي اإلنترنت لحلالمشاكلالعلميةالمستعصية Folditهي لعبة كمبيوتر على االنرتنت تطرح على الالعبني امكانية ت�شكيل �أ�شكال ثالثية الأبعاد للربوتينات «وهي اجلزيئات التي تدير اجل�سم الب�شرى» .احتار العلماء لأع��وام طويلة يف ماهية ال�شكل ثالثي الأبعاد للربوتني املوجود يف �أج�سام مر�ضى الإي��دز والذي ي�سبب نق�ص املناعة و ي�سمى ،retroviral proteasesولهذا مل يكونوا قادرين على تطوير �أدوية لإيقاف مفعول هذا الربوتني ال�سر .كان لغز ًا علمي ًا عملت على فك �شفرته �أمهر العقول العلمية على مر عقود ،ولكن بال جدوى ،بينما ا�ستطاع العبو لعبة Folditحل هذا اللغز يف ثالثة �أ�سابيع فقط!. وال�س�ؤال الذي يواجه العلماء الآن :هل ميكن ا�ستغالل براعة العبي �ألعاب الإنرتنت التي قد ت�شكل قوة مذهلة� ،إذا ما وجهت توجيه ًا �صائب ًا ،يف حل امل�شاكل العلمية؟
تقريب ًا يف خفة الهواء ..
المعدن األقل كثافة في العالم مع كثافة �أقل من واحد مليغرام لكل �سنتيمرت مكعب� ،أي حوايل 1000مرة �أقل كثافة من املاء، تعترب هذه امل��ادة اال�سفنجية الطابع «Ultra- � »light Metallic Micro latticeأخف املواد وزن � ًا على وجه الأر���ض حتى �أن��ه ميكن و�ضعها ب�سهولة على زغب بذرة نبات الهندباء الربي، كما �أنها �أخف من الإيروجيل « Aerogelمادة �صلبة جافة م�سامية م�صنعة من ال�سيليكا يتم ا�ستبدال ال�سائل بها بغاز ،وهي بالغة خفة الوزن و�شديدة العزل للحرارة ،ويطلق عليها لذلك
لماذا يشكل التوصل لتصنيع معدن في خفة الهواء ثورة علمية؟ يرى العلماء في هذا السؤال الجسر بين النظرية والتطبيق
الدخان املجمد». وال�س�ؤال ،ملاذا ي�شكل التو�صل لت�صنيع هذه املادة ثورة علمية؟ ع��ادة ما تكون امل��واد فائقة اخلفة م�صنعة من عنا�صر �شتى ،مثل فقاعات الأيروجل ،ولكن هذا املعدن اجلديد يتكون من عن�صر واحد متكرر. ال�سر وراء هذه اخلفة الفائقة يف الوزن واملرونة البالغة هو طبيعة تنظيمها ال�شبكي ،حتى �أن �أحد العلماء الذين �شاركوا يف ت�صميمه قارن تنظيمها الهيكلي بربج ايفل� .إذا �أردت �أن ت�ضغط هذا املعدن �سوف يرتد ب�سرعة �شديدة �إىل حجمه الأ��ص�ل��ي ،ل��ذا ف��إن��ه ميتلك �إم�ك��ان�ي��ات خارقة عند ا�ستخدامه كعازل لل�صوت واحل��رارة ويف امت�صا�ص الطاقة وال�صدمات واالهتزازات ،هل تتخيل مقدمة �سيارتك عند ا�صطدامها يف حال ا�ستخدام هذا املعدن يف �صنعها!
مجلس العلوم 114 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ت�ؤكد �إمكانية الوالدة العذرية الربية
تكاثر بعض الثعابين بدون جنس
الأفعى نحا�سية الر�أ�س ت�ضع �صغريا ً يظهر بني لفات الأم
تتعدى بع�ض الثعابني يف الربية الطريقة التقليدية من االلتقاء اجلن�سي بني الأب والأم لتكوين ال���ص�غ��ار ،ه��ذا م��ا �أك��ده ال �ب��اح �ث��ون م��ن خ�ل�ال �إج� ��راء ع ��دد من البحوث اجلينية. كما يقول وارن ب��وث م��ن جامعة تول�سا يف والي ��ة �أوك�لاه��وم��ا��« :ش��وه��د التكاثر ب��دون التقاء جن�سي يف بع�ض املخلوقات يف الأ�سر مثل الثعابني و�أ�سماك القر�ش وتنني الكومودو .ولكن حتى الآن مل يكن ه�ن��اك �أي دل�ي��ل ق��اط��ع ل �ل��والدة العذرية الربية بني الأن��واع التي تتكاثر عادة عن طريق االت�صال اجلن�سي» و�أكمل معلق ًا
"كما ه��و م�ع�ل��وم �أن ��ه يف 80ن��وع � ًا من احليوانات الفقرية يتحمل عبء التنا�سل جن�س واحد فقط من تلقاء نف�سه . فح�ص ب��وث وزم�ل�ا�ؤه ف�ضالت ع�شرات الأف� ��اع� ��ي ذات ال� ��ر�ؤو�� ��س ال�ن�ح��ا��س�ي��ة Copperheadsوالأف��اع��ي ذات الفم
بحوث جينية أكدت إمكانية حدوث الوالدة العذرية بين الحيوانات في البرية ..فكيف يستفيد البشر من هذا الكشف؟
ال �ق �ط �ن��ي Cottonmouthsال��ت��ي مت ا�صطيادها يف الربية .وجد الفريق «حالة واح��دة يف كل ن��وع» ثعبان ًا ُول��د من دون ذكر. و�أظ�ه��رت االخ�ت�ب��ارات اجلينية للحم�ض النووي DNAللأفاعي ال�صغرية والأم، وتلك التي تبدو �أنها من الأب ،كلها كانت متطابقة يف مواقع متعددة ،مما يجعل الفر�صة �ضئيلة �أن الثعبان الأب كان �ضالع ًا فع ًال يف العملية الإجنابية .و�س�ؤال ال�ع�ل��م :كيف ميكن اال��س�ت�ف��ادة م��ن هذا الك�شف يف خدمة احلياة الب�شرية؟
على الرغم من ت�سميتها ال�شر�سة
الحيتان القاتلة .. أطفال مدللة تحتاج لـ«ماما» على الرغم من ت�سميتهم ال�شر�سة :احليتان القاتلة ،Killer Whalesفهي يف الواقع الأوالد املدللة لـ «ماما». ل�سبب وجيه ،فطبقا لدرا�سة �ضمت حوايل 600دولفني �أوكرا ،املعروف �أي�ضا با�سم احليتان القاتلة ،تبني �أن وجود الأم بالقرب منها يزيد من فر�ص االبن �إىل حد كبري يف البقاء على قيد احلياة. �أما بالن�سبة للأم ،ف�إن البقاء بالقرب من االب��ن ال ميثل فقط عطف الأم على ولدها �أثناء العمل ،ولكنه نابع من غريزة فطرية ل ��دى الأم ل�ل�ح�ف��اظ ع�ل��ى �أوالده � ��ا ون�سل �أوالدها. هل يف�سر هذا �أن �أنثى احلوت القاتل -مثل الإن�سان -تعمر �أعوام ًا كثرية حتى بعد �أن تتخطى �سن الإجناب؟ �إن فكرة �أن الأم�ه��ات يعمرن لفرتة �أط��ول م��ن ال�لازم��ة ل�ل�إجن��اب م��ن �أج��ل م�ساعدة الأط�ف��ال على �إجن��اب املزيد من الأطفال تعود �إىل ما يقرب من 50عام ًا ،حيث لوحظ
تعيش الحيتان القاتلة كالبشر في مجموعات اجتماعية مركبة تضم أبناءهم وبناتهم.. ويتساءل العلماء لماذا تستفيد الحيتان الذكور أكثر من اإلناث من أمهاتهم؟ يف كثري م��ن ال��درا� �س��ات ال�ت��ي �أج��ري��ت يف املجتمعات البدائية وغريها من املجتمعات �أن وج��ود الأم يح�سن من البقاء على قيد احلياة للأبناء والأحفاد. تعمر احليتان القاتلة حتى عمر الت�سعني بينما تتوقف عن الإجناب يف عمر الثالثني �أو الأربعني .كما �أنها هي واحل��وت املر�شد Pilot Whaleفقط ،ب�صرف النظر عن الب�شر ،هما ف�صيلتا احليوان الوحيدتان اللتان تتعر�ض �أنثاهما النقطاع الطمث.
وك �م��ا ع�ن��د ب�ن��ي الإن �� �س��ان تعي�ش احليتان القاتلة يف جمموعات اجتماعية مركبة ت�ضم �أب �ن��اءه��م وبناتهم .وع�ن��دم��ا يفقد احل��وت القاتل الذكر �صغري ال�سن �أم��ه يكون �أكرث عر�ضة بثالثة �أ�ضعاف للموت بعدها ،مقارنة باحلوت الذى مل يفقد �أمه� .أما عندما يفقد �أمه وهو يف عمر الثالثني �أو �أكرب ف�إن فر�ص موته تت�ضاعف �إىل ثماين �أ�ضعاف. �أم ��ا �إن ��اث احل ��وت ال�ق��ات��ل ال�لائ��ي يفقدن �أمهاتهن وهن �صغار فال يت�أثرن� ،أم��ا �إذا فقدنها وه��ن ك�ب��ار فيزيد م�ع��دل وفاتهن بحوايل � 2,7ضعف فقط ،مقارنة بقريناتهن الالتي مل تفقدن �أمهاتهن. مل ي�ع��رف العلماء ال�سبب وراء ا�ستفادة احل �ي �ت��ان ال ��ذك ��ور �أك �ث�ر م��ن الإن � ��اث من �أمهاتهم .يبدو �أن االمهات ي�ساعدن الذكور يف اقتنا�ص الفري�سة ويدفعن عنهم خماطر احليتان املعتدية الأخرى
استطالع 116 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
كانت �أ�شهر ميناء بري بني م�صر وال�شام
«قاطية»السيناوية
بيوت فقيرة وشجرات زيتون تقاوم العطش �سيناء � -سامل �أبو �شبانه �إذا �سافرت من الوادي تريد �سيناء؛ �سوف تعرب قناة ال�سوي�س عند القنطرة ،ولو تقدمت بال�سيارة م�سافة ن�صف ال�ساعة �أو �أقل تقريباً؛ ف�إنك بعد 40كيلومرتاً �سوف تطل على املنظر من فوق كثيب عالٍ ،اخل�ضرة القامتة لغابة نخيل يلفها ال�ضباب الرقيق ،الطريق يتعرج كثعبان �أ�سود اللون .يف املدى البعيد كثبان رمال تغرق يف غاللة زرقاء ،بعد 500مرت مييناً على الطريق الدو ّ يل ال�ساحلي «القنطرة-العري�ش -رفح» تكون يف قرية رابعة ،ولو تقدمت م�سافة كيلومرتين ون�صف مييناً ماراً بقرية اجلنانني على نف�س الطريق الذي ي�صل بني الطريق ال�ساحلي -ماراً عرب ال�صحراء غرباً -بالقنطرة ،ت�شارف قرية «قاطية» على نف�س الطريق امل�س ّمى زيق «قاطية»؛ �إذن فهذه هي «قاطية».
احللم..
بعد النك�سة واح �ت�لال «�إ��س��رائ�ي��ل» ل�سيناء عام1967م حاول �أبي الذهاب �إىل نخالته يف «قاطية»؛ ولكنه مل ي�ستطع؛ فظل يحاول حتى ح�صل بعد حم��اوالت م�ضنية على ت�صريح م��ن ق��وات حفظ ال�سالم «»UN؛ ومبوجبه ا�ستطاع العبور �إىل �سيناء لأيام عام 1970م لالعتناء بنخالته يف «قاطية» ،وعاد �سعيد ًا فخور ًا لأنه حفظ نخالته من املوت؛ بل وغر�س ف�سائل جديدة عا�ش منها ما عا�ش ومات منها الكثري؛ ظل يفاخر -رحمه اهلل -بواحدة منها زرعها بيده حتى مات. �أجزم �أن لالحتالل ال�صهيوين ف� ً ضال علينا نحن ب��دو �سيناء و�إن مل ي�سع لذلك .وذلك لأنه �أو ًال :لفت �أنظار القيادة ال�سيا�سية �إىل �أهمية �سيناء و� �ض��رورة تنميتها ،وه��ذا مل يحدث من قبل .لقد كانت -وما زالت�-سيناء مهملة ط��وال ع�شرات ال�سنني ومل ي�شرب �أهلها املاء �إال ماحل ًا ال ي�ساغ طعمه من �آبار ب��دائ�ي��ة ،ناهيك ع��ن ال �ط��رق ،وع��دم وج��ود و�سائل ات�صال وانعدام باقي اخلدمات .ثاني ًا: �أل�ه��ب االح�ت�لال ج��ذوة ال�شوق �إىل الأر���ض التي مل يعرتف �أهلي بغريها وطن ًا؛ فقرروا �أن يقت�سموا �أر�ضهم بينهم ويزرعوها نخ ًال، ويبنوا فيها الدور حت�سب ًا للعودة املرتقبة. ك��ل ه��ذا و�أن ��ا �أح �ل��م �أن �أرى م�سقط ر�أ���س �آب��ائ��ي؛ كلما �سمعت كلمة �سيناء ت�برق يف خميلتي غابات النخيل والزيتون و�أ�سراب الطيور املهاجرة مثل :ال�سمان ،ا َملرعى ,العبد والزنزون وغريها التي كنت �أ�سمع من �أبي كيف كانوا ي�صطادونها بالدبو�س؛ وهو ع�صا تنتهى بقطعة م��ن احل��دي��د ،يه�ش �أحدهم ال�ط�ير ال ��ذي يلبد يف هي�ش النخل وبقايا الأع�شاب ،ف��إذا طار رم��اه الآخ��ر بالدبو�س؛ فيقع الطائر.
العودة للجذور..
يف عام 1986م زرت «قاطية» زيارة طويلة أ�سمنتي ن�سبي ًا� .أذكر كانت البيوت من حجر � ّ ي�صنعه �أبنا�ؤها ب�أيديهم ويبنونها ب�أيديهم
�أي�ض ًا� ،سطوحها من �صفيح يحولها لأفران �صيف ًا وت�صبح ��ش��دي��دة ال�ب�رودة �شتاء؛ بيوت بائ�سة فقرية املفرو�ض �أنها منحة من بع�ض الدول الأجنبية ،ولكنها ُ�سرقت بالطبع ،وما و�صل منها �إال القليل وبع�ض الأط�ع�م��ة املحفوظة «امل�ع�ل�ب��ات»� .أ�شجار الزيتون النحيلة التي تقاوم العط�ش هزيلة فلم يكن �أحد يهتم بها لأن جتارة الزيت ال تعطي م��ردود ًا ذا �أهمية� .أت�ق� ّدم جهة ح��و���ض ال�ن�خ�ي��ل ب�ع��دم��ا ��ش�ع��رت ب��اجل��وع؛
�أقطف الرطب من نخيالت بطول قامتي، بل �أق�صر؛ تلمع عيوين بلذة وامتنان؛ فهذه الأر���ض �أعطت �أهلي احلرية وال�شجاعة واحلكمة .وك�أين �أ�سمع �أ�صواتهم يتنقلون عليها بخفة الفهود بعزمية و�إ�صرار. ملّا ر�أيت «قاطية» وقتها مل يكن هناك فرق البدوي كبري بني «عرب �أبو ذكري» اجليتو ّ مهجر ًا م��ع �أه�ل��ي ،وبني ال��ذي ع�شت فيه ّ «قاطية»� ،سوى �أن «قاطية» �أرحب و�أو�سع و�أعمق؛ فهي الأ�صل الذي انتقل منه �إ ّ يل
استطالع 118 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
وال�شهود ،وجمباها يف كل يوم �ألف دينار من الذهب .وال يجوز عليها �أح��د من ال�شام �إال برباءة من م�صر وال من م�صر �إال برباءة من ال�شام احتياط ًا على �أموال النا�س وتوقي ًا من اجلوا�سي�س العراقيني ،وطريقها يف �ضمان العرب قد ُوكلوا بحفظه.»... هذه هي «قاطية» التي كانت يف الزمان الغابر ميناء بر ّي ًا مهم ًا؛ وبها بئر بناها �إبراهيم با�شا لي�شرب منها احلجاج وت�سمى �إىل الآن «بري حجاج».
هنا «قاطية»..
الوراثي عابر ًا �أ�صالب رجال كرث، اجلني ّ يهدر يف نواته� :ضجيج قوافل وهدير جيو�ش وابتهال امل�أخوذين ب�أرباب ال�صحراء ؛ ف�أنا مازلت كلما ر�أي��ت رم��ا ًال �صفراء و�أع�شاب ًا على �صدرها تقاوم الفناء ،ر ّدين احلنني �إىل «قاطية» موطن �آبائي و أ�ج��دادي .فلما ه��اج��رت ع��ن «ع ��رب �أب ��و ذك ��ري» اجليتو البدوي منذ ع�شرين عام ًا مل �أ�شعر مبرارة ّ الفراق؛ لأنني تركت فرع ًا �إىل ال�شجرة. فما ع�شته هناك كان تهيئة و�إعداد ًا للعودة �إىل اجلذور ومنا ًء فيها.
هذه الأر�ض الرملية«الرب�ص» بلغة البدو متتد م�سافات بعيدة؛ قطنها �أه��ل «قاطية» ومل يقرتبوا من البحر؛ لأن البحر له رهبة يف نفو�س البدو� ،إنهم يج ّلونه ويذبحون الذبائح على �شاطئه كل عام تقريب ًا .فاملا ّر من «قاطية» �سيكون على ميينه ال�سبخة ،وهي �أر�ض ملحية متتد م�سافة ثالثة كيلومرتات جنوب «رابعة» و�شمال غرب «قاطية» ،حتدها بقعة النخيل التي ت�ضم �أن��واع � ًا متعددة م��ن البلح مثل: في الماضي كان لكل احلياين ،العامري ،بنات عي�شة ،ال�سياحي. تف�صلها بيوت متناثرة .يف اخلريف من كل قبيلة مقعد خاص بها ع��ام تنت�شر «امل �� �ش��رات» ب�ين النخيل ،وهي ولكن حالي ًا أصبح لكل خ�صا�ص من جريد النخيل مفرو�شة �أر�ضها عشيرة مقعدها الخاص تلم الن�ساء وال�صبايا البلح الرطب باجلريد؛ ّ بعدما كثر الناس فيها وي�صنعن منه العجوة ال�سيناوية املميزة والتمر .حول البيوت ت�صطف �أ�شجار الزيتون �إ�ضاءة قدمية.. وال��رم��ان وم��زارع اخل�ضراوات وكلها ت�سقى ق��ال اب��ن بطوطة« :وم��ن منازلها " قطية " مب��اء ج��و ّيف حيث �إن ترعة ال�سالم مل ت�صل امل���ش�ه��ورة؛ وب�ه��ا ت ��ؤخ��ذ ال��زك��اة م��ن النا�س «قاطية» وانتهت قبل م�سافة �أربعة كيلومرتات وتفت�ش �أمتعتهم ،و ُيبحث ع ّما لديهم �أ�شد جنوب غربها. البحث .وفيها ال��دواوي��ن والعمال والكتاب
�إذن لري النخالت بعد النك�سة واحتالل «�إ�سرائيل» ل�سيناء ع��ام « »1967ح��اول �أب��ي الذهاب �إىل نخالته يف «قاطية»؛ ولكنه مل ي�ستطع؛ فظل يحاول حتى ح�صل بعد حماوالت م�ضنية على ت�صريح من قوات حفظ ال�سالم «»UN؛ ومبوجبه ا�ستطاع العبور �إيل �سيناء لأيام عام « »1970لالعتناء بنخالته يف «قاطية»، وعاد �سعيداً فخوراً لأنه حفظ نخالته من املوت؛ بل وغر�س ف�سائل جديدة عا�ش منها ما عا�ش ومات منها الكثري؛ ظل -رحمه اهلل -حتى مات ،يفاخر بواحدة منها زرعها بيده.
قبائل «قاطية»..
من �أ�شهر قبائل «قاطية» :قبيلة «ال�سماعنة» وم���ن ع �� �ش��ائ��ره��ا ال �� �ش �ب��ان��ات واحل ��وام ��دة وال��زق��ازق��ة ،قبيلة «العلو ّية» وم��ن ع�شائرها الفرارجة ،اجليوب ،الرايات ،قبيلة «القطاو ّية» ومن ع�شائرها :ال�شاعر والقوا�سمة ،وقبيلة «البيا�ض ّية» ومن ع�شائرها :املوالكة والنجادوة
�أطفال يتزجلون علي رمال �سيناء
والعمور .كما يقيم بها بع�ض املوظفني من �أبناء الوادي �سعي ًا وراء احلافز املا ّ يل وب�ساطة احلياة. الن�شاط الرئي�س يف «قاطية» هو الزراعة. وت�شتهر «قاطية» بزراعة الزيتون ،النخيل، الرمان ،و�أن��واع الفاكهة :الكنتالوب ،التني، اجل��واف��ة� .أي�ضا اخل �� �ض��راوات :ال�ب�ن��دورة، اخليار ،الفلفل ،وغريها .كما يوجد بها جتارة زيت الزيتون ال��ذي ُيع�صر مبعا�صرها .كما يوجد بها طبقة املوظفني العاملني بالقطاع احل�ك��وم��ي ،وبع�ض منهم يتاجر يف ال�سلع اال�ستهالكية ،ويربي ال�ب��دوي بجانب ذلك احليوانات :مثل الأغنام واملاعز بالإ�ضافة للطيور املنزلية .كما يوجد بها بع�ض الأن�شطة الثانوية :كعالج الك�سور والكدمات عن طريق الطب ال�شعبي ،والكي بالنار ،وي�شتهر فيها احل ��اج «ط�ل��ب داود �أب ��و ��ص�ق��ر» .كما تقوم الن�ساء ب�صناعة العجوة والتمر من �أنواع البلح يلم ال�شباب ال�سينائي املميز يف «قاطية»؛ ّ
كلما رأيت رما ً ال صفراء وأعشاب ًا على صدرها تقاوم الفناء ر ّدني الحنين إلى «قاطية» موطن آبائي وأجدادي البلح من النخيل يف �أوانٍ م�صنوعة من خو�ص النخيل «م�شنة» �أعلى النخلة؛ فتتلقاها الن�ساء وبذهنب بها �إىل امل�ش ّرة ،يغ�سل الرطب وتُنزع عنه ق�شرته ال�سمراء وال �ن��وى؛ ث��م يعر�ض لل�شم�س ملدة �أي��ام ،وي�صنع على �شكل قر�ص كبري م��ن ال�ع�ج��وة يو�ضع يف ال�شم�س مرة �أخرى؛ ثم يعجن مباء قليل؛ ويخزن بعد ذلك يف �أكيا�س بال�ستيكية ويو�ضع يف �صفائح. جمتمع «قاطية» جمتمع ذكوري؛ رغم خروج امل��ر�أة للعمل وم�شاركتها ال��زوج يف الوظيفة احلكومية و�أعمال الزراعة مثل جمع الزيتون والرمان والبلح ،لكن ما زال املجتمع ذكوري ًا.
وتنق�سم احل �ي��اة االج�ت�م��اع�ي��ة يف جمتمع «قاطية» كالآتي :جمتمع الرجال ويتجمعون يف املقعد وهو ما ي�سمى بالديوان يف �أماكن �أخ���رى .م�ك��ان لتجمع ال��رج��ال ي�ت��داول��ون فيه كل ما يعرت�ضهم من مواقف حياتية؛ ولق�ضاء ال��وق��ت يف احل��دي��ث وال�سمر .به ركوة نار و�أدوات ل�صناعة ال�شاي والقهوة، يتطوع �أحد الرواد من ال�شباب ب�صناعتها، و�أغطية وفر�ش لل�ضيوف؛ كما �أن��ه مكان لتلقي العزاء و�إق��ام��ة ال��والئ��م .وبالطبع ال حت�ضر الن�ساء هذه الوالئم .بالإ�ضافة �إىل �أنه مكان التقا�ضي بني النا�س عرف ّيا .ولكل قبيلة مقعد خا�ص بها؛ ولكن حالي ًا �أ�صبح لكل ع�شرية مقعدها اخل��ا���ص بعدما كرث النا�س. جمتمع الن�ساء يف الأ�سا�س تبقى امل��ر�أة يف بيتها وتقوم على �ش�ؤونه؛ ولكنهن يتوا�صلن م��ع �أق��رب��ائ �ه��ن و��ص��دي�ق��ات�ه��ن ب��ال��زي��ارات وتبادل االحتياجات اليومية وق�ضاء الوقت
استطالع 120 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
وذلك يف البيوت .وال يوجد مكان خم�صو�ص لتجمعهن مثل الرجال.
التقاليد والعادات
�دوي تكون يف «قاطية» كما يف � ّأي جمتمع ب� ّ العادات والتقاليد قدمية موغلة يف القدم؛ وت�ق��وم على اح�ت�رام الكبري واجل ��ار ،حرمة املر�أة وعدم امل�سا�س بها؛ حتى لو اعتدت على الرجل بال�سباب فال يجب �أن يرد عليها ،ولكن عليه �أن ي�شكوها لأهلها؛ ف��إن اعتدى عليها �أ�صبح حقه �ضائع ًا ،بل عليه �أن يواجه ت�أديب ًا �صارم ًا .االحتكام للكبار من الق�ضاة يف كل ما مي�س حياتهم من خالفات و�صراعات .ويعترب
يتم يف �أمور كثرية. مجتمع «قاطية» مجتمع م��ا زال ال �ب��دوي ينظر لغري ال �ب��دوي نظرة ذكوري رغم خروج المرأة خمتلفة؛ لي�ست ا�ستعالء ولكنها نظرة �إىل للعمل ومشاركتها من ال يعرف حرمة التقاليد البدوية ،وعليه الزوج في الوظيفة ف�إنه عندما يوجه البدوي لبدوي مثله توبيخ ًا جلهله بالعرف يقول له «�أنت فالح» .الع�صبية الحكومية وأعمال للأهل «العائلة -القبيلة» مازالت من العادات الزراعة مثل جمع �دوي ،امل�شاركة يف الأف��راح املت�أ�صلة يف ال �ب� ّ الزيتون والرمان والبلح وامل� ��آمت بالطعام وامل��وا��س��اة؛ فكل عائلة من الع�شرية عليها �صناعة الطعام للمعزين «غداء جمتمع «قاطية» االخت�صام لل�شرطة مبا�شرة �أو ع�شاء» ح�سب التق�سيم املتبع بينهم .وي َقدّم من دون اللجوء للق�ضاء العريف عيب ًا كبري ًا يف ال�شباب والرجال الطعام يف �صوان للمعزين حق الرجل .و�إن كان االحتكام لل�شرطة املدنية يف املقعد؛ وغالب ًا ما يكون الرثيد وعليه طبقة
قليلة م��ن الأرز وال�سالطة واللحم� .أي�ض ًا يف الأف��راح يهنئون بع�ضهم بع�ض ًا ويحملون «ال �ه �ن��ا» للعري�س و�أه �ل��ه وغ��ال �ب � ًا م��ا يكون كميات من ال�سكر وال�شاي والدقيق �أو الأرز وامل�شروبات الغازية بالإ�ضافة �إىل ال�صابون وال�شيكوالتة وبع�ضهم ي�ق��دم «ال �ق��ود» وهو عبارة عن خروف �أو معز على �سبيل الهدية بالإ�ضافة �إىل «النقوط» وهو مبلغ مايل يقدم للعري�س �أو والده يوم ال�صباحية. �أي�ض ًا من العادات يف جمتمع «قاطية» زواج ا ألق��ارب فالبدوي يف�ضل زواج ابنه �أو ابنته من العائلة �أو الع�شرية �أو القبيلة لكن هذا الأمر ق ّلت حدته بع�ض ال�شيء ،و�أ�صبح الزواج بني القبائل �أو حتى بني الوافدين من الوادي م�ستهجن ًا بع�ض ال�شيء؛ لكنه لي�س حمرم ًا من ناحية العرف؛ و�صار البدوي يزوج بناته و�أوالده من القبائل الأخرى بل من الفالحني ومن الوافدين �إليها.
بقايا م�سجد ال�سلطان بيرب�س
الأزياء..
الأزياء الرجالية :هي الثوب البدوي «اجلالبية» وامل�ح��رم��ة البي�ضاء �أو احل �م��راء وه��ي غطاء للر�أ�س؛ و�إن كان غالبية ال�شباب ال يرتدونها .يف بع�ض املنا�سبات يرتدون البنطلون والقمي�ص �أو البدل كما يف الأفراح لكن امل�شهور هو اجلالبية. كذلك العباءة وه��ي ت�صنع من قما�ش �صوف فاخر وغ��ايل الثمن ،ك��ان هناك متخ�ص�صون يف �صناعتها من الرتزية و�إن ع� ّزوا الآن نظر ًا للإقبال على العباءة اجلاهزة من دول اخلليج، وهي �شرط �ضروري من �شروط الوجاهة للبدويّ . ال�ب��دويّ الينتعل من الأح��ذي��ة �إال «ال�صندل �أو ال�شب�شب» وال ينتعل «اجلزمة» �إال نادر ًا. الأزياء الن�سائية :تلب�س املر�أة يف حياتها اليومية ال�ع�ب��اءة وه��ي م��ا ي�سمى يف ال ��وادي اجلالبية والطرحة؛ �أما زيّ اخلروج فهو العباءة ال�سمراء والطرحة ال�سمراء؛ والفتيات الآن يلب�سن مالب�س خ��روج ك��امل��دن� ،أم��ا العجائز فيلب�سن الثوب البدوي الأ�سمر بال تطريز وت�ضع املر�أة العجوز على ر�أ�سها «القناع» وهو خمار �أ�سود اللون يغطي ر�أ�سها ورقبتها وتلف به وجهها فال يبني منه �سوي عينيها .وقد كان ثوب البدوية الأ�سمر هذا
ت ّلة الآثار
كلما سمعت كلمة سيناء تبرق في مخيلتي غابات النخيل والزيتون وأسراب الطيور المهاجرة مثل السمان مرعى والعبد وال َ والزنزون يطرز منذ �سنوات بخيوط ملونة و�أ�شكال بديعة حتى �إن كل قبيلة كان لها طراز معني يف التطريز تعرف به وي�ستدل على القبيلة ب�ألوانها و�أ�شكالها. وللأ�سف يكاد يكون قد انقر�ض هذا الثوب املميز والبديع؛ الذي كانت املر�أة البدوية تتزين به يف خروجها قبل الزواج �أم بعده.
الزواج..
يف الأ��س��ا���س يف�ضل ال �ب��دوي �أن ي�ت��زوج من �أقربائه كما يف�ضل زواج بناته من العائلة؛ لكن يف ال�سنوات الأخرية �أ�صبح الزواج متاح ًا بني القبائل؛ بل وبني الوافدين من �أبناء الوادي. و�أ�صبح الزواج مكلف ًا للأب وللزوج؛ فالأب عليه �أن يجهز ابنته ،وال��زوج عليه �أن يبني البيت ويجهزه؛ و�إن كان ال��زواج يف املجتمع البدوي �أي�سر بع�ض ال�شيء من املدن .طقو�س الزواج تقوم على طعام العر�س وذلك بذبح الذبائح من الغنم �أو املاعز ويقدم غداء وع�شاء وكذلك الإع�ل�ان ع��ن ال ��زواج بتعليق الزينة وحفلة الزواج م�ساء والغالب الآن هو فرق « DJ »و �إن ك��ان بع�ضهم يحنّ لل�سامر؛ فيقف ال�شباب �صف ًا واح��د ًا ي�صفقون ب�أيديهم م��رددي��ن داح �ي��وه داح �ي��وه ،وق��د ترق�ص
استطالع 122 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
حو�ض النخيل يف قرية قاطية
بع�ض الفتيات رق�صة احلا�شي وهي تلب�س الزي البدوي؛ ولكن هذا نادر الآن للأ�سف.
التعليم..
ينت�شر التعليم بني �أف��راد املجتمع البدوي يف «ق��اط �ي��ة» م��ا ب�ين ال�ت�ع�ل�ي��م اجل��ام�ع��ي وامل�ت��و��س��ط؛ فيوجد يف «ق��اط�ي��ة» مدر�سة ابتدائية و�أخ ��رى �إع��دادي��ة ومعهد ديني وم��در��س��ة ثانوية ع��ام��ة وث��ان��وي��ة زراع�ي��ة. والتعليم ينت�شر بني الأوالد والبنات بال ا�ستثناء .وخريجو اجلامعات من ال�شباب وال�ب�ن��ات ك�ثر يف «ق��اط�ي��ة» مثل الهند�سة وال �ت �ج��ارة والآداب وال�ترب �ي��ة وغ�يره��ا. ومازالت الن�سبة العامة خلريجي اجلامعة قليلة بع�ض ال�شيء.
هذه األرض أعطت أهلي الحرية والشجاعة والحكمة وكأني أسمع أصواتهم يتنقلون عليها بخفة الفهود بعزيمة وإصرار املباين الأث��ري��ة من الع�صرين الإ�سالمي واليوناين .كما يوجد بها بئر ماء رممها �إب��راه �ي��م ب��ا� �ش��ا ب��ن حم �م��د ع �ل��ي ح��اك��م م���ص��ر يف ب��داي��ة ال �ق��رن ال�ت��ا��س��ع ع�شر، ث��م رمم �ه��ا اخل��دي��و ع�ب��ا���س ع�ن��د زي��ارت��ه
للبحر في نفوس بدو الآثار.. «قاطية» رهبة يسكنون من �أهم الآثار يف «قاطية»: «ت � ّل قاطية » وتنت�شر على �سطحه بقايا بعيد ًا عنه ويذبحون الذبائح على شاطئه كل عام تقريب ًا
للعري�ش وي�سمى «بري حجاج» .كما ت�ضم م�سجد ًا م��ن الع�صر العثماين ومنطقة �صناعية و�سوق املدينة .وتدل �آثار �سيناء القدمية علي وجود طريق حربي قدمي وهو «طريق حور�س» الذي يقطع �سيناء ،وكان هذا الطريق يبد�أ من القنطرة احلالية، ويتجه �شما ًال فيمر على تل احلري ثم بري رومانة بالقرب من املحمدية ،ومن قطية يتجه �إىل العري�ش .وقد ورد ذكر املوقع يف العديد من املقاالت التاريخية التي تتحدث عن� شمال �سيناء؛ وخا�صة املقال ال�شهري للعامل الإجنليزي�« ألن جاردنر» عن طريق حور�س؛ حيث مت حت��دي��د امل��وق��ع ك��أح��د النقاط اخل�صبة من مواقع طريق حور�س. وكذلك �أثناء �أعمال الأثري الفرن�سي« جان كليدا» وقت حفر قناة ال�سوي�س� .إال �أن امل��وق��ع مل جت� ِ�ر فيه �أع�م��ال حفائر عملية منظمة �إال من جانب بعثة الآثار امل�صرية التابعة لقطاع الآثار الإ�سالمية؛ حيث
�إىل طبقات من الع�صر الفرعوين «الدولة امل�صرية احلديثة» للدولة احلديثة؛ وهو الأمر الذي يو�ضح �صعوبة حتديد املواقع الآث ��ري ��ة وحت�ق�ي�ق�ه��ا ب �ن��اء ع �ل��ى م��ا ورد بالنقو�ش وامل���ص��ادر ال�ق��دمي��ة ،م��ن دون وج��ود نتائج تثبت ذلك من خالل �أعمال احلفائر باملوقع.
اخلامتة والبداية..
ا�شجار الزيتون
مت ال� �ك� ��� �ش���ف ع�� ��ن ب � �ق� ��اي� ��ا م �� �س �ج��د وم���س��اك��ن و��ص�ه��ري��ج للمياه من الع�صر الإ�سالمي ،حتديد ًا زمن املماليك .وهو م�سجد «الظاهر بيرب�س» و«ق�ب��ة ال�شيخ املزين» .ورغم حتديد املوقع مبعرفة �ألن
جاردنر ك�أحد نقاط طريق حور�س احلربي القدمي بني م�صر وفل�سطني وعلى �أ�سا�س نق�ش امللك� سيتي الأول امل�شهور بالكرنك �إال �أن الآث��ار التي ك�شف عنها باملوقع ال ت�ؤكد وجود �أي طبقات تعود بتاريخ املوقع
ق��د تنمو ال��ف��روع وت�ستطيل خ ��ارج بقعة ال�شجرة؛ لكنها تظ ّل حمكومة باجلذر الذي ي�ضرب يف �أعماق الأر�ض وال يفارقها برغم اجلفاف ون��درة امل��اء ،ال يفكر يف الهرب �أو املغادرة؛ فهو حمكوم بقدره وجتربته ،وعليه �أن يظل يف �أر�ضه حتى يحني �أجله؛ فيدفن يف نف�س البقعة .هكذا دوم ًا �أفكر يف �سامل �أبو �شبانه الفرع الذي ا�ستطال وتنقل يف �أر�ض اهلل لكنه حمكوم بقدر اجلذور
حكايات من الذاكرة 124 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
يف ذكرى حرب �أكتوبر
زايد ..
و الدم العربي القاهرة -ه�شام علي بعد عودتي �إىل املدر�سة من الإجازة الإجبارية التي ح�صلنا عليها ب�سبب حرب �أكتوبر عام 1973م ،كلفنا معلم اللغة العربية بكتابة مو�ضوع تعبري حول ،الت�ضامن العربي مع م�صر �أثناء احلرب ،وكيف مت ا�ستخدام «�سالح البرتول» يف مواجهة الدول الكربى التي انحازت �إىل «�إ�سرائيل». وت�شجيعاً لنا وعدنا الأ�ستاذ عبد الفتاح ،بقراءة املو�ضوع الذي يح�صل على �أعلى الدرجات يف �إذاعة املدر�سة ..لكن بعد حتية العلم.
�أج��واء احل��رب التي كنا نعي�شها يف البيت وال�شارع ،على �صفحات اجلرائد واملجالت، جعلت كتابة املو�ضوع �سه ًال ومي�سر ًا ،لكن الأ� �ص �ع��ب مت�ث��ل يف االخ �ت �ي��ار ب�ين امل��واق��ف العربية من �أجل ت�سليط ال�ضوء عليه ..لكن بناء على ن�صيحة من والدي ،اخرتت الرتكيز على موقف املغفور له ب�إذن اهلل ال�شيخ زايد «طيب اهلل ثراه» ،و�أن �أنطلق فيه من عبارته املدوية« :البرتول العربي لي�س �أغلى من الدم ق�ص العربي» ،خ�صو�ص ًا و�أن �أبي من كرثة ما ّ يل عنه� ،أقنعني ب��أن��ه �شريك لنا يف الث�أر لدماء �شهداء �شارعنا� ..أحمد وعبد احلليم و�سيد وحممود عبد احلكم. وازداد انحيازي �أكرث للمغفور له ال�شيخ زايد، بعد �أن ب��د�أت رحلة توثيق املعلومات التي �سوف �أ�ستعني بها من اجلرائد واملجالت. �أذك��ر �أن �إح��دى ال�صحف كانت تن�شر عنه مقا ًال مع �صورة تخطف النظر من �أول وهلة �أ�شعرتني �أن هذا الرجل لي�س من الزمان الذي نعي�ش فيه ،بل قادم �إلينا من ع�صور ال�صحابة� ،أو �أحد الفر�سان الذين كنا ن�سمع حكايتهم يف الليايل القمرية يف القرية. كثري من النا�س رمبا ال يعلمون �أن��ه عندما تناقلت و�سائل الإع�ل�ام العربية والغربية خرب ب��دء امل�ع��ارك على اجلبهتني امل�صرية وال�سورية ،ك��ان «طيب اهلل ث��راه» يف رحلة خا�صة يف بريطانيا ،ومبجرد �أن ت�أكد من �صدق الأخبار التي تطريها وك��االت الأنباء العاملية من م�ست�شاريه ،مل يفكر يف ح�سابات �سيا�سية معقدة ،ومل يجل�س لريتب �أوراق دولته النا�شئة ح�سب م�صاحلها مع ال��دول الكربى ،بل اختار االنحياز املبكر لأمته العربية يف هذه احلرب املقد�سة� .أ�صدر �أوامره الفورية مل�ست�شاريه ب�شراء م�ست�شفيات متنقلة من �أوروبا وجتهيزها باملعدات الطبية والتموينية و�إر�سالها �إىل اجلبهة امل�صرية وال�سورية. ورغ��م ال�ضائقة املالية التي كانت مت��ر بها �أبوظبي يف ه��ذا الوقت ،ك��ان �أول من �أر�سل دعم ًا مالي ًا حتت ح�ساب املعارك ،بعد �أن جمع رج��ال البنوك يف بريطانيا ،وا�ستدان منهم 100مليون جنيه �إ�سرتليني ب�ضمان البرتول!
الراحل يوسف شاهين أخبرني أن من أهم مشاريعهالمؤجلةفيلم اسمه «معجزة زايد» ،فلماذا ال نرى فيلم ًا سينمائي ًا يوثق لمعجزةالراحلالكبير؟ املفاج�أة التي �أتوقف �أمامها اليوم كثري ًا، مت�أم ًال يف عبقرية ه��ذا الرجل هي �إميانه امل�ب�ك��ر ب��أه�م�ي��ة الإع�ل��ام ،وم��ا ل��ه م��ن دور حا�سم يف الفوز باملعركة �أو خ�سارتها ،هذا الفهم يغيب اليوم عن كثري من قادة �أمتنا العربية .فقد اكت�شف «طيب اهلل ث��راه» �أن معظم و�سائل الإع�لام الغربية والأمريكية، تتناول �سري امل�ع��ارك بطريقة منحازة �إىل «�إ�سرائيل»بل وتتعمد ت�شويه احلقائق و�إخفاء الكثري من املعلومات! الأمر الذي جعله يجمع م�ست�شاريه وي�أمرهم باال�ستعانة -وعلى نفقته ال�شخ�صية -ب�أكرث من � 40شخ�صية �إعالمية من امل�شهود لها بالكفاءة واملهنية على م�ستوى ال�ع��امل ،لتغطية �أخ�ب��ار احل��رب ،وم��ن خالل ات�صاالته التي ال تتوقف مع القيادة امل�صرية وال�سورية ،رت��ب لهم جميع الأم��ور ،ليقوموا مبهمتهم ،بعيد ًا عن التعقيدات الروتينية التي تظهر يف مثل هذه الأيام.
وتبد�أ املعركة الكربى
عندما ت��دف��ق ال�سالح ع�بر اجل�سر اجل��وي الأمريكي �إىل «�إ�سرائيل»� ،أوفد زايد –رحمه اهلل -وزير النفط الإماراتي حام ًال توجيهات بالده بقرار قطع النفط نهائي ًا عن الدول التي ت�ساند «�إ�سرائيل» ،الأمر الذي �أجرب الإذاعات العاملية على قطع �إر�سالها ،لتعلن هذا النب�أ؛ فقد كان القرار بداية ملعركة النفط ،وعندها
لم يفكر زايد في حسابات سياسية معقدة ولم يجلس ليرتب أوراق دولته الناشئة حسب مصالحها مع الدول الكبرى ..بل اختار االنحياز المبكر ألمته العربية في هذه الحرب المقدسة
انهالت عليه التهديدات ب�أن عليه �أن يتحمل تبعات ذلك القرار ،لكنه «طيب اهلل ثراه» مل يجر ات�صاالت �سرية، يهتز ومل يرتبك ،ومل ِ ً فقط خ��رج على و�سائل الإع�ل�ام ق��ائ�لا�«:إن الذين قدّموا دماءهم يف معركة ال�شرف ،قد تقدموا ال�صفوف كلها ،و�إن النفط العربي لي�س �أغلى من الدم العربي» ،وم�ضيف ًا�«:إننا على ا�ستعداد �إىل العودة �إىل �أكل التمر مرة �أخ ��رى ،فلي�س هناك ف��ارق زمني كبري بني رفاهية النفط و�أن نعود �إىل �أكل التمر». ورغم ما و�صله عن وجود خمططات �أمريكية بريطانية يتم الرتتيب لها يف اخلفاء ل�شن هجوم على �آب��ار البرتول يف ال��دول اخلليجية الكربى ،ال�سعودية والكويت والإمارات� ،إال �أنه ت�شبث «طيب اهلل ثراه» مبوقفه و�أدار املعركة بقوة «امل�ستغني»الذي ال يعنيه م��ال �أو حكم �أو رفاهية ،وا�ضع ًا ن�صب عينيه �شرف �أمته العربية وعروبته التي جتري يف دمائه و�أرواح �أبنائه و�أ�شقائه الذين يقاتلون على اجلبهة. ويزداد الفخر بالإمارات وقائدها وم�ؤ�س�سها، عندما تعلم �أن الإمارات فتحت ر�سمي ًا مكاتب للتطوع يف املعركة ،وفر�ضت �ضريبة جهاد على التجار ،وال�شركات العاملة فيها ونظمت مكاتب للتربع ال�شعبي ،بالإ�ضافة �إىل تربع العاملني فيها مبرتب �شهر كامل مببادرة ذاتية. واحل ��دي ��ث ع��ن م��واق �ف��ه «ط �ي��ب اهلل ث ��راه» ال��رج��ول�ي��ة ال ميكن اخت�صارها يف معركة البرتول لعام 1973وحدها ،رغم �أنها تكفيه لدخول التاريخ من �أو�سع �أبوابه. �أذك ��ر �أن��ه يف اللقاء الوحيد ال��ذي جمعني باملخرج الكبري ال��راح��ل يو�سف �شاهني يف مكتبه� ،أخربين �أن من �أهم م�شاريعه امل�ؤجلة فيلم ا�سمه «معجزة زاي ��د» ،و�أخ ��ذ �شاهني ي�ستفي�ض بحما�سه املعهود عندما يتحم�س لفكرة �أو مل�شروع فني جديد ،الفت ًا �إىل �أهمية توثيق حياة هذا القائد املعجزة. ُ ازداد حما�سي �أكرث لـ«معجزة زايد» عندما قدّر يل زيارة الإمارات ،وقتها تذكرت �أول مو�ضوع تعبري كتبته يف حياتي ،وفهمت كذلك �سر اختيار �أ�ستاذ عبد الفتاح معلم اللغة العربية مو�ضوعي لقراءته يف الإذاعة املدر�سية
موسيقا 126 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
أغان عربية �صورته يف كلمات �أربع � ٍ
العودسيد األغنيات �أمل �سعد لي�س غريباً �أن حتتل �آلة العود و�أنغامها مكاناً مميزاً يف كلمات الأغاين العربية، بحكم ما متتلكه هذه الآلة من ح�ضور يف وجدان �شعراء الأغنية العرب ،وما يلم�سونه ويعرفونه من عمق �إح�سا�س م�ستمعيهم بها� ،سواء يف ذلك �شعراء الف�صحى �أو العامية. ويكون العود ،مبا ميتلكه من طاقات تعبريية ،ومبا يرتبط به من �ألوان وظالل و�إيحاءات ،يف بع�ض الأحيان جزءاً من �أغنية� ،إذ ت ِر ُد �صورة مفردة له هنا �أو هناك ،لكنه يف �أحيان �أخرى ،ي�صبح مو�ضوعاً للأغنية كلها ،واملحور الذي تدور حوله .وفيما يبدو، ف�إن العود وحده هو من لقي هذا االهتمام من جانب ُك َّتاب الأغاين و�شعرائها ،فلم حتظ �أي من الآالت املو�سيقية بعدد من الأغنيات مثلما حظيت �آلة العود .وال �أعتقد �أن من يعرف الذائقة العربية ومكوناتها اجلمالية يجد يف هذا مثاراً للده�شة.
�سيد دروي�ش
ريا�ض ال�سنباطي
و� �س��وف ن �ح��اول يف �إط�لال��ة ��س��ري�ع��ة على «�أغ �ن �ي��ات ال��ع��ود» �أن ن�ت�ع��رف ع�ل��ى ه��ذه ال �ظ��اه��رة ،ب��ادئ�ين «ب��ال �� �ص��ور امل �ف��ردة»، و�صو ًال �إىل �إلقاء نظرة �سريعة على �أجواء �أرب��ع �أغنيات ات�خ��ذت ال�ع��ود عنوان ًا لها، وهي �أغنيات« :غنيت على ع��ودي» للفنان ع�ب��ده ال���س��روج��ي ،و«ع�ل��ى ع ��ودي» للفنان ري��ا���ض ال�سنباطي ،و«ي��ا ع��ود» ،و«ع��ودك رنان» لل�سيدة فريوز.
صور العود «المفردة» تتكرر في أغنيات شتى عن األوطان وعن العشق والحنين إلى األمكنة والذكريات مرتبطة دوم ًا باكتمال األلق وسياحات الروح
العود� :صور مفردة
�إىل الأم�ك�ن��ة وال��ذك��ري��ات ،مرتبطة دوم � ًا باكتمال الألق ،و�سياحات الروح يف �أكوان م��ن االن �� �س �ج��ام وال �� �ص �ف��اء .ف�ح�ين يكتب م ��أم��ون ال���ش�ن��اوي ع��ن �أي ��ام ال��ر��ض��ا التي ذه�ب��ت وب�ق�ي��ت يف النف�س ذك��راه��ا ،ف ��إن �أن �غ��ام ال�ع��ود تتداعى �إىل خ�ي��ال ال�شاعر الرقيق لتعرب عن هذا الفردو�س املفقود. الربيع الذاهب ،يف الأغنية اخلالدة لفريد الأطر�ش ،يتج�سد عود ًا ونغم ًا:
تظهر � �ص��ورة ال �ع��ود امل �ف��ردة يف الأغ ��اين العربية احلديثة منذ وقت مبكر ،تطريز ًا بخيوط من الندى والنور ،كما يف املو�شح ال�تراث��ي «ي��ا ��ش��ادي الأحل ��ان» ال��ذي حلنه ال�شيخ �سيد دروي�ش يف ع�شرينيات القرن امل��ا� �ض��ي ،وي �ب��دو ف�ي��ه ذل��ك الإحل� ��اح على االرت� �ب ��اط ال ��وج ��ودي ب�ي�ن ن �غ �م��ات ال �ع��ود والو�صول اجلمعي �إىل ن�شوة الطرب :
ي � � ��ا �� �ش� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ ��ادي الأحل � � �ـ � � �ـ� � � ْ �ان �أ� �ْ�س ��مِ � � ْع � �ـ � �ـ � �ن ��ا رن� �ـ�َّ �ـ� �ـ� �ـ� �ـ ��ة ال � �ع � �ي ��دان واط � � � � � � � � � ِر ْب َم � � � � ��نْ يف احل � � � � ْ �ان واح� ��� �س� �ب� �ن ��ام ��ن ب� �ي � ِ�ن ال � � ُّن� ��دم� ��ان
��ص��ور ال�ع��ود «امل �ف��ردة» تتكرر يف �أغنيات �شتى ،عن الأوط��ان وع��ن الع�شق واحلنني
فريد الأطر�ش
ي� � �ن � ��اج � ��ي ال� � �ل� � �ي � ��ل و�أ� � � � � �س � � � � ��راره
هذه ال�صور «املفردة» للعود تتكرر ب�صورة الفتة للنظر عند ال�شاعر اللبناين الكبري �سعيد عقل ،لت�شدو بها فريوز .ويف ع�شقه ال�صويف لل�شام ،تبدو �صورة العود قريبة �إىل خياله اخل�صب .ففي الأغنية العذبة «يا �شام» ت�شدو فريوز:
ط ��اب ��ت ال� ��ذك� ��رى ف �م��ن راج � � ٍ�ع ب � ��ي ك � �م� ��ا ال � � �ع � ��ود �إىل ال � �ط� ��رب
�إن� ��ه احل �ن�ين �إىل زم ��ن ال �ط �ي��ب ،ول �ي��ايل الو�صل� ،ش�أنه �ش�أن م�أمون ال�شناوي الذي يحن �إىل ربيع ال��ذك��ري��ات ،و�أي��ام الر�ضا وال�صفاء .ويكرر �سعيد عقل �صورة العود يف ق�صيدته «كللت بالغار»� ،إحدى ترنيمات ع�شقه ل�ل���ش��ام ،و�أي �� �ض � ًا ب���ص��وت ال�سيدة فريوز:
�أواه ب�ضــــــع غمامات م�شـــــردة يف الأفق بع�ض ر�ؤى والبع�ض �أحالم ك� � � � � � ��ان ال � � �ن � � �� � � �س � � �ي� � ��م غ� � � �ن � � ��و ْه �ســـــ�ألتهن �أظ َّل ْل ُت َّنها ُ�صـــــــــــبحا ال � � �ن � � �ي � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ� � ��ل ي� � �غ� � �ن� � �ي� � �ـ� � �ه � ��ا �شـــــــام التــــي وحدها للعـــود �أنغام وم� � � � � ِّي� � � � � ُت � � � ��ه الحْ � � �ل � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ� � ��و ْه ِت � � � � ْف � � � �� � � َ� ��ض � � � ��ل ت � � �ع � � �ي� � ��د ف � �ي � �ه� ��ا رمبا ميكن ت�ص ُّور جزء من هذا االرتباط وم� ��وج� ��ه ال � �ه � ��ادي ك � ��ان ع� ��وده احلميم ب�ين ال�ع��ود وال���ش��ام ب��ال�ع��ودة �إىل ون � � � � � � ��ور ال� � �ب� � �ـ� � �ـ� � �ـ� � �ـ � ��در �أوت� � � � � � � � ��اره حقيقة �أن �أول ظهور للعود كان يف منطقة اجل��زي��رة ال�سورية ،قبل نحو 2500عام ي �ن �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��اغ��ي ال � � � ��ورد وخ � � ��دوده
موسيقا 128 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
امل �ق��ال �أف �ك��ار �أرب ��ع �أغ�ن�ي��ات رق�ي�ق��ة ،هي: «غنيت على ع ��ودي» ال�ت��ي يغنيها الفنان عبده ال�سروجي «كلمات� :إبراهيم �شحاتة، و�أحلان :حممد املوجي» ،و«يا عود» لل�سيدة فريوز «كلمات و�أحل��ان الأخوين رحباين»، و«عودك رنان» لل�سيدة فريوز �أي�ض ًا «كلمات و�أحل� ��ان زي ��اد ال��رح �ب��اين» ،وع �ل��ى ع��ودي ل�ل�ف�ن��ان ري��ا���ض ال���س�ن�ب��اط��ي «م��ن �أحل��ان��ه وكلمات ح�سني ال�سيد» .وتك�شف الأغنيات الأرب��ع ،عن ثراء العامل الذي يتحرك فيه العود ،ومالءمته حلاالت وجدانية و�إن�سانية ��ش�ت��ى ،ب�ين ال��ه��دوء وال �� �ص �خ��ب ،وال �ف��رح والأمل ،واالبت�سامات والدموع.
الأخوان رحباين
م��ن امل �ي�لاد� ،أو م��ا ي��زي��د على ذل��ك ،غري �أن االت�ب��اط ال��روح��ي واجل�م��ايل هو الأك�ثر ح�ضور ًا وفاعلية. ويعود ال�شاعر ثالثة �إىل العود يف �أغنية يحمل عنوانها جزء ًا حميم ًا من �آلة العود: «الع��ب ال��ري���ش��ة» ،وك ��أمن��ا ح��دي��ث الري�شة �إىل الأوتار هو مفتتح العامل املتماوج
لم تحظ أي من اآلالت الموسيقية بعدد من األغنيات مثلما حظيت آلة العود ومن يعرف الذائقة العربية ومكوناتها الجمالية ال يجد في هذا مثار ًا للدهشة بالعبري ومو�سيقى اللون وازدهاء الرباعم. يبد�أ ال�شاعر ق�صيدته بالري�شة:
الع� � � � � ��بِ ال� � � ِّري� � ��� � �ش � ��ة واهْ � � �ـ � � �ـ � � � َو وا� � � �ض � � �ف � � �ـ ُ� � �ـ � ��ر ال � � � � ُع � � � � ْم � � � � َر ورو ْد ويعود ثانية ،وفق منطق اجلمال� ،إىل العود والأوتار ،ليكت�شف املو�سيقى الكونية يف كل املوجودات:
ل � � ��ك ه � � � ��ذا ال� � � ��ري � � � � ُح ع� �ـ� �ـ� �ـ� �ـ ��و ُد وال � � �غ � � �م � � �ـ � � �ـ� � ��ام� � � ُ �ات وت � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � �ـ � � ْر
�أغنيات العود
كما �أ�سلفنا ،ف�إن هناك �أغنيات ُخ�ص�صت ل�ه��ذه الآل��ة املو�سيقية ال�ف��ري��دة .ويتناول
- 1غنيت على عودي «عبده ال�سروجي»
«غ�ن�ي��ت ع�ل��ى ع���ودي» ه��ي �أغ �ن �ي��ة رق�ي�ق��ة، حتفل بفرح غامر ي�شيع يف ك��ل جوانبها. طابت فيها الأم��اين ودن��ت ،وان�ساب �ضوء القمر على ال��وج��ود ليغمره ب�صفائه... ليل للو�صال وال��وف��اء وال�� ِّ��س� ْ�ح��ر ،وحمبون باقون على العهد ،يت�ساقون ك�ؤو�س الود، ويكت�شفون معنى جديد ًا للوجود كله. واملقطع الأول يف الأغنية يك�شف عن معظم �سماتها ،وي�ب��دو فيه احل��ر���ص على تزيني الأغنية وتطريزها مبو�سيقى لفظية رقيقة ت�ستند �إىل ت��راث عربي ف�صيح �ضارب يف القدمُ ،يعنى باجلنا�س وا�ستخدام الألفاظ املت�شابهة �أو املتطابقة ملعان خمتلفة ،كما ي�ستند �إىل تراث عامي يف م�صر ويف �سواها ل�صيق ب��ال��وج��دان م��ن ال�ب�ل��دان ال�ع��رب�ي��ة، ٍ ال�شعبيُ ،يعلى م��ن � �ش ��أن ه��ذا ال �ن��وع من مو�سيقى اللفظ ،وتبدو �أكمل ال�صور لذلك يف بع�ض �أل��وان «امل��وال»� ،إذ تنتهي املقاطع بكلمة واحدة نطق ًا ،لكن املعنى يختلف يف كل مرة .تُفتتح الأغنية بهذا املقطع: غنيت على عودي � �س��اع��ة ظ �ه ��ور ب ��دري هــز الهنــا عودي غ� � َّن ��ايل م �ـ �ـ��ن ب �ـ �ـ��دري ت�ستخدم الأغنية كلمة «ع��ودي» مبعنيني، وكلمة «بدري» مبعنيني �أي�ض ًا ،وقد حافظت الأغنية يف كل مقاطعها على هذه اخلا�صية،
بحيث باتت �أبرز �سماتها .وعلى الرغم من �شبهة «ال�صنعة» التي حتيط بهذا النوع من الزينة اللفظية ،ف�إنها بقيت يف حدود تع�سف �أو القبول وال��رق��ة ،ومل يب ُد فيها ُّ �ضغط على الكلمات ينفر منه ال��ذوق ،بل بقيت فيه اللمحة ال�شعبية الذكية: �سِ ْحر الوجود َم ْعنا وعــرفنا ل ـُ ْه معنى احلر�ص على «الزينة» يف الأغنية لي�س �أبرز مالحمها اللفظية فقط ،بل �إن «العود» يف الأغنية يدخل يف �إط��ار «الزينة» وال ينفذ �إىل قلبها كما هي حال الأغنيات الثالث التي �سنتحدث عنها الحق ًا .فالأغنية التي تتكون من ث�لاث مقاطع ينتهي كل مقطع منها بال�شطرات الثالث التالية: وفرحت انا بدري وملَّا الح بدري غنيت على عودي العود هنا «زينة» ،و�إط��ار لل�صورة .تنتهي امل�ق��اط��ع دائ �م��ا ع�ن��د ه��ذا ال�ع��ا��ش��ق ال��ذي انت�شى برحيق اللقاء ،فغنى على ع��وده، ومن هذا ال�شطر الأخري اكت�سبت الأغنية ا��س�م�ه��ا� .إن ق�ل��ب ال �� �ص��ورة ه��و اللحظة ال��ن��ادرة ال �ت��ي اج�ت�م�ع��ت فيها امل �� �س��رات، وارتوت الأعني والأرواح بالقرب والو�صال، والعود �أحد تفا�صيلها� .إنه يبقى واحد ًا من �أهم م�شاهد ال�صورة من دون �شك ،لكنه لي�س كل �شيء يف الأغنية ...لي�س قطبها الذي منه تبد�أ و�إليه تنتهي ،كما هي حال الأغنيات الأخرى التي �سنحاول االقرتاب من عاملها.
- 2يا عود «فريوز»
ي��اع��ود ،هي �أغنية ق�صرية كتبها وحلنها الأخ� � ��وان رح��ب��اين و���ش��دت ب �ه��ا ف�ي�روز. والالفت للنظر �أنها تغني مب�صاحبة �آلة ال �ع��ود وح��ده��ا ،دون �أي �آالت مو�سيقية �أخ��رى ،لتكون الأغنية «عن العود» وحده، و«بالعود» وحده �أي�ض ًا. عبا�سي الطابع والعود يف هذه الأغنية عود ُّ
كامل ال�شناوي
�سعيد عقل
على الأغلب ،عود �ألف ليلة وليلة و�أم�سيات ال�سهر والأن�س والكا�سات امل�شع�شعة .هو ع��ود «ا�ست�شراقي» �إذا �صح التعبري ،يئن فتنبعث يف النف�س ذكريات زم��ن خيايل، ويتوجع فيم�ضي �إىل �آخر الكون ي�ستح�ضر ق�صور ًا رخامية ونوافري وج��واري تتطاير غالئلهن يف رق�صات مفعمة مبباهج احل�س املتقد .تقول كلمات الأغنية: احكي َع �سهرياتْ ِف ق�صو ْر ك اِّل رخام ونوافيــــــــر وت�شع�شِ ع الكا�ساتْ َع خ�صـــو ْر تتلــوى وحري ِر يطري
�أج �� �س��اد ب�ضة �شبه ع��اري��ة ،م�ط��وي��ة على العود ،فيما العيون الغام�ضة مطوية على �أ��س��راره��ا ،حمجوبة وراء غالئل الدخان وغ�لائ��ل احل��ري��ر و�أغ�ل�ال �أجنحة احل��رمي ومكائدها التي ال تنتهي دواعيها. ه��ذا ال�ع��امل امل��زخ��رف حزين م��ن داخله، وهو معنى عرب عنه ت�صوي ٌر � َّأخاذ للفنانني ال�ع�ب�ق��ري�ين ،الأخ��وي��ن رح �ب��اين ،ل�صوت العود� ...إنه يف هذه الأغنية م�سكون بالأمل:
مِ �ت�ك��ي ع�ل��ى امل �خ �م� ْ�ل ت�ت��وج� ْع
�إن� ��ه ع� ��ا ٌمل ن��اع��م ،ل�ك�ن��ه يف ع�م�ق��ه مثري ل�ل�أ��س��ى ،ت���س��ري يف �أن �غ��ام ع��وده رن��ة �أمل وحزن .رمبا هي عبقرية الأخوين رحباين التي تلم�س جوهر احلقيقة ،و�إنْ بذكاء فني الأغنية �أق��رب �إىل لوحة �أوروب�ي��ة ر�سمت مذهل ،و�إدراك عميق لوحدة روح الأغنية، ُ قبل ب�ضعة ق��رون لل�شرق الفاتن ،حيث وغ�ل�االت ب��ال�غ��ة ال��ره��اف��ة ت��راه��ا الأع�ي�ن الباحثة عما وراء ال�سطوح. ال�ن�م�ن�م��ات وال�ن�ق��و���ش ال�ثري��ة ،تتو�سطها ويف كثافة �شعرية تتبادل فيها احلوا�س �أدوارها� ،صوت ًا ولون ًا ومل�س ًا وحركة ،ي�صف ثمة إلحاح على االرتباط ال�شاعران وجع الأوتار ،وجمالها الأ�سيان، و�أنينها الذاهب �إىل �أقا�صي الوجود: الوجودي بين نغمات و�صوتك َ ي�ش ِّتي �أقما ْر العود والوصول َ ي�ش ِّتي حال الجمعي إلى نشوة وغيم وزنابق �سو ْد يا عو ْد
الطرب
موسيقا 130 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
العود يف الأغنية �إعالن حب ،ت�ستعذبه روح احلبيبة فت�ستعيد نغماته م��رات وم��رات، وت���س��أل ال �ع��ازف امل�ح��ب اع�تراف � ًا �صريح ًا ب��أن ه��ذه النغمات لها وح��ده��ا ...وتطلبها عالية قوية توقظ النائمني ،وتُبلغ العامل بحبها .العود يف الأغنية خارج عن هدوئه امل �ع �ه��ود ،وم �ت �م��رد ع�ل��ى ال�ق�ي��د احل��ري��ري للطرب ال ��وادع ...هو ع��و ٌد ه��ادر ،ج��ريء، رن ��ان ،واث ��ق ،يتحكم يف ع��واط��ف احل�شد امل�أخوذ بطزاجة اللحن و�سخونته ،وينفعل به عازفه يف حلظات انخطاف واجن��ذاب حتى لتخ�شى احلبيبة انقطاع الأوتار� ...إنه عود ال ي�سمح للب�شر �أن يناموا ،لأن احلياة، يف تلك اللحظة املتوهجة لإع�لان الع�شق، ت�ستحق �أن تعا�ش.
- 4على عودي «ريا�ض ال�سنباطي»
هي� ،إذن ،ق�صيدة خماتلة ،تعطي نف�سها ل�ك� ِّ�ل متلق على ق��در م��ا مي�ضي يف ك�شف �أ���س��راره��ا ،ل�ك��ن ك� � َّل م�ت�ل��ق واج � � ٌد فيها، بال�ضرورة ،ج�م��ا ًال تهيم ب��ه روح��ه ،وه��ذا �أحد �أ�سرار عبقرية الثالثي الفني العظيم ال��ذي قدمها :ف�ي�روز ،وعا�صي ومن�صور الرحباين.
- 3عودك رنان «فريوز»
«ع��ودك رن��ان» هي �أح��دث الأغنيات الأربع زمن ًا� ،ألفها وحلنها الفنان اجلميل زياد الرحباين ،بجر�أته املعهوده ،ونزقه الفني امل�م �ت��ع ،وب�ح�ث��ه ع��ن حل �ظ��ات ال مي�ك��ن �أن تنتمي �إال �إل�ي��ه ،وم�ساحات بكر �إن�سانية وعاطفية لي�س ل�سواه �أن يرتاد جماهلها. «ع��ودك رن��ان» �أغنية تتفجر حياة وحيوية، وتتج�سد ب�شر ًا لهم �أ�سما�ؤهم ووجودهم،
يف ملمح درامي ال تخطئ العني ن�سبته �إىل �صاحبه ...دراما ناب�ضة بالدفء� ،أبطالها ع��ازف م�ستهام ،وعا�شقة ن�شوى بر�سائل غ��رام تنقلها الأوت ��ار ...وح��وار بني الكلمة والنغمة ،بني ال�شفاه والوتر. ر�سخت قرون من الغناء ا�ستخدام ال�ضمري َّ امل��ذك��ر ح�ين ال �ك�لام ع��ن احل�ب�ي�ب��ة ،وح�ين تتكلم احلبيبة �أي�ض ًا .لكن اجتماع الب�ساطة واجلر�أة الفنية يطيح هذا التبادل الق�سري، لت�ستخدم الأغنية ال�ضمري امل�ؤنث وا�ضح ًا و�صريح ًاِ « :د ْق َ�ض َّلك ِد ْق ِق ّلي النغْمي ِل ِكي». بالب�ساطة نف�سها واجل� ��ر�أة ذات �ه��ا متنح الأغنية العازف العا�شق ،املع�شوق �أي�ض ًا، «علي» فينه�ض �شهادة وجود ،متنحه ا�سم ًا ّ ب�شر ًا �سوي ًا ،م�شيع ًا يف الأغنية مناخ ًا من الألفة والقرب.
على ع��ودي هي الأغنية الأخ�يرة يف قائمة الأغنيات الأرب��ع التي جنتلي بع�ض �أ�سرار جمالها .وعلى الرغم من �أن الأغنية تعود �إىل عام ،1952حني ظهرت �ضمن �أحداث فيلم «حبيب قلبي» الذي لعب بطولته ريا�ض ال�سنباطي ،ف�إنني ر�أيت �أن من الأن�سب �أن نقف �أمامها يف خامتة الرحلة ،فالعظمة تليق بالنهايات ،وجالل اجلمال وهيبته يف هذه الأغنية يجعالن منها التمام الذي ال يتبعه �إال النق�ص. نحن �أم��ام عمل بالغ الفخامة ،ي�ستح�ضر �أج� ��واء الأ� �س��اط�ير وال�ق��د��س�ي��ة ،م�ف��ردات��ه ه��ي ال��رك��وع وال�سجود واخل �ل��ود وعرائ�س ال�ف�ك��ر ورب� ��ات الإل� �ه���ام ...دن �ي��ا جمبولة م��ن فتنة العابد ومكابدات الفنان وعزلته �وف ال���س�ح��ر ودم� ��و ٌع تعاند ال�ه��ائ�م��ة وط �ي� ِ ال�ع�ي��ون لتن�سكب يف نغمات ال �ع��ود« .على ع��ودي» هي الأغنية الأط��ول بني الأغنيات الأربع ،تتيه مبقدمة مو�سيقية �ساحرة حاملة ي�ؤديها فريق كبري من العازفني ،ليطل من ورائها ال�صوت ال�شجي احل�سا�س لريا�ض ال�سنباطي ،وتتواىل م�شاهدها ومقاطعها يف ثراء باذخ تتجاوز معه ب�ساطة الأغنيات الثالث ال�سابقة� .إذا كان جمال الأغنيات الثالث هو جمال احلديقة املزهوة بالربيع،
ف�إن �أغنية «على عودي» تكتنز جمال الغابة ال�شا�سعة وروعتها. تر�سم الأغنية �صورة الفنان الرومانتيكي توحد ك�أ�صفى و�أ�صدق ما تكون ،ذلك الذي َّ يف وج��د ��ص��ويف م��ع نغمات ع ��وده ،وحتقق فيها وجوده احلق ...على العود يكون النوم وال�صحو ،والفرح واحل��زن ،والدموع التي يحب�سها كربياء الفنان ت�سيل دافئة على الأوتار: دموعي حار ِْمها من عيني و�أب ُد ْرها على عودي وال �ف �ن��ان ،ك�ك��ل ال��روم��ان�ت�ي�ك�ي�ين ،عا�شق ل�ل�ع��زل��ة ،يحيا داخ ��ل ذات ��ه ،وي�ق�ي��م كونه اخلا�ص يف قلبه الذي يت�سع للعامل ،ولي�س َّثم �إال العود يبوح مبكنون الروح: ـــا�س فـي دنيته ْم �أ�سـيب الن ْ ُ واخــد نغمي و�أحلـــاين وابات �سهرانْ ِف حريته ْم �أنــا والعـــو ْد ووِجداين ه��ذه الأف �ك��ار املحلقة ،تكت�سي لغة �أنيقة م�شرقة ،مت �صقلها بعناية لتالئم ث��راء ال�شعور وتعدد م�ستوياته يف الأغنية� .إنها ت� ّ �رق ،حينما يريد �شاعرها� ،إىل �أق�صى حدود الرقة: �شفـــايف نامية وبتحلــ ْم وفوق منها الكالم �صاحي ونظرة عني فيها البل�س ْم يقول للعني قومي ارتاحي ترتكنا م�أخوذي اللب بالروعة ،متحررين- ل �ل �ح �ظ��ات -م ��ن ق �ي��ود ال ��زم ��ان وامل �ك��ان واجل�سد ،هائمني مع نغمات العود الذي جت���س��دت يف �أن �غ��ام��ه م�لام��ح ه��ذا ال�ك��ون ال�سحري الرحيب.
دعوة �إىل اجلمال
�إن هذه القراءة للأغنيات الأرب��ع ،حماولة لتف�سري بع�ض جمالياتها املرتبطة بالفكرة ب�شكل �أ�سا�سي ...حماولة للك�شف عن جزء من ثرائها ...جزء من كنوزها التي رمبا مل
المقطع األول من أغنية «غنيت على عودي» حفلت بفرح غامر أشيع في كل جوانبها وطابت فيها األماني ودنت
نكت�شفها بعد� .إنها قراءة حتاول يف حقيقتها �أن حتفز اجلمهور �إىل التفاعل مع الأغنية بطرق �أخ��رى ،فالعمل الفني العظيم تتعدد ر�ؤاه ويتنوع الإح�سا�س به بتعدد املتلقني وتنوع
عاملهم وحاالتهم الوجدانية وال�شعورية� .إننا يف كل مرة نعاي�ش فيها العمل الفني العظيم، نكت�شف مناطق من اجلمال مل نكن قد و�صلنا �إليها بعد ،وهذا هو �أق�صى ما حتاول قراءتي للأغنيات الأربع ال�سابقة �أن حت ِّر�ض عليه� .إن قراءتي يف حقيقتها دعوة �إىل �سماع الأغنيات الأربع من جديد. و�أخري ًا ،ف�إن هذه القراءة للأفكار والكلمات، رمب��ا تكون يف حاجة �إىل ق ��راءة مو�سيقية موازية ،تك�شف جماليات اللحن واملو�سيقى، وعبقرية املو�سيقيني واملغنني الذين �أهدونا هذا الرتاث العظيم ،وما �أكرث امل�ؤهلني لذلك يف عاملنا العربي العا�شق ملو�سيقاه الأ�صيلة
مسرح 132 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
البطل الرتاجيدي امل�سلم منوذج ًا
من خمطوطة م�آ�ساة احلالج
شفرات التراث في النقد المسرحي د .عالء اجلابري «�أريد �أن تهب ثقافات كل الأرا�ضي مبحاذاة منزيل ،وبكل حرية ،لكني �أرف�ض �أن �أنقلب بهبوب �أي واحدة منها»..غاندي ح�صى من الألوان .قطعة ف�سي�سفاء يبدو جمالها تبعا يبدو الن�ص النقدي ككرة زجاجية تعك�س ما ال ُي َ لزاوية النظر ،ورمبا يجوز لنا �أن نركز على درا�سة ملمح من اخلطاب النقدي ،ال يف م�ستوى �صدقه؛ فذلك معيار �أخالقي خارج احل�ساب ،وال يف م�ستوى �صحته ،برغم كونه معياراً مو�ضوعياً ،ولكن يف م�ستوى ات�ساقه مع ملمح التمايز؛ فالنقد�-أحيانا -فرع من اخل�صو�صية ولي�س �أ�ص ً ال للتقريرية والنمطية .
حت��اول ال�سطور التالية البحث عن ح�ضور ال���ش�ف��رات الثقافية امل�م�ي��زة يف اخل�ط��اب النقدي ،لنت�ساءل هل �ساهم جتمد النقد عند الأخ��ذ يف عدم تطور الفن امل�سرحي تطور ًا ملمو�س ًا؟ �أم �أن اتكاء اخلطاب النقدي على تكوين حلمته و�سداته من «مو�ضوعه» ،دون كبري اعتبار للخطابات الإن�سانية املتعددة التي تتداخل مع املكونات املجتمعية �سبب �آخر ،ذلك �أنها ت�شكل حدود املمار�سة النقدية وتنظم قنواتها املختلفة؟
النقد كن�ص جمتمعي
�إن الن�ص ال�ن�ق��دي -مهما اع�ت�برن��اه بنية فردية– يكتمل يف بنية جمتمعية كاملة ،رمبا –على الأقل– بو�صفه ن�شاط ًا �إن�ساني ًا. جماراة لياكب�سون الذي يرى �أن بويطيقا عهد �أو فرتة ما ،قد ي�سيطر عليها عن�صر غالب م�شتق من ن�سق غري �أدب��ي ،فالأمر ذات��ه قد ين�سحب على النقد بتوجهات الفرتة و�سيطرة توجهات فكرية – ت�ؤثر يف النقد �أك�ثر من الإبداع الذي حتكمه الفردية– وكذا ت�ؤثرغلبة �أفكار بعينها على ثراء الت�أمل ،وتقم�ص روح الأدب؛ فان�سالخ النقد عن الن�ص وروحه رمبا و�صل حد اال�ستحالة. و�إذا كان املمثل الذي ي�ؤدي دور ًا ما ،يتقم�ص فيه روح �شخ�ص من ح�ضارة �أخ��رى يحتاج �إىل درا�سة ال�سمات املميزة لتلك احل�ضارة كي يكون مقنع ًا ومقبو ًال ،وجماري ًا روح الن�ص واملتلقني ،فالأمر على التقعيد النقدي -الأكرث دميومة -رمبا كان �أكرث ح�ضور ًا وبروز ًا . ب��ارت – مثال – بعد �أن زار اليابان ثالث م��رات نظر �إليها على �أنها ن�ص ،ومن واقع ق��راءت��ه ل�ه��ذا الن�ص �أ� �ص��در ك�ت��اب� ًا بعنوان «�إمرباطورية العالمات» ،وكان الكتاب لدى املفكرين اليابانيني «كتاب ًا �صادم ًا»؛ لأنها قراءة من خارج الثقافة ل�صلب ثقافة �أخرى. �إن روح الن�ص جزء من روح الثقافة.
ولكن الأمر لي�س على �إطالقه؛ فبع�ض الأفكار خا�ص مبجتمع دون غريه ،متام ًا كالإمياءات وال � ُع��رف ول�غ��ة اجل���س��د ،وال �ت��ي تتمايز من جمتمع لآخ��ر يف بع�ض الأم��ور� .إن املنظومة املرجعية ال�ت��ي متيز جمتمع ًا م��ا يجب �أن تكون حا�ضرة بالفعل– ف�ض ًال عن ح�ضورها بالقوة – يف ت�شكيل مناحي الن�شاط الإن�ساين و�أبرزها الأدب و أ�م��وره .وكما يحمل الإن�سان معه – �شاء �أم ك��ره – تاريخه فهو يحمل ثقافته وفكره ،وكما يقول عابد اجلابري �إن هناك يف الع�صر احلا�ضر قاعدة «عرفية» تتحدد مبوجبها «اجلن�سية الثقافية» لكل مفكر ،ه��ذه القاعدة تقت�ضي �أن املثقف ال ين�سب �إىل ثقافة معينة �إال �إذا ك��ان يفكر داخلها .والتفكري داخل ثقافة معينة ال يعني التفكري يف ق�ضاياها ،بل التفكري بوا�سطتها. ول �ع��ل التفكري ب��وا��س�ط��ة ال�ث�ق��اف��ة العربية يقت�ضي ح�ضور ًا –�أو اعتبار ًا– لبع�ض الأمور
انسقنا وراء مقوالت وأحكام جاهزة وكما استوردنا فن المسرح آثرنا السالمة فأردنا شراء خ�صو�صية املجتمعات �إننا ال نعادي نقل �أفكار غرينا �أو الت�أثر بها ،الصفقة كاملة فكان استيراد النقد المسرحي
الأ�سا�سية التي ارت�أى البحث �إغفال بع�ضها يف ثنايا الأمور النقدية .
�إ�شكالية الأحكام اجلاهزة
ي�ستح�ضر النقد ك�ث�ير ًا م��ن الق�ضايا التي تربز �إ�شكالياتها يف منا�سبات �شتى ،ال مكان فيها للكلمة الف�صل ،ولكن جتمد «تناولها» عند �أحكام جاهزة ،و�صلت لدى البع�ض �إىل درج��ة القدا�سة .ن�ضرب مثال هنا بق�ضية تعيد طرح نف�سها بني حني و�آخر ،نعني البطل الرتاجيدي امل�سلم� ،أو الذي يرى اجلنة ثواب ًا ل��ه ،ويدخل يف �صراع حمتوم منذ البداية، ويطلب اجلنة يف الآخ ��رة ،ولي�س ال�ف��وز يف الدنيا �أو العمل الدرامي املاثل .ورمبا كانت نقطة �أ�سا�سية يف تناول م�سرحيات من مثل «احل �ل�اج»؛ فقد ي�صل البع�ض يف تناولها بو�صفها حمك ًا الختبار م�صداقية اعتبار مثل هذا العمل عم ًال تراجيدي ًا من الأ�سا�س �أم يجب – طبق ًا الجت��اه ما– احلكم على ه��ذا العمل و«�أم�ث��ال��ه» بالنفي خ��ارج دائ��رة الرتاجيديا ،ونعني بـ«�أمثاله» تلك الأعمال ال�ت��ي يت�صدر فيها بطل ذو ق�ضية دينية عم ًال م�سرحي ًا ،بحيث يكون باعثه الديني �أ��س��ا���س لق�ضيته ،وي�ك��ون ال �ث��واب الأخ ��روي ن�صب عينه .و�إذا كنا –كما �سيت�ضح– نرى �أ�سا�س الرف�ض لدى الراف�ضني غياب الوعي
مسرح 134 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
حممد عابد اجلابري
عبد ال�سالم امل�سدي
علي الراعي
باخل�صو�صية الثقافية العربية ،وبداهة متاهي النقد واملجتمع ،ف�إننا ال نخفي كذلك «غمز» النقد الذي مل يكتف بالتزام موقع رد الفعل لالجتاهات الإب��داع�ي��ة ،حتى �صار -بتعبري الدكتور عبد ال�سالم امل�سدي�« -سجني الأخذ» كما قد يت�ضح من هذه الق�ضية ذات الداللة على �شفرة ثقافية غائبة عن النقد امل�سرحي .
إن الوعي بطبيعة العقلية المختلفة يفرض علينا أن نتوقع بط ً ال مختلف ًا ال يتحتم أن يكون صراعه األساسي مع السماء
فيه ال�سماء على الأر���ض ،وتر�سم اخلطوط العري�ضة مل�سار حياتهم ،تاركة لهم الت�صرف يف معظم الأم ��ور ،وبرغم ذل��ك تلعب ال��دور الأ�سا�سي فيها دون �أن ي�صري الفرد جمرد لعبة يف يد القدر ،ويكون الإن�سان– يف الوقت ذاته– قانع ًا مبا يفعله ،وهذه الإ�شكالية توفر للعمل قدر ًا من التوتر� ،أو التنافر ،بني املعي�ش واملثايل ،وبني �أوام��ر ال�سماء ورغبات الب�شر بني الواقع والطموح املالئكي ،مما يزيد من عدم الهارمونية يف م�سار ال�شخ�صية التي – عادة – ما يجنح �إىل الرتدد �أو النفور الكلي، وهو ما ينفي التوجه الأحادي للحدث ،و يوفر لل�شخ�صية جال ًال تراجيدي ًا عميق ًا حني يرى نظام الكون ال ي�سري وفق عقيدته ،مما يحدث به �صدع ًا من ن��وع م��ا ،ال ي�صل �إىل الإحل��اد �أو التمرد ،ولكنه ميزق ال��ذات� .إن��ه نوع من ا�ستبطان املعتقدات ومراجعتها على حم ّكات احل��وار والواقع والأر���ض بعيد ًا عن التلقني، واملثايل ،وال�سماوي .
مفهوم جديد للم�أ�ساة فكان ا�سترياد النقد امل�سرحي ،ويف غمرة ال تريد ه��ذه ال�سطور �أن تنت�صر لدين على رك�ض النقد ب�صفة عامة– والنقد امل�سرحي ح�ساب �آخ ��ر� ،أو ب�ي��ان م��دى �صالحية كون ب�صفة خا�صة– وراء الأخ���ذ ال التفاعل، البطل الرتاجيدي م�سلم ًا� ،أو اختبار �أهليته ويف فورة التبعية الثقافية ،مل نفطن �إىل �أن ل��ذل��ك؛ ف��أغ�ل��ب ال�ظ��ن �أن راف���ض��ي امل�سحة ب�إمكاننا– ف�ضال وعن وجوبه علينا– تقدمي الدينية للبطل الرتاجيدي يت�ساوى لديهم مفهوم ج��دي��د ل�ل�م��أ��س��اة ،مفهوم ينبع من امل�سلم وغريه ،كما حدث يف تناول «ريت�شاردز» ثقافتنا العربية الإ�سالمية ،ومن خ�صو�صياتها لهذه الق�ضية؛ فر�أى �أن �أقل م�سحة دينية يف الثقافية والفكرية ،مفهوم خا�ص .ال ليتماهى امل�سرحية من تلك الأدي��ان التي تقدم اجلنة م��ع مفهومات «الآخ��ري��ن» للم�أ�ساة ،ولكن للبطل الرتاجيدي تعوي�ض ًا له تكون مدمرة ليناق�ضه� ،أو ليحل حمله ،بحيث يكون اخلالف للأثر الرتاجيدي . فيه بني ال�سماء والب�شر� ،أو العقل والنقل طبق ًا لقد ان�سقنا وراء مقوالت و�أحكام جاهزة ،للم�صطلح الإ�سالمي ،خا�ص ًا بالفهم والت�أويل، وكما ا�ستوردنا – �إال قلي ًال – ف��ن امل�سرح دون قدرية لي�ست من الإ�سالم ،وال ميتد �إىل بطل خمتلف �آثرنا ال�سالمة ف�أردنا �شراء ال�صفقة كاملة ،قبول �أوامر ال�سماء �أو رف�ضها ،مفهوم تهيمن �إن ال��وع��ي بطبيعة العقلية املختلفة ،والتي يتبلور يف ظلها املبدعون العرب ،يفر�ض علينا مواءمة الواقع احل�ضاري �أن نتوقع بط ًال خمتلف ًا ،بطل ال يتحتم – يف �إطار هذه اخللفية البديهية– �أن يكون �صراعه �إن ال��وع��ي بطبيعة العقلية املختلفة ،وال�ت��ي يتبلور يف ظلها املبدعون الأ�سا�سي مع ال�سماء .يجب �أن نتقبل �أبطالنا العرب ،يفر�ض علينا �أن نتوقع بط ً ال خمتلفاً ،بطل ال يتحتم – يف �إطار يف �إطارنا نحن «فرناه �شهيدا ،ال منتحرا �أو هذه اخللفية البديهية– �أن يكون �صراعه الأ�سا�سي مع ال�سماء .يجب �أن �إره��اب�ي��ا» ال يف �إط��ار غرينا ،و�أن نالئم بني نتقبل �أبطالنا يف �إطارنا نحن «فرناه �شهيداً ،ال منتحراً �أو �إرهابياً» ال يف البطل الرتاجيدي –وهو منا– وب�ين واقعه �إطار غرينا ،و�أن نالئم بني البطل الرتاجيدي –وهو منا– وبني واقعه احل�ضاري و خلفياته الثقافية .
روالن بارت
ياكب�سون
ميجيل دي �أونامونو
احل�ضاري و خلفياته الثقافية . يف امل�آ�سي اليونانية ،تكون املعرفة «كما يف حالة �أوديب» مدمرة للبطل ،وممثلة لنهايته، فيما تكون املعرفة املنرية لدى البطل امل�سلم «�أو على وج��ه �أدق �صاحب الق�ضية ذات اخللفية الدينية» ب��داي��ة للجوهر احلقيقي ل�صراعه «كما فعل احلالج حني وعي طبيعة ال�صراع فخلع خرقته ،ومن ثم بد�أت م�أ�ساته» لينتقل ال�صراع م��ن ال�سماء �إىل الأر���ض. �إن هذا التغري يف مفهوم امل�أ�ساة هو متايز �إن�ساين ،واكت�ساب ح�ضاري يف جوهره ،قد يرف�ضه البع�ض ملجرد امل�سحة الدينية متام ًا كما رف�ضوا ت��ردد احل�لاج بينما قبلوا تردد «هاملت» ،واجتهدوا يف تربيره وت�سويغه� .إن التمايز بني البطل الرتاجيدي امل�سلم وغريه نتاج طبيعي ملناخ �آخر. و�إذا ت�ساءل البع�ض عن الأث��ر الرتاجيدي مل�أ�ساة –�إذا �سلموا باعتبارها كذلك – يعرف بطلها منذ بدايتها م��ا ه��و �صائر �إل�ي��ه من م�صري حمتوم ،جاز لنا �أن نرى مع الدكتور علي الراعي �أنه يبقى للم�أ�ساة ذلك ال�شعور املم�ض امل�ؤ�سي ،الذي ي�شعر به بطل امل�أ�ساة، وهو مقدم على �إلقاء نف�سه �إىل الآتون ،ال�شعور ال��ذي يقول واه � ًا للإن�سانية ،ما كان �أغنانا جميعا عن هذا القتال لو �أن اخلري يقرر له الن�صر� ،أو لو �أن �أن�صار ال�شر يرجعون عن غيهم «امل�سرح يف الوطن العربي ،»166 :هذا مع وعينا الكامل ب�أنه لي�س من ال�ضروري �أن يرتادف املوت وامل�أ�ساة ،ولكنه –املوت– �أحد
التغير في مفهوم المأساة تمايز حضاري قد يرفضه البعض لمجرد المسحة الدينية كما رفضوا تردد «الحالج» بينما قبلوا تردد «هاملت»
ك��ان معاد ًال الختيار ال�شخ�صيات املقموعة واملقهورة واملهم�شة يف التاريخ العربي ،والتي �أهملها التاريخ الر�سمي /خطاب ال�سلطة ،ليبد�أ تزييف تاريخ الوطن بتزييف تاريخ �أف � ��راده ،ف�ي�ك��ون �سعى احل�ل�اج �إىل حتفه –بغ�ض النظر عن ك��ون اجلنة م�صريه– يعادل �سعي �صاحب ق�ضية ما �إىل حقيقة عدل اجتماعي يت�صوره، يبحث عنها� ،أو �إىل ٍ طاملا �أن��ه ال ي��رى طريقا �آخ��ر ،ومل ُي� َت��ح له غريه بعد ما اختاره .الأم��ر ذات��ه ين�سحب على «احل�سني» يف حربه غ�ير املتكافئة، واملح�سومة نتيجتها قبل البداية ،وكذلك يف «غ�ي�لان الدم�شقي» ،يف ��ص��راع��ه بني ال�ق��دري��ة ال�ت��ي ات�خ��ذه��ا الأم��وي��ون و�سيلة لتع�ضيد ملكهم ،وبني االختيار الذي يدعو له «غيالن الدم�شقي» �أو «غيالن القدري». �إن ال�صراع وهو جوهر الرتاجيديا ،وطبقا ل�شرتاو�س ،فال�صراع ال ميثل فقط قلب العملية امل�سرحية ،ب��ل ي�شكل �أ�سا�س ك��ل الأن�شطة الإن�سانية ،وهو ر�ؤية للعامل ت�ستند �إىل الإميان واليقني يف مبد�أ ما ،واحلل ال يكمن ،كما يرى «�أونامونو» ،يف انت�صار �أحدهما على الآخر و�إمن��ا يف احلفاظ على ه��ذا ال�صراع قائما دون مهادنة . ال يجب �أن يكون هناك �أ�سف �أو حزن حقيقيني على الأب�ط��ال الرتاجيديني ال�شهداء ،حيث �أنهم �سيكونون مو�ضع العطف وال�شفقة �إذا ما بقوا �أحياء
مظاهرها ،وه��ذا احل��زن اجلليل رمب��ا كان جوهر امل�أ�ساة ،و خا�صة �إذا نتج عن مت�سك مببد�أ م�ستحق ي�ست�أهل الت�ضحية يف �سبيله ،و يحارب يف �سبيله كل بطل حتى باملعنى الذي يفهمه �أوالد البلد ،دون �أ�صحاب الياقات املن�شاة .و�إذا ك��ان امل��وت /ال�شهادة متثل هزمية الفرد الوقتية فانه انت�صار رائع للمبد�أ الذي هو ر�أ�س الأمر كله ،ومعنى اال�ست�شهاد يعجز عن فهمه من مل يولد فيه و ي�ؤمن به ويتمثله ،وي�صري داخ ًال يف ذاته الناقدة .
احلالج مثال للمهم�شني
�إن اخ �ت �ي��ار احل�ل�اج ع�ل��ى �سبيل امل �ث��ال –
في المآسي اليونانية تكون المعرفة مدمرة للبطل وممثلة لنهايته فيما تكون بداية للجوهر الحقيقي لصراع البطل المسلم
دراما 136 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
مخرج بدرجة مناضل
إسماعيل عبد الحافظ القاهرة -حممد ال�سيد عيد ظهر التلفزيون امل�صري للوجود يف يوليو عام 1960م ،وقبل ظهوره الر�سمي كان هناك بث جتريبي ،وكان من املواد التي بثها خالل فرتة التجريب �أعمال درامية منها «:م�شاكل فتلة» ،و«الفر�سان الثالثة» الذي كتبه ومثله عبد املنعم مدبويل ،وكانت هذه الأعمال من �إخراج روبري �صايغ ،الذى در�س الإخراج التلفزيوين يف باري�س .وهذا معناه بب�ساطة� :أن الدراما كانت جزءاً من مكونات التلفزيون امل�صري منذ ن�ش�أته .
واحلقيقة �أن التلفزيون امل�صري مل يبد�أ يف �صناعة الدراما من فراغ ،فقد �سبقته جتربة م�صرية طويلة م��ع ف��ن ال�سينما ،وه��و فن يعتمد �أي�ض ًا علي الدراما امل�صورة .وخالل م�سرية ال�سينما �صار لدى م�صر جمموعة من الكتاب ،وخمرجي ال�سينما ،وفنيي الإ�ضاءة، والت�صوير ،والديكور ،واملاكياج ،واملالب�س، وغريها من عنا�صر العملية ال�سينمائية التي ميكن �أن يعتمد عليها التلفزيون الوليد يف بداية حياته. ل�ك��ن ك��ان ه �ن��اك � �ش��يء ج��دي��د ب ��د�أ ال�ع��امل ي�ستخدمه غ�ير ال�شريط ال�سينمائي ،وهو ال�ف�ي��دي��و ،وق���ررت م�صر �أن ت��دخ��ل جم��ال الفيديو .و�أر�سلت ال�شباب يف بعثات لدرا�سته. كما ان���ش��أت معهد ًا للتدريب التلفزيوين، وال��ش��ك �أن ه��ذا كله �أ�سهم يف ح��ل م�شكلة العنا�صر الفنية التي يحتاجها التلفزيون امل�صري البازغ. ويقول تاريخ التلفزيون �إن��ه كان هناك جيل �أول من املخرجني امل�ؤ�س�سني� ،أهمهم :نور ال��دم��ردا���ش ،اب��راه �ي��م ال���ص�ح��ن ،يو�سف م��رزوق ،فايز حجاب ،حماده عبد الوهاب، �أحمد عثمان ،عمر بدر الدين. بعد هذا اجليل جاء جيل �آخر ،تعلم علي �أيدى �سابقيه ،وبع�ضهم �سافر يف بعثات خارجية لدرا�سة الإخ��راج ،ومن هذا اجليل اجلديد: يحيى العلمي ،حممد فا�ضل� ،إنعام حممد علي ،علية يا�سني ،علوية زكي ،جميدة جنم، ابراهيم ال�شقنقريي ،وجيه ال�شناوي� ،سامي حممد علي ،فخر ال��دي��ن ��ص�لاح ،عبد اهلل ال�شيخ. ومنهم كذلك ،ا�سماعيل عبد احلافظ ،الذي غيبه املوت عن عاملنا �أخري ًا� ،إنه �أحد �أعالم اجليل ال�ث��اين م��ن رواد الإخ���راج ال��درام��ي التلفزيوين ال يف م�صر وحدها بل يف الوطن العربي كله. ولد ا�سماعيل عبد احلافظ يف قرية اخلادمية مبحافظة كفر ال�شيخ ،يف 15مار�س 1941م، والتحق بكلية الآداب جامعة ع�ين �شم�س، ودر�س بق�سم اللغات ال�شرقية ،وكان ترتيبه الأول علي دفعته «دفعة 1963م» ،مما �أعطاه
أعماله مع عكاشة رصدت التاريخ االجتماعي والسياسي لمصر وتصلح وثيقة للتأريخ للمجتمع المصري خالل المئة سنة الماضية احلق يف �أن يكون معيد ًا باجلامعة� ،إال �أنه ف�ضل �أن يعمل بالإخراج� ،إذ حلم ب�أن يكون خمرج ًا تلفزيوني ًا . �أثناء وجود ا�سماعيل يف �آداب عني �شم�س كان هناك زميل �آخر ،بلدياته ،يدر�س معه يف نف�س الكلية ،لكن يف ق�سم االجتماع ،و�شاء لهما القدر �أن يرتبطا ببع�ضهما بعد ذل��ك طوي ًال ،هذا الزميل ال�شاب هو الكاتب �أ�سامة �أنور عكا�شة. وقبل �أن نوا�صل م�سريتنا مع ا�سماعيل عبد احلافظ البد �أن نتوقف عند املحافظة التي ينتمي �إليها ،وهي حمافظة كفر ال�شيخ .هذه املحافظة قبل ثورة يوليو �شهدت تفاوت ًا طبقي ًا ح��اد ًا ،ك��ان الغني فيها غني ًا ،وك��ان الفقري فيها معدم ًا .وه��ذا التفاوت الطبقي �أف��رز بعد ثورة يوليو تيار ًا ي�ساري ًا قوي ًا بني مثقفي املحافظة ،ورغ��م �أن ث��ورة يوليو كانت ترفع راية اال�شرتاكية �إال �أن التيارات الي�سارية يف كفر ال�شيخ كانت ت�سبب لها ازعاج ًا كبري ًا . املهم �أن مثقفي كفر ال�شيخ كانوا غالب ًا من �أن�صار اال�شرتاكية ،والعدالة االجتماعية، وتقريب التفاوت بني الطبقات ،وغري ذلك من الأفكار التي تقف �إيل جوار الفقراء من �أبناء الوطن . وعادة يرتبط الإميان بهذه الأفكار بنوع حمدد من الفن ،وهو الفن امللتزم بق�ضايا املجتمع . و�أذكر �أنه كان معي يف كلية �آداب ا�سكندرية �شاعر من كفر ال�شيخ كان اليكف عن قوله
تراث عبد الحافظ في حاجة لرسائل علمية تقف عند أعماله الفنية لتبين رؤيته لكل عنصر من عناصر اإلخراج ودوره في البناء الفني
« :احلديث عن الأ�شجار خيانة» ،فااللتزام �أهم من االهتمام بجمال الطبيعة وما �شابهها من مو�ضوعات .بل �إن ه��ذا ال�شاعر الذى ينتمي لكفر ال�شيخ كان يرى �أن �أحمد �شوقي لي�س �شاعر ًا ،لأن مقيا�س ال�شاعرية عنده هو االلتزام بق�ضايا املجتمع ،والن�ضال الطبقي، والدفاع عن الربوليتاريا . مل يكن ك��ل الي�ساريني املنت�سبني �إيل كفر ال�شيخ بهذه احلدة ،لكن كان بينهم املعتدلون، ال��ذي��ن �آم �ن��وا بالفن امل�ل�ت��زم دون �شطط، و�أبدعوا �أعمالهم الرائعة يف ظل هذا املفهوم، ومن ه�ؤالء الفنانني ا�سماعيل عبد احلافظ. ي�ق��ول ا�سماعيل عبد احل��اف��ظ ع��ن نف�سه: «الق�ضايا بالن�سبة يل حم�سوبة بداخلي� ،أنا مع الإن�سان امل�صري وم��ع �آماله وتطلعاته. الأ�شكال قد تختلف ولكن امل�ضمون هو هو، وحني �أختار عم ًال ما فالبد �أن يكون متفق ًا مع قناعاتي و�أ�سعي بد�أب لكي �أ�ؤكد وجهة نظري يف ق�ضايا وهموم امل��واط��ن ،ق�ضايا التحرر الوطني» .وال�شك �أن هذا االلتزام هو �سبب كل املعارك التي خا�ضها خمرجنا الكبري، وهي �سبب مهم من �أ�سباب متيزه ،كم �أنها يف ر�أي��ي -من �أه��م الأ�سباب التي جمعتبني ا�سماعيل عبد احلافظ وم�ؤلفيه �أ�صحاب وجهات النظر اجلريئة ،القادرين على فهم وحتليل ونقد الواقع� ،أمثال :جالل الغزايل، وفتحية الع�سال ،وي�سري اجلندي ،و�أ�سامة �أنور عكا�شة .
نقطة البداية
بد�أ ا�سماعيل حياته الفنية عام 1964م ،بعد تعيينه بالتلفزيون ،وج��اء تعيينه يف مراقبة الأطفال ،ورغم �أن العمل يف الأطفال مل يكن همه الأول �إال �أنه تعرف يف هذه الإدارة علي
دراما 138 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
�أ�سامة �أنور عكا�شة
ي�رسي اجلندي
االلتزام هو سبب كل المعارك التي خاضها عبد الحافظ ولكنه سبب مهم من أسباب تميزه
فتحية الع�سال
رجل �أثر ت�أثري ًا مهم ًا يف حياته ،هذا الرجل هو املخرج �أحمد عثمان .يقول ا�سماعيل عن علي هذا الرجل« :هو �صاحب الف�ضل الأول ّ يف دخويل هذا املجال «جمال الإخراج» ،وهو رج��ل �أ�صيل ج��د ًا ،وم��ن النا�س الذين لفتوا نظري لأ�شياء مهمة جد ًا ،وكان �صاحب خربة، وكان نا�صح ًا �أمين ًا ،كان يقول لك كل ما عنده، ُيعلمه لك ويرتك لك حرية الأخذ والرد». و�أح� �م ��د ع�ث�م��ان ه��و ال� ��ذى ن�ق��ل ا�سماعيل عبداحلافظ معه �إيل �إدارة التمثيليات ،وهناك بد�أ ا�سماعيل عبد احلافظ م�سريته احلقيقية.
العمل الأول
ال�شباب .لكن خمرجنا ا�ستطاع �أن يقنع امل�ؤلف �صربى عبد القادر ب�أن يكتب له متثيلية التزيد مدتها ع��ن ن�صف �ساعة ب�ع�ن��وان «ومت�ضي احل �ي��اة»� ،إال �أن��ه مل يكن را�ضي ًا كل الر�ضي عن هذه التجربة ،وعلي العك�س من ذلك كان يتحدث بكل فخر واع�ت��زاز عن العمل الثاين الذى �أخرجه ،ويعتربه من �أهم �أعماله ،وهو �سباعية من حلقات مت�صلة منف�صلة كتبها �سيد مو�سي وكرم النجار ،و�أرخا فيها لل�شارع امل�صري .وقد كان من املقرر �أن تكون م�سل�س ًال لوال �أن �أوقفتها الرقابة بعد احللقة ال�سابعة .
غ�ير م��رغ��وب فيها .واحلقيقة �أن ال��ذي��ن مل يعي�شوا ه��ذه ال�ف�ترة ال ميكنهم �أن يتخيلوا و�ضع الرقابة ،التي كانت ترى كل امل��واد قبل بثها ،وم��ن حقها �أن حت��ذف م��ا ت��راه ما�س ًا بالنظام� ،أو يتحدث عن �سلبياته .وكثري ًا ما كان الرقيب حمدود الثقافة �أو جبان ًا يخ�شي ي�شتم فيه امل�ساءلة ،فيبادر ب�إلغاء �أي �شيء ّ �أنه ميكن �أن ي�سبب له امل�ساءلة لو تركه مير. ويف ع��ام 1974م ق��دم خم��رج�ن��ا جمموعة �سهرات عن دور �أجهزة الإعالم يف غ�سيل مخ املواطنني .كما قدم �سهرة ا�ستخدم فيها لأول مرة فن احليل «ال�تروك��اج» يف الفيديو ،لكن الأخطر �أنه قدم �أربع �سهرات كتبها له جالل الغزايل ،وهو من الكتاب الرواد ،وهاجم فيها االنفتاح االقت�صادي ،وبعد هذه ال�سهرات ُمنع ا�سماعيل �ست �سنوات تقريب ًا من �إخ��راج �أى عمل درامي للتلفزيون حتي عام 1980م .
م�سل�سالن البد �أن يعر�ضا
مل يتوقف خمرجنا عن �إ�صراره علي �أن يقول كلمته ،ففي عام 1978م قدم لل�شركة الكويتية م�سل�س ًال ب�ع�ن��وان «ر�أ�� ��س ال �ق��ط» م��ن ت�أليف جالل الغزايل ،ولعلنا الحظنا اقرتانه يف هذه املرحلة بهذا امل�ؤلف الواعي الذى اليقدم �سوى مو�ضوعات ج��ادة و�ساخنة ،ويقول ا�سماعيل عن ه��ذا امل�سل�سل« :ح��ورب من �أجهزة الأم��ن امل�صرية ،و�أجهزة الإعالم ومت �إعدامه» ،ومل تكن هذه هي املرة الوحيدة التي مينع فيها م�سل�سل ملخرجنا امل�صر علي امل�شاركة بر�أيه يف حركة توايل املنع املجتمع ،فقد منع التلفزيون �أي�ض ًا عر�ض م�سل�سل بعد هذه ال�سباعية بد�أ امل�س�ؤولون يف التلفزيون «العودة للحياة» الذى كتبته فتحية الع�سال عن ينظرون ال�سماعيل عبد احل��اف��ظ باعتباره ق�صة لعبداهلل الطوخي ب�سبب مناق�شته لق�ضايا خمرج ًا حمب ًا للم�شاكل ،يتناول مو�ضوعات عمالية .ول��ذا فنحن نت�ساءل� :أاليجب البحث عن هذين امل�سل�سلني الآن وعر�ضهما واحلفاظ عليهما باعتبارهما �شاهدين علي فرتة حرجة «رأس القط» و«العودة من تاريخ م�صر؟ لقد تغريت الظروف ويجب �أن للحياة» مسلسالن ن�صلح �أخطاء املا�ضي .
قابل ا�سماعيل �أكرث من م�شكلة قبل �أن ي�صري منعتهما الرقابة البد من خمرج ًا ،وم��ن �أه��م ه��ذه امل�شاكل �أن الكتّاب البحث عنهما وعرضهما العودة للبيت الكبري الكبار مل يوافقوا علي �أن يكتبوا له ولزمالئه باعتبارهما شاهدين علي عاد ا�سماعيل عبد احلافظ للتلفزيون امل�صري فترة حرجة من تاريخ مصر
عام 1980م بعد �أن تولت م�س�ؤوليته ال�سيدة متا�ضر توفيق ،ع��اد بنا ًء علي دع��وة منها، وقدم م�سل�سل «احلب واحلقيقة» ،ويف ت�سجيله ل�سريته الذاتية املن�شورة يف كتاب «فن الدراما التلفزيونية» ،يقول عن هذا امل�سل�سل « :فوجئنا بال�صحافة ت�شن حملة �شعواء وهجوم ًا �شنيع ًا اليت�صل بالنقد من قريب �أو من بعيد ،وهم يلمحون يف كتاباتهم ب�أن امل�سل�سل غمز وملز ل�شخ�صيات عامة وم�س�ؤولني يف قمة ال�سلطة، وهاجت الدنيا وماجت ،ودخل العمل ومبدعوه يف دور حتدٍ رهيب ،ومل يعذبني كل هذا لأن املهم عندى هو �أنني قلت كلمتي وكل ما �أريد».
م�سل�سل من التاريخ الإ�سالمي
رغم ارتباط ا�سماعيل عبد احلافظ بالدراما االج�ت�م��اع�ي��ة ف�ق��د �أخ� ��رج يف ع ��ام 1981م م�سل�سل «خيول الن�صر» وهو من ت�أليف طه �شلبي ،و�أح��داث��ه ت��دور يف الع�صر الأم��وي، وتركز علي احلجاج بن يو�سف الثقفي ،ولنا �أن نفهم طبيعة الق�ضية املطروحة م��ادام البطل هو احلجاج .
وم�سل�سل رمزي
وح�ين ت�شتد الرقابة يلج�أ الكتاب والفنانون عادة للرمز ،وللمعادل املو�ضوعي ،وهذا مافعله ا�سماعيل عبد احلافظ مع امل�ؤلف عبد القادر جنيب ،يف م�سل�سل عنوانه «�أيوب البحر» ،لكنه مل ير�ض عن هذه التجربة ،وكتب يقول« :يبدو �أن الرمز الذى ا�ضطررنا �إليه يف هذا الوقت كان م�سيطر ًا علينا واهتممنا به �أكرث مما اهتممنا بالواقع ،و�أعتقد �أن اخلط�أ يف تكنيك الكتابة، ومي�ك��ن �أن يعجب امل�ث�ق��ف ،ول�ك��ن توجهنا يف الأ�سا�س هم النا�س العاديون والب�سطاء ،واخلط�أ �أين و�ضعت الرمز علي املن�ضدة و�أخذت �أحاوره دون اهتمام بو�ضع الواقع وعالقاته �أو ًال».
بسبب مهاجمته االنفتاح االقتصادي ُمنع عبد الحافظ ست سنوات من إخراج أي عمل درامي للتلفزيون حتي عام 1980م مع خمرجنا الكبري ،وهو ا�سم �أ�سامة �أنور عكا�شة .ق��دم ه��ذا الثنائي املتوافق فكري ًا وفني ًا جمموعة من الأع�م��ال الرائعة ،لعل من املنا�سب �أن نتذكر �أهمها مع ًا :ال�شهد والدموع «ج��زءان» ،ليايل احللمية «خم�سة �أج ��زاء»� ،أهالينا ،ام��ر�أة من زم��ن احلب، امل�صراوية «ج ��زءان» .كانت ه��ذه الأعمال تر�صد التاريخ االجتماعي وال�سيا�سي مل�صر، وتعتمد علي البطوالت اجلماعية ،و�سمتها العامة الواقعية .وال �شك �أنها ت�صلح وثيقة للت�أريخ للمجتمع امل�صري خالل املئة �سنة املا�ضية .وهي م�سل�سالت ذات طبيعة نقدية، متيل للدفاع عن حقوق الفقراء ،وتنحاز �إيل جتربة عبد النا�صر يف العدالة االجتماعية، لكنها تنتقد �أخطاءها ،وال تر�ضى بوجه عام عن املرحلة ال�ساداتية وال املرحلة املباركية .
ثم جاء �أ�سامة �إذا كان ا�سم جالل الغزايل ت��ردد كثري ًا يف م�سل�سل الوحدة الوطنية
املرحلة ال�سابقة ،ففي املرحلة التاليىة �سنجد ا�سم ًا �آخر يحتل ال�صدارة يف التعاون
من الروايات التي �أعجبتني عند �صدورها رواي��ة بهاء طاهر «خالتي �صفية وال��دي��ر»،
وحني كنت �أعمل مع يحيى العلمي يف الزيني بركات ،قلت له �إن لدي فكرة رائعة ميكن �أن تكون هي عملنا القادم � .س�ألني يحيى: ماهي؟ قلت :رواي��ة مده�شة ا�سمها خالتي �صفية وال��دي��ر ،ونه�ض يحيى العلمي �إيل مكتبة لديه و�أخ��رج منها �سيناريو م�سل�سل خالتي �صفية والدير ،وقال يل جيت مت�أخر ي��ا �أ��س�ت��اذ .وبعد ف�ترة لي�ست وج�ي��زة خرج م�سل�سل خالتي �صفية والدير للنور من �إخراج ا�سماعيل عبد احل��اف��ظ ،وح�ق��ق امل�سل�سل جن��اح� ًا ك �ب� ً يرا ،لأن��ه ت�ن��اول ق�ضية تهم كل امل�صريني .وكتبت ال�سيناريو لهذا امل�سل�سل ال�سيدة ي�سر ال�سيوي .وال �شك �أن ا�سماعيل عبد احلافظ كان م�ؤمن ًا بالوحدة الوطنية، وق��د عاجلها مع �أ�سامة يف ليايل احللمية، لكنه قدمها هنا باعتبارها ه��ي املو�ضوع املحوري .و�أخري ًا ،هذه عجالة عن خمرجنا املتميز ا�سماعيل عبد احلافظ ،اعتمدت فيها علي ما كتبه الرجل نف�سه عن نف�سه ،لكن امل�ؤكد �أنها ال تفيه حقه ،فالرجل يف حاجة لر�سائل علمية تقف عند �أعماله الفنية لتبني جمالياتها ،وتظهر لنا كيف ا�ستطاع �أن يعرب عن �أفكاره من خالل ن�صو�ص �أجاد اختيار م�ؤلفيها ،ور�ؤي�ت��ه لكل عن�صر من عنا�صر الإخ��راج ،ودوره يف البناء الفني، وغ�ير ذل��ك م��ن الق�ضايا ال�ت��ي حت��دد لنا مكانة الرجل بني املخرجني ،والتي ميكن �أن تكون نربا�س ًا للمخرجني ال�صاعدين من الأجيال القادمة
تشكيل 140 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
تتحدى منطية الن�ص
يد الحناء ..
تجربة جديدة لمحمد كانو �أبوظبي � -سامح كعو�ش فني مغاير وحداثي ،يجمع تقنيات التجريد لي�س �أجمل من �أن ينتقل امل�شاهد بعينيه يف م�ساحات خلقٍ ٍّ الفني والت�أ ّمل اللوين يف �أبعد امتداداته الالمرئية ،ولكن امل�شار �إليها بالداللة الفنية ذات القيمة وامل�ضمون العميقني والبعيدين ،وبخا�صة حني يكون املتلقي �أمام �أعمال الفنان الت�شكيلي حممد عبد اللطيف كانو ،يف جمموعة �أعماله الفنية التي ا�ستمد ثيمتها من احلناء وجماليات �أ�شكالها ور�سومها على اليد.
اليد هنا ت�صبح امل�شرتك الفني واملعريف مع ًا يف م�ساحة املنجز الفني والإب��داع��ي، فهي �أداة الإ�شارة وامل�شار �إليه يف �آنٍ مع ًا، حني تكون دال ًة على رمزية الوقوف والتو ّقف املروري ،م�ستمد ًة من �أقرب الأ�شكال �إىل روح احلياة املعا�صرة ورموز املدن والقيادة فيها وازدحامها بال�سيارات وامل��ارة ،واليد �أي�ض ًا املدلول والداللة حني تكون يد الأنثى العربية اخلليجية وهي حمنا ٌة ب�صبغ ٍة اعتادتها �أيدي �أمهاتنا وجداتنا وبناتنا وزوجاتنا و�أخواتنا وحبيباتنا ،وه��ي اليد التي ت�صبح حامل َة قيمة العراقة والأ�صالة والهوية الإماراتية اخل��ال���ص��ة� ،إذ ت�صبح ع�م�ل ًا فني ًا ي��زدان ب�أ�شكال الر�سم باحلناء ،فحين ًا هو م�شربية وح�ي�ن� ًا ه��و امل��زه��ري��ة وال��زه��ور ب�أ�شكالها املختلفة ،وحين ًا هو العناقيد املتدلية عن عرائ�شها� ،أو النجوم ال�سابحة يف ف�ضاءات لونية زرقاء� ،أو الأه ّلة يف �سعيها �إىل الأعلى كمرجعية زمنية مكانية مع ًا ،تقع يف �صلب االنتماء الديني والهوية الإ�سالمية العربية الإماراتية� ،أو هو الزنابق املمتدة ب�أعناقها �إىل ال�ضوء ال�ساقط عليها من �أعلى� ،أو ما هو �أقرب �إىل احلياة املعا�صرة حني يبدو جلي ًا لنا �أن الفنان حممد كانو ميلأ م�ساحة الكف مبزيج رائع من الر�سوم باخلطوط والأ�شكال الهند�سية الأق��رب �إىل «ك��ودات» كمبيوترية ال تكاد ت��راه��ا العني امل �ج��ردة ،ولكنها هنا «كودات» فنية عالية الت�صميم والبداع.
ّ الكف معادل للن�ص
ي�شري الفنان الت�شكيلي حممد عبد اللطيف كانو �إىل �أن مو�ضوع �أع�م��ال��ه يف جمموعة «يد احلناء ت�صبغ �إ�شارات التوقف» هو اليد املحناة نف�سها ،ويعترب �أن �إ�شارة التوقف التي يج�سدها يف عمله الفني «حتمل املقايي�س امل�ت�ع��ارف عليها بح�سب �إت�ف��اق�ي��ة «فيينا» اخلا�صة ب�إ�شارات املرور وعالمات الطرق، على �شكل ثماين اال�ضالع بطول � 75سم لكل �ضلع ،و�إط��ار �أبي�ض بعر�ض 20ملم ،وت�شري عالمة التوقف ،بح�سب الإتفاقية ذاتها، بالن�ص �إىل الأمر بالوقوف ،باللغة الإنكليزية
الفنان حممد كانو
�أو اللغة املحلية ،وقد ت�ستعمل بع�ض الدول، كما يف جمل�س التعاون لدول اخلليج العربي، اللغتني مع ًا ،مع الكتابة العربية يف الق�سم الأعلى من �إ�شارة التوقف». وي�ضيف الفنان كانو« :الن�ص ،هذا ما �أحتداه هنا ،ومفهومي الفني ير�شدين �إىل التحدي للنمطية التقليدية يف الإ�شارة بالن�ص ،ب�أمر ال��وق��وف » ق��ف ،با�ستخدام اليد املفتوحة «ال �ك��ف» مل��ا ي�ضيفه ه��ذا ال�شكل الب�صري احلافل بالدالالت الرمزية لل�صورة الكونية املتعارف عليها» ،وه��و يعمد �إىل التخفيف من حدة �صورة الكف التي ت�أمر بالتو ّقف،
اليد في تجربة كانو مشترك فني ومعرفي فهي أداة اإلشارة آن مع ًا والمشار إليه في ٍ
عرب �إ�ضافة جماليات الزينة العربية لن�ساء اخلليج العربي ،والعنا�صر الفنية امل�ستوحاة م��ن �أ� �ش �ك��ال احل �ن��اء ال �ت��ي ير�سمنها على �أي��دي �ه��نّ ،ك��أن��ه يف حلظة ت�شكيل اللوحة، ي�ستك�شف عوامل من احلناء ب�ألوان مغايرة للأحمر الأ��ص�ل��ي امل�ع�ت��اد ،ملتقط ًا الداللة ذات�ه��ا ليو�صلها للمتلقي ،و�إن ب�شكل �أك�ثر جمالي ًة وحيا ًة. ي�ستلهم الفنان الت�شكيلي حممد عبد اللطيف كانو احل�ضور ال��داليل وامل�ع��ريف للحناء يف ذاك��رة املكان الإماراتي خا�ص ًة ،واخلليجي ال�ع��رب��ي ع��ام � ًة ،لي�شري �إىل �أ� �ص��ل احل�ن��اء �شجري �صغري القامة، نبات ٍّ امل�ستخرج من ٍ هذا الطالء امل�ستخدم منذ �آالف ال�سنني يف الزينة وال�صباغة على اجللد ،زينة اجل�سد، ال�شعر ،الأظافر ،احلرير وال�صوف واجللود،
تشكيل 142 الـعــــدد 156 �أكتوبر
2012
الفنان مع جمهوره يف �أحد معار�ضه الفنية يف الإمارات
وقد كان احلناء ُي�ستخدم يف كث ٍري من البلدان العربية للزينة يف الأع �ي��اد واالح �ت �ف��االت، ففي املغرب ،على �سبيل املثال ،ي�ستخدم يف �صباغة ال�صوف وزخرفة الطبول والأدوات امل�صنوعة من اجللد ،كما ُي�ستعمل احلناء كعالج طبيعي للفطريات. ولأن ،يف �صباغة اجل�ل��د ب��احل�ن��اء ،يو�ضع م�سحوق احلناء �أو م�ستخرج اللون من الأوراق الن�ضرة ،على اجللد املراد تزيينه ،ملدة من ال��زم��ن ت�ط��ول لتمتد ط��وال ليلة كاملة� ،أو تق�صر لب�ضع �ساعات ،ويدوم الر�سم باحلناء ملدة ترتاوح بني �أيام قليلة �أو �أ�شهر �أحيان ًا، بح�سب نوعية احل�ن��اء امل�ستخدم ،ونوعية اجللد ،واملدة التي ُي�سمح بها للحناء �أن يبقى على اجللد ،وهو يف حت� ّول من لونه الأ�صلي الربتقايل �إىل ل��ونٍ داك� ٍ�ن �أق��رب �إىل البني
املحمر ،نرى الفنان حممد كانو ينتظر طوي ًال �إىل �أن تكتمل فكرة العمل ل��دي��ه ،وي�صرب على التدقيق يف ت�صميم خطوطه و�أ�شكال عمله �إذ يكاد يطابق بني �أ�شكال احلناء على �أيادي الن�سوة يف جمتمعاتنا العربية واملجتمع الإماراتي ب�شكل خا�ص ،و�أ�شكال احلناء يف العمل الفني ،يف ر�سالة يو�صلها �إىل متلقي ه��ذا الفن يف ال�ع��امل� ،إذ يكفي �أن نقول ما مل ينطق ب��ه ل�سان الفنان ك��ان��و ،ول�ك��ن مع
تحتفي مجموعة كانو بالداللة المفاهيمية للرقم سبعة في اإلسالم بالخلفيات اللونية السبع المستخدمة فيها
اعتقاده اليقني به�« ،أن��ا ر�سول هذا ال�شرق �إليكم ،وهذه جمالياتنا التي نفخر ب�أن نخ�ص ن�ساءنا بها» ،و�أي ر�سالة ح�ضارية �أعظم من ر�سال ٍة فنية يو�صلها فنان ت�شكيلي �إىل العامل م�ستوحية اليد /الأنثى ،مبا ت�شري �إليه من دالالت عظمة هذا الدين الإ�سالمي وفرادة نظرته �إىل امل��ر�أة واح�ت�رام جمالها� ،أو ما ميكن �أن يظهر منه للغري!. والزينة باحلناء كانت و�ستظل طق�س ًا جمتمعياً من طقو�س ا�ستجالب الربكة والفرح واحلظ اجليد ،وهي ُ�س ّن ٌة من �سنن الر�سول حممد �ص ّلى اهلل عليه و�س ّلم ،اعتادها فكان ي�صبغ حليته ال�شريفة باحلناء ،وامل�سلمون رج��ا ًال ون�سا ًء ي�سريون على نهجه ويطبقون ُ�س ّنته يف الزينة ب��احل�ن��اء ،كما ت�ستخدم احلناء يف التقاليد ال�شعبية امل��وروث��ة ،واخلا�صة
بالأعرا�س وطقو�س ال��زواج� ،إذ ت�ستخدمها ال�ع��رائ����س ت�ع�ب�ير ًا عما يغمرهن يف حلظة �رح و�أم� ٍ�ل بحياة �سعيدة وحظ ال��زواج من ف� ٍ ح���س��ن ،وي �ق��وم ف��ن ال��ر��س��م ب��احل �ن��اء على �أر� �ض �ي��ة ع��رق�ي��ة ت��رت�ب��ط ب��ال�تراث الثقايف العربي الإ�سالمي ،حيث تُ�ستخدم فيه �أ�شكال الهند�سة وعنا�صر الزخرفة الإ�سالمية.
دالالت الرقم �سبعة
كما ي�شي عمل الفنان عبد اللطيف كانو يف جمموعته التي تتخذ احلناء ثيمة لها، ب��دالل��ة �إ��ض��اف�ي��ة ه��ي دالل��ة ال��رق��م �سبعة، فالرقم بالن�سبة �إليه يلعب دور ًا حموري ًا يف ه ��ذه امل �ج �م��وع��ة ،ي��ق��ول« :ا��س�ت�ل�ه�م��ت فكرة �إجنازها نتيجة حوار دار بيني وبني ال�ف�ن��ان املفاهيمي ر�شيد قري�شي ،ال��ذي �أدرك الداللة املفاهيمية للرقم �سبعة يف الإ���س�ل�ام ،فمجموعة »ي��د احل �ن��اء ت�صبغ �إ�شارات التو ّقف« تعك�س دالالت الرقم �سبعة باخللفيات اللونية ال�سبع امل�ستخدمة فيها، وبرقم 14املرتبط بعدد �أ�شكال اليد املح ّناة امل�ستخدمة يف اللوحات». �إذ ًا ،يف ه ��ذه امل�ج�م��وع��ة ال�ف�ن�ي��ة ،يرتكز ال�ك�ث�ير ال�ك�ث�ير م��ن اه �ت �م��ام حم�م��د كانو ب��امل��وروث ال�شعبي وال�ت�راث ،وت�برز الهوية املجتمعية والوطنية التي يحمل ر�سالتها ع�بر عمله الفني ،فهو ال يكتفي بالداللة امل�ع��رف�ي��ة ذات ال�ع�لاق��ة باملجتمع وقيمه الفنية عرب ا�ستخدام احلناء ،بل ي�ضيف ع�لاق�ت��ه ال��داخ�ل�ي��ة الإمي��ان �ي��ة ومرجعيته الفكرية الدينية� ،إذ ي�ستح�ضر الرقم �سبعة كعدد لآيات �سورة الفاحتة ،والتي يرددها امل�سلمون يف ك ّل �صالة ،كما ي�ضيف �إليها دالل��ة الرقم �سبعة يف «ال�شهادة»� ،شهادة �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممد ًا عبده ور�سوله، وهي امل�ؤلفة من �سبع كلمات عربية هي «ال، إ�ل��ه� ،إال ،اهلل ،حممد ،ر�سول ،اهلل» ،وهي الكلمات ذاتها التي يتلوها الآب��اء يف �آذان امل��وال�ي��د اجل ��دد ،وي��ردده��ا ك � ّل م��ن يعتنق الإ�سالم ،يف والدته اجلديدة وانتمائه �إىل دين احلق.
بل وي�شري �إىل ما يتوجب على احل��اج �إىل بيت اهلل احلرام ،عند دخوله مكة املباركة من فرائ�ض� ،ضمن �أم��و ٍر عديدة� ،إذ عليه �أن يدور حول الكعبة امل�ش ّرفة �سبع م ّرات، على �س ّن ٍة ا�ست ّنها نبي اهلل �إبراهيم ،عليه ال�سالم ،و�أن يقطع ك��ل ح��اج امل�سافة بني �رات م�شي ًا �أو جبلي ال�صفا وامل��روة �سبع م� ٍ هرول ًة ،تكرمي ًا لهاجر �أم امل�ؤمنني ،زوجة �إبراهيم ،عليهما ال�سالم� ،إ�ضاف ًة �إىل �أن من طقو�س احل��ج املقد�س عند امل�سلمني، رجم ال�شيطان ب�سبع جمرات يف منى ،قبيل انطالق حجاج بيت اهلل احل��رام� ،إىل جبل عرفات ،كما ي�شري الرقم �سبعة �إىل حكاية �أهل الكهف ال�سبعة التي وردت يف القر�آن الكرمي يف �سورة الكهف .ت�ضم املجموعة 98 عم ًال فني ًا ،بقيا�س �75سم � 75 xسم ،كل لوحة يف 14ت�صميم لـ«يد احلناء» ،ب�ست خلفيات لونية هي الأحمر ،الأزرق ،الأخ�ضر الفاحت ،الربتقايل الفاحت ،الأخ�ضر الداكن، وال�ب�رت��ق��ايل ال ��داك ��ن ،حت�ت���ض��ن عن�صر ال �ت �� �ض��اد امل�ت�م�ث��ل ب��ال�ن����ص «قف»Stop/ بالأبي�ض ،والكف املزخرف باحلناء� ،أما اخللفية ال�سابعة فبلون الأ�صفر ،حتت�ضن الأ�سود كعن�صر مفارقة لونية. �أجن� ��زت الأع� �م ��ال ع �ل��ى امل �ع��دن امل�ط�ل��ي، امل�شابه لل�شكل الأ�صلي لإ�شارات التو ّقف، ّمت تركيبها على اخل�شب ،لت�صبح جاهز ًة للعر�ض. ه��ذه امل�ج�م��وع��ة م�سبوقة ب�ع��دد م��ن �ستة �أع �م��ال �أ�صلية ب��ال�ل��ون الأح �م��ر للفنان لـ «يد احلناء ت�صبغ �إ�شارات التو ّقف» ،وقد اختريت واحدة منها من قبل دار «�سوذبي» ملعر�ضهم للفن الت�شكيلي العربي املعا�صر، �ضمن «�شباك :نافذة على الثقافة العربية
ال يكتفي كانو بالداللة المعرفية عبر استخدام الحناء بل يستوحي المرجعية الفكرية والدينية للمجتمع
املعا�صرة» ،وهي فعالية ثقافية هامة انعقدت يف لندن ،ملدة ثالثة �أ�سابيع يف الفرتة من 4 لغاية 24يوليو ،2011 ،بتنظيم من عمدة مدينة لندن ،ويعد مهرجان «�شباك» «املفردة العربية للنافذة ،»windowواحد ًا من �أهم الفعاليات الثقافية اللندنية ،حيث ا�شتمل على جمموعة من فعاليات الفن الت�شكيلي، الأف�ل�ام ،املو�سيقى ،الأع �م��ال امل�سرحية، الرق�ص ،الأدب ،فن العمارة ،املحا�ضرات وال �ن��دوات احل��واري��ة ،ف��اق ع��دده��ا ال �ـ 70 فعالية انعقدت يف �أكرث من 30موقع ًا ثقافي ًا، و�ضمت هيئة املهرجان اال�ست�شارية عددا من كبار املخت�صني بالثقافة والفنون ،من بينهم «�شينا واغ�ستاف» م�س�ؤولة معر�ض «»Tate للفن العاملي احلديث واملعا�صر« ،فينيتيا بورتر» من�سقة جمموعة املقتنيات الإ�سالمية يف املتحف الربيطاين ،و «روك�سان زان��د» رئي�س دار «�سوذبي» للمزادات يف ال�شرق الأو�سط واخلليج
سوق الكتب 144 الـعــــدد 156 �أكتوبر 2012
ي�ستعر�ض تاريخ املغرب
مذكرات صحافي وثالثة ملوك �إدري�س علو�ش
عن من�شورات �أخبار اليوم يف اململكة املغربية� ،صدر كتاب لقيدوم ال�صحافة املغربية م�صطفى العلوي يحمل عنوان مذكرات �صحايف وثالثة ملوك ،وهو يف �شكل حوار مفتوح وم�سرت�سل عن م�سارات وم�سارب هذا ال�صحفي الذي عاي�ش جتربة ثالثة ملوك حكموا املغرب احلديث�،أعد �أ�سئلته ال�صحفي يون�س م�سكني. الكتاب من القطع املتو�سط ،ويقع يف حدود � 320صفحة وي��دور يف فلك �أرب�ع��ة ع�شرة ف�صال �صمم غالفه الفنان ال�سوداين طارق جربيل . نقر�أ يف ظهر غالف الكتاب« :يقول املفكر امل�غ��رب��ي ع�ب��د اهلل ال �ع��روي ،يف م��ذك��رات��ه «خواطر ال�صباح» �إن عدو رجل ال�سيا�سة هو امل�ؤرخ لأنه يذكر ويتذكر». وال�صحايف ه��و م� ��ؤرخ اللحظة ،و�صانع �إحدى املواد الأولية لكتابة التاريخ .يف هذا امل�ؤلف ،يعر�ض ال�صحايف م�صطفى العلوي ج��زءا �أ�سا�سي ًا من ذاك��رت��ه �أم��ام القراء، ويحدثهم عن جتربته ال�صحافية املمتدة �إىل �أك�ثر م��ن ن�صف ق��رن ،عا�ش خاللها يف رح��اب «�صاحبة اجل�لال��ة» ،وواج��ه كل �صروف الدهر ،من االعتقال واالختطاف �إىل الت�ضييق �إىل املحاكمات ال�شهرية ،حتى �إن حياته كانت يف خطر عند اقرتابه �أكرث من الالزم من خطوط التما�س اخلطرية. م���ص�ط�ف��ى ال �ع �ل��وي ع �م �ي��د ال���ص�ح��اف�ي�ين املغاربة ،يقدم �شهادة على ع�صر كامل مل تكن فيه عالقة ال�صحافة بال�سيا�سة كلها «�سمن على ع�سل» يف بالد مازالت مل جتد
طريقها بعد �إىل ن��ادي الدميوقراطيات احل��دي�ث��ة ،حيث ال�صحافة �سلطة رابعة، وح�ي��ث ال�صحافيون ��ش��رك��اء يف �صناعة الر�أي العام. �أهمية الكتاب تكمن يف ا�ستح�ضاره لأهم حم �ط��ات ت��اري��خ امل��غ��رب احل��دي��ث ال��ذي واكبته ال�صحافة املغربية �إعالميا وبروح مهنية ع��ال �ي��ة ،وه ��ي ال �ت��ي ك��ان��ت ب�صدد الإرها�صات الأوىل لت�شييد �صرح ال�صحافة املغربية الناطقة باللغة العربية �إبان مرحلة اال�ستقالل املنقو�ص �أو «ال�شكلي» ال��ذي ح�صل عليه امل�غ��رب بعد معاهدة «ايك�س ليبان» ،وك��ان لقيدوم ال�صحافة املغربية م�صطفى العلوي دور ًا ب��ارز ًا وفعا ًال يف هذا احل�ضور ،خ�صو�ص ًا وهو ال�صحايف الإ�شكايل ال��ذي مل ت�ستهوه املرجعيات احلزبية مبا فيها املرجعية اال�شرتاكية التي يعود الف�ضل لل�شهيد املهدي بن بركة يف تر�سيخ تقاليدها وا�ستحداثها يف احلقل ال�سيا�سي. يف الف�صل الأول من الكتاب ي��ورد قيدوم ال�صحافة املغربية م�صطفى العلوي �أن ج��ري��دة «الب�صائر» اجل��زائ��ري��ة التي كان ي�صدرها ال�شيخ الب�شري الإبراهيمي كانت
مبثابة املدر�سة الأوىل لل�صحافة املغربية، وه ��ي ال �ت��ي �أوق� ��دت ف�ي��ه �شعلة احل�م��ا���س المتهان ال�صحافة واتخاذها م�سار ًا حلياته امل�ه�ن�ي��ة ،وق��د ك��ان ل�ه��ا ب��ال��غ ال�ت��أث�ير على عقله و�إح�سا�سه وقلبه ،وهو ال�شاب �آنذاك. ومنذ �سنة 1951ك��ان يطلع عليها بعدما يتم تهريبها من اجلزائر ،وهو برفقة �أبيه م��ع جمموعة م��ن رم��وز احل��رك��ة الوطنية التي كانت تنا�ضل �سر ًا من �أجل ا�ستقالل املغرب ليفاجئ ذات ي��وم مبن ج��اء يخرب �أب ��اه ب ��إح��راق الن�سخ امل��وج��ودة يف البيت م��ن ج��ري��دة الب�صائر لأن ع�ين امل�ستعمر الفرن�سي علمت مبو�ضوع ق��راءت�ه��ا .وهو ما حفزه يف امل�ستقبل لإ�صدار العديد من ال�صحف ،ن��ذك��ر منها امل�شاهد� ،أط�ي��اف الدنيا ،الكوالي�س ،والأ��س�ب��وع ال�صحفي، وال� �ت ��ي ط��ال �ت �ه��ا ق�� ��رارات امل �ن��ع واحل �ج��ز وامل�صادرة والت�ضييق املايل ،ومع ذلك ظل ال�صحفي م�صطفى العلوي راف�ع� ًا �شعار التحدي موا�صال جتربته ال�صحفية التي جتاوزت اخلم�سة عقود من الزمن. ويذكر قيدوم ال�صحافة املغربية �أن املغرب مل يكن يتوفر على قانون لل�صحافة ،ومل
يكن قد �صدر بعد قانون احلريات العامة- �صدر �سنة 1958م يف امل�غ��رب -ب��ل كانت الت�شريعات التي و�ضعت على عهد احلماية الفرن�سية ،هي ما يقنن الولوج �إىل املجال الإع�لام��ي والعمل فيه .وم��ن �أج��ل �إ�صدار جريدة جديدة ،ك��ان قانون 1914م يلزم املعني بالأمر بتقدمي طلب ،وانتظار مر�سوم يوقعه الوزير ،ويخوله ال�شروع يف �إ�صدار ال�صحيفة اجلديدة حتت م�س�ؤوليته .وهو م��ا فعله ال�صحفي م�صطفى ال�ع�ل��وي يف 2يوليو �سنة 1956م ط��ال�ب� ًا الرتخي�ص ملجلة �أ�سبوعية حت��ت ع�ن��وان «امل�شاهد»، وهي املجلة التي كانت مثار جدل و�سجال وب�سببها غ�ضب امل �ل��ك ال��راح��ل احل�سن الثاين من �شقيقه الأم�ير م��والي عبد اهلل لأن��ه �سعى ل�صفقة �شرائها مببلغ �سبعة ماليني �سنتيم مغربية بعدما توقفت عن ال�صدور لأن �أكرث من جهة نافدة يف احلكم وال�سلطة �سعت لال�ستيالء عليها. وب�سبب افتتاحية للم�شاهد انتقد فيها ال�صحفي م�صطفى العلوي وزير الفالحة حممد ال�شرقاوي الع�ضو القيادي يف حزب ال�شورى واال�ستقالل �آن��ذاك �سيجد نف�سه �أم��ام املحاكم ،وهي املرة الأوىل يف تاريخ امل �غ��رب احل��دي��ث ال ��ذي ي�ت��م فيها تقدمي ال�صحافة املغربية �إىل رده��ات املحاكم، الأم��ر ال��ذي �أزع��ج امللك حممد اخلام�س الذي عاتب وزيره لأنه �أقدم على حماكمة ال�صحافة يف �شخ�ص م�صطفى العلوي �صاحب جملة ال�شاهد. امل �ل��ك حم �م��د اخل��ام ����س ومب �ج��رد ع��ودت��ه م��ن امل �ن �ف��ى �إب� ��ان ح �� �ص��ول امل��غ��رب على ا�ستقالله �سنة 1956م ظ��ل على متا�س مبا�شر مع رم��وز احلركة الوطنية ورم��وز ال���ص�ح��اف��ة امل �غ��رب �ي��ة ،ب�ح�ي��ث ك ��ان يقيم با�ستمرار لقاءات توا�صلية مع ال�صحافيني ح��ول ق�ضايا ال�ش�أن العام املغربي و�أف��اق م�ستقبله ،وهو النهج الذي �سار عليه امللك احل�سن الثاين �أيام كان ولي ًا لعهد اململكة، ومبجرد �أن ينتهي امللك حممد اخلام�س لقاءه مع ال�صحفيني ،ك��ان ي�أخذهم معه
�إىل مقر �إقامته اخلا�صة ليوا�صلوا احلوار والنقا�ش حول ا�سرتاتيجيات تدبري �ش�ؤون الدولة املغربية امل�ستقلة حديثا .وه��ذا ما �أك��د عليه ال�صحفي م�صطفى العلوي يف كتابه م��ذك��رات �صحفي وث�لاث��ة ملوك يف �أكرث من مرة. ورغ ��م ق��رب ق �ي��دوم ال���ص�ح��اف��ة املغربية م�صطفى ال �ع �ل��وي م��ن دوائ���ر احل �ك��م يف املغرب فهو مل ي�سلم من مقالب تناق�ضات امل���ص��ال��ح ب�ين م �� �س ��ؤويل ال��دول��ة و�أج �ه��زة اال�ستخبارات التي كان يتزعمها اجلرنال �أفقري العقل املدبر النقالبي ،1972 - 1971 هذا الأخري الذي كان يتعامل مع ال�صحافة ب �ح��ذر � �ش��دي��د ،وه ��و ال ��ذي زج ب�صاحب ال�ك�ت��اب يف م�ت��اه��ات امل�ج�ه��ول و��س��رادي��ب ال�سجون املعتمة بعد اختطافه وتعذيبه �إىل درج��ة �أن ال��دود نبت يف �أخم�ص قدميه، ول��وال �أن أ�ح��د معارفه ال��ذي كان نزي ًال يف معتقل «دار املقري» الرهيب التقاه �صدفة وع��اجل��ه ،لكان الرجل الآن يف خرب كان.
أهمية الكتاب تكمن في استحضاره ألهم محطات تاريخ المغرب الحديث الذي واكبته الصحافة المغربية إعالمي ًا وبروح مهنية عالية
وهو الأ�ستاذ املكي زاكواغ الذي د َّر�س اللغة الفرن�سية لل�صحفي م�صطفى العلوي يف مدار�س حممد اخلام�س والذي عنه يقول: «هو الذي كان يعلمني ال�صرب والثبات ،وهو ينزع من �شقوق �أقدامي ،الديدان املتولدة من تعفن ال��دم ،حتت �أن�ظ��ار من ال زال��وا على قيد احلياة من رفاق املعتقل». تكمن �أهمية الكتاب كذلك يف كونه ي�ؤ ّرخ لأه ��م امل��راح��ل ال �ت��ي قطعتها ال�صحافة املغربية لتكون �شاهدة على التحوالت التي عرفها املغرب منذ ب��زوغ فجر اال�ستقالل مرور ًا بدور الأحزاب الوطنية ورموز احلركة الوطنية من �أمثال املهدي بن بركة وعالل الفا�سي وعبد ال�ك��رمي اخلطابي ،يف بناء �صرح املغرب اجلديد الذي مل يرق برغم كل املحاوالت �إىل طموحات ال�شعب املغربي بكل مكوناته يف بناء مغرب املواطنة واحلداثة والدميقراطية ،لأن��ه ك��ان دوم � ًا هناك من يعرقل هذا امل�سار وي�ضع متاري�س امل�ؤامرات ليح�صن م�صاحله وامتيازاته. الكتاب يعد بحق نافذة على �أح��داث مهمة عرفها املغرب وكانت ال�صحافة املغربية يف عمق احلدث م�سلطة ال�ضوء على تفا�صيلها يرويها قيدوم ال�صحافة املغربية م�صطفى العلوي ب�أ�سلوب �سل�س و�شيق يفتح �شهية القارئ على موا�صلة القراءة دون كلل �أو ملل نذكر من �أهم هذه املحطات الواردة يف الكتاب: ب� ��داي� ��ة اال�� �س� �ت� �ق�ل�ال� ،أح� � � ��داث ال��ري��ف 1958م،اختطاف املهدي بن بركة 1965م، ال�صراع بني حزب اال�ستقالل وحزب ال�شورى، والدة االحتاد الوطني للقوات ال�شعبية ،انقالب الع�سكر �سنتي 1972 - 1971م. وال �ك �ت��اب يف ج��وه��ره م��ذك��رات حتكي كما ورد على ل�سان م�صطفى ال�ع�ل��وي« :ه��ذه املذكرات �أ�سطر فيها العرب التي ا�ستخل�صتها م��ن ح�ي��ات��ي ،وم��ن جت��ارب��ي ،وم��ن معاناتي ومقا�ساتي� ،أنا الذي قطعت �أو�صال قدمي من هول التعذيب الذي �أ�سال الدمع من عيوين، والدم من �أقدامي يف دار املقري ،ال من �أجل انقالب دبرته ،وال �سالح حملته ،و�إمن��ا من �أجل مقال كتبته»
كالم أخير
شجرة وحيدة حبيب ال�صايغ
هل زرعت مرة �شجرة؟� ..س�ؤال ب�سيط جد ًا، لكنه ،يف الوقت نف�سه ،مفاجئ .ملاذا ال تفكر فع ًال يف زرع �شجرة؟ تع ّلم فقط كيف ت�ضع البذور يف الرتبة ثم ابد�أ يف ال�سقاية والرعاية .حاول �أن تتعلم من فالح عتيق، وحاول �أي�ض ًا �أن تقتب�س منه �شرارة حبه لل�شجرة ومت�سكه بها. �سوف تنتظر طلوع ال�شجرة من الرتبة يوم ًا بعد يوم و�ساعة بعد �ساعة ،وعندما تن�شق الأر�ض عن �شجرتك يقفز قلبك ناحية ال�شم�س ويتكلم بالنيابة عنك وبالأ�صالة عن نف�سه . ثم تكرب �شجرتك جذع ًا وفروع ًا وغ�صون ًا، ثم تثمر ،ثم تخ�ضر وتخ�ضر ،و�أنت تراقب وت�شتاق. بع�ض �أبجدية احلب التعلق ب�شجرة وحيدة بينك وبينها عالقة الفكرة والبذور. ال�شجرة الوحيدة تقول ما ال تقوله احلديقة، وعندما تكون بني قلبك الوحيد و�شجرتك الوحيدة حكاية االنتظار والأ�سرار ،ف�إن
وردة حمراء تكرب يوميًا وترمتي على اجلدار بينما اجلدار اجملاور يكتم حزنه يف أعماقه وال يتحرك.
ال�شجرة تتحول ،خ�صو�ص ًا يف الليل� ،إىل غابة. وميكن �أن تتحول �شجرتك الوحيدة بني الليل والفجر �إىل جنة خ�ضراء تتحدث بلغات عدة، لكنها تف�ضل يف معظم الأحيان� ،أن تتكلم بلغة الأ�شجار :ال�صمت املطوق ب�أهزوجة الرياح. اقرتب من �شجرتك يف ال�شتاء وقل لها ق�صيدة غزل من املطر والثلج .اقرتب منها يف ال�صيف خ�صو�ص ًا وهي ت�ستحم باملايوه على �شاطئ القمر .اقرتب من �شجرتك يف الربيع خ�صو�ص ًا حني تقيم حفلة تعارفها ال�سنوية وتدعو الفرا�شات �إىل مهرجان الدمع ،لكن حذار �أن تقرتب منها يف اخلريف. �شجرتك الوحيدة يف اخلريف تن�شغل عنك بالغيبة والنميمة ،وبرتديد النكات ال�سخيفة، ومبمار�سة الهوايات العادية كحل الكلمات املتقاطعة وجمع الطوابع واالنتحار.
يصدر كل شهر ويوزع مجاناً مع مجلة تراث
يــــة
هــد مع
جملة
العدد المقبل
تراث
()7
در كـل
يـ�شـــ يوزع
و
جمانـ ًا مع
غي ال ِ جي ُه الب َ آنِي َّ ْة ل َّتو ِ ال ُقرْ ا ت ءا ِ ِقرَا َ لِل
�شــهر
جمـلة
تراث
تاب
()6
الك الكرمي هذا نه يف قراآنه ره يف ك� اهلل �سبحا لتي�سري ذ تيعاب ءات�ه؛ يه وا�س مة را ةً من ير معان قت�ست حك ج��ه ق� كب ا تتغاير اأو از يف ت�س� ام بها ك� ياتها، اأن اوة ،والإيج �س لاهتم ت من روا ها كلٌّ ب تثبُّ لت ا حكامه ،وق َّي بنقلها وال جاج لها اأو اللغ�ي حت اأ لماء ُعن�ا يهها وال اتخذ منها عت�سد لع ج ف ا ما ُعن�ا بت� ومنزعه؛ جة ملذهبه ،وا ترجيح هه ك �سب ُم َّتج عدته اأو ح حكام اأو يف ج�هها ح قا ل أ ب هدًا على �ستنباط ا كلم ببع�س و وكانت د �سعد سا ا � الفقيه يف وت��سَّ ل املت مذهب غريه ،اللغ�ي حمم بها خر، لتحليل د �سعد رد �ص يف حكم على اآ هبه اأو يف هي ا د� .أحم ىل ذلك متخ�ص يعمل مذ ت�جيه يف اإثبات مي ًعا اإ ك �ادمي��ي الأدب � �ي ،بق�سم يف ال ج يلتهم انيها، سرها .جتاهات �اح�ث �أ وال�ن�ق��د �س��اع��د ًا س ��ات �س مع � ب� ل�ب�اغ��ة س �ت �اذ ًا م�� وال ��درا�� � جامعة و لنح�ي لعنا ال هذه ال لبحث يف �ة على ا �ال�ي� ًا اأ� � ��رب �ي��ة رتبية، � ح� ��ة ال �ع كلية ال وا زغ من خ ان ُيعني با ي��ة امل �رتت �ب جلزري جم� �ال غ �ل � ة، غ� ك� ال لإ�سامي س ،م�سر� .ات يف س� ��ل وب جت��اهٌ اآخ��ر � ��ه ال�ب�ا جعلها ابن ا وجهًا ا ني �سم� م� ��ؤل� �ف�� �ا (الأ�� � ثرها ج �) ا � ُّم����س الأو افها ،حتى ت 911ه كرمي. ع �ه ع� � �دة س �ه ،م �ن �ه� �سيب�يه واأ طبيق �ل ال ( ل� � خ �� �س �� � يف كتاب )( ،الت �ا���س وت يرها واخت ال�سي�طي يف القراآن ي بثَّها غا ت � لباغية الباغي ين وخ�� اغي لت ي و ت ت832ه�) از الباغ الباغية ا راءات ا يف البحث�ي -امل� �ع ��اطبيق الب طبيق الإعج ظ�اهر ههم للق ( �ب �اغ� )( ،الت ��ة) ،الت ية)، ف على ن وج�ه تتبع ال ت�جي ال رتاكيب ال�ب�ي��ان�ي �ر البديعدرا�سة م ذا الكتاب ي يف معر�س ا؛ ثم ال�ق� وبيان ال -ال �� �س ��ر -ال���س� العربية :مدخل ا، ه اغ��ي اغة ) ،و( ه ما ُء ال�سلف ها ،ور�سد اأو حتليله اأثرها ال�ب� الب رفية ت ها عل ري (نظرية �س�ل املع ربية). ت�اترة وغ لإ�سارة اإلي خلال�س اأو حركة يف الأ غة الع اغي ا �سب يف م يف ا امل البا طرائقه حث الب ها املنا اإىل م�قع لب ا يف اأثرها تقع بذلك يدها. وجتد ى به؛ حت لباغة �سيل ا تاأ
جية
تراتي
اس
الفكر التربوي التراثي الخطيب البغدادي أنموذج ًا للدكتور بوزيد الغلى
التأ ويل ا لـدال لي سرحان هيثم �
د.
رات
�شدا إا 2 0 1 2
�أحمد
�سعد
حممد
�سعد
صدر ضمن سلسلة كتاب تراث:
اليمن ،1929انطباعات ومشاهدات البعثة السوفيتية األملانية السينامئية ،ترجمة د .سعيد دبعي تعدد الرواية يف الشعر الجاهيل ،د .أمين بكر ذاكرة الطني ،شواهد من الرتاث املعامري والعسكري يف مدينة العني ،د .محمد فاتح صالح زعل حكمة األجداد يف تراث مجتمع اإلمارات دراسة سوسيولوجية يف األمثال الشعبية ،د .أحمد محمود الخليل تأريخ القدامى للشعر إىل نهاية القرن الرابع مدونة املرزباين أمنوذجاً ،د .محمد حبيبي اسرتاتيجية التأويل الداليل عند املعتزلة ,الدكتور هيثم رسحان التوجيه البالغي للقراءات القرآنية ،د .أحمد سعد محمد سعد رسائل البرشى يف السياحة بأملانيا وسويرسا عام ،1889حسن توفيق العدل مثرات ناضجات من جنان الشعر العريب ،د .عايدي عيل جمعة