الثورات المنجزة

Page 1

‫الثورات المنجزة‬ ‫وقيادة التغيير‬ ‫)تونس – مصر – ليبيا(‬

‫بقلم ‪ /‬حسن أحمد الدقي‬ ‫كاتب من اإلمارات‬ ‫‪28/10/2011‬‬ ‫‪1‬‬


‫المفردات‪:‬‬ ‫أوال ‪ :‬المقدمة‬ ‫ثانيا‪ :‬حقائق الثورات المنجزة على األرض‬ ‫ثالثا‪ :‬إدارة التغيير الثوري أم قيادته؟‬

‫أوال ‪ :‬المقدمة‬ ‫إن الحمد تعالى والصالة والسالم على رسول الھدى محمد بن عبد وعلى آله وصحبه ومن‬ ‫وااله إلى يوم الدين‪ ،‬وبعد‪:‬‬ ‫فبعد أن أقر عز وجل عيون المسلمين بسقوط أنظمة البطش والتجبر وبعد أن شفى‬ ‫صدورھم بزوال طغاة أعتى النظم السياسية فقد وجب على المعنيين بشؤون مستقبل األمة أن‬ ‫يُعمِلوا عقولھم وأن يستحضروا ما علّمھم العليم الخبير من مفردات المنھج اإلسالمي وما‬ ‫خبروه من تحول في تاريخ المجتمعات اإلنسانية لتشكيل رؤية تتناسب وعظم المنھج اإلسالمي‬ ‫وتكاليفه من جھة وتستثمر آثار الزلزال التغييري العربي من جھة أخرى وتقوده إلى آفاق‬ ‫التمكين والتموضع اإلقليمي والعالمي‪ ،‬ولعل أكبر اختبار لعقول وامكانات الدعاة بكل ألوان‬ ‫طيفھم ليتمثل في تحديد ھذه الرؤية ثم مقاربة تنفيذھا ووضعھا قيد التطبيق والتجريب‪.‬‬ ‫وإن المتأمل في الصورة الكلية للحراك الذي يعم مناطق الثورات المنجزة ليجد أن أغلب الناس‬ ‫قد غرقوا في إدارة الثورات وتسيير شؤونھا والحفاظ على ما تم إنجازه وبآليات يرجع بعضھا‬ ‫إلى ما قبل مرحلة الثورات مما يعرض الوضع العام لھذه الثورات إلى المراوحة في المكان‬ ‫في أحسن األحوال إذا لم تنتكس مسيرتھا العامة إلى خلخلة تسمح بانقضاض أعداء الداخل‬ ‫والخارج عليھا ولو بعد حين مما يجعل الحاجة ماسة لإلمساك بزمام المبادرة والسيطرة على‬ ‫محاور التغيير ولن يتحقق ذلك إال بإفساح الطريق النبثاق رؤية وقيادة تنتمي إلى المستقبل ال‬ ‫إلى الماضي فقد علمنا الرب تباركت أسماؤه أن من سنن نجاح التغيير وتحقيق أھدافه الكبرى‬ ‫أن يقدم الناس على عالج عوارض التردد والتوقف عن رؤية المستقبل بعيون الماضي كما‬ ‫‪2‬‬


‫فعل بنو إسرائيل عندما بدأوا في سلوك مراحل التغيير فسقطوا في االمتحان سريعا عندما‬ ‫اعترضوا بادئ ذي بدء على قائد المرحلة‪) :‬وقال لھم نبيھم إن قد بعث لكم طالوت ملكا‬ ‫قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن ‬ ‫اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم و يؤتي ملكه من يشاء و واسع‬ ‫عليم(البقرة‪247:‬‬ ‫وبانبالج فجر التغيير الثوري فقد أعان عز وجل األمة على أخطر ما في التغيير وأسقط‬ ‫المعوق األكبر أمام نھضة األمة وھو معوق النظم السياسية وارتھانھا ألعداء المسلمين فمن‬ ‫نافلة القول أن مظلة النظم السياسية قد اقتاتت في ظلھا كل أنواع المعوقات وتحققت بھا كل‬ ‫التراجعات‪ ،‬وبسقوط النظام المصري سقطت مرجعية النظام اإلقليمي الذي كانت تدير به‬ ‫أمريكا المنطقة العربية وبسقوط النظام التونسي فقد انتكست مرجعية النظام األمني والذي مثل‬ ‫مرجعية أمنية لكل النظم العربية وبسقوط النظام الليبي توفرت لألمة ساحة عريضة متصلة‬ ‫وتكاملت نذر التغيير في بقعة تمثل قرابة ثلث العالم العربي وقلبه النابض فھي تمتد من حدود‬ ‫األردن وفلسطين شرقا إلى حدود الجزائر غربا ومن البحر األبيض المتوسط إلى إفريقيا‬ ‫الوسطى جنوبا‪ ،‬وبسقوط تلك النظم فقد تخلصت األمة في مصر وتونس وليبيا من أكبر عقدة‬ ‫كانت تحول دون نھضتھا والتي جعلت حراكھا العقائدي والسياسي يدور في حلقة مفرغة‬ ‫أحالت كل المتعلقين بالتغيير والنھضة إلى ھامش الحراك االجتماعي والسياسي في مجتمعاتھم‬ ‫لفترة زمنية امتدت منذ اتفاقية سايكس بيكو وحتى انھيار النظم السياسية األخير‪.‬‬ ‫وإن أھم ما في سقوط النظم السياسية أن ذلك السقوط قد حول الالعبين الذين كانوا على ھامش‬ ‫التغيير إلى العبين رئيسيين يحسب لھم الشرق والغرب كل الحسابات وإذا باألمة في ھذه‬ ‫البقعة تخضع لسنة من سنن التغيير لم تعھدھا من قبل ولم تطؤھا أقدامھم المعاصرة تماما كما‬ ‫مرت تلك السنة على بني إسرائيل وسقطوا مرة أخرى في اختبارھا القاسي فلم يستطيعوا‬ ‫التعامل معھا وكان نبيھم عليه السالم قد أنبأھم بھا قبل أن يداخلوھا‪) :‬قال موسى لقومه‬ ‫استعينوا با واصبروا إن األرض يورثھا من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‪ ،‬قالوا أوذينا‬ ‫من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يھلك عدوكم ويستخلفكم في األرض‬ ‫فينظر كيف تعملون(األعراف‪129-128:‬‬ ‫وھنا يكمن السؤال األصعب‪ :‬ھل يتمكن الالعبون الذين يمثلون ضمير األمة وأملھا من مجرد‬ ‫إدارة التغيير ـ إذ ال نقلة كبيرة تحصل باإلدارة ـ إلى قيادة التغيير واستثمار قابلية األمة للمضي‬ ‫إلى آفاق التمكين واستكمال استخالص حق األمة المسلوب من أيدي المجرمين في الداخل‬ ‫والخارج دون أن يقعوا في شرك الوصاية على األمة؟ أم ستتكرر الدروس المأساوية كما‬ ‫‪3‬‬


‫تكررت في ثورة الجزائريين والمغاربة ضد الفرنسيين حتى إذا انقضى القرن العشرين وجدوا‬ ‫أنفسھم يراوحون في مكانھم قرابة نصف قرن‪ ،‬وكذا آلت ثورة األندونيسيين الحديثة ضد‬ ‫طاغيتھم سوھارتو حتى ورث إندونيسيا جنرال آخر وباسم الديموقراطية األمريكية؟‬

‫ثانيا‪ :‬الحقائق الكبرى للثورات المنجزة على األرض‬ ‫ويحتاج المتطلعون إلى رسم آفاق المستقبل القريب والبعيد والحالمون برؤية تليق بتاريخ وأداء‬ ‫العرب والمسلمين أن يتوقفوا طويال عند الحقائق الكبرى التي تجلت عنھا الثورات على‬ ‫األرض فإن معرفة حصاد األمس خير موجه لتحديد شكل المستقبل وآفاقه‪) :‬قال تزرعون سبع‬ ‫سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إال قليال مما تأكلون‪ ،‬ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد‬ ‫يأكلن ما قدمتم لھن إال قليال مما تحصنون‪ ،‬ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه‬ ‫يعصرون(يوسف‪49-47:‬‬ ‫ويمكن استعراض الحقائق الكبرى التي تجلت عنھا الثورات المنجزة كما يلي‪:‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى األولى التي تجلت عنھا الثورات المنجزة عض األمة بنواجذھا على ثوابتھا‪:‬‬ ‫من حب لھذا الدين وتمسك به بلغ حدا تجدد به الدين وھو حد التضحية بالنفس وبالمال والولد‬ ‫وبذل الشھادة في سبيل دون أن تحول الدنيا وزخارفھا من نيل ھذا المبتغى فإذا بمعادلة‬ ‫الغثائية )حب الدنيا وكراھية الموت( تنعكس وإذا بجھود الطغاة وما عملت له األنظمة القمعية‬ ‫العالمية منھا والقطرية من صد للناس عن سبيل يذھب ھباء منثورا‪.‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى الثانية والتي تجلت عنھا الثورات المنجزة أن دخول مكونات األمة وألوان‬ ‫طيفھا في الحراك الثوري قد أعفى األمة من أن يحملھا أحد جميله ويطالبھا بحقوقه فال‬ ‫األحزاب السياسية وال الجماعات اإلسالمية وال القبائل وال الجھويات يمكن أن تتدعي استحقاقا‬ ‫وتفردا في صناعة الثورات المنجزة وھو الذي حد من تدخل العصبيات والوصاية على األمة‬ ‫أيا كان لونھا في صناعة المستقبل السياسي مما يمھد لمرحلة من الرشد في النظام السياسي‬ ‫ذلك الذي حرمت منه األمة لزمن ليس بالقصير‪.‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى الثالثة والتي تجلت عنھا الثورات المنجزة وحدة عوامل تشكل وسقوط‬ ‫األنظمة السياسية في العالم العربي واإلسالمي وأخطر تلك العوامل أنھا نباتات غريبة في‬ ‫أرض األمة ال تنتمي إليھا وال تعبر عنھا وال تحمي مصالحھا جمھورية كانت أم ملكية وعندما‬ ‫اذن عز وجل بزوالھا لم يحمھا جبروتھا وال بطشھا وال صالتھا الخارجية مع أنھا‬ ‫‪4‬‬


‫استخدمت كل ما كان متاحا لھا لكن عز وجل أحكم حولھا طوق السنن بما عصت الرحمن‬ ‫واستحلت من محرمات المسلمين وبما أعطت من والء للكافرين وبما تجبرت في األرض وبما‬ ‫أتخمت من نھب ثروات األمة وبما أسرفت فحق عليھا قول جبار السموات واألرض‪) :‬كدأب‬ ‫آل فرعون والذين من قبلھم كفروا بآيات فأخذھم بذنوبھم إن قوي شديد‬ ‫العقاب(األنفال‪52:‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى الرابعة والتي تجلت عنھا الثورات المنجزة أن ال يضيع أجر من أحسن‬ ‫عمال فمن كان له نصيب تاريخي في مواجھة األنظمة المتجبرة وكشف زيفھا ودعوة‬ ‫المجتمعات المسلمة إلى أخذ زمام أمرھا بيدھا ومن تقدم على باب الحرية باأليدي المضرجة‬ ‫طوال عقود الھيمنة للنظم المتجبرة فقد كافأه عز وجل بنصيب يتناسب وتلك التضحيات‬ ‫وكافأته األمة بأن جددت ثقتھا فيه إذ لم ينسحب من الميدان عندما الذ الجميع بالصمت بل‬ ‫تحمل في سبيل قول كلمة الحق والصدع بھا القتل والسجن والھجرة في سبيل تعالى‪ ،‬فال‬ ‫ينبغي أمام ھذه الحقيقة أن يصرف بعض الناس أعينھم عن ھذه الحقيقة الكبرى والتعامل معھا‪:‬‬ ‫)ياأيھا الذين آمنوا كونوا قوامين شھداء بالقسط وال يجرمنكم شنئان قوم على اال تعدلوا‬ ‫اعدلوا ھو أقرب للتقوى واتقوا إن خبير بما تعملون(المائدة‪8:‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى الخامسة والتي تجلت عنھا الثورات المنجزة بأن من تعلق بالنظم السياسية‬ ‫وأسرف في تملقھا من الجماعات اإلسالمية واألحزاب السياسية فقد سقطت مع أوليائھا خاصة‬ ‫من أفتى المسلمين بأن ھؤالء أولياء أمر وطاعتھم واجبة وھم يرون بأم أعينھم أن طاعة النظم‬ ‫السياسية إنما أدت إلى طاعة جورج بوش فھناك ينتھي الوالء ولم يكن لألنظمة يوما قدرة على‬ ‫النظر في مصلحة حقيقية لألمة فھي لم تزدھا إال وھنا على وھن‪ ،‬فكان جزاء أولئك في‬ ‫الثورات من األداء المعطل من جنس العمل الذي مارسوه طوال العقود‪.‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى السادسة التي تجلت عنھا الثورات المنجزة أن صراع المشاريع العالمية‬ ‫واإلقليمية في المنطقة قد انعكس بشكل مباشر على تفعيل الثورات العربية من خالل‬ ‫الممارسات القمعية التي سلطھا النظام الدولي على العرب والمسلمين واختصھم وحدھم‬ ‫باستھداف عقائدھم ومقدراتھم فقد تعاون النظام الدولي بكل مفرداته العالمية واإلقليمية على‬ ‫افتتاح القرن األول في األلفية الثانية بضرب أضعف بقاع الكون وھي أفغانستان بينما كل‬ ‫المنظمات االقتصادية العالمية تصنفھا كأضعف منطقة في العالم من حيث القدرات والتنمية‬ ‫االقتصادية ثم وقف العالم متفرجا على ضرب العراق خارج قرارات األمم المتحدة وكذا وقف‬ ‫المشروع اإلقليمي اإليراني متفرجا بل ومتعاونا وھو يدعي حماية المستضعفين والعمل من‬ ‫‪5‬‬


‫أجلھم‪ ،‬ناھيك عن أداء النظام الدولي واالقليمي في القضية الفلسطينية وفتح المجال أمام‬ ‫إسرائيل لتمارس ما تشاء من سياسات االنتھاك للشعب الفلسطيني ومقدسات المسلمين‪.‬‬ ‫* الحقيقة الكبرى السابعة التي تجلت عنھا الثورات المنجزة عظم تأثير ھذه الثورات في‬ ‫الوضع اإلقليمي والدولي وتغييرھا لكثير من الحقائق والمسلمات السائدة عبر عقود من الزمن‬ ‫سواء في البعد السياسي أو االقتصادي مما حدى بالقوى الكبرى أن تسارع إلى تبني مقاربة‬ ‫استراتيجية عاجلة تھدف إلى احتواء ھذا التغيير الخطير رغبة في تخفيف مخاطره عليھا في‬ ‫مرحلة اولى ورغبة في استثماره باالتجاھات التي تريدھا في المستقبل القريب والبعيد مع‬ ‫تقسيم مناطق الثورات إلى ثالثة مواقع والتعامل معھا بطرق مختلفة فالموقع األول ھو موقع‬ ‫السير في ركاب الثوار بل ومساعدتھم عسكريا )ليبيا أنموذجا( ثم االنقضاض عليه والموقع‬ ‫اآلخر ھو موقع التفاوض والمساومة الدولية واإلقليمية )سوريا أنموذجا( خاصة في محاولة‬ ‫أمريكا وأوروبا احتواء التمرد اإليراني بغض النظر عن المعاناة الحقيقية للشعب السوري‬ ‫وليست روسيا والصين بمعزل عن ھذه اللعبة القذرة بل إنھما تستخدمان النموذج السوري‬ ‫لتأكيد الدور الدولي لھما والنموذج الثالث ھو نموذج التجميد ومنع حدوث التغيير وصول‬ ‫الثورة إلى نھاياتھا الحاسمة )اليمن أنموذجا(‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬إدارة التغيير الثوري أم قيادته؟‬ ‫* لعل مما أجمع عليه المتخصصون في قيادة التغيير ھو قدرة القائد أو القادة بمجموعھم على‬ ‫إظھار وتحديد رؤية وحلم يختزالن كل ما ھنالك من تطلعات األمة‪ ،‬وھو حلم ال بد وأن‬ ‫يتناسب مع ضخامة التغيير الثوري وجسامة التضحيات فيه بل إن الربيع العربي قد أصبح‬ ‫ملھما للمسحوقين تحت اآللة االقتصادية األمريكية وبناتھا الراسمالية شرقا وغربا فكيف ال‬ ‫يلھم الربيع العربي أھله؟ خاصة وأن الرؤية التي تحرك الثوار على وقعھا كانت تتلخص في‬ ‫ضرورة التخلص من الديكتاتور والنظام القمعي وليكن بعد ذلك ما يكون وھي رؤية كانت‬ ‫ناجحة وناجعة بل مثلت مفتاح السر في الثورات العربية في مرحلتھا لكنھا سرعان ما انعكست‬ ‫تساؤال حادا بعد انھيار النظام القمعي وماذا بعد؟‬ ‫إن الثورات تنتظرھا عدة سنن وھذه السنن تنتظم في مسارين متناقضين؟ فإما الوقوع في سنة‬ ‫الثورة تأكل أبناءھا! وإما سنة )ادخلوا األرض المقدسة التي كتب لكم وال ترتدوا على‬ ‫أدباركم فتنقلبوا خاسرين(اآلية‬

‫‪6‬‬


‫والعرب في تاريخھم البعيد والقريب يحملون حلما ورؤية يتكون من ثالث حلقات طالما حدث‬ ‫األجداد به األحفاد وھو حلم تجده لدى القروي الجزائري كما تجده لدى الفالح المصري وكذا‬ ‫ستجده في لفائف عمامة العماني على ضفاف بحر العرب أما الحلقة األولى من الحلم فھو حلم‬ ‫الوطن الحر السعيد المستقل وأما الحلقة الثانية فھي حلقة النظام اإلقليمي الذي يشكل مظلة‬ ‫حامية من تالعب القوى العالمية واإلقليمية بھم وھذه الحلقة يعبر عنھا العرب بالنظام العربي‬ ‫القومي وأما الحلقة الثالثة في الحلم فھي حلقة االمتداد العقدي والتاريخي والتي تمثلھا مكة‬ ‫والمدينة والقدس ولمتعجب أن يعجب كيف التقى المسلمون طوال السنين العجاف من القرن‬ ‫العشرين على حمل ھذا الھم المشترك أينما حلوا وأينما ارتحلوا؟ إنھا القدس‬ ‫إذن تلك ھي قصة الحلم وقصة الرؤية فھل ينجح قادة الثورات المنجزة في مصر وليبيا وتونس‬ ‫أن ينسجوا خيوط تلك الرؤية؟ ولسائل ان يسأل ولمتعجب أن يطرق صامتا‪ :‬كيف أنجزت تلك‬ ‫الثورات على أرض متجاورة حتى أرجعت العرب إلى ما قبل سايكس بيكو عندما كان الليبي‬ ‫يرتحل شرقا وغربا ال يوقفه أحد!‬ ‫* ومن متطلبات قيادة التغيير الثوري أن يجيب القادة عن السؤال التالي‪ :‬في أي مرحلة وعلى‬ ‫أي أرضية تقف األمة اليوم نسبة إلى الكليات التاريخية والعقدية ومن ثم السياسية؟ وھي إجابة‬ ‫تحتاج إلى معايرة الزمان والمكان بأبعاده كلھا وال شك بأن الناس سوف يذھبون مذاھب شتى‬ ‫في إجابتھم على ھذا السؤال ولكني أزعم ونسبة إلى اشتغالي بما أسميته )المشروع اإلسالمي(‬ ‫أن ثمة منتھيات في القرآن والسنة تعيننا على تحديد موقع اقدامنا فقد أعطانا عز وجل فيھما‬ ‫عدة معادالت الحضارية منھا واالجتماعية ومن تلك المعادالت معادلة االستضعاف والتمكين‬ ‫وإن ربيع الثورات العربي قد كسر آخر األطواق في مرحلة االستضعاف ولكنه بالتأكيد لم‬ ‫يدخل األمة إلى مرحلة التمكين بل دفع بھا إلى المرحلة الوسطى وھي مرحلة التدافع والمدافعة‬ ‫وھذه مرحلة يمكن وصفھا بالمرحلة الرمادية ما بين المرحلة السوداء )االستضعاف( والبيضاء‬ ‫)التمكين( وللمرحلة الرمادية ھذه ظروفھا ومستلزماتھا ووقتھا الذي ال بد وأن يأخذ مداه وإن‬ ‫أھم ما يمكن رؤيته في ھذه المرحلة )التدافع والمدافعة( مايلي‪:‬‬ ‫ـ للمرحلة قياداتھا وأقطابھا وھذه القيادات تخرج على غير ما رتب الناس أنفسھم عليه ال‬ ‫عشائريا وال تراتبيا وال ماال وقد يجمع بعضھم مثل ھذه األوصاف لكنھم قادة مرحلة ينتمون‬ ‫إليھا والدرس األھم واألخطر ھنا‪ :‬إفساح المجال لھم لكي يقوموا بدورھم وال بد من تقاعد‬ ‫القادة التاريخيين وأفضالھم محفوظة‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫ـ وللمرحلة مجال للتنازع واالختالف الداخلي الواسع والمتنوع وحاجة الناس للتجريب واختبار‬ ‫أنفسھم قبل أن يختبروا ساحاتھم فال بد من إفساح الساحة للخالف وإدالء كل بدلوه فمن كان ذا‬ ‫حبل طويل فال شك سوف يسقي الناس والمتعين ھنا اتخاذ إدارة الخالف وقبوله ابتداء سياسة‬ ‫شاملة بل وتوظيف نتائجه‪.‬‬ ‫ـ وللمرحلة ضغطھا وحدتھا وسرعة تبدل الوانھا ما بين العسر واليسر وما بين الھزيمة‬ ‫والنصر وھو ما يحتاج القادة أن يوطنوا أنفسھم ومجتمعاتھم عليه فقد احتاج الصحابة رضوان‬ ‫ عليھم إلى الدفع بسبعين شھيد لكي يتعلموا طبيعة المرحلة ومقتضياتھا في معركة أحد‪.‬‬ ‫ـ وللمرحلة رماديتھا وضغطھا والذي ينتج ارتكاسا وتراجعا لدى البعض ورغبة بأيام الراحة‬ ‫والھدوء كما يتصورون وما ھي إال روح التعود على العبودية وعدم القدرة على ممارسة‬ ‫السيادة ومتطلباتھا وتنفس أجواء الحرية‪) :‬وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا‬ ‫ربك يخرج لنا مما تنبت األرض من بقلھا وفومھا وعدسھا وبصلھا قال أتستبدلون الذي ھو‬ ‫أدنى بالذي ھو خير اھبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليھم الذلة والمسكنة وباءوا‬ ‫بغضب من ذلك بأنھم كانوا يكفرون بآيات وكانوا يقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما‬ ‫عصوا وكانو يعتدون(البقرة‪61:‬‬ ‫ولمتأمل أن يتأمل قول موسى عليه السالم‪):‬اھبطوا مصرا( مع العلم بأنھم لم يصرحوا برغبتھم‬ ‫العودة إلى مصر لكن مقتضى حديثھم ھو شوقھم إلى أجواء العبودية ورفضا لمتطلبات الحرية‬ ‫والسيادة‪.‬‬ ‫* ومن متطلبات التغيير الثوري أن يحدد القادة قائمة بأھم األخطار المحدقة بالثورة بغية تحديد‬ ‫استراتيجية التعامل معھا وفي ظني أن أھم خطرين متحققين بنسبة كبيرة ھما خطر االستالب‬ ‫وخطر االستقطاب‪ ،‬فأما خطر االستالب فھو الخطر الخارجي الذي يمثله المشروع األمريكي‬ ‫والمشروع األوروبي والمشروع التابع لھما وھو المشروع الصھيوني فالثورات العربية في‬ ‫موقف شبيه بما فعلته االمبراطورية اإلنجليزية متعاونة مع اإلمبراطورية الفرنسية في بداية‬ ‫القرن العشرين فھل يفلح قادة الثوارت المنجزة في التغلب على خطر االستقطاب ھذا والذي‬ ‫سينتھي إلى التوظيف في الحديقة الخلفية للبيت األبيض وھل كان حسني وبن علي والقذافي إال‬ ‫سعاة بريد في نظام الحرب الباردة ثم في نظام القطب األوحد؟ وال يغرنا التقاء المصالح‬ ‫المؤقتة على نقاط محددة لم يكن للشعوب وال لقادة الثورة يد في الوصول إليھا )فقد التقت‬ ‫مصلحة الشعوب ومصلحة أمريكا على ضرورة إحداث تحول ما في األنظمة المھترئة أو‬ ‫الفاشلة كما تسميھا أمريكا ولكن ال فضل ألمريكا في ھذا فقد دفعت الشعوب العربية فلذات‬ ‫‪8‬‬


‫أكبادھا بينما أمريكا تنتظر الحصاد المجاني للثورات‪ ،‬كما التقت المصلحة األمريكية األوروبية‬ ‫اليھودية ومصلحة الشعوب العربية في المنطقة على مواجھة )الخطر( الشيعي اإليراني في‬ ‫المنطقة وال تدري الشعوب العربية من يستخدم من في ھذه المعمعة فقد رأى العرب بأم أعينھم‬ ‫العمامة اإليرانية تنحني لصواريخ توما ھوك وھي تضرب أفغانستان ثم رأوھا مرة أخرى‬ ‫تعيث في العراق فسادا حتى اقامت للشيعة دولة ما كانوا ليحلموا بھا‪.‬‬ ‫صحيح بأن المكر ال بد وأن يواجه بمكر ودھاء وصحيح أن التعامل الدولي ال بد منه لكن‬ ‫التركيز ينبغي أن يوجه على عدم الذھاب في شوط االطمئنان إلى ما يسمى بالنظام الدولي‬ ‫بعيدا فمع ھذا التالقي المصلحي المؤقت فإن ألمريكا وأوربا وإسرائيل تاريخھا الذي ال تمحوه‬ ‫ضربات الناتو في ليبيا فھل يقدر قادة التغيير الثوري أن يقودوا شعوبھم بعيدا عن االستالب؟‬ ‫وأما خطر االستقطاب الداخلي فھو يتمثل في أكثر من بعد ومن أبعاده االستقطاب إما باتجاه‬ ‫حلم االستقرار الوافر الذي ال يعكر صفوه شيء! ويتبع ذلك حلم التنمية الوافرة والرفاه وإما‬ ‫استقطاب باتجاه العيش على وقع االستفزاز الدائم الذي يرى الخطر محدقا من كل مكان فال‬ ‫يترك اللتقاط األنفاس فرصة وال للتجارب أن تأخذ مجالھا في الزمان والمكان وال يعطي‬ ‫فرصة للتعايش واالطمئنان فھذا استقطاب مرفوض في االتجاھين فدون التنمية الوافرة عقبات‬ ‫ال بد من تذليلھا والصبر على حلقاتھا وكذلك استقطاب أصحاب البندقية الدائم مرفوض إال إذا‬ ‫اقتضت الضرورة ذلك وتلك تقدر بقدرھا‪.‬‬ ‫ومن أشكال االستقطاب الداخلي بروز بعض األقليات الفكرية والسياسية والمذھبية والدينية‬ ‫والعرقية ومن اصطلح على تسميتھم بالعلمانيين في المجتمعات العربية وتقدمھم بمطالب‬ ‫خاصة وتھويل لخطر التجاوز لحقوقھم حتى كادوا أن يصبغوا المشھد كله بھذه الصورة مع‬ ‫العلم بأنھم كانوا من أكبر المستفيدين من مظالت الحكم الديكتاتوري السابق وثمة أغلبية‬ ‫صامتة وحقوق واسعة تسع الجميع ووطنية تظلل الجميع وأداء شعبي قريب يشھد بالعدل‬ ‫واإلنصاف لھذه األقليات ولئن كان ھناك نوع من التعدي عليھا فقد كان من صنع أنظمة‬ ‫البطش والتجبر والخيانة والذي وصل إلى حد تفجير الكنائس في مصر ثم نسبتھا إلى المسلمين‬ ‫فلما تحرك الربيع العربي مقاوما للظلم بكل أنواعه أطل علينا بعض من ھؤالء مخوفين‬ ‫ومحذرين والعجيب في األمر أنه ليس من رؤية لدى كثير منھم إال تعطيل النھضة الكلية‬ ‫للمجتمع بحجة منع سيطرة اإلسالميين على المشھد السياسي وتلك حجة سمجة تھدف إلى‬ ‫تعطيل الحراك المجتمعي العام وتمنع االلتقاء على كلمة سواء ونظام عادل ينصف الناس‬ ‫أجمعين‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫* ومن متطلبات التغيير الثوري أن يتمكن قادته من إعادة تعريف ومن ثم محاوالت التطبيق‬ ‫الجادة لنظام الحكم في اإلسالم والذي أعيد تعريفه وتقديمه لألمة بناء على الحراك العلمي‬ ‫والسياسي الذي نشط له العرب والمسلمون منذ سقوط آخر خالفة إسالمية في القرن الرابع‬ ‫عشر الميالدي أو القرن العشرين الميالدي إن شئت إلى يومنا ھذا‪ ،‬فإذا بالنظام السياسي في‬ ‫اإلسالم شأنه شأن العقائد والعبادات وبقية النظام اإلسالمي له حدود ينتھي إليھا أھما الرشد‬ ‫وھي صفة تلغي كل استقطاب للعصبيات عرقية كانت أو اجتھادية فال وصاية ألحد على أحد‬ ‫في النظام السياسي اإلسالمي بشرط مرجعية الشريعة ال العقل البشري المجرد الذي لم يحتمل‬ ‫قطعة القماش على رؤوس النساء في حكم بن علي وأضرابه وبشرط أن تكون السلطة للشعب‬ ‫ولألمة تفوضھا من تشاء باختيار حر يكون الحاكم ونظامه في ھذا النظام أجراء يحق لألمة أن‬ ‫تحاسبھم وتقومھم وإذا شاءت عزلتھم‪ ،‬ومن مستلزمات الرشد في النظام السياسي اإلسالمي‬ ‫صفة التعددية سواء في استيعاب المجتمعات المسلمة للمخالفين لھا دينيا أو مذھبيا والتعددية‬ ‫السياسية والحزبية والفكرية التي تكفل حراكا مجتمعيا سليما‪ ،‬فھل يتمكن قادة الثورات المنجزة‬ ‫أن يتقدموا لألمة بھذا النظام وتطبيقاته والتي يؤمل أن تفتح عصرا جديدا ال للمسلمين وحدھم‬ ‫بل للبشرية في كل مكان؟‬ ‫* ومن متطلبات التغيير الثوري قدرة قادة التغيير الثوري على رسم مسطرة التعاون والتكامل‬ ‫بين الرؤى اإلسالمية والتجمعات اإلسالمية ووضع ميثاق للتكامل والتعاون والعمل المشترك‬ ‫وتقليل الفروقات والتناقضات إلى أدنى مستوى فھاھنا وقود نووي إن صح التعبير فإما أن‬ ‫يستغل في توليد الطاقة ودفع التنمية وإما أن يدخل في صناعة الكعكة الصفراء في صراع‬ ‫صفري ال يتوقف إال بإفساد كل شيء وھو ما أخبرنا به العليم الخبير‪) :‬وأطيعوا ورسوله‬ ‫وال تنازعوا فتفشلوا وتذھب ريحكم واصبروا إن مع الصابرين(األنفال‪46:‬‬ ‫ويزيد األمر خطورة كثرة الجھات المستفيدة من ھذا التناقض والصراع وقدرتھم على توظيف‬ ‫التفرق وزيادة حدته مما يمكن أن يعرض التغيير الثوري إلى فشل تام وتوقف للمشروع‬ ‫برمته‪ ،‬مع ضرورة استيعاب سعة ساحات االختالف الفقھي والفكري والسياسي ولكن األمر‬ ‫ينصب حول الرؤية والمشروع للمرحلة مع توزيع للواجبات واألدوار‪.‬‬ ‫* ومن متطلبات التغيير الثوري مدى امكانية قادة التغيير الثوري على مصاولة المشروع‬ ‫األمريكي بالدھاء والمكر الذي تدير به أمريكا الموقف الكلي؟ وعدم االستسالم لمصطلحاتھا‬ ‫المجھزة تجھيزا تقنيا ونفسيا عاليا كمصطلح اإلرھاب الذي طاول استخدامه على العقد من‬ ‫الزمان وال زال يعمل‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫فأمريكا كالثعلب الذي وقف يوما في أعلى النبع ليشرب فجاء الديك اسفل منه طلبا للماء‬ ‫فخاطبه الثعلب قائال‪ :‬لقد عكرت علي الماء! فرد الديك متعجبا‪ :‬كيف أعكر عليك الماء وأنا في‬ ‫اسفل النبع؟ فقال الثعلب‪ :‬بل فعلت وكذا أخبرني جدي ان جدك كان يعكر عليه الماء فالبد من‬ ‫أن آكلك جزاء لك!!‬ ‫فھاھي أمريكا ومعھا أوروبا يستنسخون مصطلح اإلرھاب والقاعدة مجددا في ليبيا بعد نجاح‬ ‫الثورة فالتخويف بلغ حدا كبيرا من الدور المتصور لإلسالميين ومن قاتلوا على وجه‬ ‫الخصوص وخطورة األسلحة بين أيديھم‪ ،‬والحل لدى أمريكا واضح جدا فھي عصا غليظة‬ ‫على النظام السياسي الناشئ فإما أن يستجيب لشروط أمريكا األمنية وإال فالفوضى الخالقة‬ ‫تنتظر ليبيا؟ فكيف سيدير قادة التغيير الثوري ھذا الملف الحساس وبأي استراتيجية سوف‬ ‫يتعاملون معه خاصة وأن أمريكا قد جھزت نفسھا لھذا اليوم واستحقاقاته؟‬ ‫وھل يجرؤ قادة التغيير الثوري أن يحافظوا على استقاللھم الحقيقي مھما كلفھم األمر مع‬ ‫استخدامھم لمسطرة المرونة إلى آخر ما يمكن؟ وبعد ذلك ھل يجرأون على القول ألمريكا في‬ ‫مستقبل األيام‪ :‬إن الذي دفعنا للثورة على القذافي وأمثاله سوف يدفعنا للثورة عليك إذا أنت لم‬ ‫تنته عن أالعيبك والتدخل في شؤوننا فالجھاد الذي أحله لنا لدفع الظالم القريب من األولى‬ ‫أن نستخدمه لدفع الظالم البعيد‪ ،‬وھل كان القذافي إال صنيعة من صنائعھا‪ ،‬ثم أو ما كان ينبغي‬ ‫أن يقدم توني بلير لمحكمة العدل الدولية برفقة سيف القذافي والسنوسي؟‬ ‫* ومن متطلبات التغيير الثوري قدرة قادة التغيير التقدم بنظام إقليمي بديل عن النظام الميت بل‬ ‫الذي ولد ميتا وأعني به جامعة الدول العربية ألنھم بذلك يستفيدون من قرب الوحدات‬ ‫الجغرافية صاحبة الثورات الناجزة وثقلھا السياسي والسكاني واالقتصادي ويشكلون نواة لمظلة‬ ‫تحميھم من مخاطر االستقطاب اإلقليمي والدولي‪ ،‬فإن تعذر النظام اإلقليمي فال اقل من تكامل‬ ‫بيني إلى أن تنضج الظروف المواتية للنظام اإلقليمي‪.‬‬ ‫‪ 2011/10/28‬اسطنبول‬

‫‪11‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.