victor hugo

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫قديس البؤساء‬

‫‪Victor Hugo‬‬


‫‪2‬‬

‫‪..‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫اسطورة القرن التاسع عشر‬ ‫فيكتور هيجو هو رجل قوي الإرادة‪ ،‬موفور ال�صرب‪ ،‬كبري القلب‪ ،‬وا�سع الأمل‪ ،‬عظيم اجللد‪،‬‬ ‫متحم�س ال يعرف الك�سل‪ .‬كانت �أعز مناه �أن‬ ‫الهمة‪ ،‬جادّ ال يعرف الهزل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعيد الطموح‪ ،‬نا�شط ّ‬ ‫ي�صبح مثل �شاتوبريان‪ ،‬وما هي �إال �أن بلغ الع�شرين من عمره حتى كان لوي�س الثامن ع�شر ملك‬ ‫فرن�سا يقبل ب�شراهة على قراءة ديوان ال�شاب هيجو (ق�صائد و�أ�شعار جديدة)‪ ،‬وي�أمر ب�صرف‬ ‫مرتب �سنوي �أبدي له قدره �ألف فرنك‪ .‬وقد بلغ من التقدير عند �أمته �أن خرج �إليه اجلمهور‬ ‫الباري�سي �إثر رجوعه �إىل البالد بعد خالف مرير طويل مع زعيم البالد نابليون الثالث‪.‬‬ ‫كانت بداية الرحلة يف ال�سابع والع�شرين‬ ‫من فرباير �سنة ‪ 1802‬حيث ولد فيكتور‬ ‫هيجو يف مدينة بيزان�سون يف منزل �ضم‬ ‫والد فيكتور وهو الرجل الع�سكري املقاتل‬ ‫ذو احلزم والعزم ووالدة ال�شاعر املر�أة‬ ‫الر�ضية‪ ،‬طيبة القلب‪ ،‬ح�سنة ال�سرية‪ ،‬والتي‬ ‫�أجنبت على فرا�ش الزوجية �شاعرنا و�أخويه‬ ‫ال�شقيقني هابيل و�أوجني‪ ،‬كان والد فيكتور‬ ‫جنديا مقداما يف جي�ش نابليون بونابرت‪،‬‬ ‫وقد ا�ضطره عمله لل�سفر مع �أ�سرته �إىل‬ ‫جزيرة كور�سيكا �سنة ‪ 1805‬و�إىل �إيطاليا‬ ‫�سنة ‪ 1806‬التي ا�ستقى من تاريخها �شاعرنا‬ ‫م�سرحيته (لوكريزيا بورجيا)‪ ،‬ولعل �أهم‬ ‫رحلة لأ�سرة فيكتور هيجو هي الرحلة �إىل‬ ‫ربوع الأندل�س �سنة ‪ 1811‬التي �أوحت‬ ‫�إليه بعدد من �أعماله الأدبية مثل م�سرحيته‬ ‫هرناين وم�سرحيته كوميادا‪ .‬وقد �أدخله‬ ‫والده �إىل مدر�سة الأ�شراف حيث كان يوقظ‬ ‫الطالب بق�سوة وعنف رجل �أحدب الظهر‪،‬‬ ‫مرعب املنظر و�صفه �أبلغ و�صف يف ق�صته‬ ‫(�أحدب نوتردام) ونحله يف الق�صة ا�سم‬ ‫كوازميودو ور�سمه �أي�ض ًا يف م�سرحيته‬ ‫(امللك يلهو)‪ ،‬وقد عانى ال�صبي من �شرا�سة‬ ‫طالبني من �أبناء الإ�سبان �أحدهما �أل�سبورو‬ ‫وقد �صوّ ره هيجو يف م�سرحية (كرومويل)‬ ‫باال�سم نف�سه‪ ،‬وثانيهما فرا�سكو‪ ،‬وقد �صوّ ره‬ ‫هيجو يف م�سرحية لوكري�س بورجيا دون‬ ‫تغيري ا�سمه‪.‬‬ ‫على خطى �شاتوبريان‬ ‫عاد ابن العا�شرة فيكتور مع �أ�سرته �إىل‬ ‫ربوع بالده فرن�سا‪ .‬وقرر �أبوه بعد �سنوات‬ ‫�أن يلحقه بكلية الهند�سة يف باري�س‪ ،‬و�ألقى‬

‫ال�شاب ع�صا الت�سيار يف جامعة باري�س‬ ‫وحاول يائ�س ًا النجاح فلم ي�ستطع �إىل ذلك‬ ‫�سبي ًال‪ ،‬واختلف ك ّتاب تراجم حياته يف �سبب‬ ‫ف�شله‪ .‬فمنهم مَن عزا ذلك �إىل عدم تعلقه‬ ‫بالهند�سة و�شدة ولعه وان�شغاله بال�شعر‬ ‫والأدب‪ ،‬ومنهم من ن�سب ف�شله �إىل عبقريته‬ ‫حيث كان فيكتور هيجو ي�ستحدث حلو ًال‬ ‫مبتكرة للم�سائل الريا�ضية التي تكون �صواب ًا‬ ‫�أحيان ًا وجمانبة لل�صواب �أحيان ًا �أخرى‪� .‬إال‬ ‫�أنه ال خالف بني م�ؤرخي حياته �أن الرجل‬ ‫يف هذه الفرتة من حياته العري�ضة الطويلة‬ ‫قد �أقبل على عيون ال�شعر الفرن�سي‪ ،‬وقر�أ ما‬ ‫�أنتجته قرائح الأدباء قراءة فاح�ص مت�أمل‬ ‫ناقد‪ .‬ثم قال قولته ال�شهرية (�إما �أن �أكون مثل‬ ‫�شاتوبريان‪ ...‬و�إال فال) يف الوقت الذي كانت‬ ‫والدته ت�سعى لتفك رباط الزوجة مع والده‬ ‫ال�ضابط‪.‬‬ ‫و�أقدم فيكتور هيجو مع �أخيه هابيل على‬ ‫خطوة �أدبية جريئة �أال وهي �إ�صدار �صحيفة‬ ‫�أ�سبوعية �سمياها الأدب الأ�صيل كتب فيها‬ ‫هيجو �سيال من املقاالت التي �أثنى فيها على‬ ‫را�سني وكورين و�شك�سبري و�شلر‪ .‬وتوطدت‬ ‫بينه وبني المرتني و�ألفرد دي فيني �صداقة‬ ‫متينة‪ .‬ر�آه يف تلك الفرتة وهو يف التا�سعة‬ ‫ع�شرة من عمره الفرد دي فيني فو�صفه‬ ‫قائ ًال (و�سيم الطلعة �آية يف اجلمال‪ ،‬له‬ ‫جبهة عري�ضة بي�ضاء تلفت �سعتها الأنظار‪،‬‬ ‫وعينان وا�سعتان عميقتان تنعك�س فيهما‬ ‫عبقريته ونبوغه‪ ،‬دقيق الأنف ترى يف وجهه‬ ‫قوة �إرادته و�شدة �شكيمته‪ ،‬يكلل ر�أ�سه �شعر‬ ‫ك�ستنائي ناعم طويل القامة ح�سن الهندام)‪.‬‬ ‫وقد �أ�صدر هيجو �سنة ‪� 1822‬أول ديوان له‬

‫جثمان فيكتور هيجو حتت قو�س الن�صر يف باري�س‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫�سماه (�أغاين وق�صائد خمتلفة ‪Odes et‬‬ ‫‪ )Poesies diverse‬ويقول يف �أوىل‬ ‫ق�صائده‪:‬‬ ‫(م�صر‪� ...‬أيتها ال�شقراء الفاتنة‪ ...‬ما �أجمل‬ ‫�سنابل قمحك الذهبية وحقولك البهية متتد‬ ‫ك�أنها و�سائد ثمينة‪� ...‬سهل تلو �سهل‪ ،‬يقتتل‬ ‫عليك من ال�شمال برد قار�س‪ ...‬ومن اجلنوب‬ ‫رمل جائر �ساخن‪ ،‬وكلما اقرتبا نحوك‬ ‫و�أحكما �أ�ضرا�سهما لي�ؤملاك‪ ...‬ابت�سمت يا‬ ‫م�صر ال�شقراء‪.)...‬‬ ‫ويف الع�شرين‪ ،‬ابت�سم احلظ له وجاءته‬ ‫ال�شهرة ت�سعى‪ ،‬ووجد الديوان طريقه �إىل‬ ‫لوي�س الثامن ع�شر الذي كان يع�شق القراءة‪،‬‬ ‫و�أ�صدر الزعيم قرار ًا غيرّ م�سرية حياة‬ ‫ال�شاعر وجعله متف ّرغ ًا للأدب‪ .‬ويق�ضي القرار‬ ‫لل�شاعر مبعا�ش �سنوي كبري مدى احلياة‪.‬‬ ‫وقد تزوج هيجو بعد هذا القرار بزوجته‬ ‫�أديل فو�شيه يف ‪� 14‬أكتوبر �سنة ‪1823‬م‪.‬‬ ‫وبعد عام من زواج هيجو توفى لوي�س‬ ‫الثامن ع�شر ووىل �إمرة البالد �شارل العا�شر‬ ‫ف�أن�شد �شاعرنا فيكتور ق�صيدة ع�صماء يف‬ ‫مدح احلاكم اجلديد �سمّاها (تتويج �شارل‬ ‫العا�شر)‪ .‬ثم �أ�صدر م�سرحيته ( كرومويل )‬ ‫عن الزعيم الإجنليزي الثائر‪.‬‬ ‫ميول �شرقية‬ ‫بد�أ هيجو بالت�أثر بال�شرق‪ ،‬فقد قر�أ التوراة‬ ‫والإجنيل وترجمة فرن�سية للقر�آن الكرمي‬ ‫وترجمة لألف ليلة وليلة‪ ،‬ثم قر�أ تاريخ‬ ‫الإ�سالم وحياة الر�سول حممد �صلى الله‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬فت�أثر بذلك كله و�أ�صدر ديوان ًا‬ ‫�سمّاه (ال�شرقيات) وقد احتوى هذا الديوان‬ ‫البديع على ‪ 22‬ق�صيدة منها (�ضوء القمر)‬ ‫وقد ترجمها الأ�ستاذ �أحمد ح�سن الزيات يف‬ ‫جملة الر�سالة و (ال�سلطانة املف�ضلة) و (نور‬ ‫ال�صهباء) و (وداع الفاتنة العربية) و(من‬ ‫ربوع الأندل�س) و (كناري�س) و (نوار) و‬ ‫(ر�ؤو�س ال�سراي)‪.‬‬ ‫يقول هيجو يف ق�صيدة (�ضوء القمر)‪:‬‬ ‫(كان البدر م�شرق اجلبني يتنقل على ذرى‬ ‫الأمواج‬ ‫وقد فتحت النافذة ذراعيها خلطرات الن�سيم‬ ‫فجعلت امللكة ترنو �إىل البحر وهو يتك�سر‬ ‫ويطرز مطارف جزائره ال�سوداء بنقو�ش‬ ‫�أمواجه املف�ض�ضة‬ ‫فهوى العود من يدها وهو يرن‪ ...‬ف�أ�صغت‬ ‫ف�سمعت �صوت ًا �أبح يردده ال�صدى‪:‬‬ ‫�أتراها �سفينة تركية قادمة من مياه الدردنيل‬ ‫ت�ضرب جزر اليونان ب�سيوف احلقيقة)‬ ‫و�أخرج هيجو بعد هذا الديوان �أروع‬ ‫م�سرحياته‪ ،‬م�سرحية (هرناين) التي قام‬ ‫النقا�ش حولها فر�أى فيها البع�ض درة‬ ‫رائعة وانتقد البع�ض الآخر ومنهم الناقد‬ ‫هيبوليت تني عدم الرتابط بني اجلزء الأول‬ ‫والنهاية‪ .‬وتدور �أحداث هذه امل�سرحية يف‬ ‫ربوع الأندل�س حيث ي�صف لنا هيجو فاتنة‬ ‫الإ�سبان دوينا �سول التي حوّ ل قلبها وجمالها‬ ‫ثالثة من الع�شاق �أولهم �شيخ مت�صاب هو‬ ‫دي �سيلفا‪ ،‬والثاين دون كارلو�س ملك‬ ‫الإ�سبان‪ ،‬والثالث هرناين الثائر ال�شاب‪.‬‬ ‫وامل�سرحية مليئة بالأحداث‪ ،‬منتهية باتفاق‬

‫فيما كان �شاعرنا ينعم ب�صداقة‬ ‫وجمال�سة الفريد دي فيني والفريد‬ ‫دي مو�سيه والك�سندر دوما�س‬ ‫الكبري‪� ،‬إذ هو يرتدد كل �صباح على‬ ‫كني�سة نوتردام �سارح ًا بخياله يف‬ ‫ع�صر امللك لوي�س احلادي ع�شر‪،‬‬ ‫وما �إن �أطل يوم اخلام�س ع�شر من‬ ‫يناير �سنة ‪ 1831‬حتى كان القراء‬ ‫على موعد مع رائعته اجلديدة‬ ‫(�أحدب نوتردام)‪ .‬كانت الرواية‬ ‫من خيال و�إبداع الكاتب‪ ،‬فلي�س يف‬ ‫الكتابات التاريخية ما يثبت وجود‬ ‫ال�شخ�صية‪،‬‬

‫ي�ساعد مبوجبه ال�شيخ املت�صابي هرناين‬ ‫على الزواج �شريطة �أن يحق لل�شيخ �أن ي�أمر‬ ‫ال�شاب هرناين باالنتحار متى �شاء‪ .‬ويتم‬ ‫زواج هرناين‪ ،‬ويف حلظة اقرتاب احلبيبني‬ ‫ينفخ ال�شيخ املت�صابي يف بوقه فينتحر‬ ‫هرناين ومع�شوقته‪ ،‬وال يلبث احلا�سد الثاين‬ ‫�أن يلحق بهما نادم ًا ح�سري ًا منتحر ًا‪.‬‬ ‫من ال�شعر �إىل الرواية‬ ‫وفيما كان �شاعرنا ينعم ب�صداقة وجمال�سة‬ ‫الفريد دي فيني والفريد دي مو�سيه‬ ‫والك�سندر دوما�س الكبري‪� ،‬إذ هو يرتدد كل‬ ‫�صباح على كني�سة نوتردام �سارح ًا بخياله‬ ‫يف ع�صر امللك لوي�س احلادي ع�شر‪ ،‬وما‬ ‫�إن �أطل يوم اخلام�س ع�شر من يناير �سنة‬ ‫‪ 1831‬حتى كان القراء على موعد مع رائعته‬ ‫اجلديدة (�أحدب نوتردام)‪ .‬كانت الرواية‬ ‫من خيال و�إبداع الكاتب‪ ،‬فلي�س يف الكتابات‬ ‫التاريخية ما يثبت وجود ال�شخ�صية‪،‬‬ ‫وتتناول الرواية هيام الق�سي�س كلود فرولو‬ ‫والأحدب كوازميودو بالفاتنة الغجرية‬ ‫�أ�سمريالدا منتهية ب�سعي الق�سي�س لإعدام‬ ‫الفاتنة لرف�ضها تق ّربه لها‪ .‬فينتقم الأحدب‬ ‫ويقتل �سيده الق�سي�س‪ .‬ثم يحمل الأحدب‬ ‫احل�سناء �أ�سمريالدا ويرمي بنف�سه معها �إىل‬ ‫قاعة الكني�سة‪.‬‬ ‫و�أ ّلف هيجو بعد ذلك م�سرحية (امللك يلهو)‬ ‫�سنة ‪ 1833‬متناو ًال ملك فرن�سا فرن�سوا الأول‬ ‫وهو من ال�شخ�صيات الالمعة التي مل ي�ستطع‬ ‫هيجو �أن يجليها‪،‬‬ ‫ثم �أتبع تلك امل�سرحية مب�سرحية نرثية هي‬ ‫(لوكريزيا بورجيا) تروي ق�صة حياة �شقيقه‬ ‫�سيزاري بورجيا ال�شهري بق�سوته وظلمه‪.‬‬ ‫وعندما دعا امللك لوي�س فيليب عام ‪1837‬‬ ‫�أعالم الأدب يف فرن�سا من �أمثال المرتني‬ ‫و�سانت بيف ومي�شيليه‪ ،‬لبى هيجو الدعوة‬ ‫وح�ضر مت�أخر ًا‪ ،‬فقدمه امللك �إىل دوقة �أوليان‬ ‫زوجة ابنه‪ .‬وكانت حفيدة لأوج�ست �أمري‬ ‫فيمار الذي ا�شتهر بحبّه للأدب‪ ،‬وكانت‬ ‫حا�شيته ت�ضم هردر وجدته و�شلر وكالي�ست‪.‬‬ ‫وا�ستمرت هذه العالقة بينهما‪� ،‬إعجابا‬ ‫متبادال عن بعد‪ ،‬وتقديرا وحمبة �صافية‪.‬‬ ‫و�أ�صدر هيجو عام ‪ 1837‬ديوانه (املفاج�أة‬ ‫القلبية)‪،‬‬

‫ال���غ���ن���اء ع���ل���ى ق���م���ة اجل��ب��ل‬ ‫هيجو‪...‬‬ ‫و�أ�سطورة القرون‬ ‫وا�ستوىل نابليون الثالث عام ‪ 1851‬على‬ ‫احلكم يف فرن�سا فقاومه هيجو منافح ًا عن‬ ‫احلرية والدميقراطية‪ .‬ومل يكتف بالقلم‪ ،‬بل‬ ‫خرج �إىل ال�شارع طالب ًا من ال�شعب �أن يثور‬ ‫�ضد من �سمّاه بالطاغية‪ .‬فجد احلاكم يف طلب‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬فهرب هيجو �إىل جزيرة جري�سي‬ ‫يف املحيط‪ ،‬وهناك يف املنفى حماط ًا بزوجته‬ ‫و�أبنائه‪ ،‬نظم هيجو �أعظم �أعماله و�أبقاها‬ ‫�أثر ًا و�أكرث متثي ًال ملواهبه �أال وهي رائعته‬ ‫ال�شعرية اخلالدة‪�( :‬أ�سطورة القرون) التي‬ ‫قدمها بقوله‪:‬‬ ‫(وحينما �أكتب و�أنا �أفكر يف �شرفتي‬ ‫�أرى الأمواج تولد ومتوت‪ ...‬ثم تولد لتموت‬ ‫و�أرى الطيور البي�ض ت�سبح يف الهواء‪...‬‬ ‫وال�سفن تن�شر �أ�شرعتها للريح‬ ‫ك�أنها عن بعد‪ ...‬وجوه كبرية تتنزه على‬ ‫البحر)‪.‬‬ ‫و�صوّ ر لنا هيجو �أي�ض ًا يف �أ�سطورة القرون‬ ‫ال�سلطان العثماين مراد‪ ،‬وكذلك حممد ًا‬ ‫الثاين وكثريا من �سالطني املماليك‪ ،‬وخا�صة‬ ‫الظاهر بيرب�س‪� .‬أما الق�صيدة الع�شرون‪،‬‬ ‫فيتحدث فيها عن ع�صر النه�ضة و�أعالمها‬ ‫و�أمرائها‪ .‬وهناك ق�صيدة مطوّ لة عن الثورة‬ ‫الفرن�سية و�أخرى عن نابليون بونابرت‪.‬‬ ‫وكان املنفى خري ًا لإنتاج هيجو‪ ،‬ف�أخرج يف‬ ‫منفاه �أي�ض ًا رواية الب�ؤ�ساء التي ترجمت يف‬ ‫الع�شرينيات بقلم ال�شاعر حافظ �إبراهيم‪،‬‬ ‫ثم ترجمت يف اخلم�سينيات بقلم الأ�ستاذ‬ ‫منري البعلبكي‪ ،‬وو�صل هيجو �إىل قمة‬ ‫املجد فرا�سله زعماء العامل و�أنعم عليه حاكم‬ ‫فلورن�سه بو�سام دانتي عام ‪ 1865‬ورا�سله‬ ‫رئي�س وزراء الربتغال‪.‬‬ ‫واندلعت احلرب عام ‪ 1870‬بني نابليون‬ ‫الثالث وب�سمارك‪ ،‬وانتهت بهزمية نابليون‬ ‫عدو �شاعرنا‪ ،‬فعاد هيجو �إىل باري�س‪ ،‬ويف‬ ‫�أثناء رجوعه توفى ابنه �شارل‪ ،‬ثم فجع‬ ‫بوفاة ولده الثاين و�أ�صاب داء اخلبال ابنته‬ ‫الوحيدة الباقية‪ ،‬فانحطت معنوياته‪ .‬وتتابع‬ ‫�سيل �إنتاجه ف�ألف (ال�سنوات امل�ش�ؤومة) و‬ ‫(الباقة الأخرية)‪ .‬وملا بلغ الثمانني من عمره‪،‬‬ ‫�أقامت له فرن�سا احتفا ًال عظيم ًا وخرجت‬ ‫املظاهرات �سنة ‪ 1882‬حمت�شدة حول داره‬ ‫حتيّيه وجتل مقامه‪.‬‬ ‫ويف ‪ 18‬مايو ‪� 1885‬أ�صيب هيجو بالتهاب‬ ‫رئوي‪ .‬وملا زادت وط�أة املر�ض‪� ،‬شعر بدنو‬ ‫الأجل‪ ،‬فودّع �أ�صدقاءه قائ ًال �آخر بيت من‬ ‫ال�شعر‪( :‬ها هنا يقتتل الليل والنهار) ثم‬ ‫طلب حفيديه و�ضمّهما �إىل �صدره يقبّلهما‬ ‫وهو يبكي‪ ،‬وقال‪( :‬اقرتبا مني يا ولديّ ‪،‬‬ ‫كونا �سعيدين و�أقيما على حبي) وملا �أخذ‬ ‫يعالج �سكرات املوت‪ ،‬قال له �صديقه بول‬ ‫موري�س‪� :‬أنت لن متوت يا �سيد فيكتور‪ .‬قال‬ ‫هيجو‪:‬كال‪ ...‬ها هو املوت فمرحبا به‪...‬‬ ‫الوداع‪.‬‬ ‫وكان يوم موته يوم اجلمعة ‪ 22‬ماي ‪.1885‬‬

‫عن املو�سوعة الفرن�سية‬

‫« �إىل ال�شاعر‪..‬‬ ‫�إىل الفيل�سوف ‪..‬‬ ‫�إىل املدافع الكبري عن ق�ضية ال�شعوب‪..‬‬ ‫يحيا فيكتور هيجو! «‬ ‫كان النا�س يحيونه بهذه العبارة عندما مير‬ ‫يف ال�شارع‪ ،‬وهذا ما مل يحظ به �إال الر�ؤ�ساء‬ ‫والزعماء الكبار من �أمثال نابليون �أو �شارل‬ ‫ديغول‪ .‬هكذا �أ�صبح فيكتور هيغو يف‬ ‫احلي لفرن�سا‪.‬‬ ‫�أواخر حياته ال�ضمري ّ‬ ‫ولد فيكتور هيجو يف بيزان�سون‪� ،‬شرقي‬ ‫فرن�سا يف ‪ 27‬من �شباط ‪1802‬م من �أب‬ ‫كان �ضابط ًا يف جي�ش الإمرباطورية ثم غدا‬ ‫جرنا ًال‪ .‬وانتقل هيجو الفتى مع �أبيه �إىل‬ ‫�إيطاليا و جزيرة �ألبا ثم �إىل �أ�سبانيا حيث‬ ‫ق�ضى عام ًا واحد ًا مع �أخيه �أوجني يف كلية‬ ‫النبالء مبدريد‪ .‬يف عام ‪1812‬م رجع �إىل‬ ‫باري�س‪ ،‬املكان الذي ولدت فيه روحه كما‬ ‫يقول‪ ،‬حيث تلقى العلم على �أمه و على كاهن‬ ‫عجوز‪ ،‬ثم التحق باملدر�سة البوليتكنيك‪،‬‬ ‫ولكن الهموم الأدبية �شغلته يف �سن مبكرة‪،‬‬ ‫ف�أ�شرتك يف م�سابقة نظمتها الأكادميية‬ ‫الفرن�سية وهو بعد يف اخلام�سة ع�شرة‬ ‫من العمر‪ ،‬ففاز بجائزة �شعرية لق�صيدته‬ ‫« ح�سنات الدرا�سة «‪ .‬يف �أواخر ‪1819‬م‬ ‫�أ�س�س مع �أخويه جملة املحافظ الأدبي‪،‬‬ ‫فلم تع�ش غري �سنة فقط‪ ،‬و يف �سنة ‪1822‬‬ ‫�أجرى عليه لوي�س الثامن ع�شر راتب ًا بعد‬ ‫ن�شر ديوانه الأول املو�سوم بـ « ن�شائد «‪.‬‬ ‫ابتداء من عام ‪1827‬م الذي �صدرت فيه‬ ‫م�سرحيته التاريخية « كرومويل « مبقدمتها‬ ‫ال�شهرية التي �شن فيها حربا ال هوادة فيها‬ ‫على املفاهيم امل�سرحية الكال�سيكية ُاعترب‬ ‫هيجو زعيم احلركة الرومانتيكية‪ .‬وتعد‬ ‫هذه الفرتة التي �أمتدت حتى عام ‪1834‬م‬ ‫�أخ�صب عهوده بالإنتاج الأدبي‪� ،‬إذ و�ضع‬ ‫فيها مقطوعات ال�شرقيات و م�سرحية‬ ‫هرناين و ق�صة نوتردام دو باري‪ ،‬حتى‬ ‫�إذا كان عام ‪1841‬م انتخب ع�ضو ًا يف‬ ‫الأكادميية الفرن�سية بعد �أن �أخفق يف‬ ‫ذلك �أربع مرات متعاقبات‪ .‬طوال الع�شر‬ ‫�سنوات التي ان�صرف فيها هيجو �إىل‬ ‫الن�ضال ال�سيا�سي جمند ًا نف�سه يف خدمة‬ ‫الأفكار الدميقراطية و اجلمهورية‪ ،‬وبعد‬ ‫ثورة ‪1848‬م انتخب ع�ضو ًا يف اجلمعية‬ ‫الت�أ�سي�سية ثم يف اجلمعية الت�شريعية‪ .‬يف‬ ‫تلك الفرتة �شرع يف كتابة رائعته اخلالدة‬ ‫الب�ؤ�ساء‪ .‬حتى �إذا مت انقالب كانون الأول‬ ‫�سنة ‪1851‬م‪ ،‬واطاح نابليون الثالث‬ ‫باجلمهورية ليعلن يف العام التايل قيام‬ ‫الإمرباطورية الثانية‪ .‬وقف هيجو يف‬ ‫�صفوف املعار�ضة‪ ،‬وخرج �إىل ال�شارع طالب ًا‬ ‫من ال�شعب �أن يثور �ضد من �سمّاه بالطاغية‪.‬‬ ‫فنفي �إىل بروك�سل‪ ،‬ومنها �إىل جريزي‬ ‫و�أخري ًا �إىل غورني�سي وهما جزيرتان من‬ ‫اجلزائر الإجنليزية القائمة على ال�شاطئ‬ ‫النورمندي‪� .‬أك�سب النفي عبقريته ال�شعرية‬ ‫رحابة وقوة جديدتني فمهر الأدب يف هذه‬ ‫الفرتة ب�أروع �آثارة‪ ،‬منها الت�أمالت‪ ،‬و الق�سم‬ ‫الأول من �أ�سطورة الع�صور‪ ،‬و الب�ؤ�ساء‪.‬‬ ‫يف ‪1870‬م رجع �إىل باري�س ف�شهد �أهوال‬ ‫احلرب وذل الهزمية‪ ،‬ثم انتخب ع�ضو ًا‬ ‫يف اجلمعية الوطنية‪ ،‬فع�ضو ًا يف جمل�س‬

‫هيجو يف املنفى‬

‫ال�شيوخ‪ .‬يف ‪1882‬م احتفلت الأمة الفرن�سية‬ ‫احتفا ًال كبريا مبنا�سبة بلوغ هيجو الثمانني‬ ‫من عمره‪.‬‬ ‫يجمع النقاد �أو يكادون على �أن فيكتور‬ ‫هيجو �أعظم �شاعر غنائي فرن�سي‪ ،‬وواحد‬ ‫من عظماء �شعراء العامل يف خمتلف‬ ‫الع�صور‪ ،‬ور�أ�س موهبة هيجو قوة خارقة‬ ‫على اخليال املو�ضوعي‪ ،‬وبراعة عجيبة يف‬ ‫الت�صوير تردفها قدرة فردية على ال�سمو‬ ‫بالكلمة حتى لت�صبح نغم ًا‪ .‬قد ال تكون‬ ‫ح�سا�سيته ال�شعرية مثل العمق الذي مييز‬ ‫احل�سا�سية ال�شعرية عند المارتني‪ ،‬لكنها‬ ‫تتمتع برحابة �أو ب�سعة �أعظم بكثري‪� .‬إنها‬ ‫ناب�ضة باحلياة م�شبوبة بخا�صة حني توجه‬ ‫نحو االطفال و امل�ست�ضعفني من النا�س‪.‬‬ ‫لئن مل يت�سم تفكري هيجو ب�أ�صالة اخللق‬ ‫وعميق االبتداع فلي�س من ريب يف �أنه �أمد‬ ‫غني‪� .‬إنه‬ ‫�إنتاجه ال�شعري بغذاء من الأفكار ّ‬ ‫مل يجر القلم قط على قرطا�س �إال ليمجد‬ ‫�أفكار ًا عظيمة �أو ليدافع عن �أفكار عظيمة‪.‬‬ ‫وما ال�شاعر عنده �إال املنارة التي يتعني عليها‬ ‫�أن تر�شد اجلماهري و تهديهم �سواء ال�سبيل‪،‬‬ ‫وال�صوت املقد�س الذي يحمل �إجنيلهم‪ .‬من‬

‫هنا �أثار عدد ًا كبري ًا من امل�شكالت الأخالقية‬ ‫و الإجتماعية التي ينظر �إليها الفال�سفة‬ ‫‪ :‬اخلري وال�شر‪ ،‬والإن�سان والله‪ ،‬و الله‬ ‫واخللق‪ ،‬واحلكمة والعلم‪ ،‬و اجلهل وال�شر‪،‬‬ ‫و الرذيلة والب�ؤ�س‪ ،‬و ال�سعادة والتقدم‪،‬‬ ‫معرب ًا عن ذلك كله يف �صورة قوية �ساطعه‪.‬‬ ‫كان هيجو �شاعر ًا غنائي ًا يف املحل الأول‪،‬‬ ‫ولكن غنائيته دون غنائية المارتني عفوية‬ ‫و�صميمية‪ ،‬و�إن تكن �أكرث منها تنوع ًا‪.‬‬ ‫واحلق‪� ،‬أن هيجو و�صف نف�سه فقال �إنه «‬ ‫نف�س من البلور « و « �صدى مرنان « يعني‬ ‫�أنه قد عك�س ورجع وكرث و�أفرغ يف نظام‬ ‫�أورك�سرتي جميع الأغرا�ض الغنائية‪ .‬لقد‬ ‫غنى‪ ،‬قبل كل �شيء جميع انطباعات ع�صره‪،‬‬ ‫فكان روح القرن التا�سع ع�شر ال�شعرية‬ ‫حتيا يف ق�صائده من جديد‪ .‬و غنى جميع‬ ‫العواطف الإن�سانية‪ ،‬مثل احلب‪ ،‬واحلب‬ ‫الأبوي‪ ،‬والآمال‪ ،‬و الأحزان‪ ،‬و الأ�سرة‪ ،‬و‬ ‫الوطن‪ .‬ثم �أ�ضاف �إىل هذا كله الأمل الفل�سفي‬ ‫و التطور الديني و لغز املوت واملجهول‪،‬‬ ‫وتوق الإن�سان �إىل اجلمال و اخلري‪،‬‬ ‫والتما�سه للعداله‪ ،‬و�إميانه مب�ستقبل قوامه‬ ‫احلرية و التقدم و على اجلملة فقد كانت‬

‫‪3‬‬

‫�أ�شبه مبو�سوعة غنائية للع�صر الذي عا�ش‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫�أ�شهر �آثاره الغنائية‪ ،‬ن�شائد‪ ،‬و ن�شائد‬ ‫جديدة‪ ،‬و ال�شرقيات‪ ،‬و �أوراق اخلريف‪،‬‬ ‫والأ�صوات الداخلية‪ ،‬و الأ�شعة و الظالل‪،‬‬ ‫و الت�أمالت‪ .‬كان كذلك �شاعر ًا ملحمي ًا �أعطى‬ ‫الأدب العاملي لوحات تاريخية خالدة هي‬ ‫�أ�شبه ما تكون مبلحمة يف الإن�سانية متثل‬ ‫لنا الع�صور الغابرة‪ ،‬و احلقبة املعا�صرة‪،‬‬ ‫وحروب القرن التا�سع ع�شر الكربى‪ .‬هذا‬ ‫الرتاث ال�ضخم تنتظمه كله فكرة التقدم‪ ،‬و‬ ‫ت�صعيد الب�شرية البطيء نحو النور عرب‬ ‫ال�صراع املخوف بني ال�شر و اخلري‪ ،‬وما هذه‬ ‫امللحمة غري �أ�سطورة الع�صور‪ ،‬وقد ن�شرت‬ ‫يف ثالثة �أجزاء متعاقبة‪ .‬يقول يف بدايتها ‪:‬‬ ‫التي قدمها بقوله‪:‬‬ ‫وحينما �أكتب و�أنا �أفكر يف �شرفتي‬ ‫�أرى الأمواج تولد ومتوت‪ ...‬ثم تولد لتموت‬ ‫و�أرى الطيور البي�ض ت�سبح يف الهواء‪.‬‬ ‫وال�سفن تن�شر �أ�شرعتها للريح‬ ‫ك�أنها عن بعد‪ ...‬وجوه كبرية تتنزه على‬ ‫البحر‬ ‫�أ�سطورة الع�صور ملحمة �شعرية مطوّ لة‬ ‫ت�سرد �سري الأبطال‪ ،‬وقد بعث فيها ما اندثر‬ ‫من ع�صور الإن�سانية الأوىل معتمد ًا على‬ ‫الروايات التاريخية‪ ،‬فهو يطوف بالقارئ‬ ‫يف هذا العامل ال�ساحر‪ .‬في�صف يف الق�صيدة‬ ‫الأوىل الأر�ض يف الع�صور الأوىل مبت�سمة‬ ‫�سعيدة ُتخرج من �أح�شائها ما �أودعه الله‬ ‫للب�شر فيها من �أزهار وثمار‪ .‬ثم ينتقل‬ ‫بعد ذلك من ق�صة �آدم وحواء �إىل امل�سيح‬ ‫عليه ال�سالم وا�صف ًا املر�أة الأوىل وجمال‬ ‫ب�شرتها ور�شاقتها و�صوت ال�ضمري الذي‬ ‫�أ ّنب قابيل‪ .‬ثم يتناول خرافات الإغريق‬ ‫وق�ص�ص روالن و�شارملان‪ .‬وي�صف ب�شعره‬ ‫�أيام لذريق وفيليب الثاين‪ .‬ويفرد الق�صيدة‬ ‫الرابعة عن دين الإ�سالم‪ ،‬فيثني على تعاليم‬ ‫الدين الإ�سالمي وعلى الر�سول حممد عليه‬ ‫ال�سالم‪ ،‬ويتحدث �أي�ض ًا بثناء عاطر على‬ ‫عمر بن اخلطاب وعلي بن �أبي طالب‪� .‬صوّ ر‬ ‫هيجو �أي�ض ًا يف �أ�سطورة الع�صور ال�سلطان‬ ‫العثماين مراد‪ ،‬وكذلك حممد ًا الثاين وكثريا‬ ‫من �سالطني املماليك‪ ،‬وخا�صة الظاهر‬ ‫بيرب�س‪� .‬أما الق�صيدة الع�شرون‪ ،‬فيتحدث‬ ‫فيها عن ع�صر النه�ضة و�أعالمها و�أمرائها‪.‬‬ ‫وهناك ق�صيدة مطوّ لة عن الثورة الفرن�سية‬ ‫و�أخرى عن نابليون بونابرت‪.‬‬ ‫اقتحم هيجو ميدان الت�أليف امل�سرحي‬ ‫بدراما كرومويل التي عدت مقدمتها‬ ‫ال�شهرية مبثابة البيان للمدر�سة امل�سرحية‬ ‫النا�شئة التي نادت ب�ضرورة الأخذ‬

‫يجمع النقاد �أو يكادون على �أن‬ ‫فيكتور هيجو �أعظم �شاعر غنائي‬ ‫فرن�سي‪ ،‬وواحد من عظماء �شعراء‬ ‫العامل يف خمتلف الع�صور‪ ،‬ور�أ�س‬ ‫موهبة هيجو قوة خارقة على‬ ‫اخليال املو�ضوعي‪ ،‬وبراعة عجيبة‬ ‫يف الت�صوير تردفها قدرة فردية‬ ‫على ال�سمو بالكلمة حتى لت�صبح‬ ‫نغم ًا‪.‬‬

‫ب�شكل م�سرحي �أكرث حرية‪ .‬كتبها فيكتور‬ ‫هيجو عندما بلغ اخلام�سة والع�شرين من‬ ‫عمره‪ ،‬وكرومويل �سيا�سي �إنكليزي‪ ،‬قاد‬ ‫ثورة ‪ 1649‬التي قتل فيها ملك الإنكليز‬ ‫�شارل الأول‪ ،‬و�أ�صبحت �أمور الدولة بيد‬ ‫كرومويل‪ ،‬حتى �أعلن نف�سه ملك ًا على‬ ‫بريطانيا‪ ،‬ووافق الربملان على ذلك وكان‬ ‫�سيتوج يف كني�سة و�ستمن�سرت‪� ،‬إال �أ ّنه‬ ‫اكت�شف م�ؤامرة تدبر �ضده‪ ،‬فرتاجع عن‬ ‫اعتالء العر�ش مدعي ًا حمافظته على قوانني‬ ‫اجلمهورية‪ ،‬وكان كرومويل ذا �أخالق‬ ‫غريبة متناق�ضة وطبيعة متقلبة‪ ،‬فهو �أحيان ًا‬ ‫جبان و�أحيان ًا �شجاع‪ ،‬ويجمع بني الدناءة‬ ‫وال�شهامة والرحمة واللني‪ ،‬ولذا فهو ي�صلح‬ ‫لأن يكون بط ًال للم�سرحية بالإ�ضافة لكونه‬ ‫�شخ�صية تاريخية هامة يف تاريخ بريطانيا‬ ‫يف منت�صف القرن ال�سابع ع�شر‪.‬‏‬ ‫وكتب م�سرحية هرناين‪� ،‬إذ جتري الأحداث‬ ‫يف �إ�سبانيا يف مطلع القرن ال�ساد�س ع�شر‬ ‫�إذ وقع �أحد �أمراء �أملانيا بحب امر�أة جميلة‬ ‫�إ�سبانية ا�سمها الدونة �سوله‪ ،‬وكان يحبها‬ ‫دوق �آخر من �إ�سبانيا‪� ،‬إال �أ ّنها هي كانت‬ ‫جتاملهما مع ًا‪� ،‬أمّا قلبها فكان يهوى �أحد‬ ‫قطاع الطرق‪ ،‬وهو �شاب ا�سمه «هرناين»‪،‬‬ ‫وكان الثالثة يرتددون �إليها‪ .‬ويف �إحدى‬ ‫املرات كاد الأمري الأملاين �أن يقتل غرميه‬ ‫«هرناين»‪ ،‬وعا�شت هذه املر�أة‪ ،‬مرة يف‬ ‫بيت الدوق الإ�سباين الذي انتحر يف نهاية‬ ‫امل�سرحية‪ ،‬وكذلك ينتحر «هرناين» بعد �أن‬ ‫يتزوج الدونة �سوله‪.‬‏ وت�شرب الدونة �سوله‬ ‫ال�سم‪ ،‬الذي كان قد �شربه حبيبها «هرناين»‪،‬‬ ‫وي�صبح الأمري الأملاين ملك ًا‪ ،‬ولكن الأحداث‬ ‫لي�ست تاريخية متام ًا‪ ،‬ف�أكرثها من خيال‬ ‫امل�ؤلف‪.‬‏‬ ‫لكن هيجو مل يوفق على العموم يف هذا‬ ‫امليدان‪ ،‬ف�شخو�صه غنائيون �أكرث مما‬ ‫ينبغي‪ ،‬وب�سبب من �أنهم غنائيون مل يكن‬ ‫يف مي�سورهم �أن يكونوا م�سرحيني‪ .‬و�أي ًا ما‬ ‫كان‪ ،‬ف�أ�شهر م�سرحيات هيجو ‪ :‬كرومويل‪،‬‬ ‫وهرناين‪ ،‬و امللك يلهو‪ ،‬و كري�س بورجيا و‬ ‫ماري تيودور‪.‬‬ ‫�أعطى هيجو روايات عديدة منها �أحدب‬ ‫نوتردام‪ ،‬والرجل الذي ي�ضحك‪ ،‬و ثالثة و‬ ‫ت�سعون‪� .‬أما �أعظم رواياته جميع ًا و �أبقاها‬ ‫على الدهر‪ ،‬فهي الب�ؤ�ساء‪ .‬قد �شرع يف‬ ‫كتاباتها قبل عام ‪1850‬م ومل ينجزها �إال‬ ‫يف عام ‪1862‬م‪ .‬و�ضع هيجو روايته حتت‬ ‫التعاليم الإن�سانية و الإ�شرتاكية التي نادى‬ ‫بها املفكر الفرن�سي كابيه‪ ،‬و املفكر برودون‪.‬‬ ‫فدافع فيها عن ق�ضية جميع �أولئك الذين‬ ‫يحتقرهم املجتمع‪ ،‬والذي ينبغي �أن تعزى‬ ‫جرائمهم �إىل ف�ساد ذلك املجتمع نف�سه‪.‬‬ ‫يف ‪ 18‬مايو ‪� 1885‬أ�صيب هيجو بالتهاب‬ ‫رئوي‪ .‬وملا زادت وط�أة املر�ض‪� ،‬شعر بدنو‬ ‫الأجل‪ ،‬فودّع �أ�صدقاءه قائ ًال �آخر بيت من‬ ‫ال�شعر‪ :‬ها هنا يقتتل الليل والنهار‪ .‬وملا �أخذ‬ ‫يعالج �سكرات املوت‪ ،‬قال له �صديقه بول‬ ‫موري�س‪� :‬أنت لن متوت يا �سيد فيكتور‪.‬‬ ‫قال هيجو‪ :‬كال ‪..‬ها هو املوت فمرحبا به‪،‬‬ ‫الوداع ‪.‬‬ ‫عندما مات عن عمر يتجاوز الثالثة‬ ‫والثمانني عام ًا توقفت احلركة يف فرن�سا‬ ‫كلها‪ ،‬وعندما فتحوا و�صيته وجدوا فيها‬ ‫مكتوب ًا الكلمات الب�سيطة التالية‪-:‬‬ ‫‪�.1‬أعطي خم�سني �ألف فرنك ًا �إىل الفقراء‪.‬‬ ‫‪�.2‬أمتنى �أن �أنقل �إىل املقربة يف تابوت‬ ‫الفقراء‪.‬‬ ‫‪�.3‬أرف�ض ت�أبني كل الكنائ�س ورجال الدين‪،‬‬ ‫و�أطلب �صالة من كل النا�س‪.‬‬ ‫‪�.4‬أومن بالله‪.‬‬ ‫فيكتور هيجو‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫فكتور هيجو شاعرًا‬

‫�أ�ضاء حياة الب�ؤ�ساء و�صاغ جماليات‬ ‫الرومانتيكية الفرن�سية‬

‫�شهدت ثالثينيات و�أربعينيات‬ ‫القرن التا�سع ع�شر ت�شكل الرواية‬ ‫االجتماعية الرومانتيكية‪،‬‬ ‫وكان فكتور هيجو �أحد ممثليها‪،‬‬ ‫ويف هذه الرواية �صار للفقراء‪،‬‬ ‫الطبقة املزدراة‪ ،‬وم�صائرهم‬ ‫و�أقدارهم‪ ،‬و�أفراحهم و�آالمهم‪،‬‬ ‫مكان وا�ضح‪ ،‬وك�شفت هذه‬ ‫الرواية عن اال�ستغالل‪،‬‬ ‫و�إف�ساد العدالة‪ ،‬وجور النظام‬ ‫االجتماعي برمته‪ ،‬ومع �أن رواد‬ ‫الرواية االجتماعية ت�أثروا‬ ‫باال�شرتاكية الطوباوية عموم ًا‪،‬‬ ‫ومل يكن هدفهم ت�صوير وحتليل‬ ‫التناق�ضات االجتماعية‪ ،‬و�إمنا‬ ‫الرمز �إليها يف �صورة جم�سدة‬ ‫للعدالة املطلقة‪� ،‬أي تقييم‬ ‫ومعاجلة املادة االجتماعية بلغة‬ ‫رومانتيكية‪.‬‬

‫كان �شاعرا كبريا �أي�ضا‪ ،‬فبعد ما يزيد على قرن على رحيل‬ ‫ر�ضا الظاهر‬ ‫املبدع الفرن�سي‪ ،‬ما زالت �أجزاء جديدة من �شعره تقدم‬ ‫�إىل القراء‪ ،‬ومن الغريب �أنه يف العقد الأخري من ال�سنوات‬ ‫فقط متكن القراء من الو�صول �إىل م�ؤلفاته ال�شعرية‬ ‫الكاملة‪� ،‬سواء منها ذلك الدفق من الق�صائد الغنائية التي‬ ‫ظهرت يف جمموعات �شعرية‪� ،‬أو تلك الق�صائد الق�صرية‬ ‫لقد بد�أت الرومانتيكية كتمرد �ضد اجلماليات العقالنية‬ ‫ولكن ذات املزاج امللحمي‪� ،‬أو الق�صائد اخلطابية ذات‬ ‫الكال�سيكية‪ .‬ومل تندلع املجادالت العنيفة بني‬ ‫الرومانتيكيني والكال�سيكيني يف معركة �صريحة كما حدث النزعة الوطنية‪� ،‬أو القطع ال�شعرية الأق�صر ‪ -‬املقاطع التي‬ ‫كتبت يف منا�سبات معينة‪� ،‬أو املقاطع امل�ستقلة املكونة من‬ ‫يف باري�س يوم ‪ 25‬فرباير‪� /‬شباط ‪1930‬م‪ ،‬يوم العر�ض‬ ‫�سطرين‪� ،‬أو �أخري ًا تلك الق�صائد التي تركت متناثرة هنا‬ ‫الأول مل�سرحية فكتور غوهو (هرناين)‪.‬‬ ‫وهناك‪.‬‬ ‫ولكن الرومانتيكيني تخا�صموا مع قيود الكال�سيكية يف‬ ‫فلفرتة تقرب من �سبعني �سنة ظل هيجو ينتج ال�شعر يومي ًا‬ ‫كل مكان‪.‬‬ ‫تقريبا لغايات ال حت�صى‪ ،‬وب�سهولة وبراعة فنية فائقة‪،‬‬ ‫فهكذا كان حال �شليغل ووردز ورث و�شيلي وبايرون‬ ‫بل �أنه �أنتج �أطول ق�صيدة تورية يف اللغة الفرن�سية‪،‬‬ ‫وغريهم الكثري‪ ،‬وقد �أو�ضح هيجو يف مقدمة م�سرحيته‬ ‫(كرومويل) �أن الأعمال الفنية‪� ،‬ش�أنها �ش�أن الطبيعة‪ ،‬تربط وكانت ق�صيدة بقافية موحدة لكل �سطرين فيها‪ ،‬و�سدا�سية‬ ‫التفاعيل‪ ،‬وتتميز باجلنا�س اللفظي‪،‬وي�ضاف ذلك �إىل قدر‬ ‫بني النور والظالم‪ ،‬بني املتنافر واملتوافق‪ ،‬ونادى عام‬ ‫هائل من الكتابات‪� :‬ست وثالثون جزء ًا �أو جمموعة من‬ ‫‪1827‬م بالتخلي عن وحدة الزمان واملكان‪ ،‬و�أ�شار �إىل‬ ‫تواجد عنا�صر امللهاة وامل�أ�ساة مع ًا يف امل�سرحية ال�شعرية الق�صائد‪ ،‬جند قائمة لها يف كتاب جي‪� ،‬سي‪� ،‬إير�سون‪،‬‬ ‫ال�صادر م�ؤخر ًا‪ ،‬حتت عنوان (فكتور هيجو‪ :‬دليل‬ ‫احلديثة بهدف حتطيم الأعراف الكال�سيكية التي تتحكم‬ ‫�شعري)‪.‬‬ ‫بالبنية امل�سرحية‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فحتى املتنافر الغريب كان‪،‬‬ ‫ومن املعروف �أن هيجو كان يعدل الق�صائد ويعيد كتابتها‪،‬‬ ‫بالن�سبة للرومانتيكيني‪ ،‬ا�ستجابة للحاجة �إىل حقيقة‬ ‫لكنه مل يلغ �أي عمل كتبه‪ ،‬بل �أنه يف الواقع‪� ،‬أو�صى‬ ‫احلياة ‪ ،‬و�سمى هيجو يف مقدمته املذكورة الفن مر�آة‬ ‫باحلفاظ على كل �شيء للم�ستقبل‪.‬‬ ‫مركزة ‪.‬‬ ‫�إن الثورة التي �ساهم هيجو يف �إحداثها يف �أفكار وم�شاعر وكتاب �إير�سون اجلديد هذا درا�سة تف�صيلية تعالج �أ�شعار‬ ‫النا�س و�أذواقهم اجلمالية ثورة هائلة‪ ،‬ويبدو �أنها مل تقيم‪ ،‬هيجو على نحو �شامل‪ ،‬فهو يظهر كيف جرى ت�أليف كل‬ ‫عمل‪ ،‬وكيف ن�ش�أت املو�ضوعات وتطورت‪ ،‬وكيف �أن‬ ‫حتى الآن‪ ،‬على نحو واف‪ ،‬غري �أن تلك الثورة مل تقت�صر‬ ‫اعتبارات معينة‪ ،‬ف�ضال عن �أحداث حياة ال�شاعر‪ ،‬حتكمت‬ ‫على جمال امل�سرحية والرواية‪ ،‬فقد �صاغ ذلك العبقري‬ ‫يف ت�سل�سل ن�شرياته‪ ،‬وال بد �أن يكون هذا الكتاب ذا قيمة‬ ‫الأ�صيل‪ ،‬كما فعل غريه من الرومانتيكيني العظام‪� ،‬أ�س�س‬ ‫كبرية بالن�سبة لأولئك الذين يرغبون يف متابعة مراحل‬ ‫الرومانتيكية يف ال�شعر يف املرحلة اجلديدة‪.‬‬ ‫و�إذا كنا قد عرفنا هيجو روائي ًا كبري ًا من خالل (الب�ؤ�ساء) ت�أ�سي�س هيجو يف خمتلف جماالت ال�شعر‪ ،‬وبالن�سبة‬ ‫ ‪1862‬م‪ ،‬وقبلها ( نوتردام باري�س) ‪1831 -‬م ف�إن هيجو لأولئك الذين ي�سعون �إىل قراءة �أعمق لأعمال معينة‪،‬‬‫وي�ضعنا �إير�سون يف خارطة �أ�شعار هيجو مناق�شا �إياها‪،‬‬ ‫ف�صال بعد �آخر‪ ،‬بتحليالت وتعليقات عميقة‪ ،‬ويبذل امل�ؤلف‬ ‫جهود ًا م�ضنية يف معاجلة تاريخ الق�صائد‪ ،‬ويحقق‪،‬‬ ‫بو�ضعه منظور ًا للمجاميع‪� ،‬إجنازا مهما‪.‬‬ ‫ومن املعروف �أن فكتور هيجو املولود عام ‪1802‬م يعترب‬ ‫ال�شخ�صية الرئي�سية يف احلركة الرومانتيكية يف فرن�سا‪،‬‬ ‫وقد جاء مت�أخرا �إىل الن�شاط ال�سيا�سي‪ ،‬فانتخب ع�ضوا‬ ‫يف اجلمعية الوطنية عام ‪1848‬م‪ ،‬ولكنه ق�ضى ال�سنوات‬ ‫من ‪1851‬م حتى ‪1870‬م يف املنفى‪ ،‬وعاد �إىل باري�س‬ ‫عام ‪1870‬م ليجري اختياره نائب ًا مرة �أخرى‪ ،‬وا�صبح‬ ‫يف وقت الحق ع�ضو ًا يف جمل�س ال�شيوخ يف اجلمهورية‬ ‫الثالثة‪.‬‬ ‫ويعترب هيجو واحد ًا من الأ�ساتذة العظام يف ال�شعر‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬ومن بني جمموعاته ال�شعرية الكثرية‪:‬‬ ‫(ق�صائد غنائية) ‪1822 -‬م‪�( ،‬أغان وق�صائد) ‪1826 -‬م‪،‬‬ ‫(ال�شرقيون) ‪1829‬م‪�( ،‬أوراق اخلريف) ‪1931 -‬م‪�( ،‬أغاين‬ ‫امل�ساء) ‪1935 -‬م‪�( ،‬أ�صوات من الأعماق) ‪1837 -‬م‪،‬‬ ‫(�أ�ضواء وظالل) ‪1840 -‬م‪ ،‬و�أعقبتها‪ ،‬بعد فرتة طويلة‪،‬‬ ‫جمموعة (عقوبات) ‪1953 -‬م‪ ،‬وهي جمموعة �ساخرة‬ ‫عنيفة �ضد لوي�س نابليون‪ ،‬وقد كتبت يف املنفى‪ ،‬وقد‬ ‫احتلت املوا�ضيع الروحية والكونية مكانة هامة يف‬ ‫جمموعته (الت�أمالت) ‪1856 -‬م‪ ،‬وت�شكل قائ�صد (�أ�سطورة‬ ‫القرون) ‪1883 ،1877 ،1859 -‬م معاجلة ملحمية‬ ‫للتاريخ‪� ،‬أما جمموعتا (نهاية ال�شيطان) و(�إله) فقد‬ ‫ن�شرتا بعد وفاته‪ ،‬هذا عدا عن �شهرة هيجو يف امل�سرحية‬ ‫والرواية التي �أ�شرنا �إىل بع�ض من ابداعاته فيهما‪،‬‬ ‫وخ�صو�صا م�سرحيته ال�شهرية (كرومويل) التي حتولت‬ ‫منزل فيكتور هيجو مقدمتها �إىل بيان للحركة الرومانتيكية الفرن�سية‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫لمحة عن رجل عظيم‬ ‫من منكم مل يقر�أ �أو مل ي�سمع بروايته‬ ‫ال�شهرية ( الب�ؤ�ساء ) ؟‬ ‫ذلك ال�ش ــاعر ‪ ،‬الروائي ‪ ،‬امل�ســرحي ‪،‬‬ ‫الر�سـام ورجل ال�سيا�سة … الذي ولد‬ ‫يف ‪ 1802 / 2 / 26‬م ‪ ،‬ومات يف ‪/ 22‬‬ ‫‪ 1885 / 5‬م ‪ ،‬بعد ان هيمن على الثقافة‬ ‫الفرن�سية والعاملية يف القرن التا�سع ع�شـر‪،‬‬ ‫وبعد ان حظي بتكرمي قل نظريه وندر‬ ‫مثيله ‪.‬‬ ‫ففي يوم ال�ساد�س والع�شرين من �شباط‬ ‫من عام ‪ ، 1881‬دخل هيجو عامه الثمانني‬ ‫‪ ،‬و�سط احتفاالت �شعبية ور�سمية كبرية‬ ‫من اق�صى فرن�سا اىل اق�صاها ‪ ،‬اقيم قو�س‬ ‫للن�صر يف �شارع ايليو ـ الذي �سمي با�سمه‬ ‫يف متوز من ذلك العام ـ وح�ضر مئات‬ ‫االالف من الفرن�سيني من الباري�سيني‬ ‫ومن املقاطعات الفرن�سية كلها ‪ ،‬للقيام‬ ‫با�ستعرا�ض حتت نوافذ منزله ‪ ،‬فيما بقي‬ ‫هو واقفا يف نافذته املفتوحة بني حفيديه ‪،‬‬ ‫لريى طوال النهار مرور مواكب املعجبني‬ ‫واملحيني الذين بلغ عددهم �ستمائة الف‬ ‫ان�سان ‪ ،‬فيما كانت باقات الزهور ترتفع‬ ‫امام منزله كتال �صغرية‪ ،‬وكان بني ه�ؤالء‬ ‫املحيني رئي�س الوزراء جول فريي‬ ‫واع�ضاء حكومته الذين جا�ؤوا اىل منزله‬ ‫ليقدموا فرو�ض االحرتام ل�شاعر بالدهم‬ ‫االكرب ‪.‬‬ ‫ملاذا كل هذا احلب وكل هذا التقدير ؟‬

‫كان ذلك الن هيجو كان �صرحا �شعبيا كبريا‬ ‫‪ ،‬وكان �شاعرا من طراز فريد ‪ ،‬تطرق للحب‬ ‫فغري الإح�سا�س به ‪ ،‬وللموت فغري �شبحه ‪،‬‬ ‫لت�ضيء منارته املغامرة الإن�سانية برمتها‬ ‫وي�ستوحي قادة ال�شعوب وثوار املتاري�س‬ ‫من �صواريخه و�سهامه التي �أطلقها �صوب‬ ‫امل�ستقبل ‪.‬‬ ‫كثريون منا قر�ؤا روايته ال�ش ـ ـ ــهرية‬ ‫(الب�ؤ�سـ ــاء)‪ ،‬التي حتولت �إىل �أفالم‬ ‫�سينمائية الحق ًا �إبتداء ًا من عام ‪، 1909‬‬ ‫عندما ظهرت �شخ�صية ( جان فاجلان ) على‬ ‫ال�شا�شة الكبرية يف الفيلم الأمريكي الذي‬ ‫حمل نف�س عنوان الرواية ‪ ،‬وو�صو ًال �إىل‬ ‫عام ‪ ، 2000‬عندما ظهرت يف التلفزيون‬ ‫الفرن�سي ‪ ،‬حيث متلك الفرن�سيون �شعور‬ ‫ب�أنهم يقفون خلف املتاري�س الباري�سية �إىل‬ ‫جانب " غافرو�ش " �أحد ابطال الرواية يف‬ ‫مواجهة ر�شقات نريان احلر�س الوطني‬ ‫وقوات احلر�س امل�ؤللة ‪.‬‬ ‫كيف ولدت هذه الرواية العمالقة ؟‬ ‫عند ال�ساعة الثانية بعد ظهر الرابع‬ ‫والع�شرين من حزيران ‪ 1848‬م ‪� ،‬صوّ ت‬ ‫هيجو ‪ ،‬الذي كان حينها نائب ًا يف الربملان‬ ‫الفرن�سي ـ معتنقا للأفكار اليمينية ـ‬ ‫باملوافقة على قرار حل الور�شات الوطنية‬ ‫‪ ،‬ذلك القرار الذي حرم الآالف من عمال‬ ‫باري�س من م�صادر رزقهم ‪ ،‬ويف الأ�سابيع‬ ‫التالية نزعت ال�سلطة قناعها و�أغلقت‬

‫الور�شات ‪ ،‬فتناول العمال �أ�سلحتهم‬ ‫حمتجني ‪ ،‬وكانت فر�صة ال�سلطة لقمعهم !!!‬ ‫ّ‬ ‫وبينما كانت املعارك الدموية تدور يف‬ ‫�شوارع باري�س بني العمال واجلنود ‪ ،‬كان‬ ‫" فيكتور هيجو " مع اجلمهور يف �شارع (‬ ‫�سان لوي ) املغلق بثالثة متاري�س ‪ ...‬وقال‬ ‫حينها ‪ ( :‬هذا الدم الذي يراق من اجلانبني‬ ‫هو دم �شجاع وكرمي ) ‪ ،‬ومن هنا ولدت‬ ‫هذه الرواية التي ترجمت اىل جميع لغات‬ ‫العامل ‪ ( ..‬الب�ؤ�ساء ) ‪.‬‬ ‫يف كتابه الأول من �أ�صل �سبعة جملدات‬ ‫بعنوان ( �أماكن يف الذاكرة ) يلج�أ الكاتب‬ ‫" بيري نورا " �إىل متجيد وتعظيم الكاتب‬ ‫الكبري ( فيكتور هيجو ) فيقول �أنه �أكرب‬ ‫�صرح �إن�ساين عرفه الفرن�سيون بل قد‬ ‫يكون الكاتب الفرن�سي الذي يحظي ب�أكرب‬ ‫تقدير يف جميع �أنحاء العامل ‪ ،‬فهو الينتمي‬ ‫�إىل الأدب متام ًا وال لل�سيا�سة لوحدها بل‬ ‫يج�سد يف �آن مع ًا الفرد الفريد املنفرد والكل‬ ‫الإن�ساين يف ان معا‪ ،‬مما يف�سر املجد‬ ‫العاملي الذي �أكت�سبه والذي و�ضعه يف ركن‬ ‫خا�ص يف الذاكرة والوعي اجلماعي ‪.‬‬ ‫عندما دخل ( هيجو ) �إىل الأكادميية‬ ‫الفرن�سية يف عام ‪ ، 1841‬وهو �إبن‬ ‫التا�سعة والثالثني ‪ ،‬كان كاتب " هرناين "‬ ‫و " �أحدب نوتردام " قد بد�أ طريق ال�شهرة‬ ‫العاملية ‪� ،‬صحيح ان �شهرته قد بلغت جميع‬ ‫الدوائر الباري�سية ودوائر النخب الريفية‬

‫‪5‬‬

‫يف املقاطعات ‪ ،‬مع �أول ديوان �شعري له‬ ‫بعنوان ( �أنا�شيد ) و�أول �سل�سلة من (‬ ‫�إ�سطورة الع�صور ) بني عامي ‪ 1856‬و‬ ‫‪ ... 1859‬لكن ال�ضربة الأدبية احلا�سمة‬ ‫كانت عام ‪ 1862‬مع روايته ال�شهرية (‬ ‫الب�ؤ�ساء ) التي القت جناح ًا باهر ًا وب�سطت‬ ‫له نفوذ ًا و�شهرة �أدبيتني �شهدت بهما �آنذاك‬

‫كان هذا التحول والتطور يف‬ ‫حياته ال�سيا�سية على مدار‬ ‫ثالثة �أجيال متعاقبة ‪ ،‬حتوال‬ ‫�أجنزه الأديب بنف�سه بف�ضل‬ ‫�إمتداد العمر به وب�سبب‬ ‫�أفكاره البكر التي �سبقت‬ ‫الع�صر يف �آن واحد ‪.‬‬

‫ال�صحافة واملرا�سالت واملذكرات لدرجة‬ ‫�أن �أ�سماء بع�ض �أبطال تلك الرواية مثل‬ ‫( كوزيت ‪ ، Cosette -‬و غافرو�ش ‪-‬‬ ‫‪ ) Gavroche‬غدت �أ�سماء عامة ‪ ،‬وقد‬ ‫مثل ن�شر تلك الرواية ظاهرة مثرية لدرجة‬ ‫�أن الآراء حولها يف الو�سط الأدبي كانت‬ ‫منق�سمة جد ًا ‪� ،‬أ�ضف �إىل ذلك �أن الن�شاط‬ ‫الفكري وال�سيا�سي ل ـ (هيجو) قاد �إىل حب‬ ‫النا�س له وثقتهم بفكره و�أدبه ‪ ...‬حيث بد�أ‬ ‫�سيا�سي ًا كحزبي مييني وانتهى �إىل جانب‬ ‫الي�سار وكان هذا رهان ًا ناجح ًا كما �أثبت‬ ‫ذلك التاريخ ‪.‬‬ ‫وكان هذا التحول والتطور يف حياته‬ ‫ال�سيا�سية على مدار ثالثة �أجيال متعاقبة ‪،‬‬ ‫حتوال �أجنزه الأديب بنف�سه بف�ضل �إمتداد‬ ‫العمر به وب�سبب �أفكاره البكر التي �سبقت‬ ‫الع�صر يف �آن واحد ‪.‬‬ ‫ومن خالل موقعه ك�شهيد للظلم واجلور‬ ‫الطاغي يف ظل الإمرباطورية الثانية ‪،‬‬ ‫كان ( فيكتور هيجو ) بق�صد �أو من غري‬ ‫ق�صد " �صاحب " اخليار الذي كان يروق‬ ‫للفرن�سيني وينال �إعجابهم ‪.‬‬ ‫كانت اخر كلماته وهو على فرا�ش املوت‬ ‫‪ " :‬هذه هي معركة الليل والنهار " ثم ‪" :‬‬ ‫انني ارى نورا ا�سود " … مما يذ ّكر ببيت‬ ‫من اجمل االبيات ال�شعرية التي نظمها ‪:‬‬ ‫( هذه ال�شم�س املخيفة ال�سوداء التي ي�شعّ‬ ‫منها الليل ! ) ‪.‬‬

‫االف������راط ف���ي االب����داع‬ ‫ديدييه �سينيكال‬ ‫ترجمة‪ :‬عدنان حممود‬

‫كتب فيكتور هيجو خالل ثالث وثمانني �سنة هي عمره‬ ‫‪� 153‬ألف ًا و‪ 837‬بيت ًا من ال�شعر‪ ،‬اي مبعدل �ستة ابيات‬ ‫يف اليوم‪ .‬وكل ما مي�س م�ؤلف الب�ؤ�ساء من هذه ال�سوية‪.‬‬ ‫كذلك هناك بحر من االفتتاحيات التي حتتفل بعيد ميالده‪.‬‬ ‫لقد �شبه يف حياته بجبال هيمااليا وباملحيط‪ .‬فمن‬ ‫الطبيعي �إذن ان تتميز الذكرى املئتان مليالده بجبل من‬ ‫املطبوعات املعادة واملقتطفات وااللبومات‪ ،‬و�سيل من �سري‬ ‫حياته ومقاالت ت�صور كلها عبقريته الوجوه‪ .‬امام هذا‬ ‫الكم الهائل يجد املرء نف�سه منق�سم ًا بني االعجاب والدوار‪.‬‬

‫و�س�ؤال خادع‪ ،‬كان يراود معا�صريه‪ ،‬وال يزال يطرح نف�سه‬ ‫يف النهاية‪� :‬أمل يفرط فيكتور بع�ض ال�شيء يف الكتابة؟‬ ‫ومن اجل االحاطة ب�أبعاد �شخ�صيته‪ ،‬البد من ان ن�ستعني‬ ‫مبعاجم االرقام القيا�سية قبل اال�ستعانة باملو�سوعات‬ ‫االدبية‪ .‬فيقول معجم الكويد ‪ Le Quid‬على �سبيل‬ ‫املثال‪ :‬كان هيجو بالن�سبة �إىل وزن االلك�ساندران ما‬ ‫كانته البقرة اجلر�سية بالن�سبة �إىل احلليب‪ .‬لقد كتب ما‬ ‫جمموعه ‪� 153‬ألف ًا و‪ 837‬بيت ًا �شعري ًا‪ ،‬اي ما يقارب �ستة‬ ‫ابيات يف اليوم‪ ،‬بدء ًا من يوم والدته حتى يوم وفاته‪،‬‬ ‫طبع ًا دون ح�ساب ما كتبه نرث ًا او غريه‪.‬‬ ‫ومن ناحيته‪ ،‬ح�سب جان ـ مارك هوفا�س ‪Jean-Marc‬‬ ‫‪ Hovasse‬انه يلزم ع�شرون �سنة مبعدل اربع ع�شرة‬ ‫�ساعة يف اليوم لقراءة الكتب املخ�ص�صة لفيكتور هيجو‬ ‫واملوجودة يف املكتبة الوطنية‪ .‬كم هائل لكنه مل مينعه من‬ ‫ان ي�ضيف �إىل القائمة �سرية جديدة �ضخمة اقل ما يقال‬

‫احدى غرف منزل فيكتور هيجو‬

‫فيها انها �شائقة‪ .‬ثالثة امور فقط تعطي فكرة عما كانته‬ ‫احلياة اليومية لهذا االن�سان الظاهرة‪ :‬يف طفولته‪ ،‬كان‬ ‫يحفظ خم�سة وع�شرين او ثالثني بيت ًا من �شعر فريجل‬ ‫‪ Virgile‬او هورا�س ‪ Horace‬م�سا ًء قبل ان ينام‪،‬‬ ‫ثم يرتجمها �إىل اللغة الفرن�سية عندما ي�ستيقظ يف اليوم‬ ‫التايل‪ .‬ويف �سن ال�ساد�سة والع�شرين ن�شر اعماله الكاملة‬ ‫يف �ستة اجزاء‪.‬‬ ‫ولقد افاد احد ال�شهود بعد ثالث �سنوات انه كان يكتب‬ ‫حتى مائتي بيت من ال�شعر يف اليوم‪ ،‬وانه كان ي�سجل‬ ‫دخله من املال من انتاجه اليومي‪ ،‬وان لديه م�شروع‬ ‫ع�شرين م�سرحية البد ان هذا احلب للعمل قد جذب ماك�س‬ ‫غالو ‪ Max Gallo‬فخ�ص�ص لهيجو كتاب ًا من جزءين‬ ‫بعد كتابيه احلديثني عن ديغول ونابليون‪.‬‬ ‫انه المر عادي جد ًا ان يقوم كاتب بر�سم �شخ�ص او‬ ‫منظر طبيعي على هام�ش خمطوطه‪ ،‬وهيجو‪ ،‬ككثري من‬ ‫امثاله‪ ،‬انقطع �إىل هذه املتع ال�صغرية‪ .‬ولكن معه‪ ،‬كل‬ ‫�شيء يتغري م�ستواه‪ ،‬فـ «خرب�شاته»‪ ،‬كما ي�سميها‪ ،‬تعد‬ ‫بالآالف‪ ،‬وت�شكل احدى اكرث جمموعات الر�سوم متيز ًا‬ ‫يف ع�صره‪� .‬آالن ديكو ‪ Alain Decaux‬وروزلني دو‬ ‫�آياال ‪ Roselyne Ayala‬وجان ـ بيري غينو ‪Jean‬‬ ‫‪ - Pierre Gueno‬يعر�ضون لنا جمموعة خمتارة‬ ‫من اعماله بدء ًا من دفاتره املده�شة عندما كان تلميذ ًا‬ ‫يف االبتدائية وحتى مرافعاته املكتوبة باحلرب البني �ضد‬ ‫عقوبة االعدام‪.‬‬ ‫والكل يعلم ان هذا االفراط يف الطاقة االبداعية مل مينع‬ ‫هيجو االب من ان يهتم بكافة انواع الن�ساء‪ :‬ممثالت‬ ‫وخادمات غوان وفتيات غنيات وعاديات‪ .‬حتى يف‬ ‫هذا املجال‪ ،‬كان قادر ًا على اجلمع بني الكم والكيف‪،‬‬ ‫و�إىل حتويل هوى ج�سدي عابر �إىل ق�صة حب تعمر‬ ‫خم�سني عام ًا‪ ،‬كما ت�شهد بذلك الطبعة اجلديدة املزيدة‬ ‫من مرا�سالته املتبادلة مع جولييت درويه ‪Juliette‬‬ ‫‪ ،Drouet‬فهو كتاب ال ميكن ت�صنيفه بني الكتب‬ ‫الناعمة‪ .‬لي�سوا كثريين اولئك الروميوات ال�سبعينيون‬ ‫القادرون على الكتابة جليولييتهم القدمية‪« :‬لدي يوما‬ ‫والدة‪ ،‬واالثنان يف �شهر فرباير‪ ،‬ولدت للحياة اول مرة‬

‫بني ذراعي امي يف ‪ 28‬فرباير ‪ ،1802‬وولدت مرة ثانية‬ ‫للحب يف ‪ 16‬فرباير ‪ 1833‬بني ذراعيك‪ ،‬الوالدة االوىل‬ ‫وهبتني النور‪ ،‬والثانية وهبتني اللهيب»‪ .‬ا�ضف �إىل ذلك‬ ‫ال�صحفي ورجل ال�سيا�سة واملنفي املحرتف ورب اال�سرة‬ ‫واجلد املثايل وبع�ض ال�صفات االخرى و�ستفهم غيظ‬ ‫زمالئه‪ ،‬من �ستندال ‪� stendhal‬إىل ليون بلوا ‪Leon‬‬ ‫‪ ،Bloy‬وحتى معجبيه املحتم�سني انتهوا �إىل ال�سخرية‬ ‫من ت�صرفاته التي ت�شبه ت�صرفات مغنية م�شهورة ومن‬ ‫و�ضعياته وت�سطيحاته االن�سانوية ومن ولعه امل�ضحك‬ ‫بالطاوالت الدوارة‪ ،‬وباخت�صار‪ :‬من جنون العظمة الذي‬ ‫خل�صه جان كوكتو بالقول‪« :‬ان فيكتور هيجو جمنون»‬ ‫يح�سب نف�سه فيكتور هيجو»‪ .‬واكرث ال�شانئني لهيجو كان‬ ‫بودلري ‪ Baudelaire‬الذي كان يكن له احرتاما حقيقي ًا‬ ‫يف البداية‪ ،‬قبل ان يبالغ‪ ،‬كما يقول يف «حماقة» الرجل‬ ‫العظيم‪« :‬هكذا ميكن للمرء ان يكون عق ًال نري ًا وفظ ًا يف �آن‬ ‫واحد‪ ،‬كما ميكن للمرء ان يكون عبقرية خا�صة وغبيا يف‬ ‫�آن مع ًا‪ ،‬ولقد اثبت لنا فيكتور هيجو ذلك متاما‪.‬‬ ‫الريب ان هناك جانبا من الغرية يف هذه التهجمات‪ ،‬ولكن‬ ‫كيف ال ميكن للمرء �أال ي�ست�سلم للعداوة مقابل �أرعن ع�سكر‬ ‫امام امل�سرح منذ بدايات الرومان�سية حتى اجلزء الثالث‬ ‫ع�شر من جمموعة «روغون ماكار» وكما يف احلاالت‬ ‫ال�صعبة كلها‪ ،‬يجب اللجوء اىل فلوبري لن�ستجلي االمر‪.‬‬ ‫كان فلوبري يعرف هيجو جيدا‪ ،‬وكان ي�شاطر بودلري ر�أيه‬ ‫حول حماقة «العمدة القدمي» ولكن �صرخات �سخطه كانت‬ ‫تنتهي دوما بهذا التحفظ‪ :‬هذا ر�أيي‪ ..‬احتفظ به لنف�سي‪،‬‬ ‫طبعا‪ ،‬ينبغي لكل من يحمل قلم ًا ان ي�شعر نحوه بكثري من‬ ‫االمتنان ناهيك عن ان ي�سمح لنف�سه بانتقاده‪ ،‬ويف عام‬ ‫‪ 1862‬قرر ان ي�ؤجل طبع رواية �ساالمبو اىل ما بعد طبع‬ ‫الب�ؤ�ساء وقال‪ :‬ثمة رجال يجب ان ننحني امامهم ونقول‪:‬‬ ‫«من بعدكم يا�سيدي‪ .‬وفيكتور هيجو من ه�ؤالء» وهذا هو‬ ‫املوقف ال�سائد حتى اليوم‪ .‬اي�ضجرنا م�سرحه حتى املوت؟‬ ‫�أال منلك ال�شجاعة لقراءة ثالثة ارباع اعماله؟ �أال يثري‬ ‫اع�صابنا هو�سه يف ان ي�سحب اللحاف اليه؟ ال تهم هذه‬ ‫الرتهات كلها امام بديهية مفادها‪ :‬ان عدم حمبة فيكتور‬ ‫هيجو �سيكون عبثا كعدم حمبة القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫سيرة هيجو‬

‫فرنسا تعيد استذكار فيكتور هيجو‬

‫جان مارك هوفا�س‪ ،‬م�ؤلف هذا‬ ‫الكتاب‪ ،‬هو احد ا�شهر كتاب‬ ‫�سرية فكتور هيجو ال �سيما و�أنه‬ ‫كان قد اعد اطروحته لنيل‬ ‫�شهادة الدكتوراه على هذا الهرم‬ ‫االدبي الكبري‪ .‬وكان امل�ؤلف‪،‬‬ ‫وهو من مواليد عام ‪ ،1970‬قد قام‬ ‫بالتدري�س يف جامعات بروك�سل‬ ‫ببلجيكا ثم يف مدينتي ليل‬ ‫وباري�س الفرن�سيتني‪.‬‬ ‫تنق�سم �سرية حياة فكتور‬ ‫هيجو اىل فرتتني رئي�سيتني‬ ‫لوي�س نابليون بونابرت رئي�س‬ ‫اجلمهورية الفرن�سية الثانية‪..‬‬ ‫وهذا ينطبق بدوره مع اخلم�سني‬ ‫�سنة االوىل من حياة فكتور‬ ‫هيجو‪ ..‬والتي ميكن و�صفها ب�أنها‬ ‫تخ�ص «م�ساره الر�سمي»‪ ..‬اما‬ ‫الفرتة الثانية فتبد�أ اعتبارا من‬ ‫عام ‪،1851‬‬

‫فيكتور هيجو يف مدر�سة بباري�س‬

‫اي بداية حياة املنفى يف بلجيكا بعد‬ ‫اعالن فكتور هيجو ملواقفه العدائية �ضد‬ ‫النظام امللكي وتعاطفه مع كومونة باري�س‬ ‫واالطروحات اجلمهورية‪ .‬وتغطي هذه‬ ‫الفرتة الثانية �سنوات ‪ 1885-1851‬اي‬ ‫منذ منفاه البلجيكي وحتى وفاته‪ ،‬هاتان‬ ‫الفرتتان قدمهما امل�ؤلف يف ثالثة كتب واحد‬ ‫منها للفرتة االوىل والآخران احدهما لـ «فرتة‬ ‫املنفى» والآخر لـ «ما بعد املنفى»‪.‬‬ ‫ان م�ؤلف هذا الكتاب ـ ال�سرية باجزائه‬ ‫الثالثة يحيط اىل حد كبري بكل جوانب‬ ‫م�سرية فكتور هيجو بكل م�شاربها ووثائقها‬ ‫وحتوالتها وتعرجاتها ونزواتها‪ .‬انه يقدمه‬ ‫ك�شاعر وكروائي وكناقد وكرجل �سيا�سة‬ ‫وكعا�شق‪ ..‬وهو يعود يف هذه االمور كلها‬ ‫ويف غريها اىل م�صدر ا�سا�سي هو اعمال‬ ‫فكتور هيجو ذاته‪ ..‬انه يعود اليها و�سيعيد‬ ‫قراءاتها من جديد‪ ..‬وهناك م�صدر �آخر البد‬ ‫لأي كاتب �سرية اال و�أن يلج�أ له وهو ما‬ ‫كان قد كتبه الذين �سبقوه يف كتابة �سرية‬ ‫نف�س ال�شخ�صية‪ ..‬وم�صدر ثالث يتمثل يف‬ ‫كتابات �أولئك الذين اهتموا بتاريخ فرن�سا‬ ‫خالل القرن التا�سع ع�شر‪ ..‬ال �سيما هيجو‬ ‫يختلطان اىل حد املزج‪.‬‬ ‫وكان فكتور هيجو قد ن�شر يف �آخر ايامه‬ ‫كتابا يحمل عنوان «افعال و�أقوال» ق�سم فيه‬ ‫�سرية حياته اىل فرتتني رئي�سيتني تتناظران‬ ‫مع ما قبل املنفى البلجيكي وما بعده مع‬ ‫قوله بامكانية اعتبار فرتة املنفى (‪ 1851‬ـ‬ ‫‪ )1870‬مبثابة فرتة و�سيطة متمايزة عما‬ ‫قبلها وعما بعدها‪ .‬م�ؤلف هذا الكتاب‪ ،‬كما‬ ‫ا�شرنا تبنى مثل هذا التق�سيم‪ ..‬بل و�أنه يرى‬ ‫ب�أن فرتة املنفى قد �شكلت نوعا من «القطيعة‬ ‫االرادية» من «اختيار املنفى»‪ ..‬وقطيعة اي�ضا‬ ‫يف حياته االدبية اكرث مما هي يف حياته‬ ‫االجتماعية‪.‬‬ ‫وي�شري امل�ؤلف يف مقدمة عمله ب�أنه قد بد�أ‬ ‫االعداد له منذ اكرث من ع�شر �سنوات اي منذ‬

‫ان كان عمره حوايل ع�شرين �سنة فقط ـ وذلك‬ ‫باالهتمام ب�سرية حياة فكتور هيجو ولكن‬ ‫اي�ضا بتاريخية القرن الذي عا�ش فيه‪ .‬ولعله‬ ‫ميكن القول ب�أنه و�سط «ال�سيل» الكبري من‬ ‫الكتب التي �صدرت مبنا�سبة الذكرى املئوية‬ ‫الثانية لوالدة ال�شاعر الكبري ي�شكل هذا‬ ‫العمل احد االكرث �شموال و�أهمية اىل جانب‬ ‫عمل �آخر للكاتب والروائي ماك�س غالو‬ ‫ويف جزءين عن �سرية حياة فكتور هيجو‬ ‫حتت عنوان‪« :‬ان قوة تتقدم» و«�س�أكون هذا‬ ‫الرجل»‪ ..‬واملتكلم يف احلالتني طبعا هو‬ ‫«هيجو»‪.‬‬ ‫وتتمثل امل�شكلة االوىل التي يواجهها كل‬ ‫من يكتب �سرية حياة �شخ�صية ما كان‬ ‫كثريون غريه قد �سبقوه اليها يف الت�أكد من‬ ‫�صحة العديد من املعلومات والتواريخ التي‬ ‫ينق�صها يف الكثري من االحيان االن�سجام‬ ‫هذا اذا مل تكن متناق�ضة �صراحة‪ ..‬وقد‬ ‫ت�صدى م�ؤلف هذا الكتاب للم�شكلة املطروحة‬ ‫بالطرق الكال�سيكية املعروفة‪ .‬وذلك عرب‬ ‫القيام بعملية تق�صي على طريقة املحققني‬ ‫ل�صحة ما جاء يف كتب �سري هيجو االخرى‬ ‫ويف مرا�سالته ال�شخ�صية واي�ضا يف تاريخ‬ ‫احلقبة‪ .‬هذا مع ا�شارة امل�ؤلف اىل ان فكتور‬ ‫هيجو كان يتالعب احيانا بالتواريخ بحيث‬ ‫انها مل تكن دقيقة جدا اثناء ا�ستخدامها يف‬ ‫هذا العمل او ذاك‪..‬‬ ‫ولكن ما كان يعر�ضه او ما يك�شف عنه من‬ ‫حياته ال�ستخدام القارىء مل يكن يق�صد منه‬ ‫خداع الآخر‪ ،‬كما مل يكن يعرب عن نوع من‬ ‫جنون العظمة‪ ،‬ويقدم امل�ؤلف برهانا على‬ ‫ذلك بالقول ب�أنه لو كانت لدى فكتور هيجو‬ ‫ارادة اخفاء بع�ض احلقائق عن �سابق ا�صرار‬ ‫وت�صميم ف�إنه ما كان له مثال ان يرتك على‬ ‫م�سودات بع�ض الق�صائد او الن�صو�ص‬ ‫التي كتبها بتاريخ كتابتها املغاير يف احيان‬ ‫لتواريخ الكتب عند ن�شرها‪.‬‬ ‫وتتمثل احدى امليزات اال�سا�سية لهذا الكتاب‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫‪7‬‬

‫ان م�ؤلفه ال يح�صر نف�سه يف اطار جمرد‬ ‫كاتب �سرية �شخ�ص ولو كان بحجم ومبكانة‬ ‫فكتور هيجو ولكنه يقوم بعمل تاريخي لقرن‬ ‫ب�أكمله هو القرن التا�سع ع�شر الذي عا�شت‬ ‫فيه اوروبا فرتة م�ضطربة من تاريخها‬ ‫ومن النزاعات التي �شكلت يف احد ابعادها‬ ‫مقدمات «بعيدة» حلربني عامليتني الحقتني‬ ‫خالل القرن الع�شرين‪،‬‬ ‫وقد بد�أ ت�أكيد امل�ؤلف على البعد التاريخي‬ ‫عرب حديثه يف احد ف�صول هذا العمل‬ ‫الكثرية عما ا�سماه تاريخ فكتور هيجو بل‬ ‫ويعطي امل�ؤلف لفكتور هيجو �صفة «امل�ؤرخ»‬ ‫باملعنى الذي اعطاه لوي�س الرابع ع�شر لكل‬ ‫من االديبني را�سني وبوالو واذا كان لوي�س‬ ‫الرابع ع�شر قد عرف با�سم امللك ال�شم�س ف�إن‬ ‫فكتور هيجو هو بالن�سبة مل�ؤلف هذا الكتاب‬ ‫امللك ال�شم�س يف ميدان االدب‪.‬‬ ‫ويويل م�ؤلف هذا الكتاب اهمية اي�ضا‬ ‫لق�سمني ا�سا�سيني يف �شخ�صية فكتور هيجو‬ ‫وهما قدرته الكبرية على العمل وحبه املفرط‬ ‫للن�ساء‪ ،‬واذا كانت زوجته اديل فو �شيه‬ ‫هي املر�أة االوىل يف حياته والتي تزوجها‬ ‫وكالهما يف �سن ال�شباب و�أجنبا اربعة‬ ‫اطفال‪ ،‬ف�إن جولييت دوريه‪ ،‬رمبا كانت احلب‬ ‫االكرب يف حياته‪ ،‬ومن احلكايات املثرية يف‬ ‫عالقة فكتور هيجو بالن�ساء هو انه كان قد‬ ‫مت �ضبطه ذات مرة مع احدى ع�شيقاته مما‬ ‫اثار ف�ضيحة كبرية اعتقد الكثريون ب�أنه‬ ‫�سوف لن ينتج اي ادب بعدها فكان رده‬ ‫الب�سيط هو رواية «الب�ؤ�ساء»‪.‬‬ ‫ومن امليزات اال�سا�سية لهذا الكتاب هو انه‬ ‫مكتوب بنف�س الوقت لعامة القراء ولكنه‬ ‫مكتوب اي�ضا لالخ�صائيني‪ ..‬وهذا ما كان‬ ‫هيجو قد عرب عنه نف�سه بالقول «كل �شيء‬ ‫وللجميع» واذا كان م�ؤلف هذا الكتاب يقول‬ ‫بامكانية ايجاد عدة ترجمات لهذه اجلملة‬ ‫ف�إنه ي�صر على فهم واحد �أال وهو «�ضرورة‬ ‫التوجه اىل اجلمهور العري�ض‪ ،‬واىل‬

‫او�سع �شرائح ممكنة» ولكن دون تقدمي اية‬ ‫تنازالت‪.‬‬ ‫وعدم تقدمي اية تنازالت‪ :‬قاعدة مار�سها‬ ‫لكن هيجو يف كتاباته ورف�ضه لأية م�ساومة‬ ‫يف م�ساندته الولئك الذين كانوا قد قاموا‬ ‫بـ «كومونة باري�س» وذلك بعد «�سقوط‬ ‫الكومونة» لقد اعترب فكتور هيجو ب�أن‬ ‫املوقف العادل يقت�ضي مثل تلك امل�ساندة‬ ‫وذلك على ا�سا�س مبد�أ قال به الكاتب‬ ‫الفرن�سي البريكامو الحقا عندما اعلن ب�أنه‬ ‫مع «الق�ضايا اخلا�سرة» وكان يريد ان يقول‬ ‫ب�أنه مع الق�ضايا العادلة التي قد ال ت�صمد‬ ‫امام منطق القوة‪.‬‬ ‫جتدر اال�شارة اىل ان هذا الكتاب يت�ألف من‬ ‫ف�صول ق�صرية ق�صد منها امل�ؤلف �سهولة‬ ‫القراءة‪ ..‬وقد �شكلت االحداث الرئي�سية‬ ‫يف حياة فكتور هيجو نوعا من «املحطات»‬ ‫التي توقف عندها امل�ؤلف‪ ..‬وذلك انطالقا‬ ‫من م�س�ألة ب�سيطة وهي ان االحداث االكرث‬ ‫اهمية يف حياة اي مبدع مهما كان م�شرب‬ ‫ابداعه هي التي ترتك اثارها يف اعماله‪..‬‬ ‫ومن هنا بحث امل�ؤلف عن جدول احلياة‬ ‫ال�شخ�صية لفكتور هيجو مع انتاجه‬ ‫الأدبي املتنوع ويركز يف هذا ال�سياق على‬ ‫فرتتني من حياة بطله وهما فرتتا الطفولة‬ ‫واملراهقة اللتان يجد �آثارهما يف االعمال‬ ‫الكاملة لفكتور هيجو‪.‬‬ ‫وال ين�سى م�ؤلف هذا الكتاب ان ي�ؤكد �سمة‬ ‫اخرى لدى فكتور هيجو اهملها اغلبية‬ ‫اولئك الذين كتبوا �سرية حياته‪ ..‬اال وهي‬ ‫روحه املرحة والتي بدت بو�ضوح خا�صة‬ ‫يف اعماله امل�سرحية هذا باال�ضافة اىل‬ ‫ت�ساحمه لدرجة انه طلب من �صديقه الناقد‬ ‫�سانت بوف ان ال ينقطع عن زيارة منزله‬ ‫على الرغم من بوحه له بحبه لزوجته اديل‬ ‫والتي انتهى اىل خطفها منه والعي�ش معها‬ ‫لعدة �سنوات‪.‬‬ ‫يف املح�صلة ي�شبه م�ؤلف هذا الكتاب حياة‬

‫فكتور هيجو بـ «قارة» فيها من كل اال�صناف‬ ‫واالنواع الفكرية وال�سيا�سية‪ ..‬ويركز‬ ‫امل�ؤلف يف هذا امل�شرب االخري‪ ،‬اي ال�سيا�سة‬ ‫على االلتزام الكبري الذي ابداه فكتور هيجو‬ ‫يف عدة ق�ضايا وعلى ر�أ�سها ن�ضاله امل�ستمر‬ ‫�ضد عقوبة االعدام‪.‬‬ ‫وكما بدت اطروحاته ثورية يف هذا املجال‪،‬‬ ‫ف�إنه قد رافق نه�ضة ال�شعر الرومان�سي‪،‬‬ ‫ولكن الفهم العميق ملا قام به هذا ال�شاعر‬ ‫الكبري والعماله يتطلب‪ ،‬كما يرى م�ؤلف‬ ‫هذا الكتاب التخل�ص من االحكام امل�سبقة‬ ‫والكلي�شيهات املدر�سية وغريها التي جعلته‬ ‫مبثابة �صنم له مريدوه واعدا�ؤه وبهذا‬ ‫املعنى يقول الكاتب والفيل�سوف الفرن�سي‬ ‫فيليب �سولري «امل�شكلة مع هيجو هو انه‬ ‫ينبغي التخل�ص منه من اجل الو�صول اليه‬ ‫والدرا�سة املعمقة التي قام بها م�ؤلف هذا‬ ‫الكتاب اثبتت ب�أنه كان يتميز يف الواقع‬ ‫بالكثري من الغمو�ض‪.‬‬ ‫وعند الغو�ص يف �شخ�صية فكتور هيجو‬ ‫والبحث يف خفايا وحنايا �سريته اخلا�صة‬ ‫واالبداعية يجد امل�ؤلف‪ ،‬ب�أنه قد بلغ �سن‬ ‫ال�شباب عند �سن اخلم�سني من عمره‪ .‬وذلك‬ ‫عندما اخذ طريق املنفى اثر االنقالب الذي‬ ‫قام به نابليون ال�صغري كما كان ي�سميه‪.‬‬ ‫واذا كان جان مارك هوفا�س يقدم هيجو‬ ‫يف خمتلف مواهبه وابداعاته كفنان متعدد‬ ‫االهتمامات وكرجل �سيا�سة‪ ،‬ف�إنه يرى فيه‬ ‫قبل كل �شيء �شاعرا‪ ،‬يرى فيه ال�شاعر الذي‬ ‫قال «ال�شعر هو كل ما هو حميم يف كل‬ ‫�شيء»‪.‬‬ ‫باحلرية ترافق هوجو مع حبه الكبري‬ ‫للطبيعة فكل �صخرة هي حرف وكل بحرية‬ ‫هي جملة وكل قرية هي نربة كما يقول‬ ‫وي�ضيف «مع ذلك ال تتوقف االر�ض عن‬ ‫ال�سري وحيث تدرك االزهار هذه احلركة‬ ‫الهائلة وهناك دائما على �صفحتي �شيء من‬ ‫ظالل الغيوم ومن �سالف البحر وكان هيجو‬ ‫قد و�صف احدى الن�ساء التي احبها وا�سمها‬ ‫ليوين بالقول «انها توقد لدى الناظر لها‬ ‫االح�سا�س بابريل الربيع وبوالدة النهار‬ ‫وكانت غيناها خم�ضلتني بالندى‪ .‬كانت‬ ‫ك�ضوء الفجر تكثف ب�شكل امر�أة»‪.‬‬ ‫وفكتور هيجو يف العمل االكرث اكتماال‬ ‫حتى الآن عن �صاحب «الب�ؤ�ساء» عمل �ضخم‬ ‫ودقيق وموجه للجميع‪ ،‬عرب «ثالث حركات»‬ ‫قبل املنفى و�أثناء املنفى وبعد املنفى‪.‬‬

‫اهم اعمال هيجو‬ ‫ـ هرينا يف (م�سرحية) ‪.1830‬‬ ‫ـ �أوراق اخلريف (�شعر) ‪.1831‬‬ ‫ـ �أغاين الغ�سق (�شعر) ‪.1835‬‬ ‫ـ اال�صوات الداخلية (�شعر) ‪.1837‬‬ ‫ـ ا�شعة وظالل (�شعر) ‪.1840‬‬ ‫ـ �سيدة باري�س (رواية) ‪.1831‬‬ ‫ـ ا�شكال العقاب (درا�سة �ساخرة‬ ‫�ضد نابليون الثالث) ‪.1853‬‬ ‫ـ الت�أمالت (�شعر) ‪.1856‬‬ ‫ـ الب�ؤ�ساء (رواية) ‪.1862‬‬ ‫ـ عمال البحر (رواية) ‪.1866‬‬ ‫ـ ال�سنة الرهيبة (�شعر) ‪.1872‬‬ ‫ـ رياح الروح االربعة (�شعر)‬ ‫‪.1881‬‬ ‫ـ نهاية ال�شيطان (�شعر) ‪1886‬‬ ‫«بعد وفاة هيجو عام ‪.»1885‬‬

‫يف كتابه ال�شهري (تاريخ الرومان�سية) يروي الكاتب‬ ‫الفرن�سي تيوفيل غوتييه‪ ،‬الكثري من الأمور التي‬ ‫واكبت منذ بداية الربع الثاين من القرن التا�سع‬ ‫ع�شر ن�شوء احلركة الرومان�سية يف فرن�سا‪ ،‬وهو‬ ‫يروي بخا�صة لقاءه مع فيكتور هيجو وح�ضوره‬ ‫العر�ض الأفتتاحي الأول مل�سرحية (هرناين)‬ ‫التي قدمت يف باري�س �أواخر �شهر �شباط ‪1830‬‬ ‫مثرية زوبعة عنيفة من ال�صدمات والأحتجاجات‬ ‫بني نوعني من الرومانطيقيني‪:‬القوم الذين كانوا‬ ‫ي�ضعون لتلك احلركة قواعد و�ضوابط قا�سية‬ ‫حتولها اىل «�سجن فكري «واجلدد الذين كانوا يرون‬ ‫ان الرومان�سية �صنو للحرية‬

‫ترجمة‪:‬عدوية الهاليل‬ ‫وبالتايل الميكن تقييدها وغوتييه ال�شاب‬ ‫�آنذاك و�صديق فيكتور هيجو ال�صدوق‪ ،‬كان‬ ‫م��ن النمط ال��ث��اين وم��ن هنا ي��روي لنا كيف‬ ‫خا�ض املعركة بعنف ب��ل كيف ان��ه م��ن اجل‬ ‫ذلك العر�ض الأول ارتدى قفازا �أحمر �سرعان‬ ‫ما�صار رمزا للحركة كلها‪.‬‬ ‫�أما م�سرحية (هرناين)التي �أ�شعلت كل ذلك‬ ‫ال�سجال وكل تلك احلما�سة فهي واح��دة من‬ ‫�أ���ش��ه��ر �أع��م��ال هيجو حتى ول��و مل تكن من‬ ‫�أقواها ويروي لنا تاريخ هذا الكتاب انه �أجنز‬ ‫كتابتها خالل �شهر واحد اذكانت م�سرحية له‬ ‫عنوانها (ماريوم ديلورن) منعت من الرقابة‬ ‫ب��ع��د �أن دجم����ت يف ع���رو����ض (الكوميديا‬ ‫الفرن�سية) ف�أ�ضطر هيجو اىل كتابة هرناين‬ ‫فعر�ضت مع العلم ان رقابات عدة �ستمنعها‬ ‫بعد ذلك وخا�صة يف ايطاليا‪...‬‬ ‫(ه���رن���اين)اذن عمل كتبه هيجو على عجل‬ ‫لكن ه��ذا العمل عا�ش طويال وع��رف طريقه‬ ‫اىل ال�����ش��ه��رة لي�س بف�ضل ق���وة ال��ك��ت��اب��ة �أو‬ ‫ر���س��م ال�شخ�صيات و�سيكولوجيتها اذ يف‬ ‫هذا الأط��ار يبدو العمل �ضعيفا ولكن بف�ضل‬ ‫قدرات هيجو على ت�صوير املواقف والعالقة‬ ‫بني ال�شخ�صيات ثم بخا�صة –بف�ضل قدرته‬ ‫ع��ل��ى و���ض��ع ح����وارات ���ش��اع��ري��ة رائ��ع��ة على‬ ‫�سبيل امل��ث��ال‪ ،‬تلك ال��ت��ي ت���دور ب�ين هرناين‬ ‫وحبيبته �سونيا دول والتي ميكن اعتبارها‬ ‫مرجعا �أ�سا�سيا يف قوة الع�شق لقوة تعبريها‬ ‫و�شفافيتها‪..‬‬ ‫ه���رن���اين يف ه����ذه امل�����س��رح��ي��ة ه���و خ���ارج‬ ‫ع��ن ال��ق��ان��ون ث��ائ��ر جمع لنف�سه ع�صابة يف‬ ‫ا�سبانيا ب��داي��ة ال��ق��رن ال�ساد�س ع�شر لكنه‬ ‫يف ال��وق��ت نف�سه منا�ضل �سيا�سي يريد �أن‬ ‫يحارب ال�سلطات‪..‬وال�سلطة يف ذلك الوقت‬ ‫كانت لل�شاب دون كارلو�س (ال��ذي �سي�صبح‬ ‫خالل �أح��داث امل�سرحية ام�براط��ورا منتخبا‬ ‫حتت ا�سم �شارلكان) وال��ذي كان يجمع بني‬ ‫امللك والثائر يف ذلك احلني هو هيامهما معا‬ ‫باحل�سناء دونيا �سول وهذه احل�سناء كانت‬ ‫مغرمة بهرناين وحده حتى وان كان الدون‬ ‫روي غوميز ق��رر �أن يتخذها لنف�سه زوجة‬ ‫وهذا كله نعرفه يف بداية امل�سرحية‪ ،‬ذلك ان‬ ‫كل الأح��داث التي ت�شهدها ف�صول امل�سرحية‬ ‫اخلم�سة امن��ا ه��ي م��ط��اردات وك��ر وف��ر بني‬ ‫الثالثة املغرمني بدونيا ���س��ول مب��ا يف ذلك‬ ‫م��ن م���ؤام��رات وم��ن��اورات وحتالفات تربط‬ ‫هنا لتفك ه��ن��اك‪� ،‬أم���ا التحالف الرئي�س يف‬ ‫�سياق امل�سرحية ف���أمن��ا ه��و ذاك ال��ذي يعقد‬ ‫ب�ين ه��رن��اين وب�ي�ن روي غ��وم��ي��ز ���ض��د امللك‬ ‫اذ يك�شف الأول للثاين ع��ن هيام ه��ذا امللك‬

‫ب��دون��ي��ا ���س��ول وح�ين يكت�شف امل��ل��ك خاطب‬ ‫دون��ي��ا العجوز ف��ج���أة تواجدها م��ع هرناين‬ ‫يف حديقة ق�صره الذي نقلها اليه ي�سلمه اىل‬ ‫روي غوميز لكنه يرف�ض معاقبته وينقذه‬ ‫رغ��م معرفته ب���أن��ه غ��رمي��ه يف حبه ل�سونيا‬ ‫ثم يت�آمر الأث��ن��ان على اغتيال امللك ويتمكن‬ ‫دون كارلو�س من اكت�شاف امل�ؤامرة لكنه يف‬ ‫الوقت ال��ذي يهم فيه مبعاقبتهم ي�صله خرب‬ ‫انتخابه امرباطورا‪ ،‬وهكذا يح�س يف حلظة‬ ‫انه البد �أن ي�سمو على تلك الرتهات ال�شبابية‬ ‫فيعفو عن املت�آمرين و�أولهم هرناين بل يرد‬ ‫ل��ه �أم�ل�اك ج���دوده و�أب��ي��ه ا�ضافة اىل ان��ه يف‬ ‫حلظة �سخاء امرباطورية مده�شة مينحه حق‬ ‫ال��زواج من دونيا �سول وهكذا تبدو احلياة‬ ‫رائعة ويجتمع هرناين بحبيبته ولكن يف‬ ‫تلك اللحظة بالذات يحدث ماكانوا جميعا قد‬ ‫ن�سوه حني ينفخ غوميز يف البوق الذي وهبه‬ ‫لهرناين لدى حماولتهما اغتيال امللك والذي‬ ‫يجربه على قتل نف�سه كما كان قد وعده ولأن‬ ‫هرناين فار�س و�شهم والميكن له �أن ينكث‬ ‫بوعد �أو عهد‪ ،‬ولأن امل�سرحية الرومان�سية‬

‫كلها تبجل قواعد الفرو�سية وال�شرف ولأن‬ ‫امل���وت ب�شرف ل��دى الرومان�سيني خ�ير من‬ ‫حياة ال��ذل‪ ،‬الي�تردد هرناين عن جترع ال�سم‬ ‫واذ ت�شاهد دونيا �سول مايحدث �أمامها ت�شرب‬ ‫بدورها جرعة من ال�سم لكي تلحق حبيبها اىل‬ ‫امللكوت الأعلى �أما روي غوميز فبعد �أن يرى‬ ‫نتائج ماعملته يداه ي�سارع اىل تناول ال�سم‬ ‫�أي�ضا فيموت‪...‬‬ ‫م��ن ال��وا���ض��ح ان ف��ي��ك��ت��ور هيجو ج��ع��ل من‬ ‫م�����س��رح��ي��ت��ه ه�����ذه ف���احت���ة لأن��������دالع حركة‬ ‫رومان�سية حقيقية يف امل�����س��رح الفرن�سي‬ ‫ويف ذل��ك الزمن كانت يف ذهنه وه��و يكتب‬ ‫م�سرحيته �أعمال كبرية مثل (ال�سيد) لكورناي‬ ‫و(ال��ل�����ص��و���ص) ل�شيلر ب��ل ان يف هرناين‬ ‫حل��ظ��ات جتمع ه��ات�ين امل�سرحيتني بالذات‬ ‫وم��ن هنا الأق��ب��ال اجل��م��اه�يري الكبري على‬ ‫ذل��ك العمل يف مقابل مهاجمة النخبة له يف‬ ‫ليلة عر�ضه الأوىل وهيجو و�ضع م�سرحيته‬ ‫�ضمن اط��ار حترك �سيا�سي وا�ضح اذ �صرح‬ ‫ع�شية عر�ضها بان على الدراما �أن تلهم النا�س‬ ‫واملتفرجني بخا�صة �أ�ساليب تفهمهم ملعاين‬

‫احلرية ال�سيا�سية وم��ن هنا مل يفت هيجو‬ ‫�أن يقول عن هرناين كما عن ماريون ديلورم‬ ‫انهما عمالن �سيا�سيان جزئيا كما انهما عمالن‬ ‫�أدبيان جزئيا‪،‬وعلى هذا النحو تعهد هيجو‬ ‫ان يزيد من وحدة ال�سجال حول م�سرحيته‬ ‫هرناين اىل درجة انه �صار يف تاريخ احلياة‬ ‫ال�سيا�سية –الثقافية الفرن�سية ق�ضية ت�سمى‬ ‫«ق�ضية هرناين «هيمنت �أخبارها وتفا�صيلها‬ ‫على تلك احلياة طوال عقود من ال�سنني اىل‬ ‫درجة انه حني حتدث عنها غوتييه يف كتابه‬ ‫املذكور وال�صادر يف العام ‪� ،1974‬أي بعد‬ ‫ح��وايل ن�صف ق��رن‪ ،‬ب��دا للقراء انها معركة‬ ‫جرت �أم�س فقط‪!..‬‬ ‫حتى ال��ي��وم‪ ،‬وعلى الرغم من �ضعفها الذي‬ ‫�أ�شرنا اليه التزال (هرناين) تعترب من �أ�شهر‬ ‫م�سرحيات فيكتور هيجو (‪)1885-1802‬‬ ‫اىل جانب �أع��م��ال مثل (روي ب�لا���س) و(لو‬ ‫كري�شيا بورجيا) و(امللك يلهو) وحتى اذا كان‬ ‫فيكتور هيجو مل ي�شتهر ككاتب م�سرحي كبري‬ ‫بقدر �شهرته كروائي مميزمن خالل (الب�ؤ�ساء)‬ ‫مثال �أو ك�شاعر وكاتب �سيا�سي وناقد �أدبي‬

‫وم�ؤرخ ف�أنه عرف كيف يكتب بني العام ‪1812‬‬ ‫والعام ‪ 1882‬عددا كبريا من امل�سرحيات التي‬ ‫ت�ضعه بني �أخ�صب كتاب ع�صره‪..‬بل انه وقع‬ ‫م�سرحيات عدة اختفت ومل تقدم خالل حياته‬ ‫ليعاد اكت�شافها خالل الن�صف الأول من القرن‬ ‫الع�شرين‪ ،‬وتقدم للمرة الأوىل على العديد‬ ‫من اخل�شبات امل�سرحية الفرن�سية ومن هذه‬ ‫امل�سرحيات (التدخل) و(عند تخوم الغابة)‬ ‫و(ا���س��ك��ا) ا���ض��اف��ة اىل م�����س��رح��ي��ات �أخ���رى‬ ‫اكت�شفت وبع�ضها مل ميثل ابدا حتى الآن‪...‬‬ ‫مايعني ان فيكتور هيجو ينبغي اعتباره‬ ‫كاتبا م�سرحيا يف ح��اج��ة اىل �أن يكت�شف‬ ‫واىل �أن يعاد اكت�شافه من جديد يف كل ع�صر‬ ‫وتبعا ملزاجية كل زمن‪....‬وهو مادفع الكاتب‬ ‫الفرن�سي ال�شاب مي�شيل دانيال اىل ت�أليف‬ ‫كتاب جديد �صدر م�ؤخرا عن دار البان مي�شيل‬ ‫الفرن�سية للن�شر متناوال فيه م�سرحية هرناين‬ ‫ب�صفتها معركة افتتحت ع�صر الرومان�سية‬ ‫وم�ستندا قبل ك��ل ���ش��يء اىل ك��ت��اب غوتييه‬ ‫ال�شهري (تاريخ الرومان�سية)‪....‬‬ ‫عن اللوموند‬

‫ت�شييع هيجو‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪8‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫البؤساء‪..‬‬

‫ملحمة فيكتور هيجو اخلالدة‬

‫لقد �أنهيت الب�ؤ�ساء وتنف�ست ال�صعداء! ‪..‬‬ ‫دانتي و�صف اجلحيم الأخروي ‪..‬‬ ‫و�أنا و�صفت اجلحيم الأر�ضي!‬ ‫بهذه العبارات املخت�صرة‪ ,‬عرب هيجو عن فرحته بعد �أن انتهى من‬ ‫كتابة روايته ال�شهرية يف املنفى‪ .‬ملحمة الب�ؤ�ساء‪ .‬هنا علينا ان‬ ‫نت�ساءل‪� :‬أي قلب كبري‪ ,‬وا�سع الأمل‪ ,‬عظيم اجللد‪ ,‬بعيد الطموح‪,‬‬ ‫متحم�س ًا ال يعرف الك�سل‪ ,‬قادر‬ ‫الهمة‪ ,‬جادّ اً ال يعرف الهزل‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫نا�شط ّ‬ ‫على �أن يكتب هذه امللحمة املليئة بالب�ؤ�س‪ ,‬بالإميان‪ ,‬بال�صراعات‬ ‫النف�سية‪ ,‬باحلياة‪ ,‬والتاريخ؟‪.‬‬ ‫لرنجع قلي ً‬ ‫ال �إىل الوراء‪� ,‬إىل وقت �صدور الرواية‪ ,‬لنعرف حق‬ ‫املعرفة حجم التناق�ض الهائل بني اجلمهور والنقاد يف تلك‬ ‫الفرتة‪ .‬ما �إن ظهرت الرواية يف ال�سوق حتى َّ‬ ‫تلقفها النا�س من كل‬ ‫حدب و�صوب‪,‬‬

‫�أما �شارل بودلري فقد �أ�شاد بها وكتب‬ ‫عنها مقالة كاملة يف ال�صحافة‪ .‬وكان‬ ‫مما جاء فيها‪� :‬إنها رواية مبن ّية على‬ ‫هيئة ق�صيدة‪� ،‬إنها ملحمة حقيقية‪.‬‬ ‫وكل �شخ�صية من �شخ�صياتها ال ت�شكل‬ ‫ا�ستثناء �إال �ضمن مقيا�س �أنها تعرب‬ ‫عن فكرة عامة‪� ,‬إنها كتاب يف الإح�سان‬ ‫وال�شفقة على النا�س ال�ضعفاء‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫واجهة مبنى يزينه غالف رواية الب�ؤ�ساء‬

‫ومل ي�شهد كتاب �آخر يف القرن التا�سع ع�شر‬ ‫جناح ًا يف املكتبات مثلما �شهدت رواية‬ ‫الب�ؤ�ساء‪ .‬ولكن �إذا كان اجلمهور العام قد‬ ‫ا�ستقبلها بكل ترحاب ف�إن موقف النقاد‬ ‫والروائيني كان خمتلف ًا‪.‬‬ ‫�أحد النقاد الفرن�سيني امل�شهوريني يف ذلك‬ ‫الوقت‪� ,‬سانت بني‪ ,‬ع َّلق على �صدور الرواية‬ ‫قائ ًال‪ :‬لقد اكت�سحت هذه الرواية ال�سوق‪ ,‬ال‬ ‫ريب يف �أن ذوق اجلمهور مري�ض‪� ,‬إن جناح‬ ‫هذه الرواية ال يكاد ي�صدق‪ ,‬وهناك جناحات‬ ‫وبائية تتم عن طريق العدوى بدون �شك‪.‬‬ ‫�أما الأخوان غونكور فقد دونا يف‬ ‫مذكراتهما‪ :‬يا لها من خيبة كربى بالن�سبة‬ ‫لنا هذه الرواية‪ ,‬نقول ذلك ونحن ن�ضع‬ ‫جانب ًا النزعة الأخالقية �أو الوعظية التي‬ ‫ت�شتمل عليها‪ ,‬ففي ر�أينا �أنه ال عالقة بني‬ ‫الفن والأخالق‪ ,‬ووجهة النظر الإن�سانية‬ ‫املوجودة يف رواية فيكتور هيجو ال تهمنا‪.‬‬ ‫امل�ؤرخ ال�شهري مي�شليه‪� ,‬أ�شهر من كتب‬ ‫عن الثورة الفرن�سية عرب عن ر�أيه ب�شكل‬ ‫متطرف‪ ,‬فبعد �أن اطلع على الرواية قال‪:‬‬ ‫�أُ�صبت مب�صيبتني كبريتني هذا العام‪ :‬وفاة‬ ‫ابني وظهور رواية فيكتور هيجو‪.‬‬ ‫�أما �شارل بودلري فقد �أ�شاد بها وكتب عنها‬ ‫مقالة كاملة يف ال�صحافة‪ .‬وكان مما جاء‬ ‫فيها‪� :‬إنها رواية مبنيّة على هيئة ق�صيدة‪،‬‬ ‫�إنها ملحمة حقيقية‪ .‬وكل �شخ�صية من‬ ‫�شخ�صياتها ال ت�شكل ا�ستثناء �إال �ضمن‬ ‫مقيا�س �أنها تعرب عن فكرة عامة‪� ,‬إنها كتاب‬ ‫يف الإح�سان وال�شفقة على النا�س ال�ضعفاء‪.‬‬ ‫�إنها نداء خارج من الأعماق من �أجل �أال‬ ‫ين�سى املجتمع عاطفة الت�ضامن والإخاء‪.‬‬ ‫ولكن الغريب هو �أن بودلري راح يهجو‬ ‫الرواية يف ر�سالة �شخ�صية كتبها �إىل �أمه‬

‫وقال فيها‪� :‬أعتقد �أنكِ تلقيت الرواية‪� .‬إنها‬ ‫تافهة بكل معنى الكلمة‪ .‬ولكني مدحتها يف‬ ‫ال�صحافة و�أثبت ب�أين قادر على الكذب‪ ..‬وقد‬ ‫كتب يل فيكتور هيغو ر�سالة �سخيفة لكي‬ ‫ي�شكرين على مقالتي‪ .‬وهذا دليل على �أن‬ ‫الإن�سان ب�إمكانه �أن يكون غبي ًا �أحيان ًا‪.‬‬ ‫�أما الناقد املحافظ باربي دورفيلي فقد �أدان‬ ‫الرواية وكل توجهات فيكتور هيجو لأنه‬ ‫يريد قلب املجتمع القدمي وكل القيم التي‬ ‫انبني عليها‪ .‬وكان مما قاله‪ :‬عندما �سنتعب‬ ‫من النقد والتجريح والت�شكيك بقيمنا وديننا‬ ‫و�أ�صالتنا ف�إننا �سنعود حتما �إىل ال�سلطة‬ ‫احلقيقية للملوك‪� ,‬أي ال�سلطة الدينية الإلهية‬ ‫املع�صومة‪ ,‬و�سوف نتخلى عن املادية‬ ‫احليوانية ونعود �إىل املذهب الكاثوليكي‪.‬‬ ‫�إن فيكتور هيجو كتب �أخطر كتاب يف هذا‬ ‫الع�صر والأكرث �ضرر ًا‪ .‬فهو ي�ضرب على‬ ‫وتر العواطف اجلريحة لكي يهدم قواعد‬ ‫املجتمع وم�ؤ�س�ساته الواحدة بعد الأخرى‪,‬‬ ‫وكل ذلك يتم عن طريق ا�ستغالل دموع‬ ‫الفقراء‪ ,‬فالكاتب �إذ �أعطى احلق للمجرم �ضد‬ ‫ال�شرطي‪ ،‬و�إذ قدم �صورة جميلة عن الل�ص‬ ‫�أثبت �أنه �شخ�ص غري م�س�ؤول‪ .‬ملاذا يقطع‬ ‫امل�ؤلف �أحداث الرواية وينخرط يف تعليقات‬ ‫�شخ�صية ومواعظ �أخالقية ال نهاية لها؟‬ ‫وبعدئذ عندما يعود �إىل احلكاية ال جنده‬ ‫يربط الالحق بال�سابق‪ .‬وهذه طريقة رديئة‬ ‫يف الكتابة الروائية‪ ,‬انها رواية مفككة‪.‬‬ ‫�أما المارتني‪ ،‬ال�صديق املقرب‪ ،‬فقد خ َّيب �آمال‬ ‫فيكتور هيجو‪ .‬فقد ا�ستقبل الرواية بربود‪،‬‬ ‫بل وبعدائية لأنها تهاجم املجتمع وت�ؤ ِّلب‬ ‫عليه الفقراء! ورد عليه هيجو وعلى غريه‬ ‫من النقاد الذين هاجموا الرواية قائ ًال ‪ :‬ب�أن‬ ‫املجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذا الفقر‬ ‫ُهاجم و ُي ْنت َقد‪.‬‬ ‫املدقع يف �أح�ضانه ينبغي �أن ي َ‬ ‫ثم هاجم رجال الدين و�سادة املجتمع الذين‬ ‫يعتربون �شيئ ًا طبيعي ًا وجود كل هذا الفقر‬ ‫والب�ؤ�س‪ .‬وقال ب�أين �أحلم مبجتمع �آخر‬ ‫يكون فيه كل فرد مالك ًا لبيته‪ .‬وقد تقول يل‪:‬‬ ‫ولكن الهدف بعيد‪ .‬و�أجيبك نعم‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫ال ينبغي �أن مينعنا من ال�سري نحوه‪ ..‬و�أنا‬ ‫�أقول لك ما يلي‪ :‬نعم �إين �أكره العبودية‬ ‫والفقر واجلهل واملر�ض‪ .‬و�أريد تخلي�ص‬ ‫املجتمع من كل ذلك‪� .‬أريد �إ�ضاءة الليل‪،‬‬ ‫و�أحقد على احلقد‪ .‬ولهذا ال�سبب كتبت‬ ‫“الب�ؤ�ساء”‪ .‬فهذه الرواية ال هدف لها �إال‬ ‫ت�أ�سي�س الت�ضامن والإخاء كقاعدة عامة‬ ‫وكذلك ت�أ�سي�س التقدم الب�شري كذروة عليا‬ ‫نحلم بالو�صول �إليها يوم ًا ما‬ ‫الب�ؤ�ساء هي يف املحل الأول رواية‬ ‫�إجتماعية ق�صد بها هيجو �إىل التنبيه على‬ ‫املظامل التي يرزح حتتها املعذبون يف‬ ‫الأر�ض با�سم النظام حينا‪ ,‬وبا�سم العدالة‪,‬‬ ‫واالخالق‪ ,‬و ال�شعب دائم ًا‪ .‬ورواية تاريخية‬ ‫�أرادها �صاحبها معر�ض ًا لأفكاره الدميقراطية‬ ‫ونزعاته التحررية‪ ,‬فزينها على ح�ساب‬ ‫الفن الق�ص�صي �أحيان�أً بلوحات ج�سد فيها‬ ‫تاريخ فرن�سا يف حقبة من �أخطر احلقب‬ ‫ال يف حياة ذلك البلد فح�سب‪ ,‬بل يف حياة‬ ‫�أوروبا كلها‪ .‬وهي �إىل هذا و ذاك قاروة‬ ‫عطر‪ ,‬ووعاء فل�سفة‪ ,‬و ملحمة ن�ضال‪,‬‬ ‫�إنها بكلمة ن�شيد احلرية‪ ,‬و�إجنيل العدالة‬ ‫الإجتماعية‪ ,‬و�سيمفونية التقدم الب�شري‪,‬‬ ‫عرب العرق و الدم و الدمع‪ ,‬نحو الغاية التي‬ ‫عمل من �أجلها امل�صلحون يف جميع الع�صور‬ ‫‪ :‬حتقيق �إن�سانية الإن�سان و�إقامة املجتمع‬ ‫الأمثل‪ ,‬ولعل �أروع �صفحاتها تلك التي �صور‬ ‫فيها �شخ�صية الأ�سقف مريييل‪ ,‬و�آالم فانتني‪,‬‬ ‫وفرار جان فاجلان‪ ,‬و معركة واترلو‪ ,‬وثورة‬ ‫عام ‪1832‬م‪ ,‬بل لعل �أروع ما فيها قلب هيجو‬ ‫الكبري الناب�ض من وراء كل كلمة من كلماتها‪,‬‬ ‫وكل فكرة من �أفكارها‪ ,‬و�شاعريتها العارمة‬ ‫اخلرية التي تتخطى احلدود‪ ,‬وال تعرف‬ ‫هدف ًا غري املحبة و العدل‪ ,‬واخلري العام!‬ ‫يف الب�ؤ�ساء كتب هيجو عن �شخ�صيات‬

‫الرواية املتعددة الأطراف ب�أروع ما يكون‬ ‫الو�صف الفني‪ .‬متيزت ب�ؤ�ساء هيجو‬ ‫بت�صوير فني مبهر لل�شخ�صيات‪ .‬من‬ ‫بداية الرواية نبد�أ بالتعرف �إىل �شخ�صية‬ ‫ي�صورها هيجو مثا ًال لرجل الدين الطيب‪,‬‬ ‫للأ�سقف الطيب‪ ,‬الأ�سقف املثايل املطلق‬ ‫اجلمال‪ .‬كان يجهد يف �سبيل الرحمة‪ .‬كان‬ ‫ال�شقاء ال�شامل هو منجمه الأ�صيل‪� ,‬أحبوا‬ ‫بع�ضكم بع�ض ًا‪ ,‬اعترب ذلك هو عنوان الكمال‪,‬‬ ‫كانت هذه الكلمات ت�ؤلف عقيدته ب�أكملها‪.‬‬ ‫هذا الأ�سقف هو مون�سينيور بيينفيو‪,‬‬ ‫�أو م�سيو مريييل الذي يحول كل الأموال‬ ‫الناجته من عمله كراعي لدير م�سيحي �إىل‬ ‫�أعمال اخلري‪ ,‬والذي يجرب مدير امل�ست�شفى‬ ‫�أن يهبه هذا امل�ست�شفى ال�صغري الذي ال‬ ‫يت�سع لأحد من املر�ضى ويجربه على �إقامة‬ ‫املر�ضى يف ق�صر الأ�سقف الكبري‪ ,‬والذي‬ ‫يتجول يف �أنحاء منطقته للوعظ والإر�شاد‬ ‫و ال�صدقة‪ .‬هذه ال�شخ�صية هي التي حولت‬ ‫�أو كانت النقطة الأ�سا�سية يف ا�سرتداد جان‬ ‫فاجلان بطل الرواية �إميانه بالله و باخلري‬ ‫والعدالة الإلهية بعد �أن كفر بكل �شيء يف‬ ‫�سجنه‪ .‬كانت مل�سيو مرينييل �أقوال ي�صدح‬ ‫بها مواعظه مع الكبار‪ ,‬والأثرياء و الفقراء ‪:‬‬ ‫” �إن للإن�سان ج�سد ًا هو عبء عليه و�أداة‬ ‫�إغواء له يف �آن مع ًا‪ .‬يجب على الإن�سان‬ ‫�أن يراقب ذلك اجل�سد كما يقول‪ ,‬ويكبح‬ ‫جماحه و يكبته‪ ,‬وال يطيعه �إال يف �أق�صى‬ ‫حاالت ال�ضنك وال�شدة‪� .‬إن كون املرء‬ ‫قدي�س ًا هو ال�شذوذ‪ ,‬و�إن كونه م�ستقيم ًا هو‬ ‫القاعدة‪ ”.‬كان يذهب ليقابل الثوري و امللكي‬ ‫و الربجوازي يف �أعايل اجلبال و يقول‬ ‫هم على وجهك‪ ,‬وتردد وا�أثم‪ ,‬ولكن‬ ‫لهم‪ِ :‬‬ ‫كن م�ستقيم ًا‪� .‬إن اقرتاف �أقل قدر ممكن من‬ ‫الآثام هو القانون الب�شري‪� .‬أما احلياة من‬ ‫غري اثم فحلم ملك من املالئكة‪ .‬وكل ما هو‬ ‫�أر�ضي عر�ضة للإثم ‪.‬‬ ‫يف �أحد ف�صول الق�سم الأول من الكتاب‪,‬‬ ‫واخلا�ص مب�سيو مريييل‪ ,‬دار احلديث حول‬ ‫�شح�ص حمكوم بالإعدام‪ .‬م�سيو مريييل‬ ‫قام بعملية وعظ هذا الرجل جمرب ًا ب�سبب‬ ‫مر�ض واعظ ال�سجن‪ ,‬هذه احلادثة �أراد لها‬ ‫م�ؤلفها فيكتور هيجو �أن يجعلها منارة �ضد‬ ‫حكم الإعدام ب�شكل عام‪ ,‬وباملق�صلة ب�شكل‬ ‫خا�ص‪ ,‬تلك الآلة التي كانت جتز الر�ؤو�س‬ ‫يف عهد الإرهاب الثوري الفرن�سي �أو عهد‬ ‫روبي�سبري ب�شكل �أ�صح‪ ,‬وحزت ر�ؤو�س‬ ‫�شخ�صيات معروفة وغري معروفة من لوي�س‬ ‫ال�ساد�س ع�شر وماري انطوانيت �إىل البقية‬ ‫الباقية من راف�ضي عهد ما ي�سمى بعهد‬ ‫الإرهاب‪ .‬كان هيجو يدعو ب�صراحة �إىل ترك‬ ‫هذا احلكم لله‪ ,‬النف�س هي من �صنع الله وال‬ ‫يحق لأحد �أن ي�أمر ب�إخراجها من اجل�سد‬ ‫�إال ب�أمر الله‪ .‬هذا املوقف �أحدث �صدمة‬ ‫عنيفة للأ�سقف نظر ًا لرف�ضه ال�صريح حلكم‬ ‫الإعدام‪ .‬حديث فيكتور هيجو عن املق�صلة‬ ‫يف هذا الف�صل بارعا و جميل جد ًا‪� ,‬إذ ال‬ ‫داعي لذكر عدد القتلى الذين قتلوا بدون‬ ‫وجه حق يف تلك العهود الغابرة‪ ,‬يكفي �أن‬ ‫ت�سمعه يقول عن تلك املق�صلة‪:‬‬ ‫” قد ال نبايل بعقوبة املوت كثري ًا �أو‬ ‫قلي ًال‪ ,‬وقد ال نعلن ر�أينا قائلني نعم �أو ال‪,‬‬ ‫مادمنا ال ن�شهد مق�صلة ما ب�أعيننا‪ .‬ولكن‬ ‫ما �إن نرى �إىل واحدة حتى تع�صف بنا‬ ‫�صدمة هي من العنف بحيث حتملنا على‬ ‫�أن نقرر ونتخذ موقف ًا �إما مع تلك العقوبة‬ ‫�أو �ضدها‪� .‬إن املق�صلة هي تخرث القانون‪,‬‬ ‫وهي تدعى املنتقمة‪� .‬إنها غري حيادية‪ ,‬وال‬ ‫ت�سمح لك ب�أن تظل حيادي ًا‪ .‬وكل امرئ يراها‬ ‫يُزلزل بارجتافات لي�س �أعجب منها وال �أ�شد‬ ‫غمو�ض ًا‪� .‬إن جميع الق�ضايا الإجتماعية‬ ‫لتطرح عالمات ا�ستفهامها حول تلك الف�أ�س‪.‬‬ ‫امل�شنقة خيال‪ ,‬امل�شنقة لي�ست جمرد هيكل‬ ‫منجور‪ ,‬امل�شنقة لي�ست ماكينة‪ ,‬امل�شنقة‬ ‫لي�ست �آلة ميكانيكية جامدة ال حياة فيها‪,‬‬

‫م�صنوعة من خ�شب‪ ,‬ومن حديد ومن حبال‪.‬‬ ‫�إنها تبدو كائن ًا من نوع ما‪ ,‬ذا �أ�صل مظلم‬ ‫ال نعرف عنه �شيئ ًا‪ ,‬ويف مي�سور املرء �أن‬ ‫يقول �أن هذا الهيكل املنجور يرى‪� ,‬إن هذه‬ ‫املاكينة ت�سمع‪� ,‬إن هذه املاكينة تفهم‪� ,‬إن‬ ‫لهذا اخل�شب‪ ,‬ولهذا احلديد‪ ,‬ولهذه احلبال‬ ‫�إرادة‪ ,‬ويف الهواج�س املروعة التي يقذفها‬ ‫م�شهدها بالنف�س الإن�سانية �إىل خ�ضمها‪.‬‬ ‫تبدو امل�شنقة فظيعة وممتزجة ب�صنيعها‬ ‫املريب‪ .‬امل�شنقة �شريكة اجلالد يف الإثم‪� .‬إنها‬ ‫تفرت�س‪� ,‬إنها ت�أكل اللحم‪� ,‬إنها ت�شرب الدم‪,‬‬ ‫امل�شنقة غول من �ضرب ما‪ ,‬ي�صنعه القا�ضي‬ ‫والنجار‪� .‬إنها �شبح يبدو وك�أنه يحيا ب�ضرب‬ ‫من احلياة راعب‪ ,‬م�ستمد من كل املوت الذي‬ ‫�سببته “‬ ‫هذا الأ�سقف وال�صفات ايل يتحلى بها كان‬ ‫يريد بها هيجو �أن تكون مثا ًال رائع ًا لرجل‬ ‫الدين يف تلك الفرتة من تاريخ فرن�سا‪.‬‬ ‫يجب �أن يكون رجل الدين يف ت�صور هيجو‬ ‫الأخالقي مع الفقراء و�ضد ال�سلطات التي‬ ‫تفر�ض قوانني تقو�ض حياتهم‪ .‬ملعرفة حجم‬ ‫ال�صراع الذي �أ�شتد بني هيجو ورجال‬ ‫الدين يجب �أن �أذكر هذه احلادثة‪ .‬يف‬ ‫الذكرى املئوية الأوىل ملوت فولتري اندلعت‬ ‫ال�صراعات من جديد بني اجلمهوريني‬ ‫وامللكيني‪ ،‬وبني العلمانيني ورجال الدين‪.‬‬ ‫وقف فيكتور هيجو و�ألقى خطاب ًا مهم ًا‬ ‫�صالح فيه بني فولتري والإجنيل‪ ,‬وكانت‬ ‫فرن�سا كلها حتب�س �أنفا�سها وتنتظر ماذا‬ ‫�سيقوله‪ ,‬قال ‪� :‬إن الكالم الإجنيلي يكمله‬ ‫الكالم الفل�سفي‪ .‬وال تعار�ض بني العلم‬ ‫والدين‪ .‬فروح احللم ابتد�أت �أو ًال ثم جاءت‬ ‫بعدها روح الت�سامح‪ .‬لنقل هذا الكالم بكل‬ ‫�إجالل واحرتام‪ :‬امل�سيح بكى‪ ،‬وفولتري‬ ‫ابت�سم‪ .‬ومن هذه الدمعة الإلهية وتلك‬ ‫االبت�سامة الب�شرية ُ�صنِعت حالوة احل�ضارة‬ ‫احلديثة‪ ,‬ولكن بالإ�ضافة �إىل فولتري هناك‬ ‫الفال�سفة الآخرون‪ .‬وه�ؤالء الك ّتاب الكبار مل‬ ‫ميوتوا لأنهم خ َّلفوا لنا روحهم‪� :‬أي الثورة‬ ‫الفرن�سية‪.‬‬ ‫هكذا عرب فيكتور هيجو عن �إميانه بالتقدم‪،‬‬ ‫تقدم الب�شرية نحو الأمام‪ .‬ولكن مطران‬ ‫�أورليان الذي هو �أحد كبار رجاالت الدين‬ ‫يف فرن�سا ويدعى دوبانلوب راح يحتج على‬ ‫رثاء فولتري بهذا ال�شكل التمجيدي الزائد‬ ‫عن احلد‪ .‬وقد �أر�سل �إىل فيكتور هيجو‬ ‫ر�سالة يحتج فيها على ذلك‪ .‬فرد عليه ال�شاعر‬ ‫قائ ًال ب�أنه ‪ :‬يرف�ض �أن يتلقى درو�س ًا من‬ ‫الكني�سة التي قدمت ال�صلوات للديكتاتور‬ ‫نابليون الثالث! ففي ظل هذا الرجل انهار‬ ‫القانون‪ ،‬وال�شرف‪ ،‬والوطن‪ .‬وقد دام ذلك‬ ‫ت�سعة ع�شر عام ًا‪ .‬ويف �أثناء ذلك كنت �أنت‬ ‫يف ق�صر الكني�سة‪ .‬وكنتُ �أنا يف املنفى‬ ‫خارج الوطن‪ .‬وبالتايل ف�إين �أعرفكم يا‬ ‫رجال الدين جيد ًا‪.‬‬ ‫هذا اخلطاب يف الذكرى املئوية لوفاة‬ ‫فولتري يذكرنا باخلطاب الذي �ألقاه‬ ‫د�ستويف�سكي يف حفل بو�شكني‪ ,‬والذي‬ ‫خلد حياته الأدبية و�صالح فيه بني �شطري‬ ‫رو�سيا‪ ,‬تيار القوميني ال�سالفيني الذين‬ ‫يركزون على الأ�صالة الرو�سية‪ ،‬وتيار‬ ‫امل�ستغربني الذين يريدون اللحاق بالغرب‬ ‫ب�أي �شكل‪.‬‬ ‫ال�شخ�صية الأوىل يف الرواية‪ ,‬وقد تكون‬ ‫�أ�شهر �شخ�صية يف تاريخ الآداب العاملية‪:‬‬ ‫جان فاجلان‪ ,‬مل يقدمه هيجو ب�صورة‬ ‫مب�سطة‪ ,‬بل كتب حكايته بالكامل‪ ,‬من‬ ‫ال�سرقة لإطعام �أبناء �أخته �إىل ال�سجن‬ ‫و الإحلاد و اخلروج من ال�سجن و�إيقاظ‬ ‫الإميان يف قلبه بعد �أن انهار‪ .‬جان فاجلان‪,‬‬ ‫هذه ال�شخ�صية ال�شهرية جد ًا ال يعرفها �أي‬ ‫قارئ �إال و يعرف �أنه بطل الب�ؤ�ساء‪ .‬ولكن‬ ‫كيف هي حالة جان و هو يف ال�سجن؟ ما‬ ‫هي ردة الفعل التي �أ�صابت جان فاجلان‬ ‫بعد �إدانته بتهمة ال�سرقة‪ ,‬وهو مل ي�سرق‬

‫�إال ليطعم الفقراء من �أفراد عائلته؟ هل يثق‬ ‫بالعدالة و م�سمى العدالة بعد هذا؟ وهل كان‬ ‫هذا العمل كما يقول هيجو �أخالقي بالدرجة‬ ‫الأوىل؟‬ ‫هذه الأ�سئلة الكبرية فيكتور هيجو يف‬ ‫وجه القارئ عن طريق حتليل نف�سي‬ ‫و�أخالقي عميق ل�شخ�صية جان فاجلان‪, ,‬‬ ‫وهو يتعر�ض لأق�سى �أنواع التعذيب البدين‬ ‫والنف�سي يف ال�سجن‪ .‬لقد �أحلد جان فاجلان‬ ‫بعد �أن تيقن ب�أن الوجود لعدالة �سماوية‬ ‫تقف معه يف م�صيبته لأكرث من ت�سعة ع�شر‬ ‫�سنة يف ال�سجن‪� .‬أين الله من كل هذا كما‬ ‫يقول؟ ملاذا يتعذب الفقراء وهو مل ي�سرقوا‬ ‫�إال حلاجة‪ .‬التحليل النف�سي العميق يف‬ ‫الب�ؤ�ساء و خا�صة ل�شخ�صية جان فاجلان –‬ ‫وقت الإحلاد – �إمتاز باللغة ال�شعرية التي‬ ‫برزت ب�شكل وا�ضح و كبري يف الب�ؤ�ساء‪.‬‬ ‫بع�ض الف�صول كانت نرث غنائي يبتعد‬ ‫فيها امل�ؤلف عن �أبطاله و ينرث ما يف نف�سه‬ ‫من غناء و �أوجاع‪ .‬بعد �أن يقدم هيجو‬ ‫جان فاجلان وهو ملحد يذكر كيف حتول‬ ‫هذا ال�شخ�ص الذي كفر بكل �شيء‪ ,‬بالله‬ ‫و بالعدالة و بالقانون‪ ,‬كيف يتحول هذا‬ ‫ال�شخ�ص الذي �سرق الأ�سقف الطيب بعد �أن‬ ‫ا�ست�ضافه يف الدير‪ ,‬كيف يتحول هذا اجلان‬ ‫الذي �أدان املجتمع بكل ما فيه �إىل م�ؤمن‬ ‫بالله و بالعداله‪..‬‬ ‫�أي م�صري كان لعائلته التي �سرق من �أجلها؟‬ ‫” �إنها الق�صة نف�سها دائم ًا‪ .‬لقد م�ضت هذه‬ ‫الكائنات الب�شرية احلية‪ ,‬هذه املخلوقات‬ ‫التعي�سة‪ ,‬وقد تركت بال �سند‪ ,‬م�ضت �إىل‬ ‫حيثما قادتها امل�صادفة‪ .‬لعل ك ًال منهم اتخذ‬ ‫طريق ًا خمتلفة‪ ,‬وغرق �شيئ ًا بعد �شيء يف‬ ‫ذلك ال�ضباب القار�س الذي يغمر امل�صائر‬ ‫املتوحدة‪ ,‬تلك الظلمة النكدة التي يختفي‬ ‫فيها كثري من الر�ؤو�س ال�شقية خالل �سري‬ ‫اجلن�س الب�شري املعتم‪ .‬لقد نزحوا عن تلك‬ ‫الديار‪ ,‬لقد ن�سيتهم كني�سة القرية التي كانت‬ ‫قريتهم‪ ,‬ن�سيهم معلم احلقل الذي كان حقلهم‪,‬‬ ‫حتى جان فاجلان نف�سه ن�سيهم بعد �سنوات‬ ‫من مقامه يف �سجن الأ�شغال امل�ؤبدة‪“ .‬‬ ‫من هو جان فاجلان؟‬ ‫كان قد دخل ال�سجن لأنه ك�سر زجاج نافذة‬ ‫و�سرق رغيف خبز‪� .‬إنه القمي�ص الأحمر‪,‬‬ ‫كرة احلديد امل�شدودة �إىل القدم‪ ,‬لوح‬ ‫اخل�شب الذي نام عليه‪ ,‬هو احلر والربد‬ ‫وال�شغل‪ ,‬وجماعة ال�سجناء املحكومني‬ ‫بالأ�شغال ال�شاقة وال�ضرب بالع�صي‪,‬‬ ‫ال�سل�سلة املزدوجة من �أجل ال �شيء‪ ,‬احلب�س‬ ‫يف حجرة مظلمة عقاب ًا على كلمة‪ ,‬ال�سل�سلة‬ ‫حتى يف حاالت املر�ض‪ .‬هو موطن بالء‬ ‫وعذاب‪ .‬دخل ال�سجن وهو ينتحب ويرتعد‪,‬‬ ‫وغادره وقد حتطم ف�ؤاده وامتنع عن الأمل‪.‬‬ ‫لقد دخله ب�أئ�س ًا وغادره كالح الوجه‪� .‬سلخ‬ ‫نف�سه ملدة ت�سعة ع�شر عاما وهو وحيد يف‬ ‫هذا العامل‪ .‬مل يكن �أب ًا �أو عا�شق ًا �أو زوج ًا �أو‬ ‫�صديق ًا‪ .‬يف ال�سجن كان عفيف ًا‪ ,‬جاه ًال‪ ,‬كان‬ ‫ف�ؤاد هذا الرجل مليئ باخلري‪� .‬أخته و�أطفال‬ ‫�أخته مل يخلفوا يف نف�سه غري ذكرى غام�ضة‬ ‫وبعيدة ما لبثت �آخر الأمر �أن تال�شت‪.‬‬ ‫�إن �أ�سباب ب�ؤ�س جان فاجلان لي�ست ذاتية‪,‬‬ ‫بل من املجتمع الذي مل يقف معه يف حمنة‬ ‫الفقر‪ ,‬وال حتى مع خروجه من ال�سجن‪ ,‬مت‬ ‫�سلخ جلده لأكرث من ت�سعة ع�شر عاما يف‬ ‫ال�سجن‪ ,‬ومل يرحب به �أحد بعد خروجه‪,‬‬ ‫حتى ال�سجن الذي ذهب �إليه لكي ي�سرتيح‬ ‫هناك رف�ضوا وجوده‪ .‬وقف الكل يف وجهه‪,‬‬ ‫حتى وجار الكلب الذي نام فيه طرده من‬ ‫مكانه ‪ :‬م�ضيت �إىل احلقول كي �أنام حتت‬ ‫النجوم فلم يكن ثمة جنوم‪ ,‬وح�سبت �أن‬ ‫املطر �سيهطل‪ ,‬ومل يكن ثمة رب رحيم‬ ‫يحول دون انهماره ‪ ..‬هكذا كان يقول بعد‬ ‫�أن خرج من ال�سجن هائم ًا يبحث عن مكان‬ ‫ي�سرتيح فيه‪� .‬إن املدن كما يقول هيجو يف‬ ‫الب�ؤ�ساء تنتج رجا ًال �شر�سني‪ ,‬لأنها تنجب‬

‫‪9‬‬

‫هذا الأ�سقف وال�صفات ايل يتحلى‬ ‫بها كان يريد بها هيجو �أن تكون‬ ‫مثا ً‬ ‫ال رائع ًا لرجل الدين يف تلك‬ ‫الفرتة من تاريخ فرن�سا‪ .‬يجب‬ ‫�أن يكون رجل الدين يف ت�صور‬ ‫هيجو الأخالقي مع الفقراء‬ ‫و�ضد ال�سلطات التي تفر�ض‬ ‫قوانني تقو�ض حياتهم‪ .‬ملعرفة‬ ‫حجم ال�صراع الذي �أ�شتد بني‬ ‫هيجو ورجال الدين يجب �أن‬ ‫�أذكر هذه احلادثة‪ .‬يف الذكرى‬ ‫املئوية الأوىل ملوت فولتري‬ ‫اندلعت ال�صراعات من جديد‬ ‫بني اجلمهوريني وامللكيني‪ ،‬وبني‬ ‫العلمانيني ورجال الدين‪ .‬وقف‬ ‫فيكتور هيجو و�ألقى خطاب ًا مهم ًا‬ ‫�صالح فيه بني فولتري والإجنيل‪,‬‬ ‫وكانت فرن�سا كلها حتب�س �أنفا�سها‬ ‫وتنتظر ماذا �سيقوله‪ ,‬قال ‪� :‬إن‬ ‫الكالم الإجنيلي يكمله الكالم‬ ‫الفل�سفي‪ .‬وال تعار�ض بني العلم‬ ‫والدين‪ .‬فروح احللم ابتد�أت �أو ً‬ ‫ال‬ ‫ثم جاءت بعدها روح الت�سامح‪.‬‬ ‫لنقل هذا الكالم بكل �إجالل‬ ‫واحرتام‪ :‬امل�سيح بكى‪ ،‬وفولتري‬ ‫ابت�سم‪ .‬ومن هذه الدمعة الإلهية‬ ‫�ص ِنعت‬ ‫وتلك االبت�سامة الب�شرية ُ‬ ‫حالوة احل�ضارة احلديثة‪ ,‬ولكن‬ ‫بالإ�ضافة �إىل فولتري هناك‬ ‫الفال�سفة الآخرون‪ .‬وه�ؤالء‬ ‫الك ّتاب الكبار مل ميوتوا لأنهم‬ ‫خ َّلفوا لنا روحهم‪� :‬أي الثورة‬ ‫الفرن�سية‪.‬‬ ‫هكذا عرب فيكتور هيجو عن‬ ‫�إميانه بالتقدم‪ ،‬تقدم الب�شرية‬ ‫نحو الأمام‪ .‬ولكن مطران �أورليان‬ ‫الذي هو �أحد كبار رجاالت الدين‬ ‫يف فرن�سا ويدعى دوبانلوب راح‬ ‫يحتج على رثاء فولتري بهذا‬ ‫ال�شكل التمجيدي الزائد عن‬ ‫احلد‪ .‬وقد �أر�سل �إىل فيكتور‬ ‫هيجو ر�سالة يحتج فيها على‬ ‫ً‬ ‫قائال‬ ‫ذلك‪ .‬فرد عليه ال�شاعر‬ ‫ب�أنه ‪ :‬يرف�ض �أن يتلقى درو�س ًا‬ ‫من الكني�سة التي قدمت ال�صلوات‬ ‫للديكتاتور نابليون الثالث! ففي‬ ‫ظل هذا الرجل انهار القانون‪،‬‬ ‫وال�شرف‪ ،‬والوطن‪ .‬وقد دام ذلك‬ ‫ت�سعة ع�شر عام ًا‪ .‬ويف �أثناء ذلك‬ ‫كنت �أنت يف ق�صر الكني�سة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وكنت �أنا يف املنفى خارج الوطن‪.‬‬ ‫وبالتايل ف�إين �أعرفكم يا رجال‬ ‫الدين جيداً‪.‬‬

‫رجا ًال فا�سدين‪� ,‬أما اجلبل والبحر والغابة‬ ‫فتنتج رجا ًال وح�شيني‪� .‬إنها تقوي يف �أبنائها‬ ‫اجلانب ال�ضاري‪ ,‬ولكن من غري �أن تف�سد يف‬ ‫كثري من الأحيان اجلانب الإن�ساين‪ .‬لذلك مل‬ ‫يفقد جان فاجلان �إن�سانيته حتى وهو يف‬ ‫�أق�صى حلظات ب�ؤ�سه‪ .‬كان من �أبناء الريف‬ ‫الب�سطاء‪ ,‬مل يكن ذا طبيعة �شريرة‪ .‬كان‬ ‫ال يزال ح�سن الطوية حني دخل ال�سجن‪,‬‬ ‫ويف �أثناء مقامه هناك دان املجتمع الب�شري‬ ‫وا�ست�شعر �أنه �أم�سى �شرير ًا‪ .‬ودان العدالة‬ ‫وا�ست�شعر �أنه �أم�سى ملحد ًا‪� .‬أت�ستطيع‬ ‫الطبيعة الب�شرية كما يقول هيجو �أن تنقلب‬

‫هكذا ر�أ�س ًا على عقب؟ �أيكون يف مي�سور‬ ‫الإن�سان الذي خلقه الله خري ًا �أن يحيله‬ ‫�أخوه الإن�سان �شرير ًا؟ هل ت�ستطيع النف�س‬ ‫�أن تتغري دفعة واحدة لتجاري قدرها؟‬ ‫�أيكون يف و�سع القلب �أن يت�شوه وي�صاب‬ ‫بالقباحات والعاهات التي ال بر منها؟ �أمل‬ ‫يكن يف نف�س جان فاجلان �شرارة ابتدائية‬ ‫�أو عن�صر �إلهي ال يتطرق �إليه الف�ساد يف‬ ‫العامل؟ �شرارة ي�ستطيع اخلري �أن يطورها‬ ‫وي�ؤججها وي�ضرمها وي�سعرها؟ وميكنها من‬ ‫�أن ت�شع �إ�شعاع ًا يبهر الأب�صار‪ ,‬ويعجز ال�شر‬ ‫�أبد الدهر عن �إطفائها بالكلية؟‬ ‫كانت �أوىل �شرارات اخلري هي النظرة من‬ ‫جان فاجلان وهو ي�سرق الأ�سقف‪� :‬ضمري‬ ‫قلق م�ضطرب على و�شك ارتكاب عمل‬ ‫�شرير يت�أمل رقاد رجل �صالح ‪ ..‬التحول‬ ‫الأول النف�سي والأخالقي يف �شخ�صية‬ ‫جان فاجلان بعد خروجه من ال�سجن بعد‬ ‫�أن �صرخ الأ�سقف يف وجهه قائ ًال ‪ :‬يا �أخي‬ ‫! �أنت مل تعد ملك ًا لل�شر‪ ,‬ولكن ملك ًا للخري‪.‬‬ ‫و�إين �إمنا �أ�شرتي نف�سك‪� ,‬أنا �أنتزعها من‬ ‫الأفكار ال�سوداء‪ ,‬ومن روح الهالك و�أقدمها‬ ‫�إىل الله ‪� ,‬أما ال�شرارة الثانية التي كانت‬ ‫كافيه لإ�شعال نف�س جان فاجلان و�أحدثت‬ ‫هذا التحول الدراماتيكي اخلطري يف نف�سه‬ ‫فهي املبلغ القليل الذي �أخذه من طفل بائ�س‬ ‫�صغري وهو ال يعلم – �أي جان – �أنه �سرق‬ ‫طفل‪.‬‬ ‫” �أنا رجل بائ�س! “‬ ‫حني غادر جان فاجلان منزل الأ�سقف كان يف‬ ‫حالة نف�سية مل يعرفها قط‪ .‬كان عاجز ًا عن �أن‬ ‫يفهم �أميا �شيء يجري يف ذاته ‪ :‬لقد وعدتني‬ ‫ب�أن ت�صبح رج ًال �صاحل ًا‪� .‬إين �إمنا �أ�شرتي‬ ‫نف�سك‪� .‬أنا �أنتزعها انتزاع ًا من روح الف�ساد‬ ‫و�أقدمها �إىل الله ‪ ..‬كلمات الأ�سقف هذه‬ ‫عاودته على نحو مو�صول‪ .‬يف وجه هذا‬ ‫احللم ال�سماوي �أح�س �إح�سا�س ًا غام�ض ًا ب�أن‬ ‫مغفرة هذا الكاهن هي �أعظم غارة و�أفظع‬ ‫هجوم ُ�شنا عليه عُمره كله‪ ,‬وب�أن ق�سوة قلبه‬ ‫تكون كاملة �إذا ما قاوم هذه ال�سماحة‪ ,‬وب�أنه‬ ‫�إذا ما ا�ست�سلم فعندئذ يتعني عليه �أن يتخلى‬ ‫عن ذلك احلقد الذي ملأت روحه به �أفعال‬ ‫الآخرين طوال هذه ال�سنوات كلها‪ .‬يف هذا‬ ‫اجلو النف�سي التقى جرفيه ال�صغري و�سرق‬ ‫ماله‪ .‬مل يكن قادر ًا على تف�سري هذه الواقعة‪.‬‬ ‫فيما هو ذاهل م�شتت الذهن مثل رجل‬ ‫يحاول �أن يويل فرار ًا‪ ,‬حاول �أن يبحث عن‬ ‫الفتى ال�صغري ليعيد �إليه ماله‪ .‬حتى �إذا وجد‬ ‫�أن ذلك غري جمدِ وم�ستحيل‪ ,‬ويف اللحظة‬ ‫التي قال فيها “�أنا رجل بائ�س” ر�أى نف�سه‬ ‫على حقيقتها‪� .‬أن قد انتهى �إىل �أن ي�صبح‬ ‫�شديد االنف�صال عن نف�سه بحيث يخيل �إليه‬ ‫وك�أنه مل يكن �إال �شبح ًا‪ ,‬و�أن جان فاجلان‬ ‫املحكوم عليه بالأ�شغال ال�شاقة كان �أمامه‬ ‫بلحمه ودمه‪ ,‬وقمي�صه على ظهره وجرابه‬ ‫املليء بالأمتعة امل�سروقة فوق كتفيه‪.‬‬ ‫لقد ر�أى نف�سه وجها لوجه‪ .‬ويف الوقت‬ ‫نف�سه ر�أى على م�سافة مبهمة �ضرب ًا من‬ ‫النور ح�سبه بادئ الأمر م�شع ًال‪ ,‬حتى �إذا‬ ‫حدق يف انتباه �أ�شد �إىل ذلك النور الذي‬ ‫�أ�شرق على �ضمريه �أدرك �أن له �شك ًال ب�شري ًا‪.‬‬ ‫و�أن هذا امل�شعل كان الأ�سقف‪ .‬ووازن‬ ‫�ضمريه بني هذين الرجلني اللذين �أقيما‬ ‫�أمامه على هذا النحو ‪ :‬الأ�سقف و جان‬ ‫فاجلان‪ .‬كان �أميا �شيء دون الأول خليق ًا‬ ‫به �أن يخفق يف �إذابة الآخر‪ .‬وب�أحد تلك‬ ‫الآثار الفريدة ر�أى الأ�سقف يزداد ت�ألق ًا يف‬ ‫عينيه‪ .‬وانكم�ش جان واختفى‪ ,‬ويف حلظة‬ ‫من اللحظات مل يبق منه �شيء‪ .‬لقد اختفى‪,‬‬ ‫وبقي الأ�سقف‪ .‬هذه الغارات الإجنيلية من‬ ‫الأ�سقف جلان فاجلان هي من �أجربت �أحد‬ ‫�أبطال العمل – ماريو�س – �أن يقول جلان‬ ‫يف نهاية الرواية �إنه يتحلى بال�شجاعات‬ ‫كلها‪ ,‬وبالف�ضائل كلها‪ ,‬والبطوالت كلها‪,‬‬ ‫والقدا�سات كلها‪� ,‬إن هذا الرجل مالك‪ .‬هذه‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪10‬‬

‫الغارات التي غريت من �شخ�صية جان‬ ‫فاجلان هي التي �أجربت ال�شاعر الفرن�سي‬ ‫رامبو على �أن يكتب يف �أحد ن�صو�صه ‪ :‬كنت‬ ‫يف �صغري بالغ الإعجاب باملحكوم عليه‬ ‫بالأ�شغال ال�شاقة العنيد الذي ينغلق عليه‬ ‫ال�سجن �أبد ًا‪ .‬كنت �أزور النزل واحلجرات‬ ‫التي رمبا كان قد�سها مبروره‪ .‬كنت �أرى‬ ‫بفكره هو ال�سماء الزرقاء والعمل املزهر‬ ‫يف الريف‪ ,‬ويف املدن كنت �أ�شم قدره‪ .‬كان‬ ‫�أقوى من قدي�س و�أكرث نباهة من م�سافر‪,‬‬ ‫وهو ‪ ,‬هو وحده‪ ,‬ال�شاهد على جمده وعلى‬ ‫ح�صافته! ‪.‬‬ ‫من هنا تبدا الرواية وم�سرية جان فاجلان‪.‬‬ ‫كان الأ�سقف هو الر�ؤية البي�ضاء الأوىل‪� .‬أما‬ ‫الثانية فكانت كوزيت‪ ,‬كان الأ�سقف قد �أطلع‬ ‫يف �أفقه فجر الف�ضيلة‪ ,‬ثم جاءت كوزيت‬ ‫ف�أطلعت يف �أفقه ذاك فجر احلب‪.‬‬ ‫مار�س هيجو الر�ؤية الفجائعية‪ .‬الر�ؤية‬ ‫الفجائعية باخت�صار تظهر الإختالف احلاد‬ ‫بني الذات املتحد َِّث عنها‪ ,‬والذوات الأخر‬ ‫املحكومة ب�شروط الوجود اليومي‪ .‬من‬ ‫جتلياتها غياب امل�سافة الفا�صلة بني الكاتب‬ ‫واملكتوب‪ ،‬واندماج الراوي وال�شخ�صية‬ ‫املروي عنها‪ ،‬وغياب الفوا�صل واحلدود‬ ‫بني احلقيقي واخليايل‪ ،‬وبني العجائبي‬ ‫والواقعي‪ ،‬وبني املخزون الثقايف والأدب‪.‬‬ ‫يتحول الفعل املحكي عنه كفعل �إبداعي �إىل‬ ‫الأمل كتوجع ودوار ثم يتحول �إىل موت‪,‬‬ ‫احت�ضار‪ ،‬حالة بني الوجود والعدم‪ .‬هذه‬ ‫الذات احلميمة ت�ؤثر على ال�سرد في�صبح‬ ‫�أكرث تدفق ًا واجنراف ًا متاما كال�سيل اجلارف‬ ‫يحمل يف طريقه كل ما ي�صادفه‪ .‬كما �أنها‬ ‫ت�ؤثر على الو�صف‪ ،‬فيكون م�سرودا متدفقا‪،‬‬ ‫نقال للحركة يف �سريورتها وجريانها‪.‬‬ ‫و�صفا متداخال ال يركز على �شيء �إ َّال لفرتة‬ ‫ب�سيطة ثم ينجرف جهة اال�ستبطان‪ .‬ي�صف‬ ‫الظاهر والباطن يف حركيتهما دون ح�صر �أو‬ ‫حياد‪ .‬الراوي يف هذا الو�صف �أ�شد انفعا ًال‪،‬‬ ‫ومندمج كليا يف اللحظة امل�شهدية‪.‬‬ ‫عندما �ألقي ماريو�س القب�ض على �شخ�ص‬ ‫يُعتقد �أنه جان فاجلان‪� ,‬سيق هذا الرجل‬ ‫ليحاكم يف املحكمة‪ .‬كان احلكم واالدلة‬ ‫تدينه بالتمام رغم �أنه مل يكن جان فاجلان‬ ‫ب�أي حال من الأحوال‪ .‬عندما عرف جان‬ ‫فاجلان بهذا الأمر – وكان يت�سرت على‬ ‫نف�سه حتت ا�سم م�سيو مادلني – بد�أت‬ ‫�أوىل ال�صراعات النف�سية يف الب�ؤ�ساء‪.‬‬ ‫هل ي�ضحي م�سيو مادلني �أو جان فاجلان‬ ‫مبن�صبه – العمدة – و�إغداقه الأموال‬ ‫ب�شراهه على الفقراء واملحتاجني؟ �أم‬ ‫يك�شف عن نف�سه وي�ضحي بنف�سه من �أجل‬ ‫�إنقاذ نف�س ب�شرية لي�س لها �أي ذنب �إال �أنها‬ ‫ت�شبه جان فاجلان؟ عليه �أن يختار �إحدى‬ ‫خطتني �أحالهما م ّر‪� ,‬إما الف�ضيلة الظاهرية‬ ‫واخلباثة الباطنية‪ ,‬و�إما الطهارة الباطنية‬ ‫والعار اخلارجي! من هنا بد�أ جان فاجلان‬ ‫�صراعه النف�سي املرير‪ .‬بعد ال�شرارة التي‬ ‫�أ�ضاء بها الأ�سقف نف�س جان فاجلان كان‬ ‫غايته �أن ينقذ روحه ال ج�سده‪� ,‬أن ي�صبح‬ ‫خري ًا و�صاحل ًا وم�ستقيم ًا‪� .‬أن يغلق باب‬ ‫املا�ضي للأبد‪ .‬ولكن هذا الباب مل يغلق ب�أي‬ ‫حال من الأحوال‪ .‬لقد فتح من جديد بعد‬ ‫�أن عاد ل�ص ًا من جديد‪ .‬لقد �سرق من �آخر‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫وجوده وحياته و�أمنه‪ ,‬لقد قتل معنوي ًا رج ًال‬ ‫بائ�س ًا‪� ,‬أنزل به ذلك املوت احلي املروع‪ ,‬ذلك‬ ‫الدفن يف احلياة الذي يدعى �سجن املحكوم‬ ‫عليهم بالأ�شغال ال�شاقة‪.‬‬ ‫كان الأ�سقف هو �صاحب الت�أثري الأخالقي‬ ‫يف نف�س البطل جان فاجلان‪� .‬إذ �صرخ يف‬ ‫وجهه كذلك قائ ًال ‪ :‬يا �أخي ! �أنت مل تعد ملك ًا‬ ‫لل�شر‪ ,‬ولكن ملك ًا للخري‪ .‬و�إين �إمنا �أ�شرتي‬ ‫نف�سك‪� ,‬أنا �أنتزعها من الأفكار ال�سوداء‪ ,‬ومن‬ ‫روح الهالك و�أقدمها �إىل الله‪� .‬أما طريقة‬ ‫التطهري فكانت �أروع من خالل بكاء جان‬ ‫فاجلان املرير‪ .‬كان يهذي‪ ,‬لكنه هذيان �أروع‪,‬‬ ‫هذيان قاد �صاحبه �إىل الإميان بعد �أن كان‬ ‫ملحد ًا ال يعرتف ال بعدالة الإن�سان‪ ,‬وال‬ ‫بالعدالة الإلهية‪.‬‬ ‫�شخ�صيات الرواية مل تنته‪ .‬هناك �شخ�صيات‬ ‫ت�ستحق �أن ي�سلط ال�ضوء عنها �أكرث‪ ,‬ومنها‬ ‫�شخ�صية املفت�ش جافري‪ ,‬وهو ال يقل ب�ؤ�س ًا‬ ‫عن جان فاجلان رغم ال�صورة املطبوعة‬ ‫عنه ب�أنه ديكتاتوري ي�صدر �أحكاما ما �أنزل‬ ‫الله بها من �سلطان‪ .‬هذا الرجل العنيد ولد‬ ‫يف �سجن‪ ,‬وكانت �أمه عرافة وكان �أبوه‬ ‫من املحكوم عليهم بالأ�شغال ال�شاقة‪ .‬حني‬ ‫ترعرع الحظ �أنه غارق خارج نطاق املجتمع‪.‬‬ ‫لقد الحظ �أن املجتمع يو�صد �أبوابه يف‬ ‫وجهه مثلما �أُو�صدت الأبواب يف وجه‬ ‫جان فاجلان بعد خروجه من ال�سجن‪.‬‬ ‫هذا الرجل كان مزاج ًا من عاطفتني هما‬ ‫يف ذاتهما ب�سيطتان‪ ,‬ولكنه كاد يجعلهما‬ ‫�شريرتني بتطرفه يف تنفيذ املهام‪ ,‬احرتام‬ ‫ال�سلطة وكره التمرد‪ .‬ال �أحتاج لتف�صيل �أكرث‬ ‫ل�شخ�صية املفت�ش جافري �إذ هو �شخ�صية‬ ‫روائية معروفة جد ًا لدى اجلمهور‪ ,‬ولكن‬ ‫ملاذا هذا الرجل ال يقل ب�ؤ�س ًا عن جان‬ ‫فاجلان؟‬ ‫منذ �أن بلغ املفت�ش جافري من�صبه كمفت�ش‬ ‫عام كان قد وقف حياته و�أعماله وحتى دينه‬ ‫كله على ال�شرطة‪ .‬كان له رئي�س هو م�سيو‬ ‫جي�سيكيه‪ ,‬ومل يكن يعرف‪� ,‬أو مبعنى �أ�صح‬ ‫نادر ًا ما يفكر بذلك الرئي�س الآخر كما ي�صفه‬ ‫هيجو‪ ,‬وهو الله‪.‬‬ ‫بعد �أن حرر جان فاجلان املفت�ش جافري من‬ ‫قب�ضة الثوار‪ ,‬و�أطلق جافري �سراح جان‬ ‫فاجلان بعد �أن �ألقي القب�ض عليه‪ ,‬تفجر‬ ‫ب�ؤ�س جافري املكتوم يف �أول الرواية‪ ,‬ومل‬ ‫ينته كما يف الزمن الروائي �إال بعد ع�شرين‬ ‫�سنة من مطاردته جلان فاجلان! كان يعتمل‬ ‫يف �أعماق وجوده �شيء جديد‪ ,‬ثورة فيها‬ ‫ما يدعو �إىل فح�ص ال�ضمري والتفكري‪ .‬هذا‬ ‫الرجل القا�سي القلب وجد نف�سه يالقي‬ ‫�آالم ًا رهيبة‪ ,‬كان من �أ�سباب �أمله النف�سي‬ ‫�أنه كان مكره ًا على التفكري‪ ,‬ا�ست�شعر �أن‬ ‫�شيئ ًا رهيباُ كان ينفذ �إىل روحه‪ ,‬الإعجاب‬ ‫مبحكوم عليه بالأ�شغال ال�شاقة‪ .‬كان �أمله‬ ‫العظيم نا�شئ ًا عن فقدانه اليقني‪� ,‬أن يجد‬ ‫نف�سه فج�أة بني جرميتني‪ ,‬جرمية �إطالق‬ ‫�سراح رجل‪ ,‬وجرمية �إلقاء القب�ض عليه‪.‬‬ ‫ن�ش�أ يف نف�سه نظام كامل م�ؤلف من حقائق‬ ‫غري معلومة‪ ,‬وعلم جديد بالكلية‪ .‬لقد ملح يف‬ ‫الظالم كما يقول هيجو الإ�شراق الرهيب‬ ‫ل�شم�س �أخالقية جمهولة‪ .‬كان قد ا�ضطر‬ ‫�أمام حمكمته الباطنية اخلا�صة ب�سمو هذا‬ ‫الرجل البائ�س‪ .‬وكان هذا �أكرث ما �أبغ�ضه‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫وقا�سى منه‪� .‬شرير حم�سن حمكوم عليه‬ ‫بالأ�شغال ال�شاقة ميلأ قلبه باحلنان‪ ,‬يقابل‬ ‫ال�شر باخلري‪ ,‬ويرد على البغ�ض بالعفو‪,‬‬ ‫هذا الرجل ا�ضطر جافري �أن يعرتف �أخري ًا‬ ‫بوجود هذا الكائن اجلبار‪ .‬يقول هيجو يف‬ ‫و�صف احلالة النف�سية جلافري‪� :‬إن ماكان‬ ‫يجري يف ذات جافري كان تخلخل �ضمري‬ ‫م�ستقيم‪ ,‬و�إق�صاء نف�س عن طريقها‪ ,‬و�سحق‬ ‫�صالح �أُطلِق على نحو ال يقاوم يف خط‬ ‫م�ستقيم وانك�ساره عند الله‪ .‬الله‪ ,‬النف�سي‬ ‫دائم ًا بالن�سبة للإن�سان‪ ,‬امل�ستع�صي‪ ,‬وهو‬ ‫ال�ضمري احلق على ال�ضمري الباطل‪ ,‬املحرم‬ ‫على ال�شرارة �أن تنطفئ‪ ,‬الآمر ال�شع�شع‬ ‫ب�أن يذكر ال�شم�س‪ ,‬املو�صي النف�س ب�أن‬ ‫تعرتف باملطلق احلقيقي حني تواجه املطلق‬ ‫الوهمي‪ ,‬الله هو الإن�سانية خالدة‪ ,‬والقلب‬

‫الب�شري باقي ًا‪ ,‬هذه الظاهرة هل فهمها‬ ‫جافري؟ هل نفذ �إليها قلب جافري؟ هل كون‬ ‫جافري فكرة عنها؟ ال من غري ريب‪ .‬ولكن‬ ‫حتت �ضغط هذا املمتنع ا�ست�شعر جافري �أن‬ ‫جمجمته تكاد تنفجر!‪.‬‬ ‫ال�شخ�صيات ال�سابقة كانت متثل جيل‬ ‫الرجال الذين حط من قدرهم بالفقر‪� .‬أما‬ ‫الن�ساء وحتطيم كرامتهم باجلوع فكانت‬ ‫املر�آة الآخرى لب�ؤ�ساء هيجو وما ميثلونه‬ ‫من حالة يرثي فيها الأموات على الأحياء‪.‬‬ ‫ومن �أف�ضل ال�شخ�صيات التي متثل الب�ؤ�س‬ ‫يف هذه امللحمة هي �شخ�صية فانتني‪.‬‬ ‫فانتني‪ ،‬وهي بالأ�صل لقيطة‪� ،‬أغراها �شاب‬ ‫غني وتركها‪ ،‬و�أجنبت طفلة ا�سمها كوزيت‪،‬‬ ‫وا�ضطرت لبيع ج�سدها‪ ،‬لك ّنها كانت ت�سعى‬ ‫للتخل�ص من هذه املهنة القذرة‪ ،‬وتركت‬

‫فانتني ابنتها كوزيت عند �أ�سرة متلك فندق ًا‬ ‫�صغري ًا‪ ،‬وا�سم هذه الأ�سرة تيناردييه مقابل‬ ‫مبلغ من املال‪ .‬كانت �أ�سرة تيناردييه تعامل‬ ‫كوزيت معاملة �سيئة‪ ،‬وتبتز فانتني‪ ،‬عملت‬ ‫فانتني يف معمل يف بلدة مونرتوي‪ ،‬كان‬ ‫ميلكه الأب مادلني‪ ،‬الذي عرف بقوة ج�سدّية‬ ‫خارقة‪ ،‬وا�ستغرب مفت�ش ال�شرطة جافري‬ ‫قوته‪ ،‬وذكرته قوة الأب مادلني بقوة �شخ�ص‬ ‫هرب من ال�سجن وهو جان فاجلان‪� ،‬أمّا‬ ‫فانتني فلقد طردت من امل�صنع بعد �أن عرفت‬ ‫�إدارة امل�صنع �سر حياتها ال�سابقة‪� ،‬أيّ �أ ّنها‬ ‫كانت تبيع ج�سدها‪ ،‬ومت طردها دون علم‬ ‫الأب مادلني‪ ،‬وعندما التقى بها‪ ،‬وعد بتقدمي‬ ‫امل�ساعدة لها لكي ت�صبح امر�أة فا�ضلة‪،‬‬ ‫وطلب �إعادة كوزيت �إليها‪� ،‬إال �أنّ �أ�سرة‬ ‫تيناردييه‪ ،‬ماطلت يف التخلي عن كوزيت‪،‬‬

‫فيكتور هيجو يف منزله عام ‪1880‬‬

‫لأنها وجدت فيها م�صدر ًا للرزق ‏‪.‬‬ ‫ق�صة فانتني كما ي�صفها هيجو يف الرواية‬ ‫هي ق�صة املجتمع ي�شرتي �أمة رقيقة‪,‬‬ ‫من ال�شقاء واجلوع والربد والتخلي‪,‬‬ ‫واحلرمان‪� .‬صفقة موجعة‪ ,‬نف�س ب�شرية‬ ‫مقابل ك�سرة خبز‪� .‬إىل �أين مت�ضي هذه‬ ‫الفتاة؟ مل كانت كذلك؟ �إن ذلك الذي يعرف‬ ‫يرى الظالم كله‪� ,‬إنه واحد �أحد‪� .‬إن ا�سمه‬ ‫الله!‬ ‫�إن ب�ؤ�س فانتني مل يكن لأ�سباب ذاتية �أو‬ ‫مالية حتى كما طرحها هيجو و�أراد لها �أن‬ ‫تظهر بهذا النظر الب�شع املقزز للنف�س‪ .‬هذه‬ ‫املر�أة مل تكن قادرة على �أن حتتمل نظرات‬ ‫ابنتها احلزينة‪ ,‬فمن �أجلها �أثِمت‪ ,‬وهذا هو‬ ‫ال�سبب الذي من �أجله يغفر الله لها كما تقول‬ ‫قبل وفاتها‪ .‬بهذه الطريقة ي�صبح الب�شر‬ ‫مالئكة‪� ,‬إنها لي�ست خطيئتهم على الإطالق‬ ‫كما يقول هيجو‪� .‬إنهم ال يعرفون كيف‬ ‫يبد�أون على نحو �آخر‪� .‬إن هذا اجلحيم الذي‬ ‫خرجت منه فانتني بعد �أن تعرفت على م�سيو‬ ‫مادلني �أو مبعنى �أ�صح جان فاجلان‪ ,‬هو‬ ‫اخلطوة الأوىل نحو اجلنة ‪:‬‬ ‫” ما ال�شيء الرخي�ص اليوم؟‬ ‫غال‪ .‬لي�س من �شيء رخي�ص غري‬ ‫كل �شيء ٍ‬ ‫�آالم النا�س‪.‬‬ ‫�إن �آالم النا�س جمانية! فانتني اقرتبت من‬ ‫القدا�سة من خالل الأمل العظيم”‬ ‫” هناك م�شهد واحد �أعظم من البحر‬ ‫‪ ,‬ذلك هو م�شهد ال�سماء‪ .‬وهناك م�شهد‬ ‫واحد �أعظم من ال�سماء‪ ,‬ذلك هو باطن‬ ‫النف�س الب�شرية‪� .‬إن نظم ق�صيدة ال�ضمري‬ ‫الإن�ساين‪ ,‬ولو كان �ضمري رجل فرد‪ ,‬بل ولو‬ ‫كان �ضمري �أ�سفل النا�س واحطهم‪ ,‬يقت�ضي‬ ‫�إذابة جميع املالحم يف ملحمة عليا ونهائية‪.‬‬ ‫ال�ضمري هو هيويل الروح‪ ,‬وال�شهوات‪,‬‬ ‫هو بوتقة الأحالم‪ ,‬هو مغارة الأفكار التي‬ ‫ن�ستحي بها‪� .‬إنه وكر املغالطات‪ ,‬و�ساحة‬ ‫اخرتق‬ ‫احلرب التي ت�صطرع فيها الأهواء‪ِ .‬‬ ‫يف بع�ض ال�ساعات حجاب الوجه الأزرق‬ ‫امل�سود الذي يحمله كائن ب�شري م�ستغرق‬ ‫يف التفكري‪ ,‬وانظر �إىل ما ورائه‪ .‬انظر �إىل‬ ‫تلك النف�س‪� ,‬إىل تلك الظلمة‪� .‬إن هناك حتت‬ ‫ال�صمت اخلارجي �صراع ًا بني العمالقة‬ ‫كالذي جنده عند هومريو�س‪ ,‬ومعركة بني‬ ‫التنانني والأفاعي‪ ,‬وح�شود ًا من الأ�شباح‬ ‫كالتي نقع عليها عند ميلتون‪ ,‬ومتاهات‬ ‫خميفة كالتي نلقاها عند دانتي‪� .‬أي �شيء‬ ‫مظلم تلك الالنهاية التي يحملها كل امرئ يف‬ ‫ذات نف�سه‪ ,‬والتي يقي�س بها يف ي�أ�س رغبات‬ ‫دماغة‪ ,‬و�أفعال حياته‪.‬‬ ‫غافرو�ش تينادرييه‪ ,‬هذا الطفل ال�صغري‪,‬‬ ‫الأب الكبري‪ ,‬الثائر ال�صغري‪� ,‬أو �شهيد‬ ‫احلرية كما ي�سمى يف خالدة الب�ؤ�ساء‬ ‫لفيكتور هيجو‪ .‬هل من املمكن �أن جتتمع‬ ‫الثورة والغناء يف وقت واحد؟ ويف‬ ‫�شخ�صية طفل �صغري اجته �إىل ال�شارع‬ ‫ليبحث عن ذاته‪ ,‬عن نف�سه‪ ,‬عن الثورة‪,‬‬ ‫ي�صرخ يف ال�شوارع‪ ,‬ويف �ضاحية �سان‬ ‫انطوان‪ ,‬بني جموع حركة �أ�صدقاء الأمة ‪:‬‬ ‫لتحيا اجلمهورية‪ .‬هذا الطفل كيف ا�ستطاع‬ ‫هيجو ت�صوير حياته‪ ,‬وغنائه يف ال�شوارع‪,‬‬ ‫وا�س�شهاده يف ثورة ‪1832‬م؟ و�أنت تقر�أ‬ ‫حتركاته يف امليدان لن جتد نف�سك �إال خلف‬

‫املتاري�س الباري�سية بجانب غافرو�ش‪ .‬و�أنت‬ ‫ت�شاهده يقود الكبار يف ال�شوارع يف م�شهد‬ ‫الثورة ال ت�ستطيع �إال �أن تردد معه وهو‬ ‫يغني ‪:‬‬ ‫هل تذكرين حياتنا العذبة‪,‬‬ ‫حني كنا كالنا �صغريين جد ًا‪,‬‬ ‫وحني مل تعتلج يف ف�ؤادنا غري رغبة واحدة‪,‬‬ ‫هي �أن نرتدي ثياب ًا �أنيقة و�أن يحب �أحدنا‬ ‫الآخر!‬ ‫ال يبلغ جمموع عمرينا �أربعني عام ًا‪,‬‬ ‫وحني كان كل �شيء‪ ,‬يف بيتنا املتوا�ضع‬ ‫ال�صغري‬ ‫ربيع ًا بالن�سبة �إلينا‪ ,‬حتى ال�شقاء نف�سه‪.‬‬ ‫يا لها من �أيام ًا حلوة!‬ ‫لقد ت�أملك القوم كلهم‪ ,‬كنت حمامي ًا من غري‬ ‫دعوى‬ ‫يوم ا�صطحبتك �إىل متنزه برادو‪,‬‬ ‫فكنت جميلة �إىل درجة جعلت الزهور‬ ‫ِ‬ ‫توقع يف نف�سي �أنها تتململ‪.‬‬ ‫لقد �سمعتها تقول ‪ :‬ما �أجملها!‬ ‫ما �أطيب عبقها ! ما �أروع متوج �شعرها !‬ ‫�إنها تخفي حتت ردائها الق�صري جناح ًا‬ ‫وهِ مت على وجهي معك‪� ,‬ضاغط ًا على ذراعك‬ ‫واعتقدوا عابروا ال�سبيل �أن احلب امل�سحور‬ ‫قد زوّ ج يف �شخ�صينا ال�سعيدين‬ ‫�شهر ني�سان العذب �إىل �شهر نوار اجلميل‬ ‫نحن نحيا خمتبئني‪ ,‬را�ضيني‪,‬‬ ‫ملتهمني باحلب‪ ,‬تلك الثمرة املحرمة الطيبة‪,‬‬ ‫ومل يكن فمي ليقول �شيئ ًا‬ ‫�إال �أجابه ف�ؤادك يف احلال‪.‬‬ ‫كانت ال�سوربون هي البقعة ال�شعرية‬ ‫الرعائية‬ ‫حيث كنت �أعبدك من امل�ساء حتى ال�صباح‪.‬‬ ‫هكذا ت�ستعمل النف�س العا�شقة‬ ‫تذكرة التاندر يف البلدان الالتينية‬ ‫�إيه يا �ساحة موبري! �إيه يا �ساحة دوفني‬ ‫يوم �سحبت يف الكوخ البارد الربيعي‬ ‫ذراعك فوق �ساقك الناعمة‪,‬‬ ‫لقد ر�أيت جنم ًا يف �أق�صى العلية‬ ‫لقد قر�أت �أفالطون كثري ًا ومل يبق يف ذهني‬ ‫�شيئ منه‬ ‫كما مل يبق �شيء من مالربان�ش وال منييه‬ ‫لقد �أريتني اللطف ال�سماوي‬ ‫أنت يل‬ ‫بزهرة قدمتها � ِ‬ ‫من ذا الذي ي�ستطيع �أن ين�سى‬ ‫�أوراق الفجر والقبة الزرقاء والأو�شحة‬ ‫والأزهار‬ ‫حيث احلب يغمغم بلغة �سوقية فاتنة!‬ ‫تلك امل�صائب الكربى التي كانت ت�ضحكنا!‬ ‫فروة يديك املحرتقة‪ ,‬وفروة جيدك الطويلة‬ ‫ال�ضائعة!‬ ‫وتلك ال�صورة الأثرية من �شك�سبري الإلهي‬ ‫التي بعناها ذات م�ساء‪ ,‬لتناول الع�شاء!‬ ‫�أول مرة �أخذت فيها‪,‬‬ ‫قبلة من �شفتيك امللتهبتني‬ ‫حني ت�شعث �شعرك و�شاع الدم يف وجهك‬ ‫بقيت �أ�صفر �شاحب ًا و�آمنت بالله!‬ ‫هل تذكرين �سعادتنا التي ال حت�صى‬ ‫وجميع تلك املناديل التي ا�ستحالت �إىل‬ ‫خرق!‬ ‫�أوه ! كم زفرة من قلبينا املفعمني بالظل‬ ‫قد انطلقت يف ال�سماوات العميقة!‬

‫فيكتور هيجو مل يتم كتابة الب�ؤ�ساء ب�شكلها‬ ‫النهائي �إال بعد ‪� 12‬سنة من بداية الكتابة‪.‬‬ ‫�أي �أنه ا�ضطر اىل كتابة الرواية على‬ ‫مدى ‪� 12‬سنة كاملة‪ .‬تقع �أحداث الرواية‬ ‫يف �أكرث من مكان‪ ،‬ولكن الأحداث جتري‬ ‫ك ّلها يف فرن�سا‪ ،‬بعد الثورة‪ ،‬ومن حيث‬ ‫الت�سل�سل الزمني للأحداث‪ ،‬جتري الأحداث‬ ‫عام ‪ ،1815‬ففي هذا التاريخ يهرب جان‬ ‫فاجلان من ال�سجن‪ ،‬ويعود فيكتور هيجو‬ ‫�إىل الوراء‪� ،‬أيّ �إىل عام ‪ 1796‬وهو العام‬ ‫الذي زج به بجان فاجلان بال�سجن ‪ .‬بع�ض‬ ‫ال�سنوات التي كتب فيها هيجو الرواية‬ ‫كان خارج مدينته باري�س‪ ,‬التي هي م�سقط‬ ‫روحه قبل ر�أ�سه‪ .‬باري�س ت�شكل عالمة من‬ ‫عالمات الرواية الكربى‪ ,‬رغم �أن باري�س‬ ‫هيجو القدمية تختلف عن التي زارها بعد‬ ‫عودته �إليها‪ .‬باري�س التي يحتفظ فيها‬ ‫بخ�شوع يف ذاكرته‪.‬هو يكتب يف الرواية‬ ‫عن باري�س القدمية املاثلة �أمام عينيه ال‬ ‫�صورة جديدة م�ضطر لل�سري وراءها‪.‬‬ ‫الإن�سان كما ي�صفه هيو يتعلق ب�صورة‬ ‫الوطن كما يتعلق بوجه �أمه‪ .‬هي ذي‬ ‫باري�س‪ ,‬هو ذا الإن�سان‪.‬‬ ‫” باري�س ت�ستيقظ وتفرك عينيها وتقول‬ ‫�أ�أنا بلهاء؟ وتنفجر �ضاحكة يف وجه‬ ‫اجلن�س الب�شري‪� .‬أي �أعجوبة هي هذه‬ ‫املدينة‪� .‬إن لباري�س مزاج ًا مرح ًا مطلق‬ ‫ال�سلطان‪� .‬إن ابتهاجها ملن ال�صاعقة‪ ,‬و�إن‬ ‫�ضحكتها حتمل �صوجلان ًا‪ .‬وقد تنطلق‬ ‫�أعا�صريها من تقطيب وجه‪� .‬إن �ضحكها‬ ‫هو فوهة بركان ي�صيب ر�شا�شه الأر�ض‬ ‫كلها‪� .‬إن لها يوم ‪ 14‬متوز الذي يحرر‬ ‫الكرة الأر�ضية‪ ,‬وهي حتمل جميع الأمم‬ ‫على �أن تق�سم ميني ملعب التن�س‪� .‬إن‬ ‫كتبها‪ ,‬وم�سرحها‪ ,‬وفنها‪ ,‬وعلمها‪ ,‬و�أدبها‪,‬‬ ‫وفل�سفتها هي الأ�صول التي ينهل منها‬ ‫العلم الب�شري‪� .‬إن عندها با�سكال‪ ,‬ورينية‪,‬‬ ‫وكورين‪ ,‬وديكارت‪ ,‬وجان جاك‪ ,‬وفولتري‬ ‫لكل حلظة‪ ,‬وموليري لكل ع�صر‪� .‬إنها جتعل‬ ‫الفم الكوين يتكلم بلغتها‪ ,‬وتنتهي تلك اللغة‬ ‫�إىل �أن ت�صبح كلمة الله ‪ .‬تلك هي باري�س‪.‬‬ ‫�إن �أدخنة �سطوحها هي �أفكار الكون‪ .‬ركام‬ ‫من الوحل واحلجارة‪ ,‬ولكنها فوق ذلك‬ ‫كائن �أخالقي‪� .‬إنها �أكرث من عظيمة‪ ,‬وغري‬ ‫متناهية‪ ,‬ملاذا؟ لأنها تتجر�أ! “‬ ‫فيكتور هيجو يف الرواية يقدم التاريخ‬ ‫الفرن�سي يف �أروع جتلياته‪ .‬من هذه‬ ‫التجليات‪ ,‬الثورة الفرن�سية‪ ,‬ونابليون‪,‬‬ ‫ومعركة واترلو‪ .‬عن الثورة الفرن�سية‪,‬‬ ‫يف �أكرث من مو�ضع يف الرواية ال تكون‬ ‫الثورة ورجاالتها وتاريخها �إال حا�ضر ًا‬ ‫و بقوة‪� .‬إن للثورة الفرن�سية كما يعرب‬ ‫هيجو �أ�سبابها‪� .‬إن امل�ستقبل �سوف يغفر لها‬ ‫غ�ضبها‪� ,‬أما نتيجتها فهي العامل الأف�ضل‪,‬‬ ‫ومن �ضرباتها الأ�شد ف�ضاعة تنبثق مالطفة‬ ‫للجن�س الب�شري‪ .‬ولكن ما يرف�ضه هيجو‬ ‫يف فرن�سا الثورية هو الإحرتام لتاريخية‬ ‫فرن�سا‪ .‬ينبغي على فرن�سا الثورية �أن ال‬ ‫تترب�أ من فرن�سا املا�ضي‪ .‬ملاذا ال نحب فرن�سا‬ ‫وتاريخها كله بدون انتقا�ص كما يقول‪” .‬‬ ‫الثورة الفرن�سية هي املثل الأعلى م�سلح ًا‬ ‫بال�سيف ال �أكرث‪ ,‬وبتلك احلركة نف�سها‬ ‫�أو�صدت باب ال�شر وفتحت باب اخلري‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫هناك م�شهد واحد �أعظم من‬ ‫البحر ‪ ,‬ذلك هو م�شهد ال�سماء‪.‬‬ ‫وهناك م�شهد واحد �أعظم من‬ ‫ال�سماء‪ ,‬ذلك هو باطن النف�س‬ ‫الب�شرية‪� .‬إن نظم ق�صيدة ال�ضمري‬ ‫الإن�ساين‪ ,‬ولو كان �ضمري رجل‬ ‫فرد‪ ,‬بل ولو كان �ضمري �أ�سفل‬ ‫النا�س واحطهم‪ ,‬يقت�ضي �إذابة‬ ‫جميع املالحم يف ملحمة عليا‬ ‫ونهائية‪ .‬ال�ضمري هو هيويل‬ ‫الروح‪ ,‬وال�شهوات‪ ,‬هو بوتقة‬ ‫الأحالم‪ ,‬هو مغارة الأفكار التي‬ ‫ن�ستحي بها‪� .‬إنه وكر املغالطات‪,‬‬ ‫و�ساحة احلرب التي ت�صطرع فيها‬ ‫اخرتق يف بع�ض ال�ساعات‬ ‫الأهواء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حجاب الوجه الأزرق امل�سود الذي‬ ‫يحمله كائن ب�شري م�ستغرق يف‬ ‫التفكري‪ ,‬وانظر �إىل ما ورائه‪.‬‬ ‫انظر �إىل تلك النف�س‪� ,‬إىل تلك‬ ‫الظلمة‪� .‬إن هناك حتت ال�صمت‬ ‫اخلارجي �صراع ًا بني العمالقة‬ ‫كالذي جنده عند هومريو�س‪,‬‬ ‫ومعركة بني التنانني والأفاعي‪,‬‬ ‫وح�شوداً من الأ�شباح كالتي نقع‬ ‫عليها عند ميلتون‪ ,‬ومتاهات‬ ‫خميفة كالتي نلقاها عند دانتي‪.‬‬ ‫�أي �شيء مظلم تلك الالنهاية التي‬ ‫يحملها كل امرئ يف ذات نف�سه‪,‬‬ ‫والتي يقي�س بها يف ي�أ�س رغبات‬ ‫دماغة‪ ,‬و�أفعال حياته‪.‬‬ ‫غافرو�ش تينادرييه‪ ,‬هذا الطفل‬ ‫ال�صغري‪ ,‬الأب الكبري‪ ,‬الثائر‬ ‫ال�صغري‪� ,‬أو �شهيد احلرية كما‬ ‫ي�سمى يف خالدة الب�ؤ�ساء لفيكتور‬ ‫هيجو‪ .‬هل من املمكن �أن جتتمع‬ ‫الثورة والغناء يف وقت واحد؟‬ ‫ويف �شخ�صية طفل �صغري اجته‬ ‫�إىل ال�شارع ليبحث عن ذاته‪,‬‬ ‫عن نف�سه‪ ,‬عن الثورة‪ ,‬ي�صرخ يف‬ ‫ال�شوارع‪ ,‬ويف �ضاحية �سان انطوان‪,‬‬ ‫بني جموع حركة �أ�صدقاء الأمة‪:‬‬ ‫لتحيا اجلمهورية‪.‬‬

‫ن�ستطيع �أن نقول �أنها خلقت الإن�سان‬ ‫من جديد ب�أن منحته نف�س ًا ثانية‪ ,‬منحنه‬ ‫حقوقه‪ ,‬فبف�ضل الثورة تغريت الأحوال‬ ‫الإجتماعية‪� .‬إن الأمرا�ض الإقطاعية مل‬ ‫تعد يف دمنا‪ ,‬مل يبق �شيء من القرون‬ ‫الو�سطى يف د�ستورنا‪� .‬إننا ما عدنا نعي�ش‬ ‫يف الع�صر الذي كانت التحالفات الداخلية‬ ‫ت�شن الغارات فيه‪ ,‬الع�صر الذي كان النا�س‬ ‫ي�سمعون فيه حتت �أقدامهم‪ ,‬الع�صر الذي‬ ‫ت�شققت فيه الأر�ض‪ ,‬وانفتحت فيه �أبواب‬ ‫الكهوف‪� ,‬إن املعنى الثوري معنى �أخالقي‪,‬‬ ‫ذلك ب�أن الإح�سا�س باحلق يولد الإح�سا�س‬ ‫بالواجب‪ ,‬وقانون كل �شيء هو احلرية التي‬ ‫تنتهي حيث تبد�أ حرية الآخرين “‬ ‫بعيد ًا عن فرن�سا الثورة‪ .‬تتحدث رواية‬ ‫الب�ؤ�ساء عن �شخ�صية نابليون بونابرت‪.‬‬ ‫وتوجد يف الرواية �شخ�صيات ت�ؤيده‪،‬‬ ‫و�أخرى تدينه‪ ،‬وهي بذلك ت�شبه رواية‬ ‫اجلرمية والعقاب‪� ,‬إذ ي�شبّه بطلها‬ ‫را�سكولينكوف نف�سه بنابليون بونابرت‪،‬‬ ‫ويرى �أنّ الفرق الأ�سا�سي بينهما �أ ّنه �أكرث‬

‫وجدان ًا من نابليون بونابرت‪ ،‬ويرمي‬ ‫را�سكولينكوف بنقوده امل�سروقة من عند‬ ‫العجوز املرابية‪ ،‬وجموهراته حتت �صخرة‬ ‫يف حديقة مهجورة‪ ،‬ويرمي جان فاجلان‬ ‫نقوده يف �صندوق وي�ضع ال�صندوق يف‬ ‫حديقة مهجورة‪ .‬من �أف�ضل الف�صول التي‬ ‫كتبها فيكتور هيجو عن نابليون هو ف�صل‬ ‫حرب واترلو!‬ ‫هناك نقطة مركزية يف الب�ؤ�ساء ي�ستند اليها‬ ‫هيجو بكرثة‪ ,‬ويكرث من احلديث عنها‪.‬‬ ‫النقطة التي يظهر من خاللها م�شاعر �أبطاله‬ ‫و�شخ�صياته‪ ,‬وحتى الإحداث التاريخية‪,‬‬ ‫هي الإميان بالله و وجود الله ‪ .‬وم�شكلة‬ ‫الإميان والإحلاد‪ .‬ويبدو �أن ال فرق يف‬ ‫الأفكار بني فيكتور هيجو وبني غريه من‬ ‫كبار الأدباء يف العامل‪ .‬مثل تول�ستوي على‬ ‫�سبيل املثال‪.‬‬ ‫الله ح�سب ت�صور فيكتور هيجو‪ -‬وقد ذكره‬ ‫بنف�سه يف الرواية على �أية حال – �أن الله‬ ‫هو املثل الأعلى‪ ,‬املطلق‪ ,‬الكمال‪ ,‬الالنهاية‪.‬‬ ‫هناك ملحدون م�شاهري و�أقوياء لكنهم‬ ‫ح�سب ت�صور هيجو الفل�سفي لي�سوا يف‬ ‫الواقع‪ ,‬وقد �أعيدوا �إىل احلقيقة بقوتهم‬ ‫نف�سها‪ ,‬واثقني كل الثقة من �أنهم ملحدون!‬ ‫�إن امل�س�ألة يف ما يت�صل بهم ال تعدو �أن‬ ‫تكون م�س�ألة حد �أو تعريف‪� .‬إنكار الله يقود‬ ‫�إىل العدمية‪ ,‬ومع العدم يتعذر النقا�ش‪,‬‬ ‫لأن العدمي املنطقي ي�شك يف �أن حماوره‬ ‫موجود‪ ,‬ولي�س واثق ًا كل الثقة من �أنه هو‬ ‫نف�سه موجود‪ .‬الفل�سفة ينبغي �أن ال تكون‬ ‫جمرد برج مراقبة‪ ,‬مبنية على الألغاز ابتغاء‬ ‫التحديق �إليها من غري نتيجة �سوى �إرواء‬ ‫الف�ضول‪ .‬يجب �أن نحيي الفال�سفة‪ ,‬ويف‬ ‫نف�س الوقت نخا�صم فل�سفتهم من غري هوادة‬ ‫كما يقول فيكتور هيجو‪� ,‬أديب فرن�سا‬ ‫الكبري‬ ‫املوت عند هيجو لي�س كمين ًا �أو انهيار ًا‪,‬‬ ‫و�إمنا هو عودة الأ�شياء �إىل �أ�صولها‪ ,‬الكمال‬ ‫املطلق‪� ,‬أعظم �صنوف احلرية‪ ,‬و�أعظم‬ ‫�ضروب التقدم‪ .‬املوت هو �صعود كل من‬ ‫عا�ش �إىل الطبقة العليا‪ .‬انه ال�صعود الباهر‬ ‫املقد�س‪ .‬ولذلك كانت نهاية الرواية متثل‬ ‫الكمال املطلق مثلما �أراد م�ؤلفها عرب �إيراده‬ ‫لكلمات كتبت على قرب عمالق الرواية جان‬ ‫فاجلان‪:‬‬ ‫يف جوار مقربة الفقراء واملجهولني‪,‬‬ ‫وبعيد ًا عن احلي الأنيق من مدينة القبور‬ ‫تلك‪ ,‬بعيد ًا عن جميع تلك الأ�ضرحة الغريبة‬ ‫التي تعر�ض يف ح�ضرة الأبدية �أزياء املوت‬ ‫الرهيبة‪ ,‬ويف زاوية مهجورة‪ .‬وهذا احلجر‬ ‫عار عن �أي زخرف‪ .‬فلم يفكر عند �إعداده‬ ‫ٍ‬ ‫�إال يف حاجات القرب ال�ضرورية ومل يُعن‬ ‫بغري جعل هذا احلجر كافي ًا من حيث الطول‬ ‫والعر�ض لتغطية رجل‪ .‬ومل يكن ثمة ا�سم‬ ‫ما‪ .‬بيد �أن يد ًا حطت على ذلك احلجر بقلم‬ ‫الر�صا�ص منذ عدة �سنوات‪ ,‬هذه الأبيات‬ ‫الأربعة التي انتهت تدريجي ًا �إىل �أن ت�صبح‬ ‫غري مقروءة‪ ,‬حتت املطر والغبار‪ ,‬والتي‬ ‫احمت اليوم يف �أغلب الظن ‪:‬‬ ‫�إنه يرقد‪ ،‬بالرغم من غرابة قدره‪.‬‬ ‫لقد عا�ش‪ .‬لكنه مات عندما فقد مالكه‪.‬‬ ‫الأمر يحدث بب�ساطة‪ ،‬من تلقاء نف�سه‪،‬‬ ‫مثلما ي�أتي الليل عندما يويل النهار‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫براءة و طهر بعد �أن باعد النوم ما بني‬ ‫�شفتيك ‪ ,‬و قرب ب�أ�صبعه ما بني جفنيك‬ ‫�أال يهيب بك �صوت من مالك يقول ‪ :‬كم‬ ‫�أنت م�ؤن�سة و عذبة للبائ�س الذي هجره‬ ‫كل النا�س ‪ ,‬ف�صار للوحدة و الوح�شة‪.‬‬

‫غرفة نوم فيكتور هيجو‬

‫بعد �سيطرة الكال�سيكية الطويلة وقدرتها على فر�ض نف�سها يف فرتة طويلة فار�ضة يف نف�س الوقت قواعدها‬ ‫ال�صارمة التي �أرهقت املبدعني ‪ ,‬و قد بد�أت يف بدايات القرن ال�سابع ع�شر ظهور �إرها�صات رف�ض و مترد و ردات‬ ‫فعل متثلت يف مذاهب �أدبية تطورت مع مرور الزمن ‪ ,‬كانت من هذه املذاهب ( الرومان�سية ) التي اتخذت طابعا‬ ‫ابداعيا يف مقابل الطابع االتباعي الذي متثل بالر�ضوخ للكال�سيكية ف�أنتجت �أدبا وجدانيا غلب عليه التطرف‬ ‫يف حب الطبيعة و متجيدها و ات�شح هذا الأدب بال�سوداوية املفرطة و الت�شا�ؤم و ا�ستمراء الأمل و كثـرة ال�شكوى‬ ‫دعا الرومان�سيون اىل نبذ عبادة املا�ضني والتحرر من �سلطان ادب االغريق والالتني و‬ ‫و االهتمام �أكثـر بحا�ضر الأمة و املبدعني املعا�صرين و طالبوا بالتجر�ؤ على نزعة القدا�سة التي �صبغت �أر�سطو‬ ‫و�أفكاره فعار�ضوا مثال قانون الوحدات الثالث ( املكان ‪ ,‬الزمان املو�ضوع )‬

‫المالمح الرومانسية في مسرحية هرناني‬ ‫فاعتربوا �أن لكل �أديب احلق الكامل‬ ‫ب�أن يعرب عن �أفكاره و �أحا�سي�سه‬ ‫بحرية متيحني املجال �أمام الإبداع‬ ‫الفردي لي�أخذ جمراه ‪ ,‬طارحني الفرد‬ ‫نف�سه كمادة للبحث بعيدا عن تعميم‬ ‫الكال�سيكيني و جتريدهم حلقائق العامل‬ ‫‪ ,‬ما دفعهم �إىل التم�سك باخليال احلر‬ ‫بعيدا عن قواعد العقل ال�صارمة التي‬ ‫حتكم تطور الأحداث لدى الكال�سيكيني‬ ‫‪ ,‬فالأحالم و الآمال و الآالم هنا كلها‬ ‫فردانية و ال تتعلق مب�صري جمتمع بقدر‬ ‫ما تتعلق مب�صري فرد يغو�ص بعذاباته ‪.‬‬ ‫و ابتعادهم هذا عن التجريد و التعميم‬ ‫دفعهم �إىل خلق �شخ�صيات تتمرد‬

‫على واقعها ‪ ,‬تك�سر �صفوف الطبقات‬ ‫االجتماعية و االنتماءات الدينية ‪ ,‬و‬ ‫تبحث عن م�صائرها ال�سامية بنف�سها‬ ‫‪ ,‬حماولني بنف�س الوقت �إيجاد �صيغ‬ ‫طوباوية و مثالية حللولهم ‪.‬‬ ‫�إال �أن الرومان�سية لي�ست مذهبا �أدبيا‬ ‫حمدد املعامل لها قواعد حمددة ‪ ,‬و هذا‬ ‫طبيعي مبا �أنها ظهرت كردة فعل على‬ ‫قواعد الكال�سيكية ‪ ,‬بل �أحتوت ( مالمح‬ ‫) –�إذا �صح التعبري – هي جملة‬ ‫مظاهر مترد ثورية على الأعراف‬ ‫و القوانني ال�سائدة �آنذاك ‪ .‬ما �أثار‬ ‫موجة من ال�صراع بني هذا املذهب‬ ‫الثوروي و بني متبعي القواعد‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫الكال�سيكية ‪ .‬و لعل م�سرحية ( هيجو‬ ‫) ال�شهرية ( هرناين ) من الأهمية‬ ‫مبكان �أنها حملت يف طياتها مالمح هذا‬ ‫املذهب ‪.‬‬ ‫يف العر�ض االفتتاحي الأول مل�سرحية‬ ‫( هرناين ) التي قدمت بح�ضور كاتبها‬ ‫( هيجو ) �أثارت تلك امل�سرحية زوبعة‬ ‫عنيفة من ال�صدامات و االحتجاجات )‬ ‫ماجعل ال�صراع قويا و مياال لكفة‬ ‫هذا املذهب الفتي عاملني رئي�سني يف‬ ‫اعتقادي‬ ‫‪ .1‬حترير هذا املذهب للمبدعني‬ ‫التواقني للتعبري عن ذواتهم الداخلية‬ ‫‪ .2‬تبني �أدباء مهمني �آنذاك لهذا املذهب‬

‫‪� ,‬أحدهم ال�شهري ( فيكتور هيجو )‬ ‫هرناين عمل كتبه هيجو على عجل لكن‬ ‫هذا العمل عا�ش طويال و عرف طريقه‬ ‫�إىل ال�شهرة لي�س بف�ضل قوة الكتابة �أو‬ ‫ر�سم ال�شخ�صيات و �سيكولوجيتها ‪ ,‬و‬ ‫لكن بف�ضل قدرات هيجو على ت�صوير‬ ‫املواقف و العالقة بني ال�شخ�صيات ‪,‬‬ ‫و قدرته على و�ضع حوارات �شاعرية‬ ‫رائعة كتلك التي تدور بني هرناين و‬ ‫حبيبته دونيال �سول‬ ‫هرناين ‪ :‬دونيا �سول ‪...‬يا حبيبتي و‬ ‫متيمتي ‪...‬نبئيني ‪� ,‬إذا ما �أقبل الليل ‪,‬‬ ‫و دب النوم يف عينيك فا�ست�سلمت �إليه‬ ‫و غبت عن الوجود ‪ ,‬يحف بك �سكون و‬

‫�أن الرومان�سية لي�ست مذهبا �أدبيا‬ ‫حمدد املعامل لها قواعد حمددة ‪ ,‬و‬ ‫هذا طبيعي مبا �أنها ظهرت كردة‬ ‫فعل على قواعد الكال�سيكية ‪,‬‬ ‫بل �أحتوت ( مالمح ) –�إذا �صح‬ ‫التعبري – هي جملة مظاهر مترد‬ ‫ثورية على الأعراف و القوانني‬ ‫ال�سائدة �آنذاك ‪.‬‬

‫ملخ�ص امل�سرحية‪:‬‬ ‫تدور �أحداث هذه امل�سرحية يف ربوع‬ ‫الأندل�س حيث ي�صف لنا هيجو فاتنة‬ ‫حول قلبها‬ ‫الإ�سبان ( دوينا �سول) التي ّ‬ ‫وجمالها ثالثة من الع�شاق �أولهم �شيخ‬ ‫مت�صاب هو ( دي �سيلفا) ‪ ،‬والثاين (‬ ‫دون كارلو�س ) ملك الإ�سبان‪ ،‬والثالث‬ ‫( هرناين) الثائر ال�شاب‪ .‬وامل�سرحية‬ ‫مليئة بالأحداث‪ ،‬هرنانيفي هذه‬ ‫امل�سرحية هوخارج عن القانون ثائر‬ ‫جمع لنف�سه ع�صابة يف ا�سبانيا بداية‬ ‫القرنال�ساد�س ع�شر لكنه يف الوقت‬ ‫نف�سه منا�ضل �سيا�سي يريد �أن يحارب‬ ‫ال�سلطات‪..‬وال�سلطة يف ذلكا لوقت‬ ‫كانت لل�شاب دون كارلو�س (الذي‬ ‫�سي�صبح خالل �أحداث امل�سرحية‬ ‫امرباطورا منتخبا حتت ا�سم �شارلكان)‬ ‫والذي كان يجمع بني امللك والثائر يف‬ ‫ذلك احلني هو هيامهما معاباحل�سناء‬ ‫دونيا �سول وهذه احل�سناء كانت مغرمة‬ ‫بهرناين وحده حتى وان كان الدون‬ ‫رويغوميز قرر �أن يتخذها لنف�سه زوجة‬ ‫وهذا كله نعرفه يف بداية امل�سرحية‪،‬‬ ‫ذلك ان كل الأحداث التي ت�شهدها‬ ‫ف�صول امل�سرحية اخلم�سة امنا هي‬ ‫مطاردات وكر وفر بني الثالثةاملغرمني‬ ‫بدونيا �سول مبا يف ذلك من م�ؤامرات‬ ‫ومناورات وحتالفات تربط هنا لتفك‬ ‫هناك‪�،‬أما التحالف الرئي�س يف �سياق‬ ‫امل�سرحية ف�أمنا هو ذاك الذي يعقد‬ ‫بني هرناين وبني رويغوميز �ضد امللك‬ ‫اذ يك�شف الأول للثاين عن هيام هذا‬ ‫امللك بدونيا �سول وحني يكت�شف امللك‬ ‫خاطب دونيا العجوز فج�أة تواجدها‬ ‫مع هرناين يف حديقة ق�صره الذي‬ ‫نقلها اليه ي�سلمه اىل روي غوميز لكنه‬ ‫يرف�ض معاقبته وينقذه رغم معرفته‬ ‫ب�أنه غرميه يف حبه ل�سونياثم يت�آمر‬ ‫الأثنان على اغتيال امللك ويتمكن دون‬ ‫كارلو�س من اكت�شاف امل�ؤامرة لكنه‬ ‫فيالوقت الذي يهم فيه مبعاقبتهم ي�صله‬ ‫خرب انتخابه امرباطورا‪ ،‬وهكذا يح�س‬ ‫يف حلظة انه البد �أن ي�سمو على تلك‬ ‫الرتهات ال�شبابية فيعفو عن املت�آمرين‬ ‫و�أولهم هرناين بل يرد له �أمالك جدوده‬ ‫و�أبيه ا�ضافة اىل انه يف حلظة �سخاء‬ ‫امرباطورية مده�شة مينحه حق الزواج‬ ‫مندونيا �سول وهكذا تبدو احلياة رائعة‬ ‫ويجتمع هرناين بحبيبته ولكن يف تلك‬ ‫اللحظةبالذات يحدث ماكانوا جميعا قد‬ ‫ن�سوه حني ينفخ غوميز يف البوق الذي‬ ‫وهبه لهرناين لدىحماولتهما اغتيال‬ ‫امللك والذي يجربه على قتل نف�سه كما‬ ‫كان قد وعده ولأن هرناين فار�س و�شهم‬ ‫والميكن له �أن ينكث بوعد �أو عهد‪،‬‬ ‫ولأن امل�سرحية الرومان�سية كلها تبجل‬ ‫قواعدالفرو�سية وال�شرف ولأن املوت‬ ‫ب�شرف لدى الرومان�سيني خري من‬ ‫حياة الذل‪ ،‬اليرتدد هرناين عن جترع‬ ‫ال�سم واذ ت�شاهد دونيا �سول مايحدث‬ ‫�أمامها ت�شرب بدورها جرعة من ال�سم‬ ‫لكي تلحق حبيبها اىل امللكوت الأعلى‬ ‫�أما روي غوميز فبعد �أن يرى نتائج‬ ‫ماعملته يداه ي�سارع اىل تناول ال�سم‬ ‫�أي�ضا ليموت ‪.‬‬ ‫�إن هذه املزاجية ال�سوداوية و‬ ‫ال�شاعرية التي تعتمر كال من الأحداث‬ ‫و اللغة و ال�شخ�صيات و الأهم «امل�صائر‬ ‫« كانت اجل�سد املتني للرومان�سية التي‬

‫دور �أحداث هذه امل�سرحية يف‬ ‫ربوع الأندل�س حيث ي�صف لنا‬ ‫هيجو فاتنة الإ�سبان ( دوينا �سول)‬ ‫حول قلبها وجمالها ثالثة‬ ‫التي ّ‬ ‫من الع�شاق �أولهم �شيخ مت�صاب هو (‬ ‫دي �سيلفا) ‪ ،‬والثاين ( دون كارلو�س‬ ‫) ملك الإ�سبان‪ ،‬والثالث ( هرناين)‬ ‫الثائر ال�شاب‪.‬‬

‫تكونت من خالل دمج غري وا�ضح‬ ‫املعامل بني موا�ضيع �إجتماعية و‬ ‫�سيا�سية من جهة و بني فردانية «الذات‬ ‫« املعذبة املتطلعة لل�سفر �إىل ما هو‬ ‫غري كائن من جهة �أخرى ‪ .‬فـ»املجتمع‬ ‫« كمفهوم و « الفرد « كمفهوم و ما‬ ‫يحمالن يف طياتهما من طبقات م�سخرة‬ ‫لتمجيد معاناة الذات الفردانية ال�ساعية‬ ‫للخال�ص « غري املوجود حتما « ولو بدا‬ ‫كذلك لوهلة يف هذا العامل ففي اللحظة‬ ‫التي يظن فيها العا�شقان (هرناين) و‬ ‫(دونيا �سول) انهما التقيا‪ ,‬ت�أتي �صرخة‬ ‫البوق لتعلن �أن مكان التقائهما لي�س يف‬ ‫هذا العامل‬ ‫دونيا �سول ‪� :‬أمل نكن �أعددنا كل �شيء‬ ‫لرنقد جنبا �إىل جنب هذه الليلة ؟ ماذا‬ ‫يهم �إذا تغري ال�سرير ؟ ))‬ ‫(( دونيا �سول ‪� :‬سنفتح �أجنحتنا معا و‬ ‫نطري يف الف�ضاء نحو عامل �أف�ضل )‬ ‫[و يعلق( دون روي جوميز ) حلظة‬ ‫انتحار العا�شقني على امل�شهد الذي‬ ‫�أمامه قائال ‪ :‬ما �أ�سعدهما ! ))‬ ‫�إن مفهوم املوت يف هذه امل�سرحية‬ ‫يتجلى ال ك�ضياع مادي جلزئيات‬ ‫اجل�سد و ال كرحلة �إىل عامل الآلهة‬ ‫املنتقمة ‪ ,‬بل كبعد �آخر خمتلف متواز‬ ‫بني االنتقال �إىل عامل �أف�ضل موجود‬ ‫يف كل حلظة بناءا على فكرة اال�ستعداد‬ ‫للذهاب �إليه متى �شاء الفرد ‪ .‬فتتكلم‬ ‫ال�شخ�صيات مع الأموات و ك�أنها‬ ‫موجودة ‪ .‬و هذا ب�شكل كبري يبدو من‬ ‫حوارات ( دون روي جوميز ) املتكررة‬ ‫مع �أجداده ‪ ,‬من خالل �صورهم املعلقة‬ ‫على اجلدران‬ ‫(( و �أنتم يا �آل �سيلفيا جميعا‪ ,‬يامن‬ ‫ت�سمعونني هنا �صفحا�إذا قلت ما قلت‬ ‫�أمامكم ))‬ ‫و عندما مي�شي �أمام ال�صور و يخاطبهم‬ ‫ك�أنهم �صف قدي�سني واقفني �أمامه‬ ‫(( �أيها املوتى املقد�سون يا �أ�ساليف ‪,‬‬ ‫�أيها الرجال الأ�شداء ‪ ,‬يامن عركوا من‬ ‫ي�أتي من اجلنة �أو تقذف بهم جهنم ‪,‬‬ ‫الأخيار منهم و الأ�شرار ))‬ ‫و ي�ست�شهد �أجداده يف ال�صور على عهد‬ ‫( هرناين ) له عندما �سلمه البوق‬ ‫�أنتم جميعا كونوا �شهودا عليه ))‬ ‫و يقبل ( هرناين ) بتنفيذ عهده عندما‬ ‫يذكره ( دون روي جوميز ) ب�أن الق�سم‬ ‫الذي �أق�سمه هو بر�أ�س �أبيه «امليت «‬ ‫فيقول ( هرناين ) ‪:‬‬ ‫[�أبي يطل علينا من عليائه ))‬ ‫�إن هذه امل�سرحية هي التعبري الأكرث‬ ‫متانة عن مفهوم الرومان�سية يف الأدب‬ ‫‪ ,‬بحيث �أنها حتمل يف كل �أبعادها على‬

‫�سمات رومان�سية على كافة الأ�صعدة‬ ‫( ال�شخ�صيات –اللغة – ك�سر قواعد‬ ‫الوحدات الثالث ب�شكل كبري ( وحدة‬ ‫املكان ) – ( وحدة الزمان )( وحدة‬ ‫املو�ضوع )‬ ‫ال�شخ�صيات ‪ :‬تعي�ش حالتها الفردية‬ ‫ال�سوداوية امل�ست�سلمة لقدرها ‪ ,‬هي‬ ‫�شخ�صيات تذوب يف حالة احلزن الذي‬ ‫ي�صبغ جميع الأحداث ‪ ,‬حتى يف �أ�شدها‬ ‫«فرحا « كالعر�س مثال ‪ .‬و هي غري‬ ‫متما�سكة و غري ثابتة بل تعي�ش �صراعا‬ ‫يتمثل بالتمزقات الداخلية التي ي�سببها‬ ‫الأمل ‪ ,‬ففي حني �أن ( دون روي جوميز )‬ ‫يبدو لنا «طيب االخالق « حني ي�صر على‬ ‫كتمان مكان ( هرناين ) �إال �أنه يفاجئنا‬ ‫مبوقفه الفرداين و االناين الذي يظهر‬ ‫به يف النهاية حني ي�صر على �أن ينفذ‬ ‫( هرناين ) وعده ‪ ,‬فال يخطر ببال‬ ‫القارئ من خالل تتبعه لل�شخ�صية �أنه‬ ‫�سي�ستخدم البوق ‪ ,‬و على العك�س منه‬ ‫يجد ( دون كارلو�س ) �صيغة طوباوية‬ ‫لي�صفح عن ( هرناين ) و مينحه لقب‬ ‫فار�س ‪ .‬ال�شخ�صية هنا غري ثابتة و‬ ‫ال تقودها الأخالقيات ال�صارمة مهما‬ ‫تغريت الظروف و يف نف�س الوقت هي‬ ‫لي�ست �شخ�صيات رهينة لواقعها كما‬ ‫�ستجدد الكال�سيكية نف�سها فيما بعد بل‬ ‫هي �شخ�صيات م�ستقلة عن الواقع و‬ ‫الظرف ‪ ,‬تدفعها �أهوائها و حريتها و‬ ‫ت�ضخم ذاتيتها �إىل الت�صرف ‪.‬‬ ‫]اللغة ‪ :‬غري مركبة و ال تعنى باجلزالة‬ ‫و الفخامة ‪ ,‬هي لغة �شاعرية �أقرب‬ ‫�إىل ق�صائد كئيبة عن عذابات الفرد و‬ ‫وظيفتها التعبري عن �شعور ال�شخ�صية‬ ‫مبنعزل عن الفخامة ‪ ,‬فتتجلى جمالياتها‬ ‫اخلا�صة من خالل التنا�سق و املرونة‬ ‫والتعبري الرمزي الذي يخدم الفكرة‪.‬‬ ‫ك�سر الوحدات الثالث‪ :‬و �إن كان هذا‬ ‫اخلرق ن�سبي بني الوحدات ‪ ,‬ف�أكرث ما‬ ‫نلحظه هو ك�سر لوحدة املكان ( حديقة‬ ‫‪ ,‬ق�صر ‪ ,‬قرب ‪� ,‬أمام �ساحة ‪�..‬إلخ ) ما‬ ‫يجعل املكان مطلقا و غري حمدد املعامل‬ ‫‪� ,‬شبيه بالف�ضاء الرحب الذي ت�سعى‬ ‫له ال�شخ�صيات ‪ ,‬و �إن خالفت الأماكن‬ ‫التوثيق التاريخي ‪ ,‬على ح�ساب رمزيته‬ ‫‪ ,‬مثلما ا�ستبدل الكاتب يف الف�صل‬ ‫الرابع مدينة ( فرانكفورت ) التي كانت‬ ‫جتري فيها االنتخابات ‪ ,‬مبدينة ( ايك�س‬ ‫ال �شبيل ) التي حتتوي قرب ( �شارملان‬ ‫) من �أجل �أن يف�سح املجال لت�أمالته و‬ ‫انتفا�ضاته و هو واقف �أمام هذا القرب‬ ‫و ال اعتبار ملرور الزمن فهو قطعا لي�س‬ ‫يوما واحدا و �إن مل تتم الإ�شارة على‬ ‫مرور الوقت ‪ ,‬فال اعتبار ملرور الزمن و‬ ‫ال �أهمية له �أو حتى للإ�شارة �إليه ‪� .‬أما‬ ‫عن وحدة املو�ضوع ‪ ,‬فلم ت�أخذ بعني‬ ‫االعتبار مراعاتها �أو عدم مراعاتها‪ ,‬على‬ ‫قدر �أهمية املو�ضوع بالن�سبة لل�شخ�صية‬ ‫ذاتها ‪.‬‬ ‫لقد كانت الرومان�سية الأدبية نوعا‬ ‫من االنتفا�ض من �أجل حرية الفرد‬ ‫و املزيد من �إ�ضفاء الكرامة عليه من‬ ‫خالل نقله املمكن دائما �إىل ف�ضاءات‬ ‫�أرحب من واقعه االجتماعي ‪ ,‬ما انتج‬ ‫�ضرورة ك�سر �أية قواعد حتد حرية‬ ‫الكاتب يف �سبيل تو�صيل فكرته التي‬ ‫انعك�ست ب�شكل كبري لونا من ي�أ�س‬ ‫من هذا العامل و ت�شا�ؤم من م�صري فرد‬ ‫متمزق يرتك نف�سه عر�ضة لأقداره التي‬ ‫تقوده �إىل امل�أ�ساة و مع كل هذا ف�إن‬ ‫هذه امل�أ�ساة التي تنتج الأمل فهي تنتج‬ ‫يف الوقت ذاته ال�سعادة ‪ ,‬ال�سعادة‬ ‫التي هي �س�ؤال �أي �أديب �أو فنان على‬ ‫مر الع�صور و اختالف املذاهب التي‬ ‫تعرب عنها‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫مقدمة كرومويل‪..‬‬ ‫ب���ي���ان ال��روم��ان��ت��ي��ك��ي��ة‬ ‫عبد ال�ستار ا�سماعيل‬ ‫مع نهايات القرن الثامن ع�شر ولد جن�س م�سرحي جديد يخلط الكوميديا بالرتاجيديا هو‬ ‫امليلودراما التي كانت تعر�ض يف ال�شوارع �أمام النا�س‪ .‬ويرجح الدار�سون �أنها‪ ،‬على خلوها‬ ‫من �أي قيمة �أدبية‪� ،‬إال �أنها �شكلت مقدمة هامة لوالدة نظرية الدراما الربجوازية‪ ،‬وبالتايل‬ ‫لوالدة الدراما الرومانتيكية التي �أعلن هيجو مبادئها يف مقدمته عام ‪ ،7281‬فبقدر ما‬ ‫توجهت الرومانتيكية اىل الذات الإن�سانية وتلون دواخلها‪ ،‬وحتوالت �أ�شكال الواقع املحيط‬ ‫بها‪ ،‬جعلت املعطيات الفردية كاخليال واحللم والعاطفة متقدمة على معطيات الظروف‬ ‫املو�ضوعية‪ .‬وبذلك �صار الذوق ال�شخ�صي �سيد املوقف‪ ،‬كما �صار الأدب الناجت عنه �أدب ًا‬ ‫جذاب ًا يبحث عن جمهوره و�سط قوى جديدة �أدت اىل رواجه كما حدت من �شطحاته‪ .‬وكان‬ ‫�أبرز هذه القوى النقد‪ ،‬وال�صحافة �أي النقد الذي مار�س �سلطته على الأدب يف املجالت‬ ‫واجلرائد‪ ...‬فمقدمة كرومويل ت�ستقي منوذجها الدرامي الأول وهو �شك�سبري من �إنكلرتا‪،‬‬ ‫وم�سرحيته نف�سها جت�سيد درامي ل�شخ�صية �سيا�سية �إنكليزية �أي�ضا‪ .‬فهيجو قد ت�سربت‬ ‫�إليه جملة من الت�صورات التي كونها عن الطرق الإبداعية ال�شك�سبريية اىل �شخ�صية‬ ‫كروميل‪ ،‬وما �أ�ضافه اىل �صفات الرجل حتى غدا بط ًال رومانتيكي ًا‪� ..‬أما املفارقة فتبدو عند‬ ‫انتقاد هيجو يف مقدمته للأ�سلوب ال�شك�سبريي ب�أنه يعاب عليه �إفراطه الغيبي‪ ،‬والفكري‪،‬‬ ‫وم�شاهده الزائدة‪،‬والفواح�ش‪،‬وا�ستخدام �صيغ ا�سطورية بالية يف ع�صره و�إفراطه يف‬ ‫الغرابة والغمو�ض‪،‬والذوق الرديء‪،‬وتفخيم الأ�سلوب وخ�شونته‪ ..‬فال�شخ�صية الرومانتيكية‬ ‫يف كونها امل�سرحي غري ال�صالح للعر�ض �أمام اجلمهور يح�صرها بالن�ص‪ ،‬ويجعل الأمل‬ ‫بدميومة حياتها اجلمالية �إىل جانب �أبطال �شك�سبري‪ ،‬وكورنيه‪ ،‬ورا�سني مرهون ًا مبدى‬ ‫�صالحية الأدب الدرامي للقراءة مبعزل عن التمثيل‪ .‬تتكون م�سرحية كروميل من خم�سة‬ ‫ف�صول ت�ستغرق الفرتة امل�شرقة من حياة رجل الثورة الإنكليزي« �أولفييه كرومويل»‬ ‫(‪،)1698 - 1599‬الذي تزعم حركة املعار�ضة ل�سلطة امللك ت�شارلز الأول‪ .‬وللأ�سقفية‬ ‫الآنكليكانية م�ستخدم ًا نفوذه يف الربملان‪.‬وقاد ثورة مهد لها بحنكة وبراعة‪،‬وانت�صر على‬ ‫جي�ش امللك‪ ،‬وحكم عليه بالإعدام �سنة ‪.1694‬و�أظهر �أثناء احلرب الأهلية قدرات ا�ستثنائية‬ ‫ع�سكري ًا و�سيا�سي ًا‪،‬يرجح �أنها وراء ان�شداد هيجو �إليه‪ ،‬واىل انت�صاراته يف �أ�سبانيا‬ ‫و�أوروبا‪،‬و�إخ�ضاعه ايرلندا وايقو�سيا‪ ،‬حيث �صارت �إنكلرتا القوة االقت�صادية والبحرية‬ ‫الأوىل‪ ..‬ما �أن ننتقل �إىل امل�سرحية حتى ن�صادف بط ًال ت�صعب االحاطة بتعرجاته النف�سية‬ ‫املتنافرة اىل حد �أن كرومويل يفقد كامل جانبه الإن�ساين ليتحول اىل مفهوم ذهني جمرد‪،‬‬ ‫�أو �إىل امنوذج ممتاز لل�شخ�صية الرومانتيكية وفق ما �أراد لها هيجو �أن تكون ‪ ،‬ف�صورة‬ ‫كرومويل مزيج من النور والظل‪ .‬والق�سوة واحلنان �إن�سان مبارك و�أحيان ًا �إن�سان وقح‪.‬‬ ‫انه طهري متزمت و�شجاع‪ ،‬ي�سيطر عليه الطموح البارد‪ ،‬واخلوف‪ ،‬وال حلم لديه �إال حتطيم‬ ‫التاج امللكي‪ .‬ويحطمه‪ ،‬و�ساعة ت�شاور الربملان يف نقل و�صاية التاج‪ ،‬يتخوف من املعار�ضة‪،‬‬ ‫فين�سى مثله العليا الطهرية وي�ستعني بالف�ساد لتخفيف حدتها‪ ،‬والتخل�ص من خ�صومه‪....‬‬ ‫يتو�سل �إليه الربملان الوديع كي ي�صعد اىل العر�ش‪ ،‬لكن كرومويل‪ ،‬يتخلى عن احللم حلظة‬ ‫حتققه‪ ،‬ويرف�ض التاج وهو يرى اخلناجر تلتمع‪ ،‬وك�أنه خارج من حلم‪ ،‬ويظل الهو�س الب�س ًا‬ ‫ذاته وتظل عيناه تائهتني‪ ،‬ويخاطب نف�سه متمتع ًا‪� «:‬إذ ًا متى �أ�صبح ملك ًا؟» كان للمفهوم الذي‬ ‫قدمه هيجو عن �سريورة التاريخ ومعناه وخ�صه لكل ع�صر ب�صيغة تعبريية حمددة �صدى‬ ‫�إيجابي يف ع�صره لذلك �سميت مقدمة كرومويل املج�سدة له بـ« بيان الرومانتيكية»‪ .‬فهي يف‬ ‫نظر النقاد تعد بيان ًا للدراما الرومانتيكية ونظريتها التي �أحدثت ثورة على مفهومات امل�سرح‬ ‫التقليدي‪ ،‬وحتديد ًا على مفهوم الوحدات الثالث‪ .‬وفيها يو�ضح فيكتور هيجو اال�ستخدام‬ ‫اذا جاز لنا �أن نبني ر�أينا فيما ميكن �أن يكون‬ ‫اجليد لقواعد الفن امل�سرحي بقوله«‬ ‫نتوخى �شعر ًا‬ ‫لأ�سلوب امل�سرحية‪ ،‬فنحن �إمنا‬ ‫حر ًا‪ ،‬و�صادق ًا ووفي ًا جريئ ًا على‬ ‫قول كل �شيء من دون حت�شم‪،‬‬ ‫وعلى التعبري عن كل �شيء من‬ ‫دون ت�صنع ينتقل ب�شكل طبيعي‬ ‫من الكوميديا اىل الرتاجيديا‪،‬‬ ‫ومن اجلليل اىل املتنافز‪-‬‬ ‫امل�ضحك‪ ،‬فهو بالتناوب‬ ‫�إيجابي و�شعري‪ ،‬ويف الوقت‬ ‫نف�سه حاذق و مداهم‪ ،‬عميق‬ ‫ومفاجىء وا�سع وحقيقي‪»..‬‬ ‫ويربهن هيجو على �آرائه‬ ‫من خالل عقد �ضرب من‬ ‫املقارنة بني القدمي واحلديث‬ ‫يف الفن امل�سرحي بدء ًا‬ ‫بالع�صور البدائية التي راج‬ ‫فيها ال�شعر الغنائي‪ ،‬مرور ًا‬ ‫بع�صر امل�سيحية والدراما‪،‬‬ ‫وانتهاء ب�شك�سبري الذي‬ ‫ميثل‪ ،‬يف نظره‪ ،‬الدراما‬ ‫احلديثة التي تتداخل‬ ‫فيها الأجنا�س الأدبية‬ ‫واملقوالت اجلمالية من‬ ‫كل لون‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1985‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )11‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫مرافعة فيكتور هيجو ضد عقوبة اإلعدام‬ ‫هايل ن�صر‬ ‫فيكتور هيجو الذي �أنار القرن التا�سع‬ ‫ع�شر ب�أفكاره ككاتب و�شاعر ورجل‬ ‫فكر و�سيا�سة‪ ،‬ومازالت �أعماله الرائعة‬ ‫اخلالدة ت�أخذ مكانة الئقة بها يف قرننا‬ ‫الواحد والع�شرين‪ .‬خا�ض معركة‬ ‫ا�ستمرت طيلة حياته �ضد عقوبة‬ ‫الإعدام‪� ،‬سطرتها املئات من الن�صو�ص‬ ‫والر�سائل واملقاالت‪.‬‬ ‫فيكتورهيجو لي�س حماميا‪ .‬واملحاكم‪،‬‬ ‫يف ع�صره‪ ،‬كانت مكانا ي�سمح بالتعبري‬ ‫عن الآراء‪ ،‬لي�س �آراء ومرافعات املحامني‬ ‫فقط‪ .‬كما �أن املرافعات غري حم�صورة‬ ‫بدقة يف �إطار الدعوى ‪ .‬مهنة املحاماة‬ ‫التي عرفت م�أ�س�ستها يف ظل نظام‬ ‫فيليب ال بال ‪ ، Philippe la Bel‬مل يبد�أ‬ ‫تنظيمها الفعلي �إال ابتداء من القرن ‪17‬‬ ‫‪ .‬وكان ميكن‪ ،‬رغم تنظيمها‪� ،‬أن يوكل‬ ‫حق الدفاع فيها �إىل احد �أقرباء املدعى‬ ‫عليه‪� ،‬أو �أحد �أ�صدقائه‪ .‬وكانت الر�سائل‬ ‫التي توجه للملك ب�ش�أن ق�ضية ق�ضائية‬ ‫تعترب مرافعات بحق‪.‬‬

‫كانت مرافعة فيكتور هيجو يف حمكمة جنايات ال�سني‬ ‫الفرن�سية يف جل�ستها املنعقدة يف ‪ 1851/6/11‬يف‬ ‫الدفاع عن ابنه ال�صحفي �شارل‪ ،‬املتهم ب�سرد وقائع‬ ‫تنفيذ عقوبة �إعدام مرعبة يف جريدة «احلدث»‪ ،‬منا�سبة‬ ‫ا�ستغلها للهجوم على عقوبة الإعدام واملطالبة ب�إلغائها‪.‬‬ ‫وقد اعتربت من ابلغ املرافعات بهذا ال�صدد يف ع�صرها‪،‬‬ ‫وحمل �إعجاب يف ع�صرنا‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬قدرنا ان من املفيد للقارئ العربي‪ ،‬الذي يهمه‬ ‫معرفة �آراء املدافعني عن �إلغاء عقوبة الإعدام‪ ،‬معرفة‬ ‫ر�أي رجل من العظماء التي اكتملت فيهم العظمة بكل‬ ‫�أبعادها الإن�سانية‪ .‬فالعظمة ال تت�أتى من جمرد موقف‪،‬‬ ‫�أو اتخاذ ر�أي‪� ،‬أو كتابة م�ؤلف �أو رواية‪� ،‬أو حترير ن�ص‬ ‫�أو مقالة‪ ،‬و�إمنا يف تكري�س حياة كاملة للدفاع ال�شريف ـ‬ ‫بكل ما يف الدفاع من خماطر وما يرتتب عليه من نتائج‬ ‫ـ عن ق�ضية عادلة تر�سخ عميقا �أفكارا ومبادئ هدفها‬ ‫الإن�سان �أينما كان وكيفما كان‪� .‬إن�سان كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫جاء يف املرافعة املذكورة‪ ،‬التي تعتمد ال�صياغة الأدبية‬ ‫ملخاطبة ال�ضمائر والقلوب‪ ،‬للت�أثري يف املخاطبني‪،‬‬ ‫وتعك�س �صدق �أحا�سي�س وم�شاعر �صاحبها ‪ ،‬ولي�س فقط‬ ‫تقنيات املرافعات الق�ضائية ال�صرفة يف �أيامنا هذه‪.‬‬ ‫« ال�سادة املحلفون‪ ،‬من الكلمات الأوىل التي �أر�سلها‬ ‫املحامي العام‪ ،‬اعتقدت للحظة ب�أنه �سيتخلى عن االتهام‪.‬‬ ‫هذا االعتقاد كان وهما مل يدم طويال‪ .‬بعد بذله جهودا‬ ‫غري جمدية حل�صر املرافعات وتقلي�ص �أبعادها‪ ،‬اجنرت‬ ‫النيابة العامة‪ ،‬نظرا لطبيعة الق�ضية‪ ،‬ورغما عن النائب‬ ‫العام‪ ،‬لإعادة فتح هذه الق�ضية على كل مظاهرها‬ ‫و�أبعادها و�أعماقها‪ .‬و هذا �أمر ال �أ�شكو منه‪.‬‬ ‫« �س�أعر�ض التهمة مبا�شرة‪ .‬ولكن قبل ذلك نبد�أ باملق�صود‬ ‫من عبارة معينة‪ ،‬فالتعاريف اجليدة تقود �إىل املناق�شات‬ ‫اجليدة‪ .‬هذه العبارة واجبة التعريف‪« :‬االحرتام‬ ‫الواجب للقانون» التي هي يف �أ�سا�س االتهام‪ ،‬ماذا‬ ‫حتمل؟‪ .‬ماذا تعني؟‪ .‬وما هو جوهرها احلقيقي؟ ‪ .‬ال‬ ‫ميكن لهذه العبارة �أن تعني ـ واعتقد �أن النيابة العامة‬ ‫نف�سها �سوف ال يذهب بها الأمر �إىل م�ساندة العك�س ـ‬ ‫�إلغاء النقد حتت ذريعة احرتام القوانني‪ .‬هذه العبارة‬ ‫تعني بب�ساطة احرتام تنفيذ القوانني‪ ،‬وال �شيئا �آخر‪.‬‬ ‫فهي ت�سمح بالنقد‪ ،‬ت�سمح باللوم ال�شديد‪ ،‬ونرى ذلك‬ ‫يوميا‪ ،‬وحتى فيما يتعلق بالد�ستور الذي هو �أ�سمى‬

‫من القوانني‪ .‬هذه العبارة ت�سمح بالتوجه لل�سلطة‬ ‫الت�شريعية لطلب �إلغاء قانون خطري‪ .‬هذه العبارة‬ ‫ت�سمح �أخريا بان تتم جمابهة القوانني بعقبة معنوية‪،‬‬ ‫وال ت�سمح مبجابهتها بعقبة مادية‪ .‬دعوا قانونا ينفذ‬ ‫حتى ولو كان �سيئا‪ ،‬حتى ولو كان ظاملا‪ ،‬حتى ولو كان‬ ‫بربريا‪ ،‬اف�ضحوه �أمام الر�أي العام‪� ،‬أمام امل�شرع‪ ،‬ولكن‬ ‫نفذوه‪ .‬قولوا ب�أنه �سيئ‪ ،‬قولوا ب�أنه ظامل‪ ،‬قولوا ب�أنه‬ ‫بربري‪ ،‬ولكن ال حتولوا دون تطبيقه‪ .‬نعم للنقد‪ .‬ال‬ ‫للتمرد‪ .‬هذا هو املعنى احلقيقي‪ ،‬املعنى الوحيد لهذه‬ ‫لعبارة‪ :‬احرتام القوانني‪.‬‬ ‫بوجه �آخر �أيها ال�سادة ت�أملوا جيدا بهذا‪ .‬العملية‬ ‫اخلطرية التي هي �إ�صدار القوانني‪ ،‬تت�ضمن عملني‪ ،‬عمل‬ ‫ال�صحافة التي تنتقد وتن�صح‪ ،‬وتو�ضح‪ .‬وعمل امل�شرع‬ ‫الذي يقرر‪� .‬أقول يف هذه العملية اخلطرية �إذا �شل‬ ‫العمل الأول ‪�،‬أي النقد‪ ،‬فان العمل الثاين �سي�شل مثله‪.‬‬ ‫وت�صبح القوانني حم�صنة �ضد كل نقد‪ ،‬وبالتايل ال يعود‬ ‫هناك �سبب لتح�سينها‪� ،‬أو تعديلها‪ ،‬وال لإ�صالحها‪ .‬وال‬ ‫يبقى من فائدة لبقاء اجلمعية الوطنية‪ ،‬مما ي�ستوجب‬ ‫�إغالقها‪ .‬وال اعتقد �إن �أحدا يريده‪�( .‬ضحك)‪.‬‬ ‫بعد هذه الإ�ضاءة يتبدد كل التبا�س فيما يتعلق بعبارة «‬ ‫االحرتام الواجب جتاه القوانني»‪ .‬و�س�أدخل �ضمن �صلب‬ ‫امل�س�ألة‪.‬‬ ‫ال�سادة املحلفون‪ ،‬يوجد فيما ن�سميه املجموعة القانونية‬ ‫الأوربية الهرمة ‪،vieux code européen‬‬ ‫قانون يريد كل الفال�سفة‪ ،‬كل املفكرين‪ ،‬كل رجال الدولة‬ ‫احلقيقيني �إلغاءه من الت�شريع العام‪ .‬قانون اعتربه‬ ‫بيكارا ‪ Beccaria‬زنديق‪ ،‬و�أعلنه فرنكالن مت�سلط‪.‬‬ ‫ومع ذلك مل جتر حماكمة بيكارا وال فرنكالن‪ .‬قانون‬ ‫يقع ثقله ب�شكل خا�ص على هذا اجلزء من ال�شعب املكبل‬ ‫باجلهل والفقر‪ .‬قانون ممقوت من الدميقراطية‪ .‬قانون‬ ‫يرف�ضه كذلك املثقفون املحافظون‪ .‬قانون قال امللك‬ ‫لوي�س فيليب ب�صدده ‪ »:‬كرهته طيلة حياتي»‪ .‬قانون‬ ‫كتب �ضده ال�سيد ‪ Broglie‬وال�سيد ‪ . Guizot‬قانون‬ ‫طلبت غرفة النواب �إلغاءه‪ ،‬يف �شهر �أكتوبر ‪� ،1830‬أي‬ ‫قبل ع�شرين عاما‪ .‬وبنف�س احلقبة �ألغاه برملان اوتايتي‬ ‫‪ Otahiti‬من جمموعاته القانونية ‪ .‬ومنذ ‪� 3‬سنوات‬ ‫�ألغته اجلمعية الوطنية يف فرانكفورت‪ .‬كما �ألغته نهائيا‬ ‫قبل عامني اجلمعية الت�أ�سي�سية جلمهورية رومانيا‪.‬‬

‫�ضريح فيكتور هيجو‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫قانون مل يحتفظ به د�ستورنا لعام ‪� 1848‬إال بعد تردد‬ ‫حمزن‪ ،‬م�ؤمل وكريه‪ .‬قانون �إىل الآن واىل ال�ساعة‬ ‫احلا�ضرة التي �أحتدث فيها‪ ،‬كان مو�ضوع طلبي �إلغاء‬ ‫مو�ضوعني على من�صة ال�سلطة الت�شريعية‪ .‬قانون مل‬ ‫تعد رو�سيا تريده‪ .‬لقد حان الوقت لأن تكف فرن�سا عن‬ ‫رعايته‪� .‬أمام هذا القانون يرتاجع ال�ضمري الإن�ساين‬ ‫بقلق يتعاظم يوما بعد يوم‪� .‬إنه قانون عقوبة الإعدام‪.‬‬ ‫نعم �أيها ال�سادة‪ ،‬على �أ�سا�س هذا القانون �أُقيمت الدعوى‬ ‫احلالية‪ .‬هذا القانون نف�سه هو خ�صمنا‪� .‬أنا ل�ست غا�ضبا‬ ‫من ال�سيد املحامي العامي‪ ،‬ولكني �أملح هذا القانون‬ ‫خلفه‪( .‬ململة يف القاعة)‪.‬‬ ‫�س�أعرتف‪ .‬منذ �أكرث من ع�شرين عاما‪ ،‬كنت اعتقد‪،‬‬ ‫�أنا الذي يتحدث �أمامكم‪ ،‬كنت اعتقد مع ليون فو�شيه‬ ‫الذي كتب يف جملة باري�س عام ‪ 1936‬ما �س�أقر�ؤه لكم‬ ‫‪« :‬من�صة الإعدام �سوف ال تعود للظهور يف �ساحاتنا‬ ‫العامة �إال نادرا ‪ ،‬وكم�شهد يخزي العدالة»‪.‬‬ ‫اعتقدت‪ ،‬لفرتة‪� ،‬أن املق�صلة ـ يجب ت�سميتها با�سمها‬ ‫ـ بد�أت حماكمة نف�سها بنف�سها‪ ،‬لأنها �شعرت ب�أنها‬ ‫م�ستنكرة‪ .‬ب�أنها �ستعلن للجمهور يف و�ضح النهار‪ ،‬ويف‬ ‫�ساحة جنيف‪ ،‬ب�أنها كفرت بنف�سها‪ ،‬وب�أنها مل تعد تقدم‬ ‫عرو�ضا �شيقة للم�شاهدين‪ .‬وب�أنها �ستقوم مبهامها ب�أكرب‬ ‫قدر من التخفي‪ ،‬يف �أماكن خالية وبعيدا عن ح�ضور‬ ‫احد‪ .‬لقد بدا يل ب�أنها بد�أت يف التخفي‪ ،‬فهن�أت نف�سي من‬ ‫خفرها هذا‪.‬‬ ‫نعم �أيها ال�سادة‪ ،‬لقد ُخدعت‪ .‬لقد عادت عن خجلها‬ ‫الزائف‪ .‬املق�صلة ت�شعر ب�أنها م�ؤ�س�سة اجتماعية‪ ،‬كما‬ ‫نتكلم اليوم‪ .‬ومن يعلم؟ ميكن �أن تكون هي �أي�ضا حتلم‬ ‫ب�إعادة ترميمها (�ضحك من احلا�ضرين)‪.‬‬ ‫ميكن �إن نذهب قريبا لرنى عودة ظهورها يف �ساحة‬ ‫جنيف يف عز الظهرية وو�سط اجلماهري الغفرية‪،‬‬ ‫يواكبها اجلالدون ورجال الدرك و�شخ�صيات عامة‪،‬‬ ‫حتت نوافذ البلدية‪.‬‬ ‫يف االنتظار‪ ،‬تنت�صب‪ ،‬معتقدة �أن املجتمع امل�ضطرب‬ ‫بحاجة لها لتوطيده‪ ،‬وعليه العودة �إىل كل التقاليد‬ ‫القدمية‪ ،‬واملق�صلة هي �أي�ضا تقليد قدمي‪ .‬حتتج �ضد‬ ‫ه�ؤالء الدمياغوجيني‪ :‬بيكارا‪ ،‬فيكو‪ ،‬فيلنجريي‪،‬‬ ‫مونت�سكيو‪ ،‬تريكوو‪ ،‬فرنكالى‪ .‬وامل�سميني لوي�س‬ ‫فيليب‪ ،‬بروكلي ‪ ،‬كيزوت‪ .‬الذين جتر�ؤا على االعتقاد‬ ‫والقول بان �آلة قطع الرقاب زائدة يف جمتمع كتابه‬ ‫الإجنيل‪.‬‬ ‫�سوف تغتاظ من ه�ؤالء الطوباويني الفو�ضويني ‪،‬‬ ‫(�ضحك) ويف القادم من الأيام ‪،‬الأكرث مقابرية ‪،‬الأكرث‬ ‫دموية‪ ،‬تريد �أن نعجب بها‪ ،‬و تفر�ض علينا �أن نحرتمها‪،‬‬ ‫و�إال ف�ستعلن �أنها قد �أهينت‪ ،‬وجتل�س لالدعاء باحلق‬ ‫املدين‪ ،‬وتطالب بالتعوي�ض عن العطل وال�ضرر‪( .‬‬ ‫�ضحك �صاخب لفرتة طويلة)‪.‬‬ ‫( الرئي�س‪ :‬كل عالمات اال�ستح�سان ممنوعة مثل كل‬ ‫عالمات اال�ستهجان‪ .‬هذا ال�ضحك غري منا�سب يف مثل‬ ‫هذه امل�سالة)‬ ‫ويتابع هيجو‪ :‬لقد اهرقت دماء‪ ،‬وهذا غري كاف ولي�ست‬ ‫را�ضية تريد �أي�ضا غرامات و�سجنا‪.‬‬ ‫ال�سادة املحلفون‪ :‬اليوم الذي و�صلت فيه �إىل منزيل‬ ‫هذه الورقة‪ ،‬املمهورة بختم وطابع‪ ،‬ي�ستدعون مبوجبها‬ ‫ابني للمثول يف الدعوة املعيبة ـ نرى �أ�شياء غريبة جدا‬ ‫هذه الأيام‪ ،‬وعلينا االعتياد عليها ‪ ،‬نعم ـ اعرتف لكم بان‬ ‫ده�شتي كانت كبرية و�صرخت‪:‬‬ ‫ماذا ؟‪ .‬هل و�صلنا �إىل هذا احلد؟‬ ‫ماذا ؟‪ .‬هل و�صلنا �إىل هنا‪� ،‬إىل هذا احلد من تكرار‬ ‫لالعتداء على االجتاه ال�سليم‪ ،‬لالعتداء على العقل‪،‬‬ ‫على حرية التفكري‪ ،‬على احلقوق الطبيعية؟‪ .‬و�ستجري‬ ‫مع ذلك مطالبتنا لي�س فقط باالحرتام املادي‪ ،‬وهذا‬ ‫ال نعار�ض فيه‪ ،‬وهذا واجب علينا‪ ،‬ونقبل به‪ ،‬ولكن‬ ‫االحرتام املعنوي لهذه العقوبات التي تفتح هوة عميقة‬ ‫يف ال�ضمائر‪ .‬لهذه العقوبات التي تغم�س �أ�صابعها‬ ‫يف الدم الإن�ساين لتكتب هذا الأمر‪« :‬ال تقتل !!»‪ .‬لهذه‬ ‫العقوبات الظاملة التي تقود �إىل الت�شكيك بالإن�سانية عند‬ ‫احلكم بها على املجرم‪ .‬والتي تقود للت�شكيك بالإله عند‬ ‫احلكم بها على الربيء‪ .‬ال‪ .‬ال‪ .‬ال‪ .‬مل ن�صل بعد �إىل هذا‪.‬‬ ‫ال‪ (Sensation .‬موجة عارمة ووا�سعة يف القاعدة‬ ‫تعرب عن �أحا�سي�س م�ضطربة)‪.‬‬

‫ومبا �إين هنا‪ ،‬علي �أن �أقول لكم �أيها ال�سادة املحلفون‪،‬‬ ‫و�سوف تفهمون كم هو انفعايل عميق‪ ،‬باين �أنا املجرم‬ ‫يف هذه الق�ضية ولي�س ابني‪ ،‬املجرم هو �أنا‪ .‬املجرم‬ ‫احلقيقي‪ ،‬اكرر‪ ،‬هو �أنا الذي منذ ‪ 25‬عاما �أكافح بكل‬ ‫الو�سائل �ضد العقوبات املتعذر �إ�صالحها‪� .‬أنا الذي منذ‬ ‫‪ 25‬عاما �أدافع‪ ،‬ويف كل املنا�سبات‪ ،‬عن ح�صانة حياة‬ ‫الإن�سان‪.‬‬ ‫هذه اجلرمية‪ ،‬التي هي الدفاع عن ح�صانة حياة‬ ‫الإن�سان‪ ،‬قد ارتكبتها �أنا قبل �أن يرتكبها ابني‪ .‬وعليه‬ ‫فانا �أ�شي بنف�سي �أيها ال�سيد املحامي العام!! لقد‬ ‫ارتكبتها مع كل الظروف امل�شددة‪ ،‬عن �سابق عمد‬ ‫وترب�ض‪ ،‬و�إ�صرار وباالعتياد والتكرار‪.‬‬ ‫نعم‪� .‬أ�صرح بذلك‪ ،‬هذه البقية من العقوبات الوح�شية‪،‬‬ ‫هذا القانون الهرم الغبي‪ ،‬قانون الث�أر‪ ،‬قانون الدم‬ ‫بالدم‪ ،‬كافحت �ضده طيلة حياتي ـ كل حياتي �أيها‬ ‫ال�سادة املحلفون !!ـ وطاملا بقي نف�س يف �صدري �سوف‬ ‫�أقاومه بكل قواي ككاتب‪ ،‬و�سوف �أبقى �أ�صوت �ضده‬ ‫كنائب م�شرع‪.‬‬ ‫�أ�صرح بذلك ( ميد هيجو يده باجتاه لوحة تر�سم ال�سيد‬ ‫امل�سيح يف �صدر املحكمة معلقة خلف الق�ضاة قائال)‬ ‫�أمام �ضحية عقوبة الإعدام الذي هو هنا‪ ،‬الذي يرانا‪،‬‬ ‫اق�سم �إن القانون الإن�ساين �صلب القانون الإلهي‪( .‬ت�أثر‬ ‫عميق يف القاعة)‪.‬‬ ‫ما كتبه ابني‪ ،‬كتبه‪ ،‬اكرر ذلك‪ ،‬الين �أوحيت له به منذ‬ ‫طفولته‪ ،‬لأنه يف الوقت الذي هو فيه ابني بالن�سب‪ ،‬هو‬ ‫كذلك ابني با لروح‪ ،‬لأنه يريد �إكمال تقاليد والده‪ ،‬نعم‬ ‫�إكمال تقاليد والده‪ .‬هذه هي اجلرمية‪ ،‬و�أحب �إن يكون‬ ‫مالحقا من اجلها‪.‬‬ ‫�أيها ال�سادة‪ ،‬اعرتف بان التهمة التي نحن هنا ب�سببها‪،‬‬ ‫تذهلني‪.‬‬ ‫كيف لقانون مهلك يقدم للجمهور م�شاهد غري �أخالقية‪،‬‬ ‫مهينة‪ ،‬متوح�شة‪ ،‬تنزع �إىل جعل ال�شعب فظ‪ ،‬نتائجه‬ ‫فظيعة‪ ،‬خطرية‪ .‬و �سيكون مع ذلك ممنوعة الإ�شارة‬ ‫�إليه !! ‪ .‬و�إذا جرى ذلك يعترب عدم احرتام!! وي�صبح‬ ‫من يفعل ذلك جمرما �أمام العدالة!!‪ .‬ويعاقب بالغرامات‬ ‫وال�سجن!! ‪ .‬عليكم �إذن �إغالق غرفة الت�شريع!!!‪� .‬أغلقوا‬ ‫املدار�س‪ ،‬انعتونا باملغول �أو فيبت‪ ،‬نحن مل نعد امة‬ ‫متح�ضرة!!‪ .‬قولوا لنا �إننا يف �آ�سيا‪ .‬انه كان قدميا‬ ‫هناك بلد ا�سمه فرن�سا‪ ،‬وان هذا البلد مل يعد موجودا‪،‬‬ ‫و�إنكم ا�ستبدلتموه ب�شيء لي�س هو امللكية‪ ،‬ولكنه‬ ‫بالت�أكيد لي�س اجلمهورية‪.‬‬ ‫ال�سادة املحلفون‪ ،‬يف ا�سبانيا التفتي�ش كان القانون‪.‬‬ ‫يف فرن�سا التعذيب كان القانون‪ .‬الأيدي املقطوعة من‬ ‫املع�صم كان القانون‪ .‬و�أنا ال احرتام ال�ساطور‪ .‬الأغالل‬ ‫كانت القانون و�أنا ال احرتم الأغالل‪ ،‬نعم‪� ،‬أعرتف لكم‬ ‫بعدم االحرتام هذا‪ .‬و�أنا ال �أحرتم كذلك املق�صلة‪.‬‬ ‫هل تعلم ملاذا �أيها ال�سيد املحامي العام؟ �س�أقوله لك‪.‬لأننا‬ ‫نريد رمي املق�صلة يف هوة الإعدام حيث �سقط فيها‪،‬‬ ‫مع الت�صفيق‪� ،‬أنا�س من �صنف الب�شر‪ .‬وكذلك الأغالل‬ ‫والأيدي املقطوعة ‪ ،‬التعذيب‪ ،‬والتفتي�ش!! لأننا نريد‬ ‫�أن يختفي من الهيئة املنرية واملقد�سة التي هي العدالة‪،‬‬ ‫هذا الوجه امل�ش�ؤوم الكايف مللئها بالأهوال والقتامة‪.‬‬ ‫نريد �أن يختفي اجلالد‪.‬‬ ‫لأننا نريد هذا نو�صف ب�أننا نعمل على بث اال�ضطراب‬ ‫يف املجتمع والنظام العام!! ‪ .‬نعم هذا �صحيح!! نحن‬ ‫�أنا�س خطريون جدا‪ ،‬نريد زوال املق�صلة هذا الوح�ش‬ ‫القبيح الرهيب!!‪.‬‬ ‫ال�سادة املحلفون‪ ،‬انتم مواطنون �سادة يف وطن حر‪،‬‬ ‫ودون تغيري لطبيعة هذه املرافعات‪ ،‬ميكن‪ ،‬بل يجب‬ ‫التحدث �إليكم كرجال �سيا�سة‪ .‬نعم !!! تخيلوا ذلك‪ ،‬نحن‬ ‫نعرب فرتة ثورات‪ ،‬خذوا النتائج مما �س�أقوله لكم‪ .‬لو‬ ‫�أن لوي�س ال�ساد�س ع�شر كان قد �ألغى عقوبة الإعدام‬ ‫مثلما �ألغى التعذيب فانه كان �سيحتفظ بر�أ�سه على‬ ‫كتفيه‪ .‬وكان التاريخ بغنى عن �إ�ضافة �صفحة دموية‬ ‫�أخرى ل�صفحاته‪ ،‬وكان اليوم املقابري ‪ 21‬جانفي‪/‬‬ ‫كانون ثاين �سوف ال يرى النور‪ .‬من ميكنه عندها يف‬ ‫ظل ال�ضمري اجلمعي‪� ،‬أن يقف يف وجه فرن�سا‪ ،‬يف وجه‬ ‫العامل املتح�ضر‪ ،‬وان يتجر�أ وين�صب من�صة الإعدام‬ ‫للملك‪ ،‬امللك الذي ميكن �أن يقال فيه انه الرجل الذي‬

‫منذ �أكرث من ع�شرين عاما‪ ،‬كنت‬ ‫اعتقد‪� ،‬أنا الذي يتحدث �أمامكم‪،‬‬ ‫كنت اعتقد مع ليون فو�شيه الذي‬ ‫كتب يف جملة باري�س عام ‪1936‬‬ ‫ما �س�أقر�ؤه لكم ‪« :‬من�صة الإعدام‬ ‫�سوف ال تعود للظهور يف �ساحاتنا‬ ‫العامة �إال نادرا ‪ ،‬وكم�شهد يخزي‬ ‫العدالة»‪.‬‬

‫�صرع نف�سه‪.‬‬ ‫توجه التهمة ملحرر «احلدث» (الن�شرة التي يحررها‬ ‫ابنه) لعدم احرتامه القوانني !! لعدم احرتامه عقوبة‬ ‫الإعدام !!‪ .‬لنعد �أيها ال�سادة‪ ،‬قليال لأكرث من ن�ص‬ ‫منازع فيه‪ ،‬لنعود �إىل عمق كل ت�شريع‪ ،‬و�صوال �إىل‬ ‫الداخل الإن�ساين‪ .‬فعندما كان �سرفان حماما عاما ذكر‬ ‫ما هو جدير باال�ست�شهاد به‪ « :‬قوانيننا اجلنائية تفتح‬ ‫كل املداخل لالتهام‪ ،‬وتغلقها كلها تقريبا على املتهم»‪.‬‬ ‫عندما قال فولتري عن الق�ضاة الذين حاكموا كاال�س ‪:‬‬ ‫« ال تتحدثوا يل عن ه�ؤالء الق�ضاة الذين ن�صفهم قرود‬ ‫ون�صفهم الآخر منور»‪ .‬عندما قال ـ كوالر يف جل�سة‬ ‫غرفة النواب ‪� :‬إذا �أ�صدرمت هذا القانون اق�سم ب�أنني‬ ‫�س�أع�صاه» ‪ .‬عندما يتكلم هكذا ه�ؤالء امل�شرعون‪ ،‬ه�ؤالء‬ ‫الق�ضاة‪ ،‬ه�ؤالء الفال�سفة‪ ،‬ه�ؤالء املفكرين‪ ،‬ه�ؤالء‬ ‫الرجال‪ ،‬امل�شهورون املحرتمون‪ .‬ماذا يكونون قد‬ ‫فعلوا؟‪ .‬هل �أنهم مل يحرتموا القانون؟‪ ،‬القانون املحلي‬ ‫وامل�ؤقت؟ هذا ممكن‪ ،‬ولكن املحامي العام يقوله‪� ،‬أنا‬ ‫ال اعلم‪ ،‬ولكن ما اعلمه �أنهم كانوا ينادون بالعدالة‬ ‫الأبدية‪.‬‬ ‫يجلبون للق�ضاء امللحد فولتري والأخالقي موليري‬ ‫والفاح�ش الفونتني والدمياغوجي جان جاك رو�سو ‪.‬‬ ‫هذا ما يرونه‪ ،‬وهذا ما يعلنونه‪ ،‬هذا ما و�صلنا �إليه‪.‬‬ ‫ت�صوروا �أيها ال�سادة املحلفون‪.‬‬ ‫ال�سادة املحلفون حق انتقاد القانون‪ ،‬انتقاده بق�سوة‪،‬‬ ‫وب�شكل خا�ص وبالدرجة الأوىل‪ ،‬القانون اجلنائي‬ ‫الذي ميكن ب�سهولة و�صفه بالرببرية ‪ ،‬هذا احلق بالنقد‬ ‫الذي يقوم �إىل جانب واجب التعديل للأف�ضل ‪ ،‬كال�شعلة‬ ‫�إىل جانب العمل الواجب فعله‪ ،‬حق الكاتب لي�س اقل‬ ‫من حق امل�شرع‪ ،‬هذا احلق ال�ضروري‪ ،‬هذا احلق غري‬ ‫القابل للتقادم‪ ،‬عليكم �أخذه باالعتبار عند اتخاذ حكمكم‪.‬‬ ‫بر�ؤوا املتهمني‪.‬‬ ‫لكن النيابة العامة‪ ،‬وهنا حجتها الثانية‪ ،‬تدعي بان‬ ‫نقد جريدة «احلدث» ذهب بعيدا‪ ،‬كان عنيفا‪ .‬نعم‬ ‫�أيها ال�سادة املحلفون‪ ،‬الفعل الذي قامت عليه �أركان‬ ‫اجلرمية املزعومة املوجهة �إىل حمرر احلدث لو�صفه‬ ‫تنفيذا مرعبا حلكم بالإعدام‪ .‬كيف‪:‬‬ ‫رجل حمكوم‪ ،‬رجل بائ�س‪ .‬اقتيد �صباح يوم �إىل �إحدى‬ ‫�ساحاتنا العامة‪ ،‬هناك وجد امل�شنقة‪ .‬يثور‪ .‬يقاتل‪.‬‬ ‫يرف�ض املوت‪ .‬انه مازال �شابا يافعا عمره ‪ 29‬عاما ـ‬ ‫يا الله!!‪� ،‬أعلم جيدا ب�أنه �سيقال يل انه قاتل!! ـ ولكن‬ ‫ا�سمعوا !! ‪ :‬جالدان مي�سكان به‪ .‬يداه مقيدتان‪ .‬يرفل‬ ‫بالأغالل‪ .‬يدفع اجلالدين‪ .‬يقاوم مقاومة �شر�سة‪ .‬يعرقل‬ ‫تقدمه بلف قدميه املقيدتني على �سلم امل�شنقة‪ ،‬ي�شد‬ ‫ج�سده �إىل امل�شنقة حمتميا بها من امل�شنقة‪ .‬ت�ستمر‬ ‫مقاومته‪ ،‬ي�سري الرعب لي�صل جمهور املتفرجني‪.‬‬ ‫اجلالدون‪ .‬العرق املت�صبب‪ .‬واخلزي يف اجلباه‪.‬‬ ‫ال�شحوب‪ .‬الرعب‪ .‬ثبوط الهمم‪ .‬منحني حتت احلكم‬ ‫بالهالك الذي حتدده عقوبة الإعدام‪ .‬اجلالدون يبذلون‬ ‫جهودا وح�شية لآنه يجب �أن يبقى للقانون قوة ‪ ،‬وهذا‬

‫قول م�أثور‪ .‬يت�شبث الرجل بامل�شنقة وي�صرخ طالبا‬ ‫العفو‪ .‬ثيابه ممزقة‪ .‬كتفاه عاريتان مدميتان‪ .‬يقاوم‬ ‫دون توقف‪ .‬و�أخريا بعد ثالثة �أرباع ال�ساعة‪�( ،‬إ�شارة‬ ‫تكذيب من املحامي العام فيما يتعلق بالوقت) �أو ‪35‬‬ ‫دقيقة �إن �أردمت ‪ ،‬من هذه اجلهود الرهيبة‪ ،‬من هذا‬ ‫امل�شهد الذي ال عنوان له‪ ،‬من هذه امل�شنقة‪ ،‬م�شنقة كل‬ ‫النا�س‪� ،‬سمعتم جيدا؟‪ .‬م�شنقة للجمهور احلا�ضر هناك‬ ‫مثلما هي م�شنقة املحكوم عليه بها‪ .‬بعد هذا القرن من‬ ‫القلق �أيها ال�سادة املحلفون‪ ،‬يعاد البائ�س �إىل ال�سجن‪.‬‬ ‫يتنف�س احلا�ضرون‪ ،‬اجلمهور املت�ضرر من الإن�سانية‬ ‫القدمية ‪ .‬ال�شعب مت�سامح لأنه ي�شعر ب�أنه �سيد‪ .‬ال�شعب‬ ‫الذي يعتقد �أن الإن�سان م�صان‪ .‬هُ زمت املق�صلة‪ ،‬ولكنما‬ ‫بقيت منت�صبة ‪ .‬بقيت منت�صبة دائما و�سط �سكان‬ ‫مذهولني‪ .‬ويف امل�ساء مت تعزيز اجلالدين لتكبيل‬ ‫الرجل بطريقة ي�صبح فيها جمادا‪ ،‬ومع �سقوط الليل‬ ‫يعاد به �إىل ال�ساحة العامة باكيا‪� ،‬صاخبا‪ ،‬مذعورا‬ ‫طالبا احلياة‪ ،‬مناديا الله‪ ،‬مناديا �أباه و�أمه لأنه �أمام‬ ‫املوت عاد الرجل طفال‪.‬‬ ‫ي�شد �إىل من�صة الإعدام ور�أ�سه ي�سقط‪ .‬ـ وعندها ت�سري‬ ‫ق�شعريرة تهز كل ال�ضمائر‪ .‬كل �شخ�ص كان ي�شعره‪،‬‬ ‫ميكن قول ذلك‪ ،‬كل يح�س به يف �أعماقه‪ .‬ففي فرن�سا‬ ‫نف�سها ويف و�ضح النهار تهان احل�ضارة من قبل‬ ‫الهمجية‪.‬‬ ‫يف تلك اللحظة �أيها ال�سادة خرجت �صرخة من �صدر‬ ‫الرجل ال�شاب الذي �أمامكم‪� ،‬صرخة من جراحه‪ ،‬من‬ ‫قلبه‪ ،‬من روحه‪� ،‬صرخة ا�ستغاثة وطلب الرحمة‪،‬‬ ‫�صرخة فزع‪� ،‬صرخة رعب‪� ،‬صرخة �إن�سانية‪ .‬هذه‬ ‫ال�صرخة �ستعاقبونها ؟!!!‪ .‬وبح�ضور الوقائع املرعبة‬ ‫التي و�ضعتها حتت �أب�صاركم؟ تقولون فيما يتعلق‬ ‫باملق�صلة ‪� :‬أنت حمق‪ .‬وتقولون بالن�سبة للرحمة‪،‬‬ ‫الرحمة املقد�سة ‪� :‬أنت خمطئ !! هذا م�ستحيل �أيها‬ ‫ال�سادة املحلفون‪ .‬موجة من االنفعال تعم احل�ضور يف‬ ‫قاعة املحاكمة)‪.‬‬ ‫ال�سيد املحامي العام‪� ،‬س�أقول لك دون مرارة‪� ،‬أنت ال‬ ‫تدافع عن ق�ضية عادلة‪ ،‬ال يهم‪� ،‬أقمت دعوى و با�شرت‬ ‫�صراعا معاديا لفكر احل�ضارة‪ ،‬لأخالق االعتدال‪،‬‬ ‫للتقدم‪� .‬ضدكم تقف �صالبة احلب يف قلب الإن�سان‪.‬‬ ‫�ضدكم تقف كل املبادئ التي �سارت يف ظلها فرن�سا منذ‬ ‫‪ 60‬عاما و�سار العامل معها‪ :‬ح�صانة احلياة الب�شرية‪.‬‬ ‫الإخوة مع الطبقات البائ�سة‪� .‬ضدكم عقيدة الإ�صالح‬ ‫التي حلت حمل عقيدة االنتقام‪� ،‬ضدكم كل ما ينري‬ ‫العقل‪ ،‬كل ما يختلج يف الأنف�س‪ ،‬الفل�سفة والدين‪،‬‬ ‫من جهة فولتري ومن جهة �أخرى امل�سيح‪ .‬ال يهم‪ .‬هذه‬ ‫اخلدمة الفظيعة التي تطمح امل�شنقة تقدميها للمجتمع‪،‬‬ ‫خوف ورعب‪ ،‬املجتمع يف �أعماقه‪ ،‬ال يريدها‪ .‬ال يهم‪..‬‬ ‫�أن�صار عقوبة الإعدام‪ .‬ال يهم ـ ترون ب�أننا ال نخلط‬ ‫بينهم وبني املجتمع ـ �أن�صار عقوبة الإعدام يرب�ؤون‬ ‫العقوبة الهرمة عقوبة الث�أر !! ‪ .‬ال يغ�سلون هذه‬ ‫الن�صو�ص ال�شائنة التي ت�سيل ب�سببها الدماء من‬ ‫الر�ؤو�س منذ قرون ( �صخب يف القاعة) انتهيت �أيها‬ ‫ال�سادة‪.‬‬ ‫ابني‪ ،‬ينالك اليوم �شرف كبري‪ ،‬لقد حوكمت بكرامة‬ ‫املكافح‪ ،‬لقد عانيت طبعا‪ ،‬من �أجل ق�ضية عادلة‪ .‬ق�ضية‬ ‫احلقيقة‪ .‬دخلت اعتبارا من اليوم حياة الرجولة‬ ‫احلقيقية يف ع�صرنا‪� ،‬أي يف الن�ضال من اجل العدالة‬ ‫احلقة‪ .‬كن فخورا‪� ،‬أنت مدافع ب�سيط عن الفكر‬ ‫الإن�ساين والدميقراطي‪� .‬أنت جال�س اليوم على هذا‬ ‫املقعد حيث جل�س بريجنيه ‪ ،Béranger‬وحيث‬ ‫جل�س المانيه ‪.Lamennais‬‬ ‫كن �صلبا يف معتقداتك‪ .‬ولتكن هنا �آخر كلمتي‪� ،‬إذا كنت‬ ‫بحاجة لأفكار تثبتك يف �إميانك يف التقدم‪ ،‬يف اعتقادك‬ ‫بامل�ستقبل‪ ،‬يف عقيدتك يف الإن�سانية‪ ،‬يف كراهيتك‬ ‫لعقوبة للإعدام‪ ،‬يف ا�ستنكارك للعقوبات غري النهائية‬ ‫وغري القابلة للإ�صالح‪ ،‬فكر ب�أنك جتل�س على املقعد‬ ‫الذي جل�س عليه لي�سرك ‪( . Lesurques‬هياج عنيف‬ ‫وم�ستمر يف قاعة املحكمة‪ ،‬علقت اجلل�سة ب�سببه)‪.‬‬ ‫(حكم على جوزيف لي�سرك‪ ،‬الذي �أ�شار �إليه هيجو‬ ‫بالإعدام ومت تنفيذ العقوبة به بجرمية قتل يف ليون‪،‬‬ ‫ويف عام ‪ 1798‬القي القب�ض على القاتل احلقيقي‪،‬‬ ‫ديبو�سك ‪ ، Dubosq‬وحكم عليه باملوت عام ‪.)1800‬‬

‫‪15‬‬

‫‪manarat‬‬ ‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫الت�صميم‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى حممد‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.