رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
m a n a r a t
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
ميخائيل نعيمة
نا�سك ال�شخروب
2
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
3
ميخائيل نعيمة 1988 - 1889مفكر عربي وهو واحد من اجليل الذي قاد النه�ضة الفكرية والثقافية و�أحدث اليقظة وقاد �إىل التجديد واق�سمت له املكتبة العربية مكان ًا كبري ًا ملا كتبه وما كتب حوله .فهو �شاعر وقا�ص وم�سرحي وناقد وكاتب مقال ومتفل�سف يف احلياة والنف�س الإن�سانية وقد �أهدى �إلينا �آثاره بالعربية واالجنليزية والرو�سية وهي كتابات ت�شهد له باالمتياز وحتفظ له املنزلة ال�سامية .ولد يف ب�سكنتا يف جبل �صنني يف لبنان يف �شهر ت�شرين الأول من عام 1889و�أنهى درا�سته املدر�سية يف مدر�سة اجلمعية الفل�سطينية فيها ،تبعها بخم�س �سنوات جامعية يف بولتافيا الأوكرانية بني عامي 1905و 1911حيث ت�س ّنى له االطالع على م�ؤ ّلفات الأدب الرو�سي ،ثم اكمل درا�سة احلقوق يف الواليات املتحدة الأمريكية (منذ كانون الأول عام )1911وح�صل على اجلن�سية الأمريكية .ان�ضم �إىل الرابطة القلمية التي �أ�س�سها �أدباء عرب يف املهجر وكان نائبا جلربان خليل جربان فيها .عاد �إىل ب�سكنتا عام 1932وات�سع ن�شاطه الأدبي .ل ّقب ب»نا�سك ال�شخروب» ،تويف يف 22فرباير.1988 ن�شر نعيمة جمموعته الق�ص�صية الأوىل �سنة 1914بعنوان «�سنتها اجلديدة» ،وكان حينها يف �أمريكا يتابع درا�سته ،ويف العام التايل ن�شر ق�صة «العاقر» وانقطع على ما يبدو عن الكتابة الق�ص�صية حتى العام � 1946إىل �أن �صدرت قمة ق�ص�صه املو�سومة بعنوان «مرداد» �سنة ،1952وفيها الكثري من �شخ�صه وفكره الفل�سفي .وبعد �ستة �أعوام ن�شر �سنة �« 1958أبو بطة» ،التي �صارت مرجع ًا مدر�سي ًا وجامعي ًا للأدب الق�ص�صي اللبناين/العربي النازع �إىل العاملية ،وكان يف العام 1956قد ن�شر جمموعة «�أكابر» «التي يقال �أنه و�ضعها مقابل كتاب النبي جلربان». �سنة 1949و�ضع نعيمة رواية وحيدة بعنوان «مذكرات الأرق�ش» بعد �سل�سلة من الق�ص�ص واملقاالت والأِ�شعار التي ال تبدو كافية للتعبري عن ذائقة نعيمة املتو�سع يف النقد الأدبي ويف �أنواع الأدب الأخرى. «م�سرحية الآباء والبنون» و�ضعها نعيمة �سنة ،1917وهي عمله الثالث ،بعد جمموعتني ق�ص�صيتني فلم يكتب ثانية يف هذا الباب �سوى م�سرحية « �أيوب « �صادر/بريوت .1967 ق�صة حياته يف ثالثة �أجزاء على �شكل �سرية ذاتية بعنوان «�سبعون» ما بني عامي 1959و 1960و�ضع نعيمة ّ ،ظنا منه �أن ال�سبعني هي �آخر مطافه ،ولكنه عا�ش حتى التا�سعة والت�سعني ،وبذلك بقي عقدان من عمره خارج �سريته هذه. جمموعته ال�شعرية الوحيدة هي «هم�س اجلفون» و�ضعها بالإنكليزية ،وعربها حممد ال�صايغ �سنة � ،1945إال �أن الطبعة اخلام�سة من هذا الكتاب (نوفل/بريوت )1988خلت من �أية �إ�شارة �إىل املعرب.
ميخائيل نعيمة http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
يف الدرا�سات واملقاالت والنقد والر�سائل و�ضع ميخائيل نعيمة ثقله الت�أليفي ( 22كتاب ًا) ،نوردها بت�سل�سلها الزمني: املراحل ،دروب .1934 جربان خليل جربان .1936 زاد املعاد .1945 البيادر .1946 كرم على درب الأوثان .1948 �صوت العامل .1949 2005 النور والديجور .1953 يف مهب الريح .1957 �أبعد من مو�سكو ومن وا�شنطن .1963 اليوم الأخري .1965 هوام�ش .1972 يف الغربال اجلديد .1973 مقاالت متفرقة ،يابن �آدم ،جنوى الغروب .1974 خمتارات من ميخائيل نعيمة و�أحاديث مع ال�صحافة .1974 ر�سائل ،من وحي امل�سيح .1977 وم�ضات� ،شذور و�أمثال ،اجلندي املجهول. قام ميخائيل نعيمة بتعريب كتاب «النبي» جلربان خليل جربان ،كما قام �آخرون من بعده بتعريبه (مثل يو�سف اخلال ،ن�شرة النهار) ،فكانت ن�شرة نعيمة مت�أخرة جد ًا (�سنة ،)1981وكانت �شهرة «النبي» عربي ًا قد جتاوزت �آفاق لبنان. http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
ميخائيـــل نعيمــــة ً نــاقــداً و�شــــاعــراً وفيل�سـوفـــا
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
يعد ميخائيل نعيمة يف اعتقاد النقاد �أحد �أهم �أدباء الأدب العربي احلديث يف املهجر والوطن و�أ�سطعهم جنم ًا ،فلقد �سلخ ال�شطر الأكرب من حياته (عا�ش ت�سعة وت�سعني عام ًا) وهو يكتب كتب ًا مميزة تبني احلياة والإن�سان واملجتمع ومتد الإبداع بذخرية ال تن�ضب من القيم واملثل واخلربات واملعارف والأحداث والتجارب وتغو�ص يف لج الثقافة الإن�سانية املتنوعة الآفاق والأبعاد والدالالت ،وقد مت له ت�أليفها و�إ�صدارها يف مغرتبه بالواليات املتحدة الأمريكية �أو يف بلده لبنان ونافت ثالثني كتاب ًا ا�ستخدمت خمتلف فنون الأدب و�سائل تعبريية ل�صياغتها كاملقالة والق�صة والرواية وامل�سرحية والنقد الأدبي وال�سرية الذاتية واخلواطر النرثية ومقدمات كتب دبجها بقلمه لأدباء طالعني نا�شئني �أو معروفني متداولني ،وات�سم �إنتاجه الأدبي عامة بر�ؤية فل�سفية ونزعة ت�صوفية و�إميان بنظرية وحدة الوجود يف خلق الوجود. -1ميخائيل نعيمة ناقد ًا يف (الغربال) يجمع الدار�سون على �أن نعيمة هو ناقد «الرابطة القلمية» غري منازع ،و�أنه �أ�شد �أدباء املهجر ثورة على التقليد يف كتابه «الغربال» ( .)1922وهذا الكتاب جمموع من الأبحاث النقدية التي كان امل�ؤلف قد ن�شرها �سابق ًا يف املجالت املهجرية وجعلها ق�سمني :الأول يحدد منهجه االنطباعي يف تقييم الأدب والتعريف باملقايي�س احلديثة، والثاين يتناول بالنقد طائفة من الكتب والدواوين. انف�صل نعيمة يف نقده عن مقايي�س النقد اللغوي -البالغي الذي اعتمده النقاد القدماء ،وا�ستلهم يف تكوين منحاه النقدي اخلا�ص �آراء الناقد الرو�سي «بيلن�سكي»، كما �أفاد من بع�ض �آثار الناقد الإنكليزي «ماثيو �أرنولد» .فهو ي�ؤكد �أن الناقد يك�شف نف�سه فيما ينقد من الآثار الأدبية ،و�أن قوة التمييز الفطرية هي التي تبتدع بالتايل املقايي�س وت�صدر الأحكام .وعماد نظريته النقدية االعتقاد �أن الإن�سان هو «حمور الأدب» و�أن احلياة والأدب تو�أمان ال ينف�صالن .وهو يرى �أن الأدب احلق يهدف �إىل بناء الإن�سان مبا ا�شتملت عليه حقيقة النف�س من فكر وانفعال �أمام احلياة و�أ�سرار الوجود ،والإبداع عنده �إمنا هو تعبري جميل �صادق كما �أنه فعل حرية ال متليه نفعية وال يقيده تقليد �أو دعائية خارجة عن توخيه التعبري يف معاناة الإن�سان لتجاربه يف احلياة كما يح�سها وينفعل بها. يتناول نعيمة يف نقده ق�ضية اللغة ويعتربها من مظاهر احلياة التي حتتفظ بالأن�سب يف موكب التنازع يف �سبيل البقاء. وهكذا ي�صح للأديب �أن ي�سقط �أو يحيي ما ي�شاء من الألفاظ التي تفي بغايته من و�سائل الأداء والبيان عن الق�صد .يقول يف هذا ال�صدد« :حيث ال �شعور ال فكر ،وحيث ال فكر ال بيان ،وحيث ال بيان فال �أدب» .كذلك يتجلى موقف نعيمة التحرري يف رف�ضه �أن ينح�صر ال�شعر يف الفنون التقليدية من فخر ومدح ورثاء وغريها من الأغرا�ض ،كما يت�ضح فيما �أنكره من التقيد املطلق بعرو�ض اخلليل الذي كان يف ر�أيه عام ًال �أ�سا�سي ًا يف توقف الأدب العربي عن النمو وما �أ�صابه قبل ع�صر النه�ضة احلديثة من الت�صنع واجلمود .غري �أنه يلح على االحتفاظ بالإيقاع والنغم يف منظوم ال�شاعر ،فيقول: «�إذا كان ال�شعر واملو�سيقا تو�أمني ،فالوزن املالئم لأحوال النف�س �ضرورة الزمة� ،شرط �أن يتوفر فيه االئتالف والتنا�سق والتوازن وترابط الأحلان كما يف �سائر الفنون»� .أما التقيد بالقافية فلي�س يف ر�أيه من م�ستلزمات ال�شعر ،ويف ذلك دعوة �صريحة �إىل خلق منط جديد هو «ال�شعر املن�سرح» ،كما �سماه، وكما قب�سه هو وجربان والريحاين من ال�شاعر الأمريكي «والت ويتمن» .ومن جملة ما دعا �إليه نعيمة �أي�ض ًا ا�ستبدال وحدة
البيت يف ت�أليف الق�صيد بوحدة الق�صيدة بحيث يجعلها ال�شاعر عم ًال فني ًا تام ًا ي�ضم �أبياتها وي�ؤالف بني �أجزائها ويجعلها «ك ًال» متما�سك ًا ال خلخلة فيها وال ف�ساد .كذلك نهى عن «التقريرية» يف ال�شعر و�أر�سى اجلودة الفنية على ما يف الأثر ال�شعري من طاقة على الإثارة والإيحاء .ولعل �أبني ما فارق فيه نعيمة معا�صريه يف املهجر والعامل العربي على ال�سواء جناحه الباهر يف تطبيق املبادئ النقدية التي دعا �إليها يف «الغربال» على �شعره يف «هم�س اجلفون» حيث تتج�سد يف �أرقى م�ستوياتها� ،شك ًال وم�ضمون ًا ،النماذج البديلة لل�شعر املن�شود. وتلك مهمة كربى �أخفق يف �أدائها جربان يف «مواكبه» وجماعة «الديوان» يف جمموعاتهم ال�شعرية كلها رغم احلركة النقدية التي حملت يف معظم مقايي�سها دعوة �أدبية مماثلة لدعوة املهجريني بعامة ،ولنظرية نعيمة النقدية بخا�صة. -2ميخائيل نعيمة �شاعر ًا يف (هم�س اجلفون) ن�شر نعيمة جمموعة «هم�س اجلفون» �سنة 1945بعد عودته �إىل لبنان بثالثة ع�شر عام ًا ،وهي ت�ضم جميع ق�صائده التي نظمها بني 1919و 1923بالإ�ضافة �إىل ثالث ق�صائد كان قد نظمها عام 1917هي «النهر املتجمد» و«�أخي» و«من �أنت يا نف�سي؟». كذلك ت�شتمل املجموعة على ترجمات بال�شعر املنثور لأربع ع�شرة ق�صيدة نظمها نعيمة بالإنكليزية بني �سنة 1915و.1930 خري قراءة ملجموعة «هم�س اجلفون» �أن يتناولها املتذوق كوحدة متما�سكة ر�سمت لوحاتها يد فنان واحد ،وانتظمت �أجزاءها �شواعر وت�أمالت نابعة من قلب ال�شاعر وفكره وخياله ،وم�ستوحاة من جتاربه الذاتية ومواقفه �إزاء ق�ضايا الإن�سان وم�شكالت الوجود. يقول يف ق�صيدته�« :أغم�ض جفونك تب�صر» التي تخت�صر يف �أبعادها الفكرية -الت�أملية ما تنطوي عليه �سائر �أنا�شيد املجموعة من الر�ؤى والأفكار: �إذا �سما�ؤك يوم ًا حتجبت بالغيوم �أغم�ض جفونك تب�صر خلف الغيوم جنوم والأر�ض حولك �إما تو�شحت بالثلوج �أغم�ض جفونك تب�صر حتت الثلوج مروج و�إن بليت بداء وقيل داء عياء �أغم�ض جفونك تب�صر يف الداء كان الدواء
وعندما املوت يدنو واللحد يفغر فاه �أغم�ض جفونك تب�صر يف اللحد مهد احلياة يتجلى يف هذه الق�صيدة الفارق الذي يراه ال�شاعر بني ظاهر الأ�شياء وحقيقتها ،كما يت�ضح احتجاب جوهر احلقيقة عن عني الرائي وانك�شافها لب�صريته ور�ؤيا خياله. �أما «النهر املتجمد» من �أنا�شيد «هم�س اجلفون» فتج�سيد ملا عاناه ال�شعر حني كان طالب ًا يف مدينة «بولتافا» الرو�سية من ال�شعور بالقلق والفراغ وم�أ�ساة الوجود حيث يختلف امل�صري وتتباين دروبه، فينطلق النهر ،زمان الربيع من �سكونية اجلليد ،ويبقى هو مكب ًال بقيود احلياة و�أعبائها ال ي�ستطيع فكاك ًا من عقاله: يا نهر ذا قلبي� ،أراه ،كما �أراك ،مكب ًال والفرق �أنك �سوف تن�شط من عقالك ،وهو.. ال ولعل «�أوراق اخلريف» من �أروع �أنا�شيد املجموعة و�أبرزها لل�سمات الرئي�سية التي يت�سم بها �شعر نعيمة من �صفاء النغم، وطواعية اللغة ،و�شفافية الأداء ،والطاقة الكربى على الإيحاء:
ن�شر نعيمة جمموعة «هم�س اجلفون» �سنة 1945بعد عودته �إىل لبنان بثالثة ع�شر عام ًا ،وهي ت�ضم جميع ق�صائده التي نظمها بني 1919و 1923بالإ�ضافة �إىل ثالث ق�صائد كان قد نظمها عام 1917هي «النهر املتجمد» و«�أخي» و«من �أنت يا نف�سي؟».
5
ي تناثري تناثر يا بهجة النظر يا مرق�ص ال�شم�س وي ا �أرجوحة القم ر يا �أرغن الليل وي ا قيثارة ال�سح ر يا رمز فكر حائ ر ور�سم روح ثائ ر يا ذكر جمد غاب ر قد عافك ال�شج ر وهكذا كما اتخذ من �سياق نامو�س الطبيعة مبد�أ البقاء ال�شامل تقابله ظاهرة الزوال الفردي والفناء ،وعرب عن هذا الت�ضاد بني الكلي الدائم والفردي العار�ض يف «النهر املتجمد» ،يغني يف «�أوراق اخلريف حلن الرجوع الأبدي �إىل ح�ضن الرثى حيث يتحد حلم ما كان ،بحلم ما �سيكون يف موكب الق�ضاء ال�شامل .و�إذا نحن وا�صلنا هذه النزهة العجلى يف خمائل «هم�س اجلفون» نرى نعيمة منهمك ًا بال�س�ؤال عن ماهية النف�س يف «من �أنت يا نف�سي؟» وعن امل�صري والفناء يف الوجود ال�سرمدي يف «قبور تدور» وعن ق�ضية اخلري وال�شر يف «العراك» وعن الق�ضاء والقدر يف ن�شيده الرائع «الطم�أنينة» . يعرب نعيمة يف �شعره الذي �أوردنا منه بع�ض املقتطفات تعبري ًا �صادق ًا عن جتاربه يف احلياة كما �أح�سها وانفعل بها ،ولي�س غلو ًا ما يقال عن غلبة النزعة الذاتية اخلا�صة والإن�سانية ال�شاملة يف �أدبه عامة على النزعة الواقعية االجتماعية .غري �أنه من الإن�صاف الإقرار مبا تعك�سه بواكري �إنتاجه يف الق�صة وامل�سرحية وال�شعر من �أحداث متثلها ب�أروع ما يكون االلتزام �صدق ًا وم�شاركة يف امل�س�ؤولية ق�صيدة «�أخي». ي�ستلهم نعيمة يف هذه الق�صيدة م�أ�ساة املجاعة يف لبنان �إبان احلرب العاملية الأوىل عندما كان جندي ًا يف اجلي�ش الأمريكي بفرن�سا ،فيبنيها على نغم م�أ�ساوي ي�صور �أبناء قومه يجتاحهم املوت ،ويدفن بع�ضهم بع�ض ًا ،م�ست�سلمني بذل ومهانة لنكبات احلرب ورزايا القدر .يقول يف ختامها : �أخي ،من نحن؟ ال وطن وال �أهل وال جا ر �إذا مننا� ،إذا قمنا ،ردانا اخلزي والعا ر لقد خمت بنا الدنيا كما خمت مبوتان ا فهات الرف�ش واتبعني لنحفر خندق ًا �آخ ر نوارى فيه �أحيان ًا ... لقد فارق نعيمة يف هذه النماذج كلها �شعراء ع�صره بقدرته اخلارقة على حتويل ت�أمالته الفكرية يف ق�ضايا الإن�سان والوجود �إىل حلظات �شعورية ير�سلها يف معادالت مو�سيقية �أنغام ًا حزينة هادئة، عامرة بال�صور الو�ضيئة املوحية .ويتفق
لل�شاعر يف تكوين هذه الدفعات الإيحائية املهمو�سة �أن ينوع الأوزان والقوايف فيدمج �شطري الوزن الواحد ،ويداخل القوايف وي�ؤالفها بان�سجام حمكم وذوق �أ�صيل .وهكذا على الرغم من اعتبار نعيمة يف طليعة الكتاب املعا�صرين ف�إن �أثره ال�شعري «هم�س اجلفون» يعد بحق ماهد ًا مبا�شر ًا لتطور �شعرنا احلديث وجتديده. -3ميخائيل نعيمة فيل�سوف ًا يف (مرداد) تبلغ الأبعاد الفكرية التي بثها نعيمة يف معظم م�ؤلفاته ذروتها الق�صوى يف كتابه «مرداد» الذي ن�شره بالإنكليزية �سنة 1948 قبل نقله �إىل العربية بعد ذلك ب�أعوام. فهو �إذن ،من نتاجه ك�أديب مقيم بعد �أن �شده احلنني �إىل لبنان والعودة �إليه �سنة .1932يت�ألف الكتاب من ق�سمني :مدخل يروي فيه ق�صة الكتاب ،والكتاب نف�سه الذي ي�ضم تعاليم مرداد ويق�ص �سريته الذاتية .ملخ�ص فل�سفة نعيمة يف «مرداد» �أن �أول ما يعيه الإن�سان من وجوده يف الكون هو «ذاته» التي هي حمور ما يعانيه يف حياته من الأهواء والنزعات والتجارب .وهكذا ف�إن وعي الإن�سان لذاته ومعرفته لنف�سه على حقيقتها يتحوالن عنده �إىل واجب �أ�سا�سي ي�ستلزم �أدا�ؤه �أن يت�صل ات�صا ًال حميم ًا بجميع ما يحيط به يف هذا الوجود من الأ�شياء والكائنات و�أن يحبها جميعها مبثل ما يحب به نف�سه قوة و�إخال�ص ًا .ف�إذا ما ارتقى الإن�سان يف مدارج التعرف �إىل نف�سه واكت�شاف حقيقتها انتهى �إىل اليقني ب�أن ذاته يف جوهرها �إمنا هي الوجود ال�سرمدي بكليته -هي الله يف ا�شتماله على كل �شيء وحلوله يف كل �شيء .على هذا النحو يبدو الإن�سان احلقيقي م�شدود ًا يف وجوده بني قطبني متقابلني :بني ذاته الأر�ضية ال�صغرى ،وذاته العلوية الكربى. وكامل�سيح معلق ًا على ال�صليب ،ي�صور نعيمة الإن�سان يف حياته م�صلوب ًا بني الأر�ض وال�سماء ،وال يرى نهاية مل�أ�ساته �إال يف حترره من منازعه الأنانية وانعتاق روحه يف �سجنها الأر�ضي وعودتها �إىل �أح�ضان الوجود ال�سرمدي لتفنى يف كيانه فناء اجلدول يف املحيط. قد تختلف مواقفنا ،رف�ض ًا �أو قبو ًال� ،إزاء هذه الفل�سفة ال�صوفية املثالية التي �آمن بها نعيمة ودعا �إليها .غري �أننا ال منلك �سوى الده�شة والإعجاب مبا فيها من احلنني ال�صاعد �إىل الله ،والت�سامي �إىل الأمثل من الأخالقية الف�ضلى التي تتحقق بها �إن�سانية الإن�سان والتي عا�شها نعيمة يف حياته الر�صينة النرية. خامتة ور�أي: تتجلى فكرة التجديد يف الأدب والفكر والثقافة لدى نعيمة ناقد ًا و�شاعر ًا وفيل�سوف ًا ،فهو يف نقده اعتمد على الفطرة والعفوية وال�سليقة و�أدوات التذوق اخلا�صة بالذات النقدية عنده متجاوز ًا املقايي�س البالغية القدمية املعتمدة يف النظر �إىل ال�شعر واحلكم عليه فكان نقده لبع�ض ق�صائد �شعراء (الغربال) نقد ًا انطباعي ًا ت�أثري ًا غالب ًا يتكئ يف معظمه على اللغة الإن�شائية �أكرث من اتكائه على امل�صطلحات النقدية امل�ؤطرة. وهو يف �شعره كان ابتدائي ًا ،ابتكر مو�ضوعات �شعرية ا�ستمدها من جتاربه الذاتية ،وروحه ال�صوفية وتعلقه بالطبيعة احلية الناطقة ،وعرب عنها ب�أ�سلوب ان�سيابي ر�شيق �شفاف و�صور مفعمة باحلركة واللون وا�ستخدم فيها الأوزان املجزوءة وقوايف املقاطع ،وهو يف ت�أمله الفل�سفي تناول قلق الإن�سان وتناوحه بني ذاته الأر�ضية وذاته ال�سماوية وحريته يف اكت�شاف املجهول املف�ضي �إىل امل�صري، وت�شوفه للو�صول �إىل ن�شوة ال�سعادة يف احلياة واملمات وحلم الأبدية يف الوجود املت�صل باخللود.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
الغربال لنعيمة :هكذا ولد نص ثور األدب واللغة
املاء وال�ضوء على �أطراف الكلمات
التناص في انشودة السياب وخريف ميخائيل نعيمة
�إبراهيم العري�س حبت «نقيق ال�ضفادع» يف عدد ال�سائح املمتاز .الآن �أنهيت قراءتها وال بد من «�س ّلم اهلل فمك بل يدك التي رّ الكتابة لأهنئك عليها و�أ�شكرك لأجلها .ف�إنك يا رجل �صككت بها على جرحي ،وترجمت عن فكري وعواطفي وجعلتني �أقول يف �آخر كل جملة منها �آمني ...ثم �آمني .وحبذا لو �أن �أع�ضاء املجمع العلمي يف دم�شق وبع�ض ًا من «�أدباء» بريوت والقاهرة من م�سلمني وم�سيحيني يعلق كل واحد منهم مقالك كالذخرية يف عنقه ويكرر �آياته يف ال�صباح ويف امل�ساء .زدنا من �أمثالها زادك اهلل همة ون�شاط ًا وقدرك على �صرع جبابرة القدمي و�ضفادع الأدب .وت�أكد �أن معك -حتى يف �سوريا -فئة تقول بقولك وتنتمي اىل حزبك ان كان من هذا الت�أكيد منفعة لك وتقوية لع�ضالتك»...
كان هذا جزء ًا من ر�سالة بعث بها امل�ؤرخ فيليب حتي ،الذي كان يد ّر�س التاريخ حينذاك يف اجلامعة الأمريكية يف بريوت، اىل ميخائيل نعيمة �أوائل عام � ،1923أما مو�ضوع الر�سالة وعنوانه «نقيق ال�ضفادع» فمقال ن�شره نعيمة يف جملة «ال�سائح» قبل ذاك بفرتة� ،أثار �ضجة كبرية ...وكان نعيمة يتحدث فيه عن اللغة و�ضرورة تطويرها لإعطائها احلياة بعدما جمدت طوي ًال .ويوم و�صول الر�سالة اىل نعيمة ،كان هذا الأخري منهمك ًا يف �إعداد كتابه النقدي «الغربال» للن�شر ،لي�شكل ذلك املقال �أحد ف�صوله مفجر ًا يف طريقه معارك �أدبية وفكرية كان لها �أول ولكن مل يكن لها �آخر .ولقد انطلق نعيمة، يف ذلك املقال ،كما يف ف�صول الكتاب كلها من مترد على كل ما هو قائم يف عامل الأدب ولغته ،وجد خري تعبري عنه حني قال ،يف �صدد اللغة ...« :لكن حر�ص ًا على اللغة يجب �أال ين�سينا الق�صد من اللغة .فجميل بنا �أن ن�صرف همّنا اىل تهذيبها وتن�سيقها لنك�سبها د ّقة ور ّقة .امنا قبيح بنا �أن نن�سى �أو نتنا�سى كونها رمز ًا اىل ما هو �أكرب و� ّ أجل منها مبراحل .و�أقبح من ذلك �أن نح�سبها وافية كاملة ،لي�س مل�ستزيد يف دقتها زيادة... ان قولنا بكمال اللغة العربية كما هي اليوم، يعني اقرارنا ب�أن الأعراب الذين حتدّرت عنهم هذه اللغة ال�شريفة ،وال ّنحاة الذين قيدوها بقواعد منذ �ألفي �سنة ،كانوا �أنبياء خل�سة جبلتنا البيان ،بل �آلهة البيان ،واننا ّ وفقر قلوبنا و�أفكارنا ،ي�ستحيل علينا ان ن�ضيف اىل ما ر ّتبوه� ،أو �أن ن�سقط �أو نغري منه حرف ًا .فما لنا واحلالة هذه �إال �أن نحطم �أقالمنا وحمابرنا ونكف عن الكتابة را�ضني مبا عندنا من لغة ،ومبا للغتنا من قواعد.»... كان من الوا�ضح هنا ان ميخائيل نعيمة يخو�ض يف رمال متحركة ،وي�شاك�س على
واقع جامد ،يف وقت يبدو فيه هذا الواقع فرح ًا بجموده .يومها لئن كان مقال «نقيق ال�ضفادع» هذا قد �أثار معركة ظلت نخبوية وحمدودة ،ف�إن ما يتعني علينا تذكره هنا هو �أن دمج املقال يف كتاب �صدر يف م�صر، كان له مفعول �آخر متام ًا :كان له مفعول القنبلة ،علم ًا ب�أن نعيمة الذي كتب مقاله من وحي ما كان ي�شعر به من جمود يف احلركة الثقافية من حوله ،مل يكن يريد �أ�ص ًال �أن يجعله ح�صان ًا يف �أية معركة .بل انه مل يكن قد خطر يف باله �أن يجمع مقاله هذا اىل مقاالت �أخرى له ،كان ن�شرها منذ العام ،1913وحتى �أوائل �سنوات الع�شرين يف جمالت مثل «الفنون» و «ال�سائح» لي�صدرها يف كتاب� .أما حكاية ن�شر هذا الكتاب نف�سه ليطل به نعيمة ،بقوة ،على عامل النقد العربي ب�شكل عام ،فهي حكاية يرويها الكاتب نف�سه يف واحد من الف�صول ال�شيقة يف كتاب ذكرياته «�سبعون» ،حيث يفيدنا ان ن�شر الكتاب يدين بالف�ضل اىل كاتب م�صري (�أو لعله لبناين مقيم يف م�صر) يدعى حميي الدين ر�ضا .وكان هذا الأديب ،كما يخربنا نعيمة من جملة الذين ا�ستهواهم �أدب الرابطة القلمية -التي كان نعيمة واحد ًا من �أقطابها .-ولقد حدت حما�سة ر�ضا لهذا الأدب �أن �أ�صدر جمموعة �سماها «بالغة العرب يف القرن الع�شرين» �أ�صدرها يف القاهرة ومنها انت�شرت اىل �سائر البلدان العربية ف�أجفل منها اجليل القدمي ،وا�ستقبلها اجليل اجلديد بحفاوة وحرارة ...اىل حد �أن عبا�س حممود العقاد كان يف مقدم الذين امتدحوها بقوة .وي�شري نعيمة هنا اىل �أنه عرف حميي الدين ر�ضا من طريق املرا�سلة «عندما كتب �إ ّ يل مبدي ًا تقديره و�إعجابه» .ثم ما لبث نعيمة �أن ت�س ّلم من ر�ضا ر�سالة جاء يف بع�ض فقراتها:
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
«نحن يف هذه الأيام ال مت�ضي علينا �سهرة �إال وتكون معنا .ولقد �سرى ذكرك يف م�صر �أكرث من ذي قبل وبد�أ النا�س يعرفون منزلتك العظيمة .و�أنا �أود كثري ًا �أن �أن�شر لك كتاب ًا خا�ص ًا من مقاالتك ومنظوماتك لتكون منوذج ًا ملن يحبون ال�سري على الأ�ساليب احلديثة .ف�إذا �سمحت ف�أنا م�ستعد لطبع
يقول نعيمة ان تلك الر�سالة كانت هي الدافع املبا�شر لن�شر «الغربال»، حيث ب�سرعة راح يجمع مقاالته ،وقد حر�ص على �أن يختار من بينها الأكرث حتديثية وا�ستفزازاً «وكان همي الأكرب �أن �أجد لها ا�سم ًا منا�سب ًا .فكان «الغربال» �أول ما خطر يل يف بال.
7
هذا الكتاب على �أن �أر�سل اليك ما ت�شاء من الن�سخ �أو خالف ذلك». ويقول نعيمة ان تلك الر�سالة كانت هي الدافع املبا�شر لن�شر «الغربال» ،حيث ب�سرعة راح يجمع مقاالته ،وقد حر�ص على �أن يختار من بينها الأكرث حتديثية وا�ستفزاز ًا «وكان همي الأكرب �أن �أجد لها ا�سم ًا منا�سب ًا. فكان «الغربال» �أول ما خطر يل يف بال. وراقني اال�سم النطباقه على امل�سمى ،وخلفة لفظه وبعده عن الت�صنع واالبتذال» وهنا، على رغم ثورته على القوامي�س والتي كثري ًا ما حتدث عنها ميخائيل نعيمة يف «الغربال» ويف «�سبعون» ويف كتب ومقاالت كثرية �أخرى له ،مل يكن واثق ًا ،كما يقول ،من ان كلمة «غربال» ف�صيحة ال عاميّة ومن هنا و�س ّري عني «عدت اىل «حميط املحيط»(ُ )... كثري ًا عندما ا�ستوثقت من ر�ضاه عنها». وي�ضيف نعيمة هنا انه يف الأحوال كافة مل يكن م�ستعد ًا للتخلي عن اال�سم حتى وان مل يجد له �أ�ص ًال يف «حميط املحيط». ونعيمة بعد �أن يحكي على هذا النحو حكاية والدة «الغربال» ي�ستطرد ،يف «�سبعون» لريوي كيف �أن الأمر انتهى اىل �أن يكتب عبا�س حممود العقاد مقدمة الكتاب ،فيقول ان حميي الدين ر�ضا ،يف تلك الأثناء كان �أر�سل اليه ،على �سبيل الهدية ،جز�أي كتاب «الديوان» النقدي الذي ت�شارك يف ت�أليفه عبا�س حممود العقاد وابراهيم عبدالقادر املازين وهنا «ما ان اطلعت على هذا الكتاب، حتى �صفق قلبي ابتهاج ًا بهذين الرفيقني �ألتقي بهما بغتة يف طريق واحد وهدف واحد» ،هما اللذان «قاما يفعالن يف م�صر ما كنت �أفعله وحدي يف نيويورك .انهما يريدان حتطيم الأ�صنام وتقومي املقايي�س الأدبية .ويف ما يقوالنه زخم وحرارة واندفاع واميان ال يعرف احلدود» .فكانت
النتيجة ان ن�شر نعيمة مقا ًال عن كتاب «الديوان» ...اطلع عليه العقاد ،فـ «�أهداين على الفور ن�سخة من كتابه الف�صول». وهنا من جديد عاد نعيمة وكتب مقا ًال عن «الف�صول» ما �أوجد قرابة فكرية بني نعيمة والعقاد جعلت نعيمة ي�س�أل النا�شر ،بعد �أن �أر�سل اليه خمطوط «الغربال» عما �إذا كان ميكن تكليف العقاد كتابة مقدمة له .فقال له النا�شر (الذي �سرعان ما تغري بعد ذلك ،حيث عهد حميي الدين ر�ضا اىل �صاحب «املطبعة الع�صرية» اليا�س انطون اليا�س ب�إخراج الكتاب ون�شره) قال له انه �أح�س �أن العقاد ال ميانع يف ذلك .وهكذا كتب نعيمة اىل العقاد ر�سالة ي�س�أله فيها هذا الأمر .فا�ستجاب العقاد بكل �سرور وكتب املقدمة و�أر�سلها اىل النا�شر «بعد �أن ق�ضيت �ساعات ممتعة يف مطالعة �آرائك النا�ضجة» كما قال العقاد يف ر�سالة بعث بها يومذاك اىل نعيمة م�ضيف ًا فيها ...« :وكانت هذه املطالعة خري الزاد يف هذه البلدة النائية يف �صعيد م�صر التي ق�صدت الإقامة فيها �إبان احلوادث امل�ضطربة ريثما تتغري احلال». كانت هذه ،كما رواها ميخائيل نعيمة ( ) - بنف�سه حكاية ن�شر وظهور كتابه الأ�شهر «الغربال» .ونعيمة هو واحد من �أبرز الأدباء اللبنانيني والنقاد العرب ،عا�ش القرن الع�شرين كله ،منطلق ًا من قريته ال�صغرية يف اجلبل اللبناين ،للدرا�سة يف فل�سطني �أو ًال ثم يف رو�سيا ،ليتجه بعد ذلك اىل �أمريكا حيث عا�ش فيها �سنوات واعترب واحد ًا من �أبرز جمددي الأدب العربي فيها .وحكايته هذه رواها نعيمة يف كتاب «�سبعون» الذي �أتى ليتوج جمموعة م�ؤلفاته ومنها «جربان خليل جربان» و «املراحل» و «هم�س اجلفون» و «البيادر» و «كتاب مرداد» و «مذكرات الأرق�ش».
كاظم خ�ضري كاظم التنا�ص م�صطلح نقدي �أ�شيع يف االدب الغربي بعد عام 1966ووظف ب�شدة ك�آلية نقدية يف معاجلة الن�صو�ص االدبية،وهذا املفهوم ظهر عند(جوليا كر�ستيفا) ت�أثرا ب�أ�ستاذها (ميخائيل باختني) وقد عرفته ب�أنه (التفاعل الن�صي يف ن�ص بعينه) �أو بتعبري �أخر (�أن الن�ص عبارة عن لوحة ف�سيف�سائية او قطعة موزائيك من ال�شواهد ،وكل ن�ص هو �أمت�صا�ص �أو ت�شرب لن�ص �أخر �أو حتول عنه) .وهناك تعاريف اخرى للتنا�ص تعددت بتعدد املناهج واملفاهيم ف�ضلنا عدم اخلو�ض �أو االيغال بها لت�شعباتها :وللتنا�ص تق�سيمات منها:
�أوال:التنا�ص الداخلي �أو الذاتي :وهو الذي ي�ستخدمه ال�شاعر نف�سه يف ن�صو�صه وبتعبري �أخر قيام املنتج ب�أعادة انتاج �سابق له. ثانيا:التنا�ص اخلارجي :قيام ال�شاعر باعادة انتاج منتج من قبل االخرين وهذا النوع قد يكون ذا مرجعيات دينية �أو ادبية �أو �شعرية �أو ا�سطورية . ثالثا :التنا�ص املرحلي :وهو الذي يحدث بني ن�صو�ص تنتمي اىل جيل واحد ت�أثر بامل�ؤثرات االجتماعية او الثقافية �أو ال�سيا�سية �أو الدينية نف�سها. وهذا النمط من التنا�ص يظهر ب�شكل جلي يف بع�ض ن�صو�ص بدر �شاكر ال�سياب، ومنها �أن�شودة املطر. �أن ال�سياب وظف �آليات عديدة للتنا�ص منها التنا�ص يف امل�ضمون و التنا�ص يف ال�شكل مثل ا�ستعمال الرمز املكثف (كاملطر) .وهذا يظهر وا�ضحا عند �أحد معا�صريه وهو ميخائيل نعيمة يف �أوراق اخلريف. �أن القراءة الفاح�صة لن�ص ال�سياب تظهر االمت�صا�ص والت�شرب لن�ص ميخائيل نعيمة(�أوراق اخلريف) و�أول ما يواجهك التكرار وااليقاع احلركي لكلمة مطر التي تقابل الفعل تناثري عند نعيمة فكالهما يعطي ديناميكية للأنبعاث والتجدد و�أن �أختلفت ر�ؤياهما فيه لأن ( االنبعاث والتجدد عند بدر �شاكر ال�سياب و�أغلب ال�شعراء املحدثني مرتبط بالفداء امل�سيحي بينما هو عند ميخائيل نعيمة و�شعراء املهجر عموما مقرتن بالتنا�سخ).للنزعة ال�صوفية عندهم. ونرى تنا�صا �أخر بني املقطع الذي ي�صور حركة �أهتزاز �ضوء القمر املتك�سر على �سطح املاء بفعل املجداف . وترق�ص اال�ضواء..........كالآقمار يف نهر
يرجه املجداف وهنا �ساعة ال�سحر واهتزاز �ضوء القمر املتك�سر بفعل حفيف �أوراق ال�شجر عند نعيمة... يا مرق�ص ال�شم�س ويا �أرجوحة القمر جعل ال�سياب ال�ضوء املنبعث من القمر يرتاق�ص بفعل املجداف على �سطح املاء بينما �صوره نعيمة مت�أرجحا بفعل �أوراق ال�شجر ومل ي�شر ملحرك �أو �صانع لتلك
جعل ميخائيل نعيمة طق�س الفناء و االنبعاث م�صحوبا مبعزوفتني احداهما جنائزية متمثلة بالأرغن واالخرى ا�ستهاللية متمثلة بالقيثارة الآلة املو�سيقية التي كانت تو�ضع يف مدافن ملوك �سومر كي ترافقهم يف رحلة احلياة يف العامل ال�سفلي ..
احلركة التي متثل احلياة والعودة منطلقا من فكرة التنا�سخ و قد اختار مفردة التارجح للداللة على دورة احلياة يف الفناء والتجدد فالقمر يف املثيولوجيا ال�سومرية (�أنانا )(التي نزلت اىل العامل ال�سفلي الذي ت�شرق منه ال�شم�س ).ثم تعود مرة اخرى راق�صة بن�شوة احلياة .....يا مرق�ص ال�شم�س..... وقد جعل ميخائيل نعيمة طق�س الفناء و االنبعاث م�صحوبا مبعزوفتني احداهما جنائزية متمثلة بالأرغن واالخرى ا�ستهاللية متمثلة بالقيثارة الآلة املو�سيقية التي كانت تو�ضع يف مدافن ملوك �سومر كي ترافقهم يف رحلة احلياة يف العامل ال�سفلي .. يا �أرغن الليل ويا قيثارة ال�سحر وجمع بني االرغن والليل رمز الفناء والقيثارة وال�سحر رمز احلياة ووقت انبالج يوم جديد... وبالعودة للمقطع ال�سابق جند ان ال�سياب جعل حركة ال�ضوء على �سطح املاء بفعل �صانع يدير �سفينة احلياة ويحركها مبجدافه انطالقا من فكرة قيام امل�سيح التي ا�شرنا لها... �أ�شرتك ال�سياب مع ميخائيل نعيمة بتوظيف الرمز نف�سه مع فارق يف الداللة فاملطر الذي يرتبط بتموز وع�شتار(انانا،القمر) رمزا للنماء واحلياة، الذي يربطه بذكرى والدته التي بعد عن عينيها �ضوء القمر او �شرفتان راح ين�أى عنهما القمر... وهذا ماجعل القمر عند ال�سياب يحمل معنا مزدوجا يت�أرجح بني الن�شوة واخلوف بني املوت الذي يرمز لوالدته واحلياة التي بعثتها فيه ... فت�ستفيق ملء روحي ،رع�شة البكاء
كن�شوة الطفل �أذا خاف من القمر...... اخلوف املتجذر بفقدان �أمه والن�شوة بذكراها التي و�صفها برع�شة اخلريف املتنا�صة من خريف �أوراق ميخائيل نعيمة . دفء ال�شتاء فيه وارتعا�شة اخلريف، واملوت ،وامليالد ،والظالم ،وال�ضياء املوت الذي يرمز لوالدته،و التي التزال هم�ساته تثقب اذنيه تلك الهم�سات التي كانت تخرج من رفاقه ب�أن مدفن والدته هناك جانب التل .....حينما كان يف عمر ال�ساد�سة وقد اخفى عنه ذووه ذلك املوت وان تهام�س الرفاق انها هناك يف جانب التل تنام نومة اللحود ت�سف من ترابها وت�شرب املطر ونلمح تلك اال�شارة لوالدته التي ترقد يف جانب التل يف ق�صيدة بويب عندما قال: �أود لو �أطل من �أ�سرة التالل الملح القمر يخو�ض بني �ضفتيك يزرع الظالل وميلأ ال�سالل ويعود ال�سياب لذكر �ضوء القمر يف هذا املقطع متمنيا من �ضوئه الرق�ص كما كان يفعل على �صفحات مائه بفعل املجداف..... ولكن هيهات هذه املرة فالنهر �شارف على املوت �أو الفناء فال عودة لظالل �أمه كي تبعث فيه احلياة مرة اخرى... لذلك نرى النهر واجما حزينا يف ق�صيدة (بويب) وهذا يذكرنا بنهر ميخائيل نعيمة يف ق�صيدة(النهر املتجمد) فنهر ميخائيل نعيمة مل يحركه الربيع وظل مكبال..... يا نهر ذا قلبي �أراه كما اراك مكبال..... والفرق �أنك �سوف تن�شط من عقالك وهو ال.. ونهر ال�سياب مل حتركة املجاديف ومل ترتاق�ص عليه ا�ضواء القمر....
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
8
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
النهر الخالد
9
نظرات فـي �شعر ميخائيل نعيمة قلب الطفولة العميق الغام�ض و�إىل نف�سها العجيبة املتقلبة فت�أبى الطفولة �أن تن�سى تلك الق�صيدة التي منها هذه الأبيات؟ : �سق ـ ــف بيتي حـ ــديد\ ركن بيتــي حجــر فاع�صفي ياريـ ـ ـ ــاح وانتحـ ـ ــب يا�شجر وا�سبح ــي يا غيـ ــوم واهطلي باملـ ـطــر واق�صفي يا رعـ ـ ــود ل�ست �أخ�شى خطـ ــر من �سراجي ال�ضئيل �أ�ستـمد الب ـ ـ ـ ــ�صر كلــما الــليل طـ ــال والظــالم انتـ ـ ــ�شر و�إذا الفـ ـ ــجر مـات والن ـ ـ ــهار انت ـحـر فاختــفي يـا جن ــوم وانطفـىء يـا قم ـ ــر باب قلبـي ح�صـني من �صنـوف الك ـ ــدر وازحفـي يا نحو�س بال�شقـ ـ ــا وال�ضـجــر ل�ست �أخ�شى العذاب ل�سـت �أخـ�شى ال�ضـرر وحلـ ــيفي القــ�ضاء ورفيقــي الق ـ ـ ـ ـ ــدر
الديوان -و�أخ�ص العقاد بالتحديد- فجاء يف معظمه فل�سفة وعمارة منطقية، وغريهاتني املدر�ستني ممن جرى جمرى حافظ و�شوقي فوقع بني مطرقة الت�صنع والتحذلق البياين و�سندان املنا�سبات.
�إبراهيم م�شارة يعترب الأديب والكاتب والناقد وال�شاعر اللبناين ميخائيل نعيمة حالة فريدة يف دنيا الأدب والثقافة العربية احلديثة لي�س لغزارة �إنتاجه فح�سب ،و�إمنا لعوامل �شتى جعلت منه مثاال نادرا للأديب الفذ واملثقف الواعي وال�شاعر احلي الوجدان والإن�سان الطافح باملودة والت�سامح والإخاء ولك�أنه وعى يف �صدر �شبابه مقولة �أبي حيان التوحيدي ":الإن�سان �أ�شكل عليه الإن�سان " فا�ستبطن ذاته ونزل �إىل قرارة نف�سه مبب�ضع الفكر وال�ضمري فا�ست�أ�صل منها
بذور الأنانية واحل�سد وال�شره املادي والغرور والكربياء الزائف ،وتعهد فيها بذور الت�ضحية وال�شرف و�صدق القول والفعل والتوا�ضع والزهد يف متاع الدنيا ف�أينعت تلك البذور دوحة ا�ستظل بها يف �صحراء احلياة القاحلة ودعا �إىل ذلك الظل من تاقت نف�سه �إىل احلقيقة واجلمال وكمال اخللق. ويف حياة الأ�ستاذ ميخائيل نعيمة هدوء و�سال�سة وان�سياب تلقائي فهو �أ�شبه بالنهر يجري �إىل امل�صب بال �ضو�ضاء وال تيه ،وقد �أدرك م�صبه منذ فجر
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
�شبابه �إنه م�صب الوجود حيث تتوحد املوجودات وتتناغم فتكون وحدة يف كرثة ولونا موحدا يف �أطياف �شتى وحياة واحدة يف حيوات متعددة وما الإن�سان والدودة واحلجر والودق �إال مظاهر للوجود الواحد احلي الفاعل . وبال �شك فمولده يف بلد الأديان والت�سامح ( ب�سكنتا) بلبنان ودرا�سته يف النا�صرة ثم يف رو�سيا القي�صرية و�أخريا يف �أمريكا كانت تلك الرحلة منافذا للروح والعقل وال�ضمري حررته من ع�صبية الدين والقومية الرعناء
بال رقيب من الفكر وال�شعور و�أدخلته يف رحاب الإن�سانية اخلالدة فجاء �أدبه �صورة لفكره ولوجدانه بال تزويق �أو �أ�صباغ فهو الأديب امل�س�ؤول وال�شاعر الهام�س على حد و�صف �أ�ستاذنا الدكتور حممد مندور جلماعته ،لي�س يف حياته اخل�صام والنقد اجلارح والكالم النابي على عادة كتابنا يف ذلك العهد �أو لي�س هو القائل " :عجبت ملن يغ�سل وجهه كل يوم وال يغ�سل قلبه مرة يف ال�سنة "؟ بلى و�أهميته ال�شعرية تكمن يف حترير ال�شعر العربي من
اخلطابية واحلما�سة الزائفة والرياء املاكر� .صحيح ففي الن�صف الأول من القرن الع�شرين ظهرت مدار�س �شعرية جددت ال�شعر العربي �شكال وم�ضمونا وتخلت عن طرائقه القدمية وق�صرته على الوجدان وهموم احلياة احلديثة فجماعة �أبولو وجماعة الديوان ولفيف �آخر من ال�شعراء حقق هذا االجناز � .أما النتاج ال�شعري جلماعة �أبولو فغلبت عليه الغنائية احلزينة وكرث فيه النحيب وطغت عليه ال�سوداوية والإندفاع ال�صارخ و�أما النتاج ال�شعري جلماعة
�أما �شعر ميخائيل نعيمة فقد تخل�ص من هذا كله كان كاملنهل �أو كانت نف�سه غورا م�سها بع�صاه فانبج�ست منها عيون رقراقة �سل�سة تغذي العقل والوجدان توحي �إليك كلماتها دون �أن ين�ضب معينها ويهم�س لك �شاعرها يف �أذنك حتى يكون قريبا من وجدانك وقلبك دون �أن تذهب الكلمات �أدراج الرياح �إن اعتلى املنابر� .إقر�أ معي هذا املقطع من ق�صيدته"�أخي" جتده يقول: �أخي �إن �ضج بعد احلرب غربي ب�أعماله وقد�س ذكر من ماتوا وعظم بط�ش �أبطاله فال تهزج ملن �سادوا وال ت�شمت مبن دانا بل اركع �صامتا مثلي بقلب خا�شع دام لنبكي حظ موتانا فهذا املقطع ي�ستعلي على املنابر ويتجافى عن املجامع ،ال جتد فيه �أثرا للخطابية �إنه مقطع يخلو فيه الإن�سان �إىل نف�سه ويقر�ؤه لنف�سه يغذي به وجدانه وعقله ،ويف هذا املقطع دالئل �شتى لعل �أهمها منزعها الإن�ساين املتجلي يف كلمة" �أخي" ونزوعها ال�سلمي وعهدنا ب�شعرائنا القدامى يتحم�سون ل�ساحات الوغى ويهيبون باملهند والرديني وقراع الكتائب� .إنه �شعر يلج من الأذن لي�ستقر يف القلب
فيغري مابه ولي�س بال�شعر الذي يردد يف املنا�سبات بالتفخيم ومد ال�صوت فيلج من الأذن الأوىل ليخرج من الأذن الثانية ويف ق�صيدته " �صدى االجرا�س" هنا نقب�ض على اخل�صائ�ص الفنية التي متيز �شعر ميخائيل نعيمة فالت�صنع والتكلف وانتقاء اللفظ الرباق والتفتي�ش يف ل�سان العرب والقامو�س املحيط عن اللفظ الدال على امللكة اللغوية �أو كد الذهن يف البحث عن ا�ستعارات رائعة �أو ت�شبيهات غري م�سبوقة والنزوع �إىل الأبحر الطويلة النف�س (الطويل ،الكامل ،الب�سيط) وح�شد ال�شعر بالإحاالت العلمية والفل�سفية لي�ست من اخل�صائ�ص الفنية ل�شعره .فال�شعر عنده �سليقة وال�سليقة بنت الطبيعة والطبيعة �أطياف و�أحياء وم�شاعر و�أفكار �إقرا معي هذا املقطع من ق�صيدته " �صدى الأجرا�س" لتقع على �صحة هذا الر�أي: بالأمـ�س جل�ست و�أفكـاري �سرحت ت�ستف�سـر اثــاري وترود احلا�ضر واملـا�ضي �أمال �أن تدرك �أ�سـ ــراري و�أفـاق ال�ش ـ ــك و�أن�صـاره �آالم العي ـ ـ ـ ــ�ش و�أوزاره بالله �شــكوك ـ ــي خل ـ ــني وحدي ذا ال�صوت ين ــاديني ذا �صوت �صب ــاي يـردده الــوادي و�شـواهق �صنـيني الع ــامل مملكتـ ـ ــي و�أنا �سلـ ــطان العــامل والدهــر الــزهر يعطـ ــر �أنفــا�سي
الأديب ميخائيل نعيمة ورحلة العلم يف النا�صرة فل�سطني ()1906 – 1902
والـزهر يولــد يف ر�أ�سـي �أ�شبــاحا راق�صـة ل ــخرير املـاء و�صوت الأجــرا�س مابال �سكينتي ا�ضطــربت
قد ا�ستخدم ال�شاعر جمزوء املحدث دون خنب " فاعلن " املخبونة وجوبا وال�شاعر معروف با�ستخدامه الأبحر النادرة لأنها حتقق م�أربه يف التجديد .فلما كربنا وات�سعت مداركنا ودر�سنا نظريات الفن وال�شعر و�أملمنا باملذاهب الأدبية ومب�ستويات الداللة وحفظنا مئات الق�صائد القدمية واملحدثة �أدركنا ما يف هذه الق�صيدة من جمال فني.
وجحـافل �أ�شبـاحي هـربت قد عــاد ال�شـك و�أنــ�صاره �آالم العيـ ـ ـ ــ�ش و�أوزاره وقد ت�صرفنا يف هذه الق�صيدة الطويلة لندلل على �صحة ر�أينا يف �شعره �إنه ال�شعر الهادئ الذي يجد م�صبه يف وجدان القارئ اليف �أذن ال�سامع وال�شاعر هنا يتعبد يف حمراب الطبيعة بفرح طفويل وي�ستذكر �شوامخ �صنني ويعابث الزهر ويناغي النهر لوال تباريح ال�شك وت�صاريف احلياة ونكد الفكر .وقد كان �شعرنا العربي بحاجة �إىل هذا النوع من ال�شعر –�شعر القلب والعقل –�شعر الإندغام يف الطبيعة والوجدان ،فت�صري الطبيعة وال�شاعر واحدا بعد �أن كانت مو�ضوعا. فميخائيل نعيمة لي�س ال�شعر عنده معرفة ( �أي علما) ولي�س ال�شاعر هو الذي يعدد لك الأ�شياء ويتالعب بت�شبيهاتها ،ويقول لك ماهو ذلك ال�شىء بل ال�شعر عنده قب�سة من نور الوجود ور�شفة من حميط احلياة وحبل �سري مو�صول مب�شيمة الكون يح�س من خالله قارئ �شعره ب�إن�سانيته تفي�ض على الوجود وب�أخوته حتى للدودة وقد خاطبها مرة يف �إحدى ق�صائده بـ "يا�أختاه". ومازلت �أذكر �أيام ال�صبا و�أيام الدرا�سة الإبتدائية حني كنا تالمذة يف ال�صفوف الإبتدائية كيف كنا نحفظ ق�صيدته " ل�ست �أخ�شى" ونرددها يف الأزقة بل ويرددها كل لنف�سه و�أنا واحد منهم. كيف ا�ستطاع هذا الرجل �أن ينفذ �إىل
وقد ا�ستخدم ال�شاعر جمزوء املحدث دون خنب " فاعلن " املخبونة وجوبا وال�شاعر معروف با�ستخدامه الأبحر النادرة لأنها حتقق م�أربه يف التجديد .فلما كربنا وات�سعت مداركنا ودر�سنا نظريات الفن وال�شعر و�أملمنا باملذاهب الأدبية ومب�ستويات الداللة وحفظنا مئات الق�صائد القدمية واملحدثة �أدركنا ما يف هذه الق�صيدة من جمال فني ، ففي عهد الطفولة الغ�ض فهمنا مظاهر الطبيعة على حقيقتها املطر ،الليل ، الفجر ،القمر ،ركن البيت �سقف البيت ،وهذه الدالالت تنا�سب عهد الطفولة و�أما دالالتها الأخرى فهي فل�سفية عميقة �إنها احللولية الكونية ،حيث تتماهى ذات ال�شاعر مع املوجودات املوحدة يف كرثتها فت�ستمد من ذلك الوجود ال�سكينة و الوداعة والر�ضا بالقدر وتتنعم ب�إن�سانيتها الواعية اخلالقة بال كربياء �أو جربوت زائف �إنها النهر يجري من�سابا ثابت اخلطى �إىل م�صب الوجود العظيم .لهذا نفهم ملاذا �أعر�ض ميخائيل نعيمة عن الزواج والن�سل والإغراق يف املتع احل�سية وتعبد يف"ال�شخروب " فلقد وجد هناك بهجة الروح و�سلوى اخلاطر وتناغمت خفقات قلبه مع حفيف ال�شجر وان�سجمت �أنفا�سه مع خرير املاء وجاء �شعره تعبريا عن هذا املوقف الفذ واحلالة الإن�سانية الفريدة التي �أ�ضافت �إىل �شعرنا ماكان ينق�صه و�سدت ثغرة كان من حق الغري �أن يعتربها مثلبة ونقي�صة يف �أدبنا فتحية �إىل نا�سك "ال�شخروب" يف رقدته الأبدية ولنا يف �شعره الغذاء للروح والفرح الطفويل واملوقف ال�صويف النبيل.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
10
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
11
الرتجمة الذاتية يف الأدب العربي احلديث
كتاب (سبعون) لميخائيل نعيمة نموذجًا
اول وآخر حب لميخائيل نعيمة هل ميكنك ان حتب رو�سيا دون ان تطلع على جمالها وغاباتها وحقولها وانهارها؟ هذا االمر ممكن اذا حتدث اليك عنها الكاتب وال�شاعر والقا�ص وامل�سرحي والناقد اللبناين ميخائيل نعيمة. مل يتغري �شئ يف مكتب الكاتب امللقب ب" نا�سك ال�شخروب" بعد ان انتقل اىل جوار ربه يف 28فرباير�/شباط عام 1988يف �شقته املتوا�ضعة ب�ضواحي بريوت .وظلت اوراقه كلها يف مكانها. وتقول �سهى نعيمة حفيدة الكاتب العربي ميخائيل نعيمة ":تويف جدي يف جو هادئ دون ان يزعج احدا بوفاته .وكانت جنازته متوا�ضعة اي�ضا ،رمبا ب�سبب احلرب االهلية الالمتناهية ،رمبا ب�سبب ان جدي مل يكن ثريا ومل يكن يطمح اىل املجد ابدا". ت�سمي �سهى نف�سها حفيدة مليخائيل نعيمة رغم ان الكاتب مل يخلف اطفاال الن امها مي حداد كانت �سيدة �شاطرت الكاتب
يف �شيخوخته لكونها اخر ان�سانة قريبة منه يف ال�سنوات االخرية من حياته. عا�ش ميخائيل نعيمة حياة دامت � 100سنة كان يقيم غالبيتها يف قرية ال�شخروب اجلبلية الواقعة قريبا من بلدة ب�سكنتة التي تت�صف بطبيعتها ال�ساحرة ومناظرها اخلالبة .واحب الكاتب العزلة والت�أمل .وكان غالبا ما ينعزل ما يف مكان قريب من ال�شالل حيث يفكر يف كتابة م�ؤلفاته الكثرية وفل�سفته حول االن�سجام بني الطبيعة واالن�سان والله. وتنفذ تلك الفل�سفة ابداعه النرثي وال�شعري كله الذي ن�شر يف 8جملدات ومنها جند جملدا واحدا يحتوي على مذكرات ت�ضم ق�صيدة نظمها ال�شاعر باللغة الرو�سية ا�سمها "نهر متجمد" وتنتهي باالبيات التالية: " ن�ؤمن برو�سيا ن�ؤمن من �صميم قلوبنا بان الربيع �سي�أتي
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
اىل ربوعك. فقوىل متى �سيتحقق ذلك؟ ملاذ ت�صمتني يا رو�سيا؟ نامي يا حبيبتي". كانت تلك االبيات �سببا لبحث املجل�س الديني مو�ضوع اعفائه عن الدرا�سة يف الكلية الدينية االرثوذك�سية مبدينة بولتافا التي مت ايفاده اليها من لبنان لتفوقه يف الدرا�سة مبدر�سة ارثوذك�سية لبنانية .رمبا هناك �سبب �آخر لف�صله من الكلية االرثوذك�سية باوكرانيا. وهذا �سبب احلب الفا�شل ل�سيدة رو�سية متزوجة .وكانت فرفارا او باالحرى فاريا احل�سناء الرو�سية الفتية م�صدر االلهام هذا احلب .ورمبا اندمج ا�سما رو�سيا وفاريا با�سم واحد يف ق�صيدته تلك وج�سدتا قوة الروح وجمال املر�أة. اعتاد ميخائيل نعيمة ان يق�ضي اجازته يف قرية غريا�سيموفكا حيث تعرف على ح�سناء �شقراء طويلة الظفرية وزرقاء
العينني واحبها ،فاحبته .وعر�ض عليها قلبه ويده ،لكن احل�سناء كانت متزوجة لال�سف ال�شديد .وكان الطالق امرا يف غاية ال�صعوبة يف الدين االرثوذك�سي الرو�سي .فوجد نعيمة نف�سه امام خيارين :اما ان يخرق القوانني االخالقية االرثوذك�سية القا�سية واما ان يقطع عالقته بحبيبته ويرتك الدرا�سة يف الكلية ويغادر رو�سيا العزيزة على قلبه. وظهر ان احلل قد وجد حني وافق زوج فاريا على ان يطلق زوجته ويتحول اىل راهب يف الدير .واو�شك ميخائيل ان ي�شعر بقرب �سعادته .لكن االقدار �شاءت ان ينف�صل احلبيبان حني مل ير�ض راعي الدير بقبول زوج فاريا ال�ضعيف ال�صحة بديره .وقبل نعيمة حتديا للقدر وقطع درا�سته يف بولتافا وترك علم الالهوت االرثوذوك�سي وغادر رو�سيا وعاد اىل لبنان ومنه توجه هو و�شقيقه جنيب اىل امريكا حيث ام�ضى � 20سنة طويلة .
وقيل ان حبيبته فاريا طلقت يف �آخر املطاف زوجها وح�ضرت اىل لبنان ، لكنها ت�أخرت قليال الن �سفينة حبيبها قد ابحرت متوجهة اىل امريكا. هل كان ميخائيل نعيمة �سعيدا يف امريكا ؟ -نعم ،كانت لديه امر�أتان غري فاريا و مي حداد .لكنه مل يتزوج �أية واحدة منهن. رمبا مل يبق اي �آثر من احل�سناء الرو�سية فاريا لوال �صديقتي ايرينا بيليك الباحثة يف ابداع ميخائيل نعيمة ومرتجة ا�شعاره اىل اللغة الرو�سية التي زارت عام 2008بريوت حيث التقت ابن اخ ميخائيل نعيمة يو�سف وابنة جنيب يف ب�سكنتة .ويا لده�شة �صديقتي عندما عرفت ان ابنة احلقوقي اللبناين املعروف جنيب تدعى فاريا وهي �شقراء وزرقاء العينني. وقد طلب ميخائيل نعيمة يف و�صيته بان يبقى باب �ضريحه مفتوحا ،فلماذا؟
يف مقدمة كتابها "الرتجمة الذاتية يف الأدب العربي احلديث /كتاب �سبعون مليخائيل نعيمة منوذج ًا" ،تقول الباحثة التون�سية الدكتورة فوزية ال�صفار الزاوق انها اختارت كتاب (�سبعون) مليخائيل نعيمة مو�ضوع ًا لبحثها ،لقلة الدرا�سات العربية يف هذا امليدان ..فهذه الدرا�سات التي بني �أيدينا حول الرتجمة الذاتية تت�سم بااليجاز والعر�ض ال�سريع والأحكام العامة ..ولي�س بينها درا�سة متنحنا مفهوم ًا فني ًا للرتجمة الذاتية وا�ضح املعامل ..فاملراجع قليلة و�ضعيفة. وتطرح يف هذه املقدمة جملة ا�سئلة: فهل ي�ستطيع الكاتب �أن ي�ص ّرح بكل �شيء يف بيئة مكبلة بر�ؤية حمافظة؟ وكيف واجه الأدباء العرب هذه الق�ضية؟ و�إىل �أي حد كانوا �صادقني يف التعبري عن ذواتهم؟ و�إىل �أي مدى جنحوا يف جمال الرتجمة الذاتية وت�أ�صيلها يف الأدب العربي مع جتديد مفهومها وجعله مالئم ًا لبيئتهم االجتماعية والثقافية؟ وال�س�ؤال الأهم الذي تلقيه الباحثة هو: ملاذا كتاب "�سبعون"؟ فهل كتب �صاحبه ليتوج به �أعماله ال�سابقة؟ �أم هل كتبه ّ ليعبرّ به عن �أزمة ح ّلت به يف حياته؟ �أم تراه كتبه عند تقدمه يف ال�سن رغبة منه يف ت�صفية احل�ساب مع النف�س ومع النا�س؟ �أم تراه كتبه خلري اجلميع؟ وهل اعتمد فيه منهجية معينة� ،أم هل اكتفى بتطبيق قواعد الرتجمة الذاتية يف الغرب؟ وهل تعر�ض نعيمة �إىل م�شكلة البناء الفني وال�شكل الأدبي يف ميثاق ترجمته الذاتية؟ �أم هل غاب عنه حتديدها؟ وهل �سبقه غريه �إىل حت�س�س املو�ضوع؟ تعالج الباحثة هذه الأ�سئلة يف كتابها معاجلة �ضافية وتالحظ ان املت�أمل يف كتاب (�سبعون) يالحظ انه يندرج يف �أدب له جذور يف الأدب العربي القدمي لكن على هيئة ن�صو�ص مفردة ..ذلك انه مل يظهر جن�س �أدبي ُيعرف بالرتجمة الذاتية �إال يف الع�صر احلديث ..وقد ت�أثر ميخائيل نعيمة باعالم الرتجمة الذاتية الأجانب كما ت�أثر بهم طه ح�سني و�أحمد �أمني والعقاد و�سالمة مو�سى وتوفيق احلكيم و�سواهم. وقد ا�ستنطقت الباحثة ن�ص (�سبعون) مبراحله الثالث يف رحلة طولها �850صفحة ،ومار�سته "بال�شرح" حين ًا، مع ما ي�ستوجبه يف تعليق موافق �أو توثيق م�ضيء ،ومار�سته "بتحليل امل�ضمون" حين ًا �آخر ،مع ما يتطلبه يف تفكيك بنية الكتابة وفهم وظائفها ور�سم معامل خ�صائ�ص الأ�سلوب فيها.. ومار�سته هنا وهناك يف �ضوء "قواعد االن�شائية" حتى نفهم كيف كان ميالده ون�ش�أته يف �أدب الرتجمة الذاتية. ونقول ان قارئ (�سبعون) يجد م�ؤلفه منذ ال�صفحات الأوىل ي�صف مو�ضوعه ب�أنه مغامرة� ،إال انه �سرعان ما يتفطن �إىل �أن هذه املغامرة امنا هي االقدام على ان�شاء ترجمة ذاتية ..ولذلك يتح�س�س نعيمة امل�شكالت الفل�سفية التي قد ينبع منها مو�ضوعه والق�ضايا النف�سية التي ال منا�ص له من االن�شغال بها وامل�ضامني التي يتعني عليه تناولها والعقبات التي تعرت�ضه واحللقات
املفقودة التي يحاول تربير عجزه عن ا�ستكمالها .وت�ضيف الباحثة :ولكن �ألي�س لنا �أن نعترب نعيمة مبالغ ًا يف ت�ضخيم هذه "املغامرة" ،حتى ك�أنه فزع منها وحري�ص على �أن يكون القارئ على مثل فزعه منها؟ انه لي�س �أول من حاول كتابة ترجمته الذاتية يف الأدب العربي احلديث� ..أمل ي�سبقه �إىل ذلك كتّاب كثريون يف الع�صر احلديث ميكن �أن نذكر منهم طه ح�سني وكتابه (الأيام) ،و�أحمد �أمني وكتابه (حياتي)، العقاد وكتابيه (�أنا) و(حياة قلم)، وتوفيق احلكيم وكتابه (�سجن العمر) ويحيى حقي وكتابه (خليها على الله) وغريهم كثري ..وقد �أقبل جمهور القراء العرب على مطالعة هذه امل�ؤلفات كما �أقبل جمهور النقاد على النظر فيها بدون فزع وال جزع. ونعود لنطرح �س�ؤا ًال حول ما �إذا كان يف كتاب (�سبعون) مظاهر م�ستطرفة بها ميتاز عن الكتب ال�سابقة يف الرتجمة الذاتية؟ وجتيب" :ال �شك يف �أن كتاب (�سبعون) هو �أو�سع ترجمة ذاتية عرفها الأدب العربي احلديث.. فهو كتاب غزير امل�ضامني ،كثري ًا ما يفي�ض عن املو�ضوع الأ�صلي بالوثائق اجلمة والأخبار املختلفة واملواقف والر�سائل واملقاالت وال�صفحات املنقولة من كتبه واال�شعار ..فبهذا الوجه يختلف (�سبعون) عن الرتجمات الذاتية الأخرى ..ولعل �أهم عهد قطعه الكاتب على نف�سه يف كتابه هو �أن يكون �صريح ًا ما �أمكن له �أن يكون كذلك� ،صادق ًا ما �أمكن له ذلك اي�ض ًا، م�صور ًا حلقائق ذاته ،ذاكر ًا جل �أفعاله حتى يربز معامل الأنا ..ولقد كان مليخائيل نعيمة من القدرة على اتقان
لذلك ال عجب يف �أن يجد قارئ (�سبعون) نف�سه يف غمار الأحداث ويف خ�ضم الأحاديث حتى ك�أن املبالغة خا�صية �أوىل من خ�صائ�ص (�سبعون) ..والأمرالذي تقف الباحثة عنده هو هذه املبالغة التي جعلت هذا الن�ص قائم ًا على اال�سهاب يف القول ،مطنبا يف الكالم، م�ضخما بال�صفحات امل�أخوذة من هنا وهناك.
الكالم ،ما جعل القارئ يثق به يف جل الأحيان فيفرح بفرحه ويحزن بحزنه وي�شتاق �إىل معرفة اخباره حتى يكون هنا �أو هناك من �أن�صاره. لكن القارئ قد يداخله ال�شك �أحيان ًا �أخرى لأن امل�ؤلف عر�ض من نف�سه �صورة م�شرقة عادة ،وك�أنها �صورة ال �أروع منها ،وال �أنقى ..ولعله كان من
املمكن �أن تكون هذه ال�صورة ان�سانية، �أي �أقل روعة و�أقل نقاوة لو مل يكن امل�ؤلف حتت وط�أة الكربياء واالعجاب بالنف�س والغرور اي�ض ًا ..انك تقر�أ الكتاب فال جتد فيه �صاحب هذه الرتجمة الذاتية انهزم مرة �أو خاب مرة �أو نافق مرة �أو كذب مرة� ..أال يكون من حق القارئ �إذن �أن ي�سائل الكاتب عن الغاية احلقيقية من ان�شاء (�سبعون)؟ لأنه ،والأمر على ما نرى� ،أ�صبح ال يدري �أكتب ميخائيل نعيمة كتابه هذا ليع ّرف النا�س بحياته كما كانت وكما هي� ،أم كتبه دفاع ًا عن نف�سه وتنويه ًا بها وت�ضخيم ًا مل�آثرها وكتمان ًا لنقائ�صها وت�صفية لها من �شوائبها؟ فلئن كان يف هذا الكتاب �صفحات تعجب قارئها ت�ؤثر يف من يتبعها وتعلمه وتعظه ،ف�إنها قد حت�صى عد ًا �إذا ما قي�ست بال�صفحات التي حتيرّ ه ملا تت�ضمنه من مبالغة حمرجة وموجعة". لذلك ال عجب يف �أن يجد قارئ (�سبعون) نف�سه يف غمار الأحداث ويف خ�ضم الأحاديث حتى ك�أن املبالغة خا�صية �أوىل من خ�صائ�ص (�سبعون) ..والأمرالذي تقف الباحثة عنده هو هذه املبالغة التي جعلت هذا الن�ص قائم ًا على اال�سهاب يف القول، مطنبا يف الكالم ،م�ضخما بال�صفحات امل�أخوذة من هنا وهناك� .أمر �آخر ت�ستنتجه الباحثة هو �أن الناظر يف كتاب (�سبعون) يدرك ان هذه الرتجمة الذاتية التي كتبها �صاحبها لي�صفي ح�ساباته مع نف�سه �أو مع النا�س، لي�ست هي الق�ضية الأ�سا�سية ،بل انها يف املقام الأول ابداع �أدبي ال يخلو من املواقف اجلريئة �أراد �صاحبه �أن يخالف به املوجود و�أن يطمح فيه �إىل
املن�شود يف معاجلة عدة ق�ضايا لعل �أهمها ق�ضية الزواج الذي يخالف فيها اجلماعة ،فالزواج يف نظره قناع يخفي الإن�سان وراءه غريزته اجلن�سية.. والقناع مهما دق و�شف ،يبقى خادع ًا وموهم ًا ومغري ًا اغراء الكذب ال�ساحر. ولذلك فهو ينطلق من الذات الفرد التي تعي الفوارق بني العالقة اجلن�سية والعالقة الزوجية لي�صل �إىل الذات اجلمع ،فيطالب ب�إعادة النظر يف تربية الأجيال القادمة تربية جديدة تو�سع يف مداركهم وتعينهم على اخراج اجلن�س من املو�ضوعات التي يح ّرم احلديث فيها لي�صبح من املو�ضوعات املباحة. وهي ال تنكر �أن نعيمة اعاد النظر يف الأدب العربي بف�ضل ما كان له من مزاج تقدمي نتيجة احتكاكه بالغرب.. وهو ما دفعه �إىل الثورة على كل قدمي بال وعلى �أدب الق�شور الذي ال غذاء فيه لأي روح ،وعلى اللغة املتحجرة.. فاللغة عنده و�سيلة ال غاية وظيفتها التعبري عن حاجات النف�س الإن�سانية التائهة يف هذا الوجود ،وعن ق�ضايا ال�ساعة الراهنة�" ..إذن �أدرك ميخائيل نعيمة ان لكل ع�صر لغته وم�شكالته وابداعاته ،وحلوله ومواقفه التي بها يتفرد بها ويعتز وبها يفر�ض وجوده يف هذا اخل�ضم من احل�ضارات والأجنا�س الب�شرية املتنوعة امليول املتعددة الأديان ،وان كان جوهرها يف احلقيقة واحد ًا وهو الإن�سان". ولكن لئن تكلم ميخائيل نعيمة وا�سهب يف احلديث وهو يرتجم حلياته ،فهذا ال يعني انه قال كل �شيء ،بل قال كل ما اراد ان يقوله ..وله بالطبع ا�سبابه يف ذلك.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
13
من رسائل ميخائيل نعيمه إلى عبد الكريم األشتر بريوت ب�أيام قليلة� ،أر�سلت �إليه خاللها ر�سالة �أ�ستو�ضحه فيها عن دقائق �أتينا على ِذ ْك ِرها يف مقابالت بريوت .وتلقيت الر�سالة مع ن�سخته التي يحتفظ بها من كتاب عبد امل�سيح حداد حكايات املهجر – وكنت �س�ألته يف بريوت �أن ي�أذن يل يف ا�ستعارتها ،فا�ستجاب. ويف الر�سالة جماملة �أرجو �أن يعذرين القارئ يف نقلهاً ، حفاظا على �أمانة الن�ص: ب�سكنتا لبنان[ 9 ]5ك 1958
�أر�سلت يف ال�سبت 19نوفمرب 2005 عبد الكرمي الأ�شرت الق�صد من ن�شر هذه الر�سائل التي تلقي ُتها ممَّن ا َّت�صلتُ بهم من �أدباء املهجر �أن �أجعلها يف متناول الدار�سني والنقاد .ف�إن �أثر احلركة املهجرية يف �أدبنا احلديث ما يزال قائمًا: نلم�سه يف اجتاهات ال�شعر ،يف م�ضامينه و�أ�شكاله على ال�سواء ،ابتدا ًء من غلبة الرومان�سية عليه ،يف الربع الثاين من القرن الع�شرين� ،إىل �شيوع الواقعية مبذاهبها فيه من بعد ،ومن حترير لغته و�صياغاته وجتديد بنائه� ،إىل ما ا�صطلحتْ ُ بع�ض الأو�ساط على ت�سميته اليوم بـ"ق�صيدة النرث"؛ ونلم�سه يف النرث ،على اختالف �أجنا�سه ،ابتدا ًء من املقالة وانتها ًء بالأمثال وال�شذور والر�سائل. �سنجد يف هذه الر�سائل حقائق و�أ�سرارًا �صغرية ،تفيد كثريًا يف فهم هذا الأدب ،وتعمِّق
من معرفتنا برجاله .وقد غيَّب املوتُ وجوه املهجريني جميعًا – وكان �آخ ُرهم الأ�ستاذ ميخائيل نعيمه ،الذي تويف �سنة 1988وقد �أو�شك �أن ي�ستكمل املائة من عمره املديد (ولد �سنة .)1889 وقد تلقيت ق�سمًا من هذه الر�سائل و�أنا �أعمل يف كتابة ر�سالتي عن نرث املهجر وفنونه، وتلقيت بع�ضها بعد �أن �صدرت هذه الر�سالة يف جز�أين[ ،]1وقر�أها مر�سلوها وع َّلقوا على بع�ض ما جاء فيها من �أحكام .وكان للأ�ستاذ نعيمه ،باعتباره �آنذاك الع�ضو البارز الوحيد الباقي من �أع�ضاء "الرابطة القلمية" ،الن�صيب الأكرب منها .وتلقيت ر�سالة واحدة من الأ�ستاذ عبد امل�سيح حداد� ،صاحب جملة ال�سائح التي احت�ضنتْ نتاج �أع�ضاء الرابطة ،منذ ن�شوئها (� )1920إىل انحاللها ()1931؛ ور�سالتني من الأ�ستاذ جورج �صيدح ،ال�شاعر الذي عا�ش
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
يف املهجر اجلنوبي (الأرجنتني) ،و�صاحب الكتاب القيِّم الذي جمع فيه حما�ضراته التي كان �ألقاها يف معهد الدرا�سات العربية العالية (معهد البحوث والدرا�سات العربية اليوم) يف القاهرة �سنة 1956؛ ور�سالة من الدكتور جورج جريح ،زميل جربان يف املهجر ،وقد فاج�أين ب�إر�سالها (ومل �أكن �أعرفه) بعد �أن قر�أ كتابي. وهذه ح�صيلة ر�سائل الأ�ستاذ نعيمه التي �أن�شرها اليوم. *** -1 تلقيت من الأ�ستاذ ميخائيل نعيمه �ست ر�سائل، ُو ِّقعَتْ كلُّها بني عامي 1958و1961؛ و�أكرثها كان ردًّا على ر�سائل �أر�سلتها �إليه ،وهو يف ب�سكنتا (قريته يف ق�ضاء املنت بلبنان). والأوىل منها كانت ردًّا على �أول ر�سالة
�أر�سل ُتها �إليه� ،أ�س�أله فيها �أن يحدِّد يل موعدًا �ألقاه فيه .وكان انتقل �إىل بريوت �إثر حادث وقع له يف ال�شخروب (مزرعة الأ�سرة يف جبل �صنني ،و�صو ُرها �شائعة يف �أدب نعيمه) ،تل َّقاه نعيمه ب�صرب جميل ،وكان يقول ملحدِّثيه يف بريوت" :كنت �أعلم �أن ال�شخروب ال ب َّد �أن ي�شرب من دمي يومًا". ب�سكنتا لبنان[ 28 ]2ت 1958 عزيزي ال�سيد عبد الكرمي عليك مني �أطيب ال�سالم .وبعد فقد تلقيت ر�سالتك اللطيفة ،و�أ�سفت كثريًا للأحداث يف لبنان[ ]3حتول دون تالقينا يف ال�صيف. ومما يزيد يف الطني بلة �أن حاد ًثا وقع يل يف �أواخر �آب �أقعدين عن العمل نحو ثالثة �شهور. وتراين ،ب�سبب ذلك احلادث ،قد هربت م�ؤخرًا من برد ب�سكنتا �إىل دفء بريوت .و�سي�سرين
�أن �أراك فيها نهار اخلمي�س – الرابع من كانون الأول – نحو ال�ساعة العا�شرة �صباحً ا. و�إليك عنواين: �شارع املقد�سي – ر�أ�س بريوت – بناية لبابيدي – م�سكن رقم .2ورقم تلفون البناية: .37398 �أرجو �أن ي�صلك هذا اجلواب بغري �إبطاء، و�أن يجدك يف �أح�سن حال .و�إىل اللقاء �إن �شاء الله. املخل�ص ميخائيل نعيمه وقد قابلت نعيمه يف املوعد امل�ضروب ،وامتد احلديث ،يف جل�سات ،بينه وبيني على مدى ثالثة �أيام� ،سجَّ لت فيها عنه ما يزيد عن ثالثني �صفحة]4[. -2 وتلقيت الر�سالة الثانية بعد �أن غادرت
عزيزي الأ�ستاذ عبد الكرمي عليك مني �أطيب ال�سالم .وبعد فلعلك ت�شعر مثلما �أ�شعر ب�أن الأحاديث التي تداولناها يف بريوت مل تكن غري و�شل من بحر مما كان من املمكن – والنافع – البحث فيه والكالم عنه .ولكن الظروف ق�ضت �أن جنتمع بعيدًا عن املواد واملوارد ال�ضرورية للبحث واملوفورة يف مكتبتي يف ب�سكنتا .ورجائي �أن يكون ما جتمع لديك من املعلومات وافيًا بغر�ضك .ول�ست �أ�شك يف قدرتك على خلق �أطروحة ناجحة منه بالنظر ملا مل�سته فيك من تيقظ فكري ،و�إخال�ص يف النية ،وحتم�س ملو�ضوعك. �إليك الن�سخة التي وعدتك بها من حكايات املهجر� .أما امل�سودات التي متثل �أهم املراحل الزمنية يف حياتي ،فقد وجدت من الع�سري جدًّا تلبيتك ب�ش�أنها ،لأنني ال �أحتفظ ب�شيء من م�سودات ما كتبته يف املهجر .ولي�س لدي �إال القليل من م�سودات ما كتبته بعد عودتي �إىل لبنان .فال ب�أ�س �إذا �أنت ا�ستغنيت عنها. و�أما الرتتيب الزمني مل�ؤلفاتي – بح�سب ت�أليفها ال �صدورها – فهو كما يلي: الآباء والبنون ،الغربال ،هم�س اجلفون، كان ما كان ،املراحل ،جربان خليل جربان، زاد املعاد ،البيادر ،الأوثان ،لقاء ،كرم على درب� ،صوت العامل ،مذكرات الأرق�ش ،النور والديجور ،يف مهب الريح ،مرداد ،دروب، �أكابر� ،أبعد من مو�سكو ومن وا�شنطن. وبد ًال من �أ�سماء الآثار العاملية التي كان لها �ش�أن يف حياتي ر�أيت �أن �أعطيك �أ�سماء �أ�صحابها .ول�ست �أريد �أن ت�ستنتج �أو �أن ي�ستنتج قار�ؤك[� ]6أن ه�ؤالء النا�س وحدهم كان لهم الف�ضل الأكرب يف تكوين �شخ�صيتي الأدبية .فقد طالعت من الك َّتاب فوق ما �أ�ستطيع ا�ستعادته �إىل الذاكرة� .إال �أن ما �أفهمه بالت�أثر هو غري ما يفهمه عامة النقاد .فما من كاتب ا�ستطاع �أن يعطيني �شي ًئا مل يكن عندي. بل كان كال�شرارة توقظ ال�شرار الذي يف داخلي� ،أو كاملفتاح يفتح �أبوابًا مو�صدة يف نف�سي ،ولكنه ال ي�ضيف �شي ًئا �إىل ما يف خزانة نف�سي ،وال يبدل �شي ًئا يف ترتيبها .و�إليك بع�ض الأ�سماء التي حت�ضرين الآن: يف ال�شعر :املتنبي� ،أبو العالء ،بو�شكني، نكرا�سوف� ،شك�سبري ،كيت�س ،هوثمن. يف النرث :ابن املقفع يف كليلة ودمنة. يف الرواية :دو�ستويف�سكي ،تورغنييف، تول�ستوي ،دكن�س ،كنوت هن�سن ،بلزاك. يف الق�صة :غوغول ،ت�شيخوف ،غوركي، موب�سان. يف امل�سرحية� :شك�سبري ،موليري� ،إب�سن، �أو�سرتوف�سكي ،غوركي. يف النقد :بيلين�سكي ،ر�سكن ،ماثيو �أرنولد. يف الفل�سفة� :أفالطون� ،سبينوزا. يف الدينيات :الإجنيل ،القر�آن ،البهاغافاد غيتا. مقاالتي التي مل ُتن�شر بعد يف كتب كثرية .منها طائفة يف النقد .ومنها نظرات يف �شتى �ش�ؤون احلياة� .أما �أيها "الأهم" فال �أدري .و�إليك عناوين بع�ضها: "خليل مطران – فاحتة عهد وخامتة عهد"، "ن�سيب عري�ضة – �شاعر الطريق"�" ،إليا�س
�أبو �شبكة"" ،دميرتي كرامازوف"" ،الفار�س النحا�سي" (لبو�شكني)" ،حلفاء اال�ستعمار"، "العروبة – ولكن" ،"...الغربة العظمى"، "عندما يحرن الزمان" �أرجو �أن جتدك هذه ال�سطور يف بحبوحة من العافية والن�شاط و�أن يكون التوفيق حليفك يف كل ما تعمله وتنويه من خري. املخل�ص ميخائيل نعيمه -3 وتلقيت الر�سالة الثالثة بعد حواىل �أ�سبوعني – وكان نعيمه عرث على بع�ض م�سودات كان كتبها يف املهجر ،ف�أر�سل �إ َّ يل منها ،مع الر�سالة، م�سودة ق�صتيه الق�صريتني "�سنتها اجلديدة" و"ك�سار احل�صى" ،وم�سودات بع�ض ر�سائله، َّ و�صورة له كنت ر�أيتها يف بريوت: ب�سكنتا لبنان 26ك 1958 عزيزي الأ�ستاذ عبد الكرمي �أ�سلم عليك �أطيب ال�سالم و�أرجو �أن تكون يف خري حال .وبعد فقد و�صلتني ر�سالتك الأخرية مع حكايات املهجر .والذي تقوله يف هذه املجموعة حق .فهي لي�ست على �شيء يُذ َكر من الفن الق�ص�صي كما تفهمه و�أفهمه .ولكنها متثل لو ًنا من حياة املهجر ومن نرث بع�ض �أع�ضاء "الرابطة". فت�شوا جتدوا .وقد فت�شت يف �أوراقي القدمية فعرثت على ب�ضع م�سودات لأ�شياء كتبتها يف املهجر �أيام درا�ستي يف اجلامعة. وها �أنا �أبعث �إليك مب�سودة ق�صتي "�سنتها اجلديدة" ،وهي حتمل تاريخ 28ت �سنة .1913ومعها م�سودتان لر�سالتني بعثت بهما �إىل ن�سيب عري�ضة ،وفيهما �أ�شياء عن جملة الفنون وعن ن�ش�أة احلركة الأدبية يف املهجر ال�شمايل وعظيم اهتمامي بها� .إنني يف هاتني الر�سالتني ويف تلك الق�صة عني الرجل الذي يخط الآن هذه ال�سطور .فال�شوط هو هو. وتقدي�س الكلمة هو هو .وال�شعور بامل�س�ؤولية العظيمة التي يتطوع الكاتب حلملها جتاه قارئه هو هو .ولكن البون بعيد ووا�ضح بني لغة الطالب الذي كنته منذ خم�س و�أربعني �سنة ،ولغة الرجل الذي هو �أنا اليوم ،وبني �أ�سلوب ذلك وهذا. �إليك الر�سم الفوتوغرايف الذي طلبته ،راجيًا �أن تعيده �إيل مع م�سودات الر�سالتني لن�سيب و"�سنتها اجلديدة" وم�سودة ك�سار احل�صى" املكتوبة منذ �أربع �سنوات". ال ترتدد يف طلب �أي معونة قد حتتاجها مني. ف�أنا ،وقد عرفتك عن كثب ،بت �أتوخى لك منتهى التوفيق ،ال حبًّا مبا تكتبه عني ،بل حبًّا بك .وفقك الله ومهد طريقك �إىل اخلري والنور. املخل�ص ميخائيل نعيمه -4 وتلقيت الر�سالة الرابعة من نعيمه بعد ما يقرب من عامني ون�صف العام .وكنت انقطعت عنه لكتابة الر�سالة .ثم �إين طبعت اجلزء الأول منها ،بعد �أن َّ متتْ مناق�ش ُتها ،و�أهديته الأ�ستاذ نعيمه ،وهو يف ب�سكنتا .ف�أر�سل �إ َّ يل هذه الر�سالة ،بعد �أن قر�أه: ب�سكنتا لبنان 1961 – 5 – 25 عزيزي الأ�ستاذ عبد الكرمي الأ�شرت هذه كلمة عجلى �أبعث بها �إليك لأهنئك بح�صولك على درجة املاج�ستري ولأ�شكر لك تلطفك ب�إهداء ن�سخة �إيل من اجلزء الأول من كتابك النرث املهجري. قر�أت الكتاب بلذة ،و�أكربت اجلهود التي بذلتها يف تق�صي م�صادره ،وتن�سيق مواده .وهي ،كما يبدو يل ،تفوق ،يف دقتها وات�ساعها ،اجلهود التي بذلها غريك ممن
للدكتوراه. -6 �أما الر�سالة ال�ساد�سة فقد تلقيتها بعد �أن كتبت �إليه اعتذارًا مما �أح�س�ست �أنه �أ�ساءه يف اجلزء الثاين من الكتاب .وقد طلب �إ َّ يل �أن �أ�صور له الدرا�سة التي كتبها �إ�سماعيل �أدهم عنه ون�شرها يف جملة احلديث احللبية ،و�أ ْر َف َق بالر�سالة ع�شر لريات لبنانية لتغطية نفقات الت�صوير! ب�سكنتا لبنان 14متوز 1961
ت�صدوا للأدب املهجري حتى الآن. ل�ست �أدري من �أين جاءين ال�شعور ب�أننا �سنتالقى يف هذا ال�صيف فنتحدث مطو ًال عن كتابك وعن عملك ك�أ�ستاذ يف معهد الدرا�سات العربية العالية .ولعل اجلزء الثاين ي�أتيني قريبًا ،فيكون حديثنا عن الكتاب �أعم و�أمت. �أرجو �أن تكون يف بحبوحة من العافية والن�شاط وال�سالم عليك من املخل�ص ميخائيل نعيمه -5 ولكن مل يُك َتب لنا اللقاء يف ال�صيف ،كما متنى نعيمه ،بل كان اللقاء يف �صيف بعده .وقد حدثت �أحداث ووقائع جتلوها الر�سالتان الأخريتان التاليتان. كانت الر�سالة اخلام�سة ردًّا على �إهدائي �إياه اجلزء الثاين من كتاب النرث املهجري؛ وقد خ�ص�صته لدرا�سة ما �سميته �آنذاك "الفنون َّ الأدبية"� ،أعني �أجنا�س النرث �أو �أنواعه، ووردتْ فيه �أحكا ٌم على ما يت�صل بنتاج نعيمه منها ،مل ُت ْر ِ�ضه فيما �أظن ،ومل يقبلها .وكان �أكرثها مت�ص ًال بكتابه مرداد الذي َك َتبَه نعيمه، يف ر�أيي ،على ن�سق كتاب النبي جلربان، و�أراد ،على مثال جربان � ً أي�ضا� ،أن يحمل من خالله كلمته �إىل العامل .وكان احلق �إىل جانب نعيمه يف بع�ض هذه املالحظات ،على ما يرى القارئ: ب�سكنتا لبنان 30حزيران 1961 عزيزي الأ�ستاذ عبد الكرمي تلقيت بال�شكر اجلزء الثاين من �أطروحتك النرث املهجري .وقد طالعته بلذة ،ف�أكربت اجلهد العظيم الذي بذلته يف تق�صي م�صادر الكتاب ،بجزئيه الأول والثاين ،ويف تن�سيقها وعر�ضها والتعليق عليها تعلي ًقا ينم عن فهم وذوق ومقدرة يف ال�شرح والتحليل .و�أنت، يف الغالب ،ت�صيب الهدف .وحيث تخطئه فاللوم لي�س عليك ،بل على املعلومات اخلاطئة
التي لديك .وال عجب ،فال�شقة بعيدة بني بيئة �أنت فيها والبيئة التي ن�ش�أ فيها وترعرع وبلغ �أ�شده �أدب "الرابطة القلمية" لقد كر�ست يل جانبًا ال ي�ستهان من كتابك. وقد عرفتني دون غريي من رجال "الرابطة"، با�ستثناء عبد امل�سيح الذي التقيته يف ال�سنة املا�ضية .وكانت يل معك جل�سات طويلة، و�أحاديث مت�شعبة جعلتني �أح�س املحبة التي حتملها يل يف قلبك �أعمق الإح�سا�س .و�أراك، مع ذلك� ،أ�س�أت تف�سري البع�ض من اجتاهاتي الفنية والفكرية ،ومن �أ�ساليبي البيانية، مثلما �أ�س�أت تف�سري الرموز التي تنطوي عليها "حكاية الكتاب" يف مرداد .فمنحدر ال�صوان وما عانيته يف ت�سلقه �إىل القمة هو �أكرث بكثري من "جت�سيم �ضخم جدًّا" للخياالت التي تثريها طريقي �إىل ال�شخروب� .إنه طريق التغلب على اجل�سد وحاجاته و�شهواته ،طريق التجرد من الذات الفردية قبل �أن ي�صبح يف م�ستطاع طالب احلقيقة بلوغها ،واالندغام يف الذات ال�شاملة التي ميثلها مرداد ويهدي �إليها حوارييه .ومرداد غري امل�سيح .ولوال ذلك ملا رف�ضت ن�شره دار ن�شر �إنكليزية حمرتمة، بحجة �أنه "يتنافى والعقيدة امل�سيحية". لئن تالقى مرداد وامل�سيح يف جوانب ،فهما يفرتقان يف �أخرى .وذلك[ ]7هي احلال دائمًا مع ال�ساعني �إىل املطلق واملب�شرين باحلياة الكاملة. لو كنت بجانبي لتناولت بالتف�صيل معك ما لي�س تت�سع له هذه الر�سالة من مالحظات .على �أنني �أكرر القول �إنك ،يف كتابك ،قمت بعمل جدير بالتقدير ،بل بالإعجاب .بارك الله فيك، وزادك ً ن�شاطا و�إنتاجً ا .والعقبى للدكتوراه �إن �شاء الله. املخل�ص ميخائيل نعيمه حا�شية :هل يباع كتابك يف بريوت ،و�أين؟ �إين يف حاجة �إىل ن�سخة �أر�سلها �إىل ندمي[]8 الذي يهيئ اليوم يف �إنكلرتا �أطروحة عني
عزيزي الأ�ستاذ عبد الكرمي دعني �أنزع من ذهنك �صورة لي�ست �صورتي، وال �أدري �أي العبارات يف ر�سالتي الأخرية نقلها �إليك .ف�أنا غري م�ستاء �أبدًا من �أي �شيء قلته عني يف كتابك ،بل �إنني ال �أ�ستاء حتى من الذين يتعمدون الإ�ساءة �إيل .فكيف �أ�ستاء من رجل مثلك �أعرف حق املعرفة �أنه يكن يل من التقدير نظري ما �أكنه له من املحبة؟ واحلقيقة هي �أنني �سررت كثريًا بالعمل الذي قمت به ،و�صفقت لك غري مرة و�أنا �أمر يف كتابك مبقاطع تتجلى فيها ثقابة فكرك ،ورهافة ح�سك ،ولطافة ذوقك .و�إذا ما �أبديت لك بع�ض املالحظات الربيئة فلي�س لأنكر عليك حقك يف �أن تراين دائمًا �أبدًا بعينك ال بعيني .ولكنها حمبتي لك – ال ا�ستيائي منك – دفع ْتني على �إبداء ما �أبديت من مالحظات .و�أي ب�أ�س �إذا هي مل تتفق وما تراه �أنت ال�صواب؟ و�أنا ل�ست من ال�سذاجة بحيث �أتوقع من جميع الذين يقر�أونني ويكتبون عني �أن يتقم�صوين ،و�أن يفهموين مثلما �أفهم نف�سي. كيفما كان الأمر ،فاملهم �أن تعرف يا �أخي �أن لي�س هنالك �أي ا�ستياء من قبلي .ورجائي �أن تتحقق رغبتك ف�أحظى بلقياك عندنا ،ومعك زوجتك الكرمية ،يف �أواخر �آب القادم �إن �شاء الله .وحينئ ٍذ نتو�سع يف احلديث ما �شئت. ثم دعني �أ�شكر لك الن�سخة التي تلطفت بتقدميها �إىل ندمي ،والتي ت�سلمتها اليوم. ول�ست �أ�شك يف �أنه �سي�ست�أن�س بالكثري من �آرائك ،و�سي�سر بامل�صادر املذكورة يف الكتاب التي قد ال يكون على علم ببع�ضها .وقد طلب �إيل م�ؤخرًا احل�صول له على درا�سة �إ�سماعيل �أدهم املن�شورة يف احلديث ،وهذه كانت عندي ،ويبدو �أنني �أهملتها فلم �أحتفظ بها. فهل لك �أن تكلف �أحدًا ن�سخها يل؟ و�صديقنا الأ�ستاذ �سامي الكيايل �سي�سهل للنا�سخ مهمته. وها �أنا �أبعث �إليك بع�شر لريات لبنانية لتلك الغاية. وعليك وعلى زوجك �أطيب ال�سالم مني ومن ابنة �أخي مي. املخل�ص ميخائيل نعيمه ---------هوام�ش: )1انظر :النرث املهجري ،ج ( 1امل�ضامني و�صورة التعبري) ،وفنون النرث املهجري ،ج ( 2الفنون الأدبية) ،القاهرة ،مطبعة جلنة الت�أليف والرتجمة والن�شر1961 ، �أغلب الظن �أنه �أر�سلها من بريوت ،لكنه مل يعدِّل يف عنوانه املطبوع )2 )3ي�شري �إىل �أحداث لبنان� ،صيف ،1958يف عهد الرئي�س كميل �شمعون. )4انظر :مقابالت املهجريني ،احللقة الثانية )5ال يبعد �أن يكون �أر�سل هذه الر�سالة من بريوت � ً أي�ضا )6هكذا كتبها نعيمه ،وقد يرتخ�ص يف �إمالء الكلمات �أحيا ًنا )7كذا يف الأ�صل )8هو اليوم الدكتور ندمي نعيمه �أ�ستاذ اجلامعة ،وابن �أخي نعيمه.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
العدد ()2013ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )15كانون الثاين 2011
15
ويخاطبهم فيقول :ثالث منارات على �شواطئ الوجود، وجوهكم النيرّ ة ملج�أي من وجوه الب�شر ومهربي من كهوف الوهم ودليلي اىل وجه احلق.
الحب والموت
احلب يف �سرية ميخائيل نعيمة
هل �أ�سهمت جتارب نعيمة ال�شخ�صية مع املر�أة يف �صياغة فل�سفته الروحية ويف ت�شكيل مواقفه من املر�أة واحلبّ والزواج؟ قبل الإجابة عن هذا ال�س�ؤال �إ�ستناد ًا اىل �سرية نعيمة ،ثمة مالحظتان متهّدان اخلو�ض يف املو�ضوع، وميكن �إيجازهما بكلمتني �إثنتني هما :الزهو وال�صراع. مييل نعيمة يف (�سبعون) اىل العجب بالنف�س والزهو والغرور.وزهو نعيمة مبن تيّم من الن�ساء احل�سناوات ال يق ّل عن زهو نتاجه الفكري ،واملر�أة يف عالقاته العاطفية هي التي تبادر دائم ًا.عرف نعيمة يف حياته ثالثة ن�ساء متزوجات �أقام معهن عالقة متكاملة ويبدو ان العالقات الثالث التي �أقامها مع ه�ؤالء الن�ساء كانت ال�شفقة دافع ًا �أ�سا�سي ًا اىل عقدها� ،إذ �أن �شعور نعيمة ب�شقاء �أولئك ّ وبحرمانهن من احلبّ ومن الزوج املحبّ �آمله ،ومن الن�سوة ّ ّ ثم ق ّربه ّ أحزانهن كما عذاباتهن و� منهن وجعله ي�شاركهن يبدو لنا �أن الرحمة بالزوج كانت �أحد الدوافع الأ�سا�سية اىل ف�صم تلك العالقات .بيد �أن ال�شفقة ـ م�شكلة احلب الأ�سا�سية ـ لي�ست حب ًا ،لأن بواعث �شتى تكمن وراءها غري الإح�سا�س العميق باحلبّ ،ولأنها قد تكون مظهر ًا من مظاهر الأنانية واال�ستعالء خالي ًا من �أمارات احلب ،والأهم �أن جوهر احلب يقوم على م�شاركة وجدانية عميقة بني كائنني ي�شعران يف قرارة نف�سيهما ب�أنهما ن ّد ون ّد مت�ساويان يف الأخذ والعطاء ،بينما تنطوي ال�شفقة على تفاوت بني الطرفني �إذ ت�ستد ّر العطف من طرف وت�سبغ الرعاية على �آخر.
في أدب ميخائيل نعيمة
m a n a r a t
2011152013
ﻣﻴﺨﺎﺋﻴﻞ ﻧﻌﻴﻤﺔ
manarat رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
احلب اىل املح ّبة من ّ
ال ت�ستقيم درا�سة لفكر نعيمة قبل الوقوف على مراحل حياته والتع ّرف على ن�ش�أته ومنابع ثقافته ،ثم �إن درا�سة م�س�ألة من م�سائله الفكرية ت�ستلزم البحث عنها يف كتبه كلها لأننا لن جند بحث ًا منهجي ًا م�ستق ًال يتناول م�س�ألة احلب �أو املوت �أو �سواهما يف كتاب بعينه �أو يف كتب معيّنة. و�إمنا جند هذه امل�س�ألة �أو تلك مو ّزعة يف زوايا م�ؤلفاته �أو مبثوثة يف ثناياها .معنى ذلك �أن تناولنا مل�س�ألتي احلب واملوت عند نعيمة �سينطلق من �سريته الذاتية، ولكنه �سيتجاوز ال�سرية اىل �سواها من �آثاره التي جتلو الغام�ض وتو�ضح املبهم خ�صو�ص ًا � ّأن �آثار نعيمة جمعاء ـ كما قال غري ناقد ـ ت�سلك يف خيط فكري واحد حتى ك�أن ك ّلما كتب كان كتاب ًا واحد ًا .وبدا لآخرين � ّأن ميخائيل نعيمة متناق�ض حائر منذ بداية هذا القرن "املجهول يف نف�سه يهديه طور ًا ويغ�شى على ب�صره �أطوار ًا.وعلى الرغم من
كون م�ؤلفه (�سبعون) ب�أجزائه الثالثة �أطول �سرية عربية ذاتية و�أوفاها ،ومن اكرث ال�سري الذاتية �صراحة وتع ّري ًا، وعلى الرغم من مزاياها الفنية الكثرية ،ف�إن الإقت�صار على ال�سرية الذاتية وحدها يعترب نق�ص ًا وتق�صري ًا .من مزايا (�سبعون) �أنها توقفنا على حياة درامية من خالل ت�صوير كاتبها ل�صراعه الدائم مع نف�سه وحما�سبتها وغربلتها لتنقيتها من ال�شهوات يف �شعاب املعرفة واحلياة .ومن مزاياها �أنها مزيج من البناء الروائي والبناء امل�سرحي ومن فن املقالة الأدبية التحليلية .نعيمة نف�سه �أوج�س من ال�سرية الذاتية فزع ًا فقال� :إنك خادع وخمدوع كلما حاولت �أن حتكي لنف�سك �أو للنا�س حكاية �ساعة واحدة من �ساعات عمرك .لأنك لن حتكي منها �إال بع�ضها ،فكيف بك تروي حكاية �سبعني �سنة.وي�شري يف (�سبعون) اىل م�صادر ّ وت�شف عن �شخ�صيته، اخرى غري �سريته تعبرّ عن فكره،
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
وت�ؤخذ منها �سريته ،يف طليعتها (مذكرات الأرق�ش) وكتاب (مرداد). يقول :خلقت الأرق�ش من خيايل فلم يلبث �أن �أ�صبح يف حياتي �أكرث من خيال .ويف (مذكرات الأرق�ش) يهتف ك�أنك مني و�أنا منك� ،أنت يف فكري وقلبي وخيايل .لذا� ،أ�صاب غري دار�س وناقد يف مقارنة الأرق�ش بنعيمة ،كمارون عبود :مذكرات الأرق�ش هي مذكرات نعيمة يف مبادئها العامة ال يف حوادثها اخلا�صة و�إ�سماعيل �أدهم :مذكرات الأرق�ش تر�سم حياة نعيمة يف تلك الفرتة وتدل على ما كان يعتمل يف �صدره ويختلج يف قلبه ويدور يف ر�أ�سه، وندمي نعيمة :مذكرات الأرق�ش بالن�سبة اىل كاتبها كانت حال كان �أكرث من كتاب ي�ضعه ثم ينتهي منه� .إنها تعبري عن ٍ نعيمة يحياها كمف ّكر وك�أديب وك�إن�سان� .أما بالن�سبة اىل كتاب مرداد في�ص ّرح نعيمة ب�أنه "الكتاب القمّة يف تفكريه
و�أن رموز الكتب جميعها م�ستوحاة من طبيعة ال�شخروب وب�سكنتا و�صنني .ومما ال �شك فيه �أن الأرق�ش ومرداد مرحلتان يف حياة ميخائيل نعيمة �أ�سا�سيتان ،ولذلك ،على القارئ ـ �إذا �أراد فهم نعيمة ـ �أن يرافق الأرق�ش يف دربه و�صو ًال اىل القمّة مع مرداد ..وما يزيد من تالحم امل�سارين واحلياتي لدى نعيمة �أنه حاول منذ عودته من الفكري ّ نيويورك عام � 1932أن يوحّ د بني النظرية وال�سلوك ،بني النظر والعمل ،والعقيدة واحلياة ك�أنه فيل�سوف هنديّ يعي�ش فل�سفة ،فاعتكف يف ال�شخروب ووقف حياته على الت�أمل والتفكري. نكبة الهجرة �إذا كانت م�أ�ساة املجاعة �أوّ ل عامل يف حياة توفيق يو�سف عوّ اد حفر عميق ًا يف ذاكرته ،ف�إن ميخائيل نعيمة فتح عينيه على نكبة الهجرة وكان يطبقهما على �صورة � ٍأب يف
بالد يدعونها �أمريكا ،وبعد �أن مكث �أبوه �ست �سنوات وعاد �صفر اليدين ،هاجر �أخوه الأكرب �أديب اىل الواليات املتحدة الأمريكية وملّا ّ يطر �شارباه ،ولع ّل �أعمق ما �أثر فيه �ساعات الرحيل�" :أع�شا�ش تبعرث ،و�أرحام ّ تقطع ،و�أفئدةٌ تفتت ،و�أكبا ٌد تمُ زق ،ويعود املودّعون اىل بيوتهم وك�أنهم عائدون اىل املقابر ،ومي�ضي امل�سافرون يف �سبيلهم وك�أنهم ما�ضون اىل امل�شانق ...وما من مع ٍّز �إال الأمل.لي�س ال�سفر قطع ًة من العذاب فح�سب ال�سفر موت ق�صري واملوت �سفر طويل ،الأول موت م�ؤقت والآخر دائم ،والعالقة بينهما عالقة جدلية ،حتجب وتعك�س خطر ًا واحد ًا هو الغياب. �أن ت�سافر يعني �أن متوت قلي ًال .و�أن متوت يعني �أن ذهاب بال �إياب� .سف ٌر ت�سافر حق ًا .املوت رحي ٌل اىل اللهٌ . من غري �أن يرتك امل�سافر العنوان ....رحلة من غري وداع �أو لقاء �أو انتظار .من هنا ،ميكننا �إعتبار جتربة نعيمة
والهجرة جتربته الأوىل مع املوت ولقاءه الأوّ ل به .وقد د�أب العمر كله على التفتي�ش عن ح ّل للموت ،والعمل على نفيه و�إلغائه�.أما امل�ؤثرات الثقافية التي فعلت يف ميخائيل نعيمة ووعاها ف�أعلنها يف �سريته الذاتية و�أحاديثه ال�صحافية ومقاالته الأدبية فهي يف الأغلب م�صادر �شرقية. علم ًا �أن �أيّ ت�أثري لي�س كام ًال وتلك هي طبيعة العالقات الإن�سانية واحل�ضارية ،بل لعله لي�س مبا�شر ًا ،فعالقات التداخل الإن�ساين �أكرث تعقيد ًا وت�شابك ًا مما ُ نظن�...إن �أهم منبع �إ�ستقى منه نعيمة فكره :الهند ،بالد احلياة واملوت، �شاب هندي مثقف وفردو�س الآلهة والأديان .فقد هداه ٌ اىل كتابني كان لهما يف نف�سه �أطيب الأثر .وذانك الكتابان هما :ن�شيد املوىل ،واليوغا امللكية للمت�صوف الهندي (فيفيكنندا) .ويف �إعتقاده �أن الفل�سفة الهندية هي �أ ّم كل الفل�سفات� .أما معلموه فثالثة :بوذا والوت�سو وي�سوع.
مع انتهاء عالقة نعيمة باملر�أة الثالثة (نيونيا) تبتدئ مرحلة جديدة يف حياة هذا املجاهد ،عهد ال �سلطان فيه لل�شهوة اجلن�سيّة بل ال�سلطان فيه للروح الذي يو ّد �أن ي�سمو بالرجل واملر�أة اىل حيث ي�صبحان الإن�سان الكامل، املوحّ د ،والأقوى من �أي �شهوة .وقد �أ�صابت ثريا ملح�س يف و�صف م�سرية نعيمة مرحلة مرحلة مبخت�صر مفيد �إذ قالت�" ،أحبّ نعيمة نف�سه �أو ًال ـ ولع ّل هذه الرنج�سية �أو حبّ الذات �أوىل درجات احلبّ و�أوىل خطوات معرفة الذات ـ ف�أحبها وك ّرمها ،وه ّذبها ،ثم �إنطلق من بعد اىل الإن�سان، ثم اىل الله ،فاخلليقة ،فالوجود".لقد �آمن نعيمة بقوة العفة املطهّرة و�آمن ب�أن العفة ـ زنبقة الف�ضائل ـ ال تطلع �إال بعد واع عنيف مع �شهوات جه ٍد جهيد ،وتكون ح�صيلة �صراع ٍ النف�س.وقد كانت حياة نعيمة و�أدبه ميداين تطبيق ملا �آمن به .من احلب اىل املحبة :هذا هو م�سار نعيمة يف حياته وفكره .قال مردادّ �" :إن حمبة الرجل للمراة واملر�أة للرجل لي�ست مبحبة� .إن هي �إال رمز بعيد لها .فاىل �أن ي�صبح كل رجل حبيب ك ّل �إمر�أة والعك�س بالعك�س ،دعوا الرجال يتبّجحون ب�إجنذاب اللحم اىل اللحم والت�صاق العظم بالعظم من غري �أن يتلفظوا ب�إ�سم املحبة القدو�س.ما املحبة؟ وكيف ف ّرقها نعيمة عن احلب؟ الفرق بينهما كالفرق بني ال�شعر والنظم :الروح هي اجلوهر .قال يف كتابه (النور والديجور)� :إمنا الن�سل امل�صهر احل�سي للرجل واملر�أة، واملحبة هي امل�صهر الروحي للرجل واملر�أة� .إنني �أ�شتم يف كلمة املحبة �أريج الألوهة املن ّزهة عن اللحم والدم. و�أما كلمة احلب فتفوح منها روائح الغرائز احليوانية التي لي�ست �سوى املمهّد اىل املحبة املت�سامية عن كل �شوق غري �شوق الفناء يف من حتب .ويف كتابه يا �إبن �آدم يو�ضح فيقول�:أقرب ما تتمثل فيه املحبة بني النا�س حمبة الأمّ� ..أما حمبة الرجل للمر�أة ،وحمبة املر�أة للرجل فلي�ست من ال�صفاء وال�شمول بحيث ت�ستحق �إ�سم املحبة، فهي ،يف الغالب ،ثورة يف اللحم والدم ت�ؤجّ جها �شهوة التمتع والتملك والأثرة وتالزمها �أكدا ٌر كثرية �أبرزها ال�شك والغرية و�صراع بني �أنانيتني .وهو �إذ يقول :املحبة هي وحدها الإك�سري العجيب الذي به تتما�سك احلياة، وعنا�صر الكون �أربعة :م.ح.ب.ة ي�ؤمن ب�أن املحبة هي الله واحلياة ،وب�أن الله حمبة وحياة ،ويقرتب من املفهوم امل�سيحي لله وللمحبة .ف� ّإن املحبة ـ يف امل�سيحية ـ هي �أعمق حتديد لله و�شريعة املحبة هي ال�شريعة اجلديدة التي �أتى بها الإجنيل.مل ّ يعف نعيمة ومل يتزهد ي�أ�س ًا �أو تزمت ًا �أو خ�ضوع ًا ل�سلطة خارجية ـ هو الذي ثار على تعاليم الكني�سة الأرثوذك�سية وتقاليد الدين والأخالق لأنها قيدت حريته بقيود دينية و�أخالقية ،خ�صو�ص ًا و�أنه تعلم يف كلية �سنوات خم�س ًا ،ور�أى من غوايات املحيط الهوتية ببولتافا ٍ اجلديد ما يتنافى وتربيته الدينية ال�صارمة ـ و�إال لكانت عفته مر�ض ًا ال ف�ضيلة .لقد ّ عف نعيمة بعد جتربته ،وتزهد بعد معرفة و�إقتناع و�إلتزام ح ّر.ويف موقفه هذا �إجال ٌل للحياة و�إكبا ٌر للدنيا واللآخرة.
التحرير ----------------نزار عبد ال�ستار الت�صميم ----------------م�صطفى جعفر
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ميخائيل نعيمة جال�سا من الي�سار برفقة زمالئه يف املدر�سة النا�صر