Vincent van Gogh

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫‪Vincent‬‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫فين�سنت ويليم فان كوخ (بالهولندية ‪ Vincent Willem van Gogh‬ت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هولنديا‪ ،‬م�صنفا ك�أحد فناين‬ ‫ر�ساما‬ ‫(‪ 30‬مار�س‪ 29 -1853‬يوليو‪ )1890‬كان‬ ‫ً‬ ‫بع�ضا من �أكثـر القطع �شهرة و�شعبية و�أغالها‬ ‫االنطباعية‪ .‬تت�ضمن ر�سومه‬ ‫�سعراً يف العامل‪ .‬عانى من نوبات متكررة من املر�ض العقلي — توجد حولها‬ ‫العديد من النظريات املختلفة — و�أثناء �إحدى هذه احلادثات ال�شهرية‪ ،‬قطع‬ ‫جزءا من �أذنه اليمنى‪ .‬كان من �أ�شهر فناين الت�صوير الت�شكيلي‪ .‬اجته للت�صوير‬ ‫الت�شكيلي للتعبري عن م�شاعره وعاطفته‪ .‬يف �آخر خم�س �سنوات من عمره‬ ‫ر�سم ما يفوق ‪ 800‬لوحة زيتية‪ .‬ولد فين�سنت فان كوخ يف جروت زندرت‬ ‫بهولندا يف ‪ 30‬مار�س‪�/‬آذار ‪ .1853‬جاءت والدة فان كوخ بعد �سنة واحدة من‬ ‫ً‬ ‫ميتا بالوالدة‪� ،‬سمي � ً‬ ‫طفال ً‬ ‫أي�ضا بفين�سنت‪ .‬لقد كان‬ ‫اليوم الذي ولدت فيه �أمه‬ ‫ً‬ ‫الحقا كنتيجة‬ ‫هناك توقع كبري حلدوث �صدمة نف�سية لفين�سنت فان كوخ‬ ‫لكونه «بديل طفل» و�سيكون له �أخ ميت بنف�س اال�سم وتاريخ الوالدة‪ .‬ولكن‬ ‫هذه النظرية بقيت غري م�ؤكدة‪ ،‬ولي�س هناك دليل تاريخي فعلي لدعمها‪.‬‬ ‫كان فان كوخ ابن ثيودورو�س فان كوخ (‪ ،)1885 - 1822‬ق�س كني�سة من�صلحة‬ ‫ً‬ ‫عمليا ال توجد‬ ‫هولندية‪ ،‬و�أمه �آنا كورنيليا كاربنتو�س (‪.)1907 - 1819‬‬ ‫معلومات حول �سنوات فين�سنت فان كوخ الع�شر الأوائل‪ .‬ح�ضر فان كوخ‬ ‫مدر�سة داخلية يف زيفينبريجني ل�سنتني وبعد ذلك ا�ستمر بح�ضور مدر�سة‬ ‫امللك ويليم الثاين الثانوية يف تيلبريغ ل�سنتني �أخريني‪ .‬يف ذلك الوقت �أي يف‬

‫‪3‬‬

‫عام ‪ ،1868‬ترك فان كوخ درا�سته يف �سن اخلام�سة ع�شرة ومل يعد �إليها‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1869‬ان�ضم فين�سنت فان كوخ �إىل م�ؤ�س�سة غووبيل و�سي (‪Goupil‬‬ ‫‪ ،)& Cie‬وهي �شركة لتجار الفن يف الهاي‪ .‬كانت عائلة فان كوخ لفرتة‬ ‫طويلة مرتبطة بعامل الفن‪ ،‬فقد كان �أعمام فين�سنت‪ ،‬كورنيلي�س «العم كور»‬ ‫وفين�سنت «العم �سنت»‪ ،‬كانا تاجرين فنيني‪� .‬أم�ضى �أخوه الأ�صغر ثيو فان كوخ‬ ‫حياته كتاجر فني‪ ،‬ونتيجة لذلك كان له ت�أثري كبري على مهنة فين�سنت‬ ‫الالحقة كفنان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ن�سبيا كتاجر فني‪ ،‬وبقي مع غووبيل و�سي ل�سبع �سنوات‬ ‫ناجحا‬ ‫فين�سنت كان‬ ‫ً‬ ‫�سريعا باملناخ‬ ‫�إ�ضافية‪ .‬يف عام ‪ 1873‬نقل �إىل فرع ال�شركة يف لندن و�أعجب‬ ‫الثقايف الإجنليزي‪ .‬يف �أواخر �شهر �أغ�سط�س‪�/‬آب‪ ،‬انتقل فين�سنت �إىل طريق‬ ‫هاكفورد ‪Southampton 17 ,.and worked at Messrs. Goupil & Co ،87‬‬ ‫‪ 6 Street‬وعا�ش مع �أور�سوال لوير وابنتها يوجيني‪ .‬قيل ب�أن فين�سنت كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاطفيا‪ ،‬ولكن العديد من كتاب ال�سري الأوائل ن�سبوا ا�سم‬ ‫مهتما بيوجيني‬ ‫يوجيني ب�شكل خاطئ لأمها �أور�سوال‪ .‬بقي فين�سينت فان كوخ يف لندن‬ ‫ل�سنتني �أخريني‪ .‬خالل تلك الفرتة زار العديد من املعار�ض الفنية واملتاحف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معجبا كثرياً بالكتاب الربيطانيني �أمثال جورج �إليوت وت�شارلز‬ ‫و�أ�صبح‬ ‫ً‬ ‫ديكينز‪ .‬كان فان كوخ � ً‬ ‫معجبا كثرياً بالنقا�شني الربيطانيني‪� .‬أعمالهم‬ ‫أي�ضا‬ ‫�ألهمت و�أثرت يف حياة فان كوخ الفنية الالحقة‪.‬‬

‫فينسنت فان كوخ‬

‫* كوخ في سن التاسعة عشرة‬ ‫�أ�صبحت العالقة بني فين�سنت وغووبيل‬ ‫�أكرث توتر ًا على مر ال�سنوات‪ ،‬ويف مايو‪/‬‬ ‫ماي�س يف عام ‪ 1875‬نقل �إىل فرع ال�شركة‬ ‫يف باري�س‪ .‬ترك فين�سنت غووبيل يف‬ ‫�أواخر �شهر مار�س‪�/‬آذار من عام ‪،1876‬‬ ‫وقرر العودة �إىل �إجنلرتا حيث كانت‬ ‫ال�سنتان اللتان ق�ضاهما هناك �سعيدتني‪.‬‬ ‫يف �أبريل‪/‬ني�سان بد�أ فين�سينت فان‬ ‫كوخ يف جمال التعليم يف مدر�سة الق�س‬ ‫وليام ب‪� .‬ستوك�س يف رام�سجيت‪ .‬كان‬ ‫م�س�ؤو ًال عن ‪ 24‬ولد ًا تتفاوت �أعمارهم‬ ‫ما بني ‪� 10‬إىل ‪� 14‬سنة‪ .‬وا�صل فان كوخ‬ ‫يف وقت فراغه بزيارة املعار�ض وتقدمي‬ ‫االحرتام للعديد من القطع الفنية العظيمة‬ ‫هناك‪ .‬كر�س نف�سه �أي�ض ًا لدرا�سة التوراة‪،‬‬ ‫ف�أم�ضى العديد من ال�ساعات يقر�أ ويعيد‬ ‫قراءة الإجنيل‪ .‬كان �صيف ‪ 1876‬وقت ًا‬ ‫ديني ًا بالن�سبة لفين�سنت فان كوخ‪ .‬بالرغم‬ ‫من �أنه تربى عند عائلة دينية‪ ،‬مل يبد�أ‬ ‫بتكري�س حياته �إىل الكني�سة بجدية �إال‬ ‫عند هذا الوقت‪.‬‬ ‫من �أجل التحول من معلم �إىل رجل‬ ‫دين‪ ،‬طلب فين�سنت من الق�س جونز ب�أن‬ ‫يعطيه املزيد من امل�س�ؤوليات املعينة‬ ‫لرجال الدين‪ .‬وافق جونز‪ ،‬وبد�أ فين�سنت‬ ‫باحلديث عند اجتماعات ال�صالة يف‬ ‫�أبر�شية ترينهام غرين‪ .‬هذا احلديث عمل‬ ‫كو�سيلة لتهيئة فين�سنت للمهمة التي‬ ‫انتظرها ملدة طويلة وهي خطبته الأوىل‬ ‫يف يوم الأحد‪ .‬بالرغم من �أن فين�سنت كان‬ ‫متحم�س ًا ليح�صل على فر�صه ب�أن يكون‬ ‫وزير ًا‪� ،‬إال �أن خطبه كانت باهتة وغري‬ ‫حيوية ب�شكل كبري‪ .‬اختار فين�سينت فان‬ ‫كوخ البقاء يف هولندا بعد زيارة عائلته‬ ‫يف عيد امليالد‪ .‬بعد العمل ملدة ق�صرية‬ ‫يف مكتبة يف دوردريخت يف �أوائل العام‬ ‫‪ ،1877‬توجه فين�سنت �إىل �أم�سرتدام يف‬ ‫‪ 9‬مايو‪/‬ماي�س لتهيئة نف�سه لفح�ص دخول‬ ‫اجلامعة لدرا�سة علم اللآهوت‪ .‬تلقى‬ ‫فين�سنت درو�س اللغة اليونانية والالتينية‬

‫والريا�ضيات هناك‪ ،‬ولكن ب�سبب قلة‬ ‫براعته �أرغم يف النهاية على ترك الدرا�سة‬ ‫بعد ‪� 15‬شهر ًا‪ .‬و�صف فين�سنت هذه‬ ‫الفرتة الحق ًا ب�أنها �أ�سو�أ فرتات حياته‪ .‬يف‬ ‫نوفمرب‪/‬ت�شرين الثاين �أخفق فين�سنت‬ ‫يف الت�أهل للمدر�سة التب�شريية يف اليكني‪،‬‬ ‫ولكن �أو�صت الكني�سة يف النهاية على �أن‬ ‫يذهب �إىل منطقة التنقيب عن الفحم يف‬ ‫بوريناج ببلجيكا‪.‬‬ ‫يف يناير‪/‬كانون الثاين من عام ‪،1879‬‬ ‫بد�أ فين�سنت بو�صاية عمال مناجم الفحم‬ ‫وعوائلهم يف قرية التعدين وا�سمي�س‪.‬‬ ‫�شعر فين�سنت بارتباط عاطفي قوي‬ ‫نحو عمال املناجم‪ .‬تعاطف مع �أو�ضاع‬ ‫عملهم املخيفة وفعل ما مبقدوره‪ ،‬كزعيم‬ ‫روحي‪ ،‬وذلك لتخفيف عبء حياتهم‪ .‬هذه‬ ‫الرغبة الإيثارية �أو�صلته �إىل م�ستويات‬ ‫كبرية جد ًا عندما بد�أ فين�سنت ب�إعطاء‬ ‫�أغلب م�أكله وملب�سه �إىل النا�س الفقراء‬ ‫الواقعني حتت عنايته‪ .‬على الرغم من‬ ‫نوايا فين�سنت النبيلة‪ ،‬رف�ض ممثلو‬ ‫الكني�سة زهد فان كوخ بقوة وطردوه من‬ ‫من�صبه يف يوليو‪/‬متوز‪ .‬راف�ض ًا تركه‬ ‫للمنطقة‪ ،‬انتقل فان كوخ �إىل قرية جماورة‬ ‫تدعى كيو�سمي�س (‪ ،)Cuesmes‬وبقى‬ ‫هناك بفقر كبري‪ .‬يف ال�سنة التالية كافح‬ ‫فين�سنت من �أجل العي�ش‪ ،‬ورغم �أنه مل‬ ‫يكن قادر ًا على م�ساعدة �سكان القرية ب�أي‬ ‫�صفة ر�سمية كرجل ديني‪ ،‬اختار ب�أن يبقى‬ ‫�أحد �أع�ضاء جاليتهم على الرغم من ذلك‪.‬‬ ‫يف �أحد الأيام �شعر فين�سنت باال�ضطرار‬ ‫�إىل زيارة بيت جولز بريتون‪ ،‬وهو ر�سام‬ ‫فرن�سي كان يحرتمه كثري ًا‪ ،‬وتطلب ذلك‬ ‫م�شيا ل�سبعني كيلومرت ًا �إىل كوريري‬ ‫(‪ )Courrières‬بفرن�سا‪ ،‬مع �أنه مل يكن‬ ‫يف جيبه �سوى ‪ 10‬فرنكات‪ .‬لكن فين�سنت‬ ‫كان خجو ًال جد ًا لأن يدق الباب عند‬ ‫و�صوله‪ ،‬فعاد �إىل كيو�سمي�س فاقد ًا الثقة‬ ‫ب�شكل كبري‪ .‬يف ذلك الوقت اختار فين�سنت‬ ‫فان كوخ مهنته الالحقة ب�أن يكون فنان ًا‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫*ب�����داي�����ت�����ه ك���ف���ن���ان‬ ‫يف خريف العام ‪ ،1880‬وبعد �أكرث من عام‬ ‫من العي�ش بفقر يف بوريناج‪ ،‬توجه فين�سنت‬ ‫�إىل بروك�سل لبدء درا�ساته الفنية‪ .‬ت�شجع‬ ‫فين�سنت على بدء هذه الدرا�سات نتيجة‬ ‫للعون املايل من �أخيه ثيو‪ .‬كان فين�سنت‬ ‫وثيو قريبني من بع�ضهما البع�ص على‬ ‫الدوام يف طفولتهما ويف �أغلب حياتهما‬ ‫التالية‪ ،‬حيث بقيا يرا�سالن بع�ضهما البع�ض‬ ‫با�ستمرار‪ .‬عدد هذه الر�سائل �أكرث من ‪،700‬‬ ‫وهي ت�شكل �أغلب معرفتنا بت�صورات فان‬ ‫كوخ حول حياته اخلا�صة وحول �أعماله‪.‬‬ ‫قدم فين�سنت طلب ًا للدرا�سة يف �إكول دي‬ ‫بو �آرت (‪)Ecole des Beaux-Art‬‬ ‫يف بروك�سل ملدة ق�صرية‪ .‬بعد ذلك وا�صل‬ ‫فين�سنت درو�س الر�سم لوحده ب�أخذ‬ ‫الأمثلة من بع�ض الكتب مثل «‪Travaux‬‬ ‫‪ »des champs‬جلوان فران�سوا ميلي‬ ‫و»‪ »Cours de dessin‬لت�شارلز بارغ‪.‬‬

‫يف ف�صل ال�صيف عا�ش فين�سنت مع �أبويه‬ ‫مرة �أخرى يف �إتني‪ ،‬وخالل تلك الفرتة قابل‬ ‫ابنة عمه كورنيليا �أدريانا فو�س �سرتيكري‬ ‫(ت�سمى «كي»)‪� .‬أ�صبحت كي (‪- 1846‬‬ ‫‪� )1918‬أرملة م�ؤخر ًا وكانت تربي ابنها‬ ‫ال�صغري لوحدها‪ .‬وقع فين�سنت يف حب كي‬ ‫وحتطمت م�شاعره حينما رف�ضته‪ ،‬ف�أ�صبحت‬ ‫تلك احلادثة �إحدى �أبرز احلوادث يف حياة‬ ‫فان كوخ‪ .‬بعد ذلك قرر فين�سنت مواجهتها‬ ‫يف بيت �أبويها‪ .‬رف�ض �أبو <كي> ال�سماح‬ ‫لفين�سنت بر�ؤية ابنته فقرر فين�سنت و�ضع‬ ‫يده على قمع م�صباح زيتي ليحرق نف�سه‬ ‫متعمد ًا قائال‪« :‬اجعلوين �أراها قدر ما‬ ‫�أ�ستطيع و�ضع يدي يف هذا اللهب» ‪ .‬كان‬ ‫هدف فين�سنت �أن ي�ضع يده على اللهب حتى‬ ‫ي�سمح له بر�ؤية كي‪ ،‬ولكن �أبوها قام ب�سرعة‬ ‫ب�إطفاء امل�صباح‪ ،‬فغادر فين�سنت البيت مذ ًال‪.‬‬ ‫على الرغم من النك�سات العاطفية مع كي‬

‫والتوترات ال�شخ�صية مع �أبيها‪ ،‬وجد‬ ‫فين�سنت بع�ض الت�شجيع من �أنتون موف‬ ‫(‪ ،)1888 - 1838‬ابن عمه بالزواج‪� .‬صنع‬ ‫موف من نف�سه فنان ًا ناجح ًا‪ ،‬ومن بيته يف‬ ‫الهاي زود فين�سنت مبجموعته الأوىل من‬ ‫الألوان املائية‪ ،‬وهكذا بد�أ فين�سنت بالعمل‬ ‫بوا�سطة الألوان‪ .‬كان فين�سنت معجب ًا كثري ًا‬ ‫ب�أعمال موف وكان ممتن ًا له‪ .‬وكانت عالقتهما‬ ‫جيدة‪ ،‬لكنها توترت عندما بد�أ فين�سنت‬ ‫بالعي�ش مع موم�س‪.‬‬ ‫قابل فين�سينت فان كوخ كال�سينا ماريا‬ ‫هورنيك (‪ )1904 - 1850‬يف �أواخر‬ ‫فرباير‪�/‬شباط ‪ 1882‬يف الهاي‪ .‬كانت هذه‬ ‫املر�أة امللقبة بـ «�سني» حام ًال بطفلها الثاين‬ ‫عندما قابلها فان كوخ‪ ،‬لكنها انتقلت للعي�ش‬ ‫معه بعد فرتة ق�صرية ل�سنة ون�صف ال�سنة‪.‬‬ ‫منت مواهب الفنان ب�شكل كبري مب�ساعدة‬ ‫�سني و�أطفالها يف تلك الفرتة‪ .‬ر�سومه املبكرة‬

‫لعمال مناجم الفحم يف بوريناج ف�سحت‬ ‫له املجال لأعمال �أف�ضل‪ ،‬حمملة بالكثري من‬ ‫العواطف‪ .‬يف لوحة «�سني جال�سة على ال�سلة‬ ‫مع فتاة»‪� ،‬صور فين�سنت احلياة العائلية‬ ‫الهادئة مبهارة‪ ،‬مع بع�ض الإح�سا�س بالي�أ�س‪،‬‬ ‫وهي امل�شاعر التي عرف بها يف الأ�شهر‬ ‫الت�سعة ع�شر التي عا�ش فيها مع �سني‪.‬‬ ‫كانت ال�سنة ‪ 1883‬مرحلة انتقالية �أخرى‬ ‫بالن�سبة لفان كوخ يف حياته ال�شخ�صية‬ ‫ويف دوره كفنان‪ .‬بد�أ فين�سنت الر�سم‬ ‫الزيتي يف عام ‪ .1882‬مع تقدم مهاراته‬ ‫الر�سومية‪ ،‬تدهورت عالقته مع �سني فافرتقا‬ ‫يف �سبتمرب‪�/‬أيلول‪ ]12[.‬ترك فين�سنت الهاي‬ ‫يف منت�صف �شهر �سبتمرب‪�/‬أيلول لل�سفر‬ ‫�إىل درينتي يف هولندا‪ .‬عا�ش فين�سنت يف‬ ‫الأ�سابيع ال�ست التالية حياة البداوة‪ ،‬حينما‬ ‫انتقل يف �أنحاء املنطقة كافة ور�سم املناظر‬ ‫الطبيعية البعيدة مع �سكانها‪.‬‬

‫عاد فين�سنت مرة �أخرى �إىل بيت �أبويه‬ ‫يف نوينني يف �أواخر العام ‪ .1883‬وا�صل‬ ‫فين�سينت فان كوخ حرفته طوال ال�سنة‬ ‫التالية‪ ،‬و�أنتج ع�شرات الر�سوم �أثناء تلك‬ ‫الفرتة‪ ،‬مثل لوحات احلياك والغزالون‬ ‫وغريهما‪� .‬أ�صبح الفالحون املحليون‬ ‫موا�ضيع اهتمامه لأنه �شعر ب�صلة قوية‬ ‫نحوهم‪ ،‬وجزئي ًا كان �سبب ذلك �إعجابه‬ ‫بالر�سام ميليه الذي �أنتج بنف�سه لوحات‬ ‫تعطف على العمال يف احلقول‪ .‬كانت‬ ‫مارجوت بيجيمان (‪ ،)1907 - 1841‬التي‬ ‫عا�شت عائلتها �إىل جوار �أبوي فين�سنت‪،‬‬ ‫كانت تع�شقه‪ ،‬وقادتها عالقتها العاطفية‬ ‫�إىل حماولة االنتحار بال�سم‪ .‬كان فين�سنت‬ ‫مذهو ًال جد ًا لتلك احلادثة‪ .‬تعافت مارجوت‬ ‫يف النهاية‪ ،‬لكن احلادثة �أزعجت فين�سنت‬ ‫كما �أ�شار �إليها يف ر�سائله يف العديد من‬ ‫املنا�سبات‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫*ظهور‬ ‫أعماله الناجحة‬ ‫األولى‬

‫‪4‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫يف الأ�شهر الأوىل من العام ‪ ،1885‬وا�صل‬ ‫فان كوخ �إنتاج �سل�سلة اللوحات حول‬ ‫الفالحني‪ .‬نظر فين�سنت �إىل تلك اللوحات‬ ‫كدرا�سة ت�ستمر يف تطوير حرفته لتح�ضري‬ ‫�أعماله الأكرث جناح ًا حتى الآن‪ .‬عمل‬ ‫فين�سنت طوال �شهري مار�س و�أبريل على‬ ‫هذه الدرا�سات‪ ،‬وقد �صرف انتباهه عنها‬ ‫لفرتة وجيزة حينما رحل �أبوه يف ‪26‬‬ ‫مار�س‪�/‬آذار‪ .‬كانت عالقة فين�سنت مع �أبيه‬ ‫متوترة جد ًا يف خالل ال�سنوات القليلة‬ ‫الأخرية‪� ،‬إال �أنه بالت�أكيد مل يكن �سعيد ًا‬ ‫ب�ش�أن موته‪ ،‬لكنه منف�صل عاطفي ًا عنه‪ ،‬مما‬ ‫�سمح له مبوا�صلة العمل ب�شكل اعتيادي‪.‬‬ ‫بعد العمل ال�شاق وتطوير الأ�ساليب‬ ‫با�ستمرار يف ال�سنوات املا�ضية ا�ستطاع‬ ‫�إنتاج لوحته العظيمة الأوىل وهي «�أكلة‬ ‫البطاطة»‪ .‬عمل فين�سنت على لوحة �أكلة‬ ‫البطاطة طوال �شهر �أبريل‪/‬ني�سان من العام‬ ‫‪� .1885‬أنتج م�سودات خمتلفة لتح�ضري‬ ‫الن�سخة الزيتية الكبرية الأخرية على‬ ‫اجلنفا�ص‪ .‬تعرف لوحة �أكلة البطاطة ب�أنها‬ ‫�أول قطعة حقيقية نادرة لفين�سنت فان‬ ‫كوخ‪ ،‬فت�شجع �إثر ردود الفعل ب�ش�أنها‪ .‬ولكن‬ ‫�صديقه وزميله الفنان �أنتون فان رابارد‬ ‫(‪ )1892 - 1858‬مل يعجب بعمله‪ ،‬و�أدت‬ ‫تعليقاته حول لوحته �إىل نهاية �صداقتهما‪.‬‬ ‫بالرغم من �أن فين�سنت يغ�ضب وينزعج‬ ‫من نقد �أعماله‪� ،‬إال �أنه كان م�سرور ًا من‬ ‫النتيجة عموم ًا‪ ،‬وهكذا بد�أ مرحلة �أف�ضل من‬ ‫حياته‪ .‬وا�صل فان كوخ العمل طوال العام‬ ‫‪ ،1885‬لكنه �أ�صبح قلق ًا مرة �أخرى وبحاجة‬ ‫للت�شجيع من جديد‪ .‬ان�ضم لفرتة وجيزة‬ ‫�إىل الأكادميية يف �أنتويرب يف بداية العام‬ ‫‪ ،1886‬لكنه تركها بعد حوايل �أربعة �أ�سابيع‬ ‫ال�ستيائه بق�سوة املدر�سني‪ .‬كما تظاهر‬ ‫كثري ًا يف طوال حياته‪� ،‬شعر فين�سنت ب�أن‬ ‫الدرا�سة الر�سمية هي بديل �سيئ للعمل‪.‬‬ ‫عمل فين�سنت خلم�س �سنوات �صعبة ب�شحذ‬ ‫مواهبه كفنان‪ ،‬ومع �إن�شاء لوحة �أكلة بطاطة‬ ‫�أثبت لنف�سه �أنه ر�سام من الطراز الأول‪.‬‬ ‫لكنه �أراد با�ستمرار �أن يح�سن �أو�ضاع‬ ‫نف�سه‪ ،‬وذلك الكت�ساب الأفكار ولي�ستك�شف‬ ‫التقنيات اجلديدة حتى ي�صبح الفنان الذي‬ ‫يتطلع حق ًا لأن يكون‪� .‬أجنز يف هولندا بقدر‬ ‫ما ا�ستطاع‪ ،‬فرتكها وذهب �إىل باري�س‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫*ف�����������������ي ب���������اري���������س‬ ‫�أخذ فين�سينت فان كوخ يرتا�سل مع‬ ‫�أخيه ثيو طوال بداية العام ‪ 1886‬يف‬ ‫حماولة لإقناعه باالنتقال �إىل باري�س‪.‬‬ ‫كان ثيو مدرك ًا ل�شخ�صية �أخيه القا�سية‪.‬‬ ‫و�صل فين�سنت �إىل باري�س يف �أوائل‬ ‫�شهر مار�س‪�/‬آذار‪ .‬كانت فرتة فان كوخ‬ ‫يف باري�س مميزة بالن�سبة حلياة الفنان‪.‬‬ ‫ال�سنتان اللتان ق�ضاهما فين�سنت يف‬ ‫باري�س هما �أي�ض ًا �أحد الفرتات غري املوثقة‬ ‫من حياته ب�شكل كبري‪ ،‬لأن كتاب ال�سري‬ ‫كانوا يعتمدون على الر�سائل بني فين�سنت‬ ‫وثيو ملعرفة احلقائق‪ ،‬وقد توقفت الر�سائل‬ ‫عندما عا�شا الأخوان �سوية يف �شقة ثيو‪،‬‬ ‫يف منطقة مونتمارتريه بباري�س‪.‬‬

‫كان لثيو كتاجر فني العديد من االت�صاالت‪،‬‬ ‫ف�أ�صبح فين�سنت م�ألوف ًا لدى الفنانني‬ ‫الرائدين يف باري�س يف ذلك الوقت‪.‬‬ ‫كان فان كوخ يف خالل ال�سنتني اللتني‬ ‫تواجد فيهما يف باري�س يقوم بزيارة‬ ‫بع�ض املعار�ض املبكرة لالنطباعيني‪،‬‬ ‫حيث عر�ضت �أعمال بوا�سطة ديغا�س‪،‬‬ ‫ومونيه‪ ،‬ورينوار‪ ،‬وبي�سارو‪ ،‬و�سيورا‪،‬‬ ‫و�سي�سلي‪ .‬ت�أثر فان كوخ بدون �شك بطرق‬ ‫االنطباعيني‪ ،‬لكنه بقى خمل�ص ًا لأ�سلوبه‬ ‫الفريد على الدوام‪ .‬كان فان كوخ يف طوال‬ ‫تلك ال�سنتني ي�ستخدم بع�ض ًا من تقنيات‬ ‫االنطباعيني‪ ،‬لكنه مل يدع ت�أثريهم القوي‬ ‫ب�أن يكت�سحه‪.‬‬

‫متتع فين�سنت بالر�سم يف �ضواحي باري�س‬ ‫طوال العام ‪ .1886‬بد�أت لوحاته باالبتعاد‬ ‫عن الألوان الداكنة وبد�أت ت�أخذ �ألوان‬ ‫االنطباعيني الأكرث حيوية‪ .‬وما �أ�ضاف من‬ ‫تعقيد �أ�سلوب فان كوخ �أنه حينما كان يف‬ ‫باري�س �أ�صبح مهتم ًا بالفن الياباين‪ .‬فتحت‬ ‫اليابان موانئها م�ؤخر ًا للدول الغربية بعد‬ ‫قرون من احل�صار الثقايف‪ ،‬وكنتيجة لتلك‬ ‫االنعزالية الطويلة �سحر العامل الغربي‬ ‫بالثقافة اليابانية‪ .‬بد�أ فان كوخ باكت�ساب‬ ‫جمموعة كبرية من الطبعات اخل�شبية‬ ‫اليابانية املوجودة الآن يف متحف فان‬ ‫كوخ يف �أم�سرتدام‪ ،‬وعك�ست لوحاته‬ ‫يف �أثناء ذلك الوقت اال�ستعمال احليوي‬

‫‪5‬‬

‫للألوان املف�ضلة عند االنطباعيني والألوان‬ ‫اليابانية املنعك�سة‪ .‬بالرغم من �أن فان‬ ‫كوخ �أنتج ثالث لوحات يابانية فقط‪� ،‬إال‬ ‫�أن الت�أثري الياباين على فنه كان موجود ًا‬ ‫ب�شكل دقيق يف طوال بقية حياته‪.‬‬ ‫كان العام ‪ 1887‬يف باري�س مرحلة تطور‬ ‫�أخرى لفين�سنت كفنان‪ ،‬لكنها �أي�ض ًا �سببت‬ ‫له خ�سائر فادحة‪ ،‬عاطفية وج�سدية‪ .‬عندما‬ ‫�أ�صر فين�سنت على االنتقال والعي�ش مع‬ ‫ثيو‪ ،‬قام بذلك على �أمل �أن يح�سن االثنان‬ ‫من �إدارة نفقاتهما وليتمكن فين�سنت‬ ‫ب�سهولة �أكرث من �أن يكر�س نف�سه �إىل‬ ‫الفن‪ .‬ولكن عي�شه مع �أخيه �أدى كذلك �إىل‬ ‫الكثري من التوتر بينهما‪ .‬كما كان احلال‬

‫يف طوال حياته‪ ،‬جعل الطق�س ال�سيئ‬ ‫يف �أثناء ف�صل ال�شتاء فين�سنت ع�صبي ًا‬ ‫ومكتئب ًا‪ .‬مل يكن فين�سنت �أكرث �سعادة من‬ ‫حينما ان�سجم مع الطبيعة وعندما كان‬ ‫الطق�س �أف�ضل‪ .‬يف �أثناء ال�شهور ال�شتائية‬ ‫الكئيبة يف باري�س ‪ -‬يف عامي ‪1887‬‬ ‫و‪� - 1888‬أ�صبح فان كوخ �أكرث قلق ًا لأن‬ ‫ال�صور والألوان الكئيبة نف�سها ظهرت‬ ‫مرة ثانية‪� .‬سنتا فان كوخ يف باري�س كانتا‬ ‫�أكرث ت�أثري ًا على تطوره امل�ستمر كفنان‪.‬‬ ‫لكنه ح�صل على ما كان يريد‪ ،‬فحان وقت‬ ‫االنتقال‪ .‬مل يكن فين�سنت �سعيد ًا �أبد ًا يف‬ ‫املدن الكبرية‪ ،‬فقرر ترك باري�س نحو‬ ‫جنوب‪.‬‬

‫*االن����ت����ق����ال إل�����ى ال��ج��ن��وب‬ ‫انتقل فين�سينت فان كوخ �إىل �آرل يف‬ ‫بداية العام ‪ 1888‬لعدة �أ�سباب منها كرهه‬ ‫لباري�س ولل�شهور الطويلة من ال�شتاء‬ ‫فيها‪ .‬ال�سبب الآخر كان حلم فين�سنت‬ ‫بت�أ�سي�س نوع من املطارحات للفنانني يف‬ ‫�آرل‪ ،‬حيث يلج�أ �إليه رفاقه يف باري�س‪،‬‬ ‫ويعملون �سوية‪ ،‬ويدعمون بع�ضهم‬ ‫البع�ض نحو هدف م�شرتك‪ .‬ا�ستقل فان‬ ‫كوخ القطار من باري�س �إىل �آرل يف ‪20‬‬ ‫فرباير‪�/‬شباط ‪ 1888‬وهو متطلع مل�ستقبل‬ ‫ناجح‪ .‬ال �شك يف �أن فان كوخ كان خائب‬ ‫الأمل يف �آرل يف �أ�سابيعه الأوىل هناك‪.‬‬ ‫وجد فين�سنت �آرل باردة ب�شكل غري‬ ‫اعتيادي‪ .‬ال بد و�أن يثبط ذلك من عزمية‬ ‫فين�سنت الذي ترك كل �شخ�ص يعرفه‬ ‫وراءه ليبحث عن الدفء يف اجلنوب‪.‬‬ ‫كان الطق�س القا�سي ق�صري ًا فبد�أ فين�سنت‬ ‫بر�سم بع�ض من �أف�ضل �أعماله‪.‬‬ ‫عندما ارتفعت درجة احلرارة‪ ،‬مل يهدر‬ ‫فين�سنت فر�صة البدء بالعمل يف الطبيعة‪،‬‬ ‫وقام بعدة �أعمال من بينها ر�سمة «منظر‬ ‫طبيعي لطريق و�أ�شجار م�شذبة»‪ ،‬ولوحة‬ ‫«الطريق عرب حقل ال�صف�صاف»‪� .‬أنتجت‬ ‫الر�سمة يف مار�س‪�/‬آذار حيث تبدو‬ ‫الأ�شجار واملنظر الطبيعي كئيبة جد ًا‬ ‫بعد ف�صل ال�شتاء‪� .‬أما اللوحة فقد ر�سمت‬ ‫بعد �شهر وهي تعر�ض الرباعم الربيعية‬ ‫على الأ�شجار نف�سها‪ .‬يف تلك الأثناء ر�سم‬ ‫فان كوخ �سل�سلة من لوحات الب�ساتني‬ ‫املنفتحة‪ .‬كان فين�سنت م�سرور ًا مبا �أنتج‪،‬‬ ‫و�شعر بالتجدد‪ .‬كانت ال�شهور التالية‬

‫�أكرث �سعادة بالن�سبة �إليه‪ .‬حجز فين�سنت‬ ‫غرفة يف مقهى دي الغار يف �أوائل مايو‪/‬‬ ‫ماي�س‪ ،‬وا�ست�أجر بيت ًا �أ�صفر كمكان ير�سم‬ ‫فيه وي�ضع لوحاته‪ .‬يف احلقيقة مل ينتقل‬ ‫فين�سنت �إىل البيت الأ�صفر حتى �سبتمرب‪/‬‬ ‫�أيلول‪ ،‬حينما �أ�س�سه كقاعدة ملا �سماه‬ ‫ب�إ�ستوديو اجلنوب‪.‬‬ ‫عمل فين�سنت بجد يف طوال ف�صلي‬ ‫الربيع وال�صيف‪ ،‬وبد�أ ب�إر�سال بع�ض‬ ‫�أعماله لثيو‪ .‬متتع برفقة النا�س وفعل‬ ‫ما مبقدوره �أثناء تلك ال�شهور للح�صول‬ ‫على الأ�صدقاء‪ .‬بالرغم من �أنه كان وحيد ًا‬ ‫جد ًا يف بع�ض الأحيان‪� ،‬صادق فين�سنت‬ ‫بول يوجني ميلي وجندي ًا �آخر‪ ،‬كما ر�سم‬ ‫�صورهما‪ .‬مل يفقد فين�سنت الأمل �أبد ًا يف‬ ‫�إمكانية ت�أ�سي�س مطارحة للفنانني‪ ،‬وبد�أ‬ ‫بت�شجيع بول غوغان لالن�ضمام �إليه يف‬ ‫اجلنوب‪ ،‬لكن الفر�صة مل تكن حمتملة‪ ،‬لأن‬ ‫انتقال غوغان يتطلب الكثري من العون‬ ‫املايل من ثيو‪ ،‬الذي مل يعد يتحمل املزيد‪.‬‬ ‫يف �أواخر يوليو‪/‬متوز تويف فين�سنت‬ ‫(عم فان كوخ) وترك �إرث ًا لثيو‪ .‬مكن ذلك‬ ‫املال ثيو من تبني انتقال غوغان �إىل �آرل‪.‬‬ ‫�شعر ثيو ب�أن فين�سنت �سيكون �أكرث �سعادة‬ ‫وا�ستقرار ًا برفقة غوغان‪ ،‬كما �أمل ثيو يف‬ ‫�أن تكون لوحات غوغان مربحة بالن�سبة‬ ‫�إليه‪ .‬بخالف فين�سنت حقق بول غوغان‬ ‫درجة �أ�صغر من النجاح‪ .‬و�صل غوغان‬ ‫�إىل �آرل بالقطار يف وقت مبكر من يوم ‪23‬‬ ‫�أكتوبر‪/‬ت�شرين الأول‪.‬‬ ‫ال�شهران التاليان كانا حموريني وكارثيني‬

‫لفين�سينت فان كوخ ولبول‬ ‫غوغان‪ .‬يف البداية كان فان‬ ‫كوخ وغوغان جيدين �سوية‪،‬‬ ‫حيث قاما بالر�سم يف �آرل‪ ،‬كما‬ ‫ناق�شا الفن والتقنيات املختلفة‪.‬‬ ‫ولكن مع مرور الأ�سابيع‪،‬‬ ‫تدهور الطق�س ووجد االثنان‬ ‫�أنف�سهما مرغمني على البقاء‬ ‫يف الداخل كثري ًا‪ .‬مثلما هو‬ ‫احلال على الدوام‪ ،‬تقلب مزاج‬ ‫فين�سنت ملجاراة الطق�س‪.‬‬ ‫ب�سبب اجنبار فين�سنت على‬ ‫العمل يف الداخل‪� ،‬أدى ذلك �إىل التخفيف‬ ‫من ك�آبته‪ .‬بعث فين�سنت �إىل ثيو ر�سالة‬ ‫قائ ًال فيها �أنه قام بر�سم لوحات لعائلة‬ ‫كاملة وهي عائلة رولن‪ .‬تلك اللوحات‬ ‫بقيت من بني �أف�ضل �أعماله‪.‬‬ ‫تدهورت العالقة بني فان كوخ وغوغان‬ ‫يف دي�سمرب‪/‬كانون الأول‪ ،‬ف�أ�صبحت‬ ‫جمادالتهما ال�ساخنة كثرية احلدوث‪ .‬يف‬ ‫‪ 23‬دي�سمرب‪/‬كانون الأول �أ�صيب فين�سنت‬ ‫فان كوخ بنوبة عقلية جنونية‪ ،‬فقطع‬ ‫اجلزء الأوط�أ من �أذنه الي�سرى بوا�سطة‬ ‫�شفرة حالقة‪ ،‬ثم انهار‪ .‬اكت�شفته ال�شرطة‬ ‫ثم �أدخل �إىل م�ست�شفى هوتيل ديو يف‬ ‫�آرل‪ .‬بعد �أن �أر�سل غوغان برقية �إىل ثيو‪،‬‬ ‫اجته فور ًا �إىل باري�س دون �أن يزور فان‬ ‫كوخ يف امل�ست�شفى‪ .‬ترا�سل فان كوخ‬ ‫وغوغان الحق ًا لكنهما مل يجتمعا �شخ�صي ًا‬ ‫مرة �أخرى‪ .‬كان فين�سنت وهو يف‬ ‫امل�ست�شفى حتت عناية الدكتور فيليك�س‬

‫راي (‪ .)1932 - 1867‬عانى بعد �أ�سبوع‬ ‫من الكثري من فقدان الدم‪ .‬كان ثيو الذي‬ ‫�أ�سرع باملجيء من باري�س على يقني من‬ ‫�أن فين�سنت �سيموت‪ ،‬لكنه تعافى كلي ًا مع‬ ‫نهاية دي�سمرب‪/‬كانون الأول وبداية ال�شهر‬ ‫التايل‪.‬‬ ‫الأ�سابيع الأوىل من العام ‪ 1889‬مل تكن‬ ‫�سهلة بالن�سبة لفين�سينت فان كوخ‪ .‬عاد‬ ‫فين�سنت بعد تعافيه �إىل بيته الأ�صفر‪،‬‬ ‫لكنه وا�صل زياراته �إىل الدكتور راي‬ ‫لإجراء الفحو�صات ولتغيري �ضمادات‬ ‫ر�أ�سه‪ .‬كان فين�سنت متحم�س ًا بعد التوقف‪،‬‬ ‫لكن م�شاكله املالية ا�ستمرت‪ ،‬كما �شعر‬ ‫باكتئاب جزئي عندما قرر �صديقه املقرب‬ ‫جو�سف رولن (‪ )1903 - 1841‬لقبول‬ ‫موقع �أف�ضل للعي�ش فانتقل مع عائلته‬ ‫�إىل مار�سيليا‪ .‬كان رولن �صديق ًا عزيز ًا‬ ‫وخمل�ص ًا لفين�سنت يف معظم وقته يف‬ ‫�آرل‪� .‬أ�صبح فين�سنت كثري الإنتاج طوال‬

‫يناير‪/‬كانون الثاين وبداية‬ ‫ال�شهر التايل‪ ،‬فر�سم بع�ض ًا من‬ ‫�أعماله املعروفة مثل لوحتي‬ ‫«البري�سوز» و»عباد ال�شم�س»‪.‬‬ ‫يف ‪ 7‬فرباير‪�/‬شباط عانى‬ ‫فين�سنت من نوبة �أخرى‬ ‫تخيل فيها نف�سه ب�أنه م�سمم‪.‬‬ ‫نقل فين�سنت مرة �أخرى‬ ‫�إىل م�ست�شفى هوتيل ديو‬ ‫للمعاجلة‪ ،‬ومكث هناك ‪10‬‬ ‫�أيام‪ ،‬لكنه عاد مرة �أخرى �إىل‬ ‫البيت الأ�صفر بعد ذلك‪.‬‬ ‫�أ�صبح بع�ض مواطني �آرل قلقني يف ذلك‬ ‫الوقت ب�سبب �سلوك فين�سنت‪ ،‬فوقعوا‬ ‫عري�ضة بخ�صو�ص خماوفهم‪� .‬أر�سلت‬ ‫العري�ضة لرئي�س بلدية �آرل ثم ملدير‬ ‫ال�شرطة الذي �أمر فان كوخ بدخول‬ ‫امل�ست�شفى مرة �أخرى‪ .‬بقى فين�سنت يف‬ ‫امل�ست�شفى للأ�سابيع ال�ستة التالية‪ ،‬ولكن‬ ‫�سمح له باملغادرة حتت الإ�شراف يف‬ ‫بع�ض الأحيان لكي يقوم بالر�سم ولو�ضع‬ ‫�أمالكه يف املخزن‪ .‬كان ذلك وقت ًا منتج ًا‬ ‫لكن فان كوخ كان مثبط العزمية عاطفي ًا‪.‬‬ ‫كما كان احلال قبل �سنة‪ ،‬عاد فان كوخ‬ ‫لر�سم الب�ساتني املنفتحة حول �آرل‪ .‬ولكن‬ ‫بينما كان ينتج بع�ض ًا من �أف�ضل �أعماله‪،‬‬ ‫�أدرك فين�سنت ب�أن موقفه غري ثابت‪ ،‬وبعد‬ ‫املناق�شات مع ثيو وافق على اللجوء �إىل‬ ‫م�ست�شفى �سان بول دي مو�سول النف�سي‬ ‫يف �سان رميي دي بروفان�س طوع ًا‪ .‬ترك‬ ‫فان كوخ �آرل يف ‪ 8‬مايو‪/‬ماي�س‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫عند و�صوله �إىل امل�ست�شفى‪ ،‬و�ضع فان‬ ‫كوخ حتت عناية الدكتور ثيوفيل ز�شريي‬ ‫�أوغ�سطي بريون (‪ .)1895 - 1827‬بعد‬ ‫فح�ص فين�سنت ومراجعة حالته‪ ،‬اقتنع‬ ‫الدكتور بريون ب�أن مري�ضه كان يعاين من‬ ‫ال�صرع‪ .‬بعد �أ�سابيع‪ ،‬بقيت حالة فين�سنت‬ ‫العقلية م�ستقرة و�سمح له باال�ستمرار‬ ‫يف الر�سم‪ .‬ويف منت�صف ال�شهر يونيو‪/‬‬ ‫حزيران �أنتج فان كوخ عمله الأف�ضل وهو‬ ‫لوحة «الليلة امل�ضيئة بالنجوم»‪.‬‬ ‫حالة فان كوخ العقلية الهادئة ن�سبي ًا مل تدم‬ ‫طوي ًال‪ ،‬ف�أ�صيب بنوبة �أخرى يف منت�صف‬ ‫ال�شهر يوليو‪/‬متوز‪ .‬حاول فين�سنت‬ ‫ابتالع لوحاته اخلا�صة ولذلك و�ضع يف‬ ‫امل�ست�شفى ومل ي�سمح له بالو�صول �إليها‪.‬‬ ‫رغم �أنه تعافى �سريع ًا من احلادثة‪� ،‬أ�صيب‬ ‫فان كوخ بالإحباط بعدما حرم من ال�شيء‬ ‫الوحيد الذي يحبه وهو فنه‪ .‬يف الأ�سبوع‬ ‫التايل‪� ،‬سمح الدكتور بريون لفان كوخ‬ ‫با�ستئناف الر�سم‪ .‬تزامن ذلك اال�ستئناف‬ ‫مع حالة عقلية جيدة‪� .‬أر�سل فين�سنت‬ ‫ر�سائل لثيو تف�صل حالته ال�صحية غري‬ ‫الثابتة‪ .‬كما �أن الأخري كان مري�ض ًا �أي�ض ًا‬ ‫يف بداية العام ‪ .1889‬مل ي�ستطع فان‬ ‫كوخ مغادرة غرفته ملدة �شهرين‪ ،‬لكنه يف‬ ‫الأ�سابيع التالية تغلب على خماوفه مرة‬ ‫�أخرى وا�ستمر بالعمل‪ .‬يف �أثناء ذلك‬ ‫الوقت بد�أ فين�سنت بالتخطيط ملغادرته‬ ‫النهائية من امل�ست�شفى النف�سي يف �سان‬ ‫رميي‪ .‬طرح ذلك على ثيو الذي بد�أ‬ ‫باال�ستعالم عن البدائل املحتملة لعناية‬ ‫فين�سنت الطبية‪.‬‬ ‫بقيت �صحة فان كوخ العقلية واجل�سدية‬ ‫م�ستقرة جد ًا يف بقية العام ‪ .1889‬تعافت‬ ‫�صحة ثيو �أي�ض ًا وكان م�ستعد ًا لالنتقال‬ ‫�إىل بيت مع زوجته اجلديدة‪ ،‬كما �ساعد‬ ‫�أوكتايف مو�س الذي كان ينظم معر�ض ًا‬ ‫(ا�سمه ‪ )Les XX‬يف بروك�سل حيث‬ ‫عر�ضت فيه �ست من لوحات فين�سنت‪ .‬بدا‬ ‫فين�سنت متحم�س ًا منتج ًا يف طوال ذلك‬ ‫الوقت‪ .‬ف�صلت املرا�سالت امل�ستمرة بني‬ ‫فين�سنت وثيو العديد من الأمور حول‬ ‫عر�ض لوحات فين�سنت �ضمن املعر�ض‪.‬‬ ‫يف ‪ 23‬دي�سمرب‪/‬كانون الأول من العام‬ ‫‪ 1889‬وبعد مرور �سنة على حادثة قطع‬ ‫الأذن‪ ،‬عانى فين�سنت من نوبة �أخرى‬ ‫ا�ستمرت لأ�سبوع‪ ،‬لكنه تعافى منها ب�سرعة‬ ‫وا�ستمر يف الر�سم‪ .‬كما عانى من املزيد‬ ‫من النوبات يف ال�شهور الأوىل من العام‬ ‫‪ .1890‬من املحتمل �أن تكون تلك الفرتة‬ ‫الأ�سو�أ بالن�سبة حلالته العقلية اليائ�سة‪.‬‬ ‫بعد اال�ستعالم‪� ،‬شعر ثيو ب�أنه من الأف�ضل‬ ‫لفين�سنت �أن يعود �إىل باري�س ويو�ضع‬ ‫بعد ذلك حتت عناية الدكتور بول غا�شي‬ ‫(‪ .)1909 - 1828‬وافق فين�سنت على‬ ‫اقرتاح ثيو و�أنهى �أموره يف �سان رميي‪.‬‬ ‫يف ‪ 16‬مايو‪/‬ماي�س ‪ 1890‬ترك فين�سينت‬ ‫فان كوخ امل�ست�شفى النف�سي وذهب لي ًال‬ ‫بوا�سطة القطار �إىل باري�س‪.‬‬

‫*المستشفىالنفسي‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫‪7‬‬

‫�أعماله‬ ‫حاول فين�سنت فان كوخ يف �أعماله ب�أن يلتقط �أكرب‬ ‫قدر ممكن من ال�ضوء‪ ،‬كما عمل على �إبراز متاوج طيف‬ ‫الألوان يف لوحاته املختلفة‪ :‬الطبيعة ال�صامتة‪ ،‬باقات‬ ‫الورد (عباد ال�شم�س)‪ ،‬اللوحات ال�شخ�صية‪ ،‬اللوحات‬ ‫املنظرية (ج�سور النغلوا‪ ،‬حقل القمح بالقرب من‬ ‫�أ�شجار ال�سرو‪ ،‬الليلة املتلألئة)‪.‬‬ ‫يعترب فان كوخ من رواد املدر�ستني االنطباعية‬ ‫والوح�شية‪ .‬تعر�ض �أهم �أعماله يف متحف �أور�ساي‬ ‫بباري�س (خميم البوهيميون‪ ،‬لوحات �شخ�صية)‪ ،‬ويف‬ ‫متحف فان كوخ الوطني يف �أم�سرتدام بهولندا‪.‬‬

‫*ح������ي������ات������ه األخ������ي������رة‬ ‫كانت رحلة فين�سنت �إىل باري�س هادئة‪ ،‬وا�ستقبله‬ ‫ثيو عند و�صوله‪ .‬بقى فين�سنت مع ثيو وزوجته‬ ‫جوانا ومولودهما اجلديد‪ ،‬فين�سنت ويليم‬ ‫(الذي �سمي على ا�سم فين�سنت) لثالثة �أيام‪ .‬لكن‬ ‫فين�سنت �شعر ببع�ض الإجهاد فاختار ترك باري�س‬ ‫والذهاب �إىل �أوفري �سور �أوايز‪ .‬اجتمع فين�سنت‬ ‫بالدكتور غا�شي بعد فرتة قليلة من و�صوله �إىل‬ ‫�أوفري‪ .‬ا�ستطاع فين�سنت �إيجاد غرفة لنف�سه يف‬ ‫�إحد املباين ال�صغرية التي ملكها �آرثر غو�ستاف‬ ‫رافو‪ ،‬وبد�أت بالر�سم على الفور‪.‬‬ ‫كان فين�سنت م�سرور ًا من �أوفري �سور �أوايز‬ ‫التي �أعطته احلرية التي مل يح�صل عليها يف‬ ‫�سان رميي‪ ،‬ويف الوقت نف�سه زودته باملوا�ضيع‬ ‫الكافية لر�سمه‪� .‬أ�سابيع فين�سنت الأوىل هناك‬ ‫انق�ضت ب�شكل هادئ‪ .‬يف ‪ 8‬يونيو‪/‬حزيران‪،‬‬ ‫قام ثيو وجو وطفلهما الر�ضيع بزيارة فين�سنت‬ ‫وغا�شي ليق�ضوا يوم ًا عائلي ًا ممتع ًا‪ .‬بقى فين�سنت‬ ‫طوال يونيو‪/‬حزيران يف حالة نف�سية جيدة وكان‬ ‫كثري الإنتاج‪ ،‬فر�سم بع�ض �أعماله املعروفة مثل‬ ‫"�صورة الدكتور غا�شي" ولوحة "الكني�سة يف‬

‫�أوفري�س"‪ .‬علم فين�سنت بعد ذلك بخرب غري جيد‬ ‫وهو �أن ابن �أخيه �أ�صبح مري�ض ًا جد ًا‪ .‬كان ثيو‬ ‫مير ب�أكرث الأوقات �صعوبة منذ ال�شهور ال�سابقة‪.‬‬ ‫بعد حت�سن الطفل الر�ضيع‪ ،‬قرر فين�سنت زيارة‬ ‫ثيو وعائلته يف ‪ 6‬يوليو‪/‬متوز فذهب �إليهم مبكر ًا‬ ‫بوا�سطة القطار ثم عاد �إىل �أوفري�س‪ .‬يف �أثناء‬ ‫الأ�سابيع الثالثة التالية‪ ،‬ا�ست�أنف فين�سنت الر�سم‬ ‫وكان �سعيد ًا‪.‬‬ ‫يف م�ساء يوم الأحد املوافق ‪ 27‬يوليو‪/‬متوز‬ ‫‪� 1890‬أخذ فين�سينت فان كوخ م�سد�س ًا و�أطلق‬ ‫على �صدره ر�صا�صة‪ .‬ا�ستطاع فين�سنت العودة‬ ‫�إىل رافو وهو يتمايل حيث انهار على ال�سرير‬ ‫ثم اكت�شفه رافو‪ .‬مت ا�ستدعاء الدكتور مازيري‬ ‫وكذلك الدكتور غا�شي‪ ،‬ومت الإقرار على عدم‬ ‫حماولة �إزالة الر�صا�صة من �صدر فين�سنت‪ ،‬ثم‬ ‫كتب غا�شي ر�سالة طارئة �إىل ثيو‪ .‬مل يكن لدى‬ ‫الدكتور غا�شي عنوان بيت ثيو وكان ال بد من �أن‬ ‫يكتب �إىل املعر�ض الذي كان يعمل فيه‪ .‬لكن ذلك‬ ‫مل يت�سبب يف ت�أخري كبري‪ ،‬فو�صل ثيو يف ع�صر‬ ‫اليوم التايل‪.‬‬

‫بقى فين�سنت وثيو �سوية حتى ال�ساعات الأخرية‬ ‫من حياته‪ .‬ذكر ثيو الحق ًا ب�أن فين�سنت �أراد املوت‬ ‫بنف�سه‪ ،‬فعندما جل�س �إىل جانب �سريره قال له‬ ‫فين�سنت‬ ‫‪La tristesse durera toujours‬‬ ‫‪�".‬أن احلزن يدوم �إىل الأبد"‪ .‬مات فين�سنت فان‬ ‫كوخ يف ال�ساعة احلادية والن�صف �صباح يوم‬ ‫‪ 29‬يوليو‪/‬متوز ‪ 1890‬عن �سن الـ ‪ .37‬الكني�سة‬ ‫الكاثوليكية يف �أوفري�س رف�ضت ال�سماح بدفن‬ ‫فين�سنت يف مقربتها لأنه انتحر‪ ،‬لكن مدينة مريي‬ ‫القريبة وافقت على الدفن واجلنازة‪ ،‬ومت ذلك يف‬ ‫‪ 30‬يوليو‪/‬متوز‪.‬‬ ‫توفى ثيو فان كوخ يف �أوفر �سور �أوايز بفرن�سا‬ ‫بعد رحيل فين�سنت ب�ستة ا�شهر‪ .‬دفن يف‬ ‫�أوتريخت لكن زوجته جوانا طلبت يف عام ‪1914‬‬ ‫ب�إعادة دفن ج�سده يف مقربة �أوفري�س �إىل جانب‬ ‫فين�سنت‪ .‬طلبت جو �أي�ض ًا ب�أن يتم زراعة غ�صن‬ ‫النبات املعرت�ش من حديقة الدكتور غا�شي بني‬ ‫�أحجار القرب‪ .‬تلك النباتات هي نف�سها موجودة‬ ‫يف موقع مقربة فين�سنت وثيو حتى هذا اليوم‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫الفلسفة وحذاء‬ ‫فان كوخ‬ ‫�أقام متحف والرف ريت�شاردز يف مدينة كولون االملانية معر�ض ًا فني ًا غريب ًا من نوعه عنوانه‬ ‫«فان كوخ‪ :‬االحذية» ُكر�س بالكامل لعر�ض احدى لوحات الر�سام الهولندي ال�شهري‪ ،‬فن�سنت‬ ‫فان كوخ‪ ،‬التي يعود تاريخ ر�سمها للعام ‪.1886‬‬ ‫ولرمبا تت�ساءلون ما الذي دفع القيمني على املتحف لتكري�س املعر�ض للوحة فنية واحدة‬ ‫يت�سم مو�ضوعها بالغرابة والالم�ألوفية‪ ،‬على الرغم من ت�أكيدهم انهم بعر�ضهم هذه اللوحة‬ ‫يقدمون امنوذج ًا فني ًا نادر ًا‪ .‬يبني املعر�ض وال ريب الأهمية اال�ستثنائية التي حظيت بها هذه‬ ‫اللوحة يف فل�سفة الفن املعا�صر وعالقته بتاريخ االفكار‪ .‬ر�سم كوخ لوحة احلذاء ب�أو�ضاع‬ ‫خمتلفة وو�ضع فيها كل امكاناته التقنية وجتاربه يف اللون والظل‪ .‬ال غرو‪ ،‬لذلك‪ ،‬ان حتظى‬ ‫هذه اللوحة ب�أهتمام العديد من الفال�سفة وم�ؤرخي الفن من قبيل مارتن هيدغر ومري �شابريو‬ ‫وجاك دريدا‪ ،‬واىل جانب عر�ض اللوحة‪ ،‬ي�صطحبنا املعر�ض يف رحلة ممتعة لالطالع على‬ ‫ما كتبه ه�ؤالء الفال�سفة ب�ش�أنها ومواقفهم املختلفة حيالها‪ ،‬فالبع�ض مما كتبه ه�ؤالء مثري‬ ‫لل�ضحك والبع�ض االخر قا�س وفظ ورمبا مت�أمل‪.‬‬ ‫بادئ ذي بدء‪ ،‬ينبغي لنا معرفة كل ما يت�صل ببدايات ر�سم هذه اللوحة وا�صولها‪ .‬تذكر احدى‬ ‫الدرا�سات الفنية زيارة فان كوخ لأحد �أ�سواق باري�س العا�صمة يف ‪ 1886‬وم�شاهدته لزوج‬ ‫من االحذية املتهرئة‪ .‬ا�شرتى فان كوخ احلذاء واخذه اىل معر�ضه الفني الكائن يف مدينة‬ ‫مونتمارتر‪ .‬ولي�س من الوا�ضح اال�سباب التي دعته ل�شرائه ولرمبا يعود ال�سبب بب�ساطة اىل‬ ‫حاجته اىل زوجي احذية جديدين‪ .‬وي�شري امل�صدر كذلك اىل حماولته قيا�سهما واكت�شافه‬ ‫ا�ستحالة انتعالهما‪ .‬ول�سبب ما‪ ،‬تنبه كوخ اىل �أمكانية اتخاذ احلذاء مو�ضوع ًا يف لوحة عُدت‬ ‫بعد ذلك احدى �أهم لوحاته الفنية‪ ،‬ف�شرع يف ر�سمه‪ .‬وهكذا‪ ،‬ا�ضحى هذا احلذاء واحد ًا من‬ ‫ا�شهر اللوحات يف تاريخ الفن املعا�صر‪ ،‬فهو حذاء متفرد يف خ�صو�صيته ويف م�ضامينه‬ ‫االيحائية‪ .‬اال ان ال�سبب يف ال�شهرة الوا�سعة التي حظيت بها اللوحة ال يعود اىل مو�ضوعها‬ ‫غري امل�ألوف فح�سب‪ ،‬كما يبني �سكوت هورتن‪ ،‬بقدر ما يعود اىل ا�ستئثارها ب�أهتمام م�ؤرخي‬ ‫الفن والفال�سفة واىل ا�سلوب تلقيها النقدي املتفرد‪.‬‬ ‫�شاهد املفكر والفيل�سوف مارتن هيدغر اللوحة يف احد املعار�ض الفنية يف ام�سرتدام يف‬ ‫‪ ،1930‬و�سرعان ما حتولت اىل ب�ؤرة االهتمام يف احدى مقاالته حول نظرية الفن املعا�صر‪.‬‬ ‫يف كتابه «ا�صول العمل الفني»(‪ ،)1935‬ي�صف هيدغر احلذاء بالكلمات الآتية‪« :‬من الفتحة‬ ‫املظلمة لالجزاء الداخلية املتهرئة للحذاء‪ ،‬تطل خطوات الفالحة املُنهكة‪ .‬وعرب ثقل احلذاء‬ ‫وتيب�س جلده‪ ،‬يطالعنا العناد والت�شبث املتوا�صل خلطواتها املجهدة املتباطئة عرب االخاديد‬ ‫الطويلة واملت�شابهة يف احلقول التي اجتاحتها الرياح الباردة اجلافة‪ .‬وحتت نعلي احلذاء‪،‬‬ ‫متتد امل�سالك واملجازات املوح�شة يف احلقل عند هبوط امل�ساء‪ .‬اما يف �شكل احلذاء فترتدد‬ ‫النداءات ال�صامتة لالر�ض وعطاياها الهادئة من انواع الثمار النا�ضجة وكذا يتج�سد ايثارها‬ ‫وكرمها املتخفي يف �آ�سى االخاديد الطويلة يف احلقول ال�شتوية‪ .‬يف هذا احلذاء تعايننا‬ ‫�صور القلق ال�صامت الوجل الذي ي�ستبد ب�صاحبه من احتماالت هالك املح�صول والفرح الذي‬ ‫ال ميكن للكلمات التعبري عنه عند متكن �صاحبه من مقاومة العوز واحل�صول على مو�سم‬ ‫زراعي جيد‪ .‬انه يعيد الذهاننا م�شاهد االرجتاف امام مهد الطفل الوليد واخلوف من عالمات‬ ‫املوت الو�شيك‪ .‬هذا احلذاء ينتمي لالر�ض وهو حممي يف عامل ال�سيدة الفالحة‪ .‬ومن هذا‬ ‫ال�شعور باالنتماء املُ�صان‪ ،‬تعلو مكانة هذا احلذاء بو�صفه حذاء‪.‬‬ ‫هذه هي اللغة املعربة التي ال ميكن اال لهيدغر كتابتها‪� ،‬أذ يت�سم الن�سق اللفظي الذي وظفه‬ ‫بغرابته و�صعوبة مقاربته يف �آن‪ .‬وهكذا ر�أى هيدغر يف حذاء كوخ معاين عدة غري م�ألوفة‬ ‫برع يف جت�سيدها وااليحاء بها فنان فذ قادر على تقدمي جوهر «احلذاء» وت�صويره مفاهيمي ًا‪.‬‬ ‫يف «احلياة اجلامدة بو�صفها مو�ضوع ًا فني ًا (‪ )1968‬انتقد مري �شابريو مقاربة هيدغر للوحة‬ ‫احلذاء مبين ًا ف�شل االخري يف فهم مو�ضوع اللوحة‪ .‬ما الذي دفع هيدغر‪ ،‬ت�ساءل �شابريو‪،‬‬ ‫اىل االعتقاد ب�أن احلذاء يعود اىل فالحة ال اىل �شخ�ص اخر؟ يف واقع االمر‪ ،‬يرى �شابريو‬ ‫ان فهم اللوحة يتطلب الغو�ص يف مرا�سالت فان كوخ وكتاباته ففيها وحدها �سر اختياره‬ ‫هذا احلذاء‪ .‬وبعد قراءة م�ستفي�ضة لكتابات كوخ‪ ،‬ا�ستنتج �شابريو ان احلذاء ال يعود اىل‬ ‫امر�أة ومن ثم �شرع يف حتليل اللوحة ونقدها بطريقته‪ ،‬اذ قال «عندما ر�سم فان كوخ ال�سباط‬ ‫(حذاء خ�شبي ينتعله الفالحون يف فرن�سا وبلجيكا)‪ ،‬قرر منحه �شك ًال وا�ضح ًا وحمدد ًا‬ ‫و�سطح ًا مماث ًال ال�سطح مواد احلياة اجلامدة التي تعمد كوخ و�ضعها بالقرب منه‪ ،‬وهي‬ ‫القناين وال�سلطانية‪ .‬يف لوحة اخرى ل�سباط الفالح اجللدي‪ ،‬تعمد كوخ ان ير�سمه بطريقة‬ ‫بحيث يكون جز�ؤه اخللفي مواجه ًا للم�شاهد‪ .‬اما حذا�ؤه هو فقد و�ضعه يف مكان منعزل على‬ ‫االر�ضية بحيث يبدو احلذاءان وك�أنهما يف مواجهة احداهما االخر‪ ،‬وهكذا ويف �ضوء املظهر‬ ‫الفريد واملتيب�س واملتجعد للحذائني‪ ،‬ميكن للم�شاهد احلديث عنهما بو�صفهما �صور ًا حقيقية‬ ‫لأحذية قدمية‪ .‬واخري ًا جاء دور جاك دريدا ليبدي ر�أيه يف هذا املو�ضوع‪ .‬وكما هو متوقع‪،‬‬ ‫يعتقد دريدا ان احلظ مل يكن حليف �شابريو وال هيدغر وانهما قد اخفقا يف فهم حقيقة اللوحة‬ ‫وجوهرها التي تكمن يف �شيء ما‪ ،‬يتجاوز فهمها املُب�سط ملو�ضوعها‪ .‬قال دريدا انه مل يفهم‬ ‫املق�صود يف تعليقات هيدغر و�شابريو‪ ،‬اذ يدفعنا تعليق هيدغر اىل االعتقاد ب�أمكانية االكتفاء‬ ‫مبخطط مب�سط بالطبا�شري على لوحة ال�سبورة لتو�ضيح مق�صد كوخ يف لوحته‪ .‬يف ادناه‬ ‫بع�ض ما قاله دريدا عن اللوحة‪« :‬ثمة ن�سق اخر من اخل�صائ�ص امل�ستقلة املميزة ال يك�شف‬ ‫عنه كوخ ب�سهولة‪ .‬هذه هي اللوحة النموذجية التي تعك�س ا�سرتخاء الفنان ومتتعه ب�أعادة‬ ‫اكت�شاف امل�ألوف وتقدميه للم�شاهد‪ .‬هذا الن�سق ينف�صل يف نقطة ما ليجتمع ثانية يف نقطة‬ ‫اخرى‪ .‬وب�أ�ستخدام خيط غري مرئي خفي يثقب قما�ش (كانفا�س) اللوحة ويخرتقها كما تثقب‬ ‫املقرنة الورق ومن ثم تخرج منه لت�صري اجزاء القما�ش ُك ًال متكام ًال جم�سد ًا لروعة امتزاج‬ ‫العاملني الداخلي واخلارجي للوحة‪ ،‬يجمع كوخ ما بني عوامله الداخلية واخلارجية يف لوحة‬ ‫فنية ما زال معناها حمل نقا�ش وجدل‪ .‬من هذه النقطة ف�صاعد ًا‪ ،‬ولئن انتفت احلاجة اىل‬ ‫هذا احلذاء و ُق�ضي ب�أهماله‪ ،‬فلأنه‪ ،‬او ًال‪ ،‬قد �أُنتزع من االقدام العارية التي كانت تنتعله ومن‬ ‫و�سائل االنتفاع منه املتمثلة مبالكه وم�ستخدمه وال�شخ�ص الذي يرتديه‪ ،‬وثاني ًا لكونه حذاء‬ ‫مر�سوما يف لوحة مفيد �ضمن اطارها وحدودها التي ينبغي التفكري بها ب�صيغ االلوان وخامة‬ ‫القما�ش والرباط الذي يدخل يف ثقوب احلذاء‪ .‬مير الرباط مبا�شر ًة عرب العُيينات (ثقب‬ ‫�صغري يف طرف ثوب او حذاء يُدخل فيه ال�شريط) التي تتخذ �شكل االزواج املتقابلة التي‬ ‫يخرتقها الرباط على نحو متعاقب ليظهر للم�شاهد يف جانبه اخلارجي ويختفي يف مقابله‬ ‫الداخلي‪ .‬هل يعني هذا الظهور واالختفاء املتعاقب للرباط عرب ثقوب احلذاء يف اللوحة‬ ‫دجمه جلد احلذاء بكانفا�س الر�سم؟ يخرتق الرباط الثقب عرب العيينة املعدنية احلواف‪ ،‬وهو‬ ‫بذلك يخرتق اجللد الذي ُ�صنع منه احلذاء وقطعة قما�ش الر�سم يف �آن‪ .‬الالفت لالنتباه مفردة‬ ‫املقرنات التي ا�ستخدمها دريدا يف هذه املقالة ويف عنونة احد اعماله (متظهرات احلقيقة يف‬ ‫التثقيب)(‪ .)1978‬ولأهمية هذه املفردة لدريدا‪ ،‬فقد افرد لها تعريفا قامو�سيا يف اجلهة العليا‬ ‫اليمنى من ال�صفحة االوىل للمقال يف هيئة حكمة معربة ولها ً‬ ‫معان عدة منها ‪ -1‬املثقبة‪ ،‬اداة‬ ‫م�ستدقة الطرف ت�ستخدم يف الطباعة م�صنوعة من احلديد بنهاية م�ستدقة لتثبيت ال�صفحة‬ ‫املطلوب طباعتها على الرفادة و‪ -2‬الثقب الذي تعمله يف الورق‪ ،‬و‪ -3‬يف عامل �صنع االحذية‬ ‫او القفازات‪ ،‬تعني املُقرنات عدد من الغرز املثبتة يف حذاء او قفاز‪ .‬حاكى دريدا ما قاله‬ ‫هيدغر فنان الكلمات ولكنه تفوق عليه يف روعة تالوينه اللغوية‪ ،‬فمقاالته تعج بالكلمات من‬ ‫اللغات االملانية واالنكليزية والفرن�سية والالتينية‪ .‬وهو يف مرحلة ما يدعونا اىل قراءة ن�ص‬ ‫هيدغر باالملانية واالنكليزية والفرن�سية على التوايل قبل متابعة ما كتبه هو‪ .‬ولرمبا ي�س�أل‬ ‫�سائل‪ ،‬ما �أهمية كل هذه االراء لفان كوخ؟ ما الذي كان يق�صده من وراء ر�سم هذه اللوحات؟‬ ‫احيان ًا االحذية ما هي �سوى احذية‪ .‬اال ان الزائر الذي يخرج من هذا املعر�ض قد يدرك‬ ‫ان لهذا احلذاء خ�صو�صية متفردة‪ .‬انه حذاء ي�شاهده زوار املعر�ض من كافة انحاء العامل‬ ‫مبختلف م�شاربهم وقومياتهم وثقافاتهم‪.‬‬ ‫امل�صدر‪ :‬جملة بي�س اوف دايلوغ االلكرتونية‬

‫‪Shoes‬‬

‫‪Vincent Willem van Gogh‬‬


‫‪10‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫نبي الفن المعاصر‬

‫فان كوخ من المرحلة األنجيلية الى صداقة‬ ‫غوغان مرورا بأميل زوال‬ ‫فارق الر�سام العاملي اال�شهر فان كوخ احلياة يف التا�سع والع�شرين من متوز‪ -‬يوليو من عام ‪ 1890‬وكان قبلها بيومني قد اطلق على نف�سه الر�صا�ص‬ ‫�أثر نوبة من نوبات االكتئاب التي كان يعاين منها ب�سبب م�ضاعفات مر�ض ال�صرع واح�سا�سه الدائم بالف�شل وعدم القدرة على حتقيق �أي‬ ‫جناح يذكر فهذا الفنان الذي تباع لوحاته حاليا باملاليني مل يبع اال لوحة واحدة يف حياته كلها (�صحيفة الهدهد الدولية ) �أر�سلت م�صطفى‬ ‫دروي�ش يف هذه املنا�سبة ليزور متحف فان كوخ بام�سرتدام ويعود بانطباعاته عن الر�سام الهولندي وزوار معر�ضه الذين يقفون يف طوابري‬ ‫طويلة اللقاء نظرة على اعمال مل تلفت قبل قرن من الزمان اال بع�ض العيون املدربة ‪.‬‬

‫م�صطفى دروي�ش‬ ‫اليوجد �أطول من الطابور الذي ميتد‬ ‫ع�شرات االمتار �أمام متحف فان كوخ‬ ‫لي�صل اىل متحف( ريك�ش )املجاور‬ ‫الذي يحتفي برمربانت غري متحف‬ ‫�آن فرانك الفتاة اليهودية التي اختفت‬ ‫يف غرفة �ضيقة خلف كني�سة وكتبت‬ ‫يومياتها قبل �أن يعرث عليها الغ�ستابو‬ ‫وي�سوقها اىل مع�سكرات الأعتقال‬ ‫النازية لتختفي مع من �أختفى يف تلك‬ ‫املع�سكرات الرهيبة‪.‬‬ ‫وميكن املقارنة بني الطابورين ال من‬ ‫حيث الطول فقط بل من حيث نوعية‬ ‫الواقفني فعند �آن فرانك التي �أختفت‬ ‫�آثارها يف ال�ساد�سة ع�شرة من عمرها‬ ‫يكرث املواهقون الذين قر�أوا مذكراتها‬ ‫يف املدار�س اما عند فان كوخ فتزيد‬ ‫الأعمار وتبدو الأناقة على �سياح من‬ ‫خمتلف القارات جاء بع�ضهم خ�صي�صا‬ ‫ليباهي بعد عودته ب�أنه زار فان كوخ ‪.‬‬ ‫يبد�أ املتحف وقبل البورتريه ال�شخ�صي‬ ‫املهيب الذي ر�سمه فان كوخ لنف�سه‬ ‫بلوحة ( كوخ هاتن ) وهو بيت ريفي‬ ‫يف بلدة (درينث) الهولندية �أقام‬ ‫فيه الفنان املحب للريف والطبيعة‬ ‫بع�ض الوقت ومنه تعلم كما يبدو‬ ‫حب الأرياف فقد كانت املدن ت�صيبه‬ ‫باالنهيار الع�صبي لذا ترى �أف�ضل‬ ‫�أعماله منجزة يف الريف وخ�صو�صا‬ ‫بلدة �آرل الفرن�سية التي عا�ش فيها مع‬ ‫غوغان قبل �أن يتخا�صما وتنبت ا�شاعة‬ ‫االذن املقطوعة املمنوحة لفتاة البار يف‬ ‫حانة تلك البلدة ‪.‬‬ ‫�أن حب كوخ لغوغان يتجلى يف لوحاته‬ ‫ف�أجمل ر�سومه و�أغالها ثمنا هذه االيام‬ ‫كلوحات عباد ال�شم�س وكر�سي غوغان‬ ‫والبيارتان البي�ضاء والزهرية و�أ�شجار‬ ‫الدراق واالجا�ص املزهرة ر�سمها كوخ‬ ‫ليزين بها غوغان غرفته �أما غرفة فان‬ ‫كوخ نف�سه فهي حمفوظة يف لوحة‬ ‫(غرفة النوم ) املتق�شفة التي عا�ش فيها‬ ‫ب�سريرها الأ�صفر وطاولتها املخلعة‬ ‫املحاطة بكر�سيني يحجب م�سنداهما‬ ‫بع�ض ثياب الفنان املعلقة على اجلدران‬ ‫ك�أي طالب فقري ال ميتلك ثمن خزانة ‪.‬‬ ‫وقد كان فان كوخ فقريا ككل �أ�صحاب‬ ‫املثل العليا ولوال م�ساعدة �أخيه ثيو ملا‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ر�سم وال عا�ش على الكفاف لكن م�أثرة‬ ‫�أنت�شاره تعود – �أحقاقا للحق – اىل‬ ‫زوجة �أخيه ( جو فان كوخ بورجر‬ ‫) فهي التي حافظت على ‪1100‬من‬ ‫ر�سومه و‪ 800‬ر�سالة من ر�سائله و‪900‬‬ ‫لوحة وكل هذا اخلليط يو�ضح خلفيات‬ ‫م�آ�سيه واليها يعود الف�ضل يف �أن�شاء‬ ‫متحفه احلايل و�سط �أم�سرتدام فلوال‬ ‫�أخال�ص هذه املر�أة الندثر فان كوخ يف‬ ‫جملة ما اندثر من �أ�صحاب املواهب يف‬ ‫كل زمان و مكان ‪.‬‬ ‫ويركز متحف الفنان تركيزا خا�صا على‬ ‫تطليق كوخ للمرحلة االجنيلية فيفرد‬ ‫جدارا كامال ليظهر كيف بد�أ االجنيل‬ ‫يختفي من عامل فان كوخ وحتل مكانه‬ ‫�أفكار الكاتب الفرن�سي �أميل زوال ففي‬ ‫�أحدى تلك اللوحات يختفي الكالم من‬ ‫�صفحات االجنيل الذي حمله من والده‬ ‫ليعطيه لأخيه لكن رواية �أميل زوال (‬ ‫متعة العي�ش ) تظهر بو�ضوح بغالفها‬ ‫القدمي الأ�صفر الذي يعر�ض املتحف‬ ‫ن�سخة منهاىل جانب �أجنيل الفنان‬ ‫داخل جام من الزجاج قريب من لوحات‬ ‫املرحلة الأجنيلية ‪.‬‬ ‫وال يعادل الزحام عند اللوحات‬ ‫الأجنيلية غري الزحام عند لوحته‬ ‫ال�شهرية ( �آكلو البطاطا ) التي تلخ�ص‬ ‫بوجوه �أ�صحابها وفانو�سهم ال�شحيح‬ ‫اال�ضاءة ب�ؤ�س قرن ب�أكمله ثم يخف‬ ‫الزحام ليعود �أكرث اكتظاظا عند مرحلة‬ ‫�آرل الفرن�سية و�سان رميي التي دخل‬ ‫فيها الفنان اىل امل�صحة وبد�أ حينها‬ ‫بر�سم عدة بورتريهات لطبيبه الدكتور‬ ‫غا�شيت الذي �أ�شرف على عالجه من‬ ‫مر�ض ال�صرع الذي يقف كما يعتقد‬ ‫النف�سانيون وراء نوبات اكتئابه التي‬ ‫قادته اىل االنتحار ‪.‬‬ ‫كان من يخالفون هذا الر�أي يقولون‬ ‫ملاذا البحث عن مر�ض بعينه والفنان‬ ‫يعرتف بقلمه �أن ف�شله من النوع‬ ‫املزمن الذي ال عالج له لذا ابرز منظمو‬ ‫املتحف يف بداية معرو�ضات متحفه‬ ‫عبارته التي كتبها قبل فرتة ق�صرية‬ ‫من �أنتحارة حني خط بقلمه ذلك القول‬ ‫املم�ض احلزين ( �أين اح�س �أح�سا�س‬ ‫ان�سان فا�شل و�أ�شعر �أن الف�شل هو‬ ‫قدري احلقيقي وال �سبيل لتغيريه )‬ ‫وبعد هكذا �أح�سا�س كان البد من �أن‬ ‫ت�أتي الر�صا�صة التي �صنعت نهاية فنان‬ ‫كبري �أغرتب عن �أهل ع�صره ووجد‬ ‫العزاء يف الري�شة وااللوان ملبيا نداء‬ ‫الفن مع �أنه مل يتعلمه يف �أية مدر�سة‬ ‫لكنه كان يح�س كما قال يف �أحدى‬ ‫ر�سائله التي يبتدئ بها املتحف ب�أنه‬ ‫يجب �أن يرتك ذكرى خمتلفة لالن�سانية‬ ‫وهذاعني ما فعله فكل ما يف متحفه‬ ‫يحكي ق�صة �صراع االن�سان مع ظروف‬ ‫�أقوى منه يقاتلها اىل �أن يتعب وقبل‬ ‫�أن يختفي يقول ملن ي�أتي بعده ر�سما‬ ‫وكتابة �أو مو�سيقى ‪� :‬أ�شهد �أين ع�شت‬ ‫وحاولت �أن �أجعل احلياة �أكرث جماال‬ ‫مما هي عليه فعذرا �أن مل �أ�ستطع ‪.‬‬ ‫وعودة اىل البورتريه ال�شخ�صي‬ ‫يف بداية املتحف ال بد من �أن ت�شاهد‬ ‫العني املدربة كيف كانت ري�شة الفنان‬ ‫ب�ضرباتها الرهيفة تتجه اىل الأعلى‬ ‫لتخلق هالة حول ر�أ�سه ت�شبه الهالة‬ ‫التي ير�سمها فنانو القرون الو�سطى‬ ‫حول ر�أ�س امل�سيح عليه ال�سالم فهل‬ ‫كان فان كوخ يح�س ب�أنه �أحد �أنبياء‬ ‫الفن احلديث ؟ رمبا نعم ورمبا ال‬ ‫لكن �أعجاب الب�شرية بفنه الراقي‬ ‫واملتعاطف مع ما حوله رغم م�آ�سيه‬ ‫ي�سمح له ب�أن يحتل ذلك املوقع‬ ‫الرفيع‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫فان كوخ‪ :‬عشق‬ ‫مجنون للطبيعة‬ ‫ترجمة‪ :‬د‪�.‬سند�س فوزي فرمان‬ ‫دمر فان كوخ حياته بالكامل‪ ،‬وكان موته �صورة م�شابهة لأعماله‬ ‫حيث جاء هذا املوت عنيفا وقطعيا‪ .‬فقد �أطلق ر�صا�صة على �صدره‬ ‫يف حقل احلنطة القريب من باري�س وذلك يف ‪ 27‬متوز ‪.1890‬‬ ‫و�أ�سدل ال�ستار عليه بعد يومني من احلادث‪.‬‬ ‫�أ�سطورة فان كوخ مازالت قائمة‪ ،‬ف�صورة الر�سام غري املحبوب‬ ‫والذي اجربه القدر على العي�ش على نفقة �أخيه تيو هي واحدة من‬ ‫الق�ص�ص التي حتطم الرقم القيا�سي اليوم‪� .‬أما �أعمال فان كوخ فهي‬ ‫م�ؤثرة جدا وذلك خل�صوبتها البالغة فلي�س هناك �أدنى تدبر موجه‬ ‫بل هناك تدفق وهناك مواجهة مع احلياة بكل غناها وعطائها‪� .‬أنت‬ ‫حت�س �أمام لوحاته مباء احلياة احلقيقي احلي وبالقوة الهائلة التي‬ ‫تنبعث من النجوم التي ير�سمها‪ .‬تتفجر الألوان ك�صرخة فهناك‬ ‫امل�ساحات امل�سطحة من الكوبالت (الأبي�ض الف�ضي) والقرمزي ؛‬ ‫وعلى اخل�صو�ص وقبل كل الألوان هناك الأ�صفر وهو اللون املف�ضل‬ ‫من بني جميع الألوان لدى فان كوخ‪ .‬فنحن نرى الأ�صفر من لوحة‬ ‫«�سهل كرو» �إىل لوحة «قهوة امل�ساء» ومرورا بلوحة «عباد ال�شم�س»‪.‬‬ ‫وي�ضع فان كوخ هذا اللون دون �أدنى حتفظ‪.‬‬ ‫خالل بحث هذا الر�سام عن املطلق نراه يهرب من كل ت�صنع ومن‬ ‫الفروقات اللونية وكذلك يرف�ض الرقة الناجمة عن ا�ستخدام التدرج‬ ‫اللوين ويرف�ضها مف�ضال عليها الديناميكية التي تنطلق من ا�ستخدام‬ ‫الألوان املتناق�ضة‪.‬‬ ‫نرى كل جنمة يف لوحاته تطلق ال�شرارة حمملة بطاقة نقية لذا‬ ‫فلي�س مده�شا �أن ينتقل ر�سام لوحة «ال�ضجر» من باري�س ويذهب‬ ‫للإقامة يف اجلنوب حيث ال�شم�س �أكرث �ضياء وتوهجا والأفق �أكرث‬ ‫�إ�شراقا والطبيعة �أكرث نب�ضا‪.‬‬ ‫ويف مدينة �آرل اجلنوبية وجدت طبيعة الفنان ال�شغوفة �أخريا ما‬ ‫كانت ت�صبو �إليه ؛ �أال وهو �شدة توهج ال�ضوء وهذا ما مل يجده ال‬ ‫يف غيوم هولندا وال يف ك�آبة �سماء باري�س‪ .‬كان فان كوخ يذهب‬ ‫دائم ًا �إىل عمق املناظر التي ير�سمها ويقرتب منها �أكرث ف�أكرث فهناك‬ ‫�شجرة ال�سرو والزيتون وحقول احلنطة و�إنه ملن اخلط�أ �أن نرى يف‬ ‫التعقفات التي تخل بف�ضاء لوحاته ك�صور هلو�سة ملخيلة مري�ضة‪.‬‬ ‫بال �شك كان فان كوخ جمنونا �إن كان لهذا املفهوم معنى حمدد‪...‬لكنه‬ ‫يف الأقل كان يتعر�ض لأزمات من اجلنون و�أدخل �إىل امل�ست�شفى عدة‬ ‫مرات وعا�ش فرتات من الإنهاك والقلق‪ .‬جنون فان كوخ لي�س النوع‬ ‫املعروف برف�ض مفهوم الواقع �إمنا هو بالأحرى هروب نحو العامل‬ ‫وبحث عن التوحد واالندماج الكثيف معه‪.‬‬ ‫يف كل لوحة من لوحاته يرتك فان كوخ نف�سه ليمتزج مع ما يراه‬ ‫را�سما بذلك ميثاق حب للعامل الذي يحيط به‪ .‬وهكذا نرى هذا‬ ‫الداعية ال�سابق خا�شعا �أمام ما هو مقد�س ؛ �أمام �سر الطبيعة‪ .‬يف‬ ‫لوحته «�سماء مر�صعة بالنجوم» يلتقط فان كوخ طاقة الكون من‬ ‫ال�سماء وميجد عظمة �شجرة ال�سرو فهل كان فان كوخ �صاحب ر�ؤى؟‬ ‫بالت�أكيد وعلى �شرط �أن نحدد ب�أنه يف ر�ؤاه يك�شف وال ي�شوه فهو‬ ‫لي�س خ�صما للعامل �إمنا متفرج خمل�ص له وكتب بهذا اخل�صو�ص‬ ‫قائال‪« :‬ال يجب �أن ن�سمع لغة الر�سام �إمنا يجب الإ�صغاء �إىل �صوت‬ ‫الطبيعة»‪ .‬كان م�سحورا متاما بجمال منوذجه‪ .‬كما �إن فان كوخ‬ ‫كان يبدي االحرتام الكبري نف�سه �إزاء حتى الوجوه التي ير�سمها‬ ‫وجند �إن الأمر �سيان عنده �سواء �إن كان الر�سم يتعلق ب�ساعي الربيد‬ ‫جوزيف روالن وقبعته التي يرتديها �أو بالفتاة الآرليزية بكتبها‬ ‫�أو بالطبيب غا�شيه جال�سا خلف �إناء فيه زهور قرمزية‪ .‬يف كل تلك‬ ‫احلاالت جند الوجوه جميعها خالية من �أي تكلف ومتيزها نظرات‬ ‫حمبة وطيبة تك�شف عن غنى نفو�س �أ�صحابها‪ .‬ا�ستخدم الر�سام‬ ‫�أ�سلوبا غريبا خالل هذا البحث للتوحد مع الطبيعة‪ .‬كر�س فان كوخ‬ ‫نف�سه للر�سم يف وقت مت�أخر ن�سبيا ومل يرتبط ب�أي مدر�سة فنية‬ ‫؛ كما �إن قطيعته مع غوغان الذي التحق به يف �آرل ر�سخت ف�شله‬ ‫يف االن�ضمام �إىل �أي جمموعة من الفنانني وبقي منغلقا على نف�سه‬ ‫ووحيدا‪ .‬وهكذا يبدو ان الإن�سان ال ي�ستطيع �أن يح�س جمال الكون‬ ‫وروعته �إال عندما يتخلى عن كل �شيء ويبتعد عن كل �شيء‪.‬‬ ‫وب�سبب هذه النار احلارقة التي عا�شت يف �أعماقه جند �إن تقنيته يف‬ ‫الر�سم تتميز ب�ضربات غري منتظمة بالفر�شاة دون منهج �أو نظرية‬ ‫فنية لكنه بهذه الطريقة كان يرتك �ضربة الفر�شاة وا�ضحة ب�شكل‬ ‫يو�ضح التفا�صيل ويعطي للألوان بعدا بال�ستيكيا حقيقيا‪ .‬وهكذا‬ ‫نكت�شف �إن اللون‪-‬املادة �أ�صبح ال�صل�صال الذي ت�صنع منه الأ�شياء‬ ‫و�إنه املادة اخلام يف الوجود‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫ترجمة‪ :‬رنده القا�سم‬

‫عندما ر�سم فن�سنت فان كوخ « حقل اخل�شخا�ش»‬ ‫عام ‪ ،1889‬مل يكن الر�سام و ال مو�ضوعه‬ ‫يثريان الكثري من االهتمام يف العامل‪ .‬فقد كان‬ ‫ر�ساما هولنديا متعبا بال �أتباع‪ ،‬وان زهوره‬ ‫احلمر ال�صفيفة‪ ،‬بالرغم من متيزها‪ ،‬مل تدل على‬ ‫�شيء ما اكرث عمقا من ان الربيع قادم‪ .‬وبعد‬ ‫ثالثني عاما‪ ،‬تغري الكثري يف كال االعتبارين‪.‬‬ ‫فقد جاءت زهرة اخل�شخا�ش لرتمز اىل الدم‬ ‫الذي �سكبه اجلنود‬ ‫ال�شباب يف �ساحات‬ ‫املعارك يف احلرب‬ ‫العاملية الأوىل‪ ،‬كما‬ ‫منت �شهرة الفنان‬ ‫ب�صورة كبرية منذ‬ ‫وفاته عام ‪.1890‬‬ ‫كان ذلك جزئيا‬ ‫ب�سبب الطريقة التي‬ ‫اثر فيها فنه على‬ ‫انطباعيي �أملانيا والنم�سا يف وقت مبكر من‬ ‫القرن الع�شرين‪« .‬ان كالمه الأجوف غريب عني»‬ ‫كما كتب الفنان ال�سوي�سري‪-‬الأملاين باول كلي‬ ‫يف مذكراته‪.‬‬ ‫«ولكنه بدون �شك عبقري‪ ».‬ان �سعة ت�أثري فان‬ ‫كوخ على االنطباعيني هو مو�ضوع املعر�ض‬ ‫الرائع اجلديد الذي �أقيم يف املتحف الذي �سمي‬ ‫با�سمه يف �أم�سرتدام‪ .‬ي�ضم « فن�سنت فان كوخ‬ ‫و االنطباعية» ما يقارب ‪ 100‬لوحة وتخطيط‬

‫كيف ألهم فان كوخ‬ ‫االنطباعيين؟‬ ‫ترجمة‪ :‬فاروق ال�سعد‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫لر�سامني من �أمثال كلي‪ ،‬وا�سلي كاندن�سكي‪،‬‬ ‫اوجني �شيلي وكو�ستاف كليمت‪ .‬اذا ما نظر‬ ‫�إليها كل على انفراد‪ ،‬فان تلك االعمال من‬ ‫الوا�ضح لي�ست مت�أثرة بالر�سام الهولندي‪ .‬و‬ ‫لكن عند تعليقها بجانب لوحاته على جدران‬ ‫م�صبوغة بعناية بالأ�صفر الأزرق والرمادي‪،‬‬ ‫فان �ضربات فان كوخ الزاهية تكون ظاهرة‬ ‫ب�سهولة يف الإ�شكال املتدفقة لالنطباعيني‪« .‬‬ ‫كان ت�أثري فان كوخ على االنطباعيني حا�سما‬ ‫ب�شكل مطلق» كما يقول منظم املعر�ض جيل‬ ‫لويد‪ « .‬بالطبع لقد ح�صلوا على �إلهامهم من‬ ‫فنانني �آخرين مثل غوغان و �سيزان‪ ،‬ولكن‬ ‫الروح‪ ،‬املوقف من الطبيعة و قوة حياة فان‬ ‫كوخ كانت تتحدث اليهم بحق‪ ».‬لقد ازدهرت‬ ‫االنطباعية يف �أملانيا والنم�سا عندما بد�أ‬ ‫الفنانون املت�أثرون بكتابات نيت�شة بر�سم‬ ‫امل�شاعر ال�شخ�صية عن امل�شاهد م�ستندين اىل‬ ‫التجربة ال�شخ�صية و املعتقدات‪ .‬ان هذه الرغبة‬ ‫يف العر�ض و لي�س للت�صوير قد قادت فنانني‬ ‫من �أمثال ارن�ست لودفيت�ش كر�شرن و ماك�س‬ ‫بي�شتاين ب�شكل طبيعي باجتاه فان كوخ ‪ ،‬الذي‬ ‫ا�ستدعت ر�سومه احلية ملثل هذه املوا�ضيع مثل‬ ‫عباد ال�شم�س نوع معني من الروحانية‪ .‬ان ك ًال‬ ‫من كري�شرن و اريك هيكي‪ -‬كال الرجلني اللذين‬ ‫�شكال املجموعة الفنية دي بريكة(اجل�سر)‬ ‫عندما كانا يدر�سان يف دريزدن‪ -‬قد �أ�صبحا‬ ‫«متوح�شني» بعد م�شاهدتهما معر�ضا ي�ضم‬

‫‪ 54‬ر�سم ًا لفان كوخ يف عام ‪ ،1905‬طبقا لأحد‬ ‫�أ�ساتذتهم‪ ،‬فريت�س �شوماخر‪ .‬ان كان هنالك‬ ‫�أي ع�ضو من جمموعة الربيكه ميتلك ت�شابها‬ ‫تراجيديا مع فان كوخ‪ ،‬فهو كري�شرن‪ ،‬الذي كان‬ ‫يعاين االنهيار عندما كان يخدم يف اجلي�ش‬ ‫الأملاين‪ .‬ان لوحته» �شلميل يحاول م�سك الظل‪،‬‬ ‫بال جدوى» (‪ )1915‬و ن�سخة من ر�سم فان‬ ‫كوخ « الر�سام على الطريق اىل تارا�سكون»‬ ‫(‪ – )1888‬كانت الن�سخة الأ�صلية قد دمرتها‬ ‫النريان يف �أثناء احلرب العاملية الثانية‪-‬‬ ‫مت�شابهتان ب�شكل الفت للنظر عندما ينظر‬ ‫�إليهما واحدة جنب الأخرى‪ .‬هنالك �شعور‬ ‫م�ضطرب ب�صدد الرجل الأزرق لكر�شرن‪ ،‬وهو‬ ‫يتعر�ض لل�سخرية من قبل ظل ا�سود‪ ،‬خميف؛‬ ‫كما ان فان كوخ الر�سام كان لديه اي�ضا ظل‬ ‫يتعقبه‪ -‬رمبا �ضمريه‪� ،‬أو الإح�سا�س امل�ستمر‬ ‫بالوحدة‪ .‬كان انطباعيو ميونخ‪ ،‬املعروفون‬ ‫با�سم دير بالوه رايرت(الفار�س الأزرق)‬ ‫ي�شعرون برهبة خا�صة �أمام وجهات نظر فان‬ ‫كوخ العميقة و املعقدة للطبيعة‪ .‬وان ا�ستخدام‬ ‫الألوان املميزة يف « حقول اخل�ضراوات»‬ ‫للر�سام �أغ�سط�س ماك (‪ )1911‬لي�ست بعيدة‬ ‫ال�شبه بلوحة فان كوخ ( الزارع»(‪. )1888‬‬ ‫فكال الفنانني خلقا حركة جارفة يف املنظور‪،‬‬ ‫وك�أن العمل على و�شك الوثوب على امل�شاهد‪.‬‬ ‫ات�سمت حقول ماك بنغمة زرقاء �أرجوانية‬ ‫قريبة اىل حقل بروفنكال اخلزامي؛ ا�ستخدم‬

‫فان كوخ زرقة م�شابهة لر�سم مياه متدفقة‬ ‫بقوة‪ .‬كان الر�سام الرو�سي املهاجر الك�سي‬ ‫فون جاولن�سكي معجبا اي�ضا‪ ،‬فبعد ان‬ ‫ا�شرتى لوحة «بيت بيري بيلون» بالتق�سيط‬ ‫من �شقيقة فان كوخ بالقانون ‪ ،‬يونانا‪ ،‬كتب‬ ‫لي�شكرها ‪ »:‬كان فان كوخ بالن�سبة يل يف �آن‬ ‫واحد امل�ست�شار و القدوة‪ ،‬وان امتالكي �شيئ ًا‬ ‫ما ر�سم من قبله كان ميثل �أعمق رغبة عندي‬ ‫منذ عدة �سنوات‪ ».‬حتى ان بع�ض �أعمال‬ ‫االنطباعيني تبدو انها تنفث حياة جديدة يف‬ ‫فان كوخ املعلق بجانبها‪ .‬ان لون الدم يف عمل‬ ‫فان كوخ « حقول الكرم يف اويرز» (‪)1890‬‬ ‫قد تعزز بتعليقها بالقرب من اثنني من املناظر‬ ‫الطبيعية العمالقة املليئة بالقوة والن�شاط‬ ‫لكلمة‪Pond of Schloss Kammer« ،‬‬ ‫‪ »on the Attersee‬و»الب�ستان» ب�ألوانها‬ ‫اخل�ضر ال�صارخة واللم�سات املتلألئة للذهب‪.‬‬ ‫وال�شيء نف�سه ينطبق على لوحة فان كوخ‬ ‫«عباد ال�شم�س» (‪ ، )1889‬التي و�ضعت بجانب‬ ‫« �شم�س اخلريف» ل�شيلي (‪ .)1914‬وبرغم ان‬ ‫االثنني يبينان النوع نف�سه من الأزهار‪� ،‬إال ان‬ ‫ت�أثريهما يختلف متاما‪ .‬بر�سمها ع�شية احلرب‬ ‫الأوربية الكربى‪ ،‬ميكن النظر اىل �أزهار �شيلي‬ ‫الذابلة على انها نذير �ش�ؤم ملا �سي�أتي‪ .‬ما زال‬ ‫فان كوخ يويل �إذنا �صاغية اىل زمن براق و‬ ‫اكرث ب�ساطة‪.‬‬ ‫عن نيوزويك‬

‫يف الثاين من �أيار ‪ ، 1889‬كتب "فين�سينت فان‬ ‫كوخ" ر�سالة لأخيه (ثيو) من م�شفى يف (�أرلي�س)‬ ‫الفرن�سية ليك�شف عن نية ال حتتمل‪� .‬إذ قرر ‪،‬و‬ ‫لأ�سباب عدة‪ ،‬ب�أن �أكرث ما ينا�سبه هو االن�ضمام‬ ‫للجي�ش ‪ .‬و �أعرب "فين�سينت" عن قلقه من رف�ض‬ ‫حماولته ب�سبب ما �أ�سماه "احلادث" و بالت�أكيد‬ ‫هذا ما كان ‪� .‬أما احلادث فهو ما وقع خالل فرتة‬ ‫�أعياد امليالد يف ال�سنة ال�سابقة ‪� ،‬إذ عانى من �أزمته‬ ‫ال�شهرية و بلغ الأمر ذروته مع قطعه لأذنه‪ .‬و بعد‬ ‫ذلك �أ�صابته �سل�سلة من االنهيارات العقلية و كان من‬ ‫بني �أعرا�ضها الهلو�سة ال�سمعية و اخلوف من �أن‬ ‫جريانه يحاولون ت�سميمه ‪.‬و �أم�ضى معظم ال�سنة‬ ‫مع مراقبة طبية‪.‬‬ ‫و لكن الغمو�ض و املفارقة يف ق�ضية فان كوخ‪ ،‬و‬ ‫هي الأ�شهر يف تاريخ الفن‪ ،‬تكمنان يف �أنه خالل‬ ‫الأ�شهر التي �أدت لهذه الكارثة بل و حتى بعد‬ ‫وقوعها با�ستثناء فرتة املعاناة احلادة‪ ،‬ا�ستمر‬ ‫فان كوخ بالعمل و ر�سم روائع فنية تعترب الأ�شهر‬ ‫عامليا مثل "كر�سي فين�سينت" و " كر�سي غوغان" و‬ ‫كالهما يف ت�شرين الثاين ‪�.1888‬إذن ما هي م�شكلة‬ ‫فان كوخ؟ و هل �ساعدته �أم �أعاقته؟ بكلمة �أخرى‬ ‫هل كانت م�شاكله العقلية مكملة ملوهبته �أم �أنها‬ ‫واحدة من امل�شاكل الكثرية التي عانى منها؟ و لكنها‬ ‫بالت�أكيد كانت ال�سبب يف رف�ض الفيلق اخلارجي‬ ‫الفرن�سي رغبته باالن�ضمام له ‪ ،‬و كان فان كوخ قلقا‬ ‫من �أن تعترب رغبته هذه ت�صرفا جمنونا �أو حماولة‬ ‫للت�ضحية بالذات ‪ ،‬و �أ�شاربحزن �إىل �إرادته العي�ش‬ ‫يف بيئة جتربه على �إتباع القواعد كما يف امل�شفى �أو‬ ‫اجلي�ش فعندها فقط �سي�شعر بالهدوء‪.‬‬ ‫و بعد �أقل من �أ�سبوع يف ‪� 8‬أيار �سمح له وفقا لرغبته‬ ‫بالدخول �إىل م�شفى الأمرا�ض العقلية و بقي هناك‬ ‫لأكرث من �سنة و غادر ليعي�ش �شمال باري�س حتت‬ ‫�إ�شراف الطبيب ‪ ،‬و هناك �أطلق بنف�سه ر�صا�صة على‬ ‫�صدره يف ‪ 27‬متوز ‪ 1890‬و مات بعد يومني و هو‬

‫يف ال�سابعة و الثالثني من عمره‪.‬‬ ‫الرتاجيديا احلادة التي غلفت حياته خلقت �صورتني‬ ‫متناق�ضتني عن فان كوخ‪ .‬فالعامة تراه فنانا بدائيا‬ ‫جمنونا ‪ ،‬يعمل وفقا لنوبات من الإلهام و ي�شرب‬ ‫امل�سكرات حتى الثمالة و يت�صرف بغرابة‪.‬و من‬ ‫جهة �أخرى يف�ضل م�ؤرخو الفن الت�أكيد على فان‬ ‫كوخ �آخر‪ :‬مفكر و قوي املالحظة �أعماله نتيجة‬ ‫لتخطيط حذر هذا عدا �أن ر�سائله تك�شف النقاب‬ ‫عن �إن�سان ذكي و ف�صيح‪.‬و الواقع �أن ال�صورتني‬ ‫حتمالن �شيئا من احلقيقة ‪.‬لأن فان كوخ قام ب�أفعال‬ ‫غريبة و لكن غري م�ؤذية وفقا ل�شهادات جريانه يف‬ ‫�أرلي�س ‪،‬و كان �سكريا و هو نف�سه حتدث عن ذلك‬ ‫و اعرتف ب�أنه و�صل لدرجة الأ�صفر الفاقع بخلط‬ ‫قهوة مع كحول‪.‬و لكنه كان يعمل ب�سرعة مده�شة و‬ ‫تباهى ب�أنه خالل �ساعة فقط ر�سم ال�سيدة جينوك�س‬ ‫زوجة �صاحب مقهى و ذلك عام ‪1888‬بداية ت�شرين‬ ‫الثاين‪ .‬غري �أنه طاملا ا�شتكى من ال�شعور ب�أن دماغه‬ ‫�أثناء الر�سم يبذل جهدا كبريا يف احل�سابات اجلافة‬ ‫لأجل املوازنة بني الألوان ‪،‬كحال ممثل ي�ؤدي دورا‬ ‫�صعبا على خ�شبة امل�سرح ‪ ،‬حيث عليك التفكري‬ ‫ب�آالف الأ�شياء يف وقت واحد خالل ن�صف �ساعة و‬ ‫لكن ال�شيء الوحيد الذي كان يعزيه و يلهيه اخلمر‬ ‫�أو الكثري من التبغ " و كل ذلك قد يبدو ت�صرفات‬ ‫بوهيمية ‪ ،‬لكن ‪،‬وفقا لر�سائله و ا�سكيت�شاته‪ ،‬كان‬ ‫فان كوخ يفكر م�سبقا بكثري من الو�ضوح‪.‬فال�سيدة‬ ‫جينوك�س عملت لأ�شهر يف الفندق الذي �أقام به و بال‬ ‫�شك قدمت له الكثري من امل�شروب ما يعني �أنه امتلك‬ ‫الكثري من الوقت للتفكري بكيفية ر�سمها قبل القيام‬ ‫بذلك فعليا و�سط نوبة من الطاقة‪ .‬والأكرث من ذلك‬ ‫�أن فان كوخ كان قارئا و يفكر بعمق و كان �شرها‬ ‫يف قراءة الروايات و اجلرائد و ب�شكل عام مييل‬ ‫م�ؤرخو الفن �إىل اعتبار م�شاكل فان كوخ العقلية‬ ‫غري ذات �صلة و ركزوا على �أعماله و كلماته ‪.‬فمن‬ ‫ال�صعوبة مبكان ت�شخي�ص حالة رجل مات قبل مائة‬ ‫و ع�شرين عاما‪.‬و لكن هذا مل يحول دون حماوالت‬ ‫كثرية نتج عنها افرتا�ضات متفاوته مثل ‪ :‬ت�سمم‬

‫بالر�صا�ص ‪ ،‬الهلو�سة ‪،‬داء ميينيري‪� ،‬ضربة �شم�س‬ ‫حادة ‪�،‬شيزوفرينيا ‪ ،‬الزهري‪ ،‬ال�صرع‪ ،‬عدم توازن‬ ‫يف الهرمونات �أو ا�ضطراب يف ال�شخ�صية‪.‬و لكن‬ ‫هل من طريقة للحد من هذه االفرتا�ضات الطبية؟‬ ‫رمبا ‪ ،‬و لكن ال ميكن �أن ننكر وجود م�شكلة را�سخة‬ ‫و م�ستمرة �أتعبت فان كوخ كما قال هو نف�سه‪.‬‬ ‫و باملقايي�س التقليدية‪ ،‬كانت حياته غريبة الأطوار‪،‬‬ ‫ف�أبوه كاهن هولندي قرر �أن يعمل ابنه الأكرب‬ ‫فين�سينت يف جتارة الفن غري �أنه ترك هذه املهنة‬ ‫و اتبع خط �أبيه ‪ ,‬و لكنه مل يكمل حماولته بتعلم‬ ‫الالهوت و عو�ضا عن ذلك �أ�ضحى واعظا يف مناجم‬ ‫الفحم البلجيكية و مل يكن ميلك امل�ؤهالت يف‬ ‫املدر�سة التب�شريية و رغم ذلك تابع الوعظ �إىل �أن مت‬ ‫طرده‪.‬و ا�ستمر بالعمل التطوعي �إىل �أن قرر �أخريا‬ ‫�أن يغدو ر�ساما‪.‬و املذهل �أنه خالل ال�سنوات الع�شر‬ ‫الأوىل رغم بدايته غري امل�ستقرة و املفتقدة للتدريب‬ ‫�أبدع واحدة من �أهم الأعمال يف الفن الغربي‪.‬و �إىل‬ ‫حد ما مللم الفن �شتاته و ميكن القول ب�أن اجلهود‬ ‫اليومية للفت انتباهه للواقع ‪ ،‬على �سبيل املثال‬ ‫ر�سمه للكر�سي‪،‬كانت عملية عالجية حتى و �إن كان‬ ‫الأمر ينتهي به �إىل زجاجة اخلمر‪.‬و ا�ستمر فان كوخ‬ ‫ببذل اجلهود با�ستثناء الأوقات التي كانت حالته‬ ‫العقلية يف احل�ضي�ض ‪.‬و هنا نتحدث عن جانب �آخر‬ ‫يف م�شكلته و هي �أنها كانت متقطعة فبعد �أيام من‬ ‫الأزمات احلادة يعود الجناز روائعه‪ .‬و هذا الأمر‬ ‫قد يفرت�ض �إ�صابته باالكتئاب املهوو�س �أو ما ي�سمى‬ ‫هذه الأيام باال�ضطراب ثنائي القطب‪�.‬إذ كان مير‬ ‫بفرتات اكتئاب يتلوها فرتات من الطاقة و االبتهاج‪.‬‬ ‫ولكن يبقى ال�شيء الأكيد بان امل�شاعر التي كان يرى‬ ‫فيها الأ�شياء العادية و ي�صورها تعرب عن حالة من‬ ‫الي�أ�س مع حماوالت لربط نف�سه بالواقع ‪ .‬فان كوخ‬ ‫مل يكن فنانا جمنونا و لكن ر�سام عظيم جدا خا�ض‬ ‫حربا داخلية �ضد اجلنون‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫فان كوخ‬

‫‪ ..‬حرب ضد الجنون‬

‫عن ‪The Times‬‬

‫م����ن ال������ذي ق���ط���ع أذن ف�����ان ك����وخ؟‬ ‫ثمة كثري من الق�ص�ص والألغاز التاريخية مل ميط اللثام عنها حتى‬ ‫اليوم‪ ،‬ومنها ما اعرتاها التلفيق والت�ضليل والت�ضخيم‪ .‬وتبقى‪ ،‬ق�صة‬ ‫�أو م�أ�ساة الفنان الهولندي ال�شهري فان كوخ واحدة منها‪ .‬وهناك الكثري‬ ‫من الروايات املختلفة لها‪ ،‬غري �أن �أحدثها هو ما ظهر يف كتاب من ت�أليف‬ ‫هان�س موفمان‪ ،‬وريتا ويلد غانز من جامعة هامبورغ‪ ،‬والتي تلقي جانب ًا‪،‬‬ ‫�أو ت�ضع رواية يف �سل�سلة الروايات املتعددة حول م�أ�ساة ذاك الفنان‪.‬‬ ‫�إنه‪ ،‬وكما يعرف بالعبقري املعذب‪ ،‬الذي كان قد قطع �أذنه بنف�سه‪ ،‬بينما‬ ‫كان يعاين من اعتالل عقلي‪ ،‬بعد انهيار عالقة �صداقة جمعته مع فنان من‬ ‫زمالئه‪ .‬لكن درا�سة جديدة تزعم‪ ،‬ب�أن فين�سنت فان كوخ ميكن �أن يكون‬ ‫قد لفـّق الق�صة ليحمي �صديقة الر�سام بول غوغوين‪ ،‬الذي كان هو الذي‬ ‫قطعها ب�سيف خالل �إحدى املناق�شات احلادة فيما بينهما‪ .‬ويقول م�ؤرخ‬ ‫الفن الأملاين‪ ،‬ب�أن الرواية احلقيقية للأحداث مل تظهر‪ ،‬طاملا �أن ال�صديقني‬ ‫حافظا على «اتفاق �صمت»‪ ،‬فغوغوين �أراد تفادي امل�ساءلة القانونية‪،‬‬ ‫بينما كان فان كوخ يحاول‪ ،‬وعلى نحو عبثي‪ ،‬املحافظة‪ ،‬على �صديق كان‬ ‫قد �أغرم به على نحو يائ�س‪.‬‬ ‫ويزعم هان�س كوفمان وريتا ويلدغانز يف كتابهما‪�« ،‬أذن فان كوخ‪ :‬بول‬ ‫غوغوين واتفاق ال�صمت»‪ ،‬ب�أن ما حدث كان جراء هجوم بال�سيف‪،‬‬ ‫ولي�س ب�سبب نوبة جنون من فان كوخ‪ ،‬التي قادته �إىل االنتحار بعد ذلك‬ ‫ب�سنتني‪.‬‬ ‫والرواية ال�سائدة حالي ًا‪ ،‬هي �أن الهولندي الذي ر�سم لوحة عباد ال�شم�س‪،‬‬ ‫و�آكلي البطاط�س‪ ،‬قد نزف حتى املوت تقريب ًا‪ ،‬بعد �أن قطع �أذنه مبو�س‬ ‫يف نوبة جنون يف ليلة الثالث والع�شرين من دي�سمرب‪/‬كانون الأول من‬ ‫عام ‪ .1888‬ويقال ب�أنه لفـّها بقطعة من قما�ش‪ ،‬و�أهداها لعاهرة يف مبغى‬ ‫بعد ذلك‪ .‬وعلى �أية حال‪ ،‬ف�إن العمل اجلديد‪ ،‬الذي ن�شره خرباء يف جامعة‬ ‫هامبورغ يعطي رواية خمتلفة متام ًا‪.‬‬ ‫كان غوغوين املبارز البارع‪ ،‬يخطط لرتك « البيت الأ�صفر» لفان كوخ يف‬ ‫�آرل�س‪ ،‬يف جنوب غرب فرن�سا‪ ،‬بعد �إقامة غري طيبة‪ .‬لقد هجر املنزل مع‬ ‫�أمتعته و�سيف املبارزة‪ ،‬الذي يثق به كثري ًا‪ ،‬يف يده‪ ،‬غري �أن فان كوخ‬ ‫امل�ضطرب حلق به‪ ،‬بعد �أن كان قد رماه بك�أ�س يف وقت مبكر‪ .‬لقد تفاقم‬ ‫اخلالف‪ ،‬بينما كاد الثنائي �أن ي�صال �إىل بوردولو‪ ،‬فقام غوغوين بجز‬ ‫�شحمة �أذن فان غوخ املتبقية ب�سيفه‪ ،‬ورمبا بنوبة غ�ضب �سابق ويف حال‬ ‫من الدفاع عن النف�س‪ .‬وبعد ذلك قذف ال�سالح يف «الرين» ‪. Rhône‬‬ ‫بينما قام فان كوخ بتقدمي الأذن �إىل عاهرة يف ماخور‪ ،‬وتهادى عائد ًا‬ ‫للبيت‪ ،‬حني اكت�شفه البولي�س يف اليوم التايل‪ ،‬طبق ًا للك�شف اجلديد‪.‬‬

‫�إعداد‪ :‬ن�ضال نعي�سة‬

‫وبدون �أدنى �شك ف�إن غوغوين كان يقيم بالفعل مع فان كوخ‪ ،‬ولكن معظم‬ ‫اخلرباء يعتقدون ب�أنه كان قد اختفى قبل حادثة الأذن‪.‬‬ ‫ورغم �أن امل�ؤرخني ال يلج�ؤون �إىل نظرية « م�سد�س الدخان»‪ ،‬لدعم‬ ‫مزاعمهم‪،‬غري �أنهم ي�ساجلون ب�أن نظريتهم هي التف�سري الأكرث منطقية‪،‬‬ ‫وي�شرحون ملاذا كتب فان كوخ يف �آخر كلماته املكتوبة لغوغوين‪� « :‬أنت‬ ‫يف حال ال�سكون الآن‪ ،‬و�أنا �س�أكون كذلك‪� ،‬أي�ض ًا»‪.‬‬ ‫وي�ست�شهدون‪� ،‬أي�ض ًا‪ ،‬باملرا�سالت التي متت بني فين�سنت و�شقيقه‪ ،‬ثيو‪،‬‬ ‫والتي يلمح فيها الر�سام �إىل ما ح�صل بدون انتهاك لـ « اتفاق ال�صمت»‬ ‫املربم مع �صديقه البعيد‪ .‬ويذكر فيها طلب غوغوين ا�ستعادة قناع‬ ‫املبارزة‪ ،‬والقفازات من �آرلي�س‪ ،‬ولكن من دون ال�سيف‪� .‬إىل هذا �أخرب‬ ‫كوفمان �صحيفة الدايلي تلغراف‪ « :‬حل�سن احلظ‪� ،‬إنه لي�س لدى غوغني‬ ‫بندقية �آلية‪� ،‬أو �سالح ناري‪ ،‬لأنه �أقوى منه‪ ،‬ولأن عواطفه �أقوى»‪ .‬وهو‬ ‫بذلك ي�شري �إىل ق�صة فرن�سية يعتقد الراوي فيها �أنه هو من قام بقتل‬ ‫�صديقه وذلك عن طريق قطع حبل الت�سلق الذي ي�صلهما ببع�ض‪.‬‬ ‫بعد ذلك يخاطب نف�سه‪ « :‬مل يرين �أحد �أرتكب جرميتي‪ ،‬وال �شيء مينعني‬ ‫من اختالق ق�صة من املمكن �أن تخفي احلقيقة‪ ،‬كما يقول ال�سيد كوفمان‪.‬‬ ‫«كانت هذه هي ر�سالته لأخيه»‪.‬‬ ‫وي�شري �أي�ض ًا �إىل �إحدى لوحات فان كوخ الت�شكيلية‪ ،‬وهي الأذن‬ ‫وعليها كلمة «وخزة»‪ ،‬التي ت�ستخدم يف املبارزة‪ .‬ويعتقد امل�ؤلفون ب�أن‬ ‫التعريجات الغريبة فوق الأذن ترمز �إىل ما ي�شبه �ضربة �سيف غوغوين‪.‬‬ ‫ويجادل امل�ؤرخون ب�أنه رغم �أن فان كوخ كان يعاين من نوبات جنون‪،‬‬ ‫ف�إنه مل يكن قد مر ب�أي منها يف هذه املرحلة من حياته‪.‬‬ ‫«لقد كان هذا حم�ض دعائية‪ ،‬وجزءا من �إ�سرتاتيجية غوغوين للدفاع عن‬ ‫النف�س‪ ،‬ولكن تلك كانت �صدمة مل يرب�أ منها فين�سنت �أبد ًا‪ ،‬و�أدت �إىل ترد‬ ‫يف مر�ضه ما مهد الطريق النتحاره»‪ ،‬كما قال ال�سيد كوفمان‪ .‬لكن بع�ض‬ ‫اخلرباء مبتحف فان كوخ يف �أم�سرتدام ال يتفقون بالر�أي مع مزاعم‬ ‫امل�ؤلفني‪ .‬غري �أن نينا زمير‪ ،‬امل�س�ؤولة عن معر�ض رئي�سي لفان كوخ يف‬ ‫مدينة بازل‪ ،‬كانت متيقنة ب�شكل �أقل‪� ،‬إذ �أخربت �صحيفة الفيغارو‪« :‬‬ ‫رمبا كانوا على �صواب‪ ،‬ولكن كل الفر�ضيات ال�صاحلة تفتقر �إىل الدليل‬ ‫املادي»‪ .‬ال �شك يف �أن حتى هذه الرواية مل تكن مقنعة مبا فيه الكفاية‪،‬‬ ‫وبني هذه وتلك رمبا ت�ضيع احلكاية‪ ،‬وحتى جالء احلقيقة‪ ،‬فنحن بانتظار‬ ‫رواية جديدة �أخرى‪.‬‬

‫عن احلوار املتمدن‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2020‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )22‬كانو ن الثاين ‪2011‬‬

‫رسائل تبوح بمشاعر فان كوخ وروحه‬

‫الكتاب‪ :‬ر�سائل فن�سنت فان كوخ‬ ‫ترجمة‪ :‬ابت�سام عبد اهلل‬ ‫ذلك الفراغ‪ ،‬فان هذه الطبعة ا�ستغرق اعدادها ‪� 15‬سنة‪،‬‬ ‫كتب فن�سنت فان كوخ عن تقييمه لذاته‪ « ،‬انا رجل منفعل‬ ‫مع اعادة ترجمة كل ر�سالة (كتب فان كوخ بالهولندية‬ ‫ذو �أهواء‪ ،‬قادر او م�ؤهل لفعل امور حمقاء‪ ،‬ا�شعر حيالها‬ ‫والفرن�سية واالنكليزية)‪ ،‬مع تقدمي لوحاته وتخطيطاته‬ ‫بعدئذ باال�سف»‪ .‬وعلى �ضوء املعلومة الوحيدة التي‬ ‫او جميع اعماله الطباعية (ليثوغراف)‪ .‬ان خطوط فان‬ ‫يعرفها كل رجل او امر�أة او حتى طفل على االر�ض عن‬ ‫كوخ و�أحرفه وتخطيطاته‪ ،‬وا�ضحة على ورق من النوع‬ ‫فان كوخ – تلك التي تقول انه اقتطع جزء ًا من اذنه يف‬ ‫نوبة من اجلنون – فان ذلك التقييم الذاتي يبدو نوعا من الرخي�ص‪ ،‬قد ا�صفر لونه مبرور الزمن وكان نتيجة ذلك‬ ‫العمل مده�شا يثري االعجاب لتقدميه �صورة عن الفنان‬ ‫التنب�ؤ واي�ضا غري وافية‪.‬‬ ‫يف �شبابه‪ .‬ولد فن�سنت فان كوخ يف الثالثني من �آذار عام‬ ‫وتلك العبارة‪ ،‬التي كتبها قبل انتحاره (اطلق النار على‬ ‫‪ ،1853‬وهو االبن االكرب ل�ستة اطفال للق�س ثيودورو�س‬ ‫�صدره) وقبل ثالثة ا�شهر من قرار والده بو�ضعه يف‬ ‫فان كوخ وزوجته �آنا كورنيليا‪ .‬وقام الوالدان برتبية‬ ‫م�صحة لالمرا�ض العقلية‪ ،‬ال تفيده عذرا ملحا�سبة الذات‬ ‫اوالدهما ب�شكل ح�سن‪ ،‬مع احلر�ص على رباط العالقات‬ ‫و�سرب اغوارها‪ ،‬بل انها تعترب نوعا من تعذيب الفنان‬ ‫العائلية �ضمن اال�سرة‪« :‬ان االح�سا�س ب�أ�صلنا وواحدنا‬ ‫لنف�سه‪ .‬ان هذه الطبعة ثقيلة الوزن الكرث من ‪ 800‬ر�سالة‬ ‫بالآخر كان من ال�شدة بحيث ان القلب يثب باالح�سا�س‬ ‫تظهر ان فان كوخ مل يكن مثل �سيلفيا بالث‪ ،‬ولكنها ت�ؤكد‬ ‫ت�أثره بزوال و�إليوت وخا�صة بق�صائده املعنونة‪« ،‬م�شاهد احيانا»‪ ،‬وهذا ما كتبه فان كوخ يوما اىل �شقيقه االقرب‬ ‫من حياة كاهن»‪ .‬وعندما فارق فان كوخ احلياة‪ ،‬كان يف الـ اليه ثيو‪ .‬لكننا ال ن�ستطيع ف�صل ما ورثه االبناء عن‬ ‫الوالدين‪ .‬اثنان من ثالثة ابناء قاما باالنتحار يف �سن‬ ‫‪ 37‬من عمره‪ ،‬خارج �إطار الر�سامني املحدثني الذين جتد‬ ‫الثالثني‪ ،‬واثنان من اوالدهما ا�صيبا باجلنون اما ابنتهما‬ ‫اعمالهم اقباال من اجلمهور‪ ،‬وترك بعد وفاته جمموعة‬ ‫من لوحاته ا�ضافة اىل عدد كبري من الر�سائل‪ .‬كان ال�شاعر ال�صغرى ويليامني فقد ام�ضت اربعة عقود يف م�صح‬ ‫عقلي‪ .‬كانت عائلة فان كوخ تنتمي اىل الطبقة الو�سطى‪،‬‬ ‫�أودن‪ ،‬الذي قال‪« ،‬هناك ر�سالة واحدة فقط لفان كوخ‪ ،‬مل‬ ‫مع عالقات جيدة يف املجتمع‪ ،‬منهم اخلال «�سينت» وكان‬ ‫ت�سحرين «‪ .‬ور�سائل الفنان طبعت للمرة االوىل خالل‬ ‫العام الذي تال وفاته‪ .‬اما الطبعة اجلديدة لها والتي تت�ألف ع�ضوا يف جمموعة تتعامل مع الفنون‪ .‬وكانت لل�شركة‬ ‫(غوبل) فروع يف بروك�سل ولندن وهولندا‪ .‬وبدء ًا من‬ ‫من �ستة اجزاء فهي التي ب�إمكاننا القول �إنها الكاملة‪،‬‬ ‫عام ‪ ،1869‬ام�ضى فن�سنت �سبعة اعوام يف فروعها‪ ،‬قبل‬ ‫وتت�ضمن جميع الر�سائل اخلا�صة به وجمموعها ‪902‬‬ ‫االنتقال مع التذمر واال�سف اىل عامل جتارة الفن‪ .‬منذ‬ ‫ر�سالة كتب منها كوخ ‪ .819‬وهناك فراغات وا�ضحة‪ ،‬اذ‬ ‫اوائل اعوامه‪ ،‬كان ثيو ال�شقيق الذي ي�صغره باربعة‬ ‫ال توجد اي ر�سالة من واىل كي فو�س‪ ،‬ابنة العم التي‬ ‫اعوام االقرب اليه وقد عمل ثيو اي�ضا مع �شركة غوبل‪،‬‬ ‫قرر الفنان – دون رغبتها الزواج منها والتوجد اي�ضا‬ ‫يف فرع بروك�سل عام ‪ .1873‬كانت ر�سائل فن�سنت اىل‬ ‫مرا�سالت فان كوخ مع احد اقربائه – انطون موف –‬ ‫�شقيقه‪ ،‬بادئ االمر‪ ،‬من نوع ما يكتبه ال�شقيق االكرب‬ ‫والذي كان يف زمن ما معلمه للفنون‪ .‬ومع عدم ملء‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫اىل اال�صغر‪ .‬ومع مرور‬ ‫الزمن‪ ،‬تغري اال�سلوب‪،‬‬ ‫مع التغيريات التي‬ ‫احاطت بظروف فن�سنت‪،‬‬ ‫وتغريت االدوار اي�ضا وخالل‬ ‫االعوام الع�شرة التي ا�صبح فيها‬ ‫فن�سنت ر�سام ًا كان ثيو هو الواقف‬ ‫يف اخللف‪ ،‬داعما اياه – بالت�شجيع‬ ‫وبار�سال مبلغ من املال‪ ،‬الذي مع توا�ضعه‪ ،‬كان‬ ‫املال الوحيد الذي ميتلكه فان كوخ‪ .‬وكتب فن�سنت اىل‬ ‫�شقيقه با�ستمرار مرتني يف اال�سبوع‪ ،‬ور�سائل طويلة‬ ‫ومتنوعة وان�سانية‪ .‬اما والده ووالدته فكانا يهتمان‬ ‫كثريا بكتابة الر�سائل‪ ،‬وكانا ي�أمالن ان ي�شاركهما االوالد‬ ‫يف هذه العادة التي كادت تختفي يف االعوام االخرية من‬ ‫القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬معتربين ان تناق�ص اعداد الر�سائل‬ ‫املتبادلة بني افراد العائلة دليل على حدوث امر ما �سيىء‬ ‫بينهم‪ .‬وفعل فن�سنت وثيو ذلك‪ ،‬وغدت الر�سائل و�سيلتهما‬ ‫يف دوام عالقتهما والر�سائل التي كتبها فان كوخ يف‬ ‫املرحلة التي بد�أ ير�سم فيها وخالل االعوام الثالثة التي‬ ‫�سبقتها‪ ،‬عندما كان خاللها متدينا جد ًُا‪ ،‬كان يعرب فيها‬ ‫عن رغبته بان يتم تعيينه يف ار�سالية دينية‪ .‬والر�سائل‬ ‫التي تت�ضمنها الطبعة احلديثة تغطي االعوام الـ ‪ 18‬ما‬ ‫بني ‪ .1890-1872‬انها مبثابة متابعة لتقدم فان كوخ‬ ‫من �شاب يبيع اللوحات اىل فنان (غري معروف) عبقري‬ ‫ويف مرحلة تدينه ال�شديد‪ ،‬كان يتحدث مع �شقيقه ثيو عن‬ ‫الله ويتحدث مع الآخرين عن الفنون‪ .‬والر�سائل التي‬ ‫تخ�ص فن فان كوخ‪ ،‬ت�شتمل على �صور للوحات التي كان‬ ‫ي�شري اليها‪ .‬وهذا امر ي�ساعد القارئ‪ ،‬على متابعة تقدمه‪.‬‬

‫والتغيريات التي �شملت‬ ‫عمل فن�سنت فان كوخ‬ ‫كانت كثرية فهناك بدايات‬ ‫عديدة كاذبة‪ ،‬منها املرحلة‬ ‫التي عمل فيها مدر�سا يف‬ ‫رام�سغيت وتلك التي كان واعظ ًا‬ ‫يف منطقة بورينيج يف بلجيكا‪.‬‬ ‫كانت الوحدة حتيط به‪ ،‬الوحدة واملتاعب‬ ‫وم�صادر �إثارة الهياج‪ ،‬واي�ضا احلاجة اىل ال�صداقة‬ ‫التي افتقدها با�ستمرار «ان االفكار احلزينة او املخيبة‬ ‫للآمال هي التي تقو�ضنا اكرث من احلياة امل�ستهرتة لذلك‬ ‫ال�سبب جند انف�سنا منتلك قلوبا م�ضطربة»‪ .‬ان كتاب‬ ‫ر�سائل فان كوخ �صدر بـ ‪� 2000‬صفحة (ب�أجزائه ال�ستة)‪،‬‬ ‫هي تت�ضمن عبارات الدعابة او ال�سخرية بني فان كوخ‬ ‫و�شقيقه‪ ،‬خا�صة تلك التي تتعلق بطلب النقود‪ ،‬او ت�أخر‬ ‫ثيو يف ار�سالها‪ .‬وت�شري الر�سائل اي�ضا اىل ت�آكل العالقة‬ ‫عاما بعد �آخر‪ ،‬بني فن�سنت مع ا�صدقائه او عائلته‪ ،‬ب�سبب‬ ‫عدم ق�ضائه الوقت معهم‪ .‬ان ر�سائل فان كوخ �ستجذب‬ ‫جمهورا من القراء‪ ،‬لهم اهتمامات خمتلفة‪ .‬لكن جملة‬ ‫واحدة كتبها الفنان يف �صيف ‪� ،1882‬ستثري م�شاعر كل‬ ‫واحد منهم‪« :‬ماذا انا يف اعني اغلب النا�س؟ ال�شيء‪ ،‬نكرة‪،‬‬ ‫او �شخ�ص غري مقبول‪ ....‬باخت�صار �شيء ادنى من االدنى‬ ‫«‪ .‬وكان فن�سنت خمطئا اي�ضا‪� .‬أما ر�سائل الفنان ال�شعرية‬ ‫الرومان�سية جلارته ثم خطيبته فيما بعد فاين براون‪ ،‬فهي‬ ‫من اجمل وا�شهر ر�سائل احلب املكتوبة‪ ،‬بالرغم من ان‬ ‫اجاباتها عليها‪ ،‬غري موجودة‪ ،‬ب�سبب �إحلاح فن�سنت على‬ ‫اتالفها بعد موته‪.‬‬ ‫عن ال�صنداي تاميز‬

‫‪2011222020‬‬

‫‪Vincent‬‬

‫‪manarat‬‬

‫فان كوخ‪:‬‬

‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫تمازج الضوء واللون والروح‬ ‫ابراهيم العري�س‬ ‫مل يكن من ال�سهل ابد ًا‪ ،‬حتديد ما الذي كان فن�سنت فان غوغ‬ ‫يتوخاه من ر�سم النجوم يف عدد كبري من لوحاته «الليلية»‪،‬‬ ‫بال�شكل الذي كان ير�سمها فيه‪ :‬م�ضخمة‪ ،‬تربق يف �شكل‬ ‫ا�ستثنائي‪ ،‬قريبة من بع�ضها البع�ض و�سط �سماوات �صيفية‬ ‫غامقة اللون‪ .‬كانت الزمة النجوم تعود يف معظم تلك اللوحات‪،‬‬ ‫ال �سيما منها لوحات ر�سمها فان غوغ خالل فرتة من ال�سنني‬ ‫مكثفة بني العامني ‪ 1888‬و‪ ،1889‬مع مالحظة ال تخلو من‬ ‫غرابة وهي ان الفنان حني ر�سم يف العام ‪ ،1890‬لوحته التي‬ ‫�ستنال �شهرة كبرية يف ما بعد (لوحة كني�سة اوفبري – �سور –‬ ‫واز) جاءت ال�سماء فيها‪ ،‬على رغم ليليتها و�صفائها – الداكن‬ ‫على �أية حال – خالية من النجوم يف �شكل غري معتاد ويدفع‬ ‫اىل الت�سا�ؤل‪ .‬والالفت ان هذه اللوحة التي كانت من �آخر ما‬ ‫ر�سم فان غوغ قبل انتحاره‪ ،‬ال ت�شي ب�أي ب�أ�س �أو ت�شا�ؤم لديه‪،‬‬ ‫خ�صو�ص ًا اذا اخذنا يف االعتبار الكيفية التي بها‪ ،‬عك�س فان‬ ‫غوغ لون ال�سماء يف النوافذ الزجاج للكني�سة‪ .‬مهما يكن فان ما‬ ‫نحن يف �صدده هنا امنا هو ح�ضور النجوم املكثف يف لوحات‬ ‫الفنان ولي�س غيابها‪.‬‬ ‫هذا احل�ضور يتجلى‪ ،‬اذ ًا‪ ،‬يف عدد كبري من اللوحات‪ ،‬تبدو فيها‬ ‫ال�سماء مر�صعة بها وك�أنها م�صابيح تتلألأ‪ ،‬حميلة لون ال�سماء‬ ‫ازرق فاحت ًا‪ ،‬يف �شكل يتناق�ض متام ًا مع عتمة جزء كبري من‬ ‫امل�شهد‪ .‬وهذا ما ميكننا ان نالحظه‪ ،‬يف �شكل خا�ص‪ ،‬يف لوحة‬ ‫«مقهى الر�صيف لي ًال» التي ر�سمها فان غوغ يف مدينة �آرل يف‬ ‫اجلنوب الفرن�سي‪ ،‬خالل �شهر ايلول (�سبتمرب) ‪ ،1888‬وهو‬ ‫ال�شهر الذي ر�سم خالله عدد ًا كبري ًا من اروع لوحاته‪ .‬ومع هذا‬ ‫ميكن النظر يف هذه اللوحة‪ ،‬التي بالكاد يزيد ارتفاعها عن ‪80‬‬ ‫�سم‪ ،‬وعر�ضها عن ‪� 65‬سم‪ ،‬باعتبارها واحدة من اجمل ما اجنز‪،‬‬ ‫بخا�صة انها لوحة زاخرة بحياة ليلية تبدو متناق�ضة متام ًا مع‬ ‫تلك العتمة التي ت�شغل مكان املركز من اللوحة‪ ،‬حيث الزقاق‬ ‫امل�ؤدي من ال�ساحة املركزية يف اللوحة‪ ،‬اىل خلفيتها ال�ضائعة‬ ‫و�سط تلك العتمة‪ .‬والالفت هنا هو ان فان غوغ‪ ،‬من دون ان‬ ‫ميكن ذلك اجلزء املعتم من اال�ستفادة من �ضوء النجوم ال�ساطع‬ ‫الرباق‪ ،‬ا�سبغ على جدران الزقاق �ضوء ًا �آتي ًا من النوافذ‪ ،‬جاء‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫‪15‬‬

‫ يف حقيقة االمر – متجاوب ًا مع م�صادر ال�ضوء االخرى يف‬‫اللوحة موازي ًا لها‪.‬‬ ‫مهما يكن ف�إن هذه اللوحة ميكن على الفور ربطها بلوحة ثانية‬ ‫ر�سمها فان غوغ يف ذلك ال�شهر نف�سه‪ ،‬ويف املكان نف�سه هي‬ ‫لوحة «املقهى لي ًال»‪ ،‬ما يجعل لدينا هنا لوحتني‪ ،‬واحدة داخل‬ ‫العتمة والثانية خارجها‪ .‬فاذا ا�ضفنا اىل هاتني اللوحتني‬ ‫لوحة اخرى ر�سمها فان غوغ يف ذلك ال�شهر نف�سه‪ ،‬هي لوحة‬ ‫«ليلة الرون ذات النجوم» ن�صبح امام توجه عام انطلق فيه‬ ‫فان غوغ باحث ًا عن ال�ضوء وعن عالقته احلتمية باللون‪...‬‬ ‫يف تواتر بني لوحات داخلية واخرى خارجية‪ ،‬مع مالحظة‬ ‫ا�سا�سية وهي انه‪ ،‬من ناحية ال�شعور املبا�شر الذي ترتكه كل‬ ‫لوحة من هذه اللوحات‪ ،‬تبدو اجلوانية هي الطاغية‪ ،‬لأن ما‬ ‫ي�صوره الفنان هنا‪ ،‬حتى وان انطلق من م�شهد واقعي‪ ،‬لي�س‬ ‫الواقع بل كيفية انعكا�س هذا الواقع على ذاته‪ ،‬ما ي�ضعنا هنا‬ ‫امام افتتاح خط ر�سم جديد يف حياة فان غوغ يعتمد ال�ضوء‬ ‫تعبري ًا داخلي ًا‪ .‬ومع هذا لو قر�أنا ما يقوله فان غوغ‪ ،‬مث ًال‪ ،‬يف‬ ‫ن�ص كتبه حول لوحة «املقهى لي ًال» �سن�صدم‪ .‬فهذه اللوحة التي‬ ‫ر�سمها خالل ثالث ليال �سهر فيها لينام نهار ًا‪ ،‬هي بالن�سبة اليه‬ ‫«اكرث اللوحات التي ر�سمتها قبح ًا‪ ...‬وت�ضاهي يف ذلك لوحتي‬ ‫القدمية «�آكلو البطاطا»‪ .‬هنا يف هذه اللوحة اجلديدة حاولت‬ ‫ان اعرب باللونني االحمر واالخ�ضر عن االهواء الب�شرية‬ ‫الرهيبة»‪.‬‬ ‫طبع ًا ميكننا هنا ان نن�سى ما يقوله فان غوغ‪ ،‬من تعبري عن‬ ‫م�شاعر ومواقف �آنية‪ ،‬لنبقى مع �سل�سلة اللوحات تلك‪ ،‬متوقفني‬ ‫بخا�صة عند «مقهى الر�صيف لي ًَال»‪� ...‬إذ‪ ،‬يف هذه اللوحة‪ ،‬وكما‬ ‫يجمع دار�سو اعمال الفنان‪ ،‬جر�ؤ هذا االخري‪ ،‬يف حلظة انطالق‬ ‫مده�شة‪ ،‬ان يقوم بخطوة اخرية تو�صله اىل الهواء الطلق‪.‬‬ ‫اذ ها هنا‪ ،‬وحتت ال�سماء اململوءة بالنجوم الرباقة‪ ،‬ها هو‬ ‫ر�صيف املقهى يظهر م�ضاء بنور قوي‪ ،‬يجعل من لونه املائل‬ ‫اىل االحمرار‪ ،‬حيز ًا متكام ًال يف تناق�ضه مع اللون االزرق الذي‬ ‫ميلأ ال�سماء ويرمز هنا اىل الغ�سق‪ .‬ويف هذا الف�ضاء اللوين‬ ‫– ال�ضوئي‪ ،‬ي�أتي �سواد الزقاق ليعطي ال�ضوء امل�صطنع – على‬ ‫ر�صيف املقهى – وال�ضوء الطبيعي – �ضوء النجوم يف ال�سماء‬ ‫– قوتهما‪ ،‬م�ضفي ًا على الليل معاين جديدة‪ .‬ولكن ملاذا جديدة؟‬ ‫يف كل ب�ساطة لأن ت�صوير م�شاهد خارج املنزل كان واحد ًا من‬

‫االجنازات اال�سا�سية لفنون القرن التا�سع ع�شر‪� .‬صحيح ان‬ ‫ت�صوير لوحات انطالق ًا من ا�ضواء ا�صطناعية كان حا�ضر ًا‬ ‫يف الفن منذ الع�صر الباروكي على االقل – كما يفيدنا الباحث‬ ‫انغو والرت يف كتاب له عن فن فان غوغ ‪ ...-‬وكان ال�ضوء‬ ‫اال�صطناعي ي�ستخدم من جانب الر�سام بغية التعبري عن زمن‬ ‫مي ّر‪ ...‬غري ان اال�ضواء هذه‪ ،‬يف ا�صطناعيتها‪ ،‬كانت ت�ستخدم‬ ‫تقريب ًا‪ ،‬من اجل امل�شاهد الداخلية وحدها‪ ،‬اما ا�ستخدامها من‬ ‫اجل ت�صوير امل�شاهد اخلارجية‪ ،‬فيكاد يكون امر ًا اخرتعه فان‬ ‫غوغ نف�سه‪ .‬وهو يف هذا – من الناحية التقنية على االقل –‬ ‫قدّم النقي�ض التام ال�ستخدام زمالئه و�سابقيه من االنطباعيني‪،‬‬ ‫لل�ضوء يف لوحاتهم‪ ،‬النهارية غالب ًا‪ .‬ولقد كان ل�سان حال فان‬ ‫غوغ يقول‪« :‬ان الليل �أكرث حياة و�أكرث ثراء بالألوان من النهار»‬ ‫حتى وان كان من خ�صائ�ص اللوحات الليلية ومهما كانت‬ ‫قوة اال�ضاءة – والتلوين بالتايل – فيها‪ ،‬ان تظهر اال�شياء‬ ‫املر�سومة غري وا�ضحة املالمح‪ ...‬بل اقرب اىل التجريد‪ .‬ذلك‬ ‫ان املهم هنا لي�س التعرف اىل هذه اال�شياء بتفا�صيلها‪ ،‬بل‬ ‫م�ساهمتها عرب احليز الذي ت�شغله يف اللوحة‪ ،‬يف تكوين املناخ‬ ‫العام لهذه اللوحة‪ .‬ونحن نعرف انه منذ اللحظة التي �آمن‬ ‫فيها فان غوغ بهذا املبد�أ – الذي نراه وا�ضح ًا كل الو�ضوح يف‬ ‫اللوحة التي نحن يف �صددها ‪ ،-‬لن يتوقف عن ر�سم اللوحات‬ ‫الليلة اخلارجية ب�أ�ضوائها والوانها حتى رحيله‪ ،‬مو�ص ًال هذا‬ ‫املبد�أ اىل ذروته يف واحدة من اروع لوحاته‪ ،‬وهي لوحة «ليلة‬ ‫مليئة بالنجوم» التي ر�سمها يف �سان – رميي يف �شهر حزيران‬ ‫(يونيو) ‪ ،1889‬وفيها حوّ ل النجوم كت ًال �ضوئية �صاخبة‬ ‫عا�صفة‪ ،‬كما كانت حال روحه الداخلية �شهور ًا قبل انتحاره‪.‬‬ ‫يف لوحة «مقهى الر�صيف لي ًال» من الوا�ضح ان ال�ضوء واللون‬ ‫– اكرث من الب�شر املر�سومني – هما ما اعطيا اللوحة كل‬ ‫حيويتها‪ ،‬يف �شكل جعل كل �شيء يف اللوحة م�شارك ًا يف خلق‬ ‫�شعور غريب‪ ،‬جتعله امل�سافة بني عني الر�سام ومركز امل�شهد‪،‬‬ ‫يبدو وك�أنه �شعور وداع لعامل ما‪ .‬يف ذلك احلني‪ ،‬مل يكن فن�سنت‬ ‫فان غوغ‪ ،‬يعرف على اية حال انه لن يعي�ش �سوى اقل من‬ ‫عامني �آخرين‪ ،‬لكن هذا الفنان الذي عا�ش كثافة احلياة والفن‬ ‫خالل �سنوات عمره الق�صري (‪ ،)1890 – 1853‬كان يعرف انه‬ ‫�سري�سم كثري ًا‪ ،‬خالل ال�شهور املتبقية له‪ ،‬هو الذي كان ير�سم‬ ‫ب�سرعة وقوة يف كل مرة يعرث فيها على طريق جديدة له‪.‬‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫الت�صميم‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى جعفر‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.