salvador dali

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫‪Salvador‬‬

‫‪Dali‬‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫‪3‬‬

‫سلفادور دالي جنون وعبقرية‬ ‫الدكتور ح�سان املالح‬ ‫يعترب الفنان الإ�سباين �سلفادور دايل‬ ‫‪ 1989 -1904‬من �أهم فناين القرن‬ ‫الع�شرين ‪ .‬وهو �أحد �أعالم املدر�سة‬ ‫ال�سريالية ‪ ،‬وهو يتميز ب�أعماله الفنية التي‬ ‫ت�صدم امل�شاهد مبو�ضوعها وت�شكيالتها‬ ‫وغرابتها ‪ ،‬وكذلك ب�شخ�صيته وتعليقاته‬ ‫وكتاباته غري امل�ألوفة والتي ت�صل حد‬ ‫الالمعقول واال�ضطراب النف�سي‪..‬ويف حياة‬ ‫دايل وفنه يختلط اجلنون بالعبقرية ‪ ،‬لكن‬ ‫دايل يبقى خمتلف ًا وا�ستثنائي ًا يف فو�ضاه‬ ‫‪ ،‬يف �إبداعه ‪ ،‬يف جنون عظمته ‪ ،‬ويف‬ ‫نرج�سيته ال�شديدة‪..‬‬ ‫ولد يف « فيغويرا�س ـ كاتالونيا «‬ ‫‪ Figueras -Catalonia‬يف �إ�سبانيا‬ ‫قرب احلدود الفرن�سية ‪ .‬ومثل ماحدث‬ ‫للر�سام الهولندي ال�شهري «فان كوخ» فقد‬ ‫�أطلق على �سلفادور دايل ا�سم �شقيق له‬ ‫كان قد تويف قبل والدته بثالث �سنوات ‪،‬‬ ‫ويقول �سلفادرو دايل عن ذلك ‪ (( :‬لقد كنت‬ ‫بنظر والدي ن�صف �شخ�ص ‪� ،‬أو بديل ‪،‬‬ ‫وكانت روحي تعت�صر �أمل ًا وغ�ضب ًا من جراء‬ ‫النظرات احلادة التي كانت تثقبني دون‬ ‫توقف بحث ًا عن الآخر الذي كان قد غاب عن‬ ‫الوجود))‪.‬‬ ‫عا�ش ال�صغري دايل مرف ّه ًا بني �أ�سرة ثرية‬ ‫‪ ،‬وكان والداه يوفران له كل مطالبه ‪.‬‬ ‫ونتيجة لدالله املبالغ فيه فقد عُرف عنه‬ ‫�سلوك الطائ�ش ‪ ،‬كدفعه �صديقه عن حافة‬ ‫عالية كادت تقتله ‪� ،‬أو رف�سه ر�أ�س �شقيقته‬ ‫((�آنا ماريا)) التي ت�صغره بثالث �سنوات ‪� ،‬أو‬ ‫تعذيب ه ّرة حتى املوت ‪ ،‬واجد ًا يف �أعماله‬ ‫تلك متعة كبرية ‪ ،‬كالتي كان ي�شعر بها حني‬ ‫يعذب نف�سه �أي�ض ًا حيث كان يرمتي على‬ ‫ال�سالمل ويتدحرج �أمام نظر الآخرين ‪..‬‬ ‫ولعل هذه الت�صرفات التي �أوردها الفنان‬ ‫يف مذكراته �شكلت ال�شرارة النف�سية الأوىل‬ ‫للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته‪.‬‬ ‫وقد �ساهم �أحد جريانه وهو «رامون‬ ‫بي�شوت» يف دخوله عامل الر�سم ‪ ،‬ففي‬ ‫ال�سابعة من عمره ر�سم �أوىل لوحاته‪،‬‬ ‫وا�ستطاع يف مدر�سته �أن يلفت النظر‬ ‫�إىل ر�سومه التي تنب�أت له مب�ستقبل فنان‬ ‫بارع ‪ ،‬مما دفع بعائلته و�أ�ساتذته �إىل حثه‬ ‫على دخول كلية الفنون اجلميلة يف «�سان‬ ‫فريناندو» يف مدريد ‪.‬‬ ‫ت�صرف �سلفادور خالل الأ�شهر الأوىل من‬ ‫التحاقه ب�أكادميية الفنون اجلميلة كتلميذ‬ ‫منوذجي مبتعد ًا عن املجتمع املحيط به‬ ‫ي�أنف االختالط ب�أقرانه من التالميذ ‪.‬‬ ‫ويف كل يوم �أحد كان يذهب �إىل متحف‬ ‫«برادو» حيث كان مي�ضي �ساعات طويلة‬ ‫مت�سمر ًا �أمام لوحات امل�شاهري وعندما‬ ‫يعود �إىل الأكادميية ير�سم ر�سوم ًا تكعيبية‬ ‫للموا�ضيع التي �شاهدها يف هذه اللوحات‪.‬‬ ‫ويف ذلك الوقت تعرف على الفن التكعيبي‬ ‫ولكنه ثار على املفاهيم التي يدعو �إليها هذ‬ ‫الفن ويدافع عنها ‪ ،‬وا�ستبدل �ألوان قو�س‬ ‫قزح يف لوحاته بالألوان الأبي�ض والأ�سود‬ ‫والأخ�ضر الزيتوين والبني الداكن فكانت‬ ‫�ألوانه حزينة ‪.‬‬ ‫ويف �أحد الأيام دخل �إىل قاعة النحت يف‬ ‫الأكادميية وبد�أ يفرغ حمتويات �أكيا�س‬ ‫عديدة من اجل�ص يف وعاء كبري وي�صب‬ ‫فوق اجل�ص ماء غزير ًا ‪ .‬ما لبثت �أر�ضية‬ ‫القاعدة �أن غمرت بطبقة من �سائل �أبي�ض‬

‫بد�أ ين�ساب �إىل خارج القاعة حتى و�صل‬ ‫ال�سيل �إىل قاعة الدخول وبدل من �أن يهتم‬ ‫دايل بالأمر �شق طريقه نحو املخرج يلتفت‬ ‫�إىل الوراء مل�شاهده جمال الطبقة اجل�صية‬ ‫وهي جتف ب�سرعة‪.‬‬ ‫مل يغب عن اهتمام طالب �أكادميية الفنون‬ ‫اجلميلة التطور الفني والأدبي الذي‬ ‫كانت ت�شهدها �أوروبا وبالأخ�ص املذهب‬ ‫الراديكايل يف الفنون والآداب الذي �سخر‬ ‫من كل القيم املعرتف بها ‪ .‬كان الفنانون‬ ‫والأدباء مثل «لوبيل بونويل» و «غار�سيا‬ ‫لوركا» و» بدرو غارفيا�س» و «يوجينو‬ ‫مونتري» املحركات املحفزة ملجموعة �صغرية‬ ‫من الفنانني الأ�صوليني ي�ضاف �إليهم‬ ‫�سلفادور دايل الذي ما لبث �أن احتل مرك ًزا‬ ‫مرموق ًا �ضمن هذه املجموعة ‪.‬‬ ‫وكان �أع�ضاء املجموعة ميدحون بحما�س‬ ‫لوحات �سلفادور التكعيبية التي حوت‬ ‫�أفكاره الغريبة ‪ ،‬بعد ذلك بقليل �أ�صبح طريق‬ ‫�سلفادور مفرو�ش ًا بالورود ‪.‬‬ ‫بد�أ �سلفادور يرتاد املقاهي الفنية وي�شرتك‬ ‫يف النقا�شات الفكرية احلامية حول الفن‬ ‫والأدب والن�ساء واجلن�س‪ .‬ثم طرد دايل من‬ ‫الأكادميية ومنع من متابعة الدرو�س فيها‬ ‫ملدة �سنة لأنه دافع بحرارة عن �أحد �أ�ساتذته‬ ‫الي�ساريني مما �أثار غ�ضب �إدارة الأكادميية‬ ‫فعاد �إىل «فيجويرا�س» وهناك �أُلقي القب�ض‬ ‫عليه ب�سبب �أفكاره الثورية وظل يف ال�سجن‬ ‫ملدة �شهر ثم �أطلق �سراحه بعد عدم عثور‬ ‫املحققني على �أدله تثبت ا�شرتاكه يف �إثارة‬ ‫الر�أي العام �ضد احلاكم امللكي امل�ستبد‬ ‫يف �إ�سبانيا‪ .‬وبعد انق�ضاء مدة �إبعاده عن‬ ‫الدرا�سة يف الأكادميية يف مدريد عاد �إليها‬ ‫لي�ستعيد فور ًا �شهرته ‪.‬‬ ‫در�س دايل امل�ستقبلية الإيطالية و يف عام‬ ‫‪ 1924‬بد�أ يهتم باملدر�سة امليتافيزيقية‬ ‫ومببادئها التي و�ضعها كل من «جيورجيو‬ ‫�شبرييكو» و «كارلوكارا»‪ .‬وتلك الفرتة‬ ‫كان لها �أثر كبري يف حياته ‪� ،‬إذ تعرف على‬ ‫املذاهب الفنية كافة والتقى فنانني عامليني‬ ‫خمتلفني منهم ال�شاعر «فيديريكو غار�سيا‬ ‫لوركا» الذي �أجنز معه عم ًال م�سرحي ًا‬ ‫كان الأول له ‪ ،‬و»لوي�س بونييل» الذي‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫اختلف معه ب�سبب �آرائه ال�سيا�سية التي‬ ‫�شهدت انقالب ًا غريب ًا من الفكر الثوري �إىل‬ ‫البورجوازية اخلا�ضعة مللذات احلياة ‪.‬‬ ‫وخالل فرتة درا�سته اهتم مبطالعة م�ؤلفات‬ ‫فل�سفية مثل كتابات «نيت�شه» و»فولتري»‬ ‫و»كانت» و»�سبينوزا» و�صمم على توجيه‬ ‫اهتمامه الكامل �إىل �أعمال الفيل�سوف‬ ‫«ديكارت» الذي ا�ستند على �أفكاره يف ر�سم‬ ‫عده لوحات رائعة‪.‬‬ ‫وبعد �أن تعرف على كتابات «نيت�شه»‬ ‫وانتهائه من قراءة كتاب»هكذا حتدث‬ ‫زراد�شت» عمد �إىل �إطالة �شاربه ليكون مثل‬ ‫�شارب «نيت�شه» وظل حمتفظ ًا بهذا ال�شارب‬ ‫�إىل نهاية حياته ‪.‬‬

‫ويف العام ‪ 1926‬بد�أ �سلفادور ب�صقل‬ ‫موهبته واختيار �أ�سلوبه اخلا�ص ال �سيما‬ ‫بعدما تعرف على �أب املدر�سة التكعيبية‬ ‫«بابلو بيكا�سو» ‪ ،‬ومن ثم بد�أ ينظم لقاءات‬ ‫دورية مع ر�سامني �سرياليني �آخرين �أمثال‬ ‫« لوي�س �أراغون» و» �أندريه بريتون» مما‬ ‫�ساهم يف بلورة �أ�سلوبه وتفوقه عليهم‬ ‫جميع ًا ‪.‬‬ ‫احتفظ دايل بع�صا لال�ستناد عليها وهو‬ ‫ي�سري مت�شبه ًا بالنبالء الذين كانوا ي�سريون‬ ‫يف احلقول وب�أيديهم عكازات مزخرفة‬ ‫بالأحجار الكرمية للمباهاة‪ .‬وقد رافقته هذه‬ ‫الع�صا خالل حياته وا�ستخدمها كمو�ضوع‬ ‫م�سيطر يف لوحاته يف وقت الحق ‪.‬‬

‫زوجته‪:‬‬

‫يف باري�س كتب دايل �إىل جانب‬ ‫«بونيويل» �سيناريو فيلم « كلب‬ ‫�أندل�سي» ويبلغ طوله ‪ 17‬دقيقة‬ ‫وهو مزيج حلمي غريب‪ ،‬وامل�شاهد‬ ‫والأفكار ال ميكنها �أن تثري تف�سرياً‬ ‫عقالني ًا من �أي نوع ‪� :‬شفرة مو�سى‬ ‫تفق�أ عني فتاة واملعنى رمبا «فق�ؤ»‬ ‫كل ما هو تقليدي و�سائد ‪ ،‬رجل‬ ‫ينزع فمه من وجهه ‪ ،‬بيانو تزينه‬ ‫جثث حمري ‪ ،‬منل يزحف على‬ ‫يد رجل ‪ ،‬واحد يف ال�شارع يحمل‬ ‫مكن�سة تنتهي �إىل يد �آدمية يدفع‬ ‫بها الف�ضالت‪ ..‬ومن الطريف‬ ‫�أنه اليوجد يف الفيلم �أي كلب �أو‬ ‫�أندل�س‪..‬‬

‫«جاال» فتاة رو�سية تدعى «�إيلينا‬ ‫دمياكونوفا» ‪ ،‬جاءت �إىل فرن�سا مبفردها‬ ‫عام ‪ 1913‬وهي مل تتجاوز التا�سعة ع�شرة‬ ‫من عمرها ‪� .‬أقامت يف م�صح للمعاجلة من‬ ‫مر�ض ال�سل ‪ ،‬وبعد �أربعة �أعوام التقت‬ ‫ال�شاعر»بول �إيلوار» وتزوجت منه ونذرت‬ ‫نف�سها له حتى وقعت يف غرام الفنان‬ ‫«ماك�س �أرن�ست» ‪ .‬ثم ارتبطت حياة دايل‬ ‫بحياة جاال يف عام ‪ 1929‬وكانت تكربه‬ ‫ب�أكرث من ع�شر �سنوات ‪ ،‬وظهر ت�أثريها‬ ‫الوا�ضح عليه وعلى �أعماله الفنية ‪ ،‬لأنها‬ ‫كانت حري�صة على منع تخيالته املتطرفة يف‬ ‫احلياة والفن من �أن ت�صبح حالة مر�ضية ‪.‬‬ ‫وهذا احلر�ص الدائم كان �سبب ًا يف اجلاذبية‬ ‫املت�صاعدة وامل�ستمرة بينهما �إىل درجة �أن‬ ‫دايل كان يوقع على بع�ض لوحاته با�سمه‬ ‫وا�سم جاال مع ًا ‪.‬‬ ‫وكان يكرر فكرته عن ارتباط ا�سم جاال‬ ‫بالعبقرية ‪ ،‬حني يقول ‪� « :‬إن كل ر�سام جيد‬ ‫يريد �أن يكون مبدع ًا وينجز لوحات رائعة ‪،‬‬ ‫عليه �أو ًال �أن يتزوج زوجتي «‪.‬‬ ‫وقد توفيت �أم دايل عام ‪ 1921‬وكان عمره‬ ‫‪� 16‬سنة وقد علق على موتها فيما بعد‬ ‫« ب�أنها ال�صدمة الأعظم التي تعر�ض لها‬ ‫يف حياته و�أنه كان يعبدها «‪ .‬وقد وجد‬ ‫املحللون �أن ارتباطه بجاال وحبه لها ميكن‬ ‫�أن يكون تعوي�ض ًا عن فقدانه لأمه ‪ ..‬و�أنها‬

‫متثل له الزوجة الأم ب�شكل وا�ضح ‪.‬‬ ‫وحتولت «جاال» مع الوقت �إىل مديرة‬ ‫عالقاته العامة وامل�س�ؤولة عن ت�سويق‬ ‫«منتجات دايل»‪ .‬وبدوره فقد كان دايل‬ ‫يتع ّلم كيفية ا�ستغالل ف�ضائحه وا�ستفزازاته‬ ‫يف م�شاريع جتارية مربحة ‪.‬‬

‫من �أفالمه‪:‬‬

‫يف باري�س كتب دايل �إىل جانب «بونيويل»‬ ‫�سيناريو فيلم « كلب �أندل�سي» ويبلغ‬ ‫طوله ‪ 17‬دقيقة وهو مزيج حلمي غريب‪،‬‬ ‫وامل�شاهد والأفكار ال ميكنها �أن تثري تف�سري ًا‬ ‫عقالني ًا من �أي نوع ‪� :‬شفرة مو�سى تفق�أ عني‬ ‫فتاة واملعنى رمبا «فق�ؤ» كل ما هو تقليدي‬ ‫و�سائد ‪ ،‬رجل ينزع فمه من وجهه ‪ ،‬بيانو‬ ‫تزينه جثث حمري ‪ ،‬منل يزحف على يد رجل‬ ‫‪ ،‬واحد يف ال�شارع يحمل مكن�سة تنتهي �إىل‬ ‫يد �آدمية يدفع بها الف�ضالت‪ ..‬ومن الطريف‬ ‫�أنه اليوجد يف الفيلم �أي كلب �أو �أندل�س ‪..‬‬

‫�سرياليته‪:‬‬

‫ويف باري�س �أي�ض ًا تع ّرف على ال�شاعر‬ ‫والطبيب النف�سي «�أندريه بريتون»(‪1896‬‬ ‫ـ ‪ )1966‬الذي كان قد نظم يف عام ‪1924‬‬ ‫«البيان الأول» الذي يعترب مبثابة الر�سالة‬ ‫الت�أ�سي�سية لل�سريالية ‪.‬‬ ‫وكان دايل يتحول تدريجي ًا �إىل راية‬ ‫ودليل لل�سريالية ‪..‬وم�صطلح ال�سريالية‬ ‫‪ surrealism‬و�ضعه عام ‪ 1917‬ال�شاعر‬ ‫«غويوم �أبولينري» وهو م�ؤلف من كلمتني ‪:‬‬ ‫‪ sur‬وتعني ما فوق‪ ،‬و ‪ realism‬وتعني‬ ‫الواقعية ‪� .‬أي ما فوق الواقعية وهو مذهب‬ ‫�أدبي فني فكري �أراد �أن يتحلل من واقع‬ ‫احلياة الواعية ‪ ،‬وزعم �أن فوق هذا الواقع‬ ‫واقع �آخر �أقوى فاعلية و�أعظم ات�ساع ًا‪ ،‬وهو‬ ‫واقع الالوعي �أو الال�شعور ‪ ،‬وهو واقع‬ ‫مكبوت يف داخل النف�س الب�شرية ‪ ،‬ويجب‬ ‫حتريره و�إطالق مكبوته وت�سجيله يف‬ ‫الأدب والفن‪ .‬وت�سعى ال�سرييالية �إىل �إدخال‬ ‫م�ضامني غري م�ستقاة من الواقع التقليدي‬ ‫يف الأعمال الأدبية‪ .‬وهذه امل�ضامني ت�ستمد‬ ‫من الأحالم �سواء يف اليقظة �أو املنام ‪،‬‬ ‫ومن تداعي اخلواطر الذي ال يخ�ضع ملنطق‬

‫لر�سم �إحدى لوحاته كما �أعلن بو�ضوح �أن‬ ‫�آماله يف امل�ستقبل هي الدعوة �إىل نه�ضة‬ ‫دينية جديدة على �أ�سا�س مبادى كاثوليكية‬ ‫متطورة‪.‬‬ ‫قبالة �شواطئ البحر الأبي�ض املتو�سط ق�ضى‬ ‫دايل بقية �أيام حياته ‪ ،‬وظل هناك ملا بعد‬ ‫وفاة زوجته عام ‪.1982‬ويف عام ‪1984‬‬ ‫احرتق دايل يف غرفته �ضمن ظروف مريبة‬ ‫رمبا كانت حماولة انتحار ‪ ،‬لكنه مل ميت‬ ‫وعا�ش خم�س �سنوات تالية ‪ ،‬ثم �صدرت عنه‬ ‫لفتة كرمية جد ًا قبل �أن ميوت ‪ ،‬فقد �أهدى‬ ‫كل ثروته ولوحاته للدولة الإ�سبانية ‪.‬‬ ‫بعد ذلك �أخذ دايل يذوي رويد ًا رويد ًا ‪،‬‬ ‫و�أخذ ذلك اال�ستفزازي الذي كان يواجه‬ ‫املوت يحت�ضر تدريجي ًا حيث كانت �أنابيب‬ ‫الأوك�سجني ترافقه ليل نهار �إىل �أن تويف‬ ‫عام ‪. 1989‬‬ ‫لقد ودعنا دايل تارك ًا �إ�شارة ا�ستفهام‬ ‫�ضخمة حول حجم الإرث الذي خ ّلفه على‬ ‫هام�ش القائمة الكبرية من الف�ضائح التي‬ ‫�أ�صبحت ح�سب قوله ت�شكل جزءا من الرتاث‬ ‫ال�شعبي‪ .‬ويقول النقاد ب�أنه لي�س ب�إمكان‬ ‫�أحد �أن ينكر ملكة الر�سم اخلارقة التي كان‬ ‫يتمتع بها دايل ‪� ،‬أو �أن يتجاهل قيمة لوحاته‬ ‫العظيمة وخ�صو�ص ًا يف مرحلة ال�سريالية‬ ‫الأولية ‪� ،‬أما املرحلة التي حتول فيها �إىل‬ ‫«رجل �أعمال» فريى الكثريون ب�أنها �أثرت‬ ‫على طبيعة فنه وعلى نزاهة وعفة �أعماله‪.‬‬ ‫وعلى هام�ش ما قيل وما �سيقال ف�إن ذلك‬ ‫الفنان العظيم ذو النظرة اجلنونية العميقة‬ ‫‪ ،‬وال�شاربني ال�صلبني املعقوفني ‪ ،‬والذي‬ ‫متكن من �إلغاء احلدود بني الروح امل�شاك�سة‬ ‫الهائجة واال�ستعرا�ضية الفا�ضحة ‪ ،‬قد‬ ‫حتوّ ل دون �شك �إىل ((�أ�سطورة))‪ .‬ومع كل‬ ‫نظرة �إىل لوحاته العظيمة ت�شعر الروح‬ ‫ب�أنها اكت�سبت جناحني ‪ ،‬وحتتفل املخيلة‬ ‫بوالدة وانطالقة جديدة ‪..‬‬

‫ال�سبب والنتيجة ‪ ،‬وهكذا تعترب ال�سريالية‬ ‫اجتاه ًا يهدف �إىل �إبراز التناق�ض يف حياتنا‬ ‫�أكرث من اهتمامه بالت�أليف‪.‬‬ ‫وقد اعتمد فنانو ال�سرييالية على نظريات‬ ‫فرويد رائد التحليل النف�سي خا�صة فيما‬ ‫يتعلق بتف�سري الأحالم‪ .‬كما و�صف النقاد‬ ‫اللوحات ال�سرييالية ب�أنها تلقائية فنية‬ ‫ونف�سية تعتمد على التعبري بالألوان عن‬ ‫الأفكار الال�شعورية والإميان بالقدرة الهائلة‬ ‫للأحالم ‪.‬‬ ‫وقد تخل�صت ال�سرييالية من مبادئ الر�سم‬ ‫التقليدية وذلك بوا�سطة الرتكيبات الغربية‬ ‫لأج�سام غري مرتابطة ببع�ضها البع�ض ‪،‬‬ ‫كما �إن االنفعاالت تظهر ما خلف احلقيقة‬ ‫الب�صرية الظاهرة ‪ .‬واعتمد ال�سريياليون‬ ‫يف ت�صويرهم على طريقتني ‪،‬الأوىل ‪:‬‬ ‫هي الأ�سلوب الذي ابتكره «�سلفادور‬ ‫دايل» ويعتمد على التج�سيم الواقعي �أو‬ ‫«الهذيان الناقد» والذي ي�ستخدم فيه رموز‬ ‫الأحالم لريتفع بالأ�شكال الطبيعية �إىل‬ ‫ما فوق الواقع املرئي ‪ ،‬لكن مع التج�سيم‬ ‫الطبيعي لها ‪ .‬والثانية ‪ :‬ت�شبه الأ�سلوب‬ ‫التكعيبي امل�سطح ذا البعدين ‪ ،‬وهي �أقرب‬ ‫�إىل الأ�شكال التجريدية ‪ ،‬و�إن كانت تختلف‬ ‫عنها يف �أن ال�سرييالية التهتم بال�شكل وال‬ ‫بال�صور وال بالهند�سة ‪ ،‬الأمر الذي يهتم به‬ ‫التجريديون ‪.‬‬ ‫وبعد حقبة الثالثينيات توجه دايل �إىل‬ ‫نيويورك حيث كانت �شهرته قد ذاعت وكرث‬ ‫املعجبون بفنه‪ .‬ومل يت�أخر يف اكت�شاف‬ ‫عامل الأغنياء والأر�ستقراطيني يف املدينة ‪،‬‬ ‫ويقول يف ذلك‪»:‬لقد كانت ال�شيكات تنهمر‬ ‫كالإ�سهال‬ ‫وقد جل�أ دايل �إىل �أ�ساليب ملتوية لتحقيق‬ ‫ال�شهرة العاملية كت�أييده حلكم «فرانكو»‬ ‫يف �إ�سبانيا ‪ ،‬وخالل فرتة �صعود احلزب‬ ‫النازي �إىل احلكم يف �أملانيا ر�سم دايل‬ ‫العديد من اللوحات التي تظهر «هتلر» يف‬ ‫�أو�ضاع عجيبة‪ -‬بع�ضها �أنثوي‪ -‬ويقال‬ ‫�أن «هتلر» �أعجب ببع�ض هذه اللوحات ‪،‬‬ ‫مما دفع «بريتون» والفنانني ال�سرياليني‬ ‫�إىل �إتخاذ قرار جماعي بف�صله من احلركة‬ ‫ال�سرييالية ب�سبب ذلك �إ�ضافة التهامه بالولع‬ ‫ال�شديد باملال ‪ ،‬وما لبث �أن �ألف «بريتون»‬ ‫من حروف ا�سم دايل كلمة « ‪avida‬‬ ‫‪� Dollars‬أي ج�شع الدوالرات‪ .‬غري �أن‬ ‫دايل مل يت�أخر يف الرد حيث قال له ‪ :‬لي�س‬ ‫ب�إمكانك طردي ‪ ،‬فال�سريالية هي �أنا!!‬

‫يف متحفه‪:‬‬

‫حتوالته الأخرية‪:‬‬

‫عا�ش �سلفادور دايل يف الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية منذ عام ‪� 1940‬إىل ‪ ،1948‬وهناك‬ ‫قام بت�صميم العديد من الواجهات ال�شهرية‬ ‫‪ ،‬وجمموعات احللي ‪ ،‬واملالب�س ‪ ،‬وخ�شبات‬ ‫امل�سارح ‪ ،‬بل واتفق مع املخرج والت ديزين‬ ‫على م�شروع فيلم «دي�ستينو « ومل يتم �إجناز‬ ‫ذلك �إال عام ‪.2003‬‬ ‫ويف عام ‪ 1948‬عاد الفنان دايل �إىل‬ ‫«فيغويرا�س» وبيته ‪ ،‬وكانت عودته هذه‬ ‫املرة عودة االبن البار حيث ت�صالح مع‬ ‫والده بعد فرتة قطيعة طويلة‪.‬‬ ‫وانطالق ًا من �إعجابه املعلن بالر�سامني‬ ‫الكال�سيكيني �أمثال «فيال�سكي�س» و»رافائيل»‬ ‫و»فريمري» انطلق نحو ما �سماه « الفن‬ ‫الكال�سيكي الديني» ور�سم بعدها « مادونا‬ ‫بورت ليجات» وهي عبارة عن عذراء بوجه‬ ‫جاال ‪ ،‬ثم م�سيح «�سان خوان دي الكرو�س»‪.‬‬

‫بني عام ‪ 1937‬و ‪ 1939‬قام دايل بثالث‬ ‫رحالت �إىل �إيطاليا وقد وجد روما‬ ‫الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات احلديثة‬ ‫التي �أمر «مو�سوليني « بها ‪.‬وتطلب ميله‬

‫اجلديد للكال�سيكية مو�ضوعية �أكرث‬ ‫ودرا�سة لفنون الر�سم يف ع�صر النه�ضة ‪،‬‬ ‫فاهتم بقوة بالهند�سة والريا�ضيات وعلم‬ ‫الت�شريح واملنظور قدر اهتمامه القدمي‬

‫بالإيحاء من الالوعي ‪ .‬يف نف�س الوقت‬ ‫طور دايل �إميان ًا متزايد ًا باملراتب الكهنوتية‬ ‫الكاثوليكية وبالنظم امللكية ‪ ،‬وقد طلب‬ ‫يف �أحد الأيام احل�صول على موافقة البابا‬

‫يف م�سقط ر�أ�سه وبعد �أن �أ�صبح �شهري ًا‬ ‫وثري ًا قرر دايل �أن ين�شئ متحف ًا خا�ص ًا به‬ ‫وب�أعماله ‪..‬املكان املُختار عبارة عن ق�صر‬ ‫قدمي يقع يف الق�سم القدمي من املدينة‬ ‫ويت�ألف من عدة طوابق تطل �شرفاتها على‬ ‫حديقة داخلية‪.‬‬ ‫ويف احلديقة وو�سط الأ�شجار هناك‬ ‫نافورات ماء غريبة الأ�شكال‪ .‬واحدة من‬ ‫النافورات عبارة عن �سيارة قدمية يف و�سط‬ ‫احلديقة مكتوب عليها عبارة‪« :‬ا�ضغط‬ ‫هنا» ف�إذا وقع املرء يف الفخ الذي ن�صبه‬ ‫له دايل و�ضغط على الزر ال�صغري ف�سوف‬ ‫يندفع املاء ليغ�سل وجهه ‪ .‬وهذه واحدة من‬ ‫مداعبات دايل لزوار متحفه‪.‬‬ ‫بعد ذلك ت�صعد �إىل الطابق الأول حيث جمع‬ ‫دايل بع�ض لوحاته الكبرية‪ .‬تدخل هناك يف‬ ‫عامل حافل باجلمال والغرابة وبكل ما هو‬ ‫غري متوقع ‪� .‬إنه عامل دايل ‪ :‬لوحات متثل‬ ‫جاال املر�أة التي �شاركت دايل حياته ‪،‬لوحات‬ ‫طبيعة �صامتة ‪ ،‬ور�سوم �أخرى‪.‬‬ ‫الإيحاءات الغريبة التي تخلفها ر�سوم دايل‬ ‫يف النف�س جتعلك خارج الزمان واملكان ‪.‬‬ ‫تتابع الزيارة يف الأرجاء وترى املنحوتات‬ ‫والأ�شياء والتكوينات ال�سريالية التي‬ ‫�صنعها دايل وهي ال تقل غرابة وجما ًال‬ ‫عن لوحاته ‪ ،‬ويكاد يخيل �إليك �أنها كائنات‬ ‫حية تنظر �إليك وتخاطبك‪..‬ويذكر « فرويد»‬ ‫�أنه مل ي�أخذ على حممل اجلد اعتباره من‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫قبل ال�سرياليني ك�أب حلركتهم حتى التقى‬ ‫بذلك ال�شاب الإ�سباين دايل ‪ 1938‬والذي‬ ‫جعله بتقنياته الفنية العالية يعيد النظر يف‬ ‫�أحكامه ال�سلبية على احلركة ال�سوريالية ‪.‬‬ ‫يف الطابق الثاين من املتحف ر ّتب دايل‬ ‫�أ�شياءه اخلا�صة ‪� .‬صندوق نحا�سي على‬ ‫الأر�ض مل�سح الأحذية ذهبي اللون يعود �إىل‬ ‫العهد العثماين ‪� ،‬أ�ضاف �إليه دايل بع�ض‬ ‫اللم�سات الفنية فحوله �إىل قطعة فنية‬ ‫م�سكونة بالغرابة‪.‬‬ ‫يف الواجهات الزجاجية ت�ستطيع �أن ترى‬ ‫الطبعات الأ�صلية والأوىل من كتب دايل‬ ‫«حياتي ال�سرية» والكتب الأخرى‪ .‬ثم الكتب‬ ‫ال�شعرية التي �صمم دايل �أغلفتها بنف�سه‬ ‫وزينها بر�سوماته ‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ذلك جتد‬ ‫ر�سائله �إىل �أ�صدقائه ور�سائل �أ�صدقائه‬ ‫�إليه ثم ع�شرات ال�صور ال�شخ�صية التي‬ ‫تعود ل�سنوات قدمية وفيها يبدو دايل‬ ‫مع �أ�صدقائه من �شعراء وك ّتاب ور�سامني‬ ‫�صنعوا �أدب وفن القرن الع�شرين ‪� ،‬أ�سماء‬ ‫هي اليوم �شهرية وطوى املوت �أ�صحابها‪.‬‬ ‫عند نهاية الزيارة ويف القاعة الأر�ضية‬ ‫وقبل �أن تغادر املكان ثمة مفاج�أة �سريالية‬ ‫�أخرى بانتظارك هناك ‪ ،‬قرب دايل نف�سه كما‬ ‫قام بت�صميمه هو قبل موته ‪ ،‬قرب رخامي‬ ‫�ضخم يرقد فيه اليوم بجانب زوجته‪.‬‬ ‫حيثما يوجد دايل فال مكان لل�ضجر ‪� .‬إن‬ ‫الداخل اىل متحف �سلفادور دايل يف حي‬ ‫مومنارتر يف باري�س‪ ،‬مفقود وهارب �إىل‬ ‫دفء الفن والذوق املختلف ‪ ،‬واخلارج‬ ‫منه مولود والدة مغايرة كالعائد من رحلة‬ ‫جمالية �ضرورية للروح ومن�شطة للحوا�س‪.‬‬

‫لذلك ‪ ،‬وبعد �أن ت�سلم ال�شيك من �صانع‬ ‫العطور‪ ،‬و�س�أله ال�صحفيون عن الت�صميم‬ ‫اجلديد‪ ،‬فوجئ ب�أنه ن�سي كل �شيء عنه‬ ‫‪ ،‬فا ّتبع �أول ما ورد على ذهنه لينجو من‬ ‫هذا املوقف ‪ ،‬تناول ملبة فال�ش حمرتقة من‬ ‫�أحد ال�صحفيني ورفعها قائ ًال ‪� :‬إن هذا هو‬ ‫ت�صميمه اجلديد‪ ،‬و�أطلق عليه ا�سم «فال�ش»‪،‬‬ ‫وهتف ال�صحفيون وهللوا ومعهم �صانع‬ ‫العطور!!‬

‫من لوحاته‪:‬‬

‫من كتبه ‪:‬‬

‫يف عام ‪� ،1964‬أ�صدر �سلفادور دايل كتاب ًا‬ ‫بعنوان «يوميات عبقري» يف باري�س‪ ،‬وهو‬ ‫م�أخوذ من دفرت يوميات ّ‬ ‫يغطي املرحلة‬ ‫املمتدة من عام ‪� 1953‬إىل عام ‪ 1963‬من‬ ‫حياته‪ .‬ويُ�ش ّكل الكتاب تكملة ل�سريته الذاتية‬ ‫التي �صدرت بعنوان «حياة �سلفادور دايل‬ ‫ال�س ّرية»‪.‬‬ ‫نتعرف يف هذا الكتاب الذي يحتوي على‬ ‫‪� 300‬صفحة‪،‬على �أفكار دايل و�شواغله‬ ‫كفنان وظروف لقاءاته مع �أبرز �شخ�صيات‬ ‫ٍ‬ ‫ع�صره ومواقفه اجلمالية والأخالقية‬ ‫والفل�سفية والبيولوجية ‪ ،‬الأمر الذي‬ ‫مي ّكننا من فهم �شخ�صيته املثرية واملع ّقدة‬ ‫ومن التعمّق يف منهج عمله الفني الذي‬ ‫�أطلق عليه ا�سم «الذهان الت�أويلي النقدي» ‪،‬‬ ‫وبالتايل ميكننا من حتديد طبيعة عبقريته‬ ‫التي �سعى طوال حياته �إىل �إبرازها و�إىل‬ ‫الرتويج لها‪.‬‬ ‫من �أبرز املو�ضوعات التي يتناولها يف هذا‬ ‫الكتاب‪� :‬إحلاده يف بداية م�ساره النابع‬ ‫من قراءته للكتب التي كانت موجودة يف‬ ‫مكتبة �أبيه‪� ،‬س ّرياليته التي مل تكن تعرف‬ ‫�أي �إكراهٍ جمايل �أو �أخالقي‪ ،‬نزعة التفوّ ق‬ ‫لديه التي ا�ستمدّها من كتب نيت�شه ‪ ،‬حبّه‬ ‫املفرط لزوجته جاال‪ ،‬تف�ضيله التقليد على‬ ‫احلداثة والنظام امللكي على الدميوقراطية‬ ‫‪ ،‬وال�صوفية على املادية اجلدلية‪ ،‬احرتامه‬ ‫الكبري لأندريه بروتون ون�شاطه الفكري‬ ‫وقيمه بالرغم من موقف هذا الأخري ال�سلبي‬ ‫منه بعد عام ‪ ،1934‬كذلك نتعرف على‬ ‫احتقاره �أرباب الوجودية وجناحاتهم‬ ‫امل�سرحية واملرحلية‪ ،‬ولعه بالر�سام رافاييل‪،‬‬ ‫«اجلانب الفينيقي» من دمه على حد قوله‬ ‫و الذي جعله يحب الفيل�سوف» �أوغ�ست‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫كونت» الذي و�ضع امل�صرفيني يف املرتبة‬ ‫الأوىل من املجتمع ‪.‬‬ ‫و�سنتعرف يف يوميات «دايل» على حبه‬ ‫الالحمدود لزوجته جاال التي يعتربها‬ ‫املحرك الأ�سا�سي له‪ ،‬والتي لوالها ملا‬ ‫ظهرت عبقريته وملا ا�ستمرت‪ .‬عنها يقول‬ ‫يف املقدمة‪« :‬هذا كتاب فريد‪ ،‬هو �أول كتاب‬ ‫يكتبه عبقري‪ ،‬كان حظه الفريد �أن يتزوج‬ ‫من «جاال» املر�أة الأ�سطورية الفريدة يف‬ ‫ع�صرنا»‪ .‬وحينما بد�أ ير�سم لوحته ال�شهرية‬ ‫«�صعود العذراء» التي ميثل فيها ال�سيدة‬ ‫العذراء وهي ترتفع �إىل ال�سماء‪ ،‬اختار وجه‬ ‫«جاال» ليكون وجه العذراء‪.‬‬ ‫وعادات «دايل» �شديدة الغرابة ‪ ،‬فبالن�سبة‬ ‫للنوم يقول‪« :‬النا�س عادة تتناول احلبوب‬ ‫املنومة حني ي�ستع�صي عليها النوم‪ ،‬لكني‬ ‫�أفعل العك�س متامًا‪ ،‬ففي الفرتات التي‬ ‫يكون فيها نومي يف �أق�صى درجات انتظامه‬ ‫وروعته‪ ،‬ف�إين بت�صميم �أقرر �أن �أتناول حبة‬ ‫منوم‪ ،‬وب�صدق وبدون ذرة ا�ستعارة‪ ،‬ف�إين‬ ‫�أنام كلوح اخل�شب‪ ،‬و�أ�ستيقظ م�ستعيدًا‬ ‫�شبابي ثانية»‪ .‬ومن مكان لآخر يعطينا‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫«دايل» تقري ًرا �شبه يومي عن عمليته‬ ‫الإخراجية وكيف �أنها تتم ب�سال�سة ونظافة‪،‬‬ ‫ويتكلم بحرية عن عدم فهمه لإهمال‬ ‫املفكرين والفال�سفة لهذه العملية رغم‬ ‫�أهميتها للإن�سان‪..‬‬ ‫وع�شق «دايل» للذباب ال يوجد‬ ‫ما يربره‪ ،‬فقد قال ذات‬ ‫مرة ‪ :‬يعجبني الذباب‬ ‫وال �أكون �سعيدًا �إال‬ ‫حني �أكون عاريًا‬ ‫يف ال�شم�س‬ ‫والذباب يغطيني‪.‬‬ ‫ويف موقف‬ ‫�آخر يفاج�أ‬ ‫بال�صحفيني‬ ‫يحيطون به‬ ‫ويتذكر �أنه‬ ‫كان قد وعد‬ ‫بتقدمي ت�صميم‬ ‫جديد لزجاجة‬ ‫عطر‪ ،‬و�أعد‬ ‫م�ؤمت ًرا �صحفي ًا‬

‫ ر�سم دايل لوحة �شهرية بعنوان «ثبات‬‫الذاكرة» ‪Persistence of Memory‬‬ ‫«‪ ،»1931‬يظهر فيها عدد من ال�ساعات التي‬ ‫ت�شري �إىل الوقت‪ ،‬وهي تبدو مرتخية ويف‬ ‫حالة مائعة ‪ ،‬وتعرف اللوحة �أي�ض ًا با�سم‬ ‫ال�ساعات اللينة ‪ ،‬ال�ساعات املت�ساقطة ‪،‬‬ ‫وال�ساعات الذائبة‪ .‬وفيها موقف ن�سبي‬ ‫من الوقت والزمن فيما ي�شبه نظرية‬ ‫«�إين�شتاين»‪.‬‬ ‫ويقول بع�ض الباحثني ب�أن الفكرة الأ�صلية‬ ‫لهذه اللوحة قد �أتت لدايل يف يوم �صيفي‬ ‫حار‪ .‬كان يف منزله يعاين من ال�صداع‬ ‫بينما جاال زوجته تت�سوق ‪ ،‬بعد وجبته‬ ‫الحظ ن�صف قطعة من اجلنب تذوب ب�سبب‬ ‫حرارة ال�شم�س ‪ ،‬ويف تلك الليلة وبينما كان‬ ‫يبحث يف روحه عن �شيء لري�سمه ‪� ،‬شاهد‬ ‫حلم ًا ل�ساعات تذوب يف الفراغ ‪ ،‬عاد بعد‬ ‫ذلك �إىل عمله الذي مل ينته بعد حيث كان‬ ‫ر�سم املرتفعات وال�شجرة ‪ ،‬وخالل �ساعتني‬ ‫�أو ثالثة كان قد �أ�ضاف ال�ساعات الذائبة‬ ‫و�أ�صبحت اللوحة كما نعرفها الآن‪.‬‬ ‫ «حتوالت نرج�س امل�سخية «�أو‬‫«امن�ساخ نرج�س» «‪The »1937‬‬ ‫‪Metamorphosis‬‬ ‫‪:of Narcissus‬‬ ‫وفق ًا للأ�سطورة‬ ‫الإغريقية وقع‬ ‫نرج�س يف‬ ‫غرام انعكا�س‬ ‫ِ‬ ‫�صورته على‬ ‫�سطح بركة‬ ‫�صافية و�أخذ‬ ‫يحدق طوي ًال‬ ‫ب�صورته وعندما‬ ‫�أدرك عدم قدرته‬ ‫على معانقة ال�صورة‬ ‫املائية ‪ ،‬وهنت قوته‬ ‫فقامت الآلهة بتحويله‬ ‫�إىل وردة ‪.‬‬ ‫يظهر يف اللوحة‬ ‫نرج�س جال�س ًا على‬ ‫حافة بركة من‬ ‫املاء يحدق �إىل‬ ‫الأ�سفل‪ .‬وهناك‬ ‫�شك ٌل �صخريٌ‬ ‫متحلل‬ ‫قريب منه ‪،‬‬ ‫يتجاوب‬ ‫معه عن‬ ‫كثب‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫يف مقالة حديثة قدمتها‬ ‫الباحثة «كارولني موريف»‬ ‫‪Caroline Murphy‬‬ ‫من جامعة �أوك�سفورد‬ ‫واملن�شورة يف جملة‬ ‫ال�شخ�صية واالختالفات‬ ‫الفردية ‪ ، 2009‬متيل‬ ‫�إىل اعتبار دايل م�صاب ًا‬ ‫با�ضطراب ذهني‬ ‫وا�ضطراب يف ال�شخ�صية‬ ‫على الرغم من حماوالت‬ ‫دايل �إخفاء معلومات‬ ‫مهمة عن نف�سه يف كتبه‬ ‫وت�صريحاته ال�صحفية‪.‬‬

‫ري جد ًا ‪� ،‬صور ٌة ليدٍ حتمل‬ ‫لكن االختالف كب ٌ‬ ‫بي�ض ًة تنمو منها زهر ُة نرج�س‪ .‬ويف اخللف‬ ‫جمموعة من الرجال والن�ساء العارية من‬ ‫خمتلف الأجنا�س‪ ،‬بينما يلوح �شكل �شبيه‬ ‫برنج�س يف الأفق‪ .‬وقد كتب دايل ق�صيدة‬ ‫طويلة مرفقة مع اللوحة ‪ ،‬وبني فيها « �أنه‬ ‫تخرج من ر�أ�س نرج�س زهرة هي نرج�س‬ ‫جديد ‪ ..‬جاال نرج�ستي «‪..‬‬ ‫وتبدو اللوحة مثرية و�صادمة بت�شكيالتها‬ ‫و�ألوانها ‪..‬ودالالتها متنوعة يف عمقها‬ ‫ورمزيتها ‪ ..‬وجتاور الرموز يثري ارتباطات‬ ‫هادفة ومعان هامة ‪ ..‬وهي لوحة �سوريالية‬ ‫بامتياز قابلة لعدة ت�أويالت ‪.‬‬ ‫ لوحة «ذيل ال�سنونو‪The Swallows‬‬‫‪� Tail s‬آخر لوحة ر�سمها �سلفادور‬ ‫دايل‪،‬انتهت يف �أيار ‪ ،1983‬وقد ا�ستندت‬ ‫على نظرية «رينيه توم» الكوارثية‪ ..‬وفيها‬ ‫غرابة ورمزية معقدة جد ًا ‪.‬‬

‫ا�ضطراباته النف�سية‪:‬‬

‫يف مقالة حديثة قدمتها الباحثة «كارولني‬ ‫موريف» ‪ Caroline Murphy‬من‬ ‫جامعة �أوك�سفورد واملن�شورة يف جملة‬ ‫ال�شخ�صية واالختالفات الفردية ‪، 2009‬‬ ‫متيل �إىل اعتبار دايل م�صاب ًا با�ضطراب‬ ‫ذهني وا�ضطراب يف ال�شخ�صية على‬ ‫الرغم من حماوالت دايل �إخفاء معلومات‬ ‫مهمة عن نف�سه يف كتبه وت�صريحاته‬ ‫ال�صحفية‪ .‬وت�شمل �أعرا�ضه املو�صوفة‬ ‫هالو�س �سمعية وحاالت من ال�شك‬ ‫املر�ضي ونوبات من الغ�ضب والعنف‬ ‫�إ�ضافة لهذيانات العظمة و�سلوك جن�سي‬ ‫ا�ستعرا�ضي و�إثارة جن�سية ذاتية غريبة‬ ‫‪ ،‬و�ضحكات غري منا�سبة مع تعليقات‬ ‫جارحة غري منا�سبة ‪ ،‬و�صعوبات يف‬ ‫التعاطف مع الآخر مع �سلوك احتيايل‬ ‫و�سادية ‪ .‬و�إذا و�ضعنا ما�سبق �ضمن‬ ‫الإطار الت�شخي�صي للدليل الت�شخي�صي‬ ‫الأمريكي الثالث ميكن �إعطاء ت�شخي�ص‬ ‫ذهان غري منوذجي وفيه مزيج من‬

‫�أعرا�ض الف�صام واالكتئاب ‪ ،‬مع عدة‬ ‫�أنواع من ا�ضطرابات ال�شخ�صية وهي‬ ‫ال�شخ�صية الزورية والف�صامية وامل�ضادة‬ ‫للمجتمع والهي�سترييائية والرنج�سية ‪.‬‬ ‫وي�شكك باحث �آخر يف هذه النتائج على‬ ‫اعتبار �أن دايل مل يتلق �أي عالج نف�سي ؟؟‬ ‫و�أنه كان فنانً ناجح ًا ومبدع ًا ومل ي�سبب‬ ‫له املر�ض النف�سي تعطي ًال عملي ًا ‪ .‬ويقرتح‬ ‫«نظرية الغرابة امل�سيطر عليها « والتي‬ ‫تعني �أن مزيج ًا من الأعرا�ض املر�ضية‬ ‫النف�سية مع �صفات نف�سية �صحية ميكن‬ ‫�أن ت�سهل العمل الفني الإبداعي و�أن‬ ‫الغرابة نف�سها هي التي ت�سهل النجاح ‪.‬‬ ‫وتت�ضارب املعلومات حول تلقي دايل‬ ‫للعالج النف�سي ‪ ..‬وقد وردت معلومات‬ ‫ب�أن زوجته كانت تعطيه �أدوية �سببت له‬ ‫�أعرا�ضا �شبيهة بداء باركن�سون وعادة‬ ‫مايكون ذلك ب�سبب م�ضادات الذهان‬ ‫التقليدية ‪.‬‬ ‫وتبني الدرا�سات النف�سية احلديثة‬ ‫التي حتاول فهم العالقة بني العمليات‬ ‫الإبداعية مبختلف �أ�شكالها واال�ضطرابات‬ ‫النف�سية ‪� ،‬أن درجة خفيفة من ال�صفات‬

‫الذهانية الف�صامية �أو ا�ضطراب املزاج‬ ‫الدوري»هو�س اكتئابي خفيف» �أو‬ ‫ا�ضطراب التوحد و�أ�سبريجر‪ ،‬ميكن‬ ‫لها �أن تدعم وتف�سر العمليات الإبداعية‬ ‫الناجحة ‪ ..‬و�أن هذه ال�صفات مفيدة‬ ‫و�إيجابية لأنها ت�ؤدي �إىل مرونة يف‬ ‫التفكري وانفتاح يف الذهن وحتمل‬ ‫للمخاطر ‪ ،‬و�أنها رافقت الإن�سان يف‬ ‫�سريته التطورية ‪ ،‬و�أن الفارق بني‬ ‫الطبيعي واملر�ضي هو فارق كمي ولي�س‬ ‫نوعي ‪ ..‬ولكن هناك �شيئا البد منه وهو‬ ‫�أن البع�ض �سي�صاب با�ضطراب نف�سي‬ ‫�شديد ومعطل ‪.‬‬ ‫و�أخري ًا ‪� ..‬سلفادور دايل فنان ثوري‬ ‫يعج‬ ‫مبدع و�أ�صيل له ذهن خ�صب ّ‬ ‫بالإ�شراقات واالبتكارات ‪ .‬ومن امل�ؤ ّكد‬ ‫�أن هواة الأدب والفن واملثقفني على‬ ‫اختالف �أنواعهم والعلماء النف�سيني‬ ‫الذين اليعرفونه جيد ًا ‪� ،‬سيعجبون بفنه‬ ‫و�إبداعاته املتنوعة ‪ ،‬والتي تعك�س نبوغ‬ ‫ذلك العمالق وعبقريته الذي قال يوم ًا‬ ‫‪»:‬الفرق الوحيد بيني وبني املجنون هو‬ ‫�أين ل�ستُ جمنون ًا‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫الخلطة السرية ألسطورة‬

‫السريالي العظيم‬

‫سلفادور دالي‬

‫ليلى البلو�شي‬ ‫" �إذا كنت تقوم بدور العبقري ف�سوف‬ ‫ت�صبح عبقريا يف يوم من الأيام "‬ ‫هكذا كان ديدن �سلفادور دايل‬ ‫ال�سريايل الذي قلب الفن ر�أ�سا على‬ ‫فو�ضى ‪ ،‬ال قوائم وال م�ساحات وال‬ ‫�أحجام وال �أ�شكال ‪ ،‬مكونا عاملا‬ ‫افرتا�ضيا متلونا بالأحالم ال�صاخبة‬ ‫واملالمح الغرائبية �أ�شبه ببهلوان ي�سري‬ ‫بقدميه على حبل متدل ‪ ،‬بينما يداه‬ ‫ت�صبغان على �أعني العامل �أ�سطورته‬ ‫ال�شخ�صية بده�شة كبرية ‪..‬‬ ‫هذا الفنان العبقري املجنون الهذياين‬ ‫الذي �شعر بالإهانة يف طفولته ‪،‬‬ ‫حينما اكت�شف �أنه لي�س �سوى ن�سخة‬ ‫عن �شقيقه الذي فارقه قبل والدته‬ ‫بعامني ‪ ،‬وكان يرتدي مالب�سه ‪ ،‬يتكلم‬ ‫ومي�شي مثله ويحلم كما كان يحلم ‪،‬‬ ‫ولأن �شقيقه مات بعد نزلة برد حادة‬ ‫جعلت نظرات عائلته الثاقبة ترت�صده‬ ‫خ�شية �أن يكون م�صريه كم�صري‬ ‫�سابقه ‪ ،‬فكانت ت�صيح فيه با�ستمرار‬ ‫‪� ":‬سلفادور فليبي جا�سانتو ال متت‬ ‫مرتني ! ‪..‬‬ ‫دايل هو �صاحب نظرية " البارانويا‬ ‫النقدية " وكان ي�سري على خطى‬ ‫�سرياليني املقد�س " ال �شيء هو كل‬ ‫�شيء " ‪ ،‬عزى البع�ض �أ�سطورته �إىل‬ ‫م�سمى " جنون العظمة " وهو الذي‬ ‫مل ينف عن نف�سه التهمة حني ذكر يف‬ ‫�إحدى �صفحات مذكراته قائال ‪ ” :‬ما‬ ‫�أكرث النا�س وبخا�صة يف �أمريكا الذين‬

‫ي�س�ألونني عن الطريقة املثلى للنجاح ‪،‬‬ ‫وهذه الطريقة موجودة وا�سمها عندي‬ ‫" طريقة جنون العظمة يف ذروتها "‬ ‫�أو " البارانويا املت�أزمة " ‪ ،‬اهتديت‬ ‫لأكرث من ثالثني عاما و�أمار�سها دون‬ ‫�أن �أعرف حتى هذه اللحظة ‪ ،‬ماذا‬ ‫تكون ‪..‬؟‬ ‫لكن �أ�سطورته ال تعزى �إىل ‪ -‬جنون‬ ‫العظمة ‪ -‬بقدر ما تعزى �إىل قانون‬ ‫كوين بد�أ ي�شق دربه امل�ضيء بقوة‬ ‫يف ف�ضاء العامل ‪ ،‬يعرف هذا القانون‬ ‫بـ "طاقة الكون" �أو بـ" قانون اجلذب‬ ‫" ‪ ،‬هو قانون عجائبي ذو طاقة‬ ‫هائلة ‪ ،‬يعمل كمغناطي�س جاذب ‪،‬‬ ‫وي�ستطيع من خاللها الإن�سان �أن‬ ‫يجذب كل الأمور والأمنيات والأحالم‬ ‫التي يريدها �إليه ‪ ،‬وفق �أفكار يعقد‬ ‫بها �سل�سلة حياته كيفما يرغب ‪ ،‬فلكل‬ ‫فكرة تردد يبثه الكون ‪ ،‬وحني يطلب‬ ‫ال�شخ�ص ‪ ،‬ف�إن �أفكاره تتحول �إىل‬ ‫وقائع ملمو�سة من خالل ثالث كلمات‬ ‫خمت�صرة هي ‪ ":‬اطلب " ‪� " ،‬آمن " ‪" ،‬‬ ‫تلق " ‪..‬‬ ‫ومن خالل قراءتي لكتاب " ال�سر "‬ ‫ر�أيت �أن �سلفادور دايل هو �أكرث‬ ‫�شخ�صية ميكن من خاللها �أن ن�ستنتج‬ ‫قوة هذا القانون وفعاليته ؛ فمعظم‬ ‫�أفعال املنجزة يف حياته كانت �أقواال‬ ‫مقرتنة بتنظيم دقيق ‪ ،‬حتى غدت‬ ‫�أفكاره اخلطرية تلك التي كانت تتملكه‬ ‫ثمارا �آتت �أكلها ‪ ،‬ومن تلك الأقوال التي‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫اقرتنت بالأفعال ‪:‬‬ ‫* كنت �أحب �أن يقول النا�س عني ”‬ ‫�سلفادور دايل ” ر�سام ال ميكن ن�سيانه‬ ‫‪ ،‬فقد كان يعنيني �أن �أكون ” �سلفادور‬ ‫” الذي يولد يوم ميوت ” هذا اال�سم‬ ‫الذي يتمو�سق حتى الآن على �أل�سنة‬ ‫اجلميع باحتفاء بالغ ‪ ،‬وادعى مثال‬ ‫على ذلك لوحاته التي تناثرت اليوم‬ ‫كتاريخ يف عوا�صم العامل حتكي عن‬ ‫حكاية هذا الإن�سان العبقري ‪ ،‬فعند‬ ‫متحف ” لوهافر ” الفرن�سي عبارة‬ ‫ذهبية اللون تقول ‪ ” :‬هنا جناح‬ ‫اال�سباين الكبري ” �سلفادور دايل ”‬ ‫الرجل الذي كان يرى يف كل زائر له‬ ‫�صديقا ‪ ،‬ويف كل �صديق لوحة ‪ ،‬ويف‬ ‫كل لوحة خيال غ�ض و�شا�سع نحو ما‬ ‫ال نهاية ” ‪.‬‬ ‫* �إذا كنت تقوم بدور العبقري‬ ‫ف�سوف ت�صبح عبقريا يف يوم من‬ ‫الأيام ‪ ..‬وقد مل�سنا هذا املفهوم‬ ‫متجذر بقوة عميقة يف حياة �سلفادور‬ ‫دايل احلافلة بالأقوال التي اعتاد‬ ‫الإقرار بها بني حني و�آخر ‪ ،‬يتداعى‬ ‫من خيال خالق ‪ ،‬ذاك اخليال الذي‬ ‫لب�س واقعه وك�أنه الواقع نف�سه ‪ ،‬فقد‬ ‫طمح يف يوم من الأيام �أن يكون يف‬ ‫�شهرة نابليون بونابرت ‪ ،‬ومذ ذاك مل‬ ‫ترتهل طموحاته عن االزدياد والنمو‬ ‫؛ ولأنه مل يكن مثل الكثريين حماطا‬ ‫ب�سر هذا القانون الذي كرب من خالله‬

‫طوال �أعوام التي �أعقبت ؛ فقد عزى‬ ‫مثل الكثريين �أ�سطورته �إىل ” جنون‬ ‫العظمة ” معتقدا كذلك لأنها ؛ وكما كان‬ ‫يرى وراء دفق جناحاته املتتالية يف‬ ‫عوامل الفن ‪ ،‬تلك الطاقة الهائلة التي‬ ‫كانت تنبعث منه مقيدة �أفكاره �إىل‬ ‫طريق التحقيق ‪ ،‬كما كان يرغب بها‬ ‫متاما ‪..‬‬ ‫* مل �أكن �أطيق فكرة �أال يتعرف علي‬ ‫النا�س فعلى م�ستوى عالقاته كان‬ ‫�شخ�صا يجر خلفه �أ�ضواءه ال�صاخبة‬ ‫‪ ،‬فهو مل يطق فكرة �أال يتعرف عليه‬ ‫النا�س يوما ما ‪ ،‬وقد كانت �أقواله ال‬ ‫تناق�ض رغباته ‪..‬‬ ‫* خطط �أن يكون مليونريا ‪ ،‬حتى �أن‬ ‫�أندريه بريتون اتهمه بـ عبادة الدوالر‬ ‫‪ ،‬فرد عليه دايل ب�أن حكمته منذ ال�صغر‬ ‫ن�صحته �أن ي�سعى رويدا لأن ي�صري‬ ‫مليونريا ‪ ،‬وقد �أ�ضيف حلمه هذا �إىل‬ ‫حيز التحقيق كما خطط ب�إرادته ‪..‬‬ ‫* كما كان ي�سعى �إىل ت�سلق الكمالية‬ ‫‪ ،‬و ي�شري " ت�شارلز هانيل " وهو �أحد‬ ‫امل�شاركني يف تف�سري نظرية قانون‬ ‫اجلذب قائال ‪ :‬احلقيقة املطلقة هي‬ ‫�أن �ضمري " الأنا " تام وكامل ؛ و�أن‬ ‫�ضمري " الأنا " احلقيقي هو روحي وال‬ ‫ميكنه بالتايل �أن يكون �أقل من مثايل‬ ‫؛ وال ميكنه مطلقا �أن يعرتيه نق�ص �أو‬ ‫ق�صور �أو مر�ض" ‪ ،‬وكان هذا ال�ضمري‬ ‫نغمة دايل التي كثريا ما كان يدندنها‬ ‫يف حياته قائال ‪� ” :‬أنا �أ�ؤمن ب�أين �أعظم‬

‫ر�سامي ع�صري وقوله كذلك ‪� :‬أنا خال‬ ‫من العيوب‪� ،‬أنا ال�سريايل الوحيد غري‬ ‫املنتمي‪ ،‬مل ينجح ال اليمني وال الي�سار‬ ‫يف �إغوائي ” ‪ ..‬وب�شهادة فرويد الذي‬ ‫قال عنه ‪ :‬مل �أرى يف حياتي ال�سبانيا‬ ‫�أعظم كماال من �سلفادور دايل‬ ‫* ولأن من �أولويات هذا القانون �أن‬ ‫يكف الإن�سان عن ترديد الأفكار ال�سلبية‬ ‫‪ ،‬وغر�س عو�ضا عنها �أفكارا ايجابية‬ ‫م�صها من طاقة الكون‬ ‫با�ستمرار ثم ّ‬ ‫‪ ،‬فقد كان �سلفادور يبد�أ يومه بلذة ال‬ ‫ت�ضاهى ‪ :‬حني ا�ستيقظ يف ال�صباح‪،‬‬ ‫اخترب لذة ال ُت�ضاهى‪� :‬إنني �سلفادور‬ ‫دايل ‪ ،‬و�أ�س�أل نف�سي ما الذي �سيفعله‬ ‫اليوم هذا الإن�سان املعجزة‪� ،‬سلفادور‬ ‫دايل ‪ ..‬فكيف تتوقعون �صباحات‬ ‫رجل يدلل يومه بلذة ي�سريها له الكون‬ ‫بلم�سة منه ‪..‬؟!‬ ‫من هنا ن�ستطيع القول ب�أنه كان‬ ‫�أمنوذجا �إن�سانيا يتمتع ب�صحبة نف�سه‬ ‫متدفقا باحلب ‪ ،‬فانعك�س ذلك بحبور‬ ‫كبري على كل العوامل التي كانت حتيط‬ ‫به من حوله ‪ ،‬والتي جلبها مبلء �إرادته‬ ‫‪..‬‬ ‫هذا هو " �سر "هذا الفنان العبقري‬ ‫الذي ا�ستحق عن جدارة حياته احلافلة‬ ‫بالإثارة ‪ ،‬وده�شة االجناز ‪ ،‬والتميز‬ ‫االبتكاري ‪ ،‬ونيازك ال�شهرة والرثاء‬ ‫واحلب ‪ ،‬وكل ذلك كان نتاج �أفكاره‬ ‫التي ارتقاها �سلما �سلما ‪ ،‬كان يطلب‬ ‫وي�ؤمن ويتلقى بب�ساطة مطلقة ‪..‬‬

‫‪7‬‬

‫ما من �صفات �أطلقت على فنان عاملي معا�صر‪ ،‬كانت بحجم ما �أطلق على الفنان ال�سريايل �سلفادور دايل‪ ،‬يف حياته حتى وفاته‪ ،‬فهو‬ ‫�إ�ضافة �إىل �أنه �أمري اجلنون‪ ،‬ملك ال�صرعات‪ ،‬حمطم التقاليد‪ ،‬عدو اجلمال‪ ،‬دايل املهرج‪ ،‬هذه ال�صفات قد حاز عليها هذا الفنان املتعدد‬ ‫ً‬ ‫وفعال وده�ش ًا‪ ،‬حتى الذين هاجموه وكرهوا ر�سومه‪ ،‬اعرتفوا ب�أنه ترك �أثراً فني ًا‬ ‫املواهب‪ ،‬الذي �أبدع يف ر�ؤياه ال�سريالية‪ ،‬وترجمها فن ًا‬ ‫ال ميكن جتاهله �أو ن�سيانه‪ ،‬وبالإ�ضافة �إىل �أنه ر�سام‪ ،‬كان �أي�ض ًا م�صمم �أزياء الطبقة الراقية وجواهرها‪.‬‬ ‫�سلفادور دايل العبقري املجنون الذي قال‪( :‬الفرق بيني وبني �أي جمنون هو �أنني عاقل)‪ .‬ولد يف ‪� 11‬أيار ‪ 1904‬يف كاتالونيا (�إ�سبانيا)‬ ‫�أغنى حياته بالتجارب الفنية‪ .‬و�أحب زوجته (غاال) قبل وبعد وفاتها عام ‪ 1983‬وبعدها‪ ،‬وهي احلبيبة الع�شيقة‪ .‬كان قد �سرقها‬ ‫من زوجها ال�شاعر بول �إيلوار ليعي�ش معها ق�صة حب منذ عام ‪ 1929‬وكان اللقاء على �شاطئ كاتالونيا ف�أ�صبحت غاال بعد ذلك زوجته‬ ‫ون�صفه الآخر‪ ،‬ودايل �آمن بفكرة اخللود وظل يحملها حتى وفاته بداية كانون الثاين عام ‪.1989‬‬

‫دايل املتمرد‬ ‫كان دايل يع ّد نف�سه �أعظم ر�سام يف‬ ‫تاريخ الب�شرية‪� ،‬صاحب املخيلة املده�شة‪،‬‬ ‫املتميز ب�شاربه املفتول �إىل الأعلى‬ ‫و�سرياليته املتفردة‪ ،‬ور�ؤيته املتوح�شة‬ ‫العميقة‪ .‬ففي كتابه يوميات عبقري بعد‬ ‫كتابه الأول (احلياة ال�سرية ل�سلفادور‬ ‫دايل) يك�شف احلقائق‪ .‬و�أهم ما يف‬ ‫�سلوك هذا العبقري هو �صراحته الفجة‬ ‫ومترده‪ .‬ففي عام ‪ 1929‬و�صل دايل �إىل‬ ‫باري�س‪ ،‬حيث بلغت احلركة ال�سريالية‬ ‫�أوجها‪ ،‬و�شارك يف قمة احلركة املنعقدة‬ ‫�آنذاك‪ .‬وبد�أ بكتاباته‪ ،‬وهي الوجه الآخر‬ ‫للوحاته‪ ،‬يدعو فيها �إىل حترر الوعي‬ ‫والتمرد‪ ،‬ثم ان�ضم دايل �إىل الئحة‬ ‫ال�سرياليني التي قادها �آنذاك �أندريه‬ ‫بريتون‪.‬‬ ‫ثم ترك زمالءه يف احلركة ال�سريالية‬ ‫مل�شاك�سته ورف�ضه االنتماء واالن�ضباط‪،‬‬ ‫وكان �صدامي ًا مع الآخرين يف ت�صرفاته‬ ‫و�سلوكه وهذا اال�ستعرا�ض الغريب‬ ‫�أدى �إىل القطيعة النهائية عام ‪.1940‬‬ ‫كان �أول �سلوك له هو مترده على‬ ‫العادات والتقاليد االجتماعية‪� ،‬إذ تعدى‬ ‫الالمعقول و�أنتج بعد ًا فل�سفي ًا خا�ص ًا‬ ‫به‪ ،‬وبر�ؤية �سريالية‪ ،‬يتمتع بها �أكرث‬ ‫من غريها‪ ،‬وج�سدها بطابعه اخلا�ص‬ ‫واملتميز‪ ،‬وذلك يف تداخل حلظات‬ ‫الوعي مع هذيانه‪ ،‬يف �أ�ساليب متعددة‬ ‫التعابري‪ ،‬وله يف ذلك �أكرث من حماولة‬ ‫بني هوج�سه الذاتية و�أحالمه املرئية‬

‫الغام�ضة‪ ،‬كان دايل يج�سد الر�أي وفق ما‬ ‫يريد هو‪ ،‬منقاد ًا وراء حلظات الالوعي‪،‬‬ ‫�أي ال�شطحات‪ ،‬فهو مار�س طريقته بال‬ ‫�أية حدود �أو �ضوابط‪ ،‬فكان متقدم ًا على‬ ‫ال�سريالية بتطرف يف متازج وخليط‬ ‫وت�شكيل‪ ،‬وخيال وا�سع يهذب �إىل �أبعد‬ ‫مما يت�صوره الالوعي يف حلظة الهذيان‪،‬‬ ‫وا�ستطاع �أن يكت�سب عرب جتاربه �صفات‬ ‫خا�صة به‪� ،‬أكرث من غريه‪ ،‬وظل مواظب ًا‬ ‫على طريقته هذه حتى وفاته‪ ،‬ومل يكتف‬ ‫بالر�سم والكتابة وفن احلفر‪ .‬و�أي�ض ًا‬ ‫�شارك يف جتربة �سينمائية مع لوي�س‬ ‫بونويل يف فيلم (الكلب الأندل�سي)‪.‬‬ ‫وكان هذا املخرج الأقرب �إىل مزاج‬ ‫�سلفادور دايل وخ�صو�صيته‪.‬‬ ‫من هذيان الرائي �إىل الر�سم‬ ‫�أخذت �أعمال دايل ال�شهرية تتكاثر‬ ‫ملا يج�سد من ر�ؤى يف هذيانه‪ ،‬ومنذ‬ ‫بدايته عمل على مبد�أ التحري�ض‪ ،‬مبد�أ‬ ‫تخريب الفنون الأخرى وحتطيمها‪،‬‬ ‫بكل مدار�سها واجتاهاتها‪� ،‬سواء كانت‬ ‫تقليدية‪� ،‬أم كال�سيكية‪� ،‬أم تعبريية‪،‬‬ ‫�أم انطباعية‪� ،‬أم رومان�سية‪ .‬و�أ�سلوب‬ ‫الهدم هذا قد �شق طريقه من هذه النقطة‬ ‫بالذات‪ ،‬وهو مقتنع ومرتاح ملا يفعل‪.‬‬ ‫فقد اختار لوحات قدمية وم�شهورة‬ ‫معلقة يف �أهم املتاحف العاملية منذ‬ ‫مئات ال�سنني‪ ،‬وعمل على تقليدها‬ ‫وت�شويهها عرب �أ�سلوبه ال�صاعق بني‬

‫الهذيان واجلدية‪ ،‬والقى بذلك لفتة‬ ‫كبرية من معا�صريه ملا يف هذا الأ�سلوب‬ ‫من تفاعالت‪ ،‬والذي يعمل على حتطيم‬ ‫املقد�س الفني‪( ،‬كل �شيء يجب �أن‬ ‫ي�شوّ ه و�أن يخرج بتعبريات حتري�ضية‬ ‫جديدة)‪ .‬وهو الذي كان معجب ًا بالفنانني‬ ‫الكال�سيكيني القدماء‪( :‬ثمة تفاهة‬ ‫مل�صادر الوحي لديهم)‪� .‬إنه �ساحر الر�ؤية‬ ‫املجنونة‪ ،‬عمل على جت�سيد نف�سه‬ ‫و�إظهار م�شاك�ساته ب�أنه من احلكماء‬ ‫و�أعقل العقالء‪ ،‬وكان ميار�س طقو�سه‬ ‫هذه‪ ،‬وفيها �شيء من الغرابة واملحاكاة‬ ‫املقبولة‪� ،‬إذ �إن املجتمعات الغربية‪ ،‬كانت‬ ‫ت�شهر كل �سالح جديد واخرتاع ور�ؤية‬ ‫فن ًا وعم ًال‪ ،‬فهذا اجلديد الفني �أوجد‬ ‫دعاءه ال�سرياليون وج�سده �سلفادور‬ ‫دايل ر�سم ًا يف فل�سفة خا�صة به وهي‬ ‫�أبعد من �سريالية ميار�س فيها طقو�سه‪.‬‬ ‫اخلالف بني دايل وال�شعراء‬ ‫�أخذت ال�سريالية منطلقاتها وفل�سفتها‬ ‫من نقطة الالوعي والتخيل‪ ،‬واحللم‬ ‫واملكوث عند املاورائيات يف الت�أمل‬ ‫الطويل‪ ،‬وهناك نقاط اختالف عن‬ ‫مفهوم ال�صوفية‪ ،‬فيما يخ�ص التوحد‬ ‫مع الآخر‪ .‬وكما جاء يف تعريف‬ ‫�أندريه بريتون يف بيان ‪( :1924‬ف�إن‬ ‫ال�سريالية �آلية نف�سية حم�ضة‪ ،‬يلتم�س‬ ‫بو�ساطتها التعبري �شفوي ًا‪� ،‬أو كتابي ًا‪،‬‬ ‫�أو ب�أي طريقة �أخرى عن وظيفة الفكر‬ ‫احلقيقية‪� ،‬إمالء الفكر يف غياب كل رقابة‬

‫ميار�سها العقل‪ ،‬وخارج كل اهتمام‬ ‫جمايل �أو �أخالقي)‪ .‬وتنه�ض ال�سريالية‬ ‫فل�سفي ًا على االعتقاد‪ ،‬والواقع الأ�سمى‬ ‫لبع�ض �أ�شكال التداعيات املهملة حتى‬ ‫ظهورها وبقدرة احللم العالية‪ .‬ومن هذا‬ ‫املنطلق �أ�شاع التيار ال�سريايل النزعة‬ ‫امليتافيزيقية‪ ،‬وكما قدمها �سلفادور دايل‬ ‫ب�صري ًا من طور الالوعي حتى بلوغه‬ ‫ذروة الهذيان فعلى الرغم من �أن دايل‬ ‫ال�شديد اخل�صو�صية قد جنح يف ذلك‪� ،‬إال‬ ‫�أنه خا�صم �أ�صدقاءه‪ ،‬ويف الوقع الذي‬ ‫انتهى فيه ال�سرياليون �إىل املارك�سية‬ ‫رف�ض دايل الأيديولوجيات‪ .‬وما تود �أن‬ ‫ت�صل �إليه هذه املقالة هو مناق�شة �أوجه‬ ‫االختالف متام ًا عما يقدمه دايل من ر�ؤية‬ ‫ب�صرية؟ وما هو ال�سبب يف م�شاك�سته‬ ‫وخ�صوماته مع زمالئه؟ هل الق�ضية‬ ‫اخلالفية‪ ،‬تكمن يف �سلوك دايل الذي‬ ‫�سلكه يف �سرياليته؟‬ ‫رمبا هناك �سبب �آخر يف عدم توافق‬ ‫الر�ؤية ال�سريالية �شعر ًا مبا يقدمه‬ ‫دايل‪ ،‬وهنا قد ي�صح القول ب�أن الر�ؤية‬ ‫ال�شعرية بقيت متحفظة �أو خجولة من‬ ‫تطرف دايل يف ر�ؤياه‪� .‬إذن فالر�ؤية‬ ‫ال�شعرية �سريالي ًا كانت �أقرب �إىل‬ ‫منتجها ومنهجتها لتكون �أكرث �إقناع ًا‪،‬‬ ‫ملا كان �سائد ًا �آنذاك‪ .‬باعتبار �أن احلركة‬ ‫ال�سريالية جاءت يف جوهرها حركة‬ ‫احتجاج على ما كان �سائد ًا يف احلياة‬ ‫من عادات وتقاليد وحروب عاملية‪� ،‬إذ‬ ‫كانت �أوربا من�شغلة يف حربها العاملية‬

‫الأوىل والثانية وما قادت �إليه من �إنتاج‬ ‫�أنظمة فا�شية ونازية‪.‬‬ ‫وال�سريالية يف جوهرها طرحت نف�سها‬ ‫حركة تغيري يف املجتمع‪ .‬يقول مار�سيل‬ ‫رميوند يف تعريفه‪( :‬متثل ال�سريالية‬ ‫باملعنى الوا�سع‪� ،‬أحدث حماولة للقطيعة‬ ‫مع الأ�شياء القائمة‪ ،‬و�إحالل �أ�شياء‬ ‫�أخرى حملها‪� ،‬شديدة الفاعلية والنمو‪،‬‬ ‫ترت�سم حدودها املتحركة على نحو غري‬ ‫وا�ضح يف �أعماق الكائن‪ .‬مل يحدث �أبد ًا‬ ‫يف فرن�سا من قبل‪� ،‬أن وحدت مدر�سة‬ ‫ال�شعراء بهذه الطريقة‪ ،‬وبهذا الوعي‬ ‫القومي‪ ،‬ق�ضية ال�شعر‪ ،‬ق�ضية الوجود‬ ‫احلا�سمة‪� )..‬إن �أهم ما �أنتج �شعر ًا‬ ‫يف القرن الع�شرين‪ ،‬وهو ما �أنتجه‬ ‫ال�سرياليون‪ ،‬فالثورة احلقيقية بالن�سبة‬ ‫�إليهم‪ ،‬هي يف انت�صار الرغبة‪.‬‬ ‫�إذن عملت ال�سريالية على مبد�أ البحث‬ ‫عن تف�سري خمتلف لهذا الوجود يف‬ ‫جتاوز التناق�ضات‪ ،‬برف�ضهم املنطق‪.‬‬ ‫ومل يعد لهم ملج�أ �إال يف الو�سائل‪.‬‬ ‫ويرى ال�سرياليون يف م�س�ألة اخليال‬ ‫دعامتهم فيما ميكن حتقيقه لإزالة‬ ‫املمنوع الرهيب‪ .‬يقول �أراغون‪�( :‬إن‬ ‫اخليال وحده هو الفعال دائم ًا‪ ،‬فال‬ ‫�شيء ي�ضمن يل الواقع‪ ،‬ال �شيء ي�ضمن‬ ‫يل �أنني ال �أبنيه به على هذيان ت�أويل‪،‬‬ ‫ال دقة املنطق‪ ،‬وال قوة الإح�سا�س)‪.‬‬ ‫و�أراد ال�سرياليون �أن ي�صلوا �إىل‬ ‫حريتهم الكاملة‪ ،‬حرية الكتابة‪ ،‬كما يرى‬ ‫موري�س بالن�شو‪( :‬حرية الكتابة مرتبطة‬ ‫بتجارب النوم املغناطي�سي) فهذا النوم‬ ‫يلغي كذلك الرقابة التي تعيق الفكر‪،‬‬ ‫ويفتح �أبواب املده�ش و�أبوب احلرية‪.‬‬ ‫فال�سرياليون نفوا يف بادئ الأمر الواقع‬ ‫اخلارجي‪ ،‬ثم رغبوا يف حتويله‪ ،‬ويف‬ ‫ذات الوقت مت�سكوا ب�إعادة ت�أويله‪ ،‬ثم‬ ‫�أخذ �شعور التماثل ميلي �أكرث ف�أكرث‬ ‫موقفهم �إزاء العامل‪.‬‬ ‫كان لفن �سلفادور دايل نكهته املتميزة‬ ‫وظهر لنا بهذه الهالة العجائبية بعد‬ ‫تفجر الهذيان الطفويل‪� ،‬إذ ا�ستطاع �أن‬ ‫يك�شف عن اخللل من منظاره الفرويدي‬ ‫لتلك املرحلة لديكتاتوريات متمثلة بهتلر‬ ‫وفرانكو‪ .‬ومعروف عن دايل �أن له موقف ًا‬ ‫من العمل ال�سيا�سي �إذ قال‪( :‬ال�سيا�سة‬ ‫�أكرب خط�أ يرتكبه الفنان‪ ،‬ما من �أحد‬ ‫يعرف ما �إذا كانت فينو�س �شيوعية �أم‬ ‫فا�شية)‪ .‬وهو على عك�س (بابلو بيكا�سو‬ ‫الذي كان ملتزم ًا‪ ،‬واتخذ موقف ًا وا�ضح ًا‬ ‫من ال�صراع الدائر يف احلرب العاملية‬ ‫�آنذاك‪ ،‬واحلرب الأهلية الإ�سبانية‪.‬‬ ‫وج�سد لوحته ال�شهرية (الغرينيكا) كان‬ ‫دايل يحب باري�س وهذه املدينة �شهدت‬ ‫والدته الفنية وجناحه الباهر‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من كل ما قيل عن �سلفادور‬ ‫دايل‪ ،‬فهذا الفنان �سيبقى ا�سمه مرتبط ًا‬ ‫بال�سريالية املنفلتة التي �أو�صلها‬ ‫�إىل برجها العاجي‪ ،‬وعمل لها متحف ًا‬ ‫ومدر�سة فنية على منط مذهب الر�ؤيا‬ ‫العميقة‪ ،‬تتفتح ر�ؤياه وهو مغم�ض‬ ‫العينني‪ ،‬يك�شف الغطاء الآخر عن وجه‬ ‫احلقيقة‪ ،‬ظل حتى �آخر حلظة ير�سم‬ ‫حتى وهو على فرا�ش املوت‪ ،‬م�ؤمن ًا‬ ‫بفكرة اخللود وهذا بحد ذاته �سريايل‬ ‫اجلوهر‪ ،‬وكما �صنفه النقاد واحد ًا من‬ ‫�أهم فناين القرن الع�شرين‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


The Wearing of Furniture-Food, 1934

Telephone in a Dish With Three Grilled Sardines at the End of September, 1939

The Temptation of St. Anthony, 1946

Salvador Dali

Gallery


‫‪10‬‬

‫؟‬

‫الموت‬ ‫�أنا‪ ،‬دايل‪ ،‬ا�ستهل كتابي با�ستغاثة موتي‪.‬‬ ‫�أراين ال �أبتعد عن مغزى التناق�ض بني‬ ‫الأمرين‪ ،‬كي يفهم اجلميع عبقرية الأ�صالة يف‬ ‫رغبتي باحلياة‪.‬‬ ‫فقد ع�شت مع املوت منذ اللحظة التي منا فيها‬ ‫وعيي بالتقاط �أنفا�سي‪ ،‬وظل املوت يقتلني‬ ‫دائما ب�شهوانية باردة‪ ،‬ال يتخطاها �أبدا �إال‬ ‫�شغفي ال�صايف يف �أن اختط حياتي و�أعي�شها‬ ‫يف كل دقيقة‪ ،‬وكل ثانية مهما �صغرت‪ ،‬على‬ ‫وعي تام بكوين حيا‪ .‬هذا التوتر امل�ستمر‪،‬‬ ‫العنيد‪ ،‬الهمجي‪ ،‬املفزع هو الق�صة كلها يف‬ ‫م�س�ألتي‪.‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫كيف تحيا مع‬ ‫�سلفادور دايل‬

‫‪11‬‬

‫�إن لعبتي الأ�سمى حي �أن �أتخيل نف�سي ميتا‪،‬‬ ‫ي�أكلني االود‪� .‬أغلق عيني وبتفا�صيل ال‬ ‫ت�صدق يف دقتها التامة والوعرة‪� ،‬أراين �أزدرا‬ ‫و�أه�ضم يف بطء بوا�سطة كم لعني من جحافل‬ ‫�أود الأر�ض ال�ضخم املخ�ضر‪ ،‬ينه�ش حلمي‬ ‫يقيم يف حمجر عيني بعد �أن يقر�ض العينني‬ ‫ويلقيهما بعيدا‪ ،‬ليبد�أ يف افرتا�س خمي‬ ‫ب�شراهة‪� .‬أكاد �أ�شعر _على ل�ساين _كيف‬ ‫ي�سيل اللعاب في�ستعذبه وهو يع�ضني‪ .‬وحتت‬ ‫�ضلوعي جتعل �أنفا�سي �صدري منتفخا‪ ،‬بينما‬ ‫بفكها حتطم �أن�سجة رئتي ال�شفافة‪ .‬ي�سرتيح‬ ‫قلبي قليال‪ ،‬الثبات وجوده وح�سب‪ ،‬لأنه طاملا‬ ‫خدمني ب�صدق‪� ،‬أراه مثل كعكة ا�سفنجية‬ ‫�سمينة يتاخمها ال�صديد الذي يتفجر فج�أة‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ويندفع داخل عجينة تزحف ك�أنها يرقات‬ ‫بي�ضاء مكتنزة‪ .‬وهنا ي�صل بطني‪ :‬عفن ننت‬ ‫ينقب�ض بقوة مثل فقاعة متل�ؤها جيفة‪ ،‬خليط‬ ‫روثي يحت�شد من حياة ا�ستثنائية‪ .‬وللمرة‬ ‫الأخرية �أطلق زفراتي‪ ،‬مثل بركان عجوز‬ ‫يبكي منتزعا من احلمم م�صدوعا يف العظام‬ ‫مثخنا باالود الذي يومل فوق نخاعي‪ .‬كم �أجد‬ ‫ذلك تدريبا رائعا �أكرره كلما تذكرت العودة‬ ‫اليه‪.‬الذاكرة الدالية الأوىل‬ ‫ع�شت موتي قبل حياتي‪ .‬ففي �سن ال�سابعة‪،‬‬ ‫توفى �أخي بااللتهاب ال�سحائي‪ ،‬قبل �سنوات‬ ‫ثالث من والدتي‪ ،‬هزت ال�صدمة �أمي يف‬ ‫�أعماقها‪ .‬ن�ضج �أخي املبكر‪ ،‬عبقريته‪ ،‬عطفه‪،‬‬ ‫ورقته بالن�سبة لها ا�شراقات هائلة‪ ،‬مما جعل‬

‫اختفاءه �صدمة مفجعة مل تكن �أبدا لتتخطا‬ ‫ها‪ .‬مل ي�سكن ي�أ�س والدي فقط �سوى والدتي‪،‬‬ ‫لكن �سوء احلظ مل يزل يخرتق حلل خلية‬ ‫يف ج�سديهما‪ .‬وداخل رحم �أمي‪ ،‬كنت بالفعل‬ ‫�أح�س ذعرهما‪ ،‬هنت جنينا ي�سبح يف غ�شاء‬ ‫م�شيعي لعني‪ .‬كان توقهما يرتكني �أبدا‪.‬‬ ‫وكثريا ما �أراحتني حياة ووفاة هذا الأخ‬ ‫الأكرب‪ ،‬فقد كانت خيوطه تت�صل بكل مكان‬ ‫حويل حني بد�أت �أعي‪ :‬املالب�س‪ ،‬ال�صور‪،‬‬ ‫الألعاب‪ ،‬وبقي دائما يف ذاكرتي والدي‬ ‫من خالل ا�ستدعاءات م�ؤثرة ال متحى‪.‬‬ ‫وعاي�شة يف عمق وجوده اخلا�ص والدائم‬ ‫كما ر�ضو�ض اجلروح ‪ -‬بنوع من العزلة‬ ‫عن امل�سببات ‪ -‬يتملكني الإح�سا�س بكوين‬ ‫مهزوما‪� ،‬أ�ضحت كل حماوالتي فيما بعد‬ ‫ترمي اىل ا�سرتداد حقوقي يف احلياة �أوال‬ ‫ويف املقام الرئي�سي بجذب دائم االهتمام من‬ ‫هم �أقرب يل يف �أ�شكال عدوانية �أبدية‪.‬‬ ‫واذا كان فان جوخ قد فقد عقله ب�سبب كون‬ ‫�صنوه املتوفى حا�ضرا جانبه‪ ،‬فالأمر خمتلف‬ ‫بالن�سبة يل (‪ )1‬وقد عرفت دوما كيف �أوجه‬ ‫و�أ�ضبط ذاكرتي‪ ،‬حتى يف معظم ا�ستدعاءاتي‬ ‫الآثمة‪ ،‬بل �أكاد حتى �أتذكر وجودي يف‬ ‫الرحم‪ .‬كل ما علي هو �أن �أغلق عيني فقط‪،‬‬ ‫و�أ�ضغط عليهما بقب�ضتي يدي‪ ،‬لأرى مرة‬ ‫�أخرى �ألوان الرحم‪ ،‬املطهر �ألوان م�سحات‬ ‫النار االبلي�سية‪ ،‬حمراء‪ ،‬برتقالية‪� ،‬صفراء‬ ‫وام�ضة‪ ،‬لزوجة ال�سائل املنوي وبيا�ض‬ ‫البوي�ضة الفو�سفوري الذي فيه �أعي�ش‬ ‫غام�ضا كمالك �سقط من عليائه‪.‬‬ ‫ذكريات دالية عن الوجود القدوي‪:‬‬ ‫خلق فكري �أم جمرد هاج�س ؟‬ ‫ولدت ك�أي فرد يف فزع‪ ،‬و�أمل وخدر ف�إذا‬ ‫حركت قب�ضتي فج�أة بعيدا وفتحت عيني‬ ‫على ات�ساعهما يف ال�ضوء الباهر‪� ،‬أ�شعر‬ ‫مرة �أخرى ب�شيء ما من تلك الهزة املمتلئة‬ ‫واالختناق وال�صدمة والعمى‪ ،‬وال�صراخ‪،‬‬ ‫والدم‪ ،‬واخلوف‪ ،‬والتي ت�سجل كلها دخويل‬ ‫لهذا العامل‪.‬‬ ‫كان �شبح الأخ الراحل هناك يرحب بي منذ‬ ‫البداية‪ ،‬كان رمبا قلت هو ال�شيطان الدايل‬ ‫الأول‪ .‬فقد عا�ش �أخي ل�سبع �سنوات‪ .‬و�أ�شعر‬ ‫انه كان نوعا من دورة اختبارية لذاتي‬ ‫وبع�ضا من عبقرية مطلقة فقد احرتق خمه‬ ‫كدائرة كهربية زادت درجة ا�شتعالها يف‬ ‫و�سط دقيق بدرجة ال ت�صدق‪ .‬مل تكن م�صادفة‬ ‫�أن ا�سمه كان �سلفا دور مثل �أبي �سلفا دور‬ ‫دايل �إي كوزي‪ ،‬ومثلي كان حمبوبا ب�سخاء‬ ‫ومل �أكن �إال حمبوبا عظه‪ .‬يف والدتي تابعت‬ ‫قدماي وقع خطي الراحل املوله‪ ،‬كان ال يزال‬ ‫مع�شوقا يف �شخ�صي وبل رمبا الآن �أكرث من‬ ‫زي قبل‪ .‬وطغى في�ض احلب على من قبل �أبي‬ ‫منذ اليوم الذي �شهد مولدي كجرح نرج�سي‪،‬‬ ‫بل اللحظة التي �شعرت فيها بالفعل برحم‬ ‫�أمي‪ .‬وفقط ومن خالل جنون العظمة ‪� -‬أعني‬ ‫االفراط يف الغرور بالذات ‪ -‬جنحت يف انقاذ‬ ‫نف�سي من حمق ال�شك الن�سقي يف الذات‪ ،‬بل‬ ‫تعلمت �أن �أحيا مبلء الت�أثر بحبي لنف�سي‪ ،‬لقد‬ ‫غزوت املوت لأول مرة بغرور ونرج�سية‪.‬‬ ‫غالبا ما ر�أيت املوت و�أنا �أ�شق طريقي حتت‬ ‫�أكرث الظروف ت�ضاربا‪ .‬ه�أنذا �أنهي حما�ضرة‬ ‫يف قرية فيجورا�س‪ ،‬م�سقط ر�أ�سي‪� ،‬أمام‬ ‫جمهور ي�ضم كل ال�سلطات املحلية‪ ،‬العام‬ ‫‪ ،1928‬وقد �أتوا لريوا وي�سمعوا �صبيا من‬ ‫بلدتهم كتبت املحا�ضرة بنربة عدائية لت�صفع‬ ‫مواطنيي النائمني‪ ،‬ويف النهاية كدت �أ�صيح‬ ‫فيهم (ال�سيدات وال�سادة‪ ،‬املحا�ضرة انتهت )‬ ‫حاول اجلمهور جعلي �أ�ستمر‪ ،‬مل يفهموا �أين‬ ‫انتهيت‪ .‬التزمت الهدوء‪ .‬كان هناك �صمت‪،‬‬ ‫حلظة توقف فيها الزمن‪ ،‬وفج�أة‪ ،‬ي�سقط‬ ‫العمدة‪ ،‬الذي كان يجل�س �أمامي اىل اليمني‪،‬‬ ‫بالكاد �أمام قدمي‪ ،‬كم�سمار كبري الر�أ�س‪.‬‬ ‫ينه�ضون متل�ؤهم الإثارة والرعب مي�ضون‬ ‫يف كل �صوب و�أبقى حيث كنت وح�سب‪،‬‬ ‫دومنا �أحترك‪ ،‬مت�أمال الوجه اجلموح‪،‬‬ ‫انفلقت العينان للأبد وال يزال تعبريه الأخري‬ ‫حمفورا يف تفكريي‪.‬‬ ‫هل يح�شى دايل املوت ؟‬

‫خالل هذا التفكري كان الرجل امليت مو�سوما‬ ‫بجمر العالمة الدالية‪ .‬وبالن�سبة يل‪ ،‬كان‬ ‫الأ�صوات و�سادة حتتية �أنام عليها‪ ،‬لكني كنت‬ ‫دوما �أفزع من املوت‪ .‬عمري خم�س �سنوات‬ ‫العام ‪ .1909‬و�أحد �أبناء عمي‪ ،‬عمره ع�شرون‬ ‫�سنة‪ ،‬ي�صيب خفا�شا يف عينيه م�ستخدما‬ ‫بندقيته الق�صرية‪ ،‬وي�ضع اخلفا�ش يف دلو‪.‬‬ ‫�أرمي بنوبة غ�ضبي عليه �سائال �إياه �أن‬ ‫يعطيني احليوان ال�صفري‪ ،‬وبعد ذلك �أهرول‬ ‫لأ�ضعه يف �أحد الأماكن ال�سرية‪ ،‬مبنزل ما‬ ‫اعتدت �أن �أخفي فيا الأ�شياء‪� .‬أرى الثديي‬ ‫ال�صفري مرتعدا يعاين غارقا يف �سجنه‪.‬‬ ‫�أحتدث اليه‪� ،‬أم�سكه و�أقبل ر�أ�سه ال�ساقط‪.‬‬ ‫�أبد�أ رحلة ع�شقه‪ .‬يف اليوم التايل كان �أول‬ ‫�شي ء فعلته �أين انطلقت لر�ؤيته‪ ،‬راقدا‬ ‫على ظهره بالدلو �أجد احليوان ميتا‪� ،‬أكاد‬ ‫�أرى ل�سانه الالهث ال�ضئيل و�أ�سنان الرجل‬ ‫العجوز حول �أنفه‪ .‬نظرت اليه ب�شفقة معلنة‪،‬‬ ‫ورفعته‪ ،‬وبدال من �أن �أقبله كما انتويت �أن‬ ‫�أفعل يف باديء الأمر‪ ،‬وينوع من الغ�ضب‪،‬‬ ‫لقيته بع�ضة واحدة‪ ،‬حملقت لوهلة فيما فعلته‬ ‫بفزع و�شعرت بلزوجة الدم يف فمي ف�ألقيت‬ ‫باهتياج �شديد تلك اجليفة ال�ضئيلة داخل‬ ‫احلو�ض املعد للغ�سيل عند قدمي اىل جوار‬ ‫�شجرة تني �ضخمة‪ .‬ابتعدت مهروال‪ ،‬ت�سيل‬ ‫الدموع من عيني‪ .‬و�أعود‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬لكن‬ ‫اخلفا�ش كان قد اختفى‪ .‬وكانت تينات �سوداء‬ ‫كبرية تطفو على �سطح املاء‪ ،‬كبقع �أتت‬ ‫حدادا‪ .‬واىل اليوم الزالت ذكرى هذا امل�شهد‬ ‫ترجفني بل �إن جمرد ر�ؤية بع�ض بقع �سوداء‬ ‫كافية لت�ستح�ضر يل موت اخلفا�ش‪.‬‬ ‫و�أنا طفل‪ ،‬كان لدي كذلك قنفذ اختفى يوما‪.‬‬ ‫وبعد �أ�سبوع وجدته ميتا يف حظرية الدجاج‪،‬‬ ‫�أتذكر �أنني �أعتقدت يف باديء الأمر �أنه‬ ‫حي لأن �شعراته كانت تبدو وك�أنها تتحرك‬ ‫ب�سبب علبة يرقات ت�صببت حول جثته‪.‬‬ ‫اختفت الر�أ�س حتت بقايا طعام جيالتيني‬ ‫خم�ضر‪ .‬كنت قادرا على �أن �أملأ بالدموع‬ ‫عيني لأن قدميه كانتا تنثنيان حتتي وكان‬ ‫علي �أن �أفر من الرائحة النتنة‪ ،‬كان ذلك‬ ‫الوقت الذي جتمعت فيه براعم الليمون‪،‬‬ ‫وحني خرجت من حظرية الدجاج‪ ،‬فاج�أتني‬ ‫ارتعادة م�شوبة بالفزع‪� ،‬أراحتني تلك الرائحة‬ ‫امللطفة التي �أطلقتها الغ�صون العطرية لكن‬ ‫االفتتان كان هائال‪ .‬توقفت عن التنف�س‬ ‫وعدت اىل ركن الفراخ مرة �أخرى لكي �أفت�ش‬ ‫عن اجليفة املتخللة‪ .‬ثم مرة �أخرى للخارج‬ ‫حيث الرائحة النتنة‪ ،‬وطالقة الهواء‪ ،‬الظل‬ ‫وال�ضوء‪ ،‬اجليفة وجمال الأزهار‪ :‬كانت‬ ‫حتتفظ باالختيار يف لوحة �ألوان هي�ستريية‬ ‫حتى تخطتني الرغبة متاما يف �أن �أمل�س‬ ‫كومة من الهرام‪ .‬ت�سمرت يف البداية‪ ،‬وكان‬ ‫افزاع رغبتي‪ ،‬حماوال �أن �أقفز فوق القنفذ‪.‬‬ ‫اكني ف�شلت‪ ،‬تعرثت و�سقطت‪ ،‬و�أنفي ي�ستقر‬ ‫متاما �أ�سفل معرتك االود‪ .‬ويفزع �شعرت‬ ‫باال�شمئزاز‪ ،‬منتزعا جمرفة كالدودة‪ ،‬كما لو‬ ‫كان يهبني قوى �سحرية‪ ،‬كي �أ�سحق القنفذ‬ ‫ببط ء‪� ،‬أخريا تال�شى جلده‪ ،‬كا�شفا حتته‬ ‫اللحم املكتنز �أ�سقطت املجرفة وعدوت بعيدا‪.‬‬ ‫كنت ال �أتنف�س‪ ،‬وكانت ال�صدمة طاغية‪�.‬شعرت‬ ‫باالن�سحاق حتى عدت �أ�سرتجع �سحري‬ ‫املدفون‪ ،‬وعندئذ ذهبت الغراقه اىل ما ال‬ ‫نهاية يف مياه جدول قبل �أن �ألقيه �أ�سفل كومة‬ ‫براعم ليمونية ليجف يف ال�شم�س‪ .‬لكن الزلت‬ ‫م�ضطرا اىل تركه غارقا يف ندى الفجر قبل‬ ‫�أن يفقد رائحة عفوتنه النتنة‪ .‬كنت للرت قد‬ ‫خربت الدر�س الأول للقاء فزعة املوت‪.‬‬ ‫كيف يتذكر دايل وفاة والده‬ ‫كان �أبي ميتا حينما قبلت فاه الغليظ البارد‬ ‫ب�شفتي املتوهجتني باحلياة‪ ،‬غالبا ما كنت‬ ‫�أقول‪� ،‬شارحا قول فران�شي�سكو دي كويفيدو‬ ‫�أن �أعظم املتع احل�سية هي معانقة الأب امليت‪.‬‬ ‫فهل وجد حقا لب�شر انتهاكا �أكرث فزعا من‬ ‫ذلك‪� ،‬أو دليال �أعظم على حياته يف �أن يعطي‬ ‫نف�سه وي�أخذها‪� ،‬أكرث من هذا التدني�س‪ ،‬وهذا‬ ‫التعدي؟ كل ما منعني هو جبني والظروف‪.‬‬ ‫ولكن الزلت �أ�ستطيع �أحلم بفعلها‪.‬‬ ‫جار�سيا لوركا الذي التقيته يف العام‬

‫‪ 6919‬يف اجلامعة‪ ،‬كان يف �أحيان ميثل‬ ‫هيتته‪ .‬الزلت �أ�ستطيع تذكر وجهه‪ ،‬ميتا‬ ‫وفزعا‪ ،‬وراقدا على �سريره‪ ،‬حماوال املرور‬ ‫مبراحل حتلله البطيء‪ ،‬العفونة من وجهة‬ ‫نظره‪ ،‬ت�ستمر �أياما خم�سة‪.‬ثم ي�صف‬ ‫التابوت‪،‬وكفنه‪ ،‬وامل�شهد الكامل لفلقه‪ ،‬وتقدم‬ ‫النع�ش يف �شوارع غرناطة الوعرة وحني‬ ‫يت�أكد لنا جميعا قد متلكنا الفزع‪ ،‬ينه�ض‬ ‫فج�أة منفجرا ب�ضحكة برية تظهر كل �أ�سنانه‬ ‫البي�ضاء الرائعة‪ ،‬وير�سلنا خارج الباب عدوا‬ ‫بينما يعود ل�سريره‪ ،‬لينام هادئا يف حرية‪.‬‬ ‫كطفل كانت �أية �إ�شارة ولو خفيفة للحوت‬ ‫تربك معدتي خوفا‪،‬وكانت لعنادي �أ�شكال عدة‬ ‫وكان لهذا الف�ساد املبكر رد فعل عميق لقوى‬ ‫احلياة التي تتناف�س �ضد قوى املوت‪ .‬ف�أن‬ ‫تولد ومعك �أخ ا�ضايف‪،‬جعلني �أو�شك �أن �أقتله‬ ‫كي �أقتن�ص مكاين وحقي حتى موتي‪.‬‬ ‫�أتذكر مرة خد�شت فيه خد عنزتي بدبو�س‪،‬‬ ‫حني وجدت حمل احللوى مفلقا‪ ،‬بينما كان‬ ‫ال�سبب الرئي�سي �أن خدها ناعم‪� ،‬أحمر‪،‬‬ ‫طيع كالأردواز‪ ،‬وا�ستطعت �أن �أكتب ا�سمي‬ ‫بالدم عليها كان ا�سمي دايل يعني الرغبة‬ ‫بالكاتالونية‪.‬‬ ‫يف �سن اخلام�سة‪ ،‬دفعت رفيقي يف اللعب‬ ‫للف�ضاء‪ ،‬كان جميال‪ ،‬معقو�ص ال�شعر‪� ،‬ضئيال‬ ‫و�أ�شقر‪ ،‬بينما كنت �أ�ساعده لركوب دراجته‬ ‫ذات العجالت الثالث‪ ،‬كنت قد ت�أكدت �أن‬ ‫�أحدا ال يرانا‪ .‬كنا فوق ج�سر بال ق�ضبان‪،‬‬ ‫طرحت به من ارتفاع عدة �أمتار لي�سقط‬ ‫على ال�صخور �أ�سفل اجل�سر‪ ،‬ثم تظاهرت‬ ‫باجلزع مهروال للدار �أح�ضر جندة‪ ،‬الزلت‬ ‫�أرى نف�سي‪ ،‬فوق املقعد ال�صخري ال�ضئيل‪،‬‬ ‫�أت�أرجح طوال الوقت‪ ،‬للفلف وللأمام بينما‬ ‫�أتلمظ بثمرة فاكهة‪ ،‬و�أ�شاهد هياج الأبوين‬ ‫املحموم‪ ،‬م�ستمتعا بالظالم الآمن يف ركن‬ ‫غرفة اجللو�س‪ ،‬دومنا �أن تكون هناك �أدنى‬

‫ذرة من ندم‪ ،‬كما لو �أن ما فعلت �أكرب من �أي‬ ‫�شيء �ساد حياتي‪.‬‬ ‫بعد ذلك بعام‪ ،‬ركلت �شقيقتي ال�صغرية ذات‬ ‫الأعوام الثالثة‪ ،‬وكانت تزحف عل يديها‬ ‫وقدميها‪ ،‬ركتها مبا�شرة يف الر�أ�س و�سرت يف‬ ‫طريقي مبتهجا‪ ،‬لكن ل�سوء حظي راين خلف‬ ‫والدي �أفعل ذلك‪ ،‬ف�أغلق الباب دوين �سمعت‬ ‫رجة الآنفالق‪ .‬كنت �أ�ستطيع ت�صور �ضخامته‬ ‫خلف الباب‪ .‬لكني بقيت بال حركة �أمتيز‬ ‫غيظا‪ .‬لقد عاقبني ب�أن �أغلق علي الباب لذا لن‬ ‫يكون با�ستطاعتي �أن �أرى املذنب الذي �سرتاه‬ ‫العائلة كلها بالعني املجردة يجذب االنتباه‬ ‫لل�سماوات على نحو �آ�سر‪ ،‬وحدي حرمت من‬ ‫تلك امل�شاهدة الفريدة‪.‬‬ ‫بد�أت �أت�شنج مكتوما حتى انفطرت‪ ،‬كانت كل‬ ‫الدموع يف ج�سدي تت�صبب خارجة و�صرخت‬ ‫عاليا حتى فقدت �صوتي وبد�أت والدتي‬ ‫يزعجها الأمر‪ ،‬وانزعج هو �أي�ضا وبد�أت‬ ‫�ساعتها �أعي كيف �أدير موقفا كهذا ل�صاحلي‪،‬‬ ‫كان عندي �ستة �أعو ام‪ .‬وانتقمت �أكرث حني‬ ‫�أدعيت بعد عدة �أيام ب�أين مري�ض‪ ،‬حتى‬ ‫والدي ا�ضطر �أن يرتك املائدة وقت الطعام‪،‬‬ ‫لأنه مل يقو على �سماع �سعال الهي�ستريي‪،‬‬ ‫والذي يحتمل �أن يوقظ داخله �صدى الوفاة‬ ‫الأليمة البنه الأول‪ .‬وداومت على �إعادة‬ ‫تلك التمثيلية املفزعة التي تفطر القلوب كي‬ ‫ا�ستمتع بفزع والدي‪.‬‬ ‫وبانتقامي من والدي‪� ،‬أطلقت متعة رغبتي‬ ‫اخلا�صة ل كك الأيام‪ ،‬كل ما كنت �أعمله هو‬ ‫�أن �أ�سري يف غرفة نوم والدي‪ ،‬حيث كانت‬ ‫هناك �صورة ل�سلفا دور الأول‪ ،‬فتبد�أ �أ�سناين‬ ‫ت�صطك‪ ،‬مل يكن ب�إمكاين �أن �أزور قربه يف‬ ‫املدافن‪ ،‬كان علي �أن �أمني كل م�صادر خيايل‬ ‫لأعالج حدوتة ف�سادي املوتي ب�أن �أجعل‬ ‫ال�صور كم�شروع حي مثل دودة عفنة و�أخريا‬ ‫�أطردها كما تطرد الأرواح ال�شريرة كي‬

‫�أ�ستطيع �أن �أخلد للنوم‪.‬‬ ‫كيف يعرف دايل النهج البارانوي ‪ -‬النقدي‬ ‫النهج البارانوي _ النقدي فن كبري يلعب‬ ‫على �أوتار املتناق�ضات الداخلية لل�شخ�ص‬ ‫با�ستب�صار حني يجعل الآخرين ميار�سون‬ ‫ا�شتياقات وحلظات الوجد للحياة بطريقة‬ ‫ت�صبه ل�صيقة بهم‬

‫هكذا ي�صبح �أمل املوت‬ ‫متعة روحانية‪ ،‬بعد �أن‬ ‫كان �إ�سبانيا منطيا‪ .‬لي�س‬ ‫بالن�سبة يل (�أن يكون هناك‬ ‫�سبب ) كما قال مونتان الذي‬ ‫احتقره لعقله البورجوازي‪،‬‬ ‫وحما ولته املثرية لل�سخرية‬ ‫يف �أن يجهل املوت‪ ،‬و�أن‬ ‫يحرمه من حيويته‪ .‬و�أن‬ ‫يتخطى هلعه‪ .‬كنت �أف�ضل‬ ‫�أن �أنظر اىل املوت يف عينيه‬ ‫وجعلت لنف�سي ثورة‬ ‫عاطفية مهذبة للقدي�س‬ ‫جون عن ال�صليب‪.‬‬

‫با�ستمرار كما لو كانت ملكهم‪ .‬وت�أكدت يل‬ ‫مبكرا جدا‪ ،‬ب�صورة غريزية‪ ،‬ظاهرة حياتي‪:‬‬ ‫�أتقبل الآخرين كما هي التجاوزات طبيعية‬ ‫يف �شخ�صية املرء ومن ثم يخفف املرء من‬ ‫ا�شتياقا ته بخلق نوع من امل�شاركة اجلمعية‪.‬‬ ‫بعد ظهر يوم ما‪ ،‬ويف مدر�سة مار�سيت براذر‬ ‫فيجورا�س‪ ،‬بينما �أعرب الدرج احلجري‬ ‫نحو م�ضمار امللعب كنت �أح�س كما لو �أنني‬ ‫�أقفز يف الف�ضاء‪ .‬كان اجلنب قد حرمني‪،‬تلك‬ ‫الن�شوة‪ .‬لكن يف اليوم التايل‪ ،‬قفزت لأقع‬ ‫على الدرجات‪ ،‬لت�صيب ج�سدي كله الكدمات‬ ‫والر�ضو�ض بعنف �أده�ش الطلبة واملدر�سني‪،‬‬ ‫ومل يكن هنا �أدنى خوف مما ارتكبت‪� .‬إن ما‬ ‫فعلته من اعجاز جعلني �أكاد ال �آبه بالأمل‪.‬‬ ‫فقد �أحطت بالعناية‪ ،‬ولفني االهتمام‪ .‬وبعد‬ ‫�أيام قالئل‪ ،‬كررت ما فعلته وب�صورة �أعلى‬ ‫بدرجة تكفي لأن تتحول كل العيون جتاهي‬ ‫وفعلتها ثانية مرات‪ ،‬اختفي خويف كلية يف‬ ‫التوق الذي بثثته يف زملآء الدرا�سة‪ .‬ففي كل‬ ‫مرة �أهبط الدرج‪ ،‬يتحول انتباه الف�صل كله‬ ‫نحوي‪ ،‬كما لو ك�آن بيدي ف�ضل ما‪ ،‬و�أ�سري يف‬ ‫�صمت القبور _ كالقول امل�أثور ‪ -‬كما لو كنت‬ ‫�أخلب لبهم حتى الدرجة الأخرية‪ ،‬هنالك كانت‬ ‫�شخ�صيتي تتخلق‪ .‬ونحان جزائي من ذلك‬ ‫كال �أكرب مما ي�سبب من ازعاج‪ .‬فغالبا ما كان‬ ‫يحدث يل �أن تتملكني نزوة مفاجئة يف القفز‬ ‫للف�ضاء من قمة جدار‪ ،‬رغم املخاطرة الأعظم‪،‬‬ ‫كي �أهدي‪ ،‬من لوعة الف�ؤاد‪ .‬بل انني حتولت‬ ‫اىل قافز ماهر جدا‪ .‬ودونت يف مالحظاتي‬ ‫�أن كل مرة كانت تلك الأحداث ت�أتي بي‪ ،‬بعد‬ ‫حقيقتها اىل مغزى �أعمق حلقيقتي‪ :‬فكانت‬ ‫اخل�ضرة والأ�شجار والزهور‪ ،‬تبدو كلها‬ ‫قريبة مني‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬كنت �أح�س اخلفة‪،‬‬ ‫�أ�ستطيع �أن �أ�شارك ب�صورة طبيعية يف‬ ‫الوجود و�أن (�أ�سمع ) كل حوا�سي‪ .‬بالقفز‬ ‫�أمام زمالئي‪ ،‬خلقت فيهم متعة ت�ساوي‬

‫متعتي �أو حتى �أكرب من متعتي‪ ،‬كنت �أرى‬ ‫نوعا من الكرامة يف عيونهم‪ ،‬يطو مبا �أفعل‬ ‫ملكانة احلدث‪ .‬وي�صبح دايل حامل املتعة لكل‬ ‫�شخ�ص‪ ،‬ويتحول �ضعفه اىل قوة‪ .‬لقد حملتهم‬ ‫جميعا على االعرتاف بانفعايل و�أن يقبلوا‬ ‫به‪ ،‬و�أجربتهم عل �أن ي�شاركوين جميعا يف‬ ‫نف�س العاطفة‪.‬‬ ‫هكذا ي�صبح �أمل املوت متعة روحانية‪ ،‬بعد‬ ‫�أن كان �إ�سبانيا منطيا‪ .‬لي�س بالن�سبة يل (�أن‬ ‫يكون هناك �سبب ) كما قال مونتان الذي‬ ‫احتقره لعقله البورجوازي‪ ،‬وحما ولته‬ ‫املثرية لل�سخرية يف �أن يجهل املوت‪ ،‬و�أن‬ ‫يحرمه من حيويته‪ .‬و�أن يتخطى هلعه‪ .‬كنت‬ ‫�أف�ضل �أن �أنظر اىل املوت يف عينيه وجعلت‬ ‫لنف�سي ثورة عاطفية مهذبة للقدي�س جون عن‬ ‫ال�صليب‪.‬‬ ‫(تعال �أيها املوت‬ ‫حمتفيا كي �أملوت ‪,‬‬ ‫فقد تعيل يف متعة ارحيل‬ ‫جمددا للحياة )‬ ‫يف وجه وقفة كتلك‪ ،‬تتهافت حقيقة الن�صح‬ ‫من �أجل التزييف لدى مي�شيل دي مونتان‪،‬‬ ‫كل �أملي �أن ي�أتي موتي داخل حياتي‬ ‫ك�صاعقة‪ ،‬كي ت�أخذين كلية‪� ،‬أو كنوبة حب‪،‬‬ ‫وان جتعل ج�سدي طوفانا بكامل روحي‪.‬‬ ‫وبعني الوقت كان با�ستطاعتي �أن �أ�ست�سيغ‬ ‫ي�أمي‪ .‬وكان انعدام املقدرة لدى يف املعرفة‬ ‫يجعلني �أتيه من ناحية �أخرى‪ ،‬وكان خويف‬ ‫ي�شربني وقاحة اال�ستخفاف‪ .‬وكان وخز‬ ‫املوت مينحني خا�صية جديدة يف حياتي‬ ‫وعواطفي‪ .‬وحني كانت جاال‪ ،‬معجزة حياتي‪،‬‬ ‫جتتاز عملية خطرية يف ‪ 1936‬كنا نق�ضي‬ ‫وقتنا يف حالة من الالمباالة الظاهرية نخلق‬ ‫مو�ضوعات �سوريالية يف اليوم الذي �سبق‬ ‫�إجراء اجلراحة‪ .‬كانت ت�سلي نف�سها بجمع‬ ‫عنا�صر مده�شة ومتباينة معا من �أجل فربكة‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬ ‫ما يبدو �أدوات �آلية _بيولوجية‪ .‬النهود مع‬ ‫ري�شة يف احللمة‪ ،‬وعلى قمة الري�شة هوائيات‬ ‫معدنية منغم�سة داخل �إناء دقيق (ويبدو هذا‬ ‫الرتكيب مرجعا �ضمنيا جلراحتها الآتية )‪.‬‬ ‫ولكن ما حدث �أنه‪ ،‬يف طريقنا للم�ست�شفى‬ ‫داخل التاك�سي ‪ -‬كنا نخطط للتوقف عند‬ ‫اندريه بريتون كي نريه اخرتاع جاال ‪�-‬إال‬ ‫�أن ارتطاما حادا جعل البدعة تنحرف‬ ‫�إثر ال�صدمة و�أن يغمرنا الدقيق‪ .‬وميكن‬ ‫لك �أن تتخيل كيف كنا نبدو حني و�صلنا‬ ‫للم�ست�شفى!‬ ‫ما هو هام �أنه م�ساء ذلك اليوم كنت م�شغوال‬ ‫ب�إعداد الن�سخة النهائية من اخرتاعي �ساعة‪.‬‬ ‫نوم م�صنوعة من حلية �ضخمة من اخلبز‬ ‫الفرن�سي وداخلها ‪ 12‬حمربة زجاجية ميل�ؤها‬ ‫حرب بلون خمتلف ينف�س فيه قلم ري�شة ‪-‬‬ ‫وتناولت ع�شائي ب�شهية ‪ -‬دون التفكري ولو‬ ‫لثانية يف عملية جاال‪ .‬حتى الثانية �صباحا‪،‬‬ ‫كنت ال �أزال �أعمل على اتقان �ساعتي ب�إ�ضافة‬ ‫�ستني حمربة ملونة بالألوان املائية على‬ ‫�أوراق اللعب معلقة من اخلبز‪ .‬ثم خلدت‬ ‫للنوم‪ ،‬ولكن يف اخلام�سة �صباحا‪ ،‬كانت‬ ‫�أع�صابي امل�شدودة توقظني‪ .‬كنت �أت�صبب‬ ‫عرقا‪ ،‬مكدودا بداخلي �أنفا�س ندم‪ .‬نه�ضت‬ ‫بغري ثبات باكيا‪ ،‬ك�أن عقلي تثريه �صور جاال‬ ‫معبودتي يف �أوجه حياتية عدة‪ ،‬وانطلقت‬ ‫نحو امل�ست�شفى ي�صرخ توقي‪ .‬ولأ�سبوع كان‬ ‫العرق يغطيني‪ ،‬واملوت يرب�ض يف حلقي‪.‬‬ ‫و�أخريا مت تخطي هذا املر�ض‪ .‬دخلت غرفة‬ ‫جاال لآخذ كفنها بكل الرقة يف العامل‪ ،‬وقلت‬ ‫لنف�سي (الآن‪ ،‬جالو�شكا‪� ،‬أ�ستطيع قتلك )‪.‬‬ ‫كانت الروح حتيا على ما ي�صدمها وجتد يف‬ ‫رجفة ن�شوة اجلماع ذررته‪ .‬وي�صبح ال�ضعف‬ ‫ذاته قوتي‪ ،‬و�أنا �أثري باملتناق�ضات‪� .‬أحيا‬ ‫وعيناي �صافيتان مفتوحتان عن �آخرهما‪.‬‬ ‫هل درا�سة الطقو�س ال�سرية يف الفن �شيء‬ ‫نبيل لدى دايل؟‬ ‫هل تظنها م�صادفة يف �أن رحالت الطقو�س‬ ‫ال�سرية الكربى كانت غالبا ما ترتبط بالردة‬ ‫والطبل الزائف ؟ احلقيقة �أن ال�شرج‪ ،‬الذي‬ ‫�أعاله كويفيد يف مديحه‪ ،‬يعدا رمزا �أ�سا�سيا‬ ‫للتطهر من �أفعالنا الوح�شية‪ .‬كل ما هو‬ ‫�إن�ساين حني تتجاوزه روحانية املوت لي�صبه‬ ‫طق�سا �سريا فبعد مولد "دوفني "‪ ،‬وريث‬ ‫عر�ش فرن�سا‪ ،‬كانت ف�ضالته جتمع يف بالط‬ ‫الق�صر‪،‬يف وجود كل نبالء اململكة‪ ،‬ويدعى‬ ‫�أعظم الر�سامني‪ ،‬فرمبا يلهم الرباز امللكي‬ ‫الباليتة‪ .‬وكان البالط كله يرتدي اللون‬ ‫نف�سه‪ .‬فهذا نبل‪ .‬وهو قبول للإن�سان ب�صورته‬ ‫املطلقة‪ ،‬برازه عظه مثل موته‪ .‬بل �أكرث من‬ ‫ذلك‪ ،‬كانت الباليتة الف�ضالتية تتمتع بتنويعة‬ ‫هائلة‪،‬من الرمادي للأخ�ضر ومن الأوكروات‬ ‫اىل البنيات‪ ،‬كما نرى يف �أعمال كارد�أن وال‬ ‫يوجد �شي ء �آخر �أكرث ا�شتهاء للعني ب�صورة‬ ‫ذواقة من ظل الرباز الذي ين�ساب بحرية‪،‬‬ ‫الف�ضيحة احلقيقية هي �أننا ما عدنا جنر�ؤ �أن‬ ‫نقول �أو نفكر يف ذلك‪ .‬عا�ش براز امللك �أوفني‬ ‫! وخذ الأمريكيني‪ ،‬وهم غري قادرين على‬ ‫مواجهة املوت‪ ،‬وقد �أعلوا من �ش�أن �صناعة‬ ‫كاملة قائمة على ال�شعارات مثل �أنت متوت ‪-‬‬ ‫ونحن نتوىل كل �شي ء) كما لو كان هذا هو‬ ‫التنكر لواقع الظاهرة‪� ،‬أو تقلي�ص حجمها‪� ،‬أو‬ ‫تزيينها‪ ،‬وتعقيمها‪ ،‬ثم و�ضع مقايي�س لها‪� ،‬أو‬ ‫حرمانها من امل�أ�ساة داخلها‪ .‬لكن موتا يعرب‬ ‫دومنا جالل ال ي�شي ب�شي ء �إال بحياة بخيلة‪،‬‬ ‫�أفكارها �ضئيلة‪ .‬ال جوهر حلياة الب�شر �إذا‬ ‫حرم املوت من مهناه‪� .‬إن الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية �ستجد يف براز �أوفني �شيئا غري‬ ‫زي فكر‪ ،‬لذا �سي�ستبدلونه بحلوى قرنفلية‬ ‫بال�سكر‪� ،‬أي رقة واعتدال ؟ اين �أحلم ب�أن �أبقى‬ ‫على وقارها واحتالبها حتى املوت‪.‬‬ ‫رمبا �سيكون �ضروريا‪ ،‬كما هو الأمر �أيام‬ ‫الأ�سكوريال العظيمة �أن �أعود اىل �أكوام‬ ‫الروث التي جتعل املرء حا�ضرا يف التحلل‬ ‫البطيء للج�سد‪ ،‬والر�ؤية والرائحة حت�ضر‬ ‫للعقول والذاكرة القيمة املختمرة عن‬ ‫الروحانية احلقيقية‪� .‬إن الأج�ساد الدودية‬ ‫الت�سلق تنجز مهمتها النبيلة الأخرية‪ :‬العودة‬

‫‪13‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫للأر�ض‪ .‬ويف قبول درا�سة الطقو�س ال�سرية‬ ‫يف الفن والتربز واملوت توجد طاقة روحانية‬ ‫ا�ستغلها بثبات عظيم‪� .‬أنا مقتنع ب�صورة ال‬ ‫واعية ب�أن ال�ضربات العميقة التي تدفعني‬ ‫لأنزع �أح�شاء القنفذ ال�صفري امليت واملتحلل‬ ‫تدفعني باملثل بدون �شك اىل التهامه‪.‬‬ ‫دال‪ :‬اقتل وكل‬ ‫�أهوى �أن �أحطم جماجم الطيور ال�صغرية‬ ‫بني �أ�سناين‪ ،‬و�أن �أهر�س عظامها كي �أم�ص‬ ‫النخاع‪ ،‬والدجاج الذي �أو�شك �أن يف�سد‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫واملطبوخ يف ف�ضالتها‪ ،‬وكان ندمي الوحيد‬ ‫�أنني مل �آكل الديوك الرتكية املطبوخة حية‪،‬‬ ‫والتي‪ ،‬كما يقال‪ ،‬تعد طبقا �سحريا‪� .‬أعرف‬ ‫�أنني نهم ب�صورة �ضارة‪ ،‬وت�ضيء وعيي‬ ‫�شهية �أكلة حلوم الب�شر‪ ،‬ملا بدا بالتايل الدليل‬ ‫الدائم على واقعي املعا�ش‪ .‬كان لعابي ي�سيل‬ ‫بطريقا �أكرث حياة‪ ،‬حني افرت�س �شيئا ميتا‪.‬‬ ‫بل الأكرث من ذلك �أرى الفك ع�ضوا رائعا يعي‬ ‫برغبتنا اخلا�صة يف احلياة‪ ،‬وقيمة الواقع‪،‬‬ ‫وهو جمرد �صهريج هائل للف�ساد‪ ،‬واملقابر‬

‫فيه منا�ضد ع�شائنا‪� .‬إن احلقيقة بني �أ�سناننا‪.‬‬ ‫فقد برهنت الفل�سفة نف�سها يف فن الأكل‪ .‬فا‬ ‫الن�سان يك�شف عن نف�سه حني تكون ال�شوكة‬ ‫يف يده‪� .‬إن �أر�ستقراطية كيورين العظيم قد‬ ‫ظهرت دائما يل‪ .‬مثل �أبي‪ ،‬كنت �أمام طعام‬ ‫البحر بريا‪ ،‬تلك الق�شريات بلحمها العذري‬ ‫حتميه عظام قا�سية ب�صورة تكفي لأن تنمو‬ ‫يف اخلارج‪ ،‬لكني �أمقت املحار خارج �أ�صدافه‬ ‫مقتي لطراوة الأ�سبان‪.‬‬ ‫لقد حكى جوزيف دي ماي�سرت كل ذلك حني‬

‫علق عل �إن�سان يف معركة ال يطيع �أبدا رغم‬ ‫�أن الأر�ض كلها الغارقة يف الدهاء هي مذبح‬ ‫�ضخم يقربن �أمامه بكل �شي ء بال نهاية‪،‬‬ ‫وبال مقيا�س وبدون لني حتى ت�ستهلك كل‬ ‫الأ�شياء‪ ،‬وتنقر�ض‪ ،‬وميوت املوت‪ .‬نعم‪� ،‬إن‬ ‫االلغاء حمتوم‪ ،‬ف�سته�ضمنا الأر�ض جميعا‪،‬‬ ‫و�أنا لدى هذا االعتقاد طوال الوقت‪ .‬فلن جتد‬ ‫واحدا من �أفعايل‪� ،‬أو واحدا من �إبداعاتي �إال‬ ‫جت�سيدا يقابل تلك املعرفة‪ ،‬ومل توجد حلظة‬ ‫يف حياتي مل �أكن فيها على وعي بح�ضور‬

‫املوت‪� ،‬إن ذلك يجعلني �سعيدا‪ ،‬وملاحا‪� ،‬أنوي‬ ‫�أن �أغ�ش قليال ب�أن �أجعل لنف�سي بياتها‪،‬‬ ‫�أعني �أن �أف�سح للكوميديا ف�صلني �آخرين �أو‬ ‫ثالثة يف هذا القرن القادم‪ ،‬لأين ا�ؤمن ببعث‬ ‫الأج�ساد‪.‬‬ ‫�أمر �سيىء جدا �أين ل�ست م�ؤمنا‪ .‬مل �أفقد‬ ‫الأمل‪ .‬لقد �أو�ضح القدي�س �أوج�سنت‬ ‫الطريق ب�صالته للرب ليعطيه الإميان‪ ،‬لكن‬ ‫مل يحدث ذلك دومنا �أن يعطيه الرب �أوال‬ ‫الوقت ال�ضروري ليت�شبع باملتع املتاحة‬

‫على �سطح الأر�ض‪ .‬كانت رغبتي يف‬ ‫اخللود فيما بعد احلياة ب�إ�صرار الذاكرة‪،‬‬ ‫�أريد �أن �أكون قادرا على تذكر كل تفا�صيل‬ ‫حياتي‪ .‬ال�سعادة الغامرة ال تعني �شيئا‬ ‫لدي دومنا ت�أكيد التذكر لكل حياتي‪� .‬أنا‬ ‫�أرف�ض الأ�شكال الأخرى من البعث ويف‬ ‫تلك احلالة �أف�ضل اال �أموت‪ .‬يف الوقت‬ ‫احلايل هناك على الأقل ع�شر طرق الطالة‬ ‫احلياة معروفة متاما‪ ،‬بفرتات النوم الذي‬ ‫قد ت�ضيف الكثري من التوابل للحظات‬

‫�إعادة اال�ستيقاظ‪� .‬س�أختار بينها بكفاءة‬ ‫كربى حني ي�أتي موعدها‪ .‬هذا االجتاه هو‬ ‫جزء من اللعبة التي �أ�ؤديها مع املوت‪.‬‬ ‫لدى عبقرية كهذه ملحاولة �إطالة الأيام قدر‬ ‫االجناز الذي حتتاجه �أعمايل الكاملة‪ .‬لكن‬ ‫يف احلقيقة‪� ،‬أن كل ما �أحبه بعمق وذنب‬ ‫هو �أح�شائي‪� .‬إن جمايل الداخلي يتكون‬ ‫من رغبة هائلة تعل منه اىل نوبات‪ ،‬لي�س‬ ‫فقط كل ما يقف يف طريقه‪ ،‬ولكن وبقرا‬ ‫ري وحدي باال �أجد ما يخ�صني واال ا�صكك‬

‫ما هو ملكي‪ .‬ودعني �أ�س�ألك ما هو الذي‬ ‫�أكرث من موتي‪� .‬أعرتف �أين �أعتقد �أن‬ ‫لنف�سي ح�صانة‪ ،‬و�أين �أرغب يف التحمل‬ ‫حتى �أمني ب�أق�صى حد حلي ا�ستثري املوت‬ ‫ال�سماوي يف جل خا�صيته‪ .‬وكوين �أ�صبح‬ ‫�صكه يف عظمته‪� ،‬أباريه يف البعد والكيف‪.‬‬ ‫�إنها �ألهتي العظيمة‪ ،‬الروح احلكمة لنا‬ ‫كلنا‪� .‬إنها اجلمال الغام�ض واملطلق‪� .‬أعرف‬ ‫�أن احلياة ما هي �إال مملكة للنق�ص‪ ،‬لكني‬ ‫�س�أجعل من التتابع الطويل والالنهائي‬

‫للأيام التي ت�شمل حياتي كماال فاتنا‪،‬‬ ‫يحمل نقطة متا�سه مع الله‪ .‬وكنت �أود‬ ‫كتابة ق�صيدة اليه‪ ،‬رمبا تقول‪:‬‬ ‫�أيها املوت‪� ،‬ألوهيتى اجلميلة‪،‬‬ ‫�أنت التقيت الكاهن الأكرب‪،‬‬ ‫�أنت التقيت ال�صنو‬ ‫وخدمتني‬ ‫لذلك �أعبدك‪،‬‬ ‫نحن نعمل معا كي ن�شكل معادال للأ�شياء‬ ‫املطلقة‬ ‫التي مل يكن لها �أبد�أ ما ي�ساويها‬ ‫ويف كل يوم �أغدو املالك االول‬ ‫لدار الفناء‪.‬‬ ‫و�أعود اىل حياتي الرحمية‪ ،‬التي انتهت‬ ‫يف اليوم احلادي ع�شر من مايو من العام‬ ‫‪ ،1904‬بعد الثامنة بخم�س و�أر بعني‬ ‫دقيقة‪ ،‬حيث ولدت من بطن �شرعية حملتها‬ ‫دونيا فيليبا دوم رو�سينيك‪ .‬كانت �أمي يف‬ ‫الثالثني‪ .‬وتقول �شهادة امليالد �أن والدي‬ ‫هو دون �سلفا دور دايل �إي كوزي‪ ،‬قد‬ ‫�أعطى يومني بعد ذلك التاريخ كي ي�سجل‬ ‫�شجرتي العائلية لكل من الأبوين‪ .‬من‬ ‫ناحية الأب كان دون جالو دايل‪ ،‬وهو‬ ‫من �أهل فيجورا�س‪ ،‬ودونيا تريزا كوزي‬ ‫مار كو�س من �أهل وو�سو�س‪� .‬أما من جهة‬ ‫الأم فكانا دون ان�سيلمو دومينيك �سريا‬ ‫ودونيا ماريا فريي�س �سادورين‪ ،‬وهما من‬ ‫بر�شلونة‪� ،‬أما ال�شهود فكانا دون خو�سيه‬ ‫مريكادير من �أهل البي�سبال‪ ،‬وهي �إحدى‬ ‫مقاطعات فريونا‪ ،‬وكان تاجر دباغة يقيم‬ ‫ل هذه املدينة‪ ،‬والثاين دون �إميليوبيج من‬ ‫�أهل فيجور ا�س ومهنته املو�سيقى‪،‬ويقيم‬ ‫يف هذه املدينة‪ ،‬وكانا من نف�س ال�سن‪.‬‬ ‫كان �أبي حينها يف احلادية والأربعني‪،‬‬ ‫وكان معروفا ب�أنه (طبيب املال )‪ ،‬لكونه‬ ‫نوتاريو البلدة (‪)2‬وي�سكن يف ‪ 20‬كاليه‬ ‫مونرتيول‪ ،‬وقد منحت الأ�سماء امل�سيحية‬ ‫�سلفا دور‪ ،‬وفيلبي وجا �سينتو و�أنا‬ ‫مت�أكد من �أن كل الكربياء قد رحل و�أن كل‬ ‫ه�ؤالء الذين خ�صبت �أرواحهم الف�ضاء‬ ‫الذي ن�سبح فيه‪ ،‬هذا الطمي الدقيق من‬ ‫الروحانية‪� ،‬أراه ابتهج حني ظهرت على‬ ‫وجه الأر�ض‪ ،‬لأنني �شكلت التحدي الأعظم‬ ‫لعبقرية �إن�سان قرر �أن يح�سم الأمر جتاه‬ ‫املوت‪ .‬ويف التعاقب املمتد للقرون التي‬ ‫ر�أت الفنانني‪ .‬كم منهم كانت له كيفيتي يف‬ ‫االنفعال الكوين املركز؟ ما �أ�ستطيع قوله‬ ‫�أين‪ ،‬دايل �أطعم رغباتي باجلمال احليوي‬ ‫لكل العبقريات امليتة‪ .‬و�أدفع بها لالمام‪.‬‬ ‫ف�أنا ال�شم�س التي ت�شرق على كل النباتات‬ ‫املنتقدة يف ليل الع�صور‪.‬‬ ‫(املوت هو ال�شيء الذي يحيفني كثريا‪،‬‬ ‫وبعث اللحم‬ ‫هذه التيمة اال�سبانية العظيمة‪،‬‬ ‫هي ال�صعوبة الوحيد الكبرية التي‬ ‫اقبلها بكد‬ ‫ من وجهة نظر احلياة)‬‫ا�شارات‪:‬‬ ‫* ترجمة الف�صل الأول من كتاب �سلفا دور‬ ‫دايل (االعرتافات ال�سرية ل�سلفا دور دايل‬ ‫)‪ ،‬الكتاب الذي �أماله _ على مدى ‪20‬‬ ‫عاما _ ل�صديقه ال�صحفي اندريه بارينود‬ ‫لي�صبح بعد �صدوره ال�سرية الذاتية‬ ‫لفنان يقول عن نف�سا‪ :‬ل�ست �سورياليا‪� ،‬أنا‬ ‫ال�سوريالية‪.‬‬ ‫‪ - 1‬حقيقة �شهرية �أن فن�سفت فان جوخ‬ ‫كان �صكه مثل دايل م�سبوقا بوفاة �أخ‬ ‫يدعى فن�سفت ويف �صباه كان الفنان‬ ‫امل�ستقبلي جمربا على الذهاب اىل املدر�سة‬ ‫كل �صباح واملرور مبدافن يرى فيها ا�سمه‬ ‫منقو�شا فوق �شاهد قرب!‬ ‫‪ - 2‬تعني باال�سبانية ويف بالد التينية‬ ‫كثرية ‪ Notario‬ع�ضو �شرعي مبهنة‬ ‫كل ما يخ�ص املال وهي لفظة عامية تعني‬ ‫احلار�س املحلي للرثوات واال�ستثمارات‬ ‫(طبيب املال )‪.‬‬

‫ترجمة‪� :‬أ�شرف �أبوا‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2041‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪� )12‬شباط ‪2011‬‬

‫السريالية…‬

‫وس���ل���ف���ادور دال���ي‬

‫فريد دولتي‬

‫كان القرن الع�شرون مزدحما بالأن�شطة الفكرية‬ ‫والإبداعية املتنامية واملتحولة يف موازاة التطور‬ ‫العلمي وال�صناعي واملتغريات الكربى التي ارتبطت‬ ‫مب�سارات احلربني العامليتني الأوىل والثانية‬ ‫ونتائجهما‪ .‬و�شهد هذا القرن مزاوجة جريئة‬ ‫ومت�سارعة بني الفنون املرئية كالر�سم والت�صوير‬ ‫ال�ضوئي وال�سينمائي والعمارة وامل�سرح من جهة‪،‬‬ ‫وهذه الفنون وال�صناعة والعلوم احلديثة و�أطيافها‬ ‫مبا فيها من املنجزات امل�ستحدثة يف درا�سات علم‬ ‫النف�س التي متحورت حول مدر�سة فيينا‪ ،‬التي قادها‬ ‫فرويد وكارل يوجن‪ ،‬وكان من �أبرز �إجنازاتها امل�ؤثرة‬ ‫كتاب فرويد (تف�سري الأحالم) الذي �صدر عام ‪،1900‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫وفتح �أبوابا ونوافذ كانت مغلقة‪� ،‬أو كان بع�ضها‬ ‫مفتوحا على قليل من ال�ضوء وكثري من العتمة‪ ،‬من‬ ‫جهة �أخرى‬ ‫وت�سارعت التحوالت الكربى يف الفنون الإبداعية‬ ‫احلديثة التي برزت مالحمها يف نهايات القرن التا�سع‬ ‫ع�شر‪ ،‬و�أخذت هذه التحوالت �أ�شكاال من القفزات‬ ‫النوعية‪ ،‬يف منعطفات حادة‪ ،‬يف الأ�سلوب واملادة‬ ‫واملو�ضوع‪ ،‬من خالل جتارب فردية �أو تيارات �أو‬ ‫مدار�س حتمل �أ�سماء وا�ضحة‪ ،‬وكان التجديد يت�سارع‬ ‫بحيث تنطفئ بع�ض تلك التجارب والتيارات بعد‬ ‫عمر ق�صري‪� ،‬أو تذوب يف تيار جديد �آخر كالتكعيبية‬ ‫(‪ )1917 -1913‬والدادائية (‪ )1922 -1915‬ثم‬

‫ال�سريالية (‪ )surrealism‬التي ولدت مع البيان‬ ‫ال�سريايل الأول الذي �أ�صدره �أندريه بروتون عام‬ ‫‪.1924‬‬ ‫كان الكتاب وال�شعراء ال�سرياليون يعتمدون على‬ ‫الكتابة الآلية التي و�صفها �أندريه بروتون يف كتابه‬ ‫(ال�سريالية والر�سم) ب�أنها (طريقة تلقائية يف املعرفة‬ ‫الالعقلية‪ ،‬تقوم على �إعطاء التداعيات والتف�سريات‬ ‫الهذيانية مو�ضوعية نقدية منتظمة)‪.‬‬ ‫كانت الأحالم عند فرويد‪ ،‬كما هي عند م�ؤ�س�س‬ ‫ال�سريالية �أندريه بروتون‪ ،‬هي الطريق التي تقودنا‬ ‫�إىل اكت�شاف الال�شعور‪ ،‬وهي لدى معظم ال�سرياليني‬ ‫ذات �أهمية خا�صة لأنها تعك�س ما هو خفي يف �أعماقهم‪،‬‬

‫وهي بذلك ت�شبه وثائق قادمة من عامل خفي ومده�ش‬ ‫معا‪ .‬وحمل العدد الأول من جملة (الثورة ال�سريالية)‬ ‫مناذج لن�صو�ص عن �أحالم ثالثة من رواد ال�سريالية‬ ‫هم بروتون‪ ،‬دي كريكو‪ ،‬رينيه غوتييه‪ ،‬وجاءت‬ ‫حتت عنوان يقول‪� :‬إن الأحالم وحدها هي التي تقود‬ ‫الإن�سان �إىل احلرية‪ .‬ومن هنا تربز املخيلة كقوة‬ ‫�إبداعية ت�أخذ مكانها �إىل جانب العقل واملنطق �أو‬ ‫كبديل عنهما‪ ،‬لأنها متثل ما فوق الواقع‪ ،‬وهو معنى‬ ‫ال�سريالية‪.‬‬ ‫�شغل �سلفادور دايل (‪ )1989 -1904‬العامل بالطريفة‬ ‫و�أعماله الفنية التي ال ت�شبه غريها‪ ، ،‬ومل يكن‬ ‫يناف�سه يف �شهرته �سوى بابلو بيكا�سو‪ ،‬ف�إىل جانب‬ ‫خ�صو�صية دايل يف الر�سم والنحت والت�صميم كان له‬ ‫�أ�سلوبه املتغري املتمرد يف احلياة‪ ،‬مما �أعطاه جاذبية‬ ‫العبقري والبهلوان واملهرج وال�ساحر واملجنون معا‪.‬‬ ‫برزت املوهبة املبكرة لدايل يف الر�سم وهو اليزال‬ ‫يف ال�ساد�سة من عمره‪ ،‬كما كانت نزعته نحو التمرد‬ ‫واال�ستقالل عن �سلطة الأب تكرب معه‪ ،‬ف�شق ع�صا‬ ‫الطاعة يف املدر�سة وكلية الفنون‪ ،‬ويف املجموعة‬ ‫ال�سريالية التي انتمى �إليها بعد �أن ظل ع�ضوا بارزا‬ ‫فيها على مدى ع�شر �سنوات‪ .‬وكان جريئا يف الرد على‬ ‫الذين يتهمونه بالغمو�ض‪ ،‬حيث قال‪ :‬ال غرابة �أال يفهم‬ ‫اجلمهور �أعمايل‪ ،‬ف�أنا ال �أفهمها �أي�ضا‪.‬‬ ‫كتب فرويد ر�سالة �إىل �أندريه بروتون ي�ستغرب فيها‬ ‫�أن تكون �أبحاثه من �أهم م�صادر احلركة ال�سريالية‪،‬‬ ‫و�أن يكون �أبا روحيا لهذه احلركة‪ ،‬مع �أن �أ�ساليب‬ ‫الفن بعيدة عن اهتمامه‪ .‬وبعد �أن هاجر فرويد �إىل‬ ‫لندن‪ ،‬و�صل �إليه �صديقه القدمي �ستيفان زفايج ب�صحبة‬ ‫�سلفادور دايل عام ‪ ،1938‬و�صرح فرويد ب�أنه معجب‬ ‫بذكاء هذا (ال�شاب الإ�سباين)‪ ،‬ولكن دايل ر�سم بعد‬ ‫ذلك باحلرب الأ�سود �صورة �ساخرة لفرويد‪ ،‬يبدو فيها‬ ‫كعجوز منحو�س‪ ،‬و�أعطى ال�صورة ل�ستيفان زفايج‬ ‫وطلب منه �أن يو�صلها �إىل فرويد‪ ،‬ولكن زفايج كتب‬ ‫يف مذكراته �أنه مل يعط ال�صورة �إىل فرويد الذي كان‬ ‫مري�ضا‪ ،‬وخ�شي زفايج �أن ت�سبب له ر�ؤيتها مزيدا من‬ ‫الأمل‪.‬‬ ‫ويف ذلك العام الذي ولدت فيه ال�سريالية كان يعي�ش‬ ‫يف املدينة اجلامعية يف مدريد ثالثة من الأ�صدقاء‬ ‫الوافدين من خارج العا�صمة هم‪ :‬فدريكو جار�سيا‬ ‫لوركا‪ ،‬ولوي�س بونويل‪ ،‬و�سلفادور دايل‪ .‬وكانوا‬ ‫ي�شقون طريقهم بقوة لي�صبحوا �أهم ثالثة مبدعني يف‬ ‫ثالثة حقول خمتلفة‪ ،‬يف الثقافة الإ�سبانية يف القرن‬ ‫الع�شرين‪.‬‬ ‫بد�أ لوركا بكتابة ال�شعر وامل�سرح‪ ،‬وا�ستمرت جتربته‬ ‫بال�صعود والتوهج حتى موته مقتوال على �أيدي‬ ‫القوات الفا�شية بقيادة فرانكو عام ‪ ،1936‬يف بداية‬ ‫احلرب الأهلية الإ�سبانية‪ ،‬بينما اجته بونويل �إىل‬ ‫الفن ال�سينمائي فاجته �إىل باري�س عام ‪ ،1925‬والتقى‬ ‫باملجموعة ال�سريالية‪ ،‬وعمل يف جمال ال�سينما‪� ،‬إىل‬ ‫�أن �أخرج فيلمه املثري الأول (كلب �أندل�سي) الذي كتب‬ ‫ال�سيناريو له بالتعاون مع �سلفادرو دايل عام ‪،1928‬‬ ‫وتبعه الفيلم الثاين (الع�صر الذهبي) عام ‪،1930‬‬ ‫بالتعاون مع دايل �أي�ضا‪ ،‬قبل �أن تبد�أ رحلته الطويلة‬ ‫مع ال�سينما فقدم جمموعة نادرة من روائع الأفالم‬ ‫التي �صورها يف املنفى يف فرن�سا والواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية واملك�سيك على مدى ن�صف قرن قبل عودته‬ ‫�إىل �إ�سبانيا ثم وفاته فيها عام ‪.1982‬‬ ‫�أما �سلفادور دايل ف�إن جناحه بد�أ مبعر�ضه الأول يف‬ ‫بر�شلونة‪ ،‬عام ‪ ،1925‬ثم معر�ضه الأول يف باري�س عام‬ ‫‪ ،1927‬حيث بيعت كل لوحاته املعرو�ضة‪ ،‬وكان �أندريه‬ ‫بروتون قد كتب تقدميا لهذا املعر�ض قال فيه‪�( :‬إن دايل‬ ‫�أحتف العامل بكائنات جديدة متاما)‪ .‬ومن هنا دخل‬ ‫دايل �إىل املجموعة ال�سريالية من بابها العري�ض‪.‬‬ ‫يعتمد دايل على اال�ستخدام الكامل لتقنية الر�سم‬ ‫اخلادع الذي يعك�س وهم احلقيقة‪ ،‬مع ارتباطه‬ ‫بالتحليل النف�سي‪ ،‬كما يف لوحة (الرجل غري املرئي)‬ ‫‪ ،1929‬فهي اللوحة الأوىل التي ي�ستخدم فيها‬ ‫�شكال مزدوجا‪ ،‬حيث يكون الرجل هو املر�أة‪ ،‬يف‬ ‫الوقت نف�سه‪� .‬أما يف لوحات (الراق�صون) و(الأ�سد‬ ‫واحل�صان) و(مولد رغبات �سائلة) ف�إنه اعتمد على‬ ‫(التذكر النف�سي) وهو ما يعني لديه (�إعادة التكوين‬ ‫الفوري للرغبة من خالل انك�سارها يف دائرة‬ ‫الذكريات)‪.‬‬ ‫�سلفادور دايل ف�إنه اعتمد على البارانويا النقدية‪،‬‬ ‫�أو الهذيان النقدي‪ ،‬الذي يفتح املمرات الداخلية‬ ‫املتوا�صلة بني احللم والواقع‪ ،‬وهذا هو مو�ضوع‬ ‫كتاب (الأواين امل�ستطرقة) لأندريه بروتون‪ ،‬لكن دايل‬ ‫�أعطى خ�صو�صية وا�ضحة لأ�سلوبه يف العمل‪ ،‬بحيث‬

‫كان ي�ضع حامل اللوحة قرب ال�سرير لكي ي�ستطيع �أن‬ ‫يرى ما ر�سمه وي�ستوحي ما �سري�سمه يف اللحظات‬ ‫التي تتوا�صل بني اليقظة والنوم‪� ،‬أو الواقع واحللم‪،‬‬ ‫وهذا ما عرب عنه بروتون يف كتابه (مطلع النهار) حني‬ ‫قال‪( :‬رمبا انفتحت بف�ضل دايل للمرة الأوىل النوافذ‬ ‫الذهنية على م�صاريعها)‪.‬‬ ‫كتب بروتون و�إيلوار معا‪ ،‬يف عام ‪( 1930‬مفهوم‬ ‫النقاوة) جاء فيه (�أن العقل ميكن �أن يقدم كل �صيغة‬ ‫معروفة للجنون على �شكل ق�صيدة)‪� ،‬أما دايل ف�إنه كان‬ ‫يطمح �إىل توليد �أعمال ب�صرية من خالل ال�سيطرة على‬ ‫اال�ضطرابات العقلية‪ ،‬حيث يفكر الر�سام ويعمل ك�أنه‬ ‫حتت ت�أثري ا�ضطراب نف�سي‪� ،‬أو حالة هذيان‪ ،‬ولكنه‬ ‫يظل واعيا ملا يحدث حوله‪.‬‬ ‫من �أوائل اللوحات التي حملت مالمح �سريالية‬ ‫وا�ضحة يف �أ�سلوب دايل تلك التي ر�سمها وهو يف‬ ‫اخلام�سة والع�شرين من عمره و�أطلق عليها بول‬ ‫�إيلوار ا�سم (الريا�ضي الكئيب)‪ .‬كان دايل مت�أثرا‬ ‫بفنون ع�صر النه�ضة من خالل زياراته املتعددة �إىل‬ ‫�إيطاليا‪ ،‬وهذا ما توحي به براعته يف �إتقان الر�سم‬ ‫الت�شريحي الذي ي�شكل عن�صرا واقعيا يف لوحاته التي‬ ‫ال تنتمي �إىل الواقعية‪.‬‬ ‫ويف الوقت الذي كان فيه بروتون يدافع يف بياناته‬ ‫وت�صريحاته عن حقوق الفنانني‪ ،‬ويحثهم على عدم‬ ‫تقدمي �أي تنازالت لتلبية رغبات اجلمهور‪ ،‬كان دايل‬ ‫من �أكرث الفنانني التزاما بال�سريالية‪ ،‬ولكنه ما لبث �أن‬ ‫مترد و�أثار ا�ستنكار ال�سرياليني‪ ،‬واتهموه ب�أنه (عبد‬ ‫للدوالر)‪ ،‬وف�صلوه من ع�ضوية املجموعة عام ‪،1939‬‬ ‫غري �أنه �صرح يف لقاء �صحفي‪ ،‬قائال‪( :‬ال�سريالية هي‬ ‫�أنا)‪.‬‬ ‫�أ�ضاف دايل �إىل ال�سريالية املخيلة املفرطة والتقنيات‬ ‫املرئية التي طورها بجهد �شاق وموهبة غري عادية‬ ‫�أعطت �أعماله نكهة خا�صة وبراعة يف التهريج‬ ‫واملغامرة‪ ،‬وتهذيب التخيالت والإ�صرار العنيد على‬ ‫االبتكار‪ ،‬وا�ستطاع �أن يج�سد خماوفه وذعره ورغباته‬ ‫ليك�شف القناع الذي ي�ضفيه العقل على احلقيقة‪.‬‬ ‫�إن انف�صاله الدرامي عن والده كان وا�ضحا يف لوحته‬ ‫(الع�صر القدمي لوليم تيل) ‪� ،1931‬أما ولعه بالأطعمة‬ ‫الغريبة ف�أوحى له بر�سم جاال وعلى كتفيها �شريحتان‬ ‫من اللحم‪ .‬ويتذكر دايل‪ ،‬يف كتابه (احلياة ال�سرية‬ ‫ل�سلفادور دايل) الذي �صدر يف عام ‪ 1942‬بداياته‬ ‫جيدا فيقول‪( :‬يف ال�ساد�سة من عمري كنت �أريد �أن‬ ‫�أ�صري ديكا‪ ،‬ويف ال�سابعة �أردت �أن �أ�صري نابليون‪،‬‬ ‫وكانت طموحاتي تكرب منذ ذلك احلني)‪.‬‬ ‫ر�سم دايل لوحة �شهرية بعنوان (توا�صل الذاكرة)‬ ‫عام ‪ 1931‬يظهر فيها عدد من ال�ساعات التي ت�شري‬ ‫�إىل الوقت‪ ،‬وهي تبدو مرتخية يف حالة مائعة‪ ،‬وهو‬ ‫يذكر �أن فكرة هذه اللوحة خطرت له عندما كان ي�أكل‬ ‫قطعة من اجلنب‪ .‬وتعك�س غرابة �أعمال دايل �صورة‬ ‫من غرابة �أطواره يف حياته اليومية ويف �أحاديثه‬ ‫وكتاباته‪ ،‬فهو يقول‪( :‬ميكن �أن �أقفز من النافذة �إذا‬ ‫ر�أيت جرادة يف الغرفة)‪.‬‬ ‫يف املعر�ض ال�سريايل الدويل الأول الذي �أقيم يف لندن‬ ‫�صيف ‪ ،1936‬و�صل دايل �إىل �إحدى القاعات ليلقي‬ ‫حما�ضرة وهو يقود كلب �صيد �سلوقيا‪ ،‬ويرتدي بزة‬ ‫غطا�س �ضيقة‪� ،‬سببت له اختناقا‪ ،‬بينما ح�ضر ماك�س‬ ‫�أرن�ست �إىل قاعة اللقاءات ال�صحفية ب�صحبة امر�أة‬ ‫تغطي ر�أ�سها باقة كبرية من الزهور‪ ،‬وهي ترق�ص‪.‬‬ ‫ويف املعر�ض ال�سريايل الذي �أقيم يف باري�س عام‬ ‫‪ 1938‬عر�ض دايل يف مدخل ال�صالة منحوتة (تاك�سي‬ ‫املطر) حيث جند �سيارة يت�ساقط عليها املاء‪ ،‬وتزحف‬ ‫فوقها جمموعة من احللزونات احلية‪.‬‬ ‫ر�سم دايل لوحات بارعة عن �أ�شعار لوتريامون‬ ‫(�أنا�شيد مالدورر)‪ ،‬وهي التي يراها ال�سرياليون جزءا‬ ‫من امتدادات جذورهم املتعددة‪ ،‬لكنه حينما بد�أ بتنفيذ‬ ‫�سل�سلة الر�سوم اخلا�صة بكتاب (دون كيخوته) عام‬ ‫‪ 1958‬ابتكر �أداة غري م�ألوفة يف الر�سم‪ ،‬هي بندقية‬ ‫ق�صرية تطلق ر�شات من احلرب ال�صيني بدال من‬ ‫الر�صا�ص‪.‬‬ ‫يف عام ‪� 1928‬أبدى دايل اهتماما خا�صا بال�سينما‬ ‫والت�صوير ال�ضوئي‪ ،‬وكان قد ن�شر �أربعة مقاالت يف‬ ‫هذين املو�ضوعني‪ ،‬و�أجنز مع �صديقه لوي�س بونويل‬ ‫فيلما مثريا هو (كلب �أندل�سي) الذي كان ين�سجم مع‬ ‫�أفكار دايل عن الفن‪ ،‬وهو ال يحمل ق�صة �أو حكاية‪،‬‬ ‫و�إمنا لوحات م�شهدية غريبة‪ ،‬م�شحونة بالأحالم‬ ‫والكوابي�س والر�ؤى‪ ،‬حيث تظهر على ال�شا�شة يد‬ ‫مقطوعة‪ ،‬ثم �شرفة‪ ،‬ورجل يحمل �شفرة حالقة يراقب‬ ‫ال�سماء‪ ،‬حيث تعرب غيمة نحو القمر امل�ستدير‪ ،‬وعينا‬ ‫فتاة �شابة تلمعان وتقرتب �إحداهما من ال�شفرة التي‬

‫تبد�أ بح ّز العني يف م�شهد مثري‪،‬‬ ‫هو من �أق�سى امل�شاهد يف‬ ‫تاريخ ال�سينما ال�صامتة‪.‬‬ ‫وكان جناح فيلم (كلب‬ ‫�أندل�سي) حافزا‬ ‫لكي يطلب �أحد‬ ‫كبار املمولني من‬ ‫بونويل تقدمي‬ ‫فيلم �آخر‪،‬‬ ‫ف�سافر بونويل‬ ‫ليلتقي بدايل‪،‬‬ ‫حيث �أجنزا‬ ‫�سيناريو‬ ‫فيلم (الع�صر‬ ‫الذهبي) الذي‬ ‫عر�ض يف‬ ‫باري�س عام ‪،1930‬‬ ‫وجاء ترتيبه الثالث‬ ‫بني الأفالم الفرن�سية‬ ‫الناطقة‪ ،‬وعلى مدى �ستة‬ ‫�أيام لقي الفيلم �إقباال وا�سعا‪،‬‬ ‫ولكن �أع�ضاء املنظمات اليمينية‬ ‫املتطرفة هاجموا �صالة العر�ض‬ ‫بتحري�ض من بع�ض‬ ‫ال�صحف وحطموا‬ ‫لوحات املعر�ض‬ ‫ال�سريايل املرافق‬ ‫لعر�ض الفيلم‪،‬‬ ‫و�ألقوا احلرب‬ ‫واملتفجرات‬ ‫على �شا�شة‬ ‫العر�ض‪،‬‬ ‫وك�سروا‬ ‫املقاعد‪،‬‬ ‫فقامت الرقابة‬ ‫الفرن�سية‬ ‫مبنع الفيلم ملدة‬ ‫ا�ستمرت خم�سني‬ ‫عاما‪ .‬و�صرح دايل‬ ‫ب�أن م�ساهمته يف‬ ‫هذا الفيلم كانت تهدف‬ ‫�إىل تعرية الآلية املنحطة‬ ‫للمجتمع الراهن‪.‬‬ ‫يف (الع�صر الذهبي) �صور وم�شاهد‬ ‫غري م�ألوفة‪ ،‬حيث نرى الأ�سقف‬ ‫والزرافة مقذوفني من‬ ‫النافذة‪ ،‬وعربة تقتحم‬ ‫�صالون احلاكم‪،‬‬ ‫وعظاما وهياكل‬ ‫ب�شرية قرب‬ ‫ال�شاطئ‪،‬‬ ‫وال�شاعر جاك‬ ‫بريفري وهو‬ ‫يعرب ال�شارع‪،‬‬ ‫وبقرة‬ ‫تربك فوق‬ ‫ال�سرير‪ ،‬بعني‬ ‫مفتوحة‪ ،‬رمبا‬ ‫كانت هي العني‬ ‫التي قال عنها‬ ‫دايل‪�( :‬إن العني‬ ‫الوا�سعة للبقرة ميكن‬ ‫�أن تعك�س يف بيا�ضها‬ ‫النا�صع �صورة م�صغرة ملنظر‬ ‫طبيعي)‪ ،‬كما قال‪�( :‬إن ال�سينما‬ ‫ميكن �أن تعر�ض حبة ال�سكر على ال�شا�شة‬ ‫كما لو كانت �أكرب من منظر �أبنية عمالقة)‪ .‬وكتب عام‬ ‫‪� 1930‬سيناريو فيلم طويل مع الر�سوم لكنه مل ينفذ‪.‬‬ ‫هاجر دايل �إىل الواليات املتحدة عام ‪ ،1940‬وعمل‬ ‫هناك على مدى ثمانية �أعوام يف جماالت متعددة‪،‬‬ ‫و�صمم الديكور لفيلم هيت�شكوك (امل�سحور)‪ ،‬كما كتب‬ ‫�سيناريو فيلم ر�سوم متحركة �أنتجته �شركة (ديزين)‬ ‫بعنوان (دا�ستينو)‪ ،‬وكتب �سيناريو فيلم (دون‬ ‫كيخوته) ولكنه مل ينفذ‪.‬‬ ‫كما كان دايل مولعا ب�شخ�صية املمثلة اال�ستعرا�ضية‬ ‫الأمريكية (ماي وي�ست)‪ ،‬فر�سمها يف لوحة ن�صفية‬ ‫�شهرية‪ ،‬ممزوجة بواجهة �صالة �سريالية‪ ،‬كما �صمم‬ ‫�أريكة �شهرية حتمل �صورة �شفتيها احلمراوين‪.‬‬

‫‪manarat‬‬ ‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫التحرير‬ ‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫‪----------------‬‬‫الت�صميم‬ ‫م�صطفى جعفر‬ ‫‪----------------‬‬‫الت�صحيح اللغوي‬ ‫مروان عادل‬ ‫‪-----------------‬‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


Madonna with a Mystical Rose, 1963


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.