رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
m a n a r a t
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
Salvador
Dali
2
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
3
سلفادور دالي جنون وعبقرية الدكتور ح�سان املالح يعترب الفنان الإ�سباين �سلفادور دايل 1989 -1904من �أهم فناين القرن الع�شرين .وهو �أحد �أعالم املدر�سة ال�سريالية ،وهو يتميز ب�أعماله الفنية التي ت�صدم امل�شاهد مبو�ضوعها وت�شكيالتها وغرابتها ،وكذلك ب�شخ�صيته وتعليقاته وكتاباته غري امل�ألوفة والتي ت�صل حد الالمعقول واال�ضطراب النف�سي..ويف حياة دايل وفنه يختلط اجلنون بالعبقرية ،لكن دايل يبقى خمتلف ًا وا�ستثنائي ًا يف فو�ضاه ،يف �إبداعه ،يف جنون عظمته ،ويف نرج�سيته ال�شديدة.. ولد يف « فيغويرا�س ـ كاتالونيا « Figueras -Cataloniaيف �إ�سبانيا قرب احلدود الفرن�سية .ومثل ماحدث للر�سام الهولندي ال�شهري «فان كوخ» فقد �أطلق على �سلفادور دايل ا�سم �شقيق له كان قد تويف قبل والدته بثالث �سنوات ، ويقول �سلفادرو دايل عن ذلك (( :لقد كنت بنظر والدي ن�صف �شخ�ص � ،أو بديل ، وكانت روحي تعت�صر �أمل ًا وغ�ضب ًا من جراء النظرات احلادة التي كانت تثقبني دون توقف بحث ًا عن الآخر الذي كان قد غاب عن الوجود)). عا�ش ال�صغري دايل مرف ّه ًا بني �أ�سرة ثرية ،وكان والداه يوفران له كل مطالبه . ونتيجة لدالله املبالغ فيه فقد عُرف عنه �سلوك الطائ�ش ،كدفعه �صديقه عن حافة عالية كادت تقتله � ،أو رف�سه ر�أ�س �شقيقته ((�آنا ماريا)) التي ت�صغره بثالث �سنوات � ،أو تعذيب ه ّرة حتى املوت ،واجد ًا يف �أعماله تلك متعة كبرية ،كالتي كان ي�شعر بها حني يعذب نف�سه �أي�ض ًا حيث كان يرمتي على ال�سالمل ويتدحرج �أمام نظر الآخرين .. ولعل هذه الت�صرفات التي �أوردها الفنان يف مذكراته �شكلت ال�شرارة النف�سية الأوىل للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته. وقد �ساهم �أحد جريانه وهو «رامون بي�شوت» يف دخوله عامل الر�سم ،ففي ال�سابعة من عمره ر�سم �أوىل لوحاته، وا�ستطاع يف مدر�سته �أن يلفت النظر �إىل ر�سومه التي تنب�أت له مب�ستقبل فنان بارع ،مما دفع بعائلته و�أ�ساتذته �إىل حثه على دخول كلية الفنون اجلميلة يف «�سان فريناندو» يف مدريد . ت�صرف �سلفادور خالل الأ�شهر الأوىل من التحاقه ب�أكادميية الفنون اجلميلة كتلميذ منوذجي مبتعد ًا عن املجتمع املحيط به ي�أنف االختالط ب�أقرانه من التالميذ . ويف كل يوم �أحد كان يذهب �إىل متحف «برادو» حيث كان مي�ضي �ساعات طويلة مت�سمر ًا �أمام لوحات امل�شاهري وعندما يعود �إىل الأكادميية ير�سم ر�سوم ًا تكعيبية للموا�ضيع التي �شاهدها يف هذه اللوحات. ويف ذلك الوقت تعرف على الفن التكعيبي ولكنه ثار على املفاهيم التي يدعو �إليها هذ الفن ويدافع عنها ،وا�ستبدل �ألوان قو�س قزح يف لوحاته بالألوان الأبي�ض والأ�سود والأخ�ضر الزيتوين والبني الداكن فكانت �ألوانه حزينة . ويف �أحد الأيام دخل �إىل قاعة النحت يف الأكادميية وبد�أ يفرغ حمتويات �أكيا�س عديدة من اجل�ص يف وعاء كبري وي�صب فوق اجل�ص ماء غزير ًا .ما لبثت �أر�ضية القاعدة �أن غمرت بطبقة من �سائل �أبي�ض
بد�أ ين�ساب �إىل خارج القاعة حتى و�صل ال�سيل �إىل قاعة الدخول وبدل من �أن يهتم دايل بالأمر �شق طريقه نحو املخرج يلتفت �إىل الوراء مل�شاهده جمال الطبقة اجل�صية وهي جتف ب�سرعة. مل يغب عن اهتمام طالب �أكادميية الفنون اجلميلة التطور الفني والأدبي الذي كانت ت�شهدها �أوروبا وبالأخ�ص املذهب الراديكايل يف الفنون والآداب الذي �سخر من كل القيم املعرتف بها .كان الفنانون والأدباء مثل «لوبيل بونويل» و «غار�سيا لوركا» و» بدرو غارفيا�س» و «يوجينو مونتري» املحركات املحفزة ملجموعة �صغرية من الفنانني الأ�صوليني ي�ضاف �إليهم �سلفادور دايل الذي ما لبث �أن احتل مرك ًزا مرموق ًا �ضمن هذه املجموعة . وكان �أع�ضاء املجموعة ميدحون بحما�س لوحات �سلفادور التكعيبية التي حوت �أفكاره الغريبة ،بعد ذلك بقليل �أ�صبح طريق �سلفادور مفرو�ش ًا بالورود . بد�أ �سلفادور يرتاد املقاهي الفنية وي�شرتك يف النقا�شات الفكرية احلامية حول الفن والأدب والن�ساء واجلن�س .ثم طرد دايل من الأكادميية ومنع من متابعة الدرو�س فيها ملدة �سنة لأنه دافع بحرارة عن �أحد �أ�ساتذته الي�ساريني مما �أثار غ�ضب �إدارة الأكادميية فعاد �إىل «فيجويرا�س» وهناك �أُلقي القب�ض عليه ب�سبب �أفكاره الثورية وظل يف ال�سجن ملدة �شهر ثم �أطلق �سراحه بعد عدم عثور املحققني على �أدله تثبت ا�شرتاكه يف �إثارة الر�أي العام �ضد احلاكم امللكي امل�ستبد يف �إ�سبانيا .وبعد انق�ضاء مدة �إبعاده عن الدرا�سة يف الأكادميية يف مدريد عاد �إليها لي�ستعيد فور ًا �شهرته . در�س دايل امل�ستقبلية الإيطالية و يف عام 1924بد�أ يهتم باملدر�سة امليتافيزيقية ومببادئها التي و�ضعها كل من «جيورجيو �شبرييكو» و «كارلوكارا» .وتلك الفرتة كان لها �أثر كبري يف حياته � ،إذ تعرف على املذاهب الفنية كافة والتقى فنانني عامليني خمتلفني منهم ال�شاعر «فيديريكو غار�سيا لوركا» الذي �أجنز معه عم ًال م�سرحي ًا كان الأول له ،و»لوي�س بونييل» الذي
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
اختلف معه ب�سبب �آرائه ال�سيا�سية التي �شهدت انقالب ًا غريب ًا من الفكر الثوري �إىل البورجوازية اخلا�ضعة مللذات احلياة . وخالل فرتة درا�سته اهتم مبطالعة م�ؤلفات فل�سفية مثل كتابات «نيت�شه» و»فولتري» و»كانت» و»�سبينوزا» و�صمم على توجيه اهتمامه الكامل �إىل �أعمال الفيل�سوف «ديكارت» الذي ا�ستند على �أفكاره يف ر�سم عده لوحات رائعة. وبعد �أن تعرف على كتابات «نيت�شه» وانتهائه من قراءة كتاب»هكذا حتدث زراد�شت» عمد �إىل �إطالة �شاربه ليكون مثل �شارب «نيت�شه» وظل حمتفظ ًا بهذا ال�شارب �إىل نهاية حياته .
ويف العام 1926بد�أ �سلفادور ب�صقل موهبته واختيار �أ�سلوبه اخلا�ص ال �سيما بعدما تعرف على �أب املدر�سة التكعيبية «بابلو بيكا�سو» ،ومن ثم بد�أ ينظم لقاءات دورية مع ر�سامني �سرياليني �آخرين �أمثال « لوي�س �أراغون» و» �أندريه بريتون» مما �ساهم يف بلورة �أ�سلوبه وتفوقه عليهم جميع ًا . احتفظ دايل بع�صا لال�ستناد عليها وهو ي�سري مت�شبه ًا بالنبالء الذين كانوا ي�سريون يف احلقول وب�أيديهم عكازات مزخرفة بالأحجار الكرمية للمباهاة .وقد رافقته هذه الع�صا خالل حياته وا�ستخدمها كمو�ضوع م�سيطر يف لوحاته يف وقت الحق .
زوجته:
يف باري�س كتب دايل �إىل جانب «بونيويل» �سيناريو فيلم « كلب �أندل�سي» ويبلغ طوله 17دقيقة وهو مزيج حلمي غريب ،وامل�شاهد والأفكار ال ميكنها �أن تثري تف�سرياً عقالني ًا من �أي نوع � :شفرة مو�سى تفق�أ عني فتاة واملعنى رمبا «فق�ؤ» كل ما هو تقليدي و�سائد ،رجل ينزع فمه من وجهه ،بيانو تزينه جثث حمري ،منل يزحف على يد رجل ،واحد يف ال�شارع يحمل مكن�سة تنتهي �إىل يد �آدمية يدفع بها الف�ضالت ..ومن الطريف �أنه اليوجد يف الفيلم �أي كلب �أو �أندل�س..
«جاال» فتاة رو�سية تدعى «�إيلينا دمياكونوفا» ،جاءت �إىل فرن�سا مبفردها عام 1913وهي مل تتجاوز التا�سعة ع�شرة من عمرها � .أقامت يف م�صح للمعاجلة من مر�ض ال�سل ،وبعد �أربعة �أعوام التقت ال�شاعر»بول �إيلوار» وتزوجت منه ونذرت نف�سها له حتى وقعت يف غرام الفنان «ماك�س �أرن�ست» .ثم ارتبطت حياة دايل بحياة جاال يف عام 1929وكانت تكربه ب�أكرث من ع�شر �سنوات ،وظهر ت�أثريها الوا�ضح عليه وعلى �أعماله الفنية ،لأنها كانت حري�صة على منع تخيالته املتطرفة يف احلياة والفن من �أن ت�صبح حالة مر�ضية . وهذا احلر�ص الدائم كان �سبب ًا يف اجلاذبية املت�صاعدة وامل�ستمرة بينهما �إىل درجة �أن دايل كان يوقع على بع�ض لوحاته با�سمه وا�سم جاال مع ًا . وكان يكرر فكرته عن ارتباط ا�سم جاال بالعبقرية ،حني يقول � « :إن كل ر�سام جيد يريد �أن يكون مبدع ًا وينجز لوحات رائعة ، عليه �أو ًال �أن يتزوج زوجتي «. وقد توفيت �أم دايل عام 1921وكان عمره � 16سنة وقد علق على موتها فيما بعد « ب�أنها ال�صدمة الأعظم التي تعر�ض لها يف حياته و�أنه كان يعبدها « .وقد وجد املحللون �أن ارتباطه بجاال وحبه لها ميكن �أن يكون تعوي�ض ًا عن فقدانه لأمه ..و�أنها
متثل له الزوجة الأم ب�شكل وا�ضح . وحتولت «جاال» مع الوقت �إىل مديرة عالقاته العامة وامل�س�ؤولة عن ت�سويق «منتجات دايل» .وبدوره فقد كان دايل يتع ّلم كيفية ا�ستغالل ف�ضائحه وا�ستفزازاته يف م�شاريع جتارية مربحة .
من �أفالمه:
يف باري�س كتب دايل �إىل جانب «بونيويل» �سيناريو فيلم « كلب �أندل�سي» ويبلغ طوله 17دقيقة وهو مزيج حلمي غريب، وامل�شاهد والأفكار ال ميكنها �أن تثري تف�سري ًا عقالني ًا من �أي نوع � :شفرة مو�سى تفق�أ عني فتاة واملعنى رمبا «فق�ؤ» كل ما هو تقليدي و�سائد ،رجل ينزع فمه من وجهه ،بيانو تزينه جثث حمري ،منل يزحف على يد رجل ،واحد يف ال�شارع يحمل مكن�سة تنتهي �إىل يد �آدمية يدفع بها الف�ضالت ..ومن الطريف �أنه اليوجد يف الفيلم �أي كلب �أو �أندل�س ..
�سرياليته:
ويف باري�س �أي�ض ًا تع ّرف على ال�شاعر والطبيب النف�سي «�أندريه بريتون»(1896 ـ )1966الذي كان قد نظم يف عام 1924 «البيان الأول» الذي يعترب مبثابة الر�سالة الت�أ�سي�سية لل�سريالية . وكان دايل يتحول تدريجي ًا �إىل راية ودليل لل�سريالية ..وم�صطلح ال�سريالية surrealismو�ضعه عام 1917ال�شاعر «غويوم �أبولينري» وهو م�ؤلف من كلمتني : surوتعني ما فوق ،و realismوتعني الواقعية � .أي ما فوق الواقعية وهو مذهب �أدبي فني فكري �أراد �أن يتحلل من واقع احلياة الواعية ،وزعم �أن فوق هذا الواقع واقع �آخر �أقوى فاعلية و�أعظم ات�ساع ًا ،وهو واقع الالوعي �أو الال�شعور ،وهو واقع مكبوت يف داخل النف�س الب�شرية ،ويجب حتريره و�إطالق مكبوته وت�سجيله يف الأدب والفن .وت�سعى ال�سرييالية �إىل �إدخال م�ضامني غري م�ستقاة من الواقع التقليدي يف الأعمال الأدبية .وهذه امل�ضامني ت�ستمد من الأحالم �سواء يف اليقظة �أو املنام ، ومن تداعي اخلواطر الذي ال يخ�ضع ملنطق
لر�سم �إحدى لوحاته كما �أعلن بو�ضوح �أن �آماله يف امل�ستقبل هي الدعوة �إىل نه�ضة دينية جديدة على �أ�سا�س مبادى كاثوليكية متطورة. قبالة �شواطئ البحر الأبي�ض املتو�سط ق�ضى دايل بقية �أيام حياته ،وظل هناك ملا بعد وفاة زوجته عام .1982ويف عام 1984 احرتق دايل يف غرفته �ضمن ظروف مريبة رمبا كانت حماولة انتحار ،لكنه مل ميت وعا�ش خم�س �سنوات تالية ،ثم �صدرت عنه لفتة كرمية جد ًا قبل �أن ميوت ،فقد �أهدى كل ثروته ولوحاته للدولة الإ�سبانية . بعد ذلك �أخذ دايل يذوي رويد ًا رويد ًا ، و�أخذ ذلك اال�ستفزازي الذي كان يواجه املوت يحت�ضر تدريجي ًا حيث كانت �أنابيب الأوك�سجني ترافقه ليل نهار �إىل �أن تويف عام . 1989 لقد ودعنا دايل تارك ًا �إ�شارة ا�ستفهام �ضخمة حول حجم الإرث الذي خ ّلفه على هام�ش القائمة الكبرية من الف�ضائح التي �أ�صبحت ح�سب قوله ت�شكل جزءا من الرتاث ال�شعبي .ويقول النقاد ب�أنه لي�س ب�إمكان �أحد �أن ينكر ملكة الر�سم اخلارقة التي كان يتمتع بها دايل � ،أو �أن يتجاهل قيمة لوحاته العظيمة وخ�صو�ص ًا يف مرحلة ال�سريالية الأولية � ،أما املرحلة التي حتول فيها �إىل «رجل �أعمال» فريى الكثريون ب�أنها �أثرت على طبيعة فنه وعلى نزاهة وعفة �أعماله. وعلى هام�ش ما قيل وما �سيقال ف�إن ذلك الفنان العظيم ذو النظرة اجلنونية العميقة ،وال�شاربني ال�صلبني املعقوفني ،والذي متكن من �إلغاء احلدود بني الروح امل�شاك�سة الهائجة واال�ستعرا�ضية الفا�ضحة ،قد حتوّ ل دون �شك �إىل ((�أ�سطورة)) .ومع كل نظرة �إىل لوحاته العظيمة ت�شعر الروح ب�أنها اكت�سبت جناحني ،وحتتفل املخيلة بوالدة وانطالقة جديدة ..
ال�سبب والنتيجة ،وهكذا تعترب ال�سريالية اجتاه ًا يهدف �إىل �إبراز التناق�ض يف حياتنا �أكرث من اهتمامه بالت�أليف. وقد اعتمد فنانو ال�سرييالية على نظريات فرويد رائد التحليل النف�سي خا�صة فيما يتعلق بتف�سري الأحالم .كما و�صف النقاد اللوحات ال�سرييالية ب�أنها تلقائية فنية ونف�سية تعتمد على التعبري بالألوان عن الأفكار الال�شعورية والإميان بالقدرة الهائلة للأحالم . وقد تخل�صت ال�سرييالية من مبادئ الر�سم التقليدية وذلك بوا�سطة الرتكيبات الغربية لأج�سام غري مرتابطة ببع�ضها البع�ض ، كما �إن االنفعاالت تظهر ما خلف احلقيقة الب�صرية الظاهرة .واعتمد ال�سريياليون يف ت�صويرهم على طريقتني ،الأوىل : هي الأ�سلوب الذي ابتكره «�سلفادور دايل» ويعتمد على التج�سيم الواقعي �أو «الهذيان الناقد» والذي ي�ستخدم فيه رموز الأحالم لريتفع بالأ�شكال الطبيعية �إىل ما فوق الواقع املرئي ،لكن مع التج�سيم الطبيعي لها .والثانية :ت�شبه الأ�سلوب التكعيبي امل�سطح ذا البعدين ،وهي �أقرب �إىل الأ�شكال التجريدية ،و�إن كانت تختلف عنها يف �أن ال�سرييالية التهتم بال�شكل وال بال�صور وال بالهند�سة ،الأمر الذي يهتم به التجريديون . وبعد حقبة الثالثينيات توجه دايل �إىل نيويورك حيث كانت �شهرته قد ذاعت وكرث املعجبون بفنه .ومل يت�أخر يف اكت�شاف عامل الأغنياء والأر�ستقراطيني يف املدينة ، ويقول يف ذلك»:لقد كانت ال�شيكات تنهمر كالإ�سهال وقد جل�أ دايل �إىل �أ�ساليب ملتوية لتحقيق ال�شهرة العاملية كت�أييده حلكم «فرانكو» يف �إ�سبانيا ،وخالل فرتة �صعود احلزب النازي �إىل احلكم يف �أملانيا ر�سم دايل العديد من اللوحات التي تظهر «هتلر» يف �أو�ضاع عجيبة -بع�ضها �أنثوي -ويقال �أن «هتلر» �أعجب ببع�ض هذه اللوحات ، مما دفع «بريتون» والفنانني ال�سرياليني �إىل �إتخاذ قرار جماعي بف�صله من احلركة ال�سرييالية ب�سبب ذلك �إ�ضافة التهامه بالولع ال�شديد باملال ،وما لبث �أن �ألف «بريتون» من حروف ا�سم دايل كلمة « avida � Dollarsأي ج�شع الدوالرات .غري �أن دايل مل يت�أخر يف الرد حيث قال له :لي�س ب�إمكانك طردي ،فال�سريالية هي �أنا!!
يف متحفه:
حتوالته الأخرية:
عا�ش �سلفادور دايل يف الواليات املتحدة الأمريكية منذ عام � 1940إىل ،1948وهناك قام بت�صميم العديد من الواجهات ال�شهرية ،وجمموعات احللي ،واملالب�س ،وخ�شبات امل�سارح ،بل واتفق مع املخرج والت ديزين على م�شروع فيلم «دي�ستينو « ومل يتم �إجناز ذلك �إال عام .2003 ويف عام 1948عاد الفنان دايل �إىل «فيغويرا�س» وبيته ،وكانت عودته هذه املرة عودة االبن البار حيث ت�صالح مع والده بعد فرتة قطيعة طويلة. وانطالق ًا من �إعجابه املعلن بالر�سامني الكال�سيكيني �أمثال «فيال�سكي�س» و»رافائيل» و»فريمري» انطلق نحو ما �سماه « الفن الكال�سيكي الديني» ور�سم بعدها « مادونا بورت ليجات» وهي عبارة عن عذراء بوجه جاال ،ثم م�سيح «�سان خوان دي الكرو�س».
بني عام 1937و 1939قام دايل بثالث رحالت �إىل �إيطاليا وقد وجد روما الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات احلديثة التي �أمر «مو�سوليني « بها .وتطلب ميله
اجلديد للكال�سيكية مو�ضوعية �أكرث ودرا�سة لفنون الر�سم يف ع�صر النه�ضة ، فاهتم بقوة بالهند�سة والريا�ضيات وعلم الت�شريح واملنظور قدر اهتمامه القدمي
بالإيحاء من الالوعي .يف نف�س الوقت طور دايل �إميان ًا متزايد ًا باملراتب الكهنوتية الكاثوليكية وبالنظم امللكية ،وقد طلب يف �أحد الأيام احل�صول على موافقة البابا
يف م�سقط ر�أ�سه وبعد �أن �أ�صبح �شهري ًا وثري ًا قرر دايل �أن ين�شئ متحف ًا خا�ص ًا به وب�أعماله ..املكان املُختار عبارة عن ق�صر قدمي يقع يف الق�سم القدمي من املدينة ويت�ألف من عدة طوابق تطل �شرفاتها على حديقة داخلية. ويف احلديقة وو�سط الأ�شجار هناك نافورات ماء غريبة الأ�شكال .واحدة من النافورات عبارة عن �سيارة قدمية يف و�سط احلديقة مكتوب عليها عبارة« :ا�ضغط هنا» ف�إذا وقع املرء يف الفخ الذي ن�صبه له دايل و�ضغط على الزر ال�صغري ف�سوف يندفع املاء ليغ�سل وجهه .وهذه واحدة من مداعبات دايل لزوار متحفه. بعد ذلك ت�صعد �إىل الطابق الأول حيث جمع دايل بع�ض لوحاته الكبرية .تدخل هناك يف عامل حافل باجلمال والغرابة وبكل ما هو غري متوقع � .إنه عامل دايل :لوحات متثل جاال املر�أة التي �شاركت دايل حياته ،لوحات طبيعة �صامتة ،ور�سوم �أخرى. الإيحاءات الغريبة التي تخلفها ر�سوم دايل يف النف�س جتعلك خارج الزمان واملكان . تتابع الزيارة يف الأرجاء وترى املنحوتات والأ�شياء والتكوينات ال�سريالية التي �صنعها دايل وهي ال تقل غرابة وجما ًال عن لوحاته ،ويكاد يخيل �إليك �أنها كائنات حية تنظر �إليك وتخاطبك..ويذكر « فرويد» �أنه مل ي�أخذ على حممل اجلد اعتباره من
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
قبل ال�سرياليني ك�أب حلركتهم حتى التقى بذلك ال�شاب الإ�سباين دايل 1938والذي جعله بتقنياته الفنية العالية يعيد النظر يف �أحكامه ال�سلبية على احلركة ال�سوريالية . يف الطابق الثاين من املتحف ر ّتب دايل �أ�شياءه اخلا�صة � .صندوق نحا�سي على الأر�ض مل�سح الأحذية ذهبي اللون يعود �إىل العهد العثماين � ،أ�ضاف �إليه دايل بع�ض اللم�سات الفنية فحوله �إىل قطعة فنية م�سكونة بالغرابة. يف الواجهات الزجاجية ت�ستطيع �أن ترى الطبعات الأ�صلية والأوىل من كتب دايل «حياتي ال�سرية» والكتب الأخرى .ثم الكتب ال�شعرية التي �صمم دايل �أغلفتها بنف�سه وزينها بر�سوماته ،بالإ�ضافة �إىل ذلك جتد ر�سائله �إىل �أ�صدقائه ور�سائل �أ�صدقائه �إليه ثم ع�شرات ال�صور ال�شخ�صية التي تعود ل�سنوات قدمية وفيها يبدو دايل مع �أ�صدقائه من �شعراء وك ّتاب ور�سامني �صنعوا �أدب وفن القرن الع�شرين � ،أ�سماء هي اليوم �شهرية وطوى املوت �أ�صحابها. عند نهاية الزيارة ويف القاعة الأر�ضية وقبل �أن تغادر املكان ثمة مفاج�أة �سريالية �أخرى بانتظارك هناك ،قرب دايل نف�سه كما قام بت�صميمه هو قبل موته ،قرب رخامي �ضخم يرقد فيه اليوم بجانب زوجته. حيثما يوجد دايل فال مكان لل�ضجر � .إن الداخل اىل متحف �سلفادور دايل يف حي مومنارتر يف باري�س ،مفقود وهارب �إىل دفء الفن والذوق املختلف ،واخلارج منه مولود والدة مغايرة كالعائد من رحلة جمالية �ضرورية للروح ومن�شطة للحوا�س.
لذلك ،وبعد �أن ت�سلم ال�شيك من �صانع العطور ،و�س�أله ال�صحفيون عن الت�صميم اجلديد ،فوجئ ب�أنه ن�سي كل �شيء عنه ،فا ّتبع �أول ما ورد على ذهنه لينجو من هذا املوقف ،تناول ملبة فال�ش حمرتقة من �أحد ال�صحفيني ورفعها قائ ًال � :إن هذا هو ت�صميمه اجلديد ،و�أطلق عليه ا�سم «فال�ش»، وهتف ال�صحفيون وهللوا ومعهم �صانع العطور!!
من لوحاته:
من كتبه :
يف عام � ،1964أ�صدر �سلفادور دايل كتاب ًا بعنوان «يوميات عبقري» يف باري�س ،وهو م�أخوذ من دفرت يوميات ّ يغطي املرحلة املمتدة من عام � 1953إىل عام 1963من حياته .ويُ�ش ّكل الكتاب تكملة ل�سريته الذاتية التي �صدرت بعنوان «حياة �سلفادور دايل ال�س ّرية». نتعرف يف هذا الكتاب الذي يحتوي على � 300صفحة،على �أفكار دايل و�شواغله كفنان وظروف لقاءاته مع �أبرز �شخ�صيات ٍ ع�صره ومواقفه اجلمالية والأخالقية والفل�سفية والبيولوجية ،الأمر الذي مي ّكننا من فهم �شخ�صيته املثرية واملع ّقدة ومن التعمّق يف منهج عمله الفني الذي �أطلق عليه ا�سم «الذهان الت�أويلي النقدي» ، وبالتايل ميكننا من حتديد طبيعة عبقريته التي �سعى طوال حياته �إىل �إبرازها و�إىل الرتويج لها. من �أبرز املو�ضوعات التي يتناولها يف هذا الكتاب� :إحلاده يف بداية م�ساره النابع من قراءته للكتب التي كانت موجودة يف مكتبة �أبيه� ،س ّرياليته التي مل تكن تعرف �أي �إكراهٍ جمايل �أو �أخالقي ،نزعة التفوّ ق لديه التي ا�ستمدّها من كتب نيت�شه ،حبّه املفرط لزوجته جاال ،تف�ضيله التقليد على احلداثة والنظام امللكي على الدميوقراطية ،وال�صوفية على املادية اجلدلية ،احرتامه الكبري لأندريه بروتون ون�شاطه الفكري وقيمه بالرغم من موقف هذا الأخري ال�سلبي منه بعد عام ،1934كذلك نتعرف على احتقاره �أرباب الوجودية وجناحاتهم امل�سرحية واملرحلية ،ولعه بالر�سام رافاييل، «اجلانب الفينيقي» من دمه على حد قوله و الذي جعله يحب الفيل�سوف» �أوغ�ست
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
كونت» الذي و�ضع امل�صرفيني يف املرتبة الأوىل من املجتمع . و�سنتعرف يف يوميات «دايل» على حبه الالحمدود لزوجته جاال التي يعتربها املحرك الأ�سا�سي له ،والتي لوالها ملا ظهرت عبقريته وملا ا�ستمرت .عنها يقول يف املقدمة« :هذا كتاب فريد ،هو �أول كتاب يكتبه عبقري ،كان حظه الفريد �أن يتزوج من «جاال» املر�أة الأ�سطورية الفريدة يف ع�صرنا» .وحينما بد�أ ير�سم لوحته ال�شهرية «�صعود العذراء» التي ميثل فيها ال�سيدة العذراء وهي ترتفع �إىل ال�سماء ،اختار وجه «جاال» ليكون وجه العذراء. وعادات «دايل» �شديدة الغرابة ،فبالن�سبة للنوم يقول« :النا�س عادة تتناول احلبوب املنومة حني ي�ستع�صي عليها النوم ،لكني �أفعل العك�س متامًا ،ففي الفرتات التي يكون فيها نومي يف �أق�صى درجات انتظامه وروعته ،ف�إين بت�صميم �أقرر �أن �أتناول حبة منوم ،وب�صدق وبدون ذرة ا�ستعارة ،ف�إين �أنام كلوح اخل�شب ،و�أ�ستيقظ م�ستعيدًا �شبابي ثانية» .ومن مكان لآخر يعطينا
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
«دايل» تقري ًرا �شبه يومي عن عمليته الإخراجية وكيف �أنها تتم ب�سال�سة ونظافة، ويتكلم بحرية عن عدم فهمه لإهمال املفكرين والفال�سفة لهذه العملية رغم �أهميتها للإن�سان.. وع�شق «دايل» للذباب ال يوجد ما يربره ،فقد قال ذات مرة :يعجبني الذباب وال �أكون �سعيدًا �إال حني �أكون عاريًا يف ال�شم�س والذباب يغطيني. ويف موقف �آخر يفاج�أ بال�صحفيني يحيطون به ويتذكر �أنه كان قد وعد بتقدمي ت�صميم جديد لزجاجة عطر ،و�أعد م�ؤمت ًرا �صحفي ًا
ر�سم دايل لوحة �شهرية بعنوان «ثباتالذاكرة» Persistence of Memory « ،»1931يظهر فيها عدد من ال�ساعات التي ت�شري �إىل الوقت ،وهي تبدو مرتخية ويف حالة مائعة ،وتعرف اللوحة �أي�ض ًا با�سم ال�ساعات اللينة ،ال�ساعات املت�ساقطة ، وال�ساعات الذائبة .وفيها موقف ن�سبي من الوقت والزمن فيما ي�شبه نظرية «�إين�شتاين». ويقول بع�ض الباحثني ب�أن الفكرة الأ�صلية لهذه اللوحة قد �أتت لدايل يف يوم �صيفي حار .كان يف منزله يعاين من ال�صداع بينما جاال زوجته تت�سوق ،بعد وجبته الحظ ن�صف قطعة من اجلنب تذوب ب�سبب حرارة ال�شم�س ،ويف تلك الليلة وبينما كان يبحث يف روحه عن �شيء لري�سمه � ،شاهد حلم ًا ل�ساعات تذوب يف الفراغ ،عاد بعد ذلك �إىل عمله الذي مل ينته بعد حيث كان ر�سم املرتفعات وال�شجرة ،وخالل �ساعتني �أو ثالثة كان قد �أ�ضاف ال�ساعات الذائبة و�أ�صبحت اللوحة كما نعرفها الآن. «حتوالت نرج�س امل�سخية «�أو«امن�ساخ نرج�س» «The »1937 Metamorphosis :of Narcissus وفق ًا للأ�سطورة الإغريقية وقع نرج�س يف غرام انعكا�س ِ �صورته على �سطح بركة �صافية و�أخذ يحدق طوي ًال ب�صورته وعندما �أدرك عدم قدرته على معانقة ال�صورة املائية ،وهنت قوته فقامت الآلهة بتحويله �إىل وردة . يظهر يف اللوحة نرج�س جال�س ًا على حافة بركة من املاء يحدق �إىل الأ�سفل .وهناك �شك ٌل �صخريٌ متحلل قريب منه ، يتجاوب معه عن كثب.
5
يف مقالة حديثة قدمتها الباحثة «كارولني موريف» Caroline Murphy من جامعة �أوك�سفورد واملن�شورة يف جملة ال�شخ�صية واالختالفات الفردية ، 2009متيل �إىل اعتبار دايل م�صاب ًا با�ضطراب ذهني وا�ضطراب يف ال�شخ�صية على الرغم من حماوالت دايل �إخفاء معلومات مهمة عن نف�سه يف كتبه وت�صريحاته ال�صحفية.
ري جد ًا � ،صور ٌة ليدٍ حتمل لكن االختالف كب ٌ بي�ض ًة تنمو منها زهر ُة نرج�س .ويف اخللف جمموعة من الرجال والن�ساء العارية من خمتلف الأجنا�س ،بينما يلوح �شكل �شبيه برنج�س يف الأفق .وقد كتب دايل ق�صيدة طويلة مرفقة مع اللوحة ،وبني فيها « �أنه تخرج من ر�أ�س نرج�س زهرة هي نرج�س جديد ..جاال نرج�ستي «.. وتبدو اللوحة مثرية و�صادمة بت�شكيالتها و�ألوانها ..ودالالتها متنوعة يف عمقها ورمزيتها ..وجتاور الرموز يثري ارتباطات هادفة ومعان هامة ..وهي لوحة �سوريالية بامتياز قابلة لعدة ت�أويالت . لوحة «ذيل ال�سنونوThe Swallows� Tail sآخر لوحة ر�سمها �سلفادور دايل،انتهت يف �أيار ،1983وقد ا�ستندت على نظرية «رينيه توم» الكوارثية ..وفيها غرابة ورمزية معقدة جد ًا .
ا�ضطراباته النف�سية:
يف مقالة حديثة قدمتها الباحثة «كارولني موريف» Caroline Murphyمن جامعة �أوك�سفورد واملن�شورة يف جملة ال�شخ�صية واالختالفات الفردية ، 2009 متيل �إىل اعتبار دايل م�صاب ًا با�ضطراب ذهني وا�ضطراب يف ال�شخ�صية على الرغم من حماوالت دايل �إخفاء معلومات مهمة عن نف�سه يف كتبه وت�صريحاته ال�صحفية .وت�شمل �أعرا�ضه املو�صوفة هالو�س �سمعية وحاالت من ال�شك املر�ضي ونوبات من الغ�ضب والعنف �إ�ضافة لهذيانات العظمة و�سلوك جن�سي ا�ستعرا�ضي و�إثارة جن�سية ذاتية غريبة ،و�ضحكات غري منا�سبة مع تعليقات جارحة غري منا�سبة ،و�صعوبات يف التعاطف مع الآخر مع �سلوك احتيايل و�سادية .و�إذا و�ضعنا ما�سبق �ضمن الإطار الت�شخي�صي للدليل الت�شخي�صي الأمريكي الثالث ميكن �إعطاء ت�شخي�ص ذهان غري منوذجي وفيه مزيج من
�أعرا�ض الف�صام واالكتئاب ،مع عدة �أنواع من ا�ضطرابات ال�شخ�صية وهي ال�شخ�صية الزورية والف�صامية وامل�ضادة للمجتمع والهي�سترييائية والرنج�سية . وي�شكك باحث �آخر يف هذه النتائج على اعتبار �أن دايل مل يتلق �أي عالج نف�سي ؟؟ و�أنه كان فنانً ناجح ًا ومبدع ًا ومل ي�سبب له املر�ض النف�سي تعطي ًال عملي ًا .ويقرتح «نظرية الغرابة امل�سيطر عليها « والتي تعني �أن مزيج ًا من الأعرا�ض املر�ضية النف�سية مع �صفات نف�سية �صحية ميكن �أن ت�سهل العمل الفني الإبداعي و�أن الغرابة نف�سها هي التي ت�سهل النجاح . وتت�ضارب املعلومات حول تلقي دايل للعالج النف�سي ..وقد وردت معلومات ب�أن زوجته كانت تعطيه �أدوية �سببت له �أعرا�ضا �شبيهة بداء باركن�سون وعادة مايكون ذلك ب�سبب م�ضادات الذهان التقليدية . وتبني الدرا�سات النف�سية احلديثة التي حتاول فهم العالقة بني العمليات الإبداعية مبختلف �أ�شكالها واال�ضطرابات النف�سية � ،أن درجة خفيفة من ال�صفات
الذهانية الف�صامية �أو ا�ضطراب املزاج الدوري»هو�س اكتئابي خفيف» �أو ا�ضطراب التوحد و�أ�سبريجر ،ميكن لها �أن تدعم وتف�سر العمليات الإبداعية الناجحة ..و�أن هذه ال�صفات مفيدة و�إيجابية لأنها ت�ؤدي �إىل مرونة يف التفكري وانفتاح يف الذهن وحتمل للمخاطر ،و�أنها رافقت الإن�سان يف �سريته التطورية ،و�أن الفارق بني الطبيعي واملر�ضي هو فارق كمي ولي�س نوعي ..ولكن هناك �شيئا البد منه وهو �أن البع�ض �سي�صاب با�ضطراب نف�سي �شديد ومعطل . و�أخري ًا � ..سلفادور دايل فنان ثوري يعج مبدع و�أ�صيل له ذهن خ�صب ّ بالإ�شراقات واالبتكارات .ومن امل�ؤ ّكد �أن هواة الأدب والفن واملثقفني على اختالف �أنواعهم والعلماء النف�سيني الذين اليعرفونه جيد ًا � ،سيعجبون بفنه و�إبداعاته املتنوعة ،والتي تعك�س نبوغ ذلك العمالق وعبقريته الذي قال يوم ًا »:الفرق الوحيد بيني وبني املجنون هو �أين ل�ستُ جمنون ًا. http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
الخلطة السرية ألسطورة
السريالي العظيم
سلفادور دالي
ليلى البلو�شي " �إذا كنت تقوم بدور العبقري ف�سوف ت�صبح عبقريا يف يوم من الأيام " هكذا كان ديدن �سلفادور دايل ال�سريايل الذي قلب الفن ر�أ�سا على فو�ضى ،ال قوائم وال م�ساحات وال �أحجام وال �أ�شكال ،مكونا عاملا افرتا�ضيا متلونا بالأحالم ال�صاخبة واملالمح الغرائبية �أ�شبه ببهلوان ي�سري بقدميه على حبل متدل ،بينما يداه ت�صبغان على �أعني العامل �أ�سطورته ال�شخ�صية بده�شة كبرية .. هذا الفنان العبقري املجنون الهذياين الذي �شعر بالإهانة يف طفولته ، حينما اكت�شف �أنه لي�س �سوى ن�سخة عن �شقيقه الذي فارقه قبل والدته بعامني ،وكان يرتدي مالب�سه ،يتكلم ومي�شي مثله ويحلم كما كان يحلم ، ولأن �شقيقه مات بعد نزلة برد حادة جعلت نظرات عائلته الثاقبة ترت�صده خ�شية �أن يكون م�صريه كم�صري �سابقه ،فكانت ت�صيح فيه با�ستمرار � ":سلفادور فليبي جا�سانتو ال متت مرتني ! .. دايل هو �صاحب نظرية " البارانويا النقدية " وكان ي�سري على خطى �سرياليني املقد�س " ال �شيء هو كل �شيء " ،عزى البع�ض �أ�سطورته �إىل م�سمى " جنون العظمة " وهو الذي مل ينف عن نف�سه التهمة حني ذكر يف �إحدى �صفحات مذكراته قائال ” :ما �أكرث النا�س وبخا�صة يف �أمريكا الذين
ي�س�ألونني عن الطريقة املثلى للنجاح ، وهذه الطريقة موجودة وا�سمها عندي " طريقة جنون العظمة يف ذروتها " �أو " البارانويا املت�أزمة " ،اهتديت لأكرث من ثالثني عاما و�أمار�سها دون �أن �أعرف حتى هذه اللحظة ،ماذا تكون ..؟ لكن �أ�سطورته ال تعزى �إىل -جنون العظمة -بقدر ما تعزى �إىل قانون كوين بد�أ ي�شق دربه امل�ضيء بقوة يف ف�ضاء العامل ،يعرف هذا القانون بـ "طاقة الكون" �أو بـ" قانون اجلذب " ،هو قانون عجائبي ذو طاقة هائلة ،يعمل كمغناطي�س جاذب ، وي�ستطيع من خاللها الإن�سان �أن يجذب كل الأمور والأمنيات والأحالم التي يريدها �إليه ،وفق �أفكار يعقد بها �سل�سلة حياته كيفما يرغب ،فلكل فكرة تردد يبثه الكون ،وحني يطلب ال�شخ�ص ،ف�إن �أفكاره تتحول �إىل وقائع ملمو�سة من خالل ثالث كلمات خمت�صرة هي ":اطلب " � " ،آمن " " ، تلق " .. ومن خالل قراءتي لكتاب " ال�سر " ر�أيت �أن �سلفادور دايل هو �أكرث �شخ�صية ميكن من خاللها �أن ن�ستنتج قوة هذا القانون وفعاليته ؛ فمعظم �أفعال املنجزة يف حياته كانت �أقواال مقرتنة بتنظيم دقيق ،حتى غدت �أفكاره اخلطرية تلك التي كانت تتملكه ثمارا �آتت �أكلها ،ومن تلك الأقوال التي
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
اقرتنت بالأفعال : * كنت �أحب �أن يقول النا�س عني ” �سلفادور دايل ” ر�سام ال ميكن ن�سيانه ،فقد كان يعنيني �أن �أكون ” �سلفادور ” الذي يولد يوم ميوت ” هذا اال�سم الذي يتمو�سق حتى الآن على �أل�سنة اجلميع باحتفاء بالغ ،وادعى مثال على ذلك لوحاته التي تناثرت اليوم كتاريخ يف عوا�صم العامل حتكي عن حكاية هذا الإن�سان العبقري ،فعند متحف ” لوهافر ” الفرن�سي عبارة ذهبية اللون تقول ” :هنا جناح اال�سباين الكبري ” �سلفادور دايل ” الرجل الذي كان يرى يف كل زائر له �صديقا ،ويف كل �صديق لوحة ،ويف كل لوحة خيال غ�ض و�شا�سع نحو ما ال نهاية ” . * �إذا كنت تقوم بدور العبقري ف�سوف ت�صبح عبقريا يف يوم من الأيام ..وقد مل�سنا هذا املفهوم متجذر بقوة عميقة يف حياة �سلفادور دايل احلافلة بالأقوال التي اعتاد الإقرار بها بني حني و�آخر ،يتداعى من خيال خالق ،ذاك اخليال الذي لب�س واقعه وك�أنه الواقع نف�سه ،فقد طمح يف يوم من الأيام �أن يكون يف �شهرة نابليون بونابرت ،ومذ ذاك مل ترتهل طموحاته عن االزدياد والنمو ؛ ولأنه مل يكن مثل الكثريين حماطا ب�سر هذا القانون الذي كرب من خالله
طوال �أعوام التي �أعقبت ؛ فقد عزى مثل الكثريين �أ�سطورته �إىل ” جنون العظمة ” معتقدا كذلك لأنها ؛ وكما كان يرى وراء دفق جناحاته املتتالية يف عوامل الفن ،تلك الطاقة الهائلة التي كانت تنبعث منه مقيدة �أفكاره �إىل طريق التحقيق ،كما كان يرغب بها متاما .. * مل �أكن �أطيق فكرة �أال يتعرف علي النا�س فعلى م�ستوى عالقاته كان �شخ�صا يجر خلفه �أ�ضواءه ال�صاخبة ،فهو مل يطق فكرة �أال يتعرف عليه النا�س يوما ما ،وقد كانت �أقواله ال تناق�ض رغباته .. * خطط �أن يكون مليونريا ،حتى �أن �أندريه بريتون اتهمه بـ عبادة الدوالر ،فرد عليه دايل ب�أن حكمته منذ ال�صغر ن�صحته �أن ي�سعى رويدا لأن ي�صري مليونريا ،وقد �أ�ضيف حلمه هذا �إىل حيز التحقيق كما خطط ب�إرادته .. * كما كان ي�سعى �إىل ت�سلق الكمالية ،و ي�شري " ت�شارلز هانيل " وهو �أحد امل�شاركني يف تف�سري نظرية قانون اجلذب قائال :احلقيقة املطلقة هي �أن �ضمري " الأنا " تام وكامل ؛ و�أن �ضمري " الأنا " احلقيقي هو روحي وال ميكنه بالتايل �أن يكون �أقل من مثايل ؛ وال ميكنه مطلقا �أن يعرتيه نق�ص �أو ق�صور �أو مر�ض" ،وكان هذا ال�ضمري نغمة دايل التي كثريا ما كان يدندنها يف حياته قائال � ” :أنا �أ�ؤمن ب�أين �أعظم
ر�سامي ع�صري وقوله كذلك � :أنا خال من العيوب� ،أنا ال�سريايل الوحيد غري املنتمي ،مل ينجح ال اليمني وال الي�سار يف �إغوائي ” ..وب�شهادة فرويد الذي قال عنه :مل �أرى يف حياتي ال�سبانيا �أعظم كماال من �سلفادور دايل * ولأن من �أولويات هذا القانون �أن يكف الإن�سان عن ترديد الأفكار ال�سلبية ،وغر�س عو�ضا عنها �أفكارا ايجابية م�صها من طاقة الكون با�ستمرار ثم ّ ،فقد كان �سلفادور يبد�أ يومه بلذة ال ت�ضاهى :حني ا�ستيقظ يف ال�صباح، اخترب لذة ال ُت�ضاهى� :إنني �سلفادور دايل ،و�أ�س�أل نف�سي ما الذي �سيفعله اليوم هذا الإن�سان املعجزة� ،سلفادور دايل ..فكيف تتوقعون �صباحات رجل يدلل يومه بلذة ي�سريها له الكون بلم�سة منه ..؟! من هنا ن�ستطيع القول ب�أنه كان �أمنوذجا �إن�سانيا يتمتع ب�صحبة نف�سه متدفقا باحلب ،فانعك�س ذلك بحبور كبري على كل العوامل التي كانت حتيط به من حوله ،والتي جلبها مبلء �إرادته .. هذا هو " �سر "هذا الفنان العبقري الذي ا�ستحق عن جدارة حياته احلافلة بالإثارة ،وده�شة االجناز ،والتميز االبتكاري ،ونيازك ال�شهرة والرثاء واحلب ،وكل ذلك كان نتاج �أفكاره التي ارتقاها �سلما �سلما ،كان يطلب وي�ؤمن ويتلقى بب�ساطة مطلقة ..
7
ما من �صفات �أطلقت على فنان عاملي معا�صر ،كانت بحجم ما �أطلق على الفنان ال�سريايل �سلفادور دايل ،يف حياته حتى وفاته ،فهو �إ�ضافة �إىل �أنه �أمري اجلنون ،ملك ال�صرعات ،حمطم التقاليد ،عدو اجلمال ،دايل املهرج ،هذه ال�صفات قد حاز عليها هذا الفنان املتعدد ً وفعال وده�ش ًا ،حتى الذين هاجموه وكرهوا ر�سومه ،اعرتفوا ب�أنه ترك �أثراً فني ًا املواهب ،الذي �أبدع يف ر�ؤياه ال�سريالية ،وترجمها فن ًا ال ميكن جتاهله �أو ن�سيانه ،وبالإ�ضافة �إىل �أنه ر�سام ،كان �أي�ض ًا م�صمم �أزياء الطبقة الراقية وجواهرها. �سلفادور دايل العبقري املجنون الذي قال( :الفرق بيني وبني �أي جمنون هو �أنني عاقل) .ولد يف � 11أيار 1904يف كاتالونيا (�إ�سبانيا) �أغنى حياته بالتجارب الفنية .و�أحب زوجته (غاال) قبل وبعد وفاتها عام 1983وبعدها ،وهي احلبيبة الع�شيقة .كان قد �سرقها من زوجها ال�شاعر بول �إيلوار ليعي�ش معها ق�صة حب منذ عام 1929وكان اللقاء على �شاطئ كاتالونيا ف�أ�صبحت غاال بعد ذلك زوجته ون�صفه الآخر ،ودايل �آمن بفكرة اخللود وظل يحملها حتى وفاته بداية كانون الثاين عام .1989
دايل املتمرد كان دايل يع ّد نف�سه �أعظم ر�سام يف تاريخ الب�شرية� ،صاحب املخيلة املده�شة، املتميز ب�شاربه املفتول �إىل الأعلى و�سرياليته املتفردة ،ور�ؤيته املتوح�شة العميقة .ففي كتابه يوميات عبقري بعد كتابه الأول (احلياة ال�سرية ل�سلفادور دايل) يك�شف احلقائق .و�أهم ما يف �سلوك هذا العبقري هو �صراحته الفجة ومترده .ففي عام 1929و�صل دايل �إىل باري�س ،حيث بلغت احلركة ال�سريالية �أوجها ،و�شارك يف قمة احلركة املنعقدة �آنذاك .وبد�أ بكتاباته ،وهي الوجه الآخر للوحاته ،يدعو فيها �إىل حترر الوعي والتمرد ،ثم ان�ضم دايل �إىل الئحة ال�سرياليني التي قادها �آنذاك �أندريه بريتون. ثم ترك زمالءه يف احلركة ال�سريالية مل�شاك�سته ورف�ضه االنتماء واالن�ضباط، وكان �صدامي ًا مع الآخرين يف ت�صرفاته و�سلوكه وهذا اال�ستعرا�ض الغريب �أدى �إىل القطيعة النهائية عام .1940 كان �أول �سلوك له هو مترده على العادات والتقاليد االجتماعية� ،إذ تعدى الالمعقول و�أنتج بعد ًا فل�سفي ًا خا�ص ًا به ،وبر�ؤية �سريالية ،يتمتع بها �أكرث من غريها ،وج�سدها بطابعه اخلا�ص واملتميز ،وذلك يف تداخل حلظات الوعي مع هذيانه ،يف �أ�ساليب متعددة التعابري ،وله يف ذلك �أكرث من حماولة بني هوج�سه الذاتية و�أحالمه املرئية
الغام�ضة ،كان دايل يج�سد الر�أي وفق ما يريد هو ،منقاد ًا وراء حلظات الالوعي، �أي ال�شطحات ،فهو مار�س طريقته بال �أية حدود �أو �ضوابط ،فكان متقدم ًا على ال�سريالية بتطرف يف متازج وخليط وت�شكيل ،وخيال وا�سع يهذب �إىل �أبعد مما يت�صوره الالوعي يف حلظة الهذيان، وا�ستطاع �أن يكت�سب عرب جتاربه �صفات خا�صة به� ،أكرث من غريه ،وظل مواظب ًا على طريقته هذه حتى وفاته ،ومل يكتف بالر�سم والكتابة وفن احلفر .و�أي�ض ًا �شارك يف جتربة �سينمائية مع لوي�س بونويل يف فيلم (الكلب الأندل�سي). وكان هذا املخرج الأقرب �إىل مزاج �سلفادور دايل وخ�صو�صيته. من هذيان الرائي �إىل الر�سم �أخذت �أعمال دايل ال�شهرية تتكاثر ملا يج�سد من ر�ؤى يف هذيانه ،ومنذ بدايته عمل على مبد�أ التحري�ض ،مبد�أ تخريب الفنون الأخرى وحتطيمها، بكل مدار�سها واجتاهاتها� ،سواء كانت تقليدية� ،أم كال�سيكية� ،أم تعبريية، �أم انطباعية� ،أم رومان�سية .و�أ�سلوب الهدم هذا قد �شق طريقه من هذه النقطة بالذات ،وهو مقتنع ومرتاح ملا يفعل. فقد اختار لوحات قدمية وم�شهورة معلقة يف �أهم املتاحف العاملية منذ مئات ال�سنني ،وعمل على تقليدها وت�شويهها عرب �أ�سلوبه ال�صاعق بني
الهذيان واجلدية ،والقى بذلك لفتة كبرية من معا�صريه ملا يف هذا الأ�سلوب من تفاعالت ،والذي يعمل على حتطيم املقد�س الفني( ،كل �شيء يجب �أن ي�شوّ ه و�أن يخرج بتعبريات حتري�ضية جديدة) .وهو الذي كان معجب ًا بالفنانني الكال�سيكيني القدماء( :ثمة تفاهة مل�صادر الوحي لديهم)� .إنه �ساحر الر�ؤية املجنونة ،عمل على جت�سيد نف�سه و�إظهار م�شاك�ساته ب�أنه من احلكماء و�أعقل العقالء ،وكان ميار�س طقو�سه هذه ،وفيها �شيء من الغرابة واملحاكاة املقبولة� ،إذ �إن املجتمعات الغربية ،كانت ت�شهر كل �سالح جديد واخرتاع ور�ؤية فن ًا وعم ًال ،فهذا اجلديد الفني �أوجد دعاءه ال�سرياليون وج�سده �سلفادور دايل ر�سم ًا يف فل�سفة خا�صة به وهي �أبعد من �سريالية ميار�س فيها طقو�سه. اخلالف بني دايل وال�شعراء �أخذت ال�سريالية منطلقاتها وفل�سفتها من نقطة الالوعي والتخيل ،واحللم واملكوث عند املاورائيات يف الت�أمل الطويل ،وهناك نقاط اختالف عن مفهوم ال�صوفية ،فيما يخ�ص التوحد مع الآخر .وكما جاء يف تعريف �أندريه بريتون يف بيان ( :1924ف�إن ال�سريالية �آلية نف�سية حم�ضة ،يلتم�س بو�ساطتها التعبري �شفوي ًا� ،أو كتابي ًا، �أو ب�أي طريقة �أخرى عن وظيفة الفكر احلقيقية� ،إمالء الفكر يف غياب كل رقابة
ميار�سها العقل ،وخارج كل اهتمام جمايل �أو �أخالقي) .وتنه�ض ال�سريالية فل�سفي ًا على االعتقاد ،والواقع الأ�سمى لبع�ض �أ�شكال التداعيات املهملة حتى ظهورها وبقدرة احللم العالية .ومن هذا املنطلق �أ�شاع التيار ال�سريايل النزعة امليتافيزيقية ،وكما قدمها �سلفادور دايل ب�صري ًا من طور الالوعي حتى بلوغه ذروة الهذيان فعلى الرغم من �أن دايل ال�شديد اخل�صو�صية قد جنح يف ذلك� ،إال �أنه خا�صم �أ�صدقاءه ،ويف الوقع الذي انتهى فيه ال�سرياليون �إىل املارك�سية رف�ض دايل الأيديولوجيات .وما تود �أن ت�صل �إليه هذه املقالة هو مناق�شة �أوجه االختالف متام ًا عما يقدمه دايل من ر�ؤية ب�صرية؟ وما هو ال�سبب يف م�شاك�سته وخ�صوماته مع زمالئه؟ هل الق�ضية اخلالفية ،تكمن يف �سلوك دايل الذي �سلكه يف �سرياليته؟ رمبا هناك �سبب �آخر يف عدم توافق الر�ؤية ال�سريالية �شعر ًا مبا يقدمه دايل ،وهنا قد ي�صح القول ب�أن الر�ؤية ال�شعرية بقيت متحفظة �أو خجولة من تطرف دايل يف ر�ؤياه� .إذن فالر�ؤية ال�شعرية �سريالي ًا كانت �أقرب �إىل منتجها ومنهجتها لتكون �أكرث �إقناع ًا، ملا كان �سائد ًا �آنذاك .باعتبار �أن احلركة ال�سريالية جاءت يف جوهرها حركة احتجاج على ما كان �سائد ًا يف احلياة من عادات وتقاليد وحروب عاملية� ،إذ كانت �أوربا من�شغلة يف حربها العاملية
الأوىل والثانية وما قادت �إليه من �إنتاج �أنظمة فا�شية ونازية. وال�سريالية يف جوهرها طرحت نف�سها حركة تغيري يف املجتمع .يقول مار�سيل رميوند يف تعريفه( :متثل ال�سريالية باملعنى الوا�سع� ،أحدث حماولة للقطيعة مع الأ�شياء القائمة ،و�إحالل �أ�شياء �أخرى حملها� ،شديدة الفاعلية والنمو، ترت�سم حدودها املتحركة على نحو غري وا�ضح يف �أعماق الكائن .مل يحدث �أبد ًا يف فرن�سا من قبل� ،أن وحدت مدر�سة ال�شعراء بهذه الطريقة ،وبهذا الوعي القومي ،ق�ضية ال�شعر ،ق�ضية الوجود احلا�سمة� )..إن �أهم ما �أنتج �شعر ًا يف القرن الع�شرين ،وهو ما �أنتجه ال�سرياليون ،فالثورة احلقيقية بالن�سبة �إليهم ،هي يف انت�صار الرغبة. �إذن عملت ال�سريالية على مبد�أ البحث عن تف�سري خمتلف لهذا الوجود يف جتاوز التناق�ضات ،برف�ضهم املنطق. ومل يعد لهم ملج�أ �إال يف الو�سائل. ويرى ال�سرياليون يف م�س�ألة اخليال دعامتهم فيما ميكن حتقيقه لإزالة املمنوع الرهيب .يقول �أراغون�( :إن اخليال وحده هو الفعال دائم ًا ،فال �شيء ي�ضمن يل الواقع ،ال �شيء ي�ضمن يل �أنني ال �أبنيه به على هذيان ت�أويل، ال دقة املنطق ،وال قوة الإح�سا�س). و�أراد ال�سرياليون �أن ي�صلوا �إىل حريتهم الكاملة ،حرية الكتابة ،كما يرى موري�س بالن�شو( :حرية الكتابة مرتبطة بتجارب النوم املغناطي�سي) فهذا النوم يلغي كذلك الرقابة التي تعيق الفكر، ويفتح �أبواب املده�ش و�أبوب احلرية. فال�سرياليون نفوا يف بادئ الأمر الواقع اخلارجي ،ثم رغبوا يف حتويله ،ويف ذات الوقت مت�سكوا ب�إعادة ت�أويله ،ثم �أخذ �شعور التماثل ميلي �أكرث ف�أكرث موقفهم �إزاء العامل. كان لفن �سلفادور دايل نكهته املتميزة وظهر لنا بهذه الهالة العجائبية بعد تفجر الهذيان الطفويل� ،إذ ا�ستطاع �أن يك�شف عن اخللل من منظاره الفرويدي لتلك املرحلة لديكتاتوريات متمثلة بهتلر وفرانكو .ومعروف عن دايل �أن له موقف ًا من العمل ال�سيا�سي �إذ قال( :ال�سيا�سة �أكرب خط�أ يرتكبه الفنان ،ما من �أحد يعرف ما �إذا كانت فينو�س �شيوعية �أم فا�شية) .وهو على عك�س (بابلو بيكا�سو الذي كان ملتزم ًا ،واتخذ موقف ًا وا�ضح ًا من ال�صراع الدائر يف احلرب العاملية �آنذاك ،واحلرب الأهلية الإ�سبانية. وج�سد لوحته ال�شهرية (الغرينيكا) كان دايل يحب باري�س وهذه املدينة �شهدت والدته الفنية وجناحه الباهر. وعلى الرغم من كل ما قيل عن �سلفادور دايل ،فهذا الفنان �سيبقى ا�سمه مرتبط ًا بال�سريالية املنفلتة التي �أو�صلها �إىل برجها العاجي ،وعمل لها متحف ًا ومدر�سة فنية على منط مذهب الر�ؤيا العميقة ،تتفتح ر�ؤياه وهو مغم�ض العينني ،يك�شف الغطاء الآخر عن وجه احلقيقة ،ظل حتى �آخر حلظة ير�سم حتى وهو على فرا�ش املوت ،م�ؤمن ًا بفكرة اخللود وهذا بحد ذاته �سريايل اجلوهر ،وكما �صنفه النقاد واحد ًا من �أهم فناين القرن الع�شرين.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
The Wearing of Furniture-Food, 1934
Telephone in a Dish With Three Grilled Sardines at the End of September, 1939
The Temptation of St. Anthony, 1946
Salvador Dali
Gallery
10
؟
الموت �أنا ،دايل ،ا�ستهل كتابي با�ستغاثة موتي. �أراين ال �أبتعد عن مغزى التناق�ض بني الأمرين ،كي يفهم اجلميع عبقرية الأ�صالة يف رغبتي باحلياة. فقد ع�شت مع املوت منذ اللحظة التي منا فيها وعيي بالتقاط �أنفا�سي ،وظل املوت يقتلني دائما ب�شهوانية باردة ،ال يتخطاها �أبدا �إال �شغفي ال�صايف يف �أن اختط حياتي و�أعي�شها يف كل دقيقة ،وكل ثانية مهما �صغرت ،على وعي تام بكوين حيا .هذا التوتر امل�ستمر، العنيد ،الهمجي ،املفزع هو الق�صة كلها يف م�س�ألتي.
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
كيف تحيا مع �سلفادور دايل
11
�إن لعبتي الأ�سمى حي �أن �أتخيل نف�سي ميتا، ي�أكلني االود� .أغلق عيني وبتفا�صيل ال ت�صدق يف دقتها التامة والوعرة� ،أراين �أزدرا و�أه�ضم يف بطء بوا�سطة كم لعني من جحافل �أود الأر�ض ال�ضخم املخ�ضر ،ينه�ش حلمي يقيم يف حمجر عيني بعد �أن يقر�ض العينني ويلقيهما بعيدا ،ليبد�أ يف افرتا�س خمي ب�شراهة� .أكاد �أ�شعر _على ل�ساين _كيف ي�سيل اللعاب في�ستعذبه وهو يع�ضني .وحتت �ضلوعي جتعل �أنفا�سي �صدري منتفخا ،بينما بفكها حتطم �أن�سجة رئتي ال�شفافة .ي�سرتيح قلبي قليال ،الثبات وجوده وح�سب ،لأنه طاملا خدمني ب�صدق� ،أراه مثل كعكة ا�سفنجية �سمينة يتاخمها ال�صديد الذي يتفجر فج�أة
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ويندفع داخل عجينة تزحف ك�أنها يرقات بي�ضاء مكتنزة .وهنا ي�صل بطني :عفن ننت ينقب�ض بقوة مثل فقاعة متل�ؤها جيفة ،خليط روثي يحت�شد من حياة ا�ستثنائية .وللمرة الأخرية �أطلق زفراتي ،مثل بركان عجوز يبكي منتزعا من احلمم م�صدوعا يف العظام مثخنا باالود الذي يومل فوق نخاعي .كم �أجد ذلك تدريبا رائعا �أكرره كلما تذكرت العودة اليه.الذاكرة الدالية الأوىل ع�شت موتي قبل حياتي .ففي �سن ال�سابعة، توفى �أخي بااللتهاب ال�سحائي ،قبل �سنوات ثالث من والدتي ،هزت ال�صدمة �أمي يف �أعماقها .ن�ضج �أخي املبكر ،عبقريته ،عطفه، ورقته بالن�سبة لها ا�شراقات هائلة ،مما جعل
اختفاءه �صدمة مفجعة مل تكن �أبدا لتتخطا ها .مل ي�سكن ي�أ�س والدي فقط �سوى والدتي، لكن �سوء احلظ مل يزل يخرتق حلل خلية يف ج�سديهما .وداخل رحم �أمي ،كنت بالفعل �أح�س ذعرهما ،هنت جنينا ي�سبح يف غ�شاء م�شيعي لعني .كان توقهما يرتكني �أبدا. وكثريا ما �أراحتني حياة ووفاة هذا الأخ الأكرب ،فقد كانت خيوطه تت�صل بكل مكان حويل حني بد�أت �أعي :املالب�س ،ال�صور، الألعاب ،وبقي دائما يف ذاكرتي والدي من خالل ا�ستدعاءات م�ؤثرة ال متحى. وعاي�شة يف عمق وجوده اخلا�ص والدائم كما ر�ضو�ض اجلروح -بنوع من العزلة عن امل�سببات -يتملكني الإح�سا�س بكوين مهزوما� ،أ�ضحت كل حماوالتي فيما بعد ترمي اىل ا�سرتداد حقوقي يف احلياة �أوال ويف املقام الرئي�سي بجذب دائم االهتمام من هم �أقرب يل يف �أ�شكال عدوانية �أبدية. واذا كان فان جوخ قد فقد عقله ب�سبب كون �صنوه املتوفى حا�ضرا جانبه ،فالأمر خمتلف بالن�سبة يل ( )1وقد عرفت دوما كيف �أوجه و�أ�ضبط ذاكرتي ،حتى يف معظم ا�ستدعاءاتي الآثمة ،بل �أكاد حتى �أتذكر وجودي يف الرحم .كل ما علي هو �أن �أغلق عيني فقط، و�أ�ضغط عليهما بقب�ضتي يدي ،لأرى مرة �أخرى �ألوان الرحم ،املطهر �ألوان م�سحات النار االبلي�سية ،حمراء ،برتقالية� ،صفراء وام�ضة ،لزوجة ال�سائل املنوي وبيا�ض البوي�ضة الفو�سفوري الذي فيه �أعي�ش غام�ضا كمالك �سقط من عليائه. ذكريات دالية عن الوجود القدوي: خلق فكري �أم جمرد هاج�س ؟ ولدت ك�أي فرد يف فزع ،و�أمل وخدر ف�إذا حركت قب�ضتي فج�أة بعيدا وفتحت عيني على ات�ساعهما يف ال�ضوء الباهر� ،أ�شعر مرة �أخرى ب�شيء ما من تلك الهزة املمتلئة واالختناق وال�صدمة والعمى ،وال�صراخ، والدم ،واخلوف ،والتي ت�سجل كلها دخويل لهذا العامل. كان �شبح الأخ الراحل هناك يرحب بي منذ البداية ،كان رمبا قلت هو ال�شيطان الدايل الأول .فقد عا�ش �أخي ل�سبع �سنوات .و�أ�شعر انه كان نوعا من دورة اختبارية لذاتي وبع�ضا من عبقرية مطلقة فقد احرتق خمه كدائرة كهربية زادت درجة ا�شتعالها يف و�سط دقيق بدرجة ال ت�صدق .مل تكن م�صادفة �أن ا�سمه كان �سلفا دور مثل �أبي �سلفا دور دايل �إي كوزي ،ومثلي كان حمبوبا ب�سخاء ومل �أكن �إال حمبوبا عظه .يف والدتي تابعت قدماي وقع خطي الراحل املوله ،كان ال يزال مع�شوقا يف �شخ�صي وبل رمبا الآن �أكرث من زي قبل .وطغى في�ض احلب على من قبل �أبي منذ اليوم الذي �شهد مولدي كجرح نرج�سي، بل اللحظة التي �شعرت فيها بالفعل برحم �أمي .وفقط ومن خالل جنون العظمة � -أعني االفراط يف الغرور بالذات -جنحت يف انقاذ نف�سي من حمق ال�شك الن�سقي يف الذات ،بل تعلمت �أن �أحيا مبلء الت�أثر بحبي لنف�سي ،لقد غزوت املوت لأول مرة بغرور ونرج�سية. غالبا ما ر�أيت املوت و�أنا �أ�شق طريقي حتت �أكرث الظروف ت�ضاربا .ه�أنذا �أنهي حما�ضرة يف قرية فيجورا�س ،م�سقط ر�أ�سي� ،أمام جمهور ي�ضم كل ال�سلطات املحلية ،العام ،1928وقد �أتوا لريوا وي�سمعوا �صبيا من بلدتهم كتبت املحا�ضرة بنربة عدائية لت�صفع مواطنيي النائمني ،ويف النهاية كدت �أ�صيح فيهم (ال�سيدات وال�سادة ،املحا�ضرة انتهت ) حاول اجلمهور جعلي �أ�ستمر ،مل يفهموا �أين انتهيت .التزمت الهدوء .كان هناك �صمت، حلظة توقف فيها الزمن ،وفج�أة ،ي�سقط العمدة ،الذي كان يجل�س �أمامي اىل اليمني، بالكاد �أمام قدمي ،كم�سمار كبري الر�أ�س. ينه�ضون متل�ؤهم الإثارة والرعب مي�ضون يف كل �صوب و�أبقى حيث كنت وح�سب، دومنا �أحترك ،مت�أمال الوجه اجلموح، انفلقت العينان للأبد وال يزال تعبريه الأخري حمفورا يف تفكريي. هل يح�شى دايل املوت ؟
خالل هذا التفكري كان الرجل امليت مو�سوما بجمر العالمة الدالية .وبالن�سبة يل ،كان الأ�صوات و�سادة حتتية �أنام عليها ،لكني كنت دوما �أفزع من املوت .عمري خم�س �سنوات العام .1909و�أحد �أبناء عمي ،عمره ع�شرون �سنة ،ي�صيب خفا�شا يف عينيه م�ستخدما بندقيته الق�صرية ،وي�ضع اخلفا�ش يف دلو. �أرمي بنوبة غ�ضبي عليه �سائال �إياه �أن يعطيني احليوان ال�صفري ،وبعد ذلك �أهرول لأ�ضعه يف �أحد الأماكن ال�سرية ،مبنزل ما اعتدت �أن �أخفي فيا الأ�شياء� .أرى الثديي ال�صفري مرتعدا يعاين غارقا يف �سجنه. �أحتدث اليه� ،أم�سكه و�أقبل ر�أ�سه ال�ساقط. �أبد�أ رحلة ع�شقه .يف اليوم التايل كان �أول �شي ء فعلته �أين انطلقت لر�ؤيته ،راقدا على ظهره بالدلو �أجد احليوان ميتا� ،أكاد �أرى ل�سانه الالهث ال�ضئيل و�أ�سنان الرجل العجوز حول �أنفه .نظرت اليه ب�شفقة معلنة، ورفعته ،وبدال من �أن �أقبله كما انتويت �أن �أفعل يف باديء الأمر ،وينوع من الغ�ضب، لقيته بع�ضة واحدة ،حملقت لوهلة فيما فعلته بفزع و�شعرت بلزوجة الدم يف فمي ف�ألقيت باهتياج �شديد تلك اجليفة ال�ضئيلة داخل احلو�ض املعد للغ�سيل عند قدمي اىل جوار �شجرة تني �ضخمة .ابتعدت مهروال ،ت�سيل الدموع من عيني .و�أعود ،رغم ذلك ،لكن اخلفا�ش كان قد اختفى .وكانت تينات �سوداء كبرية تطفو على �سطح املاء ،كبقع �أتت حدادا .واىل اليوم الزالت ذكرى هذا امل�شهد ترجفني بل �إن جمرد ر�ؤية بع�ض بقع �سوداء كافية لت�ستح�ضر يل موت اخلفا�ش. و�أنا طفل ،كان لدي كذلك قنفذ اختفى يوما. وبعد �أ�سبوع وجدته ميتا يف حظرية الدجاج، �أتذكر �أنني �أعتقدت يف باديء الأمر �أنه حي لأن �شعراته كانت تبدو وك�أنها تتحرك ب�سبب علبة يرقات ت�صببت حول جثته. اختفت الر�أ�س حتت بقايا طعام جيالتيني خم�ضر .كنت قادرا على �أن �أملأ بالدموع عيني لأن قدميه كانتا تنثنيان حتتي وكان علي �أن �أفر من الرائحة النتنة ،كان ذلك الوقت الذي جتمعت فيه براعم الليمون، وحني خرجت من حظرية الدجاج ،فاج�أتني ارتعادة م�شوبة بالفزع� ،أراحتني تلك الرائحة امللطفة التي �أطلقتها الغ�صون العطرية لكن االفتتان كان هائال .توقفت عن التنف�س وعدت اىل ركن الفراخ مرة �أخرى لكي �أفت�ش عن اجليفة املتخللة .ثم مرة �أخرى للخارج حيث الرائحة النتنة ،وطالقة الهواء ،الظل وال�ضوء ،اجليفة وجمال الأزهار :كانت حتتفظ باالختيار يف لوحة �ألوان هي�ستريية حتى تخطتني الرغبة متاما يف �أن �أمل�س كومة من الهرام .ت�سمرت يف البداية ،وكان افزاع رغبتي ،حماوال �أن �أقفز فوق القنفذ. اكني ف�شلت ،تعرثت و�سقطت ،و�أنفي ي�ستقر متاما �أ�سفل معرتك االود .ويفزع �شعرت باال�شمئزاز ،منتزعا جمرفة كالدودة ،كما لو كان يهبني قوى �سحرية ،كي �أ�سحق القنفذ ببط ء� ،أخريا تال�شى جلده ،كا�شفا حتته اللحم املكتنز �أ�سقطت املجرفة وعدوت بعيدا. كنت ال �أتنف�س ،وكانت ال�صدمة طاغية�.شعرت باالن�سحاق حتى عدت �أ�سرتجع �سحري املدفون ،وعندئذ ذهبت الغراقه اىل ما ال نهاية يف مياه جدول قبل �أن �ألقيه �أ�سفل كومة براعم ليمونية ليجف يف ال�شم�س .لكن الزلت م�ضطرا اىل تركه غارقا يف ندى الفجر قبل �أن يفقد رائحة عفوتنه النتنة .كنت للرت قد خربت الدر�س الأول للقاء فزعة املوت. كيف يتذكر دايل وفاة والده كان �أبي ميتا حينما قبلت فاه الغليظ البارد ب�شفتي املتوهجتني باحلياة ،غالبا ما كنت �أقول� ،شارحا قول فران�شي�سكو دي كويفيدو �أن �أعظم املتع احل�سية هي معانقة الأب امليت. فهل وجد حقا لب�شر انتهاكا �أكرث فزعا من ذلك� ،أو دليال �أعظم على حياته يف �أن يعطي نف�سه وي�أخذها� ،أكرث من هذا التدني�س ،وهذا التعدي؟ كل ما منعني هو جبني والظروف. ولكن الزلت �أ�ستطيع �أحلم بفعلها. جار�سيا لوركا الذي التقيته يف العام
6919يف اجلامعة ،كان يف �أحيان ميثل هيتته .الزلت �أ�ستطيع تذكر وجهه ،ميتا وفزعا ،وراقدا على �سريره ،حماوال املرور مبراحل حتلله البطيء ،العفونة من وجهة نظره ،ت�ستمر �أياما خم�سة.ثم ي�صف التابوت،وكفنه ،وامل�شهد الكامل لفلقه ،وتقدم النع�ش يف �شوارع غرناطة الوعرة وحني يت�أكد لنا جميعا قد متلكنا الفزع ،ينه�ض فج�أة منفجرا ب�ضحكة برية تظهر كل �أ�سنانه البي�ضاء الرائعة ،وير�سلنا خارج الباب عدوا بينما يعود ل�سريره ،لينام هادئا يف حرية. كطفل كانت �أية �إ�شارة ولو خفيفة للحوت تربك معدتي خوفا،وكانت لعنادي �أ�شكال عدة وكان لهذا الف�ساد املبكر رد فعل عميق لقوى احلياة التي تتناف�س �ضد قوى املوت .ف�أن تولد ومعك �أخ ا�ضايف،جعلني �أو�شك �أن �أقتله كي �أقتن�ص مكاين وحقي حتى موتي. �أتذكر مرة خد�شت فيه خد عنزتي بدبو�س، حني وجدت حمل احللوى مفلقا ،بينما كان ال�سبب الرئي�سي �أن خدها ناعم� ،أحمر، طيع كالأردواز ،وا�ستطعت �أن �أكتب ا�سمي بالدم عليها كان ا�سمي دايل يعني الرغبة بالكاتالونية. يف �سن اخلام�سة ،دفعت رفيقي يف اللعب للف�ضاء ،كان جميال ،معقو�ص ال�شعر� ،ضئيال و�أ�شقر ،بينما كنت �أ�ساعده لركوب دراجته ذات العجالت الثالث ،كنت قد ت�أكدت �أن �أحدا ال يرانا .كنا فوق ج�سر بال ق�ضبان، طرحت به من ارتفاع عدة �أمتار لي�سقط على ال�صخور �أ�سفل اجل�سر ،ثم تظاهرت باجلزع مهروال للدار �أح�ضر جندة ،الزلت �أرى نف�سي ،فوق املقعد ال�صخري ال�ضئيل، �أت�أرجح طوال الوقت ،للفلف وللأمام بينما �أتلمظ بثمرة فاكهة ،و�أ�شاهد هياج الأبوين املحموم ،م�ستمتعا بالظالم الآمن يف ركن غرفة اجللو�س ،دومنا �أن تكون هناك �أدنى
ذرة من ندم ،كما لو �أن ما فعلت �أكرب من �أي �شيء �ساد حياتي. بعد ذلك بعام ،ركلت �شقيقتي ال�صغرية ذات الأعوام الثالثة ،وكانت تزحف عل يديها وقدميها ،ركتها مبا�شرة يف الر�أ�س و�سرت يف طريقي مبتهجا ،لكن ل�سوء حظي راين خلف والدي �أفعل ذلك ،ف�أغلق الباب دوين �سمعت رجة الآنفالق .كنت �أ�ستطيع ت�صور �ضخامته خلف الباب .لكني بقيت بال حركة �أمتيز غيظا .لقد عاقبني ب�أن �أغلق علي الباب لذا لن يكون با�ستطاعتي �أن �أرى املذنب الذي �سرتاه العائلة كلها بالعني املجردة يجذب االنتباه لل�سماوات على نحو �آ�سر ،وحدي حرمت من تلك امل�شاهدة الفريدة. بد�أت �أت�شنج مكتوما حتى انفطرت ،كانت كل الدموع يف ج�سدي تت�صبب خارجة و�صرخت عاليا حتى فقدت �صوتي وبد�أت والدتي يزعجها الأمر ،وانزعج هو �أي�ضا وبد�أت �ساعتها �أعي كيف �أدير موقفا كهذا ل�صاحلي، كان عندي �ستة �أعو ام .وانتقمت �أكرث حني �أدعيت بعد عدة �أيام ب�أين مري�ض ،حتى والدي ا�ضطر �أن يرتك املائدة وقت الطعام، لأنه مل يقو على �سماع �سعال الهي�ستريي، والذي يحتمل �أن يوقظ داخله �صدى الوفاة الأليمة البنه الأول .وداومت على �إعادة تلك التمثيلية املفزعة التي تفطر القلوب كي ا�ستمتع بفزع والدي. وبانتقامي من والدي� ،أطلقت متعة رغبتي اخلا�صة ل كك الأيام ،كل ما كنت �أعمله هو �أن �أ�سري يف غرفة نوم والدي ،حيث كانت هناك �صورة ل�سلفا دور الأول ،فتبد�أ �أ�سناين ت�صطك ،مل يكن ب�إمكاين �أن �أزور قربه يف املدافن ،كان علي �أن �أمني كل م�صادر خيايل لأعالج حدوتة ف�سادي املوتي ب�أن �أجعل ال�صور كم�شروع حي مثل دودة عفنة و�أخريا �أطردها كما تطرد الأرواح ال�شريرة كي
�أ�ستطيع �أن �أخلد للنوم. كيف يعرف دايل النهج البارانوي -النقدي النهج البارانوي _ النقدي فن كبري يلعب على �أوتار املتناق�ضات الداخلية لل�شخ�ص با�ستب�صار حني يجعل الآخرين ميار�سون ا�شتياقات وحلظات الوجد للحياة بطريقة ت�صبه ل�صيقة بهم
هكذا ي�صبح �أمل املوت متعة روحانية ،بعد �أن كان �إ�سبانيا منطيا .لي�س بالن�سبة يل (�أن يكون هناك �سبب ) كما قال مونتان الذي احتقره لعقله البورجوازي، وحما ولته املثرية لل�سخرية يف �أن يجهل املوت ،و�أن يحرمه من حيويته .و�أن يتخطى هلعه .كنت �أف�ضل �أن �أنظر اىل املوت يف عينيه وجعلت لنف�سي ثورة عاطفية مهذبة للقدي�س جون عن ال�صليب.
با�ستمرار كما لو كانت ملكهم .وت�أكدت يل مبكرا جدا ،ب�صورة غريزية ،ظاهرة حياتي: �أتقبل الآخرين كما هي التجاوزات طبيعية يف �شخ�صية املرء ومن ثم يخفف املرء من ا�شتياقا ته بخلق نوع من امل�شاركة اجلمعية. بعد ظهر يوم ما ،ويف مدر�سة مار�سيت براذر فيجورا�س ،بينما �أعرب الدرج احلجري نحو م�ضمار امللعب كنت �أح�س كما لو �أنني �أقفز يف الف�ضاء .كان اجلنب قد حرمني،تلك الن�شوة .لكن يف اليوم التايل ،قفزت لأقع على الدرجات ،لت�صيب ج�سدي كله الكدمات والر�ضو�ض بعنف �أده�ش الطلبة واملدر�سني، ومل يكن هنا �أدنى خوف مما ارتكبت� .إن ما فعلته من اعجاز جعلني �أكاد ال �آبه بالأمل. فقد �أحطت بالعناية ،ولفني االهتمام .وبعد �أيام قالئل ،كررت ما فعلته وب�صورة �أعلى بدرجة تكفي لأن تتحول كل العيون جتاهي وفعلتها ثانية مرات ،اختفي خويف كلية يف التوق الذي بثثته يف زملآء الدرا�سة .ففي كل مرة �أهبط الدرج ،يتحول انتباه الف�صل كله نحوي ،كما لو ك�آن بيدي ف�ضل ما ،و�أ�سري يف �صمت القبور _ كالقول امل�أثور -كما لو كنت �أخلب لبهم حتى الدرجة الأخرية ،هنالك كانت �شخ�صيتي تتخلق .ونحان جزائي من ذلك كال �أكرب مما ي�سبب من ازعاج .فغالبا ما كان يحدث يل �أن تتملكني نزوة مفاجئة يف القفز للف�ضاء من قمة جدار ،رغم املخاطرة الأعظم، كي �أهدي ،من لوعة الف�ؤاد .بل انني حتولت اىل قافز ماهر جدا .ودونت يف مالحظاتي �أن كل مرة كانت تلك الأحداث ت�أتي بي ،بعد حقيقتها اىل مغزى �أعمق حلقيقتي :فكانت اخل�ضرة والأ�شجار والزهور ،تبدو كلها قريبة مني .بعد ذلك ،كنت �أح�س اخلفة، �أ�ستطيع �أن �أ�شارك ب�صورة طبيعية يف الوجود و�أن (�أ�سمع ) كل حوا�سي .بالقفز �أمام زمالئي ،خلقت فيهم متعة ت�ساوي
متعتي �أو حتى �أكرب من متعتي ،كنت �أرى نوعا من الكرامة يف عيونهم ،يطو مبا �أفعل ملكانة احلدث .وي�صبح دايل حامل املتعة لكل �شخ�ص ،ويتحول �ضعفه اىل قوة .لقد حملتهم جميعا على االعرتاف بانفعايل و�أن يقبلوا به ،و�أجربتهم عل �أن ي�شاركوين جميعا يف نف�س العاطفة. هكذا ي�صبح �أمل املوت متعة روحانية ،بعد �أن كان �إ�سبانيا منطيا .لي�س بالن�سبة يل (�أن يكون هناك �سبب ) كما قال مونتان الذي احتقره لعقله البورجوازي ،وحما ولته املثرية لل�سخرية يف �أن يجهل املوت ،و�أن يحرمه من حيويته .و�أن يتخطى هلعه .كنت �أف�ضل �أن �أنظر اىل املوت يف عينيه وجعلت لنف�سي ثورة عاطفية مهذبة للقدي�س جون عن ال�صليب. (تعال �أيها املوت حمتفيا كي �أملوت , فقد تعيل يف متعة ارحيل جمددا للحياة ) يف وجه وقفة كتلك ،تتهافت حقيقة الن�صح من �أجل التزييف لدى مي�شيل دي مونتان، كل �أملي �أن ي�أتي موتي داخل حياتي ك�صاعقة ،كي ت�أخذين كلية� ،أو كنوبة حب، وان جتعل ج�سدي طوفانا بكامل روحي. وبعني الوقت كان با�ستطاعتي �أن �أ�ست�سيغ ي�أمي .وكان انعدام املقدرة لدى يف املعرفة يجعلني �أتيه من ناحية �أخرى ،وكان خويف ي�شربني وقاحة اال�ستخفاف .وكان وخز املوت مينحني خا�صية جديدة يف حياتي وعواطفي .وحني كانت جاال ،معجزة حياتي، جتتاز عملية خطرية يف 1936كنا نق�ضي وقتنا يف حالة من الالمباالة الظاهرية نخلق مو�ضوعات �سوريالية يف اليوم الذي �سبق �إجراء اجلراحة .كانت ت�سلي نف�سها بجمع عنا�صر مده�شة ومتباينة معا من �أجل فربكة
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12 ما يبدو �أدوات �آلية _بيولوجية .النهود مع ري�شة يف احللمة ،وعلى قمة الري�شة هوائيات معدنية منغم�سة داخل �إناء دقيق (ويبدو هذا الرتكيب مرجعا �ضمنيا جلراحتها الآتية ). ولكن ما حدث �أنه ،يف طريقنا للم�ست�شفى داخل التاك�سي -كنا نخطط للتوقف عند اندريه بريتون كي نريه اخرتاع جاال �-إال �أن ارتطاما حادا جعل البدعة تنحرف �إثر ال�صدمة و�أن يغمرنا الدقيق .وميكن لك �أن تتخيل كيف كنا نبدو حني و�صلنا للم�ست�شفى! ما هو هام �أنه م�ساء ذلك اليوم كنت م�شغوال ب�إعداد الن�سخة النهائية من اخرتاعي �ساعة. نوم م�صنوعة من حلية �ضخمة من اخلبز الفرن�سي وداخلها 12حمربة زجاجية ميل�ؤها حرب بلون خمتلف ينف�س فيه قلم ري�شة - وتناولت ع�شائي ب�شهية -دون التفكري ولو لثانية يف عملية جاال .حتى الثانية �صباحا، كنت ال �أزال �أعمل على اتقان �ساعتي ب�إ�ضافة �ستني حمربة ملونة بالألوان املائية على �أوراق اللعب معلقة من اخلبز .ثم خلدت للنوم ،ولكن يف اخلام�سة �صباحا ،كانت �أع�صابي امل�شدودة توقظني .كنت �أت�صبب عرقا ،مكدودا بداخلي �أنفا�س ندم .نه�ضت بغري ثبات باكيا ،ك�أن عقلي تثريه �صور جاال معبودتي يف �أوجه حياتية عدة ،وانطلقت نحو امل�ست�شفى ي�صرخ توقي .ولأ�سبوع كان العرق يغطيني ،واملوت يرب�ض يف حلقي. و�أخريا مت تخطي هذا املر�ض .دخلت غرفة جاال لآخذ كفنها بكل الرقة يف العامل ،وقلت لنف�سي (الآن ،جالو�شكا� ،أ�ستطيع قتلك ). كانت الروح حتيا على ما ي�صدمها وجتد يف رجفة ن�شوة اجلماع ذررته .وي�صبح ال�ضعف ذاته قوتي ،و�أنا �أثري باملتناق�ضات� .أحيا وعيناي �صافيتان مفتوحتان عن �آخرهما. هل درا�سة الطقو�س ال�سرية يف الفن �شيء نبيل لدى دايل؟ هل تظنها م�صادفة يف �أن رحالت الطقو�س ال�سرية الكربى كانت غالبا ما ترتبط بالردة والطبل الزائف ؟ احلقيقة �أن ال�شرج ،الذي �أعاله كويفيد يف مديحه ،يعدا رمزا �أ�سا�سيا للتطهر من �أفعالنا الوح�شية .كل ما هو �إن�ساين حني تتجاوزه روحانية املوت لي�صبه طق�سا �سريا فبعد مولد "دوفني " ،وريث عر�ش فرن�سا ،كانت ف�ضالته جتمع يف بالط الق�صر،يف وجود كل نبالء اململكة ،ويدعى �أعظم الر�سامني ،فرمبا يلهم الرباز امللكي الباليتة .وكان البالط كله يرتدي اللون نف�سه .فهذا نبل .وهو قبول للإن�سان ب�صورته املطلقة ،برازه عظه مثل موته .بل �أكرث من ذلك ،كانت الباليتة الف�ضالتية تتمتع بتنويعة هائلة،من الرمادي للأخ�ضر ومن الأوكروات اىل البنيات ،كما نرى يف �أعمال كارد�أن وال يوجد �شي ء �آخر �أكرث ا�شتهاء للعني ب�صورة ذواقة من ظل الرباز الذي ين�ساب بحرية، الف�ضيحة احلقيقية هي �أننا ما عدنا جنر�ؤ �أن نقول �أو نفكر يف ذلك .عا�ش براز امللك �أوفني ! وخذ الأمريكيني ،وهم غري قادرين على مواجهة املوت ،وقد �أعلوا من �ش�أن �صناعة كاملة قائمة على ال�شعارات مثل �أنت متوت - ونحن نتوىل كل �شي ء) كما لو كان هذا هو التنكر لواقع الظاهرة� ،أو تقلي�ص حجمها� ،أو تزيينها ،وتعقيمها ،ثم و�ضع مقايي�س لها� ،أو حرمانها من امل�أ�ساة داخلها .لكن موتا يعرب دومنا جالل ال ي�شي ب�شي ء �إال بحياة بخيلة، �أفكارها �ضئيلة .ال جوهر حلياة الب�شر �إذا حرم املوت من مهناه� .إن الواليات املتحدة الأمريكية �ستجد يف براز �أوفني �شيئا غري زي فكر ،لذا �سي�ستبدلونه بحلوى قرنفلية بال�سكر� ،أي رقة واعتدال ؟ اين �أحلم ب�أن �أبقى على وقارها واحتالبها حتى املوت. رمبا �سيكون �ضروريا ،كما هو الأمر �أيام الأ�سكوريال العظيمة �أن �أعود اىل �أكوام الروث التي جتعل املرء حا�ضرا يف التحلل البطيء للج�سد ،والر�ؤية والرائحة حت�ضر للعقول والذاكرة القيمة املختمرة عن الروحانية احلقيقية� .إن الأج�ساد الدودية الت�سلق تنجز مهمتها النبيلة الأخرية :العودة
13
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
للأر�ض .ويف قبول درا�سة الطقو�س ال�سرية يف الفن والتربز واملوت توجد طاقة روحانية ا�ستغلها بثبات عظيم� .أنا مقتنع ب�صورة ال واعية ب�أن ال�ضربات العميقة التي تدفعني لأنزع �أح�شاء القنفذ ال�صفري امليت واملتحلل تدفعني باملثل بدون �شك اىل التهامه. دال :اقتل وكل �أهوى �أن �أحطم جماجم الطيور ال�صغرية بني �أ�سناين ،و�أن �أهر�س عظامها كي �أم�ص النخاع ،والدجاج الذي �أو�شك �أن يف�سد
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
واملطبوخ يف ف�ضالتها ،وكان ندمي الوحيد �أنني مل �آكل الديوك الرتكية املطبوخة حية، والتي ،كما يقال ،تعد طبقا �سحريا� .أعرف �أنني نهم ب�صورة �ضارة ،وت�ضيء وعيي �شهية �أكلة حلوم الب�شر ،ملا بدا بالتايل الدليل الدائم على واقعي املعا�ش .كان لعابي ي�سيل بطريقا �أكرث حياة ،حني افرت�س �شيئا ميتا. بل الأكرث من ذلك �أرى الفك ع�ضوا رائعا يعي برغبتنا اخلا�صة يف احلياة ،وقيمة الواقع، وهو جمرد �صهريج هائل للف�ساد ،واملقابر
فيه منا�ضد ع�شائنا� .إن احلقيقة بني �أ�سناننا. فقد برهنت الفل�سفة نف�سها يف فن الأكل .فا الن�سان يك�شف عن نف�سه حني تكون ال�شوكة يف يده� .إن �أر�ستقراطية كيورين العظيم قد ظهرت دائما يل .مثل �أبي ،كنت �أمام طعام البحر بريا ،تلك الق�شريات بلحمها العذري حتميه عظام قا�سية ب�صورة تكفي لأن تنمو يف اخلارج ،لكني �أمقت املحار خارج �أ�صدافه مقتي لطراوة الأ�سبان. لقد حكى جوزيف دي ماي�سرت كل ذلك حني
علق عل �إن�سان يف معركة ال يطيع �أبدا رغم �أن الأر�ض كلها الغارقة يف الدهاء هي مذبح �ضخم يقربن �أمامه بكل �شي ء بال نهاية، وبال مقيا�س وبدون لني حتى ت�ستهلك كل الأ�شياء ،وتنقر�ض ،وميوت املوت .نعم� ،إن االلغاء حمتوم ،ف�سته�ضمنا الأر�ض جميعا، و�أنا لدى هذا االعتقاد طوال الوقت .فلن جتد واحدا من �أفعايل� ،أو واحدا من �إبداعاتي �إال جت�سيدا يقابل تلك املعرفة ،ومل توجد حلظة يف حياتي مل �أكن فيها على وعي بح�ضور
املوت� ،إن ذلك يجعلني �سعيدا ،وملاحا� ،أنوي �أن �أغ�ش قليال ب�أن �أجعل لنف�سي بياتها، �أعني �أن �أف�سح للكوميديا ف�صلني �آخرين �أو ثالثة يف هذا القرن القادم ،لأين ا�ؤمن ببعث الأج�ساد. �أمر �سيىء جدا �أين ل�ست م�ؤمنا .مل �أفقد الأمل .لقد �أو�ضح القدي�س �أوج�سنت الطريق ب�صالته للرب ليعطيه الإميان ،لكن مل يحدث ذلك دومنا �أن يعطيه الرب �أوال الوقت ال�ضروري ليت�شبع باملتع املتاحة
على �سطح الأر�ض .كانت رغبتي يف اخللود فيما بعد احلياة ب�إ�صرار الذاكرة، �أريد �أن �أكون قادرا على تذكر كل تفا�صيل حياتي .ال�سعادة الغامرة ال تعني �شيئا لدي دومنا ت�أكيد التذكر لكل حياتي� .أنا �أرف�ض الأ�شكال الأخرى من البعث ويف تلك احلالة �أف�ضل اال �أموت .يف الوقت احلايل هناك على الأقل ع�شر طرق الطالة احلياة معروفة متاما ،بفرتات النوم الذي قد ت�ضيف الكثري من التوابل للحظات
�إعادة اال�ستيقاظ� .س�أختار بينها بكفاءة كربى حني ي�أتي موعدها .هذا االجتاه هو جزء من اللعبة التي �أ�ؤديها مع املوت. لدى عبقرية كهذه ملحاولة �إطالة الأيام قدر االجناز الذي حتتاجه �أعمايل الكاملة .لكن يف احلقيقة� ،أن كل ما �أحبه بعمق وذنب هو �أح�شائي� .إن جمايل الداخلي يتكون من رغبة هائلة تعل منه اىل نوبات ،لي�س فقط كل ما يقف يف طريقه ،ولكن وبقرا ري وحدي باال �أجد ما يخ�صني واال ا�صكك
ما هو ملكي .ودعني �أ�س�ألك ما هو الذي �أكرث من موتي� .أعرتف �أين �أعتقد �أن لنف�سي ح�صانة ،و�أين �أرغب يف التحمل حتى �أمني ب�أق�صى حد حلي ا�ستثري املوت ال�سماوي يف جل خا�صيته .وكوين �أ�صبح �صكه يف عظمته� ،أباريه يف البعد والكيف. �إنها �ألهتي العظيمة ،الروح احلكمة لنا كلنا� .إنها اجلمال الغام�ض واملطلق� .أعرف �أن احلياة ما هي �إال مملكة للنق�ص ،لكني �س�أجعل من التتابع الطويل والالنهائي
للأيام التي ت�شمل حياتي كماال فاتنا، يحمل نقطة متا�سه مع الله .وكنت �أود كتابة ق�صيدة اليه ،رمبا تقول: �أيها املوت� ،ألوهيتى اجلميلة، �أنت التقيت الكاهن الأكرب، �أنت التقيت ال�صنو وخدمتني لذلك �أعبدك، نحن نعمل معا كي ن�شكل معادال للأ�شياء املطلقة التي مل يكن لها �أبد�أ ما ي�ساويها ويف كل يوم �أغدو املالك االول لدار الفناء. و�أعود اىل حياتي الرحمية ،التي انتهت يف اليوم احلادي ع�شر من مايو من العام ،1904بعد الثامنة بخم�س و�أر بعني دقيقة ،حيث ولدت من بطن �شرعية حملتها دونيا فيليبا دوم رو�سينيك .كانت �أمي يف الثالثني .وتقول �شهادة امليالد �أن والدي هو دون �سلفا دور دايل �إي كوزي ،قد �أعطى يومني بعد ذلك التاريخ كي ي�سجل �شجرتي العائلية لكل من الأبوين .من ناحية الأب كان دون جالو دايل ،وهو من �أهل فيجورا�س ،ودونيا تريزا كوزي مار كو�س من �أهل وو�سو�س� .أما من جهة الأم فكانا دون ان�سيلمو دومينيك �سريا ودونيا ماريا فريي�س �سادورين ،وهما من بر�شلونة� ،أما ال�شهود فكانا دون خو�سيه مريكادير من �أهل البي�سبال ،وهي �إحدى مقاطعات فريونا ،وكان تاجر دباغة يقيم ل هذه املدينة ،والثاين دون �إميليوبيج من �أهل فيجور ا�س ومهنته املو�سيقى،ويقيم يف هذه املدينة ،وكانا من نف�س ال�سن. كان �أبي حينها يف احلادية والأربعني، وكان معروفا ب�أنه (طبيب املال ) ،لكونه نوتاريو البلدة ()2وي�سكن يف 20كاليه مونرتيول ،وقد منحت الأ�سماء امل�سيحية �سلفا دور ،وفيلبي وجا �سينتو و�أنا مت�أكد من �أن كل الكربياء قد رحل و�أن كل ه�ؤالء الذين خ�صبت �أرواحهم الف�ضاء الذي ن�سبح فيه ،هذا الطمي الدقيق من الروحانية� ،أراه ابتهج حني ظهرت على وجه الأر�ض ،لأنني �شكلت التحدي الأعظم لعبقرية �إن�سان قرر �أن يح�سم الأمر جتاه املوت .ويف التعاقب املمتد للقرون التي ر�أت الفنانني .كم منهم كانت له كيفيتي يف االنفعال الكوين املركز؟ ما �أ�ستطيع قوله �أين ،دايل �أطعم رغباتي باجلمال احليوي لكل العبقريات امليتة .و�أدفع بها لالمام. ف�أنا ال�شم�س التي ت�شرق على كل النباتات املنتقدة يف ليل الع�صور. (املوت هو ال�شيء الذي يحيفني كثريا، وبعث اللحم هذه التيمة اال�سبانية العظيمة، هي ال�صعوبة الوحيد الكبرية التي اقبلها بكد من وجهة نظر احلياة)ا�شارات: * ترجمة الف�صل الأول من كتاب �سلفا دور دايل (االعرتافات ال�سرية ل�سلفا دور دايل ) ،الكتاب الذي �أماله _ على مدى 20 عاما _ ل�صديقه ال�صحفي اندريه بارينود لي�صبح بعد �صدوره ال�سرية الذاتية لفنان يقول عن نف�سا :ل�ست �سورياليا� ،أنا ال�سوريالية. - 1حقيقة �شهرية �أن فن�سفت فان جوخ كان �صكه مثل دايل م�سبوقا بوفاة �أخ يدعى فن�سفت ويف �صباه كان الفنان امل�ستقبلي جمربا على الذهاب اىل املدر�سة كل �صباح واملرور مبدافن يرى فيها ا�سمه منقو�شا فوق �شاهد قرب! - 2تعني باال�سبانية ويف بالد التينية كثرية Notarioع�ضو �شرعي مبهنة كل ما يخ�ص املال وهي لفظة عامية تعني احلار�س املحلي للرثوات واال�ستثمارات (طبيب املال ).
ترجمة� :أ�شرف �أبوا
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14
15
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
العدد ()2041ال�سنة الثامنة -ال�سبت (� )12شباط 2011
السريالية…
وس���ل���ف���ادور دال���ي
فريد دولتي
كان القرن الع�شرون مزدحما بالأن�شطة الفكرية والإبداعية املتنامية واملتحولة يف موازاة التطور العلمي وال�صناعي واملتغريات الكربى التي ارتبطت مب�سارات احلربني العامليتني الأوىل والثانية ونتائجهما .و�شهد هذا القرن مزاوجة جريئة ومت�سارعة بني الفنون املرئية كالر�سم والت�صوير ال�ضوئي وال�سينمائي والعمارة وامل�سرح من جهة، وهذه الفنون وال�صناعة والعلوم احلديثة و�أطيافها مبا فيها من املنجزات امل�ستحدثة يف درا�سات علم النف�س التي متحورت حول مدر�سة فيينا ،التي قادها فرويد وكارل يوجن ،وكان من �أبرز �إجنازاتها امل�ؤثرة كتاب فرويد (تف�سري الأحالم) الذي �صدر عام ،1900
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
وفتح �أبوابا ونوافذ كانت مغلقة� ،أو كان بع�ضها مفتوحا على قليل من ال�ضوء وكثري من العتمة ،من جهة �أخرى وت�سارعت التحوالت الكربى يف الفنون الإبداعية احلديثة التي برزت مالحمها يف نهايات القرن التا�سع ع�شر ،و�أخذت هذه التحوالت �أ�شكاال من القفزات النوعية ،يف منعطفات حادة ،يف الأ�سلوب واملادة واملو�ضوع ،من خالل جتارب فردية �أو تيارات �أو مدار�س حتمل �أ�سماء وا�ضحة ،وكان التجديد يت�سارع بحيث تنطفئ بع�ض تلك التجارب والتيارات بعد عمر ق�صري� ،أو تذوب يف تيار جديد �آخر كالتكعيبية ( )1917 -1913والدادائية ( )1922 -1915ثم
ال�سريالية ( )surrealismالتي ولدت مع البيان ال�سريايل الأول الذي �أ�صدره �أندريه بروتون عام .1924 كان الكتاب وال�شعراء ال�سرياليون يعتمدون على الكتابة الآلية التي و�صفها �أندريه بروتون يف كتابه (ال�سريالية والر�سم) ب�أنها (طريقة تلقائية يف املعرفة الالعقلية ،تقوم على �إعطاء التداعيات والتف�سريات الهذيانية مو�ضوعية نقدية منتظمة). كانت الأحالم عند فرويد ،كما هي عند م�ؤ�س�س ال�سريالية �أندريه بروتون ،هي الطريق التي تقودنا �إىل اكت�شاف الال�شعور ،وهي لدى معظم ال�سرياليني ذات �أهمية خا�صة لأنها تعك�س ما هو خفي يف �أعماقهم،
وهي بذلك ت�شبه وثائق قادمة من عامل خفي ومده�ش معا .وحمل العدد الأول من جملة (الثورة ال�سريالية) مناذج لن�صو�ص عن �أحالم ثالثة من رواد ال�سريالية هم بروتون ،دي كريكو ،رينيه غوتييه ،وجاءت حتت عنوان يقول� :إن الأحالم وحدها هي التي تقود الإن�سان �إىل احلرية .ومن هنا تربز املخيلة كقوة �إبداعية ت�أخذ مكانها �إىل جانب العقل واملنطق �أو كبديل عنهما ،لأنها متثل ما فوق الواقع ،وهو معنى ال�سريالية. �شغل �سلفادور دايل ( )1989 -1904العامل بالطريفة و�أعماله الفنية التي ال ت�شبه غريها ، ،ومل يكن يناف�سه يف �شهرته �سوى بابلو بيكا�سو ،ف�إىل جانب خ�صو�صية دايل يف الر�سم والنحت والت�صميم كان له �أ�سلوبه املتغري املتمرد يف احلياة ،مما �أعطاه جاذبية العبقري والبهلوان واملهرج وال�ساحر واملجنون معا. برزت املوهبة املبكرة لدايل يف الر�سم وهو اليزال يف ال�ساد�سة من عمره ،كما كانت نزعته نحو التمرد واال�ستقالل عن �سلطة الأب تكرب معه ،ف�شق ع�صا الطاعة يف املدر�سة وكلية الفنون ،ويف املجموعة ال�سريالية التي انتمى �إليها بعد �أن ظل ع�ضوا بارزا فيها على مدى ع�شر �سنوات .وكان جريئا يف الرد على الذين يتهمونه بالغمو�ض ،حيث قال :ال غرابة �أال يفهم اجلمهور �أعمايل ،ف�أنا ال �أفهمها �أي�ضا. كتب فرويد ر�سالة �إىل �أندريه بروتون ي�ستغرب فيها �أن تكون �أبحاثه من �أهم م�صادر احلركة ال�سريالية، و�أن يكون �أبا روحيا لهذه احلركة ،مع �أن �أ�ساليب الفن بعيدة عن اهتمامه .وبعد �أن هاجر فرويد �إىل لندن ،و�صل �إليه �صديقه القدمي �ستيفان زفايج ب�صحبة �سلفادور دايل عام ،1938و�صرح فرويد ب�أنه معجب بذكاء هذا (ال�شاب الإ�سباين) ،ولكن دايل ر�سم بعد ذلك باحلرب الأ�سود �صورة �ساخرة لفرويد ،يبدو فيها كعجوز منحو�س ،و�أعطى ال�صورة ل�ستيفان زفايج وطلب منه �أن يو�صلها �إىل فرويد ،ولكن زفايج كتب يف مذكراته �أنه مل يعط ال�صورة �إىل فرويد الذي كان مري�ضا ،وخ�شي زفايج �أن ت�سبب له ر�ؤيتها مزيدا من الأمل. ويف ذلك العام الذي ولدت فيه ال�سريالية كان يعي�ش يف املدينة اجلامعية يف مدريد ثالثة من الأ�صدقاء الوافدين من خارج العا�صمة هم :فدريكو جار�سيا لوركا ،ولوي�س بونويل ،و�سلفادور دايل .وكانوا ي�شقون طريقهم بقوة لي�صبحوا �أهم ثالثة مبدعني يف ثالثة حقول خمتلفة ،يف الثقافة الإ�سبانية يف القرن الع�شرين. بد�أ لوركا بكتابة ال�شعر وامل�سرح ،وا�ستمرت جتربته بال�صعود والتوهج حتى موته مقتوال على �أيدي القوات الفا�شية بقيادة فرانكو عام ،1936يف بداية احلرب الأهلية الإ�سبانية ،بينما اجته بونويل �إىل الفن ال�سينمائي فاجته �إىل باري�س عام ،1925والتقى باملجموعة ال�سريالية ،وعمل يف جمال ال�سينما� ،إىل �أن �أخرج فيلمه املثري الأول (كلب �أندل�سي) الذي كتب ال�سيناريو له بالتعاون مع �سلفادرو دايل عام ،1928 وتبعه الفيلم الثاين (الع�صر الذهبي) عام ،1930 بالتعاون مع دايل �أي�ضا ،قبل �أن تبد�أ رحلته الطويلة مع ال�سينما فقدم جمموعة نادرة من روائع الأفالم التي �صورها يف املنفى يف فرن�سا والواليات املتحدة الأمريكية واملك�سيك على مدى ن�صف قرن قبل عودته �إىل �إ�سبانيا ثم وفاته فيها عام .1982 �أما �سلفادور دايل ف�إن جناحه بد�أ مبعر�ضه الأول يف بر�شلونة ،عام ،1925ثم معر�ضه الأول يف باري�س عام ،1927حيث بيعت كل لوحاته املعرو�ضة ،وكان �أندريه بروتون قد كتب تقدميا لهذا املعر�ض قال فيه�( :إن دايل �أحتف العامل بكائنات جديدة متاما) .ومن هنا دخل دايل �إىل املجموعة ال�سريالية من بابها العري�ض. يعتمد دايل على اال�ستخدام الكامل لتقنية الر�سم اخلادع الذي يعك�س وهم احلقيقة ،مع ارتباطه بالتحليل النف�سي ،كما يف لوحة (الرجل غري املرئي) ،1929فهي اللوحة الأوىل التي ي�ستخدم فيها �شكال مزدوجا ،حيث يكون الرجل هو املر�أة ،يف الوقت نف�سه� .أما يف لوحات (الراق�صون) و(الأ�سد واحل�صان) و(مولد رغبات �سائلة) ف�إنه اعتمد على (التذكر النف�سي) وهو ما يعني لديه (�إعادة التكوين الفوري للرغبة من خالل انك�سارها يف دائرة الذكريات). �سلفادور دايل ف�إنه اعتمد على البارانويا النقدية، �أو الهذيان النقدي ،الذي يفتح املمرات الداخلية املتوا�صلة بني احللم والواقع ،وهذا هو مو�ضوع كتاب (الأواين امل�ستطرقة) لأندريه بروتون ،لكن دايل �أعطى خ�صو�صية وا�ضحة لأ�سلوبه يف العمل ،بحيث
كان ي�ضع حامل اللوحة قرب ال�سرير لكي ي�ستطيع �أن يرى ما ر�سمه وي�ستوحي ما �سري�سمه يف اللحظات التي تتوا�صل بني اليقظة والنوم� ،أو الواقع واحللم، وهذا ما عرب عنه بروتون يف كتابه (مطلع النهار) حني قال( :رمبا انفتحت بف�ضل دايل للمرة الأوىل النوافذ الذهنية على م�صاريعها). كتب بروتون و�إيلوار معا ،يف عام ( 1930مفهوم النقاوة) جاء فيه (�أن العقل ميكن �أن يقدم كل �صيغة معروفة للجنون على �شكل ق�صيدة)� ،أما دايل ف�إنه كان يطمح �إىل توليد �أعمال ب�صرية من خالل ال�سيطرة على اال�ضطرابات العقلية ،حيث يفكر الر�سام ويعمل ك�أنه حتت ت�أثري ا�ضطراب نف�سي� ،أو حالة هذيان ،ولكنه يظل واعيا ملا يحدث حوله. من �أوائل اللوحات التي حملت مالمح �سريالية وا�ضحة يف �أ�سلوب دايل تلك التي ر�سمها وهو يف اخلام�سة والع�شرين من عمره و�أطلق عليها بول �إيلوار ا�سم (الريا�ضي الكئيب) .كان دايل مت�أثرا بفنون ع�صر النه�ضة من خالل زياراته املتعددة �إىل �إيطاليا ،وهذا ما توحي به براعته يف �إتقان الر�سم الت�شريحي الذي ي�شكل عن�صرا واقعيا يف لوحاته التي ال تنتمي �إىل الواقعية. ويف الوقت الذي كان فيه بروتون يدافع يف بياناته وت�صريحاته عن حقوق الفنانني ،ويحثهم على عدم تقدمي �أي تنازالت لتلبية رغبات اجلمهور ،كان دايل من �أكرث الفنانني التزاما بال�سريالية ،ولكنه ما لبث �أن مترد و�أثار ا�ستنكار ال�سرياليني ،واتهموه ب�أنه (عبد للدوالر) ،وف�صلوه من ع�ضوية املجموعة عام ،1939 غري �أنه �صرح يف لقاء �صحفي ،قائال( :ال�سريالية هي �أنا). �أ�ضاف دايل �إىل ال�سريالية املخيلة املفرطة والتقنيات املرئية التي طورها بجهد �شاق وموهبة غري عادية �أعطت �أعماله نكهة خا�صة وبراعة يف التهريج واملغامرة ،وتهذيب التخيالت والإ�صرار العنيد على االبتكار ،وا�ستطاع �أن يج�سد خماوفه وذعره ورغباته ليك�شف القناع الذي ي�ضفيه العقل على احلقيقة. �إن انف�صاله الدرامي عن والده كان وا�ضحا يف لوحته (الع�صر القدمي لوليم تيل) � ،1931أما ولعه بالأطعمة الغريبة ف�أوحى له بر�سم جاال وعلى كتفيها �شريحتان من اللحم .ويتذكر دايل ،يف كتابه (احلياة ال�سرية ل�سلفادور دايل) الذي �صدر يف عام 1942بداياته جيدا فيقول( :يف ال�ساد�سة من عمري كنت �أريد �أن �أ�صري ديكا ،ويف ال�سابعة �أردت �أن �أ�صري نابليون، وكانت طموحاتي تكرب منذ ذلك احلني). ر�سم دايل لوحة �شهرية بعنوان (توا�صل الذاكرة) عام 1931يظهر فيها عدد من ال�ساعات التي ت�شري �إىل الوقت ،وهي تبدو مرتخية يف حالة مائعة ،وهو يذكر �أن فكرة هذه اللوحة خطرت له عندما كان ي�أكل قطعة من اجلنب .وتعك�س غرابة �أعمال دايل �صورة من غرابة �أطواره يف حياته اليومية ويف �أحاديثه وكتاباته ،فهو يقول( :ميكن �أن �أقفز من النافذة �إذا ر�أيت جرادة يف الغرفة). يف املعر�ض ال�سريايل الدويل الأول الذي �أقيم يف لندن �صيف ،1936و�صل دايل �إىل �إحدى القاعات ليلقي حما�ضرة وهو يقود كلب �صيد �سلوقيا ،ويرتدي بزة غطا�س �ضيقة� ،سببت له اختناقا ،بينما ح�ضر ماك�س �أرن�ست �إىل قاعة اللقاءات ال�صحفية ب�صحبة امر�أة تغطي ر�أ�سها باقة كبرية من الزهور ،وهي ترق�ص. ويف املعر�ض ال�سريايل الذي �أقيم يف باري�س عام 1938عر�ض دايل يف مدخل ال�صالة منحوتة (تاك�سي املطر) حيث جند �سيارة يت�ساقط عليها املاء ،وتزحف فوقها جمموعة من احللزونات احلية. ر�سم دايل لوحات بارعة عن �أ�شعار لوتريامون (�أنا�شيد مالدورر) ،وهي التي يراها ال�سرياليون جزءا من امتدادات جذورهم املتعددة ،لكنه حينما بد�أ بتنفيذ �سل�سلة الر�سوم اخلا�صة بكتاب (دون كيخوته) عام 1958ابتكر �أداة غري م�ألوفة يف الر�سم ،هي بندقية ق�صرية تطلق ر�شات من احلرب ال�صيني بدال من الر�صا�ص. يف عام � 1928أبدى دايل اهتماما خا�صا بال�سينما والت�صوير ال�ضوئي ،وكان قد ن�شر �أربعة مقاالت يف هذين املو�ضوعني ،و�أجنز مع �صديقه لوي�س بونويل فيلما مثريا هو (كلب �أندل�سي) الذي كان ين�سجم مع �أفكار دايل عن الفن ،وهو ال يحمل ق�صة �أو حكاية، و�إمنا لوحات م�شهدية غريبة ،م�شحونة بالأحالم والكوابي�س والر�ؤى ،حيث تظهر على ال�شا�شة يد مقطوعة ،ثم �شرفة ،ورجل يحمل �شفرة حالقة يراقب ال�سماء ،حيث تعرب غيمة نحو القمر امل�ستدير ،وعينا فتاة �شابة تلمعان وتقرتب �إحداهما من ال�شفرة التي
تبد�أ بح ّز العني يف م�شهد مثري، هو من �أق�سى امل�شاهد يف تاريخ ال�سينما ال�صامتة. وكان جناح فيلم (كلب �أندل�سي) حافزا لكي يطلب �أحد كبار املمولني من بونويل تقدمي فيلم �آخر، ف�سافر بونويل ليلتقي بدايل، حيث �أجنزا �سيناريو فيلم (الع�صر الذهبي) الذي عر�ض يف باري�س عام ،1930 وجاء ترتيبه الثالث بني الأفالم الفرن�سية الناطقة ،وعلى مدى �ستة �أيام لقي الفيلم �إقباال وا�سعا، ولكن �أع�ضاء املنظمات اليمينية املتطرفة هاجموا �صالة العر�ض بتحري�ض من بع�ض ال�صحف وحطموا لوحات املعر�ض ال�سريايل املرافق لعر�ض الفيلم، و�ألقوا احلرب واملتفجرات على �شا�شة العر�ض، وك�سروا املقاعد، فقامت الرقابة الفرن�سية مبنع الفيلم ملدة ا�ستمرت خم�سني عاما .و�صرح دايل ب�أن م�ساهمته يف هذا الفيلم كانت تهدف �إىل تعرية الآلية املنحطة للمجتمع الراهن. يف (الع�صر الذهبي) �صور وم�شاهد غري م�ألوفة ،حيث نرى الأ�سقف والزرافة مقذوفني من النافذة ،وعربة تقتحم �صالون احلاكم، وعظاما وهياكل ب�شرية قرب ال�شاطئ، وال�شاعر جاك بريفري وهو يعرب ال�شارع، وبقرة تربك فوق ال�سرير ،بعني مفتوحة ،رمبا كانت هي العني التي قال عنها دايل�( :إن العني الوا�سعة للبقرة ميكن �أن تعك�س يف بيا�ضها النا�صع �صورة م�صغرة ملنظر طبيعي) ،كما قال�( :إن ال�سينما ميكن �أن تعر�ض حبة ال�سكر على ال�شا�شة كما لو كانت �أكرب من منظر �أبنية عمالقة) .وكتب عام � 1930سيناريو فيلم طويل مع الر�سوم لكنه مل ينفذ. هاجر دايل �إىل الواليات املتحدة عام ،1940وعمل هناك على مدى ثمانية �أعوام يف جماالت متعددة، و�صمم الديكور لفيلم هيت�شكوك (امل�سحور) ،كما كتب �سيناريو فيلم ر�سوم متحركة �أنتجته �شركة (ديزين) بعنوان (دا�ستينو) ،وكتب �سيناريو فيلم (دون كيخوته) ولكنه مل ينفذ. كما كان دايل مولعا ب�شخ�صية املمثلة اال�ستعرا�ضية الأمريكية (ماي وي�ست) ،فر�سمها يف لوحة ن�صفية �شهرية ،ممزوجة بواجهة �صالة �سريالية ،كما �صمم �أريكة �شهرية حتمل �صورة �شفتيها احلمراوين.
manarat رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
التحرير نزار عبد ال�ستار ----------------الت�صميم م�صطفى جعفر ----------------الت�صحيح اللغوي مروان عادل -----------------
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
Madonna with a Mystical Rose, 1963