René Descartes

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫ديكــارت‬

‫حياته املبكرة‬

‫اعداد‪ :‬زينة الربيعي‬ ‫ريني��ه ديكارت ‪ René Descartes‬ولد (‪ 31‬مار�س‪�/‬آذار ‪ 11 - 1596‬فرباير‪�/‬ش��باط ‪ )1650‬يعرف �أي�ض��ا‬ ‫بكارتي�س��يو�س ‪ Cartesius‬فيل�سوف فرن�سي و ريا�ضياتي و عامل يعد من م�ؤ�س�سي الفل�سفة احلديثة‬ ‫وم�ؤ�س���س الريا�ض��يات احلديث��ة‪ .‬يعد من �أه��م و �أغزر العلم��اء نتاجا يف الع�ص��ور احلديثة‪ .‬الكثري‬ ‫تدر�س من‬ ‫در�س��ت و ّ‬ ‫م��ن الأفكار والفل�س��فات الغربي��ة الالحقة هي نتاج و تفاع��ل مع كتاباته التي ّ‬ ‫�أيامه �إىل �أيامنا‪ .‬لذلك يعد ديكارت احد املفكرين الأ�سا�س��يني و احد مفاتيح فهمنا للثورة العلمية‬ ‫واحل�ض��ارة احلديث��ة يف وقتنا هذا‪ .‬ميجد ا�س��مه بذكره يف ما يدعى هند�س��ة ديكارتي��ة التي يتم‬ ‫بها درا�س��ة الأ�شكال الهند�سية �ض��من نظام �إحداثيات ديكارتي �ضمن نطاق الهند�سة امل�ستوية التي‬ ‫تدجمها مع اجلرب‪.‬‬ ‫يعار�ض ديكارت الكثري من �أفكار �أ�سالفه‪ .‬ففي مقدمة عمله عاطفة الروح ‪،Passions of the Soul‬‬ ‫يذهب بعيدا للت�أكيد �أنه �س��يكتب يف هذا املو�ض��وع حتى لو مل يكن احد �س��بقه لطرح هذا املو�ضوع‪.‬‬ ‫بالرغم من هذا ف�إن العديد من الأفكار توجد بذورها يف الأر�سطية املت�أخرة و الرواقية ‪Stoicism‬‬ ‫يف القرن ال�ساد�س ع�شر او يف فكر �أوغ�سطني‪.‬‬ ‫يعار�ض ديكارت هذه املدر�سة يف نقطتني �أ�سا�سيتني‪� :‬أوال يرف�ض تق�سيم اجل�سام الطبيعية �إىل مادة‬ ‫و �صورة (�شكل) كما تفعل معظم الفل�سفات اليونانية‪ .‬ثانيا يرف�ض الغايات �أو الأهداف ‪Teleology‬‬ ‫ �س��واء كانت غايات ذات طبيعة �إن�سانية �أو �إلهية لتف�س�ير الظواهر الطبيعية‪� .‬أما يف الإلهيات فهو‬‫يدافع عن احلرية املطلقة لفعل اهلل �أثناء اخللق‪� .‬أ�سهم يف ال�شك املنهجي ا�ستهدف يف �شكه الو�صول‬ ‫ايل اليقني و�أ�س��باب ال�ش��ك لديه �أنه يلزم �أن ن�ضع مو�ضع ال�ش��ك جميع الأ�شياء بقدرالأمكان ويربر‬ ‫ال�ش��ك �أنه تلقى كثريا من الآراء الباطلة وح�س��بها �ص��حيحة فكل ما بناه منذ ذلك احلني من مبادئ‬ ‫عل��ى ه��ذا القدر من قلة الوث��وق ال يكون �إال م�ش��كوكا فيها �إذن يل��زم �أن نقيم �ش��يئا متينا يف العلوم‬ ‫�أن نبد�أ بكل �ش��يء من جدي��د و�أن نوجه النظر �إىل الأ�س���س التى يقوم علين��ا البناءمثال املعطيات‬ ‫اخلا�صة للحوا�س فاحلوا�س تخدعنا �أحيانا والأف�ضل اال نثق بها �أما الأ�شياء العامة كالعيون والر�ؤو�س‬ ‫والأيدي التى ميكن �أن تت�ألف منها اخلياالت ميكن ان تكون نف�سها خيالية حم�ضة‪.‬‬ ‫تلقى ديكارت تعليمه على �أيدي اجلزويت‪ .‬وكان هذا التعليم نقطة البداية وحجر ال�شحذ عند كل‬ ‫الهراطقة الفرن�س��يني‪ ،‬ابتداء من ديكارت ثم فولت�ير‪ ،‬ورينان و�أناتول فران�س "بني جدران املعبد‬ ‫�صنعت املعاول التي حتطم بها املعبد"‪.‬‬

‫◄◄◄◄◄‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ولد يف اله��اي‪ ،‬وهي بلدة �صغرية مبنطقة‬ ‫التورين بفرن�سا‪ .‬وماتت �أم��ه بال�سل بعد‬ ‫والدت��ه ب��أي��ام قالئل‪ ،‬وورث عنها املر�ض‪.‬‬ ‫وكان يف �صباه �شاحب اللون‪ ،‬ي�سعل �سعا ًال‬ ‫يثري الإ�شفاق‪� ،‬إىل حد لأن الطبيب مل يب�شر‬ ‫ب�أي �أمل يف �إنقاذه‪ ،‬ومل تتخ َل عنه املر�ضعة‬ ‫ي��أ��س� ًا م��ن بقائه على قيد احل �ي��اة‪ ،‬ولكنها‬ ‫�أم��دت��ه ب��ال��دفء وال �غ��ذاء م��ن ج�سدها هي‪،‬‬ ‫فعاد �إىل احل�ي��اة ثانية‪ .‬ورمب��ا �سمي لهذا‬ ‫ال�سبب‪ ،‬با�سم رينيه (وهي لفظة م�شتقة من‬ ‫�أ�صل التيني مبعنى ولد من جديد)‪ .‬وكان‬ ‫وال��ده حمامي ًا مو�سر ًا‪ ،‬وع�ضو ًا يف برملان‬ ‫رن ‪ ،Rennes‬وترك البنه عند وفاته دخ ًال‬ ‫يقدر ب�ستة �آالف فرنك يف العام‪.‬‬ ‫و�أحل � ��ق يف � �س��ن ال �ث��ام �ن��ة ب�ك�ل�ي��ة الفي�ش‬ ‫الي�سوعية‪ ،‬التي يقول عنها �أح��د املفكرين‬ ‫الأح��رار املتحم�سني وم�شاهري الريا�ضيني‬ ‫"يبدو �أنها زودت��ه بقدر من الريا�ضيات‬ ‫�أعظم كثري ًا مما كان ميكن �أن يح�صل عليه‬ ‫يف معظم اجلامعات يف ذلك الع�صر(‪")79‬‬ ‫وتبني معلموه �ضعف ج�سمه ويقظة ذهنه‬ ‫ف�أباحوا له البقاء يف الفرا�ش بعد الوقت‬ ‫امل�ح��دد لال�ستيقاظ‪ ،‬وحل�ظ��وا �أن��ه ا�ستغل‬ ‫ال��وق��ت يف ال �ت �ه��ام ال �ك �ت��ب‪ ،‬ال ��واح ��د بعد‬ ‫الآخ��ر‪ ،‬ويف كل جوالته يف امليتافرييقا‪،‬‬ ‫ظل يحتفظ ب�إعجابه ال�شديد ب�أ�ستاذته‬ ‫اجلزويت‪ ،‬كما �أنهم بدورهم‪ ،‬نظروا �إىل‬ ‫�شكوكه ب�شيء من الت�سامح الأبوي‪.‬‬ ‫وق���ص��د يف ��س��ن ال���س��اب�ع��ة ع���ش��رة �إىل‬ ‫باري�س ليلهو ويعبث‪ ،‬ولكنه مل يجد �شيئ ًا‬ ‫ينغم�س فيه‪ ،‬لأنه مل يكن يحفل بالن�ساء �أو‬ ‫مييل �إليهن‪ ،‬ولكنه بو�صفه ريا�ضي ًا �ضليع ًا‪،‬‬ ‫ان�صرف �إىل املي�سر‪ ،‬م�ق��در ًا �أن��ه ي�ستطيع‬ ‫اال�ستيالء على خزانة نادي القمار‪ .‬والتحق‬ ‫بجامعة بواتييه حيث ح�صل منها على‬ ‫درجات علمية يف القانون املدين والقانون‬ ‫الكن�سي‪ .‬وما �أن ا�سرتد عافيته وقوته‪ ،‬حتى‬

‫‪3‬‬

‫�أذهل �أ�صدقاءه‪ ،‬بانخراطه يف جي�ش الأمري‬ ‫موري�س نا�سو (‪ .)1618‬وملا ن�شبت حرب‬ ‫الثالثني عام ًا ان�ضم �إىل قوات مك�سيمليان‬ ‫�أمري بافاريا‪ ،‬وتذكر رواية غري م�ؤكدة �أنه‬ ‫ا�شرتك يف معركة "اجلبل الأبي�ض"‪.‬‬ ‫ويف غ�ضون ه��ذه احلمالت‪ .‬وبخا�صة يف‬ ‫�شهور ال�شتاء الطويلة التي تعوق موا�صلة‬ ‫القتل‪ ،‬ك��ان دي �ك��ارت يتابع درا��س�ت��ه‪ ،‬ويف‬ ‫الريا�ضيات ب�صفة خا�صة‪ .‬وذات يوم (‪10‬‬ ‫نوفمرب ‪ )1619‬يف ن�ي��وب��رج ب��ال�ق��رب من‬ ‫�أومل يف بافاريا‪ ،‬اتقى ال�برد بالقبوع يف‬ ‫"موقد" (من املحتمل �أن تكون غرفة مدف�أة‬ ‫خ�صي�ص ًا له) وفيها‪-‬كما يقول هو‪-‬ر�أى فيما‬ ‫يرى النائم يف ثالث ر�ؤى �أو ثالثة �أحالم‪،‬‬ ‫وم�ضات من النور‪ ،‬و�سمع رع��د ًا‪ ،‬وب��دا له‬ ‫�أن روح ًا �سماوية كانت توحي �إليه بفل�سفة‬ ‫جديدة‪ .‬وبعد خروجه من "املوقد" (الغرفة)‬ ‫ك��ان‪-‬ك �م��ا ي ��ؤك��د ل �ن��ا‪-‬ق��د � �ص��اغ الهند�سة‬ ‫التحليلية‪ ،‬وت���ص��ور ف�ك��رة تطبيق املنهج‬ ‫الريا�ضي يف الفل�سفة‪.‬‬ ‫ورجع �إىل فرن�سا يف ‪ ،1622‬ورتب �أموره‬ ‫املالية‪ .‬ثم ا�ست�أنف جوالته‪ ،‬فق�ضى قرابة‬ ‫��س�ن��ة يف �إي �ط��ال �ي��ا‪ :‬ف�ق���ص��د م��ن البندقية‬ ‫(ويقولون �سري ًا على الأق��دام) �إىل لوريتو‬ ‫حيث قدم �إجالله للعذراء‪ .‬ور�أى روما يف‬ ‫ف�ترة ال�غ�ف��ران (‪ ،)1625‬وم��ر بفلورن�سا‬ ‫ولكنه مل ي��زر جاليليو‪ .‬ثم قفل ع��ائ��د ًا �إىل‬ ‫ب��اري����س وه �ن��اك يف ال��ري��ف ت��اب��ع درا�سته‬ ‫ال�ع�ل�م�ي��ة‪ .‬و� �ص �ح��ب ال��ري��ا� �ض��ي املهند�س‬ ‫ال�ع���س�ك��ري ج �ي�رار دي �� �س��ارج يف ح�صار‬ ‫الرو�شيل (‪ .)1628‬ويف �أخريات هذا العام‬ ‫ق�صد �إىل هولندا‪ ،‬حيث ق�ضى يف املقاطعات‬ ‫املتحدة بقية �أي��ام حياته تقريب ًا‪ ،‬اللهم �إال‬ ‫بع�ض فرتات ق�صرية ق�صد فيها �إىل فرن�سا‬ ‫لتدبري �ش�ؤونه املالية‪.‬‬ ‫ول�سنا نعرف ملاذا ترك فرن�سا‪ ،‬ويحتمل �أن‬ ‫هذا يرجع �إىل �أنه "بعد �أن �أف�صح عما لديه‬ ‫من �أ�سباب لل�شك يف �أ�شياء كثرية "وخ�شي‬ ‫�أن يتهم بالهرطقة‪ ،‬مع �أن��ه كان له �أ�صدقاء‬

‫ك �ث�يرون م��ن رج ��ال الكني�سة ه �ن��اك‪ ،‬مثل‬ ‫مر�سن وب�ي�رول‪ .‬ورمب��ا ح��اول �أن يتجنب‬ ‫الأ��ص��دق��اء والأع ��داء على ح��د ��س��واء‪� ،‬أم ًال‬ ‫يف �أن يجد يف بلد غريب عزلة اجتماعية‬ ‫(ال فكرية) ي�ستطيع بها �أن ي�شكل الفل�سفة‬ ‫ال �ت��ي ك��ان��ت ت�ع�ت�ل��ج ب�ي�ن ج�ن�ب�ي��ه ل �ق��د كره‬ ‫�ضجيج باري�س وثرثرتها‪ ،‬ولكن مل تقلقه‬ ‫احل��رك��ة الن�شيطة التي تلطفها القنوات‪-‬‬ ‫يف �أم���س�تردام‪ ،‬وه��و يقول "هناك‪ ،‬و�سط‬ ‫اجل�م��وع املكتظة م��ن �شعب عظيم ن�شيط‪،‬‬ ‫ا�ستطعت �أن �أعي�ش وحيد ًا منعز ًال‪ ،‬وك�أين‬ ‫يف � �ص �ح��راء نائية(‪ .")82‬ورمب���ا كانت‬ ‫رغبته يف �أن يتوارى عن الأنظار ويخفي‬ ‫اه�ت�م��ام��ات��ه ه��ي دف�ع�ت��ه �إىل تغيري �أماكن‬ ‫�إقامته �أرب�ع� ًا وع�شرين م��رة يف ال�سنوات‬ ‫الع�شرين التالية‪ ،‬من فرانكر �إىل �أم�سرتدام‬ ‫�إىل دنفرت‪� ،‬إىل �أم�سرتدام �إىل �أوترخت‪ ،‬ثم‬ ‫�إىل ليدن‪ ،‬ولكن بالقرب من جامعة �أو مكتبة‬ ‫ع��ادة‪ .‬ومكنه دخله من اال�ستمتاع بطيبات‬ ‫احلياة االجتماعية يف ق�صر �صغري مع عدد‬ ‫من اخلدم‪ .‬وامتنع عن الزواج ولكنه اتخذ‬ ‫خليلة (‪� )1634‬أجنبت له طفلة‪ .‬و�إنا لن�سر‬ ‫�إذ ن�سمع �أن ال��روح الإن�سانية جتلت فيه‬ ‫حني بكى الطفلة بعد موتها يف اخلام�سة‬ ‫من عمرها‪ .‬وقد نحا يف ال�صواب �إذا ظنناه‬ ‫فاتر ًا ال حتركه الأحداث الدنيوية‪ ،‬ول�سوف‬ ‫جند �أنه يربر كثري ًا من الأه��واء وامل�شاعر‬ ‫التي ي�شجبها رجال الأخالق عادة‪ .‬وما كان‬ ‫هو نف�سه ليتجرد منها‪ ،‬فهو عر�ضة للزهو‬ ‫والغ�ضب وال �غ��رور(‪ .)83‬لقد بذل ديكارت‬ ‫ج�ه��د ًا ج�ب��ار ًا لتحقيق ه��دف��ه‪� .‬أن�ظ��ر �إىل ما‬ ‫�ألزم نف�سه بدرا�سته الريا�ضيات‪ ،‬الفيزياء‪،‬‬ ‫الفلك‪ ،‬الت�شريح‪ ،‬الف�سيولوجيا‪ ،‬علم النف�س‪،‬‬ ‫م�ي�ت��اف�ي��زي�ق��ا‪ ،‬ن�ظ��ري��ة امل �ع��رف��ة‪ ،‬الأخ �ل�اق‪،‬‬ ‫الالهوت‪ .‬فمن ذا الذي يجر�ؤ اليوم على �أن‬ ‫يجول بني هذا كله؟‪ .‬ومن ثم طمع يف العزلة‬ ‫واالحتجاب عن الأنظار‪ ،‬و�أجرى التجارب‬ ‫واملعادالت والر�سوم البيانية‪ .‬وقدر فر�ص‬ ‫جتنبه حمكمة التفتي�ش �أو تهدئتها‪ ،‬وحاول‬ ‫�أن يهيئ لفل�سفته منهج ًا ريا�ضي ًا‪ .‬وحلياته‬ ‫منهج ًا فل�سفي ًا‪.‬‬

‫فل�سفته‬

‫ومن �أين يبد�أ؟ يف "مقال يف املنهج "‪ ،‬وهو‬ ‫الكتاب الفذ ال��ذي يعد فاحتة ع�صر جديد‪،‬‬ ‫�أعلن عن �أول مبد�أ‪ ،‬كان ميكن يف حد ذاته‪،‬‬ ‫�أن يقيم عليه الدنيا ويقعدها ويثري عليه‬ ‫غ�ضب �أويل الأم ��ر‪ ،‬وه�ك��ذا ك��ان‪ .‬فقد كان‬ ‫املو�ضوع مكتوب ًا يف لغة فرن�سية متميزة‬ ‫مي�سرة‪ ،‬يف �صيغة املتكلم احلية ال�ساحرة‪.‬‬ ‫لقد �أح��دث ث��ورة كبرية يف التفكري‪ ،‬وقال‬ ‫ديكارت �أنه كان �سعيد ًا ينبذ كل النظريات‬ ‫وامل� �ب ��ادئ وال �ت �ع��ال �ي��م‪ ،‬وي��ط��رح ك��ل جهد‬ ‫ومرجع‪ ،‬ويوجه خا�ص الفيل�سوف �أر�سطو‪.‬‬ ‫و�سيبد�أ ب�صفحة جديدة خالية من �أي �شيء‪،‬‬ ‫وي�شك يف كل �شيء‪�" .‬إن ال�سبب الأ�سا�سي‬ ‫يف �أخطائنا ميكن يف �أه ��واء طفولتنا‪...‬‬ ‫فاملبادئ التي اعتنقها يف �شبابي‪ ،‬ا�ستمر‬ ‫على الأخ ��ذ بها دون �أن ‪�‎‬أحت ��رى حقيقتها‬ ‫ومبلغ ال�صدق فيها"‪.‬‬ ‫ولكنه مي�ضي قدم ًا‪� ،‬إذا �ساوره ال�شك يف كل‬ ‫�شيء؟‪ .‬وملا كان مولع ًا بالريا�ضيات‪ ،‬وفوق‬ ‫ك��ل ��ش��يء بالهند�سة ال�ت��ي د�أب ��ت عبقريته‬ ‫على حتويلها‪ ،‬فقد تاقت نف�سه‪ ،‬بعد ابتدائه‬ ‫بال�شك ال���ش��ام��ل �إىل ال�ع�ث��ور ع�ل��ى حقيقة‬ ‫ميكن الت�سليم بها على الفور ب�صفة عامة‬ ‫مثل بديهيات �إقليد�س‪�" .‬إن �أر�شميد�س‪،‬‬

‫◄‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫لكي يتي�سر له �أن يزحزح الكرة الأر�ضية‬ ‫من مكانها وينقلها �إىل مكنا �آخر‪ ،‬تطلب �أن‬ ‫تكون هناك نقطة واح��دة ثابتة ال تتحرك‪،‬‬ ‫و�أنا باملثل‪� ،‬سيكون يل احلق يف �أن ا�ستب�شر‬ ‫خري ًا كثري ًا �إذا �أ�سعدين احلظ‪ ،‬ف�أ�ضع يدي‬ ‫على �شيء واح��د م�ؤكد ال ن��زاع فيه‪( .‬و�أكد‬ ‫على هذه النقطة متهل ًال‪�" :‬أنا �أفكر‪ ،‬ف�إذن �أنا‬ ‫موجود"‪ .‬وهي �أ�شهر عبارة يف الفل�سفة ومل‬ ‫يق�صد بها �أن تكون قيا�س ًا منطقي ًا‪ ،‬بل خربة‬ ‫مبا�شرة ال �سبيل لإن�ك��اره��ا‪ ،‬وه��ي �أو�ضح‬ ‫و�أجلى فكرة ميكن �أن نح�صل عليها‪ ،‬وتكون‬ ‫�سائر الأفكار "�صحيحة" على قدر اقرتابها‬ ‫من هذه البديهية الأ�سا�سية‪-‬الإدراك احل�سي‬ ‫املبا�شر‪ ،‬من حيث اجلالء والو�ضوح‪ ،‬وكان‬ ‫"منهج" ديكارت اجلديد يف الفل�سفة هو �أن‬ ‫يحلل الأف�ك��ار املركبة �إىل مكوناتها‪ ،‬حتى‬ ‫ت�صبح العنا�صر غري القابلة لالختزال �أفكار ًا‬ ‫ب�سيطة وا�ضحة جلية‪ ،‬ويبني �أن مثل هذه‬ ‫الأفكار كلها ميكن �أن ت�شتق من‪� .‬أو تعتمد‬ ‫على‪ ،‬ال�شعور الأول لكائن يفكر‪� .‬أننا على‬ ‫العك�س‪ ،‬يجدر بنا �أن نحاول �أن ن�ستنتج‬ ‫م��ن ه��ذا الإدراك احل�سي الأول‬ ‫كل املبادئ الأ�سا�سية يف‬ ‫الفل�سفة‪.‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫كانت ثورة يف الفل�سفة حني اتخذ ديكارت‬ ‫نقطة البداية‪ ،‬ال الأ�شياء اخلارجية املفرو�ض‬ ‫�أنها معروفة بل الذات الواعية‪ .‬لقد اكت�شفت‬ ‫فل�سفة النه�ضة "الفرد"‪ ،‬ولكن ديكارت جعل‬ ‫منه همزة الو�صل يف فل�سفته‪�" .‬إين لأرى‬ ‫بو�ضوح �أنه لي�س ثمة �شيء �أي�سر على �أن‬ ‫اعرفه‪ ،‬من عقلي �أنا(‪ ")89‬و�إذا بد�أنا باملادة‪،‬‬ ‫و�سرنا قدم ًا عرب م�ستويات احلياة الع�ضوية‬ ‫�إىل الإن �� �س��ان ف� ��إن االت �� �ص��ال �أو الرتابط‬ ‫املنطقي قد يغرينا بتف�سري العقل ب�أنه مادي‪.‬‬ ‫ولكننا ال ن��درك امل��ادة �إال عن طريق العقل‬ ‫وحده‪ .‬والعقل فقط هو الذي ميكن معرفته‬ ‫�أو �إدراك��ه مبا�شرة ( من دون �سلطة) وهنا‬ ‫تبد�أ املثالية‪ ،‬ال مبعناها الأخالقي‪ ،‬بل على‬ ‫�أنها فل�سفة تبد�أ باحلقيقة املبا�شرة للأفكار‪،‬‬ ‫�أك�ث�ر مم��ا ت�ب��د�أ ب��الأ��ش�ي��اء ال�ت��ي ت�ع��رف عن‬ ‫طريق الأف �ك��ار "ولي�س ثمة حتقيق ميكن‬ ‫اقرتاحه �أج��دى من حتقيق يحاول حتديد‬ ‫طبيعة املعرفة الإن�سانية ومداها"‪ .‬وملدة‬ ‫ثالثة قرون كانت الفل�سفة تت�ساءل عما �إذا‬ ‫كان "العامل اخلارجي" موجود ًا �إال كمجرد‬ ‫فكرة‪.‬‬ ‫وك��م��ا ك��ان‬ ‫م � � ��ن‬

‫وم� � � � � � � ��رة‬ ‫�أخ� ��رى‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫الع�سري �أن نعرب من‬ ‫اجل �� �س��م �إىل العقل‪،‬‬ ‫بنظرية تقدر ق��در كل‬ ‫م��ن م�صدر الأحا�سي�س وقوتها ووا�ضح‬ ‫�أنهما ماديتان‪ ،‬وطبيعة الأفكار التي يبدو‬ ‫�أنها طبيعة غري مادية‪ ،‬ف��إن ديكارت كذلك‪،‬‬ ‫وقد بد�أ بالنف�س‪ ،‬وجد من الع�سري االنتقال‬ ‫من العقل �إىل الأ�شياء‪ .‬فكيف يت�سنى للعقل‬ ‫�أن ي��درك �أن الأحا�سي�س التي يبدو �أنها‬ ‫تدلل على عامل خارجي‪ ،‬لي�ست �شيئ ًا �أكرث‬ ‫من حاالته هو (�أي العقل)؟ وكيف ي�صدق‬ ‫احلوا�س التي غالب ًا ما تخدعنا وت�ضللناـ‬ ‫�أو ال�صور العقلية التي تكون م�شرقة عندما‬ ‫تكون ٍ(زائفة) يف النوم‪ ،‬قدر �إ�شراقها عندما‬ ‫تكون "حقيقية" يف اليقظة؟‪.‬‬ ‫وه��رب � ًا م��ن �سجن النف�س "الأنانة" يلج�أ‬ ‫ديكارت �إىل الله ال��ذي ال ميكن بالقطع �أن‬ ‫يجعل من كل حوا�سنا جمرد خدعة‪ .‬ولكن‬ ‫متى يدخل الله يف هذا املنهج الذي بد�أ يف‬ ‫ج ��ر�أة بال�شك يف ك��ل املعتقدات واملبادئ‬ ‫التي تلقاها الإن�سان؟ �إن ديكارت ال ي�ستطيع‬ ‫�إثبات وجود الله من �شواهد بديع �صنعه يف‬ ‫العامل اخلارجي‪ ،‬ولأنه مل يو�ضح بعد وجود‬ ‫هذا العامل اخلارجي‪ .‬ولذلك �أخرج ديكارت‬ ‫"الله" من "النف�س املدركة"‪ ،‬متام ًا مثل فعل‬ ‫�آن�سلم يف "الربهان الوجودي" قبل ذلك‬ ‫ب�ستة ق��رون‪ .‬وهو يقول‪� :‬إن لدي ت�صور ًا‬ ‫لكائن كامل مثايل قدير عليم‪� ،‬ضروري‪،‬‬ ‫خ��ال��د ول�ك��ن ه��ذا ال ��ذي ي��وج��د �أق ��رب �إىل‬ ‫الكمال من ه��ذا ال��ذي مل يوجد‪ ،‬وعلى‬ ‫ذلك ف��إن الكائن الكامل املثايل يجب‬ ‫�أن يكون الوجود من بني �صفاته‪.‬‬ ‫ومن ال��ذي كان ي�ستطيع �أن يبث‬ ‫َّ‬ ‫يف هذه الفكرة �إال الله �سبحانه‬ ‫وت �ع��اىل؟ "ومن امل�ستحيل �أن‬ ‫�أحمل يف نف�سي فكرة الله‪� ،‬إذا‬ ‫مل ي�ك��ن ال�ل��ه م��وج��ود ًا حق ًا"‪.‬‬ ‫و�إذا كان الله يريد �أن يخدعنا‬ ‫فلن يكون كام ًال ومن ثم ف�إنه ال‬ ‫ي�ضللنا عندما تكون لدينا �أفكار‬ ‫وا�ضحة جلية‪ ،‬وال حني يتيح‬ ‫حلوا�سنا �أن تك�شف لنا عن عامل‬ ‫خارجي‪" .‬ل�ست �أدري كيف ميكن‬ ‫الدفاع "عنه �سبحانه" �أو تربئته‬ ‫م��ن تهمة اخل ��داع والت�ضليل �إذا‬ ‫كانت هذه الأفكار ناجتة عن �أ�سباب‬ ‫غري متعلقة ب�أ�شياء ج�سدية مادية‪ .‬ومن‬ ‫ث��م يجب �أن نقر ب ��أن الأ��ش�ي��اء اجل�سدية‬ ‫امل��ادي��ة موجودة"‪ ،‬وم��ن ث��م تن�سد ب�شكل‬ ‫رائع الهوة بني العقل وامل��ادة‪ ،‬بني الذرات‬ ‫واملو�ضوع وي�صبح ديكارت‪ ،‬بعون من الله‪،‬‬ ‫واقعي ًا‪ .‬والعلم نف�سه‪�-‬إمياننا الرا�سخ يكون‬

‫منطقي خا�ضع لنظام مطيع للقانون‪ ،‬ميكن‬ ‫التعرف عليه و�إح�صاء ما فيه‪-‬ي�صبح �أمر ًا‬ ‫ممكن ًا‪ ،‬ال ل�شيء �إال لأن الله موجود‪ ،‬وحا�شا‬ ‫الله �أن يكذب‪.‬‬ ‫و�إنا �إذ نتتبع ديكارت لن�شهد [ع�صر العقل]‬ ‫يف طفولته ي�تراج��ع ف��زع � ًا م��ن مغامرات‬ ‫الفكر‪ ،‬حم��او ًال ال��ول��وج ثانية �إىل حظرية‬ ‫الإمي��ان الدافئة‪ .‬ورغبة يف بث الطم�أنينة‬ ‫من جديد �أطلق على "الت�أمالت"‪ :‬ت�أمالت‬ ‫رينيه ديكارت يف فل�سفة �أوىل‪� ،‬أب��رز فيها‬ ‫وج��ود الله وخلود النف�س‪.‬و�أهدى الكتاب‬ ‫�إىل احلكيم الأمل �ع��ي عميد كلية الالهوت‬ ‫املقد�سة يف باري�س"‪� ،‬أي ال�سوربون‪ .‬وتقبل‬ ‫العميد الهدية‪ ،‬ولكن يف ‪� 1662‬أدرج الكتاب‬ ‫يف ق��ائ�م��ة ال�ك�ت��ب امل �ح �ظ��ورة‪" ،‬حتى يتم‬ ‫ت�صحيحه"‪ .‬وبد�أ الكتاب على نف�س الن�سق‬ ‫اجلريء الذي بد�أت به "املقاالت" "اليوم‪...‬‬ ‫وقد هي�أتُ لنف�سي انقطاع ًا �أكيد ًا لريا�ضة‬ ‫روحية هادفة‪ ،‬فل�سوف �أنكب �أخري ًا‪ ،‬انكباب ًا‬ ‫منطلق ًا جاد ًا‪ ،‬على ا�ستعرا�ض عام لكل �آرائي‬ ‫ال�سابقة"‪ .‬لقد �ألقى بها جميع ًا من النافذة‪ ،‬ثم‬ ‫�أجاز لها الدخول من الباب‪ .‬ومل يكن من بني‬ ‫هذه الآراء‪� ،‬إميانه ب�إله عادل قدير فح�سب‪،‬‬ ‫بل كذلك �إميانه ب�إرادة �إن�سانية حرة و�سط‬ ‫�آلية (ميكانيكية) كونية‪ ،‬ونف�س باقية (غري‬ ‫فانية) على ال��رغ��م م��ن اعتمادها الوا�ضح‬ ‫�ان‪ .‬وم�ه�م��ا �سلمنا مبنطق‬ ‫ع�ل��ى ج���س��دٍ ف� � ٍ‬ ‫العالقة الوثيقة التي ال تنف�صم عراها بني‬ ‫ال�سبب والنتيجة يف عامل امل��ادة واجل�سد‪،‬‬ ‫ف�إن حرية �إرادتنا فكرة من �إحدى الفكرات‬ ‫الفطرية املت�أ�صلة‪ ،‬الوا�ضحة اجللية‪ ،‬احلية‬ ‫املبا�شرة‪� ،‬إىل حد �أنه ال ميكن �أن ي�شك فيها‬ ‫�أحد قط‪ ،‬مهما حاول كثري ًا �أن يتالعب بها‬ ‫(�أي الفكرات) يف النظريات املجردة‪.‬‬ ‫�إن فكرة الله‪ ،‬وفكرة النف�س‪ ،‬وفكرة املكان‬ ‫وال ��زم ��ان‪ ،‬وف �ك��رة احل��رك��ة‪ ،‬والبديهيات‬ ‫الريا�ضية كلها فطرية مت�أ�صلة‪ ،‬مبعنى �أن‬ ‫النف�س ال ت�ستمدها من الإح�سا�س واخلربة‪،‬‬ ‫ب��ل م��ن ج��وه��ره��ا وعقالنيتها‪( .‬وه �ن��ا قد‬ ‫ي�ع�تر���ض ل���وك‪ ،‬وي��واف��ق ك��ان��ت)‪ .‬ومهما‬ ‫يكن من �أم��ر‪ ،‬ف��إن هذه الأفكار الفطرية قد‬ ‫تظل ال واع �ي��ة حتى تخرجها اخل�ب�رة يف‬ ‫� �ص��ورة واع �ي��ة‪ ،‬والنف�س حينئذ ال تكون‬ ‫نتاج ًا للخربة‪ ،‬بل �شريكها الن�شيط املبدع‬ ‫يف �إنتاج الفكر‪� .‬إن هذه النف�س العقالنية‬ ‫"القدرة على التعقل" وا��ض��ح �أن�ه��ا غري‬ ‫مادية‪ ،‬ولي�س لأفكارها طول وال عر�ض‪ ،‬وال‬ ‫موقع وال وزن‪ ،‬وال �أية خا�صية �أخ��رى من‬ ‫خوا�ص املادة‪�" .‬إين �أنا‪� ،‬أي النف�س التي �أنا‬ ‫بها كما �أنا عليه الآن‪ ،‬هي �أ�سا�س ًا متميزة عن‬ ‫اجل�سد بل حتى من الأي�سر �أن نعرفها مما‬ ‫نعرفه"‪ .‬وعلى ذلك ف�إن هذا العقل �أو النف�س‬

‫غري املادية ميكن �أن تبقى بعد اجل�سد‪ ،‬وال‬ ‫بد �أنها تبقى‪.‬‬ ‫ت��رى ه��ل كانت تلك النتائج القومية التي‬ ‫انتهى �إليها ديكارت �صادقة خمل�صة‪� ،‬أو �أنه‬ ‫�أ�ضفى عليها لون ًا وقائي ًا؟‪ .‬هل كان ديكارت‬ ‫تواق ًا �إىل متابعة درا�سته العلمية يف هدوء‬ ‫و�سالم بعيد ًا عن اال�ضطهاد والتعذيب‪� ،‬إىل‬ ‫حد �أنه كان ينفث امليتاقيزيقا مثل غ�شاوة‬ ‫م��رب �ك��ة حت ��ول دون ان �ق �� �ض��ا���ض الطيور‬ ‫اجلارحة عليه؟ ل�سنا منلك اجلزم ب�شيء يف‬ ‫هذا ال�صدد‪ .‬وقد يت�سنى المرئ �أن يكون عامل ًا‬ ‫فا�ض ًال على الأق��ل يف الفيزياء‪ ،‬والكيمياء‪،‬‬ ‫والفلك‪� ،‬إن مل يكن يف البيولوجيا‪-‬ويف‬ ‫نف�س الوقت يتقبل التعاليم الأ�سا�سية يف‬ ‫امل�سيحية‪ .‬ويف �إحدى مقاالته �أكد ديكارت‬ ‫�أن العقل ال يحول دون ت�صديق �أ�شياء نزل‬ ‫بها الوحي الإل�ه��ي‪ ،‬على �أنها �أك�ثر يقينية‬ ‫من �أر�سخ معرفتنا و�أجدرها بالثقة "وتنم‬ ‫ر�سائله م��ع �إل�ي��زاب��ث �أم�ي�رة ال�ب��االت�ين‪ ،‬يف‬ ‫�أ�سلوب ف�صيح عن التقى والتم�سك بال�صراط‬ ‫امل�ستقيم‪ .‬وزاره �ساالميو�س يف ليدن ‪1637‬‬ ‫فو�صفه ب�أنه "كاثوليكي غيور جد ًا"‪.‬‬ ‫على �أن��ه تفرغ يف العقد الأخ�ير من حياته‬ ‫للعلم‪ .‬وح ��ول داره �إىل م�ع�م��ل‪ ،‬و�أج ��رى‬ ‫جت��ارب يف الفيزياء ووظ��ائ��ف الأع�ضاء‪،‬‬ ‫و�إذا طلب �أحد زواره �أن يرى املكتبة‪� ،‬أ�شار‬ ‫ديكارت �إىل ربع عجل كان يقوم بت�شريحه‪.‬‬ ‫وكان يف بع�ض الأحيان يتحدث‪ ،‬كما حتدث‬ ‫بيكون‪ ،‬عن الفوائد العملية‪-‬الهائلة التي‬ ‫يجنيها اجل�ن����س ال�ب���ش��ري ح�ين ي�ستطيع‬ ‫ال�ع�ل��م �أن يجعل ال�ن��ا���س "�سادة الطبيعة‬ ‫وامل�سيطرين عليها" وكثري ًا ما �أدى توكيده‬ ‫الذاتي على اال�ستنباط وثقته فيه‪� ،‬إىل نتائج‬ ‫غام�ضة‪ .‬ولكنه‪-‬ا�شتغل �شغ ًال خالق ًا بعدة‬ ‫علوم‪ .‬و�ألح على �أن ي�ستبدل العلم بالأفكار‬ ‫التجريدية النوعية الغام�ضة التي �سادت علم‬ ‫الفيزياء‪ ،‬يف الع�صور الو�سطى‪� :‬إي�ضاحات‬ ‫كمية م�صوغة يف �صيغ ري��ا��ض�ي��ة‪ ،‬ولقد‬ ‫�شهدنا تطويره للهند�سة التحليلية و�إ�شارته‬ ‫�إىل ح�ساب التفا�ضل والتكامل الالنهائي‪.‬‬ ‫وح ��ل م���ش��اك��ل ت�ضعيف امل�ك�ع��ب وتثليث‬ ‫الزاوية‪ .‬وابتدع فكرة ا�ستخدام احلروف‬ ‫الأوىل من ح��روف الهجاء لتمثل الكميات‬ ‫امل �ع �ل��وم��ة‪ ،‬واحل�� ��روف الأخ��ي��رة لتمثيل‬ ‫الكميات املجهولة‪.‬ويبدو �أنه اكت�شف قانون‬ ‫انك�سار ال�ضوء م�ستق ًال عن �سنل ‪Snen‬‬ ‫وحالفه التوفيق يف درا�سة القوى العظمى‬ ‫التي حتدثها و�سائل �صغرية‪ ،‬مثل البكرة‬ ‫والأ� �س �ف�ين وال��راف �ع��ة وامل�ل��زم��ة والعجلة‪،‬‬ ‫و�صاغ قوانني الق�صور الذاتي والت�صادم‬ ‫وكمية التحرك‪ ،‬ورمب��ا �أوح��ى �إىل با�سكال‬ ‫ب ��أن ال�ضغط اجل��وي ينخف�ض باالرتفاع‪،‬‬

‫ولو �أنه �أخط�أ يف �إعالن �أنه ال يوجد ثمة‪-‬‬ ‫فراغ �إال يف عقل با�سكال‪ .‬و�أ�شار �إىل �أن كل‬ ‫ج�سم حموط بدوامات من ج�سيمات دقيقة‬ ‫تدور حوله‪-‬يف طبقات كروية‪-‬وهي فكرة‬ ‫ت�شبه نظرية املجال املغناطي�سي احلالية‪.‬‬ ‫ويف الب�صريات ح�سب ح�ساب ًا �صحيح ًا‬ ‫زاوي ��ة االن�ك���س��ار‪ ،‬وح�ل��ل ال �ت �غ�يرات التي‬ ‫يتعر�ض لها ال�ضوء بفعل العد�سة البللورية‬ ‫للعني‪ ،‬وحل م�شكلة ت�صحيح الزيغ الكروي‬ ‫يف التل�سكوب‪ ،‬و�صمم عد�سات ذات تقو�س‬ ‫بي�ضي ال�شكل �أو زائ ��دي امل�ق�ط��ع‪ ،‬خالية‬ ‫من هذا الزيغ‪ .‬و�شرح جنين ًا‪ ،‬وو�صفه من‬ ‫الوجه الت�شريحية‪ ،‬وه��و يقول �أن��ه �شرح‬ ‫ر�ؤو���س حيوانات خمتلفة ليتحقق يف �أيها‬ ‫تكون الذاكرة والت�صور وغريهما‪ .‬و�أجرى‬ ‫جتارب على الفعل ال�لا�إرادي �أو املنعك�س‪،‬‬ ‫و�شرح الطريقة (امليكانيكية) التي تطرف‬ ‫بها العني عند اق�تراب ال�ضربة �أو اللطمة‪.‬‬ ‫وو�ضع نظرية لالنفعال �شبيهة بتلك التي‬ ‫و��ض�ع�ه��ا ول �ي��م جيم�س وك� ��ارل الجن‪� :‬إن‬ ‫ال�سبب اخل��ارج��ي ل�لان�ف�ع��ال (م�ث��ل وقوع‬ ‫نظرنا على حيوان خطري) يولد ذات�ي� ًا �أو‬ ‫�آني ًا فع ًال م�ستجيب ًا (ال�ه��رب) والإح�سا�س‬ ‫املرتبط به (اخل��وف)‪ ،‬فاالنفعال هو �إجناز‬ ‫الفعل ال �سببه‪ .‬واالن�ف�ع��االت مت�أ�صلة يف‬ ‫الف�سيولوجيا‪ ،‬ويجب درا�ستها وتف�سريها‬ ‫على �أنها عمليات ميكانيكية‪ ،‬ولي�ست يف حد‬

‫ذاتها �سيئة لأنها الريح يف �أ�شرعتنا ولكن‬ ‫�إذا مل يلطف منها العقل ويحد منها‪ ،‬ف�إنها قد‬ ‫ت�ستبعد الإن�سان وتدمره‪.‬‬ ‫وميكن اعتبار الكون كله ميكانيكي ًا‪ ،‬فيما عدا‬ ‫الله والنف�س العقالنية‪ ،‬وعر�ض ديكارت هذه‬ ‫الفكرة وجاليليو وحمكمة التفتي�ش ماثلتان‬ ‫�أم ��ام عينيه‪-‬على �أن�ه��ا جم��رد ف��ر���ض‪ :‬ف�إذا‬ ‫افرت�ضنا �أن الله خلق املادة ووهبها احلركة‪،‬‬ ‫فيمكننا �أن نت�صور �أن العامل يتطور بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬وفق قوانني امليكانيكا‪ ،‬من دون تدخل‪،‬‬ ‫�إن احلركة الطبيعية للج�سيمات املادية يف‬ ‫كون لي�س فيه فراغ‪ ،‬ت�أخذ �شك ًال دائري ًا ي�ؤدي‬ ‫�إىل دوام ��ات خمتلفة م��ن احل��رك��ة‪ .‬وميكن‬ ‫�أن تكون ال�شم�س والكواكب والنجوم قد‬ ‫تكونت بفعل جتمع ه��ذه اجل�سيمات يف‬ ‫م��رك��ز ه��ذه ال��دوام��ات‪ ،‬وك�م��ا �أن ك��ل ج�سم‬ ‫حموط بدوامة من ذرات دقيقة‪-‬وهذا يف�سر‬ ‫التما�سك وال�ت�ج��اذب‪-‬ف��إن كل كوكب كذلك‬ ‫حم�صور يف دوامة من اجل�سيمات حتتفظ‬ ‫بتوابعه يف م��داره‪ ،‬وال�شم�س مركز دوامة‬ ‫هائلة تندفع الكواكب �إليها حول ال�شم�س يف‬ ‫دوائر‪ .‬وكانت نظرية بارعة‪ ،‬ولكنها �سقطت‬ ‫ع�ن��دم��ا �أث �ب��ت كبلر �أن م� ��دارات الكواكب‬ ‫بي�ضاوية ال�شكل‪ .‬ويقول ديكارت ب�أنه لو‬ ‫كانت معرفتنا تامة كاملة لكان يف مقدورنا‬ ‫�أن ن�ح��ول‪-‬ال الفلك والفيزياء والكيمياء‪،‬‬ ‫فح�سب‪-‬بل كل عمليات احلياة‪ ،‬با�ستثناء‬

‫العقل ذات��ه‪ ،‬نحولها‬ ‫�إىل قوانني ميكانيكية‬ ‫ف ��إن التنف�س واله�ضم‪،‬‬ ‫ب��ل ح�ت��ى ال �� �ش �ع��ور‪ ،‬كلها‬ ‫ميكانيكية‪� ،‬أنظر كيف كان هذا‬ ‫املبد�أ مفيد ًا يف اكت�شاف هاريف‬ ‫للدورة الدموية‪ .‬وطبق ديكارت‪ ،‬يف‬ ‫ثقة تامة‪ ،‬فكرة امليكانيكية‪ ،‬على كل عمليات‬ ‫احليوانات‪ ،‬لأنه �أبى �أن يخلع عليها القدرة‬ ‫على التفكري العقلي‪ .‬ورمب��ا �أح ����س ب�أنه‬ ‫م�ضطر‪ ،‬من الوجه الديني‪� .‬إىل ظلم احليوان‬ ‫على هذه ال�صورة‪ ،‬لأنه كان قد �أ�س�س خلود‬ ‫النف�س على عدم مادية الذهن العقالين‪ ،‬ف�إذا‬ ‫كان للحيوانات مثل هذا الذهن كذلك‪ ،‬لكانت‬ ‫هي الأخرى باقية �أو غري فانية‪ ،‬ورمبا كان‬ ‫يف هذا �إزعاج‪� ،‬إن مل يكن لهواة الكالب‪ ،‬فهو‬ ‫على الأقل لرجال الالموت‪.‬‬ ‫ول�ك��ن �إذا ك��ان ج�سم الإن �� �س��ان �آل ��ة مادية‬ ‫فكيف يت�سنى للعقل غ�ير امل��ادي �أن يعمل‬ ‫ف �ي��ه‪� .‬أو ي�ح�ك�م��ه ب �ق��وة غ�ي�ر ميكانيكية‬ ‫مثل الإرادة احل ��رة؟ وه�ن��ا يفقد ديكارت‬ ‫ثقته‪ ،‬فيجيب يائ�س ًا ب��أن الله يرتب تفاعل‬ ‫اجل �� �س��م وال �ع �ق��ل ب��ط��رق خ �ف �ي��ة ال ي�صل‬ ‫�إليها �إدراك �ن��ا امل �ح��دود‪ .‬ورمب��ا ارت� ��أى �أن‬ ‫العقل يعمل يف اجل�سم ع��ن ط��ري��ق الغدة‬ ‫ال�صنوبرية املو�ضوعة ب�شكل منا�سب يف‬ ‫قاع املخ‪ .‬وكان �أثر ت�صرفات ديكارت تهور ًا‬

‫‪5‬‬

‫وطي�ش ًا طوال حياته‪� ،‬أنه طلب من مر�سن �أن‬ ‫يبعث مقدم ًا بن�سخ من كتاب "الت�أمالت" �إىل‬ ‫بع�ض املفكرين مع دعوتهم لإر�سال ما يعن‬ ‫لهم م��ن اع�ترا��ض��ات عليه‪ ،‬ورد ًا على ذلك‬ ‫دح�ض جا�سندي �آراء دي�ك��ارت يف كيا�سة‬ ‫فرن�سية‪ .‬ف� ��إن ال�ك��اه��ن مل يقتنع بحجة‪-‬‬ ‫ديكارت الوجودية عن وجود الله‪� .‬أما هوبز‬ ‫فاعرت�ض على �أن ديكارت مل يثبت ا�ستقالل‬ ‫العقل عن امل��ادة وامل��خ‪ .‬ويقول �أوب��ري ب�أن‬ ‫هوبز ب�صفة خا�صة "كان مييل �إىل القول‬ ‫ب�أنه ديكارت لو ق�صر نف�سه على الهند�سة‬ ‫مت��ام � ًا لأ��ص�ب��ح �أع �ظ��م علماء الهند�سة يف‬ ‫العامل‪ ،‬و�أنه مل ين�سجم مع الفال�سفة‪ .‬واتفق‬ ‫هيجينز مع هوبز‪ ،‬وذهبا �إىل �أن ديكارت‬ ‫ن�سج ق�صة خيالية من عناكب امليتافيزيقا‪.‬‬ ‫والآن وبعد ثالثة قرون من البحث واملناق�شة‬ ‫قد يكون من الي�سري �أن نتبني نقاط ال�ضعف‬ ‫يف �أول منهج حديث ج��ريء للفل�سفة‪� .‬أن‬ ‫فكرة حتويل الفل�سفة �إىل �صيغ هند�سة‪،‬‬ ‫�ساقت ديكارت �إىل طريقة ا�ستنباطية‪ ،‬اعتمد‬ ‫فيها يف طي�ش زائ ��د‪ ،‬ب��رغ��م جت��ارب��ه‪ ،‬على‬ ‫نزعته �إىل اال�ستنباط‪ .‬و�أنه لعمل انتحاري‬ ‫�أن جنعل من الو�ضوح �أي��ة فكرة وجالئها‬ ‫وبهائها وبداهتها اختبار ًا ل�صحتها‪ ،‬فمن ذا‬ ‫الذي يج�سر على هذا الأ�سا�س‪ ،‬على �إنكار‬ ‫دوران ال�شم�س ح��ول الأر� ��ض؟ واملحاجة‬ ‫ب ��أن الله موجود لأن لدينا فكرة وا�ضحة‬ ‫م�ت�م�ي��زة ع��ن ك��ل ك��ائ��ن ال ن�ه��ائ��ي ب��ال��غ حد‬ ‫الكمال (وه��ل ه��ذا �صحيح؟)‪ ،‬ث��م املحاجة‬ ‫ب�أن الأفكار املتميزة جديرة بالثقة لأن الله‬ ‫ال ميكن �أن يخدعنا‪� ،‬إن هي �إال �ضرب من‬ ‫التفكري دائري مثل مدارات كواكب ديكارت‪.‬‬ ‫�إن هذه الفل�سفة تت�ضح مبفاهيم �سكال�ستية‬ ‫الع�صور الو�سطى‪ ،‬التي ن�صحت بنبذها‪.‬‬ ‫�إن �شك مونتيني كان �أثبت و�أبقى من �شك‬ ‫ديكارت الذي مل يفعل �إال �أن زحزح الهراء‬ ‫التقليدي ليف�سح مكان ًا لهرائه هو‪.‬‬ ‫ومع هذا كله‪ ،‬بقي يف علم ديكارت‪� ،‬أن مل يكن‬ ‫يف "ميتافيزيقاه" ما ي�شيع يف نف�سه اخلوف‬ ‫من اال�ضطهاد والتعذيب‪ .‬ف��إن نظريته يف‬ ‫"ميكانيكية الكون" تركت املعجزات والإرادة‬ ‫احلرة يف موقف خطر وم��أزق حرج‪ ،‬برغم‬ ‫اعرتافه بالدين القومي وال�صراط امل�ستقيم‪.‬‬

‫�أن�� ��ه ملا‬ ‫�سمع �أنه‬ ‫ج��ال �ي �ل �ي��و‬ ‫(ي � � ��ون� � � �ي � � ��ه‬ ‫‪ )1633‬ط���رح‬ ‫جانب ًا م�ؤلفه ال�ضخم‬ ‫"العامل" ال ��ذي ك ��ان قد‬ ‫اع��ت��زم �أن ي���ض��م ف �ي��ه �شتات‬ ‫�أبحاثه العلمية والنتائج التي تو�صل‬ ‫�إل�ي�ه��ا‪ ،‬وك�ت��ب‪ ،‬وقلبه يقطر �أ��س��ى وحزن ًا‪،‬‬ ‫�إىل مر�سن‪ :‬لقد كان لهذا النب�أ �أعمق الأثر‬ ‫يف نف�سي‪ ،‬حتى ك��دت �أعقد العزم على �أن‬ ‫�أحرق كل خمطوطاتي‪� ،‬أو على الأقل �أخفيها‬ ‫ع��ن الأن��ظ��ار‪ ...‬و�إذا كانت حركة الأر���ض‬ ‫غري �صحيحة‪ ،‬ف��إن كل مبادئ فل�سفتي عن‬ ‫"ميكانيكية العامل" خاطئة‪ ...‬لأنها كلها‬ ‫مرتابطة ي�ؤيد بع�ضها بع�ض ًا‪ ...‬ولكني على‬ ‫�أية حال لن �أن�شر �شيئ ًا يت�ضمن كلمة واحدة‬ ‫تغ�ضب الكني�سة‪ ".‬وعند وفاته مل توجد �إال‬ ‫ق�صا�صات قليلة من خمطوطة "العامل"‪.‬‬ ‫ومل ي�� ِأت الهجوم (يف حياته) من الكني�سة‬ ‫الكاثوليكية‪ ،‬بل من رجال الالهوت الكلفنيني‬ ‫يف جامعتي �أوترخت وليدن‪ .‬فقد عدوا دفاعه‬ ‫عن الإرادة احلرة هرطقة خطرية ت�سيء �إىل‬ ‫"الق�ضاء والقدر" كما ر�أوا يف "ميكانيكية‬ ‫الكون‪ "‎‬فكرة تنزلق به �إىل حافة الإحلاد‪،‬‬ ‫ف ��إذا ك��ان ال�ك��ون ي�ستطيع �أن ي�سري ملجرد‬ ‫قوة دافعة يبد�أ بها الله "فما هي �إال م�س�ألة‬ ‫وقت حتى ينجز الله دفعته اال�ستهاللية �أو‬ ‫الأوىل هذه‪ .‬ويف ‪ ،1641‬عندما تبنى �أحد‬ ‫�أ��س��ات��ذة �أوت��رخ��ت فل�سفة دي �ك��ارت‪� ،‬أغرى‬ ‫رئي�س اجلامعة‪ ،‬ج�سربت فو�شيو�س‪ ،‬والة‬ ‫الأمور يف املدينة ب�إدانته الفل�سفة اجلديدة‬ ‫وحتريكمها‪ .‬فما كان من ديكارت �إال �أن �شن‬ ‫هجوم ًا على فو�شيو�س‪ ،‬الذي رد عليه رد ًا‬ ‫عنيف ًا‪ ،‬وعواد ديكارت الكرة‪ ،‬وقارعه احلجة‬ ‫باحلجة‪ .‬ويف ‪ 1643‬دعا الق�ضاء الفيل�سوف‬ ‫للمثول �أمامهم‪ .‬ولكنه رف�ض‪ ،‬و�صد احلكم‬ ‫عليه‪ ،‬فتدخل �أ� �ص��دق��ا�ؤه يف اله��اي‪ ،‬فقنع‬ ‫�أولو الأمر يف املدينة ب�إ�صدار قرار بحظر‬ ‫�أي��ة مناق�شة علنية ت�أييد ًا �أو تفنيد ًا لآراء‬ ‫ديكارت‪ .‬ووجد بع�ض ال�سلوى يف �صداقته‬ ‫م��ع الأم�ي�رة �إل�ي��زاب��ث التي كانت تقيم يف‬ ‫الهاي مع والدتها �إليزابث ناخبة البالتني‬ ‫ملكة بوهيميا املخلوعة‪ .‬وكانت الأمرية يف‬ ‫التا�سعة ع�شرة حني ظهر كتاب "املقاالت"‬ ‫‪ ،1637‬فقر�أته يف ده�شة ممزوجة باالبتهاج‬ ‫وال���س��رور مب��ا ر�أت �أن الفل�سفة وا�ضحة‬ ‫مفهومة ي�سهل �إدراكها‪ ،‬والتقى بها ديكارت‬ ‫وابتهج مبا ر�أى من �أن امليتافيزيقا قد تت�سم‬

‫◄‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬ ‫ب��اجل�م��ال‪ .‬و�أه ��دى �إىل الأم�ي�رة ال�صغرية‬ ‫كتابه "مبادئ الفل�سفة" وكتب كلمة الإهداء‬ ‫يف لغة تفي�ض مبلق بالغ البهجة وال�سرور‪.‬‬ ‫وماتت حيث كانت رئي�سة دير للراهبات يف‬ ‫و�ستفاليا (‪.)1680‬‬ ‫ومل يطب املقام لديكارت يف هولندا‪ ،‬كما‬ ‫كان من قبل‪ ،‬فكان كثري الرتدد على فرن�سا‪:‬‬ ‫(‪ .)1648 ،1647 ،1644‬و�أثار فيه الروح‬ ‫الوطنية معا�ش �أجرته عليه حكومة لوي�س‬ ‫ال��راب��ع ع�شر اجل��دي��دة (‪ .)1646‬واحتال‬ ‫للح�صول ع�ل��ى �أح ��د امل�ن��ا��ص��ب الإداري � ��ة‪،‬‬ ‫ولكن اقرتاب ن�شوة احلرب الأهلية (حرب‬ ‫الفروند) ع��اد به �إىل هولندا‪ ،‬ف��زع� ًا‪ .‬ويف‬ ‫فرباير ‪ 1649‬تلقى دعوة من كري�ستينا ملكة‬ ‫ال�سويد‪ ،‬ليح�ضر ليلقنها الفل�سفة‪ .‬وتردد‬ ‫يف قبول ال��دع��وة‪ ،‬ولكن �سحرته ر�سائلها‬ ‫التي متت يف لغة فرن�سية ممتازة‪ ،‬على ذهن‬ ‫متلهف‪ ،‬انحاز بالفعل �إىل "البهجة الغالية"‬ ‫(فل�سفة ديكارت)‪.‬وبعثت �إليه ب�أحد �أمراء‬ ‫البحر ي�ستمليه‪ ،‬ثم ببارجة حربية لتقله‪،‬‬ ‫فا�ست�سلم و�أب�ح��ر يف �سبتمرب‪� /‬أي�ل��ول من‬ ‫�أم�سرتدام �إىل �ستكهومل‪.‬‬ ‫وا�ستقبل بكل مظاهر احلفاوة والتكرمي‪،‬‬ ‫ول�ك��ن �أزع�ج�ت��ه رغ�ب��ة امللكة يف �أن تتلقى‬ ‫ال��درو���س ث�ل�اث م ��رات يف الأ� �س �ب��وع‪ ،‬يف‬ ‫ال�ساعة اخلام�سة �صباح ًا‪ .‬وكان ديكارت قد‬ ‫تعود �أن يبقى يف فرا�شه �إىل وقت مت�أخر‪،‬‬ ‫والتزم باملواعيد التي حددتها امللكة طوال‬ ‫�شهرين‪ ،‬فكان يخرج م��ن بيته �إىل مكتبة‬ ‫امللكة يف فجر ال�شتاء وثلوجه‪ ،‬ويف �أول‬ ‫ف�براي��ر‪� /‬شباط ‪ 1650‬انتابه ب��رد انقلب‬ ‫�إىل التهاب رئوي‪ ،‬ويف اليوم احلادي ع�شر‬ ‫فارق احلياة بعد �أن تلقى الأ�سرار املقد�سة‬ ‫الكاثوليكية الأخرية‪ .‬وكان قد اتخذ لنف�سه‬ ‫�شاعر ًا‪ ،‬هو "يعي�ش �سعيد ًا من يتوارى عن‬ ‫الأنظار ويتكتم كثري ًا"‪ .‬ولكن �شهرته كانت‬ ‫قد طبقت الآف��اق قبل موته بعدة �سنوات‪.‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫لقد نبذت اجلامعات فل�سفته وا�شتم رجال‬ ‫ال��دي��ن رائ �ح��ة الهرطقة يف ت �ق��واه‪ ،‬ولكن‬ ‫رج��ال العلم �أط��روا ريا�ضياته وفيزياءه‪،‬‬ ‫ولكن دنيا الأن��اق��ة يف باري�س‪� ،‬أقبلت يف‬ ‫�سرور بالغ على م�ؤلفاته التي كتبها يف لغة‬ ‫فرن�سية م�شرقة جذابة‪ .‬و�سخر موليري من‬ ‫"ال�سيدات العاملات" الالتي تبادلن �أنباء‬ ‫ال ��دوام ��ات يف ال���ص��ال��ون��ات‪" ،‬ولكنهن مل‬ ‫يطقن الفراغ" وك��ان اجل��زوي��ت حتى تلك‬ ‫اللحظة مت�ساحمني مع تلميذهم النجيب‪،‬‬ ‫وك��ان��وا ق��د ا��س�ك�ت��وا واح� ��د ًا م��ن طائفتهم‬ ‫�شرع يهاجم ديكارت‪ ،‬ولكنهم بعد ‪،1640‬‬ ‫مل يعودوا يظلونه بحمايتهم‪ .‬وكان لهم يف‬ ‫‪� 1663‬ضلع يف �أدراج م�ؤلفاته يف قائمة‬ ‫الكتب املحظورة‪ .‬ورحب بو�سويه وفنلون‬ ‫برباهني ديكارت على املبادئ الأ�سا�سية يف‬ ‫امل�سيحية‪ ،‬ولكنهم ر�أوا يف ت�أ�سي�سها على‬ ‫العقل خطر ًا على العقيدة‪ ،‬وا�ستنكر با�سكال‬ ‫االعتماد على العقل‪ ،‬على اعتبار �أن هذا‬ ‫العقل ري�شة يف مهب الريح‪.‬‬ ‫ولكن اعتماد ديكارت على العقل‪ ،‬هو الذي‪،‬‬ ‫على وجه الدقة‪� ،‬أيقظ ذهن �أوروبا‪ ،‬و�أوجز‬ ‫فونتيل الأمر بقوله "�أن ديكارت‪ ...‬هو الذي‬ ‫�أم��دن��ا بطريقة ج��دي��دة للتفكري‪ ،‬تدعو �إىل‬ ‫الإعجاب �أكرث مما تدعو فل�سفته ذاتها‪ ،‬تلك‬ ‫التي يعرتيها قدر كبري من الزيف وال�شك‪،‬‬ ‫وفق ًا للقواعد التي علمنا �إياها هو نف�سه "�إن‬ ‫�شك ديكارت �أدى لفرن�سا‪�-‬أو للقارة ب�صفة‬ ‫عامة‪-‬ما �أداه بيكون لإجنلرتا‪� -:‬أن��ه حرر‬ ‫الفل�سفة من �أغالل الزمن و�أطلقها لتبحر يف‬ ‫جر�أة و�شجاعة يف بحر مك�شوف‪ ،‬حتى ولو‬ ‫�أنها ما لبثت �أن ع��ادت‪ ،‬عند ديكارت نف�سه‬ ‫�إىل �شاطئ الأمان امل�ألوف‪ .‬ول�سنا نقول ب�أنه‬ ‫كان ثمة انت�صار عاجل �أو فوري للعقل‪ ،‬ف�إن‬ ‫التقاليد والأ�سفار املقد�سة كانت �أكرث ثبات ًا‬ ‫وقوة يف �أزهى ع�صور فرن�سا‪ ،‬وهو "القرن‬ ‫العظيم" �أي ع�صر لوي�س ال��راب��ع ع�شر‪،‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫�أن�ه��ا ك��ان��ت حقبة ب��ورت روي ��ال وبا�سكال‬ ‫وبو�سويه‪� ،‬أكرث منها حقبة خلفاء ديكارت‪.‬‬ ‫�أما تلك احلقبة نف�سها يف هولندا فهي ع�صر‬ ‫�سبينورا وبيلي‪ ،‬ويف �إنكلرتا ع�صر هوبز‬ ‫ول��وك‪� .‬أن ال��زرع كان يخرج �شط�أه‪ .‬وكان‬ ‫لأع �م��ال دي �ك��ارت بع�ض الأث ��ر ع�ل��ى الأدب‬ ‫والفن يف فرن�سا‪� .‬إن �أ�سلوبه كان ابتداع ًا‬ ‫منع�ش ًا‪ .‬وهنا كانت الفل�سفة بلغة قومية‬ ‫يف متناول اجلميع ب�شكل خ�ط�ير‪ ،‬وقلما‬ ‫يتحدث فيل�سوف ًا مبثل هذه الألفة ال�ساحرة‬ ‫وهو يعدد مغامرات العقل وجتاربه املثرية‬ ‫مبثل ال�سال�سة واحليوية التي يعدد بهما‬ ‫فروا�سار وب�ط��والت الفرو�سية وم�آثرها‪.‬‬ ‫ومل ي�ك��ن ك �ت��اب "مقال يف املنهج" جمرد‬ ‫رائ�ع��ة م��ن ورائ��ع النرث الفرن�سي‪ .‬ب��ل �إنه‬ ‫كذلك �ضرب‪ ،‬للع�صر الزاهر يف فرن�سا‪ ،‬مث ًال‬ ‫يف لغته و�أفكاره‪ ،‬للرتتيب وبراعة التفكري‬ ‫واالع �ت��دال يف الآداب والفنون وال�سلوك‬ ‫واحل��دي��ث‪ .‬وت�ل�اءم ت��وك�ي��ده على الأفكار‬ ‫ال��وا��ض�ح��ة اجل�ل�ي��ة م��ع ال��ذه��ن الفرن�سي‪،‬‬ ‫و�أ�صبح رفعه من �ش�أن العقل �أول قاعدة من‬ ‫قواعد الأ�سلوب املمتاز عند الناقد الفرن�سي‬ ‫بوالو‪:‬‬

‫"�أحب العقل �إذن‪،‬‬ ‫ولت�ستمد كتاباتك‬ ‫وقيمتها منه وحده"‪.‬‬ ‫وب��ات��ت ال��درام��ا الفرن�سية مل��دة ق��رن�ين من‬ ‫ال��زم��ان ب�لاغ��ة ال�ع�ق��ل ال �ت��ي ت�ن��اف����س مترد‬ ‫ال �ع��اط �ف��ة وال� �ه ��وى ورمب� ��ا ع��ان��ى ال�شعر‬ ‫الفرن�سي بع�ض ال�شيء من دي�ك��ارت‪ ،‬ف�إن‬ ‫مزاجه و�آلياته (ميكانيكي) مل يرتكا للخيال‬ ‫�أو الأحا�سي�س �سوى جمال �ضيق‪� .‬إن فو�ضى‬

‫رابليه املهتاجة وا�ستطرد مونتيني الذي ال‬ ‫�ضابط ل��ه‪ ،‬بل حتى اال�ضطرابات العنيفة‬ ‫يف احلروب الدينية‪� ،‬أن هذه كلها �أف�سحت‬ ‫امل �ج��ال‪ ،‬ب�ع��د دي��ك��ارت‪ ،‬ملناق�شات كورين‬ ‫ال�ع�ق�لان�ي��ة‪ ،‬ول ��وح ��دات را� �س�ين العارمة‪،‬‬ ‫ولتقوى بو�سويه املنطقية‪ ،‬ولقانون امللكية‬ ‫والبالد ونظامهما و�شكلهما و�سلوكهما يف‬ ‫عهد لوي�س الرابع ع�شر‪ .‬و�أ�سهم ديكارت‪،‬‬ ‫عن غري ق�صد منه يف ابتداع طراز جديد يف‬ ‫احلياة الفرن�سية‪ ،‬كما فعل يف الفل�سفة �سواء‬ ‫يف �سواء‪ .‬ورمبا كان �أثره يف الفل�سفة �أعظم‬ ‫من �أثر �أي مفكر �آخر قبل كانت‪ .‬لقد ا�ستقى‬ ‫مالربان�ش منه‪ ،‬وتتلمذ �سبينوزا على منطق‬ ‫دي�ك��ارت‪ ،‬واكت�شف نقاط ال�ضعف فيه عند‬ ‫��ش��رح��ه‪ .‬وق�ل��د "املناق�شات" يف ن�ب��ذة عن‬ ‫�سرية حياته بعنوان "حت�سني التفاهم"‪،‬‬ ‫وتبنى امل�ث��ل الأع �ل��ى الهند�سي يف كتابه‬ ‫"الأخالق"‪ ،‬وب�ن��ى بحثه يف "ا�سرتقاق‬ ‫الإن�سان" على بحث دي�ك��ارت "ر�سالة يف‬ ‫انفعاالت النف�س"‪.‬‬ ‫وبد�أ تقاليد املثالية يف الفل�سفة احلديثة‪ ،‬من‬ ‫بركلي �إىل فخت‪ ،‬بتوكيد ديكارت على الفكر‬ ‫بو�صفه احلقيقة الوحيدة املعروفة بطريق‬ ‫مبا�شر‪ ،‬مثلما ان�ح��درت تقاليد التجريبية‬ ‫من هوبز �إىل �سبن�سر‪ .‬ولكن ديكارت قدم‬ ‫للمثالية ت��ري��اق� ًا ‪-‬مفهوم ك��ون مو�ضوعي‬ ‫ميكانيكي متام ًا‪-‬ف�إن حماولته لفهم العمليات‬ ‫الع�ضوية وغري الع�ضوية‪� ،‬سواء ب�سواء‪،‬‬ ‫على �أ�سا�س ميكانيكي‪ ،‬هي�أت للبيولوجيا‬ ‫وللف�سيولوجيا قوة دافعة متهورة ولكنها‬ ‫جم��دي��ة‪ .‬وحتليله امليكانيكي للإح�سا�س‬ ‫واخليال والذاكرة والإرادة‪� ،‬أ�صبح معين ًا‬ ‫ال ين�ضب لعلم النف�س احل��دي��ث‪ .‬وبعد �أن‬ ‫دعم القرن ال�سابع ع�شر يف فرن�سا العقيدة‬ ‫القومية بديكارت‪ ،‬وج��دت ا�ستثارة القرن‬ ‫الثامن ع�شر �أر�ض ًا خ�صبة يف �شكه املنهجي‪،‬‬ ‫ويف اع�ت�م��اده على ال�ع�ق��ل‪ ،‬ويف تف�سريه‬

‫لكل ح�ي��اة احل �ي��وان على �أ��س����س الفيزياء‬ ‫والكيمياء نف�سها‪� .‬إن اع�ت��داد الفرن�سي‪-‬‬ ‫املغرتب بنف�سه اعتداد ًا مل يتزعزع قط‪ ،‬كان‬ ‫يربره �أثره املتزايد على الذهن الفرن�سي‪.‬‬ ‫�إن "املناظر الكربى" بني العقل والإميان‬ ‫ك��ان��ت تتخذ �شك ًال واع �ي � ًا‪ .‬ول�ك��ن تاريخها‬ ‫احل��دي��ث ك��ان ق��د ب��د�أ فقط‪� .‬إن�ن��ا �إذا �ألقينا‬ ‫نظرة على الأعوام الت�سعني ‪،1648-1558‬‬ ‫من �إليزابث �إىل ري�شليو‪ ،‬ومن �شك�سبري �إىل‬ ‫ديكارت‪ ،‬لأدركنا �أن كل الق�ضايا امل�ستحوذة‬ ‫على الأذهان ال تزال حم�صورة يف امل�سيحية‪،‬‬ ‫بني املذاهب الدينية املتناف�سة امل�ؤ�س�سة كلها‬ ‫على �إجنيل قبله اجلميع على �أنه "كلمة الله"‬ ‫وثمة جمرد �أ�صوات �شاردة كانت تقول ب�أن‬ ‫امل�سيحية نف�سها ميكن �أن تو�ضع مو�ضع‬ ‫االختبار‪ ،‬وب�أن الفل�سفة لن تلبث �أن تنبذ كل‬ ‫مذهب خارق للطبيعة‪.‬‬ ‫وبعد هذه املراحل الأوىل من ال�صراع بقيت‬ ‫الكاثوليكية م�سيطرة يف ا�سبانيا والربتغال‬ ‫حيث ظلت حماكم التفتي�ش تن�شر الرعب‬ ‫والك�آبة‪� .‬أما يف �إيطاليا فقد ات�سمت الديانة‬ ‫العتيقة بروح �أكرث �إن�سانية‪ ،‬و�أ�ضفت بالفن‬ ‫ع�ل��ى احل �ي��اة ��ش�ي�ئ� ًا م��ن اجل �م��ال‪ ،‬وزينت‬ ‫الأخالقيات ب��الأم��ل‪ ،‬وارت�ضت فرن�سا ح ًال‬ ‫و�سط ًا‪ ،‬وعا�شت امل�سيحية ن�شيطة مزدهرة‬ ‫بني ال�شعب‪ ،‬كاثوليك �أو هيجونوت‪ ،‬على‬ ‫حني �أن الطبقات العليا كانت ت�سرح ومترح‬ ‫يف ال�شك‪ ،‬مرجئة التقى وال��ورع �إىل دنوا‬ ‫الأج � ��ل امل �ح �ت��وم‪ .‬وق��ام��ت يف الأرا�� �ض ��ي‬ ‫الوطيئة ت�سوية جغرافية‪ ،‬ف�أبقت املقاطعات‬ ‫اجلنوبية على الكثكلة‪ ،‬وانت�صرت الكلفنية‬ ‫يف ال�شمال‪ .‬و�أنقذ الربوت�ستانتية يف �أملانيا‬ ‫كاردينال فرن�سي‪ ،‬وثبتت بافاريا والنم�سا‬ ‫على والئهما القدمي‪ ،‬على حني �أعيدت املجر‬ ‫وبوهيميا �إىل حظرية البابا‪ ،‬و�أ�صبحت‬ ‫الربوت�ستانتية ق��ان��ون الأر� ��ض �أو املبد�أ‬ ‫الر�سمي يف �إ�سكندناوة‪ ،‬ولكن ملكة ال�سويد‬ ‫�آث ��رت طقو�س روم ��ا‪ ،‬واق�ترح��ت �إليزابث‬ ‫يف �إن �ك �ل�ترا احت� ��اد ًا ك��رمي � ًا ب�ين الطقو�س‬ ‫ال�ك��اث��ول�ي�ك�ي��ة واحل��ري��ة ال��وط �ن �ي��ة‪ ،‬ولكن‬ ‫الربوت�ستانتية الإنكليزية التي تفرقت �شيع ًا‬ ‫�أبرزت حيويتها وغامرت بحياتها‪.‬‬ ‫ويف غ �م��رة ت�ن��اح��ر اجل �ي��و���ش وامل��ذاه��ب‪،‬‬ ‫كانت "دولية العلوم" تكافح ل�ل�إق�لال من‬ ‫اخلرافة واخل��وف‪ .‬كانت تخرتع �أو تعمل‬ ‫على حت�سني امليكرو�سكوب والتل�سكوب‬ ‫وال�ترم��وم�تر وال �ب��اروم�تر‪ ،‬وك��ان��ت تبتكر‬ ‫اللوغاريتمات والنظام الع�شري‪ ،‬وت�صلح‬ ‫التقومي‪ ،‬وتبتدع الهند�سة التحليلية‪ ،‬وكانت‬ ‫حت�ل��م‪ ،‬ل�ف��وره��ا‪ ،‬بتحويل ك��ل امل��واق��ع �إىل‬ ‫معادلة جربية‪ .‬وكان تيكوبراهي قد قام بكل‬ ‫الأر�صاد املتكررة ال�صابرة التي مكنت لكربل‬ ‫من �صياغة قوانني حركة الكواكب‪ ،‬التي‬ ‫�أن��ارت الطريق �أمام نيوتن ليب�صر بقانون‬ ‫ك��وين ع��ام واح ��د‪ .‬وك��ان جاليليو يك�شف‬ ‫عن عوامل جديدة �أو�سع‪ ،‬مبناظريه املقربة‬ ‫التي ك��ان يعمل على حت�سينها وتكبريها‬ ‫با�ستمرار‪ ،‬ويف ق��اع��ات حمكمة التفتي�ش‬ ‫ك��ان ال �ن��زاع ب�ين ال�ع�ل��م وال��دي��ن ي �ف��رغ يف‬ ‫قالب م�سرحي‪ .‬ويف جمال الفل�سفة ارت�ضى‬ ‫جيوردانو برونو الإعدام حرق ًا حتى املوت‪،‬‬ ‫يف حماولته لإع��ادة فهم الألوهية والكون‬ ‫على �أ�س�س تلتئم م��ع �أف �ك��ار كوبرنيك�س‪،‬‬ ‫كما �أن فران�سي�س بيكون الذي يدعو ذوي‬ ‫العقول املفكرة �إىل العلم‪ ،‬كان يخطط مهام‬ ‫العلوم وم�سئوليتها لعدة قرون مقبلة‪� ،‬أما‬ ‫ديكارت‪ ،‬ب�شكه العام ال�شامل‪ ،‬فقد �ألقى على‬ ‫ع�صر العقل عبئ ًا جديد ًا‪ .‬وت�شكلت الأخالق‬ ‫والعادات وال�سلوك تبع ًا لتقلبات العقيدة‪.‬‬ ‫وت�أثر الأدب نف�سه بال�صراع‪ ،‬وك��ان لآراء‬ ‫الفال�سفة �صداها يف �شعر مارلو و�شك�سبري‬ ‫ودون‪ .‬و�سرعان ما تت�ضاءل �أهمية الثورات‬ ‫واحل��روب بني الدول املتناف�سة �إذا قورنت‬ ‫بال�صراع ال�سائد املتزايد بني الإميان والعقل‬ ‫الذي �أهاج ذهن �أوربا وحوله‪ ،‬بل رمبا ذهن‬ ‫العامل ب�أ�سره‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫ت��أم�لات ف��ي ت��أم�لات ديكارت‬ ‫"التجريبي��ون كالنم��ل‪� :‬إنه��م يجمعون وي�ض��عون َّ‬ ‫كل �ش��يء مو�ض��ع الإ�س��تفادة؛ لك��ن العقالنيني‬ ‫كالعنكبوت‪ :‬ين�سجون اخليوط من �أنف�سهم"!‬ ‫فران�سي�س بيكون‬ ‫عبدال�سالم املال يا�سني‬

‫يدعي العقالنيون �أن رونيه ديكارت (‪-1596‬‬ ‫‪� )1650‬إنتق ��ل بالفل�سفة م ��ن كال�سيك َّيتها �إىل‬ ‫حداثته ��ا الأوىل‪ ،‬من حيث يبد�أ "الفيل�سوف"‬ ‫عن ��ده من ال�ش ��يء‪ ،‬متح ��ر ًرا م ��ن الفر�ضيات‬ ‫والآراء امل�سبق ��ة الت ��ي �إكت�سبه ��ا م ��ن �أبوي ��ه‬ ‫و�أ�ساتذته‪ .‬ونحن �إن �س َّلمنا لهم يف م�ساهمات‬ ‫دي ��كارت يف نق ��ل الفل�سف ��ة الكال�سيكي ��ة اىل‬ ‫�أعت ��اب احلداث ��ة ب�صيغته ��ا البدئي ��ة‪ ،‬ف�إننا ال‬ ‫ن�سل ��م لهم ب� ��إن لذل ��ك �أي �إرتب ��اط حقيقي مع‬ ‫توهم ديكارت مل�س�ألة التح ��رر من الفر�ضيات‬ ‫والآراء امل�سبق ��ة‪ ،‬ون�ضع من �أج ��ل قولنا هذا‬ ‫امامهم مقول ��ة قدمية �أ�ضحت م ��ن البديهيات‬ ‫امل�س ّلم بها يف عل ��م النف�س هذا اليوم‪ ،‬و�أعني‬ ‫مقولة ار�سطو‪:‬‬ ‫"ال يوج ��د �ش ��يء يف العق ��ل م ��ا مل يكن يف‬ ‫احلوا�س من قبل"‪.‬‬ ‫�إذ ان م ��ا يدع ��ي دي ��كارت �إكت�شاف ��ه يف نهاية‬ ‫ت�أمالت ��ه ال�ست ��ة‪ ،‬يف كتاب ��ه املعت�ب�ر (ت�أمالت‬ ‫ميتافيزيقي ��ة يف الفل�سف ��ة االوىل)‪ ،‬وحتديد ًا‬ ‫وجود الله كفكرة جوهرية م�ستقلة عن العقل‬ ‫الإن�ساين من جهة‪ ،‬و�أن النف�س الب�شرية التي‬ ‫ال يفرقها ديكارت عن الروح هي �شيء متمايز‬ ‫ع ��ن اجل�س ��م‪ ،‬وال مت ��وت بال�ض ��رورة مبوت‬ ‫اجل�س ��م‪� ..‬إن مايدع ��ي دي ��كارت �إكت�شاف ��ه ال‬ ‫يخ ��رج يف ر�أينا وب�أي ح ��ال من االحوال عن‬ ‫منظومة املدركات املخزونة �صورها يف ذهن‬ ‫دي ��كارت‪ ..‬ولي�س من �سب ��ب وجيه ي�ستدعينا‬ ‫�إ�ستثناء الل ��ه �أو النف�س الب�شرية من التعميم‬ ‫ال�سابق الذكر‪.‬‬ ‫معل ��وم �أن مب ��د�أ "ال�ش ��ك الديكارت ��ي" يق ��وم‬ ‫عل ��ى ثالث ��ة‪ :‬ال�شك يف احلوا� ��س‪ ،‬وال�شك يف‬ ‫�أي ��ة �أح ��كام �إزاء الع ��امل اخلارج ��ي‪ ،‬وال�ش ��ك‬ ‫يف الوج ��ود‪� .‬أما (الف ��رد الديكارتي) فيعرف‬ ‫مدرك‬ ‫�أن ��ه موجود‪ ،‬و�أن ��ه كائن مفكر‪ ،‬كام ��ل‪ِ ،‬‬ ‫لنواق�ص ��ه؛ وه ��ي فك ��رة و�ضعه ��ا (الل ��ه) يف‬ ‫نف�س ��ه‪ .‬وك�ش� ��أن �أفالطون‪ُ ،‬يل � ُّ�ح ديكارت على‬ ‫ف�ص ��ل العق ��ل ع ��ن احلوا� ��س‪ ،‬و�ص ��و ًال �إىل‬ ‫املعرفة العقلية اخلال�صة‪ ،‬التي مفتاحها "نور‬ ‫الطبيعة"‪ ،‬وهي ق ��درة فطرية غر�سها الله يف‬ ‫عقولن ��ا للو�ص ��ول �إىل احلقيقة كم ��ا يت�صور‬ ‫ديكارت‪.‬‬ ‫ولك ��ن الأم ��ر اجلوه ��ري ال ��ذي ف ��ات ويفوت‬ ‫الديكارتي�ي�ن ه ��و تغا�ضيه ��م ع ��ن العالق ��ة‬ ‫الرابطة بني ماهي ��ة الله ومدى تطور املعرفة‬ ‫ل ��دى الإن�س ��ان‪ ،‬فماهية الل ��ه مرتبطة مبعرفة‬ ‫االن�س ��ان �إرتباط� � ًا م�صريي ًا‪ ،‬لأن ه ��ذه املاهية‬ ‫ت�أ�س�س ��ت ابت ��دء ًا عل ��ى امل�ستحي�ل�ات الت ��ي‬ ‫واجهت هذا االن�سان‪ ،‬هذه امل�ستحيالت كانت‬ ‫والزال ��ت نا�شئ ��ة ع ��ن الق�صور املع ��ريف عند‬ ‫الإن�س ��ان‪ ،‬ولي� ��س ادل عل ��ى ذلك م ��ن ان هذه‬ ‫املاهي ��ة (�أي ماهية الله) كانت تتطور وتتغري‬ ‫على مدى التاريخ الإن�ساين‪ ،‬وهي حتاكي يف‬ ‫تطورها تط ��ور املعرفة عند الإن�سان‪ .‬وقائمة‬ ‫امل�ستحي�ل�ات (ق�صور املعرفة ل ��دى الإن�سان)‬ ‫تط ��ول كلما عدنا القهق ��ري اىل املا�ضي‪ ،‬حتى‬ ‫ن�ص ��ل يف فج ��ر التاري ��خ اىل ماهي ��ة ب�سيطة‬

‫جمجمة ديكارت يف متحفه‬ ‫يف نظر الإن�س ��ان البدائي‪ ،‬بل و�أكرث �إرتباط ًا‬ ‫بواقع ��ه اليومي‪ ،‬فالله يف مراحل متقدمة من‬ ‫تاري ��خ الإن�س ��ان يق ��وم بوظائف كث�ي�رة جد ًا‬ ‫وب�سيط ��ة ج ��د ًا‪ ،‬وتتطور ه ��ذه الوظائف من‬ ‫حيث النوع كلما �أقرتبنا من ع�صرنا احلايل‪،‬‬ ‫�أي �أنه ��ا تدخل يف عملي ��ة خ�صخ�صة حل�ساب‬ ‫الن ��وع وعلى ح�س ��اب الكم‪ ،‬فوظيف ��ة الله يف‬ ‫حي ��اة الإن�س ��ان كان ��ت وال زال ��ت عل ��ى عالقة‬ ‫عك�سي ��ة مع تطور املعرفة ل ��دى هذا الأن�سان‪،‬‬ ‫ووظائف الله هي التي حت ��دد ماهيته‪� ...‬إذن‬ ‫م ��ن الذي ي�صنع االخر‪ ،‬ه ��ل الله الذي ي�صنع‬ ‫معرفتنا �أم معرفتنا هي التي ت�صنع الله؟‬ ‫�إن م�شكلتن ��ا الي ��وم لي�س ��ت يف حقيقة وجود‬ ‫الل ��ه من عدمه‪ ،‬ب ��ل هي املوقع ال ��ذي يتواجد‬ ‫فيه الله �ضمن منظومتنا املعرفية‪ ،‬ف�إ�ستمرار‬ ‫وجود الله �ضمن م�ساحة الواقع املربهن ولو‬ ‫عقالني ًا‪ ،‬له ت�أثريات �سلبية على جممل حياتنا‬ ‫الب�شري ��ة‪ ،‬لي�س هذا فح�س ��ب بل هو ذو ت�أثري‬ ‫�سلبي حتى على ماهية الله على �إفرتا�ض �أنه‬ ‫موجود‪.‬‬ ‫�أعود لأقول �أن وجود الله يف الفكر الإن�ساين‬ ‫كان واليزال يت�أ�س� ��س على امل�ستحيالت التي‬ ‫واجه ��ت وتواجه االن�س ��ان يف حياته‪� ،‬أي �أن‬ ‫ماهية الله مل تتعد ملء الفراغات الكبرية يف‬ ‫قدرة الإن�سان نف�سه‪ ،‬والتي راح يتلم�سها هذا‬ ‫الإن�سان يف طريق بحثه عن الكمال‪.‬‬ ‫وم ��ا الديان ��ات ال�سماوي ��ة �أو امل�ؤ�س�س ��ة على‬ ‫الن�صو� ��ص املوح ��ى به ��ا‪� ،‬إال قه ��ر لت�سا�ؤالت‬ ‫الإن�س ��ان يف اجلان ��ب االخر ع ��ن مو�ضوعية‬ ‫الكمال الذي �إفرت�ضت ��ه املعرفة االن�سانية يف‬ ‫ماهية الله �إبتدء ًا‪ ،‬فها هي الن�صو�ص املقد�سة‬ ‫(الت ��وراة والأناجيل والق ��ر�آن) نف�سها مليئة‬ ‫بت�س ��ا�ؤالت و�شكوك عن �صح ��ة �إدعاء الكمال‬

‫يف جوه ��ر مطلق خ ��ارج �إدراك االن�سان‪ ،‬كما‬ ‫�أ�س�ست ل ��ه الديانات التوحيدي ��ة الثالث‪� .‬أما‬ ‫الأجوب ��ة عل ��ى تل ��ك ال�شك ��وك والت�س ��ا�ؤالت‬ ‫فه ��ي على رغم خلوها م ��ن املو�ضوعية كونها‬ ‫قد دون ��ت بيد املنا�صري ��ن �أو املدعني بوجود‬ ‫ذلك اجلوهر املطلق‪ ،‬ف�إنها اي االجوبة‪ ،‬جمرد‬ ‫�إع ��ادة ق ��راءة لقائمة امل�ستحي�ل�ات التي يقدر‬ ‫عليها الل ��ه‪� ،‬أي الفراغات التي ميلئها الله يف‬ ‫قدرة الأن�سان الناق�صة قيا�س ًا مبعرفته‪.‬‬ ‫حت ��ى دي ��كارت ال ��ذي خ ��رج عل ��ى النا�س يف‬ ‫الق ��رن ال�سابع ع�ش ��ر ليعلن �إكت�شاف ��ه املت�أخر‬ ‫ج ��د ًا لوج ��ود الله‪ ،‬ف�إن ��ه مل ي�ستط ��ع �أن يثبت‬ ‫وج ��ود الل ��ه �إال بع ��د �أن �أثب ��ت وج ��وده هو‪،‬‬ ‫�إذن دي ��كارت جع ��ل وجود الل ��ه الحق ًا لوجود‬ ‫االن�سان �إن مل يكن مرتبط ًا به ب�شكل كلي‪.‬‬ ‫�إن الظري ��ف يف �إكت�شاف ديكارت لوجود الله‬ ‫هو فرحة امل�ؤمنني بالله بذلك الإكت�شاف! فبعد‬ ‫�أك�ث�ر من ال ��ف وخم�سمائ ��ة �سنة م ��ن �إنت�شار‬ ‫امل�سيحي ��ة كدين من املفرو�ض �أنه يو�صل اىل‬ ‫معرف ��ة الله‪ ،‬جل� ��س ديكارت �أم ��ام موقد النار‬ ‫مت�أم�ل ً�ا يف �شمعة �صغرية‪ ،‬ليقدم بعد ذلك اىل‬ ‫امل�ؤمنني برهانه اخلارق على وجود الله‪� ،‬أي‬ ‫�أن االميان بالله �سبق �أكت�شافه ب�أكرث من الف‬ ‫وخم�سمائة �سنة! ماهذه املفارقة؟!!‬ ‫ف�إن مل يكن ديكارت م�سيحي ًا م�ؤمن ًا‪ ،‬قد �أ�ستقر‬ ‫وجود الله كفك ��رة يف منظومته املعرفية منذ‬ ‫طفولت ��ه‪ ،‬فهل كان ب�إ�ستطاعته �أن يربهن على‬ ‫وجود الل ��ه يف �ستة م�سائل‪� ،‬أو حتى �ستمائة‬ ‫م�س�ألة؟ حت ��ى �أن الله الذي جت�سد يف امل�سيح‬ ‫(كم ��ا ت�صوره لنا �أناجي ��ل العهد اجلديد) قبل‬ ‫�أن يخل ��ق دي ��كارت مبئ ��ات ال�سن�ي�ن مل يق ��دم‬ ‫ماقدم ��ه ديكارت من برهان نا�صع على وجود‬ ‫الله‪ ،‬فامل�سيح مل يق ��م بغري ملء النق�ص عيان ًا‬

‫�أمام النا�س‪ ،‬هذا النق�ص الذي كان يعاين منه‬ ‫الإن�سان يف ذلك الزمن �أو حتى يف زمننا هذا‪،‬‬ ‫لكي يثبت �أنه هو الله �أو ابن الله املتج�سد يف‬ ‫ج�سم ب�شري‪ ،‬ف�إ�شفاء املر�ضى وتكثري الطعام‬ ‫و�إحياء املوتى وغريه ��ا‪ ،‬ما هي يف اال�سا�س‬ ‫�إال فراغ ��ات يف قدرة الإن�س ��ان‪ ،‬فهل ن�ست�شف‬ ‫م ��ن ذلك �أن معرف ��ة االن�سان يف زم ��ن امل�سيح‬ ‫مل تك ��ن بالق ��در ال�ل�ازم للربهان عل ��ى وجود‬ ‫الل ��ه امل�ؤمن به �سلف ًا كما فعل ذلك ديكارت بعد‬ ‫مئات ال�سنني؟‬ ‫يق ��ول دي ��كارت يف معر� ��ض رده عل ��ى‬ ‫االعرتا�ضات الثانية‪:‬‬ ‫"الل ��ه ه ��و اجلوه ��ر الذي ن ��درك ان ��ه كامل‬ ‫الكم ��ال اال�سم ��ى وال ��ذي ال نت�ص ��ور في ��ه اي‬ ‫�شيء يت�ضمن اي نق�ص او حد للكمال‪".‬‬ ‫�إذن الله وح�سب ديكارت نف�سه ال ميكن �إدراكه‬ ‫�إال بهذه املاهية‪ ،‬اي "كامل الكمال الأ�سمى"‪..‬‬ ‫ويذه ��ب دي ��كارت �أبع ��د م ��ن ذلك ح�ي�ن ينفي‬ ‫�إمكاني ��ة ت�صور ان الل ��ه يت�ضمن اي نق�ص او‬ ‫حد للكم ��ال‪ .‬ولكننا نت�ساءل عن الأ�س�س التي‬ ‫�أوج ��د عليها ديكارت هذا الكمال املت�صور عن‬ ‫الله؟ �إنه يقين� � ًا �أوجده (الكمال) باملقارنة مبا‬ ‫ال ي�ستطيعه ديكارت‪ ،‬فهل هذا الكمال ميكن �أن‬ ‫يت�أ�س� ��س اليوم على ما ت�أ�س�س عليه يف ع�صر‬ ‫ديكارت؟ �أو هل �أن هذا الكمال هو نف�سه الذي‬ ‫كان يت�ص ��وره الإن�سان عن الل ��ه قبل ديكارت‬ ‫بال ��ف �سن ��ة �أو الف�ي�ن �أو ع�ش ��رة االف �سن ��ة؟‬ ‫م ��ا نريد قول ��ه ه ��و �أن الكمال ال ��ذي ت�صوره‬ ‫دي ��كارت يف ماهي ��ة الل ��ه لي�س كم ��اال مطلق ًا‪،‬‬ ‫�إال بدرج ��ة تط ��ور املعرف ��ة عند دي ��كارت‪ ،‬لذا‬ ‫فه ��و ن�سبي يختلف (�أي الكم ��ال املت�صور عن‬ ‫الل ��ه) لدى �إن�سان هذا الع�صر ولو بدرجة اقل‬ ‫و�ضوح ًا من ت�ص ��ور ذلك الكمال عند الإن�سان‬

‫يف الع�صور ال�سابقة على ديكارت‪.‬‬ ‫وي�ؤكد ديكارت ما ذهبنا اليه يف معر�ض رده‬ ‫على االعرتا�ضات الثانية اي�ض ًا حني يقول‪:‬‬ ‫"معنى الله يت�ضمن الوجود ال�ضروري‪ ،:‬ال‬ ‫جم ��رد الوج ��ود املمك ��ن املت�ضم ��ن يف معاين‬ ‫جميع اال�شياء االخرى"‪.‬‬ ‫�إذن وج ��ود الله �ض ��رورة �أكرث منه ��ا �إمكانية‬ ‫وجود‪ .‬ولكن م ��ا دواعي هذه ال�ضرورة التي‬ ‫يجهلها ديكارت �أو يتجاهلها؟‬ ‫�إنه ��ا قائم ��ة امل�ستحيالت �أو العج ��ز الطبيعي‬ ‫�أو النا�ش ��ئ عن ق�صور املعرف ��ة‪ ،‬الذي يعانيه‬ ‫الإن�س ��ان يف م�سرية حياته‪ ..‬فالإن�سان عاجز‬ ‫ع ��ن �إيقاف امل ��وت‪ ،‬و�إيق ��اف االمل‪ ،‬واجلوع‪،‬‬ ‫والك ��وارث‪ ..‬وغريه ��ا مما ت�شغ ��ل باله‪ ،‬ولو‬ ‫رجعنا قلي�ل ً�ا اىل املا�ضي‪ ،‬فالإن�سان غري قادر‬ ‫عل ��ى الكثري مما �أ�صبح الي ��وم �ضمن قدراته‪،‬‬ ‫وهك ��ذا فالقائم ��ة تط ��ول كلما كان ��ت معارف‬ ‫االن�سان حمدودة وتق�ص ��ر كلما تو�سعت تلك‬ ‫املعرفة‪ ،‬حتى ياتي يوم تتحدد فيه ماهية الله‬ ‫يف اثنت�ي�ن �أو ثالثة م ��ن امل�ستحيالت التي قد‬ ‫تبقى ترافق الإن�س ��ان‪� ،‬أو حتى �أننا �سن�ضطر‬ ‫يوم ًا ما اىل �إخ�ت�راع وظائف جديدة لله على‬ ‫طري ��ق �صبغ ��ه ب�صبغ ��ة الكم ��ال اال�سمى كما‬ ‫يقول ديكارت‪.‬‬ ‫لنتوقف هنا وننظر‪ ،‬ال�سنا حقيقة ن�سيء اىل‬ ‫الل ��ه به ��ذا الربط املجحف ب�ي�ن وجوده وبني‬ ‫عجزن ��ا كب�شر؟ �ألي� ��س هذا ه ��و ال�سبب الذي‬ ‫جعل امل�سيحي�ي�ن االوائل يج�س ��دون الله يف‬ ‫�شخ�صي ��ة امل�سيح‪ ،‬لأنه كان �إن�سان ًا غري عاجز‬ ‫ح�س ��ب ت�صورهم! �إننا م ��ن خالل ربط وجود‬ ‫الله بالكم ��ال الذي نبحث عنه لأنف�سنا كب�شر‪،‬‬ ‫�إمن ��ا ن�ضع اال�سا�س لنف ��ي الله من حياتنا يف‬ ‫امل�ستقبل‪ ،‬وهنا مكمن اخلطر‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪8‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫هل توجد قطيعة بني فل�س��فة ديكارت‬ ‫وفل�سفة النه�ض��ة؟ الزالت هذه امل�س�ألة‬ ‫حمط خالف ب�ين الباحثني املخت�ص�ين‬ ‫يف درا�س��ة الرتاث الديكارتي وم�ؤرخي‬ ‫الفل�س��فة �إىل الي��وم‪ .‬ي��رى ‪Henri‬‬ ‫‪ Gouhier‬و ‪� Etienne Gilson‬أن‬ ‫دي��كارت �أح��دث قطيع��ة م��ع فل�س��فة‬ ‫النه�ض��ة‪ ،‬وذه��ب ‪Etienne Gilson‬‬ ‫�إىل ح��د القول ب�أن ديكارت و�ض��ع حدا‬ ‫ملغامرات ع�صر النه�ضة‪ ،‬وو�صفه ‪Henri‬‬ ‫‪ Gouhier‬ب�أن��ه ميثل نقي�ض النه�ض��ة‬ ‫"‪ ،"Anti-Renaissance‬وا�س��تدل على‬ ‫ذل��ك مبا ورد يف ر�س��الة كتبه��ا ديكارت‬ ‫�إىل ‪ Beeckmann‬ن��دد فيها بالفل�س��فة‬ ‫الطبيعي��ة لبع���ض الفال�س��فة م��ن‬ ‫املجددين يف ع�ص��ر النه�ضة‪ .‬ومهما كان‬ ‫ت�أويل هذه الر�س��الة ف�إنه من املمكن مد‬ ‫اجل�سور بني فل�سفة ديكارت والفل�سفة‬ ‫الإن�سية التي كانت قد بد�أت تت�شكل يف‬ ‫فرن�سا خالل ع�صر النه�ضة على يد كل‬ ‫م��ن ‪ Sibiuda‬و ‪ Bovelles‬و ‪Charron‬‬ ‫من خ�لال مراجعة امل�ش��روع الفل�س��في‬ ‫الديكارتي‪.‬‬

‫الميتــافيزيقــا الديكـارتية‬

‫بي��ن الالهــ��وت والنزعـ��ة اإلنس��ـية‬ ‫�أحمد �أغبال‬

‫واحلقيق ��ة �أن م�ش ��روع ديكارت ال ��ذي بلوره‬ ‫من ��د مار� ��س‪�/‬آذار ‪ 1636‬وال ��ذي يه ��دف �إىل‬ ‫ت�أ�سي� ��س عل ��م ذي �صالحية كوني ��ة قادر على‬ ‫االرتقاء بالطبيعة الإن�سانية �إىل �أعلى درجات‬ ‫الكم ��ال‪ ،‬ه ��و امت ��داد لفل�سف ��ة النه�ض ��ة التي‬ ‫كان ��ت ت�سري يف اجت ��اه الف�صل ب�ي�ن الفل�سفة‬ ‫والاله ��وت والرب ��ط ب�ي�ن العل ��م واحلكم ��ة‪،‬‬ ‫واالبتع ��اد ع ��ن الاله ��وت ال�سكوالئ ��ي ال ��ذي‬ ‫جعل من امليتافيزيقا علما ت�أمليا ال تربطه �أية‬ ‫�صل ��ة باحلكم ��ة الإن�سانية‪ ،‬وذل ��ك على عك�س‬ ‫م ��ا جنده ل ��دى �أر�سطو ال ��ذي ا�سته ��ل املقالة‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫الأوىل م ��ن امليتافيزيقا بر�س ��م �صورة جميلة‬ ‫للحكي ��م‪ .‬لقد ج ��اء م�شروع دي ��كارت كرد فعل‬ ‫لي�س فقط �ضد الف�صل بني العلم واحلكمة‪ ،‬بل‬ ‫جاء �أي�ضا كرد فعل �ض ��د الف�صل بني الفل�سفة‬ ‫الطبيعية والأخالقية وبني امليتافيزيقا‪.‬‬ ‫تع ��د م�س�أل ��ة العالقة ب�ي�ن الفل�سف ��ة الأخالقية‬ ‫وامليتافيزيق ��ا م ��ن امل�سائ ��ل الأ�سا�سي ��ة يف‬ ‫الفل�سف ��ة الديكارتي ��ة‪ .‬فق ��د كان م�ش ��روع‬ ‫دي ��كارت يف �ألأ�ص ��ل م�شروع ��ا للرتكي ��ب بني‬ ‫خمتلف �أبع ��اد الإن�سان املعرفي ��ة والأخالقية‬ ‫والوجودي ��ة‪ .‬ولكن ��ه ا�صط ��دم بعراقي ��ل‬ ‫و�صعوب ��ات له ��ا عالقة باملن ��اخ الثقايف العام‬ ‫وو�ضعي ��ة العل ��وم يف زمان ��ه‪ ،‬ولذل ��ك جاءت‬ ‫مقالت ��ه يف املنه ��ج مق�سمة عل ��ى ثالثة حماور‬ ‫�أ�سا�سية وهي‪ :‬قواعد املنهج‪ ،‬قواعد الأخالق‬ ‫والت�أم�ل�ات �أو امليتافيزيق ��ا‪ ..‬ميك ��ن النظ ��ر‬ ‫�إىل ه ��ذه املح ��اور عل ��ى �أنه ��ا مرتابط ��ة فيما‬ ‫بينها باعتبارها متث ��ل خمتلف جماالت العلم‬ ‫الك ��وين الذي كان يطم ��ح �إىل ت�أ�سي�سه‪ ،‬ومع‬ ‫�أن دي ��كارت مل يعرب ب�شكل �صريح عن العالقة‬ ‫التي ترب ��ط املجاالت الثالث ��ة بع�ضها ببع�ض‬ ‫ف�إن ه ��ذه العالقة موج ��ودة بالفعل‪ ،‬وب�إمكان‬ ‫الباح ��ث �أن يك�ش ��ف عنها من خ�ل�ال الوقوف‬ ‫على مقا�ص ��د الفيل�سوف وجتربته يف احلياة‬ ‫كما ترتاءى من خ�ل�ال كتاباته الفل�سفية التي‬ ‫لي�ست غريب ��ة عن فن ال�س�ي�رة الذهنية‪ ،‬ومن‬ ‫خ�ل�ال الك�شف عن امل�صادرات الأ�سا�سية التي‬ ‫يقوم عليها ن�سق ت�أمالته امليتافيزيقية‪.‬‬ ‫يب ��دو من خالل ق ��راءة "الت�أم�ل�ات" �أن هناك‬ ‫عالق ��ة ع�ضوي ��ة ب�ي�ن امليتافيزيق ��ا وفل�سف ��ة‬ ‫الأخ�ل�اق لدى دي ��كارت‪ .‬ومتثل فك ��رة الكمال‬ ‫الإن�س ��اين يف اعتقادن ��ا املب ��د�أ املنظ ��م ال ��ذي‬ ‫يرب ��ط خمتلف جم ��االت الفل�سف ��ة الديكارتية‬ ‫بع�ضها ببع�ض‪ ..‬جند هذه الفكرة يف كتاباته‬

‫الأ�سا�سية وخا�صة يف الت�أمالت امليتافيزيقة‪.‬‬ ‫يق ��ول يف نهاي ��ة الت�أم�ل�ات الرابع ��ة‪� :‬إن الله‬ ‫منحن ��ي احلري ��ة لإ�ص ��دار احلك ��م �أو تعليقه‬ ‫عندم ��ا يتعلق الأم ��ر بالأ�شياء الت ��ي ال توجد‬ ‫ل ��دي عنها فكرة وا�ضح ��ة ومتميزة‪ .‬و�إذا كان‬ ‫من املمكن �أن �أخط�أ‪ ،‬ف�إن ال�سبب يف ذلك يرجع‬ ‫�إىل وج ��ود نق�ص يف يتعل ��ق ب�سوء ا�ستعمال‬ ‫الإرادة والت�س ��رع يف �إ�ص ��دار الأح ��كام يف‬ ‫الق�ضاي ��ا الت ��ي ال زال يكتنفه ��ا الغمو�ض يف‬ ‫ذهن ��ي‪ .‬و�إذا كان الل ��ه مل مينحن ��ي ف�ضيل ��ة‬ ‫الع�صم ��ة التي يتوقف وجوده ��ا على املعرفة‬ ‫الوا�ضحة املتمي ��زة بكل الأمور التي ميكنني‬ ‫الب ��ت فيها‪،‬ف�إن ��ه منحني على الأق ��ل الو�سيلة‬ ‫الأخ ��رى املتمثل ��ة يف حري ��ة االمتن ��اع ع ��ن‬ ‫�إ�ص ��دار �أي حكم على الأ�شي ��اء التي ال �أعرف‬ ‫حقيقتها معرفة يقينية‪ .‬وهاهنا بالذات يكمن‬ ‫"الكمال الأ�سا�سي للإن�سان" املتمثل يف حرية‬ ‫الإرادة واالختيار‪.‬‬ ‫وهك ��ذا‪ ،‬ف�إن م ��ا يع�صم الإن�سان م ��ن الوقوع‬ ‫يف الزل ��ل فه ��و حري ��ة الإرادة واالختي ��ار‬ ‫وح�س ��ن ا�ستعمالها‪ .‬ي�شم ��ل الكمال الإن�ساين‬ ‫به ��ذا املعن ��ى الق ��درة عل ��ى اكت�س ��اب املعرفة‬ ‫اليقيني ��ة وح�سن ا�ستعم ��ال الإرادة واحلرية‬ ‫باعتب ��اره �أ�سا� ��س الأخالق الفا�ضل ��ة‪ .‬ولذلك‬ ‫ميك ��ن �أن جنعل من فك ��رة الكم ��ال الإن�ساين‬ ‫املبد�أ الأ�سا�سي الأول الذي تقوم عليه كل من‬ ‫الفل�سف ��ة امليتافيزيقي ��ة والفل�سف ��ة الأخالقية‬ ‫عن ��د دي ��كارت‪ .‬ومن هن ��ا تتب�ي�ن العالقة بني‬ ‫امليتافيزيقا والأخالق يف الفل�سفة الديكارتية‪،‬‬ ‫فهما مرتابطان يف الأ�صل‪ ،‬مبعنى �أنهما بنيا‬ ‫عل ��ى �أ�سا�س واح ��د �أو �أن لهما ج ��ذر ًا واحد ًا‪،‬‬ ‫وهو الإميان بقدرة الإن�سان على االرتقاء يف‬ ‫مراتب الكمال‪.‬‬ ‫وترجع جذور فكرة الكم ��ال الإن�ساين �إىل ما‬

‫قبل ع�صر النه�ضة‪ ،‬وتبلورت ب�شكل وا�ضح يف‬ ‫ال�ساح ��ة الثقافية الأوروبية من القرن الثالث‬ ‫ع�ش ��ر بعد �أن مت ��ت ترجمة �ش ��روح ابن ر�شد‬ ‫على طبيعي ��ات �أر�سطو �إىل اللغ ��ة الالتينية‪.‬‬ ‫وارتبطت هذه الفك ��رة �آنذاك بدرا�سة العلوم‬ ‫الت�أملي ��ة‪ ،‬حي ��ث بد�أ بع� ��ض املفكرين مييلون‬ ‫�أك�ث�ر ف�أك�ث�ر �إىل االعتق ��اد ب� ��أن حت�صيل هذه‬ ‫العل ��وم ي�ساع ��د الإن�سان عل ��ى اكت�ساب مزيد‬ ‫من الكم ��ال‪ .‬ولكنها تعر�ضت النتقادات رجال‬ ‫الدي ��ن الذين نددوا به ��ا باعتباره ��ا مناق�ضة‬ ‫لتعاليم الديانة امل�سيحية التي تقول ب�سقوط‬ ‫الإن�س ��ان �إىل ال ��درك الأ�سف ��ل وبالرحم ��ة‬ ‫الإلهي ��ة‪ ،‬وذل ��ك على اعتب ��ار �أن فك ��رة الكمال‬ ‫الإن�س ��اين تفرت�ض �إمكاني ��ة اخلال�ص خارج‬ ‫نطاق الدين‪ .‬ورغم مقاومة رجال الدين لهذه‬ ‫الفك ��رة يف الع�ص ��ر الو�سي ��ط املت�أخ ��ر ف�إنه ��ا‬ ‫انتقل ��ت �إىل فال�سف ��ة ع�ص ��ر النه�ض ��ة‪ ،‬ولكنا‬ ‫ت�سبب ��ت له ��م يف الكث�ي�ر م ��ن املتاع ��ب‪ .‬و�إذا‬ ‫كان طوما� ��س الإكويني قد �أخذ بفكرة الكمال‬ ‫الإن�س ��اين‪ ،‬ف�إنه �أك�سبها مدل ��وال �آخر ين�سجم‬ ‫مع التعاليم الديني ��ة‪ :‬يكت�سب الإن�سان مزيدا‬ ‫م ��ن الكم ��ال يف نظ ��ره ال من خ�ل�ال حت�صيل‬ ‫العل ��وم الت�أملية ولكن من خ�ل�ال ت�أمل الذات‬ ‫الإلهي ��ة‪ ،‬وال ينال هذه النعمة �إال من كتبت لع‬ ‫ال�سع ��ادة يف احلي ��اة الأخرى‪ .‬ي ��دل ذلك على‬ ‫ا�ستحال ��ة ارتقاء الإن�س ��ان املذنب �إىل مراتب‬ ‫الكم ��ال العليا يف احلياة الدني ��ا‪� .‬إن الإن�سان‬ ‫يف نظر رج ��ال الدين عاجز عج ��زا راديكاليا‬ ‫ع ��ن معرف ��ة �أي �ش ��يء م ��ن الأم ��ور املتعلق ��ة‬ ‫بال ��ذات الإلهي ��ة‪ ،‬و�أ�صبحت ل ��ه يف الالهوت‬ ‫امل�سيح ��ي‪ ،‬عل ��ى الأقل من ��ذ ‪،Duns Scot‬‬ ‫�ص ��ورة امل�ساف ��ر ال�شقي البعي ��د كل البعد عن‬ ‫ال�سعادة الأخروية‪ ،‬ومل يعد بو�سعه وهو يف‬ ‫رحلته الدنيوية �إال �أن يطلب الرحمة الإلهية‪.‬‬

‫ولذلك ح ّرموا الأخذ بفكرة الكمال الإن�ساين‪.‬‬ ‫ول�سوف يعاين ديكارت بدوره من هذا القرار‬ ‫الكن�سي‪.‬‬ ‫ولقد �أدى قرار التح ��رمي �إىل تغييب الإن�سان‬ ‫من حقل املمار�سة الفكرية طوال فرتة مديدة‪.‬‬ ‫ولك ��ن بع� ��ض فال�سف ��ة ع�ص ��ر النه�ض ��ة ممن‬ ‫كان ��ت له ��م ال�شجاع ��ة الكافي ��ة للأخ ��ذ بفكرة‬ ‫الكم ��ال الإن�س ��اين‪ ،‬م ��ن �أمث ��ال ‪Sibiuda‬‬ ‫و ‪ Bovelles‬و ‪� ،Charron‬أع ��ادوا‬ ‫�إلي ��ه املكان ��ة الت ��ي ي�ستحقها يف ع ��امل الفكر‪،‬‬ ‫وم ��ن ثمة انتقل ��ت الفكرة �إىل دي ��كارت لت�أخذ‬ ‫�أبعادا ودالالت جديدة‪ ،‬حيث جعل منها املبد�أ‬ ‫الأ�سا�سي الذي تقوم عليه حماولته الرتكيبية‪،‬‬ ‫وهو ما يدل عليه ح�ضورها القوي يف الق�سم‬ ‫الرابع من ت�أمالته امليتافيزيقة‪.‬‬ ‫ولع ��ل ما �ص ��رف اهتم ��ام الدار�س�ي�ن لفل�سفة‬ ‫دي ��كارت به ��ذه الفك ��رة ومكانته ��ا يف ن�س ��ق‬ ‫الت�أمالت هو طغيان النظرة الأحادية اجلانب‬ ‫�إىل ال�ت�راث الديكارت ��ي‪ ،‬مم ��ا �أدى يف نظ ��ر‬ ‫بع� ��ض املحلل�ي�ن �إىل هيمنة ت�أوي ��ل واحد يف‬ ‫الفل�سف ��ة املعا�ص ��رة وه ��و ت�أوي ��ل هايدج ��ر‬ ‫ال ��ذي اخت ��زل امليتافيزيق ��ا الديكارتي ��ة �إىل‬ ‫جم ��رد كونه ��ا امت ��دادا للمذاه ��ب الالهوتي ��ة‬ ‫ال�سكوالئية‪ ،‬وما يدل على ذلك‪ ،‬يف نظره‪ ،‬هو‬ ‫ارتكازها على فكرة تناهي الوجود الإن�ساين‬ ‫الت ��ي تنطوي عل ��ى فكرة اخلطيئ ��ة والذنب‪.‬‬ ‫ففي درا�سته ملراحل تطور مفهوم الأنطلوجيا‬ ‫املت�ضمن ��ة يف �أحد الدرو�س الت ��ي �ألقاها عام‬ ‫‪ ،1927‬ذكر هايدجر �أن ديكارت �أخد مفاهيمه‬ ‫الأنطلوجية الأ�سا�سي ��ة مبا�شرة عن �سواريز‬ ‫و�سك ��وت وطوما� ��س الإكويني‪ ،‬م ��ن دون �أن‬ ‫يق ��دم �أي دلي ��ل عل ��ى ذل ��ك‪ ،‬و�أ�ض ��اف �إىل ذلك‬ ‫قول ��ه �إن امليتافيزيق ��ا القرو�سطوي ��ة لي�س ��ت‬ ‫�شيئا �آخر غ�ي�ر الالهوت‪ ،‬ومن ثمة مت �سحب‬ ‫هذا احلكم عل ��ى امليتافيزيقا الديكارتية‪ ،‬وما‬ ‫زال يرتدد �صداه �إىل البوم‪.‬‬ ‫ال�ش ��ك يف �أن الفل�سفة الديكارتي ��ة ال ت�ستبعد‬ ‫فك ��رة التناه ��ي‪ ،‬ولكن ه ��ذه الفك ��رة لي�س لها‬ ‫معنى �سلبيا يف ه ��ذه الفل�سفة‪ ،‬مبعنى �أنها ال‬ ‫تلغ ��ي �إمكانية بلوغ الإن�س ��ان �أق�صى درجات‬ ‫الكمال‪� .‬إن االرتقاء يف مراتب الكمال يتحقق‬ ‫ب�ش ��كل تدريج ��ي‪ ،‬ولكن ��ه ي�س�ي�ر يف اجت ��اه‬ ‫الالمتناه ��ي‪ .‬وهذه احلرك ��ة الالمتناهية يف‬ ‫اجتاه الكمال هي الدليل على �أن الإن�سان‪ ،‬يف‬ ‫نظر دي ��كارت‪ ،‬ال ميكنه �أن يك ��ون ال متناهيا‪،‬‬ ‫لأن الالمتناه ��ي ال ينق�ص ��ه �ش ��يء‪ ،‬ولذل ��ك ال‬ ‫يحت ��اج �إىل احلركة والنم ��و والتطور‪ .‬ولكن‬ ‫الالمتناه ��ي الثاب ��ت الإيجابي لي� ��س نقي�ضا‬ ‫م ��ن حي ��ث �إيجابيت ��ه للمتناه ��ي املتح ��رك‪،‬‬ ‫فالنمو واالرتقاء هو �شيء �إيجابي‪� ،‬إنه كمال‬ ‫�إن�ساين‪� .‬إن املتناهي يف هذه احلالة �إيجابي‬ ‫ولي� ��س �سلبي ��ا‪ .‬وتكم ��ن �إيجابيت ��ه وكمال ��ه‬ ‫الأ�سا�س ��ي يف امتالك ��ه ل�ل��إرادة واحلري ��ة‪.‬‬ ‫يتجل ��ى ذل ��ك بو�ضوح يف الت�أم�ل�ات الرابعة‪،‬‬ ‫كم ��ا �سبق ��ت الإ�ش ��ارة �إىل ذل ��ك‪ .‬فالإن�س ��ان‬ ‫يف نظ ��ر دي ��كارت ح ��ر يف �أن يخت ��ار تعلي ��ق‬ ‫احلكم كلما كانت املعرف ��ة الوا�ضحة املتميزة‬ ‫بحقيق ��ة الأ�شياء التي ي�ضط ��ر �إىل البت فيها‬ ‫غ�ي�ر متوف ��رة بع ��د‪� .‬إن الق ��درة عل ��ى تعلي ��ق‬ ‫احلك ��م جتعلنا �أكرث كماال رغ ��م كوننا كائنات‬ ‫متناهي ��ة‪ .‬ه ��ذه ه ��ي الأطروح ��ة الأ�سا�سي ��ة‬ ‫املت�ضمنة يف الت�أمالت الرابعة‪.‬‬ ‫ويقول دي ��كارت �إنه لي�س ل ��ه �أن يت�أ�سف على‬ ‫�أن الل ��ه مل مينحه كماال �أكرب‪ ،‬ب ��ل �إن عليه �أن‬ ‫ي�شك ��ره على �أن ��ه منح ��ه القدرة عل ��ى تعليق‬ ‫احلكم كلما كان ��ت املعرفة غري وا�ضحة وغري‬ ‫متميزة‪ .‬وهنا يكم ��ن الكمال الإن�ساين الأكرب‬ ‫يف نظ ��ره‪ ،‬يق ��ول باحلرف الواح ��د يف نهاية‬ ‫اجل ��زء الرابع من الت�أم�ل�ات‪�" :‬إنه �أكرب كمال‬ ‫�إن�س ��اين" «‪c’est la plus grande‬‬ ‫‪� ،»perfection de l’homme‬أو‬ ‫لنق ��ل �إنه احل ��د الأق�صى من الكم ��ال الذي هو‬ ‫كم ��ال بالن�سب ��ة للإن�س ��ان ال بالن�سب ��ة لله وال‬ ‫حت ��ى بالن�سبة للمالئكة‪ .‬مل ت�أخذ هذه اجلملة‬ ‫بع�ي�ن احل�س ��اب يف الت�أوي�ل�ات الأحادي ��ة‬ ‫اجلانب للميتافيزيق ��ا الديكارتية‪ ،‬فاختزلتها‬

‫�إىل جم ��رد كونه ��ا �شكال من �أ�ش ��كال الالهوت‬ ‫ال�سكوالئي‪.‬‬ ‫ويتجلى كمال الإن�سان �أي�ضا يف كمال قدراته‪.‬‬ ‫يقول دي ��كارت يف اجلزء الرابع من الت�أمالت‬ ‫�إن الإن�سان برغ ��م كونه خملوق ًا متناهي ًا ف�إنه‬ ‫يتوف ��ر على مل ��كات تت�صف بن ��وع من الكمال‬ ‫اخلا�ص بالنوع الإن�ساين‪ ،‬وهي فكرة جريئة‬ ‫بالنظ ��ر �إىل ظ ��روف الع�صر ال ��ذي عا�ش فيه‬ ‫ديكارت‪ .‬وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن ديكارت‬ ‫ال ي�ستخدم مفهوم التناهي باملعنى الالهوتي‬ ‫ال ��ذي يدل عل ��ى الطبيعة ال�شري ��رة للإن�سان‪،‬‬ ‫وال ��ذي يتناف ��ى بالت ��ايل م ��ع فك ��رة الكم ��ال‬ ‫الن�سب ��ي‪ .‬كم ��ا �أنه ال ي�ستخدم مفه ��وم الكمال‬ ‫الإن�ساين باملعنى الأنطلوجي الذي يدل على‬ ‫�أن الإن�سان هو �أرقى املخلوقات جميعا‪ ،‬وهو‬ ‫م ��ا يدل عليه معنى قوله يف الت�أمالت الرابعة‬ ‫�إنه ال يحق ل ��ه �أن ي�شتكي من كون الله عندما‬ ‫خلق ��ه مل ينزله يف منزلة الكائنات الأكرث نبال‬ ‫وكم ��اال‪ ،‬وجن ��د الفك ��رة نف�سه ��ا يف ر�سالت ��ه‬ ‫�إىل �إليزابي ��ت ‪ Elisabeth‬بتاري ��خ ‪15‬‬ ‫�سبتم�ب�ر‪� /‬أيلول ‪ ،1645‬وه ��ي فكرة تن�سجم‬ ‫مع الت�صور الكوبرينيكي للكون الذي مل يعد‬

‫الإن�س ��ان يحتل فيه مكان ��ة مركزية‪ .‬وبقدر ما‬ ‫تن�سج ��م مع الت�ص ��ور الكوبرينيك ��ي بقدر ما‬ ‫تتعار�ض م ��ع الت�صور الالهوتي الذي يجعل‬ ‫من الإن�سان �أ�سم ��ى املخلوقات جميعا‪ .‬يقول‬ ‫يف الر�سال ��ة امل�شار �إليها‪" :‬وب ��دل �أن نن�شغل‬ ‫مبعرف ��ة الكم ��االت الت ��ي توجد فين ��ا بالفعل‪،‬‬ ‫نن�سب للمخلوق ��ات الأخ ��رى النواق�ص التي‬ ‫ال توج ��د فيه ��ا لك ��ي ن�سم ��و فوقه ��ا" يتح ��دد‬ ‫مفهوم التناهي‪�،‬إذن‪ ،‬يف عالقته بفكرة الكمال‬ ‫الإن�س ��اين‪ ،‬م ��ن حيث �أن ال�سع ��ي �إىل حتقيق‬ ‫�أق�صى درجة ممكنة من الكمال يتطلب الوعي‬ ‫مبواطن ال�ضعف التي توقعنا يف اخلط�أ‪ .‬مما‬ ‫ي ��دل على �أن الإن�سان ال ميث ��ل �أرقى الكائنات‬ ‫املوجودة يف الكون‪.‬‬ ‫و�إذا كان يف الإن�س ��ان �ش ��يء م ��ا المتناه ��ي‬ ‫فه ��و الإرادة‪ ،‬تل ��ك " الإرادة الكامل ��ة املطلقة"‬ ‫ح�س ��ب تعبري دي ��كارت نف�سه يف ح ��واره مع‬ ‫‪ Burman‬والبد من االعرتاف هنا ب�أن هذه‬ ‫الفك ��رة تط ��رح م�شكلة عوي�ص ��ة يف ما يتعلق‬ ‫بت�أويل "الت�أم�ل�ات"‪ .‬كيف ميكن احلديث عن‬

‫تناه ��ي الإن�س ��ان �إذا كانت �إرادت ��ه مطلقة وال‬ ‫متناهية؟ كيف ميكن اجلمع بني تناهي العقل‬ ‫والتناهي الإرادة لدى الإن�سان؟‬ ‫يتجل ��ى تناه ��ي العق ��ل الإن�س ��اين يف ع ��دم‬ ‫قدرت ��ه على فه ��م الل ��ه �أو على فه ��م غايته من‬ ‫خلق الع ��امل‪ .‬ولكن انعدام الق ��درة على فهمه‬ ‫ال يعن ��ي ا�ستحالة معرفته‪ .‬فقد يرهن ديكارت‬ ‫عل ��ى وجود الل ��ه قب ��ل �أن يثبت وج ��وده هو‬ ‫ووج ��ود العامل‪ .‬ولذلك يقول ب� ��أن معرفة الله‬ ‫�أي�س ��ر �إلي ��ه م ��ن معرف ��ة العامل‪ .‬تكم ��ن حدود‬ ‫العقل من وجهة النظر هذه يف انعدام القدرة‬ ‫على فهم املطلق‪ ،‬ال يف العجز على معرفته كما‬ ‫يقول كانط‪� .‬إن فكرة الله يف نظر ديكارت هي‬ ‫�أكرث الأف ��كار و�ضوحا ومتيزا‪ .‬ف� ��إذا كان من‬ ‫خ�صائ�ص املطل ��ق �أنه م�ستغلق على الفهم ملن‬ ‫نظ ��ر �إليه‪ ،‬ف�إن معرفته‪ ،‬يف املقابل‪� ،‬أي�سر �إليه‬ ‫من معرفة نف�سه‪.‬‬ ‫ي ��دل مفه ��وم الكم ��ال الإن�س ��اين عل ��ى من ��ط‬ ‫تفك�ي�ر يرتكز عل ��ى الإمي ��ان بق ��درة الإن�سان‬ ‫عل ��ى معرفة احلقيقة اليقيني ��ة باالعتماد على‬ ‫قدراته الطبيعي ��ة‪ ،‬ومما يدل على ذلك ت�أكيده‬ ‫يف منا�سب ��ات كث�ي�رة على �أن �سب ��ب الأخطاء‬

‫‪9‬‬

‫الت ��ي نرتكبه ��ا ال يرجع �إىل وج ��ود نق�ص يف‬ ‫طبيعتنا الإن�ساني ��ة ولكن �إىل �سوء ا�ستعمال‬ ‫قدراتنا العقلية و�إرادتنا وحريتنا‪.‬‬ ‫ويج ��ب االع�ت�راف م ��ع ذل ��ك ب� ��أن م�س�أل ��ة‬ ‫العالق ��ة ب�ي�ن امليتافيزيق ��ا والأخ�ل�اق عن ��د‬ ‫دي ��كارت م�س�أل ��ة ح�سا�س ��ة للغاية‪ ،‬فق ��د كانت‬ ‫وال ت ��زال مو�ض ��وع خ�ل�اف مل يح�س ��م بع ��د‪.‬‬ ‫ي ��رى ‪ ،Ferdinand Alquié‬مث�ل�ا‪� ،‬أن‬ ‫الفل�سف ��ة الأخالقي ��ة عند دي ��كارت هي "�شيء‬ ‫م�ضاف من اخل ��ارج �إىل فل�سفته"‪ .‬ونقل عنه‬ ‫‪ ،Martial Gueroult‬ال ��ذي دعم ر�أيه‬ ‫يف هذه امل�س�ألة‪ ،‬قوله �إنها منت "خارج ن�سق"‬ ‫الت�أمالت‪ .‬قد يرجع ال�سبب يف اتخاذهما لهذا‬ ‫املوقف �إىل ع ��دم انتباه �أي واح ��د منهما �إىل‬ ‫فك ��رة "الكم ��ال الإن�س ��اين الأ�سا�س ��ي" وعدم‬ ‫تقديرهم ��ا للمكان ��ة الت ��ي حتتله ��ا يف ن�س ��ق‬ ‫الت�أم�ل�ات‪ .‬و�إذا �أمعنا النظ ��ر يف هذه الفكرة‬ ‫تبني لن ��ا مدى ارتباطها بفك ��رة وحدة الكائن‬ ‫الإن�ساين ومبد�أ التمييز بني الروح واجل�سد‪.‬‬ ‫ولبيان هذه العالقة يتعني علينا حتليل �أ�س�س‬ ‫امليتافيزيقا الديكارتية يف �أفق حتديد املكانة‬ ‫التي يحتلها الإن�سان يف فل�سفة ديكارت‪.‬‬ ‫ذك ��ر ديكارت يف ر�سالت�ي�ن لأليزابيت بتاريخ‬ ‫‪ 21‬مايو‪�/‬أي ��ار و ‪ 28‬يوني ��و‪ /‬حزي ��ران من‬ ‫ع ��ام ‪ -1643‬واللتان ميكن اعتبارهما مبثابة‬ ‫ملخ�ص مركز لنتائج "الت�أمالت"‪� -‬أن فل�سفته‬ ‫امليتافيزيقية تقوم عل ��ى �أ�س�س ثالثة مفاهيم‬ ‫�أولي ��ة‪ ،‬متثل يف نظره النماذج الأ�صلية التي‬ ‫تق ��وم عليها كل معرفة �إن�سانية وهي املفاهيم‬ ‫الت ��ي لدين ��ا ع ��ن ال ��روح واجل�س ��د والعالقة‬

‫بني ال ��روح واجل�س ��د‪ :‬يتعلق املفه ��وم الأول‬ ‫بت�صورن ��ا لل ��روح‪ ،‬وي�شمل العق ��ل والإدراك‬ ‫احل�س ��ي والإرادة وخمتل ��ف الن ��وازع‬ ‫االنفعالية؛ ويتعلق املفهوم الثاين بت�صورنا‬ ‫للج�س ��م‪ ،‬وهو مفهوم االمتداد ال ��ذي ُت َرد �إليه‬ ‫�أ�ش ��كال الأج�سام وهيئتها وحركتها؛ ويتعلق‬ ‫املفه ��وم الثالث بالعالقة بني ال ��روح والبدن‪،‬‬ ‫وه ��و مفه ��وم الوحدة التي تتجل ��ى من خالل‬ ‫قدرة الروح على حتريك البدن‪ ،‬وقدرة البدن‬ ‫عل ��ى الت�أث�ي�ر يف ال ��روح و�إث ��ارة انفعاالتها‪.‬‬ ‫ونظرا لك ��ون ه ��ذه املفاهيم �أولي ��ة وب�سيطة‬ ‫ف�إن ��ه ال ميك ��ن‪ ،‬يف نظ ��ر دي ��كارت‪ ،‬تف�س�ي�ر‬ ‫بع�ضه ��ا بالبع�ض الآخ ��ر وال �إرج ��اع بع�ضها‬ ‫�إىل البع� ��ض الآخر‪ ،‬على اعتبار �أن كل مفهوم‬ ‫م ��ن هذه املفاهي ��م الثالث نت�أ�ص ��ل يف النف�س‬ ‫الإن�ساني ��ة ولي� ��س م�شتق ��ا من غ�ي�ره‪ ،‬ولذلك‬ ‫وجب ا�ستعمال كل مفهوم يف املجال اخلا�ص‬ ‫ب ��ه‪ .‬ويرى دي ��كارت �أن ه ��ذه املفاهي ��م تدرك‬ ‫بط ��رق خمتلفة‪ :‬فالروح ال ميك ��ن معرفتها �إال‬ ‫عن طري ��ق العقل وحده‪ ،‬بينم ��ا ميكن معرفة‬ ‫اجل�س ��م بوا�سط ��ة العق ��ل واملخيلة مع ��ا و�إن‬ ‫كان ��ت معرفت ��ه باملخيلة �أح�س ��ن‪ .‬و�أما وحدة‬ ‫ال ��روح والبدن ف�إن خ�ي�ر و�سيلة للإحاطة بها‬ ‫هي امللكات احل�سية‪.‬‬ ‫والبد م ��ن الإ�ش ��ارة هن ��ا �إىل وج ��ود قراءات‬ ‫خمتلفة مل�ضم ��ون هذه الر�سائ ��ل‪ .‬يرى بع�ض‬ ‫املحلل�ي�ن �أن مفه ��وم الإن�سان ج ��اء يف املرتبة‬ ‫الثالث ��ة بع ��د مفه ��وم ال ��ذات املفك ��رة ومفهوم‬ ‫االمت ��داد‪ ،‬ورمب ��ا احت ��ل املرتب ��ة الرابع ��ة �إذا‬ ‫�أخذنا بعني احل�سبان مفهوما �آخر �أكرث بدائية‬ ‫م ��ن املفاهي ��م الأولي ��ة الأخرى‪ ،‬وه ��و مفهوم‬ ‫الله‪ ،‬الذي يعترب بداي ��ة كل �شيء يف الفل�سفة‬ ‫الديكارتي ��ة‪ .‬وذه ��ب �أ�صحاب ه ��ذا الر�أي �إىل‬ ‫�أن مفه ��وم الإن�س ��ان هو مفه ��وم مركب يجمع‬ ‫ب�ي�ن مفه ��وم ال ��روح ومفه ��وم الب ��دن‪ .‬ولذلك‬ ‫ع� �دّوا مفهوم الإن�سان‪ ،‬الذي هو وحدة الروح‬ ‫والب ��دن‪ ،‬مفهوما م�شتقا ولي�س مفهوما �أوليا‪.‬‬ ‫ومم ��ا يرتتب عن ذلك �أن الفل�سف ��ة الديكارتية‬ ‫لي�س ��ت فل�سف ��ة �إن�سانية بالأ�سا� ��س‪ ،‬بل ميكن‬ ‫ت�صنيفه ��ا �ضم ��ن الفل�سف ��ات ذات النزع ��ة‬ ‫امل�ضادة للإن�سان ‪،anti-humanisme‬‬ ‫واملق�ص ��ود بذلك الفل�سف ��ات التي ال جتعل من‬ ‫فك ��رة الإن�س ��ان مبد�أه ��ا الأول‪ ،‬وتك ��ون بذلك‬ ‫�أقرب �إىل الالهوت منها �إىل الفل�سفة‪.‬‬ ‫وتنطل ��ق القراءة الثانية م ��ن مالحظة مفادها‬ ‫�أنه لي� ��س يف منطوق الر�سالت�ي�ن ما يدل على‬ ‫�أن مفه ��وم الإن�س ��ان باعتب ��اره وح ��دة الروح‬ ‫واجل�س ��د م�شتق م ��ن مفهوم ال ��روح ومفهوم‬ ‫البدن‪ .‬ويرى �أ�صحاب هذا االجتاه �أن ديكارت‬ ‫ح�س ��م يف الأم ��ر ومل ي�ت�رك الب ��اب مفتوح ��ا‬ ‫للت�أوي ��ل حني �صرح ب�أن كل واحد من املفاهيم‬ ‫الث�ل�اث (الفك ��ر واالمت ��داد ووح ��دة ال ��روح‬ ‫والب ��دن) ه ��و مفه ��وم �أويل وال ميك ��ن فهم ��ه‬ ‫بالت ��ايل �إال باالنطالق منه هو ذاته ولي�س من‬ ‫غ�ي�ره‪ ،‬وب�أن �إدراك كل مفه ��وم يتطلب طريقة‬ ‫خا�ص ��ة‪ ،‬وال ميك ��ن �إذراك م�ضمون ��ه ال ��داليل‬ ‫م ��ن خالل �إج ��راء مقارنة بينه وب�ي�ن املفاهيم‬ ‫الأخ ��رى‪ .‬وعلي ��ه‪ ،‬ف�إن �إدراك حقيق ��ة الإن�سان‬ ‫باعتب ��اره وح ��دة الروح واجل�س ��د ال ي�شرتط‬ ‫م�سبق ��ا توفر املعرفة الوا�ضح ��ة املتميزة بكل‬ ‫من الروح واجل�سد‪ ،‬ذل ��ك لأن مفهوم الإن�سان‬ ‫لي� ��س مزيج ��ا م ��ن ال ��روح وامل ��ادة‪ ،‬ولكن ��ه‬ ‫وح ��دة �أو كلية متثل واقع ��ا قائما بذاته‪ .‬ومع‬ ‫ذل ��ك ميكن للعق ��ل �أن ميي ��ز يف ه ��ذه الوحدة‬ ‫�أو الكلي ��ة عل ��ى �سبي ��ل التجري ��د ب�ي�ن الروح‬ ‫واجل�س ��د‪ .‬ومن ثم ��ة �أمكن القول ب� ��أن مفهوم‬ ‫الإن�س ��ان هو م ��ن املفاهيم الأولي ��ة الأ�سا�سية‬ ‫الت ��ي تق ��وم عليه ��ا امليتافيزيق ��ا الديكارتي ��ة‬ ‫وب�أن الفل�سفة الديكارتية هي من حيث العمق‬ ‫فل�سفة �إن�سانية‪.‬‬ ‫وتتجل ��ى نزعتها الإن�ساني ��ة يف تركيزها على‬ ‫فك ��رة الكم ��ال الإن�ساين الت ��ي متيزها متييزا‬ ‫وا�ضح ��ا ع ��ن الالهوت‪ .‬ولكن �إمي ��ان ديكارت‬ ‫بفك ��رة الكمال الإن�س ��اين جلب ��ت عليه �سخط‬ ‫رجال الدين وعلماء الالهوت من ال�سكوالئيني‬ ‫الذين ت�سببوا له متاعب كثرية‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪10‬‬

‫العدد (‪)2243‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )10‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2243‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )10‬أيلول ‪2011‬‬

‫ماهية اإلغتراب في فلسفة ديكارت‬ ‫حممد �سليمان ح�سن‬ ‫قد ر�أى ديكارت "�أن فكرة (الكمال الالمتناهي)‬ ‫هي البداهة الوا�ضحة املتميزة"‪ .‬وهكذا كان‬ ‫اليقني الث ��اين نحو الله‪�" .‬إن العامل ال يحتاج‬ ‫�إىل �شه ��ادة خارجي ��ة‪ .‬ب ��ل الع ��امل ه ��و الذي‬ ‫يك ��ون ب�شهادة م ��ن الله‪ ،‬و �إال حتط ��م و�صار‬ ‫�أ�ضغاث �أحالم‪� .‬أخ ��ذ ال�سماء منحدر ًا له نحو‬ ‫الأر� ��ض"‪ .‬وق ��د ا�ستخ ��رج من فك ��رة (الكمال‬ ‫الالمتناه ��ي) براه�ي�ن ثالثة عل ��ى وجود الله‬ ‫كمب ��دع جلمي ��ع الأ�شياء يف الك ��ون‪ :‬الربهان‬ ‫الكين ��وين ‪ -‬الربه ��ان الوج ��ودي ‪ -‬الربهان‬ ‫ال�شخ�ص ��اين‪ .‬اعتق ��د "دي ��كارت"‪�" :‬أن الفكر‬ ‫وح ��ده ب�إمكان ��ه �أن يقن ��ع الب�ش ��ر بقب ��ول‬ ‫احلقائ ��ق الديني ��ة والأخالقي ��ة الت ��ي كان‬ ‫يراه ��ا �أ�سا�س احل�ض ��ارة‪ .‬الإميان مل يخربنا‬ ‫ب�ش ��يء ال ميكن �إي�ضاح ��ه عقالني� � ًا‪ .‬القدي�س‬ ‫(بول� ��ص) �شخ�صي ًا قد �أك ��د يف الف�صل الأول‬ ‫من ر�سالته �إىل الرومان‪� :‬أن ما ميكن معرفته‬ ‫ع ��ن الله �أمر وا�ضح متام ًا للب�شر لأن الله ذاته‬ ‫جعله وا�ضح ًا‪ ...‬ويتاب ��ع ديكارت قوله‪�" :‬إن‬ ‫بالإم ��كان معرفة الل ��ه ب�سهول ��ة وبيقني �أكرب‬ ‫م ��ن �أي �شيء من الأ�شياء الأخرى يف الكون"‬ ‫�إن �شعوري بوج ��ود العامل‪ ،‬هو هبة من الله‪.‬‬ ‫فالله ال ي�ضع َّ‬ ‫يف مثل هذا ال�شعور‪ ،‬لو مل يكن‬ ‫هن ��اك ثمة مو�ض ��وع‪ .‬فه ��و ‪ -‬الل ��ه ‪� -‬صادق‪.‬‬ ‫وبالت ��ايل فال�شع ��ور بوجود الع ��امل لي�س من‬ ‫�إرادتي ب ��ل من �إرادة الل ��ه‪ .‬والإميان بوجود‬ ‫الع ��امل ي�ستلزم معرفة ماهيت ��ه‪ .‬فالعامل مادة‪،‬‬ ‫امل ��ادة حت ��وذ �صفة االمت ��داد‪ .‬فامل ��ادة جوهر‬ ‫م�ستق ��ل ع ��ن جوه ��ر النف� ��س‪ .‬و�إن كان علينا‬ ‫�أن نفه ��م االمتداد عند "دي ��كارت" فهو املعنى‬ ‫املج ��رد ال احل�س ��ي‪ ،‬والذي يتمي ��ز مبجموعة‬ ‫من اخل�صائ�ص هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬ان ��ه ف�ضاء غ�ي�ر حمدود‪ ،‬ال يحي ��ط به �إ ّال‬ ‫امت ��داد �آخر‪ .‬فه ��و �إذن المتن ��اه‪ ،‬ن�ستطيع �أن‬ ‫نتذه ��ن وراءه امتداد ًا ثاني� � ًا وثالث ًا �إىل ما ال‬ ‫نهاية‪.‬‬

‫‪ -2‬انه متجان�س يق�سم على �أجزاء‪.‬‬ ‫‪ -3‬ان ��ه مادة‪ ،‬كما �أن املادة امتداد‪ ،‬وال وجود‬ ‫للخالء‪� ،‬إذ اخلالء مادة‪.‬‬ ‫‪ -4‬انه امت�ل�اء‪ .‬وحركة الأج�س ��ام تف�سر �أنها‬ ‫حرك ��ة دائري ��ة‪� .‬إذن‪ ،‬االمت ��داد حم� ��ض مادة‬ ‫واحلركة حم�ض امتداد‪ .‬وهي ذات خ�صائ�ص‬ ‫تلخ�ص ب�ست قواعد هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬مل توج ��د احلرك ��ة �إال ب�أمر الله‪ ،‬لأن املادة‬ ‫جامدة بالأ�صل‪.‬‬ ‫‪ -2‬احلركة ذات اجتاه تتخذه‪ ،‬و�سرعة ت�سري‬ ‫مبوجبها‪.‬‬ ‫‪ -3‬ال تزي ��د احلرك ��ة وال تنق�ص لأنها من الله‬ ‫والله ال يتغري‪.‬‬ ‫‪ -4‬كل �شيء يبقى على حاله ما دام مل يعر�ض‬ ‫له ما يغريه‪.‬‬ ‫‪ -5‬كل ج�س ��م متحرك ال ميي ��ل �إىل البقاء يف‬ ‫حركته على خط م�ستقيم‪.‬‬ ‫‪� -6‬إذا التق ��ى اجل�سم املتحرك ج�سم ًا �أ�ضعف‬ ‫من ��ه‪ ،‬ف�إنه يفقد م ��ن احلركة مق ��دار ما يعطي‬ ‫اجل�سم الأ�ضعف‪.‬‬ ‫ً‪ - 7‬يف الأخ�ل�اق الديكارتية‪ :‬ق�سم الباحثون‬ ‫الأخالق الديكارتية على ثالثة �أق�سام‪ :‬امل�ؤقتة‬ ‫والعلمية والكاملة‪.‬‬ ‫الأخ�ل�اق امل�ؤقت ��ة‪ :‬ه ��ي �أخ�ل�اق جتريبي ��ة‪،‬‬ ‫تدفع الإن�س ��ان �إىل �إمتام واجبات ��ه‪� .‬إنه عمل‬ ‫معق ��ول ‪ Raisonnable‬ال عم ��ل عق�ل�اين‬ ‫‪ .Rationel‬ه ��ذه الأخالق امل�ؤقتة ت�شتمل‬ ‫على ثالث حكم �أو �أربع هي‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬احلكمة الأوىل‪ :‬يقول "ديكارت" يف الق�سم‬ ‫الثال ��ث م ��ن مقالته‪" :‬تق ��وم حكمت ��ي الأوىل‬ ‫عل ��ى �أن �أخ�ضع لقوان�ي�ن ب�ل�ادي‪ ،‬وعاداتها‪،‬‬ ‫حمتفظ� � ًا بالديان ��ة الت ��ي �أنع ��م الله عل � ّ�ي ب�أن‬ ‫ربي ��ت فيه ��ا من ��ذ طفولت ��ي‪ .‬و�أن �أمت�س ��ك يف‬ ‫الأم ��ور الأخرى‪ ،‬ب�أكرث الآراء اعتدا ًال‪ ،‬واقلها‬ ‫�إفراط� � ًا‪ ،‬مم ��ا �أتف ��ق على الأخذ ب ��ه يف ميدان‬ ‫علي �أن �أعي�ش معهم‪،‬‬ ‫العم ��ل‪� .‬أعقل الذين كان ّ‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫جامعة ديكارت‬ ‫فقد تبني يل ‪ -‬منذ ذلك احلني‪ ،‬الذي بد�أت فيه‬ ‫�أن ال �أقي ��م وزن ًا لآرائي اخلا�ص ��ة‪ ،‬رغبة مني‬ ‫يف و�ضعه ��ا كلية مو�ضع االختبار ‪� -‬إنه لي�س‬ ‫يف مقدوري �أن �أعمل خري ًا من االقتداء ب�آراء‬ ‫�أعق ��ل النا�س‪ .‬ل ��ذا عقدت النية عل ��ى �أن �أ�سري‬ ‫يف خط� ��أ الذي ��ن كان عل � ّ�ي �أن �أعي� ��ش بينهم‪.‬‬ ‫و�إن كان قد بدا يل �أن عند الفر�س وال�صينيني‬ ‫م ��ا عندنا من �أ�صحاب العق ��ول‪ .‬ثم تيقنت �أنه‬ ‫يج ��ب ‪ -‬ك ��ي �أقف عل ��ى حقيق ��ة �آرائه ��م ‪� -‬أن‬ ‫�أنظ ��ر �إىل ما يفعل ��ون‪ ،‬ال �إىل ما يقولون‪ ،‬لأن‬

‫ف�س ��اد �أخالقن ��ا � ّ‬ ‫أقل ع ��دد ًا من الذي ��ن يقولون‬ ‫كل ما يعتق ��دون‪ .‬ولأن الكثريين يجهلون هم‬ ‫�أنف�سه ��م م ��ا يعتق ��دون‪ .‬ذل ��ك‪ ،‬لأن الفكر الذي‬ ‫نع ��رف به ال�ش ��يء‪ ،‬يختل ��ف عن الفك ��ر الذي‬ ‫نع ��رف به �أننا نع ��رف هذا ال�ش ��يء‪ .‬ولأن ك ًال‬ ‫من هذين الفكرين غالب ًا ما يكون دون الآخر‪.‬‬ ‫وق ��د اخ�ت�رت م ��ن ب�ي�ن الآراء املقبول ��ة عل ��ى‬ ‫ال�س ��واء‪� ،‬أكرثها اعتدا ًال‪ ،‬لأنه ��ا الأي�سر دائم ًا‬ ‫للتطبي ��ق‪ ،‬والأح�س ��ن عل ��ى الأرج ��ح‪ ،‬ما دام‬ ‫الإفراط �سيئ ًا‪ .‬ولأنني �أظل �أقرب �إىل ال�سبيل‬

‫وثيقة تخرج ديكارت‬ ‫القومي ‪� -‬إذا وقعت يف اخلط�أ ‪ -‬مما لو اتبعت‬ ‫�أح ��د الطرفني‪ ،‬وك�أن ال�سبي ��ل‪ ،‬الذي يجب �أن‬ ‫�آخذ به هو ال�سبيل الآخر"‪.‬‬ ‫ب‪ -‬احلكم ��ة الثاني ��ة‪ :‬يق ��ول "دي ��كارت" يف‬ ‫الق�س ��م الثال ��ث م ��ن مقالت ��ه‪" :‬تق ��وم حكمتي‬ ‫الثاني ��ة‪ ،‬عل ��ى �أن �أك ��ون جه ��د ا�ستطاعت ��ي‪،‬‬ ‫جازم ًا �صامد ًا يف �أعمايل‪ .‬و�أن �أمت�سك ب�أكرث‬ ‫الآراء �شك ًا‪ ،‬بعد �أن �أكون قد اقرتبت منها‪ ،‬كما‬ ‫ل ��و كانت م�ؤكدة للغاية‪ .‬مثل ��ي يف هذا العمل‬ ‫مثل امل�سافرين‪ ....‬ينبغي لهم �أن ي�سريوا يف‬

‫جهة واحدة‪"...‬‬ ‫ج‪ -‬احلكم ��ة الثالث ��ة‪ :‬يق ��ول "دي ��كارت" يف‬ ‫الق�س ��م الثالث من مقالت ��ه‪�" :‬أن �أغالب نف�سي‪،‬‬ ‫دائم� � ًا‪ ،‬ال �أن �أغال ��ب احل ��ظ‪ ...‬عل � ّ�ي �أن �أغري‬ ‫رغباتي‪ ،‬ال �أن �أغ�ي�ر نظام الكون‪ .‬وباجلملة‪،‬‬ ‫عل � ّ�ي �أن �أتع ��ود االعتق ��اد �أن ��ه ال �ش ��يء يف‬ ‫متن ��اول قدراتن ��ا متام ًا �س ��وى �أفكارنا‪ .‬نحن‬ ‫عاج ��زون كل العجز عن �أن نحق ��ق ما ال نقدر‬ ‫علي ��ه م ��ن الأ�شي ��اء اخلارجي ��ة بع ��د �أن نبذل‬ ‫خ�ي�ر ما يف طاقتنا‪ .‬وقد بدا يل �أنّ هذا وحده‬ ‫كاف ليعي ��دين عن �أن �أريد يف امل�ستقبل �شيئ ًا‬ ‫كاف‬ ‫ال ميكنن ��ي احل�ص ��ول علي ��ه‪ .‬كم ��ا �أن ��ه ٍ‬ ‫ليجعلني را�ضي ًا مبا �أنا فيه‪"...‬‬ ‫د‪ -‬احلكمة الرابعة‪ :‬يقول "ديكارت" ثم �أردت‬ ‫نتيج ��ة لهذه الأخ�ل�اق‪� ،‬أن ا�ستعر�ض م�شاغل‬ ‫النا� ��س املختلف ��ة يف ه ��ذه احلي ��اة‪ ،‬لأخت ��ار‬ ‫�أف�ضله ��ا‪ ،‬ولئن كنت ال �أقول �شيئ ًا عن م�شاغل‬ ‫الآخرين‪ ،‬فق ��د ر�أيتني عاج ��ز ًا �أن �أفعل خري ًا‬ ‫م ��ن املثابرة عل ��ى العمل الذي اهتدي ��ت �إليه‪.‬‬ ‫�أي �أن �أنف ��ق كل حياتي يف تثقيف عقلي‪ ،‬و�أن‬ ‫�أتقدم قدر امل�ستطاع يف معرفة احلقيقة‪ ،‬تبع ًا‬ ‫للمنهج الذي خططته لنف�سي‪.‬‬ ‫ً‪ -2‬الأخ�ل�اق العلمي ��ة‪ :‬هي �أخ�ل�اق �إيجابية‪،‬‬ ‫خ ��ارج الزم ��ان وامل ��كان‪ .‬مو�ضوع ��ة لت�صبح‬ ‫يف متن ��اول كل �إن�سان‪ .‬ف�إىل �أي �شيء ت�ستند‬ ‫ه ��ذه الأخ�ل�اق العلمية؟ يف نظ ��ر "ديكارت"‪:‬‬ ‫"�إن غاية الفل�سفة يجب �أن ترمي �إىل �سعادة‬ ‫امل ��رء" وق ��د نظر دي ��كارت �إىل اجل�س ��د نظرة‬ ‫�إيجابي ��ة‪� ،‬إذ ق ��ال‪�" :‬إن تعا�ستن ��ا من ��ه "ث ��م‬ ‫ق ��ال" �أن �سعادتن ��ا من ��ه"‪ .‬الأخ�ل�اق العلمي ��ة‬ ‫كم ��ا ت�صورها" ديكارت" ه ��ي" مبثابة قانون‬ ‫�صح ��ي ميك ��نّ الإن�س ��ان م ��ن ال�سيط ��رة على‬ ‫الأه ��واء والتحرر منها لتوجيه عواطفه نحو‬ ‫ال�سعادة املطلوبة"‪.‬‬ ‫ً‪ -3‬الأخ�ل�اق النهائي ��ة‪ :‬عل ��ى كل �إن�س ��ان �أن‬ ‫يتقيد بالأخالق النهائية‪ .‬وقد ذكر" ديكارت"‬ ‫قواعدها يف ر�سالة له �إىل الأمرية" �أليزابيت"‬ ‫بتاري ��خ ‪�/4‬آب‪1645/‬م‪ /‬ق ��ال مع ��دد ًا قواعد‬ ‫ثالث هي‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬ينبغ ��ي لنا �أن ن�ستخدم دائم ًا عقولنا‪ ،‬قدر‬ ‫امل�ستطاع‪� ،‬أن نعرف ما يجب عمله �أو رف�ضه‪،‬‬ ‫يف جمي ��ع ظروف احلي ��اة‪ .‬ب‪ -‬ينبغي لنا �أن‬ ‫نعق ��د نيّة �صامدة‪ ،‬ثابت ��ة‪ ،‬على �إجناز كل من‬ ‫ين�صحن ��ا العقل به‪ ،‬ف�ل�ا مني ��ل ب�أهوائنا من‬ ‫�إر�شاداته‪ .‬ج‪ -‬ينبغي لنا �أن نعترب‪ ،‬ما �أمكننا‬ ‫ذل ��ك‪ ،‬ونحن ن�سلك ه ��ذا الطري ��ق على �ضوء‬ ‫العقل‪ ،‬كون اخل�ي�رات التي تتجاوزنا لي�ست‬ ‫يف متناول يدنا‪� .‬إذن يجب �أن ال نفكر بها وال‬ ‫نرغب فيها‪ .‬ثامن ًا ‪ -‬ماهية الإن�سان يف فل�سفة‬

‫ديكارت‪ :‬ي�ؤكد ديكارت على �أنه من ال�ضروري‬ ‫�أن يتعاي� ��ش العقل مع الذات‪ .‬هذه هي ماهية‬ ‫الإن�س ��ان‪ .‬فع ��امل احلوا� ��س ع ��امل خ ��داع‪،‬‬ ‫ومعطي ��ات التجربة غري يقينية‪� .‬إذ يكتب يف‬ ‫الق�س ��م الراب ��ع م ��ن املقالة‪" :‬فعرف ��ت من ذلك‬ ‫�أنن ��ي جوه ��ر كل ماهيت ��ه �أو طبيعته ال تقوم‬ ‫�إال على الفكر‪ ،‬وال يحتاج يف وجوده �إىل �أي‬ ‫مكان‪ ،‬وال يتعلق ب�أي �شيء مادي‪ ،‬مبعنى �أن‬ ‫" الأنا "�أي النف�س التي �أنا بها ما �أنا‪ ،‬متميزة‬ ‫متام التمييز عن اجل�سم‪ ،‬ال بل �إن معرفتنا به‬ ‫�أ�سهل‪ ،‬ولو بطل وجود اجل�سم على الإطالق‪،‬‬ ‫لظل ��ت النف� ��س موج ��ودة بتمامه ��ا"‪ .‬وبر�أي‬ ‫ديكارت ف�إن جدل العالقة بني الإن�سان والله‪،‬‬ ‫�أو بني الأنطولوج ��ي الإن�ساين امليتافيزيقي‬ ‫ال تت ��م م ��ن خ�ل�ال الأنطولوج ��ي الإن�ساين‪،‬‬ ‫بل من خ�ل�ال امليتافيزيق ��ي املوجود يف هذا‬ ‫الأنطولوج ��ي‪ .‬يق ��ول يف الق�س ��م الرابع من‬ ‫املقال ��ة‪" :‬ف�ل�اح يل �أن �أبحث من �أين ت�أتى يل‬ ‫�أن �أفكر يف �شيء �أكمل مني‪ ،‬فعرفت بالبداهة‬ ‫�أن ذل ��ك يرج ��ع �إىل وج ��ود طبيع ��ة ه ��ي يف‬ ‫احلقيق ��ة �أكمل‪ ...‬يف هذا الت�ص ��ور يدفع بنا‬ ‫ديكارت �إىل �إلغ ��اء العقل املو�ضوعي باجتاه‬ ‫العق ��ل الذات ��ي‪ ،‬وبالتايل وحداني ��ة احلقيقة‬ ‫وفرادته ��ا‪ ،‬وعدم خ�ضوعه ��ا للعقل اجلمعي‪.‬‬ ‫يقول ديكارت ب�ش�أن الذات يف الت�أمل الرابع‪:‬‬ ‫"لي� ��س هناك �سوى الإرادة التي �أجربها ّ‬ ‫يف‬ ‫به ��ذا الكرب حتى �إنن ��ي ال �أعرف ما هو �أو�سع‬ ‫منه ��ا وما هو �أكرث امت ��داد ًا‪ ..‬بحيث �إنها هي‬ ‫الت ��ي تعرفن ��ي بخا�ص ��ة �أنني �أحم ��ل �صورة‬ ‫الل ��ه و�شبهه "هذا ما دفع دي ��كارت �إىل و�ضع‬ ‫(الكرم) فوق كل �ش ��يء كقيمة معيارية‪.‬وهو‬ ‫ي�ؤك ��د ذل ��ك يف كتابه" �أه ��واء النف�س" قائ ًال‪:‬‬ ‫"�أعتقد �أن الكرم احلق الذي يجعل الإن�سان‬ ‫يح�ت�رم نف�سه �إىل �أعلى ح ��د ميكن �أن يحرتم‬ ‫نف�س ��ه في ��ه ب�شكل مربر‪ ،‬يق ��وم يف جزء منه‪،‬‬ ‫عل ��ى �أن ��ه ال �ش ��يء يخ�ص ��ه حق� � ًا �س ��وى هذا‬ ‫الت�ص ��رف احلر ب�إرادت ��ه و �إال ملاذا ينبغي �أن‬ ‫يالم �إن مل يكن لأنه �أح�سن �أو �أ�ساء الت�صرف‬ ‫به ��ا‪ ،‬ويق ��وم يف جزء �آخ ��ر‪ ،‬على �أن ��ه يح�س‬ ‫يف ذات ��ه بع ��دم ثاب ��ت ودائ ��م يف �أن يح�س ��ن‬ ‫الت�ص ��رف به ��ا‪� ،‬أي �أن ال تع ��وزه الإرادة �أبد ًا‬ ‫ليبا�ش ��ر وينف ��ذ جمي ��ع الأ�شياء الت ��ي يراها‬ ‫�أف�ضل �شيء‪ ،‬وذلك يعني �أن يتبع متام ًا درب‬ ‫الف�ضيل ��ة"‪� .‬إذ ًا‪ ،‬املعرف ��ة العقالني ��ة وجان ��ب‬ ‫الإرادة وحري ��ة االختي ��ار‪ ،‬ال تتعار�ض ��ان‪،‬‬ ‫لأن الإن�س ��ان ككائن مفكر كم ��ا يقول ديكارت‬ ‫يف الق�س ��م الرابع م ��ن املقالة‪�" :‬ش ��يء ي�شك‪،‬‬ ‫ويت�صور‪ ،‬ويت�أكد‪ ،‬ويفكر‪ ،‬ويريد‪ ،‬وال يريد‪،‬‬ ‫ويتخيل �أي�ض ًا ويح�س‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫�أهـــم �أفكـــاره‬ ‫نظرية املعرفة‬

‫�شك ديكارت يف املعرفة احل�سية �سواء منها الظاهرة �أو الباطنة‪،‬‬ ‫وكذلك يف املعرفة املت�أتية من عامل اليقظة‪ ،‬كما �شك يف قدرة العقل‬ ‫الريا�ضي على الو�صول �إىل املعرفة‪ ،‬و�شك يف وجوده‪ ،‬ووجود‬ ‫العامل احل�سي‪� ،‬إىل �أن �أ�صبح �شكه دليال عنده على الوجود‪ ،‬فقال‬ ‫"كلما �شككت ازددت تفكريا فازددت يقينا بوجودي"‪.‬‬ ‫املنهج الديكارتي‬

‫هو املنهج اجلديد يف الفل�سفة‪ ،‬وب�سببه ُ�سمي ديكارت بـ(�أبو‬ ‫الفل�سفة احلديثة) ‪ ،‬ويقوم املنهج الديكارتي على �أ�سا�سني‪ ،‬هما‪:‬‬ ‫‪ -1‬البداهة‪� :‬أي الت�صور الذي يتولد يف نف�س �سليمة منتبهة عن‬ ‫جمرد الأنوار العقلية‪.‬‬ ‫‪ -2‬اال�ستنباط‪� :‬أي العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية‬ ‫�إىل نتيجة �أخرى ت�صدر عنها بال�ضرورة‪.‬‬ ‫الثنائية الديكارتية‬

‫يفرق ديكارت بني النف�س واجل�سد‪ ،‬ويرى �أنهما جوهران خمتلفان‬ ‫متاما‪ ،‬ويقول‪�":‬إنني ل�ست مقيما يف ج�سدي كما يقيم املالح يف‬ ‫�سفينته‪ ،‬ولكنني مت�صل به ات�صاال وثيقا‪ ،‬وخمتلط به بحيث �أ�ؤلف‬ ‫معه وحدة منفردة‪ ،‬ولو مل يكن الأمر كذلك‪ ،‬ملا �شعرت ب�أمل �إذا‬ ‫�أ�صيب ج�سدي بجرح‪ ،‬ولكني �أدرك ذلك بالعقل وحده‪ ،‬كما يدرك‬ ‫املالح بنظرة �أي عطب يف ال�سفينة"‪.‬‬

‫اهلل‬

‫يعتقد ديكارت �أن الله ي�شبه العقل من حيث �إن الله والعقل يفكران‬ ‫ولكن لي�س لهما وجود مادي �أو ج�سمي‪� ،‬إال �أن الله يختلف عن‬ ‫العقل ب�أنه غري حمدود‪ ،‬و�أنه ال يعتمد يف وجوده على خالق �آخر‪،‬‬ ‫ويقول‪�":‬إنني �أدرك بجالء وو�ضوح وجود �إله قدير وخري لدرجة‬ ‫ال حدود لها"‪.‬‬

‫الأخــــالق‬

‫جعل ديكارت علم الأخالق ر�أ�س احلكمة‪ ،‬وتاج العلوم‪ ،‬و�أنه‬ ‫البد من االطالع على كل العلوم قبل اخلو�ض يف علم الأخالق‪،‬‬ ‫وقال‪":‬مثل الفل�سفة كمثل �شجرة جذورها امليتافيزيقيا‪ ،‬وجذعها‬ ‫العلم الطبيعي‪ ،‬و�أغ�صانها بقية العلوم‪ ،‬وهذه ترجع �إىل ثالثة‬ ‫علوم كربى‪ ،‬هي‪ :‬الطب‪ ،‬وامليكانيكا‪ ،‬والأخالق العليا الكاملة‪،‬‬ ‫وهذه الأخرية تتطلب معرفة تامة بالعلوم الأخرى‪ ،‬وهي �أعلى‬ ‫مراتب احلكمة"‪.‬‬

‫�أهم م�ؤلفاته‬

‫كتب ديكارت ثالثة م�ؤلفات رئي�سية‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫‪ -1‬ر�سالة يف منهج الت�صرف العقلي ال�سليم للمرء والبحث عن‬ ‫احلقيقة يف العلوم �أو ر�سالة يف املنهج (‪1637‬م)‪.‬‬ ‫‪ -2‬ت�أمالت يف الفل�سفة الأوىل (‪1641‬م)‪.‬‬ ‫‪ -3‬مبادئ الفل�سفة (‪1644‬م)‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫‪13‬‬

‫مش��روع ديكارت الفلس��في وإعادة‬ ‫ترتيب الوجود‬ ‫اىل جع ��ل الطبيع ��ة والع ��امل واملوج ��ودات‬ ‫ماه ��ي اال ت�ص ��ورات يف اذهانن ��ا ال متل ��ك‬ ‫الوجود الواقعي‪ ،‬هناك احلركة والكثافة اما‬ ‫الوج ��ود الواقع ��ي واملح�سو�س فان ��ه يرتبط‬ ‫بالعقل فح�سب‪ .‬الي� ��س يف ذلك الأمر حماولة‬ ‫اويل يف ت�أ�سي� ��س" مركزي ��ة االن�س ��ان" م ��ن‬ ‫خ�ل�ال جع ��ل م�ص ��ادر املوج ��ودات الطبيعية‬ ‫يف اذهانن ��ا وان الع ��امل الطبيع ��ي حتكم ��ه‬ ‫القوان�ي�ن امليكانيكية من جه ��ة وكذلك ن�سيان‬ ‫للطبيع ��ة ذاتها من خالل ذلك املحو ملا موجود‬ ‫من طبيعة واثره ��ا كالطعم والرائحة واللون‬ ‫واحلي ��اة واجلماد‪ ..‬الخ من جهة اخرى‪ ،‬فكل‬ ‫ه ��ذه ال مت ��ت ب�صلة اىل الع ��امل الطبيعي‪ ،‬اي‬ ‫�إنه ��ا جمرد �أ�شي ��اء يف �أذهاننا " وان العامل ال‬ ‫يكت�سب تنوعه وثرائ ��ه الكيفي �إال من خاللنا‬ ‫" من جهة اخري (امل�صدر نف�سه‪�/‬ص ‪.)83‬‬

‫دفعة �أ�سا�سية للفل�سفة‬

‫وليد امل�سعودي‬

‫يعد ريني ��ه ديكارت (‪ 1596‬ـ� �ـ ‪ )1650‬واحدا‬ ‫م ��ن الفال�سف ��ة الذي ��ن لعب ��وا دورا كب�ي�را يف‬ ‫تغيري م�س ��ارات الفل�سفة الغربي ��ة من �سيادة‬ ‫وانت�شار النزعة الغائي ��ة وامل�سلمات امل�سبقة‬ ‫حول الطبيعة واالن�سان اىل النظرة اجلديدة‬ ‫القائم ��ة علىالبح ��ث العلم ��ي احلر م ��ن دون‬ ‫عوائ ��ق اب�ستيمولوجي ��ة معين ��ة‪� ،‬إذ ا�ستف ��اد‬ ‫كث�ي�را من تطوير املنه ��ج الريا�ضي وحماولة‬ ‫تطبيق ��ه علىالطبيع ��ة وامليتافيزيقا واملعرفة‬

‫الب�شري ��ة‪ ،‬بع ��د ان كان ��ت الفل�سف ��ة غارقة يف‬ ‫اال�ش ��كال املدر�سي ��ة التقليدي ��ة الت ��ي تعتم ��د‬ ‫علىالرمز واال�سط ��ورة واملتعالي ��ات االلهية‬ ‫بعي ��دا عن اية ر�ؤي ��ة او نظرة م ��ن املمكن ان‬ ‫تق ��ود اىل التداخ ��ل بني امل ��ادي واملعريف اي‬ ‫ب�ي�ن املنجز العلم ��ي واملعريف ل ��دي االن�سان‬ ‫وب�ي�ن املادي من طبيع ��ة وموجودات حماطة‬ ‫ب�أنظم ��ة فك ��ر وت�ص ��ورات معين ��ة‪ .‬فكان ��ت‬ ‫اخلط ��وة االويل التي خطاه ��ا ديكارت تكمن‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫يف ثنائي ��ة امل ��ادة والعق ��ل ب�صفتهم ��ا عامل�ي�ن‬ ‫خمتلف�ي�ن متنابذي ��ن‪ ،‬من حي ��ث ان االول اي‬ ‫امل ��ادة متلك الكثافة واحلرك ��ة وحيازة املكان‬ ‫وامكاني ��ة القيا� ��س " �ضمن ر�ؤي ��ة ديكارت "‬ ‫ام ��ا العق ��ل فيمل ��ك جاهزي ��ة التفك�ي�ر وغياب‬ ‫احل�ض ��ور املادي اما اخلط ��وة الثانية فتظهر‬ ‫م ��ن خالل مكت�شفات غاليل ��و وكوبرنيك حول‬ ‫حرك ��ة االج�س ��ام ال�سماوية وم ��دي ارتباطها‬ ‫ب�صيغ جدي ��دة معتمدة علىاملنه ��ج الريا�ضي‬

‫حت ��ي ت�ص ��ور دي ��كارت �ضم ��ن ذل ��ك ان الل ��ه‬ ‫ماه ��و �إال ع ��امل هند�س ��ة وان الريا�ضيات هي‬ ‫لغ ��ة العلم‪ ،‬ا�ش ��ارة اىل ما متلك ��ه الأخرية اي‬ ‫الريا�ضي ��ات من دقة متناهية ال يتخللها ال�شك‬ ‫او ع ��دم اليق�ي�ن (مدخ ��ل اىل الفل�سفة‪/‬ج ��ون‬ ‫لوي�س‪/‬املكتب ��ة اال�شرتاكية ــ بريوت‪/‬الطبعة‬ ‫الثالث ��ة � ��ص ‪ .)83‬وهن ��ا يو�ض ��ح دي ��كارت‬ ‫مادي ��ة الع ��امل وطبيعت ��ه املتحرك ��ة من خالل‬ ‫ا�ستخدامه املنهج الريا�ضي الذي يقود بدوره‬

‫فتحولت بذلك العالق ��ة بني االن�سان واملعرفة‬ ‫م ��ن العمودي اىل االفقي اي م ��ن امليتافيزيقا‬ ‫ب�صفتها رائدة للتف�سري والفهم ب�شكل غائي ال‬ ‫يحكمه منط ��ق التطور والتغيري اىل االن�سان‬ ‫الذي يفك ��ر وان ب�أمكان ��ه ان يحقق التجاوز‪،‬‬ ‫وان يك ��ون ذلك االن�سان "�سي ��دا علىالطبيعة‬ ‫ومالكه ��ا الوحيد" ولكن م ��ن املمكن ان ن�شري‬ ‫هن ��ا اىل مفارق ��ة تكمن لدي ذل ��ك ال�سيد الذي‬ ‫حلم به دي ��كارت يف الق ��رن ال�سابع ع�شر كان‬ ‫هنال ��ك نقي�ض ��ه‪ ،‬متمثال يف جمي ��ع املنبوذين‬ ‫واملهم�ش�ي�ن وال�سجن ��اء الذي ��ن يعي�ش ��ون يف‬ ‫ع ��امل ب�ل�ا طبيع ��ة ان�ساني ��ة من خ�ل�ال عملية‬ ‫اجلم ��ع يف م ��كان واح ��د �سجن ��ي يتمث ��ل‬ ‫بامل�شف ��ي الذي اجنز يف الق ��رن ال�سابع ع�شر‬ ‫وال ��ذي جم ��ع الفق ��راء واملجان�ي�ن واملبدعني‬ ‫الذي ��ن ميتلك ��ون معرف ��ة مغاي ��رة لن�س ��ق‬ ‫ال�سلط ��ة ال�سائد حينئذ‪ ،‬ف�ض�ل�ا عن املجرمني‬ ‫واخلارجني ع ��ن القانون علىح ��د �سواء‪ .‬ان‬ ‫دي ��كارت �أعط ��ي من خ�ل�ال ذلك االم ��ر اي من‬ ‫خ�ل�ال هذه املركزي ��ة اجلديدة دفع ��ة ا�سا�سية‬ ‫للفل�سفة يف حتوالتها القادمة من حيث بداية‬ ‫التفك�ي�ر ومركزت ��ه ل ��دي االن�س ��ان ووجوده‬ ‫ومن ثم هنالك املالحظة والتجربة يف احلقب‬ ‫التالي ��ة بعد ديكارت‪� ،‬إذ جند على�سبيل املثال‬ ‫ان (كانت) مل يتبع ا�سلوب ال�شك يف االطاحة‬ ‫بالنظام القدمي للمعرفة م ��ن اجل ان ي�ؤ�س�س‬ ‫�صرح العلم اجلديد ب ��ل كان ذلك االخري اكرث‬ ‫�سيادة ور�سوخا وجاهزي ��ة من حيث املعرفة‬ ‫اجلدي ��دة القائمة علىالعلم واليقني الكلي من‬ ‫النتائ ��ج اجلديدة‪ ،‬فلم تعد احلاجة حينها اىل‬ ‫ال�شك بع ��د ان و�صل ��ت النتائج وال ��ر�ؤي اىل‬ ‫ا�شكال مغاي ��رة وخمتلفة عم ��ا كانت يف زمن‬ ‫ديكارت ال ��ذي كان يهدف اىل ا�ستخدام منهج‬ ‫ال�شك م ��ن اجل حتقيق التج ��اوز والتقدم يف‬ ‫جم ��االت العلم واملعرف ��ة معتم ��دا علىاملادية‬ ‫امليكانيكي ��ة ال�صاع ��دة ومكت�شفاتها اجلديدة‬ ‫(درا�س ��ات يف الفل�سفة‪/‬العل ��م يف الفل�سف ��ة‪/‬‬ ‫حم ��ادي بن جاء بالله‪/‬دار ال�ش� ��ؤون الثقافية‬ ‫العام ��ة ــ بغ ��داد ‪�� �1986‬ص‪.)39‬او كما يقول‬ ‫مي�شيل فوك ��و "ان دي ��كارت �شخ�صية رمزية‬ ‫تبحث ع ��ن اليقني يف م�شروع قاب ��ل ل�ضمانه‬ ‫" خ�صو�ص ��ا وان االن�س ��ان يف زمن ديكارت‬ ‫اي يف الع�ص ��ر الكال�سيك ��ي مل يكن ميلك دور‬

‫اخلال ��ق ورئي�س احلراق�ي�ن (ال�صانعني) دور‬ ‫حمف ��وظ لل ��ه كما ي ��ري فوك ��و ب ��ل كان ميلك‬ ‫املرتبة الثاني ��ة اي دور الق ��درة علىالتف�سري‬ ‫والتو�ضي ��ح ولي�س ال�سيط ��رة واالبداع التي‬ ‫حتقق ��ت فيما بعد من خ�ل�ال امتالك الو�ضوح‬ ‫يف املفاهي ��م متمثال يف كوجيتو ديكارت (انا‬ ‫افك ��ر ـ� �ـ اذن ان ��ا موج ��ود) (مي�شي ��ل فوكو‪...‬‬ ‫م�س�ي�رة فل�سفية‪/‬اوب�ي�ر دريفو� ��س ـ� �ـ ب ��ول‬ ‫رابينوف‪/‬مرك ��ز االمن ��اء القومي‪/‬ب�ي�روت ــ‬ ‫لبنان �ص ‪ 24‬ــ ‪.)25‬‬

‫ديكارات يرتاجع!‬

‫يقول املفكر �صادق جالل العظم‪ :‬ان "ديكارت‬ ‫مل يك ��ن توفيقي ��ا علىطريق ��ة الآراء ال�شائعة‬ ‫ب�ش� ��أن التوفي ��ق ب�ي�ن ر�أي احلكيم�ي�ن او بني‬ ‫ال�شريعة والفل�سفة اوما �شابه ذلك بل انه كان‬ ‫مثل علماء ع�صره قد وجدوا طريقة او اخري‬ ‫للتعاي� ��ش مع املعتق ��دات الديني ��ة والروحية‬ ‫وذل ��ك م ��ن اج ��ل ت�ضيي ��ق رقع ��ة �شموله ��ا‬ ‫وتقلي� ��ص دائ ��رة نفوذه ��ا تدريجي ��ا ل�صال ��ح‬ ‫املادي ��ة امليكانيكي ��ة " (عن الفل�سف ��ة احلديثة‬ ‫وتاريخها‪/‬مقابل ��ة مع �صادق ج�ل�ال العظم‪/‬‬ ‫جمل ��ة درا�سات عربية ــ العددان ‪ 2/1‬ــ ‪1985‬‬ ‫ـ� �ـ � ��ص‪ )95‬وهنا جند ذل ��ك التعب�ي�ر �صحيحا‬ ‫عندم ��ا نع ��ي جي ��دا كي ��ف كان يع ��اين زم ��ن‬ ‫ديكارت من هيمنة "املدر�سيات " اي اال�شكال‬ ‫التقليدي ��ة يف الفهم واملعرف ��ة وخ�صو�صا ما‬ ‫كان ��ت متار�س ��ه �سلط ��ة الكني�سة م ��ن ت�ضييق‬ ‫كب�ي�ر مل�ص ��ادر املعرف ��ة والعل ��م اجلديدي ��ن‬ ‫الل ��ذان عم�ل�ا علىاالطاحة ب�سلطته ��ا الدينية‬ ‫واملعرفي ��ة‪ ،‬ودي ��كارت ذات ��ه ق ��د تراج ��ع عن‬ ‫ن�ش ��ر كتابه " الع ��امل " الذي يوجز فيه طبيعة‬ ‫اال�شي ��اء املادي ��ة وحركته ��ا وفق ��ا للتطورات‬ ‫العلمية احلديثة‪ ،‬عندما �سمع باحلكم القا�سي‬ ‫ال ��ذي �ص ��در �ض ��د غاليلو م ��ن قب ��ل الكني�سة‪.‬‬ ‫�إذ مت تق�سي ��م الع ��امل حينئ ��ذ اىل ثنائي ��ة م ��ن‬ ‫املعرفة والقي ��م او اىل عاملني احدهما مرتبط‬ ‫بالعل ��وم اجلدي ��دة ال�صاع ��دة ومفاهيمها تلك‬ ‫التي ت�شمل‪ ،‬االمتداد‪ ،‬العلة الفاعلة‪ ،‬التكرار‪،‬‬ ‫الك ��م‪ ،‬احلتمية‪ ،‬الق�ص ��ور وال�سكون من جهة‬ ‫واملفاهي ��م املرتبط ��ة بالنف� ��س او ال ��روح تلك‬ ‫التي ت�شمل‪ ،‬الفكر‪ ،‬التباين‪ ،‬الغائية‪ ،‬احلرية‪،‬‬ ‫الكيف وغريها �ضمن االنطولوجيا التقليدية‬ ‫(نف�س امل�صدر‪�/‬ص‪.)95‬‬

‫مفهوم الطبيعة عند ديكارت‬

‫يتح ��دد م ��ن خ�ل�ال املادي ��ة امليكانيكي ��ة التي‬ ‫تعتم ��د علىاملنه ��ج الريا�ض ��ي وذل ��ك االخ�ي�ر‬ ‫ا�ستط ��اع ديكارت ان يطوعه ل�صاحله اىل حد‬ ‫كبري من خ�ل�ال اميانه ب�أن كل ماهو �سائد يف‬ ‫الطبيعة خا�ضع اىل معادالت ريا�ضية جربية‬ ‫�إذ يقول به ��ذا ال�صدد " ان العامل كتاب �صنف‬ ‫بلغ ��ة ريا�ضي ��ة واالن�سان الي�ستطي ��ع‪ ،‬بدون‬ ‫ه ��ذه اللغ ��ة ان يفه ��م كلم ��ة واحدة م ��ن كتاب‬ ‫ه ��ذا الع ��امل " (ريني ��ة ديكارت‪/‬اب ��و الفل�سفة‬ ‫احلديثة‪/‬الدكت ��ور كم ��ال يو�س ��ف احل ��اج‪/‬‬ ‫من�ش ��ورات دار مكتبة احلياة‪/‬الطبعة االويل‬ ‫ـ� �ـ ب�ي�روت ‪ 1954‬ـ� �ـ � ��ص ‪ )180‬وهن ��ا تدخل‬ ‫الآلية يف �صياغة كل ما موجود يف الكون من‬ ‫ا�صغر االج�سام املوجودة اىل اكرثها تعقيدا‬

‫و تركيبا‪ ،‬فاالن�سان على�سبيل املثال هو مادة‬ ‫متحركة بطريق ��ة ريا�ضية جربية ت�سري نحو‬ ‫غاية معينة‪ ،‬وهذه الغاية مقدرة من قبل الله‪،‬‬ ‫وذل ��ك الن املادة جام ��دة اال�صل مل تنبثق فيها‬ ‫احلرك ��ة �إال م ��ن خ�ل�ال االرتب ��اط امليكانيكي‬ ‫الق ��دمي م ��ن قب ��ل املطل ��ق او املح ��رك االول‪،‬‬ ‫وهك ��ذا يوج ��د ما يق ��ف علىنقي� ��ض من هذه‬ ‫امل ��ادة وهو العق ��ل الذي ال يتح ��رك او يلتقي‬ ‫م ��ع املادة‪ ،‬بحي ��ث تنعدم الفاعلي ��ة بني العقل‬ ‫وامل ��ادة‪ ،‬اجل�س ��د وال ��روح يف الطبيعة ذاتها‬ ‫الن وجودهم ��ا قائ ��م علىاالنف�ص ��ال ولي� ��س‬ ‫االت�ص ��ال‪ ،‬االم ��ر ال ��ذي يق ��ود اىل الفو�ض ��ي‬ ‫وعدم التوزان ب�سبب هذه الثنائية التي عمل‬ ‫علىك�شفه ��ا ديكارت بني عامل�ي�ن خمتلفني من‬ ‫جهة‪ ،‬وكذلك تقرير حقيقة ال تنتمي اىل العلم‬ ‫ب�صلة من حي ��ث االعتماد علىو�ضوح االفكار‬ ‫يف العقل املنطقي معتمدا علىالنظرة الذاتية‬ ‫ولي� ��س علىا�سا�س املالحظ ��ة والتجربة التي‬ ‫ا�صبح ��ت ج ��زءا ا�سا�سيا يف مقيا� ��س حقيقة‬ ‫اال�شياء وو�ضوحها يف الفكر العلمي احلديث‬ ‫م ��ن جهة اخ ��ري‪ ،‬وبه ��ذا ال�صدد يق ��ول جون‬ ‫لوي� ��س‪ " :‬ان النظ ��رة الذاتية ه ��ي منبع ذلك‬ ‫الفي�ض من اخلرافات واال�ساطري التي �أملتها‬ ‫علين ��ا ما ُ�سم ��ي باالفكار الوا�ضح ��ة املبا�شرة‬ ‫خ�ل�ال قرن�ي�ن ون�ص ��ف ق ��رن " (مدخ ��ل اىل‬

‫الفل�سفة �ص ‪ )87‬علما ان ديكارت كان بعيدا‬ ‫ع ��ن االهتم ��ام باحلقيق ��ة اهتمام ��ا اكادمييا‬ ‫وبحثي ��ا ب ��ل كان ��ت مرتبط ��ة اي احلقيق ��ة‬ ‫والفل�سف ��ة لديه ك�أ�سل ��وب للحي ��اة والعي�ش‬ ‫وتف�سري العامل مثله مثل افالطون وار�سطو‬ ‫وتوم ��ا االكوين ��ي واليبنت ��ز و�سبين ��وزا‬ ‫وكان ��ط وهيجل‪ .‬ان الطبيع ��ة �ضمن ماديتها‬ ‫ل ��دي دي ��كارت ال حتمل االنغ�ل�اق او النهاية‬ ‫بل متل ��ك االنفتاح الدائ ��م علىمعطيات عامل‬ ‫غري حم ��دد او مغل ��ق �ضمن جاهزي ��ة معينة‬ ‫من القي ��م واملعرف ��ة والتغ�ي�رات والف�ساد‪..‬‬ ‫ال ��خ بل هنالك وحدة القوان�ي�ن التي تخ�ضع‬ ‫لها ه ��ذه الطبيعة بعيدا عن الت�صورات التي‬ ‫كانت ت�ضفيها القرون الو�سطي‪ ،‬تلك املتعلقة‬ ‫بوجود وحتديد العامل وفقا لتدرجات معينة‬ ‫متليها �سلطة معرفية ت�ضبط الزمان واملكان‬ ‫�ضمن �إطارها‪ ،‬بحيث يتحول الب�شر اىل كتل‬ ‫مادي ��ة ال حتم ��ل الت�أث�ي�ر علىعامله ��ا‪ ،‬ما دام‬ ‫ذل ��ك االخري حم ��دد �سلفا وفق ��ا الرادة معينة‬ ‫لديه ��ا احل�ض ��ور والهيمن ��ة اىل ح ��د بعي ��د‪،‬‬ ‫وما عمل ��ه م�شروع ديكارت يكم ��ن يف �إعادة‬ ‫�صياغ ��ة امل ��كان و�إعطائ ��ه �صبغ ��ة هند�سي ��ة‬ ‫جديدة تغ�ي�ر املفهوم القدمي للم ��كان‪ ،‬القائم‬ ‫علىالنظ ��رة االر�سطي ��ة‪ ،‬تلك الت ��ي ت�ؤكد ان‬ ‫املكان متباين االج ��زاء‪ ،‬ليحل حمله املفهوم‬

‫لقد كان ديكارت يعتمد على‬ ‫اال�سا�س الكبري يف منهجه من اجل‬ ‫ان يتو�صل اىل حقائق يقينية‬ ‫بعد انتهاء مراحل ال�شك وذلك‬ ‫اال�سا�س يكمن يف الكوجيتو‬ ‫امل�شهور " �أنا �أفكر ــ اذن انا موجود‪،‬‬ ‫الذي ال ميكن و�صول ال�شك اليه‪،‬‬ ‫النه هو من ي�ستخدم ا�سلوب‬ ‫زعزعة اليقينيات حول جممل‬ ‫الق�ضايا التي تقف حائال دون‬ ‫التفكري وال�س�ؤال وال�شك الفاعل‬ ‫واملتوا�صل‪ ،‬فالكوجيتو هو املناعة‬ ‫احلقيقية التي يتناولها العقل‬ ‫االن�ساين �ضد كل ما ي�صيب ج�سد‬ ‫املعرفة واحلقيقة والعلم من‬ ‫تعثـرات وامرا�ض من �ش�أنها ان‬ ‫تقف دون الو�صول اىل يقني وا�ضح‬ ‫ومعني حول الق�ضايا التي يطرحها‬ ‫ديكارت‪ ،‬وذلك الن الذات ال�شاكة‬ ‫هي ذات مفكرة متلك الوجود عن‬ ‫طريق الفكر‪ ،‬وهنا ي�صل ديكارت‬ ‫اىلمعرفة الوجود عن طريق‬ ‫الفكر‬

‫اجلدي ��د للهند�سة االقليدية الذي يعترب املكان‬ ‫"متجان�س ��ا ال متناهي ��ا‪ ،‬وال ��ذي يعد مطابقا‬ ‫يف بنيته للم ��كان الواقعي " كما يري ذلك (�أ‪.‬‬ ‫كوي ��ري)‪ ،‬االمر ال ��ذي ادي اىل تخل ��ي الفكر‬ ‫العلمي عن جميع االعتب ��ارات التي ال تنتمي‬ ‫اىل املعرف ��ة املو�ضوعي ��ة والعلمية‪ ،‬تلك التي‬ ‫تنتم ��ي اىل جم ��ال القي ��م وت ��درج الكم ��االت‬ ‫االخ ��ري‪ ،‬وبذل ��ك ح ��دث انف�ص ��ال ب�ي�ن عامل‬ ‫الطبيعة وعامل القيم (در�س االب�ستيمولوجيا‬ ‫او نظري ��ة املعرفة‪/‬عبد ال�س�ل�ام بنعبد العاىل‬ ‫�س ��امل يفوت‪/‬الطبع ��ة الثاني ��ة‪/‬دار ال�ش�ؤون‬ ‫الثقافي ��ة ــ بغداد ‪ 1986‬ــ �ص ‪ .)16‬هذا املكان‬ ‫اجلدي ��د جعل االن�سان ي�سيط ��ر علىال�شروط‬ ‫املادي ��ة للطبيع ��ة وي�ستثمره ��ا ل�صاحل ��ه‬ ‫م ��ن حي ��ث وج ��ود العالق ��ة اجلدي ��دة معه ��ا‪،‬‬ ‫تل ��ك الت ��ي متث ��ل يف الت�أث�ي�ر املبا�ش ��ر عليها‪،‬‬ ‫وكذل ��ك اخ�ضاعه ��ا مل�صلحة ال ��كل االجتماعي‬ ‫الب�شري‪،‬م ��ن حي ��ث التط ��ورات والتغ�ي�رات‬ ‫الت ��ي تبا�ش ��ر مل�صلح ��ة االن�سان ذات ��ه‪ ،‬ذلك ما‬ ‫يك�شف ��ه امل�ش ��روع الغرب ��ي احلدي ��ث‪ ،‬بالرغم‬ ‫م ��ن العالق ��ة املزدوج ��ة ب�ي�ن ال ��ذات واالخر‪،‬‬ ‫وهن ��ا ال ��ذات الغربية �ضم ��ن جمالها اخلا�ص‬ ‫اي �ضم ��ن طبيع ��ة التعامل مع االخ ��ر ب�صفته‬ ‫�أداة لال�ستغ�ل�ال واالكت�ش ��اف علىح�ساب ��ه‬ ‫وان مت تخفي ��ف اث ��ر ذلك عرب ع�ص ��ور الحقة‬ ‫ومتغرية بف�ضل الث ��ورات الفكرية والعلمية‪،‬‬ ‫تلك التي ك�شفت مركزية الغرب ب�شكل مهيمن‬ ‫علىاالخري ��ن‪ ،‬وكذلك العالقة م ��ع الآخر غري‬ ‫الغرب ��ي ب�صفته اداة لال�ستغ�ل�ال واخل�ضوع‬ ‫ع�ب�ر ادوات كث�ي�رة تتمث ��ل يف الو�صاي ��ة‬ ‫والهيمنة و�إحلاق االخرين �ضمن تبعية دائمة‬ ‫حتول من �سيطرة االن�سان من حيث اجلوهر‬ ‫علىالطبيع ��ة وحتقيق ال�سع ��ادة والرفاة من‬ ‫دون ت�أث�ي�ر ا�سالي ��ب ال�ص ��راع واال�ستغ�ل�ال‬ ‫بني الب�ش ��ر انف�سه ��م‪ .‬يقول (اندري ��ة ناتاف)‬ ‫" ان نظ ��ام دي ��كارت يقي ��م �أم ��را مطلق ��ا هو‬ ‫عالق ��ة تدج�ي�ن الطبيع ��ة وال�سيط ��رة عليه ��ا‬ ‫وا�ستثمارها‪ .‬عالقة من النوع االقطاعي! لقد‬ ‫قادتنا اىل حيث نح ��ن اليوم مع كوكب ي�سري‬ ‫نح ��و التخلي ع ��ن جوه ��ره " (الفك ��ر احلر‪/‬‬ ‫اندري ��ه ناتاف‪/‬ترجمة‪ :‬رندة بَعث‪/‬امل�ؤ�س�سة‬ ‫العربية للتحديث الفكري �ص ‪ )76‬وهنا نقول‬ ‫ان م�ش ��روع الغ ��رب احلدي ��ث كان �ضروري ��ا‬ ‫ومهما لنج ��اح التجرب ��ة الب�شري ��ة اجلديدة‪،‬‬ ‫ولك ��ن ان تتحول العالقة مع الكائن ــ االن�سان‬ ‫اىل عالق ��ة النفي عن جوه ��ره الب�شري‪ ،‬فذلك‬ ‫تدخل فيه اعتبارات تتعلق بطبيعة احل�ضارة‬ ‫الغربي ��ة ذاته ��ا من حي ��ث حتوله ��ا وتطورها‬ ‫املتوا�صل عرب عقود وثورات معرفية وعلمية‬ ‫واجتماعي ��ة قادت اىل �سيادة طبقة اقت�صادية‬ ‫معين ��ة دون اخ ��ري‪ ،‬االم ��ر ال ��ذي ان�ش� ��أ هذه‬ ‫العالق ��ة املزدوجة مع االن�س ��ان ــ االخر‪ ،‬وهنا‬ ‫جن ��د ان املجتمعات التي تلج�أ اىل االرواحية‬ ‫والقيم املفارق ��ة للجوهر االن�ساين امنا تقوم‬ ‫بذل ��ك نتيج ��ة النكو� ��ص وال�شع ��ور بفق ��دان‬ ‫الت ��وازن مع الع ��امل املعا�ش‪� ،‬سلط ��ة ومعرفة‬ ‫و�سيا�س ��ة مهيمن ��ة علىوع ��ي ذل ��ك االن�سان‪.‬‬ ‫االم ��ر ال ��ذي يجعله ��ا يف حال ��ة البح ��ث ع ��ن‬ ‫خمل�ص لها من الطبيعة‪ ،‬القائمة علىاحل�صر‬ ‫وال�ضب ��ط �ضم ��ن قي ��م معينة حتد م ��ن ن�شوء‬

‫◄‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬ ‫ووج ��ود الفك ��ر احلر ال ��ذي ي�ؤ�س� ��س ويطور‬ ‫عالقة االن�سان مع الآخر علىحد �سواء ب�شكل‬ ‫يجمع التوا�صل والتعاي� ��ش واالهتمام ونبذ‬ ‫عالق ��ة املهيمن واملهيمن عليه‪ ،‬ذلك ما مل تعمل‬ ‫علىت�شكيله احل�ض ��ارة الغربية �ضمن �شكلها‬ ‫املعا�صر‪.‬‬

‫ال�ش��ك عن��د دي��كارت يزحزح‬ ‫ال�صخرة ويهز البناء القدمي‬ ‫لق ��د �ساع ��دت التجرب ��ة التي افتتحه ��ا غاليلو‬ ‫علىمن خ�ل�ال املكت�شفات احلديث ��ة تلك التي‬ ‫ا�س�س ��ت عملي ��ة الف�ص ��ل فيما بعد ب�ي�ن ماهو‬ ‫جتريب ��ي وما هو ت�أمل ��ي‪ ،‬حتدي�سي‪� ،‬ساعدت‬ ‫دي ��كارت علىاالمكاني ��ة يف ط ��رح اال�سئل ��ة‬ ‫حتت عني الرقيب الالهوتي‪ ،‬االمر الذي ادي‬ ‫اىل ن�ش ��وء الكوجيت ��و امل�شهور لدي ��ه متمثال‬ ‫ب�أن ��ا افكر ـ� �ـ اذن انا موجود‪ ،‬م ��ن خالل منهج‬ ‫ال�ش ��ك لديه‪ ،‬وذلك االخ�ي�ر اي ال�شك من �ش�أنه‬ ‫ان يح ��دث عملية املراجع ��ة العلمية والدقيقة‬ ‫حول جممل الت�ص ��ورات واالفكار واحلقائق‬ ‫التي حتيطنا‪ ،‬فهل ا�ستطاع ديكارت من خالل‬ ‫ال�ش ��ك ان يزي ��ل او يزح ��زح ال�صخ ��رة الت ��ي‬ ‫كان ��ت ت�ستند عليها حقيقة العامل �ضمن البناء‬ ‫القرو�سط ��ي التقلي ��دي؟ وماه ��ي قيم ��ة ال�شك‬ ‫الذي اجنزه دي ��كارت؟ البداي ��ة كانت متمثلة‬ ‫يف التقلي ��د والرتبي ��ة‪ ،‬يف �ص ��ور املع ��ارف‬ ‫واحلقائق التي تلقاها االن�سان منذ الطفولة‪،‬‬ ‫ف�أ�صبحت �ضمن جمال اليقني الكامل والعرف‬ ‫ال ��ذي الميك ��ن التفك�ي�ر بع ��دم م�صداقيت ��ه‪،‬‬ ‫وعودة ديكارت اىل االف ��كار االولية للطفولة‬ ‫ي�ؤكد احلاحه ال�شديد على�إعادة عملية اخللق‬ ‫والتكوين من حيث اال�س� ��س والبني الفكرية‬ ‫بالتواف ��ق م ��ع العل ��وم اجلدي ��دة يف ع�ص ��ره‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2250‬ال�سنة التا�سعة ‪ -‬ال�سبت (‪� )17‬أيلول ‪2011‬‬

‫م ��ن اج ��ل ان يبن ��ي يف العل ��وم �شيئ ��ا ثابت ��ا‬ ‫وم�ستق ��را‪ ،‬خ�صو�ص ��ا بع ��د ان عم ��ل التقليد‬ ‫علىمفارق ��ة العقل االن�س ��اين جلميع م�صادر‬ ‫ال�س�ؤال وال�شك والقراءة اجلديدة التي تبتعد‬ ‫عن "التزم ��ن" اي ثبات الزمان �ضمن �صنمية‬ ‫معين ��ة من االف ��كار واحلقائق‪ ،‬وم ��ن هنا بد�أ‬ ‫دي ��كارت يف منهج ال�شك احلازم حول االفكار‬ ‫الت ��ي يت�صوره ��ا العق ��ل يف و�ض ��وح ويقني‬ ‫كاملني‪ ،‬اىل الق ��راءة عرب اال�ستق ��راء الدقيق‬ ‫لهذه االف ��كار الكت�شاف النتائ ��ج اجلديدة من‬ ‫خ�ل�ال التميي ��ز بني االف ��كار الوا�ضح ��ة التي‬ ‫ال تقب ��ل ال�شك وب�ي�ن االفكار الت ��ي من املمكن‬ ‫و�صول ال�ش ��ك اليها (مدخل اىل الفل�سفة‪�/‬ص‬ ‫‪.)82‬‬

‫ال�شم�س متغرية‬

‫بع ��د ذلك ينتقل اىل ال�شك يف االح�سا�سات من‬ ‫حيث تقلبه ��ا وتغريها الدائم�ي�ن و�صوال اىل‬ ‫فك ��رة ان هذه االح�سا�سات ال تعرب عن حقيقة‬ ‫الواق ��ع اخلارجي‪ ،‬بل متلك الكثري من الزيف‬ ‫وع ��دم اليقني‪ ،‬وهكذا يغ ��دو االمل الذي ي�شعر‬ ‫ب ��ه الإن�سان الذي فقد �أحد �أع�ضائه على�سبيل‬ ‫املث ��ال ال ميك ��ن الوث ��وق به‪ ،‬كذل ��ك احلال مع‬ ‫ر�ؤي ��ة الإن�س ��ان لبع� ��ض املنا�ض ��ر وال�ص ��ور‬ ‫يف الطبيعي ��ة ع ��ن بع ��د ال ي�ضم ��ن الو�ص ��ول‬ ‫اىل حقيقته ��ا‪� ،‬إذ يق ��ول يف الت�أم ��ل الثال ��ث "‬ ‫الحظت يف احوال كثرية ان هناك فرقا كبريا‬ ‫ب�ي�ن املو�ضوع وفكرته‪:‬فمث�ل�ا �أجد يف نف�سي‬ ‫فكرت�ي�ن ع ��ن ال�شم�س متباينت�ي�ن كل التباين‪،‬‬ ‫احدهما م�صدرها احلوا�س‪ ،‬ويجب ان تندرج‬ ‫حت ��ت جن�س الأفكار‪ ،‬التي قل ��ت �آنفا انها �آنية‬ ‫م ��ن اخل ��ارج‪( ،‬ال�شم� ��س يف غاي ��ة ال�صغ ��ر)‬ ‫واالخرى م�ستمدة م ��ن ادلة علم الفلك اي من‬ ‫بع�ض معان مفطورة يف نف�سي او من �صنعي‬

‫علىوجه م ��ا (وبهذا تظه ��ر ال�شم�س اكرب من‬ ‫االر� ��ض ا�ضعافا كثرية) " (ريني ��ة ديكارت‪..‬‬ ‫ابو الفل�سف ��ة احلديثة ‪/‬كمال يو�سف احلاج‪/‬‬ ‫من�ش ��ورات دار مكتبة احلياة‪/‬بريوت ‪1954‬‬ ‫ـ� �ـ � ��ص ‪ )78‬وهك ��ذا يتو�صل دي ��كارت اىل ان‬ ‫الواق ��ع اخلارج ��ي ال يحم ��ل االث ��ر احلقيقي‬ ‫�إال يف اذهانن ��ا وم ��ا موج ��ود يحم ��ل التب ��دل‬ ‫والتغ�ي�ر‪ ،‬كذل ��ك احل ��ال م ��ع �شك ��ه يف بدن ��ه‬ ‫يجع ��ل الواق ��ع حلم ��ا م ��ن خ�ل�ال افرتا�ضاته‬ ‫حول حركة اج�سادنا ما هي �إال �أحالم عابرة‪،‬‬ ‫غارقا بذلك يف مثالية تلغي اي دور لأج�سادنا‬ ‫وحركته ��ا يف الواق ��ع املح�سو� ��س واملعا� ��ش‬ ‫م ��ن اجل ان يعطي ملنهج ال�ش ��ك لديه الفاعلية‬ ‫واالجناز ليثبت حقيقة كامنة لديه تف�صل بني‬ ‫اجل�سد كمادة فاعل ��ة ومتحركة وبني النف�س‪،‬‬ ‫يف ثنائي ��ة ال حتم ��ل االت�ص ��ال واالرتب ��اط‬ ‫والتعاي� ��ش ب ��ل االنف�ص ��ال واالغ�ت�راب فيما‬ ‫بينهما بالن�سبة لديكارت الذي واجه ا�شكالية‬ ‫تكمن يف طبيعة العالقة بني عامل العقل وعامل‬ ‫امل ��ادة بني العقل واجل�س ��د‪ ،‬و�صوال اىل �شكه‬ ‫يف احلقائق العلمي ��ة التي ي�صعب ال�شك فيها‬ ‫النه ��ا متل ��ك م�ص ��ادر الو�ضوح وع ��دم التغري‬ ‫والتبدل مث ��ل االح�سا�سات واالنفعاالت ف�شك‬ ‫فيها عن طريق االفرتا�ضات واملخيلة الب�شرية‬ ‫الت ��ي تفرت�ض ا�شياء غ�ي�ر معقولة ووا�ضحة‬ ‫تتمثل يف ان الل ��ه على�سبيل املثال قادر ان ال‬ ‫يكون هنال ��ك الكثري من موج ��ودات الطبيعة‬ ‫وم ��ا حتمل م ��ن اثر حم�سو� ��س ووا�ضح لدى‬ ‫االن�س ��ان مث ��ل االر� ��ض وال�سم ��اء والنج ��وم‬ ‫وما ا�شبه م ��ن ذلك اي ان الله قادر ان يجعلها‬ ‫غ�ي�ر موجودة كما هي عليه م ��ن حيث ال�شكل‬ ‫والل ��ون والكم والعدد واملكان والزمان‪ ..‬الخ‬ ‫(نف� ��س امل�صدر ــ � ��ص ‪ ).)81‬هن ��اك من يقول‬ ‫�ضمن جمي ��ع تواريخ الفل�سفة ان منهج ال�شك‬

‫لدي ديكارت �أو�صله اىل ثنائية املادة والعقل‪،‬‬ ‫هذه الثنائية كانت مفيدة كثريا بالن�سبة للعلم‬ ‫الفيزيائي ك ��ي يتحرر من جاهزي ��ات املعرفة‬ ‫الت ��ي تبثه ��ا الق ��رون الو�سط ��ي " وعلومها "‬ ‫تلك املتعلق ��ة بااللهي ��ات واالرواح والنفو�س‬ ‫واملقا�ص ��د االلهية‪ ..‬الخ‪،‬ولك ��ن املفكر �صادق‬ ‫جالل العظم يقول عك�س ذلك‪ ،‬ب�أن ديكارت قد‬ ‫تو�صل اىل هذه الثنائية عن طريق "اعتبارات‬ ‫وم�شكالت تتعلق باملادية امليكانيكية وفل�سفة‬ ‫العل ��م وب�أبحاث ��ه الريا�ضية م ��ن جهة‪ ،‬وكذلك‬ ‫م ��ن خ�ل�ال اعتب ��ارات اخ ��رى مهم ��ة تتعل ��ق‬ ‫باالنطولوجيا الروحي ��ة املوروثة واملكر�سة‬ ‫ديني ��ا وم�ؤ�س�ساتيا من جه ��ة اخرى "(مقابلة‬ ‫م ��ع �ص ��ادق ج�ل�ال العظم‪/‬جمل ��ة درا�س ��ات‬ ‫عربي ��ة‪ /‬الع ��ددان ‪�� �/1985/2/1‬ص‪)95‬‬ ‫ونح ��ن هنا نقول ان منهج ال�شك لدى ديكارت‬ ‫كان نتيج ��ة لالبح ��اث الريا�ضي ��ة والعلمي ��ة‬ ‫واملكت�شف ��ات اجلدي ��دة �ضمن ع�ص ��ر ديكارت‬ ‫وال يدخ ��ل ك�سب ��ب وحي ��د يف الو�ص ��ول اىل‬ ‫ه ��ذه الثنائية من اج ��ل ان ير�سي دعائم العلم‬ ‫اجلديد الذي كان يه ��دف اليه ويعزز قواعده‬ ‫املادي ��ة والعلمي ��ة ع ��ن طري ��ق منه ��ج ال�ش ��ك‪،‬‬ ‫بالرغم من ان ذل ��ك الأخري كان مظلال اىل حد‬ ‫بعيد‪ ،‬وذلك م ��ن خالل نتائج ��ه النهائية التي‬ ‫تو�ص ��ل اليها ب�ش�أن االف ��كار القابلة للو�ضوح‬ ‫وتل ��ك التي متل ��ك الو�ضوح الفط ��ري متمثال‬ ‫مب ��ا هو خارج عن اذهاننا وارادتنا الب�شرية‪،‬‬ ‫فالل ��ه على�سبيل املثال م ��ن البديهيات التي ال‬ ‫ميك ��ن ان يتط ��رق اليه ��ا ال�شك وذل ��ك الن الله‬ ‫ميلك هدايتن ��ا اىل احلقيق ��ة‪ ،‬وهنا جند كالم‬ ‫دي ��كارت وا�ضحا عندما يق ��ول‪ " :‬انه ما دمنا‬ ‫ن�ؤم ��ن بوج ��ود الله ف ��ان الل ��ه ل ��ن ي�سمح ان‬ ‫ُن�ضلل " (مدخل اىل الفل�سفة‪�/‬ص ‪ .)86‬وهذه‬ ‫الفكرة تو�صل اليها ديكارت بوا�سطة امل�صادر‬

‫اال�سكوالئية او عن كتابات �آباء الكني�سة تلك‬ ‫الت ��ي تتمث ��ل يف ماهو اكرب الميك ��ن ان ينتج‬ ‫م ��ا هو اقل‪ ،‬وهنا تدخل لعب ��ة اللغة يف تبينة‬ ‫اثر الفوقي غري املدرك علىاالن�سان ب�أعتباره‬ ‫حماال للكمال والهيبة‪ ،‬التي تنتمي �إىل معرفة‬ ‫تن ��درج �ضمن الت�أمالت غري العلمية والدقيقة‬ ‫�أي �ضم ��ن �سلم القي ��م الدينية والروحية لدى‬ ‫االن�س ��ان (املو�سوعة الفل�سفية‪/‬ف� ��ؤاد كامل ــ‬ ‫جالل الع�شري‪/‬نقال عن الإنكليزية‪/‬دار القلم‬ ‫ــ ب�ي�روت ‪ 1983/‬ـ� �ـ � ��ص ‪ )191‬او كما يقول‬ ‫هكت ��ور هوتون " ان ديكارت قد �صاغ خربته‬ ‫وفق قالب امل�سن ��د وامل�سند �إليه‪ .‬كان قد ورث‬ ‫التقلي ��د االغريق ��ي بخ�صو� ��ص اميانه ب�شيء‬ ‫ما‪ ،‬خفي‪ ،‬ظواهر حتتية �ساندة‪ ،‬م�سند اليه "‬ ‫(متع ��ة الفل�سفة‪/‬هكتور هوتون‪/‬بغداد ــ بيت‬ ‫احلكمة ‪�2002‬ص‪ .)57‬لقد كان ديكارت يعتمد‬ ‫علىاال�سا� ��س الكب�ي�ر يف منهجه م ��ن اجل ان‬ ‫يتو�صل اىل حقائق يقينية بعد انتهاء مراحل‬ ‫ال�ش ��ك وذل ��ك اال�سا� ��س يكم ��ن يف الكوجيتو‬ ‫امل�شه ��ور " �أنا �أفك ��ر ــ اذن ان ��ا موجود‪ ،‬الذي‬ ‫ال ميك ��ن و�ص ��ول ال�ش ��ك الي ��ه‪ ،‬الن ��ه ه ��و من‬ ‫ي�ستخ ��دم ا�سل ��وب زعزع ��ة اليقيني ��ات حول‬ ‫جمم ��ل الق�ضاي ��ا الت ��ي تق ��ف حائال م ��ن دون‬ ‫التفكري وال�س�ؤال وال�شك الفاعل واملتوا�صل‪،‬‬ ‫فالكوجيت ��و ه ��و املناع ��ة احلقيقي ��ة الت ��ي‬ ‫يتناوله ��ا العقل االن�ساين �ض ��د كل ما ي�صيب‬ ‫ج�سد املعرف ��ة واحلقيقة والعل ��م من تعرثات‬ ‫وامرا�ض م ��ن �ش�أنها ان تق ��ف دون الو�صول‬ ‫اىل يقني وا�ضح ومع�ي�ن ب�ش�أن الق�ضايا التي‬ ‫يطرحها ديكارت‪ ،‬وذلك الن الذات ال�شاكة هي‬ ‫ذات مفك ��رة متل ��ك الوجود عن طري ��ق الفكر‪،‬‬ ‫وهنا ي�ص ��ل ديكارت اىل معرف ��ة الوجود عن‬ ‫طري ��ق الفك ��ر كم ��ا ا�سلفن ��ا �سابقا م ��ن مثالية‬ ‫جتع ��ل الع ��امل الواقعي موج ��ود ًا يف اذهاننا‬ ‫�ضمن ثنائية املادة والعقل‪.‬‬

‫حقائق ومعارف‬

‫لق ��د ا�ستطاع ديكارت ان يه�شم جزءا �أ�سا�سيا‬ ‫من ال�صخرة الت ��ي ت�ستند اليها حقيقة العامل‬ ‫واالر� ��ض �ضم ��ن البن ��اء القرو�سط ��ي مع كل‬ ‫املع ��ارف واحلقائ ��ق وامل�سلم ��ات ال�صامت ��ة‬ ‫والثابت ��ة الت ��ي ال تتزع ��زع م ��ن مكانه ��ا‪ ،‬مع‬ ‫االجي ��ال العلمي ��ة املبدع ��ة �ضم ��ن ع�ص ��ره‬ ‫ليكمل ال ��دورة املت�سل�سلة يف تراكم امل�شروع‬ ‫الغربي وحتوالته‪،‬فال�سفة وعلماء ومفكرين‬ ‫امث ��ال كانت ولوك وهي ��وم وهيجل ونيوتن‬ ‫ومارك�س‪ ..‬الخ‪ .‬لق ��د �شك ديكارت يف الكثري‬ ‫م ��ن احلقائ ��ق واملع ��ارف ولكن ��ه يف النهاية‬ ‫ع ��اد اىل اليق�ي�ن يف كث�ي�ر منه ��ا‪ ،‬فه ��ل هنالك‬ ‫قيمة لذلك ال�ش ��ك؟ من امل�ؤكد ان هنالك القيمة‬ ‫اال�سا� ��س تلك الت ��ي تكم ��ن يف تو�سيع جمال‬ ‫احلري ��ة والبح ��ث العلم ��ي ومتك ��ن الإن�سان‬ ‫م ��ن ال�سيطرة علىالطبيع ��ة‪ ،‬ولكن ذلك ال�شك‬ ‫مل يك ��ن معني ��ا باحلقيقة باملعن ��ي االكادميي‬ ‫البح ��ت‪� ،‬إذ كانت غايت ��ه الو�صول اىل حقيقة‬ ‫جديدة تعمل على�صياغ ��ة كل ما من �ش�أنه ان‬ ‫يجعل االن�سان بعيدا عن لغة اجلمود الذهني‬ ‫واملعريف التي ت�صيب املجتمعات عادة‪ ،‬فال�شك‬ ‫الديكارت ��ي هو �شك منهجي ق ��د مت افرتا�ضه‬ ‫م�سبق ��ا حول الكثري من الق�ضايا التي تواجه‬ ‫الإن�س ��ان من اجل ان يعطيها معني وتف�سريا‬ ‫جديدا وفقا للتطورات واملكت�شفات احلديثة‬ ‫�ضمن ع�ص ��ره‪ ،‬التي بد�أت ت�ؤث ��ر علىاحلياة‬ ‫املدني ��ة والدول ��ة واملجتم ��ع علىح ��د �سواء‬ ‫وكذل ��ك العلم والأخ�ل�اق كما يق ��ول هابرماز‬ ‫الذي يعد التحوالت واالنتقاالت التي حدثت‬ ‫م ��ن زمن القرون الو�سطي اىل احلداثة كانت‬ ‫م�صاحب ��ة ملب ��د�أ " الذاتية " ال ��ذي جت�سد يف‬ ‫بني ��ة ُت ��درك يف الفل�سفة كذاتي ��ة جمددة عرب‬ ‫كوجيت ��و ديكارت " �أنا �أفكر ــ اذن انا موجود‬ ‫" ويف �ص ��ورة وع ��ي ال ��ذات املطل ��ق عن ��د‬ ‫عمانويل كانت (يورغ ��ن هابرماز‪/‬ف�صل من‬ ‫كتاب احلداثة م�ش ��روع ناق�ص‪/‬جملة العرب‬ ‫والفكر العاملي‪/‬العدد التا�سع ــ �شتاء ‪/1990‬‬ ‫�ص‪)108‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫‪15‬‬

‫ديكارت وعصر التنوير‬ ‫�أ‪.‬د‪.‬عبد اجلبار منديل‬ ‫يرى الكثري من الباحثني ان الفل�سفة‬ ‫احلديث ��ة تبد�أ م ��ن ريني ��ه ديكارت‪.‬‬ ‫ودي ��كارت هو ع ��امل يف الريا�ضيات‬ ‫ومهند� ��س و فلك ��ي وفيل�سوف‪ .‬ولد‬ ‫يف فرن�سا عام ‪ 1595‬لأب من النبالء‬ ‫ا�صح ��اب املقاطع ��ات الكاثوليك وقد‬ ‫اكت�ش ��ف الأ�س اجل�ب�ري ومزج بني‬ ‫اجل�ب�ر والهند�س ��ة التحليلي ��ة وم ��ا‬ ‫تزال االحداثي ��ات الديكارتية ت�شكل‬ ‫ا�سا�س االحداثيات التي يقوم عليها‬ ‫حتدي ��د املواق ��ع يف �شت ��ى �صن ��وف‬ ‫الهند�سة الع�سكرية واملدنية‪.‬‬ ‫يف ذل ��ك الع�صر كان منوذج ار�سطو‬ ‫لالف�ل�اك ه ��و ال�سائ ��د ال ��ذي تتبناه‬ ‫الكني�س ��ة والقائ ��ل ب� ��أن االر�ض هي‬ ‫مرك ��ز الك ��ون وان ال�شم� ��س والقمر‬ ‫والكواك ��ب ت ��دور يف فل ��ك االر� ��ض‬ ‫ومن يخالف هذا املبد�أ يواجه بعقاب‬ ‫�صارم من الكني�س ��ة واملجتمع‪ .‬وقد‬ ‫اكت�شف دي ��كارت العك� ��س ور�أي ان‬ ‫االر� ��ض لي�س ��ت اال كوكب ��ا �صغ�ي�را‬ ‫ي ��دور يف فل ��ك ال�شم� ��س يف ف�ض ��اء‬ ‫الك ��ون الكبري الالمتناهي‪ .‬ولكنه مل‬ ‫يعل ��ن عن �آرائه بع ��د ان ر�أى م�صري‬ ‫غاليلو الذي عاقبته الكني�سة‪.‬‬ ‫اتخذ ديكارت ال�شك طريقا لفل�سفته‪.‬‬ ‫فهو يق ��ول ان على االن�سان ان ي�شك‬ ‫يف كل �ش ��يء‪ .‬فهل انا مثال واثق من‬ ‫جلو�س ��ي يف هذا امل ��كان؟ اال يحتمل‬ ‫انن ��ي احل ��م؟ وان كل وج ��ودي ه ��و‬ ‫حل ��م يف حل ��م؟‪ .‬ال ��ذي ال �ش ��ك في ��ه‬ ‫ه ��و انني افكر لذا (ان ��ا افكر اذن انا‬ ‫موجود)‪.‬‬ ‫ان ال�ش ��ك ال ��ذي يق ��ود اىل التفك�ي�ر‬ ‫ه ��و ال ��ذي ي�ؤك ��د الوج ��ود‪ .‬ويقول‬ ‫(انن ��ا لن نت�أكد من وجود العامل قبل‬ ‫ت�أكدنا من وجودنا نحن) وقد �سار كل‬ ‫الفال�سفة الالحقني على قاعدة ال�شك الديكارتي ملعاجلة اال�سئلة الفل�سفية‪.‬‬ ‫يق ��ول دي ��كارت‪ ،‬ان ��ه يج ��ب ان يك ��ون ال�شك ه ��و النظ ��رة ال�سائ ��دة اال يف حقيقة كون‬ ‫االن�س ��ان ذات مفكرة موج ��ودة وجودا حقيقيا وان فكرة الله هي فكرة فطرية يف الب�شر‬ ‫ولكن ��ه يتابع ويقول ب ��ان االن�سان متناه يف حني ان الله غري متناهي لذلك فلي�س بو�سع‬ ‫املتناه ��ي ان يتخي ��ل الالمتناهي‪ .‬ان الله فكرة اودعها يف نف�س ��ي وقام العقل مبعاينتها‬ ‫وقامت االرادة ب�أقرارها‪.‬‬ ‫ويق ��ول‪ :‬ان االف ��كار الوا�ضحة جدا واملتميزة جدا هي االف ��كار الوحيدة التي ميكن ان‬ ‫ن�سميها افكارا �صحيحة كفكرة الذات املفكرة الوا�ضحة جدا واملتميزة كذلك مع مالحظة‬ ‫ان الفكرة املتميزة وا�ضحة بال�ضرورة اما الفكرة الوا�ضحة فلي�س بال�ضرورة متميزة‪.‬‬ ‫وان العقل ال�سليم هو القا�سم امل�شرتك بني النا�س وهو الو�سيلة للح�صول على املعارف‬ ‫دون و�ساطة خارجية‪.‬‬ ‫لقد حاولت فل�سفة ديكارت تقليد الريا�ضيات يف و�ضوحها ويقينها وحاولت ا�ستنتاج‬ ‫ماهي ��ة اال�شي ��اء با�ستنباط عقل ��ي وبد�أ ديكارت يبح ��ث عن و�سيلة الن�ش ��اء ميتافيزيقا‬ ‫جديدة تقوم على الفيزياء احلديثة وت�ستخدم االدوات املنهجية التي ي�ستخدمها علماء‬ ‫الريا�ضيات وعلماء الطبيعة فو�ضع قواعد علمية لل�شك املنهجي‪.‬‬ ‫لق ��د ت�شكلت منظوم ��ة فكرية جديدة من خ�ل�ال ابداع مفهوم الق�ص ��ور الذاتي من اجل‬ ‫العلم الطبيعي تقوم على قواعد عقلية ريا�ضية وهند�سية ادت اىل هدم فيزياء ار�سطو‬ ‫واىل الغ ��اء العل ��ة الغائبة ورد االعتبار لل�سببية يف مواجه ��ة االفكار اخلا�صة بالقرون‬ ‫الو�سطى ب�ش�أن املعجزات واخلوارق الطبيعية غري املربرة علميا‪.‬‬ ‫لكي يت�سنى للعلم الطبيعي النا�شيء ان يتقدم بعيدا عن اال�ضطهاد واالوهام واالفكار‬ ‫امل�سبقة فقد ف�صل ديكارت بني ما �سماه مملكة الطبيعة ومملكة ما وراء الطبيعة وف�صل‬ ‫ب�ي�ن مملك ��ة الفكر ومملكة املادة ذلك ان ع�صر العلم اتى ليتم التمييز اي�ضا بني ال�صفات‬ ‫الرئي�سة الثابتة وال�صفات الثانوية املتغرية والتي بد�أت ت�أخذ مكان امل�صطلحني الذين‬ ‫هما اجلوهر والعر�ض �شيئا ف�شيئا‪.‬‬ ‫وهو يو�صي الباحثني عن احلقيقة قائال‪ :‬اذا اردت ان تكون باحثا �صادقا عن احلقيقة‬ ‫فم ��ن ال�ض ��روري ان ت�ش ��ك م ��ا ال يقل عن م ��رة واح ��دة يف حياتك بقدر االم ��كان يف كل‬ ‫اال�شي ��اء‪ .‬انا ا�شك اذن انا افك ��ر اذن انا موجود‪ .‬ان ال�شك هو ا�سا�س احلكمة وعليك ان‬

‫تنطلق من اال�شياء االكرث ب�ساطة اىل‬ ‫اال�شياء االك�ث�ر تعقيدا‪ .‬ان احلوا�س‬ ‫تخدعن ��ا م ��ن وق ��ت اىل �آخ ��ر وم ��ن‬ ‫احلكم ��ة ان ال نث ��ق بالذي ��ن خدعونا‬ ‫ولو مرة واح ��دة‪ .‬وانا كلما ا�ساء يل‬ ‫�شخ�ص احاول ان ارفع روحي عاليا‬ ‫حتى ال ميكن ان ت�صل اىل اال�ساءة‪..‬‬ ‫بع ��د ال�ضج ��ة الهائل ��ة الت ��ي احدثها‬ ‫الع ��امل االيط ��ايل (غاليلو)بن�ش ��ر‬ ‫كتاب ��ه عام ‪1632‬م ال ��ذي نفى فيه ان‬ ‫تك ��ون االر� ��ض مرك ��ز الك ��ون وقال‪:‬‬ ‫ان االر� ��ض تتحرك يف فل ��ك ال�شم�س‬ ‫ولي� ��س العك� ��س كم ��ا كان يعتق ��د‬ ‫القدم ��اء وقي ��ام الكني�س ��ة ب�أ�ص ��دار‬ ‫االع ��دام على م ��ن ي�ؤي ��د ه ��ذا الر�أي‬ ‫وج ��د (دي ��كارت) نف�س ��ه م�ضطرا اىل‬ ‫الهروب من فرن�س ��ا الكاثوليكية اىل‬ ‫الدول الربوت�ستاني ��ة التي هي اكرث‬ ‫ت�ساحما‪ .‬لذلك فقد ا�ستقر يف هولندا‬ ‫للف�ت�رة من عام ‪1628‬اىل عام ‪1649‬‬ ‫حي ��ث ق ��ام بتكري� ��س وقت ��ه للدرا�سة‬ ‫والبحث العلمي‪.‬‬ ‫كتب دي ��كارت الكثري من الكتب ولكن‬ ‫اهم م�ؤلفاته هي‪:‬‬ ‫‪1‬ـ ر�سالة يف املنهج عام ‪1637‬‬ ‫‪2‬ـ ت�أم�ل�ات يف الفل�سف ��ة االوىل ع ��ام‬ ‫‪1641‬‬ ‫‪3‬ـ مبــــ ��ادئ الفل�سف ��ة االوىل ع ��ام‬ ‫‪1644‬‬ ‫‪4‬ـ م�ؤلف ��ات يف عل ��وم الريا�ضي ��ات‬ ‫والهند�سة واجلرب‬ ‫ويف الف�ت�رة االخرية من اقامته يف‬ ‫هولندا حاربته جامعة (اليدن) بحجة‬ ‫خمالفت ��ه للمذه ��ب االر�سط ��ي ال ��ذي‬ ‫يقول مبركزية االر�ض وكذلك بحجة‬ ‫ان فل�سفته يف ال�شك الديكارتي تقود‬ ‫اىل االحل ��اد لذلك فقد غادر هولندا اىل‬ ‫املاني ��ا وبعدها اىل الدمنارك‪ .‬ومن الدمنارك دعته ملكة ال�سويد كري�ستينيا عام ‪1649‬‬ ‫لكي يدر�سها الفل�سفة‪.‬‬ ‫وكان ��ت امللكة ت�صر عل ��ى اخذ درو�سها ال�ساعة اخلام�سة �صباح ��ا االمر الذي كان يجرب‬ ‫الفيل�س ��وف عل ��ى اال�سراع يف ال�صباح الباك ��ر ملالقاة امللكة يف اجل ��و ال�سويدي البارد‬ ‫لذلك فقد ا�صيب بااللتهاب الرئوي الذي ادى اىل وفاته‪.‬‬ ‫لق ��د كان الق ��رن ال�سابع ع�شر قرن البحث عن اجلوهر امل ��ادي الذي يقف وراء اال�شياء‬ ‫ويع ��رف ديكارت اجلوه ��ر بانه الالمتناه ��ي الكامل واحلر واملوج ��ود وجودا حقيقيا‬ ‫وال يحت ��اج يف وج ��وده اىل غريه من املخلوقات وان ��ه القائم بذاته والذي ال يعتمد يف‬ ‫وجوده على غريه‪ .‬ويقول اننا ال ندرك اجلوهر مبا�شرة وامنا ندركه من خالل �صفاته‪.‬‬ ‫فلكل جوهر �صفة مكونة ملاهيته مقومة لطبيعته ف�صفة النف�س املقومة هي الفكر و�صفة‬ ‫اجل�س ��م املقومة هي االمتداد‪ .‬واح ��وال اجلوهر املادي هي احلرك ��ة وال�شكل‪ .‬وتتغري‬ ‫االح ��وال بتغري الظروف وي�ضرب مثل بال�شمعة حي ��ث يتغري �شكلها ولونها ورائحتها‬ ‫حني حترتق ولكن يظل االمتداد املتمثل يف بقايا ال�شمع املحرتق‪.‬‬ ‫ان امل ��ادة امت ��داد و ال امتداد م ��ن دون مادة‪ .‬واملادة مرتا�ص ��ة يف الكون واحلركة يف‬ ‫داخل ��ه �ساكن ��ة واحلرك ��ة يف االفالك ال�سماوية دائري ��ة تامة ولذلك الب ��د اذن ان تكون‬ ‫احلرك ��ة اتي ��ة من اخلارج‪ .‬هناك وجود مو�ضوعي للمادة ف�ل�ا يعتمد اجل�سم على غريه‬ ‫اي انه ال يعتمد على ذواتنا فالوجود املادي م�ستقل عنا ولي�س م�س�ألة ذاتية تعتمد على‬ ‫ادراكنا لها‪.‬‬ ‫االمت ��داد عن ��د دي ��كارت هو من ال�صف ��ات الرئي�سة فم ��ا تبقى من جترب ��ة ديكارت على‬ ‫ال�شمع ��ة بع ��د تغري لونه ��ا ورائحتها هو ال�شم ��ع املمتد الذي ذاب ولكنه بق ��ي له امتداد‬ ‫يوح ��ي لنا بهوية ال�شمع ��ة امل�صنوعة من ال�شمع‪ .‬فاالمتداد هو م ��ن ال�صفات الرئي�سية‬ ‫املو�ضوعي ��ة الت ��ي ال تعتم ��د يف وجوده ��ا على غريه ��ا وال يختلف اثن ��ان ب�ش�أنها النها‬ ‫مو�ضوع العلم الطبيعي اما اللون والطعم والرائحة فمن �صفات الثانوية الذاتية التي‬ ‫نعتمد علينا ونكت�سبها بالتجربة‪.‬‬ ‫�سع ��ى دي ��كارت للو�ص ��ول اىل املعرفة انطالقا م ��ن منهج فيه الدق ��ة واليقني على غرار‬ ‫الريا�ضي ��ات وق ��د ا�س� ��س للعقالنية واملنهج العلم ��ي االمر الذي �ساه ��م يف تطور الفكر‬ ‫املدر�سي القرو�سطي وخروجه من عقدة ار�سطو ومنظومته‪.‬‬

‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫االخراج الفني‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى التميمي‬ ‫الت�صحيح اللغوي‬ ‫‪----------------‬‬‫حممد حنون‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.