رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
2
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
ديكــارت
حياته املبكرة
اعداد :زينة الربيعي ريني��ه ديكارت René Descartesولد ( 31مار�س�/آذار 11 - 1596فرباير�/ش��باط )1650يعرف �أي�ض��ا بكارتي�س��يو�س Cartesiusفيل�سوف فرن�سي و ريا�ضياتي و عامل يعد من م�ؤ�س�سي الفل�سفة احلديثة وم�ؤ�س���س الريا�ض��يات احلديث��ة .يعد من �أه��م و �أغزر العلم��اء نتاجا يف الع�ص��ور احلديثة .الكثري تدر�س من در�س��ت و ّ م��ن الأفكار والفل�س��فات الغربي��ة الالحقة هي نتاج و تفاع��ل مع كتاباته التي ّ �أيامه �إىل �أيامنا .لذلك يعد ديكارت احد املفكرين الأ�سا�س��يني و احد مفاتيح فهمنا للثورة العلمية واحل�ض��ارة احلديث��ة يف وقتنا هذا .ميجد ا�س��مه بذكره يف ما يدعى هند�س��ة ديكارتي��ة التي يتم بها درا�س��ة الأ�شكال الهند�سية �ض��من نظام �إحداثيات ديكارتي �ضمن نطاق الهند�سة امل�ستوية التي تدجمها مع اجلرب. يعار�ض ديكارت الكثري من �أفكار �أ�سالفه .ففي مقدمة عمله عاطفة الروح ،Passions of the Soul يذهب بعيدا للت�أكيد �أنه �س��يكتب يف هذا املو�ض��وع حتى لو مل يكن احد �س��بقه لطرح هذا املو�ضوع. بالرغم من هذا ف�إن العديد من الأفكار توجد بذورها يف الأر�سطية املت�أخرة و الرواقية Stoicism يف القرن ال�ساد�س ع�شر او يف فكر �أوغ�سطني. يعار�ض ديكارت هذه املدر�سة يف نقطتني �أ�سا�سيتني� :أوال يرف�ض تق�سيم اجل�سام الطبيعية �إىل مادة و �صورة (�شكل) كما تفعل معظم الفل�سفات اليونانية .ثانيا يرف�ض الغايات �أو الأهداف Teleology �س��واء كانت غايات ذات طبيعة �إن�سانية �أو �إلهية لتف�س�ير الظواهر الطبيعية� .أما يف الإلهيات فهويدافع عن احلرية املطلقة لفعل اهلل �أثناء اخللق� .أ�سهم يف ال�شك املنهجي ا�ستهدف يف �شكه الو�صول ايل اليقني و�أ�س��باب ال�ش��ك لديه �أنه يلزم �أن ن�ضع مو�ضع ال�ش��ك جميع الأ�شياء بقدرالأمكان ويربر ال�ش��ك �أنه تلقى كثريا من الآراء الباطلة وح�س��بها �ص��حيحة فكل ما بناه منذ ذلك احلني من مبادئ عل��ى ه��ذا القدر من قلة الوث��وق ال يكون �إال م�ش��كوكا فيها �إذن يل��زم �أن نقيم �ش��يئا متينا يف العلوم �أن نبد�أ بكل �ش��يء من جدي��د و�أن نوجه النظر �إىل الأ�س���س التى يقوم علين��ا البناءمثال املعطيات اخلا�صة للحوا�س فاحلوا�س تخدعنا �أحيانا والأف�ضل اال نثق بها �أما الأ�شياء العامة كالعيون والر�ؤو�س والأيدي التى ميكن �أن تت�ألف منها اخلياالت ميكن ان تكون نف�سها خيالية حم�ضة. تلقى ديكارت تعليمه على �أيدي اجلزويت .وكان هذا التعليم نقطة البداية وحجر ال�شحذ عند كل الهراطقة الفرن�س��يني ،ابتداء من ديكارت ثم فولت�ير ،ورينان و�أناتول فران�س "بني جدران املعبد �صنعت املعاول التي حتطم بها املعبد".
◄◄◄◄◄ http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ولد يف اله��اي ،وهي بلدة �صغرية مبنطقة التورين بفرن�سا .وماتت �أم��ه بال�سل بعد والدت��ه ب��أي��ام قالئل ،وورث عنها املر�ض. وكان يف �صباه �شاحب اللون ،ي�سعل �سعا ًال يثري الإ�شفاق� ،إىل حد لأن الطبيب مل يب�شر ب�أي �أمل يف �إنقاذه ،ومل تتخ َل عنه املر�ضعة ي��أ��س� ًا م��ن بقائه على قيد احل �ي��اة ،ولكنها �أم��دت��ه ب��ال��دفء وال �غ��ذاء م��ن ج�سدها هي، فعاد �إىل احل�ي��اة ثانية .ورمب��ا �سمي لهذا ال�سبب ،با�سم رينيه (وهي لفظة م�شتقة من �أ�صل التيني مبعنى ولد من جديد) .وكان وال��ده حمامي ًا مو�سر ًا ،وع�ضو ًا يف برملان رن ،Rennesوترك البنه عند وفاته دخ ًال يقدر ب�ستة �آالف فرنك يف العام. و�أحل � ��ق يف � �س��ن ال �ث��ام �ن��ة ب�ك�ل�ي��ة الفي�ش الي�سوعية ،التي يقول عنها �أح��د املفكرين الأح��رار املتحم�سني وم�شاهري الريا�ضيني "يبدو �أنها زودت��ه بقدر من الريا�ضيات �أعظم كثري ًا مما كان ميكن �أن يح�صل عليه يف معظم اجلامعات يف ذلك الع�صر(")79 وتبني معلموه �ضعف ج�سمه ويقظة ذهنه ف�أباحوا له البقاء يف الفرا�ش بعد الوقت امل�ح��دد لال�ستيقاظ ،وحل�ظ��وا �أن��ه ا�ستغل ال��وق��ت يف ال �ت �ه��ام ال �ك �ت��ب ،ال ��واح ��د بعد الآخ��ر ،ويف كل جوالته يف امليتافرييقا، ظل يحتفظ ب�إعجابه ال�شديد ب�أ�ستاذته اجلزويت ،كما �أنهم بدورهم ،نظروا �إىل �شكوكه ب�شيء من الت�سامح الأبوي. وق���ص��د يف ��س��ن ال���س��اب�ع��ة ع���ش��رة �إىل باري�س ليلهو ويعبث ،ولكنه مل يجد �شيئ ًا ينغم�س فيه ،لأنه مل يكن يحفل بالن�ساء �أو مييل �إليهن ،ولكنه بو�صفه ريا�ضي ًا �ضليع ًا، ان�صرف �إىل املي�سر ،م�ق��در ًا �أن��ه ي�ستطيع اال�ستيالء على خزانة نادي القمار .والتحق بجامعة بواتييه حيث ح�صل منها على درجات علمية يف القانون املدين والقانون الكن�سي .وما �أن ا�سرتد عافيته وقوته ،حتى
3
�أذهل �أ�صدقاءه ،بانخراطه يف جي�ش الأمري موري�س نا�سو ( .)1618وملا ن�شبت حرب الثالثني عام ًا ان�ضم �إىل قوات مك�سيمليان �أمري بافاريا ،وتذكر رواية غري م�ؤكدة �أنه ا�شرتك يف معركة "اجلبل الأبي�ض". ويف غ�ضون ه��ذه احلمالت .وبخا�صة يف �شهور ال�شتاء الطويلة التي تعوق موا�صلة القتل ،ك��ان دي �ك��ارت يتابع درا��س�ت��ه ،ويف الريا�ضيات ب�صفة خا�صة .وذات يوم (10 نوفمرب )1619يف ن�ي��وب��رج ب��ال�ق��رب من �أومل يف بافاريا ،اتقى ال�برد بالقبوع يف "موقد" (من املحتمل �أن تكون غرفة مدف�أة خ�صي�ص ًا له) وفيها-كما يقول هو-ر�أى فيما يرى النائم يف ثالث ر�ؤى �أو ثالثة �أحالم، وم�ضات من النور ،و�سمع رع��د ًا ،وب��دا له �أن روح ًا �سماوية كانت توحي �إليه بفل�سفة جديدة .وبعد خروجه من "املوقد" (الغرفة) ك��ان-ك �م��ا ي ��ؤك��د ل �ن��ا-ق��د � �ص��اغ الهند�سة التحليلية ،وت���ص��ور ف�ك��رة تطبيق املنهج الريا�ضي يف الفل�سفة. ورجع �إىل فرن�سا يف ،1622ورتب �أموره املالية .ثم ا�ست�أنف جوالته ،فق�ضى قرابة ��س�ن��ة يف �إي �ط��ال �ي��ا :ف�ق���ص��د م��ن البندقية (ويقولون �سري ًا على الأق��دام) �إىل لوريتو حيث قدم �إجالله للعذراء .ور�أى روما يف ف�ترة ال�غ�ف��ران ( ،)1625وم��ر بفلورن�سا ولكنه مل ي��زر جاليليو .ثم قفل ع��ائ��د ًا �إىل ب��اري����س وه �ن��اك يف ال��ري��ف ت��اب��ع درا�سته ال�ع�ل�م�ي��ة .و� �ص �ح��ب ال��ري��ا� �ض��ي املهند�س ال�ع���س�ك��ري ج �ي�رار دي �� �س��ارج يف ح�صار الرو�شيل ( .)1628ويف �أخريات هذا العام ق�صد �إىل هولندا ،حيث ق�ضى يف املقاطعات املتحدة بقية �أي��ام حياته تقريب ًا ،اللهم �إال بع�ض فرتات ق�صرية ق�صد فيها �إىل فرن�سا لتدبري �ش�ؤونه املالية. ول�سنا نعرف ملاذا ترك فرن�سا ،ويحتمل �أن هذا يرجع �إىل �أنه "بعد �أن �أف�صح عما لديه من �أ�سباب لل�شك يف �أ�شياء كثرية "وخ�شي �أن يتهم بالهرطقة ،مع �أن��ه كان له �أ�صدقاء
ك �ث�يرون م��ن رج ��ال الكني�سة ه �ن��اك ،مثل مر�سن وب�ي�رول .ورمب��ا ح��اول �أن يتجنب الأ��ص��دق��اء والأع ��داء على ح��د ��س��واء� ،أم ًال يف �أن يجد يف بلد غريب عزلة اجتماعية (ال فكرية) ي�ستطيع بها �أن ي�شكل الفل�سفة ال �ت��ي ك��ان��ت ت�ع�ت�ل��ج ب�ي�ن ج�ن�ب�ي��ه ل �ق��د كره �ضجيج باري�س وثرثرتها ،ولكن مل تقلقه احل��رك��ة الن�شيطة التي تلطفها القنوات- يف �أم���س�تردام ،وه��و يقول "هناك ،و�سط اجل�م��وع املكتظة م��ن �شعب عظيم ن�شيط، ا�ستطعت �أن �أعي�ش وحيد ًا منعز ًال ،وك�أين يف � �ص �ح��راء نائية( .")82ورمب���ا كانت رغبته يف �أن يتوارى عن الأنظار ويخفي اه�ت�م��ام��ات��ه ه��ي دف�ع�ت��ه �إىل تغيري �أماكن �إقامته �أرب�ع� ًا وع�شرين م��رة يف ال�سنوات الع�شرين التالية ،من فرانكر �إىل �أم�سرتدام �إىل دنفرت� ،إىل �أم�سرتدام �إىل �أوترخت ،ثم �إىل ليدن ،ولكن بالقرب من جامعة �أو مكتبة ع��ادة .ومكنه دخله من اال�ستمتاع بطيبات احلياة االجتماعية يف ق�صر �صغري مع عدد من اخلدم .وامتنع عن الزواج ولكنه اتخذ خليلة (� )1634أجنبت له طفلة .و�إنا لن�سر �إذ ن�سمع �أن ال��روح الإن�سانية جتلت فيه حني بكى الطفلة بعد موتها يف اخلام�سة من عمرها .وقد نحا يف ال�صواب �إذا ظنناه فاتر ًا ال حتركه الأحداث الدنيوية ،ول�سوف جند �أنه يربر كثري ًا من الأه��واء وامل�شاعر التي ي�شجبها رجال الأخالق عادة .وما كان هو نف�سه ليتجرد منها ،فهو عر�ضة للزهو والغ�ضب وال �غ��رور( .)83لقد بذل ديكارت ج�ه��د ًا ج�ب��ار ًا لتحقيق ه��دف��ه� .أن�ظ��ر �إىل ما �ألزم نف�سه بدرا�سته الريا�ضيات ،الفيزياء، الفلك ،الت�شريح ،الف�سيولوجيا ،علم النف�س، م�ي�ت��اف�ي��زي�ق��ا ،ن�ظ��ري��ة امل �ع��رف��ة ،الأخ �ل�اق، الالهوت .فمن ذا الذي يجر�ؤ اليوم على �أن يجول بني هذا كله؟ .ومن ثم طمع يف العزلة واالحتجاب عن الأنظار ،و�أجرى التجارب واملعادالت والر�سوم البيانية .وقدر فر�ص جتنبه حمكمة التفتي�ش �أو تهدئتها ،وحاول �أن يهيئ لفل�سفته منهج ًا ريا�ضي ًا .وحلياته منهج ًا فل�سفي ًا.
فل�سفته
ومن �أين يبد�أ؟ يف "مقال يف املنهج " ،وهو الكتاب الفذ ال��ذي يعد فاحتة ع�صر جديد، �أعلن عن �أول مبد�أ ،كان ميكن يف حد ذاته، �أن يقيم عليه الدنيا ويقعدها ويثري عليه غ�ضب �أويل الأم ��ر ،وه�ك��ذا ك��ان .فقد كان املو�ضوع مكتوب ًا يف لغة فرن�سية متميزة مي�سرة ،يف �صيغة املتكلم احلية ال�ساحرة. لقد �أح��دث ث��ورة كبرية يف التفكري ،وقال ديكارت �أنه كان �سعيد ًا ينبذ كل النظريات وامل� �ب ��ادئ وال �ت �ع��ال �ي��م ،وي��ط��رح ك��ل جهد ومرجع ،ويوجه خا�ص الفيل�سوف �أر�سطو. و�سيبد�أ ب�صفحة جديدة خالية من �أي �شيء، وي�شك يف كل �شيء�" .إن ال�سبب الأ�سا�سي يف �أخطائنا ميكن يف �أه ��واء طفولتنا... فاملبادئ التي اعتنقها يف �شبابي ،ا�ستمر على الأخ ��ذ بها دون �أن �أحت ��رى حقيقتها ومبلغ ال�صدق فيها". ولكنه مي�ضي قدم ًا� ،إذا �ساوره ال�شك يف كل �شيء؟ .وملا كان مولع ًا بالريا�ضيات ،وفوق ك��ل ��ش��يء بالهند�سة ال�ت��ي د�أب ��ت عبقريته على حتويلها ،فقد تاقت نف�سه ،بعد ابتدائه بال�شك ال���ش��ام��ل �إىل ال�ع�ث��ور ع�ل��ى حقيقة ميكن الت�سليم بها على الفور ب�صفة عامة مثل بديهيات �إقليد�س�" .إن �أر�شميد�س،
◄
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
لكي يتي�سر له �أن يزحزح الكرة الأر�ضية من مكانها وينقلها �إىل مكنا �آخر ،تطلب �أن تكون هناك نقطة واح��دة ثابتة ال تتحرك، و�أنا باملثل� ،سيكون يل احلق يف �أن ا�ستب�شر خري ًا كثري ًا �إذا �أ�سعدين احلظ ،ف�أ�ضع يدي على �شيء واح��د م�ؤكد ال ن��زاع فيه( .و�أكد على هذه النقطة متهل ًال�" :أنا �أفكر ،ف�إذن �أنا موجود" .وهي �أ�شهر عبارة يف الفل�سفة ومل يق�صد بها �أن تكون قيا�س ًا منطقي ًا ،بل خربة مبا�شرة ال �سبيل لإن�ك��اره��ا ،وه��ي �أو�ضح و�أجلى فكرة ميكن �أن نح�صل عليها ،وتكون �سائر الأفكار "�صحيحة" على قدر اقرتابها من هذه البديهية الأ�سا�سية-الإدراك احل�سي املبا�شر ،من حيث اجلالء والو�ضوح ،وكان "منهج" ديكارت اجلديد يف الفل�سفة هو �أن يحلل الأف�ك��ار املركبة �إىل مكوناتها ،حتى ت�صبح العنا�صر غري القابلة لالختزال �أفكار ًا ب�سيطة وا�ضحة جلية ،ويبني �أن مثل هذه الأفكار كلها ميكن �أن ت�شتق من� .أو تعتمد على ،ال�شعور الأول لكائن يفكر� .أننا على العك�س ،يجدر بنا �أن نحاول �أن ن�ستنتج م��ن ه��ذا الإدراك احل�سي الأول كل املبادئ الأ�سا�سية يف الفل�سفة.
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
كانت ثورة يف الفل�سفة حني اتخذ ديكارت نقطة البداية ،ال الأ�شياء اخلارجية املفرو�ض �أنها معروفة بل الذات الواعية .لقد اكت�شفت فل�سفة النه�ضة "الفرد" ،ولكن ديكارت جعل منه همزة الو�صل يف فل�سفته�" .إين لأرى بو�ضوح �أنه لي�س ثمة �شيء �أي�سر على �أن اعرفه ،من عقلي �أنا( ")89و�إذا بد�أنا باملادة، و�سرنا قدم ًا عرب م�ستويات احلياة الع�ضوية �إىل الإن �� �س��ان ف� ��إن االت �� �ص��ال �أو الرتابط املنطقي قد يغرينا بتف�سري العقل ب�أنه مادي. ولكننا ال ن��درك امل��ادة �إال عن طريق العقل وحده .والعقل فقط هو الذي ميكن معرفته �أو �إدراك��ه مبا�شرة ( من دون �سلطة) وهنا تبد�أ املثالية ،ال مبعناها الأخالقي ،بل على �أنها فل�سفة تبد�أ باحلقيقة املبا�شرة للأفكار، �أك�ث�ر مم��ا ت�ب��د�أ ب��الأ��ش�ي��اء ال�ت��ي ت�ع��رف عن طريق الأف �ك��ار "ولي�س ثمة حتقيق ميكن اقرتاحه �أج��دى من حتقيق يحاول حتديد طبيعة املعرفة الإن�سانية ومداها" .وملدة ثالثة قرون كانت الفل�سفة تت�ساءل عما �إذا كان "العامل اخلارجي" موجود ًا �إال كمجرد فكرة. وك��م��ا ك��ان م � � ��ن
وم� � � � � � � ��رة �أخ� ��رى
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
الع�سري �أن نعرب من اجل �� �س��م �إىل العقل، بنظرية تقدر ق��در كل م��ن م�صدر الأحا�سي�س وقوتها ووا�ضح �أنهما ماديتان ،وطبيعة الأفكار التي يبدو �أنها طبيعة غري مادية ،ف��إن ديكارت كذلك، وقد بد�أ بالنف�س ،وجد من الع�سري االنتقال من العقل �إىل الأ�شياء .فكيف يت�سنى للعقل �أن ي��درك �أن الأحا�سي�س التي يبدو �أنها تدلل على عامل خارجي ،لي�ست �شيئ ًا �أكرث من حاالته هو (�أي العقل)؟ وكيف ي�صدق احلوا�س التي غالب ًا ما تخدعنا وت�ضللناـ �أو ال�صور العقلية التي تكون م�شرقة عندما تكون ٍ(زائفة) يف النوم ،قدر �إ�شراقها عندما تكون "حقيقية" يف اليقظة؟. وه��رب � ًا م��ن �سجن النف�س "الأنانة" يلج�أ ديكارت �إىل الله ال��ذي ال ميكن بالقطع �أن يجعل من كل حوا�سنا جمرد خدعة .ولكن متى يدخل الله يف هذا املنهج الذي بد�أ يف ج ��ر�أة بال�شك يف ك��ل املعتقدات واملبادئ التي تلقاها الإن�سان؟ �إن ديكارت ال ي�ستطيع �إثبات وجود الله من �شواهد بديع �صنعه يف العامل اخلارجي ،ولأنه مل يو�ضح بعد وجود هذا العامل اخلارجي .ولذلك �أخرج ديكارت "الله" من "النف�س املدركة" ،متام ًا مثل فعل �آن�سلم يف "الربهان الوجودي" قبل ذلك ب�ستة ق��رون .وهو يقول� :إن لدي ت�صور ًا لكائن كامل مثايل قدير عليم� ،ضروري، خ��ال��د ول�ك��ن ه��ذا ال ��ذي ي��وج��د �أق ��رب �إىل الكمال من ه��ذا ال��ذي مل يوجد ،وعلى ذلك ف��إن الكائن الكامل املثايل يجب �أن يكون الوجود من بني �صفاته. ومن ال��ذي كان ي�ستطيع �أن يبث َّ يف هذه الفكرة �إال الله �سبحانه وت �ع��اىل؟ "ومن امل�ستحيل �أن �أحمل يف نف�سي فكرة الله� ،إذا مل ي�ك��ن ال�ل��ه م��وج��ود ًا حق ًا". و�إذا كان الله يريد �أن يخدعنا فلن يكون كام ًال ومن ثم ف�إنه ال ي�ضللنا عندما تكون لدينا �أفكار وا�ضحة جلية ،وال حني يتيح حلوا�سنا �أن تك�شف لنا عن عامل خارجي" .ل�ست �أدري كيف ميكن الدفاع "عنه �سبحانه" �أو تربئته م��ن تهمة اخل ��داع والت�ضليل �إذا كانت هذه الأفكار ناجتة عن �أ�سباب غري متعلقة ب�أ�شياء ج�سدية مادية .ومن ث��م يجب �أن نقر ب ��أن الأ��ش�ي��اء اجل�سدية امل��ادي��ة موجودة" ،وم��ن ث��م تن�سد ب�شكل رائع الهوة بني العقل وامل��ادة ،بني الذرات واملو�ضوع وي�صبح ديكارت ،بعون من الله، واقعي ًا .والعلم نف�سه�-إمياننا الرا�سخ يكون
منطقي خا�ضع لنظام مطيع للقانون ،ميكن التعرف عليه و�إح�صاء ما فيه-ي�صبح �أمر ًا ممكن ًا ،ال ل�شيء �إال لأن الله موجود ،وحا�شا الله �أن يكذب. و�إنا �إذ نتتبع ديكارت لن�شهد [ع�صر العقل] يف طفولته ي�تراج��ع ف��زع � ًا م��ن مغامرات الفكر ،حم��او ًال ال��ول��وج ثانية �إىل حظرية الإمي��ان الدافئة .ورغبة يف بث الطم�أنينة من جديد �أطلق على "الت�أمالت" :ت�أمالت رينيه ديكارت يف فل�سفة �أوىل� ،أب��رز فيها وج��ود الله وخلود النف�س.و�أهدى الكتاب �إىل احلكيم الأمل �ع��ي عميد كلية الالهوت املقد�سة يف باري�س"� ،أي ال�سوربون .وتقبل العميد الهدية ،ولكن يف � 1662أدرج الكتاب يف ق��ائ�م��ة ال�ك�ت��ب امل �ح �ظ��ورة" ،حتى يتم ت�صحيحه" .وبد�أ الكتاب على نف�س الن�سق اجلريء الذي بد�أت به "املقاالت" "اليوم... وقد هي�أتُ لنف�سي انقطاع ًا �أكيد ًا لريا�ضة روحية هادفة ،فل�سوف �أنكب �أخري ًا ،انكباب ًا منطلق ًا جاد ًا ،على ا�ستعرا�ض عام لكل �آرائي ال�سابقة" .لقد �ألقى بها جميع ًا من النافذة ،ثم �أجاز لها الدخول من الباب .ومل يكن من بني هذه الآراء� ،إميانه ب�إله عادل قدير فح�سب، بل كذلك �إميانه ب�إرادة �إن�سانية حرة و�سط �آلية (ميكانيكية) كونية ،ونف�س باقية (غري فانية) على ال��رغ��م م��ن اعتمادها الوا�ضح �ان .وم�ه�م��ا �سلمنا مبنطق ع�ل��ى ج���س��دٍ ف� � ٍ العالقة الوثيقة التي ال تنف�صم عراها بني ال�سبب والنتيجة يف عامل امل��ادة واجل�سد، ف�إن حرية �إرادتنا فكرة من �إحدى الفكرات الفطرية املت�أ�صلة ،الوا�ضحة اجللية ،احلية املبا�شرة� ،إىل حد �أنه ال ميكن �أن ي�شك فيها �أحد قط ،مهما حاول كثري ًا �أن يتالعب بها (�أي الفكرات) يف النظريات املجردة. �إن فكرة الله ،وفكرة النف�س ،وفكرة املكان وال ��زم ��ان ،وف �ك��رة احل��رك��ة ،والبديهيات الريا�ضية كلها فطرية مت�أ�صلة ،مبعنى �أن النف�س ال ت�ستمدها من الإح�سا�س واخلربة، ب��ل م��ن ج��وه��ره��ا وعقالنيتها( .وه �ن��ا قد ي�ع�تر���ض ل���وك ،وي��واف��ق ك��ان��ت) .ومهما يكن من �أم��ر ،ف��إن هذه الأفكار الفطرية قد تظل ال واع �ي��ة حتى تخرجها اخل�ب�رة يف � �ص��ورة واع �ي��ة ،والنف�س حينئذ ال تكون نتاج ًا للخربة ،بل �شريكها الن�شيط املبدع يف �إنتاج الفكر� .إن هذه النف�س العقالنية "القدرة على التعقل" وا��ض��ح �أن�ه��ا غري مادية ،ولي�س لأفكارها طول وال عر�ض ،وال موقع وال وزن ،وال �أية خا�صية �أخ��رى من خوا�ص املادة�" .إين �أنا� ،أي النف�س التي �أنا بها كما �أنا عليه الآن ،هي �أ�سا�س ًا متميزة عن اجل�سد بل حتى من الأي�سر �أن نعرفها مما نعرفه" .وعلى ذلك ف�إن هذا العقل �أو النف�س
غري املادية ميكن �أن تبقى بعد اجل�سد ،وال بد �أنها تبقى. ت��رى ه��ل كانت تلك النتائج القومية التي انتهى �إليها ديكارت �صادقة خمل�صة� ،أو �أنه �أ�ضفى عليها لون ًا وقائي ًا؟ .هل كان ديكارت تواق ًا �إىل متابعة درا�سته العلمية يف هدوء و�سالم بعيد ًا عن اال�ضطهاد والتعذيب� ،إىل حد �أنه كان ينفث امليتاقيزيقا مثل غ�شاوة م��رب �ك��ة حت ��ول دون ان �ق �� �ض��ا���ض الطيور اجلارحة عليه؟ ل�سنا منلك اجلزم ب�شيء يف هذا ال�صدد .وقد يت�سنى المرئ �أن يكون عامل ًا فا�ض ًال على الأق��ل يف الفيزياء ،والكيمياء، والفلك� ،إن مل يكن يف البيولوجيا-ويف نف�س الوقت يتقبل التعاليم الأ�سا�سية يف امل�سيحية .ويف �إحدى مقاالته �أكد ديكارت �أن العقل ال يحول دون ت�صديق �أ�شياء نزل بها الوحي الإل�ه��ي ،على �أنها �أك�ثر يقينية من �أر�سخ معرفتنا و�أجدرها بالثقة "وتنم ر�سائله م��ع �إل�ي��زاب��ث �أم�ي�رة ال�ب��االت�ين ،يف �أ�سلوب ف�صيح عن التقى والتم�سك بال�صراط امل�ستقيم .وزاره �ساالميو�س يف ليدن 1637 فو�صفه ب�أنه "كاثوليكي غيور جد ًا". على �أن��ه تفرغ يف العقد الأخ�ير من حياته للعلم .وح ��ول داره �إىل م�ع�م��ل ،و�أج ��رى جت��ارب يف الفيزياء ووظ��ائ��ف الأع�ضاء، و�إذا طلب �أحد زواره �أن يرى املكتبة� ،أ�شار ديكارت �إىل ربع عجل كان يقوم بت�شريحه. وكان يف بع�ض الأحيان يتحدث ،كما حتدث بيكون ،عن الفوائد العملية-الهائلة التي يجنيها اجل�ن����س ال�ب���ش��ري ح�ين ي�ستطيع ال�ع�ل��م �أن يجعل ال�ن��ا���س "�سادة الطبيعة وامل�سيطرين عليها" وكثري ًا ما �أدى توكيده الذاتي على اال�ستنباط وثقته فيه� ،إىل نتائج غام�ضة .ولكنه-ا�شتغل �شغ ًال خالق ًا بعدة علوم .و�ألح على �أن ي�ستبدل العلم بالأفكار التجريدية النوعية الغام�ضة التي �سادت علم الفيزياء ،يف الع�صور الو�سطى� :إي�ضاحات كمية م�صوغة يف �صيغ ري��ا��ض�ي��ة ،ولقد �شهدنا تطويره للهند�سة التحليلية و�إ�شارته �إىل ح�ساب التفا�ضل والتكامل الالنهائي. وح ��ل م���ش��اك��ل ت�ضعيف امل�ك�ع��ب وتثليث الزاوية .وابتدع فكرة ا�ستخدام احلروف الأوىل من ح��روف الهجاء لتمثل الكميات امل �ع �ل��وم��ة ،واحل�� ��روف الأخ��ي��رة لتمثيل الكميات املجهولة.ويبدو �أنه اكت�شف قانون انك�سار ال�ضوء م�ستق ًال عن �سنل Snen وحالفه التوفيق يف درا�سة القوى العظمى التي حتدثها و�سائل �صغرية ،مثل البكرة والأ� �س �ف�ين وال��راف �ع��ة وامل�ل��زم��ة والعجلة، و�صاغ قوانني الق�صور الذاتي والت�صادم وكمية التحرك ،ورمب��ا �أوح��ى �إىل با�سكال ب ��أن ال�ضغط اجل��وي ينخف�ض باالرتفاع،
ولو �أنه �أخط�أ يف �إعالن �أنه ال يوجد ثمة- فراغ �إال يف عقل با�سكال .و�أ�شار �إىل �أن كل ج�سم حموط بدوامات من ج�سيمات دقيقة تدور حوله-يف طبقات كروية-وهي فكرة ت�شبه نظرية املجال املغناطي�سي احلالية. ويف الب�صريات ح�سب ح�ساب ًا �صحيح ًا زاوي ��ة االن�ك���س��ار ،وح�ل��ل ال �ت �غ�يرات التي يتعر�ض لها ال�ضوء بفعل العد�سة البللورية للعني ،وحل م�شكلة ت�صحيح الزيغ الكروي يف التل�سكوب ،و�صمم عد�سات ذات تقو�س بي�ضي ال�شكل �أو زائ ��دي امل�ق�ط��ع ،خالية من هذا الزيغ .و�شرح جنين ًا ،وو�صفه من الوجه الت�شريحية ،وه��و يقول �أن��ه �شرح ر�ؤو���س حيوانات خمتلفة ليتحقق يف �أيها تكون الذاكرة والت�صور وغريهما .و�أجرى جتارب على الفعل ال�لا�إرادي �أو املنعك�س، و�شرح الطريقة (امليكانيكية) التي تطرف بها العني عند اق�تراب ال�ضربة �أو اللطمة. وو�ضع نظرية لالنفعال �شبيهة بتلك التي و��ض�ع�ه��ا ول �ي��م جيم�س وك� ��ارل الجن� :إن ال�سبب اخل��ارج��ي ل�لان�ف�ع��ال (م�ث��ل وقوع نظرنا على حيوان خطري) يولد ذات�ي� ًا �أو �آني ًا فع ًال م�ستجيب ًا (ال�ه��رب) والإح�سا�س املرتبط به (اخل��وف) ،فاالنفعال هو �إجناز الفعل ال �سببه .واالن�ف�ع��االت مت�أ�صلة يف الف�سيولوجيا ،ويجب درا�ستها وتف�سريها على �أنها عمليات ميكانيكية ،ولي�ست يف حد
ذاتها �سيئة لأنها الريح يف �أ�شرعتنا ولكن �إذا مل يلطف منها العقل ويحد منها ،ف�إنها قد ت�ستبعد الإن�سان وتدمره. وميكن اعتبار الكون كله ميكانيكي ًا ،فيما عدا الله والنف�س العقالنية ،وعر�ض ديكارت هذه الفكرة وجاليليو وحمكمة التفتي�ش ماثلتان �أم ��ام عينيه-على �أن�ه��ا جم��رد ف��ر���ض :ف�إذا افرت�ضنا �أن الله خلق املادة ووهبها احلركة، فيمكننا �أن نت�صور �أن العامل يتطور بعد ذلك ،وفق قوانني امليكانيكا ،من دون تدخل، �إن احلركة الطبيعية للج�سيمات املادية يف كون لي�س فيه فراغ ،ت�أخذ �شك ًال دائري ًا ي�ؤدي �إىل دوام ��ات خمتلفة م��ن احل��رك��ة .وميكن �أن تكون ال�شم�س والكواكب والنجوم قد تكونت بفعل جتمع ه��ذه اجل�سيمات يف م��رك��ز ه��ذه ال��دوام��ات ،وك�م��ا �أن ك��ل ج�سم حموط بدوامة من ذرات دقيقة-وهذا يف�سر التما�سك وال�ت�ج��اذب-ف��إن كل كوكب كذلك حم�صور يف دوامة من اجل�سيمات حتتفظ بتوابعه يف م��داره ،وال�شم�س مركز دوامة هائلة تندفع الكواكب �إليها حول ال�شم�س يف دوائر .وكانت نظرية بارعة ،ولكنها �سقطت ع�ن��دم��ا �أث �ب��ت كبلر �أن م� ��دارات الكواكب بي�ضاوية ال�شكل .ويقول ديكارت ب�أنه لو كانت معرفتنا تامة كاملة لكان يف مقدورنا �أن ن�ح��ول-ال الفلك والفيزياء والكيمياء، فح�سب-بل كل عمليات احلياة ،با�ستثناء
العقل ذات��ه ،نحولها �إىل قوانني ميكانيكية ف ��إن التنف�س واله�ضم، ب��ل ح�ت��ى ال �� �ش �ع��ور ،كلها ميكانيكية� ،أنظر كيف كان هذا املبد�أ مفيد ًا يف اكت�شاف هاريف للدورة الدموية .وطبق ديكارت ،يف ثقة تامة ،فكرة امليكانيكية ،على كل عمليات احليوانات ،لأنه �أبى �أن يخلع عليها القدرة على التفكري العقلي .ورمب��ا �أح ����س ب�أنه م�ضطر ،من الوجه الديني� .إىل ظلم احليوان على هذه ال�صورة ،لأنه كان قد �أ�س�س خلود النف�س على عدم مادية الذهن العقالين ،ف�إذا كان للحيوانات مثل هذا الذهن كذلك ،لكانت هي الأخرى باقية �أو غري فانية ،ورمبا كان يف هذا �إزعاج� ،إن مل يكن لهواة الكالب ،فهو على الأقل لرجال الالموت. ول�ك��ن �إذا ك��ان ج�سم الإن �� �س��ان �آل ��ة مادية فكيف يت�سنى للعقل غ�ير امل��ادي �أن يعمل ف �ي��ه� .أو ي�ح�ك�م��ه ب �ق��وة غ�ي�ر ميكانيكية مثل الإرادة احل ��رة؟ وه�ن��ا يفقد ديكارت ثقته ،فيجيب يائ�س ًا ب��أن الله يرتب تفاعل اجل �� �س��م وال �ع �ق��ل ب��ط��رق خ �ف �ي��ة ال ي�صل �إليها �إدراك �ن��ا امل �ح��دود .ورمب��ا ارت� ��أى �أن العقل يعمل يف اجل�سم ع��ن ط��ري��ق الغدة ال�صنوبرية املو�ضوعة ب�شكل منا�سب يف قاع املخ .وكان �أثر ت�صرفات ديكارت تهور ًا
5
وطي�ش ًا طوال حياته� ،أنه طلب من مر�سن �أن يبعث مقدم ًا بن�سخ من كتاب "الت�أمالت" �إىل بع�ض املفكرين مع دعوتهم لإر�سال ما يعن لهم م��ن اع�ترا��ض��ات عليه ،ورد ًا على ذلك دح�ض جا�سندي �آراء دي�ك��ارت يف كيا�سة فرن�سية .ف� ��إن ال�ك��اه��ن مل يقتنع بحجة- ديكارت الوجودية عن وجود الله� .أما هوبز فاعرت�ض على �أن ديكارت مل يثبت ا�ستقالل العقل عن امل��ادة وامل��خ .ويقول �أوب��ري ب�أن هوبز ب�صفة خا�صة "كان مييل �إىل القول ب�أنه ديكارت لو ق�صر نف�سه على الهند�سة مت��ام � ًا لأ��ص�ب��ح �أع �ظ��م علماء الهند�سة يف العامل ،و�أنه مل ين�سجم مع الفال�سفة .واتفق هيجينز مع هوبز ،وذهبا �إىل �أن ديكارت ن�سج ق�صة خيالية من عناكب امليتافيزيقا. والآن وبعد ثالثة قرون من البحث واملناق�شة قد يكون من الي�سري �أن نتبني نقاط ال�ضعف يف �أول منهج حديث ج��ريء للفل�سفة� .أن فكرة حتويل الفل�سفة �إىل �صيغ هند�سة، �ساقت ديكارت �إىل طريقة ا�ستنباطية ،اعتمد فيها يف طي�ش زائ ��د ،ب��رغ��م جت��ارب��ه ،على نزعته �إىل اال�ستنباط .و�أنه لعمل انتحاري �أن جنعل من الو�ضوح �أي��ة فكرة وجالئها وبهائها وبداهتها اختبار ًا ل�صحتها ،فمن ذا الذي يج�سر على هذا الأ�سا�س ،على �إنكار دوران ال�شم�س ح��ول الأر� ��ض؟ واملحاجة ب ��أن الله موجود لأن لدينا فكرة وا�ضحة م�ت�م�ي��زة ع��ن ك��ل ك��ائ��ن ال ن�ه��ائ��ي ب��ال��غ حد الكمال (وه��ل ه��ذا �صحيح؟) ،ث��م املحاجة ب�أن الأفكار املتميزة جديرة بالثقة لأن الله ال ميكن �أن يخدعنا� ،إن هي �إال �ضرب من التفكري دائري مثل مدارات كواكب ديكارت. �إن هذه الفل�سفة تت�ضح مبفاهيم �سكال�ستية الع�صور الو�سطى ،التي ن�صحت بنبذها. �إن �شك مونتيني كان �أثبت و�أبقى من �شك ديكارت الذي مل يفعل �إال �أن زحزح الهراء التقليدي ليف�سح مكان ًا لهرائه هو. ومع هذا كله ،بقي يف علم ديكارت� ،أن مل يكن يف "ميتافيزيقاه" ما ي�شيع يف نف�سه اخلوف من اال�ضطهاد والتعذيب .ف��إن نظريته يف "ميكانيكية الكون" تركت املعجزات والإرادة احلرة يف موقف خطر وم��أزق حرج ،برغم اعرتافه بالدين القومي وال�صراط امل�ستقيم.
�أن�� ��ه ملا �سمع �أنه ج��ال �ي �ل �ي��و (ي � � ��ون� � � �ي � � ��ه )1633ط���رح جانب ًا م�ؤلفه ال�ضخم "العامل" ال ��ذي ك ��ان قد اع��ت��زم �أن ي���ض��م ف �ي��ه �شتات �أبحاثه العلمية والنتائج التي تو�صل �إل�ي�ه��ا ،وك�ت��ب ،وقلبه يقطر �أ��س��ى وحزن ًا، �إىل مر�سن :لقد كان لهذا النب�أ �أعمق الأثر يف نف�سي ،حتى ك��دت �أعقد العزم على �أن �أحرق كل خمطوطاتي� ،أو على الأقل �أخفيها ع��ن الأن��ظ��ار ...و�إذا كانت حركة الأر���ض غري �صحيحة ،ف��إن كل مبادئ فل�سفتي عن "ميكانيكية العامل" خاطئة ...لأنها كلها مرتابطة ي�ؤيد بع�ضها بع�ض ًا ...ولكني على �أية حال لن �أن�شر �شيئ ًا يت�ضمن كلمة واحدة تغ�ضب الكني�سة ".وعند وفاته مل توجد �إال ق�صا�صات قليلة من خمطوطة "العامل". ومل ي�� ِأت الهجوم (يف حياته) من الكني�سة الكاثوليكية ،بل من رجال الالهوت الكلفنيني يف جامعتي �أوترخت وليدن .فقد عدوا دفاعه عن الإرادة احلرة هرطقة خطرية ت�سيء �إىل "الق�ضاء والقدر" كما ر�أوا يف "ميكانيكية الكون "فكرة تنزلق به �إىل حافة الإحلاد، ف ��إذا ك��ان ال�ك��ون ي�ستطيع �أن ي�سري ملجرد قوة دافعة يبد�أ بها الله "فما هي �إال م�س�ألة وقت حتى ينجز الله دفعته اال�ستهاللية �أو الأوىل هذه .ويف ،1641عندما تبنى �أحد �أ��س��ات��ذة �أوت��رخ��ت فل�سفة دي �ك��ارت� ،أغرى رئي�س اجلامعة ،ج�سربت فو�شيو�س ،والة الأمور يف املدينة ب�إدانته الفل�سفة اجلديدة وحتريكمها .فما كان من ديكارت �إال �أن �شن هجوم ًا على فو�شيو�س ،الذي رد عليه رد ًا عنيف ًا ،وعواد ديكارت الكرة ،وقارعه احلجة باحلجة .ويف 1643دعا الق�ضاء الفيل�سوف للمثول �أمامهم .ولكنه رف�ض ،و�صد احلكم عليه ،فتدخل �أ� �ص��دق��ا�ؤه يف اله��اي ،فقنع �أولو الأمر يف املدينة ب�إ�صدار قرار بحظر �أي��ة مناق�شة علنية ت�أييد ًا �أو تفنيد ًا لآراء ديكارت .ووجد بع�ض ال�سلوى يف �صداقته م��ع الأم�ي�رة �إل�ي��زاب��ث التي كانت تقيم يف الهاي مع والدتها �إليزابث ناخبة البالتني ملكة بوهيميا املخلوعة .وكانت الأمرية يف التا�سعة ع�شرة حني ظهر كتاب "املقاالت" ،1637فقر�أته يف ده�شة ممزوجة باالبتهاج وال���س��رور مب��ا ر�أت �أن الفل�سفة وا�ضحة مفهومة ي�سهل �إدراكها ،والتقى بها ديكارت وابتهج مبا ر�أى من �أن امليتافيزيقا قد تت�سم
◄
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6 ب��اجل�م��ال .و�أه ��دى �إىل الأم�ي�رة ال�صغرية كتابه "مبادئ الفل�سفة" وكتب كلمة الإهداء يف لغة تفي�ض مبلق بالغ البهجة وال�سرور. وماتت حيث كانت رئي�سة دير للراهبات يف و�ستفاليا (.)1680 ومل يطب املقام لديكارت يف هولندا ،كما كان من قبل ،فكان كثري الرتدد على فرن�سا: ( .)1648 ،1647 ،1644و�أثار فيه الروح الوطنية معا�ش �أجرته عليه حكومة لوي�س ال��راب��ع ع�شر اجل��دي��دة ( .)1646واحتال للح�صول ع�ل��ى �أح ��د امل�ن��ا��ص��ب الإداري � ��ة، ولكن اقرتاب ن�شوة احلرب الأهلية (حرب الفروند) ع��اد به �إىل هولندا ،ف��زع� ًا .ويف فرباير 1649تلقى دعوة من كري�ستينا ملكة ال�سويد ،ليح�ضر ليلقنها الفل�سفة .وتردد يف قبول ال��دع��وة ،ولكن �سحرته ر�سائلها التي متت يف لغة فرن�سية ممتازة ،على ذهن متلهف ،انحاز بالفعل �إىل "البهجة الغالية" (فل�سفة ديكارت).وبعثت �إليه ب�أحد �أمراء البحر ي�ستمليه ،ثم ببارجة حربية لتقله، فا�ست�سلم و�أب�ح��ر يف �سبتمرب� /أي�ل��ول من �أم�سرتدام �إىل �ستكهومل. وا�ستقبل بكل مظاهر احلفاوة والتكرمي، ول�ك��ن �أزع�ج�ت��ه رغ�ب��ة امللكة يف �أن تتلقى ال��درو���س ث�ل�اث م ��رات يف الأ� �س �ب��وع ،يف ال�ساعة اخلام�سة �صباح ًا .وكان ديكارت قد تعود �أن يبقى يف فرا�شه �إىل وقت مت�أخر، والتزم باملواعيد التي حددتها امللكة طوال �شهرين ،فكان يخرج م��ن بيته �إىل مكتبة امللكة يف فجر ال�شتاء وثلوجه ،ويف �أول ف�براي��ر� /شباط 1650انتابه ب��رد انقلب �إىل التهاب رئوي ،ويف اليوم احلادي ع�شر فارق احلياة بعد �أن تلقى الأ�سرار املقد�سة الكاثوليكية الأخرية .وكان قد اتخذ لنف�سه �شاعر ًا ،هو "يعي�ش �سعيد ًا من يتوارى عن الأنظار ويتكتم كثري ًا" .ولكن �شهرته كانت قد طبقت الآف��اق قبل موته بعدة �سنوات.
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
لقد نبذت اجلامعات فل�سفته وا�شتم رجال ال��دي��ن رائ �ح��ة الهرطقة يف ت �ق��واه ،ولكن رج��ال العلم �أط��روا ريا�ضياته وفيزياءه، ولكن دنيا الأن��اق��ة يف باري�س� ،أقبلت يف �سرور بالغ على م�ؤلفاته التي كتبها يف لغة فرن�سية م�شرقة جذابة .و�سخر موليري من "ال�سيدات العاملات" الالتي تبادلن �أنباء ال ��دوام ��ات يف ال���ص��ال��ون��ات" ،ولكنهن مل يطقن الفراغ" وك��ان اجل��زوي��ت حتى تلك اللحظة مت�ساحمني مع تلميذهم النجيب، وك��ان��وا ق��د ا��س�ك�ت��وا واح� ��د ًا م��ن طائفتهم �شرع يهاجم ديكارت ،ولكنهم بعد ،1640 مل يعودوا يظلونه بحمايتهم .وكان لهم يف � 1663ضلع يف �أدراج م�ؤلفاته يف قائمة الكتب املحظورة .ورحب بو�سويه وفنلون برباهني ديكارت على املبادئ الأ�سا�سية يف امل�سيحية ،ولكنهم ر�أوا يف ت�أ�سي�سها على العقل خطر ًا على العقيدة ،وا�ستنكر با�سكال االعتماد على العقل ،على اعتبار �أن هذا العقل ري�شة يف مهب الريح. ولكن اعتماد ديكارت على العقل ،هو الذي، على وجه الدقة� ،أيقظ ذهن �أوروبا ،و�أوجز فونتيل الأمر بقوله "�أن ديكارت ...هو الذي �أم��دن��ا بطريقة ج��دي��دة للتفكري ،تدعو �إىل الإعجاب �أكرث مما تدعو فل�سفته ذاتها ،تلك التي يعرتيها قدر كبري من الزيف وال�شك، وفق ًا للقواعد التي علمنا �إياها هو نف�سه "�إن �شك ديكارت �أدى لفرن�سا�-أو للقارة ب�صفة عامة-ما �أداه بيكون لإجنلرتا� -:أن��ه حرر الفل�سفة من �أغالل الزمن و�أطلقها لتبحر يف جر�أة و�شجاعة يف بحر مك�شوف ،حتى ولو �أنها ما لبثت �أن ع��ادت ،عند ديكارت نف�سه �إىل �شاطئ الأمان امل�ألوف .ول�سنا نقول ب�أنه كان ثمة انت�صار عاجل �أو فوري للعقل ،ف�إن التقاليد والأ�سفار املقد�سة كانت �أكرث ثبات ًا وقوة يف �أزهى ع�صور فرن�سا ،وهو "القرن العظيم" �أي ع�صر لوي�س ال��راب��ع ع�شر،
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
�أن�ه��ا ك��ان��ت حقبة ب��ورت روي ��ال وبا�سكال وبو�سويه� ،أكرث منها حقبة خلفاء ديكارت. �أما تلك احلقبة نف�سها يف هولندا فهي ع�صر �سبينورا وبيلي ،ويف �إنكلرتا ع�صر هوبز ول��وك� .أن ال��زرع كان يخرج �شط�أه .وكان لأع �م��ال دي �ك��ارت بع�ض الأث ��ر ع�ل��ى الأدب والفن يف فرن�سا� .إن �أ�سلوبه كان ابتداع ًا منع�ش ًا .وهنا كانت الفل�سفة بلغة قومية يف متناول اجلميع ب�شكل خ�ط�ير ،وقلما يتحدث فيل�سوف ًا مبثل هذه الألفة ال�ساحرة وهو يعدد مغامرات العقل وجتاربه املثرية مبثل ال�سال�سة واحليوية التي يعدد بهما فروا�سار وب�ط��والت الفرو�سية وم�آثرها. ومل ي�ك��ن ك �ت��اب "مقال يف املنهج" جمرد رائ�ع��ة م��ن ورائ��ع النرث الفرن�سي .ب��ل �إنه كذلك �ضرب ،للع�صر الزاهر يف فرن�سا ،مث ًال يف لغته و�أفكاره ،للرتتيب وبراعة التفكري واالع �ت��دال يف الآداب والفنون وال�سلوك واحل��دي��ث .وت�ل�اءم ت��وك�ي��ده على الأفكار ال��وا��ض�ح��ة اجل�ل�ي��ة م��ع ال��ذه��ن الفرن�سي، و�أ�صبح رفعه من �ش�أن العقل �أول قاعدة من قواعد الأ�سلوب املمتاز عند الناقد الفرن�سي بوالو:
"�أحب العقل �إذن، ولت�ستمد كتاباتك وقيمتها منه وحده". وب��ات��ت ال��درام��ا الفرن�سية مل��دة ق��رن�ين من ال��زم��ان ب�لاغ��ة ال�ع�ق��ل ال �ت��ي ت�ن��اف����س مترد ال �ع��اط �ف��ة وال� �ه ��وى ورمب� ��ا ع��ان��ى ال�شعر الفرن�سي بع�ض ال�شيء من دي�ك��ارت ،ف�إن مزاجه و�آلياته (ميكانيكي) مل يرتكا للخيال �أو الأحا�سي�س �سوى جمال �ضيق� .إن فو�ضى
رابليه املهتاجة وا�ستطرد مونتيني الذي ال �ضابط ل��ه ،بل حتى اال�ضطرابات العنيفة يف احلروب الدينية� ،أن هذه كلها �أف�سحت امل �ج��ال ،ب�ع��د دي��ك��ارت ،ملناق�شات كورين ال�ع�ق�لان�ي��ة ،ول ��وح ��دات را� �س�ين العارمة، ولتقوى بو�سويه املنطقية ،ولقانون امللكية والبالد ونظامهما و�شكلهما و�سلوكهما يف عهد لوي�س الرابع ع�شر .و�أ�سهم ديكارت، عن غري ق�صد منه يف ابتداع طراز جديد يف احلياة الفرن�سية ،كما فعل يف الفل�سفة �سواء يف �سواء .ورمبا كان �أثره يف الفل�سفة �أعظم من �أثر �أي مفكر �آخر قبل كانت .لقد ا�ستقى مالربان�ش منه ،وتتلمذ �سبينوزا على منطق دي�ك��ارت ،واكت�شف نقاط ال�ضعف فيه عند ��ش��رح��ه .وق�ل��د "املناق�شات" يف ن�ب��ذة عن �سرية حياته بعنوان "حت�سني التفاهم"، وتبنى امل�ث��ل الأع �ل��ى الهند�سي يف كتابه "الأخالق" ،وب�ن��ى بحثه يف "ا�سرتقاق الإن�سان" على بحث دي�ك��ارت "ر�سالة يف انفعاالت النف�س". وبد�أ تقاليد املثالية يف الفل�سفة احلديثة ،من بركلي �إىل فخت ،بتوكيد ديكارت على الفكر بو�صفه احلقيقة الوحيدة املعروفة بطريق مبا�شر ،مثلما ان�ح��درت تقاليد التجريبية من هوبز �إىل �سبن�سر .ولكن ديكارت قدم للمثالية ت��ري��اق� ًا -مفهوم ك��ون مو�ضوعي ميكانيكي متام ًا-ف�إن حماولته لفهم العمليات الع�ضوية وغري الع�ضوية� ،سواء ب�سواء، على �أ�سا�س ميكانيكي ،هي�أت للبيولوجيا وللف�سيولوجيا قوة دافعة متهورة ولكنها جم��دي��ة .وحتليله امليكانيكي للإح�سا�س واخليال والذاكرة والإرادة� ،أ�صبح معين ًا ال ين�ضب لعلم النف�س احل��دي��ث .وبعد �أن دعم القرن ال�سابع ع�شر يف فرن�سا العقيدة القومية بديكارت ،وج��دت ا�ستثارة القرن الثامن ع�شر �أر�ض ًا خ�صبة يف �شكه املنهجي، ويف اع�ت�م��اده على ال�ع�ق��ل ،ويف تف�سريه
لكل ح�ي��اة احل �ي��وان على �أ��س����س الفيزياء والكيمياء نف�سها� .إن اع�ت��داد الفرن�سي- املغرتب بنف�سه اعتداد ًا مل يتزعزع قط ،كان يربره �أثره املتزايد على الذهن الفرن�سي. �إن "املناظر الكربى" بني العقل والإميان ك��ان��ت تتخذ �شك ًال واع �ي � ًا .ول�ك��ن تاريخها احل��دي��ث ك��ان ق��د ب��د�أ فقط� .إن�ن��ا �إذا �ألقينا نظرة على الأعوام الت�سعني ،1648-1558 من �إليزابث �إىل ري�شليو ،ومن �شك�سبري �إىل ديكارت ،لأدركنا �أن كل الق�ضايا امل�ستحوذة على الأذهان ال تزال حم�صورة يف امل�سيحية، بني املذاهب الدينية املتناف�سة امل�ؤ�س�سة كلها على �إجنيل قبله اجلميع على �أنه "كلمة الله" وثمة جمرد �أ�صوات �شاردة كانت تقول ب�أن امل�سيحية نف�سها ميكن �أن تو�ضع مو�ضع االختبار ،وب�أن الفل�سفة لن تلبث �أن تنبذ كل مذهب خارق للطبيعة. وبعد هذه املراحل الأوىل من ال�صراع بقيت الكاثوليكية م�سيطرة يف ا�سبانيا والربتغال حيث ظلت حماكم التفتي�ش تن�شر الرعب والك�آبة� .أما يف �إيطاليا فقد ات�سمت الديانة العتيقة بروح �أكرث �إن�سانية ،و�أ�ضفت بالفن ع�ل��ى احل �ي��اة ��ش�ي�ئ� ًا م��ن اجل �م��ال ،وزينت الأخالقيات ب��الأم��ل ،وارت�ضت فرن�سا ح ًال و�سط ًا ،وعا�شت امل�سيحية ن�شيطة مزدهرة بني ال�شعب ،كاثوليك �أو هيجونوت ،على حني �أن الطبقات العليا كانت ت�سرح ومترح يف ال�شك ،مرجئة التقى وال��ورع �إىل دنوا الأج � ��ل امل �ح �ت��وم .وق��ام��ت يف الأرا�� �ض ��ي الوطيئة ت�سوية جغرافية ،ف�أبقت املقاطعات اجلنوبية على الكثكلة ،وانت�صرت الكلفنية يف ال�شمال .و�أنقذ الربوت�ستانتية يف �أملانيا كاردينال فرن�سي ،وثبتت بافاريا والنم�سا على والئهما القدمي ،على حني �أعيدت املجر وبوهيميا �إىل حظرية البابا ،و�أ�صبحت الربوت�ستانتية ق��ان��ون الأر� ��ض �أو املبد�أ الر�سمي يف �إ�سكندناوة ،ولكن ملكة ال�سويد �آث ��رت طقو�س روم ��ا ،واق�ترح��ت �إليزابث يف �إن �ك �ل�ترا احت� ��اد ًا ك��رمي � ًا ب�ين الطقو�س ال�ك��اث��ول�ي�ك�ي��ة واحل��ري��ة ال��وط �ن �ي��ة ،ولكن الربوت�ستانتية الإنكليزية التي تفرقت �شيع ًا �أبرزت حيويتها وغامرت بحياتها. ويف غ �م��رة ت�ن��اح��ر اجل �ي��و���ش وامل��ذاه��ب، كانت "دولية العلوم" تكافح ل�ل�إق�لال من اخلرافة واخل��وف .كانت تخرتع �أو تعمل على حت�سني امليكرو�سكوب والتل�سكوب وال�ترم��وم�تر وال �ب��اروم�تر ،وك��ان��ت تبتكر اللوغاريتمات والنظام الع�شري ،وت�صلح التقومي ،وتبتدع الهند�سة التحليلية ،وكانت حت�ل��م ،ل�ف��وره��ا ،بتحويل ك��ل امل��واق��ع �إىل معادلة جربية .وكان تيكوبراهي قد قام بكل الأر�صاد املتكررة ال�صابرة التي مكنت لكربل من �صياغة قوانني حركة الكواكب ،التي �أن��ارت الطريق �أمام نيوتن ليب�صر بقانون ك��وين ع��ام واح ��د .وك��ان جاليليو يك�شف عن عوامل جديدة �أو�سع ،مبناظريه املقربة التي ك��ان يعمل على حت�سينها وتكبريها با�ستمرار ،ويف ق��اع��ات حمكمة التفتي�ش ك��ان ال �ن��زاع ب�ين ال�ع�ل��م وال��دي��ن ي �ف��رغ يف قالب م�سرحي .ويف جمال الفل�سفة ارت�ضى جيوردانو برونو الإعدام حرق ًا حتى املوت، يف حماولته لإع��ادة فهم الألوهية والكون على �أ�س�س تلتئم م��ع �أف �ك��ار كوبرنيك�س، كما �أن فران�سي�س بيكون الذي يدعو ذوي العقول املفكرة �إىل العلم ،كان يخطط مهام العلوم وم�سئوليتها لعدة قرون مقبلة� ،أما ديكارت ،ب�شكه العام ال�شامل ،فقد �ألقى على ع�صر العقل عبئ ًا جديد ًا .وت�شكلت الأخالق والعادات وال�سلوك تبع ًا لتقلبات العقيدة. وت�أثر الأدب نف�سه بال�صراع ،وك��ان لآراء الفال�سفة �صداها يف �شعر مارلو و�شك�سبري ودون .و�سرعان ما تت�ضاءل �أهمية الثورات واحل��روب بني الدول املتناف�سة �إذا قورنت بال�صراع ال�سائد املتزايد بني الإميان والعقل الذي �أهاج ذهن �أوربا وحوله ،بل رمبا ذهن العامل ب�أ�سره.
7
ت��أم�لات ف��ي ت��أم�لات ديكارت "التجريبي��ون كالنم��ل� :إنه��م يجمعون وي�ض��عون َّ كل �ش��يء مو�ض��ع الإ�س��تفادة؛ لك��ن العقالنيني كالعنكبوت :ين�سجون اخليوط من �أنف�سهم"! فران�سي�س بيكون عبدال�سالم املال يا�سني
يدعي العقالنيون �أن رونيه ديكارت (-1596 � )1650إنتق ��ل بالفل�سفة م ��ن كال�سيك َّيتها �إىل حداثته ��ا الأوىل ،من حيث يبد�أ "الفيل�سوف" عن ��ده من ال�ش ��يء ،متح ��ر ًرا م ��ن الفر�ضيات والآراء امل�سبق ��ة الت ��ي �إكت�سبه ��ا م ��ن �أبوي ��ه و�أ�ساتذته .ونحن �إن �س َّلمنا لهم يف م�ساهمات دي ��كارت يف نق ��ل الفل�سف ��ة الكال�سيكي ��ة اىل �أعت ��اب احلداث ��ة ب�صيغته ��ا البدئي ��ة ،ف�إننا ال ن�سل ��م لهم ب� ��إن لذل ��ك �أي �إرتب ��اط حقيقي مع توهم ديكارت مل�س�ألة التح ��رر من الفر�ضيات والآراء امل�سبق ��ة ،ون�ضع من �أج ��ل قولنا هذا امامهم مقول ��ة قدمية �أ�ضحت م ��ن البديهيات امل�س ّلم بها يف عل ��م النف�س هذا اليوم ،و�أعني مقولة ار�سطو: "ال يوج ��د �ش ��يء يف العق ��ل م ��ا مل يكن يف احلوا�س من قبل". �إذ ان م ��ا يدع ��ي دي ��كارت �إكت�شاف ��ه يف نهاية ت�أمالت ��ه ال�ست ��ة ،يف كتاب ��ه املعت�ب�ر (ت�أمالت ميتافيزيقي ��ة يف الفل�سف ��ة االوىل) ،وحتديد ًا وجود الله كفكرة جوهرية م�ستقلة عن العقل الإن�ساين من جهة ،و�أن النف�س الب�شرية التي ال يفرقها ديكارت عن الروح هي �شيء متمايز ع ��ن اجل�س ��م ،وال مت ��وت بال�ض ��رورة مبوت اجل�س ��م� ..إن مايدع ��ي دي ��كارت �إكت�شاف ��ه ال يخ ��رج يف ر�أينا وب�أي ح ��ال من االحوال عن منظومة املدركات املخزونة �صورها يف ذهن دي ��كارت ..ولي�س من �سب ��ب وجيه ي�ستدعينا �إ�ستثناء الل ��ه �أو النف�س الب�شرية من التعميم ال�سابق الذكر. معل ��وم �أن مب ��د�أ "ال�ش ��ك الديكارت ��ي" يق ��وم عل ��ى ثالث ��ة :ال�شك يف احلوا� ��س ،وال�شك يف �أي ��ة �أح ��كام �إزاء الع ��امل اخلارج ��ي ،وال�ش ��ك يف الوج ��ود� .أما (الف ��رد الديكارتي) فيعرف مدرك �أن ��ه موجود ،و�أن ��ه كائن مفكر ،كام ��لِ ، لنواق�ص ��ه؛ وه ��ي فك ��رة و�ضعه ��ا (الل ��ه) يف نف�س ��ه .وك�ش� ��أن �أفالطونُ ،يل � ُّ�ح ديكارت على ف�ص ��ل العق ��ل ع ��ن احلوا� ��س ،و�ص ��و ًال �إىل املعرفة العقلية اخلال�صة ،التي مفتاحها "نور الطبيعة" ،وهي ق ��درة فطرية غر�سها الله يف عقولن ��ا للو�ص ��ول �إىل احلقيقة كم ��ا يت�صور ديكارت. ولك ��ن الأم ��ر اجلوه ��ري ال ��ذي ف ��ات ويفوت الديكارتي�ي�ن ه ��و تغا�ضيه ��م ع ��ن العالق ��ة الرابطة بني ماهي ��ة الله ومدى تطور املعرفة ل ��دى الإن�س ��ان ،فماهية الل ��ه مرتبطة مبعرفة االن�س ��ان �إرتباط� � ًا م�صريي ًا ،لأن ه ��ذه املاهية ت�أ�س�س ��ت ابت ��دء ًا عل ��ى امل�ستحي�ل�ات الت ��ي واجهت هذا االن�سان ،هذه امل�ستحيالت كانت والزال ��ت نا�شئ ��ة ع ��ن الق�صور املع ��ريف عند الإن�س ��ان ،ولي� ��س ادل عل ��ى ذلك م ��ن ان هذه املاهي ��ة (�أي ماهية الله) كانت تتطور وتتغري على مدى التاريخ الإن�ساين ،وهي حتاكي يف تطورها تط ��ور املعرفة عند الإن�سان .وقائمة امل�ستحي�ل�ات (ق�صور املعرفة ل ��دى الإن�سان) تط ��ول كلما عدنا القهق ��ري اىل املا�ضي ،حتى ن�ص ��ل يف فج ��ر التاري ��خ اىل ماهي ��ة ب�سيطة
جمجمة ديكارت يف متحفه يف نظر الإن�س ��ان البدائي ،بل و�أكرث �إرتباط ًا بواقع ��ه اليومي ،فالله يف مراحل متقدمة من تاري ��خ الإن�س ��ان يق ��وم بوظائف كث�ي�رة جد ًا وب�سيط ��ة ج ��د ًا ،وتتطور ه ��ذه الوظائف من حيث النوع كلما �أقرتبنا من ع�صرنا احلايل، �أي �أنه ��ا تدخل يف عملي ��ة خ�صخ�صة حل�ساب الن ��وع وعلى ح�س ��اب الكم ،فوظيف ��ة الله يف حي ��اة الإن�س ��ان كان ��ت وال زال ��ت عل ��ى عالقة عك�سي ��ة مع تطور املعرفة ل ��دى هذا الأن�سان، ووظائف الله هي التي حت ��دد ماهيته� ...إذن م ��ن الذي ي�صنع االخر ،ه ��ل الله الذي ي�صنع معرفتنا �أم معرفتنا هي التي ت�صنع الله؟ �إن م�شكلتن ��ا الي ��وم لي�س ��ت يف حقيقة وجود الل ��ه من عدمه ،ب ��ل هي املوقع ال ��ذي يتواجد فيه الله �ضمن منظومتنا املعرفية ،ف�إ�ستمرار وجود الله �ضمن م�ساحة الواقع املربهن ولو عقالني ًا ،له ت�أثريات �سلبية على جممل حياتنا الب�شري ��ة ،لي�س هذا فح�س ��ب بل هو ذو ت�أثري �سلبي حتى على ماهية الله على �إفرتا�ض �أنه موجود. �أعود لأقول �أن وجود الله يف الفكر الإن�ساين كان واليزال يت�أ�س� ��س على امل�ستحيالت التي واجه ��ت وتواجه االن�س ��ان يف حياته� ،أي �أن ماهية الله مل تتعد ملء الفراغات الكبرية يف قدرة الإن�سان نف�سه ،والتي راح يتلم�سها هذا الإن�سان يف طريق بحثه عن الكمال. وم ��ا الديان ��ات ال�سماوي ��ة �أو امل�ؤ�س�س ��ة على الن�صو� ��ص املوح ��ى به ��ا� ،إال قه ��ر لت�سا�ؤالت الإن�س ��ان يف اجلان ��ب االخر ع ��ن مو�ضوعية الكمال الذي �إفرت�ضت ��ه املعرفة االن�سانية يف ماهية الله �إبتدء ًا ،فها هي الن�صو�ص املقد�سة (الت ��وراة والأناجيل والق ��ر�آن) نف�سها مليئة بت�س ��ا�ؤالت و�شكوك عن �صح ��ة �إدعاء الكمال
يف جوه ��ر مطلق خ ��ارج �إدراك االن�سان ،كما �أ�س�ست ل ��ه الديانات التوحيدي ��ة الثالث� .أما الأجوب ��ة عل ��ى تل ��ك ال�شك ��وك والت�س ��ا�ؤالت فه ��ي على رغم خلوها م ��ن املو�ضوعية كونها قد دون ��ت بيد املنا�صري ��ن �أو املدعني بوجود ذلك اجلوهر املطلق ،ف�إنها اي االجوبة ،جمرد �إع ��ادة ق ��راءة لقائمة امل�ستحي�ل�ات التي يقدر عليها الل ��ه� ،أي الفراغات التي ميلئها الله يف قدرة الأن�سان الناق�صة قيا�س ًا مبعرفته. حت ��ى دي ��كارت ال ��ذي خ ��رج عل ��ى النا�س يف الق ��رن ال�سابع ع�ش ��ر ليعلن �إكت�شاف ��ه املت�أخر ج ��د ًا لوج ��ود الله ،ف�إن ��ه مل ي�ستط ��ع �أن يثبت وج ��ود الل ��ه �إال بع ��د �أن �أثب ��ت وج ��وده هو، �إذن دي ��كارت جع ��ل وجود الل ��ه الحق ًا لوجود االن�سان �إن مل يكن مرتبط ًا به ب�شكل كلي. �إن الظري ��ف يف �إكت�شاف ديكارت لوجود الله هو فرحة امل�ؤمنني بالله بذلك الإكت�شاف! فبعد �أك�ث�ر من ال ��ف وخم�سمائ ��ة �سنة م ��ن �إنت�شار امل�سيحي ��ة كدين من املفرو�ض �أنه يو�صل اىل معرف ��ة الله ،جل� ��س ديكارت �أم ��ام موقد النار مت�أم�ل ً�ا يف �شمعة �صغرية ،ليقدم بعد ذلك اىل امل�ؤمنني برهانه اخلارق على وجود الله� ،أي �أن االميان بالله �سبق �أكت�شافه ب�أكرث من الف وخم�سمائة �سنة! ماهذه املفارقة؟!! ف�إن مل يكن ديكارت م�سيحي ًا م�ؤمن ًا ،قد �أ�ستقر وجود الله كفك ��رة يف منظومته املعرفية منذ طفولت ��ه ،فهل كان ب�إ�ستطاعته �أن يربهن على وجود الل ��ه يف �ستة م�سائل� ،أو حتى �ستمائة م�س�ألة؟ حت ��ى �أن الله الذي جت�سد يف امل�سيح (كم ��ا ت�صوره لنا �أناجي ��ل العهد اجلديد) قبل �أن يخل ��ق دي ��كارت مبئ ��ات ال�سن�ي�ن مل يق ��دم ماقدم ��ه ديكارت من برهان نا�صع على وجود الله ،فامل�سيح مل يق ��م بغري ملء النق�ص عيان ًا
�أمام النا�س ،هذا النق�ص الذي كان يعاين منه الإن�سان يف ذلك الزمن �أو حتى يف زمننا هذا، لكي يثبت �أنه هو الله �أو ابن الله املتج�سد يف ج�سم ب�شري ،ف�إ�شفاء املر�ضى وتكثري الطعام و�إحياء املوتى وغريه ��ا ،ما هي يف اال�سا�س �إال فراغ ��ات يف قدرة الإن�س ��ان ،فهل ن�ست�شف م ��ن ذلك �أن معرف ��ة االن�سان يف زم ��ن امل�سيح مل تك ��ن بالق ��در ال�ل�ازم للربهان عل ��ى وجود الل ��ه امل�ؤمن به �سلف ًا كما فعل ذلك ديكارت بعد مئات ال�سنني؟ يق ��ول دي ��كارت يف معر� ��ض رده عل ��ى االعرتا�ضات الثانية: "الل ��ه ه ��و اجلوه ��ر الذي ن ��درك ان ��ه كامل الكم ��ال اال�سم ��ى وال ��ذي ال نت�ص ��ور في ��ه اي �شيء يت�ضمن اي نق�ص او حد للكمال". �إذن الله وح�سب ديكارت نف�سه ال ميكن �إدراكه �إال بهذه املاهية ،اي "كامل الكمال الأ�سمى".. ويذه ��ب دي ��كارت �أبع ��د م ��ن ذلك ح�ي�ن ينفي �إمكاني ��ة ت�صور ان الل ��ه يت�ضمن اي نق�ص او حد للكم ��ال .ولكننا نت�ساءل عن الأ�س�س التي �أوج ��د عليها ديكارت هذا الكمال املت�صور عن الله؟ �إنه يقين� � ًا �أوجده (الكمال) باملقارنة مبا ال ي�ستطيعه ديكارت ،فهل هذا الكمال ميكن �أن يت�أ�س� ��س اليوم على ما ت�أ�س�س عليه يف ع�صر ديكارت؟ �أو هل �أن هذا الكمال هو نف�سه الذي كان يت�ص ��وره الإن�سان عن الل ��ه قبل ديكارت بال ��ف �سن ��ة �أو الف�ي�ن �أو ع�ش ��رة االف �سن ��ة؟ م ��ا نريد قول ��ه ه ��و �أن الكمال ال ��ذي ت�صوره دي ��كارت يف ماهي ��ة الل ��ه لي�س كم ��اال مطلق ًا، �إال بدرج ��ة تط ��ور املعرف ��ة عند دي ��كارت ،لذا فه ��و ن�سبي يختلف (�أي الكم ��ال املت�صور عن الل ��ه) لدى �إن�سان هذا الع�صر ولو بدرجة اقل و�ضوح ًا من ت�ص ��ور ذلك الكمال عند الإن�سان
يف الع�صور ال�سابقة على ديكارت. وي�ؤكد ديكارت ما ذهبنا اليه يف معر�ض رده على االعرتا�ضات الثانية اي�ض ًا حني يقول: "معنى الله يت�ضمن الوجود ال�ضروري ،:ال جم ��رد الوج ��ود املمك ��ن املت�ضم ��ن يف معاين جميع اال�شياء االخرى". �إذن وج ��ود الله �ض ��رورة �أكرث منه ��ا �إمكانية وجود .ولكن م ��ا دواعي هذه ال�ضرورة التي يجهلها ديكارت �أو يتجاهلها؟ �إنه ��ا قائم ��ة امل�ستحيالت �أو العج ��ز الطبيعي �أو النا�ش ��ئ عن ق�صور املعرف ��ة ،الذي يعانيه الإن�س ��ان يف م�سرية حياته ..فالإن�سان عاجز ع ��ن �إيقاف امل ��وت ،و�إيق ��اف االمل ،واجلوع، والك ��وارث ..وغريه ��ا مما ت�شغ ��ل باله ،ولو رجعنا قلي�ل ً�ا اىل املا�ضي ،فالإن�سان غري قادر عل ��ى الكثري مما �أ�صبح الي ��وم �ضمن قدراته، وهك ��ذا فالقائم ��ة تط ��ول كلما كان ��ت معارف االن�سان حمدودة وتق�ص ��ر كلما تو�سعت تلك املعرفة ،حتى ياتي يوم تتحدد فيه ماهية الله يف اثنت�ي�ن �أو ثالثة م ��ن امل�ستحيالت التي قد تبقى ترافق الإن�س ��ان� ،أو حتى �أننا �سن�ضطر يوم ًا ما اىل �إخ�ت�راع وظائف جديدة لله على طري ��ق �صبغ ��ه ب�صبغ ��ة الكم ��ال اال�سمى كما يقول ديكارت. لنتوقف هنا وننظر ،ال�سنا حقيقة ن�سيء اىل الل ��ه به ��ذا الربط املجحف ب�ي�ن وجوده وبني عجزن ��ا كب�شر؟ �ألي� ��س هذا ه ��و ال�سبب الذي جعل امل�سيحي�ي�ن االوائل يج�س ��دون الله يف �شخ�صي ��ة امل�سيح ،لأنه كان �إن�سان ًا غري عاجز ح�س ��ب ت�صورهم! �إننا م ��ن خالل ربط وجود الله بالكم ��ال الذي نبحث عنه لأنف�سنا كب�شر، �إمن ��ا ن�ضع اال�سا�س لنف ��ي الله من حياتنا يف امل�ستقبل ،وهنا مكمن اخلطر.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
8
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
هل توجد قطيعة بني فل�س��فة ديكارت وفل�سفة النه�ض��ة؟ الزالت هذه امل�س�ألة حمط خالف ب�ين الباحثني املخت�ص�ين يف درا�س��ة الرتاث الديكارتي وم�ؤرخي الفل�س��فة �إىل الي��وم .ي��رى Henri Gouhierو � Etienne Gilsonأن دي��كارت �أح��دث قطيع��ة م��ع فل�س��فة النه�ض��ة ،وذه��ب Etienne Gilson �إىل ح��د القول ب�أن ديكارت و�ض��ع حدا ملغامرات ع�صر النه�ضة ،وو�صفه Henri Gouhierب�أن��ه ميثل نقي�ض النه�ض��ة " ،"Anti-Renaissanceوا�س��تدل على ذل��ك مبا ورد يف ر�س��الة كتبه��ا ديكارت �إىل Beeckmannن��دد فيها بالفل�س��فة الطبيعي��ة لبع���ض الفال�س��فة م��ن املجددين يف ع�ص��ر النه�ضة .ومهما كان ت�أويل هذه الر�س��الة ف�إنه من املمكن مد اجل�سور بني فل�سفة ديكارت والفل�سفة الإن�سية التي كانت قد بد�أت تت�شكل يف فرن�سا خالل ع�صر النه�ضة على يد كل م��ن Sibiudaو Bovellesو Charron من خ�لال مراجعة امل�ش��روع الفل�س��في الديكارتي.
الميتــافيزيقــا الديكـارتية
بي��ن الالهــ��وت والنزعـ��ة اإلنس��ـية �أحمد �أغبال
واحلقيق ��ة �أن م�ش ��روع ديكارت ال ��ذي بلوره من ��د مار� ��س�/آذار 1636وال ��ذي يه ��دف �إىل ت�أ�سي� ��س عل ��م ذي �صالحية كوني ��ة قادر على االرتقاء بالطبيعة الإن�سانية �إىل �أعلى درجات الكم ��ال ،ه ��و امت ��داد لفل�سف ��ة النه�ض ��ة التي كان ��ت ت�سري يف اجت ��اه الف�صل ب�ي�ن الفل�سفة والاله ��وت والرب ��ط ب�ي�ن العل ��م واحلكم ��ة، واالبتع ��اد ع ��ن الاله ��وت ال�سكوالئ ��ي ال ��ذي جعل من امليتافيزيقا علما ت�أمليا ال تربطه �أية �صل ��ة باحلكم ��ة الإن�سانية ،وذل ��ك على عك�س م ��ا جنده ل ��دى �أر�سطو ال ��ذي ا�سته ��ل املقالة
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
الأوىل م ��ن امليتافيزيقا بر�س ��م �صورة جميلة للحكي ��م .لقد ج ��اء م�شروع دي ��كارت كرد فعل لي�س فقط �ضد الف�صل بني العلم واحلكمة ،بل جاء �أي�ضا كرد فعل �ض ��د الف�صل بني الفل�سفة الطبيعية والأخالقية وبني امليتافيزيقا. تع ��د م�س�أل ��ة العالقة ب�ي�ن الفل�سف ��ة الأخالقية وامليتافيزيق ��ا م ��ن امل�سائ ��ل الأ�سا�سي ��ة يف الفل�سف ��ة الديكارتي ��ة .فق ��د كان م�ش ��روع دي ��كارت يف �ألأ�ص ��ل م�شروع ��ا للرتكي ��ب بني خمتلف �أبع ��اد الإن�سان املعرفي ��ة والأخالقية والوجودي ��ة .ولكن ��ه ا�صط ��دم بعراقي ��ل و�صعوب ��ات له ��ا عالقة باملن ��اخ الثقايف العام وو�ضعي ��ة العل ��وم يف زمان ��ه ،ولذل ��ك جاءت مقالت ��ه يف املنه ��ج مق�سمة عل ��ى ثالثة حماور �أ�سا�سية وهي :قواعد املنهج ،قواعد الأخالق والت�أم�ل�ات �أو امليتافيزيق ��ا ..ميك ��ن النظ ��ر �إىل ه ��ذه املح ��اور عل ��ى �أنه ��ا مرتابط ��ة فيما بينها باعتبارها متث ��ل خمتلف جماالت العلم الك ��وين الذي كان يطم ��ح �إىل ت�أ�سي�سه ،ومع �أن دي ��كارت مل يعرب ب�شكل �صريح عن العالقة التي ترب ��ط املجاالت الثالث ��ة بع�ضها ببع�ض ف�إن ه ��ذه العالقة موج ��ودة بالفعل ،وب�إمكان الباح ��ث �أن يك�ش ��ف عنها من خ�ل�ال الوقوف على مقا�ص ��د الفيل�سوف وجتربته يف احلياة كما ترتاءى من خ�ل�ال كتاباته الفل�سفية التي لي�ست غريب ��ة عن فن ال�س�ي�رة الذهنية ،ومن خ�ل�ال الك�شف عن امل�صادرات الأ�سا�سية التي يقوم عليها ن�سق ت�أمالته امليتافيزيقية. يب ��دو من خالل ق ��راءة "الت�أم�ل�ات" �أن هناك عالق ��ة ع�ضوي ��ة ب�ي�ن امليتافيزيق ��ا وفل�سف ��ة الأخ�ل�اق لدى دي ��كارت .ومتثل فك ��رة الكمال الإن�س ��اين يف اعتقادن ��ا املب ��د�أ املنظ ��م ال ��ذي يرب ��ط خمتلف جم ��االت الفل�سف ��ة الديكارتية بع�ضها ببع�ض ..جند هذه الفكرة يف كتاباته
الأ�سا�سية وخا�صة يف الت�أمالت امليتافيزيقة. يق ��ول يف نهاي ��ة الت�أم�ل�ات الرابع ��ة� :إن الله منحن ��ي احلري ��ة لإ�ص ��دار احلك ��م �أو تعليقه عندم ��ا يتعلق الأم ��ر بالأ�شياء الت ��ي ال توجد ل ��دي عنها فكرة وا�ضح ��ة ومتميزة .و�إذا كان من املمكن �أن �أخط�أ ،ف�إن ال�سبب يف ذلك يرجع �إىل وج ��ود نق�ص يف يتعل ��ق ب�سوء ا�ستعمال الإرادة والت�س ��رع يف �إ�ص ��دار الأح ��كام يف الق�ضاي ��ا الت ��ي ال زال يكتنفه ��ا الغمو�ض يف ذهن ��ي .و�إذا كان الل ��ه مل مينحن ��ي ف�ضيل ��ة الع�صم ��ة التي يتوقف وجوده ��ا على املعرفة الوا�ضحة املتمي ��زة بكل الأمور التي ميكنني الب ��ت فيها،ف�إن ��ه منحني على الأق ��ل الو�سيلة الأخ ��رى املتمثل ��ة يف حري ��ة االمتن ��اع ع ��ن �إ�ص ��دار �أي حكم على الأ�شي ��اء التي ال �أعرف حقيقتها معرفة يقينية .وهاهنا بالذات يكمن "الكمال الأ�سا�سي للإن�سان" املتمثل يف حرية الإرادة واالختيار. وهك ��ذا ،ف�إن م ��ا يع�صم الإن�سان م ��ن الوقوع يف الزل ��ل فه ��و حري ��ة الإرادة واالختي ��ار وح�س ��ن ا�ستعمالها .ي�شم ��ل الكمال الإن�ساين به ��ذا املعن ��ى الق ��درة عل ��ى اكت�س ��اب املعرفة اليقيني ��ة وح�سن ا�ستعم ��ال الإرادة واحلرية باعتب ��اره �أ�سا� ��س الأخالق الفا�ضل ��ة .ولذلك ميك ��ن �أن جنعل من فك ��رة الكم ��ال الإن�ساين املبد�أ الأ�سا�سي الأول الذي تقوم عليه كل من الفل�سف ��ة امليتافيزيقي ��ة والفل�سف ��ة الأخالقية عن ��د دي ��كارت .ومن هن ��ا تتب�ي�ن العالقة بني امليتافيزيقا والأخالق يف الفل�سفة الديكارتية، فهما مرتابطان يف الأ�صل ،مبعنى �أنهما بنيا عل ��ى �أ�سا�س واح ��د �أو �أن لهما ج ��ذر ًا واحد ًا، وهو الإميان بقدرة الإن�سان على االرتقاء يف مراتب الكمال. وترجع جذور فكرة الكم ��ال الإن�ساين �إىل ما
قبل ع�صر النه�ضة ،وتبلورت ب�شكل وا�ضح يف ال�ساح ��ة الثقافية الأوروبية من القرن الثالث ع�ش ��ر بعد �أن مت ��ت ترجمة �ش ��روح ابن ر�شد على طبيعي ��ات �أر�سطو �إىل اللغ ��ة الالتينية. وارتبطت هذه الفك ��رة �آنذاك بدرا�سة العلوم الت�أملي ��ة ،حي ��ث بد�أ بع� ��ض املفكرين مييلون �أك�ث�ر ف�أك�ث�ر �إىل االعتق ��اد ب� ��أن حت�صيل هذه العل ��وم ي�ساع ��د الإن�سان عل ��ى اكت�ساب مزيد من الكم ��ال .ولكنها تعر�ضت النتقادات رجال الدي ��ن الذين نددوا به ��ا باعتباره ��ا مناق�ضة لتعاليم الديانة امل�سيحية التي تقول ب�سقوط الإن�س ��ان �إىل ال ��درك الأ�سف ��ل وبالرحم ��ة الإلهي ��ة ،وذل ��ك على اعتب ��ار �أن فك ��رة الكمال الإن�س ��اين تفرت�ض �إمكاني ��ة اخلال�ص خارج نطاق الدين .ورغم مقاومة رجال الدين لهذه الفك ��رة يف الع�ص ��ر الو�سي ��ط املت�أخ ��ر ف�إنه ��ا انتقل ��ت �إىل فال�سف ��ة ع�ص ��ر النه�ض ��ة ،ولكنا ت�سبب ��ت له ��م يف الكث�ي�ر م ��ن املتاع ��ب .و�إذا كان طوما� ��س الإكويني قد �أخذ بفكرة الكمال الإن�س ��اين ،ف�إنه �أك�سبها مدل ��وال �آخر ين�سجم مع التعاليم الديني ��ة :يكت�سب الإن�سان مزيدا م ��ن الكم ��ال يف نظ ��ره ال من خ�ل�ال حت�صيل العل ��وم الت�أملية ولكن من خ�ل�ال ت�أمل الذات الإلهي ��ة ،وال ينال هذه النعمة �إال من كتبت لع ال�سع ��ادة يف احلي ��اة الأخرى .ي ��دل ذلك على ا�ستحال ��ة ارتقاء الإن�س ��ان املذنب �إىل مراتب الكم ��ال العليا يف احلياة الدني ��ا� .إن الإن�سان يف نظر رج ��ال الدين عاجز عج ��زا راديكاليا ع ��ن معرف ��ة �أي �ش ��يء م ��ن الأم ��ور املتعلق ��ة بال ��ذات الإلهي ��ة ،و�أ�صبحت ل ��ه يف الالهوت امل�سيح ��ي ،عل ��ى الأقل من ��ذ ،Duns Scot �ص ��ورة امل�ساف ��ر ال�شقي البعي ��د كل البعد عن ال�سعادة الأخروية ،ومل يعد بو�سعه وهو يف رحلته الدنيوية �إال �أن يطلب الرحمة الإلهية.
ولذلك ح ّرموا الأخذ بفكرة الكمال الإن�ساين. ول�سوف يعاين ديكارت بدوره من هذا القرار الكن�سي. ولقد �أدى قرار التح ��رمي �إىل تغييب الإن�سان من حقل املمار�سة الفكرية طوال فرتة مديدة. ولك ��ن بع� ��ض فال�سف ��ة ع�ص ��ر النه�ض ��ة ممن كان ��ت له ��م ال�شجاع ��ة الكافي ��ة للأخ ��ذ بفكرة الكم ��ال الإن�س ��اين ،م ��ن �أمث ��ال Sibiuda و Bovellesو � ،Charronأع ��ادوا �إلي ��ه املكان ��ة الت ��ي ي�ستحقها يف ع ��امل الفكر، وم ��ن ثمة انتقل ��ت الفكرة �إىل دي ��كارت لت�أخذ �أبعادا ودالالت جديدة ،حيث جعل منها املبد�أ الأ�سا�سي الذي تقوم عليه حماولته الرتكيبية، وهو ما يدل عليه ح�ضورها القوي يف الق�سم الرابع من ت�أمالته امليتافيزيقة. ولع ��ل ما �ص ��رف اهتم ��ام الدار�س�ي�ن لفل�سفة دي ��كارت به ��ذه الفك ��رة ومكانته ��ا يف ن�س ��ق الت�أمالت هو طغيان النظرة الأحادية اجلانب �إىل ال�ت�راث الديكارت ��ي ،مم ��ا �أدى يف نظ ��ر بع� ��ض املحلل�ي�ن �إىل هيمنة ت�أوي ��ل واحد يف الفل�سف ��ة املعا�ص ��رة وه ��و ت�أوي ��ل هايدج ��ر ال ��ذي اخت ��زل امليتافيزيق ��ا الديكارتي ��ة �إىل جم ��رد كونه ��ا امت ��دادا للمذاه ��ب الالهوتي ��ة ال�سكوالئية ،وما يدل على ذلك ،يف نظره ،هو ارتكازها على فكرة تناهي الوجود الإن�ساين الت ��ي تنطوي عل ��ى فكرة اخلطيئ ��ة والذنب. ففي درا�سته ملراحل تطور مفهوم الأنطلوجيا املت�ضمن ��ة يف �أحد الدرو�س الت ��ي �ألقاها عام ،1927ذكر هايدجر �أن ديكارت �أخد مفاهيمه الأنطلوجية الأ�سا�سي ��ة مبا�شرة عن �سواريز و�سك ��وت وطوما� ��س الإكويني ،م ��ن دون �أن يق ��دم �أي دلي ��ل عل ��ى ذل ��ك ،و�أ�ض ��اف �إىل ذلك قول ��ه �إن امليتافيزيق ��ا القرو�سطوي ��ة لي�س ��ت �شيئا �آخر غ�ي�ر الالهوت ،ومن ثمة مت �سحب هذا احلكم عل ��ى امليتافيزيقا الديكارتية ،وما زال يرتدد �صداه �إىل البوم. ال�ش ��ك يف �أن الفل�سفة الديكارتي ��ة ال ت�ستبعد فك ��رة التناه ��ي ،ولكن ه ��ذه الفك ��رة لي�س لها معنى �سلبيا يف ه ��ذه الفل�سفة ،مبعنى �أنها ال تلغ ��ي �إمكانية بلوغ الإن�س ��ان �أق�صى درجات الكمال� .إن االرتقاء يف مراتب الكمال يتحقق ب�ش ��كل تدريج ��ي ،ولكن ��ه ي�س�ي�ر يف اجت ��اه الالمتناه ��ي .وهذه احلرك ��ة الالمتناهية يف اجتاه الكمال هي الدليل على �أن الإن�سان ،يف نظر دي ��كارت ،ال ميكنه �أن يك ��ون ال متناهيا، لأن الالمتناه ��ي ال ينق�ص ��ه �ش ��يء ،ولذل ��ك ال يحت ��اج �إىل احلركة والنم ��و والتطور .ولكن الالمتناه ��ي الثاب ��ت الإيجابي لي� ��س نقي�ضا م ��ن حي ��ث �إيجابيت ��ه للمتناه ��ي املتح ��رك، فالنمو واالرتقاء هو �شيء �إيجابي� ،إنه كمال �إن�ساين� .إن املتناهي يف هذه احلالة �إيجابي ولي� ��س �سلبي ��ا .وتكم ��ن �إيجابيت ��ه وكمال ��ه الأ�سا�س ��ي يف امتالك ��ه ل�ل��إرادة واحلري ��ة. يتجل ��ى ذل ��ك بو�ضوح يف الت�أم�ل�ات الرابعة، كم ��ا �سبق ��ت الإ�ش ��ارة �إىل ذل ��ك .فالإن�س ��ان يف نظ ��ر دي ��كارت ح ��ر يف �أن يخت ��ار تعلي ��ق احلكم كلما كانت املعرف ��ة الوا�ضحة املتميزة بحقيق ��ة الأ�شياء التي ي�ضط ��ر �إىل البت فيها غ�ي�ر متوف ��رة بع ��د� .إن الق ��درة عل ��ى تعلي ��ق احلك ��م جتعلنا �أكرث كماال رغ ��م كوننا كائنات متناهي ��ة .ه ��ذه ه ��ي الأطروح ��ة الأ�سا�سي ��ة املت�ضمنة يف الت�أمالت الرابعة. ويقول دي ��كارت �إنه لي�س ل ��ه �أن يت�أ�سف على �أن الل ��ه مل مينحه كماال �أكرب ،ب ��ل �إن عليه �أن ي�شك ��ره على �أن ��ه منح ��ه القدرة عل ��ى تعليق احلكم كلما كان ��ت املعرفة غري وا�ضحة وغري متميزة .وهنا يكم ��ن الكمال الإن�ساين الأكرب يف نظ ��ره ،يق ��ول باحلرف الواح ��د يف نهاية اجل ��زء الرابع من الت�أم�ل�ات�" :إنه �أكرب كمال �إن�س ��اين" «c’est la plus grande � ،»perfection de l’hommeأو لنق ��ل �إنه احل ��د الأق�صى من الكم ��ال الذي هو كم ��ال بالن�سب ��ة للإن�س ��ان ال بالن�سب ��ة لله وال حت ��ى بالن�سبة للمالئكة .مل ت�أخذ هذه اجلملة بع�ي�ن احل�س ��اب يف الت�أوي�ل�ات الأحادي ��ة اجلانب للميتافيزيق ��ا الديكارتية ،فاختزلتها
�إىل جم ��رد كونه ��ا �شكال من �أ�ش ��كال الالهوت ال�سكوالئي. ويتجلى كمال الإن�سان �أي�ضا يف كمال قدراته. يقول دي ��كارت يف اجلزء الرابع من الت�أمالت �إن الإن�سان برغ ��م كونه خملوق ًا متناهي ًا ف�إنه يتوف ��ر على مل ��كات تت�صف بن ��وع من الكمال اخلا�ص بالنوع الإن�ساين ،وهي فكرة جريئة بالنظ ��ر �إىل ظ ��روف الع�صر ال ��ذي عا�ش فيه ديكارت .وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن ديكارت ال ي�ستخدم مفهوم التناهي باملعنى الالهوتي ال ��ذي يدل عل ��ى الطبيعة ال�شري ��رة للإن�سان، وال ��ذي يتناف ��ى بالت ��ايل م ��ع فك ��رة الكم ��ال الن�سب ��ي .كم ��ا �أنه ال ي�ستخدم مفه ��وم الكمال الإن�ساين باملعنى الأنطلوجي الذي يدل على �أن الإن�سان هو �أرقى املخلوقات جميعا ،وهو م ��ا يدل عليه معنى قوله يف الت�أمالت الرابعة �إنه ال يحق ل ��ه �أن ي�شتكي من كون الله عندما خلق ��ه مل ينزله يف منزلة الكائنات الأكرث نبال وكم ��اال ،وجن ��د الفك ��رة نف�سه ��ا يف ر�سالت ��ه �إىل �إليزابي ��ت Elisabethبتاري ��خ 15 �سبتم�ب�ر� /أيلول ،1645وه ��ي فكرة تن�سجم مع الت�صور الكوبرينيكي للكون الذي مل يعد
الإن�س ��ان يحتل فيه مكان ��ة مركزية .وبقدر ما تن�سج ��م مع الت�ص ��ور الكوبرينيك ��ي بقدر ما تتعار�ض م ��ع الت�صور الالهوتي الذي يجعل من الإن�سان �أ�سم ��ى املخلوقات جميعا .يقول يف الر�سال ��ة امل�شار �إليها" :وب ��دل �أن نن�شغل مبعرف ��ة الكم ��االت الت ��ي توجد فين ��ا بالفعل، نن�سب للمخلوق ��ات الأخ ��رى النواق�ص التي ال توج ��د فيه ��ا لك ��ي ن�سم ��و فوقه ��ا" يتح ��دد مفهوم التناهي�،إذن ،يف عالقته بفكرة الكمال الإن�س ��اين ،م ��ن حيث �أن ال�سع ��ي �إىل حتقيق �أق�صى درجة ممكنة من الكمال يتطلب الوعي مبواطن ال�ضعف التي توقعنا يف اخلط�أ .مما ي ��دل على �أن الإن�سان ال ميث ��ل �أرقى الكائنات املوجودة يف الكون. و�إذا كان يف الإن�س ��ان �ش ��يء م ��ا المتناه ��ي فه ��و الإرادة ،تل ��ك " الإرادة الكامل ��ة املطلقة" ح�س ��ب تعبري دي ��كارت نف�سه يف ح ��واره مع Burmanوالبد من االعرتاف هنا ب�أن هذه الفك ��رة تط ��رح م�شكلة عوي�ص ��ة يف ما يتعلق بت�أويل "الت�أم�ل�ات" .كيف ميكن احلديث عن
تناه ��ي الإن�س ��ان �إذا كانت �إرادت ��ه مطلقة وال متناهية؟ كيف ميكن اجلمع بني تناهي العقل والتناهي الإرادة لدى الإن�سان؟ يتجل ��ى تناه ��ي العق ��ل الإن�س ��اين يف ع ��دم قدرت ��ه على فه ��م الل ��ه �أو على فه ��م غايته من خلق الع ��امل .ولكن انعدام الق ��درة على فهمه ال يعن ��ي ا�ستحالة معرفته .فقد يرهن ديكارت عل ��ى وجود الل ��ه قب ��ل �أن يثبت وج ��وده هو ووج ��ود العامل .ولذلك يقول ب� ��أن معرفة الله �أي�س ��ر �إلي ��ه م ��ن معرف ��ة العامل .تكم ��ن حدود العقل من وجهة النظر هذه يف انعدام القدرة على فهم املطلق ،ال يف العجز على معرفته كما يقول كانط� .إن فكرة الله يف نظر ديكارت هي �أكرث الأف ��كار و�ضوحا ومتيزا .ف� ��إذا كان من خ�صائ�ص املطل ��ق �أنه م�ستغلق على الفهم ملن نظ ��ر �إليه ،ف�إن معرفته ،يف املقابل� ،أي�سر �إليه من معرفة نف�سه. ي ��دل مفه ��وم الكم ��ال الإن�س ��اين عل ��ى من ��ط تفك�ي�ر يرتكز عل ��ى الإمي ��ان بق ��درة الإن�سان عل ��ى معرفة احلقيقة اليقيني ��ة باالعتماد على قدراته الطبيعي ��ة ،ومما يدل على ذلك ت�أكيده يف منا�سب ��ات كث�ي�رة على �أن �سب ��ب الأخطاء
9
الت ��ي نرتكبه ��ا ال يرجع �إىل وج ��ود نق�ص يف طبيعتنا الإن�ساني ��ة ولكن �إىل �سوء ا�ستعمال قدراتنا العقلية و�إرادتنا وحريتنا. ويج ��ب االع�ت�راف م ��ع ذل ��ك ب� ��أن م�س�أل ��ة العالق ��ة ب�ي�ن امليتافيزيق ��ا والأخ�ل�اق عن ��د دي ��كارت م�س�أل ��ة ح�سا�س ��ة للغاية ،فق ��د كانت وال ت ��زال مو�ض ��وع خ�ل�اف مل يح�س ��م بع ��د. ي ��رى ،Ferdinand Alquiéمث�ل�ا� ،أن الفل�سف ��ة الأخالقي ��ة عند دي ��كارت هي "�شيء م�ضاف من اخل ��ارج �إىل فل�سفته" .ونقل عنه ،Martial Gueroultال ��ذي دعم ر�أيه يف هذه امل�س�ألة ،قوله �إنها منت "خارج ن�سق" الت�أمالت .قد يرجع ال�سبب يف اتخاذهما لهذا املوقف �إىل ع ��دم انتباه �أي واح ��د منهما �إىل فك ��رة "الكم ��ال الإن�س ��اين الأ�سا�س ��ي" وعدم تقديرهم ��ا للمكان ��ة الت ��ي حتتله ��ا يف ن�س ��ق الت�أم�ل�ات .و�إذا �أمعنا النظ ��ر يف هذه الفكرة تبني لن ��ا مدى ارتباطها بفك ��رة وحدة الكائن الإن�ساين ومبد�أ التمييز بني الروح واجل�سد. ولبيان هذه العالقة يتعني علينا حتليل �أ�س�س امليتافيزيقا الديكارتية يف �أفق حتديد املكانة التي يحتلها الإن�سان يف فل�سفة ديكارت. ذك ��ر ديكارت يف ر�سالت�ي�ن لأليزابيت بتاريخ 21مايو�/أي ��ار و 28يوني ��و /حزي ��ران من ع ��ام -1643واللتان ميكن اعتبارهما مبثابة ملخ�ص مركز لنتائج "الت�أمالت"� -أن فل�سفته امليتافيزيقية تقوم عل ��ى �أ�س�س ثالثة مفاهيم �أولي ��ة ،متثل يف نظره النماذج الأ�صلية التي تق ��وم عليها كل معرفة �إن�سانية وهي املفاهيم الت ��ي لدين ��ا ع ��ن ال ��روح واجل�س ��د والعالقة
بني ال ��روح واجل�س ��د :يتعلق املفه ��وم الأول بت�صورن ��ا لل ��روح ،وي�شمل العق ��ل والإدراك احل�س ��ي والإرادة وخمتل ��ف الن ��وازع االنفعالية؛ ويتعلق املفهوم الثاين بت�صورنا للج�س ��م ،وهو مفهوم االمتداد ال ��ذي ُت َرد �إليه �أ�ش ��كال الأج�سام وهيئتها وحركتها؛ ويتعلق املفه ��وم الثالث بالعالقة بني ال ��روح والبدن، وه ��و مفه ��وم الوحدة التي تتجل ��ى من خالل قدرة الروح على حتريك البدن ،وقدرة البدن عل ��ى الت�أث�ي�ر يف ال ��روح و�إث ��ارة انفعاالتها. ونظرا لك ��ون ه ��ذه املفاهيم �أولي ��ة وب�سيطة ف�إن ��ه ال ميك ��ن ،يف نظ ��ر دي ��كارت ،تف�س�ي�ر بع�ضه ��ا بالبع�ض الآخ ��ر وال �إرج ��اع بع�ضها �إىل البع� ��ض الآخر ،على اعتبار �أن كل مفهوم م ��ن هذه املفاهي ��م الثالث نت�أ�ص ��ل يف النف�س الإن�ساني ��ة ولي� ��س م�شتق ��ا من غ�ي�ره ،ولذلك وجب ا�ستعمال كل مفهوم يف املجال اخلا�ص ب ��ه .ويرى دي ��كارت �أن ه ��ذه املفاهي ��م تدرك بط ��رق خمتلفة :فالروح ال ميك ��ن معرفتها �إال عن طري ��ق العقل وحده ،بينم ��ا ميكن معرفة اجل�س ��م بوا�سط ��ة العق ��ل واملخيلة مع ��ا و�إن كان ��ت معرفت ��ه باملخيلة �أح�س ��ن .و�أما وحدة ال ��روح والبدن ف�إن خ�ي�ر و�سيلة للإحاطة بها هي امللكات احل�سية. والبد م ��ن الإ�ش ��ارة هن ��ا �إىل وج ��ود قراءات خمتلفة مل�ضم ��ون هذه الر�سائ ��ل .يرى بع�ض املحلل�ي�ن �أن مفه ��وم الإن�سان ج ��اء يف املرتبة الثالث ��ة بع ��د مفه ��وم ال ��ذات املفك ��رة ومفهوم االمت ��داد ،ورمب ��ا احت ��ل املرتب ��ة الرابع ��ة �إذا �أخذنا بعني احل�سبان مفهوما �آخر �أكرث بدائية م ��ن املفاهي ��م الأولي ��ة الأخرى ،وه ��و مفهوم الله ،الذي يعترب بداي ��ة كل �شيء يف الفل�سفة الديكارتي ��ة .وذه ��ب �أ�صحاب ه ��ذا الر�أي �إىل �أن مفه ��وم الإن�س ��ان هو مفه ��وم مركب يجمع ب�ي�ن مفه ��وم ال ��روح ومفه ��وم الب ��دن .ولذلك ع� �دّوا مفهوم الإن�سان ،الذي هو وحدة الروح والب ��دن ،مفهوما م�شتقا ولي�س مفهوما �أوليا. ومم ��ا يرتتب عن ذلك �أن الفل�سف ��ة الديكارتية لي�س ��ت فل�سف ��ة �إن�سانية بالأ�سا� ��س ،بل ميكن ت�صنيفه ��ا �ضم ��ن الفل�سف ��ات ذات النزع ��ة امل�ضادة للإن�سان ،anti-humanisme واملق�ص ��ود بذلك الفل�سف ��ات التي ال جتعل من فك ��رة الإن�س ��ان مبد�أه ��ا الأول ،وتك ��ون بذلك �أقرب �إىل الالهوت منها �إىل الفل�سفة. وتنطل ��ق القراءة الثانية م ��ن مالحظة مفادها �أنه لي� ��س يف منطوق الر�سالت�ي�ن ما يدل على �أن مفه ��وم الإن�س ��ان باعتب ��اره وح ��دة الروح واجل�س ��د م�شتق م ��ن مفهوم ال ��روح ومفهوم البدن .ويرى �أ�صحاب هذا االجتاه �أن ديكارت ح�س ��م يف الأم ��ر ومل ي�ت�رك الب ��اب مفتوح ��ا للت�أوي ��ل حني �صرح ب�أن كل واحد من املفاهيم الث�ل�اث (الفك ��ر واالمت ��داد ووح ��دة ال ��روح والب ��دن) ه ��و مفه ��وم �أويل وال ميك ��ن فهم ��ه بالت ��ايل �إال باالنطالق منه هو ذاته ولي�س من غ�ي�ره ،وب�أن �إدراك كل مفه ��وم يتطلب طريقة خا�ص ��ة ،وال ميك ��ن �إذراك م�ضمون ��ه ال ��داليل م ��ن خالل �إج ��راء مقارنة بينه وب�ي�ن املفاهيم الأخ ��رى .وعلي ��ه ،ف�إن �إدراك حقيق ��ة الإن�سان باعتب ��اره وح ��دة الروح واجل�س ��د ال ي�شرتط م�سبق ��ا توفر املعرفة الوا�ضح ��ة املتميزة بكل من الروح واجل�سد ،ذل ��ك لأن مفهوم الإن�سان لي� ��س مزيج ��ا م ��ن ال ��روح وامل ��ادة ،ولكن ��ه وح ��دة �أو كلية متثل واقع ��ا قائما بذاته .ومع ذل ��ك ميكن للعق ��ل �أن ميي ��ز يف ه ��ذه الوحدة �أو الكلي ��ة عل ��ى �سبي ��ل التجري ��د ب�ي�ن الروح واجل�س ��د .ومن ثم ��ة �أمكن القول ب� ��أن مفهوم الإن�س ��ان هو م ��ن املفاهيم الأولي ��ة الأ�سا�سية الت ��ي تق ��وم عليه ��ا امليتافيزيق ��ا الديكارتي ��ة وب�أن الفل�سفة الديكارتية هي من حيث العمق فل�سفة �إن�سانية. وتتجل ��ى نزعتها الإن�ساني ��ة يف تركيزها على فك ��رة الكم ��ال الإن�ساين الت ��ي متيزها متييزا وا�ضح ��ا ع ��ن الالهوت .ولكن �إمي ��ان ديكارت بفك ��رة الكمال الإن�س ��اين جلب ��ت عليه �سخط رجال الدين وعلماء الالهوت من ال�سكوالئيني الذين ت�سببوا له متاعب كثرية.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
10
العدد ()2243ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )10أيلول 2011
العدد ()2243ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )10أيلول 2011
ماهية اإلغتراب في فلسفة ديكارت حممد �سليمان ح�سن قد ر�أى ديكارت "�أن فكرة (الكمال الالمتناهي) هي البداهة الوا�ضحة املتميزة" .وهكذا كان اليقني الث ��اين نحو الله�" .إن العامل ال يحتاج �إىل �شه ��ادة خارجي ��ة .ب ��ل الع ��امل ه ��و الذي يك ��ون ب�شهادة م ��ن الله ،و �إال حتط ��م و�صار �أ�ضغاث �أحالم� .أخ ��ذ ال�سماء منحدر ًا له نحو الأر� ��ض" .وق ��د ا�ستخ ��رج من فك ��رة (الكمال الالمتناه ��ي) براه�ي�ن ثالثة عل ��ى وجود الله كمب ��دع جلمي ��ع الأ�شياء يف الك ��ون :الربهان الكين ��وين -الربه ��ان الوج ��ودي -الربهان ال�شخ�ص ��اين .اعتق ��د "دي ��كارت"�" :أن الفكر وح ��ده ب�إمكان ��ه �أن يقن ��ع الب�ش ��ر بقب ��ول احلقائ ��ق الديني ��ة والأخالقي ��ة الت ��ي كان يراه ��ا �أ�سا�س احل�ض ��ارة .الإميان مل يخربنا ب�ش ��يء ال ميكن �إي�ضاح ��ه عقالني� � ًا .القدي�س (بول� ��ص) �شخ�صي ًا قد �أك ��د يف الف�صل الأول من ر�سالته �إىل الرومان� :أن ما ميكن معرفته ع ��ن الله �أمر وا�ضح متام ًا للب�شر لأن الله ذاته جعله وا�ضح ًا ...ويتاب ��ع ديكارت قوله�" :إن بالإم ��كان معرفة الل ��ه ب�سهول ��ة وبيقني �أكرب م ��ن �أي �شيء من الأ�شياء الأخرى يف الكون" �إن �شعوري بوج ��ود العامل ،هو هبة من الله. فالله ال ي�ضع َّ يف مثل هذا ال�شعور ،لو مل يكن هن ��اك ثمة مو�ض ��وع .فه ��و -الل ��ه � -صادق. وبالت ��ايل فال�شع ��ور بوجود الع ��امل لي�س من �إرادتي ب ��ل من �إرادة الل ��ه .والإميان بوجود الع ��امل ي�ستلزم معرفة ماهيت ��ه .فالعامل مادة، امل ��ادة حت ��وذ �صفة االمت ��داد .فامل ��ادة جوهر م�ستق ��ل ع ��ن جوه ��ر النف� ��س .و�إن كان علينا �أن نفه ��م االمتداد عند "دي ��كارت" فهو املعنى املج ��رد ال احل�س ��ي ،والذي يتمي ��ز مبجموعة من اخل�صائ�ص هي: -1ان ��ه ف�ضاء غ�ي�ر حمدود ،ال يحي ��ط به �إ ّال امت ��داد �آخر .فه ��و �إذن المتن ��اه ،ن�ستطيع �أن نتذه ��ن وراءه امتداد ًا ثاني� � ًا وثالث ًا �إىل ما ال نهاية.
-2انه متجان�س يق�سم على �أجزاء. -3ان ��ه مادة ،كما �أن املادة امتداد ،وال وجود للخالء� ،إذ اخلالء مادة. -4انه امت�ل�اء .وحركة الأج�س ��ام تف�سر �أنها حرك ��ة دائري ��ة� .إذن ،االمت ��داد حم� ��ض مادة واحلركة حم�ض امتداد .وهي ذات خ�صائ�ص تلخ�ص ب�ست قواعد هي: -1مل توج ��د احلرك ��ة �إال ب�أمر الله ،لأن املادة جامدة بالأ�صل. -2احلركة ذات اجتاه تتخذه ،و�سرعة ت�سري مبوجبها. -3ال تزي ��د احلرك ��ة وال تنق�ص لأنها من الله والله ال يتغري. -4كل �شيء يبقى على حاله ما دام مل يعر�ض له ما يغريه. -5كل ج�س ��م متحرك ال ميي ��ل �إىل البقاء يف حركته على خط م�ستقيم. � -6إذا التق ��ى اجل�سم املتحرك ج�سم ًا �أ�ضعف من ��ه ،ف�إنه يفقد م ��ن احلركة مق ��دار ما يعطي اجل�سم الأ�ضعف. ً - 7يف الأخ�ل�اق الديكارتية :ق�سم الباحثون الأخالق الديكارتية على ثالثة �أق�سام :امل�ؤقتة والعلمية والكاملة. الأخ�ل�اق امل�ؤقت ��ة :ه ��ي �أخ�ل�اق جتريبي ��ة، تدفع الإن�س ��ان �إىل �إمتام واجبات ��ه� .إنه عمل معق ��ول Raisonnableال عم ��ل عق�ل�اين .Rationelه ��ذه الأخالق امل�ؤقتة ت�شتمل على ثالث حكم �أو �أربع هي: �أ -احلكمة الأوىل :يقول "ديكارت" يف الق�سم الثال ��ث م ��ن مقالته" :تق ��وم حكمت ��ي الأوىل عل ��ى �أن �أخ�ضع لقوان�ي�ن ب�ل�ادي ،وعاداتها، حمتفظ� � ًا بالديان ��ة الت ��ي �أنع ��م الله عل � ّ�ي ب�أن ربي ��ت فيه ��ا من ��ذ طفولت ��ي .و�أن �أمت�س ��ك يف الأم ��ور الأخرى ،ب�أكرث الآراء اعتدا ًال ،واقلها �إفراط� � ًا ،مم ��ا �أتف ��ق على الأخذ ب ��ه يف ميدان علي �أن �أعي�ش معهم، العم ��ل� .أعقل الذين كان ّ
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
جامعة ديكارت فقد تبني يل -منذ ذلك احلني ،الذي بد�أت فيه �أن ال �أقي ��م وزن ًا لآرائي اخلا�ص ��ة ،رغبة مني يف و�ضعه ��ا كلية مو�ضع االختبار � -إنه لي�س يف مقدوري �أن �أعمل خري ًا من االقتداء ب�آراء �أعق ��ل النا�س .ل ��ذا عقدت النية عل ��ى �أن �أ�سري يف خط� ��أ الذي ��ن كان عل � ّ�ي �أن �أعي� ��ش بينهم. و�إن كان قد بدا يل �أن عند الفر�س وال�صينيني م ��ا عندنا من �أ�صحاب العق ��ول .ثم تيقنت �أنه يج ��ب -ك ��ي �أقف عل ��ى حقيق ��ة �آرائه ��م � -أن �أنظ ��ر �إىل ما يفعل ��ون ،ال �إىل ما يقولون ،لأن
ف�س ��اد �أخالقن ��ا � ّ أقل ع ��دد ًا من الذي ��ن يقولون كل ما يعتق ��دون .ولأن الكثريين يجهلون هم �أنف�سه ��م م ��ا يعتق ��دون .ذل ��ك ،لأن الفكر الذي نع ��رف به ال�ش ��يء ،يختل ��ف عن الفك ��ر الذي نع ��رف به �أننا نع ��رف هذا ال�ش ��يء .ولأن ك ًال من هذين الفكرين غالب ًا ما يكون دون الآخر. وق ��د اخ�ت�رت م ��ن ب�ي�ن الآراء املقبول ��ة عل ��ى ال�س ��واء� ،أكرثها اعتدا ًال ،لأنه ��ا الأي�سر دائم ًا للتطبي ��ق ،والأح�س ��ن عل ��ى الأرج ��ح ،ما دام الإفراط �سيئ ًا .ولأنني �أظل �أقرب �إىل ال�سبيل
وثيقة تخرج ديكارت القومي � -إذا وقعت يف اخلط�أ -مما لو اتبعت �أح ��د الطرفني ،وك�أن ال�سبي ��ل ،الذي يجب �أن �آخذ به هو ال�سبيل الآخر". ب -احلكم ��ة الثاني ��ة :يق ��ول "دي ��كارت" يف الق�س ��م الثال ��ث م ��ن مقالت ��ه" :تق ��وم حكمتي الثاني ��ة ،عل ��ى �أن �أك ��ون جه ��د ا�ستطاعت ��ي، جازم ًا �صامد ًا يف �أعمايل .و�أن �أمت�سك ب�أكرث الآراء �شك ًا ،بعد �أن �أكون قد اقرتبت منها ،كما ل ��و كانت م�ؤكدة للغاية .مثل ��ي يف هذا العمل مثل امل�سافرين ....ينبغي لهم �أن ي�سريوا يف
جهة واحدة"... ج -احلكم ��ة الثالث ��ة :يق ��ول "دي ��كارت" يف الق�س ��م الثالث من مقالت ��ه�" :أن �أغالب نف�سي، دائم� � ًا ،ال �أن �أغال ��ب احل ��ظ ...عل � ّ�ي �أن �أغري رغباتي ،ال �أن �أغ�ي�ر نظام الكون .وباجلملة، عل � ّ�ي �أن �أتع ��ود االعتق ��اد �أن ��ه ال �ش ��يء يف متن ��اول قدراتن ��ا متام ًا �س ��وى �أفكارنا .نحن عاج ��زون كل العجز عن �أن نحق ��ق ما ال نقدر علي ��ه م ��ن الأ�شي ��اء اخلارجي ��ة بع ��د �أن نبذل خ�ي�ر ما يف طاقتنا .وقد بدا يل �أنّ هذا وحده كاف ليعي ��دين عن �أن �أريد يف امل�ستقبل �شيئ ًا كاف ال ميكنن ��ي احل�ص ��ول علي ��ه .كم ��ا �أن ��ه ٍ ليجعلني را�ضي ًا مبا �أنا فيه"... د -احلكمة الرابعة :يقول "ديكارت" ثم �أردت نتيج ��ة لهذه الأخ�ل�اق� ،أن ا�ستعر�ض م�شاغل النا� ��س املختلف ��ة يف ه ��ذه احلي ��اة ،لأخت ��ار �أف�ضله ��ا ،ولئن كنت ال �أقول �شيئ ًا عن م�شاغل الآخرين ،فق ��د ر�أيتني عاج ��ز ًا �أن �أفعل خري ًا م ��ن املثابرة عل ��ى العمل الذي اهتدي ��ت �إليه. �أي �أن �أنف ��ق كل حياتي يف تثقيف عقلي ،و�أن �أتقدم قدر امل�ستطاع يف معرفة احلقيقة ،تبع ًا للمنهج الذي خططته لنف�سي. ً -2الأخ�ل�اق العلمي ��ة :هي �أخ�ل�اق �إيجابية، خ ��ارج الزم ��ان وامل ��كان .مو�ضوع ��ة لت�صبح يف متن ��اول كل �إن�سان .ف�إىل �أي �شيء ت�ستند ه ��ذه الأخ�ل�اق العلمية؟ يف نظ ��ر "ديكارت": "�إن غاية الفل�سفة يجب �أن ترمي �إىل �سعادة امل ��رء" وق ��د نظر دي ��كارت �إىل اجل�س ��د نظرة �إيجابي ��ة� ،إذ ق ��ال�" :إن تعا�ستن ��ا من ��ه "ث ��م ق ��ال" �أن �سعادتن ��ا من ��ه" .الأخ�ل�اق العلمي ��ة كم ��ا ت�صورها" ديكارت" ه ��ي" مبثابة قانون �صح ��ي ميك ��نّ الإن�س ��ان م ��ن ال�سيط ��رة على الأه ��واء والتحرر منها لتوجيه عواطفه نحو ال�سعادة املطلوبة". ً -3الأخ�ل�اق النهائي ��ة :عل ��ى كل �إن�س ��ان �أن يتقيد بالأخالق النهائية .وقد ذكر" ديكارت" قواعدها يف ر�سالة له �إىل الأمرية" �أليزابيت" بتاري ��خ �/4آب1645/م /ق ��ال مع ��دد ًا قواعد ثالث هي: �أ -ينبغ ��ي لنا �أن ن�ستخدم دائم ًا عقولنا ،قدر امل�ستطاع� ،أن نعرف ما يجب عمله �أو رف�ضه، يف جمي ��ع ظروف احلي ��اة .ب -ينبغي لنا �أن نعق ��د نيّة �صامدة ،ثابت ��ة ،على �إجناز كل من ين�صحن ��ا العقل به ،ف�ل�ا مني ��ل ب�أهوائنا من �إر�شاداته .ج -ينبغي لنا �أن نعترب ،ما �أمكننا ذل ��ك ،ونحن ن�سلك ه ��ذا الطري ��ق على �ضوء العقل ،كون اخل�ي�رات التي تتجاوزنا لي�ست يف متناول يدنا� .إذن يجب �أن ال نفكر بها وال نرغب فيها .ثامن ًا -ماهية الإن�سان يف فل�سفة
ديكارت :ي�ؤكد ديكارت على �أنه من ال�ضروري �أن يتعاي� ��ش العقل مع الذات .هذه هي ماهية الإن�س ��ان .فع ��امل احلوا� ��س ع ��امل خ ��داع، ومعطي ��ات التجربة غري يقينية� .إذ يكتب يف الق�س ��م الراب ��ع م ��ن املقالة" :فعرف ��ت من ذلك �أنن ��ي جوه ��ر كل ماهيت ��ه �أو طبيعته ال تقوم �إال على الفكر ،وال يحتاج يف وجوده �إىل �أي مكان ،وال يتعلق ب�أي �شيء مادي ،مبعنى �أن " الأنا "�أي النف�س التي �أنا بها ما �أنا ،متميزة متام التمييز عن اجل�سم ،ال بل �إن معرفتنا به �أ�سهل ،ولو بطل وجود اجل�سم على الإطالق، لظل ��ت النف� ��س موج ��ودة بتمامه ��ا" .وبر�أي ديكارت ف�إن جدل العالقة بني الإن�سان والله، �أو بني الأنطولوج ��ي الإن�ساين امليتافيزيقي ال تت ��م م ��ن خ�ل�ال الأنطولوج ��ي الإن�ساين، بل من خ�ل�ال امليتافيزيق ��ي املوجود يف هذا الأنطولوج ��ي .يق ��ول يف الق�س ��م الرابع من املقال ��ة" :ف�ل�اح يل �أن �أبحث من �أين ت�أتى يل �أن �أفكر يف �شيء �أكمل مني ،فعرفت بالبداهة �أن ذل ��ك يرج ��ع �إىل وج ��ود طبيع ��ة ه ��ي يف احلقيق ��ة �أكمل ...يف هذا الت�ص ��ور يدفع بنا ديكارت �إىل �إلغ ��اء العقل املو�ضوعي باجتاه العق ��ل الذات ��ي ،وبالتايل وحداني ��ة احلقيقة وفرادته ��ا ،وعدم خ�ضوعه ��ا للعقل اجلمعي. يقول ديكارت ب�ش�أن الذات يف الت�أمل الرابع: "لي� ��س هناك �سوى الإرادة التي �أجربها ّ يف به ��ذا الكرب حتى �إنن ��ي ال �أعرف ما هو �أو�سع منه ��ا وما هو �أكرث امت ��داد ًا ..بحيث �إنها هي الت ��ي تعرفن ��ي بخا�ص ��ة �أنني �أحم ��ل �صورة الل ��ه و�شبهه "هذا ما دفع دي ��كارت �إىل و�ضع (الكرم) فوق كل �ش ��يء كقيمة معيارية.وهو ي�ؤك ��د ذل ��ك يف كتابه" �أه ��واء النف�س" قائ ًال: "�أعتقد �أن الكرم احلق الذي يجعل الإن�سان يح�ت�رم نف�سه �إىل �أعلى ح ��د ميكن �أن يحرتم نف�س ��ه في ��ه ب�شكل مربر ،يق ��وم يف جزء منه، عل ��ى �أن ��ه ال �ش ��يء يخ�ص ��ه حق� � ًا �س ��وى هذا الت�ص ��رف احلر ب�إرادت ��ه و �إال ملاذا ينبغي �أن يالم �إن مل يكن لأنه �أح�سن �أو �أ�ساء الت�صرف به ��ا ،ويق ��وم يف جزء �آخ ��ر ،على �أن ��ه يح�س يف ذات ��ه بع ��دم ثاب ��ت ودائ ��م يف �أن يح�س ��ن الت�ص ��رف به ��ا� ،أي �أن ال تع ��وزه الإرادة �أبد ًا ليبا�ش ��ر وينف ��ذ جمي ��ع الأ�شياء الت ��ي يراها �أف�ضل �شيء ،وذلك يعني �أن يتبع متام ًا درب الف�ضيل ��ة"� .إذ ًا ،املعرف ��ة العقالني ��ة وجان ��ب الإرادة وحري ��ة االختي ��ار ،ال تتعار�ض ��ان، لأن الإن�س ��ان ككائن مفكر كم ��ا يقول ديكارت يف الق�س ��م الرابع م ��ن املقالة�" :ش ��يء ي�شك، ويت�صور ،ويت�أكد ،ويفكر ،ويريد ،وال يريد، ويتخيل �أي�ض ًا ويح�س.
11
�أهـــم �أفكـــاره نظرية املعرفة
�شك ديكارت يف املعرفة احل�سية �سواء منها الظاهرة �أو الباطنة، وكذلك يف املعرفة املت�أتية من عامل اليقظة ،كما �شك يف قدرة العقل الريا�ضي على الو�صول �إىل املعرفة ،و�شك يف وجوده ،ووجود العامل احل�سي� ،إىل �أن �أ�صبح �شكه دليال عنده على الوجود ،فقال "كلما �شككت ازددت تفكريا فازددت يقينا بوجودي". املنهج الديكارتي
هو املنهج اجلديد يف الفل�سفة ،وب�سببه ُ�سمي ديكارت بـ(�أبو الفل�سفة احلديثة) ،ويقوم املنهج الديكارتي على �أ�سا�سني ،هما: -1البداهة� :أي الت�صور الذي يتولد يف نف�س �سليمة منتبهة عن جمرد الأنوار العقلية. -2اال�ستنباط� :أي العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية �إىل نتيجة �أخرى ت�صدر عنها بال�ضرورة. الثنائية الديكارتية
يفرق ديكارت بني النف�س واجل�سد ،ويرى �أنهما جوهران خمتلفان متاما ،ويقول�":إنني ل�ست مقيما يف ج�سدي كما يقيم املالح يف �سفينته ،ولكنني مت�صل به ات�صاال وثيقا ،وخمتلط به بحيث �أ�ؤلف معه وحدة منفردة ،ولو مل يكن الأمر كذلك ،ملا �شعرت ب�أمل �إذا �أ�صيب ج�سدي بجرح ،ولكني �أدرك ذلك بالعقل وحده ،كما يدرك املالح بنظرة �أي عطب يف ال�سفينة".
اهلل
يعتقد ديكارت �أن الله ي�شبه العقل من حيث �إن الله والعقل يفكران ولكن لي�س لهما وجود مادي �أو ج�سمي� ،إال �أن الله يختلف عن العقل ب�أنه غري حمدود ،و�أنه ال يعتمد يف وجوده على خالق �آخر، ويقول�":إنني �أدرك بجالء وو�ضوح وجود �إله قدير وخري لدرجة ال حدود لها".
الأخــــالق
جعل ديكارت علم الأخالق ر�أ�س احلكمة ،وتاج العلوم ،و�أنه البد من االطالع على كل العلوم قبل اخلو�ض يف علم الأخالق، وقال":مثل الفل�سفة كمثل �شجرة جذورها امليتافيزيقيا ،وجذعها العلم الطبيعي ،و�أغ�صانها بقية العلوم ،وهذه ترجع �إىل ثالثة علوم كربى ،هي :الطب ،وامليكانيكا ،والأخالق العليا الكاملة، وهذه الأخرية تتطلب معرفة تامة بالعلوم الأخرى ،وهي �أعلى مراتب احلكمة".
�أهم م�ؤلفاته
كتب ديكارت ثالثة م�ؤلفات رئي�سية ،وهي: -1ر�سالة يف منهج الت�صرف العقلي ال�سليم للمرء والبحث عن احلقيقة يف العلوم �أو ر�سالة يف املنهج (1637م). -2ت�أمالت يف الفل�سفة الأوىل (1641م). -3مبادئ الفل�سفة (1644م). http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
13
مش��روع ديكارت الفلس��في وإعادة ترتيب الوجود اىل جع ��ل الطبيع ��ة والع ��امل واملوج ��ودات ماه ��ي اال ت�ص ��ورات يف اذهانن ��ا ال متل ��ك الوجود الواقعي ،هناك احلركة والكثافة اما الوج ��ود الواقع ��ي واملح�سو�س فان ��ه يرتبط بالعقل فح�سب .الي� ��س يف ذلك الأمر حماولة اويل يف ت�أ�سي� ��س" مركزي ��ة االن�س ��ان" م ��ن خ�ل�ال جع ��ل م�ص ��ادر املوج ��ودات الطبيعية يف اذهانن ��ا وان الع ��امل الطبيع ��ي حتكم ��ه القوان�ي�ن امليكانيكية من جه ��ة وكذلك ن�سيان للطبيع ��ة ذاتها من خالل ذلك املحو ملا موجود من طبيعة واثره ��ا كالطعم والرائحة واللون واحلي ��اة واجلماد ..الخ من جهة اخرى ،فكل ه ��ذه ال مت ��ت ب�صلة اىل الع ��امل الطبيعي ،اي �إنه ��ا جمرد �أ�شي ��اء يف �أذهاننا " وان العامل ال يكت�سب تنوعه وثرائ ��ه الكيفي �إال من خاللنا " من جهة اخري (امل�صدر نف�سه�/ص .)83
دفعة �أ�سا�سية للفل�سفة
وليد امل�سعودي
يعد ريني ��ه ديكارت ( 1596ـ� �ـ )1650واحدا م ��ن الفال�سف ��ة الذي ��ن لعب ��وا دورا كب�ي�را يف تغيري م�س ��ارات الفل�سفة الغربي ��ة من �سيادة وانت�شار النزعة الغائي ��ة وامل�سلمات امل�سبقة حول الطبيعة واالن�سان اىل النظرة اجلديدة القائم ��ة علىالبح ��ث العلم ��ي احلر م ��ن دون عوائ ��ق اب�ستيمولوجي ��ة معين ��ة� ،إذ ا�ستف ��اد كث�ي�را من تطوير املنه ��ج الريا�ضي وحماولة تطبيق ��ه علىالطبيع ��ة وامليتافيزيقا واملعرفة
الب�شري ��ة ،بع ��د ان كان ��ت الفل�سف ��ة غارقة يف اال�ش ��كال املدر�سي ��ة التقليدي ��ة الت ��ي تعتم ��د علىالرمز واال�سط ��ورة واملتعالي ��ات االلهية بعي ��دا عن اية ر�ؤي ��ة او نظرة م ��ن املمكن ان تق ��ود اىل التداخ ��ل بني امل ��ادي واملعريف اي ب�ي�ن املنجز العلم ��ي واملعريف ل ��دي االن�سان وب�ي�ن املادي من طبيع ��ة وموجودات حماطة ب�أنظم ��ة فك ��ر وت�ص ��ورات معين ��ة .فكان ��ت اخلط ��وة االويل التي خطاه ��ا ديكارت تكمن
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
يف ثنائي ��ة امل ��ادة والعق ��ل ب�صفتهم ��ا عامل�ي�ن خمتلف�ي�ن متنابذي ��ن ،من حي ��ث ان االول اي امل ��ادة متلك الكثافة واحلرك ��ة وحيازة املكان وامكاني ��ة القيا� ��س " �ضمن ر�ؤي ��ة ديكارت " ام ��ا العق ��ل فيمل ��ك جاهزي ��ة التفك�ي�ر وغياب احل�ض ��ور املادي اما اخلط ��وة الثانية فتظهر م ��ن خالل مكت�شفات غاليل ��و وكوبرنيك حول حرك ��ة االج�س ��ام ال�سماوية وم ��دي ارتباطها ب�صيغ جدي ��دة معتمدة علىاملنه ��ج الريا�ضي
حت ��ي ت�ص ��ور دي ��كارت �ضم ��ن ذل ��ك ان الل ��ه ماه ��و �إال ع ��امل هند�س ��ة وان الريا�ضيات هي لغ ��ة العلم ،ا�ش ��ارة اىل ما متلك ��ه الأخرية اي الريا�ضي ��ات من دقة متناهية ال يتخللها ال�شك او ع ��دم اليق�ي�ن (مدخ ��ل اىل الفل�سفة/ج ��ون لوي�س/املكتب ��ة اال�شرتاكية ــ بريوت/الطبعة الثالث ��ة � ��ص .)83وهن ��ا يو�ض ��ح دي ��كارت مادي ��ة الع ��امل وطبيعت ��ه املتحرك ��ة من خالل ا�ستخدامه املنهج الريا�ضي الذي يقود بدوره
فتحولت بذلك العالق ��ة بني االن�سان واملعرفة م ��ن العمودي اىل االفقي اي م ��ن امليتافيزيقا ب�صفتها رائدة للتف�سري والفهم ب�شكل غائي ال يحكمه منط ��ق التطور والتغيري اىل االن�سان الذي يفك ��ر وان ب�أمكان ��ه ان يحقق التجاوز، وان يك ��ون ذلك االن�سان "�سي ��دا علىالطبيعة ومالكه ��ا الوحيد" ولكن م ��ن املمكن ان ن�شري هن ��ا اىل مفارق ��ة تكمن لدي ذل ��ك ال�سيد الذي حلم به دي ��كارت يف الق ��رن ال�سابع ع�شر كان هنال ��ك نقي�ض ��ه ،متمثال يف جمي ��ع املنبوذين واملهم�ش�ي�ن وال�سجن ��اء الذي ��ن يعي�ش ��ون يف ع ��امل ب�ل�ا طبيع ��ة ان�ساني ��ة من خ�ل�ال عملية اجلم ��ع يف م ��كان واح ��د �سجن ��ي يتمث ��ل بامل�شف ��ي الذي اجنز يف الق ��رن ال�سابع ع�شر وال ��ذي جم ��ع الفق ��راء واملجان�ي�ن واملبدعني الذي ��ن ميتلك ��ون معرف ��ة مغاي ��رة لن�س ��ق ال�سلط ��ة ال�سائد حينئذ ،ف�ض�ل�ا عن املجرمني واخلارجني ع ��ن القانون علىح ��د �سواء .ان دي ��كارت �أعط ��ي من خ�ل�ال ذلك االم ��ر اي من خ�ل�ال هذه املركزي ��ة اجلديدة دفع ��ة ا�سا�سية للفل�سفة يف حتوالتها القادمة من حيث بداية التفك�ي�ر ومركزت ��ه ل ��دي االن�س ��ان ووجوده ومن ثم هنالك املالحظة والتجربة يف احلقب التالي ��ة بعد ديكارت� ،إذ جند على�سبيل املثال ان (كانت) مل يتبع ا�سلوب ال�شك يف االطاحة بالنظام القدمي للمعرفة م ��ن اجل ان ي�ؤ�س�س �صرح العلم اجلديد ب ��ل كان ذلك االخري اكرث �سيادة ور�سوخا وجاهزي ��ة من حيث املعرفة اجلدي ��دة القائمة علىالعلم واليقني الكلي من النتائ ��ج اجلديدة ،فلم تعد احلاجة حينها اىل ال�شك بع ��د ان و�صل ��ت النتائج وال ��ر�ؤي اىل ا�شكال مغاي ��رة وخمتلفة عم ��ا كانت يف زمن ديكارت ال ��ذي كان يهدف اىل ا�ستخدام منهج ال�شك م ��ن اجل حتقيق التج ��اوز والتقدم يف جم ��االت العلم واملعرف ��ة معتم ��دا علىاملادية امليكانيكي ��ة ال�صاع ��دة ومكت�شفاتها اجلديدة (درا�س ��ات يف الفل�سفة/العل ��م يف الفل�سف ��ة/ حم ��ادي بن جاء بالله/دار ال�ش� ��ؤون الثقافية العام ��ة ــ بغ ��داد �� �1986ص.)39او كما يقول مي�شيل فوك ��و "ان دي ��كارت �شخ�صية رمزية تبحث ع ��ن اليقني يف م�شروع قاب ��ل ل�ضمانه " خ�صو�ص ��ا وان االن�س ��ان يف زمن ديكارت اي يف الع�ص ��ر الكال�سيك ��ي مل يكن ميلك دور
اخلال ��ق ورئي�س احلراق�ي�ن (ال�صانعني) دور حمف ��وظ لل ��ه كما ي ��ري فوك ��و ب ��ل كان ميلك املرتبة الثاني ��ة اي دور الق ��درة علىالتف�سري والتو�ضي ��ح ولي�س ال�سيط ��رة واالبداع التي حتقق ��ت فيما بعد من خ�ل�ال امتالك الو�ضوح يف املفاهي ��م متمثال يف كوجيتو ديكارت (انا افك ��ر ـ� �ـ اذن ان ��ا موج ��ود) (مي�شي ��ل فوكو... م�س�ي�رة فل�سفية/اوب�ي�ر دريفو� ��س ـ� �ـ ب ��ول رابينوف/مرك ��ز االمن ��اء القومي/ب�ي�روت ــ لبنان �ص 24ــ .)25
ديكارات يرتاجع!
يقول املفكر �صادق جالل العظم :ان "ديكارت مل يك ��ن توفيقي ��ا علىطريق ��ة الآراء ال�شائعة ب�ش� ��أن التوفي ��ق ب�ي�ن ر�أي احلكيم�ي�ن او بني ال�شريعة والفل�سفة اوما �شابه ذلك بل انه كان مثل علماء ع�صره قد وجدوا طريقة او اخري للتعاي� ��ش مع املعتق ��دات الديني ��ة والروحية وذل ��ك م ��ن اج ��ل ت�ضيي ��ق رقع ��ة �شموله ��ا وتقلي� ��ص دائ ��رة نفوذه ��ا تدريجي ��ا ل�صال ��ح املادي ��ة امليكانيكي ��ة " (عن الفل�سف ��ة احلديثة وتاريخها/مقابل ��ة مع �صادق ج�ل�ال العظم/ جمل ��ة درا�سات عربية ــ العددان 2/1ــ 1985 ـ� �ـ � ��ص )95وهنا جند ذل ��ك التعب�ي�ر �صحيحا عندم ��ا نع ��ي جي ��دا كي ��ف كان يع ��اين زم ��ن ديكارت من هيمنة "املدر�سيات " اي اال�شكال التقليدي ��ة يف الفهم واملعرف ��ة وخ�صو�صا ما كان ��ت متار�س ��ه �سلط ��ة الكني�سة م ��ن ت�ضييق كب�ي�ر مل�ص ��ادر املعرف ��ة والعل ��م اجلديدي ��ن الل ��ذان عم�ل�ا علىاالطاحة ب�سلطته ��ا الدينية واملعرفي ��ة ،ودي ��كارت ذات ��ه ق ��د تراج ��ع عن ن�ش ��ر كتابه " الع ��امل " الذي يوجز فيه طبيعة اال�شي ��اء املادي ��ة وحركته ��ا وفق ��ا للتطورات العلمية احلديثة ،عندما �سمع باحلكم القا�سي ال ��ذي �ص ��در �ض ��د غاليلو م ��ن قب ��ل الكني�سة. �إذ مت تق�سي ��م الع ��امل حينئ ��ذ اىل ثنائي ��ة م ��ن املعرفة والقي ��م او اىل عاملني احدهما مرتبط بالعل ��وم اجلدي ��دة ال�صاع ��دة ومفاهيمها تلك التي ت�شمل ،االمتداد ،العلة الفاعلة ،التكرار، الك ��م ،احلتمية ،الق�ص ��ور وال�سكون من جهة واملفاهي ��م املرتبط ��ة بالنف� ��س او ال ��روح تلك التي ت�شمل ،الفكر ،التباين ،الغائية ،احلرية، الكيف وغريها �ضمن االنطولوجيا التقليدية (نف�س امل�صدر�/ص.)95
مفهوم الطبيعة عند ديكارت
يتح ��دد م ��ن خ�ل�ال املادي ��ة امليكانيكي ��ة التي تعتم ��د علىاملنه ��ج الريا�ض ��ي وذل ��ك االخ�ي�ر ا�ستط ��اع ديكارت ان يطوعه ل�صاحله اىل حد كبري من خ�ل�ال اميانه ب�أن كل ماهو �سائد يف الطبيعة خا�ضع اىل معادالت ريا�ضية جربية �إذ يقول به ��ذا ال�صدد " ان العامل كتاب �صنف بلغ ��ة ريا�ضي ��ة واالن�سان الي�ستطي ��ع ،بدون ه ��ذه اللغ ��ة ان يفه ��م كلم ��ة واحدة م ��ن كتاب ه ��ذا الع ��امل " (ريني ��ة ديكارت/اب ��و الفل�سفة احلديثة/الدكت ��ور كم ��ال يو�س ��ف احل ��اج/ من�ش ��ورات دار مكتبة احلياة/الطبعة االويل ـ� �ـ ب�ي�روت 1954ـ� �ـ � ��ص )180وهن ��ا تدخل الآلية يف �صياغة كل ما موجود يف الكون من ا�صغر االج�سام املوجودة اىل اكرثها تعقيدا
و تركيبا ،فاالن�سان على�سبيل املثال هو مادة متحركة بطريق ��ة ريا�ضية جربية ت�سري نحو غاية معينة ،وهذه الغاية مقدرة من قبل الله، وذل ��ك الن املادة جام ��دة اال�صل مل تنبثق فيها احلرك ��ة �إال م ��ن خ�ل�ال االرتب ��اط امليكانيكي الق ��دمي م ��ن قب ��ل املطل ��ق او املح ��رك االول، وهك ��ذا يوج ��د ما يق ��ف علىنقي� ��ض من هذه امل ��ادة وهو العق ��ل الذي ال يتح ��رك او يلتقي م ��ع املادة ،بحي ��ث تنعدم الفاعلي ��ة بني العقل وامل ��ادة ،اجل�س ��د وال ��روح يف الطبيعة ذاتها الن وجودهم ��ا قائ ��م علىاالنف�ص ��ال ولي� ��س االت�ص ��ال ،االم ��ر ال ��ذي يق ��ود اىل الفو�ض ��ي وعدم التوزان ب�سبب هذه الثنائية التي عمل علىك�شفه ��ا ديكارت بني عامل�ي�ن خمتلفني من جهة ،وكذلك تقرير حقيقة ال تنتمي اىل العلم ب�صلة من حي ��ث االعتماد علىو�ضوح االفكار يف العقل املنطقي معتمدا علىالنظرة الذاتية ولي� ��س علىا�سا�س املالحظ ��ة والتجربة التي ا�صبح ��ت ج ��زءا ا�سا�سيا يف مقيا� ��س حقيقة اال�شياء وو�ضوحها يف الفكر العلمي احلديث م ��ن جهة اخ ��ري ،وبه ��ذا ال�صدد يق ��ول جون لوي� ��س " :ان النظ ��رة الذاتية ه ��ي منبع ذلك الفي�ض من اخلرافات واال�ساطري التي �أملتها علين ��ا ما ُ�سم ��ي باالفكار الوا�ضح ��ة املبا�شرة خ�ل�ال قرن�ي�ن ون�ص ��ف ق ��رن " (مدخ ��ل اىل
الفل�سفة �ص )87علما ان ديكارت كان بعيدا ع ��ن االهتم ��ام باحلقيق ��ة اهتمام ��ا اكادمييا وبحثي ��ا ب ��ل كان ��ت مرتبط ��ة اي احلقيق ��ة والفل�سف ��ة لديه ك�أ�سل ��وب للحي ��اة والعي�ش وتف�سري العامل مثله مثل افالطون وار�سطو وتوم ��ا االكوين ��ي واليبنت ��ز و�سبين ��وزا وكان ��ط وهيجل .ان الطبيع ��ة �ضمن ماديتها ل ��دي دي ��كارت ال حتمل االنغ�ل�اق او النهاية بل متل ��ك االنفتاح الدائ ��م علىمعطيات عامل غري حم ��دد او مغل ��ق �ضمن جاهزي ��ة معينة من القي ��م واملعرف ��ة والتغ�ي�رات والف�ساد.. ال ��خ بل هنالك وحدة القوان�ي�ن التي تخ�ضع لها ه ��ذه الطبيعة بعيدا عن الت�صورات التي كانت ت�ضفيها القرون الو�سطي ،تلك املتعلقة بوجود وحتديد العامل وفقا لتدرجات معينة متليها �سلطة معرفية ت�ضبط الزمان واملكان �ضمن �إطارها ،بحيث يتحول الب�شر اىل كتل مادي ��ة ال حتم ��ل الت�أث�ي�ر علىعامله ��ا ،ما دام ذل ��ك االخري حم ��دد �سلفا وفق ��ا الرادة معينة لديه ��ا احل�ض ��ور والهيمن ��ة اىل ح ��د بعي ��د، وما عمل ��ه م�شروع ديكارت يكم ��ن يف �إعادة �صياغ ��ة امل ��كان و�إعطائ ��ه �صبغ ��ة هند�سي ��ة جديدة تغ�ي�ر املفهوم القدمي للم ��كان ،القائم علىالنظ ��رة االر�سطي ��ة ،تلك الت ��ي ت�ؤكد ان املكان متباين االج ��زاء ،ليحل حمله املفهوم
لقد كان ديكارت يعتمد على اال�سا�س الكبري يف منهجه من اجل ان يتو�صل اىل حقائق يقينية بعد انتهاء مراحل ال�شك وذلك اال�سا�س يكمن يف الكوجيتو امل�شهور " �أنا �أفكر ــ اذن انا موجود، الذي ال ميكن و�صول ال�شك اليه، النه هو من ي�ستخدم ا�سلوب زعزعة اليقينيات حول جممل الق�ضايا التي تقف حائال دون التفكري وال�س�ؤال وال�شك الفاعل واملتوا�صل ،فالكوجيتو هو املناعة احلقيقية التي يتناولها العقل االن�ساين �ضد كل ما ي�صيب ج�سد املعرفة واحلقيقة والعلم من تعثـرات وامرا�ض من �ش�أنها ان تقف دون الو�صول اىل يقني وا�ضح ومعني حول الق�ضايا التي يطرحها ديكارت ،وذلك الن الذات ال�شاكة هي ذات مفكرة متلك الوجود عن طريق الفكر ،وهنا ي�صل ديكارت اىلمعرفة الوجود عن طريق الفكر
اجلدي ��د للهند�سة االقليدية الذي يعترب املكان "متجان�س ��ا ال متناهي ��ا ،وال ��ذي يعد مطابقا يف بنيته للم ��كان الواقعي " كما يري ذلك (�أ. كوي ��ري) ،االمر ال ��ذي ادي اىل تخل ��ي الفكر العلمي عن جميع االعتب ��ارات التي ال تنتمي اىل املعرف ��ة املو�ضوعي ��ة والعلمية ،تلك التي تنتم ��ي اىل جم ��ال القي ��م وت ��درج الكم ��االت االخ ��ري ،وبذل ��ك ح ��دث انف�ص ��ال ب�ي�ن عامل الطبيعة وعامل القيم (در�س االب�ستيمولوجيا او نظري ��ة املعرفة/عبد ال�س�ل�ام بنعبد العاىل �س ��امل يفوت/الطبع ��ة الثاني ��ة/دار ال�ش�ؤون الثقافي ��ة ــ بغداد 1986ــ �ص .)16هذا املكان اجلدي ��د جعل االن�سان ي�سيط ��ر علىال�شروط املادي ��ة للطبيع ��ة وي�ستثمره ��ا ل�صاحل ��ه م ��ن حي ��ث وج ��ود العالق ��ة اجلدي ��دة معه ��ا، تل ��ك الت ��ي متث ��ل يف الت�أث�ي�ر املبا�ش ��ر عليها، وكذل ��ك اخ�ضاعه ��ا مل�صلحة ال ��كل االجتماعي الب�شري،م ��ن حي ��ث التط ��ورات والتغ�ي�رات الت ��ي تبا�ش ��ر مل�صلح ��ة االن�سان ذات ��ه ،ذلك ما يك�شف ��ه امل�ش ��روع الغرب ��ي احلدي ��ث ،بالرغم م ��ن العالق ��ة املزدوج ��ة ب�ي�ن ال ��ذات واالخر، وهن ��ا ال ��ذات الغربية �ضم ��ن جمالها اخلا�ص اي �ضم ��ن طبيع ��ة التعامل مع االخ ��ر ب�صفته �أداة لال�ستغ�ل�ال واالكت�ش ��اف علىح�ساب ��ه وان مت تخفي ��ف اث ��ر ذلك عرب ع�ص ��ور الحقة ومتغرية بف�ضل الث ��ورات الفكرية والعلمية، تلك التي ك�شفت مركزية الغرب ب�شكل مهيمن علىاالخري ��ن ،وكذلك العالقة م ��ع الآخر غري الغرب ��ي ب�صفته اداة لال�ستغ�ل�ال واخل�ضوع ع�ب�ر ادوات كث�ي�رة تتمث ��ل يف الو�صاي ��ة والهيمنة و�إحلاق االخرين �ضمن تبعية دائمة حتول من �سيطرة االن�سان من حيث اجلوهر علىالطبيع ��ة وحتقيق ال�سع ��ادة والرفاة من دون ت�أث�ي�ر ا�سالي ��ب ال�ص ��راع واال�ستغ�ل�ال بني الب�ش ��ر انف�سه ��م .يقول (اندري ��ة ناتاف) " ان نظ ��ام دي ��كارت يقي ��م �أم ��را مطلق ��ا هو عالق ��ة تدج�ي�ن الطبيع ��ة وال�سيط ��رة عليه ��ا وا�ستثمارها .عالقة من النوع االقطاعي! لقد قادتنا اىل حيث نح ��ن اليوم مع كوكب ي�سري نح ��و التخلي ع ��ن جوه ��ره " (الفك ��ر احلر/ اندري ��ه ناتاف/ترجمة :رندة بَعث/امل�ؤ�س�سة العربية للتحديث الفكري �ص )76وهنا نقول ان م�ش ��روع الغ ��رب احلدي ��ث كان �ضروري ��ا ومهما لنج ��اح التجرب ��ة الب�شري ��ة اجلديدة، ولك ��ن ان تتحول العالقة مع الكائن ــ االن�سان اىل عالق ��ة النفي عن جوه ��ره الب�شري ،فذلك تدخل فيه اعتبارات تتعلق بطبيعة احل�ضارة الغربي ��ة ذاته ��ا من حي ��ث حتوله ��ا وتطورها املتوا�صل عرب عقود وثورات معرفية وعلمية واجتماعي ��ة قادت اىل �سيادة طبقة اقت�صادية معين ��ة دون اخ ��ري ،االم ��ر ال ��ذي ان�ش� ��أ هذه العالق ��ة املزدوجة مع االن�س ��ان ــ االخر ،وهنا جن ��د ان املجتمعات التي تلج�أ اىل االرواحية والقيم املفارق ��ة للجوهر االن�ساين امنا تقوم بذل ��ك نتيج ��ة النكو� ��ص وال�شع ��ور بفق ��دان الت ��وازن مع الع ��امل املعا�ش� ،سلط ��ة ومعرفة و�سيا�س ��ة مهيمن ��ة علىوع ��ي ذل ��ك االن�سان. االم ��ر ال ��ذي يجعله ��ا يف حال ��ة البح ��ث ع ��ن خمل�ص لها من الطبيعة ،القائمة علىاحل�صر وال�ضب ��ط �ضم ��ن قي ��م معينة حتد م ��ن ن�شوء
◄ http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14 ووج ��ود الفك ��ر احلر ال ��ذي ي�ؤ�س� ��س ويطور عالقة االن�سان مع الآخر علىحد �سواء ب�شكل يجمع التوا�صل والتعاي� ��ش واالهتمام ونبذ عالق ��ة املهيمن واملهيمن عليه ،ذلك ما مل تعمل علىت�شكيله احل�ض ��ارة الغربية �ضمن �شكلها املعا�صر.
ال�ش��ك عن��د دي��كارت يزحزح ال�صخرة ويهز البناء القدمي لق ��د �ساع ��دت التجرب ��ة التي افتتحه ��ا غاليلو علىمن خ�ل�ال املكت�شفات احلديث ��ة تلك التي ا�س�س ��ت عملي ��ة الف�ص ��ل فيما بعد ب�ي�ن ماهو جتريب ��ي وما هو ت�أمل ��ي ،حتدي�سي� ،ساعدت دي ��كارت علىاالمكاني ��ة يف ط ��رح اال�سئل ��ة حتت عني الرقيب الالهوتي ،االمر الذي ادي اىل ن�ش ��وء الكوجيت ��و امل�شهور لدي ��ه متمثال ب�أن ��ا افكر ـ� �ـ اذن انا موجود ،م ��ن خالل منهج ال�ش ��ك لديه ،وذلك االخ�ي�ر اي ال�شك من �ش�أنه ان يح ��دث عملية املراجع ��ة العلمية والدقيقة حول جممل الت�ص ��ورات واالفكار واحلقائق التي حتيطنا ،فهل ا�ستطاع ديكارت من خالل ال�ش ��ك ان يزي ��ل او يزح ��زح ال�صخ ��رة الت ��ي كان ��ت ت�ستند عليها حقيقة العامل �ضمن البناء القرو�سط ��ي التقلي ��دي؟ وماه ��ي قيم ��ة ال�شك الذي اجنزه دي ��كارت؟ البداي ��ة كانت متمثلة يف التقلي ��د والرتبي ��ة ،يف �ص ��ور املع ��ارف واحلقائق التي تلقاها االن�سان منذ الطفولة، ف�أ�صبحت �ضمن جمال اليقني الكامل والعرف ال ��ذي الميك ��ن التفك�ي�ر بع ��دم م�صداقيت ��ه، وعودة ديكارت اىل االف ��كار االولية للطفولة ي�ؤكد احلاحه ال�شديد على�إعادة عملية اخللق والتكوين من حيث اال�س� ��س والبني الفكرية بالتواف ��ق م ��ع العل ��وم اجلدي ��دة يف ع�ص ��ره
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
العدد ()2250ال�سنة التا�سعة -ال�سبت (� )17أيلول 2011
م ��ن اج ��ل ان يبن ��ي يف العل ��وم �شيئ ��ا ثابت ��ا وم�ستق ��را ،خ�صو�ص ��ا بع ��د ان عم ��ل التقليد علىمفارق ��ة العقل االن�س ��اين جلميع م�صادر ال�س�ؤال وال�شك والقراءة اجلديدة التي تبتعد عن "التزم ��ن" اي ثبات الزمان �ضمن �صنمية معين ��ة من االف ��كار واحلقائق ،وم ��ن هنا بد�أ دي ��كارت يف منهج ال�شك احلازم حول االفكار الت ��ي يت�صوره ��ا العق ��ل يف و�ض ��وح ويقني كاملني ،اىل الق ��راءة عرب اال�ستق ��راء الدقيق لهذه االف ��كار الكت�شاف النتائ ��ج اجلديدة من خ�ل�ال التميي ��ز بني االف ��كار الوا�ضح ��ة التي ال تقب ��ل ال�شك وب�ي�ن االفكار الت ��ي من املمكن و�صول ال�ش ��ك اليها (مدخل اىل الفل�سفة�/ص .)82
ال�شم�س متغرية
بع ��د ذلك ينتقل اىل ال�شك يف االح�سا�سات من حيث تقلبه ��ا وتغريها الدائم�ي�ن و�صوال اىل فك ��رة ان هذه االح�سا�سات ال تعرب عن حقيقة الواق ��ع اخلارجي ،بل متلك الكثري من الزيف وع ��دم اليقني ،وهكذا يغ ��دو االمل الذي ي�شعر ب ��ه الإن�سان الذي فقد �أحد �أع�ضائه على�سبيل املث ��ال ال ميك ��ن الوث ��وق به ،كذل ��ك احلال مع ر�ؤي ��ة الإن�س ��ان لبع� ��ض املنا�ض ��ر وال�ص ��ور يف الطبيعي ��ة ع ��ن بع ��د ال ي�ضم ��ن الو�ص ��ول اىل حقيقته ��ا� ،إذ يق ��ول يف الت�أم ��ل الثال ��ث " الحظت يف احوال كثرية ان هناك فرقا كبريا ب�ي�ن املو�ضوع وفكرته:فمث�ل�ا �أجد يف نف�سي فكرت�ي�ن ع ��ن ال�شم�س متباينت�ي�ن كل التباين، احدهما م�صدرها احلوا�س ،ويجب ان تندرج حت ��ت جن�س الأفكار ،التي قل ��ت �آنفا انها �آنية م ��ن اخل ��ارج( ،ال�شم� ��س يف غاي ��ة ال�صغ ��ر) واالخرى م�ستمدة م ��ن ادلة علم الفلك اي من بع�ض معان مفطورة يف نف�سي او من �صنعي
علىوجه م ��ا (وبهذا تظه ��ر ال�شم�س اكرب من االر� ��ض ا�ضعافا كثرية) " (ريني ��ة ديكارت.. ابو الفل�سف ��ة احلديثة /كمال يو�سف احلاج/ من�ش ��ورات دار مكتبة احلياة/بريوت 1954 ـ� �ـ � ��ص )78وهك ��ذا يتو�صل دي ��كارت اىل ان الواق ��ع اخلارج ��ي ال يحم ��ل االث ��ر احلقيقي �إال يف اذهانن ��ا وم ��ا موج ��ود يحم ��ل التب ��دل والتغ�ي�ر ،كذل ��ك احل ��ال م ��ع �شك ��ه يف بدن ��ه يجع ��ل الواق ��ع حلم ��ا م ��ن خ�ل�ال افرتا�ضاته حول حركة اج�سادنا ما هي �إال �أحالم عابرة، غارقا بذلك يف مثالية تلغي اي دور لأج�سادنا وحركته ��ا يف الواق ��ع املح�سو� ��س واملعا� ��ش م ��ن اجل ان يعطي ملنهج ال�ش ��ك لديه الفاعلية واالجناز ليثبت حقيقة كامنة لديه تف�صل بني اجل�سد كمادة فاعل ��ة ومتحركة وبني النف�س، يف ثنائي ��ة ال حتم ��ل االت�ص ��ال واالرتب ��اط والتعاي� ��ش ب ��ل االنف�ص ��ال واالغ�ت�راب فيما بينهما بالن�سبة لديكارت الذي واجه ا�شكالية تكمن يف طبيعة العالقة بني عامل العقل وعامل امل ��ادة بني العقل واجل�س ��د ،و�صوال اىل �شكه يف احلقائق العلمي ��ة التي ي�صعب ال�شك فيها النه ��ا متل ��ك م�ص ��ادر الو�ضوح وع ��دم التغري والتبدل مث ��ل االح�سا�سات واالنفعاالت ف�شك فيها عن طريق االفرتا�ضات واملخيلة الب�شرية الت ��ي تفرت�ض ا�شياء غ�ي�ر معقولة ووا�ضحة تتمثل يف ان الل ��ه على�سبيل املثال قادر ان ال يكون هنال ��ك الكثري من موج ��ودات الطبيعة وم ��ا حتمل م ��ن اثر حم�سو� ��س ووا�ضح لدى االن�س ��ان مث ��ل االر� ��ض وال�سم ��اء والنج ��وم وما ا�شبه م ��ن ذلك اي ان الله قادر ان يجعلها غ�ي�ر موجودة كما هي عليه م ��ن حيث ال�شكل والل ��ون والكم والعدد واملكان والزمان ..الخ (نف� ��س امل�صدر ــ � ��ص ).)81هن ��اك من يقول �ضمن جمي ��ع تواريخ الفل�سفة ان منهج ال�شك
لدي ديكارت �أو�صله اىل ثنائية املادة والعقل، هذه الثنائية كانت مفيدة كثريا بالن�سبة للعلم الفيزيائي ك ��ي يتحرر من جاهزي ��ات املعرفة الت ��ي تبثه ��ا الق ��رون الو�سط ��ي " وعلومها " تلك املتعلق ��ة بااللهي ��ات واالرواح والنفو�س واملقا�ص ��د االلهية ..الخ،ولك ��ن املفكر �صادق جالل العظم يقول عك�س ذلك ،ب�أن ديكارت قد تو�صل اىل هذه الثنائية عن طريق "اعتبارات وم�شكالت تتعلق باملادية امليكانيكية وفل�سفة العل ��م وب�أبحاث ��ه الريا�ضية م ��ن جهة ،وكذلك م ��ن خ�ل�ال اعتب ��ارات اخ ��رى مهم ��ة تتعل ��ق باالنطولوجيا الروحي ��ة املوروثة واملكر�سة ديني ��ا وم�ؤ�س�ساتيا من جه ��ة اخرى "(مقابلة م ��ع �ص ��ادق ج�ل�ال العظم/جمل ��ة درا�س ��ات عربي ��ة /الع ��ددان �� �/1985/2/1ص)95 ونح ��ن هنا نقول ان منهج ال�شك لدى ديكارت كان نتيج ��ة لالبح ��اث الريا�ضي ��ة والعلمي ��ة واملكت�شف ��ات اجلدي ��دة �ضمن ع�ص ��ر ديكارت وال يدخ ��ل ك�سب ��ب وحي ��د يف الو�ص ��ول اىل ه ��ذه الثنائية من اج ��ل ان ير�سي دعائم العلم اجلديد الذي كان يه ��دف اليه ويعزز قواعده املادي ��ة والعلمي ��ة ع ��ن طري ��ق منه ��ج ال�ش ��ك، بالرغم من ان ذل ��ك الأخري كان مظلال اىل حد بعيد ،وذلك م ��ن خالل نتائج ��ه النهائية التي تو�ص ��ل اليها ب�ش�أن االف ��كار القابلة للو�ضوح وتل ��ك التي متل ��ك الو�ضوح الفط ��ري متمثال مب ��ا هو خارج عن اذهاننا وارادتنا الب�شرية، فالل ��ه على�سبيل املثال م ��ن البديهيات التي ال ميك ��ن ان يتط ��رق اليه ��ا ال�شك وذل ��ك الن الله ميلك هدايتن ��ا اىل احلقيق ��ة ،وهنا جند كالم دي ��كارت وا�ضحا عندما يق ��ول " :انه ما دمنا ن�ؤم ��ن بوج ��ود الله ف ��ان الل ��ه ل ��ن ي�سمح ان ُن�ضلل " (مدخل اىل الفل�سفة�/ص .)86وهذه الفكرة تو�صل اليها ديكارت بوا�سطة امل�صادر
اال�سكوالئية او عن كتابات �آباء الكني�سة تلك الت ��ي تتمث ��ل يف ماهو اكرب الميك ��ن ان ينتج م ��ا هو اقل ،وهنا تدخل لعب ��ة اللغة يف تبينة اثر الفوقي غري املدرك علىاالن�سان ب�أعتباره حماال للكمال والهيبة ،التي تنتمي �إىل معرفة تن ��درج �ضمن الت�أمالت غري العلمية والدقيقة �أي �ضم ��ن �سلم القي ��م الدينية والروحية لدى االن�س ��ان (املو�سوعة الفل�سفية/ف� ��ؤاد كامل ــ جالل الع�شري/نقال عن الإنكليزية/دار القلم ــ ب�ي�روت 1983/ـ� �ـ � ��ص )191او كما يقول هكت ��ور هوتون " ان ديكارت قد �صاغ خربته وفق قالب امل�سن ��د وامل�سند �إليه .كان قد ورث التقلي ��د االغريق ��ي بخ�صو� ��ص اميانه ب�شيء ما ،خفي ،ظواهر حتتية �ساندة ،م�سند اليه " (متع ��ة الفل�سفة/هكتور هوتون/بغداد ــ بيت احلكمة �2002ص .)57لقد كان ديكارت يعتمد علىاال�سا� ��س الكب�ي�ر يف منهجه م ��ن اجل ان يتو�صل اىل حقائق يقينية بعد انتهاء مراحل ال�ش ��ك وذل ��ك اال�سا� ��س يكم ��ن يف الكوجيتو امل�شه ��ور " �أنا �أفك ��ر ــ اذن ان ��ا موجود ،الذي ال ميك ��ن و�ص ��ول ال�ش ��ك الي ��ه ،الن ��ه ه ��و من ي�ستخ ��دم ا�سل ��وب زعزع ��ة اليقيني ��ات حول جمم ��ل الق�ضاي ��ا الت ��ي تق ��ف حائال م ��ن دون التفكري وال�س�ؤال وال�شك الفاعل واملتوا�صل، فالكوجيت ��و ه ��و املناع ��ة احلقيقي ��ة الت ��ي يتناوله ��ا العقل االن�ساين �ض ��د كل ما ي�صيب ج�سد املعرف ��ة واحلقيقة والعل ��م من تعرثات وامرا�ض م ��ن �ش�أنها ان تق ��ف دون الو�صول اىل يقني وا�ضح ومع�ي�ن ب�ش�أن الق�ضايا التي يطرحها ديكارت ،وذلك الن الذات ال�شاكة هي ذات مفك ��رة متل ��ك الوجود عن طري ��ق الفكر، وهنا ي�ص ��ل ديكارت اىل معرف ��ة الوجود عن طري ��ق الفك ��ر كم ��ا ا�سلفن ��ا �سابقا م ��ن مثالية جتع ��ل الع ��امل الواقعي موج ��ود ًا يف اذهاننا �ضمن ثنائية املادة والعقل.
حقائق ومعارف
لق ��د ا�ستطاع ديكارت ان يه�شم جزءا �أ�سا�سيا من ال�صخرة الت ��ي ت�ستند اليها حقيقة العامل واالر� ��ض �ضم ��ن البن ��اء القرو�سط ��ي مع كل املع ��ارف واحلقائ ��ق وامل�سلم ��ات ال�صامت ��ة والثابت ��ة الت ��ي ال تتزع ��زع م ��ن مكانه ��ا ،مع االجي ��ال العلمي ��ة املبدع ��ة �ضم ��ن ع�ص ��ره ليكمل ال ��دورة املت�سل�سلة يف تراكم امل�شروع الغربي وحتوالته،فال�سفة وعلماء ومفكرين امث ��ال كانت ولوك وهي ��وم وهيجل ونيوتن ومارك�س ..الخ .لق ��د �شك ديكارت يف الكثري م ��ن احلقائ ��ق واملع ��ارف ولكن ��ه يف النهاية ع ��اد اىل اليق�ي�ن يف كث�ي�ر منه ��ا ،فه ��ل هنالك قيمة لذلك ال�ش ��ك؟ من امل�ؤكد ان هنالك القيمة اال�سا� ��س تلك الت ��ي تكم ��ن يف تو�سيع جمال احلري ��ة والبح ��ث العلم ��ي ومتك ��ن الإن�سان م ��ن ال�سيطرة علىالطبيع ��ة ،ولكن ذلك ال�شك مل يك ��ن معني ��ا باحلقيقة باملعن ��ي االكادميي البح ��ت� ،إذ كانت غايت ��ه الو�صول اىل حقيقة جديدة تعمل على�صياغ ��ة كل ما من �ش�أنه ان يجعل االن�سان بعيدا عن لغة اجلمود الذهني واملعريف التي ت�صيب املجتمعات عادة ،فال�شك الديكارت ��ي هو �شك منهجي ق ��د مت افرتا�ضه م�سبق ��ا حول الكثري من الق�ضايا التي تواجه الإن�س ��ان من اجل ان يعطيها معني وتف�سريا جديدا وفقا للتطورات واملكت�شفات احلديثة �ضمن ع�ص ��ره ،التي بد�أت ت�ؤث ��ر علىاحلياة املدني ��ة والدول ��ة واملجتم ��ع علىح ��د �سواء وكذل ��ك العلم والأخ�ل�اق كما يق ��ول هابرماز الذي يعد التحوالت واالنتقاالت التي حدثت م ��ن زمن القرون الو�سطي اىل احلداثة كانت م�صاحب ��ة ملب ��د�أ " الذاتية " ال ��ذي جت�سد يف بني ��ة ُت ��درك يف الفل�سفة كذاتي ��ة جمددة عرب كوجيت ��و ديكارت " �أنا �أفكر ــ اذن انا موجود " ويف �ص ��ورة وع ��ي ال ��ذات املطل ��ق عن ��د عمانويل كانت (يورغ ��ن هابرماز/ف�صل من كتاب احلداثة م�ش ��روع ناق�ص/جملة العرب والفكر العاملي/العدد التا�سع ــ �شتاء /1990 �ص)108 http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
15
ديكارت وعصر التنوير �أ.د.عبد اجلبار منديل يرى الكثري من الباحثني ان الفل�سفة احلديث ��ة تبد�أ م ��ن ريني ��ه ديكارت. ودي ��كارت هو ع ��امل يف الريا�ضيات ومهند� ��س و فلك ��ي وفيل�سوف .ولد يف فرن�سا عام 1595لأب من النبالء ا�صح ��اب املقاطع ��ات الكاثوليك وقد اكت�ش ��ف الأ�س اجل�ب�ري ومزج بني اجل�ب�ر والهند�س ��ة التحليلي ��ة وم ��ا تزال االحداثي ��ات الديكارتية ت�شكل ا�سا�س االحداثيات التي يقوم عليها حتدي ��د املواق ��ع يف �شت ��ى �صن ��وف الهند�سة الع�سكرية واملدنية. يف ذل ��ك الع�صر كان منوذج ار�سطو لالف�ل�اك ه ��و ال�سائ ��د ال ��ذي تتبناه الكني�س ��ة والقائ ��ل ب� ��أن االر�ض هي مرك ��ز الك ��ون وان ال�شم� ��س والقمر والكواك ��ب ت ��دور يف فل ��ك االر� ��ض ومن يخالف هذا املبد�أ يواجه بعقاب �صارم من الكني�س ��ة واملجتمع .وقد اكت�شف دي ��كارت العك� ��س ور�أي ان االر� ��ض لي�س ��ت اال كوكب ��ا �صغ�ي�را ي ��دور يف فل ��ك ال�شم� ��س يف ف�ض ��اء الك ��ون الكبري الالمتناهي .ولكنه مل يعل ��ن عن �آرائه بع ��د ان ر�أى م�صري غاليلو الذي عاقبته الكني�سة. اتخذ ديكارت ال�شك طريقا لفل�سفته. فهو يق ��ول ان على االن�سان ان ي�شك يف كل �ش ��يء .فهل انا مثال واثق من جلو�س ��ي يف هذا امل ��كان؟ اال يحتمل انن ��ي احل ��م؟ وان كل وج ��ودي ه ��و حل ��م يف حل ��م؟ .ال ��ذي ال �ش ��ك في ��ه ه ��و انني افكر لذا (ان ��ا افكر اذن انا موجود). ان ال�ش ��ك ال ��ذي يق ��ود اىل التفك�ي�ر ه ��و ال ��ذي ي�ؤك ��د الوج ��ود .ويقول (انن ��ا لن نت�أكد من وجود العامل قبل ت�أكدنا من وجودنا نحن) وقد �سار كل الفال�سفة الالحقني على قاعدة ال�شك الديكارتي ملعاجلة اال�سئلة الفل�سفية. يق ��ول دي ��كارت ،ان ��ه يج ��ب ان يك ��ون ال�شك ه ��و النظ ��رة ال�سائ ��دة اال يف حقيقة كون االن�س ��ان ذات مفكرة موج ��ودة وجودا حقيقيا وان فكرة الله هي فكرة فطرية يف الب�شر ولكن ��ه يتابع ويقول ب ��ان االن�سان متناه يف حني ان الله غري متناهي لذلك فلي�س بو�سع املتناه ��ي ان يتخي ��ل الالمتناهي .ان الله فكرة اودعها يف نف�س ��ي وقام العقل مبعاينتها وقامت االرادة ب�أقرارها. ويق ��ول :ان االف ��كار الوا�ضحة جدا واملتميزة جدا هي االف ��كار الوحيدة التي ميكن ان ن�سميها افكارا �صحيحة كفكرة الذات املفكرة الوا�ضحة جدا واملتميزة كذلك مع مالحظة ان الفكرة املتميزة وا�ضحة بال�ضرورة اما الفكرة الوا�ضحة فلي�س بال�ضرورة متميزة. وان العقل ال�سليم هو القا�سم امل�شرتك بني النا�س وهو الو�سيلة للح�صول على املعارف دون و�ساطة خارجية. لقد حاولت فل�سفة ديكارت تقليد الريا�ضيات يف و�ضوحها ويقينها وحاولت ا�ستنتاج ماهي ��ة اال�شي ��اء با�ستنباط عقل ��ي وبد�أ ديكارت يبح ��ث عن و�سيلة الن�ش ��اء ميتافيزيقا جديدة تقوم على الفيزياء احلديثة وت�ستخدم االدوات املنهجية التي ي�ستخدمها علماء الريا�ضيات وعلماء الطبيعة فو�ضع قواعد علمية لل�شك املنهجي. لق ��د ت�شكلت منظوم ��ة فكرية جديدة من خ�ل�ال ابداع مفهوم الق�ص ��ور الذاتي من اجل العلم الطبيعي تقوم على قواعد عقلية ريا�ضية وهند�سية ادت اىل هدم فيزياء ار�سطو واىل الغ ��اء العل ��ة الغائبة ورد االعتبار لل�سببية يف مواجه ��ة االفكار اخلا�صة بالقرون الو�سطى ب�ش�أن املعجزات واخلوارق الطبيعية غري املربرة علميا. لكي يت�سنى للعلم الطبيعي النا�شيء ان يتقدم بعيدا عن اال�ضطهاد واالوهام واالفكار امل�سبقة فقد ف�صل ديكارت بني ما �سماه مملكة الطبيعة ومملكة ما وراء الطبيعة وف�صل ب�ي�ن مملك ��ة الفكر ومملكة املادة ذلك ان ع�صر العلم اتى ليتم التمييز اي�ضا بني ال�صفات الرئي�سة الثابتة وال�صفات الثانوية املتغرية والتي بد�أت ت�أخذ مكان امل�صطلحني الذين هما اجلوهر والعر�ض �شيئا ف�شيئا. وهو يو�صي الباحثني عن احلقيقة قائال :اذا اردت ان تكون باحثا �صادقا عن احلقيقة فم ��ن ال�ض ��روري ان ت�ش ��ك م ��ا ال يقل عن م ��رة واح ��دة يف حياتك بقدر االم ��كان يف كل اال�شي ��اء .انا ا�شك اذن انا افك ��ر اذن انا موجود .ان ال�شك هو ا�سا�س احلكمة وعليك ان
تنطلق من اال�شياء االكرث ب�ساطة اىل اال�شياء االك�ث�ر تعقيدا .ان احلوا�س تخدعن ��ا م ��ن وق ��ت اىل �آخ ��ر وم ��ن احلكم ��ة ان ال نث ��ق بالذي ��ن خدعونا ولو مرة واح ��دة .وانا كلما ا�ساء يل �شخ�ص احاول ان ارفع روحي عاليا حتى ال ميكن ان ت�صل اىل اال�ساءة.. بع ��د ال�ضج ��ة الهائل ��ة الت ��ي احدثها الع ��امل االيط ��ايل (غاليلو)بن�ش ��ر كتاب ��ه عام 1632م ال ��ذي نفى فيه ان تك ��ون االر� ��ض مرك ��ز الك ��ون وقال: ان االر� ��ض تتحرك يف فل ��ك ال�شم�س ولي� ��س العك� ��س كم ��ا كان يعتق ��د القدم ��اء وقي ��ام الكني�س ��ة ب�أ�ص ��دار االع ��دام على م ��ن ي�ؤي ��د ه ��ذا الر�أي وج ��د (دي ��كارت) نف�س ��ه م�ضطرا اىل الهروب من فرن�س ��ا الكاثوليكية اىل الدول الربوت�ستاني ��ة التي هي اكرث ت�ساحما .لذلك فقد ا�ستقر يف هولندا للف�ت�رة من عام 1628اىل عام 1649 حي ��ث ق ��ام بتكري� ��س وقت ��ه للدرا�سة والبحث العلمي. كتب دي ��كارت الكثري من الكتب ولكن اهم م�ؤلفاته هي: 1ـ ر�سالة يف املنهج عام 1637 2ـ ت�أم�ل�ات يف الفل�سف ��ة االوىل ع ��ام 1641 3ـ مبــــ ��ادئ الفل�سف ��ة االوىل ع ��ام 1644 4ـ م�ؤلف ��ات يف عل ��وم الريا�ضي ��ات والهند�سة واجلرب ويف الف�ت�رة االخرية من اقامته يف هولندا حاربته جامعة (اليدن) بحجة خمالفت ��ه للمذه ��ب االر�سط ��ي ال ��ذي يقول مبركزية االر�ض وكذلك بحجة ان فل�سفته يف ال�شك الديكارتي تقود اىل االحل ��اد لذلك فقد غادر هولندا اىل املاني ��ا وبعدها اىل الدمنارك .ومن الدمنارك دعته ملكة ال�سويد كري�ستينيا عام 1649 لكي يدر�سها الفل�سفة. وكان ��ت امللكة ت�صر عل ��ى اخذ درو�سها ال�ساعة اخلام�سة �صباح ��ا االمر الذي كان يجرب الفيل�س ��وف عل ��ى اال�سراع يف ال�صباح الباك ��ر ملالقاة امللكة يف اجل ��و ال�سويدي البارد لذلك فقد ا�صيب بااللتهاب الرئوي الذي ادى اىل وفاته. لق ��د كان الق ��رن ال�سابع ع�شر قرن البحث عن اجلوهر امل ��ادي الذي يقف وراء اال�شياء ويع ��رف ديكارت اجلوه ��ر بانه الالمتناه ��ي الكامل واحلر واملوج ��ود وجودا حقيقيا وال يحت ��اج يف وج ��وده اىل غريه من املخلوقات وان ��ه القائم بذاته والذي ال يعتمد يف وجوده على غريه .ويقول اننا ال ندرك اجلوهر مبا�شرة وامنا ندركه من خالل �صفاته. فلكل جوهر �صفة مكونة ملاهيته مقومة لطبيعته ف�صفة النف�س املقومة هي الفكر و�صفة اجل�س ��م املقومة هي االمتداد .واح ��وال اجلوهر املادي هي احلرك ��ة وال�شكل .وتتغري االح ��وال بتغري الظروف وي�ضرب مثل بال�شمعة حي ��ث يتغري �شكلها ولونها ورائحتها حني حترتق ولكن يظل االمتداد املتمثل يف بقايا ال�شمع املحرتق. ان امل ��ادة امت ��داد و ال امتداد م ��ن دون مادة .واملادة مرتا�ص ��ة يف الكون واحلركة يف داخل ��ه �ساكن ��ة واحلرك ��ة يف االفالك ال�سماوية دائري ��ة تامة ولذلك الب ��د اذن ان تكون احلرك ��ة اتي ��ة من اخلارج .هناك وجود مو�ضوعي للمادة ف�ل�ا يعتمد اجل�سم على غريه اي انه ال يعتمد على ذواتنا فالوجود املادي م�ستقل عنا ولي�س م�س�ألة ذاتية تعتمد على ادراكنا لها. االمت ��داد عن ��د دي ��كارت هو من ال�صف ��ات الرئي�سة فم ��ا تبقى من جترب ��ة ديكارت على ال�شمع ��ة بع ��د تغري لونه ��ا ورائحتها هو ال�شم ��ع املمتد الذي ذاب ولكنه بق ��ي له امتداد يوح ��ي لنا بهوية ال�شمع ��ة امل�صنوعة من ال�شمع .فاالمتداد هو م ��ن ال�صفات الرئي�سية املو�ضوعي ��ة الت ��ي ال تعتم ��د يف وجوده ��ا على غريه ��ا وال يختلف اثن ��ان ب�ش�أنها النها مو�ضوع العلم الطبيعي اما اللون والطعم والرائحة فمن �صفات الثانوية الذاتية التي نعتمد علينا ونكت�سبها بالتجربة. �سع ��ى دي ��كارت للو�ص ��ول اىل املعرفة انطالقا م ��ن منهج فيه الدق ��ة واليقني على غرار الريا�ضي ��ات وق ��د ا�س� ��س للعقالنية واملنهج العلم ��ي االمر الذي �ساه ��م يف تطور الفكر املدر�سي القرو�سطي وخروجه من عقدة ار�سطو ومنظومته.
رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
التحرير ----------------نزار عبد ال�ستار االخراج الفني ----------------م�صطفى التميمي الت�صحيح اللغوي ----------------حممد حنون
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com