Voltaire

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫‪Voltaire‬‬ ‫رجل التنوير‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫ف������ول������ت������ي������ر‬ ‫فران�سوا ماري �أرويه املعروف با�سم فولتري‬ ‫(بالفرن�سية‪Voltaire :‬‏) من مواليد (‪ 21‬ت�شرين‬ ‫الثاين ‪ )1694‬ووفيات (‪ 30‬ايار ‪ ،)1778‬فولتري‬ ‫هو ا�سمه امل�ستعار‪ .‬كاتب فرن�سي عا�ش يف ع�صر‬ ‫التنوير‪ ،‬وهو � ً‬ ‫أي�ضا كاتب وفيل�سوف ذاع �صيته‬ ‫ب�سبب �سخريته الفل�سفية الظريفة ودفاعه عن‬ ‫احلريات املدنية خا�صة حرية العقيدة‪.‬‬ ‫وكان فولتري كات ًبا غزير الإنتاج قام بكتابة‬ ‫�أعمال يف كل الأ�شكال الأدبية تقري ًبا؛ فقد‬ ‫كتب امل�سرحيات وال�شعر والروايات (الرواية)‬ ‫واملقاالت (املقال) والأعمال التاريخية والعلمية‬ ‫و�أكثـر من ع�شرين � ً‬ ‫ألفا من اخلطابات‪ ،‬وكذلك‬ ‫�أكثـر من �ألفني من الكتب ومن�شورات‪.‬‬ ‫وكان فولتري مداف ًعا �صريحً ا عن الإ�صالح‬ ‫االجتماعي على الرغم من وجود قوانني الرقابة‬ ‫ال�صارمة والعقوبات القا�سية التي كان يتم‬ ‫تطبيقها على كل من يقوم بخرق هذه القوانني‪.‬‬ ‫وباعتباره ممن برعوا يف فن املجادلة واملناظرة‬ ‫دائما ما يح�سن ا�ستغالل‬ ‫الهجائية‪ ،‬فقد كان‬ ‫ً‬ ‫�أعماله النتقاد دوغما الكني�سة الكاثوليكية‬ ‫وامل�ؤ�س�سات االجتماعية الفرن�سية املوجودة يف‬ ‫ع�صره‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واحدا من العديد من ال�شخ�صيات‬ ‫وكان فولتري‬ ‫البارزة يف ع�صر التنوير (�إىل جانب كل من‬ ‫مونت�سكيو وجون لوك وتوما�س هوبز وجان جاك‬ ‫رو�سو) حيث تركت �أعماله و�أفكاره ب�صمتها‬ ‫الوا�ضحة على مفكرين مهمني تنتمي �أفكارهم‬ ‫للثورة الأمريكية والثورة الفرن�سية‪.‬‬

‫اعداد‪ :‬زينة الربيعي‬ ‫�سنواته املبكرة يف دنيا الأدب‬ ‫ولد فران�سوا ماري �أرويه يف باري�س‪ ،‬وكان‬ ‫الأخ الأ�صغر خلم�سة من الأطفال ‪ -‬والطفل‬ ‫الوحيد الذي عا�ش منهم ‪ -‬ولدوا لوالده‬ ‫الذي كان يدعى فران�سوا �أرويه ‪ -‬الذي‬ ‫ولد يف عام ‪� 1650‬أو عام ‪ 1651‬وتويف‬ ‫يف كانون الثاين من عام ‪ .1722‬وكان‬ ‫يعمل موث ًقا عامًا وموظ ًفا ر�سميًا �صغريًا‬ ‫يف وزارة املالية‪ .‬وكانت والدته هي ماري‬ ‫مارجريت دومارت (التي امتدت حياتها‬ ‫تقريبًا منذ عام ‪ 1660‬وحتى الثالث‬ ‫ع�شر من �شهر متوز من عام ‪،)1701‬‬ ‫وكانت تنحدر من �أ�صول نبيلة تنتمي‬ ‫ملقاطعة بواتو‪ .‬وتلقى فولتري تعليمه يف‬ ‫�إحدى مدار�س الي�سوعيني؛ وهي مدر�سة‬ ‫‪( Collège Louis-le-Grand‬يف‬ ‫الفرتة ما بني عامي ‪ 1704‬و‪ )1711‬حيث‬ ‫تعلم اللغة الالتينية‪ ،‬كما �أ�صبح يف فرتة‬ ‫الحقة من حياته بارعً ا يف اللغتني الإ�سبانية‬ ‫واالجنليزية‪.‬‬ ‫وعندما �أنهى فولتري درا�سته‪ ،‬كان قد‬ ‫عقد العزم على �أن ي�صبح كاتبًا بالرغم‬ ‫من �أن والده كان يريد �أن ي�صبح ابنه‬ ‫حماميًا‪ .‬ولكن فولتري الذي تظاهر ب�أنه‬ ‫حمام‬ ‫يعمل يف باري�س يف مهنة م�ساعد ِ‬ ‫كان يق�ضي معظم وقته يف كتابة ال�شعر‬ ‫الهجائي‪ .‬وعندما اكت�شف والده الأمر‬ ‫�أر�سله لدرا�سة القانون؛ ولكن هذه املرة يف‬ ‫املقاطعات الفرن�سية البعيدة عن العا�صمة‪.‬‬ ‫ولكن فولتري ا�ستمر يف كتابة املقاالت‬ ‫والدرا�سات التاريخية التي مل تت�صف‬ ‫دائمًا بالدقة على الرغم من �أن معظمها كان‬ ‫دقي ًقا بالفعل‪ .‬و�أك�سبه الظرف الذي كانت‬ ‫�شخ�صيته تت�صف به �شعبية يف دوائر‬

‫العائالت الأر�ستقراطية التي كان يختلط‬ ‫بها‪ .‬وا�ستطاع والد فولتري �أن يح�صل البنه‬ ‫على وظيفة �سكرتري ال�سفري الفرن�سي يف‬ ‫اجلمهورية الهولندية حيث وقع فولتري يف‬ ‫هوى الجئة فرن�سية تدعى كاثرين �أوليمب‬ ‫دانوير‪ .‬و�أحبط والد فولتري حماولتهما‬ ‫للفرار معًا والتي �أحلقت اخلزي به‪ ،‬ومت‬ ‫�إجبار فولتري على العودة �إىل فرن�سا مر ًة‬ ‫�أخرى‪.‬‬ ‫ودرات معظم ال�سنوات الأوىل من حياة‬ ‫فولتري يف فلك واحد وهو العا�صمة‬ ‫الفرن�سية ‪ -‬باري�س‪ .‬ومنذ تلك ال�سنوات‬ ‫املبكرة ‪ -‬وما تالها من �سنوات عمره ‪-‬‬ ‫دخل فولتري يف م�شكالت مع ال�سلطات‬ ‫ب�سبب هجومه املتحم�س على احلكومة‬ ‫وعلى الكني�سة الكاثوليكية‪ .‬وقد �أدت به‬ ‫هذه الأن�شطة �إىل التعر�ض مرات عديدة‬ ‫لل�سجن وللنفي‪ .‬ويف عام ‪ - 1717‬ويف‬ ‫بداية الع�شرينات من عمر فولتري ‪ -‬ا�شرتك‬ ‫يف امل�ؤامرة املعروفة تاريخيًا با�سم‬ ‫‪ Cellamare conspiracy‬والتي‬ ‫تزعمها الكاردينال جيوليو �ألربوين �ضد‬ ‫فيليب الثاين؛ دوق �أورليون والذي كان‬ ‫و�صيًا على عر�ش امللك ال�صغري لوي�س‬ ‫اخلام�س ع�شر؛ ملك فرن�سا (وكان الهدف‬ ‫من امل�ؤامرة نقل الو�صاية على العر�ش‬ ‫�إىل ابن عم فيليب الثاين‪ ،‬وعم امللك‬ ‫ال�صغري ‪ -‬ملك �إ�سبانيا؛ فيليب اخلام�س)‪.‬‬ ‫وبحجة كتابته لبع�ض الأ�شعار الهجائية عن‬ ‫الأر�ستقراطية‪ ،‬والتي كان منها ما تعر�ض‬ ‫ل�شخ�ص ‪( Régent‬احلاكم‪/‬الو�صي على‬ ‫العر�ش)‪ ،‬مت احلكم على فولتري بال�سجن يف‬ ‫�سجن البا�ستيل ملدة �أحد ع�شر �شه ًرا‪ .‬ويف‬ ‫فرتة �سجنه يف البا�ستيل‪ ،‬قام بكتابة �أول‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫�أعماله امل�سرحية ‪�( - Œdipe -‬أوديب)‪.‬‬ ‫وكان جناح هذه امل�سرحية هو �أول ركائز‬ ‫�شهرته الأدبية‪.‬‬ ‫�أ�سباب اختياره ال�سم فولتري‬ ‫ويعترب ا�سم «فولتري» الذي اتخذه الكاتب‬ ‫يف عام ‪ 1718‬كا�سم قلمي م�ستعار وكا�سم‬ ‫ي�ستخدمه يف حياته اليومية [بحاجة‬ ‫مل�صدر] نوعً ا من �أنواع اجلنا�س الت�صحيفي‬ ‫لكلمة ‪ AROVET LI‬؛ وهي الطريقة‬ ‫التي يتم بها هجاء لقبه ‪- Arouet -‬‬ ‫باللغة الالتينية م�ضا ًفا �إليها احلروف‬ ‫الأوىل من اللقب ‪( le jeune‬الأ�صغر)‪.‬‬ ‫ولال�سم �صداه يف الرتتيب العك�سي ملقاطع‬ ‫ا�سم ‪( château‬ق�صر ريفي عائلي) يف‬ ‫مقاطعة بواتو‪ .‬وهو الق�صر الذي كان يطلق‬ ‫عليه ا�سم ‪ .Airvault‬ويعترب الكثريون‬ ‫�أن اتخاذه ال�سم «فولتري» الذي جاء بعد‬ ‫الفرتة التي مت فيها احتجازه يف �سجن‬ ‫البا�ستيل عالمة على انف�صاله الر�سمي عن‬ ‫عائلته وما�ضيه‪.‬‬ ‫‪ Richard Holmes‬وي�ؤيد ريت�شارد‬ ‫هوملز ‪ -‬امل�ؤلف الربيطاين والباحث يف‬ ‫ال�سري الذاتية لأعالم احلركة الرومان�سية‬ ‫يف بريطانيا وفرن�سا ‪ -‬هذا الر�أي عن‬ ‫م�صدر ا�شتقاق اال�سم‪ ،‬ولكنه ي�ضيف �إن‬ ‫كاتبًا مثل فولتري قد اتخذ هذا اال�سم � ً‬ ‫أي�ضا‬ ‫ملا له من معنى �ضمني يوحي بال�سرعة‬ ‫واجلر�أة‪ .‬هذا املعنى الذي ي�أتي من اقرتان‬ ‫اال�سم بكلمات مثل‪( voltige :‬الألعاب‬ ‫البهلوانية التي يتم �أدا�ؤها على �أرجوحة‬ ‫البهلوان �أو احل�صان)‪ ،‬و‪volte-face‬‬ ‫(االلتفاف ملواجهة الأعداء)‪ ،‬و‪volatile‬‬ ‫(وهي الكلمة التي ت�شري �أ�سا�سً ا �إىل‬ ‫�أحد املخلوقات املجنحة)‪ .‬ومل يكن لقب‬

‫«‪ »Arouet‬ا�سمًا من �أ�سماء النبالء‬ ‫لينا�سب �شهرته التي كانت قد بد�أت يف‬ ‫التزايد خا�ص ًة و�أن لال�سم �صداه يف كلمات‬ ‫مثل‪( à rouer :‬اجللد بال�سوط) و‪roué‬‬ ‫(مبعنى الفا�سق)‪.‬‬ ‫انكلرتا‬ ‫وكانت اال�ستعداد ال�شخ�صي ‪ -‬الذي ذاع‬ ‫ب�سببه �صيت فولتري يف ع�صرنا احلايل‬ ‫بني جمهور القراء ‪ -‬حل�سن ا�ستخدام‬ ‫ح�ضور البديهة النقدية التي كان يتمتع بها‬ ‫والتي كانت تتميز بال�سرعة وحدة النظر‬ ‫وال�صرامة والطرافة هي ما جعلت من‬ ‫فولتري �شخ�صية غري حمبوبة بني الكثريين‬ ‫من معا�صريه؛ مبا يف ذلك الكثريين ممن‬ ‫ينتمون للطبقة الأر�ستقراطية الفرن�سية‪.‬‬ ‫وكانت ردود فولتري الالذعة م�س�ؤولة عن‬ ‫فرتة املنفى التي خرج مبقت�ضاها من فرن�سا‬ ‫لي�ستقر يف انكلرتا‪.‬‬ ‫وبعد �أن قام فولتري ب�إهانة النبيل الفرن�سي‬ ‫ال�شاب ‪ -‬كافلييه دي روهان ‪ -‬يف وقت‬ ‫مت�أخر من عام ‪ ،1725‬ا�ستطاعت �أ�سرة‬ ‫روهان الأر�ستقراطية �أن حت�صل على‬ ‫‪ - lettre de cachet‬وهو مر�سوم‬ ‫موقع من ملك فرن�سا (وكان امللك هو‬ ‫لوي�س اخلام�س ع�شر يف ع�صر فولتري)‬ ‫يت�ضمن عقاب ا�ستبدادي لأحد الأ�شخا�ص‪،‬‬ ‫وال ميكن ا�ستئناف احلكم الذي جاء فيه‪.‬‬ ‫وهو نوع من الوثائق التي كان ي�شرتيها‬ ‫�أفراد طبقة النبالء الأثرياء للتخل�ص من‬ ‫�أعدائهم غري املرغوب فيهم‪ .‬وا�ستخدمت‬ ‫�أ�سرة روهان هذه ال�ضمانة يف بداية‬ ‫الأمر للزج بفولتري يف �سجن البا�ستيل‪،‬‬ ‫ثم التخل�ص منه عن طريق النفي خارج‬ ‫البالد دون �أن يتعر�ض ملحاكمة �أو ي�سمح‬

‫له بالدفاع عن نف�سه‪ .‬وتعترب هذه الواقعة‬ ‫عالمة بارزة يف تاريخ بدء حماوالت فولتري‬ ‫لتطوير نظام الق�ضاء الفرن�سي‪.‬‬ ‫وا�ستمر نفي فولتري �إىل انكلرتا ملدة‬ ‫عامني‪ ،‬وتركت التجارب التي مر بها هناك‬ ‫�أكرب الأثر يف العديد من �أفكاره‪ .‬وت�أثر‬ ‫فولتري ال�شاب بالنظام الربيطاين امللكي‬ ‫الد�ستوري مقارن ًة بالنظام الفرن�سي امللكي‬ ‫املطلق‪ ،‬وكذلك بدعم الدولة حلرية التعبري‬ ‫عن الر�أي وحرية العقيدة‪ .‬كذلك‪ ،‬ت�أثر‬ ‫فولتري بالعديد من كتاب ع�صره الذين‬ ‫ينتمون للمدر�سة الكال�سيكية احلديثة‪ ،‬وزاد‬ ‫اهتمامه بالأدب االجنليزي الأقدم عم ًرا ‪-‬‬ ‫خا�ص ًة �أعمال �شك�سبري ‪ -‬التي مل تكن قد‬ ‫نالت قد ًرا كبريًا من ال�شهرة يف �أوروبا‬ ‫القارية يف ذلك الوقت‪ .‬وبالرغم من �إعالنه‬ ‫اختالفه مع قواعد املدر�سة الكال�سيكية‬ ‫احلديثة‪ ،‬فقد ر�أى فولتري �أن �شك�سبري‬ ‫يعترب من النماذج التي يجب �أن يقتدي بها‬ ‫الكتاب الفرن�سيني لأن الدراما الفرن�سية‬ ‫بالرغم من كونها تتميز باجلمال �أكرث من‬ ‫الدراما االجنليزية‪ ،‬ف�إنها تفتقر للحيوية‬ ‫على خ�شبة امل�سرح‪ .‬ويف وقت الحق ‪-‬‬ ‫وبالرغم من �أن ت�أثري �أعمال �شك�سبري قد‬ ‫بد�أ يتزايد على الأدب الفرن�سي ‪ -‬فقد حاول‬ ‫فولتري �أن ي�ضع منوذجً ا يتعار�ض مع‬ ‫م�سرحيات �شك�سبري ي�شجب فيه ما اعتربه‬ ‫همجية من جانبه‪.‬‬ ‫وبعد ق�ضائه لفرتة قاربت الثالث �سنوات‬ ‫يف املنفى‪ ،‬عاد فولتري �إىل باري�س وقام‬ ‫بن�شر �آرائه حول املوقف الربيطاين من‬ ‫احلكومة ومن الأدب ومن العقيدة يف‬ ‫�صورة جمموعة من املقاالت التي ت�أخذ‬ ‫�شكل اخلطابات بعنوان ‪Lettres‬‬


‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫‪philosophiques sur les‬‬ ‫‪Anglais (Philosophical‬‬ ‫‪ )letters on the English‬ولأن‬ ‫فولتري قد اعترب �أن امللكية الد�ستورية‬ ‫الربيطانية �أكرث تقدمًا واحرتامًا حلقوق‬ ‫الإن�سان (خا�ص ًة يف اجلانب الذي يتعلق‬ ‫بالت�سامح الديني) من نظريتها الفرن�سية‪،‬‬ ‫فلقد القت هذه اخلطابات اعرتا�ضات كبرية‬ ‫يف فرن�سا لدرجة القيام ب�إحراق الن�سخ‬ ‫اخلا�صة بهذا العمل و�إجبار فولتري مر ًة‬ ‫�أخرى على مغادرة فرن�سا‪.‬‬ ‫‪( Château de Cirey‬ق�صر‬ ‫�سرياي الريفي)‬ ‫يف واجهة الكتاب الذي قام برتجمته‬ ‫لنيوتن ‪ -‬والذي تظهر فيه دو �شاتولييه‬ ‫يف �صورة ملهمة فولتري ‪ -‬تت�ضح الأفكار‬ ‫ال�سماوية التي �أوحى بها نيوتن �إىل‬ ‫فولتري‪.‬وكانت وجهة فولتري التالية‬ ‫هي ‪( Château de Cirey‬ق�صر‬ ‫�سرياي الريفي) املوجود على احلدود‬ ‫بني املقاطعتني الفرن�سيتني �شامباين‬ ‫ولورين‪ .‬و�أعاد فولتري جتديد املبنى على‬ ‫نفقته اخلا�صة‪ ،‬ومن هناك بد�أ عالقته‬ ‫باملاركيزة دو �شاتولييه‪ ،‬واملعروفة با�سم‬ ‫جابرييل اميلي لو تونيلييه دي بريتويل‬ ‫(والتي �أطلقت على نف�سها ا�سم اميلي دو‬ ‫�شاتولييه)‪ .‬وكان ق�صر �سرياي مل ًكا لزوج‬ ‫املاركيزة ‪ -‬املاركيز فلورنت‪-‬كلود دو‬ ‫�شاتولييه ‪ -‬الذي كان �أحيا ًنا يزور زوجته‬ ‫وع�شيقها يف الق�صر الريفي‪ .‬وكان لهذه‬ ‫العالقة التي ا�ستمرت ملدة خم�سة ع�شر عامًا‬ ‫ت�أثريها الفكري املهم على حياة فولتري‪.‬‬ ‫فقد جمع فولتري مب�ساعدة املاركيزة واحد‬ ‫وع�شرين �أل ًفا من الكتب؛ ويعترب هذا‬ ‫العدد عددًا هائ ًال من الكتب يف ذلك الوقت‪.‬‬ ‫وقد قاما معًا بدرا�سة هذه الكتب‪ ،‬وكذلك‬ ‫بالقيام بتجارب خا�صة بالعلوم املعروفة‬ ‫با�سم العلوم الطبيعية يف املعمل اخلا�ص‬ ‫بفولتري‪ .‬وت�ضمنت جتارب فولتري حماولة‬ ‫منه لتحديد خ�صائ�ص النار‪.‬‬ ‫وبعد �أن تعلم فولتري الدر�س من مناو�شاته‬ ‫ال�سابقة مع ال�سلطات‪ ،‬بد�أ فولتري الأ�سلوب‬ ‫الذي ا�ستمر يف ا�ستخدامه لبقية حياته‬ ‫باالبتعاد عن كل ما ي�سبب له الأذى‬ ‫ال�شخ�صي والتخل�ص من �أية م�س�ؤولية قد‬ ‫تعر�ضه للخطر‪ .‬ووا�صل فولتري كتاباته‪،‬‬ ‫وقام بن�شر ً‬ ‫بع�ضا من م�سرحياته مثل‬ ‫‪ Mérope‬بالإ�ضافة �إىل بع�ض الق�ص�ص‬ ‫الق�صرية‪ .‬ومر ًة �أخرى‪ ،‬ميكن اعتبار‬ ‫ال�سنوات التي ق�ضاها فولتري يف منفاه يف‬ ‫بريطانيا م�صد ًرا للإلهام من خالل ت�أثره‬ ‫القوي ب�أعمال �سري ا�سحق نيوتن‪ .‬وكان‬ ‫فولتري ي�ؤمن بقوة بنظريات نيوتن؛ خا�ص ًة‬ ‫تلك النظريات التي تتعلق بعلم الب�صريات‬ ‫(فقد �أدى اكت�شاف نيوتن حلقيقة �أن ال�ضوء‬ ‫الأبي�ض يتكون من كل �ألوان الطيف �إىل‬ ‫قيام فولتري بالعديد من التجارب املتعلقة‬ ‫بهذا االكت�شاف يف �سرياي)‪ .‬كذلك‪� ،‬أتى‬ ‫فولتري على ذكر قانون اجلاذبية يف �أعماله‬ ‫(فقد ذكر ق�صة نيوتن مع التفاحة التي‬ ‫�سقطت فوقه من �شجرة يف عمله املعروف‬ ‫با�سم ‪Essai sur la poésie épique‬‬ ‫�أو ‪.Essay on Epic Poetry‬‬ ‫وبالرغم من �أن فولتري واملاركيزة كانا‬ ‫�شغوفني بالآراء الفل�سفية اخلا�صة بعامل‬ ‫الريا�ضيات والفيل�سوف الأملاين جوتفريد‬ ‫اليبنز ‪ -‬الذي كان معا�ص ًرا لنيوتن وخ�صمًا‬ ‫له ‪ -‬قد احتفظ االثنان «ب�إميانهما ب�أفكار‬ ‫نيوتن» و�شكلت �أعمال نيوتن و�أفكاره‬ ‫ركيزة مهمة يف نظرياتهما‪ .‬وبالرغم من‬ ‫�أن بع�ض الآراء كانت تعتقد �أن املاركيزة‬ ‫«متيل �إىل �آراء اليبنز»‪ ،‬فقد كتبت هي‪je« :‬‬ ‫‪ »,newtonise‬وهي العبارة التي تعني‬ ‫«�أنا �أعمل وفق �أفكار نيوتن» �أو «�أنا �أ�ؤمن‬ ‫ب�أفكار نيوتن»‪ .‬ورمبا يكون كتاب فولتري‬ ‫‪Eléments de la philosophie‬‬ ‫‪� de Newton‬أو (‪The Elements‬‬ ‫‪)of Newton>s Philosophies‬‬

‫عم ًال م�شرت ًكا بينه وبني املاركيزة‪ ،‬وكان‬ ‫الهدف منه و�صف الفروع الأخرى من �أفكار‬ ‫نيوتن التي انبهرا بها مبا يف ذلك نظرية‬ ‫اجلاذبية‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬قام فولتري واملاركيزة بدرا�سة‬ ‫التاريخ؛ خا�صة تاريخ ال�شعوب التي‬ ‫�أ�سهمت يف بناء احل�ضارة حتى الوقت‬ ‫الذي كانا يعي�شان فيه‪ .‬وكان املقال الثاين‬ ‫الذي كتبه فولتري باللغة االجنليزية هو‬ ‫‪Essay upon the Civil Wars‬‬ ‫‪ .in France‬وعندما عاد �إىل فرن�سا‪،‬‬ ‫كتب فولتري مقا ًال يعر�ض ال�سرية الذاتية‬ ‫للملك ت�شارلز الثاين ع�شر؛ وهو املقال الذي‬ ‫يعترب بداية لكتابات فولتري التي انتقد‬

‫فيها الأديان (الدين)املعروفة (املعروف)‪.‬‬ ‫وقد جعله هذا املقال م� ً‬ ‫ؤرخا للبالط امللكي‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬عمل فولتري مع املاركيزة على درا�سة‬ ‫الفل�سفة؛ خا�ص ًة الفل�سفة امليتافيزيقية ‪ -‬ذلك‬ ‫الفرع من الفل�سفة الذي كان يتعامل مع‬ ‫الأمور بعيدة املنال والتي ال ميكن �إثباتها‬ ‫بطريقة مبا�شرة‪ :‬كيفية احلياة وماهيتها‪،‬‬ ‫ووجود الله �أو عدم وجوده‪ ،‬وما ي�شابه ذلك‬ ‫من مو�ضوعات‪ .‬وقام فولتري واملاركيزة‬ ‫بتحليل الكتاب املقد�س يف حماولة‬ ‫الكت�شاف مدى �صحة �أفكاره يف الع�صر‬ ‫الذي كانا يعي�شان فيه‪ .‬وانعك�ست �آراء‬ ‫فولتري النقدية يف �إميانه بوجوب ف�صل‬ ‫الكني�سة عن الدولة وكذلك بحرية العقيدة؛‬

‫‪3‬‬

‫وهي الأفكار التي كوّ نها بعد الفرتة التي‬ ‫ق�ضاها يف اجنرتا‪.‬‬ ‫الق�صر ال�صيفي ‪Sanssouci‬‬ ‫‪ Die Tafelrunde‬التي قام بكتابتها‬ ‫�أدولف فون مينت�سل�ضيوف امللك فريدريك‬ ‫الأكرب ‪ -‬ملك برو�سيا ‪ -‬يف قاعة ‪Marble‬‬ ‫‪ Hall‬يف الق�صر الريفي ‪Sanssouci‬‬ ‫(ومن بني احل�ضور �أع�ضاء الأكادميية‬ ‫الربو�سية للعلوم وفولتري الذي يظهر يف‬ ‫اللوحة جال�سً ا يف املقعد الثالث من الي�سار)‪.‬‬ ‫وبعد وفاة املاركيزة ‪� -‬أثناء الوالدة ‪ -‬يف‬ ‫ايلول من عام ‪ ،1749‬عاد فولتري لفرتة‬ ‫ق�صرية �إىل باري�س‪ .‬ويف عام ‪ ،1751‬انتقل‬ ‫�إىل مدينة بوت�سدام ليعي�ش �إىل جوار‬

‫فريدريك الأكرب ‪ -‬ملك برو�سيا ‪ -‬الذي كان‬ ‫�صدي ًقا مقربًا منه ومعجبًا ب�أدبه‪ .‬وقد قام‬ ‫امللك بدعوته ب�شكل متكرر �إىل ق�صره‪ ،‬ثم‬ ‫منحه مرتبًا �سنويًا يبلغ ع�شرين �ألف فرانك‪.‬‬ ‫وبالرغم من �أن �أمور حياة فولتري كانت‬ ‫ت�سري على ما يرام يف البداية ‪ -‬ففي عام‬ ‫‪ 1752‬كتب فولتري ق�صته الق�صرية املعروفة‬ ‫با�سم ‪ Micromégas‬؛ والتي رمبا‬ ‫تكون �أول عمل من �أعمال اخليال العلمي‬ ‫ي�صوّ ر �سفراء من كوكب �آخر يتعرفون على‬ ‫حماقات اجلن�س الب�شري ‪ -‬فقد بد�أت عالقته‬ ‫بفريدريك الأكرب يف التدهور وواجهتها‬ ‫بع�ض ال�صعوبات‪ .‬فقد وجد فولتري‬ ‫نف�سه �أمام دعوة ق�ضائية مت رفعها �ضده‬ ‫و�أمام نزاع مع الأديب والفيل�سوف وعامل‬ ‫الريا�ضيات الفرن�سي موبرتوي ‪ -‬الذي كان‬ ‫ي�شغل من�صب رئي�س �أكادميية برلني للعلوم‬ ‫ فكتب مقالته الهجائية ‪Diatribe du‬‬‫‪docteur Akakia (Diatribe of‬‬ ‫‪ )Doctor Akakia‬التي �سخر فيها من‬ ‫موبرتوي‪ .‬ولقد �أدى هذا الأمر �إىل غ�ضب‬ ‫امللك فريدريك الذي �أمر ب�إحراق كل ن�سخ‬ ‫العمل و�إلقاء القب�ض على فولتري �أثناء‬ ‫وجوده يف نزل كان يقيم فيه يف طريق‬ ‫عودته �إىل وطنه‪.‬‬ ‫جينيف وفيورين‬ ‫وتوجه فولتري �صوب باري�س‪ ،‬ولكن لوي�س‬ ‫اخلام�س ع�شر منعه من دخول املدينة‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫ق�صد جينيف بد ًال منها وا�شرتى بالقرب‬ ‫منها �ضيعة كبرية هي ‪.Les Délices‬‬ ‫وبالرغم من �أن املدينة قد ا�ستقبلته يف بادئ‬ ‫الأمر باحلرية‪ ،‬فقد دفعه القانون املطبق‬ ‫يف جينيف على غري رغبته ‪ -‬ذلك القانون‬ ‫الذي كان يحظر الأداء امل�سرحي وكذلك‬ ‫الن�شر لق�صيدة فولتري الهجائية املعروفة‬ ‫با�سم ‪The Maid of Orleans‬‬ ‫ �إىل االنتقال يف نهاية عام ‪� 1758‬إىل‬‫خارج جينيف وعبور احلدود الفرن�سية‬ ‫حتى و�صل �إىل فيورين التي ا�شرتى‬ ‫فيها �ضيعة �أكرب‪ .‬و�ألهمته هذه الظروف‬ ‫كتابة روايته الق�صرية ‪Candide,ou‬‬ ‫‪,l>Optimisme (Candide‬‬ ‫�أو التفا�ؤل)‪ .‬ويبقى هذا العمل الهجائي‬ ‫الذي انتقد فيه فولتري فل�سفة اليبنز التي‬ ‫ت�ؤمن باحلتمية املتفائلة �أكرث الأعمال‬ ‫التي ا�شتهر بها‪ .‬وهكذا‪ ،‬ا�ستقر فولتري‬ ‫يف فيورين معظم ال�سنوات الع�شرين‬ ‫املتبقية يف حياته لي�ست�ضيف بني احلني‬ ‫والآخر �ضيو ًفا بارزين من �أمثال‪ :‬جيم�س‬ ‫بوزويل وجيوفاين كازانوفا و�إدوارد‬ ‫جيبون‪ .‬ويف عام ‪ ،1764‬ن�شر فولتري‬ ‫�أكرث �أعماله الفل�سفية �أهمية التي ينتقد فيه‬ ‫الكني�سة الرومانية الكاثوليكية وغريها‬ ‫من امل�ؤ�س�سات وهو ‪Dictionnaire‬‬ ‫‪ Philosophique‬؛ ذلك العمل الذي‬ ‫ت�ضمن �سل�سلة من املقاالت التي متت‬ ‫كتابة معظمها �أ�ص ًال من �أجل و�ضعها‬ ‫يف املو�سوعة العامة الفرن�سية التي مت‬ ‫ن�شرها يف ذلك الوقت واملعروفة با�سم‬ ‫‪]3[.Encyclopédie‬‬ ‫الق�صر الريفي الذي كان فولتري ميلكه يف‬ ‫مقاطعة فيورين بفرن�سا‪.‬وبدءًا من عام‬ ‫‪ ،1762‬بد�أ فولتري دفاعه عمن يتعر�ضون‬ ‫لال�ضطهاد دون وجه حق‪ ،‬ورمبا تكون‬ ‫ق�ضية جان كاال�س �أكرث الق�ضايا التي تبناها‬ ‫�شهرة‪ .‬فقد تعر�ض هذا التاجر الذي ينتمي‬ ‫لكني�سة الإ�صالح الفرن�سية الربوت�ستانتية‬ ‫�إىل التعذيب حتى املوت يف عام ‪1763‬‬ ‫حيث مت اتهامه بقتل ابنه عندما �أراد �أن‬ ‫يتحول �إىل املذهب الكاثوليكي‪ .‬ومتت‬ ‫م�صادرة �أمالكه ونزع ح�ضانة من تبقى من‬ ‫�أبنائه من �أرملته و�إجبارهم على الدخول‬ ‫�إىل �أحد الأديرة‪ .‬وجنح فولتري ‪ -‬الذي كان‬ ‫يرى يف هذه الق�ضية دلي ًال وا�ضحً ا على‬ ‫اال�ضطهاد الديني ‪ -‬يف �إ�سقاط هذه التهمة‬ ‫عن كاال�س يف عام ‪1765‬‬ ‫موت فولتري ودفنه‬ ‫ويف �شباط من عام ‪ ،1778‬عاد فولتري‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫للمرة الأوىل خالل الع�شرين عامًا الأخرية‬ ‫�إىل باري�س ‪ -‬مع �آخرين ‪ -‬لي�شهد افتتاح‬ ‫�آخر �أعماله الرتاجيدية وهي م�سرحية‬ ‫‪ .Irene‬وكان ال�سفر الذي ا�ستغرق‬ ‫خم�سة �أيام �شا ًقا للغاية على العجوز‬ ‫الذي كان يناهز الثالثة والثمانني من‬ ‫عمره‪ .‬واعتقد فولتري �إنه على �شفا‬ ‫املوت يف الثامن والع�شرين من فرباير‪،‬‬ ‫فكتب‪�« :‬أنا الآن على �شفا املوت و�أنا �أعبد‬ ‫الله‪ ،‬و�أحب �أ�صدقائي‪ ،‬وال �أكره �أعدائي‪،‬‬ ‫و�أمقت اخلرافات‪ ».‬وبالرغم من ذلك‪،‬‬ ‫فقد متاثل لل�شفاء و�شهد يف �شهر مار�س‬ ‫ً‬ ‫عر�ضا مل�سرحيته ‪ Irene‬مت ا�ستقباله‬ ‫خالله ا�ستقبال البطل الذي عاد �أخريًا �إىل‬ ‫وطنه‪ .‬ولكن‪� ،‬سرعان ما مر�ض فولتري‬ ‫ثاني ًة وتويف يف الثالثني من اذار يف عام‬ ‫‪ .1778‬ويف حلظات احت�ضاره على فرا�ش‬ ‫املوت‪ ،‬عندما طلب منه الق�سي�س �أن يترب�أ‬ ‫من ال�شيطان ويعود �إىل �إميانه بالله‪ ،‬يقال‬ ‫�أن �إجابته كانت‪« :‬ال وقت لدي الآن لأكت�سب‬ ‫املزيد من العداوات‪ ».‬ويقال � ً‬ ‫أي�ضا �إن كلماته‬ ‫الأخرية كانت‪« :‬كرمى لله‪ ،‬دعني �أرقد يف‬ ‫�سالم‪».‬‬ ‫وب�سبب انتقاده املعروف للكني�سة الذي‬ ‫رف�ض �أن يرتاجع عنه قبل وفاته‪ ،‬مل‬ ‫يتم ال�سماح بدفن فولتري وف ًقا لل�شعائر‬ ‫الكاثوليكية‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فقد متكن‬ ‫ا�صدقا�ؤه من دفن جثمانه �س ًرا يف �إحدى‬ ‫الكنائ�س الكبرية يف مقاطعة �شامباين‬ ‫املعروفة با�سم ‪ Scellières‬قبل �أن يتم‬ ‫الإعالن ر�سميًا عن قرار منع الدفن‪ .‬وقد‬ ‫مت حتنيط قلبه وخمه ب�شكل منف�صل‪ .‬ويف‬ ‫يوليو من عام ‪ ،1791‬اعتربته اجلمعية‬ ‫الوطينة الفرن�سية (‪the National‬‬ ‫‪ )Assembly‬واحدًا ممن ب�شروا باندالع‬ ‫الثورة الفرن�سية‪ ،‬ومتت ا�ستعادة رفاته‬ ‫لالحتفاظ بها يف البانثيون ‪ -‬مقربة عظماء‬ ‫الأمة ‪ -‬تكرميًا له‪ .‬ومت االحتفال بنقل رفات‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫فولتري احتفا ًال �ضخمًا بوجود اورك�سرتا‬ ‫كاملة‪ ،‬وت�ضمنت املقطوعات املو�سيقية‬ ‫التي مت عزفها مقطوعة للم�ؤلف املو�سيقي‬ ‫�أندريه جريرتي ‪ -‬البلجيكي الأ�صل والذي‬ ‫ح�صل على اجلن�سية الفرن�سية بعد ذلك ‪ -‬مت‬ ‫خ�صي�صا احتفا ًال بهذه املنا�سبة؛ تلك‬ ‫ت�أليفها‬ ‫ً‬ ‫املقطوعة التي مت تخ�صي�ص جزء منها لآلة‬ ‫النفخ املعروفة با�سم «‪.»tuba curva‬‬ ‫ويعود �أ�صل هذه الآلة �إىل الع�صر الروماين‬ ‫حيث كانت تعرف با�سم ‪ ،cornu‬وكانت‬ ‫هذه الآلة قد متت �إعادة ا�ستخدامها يف ذلك‬ ‫الوقت حتت هذا اال�سم اجلديد‪.‬‬ ‫قرب فولتري يف البانثيون يف باري�س‪.‬‬ ‫وهناك �إحدى الق�ص�ص غري احلقيقية‬ ‫التي ترتدد با�ستمرار عن �أن ما تبقى من‬ ‫رفات فولتري قد تعر�ض لل�سرقة من قبل‬ ‫�أحد املتع�صبني الدينيني يف عام ‪� 1814‬أو‬ ‫عام ‪� 1821‬أثناء عملية الرتميم التي متت‬ ‫ملقربة البانثيون و�إلقائه يف كومة من �أكوام‬ ‫القمامة‪.‬‬ ‫ال�شعر‬ ‫يف �سنوات عمره املبكرة‪ ،‬ظهرت موهبة‬ ‫فولتري ال�شعرية وكانت �أول �أعماله‬ ‫املن�شورة من ال�شعر‪ .‬وكتب فولتري‬ ‫ق�صيديتني طويلتني؛ وهما ‪Henriade‬‬ ‫و ‪ The Maid of Orleans‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل العديد من املقطوعات ال�شعرية‬ ‫الأخرى الأ�صغر حجمًا‪.‬‬ ‫وكانت ق�صيدة ‪The Henriade‬‬ ‫مكتوبة ب�شكل يحاكي �أعمال فريجيل‬ ‫م�ستخدمًا يف كل مقطع يتكون من بيتني‬ ‫ذلك النمط من الأوزان ال�شعرية املعروف‬ ‫با�سم ‪ Alexandrine‬والذي �أدخل عليه‬ ‫بع�ض التعديالت التي جعلته مم ًال ولك من‬ ‫�أجل �أن ينا�سب ال�صياغة الدرامية للعمل‪.‬‬ ‫وافتقرت الق�صيدة التي كتبها فولتري �إىل‬ ‫احلما�س للمو�ضوع وفهمه؛ وهما الأمران‬ ‫اللذان �أثرا �سلبًا على جودة الق�صيدة‪� .‬أما‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫الق�صيدة املعروفة با�سم ‪La Pucelle‬‬ ‫فهي ‪ -‬على اجلانب الآخر ‪ -‬عمل حماكاة‬ ‫�ساخر هاجم فيه فولتري بع�ض املفاهيم‬ ‫الدينية والتاريخية‪ .‬وتعترب �أعمال فولتري‬ ‫الأخرى ‪ -‬ثانوية الأهمية ‪ -‬بوجه عام‬ ‫�أف�ضل من هذين العملني من الناحية الفنية‪.‬‬ ‫النرث‬ ‫فولتري يف ق�صر فريدريك الأكرب املعروف‬ ‫با�سم ‪�.Sanssouci‬صورة حمفورة‬ ‫لفولتري من �إبداع بيري ت�شارلز باكوي‪.‬‬ ‫تنتمي الكثري من �أعمال فولتري التي �صاغها‬ ‫على هيئة النرث والق�ص�ص النرثية اخليالية‬ ‫ والتي جاءت عاد ًة على هيئة كتيبات ‪-‬‬‫�إىل فن اجلدل واملناظرة‪ .‬فقد كانت ق�صته‬ ‫املعروفة با�سم ‪ Candide‬تهاجم التفا�ؤل‬ ‫الديني والفل�سفي بينما كان عمله املعروف‬ ‫با�سم ‪L>Homme aux quarante‬‬ ‫‪ ecus‬يهاجم بع�ض الأ�ساليب االجتماعية‬ ‫وال�سيا�سية التي كانت �سائدة يف ذلك‬ ‫الع�صر‪� .‬أما رواية فولتري املعروفة با�سم‬ ‫‪ Zadig‬وغريها من �أعماله‪ ،‬فقد هاجم‬ ‫فيها الأفكار التي يتم تناقلها عرب الأجيال‬ ‫واخلا�صة بالقيم واملبادئ التي تقوم عليها‬ ‫العقيدة الأرثوذك�سية بينما كان هدفه من‬ ‫كتابة بع�ض هذه الأعمال هو ال�سخرية من‬ ‫الكتاب املقد�س ‪ .‬ويف هذه الأعمال‪ ،‬يت�ضح‬ ‫�أ�سلوب فولتري ال�ساخر ‪ -‬البعيد عن املبالغة‬ ‫ ويت�ضح بوجه خا�ص التحفظ والب�ساطة‬‫يف املعاجلة اللفظية لهذه الأعمال‪ .‬وميكن‬ ‫اعتبار �أن روايته الق�صرية ‪Candide‬‬ ‫بوجه خا�ص هي �أف�ضل النماذج على‬ ‫�أ�سلوبه الأدبي‪ .‬ولفولتري الف�ضل ‪ -‬مثلما‬ ‫هو احلال مع جوناثان �سويفت ‪ -‬يف‬ ‫متهيد الطريق يف دنيا الأدب ال�ستخدام‬ ‫ال�سخرية الفل�سفية يف �أدب اخليال العلمي‬ ‫خا�ص ًة يف ق�صته الق�صرية املعروفة با�سم‬ ‫‪. Micromégas‬‬ ‫وت�شرتك كتابات فولتري الأدبية مع‬

‫�أعماله الأخرى يف ا�ستخدامها بوجه‬ ‫عام لأ�سلوب النقد بالإ�ضافة �إىل التنوع‬ ‫يف املو�ضوعات التي يتناولها‪ .‬فقد كان‬ ‫ي�سبق كل �أعماله الأ�سا�سية ‪� -‬سوا ًء التي‬ ‫كتبها يف قالب �شعري �أو نرثي ‪ -‬متهيد‬ ‫من نوع �أو �آخر ميكن اعتباره منوذجً ا‬ ‫لنربة ال�سخرية الالذعة التي متيز �أعماله‬ ‫والتي مل متنعه من ا�ستخدام تلك اللغة‬ ‫العادية امل�ستخدمة يف �أحاديث النا�س‪ .‬ويف‬ ‫عدد كبري من الكتيبات والكتابات التي ال‬ ‫تتميز بخ�صائ�ص معينة تفردها عن غريها‬ ‫من الكتابات‪ ،‬تظهر مهارات فولتري يف‬ ‫الكتابة ال�صحفية‪ .‬ويف جمال النقد الأدبي‬ ‫ال�صرف‪ ،‬ميكن اعتبار �أن عمله الرئي�سي‬ ‫يف هذا املجال هو ‪Commentaire‬‬ ‫‪ sur Corneille‬بالرغم من �إنه قد‬ ‫قام بكتابة العديد من الأعمال الأخرى‬ ‫امل�شابهة له قالب‪� Ndash:‬أحيا ًنا (كما‬ ‫هو احلال يف عمله املعروف با�سم ‪Life‬‬ ‫‪ )and notices of Molière‬ب�صورة‬ ‫م�ستقلة و�أحيا ًنا �أخرى كجزء من عمله‬ ‫املعروف با�سم ‪. Siècles‬‬ ‫وتتكرر كلمة «‪ »l>infâme‬وكذلك تعبري‬ ‫‪� écrasez l>infâme‬أو «�سحق‬ ‫العار الذي يلحق بالأ�شخا�ص»‪ .‬يف �أعمال‬ ‫فولتري؛ وخا�ص ًة يف خطاباته اخلا�صة‪.‬‬ ‫وت�شري العبارة �إىل تلك الإ�ساءات التي‬ ‫تلحق بالنا�س من �أفراد الأ�سرة املالكة‬ ‫ورجال الدين الذين كان فولتري يراهم يف‬ ‫كل مكان من حوله‪ ،‬وكذلك �إىل اخلرافات‬ ‫وعدم الت�سامح الذين زرعهما رجال الدين‬ ‫يف نفو�س النا�س‪ .‬وقد �شعر فولتري بهذه‬ ‫امل�ؤثرات يف العديد من الأحداث التي مرت‬ ‫يف حياته مثل‪ :‬املنفى‪ ،‬وم�صادرة كتبه‪،‬‬ ‫واملعاناة الب�شعة التي مر بها كل منكاال�س‬ ‫و البري‪.‬‬ ‫و�أ�شهر التعليقات التي يتم تناقلها عن‬ ‫فولتري م�شكوك يف �صحته‪ .‬فالعبارة التالية‬

‫قد ن�سبت ب�شكل خاطئ �إىل فولتري «قد‬ ‫�أختلف معك يف الر�أي ولكنني على ا�ستعداد‬ ‫�أن �أموت دفاعً ا عن ر�أيك‪ ».‬ومل يكن فولتري‬ ‫هو من قال هذه الكلمات‪ ،‬ولكن قائلتها هي‬ ‫�إيفلني بياتري�س هول التي كانت تكتب حتت‬ ‫ا�سم م�ستعار وهو ‪S. G. Tallentyre‬‬ ‫وذلك يف عام ‪ 1906‬يف كتاب ال�سرية‬ ‫الذاتية الذي قامت ب�إ�صداره حتت عنوان‬ ‫‪ . The Friends of Voltaire‬وقد‬ ‫ق�صدت هول بعبارتها �أن تلخ�ص بكلماتها‬ ‫موقف فولتري جتاه كلود ادريان هلفتيو�س‬ ‫وكتابه الذي �أثار جد ًال كبريًا وهو ‪De‬‬ ‫‪ l>esprit‬ولكن ن�سب هذا التعبري الذي‬ ‫�صاغته بكلماتها ب�شكل خاطئ �إىل فولتري‪.‬‬ ‫وعرب ما قالته عن م�ضمون موقف فولتري‬ ‫من هلفتيو�س‪ .‬ويقال �أنها قد ا�ستوحت‬ ‫كلماتها من �أحد التعليقات التي مت العثور‬ ‫عليها يف عام ‪ 1770‬يف �أحد خطابات‬ ‫فولتري �إىل ‪ Abbot le Roche‬والتي‬ ‫يروى �إنه قد قال فيها‪�« :‬أنا �أمقت ما تكتب‪،‬‬ ‫ولكنني على ا�ستعداد تام لأن �أ�ضحي‬ ‫بحياتي من �أجل �أن ت�ستمر يف الكتابة‪».‬‬ ‫وبالرغم من ذلك‪ ،‬ف�إن الدار�سني يعتقدون‬ ‫يف وجود نوع من �أنواع �سوء الفهم لأن ال‬ ‫يبدو �أن مثل هذا اخلطاب يحتوي على �أي‬ ‫تعليق من هذا النوع‪.‬‬ ‫ويعترب �أكرب الأعمال الفل�سفية التي‬ ‫�أنتجها فولتري هو ‪Dictionnaire‬‬ ‫‪ philosophique‬الذي يحتوي‬ ‫على مقاالت قدمها فولتري للن�شر يف‬ ‫‪ Encyclopédie‬وكذلك العديد من‬ ‫�أعماله الأخرى ثانوية الأهمية‪ .‬وقد مت‬ ‫تخ�صي�صها النتقاد املعاهد ال�سيا�سية‬ ‫الفرن�سية‪ ،‬و�أعداء فولتري ال�شخ�صيني‪،‬‬ ‫والكتاب املقد�س‪ ،‬والكني�سة الرومانية‬ ‫الكاثوليكية‪.‬‬ ‫ومن بني العديد من الأهداف الأخرى‪ ،‬انتقد‬ ‫فولتري ال�سيا�سة اال�ستعمارية الفرن�سية‬


‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫يف �أمريكا ال�شمالية‪ ،‬وعمل على احلط من قدر املنطقة‬ ‫ال�شا�سعة املعروفة با�سم والية فرن�سا اجلديدة بو�صفها‬ ‫ب�إنها م�ساحة �ضئيلة تك�سوها الثلوج �أو («‪quelques‬‬ ‫‪. )»arpents de neige‬‬ ‫ر�سائل فولتري‬ ‫كذلك‪ ،‬كتب فولتري عددًا هائ ًال من املرا�سالت اخلا�صة‬ ‫يف الفرتة التي عا�شها تبلغ �إجما ًال �أكرث من ع�شرين �أل ًفا‬ ‫من الر�سائل‪ .‬وتظهر �شخ�صية فولتري يف اخلطابات‬ ‫التي كتبها‪ :‬ففيها تظهر احليوية التي يتمتع بها وتعدد‬ ‫اجلوانب والرباعات يف �شخ�صيته وقدرته على التملق‬ ‫التي ال يرتدد يف ا�ستخدامها و�سخريته قا�سية القلب‬ ‫ومقدرته املهنية املجردة من املبادئ اخللقية وت�صميمه‬ ‫على اخلداع والتحريف يف �أي اجتاه يرى فيه م�صلحته‬ ‫�أو ي�ستطيع به الهروب من �أعدائه‪.‬‬ ‫فل�سفة فولتري‬ ‫فولتري يف �سن ال�سبعني يف لوحة با�ستخدام فن احلفر‬ ‫موجودة يف الن�سخة التي �صدرت يف عام ‪ 1843‬من‬ ‫كتابه ‪ .Philosophical Dictionary‬الدين‬ ‫بالرغم من االعتقاد اخلاطئ للبع�ض يف �أن فولتري كان‬ ‫ملحدًا‪ ،‬فقد كان يف حقيقة الأمر ي�شرتك يف الأن�شطة‬ ‫الدينية كما قام ببناء كني�سة �صغرية يف �ضيعته التي‬ ‫ا�شرتاها يف فيورين‪ .‬ويكمن ال�سبب الرئي�سي يف‬ ‫هذا االعتقاد اخلاطئ يف �أحد الأبيات التي وردت يف‬ ‫ق�صيدة له (وكانت الق�صيدة بعنوان «‪Epistle to‬‬ ‫‪the author of the book, The Three‬‬ ‫‪( )»Impostors‬ر�سالة �إىل م�ؤلف الكتاب‪ :‬املدّعني‬ ‫الثالثة)‪ .‬وميكن ترجمة البيت �إىل‪�« :‬إذا كان الله‬ ‫غري موجود‪ ،‬ف�سيكون من ال�ضروري �أن نختلق نحن‬ ‫واحدًا‪ ».‬وتظهر الق�صيدة الكاملة التي ينتمي �إليها‬ ‫هذا البيت انتقاده الذي كان ين�صب بدرجة �أكرب على‬ ‫ت�صرفات امل�ؤ�س�سات الدينية �أكرث منه على مفهوم الدين‬ ‫يف حد ذاته‪.‬‬ ‫وكحال الكثريين من ال�شخ�صيات البارزة التي عا�شت‬ ‫�أثناء ع�صر التنوير الأوروبي‪ ،‬اعترب فولتري نف�سه‬ ‫م�ؤم ًنا مبذهب الربوبية‪ .‬فقد كان ال يعتقد يف �أن‬ ‫الإميان املطلق بالله يحتاج �إىل اال�ستناد على �أي ن�ص‬ ‫ديني حمدد �أو فردي �أو على �أي تعاليم ت�أتي عن طريق‬ ‫الوحي‪ .‬ويف حقيقة الأمر‪ ،‬كان كل تركيز فولتري ين�صب‬

‫على فكرة �أن الكون قائم على العقل واحرتام الطبيعة؛‬ ‫وهي الفكرة التي عك�ست الر�أي املعا�صر له والذي كان‬ ‫يعتقد يف وحدة الوجود‪ .‬وقد نالت هذه الفكرة ً‬ ‫حظا‬ ‫واف ًرا من الرواج بني النا�س خالل القرنني ال�سابع ع�شر‬ ‫والثامن ع�شر وكتب لها اال�ستمرار يف الوجود يف �شكل‬ ‫من �أ�شكال الربوبية املعروفة يف ع�صرنا احلايل با�سم‬ ‫«‪« »Voltairean Pantheism‬وحدة الوجود من‬ ‫منظور فولتري‪».‬‬ ‫وكتب فولتري مت�سائ ًال‪« :‬ما الإميان؟» فهل هو �أن ن�ؤمن‬ ‫مبا ن�ستطيع �أن نراه وا�ضحً ا �أمام �أعيننا؟ ال‪ ،‬فمن‬ ‫الوا�ضح متامًا لعقلي �إنه من ال�ضروري وجود كيان‬ ‫خالد رفيع املنزلة عاقل ذكي‪ .‬فالأمر عندي ال عالقة له‬ ‫بالإميان‪ ،‬ولكنه مرتبط بالعقل‪».‬‬ ‫وفيما يتعلق بالن�صو�ص الدينية‪ ،‬قام �أحد م�ؤلفي القرن‬ ‫الواحد والع�شرين بتلخي�ص ر�أي فولتري يف الكتاب‬ ‫املقد�س[من؟] عندما قال �إنه �أو ًال مرجع قانوين و‪�/‬أو‬ ‫�أخالقي عفا عليه الزمن‪ .‬وثانيًا‪ ،‬هو بوجه عام نوع‬ ‫من �أنواع اال�ستعارة اللغوية‪ ،‬ولكنها ا�ستعارة حتمل‬ ‫يف طياتها القدرة على �أن تعلمنا درو�سً ا مفيدة‪ .‬وثال ًثا‪،‬‬ ‫هو عمل من �صنع الإن�سان‪ ،‬ولي�س هبة �إلهية‪ .‬ومل‬ ‫ت�ستطع هذه املعتقدات �أن متنع فولتري من ممار�سة‬ ‫الطقو�س الدينية بالرغم من �إنها قد �أك�سبته �سوء‬ ‫ال�سمعة يف �أو�ساط املنتمني �إىل الكني�سة الكاثوليكية‪.‬‬ ‫وجدير بالذكر �أن فولتري كان ي�شكل ‪ -‬بحق ‪ -‬م�صد ًرا‬ ‫للإزعاج للعديد من امل�ؤمنني‪ ،‬و�أن �أفكاره كانت معروفة‬ ‫للجميع ويف كل البالد‪ .‬فقد كتب فولف جاجن �أماديو�س‬ ‫موت�سارت �إىل والده خطابًا يف ال�سنة التي تويف فيها‬ ‫فولتري قال فيه‪�« :‬أخريًا رحل عن العامل �أكرب الأوغاد‬ ‫ومن تلك الأعمال التي قام فولتري برتجمتها والتي تظهر‬ ‫فيها �أفكار الكونف�شيو�سية وتلك املبادئ التي تنادي‬ ‫بالتقيد احلريف �أو املفرط بالقانون �أو ب�شرع ديني �أو‬ ‫�أخالقي‪ ،‬ا�ستقى معلوماته عن املفاهيم ال�صينية يف‬ ‫جمايل ال�سيا�سة والفل�سفة (والتي قامت على مبادئ‬ ‫عقلية)‪ ،‬وقد قام فولتري بذلك بغر�ض املقارنة بعني ناقدة‬ ‫بينها وبني امل�ؤ�س�سات الدينية الأوروبية وكذلك النظام‬ ‫االر�ستقراطي املوروث‪.‬‬ ‫وهناك ق�صة مل يتم الت�أكد من �صحتها تتعلق ب�شراء‬ ‫‪ Geneva Bible Society‬ملنزل فولتري الذي‬

‫يقع يف فيورين ال�ستخدامه يف طباعة الكتاب املقد�س‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬يبدو �أن م�صدر هذه الق�صة هو ذلك التقرير‬ ‫ال�سنوي ‪ -‬الذي متت �إ�ساءة فهمه ‪ -‬ال�صادر يف عام‬ ‫‪ 1849‬عن ‪( American Bible Society‬وهي‬ ‫جمموعة ت�أ�س�ست عام ‪ 1816‬بهدف ن�شر وتوزيع‬ ‫وترجمة الكتاب املقد�س)‪ .‬ومتلك وزارة الثقافة‬ ‫الفرن�سية الآن ق�صر فولتري وتتوىل �إدارته‪.‬‬ ‫املا�سونية‬ ‫دخل فولتري يف ع�ضوية املنظمة املا�سونية قبل‬ ‫وفاته ب�شهر واحد‪ .‬ففي الرابع من ني�سان من عام‬ ‫‪ ،1778‬ذهب فولتري برفقة بنيامني فرانكلني �إىل‬ ‫املحفل املا�سوين ال�شهري ‪La Loge des Neuf‬‬ ‫‪ Soeurs‬يف باري�س بفرن�سا و�أ�صبح ‪Entered‬‬ ‫‪( ApprenticeFreemason‬مبتدئ من�ضم �إىل‬ ‫املا�سونية)‪ .‬ورمبا يكون قد �أقدم على هذه اخلطوة‬ ‫لإر�ضاء فرانكلني فقط‬ ‫املرياث الذي خلفه فولتري‬ ‫متثال ن�صفي لفولتري من �إبداع النحات الفرن�سي ‪ -‬جان‬ ‫انطوان هودون ‪ -‬الذي ينتمي �إىل املدر�سة الكال�سيكية‬ ‫احلديثة‪ .‬كان فولتري يرى �أن الربجوازيني الفرن�سيني‬ ‫قليلو العدد وال ت�أثري لهم يف احلياة الفرن�سية‪� .‬أما‬ ‫الطبقة الأر�ستقراطية فقد كان يعتقد �أنها طبقة طفيلية‬ ‫فا�سدة‪ .‬وكان فولتري يرى �أن عامة ال�شعب يتميزون‬ ‫باجلهل وي�ؤمنون باخلرافات بينما اعترب الكني�سة‬ ‫عبارة عن قوة راكدة تفيد فقط يف موازنة القوى‬ ‫الأخرى حيث �أن «ال�ضريبة الدينية» �أو �ضريبة الع�شر‬ ‫قد �ساعدت يف دعم الثوريني‪ .‬وكان فولتري ال يثق يف‬ ‫الدميقراطية لأنه ر�أى �إنها تعمل على الرتويج حلماقات‬ ‫العامة والدهماء‪ .‬وبالن�سبة لفولتري‪ ،‬يكون امللك‬ ‫امل�ستنري �أو ال�شخ�ص امل�ستنري املنفرد باحلكم ‪ -‬والذي‬ ‫ي�سمع لن�صح الفال�سفة (الفيل�سوف) من �أمثال فولتري‬ ‫ هو الوحيد القادر على �أن يغري يف جمريات الأمور‬‫لأنه من امل�صلحة املنطقية للملك �أن يقوم بدفع القوة‬ ‫والرثوة التي يتمتع بهما رعاياه و�أبناء مملكته �إىل‬ ‫االجتاه الأف�ضل‪ .‬وب�صورة �أ�سا�سية‪ ،‬كان فولتري يعتقد‬ ‫�أن اال�ستبداد امل�ستنري هو مفتاح التقدم والتغيري‪.‬‬ ‫وتعترب �أكرث الأعمال الباقية يف ذاكرة التاريخ‬ ‫لفولتري هي روايته الق�صرية ‪Candide‬‬ ‫‪ou l>Optimisme [Candide, or‬‬ ‫‪Optimism‬التي كتبها يف عام ‪ ]1759‬بهدف‬ ‫االنتقاد ال�ساخر لفل�سفة التفا�ؤل‪ .‬وقد كانت الرواية‬ ‫مو�ضع اعرتا�ض الرقابة على املطبوعات‪ ،‬ف�أدّعى فولتري‬ ‫مازحً ا �أن امل�ؤلف احلقيقي للق�صة هو ‪Captain‬‬ ‫‪� - Demad‬أخ مزعوم لفولتري ‪ -‬يف خطاب قام‬ ‫ب�إر�ساله �إىل ‪� Journal encyclopedique‬أعاد‬ ‫فيه الت�أكيد على املواقف العقلية اجلدلية التي وردت‬ ‫يف الن�ص الذي كتبه‪.‬‬ ‫وا�شتهر فولتري بالعديد من الأقوال امل�أثورة البارزة‬ ‫مثل‪Si Dieu n>existait pas, il faudrait« :‬‬ ‫‪�«( »l>inventer‬إذا كان الله غري موجود‪ ،‬ف�سيكون‬ ‫من ال�ضروري �أن نختلق نحن واحدًا») وهي اجلملة‬ ‫التي وردت يف ر�سالة �شعرية يف عام ‪ - 1768‬ووجهها‬ ‫فولتري �إىل امل�ؤلف املجهول لذلك العمل الذي �أثار قد ًرا‬ ‫هائ ًال من اجلدل وهو ‪. The Three Impostors‬‬ ‫وقد قامت فرن�سا بتخليد ذكرى فولتري وتكرميه كواحد‬ ‫من الرواد ال�شجعان لفن اجلدل واملناظرة قام بالدفاع‬ ‫امل�ستمر عن احلقوق املدنية قالب‪ Ndash:‬واحلق‬ ‫يف احل�صول على حماكمة عادلة وحرية العقيدة‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬قالب‪ Ndash:‬ا�ستنكر فولتري ب�شدة النفاق‬ ‫والظلم الذين كان يت�صف بهما احلكم الأر�ستقراطي‬ ‫‪ .‬وكان احلكم الأر�ستقراطي يفر�ض ميزا ًنا غري عادل‬ ‫فيما يتعلق بالقوى وبال�ضرائب بني ال�سلطة (الطبقة‬ ‫االجتماعية) الأوىل املتمثلة يف رجال الدين‪ ،‬وال�سلطة‬ ‫الثانية املتمثلة يف طبقة النبالء‪ ،‬وال�سلطة الثالثة‬ ‫املتمثلة يف العامة و�أفراد الطبقة الو�سطى؛ والذين‬ ‫كانوا يرزحون حتت وط�أة معظم ال�ضرائب التي يتم‬ ‫فر�ضها‪.‬‬ ‫ولقد قام البع�ض من زمالء فولتري الالحقني باحلط من‬ ‫قدره‪ .‬فقد كان الكاتب اال�سكتلندي الفيكتوري ‪ -‬توما�س‬ ‫كاراليل ‪ -‬يعتقد �أنه بالرغم من عدم وجود من ي�ستطيع‬ ‫�أن يباري فولتري يف موهبته يف ال�صياغة الأدبية‪ ،‬ف�إن‬ ‫�أكرث �أعماله �إتقا ًنا مل تكن ذات قيمة من ناحية امل�ضمون‬ ‫و�إنه مل ي�ستطع �أبدًا �أن يبدع فكرة خا�صة به تنبع من‬ ‫داخله‪.‬‬ ‫وبينما كان فولتري ي�أتي على ذكر ال�صني ومملكة �سيام‬ ‫كنماذج للح�ضارات الذكية غري الأوروبية وينتقد بق�سوة‬ ‫العبودية كان ي�ؤمن �أن اليهود «�شعب جاهل وهمجي‪».‬‬ ‫وقد مت �إطالق ا�سم فيورين‪-‬فولتري على بلدة فيورين‬

‫‪5‬‬ ‫التي ق�ضى فيها فولتري الع�شرين عامًا الأخرية من حياته‬ ‫تخليدًا لذكرى �أ�شهر من عا�ش فيها‪� .‬أماق�صره الريفي فقد‬ ‫حتول الآن �إىل متحف‪.‬‬ ‫ومت احلفاظ على املكتبة اخلا�صة بالأديب فولتري �سليمة‬ ‫متامًا يف املكتبة الوطنية الرو�سية املوجودة يف مدينة‬ ‫�سان بطر�سربج يف رو�سيا‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ ،1916‬ويف مدينة زيورخ قامت جماعة امل�سرح‬ ‫والأداء امل�سرحي ‪ -‬والتي �شكلت فيما بعد بدايات احلركة‬ ‫الطليعية املعروفة با�سم دادا (الدادانية) (حركة ثقافية‬ ‫انطلقت من زيورخ �أثناء احلرب العاملية الأوىل من �أجل‬ ‫معاداة احلرب) ‪ -‬ب�إطالق ا�سم ‪Cabaret Voltaire‬‬ ‫على امل�سرح الذين يقدمون عرو�ضهم فوق خ�شبته‪ .‬ويف‬ ‫ال�سنوات الأخرية من القرن الع�شرين‪ ،‬قامت �إحدى الفرق‬ ‫املو�سيقية ب�إطالق ا�سم ذلك امل�سرح على فرقتهم‪.‬‬ ‫وتلعب �شخ�صية فولتري دو ًرا مهمًا يف �سل�سلة مكونة‬ ‫من �أربع روايات متعاقبة تاريخيًا بعنوان ‪The Age‬‬ ‫‪ of Unreason‬كتبها م�ؤلف ق�ص�ص اخليال العلمي‬ ‫والفانتازيا الأمريكي ‪Gregory Keyes‬‬ ‫الأعمال الرئي�سة‬ ‫جمموعة من املقاالت التي �صاغها فولتري على هيئة‬ ‫خطابات وهي ‪Lettres philosophiques sur‬‬ ‫‪ les Anglais‬وقد مت ن�شرها يف عام ‪ ،1733‬ومت‬ ‫تعديلها حتت ا�سم ‪Letters on the English‬‬ ‫(حوايل عام ‪)1778‬‬ ‫العمل ال�شعري ‪( Le Mondain‬الذي كتبه يف عام‬ ‫‪)1736‬‬ ‫العمل ال�شعري ‪Sept Discours en Vers sur‬‬ ‫‪( lHomme‬وكتبه فولتري يف عام ‪)1738‬‬ ‫رواية ‪( Zadig‬وقد قام فولتري بكتابتها يف عام ‪)1747‬‬ ‫الق�صة الق�صرية ‪( Micromégas‬والتي كتبها فولتري‬ ‫يف عام ‪)1752‬‬ ‫الرواية الق�صرية ‪( Candide‬التي قام فولتري بكتابتها‬ ‫يف عام ‪)1759‬‬ ‫حكاية فل�سفية بعنوان‪Ce qui plaît aux dames‬‬ ‫(قام فولتري بكتابتها يف عام ‪)1764‬‬ ‫جمموعة املقاالت التي حتمل عنوان ‪Dictionnaire‬‬ ‫‪( philosophique‬والتي قام فولتري بكتابتها يف‬ ‫عام ‪)1764‬‬ ‫حكاية ق�صرية هجائية بعنوان ‪( LIngénu‬وقد قام‬ ‫فولتري بكتابتها يف عام ‪)1767‬‬ ‫احلكاية الفل�سفية ‪La Princesse de Babylone‬‬ ‫(التي قام فولتري بت�أليفها يف عام ‪)1768‬‬ ‫ر�سالة منظومة �شع ًرا بعنوان ‪Épître à lAuteur‬‬ ‫‪( du Livre des Trois Imposteurs‬والتي‬ ‫قام فولتري بت�أليفها يف عام ‪)1770‬‬ ‫امل�سرحيات‬ ‫كتب فولتري عددًا من امل�سرحيات يرتاوح ما بني خم�سني‬ ‫و�ستني م�سرحية‪ ،‬ا�شتملت على عدد من امل�سرحيات التي‬ ‫مل ينه كتابتها‪ .‬ومن بني هذه امل�سرحيات‪:‬‬ ‫‪( Œdipe‬التي قام بت�أليفها يف عام ‪)1718‬‬ ‫‪(Zaïre‬التي قام بت�أليفها يف عام ‪)1732‬‬ ‫‪(Eriphile‬التي قام بت�أليفها يف عام ‪)1732‬‬ ‫‪Irène‬‬ ‫‪Socrates‬‬ ‫‪Mahomet‬‬ ‫‪Mérope‬‬ ‫‪Nanine‬‬ ‫‪( The Orphan of China‬وقدمها فولتري يف‬ ‫عام ‪)1755‬‬ ‫الأعمال التاريخية‬ ‫كتاب ‪History of Charles XII, King of‬‬ ‫‪( Sweden‬والتي قام فولتري بكتابته يف عام ‪)1731‬‬ ‫كتاب ‪( The Age of Louis XIV‬الذي قام فولتري‬ ‫بت�أليفه يف عام ‪)1751‬‬ ‫كتاب ‪( The Age of Louis XV‬الذي قام فولتري‬ ‫بت�أليفه يف الفرتة ما بني عامي ‪ 1764‬و‪)1752‬‬ ‫كتاب ‪Annals of the Empire -‬‬ ‫‪Henry VII - 742 .Charlemagne, A.D‬‬ ‫‪ 1313‬اجلزء الأول الذي قام بت�أليفه يف عام ‪)1754‬‬ ‫كتاب ‪Annals of the Empire - Louis of‬‬ ‫‪ 1631 to Ferdinand II 1315 ,Bavaria‬اجلزء‬ ‫الثاين (وقد قام فولتري بت�أليفه يف عام ‪)1754‬‬ ‫كتاب ‪History of the Russian Empire‬‬ ‫‪ Under Peter the Great‬وقد �صدر اجلزء الأول‬ ‫من هذا الكتاب يف عام ‪ 1759‬بينما �صدر اجلزء الثاين‬ ‫منه يف عام ‪)1763‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫‪Voltaire‬‬

‫زع�����ي�����م الأن����������وار‬ ‫الأوروب������������ي������������ة‬ ‫ها�شم �صالح‬

‫جتاوز فولتري النطاق الفرن�سي من حيث‬ ‫احلجم وال�شهرة‪ ،‬وو�صلت �أ�صدا�ؤه‬ ‫�إىل خمتلف �أرجاء القارة الأوروبية‪:‬‬ ‫من اجنلرتا �إىل �أملانيا �إىل هولندا �إىل‬ ‫رو�سيا‪ ،‬بل وبلغ به الأمر �إىل حد مرا�سلة‬ ‫امللوك وجمال�ستهم والتعامل‬ ‫زعيم الأنوار الأوروبية معهم معاملة‬ ‫الند للند‪ .‬فقد كان �صديق ًا حميم ًا‬ ‫لفريديريك الثاين‪ ،‬ملك برو�سيا‪� ،‬أي‬ ‫�أملانيا يف ذلك الزمان‪ .‬وهو امللقب‬ ‫بفريديريك الكبري �أو بامل�ستبد امل�ستنري‬ ‫لأنه �شجع الفل�سفة والعلوم يف ع�صره‪،‬‬ ‫على عك�س امل�ستبدين الظالميني كلوي�س‬ ‫اخلام�س ع�شر‪ ،‬الذين مل ي�شجعوا اال‬ ‫الرتاث التقليدي ورجال الدين‪ .‬وقد‬ ‫عا�ش يف كنف فريديريك هذا �أكرث من‬ ‫ثالث �سنوات معزز ًا مكرم ًا تارة‪ ،‬ومراقب ًا‬ ‫م�شبوه ًا تارة �أخرى‪ .‬وذاق طعم العالقة‬ ‫«احللوة – املرة» التي يتعاطاها املثقفون‬ ‫عادة مع ال�سلطة حتى ولو كانت �سلطة‬ ‫م�ستنرية‪.‬‬ ‫فملك برو�سيا كان يريد �أن ي�ستخدمه‬

‫ل�صاحله‪ّ ،‬‬ ‫لبث دعايته يف الأقاليم‪،‬‬ ‫لتدجينه ب�شكل ما‪ .‬وهو كان يريد �أن‬ ‫ي�ستخدم هام�ش احلرية الذي �أ َّمنه‬ ‫له فريديريك الكبري من �أجل تطوير‬ ‫فل�سفته وتعميق �أفكاره ون�شر فكر‬ ‫التنوير يف كل مكان‪ .‬و�إذا كان فريديريك‬ ‫ملك ال�سيا�سة واجليو�ش اجلرارة يف‬ ‫وقته‪ ،‬ف�إن فولتري كان يعترب نف�سه ملك‬ ‫الفكر‪ .‬وما كان من ال�سهل �أن يتعاي�ش‬ ‫ملكان اثنان يف نف�س احليز ال�ضيق‬ ‫من الأر�ض‪ ..‬نقول ذلك على الرغم‬ ‫من الإعجاب املتبادل الذي كان �سائد ًا‬ ‫بينهما‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف املراحل الأوىل‪.‬‬ ‫وهو �إعجاب مل ينته حتى بعد �أن اختلفا‬ ‫وتفرقا‪.‬‬ ‫كما دعته كاترين الثانية‪ ،‬ملكة رو�سيا‪،‬‬ ‫�إىل زيارتها �أي�ض ًا‪ ،‬ولكن العمر كان قد‬ ‫تقدم به كثري ًا ومل يعد قادر ًا على حتمل‬ ‫م�شاق �سفرة طويلة كهذه‪ .‬وحده ملك‬ ‫فرن�سا الغبي لوي�س اخلام�س ع�شر رف�ض‬ ‫�أن ي�ستقبله يف بالطه �أو يتعامل معه‪.‬‬ ‫بل ورف�ض �أن ي�سمح له بزيارة بالده‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫وم�سقط ر�أ�سه‪ :‬باري�س‪ .‬وهكذا ظل منفي ًا‬ ‫ملدة ثالثني �سنة‪ :‬وانطبقت عليه تلك‬ ‫نبي يف قومه‪.‬‬ ‫العبارة ال�شهرية‪ :‬ال َّ‬ ‫وميكن القول ب�أن فولتري الكاثوليكي‬ ‫الأ�صل عا�ش معظم حياته يف البلدان‬ ‫الربوت�ستانتية (اجنلرتا‪ ،‬برو�سيا‪،‬‬ ‫جنيف)‪ ،‬لأنه كان يجد فيها متنف�س ًا‬ ‫وهام�ش ًا من احلرية على عك�س البلدان‬ ‫الكاثوليكية املتزمتة كفرن�سا و�إ�سبانيا‬ ‫و�إيطاليا‪ .‬ويف الق�سم الأخري من حياته‬ ‫راح يعي�ش على احلدود‪� ،‬أي رج ًال يف‬ ‫فرن�سا ورج ًال يف �سوي�سرا‪ ،‬لكي يهرب‬ ‫ب�أق�صى �سرعة ممكنة‪� ،‬إذا ما دعت‬ ‫احلاجة �إىل ذلك‪.‬‬ ‫ينبغي العلم ب�أن مثقفي �أوروبا يف‬ ‫ذلك الزمان كانوا مهددين يف كل حلظة‬ ‫بحياتهم ورزقهم �أو مراقبة كتبهم‬ ‫وخمطوطاتهم متاما كاملثقفني العرب‬ ‫حاليا‪ .‬وكانوا يعي�شون منفيني �أو‬ ‫هاربني معظم الوقت‪ .‬وكان �سيف الرقابة‬ ‫الدينية �أو ال�سيا�سية م�س َّلط ًا عليهم وعلى‬ ‫ما يكتبونه با�ستمرار‪ .‬ولذلك فكانوا‬

‫ين�شرون م�ؤلفاتهم يف �أم�سرتدام بهولندا‬ ‫�أو يف اجنلرتا ثم يدخلونها �سري ًا‪� ،‬أي‬ ‫حتت املعطف‪� ،‬إىل فرن�سا‪ .‬ويف �أحيان‬ ‫كثرية كانت ت�صدر ب�أ�سماء م�ستعارة‬ ‫�أو من دون ا�سم خوف ًا من �سيف الرقابة‬ ‫واملالحقة‪ .‬كانوا يخو�ضون حرب ًا‬ ‫تكتيكية‪� ،‬أو حرب مواقع‪ ،‬مع ال�سلطة‬ ‫وممثليها‪ ،‬ثم مع الكني�سة امل�سيحية‬ ‫ب�شكل خا�ص‪ .‬ومن رحم هذه احلروب‬ ‫ال�سرية‪ -‬العلنية خرجت احلريات‬ ‫احلديثة‪ .‬وبالتايل فال ينبغي �أن تخدعنا‬ ‫ال�صورة الزاهية للحريات الوا�سعة‬ ‫واملنت�شرة الآن يف كل �أنحاء �أوروبا‪.‬‬ ‫فهي مل تهبط عليهم كهدية من ال�سماء‪.‬‬ ‫و�إمنا انتزعوها �شرب ًا �شرب ًا‪ ،‬وفرت ًا فرت ًا‪،‬‬ ‫وبعد ن�ضال طويل ومرير‪.‬‬ ‫ما هي املعركة الأ�سا�سية لفولتري؟ ما‬ ‫الر�سالة التي كر�س نف�سه لها طيلة‬ ‫حياته كلها؟ (فهو مل يتزوج ومل ينجب‬ ‫الأطفال)‪� .‬إنها تتلخ�ص بكلمة واحدة‪:‬‬ ‫حماربة الوح�ش ال�ضاري‪ ،‬بح�سب‬ ‫تعبريه احلريف‪� :‬أي التع�صب واالكراه‬

‫يف الدين‪ .‬انها تتمثل يف حماربة‬ ‫الكني�سة الكاثوليكية ورجال الدين‬ ‫الذين كانوا ي�سيطرون على عقول‬ ‫ال�شعب الفقري واجلاهل وين�شرون �أفكار‬ ‫التع�صب يف كل مكان‪ .‬ثم تتمثل اي�ضا‬ ‫يف حماربة اال�ستبداد ال�سيا�سي املرتبط‬ ‫بكل ذلك‪ ،‬من دون �أن يعني هذا �أن فولتري‬ ‫كان �ضد النظام امللكي‪� ،‬أو �ضد الإميان‬ ‫يف املطلق‪ .‬فعلى عك�س الأ�سطورة‬ ‫ال�شائعة ف�إن فولتري مل يكن ملحد ًا وال‬ ‫مادي ًا �صرف ًا على طريقة بع�ض فال�سفة‬ ‫التنوير الآخرين من �أمثال دوالمرتي‪،‬‬ ‫�أو البارون دولباخ‪� ،‬أو هيلفيتيو�س‪،‬‬ ‫�أو حتى ديدرو‪ .‬و�إمنا كان م�ؤمن ًا‪ ،‬لكنه‬ ‫�إميان الفال�سفة‪ ،‬ال �إميان الكهنة �أو عامة‬ ‫ال�شعب‪ .‬مبعنى �أنه كان ي�ؤمن بوجود‬ ‫الله �أو الكائن الأعلى �أو املهند�س الأكرب‬ ‫للكون وينفي ما عدا ذلك من عقائد‬ ‫وطقو�س م�سيحية (كالإميان باملعجزات‪،‬‬ ‫�أو باخلرافات‪� ،‬أو حتى بال�صفة الإلهية‬ ‫للم�سيح‪ .‬فامل�سيح بالن�سبة له �شخ�ص‬ ‫ب�شري‪� .‬صحيح �أنه �أعظم �شخ�ص‬


‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫‪7‬‬

‫ينبغي العلم ب�أن مثقفي �أوروبا يف ذلك‬ ‫الزمان كانوا مهددين يف كل حلظة بحياتهم‬ ‫ورزقهم �أو مراقبة كتبهم وخمطوطاتهم‬ ‫متاما كاملثقفني العرب حاليا‪ .‬وكانوا يعي�شون‬ ‫منفيني �أو هاربني معظم الوقت‪ .‬وكان �سيف‬ ‫الرقابة الدينية �أو ال�سيا�سية م�س َّلط ًا عليهم‬ ‫وعلى ما يكتبونه با�ستمرار‪ .‬ولذلك فكانوا‬ ‫ين�شرون م�ؤلفاتهم يف �أم�سرتدام بهولندا �أو يف‬ ‫اجنلرتا ثم يدخلونها �سري ًا‪� ،‬أي حتت املعطف‪،‬‬ ‫�إىل فرن�سا‪ .‬ويف �أحيان كثرية كانت ت�صدر‬ ‫ب�أ�سماء م�ستعارة �أو من دون ا�سم خوف ًا من‬ ‫�سيف الرقابة واملالحقة‪ .‬كانوا يخو�ضون‬ ‫حرب ًا تكتيكية‪� ،‬أو حرب مواقع‪ ،‬مع ال�سلطة‬ ‫وممثليها‪ ،‬ثم مع الكني�سة امل�سيحية ب�شكل‬ ‫خا�ص‪ .‬ومن رحم هذه احلروب ال�سرية‪-‬‬ ‫العلنية خرجت احلريات احلديثة‪ .‬وبالتايل‬ ‫فال ينبغي �أن تخدعنا ال�صورة الزاهية‬ ‫للحريات الوا�سعة واملنت�شرة الآن يف كل �أنحاء‬ ‫�أوروبا‪ .‬فهي مل تهبط عليهم كهدية من‬ ‫ال�سماء‪ .‬و�إمنا انتزعوها �شرباً �شرباً‪ ،‬وفرتاً‬ ‫فرتاً‪ ،‬وبعد ن�ضال طويل ومرير‪.‬‬

‫بالن�سبة للم�سيحيني‪ ،‬لكنه ان�سان‬ ‫فقط)‪ .‬ومل يكن يعتقد ب�ضرورة ت�أدية‬ ‫ال�شعائر والطقو�س‪ .‬و�إمنا كان يعترب‬ ‫ذلك خا�ص ًا بالعامة فقط‪ ،‬ولي�س بالنخبة‬ ‫امل�ستنرية‪ .‬فهي لي�ست بحاجة اليها‬ ‫لكي تكون �أخالقية يف �سلوكها‪ .‬وكبقية‬ ‫فال�سفة التنوير كان يرى �أنه ينبغي‬ ‫تنوير العامة �شيئ ًا ف�شيئ ًا حتى تخرج‬ ‫من ظلمات اجلهل والتع�صب الديني‬ ‫و�سيطرة الكاهن امل�سيحي‪ ،‬وتدخل يف‬ ‫ُّ‬ ‫التح�ضر والعقالنية والتقدم‪.‬‬ ‫مرحلة‬ ‫وقد فعل فولتري كل �شيء لكي ينتزع‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية (�أو الزمنية) من‬ ‫براثن الكني�سة الكاثوليكية‪ ،‬ولكي يخ ّفف‬ ‫من حدة هيمنتها على الأرواح والعقول‪.‬‬ ‫وقد �ص َّدق امل�ستقبل نبوءته وتوجهه‬ ‫الأ�سا�سي فيما يخ�ص هذه النقطة‪.‬‬ ‫فالواقع �أن القرن التا�سع ع�شر كله �أجنز‬ ‫م�شروعه عندما ف�صل الكني�سة عن الدولة‬ ‫وح َّرر ال�سيا�سة من هيمنة الق�ساو�سة‬ ‫واملطارنة والكرادلة وبقية الأ�صوليني‪.‬‬ ‫وكان ذلك �أحد الأ�سباب الأ�سا�سية لتقدم‬

‫�أوروبا وتفوقها على خمتلف �أنحاء‬ ‫العامل‪ ،‬وحتولها �إىل منارة ح�ضارية‬ ‫فع ًال‪ .‬باخت�صار ف�إن فولتري كان يريد �أن‬ ‫ّ‬ ‫يحل حزب الفال�سفة حمل حزب الكهنة‬ ‫والأ�صوليني يف ق�صور ال�سلطة وعلى‬ ‫ر�أ�س الإدارات وامل�ؤ�س�سات الر�سمية‬ ‫للدولة‪ .‬ويف ذات الوقت كان يريد �أن‬ ‫يعيد الكهنة �إىل كنائ�سهم لكي ي�شغلوا‬ ‫�أنف�سهم ب�أمور الدين والعبادة والآخرة‬ ‫فقط‪ .‬فهنا تكمن مهمتهم الأ�سا�سية ولي�س‬ ‫يف �أي مكان �آخر‪ .‬وذلك لأنهم �إذا ما‬ ‫انحرفوا عن مهمتهم الأ�سا�سية و�شغلوا‬ ‫�أنف�سهم ب�أمور الدنيا ولوثوا الدين‬ ‫بال�سيا�سة ومناوراتها وم�ساوماتها‬ ‫ف�سد كل �شيء وخ�سرنا الدنيا والآخرة‪.‬‬ ‫وقد حتقق برناجمه ب�شكل حريف‬ ‫تقريب ًا بعد مائة �سنة من موته‪ .‬ولذلك‬ ‫ف�إن كهنة فرن�سا ال يزالون يحقدون‬ ‫عليه حتى هذه اللحظة ويكرهون ذكر‬ ‫ا�سمه‪ .‬والدليل على ذلك هجوم كاردينال‬ ‫باري�س ال�سابق (لو�ستيجري) عليه يف‬ ‫�أحد كتبه الأخرية‪ .‬فقد اعتربه امل�س�ؤول‬

‫الأ�سا�سي عن تراجع امل�سيحية يف فرن�سا‬ ‫وان�صراف النا�س عن الدين‪( .‬متى ّ‬ ‫يكف‬ ‫لو�ستيجري عن ت�صفية ح�ساباته مع‬ ‫ع�صر التنوير؟… متى يفهم �أن عقارب‬ ‫ال�ساعة لن تعود �إىل الوراء؟)‪.‬‬ ‫كان فولتري �أم ًة وحده‪ .‬فقد َّ‬ ‫�شق التاريخ‬ ‫امل�سيحي والأوروبي �إىل ن�صفني‪ :‬ما‬ ‫قبله وما بعده‪ .‬ويتفق م�ؤرخو الفكر‬ ‫على مو�ضعه القطيعة الإب�ستمولوجية‬ ‫الكربى يف منت�صف القرن الثامن‬ ‫ع�شر‪� :‬أي يف الوقت الذي ظهرت فيه‬ ‫م�ؤلفاته الأ�سا�سية بالإ�ضافة �إىل م�ؤلفات‬ ‫جان جاك رو�سو وديدرو وجماعة‬ ‫املو�سوعيني‪ .‬عندئذ ح�صل االنقالب‬ ‫احلقيقي وانتقلت الب�شرية الأوروبية‬ ‫من عقلية القرون الو�سطى الكهنوتية‬ ‫الإقطاعية‪� ،‬إىل عقلية الع�صور احلديثة‬ ‫العلمانية الدميقراطية‪ .‬فقد كان الر�أ�س‬ ‫املد ّبر حلزب الفال�سفة �أو حلزب التنوير‪.‬‬ ‫وكان يعتقد �أن التنوير �سوف ي�صعد‬ ‫رويد ًا رويد ًا حتى ي�شمل كل الظواهر‪،‬‬ ‫وكل الق�ضايا‪ ،‬وكل العقول‪ .‬عندئذ تخرج‬

‫الب�شرية من املرحلة الطائفية الهمجية‪،‬‬ ‫لكي تدخل يف املرحلة احل�ضارية‬ ‫العقالنية‪ .‬وعندئذ يتم الق�ضاء على‬ ‫التع�صب الديني الذي ي�شبه الإخطبوط‬ ‫�ألأفعواين والذي كان ي�شكل عدوه‬ ‫الأول‪ .‬ومعلوم ان هذا التع�صب كان‬ ‫�سبب املجازر واحلروب الأهلية املدمرة‬ ‫التي جرت بني املذاهب امل�سيحية �آنذاك‪.‬‬ ‫لي�س غريب ًا‪ ،‬واحلالة هذه‪� ،‬أن يكون‬ ‫نيت�شه الذي ال يعجبه العجب وال ال�صيام‬ ‫يف رجب قد �أهداه كتابه املعروف «فيما‬ ‫وراء اخلري وال�شر» قائ ًال‪� :‬إىل فولتري‪،‬‬ ‫�أحد كبار حم ِّرري الروح الب�شرية!‪..‬‬ ‫ومل يكن فولتري يتوانى عن التدخل يف‬ ‫الق�ضايا ال�ساخنة يف ع�صره‪ ،‬خا�صة‬ ‫ق�ضايا اال�ضطهاد الديني الذي يالحق‬ ‫النا�س على �آرائهم وعقائدهم الداخلية‪.‬‬ ‫وقد �أحدث �ضجة كربى و�شغل فرن�سا‬ ‫كلها بق�ضية «كاال�س»‪� :‬أي تلك العائلة‬ ‫الربوت�ستانتية امل�ضطهدة من قبل‬ ‫الأغلبية الكاثوليكية يف مدينة تولوز‪.‬‬ ‫فقد الحقوها وحا�صروها ومزقوها �إربا‬

‫اربا يف نهاية املطاف‪.‬‬ ‫و�ضرب بذلك مث ًال على اجلر�أة‬ ‫وال�شجاعة وتطبيق �أفكاره على �أر�ض‬ ‫الواقع وعدم االكتفاء بالتنظري املجاين‬ ‫كما يفعل بع�ض املثقفني‪َّ .‬‬ ‫ود�شن بذلك‬ ‫�صورة املثقف “امللتزم” باملعنى احلديث‬ ‫للكلمة‪� :‬أي املثقف الذي ميثل �ضمري‬ ‫الأمة ب�أ�سرها يف حلظة ما من حلظات‬ ‫التاريخ‪� .‬إنه املثقف الذي ينه�ض �ضد‬ ‫مذهبه �أو طائفته �إذا لزم الأمر‪ .‬و�سار‬ ‫على هديه يف القرن التا�سع ع�شر فيكتور‬ ‫هيغو و�إميل زوال‪ ،‬ويف القرن الع�شرين‬ ‫جان بول �سارتر ومي�شيل فوكو وجيل‬ ‫ديلوز ومك�سيم رودن�سون و�آخرون‬ ‫عديد ون‪ .‬و�أ�صبح قدوة او مثال يحتذى‪.‬‬ ‫يف عام ‪� 1778‬صدر فرمان عن ق�صر‬ ‫فر�ساي يقول ب�أنه ال مانع من عودة‬ ‫فولتري �إىل باري�س‪ .‬وي�ضيف الأمر‬ ‫امللكي قائ ًال‪� :‬إننا ال نرحب به وال نتمنى‬ ‫عودته‪ ،‬لكننا لن نقب�ض عليه �إذا ما‬ ‫عاد…‬ ‫وفور ًا يعطي فولتري الأوامر للخدم‬ ‫واحل�شم بتح�ضري العربة و�إ�سراج‬ ‫اجلياد‪ .‬فقد طال الغياب‪ .‬ثالثون‬ ‫يكحل عينيه بر�ؤية م�سقط‬ ‫�سنة ومل ِّ‬ ‫ر�أ�سه باري�س و�ضواحيها‪ :‬هناك حيث‬ ‫توجد مرابع طفولته وذكريات ال�شباب‬ ‫الأول‪ ..‬ثالثون �سنة وهو حمروم‬ ‫منها يف املنايف القريبة او البعيدة‪.‬‬ ‫كل البالد كانت مفتوحة �أمامه ما عدا‬ ‫بلده الأ�صلي‪ .‬ويف �أقل من ع�شرة �أيام‬ ‫يقطع «اخلتيار» تلك امل�سافة الفا�صلة‬ ‫بني احلدود ال�سوي�سرية والعا�صمة‬ ‫الفرن�سية (�أو قل العا�صمة الثانية‪ ،‬لأن‬ ‫العا�صمة الأوىل كانت �آنذاك فر�ساي)‪.‬‬ ‫وما ان �سمعت باري�س باخلرب حتى‬ ‫ه َّبت عن بكرة �أبيها ت�ستقبله‪ .‬وح�صل‬ ‫الهرج واملرج وامتلأت ال�شوارع بالب�شر‪،‬‬ ‫ورفعت �صوره كالأعالم يف كل مكان‪.‬‬ ‫وا�شتد االزدحام على باب الفندق الذي‬ ‫ينزل فيه �إىل درجة �أن �أ�صدقاءه خافوا‬ ‫عليه‪ ،‬وكان قد بلغ من العمر عتي ًا (‪84‬‬ ‫عاما) ومل يبق له �إال ثالثة �أ�شهر لكي‬ ‫يعي�ش‪ .‬وراح ي�ستقبل الوفود تلو‬ ‫الوفود على الرغم من اعتالل �صحته‪.‬‬ ‫واحت�شدت اجلماهري حتت نافذته لكي‬ ‫تلمحه ولو للحظة و�صعدت الهتافات من‬ ‫كل مكان… ا�ست�شاط امللك على عر�شه‬ ‫يف ق�صر فر�ساي غ�ضب ًا‪ ،‬لكن من دون �أن‬ ‫ي�ستطيع ان يفعل �شيئا‪ .‬كل ما فعله هو‬ ‫�أنه منع زوجته (ماري �أنطوانيت) من‬ ‫ح�ضور حفل تتويج فولتري يف م�سرح‬ ‫«الكوميديا الفرن�سية»‪ .‬وقد كانت راغبة‬ ‫يف ذلك‪ .‬كانت تريد �أن ترى ب�أم عينيها‬ ‫�أ�شهر �شخ�صية �أجنبتها فرن�سا يف ذلك‬ ‫الزمان‪ .‬وت�ضاءلت كل ال�شخ�صيات‬ ‫الكربى �أمامه‪ ،‬ومن كان كبري ًا �أ�صبح‬ ‫�صغري ًا‪ .‬ويقال ب�أنه حتى الفيل�سوف‬ ‫ديدرو هرع م�سرع ًا للمثول بني يديه‬ ‫كتلميذ‪ .‬كذلك فعل بقية الفال�سفة وكل ما‬ ‫متتلكه فرن�سا من عقول‪.‬‬ ‫ولكن هل ي�ستطيع �أن ي�ستقبل كل‬ ‫�شخ�صيات باري�س من �أر�ستقراطيني‬ ‫وبورجوازيني وعلماء وكتّاب؟ وعلى‬ ‫الرغم من �أن فندقه كان مراقب ًا من قبل‬ ‫املخابرات امللكية و�أن ال�شخ�صيات‬ ‫الوافدة كانت تخاطر بنف�سها �أو‬ ‫مبنا�صبها‪� ،‬إذا ما زارته �إال �أنها ما انفكت‬ ‫تتوافد عليه كاخليط الطويل الذي ال‬ ‫ينقطع‪ .‬وخ َّيم ال�صمت الرهيب على‬ ‫ال�سوربني (قلعة الرجعية الكاثوليكية‬ ‫واجلمود الفكري يف ذلك الزمان)‪.‬‬ ‫و�سكت الربملان‪ .‬وبدا وا�ضح ًا �أن‬ ‫فولتري وال�شعب والنخبة امل�ستنرية يف‬ ‫جهة‪ ،‬ولوي�س ال�ساد�س ع�شر والكهنة‬ ‫الأ�صوليني والطبقات الإقطاعية املرتفة‬ ‫يف جهة �أخرى‪ .‬نحن الآن عام ‪.1778‬‬ ‫يكاد ُي ْ�س َمع هدير الثورة الفرن�سية!‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬



Gallery


‫‪10‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫من الرموز الفكرية الكبرية التي ا�س�ست حلركة التنويرالفكري االوروبي جند املفكر‬ ‫فرن�سوا ماري �أروي ‪ François Marie AROUET‬امل�شهور بـ»فولتري» والذي عا�ش يف‬ ‫الفرتة ما بني(‪ .)1778-1694‬فقد كان العدو اللدود للتع�صب واملتع�صبني‪ ،‬وخ�صما لدودا‬ ‫للكني�سة‪ ،‬ولعب فكره دورا مهما يف �إن�ضاج الأو�ضاع والتمهيد للثورة الفرن�سية‪ .‬فقد‬ ‫�أ�صدر كتابه امل�شهور عن الت�سامح يف ّ‬ ‫عز املعركة التي كانت دائرة يف فرن�سا بني املتع�صبني‬ ‫املتطرفني والفال�سفة حول حرية االعتقاد وال�ضمري‪ ،‬وحول الأقلية الربوت�ستانتية‪،‬‬ ‫وحول عائلة «كاال�س» الربوت�ستانتية يف مدينة تولوز وما �أ�صابها من ويالت على يد‬ ‫الغوغائيني واملتطرفني الكاثوليكيني‪.‬‬

‫فولتير والتنوير‬ ‫�صبحي دروي�ش‬ ‫ويقول ويل ديورانت �صاحب كتاب‬ ‫(ق�صة احل�ضارة) �إن القوانني كانت‬ ‫تق�ضي يف تلك الأيام «ب�أن يو�ضع‬ ‫جثمان املنتحر منك�س ًا عاري ًا على حاجز‬ ‫من العيدان امل�شبكة ووجهه �إىل الأ�سفل‬ ‫وي�سحب بهذه الطريقة عرب ال�شوارع‬ ‫وبعدئذ يعلق على امل�شنقة»‪ .‬ولكي‬ ‫يتجنب املدعو (كاال�س) هذه الف�ضيحة‬ ‫فقد حاول بكل �سبيل ممكن �أن يخرج‬ ‫بوثيقة تقول �إن ابنه مات ميتة طبيعية‪.‬‬ ‫ولكن �إ�شاعة رهيبة انت�شرت يف البلد‬ ‫تقول �إن الولد مل ي�شنق نف�سه بل �إن‬ ‫جان كاال�س قتل ابنه حتى يحول بينه‬ ‫وبني اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت‬ ‫�أخته من قبل‪ .‬ف�ألقي القب�ض على الرجل‬ ‫وبد�أوا يف تعذيبه حتى مات‪ .‬وهربت‬ ‫عائلته �إىل «فريين» لتق�ص الفاجعة‬ ‫على فولتري‪ .‬ومن منفاه �أطلق الرجل‬ ‫�صيحته املعروفة «ا�سحقوا العار»‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن فولتري ينتمي‪ ،‬من‬ ‫حيث �أ�صله العائلي‪� ،‬إىل مذهب الأغلبية‬ ‫الكاثوليكية �إال انه وقف بحزم ل�صالح‬ ‫هذه العائلة امل�ضطهدة ودافع عن حق‬ ‫الربوت�ستانتيني يف الوجود وممار�سة‬ ‫�شعائرهم ومعتقداتهم‪ .‬عندما طالب‬ ‫فولتري بالت�سامح مع الربوت�ستانتيني‬ ‫امل�ضطهدين واملحتقرين من قبل‬ ‫الأغلبية الكاثوليكية‪ ،‬ف�إن الأمر مل‬ ‫ي�صل به �إىل حد م�ساواتهم الكاملة‬ ‫يف احلقوق مع الكاثوليكيني لأنه كان‬ ‫يعرف �أن هذا ال�شيء م�ستحيل يف‬ ‫وقته‪ .‬ولكن مع ذلك ح�سبه فخر ًا انه‬ ‫جتر�أ على حتدي النزعة ال�شعبوية‬ ‫الغوغائية ووقف �إىل جانب احلق‬ ‫والعدل �ضارب ًا عر�ض احلائط بكل‬ ‫انتماءاته املذهبية والعائلية‪ ..‬وهكذا‬ ‫�أ�صبح م�ضرب املثل على انخراط املثقف‬ ‫يف الق�ضايا العامة‪ ،‬وخماطرته بنف�سه‬ ‫وطم�أنينته �أحيان ًا من �أجل الق�ضايا‬ ‫العادلة‪ .‬وم�شى على خطاه يف القرن‬ ‫التا�سع ع�شر فيكتور هيغو واميل‬ ‫زوال‪ ،‬ويف القرن الع�شرين جان بول‬ ‫�سارتر ومي�شيل فوكو من جملة �آخرين‬ ‫عديدين‪ .‬و�أ�صبح ميثل ال�ضمري احلي‬ ‫لكل امة عندما ت�صبح م�س�ألة احلقيقة‬

‫والعدالة على املحك‪.‬‬ ‫ويعترب فولتري تلميذ الفيل�سوف‬ ‫االجنليزي جون لوك الذي ن�شر كتاب ًا‬ ‫يحمل عنوان‪« :‬ر�سالة يف الت�سامح»‪،‬‬ ‫وكان ذلك منذ عام ‪ .1689‬وبعده‬ ‫ن�شر فولتري كتابه بعنوان‪« :‬مقالة يف‬ ‫الت�سامح»‪ ,‬وهذا يعني �أن الفرن�سيني‬ ‫واالجنليز والأوروبيني ب�شكل عام‬ ‫كانوا م�شغولني �آنذاك مب�س�ألة التع�صب‬ ‫الديني ويحاولون �أن يجدوا لها ح ًال‬ ‫�أو عالج ًا‪ .‬وكان فال�سفة �أوروبا ال‬ ‫يتخذون املوقف الدمياغوجي املتواطئ‬ ‫مع الع�صبيات ال�شعبوية‪ .‬بل ينخرطون‬ ‫يف مناق�شة ما كان «تابوهات‪ ،‬حقيقية‬ ‫متحملني امل�س�ؤولية والتعذيب‪ .‬وعلى‬ ‫هذا النحو ا�ستطاعوا �أن ينه�ضوا‬ ‫ب�شعوبهم وي�سريوا بها على درب التقدم‬ ‫والرقي‪ .‬وفولتري من ابرز الذين ق�ضوا‬ ‫حياتهم يف املنفى من �أجل �أفكارهم‪،‬‬ ‫وكتب ‪ 99‬كتاب ًا وعا�ش حتى �سن ‪83‬‬ ‫و�سجن يف البا�ستيل مرتني و�ضربه‬ ‫الأوغاد بتو�صية جيدة من النبيل (دي‬ ‫روهان) �أن ي�شبعوه �ضرب ًا دون ر�أ�سه‬ ‫فقد يخرج منه يوما �شيئا عظيم ًا‪.‬‬ ‫وهرب �إىل بريطانيا ويف فرتة‬ ‫ال�سنوات الثالث التي ق�ضاها هناك‬ ‫الحظ الفرق‪ ،‬فو�صف بريطانيا «ب�أن‬ ‫فيها �شعب ًا له �آرا�ؤه اخلا�صة وحريته‬ ‫املميزة‪� ،‬شعب ًا �أ�صلح دينه و�شنق‬ ‫مليكه و�أن�ش�أ برملان ًا �أقوى من �أي‬ ‫حاكم يف �أوربا وال وجود فيه‬ ‫للبا�ستيل وفيه ثالثون مذهبا دينيا‬ ‫بدون ق�س واحد»‪ .‬وعندما اندلعت‬ ‫حرب ال�سنوات ال�سبع بعد زلزال‬ ‫ل�شبونة �صب فولتري كل جهده �ضد‬ ‫احلرب وو�صفها ب�أنها «�أم اجلرائم‬ ‫و�أعظم ال�شرور وكل دولة حتاول‬ ‫�إلبا�س جرميتها ثوب العدالة‪� .‬إن‬ ‫القتل حرام وجميع �أنواع القتل‬ ‫يعاقب عليها القانون‬ ‫زمن ال�سلم‪.‬‬ ‫�أما �إذا نفخ‬ ‫يف ال�صور‬ ‫و�أعلنت‬ ‫احلرب‬ ‫في�صبح‬ ‫القتل‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫بالألوف مباح ًا»‪ .‬وهو يقول يف ختام‬ ‫مقال له عن الإن�سان يف قامو�سه‬ ‫الفل�سفي «يحتاج الإن�سان �إىل ع�شرين‬ ‫�سنة كي يبلغ �أ�شده منذ كان جنينا يف‬ ‫بطن �أمه فحيوان ًا يف طفولته و�شاب ًا‬ ‫حني ن�ضوج عقله‪ ،‬وثالثة �آالف �سنة‬ ‫ليك�شف القليل عن جن�سه‪ ،‬والأبد �إىل‬ ‫�أن يعرف �شيئ ًا عن نف�سه‪ .‬ولكن دقيقة‬ ‫واحدة تكفي لقتله»‪.‬‬ ‫لقد ق�ضى فولتري حياته من �أجل (حرية‬ ‫التعبري) و�أطلق �شعاره املعروف «�إنني‬ ‫م�ستعد �أن �أموت من اجل �أن �أدعك تتكلم‬ ‫بحرية مع خمالفتي الكاملة ملا تقول»‪..‬‬ ‫ومن هنا �ضرورة �إحياء مبد�أ فولتري‬ ‫الذي يعد �إجناز ًا هائ ًال يف تاريخ‬ ‫الإن�سان‬

‫والر�أي‪ .‬وهو مكون من ثالث فقرات‪:‬‬ ‫تقول الأوىل �أن امل�س�ألة ال تدور حول‬ ‫ال�صواب واخلط�أ لأن هذا حمتم لكل‬ ‫واحد منا‪ .‬وقداعترب (لي�سنغ)‪ -‬وهومن‬ ‫فال�سفة التنوير‪� -‬أن الله «لو و�ضع‬ ‫احلق يف ميناه وال�شوق �إىل البحث‬ ‫عن احلقيقة يف ي�سراه ومعها اخلط�أ‬ ‫لزام لنا‪ .‬يقول لي�سنغ �إنه �سيخر على‬ ‫ركبتيه �ضارع ًا �إىل الله �أن مينحه‬ ‫ال�شوق اخلالد �إىل البحث عن احلقيقة‬ ‫لأن احلقيقة النهائية هي لله وحده»‪.‬‬ ‫وفولتري حينما يطلق حرية التعبري‬ ‫بدون حدود يخلق مناخ احلوار الذي‬ ‫يعدل اخلط�أ وين�ضج ال�صواب‪ .‬ويف‬ ‫الفقرة الثالثة منه يقول فولتري �أنه‬ ‫�سيدافع عن ر�أي الآخر حتى لو كان‬ ‫خط�أ حم�ض ًا لي�س دفاع ًا عن اخلط�أ‬ ‫بل دفاع ًا عن التعبري‪ .‬لأن‬ ‫اخلط�أ يحق له �أن يعي�ش‪.‬‬ ‫فهذا الذي �أطلقه فولتري‬ ‫يف �أوربا كان له �أثر‬ ‫هائل يف ن�شوء حق‬ ‫التعبري واالجتماع‬ ‫عليه والتظاهر‬ ‫�سلمي ًا‪ .‬وهذا‬ ‫يو�صلنا �إىل حل‬ ‫�إ�شكالية كبرية‬ ‫وهي �أن حق‬ ‫التعبري مرتبط‬ ‫بواجب‬ ‫التعبري‪ .‬فما‬ ‫هو حق لطرف‬ ‫واجب على‬ ‫الطرف املقابل‪.‬‬ ‫و�إذا كان احلاكم‬ ‫مينع النا�س من‬ ‫التعبري والتظاهر‬ ‫فلأنهم مينعونه‬ ‫من الوجود‪.‬‬ ‫وهناك‬

‫من يتمنى موت احلاكم ولكنه ين�سى‬ ‫يف غمرة هذه ال�شهوة �أن متني املوت‬ ‫للآخر هو يف الواقع متني املوت‬ ‫لنف�سه‪ ،‬لأن م�شكلة الأمة لي�ست معلقة‬ ‫مبوت وحياة وفرد‪ .‬وعندما نتمنى‬ ‫املوت للآخرين تنقل عدواها �إلينا‬ ‫فنموت نحن �أي�ض ًا‪ .‬وعندما ينتخب‬ ‫احلاكم مائة باملئة ف�إنه يعني �أن الأمة‬ ‫�أ�صبحت �صفرا باملئة‪ .‬وعندما تعلق‬ ‫�صور الزعماء �إىل الدرجة املقززة فهو‬ ‫يعني �أن الزعيم التهم الأمة‪ .‬وهي‬ ‫تنتظر دورها اللتهامه‪ .‬وذرية بع�ضها‬ ‫من بع�ض‪ .‬وثقافة مري�ضة تعيد �إنتاج‬ ‫نف�سها‪.‬‬ ‫وفولتري هو �أول من اعترب �أن التاريخ‬ ‫لي�س �سري احلروب وامللوك بل‬ ‫مغامرات العقل‪ ،‬و�أن تاريخا بال فل�سفة‬ ‫وفن ال يبقى منه �شيء‪ .‬و�أن التاريخ‬ ‫لن يقف على قدميه ما مل نبعد عنه‬ ‫الالهوت‪.‬‬ ‫ومل يرجع �إىل باري�س التي ولد فيها‬ ‫�إال قبل موته بقليل وعندما جاءه الق�س‬ ‫لي�سمع اعرتافه �س�أله فولتري عمن‬ ‫�أر�سله فقال‪ :‬الله؟ ف�س�أله فولتري �أن‬ ‫يقدم �أوراق اعتماده من الله فوىل ومل‬ ‫يعقب؟ وعند حلظة املوت جاءه ق�س‬ ‫ثان رف�ض تقدمي الغفران له ما مل يوقع‬ ‫على اعرتافه و�إميانه الكاثوليكي �إميانا‬ ‫را�سخ ًا‪ ،‬فطرده و�سجل الكلمات التالية‬ ‫«�أموت على عبادة الله وحمبة �أ�صدقائي‬ ‫وكراهية �أعدائي ومقتي للخرافات‬ ‫والأ�ساطري الدخيلة على الدين»‪.‬‬ ‫كان فولتري م�ؤمن ًا وم�ضاد ًا للتع�صب يف‬ ‫�آن مع ًا‪ .‬وكان ي�ؤمن ب�إله كل الكائنات‬ ‫وكل العوامل‪ .‬وبالتايل فالله لي�س‬ ‫للم�سيحيني فقط‪� ،‬أو للم�سلمني �أو‬ ‫لليهود‪ ،‬و�إمنا لكل الب�شر‪ ،‬كلهم عباد الله‬ ‫وي�ستحقون رحمته وغفرانه‪� ،‬إذا كانت‬ ‫�أعمالهم �صاحلة و�سلوكهم م�ستقيم ًا يف‬ ‫املجتمع‪ .‬وكل عقيدة فولتري تتلخ�ص‬ ‫بكلمة واحدة‪ :‬عبادة �إله احلق والعدل‪،‬‬ ‫وحب الب�شر‪ ،‬كل الب�شر بغ�ض النظر‬ ‫عن �أجنا�سهم و�أديانهم ومذاهبهم‪.‬‬ ‫ولأن فولتري فتح الأفق �أمام �إميان �آخر‬ ‫جديد غري الإميان املتع�صب القدمي‪،‬‬ ‫ف�إنه ا�ستطاع �أن ينت�صر على التع�صب‬ ‫واملتع�صبني‪.‬‬ ‫كانت �أوروبا يف ع�صر فولتري‬ ‫متع�صبة‪ ،‬جاهلة‪ ،‬و�إذا كنا نرى‬


‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫�أوروبا احلديثة مليئة باحلريات وال‬ ‫�أثر للإرهاب الديني فيها‪ ،‬فال يجب‬ ‫ان نتخيل �أنها كانت دائم ًا هكذا!‪.‬‬ ‫هذا خط�أ كبري نقع فيه ب�سبب انعدام‬ ‫احل�س التاريخي لدينا‪� ،‬أو على الأقل‬ ‫ّ‬ ‫�ضموره‪ ..‬وبالتايل ف�إذا كان رجال‬ ‫الدين اليوم مت�ساحمني يف �أوروبا‬ ‫�أو غري قادرين على قمع حرية الفكر‬ ‫والن�شر‪ ،‬ف�إن الف�ضل يف ذلك يعود‬ ‫�إىل املعارك الطاحنة التي خا�ضها‬ ‫ا�شخا�ص مثل فولتري �أو جان جاك‬ ‫رو�سو �أو ديدرو �أو �سواهم من فال�سفة‬ ‫التنوير‪ .‬ومع الآ�سف ما زال هناك يف‬ ‫جمتمعاتنا من يظن ب�أن حرية الفكر‬ ‫تقود �إىل الكفر‪ ،‬و�أن حرية املر�أة‬

‫تقود �إىل الف�سق‪ ،‬و�أن العقل حمدود‬ ‫فال ميكن �إطالقه �إال كما نفعل مع طري‬ ‫القف�ص بتعري�ضه للهالك‪ .‬وهناك من‬ ‫يرى �أن كل اخلطر يف تلقي العلوم‬ ‫الإن�سانية يف الفل�سفة والتاريخ وعلم‬ ‫النف�س واالجتماع‪ .‬فهذه �أفكار �أربع‬ ‫ت�أ�سي�سية تناق�ض الفكر مع الإميان‪،‬‬ ‫والعقل حمدود الطاقة‪ ،‬ويجب عدم‬ ‫ال�سماح للكفر بالتعبري عن نف�سه خوف ًا‬ ‫من هزمية الإميان �إذا ظهر يف �ساحة‬ ‫املواجهة‪ .‬وبكلمة �أخرى‪ ،‬بناء الأفكار‬ ‫على الإكراه‪.‬‬ ‫�إن تفكري ًا من هذا النوع يبدو من‬ ‫خالل فل�سفة وتفكري فولتري خ�سوف ًا‬ ‫كلي ًا ل�شم�س العقل‪ ،‬و�ضرب ًا من الإعاقة‬

‫العقلية كما عند امل�شلولني‪ ،‬وانقطاع ًا‬ ‫عن م�سرية الفكر الإن�ساين يح�شرنا يف‬ ‫�شرانق حمنطة من تراث مل ينجح يف‬ ‫نقلنا �إىل املعا�صرة حتى الآن‪ .‬والأهم‬ ‫عدم القدرة على التخل�ص من العقل‬ ‫النقلي والر�سوخ يف �آ�سار من التقليد‬ ‫ال نهاية لها‪ .‬و�إذا كان الرتاث قد كتب‬ ‫يف ظروف م�شبوهة من االن�سحاق‬ ‫ال�سيا�سي بيد وعاظ ال�سالطني‪ ،‬فهو‬ ‫تراث ال عالقة له مبفاهيم القر�آن‪،‬‬ ‫وال ميثل �أكرث من تراكمات لأفكار‬ ‫فقدت فعاليتها يف عامل يحكمه منطق‬ ‫الفعالية‪ .‬ومن الغريب �أن فل�سفة القر�آن‬ ‫تناق�ض مفاهيم امل�سلمني امل�سيطرة‪،‬‬ ‫فهو يفرت�ض �أن الإميان م�ؤ�س�س على‬

‫‪11‬‬

‫(التفكري) و(�إن يف خلق ال�سموات‬ ‫والأر�ض واختالف الليل والنهار‬ ‫لآيات لأويل الألباب)‪� .‬أما نحن فنفزع‬ ‫من التفكري‪ .‬و�أمرنا‪ :‬وقل �سريوا يف‬ ‫الأر�ض فانظروا كيف بد�أ اخللق؟ ونحن‬ ‫ننغلق على الن�ص‪ ،‬وننفك عن الواقع‬ ‫والتاريخ‪ ،‬مع �أنهما م�صادر املعرفة‪.‬‬ ‫والعلم كم تراكمي ال نهاية له‪ :‬وفوق كل‬ ‫ذي علم عليم‪ .‬ونحن نطالب من حولنا‬ ‫�أن ال يطلعوا �أو يطالعوا و�أن يغلقوا‬ ‫عيونهم‪ ،‬ون�صدر املذكرات واملن�شورات‬ ‫يف حترمي القراءة من كتب بعينها‪ ،‬كما‬ ‫فعلت الكني�سة من قبل‪ .‬وكتابات �سارتر‬ ‫الوجودي بقيت حجر ًا حمجور ًا حتى‬ ‫نهاية ال�ستينات‪ .‬و�إذا كانت الكني�سة قد‬

‫�أحرقت العلماء وكتبهم مع ال�ساحرات‬ ‫يف ال�ساحات العامة وعاجلت ال�سعال‬ ‫الديكي بلنب احلمري‪ ،‬فقد �أحرقت كتب‬ ‫ابن ر�شد وحب�س رهن الإقامة اجلربية‬ ‫مع اليهود وال�صعاليك‪ .‬ف�أن الكون مل‬ ‫ينته خلقه‪ :‬ويزيد يف اخللق ما ي�شاء‪.‬‬ ‫ونحن نعلم اليوم �أن التاريخ مل يبد�أ‬ ‫بعد‪ ،‬وما زالت الإن�سانية يف مرحلة‬ ‫الطفل وال منلك �إال مالحظة الكم الهائل‬ ‫من الإنتاج املعريف الوارد �إلينا من‬ ‫الغرب‪ ،‬بدء ًا من داروين الذي كتب‬ ‫�أ�صل الأنواع عام ‪ ،1859‬وانتهاء‬ ‫بدونالد جوهان�سون الذي ك�شف عن‬ ‫هيكل لو�سي عام ‪ ،1978‬الذي يعود‬ ‫لأكرث من ‪ 3.4‬مليون �سنة‪ .‬وكل من‬ ‫غط�س يف التاريخ لفهم قوانني حركته‪،‬‬ ‫مثل (ويلز) �صاحب كتاب (معامل تاريخ‬ ‫الإن�سانية) �أو الربيطاين (توينبي)‬ ‫�صاحب كتاب (خمت�صر درا�سة التاريخ)‬ ‫�أو الأمريكي (ويل ديورانت) �صاحب‬ ‫�سفر التاريخ بـ ‪ 42‬جملد ًا عن (ق�صة‬ ‫احل�ضارة)‪ .‬ف�ضال عن �أن كل الإنتاج‬ ‫املعريف يف علوم الذرة �أو املجرة كان‬ ‫من عند غرينا‪ ،‬بدءا من تركيب العنا�صر‬ ‫يف اجلدول الدوري للعنا�صر الذي‬ ‫ك�شفه (دميرتي مندلييف) الرو�سي‪،‬‬ ‫وانتهاء باكت�شاف متدد الكون على‬ ‫يد الأمريكي ادوين هابل‪� ،‬أو تركيب‬ ‫الذرة على يد الدامناركي نيلز بور‪،‬‬ ‫�أو فك �إ�شكالية حركة الإلكرتون يف‬ ‫قانون االرتياب على يد الأملاين فرينر‬ ‫هايزنربغ‪� ،‬أو معنى احل�ضارات وحركة‬ ‫التاريخ على يد (او�سفالد �شبنجلر)‬ ‫الأملاين‪� ،‬أو حركة املجتمع وت�شريحه‬ ‫على يد الفرن�سي �أوج�ست كومت‪� ،‬أو‬ ‫قوانني علم النف�س عند النم�ساوي‬ ‫فرويد �أو �سكيرن من املدر�سة ال�سلوكية‬ ‫وفيكتور فرانكل وابراهام ما�سلو من‬ ‫مدر�سة علم النف�س الإن�ساين‪.‬‬ ‫وهكذا فالإنتاج املعريف‪� ،‬شئنا �أم‬ ‫يهب علينا اليوم مباء منهمر‬ ‫�أبينا‪ّ ،‬‬ ‫برياح مو�سمية �شمالية غربية‪.‬هناك‬ ‫�آلية خفية يعي�ش فيها كل �إن�سان وال‬ ‫يتفطن �إليها وهي ارتباط الن�ص مع‬ ‫حركة الواقع‪ ،‬كما يحدث من انفكاك‬ ‫عمود احلركة يف ال�سيارة عن العجالت‬ ‫فتتوقف عن ال�سري‪ .‬وعندما تنفك‬ ‫هذه الآلية ال ينتفع الإن�سان من �أي‬ ‫�شيء حوله‪ .‬ونحن اليوم منلك �أعظم‬ ‫امل�صادر وي�صب الذل على ر�ؤو�سنا‬ ‫مع �شروق كل �شم�س‪ ،‬يقوم جدل‬ ‫التاريخ على ال�صراع بني (احل�ضارة)‬ ‫�ضد (الرببرية) و(الت�سامح) �ضد‬ ‫(التع�صب) و(التقدم) �ضد (التخلف)‪.‬‬ ‫وعندما دمر الأ�سبان ح�ضارة «املايا»‬ ‫واحرقوا كل كتبهم �إال ثالثة‪ ،‬مل تقر�أ‬ ‫لغتهم حتى الآن ومل تعرف ثقافتهم‬ ‫على وجه التحديد‪ ،‬كان م�صري الأ�سبان‬ ‫اللعنة التي �صبها املب�شر (ال�س‬ ‫كا�سا�س) على ر�ؤو�سهم‪ .‬فرتاجعت‬ ‫ا�سبانيا حتت ظالمية التع�صب �إىل‬ ‫الزاوية املهملة من �أوروبا‪ ،‬مع �أنها‬ ‫كانت القوة الأوىل يف العامل‪ ،‬و�أغنى‬ ‫�إمرباطورية و�أعظمها ات�ساعا و�أف�ضلها‬ ‫ت�سلحا و�أكرثها امتالكا لعابرات‬ ‫املحيط مما يذكر ب�سفن الف�ضاء‬ ‫احلالية‪.‬ومل ت�ستيقظ ا�سبانيا من‬ ‫اثر التحنيط العقلي الديني �إال على‬ ‫�صدمة الوحدة الأوروبية‪ ،‬وقفزت‬ ‫�إىل الواجهة الأمم االجنلو�سك�سونية‬ ‫الأكرث انفتاحا وعقالنية‪.‬‬ ‫ان العودة اىل فكر فولتري وفل�سفته‬ ‫ي�شكل بال�ضرورة مدخال لتنوير فكرنا‬ ‫يف اجتاه دح�ض التع�صب الديني و‬ ‫ت�شييد ح�ضارة قائمة على احلوار‬ ‫والتحاور‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫فولتير رائد من رواد‬ ‫فلسفة التنوير في القرن‬ ‫الثامن عشر‬ ‫حممد زكريا توفيق‬

‫قابل فيليب الثانى‪ ,‬الو�صي على العر�ش‬ ‫الفرن�سي‪� ,‬أيام لوي�س اخلام�س ع�شر‪,‬‬ ‫فولتري فى �أحد احلدائق العامة فى يوم‬ ‫من الأيام وقال له‪�« :‬سيد �أرويه‪� ,‬أراهن‬ ‫على �أننى �أ�ستطيع �أن �أريك �شيئا مل تره‬ ‫من قبل « فقال فولتري‪« :‬ماهو؟» �أجاب‬ ‫الو�صي ب�سرعة‪�« :‬سجن البا�ستيل من‬ ‫الداخل» وبالفعل‪ ,‬كان فولتري داخل‬ ‫البا�ستيل فى اليوم التايل‪ .‬فمن هو فولتري‬ ‫هذا؟ هو كاتب‪ ،‬و�شاعر‪ ,‬وفيل�سوف‪ .‬يعده‬ ‫الأوروبيون واحدا من �أبرز �أدباء حركة‬ ‫التنوير يف القرن الثامن ع�شر‪� .‬إ�سمه‬ ‫الأ�صلي «فران�سوا ماري �أرويه»‪ .‬ولد فى‬ ‫باري�س(‪1778-1694‬م)‪ .‬ن�ش�أ فى و�سط‬ ‫بورجوازي معار�ض‪ .‬وكان يعمل والده‬ ‫حماميا لدى الدوق «دى رو�شيليو» و»الدوق‬ ‫دي �سان �سيمون»‪.‬‬ ‫تعلم يف معهد ي�سوعي‪ ,‬ودر�س الأدب‬ ‫الالتيني واللغات وامل�سرح‪ .‬ورف�ض درا�سة‬ ‫القانون وف�ضل درا�سة الأدب والإ�شتغال به‪.‬‬ ‫عمل لفرتة م�ساعدا ل�سفري فرن�سا يف الهي‬ ‫ثم عاد �إىل باري�س �سنة ‪1714‬م‪ .‬وعمل فرتة‬ ‫�أخرى يف مكتب موثق عقود وفيها تعرف‬ ‫على بع�ض النبالء‪ ,‬وراجت بينهم �أ�شعاره‬ ‫ال�ساخرة‪ ,‬خ�صو�صا ما كان يقرظه يف‬ ‫هجاء «فيليب الثانى» الو�صي على العر�ش‪.‬‬ ‫فتم �سجنه ب�سبب ذلك ملدة عام فى �سجن‬ ‫البا�ستيل �سنة ‪1716‬م‪.‬‬ ‫يف �سجن البا�ستيل‪ ,‬اتخذ ا�سم «فولتري»‬ ‫لقلمه‪ .‬وكتب �أي�ضا ملحمته «هرنياديه»‪,‬‬ ‫التى تروى فى الظاهر‪ ,‬ق�صة ح�صار «هرنى‬ ‫الثالث» لباري�س عام ‪1589‬م‪ ,‬لكنها بني‬ ‫�سطورها‪ ,‬تنتقد ال�سلطة الدينية فى ع�صره‪.‬‬

‫وكان ال ي�سمح له بورق كتابة داخل ال�سجن‪.‬‬ ‫فكان يكتب بني �سطور �أحد الكتب املطبوعة‪.‬‬ ‫�أفرج عن فولتري فى �إبريل ‪1718‬م‪ .‬عندما‬ ‫قرر الو�صى على العر�ش �أن �سنة كاملة فى‬ ‫�سجن البا�ستيل تعترب ثمنا عادال لكتابة‬ ‫�أغنية‪.‬‬ ‫كتب م�سرحية «�أوديب» فالقت جناحا كبريا‪،‬‬ ‫وكانت قد عر�ضت فى �أحد م�سارح باري�س‬ ‫ملدة ‪ 45‬يوما متتالية‪ ,‬وهذا �أمر مل تبلغه‬ ‫م�سرحية �أخرى فى تلك الأيام‪ .‬واعرتف‬ ‫به ك�أعظم �شاعر يف فرن�سا‪ .‬وبلغت �شهرته‬ ‫الآفاق‪ ,‬و�أ�صبح حديث �صالونات باري�س‪.‬‬ ‫فى �أحد حفالت الع�شاء‪� ,‬أ�شار �إليه النبيل‬ ‫«�شيفاليه دى روهان �شابوت» مت�سائال‪« :‬ما‬ ‫ا�سم هذا ال�شاب ذو ال�صوت العايل؟» فجاء‬ ‫اجلواب �سريعا من فولتري‪�« :‬سيدى اللورد‪,‬‬ ‫�إنه واحد من اللذين ال يجرون �أ�سماء طويلة‬ ‫خلفهم‪ ,‬لكنه ي�ستطيع �أن يحمي وي�شرف‬ ‫اال�سم الذى يحمله» وبعد يومني‪ ,‬قام �إثنان‬ ‫من البلطجية‪ ,‬كان قد �إ�ست�أجرهما �شيفاليه‪,‬‬ ‫ب�ضرب فولتري علقة �ساخنة‪ .‬وفى اليوم‬ ‫التايل‪ ,‬ظهر فولتري فى امل�سرح يعرج وهو‬ ‫م�ضمد بالأربطة‪ ,‬واقرتب من �شيفاليه‪ ,‬وقد‬ ‫كان حا�ضرا‪ ,‬طالبا منه املنازلة‪ .‬ومل يكن‬ ‫�شيفاليه خبريا ب�إ�ستخدام ال�سيف‪ ,‬لذلك‬ ‫جتنب املبارزة‪ .‬لكنه فى نف�س الوقت رتب‬ ‫مع ال�سلطة �أمرا بالقب�ض على فولتري‪ .‬وفى‬ ‫عام ‪1726‬م‪ ,‬وجد فولتري نف�سه مرة ثانية‬ ‫فى �سجن البا�ستيل‪ ,‬لكن بعد عدة �أ�سابيع‪,‬‬ ‫�أفرج عنه ب�شرط �أن يذهب �إىل املنفى فى‬ ‫�إجنلرتا‪.‬‬ ‫كانت هذه نقطة حتول خطرية فى حياته‪.‬‬ ‫وبذلك تكون �أيام التهريج والفو�ضى قد‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ولت �إىل غري رجعة‪ ,‬وجاء وقت الن�ضج‬ ‫وامل�س�ؤولية‪ .‬و�أ�صبح بحر املان�ش يف�صل‬ ‫بني عهدين فى حياته‪ .‬عهد الهزل وعهد‬ ‫اجلد‪.‬‬ ‫حتول نفى فولتري �إىل �إجنلرتا من عقاب‬ ‫�إىل مكاف�أة‪ .‬فقد �أ�صبحت �إجنلرتا لفولتري‬ ‫مبثابة وطنه الثقايف الرئي�سي كما كانت‬ ‫«لإرا�سمو�س (‪ »)Erasmus‬فى القرن‬ ‫اخلام�س ع�شر‪ .‬وفى عامه الأول‪ ,‬الحظ‬ ‫�أن �صديقاه‪�« ,‬ألك�ساندر بوب» و»جوناثان‬ ‫�سويفت»‪ ,‬يكتبان ما يحلو لهما بدون خوف‬ ‫�أو مطاردة من ال�سلطات‪ .‬فكتب �إىل �أحد‬ ‫�أ�صدقائه‪« :‬هنا فى �إجنلرتا ميكن للإن�سان‬ ‫�أن ي�ستخدم عقله بدون خوف �أو تذلل‪.‬‬ ‫هنا يوجد �شعب م�ستقل ومتح�ضر‪ ,‬ثار‬ ‫على نظام احلكم القدمي‪ .‬فال يوجد �سجن‬ ‫البا�ستيل‪ ,‬وال يوجد �إ�ضطهاد ديني‪.‬‬ ‫قام فولتري �أثناء نفيه �إىل فرن�سا‪ ,‬بدرا�سة‬ ‫الد�ستور الربيطاين‪ ,‬الذى يكفل احلرية‬ ‫والت�سامح لكل الطبقات‪ .‬وق�ضى وقتا‬ ‫كبريا مع «بولنجربوك» و»�سويفت»‬ ‫و»بوب» و»كوجنريف»‪ .‬ودر�س بعمق‬ ‫م�سرح �شك�سبري وفل�سفة «لوك» ونظريات‬ ‫«نيوتن» العلمية‪ .‬وت�أثر ت�أثرا كبريا بكتاب‬ ‫«الفهم الإن�ساين» «جلون لوك»‪ ,‬ومعقولية‬ ‫«فران�سي�س بيكون»‪ ,‬و�أفكار الإ�صالح‬ ‫«لتيندال»‪.‬‬ ‫لقد حلق فولتريفى عامل �آخر من القيم‬ ‫الرفيعة الراقية‪ .‬وهنا �أ�صبح ال�شاعر‪,‬‬ ‫م�ؤرخا وفيل�سوفا‪ .‬بعد �أن ات�سع �أفقه‪.‬‬ ‫ومعه‪ ,‬ات�سع �أفق القارة الأوروبية كلها‪.‬‬ ‫وقال عنه «جورج براندي�س»‪�« :‬أعطته‬ ‫�إجنلرتا نقطة �إرتكاز �أر�شميد�س خارج‬

‫فرن�سا‪ ,‬ومنها �إ�ستطاع �أن يرفع فرن�سا‬ ‫ومعها القارة كلها»‬ ‫لكن �أهم �شئ فى هذه الق�صة‪ ,‬هى �إح�سا�سه‬ ‫باحلرية فى بلد حر دميوقراطى‪ .‬احلرية‬ ‫الإجنليزية �أ�صبحت بالن�سبة له مثال �أعلى‪.‬‬ ‫هنا‪ ,‬ال �أحد ميكن �أن يفقد حريته ب�أي �سلطة‬ ‫من ال�سلطات‪ .‬وال �أحد ميكن �أن يعاقب بدون‬ ‫حماكمة‪ .‬هنا حرية كاملة للكتابة واخلطابة‬ ‫وال�صحافة‪ .‬وت�سامح ديني كامل بني الأديان‬ ‫املختلفة‪ .‬لقد ر�أى الآن الفرق بني نظامني‪.‬‬ ‫بدا وا�ضحا فى كتابه «ر�سائل عن �إجنلرتا»‬ ‫التى تعترب نقطة �إنطالق‪ ,‬وبداية الثورة‬ ‫الفرن�سية‪.‬‬ ‫لقد كتب‪ ,‬بالن�سبة للحرية الدينية عند‬ ‫الإجنليز‪� ,‬أن الرجل الإجنليزى‪ ,‬يذهب‬ ‫�إىل اجلنة عن طريق الدرب الذى يختاره‬ ‫هو مبح�ض حريته‪ .‬وبالن�سبة للحرية‬ ‫ال�سيا�سية‪ ,‬يقول �أن �إجنلرتا هي البلد‬ ‫الوحيد على �سطح الكرة الأر�ضية الذي‬ ‫حتجم �سلطة امللوك فيه‪ .‬فاحلاكم ترتك له‬ ‫كل ال�سلطة لفعل اخلري‪ ,‬وفى الوقت نف�سه‬ ‫تكبل يديه عن فعل ال�شر‪.‬‬

‫جان جاك رو�سو‬

‫مدة النفي يف �إجنلرتا كانت ثالث �سنوات‪.‬‬ ‫بعدها عاد فولتري �إىل فرن�سا‪ .‬ليكت�شف‬ ‫�أن ال�سلطات كانت قد �أعدت �أمرا كتابيا‬ ‫باعتقاله‪ .‬وحتى ال يعي�ش مع فئران‬ ‫البا�ستيل مرة �أخرى‪ ,‬فر هاربا من باري�س‪.‬‬ ‫و�إختب�أ فى �سرييه عند املاركيزة «�إمييلي‬ ‫�شاتيليه» التي وقع لتوه فى غرامها‪ .‬و�أقام‬ ‫عندها مدة ‪ 16‬عاما‪ .‬كانت كلها �سنني �إنتاج‬ ‫و�سعادة‪ .‬ففي خاللها‪ ,‬كتب تراجيديتني‬ ‫وروايتني وكتاب عن حياة وع�صر «لوي�س‬ ‫الرابع ع�شر» وبحث عن ال�سلوك‪.‬‬ ‫التاريخ احلديث مل يبد�أ بكتابات «ويلز»‬ ‫و»روبن�سن»‪ ,‬و�إمنا بد�أ بكتابات فولتري‪.‬‬ ‫فهو �أول من �أ�ضاف البعد الإن�ساين للتاريخ‪.‬‬ ‫و�أول من �صاغه على هيئة عمل درامي‪,‬‬ ‫ولي�س جمرد �سرد حلقائق وتواريخ‬ ‫جامدة و�أ�سماء معارك وملوك‪ .‬لقد ر�أى‬ ‫فولتري التاريخ من منظور التطور والنمو‬ ‫الإن�ساين‪ .‬لذلك يعترب فولتري �أبو التاريخ‬ ‫احلديث عن جدارة‪.‬‬ ‫كان ع�صر لوي�س الرابع ع�شر بالن�سبة له‪,‬‬ ‫ع�صر �إجناز للفنانني والعلماء والفال�سفة‪,‬‬


‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫ال ع�صر املغامرات احلربية واملناورات‬ ‫ال�سيا�سية‪ .‬وقد كتب فريدريك الأكرب عن‬ ‫فولتري‪« :‬كتاباته التاريخية تعترب كنوزا‬ ‫للعقل‪ .‬تدل على عبقرية فى الت�أليف‪ ,‬و�شرفا‬ ‫للع�صر الذي نعي�ش فيه وللعقل الإن�ساين‬ ‫مبجمله»‬ ‫ذهب فولتري بناء على دعوة «فريدريك‬ ‫الأكرب» �إىل بوت�سدام‪ .‬لكنه مل ي�ستقر‬ ‫بها طويال ب�سبب غرية املناف�سني وح�سد‬ ‫احل�ساد‪ .‬ثم ذهب �إىل جينيف وقام ب�شراء‬ ‫فيال على بحرية هناك‪ .‬لكنه مل ي�ستقر بها‬ ‫�أي�ضا ب�سبب الإ�ضهاد الديني له‪ .‬فقرر ترك‬ ‫جينيف والذهاب �إىل فريين حيث قام ببناء‬ ‫وحدات �سكنية للعمال وم�صانع �صغرية‪.‬‬ ‫وقام بزراعة ‪� 4‬آالف �شجرة‪ .‬وقام بتوظيف‬ ‫املئات من العمال الالجئني‪.‬‬ ‫يف هذه الأثناء كتب �أ�شهر �أعماله‪ ,‬رواية‬ ‫«كانديد»‪ .‬التي ي�سخر فيها من فل�سفة‬ ‫«رو�سو» و»ليبنتز»‪ .‬فنحن نعي�ش فى عامل‪,‬‬ ‫لي�س فيه كل �شيء على ما يرام‪ .‬واحللول ال‬ ‫تكون �إال ب�إ�ستخدام العقل والعلم‪ .‬والرواية‬ ‫متثل البحث عن �شيء ذات معنى‪ ,‬يف عامل‬ ‫جمنون جمنون جمنون‪.‬‬ ‫ال�سالح الوحيد الذى ميكن �إ�ستخدامه �ضد‬ ‫القوة الغا�شمة وال�سلطة امل�ستبدة‪ ,‬هو القلم‬ ‫والعقل والذكاء‪ .‬فالقلم �أم�ضى من ال�سيف‪.‬‬ ‫وكانت كتاباته تت�سم بالدقة والو�ضوح‪.‬‬ ‫وهو �أ�سلوب جنده وا�ضحا فى كتابات‬ ‫«فلوبرت» و»رينان» و»�أنا�ضول فران�س»‪.‬‬ ‫كان امل�سيحيون الربوت�ستانت يف تولو�س‬ ‫فرن�سا غري م�سموح لهم مبزاولة مهنة الطب‬ ‫�أو املحاماة‪� ,‬أو �أمتالك حمالت بقالة �أو‬ ‫مكتبات‪� ,‬أو حتى مزاولة مهنة املولدات‪.‬‬

‫ويف يوم من الأيام‪ ,‬ترك «مارك كاال�س»‬ ‫الأبن عائلته وذهب �إىل �أقرب كوخ لي�شنق‬ ‫نف�سه‪.‬‬ ‫جاءت ال�شائعات تتهم «جني كاال�س» الأب‬ ‫الربوت�ستانتي الديانة‪ ,‬بقتل �إبنه مارك‬ ‫ب�سبب حتوله �إىل الكاثوليكية‪ .‬و�سرعان‬ ‫ما مت القب�ض على الأب وباقى العائلة‪.‬‬ ‫وحكم على الأب‪ ,‬بعد حماكمة �سريعة غري‬ ‫عادلة مل ي�سمع فيها �شهود النفي‪ ,‬بالتعذيب‬ ‫والإعدام‪.‬‬ ‫تعر�ض الأب امل�سكني لعمليات تعذيب تفوق‬ ‫الو�صف‪ .‬فقد نزعت عظام يديه ورجليه من‬ ‫مفا�صلها ب�آلة خا�صة‪ .‬وكان ي�ضرب بق�ضبان‬ ‫احلديد على �صدره لتحطيم �ضلوعه‪.‬‬ ‫وزبانية اجلحيم تراعي بقاءه �أطول مدة‬ ‫حيا حتى يتجرع من الآالم والعذاب �أ�شده‬ ‫و�أق�ساه‪ .‬ثم بعد ذلك مت �شنقه وحرق جثته‪.‬‬ ‫عندما و�صلت الأخبار �إىل فولتري‪� ,‬إ�ست�شاط‬ ‫غ�ضبا‪ .‬و�أيقن �أن بريئا مت تعذيبه وقتله �شر‬ ‫قتلة ظلما‪ .‬فقرر تبني هذه الق�ضية والدفاع‬ ‫عن �شرف هذه الأ�سرة و�إعادة الإعتبار‬ ‫لها‪ .‬فقام بالتفرغ لهذه الق�ضية ملدة ثالث‬ ‫�سنوات مت�صلة‪� .‬أخذت كل وقته وفكره‬ ‫وجزءا من ثروته‪ .‬قام خاللها بالإت�صال بكل‬ ‫�أ�صدقائه �أ�صحاب النفوذ‪ .‬منهم ملك برو�سيا‬ ‫و�إمرباطورة رو�سيا‪ .‬و�أقنع ال�صحافة‬ ‫الإجنليزية بتبني الق�ضية ون�شرها يف كل‬ ‫�أوروبا‪ .‬و�أخريا جنح فى �إعادة املحاكمة‬ ‫بق�ضاه حمايدين‪ .‬قاموا ب�سماع �شهود النفي‬ ‫لأول مرة‪ .‬و�إنتهت بتربئة الأب الذي قتل‬ ‫ظلما ب�سبب التع�صب و�ضيق الأفق‪.‬‬ ‫�أعلن فولتري منذ ذلك الوقت احلرب على‬ ‫التع�صب وعدم الت�سامح الديني الذي‬

‫‪13‬‬

‫هيغل‬ ‫�إ�ستعبد �أوروبا �آالف ال�سنني‪ .‬وكان يقول‪:‬‬ ‫«كفى حرق الكتب‪ ,‬والإطاحة بر�ؤو�س‬ ‫الفال�سفة و�إعدام الأبرياء بحجة �أنهم‬ ‫يدينون بديانات خمتلفة‪ .‬هذا عار يجب �أن‬ ‫ميحى‪ .‬الإن�سان يحب �أن يتحرر من خرافات‬ ‫الع�صور الو�سطى‪ ,‬ومن �سلطة احلكومة‬

‫الدينية‪ .‬الإن�سان يجب �أن يحكم باحلجة‬ ‫والعقل‪».‬‬ ‫يف ر�سالته عن الت�سامح الديني ويف كتابه‬ ‫قامو�س الفل�سفة‪ ,‬ي�ؤكد حرية العقيدة‪,‬‬ ‫والأخوة الإن�سانية‪ .‬وينتقد اخلطاب الديني‬ ‫الر�سمي‪ .‬وينادي بف�صل الدين عن الدولة‪.‬‬

‫ويبتهل �إىل الله بالدعاء التايل‪:‬‬ ‫«�إلهي‪� ,‬ألتجئ �إليك يا خالق كل �شئ‪� ,‬أن‬ ‫ال جتعل الكره والبغ�ضاء بني الب�شر‬ ‫ي�ست�شري‪ ,‬ب�سبب الفروق التافهة بني‬ ‫مالب�سنا �أو قوانينا‪� ,‬أو لغاتنا املختلفة �أو‬ ‫عاداتنا امل�ضحكة �أو �آرائنا الغبية �أو مراكزنا‬ ‫الإجتماعية‪ .‬هذه فروق تبدو عظيمة لنا‬ ‫ب�سبب جهلنا‪ ,‬ولكنها مت�ساوية ولي�ست‬ ‫فروقا على الإطالق بالن�سبه لك‪ .‬فاجعلهم‬ ‫يتذكرون دائما �أنهم الزالوا �إخوة و�أخوات»‬ ‫وت�أتي النهاية فى ‪ 30‬مايو ‪1778‬م‪ .‬لكن‬ ‫الكني�سة تقوم برف�ضت مرا�سم دفنه‪ .‬فقام‬ ‫�أ�صدقا�ؤه بدفنه خل�سة فى �سيلرييه‪ .‬وبعد‬ ‫‪� 13‬سنة يف عام ‪1791‬م‪ ,‬عندما كانت‬ ‫الثورة الفرن�سية فى �أوجها‪� ,‬أ�صدرت‬ ‫اجلمعية الوطنية الفرن�سية �أمرا بنقل‬ ‫جثمان فولتري �إىل البانثيون �إىل جوار رفاة‬ ‫«جان جاك رو�سو» وباقي عظماء فرن�سا‪,‬‬ ‫و�سط مرا�سم دفن عظيمة ح�ضرها ‪� 600‬ألف‬ ‫فرن�سي‪ .‬وكتبت على عربة الدفن العبارة‪:‬‬ ‫«�شاعر وفيل�سوف وم�ؤرخ‪� .‬أعطى العقل‬ ‫الإن�ساين دفعة هائلة‪ ,‬و�أعدنا للحرية»‬ ‫هذا الرجل‪ ,‬كتب يوما �إىل «جان جاك‬ ‫رو�سو»‪�« :‬أنا ال �أتفق مع كلمة واحدة مما‬ ‫تقول‪ .‬لكنني �أدافع حتى املوت عن حقك لكي‬ ‫تقولها»‬ ‫وعلى قربه‪ ,‬كتبت الفتة تقول‪« :‬حارب‬ ‫املتع�صبني واملتزمتني‪ ,‬ودعا �إىل روح‬ ‫الت�سامح الديني‪ ،‬وطالب بحقوق الإن�سان‬ ‫�ضد العبودية‪ ,‬وحارب نظام الإقطاع‪.‬‬ ‫�شاعر‪ ،‬وم�ؤرخ‪ ،‬وفيل�سوف‪ .‬جعل �آفاق‬ ‫النف�س الب�شرية تت�سع‪ ,‬وتتعلم معنى‬ ‫احلرية»‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫فلسفة التعبير عند‬

‫فولتير‬ ‫يف عام ‪ 1761‬كان الفيل�سوف الفرن�سي (فولتري) ملتجئ ًا �إىل‬ ‫مدينة (فريين) ال�سوي�سرية‪ ،‬بعد �أن جنا بجلده من امللك‬ ‫فردريك الأملاين‪ ،‬ومنعه امللك الفرن�سي من دخول الأرا�ضي‬ ‫الفرن�سية‪ .‬وحتى يكون مبن�أى من بط�ش االثنني فقد‬ ‫ا�سرتاح هناك؛ ف�إن طاردته اال�ستخبارات الربوي�سية هرب‬ ‫�إىل فرن�سا‪ ،‬و�إن طالته اجلوا�سي�س الفرن�سية هرب �إىل �أملانيا‪.‬‬

‫وكان يف مدينة (تولوز) الفرن�سية القريبة رجل يدعى‬ ‫(جان كاال�س) بروت�ستانتي املذهب وله بنت اعتنقت‬ ‫الكثلكة‪ .‬ويف يوم �شنق ابنه نف�سه ب�سبب الإحباط يف‬ ‫�سوق العمل‪ .‬وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون‬ ‫ب�سلطة مطلقة يف املدينة‪ ،‬وال ي�سمح لأي بروت�ستانتي‬ ‫يف تولوز �أن يكون حمامي ًا �أو طبيب ًا �صيدليا �أو بقا ًال �أو‬ ‫بائع كتب �أو طبّاع ًا‪ .‬و ُمنِع الكاثوليك من ا�ستخدام �أي‬ ‫خادم �أو كاتب بروت�ستانتي‪ .‬ويف يوم حُ كِ م على امر�أة‬ ‫بغرامة قدرها ثالثة �آالف فرنك لأنها ا�ستعانت بقابلة‬ ‫بروت�ستانتية‪.‬‬ ‫ويقول (ويل ديورانت) �صاحب كتاب (ق�صة الفل�سفة) �إن‬ ‫القوانني كانت تق�ضي يف تلك الأيام “ب�أن يو�ضع جثمان‬ ‫املنتحر منك�س ًا عاري ًا على حاجز من العيدان امل�شبكة‬ ‫ووجهه �إىل الأ�سفل وي�سحب بهذه الطريقة عرب ال�شوارع‬ ‫وبعدئذ يعلق على امل�شنقة”؟‬ ‫ولكي يتجنب املدعو (كاال�س) هذه الف�ضيحة فقد حاول‬ ‫بكل �سبيل ممكن �أن يخرج بوثيقة تقول �إن ابنه مات‬ ‫ميتة طبيعية‪ .‬ولكن �إ�شاعة رهيبة انت�شرت يف البلد تقول‬ ‫�إن الولد مل ي�شنق نف�سه بل �إن جان كاال�س قتل ابنه حتى‬

‫يحول بينه وبني اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت �أخته‬ ‫من قبل‪ .‬ف�ألقي القب�ض على الرجل وبد�أوا يف تعذيبه‬ ‫حتى مات‪ .‬وهربت عائلته �إىل فريين لتق�ص الفاجعة‬ ‫على فولتري‪ .‬ومن منفاه �أطلق الرجل �صيحته املعروفة”‬ ‫“ا�سحقوا العار”‪.‬‬ ‫لعل فولتري من القالئل الذين ق�ضوا حياتهم يف املنفى‬ ‫من �أجل �أفكارهم وكتب ‪ 99‬كتاب ًا وعا�ش حتى �سن ‪83‬‬ ‫و�سجن يف البا�ستيل مرتني و�ضربه الأوغاد بتو�صية‬ ‫جيدة من النبيل (دي روهان) �أن ي�شبعوه �ضرب ًا دون‬ ‫ر�أ�سه فقد يخرج منه يوما �شيء عظيم؟‬ ‫وهرب �إىل بريطانيا خائفا‪ ،‬وهو �أول من اعترب �أن‬ ‫التاريخ لي�س �سري احلروب وامللوك بل مغامرات العقل‪،‬‬ ‫و�أن تاريخا ت�سحب منه الفل�سفة والفن ال يبقى من �شيء‬ ‫ي�سمى تاريخا‪ .‬و�أن التاريخ لن يقف على قدميه ما مل‬ ‫نبعد عنه الالهوت‪.‬‬ ‫وهو نف�س امل�سار الذي �سلكه ابن خلدون من قبل‪ .‬ومل‬ ‫يرجع �إىل باري�س التي ولد فيها �إال قبل موته بقليل‪،‬‬ ‫وعندما جاءه الق�س لي�سمع اعرتافه �س�أله فولتري عمن‬ ‫�أر�سله فقال‪ :‬الله؟ ف�س�أله فولتري �أن يقدم �أوراق اعتماده‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫من الله فوىل ومل يعقب؟‬ ‫وعند حلظة املوت جاءه ق�س ثان رف�ض تقدمي الغفران‬ ‫له ما مل يوقع على اعرتافه و�إميانه الكاثوليكي �إميانا‬ ‫را�سخ ًا فطرده و�سجل الكلمات التالية “�أموت على عبادة‬ ‫الله وحمبة �أ�صدقائي وكراهية �أعدائي ومقتي للخرافات‬ ‫والأ�ساطري الدخيلة على الدين” ووقع هذا البيان يف ‪28‬‬ ‫�شباط من عام ‪.1778‬‬ ‫�إن الع�صر الذي عا�ش فيه (فولتري) كان ي�سجل تباين ًا يف‬ ‫احلريات على طريف بحر املان�ش ويف فرتة ال�سنوات‬ ‫الثالث التي ق�ضاها هناك الحظ الفرق فو�صف بريطانيا‬ ‫“ب�أن فيها �شعبا له �آرا�ؤه اخلا�صة وحريته املميزة‪.‬‬ ‫�شعب �أ�صلح دينه و�شنق مليكه و�أن�ش�أ برملان ًا �أقوى من‬ ‫�أي حاكم يف �أوروبا وال وجود فيه للبا�ستيل‪ ،‬وفيه‬ ‫‪ 30‬مذهبا دينيا من دون ق�س واحد”‪ .‬و�أعجب جدا‬ ‫باحلركة الدينية ال�سالمية الكويكرز‪ .‬ويف ر�سالة ن�شرها‬ ‫فولتري عن (�أ�سئلة زاباتا) وكان املدعو راهب ًا �سمح لعقله‬ ‫مبناق�شة امل�سلمات فقال عندما يختلف جمل�سان فيلعن‬ ‫�أحدهما الآخر فمن ن�صدق؟ وعندما ف�شل يف احل�صول‬ ‫على جواب ب�سيط بد�أ الرجل يدعو �إىل الله على نحو‬

‫ب�سيط فكان جزا�ؤه �أن �أحرق حيا عام ‪.1631‬‬ ‫ومنه اعترب فولتري �أن “�أن �أول كاهن كان �أول حمتال‬ ‫قابل �أول �أحمق” وعندما وقع زلزال ل�شبونة فانهدمت‬ ‫الكنائ�س على ر�ؤو�س النا�س فمات يف �ساعتني ثالثون‬ ‫�ألف ًا من النا�س �سخر من التف�سريات التي قدمت ب�أنها‬ ‫انتقاما من الله �ضد الكاثوليك‪ .‬وظهر �صدق كالمه حينما‬ ‫�ضرب الزلزال اجلامع املن�صور يف طنجة يف املغرب‬ ‫و�أكمل طريقه �إىل حافة االطلنطي الأخرى فهدم مدينة‬ ‫بو�سطن بزلزال �أ�شد على ر�ؤو�س البوريتانيني‪ .‬يف‬ ‫الوقت الذي كان النا�س يف املراق�ص يف باري�س يلعبون‪.‬‬ ‫وعندما اندلعت حرب ال�سنوات ال�سبع بعد زلزال ل�شبونة‬ ‫�صب فولتري كل جهده �ضد احلرب وو�صفها ب�أنها “�أم‬ ‫اجلرائم و�أعظم ال�شرور وكل دولة حتاول �إلبا�س‬ ‫جرميتها ثوب العدالة‪� .‬إن القتل حرام وجميع �أنواع‬ ‫القتل يعاقب عليها القانون زمن ال�سلم‪� .‬أما �إذا نفخ يف‬ ‫ال�صور و�أعلنت احلرب في�صبح القتل بالألوف مباح ًا”‪.‬‬ ‫وهو يقول يف ختام مقال له عن الإن�سان يف قامو�سه‬ ‫الفل�سفي “يحتاج الإن�سان �إىل ‪� 20‬سنة كي يبلغ �أ�شده‬ ‫منذ كان جنينا يف بطن �أمه فحيوانا يف طفولته و�شاب ًا‬


‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫‪15‬‬ ‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�صبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)2074‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )19‬اذار ‪2011‬‬

‫‪Voltaire‬‬ ‫رجل التنوير‬

‫‪manarat‬‬

‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫حني ن�ضج عقله‪ ،‬وثالثة �آالف �سنة ليك�شف‬ ‫القليل عن جن�سه‪ ،‬البد �إىل �أن يعرف �شيئ ًا‬ ‫عن نف�سه‪ .‬ولكن دقيقة واحدة تكفي لقتله”‪.‬‬ ‫والذي يجعلني �أنف�ض الغبار عن التاريخ‬ ‫لن�ستعيد ذكرى رجل ق�ضى حياته من �أجل‬ ‫(حرية التعبري) و�أطلق �شعاره املعروف‬ ‫“�إنني م�ستعد �أن �أموت من اجل �أن �أدعك‬ ‫تتكلم بحرية مع خمالفتي الكاملة ملا تقول‪،‬‬ ‫ولكن ال�س�ؤال من �سيعطي احلريات؟ وملن؟‬ ‫وما هي احلريات؟‬ ‫ولفك هذه الإ�شكالية يجب �إحياء مبد�أ‬ ‫فولتري الثالثي الذي يعد �إجناز ًا هائ ًال يف‬ ‫تاريخ الإن�سان والر�أي‪ .‬وهو مكون من‬ ‫ثالث فقرات‪:‬‬ ‫ـ تقول الأوىل �إن امل�س�ألة ال تدور حول‬ ‫ال�صواب واخلط�أ لأن هذا حمتم لكل واحد منا‪.‬‬ ‫ـ وفولتري حينما يطلق حرية التعبري من دون حدود‬ ‫يخلق مناخ احلوار الذي يعدل اخلط�أ وين�ضج‬ ‫ال�صواب‪.‬‬

‫ـ ويف الفقرة الثالثة منه يقول فولتري �إنه �سيدافع عن‬ ‫ر�أي الآخر حتى لو كان خط�أ حم�ض ًا لي�س دفاع ًا عن‬ ‫اخلط�أ بل دفاع عن التعبري‪ ،‬لأن اخلط�أ يحق له �أن‬ ‫يعي�ش‪ .‬فهذا الذي �أطلقه فولتري يف �أوروبا كان له �أثر‬ ‫هائل يف ن�شوء حق التعبري واالجتماع عليه والتظاهر‬

‫�سلمي ًا‪.‬‬ ‫وهذا يو�صلنا �إىل حل �إ�شكالية كبرية وهي �أن حق‬ ‫التعبري مرتبط بواجب التعبري‪ .‬فما هو حق لطرف‬ ‫واجب على الطرف املقابل‪ .‬و�إذا كان احلاكم مينع‬ ‫النا�س من التعبري والتظاهر فلأنهم مينعونه من‬ ‫الوجود‪ .‬وهناك من يتمنى موت حاكم عربي ولكنه‬ ‫ين�سى يف غمرة هذه ال�شهوة �أن متني املوت للآخر‬ ‫هو يف الواقع متني املوت لنف�سه‪ ،‬لأن م�شكلة الأمة‬ ‫لي�ست معلقة مبوت وحياة وفرد وعندما نتمنى املوت‬ ‫للآخرين تنقل عدواها �إلينا فنموت نحن �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫وعندما ينتخب احلاكم ‪ % 100‬ف�إنه يعني �أن الأمة‬ ‫�أ�صبحت �صفرا ‪ .%‬وعلى هذه املقدار تنكم�ش الأمة‬ ‫فمن ينتخب ‪ % 99‬فهو يعني �أن الأمة �أ�صبحت واحد‬ ‫‪ .%‬وعندما تعلق �صور الزعماء �إىل الدرجة املقززة‬ ‫فهو يعني �أن الزعيم التهم الأمة‪ .‬وهي تنتظر دورها‬ ‫اللتهامه‪ .‬وذرية بع�ضها من بع�ض‪ .‬وثقافة مري�ضة‬ ‫تعيد �إنتاج نف�سها‪ .‬وتبقى امل�س�ألة تراوح يف مكانها بني‬ ‫متحيرّ وغا�ضب ويائ�س وحاقد‪ .‬كمن مثله يف الظلمات‬ ‫لي�س بخارج منها‪.‬‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫الت�صميم‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى جعفر‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.