Mohamed Choukri

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫شكري‬ ‫محمد‬ ‫صعلوك األدب الحديث‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫محمد شكري ‪ ..‬الكتاب الملعون‬ ‫اعداد ‪ :‬زينة الربيعي‬

‫ولد حممد �شكري �سنة ‪ 1935‬م يف �آيت �شيكر يف �إقليم الناظور �شمال املغرب‪.‬عا�ش‬ ‫طفولة �صعبة وقا�سية يف قريته الواقعة يف �سل�سلة جبال الريف‪ ،‬ثم يف مدينة طنجة‬ ‫التي نزح �إليها مع �أ�سرته الفقرية �سنة‪ 1942‬م‪.‬‬ ‫و�صل �شكري �إىل مدينة طنجة ومل يكن يتكلم بعد العربية‪ ،‬عم َل ك�صبي مقهى وهو‬ ‫دون العا�شرة‪ ،‬ثم عمِ َل حمّا ًال‪ ،‬فبائع جرائد وما�سح �أحذية ثم ا�شتغل بعد ذلك بائعًا‬ ‫لل�سجائر املهربة‪.‬‬ ‫انتقلت �أ�سرته �إىل مدينة تطوان لكن هذا ال�شاب الأمازيغي �سرعان ما عاد لوحده �إىل‬ ‫طنجة‪.‬‬ ‫مل يتعلم �شكري القراءة والكتابة �إال وهو ابن الع�شرين‪ .‬ففي �سنة ‪ 1955‬م قرر الرحيل‬ ‫بعيدًا عن العامل ال�سفلي وواقع الت�سكع والتهريب وال�سجون الذي كان غار ًقا فيه‬ ‫ودخل املدر�سة يف مدينة العرائ�ش ثم تخرج بعد ذلك لي�شتغل يف �سلك التعليم‪.‬‬ ‫يف �سنة ‪ 1966‬م ُن ِ�ش َرت ق�صته الأوىل العنف على ال�شاطئ يف جملة الأداب اللبنانية‪.‬‬ ‫ح�صل �شكري على التقاعد الن�سبي وتفرغ متامًا للكتابة الأدبية‪ .‬توالت بعد ذالك‬ ‫كتاباته يف الظهور‪.‬‬ ‫ا�شتغل حممد �شكري يف املجال الإذاعي من خالل برامج ثقافية كان يعدها ويقدمها يف‬ ‫�إذاعة البحر الأبي�ض املتو�سط الدولية (ميدي ‪ )1‬يف طنجة‪.‬‬

‫�أبرز �أعماله الأدبية‬ ‫ال�سرية الذاتية (‪� 3‬أجزاء)‪:‬‬ ‫اخلبز احلايف (‪ 1972‬م‪ ،‬ومل تن�شر بالعربية‬ ‫حتى �سنة ‪ 1982‬م)‬ ‫ ال�شطار زمن الأخطاء (‪ 1992‬م)‪.‬‬‫جمنون الورد (‪ 1979‬م)‬ ‫اخليمة (‪ 1985‬م)‬ ‫ال�سوق الداخلي (‪ 1985‬م)‬ ‫م�سرحية ال�سعادة (‪ 1994‬م)‬ ‫غواية ال�شحرور الأبي�ض (‪ 1998‬م)‬ ‫�إ�ضافة �إىل مذكراته مع جان جنيه وبول بوولز‪.‬‬

‫�أدبه‬

‫حتفل ن�صو�ص حممد �شكري ب�صور الأ�شياء اليومية‬ ‫وبتفا�صيلها الواقعية ومتنحها حي ًزا �شعريًا وا�سعًا‪ ،‬على‬ ‫عك�س الن�صو�ص التي تقوم ب�إعادة �صياغة �أفكار �أو قيم‬ ‫معينة ب�أمناط �شعرية معينة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ارتباطا‬ ‫�شخ�صيات �شكري وف�ضاءات ن�صو�صه ترتبط‬ ‫وثي ًقا باملعي�ش اليومي‪ .‬ويعترب �شكري "العامل الهام�شي"‬ ‫�أو "العامل ال�سفلي" ق�ضية للكتابة‪ ،‬فكتاباته تك�شف للقارئ‬ ‫عوامل م�سكوت عنها‪ ،‬كعامل البغايا وال�سكارى واملجون‬ ‫والأزقة الهام�شية الفقرية‪ ،‬وتتطرق ملو�ضوعات "حمرمة"‬ ‫يف الكتابة الأدبية العربية وبخا�صة يف روايته اخلبز‬ ‫احلايف �أو الكتاب امللعون كما ي�سميها حممد �شكري‪.‬‬ ‫حتتل مدينة طنجة حيزا مهما �ضمن كتابته‪ ،‬فقد كتب عن‬ ‫وجوهها املن�سية وظلمتها وعاملها الهام�شي الذي كان ينتمي‬ ‫�إليه يف يوم من الأيام‪.‬‬

‫‪Mohamed Choukri‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫محمد شكري‪:‬‬ ‫اعترافات طفولة‬ ‫مشاغبة‬ ‫�سيار اجلميل‬ ‫ادعو العامل لأن يكونوا مثلي ‪ ..‬فلي�س هناك �ألذ من قول ما يعلم"‬ ‫�شكري‬

‫هذا الروائي املغربي اال�ستثناء الذي اثار‬ ‫جدال وا�سعا يف الثقافة العربية املعا�صرة‬ ‫‪ ..‬هذا االن�سان الذي عا�ش حياته مبعنى‬ ‫�آخر كان هو نف�سه يدركه وي�ستمتع به ‪..‬‬ ‫هذا الرجل �صغري احلجم الذي ال تهمه‬ ‫االعتبارات والقوالب والروادع ‪ ..‬لأنه تعّلم‬ ‫كيف يكون لي�س حرا فح�سب ‪ ،‬بل متمردا‬ ‫من اجل قتل تاريخ مزيف ‪ ..‬هذا الذي مل‬ ‫يكن معروفا بعد عندما ر�أيته والتقيت‬ ‫به يف طنجة التي كنت امر بها لآعرب من‬ ‫خاللها او عرب �سبتة م�ضيق جبل طارق‬ ‫نحو ا�سبانيا ‪ ..‬كما لو كان طفال �شقيا يلهو‬ ‫ويلعب حتى بكلماته وتعابريه وال يتوانى‬ ‫يف ان يطلب منك ما ي�شاء ‪ ..‬هذا الذي‬ ‫ت�أخر انتاجه وابداعه كونه بقي ال يعرف‬ ‫القراءة والكتابة حتى بلغ الع�شرين من‬ ‫العمر ‪ ..‬هذا الذي ال يهمه ان يبيح جملة‬ ‫من املحظورات كونه ال يعرف الزيف وال‬ ‫كل ا�شكاله ! هذا الذي ال يهمه يف ان يقول‬ ‫ما ي�ؤمن به وما يعلمه وال تهمه عواقب ما‬ ‫يقول ‪ ..‬رمبا هذا ما اتذكره يف الراحل‬ ‫حممد �شكري الذي عرفته منذ ع�شرين �سنة‬ ‫رفقة ا�صدقاء من ادباء وفنانني مغاربة‬ ‫يل منهم ‪ :‬اليطيفتي عبيد وامل ّنظري جواد‬ ‫وبو�ستة عي�سى وزرهوين رحمة وغريهم‪.‬‬

‫من هو حممد �شكري؟‬

‫ولد ال�صديق املبدع حممد �شكري يف عام‬ ‫‪ 1935‬يف بني �شيكر ون�ش�أ طفال م�شاغبا‬ ‫ال يعرف اال�ستقرار ‪ ،‬ولكنه اي�ضا مل يعرف‬ ‫املدر�سة ومل يتعّلم القراءة والكتابة ! و�صل‬ ‫اىل طنجة وعمره �سبع �سنوات عندما جاء‬ ‫رفقة ا�سرته االمازيغية م�شيا على االقدام‬ ‫من جبال الريف املغربي‪ ،‬ومل يكن يعرف‬ ‫يتكلم اللغة العربية‪ ،‬ما و�ضعه يف م�أزق‬ ‫وحرية يف التوا�صل مع �أقرانه‪ .‬كان الفقر‬ ‫املدقع �سبب رحيلهم �إىل طنجة �سنة ‪،1942‬‬ ‫خ�صو�صا وان املجاعة قد �ضربت ندوبها‬ ‫م�سقط ر�أ�س �أ�سرته ‪ ،‬وبعد طنجة ذهبت‬ ‫�أ�سرته �إىل تطوان‪ ،‬لكنه هو نف�سه اختار‬ ‫العودة �إىل طنجة‪ ،‬لي�ستقر فيها مبفرده‪،‬‬ ‫وا�شتغل لفرتة يف التعليم معلما وكان‬ ‫يرى يف هذا املجال ا�سا�سا لبناء املجتمع‬ ‫�سيما والرتبية ال�سيئة التي تلقاها حممد‬ ‫�شكري من والده تركت يف نف�سه ندوبا‬ ‫هو و�إخوته و�سببت له ندوبا وجروحا !‬ ‫وحممد �شكري خري مثال للمعلم الذي �أبدع‬ ‫�أدبا رفيع امل�ستوى ‪ ،‬ولكن ال ا�ستطيع ان‬ ‫ّ‬ ‫اتخيل حممد �شكري معلما فمهنته اديبا‬ ‫متميزا ال معلما خامال !! انه خلق لالبداع‬ ‫والكلمة ‪ ..‬وقد �سمعت يف ما بعد ب�أن ر�ؤيته‬ ‫وطموحه قد حتققا ‪ ،‬فلقد غدت م�ؤلفاته عند‬ ‫�صدورها تعترب حدثا ثقافيا‪ ،‬كان يعتز ب�أنه‬ ‫كتب رواية (اخلبز احلايف) حيث �أكد ب�أنه‬ ‫كتب �سريته الذاتية بال جمد‪ ،‬على خالف‬ ‫البع�ض الآخر من الكتاب الذي يعترب �أن‬ ‫ال�سرية الذاتية يجب �أن تكتب يف نهاية‬ ‫�أدبية حافلة كتتويج �أدبي وتراثي ‪.‬‬ ‫لقد عانى املبدع حممد �شكري معاناة‬ ‫طويلة مع املر�ض‪ ،‬الذي مل ميهله طويال‬ ‫ليبقى مع ا�صدقائه فاهم ما لدى الرجل‬ ‫ا�صدقا�ؤه ‪ ،‬فهو ال يهمه اي �شيىء اال‬ ‫ا�صدقا�ؤه ‪ ،‬و�سمعت انه يف الفرتة التي‬ ‫ق�ضاها بني امل�ست�شفيات ما بني مدينتي‬ ‫طنجة والرباط عا�ش بكربياء‪ ،‬ك�أن املر�ض‬ ‫مل ينل منه ‪ ،‬وكنت ا�س�أل عنه واترقب‬ ‫اخباره بعد انقطاعها من ا�صدقائي القدماء‬ ‫حيث ظل يغالب املر�ض وهو يبت�سم �صادقا‬ ‫مع �أ�صدقائه وزمالئه ومرتجما �سريته‬ ‫ويوم االثنني ‪ 17‬كانون الثاين (نوفمرب)‬ ‫‪ ،2003‬انطف�أت �شمعة حياته بطنجة ويف‬ ‫حمفل رهيب كان العامل كله يطلب �شفاءه‬ ‫‪ ..‬ووري جثمانه الرثى مب�شاركة نخبة‬ ‫كبرية من الأدباء وال�شعراء والفنانني‬ ‫املغاربة و�شخ�صيات من رجال الدولة‬ ‫وال�سيا�سة والفن ‪ .‬ولقد كتبت عنه يف‬ ‫ت�أبينه بع�ض ما جادت ع ّلى ذاكرتي عنه‬ ‫اذ مل تزل �صورته القدمية مر�سومة عندي‬

‫‪3‬‬

‫وال ميكنها ان تنمحي ابدا ‪ ،‬ومل ازل‬ ‫اذكر تعليقاته ال�سريعة على تلك احلرب‬ ‫الدموية امل�أ�ساوية التي كانت تطحن كل من‬ ‫العراقيني وااليرانيني يف حمرقة كما كان‬ ‫ي�سميها بني فئتني حاكمتني غارقتني يف‬ ‫اوحال التطرف والتع�صب !!‬

‫ما م�ؤلفاته ؟‬

‫وميكننا التعرف على م�ؤلفات الروائي‬ ‫حممد �شكري التي من ا�شهرها ‪ :‬اخلبز‬ ‫احلايف من من�شورات لو�سوي ‪1981‬‬ ‫وقد ترجمها �إىل االنكليزية بول بولز �سنة‬ ‫‪ ،1973‬وترجمها �إىل الفرن�سية الطاهر‬ ‫بنجلون �سنة ‪ ..1981‬ويحكي فيها عن‬ ‫طفولته البائ�سة وعن املنفي‪ .‬وقد منعت‬ ‫هذه الرواية �أو ال�سرية الذاتية حتى حدود‬ ‫�سنة ‪ ! 2000‬وله ‪ :‬زمن الأخطاء وهو‬ ‫الق�سم الثاين من �سريته ‪ ،‬وهو م�ؤلفه‬ ‫الثاين الذي يقدم فيه بانوراما املراهق‬ ‫يتعلم العربية ويذهب �إىل املدر�سة ويف‬ ‫نف�س الوقت يخالط الطبقات ال�سفلى‬ ‫بطنجة‪ .‬ويكملها بكتاب ‪ :‬وجوه وهو‬ ‫يت�ضمن اجلزء الثالث من ال�سرية الذاتية‪.‬‬ ‫وكتب حممد �شكري‪ :‬املولع بالورد‬ ‫(جمموعة من الق�ص�ص)‪ ،‬ثم اعقبها بـ‬ ‫"اخليمة" (جمموعة من الق�ص�ص)‪ .‬وله‪:‬‬ ‫ال�سعادة ‪ ،‬وهي رواية م�سرحية‪ .‬وله‪:‬‬ ‫زوكو ال�صغري‪ .‬وجون جيني يف طنجة‪.‬‬ ‫وتني�سي وليامز ( مذكرات ) ‪ .‬وله غواية‬ ‫ال�شحرور الأبي�ض‪ .‬و�آخر ما ن�شر ‪ :‬زوكو‬ ‫ديفليز يف العام ‪ .1996‬هذا ما وقفت عليه‬ ‫من م�ؤلفات الرجل ‪ ،‬ورمبا كان قد ترك من‬ ‫بعده بني خزين اوراقه وم�سوداته ابداعات‬ ‫اخرى نتمنى ان يك�شف عنها يف امل�ستقبل‬ ‫لتكون بني ايدي النا�س ‪.‬‬

‫اخلبز احلايف واملغرب مزروع‬ ‫يف دمه‬

‫هذا الكتاب هو الذي ا�شهر حممد �شكري‬ ‫وخلق له جمده االدبي يف ال�ساحة العربية‬ ‫‪ ،‬وهو الكتاب الذي منعته دول وحكومات‬ ‫من ان يدخل اىل بلدانها ‪ ،‬فزاد من �شعبيته‬ ‫والدعاية له ! وهذا الكتاب هو الذي جعله‬ ‫حمظوظا جدا لكونه يعي�ش من مردودية‬ ‫كتاباته ‪ .‬وقد ارتبط كل من �إ�سم حممد‬ ‫�شكري وكتابه " اخلبز احلايف " مبدينة‬ ‫طنجة وكان ال يربح على مفارقتها‪ ،‬ما �أن‬ ‫يذهب �إيل مدينة �أخرى للم�شاركة يف لقاء‬ ‫ثقايف‪� ،‬سرعان ما يقفل عائدا �إليها‪ ،‬وهي‬ ‫احل�ضن الرحيم الذي يت�سع لكل �شغبه‬ ‫الطفويل‪ .‬قال يل مرة ونحن جنل�س يف‬ ‫واحدة من مقاهي طنجة وكان يلب�س قبعة‬ ‫خ�ضراء وا�سعة ال تتنا�سق مع مالب�سه‬ ‫القدمية وج�سمه النحيل ‪ :‬انني اختنق عند‬ ‫مغادرتي طنجة وال اعرف كيف اكتب ‪..‬‬ ‫انها عاملي الوا�سع كله ‪ ..‬هي التي �صنعت‬ ‫من خاليل اخلبز احلايف ‪ ..‬وكانت الرواية‬ ‫قد �صدرت حديثا ‪ ،‬وبد�أ النا�س يتحدثون‬ ‫عنها وك�أنه كان قد �أ ّرخ املجتمع ال�سفلي‬ ‫هناك ‪ ..‬لقد كان �شكله مثريا للجدل وقد‬ ‫و�صف يف روايته ذلك املجتمع بكل ما‬ ‫يزدحم فيه من الكائنات امل�سحوقة وكتل‬ ‫املهم�شني وخبايا علب الليل واملجانني‬ ‫واملقامرين والفنانني بكل كائناتها التي‬ ‫ال تعرف غري االلوان الليلية احلمراء ‪..‬‬ ‫وقد كان رائعا يف تو�صيف احلياة بكل‬ ‫و�ضوحها ‪..‬‬ ‫ويعترب رواية (اخلبز احلايف) ب�أنها كانت‬ ‫عالجا‪ ،‬بها ا�ستعاد توازنه النف�سي‪ ،‬لكن‬ ‫العديد من القراء مل ي�ست�سيغوا الأمر‪.‬‬ ‫وكانت ال�سلطات املغربية يف عام ‪1983‬‬ ‫قد منعت رواية (اخلبز احلايف)‪ ،‬وذلك‬ ‫بناء على عرائ�ض وقعها البع�ض من فئات‬ ‫املتزمتني‪ ،‬وبذلك اختفت رواية (اخلبز‬ ‫احلايف) من املكتبات والأك�شاك التي‬ ‫ت�شتهر املغرب بها لبيع الكتب او لكرائها‬ ‫(اذ ثمة عادة وجدتها يف املغرب االق�صى‬ ‫ان ي�ؤجر الكتاب اليام من اجل قراءته فقط‬

‫) ‪ ،‬وبالرغم من ذلك ظل الكتاب �أكرث قراءة‬ ‫من طرف املولعني ب�أدب حممد �شكري‪.‬‬ ‫وبال�سوق ال�سوداء كانت تباع وت�ؤجر‬ ‫ع�شرات االعداد من ن�سخ هذا الكتاب‪ ،‬بعدما‬ ‫مت ا�ستن�ساخها بوا�سطة الفوتوكوبي‪.‬‬ ‫وهذا �أمر كان اليعجب حممد �شكري لأن‬ ‫فيه ه�ضم حلقوقه املادية هو يف �أم�س‬ ‫احلاجة �إليها‪ .‬قال حممد �شكري ب�أن روايته‬ ‫( اخلبز احلايف ) الذي ا�سماه بالكتاب‬ ‫امللعون الذي ان مل يكتبه لأ�صيب باجلنون‬ ‫�أو انتحر‪ ،‬حيث كان وقت ذاك خارجا من‬ ‫حياة �صعبة للغاية ‪.‬‬

‫ما الذي اتذكره من حممد‬ ‫�شكري؟‬

‫مل ا�شعر باهمية حممد �شكري اال بعد ان‬ ‫ت�أملت �سريته الغريبة التي قر�أتها بعد‬ ‫ان التقيت به لأكرث من مرة ‪ ..‬واعتقد انه‬ ‫الروائي العربي الوحيد الذي متتع بقدر‬ ‫ي�صرح بكل �شيء‬ ‫عال من ال�شفافية يف ان ّ‬ ‫وال يخفي اي �شيء ‪ ،‬فهو �صاحب قلب‬ ‫وعقل مفتوحني بكل نوافذهما على طنجة‬ ‫‪� ..‬سمعت منه بعد اعتزازه بطنجة كمدينة‬ ‫متو�سطية �ساحرة مفتونة بالنا�س والعامل‬ ‫‪ ..‬كذلك حبه لال�سبانية وللثقافة اال�سبانية‬ ‫واللغة اال�سبانية التي كان يجيد العمل بها‬ ‫اجادة تامة ‪ .‬يف تلك املرحلة يف منت�صف‬ ‫الثمانينيات وجدته ال يثري االنتباه اال‬ ‫عندما يتكلم ! جادلته مب�س�ألة العروبة فقال‬ ‫ما عنده عنها ‪ ،‬وقد ثبت �صدق طويته فهناك‬ ‫من يتحول عن مثاليتها و�سموها لكي يغدو‬ ‫متوح�شا ومفرت�سا حتت مظلة �شوفينيتها‬ ‫كما هو حال االحزاب الفا�شية يف امل�شرق‬ ‫– على حد تعبريه ‪ ! -‬كان ي�ستمع يل وانا‬ ‫احلل ق�سمات من اخلبز احلايف ‪ ،‬وقال ‪:‬‬ ‫�ساعيد �أ�سطرتها من جديد عرب ر�ؤية كالتي‬ ‫ي�شتهيها النقاد ‪ ..‬كان ينظر اىل ا�صحابه‬ ‫وحمبيه وحتى نقاده بعيني طفل يريد ان‬ ‫ي�ستزيد ولكنه دوما يذكرنا بريفيته التي‬ ‫يعتز بها اعتزازا ‪ ،‬ولكن كان يكره املجاعة‬ ‫واخلوف ‪ ..‬ومل تختف طنجة ابدا عن‬ ‫ل�سانه ‪ ،‬ويكاد يفخر بها كونه اطلقها من‬ ‫حملية قابعة على �شواطىء م�ضيق اىل‬ ‫افاق العامل الرحبة من خالل كتاباته ‪..‬‬ ‫انه ي�شتهيها ك�أمر�أة رائعة تقف عند نهاية‬ ‫ن�سوة يختلفن عنها ‪ ..‬لقد جعل �شكري من‬ ‫طنجة امر�أة حرة ولها ان�سانيتها ال جمرد‬ ‫�سلعة تباع وت�شرى كما يريدها البع�ض من‬ ‫املتحجرين املتبلدين‪ ...‬او كما اردوا لها‬ ‫ان تكون ! قلت له و�شاركني اال�صدقاء من‬ ‫�شباب مغربي متح ّفز ومثقف ‪ :‬كنت جريئا‬ ‫يا �شكري يف تو�صيف اجلانب املخفي من‬ ‫تفكري االن�سان ‪ ..‬انتع�ش وقال ‪ :‬الي�س‬ ‫تلك دالة �ستح�سب يل يف الكتابة االدبية‬ ‫العربية ‪ .‬قلت له ‪ :‬بلى ‪ ..‬عّقب ب�سرعة‬ ‫‪ :‬وان مل يتقبلها ادباء ونقاد ووعاظ‬ ‫ومتقلدون ومتزمتون ‪ ..‬ف�سيتقبلها انا�س‬ ‫لي�س من هذا الزمن ! وهنا �شعرت ب�أن‬ ‫للرجل اح�سا�سا كبريا بالزمن خ�صو�صا‬ ‫ي�سمي " الكتابة " بـ " اليومي " ‪ .‬انني‬ ‫وانه ّ‬ ‫احيي هذا الرجل الذي رحل عن الدنيا قبل‬ ‫ا�شهر اذ مل ميهله املر�ض ان يكمل عطاءه‬ ‫الرائع وهو ي�ستجيب زمانا ومكانا من ذلك‬ ‫التاريخ الفظ الذي نه�ش طفولته ‪ ..‬ولقد‬ ‫رحل معه ذلك االح�سا�س العميق بالواقع‬ ‫الذي كان ميقت ازوراره وزيفه وكل من‬ ‫يلعب على تناق�ضاته الفظة ‪ .‬و�ستبقى‬ ‫�إجنازاته الأدبية الرائعة بب�ساطتها‬ ‫وتلقائيتها تفاجئ القارئ حيث اليتوقع‬ ‫مطلقا بكثافات �شعرية تلتمع هنا وهناك‪..‬‬ ‫كما تلتمع عينا هذا ال�صقر الريفي الذي‬ ‫يحلق بهدوء خارج زمنه فوق �سماء طنجة‪.‬‬ ‫واخريا اقول �أن ا�سم حممد �شكري �سيبقى‬ ‫عالمة فارقة يف االدبيات التي ابدعها‬ ‫العرب يف القرن الع�شرين ‪ ..‬و�سيبقى ذكره‬ ‫يدور على �أل�سنة االجيال ‪.‬‬ ‫(ف�صل من كتاب الدكتور �سيّار اجلميل‪ ،‬ن�سوة‬ ‫ورجال ‪ :‬ذكريات �شاهد الر�ؤية – قيد الن�شر)‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫�������ري‪..‬‬ ‫�‬ ‫�������ك‬ ‫�‬ ‫ش‬ ‫ق� � �ض � ��اي � ��ا وإش� � �ك � ��ال� � �ي � ��ات‬

‫اإلنغماس في دم الحياة‬

‫د‪ .‬غالب �سمعان‬ ‫�إن �سرية حياة الروائي العربي املغربي‬ ‫حممد �شكري (‪� ،)1935-2003‬سرية‬ ‫تنطوي على عن�صر املفاج�أة‪ ،‬لكل من‬ ‫يطلع عليها‪ ،‬واملق�صود هنا ال�سرية‬ ‫الذاتية املكتوبة بقلم الكاتب‪ ،‬واملعرو�ضة‬ ‫يف كتابيه املهمني (اخلبز احلايف)‬ ‫و(ال�شطار)‪ ،‬وعن�صر املفاج�أة يت�أتى‬ ‫من ال�صراحة ال�شاملة التي حتدث بها‬ ‫الروائي‪ ،‬وما من �ضري يف هذا‪ ،‬وهو‬ ‫يحدثنا عن مطالع حياته‪ ،‬وما رافقها‬ ‫من ت�شرد واغرتاب‪ ،‬وانكباب على‬ ‫التدخني واخلمر‪ ،‬والعالقات اجلن�سية‪،‬‬ ‫واحل�شي�ش والكيف‪ ،‬يف بيئة مدينة طنجة‬ ‫على الأخ�ص‪� ،‬إ�ضافة �إىل مدن تطوان‬ ‫والعرائ�ش ووهران‪ ،‬يف الع�شرين عاما‬ ‫التي �سبقت ح�صول املغرب على ا�ستقالله‪،‬‬ ‫ورحيل القوات الفرن�سية والأ�سبانية عن‬ ‫�أرا�ضيه‪ .‬وال�سرية الذاتية يلفها الب�ؤ�س‪،‬‬ ‫الذي يتفاقم �إىل �أن ي�صل �إىل درجات غري‬ ‫متوقعة‪ ،‬فاحلرمان واجلوع وال�شقاء‬ ‫الب�شري‪ ،‬تتطاول كلها �إىل حدود �أليمة‬ ‫وفاجعة‪ ،‬والروائي حممد �شكري يحيا‬ ‫يف هذه البيئة‪� ،‬سنوات حياته الأوىل‪،‬‬ ‫ويعاين معاناة هائلة من اجلوع والت�شرد‪،‬‬ ‫والقهر االجتماعي‪� ،‬إ�ضافة �إىل املر�ض‪،‬‬ ‫والظلم الذي يلقاه من �أبيه‪ ،‬الطاغية‬ ‫املتحكم يف �ش�ؤون الأ�سرة‪ ،‬حتكما فظا‪،‬‬ ‫وال مربر له‪ ،‬على �أن ظاهرة الب�ؤ�س الذي‬ ‫تعاين منه البيئة‪ ،‬التي ن�ش�أ فيها الروائي‪،‬‬ ‫ومعاناته الذاتية من الب�ؤ�س‪ ،‬تظل‬ ‫الظاهرة الأبرز‪ ،‬واملعاناة ذاتها طويلة‬ ‫الأمد‪ ،‬ولن يكون بالإمكان ن�سيانها‪� ،‬أو‬ ‫جتاهل ت�أثرياتها‪ .‬ويف �أحد الن�صو�ص‪،‬‬ ‫ي�صف الروائي تفاقم الب�ؤ�س �إىل درجة‬ ‫م�ؤثرة‪ ،‬وقادرة على تغيري النموذج‬ ‫الب�شري‪ ،‬من الداخل‪ ،‬تغيريا نوعيا‪ ،‬لكن‬ ‫رف�ض الب�ؤ�س املفرو�ض على الواقع‪ ،‬يظل‬ ‫موقفا �إن�سانيا قائما‪ ،‬وحممد �شكري ينفر‬ ‫منه‪ ،‬ومن مظاهره كافة‪ ،‬التي تت�ضمن‬ ‫اجلهل واحلرمان‪ ،‬واجلوع واملر�ض‪،‬‬ ‫وهو يطمح يف بداية الع�شرينيات من‬ ‫عمره‪� ،‬إىل تعلم القراءة والكتابة‪ ،‬والتطهر‬ ‫من العفن الب�شري‪ ،‬الذي عاينه يف حياة‬ ‫الت�شرد‪ ،‬والتنقل بني الأعمال املختلفة‪،‬‬ ‫وت�صريف الوقت يف احلانات واملواخري‪،‬‬ ‫والبديل الذي يطمح �إليه‪ ،‬يعني ت�أ�سي�س‬ ‫حياة اجتماعية‪ ،‬ينتفي فيها اال�ستغالل‬ ‫واجلهل‪ ،‬وت�شيع فيها الوفرة‪ ،‬والقدرة‬ ‫على العي�ش باطمئنان و�أمان‪ .‬على �أن‬ ‫احلياة البائ�سة تبدو‪ ،‬لدى كثريين‪،‬‬ ‫مطلوبة لذاتها‪ ،‬ويف هذه الأحوال تختار‬ ‫الإرادة الب�شرية م�صريها بذاتها من من‬ ‫دون �أن تكون احلياة البائ�سة مفرو�ضة‬ ‫عليها من عل‪ ،‬ومرتافقة مع االنحطاط‬ ‫والتخلف‪ ،‬على امل�ستوى االجتماعي‪،‬‬ ‫وغريه من امل�ستويات احلياتية‪ ،‬فال�شاعر‬ ‫العربي العراقي �أحمد ال�صايف النجفي‬ ‫(‪ )1894-1977‬يحيا حياة زاهدة متاما‪،‬‬ ‫وهو يتغنى بالب�ؤ�س‪ ،‬وال ينفر منه‪،‬‬ ‫وم�شروعه الأدبي يهدف �إىل تر�سيخ القيم‬ ‫الأخالقية‪ ،‬وتوطيد �أركانها‪ ،‬وهو ينطوي‬ ‫على �إيثارية تامة‪ ،‬غري �أن هذا كله اختيار‬ ‫حر‪ ،‬والب�ؤ�س غري مفرو�ض على الإرادة‪،‬‬ ‫على ما هو عليه احلال يف �سرية حممد‬ ‫�شكري الذاتية‪ ،‬ولدى ال�شاعر العربي‬

‫اللبناين فوزي املعلوف (‪،)1899-1930‬‬ ‫يبدو �أن الإح�سا�س الفاجع بالب�ؤ�س‪ ،‬هو‬ ‫الدافع الذي �أملى عليه ق�صيدته امللحمية‬ ‫اخليالية (على ب�ساط الريح)‪ ،‬وبالطبع‬ ‫ال ي�سع املرء �إال �أن يتعاطف مع املعاناة‬ ‫الب�شرية‪ ،‬من دون �أن يكون التعاطف نوعا‬ ‫من الإح�سان الأناين‪ ،‬و�أكرث من هذا‪،‬‬ ‫ف�إن املفكر والعامل الفرن�سي بليز با�سكال‬ ‫(‪ ،)1623-1662‬يقرر �أن الإن�سان بائ�س‬ ‫دائما و�أبدا‪ ،‬وهو عظيم لأنه على دراية‬ ‫بالب�ؤ�س‪ ،‬الذي ي�ستبطن احلياة‪ ،‬وهو‬ ‫املفكر الذي ن�ش�أ يف عائلة على جانب من‬ ‫الي�سار‪ ،‬و�أتيحت له فر�صة التعلم الباكر‪،‬‬ ‫وفر�صة �إظهار ملكاته العلمية والفكرية‪،‬‬ ‫من دون وجود عوائق ذات وزن كبري‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل قدرته على التمتع باحلياة‪،‬‬ ‫وارتياد ال�صالونات الأدبية والفكرية‪،‬‬ ‫والتعرف �إىل جمهرة من الأدباء‪ ،‬العاملني‬ ‫يف هذا احلقل‪ .‬ويف �سرية حممد �شكري‬ ‫الروائية �إ�شارة �إىل عامل فردو�سي‪ ،‬تعم‬ ‫فيه ال�سعادة‪ ،‬وينتفي منه كل معلم من‬ ‫معامل ال�شقاء‪ ،‬وهذه الإ�شارة من �صنع‬ ‫اخليال‪ ،‬ويف البيئة ال�شعبية التي ن�ش�أ‬ ‫فيها‪� ،‬سيكون ب�إمكان اجلماعة التي ينتمي‬ ‫�إليها‪� ،‬أن حتول اخليال �إىل واقع‪ ،‬بطريقة‬ ‫�أو ب�أخرى‪ ،‬وهو ما يبدو يف الن�ص الذي‬ ‫يتطرق فيه الكاتب‬ ‫�إىل احلفالت‪ ،‬التي‬ ‫اعتاد �أبناء الطبقة‬ ‫ال�شعبية �إقامتها‬ ‫يف الب�ستان‪ ،‬كل‬ ‫�أ�سبوع‪ ،‬والكاتب‬ ‫ي�صف امل�شهد ب�أنه‬ ‫"اجلنة" وثمة‬ ‫ا�ستعانة باحللم‬ ‫�أي�ضا‪ ،‬من �أجل‬ ‫تخفيف املعاناة‪� ،‬إال‬ ‫�أن ظاهرة التخيل‬ ‫واحللم ال تتخذ‬ ‫لنف�سها اجتاها‬ ‫ثابتا‪ ،‬ينطلق‬ ‫باجتاه اخلال�ص‪،‬‬ ‫من دون انزالقات‬ ‫وتعرثات‪ ،‬والأهم من هذا‪ ،‬هو �إدراك‬ ‫الرتدي الذي تنطوي عليه حياة الت�شرد‬ ‫واجلهل‪ ،‬وطموح الكاتب �إىل بناء حياة‬ ‫�أف�ضل‪ ،‬تتحقق فيها العدالة االجتماعية‪،‬‬ ‫وحتفظها القيم الأخالقية من االنحطاط‬ ‫والرتدي‪.‬‬ ‫ومما ي�ستحق التوقف عنده يف �سرية‬ ‫حممد �شكري الروائية‪ ،‬العالقة املختلة‬ ‫التي ربطته بوالده‪ ،‬والتي تركت �إ�ضافة‬ ‫�إىل حياة الت�شرد واحلرمان‪� ،‬أكرب الأثر‬ ‫عليه‪ ،‬فالوالد الذي يف�شل يف �أداء واجبه‬ ‫الرتبوي‪ ،‬يف ظل الظروف البائ�سة‪،‬‬ ‫ميار�س على ابنه وزوجته طغيانا فجا‪،‬‬ ‫وهو يعمد �إىل �ضربهما بعنف‪� ،‬إىل حد‬ ‫الإيذاء ال�شديد‪ ،‬و�أكرث من هذا‪ ،‬ف�إنه يقتل‬ ‫ابنه الآخر عبد القادر‪ ،‬ملجرد �أنه يبكي‬ ‫حتت وط�أة اجلوع ال�شديد‪ ،‬والروائي‬ ‫يذكر هذه الواقعة‪ ،‬يف بداية �سريته‬ ‫الذاتية‪ ،‬ويف ن�صو�ص تالية يذكر موا�صلة‬ ‫والده ل�سلوكه الطغياين‪ ،‬واعتماده‬ ‫ال�ضرب العنيف‪ ،‬و�سيلة من �أجل قهره‪،‬‬ ‫وقهر والدته‪ ،‬من دون �أن يكون لهذا‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ال�سلوك ما يربره‪ ،‬اللهم �إال االختالل الذي‬ ‫يعاين منه هذا الرجل‪ ،‬و�إن الت�أثري الذي‬ ‫يرتكه على ابنه غري قابل للزوال‪ ،‬وما من‬ ‫م�صاحلة على الإطالق‪ ،‬فالإيذاء تطاول‬ ‫�إىل حد كبري‪ ،‬ولن تكون امل�صاحلة ممكنة‬ ‫�أبدا‪ ،‬وكان املفكر الإيطايل جياكومو‬ ‫ليوباردي (‪ ،)1798-1837‬قد عانى‬ ‫من ا�ستخفاف والديه مبقدراته‪ ،‬ما �أدى‬ ‫�إىل �إيذائه �إيذاء معنويا عميقا‪ ،‬وعندما‬ ‫تبني �أنه كاتب ومفكر من الطراز الرفيع‪،‬‬ ‫كانت �إمكانية امل�صاحلة مع الوالدين قد‬ ‫زالت متاما‪ .‬ويف هذه احلالة �أي�ضا‪ ،‬ثمة‬ ‫�إرادة تفر�ض ذاتها على �إرادة الروائي‬ ‫حممد �شكري‪ ،‬وهو يحاول التخل�ص‬ ‫منها‪ ،‬واال�ستقالل ب�إرادته بعيدا عنها‪،‬‬ ‫ويف رواية (�إيفالونا)‪ ،‬للروائية الت�شيلية‬ ‫�إيزابيل �ألليندي‪ ،‬يعامل لوكا�س كاردييه‬ ‫�أبناءه وزوجته بعنف بالغ‪ ،‬ويفر�ض‬ ‫عليهم طغيانه الفج‪ ،‬وعلى التالميذ الذين‬ ‫يدر�سهم يف املدر�سة‪ ،‬وهم يتكاتفون من‬ ‫�أجل اخلال�ص من طغيانه‪ ،‬ويقتلونه يف‬ ‫�أثناء قيامهم بالرحلة ال�سنوية �إىل الغابة‪.‬‬ ‫والظاهرة على امل�ستوى ال�سيكولوجي‪،‬‬ ‫ال تختلف عن ظاهرة الطاغية الذي يتحكم‬ ‫يف �ش�ؤون جماعة معينة‪ ،‬وبالطبع ف�إن‬ ‫الروائي يتجاوز والده �إىل م�ستويات �أنبل‬ ‫من الناحية االجتماعية واملعرفية‪ ،‬واملرء‬ ‫يتمنى دائما‪� ،‬أن تكون الإجنازات التي‬ ‫يقوم بها ال�سابقون �أكرث رقيا‪ ،‬كي تكون‬ ‫�إجنازات الالحقني �أعظم منها و�أرقى‪،‬‬ ‫فاملعري (‪ ،)973-1058‬الذي تلقى عن‬ ‫والده املعرفة والعلم‪ ،‬وتطبع بالأخالقية‪،‬‬ ‫تطبعا عميقا‪ ،‬تابع امل�شروع الأخالقي الذي‬ ‫انتهى بوالده‪ ،‬وتخطاه �إىل عوامل �أبعد‬ ‫من الأخالق ذاتها‪ ،‬يف بع�ض من ق�صائده‪،‬‬ ‫وهنا ي�شعر املرء باالرتياح وال�سرور‪،‬‬ ‫فاالنتقال من حالة جيدة �إىل حالة �أجود‪،‬‬ ‫ال يتم �إال عندما تنتفي املعوقات البيئية‪،‬‬ ‫التي كان على الروائي حممد �شكري �أن‬ ‫يعاين منها‪.‬‬ ‫ويف ال�سرية الذاتية‪ ،‬ثمة تو�صيف لطبقة‬ ‫اجتماعية واحدة‪ ،‬هي الطبقة ال�شعبية‪،‬‬ ‫التي انتمى �إليها الكاتب انتماء تاما‪،‬‬ ‫وثمة �إ�شارات �إىل الطبقة الأغنى‪ ،‬على �أن‬ ‫الكاتب ظل على وفائه للطبقة ال�شعبية‪،‬‬ ‫ويف ن�صو�ص عدة يحاول تتبع �أخبار‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ،‬التي التقى بها‪ ،‬تتبعا داال‬ ‫على اهتمامه مب�صائرها‪ ،‬وتعاطفه مع‬ ‫�أحوالها‪ ،‬وما �آلت �إليه‪ ،‬ويبدو �أن الأحداث‬ ‫كلها‪ ،‬تنتمي �إىل دائرة املتحول والعابر‪،‬‬ ‫من دون �أن تكون هناك قدرة على جتاوز‬ ‫هذه الدائرة‪ ،‬والنماذج الب�شرية املحكومة‬ ‫داخلها‪ ،‬غري قادرة على اكت�شاف حقائق‬ ‫حياتية‪� ،‬أعمق مما هو متحول وعابر‪،‬‬ ‫وهي ال تعرب تعبريا جليا عن توقها �إىل‬ ‫ما هو دائم وثابت‪ .‬ويف هذه الأجواء‬ ‫البائ�سة‪ ،‬لن يكون بالإمكان �إغفال الدور‬ ‫الذي قام به اال�ستعمار‪ ،‬ممثال يف القوات‬ ‫الفرن�سية والأ�سبانية‪ ،‬وهو الدور الذي‬ ‫�أدى �إىل التخلف واجلهل والب�ؤ�س‪،‬‬ ‫وتردي الأحوال باجتاه املجاعة‪ ،‬واملعاناة‬ ‫الأليمة‪ ،‬والكاتب يتحدث ب�صراحة‪ ،‬عن‬ ‫عالقاته الغرامية‪ ،‬وجتاربه اجلن�سية‪،‬‬ ‫وكلها عالقات وجتارب عابرة‪ ،‬وما من‬ ‫�إمكانية لوجود �صيغ من احلب املثايل‪،‬‬

‫‪5‬‬

‫على �أن الكاتب يحاول االرتقاء بحبه‪� ،‬إىل‬ ‫م�ستويات �أنبل على الدوام‪ ،‬ولكنه يرف�ض‬ ‫احلب املثايل‪ ،‬واحلب العذري‪ ،‬وما من‬ ‫�ضري يف هذا‪ ،‬فاحلب ال�شهوي هو املنفذ‬ ‫الوحيد الذي تبقى‪ ،‬من �أجل اقتنا�ص قدر‬ ‫من ال�سعادة واملتعة‪ ،‬والبيئة التي تفر�ض‬ ‫عليه اللجوء �إىل العنف‪ ،‬تدفعه بقوة‬ ‫باجتاه �إقامة عالقات غرامية‪ ،‬وباجتاه‬ ‫تعاطي اخلمر واحل�شي�ش والكيف‪� ،‬إال �أن‬ ‫العنف يظل من �أجل الدفاع عن النف�س‪،‬‬ ‫فالكاتب ال يعتدي على �أحد‪ ،‬وهو يدافع‬ ‫عن نف�سه‪ ،‬عندما يعتدي عليه �أحدهم‪� ،‬أي‬ ‫�أنه العنف الذي ال يرتافق مع �أي ارتياح‬ ‫�أو ر�ضى‪� ،‬أما العالقات الغرامية فلها‬ ‫متعها‪ ،‬وكل �شيء يف البيئة‪ ،‬يدفع باجتاه‬ ‫االحتفاظ بالقوتني الغ�ضبية وال�شهوية‪،‬‬ ‫مع �إعمال العقل‪ ،‬من �أجل حتقيق الغلبة يف‬ ‫ال�صراع من �أجل البقاء‪ ،‬يف تلك الأجواء‬ ‫القا�سية‪ ،‬والواقع �أن كل �شيء كان يدفع‬ ‫باجتاه حتفيز القوى‪ ،‬و�إبقائها م�ستنفرة‬ ‫ومتيقظة‪ ،‬ويف الن�ص الروائي‪ ،‬ال يبدو‬ ‫�أن حممد �شكري قد متكن بحكم الظروف‪،‬‬ ‫من جتاوز احلب العابر‪� ،‬إىل نوع �أكرث‬ ‫ت�ساميا‪ ،‬على �أنه ك�أي �إن�سان ظل متعلقا‬ ‫يف قرارة نف�سه‪ ،‬مبا هو عظيم ونبيل‪،‬‬ ‫والظاهرة موجودة على نطاق وا�سع‪،‬‬

‫يف ال�سرية الذاتية‪ ،‬ثمة تو�صيف‬ ‫لطبقة اجتماعية واحدة‪ ،‬هي‬ ‫الطبقة ال�شعبية‪ ،‬التي انتمى �إليها‬ ‫الكاتب انتماء تاما‪ ،‬وثمة �إ�شارات‬ ‫�إىل الطبقة الأغنى‪ ،‬على �أن الكاتب‬ ‫ظل على وفائه للطبقة ال�شعبية‪،‬‬ ‫ويف ن�صو�ص عدة يحاول تتبع �أخبار‬ ‫ال�شخ�صيات‪ ،‬التي التقى بها‪ ،‬تتبعا داال‬ ‫على اهتمامه مب�صائرها‪ ،‬وتعاطفه‬ ‫مع �أحوالها‪ ،‬وما �آلت �إليه‪ ،‬ويبدو‬ ‫�أن الأحداث كلها‪ ،‬تنتمي �إىل دائرة‬ ‫املتحول والعابر‪،‬‬

‫ف�ألفرد دو مو�سيه (‪ ،)1810-1857‬ال�شاعر‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬يندفع وراء العالقات الغرامية‬ ‫العابرة‪ ،‬ويحيا حياة تنطوي على املعاناة‬ ‫واملرارة‪ ،‬وعلى ا�ستعذاب الأمل‪ ،‬ويف‬ ‫قرارة نف�سه‪ ،‬ينظر �إىل عالقته الغرامية‬ ‫مع الكاتبة الفرن�سية الرومانتيكية جورج‬ ‫�صاند (‪ ،)1804-1876‬باعتبارها احلب‬ ‫الأعظم والأنبل يف حياته‪ ،‬وجربان خليل‬ ‫جربان (‪ ،)1883-1931‬الذي �أن�شاء‬ ‫عالقات غرامية متعددة‪ ،‬توقف حتديدا‬ ‫عند حبه املثايل ل�سلمى كرامة‪ ،‬واعتربه‬ ‫احلب الذي ينبغي تخليده وت�أبيده‪ .‬ويف‬ ‫تلك الفرتة من حياته‪ ،‬مل يكن �أمام الروائي‬ ‫حممد �شكري خيارات كثرية‪ ،‬ومن‬ ‫الطبيعي �أن يهتم ب�شاعر كمهيار الديلمي‬ ‫(تويف ‪ ،)1036‬وان يحفظ ق�صيدة غزلية‬ ‫من نظمه‪ ،‬عن ظهر قلب‪ ،‬من دون �أن يعري‬ ‫اهتماما كبريا ل�شاعر فيل�سوف ك�أبي العالء‬ ‫املعري‪ ،‬هذا �إ�ضافة �إىل �أن مهيار الديلمي‬ ‫�أقرب �إىل القاع االجتماعي‪ ،‬وهو الذي‬ ‫كتب يف الغزل الوجداين الرقيق‪ ،‬والرثاء‬ ‫واالخوانيات‪ ،‬والعتاب و�شكوى الزمان‪،‬‬ ‫ويف و�صف الإ�سطرالب والطبل‪ ،‬وال�سمك‬ ‫وال�شمع‪.‬‬ ‫ومما مييز الطبائع ال�شعبية التي يتحدث‬ ‫عنها الروائي حممد �شكري‪ ،‬حماوالتها‬ ‫االرتقاء بواقعها وذواتها‪ ،‬وانطوائها‬ ‫على القيم الأخالقية‪� ،‬إ�ضافة �إىل مظاهر‬ ‫ترديها يف كثري من الأحيان‪ ،‬وهي‬ ‫املظاهر التي يرف�ضها‪ ،‬رف�ضا تاما‪ ،‬وال‬ ‫ي�ستطيع تقبلها‪ ،‬فاالنحدار وجتلياته‪ ،‬على‬ ‫امل�ستويني اجل�سماين والنف�ساين‪ ،‬ينفر‬ ‫الروائي تنفريا عميقا‪ .‬وعلى م�ستوى‬ ‫القوة ال�شهوية‪ ،‬كان عليه �أن يدخل يف‬ ‫مواجهات عنيفة مع عدد من ال�شاذين‬ ‫جن�سيا‪� ،‬أما على م�ستوى القوة الغ�ضبية‪،‬‬ ‫فال يبدو �أن الروائي ممن يقرون �أعمال‬ ‫ال�شغب‪ ،‬والقتل الع�شوائي‪ ،‬وبالرغم‬ ‫من �أن مقارعة اال�ستعمار واجب وطني‪،‬‬ ‫�إال �أن االنحراف باجتاه �أعمال القتل‪،‬‬ ‫التي تطفو من خاللها الأميال الوح�شية‬ ‫الب�شرية‪ ،‬تظل مما هو مرفو�ض‪ ،‬والكاتب‬ ‫ذاته يف �إحدى مواجهاته‪ ،‬يذهب يف‬ ‫هذا االجتاه‪ ،‬يف �سياق دفاعه عن نف�سه‪،‬‬ ‫ورف�ضه ملا هو �شاذ يف الطبيعة الب�شرية‪،‬‬ ‫وبالرغم من �أن �إمكانية تربير احلدث‬ ‫ممكنة‪� ،‬إال �أنه ينتهي بانخراطه يف‬ ‫البكاء‪ ،‬مما يعني ترفعه عما هو غري الئق‬ ‫ب�إن�سانية الإن�سان‪ ،‬من الناحية اجلوانية‬ ‫النف�سانية‪ .‬و�أمام واقعية الرتدي الب�شري‪،‬‬ ‫هناك اعرتاف باملهمة التي يتوجب على‬ ‫الفن القيام بها‪ ،‬من �أجل �إعالن اجلمال‬ ‫كبديل للقبح‪ ،‬على ما هو عليه احلال‬ ‫لدى ال�شاعر الفرن�سي �شارل بودلري‬ ‫(‪ ،)1821-1867‬على �أن ال�سعادة تظل‬ ‫وهما‪ ،‬وهو ما يقرره الكاتب‪ ،‬يف حوار‬ ‫له مع واحدة من ع�شيقاته العابرات‪،‬‬ ‫فاملعاناة حقيقة جوهرية‪ ،‬والأخالق والفن‬ ‫واملتع احلياتية‪ ،‬لها دورها الإيجابي‪ ،‬على‬ ‫امل�ستويني االجتماعي والفردي‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫ف�إن ال�سعادة تظل بعيدة املنال‪ ،‬وعلى املرء‬ ‫�أن يحيا احلياة‪ ،‬وما من �سبيل �آخر �أمامه‪،‬‬ ‫وعليه �أي�ضا �أن يت�صالح مع ذاته‪ ،‬ومع‬ ‫املدينة التي ينتمي �إليها‪ ،‬ومع العامل على‬ ‫ما هو عليه‪.‬‬

‫هذا الكاتب املغربي "الرجيم"‪ ،‬كقول ناقد‬ ‫ن�صه على هتك ال�ستائر‬ ‫ما‪ ،‬الذي �أوقف َّ‬ ‫والأحجبة عن �أدب البوح الإن�ساين‪ ،‬جاع ً‬ ‫ال‬ ‫�إ َّياه يح ّلق يف ف�ضاءات غري م�ألوفة يف �أدبنا‬ ‫العربي املعا�صر‪.‬‬ ‫لو كان حممد �شكري كتب "اخلبز احلايف"‬ ‫فقط (وهو الكتاب الأول من �سريته الذاتية‬ ‫الروائية) لكفاه ذلك من جملة الأ�سباب التي‬ ‫ت�ؤهل لدخول "نادي املبدعني الكبار" عرب‬ ‫�أو�سع الأبواب‪ ،‬فما بالك والأمر لي�س على هذا‬ ‫النحو؟‬ ‫ولد �شكري يف جبال "الريف" يف املغرب‬ ‫(يقول البع�ض �إنه ولد يف ‪ 1935‬ويقول البع�ض‬ ‫جمرد‬ ‫الآخر �إن مولده كان يف ‪ ،1940‬ويف‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ما يدل على جانب من م�شكلية حياته‬ ‫و�شخ�صيته اخلالفية)‪� .‬إثر جماعة �إنتقلت‬ ‫عائلته اىل طنجة‪ ،‬حيث ظل يقيم حتى �آخر‬ ‫�أيامه‪ .‬دخل املدر�سة ب�شكل مت�أخر‪ ،‬يف �أواخر‬ ‫العقد الثاين من عمره‪ .‬ون�شر �أول ق�صة يف‬ ‫جملة "الآداب" البريوتية يف ‪ 1966‬وعنوانها‬ ‫"العنف على ال�شاطىء"‪ .‬ترجمت �أغلب‬ ‫�أعماله اىل العديد من اللغات العاملية‪.‬‬

‫�أنطوان �شلحت‬

‫�صدر له ‪":‬جمنون الورد"‪ ،‬ق�ص�ص (‪" ،)1979‬اخلبز احلايف"‪،‬‬ ‫�سرية ذاتية روائية (‪" ،)1983‬اخليمة"‪ ،‬ق�ص�ص (‪،)1985‬‬ ‫"ال�سوق الداخلي"‪ ،‬رواية (‪" ،)1985‬زمن الأخطاء"‪ ،‬رواية‬ ‫(‪ُ ،)1992‬‬ ‫"ال�ش َّطار"‪� ،‬سرية ذاتية روائية (‪" ،)1994‬ال�سعادة"‪،‬‬ ‫م�سرحية (‪" ،)1994‬غواية ال�شحرور الأبي�ض"‪ ،‬ن�صو�ص‬ ‫جتربة مع القراءة والكتابة (‪ .)1998‬كما �صدر له يف باب‬ ‫املذكرات ‪" :‬جان جينيه يف طنجة"‪" ،‬بول بولز وعزلة طنجة"‪،‬‬ ‫"تين�سي وليامز يف طنجة"‪.‬‬ ‫يف �سنة ‪� 2000‬صدرت الرتجمة العربية لكتاب "اخلبز‬ ‫احلايف" عن من�شورات "�أندل�س"‪ ،‬بادارة ياعيل لرير‪ .‬ويف‬ ‫ال�سنة نف�سها �صدر ل�شكري‪ ،‬عن "دار ال�ساقي"‪ ،‬كتاب بعنوان‬ ‫"وجوه" ي�شكّل‪ ،‬ح�سب قوله‪ ،‬اجلزء الثالث من �سريته الذاتية‬ ‫"لكنه مكتوب بطريقتي اخلا�صة وال يخ�ضع للطريقة التقليدية‬ ‫وال لتقنيات كتابة ال�سرية الذاتية املتبعة لدى الآخرين‪،‬‬ ‫فكتابتي تتخللها اليوميات وال�صور الدقيقة‪ ،‬وهي ال تعتمد‬ ‫على بطل حم ّدد بل تركز على وجوه م�ستقلة‪ ،‬كل واحد قد ال‬ ‫يلتقي بالوجه الآخر‪ ،‬وهي وجوه مغربية �أو �أجنبية"‪.‬‬ ‫بالتزامن مع �صدور "وجوه" �أ�صدر الكاتب املغربي حممد‬ ‫برادة‪ ،‬وهو واحد من جمايلي �شكري‪ ،‬كتاب ًا بعنوان "ورد‬ ‫ورماد" �ض ّم ر�سائل متبادلة بينه وبني �شكري يف الفرتة‬ ‫ما بني ‪ 1975‬و‪ 1994‬ويف "�إ�شارة" ت�صدير هذه الر�سائل‬ ‫كتب برادة‪� ،‬ضمن �أ�شياء �أخرى‪� .. ":‬أظن �أن كتابة الر�سائل‬ ‫ت�ستجيب للحظات جد حميمية ن�ست�شعر فيها رغبة البوح‬ ‫واملكا�شفة والتفكري ب�صوت مرتفع وللأ�سف �أن تقاليدنا يف‬ ‫املرا�سالت بني الأ�صدقاء املبدعني قليلة �إن مل تكن منعدمة‪.‬‬ ‫ومن ثم وجدت‪ ،‬ومعي ال�صديق �شكري‪� ،‬أن ن�شر هذه الر�سائل‬ ‫قد تكون م�ضيئة لبع�ض التفا�صيل التي التقطتها الر�سائل وهي‬ ‫يف حالة َ‬ ‫الن�ص‬ ‫خما�ض‪ ،‬وقد تر�سم مالمح �أخرى ال يت�سع لها‬ ‫ّ‬ ‫الإبداعي"‪.‬‬ ‫فع ًال ‪ ..‬لكن مهما تكن املالمح التي يقول بها برادة‪ ،‬فاننا نقر�أ‬ ‫يف �إحدى ر�سائل �شكري املقولة التالية‪" :‬من مل ينغم�س يف دم‬ ‫احلياة‪ ،‬ال ّ‬ ‫يحق له �أن يتكلم عن اجلرح"‪ .‬تنطوي هذه املقولة‬ ‫على �أحد املفاتيح املهمة‪� ،‬إن مل يكن �أهمها على الإطالق‪ ،‬ملحاولة‬ ‫فهم العامل الذي يبنيه الكاتب لنف�سه ولنا جميع ًا‪ ،‬وبالأخ�ص‬ ‫يف "اخلبز احلايف"‪ .‬يف هذا الكتاب‪ ،‬الذي َّ‬ ‫ب�شر ب�شكري‬ ‫واعترب تكري�س ًا لظاهرة كتابته‪ ،‬ن�صادف تو�صيف ًا خ�شن ًا‪،‬‬ ‫�صادم ًا وموجع ًا‪ ،‬جلراح املا�ضي التي مل تلتئم‪ -‬ذلك املا�ضي‬ ‫الذي ال يتعلق به الكاتب "�إال عندما يخونني حا�ضري"‪ ،‬كقوله‬ ‫يف ر�سالة �أخرى‪ .‬ين�سحب ذلك على جراحه اخلا�صة بقدر ما‬ ‫ين�سحب على اجلراح العامة ملدينته ووطنه‪.‬‬ ‫متتد �أحداث الكتاب من الطفولة املبكرة ل�شكري �إىل �سن ما‬ ‫بعد املراهقة‪� ،‬أي �سن الر�شد ( ‪ .)1956-1935‬ويحيل توقيت‬ ‫بلوغه هذا ال�سن مع تاريخ بلوغ بالده غاية اال�ستقالل اىل �أن‬ ‫التحرر من ربقة اال�ستعمار الكولونيايل هو �أي�ض ًا "املعادل‬ ‫ال�شعبي �أو القومي ل�سن الر�شد"‪ ،‬كما يقول �صربي حافظ‪.‬‬

‫وينطلق الناقد من هنا لي�ؤكد ابتداء �آليات االنتقاء الروائي يف‬ ‫االعراب عن نف�سها‪ ،‬حيث ا�ستطاعت "ال�سرية" �أن تبلور لها‬ ‫ف�ضاءها اخلا�ص املقتطع بعناية من زمن تاريخي معني وف�ضاء‬ ‫اجتماعي وثقايف معني‪ ،‬باملعنى االنرثبولوجي العري�ض‬ ‫للثقافة‪� .‬إنه الف�ضاء االجتماعي املقموع واملهم�ش وامل�سكوت‬ ‫عنه ويف �أكرث الأزمنة مالءمة له ‪ :‬زمن اال�ستعمار واالنتهاك‬ ‫وهو يقرتب من نهايته فتك�شف �شرا�سته عن �أب�شع وجوهها‪،‬‬ ‫من ناحية‪ ،‬بينما ترتاخى قب�ضة �سلطته الغا�شمة منذرة‬ ‫بنهايته‪ ،‬من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫وال جند تقيد ًا بحرفية الأحداث �أو توقيتها الزمني امل�ضبوط‪،‬‬ ‫ما يجعلنا �أمام م�شاهد من الطفولة واملراهقة هي امل�شاهد‬ ‫نف�سها التي ارتبطت ب�أحداث ووقائع �أثرت بعمق يف حياة‬ ‫�شكري وارتبطت بذاكرته وفر�ضت نف�سها عليه وهو ينتقي ما‬ ‫هو قادر على �أن ير�سم مالمح الطفل واملراهق اللذين كانهما‪.‬‬ ‫ويعتقد �أكرث من ناقد �أن هذا التحرر من �سرد التفا�صيل‪،‬‬ ‫وفق ًا لكرونولوجية دقيقة‪ ،‬هو ما جعل الن�ص ي�أخذ يف الآن‬ ‫نف�سه طابع ال�سرد الروائي املعتمد على ا�ستح�ضار الأحالم‬ ‫واال�ستيهامات وعلى التخييل‪ ،‬وهو القائل "لوال اخليال‬ ‫النفجرت"‪.‬‬ ‫ن�ص �شكري هذا قابلة لأن تت�شظى بقدر ت�شظي‬ ‫الكتابة عن ّ‬ ‫ال�سرد ذاته‪ ،‬ولذا ال ُب َّد من ا�ستقطار ما يلي ‪:‬‬ ‫‪ -1‬الطفل واملراهق يف "اخلبز احلايف" هو ذات واحدة‪،‬‬ ‫بالرغم عن تعدد املواقف والتجارب‪ .‬م�صدر ذلك هو التحدي‪،‬‬ ‫فهو يتحدى كل ما يقف حائ ًال بينه وبني �إثبات ذاته وتوطيد‬ ‫معرفتها باحلياة‪ .‬و�إن ما عا�شه وحتداه يت�صل بثالثة جماالت‬ ‫‪ :‬الأ�سرة واجلن�س والعمل‪ .‬وكل واحد من هذه املجاالت‬ ‫م�شوه ًا ويعي�ش عالئقه من زاوية‬ ‫يكت�شفه الطفل واملراهق ّ‬ ‫مقلوبة‪ ،‬فان "الإن�سان يحب نف�سه �أكرث يف الوحدة‪� .‬أدركت‬ ‫�أين ل�ست �سوى �أنا‪ .‬وحدي �أراين يف مر�آة نف�سي‪ .‬العامل يبدو‬ ‫م�شوه ًا"‪ .‬مع‬ ‫يل مر�آة كبرية مك�سرة و�صدئة �أرى فيها وجهي ّ‬ ‫ذلك ال ي�شعر القارىء يف نهاية املطاف ب�أن هناك �أ�شياء عجز‬ ‫الكاتب عن �أن مي�سك بها �أو عن �أن ينقلها‪.‬‬ ‫‪ -2‬يكرث �شكري نقل املا�ضي كما كان يعي�شه من دون حتوير‪.‬‬ ‫وعالقة الكاتب مبا�ضيه خالية من اخلجل �أو التنكر‪ ،‬ميكن‬ ‫اعتبارها عالقة تن ّد عن ت�صالح مع هذا املا�ضي‪ .‬ومن هنا كان‬ ‫�صدقه املتناهي يف عر�ض هذا املا�ضي كما هو‪ ،‬من غري تفل�سف‬ ‫�أو �إدعاء‪ ،‬ومن غري رغبة يف �أن ي�ستخل�ص منه الدرو�س �أو �أن‬ ‫ي�ستقي منه العرب‪ .‬لكن نفي التفل�سف من ظاهر الكتابة ال يعني‬ ‫غياب �أي ت�صور �أو ر�ؤية فل�سفية عن �أفقها‪ ..‬وقد تنبه ناقدو‬ ‫�شكري اىل �أن جرعة هذه الفل�سفة �إزدادت يف اجلزء الثاين‬ ‫من �سريته الذاتية الروائية الذي حمل عنوان "ال�شطار"‪ ،‬لأن‬ ‫الذات الروائية هنا �أعمق خربة ومعرفة من تلك التي �أطلت‬ ‫علينا يف اجلزء الأول‪.‬‬ ‫‪ -3‬مثل العامل الذي ي�صفه �شكري ال يتم التعبري عنه �إال عرب‬ ‫اللغة املبا�شرة‪ ،‬التي ت�سمي الأ�شياء ب�أ�سمائها‪� .‬إنه عامل حاد‪،‬‬ ‫مبا�شر‪ ،‬عنيف‪ ،‬حار‪" ،‬تكذب �أية لغة �أخرى لو حاولت التعبري‬ ‫عنه"‪ ،‬على حد قول فاروق عبد القادر‪ .‬ويعني هذا �أن اللغة‬ ‫التي ي�ستخدمها �شكري‪ ،‬والتي تكمن �أبرز مالحمها يف اجلمل‬ ‫الق�صرية والو�صف احلاد الذي ينفذ اىل الق�صد فور ًا‪� ،‬إمنا‬ ‫تالئم التجربة التي يريد �أن ينقلها لقارئه وتتكامل معها‪.‬‬ ‫وبعبارة الناقد نف�سه ‪ :‬ال بد من لغة "�سفلية" تعرب عن العامل‬ ‫ال�سفلي املتمثل يف وجوه ثالثة ‪� -‬أ�سفل الأنا و�أ�سفل اجل�سم‬ ‫و�أ�سفل املجتمع‪.‬‬ ‫‪ -4‬من خالل ما تقدم لن يكون من قبيل املبالغة �أن ن�ص ّنف‬ ‫�شكري يف خانة "رائد اللغة املغايرة" يف الرواية العربية‬ ‫املعا�صرة‪ .‬ويظل مثل هذا الت�صنيف منقو�ص ًا �إذا مل نرفقه‬ ‫مباهية "الدعوة املزدوجة" املتوافر عليها �إ�ستح�صا ًال ‪،‬والتي‬ ‫�أجملها �صديقه برادة بالقول �إنها دعوة‪ ،‬من جهة‪ ،‬اىل �أن‬ ‫نتخلى عن جهلنا �أو جتاهلنا لواقع ميلأه ال�صد�أ والبثور‪ .‬ومن‬ ‫�أخرى دعوة لأن نلعب ورقة الكينونة �ضد �أخالقية "ما يجب‬ ‫�أن يكون"‪...‬‬ ‫فالكينونة برغائبها وعالئقها املادية والنف�سية وا�شتهاءاتها هي‬ ‫�أي�ض ًا من العنا�صر الأ�سا�سية التي �ست�سعفنا يف �إزالة الغ�شاوة‬ ‫وم ّد اجل�سور مل�صاحلة الذات والآخرين‪.‬‬ ‫يف مقدمة الطبعة العربية من "اخلبز احلايف" كتب حممد‬ ‫�شكري يقول‪":‬لقد علمتني احلياة �أن �أنتظر‪� ،‬أن �أعي لعبة‬ ‫الزمن من بدون �أن �أتنازل عن عمق ما ا�ستح�صدته ‪ :‬قل كلمتك‬ ‫قبل �أن متوت ف�إنها �ستعرف‪ ،‬حتم ًا‪ ،‬طريقها‪ .‬ال يهم ما �ست�ؤول‬ ‫�إليه‪ .‬الأهم هو �أن ت�شعل عاطفة �أو حزن ًا �أو نزوة غافية‪� ..‬أن‬ ‫ت�شعل لهيب ًا يف املناطق اليباب املوات"‪.‬‬ ‫منذ تاريخ كتابة هذه الكلمات (يف ‪ )1982‬مل يكن �إنتظار‬ ‫�شكري عبثي ًا‪ ،‬مثل �إنتظار بيكيت لغودو‪ .‬وال َّ‬ ‫�شك �أن اللهيب‬ ‫الذي �أ�شعله يف يبابنا الثقايف‪ ،‬حتى املوت ال يقدر عليه‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫‪7‬‬

‫محمد شكري…صعلوك األدب الحديث‬ ‫د‪ .‬حممد عبيداهلل‬

‫حممد �شكري‪� :‬أيُّ �أُم ّية؟‬

‫رحل حممد �شكري حتت وط�أة مر�ض‬ ‫ال�سرطان‪ ،‬وهو املر�ض الذي َ‬ ‫فتك من قب ُل‬ ‫بكثري من الك ّتاب‪ ،‬منْ بينهم جان جينيه‬ ‫وكتب‬ ‫الذي �صادقه �شكري واقرتب من عامله َ‬ ‫عنه مذكرات مهمة بعنوان "جان جينيه‬ ‫يف طنجة"‪ ،‬هذا الكتاب‪ ،‬مثل �أيّ كتاب �آخر‬ ‫ل�شكري‪ ،‬يك�شف عن نوعية احلياة التي �أقبل‬ ‫عليها‪� :‬إنها حياة طنجة ّ‬ ‫وع�شاقها ومريديها‪،‬‬ ‫طنجة التي انتقل �إليها �شكري من الريف‬ ‫املغربي قادم ًا مع عائلته ال يحم ُل �إال لغته‬ ‫الرببرية‪ ،‬وال يعرف العربية بل وال املغربية‬ ‫الدارجة نف�سها‪.‬‬ ‫وُلد حممد �شكري يف الريف املغربي عام‬ ‫‪( 1935‬وقيل عام ‪ – 1939‬الآداب)‪ ،‬لكنه‬ ‫غادره منذ طفولته‪ ،‬وعن ذلك يقول‪�" :‬أنا‬ ‫ابن هجرة املجاعة الريفية التي حدثت يف‬ ‫بداية الأربعينيات… هرب ًا من اجلفاف‬ ‫القاتل‪ ..‬مل يكن �أحد من �أ�سرتي يتكلم اللغة‬

‫الدارجة املغربية‪ ،‬عندما غاد ْرنا قريتنا يف‬ ‫بني �شكري‪ ،‬لغتنا الوحيدة التي كانت هي‬ ‫الريفية داخل كوخنا وخارجه‪ ،‬عندما بل ْغنا‬ ‫طنحة كان عمري �سبع �سنوات‪ ،‬ك ّلما حاولت‬ ‫احلي الذي‬ ‫�أن �أ�سرق حلظة لعب مع �أطفال ّ‬ ‫�سك ّنا فيه كانوا يطاردونني �صارخني‪ :‬ام�ش‬ ‫بالريفي… ام�شي يا ولد اجلوع"‪.‬‬ ‫و�إذ يطرده �أطفال احلي ف�إ ّنه ال يجد �إ ّال‬ ‫الغجر والأندل�سيني من املهمّ�شني مثله ومثل‬ ‫�أ�سرته‪ ،‬وعنهم يقول‪" :‬مل �أجد �صعوبة كبرية‬ ‫لكي ي ْقبلوين يف جماعتهم… هكذا تعلمتُ‬ ‫الكلمات الأوىل بالإ�سبانية قبل �أن �أتع ّلمها‬ ‫بالدارجة املغربية‪ .‬وكذلك علمني �أطفال‬ ‫الغجر والأندل�سيني كيف �أرفع يدي كي �أدافع‬ ‫عن نف�سي‪� ،‬إذ لي�س للأطفال �إ ّال لغ ُة اليد"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن حممد �شكري مل يتوقف عند لغته‬ ‫الرببرية التي كانت �أمّه ت�ص ّر عليها وعلى‬ ‫ا�ستخدامها يف البيت "لأنيّ ُولدتُ يف الريف‬ ‫وينبغي �أن �أحافظ على جذوري" فقد تع ّلم‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫الإ�سبانية والدارجة املغربية‪ ،‬ثم العربية‬ ‫الف�صيحة مت�أخر ًا جد ًا (يف �سن الع�شرين)‪،‬‬ ‫وقد تع ّلم هذه الأخرية ب�سرعة فائقة ك�أ ّنه‬ ‫يخت�صر الزمن ويعوّ �ض ما فاته منها قراء ًة‬ ‫وكتاب ًة‪� ،‬إذ كان قبل الع�شرين ال يعرف �إال‬ ‫لغة امل�شافهة‪ ،‬وكان ميكن �أن يكون �أو ّ‬ ‫يظل‬ ‫ل�ص ًا �أم ّي ًا ال يعرف �إال مداورة �ضحاياه‪ّ ،‬‬ ‫لكن‬ ‫الكتابة ومغادرة الأميّة املت�أخرة نقلتاه �إىل‬ ‫مقام جديد هو ما يجعلنا نكتب عنه اليوم‬ ‫ٍ‬ ‫دون كثري غريه من �أرباب ال�سوابق ممّن‬ ‫ميوتون ّ‬ ‫كل يوم وال يعرف م�صريهم �أحد‪.‬‬ ‫قد حتتاج �أ ّميّة �شكري �إىل مراجعة‪ :‬فهي‬ ‫م�س�ألة م�شكوك يف �أمرها عند من ال ي�صدّقون‬ ‫�أ�ساطري الك ّتاب عن �أنف�سهم‪ ،‬وقد يكون‬ ‫�إ�صرار �شكري عليها نابع ًا ممّا حتمله فكرة‬ ‫أمي الذي �صار كاتب ًا" من جاذبية‪ .‬وقد‬ ‫"ال ّ‬ ‫تكون الأميّة املزعومة جزء ًا من مهارة‬ ‫�شكري الذي ينحدر من �ساللة غريبة‪ ،‬و�أعني‬ ‫رواة طنجة الذين جذبوا الك ّتاب الأجانب‬

‫بد�أت ق�صة اخلبز احلايف‪� ،‬إذ مل تكن م�شروع‬ ‫كتاب م�ؤلف باملعنى املعروف‪ ،‬و�إمنا هي‬ ‫رواية �شفوية‪ :‬ق�ص�ص وحكايات وذكريات‬ ‫ّ‬ ‫وت�ضخمها وت�ضيف‬ ‫تفي�ض بها الذاكرة‬ ‫�إليها‪ .‬ووفق رواية �شكري نف�سه‪ ،‬فقد جاءت‬ ‫فكرة ال�سرية الروائية م�صادف ًة عندما التقى‬ ‫بنا�شر �إجنليزي اعتاد �شراء حكايات رواة‬ ‫طنجة ون�شر بع�ضها‪ ،‬مثل "حياة مليئة‬ ‫بالثقوب" للعربي العيا�شي‪ ،‬و"احلب بحفنة‬ ‫من ال�شعر" ملحمد املرابط‪ ،‬وكال الكتابني‬ ‫من حترير و�صياغة بول بولز‪ ،‬وقد �أمالها‬ ‫االثنان عليه مقابل النقود‪ ،‬ويبدو �أن الفكرة‬ ‫راقت �شكري‪ ،‬وهو املمتلئ باحلكايات من كل‬ ‫�صنف‪ ،‬والأف�ضل ثقافة‪ ،‬والأو�ضح طموح ًا‬ ‫من بني رواة طنجة‪ ،‬فادّعى �أن �سريته ناجزة‪،‬‬ ‫وت�سلم مائة جنيه مقدم ًا دون �أن يكون لديه‬ ‫حرف واحد منها‪ .‬وخالل �شهرين كانت‬ ‫ال�سرية كاملة بعنوان‪" :‬لي�س باخلبز وحده"‪،‬‬ ‫كما �سمّاها بول‪ .‬و�أما كتابتها فتمّت بطريقة‬

‫وباعوهم حكايات �أكرثها خمتلق لكنها متتاز‬ ‫باجلاذبية والعنا�صر العجيبة ال ّأخاذة‪،‬‬ ‫فه�ؤالء الرواة جدّدوا تقاليد قدمية لل�سرد‬ ‫ال�شفوي واملتاجرة مبا يحملونه من �أخبار‬ ‫وحكايات – وهذه ظاهرة معروفة يف الرتاث‬ ‫القدمي‪ ،‬وكانت �أحد �أ�سباب الو�ضع وال ّن ْحل‪،‬‬ ‫ل ّأن الراوي بعد �أن تنف ْد ب�ضاعته يلج�أ �إىل‬ ‫االختالق كي ي�ستمر العطاء وموارد املال‪.‬‬ ‫وهكذا تبدو جتربة �شكري‪� :‬إذ بد�أ ببيع‬ ‫حكاياته لبول بولز‪ ،‬ثم حتوّ ل �إىل مبدع‬ ‫للحكايات ب�صرف النظر عن م�صداقيتها‪.‬‬ ‫�صحيح �أنه لي�س الراوي الوحيد يف طنجة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن الآخرين (كالعربي العيا�شي وحممد‬ ‫القطراين وحممد املرابط) جمرد م�صادر‬ ‫�شفوية يروون حكايات غريبة فيقب�ضون ما ًال‬ ‫�شحيح ًا‪.‬‬

‫غريبة‪ :‬ف�شكري يقول �إنه �أ ّلفها بالعربية‬ ‫�أو ًال‪ ،‬ثم �أمالها بالإ�سبانية على بولز‪ ،‬فكتبها‬ ‫هذا الأخري بالإجنليزية – وهي اللغة التي‬ ‫ظهر بها الكتاب �أول مرة‪ ،‬وال يُعرف م�صري‬ ‫الن�سخة التي زعم �شكري �أنه كتبها وترجمها‬ ‫لبولز‪� ،‬إذ � ّإن ما �صدر بالعربية هو ترجمة‬ ‫حممد برادة للكتاب نف�سه‪ .‬ومعنى هذا � ّأن‬ ‫�أكرث من م�ؤلف �ساهم يف �صياغة العمل‬ ‫و�إعطائه ال�شكل الذي ظهر عليه‪ ،‬وف�ضيلة‬ ‫�شكري �أنه �صاحب احلكايات قبل �صياغتها‬ ‫وت�شكيل ال�سرية منها ب�أقالم ك ّتاب حمرتفني‪.‬‬ ‫على �أية حال‪ ،‬احتاج �شكري �إىل �سنوات قبل‬ ‫�أن ي�شتهر يف العامل العربي‪ .‬ورغم ن�شره‬ ‫املب ّكر لق�ص�ص ق�صرية يف جملة الآداب ف�إنه‬ ‫مل يلفتْ �أحد ًا مبوهبته‪ :‬بل � ّإن تعليقات الن ّقاد‬ ‫على ما كان ين�شره يف هذه املجلة ت�شري �إىل‬ ‫توا�ضع جتربته‪ ،‬و�إىل ت�سامح �سهيل �إدري�س‬ ‫يف ن�شر ق�ص�صه غري النا�ضجة‪ .‬وترتبط‬ ‫�شهرة �شكري واالهتمام به ب�صدور اخلبز‬

‫ق�صة "اخلبز احلايف"‬

‫�شكري‪� ،‬إذن‪� ،‬أحد رواة طنجة‪ ،‬وبهذه ال�صفة‬

‫احلايف بالعربية والفرن�سية والإنكليزية‪.‬‬ ‫ري معروف حياته‬ ‫كاتب غ ُ‬ ‫واملفارقة �أنْ يبد�أ ٌ‬ ‫ب�سرية ذاتية‪ :‬يقول �شكري نف�سه يف هذا‬ ‫ال�صدد‪" :‬كان مفهومي لل�سرية �أنها ال ُتكتب‬ ‫�إال بعد جمد �أدبي‪ ،‬و�أنا مل يكن يل منه �إ ّال‬ ‫بع�ض الق�ص�ص التي ُن�شرت يف جمالت‬ ‫عربية و�صحف مغربية‪[ .‬لك ّنه] رهان مل �أُر ْد‬ ‫�أن �أخ�سره مثل حتدياتي الأخرى‪ :‬هجران‬ ‫�أ�سرتي‪ ،‬تع ّلمي القراءة والكتابة مت�أخر ًا لأقر�أ‬ ‫حياة الفنانني وم�آ�سي ّ‬ ‫الع�شاق‪ ،‬ويو َم ق ّررتُ‬ ‫�أن �أ�صبح كاتب ًا بال �أجر"‪.‬‬ ‫ا�شتهر حممد �شكري ب�سرية اخلبز احلايف‪،‬‬ ‫بالرغم من طبيعتها الت�أليفية الغريبة التي ال‬ ‫جتلعه م�ؤلف ًا باملعنى املعروف‪ ،‬وال تنطوي‬ ‫هذه ال�سرية على عنا�صر �سردية غنية من‬ ‫ناحية ال�شكل – فهي مكتوبة ب�أ�سلوب �صحفي‬ ‫مت�سرع‪ .‬ولكن امل�ضمون ال�صادم هو الذي‬ ‫�أ�سهم يف خلق حالة االهتمام ال�شديد بها‪،‬‬ ‫ورفعها �إىل م�ستوى �أ�شهر ال�سري االعرتافية‬ ‫ُ‬ ‫تقارن‬ ‫يف العامل‪ ،‬بحيث‬ ‫باعرتافات جان جاك‬ ‫رو�سو واعرتافات‬ ‫القدي�س �أوغ�سطني –‬ ‫وهما من كتب ال�سري‬ ‫القليلة التي ّ‬ ‫اطلع عليها‬ ‫�شكري و�أُعجب بها‬ ‫قبل ظهور �سريته‪ ،‬تلك‬ ‫الطبيعة االعرتافية‬ ‫هي ال�سبب الأ�سا�سي‬ ‫يف �شهرة الكتاب‪ ،‬مبا‬ ‫يك�شف عنه من عوامل‬ ‫غريبة وهجينة متتلئ‬ ‫بكائنات الليل ومكوّ نات‬ ‫احلياة ال�سرية‪ ،‬حيث‬ ‫عا ُمل الهام�ش مبا فيه من‬ ‫غنى وتنوّ ع وده�شة‪� ،‬إ ّنه‬ ‫نقي�ض "التاريخ الر�سمي‬ ‫امل�أجور" بتعبري �شكري‪،‬‬ ‫ذلك التاريخ الذي ينفي‬ ‫حياته وحياة �أمثاله من‬ ‫املهمّ�شني "وال ي�سمح‬ ‫ب�أن يلوّ ث بهم جمده‬ ‫اجلليل اخلالد"‪.‬‬ ‫مناق�ضة هذا التاريخ‬ ‫الر�سمي‪ ،‬والتحر�ش‬ ‫به‪ ،‬هما اللذان جعال‬ ‫الن ّقاد والق ّراء يُقبلون‬ ‫على �سرية �شكري‬ ‫هذه‪ ،‬ويق ّلبونها على‬ ‫وجوهها‪ ،‬ويغفرون‬ ‫لها م�ستواها ال�سردي‬ ‫املتطامن‪ ،‬مقابل ذلك‬ ‫الفي�ض من االعرتاف الذي ي�شبه نهر ًا جارف ًا‬ ‫من الف�ضائح والرذائل اخلاد�شة لـ "احلياء‬ ‫العام" الذي يدّعيه الر�سميون ويدافعون عنه‪.‬‬ ‫�إنها مر ًة �أخرى م�س�ألة احلرية‪ ،‬وم�س�ألة ك�سر‬ ‫التابو ب�أيّ ثمن… بعيد ًا عن �أية موازين‬ ‫للمو�ضوعية �أو التوازن‪.‬‬

‫الت�شرد �إىل الوعي‬ ‫من‬ ‫ّ‬

‫كتب �شكري كتب ًا كثرية غري اخلبز احلايف‪،‬‬ ‫من مثل ّ‬ ‫ال�شطار (وهو جزء ثان من �سريته‬ ‫الروائية)‪ ،‬وكلها ت�ض ّم ذكريات �شكري‬ ‫وعذاباته ال�شخ�صية‪ ،‬وي�شكل اجلن�س‬ ‫والفقر والت�شرد العامل الأ�سا�سي فيها‪:‬‬ ‫حياة الليل يف طنجة وتطوان والعرائ�ش‪،‬‬ ‫ال�ش ّذاذ وفتيات الليل‪ ،‬الفنادق الرخي�صة‪،‬‬ ‫ال�شوارع اخلليفة املعتمة‪ ،‬وغري ذلك من‬ ‫عوامل هام�شية‪ ،‬كاملقاهي الفقرية و�ساحات‬ ‫املدينة ومواخريها الكثرية‪ .‬امل�شرتك يف‬ ‫�سري �شكري �أو �سريته هو التعبري عن العيب‬

‫�أو الف�ضيحة بلغ ٍة �سهل ٍة �سل�س ٍة وب�أ�سلوب‬ ‫م�شوق ب�سبب كمية االعرتاف التي ينطوي‬ ‫عليها‪� .‬إنه يفاجئ قارئه بالك�شف عن كل ما‬ ‫هو "معيب" من دون مواربة �أو خجل‪ ،‬و� ّإن‬ ‫�صدمة االلتقاء بالعيب واحلرام وجه ًا لوجه‪،‬‬ ‫وعلى �صفحات كتاب‪ ،‬هي التي جعلت لكتابة‬ ‫�شكري لون ًا خمتلف ًا‪ ،‬يف جمتمع �أقرب �إىل‬ ‫االنغالق والتقليدية‪ ،‬بالرغم من �أنه مثل‬ ‫كل املجتمعات ينطوي على �شتى الأ�صناف‬ ‫والعوامل املخفية‪.‬‬ ‫لكن هل ّ‬ ‫ظل �شكري را�ضي ًا عن م�سرية كتابته‬ ‫وحياته‪ ،‬علم ًا �أنه عبرّ عن عامل الت�شرد‬ ‫وال�صعلكة يف ق�ص�صه �أي�ض ًا كـ جمنون الورد‬ ‫‪ ،1979‬واخليمة ‪1985‬؟ يالحظ املتابع‬ ‫لرحلة �شكري �أنه بعد اخلبز احلايف و�أعماله‬ ‫الأوىل بد�أ ي�سعى �إىل جتاوز �أ�سطورته‬ ‫املت�ش ّردة‪ ،‬عرب حماولة تثقيفها‪ ،‬يظهر هذا‬ ‫من خالل ا�ستدراج مئات ال�شواهد والأقوال‬ ‫واالقتبا�سات للمف ّكرين والك ّتاب‪ ،‬وذ ْكر �أ�سماء‬ ‫كتب �أو ن�صو�ص خمتلفة تهدف �إىل �أن تكون‬ ‫�شاهد ًا على املعرفة والثقافة بدي ًال من دعوى‬ ‫الأميّة التي افتتح بها �سريته‪ .‬ويف كتابه‬ ‫غواية ال�شحرور الأبي�ض ين�شر �شهادات‬ ‫و�آراء نقدية ت�سعى �إىل �إثبات ثقافته‪� ،‬أو‬ ‫ت�شري �إىل قراءة التجربة املت�شردة بوعي‬ ‫معريف وثقايف‪ .‬ولكن كل ال�شواهد التي‬ ‫�أوردها �شكري ت�شري �إىل ثقافة خمتلطة غري‬ ‫ّ‬ ‫منظمة‪� ،‬إذ يور ُد ال�شاهد ونقي�ضه يف مو�ضع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واحد‪ ،‬وال ت�شكل هذه الثقافة �إال �صورة‬ ‫دفاعية عن �أميّة جميلة مت�ش ّردة عبرّ عنها يف‬ ‫خمتلف م�ؤلفاته ال�سردية‪.‬‬ ‫يك�شف غواية ال�شحرور الأبي�ض عن التحول‬ ‫الذي عبرَ ه �شكري‪ .‬يقول حميي الدين‬ ‫الالذقاين‪" :‬حتوّ ل �شكري باملعرفة �إىل‬ ‫�شحرور �أبي�ض‪ ،‬وخرج من عامل البلطجية‪،‬‬ ‫ول�صو�ص ال�شوارع‪ ،‬وبنات الهوى‪،‬‬ ‫و�أ�صحاب ال�سوابق‪� ،‬إىل عامل جديد نظيف‬ ‫وطموح ونبيل‪ .‬وهو يدرك �أنه ال ي�ستطيع‬ ‫�أن مي ّد يد امل�ساعدة جلميع منْ عا�شرهم‬ ‫وعا�ش معهم يف ال�سوق الداخلي يف طنجة‪.‬‬ ‫لك ّنه من خالل التجربة القا�سية التي �أجاد‬ ‫التعبري عنها‪ ،‬يد ّل �أ�صحابه القدامى‪ ،‬وجميع‬ ‫ال�صانعني يف كافة مدن العامل‪� ،‬إىل طريق‬ ‫النجاة‪ ،‬و�إىل �إمكانية االنت�صار على ُقبح‬ ‫العامل باملعرفة التي �صنع منها اجلنحة‬ ‫التي �ساعدته على الو�صول �إىل دنيا جديدة‬ ‫وخمتلفة عمّا �ألفه وعرفه يف طفولته املعذبة"‪.‬‬ ‫بهذا املعنى تكون الكتابة عند �شكري فعل‬ ‫تنوير وتطهري‪ ،‬فعل �أجنحة وحتليق‪ ،‬برغم ما‬ ‫فيها من اعرتاف وك�شف عن جماليات القبح‬ ‫يف طنجة ومن خالل الكتابة �صار ل�شكري‬ ‫ا�سمه وموقعه‪ ،‬وك�أنه تخ ّل�ص من �آثار عذاباته‬ ‫عبرْ كتابتها والتعبري عنها واالعرتاف بها‪،‬‬ ‫كما هو فع ُل املر�ضى النف�سيني �أمام الأطبّاء‬ ‫�أثناء جل�ساتهم االعرتافية‪.‬‬ ‫عام ‪ 1977‬كان حممد �شكري يق�ضي �أيام ًا‬ ‫ع�صيبة يف م�ست�شفى الأمرا�ض العقلية يف‬ ‫تطوان‪ ،‬ومن هناك يتبادل ر�سائل عدّة مع‬ ‫حممد برادة‪ ،‬الذي �سيرتجم اخلبز احلايف‬ ‫�إىل العربية‪ .‬يف هذه الر�سائل جند حنوّ‬ ‫برادة و�سعيه لالرتفاع ب�شكري و�إنقاذه من‬ ‫نف�سه‪ :‬فهو يخاطبه يف �إحدى الر�سائل بـ‬ ‫"الأخ العزيز �شكري بيك"‪ .‬ويبدي �إعجابه‬ ‫بالف�صل الذي قر�أه من �سريته‪ ،‬كما يقرتح‬ ‫عليه حذف الكلمات املكتوبة بالريفية‪.‬‬ ‫ويف ر ّد �شكري على برادة يفي�ض الأول‬ ‫باالعرتاف والأمل‪ ،‬لكنه يقرر على نحو حا�سم‬ ‫� ّأن "الإح�سا�س بالكتابة بد�أ يغزوين يف هذا‬ ‫املار�ستان‪ .‬عندما �أخرج من هنا �س�أحاول �أن‬ ‫�أغيرّ حياتي"‪ .‬وقد حاول �شكري �أن يحوّ ل‬ ‫حياته فع ًال‪ ،‬باال�ستغراق �أكرث يف الكتابة‬

‫والثقافة‪ ،‬فكتب �سري ًا ومذ ّكرات حميمة‬ ‫ممتلئة بالتفا�صيل امل�ؤ ّثرة‪ ،‬وال �سيّما عن‬ ‫ك ّتاب زاروا طنجة‪ ،‬ومنهم‪ :‬جان جينيه‪،‬‬ ‫وتين�سي وليامز‪ ،‬وبول بولز‪ .‬وقد عرف‬ ‫�شكري الثالثة وعا�ش معهم يف العامل الذي‬ ‫يعرفه من طنجة الأ�سرار واملغامرة‪ ،‬و�ش ّكلت‬ ‫هذه الكتب جانب ًا مهم ًا من املراجع اخلا�صة‬ ‫به�ؤالء الك ّتاب‪ ،‬فكتب وليم بوروز يف مقدمة‬ ‫كتاب �شكري عن جان جينيه‪" :‬عندما قر�أتُ‬ ‫مذ ّكرات �شكري ر�أيتُ جان جينيه و�سمعته‬ ‫بو�ضوح‪ ،‬كما لو �أنني �أ�شاهده يف فيلم من‬ ‫�أجل �أن يحقق الواحد دق ًة من هذا النوع…‬ ‫ف� ّإن عليه �أن ميتلك �صفا ًء نادر ًا يف الر�ؤية‪ّ � :‬إن‬ ‫�شكري كاتب"‪.‬‬

‫ما الذي ّ‬ ‫تبقى من �شكري؟‬

‫ت�صعب قراءة حممد �شكري بعيد ًا عن‬ ‫حياته و�شخ�صيته املت�س ّلطة على القارئ‪،‬‬ ‫رمبا ل ّأن امل�سافة لي�ست بعيدة بني الكاتب‬ ‫التخييلي لي�س عامل ًا‬ ‫واملكتوب‪ .‬فعامله‬ ‫ّ‬ ‫خمتلف ًا‪ ،‬بل ا�سرتجاعي‪ .‬قد يختلق �شكري‬ ‫حدث ًا �أو تف�صي ًال هنا وهناك‪ ،‬لك ّنه ال يجاوز‬ ‫مرجعيته الواقعية‪ ،‬وال يخون طنجة –‬ ‫م�صدر �إلهامه و�إبداعه‪ ،‬ولذلك ف� ّإن التقنية‬ ‫الأثرية عند �شكري هي تقنية االنتقاء‪ ،‬من‬ ‫الواقع‪ ،‬يقول‪":‬جتبن ًا للح�شو‪ ،‬يغدو االنتقاء‬ ‫�ضروري ًا يف كل عمل �إبداعي حقيقي‪،‬‬ ‫املطلوب من الروائي عندما يعيد خلق الواقع‬ ‫�أ ّال يغت�صب احلقائق من �أجل الت�شويق‬ ‫امل ْلهي‪ .‬و�إمنا �أن يكون مو�ضوعه م�ص ّفى يف‬ ‫ذهنه اخل ّالق"‪.‬‬ ‫ولكنْ �إذا كانت مرجعية �شكري �شديدة‬ ‫الو�ضوح يف �أدبه‪ ،‬ف�إ ّنها وحدها ال ت�ضمن‬ ‫خلود ذلك الأدب‪ .‬ولعل �شكري مل يُقر�أ بع ُد‬ ‫قراء ًة خارج �شروط املرجعية – ال�سياقية‬ ‫حتى يتبينّ لنا �إىل �أيّ ح ّد تتوافر ن�صو�صه‬ ‫على �شروطها اجلمالية والتقنية وحرفيّتها‬ ‫ال�سردية البحتة‪ ،‬بعيد ًا عن �أية حما�سة �أو‬ ‫انتقا�ص حتت ت�أثري املرجعية و�أبعادها‬ ‫التزيينية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واحلق � ّأن �شكري قد توقف منذ �سنوات عن‬ ‫العطاء الإبداعي‪ ،‬واكتفى مبقابالت ي�شرتط‬ ‫فيها �أجور ًا مرتفعة‪ ،‬رمبا لينعم باملال الذي‬ ‫حُ رم منه �صغري ًا و�شاب ًا‪ .‬وبع�ض الآراء‬ ‫تذهب �إىل �أنه كتب اخلبز احلايف ثم ك ّرره‬ ‫�أو نرثه يف كتبه ال�سردية الأخرى‪ .‬و�أ ّي ًا‬ ‫يكن الأمر‪ ،‬ف� ّإن القراءة الكاملة لنتاجه مل‬ ‫تت ّم بعد‪ ،‬ولع ّلنا حمتاجون �إليها كي ال تطغى‬ ‫ال�شخ�صية املت�صعلكة على العمل الإبداعي‬ ‫وحتميه من �أيّ نقد‪ .‬ولقد كان �شكري ح�سا�س ًا‬ ‫�شدي َد االنفعال من النقد‪ّ ،‬‬ ‫لكن �أعماله اليوم‬ ‫تبدو من دون حرا�سة م�شددة من �شخ�صيته‬ ‫العربي �أن يعيد قراءتها‬ ‫الطاغية‪ ،‬وعلى النقد‬ ‫ّ‬ ‫وي�ضعها يف املو�ضع الذي ت�ستحقه‪.‬‬ ‫لقد رحل �شكري بعد �صراعه املرير مع‬ ‫احلياة والفقر والعوز‪ ،‬وربمّ ا طهّرته الكتابة‬ ‫من ت�شرده وعوزه ونقائ�صه‪� ،‬أو ظ ّلت حياته‬ ‫الأوىل تطارده يوم ًا بعد يوم‪ ،‬لكنْ من امل�ؤكد‬ ‫�أنه ترك لنا �أعما ًال خمتلفة ال ت�شبه �أية كتابة‬ ‫�أخرى يف �أدبنا العربي‪� ،‬سواء يف لون‬ ‫ال�سرية الروائية �أو يف مقدرته الف ّذة على‬ ‫ت�سجيل املذكرات‪� ،‬أو يف ق�ص�صه الق�صرية‪،‬‬ ‫�أو يف بع�ض الأعمال الروائية اخلا�صة‬ ‫كرواية ال�سوق الداخلي التي حاول فيها �أن‬ ‫يُنجز عم ًال روائي ًا بال�شروط الفنية للرواية‬ ‫املثقفة‪ .‬ومع �أن هذه الرواية هي عن عامل‬ ‫اخلبز احلايف نف�سه‪ ،‬ف�إنها تعطي انطباع ًا‬ ‫ال�شقي الذي ملأ نف�س �شكري كي‬ ‫بالوعي‬ ‫ّ‬ ‫ينجز �أعما ًال رفيع ًة باملعنى اجلمايل‪ ،‬على‬ ‫�شاكلة ما ينجزه غريه من الروائيني العامليني‬ ‫�أو العرب‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪8‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫فورة األجناس ورسوخ‬ ‫السيرة الذاتية في "وجوه"‬ ‫لمحمد شكري‬ ‫كمال الرياحي‬ ‫ال يكتب �إ ّ‬ ‫ت�صدير ‪" :‬ينبغي للإن�سان �أ ّ‬ ‫ال �إذا تـرك ب�ضعة من حلمه يف الدّ واة ك ّلما غم�س فيها القلم"‬ ‫تول�ستوي‬

‫مدخـل‪:‬‬

‫تنه�ض الكتابة ال�سرديّة العربية اليوم على‬ ‫الكثري من مظاهر التلوين الأجنا�سي‪ .‬وقد‬ ‫خا�صة على ال ّرواية‬ ‫ظهرت هذه الأعرا�ض ّ‬ ‫التي �أخذت تطعّم عواملها بعوامل الأجنا�س‬ ‫الأدبية الأخرى و"تتبّـل" لغتها و�أدواتها‬ ‫بلغات و�أدوات تعبريية جديدة‪ .‬فرتاكمت يف‬ ‫�أواخر القرن الع�شرين ن�صو�ص روائية تبدو‬ ‫ك�أ ّنها تعي�ش حالة �إ�شكال ت�صنيفي نتيجة ذلك‬ ‫التنافذ والتعالق الأجنا�سي‪.‬‬ ‫ومثلما ّ‬ ‫تخطت ال ّرواية قوانينها و�أدواتها‬ ‫لت�ستعري من الأجنا�س الأدبية الأخرى‬ ‫تقنياتها و�أدواتها‪ ،‬ا�ستعارت هذه الأجنا�س‬ ‫من الرواية ‪ -‬بدورها ‪ -‬بعدها التخييلي‬ ‫ور�ؤيتهـا للمكان و�أدواتـها يف عر�ض‬ ‫الأحداث ويف ر�سم �شخو�صها وهند�سة‬ ‫بنائها‪.‬‬ ‫وال�سرية الذاتية‪ ،‬باعتبارها �أقرب الأجنا�س‬ ‫الأدبية من الرواية‪ ،‬كانت واحدة من هذه‬ ‫الأجنا�س التي تلبّ�ست بلبو�س ال ّرواية ح ّتى‬ ‫تف ّرع من جن�سها نوع �سمّاه جـورج مـاي‬ ‫بـ"ال�سرية الذاتية الروائية"‪ .‬وقد ن�شط هذا‬ ‫اخلا�ص يف املغرب العربي عامّة‬ ‫اجلن�س‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة‪ .‬وم ّثـل الكاتب حممد‬ ‫واملغرب الأق�صى ّ‬ ‫�شكري منوذجً ا من الك ّتاب الذين و�ضعوا‬ ‫حياتهم ال�شخ�صيّة على ّ‬ ‫حمك الكتابة‪ .‬فكانت‬ ‫حياته مرجعه الإبداعي يف معظم �أعماله‬ ‫الأدبية من ق�صة ق�صرية ورواية ومذكرات‪.‬‬ ‫وخ�ص �سريته ال�شخ�صيّة بثالثة عناوين‬ ‫ّ‬ ‫كانت "وجوه" (‪ )2000‬جز�أها الثالث بعد‬ ‫"اخلبز احلايف" (‪ )1982‬و"زمن الأخطاء"‬ ‫�أو "ال�شطار" (‪.)1992‬‬ ‫خ�ضعت هذه الن�صو�ص الثالثة �إىل تعريف‬ ‫الفرن�سي فيليب لوجون الب�سيط جلن�س‬ ‫ال�سرية الذاتية باعتبارها "حكيا ا�ستعاديا‬ ‫نرثيا يقوم به �شخ�ص واقعي عن وجوده‬ ‫الذاتي‪ ،‬وذلك ملا ير ّكز على حياته الفردية‬ ‫خا�صـة"‪.‬‬ ‫وعلى تاريخ �شخ�صيّـتـه ب�صفـة ّ‬ ‫وقد �أقدمنا على مالحقة هذه "الوجوه"‬ ‫وا�ستنطاقها حلداثة �صدورها "فاخلبز‬ ‫احلايف" قد �أُ�شبعت نقدًا ح ّتى بات ما يكتب‬ ‫عنها اليوم ال يخلو من تكرار و�إعادة ملا كتب‬ ‫عنها يف الغرب �أو يف ال�شرق‪ ،‬وين�سحب‬ ‫ذلك ولو ب�شكل � ّ‬ ‫أقل على "زمن الأخطاء "‪،‬‬ ‫فاعتربنا �أن الوقوف عند هذا اجلزء الثالث‬ ‫قد ي�ساهم يف الك�شف عن وجه �آخر للكاتب‬ ‫�أو عن وجوه تطوّ ر التجربة الإبداعية عنده‪،‬‬ ‫خا�صة و�أنه قد م ّر على �صدور اجلزء الثاين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"ال�شطار" ما يقارب‬ ‫من �سريته الذاتية‬ ‫العقد من الزمن‪ .‬ونحن �إن ك ّنا عزمنا على‬ ‫مقاربة "وجوه" نقديّا ف�إننـا لن نغفل النظر‬ ‫يف اجلزءين ال�سابقني "اخلبز احلايف"‬ ‫ّ‬ ‫و"ال�شطار" ح ّتى تكون لنا نظرة �شاملة‬ ‫ن�صا‬ ‫لأجزاء ال�سرية الذاتية باعتبارها ّ‬

‫واحدًا كتب على مراحل‪ ،‬بل �إننا لن نرتدّد يف‬ ‫الإ�شارة �إىل بع�ض الن�صو�ص الأخرى �إذا ما‬ ‫ا�ستدعى مـ ّنـا الأمر ذلك لإ�ضاءة بع�ض ظالل‬ ‫الوجوه ّ‬ ‫وفك جتاعيدها و�إنطاقها �أو حملها‬ ‫على االعرتاف‪.‬‬ ‫و�سن�ستند يف هذه املقاربة على بع�ض‬ ‫�أدبيات كتابة ال�سرية الذاتية‪ ،‬وكتابة الرواية‬ ‫يف نف�س الوقت النفتاح الن�ص على كال‬ ‫اجلن�سني ول ّأن "اجلهد الكبري الذي يبذل‬ ‫لإر�ساء بالغة للرواية �أو �إن�شائية �أو ح ّتى‬ ‫ق�ص" يف�ضي �إىل‬ ‫"خطاب ق�ص�صي" �أو"علم ّ‬ ‫نتائج (…) تنطبق ب�صفة عامة على ال�سرية‬ ‫الذاتية انطباقها على الرواية"‪.‬‬ ‫و�سنحاول قراءة هذا العمل قراءة �أجنا�سية‬ ‫ت�س ّلط ال�ضوء على حالة "اخرتاق "‬ ‫ال ّروائي" لل�سري ذاتي خا�صة‪ .‬وعلى ظاهرة‬ ‫التعالق الأجنا�سي ب�شكل عام‪ .‬ولأجل بلوغ‬ ‫هذه الغاية و�ضعنا هذه العناوين الكربى‬ ‫لبحثنا نـروم �أن تكون دليال للقارئ وطريقا‬ ‫لنا ‪:‬‬ ‫ملاذا حممد �شكري ؟‬ ‫امليثاق ال�سري ذاتي ‪ /‬العقد الغائم‬ ‫احلقيقة التائهة بني الذاكرة‬ ‫اخل�ؤون والأنا الرقيب‬ ‫وجوه الأمكنة يف "وجــوه "‬ ‫وجوه الأزمنـة يف "وجــوه "‬ ‫وجــه الكاتب بيــن الوجــوه‬ ‫تراجـع اللهجـي واملتداول‬ ‫وتنامي الدخيل‬ ‫فورة الأجنا�س ور�سوخ‬ ‫ال�سرية الذاتية‪.‬‬ ‫‪ -1‬ملاذا حممد �شكري ؟‬ ‫مت ّثل �أعمال حممد �شكري حالة‬ ‫الق�ص العربي‬ ‫ا�ستثنائية يف ّ‬ ‫والق�ص املغربي خا�صة‪.‬‬ ‫عامة‬ ‫ّ‬ ‫وربمّ ا ارتبط هذا اال�ستثناء‬ ‫بحياة الرجل‪/‬الكاتب‬ ‫اال�ستثنائية فقد ُع ّد "حممد‬ ‫�شكري حالة وجودية وظاهرة‬ ‫�أدبية متميّزة يف حقل الأدب العربي احلديث‬ ‫واملعا�صر‪ ،‬فهو يتميّز عن غريه من الك ّتاب‬ ‫املغاربة وامل�شارقة على ح ّد �سواء بجر�أته‬ ‫النادرة يف احلديث املك�شوف عن جتربته‬ ‫الذاتية القا�سية وال�شا ّقة والتي متثل منوذجا‬ ‫�صريحا عن جتربة املهم�شني �أمثاله من فئات‬ ‫املجتمع املغربي العربي"‪.‬‬ ‫و�أ�ش ّد ما يربّر اختيارنا له هو �صلة �أعماله‬ ‫الأدبية بحياته ال�شخ�صيّة اليوميّة ف�سريته‬ ‫الذاتية تكاد ال تفارق كتاباته مبختلف‬ ‫�أجنا�سها الأدبية‪ .‬ورغم � ّأن بع�ض ن�صو�ص‬ ‫ال�سرية الذاتية قد �سبقت ن�صو�صه من‬ ‫مثل "الزاوية" للتهامي الوّ زانـي (�صدرت‬ ‫‪ )1942‬و"يف الطفولة" لعبد املجيد بن‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ج ّلون (�صدرت‬ ‫‪…)1957‬‬ ‫ف�إ ّننا نكاد جنزم � ّأن حممد �شكري هو الذي‬ ‫"�أَ ْ�س َكن" ال�سرية الذاتية – باعتبارها جن�سا‬ ‫�أدبيا – املغرب الأق�صى فانت�شرت ظاهر ًة‬ ‫للكتابة ال�سردية‪ .‬وهو ما دفع �أحمد املديني‬ ‫�إىل القول‪�" :‬إننا بقولنا �إن املتـن الروائي‬ ‫املغربي قابل ليدر�س �إجماال من املنظور‬ ‫املخ�صو�ص للكتابة الأتوبيوغرافية مل نكن‬ ‫ندفع بفر�ضيّـة من بني فر�ضيات بل ن�سجّ ل ما‬ ‫نراه‪ ،‬من وجهة نظرنا‪ ،‬تيّارا عام ًا… ي�شهد‬ ‫على ذلك غالبية �إنتاج ال�سنوات الأخرية‬ ‫ال�ساعي لتلقيح الرواية بر�ؤيـة وجماليـة‬ ‫حتديثيتني يتم ق�سم كبري منه بنوع من‬ ‫التنويع على الإيقاع الأوتوبيوغرايف" وقد‬ ‫�سبقه �إىل هذه ال ّر�ؤية الباحث التون�سي‬

‫بو�شو�شة بن جمعة حينما اعترب "الكتابة‬ ‫عن الذات يف املغرب الأق�صى متثل تقليدا يف‬ ‫الأدب املغربي احلديث واملعا�صر" وقد �ساهم‬ ‫يف تكري�س هذا ال ّنمط من الكتابة حممد‬ ‫�شكري الذي حققت �أعماله الأدبية جناحا‬ ‫كبريا يف الغرب الذي تب ّنى جتربته و�أنقذها‬ ‫من قانون املنع وامل�صادرة ّ‬ ‫ال�شرقي‪ .‬ومل‬ ‫تفتح دور ال ّن�شر العربية �أبوابها لكتاباته �إ ّال‬ ‫بعد �أن ن�شرتها دور ال ّن�شر الغربية مرتجمة‬ ‫�إىل لغات قرائها‪ّ ..‬‬ ‫ق�صة اجلزء الأوّ ل‬ ‫ولعل ّ‬ ‫من �سريته الذاتية "اخلبز احلايف" وما عاناه‬ ‫هذا الكتاب من مطاردة وم�صادرة وترجمة‬ ‫�أ�صبحت معلومة لكل قارئ عربي‪.‬‬ ‫‪ -2‬امليـثاق ال�سري ذاتي‪ :‬العقد الغائم‬ ‫يفتتح حممد �شكري عمله مبا ي�شبه امليثاق‬ ‫ال�سريذاتي الذي حدّده الفرن�سي فيليب‬ ‫ّ‬

‫لوجون وهو وعد يقطعه الكاتب‪ ،‬منذ‬ ‫يخ�ص به القارئ فحواه‬ ‫البداية‪ ،‬على نف�سه ّ‬ ‫ن�صه هو �سرد حلياته‬ ‫� ّأن ما �سيقوله يف ّ‬ ‫ال�شخ�صية وهذا امليثاق تتوجّ ه من خالله‬ ‫القراءة وجهة حمدّدة متيّزها عن قراءة‬ ‫الرواية وخمتلف الأجنا�س الأدبية الأخرى‬ ‫"فما مييّز موقفنا عند قراءة �سرية ذاتية عن‬ ‫موقفنا عند قراءة رواية لي�س كون الأوىل‬ ‫حقيقيّة والثانية خيالية‪ ،‬و�إنمّ ا كون الأوىل‬ ‫تظهر لنا يف لبو�س احلقيقة والثانية يف‬ ‫لبو�س اخليال"‪.‬‬ ‫وميثاق �شكري يف "وجوه" جاء ليعار�ض‬ ‫الدّوافع املعروفة لكتابة ال�سرية الذاتية‬ ‫فلم تكن غايته من كتابه هذا اجلزء الثالث‬ ‫تربير �أفعاله مثلما فعل جان جاك رو�سو‬ ‫يف "اعرتافات" وال كانت غايته �إدانة نف�سه‬ ‫واالعرتاف ب�أخطائها يف �شبه تكفري عن‬ ‫الذنوب و�إح�سا�س بالندم �إذ يقول‪" :‬لن‬ ‫�أ�سعى يف هذه التجربة �إىل تربئة نف�سي �أو‬ ‫�إدانتها؛ �أنا والآخرون‪ .‬فبني الفرح املطلق‬ ‫واحلزن املطلق �أنا بينهما مثل دودة الق ّز لن‬ ‫�أخ�شى من الغد الكئيب ال ّلعني �سواء كنت مع‬ ‫نف�سي �أو مع ال�شيطان" (�ص‪.)7‬‬ ‫ال�سريذاتي‬ ‫غري � ّأن الكاتب يقدّم هذا امليثاق ّ‬ ‫داخل ف�صل من ف�صول العمل ال�سردي وعاد ُة‬ ‫ن�ص ال�سرية الذاتية‪،‬‬ ‫امليثاق �أن يكون خارج ّ‬ ‫ن�صه الأوّ ل "اخلبز‬ ‫مثلما فعل الكاتب يف ّ‬ ‫ن�ص منفرد‬ ‫احلايف" حني و�ضع امليثاق يف ّ‬ ‫منف�صل حتت عنوان "كلمة" رغم � ّأن الطبعة‬ ‫الفرن�سية لي�س فيها هذا امليثاق‪ .‬وهذا‬ ‫الإرباك الأوّ ل يفجّ ر الأ�سئلة الأوىل حول‬ ‫خا�صة �أن‬ ‫امل�شكل الأجنا�سي للعمل الأدبي‪ّ ،‬‬ ‫غالف الكتاب ال يح�سم امل�س�ألة ففي الطبعة‬ ‫املغربية و�ضعت عبارة "�سرية ذاتية روائيّة‪،‬‬ ‫اجلزء الثالث" بينما و�ضعت عبارة "رواية"‬ ‫على غالف الطبعة ال ّلبنانيّة‪ .‬وملّا كان امليثاق‬ ‫ن�ص �أكرب و�ضع له‬ ‫غري وا�ضح ‪ -‬لوروده يف ّ‬ ‫عنوانا "حبّ ولعنات" وقد ورد �إثر ت�صدير‬ ‫مقتطف من رواية "�إ�سم الوردة" لأمربطو‬ ‫ايكو ـ ولأ ّنه نظريّا ميكن للكاتب �أن يتخ ّلى‬ ‫عن هذا امليثاق‪ ،‬وهذا التخ ّلي ال يخرج‬ ‫ن�ص ال�سرية الذاتية من جن�سه‪ ،‬بقي احل�سم‬ ‫يف جن�س العمل الأدبي بعيد ًا‪.‬‬ ‫‪ -3‬احلقيقة التائهة بني الذاكرة اخل�ؤون‬ ‫والأنا ال ّرقيب‬ ‫يراجع حممد �شكري يف "وجوه" ما كتبه‬ ‫يف اجلزء الأول من �سريته الذاتية "اخلبز‬ ‫احلايف " ب�ش�أن تلك الذكريات التي ّ‬ ‫خطتها‬ ‫ذاكرته عن طفولته‪ ،‬فيعرتف با�ستحالة تذ ّكر‬ ‫هذه الفرتة الغائمة من حياته بكل �صفائها ‪:‬‬ ‫"�إن قرية طفولتي مل يعد لها وجود ح ّتى‬ ‫يف ذاكرتي‪� ،‬شا�شة م�شوّ �شة‪ ،‬تت�شبّح عليها‬ ‫�صورتي و�صور الآخرين والأ�شكال التي‬ ‫ال �شكل لهـا ‪ :‬تلك الطفولة دمّرتها الهجرة‪،‬‬ ‫ال �أومن مبن يدّعي �أنه يعرف كل طفولته" (‬ ‫�ص‪.)152‬‬ ‫وعندما تعلن الذاكرة عن ف�شلها وته ُفـتُ‬ ‫ينه�ض اخليال بديال منتجً ا ي�ؤثث وير ّتق‬ ‫ما تركته الذاكرة ُم ّز ًقــا‪ .‬فتندحر ال�سرية‬ ‫الذاتية بعيدًا لتظهر الرواية بكل طغيانها‬ ‫وقدرتها الفائقة على حكي املمكن كما لو‬ ‫�أ ّنه كان بالفعل‪ .‬فمهما �أجهد الكاتب نف�سه‬ ‫وكابد حماو ًال تذ ّكر ف�ضاءات هذه الطفولة‬ ‫وم�شاعرها ف�إ ّنه �أبدًا "يكتب طفولتـه مـن‬ ‫خـالل رجولتـه ون�ضجـه‪� ،‬إ ّنـه يحـوّ م حولهـا‬ ‫لأن كل طفولة هي رهينة برجولتها والطفل‬ ‫"الطفل" ال يفهمـه �إ ّال الطفـل" ( �ص‪.)152‬‬ ‫�إن اعرتاف �شكري با�ستحالة تذ ّكر طفولته‬ ‫كما كانت بالفعل‪ ،‬وطعنه يف قد�سيّة ما كتبه‬ ‫عنها قد �سبقه �إليه رائد من روّ اد الكتابة‬ ‫الأتوبيوغرافية يف الـمغـرب الأق�صـى‪ :‬عبد‬ ‫املجيد بن ج ّلون يف �سريته الذاتية "يف‬ ‫الطفولة" فالذاكرة على الدّوام كما يعرفها‬ ‫جورج ماي ّ‬ ‫تظل "مرتجرجة ق ّلبا خ�ؤونا"‬ ‫غري �أن احلقيقة ال تكون يف ّ‬ ‫كل الأحوال‬ ‫�ضحيّة ّ‬ ‫تعطل الذاكرة‪ ،‬ف�سلطة الذات الكاتبة‬ ‫حلظة الكتابة بكل ما حتمله من وعي وقيم‬ ‫وثقافة هي بعيدة كل البعد عن وعي ذلك‬

‫‪9‬‬ ‫الطفل "القدمي" وقيمه وثقافته‪ .‬لذلك تردع‬ ‫الذات الكاتبة ال ّراهنة ذات الطفل الغائبة‬ ‫ف ُتظهر ما ت�سمح ب�إظهاره منها وتواري ماال‬ ‫خا�صة تلك اجلوانب التي‬ ‫ت�ستل ّذ ف�ضحه‪ّ .‬‬ ‫ت�سيء حلا�ضرها الكهل‪ .‬ومن ث ّم ف�ضبابية‬ ‫�صورة الطفولة عند �شكري وعند كل كـ ّتـاب‬ ‫ال�سرية الذاتية قد ترجع ـ زيادة على ق�صور‬ ‫الذاكرة ـ �إىل �سطوة الأنا الأعلى" املتمثل‬ ‫يف "الذات الراهنة" ذات الكهل‪ .‬وميكن‬ ‫�أن ين�سحب هذا التف�سري على ّ‬ ‫كل ما تدّعي‬ ‫الذاكرة �أنها عجزت عن �إتيانه و�إدراكه‪،‬‬ ‫فين�شط اخليال لتنزاح ال�سرية الذاتية �إىل‬ ‫�أجنا�س �أخرى جماورة ّ‬ ‫لعل ال ّرواية �أ ْقربُها‪.‬‬ ‫وملا كانت "ال�سرية الذاتية مع ّر�ضة على‬ ‫الدوام لالنحراف ب�سبب ما متليه ظروف‬ ‫الكاتب زمن الكتابة" �أ�صبح كل ما حدّثنا عنه‬ ‫حممد �شكري على �أ ّنه حقيقة مو�ضع ّ‬ ‫�شك‪.‬‬ ‫وهو باعرتافه بق�صور ذاكرته عن تذ ّكر ح ّتى‬ ‫املكان الذي عا�ش فيه يكون قد طعن ال�سرية‬ ‫الذاتية يف مقتل لتتح ّلل يف ف�سحة اخلطاب‬ ‫الروائي وجتـري �أحـداثهـا يف م�سارب ال�سرد‬ ‫التخييلي وتن�أى عن حديث احلقيقة‪ .‬و هذا‬ ‫الزيف الذي ي�ضرب ال�سرية الذاتية والذي‬ ‫يدركه القارئ وهو يواجه "وجوه" ّ‬ ‫يطل‬ ‫علينا مت�سائال عن حقيقة العالقة التي تربط‬ ‫"�شكري" بـ"فاطي" ال�ساقية‪ ،‬وحقيقة تلك‬ ‫الإ�شاعة التي روّ جتها عنه‪�" :‬أ�شاعت ع ّنـي‬ ‫"فاطي" الودود‪ ،‬الكرمية‪ ،‬لأ�سباب �س�أظلّ‬ ‫�أجهلها حتى مماتي‪ ،‬ب�أنيّ �أبوها املغرم‬ ‫ال�سفاحية‪ ،‬وحني ا�ستنكرت‬ ‫بها ذو النزعة ّ‬ ‫هي وت�شبثت �أنا بها هدّدتني بالبالغ ع ّني‬ ‫�إىل ال�سلطات‪ ،‬هربت الجئا �إىل م�ست�شفى‬ ‫الأمرا�ض الع�صبية يف تطوان لأحمي نف�سي‬ ‫مدّعيا اجلنون ومنعًا لتفاقم الف�ضيحة‬ ‫وحفظا لكرامة �أ�سرتها العزيزة التي ورثتها‬ ‫من ال ّال �شفيقة"‪�( .‬ص‪)98‬‬ ‫هل فعال ّ‬ ‫"ظل " �شكري ال يعلم ال�سبب‬ ‫الذي دفع فاطي خللق تلك الإ�شاعة؟ هل‬ ‫هذه الإ�شاعة كافية ليدخل �إن�سان بقدميه‬ ‫وباختياره م�ست�شفى الأمرا�ض الع�صبية‬ ‫ليعي�ش بني املعتوهني والـمجـانيـن؟‬ ‫ملاذا اكتفى �شكري بو�صف ج�سد "فاطي"‬ ‫العاري ليلة نامت عنده فيقفز من الو�صف‬ ‫�إىل ال�صباح متحدّثا عن غثيانه؟ هل كان‬ ‫غثيانه من ال�شراب الذي �شربه ليال �أم هو‬ ‫ناجت عن �أمر رام تركه مغيّبا؟‬ ‫ملاذا ال يكون اخلرب الذي نقله لنا �شكري‬ ‫على �أ ّنه �إ�شـاعـة هو احلقيقة؟ �أمل يع�ش‬ ‫�شكري حياة ماجنة عا�شر فيها ال ّالئطيـن‬ ‫واملوم�سات منذ طفولته ح ّتى �شيخوخته؟ �أمل‬ ‫يحدثـنـا يف "اخلبز احلايف" عن مغامراته‬ ‫يف دور البغاء املغربية والإ�سبانية؟ �أمل‬ ‫ينقل لنا يف "ال�سوق الداخلي" مغامراته مع‬ ‫املخ ّنثني؟! ملاذا يرغمنا على �أن نك ّذب معه‬ ‫اخلرب ونعتربه �إ�شاعـة‪ .‬ون�س ّلم ب� ّأن احلقيقة‬ ‫هي تلك العالقة املالئكية مع فاطي؟! �أمل‬ ‫يـعـرتف يف �آخـر خبزه احلايف ب�أ ّنه لي�س‬ ‫مالكا؟ "لقد فاتني �أن �أكون مالكا" وملّا كانت‬ ‫الإ�شاعة قد حدثت وتناقلتها �شوارع طنجة‬ ‫مثلما كان دخول الكاتب م�ست�شفى الأمرا�ض‬ ‫الع�صبية بتطوان حقيقة‪ .‬ملاذا ال تكون هذه‬ ‫الإ�شاعة هي احلقيقة؟ �أال يكون طـرحه هـذا‬ ‫اخلـبـر يف �سريته الذاتية حماولة من الكاتب‬ ‫تربئة نف�سه[نورد هذه الأ�سئلة ال لغاية �إدانة‬ ‫الكاتب بل لإدانة احلقيقة يف ال�سرية الذاتية‬ ‫جن�سا �أدبيّا‪ ،‬مثله مثل الرواية‪ ،‬الكذب ما ّدتـه‬ ‫الأوىل‪ .‬؟ لكـن �أمل يَعِ ـ ْد يف بدايـة ال�سيـرة‬ ‫الذاتيـة ب�أ ّنه ال ينوي تربئـة نف�سـه وال‬ ‫الآخرين؟‬ ‫� ّإن "احلقيقة يف ال�سرية الذاتية هي على‬ ‫الأرجح ق�ضية زائفة‪� ،‬إذ � ّأن ال�سرية الذاتية‬ ‫من حيث هي �سرية ذاتية‪ ،‬جمافية للحقيقة‪.‬‬ ‫و�أوّ ل �أ�سباب ذلك �أن كاتب ال�سرية الذاتية ال‬ ‫ي�ستطيع مهما فعل �أن يتخ ّل�ص من احلا�ضر‬ ‫الذي يكتب فيه ليلتحم باملا�ضي الذي‬ ‫يرويه"‪.‬‬ ‫وعدم االعرتاف يف "وجوه" قد يكون مربّرا‬

‫◄‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪10‬‬ ‫من خالل ما و�ضعه الكاتب يف بداية كتابه‬ ‫ب�أ ّنه ال ينوي �أن يدين نف�سه وي�ضيف يف‬ ‫"ال�صراحة‬ ‫الف�صل الأخري من الكتاب �أن ّ‬ ‫الزائدة حمق يقود �إىل التهوّ ر" (�ص‪.)156‬‬ ‫وملّا كان حممد �شكري ال يقوى على الإف�صاح‬ ‫مبا يعرفه عن "الأ�شخا�ص" و"الأ�شياء"‬ ‫خو ًفا من خلق "عدوّ ال يعرف متى يث�أر منه‬ ‫ف�إ ّنه ال ريب يخفي من �سريته الكثري ممّا‬ ‫ويخ�ص ذاته‪ .‬ورغم ما توهم به‬ ‫يخ�ص الآخر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سريته الذاتية يف �أجزائها الثالثة من ف�ضح‬ ‫للذات وتعرية لها ف�إن ن�سبيّة قول احلقيقة‬ ‫جتعل �صورة امل�سكوت عنه يف ذهن القارئ‬ ‫ف�سر‬ ‫�أكرث فظاعة وخطورة مما قيل وقد ّ‬ ‫ذلك الكاتب باخلوف من القتل‪ .‬هذا اخلوف‬ ‫الذي دفعه �إىل �إغراق حقائق حياته وحياة‬ ‫غريه يف ال�صمت‪� .‬ألـم يعرتف يف حوار‬ ‫مطوّ ل �أجرته معه جريدة القد�س العربي"‬ ‫�أن جماعات �إرهابية جمهولة ما ّ‬ ‫تنفك تهدّده‬ ‫وتتوعّده بالت�صفية‪" :‬هناك تهديدات عنيفة‬ ‫و�صلت �أحيانا �إىل حماولة االعتداء البدين‪.‬‬ ‫�إنها تهديدات يتزعّمها غالبـا من يدّعون �أ ّنهم‬ ‫يحمون الأخالق ويدافعون عن الدِّين وهم‬ ‫يف�سقون يف اخلمّارات وال�شوارع املريبة‪.‬‬ ‫كثريا ما قيل يل ‪" :‬ذات يوم �ستعرف من‬ ‫�أنا"‪ .‬هيّئ نف�سك"‪� ،‬سي�أتي دورك" ه�ؤالء ال‬ ‫�أعرف هويّاتهم‪� ،‬أحتا�شاهم وال�صراع معهم‬ ‫غري جم ٍد يف �شيء"‪.‬‬ ‫ومن ث ّم تكون حقيقة من حقائق الواقع‬ ‫املو�سوم بالقمع والإ�سكات هي التي قد‬ ‫تكون حكمت على بقية احلقائق بالبقاء يف‬ ‫العتمة‪ ،‬وعلى ال�سرية الذاتية باالنزياح نحو‬ ‫الإبداعي‪ ،‬فينفلت بني اللحظة والأخرى‬ ‫جن�س ال�سرية الذاتية من جن�سه اخلطري‬ ‫ باعتباره جن�سا اعرتافيّا ‪" -‬لينفتح على‬‫ـح�صن ب�آليـة التخيّل‪ .‬وهل‬ ‫جن�س ال ّرواية امل ّ‬ ‫يحاكم املرء على التخيّل ؟ ومن الذي �سلم‬ ‫من �شيطان اخليال؟ ولكن هل املتخيّل غري‬ ‫احلقيقة؟‬ ‫‪ - 4‬وجوه الأمكنة يف "وجوه"‬ ‫لئن �شغل املكان مو�ضعًا هامًا يف الرواية‪،‬‬ ‫والرواية املعا�صرة حتديدا‪ ،‬فقد يُغني‬ ‫ح�ضوره املدرو�س القارئ عن البحث عن‬ ‫بطولة ب�شريّة �أو �أ�سطوريّة ف� ّإن هذه الأهميّة‬ ‫للمكان تت�ضاعف يف ال�سرية الذاتية‪ ،‬لأن‬ ‫هذا املكان "ال ّلغوي" يف العمل الأدبي له‬ ‫مقابل يف الواقع‪ ،‬ولي�س ف�ضا ًء متخيّال‬ ‫ابتدعه الكاتب‪ .‬غري �أن ارتباط مكان ال�سرية‬ ‫الذاتية باملرجع ‪ -‬املكان الواقعي ‪ -‬ال يفقده‬ ‫بعده الإيحائي وال�سحري لأن كاتب ال�سرية‬ ‫باعتباره بطال ل�سريته الذاتية‪ ،‬تنـعك�س‬ ‫حاالته النف�سيّة على حميطه يف العمل‬ ‫الروائي فتتلبّ�س الأمكنة ب�ألوان النف�س‬ ‫وهمومهـا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل ما يجعل من حديث الأمكنة يف‬ ‫خم�صو�صا هو تلك العالقة‬ ‫"وجوه" حديثا‬ ‫ً‬ ‫التي يربطها �شكري باملكان معي�شا يـوميا‬ ‫وجمال ّي ًة يف الكتابة ال�سردية‪" :‬يل ارتباط‬ ‫كبري جدّا باملكان‪� .‬أنا �أقدّر ما ي�سمّى بجمالية‬ ‫املكان يف الق�صة �أو الرواية رغم �أ ّنه مذهب‬ ‫كال�سيكي واقعي ولك ّني مرتبط جدّا‬ ‫بالأماكن‪ ،‬و�أحيانا ال �أعرف كيف �أكتب حتى‬ ‫�أكون جال�سا يف مكان معيّـن"‪.‬‬ ‫هذا املكان الذي يق�صده �شكري هو طنجة‬ ‫التي ا�ستق ّر بها و�أقام منذ طفولته ـ �سن‬ ‫ال�سابعة ـ ح ّتى حتوّ ل �إىل مع ٍْلم من معاملها‬ ‫ومزار من مزاراتها‪.‬‬ ‫وبناءٍ من بناءاتها‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -1‬وجـه طنجــة اجلديد‬ ‫طنجة‪ ،‬هذه املدينة "العجائبية" العنكبوتيّة‪،‬‬ ‫هذا املكان الذي يحلم بالإقامة فيه الكثري‬ ‫من �أبناء الريف املغربي‪ ،‬هذه املدينة التي‬ ‫زراها كبار �أهل الأدب والر�سم واملو�سيقى‬ ‫يف العامل… �سرق وج َههَا الدويل اال�ستقال ُل‬ ‫بعد �أن �ألغى عادة اجلواز فتهاطلت عليها‬ ‫�أ�سراب النازحني ودخلوها عابثيـن بقوانينها‬ ‫وتاريخها وقد�سيّة �أ�سطورتها‪ .‬وقد بد�أ‬ ‫ومت�سخها منذ‬ ‫�شكري ي�شعر بت�شوّ ه املدينة‬ ‫ّ‬ ‫كتابه "زمن الأخطاء" (اجلزء الثاين من‬ ‫وجت�سد �أكرث يف روايته‬ ‫ال�سرية الذاتية)‬ ‫ّ‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫"ال�سوق الداخلي" ملّا نعتها بالبغاء‪.‬‬ ‫يخلق حممد �شكري عالقة ا�ستثنائية بينه‬ ‫والأمكنـة �ضاربًا بها النظريّة والعادة ف�أماكن‬ ‫الإقامة تتحوّ ل معه �إىل �أماكن عبور وانتقال‬ ‫و�أماكن االنتقال تنقلب �أماكن للإقامة مثلما‬ ‫تتحوّ ل الأماكن االختياريّة �إىل �أماكن‬ ‫�إجباريّة‪.‬‬ ‫ينقلب البيت ال�شخ�صي يف "وجوه"‪ ،‬خالفا‬ ‫لوجهه يف الروايـات عـادة‪ ،‬معبّـرا عن "قيم‬ ‫الألفة" التي تعي�شها ال�شخ�صية مع نف�سها‬ ‫والأ�شياء املحيطة بها‪ ،‬ومعبرّ ا عن ف�سحة‬ ‫اخليال واحلريّة واحللم‪ ،‬ينقلب �إىل �سجن‬ ‫يُعتقـل فـيه �شكـري ليـ ًال هـروبًـا من �سكاكني‬ ‫الل�صو�ص واملجرمني‪ .‬بيت‪/‬غرفة‪ ،‬اختارهـا‬ ‫الكاتـب فـوق الـ�سـطـح بعـيـدا عن ال�ضجيج‬ ‫والأحداث وامل�ضايقات ف�إذ بها تنقلب زنزانة‬ ‫عذاب ينقله لنا �شكري – نحـن القـ ّراء ‪ -‬يف‬ ‫�أب�شع �صوره حني ي�صف ق�سوة ما يفعله‬ ‫به ت�ساقط قطرات املطر‪�" :‬أ�سمعها تبقبق‬ ‫�أو كما لو �أ ّنه الطائر النجّ ار ينقر هامـتي‬ ‫�صانعًـا ّ‬ ‫ع�شـه‪ ،‬كمـا لـو � ّأن دبّـو�سً ـا ينغـرز يف‬ ‫جنبي‪ ،‬يف جفني‪ ،‬كل �صفعاته �أطيقها على‬ ‫وجهي يف ال�شارع �أو يف الغابة �إ ّال قطرة‬ ‫واحدة تخرق الآن �سمعي برتابة نّ‬ ‫جتن‪ .‬لك�أ ّنه‬ ‫تعذيب �صيني حقيقي" (�ص‪ .)24‬هذا العذاب‬ ‫�سببه اختيار بطعم الكارثة تذوّ قه �شكري‬ ‫ملّا اكت�شف �أن "مزايا ال�سكن على ال�سطح‬ ‫ت�سقط يف الهوّ ة" (�ص‪ )24‬فانقلبت حياته‬ ‫�أرق ًا دائمًا مل تنجح املُ�سكرات يف ت�سكني‬ ‫�أوجاعه وال جنحت يف تنوميه‪ .‬يف هذا‬ ‫املكان ال�شبيه بال�سجن يعي�ش الكاتب وحيدًا‬ ‫راف�ضا �أن ي�شاركه الإقامة فيه �أحد‪ ،‬فح ّتى‬ ‫�صديقه "فريد" الذي طلب الإقامة معه �أجابه‪:‬‬ ‫"�إذا كنت تريد �أن نبقى �صديقني فت�ش لنف�سك‬ ‫عن م�سكن غري م�سكني" (�ص‪ )121‬فتتحوّ ل‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫الغرفة ‪ /‬الزنزانة �سجنا انفراديّا وغرفة‬ ‫�شكري ال ّليليّة ال نكاد نعرف عن تفا�صيلها‬ ‫�شيئا غري وجودها على ال�سطح‪ ،‬فال ندري �إن‬ ‫كان فيها نوافـذ‪� ،‬أو �أثـاث‪� ،‬أو كتب �أو مكتب‪،‬‬ ‫�أو دورة مياه… وهذا التغييب ملالحمها‬ ‫وطابعها الطوبغرايف… دليل عزوف الكاتب‬ ‫عنها فال مكان لها يف قلبه وال يف ذاكرته‪ ،‬وال‬ ‫وظيفة لها �سوى وظيفة املحطة الإجبارية‬ ‫النتظار رحلة النهار‪ ،‬الذي ي�ستقبله بالتقيء‪.‬‬ ‫نف�سر هذه العزلة التي ي�ضربها �شكري‬ ‫قد ّ‬ ‫حوله بال�شعور بالغربة بعد رحيل �أ�صدقائه‬ ‫جان جينيه‪ ،‬يول بولز‪ ،‬وغريهما‪.‬‬ ‫هذا حال البيت ال�شخ�صي‪ ،‬منوذج ًا لأماكن‬ ‫الإقامة التي فقدت وظيفتها‪� ،‬أمّا �أماكن‬ ‫االنتقال التي عادة ما ارتبطت باحلريّة‬ ‫واالنطالق ‪ -‬فاحلريّة "يف �أكرث �صورها‬ ‫بدائية هي حريّة احلركة" –حتوّ لت مع‬ ‫�شكري �إىل �أماكن لال�ستقرار‪ ،‬فح�ضوره‬ ‫مت�أرجح بني املقاهي ودور الدعارة وبني‬ ‫احلانات وال�شوارع‪ .‬غـيـر � ّأن هـذا اال�ستقـرار‬ ‫يظهـر لـنـا يف �سريته الذاتية بطعم الإدمان‬ ‫�أكرث منه اختيار‪ .‬والإدمان ي�صبح �إجبـا ًرا‬ ‫وق�سرا و�سج ًنا ي�أ�سر النف�س واجل�سد‪،‬‬ ‫كذلك �شكري ال يقوى على فراقها فقد‬ ‫"�أ�صبحت (طنجة) توحي باالنتحار ملن ال‬ ‫ي�ستطيع مغادرتها‪ ،‬لقد �ضاع فيهـا كـل مـا‬ ‫هـو �أ�سطـوري جميل"(�ص ‪)109-108‬‬ ‫واكت�سحها الهوان واالنهيار‪ ،‬هكذا نقل لنا‬ ‫�شكري هذا التحوّ ل لتتحوّ ل �سريته الذاتية"‬ ‫وجوه �إىل وثيقة تاريخية تنقـل واقع طنجة‬ ‫وتاريخ انهيارها مدينة دولية ونكبتها مدينة‬ ‫�سياحيّة ابتدا ًء من حرب ‪� 67‬إىل حرب‬ ‫اخلليج‪ .‬وهذه الوظيفة التوثيقيّة هي التي‬ ‫تنمّي عند القارئ ذلك الف�ضول "الذي يحدثه‬ ‫كاتب ال�سرية الذاتية حينما يكتب‪ ،‬ال بو�صفه‬

‫�شاهدا على نف�سه‪ ،‬بل بو�صفه �شاهدا على ما‬ ‫يحيط به‪.‬‬ ‫ذلك �أنه و�إن كان ال يق�صد البتة �أن يكتب‬ ‫وثيقة تاريخية‪ ،‬ف�إنه ال منا�ص له من �أن‬ ‫يخ�ضع لت�أثري بيئته و�أن يت�أ ّثر بها فيما‬ ‫يكتب" في�ؤ ّرخ لطبقته الإجماعيّة ولعاداتها‬ ‫الغذائية وال�سلوكية وينقل واقع حيّـه‬ ‫املعماري وخ�صو�صيته الثقافية‪ .‬وقد كان‬ ‫حممد �شكري واعيا بهذه الوظيفة اخلطرية‬ ‫لل�سرية الذاتية منذ كتابته "اخلبز احلايف"‬ ‫حني حتدّث عن مفهومه لل�سرية الذاتية‬ ‫ّ‬ ‫ال�شطـارية‪�" :‬إن ما كتبته يف هذه ال�سرية‬ ‫�أعتربه وثيقة اجتماعيّة‪ ،‬لي�س �أدبا‪ ،‬عن‬ ‫مرحلة معيّنة �آثارها ال�سيئة مازالت تنخـز‬ ‫جمتمعنا"‪.‬‬ ‫هذا التحوّ ل الذي �شهدته طنجة ب�شوارعها‬ ‫و�أ�سواقها وحاناتها ومقاهيها �صاحبه حتوّ ل‬ ‫يف م�شاعر الكاتب ‪ .‬فــ"ال�سوق الداخلي‬ ‫"‪ ،Zoco chico‬لـم َي ُع ْد يعني (له) غري‬ ‫القرف والب�ؤ�س املزري" (�ص‪ )28‬فقد حتوّ ل‬ ‫مرتعًا للم�شبوهني والل�صو�ص واملدمنني‬ ‫والغرباء‪ ،‬فانقلبت متعته التي كان يجدها‬ ‫يف التن ّقل بني حوانيت ال�سوق ودوره �إىل‬ ‫�إح�سا�س باخلوف وال ّرعب والغربة‪ .‬مل يكن‬ ‫ي�شعر بهذه الأحا�سي�س ملّا كانت طنجة حتت‬ ‫احلماية الفرن�سية واال�ستعمار الإ�سباين ل ّأن‬ ‫الهجرة �إليها كانت ّ‬ ‫منظمة �أمّا و�ضعها اجلديد‬ ‫فقد حوّ لها وحوّ ل �سوقها الداخلي �إىل حانة‬ ‫غريبة مرعبة ي�صفها �شكري من خالل وجوه‬ ‫مرتاديها‪�" :‬أكاد �أرى اجلرمية ماثلة يف عني‬ ‫كل من �أراه الآن جال�سا �أو واقفا يرتبّ�ص‪،‬‬ ‫املكر �أراه و�أ�شمّه‪� ،‬إ ّنه الرعب بعينه يف وجه‬ ‫كل من يجو�س ال�ساحة‪ ،‬العدوانيّة املجانية‬ ‫متح ّفزة يف كل الوجوه املم�سوخة‪ .‬من �أين‬ ‫جاء كل ه�ؤالء الذين يبدو على وجوههم‬

‫�أ ّنهم خرجوا حديثا من ال�سجن م�ستعدّون �أن‬ ‫يعودوا �إليه؟! انه غزو ترتي" (�ص‪ )28‬هذا‬ ‫الغزو جعل من �أماكن االنتقال ‪ -‬التي غـيّـر‬ ‫�شكري وظيفتها لت�صبح �أماكن �إقامة ‪� -‬أماكن‬ ‫غري �آمنة ال ت�شعره �إ ّال بالقرف ف�أ�صبح‬ ‫ي�ستقبل �صباحه فيها بالتقي�ؤ والغثيان‪.‬‬ ‫فاملدينة الأ�سطورية (طنجة) تبدو له "ك�أ ّنها‬ ‫ج ّثة مل تدفن جيّد ًا" (�ص‪.)29‬‬ ‫يف هذا الف�ضاء املفرغ من حمتواه ومن‬ ‫تاريخه وامل�شحون بالفقدان واجلرمية‬ ‫تن�شط م�شاعر الإحباط والغربة‪ ،‬غربة تذكيها‬ ‫هجرة خم�صو�صة هي هجـرة الـذات �إلـى‬ ‫باطـنهـا يف حركة ارتدادية انطوائية تر�سم‬ ‫وجه العزلة ال�شكرية ‪ -‬ن�سبة �إىل �شكري‬ ‫‪ :‬نف�س مكبّلة يف ج�سد هزيل فوق ال�سطح‬‫تنتظر الإفراج عنها لتطري �إىل مهدها القدمي‪.‬‬ ‫عزلة قد تبلغ بالذات غاية العقل �أو قرار‬ ‫اجلنون‪.‬‬ ‫ال�سفر‬ ‫‪� -2‬أمكنة ّ‬ ‫نادر ًا ما يحملنا حممد �شكري �إىل �أماكن‬ ‫�أخرى غري طنجة يف هذا اجلزء الثالث من‬ ‫ال�سرية الذاتية‪ ،‬فال نكاد نعرث يف متنها‬ ‫على �أمكنة �أخرى فاعلـة‪ ،‬فح ّتى زيارته �إىل‬ ‫الناظور – م�سقط ر�أ�سه – �سنة ‪ 1993‬بعد‬ ‫�أن م�ضى على هجرته منها �أكرث من خم�سني‬ ‫�سنة‪ ،‬مل يح ّركها حنني‪ ،‬بل كانت وليدة‬ ‫دعوة من جمعية ثقافية (جمعية املا�س)‪ ،‬ومل‬ ‫حت ّرك فيه هذه ال�صدفة التي قادته �إىل منبته‬ ‫غري ف�ضول بحث عن الأ�صول �شبيه بلعبة‬ ‫جمانية ال حنني فيها وال متعـة و"�أي حنني‬ ‫�إذا مل تكن هناك ذكرى حميمة نحـو مكان ما"‬ ‫(�ص ‪ .)52‬فقـريتـه التي هرب من طاعونها‬ ‫وفقرها تعرت�ضه بنف�س الوجه القامت "قرية‬ ‫�شبـه مهجورة" ّ‬ ‫يع�شـ�ش فيها الب�ؤ�س‪ ،‬فتهرب‬ ‫ذكرياتها من ذاكرته ليجتاحها الن�سيان‬

‫يقرب "وجوه" ‪ -‬باعتبارها‬ ‫ما ّ‬ ‫الرواية‬ ‫�سرية ذات ّية ‪ -‬من جن�س ّ‬ ‫يف�سر هذا الت�شوي�ش الزمني‬ ‫وما‬ ‫ّ‬ ‫يف الآن ذاته هو اعتماد الكاتب‬ ‫خا�صة ل�سرد �سريته‪،‬‬ ‫على تقنية‬ ‫ّ‬ ‫فيعمدُ �إىل تق�سيمها‪ ،‬مثلما يبوح‬ ‫به العنوان �إىل وجوه حتمل‬ ‫�أحداثا وهذه الوجوه التي عرفها‬ ‫يف �أزمنة خمتلفة ومتباعدة‪،‬‬ ‫تزدحم على ذاكرته خا�ضعة‬ ‫ثم تكون‬ ‫ملبد�أ االنتقاء ومن ّ‬ ‫عملية التقدمي والت�أخري عملية‬ ‫حتركها نوايا‬ ‫واعية وعقل ّية ّ‬ ‫الكاتب‪.‬‬

‫املريع‪.‬‬ ‫مثلت مقابر امل�شاهري بفرن�سا �أه ّم الأمكنة‬ ‫التي قاده ال�سفر �إليها فتتبّع قبورها قربًا‬ ‫قربًا‪ ،‬م�ستعر�ضا ثقافته ومعرفته ب�أعالم‬ ‫الأدب واملو�سيقى وال�صحافة والر�سـم فـي‬ ‫الغرب‪ .‬وال ميكن �أن ن ْغفـل ما بني �شكري‬ ‫واملقابر من تاريخ حميمي فمنها كان يلتقط‬ ‫طعامه يف طفولته بقريتـه الفقرية وهي‬ ‫التي احت�ضنت �أخاه ال�صغري الذي �أزهق‬ ‫روحه والده القا�سي‪ ،‬هي الأمكنة التي كان‬ ‫يكتب فيها ق�ص�صه وفيها كتب خبزه احلايف‪.‬‬ ‫وهاهو الع�شق القدمي ملدن الأموات يتد ّفق‬ ‫من جديد يف "وجـوه" فيطارد امل�ؤلف ‪/‬‬ ‫البطـل وجـوه الـمـكان يف فرن�سا‪ .‬ربمّ ـا هو‬ ‫هاج�س املوت الذي �أخذ يطرق ذهن �شكري‬ ‫وهو ي�ستقبل عقده ال�ساد�س"وما �أكرث ال�سري‬ ‫الذاتية التي تبدو ك�أ ّنها حماوالت يائ�سة‬ ‫لالنت�صار على الزمان واملوت"‪.‬‬ ‫‪ - 5‬وجـوه الأزمنة يف "وجوه "‬ ‫ي ّتخذ الزمن يف "وجوه" ن�س ًقا م�شوّ �شا ال‬ ‫يخ�ضع لرتتيب طبيعي‪ ،‬فحكاية الأحداث‬ ‫تخرق نظامها ال ّزمني الذي حدثت فيه يف‬ ‫الواقع‪ ،‬في�أتي اخلرب ال ّالحق قبل اخلرب‬ ‫ال�سابق‪ .‬وهذا ال ّت�شوي�ش يربّره جورج‬ ‫ّ‬ ‫ماي‪" ،‬فحني ي�أخـذ كاتـب ال�سـيـرة الذاتـيـة‬ ‫يف الكتابة تتداعى ال ّذكريات يف ذهنه تداعيا‬ ‫ال يتقيّد ب�أي ترتيب زمني ف�إن هو دوّ ن تلك‬ ‫الذكريات على ع ّالتها ح ّرف الرتتيب الذي‬ ‫جرت عليه يف الواقع"‪.‬‬ ‫وا�ستناد ًا �إىل هذا الت�صوّ ر يكون الت�شوي�ش‬ ‫الزمني يف ال�سرية الذاتية �سببه الت�شوي�ش‬ ‫الذي يحدُث للذاكرة زمن الكتابة فهي تبدو‬ ‫�أمّارة بالن�سيان �ساعة وبالتذ ّكر �أخرى‪،‬‬ ‫فتزدحم عليها �أحداث املا�ضي القريب مع‬ ‫�أحداث املا�ضي البعيد‪ ،‬لينفلت الرتتيب‬ ‫ويت�شوّ �ش ُّ‬ ‫�صف الذكريات‪ .‬و�إن كان هذا‬ ‫وخا�صة منها‬ ‫يحدث يف كتابة الرواية‬ ‫ّ‬ ‫الرواية املعا�صرة اجلاحمة نحو التجريب‬ ‫واالختالف ف�إن ذلك يحدث عن وعي من‬ ‫الكاتب الذي يقدّم وي� ّؤخر الأحداث عن‬ ‫�سابق نيّة‪ .‬فهو قد يكتب روايته خا�ضعة‬ ‫�أحداثها لرتتيبها الزمني العادي ثم َيعْـمَـ ُد‬ ‫بعد ذلك �إىل بعرثة ف�صولها ب�شكل مدرو�س‬ ‫باحثا عن الت�شويق والتجريب �أو ما يطلق‬ ‫عليه بلعبة التخ ّفي والتج ّلي" بينه وبني‬ ‫القارئ‪� .‬أمّا كاتب ال�سرية الذاتية مثلما هو‬ ‫احلال مع حممد �شكري يف "وجوه" ف�إن‬ ‫ذاكرته تنتج زخـما من الأحداث املبعرثة زمن‬ ‫الكتابة وحماولة ترتيبها الزمني يع ّر�ضها‬ ‫�إىل الت�شويه �أو‬ ‫ال�سقوط يف‬ ‫منط ال�سرية‬ ‫الذاتية التقليدية‪.‬‬ ‫فيخيرّ الكاتب �أن‬ ‫تخون الأحداث‬ ‫زمنيّتها على �أ ّال‬ ‫تخون الذاكرة‬ ‫نف�سها‪ .‬وهذا‬ ‫التداخل الزمني‬ ‫يجرف ال�سرية‬ ‫الذاتية نحو‬ ‫�شواطئ الرواية‬ ‫وتقنياتها‪.‬‬ ‫فتلتب�س �صورة‬ ‫النوع وتتعانق‬ ‫الأجنا�س‪ ،‬لأن‬ ‫هذا الت�شوي�ش‬ ‫يف الزمن يظهر‬ ‫للقارئ مبظهر‬ ‫الفعل الواعي‬ ‫وال�صنعة‬ ‫الأدبية‪.‬‬ ‫و ما يق ّرب‬ ‫"وجوه" ‪-‬‬ ‫باعتبارها �سرية‬ ‫يف�سر هذا‬ ‫ذاتيّة ‪ -‬من جن�س ال ّرواية وما ّ‬ ‫الت�شوي�ش الزمني يف الآن ذاته هو اعتماد‬

‫‪11‬‬

‫خا�صة ل�سرد �سريته‪،‬‬ ‫الكاتب على تقنية ّ‬ ‫فيعم ُد �إىل تق�سيمها‪ ،‬مثلما يبوح به العنوان‬ ‫�إىل وجوه حتمل �أحداثا وهذه الوجوه التي‬ ‫عرفها يف �أزمنة خمتلفة ومتباعدة‪ ،‬تزدحم‬ ‫على ذاكرته خا�ضعة ملبد�أ االنتقاء ومن ث ّم‬ ‫تكون عملية التقدمي والت�أخري عملية واعية‬ ‫وعقليّة حت ّركها نوايا الكاتب‪.‬‬ ‫ويقدم حممد �شكري ـ خال ًفا لطريقة �سرده‬ ‫الأحداث يف اجلزء الأوّ ل من �سريته الذاتية‬ ‫"اخلبز احلايف" التي اعتمد فيها ّ‬ ‫خطا زمنيا‬ ‫ّ‬ ‫منظمًا (‪)1956 - 1942‬ـ‪ .‬عمال �أكرث وعيا‬ ‫ّ‬ ‫ف ّنيا ‪ -‬ربمّ ا بد�أه مع "ال�شطار" (اجلزء الثاين‬ ‫من �سريته الذاتية) ‪ -‬وهذا يرجع �إىل ذات‬ ‫الكاتب وتطوّ ر ثقافته الأدبية التي خرجت‬ ‫من عفويتها و�أميتها نحو البناء والت�أ�سي�س‬ ‫لذات مبدعة مركبّة‪ ،‬فارتكب �شكري كتابة‬ ‫ال�سرية الذاتية كما يرتكب الروائي عمال‬ ‫روائيا‪ ،‬رافعا مبد�أ خيانة الواقع مع اخليال ‪-‬‬ ‫وهذا ما ت�شرتك فيه ال�سرية الذاتية الروائية‬ ‫مع الرواية مقارنة مع الت�أريخ �أو ال�سرية‬ ‫الذاتية ال�صافية ‪ -‬و�إن ك ّنا ال ن�ؤمن ب�صفاء‬ ‫اجلن�س ‪.-‬‬ ‫وقد ا�ستفاد �شكري يف كتابته ل�سريته الذاتية‬ ‫بهذا ال�شكل من حقيقة الذاكرة "(الـ)قلب‬ ‫(الـ)خ�ؤون" فهي تارة ال تقوى على التذ ّكر‬ ‫مثلما ح�صل لها مع الكاتب عند زيارته‬ ‫لل ّناظور ‪ -‬م�سقط ر�أ�سه ‪� -‬سنة ‪ ،1993‬وهي‬ ‫تارة حيّـة متيقظـة ُتذ ّكرها تفا�صيل احلياة‬ ‫اليومية مبا�ضيها البعيد مثلما كان الأمر‬ ‫مع �أكلة الك�سك�س التي عادت ب�شكري �إىل‬ ‫ذكريات الطفولة‪" :‬الك�سك�س‪ :‬هو الأكلة‬ ‫التي ال �أحبّها‪ .‬لقد �أكلته بالكر�شة يوم مات‬ ‫خايل وعمري �سبع �سنوات فعفته وناد ًرا ما‬ ‫�أ�ست�سيغه‪ ،‬كان ذلك �أيام املجاعة يف الريف"‬ ‫(�ص‪.)16‬‬ ‫ونحن ال نعرث كثريا على وجه �شكري �صافيا‪،‬‬ ‫�إنمّ ا تعرت�ضنا مالحمه غائمة يف وجوه‬ ‫الآخرين الذين يحفل بهم كتابه‪ ،‬فحديثه عنهم‬ ‫�أكرث من حديثه عن نف�سه‪ ،‬غري � ّأن معرفته‬ ‫الدقيقة بهم تك�شف لنا �أنه كان يالزمهم‬ ‫ويجال�سهم �أو يراقبهم من مكان قريب‪ .‬وتبعا‬ ‫لذلك يكون حممد �شكري قد قدّم لنا وجهه‬ ‫مبعرثا يف وجوه الآخرين‪ .‬وزمنه مف ّتتـا‬ ‫ومنجّ ـمًا يف �أزمنــة الآخرين‪.‬‬ ‫وملّا كانت الوجوه تتداخل يف �أ�سواق‬ ‫وحانات "طنجة" في�سبق ال ّالحق امل�ستعج ُل‬ ‫ال�سابق املرت ّنح �أو املخمور فيتبعرث ترتيب‬ ‫ال�صورة‪ ،‬كذلك يتبعرث الزمن يف ال�سرية‬ ‫الذاتية‪ .‬ول ّأن املكان قد �أ�صابه ما �أ�صابه من‬ ‫ت�شويه‪ ،‬ك ّنا تع ّر�ضنا له يف �أ�سئلة املكان‪،‬‬ ‫و�سكنه ما �سكنه من امل�شوّ هني وامل�شبوهني‬ ‫�أ�صحاب الوجوه املتح ّفزة ب�سكاكينها‬ ‫و�أ�صحاب الأج�ساد املهرتئة… �أ�صاب ذات‬ ‫الداء ال ّزمن ف�شوّ هه وبعرثه‪ .‬وهذا االنعكا�س‬ ‫لت�شوّ �ش املكان على نظام الزمان ال ميكن �أن‬ ‫يكون �إ ّال من �أعرا�ض ّ‬ ‫الفن الروائي "فنظام‬ ‫الزمن احلاكي (زمن اخلطاب) ال ميكن �أبدًا‬ ‫�أن يكون موازيا متامًا لنظام الزمن املح ّكي‬ ‫(زمن التخيّل)‪.‬‬ ‫وثمّة بال�ضرورة ّ‬ ‫تدخالت يف "القبـْل"‬ ‫و"البعْـد"‪ .‬وم ّرد هذه التدخالت واالختالف‬ ‫بني الزمنيّتني من حيث طبيعتهما‪ .‬فزمنية‬ ‫اخلطاب �أحاديّة البعد وزمنية التخيّل‬ ‫متعدّدة‪ .‬وا�ستحالة التوازي ت�ؤدّي �إىل‬ ‫اخللط الزمني هذا اخللط ين�سحب على‬ ‫عوامل ال�سرية الذاتية الروائية فيختلط‬ ‫الواقعي باخليايل والكائن باملمكن فنكون‬ ‫م ّرة �أخرى �أمام �شكل �آخر من ال�صدق هو‬ ‫ال�صدق الف ّني "الناجت عن رغبة يف التخ ّفي‬ ‫�أو عن ق�صور يف التذكر‪ ،‬فـ"املرء ليطالع‬ ‫ما�ضي حياته مثلما يطالع كتابا قد ُم ّزقت‬ ‫بع�ض �صفحاته و�أُتلف منها الكثري" وملّا‬ ‫كانت "وجوه" �سرية ذاتية "مروّ اة" فقد‬ ‫مثلت �صورة جمازيّـة لواقع ال�سرية الذاتية‬ ‫احلقيقية التي حدثت‪ .‬وهي وثيقة جمازيّـة‬ ‫لواقع مثلها مثل ما نقله الرحّ الة العرب قدميًا‬ ‫عن الهند وبالد ال�سند… حني يختلط يف‬

‫مدوّ ناتهم الواقعي باملتـخيّـل الذي قد ي�صل‬ ‫ح ّد العجيب‪.‬‬ ‫و�صفوة القول � ّإن الرتتيب الزمني امل�شوّ �ش‬ ‫لتاريخيّـة حدوث الأحداث يف "وجوه"‬ ‫يُقربّـهـا من جن�س الرواية دون �أن يخرجها‬ ‫هذا من جن�سها ل ّأن هذا القناع يرتديه‬ ‫اجلن�سـان‪ :‬ال�سرية الذاتية والرواية‪ .‬وقد‬ ‫الق�صـة‬ ‫ت�شاركهما فيه �أجنا�س �أخرى من مثل ّ‬ ‫الق�صرية… ّ‬ ‫ولعل االختالف الوحيد بينها‬ ‫كامن يف �أ�سباب توظيف هذا الت�شوي�ش‪ ،‬هل‬ ‫هو اختيار �أم �ضرورة وهذا االختالف نف�سه‬ ‫لي�س قطعيّا ففي ال�سرية الذاتية الروائية ‪-‬‬ ‫كما هو احلال مع "وجوه" ‪ -‬ينزع الكاتب‬ ‫�إىل مثل هذا القناع عن اختيار تكون دوافعه‬ ‫فنيّة‪ ،‬مثله مثل دوافع الت�شوي�ش الزمني يف‬ ‫الرواية‪ .‬وال�سرية الذاتيّة كمـا يقدّمها جورج‬ ‫ماي "متار�س مع هذه الأجنا�س �سيا�سة‬ ‫ا�ستعماريّة ب ّينـة (وهي مل تقت�صر) على‬ ‫اال�ستيالء على طرائقها‪ ،‬بل �سعت دائما �إىل‬ ‫جعلها مندجمة فيها‪".‬‬ ‫‪ - 6‬وجه الكاتب بني "الوجـوه "‬ ‫لئن �س ّلمنا ب� ّأن "وجوه" تنتمي �إىل جن�س‬ ‫ال�سرية الذاتية ب�شهادة كاتبها ومتنها ف� ّإن‬ ‫هذا الت�سليم لن يحول بيننا وبني �إدراك‬ ‫خ�صو�صية هذا اجلن�س الأدبي وما يحمله‬ ‫من مرونة جتعله يرمي بفروعه �إىل �أجنا�س‬ ‫�أخرى ما يجعـل م�صطلح �سرية ذاتية‬ ‫م�صطلحا غائما ال ميكن �أن يح�سم �أمر‬ ‫كل الن�صو�ص التي تكتب ب�آليـات الكتابـة‬ ‫الأوتوبيوغرافية لأنها لي�ست كلها �سريا‬ ‫ذاتية �صافية‪ .‬وهو ما جعل جورج ماي‬ ‫يف�صل يف �س ّلم الألوان الوا�صلـة بني الرواية‬ ‫ّ‬ ‫وال�سرية الذاتية هذه العالقة وانطالقا من‬ ‫�سلم الألوان هذا ن�ص ّنف "وجوه" حممد‬ ‫�شكري يف الرقعة اخلام�سة ذات اللون‬ ‫الأ�صفر‪� ،‬سرية ذاتية روائية "وهي خالفا‬ ‫للرواية ال�سري ذاتية ال تنت�سب �إىل الرواية‪،‬‬ ‫و�إنمّ ا تنت�سب �إىل ال�سرية الذاتية و�إن �شابها‬ ‫ال حمالة ق�سط من اخليال كبري" وا�ستناد ًا‬ ‫�إىل هذا الت�صنيف �سنحاول جتميع �صورة‬ ‫الكاتب يف �سريته املروية‪.‬‬ ‫‪� -1‬شكري ‪ :‬الإ�سم‬ ‫ال نكاد نعرث يف "وجوه" على �إ�سم حممّـد‬ ‫�شكري كامال �أو �صريحـا �إ ّال على الغالف فهو‬ ‫ال يك�شف عن �إ�سمه داخل املنت �إ ّال جمازا ك�أنه‬ ‫يتخ ّل�ص من ذلك االعرتاف فينزع �إىل تغييبـه‬ ‫ح ّتى ال يكون عائقــا �أمام �إمكان التخييـل‬ ‫الن�ص بانتمائـه �إىل‬ ‫الذي ت�سمح به ثنائيـة ّ‬ ‫جن�سني �أدبيني يف الوقت نف�سه (�سرية ذاتية‬ ‫‪ +‬رواية)‪ .‬وامل ّرة الوحيدة التي يذكر فيها‬ ‫الكاتب �إ�سمه اتخذت �شكل الإيحاء‪ ،‬فيقول‬ ‫متحدثا عن �شخ�صيّة �أخرى "�أوقفني �شكري‬ ‫الآخر الذي يراقبني يف مثل هذه احلاالت‪:‬‬ ‫�أجئت للم�شاك�سة �أم جئت لإحياء ال�صداقة؟"‬ ‫(�ص‪ )103‬وكلمة "الآخر" هي التي حتيل‬ ‫القارئ على �إ�سم الكاتب‪ .‬و�أح�سب �أ ّنه مل‬ ‫يلج�أ �إىل مثل هذه الإحالة �إ ّال ليقينا ‪ -‬نحن‬ ‫الق ّراء ‪ -‬من االلتبا�س‪ ،‬وح ّتى ال نذهب �إىل‬ ‫� ّأن �شكري الذي يق�صده هو هو فنخرج‬ ‫عندها من جن�س ال�سرية الذاتية لأن ال�سارد‬ ‫غري الكاتب‪ .‬ولئن ذهب ح�سن بحراوي‬ ‫�إىل �أن ظاهرة الت�سترّ على الإ�سم "تنت�شر"‬ ‫�أكرث ما تنت�شر يف الن�صو�ص ذات الطابع‬ ‫االطوبيوغرايف حيث جند طائفة من‬ ‫التنويعات تفيد هذا املعنى منها التح ّرج من‬ ‫ذكر الإ�سـم ال�شخ�صي داخل ال�سرد" ف�إ ّننا‬ ‫نح�سب �أن غاية �شكري من هذا الت�سترّ غري‬ ‫ذلك احلرج لأ ّننا مل نعرفه خجوال بقدر ما‬ ‫عرفناه مغرمـًـا بف�ضح ذاته‪ ،‬لكن هذا الت�سترّ‬ ‫قد نرجعه �إىل دافع ف ّني‪ ،‬فهو �إمّا اعتمده ح ّتى‬ ‫يـ� ّؤ�صل ال�سرية �أكرث يف �أ�سلوبها التخييلـي‬ ‫الروائي‪ ،‬و�إمّـا �أ ّنه ر�أى �أ ّال حاجة للك�شف‬ ‫عن الإ�سم ما دامت ال�سرية الذاتية مكتوبـة‬ ‫ب�ضمري املتك ّلـم وفيها قرائن كثرية دالـة‬ ‫على تطابـق �شخ�صيـّة امل�ؤلف مع �شخ�صيّـة‬ ‫الراوي‪.‬‬ ‫‪� -2‬شكـري‪ :‬الكـاتب‬

‫◄‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫‪13‬‬

‫�إن �صفة الكاتب � َ‬ ‫ال�صفات مب�ؤلف‬ ‫أعلق ّ‬ ‫ال�سرية الذاتية‪ ،‬فالروائي لي�س معن ّيا‬ ‫باحلديث عن الكتابة لأنّ �شخ�صياته‬ ‫قد تكون بعيدة عن هذه العوالـم �إ ّ‬ ‫ال‬ ‫�أن كاتب ال�سرية الذاتية ال ميكن �أن‬ ‫يغفلها‪ ،‬لأ ّنه بطل عمله ال�سردي‪ .‬فهو‬ ‫الراوية والذات‬ ‫امل�ؤلف وهو الذات ّ‬ ‫املروية يف ذات الوقت وملا كانت‬ ‫الكتابة �أعلق الأن�شطة به كان لزا ًما‬ ‫التطرق لها بني احلني والآخر‬ ‫عليه‬ ‫ّ‬ ‫و�إ ّ‬ ‫ال �أ�صبحت �سريته غريبة عنه قبل‬ ‫�أن تكون غريبة عن القارئ‪.‬‬

‫�إن �صفة الكاتب � َ‬ ‫ال�صفات مب�ؤلف‬ ‫أعلق ّ‬ ‫ال�سرية الذاتية‪ ،‬فالروائي لي�س معنيّا‬ ‫باحلديث عن الكتابة ل ّأن �شخ�صياته قد تكون‬ ‫بعيدة عن هذه العوالـم �إ ّال �أن كاتب ال�سرية‬ ‫الذاتية ال ميكن �أن يغفلها‪ ،‬لأ ّنه بطل عمله‬ ‫ال�سردي‪ .‬فهو امل�ؤلف وهو الذات ال ّراوية‬ ‫والذات املروية يف ذات الوقت وملا كانت‬ ‫الكتابة �أعلق الأن�شطة به كان لزامًا عليه‬ ‫التط ّرق لها بني احلني والآخر و�إ ّال �أ�صبحت‬ ‫�سريته غريبة عنه قبل �أن تكون غريبة عن‬ ‫القارئ‪.‬‬ ‫"وجــوه" حممد �شكري حملت لنا وجه‬ ‫ال ّراوي الكاتب عندما نقلت لنا معاناة‬ ‫اخللق الإبداعي‪ ،‬فبني الكاتب والكتابة‬ ‫�شيطـان جمـوح مثـل �شياطني ال�شعـر‪ ،‬ال‬ ‫ي�ست�سلم لرغبة �شكري ب�سهولة‪" :‬كيف‬ ‫ال�صعب عندي‬ ‫�أت�صالح مع �شيطان الكتابة؟ ّ‬ ‫قد يكون يف اختيار عنوان منا�سب حني‬ ‫انتهائي من نـ�ص…" (�ص‪ )46‬وقد يطول‬ ‫انتظار الكاتب لـر�ضاء هـذا ال�شيطـان وعفوه‬ ‫فال تنفعه �إرادة اخللق ما دامت "الكتابة‬ ‫تتم ّنع بق�ساوة وت�ستع�صي" (�ص‪ )45‬ويزداد‬ ‫ات�ساع جروح الكاتب النف�سيّـة عندما يُقابل‬ ‫الق ّراء هذه املعاناة التي كابدها حتى يخرج‬ ‫عمله الإبداعي بال ّلعنـات‪ ،‬فتتعادل عندهم‬ ‫�صورة الكاتب واملوم�س‪ :‬ير ّد �شكري‪/‬‬ ‫الراوي على �صديقته فاطي العاهرة يف‬ ‫غيابها وح�ضورها" (�ص‪ )9‬وقد جاءته‬ ‫�شاكية امل�ضايقات "اللعنات موجودة يف ّ‬ ‫كل‬ ‫عمل‪ .‬ح ّتى ت�أليف الكتب ال ي�سلم من اللعنات‬ ‫واملنع واالعتداء �إىل ح ّد املطاردة وال�سجن‬ ‫والقتل ربمّ ـا تلقيت من ال�شتائم �أكرث مما‬ ‫عانيت منه �أنت‪ .‬لقد ب�صق علي بع�ضهم يف‬ ‫ال�شوارع واحلانات‪ ،‬يف امل�ؤ�س�سات الر�سمية‬ ‫وغري الر�سمية ويف كل مكان لأين كاتب‬ ‫ملعون" (�ص‪.)104‬‬ ‫هذا الوجه احلزين وهذه الأحا�سي�س املهينة‬ ‫لي�ست وحدها وجه الكاتب وم�شاعره‪،‬‬ ‫�إنمّ ا هي طعم احلياة امل ّر �أمّا طعمها الآخر‬ ‫فيج�سده الوجه ال�سعيد للكاتب حينما‬ ‫ّ‬ ‫ت�ستدعيه اجلمعيات الثقافية ليقر�أ ن�صو�صه‬ ‫على جمهور ال�شباب يف حميميّة ذلك اللقاء‬ ‫الذي جمع يف الناظور �شكري بجمهور‬ ‫ال�شباب عندما قر�أ على م�سامعهم الف�صل‬ ‫الأوّ ل من "اخلبز احلايف"‪.‬‬ ‫كما تقدّم لنا "وجوه" وجه الكاتب املغرم‬ ‫ب�إبداعه واملتف ّرغ للقراءة والكتابة بعد �أن‬ ‫ط ّلق الوظيف‪" :‬الكتب والكتابة هما املنبعـان‬ ‫اللذان ال ين�ضبان منذ انبثاقهما يف حياتي‪.‬‬ ‫�إ ّنهما يقهران الزمن العادي خللق زمن تعميق‬ ‫الإبـداع" (�ص‪.)154‬‬ ‫كما �أننا نعرث يف منت ال�سرية الذاتية‬ ‫"ال�شكرية" على بع�ض تفا�صيل الوجه‬ ‫الكاتب لل ّراوي من خالل عالقاته ب�أهل‬ ‫الأدب فيحدّثنا عن �صحبته للروائي حممد‬ ‫زفزاف ولقاءاته ب�إليا�س اخلوري وحنان‬

‫ال�شيخ و�إميل حبيبي وال ين�سى �أن ينقل‬ ‫لنا "خ�صومته ال�شهرية مع ال�شاعر حممود‬ ‫دروي�ش وذكرياته مع جان جينيه‪.‬‬ ‫و"وجوه"‪ ،‬عموما‪ ،‬من الأعمال الأدبية التي‬ ‫ال ت�ست�سلم ب�سهولة للقارئ ّ‬ ‫ولعل ال�صعوبة‬ ‫الأوىل التي تعرت�ض القارئ العادي يف "فكّ‬ ‫�شفرة" العمل هو ذلك الك ّم الهائل من احلديث‬ ‫عن الأدباء وال�شعراء والفنانني وال�صحفيني‬ ‫يتو�صل‬ ‫الأجانب‪ ،‬فال ميكن للقارئ العادي �أن ّ‬ ‫�إىل متثل "وجوه" من دون �أن يكون له‬ ‫ن�صيب من املعرفة لهذه الوجوه الثقافيّـة فهو‬ ‫على امتداد ال�سرية يف امتحان معرفة �أو‬ ‫هو يف مكتبة عامليّـة ينتقل من عوامل نيت�شه‬ ‫�إىل عوامل اندريه جيد‪ .‬ومن �ألوان فان غوغ‬ ‫�إىل تكعيب بيكا�سو‪ ،‬ومن "حانة" زوال �إىل‬ ‫"غريب" كامو‪ .‬فيقدّم لنا �شكري‪ ،‬من خالل‬ ‫هذه العوامل‪ ،‬وجها من وجوهه وجها لقارئ‬ ‫جنيب للأدب الغربي وفنونه‪.‬‬ ‫و�شدّة تع ّلق امل�ؤلف بهذه العوامل �سوّ لت‬ ‫له ت�شبيه �شخو�ص من �سريته الذاتية يف‬ ‫ق�سمات وجوهها بوجوه ه�ؤالء الأدباء الذين‬ ‫ع�شقهم‪ .‬فاملوم�س "املبتدئة" التي ا�صطحبها‬ ‫�إىل غرفته ‪ ،‬بعد ق�ضائه ليلة ماجنة يف �إحدى‬ ‫احلانات‪" ،‬فيها �شيء من مالمح وجه رامبو‬ ‫وو�سامته عندما جاء �إىل باري�س لأوّ ل م ّرة"‬ ‫(�ص ‪.)22‬‬ ‫وربمّ ا مل تكن ع ّلة �إعجابه بفاطي املوم�س‬ ‫�سوى تع ّلقها بهذه العوامل الأدبيّـة فهي‬ ‫حت�سن حفظ ال�شعر و�إلقاءه مثلما حت�سن‬ ‫عملها‪.‬‬ ‫هذه بع�ض �أ�شكال تقدمي الذات كما قدّمها‬ ‫حممد �شكري يف "وجوه" �إ ّال � ّأن هذه‬ ‫ال�صورة للذات ي�شارك يف ر�سمها كل من‬ ‫الذاكرة والتخييل معًـا وهذا الدور للتخييل‬ ‫هو الذي يهدّد �صفاء اجلن�س الأدبي‬ ‫فتنحرف ال�سرية الذاتية نحو عوامل الرواية‬ ‫لنخل�ص �إىل �صورة جمازيّـة للذات الكاتبة‬ ‫كما تقدّم يف �سريتها‪ ،‬ل ّأن كاتب ال�سرية‬ ‫الذاتية "مع ّر ٌ‬ ‫�ض دائما لالنزالق مع التخييل‬ ‫واخليال‪ ،‬فهو ال يكتفي فقط باختالق‬ ‫الأكاذيب بل � ّإن �إطار الرتجمة الذاتية كفيل‬ ‫ب�أن ي�ستوعب �أية رواية خياليـة حم�ضـة"‪.‬‬ ‫و�صفوة القول � ّإن �صورة ال�شخ�صيّـة‬ ‫الرئي�سـة يف "وجوه" التي هي بال�ضرورة‬ ‫�شخ�صيّة الكاتب تت�س ّرب بني مرايا ال�سرد‬ ‫يف حالة من التفـ ّتت والتف ّكك‪ .‬على عك�س‬ ‫ما تظهر به يف ال�سرية الذاتية التقليدية‬ ‫طاغية على الأحداث فاعلة فيها‪ ،‬فال ّراوي‪/‬‬ ‫يخ�ص نف�سه بحديث مبا�شر‬ ‫البطل يكاد ال ّ‬ ‫�إ ّال ملامًـا وربمّ ـا مل يرجع �إىل ذاته �إ ّال من‬ ‫خالل ما ي�ستوجه حديثه عن الوجوه‬ ‫الأخرى وعن عالقاتهـا به‪ .‬فكان حديثه عن‬ ‫نف�سه وعالقته مع فاطي مثال يهدف �إىل نقل‬ ‫�صورة فاطي ال �صورته وين�سحب الأمر مع‬ ‫ال�شخ�صيات الأخرى (عالل‪ ،‬باباداي‪ ،‬فريد‪،‬‬ ‫من�صف‪ ،‬فريونيك…) وهذه ال�صورة املفتتة‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫لل�شخ�صية ال ّراوية �ساهمت يف ر�سمها تقنية‬ ‫"املونتـاج" ال�سينمائـي التي اعتمدها �شكري‬ ‫يف بناء عمله فنيّـا‪ .‬فهو ق ّلمـا ينهي حدثا قد‬ ‫بد�أ احلديث عنه دون �أن ّ‬ ‫يقطعه ويف ّتته‪ ،‬وهذا‬ ‫حال ال ّزمان واملكان‪.‬‬ ‫�إن هذه التقنيات هي �إحدى �أدوات العمل‬ ‫الروائي الذي ا�ستعاره �شكري لتلوين �سريته‬ ‫الذاتية �شكال وحمتوى بجمالية الكتابة‬ ‫الروائية ح ّتى كان الراوي يف "وجوه"‬ ‫راويا م�شاهدا �أكرث منه راويًا م�شاركا‪.‬‬ ‫وا�ستنادا �إىل هذه القراءة تنه�ض �صورة‬ ‫ال�شخ�صية الرئي�سـة املت�شظيّـة عالمة وا�ضحة‬ ‫على اخرتاق اجلن�س الروائي لعمل ال�سرية‬ ‫الذاتية فالروايات منذ القرن الع�شرين بد�أت‬ ‫تنتج منطا جديدا من ال�شخ�صية عالمتها‬ ‫الأوىل �أ ّنها جم ّرد هامة مف ّككة‪ ،‬غائمة املالمح‪.‬‬ ‫وقد كان ال�سبق للر�سم –ال�سريايل خا�صة_‬ ‫ج�سدها بكل غمو�ضها وحاالتهـا‪ .‬وملا‬ ‫الذي ّ‬ ‫كانت تربط �شكري عالقة حميمة بالر�سم‬ ‫والر�سامني (انظر �صورة الغالف مثال) ف� ّإن‬ ‫ّ‬ ‫هذا الولع بالر�سم ميكن �أن يكون قادحً ا لر�سم‬ ‫مثل هذه ال�صورة التي ظهرت بها ال�شخ�صيّة‪.‬‬ ‫دون �أن نغفل ما لثقافة الكاتب الروائية من‬ ‫دور فـ"الـ�شخ�صيّـة الروائيّـة التقليدية (قد‬ ‫فقدت) قو ّتها االقناعية ف�أ�صبحت يف العمق‬ ‫جت�سيدًا لالبتذال والهم" وما عادت البطولة‬ ‫متثل واقعا روائيا وال هاج�سً ـا عند املتل ّقي‪،‬‬ ‫فقد غيرّ ت القراءة طقو�سها و�أفق انتظارها‪.‬‬ ‫"فال بطل منت�صرا وال بطل منهزمًا (‪.)159‬‬ ‫‪ - 7‬تراجع ال ّلهجي واملتداول وتنامي‬ ‫الدخيل‬ ‫خال ًفا ملا كان مع كتابه "اخلبز احلايف"‬ ‫الذي ذهب فيه �إىل "اختبار التل ّفظ‬ ‫الأوتوبيوغرايف" ‪ -‬حيث لهجت ال�شخ�صيات‬ ‫بل�سانها اليومي ولغة واقعها االجتماعي‬ ‫والثقايف وتدفقت اللهجات وم�ستويات‬ ‫العربية يف غري قيد ‪ -‬خالفا لذلك يعر�ض‬ ‫علينا �شكري يف اجلزء الثالث من �سريته‬ ‫الذاتية وجها �آخر من وجوه التعامل مع‬ ‫اللغة باعتبارها م�ؤ�س�سة للن�ص الإبداعي من‬ ‫لن�ص احلياة من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫جهة وناقلة ّ‬ ‫الن�ص ح ّتى ال نكاد‬ ‫فقد اكت�سحت الف�صحى ّ‬ ‫نعرث على الدارجة �أو اللهجات �إ ّال يف بع�ض‬ ‫الألفاظ املنفردة حتمل يف الغالب �أ�سماء‬ ‫لأمكنة �أو لأنواع من ال�شراب املح ّلي…‬ ‫خيرّ �شكري تركها من دون "تف�صيحها"‬ ‫حفاظا على طاقاتها االيحائية وحـميميتهـا‬ ‫مع م�سميّاتها �إ ّال � ّأن هذا مل مينعه من �أن يعمد‬ ‫�إىل حماولة تف�سريها بالف�صحى يف الهام�ش‬ ‫ق�صــد تـقــريبها من املتل ّقي مثل "ح�صلة"‬ ‫"مقهى الرقا�صة" "املاحيا"‪ .‬وبهذا يكون‬ ‫�شكري قد خاطب القارئ العربي عموما‬ ‫�ضاربا ً‬ ‫عر�ض احلائط باخل�صو�صيّة القطريّـة‬ ‫ّ‬ ‫ومقولة الل�سان املحلي‪ .‬وين�سحب هذا الأمر‬ ‫الن�ص ال�سردي وعلى لغة احلوار يف‬ ‫على ّ‬ ‫الآن ذاته‪ .‬فقد عمد الكاتب �إىل �صياغة حوار‬

‫التفاعل ‪ -‬لن يحول دون ت�صنيفها �ضمن لون‬ ‫من �ألوان ال�سرية الذاتية فح�ضور اخلطاب‬ ‫الروائي واخلطاب ال�شعري والق�ص�صي‬ ‫واخلاطرة بع�ض الأحيان ال يخرج الن�ص‬ ‫من جن�سه ل ّأن "كل ن�ص ي�ستند �إىل جملة‬ ‫خ�صائ�ص ت�سمح بتجني�سه و�إدراجه �ضمن‬ ‫جن�س �أدبي عام مهما بلغت درجة انتهاكه‬ ‫للقواعد الأوليّة لذلك اجلن�س"‪.‬‬ ‫ويُرجع بع�ض النقاد هذا التعالق الأجنا�سي‬ ‫الذي يظهر عند كاتب ما �إىل تركيبة ال ّذات‬ ‫الكاتبة‪ .‬فاملبدع الذي تظهر على ن�صو�صه‬ ‫"�أعرا�ض" هذا التمازج يكون غالبا قد ج ّرب‬ ‫تلك الأجنا�س منفردة ولو كان ذلك التجريب‬ ‫غري معلن‪ .‬فيكون يف ذات الوقت م�سكونا‬ ‫والق�صة‬ ‫ عن وعي من دون وعي ‪ -‬بال�شعر‬‫ّ‬ ‫الق�صرية واملذكرات والرواية‪ .‬وهذه ذات‬ ‫احلالة التي يعي�شها حممد �شكري فقد �سبق‬ ‫له �أن كتب ال�شعر و�أ�صدر ثالث جمموعات‬ ‫ق�ص�صيّة ‪" :‬جمنون الورد" و"اخليمة "‬ ‫و"املدينة امل�ضادّة " مثلما �سبق له كتابة‬ ‫الرواية ملّا �أ�صدر روايته "ال�سوق الداخلي"‬ ‫وعرف كتابة املذكرات ملّا كتب "جان جينيه‬ ‫يف طنجة" و"تين�ســي وليامز يف طنجة"‬ ‫و"بول بولز وعزلة طنجة" بل �إ ّنه ج ّرب‬ ‫حتى الكتابة امل�سرحية واملقالة النقدية‪.‬‬ ‫ومن ثم ف�إن هذا التقاطع الأجنا�سي يف‬ ‫�سريته الذاتية الروائية "وجوه" �سيكون‬ ‫�أمرا متو ّقعًا‪.‬‬

‫ك�أ ّنها اخلامتـة…‬

‫ب�سيط عربيّـته �أو ما يطلق عليها بع�ض النقاد‬ ‫نف�سر‬ ‫واملبدعني "باللغة الو�سطى"‪ .‬وقد ّ‬ ‫هذا الرتاجع عن حترير احلوار عاميّـا مبا‬ ‫تع ّر�ض له "اخلبز احلايف" من نقد نتيجة‬ ‫�صعوبة ّ‬ ‫فك �شفرة اللهجة الرببريّـة مثال‪.‬‬ ‫نف�سره بوعي �شكري �أخريا �أ ّنـه لي�س‬ ‫وقد ّ‬ ‫هناك لهجة عاميّـة ح ّتى على م�ستوى القطر‬ ‫الواحد و�إنمّ ا هناك عاميات‪ ،‬كما ميكن تف�سري‬ ‫"التف�صح" يف "وجوه" بغياب احلاجة‬ ‫هذا‬ ‫ّ‬ ‫�إىل العاميّة ـ وهذا الأقرب عندنا‪ ،‬لأن �أغلب‬ ‫ال�شخ�صيات يف هذا العمل متعلمة ومثقفة‬ ‫فح ّتى و�إن كانت لها روا�سب وانتماءات‬ ‫قبائليّـة ف�إ ّنها �أقلعت عن تداول لهجاتها‬ ‫اخلا�صة بعد اِندماجها يف �أو�ساط املدينة ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مدينة طنجـة‪ ،‬فا�ستعا�ضت بالعربية عنها‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬لئن �أخل�ص حممد �شكري يف "وجوه"‬ ‫للف�صحى وتراجعت مكانة العاميّة مقارنة‬ ‫بن�صو�صه ال�سابقة ف�إن هذا الإخال�ص‬ ‫للعربيّة ال ميكن �أن يحجب عن القارئ‬ ‫الن�ص العربي ح ّتى‬ ‫"هيجان" الدخيل على ّ‬ ‫�أ ّنـنا ناد ًرا ما نعرث على �صفحة خالية من كلمة‬

‫�أجنبيّة تخلخـل االن�سياب الب�صري للحرف‬ ‫العربي‪ .‬وتربك العني با�ستدعائها لل�سان‬ ‫الآخر‪ .‬قد تكون الكلمة ا�سما لكاتب �أو عنوانا‬ ‫لكتاب �أو نوعا من اخلمور ي�ص ّر �شكري على‬ ‫�أن يردف الكلمة العربية مبقابلها �أو با�صلها‬ ‫الأجنبي والأمثلة على ذلك كثرية‪( :‬احلانة‬ ‫‪ .L’assommoir‬فوتر ‪Werther‬‬ ‫بلودي مريي ‪ ،Bloody Mary‬فكتور‬ ‫نوار ‪� ،Victor Noir‬سجن �ألكاطراث‬ ‫‪ ،Alcatraz‬ال�شيفرويل ‪،Chevrolet‬‬ ‫�ألفريد دو مو�سيه ‪)…A. du Musset‬‬ ‫وكما نالحظ ف�إن الكاتب يعمد �ساعة �إىل‬ ‫ترجمة الكلمة �إىل العربية مثل "احلانة"‬ ‫ويقدّمها يف �ساعات �أخرى مهجّ نة �إىل‬ ‫العربية مثلما ي ّت�ضح يف بقيّة الأمثلة‪.‬‬ ‫ويتو ّزع الدخيل فـي "وجـوه" علـى لغـات‬ ‫الن�ص على الل�سان الفرن�سي‬ ‫عدة فينفـتح ّ‬ ‫(�ص ‪ 29‬و�ص ‪ )144‬مثلما ينفتح على‬ ‫الل�سان الإ�سباين ( �ص‪ )89‬وال يرتدّد يف‬ ‫ا�ستدعاء ال ّل�سان الأنقليزي ( �ص‪. )143‬‬ ‫ويخطر عندنا خاطر �أن �شكري ربمّ ا �أراد بهذا‬

‫الن�ص امل�سكون بال ّلغـات �أن يرثي بطريقته‬ ‫ّ‬ ‫واقع مدينته طنجة التي كانت "دوليّة" قبل‬ ‫اال�ستقالل وال�سرية الذاتية باعتبارها �سليلة‬ ‫الرواية فهي مثلها "جن�س �أدبي هجني‪،‬‬ ‫تتف ّتح فيه اللغات كما تلتقي يف ج�سمه‬ ‫�سالالت الـمحـكي ولغاته بكل لغط ال�شوارع‬ ‫ومظاهر التعبري االجتماعي اللغويّة"‪.‬‬ ‫‪ - 8‬فورة الأجنا�س ور�سوخ ال�سرية‬ ‫تتنافذ الأجنا�س الأدبية يف "وجوه"‬ ‫وتتعانق يف تناغم غريب حوّ ل الكتاب �إىل‬ ‫"مهرجان" �أجنا�سي ت�ص ّنفـه كل عني مبا تراه‬ ‫من ت�صنيف حلظـة القراءة‪ .‬فقـد احت�ضـن‬ ‫املتـن عوالـم الأق�صو�صـة وتقنياتهـا مثلمـا‬ ‫احت�ضـن �أجواء ال�شعر و�آلياته‪ .‬فال�سرية‬ ‫الذاتية كما ُتعر�ض يف "وجوه" ال ترتدّد‬ ‫يف تطعيم عواملها بعوامل الكتابة الق�ص�صية‬ ‫والروائيـة وال�شعريـة على ال�سواء‪ .‬وهذا‬ ‫التعاي�ش الأجنا�سي يف العمل الأدبي‬ ‫الواحد دليل على بطالن نظريّـة برونتيار‬ ‫‪ Brunetière‬بخ�صو�ص والدة الأجنا�س‬ ‫وفنائهـا [‪ .]40‬فاجلن�س الأدبي ال ي�أكل الآخر‬

‫مثلما � ّأن "احلدود بني الأجنا�س مل تعد الآن‬ ‫بال�صرامة نف�سها… والقطع والتحديد التي‬ ‫كانت قائمة يف حقبة �سابقة‪ ،‬بل �أ�صبح الأمر‬ ‫ي�صل �إىل درجة �سقوط هذه احلدود وتداخل‬ ‫الأجنا�س الأدبية"‪ .‬و"وجوه" من هذه‬ ‫الأعمال التي ّ‬ ‫تتخطى جن�سها‪� ،‬سرية ذاتية‬ ‫ّ‬ ‫لتتودّد �إىل �أجنا�س �أخرى جماورة مـثـل‬ ‫الن�ص بلغـة �شعرية‬ ‫ال�شعر �إحداها‪ .‬فيطفح ّ‬ ‫�ساحرة تخاطب �أغوار النف�س ودفائـن الروح‬ ‫يف ن�صو�ص �سرييالية م�ؤملـة ينقلها لنـا‬ ‫اخلطاب ال�سردي‪.‬‬ ‫فيتو�سـل‬ ‫ويذهب �شكري �أكرث من ذلك‬ ‫ّ‬ ‫بالتوزيع الب�صري للق�صيدة احلديثة في�ستهل‬ ‫معظم ف�صول ال�سرية بق�صائد نرثية حتمل‬ ‫الكثري من الإيحاء ال�شعري‪ ،‬يقول يف �إحداها‬ ‫وا�صفا غربته‪:‬‬ ‫غـربـة‬ ‫لـي غربتـان ‪:‬‬ ‫واحدة هنـا وواحدة‬ ‫هنـاك‬ ‫�أيّهمـا الأغــرب ؟‬

‫ال خيار بينهمـا‬ ‫فـي زمــن املحـن‪،‬‬ ‫رغـم الوطــن"‬ ‫(…) ( �ص‪.)35‬‬ ‫ويقول يف �أخرى متحدّثا عن دموع الفكر‬ ‫وحزن الـمقـهـورين‪.‬‬ ‫" تغزونـي دموعي‬ ‫من خالل �أفكاري‬ ‫ربمّ ـا �ضع ًفـا ف ّكرت يف نف�سـي‪،‬‬ ‫�أو يف �أحــد‬ ‫ليـ�س البكاء هو البكـاء‪،‬‬ ‫قـد يخجــل احلـزن‬ ‫من نف�سـه �أحيـانـا‬ ‫عندما يغزو املقهوريـن‪�( ".‬ص ‪)65‬‬ ‫ويقول يف ثالثة حمّلها الكثري من م�شاعر‬ ‫احلزن ومناجاة النف�س املكلومة‪:‬‬ ‫" لـك زمانك وبعدك يل نف�سي لنف�سي‪.‬‬ ‫ال �أعلن نف�سي وحيدًا‬ ‫�شاهدا على اخلراب‪.‬‬ ‫�إنمّ ا اجلميل يرتاءى من خالل �سرابه‬ ‫�أهو احلزن ؟ �أهـو الب�ؤ�س‬

‫�أم هو بئـ�س امل�صي ــر ؟‬ ‫ع�سى �أن تذكــر معـي‬ ‫تلك التي و�أن ــت الذي‬ ‫ا�ستك ّنــا معـا يف ح�ضــن التذكــار‪�( ".‬ص‪.)67‬‬ ‫الق�صـة الق�صرية فح�ضورها ال ّ‬ ‫يقل عن‬ ‫�أمّا ّ‬ ‫ح�ضور ال�شعر‪ .‬حيث تعر�ض لنا "وجوه"‬ ‫حكايات عن وجوه عرفها �شكري‪ ،‬وقد‬ ‫انتقاها ب�شكل متقن ودقيق تتحوّ ل فيه حكاية‬ ‫ق�صـة ق�صرية منفردة‪.‬‬ ‫الوجه الواحد �إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل �أبلغ مثال على هذه ّ‬ ‫الظاهرة يف الكتاب‬ ‫تتج�سد يف الف�صل املعنون بـ "املرياث " ففيه‬ ‫ّ‬ ‫حتت�شد عوامل الق�صة الق�صرية بكل وجوهها‬ ‫اجلماليّة والتقنية من وحدة للمو�ضوع‬ ‫ووحدة الزمن وعدد ال�شخ�صيات املحدود‬ ‫وتكثيف لل�سرد وتنام �سريع للأحداث نحو‬ ‫الذروة لتنغلق الق�صة ‪ /‬احلكاية بحدث‬ ‫مفاجئ‪.‬‬ ‫وهذا التفاعل والتعا�ضد الأجنا�سي الذي‬ ‫حوّ ل "وجوه" �إىل "رقعة �شطرجن " ‪ -‬كما‬ ‫يقول "حممود طر�شونة يف حديثه عن‬ ‫"�ألف ليلة وليلة" التي تعي�ش هي �أي�ضا هذا‬

‫ن�ص "وجوه" ملحمد �شكري حالة من‬ ‫م ّثل ّ‬ ‫حاالت الكتابة الإ�شكالية‪ .‬فكل العالمات تو ّقع‬ ‫الن�ص �إىل جن�س ال�سرية الذاتية غري‬ ‫انتماء ّ‬ ‫� ّأن هذا االنتماء ال يحجب ع ّنا تلوّ ن العمل‬ ‫ب�ألوان �أجنا�سية �أخرى حوّ لت ف�ضاءه �إىل‬ ‫بانورامـا من الأجنا�س ي�ستدعي بع�ضها بع�ضا‬ ‫وينفتح الواحد علىالآخر يف لعبة تـ�شكيلية‬ ‫الن�ص �إىل عوامل التجريب فينكر جن�سه‬ ‫حتمل ّ‬ ‫�ساعة ليخونه مع غريه ولكن هذه "اخليانات‬ ‫الفنيّة " لتقاليد اجلن�س ونقاوته ال تخرج‬ ‫الن�ص من جن�سه الأ�صلي‪ .‬بل �إننا لو جوّ دنا‬ ‫ّ‬ ‫النظر فيه لالحظنا �أن هذا التلوين ي� ّؤ�صل‬ ‫العمل الف ّني يف جن�سه من ناحية ويك�سبه‬ ‫ون�ص "وجوه"‬ ‫خ�صو�صيته من ناحية �أخرى‪ّ .‬‬ ‫من الن�صو�ص التي ُتربك انتظارنا فتقول ماال‬ ‫يتو ّقع �أن يقال وبطـرق غري متو ّقـعـة‪ .‬فينتزع‬ ‫بذلك الكاتب م ّنا اعرتافا باملباغتة‪.‬‬ ‫وعموما‪� ،‬إن مثل هذه الن�صو�ص التي تعي�ش‬ ‫حالة من التعاي�ش الأجنا�سي هي حاالت‬ ‫خا�صة ولع ّل �أوّ ل مبادئ الوجوديّة‬ ‫وجودية ّ‬ ‫�أن ت�ضع الذات نف�سها يف مواجهة املوت‪/‬‬ ‫القدر ون�ص "وجوه" ل�شكري يواجه قدر‬ ‫جن�سه – �سرية ذاتيـة ‪ -‬عندما يخونه مع‬ ‫جن�س ال ّرواية ولكن هذه اخليانة تتحوّ ل‬ ‫الق�صة الق�صرية‬ ‫�إىل خيانات فتتعالق الكتابة ّ‬ ‫باملذ ّكرات و بال�شعر… وهل للخيانة حـدود؟‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2095‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )9‬ني�سان ‪2011‬‬

‫مجنون‬ ‫الورد‬ ‫حممد برادة‬

‫ـ‪1‬ـ‬

‫يفد على طنجة‪ ،‬عرو�س ال�شمال‪ ،‬كما تلقبها م�صلحة‬ ‫ال�سياحة‪ ،‬طفل مل يتجاوز �سن ال�سابعة �صحبة ا�سرته‬ ‫الهاربة من املجاعة‪ ،‬بداية الأربعينيات‪ ،‬و احلرب‬ ‫يف �أوجها‪ ..‬يف خميلته �صور حمدودة لقرية " بني‬ ‫�شيكر "‪ ،‬و على ل�سانه كلمات من اللهجة الريفية‬ ‫يحاول �أن ي�سمي بها الأ�شياء‪ .‬بعد قليل �سيلقى‬ ‫القب�ض على الأب لأنه الذ بالفرار من �صفوف اجلي�ش‬ ‫الإ�سباين املتقاتل يف حرب �أهلية طاحنة‪ ،‬ال تعنيه‪،‬‬ ‫هو املغربي‪ ،‬يف �شيء‪.‬‬ ‫يتقدم حممد �شكري الطفل وحيدا ليبد�أ حياة الت�شرد‬ ‫من دون �أن يعرف املدر�سة‪ .‬يبد�أ باكت�شاف املدينة‬ ‫ـ احلياة من خالل �أعمال يدوية متنوعة‪ :‬م�سح‬ ‫الأحذية‪ ،‬بيع ال�صحف و اخل�ضر‪ ،‬اال�شتغال يف‬ ‫املقاهي و املطاعم‪ ،‬التعاون مع ع�صابة للن�شل‪� ،‬إر�شاد‬ ‫ال�سياح‪ ،‬تقليد �أغاين حممد عبد الوهاب يف املقاهي‪..‬‬ ‫يقرتب الآن من �سن التا�سعة ع�شرة و قد جرب كل‬ ‫�شيء‪ ،‬و ا�ستوعب طبيعة العالقات و املعامالت‪ ،‬و‬ ‫عرف الق�سوة و مل ينعم باحلنان‪..‬و ذكا�ؤه يحثه‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫على �أن يوا�صل ال�سري لريتاد عامل الذين يتحدثون‬ ‫لغة ال ت�شبه الريفية و ال الدارجة‪ ،‬حتى ال تظل هناك‬ ‫منطقة يجهلها‪ ،‬و حتى ال يظل بع�ض ال�شباب من‬ ‫معارفه يعريونه بالأمية‪ .‬يف هذه ال�سن املتقدمة‪،‬‬ ‫ي�سافر �إىل مدينة العرائ�ش بحثا عن مدر�سة ابتدائية‬ ‫تقبله‪ ..‬و هناك تعلم من التالميذ ال�صغار �أكرث مما‬ ‫تعلم من معلميه و �أ�ساتذته‪..‬و عاد �إىل طنجة "‬ ‫متعلما " ليبد�أ مغامرة جديدة و مثرية مع الكتابة‬ ‫و الأدب‪..‬لكن �شكري الذي نخرته �سو�سة احلياة و‬ ‫�إغراءات التجربة‪ ،‬ال ي�ستطيع �أن يحرتف الكتابة عن‬ ‫" الأ�شياء " من خارجها‪ ،‬و هو الذي اعتاد �أن يثقب‬ ‫الق�شرة لريتاد ال�شرنقة‪ .‬احلياة �أوال‪� :‬إدمان الك�أ�س و‬ ‫�إدمان الليل فرارا من البالدة و اجلهل و من اجلنون‬ ‫و املوت‪ .‬و مل ي�ستطع �أن يقاوم وحده ق�ساوة‬ ‫العي�ش على الهام�ش‪ ،‬ف�أ�صيب بانهيار ع�صبي و مكث‬ ‫مب�ست�شفى الأمرا�ض الع�صبية �أربعة ا�شهر خالل‬ ‫�سنة ‪ .1964‬تبدو له الكتابة الآن نوعا من الإدمان‬ ‫لتهدئة ح�سا�سيته املرهفة‪ ،‬و مواجهة فو�ضى الأ�شياء‬ ‫و املجتمع‪ .‬و لن تعوزه "املادة"‪ ،‬فقد اختزنت ذاكرته‬ ‫و �أع�صابه و ج�سده ما ال ت�ستطيع "اللغة الف�صحى"‬ ‫ت�شخي�صه‪ .‬بعد حماوالت قليلة‪ ،‬ن�شرت له جملة‬ ‫"الآداب" ق�صة بعنوان" العنف على ال�شاطئ" �سنة‬ ‫‪ ،1966‬و تلقى ر�سالة من الدكتور �سهيل �إدري�س‬ ‫ي�شجعه فيها على امل�ضي يف الكتابة‪...‬‬ ‫هكذا دخل حممد �شكري املجال الأدبي‪ ،‬ف�أثار انتباه‬ ‫الأدباء املغاربة ال�شباب "املتعلمني" يف املعاهد و‬ ‫الكليات‪ ،‬و �أ�صبح �صوتا متميزا بتجربته املدخرة‪،‬‬ ‫و بتعبريه العاري من احلذلقة و الت�صنع‪ ...‬و كما‬ ‫يف احلياة‪� ،‬سيحاول الكثريون تهمي�ش كتابات‬ ‫حممد �شكري لأنها "وقحة" ت�سمي الأ�شياء و ال‬ ‫ترمز لها‪ ،‬تختار مناذجها من املنبوذين و ال�شواذ‬ ‫و ممن يعي�شون يف احل�ضي�ض‪�..‬إال �أن جوهر‬ ‫"ظاهرة �شكري" مل يلتفت �إليه �أحد‪ :‬مقابل الكتابات‬ ‫الرومان�سية و التجريبية "الطالئعية"‪ ،‬و مقابل‬ ‫الن�صو�ص املعتمدة �أ�سا�سا على "ن�صو�ص غائبة"‪..‬‬ ‫ي�أتي �شكري مبنطلق �آخر‪ :‬الأ�شياء قبل الكلمات‪،‬‬ ‫املعي�ش قبل املتخيل‪ ،‬املو�شوم �أخادي َد على اجل�سد‬ ‫قبل التب�شري بالأف�ضل و مناجاة الثورة املنتظرة و‬ ‫دفن الإحباطات يف الق�صائد و الق�ص�ص الأ�سيانة‪..‬و‬ ‫هو يف كل ذلك‪ ،‬ي�صدر عن جتربته اخلا�صة‪ :‬اكت�شف‬ ‫الأ�شياء �أوال وجها لوجه من دون �أ�سرة حتميه‪ ،‬و ال‬ ‫مدر�سة توجهه‪ ،‬و ال طفولة هنية يختزن ذكرياتها‪..‬‬ ‫فتح عينيه منذ الوهلة الأوىل على عامل الكبار الذين‬ ‫يت�صارعون يف حميط املجتمع و يف قاعة ل�ضمان‬ ‫اللقمة و حماية النف�س‪ ،‬يحتكمون �إىل �أعراف �أ�شبه‬ ‫ما تكون بقانون الغاب‪ ،‬و القيمة الب�شرية ملغاة يف‬ ‫عهد احلماية و عند �أ�صحاب املخزن‪..‬و �أن تكون‪،‬‬ ‫�إىل جانب ذلك‪ ،‬ريفيا جمتثا وافدا على مدينة ذات‬ ‫"�أ�صول"‪ ،‬معناه اكت�ساب �صفة النفاية عن جدارة‪..‬‬ ‫�إال �أن �شكري مل يقبل هذا "الأمر الواقع" الذي‬ ‫يجعل من الأكرثية املهم�شة برغم �إرادتها‪ ،‬خادمة‬ ‫لأقلية حتميها املوا�ضعات االجتماعية‪ ،‬فبد�أ يعرب‬ ‫عن احتجاجه و مناه�ضته بلغة اجل�سد قبل �أن يتعلم‬ ‫اللغة املكتوبة‪ ":‬كنا �أحيانا ن�ستعمل �شفرات احلالقة‬ ‫و ال�سكاكني يف معظم العراكات التي كانت ت�صل‬ ‫�أحيانا �إىل حاالت دامية‪."...‬‬ ‫على العك�س من معظم كتابنا الآخرين‪ ،‬تعلم حممد‬ ‫�شكري لغة الأ�شياء العارية القا�سية‪ ،‬قبل �أن يتعلم‬ ‫الكلمات "املعربة"‪ ،‬لذلك تظل حياته اليومية هي‬ ‫الأ�سا�س‪ ،‬و تغدو الكتابة بالن�سبة له �إدمانا جزئيا‬ ‫يرف�ض �أن يجعل منه قناعا للتجميل �أو مطية لالرتقاء‬ ‫يف ال�سلم االجتماعي‪.‬‬

‫ـ‪2‬ـ‬

‫اخليوط التي ين�سج منها �شكري ق�ص�صه تنتهي �إىل‬ ‫ر�سم "جغرافيا �سرية" للمدينة و لتحت ـ �أر�ضها‪.‬‬ ‫تبد�أ تنا�سلها‪ ،‬جميعها‪ ،‬من مناخ الهام�شيني �أو من‬ ‫عامل الأطفال‪ ،‬يبد�أ احلكي بتلقائية توهمنا �أنه يحكي‬ ‫واقعة من " الوقائع املختلفة"‪� ،‬شاهدها يف الطريق‬ ‫�أو قر�أها يف ال�صحيفة و �أعاد �صياغتها‪ .‬لكن هذا‬ ‫التوهم �سرعان ما يبدده �سطوع كلمات مفاجئة و‬ ‫عبارات مكثفة حمملة بالإيحاءات و الدالالت‪ ،‬تنقلنا‬ ‫�إىل عامل ق�ص�صي ت�ؤطره و توحده تلك اخليوط‬ ‫املتناثرة يف خمتلف الق�ص�ص‪ .‬قوام هذا العامل عند‬ ‫�شكري‪ ،‬الهام�شيون �أو الليليون (مقابل النهاريني كما‬ ‫يحلو له �أن يق�سم النا�س)‪ ،‬الذين �صنفتهم امل�ؤ�س�سة‬ ‫االجتماعية يف تراتبيتها الهرمية لتجعل منهم نقي�ضا‬

‫للمواطنني " العاديني" الأ�سا�سيني‪..‬هم‪� ،‬إذا‪ ،‬من‬ ‫ي�ضرب بهم املثل عن ال�شذوذ و الال�أخالق و الرذيلة‬ ‫و الفح�شاء و املنكر‪..‬و ال ميكن ملجتمع �أن يت�صور‬ ‫نف�سه من دونهم‪ ،‬لأنه �إذا كان من ال�صعب ت�شخي�ص‬ ‫"الف�ضالء" و ممثلي اال�ستقامة بكرثة‪ ،‬ف�إن من ال�سهل‬ ‫تكثري املنحرفني و تهمي�شهم ال�ستعمالهم كنماذج ال‬ ‫حتتذى و ك�سلوك يزجر عنه‪ ،‬و يعاقب عليه‪...‬يف‬ ‫ق�صة "ب�شري حيا و ميتا" يج�سد �شكري هذه العالقة‬ ‫الغريبة بني العاديني العقالء‪ ،‬و ال�شواذ املجانني‪:‬‬ ‫ب�شري" الأحمق" يقلق الآخرين لكنه ي�سليهم لأنه لي�س‬ ‫منهم‪ .‬يتحلقون حوله و هو ممدد يف ال�شارع متمنني‬ ‫موته‪..‬وعندما ي�ستيقظ من غيبوبته ي�صابون بخيبة‬ ‫�أمل‪� ":‬سينظرون �إليه ك�شبح و هو ي�سري بينهم"‪.‬‬ ‫الأطفال �أي�ضا ال يفهمهم العقالء مع �أنهم " لي�سوا‬ ‫دائما حمقى "‪� ،‬إال �أنهم يربكون عامل الكبار امل�صنوع‬ ‫من ال�ضو�ضاء و الكالم املجاين و افتعال امل�شاعر‬ ‫و الأفكار‪ .‬بدال من ذلك يقرتح الأطفال ال�صمت و‬ ‫احللم و �إطالق �سراح احلمائم ! التلقائية نف�سها‬ ‫التي يحكي بها‪ ،‬تالزمه و هو ي�سمي الأ�شياء املكونة‬ ‫لالهتمامات اليومية عند �أ�شخا�صه الهام�شيني‪ .‬و‬ ‫يكون اجلن�س يف طليعة تلك االهتمامات‪.‬‬ ‫�إن الثنائية الفا�صلة بني الأ�شياء تنعدم يف‬ ‫�سلوكاتهم‪ ،‬و اجل�سد كلي‪ ،‬به يواجهون العامل و‬ ‫منه ي�سوحون ردود الفعل‪..‬و ال�شهوة تختلط مبا‬ ‫هو نباتي و حيواين‪ ،‬بالوجود و العدم‪ "...‬يت�أملها‬ ‫�أر�سالن‪ .‬هي ت�سرتيح مغمى عليها و هو ي�سرتيح‬ ‫الهثا‪ ،‬متتزج الرغبة يف ذهن �أر�سالن بال�شروق و‬ ‫البحر‪ ،‬متتزج بالأزهار و طيور ال�صباح‪ ،‬متتزج‬ ‫بطنني الذباب و اخلبز الياب�س الأ�سود‪ ،‬متتزج تلك‬ ‫الرغبة يف حوا�سه برائحة القيء و املوت و ال�صمت‬ ‫الطويل" من ق�صة "القيء"‪.‬‬ ‫و لعل ق�صة " اخليمة " التي حالت الرقابة من دون‬ ‫ن�شرها‪ ،‬هي �أجمل منوذج تتحقق فيه فكرة �شكري‬ ‫عن اجلن�س ـ الإله حني يغدو فرحة و عيدا و وليمة و‬ ‫ارمتاء يف �أح�ضان البحر‪ ،‬و مالم�سة ج�سدية لعنا�صر‬ ‫الطبيعة‪...‬‬ ‫غري �أن كثريا من ق�ص�ص �شكري تنقل �إلينا ال�صورة‬ ‫البئي�سة للجن�س عندما يكون ج�سدا يباع �أو كتال‬ ‫حلمية تلهث وراء لذة دفنتها العقد‪ ،‬و غيبها الإرهاق‪.‬‬

‫ـ‪3‬ـ‬

‫ال�شح‪ .‬يزكي‬ ‫تت�صف لغة �شكري باقت�صاد قريب من‬ ‫ّ‬ ‫هذا االنطباع توزيع الرتكيب العام على جمل ق�صرية‬ ‫ت�سندها �أفعال امل�ضارع ال�سائدة يف معظم الق�ص�ص‪.‬‬ ‫�إال �أن هذه البنية اللغوية العامة يتخللها تك�سري‬ ‫مباغت من خالل جمل طويلة متما�سكة خمتلفة عن‬ ‫جمل الو�صف و ال�سرد‪ .‬هذا "التك�سري" ينقلنا من‬ ‫الأ�شياء �إىل امتداداتها يف نف�س الكاتب‪ .‬ثم يعود‬ ‫الن�ص �إىل م�ستواه الأول قبل �أن ينك�سر مرة �أخرى‪..‬‬ ‫يف ق�صة "�شهريار و �شهرزاد"‪ ،‬ت�سود اجلمل‬ ‫الق�صرية مثل "�سقط الك�أ�س من يدها على الطاولة"‪،‬‬ ‫و ي�أتي الو�صف و ال�سرد يف رتابة مق�صودة‪ ،‬و فج�أة‬ ‫تطل جملة طويلة تك�سر هذه الرتابة و تر�سم بعدا‬ ‫جديدا للأ�شياء‪..":‬لو �أن هذا الإح�سا�س كان نحو‬ ‫الأ�شياء وحدها‪ ،‬لظللت �أحدق فيها حتى �أجن �أو يكف‬ ‫�إح�سا�سي هذا الغريب عني‪."..‬‬ ‫من ثم ف�إن القرابة التي ن�ست�شعرها بني التقنية‬ ‫الق�ص�صية عند �شكري و بني طرائق الرواية‬ ‫اجلديدة‪ ،‬ال تلبث �أن تتال�شى‪ ،‬لأن واقعية �شكري ال‬ ‫تقوم على تغييب ذاته من اللوحة‪ .‬على العك�س‪ ،‬يظل‬ ‫�صوته حا�ضرا هم�سا و جهرا من خالل تلك اجلمل‬ ‫املفاجئة ال�صادرة عن غور عميق‪.‬‬ ‫و نلم�س يف الق�صتني‪� ":‬أ�شجار �صلعاء" و " جمنون‬ ‫الورد" تطويرا لهذا الرتكيب الفني العام الذي‬ ‫حاولت حتديد �أهم عنا�صره‪..‬يف هاتني الق�صتني‬ ‫تزيد كثافة اللغة و يتخلل الرمز ال�شخو�ص "‬ ‫الواقعيني"‪ .‬بعبارة �أخرى‪ ،‬تتميز الكتابة لتحد من‬ ‫�سرعة تدفق الأ�شياء املتزاحمة على بوابة الذاكرة‪.‬‬

‫ـ‪4‬ـ‬ ‫تظل العالقة بني الكتبة و الذات و الواقع املعي�ش‪،‬‬ ‫حزمة من الت�سا�ؤالت املت�شابكة كثريا ما تف�ضي بنا‬ ‫�إىل متاهة م�سدودة‪..‬و حني �أفكر يف "حالة" حممد‬ ‫�شكري‪ ،‬تبدو يل العالقة بني هذه العنا�صر الثالثة‬ ‫ملتب�سة‪ ،‬و تهتز فعالية الكتابة �إزاء ح�ضور الذات‬ ‫ـ اجل�سد‪ ،‬و �إزاء انعكا�سات الواقع على حيوات‬

‫النا�س‪..‬‬ ‫هل يرجع ذلك �إىل �أن الكتابة لي�ست كل �شيء يف‬ ‫حياة �شكري‪ ،‬و �إمنا هي و�سيلة مكملة للتعبري عن‬ ‫الوجود مبا هو موجود �أم يعود ذلك �إىل املنطلق‬ ‫الذي ينطلق منه‪ :‬ا�ستيحاء عامل الهام�شيني و ك�أنه‬ ‫عامل منغلق على ذاته‪ ،‬وجد منذ الأزل و �سيمتد �إىل‬ ‫الأبد غارقا يف �صراعاته و هلو�ساته و ب�ؤ�سه املادي‬ ‫و املعنوي؟‬ ‫ما يزكي هذا االنطباع الأخري يف نف�سي هو غياب‬ ‫املحور الآخر‪ ،‬حمور الفئات" الأ�سا�سية" يف‬ ‫عالئقها اجلدلية مع الهام�شيني‪ .‬من ثم انعدام‬ ‫ردود فعل "واعية" عند ه�ؤالء الأخريين‪ .‬رمبا لأن‬ ‫الكاتب يخ�شى من �ضجيج ال�شعارات و تكرارية‬ ‫التب�شري‪� ،‬إال �أن هذا العزل يحجب عن العامل‬ ‫الق�ص�صي ملحمد �شكري �أ�شعة الوعي التغيريي‬ ‫املتنا�سل عرب جميع طبقات املجتمع املغربي بحثا‬ ‫عن �أفق ال يه ِّم�ش الأغلبية‪..‬و حني يبتعد �شكري عن‬ ‫ر�صد عامله اخلا�ص‪ ،‬و يطل على العامل ـ املجتمع‪،‬‬ ‫تتخذ ق�ص�صه �صورة احللم ـ الفانطا�ستيك‪ ،‬كما‬ ‫يف‪ :‬العائدون‪ ،‬و ال�شعراء و الزاحفون‪..‬و لعل‬ ‫ق�صة" الكالم عن الذباب ممنوع" هي �أن�ضج منوذج‬ ‫عنده يف حماولة معانقة كابو�س القمع و التعذيب‬ ‫و خنق احلريات‪�..‬إال �أن جتربة العامل الهام�شي‬ ‫تظل حمفورة يف �أعماق بطل " الكالم عن الذباب‬ ‫ممنوع" عندما يتفوه بهذه العبارة‪...":‬قد يعطفون‬ ‫عليك‪ ،‬لكن ال �أحد ي�ستطيع �أن ي�ساعدك"‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫‪manarat‬‬ ‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫ـ‪5‬ـ‬

‫الإح�سا�س ب�أ�سبقية الأ�شياء يف ق�ص�ص �شكري‬ ‫يطرح امل�س�ألة امل�ألوفة يف املناق�شات النقدية ب�شان‬ ‫عالقة الكلمات بالأ�شياء �أو مدى قدرتها على‬ ‫التعبري عما هو حي و مدرك من خالل الذات‪ .‬و‬ ‫م�س�ألة عجز الكلمات املزمنة‪..‬لكن حل هذه امل�شكلة‬ ‫عن طريق الإقرار بق�صور الكلمات عن جت�سيد‬ ‫الأ�شياء و التجارب و العالئق‪ ،‬يبقى حال �سهال‬ ‫يلغي �ضمنيا جدوى الكتابة و �ضرورتها‪�...‬أو يفتح‬ ‫الأبواب �أمام كل طارق من بدون متييز‪.‬‬ ‫و يف حالة �شكري‪ ،‬ف�إن زخم �أ�شياء عامله اخلا�ص‬ ‫الذي تبدو الكلمات قا�صرة عن �أن تطوله‪ ،‬راجع‬ ‫�إىل �أن الكاتب ال يحر�ص على �أن ي�ضع " م�سافة‬ ‫" بينه و بني التجارب التي عا�شها �أو امل�شاهد‬ ‫التي ر�صدها‪..‬من ثم تلك ال�سخونة املنبعثة من‬ ‫ق�ص�صه‪ ،‬و �أي�ضا ذلك االنغالق الذي ي�شبه الدوران‬ ‫يف فلك واحد‪ .‬و وظيفة امل�سافة التي ي�ضعها‬ ‫الكاتب بينه و بني الأ�شياء‪ ،‬هي �إف�ساح املجال‬ ‫�أمام التجربة لتختمر و تتخرث و ذلك عن طريق‬ ‫�إخراجها من احليز ال�ضيق اللتقاطها �أو معاناتها‪ ،‬و‬ ‫حماولة تقليبها يف تربة �أخرى �أف�سح و �أعمق‪� ،‬أي‬ ‫مو�ضعتها يف �إطار �أع ّم يلتقي فيه فهم املجتمع بفهم‬ ‫الأدب و جتارب الكتابة و �أ�شكال التعبري‪..‬من ثم ال‬ ‫تظل الكتابة ناقلة‪ ،‬بل تغدو تعريفا �ضروريا للواقع‬ ‫و تركيبا جديدا للأ�شياء من خالل جتديلها ( �أي‬ ‫�إ�ضفاء طابع اجلدلية على ما تلتقطه مبعرثا)‪..‬و‬ ‫يغدو واقع الأ�شياء‪ ،‬واقعا حملوما به و واقعا‬ ‫متخيال و واقعا ممكنا و م�ستحيال يف �آن‪.‬‬ ‫نح�س يف ق�صتي " �أ�شجار �صلعاء" و " جمنون‬ ‫الورد"‪� ،‬أن �شكري يطيل امل�سافة بينه و بني‬ ‫الأ�شياء من خالل تكثري الأ�صوات داخل الن�ص‬ ‫(ال�شاعر الك�سيح‪ ،‬املجنون‪ )..‬و من خالل الرتميز‬ ‫و حتميل �صيغ قر�آنية م�ضامني خمتلفة‪..‬لكن هذا‬ ‫املجهود يف الكتابة ال يت�أ�س�س على مراجعة نقدية‬ ‫لأ�شياء الواقع املعي�ش فتظل الق�ص�ص م�شدودة �إىل‬ ‫"واقعيتها"‪ ،‬مكتظة ب�أ�شيائها (مثلما هو ال�ش�أن يف‬ ‫ق�صة التابوت)‪.‬‬ ‫�إال �أن قيمة ق�ص�ص �شكري تتجلى‪ ،‬كما قلت �آنفا‪،‬‬ ‫يف مقارنتها بق�ص�ص كتاب مغاربة �آخرين‪،‬‬ ‫ي�ستعي�ضون عن الفعل و التجربة و الأ�شياء‬ ‫بالتوهم و لألأة الكلمات و حتليل الذات‪...‬‬ ‫و �أعتقد �أن التحوالت الأخرية يف كتابة حممد‬ ‫�شكري �ستحقق ذلك " التوازن " الذي افتقدته بني‬ ‫زخم الأ�شياء ـ الذاكرة‪ ،‬و بني الكلمات ـ امل�سافة‪...‬و‬ ‫عندئذ تكون املواجهة بني " الهام�شي" املنبوذ و‬ ‫أ�سا�سي مواجهة عنيفة ال تكتفي‬ ‫بني املجتمع " ال‬ ‫ّ‬ ‫بتقدمي عنا�صر �صك االتهام‪ ،‬بل ت�سهم يف �صياغة‬ ‫الكلمة ـ احللم ـ املعول القتالع احليف و الغنب‪ ،‬و‬ ‫تفتيت قيم التحرمي و التقدي�س‪.‬‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫الت�صميم‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى جعفر‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


Mohamed Choukri


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.