رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
m a n a r a t
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
شكري محمد صعلوك األدب الحديث
2
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
محمد شكري ..الكتاب الملعون اعداد :زينة الربيعي
ولد حممد �شكري �سنة 1935م يف �آيت �شيكر يف �إقليم الناظور �شمال املغرب.عا�ش طفولة �صعبة وقا�سية يف قريته الواقعة يف �سل�سلة جبال الريف ،ثم يف مدينة طنجة التي نزح �إليها مع �أ�سرته الفقرية �سنة 1942م. و�صل �شكري �إىل مدينة طنجة ومل يكن يتكلم بعد العربية ،عم َل ك�صبي مقهى وهو دون العا�شرة ،ثم عمِ َل حمّا ًال ،فبائع جرائد وما�سح �أحذية ثم ا�شتغل بعد ذلك بائعًا لل�سجائر املهربة. انتقلت �أ�سرته �إىل مدينة تطوان لكن هذا ال�شاب الأمازيغي �سرعان ما عاد لوحده �إىل طنجة. مل يتعلم �شكري القراءة والكتابة �إال وهو ابن الع�شرين .ففي �سنة 1955م قرر الرحيل بعيدًا عن العامل ال�سفلي وواقع الت�سكع والتهريب وال�سجون الذي كان غار ًقا فيه ودخل املدر�سة يف مدينة العرائ�ش ثم تخرج بعد ذلك لي�شتغل يف �سلك التعليم. يف �سنة 1966م ُن ِ�ش َرت ق�صته الأوىل العنف على ال�شاطئ يف جملة الأداب اللبنانية. ح�صل �شكري على التقاعد الن�سبي وتفرغ متامًا للكتابة الأدبية .توالت بعد ذالك كتاباته يف الظهور. ا�شتغل حممد �شكري يف املجال الإذاعي من خالل برامج ثقافية كان يعدها ويقدمها يف �إذاعة البحر الأبي�ض املتو�سط الدولية (ميدي )1يف طنجة.
�أبرز �أعماله الأدبية ال�سرية الذاتية (� 3أجزاء): اخلبز احلايف ( 1972م ،ومل تن�شر بالعربية حتى �سنة 1982م) ال�شطار زمن الأخطاء ( 1992م).جمنون الورد ( 1979م) اخليمة ( 1985م) ال�سوق الداخلي ( 1985م) م�سرحية ال�سعادة ( 1994م) غواية ال�شحرور الأبي�ض ( 1998م) �إ�ضافة �إىل مذكراته مع جان جنيه وبول بوولز.
�أدبه
حتفل ن�صو�ص حممد �شكري ب�صور الأ�شياء اليومية وبتفا�صيلها الواقعية ومتنحها حي ًزا �شعريًا وا�سعًا ،على عك�س الن�صو�ص التي تقوم ب�إعادة �صياغة �أفكار �أو قيم معينة ب�أمناط �شعرية معينة. ً ارتباطا �شخ�صيات �شكري وف�ضاءات ن�صو�صه ترتبط وثي ًقا باملعي�ش اليومي .ويعترب �شكري "العامل الهام�شي" �أو "العامل ال�سفلي" ق�ضية للكتابة ،فكتاباته تك�شف للقارئ عوامل م�سكوت عنها ،كعامل البغايا وال�سكارى واملجون والأزقة الهام�شية الفقرية ،وتتطرق ملو�ضوعات "حمرمة" يف الكتابة الأدبية العربية وبخا�صة يف روايته اخلبز احلايف �أو الكتاب امللعون كما ي�سميها حممد �شكري. حتتل مدينة طنجة حيزا مهما �ضمن كتابته ،فقد كتب عن وجوهها املن�سية وظلمتها وعاملها الهام�شي الذي كان ينتمي �إليه يف يوم من الأيام.
Mohamed Choukri http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
محمد شكري: اعترافات طفولة مشاغبة �سيار اجلميل ادعو العامل لأن يكونوا مثلي ..فلي�س هناك �ألذ من قول ما يعلم" �شكري
هذا الروائي املغربي اال�ستثناء الذي اثار جدال وا�سعا يف الثقافة العربية املعا�صرة ..هذا االن�سان الذي عا�ش حياته مبعنى �آخر كان هو نف�سه يدركه وي�ستمتع به .. هذا الرجل �صغري احلجم الذي ال تهمه االعتبارات والقوالب والروادع ..لأنه تعّلم كيف يكون لي�س حرا فح�سب ،بل متمردا من اجل قتل تاريخ مزيف ..هذا الذي مل يكن معروفا بعد عندما ر�أيته والتقيت به يف طنجة التي كنت امر بها لآعرب من خاللها او عرب �سبتة م�ضيق جبل طارق نحو ا�سبانيا ..كما لو كان طفال �شقيا يلهو ويلعب حتى بكلماته وتعابريه وال يتوانى يف ان يطلب منك ما ي�شاء ..هذا الذي ت�أخر انتاجه وابداعه كونه بقي ال يعرف القراءة والكتابة حتى بلغ الع�شرين من العمر ..هذا الذي ال يهمه ان يبيح جملة من املحظورات كونه ال يعرف الزيف وال كل ا�شكاله ! هذا الذي ال يهمه يف ان يقول ما ي�ؤمن به وما يعلمه وال تهمه عواقب ما يقول ..رمبا هذا ما اتذكره يف الراحل حممد �شكري الذي عرفته منذ ع�شرين �سنة رفقة ا�صدقاء من ادباء وفنانني مغاربة يل منهم :اليطيفتي عبيد وامل ّنظري جواد وبو�ستة عي�سى وزرهوين رحمة وغريهم.
من هو حممد �شكري؟
ولد ال�صديق املبدع حممد �شكري يف عام 1935يف بني �شيكر ون�ش�أ طفال م�شاغبا ال يعرف اال�ستقرار ،ولكنه اي�ضا مل يعرف املدر�سة ومل يتعّلم القراءة والكتابة ! و�صل اىل طنجة وعمره �سبع �سنوات عندما جاء رفقة ا�سرته االمازيغية م�شيا على االقدام من جبال الريف املغربي ،ومل يكن يعرف يتكلم اللغة العربية ،ما و�ضعه يف م�أزق وحرية يف التوا�صل مع �أقرانه .كان الفقر املدقع �سبب رحيلهم �إىل طنجة �سنة ،1942 خ�صو�صا وان املجاعة قد �ضربت ندوبها م�سقط ر�أ�س �أ�سرته ،وبعد طنجة ذهبت �أ�سرته �إىل تطوان ،لكنه هو نف�سه اختار العودة �إىل طنجة ،لي�ستقر فيها مبفرده، وا�شتغل لفرتة يف التعليم معلما وكان يرى يف هذا املجال ا�سا�سا لبناء املجتمع �سيما والرتبية ال�سيئة التي تلقاها حممد �شكري من والده تركت يف نف�سه ندوبا هو و�إخوته و�سببت له ندوبا وجروحا ! وحممد �شكري خري مثال للمعلم الذي �أبدع �أدبا رفيع امل�ستوى ،ولكن ال ا�ستطيع ان ّ اتخيل حممد �شكري معلما فمهنته اديبا متميزا ال معلما خامال !! انه خلق لالبداع والكلمة ..وقد �سمعت يف ما بعد ب�أن ر�ؤيته وطموحه قد حتققا ،فلقد غدت م�ؤلفاته عند �صدورها تعترب حدثا ثقافيا ،كان يعتز ب�أنه كتب رواية (اخلبز احلايف) حيث �أكد ب�أنه كتب �سريته الذاتية بال جمد ،على خالف البع�ض الآخر من الكتاب الذي يعترب �أن ال�سرية الذاتية يجب �أن تكتب يف نهاية �أدبية حافلة كتتويج �أدبي وتراثي . لقد عانى املبدع حممد �شكري معاناة طويلة مع املر�ض ،الذي مل ميهله طويال ليبقى مع ا�صدقائه فاهم ما لدى الرجل ا�صدقا�ؤه ،فهو ال يهمه اي �شيىء اال ا�صدقا�ؤه ،و�سمعت انه يف الفرتة التي ق�ضاها بني امل�ست�شفيات ما بني مدينتي طنجة والرباط عا�ش بكربياء ،ك�أن املر�ض مل ينل منه ،وكنت ا�س�أل عنه واترقب اخباره بعد انقطاعها من ا�صدقائي القدماء حيث ظل يغالب املر�ض وهو يبت�سم �صادقا مع �أ�صدقائه وزمالئه ومرتجما �سريته ويوم االثنني 17كانون الثاين (نوفمرب) ،2003انطف�أت �شمعة حياته بطنجة ويف حمفل رهيب كان العامل كله يطلب �شفاءه ..ووري جثمانه الرثى مب�شاركة نخبة كبرية من الأدباء وال�شعراء والفنانني املغاربة و�شخ�صيات من رجال الدولة وال�سيا�سة والفن .ولقد كتبت عنه يف ت�أبينه بع�ض ما جادت ع ّلى ذاكرتي عنه اذ مل تزل �صورته القدمية مر�سومة عندي
3
وال ميكنها ان تنمحي ابدا ،ومل ازل اذكر تعليقاته ال�سريعة على تلك احلرب الدموية امل�أ�ساوية التي كانت تطحن كل من العراقيني وااليرانيني يف حمرقة كما كان ي�سميها بني فئتني حاكمتني غارقتني يف اوحال التطرف والتع�صب !!
ما م�ؤلفاته ؟
وميكننا التعرف على م�ؤلفات الروائي حممد �شكري التي من ا�شهرها :اخلبز احلايف من من�شورات لو�سوي 1981 وقد ترجمها �إىل االنكليزية بول بولز �سنة ،1973وترجمها �إىل الفرن�سية الطاهر بنجلون �سنة ..1981ويحكي فيها عن طفولته البائ�سة وعن املنفي .وقد منعت هذه الرواية �أو ال�سرية الذاتية حتى حدود �سنة ! 2000وله :زمن الأخطاء وهو الق�سم الثاين من �سريته ،وهو م�ؤلفه الثاين الذي يقدم فيه بانوراما املراهق يتعلم العربية ويذهب �إىل املدر�سة ويف نف�س الوقت يخالط الطبقات ال�سفلى بطنجة .ويكملها بكتاب :وجوه وهو يت�ضمن اجلزء الثالث من ال�سرية الذاتية. وكتب حممد �شكري :املولع بالورد (جمموعة من الق�ص�ص) ،ثم اعقبها بـ "اخليمة" (جمموعة من الق�ص�ص) .وله: ال�سعادة ،وهي رواية م�سرحية .وله: زوكو ال�صغري .وجون جيني يف طنجة. وتني�سي وليامز ( مذكرات ) .وله غواية ال�شحرور الأبي�ض .و�آخر ما ن�شر :زوكو ديفليز يف العام .1996هذا ما وقفت عليه من م�ؤلفات الرجل ،ورمبا كان قد ترك من بعده بني خزين اوراقه وم�سوداته ابداعات اخرى نتمنى ان يك�شف عنها يف امل�ستقبل لتكون بني ايدي النا�س .
اخلبز احلايف واملغرب مزروع يف دمه
هذا الكتاب هو الذي ا�شهر حممد �شكري وخلق له جمده االدبي يف ال�ساحة العربية ،وهو الكتاب الذي منعته دول وحكومات من ان يدخل اىل بلدانها ،فزاد من �شعبيته والدعاية له ! وهذا الكتاب هو الذي جعله حمظوظا جدا لكونه يعي�ش من مردودية كتاباته .وقد ارتبط كل من �إ�سم حممد �شكري وكتابه " اخلبز احلايف " مبدينة طنجة وكان ال يربح على مفارقتها ،ما �أن يذهب �إيل مدينة �أخرى للم�شاركة يف لقاء ثقايف� ،سرعان ما يقفل عائدا �إليها ،وهي احل�ضن الرحيم الذي يت�سع لكل �شغبه الطفويل .قال يل مرة ونحن جنل�س يف واحدة من مقاهي طنجة وكان يلب�س قبعة خ�ضراء وا�سعة ال تتنا�سق مع مالب�سه القدمية وج�سمه النحيل :انني اختنق عند مغادرتي طنجة وال اعرف كيف اكتب .. انها عاملي الوا�سع كله ..هي التي �صنعت من خاليل اخلبز احلايف ..وكانت الرواية قد �صدرت حديثا ،وبد�أ النا�س يتحدثون عنها وك�أنه كان قد �أ ّرخ املجتمع ال�سفلي هناك ..لقد كان �شكله مثريا للجدل وقد و�صف يف روايته ذلك املجتمع بكل ما يزدحم فيه من الكائنات امل�سحوقة وكتل املهم�شني وخبايا علب الليل واملجانني واملقامرين والفنانني بكل كائناتها التي ال تعرف غري االلوان الليلية احلمراء .. وقد كان رائعا يف تو�صيف احلياة بكل و�ضوحها .. ويعترب رواية (اخلبز احلايف) ب�أنها كانت عالجا ،بها ا�ستعاد توازنه النف�سي ،لكن العديد من القراء مل ي�ست�سيغوا الأمر. وكانت ال�سلطات املغربية يف عام 1983 قد منعت رواية (اخلبز احلايف) ،وذلك بناء على عرائ�ض وقعها البع�ض من فئات املتزمتني ،وبذلك اختفت رواية (اخلبز احلايف) من املكتبات والأك�شاك التي ت�شتهر املغرب بها لبيع الكتب او لكرائها (اذ ثمة عادة وجدتها يف املغرب االق�صى ان ي�ؤجر الكتاب اليام من اجل قراءته فقط
) ،وبالرغم من ذلك ظل الكتاب �أكرث قراءة من طرف املولعني ب�أدب حممد �شكري. وبال�سوق ال�سوداء كانت تباع وت�ؤجر ع�شرات االعداد من ن�سخ هذا الكتاب ،بعدما مت ا�ستن�ساخها بوا�سطة الفوتوكوبي. وهذا �أمر كان اليعجب حممد �شكري لأن فيه ه�ضم حلقوقه املادية هو يف �أم�س احلاجة �إليها .قال حممد �شكري ب�أن روايته ( اخلبز احلايف ) الذي ا�سماه بالكتاب امللعون الذي ان مل يكتبه لأ�صيب باجلنون �أو انتحر ،حيث كان وقت ذاك خارجا من حياة �صعبة للغاية .
ما الذي اتذكره من حممد �شكري؟
مل ا�شعر باهمية حممد �شكري اال بعد ان ت�أملت �سريته الغريبة التي قر�أتها بعد ان التقيت به لأكرث من مرة ..واعتقد انه الروائي العربي الوحيد الذي متتع بقدر ي�صرح بكل �شيء عال من ال�شفافية يف ان ّ وال يخفي اي �شيء ،فهو �صاحب قلب وعقل مفتوحني بكل نوافذهما على طنجة � ..سمعت منه بعد اعتزازه بطنجة كمدينة متو�سطية �ساحرة مفتونة بالنا�س والعامل ..كذلك حبه لال�سبانية وللثقافة اال�سبانية واللغة اال�سبانية التي كان يجيد العمل بها اجادة تامة .يف تلك املرحلة يف منت�صف الثمانينيات وجدته ال يثري االنتباه اال عندما يتكلم ! جادلته مب�س�ألة العروبة فقال ما عنده عنها ،وقد ثبت �صدق طويته فهناك من يتحول عن مثاليتها و�سموها لكي يغدو متوح�شا ومفرت�سا حتت مظلة �شوفينيتها كما هو حال االحزاب الفا�شية يف امل�شرق – على حد تعبريه ! -كان ي�ستمع يل وانا احلل ق�سمات من اخلبز احلايف ،وقال : �ساعيد �أ�سطرتها من جديد عرب ر�ؤية كالتي ي�شتهيها النقاد ..كان ينظر اىل ا�صحابه وحمبيه وحتى نقاده بعيني طفل يريد ان ي�ستزيد ولكنه دوما يذكرنا بريفيته التي يعتز بها اعتزازا ،ولكن كان يكره املجاعة واخلوف ..ومل تختف طنجة ابدا عن ل�سانه ،ويكاد يفخر بها كونه اطلقها من حملية قابعة على �شواطىء م�ضيق اىل افاق العامل الرحبة من خالل كتاباته .. انه ي�شتهيها ك�أمر�أة رائعة تقف عند نهاية ن�سوة يختلفن عنها ..لقد جعل �شكري من طنجة امر�أة حرة ولها ان�سانيتها ال جمرد �سلعة تباع وت�شرى كما يريدها البع�ض من املتحجرين املتبلدين ...او كما اردوا لها ان تكون ! قلت له و�شاركني اال�صدقاء من �شباب مغربي متح ّفز ومثقف :كنت جريئا يا �شكري يف تو�صيف اجلانب املخفي من تفكري االن�سان ..انتع�ش وقال :الي�س تلك دالة �ستح�سب يل يف الكتابة االدبية العربية .قلت له :بلى ..عّقب ب�سرعة :وان مل يتقبلها ادباء ونقاد ووعاظ ومتقلدون ومتزمتون ..ف�سيتقبلها انا�س لي�س من هذا الزمن ! وهنا �شعرت ب�أن للرجل اح�سا�سا كبريا بالزمن خ�صو�صا ي�سمي " الكتابة " بـ " اليومي " .انني وانه ّ احيي هذا الرجل الذي رحل عن الدنيا قبل ا�شهر اذ مل ميهله املر�ض ان يكمل عطاءه الرائع وهو ي�ستجيب زمانا ومكانا من ذلك التاريخ الفظ الذي نه�ش طفولته ..ولقد رحل معه ذلك االح�سا�س العميق بالواقع الذي كان ميقت ازوراره وزيفه وكل من يلعب على تناق�ضاته الفظة .و�ستبقى �إجنازاته الأدبية الرائعة بب�ساطتها وتلقائيتها تفاجئ القارئ حيث اليتوقع مطلقا بكثافات �شعرية تلتمع هنا وهناك.. كما تلتمع عينا هذا ال�صقر الريفي الذي يحلق بهدوء خارج زمنه فوق �سماء طنجة. واخريا اقول �أن ا�سم حممد �شكري �سيبقى عالمة فارقة يف االدبيات التي ابدعها العرب يف القرن الع�شرين ..و�سيبقى ذكره يدور على �أل�سنة االجيال . (ف�صل من كتاب الدكتور �سيّار اجلميل ،ن�سوة ورجال :ذكريات �شاهد الر�ؤية – قيد الن�شر).
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
�������ري.. � �������ك � ش ق� � �ض � ��اي � ��ا وإش� � �ك � ��ال� � �ي � ��ات
اإلنغماس في دم الحياة
د .غالب �سمعان �إن �سرية حياة الروائي العربي املغربي حممد �شكري (� ،)1935-2003سرية تنطوي على عن�صر املفاج�أة ،لكل من يطلع عليها ،واملق�صود هنا ال�سرية الذاتية املكتوبة بقلم الكاتب ،واملعرو�ضة يف كتابيه املهمني (اخلبز احلايف) و(ال�شطار) ،وعن�صر املفاج�أة يت�أتى من ال�صراحة ال�شاملة التي حتدث بها الروائي ،وما من �ضري يف هذا ،وهو يحدثنا عن مطالع حياته ،وما رافقها من ت�شرد واغرتاب ،وانكباب على التدخني واخلمر ،والعالقات اجلن�سية، واحل�شي�ش والكيف ،يف بيئة مدينة طنجة على الأخ�ص� ،إ�ضافة �إىل مدن تطوان والعرائ�ش ووهران ،يف الع�شرين عاما التي �سبقت ح�صول املغرب على ا�ستقالله، ورحيل القوات الفرن�سية والأ�سبانية عن �أرا�ضيه .وال�سرية الذاتية يلفها الب�ؤ�س، الذي يتفاقم �إىل �أن ي�صل �إىل درجات غري متوقعة ،فاحلرمان واجلوع وال�شقاء الب�شري ،تتطاول كلها �إىل حدود �أليمة وفاجعة ،والروائي حممد �شكري يحيا يف هذه البيئة� ،سنوات حياته الأوىل، ويعاين معاناة هائلة من اجلوع والت�شرد، والقهر االجتماعي� ،إ�ضافة �إىل املر�ض، والظلم الذي يلقاه من �أبيه ،الطاغية املتحكم يف �ش�ؤون الأ�سرة ،حتكما فظا، وال مربر له ،على �أن ظاهرة الب�ؤ�س الذي تعاين منه البيئة ،التي ن�ش�أ فيها الروائي، ومعاناته الذاتية من الب�ؤ�س ،تظل الظاهرة الأبرز ،واملعاناة ذاتها طويلة الأمد ،ولن يكون بالإمكان ن�سيانها� ،أو جتاهل ت�أثرياتها .ويف �أحد الن�صو�ص، ي�صف الروائي تفاقم الب�ؤ�س �إىل درجة م�ؤثرة ،وقادرة على تغيري النموذج الب�شري ،من الداخل ،تغيريا نوعيا ،لكن رف�ض الب�ؤ�س املفرو�ض على الواقع ،يظل موقفا �إن�سانيا قائما ،وحممد �شكري ينفر منه ،ومن مظاهره كافة ،التي تت�ضمن اجلهل واحلرمان ،واجلوع واملر�ض، وهو يطمح يف بداية الع�شرينيات من عمره� ،إىل تعلم القراءة والكتابة ،والتطهر من العفن الب�شري ،الذي عاينه يف حياة الت�شرد ،والتنقل بني الأعمال املختلفة، وت�صريف الوقت يف احلانات واملواخري، والبديل الذي يطمح �إليه ،يعني ت�أ�سي�س حياة اجتماعية ،ينتفي فيها اال�ستغالل واجلهل ،وت�شيع فيها الوفرة ،والقدرة على العي�ش باطمئنان و�أمان .على �أن احلياة البائ�سة تبدو ،لدى كثريين، مطلوبة لذاتها ،ويف هذه الأحوال تختار الإرادة الب�شرية م�صريها بذاتها من من دون �أن تكون احلياة البائ�سة مفرو�ضة عليها من عل ،ومرتافقة مع االنحطاط والتخلف ،على امل�ستوى االجتماعي، وغريه من امل�ستويات احلياتية ،فال�شاعر العربي العراقي �أحمد ال�صايف النجفي ( )1894-1977يحيا حياة زاهدة متاما، وهو يتغنى بالب�ؤ�س ،وال ينفر منه، وم�شروعه الأدبي يهدف �إىل تر�سيخ القيم الأخالقية ،وتوطيد �أركانها ،وهو ينطوي على �إيثارية تامة ،غري �أن هذا كله اختيار حر ،والب�ؤ�س غري مفرو�ض على الإرادة، على ما هو عليه احلال يف �سرية حممد �شكري الذاتية ،ولدى ال�شاعر العربي
اللبناين فوزي املعلوف (،)1899-1930 يبدو �أن الإح�سا�س الفاجع بالب�ؤ�س ،هو الدافع الذي �أملى عليه ق�صيدته امللحمية اخليالية (على ب�ساط الريح) ،وبالطبع ال ي�سع املرء �إال �أن يتعاطف مع املعاناة الب�شرية ،من دون �أن يكون التعاطف نوعا من الإح�سان الأناين ،و�أكرث من هذا، ف�إن املفكر والعامل الفرن�سي بليز با�سكال ( ،)1623-1662يقرر �أن الإن�سان بائ�س دائما و�أبدا ،وهو عظيم لأنه على دراية بالب�ؤ�س ،الذي ي�ستبطن احلياة ،وهو املفكر الذي ن�ش�أ يف عائلة على جانب من الي�سار ،و�أتيحت له فر�صة التعلم الباكر، وفر�صة �إظهار ملكاته العلمية والفكرية، من دون وجود عوائق ذات وزن كبري، �إ�ضافة �إىل قدرته على التمتع باحلياة، وارتياد ال�صالونات الأدبية والفكرية، والتعرف �إىل جمهرة من الأدباء ،العاملني يف هذا احلقل .ويف �سرية حممد �شكري الروائية �إ�شارة �إىل عامل فردو�سي ،تعم فيه ال�سعادة ،وينتفي منه كل معلم من معامل ال�شقاء ،وهذه الإ�شارة من �صنع اخليال ،ويف البيئة ال�شعبية التي ن�ش�أ فيها� ،سيكون ب�إمكان اجلماعة التي ينتمي �إليها� ،أن حتول اخليال �إىل واقع ،بطريقة �أو ب�أخرى ،وهو ما يبدو يف الن�ص الذي يتطرق فيه الكاتب �إىل احلفالت ،التي اعتاد �أبناء الطبقة ال�شعبية �إقامتها يف الب�ستان ،كل �أ�سبوع ،والكاتب ي�صف امل�شهد ب�أنه "اجلنة" وثمة ا�ستعانة باحللم �أي�ضا ،من �أجل تخفيف املعاناة� ،إال �أن ظاهرة التخيل واحللم ال تتخذ لنف�سها اجتاها ثابتا ،ينطلق باجتاه اخلال�ص، من دون انزالقات وتعرثات ،والأهم من هذا ،هو �إدراك الرتدي الذي تنطوي عليه حياة الت�شرد واجلهل ،وطموح الكاتب �إىل بناء حياة �أف�ضل ،تتحقق فيها العدالة االجتماعية، وحتفظها القيم الأخالقية من االنحطاط والرتدي. ومما ي�ستحق التوقف عنده يف �سرية حممد �شكري الروائية ،العالقة املختلة التي ربطته بوالده ،والتي تركت �إ�ضافة �إىل حياة الت�شرد واحلرمان� ،أكرب الأثر عليه ،فالوالد الذي يف�شل يف �أداء واجبه الرتبوي ،يف ظل الظروف البائ�سة، ميار�س على ابنه وزوجته طغيانا فجا، وهو يعمد �إىل �ضربهما بعنف� ،إىل حد الإيذاء ال�شديد ،و�أكرث من هذا ،ف�إنه يقتل ابنه الآخر عبد القادر ،ملجرد �أنه يبكي حتت وط�أة اجلوع ال�شديد ،والروائي يذكر هذه الواقعة ،يف بداية �سريته الذاتية ،ويف ن�صو�ص تالية يذكر موا�صلة والده ل�سلوكه الطغياين ،واعتماده ال�ضرب العنيف ،و�سيلة من �أجل قهره، وقهر والدته ،من دون �أن يكون لهذا
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ال�سلوك ما يربره ،اللهم �إال االختالل الذي يعاين منه هذا الرجل ،و�إن الت�أثري الذي يرتكه على ابنه غري قابل للزوال ،وما من م�صاحلة على الإطالق ،فالإيذاء تطاول �إىل حد كبري ،ولن تكون امل�صاحلة ممكنة �أبدا ،وكان املفكر الإيطايل جياكومو ليوباردي ( ،)1798-1837قد عانى من ا�ستخفاف والديه مبقدراته ،ما �أدى �إىل �إيذائه �إيذاء معنويا عميقا ،وعندما تبني �أنه كاتب ومفكر من الطراز الرفيع، كانت �إمكانية امل�صاحلة مع الوالدين قد زالت متاما .ويف هذه احلالة �أي�ضا ،ثمة �إرادة تفر�ض ذاتها على �إرادة الروائي حممد �شكري ،وهو يحاول التخل�ص منها ،واال�ستقالل ب�إرادته بعيدا عنها، ويف رواية (�إيفالونا) ،للروائية الت�شيلية �إيزابيل �ألليندي ،يعامل لوكا�س كاردييه �أبناءه وزوجته بعنف بالغ ،ويفر�ض عليهم طغيانه الفج ،وعلى التالميذ الذين يدر�سهم يف املدر�سة ،وهم يتكاتفون من �أجل اخلال�ص من طغيانه ،ويقتلونه يف �أثناء قيامهم بالرحلة ال�سنوية �إىل الغابة. والظاهرة على امل�ستوى ال�سيكولوجي، ال تختلف عن ظاهرة الطاغية الذي يتحكم يف �ش�ؤون جماعة معينة ،وبالطبع ف�إن الروائي يتجاوز والده �إىل م�ستويات �أنبل من الناحية االجتماعية واملعرفية ،واملرء يتمنى دائما� ،أن تكون الإجنازات التي يقوم بها ال�سابقون �أكرث رقيا ،كي تكون �إجنازات الالحقني �أعظم منها و�أرقى، فاملعري ( ،)973-1058الذي تلقى عن والده املعرفة والعلم ،وتطبع بالأخالقية، تطبعا عميقا ،تابع امل�شروع الأخالقي الذي انتهى بوالده ،وتخطاه �إىل عوامل �أبعد من الأخالق ذاتها ،يف بع�ض من ق�صائده، وهنا ي�شعر املرء باالرتياح وال�سرور، فاالنتقال من حالة جيدة �إىل حالة �أجود، ال يتم �إال عندما تنتفي املعوقات البيئية، التي كان على الروائي حممد �شكري �أن يعاين منها. ويف ال�سرية الذاتية ،ثمة تو�صيف لطبقة اجتماعية واحدة ،هي الطبقة ال�شعبية، التي انتمى �إليها الكاتب انتماء تاما، وثمة �إ�شارات �إىل الطبقة الأغنى ،على �أن الكاتب ظل على وفائه للطبقة ال�شعبية، ويف ن�صو�ص عدة يحاول تتبع �أخبار ال�شخ�صيات ،التي التقى بها ،تتبعا داال على اهتمامه مب�صائرها ،وتعاطفه مع �أحوالها ،وما �آلت �إليه ،ويبدو �أن الأحداث كلها ،تنتمي �إىل دائرة املتحول والعابر، من دون �أن تكون هناك قدرة على جتاوز هذه الدائرة ،والنماذج الب�شرية املحكومة داخلها ،غري قادرة على اكت�شاف حقائق حياتية� ،أعمق مما هو متحول وعابر، وهي ال تعرب تعبريا جليا عن توقها �إىل ما هو دائم وثابت .ويف هذه الأجواء البائ�سة ،لن يكون بالإمكان �إغفال الدور الذي قام به اال�ستعمار ،ممثال يف القوات الفرن�سية والأ�سبانية ،وهو الدور الذي �أدى �إىل التخلف واجلهل والب�ؤ�س، وتردي الأحوال باجتاه املجاعة ،واملعاناة الأليمة ،والكاتب يتحدث ب�صراحة ،عن عالقاته الغرامية ،وجتاربه اجلن�سية، وكلها عالقات وجتارب عابرة ،وما من �إمكانية لوجود �صيغ من احلب املثايل،
5
على �أن الكاتب يحاول االرتقاء بحبه� ،إىل م�ستويات �أنبل على الدوام ،ولكنه يرف�ض احلب املثايل ،واحلب العذري ،وما من �ضري يف هذا ،فاحلب ال�شهوي هو املنفذ الوحيد الذي تبقى ،من �أجل اقتنا�ص قدر من ال�سعادة واملتعة ،والبيئة التي تفر�ض عليه اللجوء �إىل العنف ،تدفعه بقوة باجتاه �إقامة عالقات غرامية ،وباجتاه تعاطي اخلمر واحل�شي�ش والكيف� ،إال �أن العنف يظل من �أجل الدفاع عن النف�س، فالكاتب ال يعتدي على �أحد ،وهو يدافع عن نف�سه ،عندما يعتدي عليه �أحدهم� ،أي �أنه العنف الذي ال يرتافق مع �أي ارتياح �أو ر�ضى� ،أما العالقات الغرامية فلها متعها ،وكل �شيء يف البيئة ،يدفع باجتاه االحتفاظ بالقوتني الغ�ضبية وال�شهوية، مع �إعمال العقل ،من �أجل حتقيق الغلبة يف ال�صراع من �أجل البقاء ،يف تلك الأجواء القا�سية ،والواقع �أن كل �شيء كان يدفع باجتاه حتفيز القوى ،و�إبقائها م�ستنفرة ومتيقظة ،ويف الن�ص الروائي ،ال يبدو �أن حممد �شكري قد متكن بحكم الظروف، من جتاوز احلب العابر� ،إىل نوع �أكرث ت�ساميا ،على �أنه ك�أي �إن�سان ظل متعلقا يف قرارة نف�سه ،مبا هو عظيم ونبيل، والظاهرة موجودة على نطاق وا�سع،
يف ال�سرية الذاتية ،ثمة تو�صيف لطبقة اجتماعية واحدة ،هي الطبقة ال�شعبية ،التي انتمى �إليها الكاتب انتماء تاما ،وثمة �إ�شارات �إىل الطبقة الأغنى ،على �أن الكاتب ظل على وفائه للطبقة ال�شعبية، ويف ن�صو�ص عدة يحاول تتبع �أخبار ال�شخ�صيات ،التي التقى بها ،تتبعا داال على اهتمامه مب�صائرها ،وتعاطفه مع �أحوالها ،وما �آلت �إليه ،ويبدو �أن الأحداث كلها ،تنتمي �إىل دائرة املتحول والعابر،
ف�ألفرد دو مو�سيه ( ،)1810-1857ال�شاعر الفرن�سي ،يندفع وراء العالقات الغرامية العابرة ،ويحيا حياة تنطوي على املعاناة واملرارة ،وعلى ا�ستعذاب الأمل ،ويف قرارة نف�سه ،ينظر �إىل عالقته الغرامية مع الكاتبة الفرن�سية الرومانتيكية جورج �صاند ( ،)1804-1876باعتبارها احلب الأعظم والأنبل يف حياته ،وجربان خليل جربان ( ،)1883-1931الذي �أن�شاء عالقات غرامية متعددة ،توقف حتديدا عند حبه املثايل ل�سلمى كرامة ،واعتربه احلب الذي ينبغي تخليده وت�أبيده .ويف تلك الفرتة من حياته ،مل يكن �أمام الروائي حممد �شكري خيارات كثرية ،ومن الطبيعي �أن يهتم ب�شاعر كمهيار الديلمي (تويف ،)1036وان يحفظ ق�صيدة غزلية من نظمه ،عن ظهر قلب ،من دون �أن يعري اهتماما كبريا ل�شاعر فيل�سوف ك�أبي العالء املعري ،هذا �إ�ضافة �إىل �أن مهيار الديلمي �أقرب �إىل القاع االجتماعي ،وهو الذي كتب يف الغزل الوجداين الرقيق ،والرثاء واالخوانيات ،والعتاب و�شكوى الزمان، ويف و�صف الإ�سطرالب والطبل ،وال�سمك وال�شمع. ومما مييز الطبائع ال�شعبية التي يتحدث عنها الروائي حممد �شكري ،حماوالتها االرتقاء بواقعها وذواتها ،وانطوائها على القيم الأخالقية� ،إ�ضافة �إىل مظاهر ترديها يف كثري من الأحيان ،وهي املظاهر التي يرف�ضها ،رف�ضا تاما ،وال ي�ستطيع تقبلها ،فاالنحدار وجتلياته ،على امل�ستويني اجل�سماين والنف�ساين ،ينفر الروائي تنفريا عميقا .وعلى م�ستوى القوة ال�شهوية ،كان عليه �أن يدخل يف مواجهات عنيفة مع عدد من ال�شاذين جن�سيا� ،أما على م�ستوى القوة الغ�ضبية، فال يبدو �أن الروائي ممن يقرون �أعمال ال�شغب ،والقتل الع�شوائي ،وبالرغم من �أن مقارعة اال�ستعمار واجب وطني، �إال �أن االنحراف باجتاه �أعمال القتل، التي تطفو من خاللها الأميال الوح�شية الب�شرية ،تظل مما هو مرفو�ض ،والكاتب ذاته يف �إحدى مواجهاته ،يذهب يف هذا االجتاه ،يف �سياق دفاعه عن نف�سه، ورف�ضه ملا هو �شاذ يف الطبيعة الب�شرية، وبالرغم من �أن �إمكانية تربير احلدث ممكنة� ،إال �أنه ينتهي بانخراطه يف البكاء ،مما يعني ترفعه عما هو غري الئق ب�إن�سانية الإن�سان ،من الناحية اجلوانية النف�سانية .و�أمام واقعية الرتدي الب�شري، هناك اعرتاف باملهمة التي يتوجب على الفن القيام بها ،من �أجل �إعالن اجلمال كبديل للقبح ،على ما هو عليه احلال لدى ال�شاعر الفرن�سي �شارل بودلري ( ،)1821-1867على �أن ال�سعادة تظل وهما ،وهو ما يقرره الكاتب ،يف حوار له مع واحدة من ع�شيقاته العابرات، فاملعاناة حقيقة جوهرية ،والأخالق والفن واملتع احلياتية ،لها دورها الإيجابي ،على امل�ستويني االجتماعي والفردي ،ومع ذلك ف�إن ال�سعادة تظل بعيدة املنال ،وعلى املرء �أن يحيا احلياة ،وما من �سبيل �آخر �أمامه، وعليه �أي�ضا �أن يت�صالح مع ذاته ،ومع املدينة التي ينتمي �إليها ،ومع العامل على ما هو عليه.
هذا الكاتب املغربي "الرجيم" ،كقول ناقد ن�صه على هتك ال�ستائر ما ،الذي �أوقف َّ والأحجبة عن �أدب البوح الإن�ساين ،جاع ً ال �إ َّياه يح ّلق يف ف�ضاءات غري م�ألوفة يف �أدبنا العربي املعا�صر. لو كان حممد �شكري كتب "اخلبز احلايف" فقط (وهو الكتاب الأول من �سريته الذاتية الروائية) لكفاه ذلك من جملة الأ�سباب التي ت�ؤهل لدخول "نادي املبدعني الكبار" عرب �أو�سع الأبواب ،فما بالك والأمر لي�س على هذا النحو؟ ولد �شكري يف جبال "الريف" يف املغرب (يقول البع�ض �إنه ولد يف 1935ويقول البع�ض جمرد الآخر �إن مولده كان يف ،1940ويف ّ ذلك ما يدل على جانب من م�شكلية حياته و�شخ�صيته اخلالفية)� .إثر جماعة �إنتقلت عائلته اىل طنجة ،حيث ظل يقيم حتى �آخر �أيامه .دخل املدر�سة ب�شكل مت�أخر ،يف �أواخر العقد الثاين من عمره .ون�شر �أول ق�صة يف جملة "الآداب" البريوتية يف 1966وعنوانها "العنف على ال�شاطىء" .ترجمت �أغلب �أعماله اىل العديد من اللغات العاملية.
�أنطوان �شلحت
�صدر له ":جمنون الورد" ،ق�ص�ص (" ،)1979اخلبز احلايف"، �سرية ذاتية روائية (" ،)1983اخليمة" ،ق�ص�ص (،)1985 "ال�سوق الداخلي" ،رواية (" ،)1985زمن الأخطاء" ،رواية (ُ ،)1992 "ال�ش َّطار"� ،سرية ذاتية روائية (" ،)1994ال�سعادة"، م�سرحية (" ،)1994غواية ال�شحرور الأبي�ض" ،ن�صو�ص جتربة مع القراءة والكتابة ( .)1998كما �صدر له يف باب املذكرات " :جان جينيه يف طنجة"" ،بول بولز وعزلة طنجة"، "تين�سي وليامز يف طنجة". يف �سنة � 2000صدرت الرتجمة العربية لكتاب "اخلبز احلايف" عن من�شورات "�أندل�س" ،بادارة ياعيل لرير .ويف ال�سنة نف�سها �صدر ل�شكري ،عن "دار ال�ساقي" ،كتاب بعنوان "وجوه" ي�شكّل ،ح�سب قوله ،اجلزء الثالث من �سريته الذاتية "لكنه مكتوب بطريقتي اخلا�صة وال يخ�ضع للطريقة التقليدية وال لتقنيات كتابة ال�سرية الذاتية املتبعة لدى الآخرين، فكتابتي تتخللها اليوميات وال�صور الدقيقة ،وهي ال تعتمد على بطل حم ّدد بل تركز على وجوه م�ستقلة ،كل واحد قد ال يلتقي بالوجه الآخر ،وهي وجوه مغربية �أو �أجنبية". بالتزامن مع �صدور "وجوه" �أ�صدر الكاتب املغربي حممد برادة ،وهو واحد من جمايلي �شكري ،كتاب ًا بعنوان "ورد ورماد" �ض ّم ر�سائل متبادلة بينه وبني �شكري يف الفرتة ما بني 1975و 1994ويف "�إ�شارة" ت�صدير هذه الر�سائل كتب برادة� ،ضمن �أ�شياء �أخرى� .. ":أظن �أن كتابة الر�سائل ت�ستجيب للحظات جد حميمية ن�ست�شعر فيها رغبة البوح واملكا�شفة والتفكري ب�صوت مرتفع وللأ�سف �أن تقاليدنا يف املرا�سالت بني الأ�صدقاء املبدعني قليلة �إن مل تكن منعدمة. ومن ثم وجدت ،ومعي ال�صديق �شكري� ،أن ن�شر هذه الر�سائل قد تكون م�ضيئة لبع�ض التفا�صيل التي التقطتها الر�سائل وهي يف حالة َ الن�ص خما�ض ،وقد تر�سم مالمح �أخرى ال يت�سع لها ّ الإبداعي". فع ًال ..لكن مهما تكن املالمح التي يقول بها برادة ،فاننا نقر�أ يف �إحدى ر�سائل �شكري املقولة التالية" :من مل ينغم�س يف دم احلياة ،ال ّ يحق له �أن يتكلم عن اجلرح" .تنطوي هذه املقولة على �أحد املفاتيح املهمة� ،إن مل يكن �أهمها على الإطالق ،ملحاولة فهم العامل الذي يبنيه الكاتب لنف�سه ولنا جميع ًا ،وبالأخ�ص يف "اخلبز احلايف" .يف هذا الكتاب ،الذي َّ ب�شر ب�شكري واعترب تكري�س ًا لظاهرة كتابته ،ن�صادف تو�صيف ًا خ�شن ًا، �صادم ًا وموجع ًا ،جلراح املا�ضي التي مل تلتئم -ذلك املا�ضي الذي ال يتعلق به الكاتب "�إال عندما يخونني حا�ضري" ،كقوله يف ر�سالة �أخرى .ين�سحب ذلك على جراحه اخلا�صة بقدر ما ين�سحب على اجلراح العامة ملدينته ووطنه. متتد �أحداث الكتاب من الطفولة املبكرة ل�شكري �إىل �سن ما بعد املراهقة� ،أي �سن الر�شد ( .)1956-1935ويحيل توقيت بلوغه هذا ال�سن مع تاريخ بلوغ بالده غاية اال�ستقالل اىل �أن التحرر من ربقة اال�ستعمار الكولونيايل هو �أي�ض ًا "املعادل ال�شعبي �أو القومي ل�سن الر�شد" ،كما يقول �صربي حافظ.
وينطلق الناقد من هنا لي�ؤكد ابتداء �آليات االنتقاء الروائي يف االعراب عن نف�سها ،حيث ا�ستطاعت "ال�سرية" �أن تبلور لها ف�ضاءها اخلا�ص املقتطع بعناية من زمن تاريخي معني وف�ضاء اجتماعي وثقايف معني ،باملعنى االنرثبولوجي العري�ض للثقافة� .إنه الف�ضاء االجتماعي املقموع واملهم�ش وامل�سكوت عنه ويف �أكرث الأزمنة مالءمة له :زمن اال�ستعمار واالنتهاك وهو يقرتب من نهايته فتك�شف �شرا�سته عن �أب�شع وجوهها، من ناحية ،بينما ترتاخى قب�ضة �سلطته الغا�شمة منذرة بنهايته ،من ناحية �أخرى. وال جند تقيد ًا بحرفية الأحداث �أو توقيتها الزمني امل�ضبوط، ما يجعلنا �أمام م�شاهد من الطفولة واملراهقة هي امل�شاهد نف�سها التي ارتبطت ب�أحداث ووقائع �أثرت بعمق يف حياة �شكري وارتبطت بذاكرته وفر�ضت نف�سها عليه وهو ينتقي ما هو قادر على �أن ير�سم مالمح الطفل واملراهق اللذين كانهما. ويعتقد �أكرث من ناقد �أن هذا التحرر من �سرد التفا�صيل، وفق ًا لكرونولوجية دقيقة ،هو ما جعل الن�ص ي�أخذ يف الآن نف�سه طابع ال�سرد الروائي املعتمد على ا�ستح�ضار الأحالم واال�ستيهامات وعلى التخييل ،وهو القائل "لوال اخليال النفجرت". ن�ص �شكري هذا قابلة لأن تت�شظى بقدر ت�شظي الكتابة عن ّ ال�سرد ذاته ،ولذا ال ُب َّد من ا�ستقطار ما يلي : -1الطفل واملراهق يف "اخلبز احلايف" هو ذات واحدة، بالرغم عن تعدد املواقف والتجارب .م�صدر ذلك هو التحدي، فهو يتحدى كل ما يقف حائ ًال بينه وبني �إثبات ذاته وتوطيد معرفتها باحلياة .و�إن ما عا�شه وحتداه يت�صل بثالثة جماالت :الأ�سرة واجلن�س والعمل .وكل واحد من هذه املجاالت م�شوه ًا ويعي�ش عالئقه من زاوية يكت�شفه الطفل واملراهق ّ مقلوبة ،فان "الإن�سان يحب نف�سه �أكرث يف الوحدة� .أدركت �أين ل�ست �سوى �أنا .وحدي �أراين يف مر�آة نف�سي .العامل يبدو م�شوه ًا" .مع يل مر�آة كبرية مك�سرة و�صدئة �أرى فيها وجهي ّ ذلك ال ي�شعر القارىء يف نهاية املطاف ب�أن هناك �أ�شياء عجز الكاتب عن �أن مي�سك بها �أو عن �أن ينقلها. -2يكرث �شكري نقل املا�ضي كما كان يعي�شه من دون حتوير. وعالقة الكاتب مبا�ضيه خالية من اخلجل �أو التنكر ،ميكن اعتبارها عالقة تن ّد عن ت�صالح مع هذا املا�ضي .ومن هنا كان �صدقه املتناهي يف عر�ض هذا املا�ضي كما هو ،من غري تفل�سف �أو �إدعاء ،ومن غري رغبة يف �أن ي�ستخل�ص منه الدرو�س �أو �أن ي�ستقي منه العرب .لكن نفي التفل�سف من ظاهر الكتابة ال يعني غياب �أي ت�صور �أو ر�ؤية فل�سفية عن �أفقها ..وقد تنبه ناقدو �شكري اىل �أن جرعة هذه الفل�سفة �إزدادت يف اجلزء الثاين من �سريته الذاتية الروائية الذي حمل عنوان "ال�شطار" ،لأن الذات الروائية هنا �أعمق خربة ومعرفة من تلك التي �أطلت علينا يف اجلزء الأول. -3مثل العامل الذي ي�صفه �شكري ال يتم التعبري عنه �إال عرب اللغة املبا�شرة ،التي ت�سمي الأ�شياء ب�أ�سمائها� .إنه عامل حاد، مبا�شر ،عنيف ،حار" ،تكذب �أية لغة �أخرى لو حاولت التعبري عنه" ،على حد قول فاروق عبد القادر .ويعني هذا �أن اللغة التي ي�ستخدمها �شكري ،والتي تكمن �أبرز مالحمها يف اجلمل الق�صرية والو�صف احلاد الذي ينفذ اىل الق�صد فور ًا� ،إمنا تالئم التجربة التي يريد �أن ينقلها لقارئه وتتكامل معها. وبعبارة الناقد نف�سه :ال بد من لغة "�سفلية" تعرب عن العامل ال�سفلي املتمثل يف وجوه ثالثة � -أ�سفل الأنا و�أ�سفل اجل�سم و�أ�سفل املجتمع. -4من خالل ما تقدم لن يكون من قبيل املبالغة �أن ن�ص ّنف �شكري يف خانة "رائد اللغة املغايرة" يف الرواية العربية املعا�صرة .ويظل مثل هذا الت�صنيف منقو�ص ًا �إذا مل نرفقه مباهية "الدعوة املزدوجة" املتوافر عليها �إ�ستح�صا ًال ،والتي �أجملها �صديقه برادة بالقول �إنها دعوة ،من جهة ،اىل �أن نتخلى عن جهلنا �أو جتاهلنا لواقع ميلأه ال�صد�أ والبثور .ومن �أخرى دعوة لأن نلعب ورقة الكينونة �ضد �أخالقية "ما يجب �أن يكون"... فالكينونة برغائبها وعالئقها املادية والنف�سية وا�شتهاءاتها هي �أي�ض ًا من العنا�صر الأ�سا�سية التي �ست�سعفنا يف �إزالة الغ�شاوة وم ّد اجل�سور مل�صاحلة الذات والآخرين. يف مقدمة الطبعة العربية من "اخلبز احلايف" كتب حممد �شكري يقول":لقد علمتني احلياة �أن �أنتظر� ،أن �أعي لعبة الزمن من بدون �أن �أتنازل عن عمق ما ا�ستح�صدته :قل كلمتك قبل �أن متوت ف�إنها �ستعرف ،حتم ًا ،طريقها .ال يهم ما �ست�ؤول �إليه .الأهم هو �أن ت�شعل عاطفة �أو حزن ًا �أو نزوة غافية� ..أن ت�شعل لهيب ًا يف املناطق اليباب املوات". منذ تاريخ كتابة هذه الكلمات (يف )1982مل يكن �إنتظار �شكري عبثي ًا ،مثل �إنتظار بيكيت لغودو .وال َّ �شك �أن اللهيب الذي �أ�شعله يف يبابنا الثقايف ،حتى املوت ال يقدر عليه.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
7
محمد شكري…صعلوك األدب الحديث د .حممد عبيداهلل
حممد �شكري� :أيُّ �أُم ّية؟
رحل حممد �شكري حتت وط�أة مر�ض ال�سرطان ،وهو املر�ض الذي َ فتك من قب ُل بكثري من الك ّتاب ،منْ بينهم جان جينيه وكتب الذي �صادقه �شكري واقرتب من عامله َ عنه مذكرات مهمة بعنوان "جان جينيه يف طنجة" ،هذا الكتاب ،مثل �أيّ كتاب �آخر ل�شكري ،يك�شف عن نوعية احلياة التي �أقبل عليها� :إنها حياة طنجة ّ وع�شاقها ومريديها، طنجة التي انتقل �إليها �شكري من الريف املغربي قادم ًا مع عائلته ال يحم ُل �إال لغته الرببرية ،وال يعرف العربية بل وال املغربية الدارجة نف�سها. وُلد حممد �شكري يف الريف املغربي عام ( 1935وقيل عام – 1939الآداب) ،لكنه غادره منذ طفولته ،وعن ذلك يقول�" :أنا ابن هجرة املجاعة الريفية التي حدثت يف بداية الأربعينيات… هرب ًا من اجلفاف القاتل ..مل يكن �أحد من �أ�سرتي يتكلم اللغة
الدارجة املغربية ،عندما غاد ْرنا قريتنا يف بني �شكري ،لغتنا الوحيدة التي كانت هي الريفية داخل كوخنا وخارجه ،عندما بل ْغنا طنحة كان عمري �سبع �سنوات ،ك ّلما حاولت احلي الذي �أن �أ�سرق حلظة لعب مع �أطفال ّ �سك ّنا فيه كانوا يطاردونني �صارخني :ام�ش بالريفي… ام�شي يا ولد اجلوع". و�إذ يطرده �أطفال احلي ف�إ ّنه ال يجد �إ ّال الغجر والأندل�سيني من املهمّ�شني مثله ومثل �أ�سرته ،وعنهم يقول" :مل �أجد �صعوبة كبرية لكي ي ْقبلوين يف جماعتهم… هكذا تعلمتُ الكلمات الأوىل بالإ�سبانية قبل �أن �أتع ّلمها بالدارجة املغربية .وكذلك علمني �أطفال الغجر والأندل�سيني كيف �أرفع يدي كي �أدافع عن نف�سي� ،إذ لي�س للأطفال �إ ّال لغ ُة اليد". ّ لكن حممد �شكري مل يتوقف عند لغته الرببرية التي كانت �أمّه ت�ص ّر عليها وعلى ا�ستخدامها يف البيت "لأنيّ ُولدتُ يف الريف وينبغي �أن �أحافظ على جذوري" فقد تع ّلم http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
الإ�سبانية والدارجة املغربية ،ثم العربية الف�صيحة مت�أخر ًا جد ًا (يف �سن الع�شرين)، وقد تع ّلم هذه الأخرية ب�سرعة فائقة ك�أ ّنه يخت�صر الزمن ويعوّ �ض ما فاته منها قراء ًة وكتاب ًة� ،إذ كان قبل الع�شرين ال يعرف �إال لغة امل�شافهة ،وكان ميكن �أن يكون �أو ّ يظل ل�ص ًا �أم ّي ًا ال يعرف �إال مداورة �ضحاياهّ ، لكن الكتابة ومغادرة الأميّة املت�أخرة نقلتاه �إىل مقام جديد هو ما يجعلنا نكتب عنه اليوم ٍ دون كثري غريه من �أرباب ال�سوابق ممّن ميوتون ّ كل يوم وال يعرف م�صريهم �أحد. قد حتتاج �أ ّميّة �شكري �إىل مراجعة :فهي م�س�ألة م�شكوك يف �أمرها عند من ال ي�صدّقون �أ�ساطري الك ّتاب عن �أنف�سهم ،وقد يكون �إ�صرار �شكري عليها نابع ًا ممّا حتمله فكرة أمي الذي �صار كاتب ًا" من جاذبية .وقد "ال ّ تكون الأميّة املزعومة جزء ًا من مهارة �شكري الذي ينحدر من �ساللة غريبة ،و�أعني رواة طنجة الذين جذبوا الك ّتاب الأجانب
بد�أت ق�صة اخلبز احلايف� ،إذ مل تكن م�شروع كتاب م�ؤلف باملعنى املعروف ،و�إمنا هي رواية �شفوية :ق�ص�ص وحكايات وذكريات ّ وت�ضخمها وت�ضيف تفي�ض بها الذاكرة �إليها .ووفق رواية �شكري نف�سه ،فقد جاءت فكرة ال�سرية الروائية م�صادف ًة عندما التقى بنا�شر �إجنليزي اعتاد �شراء حكايات رواة طنجة ون�شر بع�ضها ،مثل "حياة مليئة بالثقوب" للعربي العيا�شي ،و"احلب بحفنة من ال�شعر" ملحمد املرابط ،وكال الكتابني من حترير و�صياغة بول بولز ،وقد �أمالها االثنان عليه مقابل النقود ،ويبدو �أن الفكرة راقت �شكري ،وهو املمتلئ باحلكايات من كل �صنف ،والأف�ضل ثقافة ،والأو�ضح طموح ًا من بني رواة طنجة ،فادّعى �أن �سريته ناجزة، وت�سلم مائة جنيه مقدم ًا دون �أن يكون لديه حرف واحد منها .وخالل �شهرين كانت ال�سرية كاملة بعنوان" :لي�س باخلبز وحده"، كما �سمّاها بول .و�أما كتابتها فتمّت بطريقة
وباعوهم حكايات �أكرثها خمتلق لكنها متتاز باجلاذبية والعنا�صر العجيبة ال ّأخاذة، فه�ؤالء الرواة جدّدوا تقاليد قدمية لل�سرد ال�شفوي واملتاجرة مبا يحملونه من �أخبار وحكايات – وهذه ظاهرة معروفة يف الرتاث القدمي ،وكانت �أحد �أ�سباب الو�ضع وال ّن ْحل، ل ّأن الراوي بعد �أن تنف ْد ب�ضاعته يلج�أ �إىل االختالق كي ي�ستمر العطاء وموارد املال. وهكذا تبدو جتربة �شكري� :إذ بد�أ ببيع حكاياته لبول بولز ،ثم حتوّ ل �إىل مبدع للحكايات ب�صرف النظر عن م�صداقيتها. �صحيح �أنه لي�س الراوي الوحيد يف طنجة، ّ ولكن الآخرين (كالعربي العيا�شي وحممد القطراين وحممد املرابط) جمرد م�صادر �شفوية يروون حكايات غريبة فيقب�ضون ما ًال �شحيح ًا.
غريبة :ف�شكري يقول �إنه �أ ّلفها بالعربية �أو ًال ،ثم �أمالها بالإ�سبانية على بولز ،فكتبها هذا الأخري بالإجنليزية – وهي اللغة التي ظهر بها الكتاب �أول مرة ،وال يُعرف م�صري الن�سخة التي زعم �شكري �أنه كتبها وترجمها لبولز� ،إذ � ّإن ما �صدر بالعربية هو ترجمة حممد برادة للكتاب نف�سه .ومعنى هذا � ّأن �أكرث من م�ؤلف �ساهم يف �صياغة العمل و�إعطائه ال�شكل الذي ظهر عليه ،وف�ضيلة �شكري �أنه �صاحب احلكايات قبل �صياغتها وت�شكيل ال�سرية منها ب�أقالم ك ّتاب حمرتفني. على �أية حال ،احتاج �شكري �إىل �سنوات قبل �أن ي�شتهر يف العامل العربي .ورغم ن�شره املب ّكر لق�ص�ص ق�صرية يف جملة الآداب ف�إنه مل يلفتْ �أحد ًا مبوهبته :بل � ّإن تعليقات الن ّقاد على ما كان ين�شره يف هذه املجلة ت�شري �إىل توا�ضع جتربته ،و�إىل ت�سامح �سهيل �إدري�س يف ن�شر ق�ص�صه غري النا�ضجة .وترتبط �شهرة �شكري واالهتمام به ب�صدور اخلبز
ق�صة "اخلبز احلايف"
�شكري� ،إذن� ،أحد رواة طنجة ،وبهذه ال�صفة
احلايف بالعربية والفرن�سية والإنكليزية. ري معروف حياته كاتب غ ُ واملفارقة �أنْ يبد�أ ٌ ب�سرية ذاتية :يقول �شكري نف�سه يف هذا ال�صدد" :كان مفهومي لل�سرية �أنها ال ُتكتب �إال بعد جمد �أدبي ،و�أنا مل يكن يل منه �إ ّال بع�ض الق�ص�ص التي ُن�شرت يف جمالت عربية و�صحف مغربية[ .لك ّنه] رهان مل �أُر ْد �أن �أخ�سره مثل حتدياتي الأخرى :هجران �أ�سرتي ،تع ّلمي القراءة والكتابة مت�أخر ًا لأقر�أ حياة الفنانني وم�آ�سي ّ الع�شاق ،ويو َم ق ّررتُ �أن �أ�صبح كاتب ًا بال �أجر". ا�شتهر حممد �شكري ب�سرية اخلبز احلايف، بالرغم من طبيعتها الت�أليفية الغريبة التي ال جتلعه م�ؤلف ًا باملعنى املعروف ،وال تنطوي هذه ال�سرية على عنا�صر �سردية غنية من ناحية ال�شكل – فهي مكتوبة ب�أ�سلوب �صحفي مت�سرع .ولكن امل�ضمون ال�صادم هو الذي �أ�سهم يف خلق حالة االهتمام ال�شديد بها، ورفعها �إىل م�ستوى �أ�شهر ال�سري االعرتافية ُ تقارن يف العامل ،بحيث باعرتافات جان جاك رو�سو واعرتافات القدي�س �أوغ�سطني – وهما من كتب ال�سري القليلة التي ّ اطلع عليها �شكري و�أُعجب بها قبل ظهور �سريته ،تلك الطبيعة االعرتافية هي ال�سبب الأ�سا�سي يف �شهرة الكتاب ،مبا يك�شف عنه من عوامل غريبة وهجينة متتلئ بكائنات الليل ومكوّ نات احلياة ال�سرية ،حيث عا ُمل الهام�ش مبا فيه من غنى وتنوّ ع وده�شة� ،إ ّنه نقي�ض "التاريخ الر�سمي امل�أجور" بتعبري �شكري، ذلك التاريخ الذي ينفي حياته وحياة �أمثاله من املهمّ�شني "وال ي�سمح ب�أن يلوّ ث بهم جمده اجلليل اخلالد". مناق�ضة هذا التاريخ الر�سمي ،والتحر�ش به ،هما اللذان جعال الن ّقاد والق ّراء يُقبلون على �سرية �شكري هذه ،ويق ّلبونها على وجوهها ،ويغفرون لها م�ستواها ال�سردي املتطامن ،مقابل ذلك الفي�ض من االعرتاف الذي ي�شبه نهر ًا جارف ًا من الف�ضائح والرذائل اخلاد�شة لـ "احلياء العام" الذي يدّعيه الر�سميون ويدافعون عنه. �إنها مر ًة �أخرى م�س�ألة احلرية ،وم�س�ألة ك�سر التابو ب�أيّ ثمن… بعيد ًا عن �أية موازين للمو�ضوعية �أو التوازن.
الت�شرد �إىل الوعي من ّ
كتب �شكري كتب ًا كثرية غري اخلبز احلايف، من مثل ّ ال�شطار (وهو جزء ثان من �سريته الروائية) ،وكلها ت�ض ّم ذكريات �شكري وعذاباته ال�شخ�صية ،وي�شكل اجلن�س والفقر والت�شرد العامل الأ�سا�سي فيها: حياة الليل يف طنجة وتطوان والعرائ�ش، ال�ش ّذاذ وفتيات الليل ،الفنادق الرخي�صة، ال�شوارع اخلليفة املعتمة ،وغري ذلك من عوامل هام�شية ،كاملقاهي الفقرية و�ساحات املدينة ومواخريها الكثرية .امل�شرتك يف �سري �شكري �أو �سريته هو التعبري عن العيب
�أو الف�ضيحة بلغ ٍة �سهل ٍة �سل�س ٍة وب�أ�سلوب م�شوق ب�سبب كمية االعرتاف التي ينطوي عليها� .إنه يفاجئ قارئه بالك�شف عن كل ما هو "معيب" من دون مواربة �أو خجل ،و� ّإن �صدمة االلتقاء بالعيب واحلرام وجه ًا لوجه، وعلى �صفحات كتاب ،هي التي جعلت لكتابة �شكري لون ًا خمتلف ًا ،يف جمتمع �أقرب �إىل االنغالق والتقليدية ،بالرغم من �أنه مثل كل املجتمعات ينطوي على �شتى الأ�صناف والعوامل املخفية. لكن هل ّ ظل �شكري را�ضي ًا عن م�سرية كتابته وحياته ،علم ًا �أنه عبرّ عن عامل الت�شرد وال�صعلكة يف ق�ص�صه �أي�ض ًا كـ جمنون الورد ،1979واخليمة 1985؟ يالحظ املتابع لرحلة �شكري �أنه بعد اخلبز احلايف و�أعماله الأوىل بد�أ ي�سعى �إىل جتاوز �أ�سطورته املت�ش ّردة ،عرب حماولة تثقيفها ،يظهر هذا من خالل ا�ستدراج مئات ال�شواهد والأقوال واالقتبا�سات للمف ّكرين والك ّتاب ،وذ ْكر �أ�سماء كتب �أو ن�صو�ص خمتلفة تهدف �إىل �أن تكون �شاهد ًا على املعرفة والثقافة بدي ًال من دعوى الأميّة التي افتتح بها �سريته .ويف كتابه غواية ال�شحرور الأبي�ض ين�شر �شهادات و�آراء نقدية ت�سعى �إىل �إثبات ثقافته� ،أو ت�شري �إىل قراءة التجربة املت�شردة بوعي معريف وثقايف .ولكن كل ال�شواهد التي �أوردها �شكري ت�شري �إىل ثقافة خمتلطة غري ّ منظمة� ،إذ يور ُد ال�شاهد ونقي�ضه يف مو�ضع ّ ّ واحد ،وال ت�شكل هذه الثقافة �إال �صورة دفاعية عن �أميّة جميلة مت�ش ّردة عبرّ عنها يف خمتلف م�ؤلفاته ال�سردية. يك�شف غواية ال�شحرور الأبي�ض عن التحول الذي عبرَ ه �شكري .يقول حميي الدين الالذقاين" :حتوّ ل �شكري باملعرفة �إىل �شحرور �أبي�ض ،وخرج من عامل البلطجية، ول�صو�ص ال�شوارع ،وبنات الهوى، و�أ�صحاب ال�سوابق� ،إىل عامل جديد نظيف وطموح ونبيل .وهو يدرك �أنه ال ي�ستطيع �أن مي ّد يد امل�ساعدة جلميع منْ عا�شرهم وعا�ش معهم يف ال�سوق الداخلي يف طنجة. لك ّنه من خالل التجربة القا�سية التي �أجاد التعبري عنها ،يد ّل �أ�صحابه القدامى ،وجميع ال�صانعني يف كافة مدن العامل� ،إىل طريق النجاة ،و�إىل �إمكانية االنت�صار على ُقبح العامل باملعرفة التي �صنع منها اجلنحة التي �ساعدته على الو�صول �إىل دنيا جديدة وخمتلفة عمّا �ألفه وعرفه يف طفولته املعذبة". بهذا املعنى تكون الكتابة عند �شكري فعل تنوير وتطهري ،فعل �أجنحة وحتليق ،برغم ما فيها من اعرتاف وك�شف عن جماليات القبح يف طنجة ومن خالل الكتابة �صار ل�شكري ا�سمه وموقعه ،وك�أنه تخ ّل�ص من �آثار عذاباته عبرْ كتابتها والتعبري عنها واالعرتاف بها، كما هو فع ُل املر�ضى النف�سيني �أمام الأطبّاء �أثناء جل�ساتهم االعرتافية. عام 1977كان حممد �شكري يق�ضي �أيام ًا ع�صيبة يف م�ست�شفى الأمرا�ض العقلية يف تطوان ،ومن هناك يتبادل ر�سائل عدّة مع حممد برادة ،الذي �سيرتجم اخلبز احلايف �إىل العربية .يف هذه الر�سائل جند حنوّ برادة و�سعيه لالرتفاع ب�شكري و�إنقاذه من نف�سه :فهو يخاطبه يف �إحدى الر�سائل بـ "الأخ العزيز �شكري بيك" .ويبدي �إعجابه بالف�صل الذي قر�أه من �سريته ،كما يقرتح عليه حذف الكلمات املكتوبة بالريفية. ويف ر ّد �شكري على برادة يفي�ض الأول باالعرتاف والأمل ،لكنه يقرر على نحو حا�سم � ّأن "الإح�سا�س بالكتابة بد�أ يغزوين يف هذا املار�ستان .عندما �أخرج من هنا �س�أحاول �أن �أغيرّ حياتي" .وقد حاول �شكري �أن يحوّ ل حياته فع ًال ،باال�ستغراق �أكرث يف الكتابة
والثقافة ،فكتب �سري ًا ومذ ّكرات حميمة ممتلئة بالتفا�صيل امل�ؤ ّثرة ،وال �سيّما عن ك ّتاب زاروا طنجة ،ومنهم :جان جينيه، وتين�سي وليامز ،وبول بولز .وقد عرف �شكري الثالثة وعا�ش معهم يف العامل الذي يعرفه من طنجة الأ�سرار واملغامرة ،و�ش ّكلت هذه الكتب جانب ًا مهم ًا من املراجع اخلا�صة به�ؤالء الك ّتاب ،فكتب وليم بوروز يف مقدمة كتاب �شكري عن جان جينيه" :عندما قر�أتُ مذ ّكرات �شكري ر�أيتُ جان جينيه و�سمعته بو�ضوح ،كما لو �أنني �أ�شاهده يف فيلم من �أجل �أن يحقق الواحد دق ًة من هذا النوع… ف� ّإن عليه �أن ميتلك �صفا ًء نادر ًا يف الر�ؤيةّ � :إن �شكري كاتب".
ما الذي ّ تبقى من �شكري؟
ت�صعب قراءة حممد �شكري بعيد ًا عن حياته و�شخ�صيته املت�س ّلطة على القارئ، رمبا ل ّأن امل�سافة لي�ست بعيدة بني الكاتب التخييلي لي�س عامل ًا واملكتوب .فعامله ّ خمتلف ًا ،بل ا�سرتجاعي .قد يختلق �شكري حدث ًا �أو تف�صي ًال هنا وهناك ،لك ّنه ال يجاوز مرجعيته الواقعية ،وال يخون طنجة – م�صدر �إلهامه و�إبداعه ،ولذلك ف� ّإن التقنية الأثرية عند �شكري هي تقنية االنتقاء ،من الواقع ،يقول":جتبن ًا للح�شو ،يغدو االنتقاء �ضروري ًا يف كل عمل �إبداعي حقيقي، املطلوب من الروائي عندما يعيد خلق الواقع �أ ّال يغت�صب احلقائق من �أجل الت�شويق امل ْلهي .و�إمنا �أن يكون مو�ضوعه م�ص ّفى يف ذهنه اخل ّالق". ولكنْ �إذا كانت مرجعية �شكري �شديدة الو�ضوح يف �أدبه ،ف�إ ّنها وحدها ال ت�ضمن خلود ذلك الأدب .ولعل �شكري مل يُقر�أ بع ُد قراء ًة خارج �شروط املرجعية – ال�سياقية حتى يتبينّ لنا �إىل �أيّ ح ّد تتوافر ن�صو�صه على �شروطها اجلمالية والتقنية وحرفيّتها ال�سردية البحتة ،بعيد ًا عن �أية حما�سة �أو انتقا�ص حتت ت�أثري املرجعية و�أبعادها التزيينية. ّ واحلق � ّأن �شكري قد توقف منذ �سنوات عن العطاء الإبداعي ،واكتفى مبقابالت ي�شرتط فيها �أجور ًا مرتفعة ،رمبا لينعم باملال الذي حُ رم منه �صغري ًا و�شاب ًا .وبع�ض الآراء تذهب �إىل �أنه كتب اخلبز احلايف ثم ك ّرره �أو نرثه يف كتبه ال�سردية الأخرى .و�أ ّي ًا يكن الأمر ،ف� ّإن القراءة الكاملة لنتاجه مل تت ّم بعد ،ولع ّلنا حمتاجون �إليها كي ال تطغى ال�شخ�صية املت�صعلكة على العمل الإبداعي وحتميه من �أيّ نقد .ولقد كان �شكري ح�سا�س ًا �شدي َد االنفعال من النقدّ ، لكن �أعماله اليوم تبدو من دون حرا�سة م�شددة من �شخ�صيته العربي �أن يعيد قراءتها الطاغية ،وعلى النقد ّ وي�ضعها يف املو�ضع الذي ت�ستحقه. لقد رحل �شكري بعد �صراعه املرير مع احلياة والفقر والعوز ،وربمّ ا طهّرته الكتابة من ت�شرده وعوزه ونقائ�صه� ،أو ظ ّلت حياته الأوىل تطارده يوم ًا بعد يوم ،لكنْ من امل�ؤكد �أنه ترك لنا �أعما ًال خمتلفة ال ت�شبه �أية كتابة �أخرى يف �أدبنا العربي� ،سواء يف لون ال�سرية الروائية �أو يف مقدرته الف ّذة على ت�سجيل املذكرات� ،أو يف ق�ص�صه الق�صرية، �أو يف بع�ض الأعمال الروائية اخلا�صة كرواية ال�سوق الداخلي التي حاول فيها �أن يُنجز عم ًال روائي ًا بال�شروط الفنية للرواية املثقفة .ومع �أن هذه الرواية هي عن عامل اخلبز احلايف نف�سه ،ف�إنها تعطي انطباع ًا ال�شقي الذي ملأ نف�س �شكري كي بالوعي ّ ينجز �أعما ًال رفيع ًة باملعنى اجلمايل ،على �شاكلة ما ينجزه غريه من الروائيني العامليني �أو العرب. http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
8
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
فورة األجناس ورسوخ السيرة الذاتية في "وجوه" لمحمد شكري كمال الرياحي ال يكتب �إ ّ ت�صدير " :ينبغي للإن�سان �أ ّ ال �إذا تـرك ب�ضعة من حلمه يف الدّ واة ك ّلما غم�س فيها القلم" تول�ستوي
مدخـل:
تنه�ض الكتابة ال�سرديّة العربية اليوم على الكثري من مظاهر التلوين الأجنا�سي .وقد خا�صة على ال ّرواية ظهرت هذه الأعرا�ض ّ التي �أخذت تطعّم عواملها بعوامل الأجنا�س الأدبية الأخرى و"تتبّـل" لغتها و�أدواتها بلغات و�أدوات تعبريية جديدة .فرتاكمت يف �أواخر القرن الع�شرين ن�صو�ص روائية تبدو ك�أ ّنها تعي�ش حالة �إ�شكال ت�صنيفي نتيجة ذلك التنافذ والتعالق الأجنا�سي. ومثلما ّ تخطت ال ّرواية قوانينها و�أدواتها لت�ستعري من الأجنا�س الأدبية الأخرى تقنياتها و�أدواتها ،ا�ستعارت هذه الأجنا�س من الرواية -بدورها -بعدها التخييلي ور�ؤيتهـا للمكان و�أدواتـها يف عر�ض الأحداث ويف ر�سم �شخو�صها وهند�سة بنائها. وال�سرية الذاتية ،باعتبارها �أقرب الأجنا�س الأدبية من الرواية ،كانت واحدة من هذه الأجنا�س التي تلبّ�ست بلبو�س ال ّرواية ح ّتى تف ّرع من جن�سها نوع �سمّاه جـورج مـاي بـ"ال�سرية الذاتية الروائية" .وقد ن�شط هذا اخلا�ص يف املغرب العربي عامّة اجلن�س ّ خا�صة .وم ّثـل الكاتب حممد واملغرب الأق�صى ّ �شكري منوذجً ا من الك ّتاب الذين و�ضعوا حياتهم ال�شخ�صيّة على ّ حمك الكتابة .فكانت حياته مرجعه الإبداعي يف معظم �أعماله الأدبية من ق�صة ق�صرية ورواية ومذكرات. وخ�ص �سريته ال�شخ�صيّة بثالثة عناوين ّ كانت "وجوه" ( )2000جز�أها الثالث بعد "اخلبز احلايف" ( )1982و"زمن الأخطاء" �أو "ال�شطار" (.)1992 خ�ضعت هذه الن�صو�ص الثالثة �إىل تعريف الفرن�سي فيليب لوجون الب�سيط جلن�س ال�سرية الذاتية باعتبارها "حكيا ا�ستعاديا نرثيا يقوم به �شخ�ص واقعي عن وجوده الذاتي ،وذلك ملا ير ّكز على حياته الفردية خا�صـة". وعلى تاريخ �شخ�صيّـتـه ب�صفـة ّ وقد �أقدمنا على مالحقة هذه "الوجوه" وا�ستنطاقها حلداثة �صدورها "فاخلبز احلايف" قد �أُ�شبعت نقدًا ح ّتى بات ما يكتب عنها اليوم ال يخلو من تكرار و�إعادة ملا كتب عنها يف الغرب �أو يف ال�شرق ،وين�سحب ذلك ولو ب�شكل � ّ أقل على "زمن الأخطاء "، فاعتربنا �أن الوقوف عند هذا اجلزء الثالث قد ي�ساهم يف الك�شف عن وجه �آخر للكاتب �أو عن وجوه تطوّ ر التجربة الإبداعية عنده، خا�صة و�أنه قد م ّر على �صدور اجلزء الثاين ّ ّ "ال�شطار" ما يقارب من �سريته الذاتية العقد من الزمن .ونحن �إن ك ّنا عزمنا على مقاربة "وجوه" نقديّا ف�إننـا لن نغفل النظر يف اجلزءين ال�سابقني "اخلبز احلايف" ّ و"ال�شطار" ح ّتى تكون لنا نظرة �شاملة ن�صا لأجزاء ال�سرية الذاتية باعتبارها ّ
واحدًا كتب على مراحل ،بل �إننا لن نرتدّد يف الإ�شارة �إىل بع�ض الن�صو�ص الأخرى �إذا ما ا�ستدعى مـ ّنـا الأمر ذلك لإ�ضاءة بع�ض ظالل الوجوه ّ وفك جتاعيدها و�إنطاقها �أو حملها على االعرتاف. و�سن�ستند يف هذه املقاربة على بع�ض �أدبيات كتابة ال�سرية الذاتية ،وكتابة الرواية يف نف�س الوقت النفتاح الن�ص على كال اجلن�سني ول ّأن "اجلهد الكبري الذي يبذل لإر�ساء بالغة للرواية �أو �إن�شائية �أو ح ّتى ق�ص" يف�ضي �إىل "خطاب ق�ص�صي" �أو"علم ّ نتائج (…) تنطبق ب�صفة عامة على ال�سرية الذاتية انطباقها على الرواية". و�سنحاول قراءة هذا العمل قراءة �أجنا�سية ت�س ّلط ال�ضوء على حالة "اخرتاق " ال ّروائي" لل�سري ذاتي خا�صة .وعلى ظاهرة التعالق الأجنا�سي ب�شكل عام .ولأجل بلوغ هذه الغاية و�ضعنا هذه العناوين الكربى لبحثنا نـروم �أن تكون دليال للقارئ وطريقا لنا : ملاذا حممد �شكري ؟ امليثاق ال�سري ذاتي /العقد الغائم احلقيقة التائهة بني الذاكرة اخل�ؤون والأنا الرقيب وجوه الأمكنة يف "وجــوه " وجوه الأزمنـة يف "وجــوه " وجــه الكاتب بيــن الوجــوه تراجـع اللهجـي واملتداول وتنامي الدخيل فورة الأجنا�س ور�سوخ ال�سرية الذاتية. -1ملاذا حممد �شكري ؟ مت ّثل �أعمال حممد �شكري حالة الق�ص العربي ا�ستثنائية يف ّ والق�ص املغربي خا�صة. عامة ّ وربمّ ا ارتبط هذا اال�ستثناء بحياة الرجل/الكاتب اال�ستثنائية فقد ُع ّد "حممد �شكري حالة وجودية وظاهرة �أدبية متميّزة يف حقل الأدب العربي احلديث واملعا�صر ،فهو يتميّز عن غريه من الك ّتاب املغاربة وامل�شارقة على ح ّد �سواء بجر�أته النادرة يف احلديث املك�شوف عن جتربته الذاتية القا�سية وال�شا ّقة والتي متثل منوذجا �صريحا عن جتربة املهم�شني �أمثاله من فئات املجتمع املغربي العربي". و�أ�ش ّد ما يربّر اختيارنا له هو �صلة �أعماله الأدبية بحياته ال�شخ�صيّة اليوميّة ف�سريته الذاتية تكاد ال تفارق كتاباته مبختلف �أجنا�سها الأدبية .ورغم � ّأن بع�ض ن�صو�ص ال�سرية الذاتية قد �سبقت ن�صو�صه من مثل "الزاوية" للتهامي الوّ زانـي (�صدرت )1942و"يف الطفولة" لعبد املجيد بن
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ج ّلون (�صدرت …)1957 ف�إ ّننا نكاد جنزم � ّأن حممد �شكري هو الذي "�أَ ْ�س َكن" ال�سرية الذاتية – باعتبارها جن�سا �أدبيا – املغرب الأق�صى فانت�شرت ظاهر ًة للكتابة ال�سردية .وهو ما دفع �أحمد املديني �إىل القول�" :إننا بقولنا �إن املتـن الروائي املغربي قابل ليدر�س �إجماال من املنظور املخ�صو�ص للكتابة الأتوبيوغرافية مل نكن ندفع بفر�ضيّـة من بني فر�ضيات بل ن�سجّ ل ما نراه ،من وجهة نظرنا ،تيّارا عام ًا… ي�شهد على ذلك غالبية �إنتاج ال�سنوات الأخرية ال�ساعي لتلقيح الرواية بر�ؤيـة وجماليـة حتديثيتني يتم ق�سم كبري منه بنوع من التنويع على الإيقاع الأوتوبيوغرايف" وقد �سبقه �إىل هذه ال ّر�ؤية الباحث التون�سي
بو�شو�شة بن جمعة حينما اعترب "الكتابة عن الذات يف املغرب الأق�صى متثل تقليدا يف الأدب املغربي احلديث واملعا�صر" وقد �ساهم يف تكري�س هذا ال ّنمط من الكتابة حممد �شكري الذي حققت �أعماله الأدبية جناحا كبريا يف الغرب الذي تب ّنى جتربته و�أنقذها من قانون املنع وامل�صادرة ّ ال�شرقي .ومل تفتح دور ال ّن�شر العربية �أبوابها لكتاباته �إ ّال بعد �أن ن�شرتها دور ال ّن�شر الغربية مرتجمة �إىل لغات قرائهاّ .. ق�صة اجلزء الأوّ ل ولعل ّ من �سريته الذاتية "اخلبز احلايف" وما عاناه هذا الكتاب من مطاردة وم�صادرة وترجمة �أ�صبحت معلومة لكل قارئ عربي. -2امليـثاق ال�سري ذاتي :العقد الغائم يفتتح حممد �شكري عمله مبا ي�شبه امليثاق ال�سريذاتي الذي حدّده الفرن�سي فيليب ّ
لوجون وهو وعد يقطعه الكاتب ،منذ يخ�ص به القارئ فحواه البداية ،على نف�سه ّ ن�صه هو �سرد حلياته � ّأن ما �سيقوله يف ّ ال�شخ�صية وهذا امليثاق تتوجّ ه من خالله القراءة وجهة حمدّدة متيّزها عن قراءة الرواية وخمتلف الأجنا�س الأدبية الأخرى "فما مييّز موقفنا عند قراءة �سرية ذاتية عن موقفنا عند قراءة رواية لي�س كون الأوىل حقيقيّة والثانية خيالية ،و�إنمّ ا كون الأوىل تظهر لنا يف لبو�س احلقيقة والثانية يف لبو�س اخليال". وميثاق �شكري يف "وجوه" جاء ليعار�ض الدّوافع املعروفة لكتابة ال�سرية الذاتية فلم تكن غايته من كتابه هذا اجلزء الثالث تربير �أفعاله مثلما فعل جان جاك رو�سو يف "اعرتافات" وال كانت غايته �إدانة نف�سه واالعرتاف ب�أخطائها يف �شبه تكفري عن الذنوب و�إح�سا�س بالندم �إذ يقول" :لن �أ�سعى يف هذه التجربة �إىل تربئة نف�سي �أو �إدانتها؛ �أنا والآخرون .فبني الفرح املطلق واحلزن املطلق �أنا بينهما مثل دودة الق ّز لن �أخ�شى من الغد الكئيب ال ّلعني �سواء كنت مع نف�سي �أو مع ال�شيطان" (�ص.)7 ال�سريذاتي غري � ّأن الكاتب يقدّم هذا امليثاق ّ داخل ف�صل من ف�صول العمل ال�سردي وعاد ُة ن�ص ال�سرية الذاتية، امليثاق �أن يكون خارج ّ ن�صه الأوّ ل "اخلبز مثلما فعل الكاتب يف ّ ن�ص منفرد احلايف" حني و�ضع امليثاق يف ّ منف�صل حتت عنوان "كلمة" رغم � ّأن الطبعة الفرن�سية لي�س فيها هذا امليثاق .وهذا الإرباك الأوّ ل يفجّ ر الأ�سئلة الأوىل حول خا�صة �أن امل�شكل الأجنا�سي للعمل الأدبيّ ، غالف الكتاب ال يح�سم امل�س�ألة ففي الطبعة املغربية و�ضعت عبارة "�سرية ذاتية روائيّة، اجلزء الثالث" بينما و�ضعت عبارة "رواية" على غالف الطبعة ال ّلبنانيّة .وملّا كان امليثاق ن�ص �أكرب و�ضع له غري وا�ضح -لوروده يف ّ عنوانا "حبّ ولعنات" وقد ورد �إثر ت�صدير مقتطف من رواية "�إ�سم الوردة" لأمربطو ايكو ـ ولأ ّنه نظريّا ميكن للكاتب �أن يتخ ّلى عن هذا امليثاق ،وهذا التخ ّلي ال يخرج ن�ص ال�سرية الذاتية من جن�سه ،بقي احل�سم يف جن�س العمل الأدبي بعيد ًا. -3احلقيقة التائهة بني الذاكرة اخل�ؤون والأنا ال ّرقيب يراجع حممد �شكري يف "وجوه" ما كتبه يف اجلزء الأول من �سريته الذاتية "اخلبز احلايف " ب�ش�أن تلك الذكريات التي ّ خطتها ذاكرته عن طفولته ،فيعرتف با�ستحالة تذ ّكر هذه الفرتة الغائمة من حياته بكل �صفائها : "�إن قرية طفولتي مل يعد لها وجود ح ّتى يف ذاكرتي� ،شا�شة م�شوّ �شة ،تت�شبّح عليها �صورتي و�صور الآخرين والأ�شكال التي ال �شكل لهـا :تلك الطفولة دمّرتها الهجرة، ال �أومن مبن يدّعي �أنه يعرف كل طفولته" ( �ص.)152 وعندما تعلن الذاكرة عن ف�شلها وته ُفـتُ ينه�ض اخليال بديال منتجً ا ي�ؤثث وير ّتق ما تركته الذاكرة ُم ّز ًقــا .فتندحر ال�سرية الذاتية بعيدًا لتظهر الرواية بكل طغيانها وقدرتها الفائقة على حكي املمكن كما لو �أ ّنه كان بالفعل .فمهما �أجهد الكاتب نف�سه وكابد حماو ًال تذ ّكر ف�ضاءات هذه الطفولة وم�شاعرها ف�إ ّنه �أبدًا "يكتب طفولتـه مـن خـالل رجولتـه ون�ضجـه� ،إ ّنـه يحـوّ م حولهـا لأن كل طفولة هي رهينة برجولتها والطفل "الطفل" ال يفهمـه �إ ّال الطفـل" ( �ص.)152 �إن اعرتاف �شكري با�ستحالة تذ ّكر طفولته كما كانت بالفعل ،وطعنه يف قد�سيّة ما كتبه عنها قد �سبقه �إليه رائد من روّ اد الكتابة الأتوبيوغرافية يف الـمغـرب الأق�صـى :عبد املجيد بن ج ّلون يف �سريته الذاتية "يف الطفولة" فالذاكرة على الدّوام كما يعرفها جورج ماي ّ تظل "مرتجرجة ق ّلبا خ�ؤونا" غري �أن احلقيقة ال تكون يف ّ كل الأحوال �ضحيّة ّ تعطل الذاكرة ،ف�سلطة الذات الكاتبة حلظة الكتابة بكل ما حتمله من وعي وقيم وثقافة هي بعيدة كل البعد عن وعي ذلك
9 الطفل "القدمي" وقيمه وثقافته .لذلك تردع الذات الكاتبة ال ّراهنة ذات الطفل الغائبة ف ُتظهر ما ت�سمح ب�إظهاره منها وتواري ماال خا�صة تلك اجلوانب التي ت�ستل ّذ ف�ضحهّ . ت�سيء حلا�ضرها الكهل .ومن ث ّم ف�ضبابية �صورة الطفولة عند �شكري وعند كل كـ ّتـاب ال�سرية الذاتية قد ترجع ـ زيادة على ق�صور الذاكرة ـ �إىل �سطوة الأنا الأعلى" املتمثل يف "الذات الراهنة" ذات الكهل .وميكن �أن ين�سحب هذا التف�سري على ّ كل ما تدّعي الذاكرة �أنها عجزت عن �إتيانه و�إدراكه، فين�شط اخليال لتنزاح ال�سرية الذاتية �إىل �أجنا�س �أخرى جماورة ّ لعل ال ّرواية �أ ْقربُها. وملا كانت "ال�سرية الذاتية مع ّر�ضة على الدوام لالنحراف ب�سبب ما متليه ظروف الكاتب زمن الكتابة" �أ�صبح كل ما حدّثنا عنه حممد �شكري على �أ ّنه حقيقة مو�ضع ّ �شك. وهو باعرتافه بق�صور ذاكرته عن تذ ّكر ح ّتى املكان الذي عا�ش فيه يكون قد طعن ال�سرية الذاتية يف مقتل لتتح ّلل يف ف�سحة اخلطاب الروائي وجتـري �أحـداثهـا يف م�سارب ال�سرد التخييلي وتن�أى عن حديث احلقيقة .و هذا الزيف الذي ي�ضرب ال�سرية الذاتية والذي يدركه القارئ وهو يواجه "وجوه" ّ يطل علينا مت�سائال عن حقيقة العالقة التي تربط "�شكري" بـ"فاطي" ال�ساقية ،وحقيقة تلك الإ�شاعة التي روّ جتها عنه�" :أ�شاعت ع ّنـي "فاطي" الودود ،الكرمية ،لأ�سباب �س�أظلّ �أجهلها حتى مماتي ،ب�أنيّ �أبوها املغرم ال�سفاحية ،وحني ا�ستنكرت بها ذو النزعة ّ هي وت�شبثت �أنا بها هدّدتني بالبالغ ع ّني �إىل ال�سلطات ،هربت الجئا �إىل م�ست�شفى الأمرا�ض الع�صبية يف تطوان لأحمي نف�سي مدّعيا اجلنون ومنعًا لتفاقم الف�ضيحة وحفظا لكرامة �أ�سرتها العزيزة التي ورثتها من ال ّال �شفيقة"�( .ص)98 هل فعال ّ "ظل " �شكري ال يعلم ال�سبب الذي دفع فاطي خللق تلك الإ�شاعة؟ هل هذه الإ�شاعة كافية ليدخل �إن�سان بقدميه وباختياره م�ست�شفى الأمرا�ض الع�صبية ليعي�ش بني املعتوهني والـمجـانيـن؟ ملاذا اكتفى �شكري بو�صف ج�سد "فاطي" العاري ليلة نامت عنده فيقفز من الو�صف �إىل ال�صباح متحدّثا عن غثيانه؟ هل كان غثيانه من ال�شراب الذي �شربه ليال �أم هو ناجت عن �أمر رام تركه مغيّبا؟ ملاذا ال يكون اخلرب الذي نقله لنا �شكري على �أ ّنه �إ�شـاعـة هو احلقيقة؟ �أمل يع�ش �شكري حياة ماجنة عا�شر فيها ال ّالئطيـن واملوم�سات منذ طفولته ح ّتى �شيخوخته؟ �أمل يحدثـنـا يف "اخلبز احلايف" عن مغامراته يف دور البغاء املغربية والإ�سبانية؟ �أمل ينقل لنا يف "ال�سوق الداخلي" مغامراته مع املخ ّنثني؟! ملاذا يرغمنا على �أن نك ّذب معه اخلرب ونعتربه �إ�شاعـة .ون�س ّلم ب� ّأن احلقيقة هي تلك العالقة املالئكية مع فاطي؟! �أمل يـعـرتف يف �آخـر خبزه احلايف ب�أ ّنه لي�س مالكا؟ "لقد فاتني �أن �أكون مالكا" وملّا كانت الإ�شاعة قد حدثت وتناقلتها �شوارع طنجة مثلما كان دخول الكاتب م�ست�شفى الأمرا�ض الع�صبية بتطوان حقيقة .ملاذا ال تكون هذه الإ�شاعة هي احلقيقة؟ �أال يكون طـرحه هـذا اخلـبـر يف �سريته الذاتية حماولة من الكاتب تربئة نف�سه[نورد هذه الأ�سئلة ال لغاية �إدانة الكاتب بل لإدانة احلقيقة يف ال�سرية الذاتية جن�سا �أدبيّا ،مثله مثل الرواية ،الكذب ما ّدتـه الأوىل .؟ لكـن �أمل يَعِ ـ ْد يف بدايـة ال�سيـرة الذاتيـة ب�أ ّنه ال ينوي تربئـة نف�سـه وال الآخرين؟ � ّإن "احلقيقة يف ال�سرية الذاتية هي على الأرجح ق�ضية زائفة� ،إذ � ّأن ال�سرية الذاتية من حيث هي �سرية ذاتية ،جمافية للحقيقة. و�أوّ ل �أ�سباب ذلك �أن كاتب ال�سرية الذاتية ال ي�ستطيع مهما فعل �أن يتخ ّل�ص من احلا�ضر الذي يكتب فيه ليلتحم باملا�ضي الذي يرويه". وعدم االعرتاف يف "وجوه" قد يكون مربّرا
◄
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
10 من خالل ما و�ضعه الكاتب يف بداية كتابه ب�أ ّنه ال ينوي �أن يدين نف�سه وي�ضيف يف "ال�صراحة الف�صل الأخري من الكتاب �أن ّ الزائدة حمق يقود �إىل التهوّ ر" (�ص.)156 وملّا كان حممد �شكري ال يقوى على الإف�صاح مبا يعرفه عن "الأ�شخا�ص" و"الأ�شياء" خو ًفا من خلق "عدوّ ال يعرف متى يث�أر منه ف�إ ّنه ال ريب يخفي من �سريته الكثري ممّا ويخ�ص ذاته .ورغم ما توهم به يخ�ص الآخر ّ ّ �سريته الذاتية يف �أجزائها الثالثة من ف�ضح للذات وتعرية لها ف�إن ن�سبيّة قول احلقيقة جتعل �صورة امل�سكوت عنه يف ذهن القارئ ف�سر �أكرث فظاعة وخطورة مما قيل وقد ّ ذلك الكاتب باخلوف من القتل .هذا اخلوف الذي دفعه �إىل �إغراق حقائق حياته وحياة غريه يف ال�صمت� .ألـم يعرتف يف حوار مطوّ ل �أجرته معه جريدة القد�س العربي" �أن جماعات �إرهابية جمهولة ما ّ تنفك تهدّده وتتوعّده بالت�صفية" :هناك تهديدات عنيفة و�صلت �أحيانا �إىل حماولة االعتداء البدين. �إنها تهديدات يتزعّمها غالبـا من يدّعون �أ ّنهم يحمون الأخالق ويدافعون عن الدِّين وهم يف�سقون يف اخلمّارات وال�شوارع املريبة. كثريا ما قيل يل " :ذات يوم �ستعرف من �أنا" .هيّئ نف�سك"� ،سي�أتي دورك" ه�ؤالء ال �أعرف هويّاتهم� ،أحتا�شاهم وال�صراع معهم غري جم ٍد يف �شيء". ومن ث ّم تكون حقيقة من حقائق الواقع املو�سوم بالقمع والإ�سكات هي التي قد تكون حكمت على بقية احلقائق بالبقاء يف العتمة ،وعلى ال�سرية الذاتية باالنزياح نحو الإبداعي ،فينفلت بني اللحظة والأخرى جن�س ال�سرية الذاتية من جن�سه اخلطري باعتباره جن�سا اعرتافيّا " -لينفتح علىـح�صن ب�آليـة التخيّل .وهل جن�س ال ّرواية امل ّ يحاكم املرء على التخيّل ؟ ومن الذي �سلم من �شيطان اخليال؟ ولكن هل املتخيّل غري احلقيقة؟ - 4وجوه الأمكنة يف "وجوه" لئن �شغل املكان مو�ضعًا هامًا يف الرواية، والرواية املعا�صرة حتديدا ،فقد يُغني ح�ضوره املدرو�س القارئ عن البحث عن بطولة ب�شريّة �أو �أ�سطوريّة ف� ّإن هذه الأهميّة للمكان تت�ضاعف يف ال�سرية الذاتية ،لأن هذا املكان "ال ّلغوي" يف العمل الأدبي له مقابل يف الواقع ،ولي�س ف�ضا ًء متخيّال ابتدعه الكاتب .غري �أن ارتباط مكان ال�سرية الذاتية باملرجع -املكان الواقعي -ال يفقده بعده الإيحائي وال�سحري لأن كاتب ال�سرية باعتباره بطال ل�سريته الذاتية ،تنـعك�س حاالته النف�سيّة على حميطه يف العمل الروائي فتتلبّ�س الأمكنة ب�ألوان النف�س وهمومهـا. ّ ولعل ما يجعل من حديث الأمكنة يف خم�صو�صا هو تلك العالقة "وجوه" حديثا ً التي يربطها �شكري باملكان معي�شا يـوميا وجمال ّي ًة يف الكتابة ال�سردية" :يل ارتباط كبري جدّا باملكان� .أنا �أقدّر ما ي�سمّى بجمالية املكان يف الق�صة �أو الرواية رغم �أ ّنه مذهب كال�سيكي واقعي ولك ّني مرتبط جدّا بالأماكن ،و�أحيانا ال �أعرف كيف �أكتب حتى �أكون جال�سا يف مكان معيّـن". هذا املكان الذي يق�صده �شكري هو طنجة التي ا�ستق ّر بها و�أقام منذ طفولته ـ �سن ال�سابعة ـ ح ّتى حتوّ ل �إىل مع ٍْلم من معاملها ومزار من مزاراتها. وبناءٍ من بناءاتها ٍ -1وجـه طنجــة اجلديد طنجة ،هذه املدينة "العجائبية" العنكبوتيّة، هذا املكان الذي يحلم بالإقامة فيه الكثري من �أبناء الريف املغربي ،هذه املدينة التي زراها كبار �أهل الأدب والر�سم واملو�سيقى يف العامل… �سرق وج َههَا الدويل اال�ستقال ُل بعد �أن �ألغى عادة اجلواز فتهاطلت عليها �أ�سراب النازحني ودخلوها عابثيـن بقوانينها وتاريخها وقد�سيّة �أ�سطورتها .وقد بد�أ ومت�سخها منذ �شكري ي�شعر بت�شوّ ه املدينة ّ كتابه "زمن الأخطاء" (اجلزء الثاين من وجت�سد �أكرث يف روايته ال�سرية الذاتية) ّ
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
"ال�سوق الداخلي" ملّا نعتها بالبغاء. يخلق حممد �شكري عالقة ا�ستثنائية بينه والأمكنـة �ضاربًا بها النظريّة والعادة ف�أماكن الإقامة تتحوّ ل معه �إىل �أماكن عبور وانتقال و�أماكن االنتقال تنقلب �أماكن للإقامة مثلما تتحوّ ل الأماكن االختياريّة �إىل �أماكن �إجباريّة. ينقلب البيت ال�شخ�صي يف "وجوه" ،خالفا لوجهه يف الروايـات عـادة ،معبّـرا عن "قيم الألفة" التي تعي�شها ال�شخ�صية مع نف�سها والأ�شياء املحيطة بها ،ومعبرّ ا عن ف�سحة اخليال واحلريّة واحللم ،ينقلب �إىل �سجن يُعتقـل فـيه �شكـري ليـ ًال هـروبًـا من �سكاكني الل�صو�ص واملجرمني .بيت/غرفة ،اختارهـا الكاتـب فـوق الـ�سـطـح بعـيـدا عن ال�ضجيج والأحداث وامل�ضايقات ف�إذ بها تنقلب زنزانة عذاب ينقله لنا �شكري – نحـن القـ ّراء -يف �أب�شع �صوره حني ي�صف ق�سوة ما يفعله به ت�ساقط قطرات املطر�" :أ�سمعها تبقبق �أو كما لو �أ ّنه الطائر النجّ ار ينقر هامـتي �صانعًـا ّ ع�شـه ،كمـا لـو � ّأن دبّـو�سً ـا ينغـرز يف جنبي ،يف جفني ،كل �صفعاته �أطيقها على وجهي يف ال�شارع �أو يف الغابة �إ ّال قطرة واحدة تخرق الآن �سمعي برتابة نّ جتن .لك�أ ّنه تعذيب �صيني حقيقي" (�ص .)24هذا العذاب �سببه اختيار بطعم الكارثة تذوّ قه �شكري ملّا اكت�شف �أن "مزايا ال�سكن على ال�سطح ت�سقط يف الهوّ ة" (�ص )24فانقلبت حياته �أرق ًا دائمًا مل تنجح املُ�سكرات يف ت�سكني �أوجاعه وال جنحت يف تنوميه .يف هذا املكان ال�شبيه بال�سجن يعي�ش الكاتب وحيدًا راف�ضا �أن ي�شاركه الإقامة فيه �أحد ،فح ّتى �صديقه "فريد" الذي طلب الإقامة معه �أجابه: "�إذا كنت تريد �أن نبقى �صديقني فت�ش لنف�سك عن م�سكن غري م�سكني" (�ص )121فتتحوّ ل
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
الغرفة /الزنزانة �سجنا انفراديّا وغرفة �شكري ال ّليليّة ال نكاد نعرف عن تفا�صيلها �شيئا غري وجودها على ال�سطح ،فال ندري �إن كان فيها نوافـذ� ،أو �أثـاث� ،أو كتب �أو مكتب، �أو دورة مياه… وهذا التغييب ملالحمها وطابعها الطوبغرايف… دليل عزوف الكاتب عنها فال مكان لها يف قلبه وال يف ذاكرته ،وال وظيفة لها �سوى وظيفة املحطة الإجبارية النتظار رحلة النهار ،الذي ي�ستقبله بالتقيء. نف�سر هذه العزلة التي ي�ضربها �شكري قد ّ حوله بال�شعور بالغربة بعد رحيل �أ�صدقائه جان جينيه ،يول بولز ،وغريهما. هذا حال البيت ال�شخ�صي ،منوذج ًا لأماكن الإقامة التي فقدت وظيفتها� ،أمّا �أماكن االنتقال التي عادة ما ارتبطت باحلريّة واالنطالق -فاحلريّة "يف �أكرث �صورها بدائية هي حريّة احلركة" –حتوّ لت مع �شكري �إىل �أماكن لال�ستقرار ،فح�ضوره مت�أرجح بني املقاهي ودور الدعارة وبني احلانات وال�شوارع .غـيـر � ّأن هـذا اال�ستقـرار يظهـر لـنـا يف �سريته الذاتية بطعم الإدمان �أكرث منه اختيار .والإدمان ي�صبح �إجبـا ًرا وق�سرا و�سج ًنا ي�أ�سر النف�س واجل�سد، كذلك �شكري ال يقوى على فراقها فقد "�أ�صبحت (طنجة) توحي باالنتحار ملن ال ي�ستطيع مغادرتها ،لقد �ضاع فيهـا كـل مـا هـو �أ�سطـوري جميل"(�ص )109-108 واكت�سحها الهوان واالنهيار ،هكذا نقل لنا �شكري هذا التحوّ ل لتتحوّ ل �سريته الذاتية" وجوه �إىل وثيقة تاريخية تنقـل واقع طنجة وتاريخ انهيارها مدينة دولية ونكبتها مدينة �سياحيّة ابتدا ًء من حرب � 67إىل حرب اخلليج .وهذه الوظيفة التوثيقيّة هي التي تنمّي عند القارئ ذلك الف�ضول "الذي يحدثه كاتب ال�سرية الذاتية حينما يكتب ،ال بو�صفه
�شاهدا على نف�سه ،بل بو�صفه �شاهدا على ما يحيط به. ذلك �أنه و�إن كان ال يق�صد البتة �أن يكتب وثيقة تاريخية ،ف�إنه ال منا�ص له من �أن يخ�ضع لت�أثري بيئته و�أن يت�أ ّثر بها فيما يكتب" في�ؤ ّرخ لطبقته الإجماعيّة ولعاداتها الغذائية وال�سلوكية وينقل واقع حيّـه املعماري وخ�صو�صيته الثقافية .وقد كان حممد �شكري واعيا بهذه الوظيفة اخلطرية لل�سرية الذاتية منذ كتابته "اخلبز احلايف" حني حتدّث عن مفهومه لل�سرية الذاتية ّ ال�شطـارية�" :إن ما كتبته يف هذه ال�سرية �أعتربه وثيقة اجتماعيّة ،لي�س �أدبا ،عن مرحلة معيّنة �آثارها ال�سيئة مازالت تنخـز جمتمعنا". هذا التحوّ ل الذي �شهدته طنجة ب�شوارعها و�أ�سواقها وحاناتها ومقاهيها �صاحبه حتوّ ل يف م�شاعر الكاتب .فــ"ال�سوق الداخلي " ،Zoco chicoلـم َي ُع ْد يعني (له) غري القرف والب�ؤ�س املزري" (�ص )28فقد حتوّ ل مرتعًا للم�شبوهني والل�صو�ص واملدمنني والغرباء ،فانقلبت متعته التي كان يجدها يف التن ّقل بني حوانيت ال�سوق ودوره �إىل �إح�سا�س باخلوف وال ّرعب والغربة .مل يكن ي�شعر بهذه الأحا�سي�س ملّا كانت طنجة حتت احلماية الفرن�سية واال�ستعمار الإ�سباين ل ّأن الهجرة �إليها كانت ّ منظمة �أمّا و�ضعها اجلديد فقد حوّ لها وحوّ ل �سوقها الداخلي �إىل حانة غريبة مرعبة ي�صفها �شكري من خالل وجوه مرتاديها�" :أكاد �أرى اجلرمية ماثلة يف عني كل من �أراه الآن جال�سا �أو واقفا يرتبّ�ص، املكر �أراه و�أ�شمّه� ،إ ّنه الرعب بعينه يف وجه كل من يجو�س ال�ساحة ،العدوانيّة املجانية متح ّفزة يف كل الوجوه املم�سوخة .من �أين جاء كل ه�ؤالء الذين يبدو على وجوههم
�أ ّنهم خرجوا حديثا من ال�سجن م�ستعدّون �أن يعودوا �إليه؟! انه غزو ترتي" (�ص )28هذا الغزو جعل من �أماكن االنتقال -التي غـيّـر �شكري وظيفتها لت�صبح �أماكن �إقامة � -أماكن غري �آمنة ال ت�شعره �إ ّال بالقرف ف�أ�صبح ي�ستقبل �صباحه فيها بالتقي�ؤ والغثيان. فاملدينة الأ�سطورية (طنجة) تبدو له "ك�أ ّنها ج ّثة مل تدفن جيّد ًا" (�ص.)29 يف هذا الف�ضاء املفرغ من حمتواه ومن تاريخه وامل�شحون بالفقدان واجلرمية تن�شط م�شاعر الإحباط والغربة ،غربة تذكيها هجرة خم�صو�صة هي هجـرة الـذات �إلـى باطـنهـا يف حركة ارتدادية انطوائية تر�سم وجه العزلة ال�شكرية -ن�سبة �إىل �شكري :نف�س مكبّلة يف ج�سد هزيل فوق ال�سطحتنتظر الإفراج عنها لتطري �إىل مهدها القدمي. عزلة قد تبلغ بالذات غاية العقل �أو قرار اجلنون. ال�سفر � -2أمكنة ّ نادر ًا ما يحملنا حممد �شكري �إىل �أماكن �أخرى غري طنجة يف هذا اجلزء الثالث من ال�سرية الذاتية ،فال نكاد نعرث يف متنها على �أمكنة �أخرى فاعلـة ،فح ّتى زيارته �إىل الناظور – م�سقط ر�أ�سه – �سنة 1993بعد �أن م�ضى على هجرته منها �أكرث من خم�سني �سنة ،مل يح ّركها حنني ،بل كانت وليدة دعوة من جمعية ثقافية (جمعية املا�س) ،ومل حت ّرك فيه هذه ال�صدفة التي قادته �إىل منبته غري ف�ضول بحث عن الأ�صول �شبيه بلعبة جمانية ال حنني فيها وال متعـة و"�أي حنني �إذا مل تكن هناك ذكرى حميمة نحـو مكان ما" (�ص .)52فقـريتـه التي هرب من طاعونها وفقرها تعرت�ضه بنف�س الوجه القامت "قرية �شبـه مهجورة" ّ يع�شـ�ش فيها الب�ؤ�س ،فتهرب ذكرياتها من ذاكرته ليجتاحها الن�سيان
يقرب "وجوه" -باعتبارها ما ّ الرواية �سرية ذات ّية -من جن�س ّ يف�سر هذا الت�شوي�ش الزمني وما ّ يف الآن ذاته هو اعتماد الكاتب خا�صة ل�سرد �سريته، على تقنية ّ فيعمدُ �إىل تق�سيمها ،مثلما يبوح به العنوان �إىل وجوه حتمل �أحداثا وهذه الوجوه التي عرفها يف �أزمنة خمتلفة ومتباعدة، تزدحم على ذاكرته خا�ضعة ثم تكون ملبد�أ االنتقاء ومن ّ عملية التقدمي والت�أخري عملية حتركها نوايا واعية وعقل ّية ّ الكاتب.
املريع. مثلت مقابر امل�شاهري بفرن�سا �أه ّم الأمكنة التي قاده ال�سفر �إليها فتتبّع قبورها قربًا قربًا ،م�ستعر�ضا ثقافته ومعرفته ب�أعالم الأدب واملو�سيقى وال�صحافة والر�سـم فـي الغرب .وال ميكن �أن ن ْغفـل ما بني �شكري واملقابر من تاريخ حميمي فمنها كان يلتقط طعامه يف طفولته بقريتـه الفقرية وهي التي احت�ضنت �أخاه ال�صغري الذي �أزهق روحه والده القا�سي ،هي الأمكنة التي كان يكتب فيها ق�ص�صه وفيها كتب خبزه احلايف. وهاهو الع�شق القدمي ملدن الأموات يتد ّفق من جديد يف "وجـوه" فيطارد امل�ؤلف / البطـل وجـوه الـمـكان يف فرن�سا .ربمّ ـا هو هاج�س املوت الذي �أخذ يطرق ذهن �شكري وهو ي�ستقبل عقده ال�ساد�س"وما �أكرث ال�سري الذاتية التي تبدو ك�أ ّنها حماوالت يائ�سة لالنت�صار على الزمان واملوت". - 5وجـوه الأزمنة يف "وجوه " ي ّتخذ الزمن يف "وجوه" ن�س ًقا م�شوّ �شا ال يخ�ضع لرتتيب طبيعي ،فحكاية الأحداث تخرق نظامها ال ّزمني الذي حدثت فيه يف الواقع ،في�أتي اخلرب ال ّالحق قبل اخلرب ال�سابق .وهذا ال ّت�شوي�ش يربّره جورج ّ ماي" ،فحني ي�أخـذ كاتـب ال�سـيـرة الذاتـيـة يف الكتابة تتداعى ال ّذكريات يف ذهنه تداعيا ال يتقيّد ب�أي ترتيب زمني ف�إن هو دوّ ن تلك الذكريات على ع ّالتها ح ّرف الرتتيب الذي جرت عليه يف الواقع". وا�ستناد ًا �إىل هذا الت�صوّ ر يكون الت�شوي�ش الزمني يف ال�سرية الذاتية �سببه الت�شوي�ش الذي يحدُث للذاكرة زمن الكتابة فهي تبدو �أمّارة بالن�سيان �ساعة وبالتذ ّكر �أخرى، فتزدحم عليها �أحداث املا�ضي القريب مع �أحداث املا�ضي البعيد ،لينفلت الرتتيب ويت�شوّ �ش ُّ �صف الذكريات .و�إن كان هذا وخا�صة منها يحدث يف كتابة الرواية ّ الرواية املعا�صرة اجلاحمة نحو التجريب واالختالف ف�إن ذلك يحدث عن وعي من الكاتب الذي يقدّم وي� ّؤخر الأحداث عن �سابق نيّة .فهو قد يكتب روايته خا�ضعة �أحداثها لرتتيبها الزمني العادي ثم َيعْـمَـ ُد بعد ذلك �إىل بعرثة ف�صولها ب�شكل مدرو�س باحثا عن الت�شويق والتجريب �أو ما يطلق عليه بلعبة التخ ّفي والتج ّلي" بينه وبني القارئ� .أمّا كاتب ال�سرية الذاتية مثلما هو احلال مع حممد �شكري يف "وجوه" ف�إن ذاكرته تنتج زخـما من الأحداث املبعرثة زمن الكتابة وحماولة ترتيبها الزمني يع ّر�ضها �إىل الت�شويه �أو ال�سقوط يف منط ال�سرية الذاتية التقليدية. فيخيرّ الكاتب �أن تخون الأحداث زمنيّتها على �أ ّال تخون الذاكرة نف�سها .وهذا التداخل الزمني يجرف ال�سرية الذاتية نحو �شواطئ الرواية وتقنياتها. فتلتب�س �صورة النوع وتتعانق الأجنا�س ،لأن هذا الت�شوي�ش يف الزمن يظهر للقارئ مبظهر الفعل الواعي وال�صنعة الأدبية. و ما يق ّرب "وجوه" - باعتبارها �سرية يف�سر هذا ذاتيّة -من جن�س ال ّرواية وما ّ الت�شوي�ش الزمني يف الآن ذاته هو اعتماد
11
خا�صة ل�سرد �سريته، الكاتب على تقنية ّ فيعم ُد �إىل تق�سيمها ،مثلما يبوح به العنوان �إىل وجوه حتمل �أحداثا وهذه الوجوه التي عرفها يف �أزمنة خمتلفة ومتباعدة ،تزدحم على ذاكرته خا�ضعة ملبد�أ االنتقاء ومن ث ّم تكون عملية التقدمي والت�أخري عملية واعية وعقليّة حت ّركها نوايا الكاتب. ويقدم حممد �شكري ـ خال ًفا لطريقة �سرده الأحداث يف اجلزء الأوّ ل من �سريته الذاتية "اخلبز احلايف" التي اعتمد فيها ّ خطا زمنيا ّ منظمًا ()1956 - 1942ـ .عمال �أكرث وعيا ّ ف ّنيا -ربمّ ا بد�أه مع "ال�شطار" (اجلزء الثاين من �سريته الذاتية) -وهذا يرجع �إىل ذات الكاتب وتطوّ ر ثقافته الأدبية التي خرجت من عفويتها و�أميتها نحو البناء والت�أ�سي�س لذات مبدعة مركبّة ،فارتكب �شكري كتابة ال�سرية الذاتية كما يرتكب الروائي عمال روائيا ،رافعا مبد�أ خيانة الواقع مع اخليال - وهذا ما ت�شرتك فيه ال�سرية الذاتية الروائية مع الرواية مقارنة مع الت�أريخ �أو ال�سرية الذاتية ال�صافية -و�إن ك ّنا ال ن�ؤمن ب�صفاء اجلن�س .- وقد ا�ستفاد �شكري يف كتابته ل�سريته الذاتية بهذا ال�شكل من حقيقة الذاكرة "(الـ)قلب (الـ)خ�ؤون" فهي تارة ال تقوى على التذ ّكر مثلما ح�صل لها مع الكاتب عند زيارته لل ّناظور -م�سقط ر�أ�سه � -سنة ،1993وهي تارة حيّـة متيقظـة ُتذ ّكرها تفا�صيل احلياة اليومية مبا�ضيها البعيد مثلما كان الأمر مع �أكلة الك�سك�س التي عادت ب�شكري �إىل ذكريات الطفولة" :الك�سك�س :هو الأكلة التي ال �أحبّها .لقد �أكلته بالكر�شة يوم مات خايل وعمري �سبع �سنوات فعفته وناد ًرا ما �أ�ست�سيغه ،كان ذلك �أيام املجاعة يف الريف" (�ص.)16 ونحن ال نعرث كثريا على وجه �شكري �صافيا، �إنمّ ا تعرت�ضنا مالحمه غائمة يف وجوه الآخرين الذين يحفل بهم كتابه ،فحديثه عنهم �أكرث من حديثه عن نف�سه ،غري � ّأن معرفته الدقيقة بهم تك�شف لنا �أنه كان يالزمهم ويجال�سهم �أو يراقبهم من مكان قريب .وتبعا لذلك يكون حممد �شكري قد قدّم لنا وجهه مبعرثا يف وجوه الآخرين .وزمنه مف ّتتـا ومنجّ ـمًا يف �أزمنــة الآخرين. وملّا كانت الوجوه تتداخل يف �أ�سواق وحانات "طنجة" في�سبق ال ّالحق امل�ستعج ُل ال�سابق املرت ّنح �أو املخمور فيتبعرث ترتيب ال�صورة ،كذلك يتبعرث الزمن يف ال�سرية الذاتية .ول ّأن املكان قد �أ�صابه ما �أ�صابه من ت�شويه ،ك ّنا تع ّر�ضنا له يف �أ�سئلة املكان، و�سكنه ما �سكنه من امل�شوّ هني وامل�شبوهني �أ�صحاب الوجوه املتح ّفزة ب�سكاكينها و�أ�صحاب الأج�ساد املهرتئة… �أ�صاب ذات الداء ال ّزمن ف�شوّ هه وبعرثه .وهذا االنعكا�س لت�شوّ �ش املكان على نظام الزمان ال ميكن �أن يكون �إ ّال من �أعرا�ض ّ الفن الروائي "فنظام الزمن احلاكي (زمن اخلطاب) ال ميكن �أبدًا �أن يكون موازيا متامًا لنظام الزمن املح ّكي (زمن التخيّل). وثمّة بال�ضرورة ّ تدخالت يف "القبـْل" و"البعْـد" .وم ّرد هذه التدخالت واالختالف بني الزمنيّتني من حيث طبيعتهما .فزمنية اخلطاب �أحاديّة البعد وزمنية التخيّل متعدّدة .وا�ستحالة التوازي ت�ؤدّي �إىل اخللط الزمني هذا اخللط ين�سحب على عوامل ال�سرية الذاتية الروائية فيختلط الواقعي باخليايل والكائن باملمكن فنكون م ّرة �أخرى �أمام �شكل �آخر من ال�صدق هو ال�صدق الف ّني "الناجت عن رغبة يف التخ ّفي �أو عن ق�صور يف التذكر ،فـ"املرء ليطالع ما�ضي حياته مثلما يطالع كتابا قد ُم ّزقت بع�ض �صفحاته و�أُتلف منها الكثري" وملّا كانت "وجوه" �سرية ذاتية "مروّ اة" فقد مثلت �صورة جمازيّـة لواقع ال�سرية الذاتية احلقيقية التي حدثت .وهي وثيقة جمازيّـة لواقع مثلها مثل ما نقله الرحّ الة العرب قدميًا عن الهند وبالد ال�سند… حني يختلط يف
مدوّ ناتهم الواقعي باملتـخيّـل الذي قد ي�صل ح ّد العجيب. و�صفوة القول � ّإن الرتتيب الزمني امل�شوّ �ش لتاريخيّـة حدوث الأحداث يف "وجوه" يُقربّـهـا من جن�س الرواية دون �أن يخرجها هذا من جن�سها ل ّأن هذا القناع يرتديه اجلن�سـان :ال�سرية الذاتية والرواية .وقد الق�صـة ت�شاركهما فيه �أجنا�س �أخرى من مثل ّ الق�صرية… ّ ولعل االختالف الوحيد بينها كامن يف �أ�سباب توظيف هذا الت�شوي�ش ،هل هو اختيار �أم �ضرورة وهذا االختالف نف�سه لي�س قطعيّا ففي ال�سرية الذاتية الروائية - كما هو احلال مع "وجوه" -ينزع الكاتب �إىل مثل هذا القناع عن اختيار تكون دوافعه فنيّة ،مثله مثل دوافع الت�شوي�ش الزمني يف الرواية .وال�سرية الذاتيّة كمـا يقدّمها جورج ماي "متار�س مع هذه الأجنا�س �سيا�سة ا�ستعماريّة ب ّينـة (وهي مل تقت�صر) على اال�ستيالء على طرائقها ،بل �سعت دائما �إىل جعلها مندجمة فيها". - 6وجه الكاتب بني "الوجـوه " لئن �س ّلمنا ب� ّأن "وجوه" تنتمي �إىل جن�س ال�سرية الذاتية ب�شهادة كاتبها ومتنها ف� ّإن هذا الت�سليم لن يحول بيننا وبني �إدراك خ�صو�صية هذا اجلن�س الأدبي وما يحمله من مرونة جتعله يرمي بفروعه �إىل �أجنا�س �أخرى ما يجعـل م�صطلح �سرية ذاتية م�صطلحا غائما ال ميكن �أن يح�سم �أمر كل الن�صو�ص التي تكتب ب�آليـات الكتابـة الأوتوبيوغرافية لأنها لي�ست كلها �سريا ذاتية �صافية .وهو ما جعل جورج ماي يف�صل يف �س ّلم الألوان الوا�صلـة بني الرواية ّ وال�سرية الذاتية هذه العالقة وانطالقا من �سلم الألوان هذا ن�ص ّنف "وجوه" حممد �شكري يف الرقعة اخلام�سة ذات اللون الأ�صفر� ،سرية ذاتية روائية "وهي خالفا للرواية ال�سري ذاتية ال تنت�سب �إىل الرواية، و�إنمّ ا تنت�سب �إىل ال�سرية الذاتية و�إن �شابها ال حمالة ق�سط من اخليال كبري" وا�ستناد ًا �إىل هذا الت�صنيف �سنحاول جتميع �صورة الكاتب يف �سريته املروية. � -1شكري :الإ�سم ال نكاد نعرث يف "وجوه" على �إ�سم حممّـد �شكري كامال �أو �صريحـا �إ ّال على الغالف فهو ال يك�شف عن �إ�سمه داخل املنت �إ ّال جمازا ك�أنه يتخ ّل�ص من ذلك االعرتاف فينزع �إىل تغييبـه ح ّتى ال يكون عائقــا �أمام �إمكان التخييـل الن�ص بانتمائـه �إىل الذي ت�سمح به ثنائيـة ّ جن�سني �أدبيني يف الوقت نف�سه (�سرية ذاتية +رواية) .وامل ّرة الوحيدة التي يذكر فيها الكاتب �إ�سمه اتخذت �شكل الإيحاء ،فيقول متحدثا عن �شخ�صيّة �أخرى "�أوقفني �شكري الآخر الذي يراقبني يف مثل هذه احلاالت: �أجئت للم�شاك�سة �أم جئت لإحياء ال�صداقة؟" (�ص )103وكلمة "الآخر" هي التي حتيل القارئ على �إ�سم الكاتب .و�أح�سب �أ ّنه مل يلج�أ �إىل مثل هذه الإحالة �إ ّال ليقينا -نحن الق ّراء -من االلتبا�س ،وح ّتى ال نذهب �إىل � ّأن �شكري الذي يق�صده هو هو فنخرج عندها من جن�س ال�سرية الذاتية لأن ال�سارد غري الكاتب .ولئن ذهب ح�سن بحراوي �إىل �أن ظاهرة الت�سترّ على الإ�سم "تنت�شر" �أكرث ما تنت�شر يف الن�صو�ص ذات الطابع االطوبيوغرايف حيث جند طائفة من التنويعات تفيد هذا املعنى منها التح ّرج من ذكر الإ�سـم ال�شخ�صي داخل ال�سرد" ف�إ ّننا نح�سب �أن غاية �شكري من هذا الت�سترّ غري ذلك احلرج لأ ّننا مل نعرفه خجوال بقدر ما عرفناه مغرمـًـا بف�ضح ذاته ،لكن هذا الت�سترّ قد نرجعه �إىل دافع ف ّني ،فهو �إمّا اعتمده ح ّتى يـ� ّؤ�صل ال�سرية �أكرث يف �أ�سلوبها التخييلـي الروائي ،و�إمّـا �أ ّنه ر�أى �أ ّال حاجة للك�شف عن الإ�سم ما دامت ال�سرية الذاتية مكتوبـة ب�ضمري املتك ّلـم وفيها قرائن كثرية دالـة على تطابـق �شخ�صيـّة امل�ؤلف مع �شخ�صيّـة الراوي. � -2شكـري :الكـاتب
◄
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
13
�إن �صفة الكاتب � َ ال�صفات مب�ؤلف أعلق ّ ال�سرية الذاتية ،فالروائي لي�س معن ّيا باحلديث عن الكتابة لأنّ �شخ�صياته قد تكون بعيدة عن هذه العوالـم �إ ّ ال �أن كاتب ال�سرية الذاتية ال ميكن �أن يغفلها ،لأ ّنه بطل عمله ال�سردي .فهو الراوية والذات امل�ؤلف وهو الذات ّ املروية يف ذات الوقت وملا كانت الكتابة �أعلق الأن�شطة به كان لزا ًما التطرق لها بني احلني والآخر عليه ّ و�إ ّ ال �أ�صبحت �سريته غريبة عنه قبل �أن تكون غريبة عن القارئ.
�إن �صفة الكاتب � َ ال�صفات مب�ؤلف أعلق ّ ال�سرية الذاتية ،فالروائي لي�س معنيّا باحلديث عن الكتابة ل ّأن �شخ�صياته قد تكون بعيدة عن هذه العوالـم �إ ّال �أن كاتب ال�سرية الذاتية ال ميكن �أن يغفلها ،لأ ّنه بطل عمله ال�سردي .فهو امل�ؤلف وهو الذات ال ّراوية والذات املروية يف ذات الوقت وملا كانت الكتابة �أعلق الأن�شطة به كان لزامًا عليه التط ّرق لها بني احلني والآخر و�إ ّال �أ�صبحت �سريته غريبة عنه قبل �أن تكون غريبة عن القارئ. "وجــوه" حممد �شكري حملت لنا وجه ال ّراوي الكاتب عندما نقلت لنا معاناة اخللق الإبداعي ،فبني الكاتب والكتابة �شيطـان جمـوح مثـل �شياطني ال�شعـر ،ال ي�ست�سلم لرغبة �شكري ب�سهولة" :كيف ال�صعب عندي �أت�صالح مع �شيطان الكتابة؟ ّ قد يكون يف اختيار عنوان منا�سب حني انتهائي من نـ�ص…" (�ص )46وقد يطول انتظار الكاتب لـر�ضاء هـذا ال�شيطـان وعفوه فال تنفعه �إرادة اخللق ما دامت "الكتابة تتم ّنع بق�ساوة وت�ستع�صي" (�ص )45ويزداد ات�ساع جروح الكاتب النف�سيّـة عندما يُقابل الق ّراء هذه املعاناة التي كابدها حتى يخرج عمله الإبداعي بال ّلعنـات ،فتتعادل عندهم �صورة الكاتب واملوم�س :ير ّد �شكري/ الراوي على �صديقته فاطي العاهرة يف غيابها وح�ضورها" (�ص )9وقد جاءته �شاكية امل�ضايقات "اللعنات موجودة يف ّ كل عمل .ح ّتى ت�أليف الكتب ال ي�سلم من اللعنات واملنع واالعتداء �إىل ح ّد املطاردة وال�سجن والقتل ربمّ ـا تلقيت من ال�شتائم �أكرث مما عانيت منه �أنت .لقد ب�صق علي بع�ضهم يف ال�شوارع واحلانات ،يف امل�ؤ�س�سات الر�سمية وغري الر�سمية ويف كل مكان لأين كاتب ملعون" (�ص.)104 هذا الوجه احلزين وهذه الأحا�سي�س املهينة لي�ست وحدها وجه الكاتب وم�شاعره، �إنمّ ا هي طعم احلياة امل ّر �أمّا طعمها الآخر فيج�سده الوجه ال�سعيد للكاتب حينما ّ ت�ستدعيه اجلمعيات الثقافية ليقر�أ ن�صو�صه على جمهور ال�شباب يف حميميّة ذلك اللقاء الذي جمع يف الناظور �شكري بجمهور ال�شباب عندما قر�أ على م�سامعهم الف�صل الأوّ ل من "اخلبز احلايف". كما تقدّم لنا "وجوه" وجه الكاتب املغرم ب�إبداعه واملتف ّرغ للقراءة والكتابة بعد �أن ط ّلق الوظيف" :الكتب والكتابة هما املنبعـان اللذان ال ين�ضبان منذ انبثاقهما يف حياتي. �إ ّنهما يقهران الزمن العادي خللق زمن تعميق الإبـداع" (�ص.)154 كما �أننا نعرث يف منت ال�سرية الذاتية "ال�شكرية" على بع�ض تفا�صيل الوجه الكاتب لل ّراوي من خالل عالقاته ب�أهل الأدب فيحدّثنا عن �صحبته للروائي حممد زفزاف ولقاءاته ب�إليا�س اخلوري وحنان
ال�شيخ و�إميل حبيبي وال ين�سى �أن ينقل لنا "خ�صومته ال�شهرية مع ال�شاعر حممود دروي�ش وذكرياته مع جان جينيه. و"وجوه" ،عموما ،من الأعمال الأدبية التي ال ت�ست�سلم ب�سهولة للقارئ ّ ولعل ال�صعوبة الأوىل التي تعرت�ض القارئ العادي يف "فكّ �شفرة" العمل هو ذلك الك ّم الهائل من احلديث عن الأدباء وال�شعراء والفنانني وال�صحفيني يتو�صل الأجانب ،فال ميكن للقارئ العادي �أن ّ �إىل متثل "وجوه" من دون �أن يكون له ن�صيب من املعرفة لهذه الوجوه الثقافيّـة فهو على امتداد ال�سرية يف امتحان معرفة �أو هو يف مكتبة عامليّـة ينتقل من عوامل نيت�شه �إىل عوامل اندريه جيد .ومن �ألوان فان غوغ �إىل تكعيب بيكا�سو ،ومن "حانة" زوال �إىل "غريب" كامو .فيقدّم لنا �شكري ،من خالل هذه العوامل ،وجها من وجوهه وجها لقارئ جنيب للأدب الغربي وفنونه. و�شدّة تع ّلق امل�ؤلف بهذه العوامل �سوّ لت له ت�شبيه �شخو�ص من �سريته الذاتية يف ق�سمات وجوهها بوجوه ه�ؤالء الأدباء الذين ع�شقهم .فاملوم�س "املبتدئة" التي ا�صطحبها �إىل غرفته ،بعد ق�ضائه ليلة ماجنة يف �إحدى احلانات" ،فيها �شيء من مالمح وجه رامبو وو�سامته عندما جاء �إىل باري�س لأوّ ل م ّرة" (�ص .)22 وربمّ ا مل تكن ع ّلة �إعجابه بفاطي املوم�س �سوى تع ّلقها بهذه العوامل الأدبيّـة فهي حت�سن حفظ ال�شعر و�إلقاءه مثلما حت�سن عملها. هذه بع�ض �أ�شكال تقدمي الذات كما قدّمها حممد �شكري يف "وجوه" �إ ّال � ّأن هذه ال�صورة للذات ي�شارك يف ر�سمها كل من الذاكرة والتخييل معًـا وهذا الدور للتخييل هو الذي يهدّد �صفاء اجلن�س الأدبي فتنحرف ال�سرية الذاتية نحو عوامل الرواية لنخل�ص �إىل �صورة جمازيّـة للذات الكاتبة كما تقدّم يف �سريتها ،ل ّأن كاتب ال�سرية الذاتية "مع ّر ٌ �ض دائما لالنزالق مع التخييل واخليال ،فهو ال يكتفي فقط باختالق الأكاذيب بل � ّإن �إطار الرتجمة الذاتية كفيل ب�أن ي�ستوعب �أية رواية خياليـة حم�ضـة". و�صفوة القول � ّإن �صورة ال�شخ�صيّـة الرئي�سـة يف "وجوه" التي هي بال�ضرورة �شخ�صيّة الكاتب تت�س ّرب بني مرايا ال�سرد يف حالة من التفـ ّتت والتف ّكك .على عك�س ما تظهر به يف ال�سرية الذاتية التقليدية طاغية على الأحداث فاعلة فيها ،فال ّراوي/ يخ�ص نف�سه بحديث مبا�شر البطل يكاد ال ّ �إ ّال ملامًـا وربمّ ـا مل يرجع �إىل ذاته �إ ّال من خالل ما ي�ستوجه حديثه عن الوجوه الأخرى وعن عالقاتهـا به .فكان حديثه عن نف�سه وعالقته مع فاطي مثال يهدف �إىل نقل �صورة فاطي ال �صورته وين�سحب الأمر مع ال�شخ�صيات الأخرى (عالل ،باباداي ،فريد، من�صف ،فريونيك…) وهذه ال�صورة املفتتة
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
لل�شخ�صية ال ّراوية �ساهمت يف ر�سمها تقنية "املونتـاج" ال�سينمائـي التي اعتمدها �شكري يف بناء عمله فنيّـا .فهو ق ّلمـا ينهي حدثا قد بد�أ احلديث عنه دون �أن ّ يقطعه ويف ّتته ،وهذا حال ال ّزمان واملكان. �إن هذه التقنيات هي �إحدى �أدوات العمل الروائي الذي ا�ستعاره �شكري لتلوين �سريته الذاتية �شكال وحمتوى بجمالية الكتابة الروائية ح ّتى كان الراوي يف "وجوه" راويا م�شاهدا �أكرث منه راويًا م�شاركا. وا�ستنادا �إىل هذه القراءة تنه�ض �صورة ال�شخ�صية الرئي�سـة املت�شظيّـة عالمة وا�ضحة على اخرتاق اجلن�س الروائي لعمل ال�سرية الذاتية فالروايات منذ القرن الع�شرين بد�أت تنتج منطا جديدا من ال�شخ�صية عالمتها الأوىل �أ ّنها جم ّرد هامة مف ّككة ،غائمة املالمح. وقد كان ال�سبق للر�سم –ال�سريايل خا�صة_ ج�سدها بكل غمو�ضها وحاالتهـا .وملا الذي ّ كانت تربط �شكري عالقة حميمة بالر�سم والر�سامني (انظر �صورة الغالف مثال) ف� ّإن ّ هذا الولع بالر�سم ميكن �أن يكون قادحً ا لر�سم مثل هذه ال�صورة التي ظهرت بها ال�شخ�صيّة. دون �أن نغفل ما لثقافة الكاتب الروائية من دور فـ"الـ�شخ�صيّـة الروائيّـة التقليدية (قد فقدت) قو ّتها االقناعية ف�أ�صبحت يف العمق جت�سيدًا لالبتذال والهم" وما عادت البطولة متثل واقعا روائيا وال هاج�سً ـا عند املتل ّقي، فقد غيرّ ت القراءة طقو�سها و�أفق انتظارها. "فال بطل منت�صرا وال بطل منهزمًا (.)159 - 7تراجع ال ّلهجي واملتداول وتنامي الدخيل خال ًفا ملا كان مع كتابه "اخلبز احلايف" الذي ذهب فيه �إىل "اختبار التل ّفظ الأوتوبيوغرايف" -حيث لهجت ال�شخ�صيات بل�سانها اليومي ولغة واقعها االجتماعي والثقايف وتدفقت اللهجات وم�ستويات العربية يف غري قيد -خالفا لذلك يعر�ض علينا �شكري يف اجلزء الثالث من �سريته الذاتية وجها �آخر من وجوه التعامل مع اللغة باعتبارها م�ؤ�س�سة للن�ص الإبداعي من لن�ص احلياة من جهة �أخرى. جهة وناقلة ّ الن�ص ح ّتى ال نكاد فقد اكت�سحت الف�صحى ّ نعرث على الدارجة �أو اللهجات �إ ّال يف بع�ض الألفاظ املنفردة حتمل يف الغالب �أ�سماء لأمكنة �أو لأنواع من ال�شراب املح ّلي… خيرّ �شكري تركها من دون "تف�صيحها" حفاظا على طاقاتها االيحائية وحـميميتهـا مع م�سميّاتها �إ ّال � ّأن هذا مل مينعه من �أن يعمد �إىل حماولة تف�سريها بالف�صحى يف الهام�ش ق�صــد تـقــريبها من املتل ّقي مثل "ح�صلة" "مقهى الرقا�صة" "املاحيا" .وبهذا يكون �شكري قد خاطب القارئ العربي عموما �ضاربا ً عر�ض احلائط باخل�صو�صيّة القطريّـة ّ ومقولة الل�سان املحلي .وين�سحب هذا الأمر الن�ص ال�سردي وعلى لغة احلوار يف على ّ الآن ذاته .فقد عمد الكاتب �إىل �صياغة حوار
التفاعل -لن يحول دون ت�صنيفها �ضمن لون من �ألوان ال�سرية الذاتية فح�ضور اخلطاب الروائي واخلطاب ال�شعري والق�ص�صي واخلاطرة بع�ض الأحيان ال يخرج الن�ص من جن�سه ل ّأن "كل ن�ص ي�ستند �إىل جملة خ�صائ�ص ت�سمح بتجني�سه و�إدراجه �ضمن جن�س �أدبي عام مهما بلغت درجة انتهاكه للقواعد الأوليّة لذلك اجلن�س". ويُرجع بع�ض النقاد هذا التعالق الأجنا�سي الذي يظهر عند كاتب ما �إىل تركيبة ال ّذات الكاتبة .فاملبدع الذي تظهر على ن�صو�صه "�أعرا�ض" هذا التمازج يكون غالبا قد ج ّرب تلك الأجنا�س منفردة ولو كان ذلك التجريب غري معلن .فيكون يف ذات الوقت م�سكونا والق�صة عن وعي من دون وعي -بال�شعرّ الق�صرية واملذكرات والرواية .وهذه ذات احلالة التي يعي�شها حممد �شكري فقد �سبق له �أن كتب ال�شعر و�أ�صدر ثالث جمموعات ق�ص�صيّة " :جمنون الورد" و"اخليمة " و"املدينة امل�ضادّة " مثلما �سبق له كتابة الرواية ملّا �أ�صدر روايته "ال�سوق الداخلي" وعرف كتابة املذكرات ملّا كتب "جان جينيه يف طنجة" و"تين�ســي وليامز يف طنجة" و"بول بولز وعزلة طنجة" بل �إ ّنه ج ّرب حتى الكتابة امل�سرحية واملقالة النقدية. ومن ثم ف�إن هذا التقاطع الأجنا�سي يف �سريته الذاتية الروائية "وجوه" �سيكون �أمرا متو ّقعًا.
ك�أ ّنها اخلامتـة…
ب�سيط عربيّـته �أو ما يطلق عليها بع�ض النقاد نف�سر واملبدعني "باللغة الو�سطى" .وقد ّ هذا الرتاجع عن حترير احلوار عاميّـا مبا تع ّر�ض له "اخلبز احلايف" من نقد نتيجة �صعوبة ّ فك �شفرة اللهجة الرببريّـة مثال. نف�سره بوعي �شكري �أخريا �أ ّنـه لي�س وقد ّ هناك لهجة عاميّـة ح ّتى على م�ستوى القطر الواحد و�إنمّ ا هناك عاميات ،كما ميكن تف�سري "التف�صح" يف "وجوه" بغياب احلاجة هذا ّ �إىل العاميّة ـ وهذا الأقرب عندنا ،لأن �أغلب ال�شخ�صيات يف هذا العمل متعلمة ومثقفة فح ّتى و�إن كانت لها روا�سب وانتماءات قبائليّـة ف�إ ّنها �أقلعت عن تداول لهجاتها اخلا�صة بعد اِندماجها يف �أو�ساط املدينة : ّ مدينة طنجـة ،فا�ستعا�ضت بالعربية عنها. ولكن ،لئن �أخل�ص حممد �شكري يف "وجوه" للف�صحى وتراجعت مكانة العاميّة مقارنة بن�صو�صه ال�سابقة ف�إن هذا الإخال�ص للعربيّة ال ميكن �أن يحجب عن القارئ الن�ص العربي ح ّتى "هيجان" الدخيل على ّ �أ ّنـنا ناد ًرا ما نعرث على �صفحة خالية من كلمة
�أجنبيّة تخلخـل االن�سياب الب�صري للحرف العربي .وتربك العني با�ستدعائها لل�سان الآخر .قد تكون الكلمة ا�سما لكاتب �أو عنوانا لكتاب �أو نوعا من اخلمور ي�ص ّر �شكري على �أن يردف الكلمة العربية مبقابلها �أو با�صلها الأجنبي والأمثلة على ذلك كثرية( :احلانة .L’assommoirفوتر Werther بلودي مريي ،Bloody Maryفكتور نوار � ،Victor Noirسجن �ألكاطراث ،Alcatrazال�شيفرويل ،Chevrolet �ألفريد دو مو�سيه )…A. du Musset وكما نالحظ ف�إن الكاتب يعمد �ساعة �إىل ترجمة الكلمة �إىل العربية مثل "احلانة" ويقدّمها يف �ساعات �أخرى مهجّ نة �إىل العربية مثلما ي ّت�ضح يف بقيّة الأمثلة. ويتو ّزع الدخيل فـي "وجـوه" علـى لغـات الن�ص على الل�سان الفرن�سي عدة فينفـتح ّ (�ص 29و�ص )144مثلما ينفتح على الل�سان الإ�سباين ( �ص )89وال يرتدّد يف ا�ستدعاء ال ّل�سان الأنقليزي ( �ص. )143 ويخطر عندنا خاطر �أن �شكري ربمّ ا �أراد بهذا
الن�ص امل�سكون بال ّلغـات �أن يرثي بطريقته ّ واقع مدينته طنجة التي كانت "دوليّة" قبل اال�ستقالل وال�سرية الذاتية باعتبارها �سليلة الرواية فهي مثلها "جن�س �أدبي هجني، تتف ّتح فيه اللغات كما تلتقي يف ج�سمه �سالالت الـمحـكي ولغاته بكل لغط ال�شوارع ومظاهر التعبري االجتماعي اللغويّة". - 8فورة الأجنا�س ور�سوخ ال�سرية تتنافذ الأجنا�س الأدبية يف "وجوه" وتتعانق يف تناغم غريب حوّ ل الكتاب �إىل "مهرجان" �أجنا�سي ت�ص ّنفـه كل عني مبا تراه من ت�صنيف حلظـة القراءة .فقـد احت�ضـن املتـن عوالـم الأق�صو�صـة وتقنياتهـا مثلمـا احت�ضـن �أجواء ال�شعر و�آلياته .فال�سرية الذاتية كما ُتعر�ض يف "وجوه" ال ترتدّد يف تطعيم عواملها بعوامل الكتابة الق�ص�صية والروائيـة وال�شعريـة على ال�سواء .وهذا التعاي�ش الأجنا�سي يف العمل الأدبي الواحد دليل على بطالن نظريّـة برونتيار Brunetièreبخ�صو�ص والدة الأجنا�س وفنائهـا [ .]40فاجلن�س الأدبي ال ي�أكل الآخر
مثلما � ّأن "احلدود بني الأجنا�س مل تعد الآن بال�صرامة نف�سها… والقطع والتحديد التي كانت قائمة يف حقبة �سابقة ،بل �أ�صبح الأمر ي�صل �إىل درجة �سقوط هذه احلدود وتداخل الأجنا�س الأدبية" .و"وجوه" من هذه الأعمال التي ّ تتخطى جن�سها� ،سرية ذاتية ّ لتتودّد �إىل �أجنا�س �أخرى جماورة مـثـل الن�ص بلغـة �شعرية ال�شعر �إحداها .فيطفح ّ �ساحرة تخاطب �أغوار النف�س ودفائـن الروح يف ن�صو�ص �سرييالية م�ؤملـة ينقلها لنـا اخلطاب ال�سردي. فيتو�سـل ويذهب �شكري �أكرث من ذلك ّ بالتوزيع الب�صري للق�صيدة احلديثة في�ستهل معظم ف�صول ال�سرية بق�صائد نرثية حتمل الكثري من الإيحاء ال�شعري ،يقول يف �إحداها وا�صفا غربته: غـربـة لـي غربتـان : واحدة هنـا وواحدة هنـاك �أيّهمـا الأغــرب ؟
ال خيار بينهمـا فـي زمــن املحـن، رغـم الوطــن" (…) ( �ص.)35 ويقول يف �أخرى متحدّثا عن دموع الفكر وحزن الـمقـهـورين. " تغزونـي دموعي من خالل �أفكاري ربمّ ـا �ضع ًفـا ف ّكرت يف نف�سـي، �أو يف �أحــد ليـ�س البكاء هو البكـاء، قـد يخجــل احلـزن من نف�سـه �أحيـانـا عندما يغزو املقهوريـن�( ".ص )65 ويقول يف ثالثة حمّلها الكثري من م�شاعر احلزن ومناجاة النف�س املكلومة: " لـك زمانك وبعدك يل نف�سي لنف�سي. ال �أعلن نف�سي وحيدًا �شاهدا على اخلراب. �إنمّ ا اجلميل يرتاءى من خالل �سرابه �أهو احلزن ؟ �أهـو الب�ؤ�س
�أم هو بئـ�س امل�صي ــر ؟ ع�سى �أن تذكــر معـي تلك التي و�أن ــت الذي ا�ستك ّنــا معـا يف ح�ضــن التذكــار�( ".ص.)67 الق�صـة الق�صرية فح�ضورها ال ّ يقل عن �أمّا ّ ح�ضور ال�شعر .حيث تعر�ض لنا "وجوه" حكايات عن وجوه عرفها �شكري ،وقد انتقاها ب�شكل متقن ودقيق تتحوّ ل فيه حكاية ق�صـة ق�صرية منفردة. الوجه الواحد �إىل ّ ّ ولعل �أبلغ مثال على هذه ّ الظاهرة يف الكتاب تتج�سد يف الف�صل املعنون بـ "املرياث " ففيه ّ حتت�شد عوامل الق�صة الق�صرية بكل وجوهها اجلماليّة والتقنية من وحدة للمو�ضوع ووحدة الزمن وعدد ال�شخ�صيات املحدود وتكثيف لل�سرد وتنام �سريع للأحداث نحو الذروة لتنغلق الق�صة /احلكاية بحدث مفاجئ. وهذا التفاعل والتعا�ضد الأجنا�سي الذي حوّ ل "وجوه" �إىل "رقعة �شطرجن " -كما يقول "حممود طر�شونة يف حديثه عن "�ألف ليلة وليلة" التي تعي�ش هي �أي�ضا هذا
ن�ص "وجوه" ملحمد �شكري حالة من م ّثل ّ حاالت الكتابة الإ�شكالية .فكل العالمات تو ّقع الن�ص �إىل جن�س ال�سرية الذاتية غري انتماء ّ � ّأن هذا االنتماء ال يحجب ع ّنا تلوّ ن العمل ب�ألوان �أجنا�سية �أخرى حوّ لت ف�ضاءه �إىل بانورامـا من الأجنا�س ي�ستدعي بع�ضها بع�ضا وينفتح الواحد علىالآخر يف لعبة تـ�شكيلية الن�ص �إىل عوامل التجريب فينكر جن�سه حتمل ّ �ساعة ليخونه مع غريه ولكن هذه "اخليانات الفنيّة " لتقاليد اجلن�س ونقاوته ال تخرج الن�ص من جن�سه الأ�صلي .بل �إننا لو جوّ دنا ّ النظر فيه لالحظنا �أن هذا التلوين ي� ّؤ�صل العمل الف ّني يف جن�سه من ناحية ويك�سبه ون�ص "وجوه" خ�صو�صيته من ناحية �أخرىّ . من الن�صو�ص التي ُتربك انتظارنا فتقول ماال يتو ّقع �أن يقال وبطـرق غري متو ّقـعـة .فينتزع بذلك الكاتب م ّنا اعرتافا باملباغتة. وعموما� ،إن مثل هذه الن�صو�ص التي تعي�ش حالة من التعاي�ش الأجنا�سي هي حاالت خا�صة ولع ّل �أوّ ل مبادئ الوجوديّة وجودية ّ �أن ت�ضع الذات نف�سها يف مواجهة املوت/ القدر ون�ص "وجوه" ل�شكري يواجه قدر جن�سه – �سرية ذاتيـة -عندما يخونه مع جن�س ال ّرواية ولكن هذه اخليانة تتحوّ ل الق�صة الق�صرية �إىل خيانات فتتعالق الكتابة ّ باملذ ّكرات و بال�شعر… وهل للخيانة حـدود؟.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
العدد ()2095ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )9ني�سان 2011
مجنون الورد حممد برادة
ـ1ـ
يفد على طنجة ،عرو�س ال�شمال ،كما تلقبها م�صلحة ال�سياحة ،طفل مل يتجاوز �سن ال�سابعة �صحبة ا�سرته الهاربة من املجاعة ،بداية الأربعينيات ،و احلرب يف �أوجها ..يف خميلته �صور حمدودة لقرية " بني �شيكر " ،و على ل�سانه كلمات من اللهجة الريفية يحاول �أن ي�سمي بها الأ�شياء .بعد قليل �سيلقى القب�ض على الأب لأنه الذ بالفرار من �صفوف اجلي�ش الإ�سباين املتقاتل يف حرب �أهلية طاحنة ،ال تعنيه، هو املغربي ،يف �شيء. يتقدم حممد �شكري الطفل وحيدا ليبد�أ حياة الت�شرد من دون �أن يعرف املدر�سة .يبد�أ باكت�شاف املدينة ـ احلياة من خالل �أعمال يدوية متنوعة :م�سح الأحذية ،بيع ال�صحف و اخل�ضر ،اال�شتغال يف املقاهي و املطاعم ،التعاون مع ع�صابة للن�شل� ،إر�شاد ال�سياح ،تقليد �أغاين حممد عبد الوهاب يف املقاهي.. يقرتب الآن من �سن التا�سعة ع�شرة و قد جرب كل �شيء ،و ا�ستوعب طبيعة العالقات و املعامالت ،و عرف الق�سوة و مل ينعم باحلنان..و ذكا�ؤه يحثه http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
على �أن يوا�صل ال�سري لريتاد عامل الذين يتحدثون لغة ال ت�شبه الريفية و ال الدارجة ،حتى ال تظل هناك منطقة يجهلها ،و حتى ال يظل بع�ض ال�شباب من معارفه يعريونه بالأمية .يف هذه ال�سن املتقدمة، ي�سافر �إىل مدينة العرائ�ش بحثا عن مدر�سة ابتدائية تقبله ..و هناك تعلم من التالميذ ال�صغار �أكرث مما تعلم من معلميه و �أ�ساتذته..و عاد �إىل طنجة " متعلما " ليبد�أ مغامرة جديدة و مثرية مع الكتابة و الأدب..لكن �شكري الذي نخرته �سو�سة احلياة و �إغراءات التجربة ،ال ي�ستطيع �أن يحرتف الكتابة عن " الأ�شياء " من خارجها ،و هو الذي اعتاد �أن يثقب الق�شرة لريتاد ال�شرنقة .احلياة �أوال� :إدمان الك�أ�س و �إدمان الليل فرارا من البالدة و اجلهل و من اجلنون و املوت .و مل ي�ستطع �أن يقاوم وحده ق�ساوة العي�ش على الهام�ش ،ف�أ�صيب بانهيار ع�صبي و مكث مب�ست�شفى الأمرا�ض الع�صبية �أربعة ا�شهر خالل �سنة .1964تبدو له الكتابة الآن نوعا من الإدمان لتهدئة ح�سا�سيته املرهفة ،و مواجهة فو�ضى الأ�شياء و املجتمع .و لن تعوزه "املادة" ،فقد اختزنت ذاكرته و �أع�صابه و ج�سده ما ال ت�ستطيع "اللغة الف�صحى" ت�شخي�صه .بعد حماوالت قليلة ،ن�شرت له جملة "الآداب" ق�صة بعنوان" العنف على ال�شاطئ" �سنة ،1966و تلقى ر�سالة من الدكتور �سهيل �إدري�س ي�شجعه فيها على امل�ضي يف الكتابة... هكذا دخل حممد �شكري املجال الأدبي ،ف�أثار انتباه الأدباء املغاربة ال�شباب "املتعلمني" يف املعاهد و الكليات ،و �أ�صبح �صوتا متميزا بتجربته املدخرة، و بتعبريه العاري من احلذلقة و الت�صنع ...و كما يف احلياة� ،سيحاول الكثريون تهمي�ش كتابات حممد �شكري لأنها "وقحة" ت�سمي الأ�شياء و ال ترمز لها ،تختار مناذجها من املنبوذين و ال�شواذ و ممن يعي�شون يف احل�ضي�ض�..إال �أن جوهر "ظاهرة �شكري" مل يلتفت �إليه �أحد :مقابل الكتابات الرومان�سية و التجريبية "الطالئعية" ،و مقابل الن�صو�ص املعتمدة �أ�سا�سا على "ن�صو�ص غائبة".. ي�أتي �شكري مبنطلق �آخر :الأ�شياء قبل الكلمات، املعي�ش قبل املتخيل ،املو�شوم �أخادي َد على اجل�سد قبل التب�شري بالأف�ضل و مناجاة الثورة املنتظرة و دفن الإحباطات يف الق�صائد و الق�ص�ص الأ�سيانة..و هو يف كل ذلك ،ي�صدر عن جتربته اخلا�صة :اكت�شف الأ�شياء �أوال وجها لوجه من دون �أ�سرة حتميه ،و ال مدر�سة توجهه ،و ال طفولة هنية يختزن ذكرياتها.. فتح عينيه منذ الوهلة الأوىل على عامل الكبار الذين يت�صارعون يف حميط املجتمع و يف قاعة ل�ضمان اللقمة و حماية النف�س ،يحتكمون �إىل �أعراف �أ�شبه ما تكون بقانون الغاب ،و القيمة الب�شرية ملغاة يف عهد احلماية و عند �أ�صحاب املخزن..و �أن تكون، �إىل جانب ذلك ،ريفيا جمتثا وافدا على مدينة ذات "�أ�صول" ،معناه اكت�ساب �صفة النفاية عن جدارة.. �إال �أن �شكري مل يقبل هذا "الأمر الواقع" الذي يجعل من الأكرثية املهم�شة برغم �إرادتها ،خادمة لأقلية حتميها املوا�ضعات االجتماعية ،فبد�أ يعرب عن احتجاجه و مناه�ضته بلغة اجل�سد قبل �أن يتعلم اللغة املكتوبة ":كنا �أحيانا ن�ستعمل �شفرات احلالقة و ال�سكاكني يف معظم العراكات التي كانت ت�صل �أحيانا �إىل حاالت دامية."... على العك�س من معظم كتابنا الآخرين ،تعلم حممد �شكري لغة الأ�شياء العارية القا�سية ،قبل �أن يتعلم الكلمات "املعربة" ،لذلك تظل حياته اليومية هي الأ�سا�س ،و تغدو الكتابة بالن�سبة له �إدمانا جزئيا يرف�ض �أن يجعل منه قناعا للتجميل �أو مطية لالرتقاء يف ال�سلم االجتماعي.
ـ2ـ
اخليوط التي ين�سج منها �شكري ق�ص�صه تنتهي �إىل ر�سم "جغرافيا �سرية" للمدينة و لتحت ـ �أر�ضها. تبد�أ تنا�سلها ،جميعها ،من مناخ الهام�شيني �أو من عامل الأطفال ،يبد�أ احلكي بتلقائية توهمنا �أنه يحكي واقعة من " الوقائع املختلفة"� ،شاهدها يف الطريق �أو قر�أها يف ال�صحيفة و �أعاد �صياغتها .لكن هذا التوهم �سرعان ما يبدده �سطوع كلمات مفاجئة و عبارات مكثفة حمملة بالإيحاءات و الدالالت ،تنقلنا �إىل عامل ق�ص�صي ت�ؤطره و توحده تلك اخليوط املتناثرة يف خمتلف الق�ص�ص .قوام هذا العامل عند �شكري ،الهام�شيون �أو الليليون (مقابل النهاريني كما يحلو له �أن يق�سم النا�س) ،الذين �صنفتهم امل�ؤ�س�سة االجتماعية يف تراتبيتها الهرمية لتجعل منهم نقي�ضا
للمواطنني " العاديني" الأ�سا�سيني..هم� ،إذا ،من ي�ضرب بهم املثل عن ال�شذوذ و الال�أخالق و الرذيلة و الفح�شاء و املنكر..و ال ميكن ملجتمع �أن يت�صور نف�سه من دونهم ،لأنه �إذا كان من ال�صعب ت�شخي�ص "الف�ضالء" و ممثلي اال�ستقامة بكرثة ،ف�إن من ال�سهل تكثري املنحرفني و تهمي�شهم ال�ستعمالهم كنماذج ال حتتذى و ك�سلوك يزجر عنه ،و يعاقب عليه...يف ق�صة "ب�شري حيا و ميتا" يج�سد �شكري هذه العالقة الغريبة بني العاديني العقالء ،و ال�شواذ املجانني: ب�شري" الأحمق" يقلق الآخرين لكنه ي�سليهم لأنه لي�س منهم .يتحلقون حوله و هو ممدد يف ال�شارع متمنني موته..وعندما ي�ستيقظ من غيبوبته ي�صابون بخيبة �أمل� ":سينظرون �إليه ك�شبح و هو ي�سري بينهم". الأطفال �أي�ضا ال يفهمهم العقالء مع �أنهم " لي�سوا دائما حمقى "� ،إال �أنهم يربكون عامل الكبار امل�صنوع من ال�ضو�ضاء و الكالم املجاين و افتعال امل�شاعر و الأفكار .بدال من ذلك يقرتح الأطفال ال�صمت و احللم و �إطالق �سراح احلمائم ! التلقائية نف�سها التي يحكي بها ،تالزمه و هو ي�سمي الأ�شياء املكونة لالهتمامات اليومية عند �أ�شخا�صه الهام�شيني .و يكون اجلن�س يف طليعة تلك االهتمامات. �إن الثنائية الفا�صلة بني الأ�شياء تنعدم يف �سلوكاتهم ،و اجل�سد كلي ،به يواجهون العامل و منه ي�سوحون ردود الفعل..و ال�شهوة تختلط مبا هو نباتي و حيواين ،بالوجود و العدم "...يت�أملها �أر�سالن .هي ت�سرتيح مغمى عليها و هو ي�سرتيح الهثا ،متتزج الرغبة يف ذهن �أر�سالن بال�شروق و البحر ،متتزج بالأزهار و طيور ال�صباح ،متتزج بطنني الذباب و اخلبز الياب�س الأ�سود ،متتزج تلك الرغبة يف حوا�سه برائحة القيء و املوت و ال�صمت الطويل" من ق�صة "القيء". و لعل ق�صة " اخليمة " التي حالت الرقابة من دون ن�شرها ،هي �أجمل منوذج تتحقق فيه فكرة �شكري عن اجلن�س ـ الإله حني يغدو فرحة و عيدا و وليمة و ارمتاء يف �أح�ضان البحر ،و مالم�سة ج�سدية لعنا�صر الطبيعة... غري �أن كثريا من ق�ص�ص �شكري تنقل �إلينا ال�صورة البئي�سة للجن�س عندما يكون ج�سدا يباع �أو كتال حلمية تلهث وراء لذة دفنتها العقد ،و غيبها الإرهاق.
ـ3ـ
ال�شح .يزكي تت�صف لغة �شكري باقت�صاد قريب من ّ هذا االنطباع توزيع الرتكيب العام على جمل ق�صرية ت�سندها �أفعال امل�ضارع ال�سائدة يف معظم الق�ص�ص. �إال �أن هذه البنية اللغوية العامة يتخللها تك�سري مباغت من خالل جمل طويلة متما�سكة خمتلفة عن جمل الو�صف و ال�سرد .هذا "التك�سري" ينقلنا من الأ�شياء �إىل امتداداتها يف نف�س الكاتب .ثم يعود الن�ص �إىل م�ستواه الأول قبل �أن ينك�سر مرة �أخرى.. يف ق�صة "�شهريار و �شهرزاد" ،ت�سود اجلمل الق�صرية مثل "�سقط الك�أ�س من يدها على الطاولة"، و ي�أتي الو�صف و ال�سرد يف رتابة مق�صودة ،و فج�أة تطل جملة طويلة تك�سر هذه الرتابة و تر�سم بعدا جديدا للأ�شياء..":لو �أن هذا الإح�سا�س كان نحو الأ�شياء وحدها ،لظللت �أحدق فيها حتى �أجن �أو يكف �إح�سا�سي هذا الغريب عني.".. من ثم ف�إن القرابة التي ن�ست�شعرها بني التقنية الق�ص�صية عند �شكري و بني طرائق الرواية اجلديدة ،ال تلبث �أن تتال�شى ،لأن واقعية �شكري ال تقوم على تغييب ذاته من اللوحة .على العك�س ،يظل �صوته حا�ضرا هم�سا و جهرا من خالل تلك اجلمل املفاجئة ال�صادرة عن غور عميق. و نلم�س يف الق�صتني� ":أ�شجار �صلعاء" و " جمنون الورد" تطويرا لهذا الرتكيب الفني العام الذي حاولت حتديد �أهم عنا�صره..يف هاتني الق�صتني تزيد كثافة اللغة و يتخلل الرمز ال�شخو�ص " الواقعيني" .بعبارة �أخرى ،تتميز الكتابة لتحد من �سرعة تدفق الأ�شياء املتزاحمة على بوابة الذاكرة.
ـ4ـ تظل العالقة بني الكتبة و الذات و الواقع املعي�ش، حزمة من الت�سا�ؤالت املت�شابكة كثريا ما تف�ضي بنا �إىل متاهة م�سدودة..و حني �أفكر يف "حالة" حممد �شكري ،تبدو يل العالقة بني هذه العنا�صر الثالثة ملتب�سة ،و تهتز فعالية الكتابة �إزاء ح�ضور الذات ـ اجل�سد ،و �إزاء انعكا�سات الواقع على حيوات
النا�س.. هل يرجع ذلك �إىل �أن الكتابة لي�ست كل �شيء يف حياة �شكري ،و �إمنا هي و�سيلة مكملة للتعبري عن الوجود مبا هو موجود �أم يعود ذلك �إىل املنطلق الذي ينطلق منه :ا�ستيحاء عامل الهام�شيني و ك�أنه عامل منغلق على ذاته ،وجد منذ الأزل و �سيمتد �إىل الأبد غارقا يف �صراعاته و هلو�ساته و ب�ؤ�سه املادي و املعنوي؟ ما يزكي هذا االنطباع الأخري يف نف�سي هو غياب املحور الآخر ،حمور الفئات" الأ�سا�سية" يف عالئقها اجلدلية مع الهام�شيني .من ثم انعدام ردود فعل "واعية" عند ه�ؤالء الأخريين .رمبا لأن الكاتب يخ�شى من �ضجيج ال�شعارات و تكرارية التب�شري� ،إال �أن هذا العزل يحجب عن العامل الق�ص�صي ملحمد �شكري �أ�شعة الوعي التغيريي املتنا�سل عرب جميع طبقات املجتمع املغربي بحثا عن �أفق ال يه ِّم�ش الأغلبية..و حني يبتعد �شكري عن ر�صد عامله اخلا�ص ،و يطل على العامل ـ املجتمع، تتخذ ق�ص�صه �صورة احللم ـ الفانطا�ستيك ،كما يف :العائدون ،و ال�شعراء و الزاحفون..و لعل ق�صة" الكالم عن الذباب ممنوع" هي �أن�ضج منوذج عنده يف حماولة معانقة كابو�س القمع و التعذيب و خنق احلريات�..إال �أن جتربة العامل الهام�شي تظل حمفورة يف �أعماق بطل " الكالم عن الذباب ممنوع" عندما يتفوه بهذه العبارة...":قد يعطفون عليك ،لكن ال �أحد ي�ستطيع �أن ي�ساعدك".
15
manarat رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
ـ5ـ
الإح�سا�س ب�أ�سبقية الأ�شياء يف ق�ص�ص �شكري يطرح امل�س�ألة امل�ألوفة يف املناق�شات النقدية ب�شان عالقة الكلمات بالأ�شياء �أو مدى قدرتها على التعبري عما هو حي و مدرك من خالل الذات .و م�س�ألة عجز الكلمات املزمنة..لكن حل هذه امل�شكلة عن طريق الإقرار بق�صور الكلمات عن جت�سيد الأ�شياء و التجارب و العالئق ،يبقى حال �سهال يلغي �ضمنيا جدوى الكتابة و �ضرورتها�...أو يفتح الأبواب �أمام كل طارق من بدون متييز. و يف حالة �شكري ،ف�إن زخم �أ�شياء عامله اخلا�ص الذي تبدو الكلمات قا�صرة عن �أن تطوله ،راجع �إىل �أن الكاتب ال يحر�ص على �أن ي�ضع " م�سافة " بينه و بني التجارب التي عا�شها �أو امل�شاهد التي ر�صدها..من ثم تلك ال�سخونة املنبعثة من ق�ص�صه ،و �أي�ضا ذلك االنغالق الذي ي�شبه الدوران يف فلك واحد .و وظيفة امل�سافة التي ي�ضعها الكاتب بينه و بني الأ�شياء ،هي �إف�ساح املجال �أمام التجربة لتختمر و تتخرث و ذلك عن طريق �إخراجها من احليز ال�ضيق اللتقاطها �أو معاناتها ،و حماولة تقليبها يف تربة �أخرى �أف�سح و �أعمق� ،أي مو�ضعتها يف �إطار �أع ّم يلتقي فيه فهم املجتمع بفهم الأدب و جتارب الكتابة و �أ�شكال التعبري..من ثم ال تظل الكتابة ناقلة ،بل تغدو تعريفا �ضروريا للواقع و تركيبا جديدا للأ�شياء من خالل جتديلها ( �أي �إ�ضفاء طابع اجلدلية على ما تلتقطه مبعرثا)..و يغدو واقع الأ�شياء ،واقعا حملوما به و واقعا متخيال و واقعا ممكنا و م�ستحيال يف �آن. نح�س يف ق�صتي " �أ�شجار �صلعاء" و " جمنون الورد"� ،أن �شكري يطيل امل�سافة بينه و بني الأ�شياء من خالل تكثري الأ�صوات داخل الن�ص (ال�شاعر الك�سيح ،املجنون )..و من خالل الرتميز و حتميل �صيغ قر�آنية م�ضامني خمتلفة..لكن هذا املجهود يف الكتابة ال يت�أ�س�س على مراجعة نقدية لأ�شياء الواقع املعي�ش فتظل الق�ص�ص م�شدودة �إىل "واقعيتها" ،مكتظة ب�أ�شيائها (مثلما هو ال�ش�أن يف ق�صة التابوت). �إال �أن قيمة ق�ص�ص �شكري تتجلى ،كما قلت �آنفا، يف مقارنتها بق�ص�ص كتاب مغاربة �آخرين، ي�ستعي�ضون عن الفعل و التجربة و الأ�شياء بالتوهم و لألأة الكلمات و حتليل الذات... و �أعتقد �أن التحوالت الأخرية يف كتابة حممد �شكري �ستحقق ذلك " التوازن " الذي افتقدته بني زخم الأ�شياء ـ الذاكرة ،و بني الكلمات ـ امل�سافة...و عندئذ تكون املواجهة بني " الهام�شي" املنبوذ و أ�سا�سي مواجهة عنيفة ال تكتفي بني املجتمع " ال ّ بتقدمي عنا�صر �صك االتهام ،بل ت�سهم يف �صياغة الكلمة ـ احللم ـ املعول القتالع احليف و الغنب ،و تفتيت قيم التحرمي و التقدي�س.
التحرير ----------------نزار عبد ال�ستار الت�صميم ----------------م�صطفى جعفر
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
Mohamed Choukri