FAULKNER

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫‪FAULKNER‬‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫‪William Faulkner‬‬ ‫(‪)1897-1962‬‬ ‫ُي َع ُّد وليم فوكرن (فولكرن) ‪ William Faulkner‬من �أبرز الوجوه يف‬ ‫الأدب الأمريكي والعاملي املعا�صر‪ .‬كتب روايات وق�ص�ص ًا جتمع يف �سردها بني‬ ‫احلي لل�شخ�صيات‪ ،‬وتعدد زوايا‬ ‫تيار الوعي‪ ،‬واالبتكارات اللغوية‪ ،‬والر�سم ّ‬ ‫النظر‪ ،‬واالنزياحات الزمنية �ضمن ال�سرد‪ .‬حاز جائزة نوبل للأدب يف عام‬ ‫‪ ،1949‬وجائزة الكتاب الوطنية لعام ‪ ،1951‬وجائزة بولتيزر مرتني يف عامي‬ ‫‪ 1959‬و‪ .1963‬و ِل َد فوكرن يف مدينة نيو �أولباين ‪ ،New Albany‬وتويف‬ ‫يف �أك�سفورد ‪ Oxford‬بوالية م�سي�سيبي ‪ Mississippi‬يف اجلنوب‬ ‫الأمريكي‪ .‬وخالل ثالثة عقود ونيّف من العمل ن�شر ت�سع ع�شرة رواية‪ ،‬و�أكرث‬ ‫من ثمانني ق�صة‪ ،‬وديوانني من ال�شعر‪ ،‬وعدد ًا كبري ًا من املقاالت‪ .‬حاول فوكرن‬ ‫بعد احلرب العاملية الأوىل الدرا�سة يف جامعة م�سي�سيبي �إال‬ ‫�أن �إقامته فيها مل تطل‪ ،‬وع َّل َم َنف�سه الفرن�سية ليقر�أ ال�شعراء‬ ‫الفرن�سيني بودلري وفريلني وماالرميه‪.‬‬ ‫تزوج عام ‪� 1929‬إ�ستيل �أولدم ‪Estelle‬‬ ‫‪ Oldham‬حب �شبابه‪ ،‬وكان منت�صف‬ ‫اخلم�سينيات �أ�سعد فرتة يف حياته ق�ضاها‬ ‫كاتب ًا مقيم ًا يف جامعة فرجينيا بالقرب من‬ ‫ابنته و�أحفاده‪.‬‬ ‫مت ّثل مقاطعة يوكناباتوفا‬ ‫‪ Yoknapatawpha‬م�سرح‬ ‫الأحداث الأ�سا�سي يف �أعمال فوكرن‪،‬‬ ‫وهي منطقة متخيّلة لكنها ترتبط بقوة‬ ‫بالأماكن التي عا�ش فيها والأ�شخا�ص‬ ‫الذين عرفهم‪ .‬وكانت عائلة فوكرن قد‬ ‫تركت �أثر ًا مه ّم ًا يف تاريخ والية م�سي�سيبي‪،‬‬ ‫ف�أحد �أجداده (وهو النموذج الذي‬ ‫�صاغ على غراره �شخ�صية جون‬ ‫�سارتوري�س ‪ J.Sartoris‬يف عدد‬ ‫من رواياته) كان حمامي ًا وجندي ًا‬ ‫ور�سام ًا وباني ًا لل�سكك احلديد و�شاعراً‬ ‫وروائي ًا‪ .‬وقد ترعرع فوكرن حماط ًا‬ ‫بعائلة م�أخوذة بالتقاليد‪ ،‬والق�ص�ص‬ ‫املحلية‪ ،‬واحلكمة ال�شعبية‪ ،‬والفكاهة الريفية‪،‬‬ ‫والروايات البطولية وامل�أ�ساوية عن احلرب الأهلية‬ ‫الأمريكية‪ .‬وجاءت حياته و�أعماله نوع ًا من ال�شهادة على‬ ‫التغيريات ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية الهائلة التي‬ ‫طر�أت على اجلنوب الأمريكي‪.‬‬ ‫كان فوكرن ال�شاب قارئ ًا نهم ًا‪ ،‬وقد �أبدى منذ مراهقته �شغف ًا بالكتابة والتزام ًا‬ ‫بحياة الكاتب‪ ،‬حيث كان ّ‬ ‫يخط بيده كتب ًا مزينة بر�سوم تو�ضيحية يو ّزعها‬ ‫على �أ�صدقائه‪ ،‬ومن بينها دواوين �شعر وم�سرحية واحدة على الأقل‪،‬‬ ‫وق�ص�ص وحكايات للأطفال‪ .‬ومل تقت�صر �سنوات فوكرن الأوىل على الريف‬ ‫اجلنوبي الذي �صاغه يف النهاية على هيئة يوكناباتوفا‪ .‬فقد تلقى تدريب ًا‬ ‫ّ‬ ‫يف تورنتو كطيار مقاتل يف �سالح اجلو امللكي الكندي يف احلرب العاملية‬ ‫الأوىل‪ .‬وا�ستوعب الت�أثريات احلداثية التي كانت تغيرّ وجه الفن والأدب‬ ‫يف القرن الع�شرين‪ .‬ففي �أوا�سط الع�شرينيات‪ ،‬عا�ش بني الك ّتاب والفنانني‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫احلي الفرن�سي يف مدينة نيو�أورليانز بوالية لويزيانا‪ ،‬وحظيت‬ ‫يف ّ‬ ‫كتابته الق�ص�صية هناك بالت�شجيع‪ ،‬خا�ص ًة من قبل الكاتب �شروود �أندر�سن‬ ‫‪ S.Anderson‬الذي �ش ّكل عمله «واين�سربغ‪� ،‬أوهايو» ‪Winesburg‬‬ ‫‪ ،Ohio‬عماد احلداثة الأمريكية‪ .‬وكان فوكرن قد جاء �إىل نيو�أورليانز بعد‬ ‫�أن �أ�صدر ديوان ًا بعنوان «الفاون» �أو «�إلـه املـراعي املرمريّ » ‪The Marble‬‬ ‫‪ Faun‬عـام (‪ ،)1924‬وهناك �أ ّ‬ ‫مت روايـته الأوىل «جعالة اجلندي»‬ ‫‪ Soldier’s Pay‬عـام (‪ ،)1926‬وتدور حـول طيار يعود جريح ًا ليموت يف‬ ‫وطنه‪� .‬أما روايتـه الثانيـة «البعو�ض» ‪ Mosquitoes‬عام (‪ )1927‬فتحكي‬ ‫عن حياةٍ بوهيمية كان فوكرن قد ر�صدها يف نيو�أورليانز‪ .‬وبعد َ�س َف ٍر �إىل‬ ‫اخلارج عاد فوكـرن‪� ،‬إىل �أك�سفورد‪ ،‬بن�صيحة من �أندر�سن‪ ،‬ليبد�أ عقد ًا الفت ًا من‬ ‫الكتابة‪ .‬وكانت روايته «�سارتوري�س» ‪ Sartoris‬عام (‪� )1928‬أول اكت�شاف‬ ‫كبري ملقاطعة يوكناباتوفا التي ّ‬ ‫ظل يطوّ رها ق�ص�صي ًا يف الأربعة والع�شرين‬ ‫عام ًا الالحقة‪.‬‬ ‫م ّثلت رواية فوكرن التالية «ال�صخب والعنف» �أو «الهرج واملرج» ‪The‬‬ ‫‪ Sound and the Fury‬عام (‪ )1929‬تقدّم ًا مذه ًال يف كتابته‪ ،‬من حيث‬ ‫مت ّكنه من مادته‪ ،‬وقدرته على ا ّتباع جمموعة غنية من الأ�ساليب‪ ،‬والتوا�صل‬ ‫مع التقانات والأفكار احلداثية التي �شاعت �آنئذ يف الأدب والفن‪ ،‬ومنذ ذلك‬ ‫احلني‪ ،‬راح يج ّرب الأ�شكال اجلديدة يف كتابة ال�سرد‪ .‬ففي روايته «بينما‬ ‫�أرقد يف ح�ضرة املوت»‪ As I Lay Dying‬عام (‪ )1930‬ي�ستعر�ض‬ ‫فوكرن �إمكاناته الكتابية يف ميدان تيار الوعي‪� .‬أما يف «�أب�شالوم �أب�شالوم!»‬ ‫‪ !Absalom¨ Absalom‬عام (‪ )1936‬فنجد التعقيد الفخم‪ .‬ومن‬ ‫رواياته الأخرى ك ٌّل من «املالذ»‪ Sanctuary‬عام (‪ )1931‬و«نور يف �آب»‬ ‫‪ Light in August‬عام (‪ )1932‬و«اهبط يا مو�سى» ‪Go Down‬‬ ‫‪ Moses‬عام (‪ ،)1942‬و«حكاية» ‪ A Fable‬عام (‪ )1945‬وهي �أطول‬ ‫رواياته‪ ،‬ف� ً‬ ‫«الدب» ‪The‬‬ ‫ضال عن عدد كبري من الق�ص�ص الق�صرية‪� ،‬أهمّها ّ‬ ‫‪ Bear‬و«وردة لإميلي» ‪.A Rose for Emily‬‬ ‫ت�شتمل �أعمال فوكرن على دراما نف�سية وعمق انفعايل‪ ،‬وجتمع بني التجريب‬ ‫التقني والت�شخي�ص البارع واللون املحلي البارز‪ ،‬وهو ما يبدو جل ّي ًا يف‬ ‫ثالثيته ال�ضخمة امل�ؤلفة من «القرية» ‪ The Hamlet‬عام (‪،)1940‬‬ ‫و«البلدة» ‪ The Town‬عام (‪ )1957‬و«البيت»‪The Mansion‬‬ ‫عام (‪ )1959‬التي حتكي ق�صة ت�سلق عائلة �سنوب�س ‪ Snopes‬ال�سلم‬ ‫االجتماعي‪ .‬وقد ا�ستخدم فيها الكاتب كامل خربته وبراعته الو�صفية‬ ‫يف تقدمي �صورة للجنوب الأمريكي ال تخلو من النظرة امل�أ�ساوية �إىل‬ ‫الأ�شياء‪� ،‬إال �أنها يف الوقت ذاته حافلة بالدفء وروح النكتة التي تتمتع بها‬ ‫احلكاية ال�شعبية اجلنوبية‪� ،‬إ�ضافة �إىل ا�ستخدامه اللغة العامية املحلية يف‬ ‫ال�سرد مما ي�ش َّكل عبئ ًا على القارئ �إال �أنه ي�ضفي الواقعية على الأحداث‪.‬‬ ‫كذلك كان فوكرن ليربالي ًا يف تطرقه ملو�ضوع العالقة بني الأعراق بالرغم من‬ ‫مت�سكه بالتقاليد والقيم اجلنوبية‪ ،‬التي كانت ت�صل يف الكثري من الأحيان‬ ‫درجة التزمت‪.‬‬ ‫ميكن النظر �إىل م�ؤلفات فوكـرن‪ ،‬على تنوع �أ�ساليبها‪ ،‬على �أنها وحـدة ع�ضوية‬ ‫متكاملة؛ فروايته املم�سرحـة «ترتيلة من �أجل راهبة» ‪Requiem for‬‬ ‫‪ a Nun‬عام (‪ )1951‬ما هي �إال تتمة لروايته «املالذ»‪ ،‬وما م�ؤلفه الأخري‬ ‫«الل�صو�ص» ‪� The Reivers‬إ َّال خامتة هادئة و�سعيدة لإبداع كاتب �أمريكي‬ ‫�سار على خطى جوي�س ووولف وبرو�ست‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫وليم فوكنر‪ :‬القلب اإلنساني‬ ‫وفيق يو�سف‬ ‫كانت بداية الأدب االمريكي متوا�ضعة‬ ‫قبل بداية القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ولكنه راح‬ ‫ي�شق طريقه بثبات واطراد على امتداد‬ ‫الزمن‪ .‬ومع بداية القرن الع�شرين بد�أ الأدب‬ ‫االمريكي يحتل مكانة رفيعة بني الآداب‬ ‫العاملية‪ ،‬وذلك على يد كوكبة المعة من‬ ‫االدباء الكبار‪ ،‬ومنهم الروائي ال�شهري «وليم‬ ‫فوكرن» الذي �أ�سهم ا�سهام ًا بارز ًا يف تطور‬ ‫الرواية الأمريكية‪ ،‬و�أ�س�س لتيار جديد يف‬ ‫الرواية العاملية‪.‬‬ ‫ولد فوكرن عام ‪ 1897‬يف «نيو البايل»‬ ‫ـ امل�سي�سيبي‪ ،‬احدى مقاطعات اجلنوب‬ ‫االمريكي‪ .‬وكانت عائلته فقرية للغاية مما‬ ‫�أدى بالطفل اىل الت�شرد والتنقل طوي ًال‬ ‫وعدم االنتظام يف الدرا�سة والعمل يف مهن‬ ‫�شاقة عدة‪ .‬ويف تلك املرحلة بد�أ الفتى يكرث‬ ‫من املطالعة‪.‬‬ ‫وكان جد فوكرن �أ�س�س م�صرف ًا متوا�ضع ًا‪،‬‬ ‫فجاء بحفيده ليعمل عنده‪ .‬وهناك تعرف‬ ‫احلفيد على حمام �شاب يدعى «فيليب‬ ‫�ستون» متابع للحركة االدبية يف امريكا‬ ‫ومطلع على التيارات املتفاعلة فيها‪.‬‬ ‫وراح فوكرن يرافق املحامي حل�ضور‬ ‫املناق�شات االدبية واالطالع على نتائج‬ ‫االدباء الالمعني �آنذاك يف ف�ضاء الثقافة‬ ‫االمريكية ك�شروود اندر�سون و�إزارا باوند‪.‬‬ ‫وا�ستمرت تلك املرحلة من املعاناة والت�شرد‬ ‫والفقر واكت�شاف احلياة وقراءة الأدب‬ ‫والتنقل بني املهن املختلفة حتى و�صل‬ ‫فوكرن اىل ع�شرينيات حياته‪.‬‬ ‫من املفارقات يف حياة الروائي ال�شهري وليم‬ ‫فوكرن انه بد�أ حياته االدبية والفنية بنظم‬ ‫ال�شعر والر�سم بالزيت‪ ،‬ففي عام ‪1924‬‬ ‫�أ�صدر ديوانه الأول «الظبي املرمري»‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 1925‬بد�أ بكتابة روايته الأوىل‬ ‫«رواتب اجلنود» وتتحدث عن طيار جريح‬ ‫يعود من احلرب العاملية بجراح بالغة اىل‬ ‫دياره يف جورجيا‪.‬‬ ‫ويف عام ‪� 1927‬أ�صدر روايته الثانية‬ ‫«البعو�ض»‪ .‬وتدور �أحداثها حول الفنانني‬ ‫وع�شاق الفن يف «نيو �أورليانز» خالل‬ ‫الع�شرينيات‪ ،‬وبرزت يف الرواية تلك امليزة‬ ‫املهمة التي �ستميز �أدب فوكرن على امتداد‬ ‫حياته‪ ،‬ونعني اخليال اجلامح‪� ،‬إذ كان‬ ‫اخليال هو ال�سمة التي �ضمنت لفوكرن مكانة‬ ‫وطيدة بني الروائيني الكبار يف ع�صره‪.‬‬ ‫ويف احلقيقة مل يكن خيال فوكرن وليد‬ ‫جتاربه الالحقة يف احلياة بقدر ما كان �صفة‬ ‫وراثية �أو �سليقة فيه منذ نعومة �أظفاره‪.‬‬ ‫ففي طفولته كان ي�ستمع حلكايات الزنوج‪،‬‬ ‫وثمة خادمة كانت تعمل لدى عائلته‪،‬‬ ‫اتخمت ذاكرته بحكاياتها حول �أيام الرق‬ ‫ومعاناة الزنوج من عبوديتهم‪ ،‬وخا�صة يف‬ ‫اجلنوب حيث يعي�ش فوكرن‪ .‬وقد ظهرت‬ ‫تلك احلكايات فيما بعد يف ق�ص�ص الكاتب‬ ‫ورواياته‪ ،‬ولذلك اعترب النقاد ان خيال‬ ‫فوكرن الوا�سع والنفاذ‪ ،‬خيال واقعي ان‬ ‫�صح التعبري‪ ،‬لأنه يعتمد على وقائع التاريخ‬ ‫واحلياة �أ�سا�سا‪.‬‬ ‫لقد وجد فوكرن اخري ًا مو�ضوعه االدبي‬ ‫الكبري الذي �سيعاجله يف �سل�سلة من‬

‫الروايات‪ :‬انه م�أ�ساة اجلنوب االمريكي‬ ‫وانهيار القيم الأخالقية واالن�سانية فيه‬ ‫حتت وط�أة غزو ال�شمال االمريكي‪.‬‬ ‫واختار فوكرن لرواياته الالحقة مكان ًا ثابت ًا‬ ‫جتري فيه االحداث‪ ،‬و�سماه «يوكنا باتوفيا»‬ ‫وقد وجد النقاد يف هذا املوقع اجلغرايف‬ ‫رمز ًا للمنطقة التي ولد فيها فوكرن يف‬ ‫اجلنوب‪ ،‬حيث جعل لهذه املنطقة مركز ًا‬ ‫هي بلدة جفر�سون التي ترمز اىل مدينته‬ ‫اال�صلية‪ ،‬وبد�أ يكتب روايات تكمل بع�ضها‬ ‫بع�ض ًا وت�صوّ ر احلياة يف تلك املنطقة وتلم‬ ‫مبجتمعها‪.‬‬ ‫ومن نتائج تلك املرحلة الفريدة يف حياة‬ ‫الكاتب‪� ،‬أن �صدرت له خم�س روايات‬ ‫اعتربت الأهم والأبرز يف حياته‪ ،‬وهي على‬ ‫التوايل «�سارتوري�س ـ ‪« ،»1929‬ال�صخب‬ ‫والعنف ـ ‪« ،»1929‬بينما �أرقد حمت�ضرة ـ‬ ‫‪« ،»1930‬حمراب ـ ‪ »1931‬و«نور يف �آب ـ‬ ‫‪.»1932‬‬ ‫ومن تلك املرحلة اخلالقة يف حياة الكاتب‬ ‫ت�ستحق رواية «ال�صخب والعنف» وقفة‬ ‫خا�صة ب�سبب ال�شهرة الهائلة التي عادت بها‬ ‫اليه من جهة‪ ،‬وب�سبب �أهميتها الفائقة يف‬ ‫م�سار الرواية احلديثة من جهة ثانية‪� .‬إذ‬ ‫اعتربت واحدة من �أهم الروايات ال�صادرة‬ ‫يف القرن الع�شرين‪ ،‬وفيها و�صل فوكرن‬ ‫يف ت�صويره مل�أ�ساة اجلنوب االمريكي اىل‬ ‫ذروة عالية‪.‬‬ ‫تروي «ال�صخب والعنف» م�أ�ساة عائلة‬ ‫«كومب�سون» من �أربع وجهات نظر خمتلفة‬ ‫متثلها �شخ�صيات «بنجي ـ االبله» و«كوننت»‬ ‫�شقيقه الذي يقتل نف�سه يف هارفارد‪،‬‬ ‫و«جا�سن» ال�شرير املتعط�ش جلمع املال‬ ‫ب�أية و�سيلة و«ديل�سي» اخلادم الأ�سود الذي‬ ‫يحافظ على العائلة‪ .‬كل �شخ�صية من هذه‬ ‫ال�شخ�صيات الأربع ترى الواقع بطريقتها‬ ‫اخلا�صة‪ .‬وكل �شخ�صية تعي�ش واقعها‬ ‫اخلا�ص ب�شكل منف�صل متام ًا عن الآخرين‪.‬‬ ‫و�إذا كان الأخ الأكرب «جا�سن» ميثل «الأنا»‬ ‫يف ذروة جتليها الفظ (ففيه الغطر�سة‬ ‫النامية عن حقد‪ ،‬وهو الرجل املتكالب على‬ ‫النجاح املادي مهما تطلب ذلك من خ�سة‪،‬‬ ‫وهو ميثل كل قوى الت�صدع النا�شئة عن‬ ‫دمار الأ�سرة العريقة)‪ ،‬ف�إن الأخ الثاين‬ ‫«كوننت» ميثل «الأنا الأعلى» الذي يحاول‬ ‫انقاذ الأ�سرة واحلفاظ على مكانتها‪ ،‬وحني‬ ‫يهديه �أبوه �ساعته اخلا�صة‪ ،‬والتي ورثها‬ ‫بدوره عن �أبيه ومتثل رمز ًا للعائلة‪ ،‬يقول‬ ‫له‪« :‬كوننت‪ ،‬اين اعطيك �ضريح الآمال‬ ‫والرغبات كلها‪� ،‬إنني �أعطيك اياها ال لكي‬ ‫تذكر الزمن‪ ،‬بل لكي تن�ساه بني �آونة‬ ‫و�أخرى‪ ،‬فال تنفق كل مالك من نف�س حماو ًال‬ ‫�أن تقهر الزمن‪ ،‬النه ما من معركة ربحها‬ ‫�أحد‪ .‬قال �أبي‪ ،‬ال بل ما من معركة حارب فيها‬ ‫�أحد‪ ،‬فامليدان ال يك�شف للمرء عن حماقته‬ ‫وي�أ�سه‪ ،‬وما الن�صر �إال وهم من �أوهام‬ ‫الفال�سفة واملجانني‪.‬‬ ‫كان فوكرن كاتبا �أخالقي ًا ملتزم ًا‪ ،‬وكلمات‬ ‫مثل (ال�شرف واالباء واحلب وال�شجاعة)‬ ‫كثري ًا ما ترتدد يف كتبه‪ ،‬وقد �أحاطت بها‬ ‫قوى عمياء هي قوى الف�ساد واجلرمية‬ ‫واملادية واجل�شع واخل�سة‪ ،‬لقد كان فوكرن‬ ‫يرى يف م�أ�ساة اجلنوب االمريكي م�صغر ًا‬ ‫ملا حل بالعامل من فو�ضى اخالقية وانحالل‬

‫اجتماعي‪ .‬ويرى يف ذلك م�أ�ساة كونية‪.‬‬ ‫لقد �أراد ان يجابه م�شكلة ال�شر ويتفح�صها‬ ‫من كل جانب‪ ،‬لكي يرى فعلها يف حياة‬ ‫الب�شر‪ ،‬وهو لذلك مل يرتك رذيلة �أو جرمية‬ ‫مل يجد لها مكان ًا يف كتبه‪ :‬ك�صور االغت�صاب‬ ‫والزنا وال�سلب والقتل واالنتحار‪ ،‬وقتل‬ ‫االخوة وادمان املخدرات وامل�سكرات‪،‬‬ ‫و�سلب القبور واخليانة والأنانية ونكران‬ ‫اجلميل‪ ..‬فهي كلها ت�صور م�أ�ساة اجلنوب‬ ‫االمريكي‪ ،‬وتنطلق كلها من قلم امل�ؤلف‬

‫عاتية‪ ،‬تعرب عن غ�ضبه وا�شمئزازه‪ ،‬ولكنه‬ ‫ي�ضع ازاءها الف�ضائل التي يراها �آخذة‬ ‫بالزوال‪ :‬ال�شهامة‪ ،‬ال�شجاعة‪ ،‬احلب‪،‬‬ ‫ال�شرف‪ ،‬االباء وال�شفقة‪ .‬ويف �أغلب روايات‬ ‫فوكرن �سنالحظ ان النا�س الطيبني عنده هم‬ ‫ال�سود الذين يظهرون طيبتهم يف عالقتهم‬ ‫مع الطبيعة ويف قدرتهم على احلب‪.‬‬ ‫وذلك ما �سيكون مو�ضوع روايته اجلديدة‬ ‫«نور يف �آب» ال�صادرة عام ‪ ،1932‬وفيها‬ ‫ي�صور كيف جعلت العن�صرية جمتمع‬

‫البي�ض جمنون ًا متام ًا يف اجلنوب‬ ‫االمريكي‪ .‬ويعلن ال�سقوط الأخالقي للرجل‬ ‫االبي�ض ب�سبب عجزه عن معاملة الزنوج‬ ‫معاملة ان�سانية! ويعرب فوكرن عن قناعته‬ ‫ب�أن املا�ضي هو الذي يتحكم يف الأقدار‬ ‫احلا�ضرة‪.‬‬ ‫على �أية حال فقد �أثمرت عبقرية فوكرن‬ ‫اخلالقة يف تلك املرحلة خم�س روايات فائقة‬ ‫القيمة‪ .‬حتى ان الناقد الأمريكي «ريت�شارد‬ ‫بوفري» اعترب تلك ال�سنوات اخلم�س‬ ‫من حياة فوكرن «مرحلة ال مثيل لها يف‬ ‫اخل�صوبة»‪.‬‬ ‫وعرب عن قناعته ب�أن �أي كاتب �آخر مل مير‬ ‫بتلك اخل�صوبة اخلالقة ذاتها خالل فرتة‬ ‫زمنية كهذه‪.‬‬ ‫مل يتوقف فوكرن عن الكتابة بعد �أعماله‬ ‫الكربى �سابقة الذكر‪ ،‬بل ظل يكتب الرواية‬ ‫والق�صة وال�شعر‪� ،‬إذ كتب اثنتي ع�شرة‬ ‫رواية اخرى ظهرت بني عامي ‪1935‬‬ ‫و‪ 1962‬مع خم�س جمموعات من الق�ص�ص‬ ‫الق�صرية‪ ،‬كما ن�شر ديوانه «غ�صن �أخ�ضر»‬ ‫عام ‪.1933‬‬ ‫وراحت �شهرة فوكرن متتد وتت�سع حتى‬ ‫اعتربه الناقد مارتن �سيمور �سميث «�أعظم‬ ‫الروائيني الأمريكيني على االطالق»‪ ،‬وهو‬ ‫بر�أي الآخرين من �أعظمهم على �أية حال‪.‬‬ ‫فقال الناقد مالكومل كاويل عن روايات‬ ‫فوكرن‪ :‬الرواية لدى فوكرن هي كالعمل‬ ‫النحتي‪ ،‬فبو�سع املرء ان يدور حولها كما‬ ‫يدور حول متثال لكن يف كل مرة على م�شهد‬ ‫خمتلف من الكتلة ال�صلدة ذاتها‪ ،‬و�أكرث من‬ ‫هذا فالرواية عنده لي�ست حم�ض متثال بل‬ ‫هي �صرح كامل‪.‬‬ ‫وبات وليم فوكرن كاتب ًا عاملي ًا من الطراز‬ ‫الأول‪ ،‬ومت تتويج االعرتاف به عام ‪1950‬‬ ‫مبنحه جائزة نوبل للآداب‪ ،‬وخالل حفل‬ ‫ت�سلمه اجلائزة �أدىل فوكرن بحديث ق�صري‬ ‫و�صف فيه االن�سان ب�أنه كائن روحي‪ ،‬وب�أن‬ ‫عامل هذا الكائن الروحي يرتكز على حقائق‬ ‫�أخالقية ومعنوية ثابتة ال تتغري �أبد ًا‪.‬‬ ‫لقد ح�شد الكاتب يف كلمته تلك‪� ،‬أهم �أفكاره‬ ‫التي نا�ضل من �أجلها طوال حياته وا�شتهر‬ ‫خطابه كن�ص �أدبي ثمني �آخر‪ ،‬جاء فيه‪:‬‬ ‫ان م�أ�ساتنا اليوم تتجلى بخوف مادي يعم‬ ‫الكون‪ ،‬وقد طال �أمده حتى �ألفناه ف�أم�سينا‬ ‫قادرين على حتمله‪ ،‬مل تعد هناك م�شاكل‬ ‫تتعلق بالروح‪ ،‬ولي�س لدى الفرد منا �سوى‬ ‫�س�ؤال واحد‪ :‬متى �أتدمر؟ لهذا ن�سي �شباب‬ ‫اليوم من الك ّتاب م�شاكل القلب االن�ساين يف‬ ‫نزاعه مع نف�سه‪ ،‬وهو ال�شيء الوحيد الذي‬ ‫يخلق كتابة جيدة لأنه هو وحده اجلدير‬ ‫بالكتابة عنه واجلدير بالعذاب وال�ضنى‪.‬‬ ‫يف الواقع ان خطاب فوكرن �أمام جلنة نوبل‬ ‫اليزال حي ًا وناب�ض ًا باحلياة حتى يومنا‬ ‫هذا‪� ،‬أي بعد ن�صف قرن تقريب ًا على زمنه‬ ‫الأ�صلي‪ .‬وهو ي�شبه و�صية �أدبية من كاتب‬ ‫مرموق اىل ك ّتاب العامل �أجمع وبخا�صة‬ ‫الأجيال اجلديدة منهم‪.‬‬ ‫لقد ا�ستمر فوكرن مبدع ًا حار ًا و�أمين ًا لقيمه‬ ‫الأخالقية التي دافع عنها طوال حياته‪،‬‬ ‫وحتى وفاته عام ‪ ،1962‬وبوفاته انتهى‬ ‫جيل كامل من الك ّتاب العظماء الذين قدموا‬ ‫للأدب الأمريكي والعاملي كنوز ًا التزال‬ ‫حتافظ على �أهميتها حتى اليوم‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫وليم فوكنر ونقل الواقع بحساسية‬ ‫ملي�س علي‬ ‫«عبارة عن ثوب كبري‪ ..‬مكوّ ن من رقاع عدة‬ ‫ال نهائية»‪..‬‬ ‫على هذا النحو و�صف �أحد �أدباء �أمريكا حال‬ ‫بالده‪ ،‬معرتف ًا �أنها �أمة غري متما�سكة وغري‬ ‫متجان�سة التكاوين‪.‬‏‬ ‫كان من الطبيعي �إذ ًا �أن ي�أتي الأدب الأمريكي‬ ‫معرب ًا حقيقي ًا عن حال هذا املجتمع املت�صدع‬ ‫واملفكك عرقي ًا‪.‬‏‬ ‫عن قرب عاين وليم فوكرن �أدق تفا�صيل‬ ‫احلياة الأمريكية التي مل تتبلور فيها مالمح‬ ‫الأمة �إىل ثالثينيات القرن املا�ضي‪.‬‏‬ ‫بالتدقيق واملالحظة �أدرك �أن ال�شخ�صية‬ ‫الأمريكية هي �شخ�صية متيل وتنجرف وراء‬ ‫مظاهر العنف وال�ضجة و�صخب الكره‪.‬‏‬ ‫فوكرن ابن اجلنوب عاي�ش واقع بيئة‬

‫اجلنوب‪ ،‬مربز ًا يف �أعماله نقاط ال�شر يف‬ ‫الإن�سان م�صور ًا �صراع اخلري وال�شر‪.‬‏‬ ‫ولد وليم كتبريت فوكرن يف اخلام�س‬ ‫والع�شرين من �أيلول عام ‪ 1897‬يف والية‬ ‫املي�سي�سبي‪ ،‬وقلما غادر اجلنوب‪.‬‏‬ ‫ال�سبب الأهم الذي �ساعده يف معاينة بيئة‬ ‫اجلنوب �أن تاريخ عائلته كان جزء ًا مهم ًا من‬ ‫تاريخ املكان‪� -‬إقليم يوكنا تاوما وعا�صمته‬ ‫جيفو�سون‪ -‬اقرتب �أكرث من ذلك الواقع من‬ ‫خالل جده الأكرب الذي كان رئي�س ًا لإحدى‬ ‫جمموعات احلرب الأهلية‪� ،‬أوالد هذا اجلد‬ ‫�شغلوا منا�صب مرموقة‪.‬‏‬ ‫جد فوكرن كان مدير بنك‪ ،‬ا�ستق�صى وليم‬ ‫تاريخ العائلة ووثائقها‪..‬‏ رف�ض هذا التاريخ‬ ‫ومترد عليه‪ ..‬فكان النقب والناقد لهذه البيئة‬ ‫على الدوام‪.‬‏‬ ‫من مظاهر العنف التي �صورها يف �أعماله‬ ‫املظاهر الأيروتبكية متتلئ رواياته مبا يعرب‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫عن هذا العنف كواقع الم�سه‪ ،‬جمتمع ميور‬ ‫بالفو�ضى الال �أخالقية‪ ،‬التي ت�صف حال عدم‬ ‫الن�ضج الأيروتيكي‪.‬‏‬ ‫اهتمامه بهذا املحور �شكل ثيمة �أ�سا�سية‬ ‫يف ن�صو�صه‪ ،‬وروايته ال�شهرية (ال�صخب‬ ‫والعنف) تكاد تلخ�ص جممل ر�سالته الفكرية‪،‬‬ ‫تدور حول �أ�سرة كومب�سون‪ ،‬يرى بع�ض‬ ‫النقاد �أنها لي�ست �سوى �أ�سرة الروائي‪� ،‬أحد‬ ‫�أبطالها ي�سعى ل�سرقة نقود �أخته‪ ،‬وبدورها‬ ‫ت�أتي �صديقته لت�سرق املال منه كلما تخفق‬ ‫العائلة تزداد مت�سك ًا باملا�ضي‪.‬‏‬ ‫الرواية تدور حول فكرة �أن الإن�سان الذي‬ ‫ميار�س �سلوك ًا غري قومي مع غريه ف�إنه البد‬ ‫ان ينعك�س ب�شكل ماعليه‪.‬‏‬ ‫مل يتبو�أ فوكرن مكانته الأدبية كونه روائي ًا‬ ‫عبرّ عن واقع اجلنوب الأمريكي بكل تطرفه‬ ‫و�شذوذه‪� ،‬آماله و�أوجاعه فح�سب‪� ،‬إمنا‬ ‫ب�سبب تقنيات ال�سرد الروائي البكر التي‬

‫خا�ض فيها‪ ،‬م�ستخدم ًا الزمن ك�أداة �سردية‬ ‫تعرب عن الفو�ضى وال�ضجة‪ ،‬كما يف الرواية‬ ‫ال�سابقة‪.‬‏‬ ‫فيها اليطمئن �إىل ت�سل�سل منطقي للأحداث‪،‬‬ ‫بل يلج�أ �إىل تقنية (الولوج �إىل احلدث)‪،‬‬ ‫ثم يعود �إىل حتليل هذه الأحداث من خالل‬ ‫املونولوج الداخلي للأبطال‪ ،‬رمبا ي�شتمل‬ ‫ذلك على نوع من التداعي‪.‬‏‬ ‫توظيفه الزمن بطريقة ال تقليدية جعل من‬ ‫الروائي والفيل�سوف الفرن�سي جان بول‬ ‫�سارتر يكتب درا�سة عن خا�صية الزمن عنده‬ ‫بعنوان (مفهوم الزمن عند فوكرن)‪.‬‏‬ ‫ترجمت م�ؤخر ًا للروائي رواية (وردة‬ ‫�إمييلي) عن م�شروع كلمة للرتجمة‪ ،‬وكان‬ ‫قد كتب �أوىل رواياته (�أجور اجلند) عام‬ ‫‪ ،1926‬والرواية الأ�شهر (ال�صخب والعنف)‬ ‫عام ‪1929‬م ومل يعرتف به عاملي ًا �إال حني نال‬ ‫جائزة نوبل عام ‪1949‬م‪.‬‏‬

‫قوة �أفكاره وجر�أته يف طرحها‪ ،‬كما نقا�شه‬ ‫امل�ستمر للعالقات ما بني بي�ض و�سود‪،‬‬ ‫وتركيزه على مظاهر ال�شذوذ والعنف‪ ،‬كانت‬ ‫موطن �إعجاب لدى البع�ض‪ ،‬وانتقاد لدى‬ ‫البع�ض الآخر‪ ،‬بذات الوقت مل يقلل ذلك من‬ ‫قيمة ابتكاراته ال�سردية‪ ،‬وخو�ضه يف جمال‬ ‫اجلديد تقني ًا‪..‬‏‬ ‫ومل ينكر �أهم �أدباء العامل ت�أثرهم ب�أدبه منهم‬ ‫الكولومبي غابرييل غار�سيا ماركيز الذي قال‬ ‫(�إذا كانت رواياتي جيدة فذلك ل�سبب واحد‬ ‫هو �أنني حاولت �أن �أجتاوز فوكرن يف كتابة‬ ‫ما هو م�ستحيل)‪.‬‏‬ ‫واعرتف كذلك البريويف يو�سا بت�أثري فوكرن‬ ‫(اليوجد كاتب من �أمريكا الالتينية من جيلي‬ ‫مل يت�أثر ب�شكل مبا�شر بفوكرن)‪.‬‏‬ ‫تويف وليم فوكرن يف ال�ساد�س من متوز عام‬ ‫‪ 1962‬تارك ًا �إرث ًا �أدبي ًا و�صل �إىل ‪ 19‬كتاب ًا ما‬ ‫بني رواية وق�صة ق�صرية‪.‬‏‬

‫و�صفت رواية "ال�صخب والعنف"‬ ‫للروائي الأمريكي املعروف وليم‬ ‫فوكرن (‪ 1897‬ـ ‪ )1962‬ب�أنها "رواية‬ ‫الروائيني"‪ ،‬وتكاد هذه ال�صفة تختزل‬ ‫�أ�سلوب وعوامل ومناخات هذه الرواية؛‬ ‫الباهظة ال�صعوبة‪ ،‬فقد اكت�سبت‬ ‫الرواية هذه ال�صفة نظرا لأ�سلوبها‬ ‫املعقد واجلذاب يف �آن‪ ،‬وطريقة �سردها‬ ‫املت�شابك‪ ،‬وبنائها الروائي املحكم ما‬ ‫جعلها �إحدى �أهم الكال�سيكيات الروائية‬ ‫لي�س يف الواليات املتحدة فح�سب حيث‬ ‫�صدرت الرواية للمرة الأوىل يف عام‬ ‫‪1929‬م‪ ،‬بل يف العامل ب�أ�سره‪� ،‬إذ �صدرت‬ ‫لها طبعات ال حت�صى‪ ،‬وترجمت الرواية‬ ‫�إىل خمتلف اللغات احلية يف العامل‪،‬‬ ‫بينها الرتجمة العربية التي �أجنزها‬ ‫جربا �إبراهيم جربا‪.‬‬ ‫كان فوكرن يف مطلع الثالثينيات من‬ ‫عمره حني �أ�صدر "ال�صخب والعنف"‬ ‫التي حتتل الرتتيب اخلام�س بني كتبه‬ ‫التي بلغ جمموعها نحو خم�سني كتابا‪،‬‬ ‫ومع ذلك ُعدّت �أف�ضل ما كتب فوكرن‪،‬‬ ‫فقد �شغلت اهتمام النقاد والدار�سني‪،‬‬ ‫واعترب تركيبها الفني �إجنازا �أدبيا‬ ‫فريدا‪ .‬ويبني جربا �إبراهيم جربا يف‬ ‫مقدمته الالفتة للطبعة العربية الظروف‬ ‫التي مهدت لظهور مثل هذا العمل الأدبي‬ ‫املتميز‪� ،‬إذ يقول بان "العقود الأوىل‬ ‫للقرن الع�شرين (وهي الفرتة التي‬ ‫�شب فيها فوكرن)‪� ،‬شكّلت فرتة من �أهم‬ ‫فرتات التجريب و�أخ�صبها يف تاريخ‬ ‫الرواية الغربية‪ ،‬فهي الفرتة التي ملع‬ ‫فيها �شعراء مثل ت‪�.‬س‪� .‬إليوت‪ ،‬وعزرا‬ ‫باوند وكالهما �أ ّثر يف تغيري �أ�شكال‬ ‫الأدب ال يف ال�شعر بل يف النرث �أي�ضا‪،‬‬ ‫وهي الفرتة التي تر�سخت فيها نظريات‬ ‫فرويد ويونغ يف الالوعي‪ ،‬ف�صار امل�ؤلف‬ ‫يتغلغل يف خفايا ال�شخ�صية ويكت�شف‬ ‫طبقات الوعي ال�سفلي‪�" ،‬إىل �أن يبلغ‬ ‫تر�سبت فيها جتارب احلياة‬ ‫القرارة التي ّ‬ ‫وذكرياتها و�أحالمها"‪ ،‬وهي الفرتة التي‬ ‫ظهرت فيها ال�سوريالية م�ستمدة قوتها‬ ‫من نظريات الالوعي‪ ،‬وظهرت يف هذه‬ ‫الفرتة روايتان مهمتان �أثرتا يف معظم‬ ‫ما كتب فيما بعدهما‪" :‬البحث عن الزمن‬ ‫ال�ضائع" ملار�سيل برو�ست‪ ،‬و"يولي�سيز"‬ ‫جليم�س جوي�س‪.‬‬ ‫ويرى جربا �أن فوكرن كان يت�ش ّرب هذه‬ ‫الت�أثريات وغريها على مهل‪ ،‬وعندما‬

‫‪5‬‬

‫"الصخب والعنف"‪ ..‬تقنية سردية تروي‬ ‫أسطورة الجنوب األمريكي‬ ‫ابراهيم حاج عبدي‬ ‫�شرع يف كتابة "ال�صخب والعنف"‪ ،‬التي‬ ‫ا�ستغرقت نحو ثالث �سنوات‪ ،‬كان قد‬ ‫ه�ضم ت�أثريات فرتته بحيث ا�ستطاع �أن‬ ‫يجعل منها عدة لرواياته‪ ،‬التي تعتمد‬ ‫املونولوج الداخلي‪ ،‬وتقنية الفال�ش باك‬ ‫(العودة �إىل املا�ضي القريب والبعيد)‪،‬‬ ‫ووظف‪ ،‬كذلك‪ ،‬التحليل النف�سي‬ ‫الفرويدي حول الـ (هو) والـ (�أنا)‪ ،‬والـ‬ ‫(الأنا الأعلى) و(الليبيدو)‪� ،‬أي الطاقة‬ ‫اجلن�سية‪.‬‬ ‫ال�صراع يف رواية فوكرن هذه‪ ،‬كما يف‬ ‫معظم رواياته‪ ،‬يتجلى يف ال�صراع بني‬ ‫خا�صة‬ ‫ال�شمال الأمريكي وبني جنوبه‪ّ ،‬‬ ‫بعد �أن خ�سر اجلنوب احلرب الأهلية‬ ‫وغزاه ال�شمال بو�سائل �شتى غريت‬ ‫معامل احلياة فيه‪" ،‬وهذا التغري مبا‬ ‫�سمو‪ ،‬من �شهامة‬ ‫فيه من انحطاط �أو ّ‬ ‫�أو حقارة‪ ،‬ومبا �سبقه وتاله من جرائم‬

‫و�صراع وهتك عر�ض‪ ،‬هو مو�ضوع‬ ‫فوكرن"‪ .‬ويف مقابل تركيز فوكرن على‬ ‫الظواهر ال�سلبية وانحطاط الأخالق‪،‬‬ ‫ف�إن ال�شرف والإباء كلمتان ترتددان‬ ‫يف �أكرث كتبه‪ ،‬فهو حني يوغل عميقا‬ ‫يف �إبراز ال�شر‪ ،‬وميعن يف احلديث‬ ‫عن اجلرمية واجل�شع والف�ساد‪...‬ف�إمنا‬ ‫يهدف من وراء ذلك �إىل الإعالء من‬ ‫�ش�أن كل ما هو نقي�ض لهذه ال�سلبيات‪،‬‬ ‫وبالتايل فان كتبه التي حتفل بعنا�صر‬ ‫الق�سوة والعنف وال�شر‪ ،‬ت�ضمر‪ ،‬يف الآن‬ ‫ذاته‪ ،‬دعوة خفية �إىل التم�سك بالنقي�ض‬ ‫�أي قيم ال�شجاعة والوفاء والكربياء‬ ‫والإباء واحلب‪ ،...‬ويتخذ فوكرن من‬ ‫اجلنوب م�سرحا يعتربه امنوذجا‬ ‫م�صغرا ملا حل بالعامل من فو�ضى خلق ّية‬ ‫وانحالل اجتماعي‪ ،‬ويرى يف ذلك‬ ‫م�أ�ساة كونية"‪� .‬إنه �صراع بني مادية‬

‫ال�شمال ومثالية اجلنوب‪" ،‬لكن تقاليد‬ ‫اجلنوب العريقة‪ ،‬نف�سها‪ ،‬فيها الكثري‬ ‫من البلى والوهم‪ ،‬وتفوح منها رائحة‬ ‫املوت"‪ ،‬كما يرى �صاحب "نور يف �آب"‪.‬‬ ‫ـ وقائع الرواية‪:‬‬ ‫وفقا لهذا التمهيد‪ ،‬ف�إن رواية "ال�صخب‬ ‫كمب�سن‬ ‫والعنف" تتناول �سرية �آل‬ ‫ُ‬ ‫(املقيمة يف دار كبرية يف مدينة‬ ‫جفر�سون‪ ،‬ويف خدمتها عدد من الزنوج‬ ‫�أهمهم دلزي)‪ .‬حتاول التم�سك بالتقاليد‬ ‫االر�ستقراطية عبث ًا‪ ،‬فالأب وهو بليغ‬ ‫الكالم‪ ،‬يعتكف على مطالعة الكتب‬ ‫الكال�سيكية ومعاقرة اخلمر ين�شد فيهما‬ ‫ن�سيان تيار احلياة اجلديدة‪ ،‬والأم‬ ‫"�سيدة" �شديدة الكربياء والرتفع لكنها‬ ‫دائمة املر�ض تق�ضي �أوقاتها يف الفرا�ش‬ ‫م�صرة على منزلتها االجتماعية‪ ،‬وال‬ ‫تثق �إال بابنها جا�سن‪ ،‬وهو الذي ي�سلب‬

‫مالها من دون وعي منها لأغرا�ضه‬ ‫ال�شخ�صية‪ .‬تبيع الأ�سرة قطعة ثمينة‬ ‫من �أرا�ضيها لإر�سال كونتنِ �إىل جامعة‬ ‫هارفارد‪ ،‬وهو يحب �أخته كاندي‪ ،‬حب ًا‬ ‫�شديد ًا‪ ،‬ولكنه يت�أمل جد ًا عندما يعلم‬ ‫�أ ّنها ع�شقت رج ًال غريب ًا و�ضاجعته‪ ،‬فال‬ ‫ي�ستطيع �أن يتحمل فكرة فقدانها العفاف‬ ‫ُمب�سن‪،‬‬ ‫وما يف ذلك من و�صم ل�شرف �آل ك ُ‬ ‫فيدعي �أمام �أبيه �أ ّنه هو الذي �ضاجعها!‬ ‫ثم تتزوج �أخته وهو يف هارفارد بعد‬ ‫ذلك مبدة ق�صرية‪ ،‬فينتحر غرق ًا يف نهر‬ ‫ت�شارلز يف كيمربيدج‪� .‬أما �أخته كاند�س‬ ‫�أو كادي‪ ،‬فيكت�شف زوجها �أنها حامل من‬ ‫رجل �آخر‪ ،‬فت�سوء �سمعتها ( وقد �أخذت‬ ‫الأ�سرة ابنتها لرتبيتها) �إىل �أن ن�سمع‬ ‫�أخري ًا �أنها ع�شيقة جلرنال �أملاين يف‬ ‫باري�س‪ ،‬ويف هذه الأثناء كانت كاندي‬ ‫تر�سل �أول كل �شهر مقدارا من النقود‬ ‫كي ي�صرف على ابنتها كوننت (التي‬ ‫�سميت با�سم خالها بعد انتحاره) ولكن‬ ‫جا�سن كان يكرهها وي�شاك�سها‪ ،‬ويكره‬ ‫ُ‬ ‫ابنتها �أي�ضا‪ ،‬يت�سلم املال ويخفيه عن‬ ‫الفتاة التي تكت�شف اخلدعة‪ ،‬وحت�صل‬ ‫على املال امل�سروق وتهرب مع �أحد‬ ‫ممثلي ال�سريك‪ .‬وطوال هذه ال�سنني‬ ‫كان بنجامني �أو بنجي املعتوه؛ يحظى‬ ‫بعناية اخلدم الزنوج مع عطف �شديد‬ ‫من دلزي‪ ،‬ومن �شقيقته كاندي التي‬ ‫�أحبها كثريا‪ ،‬ويهاجم مرة فتاة فيطلب‬ ‫جا�سن �إىل �أبيه �أن يخ�صيه دون جدوى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫�إىل �أن ميوت الأب فيخ�صى بنجي ثم‬ ‫جا�سن �أخاه بنجي‬ ‫متوت الأم‪ ،‬في�ضع ُ‬ ‫يف م�ست�شفى املجانني وي�سرح اخلادمة‬ ‫دلزي و�أوالدها‪ ،‬ويبيع الدار لرجل‬ ‫يحولها �إىل نزل وال يبقى من الأ�سرة‬ ‫�شيء‪� ،‬إذ تتال�شى �أ�سطورتها مع �ضياع‬ ‫قيم اجلنوب ونقائها‪.‬‬ ‫الرواية‪� ،‬إذا‪ ،‬تعالج انهيار عائلة كمب�سن‬ ‫من خالل ا�ستذكار ثالثة �إخوة للما�ضي‪،‬‬ ‫ف�ضال عن الق�سم الأخري الذي يرويه‬ ‫امل�ؤلف‪ ،‬لذلك هي �أ�شبه ب�سيمفونية‬ ‫تتكرر فيها الإ�شارة �إىل احلوادث نف�سها‬ ‫"ك�أن كل حادثة موتيف يف ال�سيمفونية‬ ‫تعزفها كل مرة �آلة خمتلفة"‪ .‬بنجي‬ ‫الذي يروي احلكاية يف ‪ 7‬ني�سان‬ ‫‪ 1928‬معتوه‪ ،‬ي�سمع ولكن ال ينطق وال‬ ‫ي�ستطيع �إال ال�صراخ والعويل وهو حني‬ ‫يروي احلوادث ال ي�ستطيع �أن يرتبها‬ ‫زمني ًا‪ ،‬وما حدث قبل ع�شرين �سنة وما‬ ‫حدث اليوم كالهما مت�ساوي الأهمية يف‬ ‫�سرده‪ ،‬مت�ساوي الو�ضوح بكل ما فيه‬ ‫من جدة وطرافة وبراءة‪� ،‬إنها حكاية‬ ‫يرويها معتوه‪ ،‬وكوننت الذي ي�سرد‬ ‫حكايته يف ‪ 2‬حزيران ‪ 1910‬طالب يف‬ ‫هارفارد مفرط احل�سا�سية؛ �شديد التعلق‬ ‫ب�شرف الأ�سرة‪ ،‬وجا�سن الذي يروي‬ ‫احلكاية بتاريخ ‪ 6‬ني�سان ‪ّ 1928‬‬ ‫فظ‪،‬‬ ‫�سادي‪� ،‬أناين‪ ،‬يبغي من احلياة‬ ‫�شر�س‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النجاح وجتميع الرثوة عن �أي طريق‪.‬‬ ‫ولأنّ الرواية مبنية على تدفق‬ ‫الذكريات‪ ،‬وعلى �سرد احلوادث ذاتها‬ ‫بل�سان �أكرث من �شخ�صية‪ ،‬جند �أن‬ ‫�أحداث الرواية ال تت�صاعد على نحو‬ ‫تقليدي؛ منطقي‪ ،‬بقدر ما تدور على‬ ‫نف�سها �أو تتحرك يف خطوط متوازية‪،‬‬ ‫�إذ تنه�ض الرواية على ثالثة �أ�صوات‬ ‫متباينة‪ ،‬ف�ضال عن �صوت الراوي‬ ‫امل�ؤلف‪ ،‬وهذا يقود القارئ �إىل االنتقال‬ ‫عرب الأزمنة املختلفة‪ ،‬فتختلط عليه‬ ‫الوقائع‪ ،‬وهو ما دفع فوكرن �إىل‬ ‫كتابة ملحق للرواية‪ ،‬بعد �سنوات من‬ ‫�صدورها‪ ،‬كي يقدم للقراء مفاتيح تعينه‬ ‫على اخلو�ض يف جماهلها ومغاليقها‪،‬‬ ‫واتبع كذلك �شكال طباعيا عرب ا�ستخدام‬ ‫احلرف املائل حينا �أو جتاهل الرتقيم‬ ‫�أحيانا وذلك لأجل التمييز بني املا�ضي‬ ‫واحلا�ضر‪ ،‬وبني املونولوج واحلديث‬ ‫الواعي‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫با�سم توفيق‬ ‫(احلياة ق�صة يرويها معتوه مليئة بال�ضجة‬ ‫والغ�ضب وال تعني �شيئا) وليم �شك�سبري‬ ‫من م�سرحية ماكبث الف�صل اخلام�س امل�شهد‬ ‫اخلام�س‪.‬‬ ‫�إذن ماذا ق�صد �شك�سبري بهذه اجلملة القا�سية‬ ‫التي �أوردها على ل�سان ماكبث؟ هل ق�صد‬ ‫بها �أن العنف وال�صخب قانون من قوانني‬ ‫ال�سرد احلياتي املعا�ش �أو حتى ق�صد بها �أن‬ ‫ال�ضجة والأمل هما احد �أبرز خطني رئي�سيني‬ ‫يف احلدث الدرامي رمبا لكنه مل يكن يدرك‬ ‫ان هذه احلكمة ال�صغرية �سوف ت�شكل‬ ‫مدر�سة فكرية كبرية يف �أزهى ع�صور الفكر‬ ‫الروائي الأمريكي ولعل هذا يدفعنا للت�سا�ؤل‬ ‫عن بع�ض ماهيات الفكر الأمريكي من خالل‬ ‫الطرح الأدبي لهذه الأمة التي واحلق يقال‬ ‫مل ت�شكل �أمة فعلية متما�سكة ومتجان�سة‬ ‫لفرتات طالت حتى ثالثينيات القرن املا�ضي‬ ‫حيث كانت كما يقول الكاتب الأمريكي هرني‬ ‫ميلر (عبارة عن ثوب كبري ومرتام مل يكن‬ ‫له ن�سيج ا�سا�سي بل هو مكون من رقاع عدة‬ ‫النهائية وكل رقعة من هذه الرقاع تتكون‬ ‫بدورها من عدد �آخر من الرقاع وهكذا فتبدوا‬ ‫مثل مهرج عمالق لي�س له �أي هوية) ومل‬ ‫يكن ميلر مبالغا حني قال ذلك حيث الزالت‬ ‫الواليات املتحدة تعاين خما�ضا وجوديا مل‬ ‫ي�سفر �إال عن بع�ض ال�شكليات التي قد تعطي‬ ‫لها رهبة بني املجتمع العاملي ك�أمة عمالقة لها‬ ‫مذهب و�شعب موحد‪.‬‬ ‫على اية حال لي�س هذا الت�صدع الأنثولوجي‬ ‫هو ما نن�شد ان نلج ل�صلبه لكن ما نريد ان‬ ‫ن�ستخل�صه هنا ان الأدب الأمريكي اي�ضا‬ ‫كنتاج فكري لهذا الت�صدع الأنثولوجي‬ ‫والتفكك العرقي امل�سترت هذا النتاج ا�صبح‬ ‫طبيعيا ان ي�ضم كل هذه ال�سمات لهذا املجتمع‬ ‫ذي الرقاع الالنهائية على حد تعبري ميلر‬ ‫وتتمحور �سمات هذا الأدب حول عدة ق�ضايا‬ ‫الزالت ت�شكل حمورا رئي�سيا لنقد الأدب‬ ‫الأمريكي ومنها على �سبيل املثال العنف‬ ‫والمعقولية الكره والنفعية كل هذه ال�سمات‬ ‫متثل حماور رئي�سية للأدب الأمريكي ولعلنا‬ ‫قد نقول ب�شيء من القطع ان ت�أخر الأدب‬ ‫الأمريكي لزهاء ثالثة قرون قد كان �إحدى‬ ‫نتائج عدم متازج هذا املجتمع وحيث كان‬ ‫ال�صراع بني ال�شمال واجلنوب �إحدى البذور‬ ‫التي منا عليها الأدب الأمريكي يف بدايته‬ ‫لكن اي�ضا ال�شخ�صية الأمريكية العريقة �إذا‬

‫قبل أن يطويه النسيان‬

‫�صح تعبري (عريقة) �شخ�صية ال متيل اىل‬ ‫الفكر والأدب بل متيل �أكرث �إىل ال�صخب‬ ‫والعنف ومن هنا منت هذه الفكرة يف الأدب‬ ‫الأمريكي ب�شكل مطرد حتى بلغت زروتها‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫عند كتاب بعينهم مثل وليم فوكرن وارن�ست‬ ‫هينمجواي وقد يت�ساءل البع�ض هل هذا‬ ‫التهور كان ا�سا�س الراوية الأمريكية على‬ ‫ا�سا�س انه حتليل لل�شخ�صية الأمريكية يف‬

‫جمملها ؟ بالطبع مل تكن هذه هي ال�شخ�صية‬ ‫الأمريكية التي دخلت الأدب وخا�صة الفن‬ ‫الروائي بل كانت هناك �شخ�صية اخرى‬ ‫ت�شكل ردا فعليا على تهور ال�شخ�صية‬

‫الأمريكية وتخلق نوعا من التنوع والتلون‬ ‫يف تخطيط ال�شخ�صية وهذه ال�شخ�صية‬ ‫الأخرى هي �شخ�صية (املعتوه) �أو على حد‬ ‫التف�سري احلريف (العبيط) وهذه ال�شخ�صية‬ ‫هي البديل الطبيعي ل�شخ�صية الطيب �أو‬ ‫ال�صالح يف الرواية الأوروبية لكن الفرق‬ ‫بني ال�شخ�صيتني ان الطيب يف الرواية‬ ‫الأوروبية مدرك لكل ف�ضائله وفاعال للخري‬ ‫عن ق�صد لكن (العبيط) �أو املعتوه يف‬ ‫الرواية الأمريكية خريا رغم انفه لدرجة انه‬ ‫يف بع�ض الروايات يكون عليه فعل اخلري‬ ‫�أو الرمز اليه دون ان يتبني �أو يدرك ف�ضائله‬ ‫وهذه ال�شخ�صية تفجر بها الأدب الأمريكي‬ ‫يف معظم ع�صوره وحتى الآن حيث‬ ‫ا�ستخدمها همنجواي مرات عدة و�أ�صبحت‬ ‫هي احدى ال�شخ�صيات املحببة والرئي�سة‬ ‫عند فوكرن اي�ضا ونقف هنا عند فوكرن‬ ‫بع�ض ال�شيء باعتباره هو �سيد احلدث الآن‬ ‫يف اكرث من ‪ 6‬واليات امريكية يف اجلنوب‬ ‫حيث قررت بومبي هيد وهي احدى مدن‬ ‫اجلنوب ومالبوري وكان على ر�أ�سهم (نيو‬ ‫البايل) باملي�سي�سبي والتي هي م�سقط ر�أ�س‬ ‫هذا الأديب الالمع قررت كل هذه الواليات‬ ‫بت�أ�سي�س رابطة حتافظ على �أدب وليم فوكرن‬ ‫وجلنة �شعبية لتنظيم احتفال �شعبي بفوكرن‬ ‫كل عام باعتبار ان فوكرن هو الذي عرب عن‬ ‫اجلنوب الأمريكي بكل �أحالمه و�أحزانه‬ ‫بالطبع ا�ستوقفنا هذا احلدث الذي قد يعيد‬ ‫لفوكرن كل ما �سلب منه مع مرور ال�سنوات‬ ‫بالرغم انه ح�صل على جائزة نوبل يف الآداب‬ ‫عام ‪� 1942‬إال �أن يد الن�سيان كادت تلحق به‬ ‫وخ�صو�صا على امل�ستوى ال�شعبي بالرغم من‬ ‫انه الزال من الكتاب الأكرث مبيعا يف �سوق‬ ‫الكتاب العاملي عامة والأمريكي خا�صة ‪.‬‬ ‫قبل �أن نرتك معاتيه فوكرن اىل حياته‬ ‫ال�شخ�صية وفكره يجب ان نعر�ض لهذه‬ ‫ال�شخ�صية عند فوكرن بالطبع قد يكون‬

‫فوكرن قد ا�ستخدمها مثلما ا�ستخدم �شك�سبري‬ ‫�شخ�صية املهرج فوق خ�شبة امل�سرح حيث‬ ‫حملها بع�ض احلكم واملواعظ لكنها �أي�ضا‬ ‫عند فوكرن ت�شارك يف احلدث وت�شارك يف‬ ‫خطايا الآخرين بل وي�ستخدمها ك�أداة يف‬ ‫التيار ال�سردي للروايات الأكرث �ضخامة‬ ‫مثل �شخ�صية (بنجي) يف رائعته (ال�ضجة‬ ‫والغ�ضب) ذلك املعتوه الذي مت اخ�صا�ؤه‬ ‫بعد حماولته اغت�صاب طفلة �صغرية ثم‬ ‫ي�ستخدم �شخ�صية املعتوه الأكرث خطرا‬ ‫الذي يتنب�أ بوقوع الأخطار وهو (داريل) يف‬ ‫روايته امللحمية (بينما ا�ستلقي حمت�ضرا)‬ ‫ثم �شخ�صية املعتوه الذي يقتل ملجرد انه‬ ‫ر�أى جرمية الذنب له فيها (تويل) يف روايته‬ ‫�شبه البولي�سية (احلرم) وتتواىل املعاتيه‬ ‫يف روايات فوكرن ب�شكل قد ن�صفه باملر�ضي‬ ‫يف بع�ض الأحيان وقبل ان نعول على هذه‬ ‫التيمة ب�شكل نقدي لن�سمع ر�أي فوكرن نف�سه‬ ‫يف هذه ال�شخ�صية حيث يقول يف روايته‬ ‫البعو�ض (وبينما كنت انتظرهم جل�ست‬ ‫احدث رجال ق�صريا رجال زجنيا ‪ .....‬ال انه‬ ‫ابي�ض لوحته ال�شم�س ب�صورة هائلة يرتدي‬ ‫ثيابا رثة وال ي�ضع ربطة عنق �أو قبعة‪.‬‬ ‫اخربين �أنه كاذب حمرتف وانه يحيا من‬ ‫هذه املهنة الغريبة ويربح من املال ما يكفي‬ ‫لأن ي�شرتي �سيارة فورد �إذا ا�ستوفى جميع‬ ‫املبالغ التي ي�ستحقها ‪ ..‬اعتقد انه جمنون‬ ‫‪ ...‬انه لي�س خطرا انه جمنون وح�سب)‬ ‫وقد يرى البع�ض هنا انه ي�صف نف�سه كما‬ ‫�أكد البري كامو لكن هذا يعطينا تخيال ملاهية‬ ‫اجلنون عند فوكرن فقد يرى فوكرن انه‬ ‫حمرك لل�شخ�صية لكنه يف معظم الأحيان‬ ‫لي�س خطرا وهذه املداخلة بالفعل هي ما‬ ‫ا�ستخدمه الأدب الأمريكي احلديث فيما بعد‬ ‫حيث جعل من اجلنون �أو العته �سببا لالبداع‬ ‫والتفوق اما بالعبقرية �شبه املر�ضية �أو‬ ‫بالعته الإبداعي مثل �شخ�صية فور�ست جامب‬ ‫والتي قدمتها لنا ال�سينما الأمريكية يف �إطار‬ ‫�أ�شد ما يكون من اجلاذبية وحملتها عمقا‬ ‫فل�سفيا وفنيا خليقا ب�أن يلخ�ص ال�شخ�صية‬ ‫الأمريكية وهي كما ي�صفها �سيناريو الفيلم‬ ‫(حا�صل على ثماين جوائز او�سكار وقام‬ ‫ببطولته النجم توم هانك�س) �شخ�صية تعاين‬ ‫انخفا�ضا �شبه مر�ضي يف ن�سبة ذكائها لكن‬ ‫فور�ست جامب هذا املعتوه امل�سامل يكون‬ ‫هذا العته بالن�سبة له هو اهم نقاط جناحه‬ ‫وتفوقه فهو على الرغم من انه معتوه �إال انه‬ ‫�شديد االميان بنف�سه وبعطف املحيطني به‬ ‫(قارن ذلك بال�سيا�سة الأمريكية احلالية) كذلك‬

‫يجد فور�ست يف الطاعة و�سماع الأوامر‬ ‫وتنفيذها جناحا كبريا ومن هنا يتفوق‬ ‫فور�ست يف كل ما يفعله حتى يف اجلي�ش‬ ‫يف خ�ضم معارك فيتنام اخلا�سرة يتفوق‬ ‫الطاعته الأوامر من هنا تكون �شخ�صية‬ ‫املعتوه والقا�صر الذكاء تراثا امريكيا تعرب‬ ‫عن التفوق الأمريكي املرتبط بال�سري قدما‬ ‫نحو تنفيذ خطط حمددة من خالل ك�سب‬ ‫عطف الآخرين حتى ولو ق�صرا ‪ .‬ونعود‬ ‫لفوكرن حيث نرى انه اي�ضا ي�ستخدم الزمن‬ ‫يف رواياته كتقنية �سردية خمتلفة متام ًا‬ ‫بحيث يجعل من الزمن �أداة للتعبري‬ ‫عن الفو�ضى وال�صخب كما يف روايته‬ ‫(ال�ضجة والغ�ضب) فهو لي�س ككل‬ ‫الروائيني التقليدين ي�سرد احلدث‬ ‫مبنطقية زمنية مرتبة بل هو ي�ستخدم‬ ‫تقنية اغريقية قدمية ا�ستخدمها‬ ‫اعظم كتاب امللحمة هومريو�س �أي‬ ‫انه ال يبد�أ بالرتتيب الزمني يف �سرد‬ ‫الأحداث بل يبد�أ ب�أن ي�ضعك يف خ�ضم‬ ‫الأحداث اوال وهو ما يعرف بتقنية‬ ‫الولوج اىل احلدث (‪In Medias‬‬ ‫‪ )Res‬كما يقول النقاد الرومان ثم‬ ‫يعود فيحلل هذه الأحداث من خالل‬ ‫املنولوج الداخلي لأبطاله وال يتبع‬ ‫الرتتيب اي�ضا حيث انه ي�ستخدم ما‬ ‫ي�شبه اي�ضا مذهب ال�سببية وتداعي‬ ‫املعاين عند الفيل�سوف (هيوم)‬ ‫حيث يقودنا التداعي يف املنولوج‬ ‫الداخلي عند ابطاله اىل هذه امل�ساحة‬ ‫من الذكريات والتف�سريات التي‬ ‫تك�شف عن غمو�ض احلدث اذن‬ ‫هذا اال�ستخدام االبداعي خلا�صية‬ ‫الزمن يف ال�سرد الروائي عند فوكرن‬ ‫هي �أحد اهم خ�صائ�صه املميزة‬ ‫والعبقرية لدرجة ان هذه اخلا�صية‬ ‫دفعت الفيل�سوف والروائي العظيم‬ ‫جان بول �سارتر اىل كتابة درا�سة عن هذه‬ ‫اخلا�صية عند فوكرن بعنوان (مفهوم الزمن‬ ‫عند فوكرن) اذن فوكرن من اهم كتاب الرواية‬ ‫الذين كان لهم وجهة نظر فل�سفية يف ادارة‬ ‫اجتاه الزمن يف ال�سرد الروائي ‪.‬‬ ‫هناك اي�ضا ما يجعلنا نت�ساءل عن حدود‬ ‫الفعل اجلن�سي عند فوكرن حيث ان رواياته‬ ‫امتلأت بامياءات واحداث اقل ما يطلق عليها‬ ‫انها تعر�ض للعنف اجلن�سي والال�سواء يف‬ ‫املجتمع الأمريكي فمعظم رواياته ي�سيطر‬ ‫عليها االغت�صاب واالخ�صاء وغريها من‬ ‫التيمات التي تعرب عن العنف اجلن�سي‬

‫يف اجلنوب الأمريكي فمثال يحاول بنجي‬ ‫املعتوه اغت�صاب طفلة �صغرية فيقوم اهله‬ ‫ب�إخ�صائه ليتمكنوا من ال�سيطرة على رغباته‬ ‫اجلاحمة يف رواية (ال�ضجة والغ�ضب) كما‬ ‫يتم اخ�صاء جو كري�سما�س البطل الزجني‬ ‫لرواية (نور يف اغ�سط�س) لأنه قتل امر�أة‬ ‫بي�ضاء عجوزة النهاء عالقته امل�شينة معها‬ ‫ويف راوية احلرم ي�ستخدم املجرم العاجز‬ ‫جن�سيا (بوبي) كوز ذرة يف اغت�صاب متبل‬ ‫دريك الفتاة ال�شابة‪ ....‬والأمثلة كثرية يف‬ ‫روايات فوكرن على هذه الفو�ضى الال�أخالقية‬

‫والتي تت�سم بعدم ال�سواء اجلن�سي يف معظم‬ ‫الأحيان مما دفع بع�ض النقاد مثل هاري‬ ‫هارتريك ان ي�صف فوكرن بال�سادية الروائية‬ ‫يف كتابه (ا�س�س الرواية الأمريكية) �إال ان‬ ‫معظم النقاد اعتربوا ان تناول فوكرن لهذه‬ ‫الأحداث جزء من التنبيه الأخالقي كنقد‬ ‫للكف اخلاطىء يف العملية اجلن�سية عند‬ ‫�أهل اجلنوب كما �أن املجتمعات اجلنوبية‬ ‫كانت كما عا�صرها فوكرن الزالت تتمتع بهذه‬ ‫اخلا�صية املنغلقة والت�سرتية من الناحية‬ ‫اجلن�سية ‪.‬‬ ‫ولد فوكرن عام ‪ 1897‬يف نيو البايل‬

‫‪7‬‬

‫امل�سي�سيبي‪ ،‬احدى مقاطعات اجلنوب‬ ‫االمريكي‪ .‬وكانت عائلته فقرية للغاية مما‬ ‫�أدى بالطفل اىل الت�شرد والتنقل طوي ًال وعدم‬ ‫االنتظام يف الدرا�سة والعمل يف مهن �شاقة‬ ‫عدة‪ .‬ويف تلك املرحلة بد�أ الفتى يكرث من‬ ‫املطالعة‪.‬‬ ‫وكان جد فوكرن �أ�س�س م�صرف ًا متوا�ضع ًا‪،‬‬ ‫فجاء بحفيده ليعمل عنده‪ .‬وهناك تعرف‬ ‫احلفيد على حمام �شاب يدعى فيليب �ستون‬ ‫متابع للحركة االدبية يف امريكا ومطلع على‬ ‫التيارات املتفاعلة فيها‪.‬‬ ‫وراح فوكرن يرافق املحامي حل�ضور‬ ‫املناق�شات االدبية واالطالع على‬ ‫نتائج االدباء الالمعني �آنذاك يف ف�ضاء‬ ‫الثقافة االمريكية ك�شروود اندر�سون‬ ‫و�إزارا باوند‪.‬‬ ‫وا�ستمرت تلك املرحلة من املعاناة‬ ‫والت�شرد والفقر واكت�شاف احلياة‬ ‫وقراءة الأدب والتنقل بني املهن‬ ‫املختلفة حتى و�صل فوكرن اىل‬ ‫ع�شرينيات حياته‪.‬‬ ‫ق�ضى وليم فوكرن معظم حياته فى‬ ‫اجلنوب‪ ،‬حيث ولد ون�ش�أ با�ستثناء‬ ‫فرتات ق�صرية غادر فيها منطقة‬ ‫امل�سي�سبي اىل نيويورك‪� ،‬أو اىل نيو‬ ‫�أورليانز‪ ،‬ومرة اىل كندا‪ ،‬و�أخرى‬ ‫اىل �أوروبا ‪ -‬وكلها زيارات ق�صرية‬ ‫ال تقارن مبا فعله ال ُك ّتاب الأمريكيني‬ ‫من �أبناء جيله‪ .‬ومل يكمل تعليمه‬ ‫الثانوي‪ ،‬ودر�س فرتة ب�سيطة يف‬ ‫جامعة امل�سي�سبي‪ ،‬حيث كانت نتيجته‬ ‫متو�سطة با�ستثناء اللغة الإجنليزية‪،‬‬ ‫ثم �أخذ يت�صرف وك�أنه يبحث عن‬ ‫ذاته‪ ،‬فارتدى نظارة �أحادية الزجاجة‪،‬‬ ‫و�أطلق حليته وم�شى حايف القدمني‬ ‫يف ال�شوارع وارتدى املالب�س الغريبة‬ ‫كما انه جرب العديد من الأعمال؛‬ ‫بائع كتب يف خمزن جتاري‪ ،‬مدير بريد يف‬ ‫اجلامعة‪ ،‬ثم جنار وغري ذلك‪ ،‬واكت�سب بذلك‬ ‫�سمعة ال�شخ�ص الذي ال ي�صلح ل�شيء‪.‬‬ ‫بد�أ حياته الأدبية بكتابة ال�شعر‪ ،‬وبعد �سفره‬ ‫اىل نيواوريانز واختالطه بالو�سط الأدبي‬ ‫هناك‪ ،‬اجته ‪ -‬حتت ت�أثري �شريوود اندر�سون‬ ‫ اىل كتابة النرث‪ ،‬كتب روايتني مل يكتب لهما‬‫النجاح‪ ،‬ولكنه كان يتح�س�س فيهما طريقه‬ ‫اىل عامله اخلا�ص‪ ،‬ولكن الفرتة العظيمة فى‬ ‫حياته ككاتب هي من ‪ 1929‬حتى ‪1942‬‬ ‫‪ .‬وقد كتب روايته (بينما �أرقد حمت�ضرة‬ ‫‪1930‬م) يف �ستة �أ�سابيع �صيفية خالل‬

‫الثانية ع�شرة من منت�صف الليل اىل الرابعة‬ ‫�صباح ًا اما تركة فوكرن عند وفاته فبلغت ‪19‬‬ ‫كتاب ًا بني الرواية والق�صة الق�صرية ويُذكر‬ ‫ان الروائي ال�شهري �ألبري كامو �أعد له رواية‬ ‫للم�سرح ومت متثيلها يف امل�سارح الفرن�سية‬ ‫والأوروبية‪.‬‬ ‫مل تكن كتاباته فى الأربعينيات‬ ‫واخلم�سينيات فى م�ستوى الفرتة الغنية‬ ‫التى ذكرت �سابقا‪ ،‬وفى عام ‪ 1950‬ح�صل‬ ‫على جائزة نوبل للآداب‪ ،‬و�ألقى خطابا يعترب‬ ‫قطعة فنية وموقفا ان�سانيا رائعا ‪.‬‬ ‫يقول الناقد مالكومل كاويل عن روايات‬ ‫فوكرن‪ :‬الرواية لدى فوكرن هي كالعمل‬ ‫النحتي‪ ،‬فبو�سع املرء ان يدور حولها كما‬ ‫يدور حول متثال لكن يف كل مرة على م�شهد‬ ‫خمتلف من الكتلة ال�صلدة ذاتها‪ ،‬و�أكرث من‬ ‫هذا فالرواية عنده لي�ست حم�ض متثال بل‬ ‫هي �صرح كامل‪.‬‬ ‫وبات وليم فوكرن كاتب ًا عاملي ًا من الطراز‬ ‫الأول‪ ،‬ومت تتويج االعرتاف به عام ‪1950‬‬ ‫مبنحه جائزة نوبل للآداب‪ ،‬وخالل حفل‬ ‫ت�سلمه اجلائزة �أدىل فوكرن بحديث ق�صري‬ ‫و�صف فيه االن�سان ب�أنه كائن روحي‪ ،‬وب�أن‬ ‫عامل هذا الكائن الروحي يرتكز على حقائق‬ ‫�أخالقية ومعنوية ثابتة ال تتغري �أبد ًا‪.‬‬ ‫لقد ح�شد الكاتب يف كلمته تلك‪� ،‬أهم �أفكاره‬ ‫التي نا�ضل من �أجلها طوال حياته وا�شتهر‬ ‫خطابه كن�ص �أدبي ثمني �آخر‪ ،‬جاء فيه‪ :‬ان‬ ‫م�أ�ساتنا اليوم تتجلى بخوف مادي يعم‬ ‫الكون‪ ،‬وقد طال �أمده حتى �ألفناه ف�أم�سينا‬ ‫قادرين على حتمله‪ ،‬مل تعد هناك م�شاكل‬ ‫تتعلق بالروح‪ ،‬ولي�س لدى الفرد منا �سوى‬ ‫�س�ؤال واحد‪ :‬متى �أتدمر؟ لهذا ن�سي �شباب‬ ‫اليوم من الك ّتاب م�شاكل القلب االن�ساين يف‬ ‫نزاعه مع نف�سه‪ ،‬وهو ال�شيء الوحيد الذي‬ ‫يخلق كتابة جيدة لأنه هو وحده اجلدير‬ ‫بالكتابة عنه واجلدير بالعذاب وال�ضنى‪.‬‬ ‫ولقد و�صل فوكرن اىل اوج ت�ألقه بني الأدباء‬ ‫الأوربيني حيث اعجبت به اوروبا ب�شكل‬ ‫هو�سي وا�صبح من اهم كتاب الرواية عندهم‬ ‫ونختتم كالمنا عن فوكرن مبقولة ب�سيطة‬ ‫على ل�سانه هو ي�صف فيها الكلمات حيث‬ ‫يقول (ال ادعي ب�أن للكلمات حياة م�ستقلة‬ ‫ولكني اعتقد ان الكلمات �إذا جمعت مبهارة‬ ‫فائقة تنتج �شيئا حيا كما تخلق اجلو‬ ‫والأر�ض والأحوال املالئمة الأ�شجار ف�إن‬ ‫الكلمات كالأغ�صان ال تخلق الواحدة منها‬ ‫�شجرة ولكن �إذا جمعت فانها وال�شك تنتج‬ ‫�شجرة)‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪8‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫ب�������������ي�������������ن‬ ‫ف��وك��ن��ر وج��ب��را‬

‫والعنف حكاية ت�ضطرم باحلياة كما‬ ‫ت�ضطرم باملوت يبدو ان امل�ؤلف قد‬ ‫ر�سم �شخ�صية امل�سيح ب�شكل ايحائي‬ ‫يف روايته‪ ،‬اذ تتجلى هذه ال�شخ�صية‬ ‫كونها رمزا للغرب اال انها بطريقة قد‬ ‫تبدو اكرث عقالنية‪ ،‬وتتبني حقيقة‬ ‫هذا التجلي يف اجابات فوكرن نف�سه‬ ‫يف حوار ومناق�شة اجري له يف‬ ‫جامعة فرجينيا‪ ،‬نقله د‪ .‬جنم عبد‬ ‫الله‪ ،‬عرب كتابه (وليم فوكرن يف‬ ‫�صخبه وعنفه) (* ‪ ..‬بنجي على‬ ‫�سبيل املثال كان يف الثالثة والثالثني‬ ‫من عمره‪ ،‬وهو العمر املتعارف عليه‬ ‫للم�سيح عند وفاته ‪ .‬فوكرن ‪ :‬نعم‪،‬‬ ‫كانت تلك اداة جاهزة لال�ستخدام‪،‬‬ ‫ولكنها مل تكن اال واحدة من جمموعة‬ ‫ادوات‪.‬‬ ‫* ا�صال ملاذا ت�شري ال�سيدة كومب�سن‬ ‫اىل بنجي بو�صفه بيع يف م�صر ؟ امل‬ ‫يكن ذلك يو�سف يف الكتاب املقد�س ؟‬ ‫هل تلك غلطتك ام غلطتها ؟‬ ‫ فوكرن ‪ :‬وهل يوجد هنا من يعرف‬‫الكتاب املقد�س حقا ؟‬ ‫* لقد بحثت انا ذلك ووجدت ان‬ ‫بنيامني كان رهينة بدال من‬ ‫يو�سف‪.‬‬ ‫ فوكرن ‪ :‬نعم وذلك‬‫�سبب ا�ستخدامي‬ ‫لهما الواحد بدال من‬ ‫الآخر‪.‬‬ ‫ويعرب فردريك‬ ‫يف كتابه (وليم‬ ‫فوكرن) على ان‬ ‫فوكرن مل ينجح‬ ‫يف (ا�سطورة)‬

‫ت�أثر جربا برواية ال�صخب والعنف من خالل قراءته العلمية وترجمته لها ‪ ،‬ف�أثر ال�صخب والعنف على جربا تبد�أ معه منذ ان قدمها اول‬ ‫مرة اىل العامل العربي بح�سب قوله (لعلي من كنت اول من قدم فوكرن اىل العامل العربي منذ درا�ستي االوىل عن ال�صخب والعنف التي‬ ‫ن�شرت يف الآداب عام ‪ 1954‬واحلقتها برتجمة الرواية النني ادركت ان فوكرن و�سع امكانات الرتكيب الروائي بحيث ال ن�ستطيع ان نكتب‬ ‫رواية ونحن بغفلة عما فعل ‪ ،‬ولكن فوكرن نف�سه اتهم يوم كتبت روايته بانه نقل ميال ا�سلوبيا عن جيم�س جوي�س وفرجينيا وولف‬ ‫وهذا طبعا ي�شبه القول الذي قيل يف ال�سفينة بالن�سبة اىل فوكرن) وهذا يعني ان ما يهم جربا هو ذلك التو�سيع يف االمكانات الرتكيبية‬ ‫للرواية بحيث (ال ن�ستطيع كتابة رواية ونحن يف غفلة عما فعل) بح�سب قوله‪.‬‬

‫�أثري حم�سن الها�شمي‬

‫ي�شتمل الأثر والت�أثري يف الأدب‬ ‫املقارن على م�ستويات عدة بعد وجود‬ ‫�أدلة ملف ال�شواهد‪ ،‬وهذه امل�ستويات‬ ‫قد تكون خمتلفة يف قوة وتطابق‬ ‫الت�شابه من �ضعف‪ ،‬وهي بطبيعة‬ ‫احلال �ستكون جميعها داخلة يف‬ ‫م�ضمون �أو حمور الت�أثر والت�أثري‪،‬‬ ‫لأن الكاتب رمبا انتج احداثه وتركيبه‬ ‫االدبي عن طريق وعي وق�صد �أو‬ ‫ب�شكل ال ذهني‪ ،‬وبالتايل اذا كانت‬ ‫هناك احداث وتراكيب مت�شابهة‬ ‫بح�سب امل�ستويات هي من خالل حالة‬

‫الت�أثر والت�أثري‪.‬‬ ‫وما ورد يف رواية البحث عن وليد‬ ‫م�سعود من تقارب او ت�شابه من‬ ‫خالل اجلانبني املو�ضوعي والفني‪،‬‬ ‫هي بح�سب م�ستويات خمتلفة من‬ ‫التقارب‪.‬‬ ‫يف البحث عن وليد م�سعود ثمة‬ ‫مو�ضوعات قد تكون متقاربة مع‬ ‫مو�ضوعات ال�صخب والعنف‪ ،‬حتى‬ ‫ان جربا ابراهيم جربا ذكر انها‬ ‫قد تكون متقاربة لرواية ال�صخب‬ ‫والعنف من ناحية اجلو العام‪:‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫جربا ‪ :‬ولذلك ( البحث عن وليد‬ ‫م�سعود مثل( ‪The Sound‬‬ ‫‪ ،) and The FURY‬يجب ان‬ ‫تقر�أها �أوال حتى ترى جوها العام‬ ‫وهذا الت�شابك‪ ،‬وتقر�أها ثانية حتى‬ ‫تفهمها وتفهم ت�شابكاتها وت�ستمتع‬ ‫بها‪ .‬نلحظ ان ر�أي جربا يدل على‬ ‫انه تق�صد يف بناء روايته على‬ ‫رواية ال�صخب والعنف‪ ،‬و يف ر�أي‬ ‫�آخر جلواب له اي�ضا مع د‪.‬جنم عبد‬ ‫الله بخ�صو�ص ت�شابه رواياته مع‬ ‫ال�صخب والعنف ور�أيه بكونه ناقدا‬

‫وقارئا ان يقدم وجه ال�شبه ما بينهما‪.‬‬ ‫اال انه مل يف�صح عن ذلك‪ ،‬بل يجعل‬ ‫الأمر بيد القارئ �أو الناقد لأكت�شاف‬ ‫ذلك الت�شابه �أو التقارب ان وجد‪.‬‬ ‫ويبقى ان نقول‪ :‬علينا ان جنمع تلك‬ ‫امل�ستويات املتقاربة يف بوتقة واحدة‬ ‫ليكون متكامال يف النهاية‪.‬‬ ‫البنية الرتاثية‪:‬‬ ‫تتجلى البينة الرتاثية �أو كما ي�سميها‬ ‫البنية اال�سطورية لأن تكون واحدة‬ ‫من ال�سمات املو�ضوعية امل�شرتكة‬

‫يف الروايتني‪ ،‬اذ ان فوكرن مل يكتف‬ ‫ان ي�أخذ عنوان روايته من م�سرحية‬ ‫�شك�سبري‪ ،‬وامنا حاول ان يج�سد‬ ‫يف روايته احد افكار �شك�سبري التي‬ ‫وردت يف امل�سرحية عرب �شخ�صية‬ ‫بنجامني املعتوه‪:‬‬ ‫غدا غدا‬ ‫ولكل غد يزحف بهذه اخلطى‪.....‬‬ ‫اىل قوله ‪ :‬يحكيها معتوه مل�ؤها‬ ‫ال�صخب والعنف‬ ‫وبذلك تبدو لنا رواية ال�صخب‬

‫لأن مغزى ق�صة امل�سيح (وما فيها‬ ‫من تعقيدات دينية ومذهبية وكذلك‬ ‫ارتباطها باالخالقيات العامة يف‬ ‫امل�سيحية) كان �أكرب بكثري من قدرته‬ ‫وطاقته‬ ‫اما عند جربا ابراهيم جربا‪ ،‬فيقابل‬ ‫ذلك عرب ر�سمه ل�شخ�صية الغائب‪� ،‬أو‬ ‫كما ت�سميها �سيزا قا�سم (�شخ�صية‬ ‫املهدي املنتظر) و�أنا يف ر�أيي انه‬ ‫من االف�ضل ان نطلق عليه م�صطلح‬ ‫(الغائب)‪ ،‬مع اننا نتوقع ان جربا قد‬ ‫ر�سم مالمح تلك‬ ‫ال�شخ�صية عرب الغياب‪ ،‬وهذا‬ ‫ممكن تف�سريه بهذه الطريقة‪ ،‬النه‬ ‫و�صل اىل ا�سطورة البطل املطلق‬ ‫او اىل البطل احللم الذي ال مكان‬ ‫له يف احليز املعي�ش وعلى العموم‬ ‫ان جربا قدم يف اكرث من مو�ضع‬ ‫اهمية امل�ستوى اال�سطوري يف بنية‬ ‫الرواية‪ ،‬اذ يقول‪ (:‬لقد كان من نتائج‬ ‫تطبيق بع�ض الدرا�سات التحليل‬ ‫على‬ ‫النف�سي‬

‫االعمال الروائية وامل�سرحية الكبرية‬ ‫ان تبني ان الكثري من ال�شخ�صيات‬ ‫واملواقف التي ين�سج خيوطها‬ ‫الروائي باطالة وتعقيد‪ ،‬ميكن اعادته‬ ‫يف النهاية اىل ا�صول جندها يف‬ ‫اال�ساطري التي ابتدعها االن�سان‬ ‫اول يقظته الفكرية كو�سيلة الدراك‬ ‫احلياة‪ )...‬وبهذا نكون ازاء تقارب‬ ‫لر�سم مالمح �شخ�صيتني قد تتقاربان‬ ‫يف املنهج الديني او اال�سطوري‪ ،‬لكن‬ ‫ال�صورة عند االول قد تكون بدافع‬ ‫عقلي اال عند االخر بدافع عاطفي‪.‬‬ ‫تقنية ال�سرد‪:‬‬ ‫تعترب التقنية ال�سردية من ال�سمات‬ ‫الرئي�سة يف بناء اية رواية وقوة‬ ‫الرواية ت�ستند على هذه التقنية‪،‬‬ ‫باعتبارها املرتكز الرئي�س يف‬ ‫احتواء االدوات امل�ستعملة داخل‬ ‫الرواية‪ ،‬خا�صة حني ي�ستعمل‬

‫‪9‬‬

‫الروائي تقنية ما وراء ال�سرد‬ ‫املتعددة‪ ،‬فذلك يعطي مدلوالت اكرب‪،‬‬ ‫ور�ؤى اعمق‪.‬‬ ‫ولذلك اننا جند الروائي الناجح اذا‬ ‫ما اراد ان ي�ستعمل تقنية ما وراء‬ ‫ال�سرد‪ ،‬عليه ان يعي�ش حدث الراوي‬ ‫ان كان احلدث �صادقا او كاذبا‪،‬‬ ‫عليه ان يج�سد هذا احلدث ب�صدق‪،‬‬ ‫وبالتايل ينجح الكاتب يف اف�صاح‬ ‫الن�ص على انه حقيقة حتى وان كان‬ ‫من الكذب‪.‬‬ ‫ما يج�سده فوكرن من تقنية �سردية‬ ‫تتمثل با�ستعماله لتقنيات عدة‪،‬‬ ‫وما يهمنا منها ما وراء ال�سرد‪ ،‬يف‬ ‫رواية ال�صخب والعنف ت�ستعمل‬ ‫التقنيات ال�سردية ال�ضفاء �شكل ما‬ ‫على البنى الفردانية للوعي‪ ،‬تت�ألف‬ ‫الرواية‪ ،‬املقدمة من خالل وجهات‬ ‫نظر اربعة خمتلفة‪ ،‬من االحداث‬ ‫واالنطباعات ذات ال�صلة باالنهيار‬

‫التدريجي لعائلة كومب�سون يف‬ ‫اق�صى اجلنوب‪ ،‬تنق�سم هذه الثيمة‬ ‫املفردة من خالل روايات ال�شخ�ص‬ ‫االول كومب�سون على جمموعة‬ ‫متنوعة من ال�شظايا واالوجه وال‬ ‫ي�سهم حتى اجلزء االخري اخلا�ص‬ ‫بامل�ؤلف‬ ‫يوزع فوكرن روايته على اربع‬ ‫ف�صول‪ ،‬لكل ف�صل راو معني‪ ،‬يتوزع‬ ‫ثالثة منها على االخوة ( بنجي –‬ ‫كوننت – جا�سن ) والف�صل الرابع‬ ‫الراوي امل�ؤلف‪.‬‬ ‫اما رواية (البحث عن وليد م�سعود)‬ ‫فان امل�ؤلف يوزع روايته على ثمانية‬ ‫رواة ومهما يكن فان م�ؤلف الرواية‬ ‫متعددة اال�صوات مطالب ال يف ان‬ ‫يتنازل عن نف�سه وعن وعيه‪ ،‬وامنا‬ ‫يف ان يتو�سع اىل اق�صى حد‪ ،‬وان‬ ‫يتعمق اىل اق�صى حد اي�ضا يف‬ ‫اعادة تركيب هذا الوعي‪ ،‬وقد حقق‬ ‫جربا اقرتابا من ا�سلوب الر�ؤى‬ ‫املتعددة يف مظاهره ال�شكلية او‬ ‫ال�سطحية من غري ان يوفر لروايته‬ ‫النجاح الفني الذي يتيحه هذا‬ ‫اال�سلوب‪ ،‬لو توافرت اية رواية على‬ ‫االخذ بجوهره العميق‪ ،‬فلي�س مهما‬ ‫ان يتعدد الرواة امنا املهم حقا ان‬ ‫يكون هناك �شيء موحد كل يرويه‬ ‫بح�سب ما يراه يف �ضوء ثقافته‬ ‫ومزجه وانتمائه‬ ‫اال ان رواية ال�صخب والعنف‬ ‫حققت جناحا كبريا يف امل�ستويني‬ ‫ال�شكلي وجوهره الفني‪ ،‬فتعدد‬ ‫الرواة �صاحبه تقنية اال�سلوب‬ ‫العايل‪ ،‬وهذه التقنية امل�ستعملة‬ ‫بحبكة و�سرد ي�ؤهلها الن تكون‬ ‫تقنية ترتقي اىل م�ستويات غاية يف‬ ‫اجلمال والروعة وال�صدق الفني‪.‬‬ ‫اذن فما نالحظه على رواية جربا‪،‬‬ ‫هي تلك التقنية يف تعدد الرواة التي‬ ‫هي موجودة يف ال�صخب والعنف‪.‬‬ ‫تقنية ( الفال�ش باك)‬ ‫ا�ستعمل فوكرن تقنية (الفال�ش باك)‬ ‫وهي عملية اال�سرتجاع الزمني‪،‬‬ ‫�أي حماولة خلق ت�شابك يف اجلو‬ ‫الزمني للرواية‪ ،‬و�ضبط الن�ص �آليا‬ ‫عرب ادوات قد ت�ؤلف اندماجا حقيقيا‬ ‫لر�ؤية عميقة تتمثل بالوحدات‬ ‫الزمانية الثالث (املا�ضي – احلا�ضر‬ ‫– امل�ستقبل) وحماولة الدمج فيما‬ ‫بينها‪ ،‬حتى تخلق مرتكزات مهمة‬ ‫يف عملية الفهم والت�صوير‪ ،‬فالفهم‬ ‫يندرج �ضمن زمنية الت�صوير‬ ‫وفعليته‪ ،‬والت�صدير يكمن يف‬ ‫تقريرة الفهم‪.‬‬ ‫فاالزمنة يف رواية ال�صخب والعنف‬ ‫تتداخل حتى يف الفقرة الواحدة بل‬ ‫يف اجلملة الواحدة‪ ،‬اذ ان فوكرن‬ ‫ي�ستعمل اخلط امل�ستقيم داخل‬ ‫احلركة الواحدة‬ ‫وهذه احلركات تتداخل فيما بينها‬ ‫زمنيا عرب �آلية الفال�ش باك‪ ،‬في�أتي‬ ‫الرتكيب هكذا‪-:‬‬ ‫‪ -1‬بنجي ‪ :‬بتاريخ ‪ 7‬ني�سان ‪1928‬‬ ‫‪ -2‬كوننت ‪ 2 :‬حزيران ‪1910‬‬ ‫‪ -3‬جا�سن ‪ 6 :‬ني�سان ‪1928‬‬ ‫‪ -4‬امل�ؤلف ‪ 8 :‬ني�سان ‪)14( 1928‬‬ ‫ومثل ذلك جند عند جربا‪ ،‬وقدرته‬ ‫على توظيف احدث و�سائل‬ ‫ال�سرد املعروفة يف فن الرواية‬ ‫كاال�سرتجاع وغريها والتي يتقارب‬ ‫بع�ضها مع فوكرن‪ ،‬كما يف تقنية‬ ‫الفال�ش باك‪ ،‬اذ انه يقدم الزمن‬ ‫احلا�ضر على الزمن املا�ضي وهكذا‬ ‫يتداخل يف احلركات التي ير�سمها‬ ‫على رواته الثمانية – التي يقدم‬ ‫فيها زمن على زمن‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪10‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫ول�����ي�����م ف���وك���ن���ر‬

‫يرمز ب�أن العفة قد بلغت ال�شيخوخة يف‬ ‫بيئة الرواية‪.‬‬ ‫لقد عا�ش فوكرن حياة لي�ست طويلة ‪-1897‬‬ ‫‪ 1962‬ولكنه ا�ستطاع ان يحقق �شهرة عاملية‬ ‫كبرية تتوجت بنيله جائزة نوبل للآداب‬ ‫‪1948‬م‪.‬‬ ‫وكان مزاجيا �سريع الكتابة ميقت االلتزام‬ ‫فقد ترك الدرا�سة يف املرحلة الثانوية‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ومل ي�ستطع دخول اجلي�ش ب�سبب و�ضعه‬ ‫ال�صحي واجل�سدي فقد كان ق�صري القامة‬ ‫يكاد ج�سده الهزيل ي�سقط حتت ثقل �أفكاره‬ ‫التي يف ر�أ�سه �أو يظن الناظر اليه ذلك‪،‬‬ ‫كتب روايته الأوىل‪�( :‬أجور اجلنود) عام‬ ‫‪1926‬م‪� ،‬أما روايته ال�شهرية (ال�صوت‬ ‫والغ�ضب) فكانت عام ‪1929‬م (ونور يف‬ ‫�آب) عام ‪1932‬م (والال مهزوم) عام ‪1934‬م‬

‫و(النحالت الربية) ‪1939‬م‪ ،‬و(متطفل يف‬ ‫الرتاب)‪1948‬م‪.‬‬ ‫وقد كتب روايته(بينما �أرقد‬ ‫حمت�ضرة)‪1930‬م يف �ستة �أ�سابيع‬ ‫�صيفية خالل �ساعات من الثانية ع�شرة‬ ‫منت�صف الليل اىل الرابعة �صباح ًا‪� .‬أما‬ ‫تركة فوكرن عند وفاته فبلغت ‪ 19‬كتاب ًا‬ ‫بني الرواية والق�صة الق�صرية‪ ،‬ويذكر ان‬

‫من رواية (بينما ارقد حمت�ضرة) مبنا�سبة‬ ‫عيد ميالدي‪ ,‬وكانت قراءتها مبثابة جتربة‬ ‫مل ان�سها حتى هذا اليوم‪ .‬كنت حينها طالبا‬ ‫ادر�س الهند�سة يف جامعة كاليفورنيا‪,‬‬ ‫بريكلي وقد قر�أت كثريا يف اليوم الذي‬ ‫ا�ستطعت فيه القراءة كل كتاب ا�ستطعت‬ ‫العثور عليه بحيث ان (وليم �سارويان)‬ ‫مل ي�سبقني اليه يف مكتبة فران�سو يف‬

‫وتفكرت يف النية اخلبيثة ل�صديقتي حني‬ ‫منحتني مثل هذه الهدية احلمقاء التي‬ ‫عاهدت نف�سي ان ال �أقر�أها ابدا او �أقر�أ �أي‬ ‫�شيء �آخر كتبه فوكرن‪ .‬بعد ذلك وجدتني‬ ‫التقط الكتاب املنتهك و�أعيد جمع �صفحاته‬ ‫املختلطة مكرها نف�سي على قراءته الجد‬ ‫نف�سي فقط متورطا يف نوبة اخرى من‬ ‫الغ�ضب‪ .‬حدث هذا االمر مرار ًا حتى انهيت‬

‫الكلي‪ ,‬ويرتبط بالقارىء لي�س بطريقة فريدة‬ ‫رائعة بل مبختلف الطرق املعقدة التي تتغري‬ ‫مع ازدياد عمر القارىء وتغريه‪.‬‬ ‫واالن ها هو وليم فوكرن نف�سه يف مطعم‬ ‫(بيج ـ �أن ـ و�سل) يجل�س من بني كل الأماكن‬ ‫يف حجرة �صغرية يرت�شف ال�شاي! وجدت‬ ‫نف�سي يف �صراع حتى قدمي‪ ,‬متعرث ًا‬ ‫بالنادالت املارات والزبائن متخذ ًا طريقي‬

‫ال�سريعة واالبت�سامة الغريبة ال�ساخرة بينما‬ ‫كان يرفع ق�صبة الغليون من فمه ويقول‪:‬‬ ‫(اتذكر بالت�أكيد)‪ ,‬حدث ذلك اثناء احلرب‬ ‫العاملية الثانية حينما كان النقل �صعبا‪.‬‬ ‫عر�ضت عليه القيام برحلة داخل هوليوود‬ ‫وقبل الدعوة‪ ,‬ويف ع�صر ذلك اليوم اخذته‬ ‫بال�سيارة اىل فندق (هايالند) حيث كان‬ ‫ي�سكن‪ .‬بعد ذلك كنت او�صله �صباح كل يوم‬

‫�أ‪ .‬بيز يردز‬ ‫ترجمة‪ :‬جناح اجلبيلي‬

‫عبدالباقي يو�سف‬ ‫تفوح رائحة فطرة الإن�سان الطيبة التي‬ ‫فطره الله عليها من غالبية روايات هذا‬ ‫الروائي الفذ حتى عندما ي�صور �أق�سى‬ ‫مظاهر ال�شر يف رواياته‪ ،‬وعندذاك يرينا كم‬ ‫�أن الإن�سان ال�شرير ذاته يدفع �ضريبة مترده‬ ‫على فطرته الإن�سانية‪ ،‬ولذلك نرى بكرثة‬ ‫�صراع اخلري وال�شر يف معظم ماخلفه من‬ ‫�آثار روائية‪.‬‬ ‫ان وليم فوكرن هو �صيحة يف وجه ال�شر‬ ‫الذي يكاد يكون عام ًا يف جانبي االن�سان‬ ‫اخلفي واملعلن ولذلك هو يركز على نقاط‬ ‫ال�شر يف هذين اجلانبني ويبديها يف �أ�شكال‬ ‫خمتلفة يف حماولة منه للبحث عن عفة‬ ‫االن�سان املفقودة وهو ينطلق من واقع هو‬ ‫الأقرب اليه من �أي واقع �آخر‪.‬‬ ‫�إنه واقع وبيئة اجلنوب الأمريكي وب�شكل‬ ‫خا�ص اقليم يوكنا تاوما وعا�صمته‬ ‫جيفو�سون‪ ،‬وهو �أكرث الأقاليم الأمريكية‬ ‫تناق�ض ًا من حيث العالقات املتبادلة بني‬ ‫ال�سكان‪ ،‬فيمكن �أن نرى �أ�شكال النظام‬ ‫العبودي ب�صور خمتلفة بني ه�ؤالء الذين‬ ‫يتكونون من االقطاعيني البي�ض‪ ،‬والهنود‬ ‫احلمر‪ ،‬والعبيد‪ ،‬وجنود احلرب الأهلية‪،‬‬ ‫و�سيدات املجتمع املتقدمات يف ال�سن‪،‬‬ ‫واملب�شرين والفالحني وطالب اجلامعات‪،‬‬ ‫بل يقرتب فوكرن �أكرث من هذا في�سلط‬ ‫ال�ضوء على تاريخ عائلته الذي هو جزء ال‬ ‫يتجز�أ من تاريخ املكان‪ ،‬فقد كان جده الأكرب‬ ‫مالك ًا الحد خطوط ال�سكك احلديد وكان‬ ‫رئي�س ًا لإحدى جمموعات احلرب الأهلية‬ ‫وبالتايل تفرع الأوالد منه ف�شغلوا اماكن‬ ‫ح�سا�سة يف بلدهم حيث ان جد فوكرن كان‬ ‫حمامي ًا ومدير بنك‪،‬ان فوكرن ا�ستطاع ان‬ ‫يجمع كل الوثائق املتعلقة بتاريخ عائلته‬ ‫من م�صادر موثوقة ولكنه يف النهاية رف�ض‬ ‫هذا التاريخ ومترد عليه وقرر �أن يكون‬ ‫الناقد الالذع لهذه البيئة ب�صورة عامة‬ ‫يف حماولة جادة منه للتم�سك بالف�ضيلة‬ ‫والنزاهة الب�شرية‪ ،‬لقد انطلق من هذه‬ ‫النقطة نحو العامل‪.‬‬ ‫عندما يذكر ا�سم فوكرن البد �أن ا�سم روايته‬ ‫ال�شهرية‪( ،‬ال�صوت والغ�ضب) والواقع‬ ‫فان هذه الرواية تكاد تلخ�ص م�شروعه‬ ‫الفكري الروائي‪ ،‬وفيها يرى ان االن�سان‬ ‫الذي ميار�س طبائع غري �سوية على غريه‬ ‫ف�إنها تنعك�س عليه ب�شكل من الأ�شكال‪ ،‬فما‬ ‫ميار�سه على غريه يتم ممار�سته عليه‪،‬‬ ‫اننا نقف يف عامل مده�ش من ال�شخ�صيات‬ ‫الغرائبية يف هذه الرواية وهي تدور حول‬ ‫ا�سرة كومب�سون التي ر�أى البع�ض ب�أنها‬ ‫ا�سرة فوكرن نف�سه كوبننت يبحث عن طريقة‬ ‫ت�سهل عليه عملية االنتحار‪.‬‬ ‫�أما �شقيق كوبنت الذي يعمل حداد ًا فانه‬ ‫ي�سرق النقود التي تر�سلها معه اخته‬ ‫كاندي�س اىل ابنتها غري ال�شرعية فت�أتي‬ ‫�صديقته لت�سرق بدورها املال منه وتهرب‬ ‫مع �شخ�ص �آخر‪ ،‬يف هذا ال�صراع تكون‬ ‫امل�سز كومب�سون غارقة يف عامل املا�ضي‬ ‫الذي وىل وكلما تخفق العائلة وتنهار ف�إنها‬ ‫تزداد مت�سك ًا مبجد املا�ضي ومن كل هذه‬ ‫ال�شخ�صيات يقدم فوكرن �شخ�صية واحدة‬ ‫نا�ضجة وحكيمة وعفيفة هي ويلزي املر�أة‬ ‫الزجنية املتقدمة يف ال�سن وكان فوكرن‬

‫منذ ب�ضع �سنوات عددها اكرث مما اجر�ؤ‬ ‫على ذكره ر�أيت رجال نحيف البنية ذي‬ ‫�شعر رمادي و�شارب‪ ,‬يده حول ر�أ�س غليون‬ ‫بينما الق�صبة معلقة يف فمه‪ ,‬يجل�س يف‬ ‫حجرة �صغرية خلفية يف مطعم (بيج ـ �أن ـ‬ ‫و�سل) على �شارع هوليوود يف هوليوود‪,‬‬ ‫كاليفورنيا‪ .‬وعلى الرغم من انني مل �أره من‬ ‫قبل �أبد ًا عدا �صورة وجهه على غالف كتاب او‬ ‫�صورة فوتوغرافية له ملحقة مبراجعة نقدية‬ ‫ف�أين تعرفت عليه على الفور‪ .‬تكاد ال�صدفة ال‬ ‫تو�صف كمعرفة طارئة فيها يغمغم املرء با�سم‬ ‫ما‪ ,‬بل ا�سم ي�صرخ به بال�سر‪.‬‬ ‫ان و�صفي املكتوب بالكاد ي�ستطيع ان يويف‬ ‫ال�صراخ حقه‪ ,‬وعلى احلروف ان تكون كبرية‬ ‫ومطبوعة بالنار وان تق�ص عالمات التعجب‬ ‫بال�شفرة (يا الهي‪ ,‬انه وليم فوكرن!)‬ ‫قبل ذلك بب�ضع �سنوات اهدتني (يفوين فون‬ ‫جورن) �صديقتي وزوجتي فيما بعد ن�سخة‬

‫كاليفورنيا‪ .‬اتذكر بانفعال ردود فعلي بينما‬ ‫كنت احرث يف رواية (فوكرن)‪.‬‬ ‫يف البداية كنت مربك ًا‪ ,‬ثم مذعور ًا‪ ,‬ثم‬ ‫م�ضطربا ب�سبب طبقات املعنى التي متتد‬ ‫حتت معان مرتبة حتت الكلمات الب�سيطة‬ ‫املتجاورة‪ .‬كنت مذعورا و�شاكا يف �سالمة‬ ‫عقلي ومتحري ًا وحمبط ًا وغا�ضب ًا و�أنا‬ ‫�أوا�صل القراءة يف الكتاب وكنت اراجع‬ ‫عدد ال�صفحات نف�سها بل اكرث مما قر�أت من‬ ‫�صفحات يف حماولة يائ�سة ال�ستخراج معنى‬ ‫مما ظهر انه هراء‪.‬‬ ‫مع ذلك عرفت بطريقة ما ان كل كلمة وكل‬ ‫�شيء قر�أته البد ان يت�ضمن معنى ما‪ .‬كنت‬ ‫اتوقف بني حني واخر وقد فا�ض الزبد من‬ ‫فمي لأقذف الكتاب على حائط الغرفة حتى‬ ‫تطاير الكتاب ممزقا وانت�شرت �صفحاته يف‬ ‫كل اجتاه‪.‬‬ ‫لعنت اليوم الذي اهدي ا ّ‬ ‫يل فيه الكتاب‬

‫بطريقة ما او ب�أخرى الكتاب او ان الكتاب‬ ‫قد انهاين‪ ,‬واىل االن مل اقرر اي االمرين قد‬ ‫حدث‪ .‬يف احلقيقة كررت قراءته مرارا‪ ,‬بعد‬ ‫ذلك كنت مت�أكدا من اين قد فقدت عقلي متاما‪,‬‬ ‫فقر�أت كل �شيء كتبه فوكرن‪ ,‬وحاملا ن�شرت‬ ‫الكتب وظهرت الق�ص�ص كنت �أقر�أها بنف�س‬ ‫االفتتان العاطفي املربك املتعذر تف�سريه‬ ‫وثانية انتابني ال�شك الذاتي واالحباط‬ ‫والغيظ‪.‬‬ ‫لكي اكتب ن�سخة فيلم عن فوكرن قر�أت جميع‬ ‫الكتب والق�ص�ص مرة اخرى ووجدتني‬ ‫اكت�شف ا�شياء جديدة كما لو اين مل �أقر�أها‬ ‫ب�صورة �صحيحة يف املرة االوىل‪ .‬لقد عانيت‬ ‫من جتربة جديدة متاما‪ ,‬ويف هذه املرة لي�س‬ ‫من منظور �شاب يف الع�شرينيات من عمره بل‬ ‫�شيخ يف ال�ستينيات‪ .‬واالن تثري كتاباته ّ‬ ‫يف‬ ‫تقييما جديدا متاما له ككاتب‪ ,‬و�أن عمله الذي‬ ‫يقال �أنه ال يرتبط فقط باجلنوب بل بالعامل‬

‫اىل احلجرة ال�صغرية حيث يجل�س ب�صحبة‬ ‫امر�أة‪ .‬اندفعت بقوة القاطع حديثهما احلميم‬ ‫ب�صوت مل ا�ستطع ال�سيطرة عليه وقد �سمعت‬ ‫�صوتي �صارخ ًا وت�ساءلت طويال عن �سبب‬ ‫�صياحي املفاجىء رغم انه مل ي�ستطع ان‬ ‫مييزين عن �آدم ف�أين عرفته بالت�أكيد‪ ,‬ومن‬ ‫كان هو و�أين قر�أت كل �شيء كتبه‪ ,‬و�أين رغم‬ ‫فهمي القليل ملا كتب ف�أين اعتقدت انه كان‬ ‫كاتبا عظيما واين ارجو يف يوم من االيام ان‬ ‫ا�صبح نا�ضجا الدرك عمله ورمبا اىل م�ستوى‬ ‫فهمه‪� .‬ضحك فوكرن �ضحكة خافتة ونه�ض‬ ‫واقف ًا والغليون يف يده وا�ستجاب ملغاالتي‬ ‫يف مدحه ب�صوت �ضعيف تعجبت منه‪:‬‬ ‫(�شكر ًا‪ ,‬يا �سيد)‪ .‬اذ ذاك ا�ستدرت ورجعت‬ ‫مرتنح ًا اىل �أ�صدقائي يف احلجرة ال�صغرية‪.‬‬ ‫بعد ب�ضع �سنوات هجرت طم�أنينة الهند�سة‬ ‫اىل الكتابة اخلالية من االمان‪ .‬كان ذلك‬ ‫يف �سنة ‪ .1944‬كنت جال�سا يف مكتبي يف‬ ‫ا�ستوديوهات (وارنر برذرز) يف برنبانك‪,‬‬ ‫والية كاليفورنيا حينما فوجئت بر�ؤية‬ ‫�شخ�ص مي�سك ر�أ�س غليونه وق�صبته يف فمه‬ ‫مير عرب جناح ال�سكرتارية ويدخل املكتب‬ ‫املجاور ملكتبي‪ ,‬حيث يجل�س يف كر�سي مريح‬ ‫م�صالبا �ساقيه وهو ينفث الدخان يف غليونه‪.‬‬ ‫ورغم جو املنع ال�صارم والعزلة املف�ضلة التي‬ ‫كانت ت�شع من �شخ�صية فوكرن دائما فاين‬ ‫دخلت مكتبه ووقفت امامه‪ ,‬ويف هذه املرة‬ ‫�سرين ان اتذكر اين كنت مل اكن م�صعوقا جدا‬ ‫او ابجله كثريا �أو �أفقد اع�صابي‪ ,‬وكنت اكرث‬ ‫�سيطرة على �صوتي و�س�ألته ان كان يتذكرين‪.‬‬ ‫اتذكر اذ رفع نظره يف احلال االمياءة‬

‫ذكريات عن فوكنر‬

‫الروائي الذي نادى بالحفاظ على فطرية اإلنسان‬

‫الروائي ال�شهري �ألبري كامو �أعد له رواية‬ ‫للم�سرح ومت متثيلها يف امل�سارح الفرن�سية‬ ‫والأوروبية‪.‬‬ ‫يبقى لوليم فوكرن �أ�سلوبه الذي يعرب عن‬ ‫�شخ�صيته وعن قوة �أفكاره وعن مقدار‬ ‫احلرية التي يكتب بها‪ ،‬وهذا مايجعل‬ ‫�إبداع هذا الروائي عالمة مميزة يف م�سرية‬ ‫الرواية املعا�صرة‪.‬‬

‫‪11‬‬ ‫اىل العمل وارجعه ع�صر ًا‪ ,‬وبهذه الطريقة‬ ‫ا�صبحنا �صديقني‪.‬‬ ‫يف فرتة من فرتات �صداقتنا وقبل ان تف�صلنا‬ ‫الظروف ـ كان عليه ان يعود اىل اك�سفورد‪,‬‬ ‫والية م�س�سبي لكي يوقع عقد ا�ستخدام يف‬ ‫علي ان اذهب اىل‬ ‫�شركة (وارنر برذرز) وكان ّ‬ ‫ا�ستوديوهات (باراماونت) ـ فقد ذكر فوكرن‬ ‫مالحظة بدت يل غريبة وقتها حني قال‪( :‬يا‬ ‫�صاح‪ ,‬يف احد االيام �سوف تكتب عني)‪.‬‬ ‫ادركت مدى خ�صو�صيته وكم ا�صبح حانقا‬ ‫حينما تطفلت عليه‪ ,‬لهذا ا�سرعت يف الت�أكيد‬ ‫له اين لن اكتب عنه ابدا‪ ,‬لكن رغم ت�أكيدي‬ ‫حتولت رغبتي اىل الكتابة عنه‪.‬‬ ‫وجدت نف�سي ات�ساءل كيف حدث ذلك‪ .‬انها‬ ‫ق�صة طويلة وال �أق�صد الدخول فيها هنا‪ ,‬لكن‬ ‫احلقيقة اين كتبت عنه ملدة اكرث من �سنتني ـ‬ ‫نقحت ن�سخة الفيلم نف�سه مرارا اللبي طلبات‬ ‫جمموعة من اال�ساتذة الذين كانت لديهم‬ ‫افكار خا�صة عن كيفية كتابتي للن�سخة‪.‬‬ ‫كتبت وكتبت حني اخذت عهدا لي�س لفوكرن‬ ‫بل على نف�سي اي�ضا اين لن اندفع للكتابة‬ ‫عنه كما كتب العديد من االخرين‪ ,‬كل يروي‬ ‫ق�صته مكت�شف ًا فوكرنا جديد ًا يف تلك العملية‪.‬‬ ‫لقد قر�أت العديد من الأ�شياء عن فوكرن وكان‬ ‫احدها ن�سخة من فيلم عنه ق�صر يف فهم‬ ‫الرجل كليا‪ .‬بدا يل اين ا�ستطيع ان احترى‬ ‫ما�ضي فوكرن او اجمع احلقائق والتقط‬ ‫ناحية معينة من فوكرن فاتت على االخرين‪.‬‬ ‫لقد كافحت مدة طويلة جدا جاهد ًا ان اكون‬ ‫الكاتب الذي امتنى ان اكونه‪ .‬ادركت ان‬ ‫كان من ال�ضروري امتالك �شيء اكرث من‬ ‫رغبة ب�سيطة لكي اكون كاتبا‪� ,‬شيئا اكرث من‬ ‫الدوام يف ال�صف والدرا�سة على يد اال�ساتذة‬ ‫الذين اعتقدوا ان مبقدورهم ان يعلموا‬ ‫�سر الكتابة حتى ولو كان القليل منهم فقط‬ ‫ي�ستطيع ان يكتب بنف�سه‪ .‬امتنى من خالل‬ ‫م�سي حلياة فوكرن اين �س�أح�صل على دليل‬ ‫ّ‬ ‫ولو بال�صدفة عن كيفية بلوغ القدرة على‬ ‫كتابة ما قد كتبه‪.‬‬ ‫ومن �أجل ح�سن النية وخالل عملية البحث‬ ‫والكتابة لن�سخة الفيلم اكت�شفت مدى‬ ‫�صعوبة ان تقول كل ما تقول عن �شخ�ص‬ ‫معني وخ�صو�صا حني يكون ذلك ال�شخ�ص‬ ‫م�شهورا‪ .‬كل ا�صدقائه و�أقاربه ومعارفه‬ ‫واملعجبني به وخ�صو�صا ا�ساتذته الذين‬ ‫علموه يف اجلامعات والذين حذفوا كل �شيء‬ ‫اعتقدوا بعدم لياقته لأنهم كانوا يحرتمون‬ ‫�صورة فوكرن اكرث مما يحرتمون االن�سان‬ ‫الذي طبعه اخلط�أ م�شوهني احلقيقة لي�س‬ ‫بال�سيطرة على ما قد قيل بقدر ال�سيطرة على‬ ‫ما مل يقل‪.‬‬ ‫وكان من املنطقي ان فوكرن اعتقد �أنه‬ ‫بال�سماح لعمل االن�سان ان يتكلم عنه وان‬ ‫حياة االن�سان اخلا�صة كانت منيعة على‬ ‫االنتهاك‪ ,‬مع ذلك ادركت ان عزلته كانت حرية‬ ‫ان تنتهك كما انتهكت يف ال�سرية الطويلة‬ ‫التي ن�شرت عنه‪ .‬كنت اعرف فوكرن مبا‬ ‫فيه الكفاية الدراك انه اذا تعر�ضت حياته‬ ‫اخلا�صة لالنتهاك فانه يرغب بان ت�سرد‬ ‫كما كانت بح�سنها وقبحها‪ .‬كان امل فوكرن‬ ‫�سيخيب لو و�ضعت حياته ك�أ�سطورة فا�سدة‪.‬‬ ‫ونتيجة اال�شارات الواهمة اىل �صورة‬ ‫خمتلفة يدفع ثمنها هو‪ ,‬كان �سيبدو له م�ؤكد ًا‬ ‫ان من ال�سخرية ان يعي�ش االن�سان حياة فقط‬ ‫لريى انهم يحرفونها ويحذفون م�ساوئها من‬ ‫بني يديه‪ ,‬وهي احلياة بنواحيها اجلوهرية‪,‬‬ ‫احلياة التي �صنعت منه االن�سان الذي كان‪.‬‬ ‫لكن ال يهم‪ .‬حني قر�أت فوكرن الول مرة كان‬ ‫ثمة القليل ممن فهمه او ا�ستطاع ان يف�سره‪.‬‬ ‫لكن القارىء ال�شاب ميتلك اليوم جمموعة‬ ‫وفرية كاملة من االعمال لتدله عرب املتاهات‬ ‫املت�شابكة العماله‪ .‬وها هو اي�ضا كتاب اخر‬ ‫يت�ضمن مقابالت مع النا�س الذين عرفوا‬ ‫فوكرن‪ .‬لكن ظهر انهم متحفظون وحذرون‬ ‫متاما مثلما كنت انا متكتما ومتحفظ ًا‪ ,‬وكنا‬ ‫جميع ًا قد غلبتنا الهيبة ل�صورة �شخ�صيته‬ ‫بحيث مل نقدر على الإجالل املنا�سب للرجل‬ ‫نف�سه‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫فوكنر‪ ..‬كاتب كبير يعمل في السينما وال يكترث بها!‬

‫‪13‬‬

‫رحلة بحث‬ ‫عن البراءة المفقودة‬ ‫عبد الباقي يو�سف‬ ‫ان وليم فوكرن هو �صيحة يف وجه ال�شر الذي يكاد يكون عام ًا يف جانبي‬ ‫االن�سان اخلفي و املعلن و لذلك هو يركز على نقاط ال�شر يف هذين‬ ‫اجلانبني و يبديها يف ا�شكال خمتلفة يف حماولة منه للبحث عن عفة‬ ‫االن�سان املفقودة و هو ينطلق من واقع هو االقرب اليه من اي واقع‬ ‫�آخر‪ .‬هو واقع اجلنوب االمريكي و بيئته و ب�شكل خا�ص اقليم يوكنا‬ ‫تاوما و عا�صمته جيفر�سون‪ ،‬و هو اكرث االقاليم االمريكية تناق�ض ًا‬ ‫من حيث العالقات املتبادلة بني ال�سكان‪ ،‬فيمكن ان نرى ا�شكال النظام‬ ‫العبودي ب�صور خمتلفة بني ه�ؤالء الذين يتكونون من االقطاعيني‬ ‫البي�ض‪ ،‬و الهنود احلمر‪ ،‬و العبيد‪ ،‬و جنود احلرب االهلية‪ ،‬و �سيدات‬ ‫املجتمع املتقدمات يف ال�سن‪ ،‬و املب�شرين و الفالحني و طالب اجلامعات‪،‬‬ ‫بل يقرتب فوكرن اكرث من هذا في�سلط ال�ضوء على تاريخ عائلته الذي هو‬ ‫جزء ال يتجز�أ من تاريخ املكان‪ ،‬فقد كان جده االكرب مالك ًا الحد خطوط‬ ‫ال�سكك احلديد و كان رئي�س ًا الحدى جمموعات احلرب االهلية و بالتايل‬ ‫تفرع االوالد منه ف�شغلوا اماكن ح�سا�سة يف بلدهم حيث ان جد فوكرن‬ ‫كان حمامي ًا و مدير بنك‪ ،‬وا�ستطاع فوكرن �أن يجمع كل الوثائق املتعلقة‬ ‫بتاريخ عائلته من م�صادر موثوقة و لكنه يف النهاية رف�ض هذا التاريخ‬ ‫و مترد عليه و قرر ان يكون الناقد الالذع لهذه البيئة ب�صورة عامة يف‬ ‫حماولة جادة منه للتم�سك بالف�ضيلة و النزاهة الب�شرية‪ ،‬لقد انطلق يف‬ ‫هذه النقطة نحو العامل ‪.‬‏‬ ‫عندما يذكر ا�سم فوكرن البد ان يذكر ا�سم روايته ال�شهرية‪ ،‬ال�صوت‬ ‫و الغ�ضب و الواقع ف�إن هذه الرواية تكاد تلخ�ص م�شروعه الفكري‬ ‫الروائي و فما يرى ان االن�سان الذي ميار�س طبائع غري �سوية على‬ ‫غريه ف�إنها تنعك�س عليه ب�شكل من اال�شكال‪ ،‬فيما ميار�سه على غريه‬ ‫يتم ممار�سته عليه‪ ،‬اننا نقف يف عامل مده�ش من ال�شخ�صيات الغرائبية‬ ‫يف هذه الرواية و هي تدور حول ا�سرة كومب�سون التي ر�أى البع�ض‬ ‫ب�أنها ا�سرة فوكرن نف�سه فكوبننت يبحث عن طريقة ت�سهل عليه عملية‬

‫«�أنا وال�سينما ال نتفق من الناحية الكرونولوجية‪ .‬يف �أك�سفورد‬ ‫ثمة عر�ض �سينمائي يف ال�سابعة‪ .‬يف حني �أن املدينة ت�أوي للنوم‬ ‫يف التا�سعة والن�صف‪ .‬لي�س هذا هو ال�سبب الذي يجعلني �أكره‬ ‫ال�سينما‪ ،‬لكن حياتي مل تنتظم على هذا املنوال»‪.‬‬ ‫وليم فوكرن ‪ -‬كاتبا لل�سيناريو‬

‫حممد �سهيل �أحمد‬ ‫املرة الأوىل التي ذهب فيها فوكرن �إىل‬ ‫هوليوود كانت يف عام ‪ 1932‬نظرا‬ ‫لأن دخله املايل كروائي كان من الب�ؤ�س‬ ‫ �آنذاك‪� -‬إىل احلد الذي مل يتنا�سب‬‫وطبيعة حياته امل�سرفة‪ .‬وهكذا بد�أت‬ ‫�صلته بعا�صمة ال�سينما العاملية بعد‬ ‫�إبرامه عقدا مع �شركة «مرتو غولدين‬ ‫ماير» ملدة �ستة �أ�سابيع مع �إمكانية‬ ‫متديده �إذا لزم الأمر‪ ،‬وتوا�صلت هذه‬ ‫ال�صلة طيلة عقد تقريب ًا‪.‬‬ ‫كان خمرج فوكرن املف�ضل يف هوليوود‬ ‫ واملخرج الذي كتب معه خم�سة من‬‫�ستة �سيناريوهات معتمدة‪ -‬هو «هوارد‬ ‫هوك�س» الذي ت�ش ّرب ب�أعمال فوكرن‬ ‫الروائية منذ روايته الأوىل «راتب‬ ‫اجلندي»‪� .‬أما وليم هوك�س‪ ،‬مندوب‬ ‫�إحدى �شركات الإخراج ال�سينمائي‪،‬‬ ‫فقد جذب �أنظار �أخيه املخرج �إىل ن�ص‬ ‫فوكرن الق�ص�صي الذي تدور �أحداثه‬ ‫حول احلرب العاملية الأوىل والذي‬ ‫حمل عنوان االرتداد‪Turn About‬‬ ‫ليتفق االثنان على �صالحية هذا الن�ص‬ ‫لكي مي�سي فيلما �سينمائيا جيدا‪.‬‬ ‫ا�شرتى هوارد حقوق الق�صة من فوكرن‪،‬‬ ‫داعيا �إياه يف الوقت نف�سه �إىل كتابة‬ ‫�سيناريو الفيلم‪.‬‬ ‫وقتذاك مل يكن لدى املمثلة الذائعة‬ ‫ال�صيت جوان كراوفورد �أي التزامات‬ ‫مع �أية جهة �سينمائية �أخرى‪ ،‬وكانت‬ ‫من املمثالت املرغوبات لدى �أ�صحاب‬ ‫�شركات الإنتاج نظرا ملردودات �شهرتها‬ ‫على �إيرادات �شباك التذاكر‪ ،‬ومن هنا‬ ‫دعاها فوكرن للم�شاركة يف �أول �أفالمه‪.‬‬ ‫عر�ض الفيلم حتت عنوان «اليوم‬ ‫ننب�ض باحلياة» ‪Today We‬‬ ‫‪ Live‬يف عام ‪ ،1933‬غري �أنه عاد �إىل‬

‫هوليوود ثانية يف عام ‪ ،1934‬للعمل‬ ‫مع هوك�س يف فيلم �آخر عنوانه «ذهب‬ ‫�سرت»‪ »Sutter's Gold‬وكان من‬ ‫�أفالم رعاة البقر‪.‬‬ ‫مل يكن هوك�س يحبذ �أن يعمل فوكرن مع‬ ‫جهة �أخرى‪ ،‬ومن ثم طلب منه �أن ي�سهم‬ ‫يف كتابة �سيناريو فيلم «الطريق �إىل‬ ‫املجد» ‪ Road To Glory‬وهو‬ ‫فيلم حربي الطابع‪ .‬ويف دي�سمرب ‪1935‬‬ ‫�أ�صبح فوكرن �سيناري�ست �شركة فوك�س‬ ‫للقرن الع�شرين املعتمد ومبوجب اتفاق‬ ‫لغاية ‪.1937‬‬ ‫واحلقيقة �أن االتفاق الوحيد الذي‬ ‫عقده فوكرن خارج عقده مع هوك�س‬ ‫جتلى يف كتابته �سيناريو فيلم «�سفينة‬ ‫العبيد» عام ‪» Slave «Ship 1935‬‬ ‫م�ستغال وان�شغل هوك�س باالنتقال �إىل‬ ‫ا�ستوديو �آخر‪ .‬ومل يلبث فوكرن �أن عاد‬ ‫�إىل هوليوود يف عام ‪ 1942‬بعد اتفاقه‬ ‫مع «الإخوة وارنر» وكان عمله متقطعا‬ ‫مع الإخوة هذه املرة �أي�ضا‪ ،‬وتوا�صل‬ ‫لغاية ‪.1945‬‬ ‫و�أجنز فوكرن خالل عمله مع هذه‬ ‫ال�شركة �سيناريو فيلمني �سي�ؤمنان‬ ‫م�ستقبله ك�سيناري�ست معتمد‪ :‬الأول‬ ‫ال�سيناريو املعد عن رواية همنغواي «�أن‬ ‫متلك و�أن المتلك» ‪and To Have‬‬ ‫‪ ،»Non To Have‬والثاين عن‬ ‫رواية راميوند ت�شاندلر البولي�سية‬ ‫«النوم الكبري» «‪،»The Big Sleep‬‬ ‫وهما الفيلمان اللذان قام هوك�س‬ ‫ب�إخراجهما‪ .‬وبالإ�ضافة �إىل هذين‬ ‫ال�شريطني الف�ضيني‪ ،‬كتب فوكرن عددا‬ ‫من م�شاهد فيلم «القوة اجلوية» من‬ ‫�إخراج هوك�س لكن ال�سيناريو كان من‬ ‫�إعداد �شخ�ص �آخر‪.‬‬ ‫يف عام ‪� 1944‬أ�سهم فوكرن �أي�ضا‪،‬‬ ‫وباالتفاق مع �شركة الفنانني املتحدة يف‬ ‫كتابة فيلم «اجلنوبي» من �إخراج مبدع‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫فرن�سي لطاملا نظر �إليه فوكرن ب�إعجاب‬ ‫�أال وهو جان رينوار‪ .‬هنا مل يعقد فوكرن‬ ‫�أي اتفاق ر�سمي مع رينوار الرتباطه مع‬ ‫الإخوة وارنر‪ ،‬بيد �أنه �أعلم كاتب �سريته‬ ‫مالكوم كاويل ب�أنه ينظر �إىل «اجلنوبي»‬ ‫على �أنه من �أح�سن �أعماله ك�سيناري�ست‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 1946‬ح�صد «اجلنوبي» جائزة‬ ‫مهرجان مدينة البندقية الكربى‪� .‬أما �آخر‬ ‫الأفالم التي كتب فوكرن �سيناريو لها‬ ‫فكان فيلم «�أر�ض الفراعنة» الذي روجت‬ ‫له �شركته املنتجة‪.‬‬

‫هوليوود والأدب‬ ‫من النجوم الذين تعامل معهم فوكرن‪،‬‬ ‫جوان كراوفورد وغاري كوبر يف «اليوم‬ ‫ننب�ض باحلياة»‪ ،‬وهمفري بوغارت‬ ‫ولورين باكال يف فيلم «�أن متلك و�أن‬ ‫المتلك»‪ ،‬كما عاد بوغارت وباكال لي�ؤديا‬ ‫دورين هامني يف فيلم «النوم الكبري»‬ ‫باال�شرتاك مع املمثلة الأمريكية ال�شهرية‬ ‫دوروثي مالون‪ .‬وبرع جاك هوكنز‬ ‫وجوان كولينز و�سدين �شابلن يف فيلم‬ ‫«�أر�ض الفراعنة» الذي �أ�شرنا �إليه �آنفا‪.‬‬ ‫�أما املخرجون الذين تعامل معهم‬

‫فوكرن بعقود �أو من دون عقود فكان‬ ‫على ر�أ�سهم هوارد هوك�س‪ ،‬وجورج‬ ‫�ستيفن�سون‪ ،‬وجون فورد وراوول‬ ‫وال�ش و جان نيغولي�سكو وفن�سنت‬ ‫�شريمان‪ ،‬واملنتج ال�سينمائي الكبري‬ ‫داريل زانوك و�آخرون‪.‬‬ ‫ولعل الظاهرة الأغرب يف التعاون بني‬ ‫هوليوود وفوكرن هي درجة الوعي‬ ‫التي جعلت من خمرج هوليوودي مثل‬ ‫هوك�س قارئا ذا ذائقة رفيعة ال�ستيعاب‬ ‫�أعمال فوكرن‪ ،‬ال الروائية فح�سب بل‬ ‫الق�ص�صية �أي�ض ًا‪ .‬ولهذا جند �أن �أول عمل‬ ‫�سينمائي م�شرتك بني هوك�س وفوكرن‬ ‫متثل يف حتويل واحدة من ق�ص�ص‬ ‫الأخري �إىل عمل �سينمائي‪.‬‬ ‫معروف �أن الق�صة �أكرث اختزاال لعوامل‬ ‫خطابها ال�سردي مبا ي�ضم من �شخو�ص‬ ‫و�أحداث‪ ،‬ثم �إن روايات فوكرن يف‬ ‫معظمها‪� ،‬إن مل يكن جميعها تعتمد على‬ ‫ال�صياغات اللغوية واملونولوج الداخلي‬ ‫�أو ما ي�سمى بتيار الوعي وعلى جرعات‬ ‫عالية من ال�شعر‪� ،‬إ�ضافة �إىل بطء ن�سبي‬ ‫يف حركة احلدث احلكائي‪ ،‬و�شبه‬ ‫انعدام للحبكة املركزية‪ ،‬كما هي احلال‬ ‫مع «ال�صخب والعنف ‪The Sound‬‬ ‫‪ And The» Fury‬على �سبيل املثال‬ ‫ال احل�صر‪.‬‬ ‫ولكن يبدو �أن خمرجي هوليوود نظروا‬ ‫�إىل �أعمال فوكرن من زاوية �أخرى‪:‬‬ ‫املقدرة التحليلية‪ ،‬نف�سية كانت �أو‬ ‫فل�سفية‪ ،‬يف ت�صوير �أدق و�أكرث م�شكالت‬ ‫اجلنوب الأمريكي �إثارة وفعالية‪:‬‬ ‫الأ�سود والأبي�ض‪ ،‬والعنف‪ ،‬ولعبة‬ ‫ال�صيد‪ ،‬وانتهاك الأر�ض‪ ،‬والتعايل‬ ‫والغرور‪ ،‬وهذه كلها �أ�صبحت مبثابة‬ ‫ال�سو�س الذي نخر ج�سد الأ�سرة‬ ‫اجلنوبية على وجه اخل�صو�ص‪.‬‬ ‫�إن روايات همنغواي‪ ،‬لو �شئنا املقارنة‪،‬‬ ‫وجدت �صدى لها يف هوليوود بدرجة‬

‫�أكرب مما وجدت روايات فوكرن‪.‬‬ ‫وال�سبب ب�سيط؛ �إن روايات همنغواي‬ ‫تعد �سياحات �أدبية حكائية غطت �أكرث‬ ‫من قارة وامتازت بطغيان احلدث‪.‬‬ ‫لي�س الق�صد هنا �أن روايات فوكرن‬ ‫وق�ص�صه تخلو من الأحداث وت�شح‬ ‫فيها ال�شخو�ص‪� ،‬إمنا يرجع ال�سبب �إىل‬ ‫طبيعة �أ�سلوب فوكرن وجمله املطولة‬ ‫التي حتدث عنها الناقد كونراد ايكن‬ ‫قائال‪� :‬أ�سلوب فوكرن «غابة مملوءة‬ ‫باملت�سلقات والأزهار الربية املتوح�شة‬ ‫التي تبدو لعني املرء متداخلة بجالل ال‬ ‫نهائي‪ ،‬المعة ومت�ألقة بطريقة ذات حركة‬ ‫افعوانية‪ ،‬حيث تنزلق ل ّفة من املت�سلقات‬ ‫فوق �أخرى‪ ،‬وحيث تتعانق الأوراق‬ ‫والأزهار ب�صورة �سحرية»‪.‬‬ ‫هذا كله كان يحد من مواءمتها للإخراج‬ ‫ال�سينمائي‪ ،‬لكن لي�س يف هوليوود‬ ‫ولي�س �ضمن موا�صفات ال�سينما‬ ‫الأمرييكية التي مل تكت�سب �شهرتها‬ ‫من �أ�ضوائها ال�ساطعة وح�سب بل من‬ ‫ميزتها الأوىل‪ :‬ال�سيناريو‪ ،‬بغ�ض النظر‬ ‫عن املعايري الأخالقية التي يرى البع�ض‬ ‫اعتمادها يف تقييم ال�سينما الأمريكية‪.‬‬ ‫لقد ا�ستقطبت هذه ال�سينما ولعقود كتابا‬ ‫عظاما ك�أر�سكني كالدويل‪ ،‬ونورمان‬ ‫ميلر‪ ،‬وهمنغواي‪ ،‬وجون �شتاينبك‪،‬‬ ‫ومريغريت ميت�شيل و�آخرين‪.‬‬ ‫والواقع انه لوال هوليوود وقدراتها‬ ‫الت�سويقية وتعاملها مع الفن ال�سابع‬ ‫على �أنه �صناعة �ش�أنها �ش�أن �شركة‬ ‫�سيارات جرنال موتورز و«كرايزلر»‬ ‫و«ماكدونالد»‪ ،‬ملا ظهرت �أفالم مثل‬ ‫«دخيل يف الرتاب»‪« ،‬راتب اجلندي»‬ ‫لفوكرن و«غات�سبي العظي» لفيتزجريالد‪.‬‬ ‫وال جدال يف �أن فوكرن كان على دراية‬ ‫ب�أن ال�سينما �ستتحكم يف �أعماله الأدبية‬ ‫فت�سلط الأنوار على زوايا وتهمل �أخرى‬ ‫وتق�ص وتل�صق بح�سب رغبة �شبابيك‬

‫االنتحار ‪.‬‏‬ ‫اما �شقيق كوبنت الذي يعمل حداد ًا فانه ي�سرق النقود التي تر�سلها‬ ‫معه اخته كاندي�س اىل ابنتها غري ال�شرعية فت�أتي �صديقته لت�سرق‬ ‫بدورها املال منه و تهرب مع �شخ�ص اخر‪ ،‬يف هذا ال�صراع تكون امل�سزز‬ ‫كومب�سون غارقة يف عامل املا�ضي الذي وىل و كلما تخفق العائلة و تنهار‬ ‫فانها تزداد مت�سك ًا مبجد املا�ضي و من كل هذه ال�شخ�صيات يقدم فوكرن‬ ‫�شخ�صية واحدة نا�ضجة و حكيمة و عفيفة هي ويلزي املر�أة الزجنية‬ ‫املتقدمة يف ال�سن و كان فوكرن يرمز ب�أن العفة قد بلغت ال�شيخوخة يف‬ ‫بيئة الرواية ‪.‬‏‬ ‫لقد عا�ش فوكرن حياة لي�ست طويلة ‪ / 1962 - 1897 /‬و لكنه ا�ستطاع‬ ‫ان يحقق �شهرة عاملية كبرية تتوجت بنيله جائزة نوبل للآداب ‪ 1948‬م ‪.‬‏‬ ‫و كان مزاجي ًا �سريع الكتابة ميقت االلتزام فقد ترك الدرا�سة يف املرحلة‬ ‫الثانوية و مل ي�ستطع دخول اجلي�ش ب�سبب و�ضعه ال�صحي و اجل�سدي‬ ‫فقد كان ق�صري القامة يكاد ج�سده الهزيل ي�سقط حتت ثقل افكاره التي‬ ‫كانت يف ر�أ�سه او يظن الناظر اليه ذلك‪ ،‬كتب روايته االوىل ‪ :‬اجور‬ ‫اجلنود عام ‪ 1926‬م‪ ،‬اما روايته ال�شهرية ال�صوت و الغ�ضب فكانت عام‬ ‫‪ 1929 /‬م و نور يف �آب عام ‪ 1932 /‬م و الالمهزوم عام ‪ / 1934 /‬و‬ ‫النحالت الربية ‪ 1939 /‬م ‪ /‬و متطفل يف الرتاب ‪ 1948 /‬م ‪. /‬‏‬ ‫و قد كتب روايته ( بينما ارقد حمت�ضرة )‪ 1930‬م يف �ستة ا�سابيع‬ ‫�صيفية خالل �ساعات الثانية ع�شرة من منت�صف الليل اىل الرابعة �صباح ًا‬ ‫اما تركة فوكرن عند وفاته فبلغت ‪ / 19 /‬كتاب ًا بني الرواية و الق�صة‬ ‫الق�صرية و يذكر ان الروائي ال�شهري البري كامو اعد له رواية للم�سرح و‬ ‫مت متثيلها يف امل�سارح الفرن�سية و االوروبية ‪.‬‏‬ ‫يبقى لوليم ا�سلوبه املميز الذي يعرب عن �شخ�صيته و عن قوة افكاره‬ ‫و عن مقدار احلرية التي يكتب بها‪ ،‬و هذا ما يجعل ابداع هذا الروائي‬ ‫عالمة مميزة يف م�سرية الرواية املعا�صرة‪.‬‬

‫دور ال�سينما‪ ،‬بيد ان واحدا من �أهم‬ ‫العوامل التي ذكرناها �سابقا يتعلق‬ ‫يف �أمر تعامل فوكرن مع هوليوود ‪-‬‬ ‫وهو الكاتب الأ�شد مرا�سا والذي حفر‬ ‫خندقا حول بيته ملنع رجال ال�صحافة‬ ‫من االقرتاب منه ‪ -‬ذلكم هو احلاجة‬ ‫املا�سة �إىل املال وقدر �أقل من احلاجة‬ ‫�إىل ال�شهرة املريرة املذاق على حد قول‬ ‫ال�شاعرة الأمريكية �سيلفيا بالث‪.‬‬ ‫لقد عر�ض فوكرن نف�سه مل�صاريف كثرية‬ ‫ب�شرائه للطائرات وغريها‪ .‬وا�ستمر�أ‬ ‫فكرة �أن يكتب الآخرون �سيناريوهات‬ ‫بع�ض �أعماله الروائية �أمثال �آيرفنغ‬ ‫دافي�ش وهارييت فرانك جونيور‬ ‫اللذين كتبا �سيناريو روايته الل�صو�ص‬ ‫«‪ ،»The Reivers‬وهي الرواية التي‬ ‫ترجمتها الناقدة خالدة �سعيد‪ ،‬وكذلك‬ ‫رواية الهيكل ‪ Sanctuary‬التي كتب‬ ‫ال�سيناريو لها جيم�س بو و«دخيل يف‬ ‫الرتاب» �سيناريو بني مادو وغريها من‬ ‫�أعمال‪.‬‬ ‫تبقى العالقة بني الإبداع الأدبي‬ ‫وال�سينمائي حمل جدل طويل‪ ،‬غري‬ ‫�أن فوكرن مل يكن الكاتب الوحيد الذي‬ ‫قبل‪ ،‬لهذا ال�سبب �أو ذاك‪� ،‬أن يتعامل مع‬ ‫ال�سينما‪.‬‬ ‫يقول الكاتب روبرت كوغالن يف كتابه‬ ‫«عامل فوكرن اخلا�ص»‪:‬‬ ‫«�إن عدم اكرتاث فوكرن مب�ستعمرة‬ ‫ال�سينما يتلخ�ص بواقع كونه غري‬ ‫معروف من قبل رجال ال�سينما حتى‬ ‫الوقت الذي ت�سلم فيه جائزة نوبل‪ ،‬ما‬ ‫عدا �شهرته بني الكتاب وقطاع �أذكياء‬ ‫ال�سينما‪ ،‬وبني �أولئك الذين �أغدقت عليهم‬ ‫احل�ضارة ال�سيارات الفاخرة»‪.‬‬ ‫كتاب كوغالن يفرد ف�صال كامال من‬ ‫كتابه يورد �أمثلة عن عدم اكرتاث فوكرن‬ ‫بهوليوود‪ ،‬رغم �سنوات عمله الطويلة‬ ‫ن�سبي ًا معها‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫�سعد حممد رحيم‬ ‫ماذا يعني �أن يكون روائي معني مت�أثر ًا ب�آخر‪.‬‬ ‫ماذا ميكنه �أن ي�ستعري من ذلك الآخر مالمح من‬ ‫�شخ�صياته بع�ض ًا من �أحداث رواياته لغته �أ�سلوبه‬ ‫مناخه الروائي ر�ؤيته هل ي�ستطيع �أي روائي‬ ‫التخل�ص من عقابيل قراءاته ال�سابقة وباخت�صار؛‬ ‫ما هي العنا�صر التي يرثها ليعيد �إنتاجها يف‬ ‫رواياته‪.‬‬ ‫ال �شك �أن روائيني عظام من طراز ديكنز‬ ‫ود�ستويف�سكي وبلزاك وفرانز كافكا وجوي�س‬ ‫وبرو�ست وفرجينيا وولف ووليام فوكرن قد‬ ‫غريوا من طرق الأداء ال�سردي وكتابة الرواية‪،‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫العدد (‪)2116‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )30‬ني�سان ‪2011‬‬

‫تأثيرات فوكنر‬ ‫ناهيك عن ر�ؤية من جا�ؤوا من بعدهم من‬ ‫الروائيني �إىل العامل‪ ..‬ولكن؛ كيف يحدث الت�أثري‬ ‫و�إىل �أي احلدود يكون الأمر جائز ًا يخربنا‬ ‫غابريل غار�سيا ماركيز “�أنا �أعتقد �أن الت�أثري‬ ‫احلقيقي‪ ،‬والت�أثري املهم هو عندما ت�ؤثر �أعمال‬ ‫كاتب معني ّ‬ ‫يف بعمق لدرجة �أنها تبدل بع�ض ًا من‬ ‫�أفكاري عن العامل وعن احلياة ب�صفة عامة”‪.‬‬ ‫لي�س املق�صد من الكالم عن الت�أثر والت�أثري‬ ‫الدخول �إىل املنطقة ال�ساخنة للمفهوم الأدبي‬ ‫“التنا�ص”‪ ،‬غري �أن الإ�شارة �إىل الأ�سد كونه‬ ‫عدد ًا من اخلراف امله�ضومة تكون مفيدة يف‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫�سياق مقالنا هذا‪ .‬و�أي�ض ًا‪ ،‬هذا ال يعني ا�ستبعاد‬ ‫القرابة بني الت�أثر والت�أثري والتنا�ص مو�ضوعي ًا‬ ‫و�إجرائي ًا‪.‬‬ ‫***‬ ‫باعرتاف روائيني معا�صرين كبار لي�س من‬ ‫ال�سهل التخل�ص من ت�أثريات وليام فوكرن‪ ،‬من‬ ‫�إغواء �أ�سلوبه‪ ،‬وحرارة لغته‪ ،‬وطرق تقدميه‬ ‫ل�شخ�صياته‪ .‬وزاوية نظره �إىل اجلذور‪،‬‬ ‫�إىل التاريخ القريب‪ .‬وكيفية ت�شكل الوقائع‬ ‫والأحداث‪ ،‬يف �أعماله‪ ،‬على خلفية مالب�سات‬ ‫الواقع‪ ،‬ومناورات التاريخ‪� .‬إذا ما �أردنا‪،‬‬

‫بطبيعة احلال‪ ،‬مقاربة التاريخ بعيد ًا عن �صرامة‬ ‫التاريخانيني‪.‬‬ ‫�إن ب�صمات فوكرن‪ ،‬يف �سبيل املثال‪ ،‬ظاهرة يف‬ ‫روايات توين موري�سون املولودة يف والية‬ ‫�أوهايو الأمريكية يف عام ‪ 1930‬لعائلة زجنية‬ ‫والتي تخرجت يف جامعة هوارد يف وا�شنطون‬ ‫بعد �أن قدمت �أطروحتها املعنونة “االنتحار يف‬ ‫روايات وليام فوكرن وفرجينيا وولف” كما يف‬ ‫روايتي “اجلاز” و “الفردو�س”‪ ،‬وهي ـ �أي‬ ‫موري�سون ـ التي حازت على جائزة نوبل للآداب‬ ‫يف عام ‪.1993‬‬

‫كذلك ف�إن روائي ًا من قامة غابريل غار�سيا ماركيز‬ ‫يعرتف بت�أثري فوكرن القوي عليه‪ ،‬و�إذ ينكر يف‬ ‫البدء مثل هذا الت�أثري يف حوار مطول �أجراه‬ ‫معه بيلينيو �أبوليو مندوزا م�شري ًا �إىل التماثل‬ ‫اجلغرايف‪ ،‬ال الأدبي بني عمله وعمل فوكرن‪،‬‬ ‫يح�شره مندوزا يف زاوية �ضيقة بتوجيه انتباهه‬ ‫�إىل ت�شابهات تتعدى النطاق اجلغرايف “هناك‬ ‫خط معني من الن�سب بني العقيد �سارتوري�س‬ ‫والعقيد �أوريليانو بوينديا‪ ،‬بني ماكوندو‬ ‫ويوكناباتاوفا كونتي… عندما حتاول �أال‬ ‫تعرتف بفوكرن كعن�صر م�ؤثر ومهم‪� ،‬أال ترتكب‬ ‫بذلك جرمية قتل �ضد �أقرب النا�س �إليك‪ ”.‬يجيب‬ ‫ماركيز؛ “رمبا �أكون كذلك‪ .‬لذلك قلت �أن م�شكلتي‬ ‫مل تكن يف كيفية تقليد فوكرن‪ ،‬ولكن يف كيفية‬ ‫تدمريه‪ .‬لقد كان ت�أثريه ي�شل حركتي‪”.‬‬ ‫�إن حوارات ذكية مع الروائيني غالب ًا ما يف�ضي‬ ‫�إىل مثل هذه االعرتافات‪ ،‬ف� ً‬ ‫ضال عن �إ�ضاءة‬ ‫مناطق ظليلة من عواملهم الروائية التي �أبدعوها‪.‬‬

‫ف�سل�سلة من الأ�سئلة احلاذقة ت�ستفز الذهن‬ ‫يجعلنا نتعرف على مكنونات ال وعي الكاتب‪،‬‬ ‫ومتنحنا مفاتيح للولوج �إىل ما وراء الظاهر‬ ‫من العوامل تلك‪ ،‬والوقوع على املرجعيات التي‬ ‫لوالها ملا كان بالإمكان �أن مي�ضي الكاتب على‬ ‫وفق ما انتهى من بناء عمله �أخري ًا‪.‬‬ ‫ويف كتاب “حوارات يف الرواية” ال�صادر عن‬ ‫دار ال�شروق للن�شر والتوزيع يف رام الله يف‬ ‫عام ‪ 2004‬ينجح الدكتور جنم عبد الله كاظم يف‬ ‫جعل �أربعة من الروائيني العراقيني يعرتفون‬ ‫بت�أثري فوكرن عليهم‪� ،‬أو يومئون �إليه بهذا القدر‬ ‫�أو ذاك…‪ .‬كان املحاور حمكوم ًا مبو�ضوعة‬ ‫ر�سالته العلمية ومتطلباتها للح�صول على درجة‬ ‫الدكتوراه من �إحدى اجلامعات الربيطانية‪،‬‬ ‫والروائيون الأربعة الذين وقع االختيار عليهم‬ ‫كانوا وما زالوا لهم ح�ضورهم الفاعل يف امل�شهد‬ ‫الروائي العراقي والعربي‪.‬‬ ‫يفرت�ض امل�ؤلف‪ ،‬منذ البدء‪� ،‬أن �أهمية احلوارات‬

‫هذه تت�أتى من مكانة الذوات التي يحاورها �أو ًال‪،‬‬ ‫ومما تتناولها احلوارات من مو�ضوعات و�أفكار‬ ‫وق�ضايا ثاني ًا‪ .‬مركز ًا يف حواراته على جتارب‬ ‫الروائيني وامل�سائل الفنية التي ت�شغلهم‪ ،‬وق�ضية‬ ‫ت�أثرهم بالكتاب العامليني‪ .‬ويكاد املحور الأخري‬ ‫يكون هدف ًا �أ�سا�سي ًا يف الكتاب‪ ،‬وما يعيننا من‬ ‫الكتاب هو حتدث الروائيني الأربعة‪� ،‬أو �إ�شارتهم‬ ‫�إىل فوكرن‪.‬‬ ‫يعلمنا جربا �إبراهيم جربا ـ من مواليد القد�س‪/‬‬ ‫فل�سطني ـ �أنه قر�أ فوكرن وهمنغواي بعمق‪ ،‬ويف‬ ‫وقت مبكر‪ ..‬يقول عن فوكرن �أنه ” عمالق رهيب‬ ‫و�صعب‪ ..‬لقد �سحرين بتجربته الأدبية‪ ،‬وهي‬ ‫جتربة من ر�أى الرعب‪ ،‬ور�أى امل�أ�ساة‪ ،‬و�أح�س‬ ‫ب�آالم الب�شرية مثلما �أح�س امل�سيح بها‪ ،‬و�صورها‬ ‫على هذه الطريقة‪ .‬ترى عنده نذالة الب�شر وخ�سة‬ ‫الإن�سان‪ .‬ترى الروعة وجتد وراء تلك الروعة‬ ‫الفجور وال�شبق والقتل‪ .‬وهو يف ت�صويره لك‬ ‫هذا فنان خارق بقدرته‪� ”..‬ص‪.36‬‬ ‫ويعرتف جربا �أنه ت�أثر بكتّاب �آخرين منهم‬ ‫توما�س وولف وبيكوك ودي�ستويف�سكي‬ ‫وفرجينييا وولف ود‪ .‬هـ‪ .‬لورن�س و�أو�سكار‬ ‫وايلد و�أندريه جيد‪ .‬وحني ي�س�أله املحاور عن‬ ‫�شخ�صية كوننت يف “ال�صخب والعنف” و�أثرها‬ ‫يف �شخ�صيات رواياته ـ �أي روايات جربا ـ يقول؛‬ ‫“والله‪ ،‬هذه هي املرة الأوىل التي �أ�سمع فيها هذا‬ ‫الكالم” �ص‪.39‬‬ ‫ويتكرر الأمر مع غائب طعمة فرمان الذي ي�صر‬ ‫على �أن رواية ال�صخب والعنف مل تعجبه‪،‬‬ ‫ولكن حني يك�شف له املحاور عن نقاط االلتقاء‬ ‫والت�شابه بني روايتي “ال�صخب والعنف”‬ ‫لفوكرن وروايته هو ـ فرمان ـ “ظالل على النافذة”‬ ‫يقول الأخري؛ “يجب �أن �أقول �أين منده�ش‬ ‫الكت�شافك هذه الأ�شياء‪ .‬فهي غريبة جد ًا‪ ،‬ولكنها‬ ‫تبدو �صحيحة‪ ،‬ولي�س عندي اعرتا�ض عليها”‬ ‫�ص‪.109‬‬ ‫ويعرج فرمان �إىل م�س�ألة ت�أثره بكتّاب من �أمثال‬ ‫ديكنز و�شتاينبك وكولدويل وهمنغواي‪ .‬ويقول‬ ‫�أن الكاتب الذي ت�أثر به �أكرث من �سواه هو‬ ‫دو�س با�سو�س وال �سيما يف ثالثيته “الواليات‬ ‫املتحدة” وي�ؤكد ت�أثره بفوكرن �إىل جانب ت�أثريات‬ ‫الكتّاب الرو�س‪ ،‬وبع�ض الكتّاب الفرن�سيني‪.‬‬ ‫ويرى ف�ؤاد التكريل �أن الإعجاب ال يعني التقليد‪،‬‬ ‫فهو معجب بح�سب قوله بهمنغواي و�شتاينبك‪،‬‬ ‫ب�سبب جملة من اخل�صائ�ص الفنية التي متتاز‬ ‫بها رواياتهما‪ ،‬ومنها “الإيجاز يف اللغة‪ ،‬البناء‬ ‫الفني املحكم‪ ،‬اال�ستعارة‪ ،‬جتميع الأحداث بهدوء‪،‬‬ ‫التعبري عن �سمات �إن�سانية عميقة يف �أعمال‬ ‫ب�سيطة” �ص‪ .52‬غري �أنه ـ �أي التكريل ـ ي�أخذ‬ ‫على فوكرن مبالغته يف البحث عن تكنيك جديد‪،‬‬ ‫وحماوالته اللغوية امل�ستميتة خللق عوامل كثيفة‪.‬‬ ‫على حد تعبريه‪.‬‬ ‫�أما عبد الرحمن جميد الربيعي فيومئ �إىل‬ ‫ت�أثره بالرواية الوجودية‪ ،‬وب�إعجابه بهمنغواي‬ ‫ووليام فوكرن‪ ،‬و�أن جتربته ال�صحفية قربته‬ ‫من همنغواي كثري ًا لأن الأخري كان �صحافي ًا‬ ‫ومرا�س ًال حربي ًا‪ .‬وبعد �أن ي�شري �إىل قراءات‬ ‫وا�سعة يقول؛ ” و�أنا �أعتقد ب�أنني رغم �إعجابي‬ ‫بعدد كبري من الكتّاب والأعمال ف�إنني مل �أجعل‬ ‫ه�ؤالء الكتاب ي�ؤثرون ّ‬ ‫يف بالدرجة التي جتعلني‪،‬‬ ‫�أو يجعلونني �أقلدهم” �ص‪.68‬‬ ‫و�إذا كنا منتلك تراث ًا �سردي ًا غني ًا ف�إن الرواية‬ ‫هي تخريج �سردي �أوروبي مرتبط مبرحلة منو‬ ‫املدينة احلديثة‪ ،‬و�صعود الربجوازية كطبقة‬ ‫قائدة للفعل االجتماعي يف ع�صر التنوير‪ ،‬وما‬ ‫بعده‪ ،‬حيث الدخول‪ ،‬من ثم يف حقبة الثورة‬ ‫ال�صناعية‪ .‬وقد ا�ستعرنا نحن هذا ال�شكل الأدبي‬ ‫امل�ستحدث‪ .‬وحاول الرواد الأوائل من الروائيني‬ ‫العرب ا�ستناد ًا �إىل عوامل م�ساعدة عدة ومنها‬ ‫تراثنا ال�سردي الذي هو جزء من ثقافتنا‪،‬‬ ‫وخروجنا من قرون الظالم‪ ،‬ودخولنا عتبة ع�صر‬ ‫النه�ضة‪� ..‬أقول؛ حاول �أولئك الرواد تبيئة هذا‬ ‫اجلن�س الأدبي‪ ،‬ف�صارت الرواية جزء ًا هام ًا من‬ ‫�إبداعنا املعريف والفني الراهن‪ .‬ولذا كان الت�أثر‬ ‫والت�أثري حالة طبيعية وغري معيبة‪ ،‬وال �سيما‬ ‫�أن كرث ًا من الروائيني العرب ا�ستطاعوا‪ ،‬مبرور‬ ‫الزمن‪ ،‬اكت�ساب �صوتهم اخلا�ص‪ ،‬ونغمتهم‬ ‫املميزة‪ ،‬و�أ�ساليبهم املتفردة‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫‪manarat‬‬ ‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫الت�صحيح اللغوي‬ ‫‪----------------‬‬‫حممد حنون‬ ‫الت�صميم‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى جعفر‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.