رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
m a n a r a t
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
FAULKNER
2
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
William Faulkner ()1897-1962 ُي َع ُّد وليم فوكرن (فولكرن) William Faulknerمن �أبرز الوجوه يف الأدب الأمريكي والعاملي املعا�صر .كتب روايات وق�ص�ص ًا جتمع يف �سردها بني احلي لل�شخ�صيات ،وتعدد زوايا تيار الوعي ،واالبتكارات اللغوية ،والر�سم ّ النظر ،واالنزياحات الزمنية �ضمن ال�سرد .حاز جائزة نوبل للأدب يف عام ،1949وجائزة الكتاب الوطنية لعام ،1951وجائزة بولتيزر مرتني يف عامي 1959و .1963و ِل َد فوكرن يف مدينة نيو �أولباين ،New Albanyوتويف يف �أك�سفورد Oxfordبوالية م�سي�سيبي Mississippiيف اجلنوب الأمريكي .وخالل ثالثة عقود ونيّف من العمل ن�شر ت�سع ع�شرة رواية ،و�أكرث من ثمانني ق�صة ،وديوانني من ال�شعر ،وعدد ًا كبري ًا من املقاالت .حاول فوكرن بعد احلرب العاملية الأوىل الدرا�سة يف جامعة م�سي�سيبي �إال �أن �إقامته فيها مل تطل ،وع َّل َم َنف�سه الفرن�سية ليقر�أ ال�شعراء الفرن�سيني بودلري وفريلني وماالرميه. تزوج عام � 1929إ�ستيل �أولدم Estelle Oldhamحب �شبابه ،وكان منت�صف اخلم�سينيات �أ�سعد فرتة يف حياته ق�ضاها كاتب ًا مقيم ًا يف جامعة فرجينيا بالقرب من ابنته و�أحفاده. مت ّثل مقاطعة يوكناباتوفا Yoknapatawphaم�سرح الأحداث الأ�سا�سي يف �أعمال فوكرن، وهي منطقة متخيّلة لكنها ترتبط بقوة بالأماكن التي عا�ش فيها والأ�شخا�ص الذين عرفهم .وكانت عائلة فوكرن قد تركت �أثر ًا مه ّم ًا يف تاريخ والية م�سي�سيبي، ف�أحد �أجداده (وهو النموذج الذي �صاغ على غراره �شخ�صية جون �سارتوري�س J.Sartorisيف عدد من رواياته) كان حمامي ًا وجندي ًا ور�سام ًا وباني ًا لل�سكك احلديد و�شاعراً وروائي ًا .وقد ترعرع فوكرن حماط ًا بعائلة م�أخوذة بالتقاليد ،والق�ص�ص املحلية ،واحلكمة ال�شعبية ،والفكاهة الريفية، والروايات البطولية وامل�أ�ساوية عن احلرب الأهلية الأمريكية .وجاءت حياته و�أعماله نوع ًا من ال�شهادة على التغيريات ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية الهائلة التي طر�أت على اجلنوب الأمريكي. كان فوكرن ال�شاب قارئ ًا نهم ًا ،وقد �أبدى منذ مراهقته �شغف ًا بالكتابة والتزام ًا بحياة الكاتب ،حيث كان ّ يخط بيده كتب ًا مزينة بر�سوم تو�ضيحية يو ّزعها على �أ�صدقائه ،ومن بينها دواوين �شعر وم�سرحية واحدة على الأقل، وق�ص�ص وحكايات للأطفال .ومل تقت�صر �سنوات فوكرن الأوىل على الريف اجلنوبي الذي �صاغه يف النهاية على هيئة يوكناباتوفا .فقد تلقى تدريب ًا ّ يف تورنتو كطيار مقاتل يف �سالح اجلو امللكي الكندي يف احلرب العاملية الأوىل .وا�ستوعب الت�أثريات احلداثية التي كانت تغيرّ وجه الفن والأدب يف القرن الع�شرين .ففي �أوا�سط الع�شرينيات ،عا�ش بني الك ّتاب والفنانني
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
احلي الفرن�سي يف مدينة نيو�أورليانز بوالية لويزيانا ،وحظيت يف ّ كتابته الق�ص�صية هناك بالت�شجيع ،خا�ص ًة من قبل الكاتب �شروود �أندر�سن S.Andersonالذي �ش ّكل عمله «واين�سربغ� ،أوهايو» Winesburg ،Ohioعماد احلداثة الأمريكية .وكان فوكرن قد جاء �إىل نيو�أورليانز بعد �أن �أ�صدر ديوان ًا بعنوان «الفاون» �أو «�إلـه املـراعي املرمريّ » The Marble Faunعـام ( ،)1924وهناك �أ ّ مت روايـته الأوىل «جعالة اجلندي» Soldier’s Payعـام ( ،)1926وتدور حـول طيار يعود جريح ًا ليموت يف وطنه� .أما روايتـه الثانيـة «البعو�ض» Mosquitoesعام ( )1927فتحكي عن حياةٍ بوهيمية كان فوكرن قد ر�صدها يف نيو�أورليانز .وبعد َ�س َف ٍر �إىل اخلارج عاد فوكـرن� ،إىل �أك�سفورد ،بن�صيحة من �أندر�سن ،ليبد�أ عقد ًا الفت ًا من الكتابة .وكانت روايته «�سارتوري�س» Sartorisعام (� )1928أول اكت�شاف كبري ملقاطعة يوكناباتوفا التي ّ ظل يطوّ رها ق�ص�صي ًا يف الأربعة والع�شرين عام ًا الالحقة. م ّثلت رواية فوكرن التالية «ال�صخب والعنف» �أو «الهرج واملرج» The Sound and the Furyعام ( )1929تقدّم ًا مذه ًال يف كتابته ،من حيث مت ّكنه من مادته ،وقدرته على ا ّتباع جمموعة غنية من الأ�ساليب ،والتوا�صل مع التقانات والأفكار احلداثية التي �شاعت �آنئذ يف الأدب والفن ،ومنذ ذلك احلني ،راح يج ّرب الأ�شكال اجلديدة يف كتابة ال�سرد .ففي روايته «بينما �أرقد يف ح�ضرة املوت» As I Lay Dyingعام ( )1930ي�ستعر�ض فوكرن �إمكاناته الكتابية يف ميدان تيار الوعي� .أما يف «�أب�شالوم �أب�شالوم!» !Absalom¨ Absalomعام ( )1936فنجد التعقيد الفخم .ومن رواياته الأخرى ك ٌّل من «املالذ» Sanctuaryعام ( )1931و«نور يف �آب» Light in Augustعام ( )1932و«اهبط يا مو�سى» Go Down Mosesعام ( ،)1942و«حكاية» A Fableعام ( )1945وهي �أطول رواياته ،ف� ً «الدب» The ضال عن عدد كبري من الق�ص�ص الق�صرية� ،أهمّها ّ Bearو«وردة لإميلي» .A Rose for Emily ت�شتمل �أعمال فوكرن على دراما نف�سية وعمق انفعايل ،وجتمع بني التجريب التقني والت�شخي�ص البارع واللون املحلي البارز ،وهو ما يبدو جل ّي ًا يف ثالثيته ال�ضخمة امل�ؤلفة من «القرية» The Hamletعام (،)1940 و«البلدة» The Townعام ( )1957و«البيت»The Mansion عام ( )1959التي حتكي ق�صة ت�سلق عائلة �سنوب�س Snopesال�سلم االجتماعي .وقد ا�ستخدم فيها الكاتب كامل خربته وبراعته الو�صفية يف تقدمي �صورة للجنوب الأمريكي ال تخلو من النظرة امل�أ�ساوية �إىل الأ�شياء� ،إال �أنها يف الوقت ذاته حافلة بالدفء وروح النكتة التي تتمتع بها احلكاية ال�شعبية اجلنوبية� ،إ�ضافة �إىل ا�ستخدامه اللغة العامية املحلية يف ال�سرد مما ي�ش َّكل عبئ ًا على القارئ �إال �أنه ي�ضفي الواقعية على الأحداث. كذلك كان فوكرن ليربالي ًا يف تطرقه ملو�ضوع العالقة بني الأعراق بالرغم من مت�سكه بالتقاليد والقيم اجلنوبية ،التي كانت ت�صل يف الكثري من الأحيان درجة التزمت. ميكن النظر �إىل م�ؤلفات فوكـرن ،على تنوع �أ�ساليبها ،على �أنها وحـدة ع�ضوية متكاملة؛ فروايته املم�سرحـة «ترتيلة من �أجل راهبة» Requiem for a Nunعام ( )1951ما هي �إال تتمة لروايته «املالذ» ،وما م�ؤلفه الأخري «الل�صو�ص» � The Reiversإ َّال خامتة هادئة و�سعيدة لإبداع كاتب �أمريكي �سار على خطى جوي�س ووولف وبرو�ست.
3
وليم فوكنر :القلب اإلنساني وفيق يو�سف كانت بداية الأدب االمريكي متوا�ضعة قبل بداية القرن التا�سع ع�شر ،ولكنه راح ي�شق طريقه بثبات واطراد على امتداد الزمن .ومع بداية القرن الع�شرين بد�أ الأدب االمريكي يحتل مكانة رفيعة بني الآداب العاملية ،وذلك على يد كوكبة المعة من االدباء الكبار ،ومنهم الروائي ال�شهري «وليم فوكرن» الذي �أ�سهم ا�سهام ًا بارز ًا يف تطور الرواية الأمريكية ،و�أ�س�س لتيار جديد يف الرواية العاملية. ولد فوكرن عام 1897يف «نيو البايل» ـ امل�سي�سيبي ،احدى مقاطعات اجلنوب االمريكي .وكانت عائلته فقرية للغاية مما �أدى بالطفل اىل الت�شرد والتنقل طوي ًال وعدم االنتظام يف الدرا�سة والعمل يف مهن �شاقة عدة .ويف تلك املرحلة بد�أ الفتى يكرث من املطالعة. وكان جد فوكرن �أ�س�س م�صرف ًا متوا�ضع ًا، فجاء بحفيده ليعمل عنده .وهناك تعرف احلفيد على حمام �شاب يدعى «فيليب �ستون» متابع للحركة االدبية يف امريكا ومطلع على التيارات املتفاعلة فيها. وراح فوكرن يرافق املحامي حل�ضور املناق�شات االدبية واالطالع على نتائج االدباء الالمعني �آنذاك يف ف�ضاء الثقافة االمريكية ك�شروود اندر�سون و�إزارا باوند. وا�ستمرت تلك املرحلة من املعاناة والت�شرد والفقر واكت�شاف احلياة وقراءة الأدب والتنقل بني املهن املختلفة حتى و�صل فوكرن اىل ع�شرينيات حياته. من املفارقات يف حياة الروائي ال�شهري وليم فوكرن انه بد�أ حياته االدبية والفنية بنظم ال�شعر والر�سم بالزيت ،ففي عام 1924 �أ�صدر ديوانه الأول «الظبي املرمري». ويف عام 1925بد�أ بكتابة روايته الأوىل «رواتب اجلنود» وتتحدث عن طيار جريح يعود من احلرب العاملية بجراح بالغة اىل دياره يف جورجيا. ويف عام � 1927أ�صدر روايته الثانية «البعو�ض» .وتدور �أحداثها حول الفنانني وع�شاق الفن يف «نيو �أورليانز» خالل الع�شرينيات ،وبرزت يف الرواية تلك امليزة املهمة التي �ستميز �أدب فوكرن على امتداد حياته ،ونعني اخليال اجلامح� ،إذ كان اخليال هو ال�سمة التي �ضمنت لفوكرن مكانة وطيدة بني الروائيني الكبار يف ع�صره. ويف احلقيقة مل يكن خيال فوكرن وليد جتاربه الالحقة يف احلياة بقدر ما كان �صفة وراثية �أو �سليقة فيه منذ نعومة �أظفاره. ففي طفولته كان ي�ستمع حلكايات الزنوج، وثمة خادمة كانت تعمل لدى عائلته، اتخمت ذاكرته بحكاياتها حول �أيام الرق ومعاناة الزنوج من عبوديتهم ،وخا�صة يف اجلنوب حيث يعي�ش فوكرن .وقد ظهرت تلك احلكايات فيما بعد يف ق�ص�ص الكاتب ورواياته ،ولذلك اعترب النقاد ان خيال فوكرن الوا�سع والنفاذ ،خيال واقعي ان �صح التعبري ،لأنه يعتمد على وقائع التاريخ واحلياة �أ�سا�سا. لقد وجد فوكرن اخري ًا مو�ضوعه االدبي الكبري الذي �سيعاجله يف �سل�سلة من
الروايات :انه م�أ�ساة اجلنوب االمريكي وانهيار القيم الأخالقية واالن�سانية فيه حتت وط�أة غزو ال�شمال االمريكي. واختار فوكرن لرواياته الالحقة مكان ًا ثابت ًا جتري فيه االحداث ،و�سماه «يوكنا باتوفيا» وقد وجد النقاد يف هذا املوقع اجلغرايف رمز ًا للمنطقة التي ولد فيها فوكرن يف اجلنوب ،حيث جعل لهذه املنطقة مركز ًا هي بلدة جفر�سون التي ترمز اىل مدينته اال�صلية ،وبد�أ يكتب روايات تكمل بع�ضها بع�ض ًا وت�صوّ ر احلياة يف تلك املنطقة وتلم مبجتمعها. ومن نتائج تلك املرحلة الفريدة يف حياة الكاتب� ،أن �صدرت له خم�س روايات اعتربت الأهم والأبرز يف حياته ،وهي على التوايل «�سارتوري�س ـ « ،»1929ال�صخب والعنف ـ « ،»1929بينما �أرقد حمت�ضرة ـ « ،»1930حمراب ـ »1931و«نور يف �آب ـ .»1932 ومن تلك املرحلة اخلالقة يف حياة الكاتب ت�ستحق رواية «ال�صخب والعنف» وقفة خا�صة ب�سبب ال�شهرة الهائلة التي عادت بها اليه من جهة ،وب�سبب �أهميتها الفائقة يف م�سار الرواية احلديثة من جهة ثانية� .إذ اعتربت واحدة من �أهم الروايات ال�صادرة يف القرن الع�شرين ،وفيها و�صل فوكرن يف ت�صويره مل�أ�ساة اجلنوب االمريكي اىل ذروة عالية. تروي «ال�صخب والعنف» م�أ�ساة عائلة «كومب�سون» من �أربع وجهات نظر خمتلفة متثلها �شخ�صيات «بنجي ـ االبله» و«كوننت» �شقيقه الذي يقتل نف�سه يف هارفارد، و«جا�سن» ال�شرير املتعط�ش جلمع املال ب�أية و�سيلة و«ديل�سي» اخلادم الأ�سود الذي يحافظ على العائلة .كل �شخ�صية من هذه ال�شخ�صيات الأربع ترى الواقع بطريقتها اخلا�صة .وكل �شخ�صية تعي�ش واقعها اخلا�ص ب�شكل منف�صل متام ًا عن الآخرين. و�إذا كان الأخ الأكرب «جا�سن» ميثل «الأنا» يف ذروة جتليها الفظ (ففيه الغطر�سة النامية عن حقد ،وهو الرجل املتكالب على النجاح املادي مهما تطلب ذلك من خ�سة، وهو ميثل كل قوى الت�صدع النا�شئة عن دمار الأ�سرة العريقة) ،ف�إن الأخ الثاين «كوننت» ميثل «الأنا الأعلى» الذي يحاول انقاذ الأ�سرة واحلفاظ على مكانتها ،وحني يهديه �أبوه �ساعته اخلا�صة ،والتي ورثها بدوره عن �أبيه ومتثل رمز ًا للعائلة ،يقول له« :كوننت ،اين اعطيك �ضريح الآمال والرغبات كلها� ،إنني �أعطيك اياها ال لكي تذكر الزمن ،بل لكي تن�ساه بني �آونة و�أخرى ،فال تنفق كل مالك من نف�س حماو ًال �أن تقهر الزمن ،النه ما من معركة ربحها �أحد .قال �أبي ،ال بل ما من معركة حارب فيها �أحد ،فامليدان ال يك�شف للمرء عن حماقته وي�أ�سه ،وما الن�صر �إال وهم من �أوهام الفال�سفة واملجانني. كان فوكرن كاتبا �أخالقي ًا ملتزم ًا ،وكلمات مثل (ال�شرف واالباء واحلب وال�شجاعة) كثري ًا ما ترتدد يف كتبه ،وقد �أحاطت بها قوى عمياء هي قوى الف�ساد واجلرمية واملادية واجل�شع واخل�سة ،لقد كان فوكرن يرى يف م�أ�ساة اجلنوب االمريكي م�صغر ًا ملا حل بالعامل من فو�ضى اخالقية وانحالل
اجتماعي .ويرى يف ذلك م�أ�ساة كونية. لقد �أراد ان يجابه م�شكلة ال�شر ويتفح�صها من كل جانب ،لكي يرى فعلها يف حياة الب�شر ،وهو لذلك مل يرتك رذيلة �أو جرمية مل يجد لها مكان ًا يف كتبه :ك�صور االغت�صاب والزنا وال�سلب والقتل واالنتحار ،وقتل االخوة وادمان املخدرات وامل�سكرات، و�سلب القبور واخليانة والأنانية ونكران اجلميل ..فهي كلها ت�صور م�أ�ساة اجلنوب االمريكي ،وتنطلق كلها من قلم امل�ؤلف
عاتية ،تعرب عن غ�ضبه وا�شمئزازه ،ولكنه ي�ضع ازاءها الف�ضائل التي يراها �آخذة بالزوال :ال�شهامة ،ال�شجاعة ،احلب، ال�شرف ،االباء وال�شفقة .ويف �أغلب روايات فوكرن �سنالحظ ان النا�س الطيبني عنده هم ال�سود الذين يظهرون طيبتهم يف عالقتهم مع الطبيعة ويف قدرتهم على احلب. وذلك ما �سيكون مو�ضوع روايته اجلديدة «نور يف �آب» ال�صادرة عام ،1932وفيها ي�صور كيف جعلت العن�صرية جمتمع
البي�ض جمنون ًا متام ًا يف اجلنوب االمريكي .ويعلن ال�سقوط الأخالقي للرجل االبي�ض ب�سبب عجزه عن معاملة الزنوج معاملة ان�سانية! ويعرب فوكرن عن قناعته ب�أن املا�ضي هو الذي يتحكم يف الأقدار احلا�ضرة. على �أية حال فقد �أثمرت عبقرية فوكرن اخلالقة يف تلك املرحلة خم�س روايات فائقة القيمة .حتى ان الناقد الأمريكي «ريت�شارد بوفري» اعترب تلك ال�سنوات اخلم�س من حياة فوكرن «مرحلة ال مثيل لها يف اخل�صوبة». وعرب عن قناعته ب�أن �أي كاتب �آخر مل مير بتلك اخل�صوبة اخلالقة ذاتها خالل فرتة زمنية كهذه. مل يتوقف فوكرن عن الكتابة بعد �أعماله الكربى �سابقة الذكر ،بل ظل يكتب الرواية والق�صة وال�شعر� ،إذ كتب اثنتي ع�شرة رواية اخرى ظهرت بني عامي 1935 و 1962مع خم�س جمموعات من الق�ص�ص الق�صرية ،كما ن�شر ديوانه «غ�صن �أخ�ضر» عام .1933 وراحت �شهرة فوكرن متتد وتت�سع حتى اعتربه الناقد مارتن �سيمور �سميث «�أعظم الروائيني الأمريكيني على االطالق» ،وهو بر�أي الآخرين من �أعظمهم على �أية حال. فقال الناقد مالكومل كاويل عن روايات فوكرن :الرواية لدى فوكرن هي كالعمل النحتي ،فبو�سع املرء ان يدور حولها كما يدور حول متثال لكن يف كل مرة على م�شهد خمتلف من الكتلة ال�صلدة ذاتها ،و�أكرث من هذا فالرواية عنده لي�ست حم�ض متثال بل هي �صرح كامل. وبات وليم فوكرن كاتب ًا عاملي ًا من الطراز الأول ،ومت تتويج االعرتاف به عام 1950 مبنحه جائزة نوبل للآداب ،وخالل حفل ت�سلمه اجلائزة �أدىل فوكرن بحديث ق�صري و�صف فيه االن�سان ب�أنه كائن روحي ،وب�أن عامل هذا الكائن الروحي يرتكز على حقائق �أخالقية ومعنوية ثابتة ال تتغري �أبد ًا. لقد ح�شد الكاتب يف كلمته تلك� ،أهم �أفكاره التي نا�ضل من �أجلها طوال حياته وا�شتهر خطابه كن�ص �أدبي ثمني �آخر ،جاء فيه: ان م�أ�ساتنا اليوم تتجلى بخوف مادي يعم الكون ،وقد طال �أمده حتى �ألفناه ف�أم�سينا قادرين على حتمله ،مل تعد هناك م�شاكل تتعلق بالروح ،ولي�س لدى الفرد منا �سوى �س�ؤال واحد :متى �أتدمر؟ لهذا ن�سي �شباب اليوم من الك ّتاب م�شاكل القلب االن�ساين يف نزاعه مع نف�سه ،وهو ال�شيء الوحيد الذي يخلق كتابة جيدة لأنه هو وحده اجلدير بالكتابة عنه واجلدير بالعذاب وال�ضنى. يف الواقع ان خطاب فوكرن �أمام جلنة نوبل اليزال حي ًا وناب�ض ًا باحلياة حتى يومنا هذا� ،أي بعد ن�صف قرن تقريب ًا على زمنه الأ�صلي .وهو ي�شبه و�صية �أدبية من كاتب مرموق اىل ك ّتاب العامل �أجمع وبخا�صة الأجيال اجلديدة منهم. لقد ا�ستمر فوكرن مبدع ًا حار ًا و�أمين ًا لقيمه الأخالقية التي دافع عنها طوال حياته، وحتى وفاته عام ،1962وبوفاته انتهى جيل كامل من الك ّتاب العظماء الذين قدموا للأدب الأمريكي والعاملي كنوز ًا التزال حتافظ على �أهميتها حتى اليوم.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
وليم فوكنر ونقل الواقع بحساسية ملي�س علي «عبارة عن ثوب كبري ..مكوّ ن من رقاع عدة ال نهائية».. على هذا النحو و�صف �أحد �أدباء �أمريكا حال بالده ،معرتف ًا �أنها �أمة غري متما�سكة وغري متجان�سة التكاوين. كان من الطبيعي �إذ ًا �أن ي�أتي الأدب الأمريكي معرب ًا حقيقي ًا عن حال هذا املجتمع املت�صدع واملفكك عرقي ًا. عن قرب عاين وليم فوكرن �أدق تفا�صيل احلياة الأمريكية التي مل تتبلور فيها مالمح الأمة �إىل ثالثينيات القرن املا�ضي. بالتدقيق واملالحظة �أدرك �أن ال�شخ�صية الأمريكية هي �شخ�صية متيل وتنجرف وراء مظاهر العنف وال�ضجة و�صخب الكره. فوكرن ابن اجلنوب عاي�ش واقع بيئة
اجلنوب ،مربز ًا يف �أعماله نقاط ال�شر يف الإن�سان م�صور ًا �صراع اخلري وال�شر. ولد وليم كتبريت فوكرن يف اخلام�س والع�شرين من �أيلول عام 1897يف والية املي�سي�سبي ،وقلما غادر اجلنوب. ال�سبب الأهم الذي �ساعده يف معاينة بيئة اجلنوب �أن تاريخ عائلته كان جزء ًا مهم ًا من تاريخ املكان� -إقليم يوكنا تاوما وعا�صمته جيفو�سون -اقرتب �أكرث من ذلك الواقع من خالل جده الأكرب الذي كان رئي�س ًا لإحدى جمموعات احلرب الأهلية� ،أوالد هذا اجلد �شغلوا منا�صب مرموقة. جد فوكرن كان مدير بنك ،ا�ستق�صى وليم تاريخ العائلة ووثائقها.. رف�ض هذا التاريخ ومترد عليه ..فكان النقب والناقد لهذه البيئة على الدوام. من مظاهر العنف التي �صورها يف �أعماله املظاهر الأيروتبكية متتلئ رواياته مبا يعرب
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
عن هذا العنف كواقع الم�سه ،جمتمع ميور بالفو�ضى الال �أخالقية ،التي ت�صف حال عدم الن�ضج الأيروتيكي. اهتمامه بهذا املحور �شكل ثيمة �أ�سا�سية يف ن�صو�صه ،وروايته ال�شهرية (ال�صخب والعنف) تكاد تلخ�ص جممل ر�سالته الفكرية، تدور حول �أ�سرة كومب�سون ،يرى بع�ض النقاد �أنها لي�ست �سوى �أ�سرة الروائي� ،أحد �أبطالها ي�سعى ل�سرقة نقود �أخته ،وبدورها ت�أتي �صديقته لت�سرق املال منه كلما تخفق العائلة تزداد مت�سك ًا باملا�ضي. الرواية تدور حول فكرة �أن الإن�سان الذي ميار�س �سلوك ًا غري قومي مع غريه ف�إنه البد ان ينعك�س ب�شكل ماعليه. مل يتبو�أ فوكرن مكانته الأدبية كونه روائي ًا عبرّ عن واقع اجلنوب الأمريكي بكل تطرفه و�شذوذه� ،آماله و�أوجاعه فح�سب� ،إمنا ب�سبب تقنيات ال�سرد الروائي البكر التي
خا�ض فيها ،م�ستخدم ًا الزمن ك�أداة �سردية تعرب عن الفو�ضى وال�ضجة ،كما يف الرواية ال�سابقة. فيها اليطمئن �إىل ت�سل�سل منطقي للأحداث، بل يلج�أ �إىل تقنية (الولوج �إىل احلدث)، ثم يعود �إىل حتليل هذه الأحداث من خالل املونولوج الداخلي للأبطال ،رمبا ي�شتمل ذلك على نوع من التداعي. توظيفه الزمن بطريقة ال تقليدية جعل من الروائي والفيل�سوف الفرن�سي جان بول �سارتر يكتب درا�سة عن خا�صية الزمن عنده بعنوان (مفهوم الزمن عند فوكرن). ترجمت م�ؤخر ًا للروائي رواية (وردة �إمييلي) عن م�شروع كلمة للرتجمة ،وكان قد كتب �أوىل رواياته (�أجور اجلند) عام ،1926والرواية الأ�شهر (ال�صخب والعنف) عام 1929م ومل يعرتف به عاملي ًا �إال حني نال جائزة نوبل عام 1949م.
قوة �أفكاره وجر�أته يف طرحها ،كما نقا�شه امل�ستمر للعالقات ما بني بي�ض و�سود، وتركيزه على مظاهر ال�شذوذ والعنف ،كانت موطن �إعجاب لدى البع�ض ،وانتقاد لدى البع�ض الآخر ،بذات الوقت مل يقلل ذلك من قيمة ابتكاراته ال�سردية ،وخو�ضه يف جمال اجلديد تقني ًا.. ومل ينكر �أهم �أدباء العامل ت�أثرهم ب�أدبه منهم الكولومبي غابرييل غار�سيا ماركيز الذي قال (�إذا كانت رواياتي جيدة فذلك ل�سبب واحد هو �أنني حاولت �أن �أجتاوز فوكرن يف كتابة ما هو م�ستحيل). واعرتف كذلك البريويف يو�سا بت�أثري فوكرن (اليوجد كاتب من �أمريكا الالتينية من جيلي مل يت�أثر ب�شكل مبا�شر بفوكرن). تويف وليم فوكرن يف ال�ساد�س من متوز عام 1962تارك ًا �إرث ًا �أدبي ًا و�صل �إىل 19كتاب ًا ما بني رواية وق�صة ق�صرية.
و�صفت رواية "ال�صخب والعنف" للروائي الأمريكي املعروف وليم فوكرن ( 1897ـ )1962ب�أنها "رواية الروائيني" ،وتكاد هذه ال�صفة تختزل �أ�سلوب وعوامل ومناخات هذه الرواية؛ الباهظة ال�صعوبة ،فقد اكت�سبت الرواية هذه ال�صفة نظرا لأ�سلوبها املعقد واجلذاب يف �آن ،وطريقة �سردها املت�شابك ،وبنائها الروائي املحكم ما جعلها �إحدى �أهم الكال�سيكيات الروائية لي�س يف الواليات املتحدة فح�سب حيث �صدرت الرواية للمرة الأوىل يف عام 1929م ،بل يف العامل ب�أ�سره� ،إذ �صدرت لها طبعات ال حت�صى ،وترجمت الرواية �إىل خمتلف اللغات احلية يف العامل، بينها الرتجمة العربية التي �أجنزها جربا �إبراهيم جربا. كان فوكرن يف مطلع الثالثينيات من عمره حني �أ�صدر "ال�صخب والعنف" التي حتتل الرتتيب اخلام�س بني كتبه التي بلغ جمموعها نحو خم�سني كتابا، ومع ذلك ُعدّت �أف�ضل ما كتب فوكرن، فقد �شغلت اهتمام النقاد والدار�سني، واعترب تركيبها الفني �إجنازا �أدبيا فريدا .ويبني جربا �إبراهيم جربا يف مقدمته الالفتة للطبعة العربية الظروف التي مهدت لظهور مثل هذا العمل الأدبي املتميز� ،إذ يقول بان "العقود الأوىل للقرن الع�شرين (وهي الفرتة التي �شب فيها فوكرن)� ،شكّلت فرتة من �أهم فرتات التجريب و�أخ�صبها يف تاريخ الرواية الغربية ،فهي الفرتة التي ملع فيها �شعراء مثل ت�.س� .إليوت ،وعزرا باوند وكالهما �أ ّثر يف تغيري �أ�شكال الأدب ال يف ال�شعر بل يف النرث �أي�ضا، وهي الفرتة التي تر�سخت فيها نظريات فرويد ويونغ يف الالوعي ،ف�صار امل�ؤلف يتغلغل يف خفايا ال�شخ�صية ويكت�شف طبقات الوعي ال�سفلي�" ،إىل �أن يبلغ تر�سبت فيها جتارب احلياة القرارة التي ّ وذكرياتها و�أحالمها" ،وهي الفرتة التي ظهرت فيها ال�سوريالية م�ستمدة قوتها من نظريات الالوعي ،وظهرت يف هذه الفرتة روايتان مهمتان �أثرتا يف معظم ما كتب فيما بعدهما" :البحث عن الزمن ال�ضائع" ملار�سيل برو�ست ،و"يولي�سيز" جليم�س جوي�س. ويرى جربا �أن فوكرن كان يت�ش ّرب هذه الت�أثريات وغريها على مهل ،وعندما
5
"الصخب والعنف" ..تقنية سردية تروي أسطورة الجنوب األمريكي ابراهيم حاج عبدي �شرع يف كتابة "ال�صخب والعنف" ،التي ا�ستغرقت نحو ثالث �سنوات ،كان قد ه�ضم ت�أثريات فرتته بحيث ا�ستطاع �أن يجعل منها عدة لرواياته ،التي تعتمد املونولوج الداخلي ،وتقنية الفال�ش باك (العودة �إىل املا�ضي القريب والبعيد)، ووظف ،كذلك ،التحليل النف�سي الفرويدي حول الـ (هو) والـ (�أنا) ،والـ (الأنا الأعلى) و(الليبيدو)� ،أي الطاقة اجلن�سية. ال�صراع يف رواية فوكرن هذه ،كما يف معظم رواياته ،يتجلى يف ال�صراع بني خا�صة ال�شمال الأمريكي وبني جنوبهّ ، بعد �أن خ�سر اجلنوب احلرب الأهلية وغزاه ال�شمال بو�سائل �شتى غريت معامل احلياة فيه" ،وهذا التغري مبا �سمو ،من �شهامة فيه من انحطاط �أو ّ �أو حقارة ،ومبا �سبقه وتاله من جرائم
و�صراع وهتك عر�ض ،هو مو�ضوع فوكرن" .ويف مقابل تركيز فوكرن على الظواهر ال�سلبية وانحطاط الأخالق، ف�إن ال�شرف والإباء كلمتان ترتددان يف �أكرث كتبه ،فهو حني يوغل عميقا يف �إبراز ال�شر ،وميعن يف احلديث عن اجلرمية واجل�شع والف�ساد...ف�إمنا يهدف من وراء ذلك �إىل الإعالء من �ش�أن كل ما هو نقي�ض لهذه ال�سلبيات، وبالتايل فان كتبه التي حتفل بعنا�صر الق�سوة والعنف وال�شر ،ت�ضمر ،يف الآن ذاته ،دعوة خفية �إىل التم�سك بالنقي�ض �أي قيم ال�شجاعة والوفاء والكربياء والإباء واحلب ،...ويتخذ فوكرن من اجلنوب م�سرحا يعتربه امنوذجا م�صغرا ملا حل بالعامل من فو�ضى خلق ّية وانحالل اجتماعي ،ويرى يف ذلك م�أ�ساة كونية"� .إنه �صراع بني مادية
ال�شمال ومثالية اجلنوب" ،لكن تقاليد اجلنوب العريقة ،نف�سها ،فيها الكثري من البلى والوهم ،وتفوح منها رائحة املوت" ،كما يرى �صاحب "نور يف �آب". ـ وقائع الرواية: وفقا لهذا التمهيد ،ف�إن رواية "ال�صخب كمب�سن والعنف" تتناول �سرية �آل ُ (املقيمة يف دار كبرية يف مدينة جفر�سون ،ويف خدمتها عدد من الزنوج �أهمهم دلزي) .حتاول التم�سك بالتقاليد االر�ستقراطية عبث ًا ،فالأب وهو بليغ الكالم ،يعتكف على مطالعة الكتب الكال�سيكية ومعاقرة اخلمر ين�شد فيهما ن�سيان تيار احلياة اجلديدة ،والأم "�سيدة" �شديدة الكربياء والرتفع لكنها دائمة املر�ض تق�ضي �أوقاتها يف الفرا�ش م�صرة على منزلتها االجتماعية ،وال تثق �إال بابنها جا�سن ،وهو الذي ي�سلب
مالها من دون وعي منها لأغرا�ضه ال�شخ�صية .تبيع الأ�سرة قطعة ثمينة من �أرا�ضيها لإر�سال كونتنِ �إىل جامعة هارفارد ،وهو يحب �أخته كاندي ،حب ًا �شديد ًا ،ولكنه يت�أمل جد ًا عندما يعلم �أ ّنها ع�شقت رج ًال غريب ًا و�ضاجعته ،فال ي�ستطيع �أن يتحمل فكرة فقدانها العفاف ُمب�سن، وما يف ذلك من و�صم ل�شرف �آل ك ُ فيدعي �أمام �أبيه �أ ّنه هو الذي �ضاجعها! ثم تتزوج �أخته وهو يف هارفارد بعد ذلك مبدة ق�صرية ،فينتحر غرق ًا يف نهر ت�شارلز يف كيمربيدج� .أما �أخته كاند�س �أو كادي ،فيكت�شف زوجها �أنها حامل من رجل �آخر ،فت�سوء �سمعتها ( وقد �أخذت الأ�سرة ابنتها لرتبيتها) �إىل �أن ن�سمع �أخري ًا �أنها ع�شيقة جلرنال �أملاين يف باري�س ،ويف هذه الأثناء كانت كاندي تر�سل �أول كل �شهر مقدارا من النقود كي ي�صرف على ابنتها كوننت (التي �سميت با�سم خالها بعد انتحاره) ولكن جا�سن كان يكرهها وي�شاك�سها ،ويكره ُ ابنتها �أي�ضا ،يت�سلم املال ويخفيه عن الفتاة التي تكت�شف اخلدعة ،وحت�صل على املال امل�سروق وتهرب مع �أحد ممثلي ال�سريك .وطوال هذه ال�سنني كان بنجامني �أو بنجي املعتوه؛ يحظى بعناية اخلدم الزنوج مع عطف �شديد من دلزي ،ومن �شقيقته كاندي التي �أحبها كثريا ،ويهاجم مرة فتاة فيطلب جا�سن �إىل �أبيه �أن يخ�صيه دون جدوى، ُ �إىل �أن ميوت الأب فيخ�صى بنجي ثم جا�سن �أخاه بنجي متوت الأم ،في�ضع ُ يف م�ست�شفى املجانني وي�سرح اخلادمة دلزي و�أوالدها ،ويبيع الدار لرجل يحولها �إىل نزل وال يبقى من الأ�سرة �شيء� ،إذ تتال�شى �أ�سطورتها مع �ضياع قيم اجلنوب ونقائها. الرواية� ،إذا ،تعالج انهيار عائلة كمب�سن من خالل ا�ستذكار ثالثة �إخوة للما�ضي، ف�ضال عن الق�سم الأخري الذي يرويه امل�ؤلف ،لذلك هي �أ�شبه ب�سيمفونية تتكرر فيها الإ�شارة �إىل احلوادث نف�سها "ك�أن كل حادثة موتيف يف ال�سيمفونية تعزفها كل مرة �آلة خمتلفة" .بنجي الذي يروي احلكاية يف 7ني�سان 1928معتوه ،ي�سمع ولكن ال ينطق وال ي�ستطيع �إال ال�صراخ والعويل وهو حني يروي احلوادث ال ي�ستطيع �أن يرتبها زمني ًا ،وما حدث قبل ع�شرين �سنة وما حدث اليوم كالهما مت�ساوي الأهمية يف �سرده ،مت�ساوي الو�ضوح بكل ما فيه من جدة وطرافة وبراءة� ،إنها حكاية يرويها معتوه ،وكوننت الذي ي�سرد حكايته يف 2حزيران 1910طالب يف هارفارد مفرط احل�سا�سية؛ �شديد التعلق ب�شرف الأ�سرة ،وجا�سن الذي يروي احلكاية بتاريخ 6ني�سان ّ 1928 فظ، �سادي� ،أناين ،يبغي من احلياة �شر�س، ّ النجاح وجتميع الرثوة عن �أي طريق. ولأنّ الرواية مبنية على تدفق الذكريات ،وعلى �سرد احلوادث ذاتها بل�سان �أكرث من �شخ�صية ،جند �أن �أحداث الرواية ال تت�صاعد على نحو تقليدي؛ منطقي ،بقدر ما تدور على نف�سها �أو تتحرك يف خطوط متوازية، �إذ تنه�ض الرواية على ثالثة �أ�صوات متباينة ،ف�ضال عن �صوت الراوي امل�ؤلف ،وهذا يقود القارئ �إىل االنتقال عرب الأزمنة املختلفة ،فتختلط عليه الوقائع ،وهو ما دفع فوكرن �إىل كتابة ملحق للرواية ،بعد �سنوات من �صدورها ،كي يقدم للقراء مفاتيح تعينه على اخلو�ض يف جماهلها ومغاليقها، واتبع كذلك �شكال طباعيا عرب ا�ستخدام احلرف املائل حينا �أو جتاهل الرتقيم �أحيانا وذلك لأجل التمييز بني املا�ضي واحلا�ضر ،وبني املونولوج واحلديث الواعي.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
با�سم توفيق (احلياة ق�صة يرويها معتوه مليئة بال�ضجة والغ�ضب وال تعني �شيئا) وليم �شك�سبري من م�سرحية ماكبث الف�صل اخلام�س امل�شهد اخلام�س. �إذن ماذا ق�صد �شك�سبري بهذه اجلملة القا�سية التي �أوردها على ل�سان ماكبث؟ هل ق�صد بها �أن العنف وال�صخب قانون من قوانني ال�سرد احلياتي املعا�ش �أو حتى ق�صد بها �أن ال�ضجة والأمل هما احد �أبرز خطني رئي�سيني يف احلدث الدرامي رمبا لكنه مل يكن يدرك ان هذه احلكمة ال�صغرية �سوف ت�شكل مدر�سة فكرية كبرية يف �أزهى ع�صور الفكر الروائي الأمريكي ولعل هذا يدفعنا للت�سا�ؤل عن بع�ض ماهيات الفكر الأمريكي من خالل الطرح الأدبي لهذه الأمة التي واحلق يقال مل ت�شكل �أمة فعلية متما�سكة ومتجان�سة لفرتات طالت حتى ثالثينيات القرن املا�ضي حيث كانت كما يقول الكاتب الأمريكي هرني ميلر (عبارة عن ثوب كبري ومرتام مل يكن له ن�سيج ا�سا�سي بل هو مكون من رقاع عدة النهائية وكل رقعة من هذه الرقاع تتكون بدورها من عدد �آخر من الرقاع وهكذا فتبدوا مثل مهرج عمالق لي�س له �أي هوية) ومل يكن ميلر مبالغا حني قال ذلك حيث الزالت الواليات املتحدة تعاين خما�ضا وجوديا مل ي�سفر �إال عن بع�ض ال�شكليات التي قد تعطي لها رهبة بني املجتمع العاملي ك�أمة عمالقة لها مذهب و�شعب موحد. على اية حال لي�س هذا الت�صدع الأنثولوجي هو ما نن�شد ان نلج ل�صلبه لكن ما نريد ان ن�ستخل�صه هنا ان الأدب الأمريكي اي�ضا كنتاج فكري لهذا الت�صدع الأنثولوجي والتفكك العرقي امل�سترت هذا النتاج ا�صبح طبيعيا ان ي�ضم كل هذه ال�سمات لهذا املجتمع ذي الرقاع الالنهائية على حد تعبري ميلر وتتمحور �سمات هذا الأدب حول عدة ق�ضايا الزالت ت�شكل حمورا رئي�سيا لنقد الأدب الأمريكي ومنها على �سبيل املثال العنف والمعقولية الكره والنفعية كل هذه ال�سمات متثل حماور رئي�سية للأدب الأمريكي ولعلنا قد نقول ب�شيء من القطع ان ت�أخر الأدب الأمريكي لزهاء ثالثة قرون قد كان �إحدى نتائج عدم متازج هذا املجتمع وحيث كان ال�صراع بني ال�شمال واجلنوب �إحدى البذور التي منا عليها الأدب الأمريكي يف بدايته لكن اي�ضا ال�شخ�صية الأمريكية العريقة �إذا
قبل أن يطويه النسيان
�صح تعبري (عريقة) �شخ�صية ال متيل اىل الفكر والأدب بل متيل �أكرث �إىل ال�صخب والعنف ومن هنا منت هذه الفكرة يف الأدب الأمريكي ب�شكل مطرد حتى بلغت زروتها
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
عند كتاب بعينهم مثل وليم فوكرن وارن�ست هينمجواي وقد يت�ساءل البع�ض هل هذا التهور كان ا�سا�س الراوية الأمريكية على ا�سا�س انه حتليل لل�شخ�صية الأمريكية يف
جمملها ؟ بالطبع مل تكن هذه هي ال�شخ�صية الأمريكية التي دخلت الأدب وخا�صة الفن الروائي بل كانت هناك �شخ�صية اخرى ت�شكل ردا فعليا على تهور ال�شخ�صية
الأمريكية وتخلق نوعا من التنوع والتلون يف تخطيط ال�شخ�صية وهذه ال�شخ�صية الأخرى هي �شخ�صية (املعتوه) �أو على حد التف�سري احلريف (العبيط) وهذه ال�شخ�صية هي البديل الطبيعي ل�شخ�صية الطيب �أو ال�صالح يف الرواية الأوروبية لكن الفرق بني ال�شخ�صيتني ان الطيب يف الرواية الأوروبية مدرك لكل ف�ضائله وفاعال للخري عن ق�صد لكن (العبيط) �أو املعتوه يف الرواية الأمريكية خريا رغم انفه لدرجة انه يف بع�ض الروايات يكون عليه فعل اخلري �أو الرمز اليه دون ان يتبني �أو يدرك ف�ضائله وهذه ال�شخ�صية تفجر بها الأدب الأمريكي يف معظم ع�صوره وحتى الآن حيث ا�ستخدمها همنجواي مرات عدة و�أ�صبحت هي احدى ال�شخ�صيات املحببة والرئي�سة عند فوكرن اي�ضا ونقف هنا عند فوكرن بع�ض ال�شيء باعتباره هو �سيد احلدث الآن يف اكرث من 6واليات امريكية يف اجلنوب حيث قررت بومبي هيد وهي احدى مدن اجلنوب ومالبوري وكان على ر�أ�سهم (نيو البايل) باملي�سي�سبي والتي هي م�سقط ر�أ�س هذا الأديب الالمع قررت كل هذه الواليات بت�أ�سي�س رابطة حتافظ على �أدب وليم فوكرن وجلنة �شعبية لتنظيم احتفال �شعبي بفوكرن كل عام باعتبار ان فوكرن هو الذي عرب عن اجلنوب الأمريكي بكل �أحالمه و�أحزانه بالطبع ا�ستوقفنا هذا احلدث الذي قد يعيد لفوكرن كل ما �سلب منه مع مرور ال�سنوات بالرغم انه ح�صل على جائزة نوبل يف الآداب عام � 1942إال �أن يد الن�سيان كادت تلحق به وخ�صو�صا على امل�ستوى ال�شعبي بالرغم من انه الزال من الكتاب الأكرث مبيعا يف �سوق الكتاب العاملي عامة والأمريكي خا�صة . قبل �أن نرتك معاتيه فوكرن اىل حياته ال�شخ�صية وفكره يجب ان نعر�ض لهذه ال�شخ�صية عند فوكرن بالطبع قد يكون
فوكرن قد ا�ستخدمها مثلما ا�ستخدم �شك�سبري �شخ�صية املهرج فوق خ�شبة امل�سرح حيث حملها بع�ض احلكم واملواعظ لكنها �أي�ضا عند فوكرن ت�شارك يف احلدث وت�شارك يف خطايا الآخرين بل وي�ستخدمها ك�أداة يف التيار ال�سردي للروايات الأكرث �ضخامة مثل �شخ�صية (بنجي) يف رائعته (ال�ضجة والغ�ضب) ذلك املعتوه الذي مت اخ�صا�ؤه بعد حماولته اغت�صاب طفلة �صغرية ثم ي�ستخدم �شخ�صية املعتوه الأكرث خطرا الذي يتنب�أ بوقوع الأخطار وهو (داريل) يف روايته امللحمية (بينما ا�ستلقي حمت�ضرا) ثم �شخ�صية املعتوه الذي يقتل ملجرد انه ر�أى جرمية الذنب له فيها (تويل) يف روايته �شبه البولي�سية (احلرم) وتتواىل املعاتيه يف روايات فوكرن ب�شكل قد ن�صفه باملر�ضي يف بع�ض الأحيان وقبل ان نعول على هذه التيمة ب�شكل نقدي لن�سمع ر�أي فوكرن نف�سه يف هذه ال�شخ�صية حيث يقول يف روايته البعو�ض (وبينما كنت انتظرهم جل�ست احدث رجال ق�صريا رجال زجنيا .....ال انه ابي�ض لوحته ال�شم�س ب�صورة هائلة يرتدي ثيابا رثة وال ي�ضع ربطة عنق �أو قبعة. اخربين �أنه كاذب حمرتف وانه يحيا من هذه املهنة الغريبة ويربح من املال ما يكفي لأن ي�شرتي �سيارة فورد �إذا ا�ستوفى جميع املبالغ التي ي�ستحقها ..اعتقد انه جمنون ...انه لي�س خطرا انه جمنون وح�سب) وقد يرى البع�ض هنا انه ي�صف نف�سه كما �أكد البري كامو لكن هذا يعطينا تخيال ملاهية اجلنون عند فوكرن فقد يرى فوكرن انه حمرك لل�شخ�صية لكنه يف معظم الأحيان لي�س خطرا وهذه املداخلة بالفعل هي ما ا�ستخدمه الأدب الأمريكي احلديث فيما بعد حيث جعل من اجلنون �أو العته �سببا لالبداع والتفوق اما بالعبقرية �شبه املر�ضية �أو بالعته الإبداعي مثل �شخ�صية فور�ست جامب والتي قدمتها لنا ال�سينما الأمريكية يف �إطار �أ�شد ما يكون من اجلاذبية وحملتها عمقا فل�سفيا وفنيا خليقا ب�أن يلخ�ص ال�شخ�صية الأمريكية وهي كما ي�صفها �سيناريو الفيلم (حا�صل على ثماين جوائز او�سكار وقام ببطولته النجم توم هانك�س) �شخ�صية تعاين انخفا�ضا �شبه مر�ضي يف ن�سبة ذكائها لكن فور�ست جامب هذا املعتوه امل�سامل يكون هذا العته بالن�سبة له هو اهم نقاط جناحه وتفوقه فهو على الرغم من انه معتوه �إال انه �شديد االميان بنف�سه وبعطف املحيطني به (قارن ذلك بال�سيا�سة الأمريكية احلالية) كذلك
يجد فور�ست يف الطاعة و�سماع الأوامر وتنفيذها جناحا كبريا ومن هنا يتفوق فور�ست يف كل ما يفعله حتى يف اجلي�ش يف خ�ضم معارك فيتنام اخلا�سرة يتفوق الطاعته الأوامر من هنا تكون �شخ�صية املعتوه والقا�صر الذكاء تراثا امريكيا تعرب عن التفوق الأمريكي املرتبط بال�سري قدما نحو تنفيذ خطط حمددة من خالل ك�سب عطف الآخرين حتى ولو ق�صرا .ونعود لفوكرن حيث نرى انه اي�ضا ي�ستخدم الزمن يف رواياته كتقنية �سردية خمتلفة متام ًا بحيث يجعل من الزمن �أداة للتعبري عن الفو�ضى وال�صخب كما يف روايته (ال�ضجة والغ�ضب) فهو لي�س ككل الروائيني التقليدين ي�سرد احلدث مبنطقية زمنية مرتبة بل هو ي�ستخدم تقنية اغريقية قدمية ا�ستخدمها اعظم كتاب امللحمة هومريو�س �أي انه ال يبد�أ بالرتتيب الزمني يف �سرد الأحداث بل يبد�أ ب�أن ي�ضعك يف خ�ضم الأحداث اوال وهو ما يعرف بتقنية الولوج اىل احلدث (In Medias )Resكما يقول النقاد الرومان ثم يعود فيحلل هذه الأحداث من خالل املنولوج الداخلي لأبطاله وال يتبع الرتتيب اي�ضا حيث انه ي�ستخدم ما ي�شبه اي�ضا مذهب ال�سببية وتداعي املعاين عند الفيل�سوف (هيوم) حيث يقودنا التداعي يف املنولوج الداخلي عند ابطاله اىل هذه امل�ساحة من الذكريات والتف�سريات التي تك�شف عن غمو�ض احلدث اذن هذا اال�ستخدام االبداعي خلا�صية الزمن يف ال�سرد الروائي عند فوكرن هي �أحد اهم خ�صائ�صه املميزة والعبقرية لدرجة ان هذه اخلا�صية دفعت الفيل�سوف والروائي العظيم جان بول �سارتر اىل كتابة درا�سة عن هذه اخلا�صية عند فوكرن بعنوان (مفهوم الزمن عند فوكرن) اذن فوكرن من اهم كتاب الرواية الذين كان لهم وجهة نظر فل�سفية يف ادارة اجتاه الزمن يف ال�سرد الروائي . هناك اي�ضا ما يجعلنا نت�ساءل عن حدود الفعل اجلن�سي عند فوكرن حيث ان رواياته امتلأت بامياءات واحداث اقل ما يطلق عليها انها تعر�ض للعنف اجلن�سي والال�سواء يف املجتمع الأمريكي فمعظم رواياته ي�سيطر عليها االغت�صاب واالخ�صاء وغريها من التيمات التي تعرب عن العنف اجلن�سي
يف اجلنوب الأمريكي فمثال يحاول بنجي املعتوه اغت�صاب طفلة �صغرية فيقوم اهله ب�إخ�صائه ليتمكنوا من ال�سيطرة على رغباته اجلاحمة يف رواية (ال�ضجة والغ�ضب) كما يتم اخ�صاء جو كري�سما�س البطل الزجني لرواية (نور يف اغ�سط�س) لأنه قتل امر�أة بي�ضاء عجوزة النهاء عالقته امل�شينة معها ويف راوية احلرم ي�ستخدم املجرم العاجز جن�سيا (بوبي) كوز ذرة يف اغت�صاب متبل دريك الفتاة ال�شابة ....والأمثلة كثرية يف روايات فوكرن على هذه الفو�ضى الال�أخالقية
والتي تت�سم بعدم ال�سواء اجلن�سي يف معظم الأحيان مما دفع بع�ض النقاد مثل هاري هارتريك ان ي�صف فوكرن بال�سادية الروائية يف كتابه (ا�س�س الرواية الأمريكية) �إال ان معظم النقاد اعتربوا ان تناول فوكرن لهذه الأحداث جزء من التنبيه الأخالقي كنقد للكف اخلاطىء يف العملية اجلن�سية عند �أهل اجلنوب كما �أن املجتمعات اجلنوبية كانت كما عا�صرها فوكرن الزالت تتمتع بهذه اخلا�صية املنغلقة والت�سرتية من الناحية اجلن�سية . ولد فوكرن عام 1897يف نيو البايل
7
امل�سي�سيبي ،احدى مقاطعات اجلنوب االمريكي .وكانت عائلته فقرية للغاية مما �أدى بالطفل اىل الت�شرد والتنقل طوي ًال وعدم االنتظام يف الدرا�سة والعمل يف مهن �شاقة عدة .ويف تلك املرحلة بد�أ الفتى يكرث من املطالعة. وكان جد فوكرن �أ�س�س م�صرف ًا متوا�ضع ًا، فجاء بحفيده ليعمل عنده .وهناك تعرف احلفيد على حمام �شاب يدعى فيليب �ستون متابع للحركة االدبية يف امريكا ومطلع على التيارات املتفاعلة فيها. وراح فوكرن يرافق املحامي حل�ضور املناق�شات االدبية واالطالع على نتائج االدباء الالمعني �آنذاك يف ف�ضاء الثقافة االمريكية ك�شروود اندر�سون و�إزارا باوند. وا�ستمرت تلك املرحلة من املعاناة والت�شرد والفقر واكت�شاف احلياة وقراءة الأدب والتنقل بني املهن املختلفة حتى و�صل فوكرن اىل ع�شرينيات حياته. ق�ضى وليم فوكرن معظم حياته فى اجلنوب ،حيث ولد ون�ش�أ با�ستثناء فرتات ق�صرية غادر فيها منطقة امل�سي�سبي اىل نيويورك� ،أو اىل نيو �أورليانز ،ومرة اىل كندا ،و�أخرى اىل �أوروبا -وكلها زيارات ق�صرية ال تقارن مبا فعله ال ُك ّتاب الأمريكيني من �أبناء جيله .ومل يكمل تعليمه الثانوي ،ودر�س فرتة ب�سيطة يف جامعة امل�سي�سبي ،حيث كانت نتيجته متو�سطة با�ستثناء اللغة الإجنليزية، ثم �أخذ يت�صرف وك�أنه يبحث عن ذاته ،فارتدى نظارة �أحادية الزجاجة، و�أطلق حليته وم�شى حايف القدمني يف ال�شوارع وارتدى املالب�س الغريبة كما انه جرب العديد من الأعمال؛ بائع كتب يف خمزن جتاري ،مدير بريد يف اجلامعة ،ثم جنار وغري ذلك ،واكت�سب بذلك �سمعة ال�شخ�ص الذي ال ي�صلح ل�شيء. بد�أ حياته الأدبية بكتابة ال�شعر ،وبعد �سفره اىل نيواوريانز واختالطه بالو�سط الأدبي هناك ،اجته -حتت ت�أثري �شريوود اندر�سون اىل كتابة النرث ،كتب روايتني مل يكتب لهماالنجاح ،ولكنه كان يتح�س�س فيهما طريقه اىل عامله اخلا�ص ،ولكن الفرتة العظيمة فى حياته ككاتب هي من 1929حتى 1942 .وقد كتب روايته (بينما �أرقد حمت�ضرة 1930م) يف �ستة �أ�سابيع �صيفية خالل
الثانية ع�شرة من منت�صف الليل اىل الرابعة �صباح ًا اما تركة فوكرن عند وفاته فبلغت 19 كتاب ًا بني الرواية والق�صة الق�صرية ويُذكر ان الروائي ال�شهري �ألبري كامو �أعد له رواية للم�سرح ومت متثيلها يف امل�سارح الفرن�سية والأوروبية. مل تكن كتاباته فى الأربعينيات واخلم�سينيات فى م�ستوى الفرتة الغنية التى ذكرت �سابقا ،وفى عام 1950ح�صل على جائزة نوبل للآداب ،و�ألقى خطابا يعترب قطعة فنية وموقفا ان�سانيا رائعا . يقول الناقد مالكومل كاويل عن روايات فوكرن :الرواية لدى فوكرن هي كالعمل النحتي ،فبو�سع املرء ان يدور حولها كما يدور حول متثال لكن يف كل مرة على م�شهد خمتلف من الكتلة ال�صلدة ذاتها ،و�أكرث من هذا فالرواية عنده لي�ست حم�ض متثال بل هي �صرح كامل. وبات وليم فوكرن كاتب ًا عاملي ًا من الطراز الأول ،ومت تتويج االعرتاف به عام 1950 مبنحه جائزة نوبل للآداب ،وخالل حفل ت�سلمه اجلائزة �أدىل فوكرن بحديث ق�صري و�صف فيه االن�سان ب�أنه كائن روحي ،وب�أن عامل هذا الكائن الروحي يرتكز على حقائق �أخالقية ومعنوية ثابتة ال تتغري �أبد ًا. لقد ح�شد الكاتب يف كلمته تلك� ،أهم �أفكاره التي نا�ضل من �أجلها طوال حياته وا�شتهر خطابه كن�ص �أدبي ثمني �آخر ،جاء فيه :ان م�أ�ساتنا اليوم تتجلى بخوف مادي يعم الكون ،وقد طال �أمده حتى �ألفناه ف�أم�سينا قادرين على حتمله ،مل تعد هناك م�شاكل تتعلق بالروح ،ولي�س لدى الفرد منا �سوى �س�ؤال واحد :متى �أتدمر؟ لهذا ن�سي �شباب اليوم من الك ّتاب م�شاكل القلب االن�ساين يف نزاعه مع نف�سه ،وهو ال�شيء الوحيد الذي يخلق كتابة جيدة لأنه هو وحده اجلدير بالكتابة عنه واجلدير بالعذاب وال�ضنى. ولقد و�صل فوكرن اىل اوج ت�ألقه بني الأدباء الأوربيني حيث اعجبت به اوروبا ب�شكل هو�سي وا�صبح من اهم كتاب الرواية عندهم ونختتم كالمنا عن فوكرن مبقولة ب�سيطة على ل�سانه هو ي�صف فيها الكلمات حيث يقول (ال ادعي ب�أن للكلمات حياة م�ستقلة ولكني اعتقد ان الكلمات �إذا جمعت مبهارة فائقة تنتج �شيئا حيا كما تخلق اجلو والأر�ض والأحوال املالئمة الأ�شجار ف�إن الكلمات كالأغ�صان ال تخلق الواحدة منها �شجرة ولكن �إذا جمعت فانها وال�شك تنتج �شجرة).
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
8
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
ب�������������ي�������������ن ف��وك��ن��ر وج��ب��را
والعنف حكاية ت�ضطرم باحلياة كما ت�ضطرم باملوت يبدو ان امل�ؤلف قد ر�سم �شخ�صية امل�سيح ب�شكل ايحائي يف روايته ،اذ تتجلى هذه ال�شخ�صية كونها رمزا للغرب اال انها بطريقة قد تبدو اكرث عقالنية ،وتتبني حقيقة هذا التجلي يف اجابات فوكرن نف�سه يف حوار ومناق�شة اجري له يف جامعة فرجينيا ،نقله د .جنم عبد الله ،عرب كتابه (وليم فوكرن يف �صخبه وعنفه) (* ..بنجي على �سبيل املثال كان يف الثالثة والثالثني من عمره ،وهو العمر املتعارف عليه للم�سيح عند وفاته .فوكرن :نعم، كانت تلك اداة جاهزة لال�ستخدام، ولكنها مل تكن اال واحدة من جمموعة ادوات. * ا�صال ملاذا ت�شري ال�سيدة كومب�سن اىل بنجي بو�صفه بيع يف م�صر ؟ امل يكن ذلك يو�سف يف الكتاب املقد�س ؟ هل تلك غلطتك ام غلطتها ؟ فوكرن :وهل يوجد هنا من يعرفالكتاب املقد�س حقا ؟ * لقد بحثت انا ذلك ووجدت ان بنيامني كان رهينة بدال من يو�سف. فوكرن :نعم وذلك�سبب ا�ستخدامي لهما الواحد بدال من الآخر. ويعرب فردريك يف كتابه (وليم فوكرن) على ان فوكرن مل ينجح يف (ا�سطورة)
ت�أثر جربا برواية ال�صخب والعنف من خالل قراءته العلمية وترجمته لها ،ف�أثر ال�صخب والعنف على جربا تبد�أ معه منذ ان قدمها اول مرة اىل العامل العربي بح�سب قوله (لعلي من كنت اول من قدم فوكرن اىل العامل العربي منذ درا�ستي االوىل عن ال�صخب والعنف التي ن�شرت يف الآداب عام 1954واحلقتها برتجمة الرواية النني ادركت ان فوكرن و�سع امكانات الرتكيب الروائي بحيث ال ن�ستطيع ان نكتب رواية ونحن بغفلة عما فعل ،ولكن فوكرن نف�سه اتهم يوم كتبت روايته بانه نقل ميال ا�سلوبيا عن جيم�س جوي�س وفرجينيا وولف وهذا طبعا ي�شبه القول الذي قيل يف ال�سفينة بالن�سبة اىل فوكرن) وهذا يعني ان ما يهم جربا هو ذلك التو�سيع يف االمكانات الرتكيبية للرواية بحيث (ال ن�ستطيع كتابة رواية ونحن يف غفلة عما فعل) بح�سب قوله.
�أثري حم�سن الها�شمي
ي�شتمل الأثر والت�أثري يف الأدب املقارن على م�ستويات عدة بعد وجود �أدلة ملف ال�شواهد ،وهذه امل�ستويات قد تكون خمتلفة يف قوة وتطابق الت�شابه من �ضعف ،وهي بطبيعة احلال �ستكون جميعها داخلة يف م�ضمون �أو حمور الت�أثر والت�أثري، لأن الكاتب رمبا انتج احداثه وتركيبه االدبي عن طريق وعي وق�صد �أو ب�شكل ال ذهني ،وبالتايل اذا كانت هناك احداث وتراكيب مت�شابهة بح�سب امل�ستويات هي من خالل حالة
الت�أثر والت�أثري. وما ورد يف رواية البحث عن وليد م�سعود من تقارب او ت�شابه من خالل اجلانبني املو�ضوعي والفني، هي بح�سب م�ستويات خمتلفة من التقارب. يف البحث عن وليد م�سعود ثمة مو�ضوعات قد تكون متقاربة مع مو�ضوعات ال�صخب والعنف ،حتى ان جربا ابراهيم جربا ذكر انها قد تكون متقاربة لرواية ال�صخب والعنف من ناحية اجلو العام:
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
جربا :ولذلك ( البحث عن وليد م�سعود مثل( The Sound ،) and The FURYيجب ان تقر�أها �أوال حتى ترى جوها العام وهذا الت�شابك ،وتقر�أها ثانية حتى تفهمها وتفهم ت�شابكاتها وت�ستمتع بها .نلحظ ان ر�أي جربا يدل على انه تق�صد يف بناء روايته على رواية ال�صخب والعنف ،و يف ر�أي �آخر جلواب له اي�ضا مع د.جنم عبد الله بخ�صو�ص ت�شابه رواياته مع ال�صخب والعنف ور�أيه بكونه ناقدا
وقارئا ان يقدم وجه ال�شبه ما بينهما. اال انه مل يف�صح عن ذلك ،بل يجعل الأمر بيد القارئ �أو الناقد لأكت�شاف ذلك الت�شابه �أو التقارب ان وجد. ويبقى ان نقول :علينا ان جنمع تلك امل�ستويات املتقاربة يف بوتقة واحدة ليكون متكامال يف النهاية. البنية الرتاثية: تتجلى البينة الرتاثية �أو كما ي�سميها البنية اال�سطورية لأن تكون واحدة من ال�سمات املو�ضوعية امل�شرتكة
يف الروايتني ،اذ ان فوكرن مل يكتف ان ي�أخذ عنوان روايته من م�سرحية �شك�سبري ،وامنا حاول ان يج�سد يف روايته احد افكار �شك�سبري التي وردت يف امل�سرحية عرب �شخ�صية بنجامني املعتوه: غدا غدا ولكل غد يزحف بهذه اخلطى..... اىل قوله :يحكيها معتوه مل�ؤها ال�صخب والعنف وبذلك تبدو لنا رواية ال�صخب
لأن مغزى ق�صة امل�سيح (وما فيها من تعقيدات دينية ومذهبية وكذلك ارتباطها باالخالقيات العامة يف امل�سيحية) كان �أكرب بكثري من قدرته وطاقته اما عند جربا ابراهيم جربا ،فيقابل ذلك عرب ر�سمه ل�شخ�صية الغائب� ،أو كما ت�سميها �سيزا قا�سم (�شخ�صية املهدي املنتظر) و�أنا يف ر�أيي انه من االف�ضل ان نطلق عليه م�صطلح (الغائب) ،مع اننا نتوقع ان جربا قد ر�سم مالمح تلك ال�شخ�صية عرب الغياب ،وهذا ممكن تف�سريه بهذه الطريقة ،النه و�صل اىل ا�سطورة البطل املطلق او اىل البطل احللم الذي ال مكان له يف احليز املعي�ش وعلى العموم ان جربا قدم يف اكرث من مو�ضع اهمية امل�ستوى اال�سطوري يف بنية الرواية ،اذ يقول (:لقد كان من نتائج تطبيق بع�ض الدرا�سات التحليل على النف�سي
االعمال الروائية وامل�سرحية الكبرية ان تبني ان الكثري من ال�شخ�صيات واملواقف التي ين�سج خيوطها الروائي باطالة وتعقيد ،ميكن اعادته يف النهاية اىل ا�صول جندها يف اال�ساطري التي ابتدعها االن�سان اول يقظته الفكرية كو�سيلة الدراك احلياة )...وبهذا نكون ازاء تقارب لر�سم مالمح �شخ�صيتني قد تتقاربان يف املنهج الديني او اال�سطوري ،لكن ال�صورة عند االول قد تكون بدافع عقلي اال عند االخر بدافع عاطفي. تقنية ال�سرد: تعترب التقنية ال�سردية من ال�سمات الرئي�سة يف بناء اية رواية وقوة الرواية ت�ستند على هذه التقنية، باعتبارها املرتكز الرئي�س يف احتواء االدوات امل�ستعملة داخل الرواية ،خا�صة حني ي�ستعمل
9
الروائي تقنية ما وراء ال�سرد املتعددة ،فذلك يعطي مدلوالت اكرب، ور�ؤى اعمق. ولذلك اننا جند الروائي الناجح اذا ما اراد ان ي�ستعمل تقنية ما وراء ال�سرد ،عليه ان يعي�ش حدث الراوي ان كان احلدث �صادقا او كاذبا، عليه ان يج�سد هذا احلدث ب�صدق، وبالتايل ينجح الكاتب يف اف�صاح الن�ص على انه حقيقة حتى وان كان من الكذب. ما يج�سده فوكرن من تقنية �سردية تتمثل با�ستعماله لتقنيات عدة، وما يهمنا منها ما وراء ال�سرد ،يف رواية ال�صخب والعنف ت�ستعمل التقنيات ال�سردية ال�ضفاء �شكل ما على البنى الفردانية للوعي ،تت�ألف الرواية ،املقدمة من خالل وجهات نظر اربعة خمتلفة ،من االحداث واالنطباعات ذات ال�صلة باالنهيار
التدريجي لعائلة كومب�سون يف اق�صى اجلنوب ،تنق�سم هذه الثيمة املفردة من خالل روايات ال�شخ�ص االول كومب�سون على جمموعة متنوعة من ال�شظايا واالوجه وال ي�سهم حتى اجلزء االخري اخلا�ص بامل�ؤلف يوزع فوكرن روايته على اربع ف�صول ،لكل ف�صل راو معني ،يتوزع ثالثة منها على االخوة ( بنجي – كوننت – جا�سن ) والف�صل الرابع الراوي امل�ؤلف. اما رواية (البحث عن وليد م�سعود) فان امل�ؤلف يوزع روايته على ثمانية رواة ومهما يكن فان م�ؤلف الرواية متعددة اال�صوات مطالب ال يف ان يتنازل عن نف�سه وعن وعيه ،وامنا يف ان يتو�سع اىل اق�صى حد ،وان يتعمق اىل اق�صى حد اي�ضا يف اعادة تركيب هذا الوعي ،وقد حقق جربا اقرتابا من ا�سلوب الر�ؤى املتعددة يف مظاهره ال�شكلية او ال�سطحية من غري ان يوفر لروايته النجاح الفني الذي يتيحه هذا اال�سلوب ،لو توافرت اية رواية على االخذ بجوهره العميق ،فلي�س مهما ان يتعدد الرواة امنا املهم حقا ان يكون هناك �شيء موحد كل يرويه بح�سب ما يراه يف �ضوء ثقافته ومزجه وانتمائه اال ان رواية ال�صخب والعنف حققت جناحا كبريا يف امل�ستويني ال�شكلي وجوهره الفني ،فتعدد الرواة �صاحبه تقنية اال�سلوب العايل ،وهذه التقنية امل�ستعملة بحبكة و�سرد ي�ؤهلها الن تكون تقنية ترتقي اىل م�ستويات غاية يف اجلمال والروعة وال�صدق الفني. اذن فما نالحظه على رواية جربا، هي تلك التقنية يف تعدد الرواة التي هي موجودة يف ال�صخب والعنف. تقنية ( الفال�ش باك) ا�ستعمل فوكرن تقنية (الفال�ش باك) وهي عملية اال�سرتجاع الزمني، �أي حماولة خلق ت�شابك يف اجلو الزمني للرواية ،و�ضبط الن�ص �آليا عرب ادوات قد ت�ؤلف اندماجا حقيقيا لر�ؤية عميقة تتمثل بالوحدات الزمانية الثالث (املا�ضي – احلا�ضر – امل�ستقبل) وحماولة الدمج فيما بينها ،حتى تخلق مرتكزات مهمة يف عملية الفهم والت�صوير ،فالفهم يندرج �ضمن زمنية الت�صوير وفعليته ،والت�صدير يكمن يف تقريرة الفهم. فاالزمنة يف رواية ال�صخب والعنف تتداخل حتى يف الفقرة الواحدة بل يف اجلملة الواحدة ،اذ ان فوكرن ي�ستعمل اخلط امل�ستقيم داخل احلركة الواحدة وهذه احلركات تتداخل فيما بينها زمنيا عرب �آلية الفال�ش باك ،في�أتي الرتكيب هكذا-: -1بنجي :بتاريخ 7ني�سان 1928 -2كوننت 2 :حزيران 1910 -3جا�سن 6 :ني�سان 1928 -4امل�ؤلف 8 :ني�سان )14( 1928 ومثل ذلك جند عند جربا ،وقدرته على توظيف احدث و�سائل ال�سرد املعروفة يف فن الرواية كاال�سرتجاع وغريها والتي يتقارب بع�ضها مع فوكرن ،كما يف تقنية الفال�ش باك ،اذ انه يقدم الزمن احلا�ضر على الزمن املا�ضي وهكذا يتداخل يف احلركات التي ير�سمها على رواته الثمانية – التي يقدم فيها زمن على زمن.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
10
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
ول�����ي�����م ف���وك���ن���ر
يرمز ب�أن العفة قد بلغت ال�شيخوخة يف بيئة الرواية. لقد عا�ش فوكرن حياة لي�ست طويلة -1897 1962ولكنه ا�ستطاع ان يحقق �شهرة عاملية كبرية تتوجت بنيله جائزة نوبل للآداب 1948م. وكان مزاجيا �سريع الكتابة ميقت االلتزام فقد ترك الدرا�سة يف املرحلة الثانوية
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ومل ي�ستطع دخول اجلي�ش ب�سبب و�ضعه ال�صحي واجل�سدي فقد كان ق�صري القامة يكاد ج�سده الهزيل ي�سقط حتت ثقل �أفكاره التي يف ر�أ�سه �أو يظن الناظر اليه ذلك، كتب روايته الأوىل�( :أجور اجلنود) عام 1926م� ،أما روايته ال�شهرية (ال�صوت والغ�ضب) فكانت عام 1929م (ونور يف �آب) عام 1932م (والال مهزوم) عام 1934م
و(النحالت الربية) 1939م ،و(متطفل يف الرتاب)1948م. وقد كتب روايته(بينما �أرقد حمت�ضرة)1930م يف �ستة �أ�سابيع �صيفية خالل �ساعات من الثانية ع�شرة منت�صف الليل اىل الرابعة �صباح ًا� .أما تركة فوكرن عند وفاته فبلغت 19كتاب ًا بني الرواية والق�صة الق�صرية ،ويذكر ان
من رواية (بينما ارقد حمت�ضرة) مبنا�سبة عيد ميالدي ,وكانت قراءتها مبثابة جتربة مل ان�سها حتى هذا اليوم .كنت حينها طالبا ادر�س الهند�سة يف جامعة كاليفورنيا, بريكلي وقد قر�أت كثريا يف اليوم الذي ا�ستطعت فيه القراءة كل كتاب ا�ستطعت العثور عليه بحيث ان (وليم �سارويان) مل ي�سبقني اليه يف مكتبة فران�سو يف
وتفكرت يف النية اخلبيثة ل�صديقتي حني منحتني مثل هذه الهدية احلمقاء التي عاهدت نف�سي ان ال �أقر�أها ابدا او �أقر�أ �أي �شيء �آخر كتبه فوكرن .بعد ذلك وجدتني التقط الكتاب املنتهك و�أعيد جمع �صفحاته املختلطة مكرها نف�سي على قراءته الجد نف�سي فقط متورطا يف نوبة اخرى من الغ�ضب .حدث هذا االمر مرار ًا حتى انهيت
الكلي ,ويرتبط بالقارىء لي�س بطريقة فريدة رائعة بل مبختلف الطرق املعقدة التي تتغري مع ازدياد عمر القارىء وتغريه. واالن ها هو وليم فوكرن نف�سه يف مطعم (بيج ـ �أن ـ و�سل) يجل�س من بني كل الأماكن يف حجرة �صغرية يرت�شف ال�شاي! وجدت نف�سي يف �صراع حتى قدمي ,متعرث ًا بالنادالت املارات والزبائن متخذ ًا طريقي
ال�سريعة واالبت�سامة الغريبة ال�ساخرة بينما كان يرفع ق�صبة الغليون من فمه ويقول: (اتذكر بالت�أكيد) ,حدث ذلك اثناء احلرب العاملية الثانية حينما كان النقل �صعبا. عر�ضت عليه القيام برحلة داخل هوليوود وقبل الدعوة ,ويف ع�صر ذلك اليوم اخذته بال�سيارة اىل فندق (هايالند) حيث كان ي�سكن .بعد ذلك كنت او�صله �صباح كل يوم
�أ .بيز يردز ترجمة :جناح اجلبيلي
عبدالباقي يو�سف تفوح رائحة فطرة الإن�سان الطيبة التي فطره الله عليها من غالبية روايات هذا الروائي الفذ حتى عندما ي�صور �أق�سى مظاهر ال�شر يف رواياته ،وعندذاك يرينا كم �أن الإن�سان ال�شرير ذاته يدفع �ضريبة مترده على فطرته الإن�سانية ،ولذلك نرى بكرثة �صراع اخلري وال�شر يف معظم ماخلفه من �آثار روائية. ان وليم فوكرن هو �صيحة يف وجه ال�شر الذي يكاد يكون عام ًا يف جانبي االن�سان اخلفي واملعلن ولذلك هو يركز على نقاط ال�شر يف هذين اجلانبني ويبديها يف �أ�شكال خمتلفة يف حماولة منه للبحث عن عفة االن�سان املفقودة وهو ينطلق من واقع هو الأقرب اليه من �أي واقع �آخر. �إنه واقع وبيئة اجلنوب الأمريكي وب�شكل خا�ص اقليم يوكنا تاوما وعا�صمته جيفو�سون ،وهو �أكرث الأقاليم الأمريكية تناق�ض ًا من حيث العالقات املتبادلة بني ال�سكان ،فيمكن �أن نرى �أ�شكال النظام العبودي ب�صور خمتلفة بني ه�ؤالء الذين يتكونون من االقطاعيني البي�ض ،والهنود احلمر ،والعبيد ،وجنود احلرب الأهلية، و�سيدات املجتمع املتقدمات يف ال�سن، واملب�شرين والفالحني وطالب اجلامعات، بل يقرتب فوكرن �أكرث من هذا في�سلط ال�ضوء على تاريخ عائلته الذي هو جزء ال يتجز�أ من تاريخ املكان ،فقد كان جده الأكرب مالك ًا الحد خطوط ال�سكك احلديد وكان رئي�س ًا لإحدى جمموعات احلرب الأهلية وبالتايل تفرع الأوالد منه ف�شغلوا اماكن ح�سا�سة يف بلدهم حيث ان جد فوكرن كان حمامي ًا ومدير بنك،ان فوكرن ا�ستطاع ان يجمع كل الوثائق املتعلقة بتاريخ عائلته من م�صادر موثوقة ولكنه يف النهاية رف�ض هذا التاريخ ومترد عليه وقرر �أن يكون الناقد الالذع لهذه البيئة ب�صورة عامة يف حماولة جادة منه للتم�سك بالف�ضيلة والنزاهة الب�شرية ،لقد انطلق من هذه النقطة نحو العامل. عندما يذكر ا�سم فوكرن البد �أن ا�سم روايته ال�شهرية( ،ال�صوت والغ�ضب) والواقع فان هذه الرواية تكاد تلخ�ص م�شروعه الفكري الروائي ،وفيها يرى ان االن�سان الذي ميار�س طبائع غري �سوية على غريه ف�إنها تنعك�س عليه ب�شكل من الأ�شكال ،فما ميار�سه على غريه يتم ممار�سته عليه، اننا نقف يف عامل مده�ش من ال�شخ�صيات الغرائبية يف هذه الرواية وهي تدور حول ا�سرة كومب�سون التي ر�أى البع�ض ب�أنها ا�سرة فوكرن نف�سه كوبننت يبحث عن طريقة ت�سهل عليه عملية االنتحار. �أما �شقيق كوبنت الذي يعمل حداد ًا فانه ي�سرق النقود التي تر�سلها معه اخته كاندي�س اىل ابنتها غري ال�شرعية فت�أتي �صديقته لت�سرق بدورها املال منه وتهرب مع �شخ�ص �آخر ،يف هذا ال�صراع تكون امل�سز كومب�سون غارقة يف عامل املا�ضي الذي وىل وكلما تخفق العائلة وتنهار ف�إنها تزداد مت�سك ًا مبجد املا�ضي ومن كل هذه ال�شخ�صيات يقدم فوكرن �شخ�صية واحدة نا�ضجة وحكيمة وعفيفة هي ويلزي املر�أة الزجنية املتقدمة يف ال�سن وكان فوكرن
منذ ب�ضع �سنوات عددها اكرث مما اجر�ؤ على ذكره ر�أيت رجال نحيف البنية ذي �شعر رمادي و�شارب ,يده حول ر�أ�س غليون بينما الق�صبة معلقة يف فمه ,يجل�س يف حجرة �صغرية خلفية يف مطعم (بيج ـ �أن ـ و�سل) على �شارع هوليوود يف هوليوود, كاليفورنيا .وعلى الرغم من انني مل �أره من قبل �أبد ًا عدا �صورة وجهه على غالف كتاب او �صورة فوتوغرافية له ملحقة مبراجعة نقدية ف�أين تعرفت عليه على الفور .تكاد ال�صدفة ال تو�صف كمعرفة طارئة فيها يغمغم املرء با�سم ما ,بل ا�سم ي�صرخ به بال�سر. ان و�صفي املكتوب بالكاد ي�ستطيع ان يويف ال�صراخ حقه ,وعلى احلروف ان تكون كبرية ومطبوعة بالنار وان تق�ص عالمات التعجب بال�شفرة (يا الهي ,انه وليم فوكرن!) قبل ذلك بب�ضع �سنوات اهدتني (يفوين فون جورن) �صديقتي وزوجتي فيما بعد ن�سخة
كاليفورنيا .اتذكر بانفعال ردود فعلي بينما كنت احرث يف رواية (فوكرن). يف البداية كنت مربك ًا ,ثم مذعور ًا ,ثم م�ضطربا ب�سبب طبقات املعنى التي متتد حتت معان مرتبة حتت الكلمات الب�سيطة املتجاورة .كنت مذعورا و�شاكا يف �سالمة عقلي ومتحري ًا وحمبط ًا وغا�ضب ًا و�أنا �أوا�صل القراءة يف الكتاب وكنت اراجع عدد ال�صفحات نف�سها بل اكرث مما قر�أت من �صفحات يف حماولة يائ�سة ال�ستخراج معنى مما ظهر انه هراء. مع ذلك عرفت بطريقة ما ان كل كلمة وكل �شيء قر�أته البد ان يت�ضمن معنى ما .كنت اتوقف بني حني واخر وقد فا�ض الزبد من فمي لأقذف الكتاب على حائط الغرفة حتى تطاير الكتاب ممزقا وانت�شرت �صفحاته يف كل اجتاه. لعنت اليوم الذي اهدي ا ّ يل فيه الكتاب
بطريقة ما او ب�أخرى الكتاب او ان الكتاب قد انهاين ,واىل االن مل اقرر اي االمرين قد حدث .يف احلقيقة كررت قراءته مرارا ,بعد ذلك كنت مت�أكدا من اين قد فقدت عقلي متاما, فقر�أت كل �شيء كتبه فوكرن ,وحاملا ن�شرت الكتب وظهرت الق�ص�ص كنت �أقر�أها بنف�س االفتتان العاطفي املربك املتعذر تف�سريه وثانية انتابني ال�شك الذاتي واالحباط والغيظ. لكي اكتب ن�سخة فيلم عن فوكرن قر�أت جميع الكتب والق�ص�ص مرة اخرى ووجدتني اكت�شف ا�شياء جديدة كما لو اين مل �أقر�أها ب�صورة �صحيحة يف املرة االوىل .لقد عانيت من جتربة جديدة متاما ,ويف هذه املرة لي�س من منظور �شاب يف الع�شرينيات من عمره بل �شيخ يف ال�ستينيات .واالن تثري كتاباته ّ يف تقييما جديدا متاما له ككاتب ,و�أن عمله الذي يقال �أنه ال يرتبط فقط باجلنوب بل بالعامل
اىل احلجرة ال�صغرية حيث يجل�س ب�صحبة امر�أة .اندفعت بقوة القاطع حديثهما احلميم ب�صوت مل ا�ستطع ال�سيطرة عليه وقد �سمعت �صوتي �صارخ ًا وت�ساءلت طويال عن �سبب �صياحي املفاجىء رغم انه مل ي�ستطع ان مييزين عن �آدم ف�أين عرفته بالت�أكيد ,ومن كان هو و�أين قر�أت كل �شيء كتبه ,و�أين رغم فهمي القليل ملا كتب ف�أين اعتقدت انه كان كاتبا عظيما واين ارجو يف يوم من االيام ان ا�صبح نا�ضجا الدرك عمله ورمبا اىل م�ستوى فهمه� .ضحك فوكرن �ضحكة خافتة ونه�ض واقف ًا والغليون يف يده وا�ستجاب ملغاالتي يف مدحه ب�صوت �ضعيف تعجبت منه: (�شكر ًا ,يا �سيد) .اذ ذاك ا�ستدرت ورجعت مرتنح ًا اىل �أ�صدقائي يف احلجرة ال�صغرية. بعد ب�ضع �سنوات هجرت طم�أنينة الهند�سة اىل الكتابة اخلالية من االمان .كان ذلك يف �سنة .1944كنت جال�سا يف مكتبي يف ا�ستوديوهات (وارنر برذرز) يف برنبانك, والية كاليفورنيا حينما فوجئت بر�ؤية �شخ�ص مي�سك ر�أ�س غليونه وق�صبته يف فمه مير عرب جناح ال�سكرتارية ويدخل املكتب املجاور ملكتبي ,حيث يجل�س يف كر�سي مريح م�صالبا �ساقيه وهو ينفث الدخان يف غليونه. ورغم جو املنع ال�صارم والعزلة املف�ضلة التي كانت ت�شع من �شخ�صية فوكرن دائما فاين دخلت مكتبه ووقفت امامه ,ويف هذه املرة �سرين ان اتذكر اين كنت مل اكن م�صعوقا جدا او ابجله كثريا �أو �أفقد اع�صابي ,وكنت اكرث �سيطرة على �صوتي و�س�ألته ان كان يتذكرين. اتذكر اذ رفع نظره يف احلال االمياءة
ذكريات عن فوكنر
الروائي الذي نادى بالحفاظ على فطرية اإلنسان
الروائي ال�شهري �ألبري كامو �أعد له رواية للم�سرح ومت متثيلها يف امل�سارح الفرن�سية والأوروبية. يبقى لوليم فوكرن �أ�سلوبه الذي يعرب عن �شخ�صيته وعن قوة �أفكاره وعن مقدار احلرية التي يكتب بها ،وهذا مايجعل �إبداع هذا الروائي عالمة مميزة يف م�سرية الرواية املعا�صرة.
11 اىل العمل وارجعه ع�صر ًا ,وبهذه الطريقة ا�صبحنا �صديقني. يف فرتة من فرتات �صداقتنا وقبل ان تف�صلنا الظروف ـ كان عليه ان يعود اىل اك�سفورد, والية م�س�سبي لكي يوقع عقد ا�ستخدام يف علي ان اذهب اىل �شركة (وارنر برذرز) وكان ّ ا�ستوديوهات (باراماونت) ـ فقد ذكر فوكرن مالحظة بدت يل غريبة وقتها حني قال( :يا �صاح ,يف احد االيام �سوف تكتب عني). ادركت مدى خ�صو�صيته وكم ا�صبح حانقا حينما تطفلت عليه ,لهذا ا�سرعت يف الت�أكيد له اين لن اكتب عنه ابدا ,لكن رغم ت�أكيدي حتولت رغبتي اىل الكتابة عنه. وجدت نف�سي ات�ساءل كيف حدث ذلك .انها ق�صة طويلة وال �أق�صد الدخول فيها هنا ,لكن احلقيقة اين كتبت عنه ملدة اكرث من �سنتني ـ نقحت ن�سخة الفيلم نف�سه مرارا اللبي طلبات جمموعة من اال�ساتذة الذين كانت لديهم افكار خا�صة عن كيفية كتابتي للن�سخة. كتبت وكتبت حني اخذت عهدا لي�س لفوكرن بل على نف�سي اي�ضا اين لن اندفع للكتابة عنه كما كتب العديد من االخرين ,كل يروي ق�صته مكت�شف ًا فوكرنا جديد ًا يف تلك العملية. لقد قر�أت العديد من الأ�شياء عن فوكرن وكان احدها ن�سخة من فيلم عنه ق�صر يف فهم الرجل كليا .بدا يل اين ا�ستطيع ان احترى ما�ضي فوكرن او اجمع احلقائق والتقط ناحية معينة من فوكرن فاتت على االخرين. لقد كافحت مدة طويلة جدا جاهد ًا ان اكون الكاتب الذي امتنى ان اكونه .ادركت ان كان من ال�ضروري امتالك �شيء اكرث من رغبة ب�سيطة لكي اكون كاتبا� ,شيئا اكرث من الدوام يف ال�صف والدرا�سة على يد اال�ساتذة الذين اعتقدوا ان مبقدورهم ان يعلموا �سر الكتابة حتى ولو كان القليل منهم فقط ي�ستطيع ان يكتب بنف�سه .امتنى من خالل م�سي حلياة فوكرن اين �س�أح�صل على دليل ّ ولو بال�صدفة عن كيفية بلوغ القدرة على كتابة ما قد كتبه. ومن �أجل ح�سن النية وخالل عملية البحث والكتابة لن�سخة الفيلم اكت�شفت مدى �صعوبة ان تقول كل ما تقول عن �شخ�ص معني وخ�صو�صا حني يكون ذلك ال�شخ�ص م�شهورا .كل ا�صدقائه و�أقاربه ومعارفه واملعجبني به وخ�صو�صا ا�ساتذته الذين علموه يف اجلامعات والذين حذفوا كل �شيء اعتقدوا بعدم لياقته لأنهم كانوا يحرتمون �صورة فوكرن اكرث مما يحرتمون االن�سان الذي طبعه اخلط�أ م�شوهني احلقيقة لي�س بال�سيطرة على ما قد قيل بقدر ال�سيطرة على ما مل يقل. وكان من املنطقي ان فوكرن اعتقد �أنه بال�سماح لعمل االن�سان ان يتكلم عنه وان حياة االن�سان اخلا�صة كانت منيعة على االنتهاك ,مع ذلك ادركت ان عزلته كانت حرية ان تنتهك كما انتهكت يف ال�سرية الطويلة التي ن�شرت عنه .كنت اعرف فوكرن مبا فيه الكفاية الدراك انه اذا تعر�ضت حياته اخلا�صة لالنتهاك فانه يرغب بان ت�سرد كما كانت بح�سنها وقبحها .كان امل فوكرن �سيخيب لو و�ضعت حياته ك�أ�سطورة فا�سدة. ونتيجة اال�شارات الواهمة اىل �صورة خمتلفة يدفع ثمنها هو ,كان �سيبدو له م�ؤكد ًا ان من ال�سخرية ان يعي�ش االن�سان حياة فقط لريى انهم يحرفونها ويحذفون م�ساوئها من بني يديه ,وهي احلياة بنواحيها اجلوهرية, احلياة التي �صنعت منه االن�سان الذي كان. لكن ال يهم .حني قر�أت فوكرن الول مرة كان ثمة القليل ممن فهمه او ا�ستطاع ان يف�سره. لكن القارىء ال�شاب ميتلك اليوم جمموعة وفرية كاملة من االعمال لتدله عرب املتاهات املت�شابكة العماله .وها هو اي�ضا كتاب اخر يت�ضمن مقابالت مع النا�س الذين عرفوا فوكرن .لكن ظهر انهم متحفظون وحذرون متاما مثلما كنت انا متكتما ومتحفظ ًا ,وكنا جميع ًا قد غلبتنا الهيبة ل�صورة �شخ�صيته بحيث مل نقدر على الإجالل املنا�سب للرجل نف�سه.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
فوكنر ..كاتب كبير يعمل في السينما وال يكترث بها!
13
رحلة بحث عن البراءة المفقودة عبد الباقي يو�سف ان وليم فوكرن هو �صيحة يف وجه ال�شر الذي يكاد يكون عام ًا يف جانبي االن�سان اخلفي و املعلن و لذلك هو يركز على نقاط ال�شر يف هذين اجلانبني و يبديها يف ا�شكال خمتلفة يف حماولة منه للبحث عن عفة االن�سان املفقودة و هو ينطلق من واقع هو االقرب اليه من اي واقع �آخر .هو واقع اجلنوب االمريكي و بيئته و ب�شكل خا�ص اقليم يوكنا تاوما و عا�صمته جيفر�سون ،و هو اكرث االقاليم االمريكية تناق�ض ًا من حيث العالقات املتبادلة بني ال�سكان ،فيمكن ان نرى ا�شكال النظام العبودي ب�صور خمتلفة بني ه�ؤالء الذين يتكونون من االقطاعيني البي�ض ،و الهنود احلمر ،و العبيد ،و جنود احلرب االهلية ،و �سيدات املجتمع املتقدمات يف ال�سن ،و املب�شرين و الفالحني و طالب اجلامعات، بل يقرتب فوكرن اكرث من هذا في�سلط ال�ضوء على تاريخ عائلته الذي هو جزء ال يتجز�أ من تاريخ املكان ،فقد كان جده االكرب مالك ًا الحد خطوط ال�سكك احلديد و كان رئي�س ًا الحدى جمموعات احلرب االهلية و بالتايل تفرع االوالد منه ف�شغلوا اماكن ح�سا�سة يف بلدهم حيث ان جد فوكرن كان حمامي ًا و مدير بنك ،وا�ستطاع فوكرن �أن يجمع كل الوثائق املتعلقة بتاريخ عائلته من م�صادر موثوقة و لكنه يف النهاية رف�ض هذا التاريخ و مترد عليه و قرر ان يكون الناقد الالذع لهذه البيئة ب�صورة عامة يف حماولة جادة منه للتم�سك بالف�ضيلة و النزاهة الب�شرية ،لقد انطلق يف هذه النقطة نحو العامل . عندما يذكر ا�سم فوكرن البد ان يذكر ا�سم روايته ال�شهرية ،ال�صوت و الغ�ضب و الواقع ف�إن هذه الرواية تكاد تلخ�ص م�شروعه الفكري الروائي و فما يرى ان االن�سان الذي ميار�س طبائع غري �سوية على غريه ف�إنها تنعك�س عليه ب�شكل من اال�شكال ،فيما ميار�سه على غريه يتم ممار�سته عليه ،اننا نقف يف عامل مده�ش من ال�شخ�صيات الغرائبية يف هذه الرواية و هي تدور حول ا�سرة كومب�سون التي ر�أى البع�ض ب�أنها ا�سرة فوكرن نف�سه فكوبننت يبحث عن طريقة ت�سهل عليه عملية
«�أنا وال�سينما ال نتفق من الناحية الكرونولوجية .يف �أك�سفورد ثمة عر�ض �سينمائي يف ال�سابعة .يف حني �أن املدينة ت�أوي للنوم يف التا�سعة والن�صف .لي�س هذا هو ال�سبب الذي يجعلني �أكره ال�سينما ،لكن حياتي مل تنتظم على هذا املنوال». وليم فوكرن -كاتبا لل�سيناريو
حممد �سهيل �أحمد املرة الأوىل التي ذهب فيها فوكرن �إىل هوليوود كانت يف عام 1932نظرا لأن دخله املايل كروائي كان من الب�ؤ�س �آنذاك� -إىل احلد الذي مل يتنا�سبوطبيعة حياته امل�سرفة .وهكذا بد�أت �صلته بعا�صمة ال�سينما العاملية بعد �إبرامه عقدا مع �شركة «مرتو غولدين ماير» ملدة �ستة �أ�سابيع مع �إمكانية متديده �إذا لزم الأمر ،وتوا�صلت هذه ال�صلة طيلة عقد تقريب ًا. كان خمرج فوكرن املف�ضل يف هوليوود واملخرج الذي كتب معه خم�سة من�ستة �سيناريوهات معتمدة -هو «هوارد هوك�س» الذي ت�ش ّرب ب�أعمال فوكرن الروائية منذ روايته الأوىل «راتب اجلندي»� .أما وليم هوك�س ،مندوب �إحدى �شركات الإخراج ال�سينمائي، فقد جذب �أنظار �أخيه املخرج �إىل ن�ص فوكرن الق�ص�صي الذي تدور �أحداثه حول احلرب العاملية الأوىل والذي حمل عنوان االرتدادTurn About ليتفق االثنان على �صالحية هذا الن�ص لكي مي�سي فيلما �سينمائيا جيدا. ا�شرتى هوارد حقوق الق�صة من فوكرن، داعيا �إياه يف الوقت نف�سه �إىل كتابة �سيناريو الفيلم. وقتذاك مل يكن لدى املمثلة الذائعة ال�صيت جوان كراوفورد �أي التزامات مع �أية جهة �سينمائية �أخرى ،وكانت من املمثالت املرغوبات لدى �أ�صحاب �شركات الإنتاج نظرا ملردودات �شهرتها على �إيرادات �شباك التذاكر ،ومن هنا دعاها فوكرن للم�شاركة يف �أول �أفالمه. عر�ض الفيلم حتت عنوان «اليوم ننب�ض باحلياة» Today We Liveيف عام ،1933غري �أنه عاد �إىل
هوليوود ثانية يف عام ،1934للعمل مع هوك�س يف فيلم �آخر عنوانه «ذهب �سرت» »Sutter's Goldوكان من �أفالم رعاة البقر. مل يكن هوك�س يحبذ �أن يعمل فوكرن مع جهة �أخرى ،ومن ثم طلب منه �أن ي�سهم يف كتابة �سيناريو فيلم «الطريق �إىل املجد» Road To Gloryوهو فيلم حربي الطابع .ويف دي�سمرب 1935 �أ�صبح فوكرن �سيناري�ست �شركة فوك�س للقرن الع�شرين املعتمد ومبوجب اتفاق لغاية .1937 واحلقيقة �أن االتفاق الوحيد الذي عقده فوكرن خارج عقده مع هوك�س جتلى يف كتابته �سيناريو فيلم «�سفينة العبيد» عام » Slave «Ship 1935 م�ستغال وان�شغل هوك�س باالنتقال �إىل ا�ستوديو �آخر .ومل يلبث فوكرن �أن عاد �إىل هوليوود يف عام 1942بعد اتفاقه مع «الإخوة وارنر» وكان عمله متقطعا مع الإخوة هذه املرة �أي�ضا ،وتوا�صل لغاية .1945 و�أجنز فوكرن خالل عمله مع هذه ال�شركة �سيناريو فيلمني �سي�ؤمنان م�ستقبله ك�سيناري�ست معتمد :الأول ال�سيناريو املعد عن رواية همنغواي «�أن متلك و�أن المتلك» and To Have ،»Non To Haveوالثاين عن رواية راميوند ت�شاندلر البولي�سية «النوم الكبري» «،»The Big Sleep وهما الفيلمان اللذان قام هوك�س ب�إخراجهما .وبالإ�ضافة �إىل هذين ال�شريطني الف�ضيني ،كتب فوكرن عددا من م�شاهد فيلم «القوة اجلوية» من �إخراج هوك�س لكن ال�سيناريو كان من �إعداد �شخ�ص �آخر. يف عام � 1944أ�سهم فوكرن �أي�ضا، وباالتفاق مع �شركة الفنانني املتحدة يف كتابة فيلم «اجلنوبي» من �إخراج مبدع
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
فرن�سي لطاملا نظر �إليه فوكرن ب�إعجاب �أال وهو جان رينوار .هنا مل يعقد فوكرن �أي اتفاق ر�سمي مع رينوار الرتباطه مع الإخوة وارنر ،بيد �أنه �أعلم كاتب �سريته مالكوم كاويل ب�أنه ينظر �إىل «اجلنوبي» على �أنه من �أح�سن �أعماله ك�سيناري�ست. ويف عام 1946ح�صد «اجلنوبي» جائزة مهرجان مدينة البندقية الكربى� .أما �آخر الأفالم التي كتب فوكرن �سيناريو لها فكان فيلم «�أر�ض الفراعنة» الذي روجت له �شركته املنتجة.
هوليوود والأدب من النجوم الذين تعامل معهم فوكرن، جوان كراوفورد وغاري كوبر يف «اليوم ننب�ض باحلياة» ،وهمفري بوغارت ولورين باكال يف فيلم «�أن متلك و�أن المتلك» ،كما عاد بوغارت وباكال لي�ؤديا دورين هامني يف فيلم «النوم الكبري» باال�شرتاك مع املمثلة الأمريكية ال�شهرية دوروثي مالون .وبرع جاك هوكنز وجوان كولينز و�سدين �شابلن يف فيلم «�أر�ض الفراعنة» الذي �أ�شرنا �إليه �آنفا. �أما املخرجون الذين تعامل معهم
فوكرن بعقود �أو من دون عقود فكان على ر�أ�سهم هوارد هوك�س ،وجورج �ستيفن�سون ،وجون فورد وراوول وال�ش و جان نيغولي�سكو وفن�سنت �شريمان ،واملنتج ال�سينمائي الكبري داريل زانوك و�آخرون. ولعل الظاهرة الأغرب يف التعاون بني هوليوود وفوكرن هي درجة الوعي التي جعلت من خمرج هوليوودي مثل هوك�س قارئا ذا ذائقة رفيعة ال�ستيعاب �أعمال فوكرن ،ال الروائية فح�سب بل الق�ص�صية �أي�ض ًا .ولهذا جند �أن �أول عمل �سينمائي م�شرتك بني هوك�س وفوكرن متثل يف حتويل واحدة من ق�ص�ص الأخري �إىل عمل �سينمائي. معروف �أن الق�صة �أكرث اختزاال لعوامل خطابها ال�سردي مبا ي�ضم من �شخو�ص و�أحداث ،ثم �إن روايات فوكرن يف معظمها� ،إن مل يكن جميعها تعتمد على ال�صياغات اللغوية واملونولوج الداخلي �أو ما ي�سمى بتيار الوعي وعلى جرعات عالية من ال�شعر� ،إ�ضافة �إىل بطء ن�سبي يف حركة احلدث احلكائي ،و�شبه انعدام للحبكة املركزية ،كما هي احلال مع «ال�صخب والعنف The Sound And The» Furyعلى �سبيل املثال ال احل�صر. ولكن يبدو �أن خمرجي هوليوود نظروا �إىل �أعمال فوكرن من زاوية �أخرى: املقدرة التحليلية ،نف�سية كانت �أو فل�سفية ،يف ت�صوير �أدق و�أكرث م�شكالت اجلنوب الأمريكي �إثارة وفعالية: الأ�سود والأبي�ض ،والعنف ،ولعبة ال�صيد ،وانتهاك الأر�ض ،والتعايل والغرور ،وهذه كلها �أ�صبحت مبثابة ال�سو�س الذي نخر ج�سد الأ�سرة اجلنوبية على وجه اخل�صو�ص. �إن روايات همنغواي ،لو �شئنا املقارنة، وجدت �صدى لها يف هوليوود بدرجة
�أكرب مما وجدت روايات فوكرن. وال�سبب ب�سيط؛ �إن روايات همنغواي تعد �سياحات �أدبية حكائية غطت �أكرث من قارة وامتازت بطغيان احلدث. لي�س الق�صد هنا �أن روايات فوكرن وق�ص�صه تخلو من الأحداث وت�شح فيها ال�شخو�ص� ،إمنا يرجع ال�سبب �إىل طبيعة �أ�سلوب فوكرن وجمله املطولة التي حتدث عنها الناقد كونراد ايكن قائال� :أ�سلوب فوكرن «غابة مملوءة باملت�سلقات والأزهار الربية املتوح�شة التي تبدو لعني املرء متداخلة بجالل ال نهائي ،المعة ومت�ألقة بطريقة ذات حركة افعوانية ،حيث تنزلق ل ّفة من املت�سلقات فوق �أخرى ،وحيث تتعانق الأوراق والأزهار ب�صورة �سحرية». هذا كله كان يحد من مواءمتها للإخراج ال�سينمائي ،لكن لي�س يف هوليوود ولي�س �ضمن موا�صفات ال�سينما الأمرييكية التي مل تكت�سب �شهرتها من �أ�ضوائها ال�ساطعة وح�سب بل من ميزتها الأوىل :ال�سيناريو ،بغ�ض النظر عن املعايري الأخالقية التي يرى البع�ض اعتمادها يف تقييم ال�سينما الأمريكية. لقد ا�ستقطبت هذه ال�سينما ولعقود كتابا عظاما ك�أر�سكني كالدويل ،ونورمان ميلر ،وهمنغواي ،وجون �شتاينبك، ومريغريت ميت�شيل و�آخرين. والواقع انه لوال هوليوود وقدراتها الت�سويقية وتعاملها مع الفن ال�سابع على �أنه �صناعة �ش�أنها �ش�أن �شركة �سيارات جرنال موتورز و«كرايزلر» و«ماكدونالد» ،ملا ظهرت �أفالم مثل «دخيل يف الرتاب»« ،راتب اجلندي» لفوكرن و«غات�سبي العظي» لفيتزجريالد. وال جدال يف �أن فوكرن كان على دراية ب�أن ال�سينما �ستتحكم يف �أعماله الأدبية فت�سلط الأنوار على زوايا وتهمل �أخرى وتق�ص وتل�صق بح�سب رغبة �شبابيك
االنتحار . اما �شقيق كوبنت الذي يعمل حداد ًا فانه ي�سرق النقود التي تر�سلها معه اخته كاندي�س اىل ابنتها غري ال�شرعية فت�أتي �صديقته لت�سرق بدورها املال منه و تهرب مع �شخ�ص اخر ،يف هذا ال�صراع تكون امل�سزز كومب�سون غارقة يف عامل املا�ضي الذي وىل و كلما تخفق العائلة و تنهار فانها تزداد مت�سك ًا مبجد املا�ضي و من كل هذه ال�شخ�صيات يقدم فوكرن �شخ�صية واحدة نا�ضجة و حكيمة و عفيفة هي ويلزي املر�أة الزجنية املتقدمة يف ال�سن و كان فوكرن يرمز ب�أن العفة قد بلغت ال�شيخوخة يف بيئة الرواية . لقد عا�ش فوكرن حياة لي�ست طويلة / 1962 - 1897 /و لكنه ا�ستطاع ان يحقق �شهرة عاملية كبرية تتوجت بنيله جائزة نوبل للآداب 1948م . و كان مزاجي ًا �سريع الكتابة ميقت االلتزام فقد ترك الدرا�سة يف املرحلة الثانوية و مل ي�ستطع دخول اجلي�ش ب�سبب و�ضعه ال�صحي و اجل�سدي فقد كان ق�صري القامة يكاد ج�سده الهزيل ي�سقط حتت ثقل افكاره التي كانت يف ر�أ�سه او يظن الناظر اليه ذلك ،كتب روايته االوىل :اجور اجلنود عام 1926م ،اما روايته ال�شهرية ال�صوت و الغ�ضب فكانت عام 1929 /م و نور يف �آب عام 1932 /م و الالمهزوم عام / 1934 /و النحالت الربية 1939 /م /و متطفل يف الرتاب 1948 /م . / و قد كتب روايته ( بينما ارقد حمت�ضرة ) 1930م يف �ستة ا�سابيع �صيفية خالل �ساعات الثانية ع�شرة من منت�صف الليل اىل الرابعة �صباح ًا اما تركة فوكرن عند وفاته فبلغت / 19 /كتاب ًا بني الرواية و الق�صة الق�صرية و يذكر ان الروائي ال�شهري البري كامو اعد له رواية للم�سرح و مت متثيلها يف امل�سارح الفرن�سية و االوروبية . يبقى لوليم ا�سلوبه املميز الذي يعرب عن �شخ�صيته و عن قوة افكاره و عن مقدار احلرية التي يكتب بها ،و هذا ما يجعل ابداع هذا الروائي عالمة مميزة يف م�سرية الرواية املعا�صرة.
دور ال�سينما ،بيد ان واحدا من �أهم العوامل التي ذكرناها �سابقا يتعلق يف �أمر تعامل فوكرن مع هوليوود - وهو الكاتب الأ�شد مرا�سا والذي حفر خندقا حول بيته ملنع رجال ال�صحافة من االقرتاب منه -ذلكم هو احلاجة املا�سة �إىل املال وقدر �أقل من احلاجة �إىل ال�شهرة املريرة املذاق على حد قول ال�شاعرة الأمريكية �سيلفيا بالث. لقد عر�ض فوكرن نف�سه مل�صاريف كثرية ب�شرائه للطائرات وغريها .وا�ستمر�أ فكرة �أن يكتب الآخرون �سيناريوهات بع�ض �أعماله الروائية �أمثال �آيرفنغ دافي�ش وهارييت فرانك جونيور اللذين كتبا �سيناريو روايته الل�صو�ص « ،»The Reiversوهي الرواية التي ترجمتها الناقدة خالدة �سعيد ،وكذلك رواية الهيكل Sanctuaryالتي كتب ال�سيناريو لها جيم�س بو و«دخيل يف الرتاب» �سيناريو بني مادو وغريها من �أعمال. تبقى العالقة بني الإبداع الأدبي وال�سينمائي حمل جدل طويل ،غري �أن فوكرن مل يكن الكاتب الوحيد الذي قبل ،لهذا ال�سبب �أو ذاك� ،أن يتعامل مع ال�سينما. يقول الكاتب روبرت كوغالن يف كتابه «عامل فوكرن اخلا�ص»: «�إن عدم اكرتاث فوكرن مب�ستعمرة ال�سينما يتلخ�ص بواقع كونه غري معروف من قبل رجال ال�سينما حتى الوقت الذي ت�سلم فيه جائزة نوبل ،ما عدا �شهرته بني الكتاب وقطاع �أذكياء ال�سينما ،وبني �أولئك الذين �أغدقت عليهم احل�ضارة ال�سيارات الفاخرة». كتاب كوغالن يفرد ف�صال كامال من كتابه يورد �أمثلة عن عدم اكرتاث فوكرن بهوليوود ،رغم �سنوات عمله الطويلة ن�سبي ًا معها. http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14
�سعد حممد رحيم ماذا يعني �أن يكون روائي معني مت�أثر ًا ب�آخر. ماذا ميكنه �أن ي�ستعري من ذلك الآخر مالمح من �شخ�صياته بع�ض ًا من �أحداث رواياته لغته �أ�سلوبه مناخه الروائي ر�ؤيته هل ي�ستطيع �أي روائي التخل�ص من عقابيل قراءاته ال�سابقة وباخت�صار؛ ما هي العنا�صر التي يرثها ليعيد �إنتاجها يف رواياته. ال �شك �أن روائيني عظام من طراز ديكنز ود�ستويف�سكي وبلزاك وفرانز كافكا وجوي�س وبرو�ست وفرجينيا وولف ووليام فوكرن قد غريوا من طرق الأداء ال�سردي وكتابة الرواية،
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
العدد ()2116ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )30ني�سان 2011
تأثيرات فوكنر ناهيك عن ر�ؤية من جا�ؤوا من بعدهم من الروائيني �إىل العامل ..ولكن؛ كيف يحدث الت�أثري و�إىل �أي احلدود يكون الأمر جائز ًا يخربنا غابريل غار�سيا ماركيز “�أنا �أعتقد �أن الت�أثري احلقيقي ،والت�أثري املهم هو عندما ت�ؤثر �أعمال كاتب معني ّ يف بعمق لدرجة �أنها تبدل بع�ض ًا من �أفكاري عن العامل وعن احلياة ب�صفة عامة”. لي�س املق�صد من الكالم عن الت�أثر والت�أثري الدخول �إىل املنطقة ال�ساخنة للمفهوم الأدبي “التنا�ص” ،غري �أن الإ�شارة �إىل الأ�سد كونه عدد ًا من اخلراف امله�ضومة تكون مفيدة يف
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
�سياق مقالنا هذا .و�أي�ض ًا ،هذا ال يعني ا�ستبعاد القرابة بني الت�أثر والت�أثري والتنا�ص مو�ضوعي ًا و�إجرائي ًا. *** باعرتاف روائيني معا�صرين كبار لي�س من ال�سهل التخل�ص من ت�أثريات وليام فوكرن ،من �إغواء �أ�سلوبه ،وحرارة لغته ،وطرق تقدميه ل�شخ�صياته .وزاوية نظره �إىل اجلذور، �إىل التاريخ القريب .وكيفية ت�شكل الوقائع والأحداث ،يف �أعماله ،على خلفية مالب�سات الواقع ،ومناورات التاريخ� .إذا ما �أردنا،
بطبيعة احلال ،مقاربة التاريخ بعيد ًا عن �صرامة التاريخانيني. �إن ب�صمات فوكرن ،يف �سبيل املثال ،ظاهرة يف روايات توين موري�سون املولودة يف والية �أوهايو الأمريكية يف عام 1930لعائلة زجنية والتي تخرجت يف جامعة هوارد يف وا�شنطون بعد �أن قدمت �أطروحتها املعنونة “االنتحار يف روايات وليام فوكرن وفرجينيا وولف” كما يف روايتي “اجلاز” و “الفردو�س” ،وهي ـ �أي موري�سون ـ التي حازت على جائزة نوبل للآداب يف عام .1993
كذلك ف�إن روائي ًا من قامة غابريل غار�سيا ماركيز يعرتف بت�أثري فوكرن القوي عليه ،و�إذ ينكر يف البدء مثل هذا الت�أثري يف حوار مطول �أجراه معه بيلينيو �أبوليو مندوزا م�شري ًا �إىل التماثل اجلغرايف ،ال الأدبي بني عمله وعمل فوكرن، يح�شره مندوزا يف زاوية �ضيقة بتوجيه انتباهه �إىل ت�شابهات تتعدى النطاق اجلغرايف “هناك خط معني من الن�سب بني العقيد �سارتوري�س والعقيد �أوريليانو بوينديا ،بني ماكوندو ويوكناباتاوفا كونتي… عندما حتاول �أال تعرتف بفوكرن كعن�صر م�ؤثر ومهم� ،أال ترتكب بذلك جرمية قتل �ضد �أقرب النا�س �إليك ”.يجيب ماركيز؛ “رمبا �أكون كذلك .لذلك قلت �أن م�شكلتي مل تكن يف كيفية تقليد فوكرن ،ولكن يف كيفية تدمريه .لقد كان ت�أثريه ي�شل حركتي”. �إن حوارات ذكية مع الروائيني غالب ًا ما يف�ضي �إىل مثل هذه االعرتافات ،ف� ً ضال عن �إ�ضاءة مناطق ظليلة من عواملهم الروائية التي �أبدعوها.
ف�سل�سلة من الأ�سئلة احلاذقة ت�ستفز الذهن يجعلنا نتعرف على مكنونات ال وعي الكاتب، ومتنحنا مفاتيح للولوج �إىل ما وراء الظاهر من العوامل تلك ،والوقوع على املرجعيات التي لوالها ملا كان بالإمكان �أن مي�ضي الكاتب على وفق ما انتهى من بناء عمله �أخري ًا. ويف كتاب “حوارات يف الرواية” ال�صادر عن دار ال�شروق للن�شر والتوزيع يف رام الله يف عام 2004ينجح الدكتور جنم عبد الله كاظم يف جعل �أربعة من الروائيني العراقيني يعرتفون بت�أثري فوكرن عليهم� ،أو يومئون �إليه بهذا القدر �أو ذاك… .كان املحاور حمكوم ًا مبو�ضوعة ر�سالته العلمية ومتطلباتها للح�صول على درجة الدكتوراه من �إحدى اجلامعات الربيطانية، والروائيون الأربعة الذين وقع االختيار عليهم كانوا وما زالوا لهم ح�ضورهم الفاعل يف امل�شهد الروائي العراقي والعربي. يفرت�ض امل�ؤلف ،منذ البدء� ،أن �أهمية احلوارات
هذه تت�أتى من مكانة الذوات التي يحاورها �أو ًال، ومما تتناولها احلوارات من مو�ضوعات و�أفكار وق�ضايا ثاني ًا .مركز ًا يف حواراته على جتارب الروائيني وامل�سائل الفنية التي ت�شغلهم ،وق�ضية ت�أثرهم بالكتاب العامليني .ويكاد املحور الأخري يكون هدف ًا �أ�سا�سي ًا يف الكتاب ،وما يعيننا من الكتاب هو حتدث الروائيني الأربعة� ،أو �إ�شارتهم �إىل فوكرن. يعلمنا جربا �إبراهيم جربا ـ من مواليد القد�س/ فل�سطني ـ �أنه قر�أ فوكرن وهمنغواي بعمق ،ويف وقت مبكر ..يقول عن فوكرن �أنه ” عمالق رهيب و�صعب ..لقد �سحرين بتجربته الأدبية ،وهي جتربة من ر�أى الرعب ،ور�أى امل�أ�ساة ،و�أح�س ب�آالم الب�شرية مثلما �أح�س امل�سيح بها ،و�صورها على هذه الطريقة .ترى عنده نذالة الب�شر وخ�سة الإن�سان .ترى الروعة وجتد وراء تلك الروعة الفجور وال�شبق والقتل .وهو يف ت�صويره لك هذا فنان خارق بقدرته� ”..ص.36 ويعرتف جربا �أنه ت�أثر بكتّاب �آخرين منهم توما�س وولف وبيكوك ودي�ستويف�سكي وفرجينييا وولف ود .هـ .لورن�س و�أو�سكار وايلد و�أندريه جيد .وحني ي�س�أله املحاور عن �شخ�صية كوننت يف “ال�صخب والعنف” و�أثرها يف �شخ�صيات رواياته ـ �أي روايات جربا ـ يقول؛ “والله ،هذه هي املرة الأوىل التي �أ�سمع فيها هذا الكالم” �ص.39 ويتكرر الأمر مع غائب طعمة فرمان الذي ي�صر على �أن رواية ال�صخب والعنف مل تعجبه، ولكن حني يك�شف له املحاور عن نقاط االلتقاء والت�شابه بني روايتي “ال�صخب والعنف” لفوكرن وروايته هو ـ فرمان ـ “ظالل على النافذة” يقول الأخري؛ “يجب �أن �أقول �أين منده�ش الكت�شافك هذه الأ�شياء .فهي غريبة جد ًا ،ولكنها تبدو �صحيحة ،ولي�س عندي اعرتا�ض عليها” �ص.109 ويعرج فرمان �إىل م�س�ألة ت�أثره بكتّاب من �أمثال ديكنز و�شتاينبك وكولدويل وهمنغواي .ويقول �أن الكاتب الذي ت�أثر به �أكرث من �سواه هو دو�س با�سو�س وال �سيما يف ثالثيته “الواليات املتحدة” وي�ؤكد ت�أثره بفوكرن �إىل جانب ت�أثريات الكتّاب الرو�س ،وبع�ض الكتّاب الفرن�سيني. ويرى ف�ؤاد التكريل �أن الإعجاب ال يعني التقليد، فهو معجب بح�سب قوله بهمنغواي و�شتاينبك، ب�سبب جملة من اخل�صائ�ص الفنية التي متتاز بها رواياتهما ،ومنها “الإيجاز يف اللغة ،البناء الفني املحكم ،اال�ستعارة ،جتميع الأحداث بهدوء، التعبري عن �سمات �إن�سانية عميقة يف �أعمال ب�سيطة” �ص .52غري �أنه ـ �أي التكريل ـ ي�أخذ على فوكرن مبالغته يف البحث عن تكنيك جديد، وحماوالته اللغوية امل�ستميتة خللق عوامل كثيفة. على حد تعبريه. �أما عبد الرحمن جميد الربيعي فيومئ �إىل ت�أثره بالرواية الوجودية ،وب�إعجابه بهمنغواي ووليام فوكرن ،و�أن جتربته ال�صحفية قربته من همنغواي كثري ًا لأن الأخري كان �صحافي ًا ومرا�س ًال حربي ًا .وبعد �أن ي�شري �إىل قراءات وا�سعة يقول؛ ” و�أنا �أعتقد ب�أنني رغم �إعجابي بعدد كبري من الكتّاب والأعمال ف�إنني مل �أجعل ه�ؤالء الكتاب ي�ؤثرون ّ يف بالدرجة التي جتعلني، �أو يجعلونني �أقلدهم” �ص.68 و�إذا كنا منتلك تراث ًا �سردي ًا غني ًا ف�إن الرواية هي تخريج �سردي �أوروبي مرتبط مبرحلة منو املدينة احلديثة ،و�صعود الربجوازية كطبقة قائدة للفعل االجتماعي يف ع�صر التنوير ،وما بعده ،حيث الدخول ،من ثم يف حقبة الثورة ال�صناعية .وقد ا�ستعرنا نحن هذا ال�شكل الأدبي امل�ستحدث .وحاول الرواد الأوائل من الروائيني العرب ا�ستناد ًا �إىل عوامل م�ساعدة عدة ومنها تراثنا ال�سردي الذي هو جزء من ثقافتنا، وخروجنا من قرون الظالم ،ودخولنا عتبة ع�صر النه�ضة� ..أقول؛ حاول �أولئك الرواد تبيئة هذا اجلن�س الأدبي ،ف�صارت الرواية جزء ًا هام ًا من �إبداعنا املعريف والفني الراهن .ولذا كان الت�أثر والت�أثري حالة طبيعية وغري معيبة ،وال �سيما �أن كرث ًا من الروائيني العرب ا�ستطاعوا ،مبرور الزمن ،اكت�ساب �صوتهم اخلا�ص ،ونغمتهم املميزة ،و�أ�ساليبهم املتفردة.
15
manarat رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
التحرير ----------------نزار عبد ال�ستار الت�صحيح اللغوي ----------------حممد حنون الت�صميم ----------------م�صطفى جعفر
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com