رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقافـي ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
2
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
كوتزي فـي رواية "سيد بطرسبورغ" يعيد شخصية دوستويفسكي
جنوى ف�ؤاد علي
�إن �ضراوة احل�س الفاجع بالعزلة الإن�سانية ميزت م�ؤلفات الكاتب من جنوب �أفريقيا ج.م .كوتزي ،ويف كل رواية من رواياته �صنع �شخ�صيات تقف �شديدة الو�ضوح �إزاء م�شهد طبيعي �شا�سع جاف ونظام عن�صري قا�س على حدّ �سواء، وهمه الرئي�س هو البقاء ،الروحي واجل�سدي ،والبحث وجرداها من �إن�سانيتها، وكالهما ا�ستخفا بتلك ال�شخ�صيات ّ ّ عن املعنى و�ضرورات احلياة من �أكرث البيئات عداء.وال ميكن للمرء �أن يح�صل على عزاء من هذه التجربة لأن �شخ�صيات ال�سيد «كوتزي» يجب �أن تعاين لكي تكون واعية.
وتلك هي ثيمة دو�ستويف�سكية ،ويف روايته ال�سابعة القوية الغريبة «�سيد بطر�سبورغ» ق��ام ال�سيد «ك��وت��زي» بالذهاب مبا�شرة �إىل امل�صدر ،وت�صور �أن «دو�ستويف�سكي» رجع �إىل «��س��ان��ت ب�ط��ر��س�ب��ورغ» ب�ع��د م��وت ابن زوجته «بافل»� ،إنها رواي��ة ال�سيد «كوتزي» الأك�ث�ر جتهم ًا حتى الآن ،وت��وح��ي بدرجة جديدة من الظالم يف منظور ال جتد فيه كثري ًا من البهجة يف احلالة الإن�سانية�.إن اخللفية التي تلقي بظلها القلق على ال�شخ�صيات هي بال �شك رو�سيا ،ومثل جنوب �أفريقيا التي �أت��اح��ت �إط ��ار ًا ملعظم رواي��ات��ه ف ��إن ه��ذه هي رو�سيا وهي ترتنح على حافة الثورة.مبعنى �آخر �أن ال�سيد «كوتزي» كتب عن رو�سيا من قبل. ورواي ��ة «يف ان�ت�ظ��ار ال�براب��رة» املن�شورة ع ��ام 1980ي �ك��ون �إط� ��ار �أح��داث �ه��ا مدينة حم�صنة على ح��دود �إم�براط��وري��ة جمهولة الإ�سم تهددها ظاهري ًا الغارات الرببرية من ال�شمال.وجوها العام يبعث فينا �إح�سا�س ًا حم��دود ًا ب�أنها يف �آ�سيا الو�سطى مع �إيحاء مميز باجلحافل املغولية التي حتت�شد لل�سلب والنهب ،والعالقة وا�ضحة بني هذا الرتميز ال�سيا�سي لع�صر الأبارتيد يف جنوب �أفريقيا واال�ستجابة امل�سعورة املتزايدة لنظام قدر له الهالك ملا يعتربه ع��دو ًا على �أبوابه ،لكن ما مينح الق�صة عامليتها هي الب�ساطة امللهمة لل�صورة املركزية ،املتعلقة مبنطقة حدودية ب�ين امل�ع�ل��وم وامل �ج �ه��ول ،وامل �ي��ل الإن�ساين املرافق لإخ�ضاع كل ما ال نعلمه �إىل ال�شيطان ثم نحمل على ال�شياطني. �إن رواية «�سيد بطر�سبورغ» غام�ضة �إذا ما قورنت بالروايات ال�سابقة للكاتب ،فحبكتها متاهة ونغمتها �شديدة ال�ك��آب��ة ،ويعزو االختالف �إىل الأبطال ،كان الراوي يف رواي��ة «يف انتظار الربابرة» هو حاكم مقاطعة ،رجل رحيم مييل نحو الت�سامح الذاتي ،ويتمايل كفلينة يف بحر م�شاكله ويعطي للكتاب عنفوانه ونكهته ،ومل ي�ك�ت��ب ال���س�ي��د ك��وت��زي �أي���ة �شخ�صية �أخرى مثل «احلاكم» وهذا �شيء ي�ؤ�سف له ،واحلاكم حني يروي تعتربه بالت�أكيد رف�ي�ق� ًا ل��ك �أف���ض��ل م��ن «دو�ستويف�سكي» الكئيب ال��ذي يت�سكع عاب�س ًا عرب �صفحات رواية "�سيد بطر�سبورغ". يحب احل��اك��م احل �ي��اة البهيجة وه��و رجل �سمني يتمتع بالأكالت واخلمرة واجلن�س، وبالن�سبة ل��ه ف� ��إن م��ا ي��دع��ى ب��ال�براب��رة ال ي�شكلون �أي تهديد لأنه يفهم �أن التهديد وهم، ويتحمل التعذيب وال ��ذل ب�صالبة ب�سبب عواطفه املرتدة. �إن مكانة دو�ستويف�سكي عند ال�سيد كوتزي عند املقابلة هي �إح��دى التعقيدات امللتوية، لقد اجنرف مع التيارات ال�سيا�سية اخلطرة يف مدينة بطر�سبورغ يف العهد القي�صري املت�أخر ،وكان م�شبوه ًا يف عيون ال�سلطات ب�سبب �أن ابن زوجته كان ع�ضو ًا يف ع�صبة ث��وري��ة ت �ق��وده��ا �شخ�صية � �ش��ري��رة تدعى «ن�ي�ج��اي�ي��ف» (ك ��ان ��س�يرج��ي نيجاييف يف
الواقع ثوري ًا وافتنت به دو�ستويف�سكي ،ومن املالحظ �أن نيجاتييف كان اال�سم الأول لأم دو�ستويف�سكي) وب�سبب هذه العالقة واجه ال�ك��ات��ب ال�ك�ب�ير م�شاكل م�ع�ق��دة م��ع حمقق ال�شرطة املدعو «ماك�سيموف» وهو نف�سه من ا�ش ّد ال�شخ�صيات دو�ستويف�سكية ،ويخربه ماك�سيموف �أنه وجد بني �أوراق ابن زوجته قائمة ب�أ�سماء النا�س الذين يجب اغتيالهم كمقدمة للتمرد ال�ع��ام امل� ��ؤدي �إىل الإطاحة بالدولة. �إن دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي امل �� �س��نّ وامل ��ره ��ق يف ه��ذه ال�صفحات له �شهية قليلة للعنف الثوري ،مقارنة مبا كان يفعله يف الواقع. هذه الالمباالة ا ل�سيا �سية ت�ستحق ازدراء
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
«نيجاييف» نف�سه ال��ذي �سرعان ما يح�ضر ومعه �شركاء «بافل» ال�سابقون. يف هذه امل�شاهد يربز بقوة البعد ال�سيا�سي ل�ك�ف��اح الأج� �ي ��ال ،يف ال��وق��ت ال ��ذي ي�سخر ف �ي��ه ال �� �ش �ب��اب ذوو احل �م��ا� �س��ة ال �ث��وري��ة ال�ع�ن�ي�ف��ة م��ن احل� ��ذر والنزعة ا ملحا فظة
دوس����ت����وي����ف����س����ك����ي..
عندم��ا يمتلك بطل الرواية بعدًا رابعًا
ترجمة :جناح اجلبيلي
ال �ن��ا� �ض �ج��ة ،وي �ب��دو �أن� ��ه ب��ال�ن���س�ب��ة لل�سيد «ك��وت��زي» ف ��إن كل �شيء الب � ّد من �أن يع ّرف من جديد يف املجتمع اال�ستبدادي الواقف على حافة االنحالل� .إن ال�صدوع التي تف�صل القوي عن ال�ضعيف جتعل كل االرتباطات الإن���س��ان�ي��ة م�ت��وت��رة و�صعبة وخ�صو�ص ًا العالقات بني الوالد والطفل. ه��ذه ه��ي الفكرة ال�ت��ي حت��راه��ا م��ن قبل يف روايته «حياة وزم��ان مايكل ك» التي فازت بجائزة بوكر الربيطانية عام ،1983وفيها حماولة «مايكل ك» لأخ��ذ �أم��ه املري�ضة �إىل البيت لكي متوت ما جعله يدخل يف نزاع مع الدولة البولي�سية ،على �أنه خالف ًا للحاكم �أو دو�ستويف�سكي ف�إن «مايكل ك» ال ميلك �شيئ ًا لكي ي�صارع القوى التي ا�صطفت ��ض��ده ،لهذا ين�سحب متام ًا من املجتمع ويح�صل على لقمة العي�ش من قطعة �أر�ض يف حقل مهجور. ثم يف رواية «ع�صر احلديد» املن�شورة عام ،1990جتد امر�أة بي�ضاء كبرية ال���س��ن مت��وت ب�سبب ال���س��رط��ان يف �ضاحية مريحة من «كيب تاون» حيث جتد �أن عواطفها الأمومية يثريها ابن مديرة منزلها الأ�سود حني ترى ال�شرطة تعامله بوح�شية ،وتفتح الأمومة البديلة بالتدريج عينيها على احلقائق ال�شريرة لدولة الأبارتيد. وم��ن ال�سخرية �أن�ه��ا �أخ ��ذت ت�صب كل �أفكارها كتابة �إىل ابنتها التي هربت �إىل �أمريكا منذ وقت طويل ،و�شرعت ترى �أن �أطفالها احلقيقيني هم ال�شباب ال�سود الذين تقتلهم قوى الأمن �أمام عينيها� ،إن ال�شخ�صي وال�سيا�سي ي �ن��دجم��ان ب���ش�ك��ل رائ� ��ع يف هذه الرواية، لكن بالن�سبة �إىل دو�ستويف�سكي امل�سكني ،املنهمك مبحاولة يائ�سة للت�صالح مع ابن زوجته� ،أو �شبح ابن زوجته ،لي�س هناك �شيء ميكن �أن يكون دائم ًا ب�سيط ًا ج��د ًا ،يبقى يف الغرفة التي �أجرها «بافل» من �أرملة تدعى «�آن��ا �سرجييفنا» التي تعي�ش يف البيت املجاور مع ابنتها ال�شابة ،ت�أتي «�آن��ا» �إليه يف الليل و�سوية يفعالن «العمل اخلطر امللتهب» والطفل نائم يف الغرفة الأخ� ��رى ،غ�ير �أن ��ه ح�ين ي�أتي «نيجاييف» املحتال الهارب م��ن ال�شرطة وامل��رت��دي زي ام��ر�أة ليتجنب ك�شفه� ،إىل ال���ش�ق��ة وي�ط�ل��ب امل���ال من اب�ن��ة «�آن� ��ا» وع�ل��ى الرغم م� ��ن �أن اع�ت�را�� �ض ��ات «دو�ستويف�سكي» تلقى ت ��أن �ي �ب � ًا ،ف�ي�ظ�ه��ر �أن كل ��ش�خ����ص وك ��ل � �ش��يء يف عامل الكاتب ين�سج م�ؤامرة �ضده ،ي�أخذه «نيجاييف» �إىل قبو وهناك ،بعد ج��دل طويل،
3
جت�سد جوهر فل�سفته يف احلياة .وكان مق�صده ان �شعور االن�سان �أطلق الكاتب الرو�سي الكبري فيودور دو�ستويف�سكي عبارته اجلريئة " اجلمال ينقذ العامل" التي ّ �صوره امل�ؤلف يف الذي اجلمال هذا قيمة يدرك الذي االن�سان هو روحا باجلمال واالن�سجام ينعك�س يف جميع �أفعاله وتعامله مع النا�س ومع الطبيعة ،ولعل �أنقى النا�س ّ �شخ�صية "ايليو�شا"والنا�سك زو�سيما يف رواية " االخوة كارامازوف" ويف الفتى القوقازي علي يف كتابه" يوميات بيت املوتى" ويف االمري مي�شكني ال�ساذج كالطفل يف رواية " االبله" .ويقول النا�سك زو�سيما ":نحن ال ندرك ان احلياة هي جنة ،ويكفي فقط ان نرغب يف ان نفهم هذا لكي تربز امامنا بكل ما فيها من جمال وبهاء."..
ي��ري��ه �آل ��ة ال�ط�ب��اع��ة وي�ط�ل��ب م�ن��ه �أن يكتب ل�صالح الثوريني .وي�شعر «دو�ستويف�سكي» �أنه وقع يف �شرك« ،كان موت بافل جمرد طعم �أغراه بالرحيل من در�سدن �إىل بطر�سبورغ. لقد كان فري�سة دائم ًا». ً وعند هذه النقطة يبدو �أننا بلغنا نوعا من ال�سرد املت�شعب لأن ّ كل عنا�صر الق�صة جمعت �سوية يف هذا الك�شف الدرامي ،ونكت�شف �أول مرة �شكل احلبكة مبعنيي الكلمة� :إنها احلبكة ال�ت��ي ت ��دور ح��ول ه��وي��ة «دو�ستويف�سكي» ككاتب� ،إن ال�سيد «كوتزي» ،بروف�سور الأدب يف جامعة كيب تاون وم�ؤلف نقد �أدبي وا�سع ب�ضمنه كتاب من املقاالت بعنوان «الكتابة البي�ضاء» يرجع با�ستمرار يف رواياته �إىل ارتباط اللغة بال�سلطة و�إىل فكرة �أن �أولئك الذين ال �صوت لهم ال فائدة منهم ،جماز ًا �أم حقيقة .وتعبريه الأ�شد و�ضوح ًا عن الثيمة ه��و يف رواي ��ة «ف��و» امل�ن���ش��ورة ع��ام 1987 حيث يت�صور �إعادة كتابة رواية «روبن�سون ك��رو��س��و» ويف اث�ن��اء العملية يخلق ام��ر�أة جتلب الق�صة �إىل «دان�ي��ال ديفو» وبالتايل يكون ه��و «كاتبها احلقيقي» ،وه��ي لي�ست الوحيدة من بني �شخ�صيات ال�سيد «كوتزي» ال �ت��ي ت�ف�ق��د ��ص��وت�ه��ا يف ال �ت��اري��خ وم ��ن ثم هويتها. �إن فعل الكتابة وال�ع�م��ل امل�ك�ت��وب ب�صيغة يوميات وق�ص�ص ي ��ؤدي دور ًا مركزي ًا يف رواي��ة «�سيد بطر�سبورغ» ،غري �أن الكتابة بالن�سبة ل��دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي (ب �ط��ل ال�سيد كوتزي) لي�ست جم ّرد �أداة لل�سلطة ،بل هي �أداة للتقم�ص مع اب��ن زوجته امليت ،وهذا التقم�ص ه��و بالنتيجة و��س�ي�ل��ة خلال�صه اخلا�ص ،وهذه ال�سل�سلة املعقدة من الأفكار هي التي يالحقها ال�سيد كوتزي يف الف�صول الأخرية من الكتاب م ّغري ًا اجتاهه بحدة عن �شرك «نيجاييف» املع ّقد ،ومن ثم من �أي ّ حل ��س��ردي وا��ض��ح ،ول�ه��ذا ف ��إن ت�سارع الكتاب يعتمد يف النهاية على فكرة �أكرث من اعتماده على حدث ،مع �أهمية الأحداث املحتملة على �شرط �أن يفهم القارئ ب�إحكام الإط��ار املعقد ملعتقدات دو�ستويف�سكي. كل ذلك يجعل من رواية «�سيد بطر�سبورغ» مركزة �صعبة ،رواي��ة حمبطة يف كل دور، ل�ك��ن ع�ل��ى ال��رغ��م م��ن ه ��ذه ال���ص�ع��وب��ة ف ��إن ال�شخ�صية التي ت�برز من ه��ذه ال�صفحات، ال�سيد نف�سه ،يف تعا�سته املعذبة وخوفه من نوبة ال�صرع الالحقة و�شبقه ال��ذي ال يهد�أ ومقامرته اليائ�سة مع الإل��ه� ،سوف مت�سك بكل خيال قابل للت�أثر بالعواطف املعقدة للروح ال�سالفية� ،سوف يظهر نف�سه كرجل عميق يف خما�ض ��ص��راع �صاخب النتزاع املعنى والإ�صالح من موت ابن. * ج.م .كوتزي :كاتب من جنوب �أفريقيا من �أ�صل �أبي�ض له ثماين روايات ،وهو �أول كاتب يح�صل على جائزة بوكر مرتني ،يف عام 1984عن روايته «حياة و�أزمان مايكل ك» ،ويف عام 1999عن روايته " العار". * عن الغارديان
بينما يعرب عن فكرة دو�ستويف�سكي هذه االمري مي�شكني بقوله ":هناك �أفكار� ،أفكار رفيعة ،ينبغي علي �أال �أحتدث عنها ،لأنني �س�أثري عندئذ �سخرية اجلميع حتما ..فال ت��وج��د ل��ديّ �إمي���اءة الئ �ق��ة ،وال الإح���س��ا���س باالعتدال، وكلماتي خمتلفة و�أفكاري غري منا�سبة ،وهذا كله ميثل �إهانة لأفكاري". لقد حقق االدب الرو�سي ب�شخ�ص دو�ستويف�سكي ذروة تطوره يف القرن التا�سع ع�شر .وه��و يعترب من �أعظم الروائيني يف العامل حتى يومنا هذا الذي �صور دخائل النف�س االن�سانية بكل ره��اف��ة مم��ا جعل رواي��ات��ه مادة خ�صبة للباحثني النف�سانيني .وما زال النقاد يوا�صلون درا�سة افكاره و�شخو�صه التي غالبا ما تت�سم ب�أبعاد قد يغلب فيها ال�شر على اخلري ،لكن دو�ستويف�سكي �آمن -يف الواقع بالإن�سان وليد جمتمعه بكل ما فيه من �شرورو�أفعال خري. ولد فيودور دو�ستويف�سكي يف �سانكت – بطر�سبورغ يف 30ت�شرين الأول عام 1821يف عائلة انتلجن�سيا تعود �أ�صولها �إىل ليتوانيا على �ساحل بحر البلطيق ومن ثم انتقل احد افرادها للإقامة برو�سيا واعتنق االرثوذك�سية وك��ان ذل��ك يف ال�ق��رن ال�سابع ع�شر .وك��ان �أب��وه طبيب ًا ع�سكري ًا �صعب املزاج� ،أما �أمه ماريا نيت�شايفا فكانت امر�أة طيبة ابنة احد التجار .وقد رزق الزوجان ب�أربعة ذكور وث�لاث �إن��اث وك��ان ترتيب فيودور الثاين بني الذكور. وبعد وفاة الزوجة املفاجئ انتقل االب من مكان العمل يف م�ست�شفى مبو�سكو اىل �ضيعة �صغرية ب�ضواحي مدينة توال .وقد �أ�ساء االب ميخائيل معاملة فالحيه الذين قتلوه يف عام .1838وك��ان فيودور قد انتقل يف عام 1837 اىل �سانكت – بطر�سبورغ للدرا�سة يف كلية الهند�سة الع�سكرية تلبية لرغبة �أب �ي��ه .وخ�ل�ال الأع���وام ال�ستة التي ق�ضاها يف الكلية مل يظهر فيودور رغبة كبرية يف التعلم كما انعزل عن اقرانه وانكب على املطالعة بنهم. ويف ع��ام 1844منح لقب �ضابط -مهند�س .ومل يهتم كثريا بعمله ،بل وا�صل اهتماماته االدبية بقراءة اعمال بو�شكني وجوجول و�شك�سبري وديكنز و�شيللر وهوفمان وبلزاك وج��ورج �صاند وغريهم .وب��د�أ مبحاوالت عدة للكتابة .ويف ع��ام 1845كتب دو�ستويف�سكي اوىل رواياته " امل�ساكني" التي جلبت له ال�شهرة بعد ان قر�أها ال�شاعر والنا�شر نيكرا�سوف مع رفيق لدو�ستويف�سكي طوال الليل ثم جاءا اليه يف �شقته عند ال�ساعة الرابعة فجرا ليبلغاه ب�أنه موهبة كبرية .ون�شرت الرواية يف عام 1846وحتول فيودور دو�ستويف�سكي من مهند�س حربي اىل كاتب م��رم��وق ،لكن النقاد ا�ستقبلوا بربود روايته الثانية " البديل" ،وبد�أت فرتة �صعبة من حياته حيث �أ�صبح من دون عمل وم��ن دون م��ورد رزق .ويف عام 1849اعتقل بتهمة امل�شاركة يف حلقة �سرية معادية للقي�صرية برئا�سة برتي�شيف�سكي .وحدث ذلك يف فرتة حكم القي�صر ن�ق��والي االول ال��ذي م��ار���س �سيا�سة قمع قا�سية �ضد ك��ل ن�شاط �سيا�سي معار�ض رغبة منه يف حماية نظام احلكم من ت�أثري �أفكار الثورة الفرن�سية التي ت�سللت اىل رو�سيا بعد احلرب �ضد نابليون .لكن االن�سان حري�ص على ما منع ،وكان املثقفون الرو�س يتلقفون هذه الأف�ك��ار ويناق�شونها يف جل�ساتهم .و�صدر احلكم على دو�ستويف�سكي ورفاقه بالإعدام .ويف 22كانون االول 1849جلب دو�ستويف�سكي ورف��اق��ه اىل مكان تنفيذ الإعدام لكن �ألغي احلكم فج�أة وا�ستبدل باال�شغال ال�شاقة يف �سيربيا ملدة اربعة اع��وام .وبعد انتهاء فرتة احلكم التحق الكاتب جندي ًا يف �إح��دى ال��وح��دات الع�سكرية يف �سيبرييا .و�شيئا ف�شيئا ا�ستعاد و�ضعه االجتماعي ومنح رتبة �ضابط وتزوج من �أرملة وح�صل على رخ�صة
ال�ع��ودة اىل �أوا��س��ط رو�سيا .فا�ستعاد �سمعته الأدبية و�صار ميار�س العمل ال�صحفي و�أ�س�س مع اخيه جملة " فرمييا" التي حققت جناحا كبريا ون�شر فيها روايته " يوميات من بيت املوتى"� .إنها الرواية التي و�صف فيها ايام النفي يف �سيبرييا وما لقيه هناك من �شخو�ص متباينة يف الأخالق والعادات طبقا للإنتماء االجتماعي وال �ق��وم��ي فبينهم ال �ف�لاح��ون ال�ب���س�ط��اء والل�صو�ص املحرتفون والثوار البولنديون وابناء القوقاز .وبد�أت االو�ساط الأدبية تتحدث عن دو�ستويف�سكي ب�صفته من ال ّكتاب ال��رو���س ذوي امل�ستقبل ال��واع��د ،لكن ال�سلطات منعت فج�أة يف عام � 1863صدور جملة " فرمييا " بعد ن�شر مقالة اعتربت ذات �أفكار هدامة بالن�سبة للنظام. فا�ضطر الأخ��وان بعد جهد جهيد لإ��ص��دار جملة �أخرى بت�سمية " الع�صر" التي �سرعان ما �أفل�ست وتوقفت عن ال�صدور .وعانى دو�ستويف�سكي م�صائب عدة منها :وفاة �شقيقه ميخائيل وم��ن ثم زوجته ماريا ،ووج��د الكاتب نف�سه غارقا يف الديون من اجل الإنفاق على عائلة �شقيقه،
ومل يكن امامه من خمرج �سوى الكتابة بغزارة من اجل احل�صول على النقود .وبعد ذلك ا�ضطر اىل الهرب من الدائنني بال�سفر اىل اخلارج يف عام 1865وبقي هناك حتى ع��ام .1871ويف ه��ذه ال�ف�ترة كتب خ�يرة �أعماله الروائية" اجلرمية والعقاب"( )1866و"الأبله"()1868 و" املم�سو�سون"( )1870و" اليافع"( .)1871ويف عام 1867ت��زوج دو�ستويف�سكي للمرة الثانية من �آنا �سنيتكينا ال�شابة الذكية التي �ساعدته كثريا يف تدبري ام��وره املالية واملعي�شية وا�ستن�ساخ رواي��ات��ه .و ُرزق الزوجان �أربعة �أطفال (تويف اثنان منهم منذ ال�صغر). وكان الكاتب قد بلغ ذروة ال�شهرة واجتاز مرحلة العوز والفقر ،وبد�أ منذ عام 1873ب�إ�صدار " يوميات الكاتب" التي �ضمنها افكاره الفل�سفية وال�سيا�سية حول م�ستقبل رو�سيا ،بيد ان روايته الأخ�يرة " الإخ��وة كارامازوف " تعترب من خرية ما �أبدعه قلم دو�ستوف�سكي ،ون�شرت يف فرتة 1880 – 1876واعتربها النقاد جت�سيد ًا لنهج دو�ستويف�سكي يف احلياة ،وينعك�س فيها ميل الكاتب �إىل
الأفكار الدينية التي الزمته حتى �آخر �أيام حياته. ويعترب خطابه لدى افتتاح ن�صب بو�شكني مبو�سكو يف عام 1880اي قبل وفاة الكاتب ب�ستة �أ�شهر مبثابة و�صية ور�سالة تتنب�أ مب�ستقبل رو�سيا .ويف 28يناير /كانون الثاين عام 1881انتقل اىل جوار ربه. وي�شري الباحثون اىل ان جميع �أعمال دو�ستويف�سكي تقريب ًا ت�صور مراحل معينة من حياته .ومب��ا ان فرتة �شبابه كانت �صعبة للغاية ب�سبب النفي وال�سعي لك�سب الرزق ف�إن �أعماله الأدبية يف تلك الفرتة ت�صور الدراما االبدية للروح االن�سانية� ،أي عندما يجد الإن�سان نف�سه حما�صر ًا من جميع اجلهات كما لو مل يوجد مف ّر من الآالم �سوى االنتحار ،لكنه يجد يف نهاية املطاف املخرج الذي يليق بكرامته -ح�سب اعتقاده -حتى لو كان ب�إرتكاب جرمية القتل كما يفعل ذلك را�سكولنيكوف يف " اجلرمية والعقاب" او اجلندي يف " يوميات بيت املوتى". ل�ق��د ُك��ر���س دو�ستويف�سكي ح�ي��ات��ه كلها حل��ل مع�ضلة وحيدة هي من هو الإن�سان؟ ولهذا �أثرت رواياته كثريا يف علم النف�س احلديث وعلم االجتماع .وميكن القول جم��از ًا كما ي�صف ذلك نقوالي زيرنوف احد دار�سيه ان دو�ستويف�سكي يبدو كما لو عرث يف بيت يعرفه جيدا الكثري م��ن احل�ج��رات وامل �م��رات والأق�ب�ي��ة التي مل يكن ي�ع��رف ��ص��اح��ب ال�ب�ي��ت ب��وج��وده��ا او ح�ت��ى مل ت ��راوده ال�شكوك ب�ش�أنها �أ�ص ًال ،وقد ا�ستطاع الكاتب ان يلج �أعمق الزوايا اخلفية للنف�س االن�سانية ،التي مل ي�صل اليها من قبله اي كاتب �أو باحث. وي�ب��دو �أن بطل دو�ستويف�سكي ميتلك ب�خ�لاف �أبطال م�ؤلفات الك ّتاب الآخرين بُعد ًا رابع ًا� ،إذ ينق�صه التفكري الر�شيد و�صعوبة التنب�ؤ ب�أفعاله بقدر اكرب مما لدى �أبطال الروايات يف الع�صور ال�سابقة .وال تنطبق على �أبطاله معايري " الإيجابي" �أو " ال�سلبي" .وال ميكن و�صف بطله ب�أنه ذكي �أو غبي �أو ب�أنه رفيع الأخالق او عدمي الأخالق وحتى بالإن�سان الطيب او ال�شرير .وبو�سعه القيام ب�أفعال بطولية والت�ضحية بالذات ،ويف الوقت نف�سه قد يرتكب فعلة دنيئة وقا�سية� ،إنه يرتنح على �شفري الإثم واجلرمية لكنه ي�صبو اىل احلق واخلري. �إن حياة �أبطاله كلها تت�ألف من ال�صراع والتمزق بني اخل��وف والأم ��ل .وت�ت�ن��ازع يف نفو�سهم م�شاعر احلب واحلقد واال�ستعداد لإغاثة الآخرين والرغبة يف �إيالمهم، وال ي�ستطيع اح��د التنب�ؤ مبا �سيفعلون الحقا .وتبدو �شخ�صيات دو�ستويف�سكي لأول وهلة كاريكاتورية ،ومن ال�صعب و�صفها بالطبيعية والعادية ،لكن لدى الت�أمل يف الأم��ر بعمق جند ان ما يعذبهم من م�شاكل هي م�شاكل متيز الب�شر كافة.وان الإح�سا�س ب�أنها غري واقعية لدى ق��راءة �أعمال دو�ستويف�سكي ناجم عن الرتكيز ال�شديد لل�صراع النف�سي ال��ذي يعانيه البطل خالل فرتة زمنية حم��ددة ،بينما يتوا�صل ه��ذا ال���ص��راع ل��دى النا�س يف احلياة العادية على مدى �سنوات طوال. �إن رواي��ات دو�ستويف�سكي تع ّري النف�س الب�شرية بكل تعقيداتها وتناق�ضاتها ،وتك�شف فيها قوى اخلري وال�شر التي ن��ادر ًا ما يعرتف بها النا�س ،كما �أنها تعترب نقطة انعطاف يف ت ��أري��خ احل���ض��ارة الإن�سانية حيث ق�ضى امل�ؤلف على تفا�ؤل �أ�صحاب النزعة الإن�سانية يف �أيامنا الذين يغم�ضون �أعينهم عن وجود جوانب قامتة وهدامة يف الطبيعة الب�شرية وي�صفون الإن�سان ب�أنه كائن ر�شيد �ال من التناق�ضات وميكن ان يبلغ ذرى التقدم لدى وخ� ٍ تربيته ب�صورة �سلمية وتهيئة ال�ظ��روف االجتماعية واالقت�صادية املنا�سبة له. * عن جملة نزوى 2005
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
5
الوجودية بين األدب والفلسفة د .بُرهان �شاوي -1يف ع ��ام � � 1909ص��در يف م��و��س�ك��و ك �ت��اب بعنوان (د�ستويف�سكي ونيت�شة) للمفكر الرو�سي والباحث الأدبي (�شي�ستوف) الذي اطلق فيه ،ولأول مرة� ،صفة (الوجودية) على د�ستويف�سكي ،م�ؤكدا ب��أن فل�سفة د�ستويف�سكي هي الرف�ض املطلق للعامل وعدم الثقة بامل�ستقبل ،مثلما هي فل�سفة امل�أ�ساة والق�سوة ،كما �أكد نظرته �إىل ( د�ستويف�سكي) باعتباره (وجوديا) يف كتابه الثاين الذي �صدر بعنوان( ت�أمل و�إلهام)، فهل كان د�ستويف�سكي (وجوديا) حقا؟ -2يف مقالة (الفل�سفة وال�شعر) للفيل�سوف الأملاين (هانز.ج.غادامر) هناك مالحظتان متميزتا الأهمية� ،أولهما� :إن الفل�سفة القت حتديات متعددة خ�لال م�سريتها ،ال�سيما م��ن قبل بع�ض الفال�سفة العظام �أمثال: ك�يرك�ي�ج��ورد ون�ي�ت���ش��ة ،وغ�يره �م��ا ،ممن مت��ردوا على ال��روح الأك��ادمي�ي��ة للفل�سفة ال �ت��ي ت��اه��ت ع�ن��دم��ا ت��وغ�ل��ت يف جم��االت البحث التاريخي ،ويف �أروق��ة امل�شكالت املعرفية ،ف�أغرتبت عن ذاتها ،على الرغم م��ن �أن ال �ت �ح��دي الأك�ب��ر واج �ه �ه��ا حينما �سطعت جن��وم ج��دي��دة وك �ب�يرة يف �سماء الفكر فحجبت �أ�ضواء الفل�سفة ،وكانت هذه النجوم ق��د �سطعت يف �سماء الأدب ،ومن مدار الرواية بالتحديد ،وهذه النجوم هي: �ستندال ،بلزاك ،زوال ،غوغول ،د�ستويف�سكي وتول�ستوي. وتعقيبا على هذه املالحظة ت�أتي املالحظة املهمة الثانية التي ت�ؤكد ب�أن الفل�سفة مل ت�سرتد عافيتها وم�صداقيتها �إال حينما اق�ترب فال�سفة (الوجود) �أم�ث��ال :هايدجر،نيت�شة ،كريكغورد ،مريلوبونتي، يا�سربز ،بجر�أة من حدود اللغة ال�شعرية. هاتان املالحظتان املهمتان ت�ؤكدان على �أن (جنوم الرواية) حجبوا �أ�ضواء الفال�سفة ،ومن بني هاتيك النجوم جند (د�ستويف�سكي) ،الذي نتوقف عنده يف
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
هذا املقال �إىل جانب ت�أكيد عودة العافية �إىل الفل�سفة حينما اقرتبت من اللغة ال�شعرية ،بحيث تداخلت الفل�سفة واللغة ال�شعرية ف�صار الن�ص حمّال �أوجه، فمرة هو ن�ص فل�سفي ،ومرة هو ن�ص �أدبي .ولنا يف ( هكذا تكلم زراد�شت) لنيت�شه املثال الأب��رز� ،إال �أننا �أردنا هنا ،من خالل هاتني املالحظتني� ،أن ندخل �إىل �إ�شكالية الفل�سفة ( الوجودية) وحدودها بني ( الأدب) و(الفل�سفة). -3حينما يتم تقومي (�سارتر) �أدبيا ،مثال ،فان الفل�سفة (الوجودية) هي الفنار والدليل ومفتاح احلل لفهمه وف�ه��م ع��امل��ه الأدب���ي ،م��ن حيث �أن �سارتر فيل�سوف وج���ودي ،باملعنى الأك��ادمي��ي والإ��ص�ط�لاح��ي لهذه ج�سد فهمه للوجود من خالل ن�صو�صه الكلمة .وقد ّ الفل�سفية ال�صريحة ،ويف مقدمتها ( الوجود والعدم)، �أما �أعماله الأدبية ،م�سرحياته ورواياته وق�ص�صه، فهي ترجيعات و�أطياف ونب�ضات لتلك الفل�سفة التي كان ي�ؤمن بها. وكذا الأمر مع (كامو) ،فال ميكن التعامل مع روايات (الغريب) و(الطاعون) و(املوت ال�سعيد) �أو م�سرحياته (كاليجوال) و( العادلون) من دون االعتماد على كتاب (�أ��س�ط��ورة �سيزيف) ،ال��ذي هو ن�ص فل�سفي اقرتب �إىل ح��دود التماهي من اللغة ال�شعرية واملو�ضوع ال�شعري ،وبالتايل لي�س غريبا �أن يتم التعامل مع (�سارتر) و(كامو) كفيل�سوفني (وجوديني) ،لكن كيف الت�صقت �صفة ( الوجودية) بد�ستويف�سكي وهو مل يكتب �أي ن�ص فل�سفي مبا�شر ،ومل يب�شر بالفل�سفة الوجودية؟! -4ت�سللت (الوجودية) �إىل الثقافة العربية املعا�صرة كـ (فل�سفة) من بوابة (الأدب) �أي�ضا ،عرب ترجمات �أعمال (�سارتر) و(كامو) و(جربيل مار�سيل) و(ميرتلنك)، وغريهم ،بل حتى (هكذا تكلم زراد�شت) لنيت�شه مت التعامل معه كن�ص �أدب��ي وج��ودي فائق ال�شاعرية �أكرث مما مت تفح�صه كن�ص فل�سفي ،ومل يتم التعامل املبا�شر مع الفل�سفة (الوجودية) من خالل ن�صو�ص كبار فال�سفتها ،فحتى الكتب التي ترجمت �إىل العربية كانت تبحث يف �شرح ت�ي��ارات الفل�سفة الوجودية
ول�ي����س ت��رج�م��ة ن�صو�صها م �ب��ا� �ش��رة ،ن��اه�ي��ك �أننا تعرفنا على (الوجودية) من خالل النقد( املارك�سي) الدوغمائي الراف�ض لها باعتبارها تعبريا عن �أزمة ال�ف�ك��ر ال �ب��ورج��وازي ال �غ��رب��ي ،وب��اع�ت�ب��اره��ا حركة م�شبوهة �أنتجتها دوائر الإ�ستخبارات الغربية حلرف ال�شبيبة عن خط الن�ضال ال�سيا�سي �ضد الر�أ�سمالية! فحتى الآن مل ترتجم �إىل العربية الن�صو�ص الفل�سفية (الأ�سا�سية) لكريكيغورد ،هايدجر ،يا�سربز ،هو�سرل، وغ�يره��م ،وم��ن هنا ف��ان (وج��ودي�ت�ن��ا) ه��ي وجودية (�أدبية)� ،أي �أنها تعتمد على ر�ؤى �أدبية ،ولي�س لها �أ�سا�س فل�سفي نظري �صلد ،ورمبا يكون( عبد الرحمن بدوي) �إ�ستثناءً ،فقد تع ّرف على امل�صادر الأ�سا�سية لهذه الفل�سفة بلغاتها الأ�صلية! علما �أن الرتاث العربي تع ّرف على الوجودية بهذا املفهوم الأدب��ي من خالل بع�ض �أبيات معلقة (طرفة بن العبد) وخطبة (قي�س بن �ساعدة) و�أ�شعار املتنبي واحلالج! -5�إن مفهوم ( ال��وج��ودي��ة) يف ع�ل��وم الأدب ل��ه عالقة ب��امل�لام��ح ال�شعرية ،وال�ع��زل��ة ،وال �ن�برة امل�أ�ساوية، والتوحد بالوجود ،واالغرتاب ،ومن هنا فهي مفهوم ف�ضفا�ض ،بينما (الوجودية) فل�سفة نظرية م�ؤ�س�سة، وت��وج��ه ،و�أ��س�ئ�ل��ة ،وم��و��ض��وع��ات حتت�ضن جوهر ال��وج��ود ،بالرغم من �أن الباحث (ب��اول تيلخ) ي�ؤكد على �أن (الإح�سا�س الوجودي) بالعامل �سبق (الثورة الوجودية) التي (ب��د�أت) يف الأدب والفن من خالل التمرد على ثنائية الذات واملو�ضوع ،وكرد فعل على احلتمية التاريخية� ،أي من خالل املواجهة بني القلق الوجودي والنظريات الباردة. �إن القا�سم امل�شرتك بني (ال��وج��ودي��ة) الفل�سفية هو مفهوم (الإن�سان) ،حيث تطرح الفل�سفة(الوجودية) م�صري الإن�سان الفرد ،بل ومعنى الوجود الب�شري ككل ،كق�ضية مركزية وحمورية .ومن هنا كان التقارب بني (د�ستويف�سكي) و(ال��وج��ودي��ة) ،بل �إن احلديث عن (وجودية) د�ستويف�سكي يُق�صد به تناوله مل�س�ألة �أزمة الوجود الب�شري ،ومن هنا يرى الباحث (فالرت كوفمان) ،وهو من املفكرين املتخ�ص�صني بالفل�سفة الوجودية يف كتابه (الوجودية من د�ستويف�سكي �إىل �سارتر) ب�أن �أعمال د�ستويف�سكي هي مدخل �إىل الفل�سفة
ال��وج��ودي��ة ،وبالتحديد تيار (ال��وج��ودي��ة امل�ؤمنة)، وي�ضعه �إىل جانب جربيل ملر�سيل وبرغ�سون. -6بع�ض املتخ�ص�صني بالفل�سفة الوجودية يرف�ض اعتبار د�ستويف�سكي (وج��ودي��ا) ،والكثري منهم ال يرف�ض لكن يرتدد يف القبول ،ومن بني الراف�ضني العتباره (وجوديا) هي الباحثة الأدبية الرو�سية (�آ .التينيا) التي ت��رى ب ��أن ك��ل ق�ضية ل��دى د�ستويف�سكي ميكن ب�سهولة �إيجاد نقي�ض لها ،وعند د�ستويف�سكي نف�سه. فبطل (اجلرمية والعقاب) املدعو (را�سكولنيكوف)، املتطرف �إىل �أق�صى حدود احلرية ،واملتمرد بعنف، وامل�شحون بالقلق الوجودي ،لي�س بطال (وجوديا)، فهو لي�س مثل (مري�سو) بطل رواية (الغريب) لكامو، فهو يت�أمل ويتعذب ،ال من ظلم املجتمع ،و�إمنا لأنه عُزل روحيا عن الإن�سانية ،كما �أن��ه ال ي�شعر بالالمباالة التي يت�سم بها �أب�ط��ال �سارتر وك��ام��و� ،إذ �أن �أبطال د�ستويف�سكي (م�أ�ساويون) لأنهم يعون �أن متردهم ال جدوى منه ،فامل�صري معد �سلفا ،ك�أبطال الرتاجيديا اليونانية. ه��ذه امل�لاح�ظ��ة �أك��ده��ا ال�ب��اح��ث الأدب���ي (غ��و���س) يف كتابه املهم (د�ستويف�سكي وتول�ستوي) ،فهو يرى ب�أن تول�ستوي كاتب (ملحمي) يذكرنا بهومريو�س، بينما د�ستويف�سكي كاتب (تراجيدي) يذكرنا بكتاب الرتاجيديا اليونانية �أمثال �سوفكلي�س و�إ�سخيلو�س ويوربيد�س� ،إذ �أن �أبطاله يتمردون على م�صريهم الذي ال ي�ستطيعون �أن يغريوه ،لأنه �أُعد لهم �سلف ًا من قبل قوى الغيب. -7ه �ن��اك م�لاح�ظ��ة م�ه�م��ة للمفكر ال��رو� �س��ي (نيقوالي بردياييف) ي�ؤكد فيها ب��أن الفكر الفل�سفي الرو�سي ب�شكل عام ،واملعرفة الفل�سفية ب�شكل خا�ص ،هما فكر ومعرفة روحية يتحد فيهما العقل والإرادة والعاطفة، وتخلو من التمزق العقالين ،و�أن د�ستويف�سكي هو �أعظم من ج�سد هذه املعرفة الروحية ،ومن هنا فقد كان يعتربه �أعظم ميتافيزيقي رو�سي ،و�أكرب وجودي، بل �إنه ي�ؤكد ب�أنه مع د�ستويف�سكي يبد�أ ع�صر جديد يف تاريخ �إكت�شاف �أعماق الإن�سان ،فلم يعد تاريخ الأعماق الإن�سانية كما كان قبل د�ستويف�سكي ،و�أن
(نيت�شه) و(ك�يرك�غ��ورد) وحدهما ميكن �أن ي�شاركا د�ستويف�سكي جمد ريادة هذا الع�صر اجلديد. جوهر اكت�شاف د�ستويف�سكي كما يرى (بردياييف) ه��و �أن الإن���س��ان كائن متناق�ض ،م��أ��س��اوي ،تعي�س و�شقي ،وه��و لي�س معذبا وح�سب ،و�إمن��ا هو يحب الأمل وامل�ع��ان��اة �أي���ض��ا ،ب��رغ��م �أن ار�سطو يف كتابه (ف��ن ال�شعرية) تو�صل �إىل ه��ذه الق�ضية قبل انتباه (ب��ردي��اي �ي��ف) ل �ت �ن��اول د�ستويف�سكي ل �ه��ا ،ال�سيما حينما نتوقف عند عملية (التطهري) حلظة م�شاهدة (الرتاجيديا). -8املفكر والباحث (�شي�ستوف) كان يرى ب�أن الف�ضيلة الكربى للفل�سفة (الوجودية) هي �أنها و�ضعت الإن�سان يف مركز الفل�سفة ،وطرحت ق�ضية امل�صري الب�شري ال �ف��ردي ب�صراحة مرعبة وي ��أ���س ك�ب�ير ،كما �أعطت اجل��واب عن هذه الق�ضية يف �أن موقف الإن�سان من العامل هو موقف عبثي ،وال خمرج من م�أ�ساة الوجود، كما �أن التطور االجتماعي والتكنولوجي ال يحل هذه الإ�شكالية ،و�إمنا يواجه الإن�سان مع هذه امل�أ�ساة �أكرث، و�أن الأخ�لاق عاجزة عن حل هذه الإ�شكالية �أي�ضا، برغم �أن (�شي�ستوف) ينتبه �إىل ق�ضية مهمة عند (د�ستويف�سكي)� ،أال وهي انهيار النزعة الأخالقية، وما موقف ( �إيفان كارومازوف) املتج�سد يف التمرد على الأديان والنب�ؤات امل�سيحية بقيام مملكة امل�سيح على الأر�ض ،ورف�ض النظريات الطوباوية يف التقدم الإج�ت�م��اع��ي والإن �� �س��اين� ،إال مواجهة ب�ين الأخ�ل�اق امل�سيحية املتجلية يف �شخ�صية الأخ الأ�صغر (اليو�شا) وبني عجز الأخ�لاق عن موا�ساة الإن�سان ،مما دفعه لتفجري م�شاعر الق�سوة والكراهية �ضد الإن�سان الفرد، �أو الب�شرية جمعاء. الباحثة (التينيا) ت��رد على ط��روح��ات (�شي�ستوف) م�ؤكدة على �أن د�ستويف�سكي قدّم نقدا للعقل وللوجود الإن�ساين ،لكنه مل يجد احلل يف العبث الوجودي وال يف االنتحار� .صحيح �أن بع�ض �أبطاله ينتحرون هربا من الظلمات الباردة يف الأعماق ،ومن الي�أ�س ،فاحلياة بالن�سبة �إىل ه�ؤالء هي �أمل وخوف ،لكن د�ستويف�سكي كان يحت�ضن هذا الأمل املدمر لدى �أبطاله بكل حنان وتعاطف و�شفقة و�سمو �إن�ساين.
-9يف الأدب العربي ميكن التوقف ب�إمعان عند بع�ض ال �ت �ج��ارب الإب��داع �ي��ة ال���ش�ع��ري��ة امل���ش�ح��ون��ة بالقلق الوجودي مثل جتارب حممود الربيكان� ،صالح عبد ال�صبور ،خليل حاوي� ،إيليا ابو ما�ضي ،وقبلهم كما �أ�سلفت يف ال�ت�راث :ط��رف��ة ب��ن العبد ،املتنبي، احل�ل�اج ،واب ��ن ع��رب��ي ،وال �ن �ف��ري ،واب ��ن الفار�ض، وغريهم ،التي ت�ضعنا �أمام خط التما�س بني ( الفل�سفة الوجودية) وبني (اللغة ال�شعرية) التي حتدث عنها (هانز غادامر) يف مقالته ( ال�شعر والفل�سفة) ،ورمبا جن��د ح�شدا م��ن (الأب �ط��ال ال��وج��ودي�ين) يف الرواية العربية �أي���ض��ا ،ال�سيما عند جنيب حم�ف��وظ ،ف�ؤاد التكريل ،وغريهم. و�إذا م��ا كانت (جن��وم ال��رواي��ة) ق��د حجبت �أ�ضواء ال�ف�لا��س�ف��ة يف ال�ث�ق��اف��ة ال�غ��رب�ي��ة ،ح�سب طروحات (غ��ادام��ر) ،ف ��إن جن��وم ال��رواي��ة العربية مل يحجبوا ال �ن��ور ع��ن �أي فيل�سوف يف ط��ول ال �ب�لاد العربية وعر�ضها لأنهم غري موجودين �أ�صال! و�إذا ما كانت عظمة (ال��رواي��ة الأورب�ي��ة) قد �أت��ت من خالل الأ�سئلة التي طرحتها حول امل�صري الإن�ساين، ومعنى الوجود ،ودور الفرد يف التاريخ ،فمهدت بذلك الطريق �أمام الفكر الفل�سفي الالحق ،و�أمام الفل�سفة ال��وج��ودي��ة خ�صو�صا ،ف ��أن ال��رواي��ة العربية ب�شكل عام مل ت�صل �إىل هذه املرحلة بعد �أو ب�شكل �أدق ،مل متهد بعد لظهور فل�سفة �أو فال�سفة �أو حتى لأية حركة فكرية ،بل وال حتى لأية حركة نقدية �أدبية متجذرة ووا�ضحة املعامل ،وك�أمنا املجتمعات العربية والثقافة العربية قد قدت من حجر ،فالنقد الأدب��ي يف الثقافة العربية يراوح �ضمن مدار التجارب النقدية والفكرية الفردية ،ورمب��ا تكمن (العلة) يف م�ستوى الرواية العربية وعمقها� ،أو يف (�سكونية) الفكر العربي املعا�صر ،ويف (تخلف) البنى الإجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية للمجتمعات العربية ،ول�سطوة الرتاث، وهيمنة الدين� ،أو رمبا مل يحن الوقت لذلك بعد.
* �سبق لهذا البحث ان ن�شر على موقع ايالف العام املا�ضي
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
دوس���������ت���������وي���������ف���������س���������ك���������ي وم�����������ه�����������م�����������ة ال�������ب�������ح�������ث ع������ن اإلن�������س�������ان ف������ي اإلن�����س�����ان عن دار جامعة برن�ستون الأمريكية �صدر كتاب ميلك الطموح املو�سوعي و�أظنها املرة الأوىل التي جتري فيها حماولة طرح كامل �أفكار وجتارب وكتابات فيدور دو�ستويف�سكي �أمام القارئ الغربي خا�صة .ومعروفة هنا الكمائن التي يقع فيها م�ؤرخو الأدب عادة� ،إال �أن هذا الكتاب لي�س بت�أريخ للأدب بل كما قال عنه النقاد هنا وهناك ب�أنه رواية -موزائيك �صنعت من قطع �صغرية ملونة ذات قيم متفاوتة .فنحن نلقى ،على ال�سواء ،تف�سريات لأعمال دو�ستويف�سكي مقربة خ�صو�صية و حتليال لل�سرد الروائي و ق�ضايا الالهوت الأرثوذك�سي ،كذلك �شغلت حيزا لي�س وبورتريهات ب�سيكولوجية خلليالته وبيوغرافيا �أدبية و�أخرى ّ بال�صغريالأجوبة على تلك ( الأ�سئلة اللعينة ) التي �صارعها الرو�سي طوال حياته.
عدنان املبارك كاتب عراقي مقيم يف الدمنارك
واجل ��زء الأول م��ن ال�ك�ت��اب ب�ع�ن��وان ( بذور التمرد ) كر�سه امل�ؤلف جوزيف فرانك لفرتة م��ن حياة دو�ستويف�سكي ب�ين �أع ��وام 1821 و 1849التي �شملت بداياته الكتابية حني كان يحلم بالت�أليف للم�سرح ( كتب حينها م�سرحية "اليهودي يانكيل" املفقودة ) ويقلد الكثريين من الك ّتاب واليعرف �أيّ واحد منهم �سيقتفي خ �ط��وات��ه :غ��وغ��ول ،ه��وف �م��ان� ،شيللر ،بو، را�سني ،هوغو ،يوجني �سو... وي�ق��ف امل ��ؤل��ف عند ك�ت��اب��ات دو�ستويف�سكي ككاتب تعليقات ق�صرية ك�شفت ع��ن موهبة الباروديا واملحاكاة ال�ساخرة اال �أنها كانت حمرومة من احل�س الفل�سفي .فر�سائله من تلك الفرتة تك�شف عن �أن الدين وامليتافيزيقا لي�سا بالأمور التي ت�شغل باله .ويكتب حينها اىل �شقيقه ميخائيل ( :هل قر�أت كتب �شاتوبريان ( عبقرية امل�سيحية ) ؟ �أرج ��وك �أن تلخ�ص يل الفكرة الرئي�سة وعلى �أي �شيء تعتمد ). ويف ال�سنوات التالية كانت املفاهيم الفل�سفية وال�لاه��وت�ي��ة ( ملخ�صة ) على ي��د الآخرين، حينها كانت تظهر رواي��ات��ه ب�أ�شكال غريبة وغروت�سكية �ضاع فيها مي�سم الكاتب بالفعل. ويبني فرانك �أن ر�سائل دو�ستويف�سكي الأوىل
هي فو�ضى للمفاهيم والأح�لام وال�شخو�ص الأدبية واملطامح واملطالعات التي مل تعرف ال�ت�ن���س�ي��ق يف ذه ��ن ال �ك��ات��ب ال �� �ش��اب .ويف ع��ام 1838يكتب اىل �شقيقه معلنا (:لديّ خطة معينة يف احل �ي��اة�� :س��أك��ون جمنونا، ولي�ضعوين يف امل�ست�شفى وليفح�صوين وي �ع��اجل��وين .ول�نر �إذا ك��ان��وا ق��ادري��ن على �إ�شفائي) .واخلطط ذاتها كانت تع�شع�ش يف ر�أ���س الراوية من ( حمقرون ومهانون ) ذلك الأدي��ب الفا�شل ال��ذي يحلم ب�إنبعاثه روائيا عظيما يف دار امل �ج��ان�ين .ول��وح���ص��ل وكان يف تلك الأربعينات نزيال يف مثل تلك الدار لأف��اد الت�شخي�ص الطبي مبعاناة من ت�ضخم رومان�سي بالغ وطموح مهوو�س يف الو�صول اىل �إح��دى ذرى الأدب .ويكتب اىل �شقيقه: ( لقد و�صلت اىل نتيجة هي �أن هومريو�س الأ��س�ط��وري �شبيه للغاية بامل�سيح� ،إن��ه ربّ جم�سّ د �أر�سل لتحرير الب�شرية� .إذن ال ينبغي مقارنة هومريو�س بغيته ،بل بامل�سيح) .وبذات اللهجة يتكلم عن �شخ�صية �شك�سبري ( الإلهية ). بالطبع ال �صلة لهذه ( الإ�ستنتاجات ) بالهوت الكني�سة الأرثوذك�سية التي بحثت الأكرثية فيه عن املفتاح لفك �أ��س��رار دو�ستويف�سكي.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
وي ��رى امل���ؤل��ف الأم��ري �ك��ي �أن الربوف�سور الإنكليزي �سريغي هاكيل على �صواب حني كتب عن �إمي��ان دو�ستويف�سكي غري املح ّد د، فهل كان �أورثوذك�سيا �أم �آخر؟ ويف الواقع كان دو�ستويف�سكي ال�شاب مغرما ب�شك�سبري من جهة ،ومن جهة �أخ��رى بالفودفيل وكوميديا ديالرته و( تلك العائلة اخلبيثة ملهرجي م�سرح " باواغان -الفو�ضى " الرو�سي ) .وكان قد ع��رف حينها مبيله ال �ق��وي اىل امليلودراما التي تدور �أحداثها يف خمادع الأم��راء .ومن ناحية �أخ��رى كانت جتذبه كامل�أخوذ عرو�ض املهرجني واحل��واة وامل�صارعني وغريهم من فناين ال�شارع� .إن ق�ص�صه املبكرة التي �صاغها يف رواية ( زوجة �آخر وزوج حتت الفرا�ش ) ال تتكلم ،بالت�أكيد ،عن غيبيات الأرثوذك�سية، فالإهتمام من�صب على ( ريربتوار) عرو�ض ال�ف��ودف�ي��ل البطر�سبورغية ال�ت��ي نعرث فيها على ع�ن��اوي��ن م�شابهة ( :ال ��زوج والزوجة وال�صديق ) �أو ( الزوج يف املدخنة والزوجة يف زي��ارة ) .وثمة �إحتمال �ضعيف ب�أن يقوم �أح ��د ،ع��دا املتخ�ص�صني ،مبطالعة رواي ��ات دو�ستويف�سكي من تلك ال�ف�ترة .فبعد قراءة ( الأب �ل��ه ) و ( الأبال�سة ) مثال يخيل للمرء
�أن��ه م��ن غ�ير املعقول �أن كاتبها ه��و م��ؤل��ف ( الل�ص ال�شريف ) و( ال�سيد بروخارت�شني ) و( بوزونكوف )� ،إال �أن الفرتة ذاتها جاءت ب�أعمال مثل ( الليايل البي�ض) وتلك الق�صة الطويلة الغروت�سكية (ال�شبيه) التي �أ��س�م��اه��ا ب��اخ�ت�ين باملحاولة الأوىل مل�سرحة الذات. وم� � �ع�� ��روف�� ��ة ك �ل �م��ة د و �ستو يف�سكي ع�� ��ن ( ال��ب��ح��ث ع� ��ن الإن� ��� �س ��ان يف الإن �� �س��ان ) كهدف للتجربة الأدب�� � � � �ي� � � � ��ة. ويف ال ��واق ��ع ت �ع��ر� �ض��ت هذه الكلمة ،عرب عقود ط ��وال ،اىل �سوء ف �ه��م ( ويف �أح �ي��ان ع��دة اىل ال�ت�ح��ري��ف ). �إذ عوملت كم�ؤ�شر وبيان ل�ل�ك��ات��ب ال��رو� �س��ي عن �إن �� �س �ي �ت��ه و�إمي ��ان ��ه
بالإن�سان ال��ذي ال يفقد حتى �إذا كان يف قعر الهاوية ،وجهه الإن�ساين..وبر�أيي يبدو �أكرث �إقناعا ما قاله باختني عن �شعرية منهج التعامل الدرامي ل�شخو�ص( ال�شبيهني ) املتخفية وراء الأنا العليا لذات دو�ستويف�سكي. ويكتب دو�ستويف�سكي املعلق ورا�صد اخبار مدينة بطر�سبورغ الذي يتقدم للقارئ كمراقب �ساخر وحامل غارق بامليالنخوليا ( :الثنائية، القناع� .إنها لعبة ت�ستحق الإدان��ة ،لكن الرب �شاهد �أيها ال�سادة ب��أن حالنا �ستكون �أ�سو�أ ب�ك�ث�ير �إذا ك���ش��ف ك��ل واح ��د م�ن��ا ع��ن وجهه احلقيقي ) .ولي�س ب�صدفة �أن �سمى كاتب هذه التعليقات نف�سه بـ( املت�سكع ) �أي ذلك الإن�سان ال�ه��ائ��م على وج�ه��ه يف �ضباب ا�صفر ملدينة �شبحية� ..إ ن قناع هذا ( املت�سكع ) هو �أول قناع من بني �أقنعة الرو�سي العديدة .وكانت هناك خطته يف �إ��ص��دار �سل�سلة من ق�ص�صه املبكرة حتت عنوان متميز ( مالحظات رجل غريب ) ،وبطلها راوية جمهول الهوية وكل ما نعرفه عنه �أنه واحد من مت�شردي بطر�سبورغ ي�سرتق ال�سمع لق�ص�ص الآخرين� .أما ق�صته فتبقى جمهولة الأم��ر ال��ذي يذكرنا بعدد من �شخ�صيات دو�ستويف�سكي امل �ت ��أخ��رة التي متثل الإن�سان احلامل .و�ش�أن كل مت�سكع يكون هذا كائنا غام�ضا معلقا يف الأث�ير ال يخ�ضع لقاعدة البداية والنهاية ،بعبارة �أخ��رى هو �إن�سان من دون خ�صي�صة وبيوغرافيا حتى �أن دو�ستويف�سكي يحرمه من اجلن�س .ويقول يف تعليق له �إن احلامل هو ( من جن�س غري م�ؤنث وال مذكر ،كما �أنه ال ينتمي ،يف احلقيقة ،اىل اجلن�س الب�شري ) .ويجد امل�ؤلف الأمريكي �أن �شخو�صا مثل احلامل و( املت�سكع ) هي �إ�سقاط ب�صورة م��ا ،وم��ن ن��وع ( ال�سخرية الذاتية ) لد�ستويف�سكي ال���ش��اب ،ي�سمح لنا بتوجيه ال�س�ؤال الذي كرره ملرات كثرية بنف�سه :ب�أي �شيء يحلم هذا احل��امل ؟ �أكيد �أن م��ادة احللم هي ذلك الإح�سا�س ال��ذي �أ�سماه بودلري مرة ب��ال �� �س��وداوي��ة ،وامل�ي�لان�خ��ول�ي��ا .ك��ذل��ك هناك الوعي ب�إنهيار الأح�لام� ،أح�لام الو�صول اىل القمة الأدب�ي��ة .وكل هذا �أول��د �أحالما جديدة يف نف�س الكاتب ال�شاب ميكن ت�سميتها ب�أحالم اخلروج من الوجود الالفعلي لذلك الكويتب م��ن �صحف ب�ط��ر��س�ب��ورغ و م��ن ث��م مواجهة الواقع العاري .ويف احلقيقة �سيتحقق هذا احللم يف القريب ،لكن لي�س يف دار املجانني، بل يف �أ�صقاع �سيبرييا ...ويت�ساءل فرانك� :أمل يكن الإ�شرتاك يف تلك امل�ؤامرة هو اخلطوة الأوىل يف البحث عن الق�صة الذاتية والنداء املطالب ببيوغرافيا ؟ وال�س�ؤال ال�ت��ايل :هل ك��ان النفي ال�سيبريي امل�ك��ان ال�ث��اين ل��والدة الكاتب ؟ وه��ل �أ�صبح ( بيت املوتى ) كما يقول امل�ؤلف الأمريكي، جتربة النار ،نار الواقع وحتوّ ل ذلك ( املت�سكع ) اىل معذب املنفى ال�سيبريي �أي ذلك الكاتب ذي الطموحات امليتافيزيقية واملتعامل مع التجاوزي؟ ويف احلقيقة ثمة بون كبري للغاية بني املنفي دو�ستويف�سكي ذلك النبي القومي احلائز على اجلوائز التقديرية و( ندمي ال�سلطان ) الذي ي �� �س �ج��ل ح �� �ض��وره اليومي يف بالط ال��ق��ي�����ص��ر ،و بني ال�صديق احل�م�ي��م لـ( امل� �ف� �ت� �� ��ش ال� �ك� �ب�ي�ر ) ا حلقيقي ال ��ذي كان امل� � ��دع� � ��ي ال � � � � �ع� � � � ��ام ال � ��ره� � �ي � ��ب لل�سنو د �س امل� � � �ق � � ��د� � � ��س كو ن�ستا نتني
بوبيدونو�شيف� ،إال �أن دو�ستويف�سكي مل يكف عن التباهي بنفيه ال�سيبريي ( غالبا كان يرى الآخرين �آثار ال�سال�سل يف قدميه ) .ومعلوم �أن �أ� �س �ط��ورة امل ��وت ال�سيبريي والإنبعاث اجلديد يعرفها جيدا ت�أريخ الأدب الرو�سي. وع ��ن ه ��ذا ال �ت �ح��وّ ل �أم � ��ام ج� ��دار امل� ��وت لن نعرف �شيئا اىل الأبد ،ولكن ما نعرفه هو �أن دو�ستويف�سكي مل يكف عن الكتابة يف زنزانة قلعة بييرتوبافلوف ،وك��ان عذابه احلقيقي مبعثه حظر الكتابة والقراءة عليه يف �سجن ( �أوم�سك) .ومثل هذا ال�صمت الإرغامي �إمتد خلم�س �سنوات. وكما يقول امل�ؤلف الأمريكي كان طوق النجاة هناك تلك ( الكتابة الداخلية ) وتدريب الذاكرة واملخيلة على ف��ن الت�شييد وخلق �شخو�ص وهمية و عقد بالغة ال�صعوبة .و�صارت ذاكرة دو�ستويف�سكي -الكاتب اخلارقة ،فيما بعد، م�ضرب الأمثال� ،إال �أنها �إلتهمت ذاكرة الأمور اليومية و ...ن�سيان الديون امل�ستحقة �أو �إ�سم الزوجة �أو عدم التعرف على وجوه �أ�صدقاء قدماء. ل �ق��د �أ� �ص �ب �ح��ت امل �� �ش��اه��د امل �� �س��رح �ي��ة وتلك التعليقات ال�صحفية ال�ساخرة مدر�سة �أدبية لدو�ستويف�سكي املبكر ،ومثلما كان ت�أريخ الأدب يعامل الفرتة التي �سبقت الإعتقال والتحقيق وم�سرحية الإع��دام والعفو كاملدر�سة الأوىل للكاتب .ويف ال��واق��ع كانت حياة املنفى قد �أيقظت ،لأكرب درجة ،خميلة الكاتب الدرامية، حينها ظهرت ر�ؤيا امل�سرح التلقائي الذي نلقى �إ�شارات له يف امل�شهد ال�صامت للموت والبعث يف متثيل ال�سجناء الهواة والتي جاء ذكرها يف ( بيت املوتى ) .وخطط دو�ستويف�سكي حول ت�أليف الكوميديات والرتاجيديات التي و�ضعها فور عودته من املنفى مل تتحقق ابدا. وكما الح��ظ �ألبري كامي حني ق�دّم ( الأبال�سة ) يف امل�سرح الباري�سي ،ف�إن ح�ضور و�سائل التعبري امل�سرحية مينح رواية دو�ستويف�سكي ط��اب�ع��ا ف��ري��دا ل �ـ ( امل���س��رح�ي��ات الفل�سفية ). وي �ت �ن��اول اجل���زء ال �ث��ال��ث م��ن مونوغرافيا فرانك ( قلق التحرير ) 1865- 1860عودة دو�ستويف�سكي اىل الت�أليف الأدب��ي وقيامه ب�أداء دور بطل غوغول ( املفت�ش العام ) على امل�سرح .وبعدها بع�شر �سنوات ونيف يكتب خم��رج تلك امل�سرحية بيوتر فينربغ ( :يف دو�ستويف�سكي ك��ان��ت تكمن موهبة املمثل الكوميدي .كان قادرا على �أن يثري عا�صفة من ال�ضحك الغوغويل ) .و ذات املالحظة نلقاها يف ذك��ري��ات �سكرتريته وزوج�ت��ه التي كانت تده�شها مقدرته على تقليد �أ��ص��وات �أبطاله الوهميني .وخالفا لل�سيد غوليادكني من ق�صة ( ال�شبيه ) الذي قال ب�أن املرء يرتدي القناع يف �أثناء الكرنفال فقط ،جند �أن دو�ستويف�سكي ك��ان يقلد الآخ��ري��ن وم��ن دون �أن يك�شف عن وجهه .وق��ارئ بيوغرافيات دو�ستويف�سكي يجد �أن وجه الكاتب مل يره �أحد .و�أكرب عيوب ه��ذه التفا�سري ه��و ذل��ك ال��رب��ط ب��ل املطابقة املق�صودة ،وال�سطحية �أي���ض��ا ،ب�ين الكاتب وروات��ه الوهميني و �أبطاله .و�أ�صبح بع�ض كتاب �سرية دو�ستويف�سكي �شبيها باملتحري البولي�سي .وك��ان هناك �شرلوك هوملز وجد �أن ذن��وب �ستافروغني م��ن ( الأبال�سة ) هي جت�سّ د ملغامرات دو�ستويف�سكي الأيرو�سية! �أو �أن هناك من �إ�ستخدم املفتاح الفرويدي، �أي امليثولوجيا لفلك اللغز الدو�ستويف�سكي، �أو �أن نزعة الكاتب ال�سادية -املازوكية يعود �أ�صلها اىل تلك الأ�سطورة عن ( ق�سوة الأب ) �أو التجلي الديني يف �أثناء نوبات ال�صرع �أو مواجهة املوت يف م�سرحية الإعدام تلك. وك ��ان ��ت �أدوار ال �ب �ط��ول��ة ال� �ت ��ي ق� ��ام بها دو�ستويف�سكي يف هذه الروايات البيوغرافية الزائفة كثرية :نبي الدين الكوين على طريقة الراهب زو�سيما ،املتمرد �إيفان كارامازوف، املفت�ش الكبري بنزعته الكلبية ،الغيبي امل�صاب بال�صرع يف ( الأبله ) ،املقامر الأبدي ،امل�ؤمن بـ ( الرب الرو�سي ) و الأورثوذك�سية القومية على طريقة �شاتوف يف ( الأبال�سة ) .ب�إخت�صار
ت��ذك��رن��ا �إع�ت�ب��اط�ي��ة ال�ت�ف��ا��س�ير البيوغرافية بالروليت �أو كما قال دو�ستويف�سكي نف�سه بـ ( الفودفيل ال�شيطاين ) لتج�سدات ال تنتهي. وهكذا يكر�س امل��ؤل��ف الأمريكي حيزا لي�س بال�صغري يف كتابه ال�ضخم لـ ( متاهات ) تف�سري دو�ستويف�سكي .ويف الواقع تتكلم التفا�سري ع��ن املف�سرين و�أك�ث�ر م��ن كالمها ع��ن الكاتب الرو�سي .ويبدو امل�ؤلف ك�أنه مدرك ب�أن احلرب التي �أعلنها ال�شكالنيون الرو�س �ضد مف�سّ ري ال�سري قد خ�سروها .وهويلحق هنا بالبحث م ��ادة ب��ال�غ��ة ال�ك�بر حم�ت��واه��ا ت�ل��ك اخلالفات الأدب�ي��ة والأيدولوجية من تلك ال�سنني ،كما جن��ده ي�ستعر�ض ،ببالغ احل��ر���ص ،ذكريات م�ع��ا��ص��ري دو�ستويف�سكي ،وب�ع��ده��ا ت�أتي جمادلته يف ( �إحل��اق ) نتاج الكاتب الرو�سي بال�سياق الت�أريخي لع�صره .بالطبع يرافق ذلك ،الإميان الرا�سخ ب�أن يف مكنتنا الو�صول اىل احل�ق�ي�ق��ة ع��ن دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي .وه��ذه العني الأ نكلو�ساك�سونية ال�صاحية ت�صوب نظرتها الواثقة من �أنها �ستجلو كل غمو�ض و�أل �غ��از وم�ه��ام وتناق�ضات دو�ستويف�سكي. وق��د يتفق الكثريون ب��أن ه��ذا احل�س ال�سليم الأنكلو�ساك�سوين واملعرفة بالع�صر و الأخذ مبنهج الت�أريخانية ال ت�ساعد كلها يف دخول عامل دو�ستويف�سكي ،كما �أن��ه ال تفيد هنا �أي كلمة ��س� ّر م��ن ن��وع ( �إف�ت��ح يا�سم�سم! ) .من ناحية اخ��رى متلك البيوغرافيا احلري�صة �أكادمييا والتناول الو�صفي للت�أريخ منطقهما اخل��ا���ص اال �أن ��ه م��ن ال�صعب تطابقهما مع التف�سري العميق للأثر الأدب ��ي .ولعل املثال على ذلك اجلزء التايل من الكتاب ( :ال�سنوات
الرائعة .)1871 – 1865 ك ��ان امل ��ؤل��ف ق��د ذك ��ر يف م�ق��دم��ة ك�ت��اب��ه ب ��أن م���س�ع��اه ه��و ( ت��ن��اول دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي يف ال�سياق الإجتماعي -الثقايف للع�صر ) ،ولذلك ي�صعب فهم الأ�سباب التي دفعت امل�ؤلف اىل �أن يخ�ص�ص هذا العدد الكبري من ال�صفحات للحكايات عن غراميات دو�ستويف�سكي وق�صة زواجه وجتربته امل�ؤملة مع القمار والروليت. وال�س�ؤال الذي يتبادر اىل الذهن تلقائيا :كيف ميكن اجلمع بني هذا كله وبني ذلك التحليل املف�صل ل �ـ ( اجل��رمي��ة وال�ع�ق��اب ) و( الأبله ) و( الأبال�سة ) ؟ �أك�ي��د �أن الغر�ض م��ن مثل هذا ال�س�ؤال لي�س ال�شطب على البيوغرافيا والعودة اىل ال�شكالنية وما اعلنت البنيوية عن �إكت�شافه ،لكن بيوغرافيا الكاتب ينبغي �أن تعامل كحقيقة �أدب �ي��ة ولي�س �أمبريية. ويف حالة دو�ستويف�سكي تختلط التفاهات احلياتية وعادية العي�ش بالوهم الأدبي وفق مناذج غريبة تذكرنا باملتاهة الهرمية ولي�س ال ��درب امل�ستقيم ال��ذي ي�ب��د�أ بالعلة وينتهي بالنتيجة .والظاهر �أن فرانك عرث على مثل هذا الدرب لكنه مل ينتبه اىل وهميته. وقد يكون �إ�ستقرا ًء قا�سيا �إعتبار هذا الكتاب ب�ي��وغ��راف�ي��ا غ�ير �أدب� �ي ��ة ،ب��ل جمعا مبا�شرا للوقائع التاريخية بالأدب .وللإن�صاف ينبغي القول ب ��أن امل��ؤل��ف مل يرتكب �أخ�ط��ا ًء تك�شف عن جهل �أدبي �أو تاريخي او غريه لكن الأمر متعلق بواقع �آخر قال عنه مرة ذلك الإن�سان ( من حتت الأر���ض ) ب�أنه �أمر لطيف يف بع�ض الأحيان �أن ت�ساوي �إثنني زائد �إثنني خم�سة. �إن املنهج املف�ضل يف هذا الكتاب هو البحث عن
7
مناذج لأبطال دو�ستيف�سكي بني معا�صريه ،اال �أن مثل هذا التحري ال ميلك فر�ص النجاح. ف� ��الأدوار الأدب �ي��ة ال�ت��ي ت�ق��وم بها �شخو�ص دو�ستويف�سكي ه��ي م�ت�ع��ددة امل �ع��اين ،وكل �شخ�ص هنا ميلك الكثري من النماذج التي يكون التفتي�ش عنها وتعقب تاريخها �أمرين عقيمني وفاقدين للمعنى .ويذكرنا دو�ستويف�سكي هنا باملجرم الذي يرتك وراءه ،عن عمد ،الكثري من الآث��ار لدرجة �أن ال�شك يخامر �شرلوك هوملز نف�سه بنجاعة �أ�ساليبه! �إن ( ق�ضية ) دو�ستويف�سكي بحاجة اىل حمقق من طينة �أخ��رى ،ولهذا ال��دور ي�صلح �أ�ستاذ تقنية التحقيق ( ب��ورف�يري ) من ( اجلرمية والعقاب ) ..وكما نعرف كانت تقنيته قائمة على عن�صر املخاتلة والتعذيب بالأمل الكاذب، والأ�سئلة املباغتة والك�شف عن التناق�ضات وتقوي�ض التكتيك الدفاعي عند املتهم� .أما �أ��س�ئ�ل��ة امل ��ؤل��ف امل��ري�ك��ي ف�ت�ط��رح بال�صورة املبا�شرة وبذلك يقع يف ال�شرك ال��ذي ن�صبه دو�ستويف�سكي� .إن��ه يوجه الأ�سئلة ويجيب عليها �أي�ضا :ملاذا قتل را�سكولنكوف املرابية العجوز؟ وجواب امل�ؤلف هو �أن العثور على حل لغز را�سكولنكوف نلقاه يف تلك الأفكار النهل�ستية للإنتلجن�سيا الرو�سية من القرن التا�سع ع�شر .وكما يبدو ن�سي امل�ؤلف �أمرا مهما للغاية وهو �أن لعبة دو�ستويف�سكي مع ال�ق��ارئ هي �أك�ثر تعقيدا وم�ك��را .والفر�ضية القائلة بالمعقولية دواف��ع را�سكولنكوف قد تعترب الأ�صوب من غريها .ومعلوم �أن هذه ال��رواي��ة ( ت�ع��اين ) م��ن غ ��زارة التف�سريات التي تبد�أ مبقارنتها بالرتاجيديا اليونانية
�أو ( �أ�صل الأخ�ل�اق ) ل��دى نيت�شه ثم فل�سفة ال�ت��أري��خ الهيغلية ،ويف ال�سنوات الأخ�يرة �سُ لطت على الرواية �أ�ضواء ك�شافة جديدة: الهوت الأورثوذك�سية عامة ..ويوحي امل�ؤلف الأمريكي لنا ب�أنها رواي��ة -تراجيديا ،وهو تف�سري �سبق �أن ط��رح��ه ال��رم��زي��ون الرو�س يف ب��داي��ة ال�ق��رن الع�شرين ،وك��ان ه���ؤالء قد ق��ر�أوا نيت�شه وعلى �أعينهم نظارة الغيبيات الرو�سية .وك��ان ميخائيل باختني قد �إختلف معهم .وكما يبدو مل ي�ستمع امل�ؤلف اىل حجج الباحث ال��رو��س��ي .ويف ال��واق��ع تذكرنا تلك التجارب امليتافيزيقية القا�سية التي مير بها �أبطال دو�ستويف�سكي وك�أنهم �أران��ب املخترب العلمي ،مب�سرح العبث ولي�س الرتاجيديا اليونانية .وتعود ( خطة ) را�سكولنكوف اىل مثل هذه التجارب العبثية .ففي قتل املرابية العجوز يتم تغيري منطق ت�أريخ العامل� .ألي�س ه��ذا الطالب يف ق�سم القانون واحل��امل بدور ( نابليون اجلرمية ) و�إرتكاب جرمية قتل ( تبلغ الكمال مثل الريا�ضيات) هو �شخ�صية غروت�سكية و�أكرث منها تراجيدية ؟ �أال يذكرنا هذا الطالب بـ ( بروف�سور الإنتحار) كرييلوف يف ( الأبال�سة ) الذي �أوقف �ساعته لكي يوقف الزمن ؟ ي�ق��ارن امل ��ؤل��ف يف مو�ضع �آخ��ر ب�ين ر�سائل دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي ال �ت��ي � �ص��اغ ف�ي�ه��ا منطلقه امل�سيحي وبني ر�سائل �سوبوفيوف الفيل�سوف القريب منه ولكن فكريا ح�سب .فد�ستويف�سكي املنفي الذي �أنهكته �أفكار ومفاهيم غريبة عليه حينها ،كان النقي�ض لذلك الأر�ستقراطي الذي عرف بح�س التفكه و�أناقة ال�صياغات والإطالع الوا�سع على الفكر الأوروب ��ي .ويف الأخري ك��ان دو�ستويف�سكي قد اع�ترف بق�صوره يف م��ا يخ�ص التفكري الفل�سفي .وك ��ان حد�س معا�صريه من هذه الناحية �صائبا .فهناك ناقد قارن ( �أفكار) دو�ستويف�سكي الفل�سفية بورق ال�سكاكر امللون اللماع امللقى بني املهمالت! كما ذكره مبت�شرد عرث على هذه الورق و�أخذ يريه للجميع كمعجزة خارقة .وقام بهذا الأمر ب���ص��ورة موحية �أراد منها �إق �ن��اع الآخرين بقيمة ال��ورق الكبرية .بعدها ي�أخذ اجلميع وكلهم �إعجاب ،بالنظر اىل هذه ( املعجزة ). ويف الواقع تتما�شى هذه ( اللقطة) البالغية مع الإعتقاد املعروف لدى دو�ستويف�سكي ب�أنه يف مزبلة الوجود� ،أي يف قعره ،ميكن �إعادة ت�شييد القيم الإن�سانية. وهناك الأ�سئلة الأخرى لدى امل�ؤلف الأمريكي مثل :هل لنداء الراهب زو�سيما حول تقبيل الأر���ض معنى �صويف وديني بالفعل؟ وهل هناك �أي مغزى يف الإ�شارة اىل ذكريات هذا ال��راه��ب لكي نحب ولي�س اخل�ط��اة وحدهم، ب��ل خطاياهم �أي���ض��ا ؟ وه��ل الليلة الأخ�ي�رة التي ق�ضاها بطل ( الأبله ) بني القاتل وجثة �ضحيته ال تعني ،ف�ع�لا ،ن��وع��ا م��ن املحاكاة الهازئة للم�سيح؟ كذلك م��اذا ك��ان مب�ستطاع الفيل�سوف �أن يقوله عن ( جتربة ) كرييلوف ح��ول دح��ر اخل��وف وغنم احل��ري��ة ع��ن طريق الإنتحار طاملا �أن هذا وذاك من البيوغرافيني و�أ�ساتذة الأدب وت�أريخه يقولون ب�أن روايات دو�ستويف�سكي تتكلم بلغة امل�سيحية احلقيقية ف�ل�م��اذا يلعب ال�ق��ات��ل يف خ��امت��ة ( اجلرمية والعقاب ) دور من يقلد امل�سيح؟ �إن العالمة ال�ف��ارق��ة لرا�سكولنكوف ه��ي ال�ف��أ���س ولي�س ال�صليب ،والأكرث من ذلك ال امل�ؤلف وال القارئ مييالن اىل التعاطف مع ال�ضحية تلك املرابية ( الآف��ة امل�ضرة وم�صا�صة ال��دم ،والقملة )، يكفي ال��رج��وع هنا اىل اخل��امت��ة لكي نقتنع ب�أنه ال كالم هناك عن الندامة وت�صويب فكرة القتل .ويف ال��واق��ع هناك �إمكانية مل�ضاعفة الأ�سئلة وخا�صة ما يتعلق منها بتف�سري امل�ؤلف الأمريكي للروايات الأخرى.
Joseph Frank: The Seeds of Revolt 1821-1849 Princeton University ,Press, 1986 http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
8
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
ايمان دستويفسكي .ن ول�سون ترجمة :خ�ضري الالمي
لي�س م��ن ال�سهل ان ي�ت�ن��اول ال�ن��اق��د ادب د�ستوبف�سكي ،وقد كتب الكثري من النقاد عن د�ستويف�سكي ورواياته ؛ بيد انهم اي النقاد مل يحيطوا بد�ستويف�سكي اح��اط��ة تامة بحيث يحق لنا ان نقول كنقاد ومتلقني: ان د�ستويف�سكي ا�صبح ت��راث��ا او تاريخا او كاتبا وروائيا عا�ش ع�صره وكتب عنه ويجب ان ن�ضعه على ال��رف ،الن��ه ال يقدم لع�صرنا �شيئا يف جمال الرواية والفل�سفة والنقد .وها هو الناقد روان وليامز يخرج علينا بكتاب جديد ا�سمه :اللغة ،واالميان،
وال��رواي��ة .وق��د ت�ن��اول ه��ذا الكتاب الناقد �أ .ن ول���س��ون يف مقالة ا�سماها “ البابا د�ستويف�سكي “ي�شرح فيها وج �ه��ة نظر د�ستويف�سكي يف الدين. وبالطبع ،يعد ول�سون اح��د عمالقة النقد االمريكي ولي�س من ال�سهولة مبكان ان ننقل عن ول�سون وهو �صاحب اال�سلوب املعقد يف تناوله لالعمال الروائية ف�ضال عن متيزه يف الكتابة عن د�ستويف�سكي ،فكيف واحلال بنا وهو يكتب عن واحد من عمالقة االدب يف القرن الع�شرين �أال وهود�ستويف�سكي ..من جانبي ازعم لنف�سي انني ا�ستطعت ان اقرب للمتلقي يف هذه املقالة ،مع االحتفاظ بروح
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
الن�ص وعمق اال�سلوب اللذين عرب فيهما ول�سون عن وجهة نظره عن د�ستويف�سكي.. ( املرتجم). �إن وجهات نظر فيودور د�ستويف�سكي غري املحمودة يف الدين هي من ال�صعوبة مبكان ان نثبتها بكل و�ضوح .وعلى العك�س من ذلك ؛ فانت �إن جمعت النقد الذي كر�س عن تول�ستوي ،فلن جتد ادنى ريب يف اميانه الديني ،و يف اي مرحلة من مراحل حياته .مع ذلك ،فاننا جند يف تاريخ نقد د�ستويف�سكي على �سبيل املثال ،و يف قراءات هرني ميللر له ،فانه يعد ثوريا اجتماعيا بامتياز ،يف حني ي��راه البع�ض الآخ��ر حمافظا متطرفا.
ويف كتابه االخري يقتب�س روان وليامز و ي��رد بـ "البيُنة" على وليام هاملتون الذي كان يبحث لي�صف د�ستويف�سكي بانه مب�شر مبوت امليثولوجيا االلهية.ويذهب جورجز فلورلف�سكي اىل و�صف د�ستويف�سكي بانه من��وذج للآرثوذوك�سي ال��رو��س��ي .ويربط مالكومل جونز افكار د�ستويف�سكي بـ "ما ب�ع��د العلمانية" يف رو� �س �ي��ا املعا�صرة. ويتهمه بالعمل يف التقليل من �ش�أن الدين، �إن جميع هذه القراءات املتناق�ضة ال ميكن ان نعدها دقيقة؟ وهنا ،اننا بحاجة اىل توحيد مواهب ناقد ادبي وثيولوجي متمر�س ،لي�ستنبط لنا كيف
ان روايات د�ستويف�سكي ت�ستخدم كو�سائل تعبري يف الك�شف عن ه��ذه التو�ضيحات. وان �ن��ا ب�ح��اج��ة اي �� �ض��ا ،اىل م � ��ؤرخ يكون مت�ضلعا جدا ،يف الرتاث الروحي واملزاجي للكني�سة الآرثودوك�سية الرو�سية لندرك هوية د�ستويف�سكي وع��ذاب��ات �شخ�صياته القلقة من خالل اطار تاريخي وا�ضح.ومن ح�سن احلظ،ان بابا كنرتبريي جمع كل هذه اخلا�صيات ،ورمبا اكرث. فثمة كثري من ال��ر�ؤى يف ه��ذا املجال لدى د�ستويف�سكي ،اللغة واالمي ��ان والرواية التي تلقي ال�ضوء على موا�ضيع رواياته وال �ت��ي مي�ك��ن ان ت �ت ��أت��ى م��ن ه��ذ التحليل
ح�سب .مثل درا��س��ة وليام ل��رواي��ة “الأبله “اوال�سمات البارزة للوحة هولبني "امل�سيح يف القرب" ( )1521مثاالن تو�ضيحيان كي نفهم بطل الرواية الرئي�سي .و” �شهادة “ هولبني تعر�ض (برغم ان هذا لي�س وا�ضحا يف الرواية ) م�شهدا جانبيا من جثة -لي�س ج�سدا ميتا م�سجى ح�سب،يف حلظة املا�ضي (اذ ثمة ر�سوم ارثوذوك�سية جل�سد امل�سيح م�سجى ) ولكن ج�سدا م�سجى على �شكل �صورة جانبية ،هو �إنكار م�ضاعف للتقاليد االيقونية ،iconographyوباح�سا�س م��و��ض��وع��ي ،وا� �ض��ح،ت �ع��د ه ��ذه االيقونة �صورة “ �شيطانية “ اذ ثمة ق��راء قليلون ال ي��ؤم�ن��ون بالكني�سة الآرث��ودوك �� �س �ي��ة و يدركون احلقيقة ،يقدمهم لنا هنا وليامز.و يف تراث االيقونات،جند �شخ�صيات وحيدة تظهرعادة على �شكل وجوه،هم ال�شياطني او ي �ه��وذا اال��س�خ��ري��وط��ي ،وه ��ذه ا�ضافة خمت�صرة ذات �صلة مب��و��ض��وع تراكمات وليامز يف قراءاته لرواية �شخ�صية “ االبله “ بعيدا عن ر�ؤية م�شكني الذي ي�شبه �صورة امل�سيح.ووليامز ينبهنا اىل �ضعف م�شكني “ املميت “بو�صفه �شخ�صا بريئا وعاطفيا، وكذلك ينبهنا اىل انه قوة غري متعمدة يف اخل ��راب ،فهو ي�ضرب ال�ه��دف بهذا القرار املتناق�ض بدقة متناهية .فم�شكني الرجل الطيب ال ميكنه تفادي االذى .ويف ختام كتابه يطلق وليامز زعما الفتا للنظر،هو ان االن��دم��اج املتنافر يف كثري م��ن اعمال د�ستويف�سكي يخلق �شيئا قابال للمقارنة يف تراث لوحة االيقونة. ان ه��ذا االن��دم��اج او االن�صهار ا�ست�سالم ملزاعم حقيقة م�ستقلة وا�ست�سالم ملجازفات فعلية،و�شكوك وعدم توكيدات هذه احلقيقة ب��ال�ك�ل�م��ة وال �ف �ع��ل ،ي�خ�ل��ق ح �ي��اة روحية (وب�شكل خا�ص احلياة الروحية امل�سيحية ) وهي احد امل�ؤ�شرات ال كل امل�ؤ�شرات ،ونقد للذات غري املتفح�صة ،وما هو متميزجدا يف فن ال�سرد الد�ستويف�سكي ،هو انه ال يعطينا م�سرودات يف هذا االندماج ال�صعب ح�سب، لكنه يج�سده بطريقة �سردية و ممار�سة مهمة يف كتابته ومتطلبات طموحه .وتعد كتابة العمل الروائي لديه نوعا من الأيقونة. حينما نقر�أ نقا�ش وليامز ،ننغمر لي�س يف متعة ق��راءة رواي��ات د�ستويف�سكي ح�سب، ب��ل ،ننغمر اي���ض��ا ،يف ق��راءات��ه الوا�سعة لالدب الكن�سي ،و تراث الكني�سة ال�شرقية. متنحنا هذه القراءات مفاتيح لفهم الغمو�ض وال �ت �ن��اق �� �ض��ات ال �ت��ي ت �ب��دو م ��روع ��ة جدا و”معا�صرة “ يف �صفحات د�ستويف�سكي والتي دائما ما تكون موادا تراثية يف ثيمة الثيولوجيا .وال�ك�ت��اب ب��ذل��ك ي�ضم اع��ادة قراءة د�ستويف�سكي يف حماولة منه ملواجهة لي�س غيوم عا�صفة ال�ق��رن التا�سع ع�شر،
وكما دعاها را�سكني املع�ضلة الثيولوجية لالميان ،بل هي ظاهرتنا املعا�صرة اي�ضا يف احياء الداروينية التي تعتقد بنف�سها انها جتيب او تكرر تدمري مزاعم العقالنية. وع�ل��ى ه��ذا ،ي�ب��د�أ ال�ك�ت��اب ،وي��وح��ي ب�شك املتلقي ،كما لو ان د�ستويوف�سكي نف�سه، يريد ان يطبع كتابه يف عام - 2008ليكون معنا ويراقب احلياة املعا�صرة .ويبد�أ لي�س مع االدب الرو�سي العظيم ،ال��ذي هو مادة رواياته ،ولكن ،مع االندفاع الراهن للكتب املعادية لالميان الديني ،التي تتعامل معه، يف الغالب بو�صفه االن�ح��راف الوحيد يف جم��ال العقالنية االن���س��ان�ي��ة.وان��ه عبارة ع��ن جم�م��وع��ة م��ن ال �ق �ن��اع��ات غ�ير امل�ب�ررة عن م�سائل هاجعة و -يف ا�ضعف االميان خ��اط �ئ��ة ،وج��دل �ه��ا ال ي �ق��ف ع �ل��ى ار���ض�صلبة .وبالنقي�ض من ه�ؤالء الكتاب الذين يكون عملهم .كما يقال (،برغم ان امل�ؤلف مل يقل ذل��ك ) متوقعا يف كتابات املرحوم د�ستويف�سكي.ويو�ضحة وليامز بطريقة ال لب�س فيها.الطريقة الفعلية التي يعمل فيها الدين يف احلياة االن�سانية الفردية.وهذه م�س�ألة ا�سا�سية يف عمل د�ستوف�سكي بو�صفه روائيا .وكتاب وليامز هو عمل نقدي ،بيد انه يبد�أ ،على هذا اال�سا�س كما لو انه دفاع م�سيحي ثيولوجي .ف��اذا ك��ان ذل��ك ،ي�سبب م�شاكل منهجية ،كما يعرب عنها وليامز ،فانها بالتاكيد تعد م�شاكل ،اال ان د�ستويف�سكي ك��ان ي�ست�سيغ ه��ذا ال��ر�أي.وخ��ارج اعراف الكني�سة الكاثولوكية ال��روم��ان�ي��ة ،كانت متثلها ك َتابات فرانك مورياكFrançois، Mauriacاو ايفلني ووف Evelelyn Waughوكالهما يجد يف د�ستويوف�سكي ب�ك��ل رع�ب��ه “من االل ��ه ال��روم��اين ال�شرير “ املتمرد االخالقي وال�سلوكي.وينزع اف�ضل الروائيني الغربيني اىل حماربة الثيولوجيا بكل و�ضوح.ورمبا اعمالهم حتتوي على عنا�صر دينية ولكنها لي�ست و�سائل تعبريية كروايات د�ستويف�سكي العظيمة من اجل تقدمي جدل ميتافيزيقي عقيم.ولي�س من الب�ساطة مبكان ان نقر�أ االخ ��وة ك��رام��ازوف م��ن دون ان نطرح ت���س��ا�ؤالت ع��ن االل ��ه .ه��ل االل��ه موجود ؟ ف��ان ك��ان م��وج��ودا حقا ،فلماذا يعاين الطفل الربيء من العذابات ؟ وهل ثمة بديل ع��ن ال�غ��واي��ة ،باال�ضافة اىل االغراء بالتجديف �ضد اخلالق االعلى للدين الذي يعر�ض الغمو�ض وال�سلطة .فحينما نقلب �صفحات رواية “ االخوة كرامازوف “ تلك الرواية ال�صرح عن اجلرمية،نت�ساءل عن م��ن قتل االخ��وة،ع�ن��دم��ا يتحول االب اىل رابطة ال خال�ص منها يف امل�سائل الثيولوجية ؟ فهل ان الرواية التي تعد اعظم عمل روائي م�سيحي قد ظهر
حتى االن! اوهي اكرب اتهام وادانة للعقيدة الدينية ؟ لي�س ثمة حتليل واقعي لالميان الديني ميكن ان ن�ستقرئه؟ الي�س كذلك ؟ وهل ميكن القارئ من ال�صراع مع هذه هو كتاب ٌ الت�سا�ؤالت ،ويحرره من القيود واالغالل، اما بالطاعة للنظام الديني املتزمت او عن طريق امل�ساواة بعبادة العلم الذي انت�صب يف القرن التا�سع ع�شر كحالة تعوي�ضبة.. وامل �ع �ل �ق��ون ع�ل��ى ك �ت��اب ال��دك �ت��ور وليامز بو�صفه قيادي كنائ�سي ،يالحظون احيانا مقدرته الوا�ضحة واملتزامنة يف االم�ساك بعقيدتني متماهيتني كلية ،وال يحتاج هذا اجلدل الهتمامنا هنا ،ما مل جنده اهتماما ال يقاوم يف العبور اىل الت�أمل يف وجهات نظر د�ستويوف�سكي عن االنثى -دعه يتمتع لوحده -و�سيكون الكهنة جميعهم قادرين على التخيل بو�ضوح،ان كان ثمة فائدة ام ال ،يف التفكري
9
امل��زدوج عندما ي���ؤدون دور البابا املعذب يف ال �ت��وف �ي��ق ب�ي�ن ال �ف �ك��ر امل��ري ����ض خ��ارج مواقف الليرباليني االمريكيني واملحافظني االف��ارق��ة ،واملقدرة على االم�ساك بوجهات نظراملعار�ضة للق�ضايا الدينية .وهذا متاما ما تظهره �شخ�صيات د�ستويف�سكي مرة بعد اخ��رى .ومعرفة وليامز من بداية مدينيته اىل اعظم فيل�سوف ناقد رو�سي هو ميخائيل باختني الذي ي�شكل كتابه “ م�شاكل �شاعرية د�ستويف�سكي “ قراءة �ضرورية منذ ان طبع اول م��رة يف �سنة 1929وال��ذي ل��ه ت�أثري كبري على النظرية االدبية. وتطور باختني مبا اطلق عليه بـ "احلوارية " dialogismرمبا تعك�س مواقفه غري املعلنة ال���ض��روري��ة �إزاء االرثوذوك�سية، وث�م��ة م��ن ي�ضطهده ب�شدة الن��ه ي�شك ،يف قراءاته لد�ستويف�سكي.ويراه خمربا دينيا. وبقدر ما اعرف ،فان موقف باختني الديني يبقى غام�ضا اىل هذا
ال�ت��اري��خ م��ن ع�شرينيات ال�ق��رن الع�شرين لرو�سيا ،وه��ذا لي�س زمنا �سهال يحمل بني طياته نقاءهذه الق�ضايا .وه��ذه احلقيقة التاريخية القا�سية رمب��ا تو�ضح بع�ض خفايا ت��أم�لات باختني يف ال��دي��ن واالدب. وبرغم ذل��ك ،ان باختني هو ال��ذي علمنا - وع��زز وليامز ر�سالته ب��اج��زاء �صغرية ال تعد ق��راءة دقيقة ومفيدة للن�صو�ص -ان د�ستويف�سكي هو روائي متعدد اال�صوات، وبهذا ف��ان مثل ه��ذه ال�ق��راءة ل�ل��رواي��ات ال تعك�س عقال ازدواجيا ،او م�شككا بال�صراع ال��وج��ودي.ان �ه��ا ذات �ه��ا ب��راه�ين ع�ل��ى هذه املواقع التي يجب ان تكت�شف ان كان املرء ي �ت �ج��ر�أ ع�ل��ى ط ��رح م�ث��ل ه ��ذه الت�سا�ؤالت العظيمة ع��ن الثيولوجيا الفل�سفية.فاذا كانت تعاليم التج�سيد االلهية حقيقة على �سبيل املثال،فان العلم ال يقدر على حلها، وان املحللني امل�سيحيني مل يتبعوا تعاليم اللوجو�س “ امل�ب��د�أ العقالين -املرتجم “ كما فعل االفالطونيون ،بيد ان التج�سيد امل�سيحي احل��ي ه��و جت�سد �صليبي على طريق �إثم االن�سانية. ود�ستويف�سكي ال يقدم لنا جمموعة من املحاججات غ�بر احلا�سمة ع��ن وجود “ االل��ه “ ل�صاحله او �ضده .بيد ان ال�صورة الروائية عن االميان واحلاجة اليه �ست�شبه احلالة يف العامل االجتماعي وال�سيا�سي يف ع�صره .وهو افرتا�ض بينّ او�ضحه باختني -وكذلك هو احد الت�شبيهات لأغلب املناق�شات الفل�سفية املمتعة ع��ن د�ستويف�سكي يف ع�صره لالجيال احلالية .وه��ذا موقف جذاب يجب ان نتبعه ،ومن امل�ؤكد انه يجنبنا ال�سقوط يف فخ ��س��اذج ،يف االعتقاد ان الروايات االخرية،هي بب�ساطة وجهات ن �ظ��ر � �س�لاف �ي��ة وم���س�ي�ح�ي��ة ،ول �ك��ن ثمة �صعوبة تتخللها ،وتربز هذه ال�صعوبة عن طريق ال�صوت الغريب لد�ستويف�سكي ذاته. لي�س يف الكتب ح�سب ،ولكن يف ال�صحافة اي�ضا -فاذا كان ثمة حاجة اىل كتاب وليامز الرث -ف�سيكون بالتاكيد ممتعا ،لعدد وا�سع م��ن ال�ق��راء وحم�ف��زا لهم على اع��ادة قراءة رواي��ات د�ستويف�سكي .وهذا ال يعني هنا، ان ثمة هنات يف �صحافة د�ستويف�سكي ( اذ ثمة عدد كبري من اال�شارات النا�ضجة يف “يوميات الكاتب “) ولكن ال نواجه امل�شكلة التي تقدمها ال�صحافة لقراءات م �ت �ع��ددة اال�� �ص���وات يف ال� ��رواي� ��ات ،الن الروايات يف اال�صل هي متعددة اال�صوات، ومن امل�ستحيل االم�ساك بها ما مل تقر�أ ب�صرب وت���أن وتركيز على تفا�صيل ك��رر وليامز عر�ضها .بيد ان د�ستويف�سكي نف�سه او�ضح
◄ http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
10
11
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
ّ �شكل �صدور الرتجمة العربية لكتاب باختني "ق�ضايا الإبداع الفني عند دو�ستويف�سكي"(*) )Problems of Dostoevsky›s Poetics( ،يف بغداد عام ،1986حدث ًا ثقافي ًا مهم ًا، كون الكتاب هو املرجع الأ�سا�سي الذي انبثق منه العديد من الق�ضايا والظواهر التي �شغلت النقد احلديث ،و�صاغت بع�ض اجتاهاته ،مثل :التنا�ص ،تعدد الأ�صوات ،النقد احلواري، املنظورات� ،أو وجهات النظر ،وتنوع الب�ؤر ال�سردية .بعد قراءتي للكتاب ا�ستوقفتني ظاهرة تعدد الأ�صوات (�أو البوليفونية) ،بو�صفها اخلا�صية البنيوية املركزية لعامل دو�ستويف�سكي الروائي� ،أكرث من غريها ،فحاولت �أن �أ�ستق�صي عنا�صرها يف حقل الدراما امل�سرحية ،على نحو خا�ص ،والفن امل�سرحي على نحو عام ،لكنني ا�صطدمت بنفي باختني ً �صراحة�« ،أن الدراما ،بحكم طبيعتها ،غريبة على تعددية الأ�صوات ...وال ت�ستطيع �أن تكون متعددة العوامل ،فهي ت�سمح، �إمكانية وجود تعددية �صوتية يف امل�سرح حينما قرر، فقط ،بنظام واحد للإدراك ،ال بعدد من النظم " .وجاء نفيه هذا رداً على الناقد لوناجار�سكي ،الذي �أكد على �أن ثمة �أ�سالف ًا لدو�ستويف�سكي يف جمال تعدد الأ�صوات يراهم متمثلني بكل من �شك�سبري وبلزاك.
يف ( ال�شياطني ) على �سبيل املثال ،ما يعتقد من تاثري له على ليرباليي اربعينيات القرن التا�سع ع�شر.وتراكم ال�سخرية منهم يف ر�أ�س العجوز فريخوفين�سكي او كرامازوف ( تورغنيف ) .وبدقة من النوع الذي نتوقعه م��ن ��ص�ح��ايف م�ث��ل د�ستويف�سكي ؛ وهذا ال�صحايف يف احلقيقة ،من امل�ستحيل ان يتوارى كونه روائيا،امنا العك�س ؛ �سيبقى الروائي يتلب�سه وهو يف ذروته ،ف�ضال عن ح�ضوره الدائم ،كما لو انه يدرك اجلانب اجل�م��ايل ناهيك ع��ن اجل��ان��ب الفل�سفي يف الرواية .وهنا ،تكمن ال�صعوبة� ،إذ يخلق د�ستويف�سكي �ساردين حمليني وبخا�صة يف رواي �ت��ي “ ال�شياطني “ و “االخوة ك��رام��ازوف “ واللتني ت�شريان اىل احداث غ��ري�ب��ة ،ك�م��ا ل��و ان�ه�م��ا ق��ادم �ت��ان ال�ي�ن��ا من م�ضان ا�سرار يف املدينة .وحتى يف حالة ا�ستخدام ه�ؤالء ال�ساردين ،فانه ال ي�ضللنا يف ح�ضور الآخ���ر .اع �ن��ي ،د�ستويف�سكي ال �� �ص �ح��ايف امل �� �س��رف ال �ع �ن �ي��ف والهجاء املتغطر�س الوطني املنمق واملتنبي والذي ينحدر من الال�سامية ،الذي كتب كثريا يف ال�صحافة .و ي�شعر امل��رء ان��ه ما زال قادرا على اال�ستمرار يف كتابة الروايات العظيمة ومل يكن د�ستويف�سكي كاتبا ال ي�ستخدماال�ستعارات امللتونية ( ن�سبة اىل ال�شاعر ملتون -املرتجم ) ،فانه يكتب الروايات يف اجلانب االمين وال�صحافة يف اجلانب االي�سر ،فال�صحايف ال�صاخب هو هناك يف عمق ن�صو�ص الروايات. وثمة روائيون انكليز عملوا ردحا من الزمن يف �شبابهم يف ال�صحافة ب�شكل او ب�آخر ،ويف كل االحوال ،ان كان يتبادر يف ذهنك اريان يفان�س الذي عمل يف وي�ستمن�سرت ريفيو، Westminster Reviewاو غرام غرين الذي عمل حمررا ثانويا يف التاميز ،The Timesاو حتى مارتن امي�س،او االن هونغور�ست يف امللحق االدبي لتاميز .TLSفان هذه احلرفة تظهر لنا كا�سلوب ل�صقل كتاباتهم قبل ان تكون لهم اجنحة كي يحلقوا بها كمبدعني .فحياة د�ستويف�سكي 1881-1821غري منفتحة بطريقة خمتلفة. فهوي�ستخدم يف حياته االدب �ي��ة دوري��ات االدب ال��رو��س��ي .ولكنه ي�ن��أى بنف�سه عن الزخرفة املذلة والعمل املبتذل .وق��د كتب يف جم�ل��ة �سنت بطر�سبريغ غ��ازي��تSt ، Petersburg Gazetteيف �شبابه بعد طبع روايته ( امل�ساكني ) ،1846والروايات بعد كل ذلك ،قد هوجمت مبثل هذه التامالت للحالة الراهنة يف العامل .كما يف التقاليد االنكليزية وم��ن الطبيعي ،ان جن��د كثريا من هذه املقاالت ال�صحافية او يف دوريات ادبية �أُخر .ففي رواية ( ذكريات يف بيوت املوتى ) التي تت�ضمن �سنواته االرب��ع يف �سيربيا من 1849فما ف��وق .هي �صحافة م��ن ال��درج��ة االوىل ،و�سكيجات رحالته املده�شة و(مالحظات ال�شتاء عن انطباعات ال�صيف ( )186تبعث على االحتقار بامتياز و��ص��ورة دقيقة ع��ن اورب��ا املعا�صرة ويف جوالته يف اورب��ا ب�صحبة زوجته الثانية ال�شابة ا َنا كتب رواية (االبله ).وبعد اكماله رواي��ة ( ال�شياطني ) عاد د�ستويف�سكي من جوالته االوروب �ي��ة لي�شغل رئا�سة حترير �صحيفة املواطن .واملادة التي كتبها بنف�سه لهذه الطبعة ات�خ��ذت ،وال�ت��ي جت��اوزت الـ
�1000صفحة وا�ستقامت كتابا حتت عنوان ( مذكرات كاتب )وال بد ان رواياته العظيمة قد قرئت يف احلقبة االخرية. واالح�ت�ج��اج��ات امل�ت�ك��ررة �ضد الف�ساد يف اوروب���ا ،وال��دف��اع ع��ن احل��رب وال�سيا�سة الع�سكرية االج�ن�ب�ي��ة ��ض��د امل��ان�ي��ا وتركيا وفوق كل ذلك ،رتابة االمي��ان الديني الذي حمله ال��رو���س ع�بر التاريخ ه��ي موا�ضيع �سالفية م�ألوفة لأي ان�سان اطلع على ادب �سبعينيات القرن التا�سع ع�شر .وهكذا ،فان من يجادل انني اجهل معرفة النا�س ،فانني �س�أرد عليه انني ا�سرب �أغوارهم ،وب�سببهم انفتحت روحي ت�ستقبل امل�سيح يف داخلي ال��ذي بقي يظهر يف بيت وال� ��ديَ ،اىل ان ف�ق��دت��ه ،وحت��ول��ت بعد ذل��ك اىل “ ليربايل اوروب��ي “ وثمة ال نهاية ملثل هذه املرحلة يف ه��ذه ال�صحافة .حينما وجدنا انف�سنا نذ ُكرب�شخ�صيات م�سرحية يف رواي ��ات د�ستويف�سكي .ولي�س ثمة من ي�ستطيع ان ي�صنف د�ستويف�سكي �صحفيا،كما �صنفوه روائ�ي��ا .وو�صل ذروت��ه عندما ك��ان ع�ضوا يف مدر�سة “ موت االله “ ولي�س هناك ،من ي�شك باميانه باحلد االدن��ى ملرحلة ما بعد العلمانية ،ومهما يكون ذلك ،ومبوازاة ذلك، فان القارئ الذي تعوزه احل�سا�سية هوالذي يخفق يف ق��راءات رواي��ات د�ستويف�سكي بو�صفها عمال �سرديا ،النها حتمل افكارا منفرة ؛ متنح د�ستويف�سكي حرية يتنف�س من خاللها ال�صعداء .ويف احلقيقة ،يناق�ش ول �ي��ام��ز يف اح ��د اج �م��ل ف���ص��ول��ه ،وال ��ذي يعد واح��دا من االه��داف املركزية لدرا�سة د�ستويف�سكي ،بو�صفه ك��ات�ب��ا ومفكرا دينيا .ود�ستويف�سكي وليامز ه��و من ال��وا� �ض��ح ،ب�ن��اء ب�لاغ��ي ع��ن احلرية. واكت�شاف لغة متكننا من الهروب من التقريرية .ووا�ضحة ككتاب البابا. وع�ل��ى ك��ل ح��ال لي�س ول �ي��ام��ز ،وال غ�يره يف نهاية االم��ر،ق��ادر ان يحل االحجية التي هي احد اال�سباب التي دع��ت د�ستويف�سكي يف ان يبقى كاتبا مهما طال به الزمن. هل كان د�ستويف�سكي يعتقد ان االن�سان �سيتوقف عن االميان بخلوده او باالله. وبالتايل ،فان كل �شيء �سيكون م �ب��اح��ا؟ او ان ك ��ان ايفان ك� ��ارام� ��ازوف ق ��د �صفى اخ� � ��اه غ�ي�ر ال�شقيق �سمريدياكوف بذريعة واهية ،لقتله والده ؟ ه��ل د�ستويف�سكي ه� � � � � ��وذات� � � � � ��ه ام هوال�شيطان ؟ او ايفان كارامازوف ب�صورة ال�شيطان ال� ��ذي ي �ق��ول ،انه �سيتخلى اىل حد م��ا ،عن كل �شيء، وي� � �ت� � �ح � ��ول اىل �شموع نذر م�شتعلة ل��زوج��ة ال �ت��اج��ر ؟ ان ��ه م��ن امل� ��ؤك ��د ،ان د�ستويف�سكي ،كتب اىل نتاليا فونفيزنيا، ب �ع��د ف�ت�رة ق �� �ص�يرة من اط�ل�اق ��س��راح��ه م��ن ال�سجن
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
:1854ان ك ��ان ث�م��ة اح ��د ي�بره��ن يل ان امل�سيح هو لي�س حقيقة ،وان كانت ق�ضيته متثل احلقيقة ،ففي ه��ذه احل��ال��ة ا�ستطيع ان اخ �ت��ار ان اك ��ون م��ع امل�سيح اك�ث�ر من اختياري احلقيقة ،كيف ي�ستطيع االن�سان ان يعلل االن�ف�ج��ار ال��درام��ات�ي�ك��ي الذاتي لــــدى ال�صحــــايف د�ستويف�ســـــــكي باملقارنــة مع االخرين ..احيانا اجلميع ،با�ســــتثناء قــــرارات مماثلة� ،صنعتها �شخ�صيات يف الرواية ،هي على �شفا حفرة من االنهيار؟ واف�ضل مثال ي�شرحه لنا وليامز هو�شخ�صية م��اري��ا تيموفيفنا ل�ي�ب�ي��ادك�ي�ن��ا ال�شقيقة ال�صغرى املقعدة وال�ساخرة للكابنت ال�سكري يف رواي� ��ة ال���ش�ي��اط�ين .وه ��ي اح ��دى اهم ال�شخ�صيات الديكنزية ( ن�سبة اىل الروائي �شارل ديكنز -املرتجم ) يف االعمال الكاملة لد�ستويف�سكي “ .ان �شق اللوزتني بطريقة عر�ضية هو بالتاكيد اح��دى اهم احلوادث التي ال تطاق يف الرواية “ ومن خالل م�شهد يبد�أ يف �شبه م�سرحية عندما انفجرت ماريا تيموفيفنا ليبيادكينا يف غرفة ا�ستقبال ارم �ل��ة اجل�ن�رال امل �ح�ترم ب�ع��د ال �ع��ودة من الكني�سة ،والقت كلمة �شهرية عن ا�ست�سقاء االر���ض بالدموع التي جلبت اخل�ير .حذر وليامز من ان :تلك العبارات كانت تت�ضمن عجالة يف تعبري د�ستويف�سكي الروحي”. واو���ض��ح ول �ي��ام��ز “ ان ب��دع��ة م��اري��ا هي الن االل� ��ه لي�ست هرطقة
والطبيعة كالهما �شيء واحد” قالت ماريا و�ضربت مثال عن مرمي العذراء “انها امل ال�ساللة االن�سانية ،واالم املقد�سة ،وهي مبعنى ما ،ح�ضور نبوي “و يعلق وليامز: ولكننا يجب ان نحذر من قراءة كلماتها ان ا�ضطراباتها الثيولوجية هي كثرية على العموم “ ،وا�ضاف ” :و اولئك االخرون اداروا ظهورهم عن الواقع الب�شري ،مبا يف ذل��ك ال�ث��وري��ون ال��ذي��ن ت�سببوا يف كل الكوارث ال�شيطانية يف الرواية “. ان حم��اوالت��ه ه��ذه ،هي خلق اح�سا�س يف هذه الر�سالة للقارئ .رمبا يريد وليامز ان يظهرحماولة لي�شرح من خاللها م�ضمون الروايات .اوال ،يبدو يف الغالب كما لو انه كاهن حمرتف ي�سم امل�سكينة ماريا فري�سة لثيولوجيتها النهائية .وثانيا ،كما لو ان وعيا ب��دا يقرتب هو وع��ي غري مالئم ،بيد ان وليامز قد يغري تر�سه :ت�أتي قراءة النقد االدبي -للقطعة يف وقت ان ماريا كانت يف زمن فنطازي و�ضعت فيه طفال غط�سته يف بركة م��اء ،مما جعل وليامز يحاجج رمبا منطقيا يف حد�س قتل �شاتوف الذي ن�سجت ماريا حوله احلكاية .وان ج�سده يف �آخر االمر يكون عبارة عن نفاية ترمى يف بركة. وهي اي�ضا �صدى حكاية يف االجنيل اجنيل متنح الكتاب ع�ن��وان��ه� - .سقوط غادرين اخل �ن��زي��ر يف ال �ب �ح��ر .ب �ي��د ان �ه��ا �صححت ثيولوجيتها كما لو انها عفريت يقود عنان خنزير اىل البحر ،بعد ذل��ك حت��ول وليامز اىل االجتاه الآخر .عندما طلب �شاتوف من ال�ساحرة �ستافروغني ال�شريرة التوبة وان ت�سقي االر�ض بدموعه .انها عالمة العادة ت�صحيح حقيقة �ستافروغني الهاربة من االرت��ب��اط .مب��ا ه��و خ ��ارج تفكريه او �ضد رغبته .....وكانت ماريا م�صيبة لتو�سع التوافق مع االله والطبيعة كل على حدة ..اللعنة ؟ ويف م��و� �ض��وع م�ث��ل ه���ذا ،ي�شعر امل ��رء ان امل�ع�ل��ق ي �ح��اول ان يقدم د� �س �ت��وي �ف �� �س �ك��ي اك �ث��ر مت��ا� �س �ك��ا، وباح�سا�س فنان كبري اك�ثر مما كان يف ال��واق��ع ،وي���ش�ع��رامل��رء ك�م��ا ل��و انه مثقف غربي مهذب .يقدم �صديقه الرو�سي ال�ع�ظ�ي��م ل �ن��ا،يف امل �ق��اب��ل ،ي�صرخ د�ستويف�سكي كما لوانه على و�شك حالة من ال�صرع .او انه بحاجة اىل نقود من على منا�ضد القمار، او ي�صرخ ب�شتيمة � �ض��د ال�لا� �س��ام �ي��ة. ون� � �ت� � ��� � �ص � ��ور ان ول � �ي� ��ام� ��ز ي � � ��ؤدي ت �ع �ل �ي �ق��ات��ه كتتمة ف �ق��رة ذك �ي��ة يف “ Dean and ”C h a p t e r و يف حل � �ظ� ��ات ن��ادرة اطلق وليامز ن�غ�م��ات�ه��ا يف اغلب ��ص�ف�ح��ات ال ��رواي ��ة. فاننا ن�شعر يف داخلنا ثمة ��ش��يء خ��ارق يف الروايات ،و يف العقل الذي انتجها .وثمة �شحنة كهربائية تتخلل ف�صول وليامز
يف تعامل د�ستويف�سكي م��ع ال�شيطان. ويف ت��و� �ض �ي �ح��ه ل �ل �ت �ج��دي��ف وع� ��ن عمق جت�سيد ال�شخ�صية الرو�سية وب�صورة ادق ك��ان د�ستويف�سكي ي�ح��اول الوقوف بوجه حتمية القرن التا�سع ع�شر ليحرر �شخ�صياته وق ّراءه من موت االنظمة .وقد اتخذ خماطرة التفكيك.ولذلك ال�سبب ،فان حم��اول��ة ا�ستخال�ص االح�سا�س منه هي مهمة تبعث على ال�شهية. ويف نهاية كتابه ،يقتطف وليامز ق�صة رائ �ع��ة ،ي�خ�برن��ا فيها د�ستويف�سكي يف كتابه ،م��ذك��رات كاتب “ 1873 ،املواطن رقم “ 4بطلها فالح �شاب يغامر بجر�أة. لي�ستلم ح�صته من الع�شاء الرباين ،ولكنه ال يتناوله ،وب��دال من ان يحقق مغامرته، ي��أخ��ذ رغيف اخلبز املقد�س ،ي�ضعه على ع�صا ،ويطلق عليه النار .وبينما هو يفعل ذلك ،يرى ج�سدا م�صلوبا يخرج من مكان ك�سرة اخلبز ،فيغمى عليه. ي���س�ت�خ��دم ول �ي��ام��ز ه���ذه ال �ق �� �ص��ة ليقدم ل�ن��ا حتليال ر��ش�ي�ق��ا ،ع��ن ط��ري�ق��ة االفعال التجديفية املقارنة يف ال��رواي��ات( ي�ضع فيديكا ج ��رذا يف اي�ق��ون��ة زجاجية،على �سبيل املثال يف رواية ال�شيطان ) ويحذرنا من ال�سلوك الذي ميكن ان تكون احلقيقة الدينية فيه متخيلة .مثل ن�سيج ق�ص�ص زو�سيما ،وم��ارك�ي��ل ،واليو�شا ،وميتيا. وه� ��ي م��ق��االت��ه ال �ن��ا� �ض �ج��ة يف تخييل املقد�س -ولي�س بب�ساطة يف �أال يتناول �شخ�صية واح��دة “ منجزة “ بالرغم من االهمية املحورية لزو�سيما ،ولكن ،على وج��ه الدقة ،يتناول التفاعل واالنعكا�س النا�ضجني يف ح�ي��اةه��ذه ال�شخ�صيات. “ وك��ان املو�ضوع رائعا ،ولكن� ،صدمة ق�صة اطالق الفالح النارعلى لقمة الع�شاء الرباين ،كما ي�صر د�ستويف�سكي عليها ،هي ا�ستثنائية رو�سية .فان الفالح الذي يحمل بندقية ،وبتحديه ،وبندمه امل ��روع ،هو رجل ي�ؤمن باحلقيقة النهائية للم�سيح،يف القربان املقد�س ،الذي ارتكب فعل اطالق النار .رمبا ،ان واحدة من اعمق غمو�ضات ع�صورنا ،هي لي�ست علمانيات الداروينية، ال �ت��ي ت��وىل ال��دك �ت��ور وليامزمهمتها يف م��ق��دم��ات ك �ت �ب��ه ،وب� � ��رزت يف حت��دي��ات التقاليد الدينية يف عهد م��ا بعد احلركة التنويرية يف انكلرتا لتهز�أ من �سذاجة العقل االمريكي يف اال�سلوب التب�شريي. ان االميان االرثوذوك�سي الرو�سي ،الذي ك ��ان ف �ي��ه د�ستويف�سكي م�صيبا يف ان ي��رى �شيئا ما خمتلفا،يف النوع،عن دين ال�شعوب االخرى ..فقد جايل قرنا تقريبا، ع���ص��ر ال�ع�ل�م��ان�ي��ة امل��ارك �� �س �ي��ة ،واحل ��رب االهلية ،والكوارث،واملجاعة ،وحماولة الق�سوة الجتثاث ال ��روح ال��رو��س�ي��ة ،عن طريق اال�ضطهاد وبرامج نظريات الرتبية املادية�،سواء كانت الثقافية الغربية ت�ؤمن بها ام ال .ومل يكن االحت ��اد ال�سوفييتي يف عجالة م��ن ام��ر ان�ف�ج��اره او معاودة الظهور ب��ر�ؤي��ة كاملة .ويبدو ان كني�سة زو�سيما والبابا تكهون قد تعززت بوا�سطة تعذيباتها -مت��ام��ا ،كما ه��و احل ��ال ،يف رواي��ات د�ستويف�سكي التي تعج بالقتلة، وال�سكارى ،واالنتحارات ،والتجديفات، ويف احلقيقة �سارعت يف تر�سيخ اميان من ال�صعوبة مبكان ازالته.
�إ ّال �أنني وج��دت نف�سي �أميل �إىل موقف ل��ون��اج��ار� �س �ك��ي ،و�أخ �ت �ل��ف م��ع فر�ضية ب��اخ�ت�ين ،خ��ا��ص� ًة ب�ع��د م��راج�ع�ت��ي للكثري م ��ن ال �ن �� �ص��و���ص امل �� �س��رح �ي��ة ال �ع��امل �ي��ة، القدمية واحلديثة ،بحث ًا عن مناذج تنزع �إىل ال�ت�ع��ددي��ة ال�صوتية� ،أو ت�ق��وم على امل �ب��د�أ احل ��واري يف مكوناتها البنيوية والأ�سلوبية .ووجدت قول ًة لروالن بارت، تدعم فر�ضيتي ،وردت يف �سياق �إحدى مقاالته مفادها «�أن امل�سرح ي�ش ّكل مو�ضوع ًا �سميائي ًا متميز ًا� ،إذ �أن نظامه يبدو يف ال�ظ��اه��ر �أ��ص�ي� ً لا ( �أي متعدد الأ� �ص��وات) م�ق��ارن� ًة بنظام اللغة الأف �ق��ي الأح� ��ادي». ور�أيت �أن بارت ي�شري يف قولته �إىل الكثافة العالمية ،وكرثة مراكز الإر�سال ،وتنوع ال�شفرات وال �ب ��ؤر ال��درام�ي��ة يف اخلطاب امل�سرحي (املكتوب �أو امل�ؤدى) ،وت�ساءلت: �أي ��ن جن��د م�ث��ل ال�شخ�صيات امل�سرحية امل �ت �ب��اي �ن��ة يف م��واق �ف �ه��ا ،وتوجهاتها، ورغباتها ،وم�ستوياتها الذهنية ،وت�ضارب �إرادات �ه��ا وم�صاحلها ،واخ�ت�لاف وجهات نظرها ،وتعدد ر�ؤاه��ا للعامل؟ �إن امل�سرح ف�ضاء جمايل -داليل لتمظهرات خطابية مفرطة يف الالجتان�س ،تتنافر وتتعاي�ش، وتدخل يف عالقة حوارية تف�ضي دائم ًا �إىل نتيجة ما مغلقة �أو مفتوحة ،وجت�سد هذه التمظهرات �أمناط ًا متعدد ًة من التناق�ضات االجتماعية والأي��دي��ول��وج�ي��ة التي مت ّثل منظورات غريية .وهو� ،أي امل�سرح� ،ش�أنه � �ش ��أن ال��رواي��ة ،ميكنه �أن يجمع لهجات عدة ،ولغات لأجنا�س خمتلفة ،ويحت�ضن �أجنة التعدد الأ�سلوبي (ر�سمي ،مبا�شر، �إيحائي� ،ساخر� ،شعري ،ف�ض ،طنان... �إل��خ) ،ويت�ضمن ،وراء م�ستواه الأمل�س الأح� � ��ادي ال �ل �غ��ة ،ن �ث�ر ًا ذا �أب� �ع ��اد �شتى مر�صعة بجمل ،وكلمات ،وعبارات كبرية و� �ص �غ�يرة ،وت �ع��ري �ف��ات ،ون �ع��وت مفعمة بنوايا غريية ،بحيث يبدو خطاب الكاتب املبا�شر واخلال�ص �أ�شبه بجزيرة �صغرية- ح�سب تعبري باختني نف�سه -مغمورة من كل �أطرافها ب�أمواج التعدد ال�صوتي. �أف�ضت مراجعتي للن�صو�ص امل�سرحية التي حتتويها مكتبتي �إىل اكت�شاف مناذج كثرية تتخللها� ،أو تندرج �ضمنها �أجنا�س تعبريية (ق�صائد ،حكايات� ،أ�ساطري ،حكم� ،أغان، �أق ��وال م ��أث��ورة� ،أمثلة �شعبية ،مذكرات، اع�ت�راف��ات ،ر� �س��ائ��ل ،ن�صو�ص دينية... �إلخ) تعاك�س مركزيتها اخلطابية ،وتك�سر انغالقها املونولوجي ،كما وجدت يف بع�ض الن�صو�ص ا�ستح�ضار ًا ل�شخ�صيات تنتمي �إىل ع�صور وثقافات خمتلفة ،وخطابات �أدب�ي��ة وغ�ير �أدب�ي��ة ،و�أ� �ص��وات ت�شري �إىل �أن��واع املهن وال�صنائع « ُينظر اليها ،قبل كل �شيء ،على �أنها وجهات نظر م� ِ ّؤولة، ومنتجة ملفهومات لفظية بو�صفها خطابات م�أهولة م�سبق ًا بنوايا الآخ��ري��ن ،يرغمها الكاتب على خدمة نواياه اجلديدة ،لكنني لأ�سباب �إجرائية انتخبت منوذجني فقط هما« :ال�ك�ترا» ل�سوفوكلي�س ،من الدراما القدمية ،و"نحن والواليات املتحدة" لبيرت بروك ،من الدراما احلديثة .وحاولت ،من خالل هذين النموذجني ،ت�أكيد فر�ضيتي يف درا�سة حتليلية �أ�سميتها «تعدد الأ�صوات يف اخل�ط��اب امل�سرحي :فر�ضية مغايرة لباختني» كتبتها عام ،1993و ُن�شرت يف
شعرية "دوستويفسكي" وبوليفونية المسـرح * عواد علي
كاتب عراقي مقيم يف كندا العدد اليتيم من دورية «الدراما» الأردنية عام ،1996ثم يف كتابي «غواية املتخ ّيل امل���س��رح��ي» ال �� �ص��ادر ع��ن امل��رك��ز الثقايف العربي عام .1997 قادتني قراءتي للن�ص الأول �إىل حتديد جم�م��وع��ة م��ن عنا�صر ال�ت�ع��دد ال�صوتي خال�صتها :ا�ستح�ضار �صوت «�أبولون» يف
ح��وار «�أور�ست�س» ،بو�صفه �صوت ًا مي ّثل ذات � ًا غريي ًة فاعل ًة متتلك منظور ًا خا�ص ًا خ ��ارج ك�ي��ان �شخ�صية «�أور� �س �ت ����س»� ،أو وعيه ،وا�ستح�ضار �صوت «كلوتيمن�سرتا» يف ح��وار «ال �ك�ترا» م��ع اجل��وق��ة ،بو�صفه � �ص��وت � ًا �آخ � ��ر ،واخ� �ت�ل�اف وج �ه �ت��ي نظر «الكرتا» و�أختها «كرو�سوتيمي�س» ،وتباين
موقفيهما من خيانة �أمهما ،و�إدراج ق�صة ر�ؤية «كلوتيمن�سرتا» لزوجها «�أجاممنون» يف ح� ��وار «ك��رو� �س��وت �ي �م �ي ����س» ن �ق� ً لا عن �أن��ا���س �سمعوها ت�ن�ب��أ ب�ه��ا �إل ��ه ال�شم�س «اليو�س» ،وت�ضمني �أ�سطورة قدمية يف ح ��وار اجل��وق��ة ح��ول ج��د «�أج��امم �ن��ون»، و�إدراج ق�صة عن «�أجاممنون» يف حوار
«ال�ك�ترا» �سمعتها من «�أرتيم�س» ترويها لأم �ه��ا ،و�إ� �ش��ارة اجل��وق��ة �إىل ق�صة امللك «�أنفارو�س» ،وت�ضمني مفرت�ض لأ�صوات بع�ض النا�س يف حوارات «الكرتا» تف�صح ع��ن وج �ه��ات ن�ظ��ر م�ستقلة جت��اه موقف ال�شقيقني «بولينيك�س» و»�أتيوكلي�س» م��ن مقتل �أبيهما ،وخيانة �أم�ه�م��ا ،ف�ض ًال عن كونها �إ��ش��ارة �إىل ذوات غريية فاعلة حتظى بوجود مو�ضوعي ،وقيمة داللية كاملة خارج وعي ال�شخ�صية املتكلمة. �أم��ا يف ن�ص «نحن وال��والي��ات املتحدة»، ال ��ذي �شغلت ق��راءت��ه اجل ��زء الأك �ب�ر من ال��درا� �س��ة ،فقد �صنفت امل�ظ��اه��ر املتعددة وامل�ت�ن��وع��ة للم�ستوى ال�ب��ول�ي�ف��وين فيه �إىل� :أجنا�س تعبريية (�أغ��اين� ،أ�ساطري، حكايات ،ق�صائد� ،أمثلة �شعبية تتداخل �ضمن ت�أليف �سيمفوين درام��ي متكامل، وتندمج يف وح��دة تركيبية متما�سكة مع املظاهر احلوارية الأخرى .ويج�سد بع�ض هذه الأجنا�س التعبريية املنظور الأمريكي يف ال�صراع ،يف حني يج�سد بع�ضها الآخر املنظور الفيتنامي) ،وخطابات غري �أدبية تت�ألف من�( :أرق��ام� ،إح�صاءات جغرافية، وث��ائ��ق ت��اري�خ�ي��ة و��س�ي��ا��س�ي��ة ،برقيات، وتقارير �صحفية تهدف �إىل �إظهار خلفيات ال�صراع واحلرب) ،وتعدد ل�ساين و�إجنا�سي (يت�ضمن الن�ص حوارات باللغة الفيتنامية، �إ�ضافة �إىل االنكليزية) ،وتباين يف وجهات النظر (يحمل الن�ص وجهات نظر متباينة تف�صح عنها� ،أو توحي بها ال�شخ�صيات يف ر�ؤاه� ��ا ل�ل���ص��راع ال��دائ��ر ب�ين �أط ��راف النزاع� ،أو للقوى امل�ساهمة فيه ،و�أهدافه)، وا�ستح�ضار �شخ�صيات وملفوظات غريية (ال�شخ�صيات الدائمة احل�ضور يف الن�ص ال متثل نف�سها بو�صفها �شخ�صيات درامية ثابتة ،ب��ل بو�صفها �شخ�صيات متحولة (�أقنعة) تعر�ض علينا �شخ�صيات غريية ع�بر لعبة م�سرحية م�ستمرة ت�ق��وم على تبادل الأدوار ،او ا�ستح�ضار �شخ�صيات تنتمي �إىل �أزم �ن��ة و�أم �ك �ن��ة خمتلفة� ،أو ترديد خطاباتها و�ألفاظها ،ن�ص ًا ،توكيد ًا ال�ستقاللية �أ�صواتها). لقد ا�ستقبلت الدرا�سة ،يف حينها ،مبواقف و�آراء مت�ضاربة ،فعدّها بع�ض الأ�صدقاء م��ن ال�ن�ق��اد وامل���س��رح�ي�ين حم��اول � ًة نقدي ًة جريئ ًة وناجح ًة لإثبات التعددية ال�صوتية يف اخلطاب امل�سرحي ،بينما عدّها بع�ضهم الآخ ��ر حم��اول��ة لإب���راز «ع���ض�لات نقدية» هدفها االخ�ت�لاف م��ع موقف ناقد ومنظر كبري ه��و باختني لي�س �إ ّال .وم��ن �أغ��رب الآراء التي قر�أتها يف مقال لكاتب مل �أ�سمع با�سمه من قبل ن�شره يف احدى ال�صحف العربية ،بعد �صدور كتابي ،ر�أي مفاده �أنني ناقد «ق�صري القامة» �أتطاول على ناقد «عمالق» ،ملأ الدنيا و�شغل النا�س بنظريته حول تعدد الأ�صوات يف الرواية ،وغيابه عن امل�سرح ،ولو كانت فر�ضيتي �صحيحة، وهي قطع ًا غري �صحيحة ،ح�سب تعبريه، ل�سبقني يف �إب�ط��ال فر�ضية باختني نقاد غربيون �أكرث دراي ًة مني! * حملت طبعة «دار توبقال للن�شر» من الكتاب يف العام نف�سه عنوان «�شعرية دو�ستويف�سكي
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12
13
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
نــذير جعفــر ا�صغ � ّ علي ،ف�أنا كتاب، إيل قليال �أيها ال�صديق� ،أرجوك اقر�أين ،حاول �أن تفهمني ومتلأ الفراغات ما بني ال�سطور..ال ّ تت�سرع يف احلكم ّ مير يف حياتك مرورا عابرا ،ومنها ما يرتك و�شما عميقا ال جمرد كتاب مل تنته بعد من قراءته! ما �أ�شبه الكتب بالأ�صدقاء ،منها ما ّ ّ ميحى مع الزمن ،وبني هذا وذاك تقر�أ كثريا وتعا�شر كثريا وتظل تراهن على الأجمل الذي قد ي�أتي �أو ال ي�أتي! ّ لدي؟ كتاب �أ�شتاقه و�أ�ستظل به و�أعود �إليه بني وقت و�آخر؟ هل ثمة كتاب واحد مف�ضل ّ نعم ،وال ،يف الوقت نف�سه! فثمة كتب عدة �أ�شتاقها و�أعود �إليها ،كتب ال �أ�ستطيع التخلي عنها مثل الأ�صدقاء القدامى برغم ّ تنكري لهم �أو ّ اخلفي واملعلن على مدى �سنوات طوال. تنكرهم يل ،كتب �أدمنتها و�أدمنتني ال بحكم العادة بل بحكم التوا�صل ّ
بين كوميديا دانتي وكرامازوف ودستويفسكي
بع�ض تلك الكتب ارتبط بالطفولة فكان �أولها و�آخرها "القر�آن الكرمي" .وبع�ضها ارتبط ب�أيام ال�شباب الثمل من دون نبيذ على ح � ّد تعبري (غ��وت��ه) ،ي��وم ك ّنا نغرق يف ح��وارات ال تنتهي عن تغيري العامل، فرنت�شف الكلمات والأف �ك��ار م��ع فناجني القهوة ،ونتبارى يف قراءة غوركي وبلزاك وجاك لندن وحتى تروت�سكي ،وما مل نكن نتمكن من �شرائه ك ّنا ن�سطو عليه بطريقة ما ،ن�ستعريه �أو ن�سرقه يف غفلة من البائع عرب حقائب �صديقاتنا الرائعات يف ذلك الزمن الرومان�سي اجلميل� ،أو نكتبه بخط اليد كما فعل �صديقنا ح�سني ال�شيخ الذي النواب و�سليم بركات دون �أعمال مظ ّفر ّ ّ كلها ّ بخطه اجلميل ثم �أه��داين �إياها يف حلظة ت�ألق ومودّة عارمة! وبع�ضها ارتبط ب��ال�ك�ه��ول��ة امل �ب � ّك��رة ،ح�ي��ث ب ��د�أ االختيار الدقيق لكل كتاب ي�أخذ ح ّيزا من التفكري والت�أ ّمل ،وما بني ال�شباب والكهولة كم من كتاب ارتبط بذكرى قبلة ووردة� ،أو �صفعة ون�صل بارد يف القلب! ومن �أين للمرء �أن يع ّد القبل وال�صفعات؟ ولكن ال ب�أ�س يف النهاية م��ن و��ض��ع ح � ّد ل�ه��ذا اال�سرت�سال النو�ستالوجي واالع�ت�راف �أوال و�أخريا ب��أن د�ستويف�سكي يف رواي�ت��ه" :ذكريات عيني من بيت املوتى"كان �أول من فتح ّ على احلياة يف ق�سوتها ونبلها ،و�أن دانتي يف "الكوميديا الإلهية" كان �أول من و�ضع ح �دّا لت�صوري ال�ساذج عن ح��دود اجلنة وال �ن��ار .وم��ا ب�ين د�ستويف�سكي ودانتي م� � ّرت م�ي��اه ك�ث�يرة م��ن حت��ت اجل���س��ر ،مل يكن �أولها �سرفانت�س يف "دون كيخوته"، �أو �شيللر يف "الل�صو�ص" ،وال �آخرها ميخائيل نعيمة يف "�سبعون"� ،أوجنيب حمفوظ يف "قلب الليل" �أوعبد الرحمن املتو�سط". منيف يف"�شرق ّ يف ذك ��ري ��ات م��ن ب �ي��ت امل��وت��ى �أدخلني د�ستويف�سكي م�ستعمرة العقاب الرهيبة يف �أوم�سك ال�سيبريية ،تلك امل�ستعمرة ال�ت��ي يحتمل فيها الإن �� �س��ان م��ن العذاب الت�صور! ولعل هذا ما دفعه املهني ما يفوق ّ �إىل ال�ق��ول�« :إن الإن�سان ليذل حتى �أنه يعتاد كل �شيء»! بلى� ،إنه يعتاد كل �شيء، الأمل وال��ذل واجل��وع وال�ك��ذب واخليانة والتعذيب �إىل �أب�ع��د احل ��دود! ول�ك��ن يف حلظة ما يقف فوق جراحه ويث�أر لكرامته امل� �ه ��دورة ب�ط��ري�ق��ة م ��ا ،ويف ذل ��ك تكمن عظمته. ما يده�ش يف "ذكريات من بيت املوتى" لي�س م�شاهد التعذيب اجل�سدي والنف�سي ل�سجناء ال � ��ر�أي ال��رادي �ك��ال �ي�ين �أوع �ت��اة امل �ج��رم�ين يف ذل ��ك اجل �ح �ي��م ،وال �صور الإذالل اليومي ،وال م�شاهد الإع��دام رميا
بالر�صا�ص ،وال ال �ق��درة على االحتمال فح�سب� .إن ما يده�ش هو ذل��ك الإ�صرار على احلياة ،الإ�صرار على البقاء ،الإ�صرار على احللم يف نفق معتم ال بداية �أو نهاية له! عندما ق ��ر�أ اب��ن الإم�ب�راط ��ور الرو�سي رواية د�ستويف�سكي تلك �أعلن غ�ضبه على ما يجري ،و�أبلغ وال��ده ب�ضرورة و�ضع ح��د ل�ه��ذا االم�ت�ه��ان ل�ك��رام��ة الب�شر ،ومن يومها �أوق��ف الإم�براط��ور العمل بقانون (القنانة) ،و�أو� �ص��ى بوقف التعذيب يف ال�سجون حتت �أية ذريعة كانت! ال يحاول د�ستويف�سكي �أن يقدّم رواية عرب حبكة تقوم على عقدة وحل ،كما ال ين�صب �شباك الت�شويق ال�صطياد ُقرائه� ،إنه ي�سرد ما ي�شبه املذ ّكرات القا�سية وامل ّرة من دون رتو�ش ،مذ ّكرات تتوغل يف عمق الإن�سان وت�ستبطن ن��وازع��ه ال�شر ّيرة واخل�ّي�ررّ ة،
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
وت��ر� �س��م من� ��اذج ب �� �ش��ري��ة ب �ح � ّد ال�سكني امل��ره��ف ،لتقدّمها عارية و�صادمة يف �آن م�ع��ا ،من��اذج ي��رى فيها امل��وه�ب��ة والذكاء والتف ّرد الذي ّ �ضل الطريق� ،أو وجد نف�سه فج�أة ره��ن االعتقال والأح�ك��ام اجلائرة. ولذا فقد ت�ساءلت غري مرة و�أنا �أقر�أ� :أين ه��و ال��واق��ع و�أي��ن ه��و اخل �ي��ال؟ �ألي�س ما ير�صده الكاتب من تفا�صيل �صغرية يف حياة ه ��ؤالء ال�سجناء يفوق ما ميكن �أن نتخ ّيله؟ ثم �ألي�س ال�صدق الف ّني والعاطفي واملعرفة العميقة بالإن�سان واحلياة وراء ذلك الت�ألق ال�سردي الذي ي�أ�سرنا دائما عند د�ستويف�سكي؟ تبدو هذه الرواية ل�صيقة بحياة امل�ؤلف ال��ذي ُ حكم عليه ب��الإع��دام ب�سبب �أفكاره الثورية ،وجنا يف اللحظة الأخ�يرة التي �سبقت �إط�ل�اق الر�صا�ص عليه! ث��م ُنفي بعد ذلك �إىل �سيبرييا مل�دّة �أربعة �أعوام،
ودون فيها م�شاهداته وت�أمالته ومذكراته ّ التي �أثمرت فيما بعد هذا ال�سفر الإبداعي املمتع والرهيب. الآن ،وبعدما �أ�ضعت �أو ف ّرطت مبكتبتي للم ّرة الثالثة� ،أع��ود لأكت�شف �أن من بني ت�ل��ك ال�ك�ت��ب ال�ق��دمي��ة ال�ت��ي ح��ر��ص��ت على االح �ت �ف��اظ ب�ه��ا بق�صد �أو م��ن غ�ير ق�صد رواي� ��ة دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي" :ذكريات من بيت املوتى" ،ولك�أنها قاومت كل اله ّزات العنيفة التي اعرت�ضت حياتي من ت�ش ّرد و�سفر وتن ّقل دائم بني بيت و�آخر ،و�صمدت لتقول يل :ما زلت وفية لك �أيها ال�صديق، يا من احت�ضنني و�أحبني وب ّلل �صفحاتي َ يتخل ع ّني يوما ما! بدموعه ومل مع دانتي لي�س ثمة م ّت�سع للدموع ،فهو يدعوك �إىل ال�ت��أ ّم��ل ،ورمب��ا ّ يلف �أعماقك ب�سحابة م��ن احل ��زن ال�شفيف ،ويح ّثك على الت�سا�ؤل املعريف والوجودي املثري:
«وبعد»..؟ نعم ،هناك اجلنة �أو الفردو�س، وهناك اجلحيم �أو النار �أي�ضا ،ولكل منهما م��ري��دوه��ا ع��ن علم �أو ع��ن جهل ،وللجنة ع�شاقها وللنار وق��وده��ا ،ف�أين �أن��ت �أيها القارئ من االثنتني؟ دانتي ،هذا ال�شاعر النبيل �إىل ح ّد البكاء، يبدع ن�سق ًا �أو ف�ضا ًء رحيم ًا ،ال عالقة له باجلنة وال بالنار ،فقد حت�دّث عنهما كما وف�صل يف ذلك، حت�دّث �أب��و العالء ،وزاد ّ لكن �إبداعه يتجلى يف هذا الن�سق /الف�ضاء الذي ت�س ّلل �إليه من الديانات الوثنية �أو من قدماء امل�صريني ،وهو "املطهر". يف"املطهر" لي�س ثمة م�ؤمنون وكافرون، بل هناك �أرواح تائهة ومع ّذبة� ،أرواح مل تلتزم طقو�س العبادة ،لكنها يف الوقت نف�سه مل ت�ؤذِ �أحدا .فهل ي�ضعها دانتي يف النار �أم يف اجل ّنة؟ لقد ابتدع ف�ضا ًء جديدا �س ّماه "املطهر" ،لتظل فيه تلك الأرواح التائهة هائمة ال ت�ستقر على ح��ال! فهي يف منزلة بني املنزلتني ،ال يق ّر لها قرار �إىل �أن تنتقل بعدما تتطهر من �آثامها �إىل الفردو�س املنتظر! ف �ك��رة "املطهر" ا��س�ت�ح��وذت ع�ل��ى فكري وت��أم�لات��ي ،ووج��دت فيها جوابا لأ�سئلة كانت تقلقني ،فهي �شكل من �أ�شكال التم ّرد ع�ل��ى ث�ن��ائ�ي��ة اخل�ي�ر وال �� �ش � ّر ،والإمي� ��ان والكفر� ،شكل من �أ�شكال الرحمة �أو قل ت �ع �دّد الأط �ي��اف والأل�� ��وان ،ال ثنائيتها، و�شكل م��ن �أ��ش�ك��ال ال��وع��ي "الغاليلئي" ل �ل �ك��ون وال� ��وج� ��ود ال ال ��وع ��ي املثنوي �أو"ال�ستاتيكي" الذي يح�صر احلياة كلها بالنور والظالم� ،أو بـ «نعم» و«ال» ،و«مع» و«�ضد» ،ويف ذاك " املطهر" الذي ابتدعه دانتي وجدت نف�سي منذ قر�أت "الكوميديا الإلهية" وما زلت حتى كتابة هذه الأ�سطر، وم��ن هنا ي�أتي تعلقي بهذا الكتاب الذي يتجاوز حدود ما فيه من معارف فل�سفية والهوتية وطبيعية و�أدب�ي��ة و�شروحات م�ستفي�ضة ،ليجيب على �س�ؤال وجودي عميق ما زال ي ��ؤ ّرق الب�شر� ،س�ؤال املوت وما بعده. مع دانتي رمبا اكت�شفت نف�سي ،ولكن مع د�ستويف�سكي رمب��ا اكت�شفت الآخ��ر ،وما ّ وحتل بني الأن��ا والآخ��ر تكتمل ال��دائ��رة، ال�سكينة ،ويف ال�سكينة �أوىل عتبات الر�ضى وال�سعادة. �أيتها الكتب� ،أيها الأ�صدقاء ،لي�س ما قلته مفا�ضلة� ،أو حم��اول��ة لإر� �ض��اء �أح��د ،فكم �أنا مدين لكم يف حياتي التي �صنعتموها � �س��واء ذك��رت�ك��م �أو ن�سيتكم ،ورمب��ا كان لبع�ضكم �أثر �أعمق مما تركه االثنان ،لكنها حلظة بوح ،ويف البوح ما �أكرث ما ن�صيب، وما �أكرث ما نخطئ!
ماركس ودستويفسكي يجب ال�سعي �إىل حتقيقه يف هذا العامل ،لأنه هدف ممكن .وبعبارة �أخرى� ،إن ال�شر لي�س حقيقة مت�أ�صلة يف قلب كل �إن�سان! و�أ ًّي��ا كان االف�تراق بني مارك�س ب�سبل حتقيق هذه ود�ستويف�سكي يف م��ا يتعلق ُ "الأخوة احلقيقية" بني الب�شر ،ف�إن ك ًّال من الرجلني مل يتنكر لهدف حتقيقها يف هذا العامل.
ب�شري ال�سباعي كاتب ومرتجم م�صري على الرغم من �أننا لن نعرث لدى مارك�س على �إ�شارة واحدة �إىل د�ستويف�سكي وعلى الرغم من احتمال �أال جند عند الأخري �إ�شارة واحدة �إىل الأول ،ف�إن من الطبيعي �أن نتوقع م�ساحة ما ،بل م�ساحات عديدة ،يتحركان عليهاٌ ، كل بال�شكل الذي يراه منا�س ًبا .وامل�ساحة التي يتحدث عنها �ألربتو مورافيا يف مقالته "املبارزة بني مارك�س ود�ستويف�سكي" ("�إبداع" ،دي�سمرب /كانون االول )1919هي م�ساحة "الأخالق" من حيث �شاغل فل�سفي حموري� .أما حركة كل من مارك�س ود�ستويف�سكي على هذه امل�ساحة فهي ،يف ر�أي مورافيا ،حركة متنافرة .فاالجتاه الذي ي�سري فيه مارك�س هو عك�س االجتاه الذي ي�سري فيه د�ستويف�سكي .وما ذلك لأن نقطة انطالق الأول لي�ست نقطة انطالق الأخري.
كيف؟ نحن ن�ع��رف �أن مارك�س ي��رد الأخ�ل�اق �إىل �شروط �إن�سانية تاريخية ملمو�سة ،وه��و ،بهذا املعنى ،ال ميكن �أن يكون م�سيح ًّيا ،خال ًفا لد�ستويف�سكي ،الذي يعترب الأوام� ��ر الأخ�لاق�ي��ة �سرمدية ومنف�صلة عن ال�شروط التاريخية للحياة الإن�سانية ،فهي �أوامر �إلزامية �أ ًّي��ا كانت ه��ذه ال�شروط� .إن د�ستويف�سكي ميكن يف -جمال الأخالق – �أن يكون كانط ًّيا ،وهو ما ال ميكن �أن يكونه مارك�س. و�إذا انتقلنا من م�ستوى الأخالق الفل�سفي العام �إىل م�ستوى خا�ص حمدد كم�ستوى "ال�شر" ،ف�سوف جند أ�سا�سا� ،إىل ال�شروط الإن�سانية �أن مارك�س يرد ال�شرً � ، التي يحيا فيها الب�شر و�أن التخل�ص من ال�شر يتوقف أ�سا�سا على التخل�ص من تلك ال�شروط ،فهل يرى � ً امل�سيحي د�ستويف�سكي ر�أيًا �آخر؟ يزعم مورافيا �أن د�ستويف�سكي كان يعترب ال�شر حقيقة مت�أ�صلة يف قلب كل �إن�سان ،ومن ثم ف�إن من امل�ستحيل التخل�ص من ال�شر يف هذا العامل .فالتخل�ص من ال�شر ال ميكن �أن يتحقق �إال بو�صول اخلال�ص امل�سيحي أخوة �إىل غايته� ،أي بعد �أن نفارق هذا العامل� :إن " ال َّ احلقيقية" م�ستحيلة يف هذا العامل. هنا بالتحديد يتمثل افرتاء مورافيا على د�ستويف�سكي. فالأديب الرو�سي الكبري ال��ذي كتب رواي��ة "الأبله" ك��ان ي��رى �أن "الأخوة احلقيقية" بني الب�شر هدف
وبعد االفرتاء على د�ستويف�سكي يجيء االفرتاء على مارك�س .ف��أخ�لاق مارك�س – وف��ق مورافيا – هي الأخالق عينها التي قادت را�سكولنيكوف (ال�شخ�صية ال��رئ �ي �� �س��ة يف رواي � ��ة د��س�ت��وي�ف���س�ك��ي" :اجلرمية والعقاب") �إىل ارتكاب جرميته. ومن دون �أن نتوقف عند مقارنات مورافيا ال�سخيفة بني دعوة مارك�س �إىل م�صادرة البورجوازية وقتل را�سكولنيكوف للمرابية ال�ع�ج��وز ،نتوقف �أم��ام ال�س�ؤال التايل: م ��ا الأخ� �ل��اق ال �ت��ي ق� ��ادت �إىل ت �ل��ك اجل ��رمي ��ة؟ لن جن��د �صعوبة يف �إدراك كنهها �إذا م��ا تتبعنا ر�ؤى را�سكولنيكوف عن "الإن�سان غري العادي" و"النا�س العاديني" ،وباملنا�سبة ،ف�إن هذه ال��ر�ؤى قد ت�شكلت حتت ت�أثري كتاب نابليون الثالث ()1873 – 1808 "تاريخ يوليو�س قي�صر" ( )1865الذي �أثار ً نقا�شا ح ��ادًّا ب�ين �صفوف املثقفني ال��رو���س ف��ور �صدوره. ولي�س من امل�صادفات �أن �أحداث "اجلرمية والعقاب" تدور يف عام ،1865كما ذكر ذلك د�ستويف�سكي ،وهو العام نف�سه الذي �صدر فيه كتاب �إمرباطور فرن�سا. �إن �أخ�لاق را�سكولنيكوف ه��ي ،باخت�صار� ،أخالق ت�أكيد ال�صوت اخلا�ص "غري العادي" على ح�ساب �أ� �ص��وات الآخ��ري��ن "العاديني" ،ب��ل وع�ل��ى ح�ساب �أرواحهم. ويقدم را�سكولنيكوف نف�سه لنا منوذجً ا لهذا ال�صوت "غري العادي" ،هو �صوت نابليون بونابرت (1769 – ،)1821فهذا الأخ�ير "يدمر طولون ويرتكب م��ذب�ح��ة يف ب��اري����س وين�سى اجل�ي����ش يف م�صر". وهذه الأحداث كلها ،كما نعرف ،لي�ست على م�ستوى �أخالقي واح��د من الزاوية التاريخية ،وال حتى من زاوي��ة وع��ي بونابرت نف�سه ،خ�لال كل ح��دث منها، بدالالتها .فالهجوم على طولون يف ليل 17دي�سمرب/ كانون االول 1793الذي تكلل باالنت�صار يف م�ساء اليوم التايل ،كان م�أثرة ثورية انتهت بتمريغ علم البوربون امللكي يف الوحل و�إنقاذ الثورة من تهديد ج�سيم� .أم��ا املذبحة ال�ت��ي ارتكبت يف باري�س يف � 13أكتوبر /ت�شرين االول ،1795فهي �إن كانت قد �أدت �إىل الإجهاز على ع�صيان امللكيني ،الذي �شجع عليه التحول �إىل اليمني بعد انقالب 9ثريميدور على اليعاقبة� ،إال �أنها �أف�سحت ال�سبيل �أمام ت�شجيع
امليول البونابرتية .و�أ ّما ن�سيان اجلي�ش يف م�صر يف عام 1799فهو مل يكن �إال بهدف احتكار ال�سطة يف باري�س. �إن م��ا يعجب را�سكولنيكوف يف ب��ون��اب��رت لي�س �أي� ًا من هذه الأدوار املختلفة التي لعبها الأخ�ير ،بل بالتحديد ،عزم بونابرت على ت�أكيد ال�صوت اخلا�ص "غري العادي" على ح�ساب الأ� �ص��وات الأخ ��رى. ويتذكر را�سكولنيكوف �أن بونابرت مل ين�س اجلي�ش يف م�صر وح�سب ،بل �أنه بدد �أرواح مئات الآالف من النا�س يف احلملة على مو�سكو! فما الذي يجمع بني هذه الأخالق والأخالق املارك�سية؟ ال�شيء ،ال�شيء البتة! �إننا ل�سنا بحاجة للت�شديد �أك�ثر من ال�لازم على ما يعرفه كل مثقف نزيه� :إن الأخالق املارك�سية ال تعرتف ب�إهدار �أ�صوات الآخرين "العاديني" حل�ساب ال�صوت الفريد "غري العادي" .ومن ال�سخف �أن يت�صور املرء �أن مارك�س قد تثقف على يدي الإمرباطور الذي كتب �سرية يوليو�س قي�صر! و�إذا كان مارك�س لي�س تلمي ًذا للوي�س بونابرت ،فمن ال�سخف باملثل اعتباره �أ�ستاذ ليو�سف �ستالني الذي هو باملنا�سبة ،بونابرت �آخر! يزعم مورافيا �أن ال�شر الذي اندفع كال�سيل من باب ال�ستالينية قد دخل �أو ًال من نافذة املارك�سية :نحن �إذ ًا �أم��ام تعبري جديد ع��ن زع��م عتيق :لقد انبثقت ال�ستالينية من املارك�سية! �أي ��ن ال��دل �ي��ل؟ م��ا م��ن دل �ي��ل ،ال�ل�ه��م �إ َّال �إذا اعتربنا الثريميدور ال�ستاليني �إجنا ًزا ملُثِل ثورة �أكتوبر! لكن الثريميدور ال�ستاليني هو ،بحكم التعريف ،حافر قرب تلك الثورة� :إن "انبثاق" ال�ستالينية من املارك�سية هو انبثاق النفي ال الإث�ب��ات ،وبهذا املعنى ،ي�صبح كبت �ستالني لإب��داع د�ستويف�سكي �أم� ًرا مفهومًا� :إنه جزر من كبت املارك�سية والثورة ،على الرغم من �أن �إبداع د�ستويف�سكي واملارك�سية والثورة لي�ست �شيئ ًا واحد ًا. والأمر كذلك لأن كبت �إبداع دي�ستويف�سكي لي�س �أكرث من تكري�س للفقر الروحي .ف�إثراء الروح يحتاج �إىل هذا الإبداع .وعلى الأقل ،كان هذا هو ر�أي تروت�سكي – املارك�سي الذي �أُغتيل على يد عميل �ستاليني. "�إن ما �سوف ينهله العامل م��ن ...د�ستويف�سكي � �س��وف ي �ك��ون ف �ك��رة �أك�ث�ر ت��رك�ي� ًب��ا ع��ن ال�شخ�صية الإن�سانية ،ع��ن عواطفها وم�شاعرها ،فهماُ �أعمق و�أبعد غو ًرا لقواها النف�سية ولدور الوعي الباطن، �إلخ .يف التحليل الأخري� ،سوف ي�صبح العامل �أكرث ثراءً". جملة "الثقافة اجلديدة" ،القاهرة ،مار�س� /آذار
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14
15
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
العدد ()2311ال�سنة التا�سعة -االربعاء ( )23ت�شرين الثاين 2011
دستويفسكي
بين دستويفسكي و بورخيس :ناديجدا مورافيوفا.. ترجمة:د .فالح احلمراين عا�ش د�ستويف�سكي ( 1821ـ )1881يف القرن التا�سع ع�شر ،بينما عا�صرنا بورخي�س ( )1986 - 1899لفرتة طويلة .اتذكر كيف ناق�ش اجلميع نب�أ موته يف ،1986واتذكر ان كلمة " االدي� ��ب العظيم" ت� ��رددت على ال�شفاه حينها برنة جنائزية وجليلة للغاية. عا�ش د�ستويف�سكي يف ذلك الزمن ال�سحيق بتوتر حم�م��وم،ان�ت�م��ا�ؤه للحلقة الثورية واالعمال ال�شاقة ،وانفعاالت �سجن االعمال ال�شاقة وال�صرع ،وعموما كل ما نعرفه عنه بدقة. وعلى ك��ل ح��ال ف��ان ادب�ن��ا املعا�صر برمته، ك�م��ا ارى ،ت��وق��ف ب��ال��ذات ب�ين بورخي�س ود�ستويف�سكي ،نظرا الن احدهما قريب من الفنتازيا اجلافة ،اللعب بالكريات الزجاجية واالدب ،اللعب مع القراء والبحاثة ،النظر من
اجلنب ومن بعيد ،والثاين " البطل الهادئ". او بالذات " الدافئ" ـ ليكن النذل واملهرج، �سفيدريجايلوف ،ال��ذي ي�غ��ري الفتيات " بحرارة الدعاية" ،ليكن االب كارامازوف او ايجاالي يبانت�شينا* ـ ليكن! انهم ب�شر ،وما عدا ذلك غري ذي بال ،انهم ي�شبهوننا. ان غرابة مدر�سة د�ستويف�سكي ت�أتي من ان ري�شتها ت�صف النا�س الب�سطاء ،واملعذبني وال�ضعفاء ،تر�سمهم ب�شفقة وحتى برقة.ان مدر�سة د�ستويف�سكي ال ميكن ان تعلن موت الق�صة الق�صرية او ال��رواي��ة ك�شكل ادبي. وعموما فانها تب�صق على ال�شكل الفني، النها تكتب " عن احلياة" .ان ه�ؤالء االبطال (ال�شخو�ص) ينامون ،ويتناولون الطعام وت�ع��ط رائحتهم ،ومي��ر��ض��ون .ان ال�شفقة عليهم ت�ستيقظ دائما� ،سونيا مريميالدوف تبعث على الأ�سى ،ورا�سكولنيكوف يبعث على الأ��س��ى ،انهم " تع�ساء" .ان االن�سان ال ��رو�� �س ��ي وال � �ق� ��راء ي �ح �ب��ون التع�ساء،
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
وي�صفون ال�سجني " بالتعي�س" بغ�ض النظر عما ارتكبه ـ املهم انه الآن يعاين ،انه االن تع�س .بيد ان االمر مع بورخي�س ومدر�سته يبدو بهيجا اىل ابعد حد .ان خورخه لوي�س �سطحي للغاية .فهو مل ي�شعر باالبطال ومل يتعاطف معهم .انه ي�صفهم مثل دمى مثرية. وكان يقول ":االخرون يفتخرون بكل عمل يكتبونه ام��ا ان��ا بكل عمل �أقر�أه".ولي�س يف ه��ذا م��ا يثري اال��س�ت�غ��راب :بب�ساطة ان خورخية لوي�س كوّ ن مكتبة بذهنه.ان هذه �صورته الرئي�سية واملحببة وعند مناق�شته لالحالم يقول :احالم كيفبدو تذكر باعمال ان�سان مل ير االح�لام ابدا" ...ويجوز لنا القول باعادة �صياغة هذا القول ،ان اعمال بورخ�س ـ هي اي�ضا مبثابة احالم ان�سان ،مل ير االحالم عن نف�سه وعن الب�شر الآخرين. ابطاله غري متما�سكني ،والن�صو�ص ذاتها مكتوبة بجفاء ،حقا بلغة حاملة جافة .وهناك خ �ي��ال (ف �ن �ت��ازي��ا) م��ن دون ن �ه��اي��ة ،ولكن،
يف احلقيقة لي�س ثمة ابطال ـ انهم اقنعة، متنكرون ،ت�شبه امتالء بال روح .وي�صفهم الكاتب بطريقة يتدفق بها اخليال مثل طري ا�سطوري ،ونحن ال�ق��راء نعرف بدقة هذه املرة اجلواب :ان الكاتب اختلق هذا الطائر الكاتب ومرة اخرى الكاتب. وال ميكن حمل اية م�شاعر جتاه ال�شخو�ص ال��ورق�ي��ة املختلقة ،فكيف ميكن مو�ساتهم اذا مل يكونوا ب�شرا؟ انهم ال يعي�شون يف �شقة جم ��اورة او يف ط��اب��ق اع�ل��ى ،ان�ه��م ال يغرقونك ب��امل��اء ،وال يتناولون معك كا�س برية يف �صباح يوم �أحد عند املخزن ،انهم ورقيون ،ويجوز ان تعمل معهم اي �شيء، ولكن ال ت�أ�سف م��ن اجلهم .ومثلهم اي�ضا اب �ط��ال رواي � ��ات � �س��اروك��ن واب��ط��ال روي��ا بيليفني املت�أخرة* .وهذا اىل حد كبري عامل اومبريتو ايكو. ان هذين طريقان خمتلفان متاما ،وي�سريون بال�شر يف اجتاهات خمتلفة .بيد ان اخليار:
عند الكاتب ،دائما موجود يف هذه احلالة. اما القارئ فانه مي�ضي خلف من �إن َت َخب اىل حيث يقوده .اللعب او اال�سى .واما الرقابة او امل�شاركة� ،أوال�شفقة. * نادجيدا مورافيوفا ـ كاتبة متخ�ص�صة بالثقافة اال��س�ب��ان�ي��ة ،ت��رج�م��ت ال�ع��دي��د من �شعراء ا�سبانيا وامريكا الالتينية للرو�سية. حم��ررة يف امللحق الثقايف" اك�سليرب�س" ل�صحيفة نيزافي�سيمايا غازيتا�.صدرت يف العام اول رواية لها بعنوان (مايا) . *عن ملحق �صحيفة نيزافي�سيمايا غازيتا الثقايف اال�سبوعي " اك�سليرب�س" ال�صادر بتاريخ .1980/3/20 *�شخو�ص روايات د�ستويف�سكي. * فالدميري �ساروكني وفيكتور بيلفني من كتاب رواية ما بعد احلداثة الرو�س.
جوهر الروح اإلنسانية لكن الفكرة املركزية التي �سيطرت على د�ستويف�سكي كانت الله والذي تبحث عنه �شخ�صياته دائما من خالل الأخطاء امل�ؤملة والإذالل. يقول د�ستويف�سكي على ل�سان الأمري فالكوف�سكي يف رواية مذلون مهانون ( ....لكنك �شاعر ,و�أن��ا �إن�سان فانا ب�سيط, ول��ذل��ك �س�أقول ل��ك يجب على امل��رء �أن ينظر �إىل الأ�شياء ب�سهولة اكرب ومن وجهة النظر العملية ,ف�أنا كفرد قد حررت نف�سي منذ زمن طويل من كل القيود وحتى االلتزامات ,ف�أنا اعرف االلتزامات فقط حني �أرى �أن لدي �شيئا ما �أ�ستطيع احل�صول عليه بها. �أنت ,بالطبع ال ت�ستطيع ر�ؤية الأ�شياء بهذا ال�شكل ف�أقدامك مقيدة وطعم الأ�شياء عندك �سقيم �أنت تتوق للمثال ,للف�ضيلة ,لكن يا �صديقي العزيز �أنا م�ستعد ملعرفة �أي �شيء تخربين
ب��ه ,لكن م��اذا �س�أفعل �إذا كنت �أع��رف حقا (�أن يف ج��ذر كل الف�ضائل الإن�سانية تقطن الأنانية الأكرث حدة) .ولد فيدور د�ستويف�سكي عام 1821يف �أ�سرة مطبب مب�ست�شفى الفقراء يف مو�سكو حيث تلقى تعليمه يف البيت ويف مدر�سة خا�صة وبعد ف�ترة ق�صرية على وف��اة �أم��ه ع��ام � 1837أر��س��ل �إىل �سان بطر�سربغ حيث دخل الكلية الهند�سية الع�سكرية .يف عام 1839تويف ميخائيل اندريفت�ش وال��د د�ستويف�سكي بال�سكتة الدماغية وقيل �أنه قتل على يدي بع�ض اتباعه. تخرج د�ستويف�سكي من الكلية الهند�سية الع�سكرية حيث ا�ستقال يف عام 1844لتكري�س نف�سه للكتابة .يف الرابعة والع�شرين من عمره �أجنز روايته الأوىل (امل�ساكني) والتي جنحت جناحا كبريا حيث �أ�شاد بها النقاد كثريا وخ�صو�صا الناقد الرو�سي الكبري بلين�سكي
ال��ذي رحب به كـ(غوغول جديد) حيث ق��ال د�ستويف�سكي كلمته ال�شهرية ( :كلنا قد خرجنا من معطف غوغول) . يف عام 1846ان�ضم د�ستويف�سكي �إىل جمموعة (اال�شرتاكيني الطوباويني) الذين جتمعوا يف بيت ميخائيل برتا�شف�سكي .كان برتا�شف�سكي ا�شرتاكيا غريب الأط��وار ,حيث ذهب مرة �إىل الكني�سة بثياب امر�أة وقد و�ضعت ال�شرطة ال�سرية وكيال لها يف املجموعة ويف ني�سان من عام 1849اعتقل د�ستويف�سكي خالل ق��راءة ر�سالة راديكالية للناقد ال�شهري بلين�سكي (وهي جمموعة من القطع الأدبية كتبت من املحرر �إىل �صديق) وحكم عليه باملوت. هذا الإع��دام الالمعقول �صدم الكاتب كليا ,وقد خفف عليه احلكم من الإع��دام �إىل ال�سجن يف �سيبرييا حيث �أم�ضى د�ستويف�سكي �أربعة �أع��وام حمكوما بالأ�شغال ال�شاقة كان فيها يلب�س القيود مع الكثري من امل��دان�ين الآخ��ري��ن الذين ارتكبوا جرائم قتل. يف عام � 1854أطلق �سراحه حيث ا�ستخدم كجندي عادي يف (�سيمبالتن�سك) .كونت هذه التجارب مو�ضوعا لأعماله امل�ستقبلية حيث عك�س �أبطاله وبطالته قيما �أخالقية كانت مهمة ب�شكل حيوي مل�ؤلفها ,لقد كانوا رجاال ون�ساء عمليني انعك�ست �أفكارهم على ال�شباب يف رو�سيا. خ�لال �سنواته يف �سيبرييا ا�صبح د�ستويف�سكي ن�صريا للملكية وتابعا م�ؤمنا للكني�سة الأرثدوك�سية الرو�سية. ع��اد د�ستويف�سكي �إىل �سان بطر�سربغ ع��ام 1859ككاتب ذي ر�سالة دينية حيث ن�شر ثالث رواي��ات �أخ��ذت مبختلف الطرق خربته يف �سيبرييا وهي ( ذكريات من بيت املوتى) ( 1862– 1861مذلون مهانون) ( , 1861ذكريات �شتاء يف م�شاعر �صيف) . 1863 يف تلك الفرتة كان قد تزوج من ماريا ال�ساييف وهي �أرملة بعمر � 29سنة .بني عامي 1861و 1863عمل كمحرر ملجلة دورية �شهرية �أغلقت فيما بعد ب�سبب مقالة عن االنتفا�ضة البولندية .يف عام � 1862سافر د�ستويف�سكي للمرة الأوىل �إىل فرن�سا و�إنكلرتا ثم �سافر مرة �أخ��رى �إىل �أوروب��ا عام 1863وع��ام 1865حيث توفت زوج�ت��ه و�أخ ��وه ,عندها �أ�صيب بهو�س القمار وت��راك��م ال��دي��ون و�أع��را���ض ال�صرع املتكرر. ويف ا�ضطراب �أعوام ال�ستينيات ظهر كتابه (مالحظات من حتت الأر�ض) وهو درا�سة نف�سية لالغرتاب حيث مثل هذا الكتاب حدا فا�صال يف تطور د�ستويف�سكي الفني. يف عام 1866كتب روايته العظيمة (اجلرمية والعقاب) ويف عام 1872كتب روايته ال�شهرية (املم�سو�سون) التي �صور فيها �شخ�صية ال�سيد امل�سيح ب�صورة الأمري مي�شيكني حيث ك�شف من خالله عن الإفال�س الروحي لرو�سيا وا�ستك�شافه لفل�سفة العدم. يف عام 1867كان قد تزوج ثانية من �آنا جريجورفينا كاتبة االختزال عنده وهي بعمر � 22سنة التي تبدو �أنها فهمت هو�س زوجها واهتياجه لتفادي دائنيه .غادر د�ستويف�سكي رو�سيا معها حيث ق�ضيا �أغلب الأوق��ات يف �أملانيا�,إيطاليا و�سوي�سرا يف فقر مدقع . ك��ان يف �أغ�ل��ب الأوق ��ات مهوو�سا بالقمار لكن �شهرته يف رو�سيا ب��د�أت تنمو وحينما �أح��رزت روايته(املم�سو�سون) النجاح عاد �إىل رو�سيا وا�شرتى منزال. من عام � 1873إىل عام � 1874أ�صبح د�ستويف�سكي حمررا ملجلة (امل��واط��ن املحافظ) الأ�سبوعية ويف ع��ام (– 1879 � )1880صدرت رائعته ال�شهرية (الأخوة كرامازوف) حيث عرف يف بالده ك�أحد كتابها العظام و�صوت ال�شعب الأ�صيل يف فرتة الأزمة التي حلت ببالده. توجت رواي��ة د�ستويف�سكي الأخ�يرة (الأخ��وة كرامازوف) هو�سه الدائم بجرمية قتل الأب ,االفرتا�ض بان �أباه قد قتل ترك يف نف�سه �آثارا عميقة . رواي��ة الأخ��وة ك��رام��ازوف حول حبكة ب�سيطة هي اغتيال الأب يف ع��ائ�ل��ة ك ��رام ��ازوف� ,أح ��د الأب �ن��اء وه��و دميرتي يعتقل .ميثل الأخوة ثالث �سمات من وجود الإن�سان ,العقل (ايفان) ,العاطفة(دميرتي) ,الأميان (اليو�شا) هذا املو�ضوع يتحول �إىل بحث روح��ي و�أخ�لاق��ي عن املجتمع املعا�صر. عانى د�ستويف�سكي من ال�صرع طوال حياته �إىل �أن تويف يف التا�سع من �شباط عام 1881يف �سان بطر�سربغ ودفن يف دير الك�ساندر نيف�سكي � .آنا جريجورفينا كر�ست بقية حياتها حلفظ الرتاث الأدبي لزوجها . �أره�صت رواي��ات د�ستويف�سكي بالكثري من �أف�ك��ار نيت�شه وف��روي��د وق��د ت�أثر د�ستويف�سكي بقوة بالكثري من �أفكار الك�ساندر هرتزن وبلين�سكي ,لقد ر�أى �أن الفن العظيم يجب ان تكون له حرية التطور ب�شروطه اخلا�صة لكي يتعامل مع امل�شاكل االجتماعية الرئي�سة.
ترجمة املدى عنBooks and writers amazon
رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
نائب رئي�س التحرير ----------------عدنان ح�سني
مدير التحرير ----------------علي ح�سني االخراج الفني ----------------م�صطفى التميمي الت�صحيح اللغوي ----------------حممد حنون
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
العالم يحتفل بميالد صاحب (الجريمة والعقاب)
احتفلت الأو� �س��اط الثقافية يف ال�ع��امل بالذكرى الت�سعني بعد املئة مليالد الكاتب الرو�سي فيودور ميخائيلوفت�ش دو�ستويف�سكي ()1881-1821 �أح��د �أع�ظ��م ال��روائ�ي�ين يف ال�ع��امل وال��ذي ترجمت �أعماله �إىل العديد من اللغات و�أ�صبحت م�صدر �إلهام للفكر والأدب املعا�صر. وحتظى هذه املنا�سبة باهتمام الأو�ساط الثقافية يف رو�سيا حيث افتتح قبل �أيام يف مدينة فيليكي ن��وف �غ��ورود ال��رو��س�ي��ة ،ال�ت��ي ق�ضى ال�ك��ات��ب فيها جزءا كبريا من حياته ،املهرجان الدويل امل�سرحي اخلام�س ع�شر ،الذي ينظم �سنويا يف ذكرى ميالد الكاتب امل�صادفة اليوم وذلك منذ عام .1992 وحتت �شعار "دو�ستويف�سكي والثقافة العاملية" انطلقت فعاليات امل�ن�ت��دى العلمي مبدينة �سان بطر�سربغ مب�شاركة جمع من الأدباء واملفكرين من خمتلف �أنحاء العامل. ويهدف املنتدى ملناق�شة امل�سائل الأ�سا�سية املتعلقة بت�صور دو�ستويف�سكي للعامل املعا�صر ،وت�أثري تراثه الروحي والفكري على الفنانني واملفكرين
وال�شخ�صيات ال�سيا�سية والدينية من القرن التا�سع ع�شر وحتى القرن احلادي والع�شرين. وعلى هام�ش املنا�سبة يقيم "متحف دو�ستويف�سكي" ب�سان بطر�سربغ معر�ضا فنيا تقدم فيه �أك�ثر من ت�سعمئة لوحة تعر�ض لأول م��رة م�ستوحاة من �أعمال الكاتب الأدبية. عرف دو�ستويف�سكي بتوجهه الإن�ساين ونزعته الفل�سفية التي ب��دت وا�ضحة يف �أعماله الأدبية حيث يتجلى يف رواياته املزج بني ال�صنعة الفنية والبعد الفكري ال��ذي ي�ضفي على �أعماله ملمحا ر�ساليا. وي� ��رى ن �ق��اد �أدب� �ي���ون �أن دو��س�ت��وي�ف���س�ك��ي من الكتاب القالئل الذين ا�ستطاعوا ر�سم اخلطوط ال�سيكولوجية ملفهوم العاطفة يف التعبري الروائي �إذ �أخرجها من القوالب اجلمالية والرومان�سية التي غ��رق فيها كتاب القرن التا�سع ع�شر وجعل منها تعبريا واقعيا عن مكنونات �إن�سانية بحتة يف قالب اجتماعي ي�شرتك فيها الأمل مع اللذة واخلري مع ال�شر حتى لُقب بعبقري الرواية النف�سية.
وم ��ن �أق ��وال ��ه اخل ��ال ��دة "ي�شبهونني بالأطباء النف�سيني ولكن هذا الأمر لي�س حقيقيا ،ف�أنا واقعي بكل ما حتمله الكلمة من معنى ولهذا �أعك�س �أعمق ما حتمله النف�س الب�شرية من حقائق". وي��رى الكاتب دانييل غرانني �أن �صعوبة قراءة رواياته تكمن يف �أنها جتربنا على اكت�شاف ما يف �أنف�سنا من �سوء خوفا من �أن نعرث فيها على تلك الأه��واء التي تع�صف ب�أبطاله ،وي�شعرنا بت�أنيب ال�ضمري والق�ضاء على جميع حم��اوالت التهرب وتربير ال�شر والف�ساد الأخالقي. من جانبه ق��ال الأدي��ب واملرتجم �أب��و بكر يو�سف (�أحد مرتجمي �أعمال دو�ستويف�سكي �إىل العربية) �إن الكاتب كان يحمل ر�سالة تغيري العامل من خالل فل�سفة تقرتب من فل�سفة تول�ستوي باختيار طريق املقاومة ال�سلمية ونبذ العنف يف تغيري املجتمع، لكنه مل يكن فيل�سوفا بقدر ما كان فنانا ذا ب�صرية نافذة �إىل �أعماق احلقائق. و�أ� �ش��ار �إىل �أن دو�ستويف�سكي تنب�أ مب�ستقبل م�ضطرب لرو�سيا عندما بحث النظر يف ق�ضية
"الإرهاب" يف ذلك الوقت. و�أ�ضاف يو�سف �أن الكاتب حاول من خالل م�ؤلفاته �أن يقدم النموذج ال�سلمي البديل القائم على حب الب�شرية وتغيري الإن�سان باملعرفة واحلقيقة. و�أو�ضح �أن دو�ستويف�سكي كان ي�شكل عاملا متوتر الأرجاء ،ي�ضطرم ب�شتى �أنواع الفكر وال�صراعات، تقلب ب�ين ن��ار امل�ث��ال الديني ال��ذي مل يتحقق يف الواقع ون��ار الواقع املر�سوم حوله �آن��ذاك ،فكان "�إيفان" �أحد �أبطال روايته "الأخوة كارامازوف" يقول لأخيه "�إنني ال �أرف�ض الله ولكني �أرف�ض عامله" .وعلى الرغم من مرور 130عاما على وفاته ف�إن �أفكاره ومبادئه ال تزال متثل �أفكار جيل على قيد احلياة .واكت�سبت �أعماله الأدبية طابعا ع�صريا يبدو �أحيانا �أ�شبه بالنبوءة مبعزل عن �أبعادها الزمانية واملكانية. ويرى كثريون �أن رواياته التي تف�ضح �سائر �أ�شكال العنف واال��ض�ط�ه��اد ال ميكن �أن مت��وت م��ا دامت الأنظمة القمعية قائمة بكل قبحها وب�شاعتها.
منارات