شخصية المهرجان
رئيس المهرجان
أ.د /حسن عطية
رئيس تحرير المطبوعات
د /مصطفى سليم
مدير المهرجان
أ /إسماعيل مختار
المنسق العام
ماجدة عبد العليم صورة الغالف إهداء
محمد فاروق
جرافيكس المطبوعات واإلخراج الفني
محمد عبد الحكيم الكومي
كــــــلــــــمــــــات
وزير الثقافة أ.د /إيناس عبد الدايم
محمود دياب
7 6
يعد المسرح أحد روافد الثقافة المصرية ،معبرا عن واقعه، ومتطلعا لتغييره ،ومشتركا مع كافة الفنون األخرى فى نشر الوعي بين الجماهير واالرتقاء بالذوق العام لمواجهة التطرف الفكري ،مما يدعونا إلى ضرورة عودة الثقافة إلى المواطن من خالل تكاتف جميع القطاعات والتنسيق فيما بينها ،وإلى العمل من أجل تحقيق التواصل بين المركز فى العاصمة واألطراف فى األقاليم ،والسعى للكشف عن هوية كل بيئة ،بما يعكس هوية هذا المجتمع األصيل الخالد. ومن ثم يعتبر المهرجان القومي للمسرح هو النافذة التى نطل منها على كل منتج إبداعي فى كافة األقاليم والقطاعات والتوجهات ..أنه بانوراما مختارة لهذا الكم الرائع من العروض المسرحية التى قدمت خالل العام الماضى ،بما يسمح بالتعرف على مالمح تطور هذا المسرح ،ورصد مساره المتقدم دوما لألمام. تحية تقدير للقائمين على هذه التظاهرة الثقافية التي تعبر عن وجه من أوجه حضارتنا متمثال في أبو الفنون ..المسرح الذي سيظل دوما مساحة من التفاعل الثقافي االبداعي الحي المعبر عن العصر وهمومه وطموحاته.
أ.د .حسن عطية رئيس المهرجان
محمود دياب
9 8
لم تحركه األيديولوجيا التي هيمنت على العقل العربي في مصر في ستينيات القرن الماضي ،رغم تبنيه ألهدافها األساسية وهى العدل االجتماعي وحق اإلنسان البسيط في الحياة الكريمة ،بقدر ما حركته روح القوانين التي درسها وعشقها وصار بها مستشا ار بقضايا الدولة ،خالل سنوات حياته العملية األولى في الخمسينيات، ثم طوال مرحلته اإلبداعية خالل الستينيات والسبعينيات ،مما أدى لتوتر عالقته دوما مع األنظمة المهيمنة ،وحفر بأعماله الفنية واألدبية طريقا خاصا به أبعده عن األضواء وأوصله للتصادم والقلق فالرحيل الهادئ عن دنيانا وهو بعد في الحادي والخمسين من عمره. أنه “محمود دياب” (أغسطس -1932أكتوبر )1983المستشار الجليل والسارد البارع للرواية والقصة ،والكاتب المسرحي المثير للجدل ببحثه الدءوب عن الهوية المصرية ،وكاتب القصة والسيناريست الممتلك لحرفة الكتابة للدراما السينمائية المع ِرف بعالم الروائي الروسي الكبير “ديستوفسكى” على الشاشة الفضية، والتليفزيونية و َ والمثقف الذي ترك أروقة مجلس الدولة الرفيعة ،ليتحرك عمال مع أبناء جهاز الثقافة الجماهيرية الوليد أواخر ستينيات القرن الماضي ،وليعيش مغامراته في األزقة والحواري ونجوع الوطن ،ينتقل بين قصر ثقافة في اإلسكندرية إلدارة الثقافة العامة ومكتباتها بالقاهرة ،وجذبه الواقع في كفور الدلتا وبيوت ناسها للتعرف عن قرب على هموم المواطن البسيط والفالح الباحث عن الخالص من ظلمة التاريخ وحرقة الصبر ،مما أنعكس بصورة واضحة على مسيرته اإلبداعية. هو ابن اإلسماعيلية المدينة التي ولد بها وأحبها ،وهو ربيب القاهرة المحروسة التي عاش فيها وتعبد في محرابها ،وهو المخلص لوطنه الذي كرس حياته كلها من
أجل رفعته والحفاظ على كرامته وتقدمه ،وهو المؤمن بالعروبة التى ازدهرت دعوتها فى ستينيات القرن الماضي ،ورأى فيها أهم أبعاد الشخصية المصرية ،فلم يتعلق بالبعد البحر متوسطي كثيرا ،ولم ينشغل بالبعد الفرعوني ،وظل يفتش في التربة المصرية وحكايات شعبها عن هذا البعد اللغوي والمعرفي الذي صبغ هذه الشخصية بصبغة خاصة ،وراح بإبداعه الراقي يأمل أن يرتفع بوعيها لمصاف العدل والتقدم ،مما فتح أبواب اإلبداع أمام موهبته الفريدة ،فكتب الرواية والقصة والمسرحية القصيرة والطويلة وأعد القصص السينمائية وشارك في كتابة السيناريو والحوار لقصصه وقصصه غيره. كان شاغله األول في مسيرته اإلبداعية هو التعبير عن الروح المصرية ،فصاغ في الستينيات أعماال روائية ومسرحية قدمت على مسارح الدولة ،وشغلت الجمهور والحركة النقدية كثيرا ،وتنقلت موضوعاتها بين أجواء المدينة وقضايا طبقتها المتوسطة وأجواء الريف وهموم أهله البسطاء ،مقدما نفسه بنص (المعجزة) الذي لفت نظر بعض النقاد إليه بعد فوزه بجائزة مؤسسة المسرح والموسيقى عام ،1962وتتداول المعلومات عن تاريخ كتابته ،فتعود به إلى عام ،1959وأن كنا نرى أنه كتبه فى نفس عام، حصوله على الجائزة ،ألنه يطرح قضية التأميم للمصانع الخاصة ،وأحقية العاملين فيها لها ،دعما لعملية التأميم التي قامت بها الدولة للمصانع بداية من يوليو 1961وتمليكها لعمالها ،وتتصل أفكاره بنفس ما طرحه في مسرحيته الطويلة التالية (البيت القديم) التي فازت بدورها بجائزة مجمع اللغة العربية ،1963مما يشي بكتابتها فيما بين عامي 62و ،63وأخرجها “على الغندور” لفرقة المسرح الحديث على مسرح (الهوسابير) في منتصف عام ،1964بعد أن قام “دياب” بتحويل حوارها للهجة العامية ،وناقش فيها قضية العالقة بين األثرياء (سكان حي الزمالك نموذجا أثي ار زمنذاك) والفقراء (سكان حي بوالق المتاخم) اللذين ال يفصل بينهما جغرافيا سوى كوبري (أبو العال) ،بينما محمود دياب
11 10
تفصل الفوارق الطبقية بينهما بصورة حادة ،ومع ذلك لم يحظ عرض هذه المسرحية بحفاوة جماهيرية ونقدية ملحوظة ،ربما ألن “دياب” صار في الطريق التقليدي لكتابة مسرحية تتحدث عن التفاوت الطبقي بين الناس “اللي تحت” والناس “اللي فوق” على طريقة “نعمان عاشور” مسرحيا و”صالح أبو سيف” سينمائيا ومن هم أقل منهما موهبة وحرفة ممن ساروا على درب ثورة يوليو في االنحياز فنيا وأدبيا للفقراء وإدانة األثرياء، ومتخذا موقفا إيديولوجيا حادا تجاه الطبقة األرستقراطية ،فهي طبقة انتهازية وجاهلة، عوقة الوجود ،بينما الطبقة الشعبية البسيطة هي المتسلحة بالعلم والوعي جميلة المظهر ُم َّ بحقيقة الواقع ،والمتعلق منها بأهداب الطبقات العليا خاسر ال محالة ،وربما ألن إخراجها غرق في تقليدية عرضها ،جنبا إلى جنب صوتها الدعائي العالي ،والذي مثله شقيق البطل العامل الواقف بشدة ضد تعلق أسرته البوالقية بحي الزمالك ،الذي أدانه من قبله لتهتكه المخرج “صالح ابوسيف” في فيلمه (األسطى حسن) ،1951وأدانه فيما بعد “أحمد فؤاد نجم” في قصيدته (يعيش أهل بلدي) والقائل فيها “يعيش التنابلة في حي الزمالك /وحى الزمالك مسالك مسالك /تحاول تفكر تهوب هنالك /تودر حياتك بالش المهالك” ،غير أن أهم ما طرحه “دياب” في مسرحيته هذه هو رفضه القاطع لتوجه في المجتمع إلنشاء مدنا للمهندسين واألطباء والمعلمين والعمال ،حيث رأى أن هذا التوجه يزيد الفجوة بين طبقات المجتمع ،ويحصر العمال في مدن معزولة عن بقية شرائح المجتمع ،ولذلك راح يقسو بقوة على شخصياته المتطلعة للصعود االجتماعي متخلية عن طبقتها ،ملمحا إلى ما سيصبح أبرز مالمح مسرحه وهو ضرورة الحفاظ على القيم الراسخة في عمق الشخصية المصرية والمحافظة على وجودها المستمر في التاريخ. في نفس العام وفى نفس أجواء المدينة ،كتب “دياب” مسرحيته القصيرة (البيانو) ومتوسطة الطول (الضيوف) ،1965وأن تأخر تقديمهما حتى عام ،1968
حينما أخرجهما “أحمد عبد الحليم” في سهرة واحدة ،وفى العام التالي أقتحم “دياب” عالم القرية بنص طويل أثار زوبعة في الوسط الفني ،وحمل عنوان (الزوبعة) ،وحاز به على جائزة منظمة اليونسكو ألحسن كاتب مسرحي عربي ،وترجم ألكثر من لغة أجنبية ،تنفتح فيه القرية على أفق الوطن ،بعد أن تحولت لقرية ظالمة ألحد أبنائها، ظلمه أعيانها األثرياء وأدخلوه السجن زورا ،واستولوا على أرضه ،وفتتوا عائلته التي تشكل بنية المجتمع األساسية ،وبدا العرض الذي أخرجه “عبد الرحيم الزرقاني” لفرقة المسرح الحديث وكأنه يساير هجمة النظام وقتذاك على بقايا اإلقطاع الذي عاود الظهور والهيمنة في القرية المصرية ،وشكلت لتصفيته تصفية كاملة لجنة باسم (اللجنة العليا لتصفية اإلقطاع) برئاسة “عبد الحكيم عامر”في مايو ،1966غير أن الدراما تتجاوز بمهارة ووعى كاتبها الوقائع اليومية ،ليدين “دياب” الشرائح السلبية والجبانة في المجتمع ،والتي تسمح بظلم األعيان (رموز اإلقطاع) لفالحين القرية .ورغم عدم تقديم هذا النص مرة أخرى في مسارح العاصمة ،حضر بقوة في المسرح اإلقليمي والعربي معا ،حيث أخرجه المخرج المصري ذو الجذور السودانية “عوض محمد عوض» فى المسرح الجامعي بأم درمان ،بعد أن قام بسودنتها الفنان “يوسف خليل” ،وتردد صداها في العديد من مسارح الدول العربية. في نفس العام كتب “دياب” نصه القصير (الغريب) وأخرجه د” نبيل منيب” في موسم ،1967/66وقدم في سهرة واحدة مع نصي (الدنس) للمخرج “عادل هاشم” و(ورق ورق) للمخرج “عبد الغفار عودة” ،في تجربة طليعية لتقديم الوجوه الشابة تأليفا وإخراجا تحت مسمي (طليعة المسرح القومي) ،كما طاف بمسارح الدول العربية، فأخرجها “عزيز عيد الصاحب” بعد تعريقها ،أي تحويلها لألجواء العراقية وباللهجة الدارجة عام ،1967كما أخرجها المخرج السوري “أسعد فضة” للمسرح القومي السوري .1970 محمود دياب
13 12
في سياق بحثه عن سمات الشخصية المصرية وفنون الفرجة عندها ،التقت أفكاره بأفكار “يوسف إدريس” التي أعلنها نهاية عام 1963بمقاالته الداعية إلى (البحث عن مسرح مصري /عربي) ،وبمسرحيته الفريدة(الفرافير) ،1964وكذلك دعوة “توفيق الحكيم” المنادى بالكشف عن (قالبنا المسرحي) المصري ،المتضمن الحكاواتي والمقلداتي والمداح ،وكذلك دعوات الناقد د .على الراعي للعودة لجذور فنون الفرجة الشعبية ،مما حفز “دياب” لكتابة أصفى وأقرب النصوص الدرامية المحققة لهذه الدعوات ،فكتب (ليالي الحصاد) التي أخرجها له د« .أحمد عبد الحليم” 1967لفرقة المسرح الحديث، بعث فيها كاتبها أالعيب التقليد الساخر من الصبية للكبار في حفالت السمر الريفية المصرية ،مع استفادة من تقنية التمثيل داخل التمثيل الغربية ،ملمسا في نصه على الفوارق االجتماعية بين البسطاء واألعيان ،ومستعيدا موقفة من المنسلخ عن جذوره، سواء بالهجرة من الحي الشعبي للحى الراقي (البيت القديم) أو من القرية إلى المدينة، كما هو الحال هنا مع بطل المسرحية “على الكتف“ ،وعلى يديه يتحول حفل السمر الريفي إلى مرثية تكشف عن حجم مأساة الفوارق االجتماعية داخل القرية ،وهو ما سيعاود طرحه بقوة في نصه (الهالفيت) الذي أخرجه عام 1970د“ .أحمد عبد الهادي” لفرقة كفر الشيخ المسرحية عام ،1969وعرض لمدة ليلة واحدة في ساحة جرن كبير ،ولم يقدم بالعاصمة ،رغم تعدد تقديمه في المسرح اإلقليمي ،وقيمته الفكرية والجمالية التي قدمت مساحة جيدة للهالفيت للحضور واالنتقال من السخرية اللفظية من شياطين القرية ومفسديها إلى التمرد وبزوغ شمس الثورة على من أذلوهم تاريخيا وواقعيا ،لقد صار هؤالء الهالفيت هم أبطال المسرحية ،والمتمنين السيطرة على (قعدة) السمر ،بأمل أكبر في السيطرة على نظام المجتمع.
ينهى عام 1970عقد الستينيات بتوقف حرب االستنزاف ،وموت الزعيم،وانهيار الحلم القومي الناصري ،وإعالن “الحكيم” (عودة الوعي) لشرائح النخبة الذين عليهم نبذ العدل االجتماعي لصالح الديمقراطية وفقا لرؤية الغرب الليبرالية لها ،فانتبه “دياب” لقضية العالقة بين الزعيم الحاكم والمثقف الواعي ،فكتب مسرحيته المعروفة (باب الفتوح) التي قام “سعد أردش” بإخراجها عام ،71وأوقفت الرقابة على المصنفات الفنية عرضها في البروفة النهائية (الجنرال) ،وتأجل تقديمها حتى عام ،76مما أحبط “دياب” ودفعه لكتابة ثالثة نصوص قصيرة تبدو عبثية الصياغة ،دون أن تبارح واقعها المجتمعي ،وهى (الرجال لهم رؤؤس) و(أاضبطوا الساعات) و(أالغرباء ال يشربون القهوة) ،حملت معا عنوانا عاما هو (رجل طيب في ثالث حكايات) بنبرة ساخرة تكشف عن أن هذا الرجل الطيب سيبقى وحيدا ومقهو ار وغريبا في وطنه بسبب غفلته المتشحة برداء الطيبة .وعقب معركة أكتوبر التحريرية عام 1973وما صاحبها من متغيرات لم يكتب “دياب” للمسرح سوى نص قصير بعنوان (أهل الكهف) 74حذر فيه من عودة رموز اإلقطاع القديم والتمهيد للثورة المضادة ،ولم يتح له بالطبع العرض الجماهيري، وثالثة نصوص طويلة هي(رسول من قرية تميرة لالستفهام عن مسألة الحرب والسالم) بتأثير مؤلم من مباحثات الكيلو 101بين مصر وإسرائيل ،والتي انتهت بانسحاب ضخم للقوات المصرية من الضفة الشرقية للقناة بعد عبورها الكاسح لها باسم السالم مع إسرائيل ،ولم يعرض هذا النص إال بعد رحيل “دياب” بعام في قصر ثقافة شب ار الخيمة من إخراج “أحمد إسماعيل” ،و(قصر الشهبندر) الذي أخرجه “كرم مطاوع” على مسرح البالون بعنوان (دنيا البيانوال) ،75ثم نصه األخير (أرض ال تنبت الزهور) ،1979منفلتا بموضوعه من اللحظة الراهنة لحضن التاريخ واألساطير المصاغة حول شخصياته ،بعد أن أحبط في الواقع المصري والعربي معا ،وتسلل التشاؤم لرؤيته للعالم، فأعلن استحالة السالم بين األعداء واألشقاء معا ،بعد أن روت دماء المعارك األرض المحبة للسالم. محمود دياب
15 14
شارك الواقع المحبط في السبعينيات ،ومواقف الرقابة المتعنتة من مسرحياته ،إلى خوض مغامرات إبداعية في عالم السينما ،خاصة بعد أختار المخرج الفلسطيني األصل “غالب شعث” روايته (الظالل على الجانب اآلخر) ليكتب لها السيناريو والحوار ويخرجها في فيلم بذات االسم ،تحمست له (جماعة السينما الجديدة) المتمردة على الواقع السيمائي الراكد ،وقدمت باكورة أعمالها من قبل فيلم (أغنية على الممر) 72 للمخرج “على عبد الخالق” ،عن مسرحية للكاتب «على سالم» ،ثم سعت الجماعة بكل جهد لتقديم فيلمها (الظالل) 75ليكون الثاني واألخير لها ،في الوقت الذي لجأ فيه “حسام الدين مصطفى” لكاتبنا كي يعد له صياغة سينمائية لروايات “ديستوفسكى” التي يعرفها جيدا ،فصاغ له قصة سينمائية وسيناريو عن رواية (األخوة كرامازوف) ،بعد أن نقل أحداثها من موسكو إلى الفيوم ،غير أن المخرج أدخل على كاتبنا السيناريست “رفيق الصبان” والمخرجة التسجيلية “نبيهة لطفى” فضال عن تدخله الشخصي ،مما أغضب “دياب” في أول مغامرة له مع عالم السينما ،والتي ال يستقل فيها السيناريو عن الفيلم مثلما هو الحال في استقالل النص الدرامي عن العرض المسرحي ،فتنازل “دياب” عن كتابة أسمه على تترات الفيلم الذي عرض باسم (األخوة األعداء) ،74 وحقق نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا. دفع هذا النجاح “حسام مصطفي” للجوء مرة أخرى إلى “دياب” إلعداد روايات أخرى للكاتب الروسي ،فاشترط عليه أن يتحمل وحده كتابة القصة السينمائية والسيناريو والحوار ،فوافق المخرج ،وبالفعل أنجز له فيلمه (سونيا والمجنون) الذي عرض في يناير 77عن رواية (الجريمة والعقاب) ،والتي اكتفى المخرج بذكر اسم “دياب” على التترات دون اسم الكاتب وال اسم روايته ،مما دفع بكاتبنا لإلصرار على ذكر اسم الكاتب وروايته في فيلمه الثالث واألخير معه ،وهو (الشياطين) عن رواية بذات االسم للكاتب
الروسي ،وعرض في شهر أكتوبر من نفس العام ،1977وعالج من خالله موضوع الجمعيات الوطنية التي تبرر االغتيال الفردي وسيلة للتحرر الوطني ،ويدين الفيلم بشدة هذا االغتيال ،الذي برره فيلم (في بيتنا رجل) لبركات ،1961فكاتبنا يؤمن بالكفاح الوطني ،وبعدالة قضية البسطاء في المجتمع ،لكنه ال يبرر أبدا االغتياالت الفردية ،التي قد تقضى على أبرياء دون أن تحقق أهدافها الحقيقية ،فحركة الجماعة عنده هي األصل في الكفاح على كافة األصعدة. بقى من مغامرات “دياب” السينمائية فيلمان ،أولهما كتب له القصة والحوار، كما تشير تترات الفيلم ،وأخرجه د“ .سمير سيف” وعرض عام 1977باسم (إبليس في المدينة) ،وذكر المؤرخ والناقد الكبير “محمود قاسم” في موسوعته السينمائية أنه معد عن رواية (األب الخالد) للكاتب الفرنسي”أنوريه دى بلزاك” والمعروفة باسمها الفرنسي (األب جوريو) ،وهى معلومة صحيحة ،والقارئ للرواية سيكتشف بسهولة أنها مصدر القصة المصرية ،والتي ال نعرف لماذا لم يصر “دياب” على أن يذكر المخرج في تترات فيلمه اسم الكاتب األصلي. أما الفيلم الثاني ،والذي أنتجته سوريا في نفس عام رحيل كاتبنا ،وكتب السيناريو له وأخرجه “محمد شاهين” ،عن مسرحية (البيت القديم) ،داخال به لمجموعة من األفالم التليفزيونية المصرية التي أعدها الكاتب نفسه عن أعماله أو عن أعمال غيره القصصية والمسرحية ،لألسف من الصعب العثور عليها اليوم.
محمود دياب
17 16
البنية الداللية -1مــجــتــمــع الـــنـــص:
المكان الزمان العالمات
يتركب الزمن المسرحي في «باب الفتوح» من مستويين: األول :وهو المستوى العصري المعاش ،زمن اللحظة الحاضرة والفعل اآلني، وهو زمن واقعي ،إيهامي. الثاني :وهو المستوى التاريخي ،ويتحدد بالساعة التالية لنهاية المعركة بين صالح الدين والفرنج في موقعة «حطين» ،ويفيد ذلك التحديد في اإلحالة المباشرة إلى انتكاسات الواقع وتناقضاته في عمق اللحظة المنتصرة بين شكل خارجي :انتصار عسكري ،يبدو تباعاً ،ومن خالل السياق المسرحي ،كإطار تزييني ال أكثر ،وبين سيطرة طبقية وقهرية فعلية ساعية للمغانم والمكاسب وترسيخ الهيمنة واالمتيازات «التجار – الجند». وهذا المستوي من التكوين الزمني في النص تخيلي ،غير إيهامي، تغريبي ،ويتحقق من خالل فعلي التخيل واالستحضار ،ويقوم على استدعاء ّ إرادي وموجه لواقع تاريخي معين ،وافتراض وجود شخصية تصوغها الجماعة على شاكلتها ( أسامة ) حاملة لنظرية فكرية هي في النهاية أفكار الجماعة ذاتها0 ويتحقق – باندماج الكتلة المعاصرة مع هذا المستوى – زمن النص المستحضر كامال ،وينقطع بموت أسامة مفضيا إلى الزمن الواقعي الحالي ،لتتم استدارة الزمن – الذي يبدو كأقواس مفتوحة ومتداخلة – بخروج الجماعة من الزمن المتخيل وارتدادها إلى زمن الفعل – اللحظة المعاشة. محمود دياب
19 18
وبذلك يتحدد الزمن ويتنوع بطريقتين : تحويل التباين في األحداث والتناقض في الواقع والتاريخ عبر تقنية -1 االسترجاع واالستحضار إلى تأكيد اللعبة المسرحية والتعدد والمنظور الذاتى، ويمكن ذلك المتلقي من إيجاد مسافة بينه وبين الحدث ،وتلك المسافة – التوقف، تسمح بالفصل بين زمن الحدث والعرض ،وكذلك بالمواجهة بين مرحلتين زمنيتين. إعادة النظر في استمرارية الزمن التاريخي وسير الحدث في اتجاه -2 واحد ،حيث أصبح الزمن متعدداً ،مبنياً على ثنائيات :الرسمي/الهامشي، المدون/العرضي ،المكرس/االستثنائي ،وال يهدف هذا التفتيت والهدم إلى إثارة األحكام التاريخية واالجتماعية ،وإنما ينتهي إلى رؤية مغايرة لزمننا نحن ،الذي يتحول إلى انعكاس للزمن التاريخى ومكون له فى الوقت ذاته ،وذلك عبر لعبة التداخالت بينهما،ونتيجة للتحوالت التي طرأت على استقامة خط الزمن ووحدة سير األحداث. إن الزمن في «باب الفتوح» هو نسيج النص ومادته األساسية ،والزمن في عالقته بالتاريخ هو القضية الجوهرية التي تطرح فيه ،كذلك يطرح النص قضية المسرح الذي يعتمد على الحدث التاريخي ،مستخدماً في معالجته تلك أدوات مسرحية بحتة أهمها الكلمة ،فالنص يتضمن شبكة من العالمات اللغوية الدالة على الزمن وتحوالته ،ومن ثم تأتي أهميته -باعتباره عامالً بنائياً -كأحد
الوحدات الكبرى في النص التي تتميز بقدرتها على كشف شبكات العالقات بشكل مرئي ومحسوس. *** يرتبط المكان المسرحي في النص بالمستويين الزمنيين :الواقعي والتاريخي ،ويشكل كدال حسي مجموعة من العالمات البصرية المتحولة والمتداخلة مع حركة المجموعات والشخصيات والعالقات المسرحية. ويتكون المكان – في زمن النص الواقعي – من مقدمة المسرح كاملة ومساحة عارية «تجريد أول للمكان» تتناثر فيه الجماعة المعاصرة ،ويتميز الشاب الخامس ،بصرياً ،بجلوسه على كومة من الكتب القديمة مما يعطيه أبعاداً خاصة «المثقف – عقل الجماعة – األكثر قدرة على اإلدراك والتبصر ومعرفة التاريخ» ،ومع استحضار اللحظة التاريخية وشخصية الثائر األندلسي المتخيلة «أولى وظائف الجماعة» فإن المكان ينقسم إلى كتلتين : دائرة على يمين المسرح ،بها المجموعة المعاصرة. -1 عمق المسرح ،ويتكون من تل داكن يبلغ أعلي مستوى له في أقصى -2 يمين المسرح ،وينحدر التل على الجانبين وخلفه تلوح قمة جبل حطين وجزء من خيمة صالح الدين ،وتحمل حركة الحراس ومسيرة األسرى إلينا إحساساً بوجوده كقائد منتصر. محمود دياب
21 20
ويؤدي هذا الفصل المكاني ،وتحديداً مع بدء اللعبة «المسرحية داخل المسرحية» إلى قسمة الجمهور في جزئين :الجمهور الفعلي المشاهد ،والجمهور – الجماعة المعاصرة ،داخل اللعبة ذاتها ،الذي يرى ويراقب ويتداخل ويعكس – كخلفية صوتية الحركات البصرية مثل مشهد قراءة العماد لفقرات من كتاب باب الفتوح ،ويؤدي إلى جانب ذلك وظائف المشاهدة والقطع والتعليق. ويتركب بعد ذلك المكان التاريخي المستدعى بفعل التخيل في عمق المسرح من لوحة عارمة لجند منتصرين :حركة هوجاء مضببة ،وبين وقت وآخر تظهر مجموعة من األسرى وقد قيدوا بحبال يجرهم جندي عربي ،ويمضون متهالكين منكسي الرؤوس ،وكل مجموعة تمر تختفي في يمين المسرح ،لتظهر ثانية فوق التل مارة بخيمة صالح الدين وتعبر التل لتختفي مرة أخرى في اليسار. ويتوالى – تباعاً – استحضار شخصيات التاريخ الرسمي :صالح الدين كفكرة وحدث تاريخي وليس كشخصية ،العماد – المؤرخ الرسمي ،وكاتبه «زياد» الذي يشبه الشاب الخامس من المجموعة المعاصرة ،حيث زياد كاتب التاريخ ومدونه الرافض لمنطق تدوينه وصياغاته اللغوية ،والشاب الخامس – المثيل العصري ،المغرم بالتاريخ العائد إليه كخالص محتمل ،ويتقاطع مستويان من التاريخ داخل الكتلة الزمنية – المكانية المستحضرة:مستوي التاريخ المفترض (المهمش والعرضي) – ومستوى التاريخ الرسمي المدون، ويكشف المستويان معاً ،وعبر تداخل أسامة والمجموعة المعاصرة معهما ،عن واقع مأساوي حيث يوجد االنهيار في عمق اللحظة المنتصرة ،ويتمثل تداخل
الجماعة المعاصرة وتقاطعها المستمران مع فعل الزمن التاريخي من خالل حركة نمطية تبدأ من يمين المسرح كمساحة فارغة إلى العمق حيث المكان التاريخي المتخيل. ومن العالمات المكانية الفارقة في النص والمشكلة ألحد أسئلته الرئيسية «لمن النصر؟» :األبواب الموصدة واألسوار المانعة لدخول السكان العرب إلى المدن المحررة .فأمام باب عكا يتزاحم جمهور كبير من األهالي يريدون الدخول محدثين جلبة بينما توجد طاقة كبيرة في أعلى البوابة تطل منها وجوه الجند ساخطة ،لتتكون داللة التضاد بين ضجيج النصر خلف األسوار ،ومنع السكان من دخول المدينة ،وفي هذا المشهد يتكثف وجود شخصية أسامة كفاعلية مبصرة وليس فقط كحامل أفكار نظرية مجردة ،حالمة وساعية لمن يمنحها طاقة الفعل وقدرته ،حيث يحمل أسامة – كمخِّلص – صوت الجماعة الراغبة في دخول المدينة إلى الجند ،وحين يطارده إثر ذلك الجنود األشبيليون وحراس «سيف الدين» فإن الجماعة تشكل دائرة جسدية تلتف حوله محتويه له وحامية. ويتحول المكان تحوله النهائي في النص إلى ركن في ساحة بمدينة القدس بعد استعادتها ،فيتكون بيت له شرفة واسعة ،وعلى يمين الباب ثمة نافذة منخفضة وسلم يتكون من عدة درجات حجرية ،ويكثف البيت هنا كوحدة ذات وجهين هما الدال الحسي والمفهوم العقلي أو المدلول ،يكثف العالقات النصية محمود دياب
23 22
تاريخيا – هو بيت أبي الفضل – آخر ويعطيها صياغاتها األخيرة ،فالبيت – ً األحياء من سكان القدس الناجين من المذبحة – وهو اآلن – واقعياً -بيت سارة اليهودية التي تديره كخمارة ومبغى. وبين رمزية البيت التاريخية وإيحاءاته الواقعية ،يتكون واحد من الصراعات األساسية في النص ،وحين يحسم الصراع بتواطؤ الجند والتجار ،ويذهب البيت إلى اليهودية ،وينزوي أبو الفضل وجماعته في ساحة جرداء ،فإن النص بذلك يكون قد أعطى إجابته الخاصة عن سؤاله المأساوي :لمن النصر؟ وأوحى برؤيته للحدث التاريخي (االنتصار العسكري واستعادة القدس) وللواقع المتصل في صيرورته التاريخية (اآلن ،وهنا). وينقسم المكان في آخر عالماته البصرية إلى مكان غائب غير مرئي – السجن -الذي ُيقاد إليه تباعاً أفراد الجماعة المعاصرة إثر محاوالتهم المخفقة لتوصيل الكتاب إلى صالح الدين ،ومكان حاضر وملموس – الساحة الخالية، حيث تجمعت جماعات الفقراء العائدين وأفراد عائلة أبي الفضل ،ويتصل المكان الغائب والمكان الحاضر ليشكال داللة النفي والقهر والطبقية كإحدى الدالالت المهيمنة في النص. ***
وفي «الغرباء ال يشربون القهوة» :يشتمل النص على وحدة مكانية ثابتة :بيت قديم متهالك مكون من طابق واحد تساقط الطالء عن واجهته ،أقرب إلى أن يكون شيئاً أثرياً. ويحتمل البيت داللة مزدوجة ،واقعية كبيت عادي لمواطن ما ،ورمزية بما تشير إليه من دالالت مكونة في النهاية فكرة الوطن ذاتها. ويستخدم دياب في تكوينه للصورة المكانية األجزاء التقليدية لبيت في شارع هادئ بأحد األحياء السكنية القديمة (الواجهة ،الباب ،النافذة ،شجرة معمرة) ولكنه يعطيها صفات تخرج بها عن مجالها الطبيعي كمفردات صورة واقعية ،ويجعلها – كدال مسرحي – تشير إلى مرجع يوجد خارج خشبة المسرح ،وتصبح بالتالي منطقة وسيطة تنعكس عليها العالمات ،فباب البيت الرئيسي موارب والنوافذ مغلقة فيما عدا نافذة على يمين الباب فتحت فتحة صغيرة بحيث ال ينعكس ما وراءها ،وهناك شجرة معمرة على يمين المدخل ال تظهر أوراق لها ،وتدل مواربة الباب وإغالق النوافذ على تقاليد اجتماعية محافظة وميل إلى االكتفاء بالعالم الخاص ،كما أن الشجرة المعمرة التي بال أوراق تشير إلى فكرة القدم واالمتداد الزمني. وإلي جانب تصور المكان في النص باعتباره حامالً لمعني ولحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة ،فإن ثمة ظاهرة أخرى لها أهمية كبيرة بالنسبة إلى محمود دياب
25 24
تشكيل العالم المكاني ،وهي إضفاء البعد المكاني على الحقائق المجردة ،فالرجل يعيش في بيت أقرب إلى القوقعة مما يعطي العالقة أبعاداً تنعكس على تصور ويخضع الكاتب العالقات والحدث إلحداثيات المكان ،ويلجأ إلى الرجل للمكانُ . اللغة إلضفاء صفات مكانية على المنظومات اللغوية. وتكتسب حركة الشخصيات في المكان أهمية خاصة في تحليل النص ورؤية وقائعه ،فانغالق الرجل في مكان واحد دون التمكن من الحركة تعبير عن عدم القدرة على الفعل أو التفاعل مع العالم الخارجي ،كما أن هناك وحدة ثابتة في العالقة الحركية بين الرجل والغرباء تتمثل في :متابعة بصرية ،حركة متسللة من الخلف ،كما أن حركة الغرباء بدورها تتخذ طابعاً نمطياً :قياس المسافات واألبعاد ،عدم االلتفات إلى الرجل مع تركيز بصري على جلبابه وتوجيه االهتمام إلى البيت ،وتدوين بعض المعلومات واألرقام. المكان المسرحى ،بهذا المعنى ،ال يتمثل في وحدات متكاملة ومتماسكة ومستقلة عن الشخصيات ،وهكذا – فبينما يتشكل المكان المسرحي في «الزوبعة» مستندا إلى مبدأ االستقصاء ،أي تناول أكبر عدد ممكن من التفاصيل ،فتطول مقاطع الوصف تحليالً لألشياء الموصوفة إلى أجزائها المكونة وإدراجها في نظام داللي واقعي ،فإن المكان في «الغرباء ال يشربون القهوة» يقوم على االنتقاء والتلخيص ،ويتكون من مجموعة من الخطوط الدالة الموحية والمشاهد الكثيفة المشحونة.
ويتوزع الزمن المسرحي على أربعة مستويات : مستوي «اآلن» المصطنع ،وهو زمن حاضر دائماً مع دوام حركة -1 الحوار ،وتعيشه الشخصيات مع مجريات األحداث ،جلسة الرجل الهادئة أمام بيته ،قياس المسافات واألبعاد ،تمزيق عقد الملكية وأوراق الرجل الشخصية وخطاباته وتذكاراته». الزمن الدينامي الذي يحيل الحاضر إلى الماضي ،ذلك أن اللحظة التي -2 يشار إليها بوصفها حاضراً ال يتكرر سرعان ما تتحول إلى ماض يستقبل حاضراً آخر ،ومن خالل هذا االنتقال المستمر بين الزمنين ،وعلي نحو متقاطع ومفاجئ ،يبرز التغير المتوقع وغير المتوقع لألحداث ،وهذا الزمن الثاني يمثل بناء العالمات الدرامية في إطار زمن األداء الحقيقي. يتحول هذا الزمن الدينامي إلى نظام متتابع لألحداث بحثاً عن تسلسل -3 منطقي من وراء األحداث المتقاطعة والمفاجئة ،وهذا الزمن يرتبط بالحكاية. وهو الزمن التاريخي الواقعي ،الذي يمثل الخلفية الواقعية التي تقف -4 ()1 فيما وراء العرض المسرحي. وال يورد «محمود دياب» أسماء لشخصياته ،خالفاً لعاداته في إيراد األسماء بأوصافها المختلفة ،ويشير ذلك إلى الرغبة في التجريد وإعطاء األشخاص والسياق بعداً رمزياً خاضعاً للتأويل المتعدد. محمود دياب
27 26
ورغم هذا التجريد األولي ،فإن النص يورد مجموعة من العالمات العادية واللغوية الخاصة بالهيئة والمظهر والبيئة،وهو ما يضفي على التكوين إيحاء بواقعية ما. المسرحي ملمحاً تفصيلياً ً فالرجل في الستين (تحديد زمني) – طيب (تحديد أخالقي/اجتماعي)، وترتبط بالرجل ،صورياً ،مجموعة من العالمات المادية ،كرسي خيزران، خف منزلي ،صحيفة يومية ،منضدة صغيرة ،نافذة مفتوحة. ومن بين هذه العالمات فإن الصحيفة تصبح من أكثرها قابلية على التحول ،فالنص يبدأ والرجل ممسك بالصحيفة يقرأ فيها طالعه (غيبية ،إحساس بالفراغ) ،وحين يحاصره الغرباء فإنه يخفي وجهه في الصحيفة داللة على بدء االستسالم النفسي والمعنوي ،فالصحيفة – كوظيفة – تبدأ بالطالع وتنتهي كوسيلة إخفاء. ويتحدد الغرباء ،زمنياً ،بسن األربعين ،ويتميز كبيرهم زمنياً فقط «تجاوز األربعين» فيما عدا ذلك فال شيء يميزه في المظهر والسلوك. ويحدد النص الغريب مظهرياً من خالل رصد توصيفي ،فهو أنيق الملبس ،دقيق ،يتحرك بآلية ،خطواته منتظمة ،وغير ذلك.
وال تتجسد األنساق المكانية في النص من خالل تواجدها العياني المباشر ،ولكن من خالل اللغة ،التي تحول عالم المعطيات المحسوسة إلى نظام ،يسميه «يوري لوتمان» نظام النمذجة األولي ،فاللغة هنا ليست قائمة من ()2 التسميات واألقوال ولكنها مجموعة من العالقات الخاضعة لقواعد وقوانين». وتتوزع العالمات المادية في النص ،عبر ارتباطها بمكونات البيت ومحتوياته ،والذاكرة الشخصية بمستوييها :المكتوب ،والمنقوش ،في المستوى األول ،تتجسد عبر اللغة ال عبر التجسد المادي ،األوراق الشخصية « وثائق الزواج والميالد والوراثة – وقصائد الصبا والصور الخاصة» ،وفي المستوى الثاني ،هناك عالمات بصرية منقوشة على الشجرة ومحفورة على جدران البيت (قلبان وسهم ،أثار الدم على الجدران ،وغير ذلك). وتنتهي المسرحية بمونولوج فردي طويل يحمل طابع الهذيان والنبوءة والحزن ،خليط يشكل مرثية طويلة تضفي الطابع الرمزي على الموقف كله، الرجل والبيت والغرباء واإلبن الغائب والزوجة المحجوبة والشجرة المعمرة واألوراق الممزقة. وحين يلوح الجار مترنحاً في غيبة السكر في تغييب إرادي للفعل والوجود ،يبقي الرجل في هذيانه المحموم منتظراً لالبن الغائب وبندقيته ،بينما تعبث الريح بقصاصات األوراق المتناثرة. *** محمود دياب
29 28
يورد النص « الزوبعة» زمنه المسرحي تبعاً ألبعاده الواقعية ،ابتداء من اإلطار العام (زمن النص ثالثة أيام) وحتى التنوعات الداخلة ضمن تركيب الحدث والسياق ،فيبدأ النص في وقت الغروب في إحدى ليالي الربيع وضوء القمر الفضي يغمر القرية مما شكل مفارقة بين الصورة والحدث «صورة شعرية ومأساة اجتماعية تالية» ،ويتوزع بعد ذلك تباعاً بين ساعة الشروق في صباح اليوم التالي لتتم استدارته في اليوم الثالث عائداً في وقت الغروب. وبصورة مجملة ،ليس للزمن المسرحي وجود نستطيع أن نستخرجه من النص مثل الشخصية أو األشياء التي تشغل المكان أو مظاهر الطبيعية، فالزمن يتخلل النص كله وال نستطيع أن ندرسه دراسة تجزيئية ،ومن هنا تأتي أهميته عنصراً بنائياً حيث إنه يؤثر في العناصر األخرى وينعكس عليها، ()3 فالزمن حقيقة مجردة ال تظهر إال من خالل مفعولها على العناصر األخرى». ويبدأ الزمن المسرحي في «الزوبعة» من القطع على لحظة من حياة الشخصيات في نقطة معينة ،فهو منسوج كوقائع في ذاكرة الشخصية ومخزون فيما تستدعيه اللحظة الحاضرة على غير نظام أو ترتيب ،ولذلك ال تكتمل األحداث في تسلسلها الزمني سوى في نهاية النص ،ويعاد ترتيبها في مخيلة القارئ ،فال تحدث األحداث الماضية مركزة في كتلة نصية متكاملة لها خصائصها الفنية ولكن نراها انتشرت وانتثرت في النص كله وأصبحت مهمة جمعها متكاملة هي مهمة القارئ ال الكتاب ،وتباعاً – فإن التزامن في األحداث
يترجم إلى تتابع داخل النص ،ويتطلب ظهور أي شخصية جديدة عودة إلى الوراء لكشف بعض العناصر الهامة وربما االحتفاظ ببعض الوقائع لكشفها في زمن الحق ،ولذلك كان التسلسل النصي من تقديم وتأخير وحذف وغير ذلك من األبنية الهامة في الزوبعة. لقد درج النص ببنيته الواقعية على إتباع خط مستقيم في التسلسل الزمني الرئيسي نستطيع أن نسميه مستوي القص األول ،وهو الذي يحدد المستويات األخرى ،ويحرص الكاتب على وضع معالم نصية تساعد على تتبعه مثل استخدام ظروف الزمان أو اإلشارات إلى تواريخ محددة ،وفي بعض األحيان ،التدخل المباشر عبر إحدى الشخصيات ليتبين القارئ أن هذه األحداث سابقة أو الحقة ،ويترك النص مستوي القص األول (التتابع النمطي لإلحداث) ليعود إلى بعض األحداث الماضية ويرويها فى لحظة الحقة لحدوثها ،ويتميز الماضي بمستويات مختلفة متفاوتة مثل ماض بعيد أو قريب ،ومن ثم نشأت أنواع مختلفة من االسترجاع. أ -استرجاع خارجي :يعود إلى ما قبل العمل ،وقد لجأ إليه الكاتب لملء فراغات زمنية تساعد على فهم األحداث ،ويتركز عند ظهور شخصية جديدة للتعرف على ماضيها وطبيعة عالقاتها بالشخصية األخرى ،وكلما ضاق الزمن المسرحي شغل االسترجاع الخارجي حيزاً أكبر ،وباالبتعاد الزمني عن األحداث الواقعة داخل إطار الماضي تختلف الدالالت والتاويالت ،حيث إن الحاضر محمود دياب
31 30
يضفي عليها ألواناً جديدة وأبعاداً متغيرة ،وتكون المقارنة والمقابلة بين الماضي الخارجي والحاضر المسرحي إشارة إلى مسار الزمن ومدخال لتكوين معالم التغير ومواضع التحول. ب -استرجاع داخلي :ويعود إلى ماض الحق لبدايات النص قد تأخر تقديمه في النص ،ويتطلبه ترتيب الوحدات المسرحية ،ويعالج الكاتب به األحداث المتزامنة ،وهو قليل نوعاً حيث إن الكاتب يلتزم التسلسل الزمني ويضع الحوادث الواحدة تلو األخرى في مستوى خطي لتجنب هذا النوع من االسترجاع الذي قد ينتج عنه بعض اللبس ،ويلجأ الكاتب إلى التداعي لعرض االسترجاع فيقدم حدثاً في الحاضر يطلق به مجري الذكريات بحيث يأتي االسترجاع طبيعياً ملتحماً بالنص مبنياً حول شعور خاص أو ذكرى ذاتية األمر الذي يضفي على النص طابعاً تعبيريا ،ويلجأ كذلك إلى الذاكرة ،وهي من التقنيات المستحدثة تأسيساً على مفهوم آخر هو مفهوم المنظور «وليس الراوي العالم بكل شيء»، فاالعتماد على الذاكرة يضع االسترجاع في نطاق منظور الشخصية ،ويتم بذلك خلطه في بعض المواضع بأحالم اليقظة واستخدام المونولوج الداخلي أو ()4 األسلوب غير المباشر الحر القائم على تداعى الذاكرة. ***
ويغلب على المكان الطابع الواقعي لقرية مصرية ،وهو يحمل الشكل السكني المعروف في الريف وكذلك على بعض التقاليد المتضمنة في رسومات الحج وعبارات الترحيب المألوفة في تلك المناسبات ،ويستهدف النص اإليحاء بجو العالقات الطبيعية ،ويحدد وسيطة المكاني «هنا» والزماني «اآلن» ويهتم النص بإدراج التفاصيل الخاصة وتكوين الصورة المكانية بأجزائها الصغيرة وألوانها المتعددة ،ويذهب في ذلك إلى لزوم ما ال يلزم فيحدد المحافظة «الشرقية» التي تدور فيها األحداث والمواقف. ويحدد النص مكانه الواقعي/المسرحي في كتلتين :مشهد أو قطاع داخل حدود القرية ونسيجها البيئى والمعمارى ومدخلها بحيث تبدو القرية خلفية ومحيطاً عاماً ،في الكتلة األولي نستطيع استعادة وصف الكاتب لنستدل على اعتنائه بالمناخ الطبيعي وبالتصوير الحرفي ،ولكى نكتشف أن الصراع قد تجسد بصرياً – ابتداء – في عمق التكوين ذاته ،فالوقائع المسرحية األولي تحدث أمام دارين متواجهتين «دار الشيخ يونس ودار الحاج شعالن» الدار األولي يجلس أمامها صالح في حالة انكفاء نفسي وجسدي ،أما الدار الثانية فذات واجهة مطلية حديثاً بطالء أبيض وتنطلق من داخلها وحولها ضحكات متقطعة ،مما يوحي منذ البداية بتعارضات تالية ،ويغلف ذلك كله اعتناء الفت بالتكوين الطبيعي للمشهد وبالتفاصيل التي تبدو ساذجة وغير الزمة ،ولكنها مع ذلك تعطي انطباعا بالمألوف واالعتيادي ،حيث تطالعنا المسرحية في مشهدها االفتتاحي بوصف سردي لقطاع ريفي :مدخل بيت الشيخ يونس يواجه محمود دياب
33 32
الجمهور وعلي يمين الباب نافذة خشبية منخفضة وأمام الباب وتحت النافذة مباشرة مصطبة صغيرة،ويفصل ما بين دار الشيخ يونس والحاج شعالن حارة ضيقة تنتهي بالزراعات الممتدة وتلوح على بعد بعض أشجار النخيل ،وعلي يمين المسرح بيت الحاج شعالن ،وهو يتأخر عدة خطوات عن بيت الشيخ يونس بحيث يترك مساحة واسعة أمامه ،واجهة البيت مطلية حديثاً وقد رسمت عليها رسوم ساذجة لباخرة وقافلة جمال ،وكتب عليها بخط ردئ عبارات الترحيب بعودة الحاج شعالن من الحجاز ،ويحد الجانب األيمن للمسرح سور وطئ يلتقي بجدار بيت الحاج شعالن ويحجب الزراعات الممتدة وراءه تاركاً امتدادا للحارة المارة أمام بيت الشيخ يونس ،أمام البيت في المقدمة مسافة تبدو ً وضعت دكة خشبية كبيرة ،وعلي اليمين مصطبة كبيرة فرش عليها حصير. وإذ تستعيد المسرحية هذا التكوين البصري في فصلها األخير ،فإنها تكون قد خرجت – في الفصل الثاني – بعالقاتها االجتماعية والمسرحية إلى مدخل القرية ليتكون مشهدها البصري من بيوت ريفية متواضعة يخترقها طريق ضيق كما يحوطها من الخلف طريق زراعي يسير محاذياً لترعة تلوح من خلفها الزراعات التي تتخللها أشجار النخيل ،وعلي اليسار سور زاوية قديمة تظللها شجرة توت عتيقة. ورغم أن المكان الواقعي في النص هو الماثل بصرياً والحاضر مادياً بكل تفاصيله وأبعاده ،إال أنه يظل مع ذلك مجرد صورة توحي بالبيئة والتكوين
دون أن يكتسب فاعلية مؤثرة ،في الوقت الذي يمارس فيه المكان الغائب «السجن» هيمنة مسرحية أساسية ،بما هو المكان الذي يحتوي على الشخصية المهيمنة «حسين أبي شامة» (الغائب كذلك) والتي يثير خبر عودتها قلقلة السياق وخلخلة النظام بمستوياته االجتماعية واألخالقية. *** بتلك التحديات السابقة للبنية الزمانية والمكانية في مسرح محمود دياب، يمكننا أن نرصد ثنائية المكان – المكان المضاد ،فرحلة أسامة تأخذ بعداً مكانياً يتمثل في الحركة من المغرب العربي حيث تساقط األنظمة العربية واستباحتها بشراً ومدائن إلى المشرق العربي الذى يمثل المشهد العكسي،وهو االنتصارات العسكرية ومشاهدها المتمثلة في استعادة المدن السليبة واستعراض األسري من الفرنجة ،وتشكل تلك المفارقة المكانية إحدى الدالالت الرئيسية في النص ،فالنظرية الثورية تأتي من الواقع الممزق المستلب ،بينما تسيطر األفكار الرجعية على الواقع المنتصر ،وتؤسس تحالفاته الحاكمة (سيف الدين – العماد – التجار) ،ويظل المكان الغائب :األندلس ،مشكالً قيمة بصرية مهيمنة على المكان الحاضر :عكا – القدس ،وذلك عبرالتضاد الخارجي بين أشكالهما الظاهرية ،والتماثل الكامن في الجذور والهياكل. واقعيا وينتقل البيت في – الغرباء ال يشربون القهوة – من كونه بناء ً ذا جدران ونوافذ وغرف ،إلى الهوية ذاتها ،فهو – كمكان دال – موضع محمود دياب
35 34
التصارع الخفي والمعلن بين الرجل والغرباء ،وحين يمزق الغرباء أوراق الذاكرة المكتوبة ،فإن البيت يحتفظ بذاكرته الخاصة ،الذاكرة البصرية :النقوش الشخصية وآثار السنوات واألحداث المنسية ،هنا يحسم البيت ال الرجل الصراع، فالهوية ليست بطاقة معلقة على السترة أو صورة داخل إطار وليست أوراقاً يمكن االستيالء عليها وتمزيقها ،وإنما هي – تماماً كما يمثلها البيت – رسوخ زمني وامتداد. ويمتلك بيت أبي الفضل في «باب الفتوح» القيمة ذاتها ولكن بداللة نقيضة ،لقد عادت المدينة السليبة (القدس) ولم يعد البيت ،فقد استولت عليه اليهودية وابنتها (الغرباء أيضاً) وظل أبو الفضل وجماعته خارج البيت وإن كانوا داخل المدينة ،كتلة مهمشة مطاردة في إحدى الخرائب أو الساحات ،هنا – على النقيض من نص الغرباء – لم تستطع الذاكرة البصرية المنقوشة أن تنهض دليالً على الهوية واالمتالك ،فرغم معرفة أبي الفضل لبيته عن طريق الخطوات ،إال أن البيت – كعالمة على استالب النصر – تسكنه اليهودية وقد حولته إلى خان وماخور. إن أبا الفضل – كالرجل في الغرباء – ال يرى في البيت بنيانه المادي فقط ،وإنما وقائع وسياقات حياتية: أبو الفضل :هذا البيت بيتي يا أسامه
لن تضللني هذه الشرفة ،وال هذه األلوان أن المائتي خطوة التي أعرفها، قادتني إليه. باب المسجد األقصى خلفي ،وأنا أمضي قدماً بغير انحراف. فأعبر الساحة ،وذا هو السلم نفسه كنت أندفع جارياً من باب بيتنا فأقفز درجاته ،ويتلقفني زحام السوق كان في الساحة سوق وإلي جانب السلم بائع حلوى.
فاجعا،فهو نبوئيا ويقضي فقد البيت إلى امتالك أبي الفضل حساً ً ً الوحيد الباقي من مذبحة القدس القديمة ،ولذلك يظل هو الوحيد القادر – بحسه االستشرافي – على استبصار مأسوف يأتي 0 *** ()5 ويتركب النسق الزمني في عدة آليات: منظور الزمن المروي :وهو منظور الوعي الفعلي و اإلدراك المباشر، -1 وفيه يتم رصد الوقائع العيانية في مستوي خطي قائم على التتابع والوحدات الزمنية المفصلة ،وهو ما يتجسد في «الغرباء ال يشربون القهوة»0 محمود دياب
37 36
منظور الزمن المعكوس :وهو المنظور الخاص أو المقابل للذاكرة -2 بمستوييها الفردي والجمعي ،فيتم تداخل األزمنة وتكسرها ،عبر استدارة زمنية تأخذ شكالً دائرياً وليس خطياً ،حيث التزامن الكلي في مقابل اللحظات المتتابعة ( باب الفتوح )0 التزامن :وهو يعني حدوث الشيء دفعة واحدة باشتراك مع سواه -3 على تباعد أو تقارب في الحيز ،وإذا كان الحيز المكانى ثابت الرؤية بحكم المحسوسية والتنوع والتغير ،فإن الزمن ال يتجسد من نفسه وإنما من خالل األحوال المتغيرة واألطوار المتجددة ،والتزامن في السرد والمسرح على السواء مستحيل الجمع ،ألن السارد ،وكذلك الشخصية المسرحية ،ال يستطيع أن يقابل بين كل شخصياته إذا تباعدت هي وتزامنت أحداثها ،وإذن فشخصية الزمن – إن جاز التعبير – متجلية في التزامن حيث ال تتجزأ بالقياس إلى الشخص أو الحدث. ويتجسد التزامن عبرالتداخل االستعاري بين الزمنين :التاريخي والواقعي وتشكلهما في بنية دائرية ،وهذا ما يتبدى في «باب الفتوح» من خالل هذا االنتقال المستمر بين الزمنين ،وعلي نحو متقاطع ومفاجئ ،فتتكون العالمات المتحولة واالنعكاسات الزمنية ،وهو ما يمثل بناء العالم االفتراضي في إطار من األداء اللحظى الواقعى.
محمود دياب
39 38
البنية الداللية -2محور العالمات المميزة للشخصية:
األقوال األفعال
مدخل: بشكل مجمل ،صاغت «جوليا كريستيفا» تعريفاً للنص باعتباره «جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة واضعاً الحديث التواصلي ،نقصد المعلومات ()6 المباشرة ،في عالقة مع ملفوظات سابقة أو متزامنة».
هذا تعريف «جوليا كريستينا» ،وهو يشير إلى عدد من المفاهيم النظرية الرئيسية الماثلة ضمناً في التعريف ،فالنص – ابتداء – ممارسة داللية من حيث كونه نظاماً داللياً خاضعاً لتصنيف العالمات «وليس ألصل العالمة األولي»، وكانت مدرسة براغ قد طرحت تلك الحاجات للتمييز ،فهي تفترض أن الداللة ال تحدث بالطريقة نفسها ،ليست فقط بحسب مادة الدال ولكن أيضاً بحسب تعدد الجوانب التي تؤلف كيان القائل ،فالمنطوقات ثابتة وتتشكل دائماً تحت أنظار اآلخر وباالستماع إلى حديثه ،من بعد ،يمكن للكالم أن يكون ممارسة ،إن مفهوم الممارسة الداللية يعيد للكالم طاقته الفاعلة ،ولكن الفعل الذي يتطلبه ذلك المفهوم ليس فعل إدراك ،إذ لم يعد في الفاعل تلك الوحدة المشهورة للكوجيتو الديكارتي، بل هو فاعل متعدد الجوانب ،وليس هناك من يطمع في قصر عملية االتصال التي يحكمها محو اًر األقوال واألفعال على اآلليات التي أنتجتها اللسانيات ،وهي المرسل ،القناة ،المستقبل ،فالحقيقة أن تلك اآلليات موجودة في الوحدات الكالمية، دفعة واحدة ،تحت خليط من التناقض والتداخل ،وإن أجزنا ،مؤقتا ،أن نعزل واحدة من تلك اآلليات ،فإنها تصدر دائماً عن جدل ،وليس عن تصنيف ،وهكذا – فإن محمود دياب
41 40
النص وقد فارق لغة التمثيل أو لغة التعبير (حيث يمكن أن يتوهم فاعل القول أنه يحاكي أو يعبر) يعيد – أى النص – بناء لغة أخري متعددة التأويالت مبنية على الحركة التركيبية العلى المشابهة الجزئية أو الخطابية. وبتلك التحديات السالفة ،سوف أبحث هنا محوري األقوال واألفعال في النصوص المسرحية المختارة لحمود دياب ،باعتبارهما – أى األقوال واألفعال – يشكالن محور العالمات المميزة للشخصية ،وهذا يعني أن معني الوحدة الكالمية يتحدد بشكل جوهري على السياق ،إذ يميز «سوسير» في كل ظاهرة لغوية بين ثالثة عوامل :أوالً – االصطالحات االجتماعية التي تجعل لكل ملفوظة مدلوالً معيناً ،ثانياً – الحوافز الفردية التي تجعل من لفظ هذه الملفوظة فعالً ذا طبيعة معينة( ،وهذا التمييز لفعل اللفظ هو أساسا من اختصاص الكالم) ،ثالثاً – مجموعة متشعبة ً من االشتراطات ،ذات الطابع االجتماعي ،تحدد السبب الذي جعل المتكلم يختار هذا النوع من القول بدالً من غيره .ويسمى «أوستن» هذه األوجه الثالثة للفعل التعبيرى أو لفعل القول ،على التوالي :الوجه الصوتي، الوجه االتصالي ،الوجه البياني (أي التحقيق النطقي للجملة وفق تنظيمها النحوي ()7 والداللي). غير أن طبيعة النص المسرحي تجعلنا نركز على المستوي االتصالي، (مرسل – خطاب – مرسل إليه) ،أي التركيز على ما تقوله الشخصية في سياق الموقف المسرحي وتحليل أقوال الشخصيات األخرى من زاوية عالقتها
بالشخصية المحورية ،وذلك من أجل كيفية إدراك الجدل على مستوى محور عالمات الشخصية (األساسية والمنتحية) وكيف يحكم تطور الشخصية ،وهذه األقوال ال تؤخذ على ماهى عليه وإنما البد من نسبتها إلى قائلها من زاوية عالقته ()8 باآلخر المخاطب وبالعالقات النصية. ويعتمد سياق التحليل هناعلى ما يمكن أن نسميه «اإلجراءات التركيبية» في فحص عالمات الشخصية التي تنقسم إلى عالمات أساسية وعالمات منتحية، فيتخلص البحث من فئة الشخص وتوضع بدالً منه فئة العوامل ،العامل الذات، العامل الموضوع ،العامل المساعد ،العامل المعاكس. ويستند محور العالمات إلى : محاور ثابتة/متحركة. -1 أساسية/منتحية. تحديد النوع :رجل/امرأة ،وعالقات النوع. -2 زمن الشخصية. -3 األبعاد المختلفة للعالقات الخاصة. -4 كيفية إدراك الجدل على مستوي محور عالمات الشخصية وكيف يحكم -5 تطورها. الفعل/رد الفعل. -6 تغير المواقف/امتداداتها ،وهل يتم التطور بانتفاء عالمة أو أخرى ،أم -7 تأكيدها. محمود دياب 43 42
ويشتمل محور األقوال على : ما تقوله الشخصية عن نفسها. -1 ما تقوله الشخصيات األخرى عنها. -2 نسبتها إلى قائلها من زاوية عالقتها بالشخصية. -3 التحوالت في المحاور ،وعالقة تطور الشخصية بذلك. -4 الشخصية لست حاصل جمع أقوالها ،فهناك ما تخفيه (الجدل بين البوح/ -5 اإلخفاء). محور األقوال يتداخل ويفسر بمحور األفعال. -6 *** يطالعنا نص «باب الفتوح» في مشهده االفتتاحي بجماعة شابة معاصرة تستشعر محنة مزدوجة :ذاتية وجماعية ،وكاقتراح من أفراد الجماعة يبدو في البداية كحل أو ترضية إجرائية ،تقرر الجماعة الدخول في لعبة التاريخ ،فتحدد لحظة زمنية معينة – الساعة التالية النتصار صالح الدين في حطين – وتفترض وجود شخصية تحمل نظرية ثورية – أسامة – وتخلق سعياً مشتركاً بينها وبين الشخصية المتخيلة بحثاً عن خالص يتحقق بالتقاء القوة والفعل (صالح الدين) بالفكرة والنظرية (أسامة) ومن ثم تكتمل نهضة األمة استناداً إلى فكرة محددة، وهي أن القائد المنتصر أقدر على صنع األمة من القائد المهزوم.
وتبدأ اللعبة المسرحية بآليتين :استحضار اللحظة الزمنية التاريخية، تلخيصا للجماعة واستحضار الشخصية المتخيلة التي يمكن اعتبارها على نحو ما ً ذاتها ،ويتكون من اآلليتين – اللتين تتوحدان تدريجياً – زمن النص التاريخي، ابتداء على التناقض بين الحقيقة والمجاز ،الواقعي والمتخيل ،الفعلي الذي يتأسس ً والمفترض ،وعلي الثنائية النمطية بين القوة والفكرة ،النظرية والفعل. مطاردا،صعوبات تعترض أسامة ،الذي يبدو منذ بدء ظهوره وتكونه ً متباينة تحول بينه وبين اللقاء المستهدف مع القائد المنتصر ،وتحاصره المؤسسة الرسمية المسيطرة بمستوياتها المتعددة :الفكرية (العماد – المؤرخ الرسمي)، واالقتصادى (جماعات التجار) ،وأدواتها القهرية (الجند والحراس) وفي اللحظة التي يموت فيها أسامة ،ترتد الجماعة التي كانت قد دخلت الزمن التاريخي المستدعى ،إلى الزمن الحالي مبشرة بكلمات الكتاب «باب الفتوح» في ممارسة مباشر إلى الجمهور. ًا خطابا مسرحية مفتوحة تحمل ً وهكذا ،تظهر شخصية أسامة بن يعقوب كتجسيد خيالي لتطور وعي الجماعة المعاصرة ،وهو جزء من تاريخ هامشي عرضي تفترضه الجماعة وتقترحه بديل لتاريخ رسمي مدون وزائف ،فالجماعة «تبدأ باستعادة لحظة تاريخية باهرة ً تمثل انتصار صالح الدين على الصليبيين في موقعة حطين واسترجاع بيت المقدس ،ولكنهم يحددون بجالء عالقتهم بتلك اللحظة ،فهي ليست عالقة انبهار وتأس عقيم على ما انقضى ولم يبق منه سوى حسرات وتالل أحجار ،بل هي محمود دياب
45 44
لحظة مواجهة مبصرة ،فتكتسب الذات الجماعية المعاصرة المتحدة بالتاريخ وعياً ()9 جديداً. ويبدو أول تجل ألسامة داالً على واقعة المطارد وطبيعته الحالمة معاً، فهو يسعى وراء لقاء القائد المنتصر باستبشار حالم ،بينما يجسد المشهد المسرحي داللة مضادة تتمثل في «كالب الصيد التي تتعقبه وتتشمم الطريق» ليحدث بذلك أول تضاد بين كلمات أسامة وواقعه الفعلي ،ويتقاطع محوراألقوال مع محور األفعال ،فأسامة – حركياً – يتواري عن أعين الجند متخفياً ،بينما تعكس أقواله حالة مغايرة ومستبشرة. لـن يؤذن للفجـر إال وأنــا أسامة : أجتاز البحر ،وما هي إال أيام حتى ألتقي بصالح الدين وجهاً لوجه ،تتعانق يدانا ،وروحانا ،ونتحادث، يحدثني عن انتصاراته، وأحدثه عن أحالمي وأسلمه فكرتي ليمنحها سيفه. ويرى أسامة أن مهمته المتمثلة في اقتراح العدل االجتماعي ال تبدأ إال حيث ينتهي القتال ،وربما يكون في هذا خطأه المأساوي إضافة إلى خطأ توجهه
للقائد المنتصر ال للجماهير ،وذلك ألن مهمة الثوري تبدأ في اللحظة التي يبدأ فيها القتال ال تلك التي ينتهي فيها. ورغم طابور الفرنجة المكبلين الذين يمرون أمام خيمة صالح الدين في استعراض لألسرى ،ورغم جميع المظاهر االحتفالية األخرى التي تشي باالنتصار ونقيضا ،فما األندلس – وطنه األصلي مخالفا وعيا ً ً العسكري ،إال أن أسامة يعكس ً – إال عضو مبتور من جسد ضرب فيه العفن وسرى فيه الدود ،عاكساً بذلك رؤية الجماعة المعاصرة للزمن التاريخي المستدعى ،وراصداً مفارقة انتصار العرب في الشام والمشرق وهزيمتهم في األندلس والمغرب ،واختالف صورتهم في المنطقتين، في األولي هناك موقعة منتصرة وقائد يستعرض األسرى وتكبيرات نصر وتهليالت اما جند ومؤرخ مشغول بتسجيل االنتصار وتطويع الكلمات وضبط أواخرها التز ً بأصول الكتابة ،وفي الثانية يعيش العرب في دائرة ضيقة من األرض كاألسرى، بينما يبيع ملوك الفرنج األسير بزق صغير من الخمر ،ويحولون الجوامع إلى خمارات وبيوت دعارة ،وهكذا -صورتان متناقضتان داخل اللحظة ذاتها والزمن الواحد -وهو ما يؤدي بأسامة إلى تجاوز نشوات النصر وظواهره االحتفالية إلى رؤية تستبصر اللحظة المقبلة حيث استثمار النص وتفريغه من محتواه ودالالته ليصبح مادة لقصائد متملقة واحتفاالت شكلية. أسامة : محمود دياب
47 46
أفكر في مئات القصــائد التي ستكتب بعد هذا النص ،كل
ما حوته لغة العرب من ألفاظ الملق وكلمات التمجيد والتفخيم ،وجميع مشتقاتها، وقد رصت بعضها بجوار البعض ،موزونة مقفاة، تلقى في حفل عظيم يشهده السلطان وآالف البشر. أفكر في المنابر ..ورجال الكالم يتسابقون إليها، يعرقل بعضهم بعضاً ،ويشد بعضهم أذيال بعض يهللون، ويكبرون ،ويصرخون ،حتى ينفد قاموس الكلمات،فيعيدون نفس الكلمات بأصوات أكثر حدة ،حتى تبح أصواتهم ،فال يعود بوسع أحد أن يسمعهم.
وإذ يعطي أسامة كتابه «باب الفتوح» إلى المؤرخ الرسمي «العماد» تدخل المجموعة المعاصرة إلى الزمن التاريخي متقاطعة مع الحدث من خالل قراءتها لجمل من الكتاب داللة على أن «باب الفتوح» هو كتاب الجماعة التي حملته
شخصيتها المفترضة المتخيلة/أسامة ،وهو رؤية الجماعة وخطابها الجمعي. وتتوزع جمل «باب الفتوح» ورؤاه األساسية بين العام والخاص ،بين الحديث عن محنة األمة والحديث عن محنة اإلنسان الفرد ،من منظور اجتماعي يستهدف التحرر والمساواة ،ويتخذ الكتاب ضمير الجماعة المتكلم في صيغ محددة« ،لو أنا أعتقنا ..لو أنا أعطينا ..جعلنا ،وذلك من خالل صيغة الشرط لو» ،وهو بذلك يتخذ صفة الجماعة التاريخية المنصهرة في حلم ذي توجه إلى شخص حاكم أو دولة ،وفي جمل الكتاب التالية ،تطرح قضية الحكم وحق األمة في اختيار حاكمها. كرسي الحكم ملك األمة ،ال يورث أو يباع وال يعار وال يوهب .................... ليس الحكم بجارية متبذلة ،يتخاطفها الفتيان ،يملكها األسرع سيفاً ،واألدهى واألخبث في تدبير القتل .................... الحكم في أمتنا شورى الحاكم خادم أمته ال مالكها. .................... لألمة مجلس حكماء ،يرعي بيت المال ويراقب أفعال الحاكم ورجالهُ ،يقوم ويهذب. .................... محمود دياب
49 48
وهكذا :يقوم محور األفعال على بنية ثنائية تتحدد في أحد تجسداتها في ثنائية التاريخ الحقيقي – التاريخ المدون ،وال يقتصر تحقق تلك الثنائية على مستوى الشخصيات فحسب «بل يتحقق كذلك على أكثر من مستوى من مستوي األبنية الداخلية في المسرحية ،فيظهر على مستوى الصياغة اللغوية بشكل عام، كما يظهر على مستوى البنيات اللغوية الصغرى ،وتقوم اللغة في هذا السياق بتجسيد الصراع بين قطبي الثنائية ،إنه في الحقيقة صراع بين الصياغة األصولية التقليدية ،وصياغة أخري مناوئة ،من هنا يقترن التغيير في طريقة التعبير بالتغيير ()10 في طريقة التفكير أو طريقة النظر إلى األشياء». وينتهي المشهد الصدامي األول بين أسامة من جهة ،وقائد حرس السلطان «سيف الدين» ومؤرخه الرسمي «العماد» من جهة ثانية ،بصوت المؤرخ وهو يملي على كاتبه فقرات من كتابه ،ويردد جملة المسجوعة في ترجيعات صوتية مكررة ،داللة على سيطرة الفكر الرسمي المحافظ وهيمنة اللغة المؤطرة بأبعادها السلفية على مجمل المشهد العربي المنتصر ،وتأكيداً للسطح الظاهري لالنتصار العسكري وعدم تخلله البنية االجتماعية والمعرفية المهيمنة ،وهو ما توجزه الجماعة المعاصرة في جملتها «النصر شمس أشرقت على مستنقع موبوء». وإذ ينتهي المشهد الصدامي ،فإن الجماعة المعاصرة تعود إلى مستوي الزمن اآلني بإسقاطاته العصرية ،وتنتقد التاريخ القائم على الخرافة ال العلم ،وتعبر عن رؤية نقدية للتراث واألمثال الشعبية والحكم المكرسة في الجمل المصكوكة
(خير األمور الوسط ،إن كان لك حاجة عند الكلب ،قل له يا سيدي ،العين ماتعالش على الحاجب ..الخ ).وتؤكد بذلك طابع النص والتاريخ معاً باعتبارهما لعبة تمسرح واكتشاف «علينا أن نستأنف لعبتنا» ،وذلك يعني استمرار الرحلة مع الثائر األندلسي الذي تعترف الجماعة الخالقة له بخطأ توجهه إلى السادة «فالثائر ال يقنع أعداءه « ،مبررة ذلك بأنه ثائر ال مغامر ،وفي نص أكثر تحديداً ،تبرر الجماعة ذلك بكونه مثلهم يميل إلى المواقف الوسيطة والتهادن «لقد خلقناه على شاكلتنا مياال للمهادئة». ويمثل توصيف الجماعة لطبيعة الفتي األندلسي تحديداً اولياً لنسق العالقات النصية التالي ،وهو النسق القائم على ثنائيات متضادة غير محلولة، سواء في تركيب الشخصيات أو تركيب المواقف والسياقات ،ويتجسد ذلك في التضاد بين صيحات النصر ومنع دخول أصحاب المدينة المحررة إليها وإبقائهم خارج أسوارها ،في تناقض حاد ومفاجئ بين السلطة واألهالي من خالل رمزية الباب الموصد والمنع من دخول المدينة ،وبدء طرح السؤال األساسي في النص «أو – أحد األسئلة الرئيسية» : ،لمن النصر؟ لمن المدن العربية المفتوحة ؟ والتعامل المتناقض مع النصر العسكري باعتباره مجلباً لمغانم وامتيازات (القادة – السادة) ،أو باعتباره حدثاً يعيد األرض والبيت والحق (الجمهور). ويأتي اختيار الجماعة العائدة «سكان المدينة» ألسامة ليكون لسانها المعبر وصوتها في إجراء ذي داللة هامة بصرياً وداللياً ،بصرياً :انشقاق كتلة محمود دياب
51 50
الجماعة إلى جناحين يتباعدان ليتركا أسامة في الوسط إزاء مواجهة حاسمة مع سيف الدين والعماد ،وداللياً :اختيار الجماعة العائدة ألسامة – المخلص. ويتوحد أسامة بصوت الجامعة في خطاب كاشف : ( إلى سيف الديـن والعمـاد) : أسام ة : ما الذي يجعلكم تغلقون األبواب في وجوه أصحاب المدينة ،أنتم ال تجيبون، ولكني أعرف إجابتكم ،وال شك في أن هؤالء الناس يعرفونها،أنتم تريدون مهلة لتفرضوا النظام في المدينة، قبل أن يدخلها العامة، فيفسدوه عليكم ،والنظام هو القوائم ،القوائم القديمة نفسها تبعث ،قد يموت الناس ..وتتغير الوجوه ،ولكن القوائم تبقى ،لكل إنسان فيها خانة ال يتجاوزها، وهؤالء الناس جميعاً ،فقراء
كل عصر تجمعهم خانة واحدة ،تأتي في الذيل، فعليهم إن عادوا ،أن يصلوا في الوقت الذي يتناسب مع خانتهم ،عليهم أن يصلوا في الذيل ،فتتلقاهم خانتهم .. خرائب المدينة ،وحظائرها، وعراء مزارعكم ومراعيكم، ومواقف طالب الصدقة على أبواب بيوتكم ،وأمام المساجد ،وعليهم بعد ذلك أن يسلموا بأن هللا هو صانع الخانات.
وينتهي الخطاب التصنيفي الحاد بتوحد الجماعة المعاصرة مع الجماعة التاريخية (أهل عكا) ،واالثنتان مع أسامة – صوت الجماعتين وفاديهما المخلص – وكذلك يتوحد رموز السلطة (العماد – سيف الدين) وأدوات القهر (جنود أشبيلية مع الجنود المشرقيين) وتتكتل الوحدتان لتشكال واحدة من ثنائيات النص المتضادة والمتجسدة في صيحات النصر ومشاهده الباهرة عبر تساقط المدن العربية في يد الناصر ،في الوقت الذي تتحول فيه الفكرة الثورية إلى كيان مطارد من الجند، ويصير سكان المدن كتال مهمشة خارج أبوابها. محمود دياب
53 52
وحين تبقى المجموعات العائدة في انتظار دخول مدائنها ،فإن أسامة في جلسته المنفردة على التل الرملي يبدأ في مراجعة ذاتية ويعتريه التساؤل القلق : هل أنا العاقل الوحيد في األرض؟ -ويتوزع بين إغواء الحياة اليومية ببساطتها ونمطيتها وحدودها الفاترة (المنصب الرسمي ،طيبة األم ،دفء البيت والزوجة واألوالد) ويبين التمرد واستكمال الرحلة والحلم ،مستصرخاً في الصمت والخالء، المخلص؟ هل أنا ُ أسام ة :
هـل أســلم نفسي لجنــود إشبيلية وأنتهي،أعود إلشبيلية ألرتمي على صدر أمي ،حيث ال سخونة وال برودة وإنما دفء وحب أتجرع القيء في منصب بالديوان وأنجب أوالداً للموت ،أتجاهل النهاية التي أعرفها والتي توشك أن تنقض ،أنساها، حين تحتويني لحظتها، وأمضي مع الماضين، وأنتهي. ..............
هل أسلم نفسي لجند سيف الدين ،فأصلب على تل من قمامة الفرنج في القدس. .............. المخلص (صارخاً) :وهل أنا ُ الوحيد. أأنا المهدي المنتظر .. .. .. .. ال تدوم تلك المراجعات الذاتية ،فما ثلبت الجماعة المعاصرة أن تستعيد بطلها المتخيل وتستمر كمعبرة عن شخصيته وذلك إثر انتهائه إلى قرار الثورة والتمرد ،وال يعتبر هذا تحوالً في شخصية أسامة وإنما هو استم اررية – تكاد أن تكون حتمية – انتابتها أو شابتها قليالً لحظة قلق وتساؤل. المجموعة المعاصرة
:
: الشاب األول محمود دياب
55 54
أسامة ،هل اتخذت ق ار ار نعم ،ه ــو نفــس القرار القديم،من قرر أن يثور ،فقد أحرق مركبه حين
المجموعة الشاب الثاني
اتخذ ق ارره ،فال يملك أن يعدل عنه : :
وهل اختـرت وجهتك ؟ ما ازلـت أومن ،بـأن قائداً منتص اًر أقدر على صنع أمة قائد مهزوم
: المجموعة : الشاب الثالث : المجموعة : الشاب الرابع : المجموعة : أسامة
في الطريق إلى القدس جند ينتظرونك. لكني لن أعدم حيلة. فإن ضيقوا الخناق عليك قاتلت. فإن خذلك السلطان وسخر من أفكارك لن أفكر في هـذا اآلن، فتلك حكاية أخري قد
تذكر فيها كلماتي، وقد تنشأ فيها كلمات أخري أعمق حكمة، ولكن اسمى لن يذكر في كل األحوال، فستصبح فيها جماهير األمة هي صاحبة الكلمة وصاحبة الفعل.
إن مأزق أسامة – المخلص ،يتمثل كما تقول «اعتدال عثمان» في ذلك التعارض اللفظي بين الحد الساخن والحد البارد ،على مستوى البنيات اللغوية الصغرى ،الذي يتجاوب مع التعارضات الثنائية األخرى في بنية النص ،إن تقسيم الكون بهذا الشكل المطلق ،الذي هو وليد مفهوم ثنائي ونظام تناقضي بين التاريخ الحقيقي والتاريخ المزيف ،الموقف النفعي – الموقف األخالقي المثالي ،الخير المطلق والشر المطلق ،أو بعبارة النص (حرب أو استسالم ،ثورة أو خنوع ،حياة أو موت). إن هذا التقسيم المطلق ينفي كل إمكانية التخاذ البطل سبال جدلية إزاء الصراع بينه وبين الواقع ،فيواجه القوى المناوئة وحيداً متجرداً ،إنه يتطوع بتسليم سيفه إلى قائد حرس السلطان عند أول تواجه بينهما (إليك هو – أنا ما أتيت لكي أقاتل). محمود دياب 57 56
«وال تتأسس أزمة أسامة على ذلك النظام الفكري التناقضي وحده ،بل تتأسس كذلك على تناقض آخر ،هو التوجه إلى السلطان ،عن طريق رجال حاشيته ،برسالة تتضمن شريعة حكم للمستقبل ،وهي شريعة تتضمن بالضرورة نظرة مغايرة لعالقات ثابتة ،ومن ثم فهي تقتضي فعالً تحريرياً ،ولكن الحركة المحررة يلزمها قدرة على االنفصال حتى تحقق ميالداً جديداً متخلقاً في رحم ومنفصل عنه في الوقت نفسه ،وهو ما لم يقدر عليه أسامة، طا به الماضي ،مرتب ً ً إن جهده التحرري تغلبه قوة الماضي وعالقاته الثابتة ،فهو إذ ينفي نفسه نهائياً في ظل السلطان ،يقع في مجال هيمنته وهيمنة الفئة المحيطة به التي يتسع مجال نفوذها ليشمل جماعة المنتفعين (تجار العبيد والغالل وصاحبة الخان اليهودية وابنتها الداعرة)( ،)11ويلتئم شمل الجماعة في نهاية النص لتكون دائرة تحيط بأسامة ،وتظل تضيق عليه الخناق خطوة فخطوة ،حتي تتحول الدائرة إلى كتلة يختفي فيها أسامة. وهكذا :يعد الموت الفيزيائي بمثابة اندحار مؤقت ألفكاره في الزمن المنقضي ،وإن ظلت كامنة في وعي المجموعة المعاصرة ،وتتجسد هذه الداللة المزدوجة تجسداً فنياً في التركيب اللغوي لفقرات « باب الفتوح» : لو أنا أعتقنا الناس جميعاً، ومنحنا كال منهم شب اًر في األرض وأزلنا أسباب الخوف لحجبنا الشمس – إذا شئنا – بجنود يسعون إلى الموت
ليذودوا عن أشياء امتلكوها واكشفوا كل معانيها :
الحرية شبر األرض وماء النبع قبر الجد وأمل الغد وضحكة طفلة تلهو في ظل البيت وذكري حب وقبة جامع ،أدوا يوماً فيه صالة الفجر بأوجز كلمة عظمة أمة.
«تقدم هذه الفقرة مرتين في النص ،األولي في معرض التعرف على أفكار أسامة المدونة في كتابه ،وتؤدي كل عبارة منها بصوت منفرد من أصوات المجموعة المعاصرة ،نيابة عن العماد ،أما في المرة الثانية فتقدم بوصفها الرسالة الختامية التي تلقي بصوت الجماعة المتحدة ،وتحمل الفقرة في كل مرة داللة مختلفة ،ففي القراءة األولي تعبر عن وجهة نظر فردية موجهة إلى الحاكم كي يقيم على أساسها شكالً من أشكال الطوباوية االجتماعية ،وهنا يكمن إخفاقها األول، ولكن ما إن تتحول وجهة النظر ذاتها لتعبر عن تطور وعي الجماعة ،وتوجه إلى جماهير الناس ،كما يقترح أحد شباب المجموعة ،حتي يتاح للوعي المضمر في الرسالة إمكانيات للتحقق لم تكن واردة من قبل. محمود دياب
59 58
تبدأ الفقرة بجملة شرطية ،تلحق بها عبارات قصيرة ذات إيقاع واضح ،ثم وقف صريح بما يلزم بقطع النطق عند آخر الجملة ،ويفيد القطع المرتبط بالوقفة اإليقاعية اختصاص كل عبارة بقيمة بعينها ،هي الحرية ،وحق الملكية واألمان، ولكن جواب الشرط يمتنع المتناع حصول القيم السابقة التي يرتبط تحققها بإرادة الحاكم وقناعاته ،ومن هنا تنتفي الغايات النهائية (الحرية – عظمة األمة) وبديهي أن يرتبط الفعل في القراءة الثانية بإرادة الجماعة ،وإذا كان البطل التاريخي قد انتهي محبطاً نتيجة كونه مردوداً إلى زمن منقض ،ونتيجة كونه خاضعاً لعالقاته الثابتة ،فإن المجموعة المعاصرة تملك ،في حدود تكوينها الدرامي ،أن تدخل ()12 الزمن الماضي وتخرج منه إلى زمن مفتوح وممتد». وتتطابق النهاية المأساوية للثائر األندلسي أسامة بنهاية بطله التاريخي – صالح الدين – المتمثلة في عودة الفرنجة بعد شهور قليلة وسقوط األندلس والقدس ،بما يشى بتحلل الثنائية (الكلمة/الفعل ،الفكرة/السيف) وعجزها كصيغة توفيقية على الفعل التاريخي ،ويتساوق ذلك مع البنية الدائرية للزمن المسرحي والتاريخي معاً ،فبينما يستدير الزمن في حركته الدرامية من الزمن اآلني إلى مشكل التكوين الدائري لحركة وحداته التاريخ المستدعي مر ًتدا إلى الزمن الراهن ً وتشكلها ،فإن دائرة الحركة تتجسم في جلوس الجماعة في دائرة تردد كلمات الكتاب ،وكذلك في موت أسامة داخل دائرة من أجسام التجار والسادة :
: أصوات من السادة : أسامة « صارخاً» : أصوات من السادة : أسامة «صارخاً» : تاجر العبيد
بعنا نفسك. ال بعنا كتابك ال فسنأخذ منك نفسك بغير عوض «وتنفجر مجموعة السادة في قهقهة عالية ،وتتحول الدائرة إلى كتلة. يختفي فيها أسامة»
*** وبذلك تلعب البنية الدائرية للزمن والحركة وظيفتها الداللية على مستويين: مستوي كونها بنية متولدة عن واقع اجتماعي ،ومستوي كونها ،إضافة إلى هذا الواقع ،إعادة الصياغة لعناصر التاريخ والواقع في أن واحد ،وباكتمال دائرتي الزمن والحركة ،كما يقول مدحت الجيار في دراسته عن نص باب الفتوح يكشف النص عن تقنية أساسية من تقنياته وهي تقنية «القناع» التي تؤدي على مستويات عدة ،مجموعة من الوظائف ،فمن مستوى الشخصية الرئيسية إلى اختيار فترة تاريخية محددة ،ثم على مستوي المكان ،وكل ذلك يتركز في قناع تاريخي وجغرافي ،وهنا يأخذ القناع بعده الرمزي /االستعاري ،فشخصية أسامة قناع مخترع ،ومن ثم تحول النص بأبنيته الزمنية والمكانية وعالماته المادية إلى استعارة كبيرة تجعل صوت المبدع مختبئاً دائماً وراء موضوعية القناع. *** محمود دياب 61 60
ونقيضاً لتداخل األزمنة وتكسرها في «باب الفتوح « يختار محمود دياب لحظة واقعية – أوائل المساء ليوم ما – لنص «الغرباء ال يشربون القهوة» الذي يفتتح به ثالثية « رجل طيب في ثالث حكايات» ،حيث رجل يجلس أمام بيته وقد دس وجهه بين صفحات جريدة يومية،يق أر طالعة ويثرثر مع زوجته المحتجبة خلف نافذة شبه مغلقة ،يدخل أحد الغرباء ويبدأ في قياس مسافات البيت وأبعاده، ويدون في مفكرة صغيرة األرقام والمعلومات ،وسط دهشة الرجل ومحاوالته المتعددة الجتذاب الحديث مع الغريب الذي يخرج ويدخل غريبان آخران يقومان باألفعال ذاتها ويخرجان بدورهما بالطريقة نفسها ليدخل ثالثة غرباء ،ثم يتكاثر الغرباء ويحاصرون الرجل ويمزقون أوراق هويته ،ويخرجون إثر ذلك ،ليبقى منتظر ابنه الغائب ،بينما يلوح جار سكير ًا الرجل مستغرقاً في خطاب فردي طويل ويسمع صوت رياح تعبث بأوراق الرجل الممزقة. ُ ويتداخل محو اًر األقوال واألفعال ليكونا السياق المسرحي المبني على عملية اإلزاحة المستمرة من الوقائع اليومية بطابعها االعتيادي وأطرها السلوكية واالجتماعية إلى المناخات الكابوسية بطابعها الهذياني وأزمتها المتداخلة ،فالمشهد يتركب – ابتداء – من رجل طيب (تحديد أخالقي) في الستين (تحديد زمني) يسلك سلوكاً غيبياً (يستطلع طالعه في صحيفة) يجلس منتعالً خفاً منزلياً أمام بيت قديم متهالك تساقط الطالء عن واجهته – أقرب إلى أن يكون شيئاً أثرياً – مكون من طابق واحد مما يدل على خصوصية ساكنيه ،وتوجد شجرة معمرة جدباء ال تظهر أوراق لها ،بينما تتواري زوجة الرجل خلف نافذة مواربة ال تكشف
ما وراءها (عالمة محافظة وتقاليد اجتماعية معينة) ،وتؤطر الشخصيتان معاً، الحاضرة (الرجل) والغائبة (الزوجة) بعالماتهما المادية السياق النصي بينما يظهر الغريب األول الذي يبدو – شكلياً – مناقضاً للرجل المتشرنق داخل ذاته، فهو أنيق الملبس متين البنيان جهم الخلقة يتحرك بحساب ،ويتحول هذا التضاد الشكلي – عبر منطق اإلزاحة في النص من األطر الواقعية إلى األطر الرمزية – إلى تضاد وجود وتصارع مصائر ،إضافة إلى أن المستويين :التجريدي والواقعي( ،)13يضيفان أبعاداً رمزية تشمل الرجل والغرباء والبيت الذي يتحول من طابعه الواقعي كبيت عادي لمواطن ما إلى البعد الرمزي بما يشير إليه من دالالت تتصاعد متكاثفة لتختزل فكرة الوطن ،وكذلك الشجرة المعمرة التي ال تصبح مجرد جذع قديم وأوراق جافة بل تصبح شاهد تاريخ وإثبات وجود وهوية. ويتجسد الغريب – بصرياً – من خالل فعل :التدوين ،وعالمة :مفكرة صغيرة ،وتتشكل العالقة بين الرجل والغريب في متابعة بصرية ،ثم حركة متسللة من الخلف من جهة الرجل ،وبرود وجمود وال اكتراث من جهة الغريب ،ويأتي عدم شرب القهوة التي يقدمها الرجل تأكيداً النعدام االئتالف والتواصل بينهما، وينعكس ذلك على محور األقوال ،حيث ال يوجد فعلياً حوار يستغرق الزمن الدرامي وإنما هو «مونولوج» داخلي فردي يستهلكه الرجل وتقطعه آليات حركية معينة .ويبدو ذلك واضحاً حين تساءل الرجل عن هوية الغريب ،فتكون اإلجابة إبراز بطاقة صفراء ينشرها الغريب ثم يطويها على الفور ،ليستمر بعد ذلك – مكتفيا بالتساؤالت بتتابع آلى – فعل التدوين ،وصمت الرجل السلبي إزاء ما يحدث ً محمود دياب
63 62
البلهاء والتلصص على ما يكتبه الغريب حين يفشل في محاوالته المتعددة لتبادل الحديث. وتأتي أول جملة منطوقة للغريب حين تساءل الرجل عن لغته ،وترد أول إشارة عن االبن الغائب من خالل ثرثرة الرجل عن جريدته المفضلة. «الغريب يدون شيئاً ما في مفكرته ،ويتلصص الرجل بنظرة على ما يكتب ..ليضبطه الغريب متلبسا». الرجل « يضحك في ارتباك» : أردت فقط أن أعرف بأي لغة كتب الغريب «في جمود» :هذا غريب «تحين التفاتة من الغريب إلى الجريدة فيمسك بها ليتحقق من اسمها» الرجل :إنها جريدتي المفضلة. وقد كانت جريدة أبي المفضلة أيضاً. وال أعلم إذا كان ابني يفضلها. فهو يعمل في بلد بعيد
وإذ يحاول الرجل احتواء الموقف بنسيانه ،يدخل غريبان جديدان ،نسختان
مكررتان من الغريب األول ،بالمفكرة ذاتها والبطاقة الصفراء ،ويتجسم صراع خفي ومحتدم حول البيت ،هنا يتوتر الرجل ويبحث عن جيران وأهل ،ولكنه يستشعر تاركا الغريبين يستبيحان البيت في استسالم خلو المكان ،فيداري وجهه في الجريدة ً نفسي وجسدي. : الرجل
لم أعد احتمل أي جهد ،فلقد تقدمت بي السن ،لم يبق أمامي سوى شهور ألبلغ المعاش ،واألفضل أن أحصل على إجازة خالل هذه الشهور ،األفضل أن أستريح
وإزاء هذا االستسالم المفاجئ ،يتكاثر الغرباء ويتقدمون بخطى ثقيلة نحوه ،لينتقل الصراع من ملكية البيت إلى الرجل ذاته ،إلى هويته وذاكرته ،حيث يأتي الرجل بصندوق صفيح يحتفظ فيه بمستندات ملكية البيت ،ويقدمه في ثقة متبادل تمزيقها مع الغرباء داللة بلهاء إلى كبير الغرباء الذي يستعرض األوراق ً على نزع الملكية والهوية ،وتتوزع األوراق الممزقة بين الوثائق الرسمية واألوراق الشخصية :مواضيع إنشائه حينما كان طفالً صغي اًر ،صورته مع أمه وهو طفل، خطابات أصدقائه ،قصائد صباه ،شهادة ميالد االبن ،وثيقة الزواج ،رسالة حب، إعالم وراثة ،وهكذا. محمود دياب
65 64
وتنتهي مهمة الغرباء بتمزيق األوراق والمستندات وإلغاء الهوية المكتوبة، القانونية ،المثبتة ،ويستغرق الرجل في خطاب – خليط لغوي ،يشكل مرثية طويلة، تحمل طابع الهذيان والتنبؤ والحزن ،مما يضفي الطابع الرمزي كامالً على الموقف كله :الرجل والبيت والغرباء واالبن الغائب والزوجة المحجوبة والشجرة المعمرة واألوراق الممزقة. وفي مواجهة تمزيق المستندات الرسمية ،تبقي أوراق أو إثباتات أخرى، إذ يبقى النقش على الشجرة كامالً (القلب والسهم) ،وأيضاً – تسجيالت الزمن المطبوعة على الجدران. الرجل « يسرع إلى الكرسي ويحمله إلى الشجرة» : ها هو ذا يا سنية. النقش هنا ،القلب والسهم واسمي واسمك دليل ال شك فيه ،وهو باق وهناك داخل البيت ،في الحجرات والممرات آثار أظافري الصغيرة على الجدران وأنا أتشبث بها ألتعلم المشي. وأول حروف تعلمت كتابتها حروف اسمي كبيرة تتحدي ،هي أيضاً ال تزال وجدول الضرب المحفور على جدار غرفة الوالد وجدران الحمام ما زالت تحتفظ ببقع من دمي منذ انزلقت وجرح رأسي وأنا أستحم لزفافنا إنها كلها باقية .. .. أرأيت لماذا أنا باق كالجبل ؟ .
ويتحول الرجل – الشرنقة ،إلى رجل يعي صراعات العالم الخارجي
وقوانينه ،ويندمج في خطابه الذاتي المواجه (بعد أن غاب طرف الصراع الثاني – الغرباء – اآلخر الضد) ،وبينما تعبث الريح بقصاصات األوراق الممزقة ،يلوح جار سكران في تغييب إرادي للفعل والوجود ،ويستدير الرجل إلى النافذة المواربة المخِّلص الغائب. ويدخل البيت ويغلق الباب مطرًقا في انتظار االبن – ُ غدا يا سنية الرجل ً : مع أول شعاع للشمس سأبعث ببرقية إلى الولد برقية أقول له فيها ،عد إلينا ،تعال وعش معنا أنا وأمك والبيت بحاجة إليك. حال. أحضر ً وال تنسى وأنت قادم أن تحمل معك بندقية وسيفهم – هو حتماً – ما أعنيه بالبندقية. *** وفي «الزوبعة» ينتشر خبر في إحدى قرى الشرقية عن خروج «حسين ظلما بتهمة قتل ملفقة ،وكما أبي شامة» من السجن بعد عشرين عاماً قضاها ً يقول أحمد العيوطي في مقالة الملحق بالنص «ويؤثر الخبر في القرية تأثي ار مروعا ،فلقد أقسم الرجل أن يكون مقابل كل سنة قضايا في السجن قتل رجل من رجال القرية ،ويسود القرية جو من الذعر والقلق والترقب والتربص ،وتتكاتف البلدة ضد هذا القادم رغم اعتراف حسن األعرج أن أبا شامة قد ُسجن ظلما، محمود دياب
67 66
وأن الفاعل الحقيقي هو خليل أبو عمر أحد وجهاء القرية ،إن هذه الحقيقة ال تهم اآلن ،وينتشر الرجال على الطريق الزراعي متربصين بالعائد المنتقم ،وتمأل القرية الشائعات :لقد شوهد أبو شامة مختبئا وسط أعواد الذرة ،ويقتل األعرج في الجامع فتزداد حدة الفزع الذي أصاب الجميع ،وتصر القرية أن القاتل هذه المرة هو حسين أبو شامة أيضاً ،ويسارع البعض إلى التودد من صالح بن أبي شامة، سالم أبو سليم يرد إليه داره ،الحاج شعالن يعيد إليه أرضه ،الحاجة زكية ترد إليه أمواله التي اغتصبتها من أمه ،ويصل السيد أبو طالب بعد أن خرج هو اآلخر من السجن ليعلن أن أبا شامة قد مات من سنين في سجنه ،وبزوال مؤثر القلق والخوف يري الجميع الحقيقة ،لذلك تتكاتف الجماعة في ممارسة تطهيرية مطالبة برد حقوق صالح المسلوبة». وتبدأ المسرحية بسعال الشيخ يونس عائداً إلى داره بينما تمسك ابنته حليمة بذراعه ،وحين تصطدم عصاه بصالح في جلسته المنكفئة فوق المصطبة يبدأ حوار متوتر وظيفته األساسية التعرف( )14والتقديم .وتنتهي بصابحة باكية وقد علمت بموت أبيها في السجن ،بينما صالح يمسح دموعها مسترسال في خطاب فردي يحمل طابع السالم الداخلي والوئام االجتماعي.
وبين قوسي البداية والنهاية ،تتركب العالقات النصية عبر التصارع بين جماعتين : الجماعة المهمشة :وتشمل صالح – صابحة – حليمة. أ - ب -الجامعة المهيمنة :وتشمل الحاج شعالن – خليل أبو عمر – سالم أبو سليم. ومع التبدل التدريجي – بتأثير خبر العودة – في العالقات والشخصيات، تمارس الجماعة المهمشة – وقتياً – وجوداً متنامياً ،مع اإلبقاء جوهريا على وضع الجماعتين كطرفي ثنائية ضدية في بناء نصي واقعي أقرب إلى الطبيعية (االعتناء الزائد بالتفاصيل ورسم الصورة المسرحية وكأنها صورة واقع ريفي بعينه في محاولة إللغاء الحاجز أو الفارق الوهمي بين المسرح والحياة). بينما ينحو دياب في «باب الفتوح» منحى مختلفاً ببنائه للنص بناء مسرحيا خالقا لحقيقته الخاصة كمسرح دون الذوبان في الحقيقة الواقعية فيما هو دائم الحوار واإلشارة والتداخل معها ،فنص الزوبعة – نقيضا لباب الفتوح – يحاكي واقعه البيئي والنفسي إلى درجة لزوم ما ال يلزم :تحديد اسم المحافظة، واللغة التي تحاكي وتطابق ال اللغة التي تؤمئ وتشير وتخلق ،االعتناءات الدائمة بالتفاصيل في المكان والجو والحدث ،وانعكس ذلك على اللغة الحوارية حيث جاءت محشوة ومثقلة بالتعبيرات المنقولة بنصها من الواقع االجتماعي إلضفاء جو الطبيعية واإليهام بالواقع. محمود دياب
69 68
وتأتي مفارقة البداية بين ضوء القمر الفضي الذي يغمر القرية وبين جثوم مناخات القتل والسجن وحرق الزرع والتوحش البشري واالجتماعي في عالقات القرية ،وهوما يضفي أبعادا رمزية على سكونية الحدث وعادية الحوار في البداية التي تبدو أقرب إلى «الدردشة» المقصود منها تأدية وظيفة التعرف «الطاقة اإلخبارية للكلمات» ويقطع الجمل الحوارية بين الحين واآلخر ظهور رجل من دار الحاج شعالن متوجهاً إلى الحارة األمامية كقطع حركي لسكونية المشهد ،وكذلك سعال الشيخ يونس ،فهناك إذن قطع حركي (ظهور رجل واختفاؤه) وقطع صوتي (السعال) لبناء المشهد الساكن. ويبدو صالح – من جمل الحوار األولى – شخصية منكفئة ومنطوية تميل إلى الخنوع واالستسالم والرغبة في التعايش ،وهو فاقد للقوة الذاتية إضافة إلى فقد أبيه مما سبب تسميته بـ «األهطل» ،فهو شخصية منهزمة داخليا ومنسحبة، ولكنه يتحول تدريجياً – بتأثير خبر عودة أبيه إلى رجل يعي ذاته وحقوقه المستلبة ومجاله االجتماعي. إن القرية قبل الخبر – الزوبعة ،تتحرك حركتها المألوفة الرتيبة ،يزرع الناس ويسمرون ،ويتفقون في صوت جماعي على أحكام موحدة تصنف الناس واألشياء ،حتي إذا هبت الزوبعة نسفت ذلك العالم المتوافق وأصبح على كل واحد منهم أن يواجه الشيء الصعب الذي يهرب منه دائما( ،)15وتتحدد صورة صالح بالتضاد مع صورة أبيه ،فصالح شخصية منكفئة ،مستلبة ،بينما تتراءى صورة أبيه في المخيلة الجماعية في إطار نقيض.
صالح :أنا مش أهطل يا حليمة ،وال أنا أهبل زي ما بيجولوا عليه .أنا عاجل يا حليمة ،أمي هللا يرحمها جالت لي كلمتين جبل ما تموت ،حطيتهم في دماغي من صغري ،جالت لي أبعد عن الناس يا صالح ،الناس في البلد دي ما وراهمش غير الشر ،جلوبهم مليانة غل. حليمة :أنت ما بتسمعش عن أبوك يا صالح ،كان إيه شكله بيجولوا أنه كان زي الوحش ،كليتهم كانوا يهابوه ويعملوا له حساب. صالح :وإيه كمان ؟ حليمة :وأبويا بيجول إنه كان حجاني وطيب وساعة الحج يبجي سبع. ويتقاطع محو اًر األقوال واألفعال لدي صالح ،ويصوغان العالم الخاص بالشخصية ،من خالل : األب الغائب. الجريمة الوهمية ،التي ألصقتها الجماعة باألب الغائب. الزمن الغائب ،زمن الجريمة القديمة (منذ عشرين عاماً). المكان الغائب (المعتقل). الجريمة الفعلية (قتل األعرج ،التواطؤ على األب). الجماعة المتوحشة (سلب الممتلكات الموروثة ،تهميش الشخصية وحصارها النفسي واالجتماعي). العالم الضد ،الذي تستشرفه الشخصية في صور حلمية ،وتستعيد فيه، بشكل وهمي ،ممتلكاتها المسلوبة. محمود دياب
71 70
ويشكل التضاد بين صورة األب وصورة االبن ،والتقاطع بين الزمنين :الغائب والحاضر ،بنية العالقات في النص ،وذلك ألن «الزوبعة» رغم أنها في واحد من مستوياتها تعري الكتلة االجتماعية في القرية وتكشف عن توحشها وذئبيتها ،إال أنها – كذلك – ترصد تحوالت الذات الفردية ،ابتداء من نقطتها الفردية ،كما يقول وحيد النقاش – حتى شمولها الجماعي»16». وتتراوح في النص نزعات الكتمان واإلفصاح ،اإلخفاء واالعتراف ،فكما تخفي الجماعة جريمتها القديمة وفاعلها متواطئة على الغائب ،فإن كشف الجريمة وتبرئة الغائب يأتيان على لسان أحد أفرادها ،فاألعرج يكشف تحت ضغط نفسي واجتماعي الحقيقة ويسمى الفاعل األصلي للجريمة القديمة ،وهو يبوح بالسر في فعل تطهيري نتيجة لفساد عالقته مع شريكه اآلخر (خليل) ،ونتيجة لوازع ديني، وخوفه من عودة أبي شامة وانتقامه المتوقع ،مسترسال فى االعتراف عبرخطاب هستيري يمتزج فيه الحلم بالوقائع ،ونوازع الضمير المعذب بالرغبة في تعرية الذات واآلخر ،هو إذن خطاب تطهيري من ناحية ،وعدواني من أخرى. أنا سكت كفاية ،وماعدتش جادر اسكت ولو سكت النهارده. األعرج : عمري ماهاعرف أتكلم أنا بجالي مدة مش جادر أعتب الجامع باجي عند الباب أالجي زي اللي حاجة بتلعبط رجليه ما اجدرش أخطيه أجول الماليكة حراس الجامع فيه حاجة جوايا ،فوق جلبي زي الدبشة
ويتحدد موقف الجماعة من الجريمة في : موقف ملتبس ،فمنذ وقوعها وطيلة األعوام العشرين التالية ،وهم ال -1 يعرفون حقيقة ما إذا كان حسين أبو شامة الفاعل األصلي ،أم أن الجريمة ملفقة، ويغلف التباس الموقف تواطؤ الصمت والالمباالة. بعد اتضاح الحقيقة واعتراف األعرج ،فإن موقف الجماعة من القتلة -2 األصليين يتسم بالخنوع واالرتباك ،إذ يتركون خليل يخرج بعد تهديد مفتعل وشكلي بينما تقف متفرجة في إشفاق ممتزج بالذهول على األعرج. يتحول موقف الجماعة تحوالً هاماً بعد عبارات اإلشفاق والترحم والتماس -3 األعذار ،وتحت تأثير الخوف من انتقام العائد ،يتحول إلى موقف عدواني راغب في قتل أبي شامة ،فالجريمة – رغم تكشفها – مستمرة. -4 بدالً من انصراف الجماعة نحو القتلة الفعليين ،وهذا ما كان طبيعياً ومتوقعاً ،فإنها تتحول إلى العائد متربصة به ،راغبة في التخلص منه رغبتها في التخلص من الشاهد الوحيد – والضحية لجريمتها هي. الجريمة منذ عشرين عاماً كانت جريمة خليل واألعرج ،بينما هي اآلن -5 جريمة الجماعة. محمود دياب
73 72
وهناك في النص ما يمكن أن نسميه بالتجربة المكررة ،وتجسد ذلك في جريمة القتل الثانية (قتل األعرج في الجامع) ومحاوالت الجماعة المتجددة إللصاق التهمة بحسين أبي شامة ،رغم معرفتها اليقينية بالفاعل األصلي ،تماماً كما فعلت في الجريمة األولي ،رغم معرفتها الظنية بالقاتل ،وهناك كذلك إشارات عن عودة سابقة لحسين أبي شامة انتهت بتلفيق الجريمة له ،قبل عودته المتوهمة التي انتهت – كإشاعة – بخبر موته في سجنه. لقد تهشم المجتمع الصغير ،وحتي عندما أيقن الجميع أن الغائب لن يعود ،فإن عالقات الجماعة تظل مفككة ،حيث انطوي النسيج االجتماعي على جريمتين ،فانكفأت الجماعة على ذاتها اآلسنة ،وظل صالح وصابحة مسترسلين في أحالمهما الوهمية وعالمهما المشترك. لو الحكاية دي تفوت على خير. صابحة : ويرجع أبوكي من غير شر. صالح : نتلم تأني زي بجية الخلجة. صابحة : ونبني دارنا وتبجي أحسن دار. صالح : وأهي أرضنا حدانا نزرعها. صابحة : وأتجوز يا حليمة صالح : .......................... صابحة : وأنت في الساعة دي ألف مين يتمنى يتجوزك. صالح : ***
بالتحديدات السابقة لمحوري األقوال واألفعال ،يمكننا أن نرصد تداخالً وتفاعال بين نسقين : النسق المثير (المستدعي) -1 ()17 النسق االستجابة (المتصور – المتخيل). -2 وهما يخلقان معاً النسق المعيش ،وأنماط االتصال بين الذات واآلخر، والذات والمجموعة االجتماعية المحيطة. النسق المثير هو النسق المستدعي من الموروثات المشتركة ،والواقع القبلي على التجربة ،األساطير ،الذاكرة الجمعية. أما النسق – االستجابة ،فهو ذلك النسق الخاص الذي يشتمل على جماع معتقدات وأحالم وأفكار وانفعاالت ومخاوف وإحباطات وإشباعات وصراعات الشخصية المسرحية. وفيما بين ذلك النسق المثير المستدعي المستحضر المتذكر ،وذلك النسق المتصور المبتدع المبتكر ،يتكون النسق الخاص الثالث ،الذي ُيسمى بالنسق الجامع ،أو النسق البوتقة الذي هو نسيج النص ،ففيما بين المستدعى والخاص، المسترجع والتجربة ،فيما بين زمن الحكاية وزمن الكتابة – بمصطلحات تودروف – ومن خاللهما معاً ،يتكون هذا النسق الخاص للنص عالمه ورموزه وإشاراته. محمود دياب
75 74
ولكن – يجب التأكيد هنا ،كما يرى شاكر عبد الحميد ،على أن هذين النسقين ليسا منفصلين داخل العالقات النصية ،ولكنهما متداخالن ،حيث يكون النسق المثير نسقا استجابيا ،وبالعكس ،فالفصل بين النسقين هو فصل منهجي، إجرائي ،يستهدف بحث شروط إنتاج الدالالت وكيفيات تشكلها. وتشكل المادة التراثية والتاريخية مادة أولي لتشكالت النسق االسترجاعي لدى محمود دياب فيستدعي لحظة تاريخية معينة ويقيم بينها وبين الواقع اآلنى عالقات تماثل وتداخل ،ويتركز مستوى التاريخ في المفارقة اللغوية والداللية : اللغوية بين جمل «العماد» المؤطرة ذات الترجيعات الصوتية المسجوعة والبنية المنغلقة في دورة تك اررية ،وبين لغة «باب الفتوح» الكتاب – البشارة ،بطابعها االختزالي المبني على جمل قصيرة متتابعة تحمل كل منها فكرة قائمة بذاتها، ومفضية في الوقت ذاته إلى غيرها ،وتتمثل المفارقة الداللية بين تأكيد النصر واستالبه معا ،وتشكل تلك المفارقة بمستوييها نسق االستجابة لدى أسامة ،فيبدأ رحلته المتزاج فكرته بقوة الفرد (القائد المنتصر) منتهيا إلشاعتها بين الكتلة الجماعية. ويتوزع النسق المثير ،المستدعي ،في النصوص بين الذاكرة الجماعية التراثية بوعيها الجمعي واستلهاماتها المشتركة (باب الفتوح) وبين الذاكرة الفردية التي تحتوي على مشاهد وخبرات وتصورات خاصة ،ففي «الغرباء ال يشربون
القوة» تتعرض ذاكرة الرجل وأوراقه الشخصية المثبته ،الموثقة ،لالستالب ،حيث يمزق الغرباء ما بداخل الصندوق الصفيح من وثائق ومستندات :صورة الطفل بين أخوته وأمه ،عقود الملكية والزواج وميالد االبن ،قصائد الصبا البعيد ،ولكن الذاكرة المنقوشة على جذع الشجرة والجدران ،والمنبثة في األركان والزوايا مشكلة زمنها الخاص ،غير القابل للتالشي واإلمحاء ،تظل باقية ،وشاهدة على امتالك البيت والهوية،وإذا كان استالب الذاكرة وتفريغ محتوياتها واستبقاء جزئها المنقوص قد تم في «الغرباء» بفعل تصادمي أساساً ،حين يتواجه الرجل والغرباء ،فتتوحد الهوية بالذاكرة وتصبح إثباتا لها ونفيا في آن ،فإن استعادة الصور والخياالت والوقائع الخاصة في الزوبعة ،يتم بفعل تكشف وتطهير.
محمود دياب
77 76
محمود دياب
79 78
رؤى العالم
-1يوتوبيا العالم البديل :
تتشكل شخصية أسامة بن يعقوب في إطار تصوري يستهدف نقض العالم القائم وإقامة عالم بديل ،فهي شخصية ضدية ،صراعية ،تتحرك بداخلها شهوة إلصالح الكون بحس أخالقي ونزهة استشهادية كأثر من بنية ال شعورية كامنة تمزج بين المخلص وكبش الغداء ،وما بين حدى التناقض بمسعاه الهدمي واستشراف العالم اآلخر تتحرك تلك الشخصية بجموحات خيالية ،مثالية، وهذيانات محكومة ومرسلة ،وتوجهات اجتماعية ،وهى تستشرف عالماً مثالياً قائماً على العدل والحرية ،فالثائر األندلسي يصوغ عالمه البديل في كتابه اإلرشادي للسلطان «باب الفتوح» ويصك كلمات تبشرية. لو أنا اعتقنا الناس جميعاً ،ومنحنا كال منهم شبرا في األرض. وأزلنا أسباب الخوف ،لحجبنا الشمس – إذا شئنا – بجنود يسعون إلى الموت. ليذودوا عن أشياء امتلكوها ،واكتشفوا كل معانيها. الحرية ،شبر األرض ،وماء النبع ،قبر الجد وأمل الغد. وضحكة طفل يلهو في ظل البيت. وذكري حب وقبة جامع أدوا يوماً فيه صالة الفجر. محمود دياب
81 80
في تلك الكلمات بطابعها الرسولي التبشيري المنتظمة في جمل قصيرة موقعة – كسجع الكهان – يتكون العالم الضد كيوتوبيا خيالية قائمة على المساواة والحرية ،تستقطب لحلمها الجماعة المهمشة :المجموعة المعاصرة والعائدين إلى القدس وزياد كاتب المؤرخ الرسمي ،بينما يتركب العالم القائم من مؤسسات عسكرية واقتصادية وفكرية تكون الجماعة المهيمنة ،سيف الدين والتجار والعماد. ويكون التضاد بين الجماعة المهمشة والجماعة المهينة الصراع بين العالمين :القائم والبديل ،ويتركز الصراع حول أسامة وكتابة ،وحول بيت أبي الفضل في القدس ،حيث تسعى كل جماعة نحو أهداف مغايرة لألخرى، فالجماعة المهمشة تستهدف حماية أسامة وحفظ كلمات الكتاب بالنسخ أو بالحفظ ،واستعادة بيت أبي الفضل ،بينما تستهدف الجماعة المهيمنة قتل أسامة ومحو كلمات الكتاب وحصار إمكانية الوصول إلى السلطان وإبقاء جماعة أبي الفضل في خرائب المدينة المستعادة ،وتأكيد تواجد اليهودية في البيت وحيازتها له ،ويأتي االنتصار العسكري ليفعل عكس منطقه ،فيؤكد الجماعة المهيمنة وينفي األخرى ،ويرسخ العالم القائم ال البديل ،ويلجأ النص إلى جدلية التضاد عبر فعلين :استعادة المدينة واستالب البيت ،قتل أسامة وحفظ كلماته. إن سيف الدين يؤكد استيالء اليهودية على بيت أبي الفضل بتعيينه جندياً لحراسة البيت ومنع اعتداء المالك الحقيقي – أبي الفضل – على «سارة»
– المالك المزيف – ويأتي تحول البيت إلى ماخور ومبغى ونفى الجماعة العائدة الى الخرائب إضافتيين على تأكيد العالم القائم ونفي بدائله. ويأتي تحالف التجار الثالثة مع سارة معبرا عن إدراكهم الضمني لرمزية البيت ولهويتهم كعناصر متحالفة في العالم القائم ،فحين تنتحل اليهودية لقائد جند السلطان واقعة اعتداء أبي الفضل وجماعته عليها ،فإن التجار الثالثة يؤكدون كالمها ويقدمون شهادات مزيفة للواقعة ،لتتأكد مفارقة دالة ،فبينما تعلن األبواق واألناشيد انتصار األمة وعودة مدنها السليبة ،يتم تزييف الواقع االجتماعي واستالب البيت. لقد تعطف علينا السلطان وأعطانا األمان ،فأنا يهودية يا سيدي، سارة : ولكنني عربية من مكة نفسها ،وقد نبهتهم إلى ذلك ولكنهم لم يكترثوا ،وأصروا على أن يسلبوني بيتي. يتحدون السلطان. : سيف الدين نعم يا سيدي ،ولقد ذهب العجوز يستدعي قبيلته : سارة ليستعين بها فيما عزم عليه من انتزاع البيت. أنا ال عالقة لي بالعجوز ،فقد جمعتني وإياه صدفة هنا : الشاب وكان يطالبها بأن ترد إليه بيته. المرأة لم تكذب. : تاجر العبيد نحن شهودها. تاجر النفائس : الحق أحق أن يتبع. : تاجر العبيد محمود دياب
83 82
حاولت بنفسي أن أنهي األمر ،وأقر الحق لصاحبته، تاجر النفائس : فألهبتني ألسنة كالخناجر. وتهينون كرام الناس ،خنوه إلى سجون القلعة وأحرقوا : سيف الدين هذا الكتاب ،فال تدعوا كلمة واحدة تفلت من النار. وماذا أفعل يا سيدي ألحمي نفسي وبيتي وابنتي ..أنا : سارة ال أستطيع وحدي أن أنفذ أوامر السلطان. سأجعل على بابك جنداً يحمونك. : سيف الدين ويفضي تحالف التجار وقائد الحرس مع اليهودية المتالك البيت إلى تحالف آخر يشملهم جميعا ضد أسامة بن يعقوب وكتابه ،فيكونون دائرة جسدية قاتلة تضيق على أسامة تدريجياً ،وباستالب البيت وقتل األندلسي وإبقاء أهل القدس في الخرائب ،يتم تأكيد العالم القائم ،بينما يظل العالم البديل متجسدا في الكلمات التبشيرية ومحفوظا في ذاكرة الجماعة المهمشة. ويشكل محمود دياب مشهد النص النهائي بمفارقة لغوية تؤكد داللة الهيمنة والتهميش ،حيث يعلو صوت عماد الدين بأبيات إنشائية منظومة ومسجوعة ،تكريسا لبقاء العالم القائم بآلياته وقواه المهيمنة ونظامه الفكري واللغوي ،بينما يأتي صوت الجماعة المعاصرة معلنا زيف االنتصار العسكري باعتباره تغييرا سطحيا وظاهريا ومؤقتا ،فقد عادت الهزائم وتساقطت المدن العربية مجددا ،لتبقي كلمات باب الفتوح ،النبوءة الفاجعة والبشارة الكاشفة
والمجهضة ،دالة على حلم الجماعة المهمشة بعالم بديل. سأفتح قوسا استطراديا هنا ،وأقابل جزئيا بين نصوص « محمود دياب « وبعض نصوص» صالح عبد الصبور» لوجود تماثالت وتعارضات بين العوالم المتداخلة والمركبة لكال الكاتبين ،وهو ما يؤدى بشكل مجمل الستخالصات واستشرافات نقدية متعددة0 استنادا إلى ذلك ،يمكن التوصل إلى أن نص محمود دياب قد صاغ يوتوبيا العالم البديل عبر ثنائية ضدية :الجماعة المهمشة ،والجماعة المهيمنة وركزها في عالمات بصرية وسمعية (البيت ،كلمات باب الفتوح)،وكذلك فإن نص «مأساة الحالج» قد صاغها عبر الثنائية نفسها: :
الجماعة المهمش ة المتصوفة والسجينين. : الجماعة المهيمنة والسلطان.
وتشمل المتسكعين الثالثة ،والفقراء ،وجماعات القضاة والجنود ورموز الدولة وزير القصر
غير أن هناك تبديال جوهريا هنا ،فالجماعة المهمشة في باب الفتوح تحفظ كلمات ثائرها وتتوحد به وإن لم تستطع الحفاظ على حياته ،بينما هي في الحالج تشارك ،ضمنيا وتواطؤا في قتل فاديها المخلص وهدر كلماته ،وتظل منفصلة عنه ككتلة خارجية ،مشاهدة ال مشاركة. محمود دياب
85 84
إن الجماعة المهمشة :المتسكعين الثالثة ،الفقراء ،المتصوفة ،جماعة مشاركة في قتل الحالج وصانعة له ،وعدا األولي التي تأخذ موقف المتفرج والمعلق من بعيد ،فإن الثانية تشارك مدفوعة بما يملي عليها مدركة لما يجري لها من خداع وتزييف ،أما الثالثة فقد شاركت بالتواطؤ وساهمت في إنفاذ الجريمة بالصمت. وتتخلل ثنائية :الجماعة المهمشة/الجماعة المهيمنة ،وتؤطرها ثنائيات أخرى متعددة (الكلمة/الفعل ،القوة/الفكرة) وتفضي كلها إلى ثنائية مركزية متمثلة في :العالم القائم/العالم البديل. ويستشرف الحالج العالم البديل عبر رؤاه الصوفية بطابعها الكلي المجرد ،رافضاً العالم القائم. الحالج :
يا شبلي. الشر استولي في ملكوت هللا. حدثني ..كيف أغض العين عن الدنيا إال أن يظلم قلبي.
ويبادره الشبلي بسؤال خطر ،مفارقاً – للحظات – طبيعته اآلمنة المطمئنة ،مفسرا الشر باعتباره جزءا من بناء العالم ومدار عالقاته وفق إرادة
إلهية مريدة مختارة ،غير أن أصداء السؤال الخطر – رغم تفسير الشبلي – تظل ماثلة ومعلقة ،دافعة الحالج إلى تفسير مغاير وفعل مضاد. الشبلي : الحالج : محمود دياب
هل تسألني من ذا صنع الفقر ،االستعباد وإليك جواب سؤالك. الظلم لكني ألقي في وجهك بسؤال مثل سؤالك. قل :من صنع الموت؟ قل :من صنع العلة والداء؟ قل :من وسم المجذومين. والمصروعين ؟ قل :من سمل العميان؟ من مد أصابعه في آذان الصم؟ من شد لسان البكم؟ من ألقانا في هذي الدنيا مأسورين؟ ال ..ال أجرؤ أتريد أن تقول ال ..ال ال تمأل نفسي شكاً يا شبلي دعني أتأمل فيما قلت اآلن ها أنت تزلزني في داري والسوق يزلزني أن أترك داري 87 86
ويستجيب الحالج لزلزلة السوق فيترك داره نازالً – بالكلمات إلى الساحة ،خالعا خرقة الصوفية ،موحدا بينها وبين عناصر عالمه القائم الذي يسعى إلى تجاوزه واستشراف عالم آخر ،فالخرقة هنا ليست عالمة في جماعة نوعية (المتصوفة) وال شارة انضواء بها ،بل هي – كعالمة متحولة – تصبح قيدا في األطراف ،وشارة ذل ومهانة ،ورمزا يفضح فقر الروح ،ولذلك يصبح خلع الخرقة فعال محوريا يؤشر ال على تحوالت الحالج فقط ،وإنما على انتهاء العالم المغلق وابتداء عالم آخر. وتظل الثنائية ذاتها :الجماعة المهمشة/الجماعة المهينة ،فاعلة في نص «ليلى والمجنون» ،ولكن مع فوارق رئيسية في بنية التشكيل والرؤية حيث تحتل الجماعة المهمشة مجمل المساحة النصية مع تغييب تدريجي دائم لفاعليتها النسبية ،بينما تبقي الجماعة األخرى غائبة ومهينة ،ومن جدل الجماعتين : الحاضرة المهمشة ،الغائبة الفاعلة ،تتشكل الثنائية الضدية :العالم القائم والعالم البديل. ويؤدي حريق القاهرة فى « ليلى والمجنون»– كحدث خارجي – الوظيفة نفسها التي يؤديها االنتصار العسكري في «باب الفتوح» فيفضي إلى تأكيد العالم القائم ونفي بدائله ،فحريق القاهرة يشكل عالمة فارقة في مصائر الشخصيات وتكوين عوالمهم ،فهو ينهي التماسك النسبي للجماعة المهمشة وتطلعاتها الحلمية ،ويخلخل منطق رؤيتها وتجانسها الظاهري وحتي
تواجدها كجماعة ،يتفكك المشروع المشترك والحلم الجماعي وتبدأ – بوقع الحريق واألزمة الداخلية – المشاريع الفردية واالنسحابات المتوالية إلى األديرة وحضانات األطفال والمعتقالت. ويأتي توصيف الجماعة من خالل شخصية األستاذ وحديثه العاكس لحلم الجماعة وأزمتها معاً. من بضعة أشهر وكتيبتنا تتقدم في أفق الليل المربد حاديها نجمان مضيئان بعيدان الحرية والعدل ينصب شعاعهما في أعيننا ،فيثير جنوناً كجنون العشاق. ........................ اخترتكم من بين شباب الكتاب لتصلوا جبني للزمن اآلتي كي ينكشف وأنا حين ُ ويتقدم كنت حزيناً ،أعلم أني أسلبكم أياماً ماثلة كي أعطيها للحلم حلم قد ال نشهده ،خلجان قد ال نرسو فيها رغم محبتنا للمدن الدافئة النائمة ببطن الخلجان. ويتمثل «سعيد» مثل « أسامة»وعي الجماعة المأزومة وصوتها، انسحاقاتها وارتداداتها الذاتية ،واستشرافها لعالم مغاير ،مجمال حقيقته الواقعية وطابعه الرمزي في عنوان القصيدة – النبوءة :يوميات نبي مهزوم ،يحمل قلما ،ينتظر نبياً يحمل سيفاً. محمود دياب
89 88
وهكذا يتشكل بناء العالم البديل في نصوص الكاتبين « دياب -صالح المخِّلص – الضحية ،التي تخللت األبنية النصية من عبد الصبور» عبر ثنائية ُ حيث الرؤى والتصورات وتركيب المواقف والعالمات ،مكونة نموذج عالقات عناصره : نظام سياسي واجتماعي قمعي ،وفاسد. -1 فرد أو جماعة متمردة ،عاصية ،متصادمة. -2 وسيلة التمرد :الكلمات. -3 هزيمة ( قتل – اعتقال ). -4 مع ضرورة إيراد عدد من النقاط األساسية : رغم تمرد الشخصيات أو تعارضها الجزئي مع النظام القائم ،إال أنها ال -1 تسعى للمواقف الصدامية ،بل هي دائمة التهرب منها ،فأسامة يسعى دائماً إلى اللقاء المنفرد مع السلطان متقافزا على الحواجز والحراس ،وفي ليلى والمجنون ال يوجد أصال موقف صدامي ،وتواجد تلك المواقف المتصادمة في «الحالج» و «باب الفتوح» يتم من خالل السلطة المتعقبة ألسامة والحالج. العالقات مجردة ومنتهية منذ بداية النصوص ،فالعالم ثنائي وثابت، -2 وفرضيات الصراع والشخصيات محددة ابتداء. -3
الشخصيات متكونة تكونا نهائيا قبل النص ،وهي ليست عرضة للتحول،
وإن كانت ذات قابلية واضحة لالنكسار وأحيانا هي ساعية إليه (الحالج- أسامة ،ونزعتهما االستشهادية ). تدخل الشخصيات قسرا ال اختيارا في عالقة تصادمية مباشرة مع -4 السلطة السياسية ،فهي في الحالج وباب الفتوح تتشكل ابتداء من إطار تعارضي مع األنظمة القائمة وتظل كذلك إلى أن ينتهي التضاد أو يتأكد بالتصفية الجسدية، أما سعيد وباقي مجموعة العمل الصحفي في ليلى والمجنون ،فإن العالقة تأخذ أشكاال متعددة :صدامية (حسان) متواطئة (حسام) متمردة (زياد – حنان – سعيد) وتفضي إلى التصفية المعنوية. الكتلة االجتماعية مغيبة في الصراعات األساسية في النصوص ،فرغم -5 أن حركة األبطال اإلصالحيين متوجهة إلى التكتالت والجموع ،إال أن الجماعة (الشعب) تظل كتلة هالمية ساكنة ،مجردة وكلية ،خارج دائرة العالقات ،تلعب دور الخلفية العامة أو اإلطار. رغم التعارض الذي يبدو جذريا بين الشخصيات الرئيسية والعالم القائم -6 إال أنهم يصوغون عوالمهم البديلة من خالل أطر إصالحية ال تستهدف تغيير الجذور والهياكل قد ما تستهدف إحداث تغييرات جزئية مع نزعات إصالحية ذات طابع أخالقي وطوباوي ،فهم يقدمون أنفسهم قرابين لصياغة يوتوبيا بديلة ،باستثناء نسبي خاص بأسامة بن يعقوب الذي يبدو ممتلكا لمشروع فكري محمود دياب
91 90
واجتماعي محدد ،غير أن مجاله الحركي والداللي ذو طابع مثالي أساسا ،فهو يتوجه من اشبيلية – المكان المهزوم – إلى القدس – المكان المنتصر ،بينما منطق نظريته الثورية يحتم الحركة المضادة العكسية ،فالنظرية الثورية يجب احتياجا لها وهو هنا اشبيلية ال القدس ،كما أن تتوجه أوال إلى المكان األكثر ً أنه يحمل كتابا يحوي أفكارا مجردة للقائد الفرد وليس للجماعة. في النصوص ما يمكن توصيفه بالرحلة الفاشلة ،سواء أخذت الرحلة -7 معناها الحرفي أي انتقال المكان كما في باب الفتوح ،أو أخذت معناها الرمزي المتمثل في االنتقال المعنوي من عالم إلى آخر ،ففي ليلى والمجنون تتفرق الجماعة بعد رحلة محبطة ،ويضفي الحدث الواقعي (احتراق القاهرة) على الرحلة أبعاداً رمزية ،فتتعدد طرق الخالص – الخالص الديني (الرهبنة داخل الدير) والخالص بالحياة العادية ،واالستغراق في تفصيالتها وأشيائها الصغيرة دون رغبة في التغيير أو حلم التجاوز ،أما األستاذ فيسترسل في تعميد شعري لمأساوية النهاية بلغة تحمل إشارات إلى اإللياذة :الريح – القربان البشري – البحر – رحلة األثينيين إلى طروادة ،وبعد محاولة عابرة إلثناء الجماعة ،يعود فيبارك اختياراتهم بينما تتردد صيحته الختامية «أغلق ،أغلق» لتؤكد فساد العالم وعدم القدرة على الفعل ،ويأتي ذلك تمهيدا لموقف سعيد التالي مباشرة :انتظار القائم ،فيختفي صوت سعيد ليحل محله صوت الشاعر أو هما يمتزجان معا في صوت واحد معلنا الموقف األخير – االنتظار – في ترتيله النهاية. ***
-2إبدال األضحية :خداع العنف
إن كل مجتمع – كما يري االجتماعيون – هو مجتمع ضاغط ،فكما يري «دور كايم» فإن أولي خصائص الحياة االجتماعية هي اإلكراه الذي يعتبر مقياسا ُيستدل به على ما هو اجتماعي أو غير اجتماعي ،وكذلك «ماركس» الذي يرى أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ صراعي ،وأن العنف ينجم عن تحول بنية ال عنف فيها هي «الملكية التجارية» إلى بنية عنيفة هي (الملكية الرأسمالية) ،وينتهي هذا التطور إلى وضع عنيف ،هو فقدان العامل ملكية عمله واستغالل فائض قيمته ،عند هذا نجد أنفسنا في وضع عنيف ،ولذلك فإن العنف لدى ماركس يلعب دورا هاما في التاريخ ،فكل مجتمع قديم يحمل في طياته مجتمعا نقيضا يحطم أشكاال اجتماعية جامدة. ومن زاوية أخرى ،يذهب «رينيه جيرار» إلى أن العنف يوجد في أصل الطقوس واألساطير واألديان معتمداً على إعادة قراءة المآسي اإلغريقية، وفي هذا النطاق يبرز الدور األساسي للعنف المقدس والدور الهام الذي ابتدعته البشرية لكبش الفداء. لقد عارض جيرار النظرية الفرويدية حول «عقدة أوديب» ،وحاول وضعها في نطاق أكثر اتساعاً من التهدئة للمجتمع وذلك بتخصيص كبش محمود دياب
93 92
فداء تتمكن الجماعة من التحالف ضده بدالً من أن تتمزق ،ولكي يدعم آراءه تبني خططاً واضحة في كتاباته بحيث جمع أمثلة عن األضحيات المتعددة والمستخلصة من ثقافات متباعدة ،واعتمد في ذلك على مالحظات علماء األجناس حول الديانات البدائية والتراجيديات اإلغريقية واألساطير ،في محاولة لوضع نظرية تتيح الجواب على المسألة الشائكة وهي :لماذا طبقت األديان المتباعدة والمختلفة ابتداء من تعدد اآللهة لدى اإلغريق إلى الديانات التوحيدية، طبقت القربان الدموي ،إن التراجيديات اإلغريقية فيما يري «رينيه جيرار» تمثل تشويهاً مخادعاً ورقيقاً ألحداث تاريخية فعالً ،وليست تجسيداً لغرائز جنسية ال واعية وفردية ،أو تجسيماً لتصور خيالي جماعي ،وإنما هي طريقة لتحاشي حادث شرير ُيرغب في عدم حصوله»18». إن ذلك التحاشي ،أو بتعبير آخر :خداع العنف ،يشير إلى لعبة االستبدالت التي ينتجها المجتمع لحماية أفراده ،لقد رأي «جوزيف دي ميستير» في األضحية الطقوسية دائماً مخلوقاً بريئاً يسدد عن أحد المذنبين ،لكن الفرضية التي يقترحها «جيرار» تزيل هذا التوصيف األخالقي ،فالعالقة بين األضحية الممكنة واألضحية الفعلية ال ينبغي أن تعرف بعبارات الجرمية والبراءة ،فال يوجد شيء للتكفير ،فالمجتمع يسعى لالنعطاف نحو ضحية حيادية نسبياً، وبذلك – فإن كل الصفات التي تجعل العنف مرعباً ،وحشياً ،ليست بدون مقابل :إنها ال تشكل سوى شيء واحد مع نزوع الجماعة التلقائي لالنقضاض على ِ األضحيات البديلة ،إنها تتيح مخادعة العدو ،وذلك بأن تلقى إليه في الوقت
المناسب المغنم الزهيد الذي سوف يرضيه ،فحتي حكايات الجنيات التي تظهر لنا الذئب ،والغول أو التنين وهي تبتلع بشراهة حجراً كبيراً بديالً عن الولد الذي ()19 اشتهته يمكن أن تكون لها خاصية تضحوية. في العهد القديم واألساطير اإلغريقية ،األخوة هم تقريباً على الدوام متعادون ،والعنف الذي يبدو أنهم مدعوون ال محالة لممارسته ضد بعضهم البعض ال يمكن أن يتبدد أبداً إال على ضحايا تكون طرفاً ثالثاً ،وحسب التقليد اإلسالمي ،فإن الكبش الذي سبق لهابيل أن ضحي به هو الذي أرسله هللا إلى إبراهيم ليضحي به بدالً عن ابنه إسماعيل ،فبعد أن كان قد أنقذ أول حياة بشرية ،ينقذ الحيوان نفسه حياة إنسان ثان ،فنحن هنا على صلة ،ليس ببعض ()20 الرؤى الصوفية ،وإنما مع حدس يقوم على وظيفة التضحية. إن العنف بتحوله دائماً نحو األضحية البديلة (عبر لعبة االستبداالت) يفقد رؤية الموضوع الذي قصده بدئياً ،وطالما بقيت األضحية حية ال يمكنها أن تجعل التحويل الذي بنيت عليه ظاهراً ،ومن ثم تفقد األضحية فاعليتها. استناداً إلى النقاط السابقة – فإن لإلبدال التضحوي خاصية وهدفاً، فهو يستبدل األضحية الفعلية باألضحية الممكنة مستهدفاً خداع العنف وحماية الجماعة ،وهو ما يمكن تطبيقه بتحويرات معينة على النصوص المدروسة، فالشخصيات الثالث (الحالج – سعيد – أسامة) بتحولهم إلى أضحيات فعلية، محمود دياب
95 94
بإرادة جماعية وفردية معاً ،فإنهم يسعون عبر عملية استبداالت إلى حماية كلماتهم ذاتها ،فالشخصيات هنا ال تمثل باعتبارها كياناً مادياً واقعياً هدفاً للعنف المضاد الذي يستهدف الكلمات ال أشخاص قائليها ،ويتبدي وعي الشخصيات بتلك الحقيقة واضحاً ،ولذلك فإنهم يسعون إلى فداء الكلمات وتقديم أنفسهم كأضحيات بديلة بحيث يصبح لنجاة الكلمات معنى رمزياً يدل على نجاة صاحبها ذاته ،إن بقاء الكلمات حية ،بهذا المعني ،ينفي موت أصحابها المادي، وبذلك تصبح األضحية الممكنة سبباً للحياة وعالمة عليها في آن ،حياة الجسم والكلمات. ففي باب الفتوح ،وقد ضاقت الدائرة الوحشية المتشكلة من أجسام التجار الثالثة على أسامة مفضية إلى موته ،فإن أحد الشبان الخمسة يتساءل موحداً بين الشخص وكلماته ،هل مات أسامة؟ هل ماتت كلماته؟ -فيجيب شاب ثان نافياً الموت كمعني ال كواقعة ،مؤكداً على أن بقاء الكلمات يعني بقاء قائلها، مردداً « ال ،فأنا أحفظها وبوسعي أن أسمعها لك إن شئت». وفي مشاهد سابقة ،فإن الجماعة تستنسخ الكتاب كأنها تجعل من حياة صاحبه حيوات متعددة ،وحين تسقط النسخ المتداولة في أيدي الحراس الذين يحرقونها واحدة بعد األخرى ،وال يتبقي سوى نسخة واحدة من أصل الكتاب، فإن أسامة يسعى ضمنياً للوقوع في أيدي مطارديه كي يفدي النسخة الباقية. أهذه نسخة جديدة من الكتاب؟ أسامة :
ال ،بل هو أصل كتابك « في آسى « :ألم تنسخه؟ لم يمكنني الشيخ من العمل في كتابك الليلة. « في ألم « :إنها النسخة الوحيدة الباقية إذن. كال ..فإن في صدري مئات النسخ ،فلقد حفظت الكتاب كلمة
زياد : أسامة : زياد : أسامة : زياد : ..كلمة. قد تحرق هذه النسخة اليوم أيضاً. أسامة : هم لن يضعوا أيديهم عليك ،أنا على يقين من براعتك في زياد : اإلفالت. فإن وقعت في أيديهم ..؟ أسامة : هذا فرض ال أحب أن أفكر فيه. زياد : فلتفكر في هذا الفرض. أسامة : لن ينتهي كتابك أبداً ،فلن أدع فرصة تسنح لي إال وأسمعت زياد : كلماته للناس ،سأتلوها في األسواق وفي الساحات ،على أبواب المساجد والكنائس ،وفي مداخل الطرقات سنمأل الدنيا بكلمات باب الفتوح. إن الجماعة المعاصرة وبطلها المتخيل ،وقد أيقنوا االستحالة العملية للقاء أسامة وصالح الدين تحقيقاً للمسعى المثالي المتمثل في امتزاج السيف بالفكرة ،فإنهم يسعون إلبقاء كلمات باب الفتوح حية عبر نسخ الكتاب وحفظ عباراته وأفكاره والتبشير بها بين الجموع ،بحيث يصبح ذلك الفعل هو فعلها محمود دياب
97 96
األخير كجماعة مهمشة بإزاء الجماعات المهينة.
-3جدلية الغياب والحضور
***
باإلضافة إلى الثنائيات الضدية التي تشكل العالمات الرئيسية في نص باب الفتوح ،تتمحور نصوص :الزوبعة ،الغرباء ال يشربون القهوة ،حول ثنائيات أخرى تجسد رؤاها بشكل أساسي ،وأول هذه الثنائيات الضدية التي تجسد العالمين اللذين تراهما النصوص طرفي نقيض :العالم القديم /العالم الضد. وضدية الثنائية هنا ليست ضدية مفهومية فقط ،بل إنها ضدية بنائية كذلك ،ولهذه الضدية أبعاد ترتفع بها عن كونها عرضية أو صدفية ،ذلك أن ما يشير إلى العالم القائم في النصوص له هذه الحقيقة الشمولية مفهومياً، وبنائياً ،ألن العالم القائم كتلة صلبة مجردة من الموروثات الجماعية والعالقات المهيمنة. لكن التضاد بين العالمين – رغم ذلك – ليس مطلقاً في رؤى النصوص، خاصة في الزوبعة ،إلى الدرجة التي يستحيل معها إحداث توسط بينهما ،فثمة خصائص مشتركة بين العالمين ،بل إن العالم البديل – بطابعه الطوباوي – ليس إال العالم القائم مضافاً إليه بعض النزعات األخالقية والتصورات المثالية.
ويتجسد جدل الغياب والحضور في النصوص عبر أفعال أو آليات معينة ،حيث يتجسد في نصوص :الزوبعة – الغرباء – ليلى والمجنون، المخلص الغائب ،وهو يمكن أن يكون إنساناً معيناً كحسين أبي شامة في نموذج ُ «الزوبعة» ،واالبن في «الغرباء» ،فهما شخصيتان تمتلكان مواصفات معينة سواء كانت حقيقية او متوهمة ،ويمكن أن يكون النموذج حالة خيالية مجردة كما في ليلى والمجنون ،حيث ينتظر سعيد ُمخلصاً غائباً :نبياً يحمل سيفاً. المخلص يشكل قيمة ورغم الغياب المادي في تلك النصوص ،إال أن ُ يفجر العالقات في القرية مهيمنة ،فخبر عودة حسين أبي شامة في «الزوبعة» ُ المخلص في نصي «ليلى والمجنون» و ويحدد تحوالتها الالحقة ،وإنتظار ُ «الغرباء» ليس حالة درامية بقدر ما هو حالة رؤيوية مشكلة لموقف الشخصيات النهائي ودالة عليه معاً. المخلص الغائب – أن نصوغ عناصر مخطط ويمكننا – ونحن نرصد ُ تفسيري في النقاط التالية : عالقات ساكنة لجماعة معينة في إطار اجتماعي (قرية – جريدة – -1 بيت). -2
أزمة مفاجئة تتشكل في حدوث رمزي أو واقعي : محمود دياب
99 98
خبر عودة حسين أبي شامة واكتشاف الجماعة لبراءته ومعرفته أ - القاتل الفعلي ،ثم استمرار الجريمة بتواطؤ الجماعة ضد الغائب« ،الزوبعة». ب -دخول الغرباء ،واحداً إثر األخر ،وتعاقب أفعالهم المادية – قياس واجهة البيت والجدران والمسافات ،والرمزية – تمزيق هوية الرجل وأوراقه الشخصية« ،الغرباء ال يشربون القهوة». تسيطر على حركة الشخصيات الرئيسية ما يمكن أن نسميه وعي -3 األزمة ويتمثل ذلك في : ب -استغراق الرجل في الغرباء وسعيد في ليلى والمجنون في لمخلص خطاب ذات وهذيانات مرسلة متراوحة بين النبوة والحلم ،في انتظار ُ قادم يحدده الخطاب في عالمة مادية :السيف في ليلى والمجنون والبندقية في الغرباء. جـ -استعادة صالح الوقتية ألحالمه المجهضة بينما تبدو الجماعة في سلوك تطهيري يتمثل في إعادة الممتلكات المسلوبة إلى صالح وأخته صابحة، بحيث تسيطر على عالقات القرية كلها حركة عكسية :الجماعة تسعي للتطهر وتبرئة الذات أو حمايتها من االنتقام المتوقع للغائب ،بينما صالح يغادر حالته الساكنة إلى حالة أكثر تفاعالً مع الواقع والذات ،متناقضاً – بشكل نسبي – مع حالته األولي القانعة المنسحبة. -4
يتداخل وعي األزمة في النصوص مع المخيلة الجماعية (الكتلة
االجتماعية خارج النص) في خصيصة أساسية هي :صياغة العالم البديل صياغة خارجية مجردة ،حلمية ،ومفارقة ،وليست صياغة مستمدة من بنية العالقات القائمة داخل العالم الموجود ،بمعني أنها صياغة هروبية وليست صدامية ،خيالية وليست متجادلة مع األنساق االجتماعية والمعرفية الحادثة، فالمالحظ أن صياغات العالم البديل في النصوص قائمة على تصورات مثالية ذات طوابع أخالقية وليست صياغة جدلية قائمة على تركيب مركب ثالث من نقيضين. وكتفصيل جزئي للنقاط السابقة ،فإن جدلية الغياب والحضور في النصوص ليست جدلية خاصة برؤيتها فقط وإنما هي جدلية بنائية تشكل أنساق العالقات النصية وأنظمتها اإلشارية .ويتضح ذلك في الزوبعة ،فهناك زمن غائب (القرية منذ عشرين عاماً) ومكان غائب (السجن) ورجل غائب (حسين أبو شامة) في مقابل تعارضي مع زمن آني ومكان حاضر وشخصيات قائمة، وينتج الغياب قيماً مهيمنة على الحضور في صياغة تركيبية بينهما على مستوى األزمنة واألمكنة والمواقف والشخصيات ،فإذا تجاوزنا عالقة صالح مع أهل القرية لنرصد العالقة األعمق وهي عالقة أبيه مع الجماعة ،فيمكننا أن نرصد نقاطاً محددة : صورة الجماعة غير تقليدية إلى الصور المماثلة في النصوص -1 األخرى،حيث تظهر الجماعة عادة في صورة طيبة ،منساقة ،مغيبة ،مهمشة .. وهكذا ،لكن الجماعة في الزوبعة جماعة ذئبية متوحشة «قلوبهم مليانة غل» ما محمود دياب
101 100
وراهمش غير الشر) تؤسس العالقة وتحكم تطوراتها الالحقة بنية متضادة :الغياب -2 والهيمنة ،فحسين أبو شامة غائب داخل السجن منذ عشرين عاماً ،تمت خاللها صياغة عالقات جديدة مستقرة مبنية على غيابه ،غير أن خبر عودته يفكك تلك العالقات اآلمنة ويثير «زوبعة» نفسية واجتماعية ،ويفضي إلى عدد من التحوالت األساسية. هناك جريمة غائبة ومستمرة ،فتواطؤ القرية الذي أفضى بحسين أبي -3 شامة إلى السجن ،يجري ابتعاثه لنكتشف ليس فقط التواطؤ القديم والوشاية الكاذبة وشهادة الزور ،وإنما استمرار الجريمة أيضاً من خالل عزل االبن ومحاصرته النفسية واالجتماعية ،وتحالف الجماعة ضد العودة والتربص بالغائب. استعادة حسين أبو شامة في مخيلة القرية يتم على مستويين : -4 يتحول إلى ُمخلص عند شخصيات عاجزة عن الفعل ال تملك أ - غير انتظاره (صالح – صابحة) في عملية أقرب إلى اإلشباع النفسي والتعبير عن الفقدان ،فتتم – من خالله عودته المرتقبة – االستعادة الوهمية لحلم البيت والزواج والحقل واألمان. ب -يتحول إلى منتقم عند الجماعة الذئبية ،ويثير مشاعر الخوف
ال اإلحساس بالذنب ،وبفعل الخضوع إلرادة منتقمة عائدة ،تعود المسلوبات للعائلة ،في الوقت نفسه الذي تتحالف فيه الجماعة متحفزة لجريمة أخرى. هناك إطاران زمنيان كليان :القرية منذ عشرين عاماً ،والقرية اآلن، -5 وبين هذين الزمنين زمن مغيب سوى من إشارات دالة على أن القرية قد تواطأت على الصمت والنسيان ،ورغم أن زمن النص هو الزمن اآلني إال أن الزمن األول هو الذي يحرك األحداث والشخصيات ،جدلية متنامية دائماً بين عناصر غائبة وأخري حاضرة ،فكما يغيب حسين أبو شامة ويظل مهيمناً، يغيب كذلك الزمن األول ولكنه يظل في الذاكرة الجماعية محركاً للمواقف واالنفعاالت ،المخاوف والرغبات. تحمل نهاية المسرحية معني تحقق الخالص الفردي ،حيث تتبدل صورة -6 صالح لدى الجماعة ،ويتحول من حالة (األهطل) إلى وضع الرجل ومكانته، فقد اكتسبته التجربة قوة وفاعلية ،ويبدو مصمماً على االحتفاظ بحقوقه بلغة تبدو حالمة ومثالية لكنها تعكس موقفاً جديداً ،غير أن الخالص الجماعي للقرية يظل معلقا ومفتوحا على إمكانيات متعددة فخالص القرية النفسي وتطهرها الجماعي من جريمتها القديمة ال يتحقق ،إذ يظل جوهر العالقات واألوضاع قائماً بحيث يمكن أن يفضي إلى جريمة أخرى.
المخلص الغائب في الزوبعة رغم غيابه المادي ،إال أنه يشكل النص إن ُ محمود دياب
103 102
المخلص الغائب – في ليلى والمجنون بنيوياً ومفهومياً ،غير أن ذات النموذج – ُ والغرباء ال يؤدي الوظيفة نفسها ،إذ يظل رؤية فرد مأزوم في سياق عالقات نصية مغايرة ،فالرجل في الغرباء وقد استرسل في هذيانه األخير ملتجئاً إلى محتويات المكان وتذكاراته البصرية في الحجرات والممرات وعلي جذع الشجرة (القلب والسهم ،جدول الضرب المحفور على جدار غرفة الولد .. .. إلخ ).حيث تنتابه حالة حماسية مفاجئة وهو يحدث زوجته الغائبة خلف شيش النافذة المتواربة. ستظل هناك وسيلة لنحتفظ ببيتنا سنتحصن بداخله ،أنا وأنت. ستمسكين بسكين وأمسك أنا بساطور وسنقيم المتاريس ولن نسمح بالدخول لغير األصدقاء هل انتهيت أنا إذن؟ ..أترينني انتهت كال ..فأنا قائم ..وحي وهو – بعد حماسته الفجائية وكلماته المتقاطعة مع تكوينه النفسي والزمني – يستدير ليدخل البيت ،غير أن بصره يقع على أحد الجيران ،فترتسم على شفتيه ابتسامة كبيرة سرعان ما تزول ،فالجار سكران ،وهو يسير محاذراً يخشى السقوط،يدندن بأغنية قديمة في غير اتزان ،ويتابعه الرجل ينظره من أعلي سلم المدخل غير أن الجار ال يلحظه ،حينئذ يتوقف الرجل عند المنضدة، يتأمل أدوات القهوة والصحيفة واألوراق الممزقة ،فتعاوده انكساراته الروحية،
وينعكس عليه وعي األزمة ،فيستحضر ابنه الغائب متماساً مع مخيلة الجماعة لمخلصها المنتظر ،ويسترسل في المأزومة فى استدعاء الصورة المجردة ُ حديثه الذاتي وهو يجتر عالمه المتهاوي. غداً يا سنية ،مع أول شعاع للشمس سأبعث ببرقية إلى الولد. برقية أقول له فيها ..عد إلينا ..تعال عش معنا أنا وأمك والبيت بحاجة إليك فالغرباء كثيرون أو لعل األفضل أال أشير في البرقية إلى الغرباء. بل ال ضرورة لن أكتب كل هذا فيها يكفي أن أقول :أحضر حاالً. وال تنسي وأنت قادم ،أن تحمل معك بندقية وسيفهم هو حتماً ،ما أعنيه بالبندقية. المخلص الغائب رؤية وهاجساً لدي النبي وفي ليلى والمجنون ،يظل ُ المهزوم – سعيد – عبر فعل سكوني :االنتظار ،وهو فعل يحمل دالالت العالم المؤجل والتوقف النفسي واالجتماعي ،ويصوغ سعيد ُمخلصه المنتظر في صورة نبي (صاحب رسالة – وجود فكري ومعرفي مفارق) يحمل سيفاً (المقابل المضاد للكلمة العاجزة) وإذ يصوغ تلك الصورة المثالية لنبي مسلح، فأنه يصوغ صورة مناقضة لذاته. محمود دياب
105 104
وتتحدد صورة الذات عند أسامة من خالل المجموعة المعاصرة المكونة له على صورتها ،فهو وجود افتراضي تقترحه الجماعة باستقرائها للتاريخ ،أو لثنائية التاريخ المكرس المدون/المهمش الشفوي) وإحساسها بضرورة نموذج مضاد للنماذج المحفوظة في خزانة التاريخ الرسمي وأيدلويوجيته المهنية. فكرتي أن التاريخ وهو ينافق السادة تجاهل الثوار عن الشاب الرابع : عمد فالثوار هم في العادة ضد السادة. ومن هنا يا رفاق. الشاب الخامس : تبدأ مهمتنا في إعادة صوغ التاريخ علينا أن نفتش عن هؤالء الثوار فال بد أنهم وجودوا بكثرة في الزمن الذي اخترناه. وكيف نتعرف عليهم ،والزمن بعيد ولم يرد اسم واحد : الفتاة ( ) 1 منهم ،ال في المراجع وال حتي في سجالت المدافن. بالقرائن ،إن عصراً تتمزق فيه أمة عظيمة : المجموعة البد أن يشهد يوماً ميالد ثائر فلنجعل هذا الثائر يظهر في أيام صالح الدين : الفتاة ( ) 2 ولنجعلهما يلتقيان
وهكذا – صنعت المجموعة نموذجها المتخيل ،واختارت له االسم
(أسامة بن يعقوب) والوطن (األندلس) والزمن (عصر صالح الدين) وحددت له المهمة (االلتقاء بالقائد المنتصر) ومجاله الحركي (من أشبيلية إلى القدس) ولحظته اآلنية (مطارد من الحراس) ،وبذلك فإن صورة أسامة افتراضية كتجسيم مرئي لذاكرة الجماعة وأزمنتها المعيشية ،ولذلك تصوغه نقيضاً لواقعها في هيئة مثالية ،فهو : شاب ال بد أن يكون فارساً. شجاع ،ذكي ،أمين. عنيد في الحق له قلب شاعر وحسه مفكر فدائي عند الضرورة يعرف ما يريد وإذ تتوالي االقتراحات الخاصة بتكوين النموذج من قبل كل فرد في المجموعة ،فإن أسامة يتجسد في شكل مرئي من خالل فعل متناقض مع الصورة المثالية (فهو قلق وخائف من مطاردة الحراس) ،ويؤشر هذا التضاد األولي بين الصورة وتجسدها الحركي مجمل التناقضات المتوالية في النص.
وتكتمل صياغة النموذج في مخيلة الجماعة ،ويبدأ فعل التداخل مع محمود دياب
107 106
الزمن المستدعى ،وحلم الجماعة في تكوين عالمها الضد. المجموعة «إلى الجمهور» : أسامة بن يعقوب ،هو اسم فتانا الثائر لن تجدوا له أثراً في فهارس أو مراجع أو على جدران قلعة ،وال في نقش جامع أو في مالحم الشطار لم يكن يوماً خليفة ،أو أميراً في والية أو من رجال المناصب. لم يكن بوق دعاية ،أو كلب صيد لحاكم لم يبع أهله من أجل منصب لذلك ،لم يذكر اسمه في الوثائق والمراجع ومع تجسد النموذج في صورة مرئية ،تختفي الجماعة المعاصرة وزمنها اآلني ،ويستقل أسامة عن الجماعة المكونة ليدخل في تصادم مع الجماعة التاريخية (العماد – سيف الدين) ،وهو يحدد صورته عن نفسه من خالل تحديده لكتابه «باب الفتوح» ولوظيفته كمرشد للسلطان ،ولكنه يحول اإلرشاد كرؤية متجاوزة إلى مجرد المشورة.
أهو قرآن جديد يا أسامة ؟ العماد : أسامة :إنه ليس قرآناً ..إنه حلم ......... أنا ما جئت إال ألرشد السلطان إلى ما يحسن صنعه بعد النصر أسامة : أنت يا أندلسي ،ترشد السلطان إلى ما يحسن صنعه العما د : النبي محمد ،كان يقبل المشورة من أصحابه. أسامة : لكنك لست من أصحاب السلطان ،نحن أصحابه. العماد : *** لقد أدرك أسامة منذ خروجه من إشبيلية استحالة تحقق أفكاره ،وإن كان رجاؤه ذاك لم يفارقه التطلع إلى التصالح مع العالم إذا ما تبني صالح الدين أفكاره ،ولكن السياقات النصية وتصاعداتها أدت إلى تبدد ذلك الحلم تبدداً نهائياً، إن أسامة – كنموذج متخيل – يتوحد بفكرته وكلمته ،لذلك تحتل الكلمة المنطوقة والمكتوبة أهمية متنامية ،وبناء على هذا تكون أزمة أسامة هي أزمة الكالم المحتجز الذي يفرض ضرورة تحرره في زمن غير زمانه ،زمن محكوم بحتمية االنقضاء ،إنه مدفوع بقوة إلى إبالغ الرسالة ،ودافعه أخالقي يتمثل في رفض السائد ومحاولة تكوين عالم بديل عن طريق التزاوج بين القوة والفكرة ،ولكنه يسقط في هوة وهم كبير يغيب في أغوارها الوعي بحقيقة الظروف الموضوعية التي تحكم عالمه ،إن نقاءه ومثاليته تحددان موقفه من العالم ،ويجعالن الواقع، محمود دياب 109 108
الذي ال يتوافق مع قيمه المطلقة ،حقيقة سلبية يرفضها منذ البداية ويسعي إلى تغييرها دفعة واحدة ،واهماً أن في استطاعته فرض نظامه الخاص ،ولكن سعيه الفردي ينتهي إلى اإلحباط ،في حين تتعرض أفكاره لنفي مبكر ،فال يبقى من كتابه – الذي أحرق رجال السلطان نسخته األصلية والمستنسخة – سوى صورة ضبابية في ذاكرة زياد تلميذ المؤرخ الرسمي ،الذي آمن بأفكاره ()21 وعاهده على دعوة الناس إليها. ويؤدي هذا الموقف إلى بقاء أسامة عاجزاً عن إدارة صراعاته مكتفياً بحمل كتابه انتظاراً للقائه المنتظر مع صالح الدين ،وهو ما يثير تساؤالت حول طبيعة توجه أسامة لفرد ال للكتلة االجتماعية ،وفي تلك النقطة ،فإن مشروع أسامة يرتبط بتصوره عن الزمن ال كوحدات منفصلة ولكن كحراك اجتماعي ومعرفي ،فهو يتوجه إلى القائد ال إلى الجموع ،ألنها – الجموع – مازالت بحاجة إلى زمن كي تعي ذاتها وتمتلك القدرة والفكرة والحركة. أنت لم تضع عنصر الزمن في اعتبارك أسامة ( الشاب الرابع ) : متى تبدأ الجماهير مسيرتها في تقديرك؟ لو التجأنا إليها إنها لن تبدأ قبل أن يمضي زمن يحسب بالسنوات الشاب الرابع :ولكنها ستتحرك حتماً ..يوماً ما :يوماً ما ..هو إذن يوم مجهول في المستقبل أسامة أرأيت ،لعل الزمن ال يعني شيئاً بالنسبة لك ،أما بالنسبة لي ،فهو يعني
كل شيء أن كل يوم يمر من عمر األندلس يقربها من الخاتمة الكئيبة. وإن لم نعجل بحل ،فأخشى أن أعود إليها فال أجد شبر اً باقياُ منها أضح قدمي عليه .فلترحلوا أنتم إن شئتم ،خذوا معكم كتابي وابدءوا رحلتكم مع الزمن أما أنا ..فقد اخترت طريقي *** وبتحديد إجمالي – يمكن التوصل إلى أن الجماعة العصرية قد شكلت نموذجها المتخيل (أسامة) وأسقطت عليه صفاتها ورؤيتها للتاريخ والعالم، وصاغته عبر تداخل األزمنة وتصارع الرؤى واإلرادات ،بحيث يمكن استجالء صورة الجماعة ووظائفها – وهي وظائف موحدة وكلية بينها تمايزات معينة (الشاب الخامس /الفتاة الثانية) – في النقاط التالية : استحضار اللحظة التاريخية وافتراض وجود شخصية أسامة نتيجة -1 الفتراض وجود تاريخ مختلف :مهمش /متمرد /خارج السياق والمتن الرسمي. تقترح الجماعة التاريخ كخالص محتمل ،وتتخيل ثائراً يحمل نظرية -2 فكرية للتغيير ،وتنسجه على صورتها في محاولة إلدراك الشبيه على المستوي التاريخي. محمود دياب
111 110
إلقاء جمل من الكتاب والتقاطع داللياً مع المؤرخ الرسمي (العماد)، -3 حيث يتم تشكيل الداللة من خالل محور التقاطع ،والتداخل بين الجماعة والعماد. امتزاج الجماعة كلية في اللحظة التاريخية ،وانخراطها في اللعبة -4 المسرحية ،وانتهاء المستويين الزمنيين ليصبحا زمناً مسرحياً واحداً هو الزمن التاريخي ،وذلك من خالل انخراط الجماعة في اللعبة المسرحية ودخولها القدس مع الجماعات العائدة لتكون سنداً ألسامة في المواجهة النهائية المحتملة. وهو تعديل في شكل اللعبة أدى إلى تغيير جوهري في الزمن المسرحي. تحول الجماعة إلى فاعل مشارك وامتزاجها بالحدث المسرحي في -5 مستواه التاريخي ،ثم كوظيفة أخيرة – التبشير بكلمات باب الفتوح. وهكذا – تتحول الجماعة ،مسرحياً وداللياً ،عبر تغير وظائفها ،بحيث -6 تتكون أشكال متحولة :الجماعة المأزومة،الجماعة المتداخلة،الجماعة الفاعلة، الجماعة المبشرة0 *** اتصاال بتلك النقاط المجملة ،وبما حاولته سابقا من إقامة تقابالت جزئية بين نصى «باب الفتوح» ومأساة الحالج» فإننى أتوقف قليال عند بعض العالمات التكوينية فى شخصيتى « أسامة ،والحالج» ،وخاصة ما يخص منها يوتوبيا العالم البديل مركزا بدرجة ما على النسق التصورى
الخاص بهما ،وأبدأ بقضية العدل والشر التي تشكل هاجساً مؤرقاً لدى الحالج وموضعا ألسئلته الخطرة،والتى ُتعد واحدة من القضايا األساسية التي يتجسد فيها النموذج المعرفي للجماعة اإلسالمية ،حيث ترتبط تلك القضية بتصورات الفرق اإلسالمية عن إرادة هللا :فيذهب األشعرية إلى أنها إرادة مطلقة ،فاهلل مريد لما كان ،وغير مريد لما لم يكن ،ولما كان الشر موجوداً في العالم ،فاهلل مريد له ،وليس لإلنسان اختيار فيما يريده هللا له من طاعة أو عصيان ،ويذهب األشعري إلى أبعد حد يمكن أن يتصوره العقل في استنباط نتائج هذا الرأي، فيقرر – متجاوزاً أسس الثواب والعقاب – أن هللا خلق جماعة للنار وجماعة للجنة أبداً ،أما المعتزلة فإنهم ينكرون تعدد الصفات ويوحدون بينها وبين الذات حتي ال يكون في التسليم بتعددها اتجاه إلى القول بتعدد القدماء في ذات هللا، ومن ثم – فإن العدل عندهم صفة من الصفات اإللهية ،ألنها صفة كمال ،ولكنها صفة سلبية ،بمعني أنها تنفي الشر عن هللا وتوجب علينا تنزيه إرادته عن ()22 ارتكاب األفعال التي توصف بالقبح والظلم. وفي تلك القضية – يفترق الشبيهان (الحالج – الشبلي) ويختلفان، فبينما يذهب الشبلي في تفسيره للشر في العالم وجهة ميتافيزيقية ،فإن الحالج يضفي على نظرته التأملية أبعاداً اجتماعية ،فالشبلي يري في الشر تجسيداً إلرادة إالهية تخفي عنا حكمتها ،فهي جزء من بناء الكون ومن انتظامه ،كي يعرف هللا من ينجو ومن يتردي ،هو مرتبط إذن بإرادة علوية وبفعل االختيار اإلنساني معا. محمود دياب
113 112
يا حالج الشبلي : الشر قديم في الكون الشر أريد بمن في الكون. كي يعرف ربي من ينجو ممن يتردي وعلينا أن يتدبر كل منا درب خالصة فإذا صادفت الدرب فسر فيه واجعله سراً ،ال تفضح سرك. ولكن الحالج ينحو منحي مختلفاً ،هو ال يعنيه الشر كقضية مجردة مرتبطة باإلرادة واالختيار ،وإنما يعنيه تجسد الشر في مظاهر مادية محددة، وتأثيراته على الروح البشرية واتساق الجماعة ،فحين يسائله الشبلي عن معني الشر ،فإنه يتجاوز تحديد المعني ألى تحديد ظواهره. الحالج :
الشر ؟ فقر الفقراء ،جوع الجوعى في أعينهم تتوهج ألفاظ ال أوقن معناها أحياناً أقرأ فيها ها أنت تراني لكن تخشي أن تبصرني لعن الديان نفاقك .. .. .. أما ما يمأل قلبي خوفاً ،يضني روحي فزعاً وندامة.
فهي العين المرخاة الهدب على استفهام جارح أين هللا ؟ والمسجونون المصفودون يسوقهم شرطي مذهوب اللب من أشرع في يده سوطاً. .. .. .. يا شبلي الشهر استولي في ملكوت هللا
*** إن هذا الفارق الجوهري بين الصديقين ليس فارقاً فكرياً واختالفاً مذهبياً فقط ،وإنما هو محدد أساسي لمجال حركتهما النوعية ومصيرهما النهائي ،فالحالج يستجيب لنزوعه االجتماعي باالنخراط في حياة الناس وأماكن تواجدهم (الساحات – األسواق) ويصرح بأفكاره اإلصالحية ،فتكون محاكمته الصورية ونهايته مصلوباً على جذع شجرة ،بينما يظل الشبلي في إطار الجماعة الصوفية المنعزلة المستغرقة في أسرارها الباطنية الخاصة. وهكذا – يندرج الحالج ضمن اإلطار التصوري للجماعة اإلسالمية – الصوفية خاصة – وفي سياق نماذجها المعرفية ورؤاها الكونية.
وكذلك – يندرج أسامة بن يعقوب في ذات األطر والنماذج ،مع فروق محمود دياب
115 114
جوهرية : الجماعة المشكلة للنموذج المعرفي للشخصية في الحالج توجد خارج -1 النص ،منعكسة كرؤية في وعي الشخصية ،ومتداخلة كصورة في نظامها المعرفي ،بينما الجماعة المشكلة للشخصية في باب الفتوح توجد ضمن العالقات النصية ،وكما سبقت اإلشارة ،كونت المجموعة المعاصرة نموذجها المتخيل (أسامة) على صورتها ،وصاغته كوجود افتراضي. رؤى الحالج كونية أوالً :ذات طابع اجتماعي ثانياً ،بينما رؤى أسامة -2 اجتماعية قائمة على فكرة العدل االجتماعي والملكية العامة ،وسياسية تطرح تصوراً محدداً عن الدولة والحاكم وحق األمة في االختيار والعزل ،فأسامة ال يصوغ تصورات معينة عن القضايا الكلية المجردة (الشر – العدل – الخلق) ولكنه يمتلك مشروعاً فكرياً لواقع اجتماعي وسياسي محدد ،هو صوت جماعته المشكلة له ،والمهمشة في التاريخ والواقع ،وليس صوت جماعة نوعية (الصوفية) بحس تبشيرى كما هي المسالة لدى الحالج. يمتلك الحالج طابعاً رسولياً استشهادياً مندرجاً في إطار اختيار هللا، -3 بينما أسامة يمتلك إرادته الخاصة في تكوين واقعي – مثالي وحالم أحياناً – يدرك ذاته وموقعه ومجاله الحركي والفكري ،ويشترك االثنان في اإليمان بالكلمات كطاقة إخبار وإشهاد وتبليغ.
صراعات الحالج واختياراته فردية ،ولدى أسامة اجتماعية ،تضاد -4 تواريخ وصراع الكتلة والكتلة ،واختياراته محسومة قبل بداية النص ،وهو داخل ما يسميه (محمد عزيزة) الصراع األفقي ،حيث يواجه الفرد قوانين ()23 المجموعة والكيان االجتماعي. في باب الفتوح تستخلص الثنائيات (الكلمة/السيف – الفكرة/القوة) من -5 التاريخ وتفرض عليه كذلك ،بينما يفترضها النص في الحالج كرؤية متجذرة في وعي الكاتب ومتبطنة فيه ،تدرك العالم في ثنائيات غير محلولة. يندرج الحالج في سياق تصورات جماعته النوعية عن العالم – كخلق -6 مقدس متكامل ونهائي – وعن انضواء اإلرادة البشرية وانتظامها ضمن اإلرادة العلوية ،لكن أسامة – كذات متضادة مع الواقع والتاريخ – يطرح نموذجاً مغايراً ،فالعالم في تشكل ،في صيرورة وتغير ،وليس ثابتاً ومنتهياً ،واإلرادة البشرية حرة ومختارة ومنفصلة عن الذات اإللهية ،وهو يصوغ في كتابة التبشيري عبارة قاطعة « :أني أمنح هللا قلبي عن طيب خاطر ..أما إرادتي فإني أحتفظ بها ،طالما أني مسئول عما أفعل». ينتظم االثنان في إطار سعيهما المشترك للدولة (الوالي – السلطان) -7 وإذ يكتفي الحالج بإرسال رسائل سرية ،فإن أسامة يسعى من إشبيلية إلى القدس إلعطاء كلماته للسلطان ،حيث يهدف االثنان إلى تحقيق فكرتهما المثالية محمود دياب
117 116
عن امتزاج قوة الوالي بأفكارهما اإلصالحية ،وهما – في إطار هذا المسعى المشترك – يصوغان رؤية معينة لشخص الوالي وموقعه ،فلدى الحالج. الوالي قلب األمة هل تصلح إال بإصالحه فإذا وليتم ال تنسوا أن تضعوا خمر السلطة في أكواب العدل. .. .. هم بعض وجوه األمة وهم أيضاً خلطائي -أحبابي وعدواني إن ملكوا األمر أن يعطوا الناس حقوق الناس على الحكام فنجاوبهم بحقوق الحكام على الناس. ويصوغ أسامة رؤية مماثلة في توجهها إلى شخص الحاكم ،ولكنها مختلفة في صياغتها الفكرية واالجتماعية ،فإذا كان الحالج يكاد يطابق بين الحكام واألمة استمراراً لرؤيته في تماثل اإلنسان وهللا ،فإن أسامة يضيف حق األمة في اختيار حاكمها وعزله ،ويضفي أبعاداً تفصيلية. -
كرسي الحكم ملك األمة ،ال يورث ..أو يباع. وال يعار ،وال يوهب ليس الحكم بجارية مبتذلة ،يتخاطفها الفتيان.
يملكها األسرع سيفا ..واألدهى واألخبث في تدبير القتل من حق األمة أن تختار حاكمها ،بحرية أن تعطي البيعة لألحكم واألعدل واألكثر إيمانا بقضايا الناس الحكم فى أمتنا شورى ،الحاكم خادم أمته ال مالكها لألمة مجلس حكماء ،يرعى بيت المال ويراقب أفعال الحاكم ورجاله تثير تلك الفقرات بمحتواها الصدامى الذهنية اإلتباعية التقليدية ،المؤرخ الرسمى المضاد « العماد» ،الذى يصوغ رؤية مناقضة للتاريخ وكيفيات كتابته وتسجيله،حيث ال تؤدى اللغة وظيفتها وإنما تُعامل بوصفها زركشة صوتية وحلية مضافة «السجع والترادف والجناسات الصوتية» ،ولذلك يرفض العماد كذات متطابقة -منطق الشذوذ عن الزمن واالنفصال عن األيام من أجلالتكيف معها والتعبير عنها بقوانينها ال التمرد عليها ،فهو يفرق بين الكالم الذى ُيكتب والكالم الذى ُيقال فى مقابل التعبير المباشر الحر التلقائى الذى يقترحه تلميذه زياد وبذلك ينضوى العماد فى نموذج معرفى مضاد حيث تتشكل صورة أسامة لديه فى جمل محددة :أنت تستعلى بإرادتك على هللا ،تخالف القرآن فيما أوحبه من طاعة أولى األمرفتؤلب العامة على السلطان ،تتدخل بين هللا وعباده فى توزيع األرزاق ،جعل هللا الناس درجات وأنت تعارض حكمه ،تؤلف كتبا فى حين محمود دياب
119 118
أنك ال علم لك بأصول الكتابة ،تستخدم فى كتابك ما ينطقه العامة من كلمات وليس فيه كلمة سجع واحدة0 ***
-4العالم كرؤية والعالم كبنية : أ -الرؤية يؤلف مفهوم «رؤية العالم» الهيكل األساسي المكون من االفتراضات المعرفية والمسلمات التي يقوم عليها كل أنماط السلوك والتصرفات والعادات السائدة في الثقافة المشتركة ،فإذا كان المدخل البنائي الوظيفي يهتم بدراسة العالقات والنظم واألنساق االجتماعية التي تؤلف البناء االجتماعي،فإن «رؤية العالم» من حيث هى مدخل ونظرية ومنهج ومادة إثنوجرافية ،تؤلف نسق ()24 المعتقدات ونسق الرموز التي تكمن وراء هذه العالقات والنظم. فرؤية العالم تختلف عن مفهوم «روح الجماعة» وعن نمط التفكير وعن الطابع القومي ،في أن رؤية العالم هي الصورة التي تكونها الجماعة عن ذاتها وعن عالمها المحيط ،إذ بينما يشير مصطلح الطابع القومي إلى الحالة التي تتبدي عليها الجماعة إزاء اآلخر ،يشير مصطلح رؤية العالم إلى الشكل الذي يبدو به العالم لدى الجماعة ذاتها ،ومن بين جميع المعاني التي يتضمنها المفهوم،
فإنه يعني – بوجه خاص – بخصائص الوجود ومقوماته من حيث تمايزها عن الذات وارتباطه في الوقت نفسه بهذه الذات ،إنها منظومة التصورات التي تعطي اإلنسان إجابة عن تساؤالته حول موقفه من الوجود ،واألشياء التي تحيط به ،وعالقاته بتلك األشياء. في كتاب «الصورة» يعرض «كينيث بولدنج» ألهم األبعاد والخصائص النظرية لمفهوم رؤى العالم ،وقد سبقت اإلشارة إلى هذه الخصائص وإجمالها في نقاط محددة ،وهنا – فسوف أحاول بحث النصوص من خالل تلك الخصائص أو النقاط ،وتكوين نموذج لرؤية العالم كما تجسده تلك النصوص: -1الصورة المكانية :وهي الصورة التي لدى الفرد عن وضعه أو موضعه في المكان المحيط به ،وتتركب األنساق المكانية في النصوص عبر ثنائيات : المكان المغلق/المكان المفتوح. المكان الواقعي/المكان المتخيل المكان الحاضر/المكان الغائب ويؤدي إحساس الشخصية بالمكان وظيفة تكوينية أساسية ،فالحالج يستشعر األمان النفسي واالجتماعي خالل جلسته المطمئنة مع الشبلي في بيته (ما أجمل خلوة روحينا يا شيخ) ،وبفعل خلع الخرقة – يخرج الحالج ،مكانياً، من بيته إلى الساحة ثم السجن فقاعة المحكمة ،وداللياً ،من الصوفية المنعزلة إلى الصوفية الفاعلة. محمود دياب
121 120
فتحوالت الشخصيات تحوالت مكانية ،أو هي – بتعبير آخر – تأخذ صورة مكانية ،فلدي محمود دياب :تأخذ العالقة مع األمكنة صياغات متعددة،إذ يتوحد الرجل في «الغرباء» مع بيته ،ليصبح البيت هو الهوية وليس مجرد جدران ونوافذ وغرف ،بل يتحول – عبر تجسدات الذاكرة المنقوشة :جدول الضرب المحفور ،القلبين والسهم ،آثار الدم على الجدران – ليكون ذاكرة الرجل وعالمة هويته وأداة االمتالك ذاتها (بعد أن كان موضوعاً لصراع التملك). وفي «باب الفتوح» تتداخل حركة الشخصيات مع األمكنة المتغيرة، فهناك حركة متنقلة بين مكانين :إشبيلية والقدس تتوخي حركة انتقال عكسية من القدس إلى إشبيلية بعد اللقاء المرتقب مع القائد المنتصر واالمتزاج المستهدف بين سيف القائد وكلمات المفكر ،وكذلك أبواب المدن الموصدة أمام الجموع الراجعة والجماعة العصرية ،والمفتوحة للتجارة والسادة والحراس ،والداللة العكسية لعودة المدينة (القدس) وتحررها ،واستالب البيت (بيت أبي الفضل) وانزواء صاحبه في ركن بإحدى الخرائب ،حيث تكاد العالقات والدالالت النصية تتلخص وتتركز في تلك العالقة المزدوجة بين المدينة والبيت ،وفي «الزوبعة» تكون العالقة بين المكان الغائب (السجن) حيث الغائب المنتقم، والمكان الحاضر (القرية) حيث الجماعة الذئبية واألسرة المستلبة (صالح – حليمة – الجدة صابحة) تكون حركة األعماق النفسية واالجتماعية وتفجرها،
ويتداخل مع تركيب األنساق المكانية في النصوص بناء العالمات المادية واللغوية – وهي عالمات متحولة مثل كلمات «باب الفتوح» التي تكتسب صفات تبشيرية كاشفة ،فتحفظها الجماعة وترددها في ممارسة إحيائية كشفية تبتغي إحياء صاحبها وكشف عالقات التاريخ والواقع معاً. -2الصورة الزمانية :وهي الصورة التي يكونها الفرد عن مجري الزمن ومكانه فيه ،فإذا كان المكان مجموعة من األشياء المتجانسة أو المتضادة ،ومن الظواهر أو الحاالت أو الوظائف أو األشكال المتغيرة التي تقوم بينها عالقات مثل االتصال /المسافة ،فإن الزمن المسرحي يتركب عبر آليات مغايرة ،فال يتصل بوجود مادي كالشخصية والموقف والمكان ،وإنما هو عنصر بنائي يتخلل تلك التجسدات المادية ويؤطرها ،وتكتسب الشخصيات في النصوص داللتها النهائية من خالل وجودها الزمني ،ويشكل إجمالي ،وباستثناء الحالج المندرج ،وجوداً واختياراً ،في زمن هللا – فإن الشخصيات توجد ،ابتداء ،في عالقات ضدية مع زمنها الخاص ،وتسعى الستحضار زمن غائب ،ففي «باب الفتوح» – وكما سبقت اإلشارة – تقوم البنية النصية على استدعاء إرادي موجه لواقع تاريخي معين ،وافتراض وجود شخصية تصوغها الجماعة على شاكلتها، حاملة لنظرية فكرية هي في النهاية أفكار الجماعة ذاتها ،ويتحقق – باندماج الكتلة المعاصرة مع هذا المستوي – زمن النص المستحضر كامالً ،وينقطع بموت أسامة مفضياً إلى الزمن الواقعي الحالي ،لتتم استدارة الزمن – الذي يبدو كأقواس مفتوحة ومتداخلة – بخروج الجماعة من الزمن المتخيل وارتدادها إلى زمن الفعل – اللحظة المعاشة. محمود دياب
123 122
وتتأكد تلك العالقة الضدية لدى شخصية صالح فى « الزوبعة»حيث ينبني المجال الحركي واإلدراكي له على انفصال وتقاطع مع الزمن الفردي والزمن الجماعي معاً ،إنه يسعى المتالك زمن آخر ،ربما يكون غير محدد، وهالمياً لكنه يستعيد وجوداً مستلباً (الدار – الحقل) ،وترتبط بتلك الدالالت – على نحو جزئي آليات التكوين الزمني ،فال تقوم على التعاقب والتتابع والخطية ،ولكن على التداخل والشبكية والتضاد وامتزاج المستويات. -3الصورية العالقية :وهي الصورة التي لدى الفرد عن الكون من حيث هو نسق من االنتظامات والعالقات ،وتقوم الرؤية في تلك النقطة على ما يسميه «دلتاى» الصورة الكونية» ،التي تؤلف النواة أو الكتلة األساسية للمعتقدات والمسلمات االفتراضية عن العالم ،ويمكننا هنا أن نميز بين ثالثة أنواع أو نماذج أساسية من رؤى العالم في النصوص : أ -نموذج العالم المثالي :أو الرؤية المثالية الموضوعية للكون من حيث هو كل عضوي أو وحدة منتظمة بما يترتب على ذلك من تجانس وانسجام بين األجزاء المكونة لهذا الكل ،ويتجسد ذلك النموذج في الصورة الكونية لدى الحالج ،فالكون لديه خلق مقدس وفيض تلقائي ذاتي عن هللا ،وتأتي تعارضات الحالج مع الكتلة االجتماعية ابتغاء استعادة الجوهر النقي للعالم وإعادته إلى طبيعته األولي.
ب -نموذج العالم كابوسي :ويتأسس هذا النموذج على جريمة أو ينتهي بها ،على نحو ما يتجسد في شخصيات الرجل الطيب وصالح ،وسواء كان العالم االفتراضي واقعياً (الزوبعة ) أو خيالياً (الغرباء) فإن الصورة الكونية صورة كابوسية قائمة على استالب الوجود ذاته ،وفي هذا النموذج تواجه الشخصية الرئيسية كياناً خارجياً ،ضدياً ومهيمناً ،ففي الزوبعة يواجه صالح جماعته المتوحشة التي استلبت منه األب والبيت والمال والحبيبة ،وتتركب العوالم النصية ال من مشاهد كابوسية منفصلة لفوضى الواقع اليومي واغتراباته، ولكن من نسيج مركب تتداخل فيه العالمات والحوارات المفككة ،اإلسقاطات وارتدادات الذات إلى عوالمها الداخلية المحبطة ،في استعادة قائمة على خلط األزمنة والتراوح بين اليقظة والحلم ،الهذيانات والتناثر اللغوي والحركي مع لقطات هزلية مؤطرة بأحداث واقعية. جـ -نموذج العالم الضد :حيث تنتظم الصورة الكونية في نقيض مثالي تسعى الشخصيات المتالكه وإحالله بديالً عن عالم قائم مرفوض ،فخالفاً للحالج الذي يري العالم فيضأ من إرادة علوية ويسعي لتأكيد صورته األولية ،فإن أسامة يوجد – كجماعته المكونة – في تعارض حاد مع البنية االجتماعية القائمة ،ويصوغ عالمه الضد في صورة الملكية الجماعية وحق األمة واستقالل اإلرادة البشرية وحريتها في االختيار والوجود . محمود دياب
125 124
-4الصورة الشخصية :وتتعلق بمكان الفرد في العالم الجماعي ،واألدوار، والنظم التى تحيط به ،وترتبط بتلك الصورة ثالث صور :األولي صورة القيمة ،وتتألف من األحكام المتعلقة بما هو خير وشر ،والمرتبطة بالعناصر واألجزاء المختلفة من رؤى العالم ككل ،.الثانية هي الصورة الوجدانية ،وهي الصورة التي تصبغ فيها األجزاء المتنوعة من رؤية العالم بصبغة عاطفية انفعالية ،وهذه الصورة تتعلق بالمخاوف والرغبات ،ونحو ذلك ،الثالثة هي الصورة من حيث هي مقسمة إلى جوانب شعورية وال شعورية ،ومعني ذلك أن األفراد ليسوا على وعي كامل بكل جوانب رؤى العالم ،حيث توجد درجات إدراك متفاوته ،وحاالت شعورية متباينة. وبصورة مجملة – يمكن بحث تلك النقاط من خالل البنية الثنائية المتركزة – من حيث الصورة الشخصية والقيمية واالنفعالية في : الذات المتضادة/الذات المتطابقة. الكون المغلق/الكون المفتوح وإذا كان « جولدمان» يري أن : العنصر البنيوي األساسي لوقائع الوعي ،هو درجة مالئمتها ،وكذلك أ - العكس ،أي درجة الال تجانس مع الواقع. ب -إن المعرفة المفسرة لوقائع الوعي ،ودرجة تالئمها أو عدم تالئمها، ودرجة حقيقتها أو خطأها ،ال يمكن الوصول إليها إال بإدراجها ضمن كليات
اجتماعية أكثر اتساعاً نسبياً ،وهذا اإلدراج وحده يسمح يفهم داللة تلك المعرفة ()25 وضرورتها. وهكذا ،فإن درجة التوحد أو التضاد تنتج في النصوص ذاتين كليتين :الذات المتضادة والذات المتطابقة ،وكلتا الذاتين يمكن إدراجهما في كليات اجتماعية أوسع ،باعتبار ارتباطهما بالثنائية األولي :العالم القائم والعالم الضد. وتتجسد ثنائية الذاتين :المتضادة المتطابقة في العالقة الضدية بين : الحالج – الشبلي ،أسامة – العماد ،الرجل الطيب –الغريب ،وتنعكس على الصور االنفعالية والقيمية الحاكمة لحركة الشخصيات وتجربتها الحياتية وصياغتها للعالم المحيط. إن التقابل الضدي بين الحالج والشبلي ليس خالفاً فكرياً بين رجلين قدر ما هو نزوع أولي لدى الحالج نحو التضاد مع العالم القائم الستعادة جوهره األصلي كفيض عن هللا ،ونزوع أولي كذلك لدى الشبلي للتطابق مع العالم القائم باعتباره – كاختيار الهي – أفضل العوالم الممكنة ،وكذلك تعكس العالقة بين أسامة والعماد والتى حكمت طبيعة التوجه واألداء اللغوي والموقف من اللحظة التاريخية المستحضرة ،تعكس مستويين من الوجود والمعرفة ،فبينما يؤكد العماد الطابع اإلثباتي للمعرفة يؤكد اسامة طابعها التغييري ،ويصبح بذلك إبقاء العماد على الزخارف اللغوية في خطابه التوثيقي للواقع والتاريخ محمود دياب 127 126
ليس ابقاء على التقاليد المتوارثة بقدر ما هو ابقاء على اللغة كمؤسسة وإبقاء على التراتب االجتماعي والبناء الهرمي للعالم ،وبالمقابل – فإن تحرر أسامة اللغوي ليس تخلصاً من الحوشي والنافر ،ولكنه مقدمة تؤشر على صياغة ويرتبط بهذا التحديد اإلجمالي للذات المتضادة والذات اجتماعية مغايرة 0 المتطابقة تصوران عن العالم يتمثالن في :العالم المغلق/العالم المفتوح. فالذات المتطابقة تصوغ عالماً مغلقاً على الذات والبنية االجتماعية والمعرفية في نزوع يهدف إلى تثبيت هذا العالم وتأكيده ،بينما تصوغ الذات المتضادة عالماً مفتوحاً وإن اكتفت باستشراف طوباوي له ونفي نقيضه القائم، وتلك الثنائية الضدية بين الذاتين والعالمين كونت المصير النهائي للشخصيات، المتمثل في نفي الذات المتضادة (موت أسامة ) وتأكيد الذات المتطابقة (الوجود اآلمن وهيمنة العماد وحسام). -5ويرتبط بالثنائيات السابقة ما يسميه جولدمان :الوعي الممكن/الوعي الفعلي حيث ينص على أن وقائع الوعي تأخذ شكلين متمايزين رغم ما بينهما من تداخل يشكل وحدة ،أولهما هو ما يسميه :الوعي الفعلي ،وهو الوعي الموجود تجريبياً على مستوي السلب وينحصر في مجرد الوعي بالحاضر ،هو وعي الممارسة اليومية بطابعها الجزئي واللحظي ،أما ثانيهما ،فهو الوعي الممكن، وينشأ عن الوعي الفعلي ولكنه يتجاوزه ليشكل الوعي بالمستقبل ،وعندما يصل الوعي الممكن إلى درجة من التالحم الداخلي تصنع بنية أوسع من التصورات ()26 االجتماعية والكونية في آن ،فإن الوعي الممكن يصبح رؤية للعالم.
وعلي ذلك ،يمكن التوصل إلى رصد ارتباطات جزئية بين البنية الثنائية وشكلي الوعي :الفعلي والممكن ،كالتالي :
الذات المتطابقة الذات المتضادة
وعي فعلي وعي ممكن
فالذات المتطابقة تنتج وعي الممارسة اليومية بطابعها الجزئي والعملي، فهي ذات ملتصقة باليومي واإلجرائي والمعاش ،مرتبطة بتصورات الجماعة المهيمنة ،وبالهيكل االجتماعي المؤسسي ،سواء كان معرفياً أو سلطوياً ،بينما تنتج الذات المتضادة وعي المستقبل ،وعي الجماعة المهمشة التي تسعى إلى صياغة عالم مغاير ونقض األبنية المكرسة. إن المجموعة المعاصرة في باب الفتوح – المكونة لنموذجها المتخيل: أسامة – تبدأ من نقطة النقض والسؤال الهدمي مفضلة لحظة النهائية. سنكون أكثر قدرة على تمثل النهاية فنحن األبناء الشرعيون لها وما زلنا نحتفظ بطرف خيطها في أيدينا. محمود دياب 129 128
ومن تلك النقطة ،يصوغ أسامة رؤيته للواقع والتاريخ والخالص، وعي الكتلة االجتماعية المضادة ونزوعها المستقبلي مركزاً على إرادة الجماعة وطاقتها الهادمة لعالم فاسد ،فيرفض الخالص الميتافيزيقي (المعجزة السماوية) ويؤكد على الخالص الجماعي (معجزة نصنعها بأنفسنا) ويركز على الجانب الهدمي من عملية التغيير ،معبراً عن الوعي الممكن لكتلته االجتماعية. شيء يقلب مصير األمة رأساً على عقب ،شيء ال أعرف بماذا أسامة : أسميه ،ولكني أحسه وكأنما هو بركان يتفجر ،ويفرغ كل ما في جوف األمة من قيح ومرض. شيء قاس كالحجيم. : المجموعة المجموعة ومعها أسامة :يحرق كل شيء ال يصلح للبقاء. سراديب الدسائس ،والمشانق ،وكل أدوات الرعب والتعذيب أسامة : وستر المحظيات ،ودواوين الكذابين من الشعراء ،وكتب العلماء الجهلة ،وسياط جباة المال ،وتجار العبيد ،والمرتشين والقوادين ،ولصوص بيت المال. يا رحمة هللا ..كأنما هو يوم البعث. زياد : وعلي أنقاض هذا كله ،تنهض أمة نظيفة جديدة أسامة : وبتلك الجدلية القائمة بين النقض والبناء ،يصوغ أسامة الوعي الممكن لجماعته المكونة ،بحيث يمكن رصد عالقات متتابعة كالتالي :
العالم القائم
جماعة مهيمنة
ذات متطابقة
وعي فعلي
العالم البديل
جماعة مهمشة
ذات متضادة
وعي ممكن
فالرؤية هنا نتاج ذات مجاوزة للفرد – كما يحدد جولدمان – حيث تواجه هذه الذات عالماً اجتماعياً مبنياً ،على نحو يحدث تعارضاً بين طموحاتها وعالقاته ،وينتج التعارض ما بين أبنية العالم االجتماعي ،المستقلة والموجودة سلفاً ،وبين هذه الذات ،أبنية جديدة ،لتحل الذات الجماعية مشكلها ،هذه األبنية الجديدة هي «وعي ممكن» يصنع بوحدته «رؤية للعالم» ،وسواء نظرنا إليه باعتباره بنية واحدة ،أو أبنية متعددة ،فإنه من نتاج ذات جماعة ،أو فئة اجتماعية ،تواجه مشكالً اجتماعياً ال يحل إال بعملية هدم ألبنية ،وبناء ألبنية ()27 جديدة ،تعيد التوازن المفتقد ،من منظور الجماعة أو الطبقة. *** ب -البنية : كما وردت اإلشارة سابقاً : يحدد جولدمان مقدمات منهجه في خمس نقاط ،وسوف أتناول هنا من هذه المقدمات ثالث نقاط. محمود دياب 131 130
العالقة الجوهرية بين الحياة االجتماعية واإلبداع األدبي ال تتمثل في -1 مضمون هذين القطاعين ،ولكن في البنى الذهنية ،وهي ما يمكن تسميته بالمقوالت التي تنتظم في وقت واحد الوعي التجريبي لفئة اجتماعية معينة، والكون التخيلي الذي يبدعه الكاتب. البني المقوالتية التي تنتظم الوعي الجمعي ،والتي يتم نقلها إلى الكون -2 التخيلي المبدع ،ليست واعية وليست ال واعية بالمعني الفرويدي للكلمة ،ذلك المعني الذي يفترض كبتا ما ،ولكنها سيرورات غير واعية ،مماثلة من بعض الجوانب لتلك التي تنتظم عمل البنى العضلية وتحدد الطابع الخاص لحركاتنا وإيماءاتنا ،دون أن تكون في ذلك ال مكبوتة وال واعية. العالقة بين بنية الوعي الخاص بفئة اجتماعية ما ،والبنية التي تنظم -3 كون العالم اإلبداعي ،تكون متماثلة تماثالً دقيقاً بهذا القدر أو ذاك ،إال أنها غالباً ما تشكل أيضاً عالقة ذات داللة ،هكذا يمكن لكون تخيلي ،غريب عن العالم التجريبي تماماً في الظاهر ،كخرافات الجن مثالً ،أن يكون مماثالً تماماً في بنيته ،لتجربة فئة اجتماعية معينة ،أو على األقل ،مرتبطاً بها بطريقة ذات ()28 داللة. بتلك النقاط المنهجية الثالث ،سوف أحاول بحث عالقات التماثل أو التضاد بين البنية اإلبداعية وبين البني الذهنية أو المقوالت للفئات االجتماعية
التي ينتمي إليها مبدع النص ،مركزاً على الداللة المستمدة عن التماثل أو التضاد، وسوف أعتمد في ذلك على الدراسة الهامة التي أجراها «السيد حافظ األسود» عن أنماط التفكير :دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم في المجتمع المصري(،)29 والدراسة تتناول مجاالت متعددة ومتنوعة من أجل فهم أوجه الخالف والتشابه في رؤى العالم وأنماط التفكير ،وقد شملت الدراسة البناء االجتماعي ،األنساق االقتصادية واالجتماعية ،الشعائر والمعتقدات الدينية وغير الدينية ،ورؤى العالم في عالقتها بالموضوعات السابقة ،وتهدف الدراسة ليس فقط الكشف عن تأثير رؤى العالم في سلوك األفراد بل أيضاً إظهار التأثير المتبادل أو التفاعل بين أفعال الناس وتلك الرؤى ،وإلي أي مدى ينتج عن ذلك التفاعل نمط أو أنماط من التفكير المميز لألفراد ،والدراسة تهتم أيضاً بتفسير وتحليل رؤى العالم وتصورات المجتمع المصري عن العالم والذات والمكان والزمان، والسببية بنوعيها الطبيعي والغيبي ،مع التركيز على ارتباط تلك التصورات بعضها ببعض وارتباطها بقيم معينة ،بما يعني االهتمام بالجوانب المعرفية والمعيارية والوجدانية المرتبطة برؤى العالم .والمنهج المتبع في الدراسة هو منهج التحليل اللغوي الذي يهتم بالكشف عن التشابهات واالختالفات في معاني الكلمات والعبارات المستخدمة في الحياة اليومية ،مركزاً على االرتباطات بين التصورات المحورية المؤسسة لبناء رؤى العالم وأنماط التفكير في المجتمع المصري ،وذلك باإلضافة إلى المدخل المركزي الذي يسعى نحو الكشف عن الرموز ،سواء كانت موضوعات أو أحداثاً ،كلمات أو أفعاالً ،وخاصة تلك التي يستخدمها األفراد للتعبير عن األفكار المحورية المجردة التي ال يمكن محمود دياب 133 132
التعبير عنها دون االعتماد على الصور أو الرموز المشخصة .وقد اعتمدت الدراسة فى تحليلها لرؤى العالم على األفكار المتعلقة بمفهوم التقابل أو األضداد الهرمية ،وهذا المفهوم يعني وجود عالقة بين الكل والجزء الداخل في بناء ذلك الكل ،وهذه العالقة لها بعدان أساسيان :فمن ناحية تتسم هذه العالقة بأنها عالقة تقابل (أو عالقة ضدية) والتي يكون فيها الكل في مقابل الجزء ،ومن ثانية ،تتصف بأنها عالقة شمولية استغراقية بمعني أنه بالرغم من أن الكل ()30 يكون مقابالً للجزء ،إال أنه يحتويه ويشمله. وقد توصلت الدراسة إلى أن رؤى العالم في المجتمع المصري تنتظم حول تصورين أساسيين ترتبط بهما عدة تصورات أخرى مؤلفة شبكة من األفكار والمعتقدات المتداخلة فيما بينها ،وتأخذ تلك التصورات األساسية شكل التقابل أو التضاد أو االستغراق ،وتدور حول «الباطن» و«الظاهر» التي ترتبط بدورها بتصورات «الغيب» و«الشهادة» ،وعالقة ما هو ظاهر في الكون تتضح في األفكار والتصورات المتصلة بالسماء واألرض والنجوم والكواكب والشمس ،ونحو ذلك من عناصر ومكونات طبيعية تؤلف في جملتها مفهوم «الدنيا» أو «عالم الشهادة» التي يخضع للحواس والتجربة الحسية ،ويعلب نمط التفكير التجريبي فيه دوراً أساسياً ،وال يقتصر تصور الظاهر على عناصر الطبيعة منفصلة عن اإلنسان بل يشمل تصورات األفراد عن المكونات األساسية المنظورة لإلنسان كالجسد واألفعال الظاهرة.
أما عن تصور «الباطن» في عالقته باإلنسان فيشمل «البنية» و«الضمير» والتفكير والوجدان ،وكل ما هو مستتر وغير ظاهر وال يمكن معرفته إال عن طريق اللغة أو األفعال الظاهرة ،أما عن تصور «الغيب» فيشير إلى كل ما هو في عالم هللا ،الذي ال يخضع للحواس أو التجربة العينية المباشرة بل يكون مؤسساً على االعتقاد .ويشمل األرواح والمالئكة وسائر الكائنات والقوى غير المنظورة. ومن الموضوعات الرئيسية في رؤى العالم تلك المقارنة التي يقيمها األفراد بين مكونات أو عناصر الكون (العالم) ومكونات الشخص أو الذات، فالذات ينظر إليها على أنها تشترك في الجوانب الالمادية أو الغيبية والمادية التي يتصف بها الكون ،فكما أن األرض مركبة من تراب فكذلك جسد اإلنسان الذي يمثل الخاصية المادية الظاهرة للذات ،وجسد اإلنسان له بعدان :بعد زماني يشير إلى فترة الحياة الذي يعيشها على األرض متحداً بالروح ،ويعد مكاني يشير إلى الحيز أو المجال المكاني الذي يشغله هذا الجسد ،والعالم المادي الظاهر بما فيه من أجرام سماوية وموضوعات أرضية مصيره الفناء، وينطبق ذلك على الجسد البشري ،أما اشتراك الذات في الجانب الالمادي والغيبي فيكون عن طريق تصور (الروح) التي تنتمي إلى عالم الغيب وال يعرف طبيعتها أحد. محمود دياب 134
135
كما أن الروح تضفي على الجسد الحياة وبانفصالها يفني ويتالشى الجسد ،وبالرغم من أن الروح هنا تكون في مقابل الجسد (كما هو في التقابل بين الالمادي /الغيبي /الظاهر) إال أنها تحتويه وتسيطر عليه وتمنحه الحياة، وكما أن الكون أو العالم مملوء بكائنات غير منظورة (الجن والمالئكة) كذلك اإلنسان حيث ترتبط به كائنات غير منظورة مثل المالئكة التي تستقر على كتفيه كي ترصد الحسنات والسيئات ،وكذلك نجد تصورات «القرين واألخت» وهي كائنات غير منظورة ترتبط بالشخص ويقع أو يحدث لها ما يحدث له في حياته اليومية ،وفي الواقع فإن األمثلة متعددة حول وجود التشابه بين الذات والعالم ،وكلها تؤكد على التماثل في الجوانب غير المنظورة لدى كل من الذات والعالم ،فاإلنسان كون صغير. وهكذا – يوجد في المجتمع المصري رؤى عالم مختلفة لكنها مترابطة ومتشابكة وتؤلف وحدة واحدة ،فهناك رؤى عالم غيبية ،ورؤى عالم دينية، ورؤى عالم دنيوية ،ورؤى عالم قائمة على التفكير التجريبي ،بحيث يتكون لدى الجماعة المصرية عالمان مختلفان :أحدهما منظور ويخضع لعالم الحواس، واآلخر غير منظور أو غيبي وال يخضع للحواس ،وهذا التقسيم يفسر كثيراً من أفعال األفراد وأنماط سلوكهم ،إذ يفسر االعتماد على نمط التفكير التجريبي في المناشط الزراعية واالقتصادية والعالقة بين الطبيعة والتربة والماء ،وهذا التقسيم – المنظور/غير المنظور ،الغيبي الالمادي /الظاهر المادي ،يفسر أيضاً لجوء الجماعة إلى نمط التفكير الغيبي كما هو الحال في االعتقاد بظهور
المخلص والممارسات السحرية ،لكن بالرغم من وجود ذلك التقسيم الثنائي بين ُ العالم الغيبي والعالم المادي ،إال أن الجماعة تنظر إليهما باعتبارهما يؤلفان قسمين أو جانبين مختلفين غير منفصلين ،أو بعبارة ثانية ،يؤلفان وحدة واحدة هي العالم ذاته ككل ،وبالرغم من تلك الوحدة ،إال أن العالم الغيبي ترتبط به قيمة تعلو على العالم المنظور ،فوحدة األضداد هنا تأتي أو تتحقق عن طريق االعتقاد بأن وراء العالم المحسوس المادي واقعاً أو عالماً آخر غير منظور وغير مادي يمنحه الوجود والصفة التي عليها ،فالغيبي يحتوي المنظور أو المادي بالرغم من عالقة التقابل أو التضاد القائمة بينهما. وطبقاً لتصور العلية أو السببية لدى الجماعة المصرية ،فإن األحداث ال تقع بشكل عشوائي بل تحدث بواسطة قوى مشخصة ،وتتألف الذات طبقاً لذات المعتقدات من المادة والروح ،لكن الفكرة األساسية في رؤى العالم هي الوعي الذي لدى الفرد بأنه يؤلف كياناً منفصالً عن اآلخر بالرغم من وجود عالقة ما بينهما ،وبالنسبة لتصور «الذات واآلخر» ،فإن صورة الذات هي أنها جزء من ذات أكبر تشمل الجماعة ،األسالف ،األحياء واألموات والنسل ،وال يقتصر مفهوم العالقة على تلك العالقة بين الذات واآلخرين ،بل تتسع لتعني ما يطلق عليه «اإلنسان في عالقة» التي تشمل عالقة اإلنسان بالكون ،فالوعي باآلخر يتضمن عالقة الذات بكل شيء آخر في الكون :بشر ،آلهة ،أرواح، وكل الكائنات الحية وغير الحية. محمود دياب 137 136
وهكذا – فإن رؤى العالم في الدراسة تؤلف إطاراً زمنياً ومكانياً لسلوك األفراد في حياتهم االجتماعية ،كما أنها تأخذ شكالً معرفياً من خالل السياق أو التفاعل االجتماعي. واآلن :هل يمكن إقامة عالقات تماثل أو تضاد بين البيئة اإلبداعية وبين البني المقوالتية التي تنتظم الوعي الجمعي ،والتي عرضنا جانباً منها سابقاً ،وهل يمكن إدراك الداللة التي تنطوي عليها عالقات التماثل أو التضاد؟ ................... البنية الثنائية في العام/البنية الثنائية في النص : كما سبقت اإلشارة – يذهب «السيد حافظ األسود» إلى أنه توجد في المجتمع المصري رؤى عالم مختلفة لكنها مترابطة ومتشابكة وتؤلف وحدة واحدة ،بحيث يتكون لدى الجماعة عالمان مختلفان :أحدهما منظور ويخضع لعالم الحواس ،واآلخر غير منظور وغيبي. ويأخذ هذان العالمان شكل التقابل أو التضاد ،هذه البنية المتركزة في ثنائيات :الظاهر/الباطن – الشهادة/الغيب – المنظور/غير المنظور ،تتماثل مع األبنية النصية ،ال من حيث المحتوى والمضامين والتصورات ،ولكن من خالل :البنية الثنائية ،والتضاد أو التقابل ،فكما تنتظم في رؤى العالم لدى الجماعة ثنائيات متضادة تنتظم في النصوص كذلك ثنائيات متقابلة ،تتركز الجماعة المهيمنة/الجماعة المهمشة في :العالم القائم/العالم الضد
الذات المتطابقة/الذات المتضادة إن التماثل بين البنيتين :االجتماعية واإلبداعية ،هنا ،ال يتجسد في مضمونها أو محتواهما الكفري والداللي ،وإنما في تركيب العالم الثنائي المتضاد ،وفي وجود تقابالت حدية بين جزئين متعارضين ،في الواقع والنص معاً،حيث تكشف العالقات النصية عن العناصر األساسية المكونة لرؤية العالم لدي محمود دياب والتي تشكل نسقاً ثابتاً لعالقة ثالثية بين التاريخ – الواقع الذات ،وتتغير العالقة بين عناصر تلك الرؤية خالل مراحل إنتاجه المختلفةوتنوع أشكال إبداعه ،وإن احتفظت بعناصرها األساسية. هناك دائماً قيمة مهيمنة ،غائبة بوجودها المادي حاضرة بشكل صريح أو مضمر ،ومؤثرة بحكم أنها واقع أولي أصلي ال ينعكس ،ما يحدث بعده ناتج عنه ،ومن هنا تأثيرها غير المحدود على األحداث والشخصيات ،وتتجلي تلك القيمة المهيمنة في أشكال عدة ،قد تحمل ظالالً ميتافيزيقية ،أو تظهر في شكل ()31 سلطة أو رابطة أبوية. وفيما تقول اعتدال عثمان ،فإن عالقة دياب بالتاريخ (هللا – الحاكم – األب) قد تغيرت ،وتراوح موقفه منه بما يعكس حركة الشريحة االجتماعية التي يمثلها والتي تغيرت رؤيتها للعالم نتيجة تغير وضعها االجتماعي ،وهي تربط ذلك التغير بوقائع اجتماعية وسياسية ،فقد صاحب قيام الثورة تفتح آفاق محمود دياب 138
139
النمو االقتصادي واالجتماعي للجناح المدني من الطبقة البرجوازية الصغيرة والمتوسطة ،ولكن األزمات االقتصادية التي نشأت عن الحروب المتوالية وغياب الممارسة السياسية الحرة ،أدت هذه الظروف مجتمعة إلى ظهور تناقضات في المجتمع المصري وتراجع شرائح من هذه الطبقة وفقدانها لمواقعها المتقدم التي كانت تتمتع به ،األمر الذي انعكس على رؤية الكتاب في األعمال اإلبداعية لتلك الفترة. ففي «أحزان مدينة» وهي رواية سيرة ذاتية ،ترجع إلى فترة مبكرة من حياة الكاتب ،يقدم محمود دياب صورة عالم قديم متناسق ومتماسك ،يبدأ في االهتزاز والتهاوي نتيجة القتحام عنصر غريب ودخيل ،مما أفضي إلى تغير اجتماعي واقتصادي في عالقات المدينة ،وأصبح العالم ينقسم إلى قسمين : األهالي :فئة أصلية متماسكة ومتآلفة ،يشكل تالحمها النظام واالنتماء. األجانب :فئة دخيلة متنافرة ،يؤسس وجودها الفوضى واالغتراب. إن انهيار العالم في ذلك النص يتم نتيجة تدخل قوي خارجية ،يستحيل وقف تقدمها الدائب وتأثيرها في تفسخ عالقات العالم القديم ،وهو ما يؤدي في النهاية إلى أنفصال أليم عن ماض تهدم تمثلت فيه كلية الحياة وثبات اليقين. وفي «البيت القديم ،يحدث تصدع آخر في الواقع نتيجة فعل إرادي يتمثل في االنفصال عن الجذور الطبقية ،كذلك فإن للماضي – األب – سطوة مهيمنة، إذ أن غيابه في «الزوبعة» يسلب االبن حقوقه كاملة ،ويصبح مصيره معلقاً
بظهور براءة األب من جريمة ملفقة ،بسبب تواطؤ أهل القرية القتلة منهم والسلبيين واالنتهازيين – وإجماعهم على التستر على الجريمة وإهدار حقوق القصاص ،استكانة الضمائر اآلثمة والمتواطئة ،وعندما يصل صالح إلى يقين بشأن الماضي ،ويتمكن من التخلص من اإلحساس بوزر االنتساب إلى ماض ()32 أثم ،عندئذ يمتلك القدرة على صيانة عالقته بجماعته المتوحشة. ترتبط رؤية العالم في «الزوبعة» بما يسميه «السيد حافظ األسود» في استقرائه لرؤى العالم في المجتمع المصري بـ «صورة الخير المحدود»، وطبقاً لهذه الصورة ،فإن الجوانب العامة من سلوك الفالحين تكون منمطة من خالل رؤيتهم لعالمهم الطبيعي واالجتماعي ،وهذه الرؤية أو صورة الخير المحدود تصف الكون على أنه عالم توجد فيه األشياء المرغوب فيها مثل األرض والثروة والحب واالحترام والمكانة ،بقدر محدود وأنها دائماً شحيحة، ونتيجة لتلك الرؤية يظهر اتجاه لدى الفالحين خالصته إنه إذا كان الخير يوجد بقدر محدود ال يمكن اإلكثار منه ،وأنه إذا كان النسق مغلقاً ،فإن الفرد يمكن أن يحسن وضعه فقط على حسب اآلخرين ،وبالتالي فإن االرتقاء أو التحسين ()33 النسبي في وضع الفرد يمكن أن يتمثل تهديداً للجماعة بأسرها. وينطبق على صالح وأسامة والرجل الطيب وغيرهم من الشخصيات المركبة فى نصوص دياب تلك المنظومة المعرفية ،وكذلك تعكس رؤية العالم محمود دياب
141 140
حيث ال يكون الفرد واعيا بالضرورة أو مدركاً للمبدأ المعرفي الذي يوجه تفكيره ،فرؤية العالم تكون ال شعورية وغير مدركة ولكنها تكون متضمنة في األفعال والممارسات. وهكذا تتجسد نصوص دياب كرؤية للعالم ،وتعكس الوعي في ارتباطه بالحياة االجتماعية والنماذج المعرفية للجماعة 0
ليايل احلصاد
محمود دياب 143 142
أرض ال تنبت الزهور العالم المتحول واللحظات المنسية
فى تلك اللحظات الكثيفة ،الفاصلة بين عالمين ،التى تستهل بها الملكة «الزباء» حضورها واقفة على السلم الحجرى ،تطل على القاعة الخاوية إال من أعمدة مجردة ،وتسائل قائد جندها الذى يخفى انفعاالته الملتهبة :هل لى أن أفرح؟ فإن تساؤلها يتكشف عن سخرية حارقة ويضمر مفارقة خفية ،فالعروس الملكة فى ليلة زفافها الدامى ،تنتظر رجال خرج من مدينته مستجيبا لندائها ومنجذبا لغوايتها ،هو ذاته قاتل أبيها يأتيها اآلن وروائح متفاوحة من دم األب المسفوح تنشع تحت ثيابه وجلده المرتجف ،هذا الدم الذى عاشت طالبة ثأره يذكرها اآلن – وهي تلقي سؤالها المرسل إلى قائدها العاشق – بأنها ولدت ال امرأة وال رجال بل منتقمة ،وأنها سفحت هى األخرى مع دم أبيها النازف طبيعتها الجسدية ذاتها وعالمها الخاص ،فاستجمعت قطرات الدم وحولتها إلى صور معلقة على جدران قصرها الخاوية ،وقضت أيامها الهاربة تحدق في الصورة وتحيك مكيدتها الصطياد الملك الغادر ،فأوحت لها الصورة الذاوية على الجدار بحيلة بصرية ،فأرسلت صورتها مرفقة بكلمات تغوى بالحب وتدعو للنسيان ،فاستجاب الرجل المغتر لنداء المرأة وتناشدها التواصل وااللتقاء، وأنسته صورة االبنة بجدائلها المنسدلة على ظهرها كأشعة ليلية متماوجة صورة األب المتهاوى مقتوال ومغدورا فاجتلى كعريس وتهيأ الحتفاله الخاص وللمرأة المشتهاة ،وعند أسوار مدينتها تطايرت منه النشوة المزهوة ،فقد التف حوله حراس الملكة وأوقعوه فى شباكها المنصوبة ،وساقوه إليها كى تنفذ فيه قضاءها الشخصى ومشيئتها المقدرة ،وها هى اللحظة اكتملت ،تنزل الملكة من السلم الحجرى وتبادل قائدها كلمات خاطفة تخفى أكثر مما تكشف وتوحى أبعد محمود دياب 145 144
مما تحدد ،لعلها من أكثف الكلمات الحوارية في الكتابة المسرحية العربية قدرة على اإليحاء بعكس دالالتها المباشرة ،فالملكة وقائدها يتفوهان بعبارات عابرة عن جمال وجه جذيمة وما إذا كان البرص حقيقيا أم لقبا ،وعما إذا كان يصلح حقا زوجا للملكة ،وتغلف تلك الكلمات تساؤالت مضمرة عن وقع المكيدة عليه، وهل كان راسخا وهو يتهاوى في الشرك المنصوب أم كان مرتجفا ،متقبضا في هذيانات مضطربة وحواس مأخوذة ،تراسل حوارى خارجى ،بينما تتكشف تدريجيا المساحات المختفية خلف الكلمات المنطوقة ،لتصوغ عالما خبيئا ومكثفا من االنفعاالت المكتومة وااللتهابات المضطرمة ،المخاوف والرغبات ،النشوات المستهلكة في انتظار لحظة تأتى اآلن فادحة ومراوغة وملتبسة. ويستجيب الكاتب وهو يصوغ عرس الملكة الدموى لذلك التراوح الجدلى الخفى بين كلمات الحوار الخارجية والمساحات المختفية والتيارات الشعورية الخبيئة ،فيدفع بعرافة عجوز إلى مشهده المسرحى لتعطيه امتدادا وكثافة سحرية، فتنتقل الملكة من حوارها النمطى مع قائدها إلى حوار كاشف مع عرافتها التى تكشف لها طبيعتها ال طالعها ،وتبصرها بزمنها المأساوى ال أقدارها المتحكمة، تقول لها العرافة كأنها تخط على جسمها كتابتها الموشومة بالسحر والمعرفة: «ستملكين شعبا لكنك لن تملكى رجال» ،وإذ تستعيد الملكة تلك الكلمات عارفة قدرها المأساوى الخاص الذى ينفى طبيعتها الحسية ويلقيها على مقعد ملكى خاو تحيطها أطياف أبيها وصورته ،فإن العرافة تحذرها بصوت منذر وقد أدركت أن مليكتها امتلكت لحظتها المنشودة وانخرطت فى طقسها الدموى « :ال تدعى
قطرة من دم تسقط على األرض ،لو سقطت ألضحت نذير ثأر متجدد» تهجس العرافة بنبوءتها وتلقى كلماتها التحذيرية وتمضى مخلفة مدارها السحرى لتظل الملكة عالقة به مشدودة بين أقواسه المغلقة ،لكنها اآلن وهى تلقى تحذيرات العرافة بهدوء خارجى وال مباالة مستعارة تسعى إلى االنفالت من الدائرة الوحشية ،فتستقر نظرتها على وجه زبداى ،قائدها وعاشقها ،فتعابثه برقة مفاجئة وبساطة آسرة ،وتباغته بالحقيقة المدهشة والمكتومة معا « :أنت تحبنى» ثم تردف كاشفة ال جتالئه العاطفى وتدفقاته الشعورية المختفية :ال كملكة ولكن كامرأة .وتسترسل الزباء فجأة فى استعادة لحظاتهما المنسية ،وتسترجع لحظة خاطفة خفق فيها قلبها وزبداى يضعها على الجواد ،يضطرب الرجل العاشق ويستعد المتالك لحظته المستحيلة ،لكن الملكة ترتد إلى عرسها الدموى ،فقد تهربت منها طبيعتها كامرأة واستقرت فى المهاوى السحيقة ،وامتلكتها اإلرادة المنتقمة واختزلت عالمها فى رغبة واحدة هى رؤية الملك الغادر نازفا كأبيها، ولذلك يغيب زبداى عنها وتتالشى إحساساتها الخاطفة وتذكاراتها الحية ،ويحل وجه أبيها المتجسد فى صورة على جدار ،فتشير إليها وتبدأ ترنيمتها الغامضة: «هذا هو اإلله ينظر ويتلقى صالتى ،هنا تجرى كل الطقوس ،هذا هو المذبح وعليه يقدم القربان ..عبادة مجنونة من خلقى ،ولها تراتيل سيسمعها فتتمزق منه األحشاء ،وينتهى فتنتهى معه العبادة بكل طقوسها ،وتبقى الكاهنة حرة».
محمود دياب 147 146
وتفرغ الملكة من ترنيمتها ألبيها – اإلله الذبيح – لتبدأ ترنيمتها الوحشية ،فتفك عقدة شعرها لينفرط على كتفيها فتنكته مغلولة ،متجمدة على السلم وعيناها على المدخل ،حيث يظهر «جذيمة الوضاح» .واآلن – تلك هى اللحظة المشتهاة – انتظرتها الملكة واصطفتها من أوهامها المنتقاة ،يقف جذيمة رهين إرادتها المنتقمة ومشيئتها القادرة ،تسائله الملكة وكأنها تتحسس خالياه وتشتم رائحة باقية من دم أبيها على جلده المرتعش ،تريد التأكد من وجوده حيا بين يديها« :هو أنت جذيمة؟ يجيبها ملك الحيرة ويسائلها كأنما يريد هو اآلخر التأكد من حقيقتها الملتبسة« :ومن أنت ؟ عند تلك النقطة ،وقد عبرت الملكة اللحظة األولى من اللقاء الشائك ،تبدأ فى تعابثها الساخر :أنا العروس ،ثم يشتبك الضدان فى جمل حوارية وقد تقاطعت مصائرهما وتداخلت فى سياقات فاجعة ،بغتة ،تنفصل الملكة عن طقسها المتوحش ،وتتأمل لحظتها المنشودة، تدعو الخمار بن حنكل كى يسقى األبرص من خمره ،فهى تريد أعضاءه منحلة وحواسه مغيبة مفككة حتى يتسنى لها استقطار دمه وتفريغه من خالياه ،لكنها تستشعر فراغا وجوديا يتخللها وبردا فى الروح ونزيفا فى الحواس ،الجنية ماتت فى جلدها وتركت لها امرأة تستهلك نشواتها فى االنتظار وتختزل العالم فى رغبة مطفأة ،إن اللحظة فى اكتمالها تبدأ فى التالشى ،والمشهد الهزلى يجرى أمام الملكة ،الخمار يسقى جذيمة مثرثرا عن جودة خمرته الذهبية ومزيجها المصفى وتأثيرها الذى يحل العقل ويفكك الحواس ويلغى قدرتها على تحديد األحجام فتستوى النملة والفيل ،ويتالشى الفارق بين الكأس والسكين، لقد أفضي الطقس الدموى إلى مشهد هزلى :جذيمة يستلقى على أرض
الحجرة يصب فى دمه المهدور مزيج الخمار الثرثار ،ويهيئ جسمه للموت متفسخا ومنحال ،ويرسل إشارات حوارية للملكة عن دهاء وزيره الهارب من الشرك العنكبوتى ،وهنا تقرر الملكة فض المشهد الهزلى ليحل الطقس الدموى المنتظر ،فقد أحست ،وكأنها تتلقى رؤى إشراقية مبهمة ،أنها هى ذاتها التى اشتبكت فى الشراك المنصوبة ،وامتصت سم العنكبوت الزاحف بين صورة أبيها ودم جذيمة ،تدعو الملكة العجائز وتشير إلى الشريان ،وتستعيد صوت العرافة فتحذرهن من سقوط قطرة من دمه على األرض ،وحين تحيط العجائز جذيمة بأجسادهن ويسحبن ذراعه ويقطعن الشريان يبدأ الجسد المخدر نزيفه األخير ،تندفع الزباء فى تقبضات حسية وانفعالية متنقلة بين صورة أبيها والدم النازف ،وتستخرج أعماقها المطمورة وتصوغها فى سؤال حاد وجارح «لماذا طاوعنى ،كنت ألعب ،فلماذا لم ينتبه؟ « فهل كانت تود أن ال يشاركها اللعبة أحد ،لتظل لعبتها منفردة دائرة فى مدارها الخاص ،وحين اشتبك جذيمة فى شراك اللعبة أضحت اللعبة خارجها ،أصبحت لعبة اآلخرين الذين عليهم اآلن أن يصوغوا دوائرهم داخلين طقوس النبوءات الفاجعة والشرايين المفتوحة، تنظر الملكة إلى جسم جذيمة النازف فتبصر قطرة من دمه تفج على األرض وتفوح فى المكان ،فتصرخ من رجة انفجار النواة مدركة انغالق الدائرة عليها واصطدام المصائر ،إنها نذر المكائد والثارات المتجددة ،وثانية قطرات الدم: نزف األب فصار ميراثا لالبنة وحولها من امرأة إلى ذات مجردة منتقمة، وحين استولت على ضحيتها ونذرته إلى عجائزها جسدا متفسخا مهدورا ،فإن قطرات دمه المتهربة خارج آنية العجائز مترقرقة بألوانها المسفوحة على أرض الحجرة المغلقة ،تصبح نذير ثأر متجدد ،وتوقعها فى دائرة أبدية من محمود دياب 149 148
االنتقامات المتبادلة والمكائد المتجددة ،والدماء التى تسقط تلبية لثأر وتصحو طالبة ثأرها. اآلن – اكتملت للملكة لحظتها المنشودة ،لقد قتلت راقصة النار الثعبان الملتف فى شباكها الذهبية ،لكنها امتصت السم فى جسمها واختزنته فى نسيجها الحى ،وقد تهربت قطرة الدم من جسد الضحية المغدور بها وانفصلت ،لتصنع قدرا مضادا ،إن الملكة قبل انتقامها كانت تعيش فى فرحها الخاص ،استكملت كل أدوار اللعبة واستجمعتها فى يدها ومضت تعددها فى انتشاء كاشف : «كل أدوار الحفل من نصيبى ،فأنا اآللهة ،والملكة والعروس ،وراقصة النار والمهرج ،وقاتلة الثعبان ..أنا أعيش فرحى ،فلقد نجحت لعبتى ،هى لعبة حقيرة ،ولكنها ذكية» ،ويخفت انتشاؤها تدريجيا ويذوى على سطح قطرة الدم المتهربة ،وتجف المرأة فيها ،وتنغرس فى مقعدها الملكى محاطة بصورة أبيها وقد أضافت لها صورا متعددة لعمرو بن عدى المنتقم الوليد ،تصنع السراديب وتبنى الدهاليز السرية وتبعث بمصورها الخاص عينا متلصصة إلى قصر ملك الحيرة ،وحين تأتيها شقيقتها وتزف إليها خبر امتالء رحمها بجنين، تنتاب الملكة مشاعر مضطرمة ومتناقضة تصوغها فى جمل حوارية متقطعة وهذيانات مرسلة ،إن الجنين الذى تدب بشائره األولى فى جسد الشقيقة يذكرها بأن لها رحما ولكنه جف ،وأن لها جسدا يتشهى ويطلب ولكنه فقد طبيعته وكف عن الرغبة والجيشان وغاض فى عوالم موحشة ،وكأن جسدها هو الذى يتفجر اآلن بالميالد الجديد ،أو كأنها تستعير جسم شقيقتها بعد أن استعارت مالمح أبيها ورغبته المنتقمة فتجيش متدفقة برغباتها المنسية وتشوقاتها المكتومة
المتالك جنينها الخاص ،فتهمس ألختها بكلماتها الراغبة« :أريده رجال ،هاتيه رجال ،إن جاءت بنت رديها ،افرضى شروطك على اآللهة .. ،عرش الملك ال يحمل امرأة يا زبيبة ،وإنما على المرأة أن تحمله ،إننى أحمل عرشى فوق رأسى فليكن هذا الذى فى جسدك ولدا ،ليكون ملكا». ماذا تقصد الملكة بعبارتها الغامضة :إن جاءت بنت رديها ،هل كانت طلبا يحتفى بإرادة األم على تحديد نوع جنينها ،أم إن العبارة انفلتت من خفايا الملكة وترددت على لسانها كاشفة عن قرارها الخفى بالموت ،فهى األخرى جاءت بنتا ،وفى أعماقها المطمورة تحت ثقل المقعد الملكى قرار بإعادة البنت فيها إلى الرحم وردها إلى الطبيعة حتى ولو منتحرة ،لقد اختبرت الملكة تلك الحالة الوجودية الخاصة والمكثفة« :أن تكتمل الرغبة المنشودة ،وفى لحظة اكتمالها تبدأ فى النقصان ،وأن تحل النشوة المنتظرة ،وحين تهم اليد اللتقاطها تتالشى مخلفة انعكاسات متهربة كأنها بقايا وجوه فى مرايا محطمة ،تلك الحالة اختبرتها الملكة وامتصتها خالياها المرتعشة وهى تحيك مكيدتها المتقنة ،فإذا بها تستشعر التفاف الشباك عليها ،ثم وهى تحقق انتقامها الفريد ،فإذا بالدم يرتد ويستقر بين خطوط الكف صانعا أقداره الوليدة ،كما أنها اعتادت أن تصوغ لعبتها المنفردة وتستجمع كل أدوارها ،فهى المدار والنواة وغيرها أجسام دائرة وذرات متطايرة حول مركزها ،وحين تبدلت أدوار اللعبة وأصبح الالعب الرئيسى فيها خارجها ،أدركت المرأة أنها نهاية اللعبة ،وقد تجسد ذلك فى اللحظة التى ارتمى فيها «قصير بن سعيد» على قدميها والضمادات محمود دياب
151 150
تلف وجهه المشوه ،والك كالما غريبا من فراره من عمرو بن عدى والتجائه لمملكتها طالبا حمايتها ،هنا – ال تتوقف الملكة لتسائل نفسها ذلك التساؤل البسيط والضرورى :كيف يحتمى بها وزير جذيمة الذى استطاع الفكاك وقد اشتم رائحة الخدعة وشاهد المكيدة تلتف حول مليكه ،ثم كيف كذلك يطلب منها إيفاده للتحدث باسمها رسوال شخصيا للملك الفارسى؟ إن الملكة قطعا تدرك تلك التساؤالت لكنها تتجاوزها وقد قررت االستمرار فى لعبة المكائد المتبادلة والثارات المتداخلة ،فوزيرها وعاشقها الذى ال يرى من اللعبة غير سطحها، فال يدرك المستويات المختفية خلف ظواهر المواقف والعبارات المتداولة بين طرفى اللعبة الجديدة :الملكة والوزير الهارب ،ولذلك يحتد على الزباء ويجابهها بتساؤالته الغاضبة :لماذا أغلقنا أبواب مدينتنا؟ إن كنا نأوى الشر بأنفسنا خلف األسوار؟ فتالطفه الملكة مهدئة من سورة انفعاالته الهائجة ،فهى تدرك جيشاناته القديمة فتقول له الكلمة الوحيدة التى ترضيه :أنت واحد من مالئكتى، فيخفق الوزير منفعال وساكنا ،ليترك المساحة للملكة ،كى تبادل الداهية اآلخر خطوته فى لعبتهما المتجددة ،فتعطيه بيتا وطبيبا وحراسة ،وتستجيب لتحركاته المكشوفة فترسله مبعوثا لها بينما تطأ صورة الملك الشاعر بقدميها بحركة ناعمة ،وتنجرف الملكة بعد ذلك فى المكيدة المضادة ،وتصبح متلقية للفعل ال صانعة له ،فتستجيب للترتيبات التى يصنعها عدوها الماكر كأنها تساعده فى إحكام الدائرة ونسج الشباك ،وحين يحين موعد الخطوة األخيرة ،تهيأت راقصة النار للمشهد الختامى ،فوافقت قصيرا على حيلته المكشوفة باستقدام تجارته التى تعرف يقينا أنها ستار يخفى ضربته القادمة ،وتخطو أبعد مما قدر العجوز
الماكر فتأمر بمرور القوافل من األسوار دون أن يتعرض الحراس لها ،وأخيرا – توافق على دخول الصندوق إلى مخدعها الملكى عارفة أن خصمها الطالب دمها يتمدد داخله مختفيا ،وحين تصبح وحدها تطرق منتظرة انفراج الصندوق الخشبى عن خبيئته المنتقمة ،فيخرج عمرو بن عدى ويده مكبلة بالسيف، ليجرى إثر ذلك حوار إشكالى بين صانعة الغرائب والملك الشاعر ،فالخصمان يبدوان كأنهما عاشقان ينتظران الخلوة فى اشتياق واحتراق ،يتبادالن جمال حوارية حول المكائد وعدمية الدم المراق وحتى الزواج والرغبات المستحيلة والفرار إلي عالم مغاير ،وفى تلك الحوارات يجرى محمود دياب تحويال فى نمط استجابة الشخصيتين للموقف الحاد بينهما ويقلب أفق التوقعات ،فنحن نتوقع اضطرابا واهتياجا نفسيا لدى الملكة وهى تشهد عدوها خارجا من الصندوق حتى لو كانت تنتظره ،لكننا نشهدها هادئة متأملة واقعية ،بينما يبدو عمرو مهتاجا ومضطربا رافضا للموقف كله طامحا إلى تغييره بشكل جذرى حالما بعالقة تجمعه بالملكة خارج شروط اللحظة وسياقاتها النفسية واالجتماعية، وحين تدرك الملكة عجز الخارج من الصندوق عن الفعل ،تدرك أنها تعيش انتصارها األخير ،وأنها سوف تعطى اللمسة الختامية للمشهد المركب ،وأن ال أحدا غيرها سوف يتم اللعبة ،فتسكب سم الخاتم فى جسمها لترد المرأة فيها للطبيعة ،ولكى تكتمل بها كل أدوار اللعبة ،وتتوحد فى لحظتها الختامية راقصة النار وقاتلة الثعبان ،والملكة والعروس.
محمود دياب
153 152
تنتظم العالقات بين الشخصيات النصية في دوائر متداخلة ،مركزها جميعا هو الملكة التى تبدو حتى فى لحظات غيابها كالنواة ،تتكون فى مدارها الخفى الشخصيات والسياقات والمواقف ،وتتشكل تبعا لحركتها الوجودية المصائر والتحوالت ،ورغم مركزية الملكة وبنيتها المسرحية المهيمنة ،فإن النص يضفى على شخصياته األخرى أبعادا وظالال متكاثفة ،وكأنه يفعل ذات الفعل الذى يسلكه المصور الجاسوس «ابن الحكم» حين يلتقط الوجوه من زوايا معينة ويثبتها فى رقعة عبر كثافة لونية وانفعالية خاصة ،إن النص يستعير الفعل ذاته ويأخذ نفس االتجاه ،فيصوغ شخصياته عبر لقطات مختزلة ومواقف وجودية حادة ،ويتبدى ذلك واضحا فى بنائه لشخصية جذيمة الوضاح الذى يتكون قبل ظهوره الفعلى فى النص من خالل كلمات الملكة ورؤيتها له ،حيث نستدل من تلك الكلمات األولى على صورته المخادعة ،فهو قد استدرج أباها إلى جلسة صلح ثم قتله ،ورغم طبيعته المخادعة تلك إال إنه ليس حذرا وال متشككا ،فهو قابل للخداع قدر استطاعته له ،فحين تأتيه صورة الملكة وكلماتها اإلغوائية فإنه يلتقط الرسالة مستجيبا ومغترا دون أن يتوقف لحظة يتساءل فيها عن نوايا االبنة ،وكيف من دون الرجال جميعا تختار قاتل أبيها ليشاركها الفراش والمملكة ،ال يتوقف جذيمة رغم خبرته الخداعية ،ورغم تحذيرات وزيره الداهية أمام تلك اإلشارات ،ومضى مزهوا فى موكبه الملكى وقد التقطته الصورة واجتذبته كلمات المرأة وإغواؤها الجسدى ،ليجد نفسه مجردا ومنفردا واقعا فى شباك المرأة المنتقمة.
ألقى جذيمة نظرة مجملة على القصر الملكى بجدرانه العارية وأعمدته المجردة ،فأدرك أن الليلة التى ظنها ليلة النشوات وااللتذاذات هى ليلته األخيرة، وأنه فريسة المرأة التى ظنها عاشقة فألقته إلى خمارها وعجائزها منحال ونازفا، فى تلك اللحظة القصوى ترتد إلى جذيمة روحه المرحة وتعتاده انفعاالت ساخرة ،فيمضى فى تعابثه اللغوى والوجودى مع الخمار والملكة ،يتجرع مزيج ابن حنكل الذهبى ويرتشف القطرات الحارقة ،فتفور حواسه المخمورة وتضطرم خالياه المحترقة ،فيشتبك مع الزباء فى اصطراع وجودى خفى واشتباك مصيرى محسوم ،إنهما إرادتان عاريتان ،مستهلكتان فى االنتظار ورغبات االنتقام المتبادلة والمكائد الدموية ،وهما يلتقيان على أرض الحجرة المغلقة ،تستجمع الملكة إرادتها وتقبع متوحشة على مقعدها تطل على المشهد المنتظر ،وخمارها يسقى قاتل أبيها وينادمه باألقداح والكلمات الفارغة ،بينما ينثر جذيمة إرادته المستباحة على مزيج الخمار وعصائر كرمته المسكرة، فقد استوت األشياء بعد نجاح العصفور بصورته الغاوية فى اصطياد األسد من قلعته المحصنة وبروجه المشيدة ،وحين تقرر الملكة فض عرسها الدموى وإنهاء احتفالها الخاص ،تسأل ضحيتها المخمورة« :ماذا تشتهى قبل أن تنتهي؟ كأنها تعطيه إشارة النهاية الفادحة ،يلتقط الملك اإلشارة فيستجمع وجوده فى دفقة كلية وختامية ،ويبادرها بتحديه األخير« :اشتهى أن أقتل أباك ثانية وثالثة ورابعة ،المرة بعد المرة ،أشتهى أن أرى تدمر غارقة فى الدم حتى ذرى نخيلها وأرى وجهك الجميل طافيا على صفحة البحيرة مختنقا ،ثم أراه يغوص ويغوص حتى القرار ..وأشتهى بعد ذلك أن أموت قبل أن تمدى يدك إلى». محمود دياب 155 154
يفرغ جذيمة قدحه األخير فى دمه المنذور للفجيعة والثأر المتجدد، ويلقى اشتهاءاته الختامية ويبدأ فى الغيبوبة محاطا بالعجائز الالتى يشبهن ربات االنتقام فى األساطير القديمة .وتنسكب الدماء من الشرايين المفتوحة مترقرقة فى اآلنية ،ويختم جذيمة مشهده الوجودى والمسرحى معا بصرخة مخمورة هاذية ،وجسد يتقبض فى عرسه الوحشى ،بينما تتسرب قطرة من دمه صانعة مدارها الخاص الذى تشتبك به الشخصيات المتبقية من االحتفال الدامى ،إنها تلك العوالم المتداخلة والمتصادمة والمنتسجة فى بنية محكمة ومتحولة من االنفعاالت المكتومة والمستترة والدماء النازفة وسكرات الخمرة والنبوءات الفاجعة ،وقد صاغها الكاتب الفذ ببساطة آسرة ولقطات منتقاة ،هنا – ثالث شخصيات فى مواقف قصوى ،فبينما يستلقى جذيمة بين يدى ابن حنكل يرتشف القطرات المصفاة ويهذى بكلمات ساخرة مفجوعة ،فإن الكاتب يضيف خمارا ثرثارا إلى مشهده الحاد ال لكى يخفف من ثقل الفجيعة ورجفة النزف ،وإنما لكى يصنع لحظة وجودية مشبعة بالخمرة والدم والنبوءة ،فابن حنكل ليس ساقيا لخمرة متقنة بل هو بأقداحه وعصيره المصفى يمثل الجزء الهزلى من الطقوس المتوحشة ،طرف ثنائية متضادة ولكنها متوحدة فى الموت :الخمرة والدم ،السكر والنزف ،النشوة المستقطرة واأللم الفجائى الحاد والسكين تتوغل فى الشريان ،إن المشهد بكامله مركب من ثنائيات متضادة ،الملكة وجذيمة ،ابن حنكل والعجائز ،ومن تلك الثنائيات المتضادة ،وجودا ورؤية ودالالت ،ينسج النص ظالله الحية ويلقيها على األجساد الميتة المفرغة من دمائها وحيويتها وطبيعتها ذاتها.
ينتقل النص إثر ذلك انتقالة مكانية وزمنية لنشهد شخصيتين دائرتين فى مدار الملكة معلقتين فى مجالها السحرى المركزى ،ابن الحكم -الجاسوس والمصور – بفرشاته ورقعه وألوانه يلتقط زوايا متعددة وانفعاالت معينة للملك الشاعر المسترخى فى مقعده رازحا تحت ثقل المواريث والمكائد واالنتقامات المتجددة ،وتدريجيا ،مع التتابعات الحوارية المكثفة ،يتالشى الملك فى عمرو ويتضاءل الجاسوس فى ابن الحكم ،ليبقى على المسرح اثنان فى حالة وجودية ممتلئة ،المصور والشاعر ،يتأمالن زمن الصورة وزمن الروح ،إن الصورة ليست ألوانا ومساحات وكتال وتكوينات وإنما هى لحظة مرصودة من وجود بشرى تحيا منفصلة فى الرقعة ،ويصبح لتلك اللحظة عمر خاص بها ،وجود نوعى يتشكل فى تلك اللحظة التى عبرت ،ولكنها مازالت تحيا طالما بقيت الرقعة ،ويفضى التأمل بالمصور والشاعر إلي صورة المرأة المنحدرة من عوالم مبهمة ،الصورة التى اجتذبت يوما جذيمة والتقطته من مملكته وألقته مسفوحا ومهدرا ،يتأملها اآلن الملك الشاعر ،فيرى فيها لحظة مرصودة من زمن امرأة فيحاول أن يستوضح ما بنفس المرأة من همس عينيها فى صورتها، فيرتد منبهما يلفه الغموض ،فيلجأ للمصور الذى يحيل التأويل للذات الناظرة، فمعنى المرأة وليد ثنائية متداخلة بين الصورة والذات .وبتأمل زمن المرأة وصورتها ،ينفض المشهد بين المصور والشاعر ،ليسترد ابن الحكم طبيعته المتلصصة ويلم رقعه التى صور فيها ملك الحيرة من زوايا متعددة ويخرج من القصر الملكى آفال إلى تدمر ليلقى الملكة التى أوفدته عينا لها ،فيعطيها الرقع محمود دياب 157 156
المصورة ويحيطها باألخبار والمعلومات التى استقاها من تجواله فى طرقات الحيرة وقصورها ،بينما يبقى الشاعر مثقال بالميراث الدامى ومهماته الملكية الفادحة ،إن السهام تتجمع وتندك فى جسمه هو ال فى جسم الملكة الفاتنة، حين يظهر قصير برغبته فى االنتقام وقدرته على صنع المكائد وإحساسه المأساوى بموت صديقه ومليكه جذيمة ،يسعى الملك الشاعر إلى االنفالت من دائرة المكائد واالنتقامات ،ولكن الوزير يحكم عليه الخيوط ويدفعه إلى مصيره الوليد الذى أعطته قطرة الدم المتهربة حتمية القدر وطابع النبوءة ،يتفق الملك والوزير على المكيدة المضادة ،ويمضى الوزير فى تنفيذها بينما يبقى الشاعر فى مملكته مستوحدا يتابع أخبار وزيره وخطواته المتسللة إلى قصر الزباء مندهشا من النجاحات السهلة وانطالء الخدعة على الملكة متراوحا بين أحاسيس متناقضة وتيارات شعورية متشابكة ،هو يود التوقف واالنفالت من الموقف كله ،ال يريد قتل الملكة وال أن يصير الشاعر فيه قاتال والملك متآمرا والحياة مكيدة ،ولكنه يندفع منجرفا فى لعبة عدمية وعبثية معا ،ال يملك الفكاك تماما كجذيمة والملكة ،إنها شخصيات محاصرة ،تتحرك بإرادة فاعلة وحركة متحررة ولكن داخل دائرة من الحتميات والنبوءات المتحققة ،واآلن – يحين دوره الخاص في اللعبة الدائرة ،يأتيه قصير بصندوق يتمدد فيه داخال مملكة المرأة الضد كجزء من قوافل سيارة وتجارة وهمية ،وها هو الصندوق الخشبى ينفتح ليجد نفسه أمام الملكة فى حجرتها العارية ،لكن الملكة ال تبدو مفاجأة أو مندهشة أو مرتعبة بل منتظرة وربما مرحبة ،إنها صانعة الغرائب بتعبيرها الذى تضيف به إلى توصيفاتها السابقة لنفسها توصيفا جديدا ،ينخرط الملك
الشاعر تدريجيا فى عالم الملكة اآلسر ويدخل دنيا غرائبها ،فيعيد السيف إلى غمده ويجالسها مأخوذا بجمالها وفتنتها وينسى طبيعته المستعارة :الملك المنتقم، ليسترد طبيعته األصلية :الشاعر والعاشق ،فيصوغ رؤية للحياة ال للموت ورغبة فى التواصل ال التضاد ،إنه يتأمل لحظته األخيرة فيجد نفسه متسلال إلى قصر الملكة كلص صغير منخرطا فى لعبة أالعيب ومكائد دائمة ،فال يستهويه المشهد الدموى المتكرر ،فيقرر أن يناقض الموقف جذريا بأن يعرض على المرأة الزواج ال الموت ،وتالقى المصائر ال تعارضها ،وتوحد الوجود ال تناقضه ،لكن صانعة الغرائب ترتد إلى واقعها مدركة أن تحقق العالقات مشروط بسياقات وضرورات ،وأن المصائر ليست وليدة اختيار فردى وإرادة ذاتية ولكنها نتاج واقع وانعكاس تاريخ ،فتقول لغريمها العاشق الذى يطلب منها إنهاء العداء الموروث جمال قاطعة وحادة« :هل فكرت فى شعبى وشعبك؟ .. فتراث توارثه الناس على مدى أجيال ،ال يتالشى بكلمة من ملك ،والحب ال يقحم على قلوب الناس ،بزواج ملكة من ملك .. ،خذها حكمة من الزباء وال تنسها ،إن أرضا ارتوت بالحقد ال تنبت زهرة حب» .يفهم الشاعر كلمات الملكة رافضا دالالتها النهائية التى تفضى يقينا إلى نقيض ما يريد ،ويرضى مؤقتا بالفرار من الموقف وقد عجز عن تغييره ،فيشير إليها بطرق التهرب وأساليب النجاة ،ولكنها كانت قد قررت إنهاء اللعبة حتى ولو بيدها ال بيد عمرو ،ورد المرأة إلى الطبيعة لكى تستكمل فى الموت األدوار الباقية ،فترفع غطاء الخاتم وتصب السم فى دمها ،ليبقى الشاعر هاذيا أمام الملكة المتهاوية صارخا وبقع الدم تنمو متجددة فى الحجرة العارية. محمود دياب 159 158
أستعيد اآلن تلك الكلمات المحورية التى أوردتها سابقا والتى جابهت بها الملكة شاعرها الملكى العاشق وردته من دنيا غرائبها إلى الواقع الموضوعى بمستوياته التاريخية والنفسية واالجتماعية ،قائلة فى جمل تلخيصية رامزة رؤيتها لتراث األجيال وارتواء األرض بالدم ،إن تلك الكلمات تشى باحتمال كونها صادرة عن صوت المؤلف ال صوت الشخصية ،فبناؤها اللغوى التلخيصى ينتهج منهجا مغايرا للبناءات اللغوية فى النص ،كما أن دالالتها الرمزية بإجمالها الكلى لتصورات مجردة تنبو عن كيفيات إنتاج الدالالت وطرائق عملها ،فالملكة الصادرة عنها تلك الكلمات التلخيصية فى موقف حاد ولحظة وجودية مكثفة ،وتعبيراتها اللغوية خاصة وكاشفة لتياراتها االنفعالية المستترة ورغباتها المختفية ،ولم نشهدها طيلة النص تصوغ حكمة أو تجمل مقولة، ولذلك تبدو تلك الكلمات مقحمة على الشخصية ومنفصلة عنها مستعيرة صوتا خارجيا لعله صوت الراوى الخفى ،أى المؤلف ذاته ،وربما ابتداء من تلك النقطة تحديدا واستنادا إلى تلك الكلمات نفسها ،وجدت بعض الكتابات النقدية مدخال لقراءة سياسية للنص ومرتكزا الجتالء رؤية محمود دياب الفكرية للقضايا الراهنة ،ولتقصيات تفصيلية بدرجة معينة للرؤية الكلية للنص ،أورد عدة نقاط مجملة:
أوال – يوحى ظاهر العبارات الخادع بإدانة مضمرة للمدينتين المتعاديتين وسالالت الدم المتضادة والثارات المتبادلة ،فحين يحاول الملك الشاعر أن يتجاوز الميراث الدامى مستجيبا لتدفقات الحياة وتجددها ،فإن الملكة ترده فى إشارة نهائية إلى ارتواء األرض بالدم وعقمها عن استنبات زهرة حب ،ولكن هذا الظاهر الخادع يتكشف عن نقيضه ،أى عن إدانة الذات ال المدينة ،ورفض الفردية المنكفئة على محورها الخاص وعجزها عن التواصل الحى والوجود المتجدد ،ويرجع هذا االلتباس بين الداللتين إلى لفظة األرض في العبارة ،فبعض التفسيرات أحالت معنى األرض وداللتها الرمزية إلى الواقع الموضوعى ،فركزت على أن الملكة تقصد المدينة وعالقاتها المتوارثة بإشارتها إلى األرض المرتوية بالدم ،وتلك إحالة خاطئة ،فالملكة تقصد نفسها باألرض وتحيل إلي ذاتها حين تشير إلى عدم القدرة على استنبات زهرة حب، فالملك الشاعر يعرض عليها الحب واالرتواء الجسدى والعاطفى ولكنها تدرك أنها فقدت طبيعتها األنثوية وأصبحت أرضا مجدبة ،ومن هنا تأتى إشارتها إلى عقم األرض داللة على عقمها الجسدى ذاته. ثانيا – تعد الملكة مشروعها االنتقامى الفردى فى حجرة مغلقة ،محاطة بصورة على جدار ،وتوجه فعلها االنتقامى إلى ملك المدينة المعادية ،بينما يتم تهميش الكتلة االجتماعية وإبعادها عن الصراع الدموى الدائر ،فهى إذن مكائد قصور واألعيب ساسة وثارات فردية فى دورة تكرارية عدمية ،وهنا يطرح النص رؤيته لعقم الحاكم المنفصل عن محيطه االجتماعى وسياقه التاريخى محمود دياب
161 160
وعجزه حتى عن امتالك لحظته الخاصة ،فالملكة فى مشهدها االنتقامى وجذيمة ينزف فى آنية العجائز ،تستشعر المحنة ربما على نحو أكثر كثافة وأعمق وطأة ،وحين يبادرها عمرو بن عدى بكلمات شاعرية تبغى محو الميراث الدامى وتجاوزه برغبات فردية ،فإن الملكة التى جربت عزلة المشروع الفردى تشير ألول مرة إلى تراث األجيال ومكونات الكتلة االجتماعية التى ال يمكن القفز على شروطها ومنطقها فى صياغة أي مشروع تصالحي ،وإال سيكون كاالنتقام الفردى شكليا منفصال مرتدا إلى الذات مؤكدا عجزها المتجدد. ثالثا – يذهب النص فى تصوره اإلجمالى إلى أن تغييب الكتلة االجتماعية وتهميش فعلها التاريخى وإبقاءها خارج الصراعات المصيرية لن يؤدى إلى التقاء الضدين حتى لو كان أحدهما شاعرا ،ولن يفضى إلى اجتماع النقيضين حتى لو كان أحدهما راغبا فى تجاوز المواريث االجتماعية والتاريخية ،ولذلك يعمد النص إلى تكوين افتراض خيالى ،وهو أن يكون الخصم شاعرا ممتلكا لمشاعر دافقة ،وراغبا فى إنهاء دائرة الدم التكرارية، وينسج على هذا االفتراض الخيالى رؤيته الفكرية ونبوءته الفاجعة ،ويتشابه الفعل المسرحى لمحمود دياب فى ذلك النص بفعله المسرحى فى نصه الكبير اآلخر «باب الفتوح» ،حيث يختار لحظة تاريخية منتصرة هى انتصار صالح الدين األيوبى فى حطين واستعادته القدس والمدن العربية المستلبة ،ليقرأ من خالل تلك اللحظة المنتصرة العالقات االجتماعية المهزومة والمنحسرة.
في كال النصين ،يذهب محمود دياب إلى طرف الموقف األقصى ليقرأ السياق النقيض والعالقات المستترة واألعماق المتضادة مع السطوح الالمعة :فى «أرض ال تنبت الزهور» :ال يكتسب الخصم فى الموقف الختامى بين الملكة والشاعر صفاته المعتادة ،فهو ليس طالبا لدم الملكة بل هو يريد تواصلها ،وليس راغبا فى االستمرار اآللى فى الدورة الوحشية بل يسعى إلى إنهائها ونقض منطقها ،فهو شاعر وحالم ويبدو آتيا من عوالم خيالية ،مع ذلك، يصوغ النص رؤيته الصلبة ،فليست المسألة كلمة من ملكة أو رغبة من حاكم، بل تراث توارثه األجيال وشروط موضوعية تبرر االقتتال أو تحتم الوئام، والقفز على ذلك التراث حفر فى الماء ،وتجاوز تلك الشروط حركة دائرة فى فراغ. وفى «باب الفتوح» يختار دياب أبهى لحظات التاريخ العربى وأكثفها داللة على الزهو القومى واالنتصار ،ولكنه برؤيته الجدلية يكشف الخرائب المتنامية خلف الواجهات المتوهجة ،فرغم طابور الفرنجة المكبلين الذين يمرون أمام خيمة صالح الدين فى استعراض لألسرى ،ورغم جميع المظاهر االحتفالية األخرى التى تشى باالنتصار العسكرى ،إال أن أسامة بن يعقوب يعكس وعيا مخالفا ونقيضا ،فما األندلس – وطنه األصلى – إال عضو مبتور من جسد ضرب فيه العفن وسرى فيه الدود ،عاكسا بذلك رؤية الجماعة المعاصرة للزمن التاريخى المستدعى ،وراصدا مفارقة انتصار العرب فى الشام والمشرق وهزيمتهم فى األندلس والمغرب ،واختالف صورتهم فى المنطقتين، محمود دياب 163 162
فى األولى هناك موقعة منتصرة وقائد يستعرض األسرى وتكبيرات نصر وتهليالت جند ومؤرخ مشغول بتسجيل االنتصار وتطويع الكلمات وضبط أواخرها التزاما بأصول الكتابة ،وفى الثانية يعيش العرب في دائرة ضيقة من األرض كاألسرى ،بينما يبيع الفرنج األسير بزق صغير من الخمر ،ويحولون الجوامع إلى خمارات وبيوت دعارة ،وهكذا – صورتان متناقضتان داخل اللحظة ذاتها والزمن الواحد ،وهو ما يؤدى بأسامة إلى تجاوز نشوات النصر وظواهره االحتفالية إلى رؤية تستبصر اللحظة المقبلة ،حيث استثمار النصر وتفريغه من محتواه ودالالته ،ليصبح مادة لقصائد متملقة واحتفاالت شكلية. هكذا – نسج محمود دياب فى الذاكرة المسرحية نصه األخير وعالمته الباقية «أرض ال تنبت الزهور» ثم أغلق الباب ليذوى جسمه مستوحدا فى حجرة مغلقة ،تاركا لنا تراثه اإلبداعى الذى رغم وفاة صاحبه منذ نحو أقل قليال من ثالثين عاما ،إال أنه مازال ممتلكا لطاقة إبداعية متنامية وقابلة لصياغة أسئلة متجددة والتحاور مع معطيات معرفية ومراحل اجتماعية متحولة0
الهوامش والمراجع
-1
سي از قاسم :بناء الرواية ،هيئة الكتاب ،القاهرة ،ص27
يورى لوتمان:مشكلة المكان الفنى،ترجمة سي از قاسم،مجلة ألف،العدد -2 السادس،الجامعة األمريكية ،القاهرة ،ص86 سامية أسعد :إشكالية الزمن فى المسرح المصرى ،مجلة ألف،العدد -3 التاسع،الجامعة األمريكية ،القاهرة ،ص189 -4
سامية أسعد ،مرجع سبق ذكره ،ص29
فدوى مالطى دوجالس :التحليل التضمينى لمسرحية ليلى والمجنون، -5 فصول،المجلد األول،العدد الثانى،هيئة الكتاب،يناير ،1988ص210 انظر لمزيد من التحديدات واإلضافات: يمنى طريف الخولى :إشكالية الزمان فى الفلسفة والعلم ،مجلة ألف،العددالتاسع،الجامعة األمريكية ،القاهرة 0 ياسين النصير :الرواية والمكان،و ازرة الثقافة واإلعالم ،بغداد0 -6روالن بارت :نظرية النص ،ترجمة محمد خير البقاعى ،مجلة العرب والفكر العالمى ،العدد الثالث ،مركز اإلنماء القومى ،بيروت ،صيف ،1988ص93 محمود دياب 167 166
-7أوزفلد دوكر :نظرية األفعال الكالمية،ترجمة عبد العزيز شبيل ،مجلة العرب والفكر العالمى،العدد العاشر ،مركز اإلنماء العربى ،بيروت ،ربيع ،1990 ص146 -8يشيرالباحث الى استفادته من بحث غير منشور لمحمد عبد الهادى عن تاثير كليوبات ار شكسبير على شوقى0 -9اعتدال عثمان:الواقع والتاريخ فى باب الفتوح ،مجلة فصول،المجلد الثانى،العدد الثالث،هيئة الكتاب ،القاهرة ،ص237 -10اعتدال عثمان :المرجع السابق ،ص238 -11اعتدال عثمان :مرجع سبق ذكره ،ص240 -12اعتدال عثمان :مرجع سبق ذكره :ص242 -13يتماثل المستويان التجريدى والواقعى فى نص دياب مع المستويين ذاتهما فى نص يونسكو «ارتجالية الما» حيث يونسكو المؤلف الذى جلس ليكتب مسرحيته الجديدة ،ويتوافد عليه ثالثة من النقاد أو مديرى المسارح يحملون اسما واحدا وذلك فى محاولة منهم لسلب يونسكو عقليته المجددة مثلما توافد الغرباء
على الرجل الطيب لسلب ملكية البيت ،ورغم ما فى االرتجالية من خصوصية وما فى الغرباء من عمومية إال انهما يقتربان فى عرضهما للحدث الدرامى الذى يبدأ بقوة ما تمارس ضغطا متزايدا على الشخصية المحورية معتمدتين على تأكيد الداللة عبر بعثرة المخطوطات وإشاعة الفوضى فى المكان وفى هيئة يونسكو نفسها وذلك فى االرتجالية ،أو بالقهر المادى للرجل وتمزيق مستنداته فى الغرباء، ويتم ذلك فى شكل هزلى0 انظر :أسامة أنور ،تأثير العبث فى ثالثية محمود دياب،مجلة القاهرة،الهيئةالمصرية العامة للكتاب ،القاهرة،العدد ،67يناير ،1987ص15 -14يستعمل «أرسطو» هذا المصطلح فى فن الشعر ليدل به على لحظة التنوير التى تتحرك فيها الشخصية من الجهل إلى المعرفة ،وتعنى بذلك عنده تعرف شخصين على بعضهما بعد طول انفصال أو اكتشاف مجهول ،ويقسم «أرسطو» التعرف فى الماساة إلى ستة أنواع ،ويرى بعض الباحثين أن التعرف مستمد من طقوس العبور فى المجتمعات العشائرية القديمة 0 انظر :ابراهيم حمادة ،معجم المصطلحات الدرامية،دارالمعارف،القاهرة ،ص75 -15بهاء طاهر :الزوبعة ،مقال ملحق بالنص،مؤسسة التأليف والنشر،القاهرة ص 248
محمود دياب 169 168
-16وحيد النقاش :أزمة الخوف التى فجرت قوى الخير فى الزوبعة ،مقال ملحق بالنص،مؤسسة التأليف والنشر،القاهرة،ص257 -17شاكر عبد الحميد:الزمن اآلخر ،الحلم وانصهار األساطير ،مجلة فصول المجلد الخامس،العددالرابع،الهيئة المصرية العامة للكتاب ,القاهرة،1985، ص231 -18رينيه جيرار:العنف واالضطهاد ،كبش الفداء ،ترجمة جهاد هواش،عبد الهادى عباس ،دار دمشق ،ص29 -19رينيه جيرار :العنف المقدس ،ترجمة جهاد هواش،عبد الهادى عباس ،دار الحصاد ،دمشق ،ص20 -20رينيه جيرار :المرجع السابق ،ص146 -21اعتدال عثمان:الواقع والتاريخ فى باب الفتوح ،مرجع سبق ذكره ،ص240 -22محمود قاسم :مناهج األدلة فى عقائد الملة البن رشد ،مكتبة االنجلو،القاهرة ص162 وانظر للمزيد :محمود قاسم :ابن رشد وفلسفته الدينية ،مكتبة االنجلو ،القاهرة
-23محمد عزيزة :اإلسالم والمسرح،ترجمة رفيق الصبان ،المكتبة الثقافية، الهيئة العامة للكتاب ،القاهرة ،ص 20 -24أحمد أبو زيد :الذات وما عداها ،مدخل لدراسة رؤى العالم ،المجلة االجتماعية القومية،المجلد السابع والعشرون ،العدد األول ،المركز القومى للبحوث االجتماعية والجنائية ،القاهرة ،يناير ،1990ص67 -25جابر عصفور ،عن البنيوية التوليدية،مجلة فصول ،المجلد األول،العدد الثانى،الهيئة العامة للكتاب ،القاهرة ،يناير ،1981ص85 -26جابر عصفور :المرجع السابق ،ص86 - 27جابر عصفور :المرجع السابق ،ص87 -28لوسيان جولدمان :المنهجية فى علم االجتماع األدبى ،ترجمة مصطفى المسناوى،دار الحداثة ،بيروت،ص ص ،10اا -29السيد حافظ األسود :أنماط التفكير ،دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم فى المجتمع المصرى ،ضمن :المجلة االجتماعية القومية ،مرجع سبق ذكره، محمود دياب
171 170
ص 38وما بعدها0 -30السيد حافظ األسود :المرجع السابق ،ص44 -31اعتدال عثمان:الواقع والتاريخ فى باب الفتوح ،مرجع سبق ذكره ،ص241 -32اعتدال عثمان:الواقع والتاريخ فى باب الفتوح ،مرجع سبق ذكره، -33السيد حافظ األسود :أنماط التفكير ،دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم فى المجتمع المصرى ،ضمن :المجلة االجتماعية القومية ،مرجع سبق ذكره ،ص40
باب الفتوح
المحتويات
-البنية الداللية
13
-رؤى العالم
75
العالم المتحول واللحظات المنسية 139-الهوامش والمراجع 161