محمود دياب

Page 1



‫شخصية المهرجان‬

‫رئيس المهرجان‬

‫أ‪.‬د‪ /‬حسن عطية‬

‫رئيس تحرير المطبوعات‬

‫د ‪ /‬مصطفى سليم‬

‫مدير المهرجان‬

‫أ‪ /‬إسماعيل مختار‬

‫المنسق العام‬

‫ماجدة عبد العليم‬ ‫صورة الغالف إهداء‬

‫محمد فاروق‬

‫جرافيكس المطبوعات‬ ‫واإلخراج الفني‬

‫محمد عبد الحكيم الكومي‬



‫كــــــلــــــمــــــات‬


‫وزير الثقافة‬ ‫أ‪.‬د ‪ /‬إيناس عبد الدايم‬

‫محمود دياب‬

‫‪7 6‬‬


‫ ‬ ‫يعد المسرح أحد روافد الثقافة المصرية‪ ،‬معبرا عن واقعه‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ومتطلعا لتغييره‪ ،‬ومشتركا مع كافة الفنون األخرى فى نشر‬ ‫الوعي بين الجماهير واالرتقاء بالذوق العام لمواجهة التطرف‬ ‫الفكري‪ ،‬مما يدعونا إلى ضرورة عودة الثقافة إلى المواطن من‬ ‫خالل تكاتف جميع القطاعات والتنسيق فيما بينها ‪ ،‬وإلى العمل‬ ‫من أجل تحقيق التواصل بين المركز فى العاصمة واألطراف فى‬ ‫األقاليم‪ ،‬والسعى للكشف عن هوية كل بيئة ‪ ،‬بما يعكس هوية‬ ‫هذا المجتمع األصيل الخالد‪.‬‬ ‫ومن ثم يعتبر المهرجان القومي للمسرح هو النافذة التى‬ ‫ ‬ ‫نطل منها على كل منتج إبداعي فى كافة األقاليم والقطاعات‬ ‫والتوجهات‪ ..‬أنه بانوراما مختارة لهذا الكم الرائع من العروض‬ ‫المسرحية التى قدمت خالل العام الماضى ‪ ،‬بما يسمح بالتعرف‬ ‫على مالمح تطور هذا المسرح‪ ،‬ورصد مساره المتقدم دوما لألمام‪.‬‬ ‫تحية تقدير للقائمين على هذه التظاهرة الثقافية التي‬ ‫ ‬ ‫تعبر عن وجه من أوجه حضارتنا متمثال في أبو الفنون ‪ ..‬المسرح‬ ‫الذي سيظل دوما مساحة من التفاعل الثقافي االبداعي الحي‬ ‫المعبر عن العصر وهمومه وطموحاته‪.‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬حسن عطية‬ ‫رئيس المهرجان‬

‫محمود دياب‬

‫‪9 8‬‬


‫لم تحركه األيديولوجيا التي هيمنت على العقل العربي في مصر‬ ‫ ‬ ‫في ستينيات القرن الماضي‪ ،‬رغم تبنيه ألهدافها األساسية وهى العدل االجتماعي وحق‬ ‫اإلنسان البسيط في الحياة الكريمة‪ ،‬بقدر ما حركته روح القوانين التي درسها وعشقها‬ ‫وصار بها مستشا ار بقضايا الدولة‪ ،‬خالل سنوات حياته العملية األولى في الخمسينيات‪،‬‬ ‫ثم طوال مرحلته اإلبداعية خالل الستينيات والسبعينيات‪ ،‬مما أدى لتوتر عالقته دوما‬ ‫مع األنظمة المهيمنة‪ ،‬وحفر بأعماله الفنية واألدبية طريقا خاصا به أبعده عن األضواء‬ ‫وأوصله للتصادم والقلق فالرحيل الهادئ عن دنيانا وهو بعد في الحادي والخمسين من‬ ‫عمره‪.‬‬ ‫أنه “محمود دياب” (أغسطس ‪ -1932‬أكتوبر ‪ )1983‬المستشار الجليل‬ ‫ ‬ ‫والسارد البارع للرواية والقصة‪ ،‬والكاتب المسرحي المثير للجدل ببحثه الدءوب عن‬ ‫الهوية المصرية‪ ،‬وكاتب القصة والسيناريست الممتلك لحرفة الكتابة للدراما السينمائية‬ ‫المع ِرف بعالم الروائي الروسي الكبير “ديستوفسكى” على الشاشة الفضية‪،‬‬ ‫والتليفزيونية و َ‬ ‫والمثقف الذي ترك أروقة مجلس الدولة الرفيعة‪ ،‬ليتحرك عمال مع أبناء جهاز الثقافة‬ ‫الجماهيرية الوليد أواخر ستينيات القرن الماضي‪ ،‬وليعيش مغامراته في األزقة والحواري‬ ‫ونجوع الوطن‪ ،‬ينتقل بين قصر ثقافة في اإلسكندرية إلدارة الثقافة العامة ومكتباتها‬ ‫بالقاهرة‪ ،‬وجذبه الواقع في كفور الدلتا وبيوت ناسها للتعرف عن قرب على هموم‬ ‫المواطن البسيط والفالح الباحث عن الخالص من ظلمة التاريخ وحرقة الصبر‪ ،‬مما‬ ‫أنعكس بصورة واضحة على مسيرته اإلبداعية‪.‬‬ ‫هو ابن اإلسماعيلية المدينة التي ولد بها وأحبها‪ ،‬وهو ربيب القاهرة المحروسة‬ ‫ ‬ ‫التي عاش فيها وتعبد في محرابها‪ ،‬وهو المخلص لوطنه الذي كرس حياته كلها من‬


‫أجل رفعته والحفاظ على كرامته وتقدمه‪ ،‬وهو المؤمن بالعروبة التى ازدهرت دعوتها‬ ‫فى ستينيات القرن الماضي‪ ،‬ورأى فيها أهم أبعاد الشخصية المصرية‪ ،‬فلم يتعلق بالبعد‬ ‫البحر متوسطي كثيرا‪ ،‬ولم ينشغل بالبعد الفرعوني‪ ،‬وظل يفتش في التربة المصرية‬ ‫وحكايات شعبها عن هذا البعد اللغوي والمعرفي الذي صبغ هذه الشخصية بصبغة‬ ‫خاصة‪ ،‬وراح بإبداعه الراقي يأمل أن يرتفع بوعيها لمصاف العدل والتقدم‪ ،‬مما فتح‬ ‫أبواب اإلبداع أمام موهبته الفريدة‪ ،‬فكتب الرواية والقصة والمسرحية القصيرة والطويلة‬ ‫وأعد القصص السينمائية وشارك في كتابة السيناريو والحوار لقصصه وقصصه غيره‪.‬‬ ‫كان شاغله األول في مسيرته اإلبداعية هو التعبير عن الروح المصرية‪ ،‬فصاغ‬ ‫ ‬ ‫في الستينيات أعماال روائية ومسرحية قدمت على مسارح الدولة‪ ،‬وشغلت الجمهور‬ ‫والحركة النقدية كثيرا‪ ،‬وتنقلت موضوعاتها بين أجواء المدينة وقضايا طبقتها المتوسطة‬ ‫وأجواء الريف وهموم أهله البسطاء‪ ،‬مقدما نفسه بنص (المعجزة) الذي لفت نظر بعض‬ ‫النقاد إليه بعد فوزه بجائزة مؤسسة المسرح والموسيقى عام ‪ ،1962‬وتتداول المعلومات‬ ‫عن تاريخ كتابته‪ ،‬فتعود به إلى عام ‪ ،1959‬وأن كنا نرى أنه كتبه فى نفس عام‪،‬‬ ‫حصوله على الجائزة‪ ،‬ألنه يطرح قضية التأميم للمصانع الخاصة‪ ،‬وأحقية العاملين فيها‬ ‫لها‪ ،‬دعما لعملية التأميم التي قامت بها الدولة للمصانع بداية من يوليو ‪ 1961‬وتمليكها‬ ‫لعمالها‪ ،‬وتتصل أفكاره بنفس ما طرحه في مسرحيته الطويلة التالية (البيت القديم) التي‬ ‫فازت بدورها بجائزة مجمع اللغة العربية ‪ ،1963‬مما يشي بكتابتها فيما بين عامي‬ ‫‪ 62‬و‪ ،63‬وأخرجها “على الغندور” لفرقة المسرح الحديث على مسرح (الهوسابير) في‬ ‫منتصف عام ‪ ،1964‬بعد أن قام “دياب” بتحويل حوارها للهجة العامية‪ ،‬وناقش فيها‬ ‫قضية العالقة بين األثرياء (سكان حي الزمالك نموذجا أثي ار زمنذاك) والفقراء (سكان‬ ‫حي بوالق المتاخم) اللذين ال يفصل بينهما جغرافيا سوى كوبري (أبو العال)‪ ،‬بينما‬ ‫محمود دياب‬

‫‪11 10‬‬


‫تفصل الفوارق الطبقية بينهما بصورة حادة‪ ،‬ومع ذلك لم يحظ عرض هذه المسرحية‬ ‫بحفاوة جماهيرية ونقدية ملحوظة‪ ،‬ربما ألن “دياب” صار في الطريق التقليدي لكتابة‬ ‫مسرحية تتحدث عن التفاوت الطبقي بين الناس “اللي تحت” والناس “اللي فوق” على‬ ‫طريقة “نعمان عاشور” مسرحيا و”صالح أبو سيف” سينمائيا ومن هم أقل منهما موهبة‬ ‫وحرفة ممن ساروا على درب ثورة يوليو في االنحياز فنيا وأدبيا للفقراء وإدانة األثرياء‪،‬‬ ‫ومتخذا موقفا إيديولوجيا حادا تجاه الطبقة األرستقراطية‪ ،‬فهي طبقة انتهازية وجاهلة‪،‬‬ ‫عوقة الوجود‪ ،‬بينما الطبقة الشعبية البسيطة هي المتسلحة بالعلم والوعي‬ ‫جميلة المظهر ُم َّ‬ ‫بحقيقة الواقع‪ ،‬والمتعلق منها بأهداب الطبقات العليا خاسر ال محالة‪ ،‬وربما ألن إخراجها‬ ‫غرق في تقليدية عرضها‪ ،‬جنبا إلى جنب صوتها الدعائي العالي‪ ،‬والذي مثله شقيق‬ ‫البطل العامل الواقف بشدة ضد تعلق أسرته البوالقية بحي الزمالك‪ ،‬الذي أدانه من قبله‬ ‫لتهتكه المخرج “صالح ابوسيف” في فيلمه (األسطى حسن)‪ ،1951‬وأدانه فيما بعد‬ ‫“أحمد فؤاد نجم” في قصيدته (يعيش أهل بلدي) والقائل فيها “يعيش التنابلة في حي‬ ‫الزمالك ‪ /‬وحى الزمالك مسالك مسالك ‪ /‬تحاول تفكر تهوب هنالك ‪ /‬تودر حياتك بالش‬ ‫المهالك”‪ ،‬غير أن أهم ما طرحه “دياب” في مسرحيته هذه هو رفضه القاطع لتوجه في‬ ‫المجتمع إلنشاء مدنا للمهندسين واألطباء والمعلمين والعمال‪ ،‬حيث رأى أن هذا التوجه‬ ‫يزيد الفجوة بين طبقات المجتمع‪ ،‬ويحصر العمال في مدن معزولة عن بقية شرائح‬ ‫المجتمع‪ ،‬ولذلك راح يقسو بقوة على شخصياته المتطلعة للصعود االجتماعي متخلية‬ ‫عن طبقتها‪ ،‬ملمحا إلى ما سيصبح أبرز مالمح مسرحه وهو ضرورة الحفاظ على القيم‬ ‫الراسخة في عمق الشخصية المصرية والمحافظة على وجودها المستمر في التاريخ‪.‬‬ ‫في نفس العام وفى نفس أجواء المدينة‪ ،‬كتب “دياب” مسرحيته القصيرة‬ ‫ ‬ ‫(البيانو) ومتوسطة الطول (الضيوف) ‪ ،1965‬وأن تأخر تقديمهما حتى عام ‪،1968‬‬


‫حينما أخرجهما “أحمد عبد الحليم” في سهرة واحدة‪ ،‬وفى العام التالي أقتحم “دياب”‬ ‫عالم القرية بنص طويل أثار زوبعة في الوسط الفني‪ ،‬وحمل عنوان (الزوبعة)‪ ،‬وحاز‬ ‫به على جائزة منظمة اليونسكو ألحسن كاتب مسرحي عربي‪ ،‬وترجم ألكثر من لغة‬ ‫أجنبية‪ ،‬تنفتح فيه القرية على أفق الوطن‪ ،‬بعد أن تحولت لقرية ظالمة ألحد أبنائها‪،‬‬ ‫ظلمه أعيانها األثرياء وأدخلوه السجن زورا‪ ،‬واستولوا على أرضه‪ ،‬وفتتوا عائلته التي‬ ‫تشكل بنية المجتمع األساسية‪ ،‬وبدا العرض الذي أخرجه “عبد الرحيم الزرقاني” لفرقة‬ ‫المسرح الحديث وكأنه يساير هجمة النظام وقتذاك على بقايا اإلقطاع الذي عاود‬ ‫الظهور والهيمنة في القرية المصرية‪ ،‬وشكلت لتصفيته تصفية كاملة لجنة باسم (اللجنة‬ ‫العليا لتصفية اإلقطاع) برئاسة “عبد الحكيم عامر”في مايو ‪ ،1966‬غير أن الدراما‬ ‫تتجاوز بمهارة ووعى كاتبها الوقائع اليومية‪ ،‬ليدين “دياب” الشرائح السلبية والجبانة في‬ ‫المجتمع‪ ،‬والتي تسمح بظلم األعيان (رموز اإلقطاع) لفالحين القرية‪ .‬ورغم عدم تقديم‬ ‫هذا النص مرة أخرى في مسارح العاصمة‪ ،‬حضر بقوة في المسرح اإلقليمي والعربي‬ ‫معا‪ ،‬حيث أخرجه المخرج المصري ذو الجذور السودانية “عوض محمد عوض» فى‬ ‫المسرح الجامعي بأم درمان‪ ،‬بعد أن قام بسودنتها الفنان “يوسف خليل”‪ ،‬وتردد صداها‬ ‫في العديد من مسارح الدول العربية‪.‬‬ ‫في نفس العام كتب “دياب” نصه القصير (الغريب) وأخرجه د” نبيل منيب”‬ ‫ ‬ ‫في موسم ‪ ،1967/66‬وقدم في سهرة واحدة مع نصي (الدنس) للمخرج “عادل هاشم”‬ ‫و(ورق ورق) للمخرج “عبد الغفار عودة”‪ ،‬في تجربة طليعية لتقديم الوجوه الشابة تأليفا‬ ‫وإخراجا تحت مسمي (طليعة المسرح القومي)‪ ،‬كما طاف بمسارح الدول العربية‪،‬‬ ‫فأخرجها “عزيز عيد الصاحب” بعد تعريقها‪ ،‬أي تحويلها لألجواء العراقية وباللهجة‬ ‫الدارجة عام ‪ ،1967‬كما أخرجها المخرج السوري “أسعد فضة” للمسرح القومي السوري‬ ‫‪.1970‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪13 12‬‬


‫في سياق بحثه عن سمات الشخصية المصرية وفنون الفرجة عندها‪ ،‬التقت أفكاره بأفكار‬ ‫“يوسف إدريس” التي أعلنها نهاية عام ‪ 1963‬بمقاالته الداعية إلى (البحث عن مسرح‬ ‫مصري ‪ /‬عربي)‪ ،‬وبمسرحيته الفريدة(الفرافير) ‪ ،1964‬وكذلك دعوة “توفيق الحكيم”‬ ‫المنادى بالكشف عن (قالبنا المسرحي) المصري‪ ،‬المتضمن الحكاواتي والمقلداتي‬ ‫والمداح‪ ،‬وكذلك دعوات الناقد د‪ .‬على الراعي للعودة لجذور فنون الفرجة الشعبية‪ ،‬مما‬ ‫حفز “دياب” لكتابة أصفى وأقرب النصوص الدرامية المحققة لهذه الدعوات‪ ،‬فكتب‬ ‫(ليالي الحصاد) التي أخرجها له د‪« .‬أحمد عبد الحليم” ‪ 1967‬لفرقة المسرح الحديث‪،‬‬ ‫بعث فيها كاتبها أالعيب التقليد الساخر من الصبية للكبار في حفالت السمر الريفية‬ ‫المصرية‪ ،‬مع استفادة من تقنية التمثيل داخل التمثيل الغربية‪ ،‬ملمسا في نصه على‬ ‫الفوارق االجتماعية بين البسطاء واألعيان‪ ،‬ومستعيدا موقفة من المنسلخ عن جذوره‪،‬‬ ‫سواء بالهجرة من الحي الشعبي للحى الراقي (البيت القديم) أو من القرية إلى المدينة‪،‬‬ ‫كما هو الحال هنا مع بطل المسرحية “على الكتف“‪ ،‬وعلى يديه يتحول حفل السمر‬ ‫الريفي إلى مرثية تكشف عن حجم مأساة الفوارق االجتماعية داخل القرية‪ ،‬وهو ما‬ ‫سيعاود طرحه بقوة في نصه (الهالفيت) الذي أخرجه عام ‪ 1970‬د‪“ .‬أحمد عبد‬ ‫الهادي” لفرقة كفر الشيخ المسرحية عام ‪ ،1969‬وعرض لمدة ليلة واحدة في ساحة‬ ‫جرن كبير‪ ،‬ولم يقدم بالعاصمة‪ ،‬رغم تعدد تقديمه في المسرح اإلقليمي‪ ،‬وقيمته الفكرية‬ ‫والجمالية التي قدمت مساحة جيدة للهالفيت للحضور واالنتقال من السخرية اللفظية‬ ‫من شياطين القرية ومفسديها إلى التمرد وبزوغ شمس الثورة على من أذلوهم تاريخيا‬ ‫وواقعيا‪ ،‬لقد صار هؤالء الهالفيت هم أبطال المسرحية‪ ،‬والمتمنين السيطرة على (قعدة)‬ ‫السمر‪ ،‬بأمل أكبر في السيطرة على نظام المجتمع‪.‬‬


‫ينهى عام ‪ 1970‬عقد الستينيات بتوقف حرب االستنزاف‪ ،‬وموت الزعيم‪،‬وانهيار‬ ‫ ‬ ‫الحلم القومي الناصري‪ ،‬وإعالن “الحكيم” (عودة الوعي) لشرائح النخبة الذين عليهم نبذ‬ ‫العدل االجتماعي لصالح الديمقراطية وفقا لرؤية الغرب الليبرالية لها‪ ،‬فانتبه “دياب”‬ ‫لقضية العالقة بين الزعيم الحاكم والمثقف الواعي‪ ،‬فكتب مسرحيته المعروفة (باب‬ ‫الفتوح) التي قام “سعد أردش” بإخراجها عام ‪ ،71‬وأوقفت الرقابة على المصنفات‬ ‫الفنية عرضها في البروفة النهائية (الجنرال)‪ ،‬وتأجل تقديمها حتى عام ‪ ،76‬مما أحبط‬ ‫“دياب” ودفعه لكتابة ثالثة نصوص قصيرة تبدو عبثية الصياغة‪ ،‬دون أن تبارح واقعها‬ ‫المجتمعي‪ ،‬وهى (الرجال لهم رؤؤس) و(أاضبطوا الساعات) و(أالغرباء ال يشربون‬ ‫القهوة)‪ ،‬حملت معا عنوانا عاما هو (رجل طيب في ثالث حكايات) بنبرة ساخرة تكشف‬ ‫عن أن هذا الرجل الطيب سيبقى وحيدا ومقهو ار وغريبا في وطنه بسبب غفلته المتشحة‬ ‫برداء الطيبة‪ .‬وعقب معركة أكتوبر التحريرية عام ‪ 1973‬وما صاحبها من متغيرات لم‬ ‫يكتب “دياب” للمسرح سوى نص قصير بعنوان (أهل الكهف) ‪ 74‬حذر فيه من عودة‬ ‫رموز اإلقطاع القديم والتمهيد للثورة المضادة‪ ،‬ولم يتح له بالطبع العرض الجماهيري‪،‬‬ ‫وثالثة نصوص طويلة هي(رسول من قرية تميرة لالستفهام عن مسألة الحرب والسالم)‬ ‫بتأثير مؤلم من مباحثات الكيلو ‪ 101‬بين مصر وإسرائيل‪ ،‬والتي انتهت بانسحاب‬ ‫ضخم للقوات المصرية من الضفة الشرقية للقناة بعد عبورها الكاسح لها باسم السالم‬ ‫مع إسرائيل‪ ،‬ولم يعرض هذا النص إال بعد رحيل “دياب” بعام في قصر ثقافة شب ار‬ ‫الخيمة من إخراج “أحمد إسماعيل”‪ ،‬و(قصر الشهبندر) الذي أخرجه “كرم مطاوع”‬ ‫على مسرح البالون بعنوان (دنيا البيانوال) ‪ ،75‬ثم نصه األخير (أرض ال تنبت الزهور)‬ ‫‪ ،1979‬منفلتا بموضوعه من اللحظة الراهنة لحضن التاريخ واألساطير المصاغة حول‬ ‫شخصياته‪ ،‬بعد أن أحبط في الواقع المصري والعربي معا‪ ،‬وتسلل التشاؤم لرؤيته للعالم‪،‬‬ ‫فأعلن استحالة السالم بين األعداء واألشقاء معا‪ ،‬بعد أن روت دماء المعارك األرض‬ ‫المحبة للسالم‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪15 14‬‬


‫شارك الواقع المحبط في السبعينيات‪ ،‬ومواقف الرقابة المتعنتة من مسرحياته‪ ،‬إلى‬ ‫خوض مغامرات إبداعية في عالم السينما‪ ،‬خاصة بعد أختار المخرج الفلسطيني األصل‬ ‫“غالب شعث” روايته (الظالل على الجانب اآلخر) ليكتب لها السيناريو والحوار‬ ‫ويخرجها في فيلم بذات االسم‪ ،‬تحمست له (جماعة السينما الجديدة) المتمردة على‬ ‫الواقع السيمائي الراكد‪ ،‬وقدمت باكورة أعمالها من قبل فيلم (أغنية على الممر) ‪72‬‬ ‫للمخرج “على عبد الخالق”‪ ،‬عن مسرحية للكاتب «على سالم»‪ ،‬ثم سعت الجماعة بكل‬ ‫جهد لتقديم فيلمها (الظالل) ‪ 75‬ليكون الثاني واألخير لها‪ ،‬في الوقت الذي لجأ فيه‬ ‫“حسام الدين مصطفى” لكاتبنا كي يعد له صياغة سينمائية لروايات “ديستوفسكى” التي‬ ‫يعرفها جيدا‪ ،‬فصاغ له قصة سينمائية وسيناريو عن رواية (األخوة كرامازوف)‪ ،‬بعد‬ ‫أن نقل أحداثها من موسكو إلى الفيوم‪ ،‬غير أن المخرج أدخل على كاتبنا السيناريست‬ ‫“رفيق الصبان” والمخرجة التسجيلية “نبيهة لطفى” فضال عن تدخله الشخصي‪ ،‬مما‬ ‫أغضب “دياب” في أول مغامرة له مع عالم السينما‪ ،‬والتي ال يستقل فيها السيناريو‬ ‫عن الفيلم مثلما هو الحال في استقالل النص الدرامي عن العرض المسرحي‪ ،‬فتنازل‬ ‫“دياب” عن كتابة أسمه على تترات الفيلم الذي عرض باسم (األخوة األعداء) ‪،74‬‬ ‫وحقق نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا‪.‬‬ ‫دفع هذا النجاح “حسام مصطفي” للجوء مرة أخرى إلى “دياب” إلعداد روايات‬ ‫ ‬ ‫أخرى للكاتب الروسي‪ ،‬فاشترط عليه أن يتحمل وحده كتابة القصة السينمائية والسيناريو‬ ‫والحوار‪ ،‬فوافق المخرج‪ ،‬وبالفعل أنجز له فيلمه (سونيا والمجنون) الذي عرض في‬ ‫يناير ‪ 77‬عن رواية (الجريمة والعقاب)‪ ،‬والتي اكتفى المخرج بذكر اسم “دياب” على‬ ‫التترات دون اسم الكاتب وال اسم روايته‪ ،‬مما دفع بكاتبنا لإلصرار على ذكر اسم الكاتب‬ ‫وروايته في فيلمه الثالث واألخير معه‪ ،‬وهو (الشياطين) عن رواية بذات االسم للكاتب‬


‫الروسي‪ ،‬وعرض في شهر أكتوبر من نفس العام ‪ ،1977‬وعالج من خالله موضوع‬ ‫الجمعيات الوطنية التي تبرر االغتيال الفردي وسيلة للتحرر الوطني‪ ،‬ويدين الفيلم بشدة‬ ‫هذا االغتيال‪ ،‬الذي برره فيلم (في بيتنا رجل) لبركات ‪ ،1961‬فكاتبنا يؤمن بالكفاح‬ ‫الوطني‪ ،‬وبعدالة قضية البسطاء في المجتمع‪ ،‬لكنه ال يبرر أبدا االغتياالت الفردية‪ ،‬التي‬ ‫قد تقضى على أبرياء دون أن تحقق أهدافها الحقيقية‪ ،‬فحركة الجماعة عنده هي األصل‬ ‫في الكفاح على كافة األصعدة‪.‬‬ ‫بقى من مغامرات “دياب” السينمائية فيلمان‪ ،‬أولهما كتب له القصة والحوار‪،‬‬ ‫ ‬ ‫كما تشير تترات الفيلم‪ ،‬وأخرجه د‪“ .‬سمير سيف” وعرض عام ‪ 1977‬باسم (إبليس في‬ ‫المدينة)‪ ،‬وذكر المؤرخ والناقد الكبير “محمود قاسم” في موسوعته السينمائية أنه معد عن‬ ‫رواية (األب الخالد) للكاتب الفرنسي”أنوريه دى بلزاك” والمعروفة باسمها الفرنسي (األب‬ ‫جوريو)‪ ،‬وهى معلومة صحيحة‪ ،‬والقارئ للرواية سيكتشف بسهولة أنها مصدر القصة‬ ‫المصرية‪ ،‬والتي ال نعرف لماذا لم يصر “دياب” على أن يذكر المخرج في تترات فيلمه‬ ‫اسم الكاتب األصلي‪.‬‬ ‫أما الفيلم الثاني‪ ،‬والذي أنتجته سوريا في نفس عام رحيل كاتبنا‪ ،‬وكتب السيناريو‬ ‫ ‬ ‫له وأخرجه “محمد شاهين”‪ ،‬عن مسرحية (البيت القديم)‪ ،‬داخال به لمجموعة من األفالم‬ ‫التليفزيونية المصرية التي أعدها الكاتب نفسه عن أعماله أو عن أعمال غيره القصصية‬ ‫والمسرحية‪ ،‬لألسف من الصعب العثور عليها اليوم‪.‬‬

‫محمود دياب‬

‫‪17 16‬‬


‫البنية الداللية‬ ‫‪ -1‬مــجــتــمــع الـــنـــص‪:‬‬

‫المكان‬ ‫الزمان‬ ‫العالمات‬


‫يتركب الزمن المسرحي في «باب الفتوح» من مستويين‪:‬‬ ‫األول ‪ :‬وهو المستوى العصري المعاش‪ ،‬زمن اللحظة الحاضرة والفعل اآلني‪،‬‬ ‫وهو زمن واقعي‪ ،‬إيهامي‪.‬‬ ‫الثاني ‪ :‬وهو المستوى التاريخي‪ ،‬ويتحدد بالساعة التالية لنهاية المعركة بين‬ ‫صالح الدين والفرنج في موقعة «حطين»‪ ،‬ويفيد ذلك التحديد في اإلحالة‬ ‫المباشرة إلى انتكاسات الواقع وتناقضاته في عمق اللحظة المنتصرة بين شكل‬ ‫خارجي ‪ :‬انتصار عسكري‪ ،‬يبدو تباعاً‪ ،‬ومن خالل السياق المسرحي‪ ،‬كإطار‬ ‫تزييني ال أكثر‪ ،‬وبين سيطرة طبقية وقهرية فعلية ساعية للمغانم والمكاسب‬ ‫وترسيخ الهيمنة واالمتيازات «التجار – الجند»‪.‬‬ ‫وهذا المستوي من التكوين الزمني في النص تخيلي‪ ،‬غير إيهامي‪،‬‬ ‫ ‬ ‫تغريبي‪ ،‬ويتحقق من خالل فعلي التخيل واالستحضار‪ ،‬ويقوم على استدعاء‬ ‫ّ‬ ‫إرادي وموجه لواقع تاريخي معين‪ ،‬وافتراض وجود شخصية تصوغها الجماعة‬ ‫على شاكلتها ( أسامة ) حاملة لنظرية فكرية هي في النهاية أفكار الجماعة‬ ‫ذاتها‪0‬‬ ‫ويتحقق – باندماج الكتلة المعاصرة مع هذا المستوى – زمن النص المستحضر‬ ‫كامال‪ ،‬وينقطع بموت أسامة مفضيا إلى الزمن الواقعي الحالي‪ ،‬لتتم استدارة‬ ‫الزمن – الذي يبدو كأقواس مفتوحة ومتداخلة – بخروج الجماعة من الزمن‬ ‫المتخيل وارتدادها إلى زمن الفعل – اللحظة المعاشة‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪19 18‬‬


‫وبذلك يتحدد الزمن ويتنوع بطريقتين ‪:‬‬ ‫تحويل التباين في األحداث والتناقض في الواقع والتاريخ عبر تقنية‬ ‫‪ -1‬‬ ‫االسترجاع واالستحضار إلى تأكيد اللعبة المسرحية والتعدد والمنظور الذاتى‪،‬‬ ‫ويمكن ذلك المتلقي من إيجاد مسافة بينه وبين الحدث‪ ،‬وتلك المسافة – التوقف‪،‬‬ ‫تسمح بالفصل بين زمن الحدث والعرض‪ ،‬وكذلك بالمواجهة بين مرحلتين‬ ‫زمنيتين‪.‬‬ ‫إعادة النظر في استمرارية الزمن التاريخي وسير الحدث في اتجاه‬ ‫‪ -2‬‬ ‫واحد‪ ،‬حيث أصبح الزمن متعدداً‪ ،‬مبنياً على ثنائيات ‪ :‬الرسمي‪/‬الهامشي‪،‬‬ ‫المدون‪/‬العرضي‪ ،‬المكرس‪/‬االستثنائي‪ ،‬وال يهدف هذا التفتيت والهدم إلى إثارة‬ ‫األحكام التاريخية واالجتماعية‪ ،‬وإنما ينتهي إلى رؤية مغايرة لزمننا نحن‪ ،‬الذي‬ ‫يتحول إلى انعكاس للزمن التاريخى ومكون له فى الوقت ذاته‪ ،‬وذلك عبر‬ ‫لعبة التداخالت بينهما‪،‬ونتيجة للتحوالت التي طرأت على استقامة خط الزمن‬ ‫ووحدة سير األحداث‪.‬‬ ‫إن الزمن في «باب الفتوح» هو نسيج النص ومادته األساسية‪ ،‬والزمن‬ ‫ ‬ ‫في عالقته بالتاريخ هو القضية الجوهرية التي تطرح فيه‪ ،‬كذلك يطرح النص‬ ‫قضية المسرح الذي يعتمد على الحدث التاريخي‪ ،‬مستخدماً في معالجته تلك‬ ‫أدوات مسرحية بحتة أهمها الكلمة‪ ،‬فالنص يتضمن شبكة من العالمات اللغوية‬ ‫الدالة على الزمن وتحوالته‪ ،‬ومن ثم تأتي أهميته ‪ -‬باعتباره عامالً بنائياً‪ -‬كأحد‬


‫الوحدات الكبرى في النص التي تتميز بقدرتها على كشف شبكات العالقات‬ ‫بشكل مرئي ومحسوس‪.‬‬ ‫***‬ ‫يرتبط المكان المسرحي في النص بالمستويين الزمنيين ‪:‬الواقعي‬ ‫ ‬ ‫والتاريخي‪ ،‬ويشكل كدال حسي مجموعة من العالمات البصرية المتحولة‬ ‫والمتداخلة مع حركة المجموعات والشخصيات والعالقات المسرحية‪.‬‬ ‫ويتكون المكان – في زمن النص الواقعي – من مقدمة المسرح كاملة‬ ‫ ‬ ‫ومساحة عارية «تجريد أول للمكان» تتناثر فيه الجماعة المعاصرة‪ ،‬ويتميز‬ ‫الشاب الخامس‪ ،‬بصرياً‪ ،‬بجلوسه على كومة من الكتب القديمة مما يعطيه أبعاداً‬ ‫خاصة «المثقف – عقل الجماعة – األكثر قدرة على اإلدراك والتبصر ومعرفة‬ ‫التاريخ»‪ ،‬ومع استحضار اللحظة التاريخية وشخصية الثائر األندلسي المتخيلة‬ ‫«أولى وظائف الجماعة» فإن المكان ينقسم إلى كتلتين ‪:‬‬ ‫دائرة على يمين المسرح‪ ،‬بها المجموعة المعاصرة‪.‬‬ ‫‪ -1‬‬ ‫عمق المسرح‪ ،‬ويتكون من تل داكن يبلغ أعلي مستوى له في أقصى‬ ‫‪ -2‬‬ ‫يمين المسرح‪ ،‬وينحدر التل على الجانبين وخلفه تلوح قمة جبل حطين وجزء‬ ‫من خيمة صالح الدين‪ ،‬وتحمل حركة الحراس ومسيرة األسرى إلينا إحساساً‬ ‫بوجوده كقائد منتصر‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪21 20‬‬


‫ويؤدي هذا الفصل المكاني‪ ،‬وتحديداً مع بدء اللعبة «المسرحية داخل‬ ‫ ‬ ‫المسرحية» إلى قسمة الجمهور في جزئين ‪ :‬الجمهور الفعلي المشاهد‪ ،‬والجمهور‬ ‫– الجماعة المعاصرة‪ ،‬داخل اللعبة ذاتها‪ ،‬الذي يرى ويراقب ويتداخل ويعكس‬ ‫– كخلفية صوتية الحركات البصرية مثل مشهد قراءة العماد لفقرات من‬ ‫كتاب باب الفتوح‪ ،‬ويؤدي إلى جانب ذلك وظائف المشاهدة والقطع والتعليق‪.‬‬ ‫ويتركب بعد ذلك المكان التاريخي المستدعى بفعل التخيل في عمق المسرح من‬ ‫لوحة عارمة لجند منتصرين ‪ :‬حركة هوجاء مضببة‪ ،‬وبين وقت وآخر تظهر‬ ‫مجموعة من األسرى وقد قيدوا بحبال يجرهم جندي عربي‪ ،‬ويمضون متهالكين‬ ‫منكسي الرؤوس‪ ،‬وكل مجموعة تمر تختفي في يمين المسرح‪ ،‬لتظهر ثانية‬ ‫فوق التل مارة بخيمة صالح الدين وتعبر التل لتختفي مرة أخرى في اليسار‪.‬‬ ‫ويتوالى – تباعاً – استحضار شخصيات التاريخ الرسمي ‪ :‬صالح‬ ‫ ‬ ‫الدين كفكرة وحدث تاريخي وليس كشخصية‪ ،‬العماد – المؤرخ الرسمي‪ ،‬وكاتبه‬ ‫«زياد» الذي يشبه الشاب الخامس من المجموعة المعاصرة‪ ،‬حيث زياد كاتب‬ ‫التاريخ ومدونه الرافض لمنطق تدوينه وصياغاته اللغوية‪ ،‬والشاب الخامس‬ ‫– المثيل العصري‪ ،‬المغرم بالتاريخ العائد إليه كخالص محتمل‪ ،‬ويتقاطع‬ ‫مستويان من التاريخ داخل الكتلة الزمنية – المكانية المستحضرة‪:‬مستوي‬ ‫التاريخ المفترض (المهمش والعرضي) – ومستوى التاريخ الرسمي المدون‪،‬‬ ‫ويكشف المستويان معاً‪ ،‬وعبر تداخل أسامة والمجموعة المعاصرة معهما‪ ،‬عن‬ ‫واقع مأساوي حيث يوجد االنهيار في عمق اللحظة المنتصرة‪ ،‬ويتمثل تداخل‬


‫الجماعة المعاصرة وتقاطعها المستمران مع فعل الزمن التاريخي من خالل‬ ‫حركة نمطية تبدأ من يمين المسرح كمساحة فارغة إلى العمق حيث المكان‬ ‫التاريخي المتخيل‪.‬‬ ‫ومن العالمات المكانية الفارقة في النص والمشكلة ألحد أسئلته الرئيسية‬ ‫ ‬ ‫«لمن النصر؟» ‪ :‬األبواب الموصدة واألسوار المانعة لدخول السكان العرب‬ ‫إلى المدن المحررة‪ .‬فأمام باب عكا يتزاحم جمهور كبير من األهالي يريدون‬ ‫الدخول محدثين جلبة بينما توجد طاقة كبيرة في أعلى البوابة تطل منها وجوه‬ ‫الجند ساخطة‪ ،‬لتتكون داللة التضاد بين ضجيج النصر خلف األسوار‪ ،‬ومنع‬ ‫السكان من دخول المدينة‪ ،‬وفي هذا المشهد يتكثف وجود شخصية أسامة‬ ‫كفاعلية مبصرة وليس فقط كحامل أفكار نظرية مجردة‪ ،‬حالمة وساعية لمن‬ ‫يمنحها طاقة الفعل وقدرته‪ ،‬حيث يحمل أسامة – كمخِّلص – صوت الجماعة‬ ‫الراغبة في دخول المدينة إلى الجند‪ ،‬وحين يطارده إثر ذلك الجنود األشبيليون‬ ‫وحراس «سيف الدين» فإن الجماعة تشكل دائرة جسدية تلتف حوله محتويه له‬ ‫وحامية‪.‬‬ ‫ويتحول المكان تحوله النهائي في النص إلى ركن في ساحة بمدينة‬ ‫ ‬ ‫القدس بعد استعادتها‪ ،‬فيتكون بيت له شرفة واسعة‪ ،‬وعلى يمين الباب ثمة نافذة‬ ‫منخفضة وسلم يتكون من عدة درجات حجرية‪ ،‬ويكثف البيت هنا كوحدة ذات‬ ‫وجهين هما الدال الحسي والمفهوم العقلي أو المدلول‪ ،‬يكثف العالقات النصية‬ ‫محمود دياب‬

‫‪23 22‬‬


‫تاريخيا – هو بيت أبي الفضل – آخر‬ ‫ويعطيها صياغاتها األخيرة‪ ،‬فالبيت –‬ ‫ً‬ ‫األحياء من سكان القدس الناجين من المذبحة – وهو اآلن – واقعياً ‪ -‬بيت سارة‬ ‫اليهودية التي تديره كخمارة ومبغى‪.‬‬ ‫وبين رمزية البيت التاريخية وإيحاءاته الواقعية‪ ،‬يتكون واحد من الصراعات‬ ‫األساسية في النص‪ ،‬وحين يحسم الصراع بتواطؤ الجند والتجار‪ ،‬ويذهب‬ ‫البيت إلى اليهودية‪ ،‬وينزوي أبو الفضل وجماعته في ساحة جرداء‪ ،‬فإن النص‬ ‫بذلك يكون قد أعطى إجابته الخاصة عن سؤاله المأساوي ‪ :‬لمن النصر؟‬ ‫وأوحى برؤيته للحدث التاريخي (االنتصار العسكري واستعادة القدس) وللواقع‬ ‫المتصل في صيرورته التاريخية (اآلن‪ ،‬وهنا)‪.‬‬ ‫وينقسم المكان في آخر عالماته البصرية إلى مكان غائب غير مرئي –‬ ‫ ‬ ‫السجن ‪ -‬الذي ُيقاد إليه تباعاً أفراد الجماعة المعاصرة إثر محاوالتهم المخفقة‬ ‫لتوصيل الكتاب إلى صالح الدين‪ ،‬ومكان حاضر وملموس – الساحة الخالية‪،‬‬ ‫حيث تجمعت جماعات الفقراء العائدين وأفراد عائلة أبي الفضل‪ ،‬ويتصل‬ ‫المكان الغائب والمكان الحاضر ليشكال داللة النفي والقهر والطبقية كإحدى‬ ‫الدالالت المهيمنة في النص‪.‬‬ ‫***‬


‫وفي «الغرباء ال يشربون القهوة» ‪ :‬يشتمل النص على وحدة مكانية‬ ‫ ‬ ‫ثابتة ‪ :‬بيت قديم متهالك مكون من طابق واحد تساقط الطالء عن واجهته‪ ،‬أقرب‬ ‫إلى أن يكون شيئاً أثرياً‪.‬‬ ‫ويحتمل البيت داللة مزدوجة‪ ،‬واقعية كبيت عادي لمواطن ما‪ ،‬ورمزية‬ ‫ ‬ ‫بما تشير إليه من دالالت مكونة في النهاية فكرة الوطن ذاتها‪.‬‬ ‫ويستخدم دياب في تكوينه للصورة المكانية األجزاء التقليدية لبيت‬ ‫ ‬ ‫في شارع هادئ بأحد األحياء السكنية القديمة (الواجهة‪ ،‬الباب‪ ،‬النافذة‪ ،‬شجرة‬ ‫معمرة) ولكنه يعطيها صفات تخرج بها عن مجالها الطبيعي كمفردات صورة‬ ‫واقعية‪ ،‬ويجعلها – كدال مسرحي – تشير إلى مرجع يوجد خارج خشبة‬ ‫المسرح‪ ،‬وتصبح بالتالي منطقة وسيطة تنعكس عليها العالمات‪ ،‬فباب البيت‬ ‫الرئيسي موارب والنوافذ مغلقة فيما عدا نافذة على يمين الباب فتحت فتحة‬ ‫صغيرة بحيث ال ينعكس ما وراءها‪ ،‬وهناك شجرة معمرة على يمين المدخل‬ ‫ال تظهر أوراق لها‪ ،‬وتدل مواربة الباب وإغالق النوافذ على تقاليد اجتماعية‬ ‫محافظة وميل إلى االكتفاء بالعالم الخاص‪ ،‬كما أن الشجرة المعمرة التي بال‬ ‫أوراق تشير إلى فكرة القدم واالمتداد الزمني‪.‬‬ ‫وإلي جانب تصور المكان في النص باعتباره حامالً لمعني ولحقيقة‬ ‫ ‬ ‫أبعد من حقيقته الملموسة‪ ،‬فإن ثمة ظاهرة أخرى لها أهمية كبيرة بالنسبة إلى‬ ‫محمود دياب‬

‫‪25 24‬‬


‫تشكيل العالم المكاني‪ ،‬وهي إضفاء البعد المكاني على الحقائق المجردة‪ ،‬فالرجل‬ ‫يعيش في بيت أقرب إلى القوقعة مما يعطي العالقة أبعاداً تنعكس على تصور‬ ‫ويخضع الكاتب العالقات والحدث إلحداثيات المكان‪ ،‬ويلجأ إلى‬ ‫الرجل للمكان‪ُ .‬‬ ‫اللغة إلضفاء صفات مكانية على المنظومات اللغوية‪.‬‬ ‫وتكتسب حركة الشخصيات في المكان أهمية خاصة في تحليل النص‬ ‫ ‬ ‫ورؤية وقائعه‪ ،‬فانغالق الرجل في مكان واحد دون التمكن من الحركة تعبير‬ ‫عن عدم القدرة على الفعل أو التفاعل مع العالم الخارجي‪ ،‬كما أن هناك وحدة‬ ‫ثابتة في العالقة الحركية بين الرجل والغرباء تتمثل في ‪ :‬متابعة بصرية‪ ،‬حركة‬ ‫متسللة من الخلف‪ ،‬كما أن حركة الغرباء بدورها تتخذ طابعاً نمطياً ‪ :‬قياس‬ ‫المسافات واألبعاد‪ ،‬عدم االلتفات إلى الرجل مع تركيز بصري على جلبابه‬ ‫وتوجيه االهتمام إلى البيت‪ ،‬وتدوين بعض المعلومات واألرقام‪.‬‬ ‫المكان المسرحى‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬ال يتمثل في وحدات متكاملة ومتماسكة‬ ‫ ‬ ‫ومستقلة عن الشخصيات‪ ،‬وهكذا – فبينما يتشكل المكان المسرحي في «الزوبعة»‬ ‫مستندا إلى مبدأ االستقصاء‪ ،‬أي تناول أكبر عدد ممكن من التفاصيل‪ ،‬فتطول‬ ‫مقاطع الوصف تحليالً لألشياء الموصوفة إلى أجزائها المكونة وإدراجها في‬ ‫نظام داللي واقعي‪ ،‬فإن المكان في «الغرباء ال يشربون القهوة» يقوم على‬ ‫االنتقاء والتلخيص‪ ،‬ويتكون من مجموعة من الخطوط الدالة الموحية والمشاهد‬ ‫الكثيفة المشحونة‪.‬‬


‫ويتوزع الزمن المسرحي على أربعة مستويات ‪:‬‬ ‫مستوي «اآلن» المصطنع‪ ،‬وهو زمن حاضر دائماً مع دوام حركة‬ ‫‪ -1‬‬ ‫الحوار‪ ،‬وتعيشه الشخصيات مع مجريات األحداث‪ ،‬جلسة الرجل الهادئة أمام‬ ‫بيته‪ ،‬قياس المسافات واألبعاد‪ ،‬تمزيق عقد الملكية وأوراق الرجل الشخصية‬ ‫وخطاباته وتذكاراته»‪.‬‬ ‫الزمن الدينامي الذي يحيل الحاضر إلى الماضي‪ ،‬ذلك أن اللحظة التي‬ ‫‪ -2‬‬ ‫يشار إليها بوصفها حاضراً ال يتكرر سرعان ما تتحول إلى ماض يستقبل‬ ‫حاضراً آخر‪ ،‬ومن خالل هذا االنتقال المستمر بين الزمنين‪ ،‬وعلي نحو متقاطع‬ ‫ومفاجئ‪ ،‬يبرز التغير المتوقع وغير المتوقع لألحداث‪ ،‬وهذا الزمن الثاني يمثل‬ ‫بناء العالمات الدرامية في إطار زمن األداء الحقيقي‪.‬‬ ‫يتحول هذا الزمن الدينامي إلى نظام متتابع لألحداث بحثاً عن تسلسل‬ ‫‪ -3‬‬ ‫منطقي من وراء األحداث المتقاطعة والمفاجئة‪ ،‬وهذا الزمن يرتبط بالحكاية‪.‬‬ ‫وهو الزمن التاريخي الواقعي‪ ،‬الذي يمثل الخلفية الواقعية التي تقف‬ ‫‪ -4‬‬ ‫(‪)1‬‬ ‫فيما وراء العرض المسرحي‪.‬‬ ‫وال يورد «محمود دياب» أسماء لشخصياته‪ ،‬خالفاً لعاداته في إيراد‬ ‫ ‬ ‫األسماء بأوصافها المختلفة‪ ،‬ويشير ذلك إلى الرغبة في التجريد وإعطاء‬ ‫األشخاص والسياق بعداً رمزياً خاضعاً للتأويل المتعدد‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪27 26‬‬


‫ورغم هذا التجريد األولي‪ ،‬فإن النص يورد مجموعة من العالمات‬ ‫ ‬ ‫العادية واللغوية الخاصة بالهيئة والمظهر والبيئة‪،‬وهو ما يضفي على التكوين‬ ‫إيحاء بواقعية ما‪.‬‬ ‫المسرحي ملمحاً تفصيلياً‬ ‫ً‬ ‫فالرجل في الستين (تحديد زمني) – طيب (تحديد أخالقي‪/‬اجتماعي)‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وترتبط بالرجل‪ ،‬صورياً‪ ،‬مجموعة من العالمات المادية‪ ،‬كرسي خيزران‪،‬‬ ‫خف منزلي‪ ،‬صحيفة يومية‪ ،‬منضدة صغيرة‪ ،‬نافذة مفتوحة‪.‬‬ ‫ومن بين هذه العالمات فإن الصحيفة تصبح من أكثرها قابلية على‬ ‫ ‬ ‫التحول‪ ،‬فالنص يبدأ والرجل ممسك بالصحيفة يقرأ فيها طالعه (غيبية‪ ،‬إحساس‬ ‫بالفراغ)‪ ،‬وحين يحاصره الغرباء فإنه يخفي وجهه في الصحيفة داللة على‬ ‫بدء االستسالم النفسي والمعنوي‪ ،‬فالصحيفة – كوظيفة – تبدأ بالطالع وتنتهي‬ ‫كوسيلة إخفاء‪.‬‬ ‫ويتحدد الغرباء‪ ،‬زمنياً‪ ،‬بسن األربعين‪ ،‬ويتميز كبيرهم زمنياً فقط‬ ‫ ‬ ‫«تجاوز األربعين» فيما عدا ذلك فال شيء يميزه في المظهر والسلوك‪.‬‬ ‫ويحدد النص الغريب مظهرياً من خالل رصد توصيفي‪ ،‬فهو أنيق‬ ‫ ‬ ‫الملبس‪ ،‬دقيق‪ ،‬يتحرك بآلية‪ ،‬خطواته منتظمة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬


‫وال تتجسد األنساق المكانية في النص من خالل تواجدها العياني‬ ‫ ‬ ‫المباشر‪ ،‬ولكن من خالل اللغة‪ ،‬التي تحول عالم المعطيات المحسوسة إلى‬ ‫نظام‪ ،‬يسميه «يوري لوتمان» نظام النمذجة األولي‪ ،‬فاللغة هنا ليست قائمة من‬ ‫(‪)2‬‬ ‫التسميات واألقوال ولكنها مجموعة من العالقات الخاضعة لقواعد وقوانين‪».‬‬ ‫وتتوزع العالمات المادية في النص‪ ،‬عبر ارتباطها بمكونات البيت‬ ‫ ‬ ‫ومحتوياته‪ ،‬والذاكرة الشخصية بمستوييها ‪ :‬المكتوب‪ ،‬والمنقوش‪ ،‬في المستوى‬ ‫األول‪ ،‬تتجسد عبر اللغة ال عبر التجسد المادي‪ ،‬األوراق الشخصية « وثائق‬ ‫الزواج والميالد والوراثة – وقصائد الصبا والصور الخاصة»‪ ،‬وفي المستوى‬ ‫الثاني‪ ،‬هناك عالمات بصرية منقوشة على الشجرة ومحفورة على جدران‬ ‫البيت (قلبان وسهم‪ ،‬أثار الدم على الجدران‪ ،‬وغير ذلك)‪.‬‬ ‫وتنتهي المسرحية بمونولوج فردي طويل يحمل طابع الهذيان والنبوءة‬ ‫ ‬ ‫والحزن‪ ،‬خليط يشكل مرثية طويلة تضفي الطابع الرمزي على الموقف كله‪،‬‬ ‫الرجل والبيت والغرباء واإلبن الغائب والزوجة المحجوبة والشجرة المعمرة‬ ‫واألوراق الممزقة‪.‬‬ ‫وحين يلوح الجار مترنحاً في غيبة السكر في تغييب إرادي للفعل‬ ‫ ‬ ‫والوجود‪ ،‬يبقي الرجل في هذيانه المحموم منتظراً لالبن الغائب وبندقيته‪ ،‬بينما‬ ‫تعبث الريح بقصاصات األوراق المتناثرة‪.‬‬ ‫***‬ ‫محمود دياب‬

‫‪29 28‬‬


‫يورد النص « الزوبعة» زمنه المسرحي تبعاً ألبعاده الواقعية‪ ،‬ابتداء‬ ‫ ‬ ‫من اإلطار العام (زمن النص ثالثة أيام) وحتى التنوعات الداخلة ضمن تركيب‬ ‫الحدث والسياق‪ ،‬فيبدأ النص في وقت الغروب في إحدى ليالي الربيع وضوء‬ ‫القمر الفضي يغمر القرية مما شكل مفارقة بين الصورة والحدث «صورة‬ ‫شعرية ومأساة اجتماعية تالية»‪ ،‬ويتوزع بعد ذلك تباعاً بين ساعة الشروق في‬ ‫صباح اليوم التالي لتتم استدارته في اليوم الثالث عائداً في وقت الغروب‪.‬‬ ‫وبصورة مجملة‪ ،‬ليس للزمن المسرحي وجود نستطيع أن نستخرجه‬ ‫ ‬ ‫من النص مثل الشخصية أو األشياء التي تشغل المكان أو مظاهر الطبيعية‪،‬‬ ‫فالزمن يتخلل النص كله وال نستطيع أن ندرسه دراسة تجزيئية‪ ،‬ومن هنا‬ ‫تأتي أهميته عنصراً بنائياً حيث إنه يؤثر في العناصر األخرى وينعكس عليها‪،‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫فالزمن حقيقة مجردة ال تظهر إال من خالل مفعولها على العناصر األخرى‪».‬‬ ‫ويبدأ الزمن المسرحي في «الزوبعة» من القطع على لحظة من‬ ‫ ‬ ‫حياة الشخصيات في نقطة معينة‪ ،‬فهو منسوج كوقائع في ذاكرة الشخصية‬ ‫ومخزون فيما تستدعيه اللحظة الحاضرة على غير نظام أو ترتيب‪ ،‬ولذلك ال‬ ‫تكتمل األحداث في تسلسلها الزمني سوى في نهاية النص‪ ،‬ويعاد ترتيبها في‬ ‫مخيلة القارئ‪ ،‬فال تحدث األحداث الماضية مركزة في كتلة نصية متكاملة لها‬ ‫خصائصها الفنية ولكن نراها انتشرت وانتثرت في النص كله وأصبحت مهمة‬ ‫جمعها متكاملة هي مهمة القارئ ال الكتاب‪ ،‬وتباعاً – فإن التزامن في األحداث‬


‫يترجم إلى تتابع داخل النص‪ ،‬ويتطلب ظهور أي شخصية جديدة عودة إلى‬ ‫الوراء لكشف بعض العناصر الهامة وربما االحتفاظ ببعض الوقائع لكشفها في‬ ‫زمن الحق‪ ،‬ولذلك كان التسلسل النصي من تقديم وتأخير وحذف وغير ذلك‬ ‫من األبنية الهامة في الزوبعة‪.‬‬ ‫لقد درج النص ببنيته الواقعية على إتباع خط مستقيم في التسلسل‬ ‫ ‬ ‫الزمني الرئيسي نستطيع أن نسميه مستوي القص األول‪ ،‬وهو الذي يحدد‬ ‫المستويات األخرى‪ ،‬ويحرص الكاتب على وضع معالم نصية تساعد على‬ ‫تتبعه مثل استخدام ظروف الزمان أو اإلشارات إلى تواريخ محددة‪ ،‬وفي بعض‬ ‫األحيان‪ ،‬التدخل المباشر عبر إحدى الشخصيات ليتبين القارئ أن هذه األحداث‬ ‫سابقة أو الحقة‪ ،‬ويترك النص مستوي القص األول (التتابع النمطي لإلحداث)‬ ‫ليعود إلى بعض األحداث الماضية ويرويها فى لحظة الحقة لحدوثها‪ ،‬ويتميز‬ ‫الماضي بمستويات مختلفة متفاوتة مثل ماض بعيد أو قريب‪ ،‬ومن ثم نشأت‬ ‫أنواع مختلفة من االسترجاع‪.‬‬ ‫أ‪ -‬استرجاع خارجي ‪ :‬يعود إلى ما قبل العمل‪ ،‬وقد لجأ إليه الكاتب لملء‬ ‫فراغات زمنية تساعد على فهم األحداث‪ ،‬ويتركز عند ظهور شخصية جديدة‬ ‫للتعرف على ماضيها وطبيعة عالقاتها بالشخصية األخرى‪ ،‬وكلما ضاق الزمن‬ ‫المسرحي شغل االسترجاع الخارجي حيزاً أكبر‪ ،‬وباالبتعاد الزمني عن األحداث‬ ‫الواقعة داخل إطار الماضي تختلف الدالالت والتاويالت‪ ،‬حيث إن الحاضر‬ ‫محمود دياب‬

‫‪31 30‬‬


‫يضفي عليها ألواناً جديدة وأبعاداً متغيرة‪ ،‬وتكون المقارنة والمقابلة بين الماضي‬ ‫الخارجي والحاضر المسرحي إشارة إلى مسار الزمن ومدخال لتكوين معالم‬ ‫التغير ومواضع التحول‪.‬‬ ‫ب‪ -‬استرجاع داخلي ‪ :‬ويعود إلى ماض الحق لبدايات النص قد تأخر تقديمه‬ ‫في النص‪ ،‬ويتطلبه ترتيب الوحدات المسرحية‪ ،‬ويعالج الكاتب به األحداث‬ ‫المتزامنة‪ ،‬وهو قليل نوعاً حيث إن الكاتب يلتزم التسلسل الزمني ويضع الحوادث‬ ‫الواحدة تلو األخرى في مستوى خطي لتجنب هذا النوع من االسترجاع الذي‬ ‫قد ينتج عنه بعض اللبس‪ ،‬ويلجأ الكاتب إلى التداعي لعرض االسترجاع فيقدم‬ ‫حدثاً في الحاضر يطلق به مجري الذكريات بحيث يأتي االسترجاع طبيعياً‬ ‫ملتحماً بالنص مبنياً حول شعور خاص أو ذكرى ذاتية األمر الذي يضفي على‬ ‫النص طابعاً تعبيريا‪ ،‬ويلجأ كذلك إلى الذاكرة‪ ،‬وهي من التقنيات المستحدثة‬ ‫تأسيساً على مفهوم آخر هو مفهوم المنظور «وليس الراوي العالم بكل شيء»‪،‬‬ ‫فاالعتماد على الذاكرة يضع االسترجاع في نطاق منظور الشخصية‪ ،‬ويتم‬ ‫بذلك خلطه في بعض المواضع بأحالم اليقظة واستخدام المونولوج الداخلي أو‬ ‫(‪)4‬‬ ‫األسلوب غير المباشر الحر القائم على تداعى الذاكرة‪.‬‬ ‫***‬


‫ويغلب على المكان الطابع الواقعي لقرية مصرية‪ ،‬وهو يحمل الشكل‬ ‫ ‬ ‫السكني المعروف في الريف وكذلك على بعض التقاليد المتضمنة في رسومات‬ ‫الحج وعبارات الترحيب المألوفة في تلك المناسبات‪ ،‬ويستهدف النص اإليحاء‬ ‫بجو العالقات الطبيعية‪ ،‬ويحدد وسيطة المكاني «هنا» والزماني «اآلن» ويهتم‬ ‫النص بإدراج التفاصيل الخاصة وتكوين الصورة المكانية بأجزائها الصغيرة‬ ‫وألوانها المتعددة‪ ،‬ويذهب في ذلك إلى لزوم ما ال يلزم فيحدد المحافظة‬ ‫«الشرقية» التي تدور فيها األحداث والمواقف‪.‬‬ ‫ويحدد النص مكانه الواقعي‪/‬المسرحي في كتلتين ‪ :‬مشهد أو قطاع‬ ‫ ‬ ‫داخل حدود القرية ونسيجها البيئى والمعمارى ومدخلها بحيث تبدو القرية‬ ‫خلفية ومحيطاً عاماً‪ ،‬في الكتلة األولي نستطيع استعادة وصف الكاتب لنستدل‬ ‫على اعتنائه بالمناخ الطبيعي وبالتصوير الحرفي‪ ،‬ولكى نكتشف أن الصراع‬ ‫قد تجسد بصرياً – ابتداء – في عمق التكوين ذاته‪ ،‬فالوقائع المسرحية األولي‬ ‫تحدث أمام دارين متواجهتين «دار الشيخ يونس ودار الحاج شعالن» الدار‬ ‫األولي يجلس أمامها صالح في حالة انكفاء نفسي وجسدي‪ ،‬أما الدار الثانية‬ ‫فذات واجهة مطلية حديثاً بطالء أبيض وتنطلق من داخلها وحولها ضحكات‬ ‫متقطعة‪ ،‬مما يوحي منذ البداية بتعارضات تالية‪ ،‬ويغلف ذلك كله اعتناء الفت‬ ‫بالتكوين الطبيعي للمشهد وبالتفاصيل التي تبدو ساذجة وغير الزمة‪ ،‬ولكنها‬ ‫مع ذلك تعطي انطباعا بالمألوف واالعتيادي‪ ،‬حيث تطالعنا المسرحية في‬ ‫مشهدها االفتتاحي بوصف سردي لقطاع ريفي ‪ :‬مدخل بيت الشيخ يونس يواجه‬ ‫محمود دياب‬

‫‪33 32‬‬


‫الجمهور وعلي يمين الباب نافذة خشبية منخفضة وأمام الباب وتحت النافذة‬ ‫مباشرة مصطبة صغيرة‪،‬ويفصل ما بين دار الشيخ يونس والحاج شعالن حارة‬ ‫ضيقة تنتهي بالزراعات الممتدة وتلوح على بعد بعض أشجار النخيل‪ ،‬وعلي‬ ‫يمين المسرح بيت الحاج شعالن‪ ،‬وهو يتأخر عدة خطوات عن بيت الشيخ‬ ‫يونس بحيث يترك مساحة واسعة أمامه‪ ،‬واجهة البيت مطلية حديثاً وقد رسمت‬ ‫عليها رسوم ساذجة لباخرة وقافلة جمال‪ ،‬وكتب عليها بخط ردئ عبارات‬ ‫الترحيب بعودة الحاج شعالن من الحجاز‪ ،‬ويحد الجانب األيمن للمسرح سور‬ ‫وطئ يلتقي بجدار بيت الحاج شعالن ويحجب الزراعات الممتدة وراءه تاركاً‬ ‫امتدادا للحارة المارة أمام بيت الشيخ يونس‪ ،‬أمام البيت‬ ‫في المقدمة مسافة تبدو‬ ‫ً‬ ‫وضعت دكة خشبية كبيرة‪ ،‬وعلي اليمين مصطبة كبيرة فرش عليها حصير‪.‬‬ ‫وإذ تستعيد المسرحية هذا التكوين البصري في فصلها األخير‪ ،‬فإنها‬ ‫ ‬ ‫تكون قد خرجت – في الفصل الثاني – بعالقاتها االجتماعية والمسرحية إلى‬ ‫مدخل القرية ليتكون مشهدها البصري من بيوت ريفية متواضعة يخترقها‬ ‫طريق ضيق كما يحوطها من الخلف طريق زراعي يسير محاذياً لترعة تلوح‬ ‫من خلفها الزراعات التي تتخللها أشجار النخيل‪ ،‬وعلي اليسار سور زاوية‬ ‫قديمة تظللها شجرة توت عتيقة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ورغم أن المكان الواقعي في النص هو الماثل بصرياً والحاضر مادياً‬ ‫بكل تفاصيله وأبعاده‪ ،‬إال أنه يظل مع ذلك مجرد صورة توحي بالبيئة والتكوين‬


‫دون أن يكتسب فاعلية مؤثرة‪ ،‬في الوقت الذي يمارس فيه المكان الغائب‬ ‫«السجن» هيمنة مسرحية أساسية‪ ،‬بما هو المكان الذي يحتوي على الشخصية‬ ‫المهيمنة «حسين أبي شامة» (الغائب كذلك) والتي يثير خبر عودتها قلقلة‬ ‫السياق وخلخلة النظام بمستوياته االجتماعية واألخالقية‪.‬‬ ‫***‬ ‫بتلك التحديات السابقة للبنية الزمانية والمكانية في مسرح محمود دياب‪،‬‬ ‫ ‬ ‫يمكننا أن نرصد ثنائية المكان – المكان المضاد‪ ،‬فرحلة أسامة تأخذ بعداً‬ ‫مكانياً يتمثل في الحركة من المغرب العربي حيث تساقط األنظمة العربية‬ ‫واستباحتها بشراً ومدائن إلى المشرق العربي الذى يمثل المشهد العكسي‪،‬وهو‬ ‫االنتصارات العسكرية ومشاهدها المتمثلة في استعادة المدن السليبة واستعراض‬ ‫األسري من الفرنجة‪ ،‬وتشكل تلك المفارقة المكانية إحدى الدالالت الرئيسية‬ ‫في النص‪ ،‬فالنظرية الثورية تأتي من الواقع الممزق المستلب‪ ،‬بينما تسيطر‬ ‫األفكار الرجعية على الواقع المنتصر‪ ،‬وتؤسس تحالفاته الحاكمة (سيف الدين –‬ ‫العماد – التجار)‪ ،‬ويظل المكان الغائب ‪ :‬األندلس‪ ،‬مشكالً قيمة بصرية مهيمنة‬ ‫على المكان الحاضر ‪ :‬عكا – القدس‪ ،‬وذلك عبرالتضاد الخارجي بين أشكالهما‬ ‫الظاهرية‪ ،‬والتماثل الكامن في الجذور والهياكل‪.‬‬ ‫واقعيا‬ ‫وينتقل البيت في – الغرباء ال يشربون القهوة – من كونه بناء‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫ذا جدران ونوافذ وغرف‪ ،‬إلى الهوية ذاتها‪ ،‬فهو – كمكان دال – موضع‬ ‫محمود دياب‬

‫‪35 34‬‬


‫التصارع الخفي والمعلن بين الرجل والغرباء‪ ،‬وحين يمزق الغرباء أوراق‬ ‫الذاكرة المكتوبة‪ ،‬فإن البيت يحتفظ بذاكرته الخاصة‪ ،‬الذاكرة البصرية ‪ :‬النقوش‬ ‫الشخصية وآثار السنوات واألحداث المنسية‪ ،‬هنا يحسم البيت ال الرجل الصراع‪،‬‬ ‫فالهوية ليست بطاقة معلقة على السترة أو صورة داخل إطار وليست أوراقاً‬ ‫يمكن االستيالء عليها وتمزيقها‪ ،‬وإنما هي – تماماً كما يمثلها البيت – رسوخ‬ ‫زمني وامتداد‪.‬‬ ‫ويمتلك بيت أبي الفضل في «باب الفتوح» القيمة ذاتها ولكن بداللة‬ ‫ ‬ ‫نقيضة‪ ،‬لقد عادت المدينة السليبة (القدس) ولم يعد البيت‪ ،‬فقد استولت عليه‬ ‫اليهودية وابنتها (الغرباء أيضاً) وظل أبو الفضل وجماعته خارج البيت وإن‬ ‫كانوا داخل المدينة‪ ،‬كتلة مهمشة مطاردة في إحدى الخرائب أو الساحات‪ ،‬هنا‬ ‫– على النقيض من نص الغرباء – لم تستطع الذاكرة البصرية المنقوشة أن‬ ‫تنهض دليالً على الهوية واالمتالك‪ ،‬فرغم معرفة أبي الفضل لبيته عن طريق‬ ‫الخطوات‪ ،‬إال أن البيت – كعالمة على استالب النصر – تسكنه اليهودية وقد‬ ‫حولته إلى خان وماخور‪.‬‬ ‫إن أبا الفضل – كالرجل في الغرباء – ال يرى في البيت بنيانه المادي‬ ‫ ‬ ‫فقط‪ ،‬وإنما وقائع وسياقات حياتية‪:‬‬ ‫أبو الفضل ‪ :‬هذا البيت بيتي يا أسامه‬


‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫لن تضللني هذه الشرفة‪ ،‬وال هذه األلوان‬ ‫أن المائتي خطوة التي أعرفها‪،‬‬ ‫قادتني إليه‪.‬‬ ‫باب المسجد األقصى خلفي‪ ،‬وأنا أمضي‬ ‫قدماً بغير انحراف‪.‬‬ ‫فأعبر الساحة‪ ،‬وذا هو السلم نفسه‬ ‫كنت أندفع جارياً من باب بيتنا‬ ‫فأقفز درجاته‪ ،‬ويتلقفني زحام السوق‬ ‫كان في الساحة سوق‬ ‫وإلي جانب السلم بائع حلوى‪.‬‬

‫فاجعا‪،‬فهو‬ ‫نبوئيا‬ ‫ ‬ ‫ويقضي فقد البيت إلى امتالك أبي الفضل حساً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوحيد الباقي من مذبحة القدس القديمة‪ ،‬ولذلك يظل هو الوحيد القادر – بحسه‬ ‫االستشرافي – على استبصار مأسوف يأتي ‪0‬‬ ‫***‬ ‫(‪)5‬‬ ‫ويتركب النسق الزمني في عدة آليات‪:‬‬ ‫ ‬ ‫منظور الزمن المروي ‪ :‬وهو منظور الوعي الفعلي و اإلدراك المباشر‪،‬‬ ‫‪ -1‬‬ ‫وفيه يتم رصد الوقائع العيانية في مستوي خطي قائم على التتابع والوحدات‬ ‫الزمنية المفصلة‪ ،‬وهو ما يتجسد في «الغرباء ال يشربون القهوة»‪0‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪37 36‬‬


‫منظور الزمن المعكوس ‪ :‬وهو المنظور الخاص أو المقابل للذاكرة‬ ‫‪ -2‬‬ ‫بمستوييها الفردي والجمعي‪ ،‬فيتم تداخل األزمنة وتكسرها‪ ،‬عبر استدارة زمنية‬ ‫تأخذ شكالً دائرياً وليس خطياً‪ ،‬حيث التزامن الكلي في مقابل اللحظات المتتابعة‬ ‫( باب الفتوح )‪0‬‬ ‫التزامن ‪ :‬وهو يعني حدوث الشيء دفعة واحدة باشتراك مع سواه‬ ‫‪ -3‬‬ ‫على تباعد أو تقارب في الحيز‪ ،‬وإذا كان الحيز المكانى ثابت الرؤية بحكم‬ ‫المحسوسية والتنوع والتغير‪ ،‬فإن الزمن ال يتجسد من نفسه وإنما من خالل‬ ‫األحوال المتغيرة واألطوار المتجددة‪ ،‬والتزامن في السرد والمسرح على السواء‬ ‫مستحيل الجمع‪ ،‬ألن السارد‪ ،‬وكذلك الشخصية المسرحية‪ ،‬ال يستطيع أن يقابل‬ ‫بين كل شخصياته إذا تباعدت هي وتزامنت أحداثها‪ ،‬وإذن فشخصية الزمن –‬ ‫إن جاز التعبير – متجلية في التزامن حيث ال تتجزأ بالقياس إلى الشخص أو‬ ‫الحدث‪.‬‬ ‫ويتجسد التزامن عبرالتداخل االستعاري بين الزمنين ‪ :‬التاريخي والواقعي‬ ‫وتشكلهما في بنية دائرية‪ ،‬وهذا ما يتبدى في «باب الفتوح» من خالل هذا‬ ‫االنتقال المستمر بين الزمنين‪ ،‬وعلي نحو متقاطع ومفاجئ‪ ،‬فتتكون العالمات‬ ‫المتحولة واالنعكاسات الزمنية‪ ،‬وهو ما يمثل بناء العالم االفتراضي في إطار‬ ‫من األداء اللحظى الواقعى‪.‬‬


‫محمود دياب‬

‫‪39 38‬‬


‫البنية الداللية‬ ‫‪ -2‬محور العالمات المميزة‬ ‫للشخصية‪:‬‬

‫األقوال‬ ‫األفعال‬


‫ ‬ ‫ ‬

‫مدخل‪:‬‬ ‫بشكل مجمل‪ ،‬صاغت «جوليا كريستيفا» تعريفاً للنص باعتباره «جهاز‬ ‫نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة واضعاً الحديث التواصلي‪ ،‬نقصد المعلومات‬ ‫(‪)6‬‬ ‫المباشرة‪ ،‬في عالقة مع ملفوظات سابقة أو متزامنة»‪.‬‬

‫هذا تعريف «جوليا كريستينا»‪ ،‬وهو يشير إلى عدد من المفاهيم النظرية‬ ‫ ‬ ‫الرئيسية الماثلة ضمناً في التعريف‪ ،‬فالنص – ابتداء – ممارسة داللية من حيث‬ ‫كونه نظاماً داللياً خاضعاً لتصنيف العالمات «وليس ألصل العالمة األولي»‪،‬‬ ‫وكانت مدرسة براغ قد طرحت تلك الحاجات للتمييز‪ ،‬فهي تفترض أن الداللة ال‬ ‫تحدث بالطريقة نفسها‪ ،‬ليست فقط بحسب مادة الدال ولكن أيضاً بحسب تعدد‬ ‫الجوانب التي تؤلف كيان القائل‪ ،‬فالمنطوقات ثابتة وتتشكل دائماً تحت أنظار‬ ‫اآلخر وباالستماع إلى حديثه‪ ،‬من بعد‪ ،‬يمكن للكالم أن يكون ممارسة‪ ،‬إن مفهوم‬ ‫الممارسة الداللية يعيد للكالم طاقته الفاعلة‪ ،‬ولكن الفعل الذي يتطلبه ذلك المفهوم‬ ‫ليس فعل إدراك‪ ،‬إذ لم يعد في الفاعل تلك الوحدة المشهورة للكوجيتو الديكارتي‪،‬‬ ‫بل هو فاعل متعدد الجوانب‪ ،‬وليس هناك من يطمع في قصر عملية االتصال‬ ‫التي يحكمها محو اًر األقوال واألفعال على اآلليات التي أنتجتها اللسانيات‪ ،‬وهي‬ ‫المرسل‪ ،‬القناة‪ ،‬المستقبل‪ ،‬فالحقيقة أن تلك اآلليات موجودة في الوحدات الكالمية‪،‬‬ ‫دفعة واحدة‪ ،‬تحت خليط من التناقض والتداخل‪ ،‬وإن أجزنا‪ ،‬مؤقتا‪ ،‬أن نعزل واحدة‬ ‫من تلك اآلليات‪ ،‬فإنها تصدر دائماً عن جدل‪ ،‬وليس عن تصنيف‪ ،‬وهكذا – فإن‬ ‫محمود دياب‬

‫‪41 40‬‬


‫النص وقد فارق لغة التمثيل أو لغة التعبير (حيث يمكن أن يتوهم فاعل القول‬ ‫أنه يحاكي أو يعبر) يعيد – أى النص – بناء لغة أخري متعددة التأويالت مبنية‬ ‫على الحركة التركيبية العلى المشابهة الجزئية أو الخطابية‪.‬‬ ‫وبتلك التحديات السالفة‪ ،‬سوف أبحث هنا محوري األقوال واألفعال في‬ ‫ ‬ ‫النصوص المسرحية المختارة لحمود دياب‪ ،‬باعتبارهما – أى األقوال واألفعال –‬ ‫يشكالن محور العالمات المميزة للشخصية‪ ،‬وهذا يعني أن معني الوحدة الكالمية‬ ‫يتحدد بشكل جوهري على السياق‪ ،‬إذ يميز «سوسير» في كل ظاهرة لغوية بين‬ ‫ثالثة عوامل ‪ :‬أوالً – االصطالحات االجتماعية التي تجعل لكل ملفوظة مدلوالً‬ ‫معيناً‪ ،‬ثانياً – الحوافز الفردية التي تجعل من لفظ هذه الملفوظة فعالً ذا طبيعة‬ ‫معينة‪( ،‬وهذا التمييز لفعل اللفظ هو أساسا من اختصاص الكالم)‪ ،‬ثالثاً –‬ ‫مجموعة متشعبة ً من االشتراطات‪ ،‬ذات الطابع االجتماعي‪ ،‬تحدد السبب الذي‬ ‫جعل المتكلم يختار هذا النوع من القول بدالً من غيره‪ .‬ويسمى «أوستن» هذه‬ ‫األوجه الثالثة للفعل التعبيرى أو لفعل القول‪ ،‬على التوالي ‪ :‬الوجه الصوتي‪،‬‬ ‫الوجه االتصالي‪ ،‬الوجه البياني (أي التحقيق النطقي للجملة وفق تنظيمها النحوي‬ ‫(‪)7‬‬ ‫والداللي)‪.‬‬ ‫غير أن طبيعة النص المسرحي تجعلنا نركز على المستوي االتصالي‪،‬‬ ‫ ‬ ‫(مرسل – خطاب – مرسل إليه)‪ ،‬أي التركيز على ما تقوله الشخصية في‬ ‫سياق الموقف المسرحي وتحليل أقوال الشخصيات األخرى من زاوية عالقتها‬


‫بالشخصية المحورية‪ ،‬وذلك من أجل كيفية إدراك الجدل على مستوى محور‬ ‫عالمات الشخصية (األساسية والمنتحية) وكيف يحكم تطور الشخصية‪ ،‬وهذه‬ ‫األقوال ال تؤخذ على ماهى عليه وإنما البد من نسبتها إلى قائلها من زاوية عالقته‬ ‫(‪)8‬‬ ‫باآلخر المخاطب وبالعالقات النصية‪.‬‬ ‫ويعتمد سياق التحليل هناعلى ما يمكن أن نسميه «اإلجراءات التركيبية»‬ ‫ ‬ ‫في فحص عالمات الشخصية التي تنقسم إلى عالمات أساسية وعالمات منتحية‪،‬‬ ‫فيتخلص البحث من فئة الشخص وتوضع بدالً منه فئة العوامل‪ ،‬العامل الذات‪،‬‬ ‫العامل الموضوع‪ ،‬العامل المساعد‪ ،‬العامل المعاكس‪.‬‬ ‫ويستند محور العالمات إلى ‪:‬‬ ‫محاور ثابتة‪/‬متحركة‪.‬‬ ‫‪ -1‬‬ ‫أساسية‪/‬منتحية‪.‬‬ ‫تحديد النوع ‪ :‬رجل‪/‬امرأة‪ ،‬وعالقات النوع‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬ ‫زمن الشخصية‪.‬‬ ‫‪ -3‬‬ ‫األبعاد المختلفة للعالقات الخاصة‪.‬‬ ‫‪ -4‬‬ ‫كيفية إدراك الجدل على مستوي محور عالمات الشخصية وكيف يحكم‬ ‫‪ -5‬‬ ‫تطورها‪.‬‬ ‫الفعل‪/‬رد الفعل‪.‬‬ ‫‪ -6‬‬ ‫تغير المواقف‪/‬امتداداتها‪ ،‬وهل يتم التطور بانتفاء عالمة أو أخرى‪ ،‬أم‬ ‫‪ -7‬‬ ‫تأكيدها‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪43 42‬‬


‫ويشتمل محور األقوال على ‪:‬‬ ‫ما تقوله الشخصية عن نفسها‪.‬‬ ‫‪ -1‬‬ ‫ما تقوله الشخصيات األخرى عنها‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬ ‫نسبتها إلى قائلها من زاوية عالقتها بالشخصية‪.‬‬ ‫‪ -3‬‬ ‫التحوالت في المحاور‪ ،‬وعالقة تطور الشخصية بذلك‪.‬‬ ‫‪ -4‬‬ ‫الشخصية لست حاصل جمع أقوالها‪ ،‬فهناك ما تخفيه (الجدل بين البوح‪/‬‬ ‫‪ -5‬‬ ‫اإلخفاء)‪.‬‬ ‫محور األقوال يتداخل ويفسر بمحور األفعال‪.‬‬ ‫‪ -6‬‬ ‫***‬ ‫يطالعنا نص «باب الفتوح» في مشهده االفتتاحي بجماعة شابة معاصرة‬ ‫ ‬ ‫تستشعر محنة مزدوجة ‪ :‬ذاتية وجماعية‪ ،‬وكاقتراح من أفراد الجماعة يبدو في‬ ‫البداية كحل أو ترضية إجرائية‪ ،‬تقرر الجماعة الدخول في لعبة التاريخ‪ ،‬فتحدد‬ ‫لحظة زمنية معينة – الساعة التالية النتصار صالح الدين في حطين – وتفترض‬ ‫وجود شخصية تحمل نظرية ثورية – أسامة – وتخلق سعياً مشتركاً بينها وبين‬ ‫الشخصية المتخيلة بحثاً عن خالص يتحقق بالتقاء القوة والفعل (صالح الدين)‬ ‫بالفكرة والنظرية (أسامة) ومن ثم تكتمل نهضة األمة استناداً إلى فكرة محددة‪،‬‬ ‫وهي أن القائد المنتصر أقدر على صنع األمة من القائد المهزوم‪.‬‬


‫وتبدأ اللعبة المسرحية بآليتين ‪ :‬استحضار اللحظة الزمنية التاريخية‪،‬‬ ‫ ‬ ‫تلخيصا للجماعة‬ ‫واستحضار الشخصية المتخيلة التي يمكن اعتبارها على نحو ما‬ ‫ً‬ ‫ذاتها‪ ،‬ويتكون من اآلليتين – اللتين تتوحدان تدريجياً – زمن النص التاريخي‪،‬‬ ‫ابتداء على التناقض بين الحقيقة والمجاز‪ ،‬الواقعي والمتخيل‪ ،‬الفعلي‬ ‫الذي يتأسس‬ ‫ً‬ ‫والمفترض‪ ،‬وعلي الثنائية النمطية بين القوة والفكرة‪ ،‬النظرية والفعل‪.‬‬ ‫مطاردا‪،‬صعوبات‬ ‫تعترض أسامة‪ ،‬الذي يبدو منذ بدء ظهوره وتكونه‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫متباينة تحول بينه وبين اللقاء المستهدف مع القائد المنتصر‪ ،‬وتحاصره المؤسسة‬ ‫الرسمية المسيطرة بمستوياتها المتعددة ‪ :‬الفكرية (العماد – المؤرخ الرسمي)‪،‬‬ ‫واالقتصادى (جماعات التجار)‪ ،‬وأدواتها القهرية (الجند والحراس) وفي اللحظة‬ ‫التي يموت فيها أسامة‪ ،‬ترتد الجماعة التي كانت قد دخلت الزمن التاريخي‬ ‫المستدعى‪ ،‬إلى الزمن الحالي مبشرة بكلمات الكتاب «باب الفتوح» في ممارسة‬ ‫مباشر إلى الجمهور‪.‬‬ ‫ًا‬ ‫خطابا‬ ‫مسرحية مفتوحة تحمل‬ ‫ً‬ ‫وهكذا‪ ،‬تظهر شخصية أسامة بن يعقوب كتجسيد خيالي لتطور وعي‬ ‫ ‬ ‫الجماعة المعاصرة‪ ،‬وهو جزء من تاريخ هامشي عرضي تفترضه الجماعة وتقترحه‬ ‫بديل لتاريخ رسمي مدون وزائف‪ ،‬فالجماعة «تبدأ باستعادة لحظة تاريخية باهرة‬ ‫ً‬ ‫تمثل انتصار صالح الدين على الصليبيين في موقعة حطين واسترجاع بيت‬ ‫المقدس‪ ،‬ولكنهم يحددون بجالء عالقتهم بتلك اللحظة‪ ،‬فهي ليست عالقة انبهار‬ ‫وتأس عقيم على ما انقضى ولم يبق منه سوى حسرات وتالل أحجار‪ ،‬بل هي‬ ‫محمود دياب‬

‫‪45 44‬‬


‫لحظة مواجهة مبصرة‪ ،‬فتكتسب الذات الجماعية المعاصرة المتحدة بالتاريخ وعياً‬ ‫(‪)9‬‬ ‫جديداً‪.‬‬ ‫ويبدو أول تجل ألسامة داالً على واقعة المطارد وطبيعته الحالمة معاً‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فهو يسعى وراء لقاء القائد المنتصر باستبشار حالم‪ ،‬بينما يجسد المشهد المسرحي‬ ‫داللة مضادة تتمثل في «كالب الصيد التي تتعقبه وتتشمم الطريق» ليحدث بذلك‬ ‫أول تضاد بين كلمات أسامة وواقعه الفعلي‪ ،‬ويتقاطع محوراألقوال مع محور‬ ‫األفعال‪ ،‬فأسامة – حركياً – يتواري عن أعين الجند متخفياً‪ ،‬بينما تعكس أقواله‬ ‫حالة مغايرة ومستبشرة‪.‬‬ ‫لـن يؤذن للفجـر إال وأنــا‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫أجتاز البحر‪ ،‬وما هي إال‬ ‫ ‬ ‫أيام حتى ألتقي بصالح‬ ‫ ‬ ‫الدين وجهاً لوجه‪ ،‬تتعانق‬ ‫ ‬ ‫يدانا‪ ،‬وروحانا‪ ،‬ونتحادث‪،‬‬ ‫ ‬ ‫يحدثني عن انتصاراته‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وأحدثه عن أحالمي وأسلمه‬ ‫ ‬ ‫فكرتي ليمنحها سيفه‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ويرى أسامة أن مهمته المتمثلة في اقتراح العدل االجتماعي ال تبدأ إال‬ ‫ ‬ ‫حيث ينتهي القتال‪ ،‬وربما يكون في هذا خطأه المأساوي إضافة إلى خطأ توجهه‬


‫للقائد المنتصر ال للجماهير‪ ،‬وذلك ألن مهمة الثوري تبدأ في اللحظة التي يبدأ‬ ‫فيها القتال ال تلك التي ينتهي فيها‪.‬‬ ‫ورغم طابور الفرنجة المكبلين الذين يمرون أمام خيمة صالح الدين في‬ ‫ ‬ ‫استعراض لألسرى‪ ،‬ورغم جميع المظاهر االحتفالية األخرى التي تشي باالنتصار‬ ‫ونقيضا‪ ،‬فما األندلس – وطنه األصلي‬ ‫مخالفا‬ ‫وعيا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العسكري‪ ،‬إال أن أسامة يعكس ً‬ ‫– إال عضو مبتور من جسد ضرب فيه العفن وسرى فيه الدود‪ ،‬عاكساً بذلك رؤية‬ ‫الجماعة المعاصرة للزمن التاريخي المستدعى‪ ،‬وراصداً مفارقة انتصار العرب في‬ ‫الشام والمشرق وهزيمتهم في األندلس والمغرب‪ ،‬واختالف صورتهم في المنطقتين‪،‬‬ ‫في األولي هناك موقعة منتصرة وقائد يستعرض األسرى وتكبيرات نصر وتهليالت‬ ‫اما‬ ‫جند ومؤرخ مشغول بتسجيل االنتصار وتطويع الكلمات وضبط أواخرها التز ً‬ ‫بأصول الكتابة‪ ،‬وفي الثانية يعيش العرب في دائرة ضيقة من األرض كاألسرى‪،‬‬ ‫بينما يبيع ملوك الفرنج األسير بزق صغير من الخمر‪ ،‬ويحولون الجوامع إلى‬ ‫خمارات وبيوت دعارة‪ ،‬وهكذا ‪ -‬صورتان متناقضتان داخل اللحظة ذاتها والزمن‬ ‫الواحد‪ -‬وهو ما يؤدي بأسامة إلى تجاوز نشوات النصر وظواهره االحتفالية إلى‬ ‫رؤية تستبصر اللحظة المقبلة حيث استثمار النص وتفريغه من محتواه ودالالته‬ ‫ليصبح مادة لقصائد متملقة واحتفاالت شكلية‪.‬‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫محمود دياب‬

‫‪47 46‬‬

‫أفكر في مئات القصــائد التي‬ ‫ستكتب بعد هذا النص‪ ،‬كل‬


‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫ما حوته لغة العرب من ألفاظ‬ ‫الملق وكلمات التمجيد‬ ‫والتفخيم‪ ،‬وجميع مشتقاتها‪،‬‬ ‫وقد رصت بعضها بجوار‬ ‫البعض‪ ،‬موزونة مقفاة‪،‬‬ ‫تلقى في حفل عظيم يشهده‬ ‫السلطان وآالف البشر‪.‬‬ ‫أفكر في المنابر ‪ ..‬ورجال‬ ‫الكالم يتسابقون إليها‪،‬‬ ‫يعرقل بعضهم بعضاً‪ ،‬ويشد‬ ‫بعضهم أذيال بعض يهللون‪،‬‬ ‫ويكبرون‪ ،‬ويصرخون‪ ،‬حتى‬ ‫ينفد قاموس الكلمات‪،‬فيعيدون نفس الكلمات‬ ‫بأصوات أكثر حدة‪ ،‬حتى‬ ‫تبح أصواتهم‪ ،‬فال يعود‬ ‫بوسع أحد أن يسمعهم‪.‬‬

‫وإذ يعطي أسامة كتابه «باب الفتوح» إلى المؤرخ الرسمي «العماد» تدخل‬ ‫ ‬ ‫المجموعة المعاصرة إلى الزمن التاريخي متقاطعة مع الحدث من خالل قراءتها‬ ‫لجمل من الكتاب داللة على أن «باب الفتوح» هو كتاب الجماعة التي حملته‬


‫شخصيتها المفترضة المتخيلة‪/‬أسامة‪ ،‬وهو رؤية الجماعة وخطابها الجمعي‪.‬‬ ‫وتتوزع جمل «باب الفتوح» ورؤاه األساسية بين العام والخاص‪ ،‬بين‬ ‫ ‬ ‫الحديث عن محنة األمة والحديث عن محنة اإلنسان الفرد‪ ،‬من منظور اجتماعي‬ ‫يستهدف التحرر والمساواة‪ ،‬ويتخذ الكتاب ضمير الجماعة المتكلم في صيغ‬ ‫محددة‪« ،‬لو أنا أعتقنا ‪ ..‬لو أنا أعطينا ‪ ..‬جعلنا‪ ،‬وذلك من خالل صيغة الشرط‬ ‫لو»‪ ،‬وهو بذلك يتخذ صفة الجماعة التاريخية المنصهرة في حلم ذي توجه إلى‬ ‫شخص حاكم أو دولة‪ ،‬وفي جمل الكتاب التالية‪ ،‬تطرح قضية الحكم وحق األمة‬ ‫في اختيار حاكمها‪.‬‬ ‫كرسي الحكم ملك األمة‪ ،‬ال يورث أو يباع وال يعار وال يوهب‬ ‫‪....................‬‬ ‫ليس الحكم بجارية متبذلة‪ ،‬يتخاطفها الفتيان‪ ،‬يملكها األسرع سيفاً‪ ،‬واألدهى‬ ‫واألخبث في تدبير القتل‬ ‫‪....................‬‬ ‫الحكم في أمتنا شورى‬ ‫الحاكم خادم أمته ال مالكها‪.‬‬ ‫‪....................‬‬ ‫لألمة مجلس حكماء‪ ،‬يرعي بيت المال ويراقب أفعال الحاكم ورجاله‪ُ ،‬يقوم ويهذب‪.‬‬ ‫‪....................‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪49 48‬‬


‫وهكذا ‪ :‬يقوم محور األفعال على بنية ثنائية تتحدد في أحد تجسداتها‬ ‫ ‬ ‫في ثنائية التاريخ الحقيقي – التاريخ المدون‪ ،‬وال يقتصر تحقق تلك الثنائية على‬ ‫مستوى الشخصيات فحسب «بل يتحقق كذلك على أكثر من مستوى من مستوي‬ ‫األبنية الداخلية في المسرحية‪ ،‬فيظهر على مستوى الصياغة اللغوية بشكل عام‪،‬‬ ‫كما يظهر على مستوى البنيات اللغوية الصغرى‪ ،‬وتقوم اللغة في هذا السياق‬ ‫بتجسيد الصراع بين قطبي الثنائية‪ ،‬إنه في الحقيقة صراع بين الصياغة األصولية‬ ‫التقليدية‪ ،‬وصياغة أخري مناوئة‪ ،‬من هنا يقترن التغيير في طريقة التعبير بالتغيير‬ ‫(‪)10‬‬ ‫في طريقة التفكير أو طريقة النظر إلى األشياء»‪.‬‬ ‫وينتهي المشهد الصدامي األول بين أسامة من جهة‪ ،‬وقائد حرس السلطان‬ ‫ ‬ ‫«سيف الدين» ومؤرخه الرسمي «العماد» من جهة ثانية‪ ،‬بصوت المؤرخ وهو‬ ‫يملي على كاتبه فقرات من كتابه‪ ،‬ويردد جملة المسجوعة في ترجيعات صوتية‬ ‫مكررة‪ ،‬داللة على سيطرة الفكر الرسمي المحافظ وهيمنة اللغة المؤطرة بأبعادها‬ ‫السلفية على مجمل المشهد العربي المنتصر‪ ،‬وتأكيداً للسطح الظاهري لالنتصار‬ ‫العسكري وعدم تخلله البنية االجتماعية والمعرفية المهيمنة‪ ،‬وهو ما توجزه الجماعة‬ ‫المعاصرة في جملتها «النصر شمس أشرقت على مستنقع موبوء»‪.‬‬ ‫وإذ ينتهي المشهد الصدامي‪ ،‬فإن الجماعة المعاصرة تعود إلى مستوي‬ ‫ ‬ ‫الزمن اآلني بإسقاطاته العصرية‪ ،‬وتنتقد التاريخ القائم على الخرافة ال العلم‪ ،‬وتعبر‬ ‫عن رؤية نقدية للتراث واألمثال الشعبية والحكم المكرسة في الجمل المصكوكة‬


‫(خير األمور الوسط‪ ،‬إن كان لك حاجة عند الكلب‪ ،‬قل له يا سيدي‪ ،‬العين‬ ‫ماتعالش على الحاجب ‪ ..‬الخ‪ ).‬وتؤكد بذلك طابع النص والتاريخ معاً باعتبارهما‬ ‫لعبة تمسرح واكتشاف «علينا أن نستأنف لعبتنا»‪ ،‬وذلك يعني استمرار الرحلة مع‬ ‫الثائر األندلسي الذي تعترف الجماعة الخالقة له بخطأ توجهه إلى السادة «فالثائر‬ ‫ال يقنع أعداءه «‪ ،‬مبررة ذلك بأنه ثائر ال مغامر‪ ،‬وفي نص أكثر تحديداً‪ ،‬تبرر‬ ‫الجماعة ذلك بكونه مثلهم يميل إلى المواقف الوسيطة والتهادن «لقد خلقناه على‬ ‫شاكلتنا مياال للمهادئة»‪.‬‬ ‫ويمثل توصيف الجماعة لطبيعة الفتي األندلسي تحديداً اولياً لنسق‬ ‫ ‬ ‫العالقات النصية التالي‪ ،‬وهو النسق القائم على ثنائيات متضادة غير محلولة‪،‬‬ ‫سواء في تركيب الشخصيات أو تركيب المواقف والسياقات‪ ،‬ويتجسد ذلك في‬ ‫التضاد بين صيحات النصر ومنع دخول أصحاب المدينة المحررة إليها وإبقائهم‬ ‫خارج أسوارها‪ ،‬في تناقض حاد ومفاجئ بين السلطة واألهالي من خالل رمزية‬ ‫الباب الموصد والمنع من دخول المدينة‪ ،‬وبدء طرح السؤال األساسي في النص‬ ‫«أو – أحد األسئلة الرئيسية»‪ : ،‬لمن النصر؟ لمن المدن العربية المفتوحة ؟‬ ‫والتعامل المتناقض مع النصر العسكري باعتباره مجلباً لمغانم وامتيازات (القادة‬ ‫– السادة)‪ ،‬أو باعتباره حدثاً يعيد األرض والبيت والحق (الجمهور)‪.‬‬ ‫ويأتي اختيار الجماعة العائدة «سكان المدينة» ألسامة ليكون لسانها‬ ‫ ‬ ‫المعبر وصوتها في إجراء ذي داللة هامة بصرياً وداللياً‪ ،‬بصرياً ‪ :‬انشقاق كتلة‬ ‫محمود دياب‬

‫‪51 50‬‬


‫الجماعة إلى جناحين يتباعدان ليتركا أسامة في الوسط إزاء مواجهة حاسمة مع‬ ‫سيف الدين والعماد‪ ،‬وداللياً ‪ :‬اختيار الجماعة العائدة ألسامة – المخلص‪.‬‬ ‫ويتوحد أسامة بصوت الجامعة في خطاب كاشف ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫( إلى سيف الديـن والعمـاد) ‪:‬‬ ‫أسام ة ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ما الذي يجعلكم تغلقون‬ ‫ ‬ ‫األبواب في وجوه أصحاب‬ ‫ ‬ ‫المدينة‪ ،‬أنتم ال تجيبون‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ولكني أعرف إجابتكم‪ ،‬وال‬ ‫ ‬ ‫شك في أن هؤالء الناس‬ ‫ ‬ ‫يعرفونها‪،‬أنتم تريدون مهلة‬ ‫ ‬ ‫لتفرضوا النظام في المدينة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫قبل أن يدخلها العامة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فيفسدوه عليكم‪ ،‬والنظام هو‬ ‫ ‬ ‫القوائم‪ ،‬القوائم القديمة‬ ‫ ‬ ‫نفسها تبعث‪ ،‬قد يموت الناس‬ ‫ ‬ ‫‪ ..‬وتتغير الوجوه‪ ،‬ولكن‬ ‫ ‬ ‫القوائم تبقى‪ ،‬لكل إنسان‬ ‫ ‬ ‫فيها خانة ال يتجاوزها‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وهؤالء الناس جميعاً‪ ،‬فقراء‬ ‫ ‬


‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫كل عصر تجمعهم خانة‬ ‫واحدة‪ ،‬تأتي في الذيل‪،‬‬ ‫فعليهم إن عادوا‪ ،‬أن يصلوا‬ ‫في الوقت الذي يتناسب مع‬ ‫خانتهم‪ ،‬عليهم أن يصلوا في‬ ‫الذيل‪ ،‬فتتلقاهم خانتهم ‪..‬‬ ‫خرائب المدينة‪ ،‬وحظائرها‪،‬‬ ‫وعراء مزارعكم ومراعيكم‪،‬‬ ‫ومواقف طالب الصدقة على‬ ‫أبواب بيوتكم‪ ،‬وأمام‬ ‫المساجد‪ ،‬وعليهم بعد ذلك‬ ‫أن يسلموا بأن هللا هو صانع الخانات‪.‬‬

‫وينتهي الخطاب التصنيفي الحاد بتوحد الجماعة المعاصرة مع الجماعة‬ ‫ ‬ ‫التاريخية (أهل عكا)‪ ،‬واالثنتان مع أسامة – صوت الجماعتين وفاديهما المخلص‬ ‫– وكذلك يتوحد رموز السلطة (العماد – سيف الدين) وأدوات القهر (جنود أشبيلية‬ ‫مع الجنود المشرقيين) وتتكتل الوحدتان لتشكال واحدة من ثنائيات النص المتضادة‬ ‫والمتجسدة في صيحات النصر ومشاهده الباهرة عبر تساقط المدن العربية في يد‬ ‫الناصر‪ ،‬في الوقت الذي تتحول فيه الفكرة الثورية إلى كيان مطارد من الجند‪،‬‬ ‫ويصير سكان المدن كتال مهمشة خارج أبوابها‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪53 52‬‬


‫وحين تبقى المجموعات العائدة في انتظار دخول مدائنها‪ ،‬فإن أسامة في‬ ‫ ‬ ‫جلسته المنفردة على التل الرملي يبدأ في مراجعة ذاتية ويعتريه التساؤل القلق ‪:‬‬ ‫هل أنا العاقل الوحيد في األرض؟ ‪ -‬ويتوزع بين إغواء الحياة اليومية ببساطتها‬ ‫ونمطيتها وحدودها الفاترة (المنصب الرسمي‪ ،‬طيبة األم‪ ،‬دفء البيت والزوجة‬ ‫واألوالد) ويبين التمرد واستكمال الرحلة والحلم‪ ،‬مستصرخاً في الصمت والخالء‪،‬‬ ‫المخلص؟‬ ‫هل أنا ُ‬ ‫أسام ة ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫هـل أســلم نفسي لجنــود‬ ‫إشبيلية وأنتهي‪،‬أعود‬ ‫إلشبيلية ألرتمي على صدر‬ ‫أمي‪ ،‬حيث ال سخونة وال‬ ‫برودة وإنما دفء وحب‬ ‫أتجرع القيء في منصب‬ ‫بالديوان وأنجب أوالداً‬ ‫للموت‪ ،‬أتجاهل النهاية‬ ‫التي أعرفها والتي توشك‬ ‫أن تنقض‪ ،‬أنساها‪،‬‬ ‫حين تحتويني لحظتها‪،‬‬ ‫وأمضي مع الماضين‪،‬‬ ‫وأنتهي‪.‬‬ ‫‪..............‬‬


‫هل أسلم نفسي لجند سيف‬ ‫الدين‪ ،‬فأصلب على تل من‬ ‫قمامة الفرنج في القدس‪.‬‬ ‫‪..............‬‬ ‫المخلص‬ ‫(صارخاً) ‪ :‬وهل أنا ُ‬ ‫الوحيد‪.‬‬ ‫أأنا المهدي المنتظر‬ ‫‪.. .. .. ..‬‬ ‫ال تدوم تلك المراجعات الذاتية‪ ،‬فما ثلبت الجماعة المعاصرة أن تستعيد‬ ‫ ‬ ‫بطلها المتخيل وتستمر كمعبرة عن شخصيته وذلك إثر انتهائه إلى قرار الثورة‬ ‫والتمرد‪ ،‬وال يعتبر هذا تحوالً في شخصية أسامة وإنما هو استم اررية – تكاد أن‬ ‫تكون حتمية – انتابتها أو شابتها قليالً لحظة قلق وتساؤل‪.‬‬ ‫المجموعة المعاصرة ‬

‫‪ :‬‬

‫‪:‬‬ ‫ ‬ ‫الشاب األول‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫محمود دياب‬

‫‪55 54‬‬

‫أسامة‪ ،‬هل اتخذت ق ار ار‬ ‫نعم‪ ،‬ه ــو نفــس‬ ‫ ‬ ‫القرار القديم‪،‬من‬ ‫قرر أن يثور‪ ،‬فقد‬ ‫أحرق مركبه حين‬


‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫المجموعة‬ ‫ ‬ ‫الشاب الثاني‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫اتخذ ق ارره‪ ،‬فال‬ ‫يملك أن يعدل عنه‬ ‫‪ :‬‬ ‫‪ :‬‬

‫وهل اختـرت وجهتك ؟‬ ‫ما ازلـت أومن‪ ،‬بـأن‬ ‫قائداً منتص اًر أقدر‬ ‫على صنع أمة‬ ‫قائد مهزوم‬

‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫المجموعة‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫الشاب الثالث‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫المجموعة‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫الشاب الرابع‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫المجموعة‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫أسامة‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫في الطريق إلى القدس‬ ‫جند ينتظرونك‪.‬‬ ‫لكني لن أعدم حيلة‪.‬‬ ‫فإن ضيقوا الخناق‬ ‫عليك‬ ‫قاتلت‪.‬‬ ‫فإن خذلك السلطان‬ ‫وسخر من أفكارك‬ ‫لن أفكر في هـذا اآلن‪،‬‬ ‫فتلك حكاية أخري قد‬


‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫تذكر فيها كلماتي‪،‬‬ ‫وقد تنشأ فيها كلمات‬ ‫أخري أعمق حكمة‪،‬‬ ‫ولكن اسمى لن يذكر في كل األحوال‪،‬‬ ‫فستصبح فيها‬ ‫جماهير األمة هي‬ ‫صاحبة الكلمة‬ ‫وصاحبة الفعل‪.‬‬

‫إن مأزق أسامة – المخلص‪ ،‬يتمثل كما تقول «اعتدال عثمان» في ذلك‬ ‫ ‬ ‫التعارض اللفظي بين الحد الساخن والحد البارد‪ ،‬على مستوى البنيات اللغوية‬ ‫الصغرى‪ ،‬الذي يتجاوب مع التعارضات الثنائية األخرى في بنية النص‪ ،‬إن تقسيم‬ ‫الكون بهذا الشكل المطلق‪ ،‬الذي هو وليد مفهوم ثنائي ونظام تناقضي بين التاريخ‬ ‫الحقيقي والتاريخ المزيف‪ ،‬الموقف النفعي – الموقف األخالقي المثالي‪ ،‬الخير‬ ‫المطلق والشر المطلق‪ ،‬أو بعبارة النص (حرب أو استسالم‪ ،‬ثورة أو خنوع‪ ،‬حياة‬ ‫أو موت)‪.‬‬ ‫إن هذا التقسيم المطلق ينفي كل إمكانية التخاذ البطل سبال جدلية إزاء‬ ‫ ‬ ‫الصراع بينه وبين الواقع‪ ،‬فيواجه القوى المناوئة وحيداً متجرداً‪ ،‬إنه يتطوع بتسليم‬ ‫سيفه إلى قائد حرس السلطان عند أول تواجه بينهما (إليك هو – أنا ما أتيت لكي‬ ‫أقاتل)‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪57 56‬‬


‫«وال تتأسس أزمة أسامة على ذلك النظام الفكري التناقضي وحده‪ ،‬بل‬ ‫ ‬ ‫تتأسس كذلك على تناقض آخر‪ ،‬هو التوجه إلى السلطان‪ ،‬عن طريق رجال‬ ‫حاشيته‪ ،‬برسالة تتضمن شريعة حكم للمستقبل‪ ،‬وهي شريعة تتضمن بالضرورة‬ ‫نظرة مغايرة لعالقات ثابتة‪ ،‬ومن ثم فهي تقتضي فعالً تحريرياً‪ ،‬ولكن الحركة‬ ‫المحررة يلزمها قدرة على االنفصال حتى تحقق ميالداً جديداً متخلقاً في رحم‬ ‫ومنفصل عنه في الوقت نفسه‪ ،‬وهو ما لم يقدر عليه أسامة‪،‬‬ ‫طا به‬ ‫الماضي‪ ،‬مرتب ً‬ ‫ً‬ ‫إن جهده التحرري تغلبه قوة الماضي وعالقاته الثابتة‪ ،‬فهو إذ ينفي نفسه نهائياً‬ ‫في ظل السلطان‪ ،‬يقع في مجال هيمنته وهيمنة الفئة المحيطة به التي يتسع مجال‬ ‫نفوذها ليشمل جماعة المنتفعين (تجار العبيد والغالل وصاحبة الخان اليهودية‬ ‫وابنتها الداعرة)(‪ ،)11‬ويلتئم شمل الجماعة في نهاية النص لتكون دائرة تحيط‬ ‫بأسامة‪ ،‬وتظل تضيق عليه الخناق خطوة فخطوة‪ ،‬حتي تتحول الدائرة إلى كتلة‬ ‫يختفي فيها أسامة‪.‬‬ ‫وهكذا ‪ :‬يعد الموت الفيزيائي بمثابة اندحار مؤقت ألفكاره في الزمن‬ ‫ ‬ ‫المنقضي‪ ،‬وإن ظلت كامنة في وعي المجموعة المعاصرة‪ ،‬وتتجسد هذه الداللة‬ ‫المزدوجة تجسداً فنياً في التركيب اللغوي لفقرات « باب الفتوح» ‪:‬‬ ‫لو أنا أعتقنا الناس جميعاً‪،‬‬ ‫ومنحنا كال منهم شب اًر في األرض وأزلنا أسباب الخوف‬ ‫لحجبنا الشمس – إذا شئنا – بجنود يسعون إلى الموت‬


‫ليذودوا عن أشياء امتلكوها‬ ‫واكشفوا كل معانيها ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫الحرية‬ ‫شبر األرض وماء النبع‬ ‫قبر الجد وأمل الغد وضحكة طفلة‬ ‫تلهو في ظل البيت‬ ‫وذكري حب‬ ‫وقبة جامع‪ ،‬أدوا يوماً فيه صالة الفجر‬ ‫بأوجز كلمة‬ ‫عظمة أمة‪.‬‬

‫«تقدم هذه الفقرة مرتين في النص‪ ،‬األولي في معرض التعرف على‬ ‫ ‬ ‫أفكار أسامة المدونة في كتابه‪ ،‬وتؤدي كل عبارة منها بصوت منفرد من أصوات‬ ‫المجموعة المعاصرة‪ ،‬نيابة عن العماد‪ ،‬أما في المرة الثانية فتقدم بوصفها الرسالة‬ ‫الختامية التي تلقي بصوت الجماعة المتحدة‪ ،‬وتحمل الفقرة في كل مرة داللة‬ ‫مختلفة‪ ،‬ففي القراءة األولي تعبر عن وجهة نظر فردية موجهة إلى الحاكم كي يقيم‬ ‫على أساسها شكالً من أشكال الطوباوية االجتماعية‪ ،‬وهنا يكمن إخفاقها األول‪،‬‬ ‫ولكن ما إن تتحول وجهة النظر ذاتها لتعبر عن تطور وعي الجماعة‪ ،‬وتوجه إلى‬ ‫جماهير الناس‪ ،‬كما يقترح أحد شباب المجموعة‪ ،‬حتي يتاح للوعي المضمر في‬ ‫الرسالة إمكانيات للتحقق لم تكن واردة من قبل‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪59 58‬‬


‫تبدأ الفقرة بجملة شرطية‪ ،‬تلحق بها عبارات قصيرة ذات إيقاع واضح‪ ،‬ثم‬ ‫ ‬ ‫وقف صريح بما يلزم بقطع النطق عند آخر الجملة‪ ،‬ويفيد القطع المرتبط بالوقفة‬ ‫اإليقاعية اختصاص كل عبارة بقيمة بعينها‪ ،‬هي الحرية‪ ،‬وحق الملكية واألمان‪،‬‬ ‫ولكن جواب الشرط يمتنع المتناع حصول القيم السابقة التي يرتبط تحققها بإرادة‬ ‫الحاكم وقناعاته‪ ،‬ومن هنا تنتفي الغايات النهائية (الحرية – عظمة األمة) وبديهي‬ ‫أن يرتبط الفعل في القراءة الثانية بإرادة الجماعة‪ ،‬وإذا كان البطل التاريخي قد‬ ‫انتهي محبطاً نتيجة كونه مردوداً إلى زمن منقض‪ ،‬ونتيجة كونه خاضعاً لعالقاته‬ ‫الثابتة‪ ،‬فإن المجموعة المعاصرة تملك‪ ،‬في حدود تكوينها الدرامي‪ ،‬أن تدخل‬ ‫(‪)12‬‬ ‫الزمن الماضي وتخرج منه إلى زمن مفتوح وممتد»‪.‬‬ ‫وتتطابق النهاية المأساوية للثائر األندلسي أسامة بنهاية بطله التاريخي‬ ‫ ‬ ‫– صالح الدين – المتمثلة في عودة الفرنجة بعد شهور قليلة وسقوط األندلس‬ ‫والقدس‪ ،‬بما يشى بتحلل الثنائية (الكلمة‪/‬الفعل‪ ،‬الفكرة‪/‬السيف) وعجزها كصيغة‬ ‫توفيقية على الفعل التاريخي‪ ،‬ويتساوق ذلك مع البنية الدائرية للزمن المسرحي‬ ‫والتاريخي معاً‪ ،‬فبينما يستدير الزمن في حركته الدرامية من الزمن اآلني إلى‬ ‫مشكل التكوين الدائري لحركة وحداته‬ ‫التاريخ المستدعي مر ًتدا إلى الزمن الراهن‬ ‫ً‬ ‫وتشكلها‪ ،‬فإن دائرة الحركة تتجسم في جلوس الجماعة في دائرة تردد كلمات‬ ‫الكتاب‪ ،‬وكذلك في موت أسامة داخل دائرة من أجسام التجار والسادة ‪:‬‬


‫ ‪:‬‬ ‫أصوات من السادة ‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫أسامة « صارخاً» ‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫أصوات من السادة ‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫أسامة «صارخاً»‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫تاجر العبيد‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫بعنا نفسك‪.‬‬ ‫ال‬ ‫بعنا كتابك‬ ‫ال‬ ‫فسنأخذ منك نفسك بغير عوض‬ ‫«وتنفجر مجموعة السادة في قهقهة‬ ‫عالية‪ ،‬وتتحول الدائرة إلى كتلة‪.‬‬ ‫يختفي فيها أسامة»‬

‫***‬ ‫وبذلك تلعب البنية الدائرية للزمن والحركة وظيفتها الداللية على مستويين‪:‬‬ ‫ ‬ ‫مستوي كونها بنية متولدة عن واقع اجتماعي‪ ،‬ومستوي كونها‪ ،‬إضافة إلى هذا‬ ‫الواقع‪ ،‬إعادة الصياغة لعناصر التاريخ والواقع في أن واحد‪ ،‬وباكتمال دائرتي‬ ‫الزمن والحركة‪ ،‬كما يقول مدحت الجيار في دراسته عن نص باب الفتوح يكشف‬ ‫النص عن تقنية أساسية من تقنياته وهي تقنية «القناع» التي تؤدي على مستويات‬ ‫عدة‪ ،‬مجموعة من الوظائف‪ ،‬فمن مستوى الشخصية الرئيسية إلى اختيار فترة‬ ‫تاريخية محددة‪ ،‬ثم على مستوي المكان‪ ،‬وكل ذلك يتركز في قناع تاريخي‬ ‫وجغرافي‪ ،‬وهنا يأخذ القناع بعده الرمزي ‪ /‬االستعاري‪ ،‬فشخصية أسامة قناع‬ ‫مخترع‪ ،‬ومن ثم تحول النص بأبنيته الزمنية والمكانية وعالماته المادية إلى‬ ‫استعارة كبيرة تجعل صوت المبدع مختبئاً دائماً وراء موضوعية القناع‪.‬‬ ‫***‬ ‫محمود دياب ‪61 60‬‬


‫ونقيضاً لتداخل األزمنة وتكسرها في «باب الفتوح « يختار محمود دياب‬ ‫ ‬ ‫لحظة واقعية – أوائل المساء ليوم ما – لنص «الغرباء ال يشربون القهوة» الذي‬ ‫يفتتح به ثالثية « رجل طيب في ثالث حكايات»‪ ،‬حيث رجل يجلس أمام بيته‬ ‫وقد دس وجهه بين صفحات جريدة يومية‪،‬يق أر طالعة ويثرثر مع زوجته المحتجبة‬ ‫خلف نافذة شبه مغلقة‪ ،‬يدخل أحد الغرباء ويبدأ في قياس مسافات البيت وأبعاده‪،‬‬ ‫ويدون في مفكرة صغيرة األرقام والمعلومات‪ ،‬وسط دهشة الرجل ومحاوالته‬ ‫المتعددة الجتذاب الحديث مع الغريب الذي يخرج ويدخل غريبان آخران يقومان‬ ‫باألفعال ذاتها ويخرجان بدورهما بالطريقة نفسها ليدخل ثالثة غرباء‪ ،‬ثم يتكاثر‬ ‫الغرباء ويحاصرون الرجل ويمزقون أوراق هويته‪ ،‬ويخرجون إثر ذلك‪ ،‬ليبقى‬ ‫منتظر ابنه الغائب‪ ،‬بينما يلوح جار سكير‬ ‫ًا‬ ‫الرجل مستغرقاً في خطاب فردي طويل‬ ‫ويسمع صوت رياح تعبث بأوراق الرجل الممزقة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ويتداخل محو اًر األقوال واألفعال ليكونا السياق المسرحي المبني على‬ ‫ ‬ ‫عملية اإلزاحة المستمرة من الوقائع اليومية بطابعها االعتيادي وأطرها السلوكية‬ ‫واالجتماعية إلى المناخات الكابوسية بطابعها الهذياني وأزمتها المتداخلة‪ ،‬فالمشهد‬ ‫يتركب – ابتداء – من رجل طيب (تحديد أخالقي) في الستين (تحديد زمني)‬ ‫يسلك سلوكاً غيبياً (يستطلع طالعه في صحيفة) يجلس منتعالً خفاً منزلياً أمام‬ ‫بيت قديم متهالك تساقط الطالء عن واجهته – أقرب إلى أن يكون شيئاً أثرياً‬ ‫– مكون من طابق واحد مما يدل على خصوصية ساكنيه‪ ،‬وتوجد شجرة معمرة‬ ‫جدباء ال تظهر أوراق لها‪ ،‬بينما تتواري زوجة الرجل خلف نافذة مواربة ال تكشف‬


‫ما وراءها (عالمة محافظة وتقاليد اجتماعية معينة)‪ ،‬وتؤطر الشخصيتان معاً‪،‬‬ ‫الحاضرة (الرجل) والغائبة (الزوجة) بعالماتهما المادية السياق النصي بينما‬ ‫يظهر الغريب األول الذي يبدو – شكلياً – مناقضاً للرجل المتشرنق داخل ذاته‪،‬‬ ‫فهو أنيق الملبس متين البنيان جهم الخلقة يتحرك بحساب‪ ،‬ويتحول هذا التضاد‬ ‫الشكلي – عبر منطق اإلزاحة في النص من األطر الواقعية إلى األطر الرمزية‬ ‫– إلى تضاد وجود وتصارع مصائر‪ ،‬إضافة إلى أن المستويين ‪ :‬التجريدي‬ ‫والواقعي(‪ ،)13‬يضيفان أبعاداً رمزية تشمل الرجل والغرباء والبيت الذي يتحول‬ ‫من طابعه الواقعي كبيت عادي لمواطن ما إلى البعد الرمزي بما يشير إليه من‬ ‫دالالت تتصاعد متكاثفة لتختزل فكرة الوطن‪ ،‬وكذلك الشجرة المعمرة التي ال‬ ‫تصبح مجرد جذع قديم وأوراق جافة بل تصبح شاهد تاريخ وإثبات وجود وهوية‪.‬‬ ‫ويتجسد الغريب – بصرياً – من خالل فعل ‪ :‬التدوين‪ ،‬وعالمة ‪ :‬مفكرة‬ ‫ ‬ ‫صغيرة‪ ،‬وتتشكل العالقة بين الرجل والغريب في متابعة بصرية‪ ،‬ثم حركة متسللة‬ ‫من الخلف من جهة الرجل‪ ،‬وبرود وجمود وال اكتراث من جهة الغريب‪ ،‬ويأتي‬ ‫عدم شرب القهوة التي يقدمها الرجل تأكيداً النعدام االئتالف والتواصل بينهما‪،‬‬ ‫وينعكس ذلك على محور األقوال‪ ،‬حيث ال يوجد فعلياً حوار يستغرق الزمن‬ ‫الدرامي وإنما هو «مونولوج» داخلي فردي يستهلكه الرجل وتقطعه آليات حركية‬ ‫معينة‪ .‬ويبدو ذلك واضحاً حين تساءل الرجل عن هوية الغريب‪ ،‬فتكون اإلجابة‬ ‫إبراز بطاقة صفراء ينشرها الغريب ثم يطويها على الفور‪ ،‬ليستمر بعد ذلك –‬ ‫مكتفيا بالتساؤالت‬ ‫بتتابع آلى – فعل التدوين‪ ،‬وصمت الرجل السلبي إزاء ما يحدث‬ ‫ً‬ ‫محمود دياب‬

‫‪63 62‬‬


‫البلهاء والتلصص على ما يكتبه الغريب حين يفشل في محاوالته المتعددة لتبادل‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫وتأتي أول جملة منطوقة للغريب حين تساءل الرجل عن لغته‪ ،‬وترد أول‬ ‫ ‬ ‫إشارة عن االبن الغائب من خالل ثرثرة الرجل عن جريدته المفضلة‪.‬‬ ‫«الغريب يدون شيئاً ما في مفكرته‪ ،‬ويتلصص الرجل بنظرة على ما يكتب‬ ‫ ‬ ‫‪ ..‬ليضبطه الغريب متلبسا»‪.‬‬ ‫الرجل « يضحك في ارتباك» ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫أردت فقط أن أعرف بأي لغة كتب‬ ‫ ‬ ‫الغريب «في جمود» ‪ :‬هذا غريب‬ ‫ ‬ ‫«تحين التفاتة من الغريب إلى الجريدة فيمسك بها ليتحقق‬ ‫ ‬ ‫من اسمها»‬ ‫ ‬ ‫الرجل ‪ :‬إنها جريدتي المفضلة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫وقد كانت جريدة أبي المفضلة أيضاً‪.‬‬ ‫ ‬ ‫وال أعلم إذا كان ابني يفضلها‪.‬‬ ‫ ‬ ‫فهو يعمل في بلد بعيد‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫وإذ يحاول الرجل احتواء الموقف بنسيانه‪ ،‬يدخل غريبان جديدان‪ ،‬نسختان‬


‫مكررتان من الغريب األول‪ ،‬بالمفكرة ذاتها والبطاقة الصفراء‪ ،‬ويتجسم صراع خفي‬ ‫ومحتدم حول البيت‪ ،‬هنا يتوتر الرجل ويبحث عن جيران وأهل‪ ،‬ولكنه يستشعر‬ ‫تاركا الغريبين يستبيحان البيت في استسالم‬ ‫خلو المكان‪ ،‬فيداري وجهه في الجريدة ً‬ ‫نفسي وجسدي‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫الرجل‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫لم أعد احتمل أي جهد‪ ،‬فلقد‬ ‫تقدمت بي السن‪ ،‬لم يبق‬ ‫أمامي سوى شهور ألبلغ‬ ‫المعاش‪ ،‬واألفضل أن‬ ‫أحصل على إجازة خالل هذه‬ ‫الشهور‪ ،‬األفضل أن‬ ‫أستريح‬

‫وإزاء هذا االستسالم المفاجئ‪ ،‬يتكاثر الغرباء ويتقدمون بخطى ثقيلة‬ ‫ ‬ ‫نحوه‪ ،‬لينتقل الصراع من ملكية البيت إلى الرجل ذاته‪ ،‬إلى هويته وذاكرته‪ ،‬حيث‬ ‫يأتي الرجل بصندوق صفيح يحتفظ فيه بمستندات ملكية البيت‪ ،‬ويقدمه في ثقة‬ ‫متبادل تمزيقها مع الغرباء داللة‬ ‫بلهاء إلى كبير الغرباء الذي يستعرض األوراق‬ ‫ً‬ ‫على نزع الملكية والهوية‪ ،‬وتتوزع األوراق الممزقة بين الوثائق الرسمية واألوراق‬ ‫الشخصية ‪ :‬مواضيع إنشائه حينما كان طفالً صغي اًر‪ ،‬صورته مع أمه وهو طفل‪،‬‬ ‫خطابات أصدقائه‪ ،‬قصائد صباه‪ ،‬شهادة ميالد االبن‪ ،‬وثيقة الزواج‪ ،‬رسالة حب‪،‬‬ ‫إعالم وراثة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪65 64‬‬


‫وتنتهي مهمة الغرباء بتمزيق األوراق والمستندات وإلغاء الهوية المكتوبة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫القانونية‪ ،‬المثبتة‪ ،‬ويستغرق الرجل في خطاب – خليط لغوي‪ ،‬يشكل مرثية طويلة‪،‬‬ ‫تحمل طابع الهذيان والتنبؤ والحزن‪ ،‬مما يضفي الطابع الرمزي كامالً على‬ ‫الموقف كله ‪ :‬الرجل والبيت والغرباء واالبن الغائب والزوجة المحجوبة والشجرة‬ ‫المعمرة واألوراق الممزقة‪.‬‬ ‫وفي مواجهة تمزيق المستندات الرسمية‪ ،‬تبقي أوراق أو إثباتات أخرى‪،‬‬ ‫ ‬ ‫إذ يبقى النقش على الشجرة كامالً (القلب والسهم)‪ ،‬وأيضاً – تسجيالت الزمن‬ ‫المطبوعة على الجدران‪.‬‬ ‫الرجل « يسرع إلى الكرسي ويحمله إلى الشجرة» ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ها هو ذا يا سنية‪.‬‬ ‫النقش هنا‪ ،‬القلب والسهم واسمي واسمك دليل ال شك فيه‪ ،‬وهو باق‬ ‫وهناك داخل البيت‪ ،‬في الحجرات والممرات آثار أظافري الصغيرة على الجدران‬ ‫وأنا أتشبث بها ألتعلم المشي‪.‬‬ ‫وأول حروف تعلمت كتابتها حروف اسمي كبيرة تتحدي‪ ،‬هي أيضاً ال تزال‬ ‫وجدول الضرب المحفور على جدار غرفة الوالد وجدران الحمام ما زالت تحتفظ‬ ‫ببقع من دمي منذ انزلقت وجرح رأسي وأنا أستحم لزفافنا إنها كلها باقية ‪.. ..‬‬ ‫أرأيت لماذا أنا باق كالجبل ؟ ‪.‬‬ ‫ ‬

‫ويتحول الرجل – الشرنقة‪ ،‬إلى رجل يعي صراعات العالم الخارجي‬


‫وقوانينه‪ ،‬ويندمج في خطابه الذاتي المواجه (بعد أن غاب طرف الصراع الثاني‬ ‫– الغرباء – اآلخر الضد)‪ ،‬وبينما تعبث الريح بقصاصات األوراق الممزقة‪ ،‬يلوح‬ ‫جار سكران في تغييب إرادي للفعل والوجود‪ ،‬ويستدير الرجل إلى النافذة المواربة‬ ‫المخِّلص الغائب‪.‬‬ ‫ويدخل البيت ويغلق الباب مطرًقا في انتظار االبن – ُ‬ ‫غدا يا سنية‬ ‫ ‬ ‫الرجل ‪ً :‬‬ ‫مع أول شعاع للشمس سأبعث ببرقية إلى الولد برقية أقول له فيها‪ ،‬عد إلينا‪ ،‬تعال‬ ‫وعش معنا أنا وأمك والبيت بحاجة إليك‪.‬‬ ‫حال‪.‬‬ ‫أحضر ً‬ ‫وال تنسى وأنت قادم أن تحمل معك بندقية وسيفهم – هو حتماً – ما أعنيه‬ ‫بالبندقية‪.‬‬ ‫***‬ ‫وفي «الزوبعة» ينتشر خبر في إحدى قرى الشرقية عن خروج «حسين‬ ‫ ‬ ‫ظلما بتهمة قتل ملفقة‪ ،‬وكما‬ ‫أبي شامة» من السجن بعد عشرين عاماً قضاها ً‬ ‫يقول أحمد العيوطي في مقالة الملحق بالنص «ويؤثر الخبر في القرية تأثي ار‬ ‫مروعا‪ ،‬فلقد أقسم الرجل أن يكون مقابل كل سنة قضايا في السجن قتل رجل‬ ‫من رجال القرية‪ ،‬ويسود القرية جو من الذعر والقلق والترقب والتربص‪ ،‬وتتكاتف‬ ‫البلدة ضد هذا القادم رغم اعتراف حسن األعرج أن أبا شامة قد ُسجن ظلما‪،‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪67 66‬‬


‫وأن الفاعل الحقيقي هو خليل أبو عمر أحد وجهاء القرية‪ ،‬إن هذه الحقيقة ال‬ ‫تهم اآلن‪ ،‬وينتشر الرجال على الطريق الزراعي متربصين بالعائد المنتقم‪ ،‬وتمأل‬ ‫القرية الشائعات ‪ :‬لقد شوهد أبو شامة مختبئا وسط أعواد الذرة‪ ،‬ويقتل األعرج في‬ ‫الجامع فتزداد حدة الفزع الذي أصاب الجميع‪ ،‬وتصر القرية أن القاتل هذه المرة‬ ‫هو حسين أبو شامة أيضاً‪ ،‬ويسارع البعض إلى التودد من صالح بن أبي شامة‪،‬‬ ‫سالم أبو سليم يرد إليه داره‪ ،‬الحاج شعالن يعيد إليه أرضه‪ ،‬الحاجة زكية ترد إليه‬ ‫أمواله التي اغتصبتها من أمه‪ ،‬ويصل السيد أبو طالب بعد أن خرج هو اآلخر‬ ‫من السجن ليعلن أن أبا شامة قد مات من سنين في سجنه‪ ،‬وبزوال مؤثر القلق‬ ‫والخوف يري الجميع الحقيقة‪ ،‬لذلك تتكاتف الجماعة في ممارسة تطهيرية مطالبة‬ ‫برد حقوق صالح المسلوبة»‪.‬‬ ‫وتبدأ المسرحية بسعال الشيخ يونس عائداً إلى داره بينما تمسك ابنته‬ ‫ ‬ ‫حليمة بذراعه‪ ،‬وحين تصطدم عصاه بصالح في جلسته المنكفئة فوق المصطبة‬ ‫يبدأ حوار متوتر وظيفته األساسية التعرف(‪ )14‬والتقديم‪ .‬وتنتهي بصابحة باكية وقد‬ ‫علمت بموت أبيها في السجن‪ ،‬بينما صالح يمسح دموعها مسترسال في خطاب‬ ‫فردي يحمل طابع السالم الداخلي والوئام االجتماعي‪.‬‬


‫وبين قوسي البداية والنهاية‪ ،‬تتركب العالقات النصية عبر التصارع بين‬ ‫ ‬ ‫جماعتين ‪:‬‬ ‫الجماعة المهمشة ‪ :‬وتشمل صالح – صابحة – حليمة‪.‬‬ ‫أ‪ -‬‬ ‫ب‪ -‬الجامعة المهيمنة ‪ :‬وتشمل الحاج شعالن – خليل أبو عمر – سالم أبو‬ ‫سليم‪.‬‬ ‫ومع التبدل التدريجي – بتأثير خبر العودة – في العالقات والشخصيات‪،‬‬ ‫ ‬ ‫تمارس الجماعة المهمشة – وقتياً – وجوداً متنامياً‪ ،‬مع اإلبقاء جوهريا على‬ ‫وضع الجماعتين كطرفي ثنائية ضدية في بناء نصي واقعي أقرب إلى الطبيعية‬ ‫(االعتناء الزائد بالتفاصيل ورسم الصورة المسرحية وكأنها صورة واقع ريفي بعينه‬ ‫في محاولة إللغاء الحاجز أو الفارق الوهمي بين المسرح والحياة)‪.‬‬ ‫بينما ينحو دياب في «باب الفتوح» منحى مختلفاً ببنائه للنص بناء‬ ‫ ‬ ‫مسرحيا خالقا لحقيقته الخاصة كمسرح دون الذوبان في الحقيقة الواقعية فيما‬ ‫هو دائم الحوار واإلشارة والتداخل معها‪ ،‬فنص الزوبعة – نقيضا لباب الفتوح –‬ ‫يحاكي واقعه البيئي والنفسي إلى درجة لزوم ما ال يلزم ‪ :‬تحديد اسم المحافظة‪،‬‬ ‫واللغة التي تحاكي وتطابق ال اللغة التي تؤمئ وتشير وتخلق‪ ،‬االعتناءات الدائمة‬ ‫بالتفاصيل في المكان والجو والحدث‪ ،‬وانعكس ذلك على اللغة الحوارية حيث‬ ‫جاءت محشوة ومثقلة بالتعبيرات المنقولة بنصها من الواقع االجتماعي إلضفاء‬ ‫جو الطبيعية واإليهام بالواقع‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪69 68‬‬


‫وتأتي مفارقة البداية بين ضوء القمر الفضي الذي يغمر القرية وبين جثوم‬ ‫ ‬ ‫مناخات القتل والسجن وحرق الزرع والتوحش البشري واالجتماعي في عالقات‬ ‫القرية‪ ،‬وهوما يضفي أبعادا رمزية على سكونية الحدث وعادية الحوار في البداية‬ ‫التي تبدو أقرب إلى «الدردشة» المقصود منها تأدية وظيفة التعرف «الطاقة‬ ‫اإلخبارية للكلمات» ويقطع الجمل الحوارية بين الحين واآلخر ظهور رجل من دار‬ ‫الحاج شعالن متوجهاً إلى الحارة األمامية كقطع حركي لسكونية المشهد‪ ،‬وكذلك‬ ‫سعال الشيخ يونس‪ ،‬فهناك إذن قطع حركي (ظهور رجل واختفاؤه) وقطع صوتي‬ ‫(السعال) لبناء المشهد الساكن‪.‬‬ ‫ويبدو صالح – من جمل الحوار األولى – شخصية منكفئة ومنطوية تميل‬ ‫ ‬ ‫إلى الخنوع واالستسالم والرغبة في التعايش‪ ،‬وهو فاقد للقوة الذاتية إضافة إلى‬ ‫فقد أبيه مما سبب تسميته بـ «األهطل»‪ ،‬فهو شخصية منهزمة داخليا ومنسحبة‪،‬‬ ‫ولكنه يتحول تدريجياً – بتأثير خبر عودة أبيه إلى رجل يعي ذاته وحقوقه المستلبة‬ ‫ومجاله االجتماعي‪.‬‬ ‫إن القرية قبل الخبر – الزوبعة‪ ،‬تتحرك حركتها المألوفة الرتيبة‪ ،‬يزرع‬ ‫ ‬ ‫الناس ويسمرون‪ ،‬ويتفقون في صوت جماعي على أحكام موحدة تصنف الناس‬ ‫واألشياء‪ ،‬حتي إذا هبت الزوبعة نسفت ذلك العالم المتوافق وأصبح على كل واحد‬ ‫منهم أن يواجه الشيء الصعب الذي يهرب منه دائما(‪ ،)15‬وتتحدد صورة صالح‬ ‫بالتضاد مع صورة أبيه‪ ،‬فصالح شخصية منكفئة‪ ،‬مستلبة‪ ،‬بينما تتراءى صورة‬ ‫أبيه في المخيلة الجماعية في إطار نقيض‪.‬‬


‫صالح ‪ :‬أنا مش أهطل يا حليمة‪ ،‬وال أنا أهبل زي ما بيجولوا عليه‪ .‬أنا عاجل يا‬ ‫حليمة‪ ،‬أمي هللا يرحمها جالت لي كلمتين جبل ما تموت‪ ،‬حطيتهم في دماغي‬ ‫من صغري‪ ،‬جالت لي أبعد عن الناس يا صالح‪ ،‬الناس في البلد دي ما وراهمش‬ ‫غير الشر‪ ،‬جلوبهم مليانة غل‪.‬‬ ‫حليمة ‪ :‬أنت ما بتسمعش عن أبوك يا صالح‪ ،‬كان إيه شكله بيجولوا أنه كان زي‬ ‫الوحش‪ ،‬كليتهم كانوا يهابوه ويعملوا له حساب‪.‬‬ ‫صالح ‪ :‬وإيه كمان ؟‬ ‫حليمة ‪ :‬وأبويا بيجول إنه كان حجاني وطيب وساعة الحج يبجي سبع‪.‬‬ ‫ويتقاطع محو اًر األقوال واألفعال لدي صالح‪ ،‬ويصوغان العالم الخاص‬ ‫ ‬ ‫بالشخصية‪ ،‬من خالل ‪:‬‬ ‫األب الغائب‪.‬‬ ‫ ‬‫الجريمة الوهمية‪ ،‬التي ألصقتها الجماعة باألب الغائب‪.‬‬ ‫ ‬‫الزمن الغائب‪ ،‬زمن الجريمة القديمة (منذ عشرين عاماً)‪.‬‬ ‫ ‬‫المكان الغائب (المعتقل)‪.‬‬ ‫ ‬‫الجريمة الفعلية (قتل األعرج‪ ،‬التواطؤ على األب)‪.‬‬ ‫ ‬‫الجماعة المتوحشة (سلب الممتلكات الموروثة‪ ،‬تهميش الشخصية‬ ‫ ‬‫وحصارها النفسي واالجتماعي)‪.‬‬ ‫العالم الضد‪ ،‬الذي تستشرفه الشخصية في صور حلمية‪ ،‬وتستعيد فيه‪،‬‬ ‫ ‬‫بشكل وهمي‪ ،‬ممتلكاتها المسلوبة‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪71 70‬‬


‫ويشكل التضاد بين صورة األب وصورة االبن‪ ،‬والتقاطع بين الزمنين‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬الغائب والحاضر‪ ،‬بنية العالقات في النص‪ ،‬وذلك ألن «الزوبعة» رغم أنها‬ ‫في واحد من مستوياتها تعري الكتلة االجتماعية في القرية وتكشف عن توحشها‬ ‫وذئبيتها‪ ،‬إال أنها – كذلك – ترصد تحوالت الذات الفردية‪ ،‬ابتداء من نقطتها‬ ‫الفردية‪ ،‬كما يقول وحيد النقاش – حتى شمولها الجماعي‪»16».‬‬ ‫وتتراوح في النص نزعات الكتمان واإلفصاح‪ ،‬اإلخفاء واالعتراف‪ ،‬فكما‬ ‫ ‬ ‫تخفي الجماعة جريمتها القديمة وفاعلها متواطئة على الغائب‪ ،‬فإن كشف الجريمة‬ ‫وتبرئة الغائب يأتيان على لسان أحد أفرادها‪ ،‬فاألعرج يكشف تحت ضغط نفسي‬ ‫واجتماعي الحقيقة ويسمى الفاعل األصلي للجريمة القديمة‪ ،‬وهو يبوح بالسر في‬ ‫فعل تطهيري نتيجة لفساد عالقته مع شريكه اآلخر (خليل)‪ ،‬ونتيجة لوازع ديني‪،‬‬ ‫وخوفه من عودة أبي شامة وانتقامه المتوقع‪ ،‬مسترسال فى االعتراف عبرخطاب‬ ‫هستيري يمتزج فيه الحلم بالوقائع‪ ،‬ونوازع الضمير المعذب بالرغبة في تعرية‬ ‫الذات واآلخر‪ ،‬هو إذن خطاب تطهيري من ناحية‪ ،‬وعدواني من أخرى‪.‬‬ ‫أنا سكت كفاية‪ ،‬وماعدتش جادر اسكت ولو سكت النهارده‪.‬‬ ‫األعرج ‪ :‬‬ ‫عمري ماهاعرف أتكلم أنا بجالي مدة مش جادر أعتب الجامع باجي‬ ‫ ‬ ‫عند الباب أالجي زي اللي حاجة بتلعبط رجليه ما اجدرش أخطيه أجول الماليكة‬ ‫حراس الجامع فيه حاجة جوايا‪ ،‬فوق جلبي زي الدبشة‬


‫ويتحدد موقف الجماعة من الجريمة في ‪:‬‬ ‫موقف ملتبس‪ ،‬فمنذ وقوعها وطيلة األعوام العشرين التالية‪ ،‬وهم ال‬ ‫‪ -1‬‬ ‫يعرفون حقيقة ما إذا كان حسين أبو شامة الفاعل األصلي‪ ،‬أم أن الجريمة ملفقة‪،‬‬ ‫ويغلف التباس الموقف تواطؤ الصمت والالمباالة‪.‬‬ ‫بعد اتضاح الحقيقة واعتراف األعرج‪ ،‬فإن موقف الجماعة من القتلة‬ ‫‪ -2‬‬ ‫األصليين يتسم بالخنوع واالرتباك‪ ،‬إذ يتركون خليل يخرج بعد تهديد مفتعل وشكلي‬ ‫بينما تقف متفرجة في إشفاق ممتزج بالذهول على األعرج‪.‬‬ ‫يتحول موقف الجماعة تحوالً هاماً بعد عبارات اإلشفاق والترحم والتماس‬ ‫‪ -3‬‬ ‫األعذار‪ ،‬وتحت تأثير الخوف من انتقام العائد‪ ،‬يتحول إلى موقف عدواني راغب‬ ‫في قتل أبي شامة‪ ،‬فالجريمة – رغم تكشفها – مستمرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬‬ ‫بدالً من انصراف الجماعة نحو القتلة الفعليين‪ ،‬وهذا ما كان طبيعياً‬ ‫ومتوقعاً‪ ،‬فإنها تتحول إلى العائد متربصة به‪ ،‬راغبة في التخلص منه رغبتها في‬ ‫التخلص من الشاهد الوحيد – والضحية لجريمتها هي‪.‬‬ ‫الجريمة منذ عشرين عاماً كانت جريمة خليل واألعرج‪ ،‬بينما هي اآلن‬ ‫‪ -5‬‬ ‫جريمة الجماعة‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪73 72‬‬


‫وهناك في النص ما يمكن أن نسميه بالتجربة المكررة‪ ،‬وتجسد ذلك‬ ‫ ‬ ‫في جريمة القتل الثانية (قتل األعرج في الجامع) ومحاوالت الجماعة المتجددة‬ ‫إللصاق التهمة بحسين أبي شامة‪ ،‬رغم معرفتها اليقينية بالفاعل األصلي‪ ،‬تماماً‬ ‫كما فعلت في الجريمة األولي‪ ،‬رغم معرفتها الظنية بالقاتل‪ ،‬وهناك كذلك إشارات‬ ‫عن عودة سابقة لحسين أبي شامة انتهت بتلفيق الجريمة له‪ ،‬قبل عودته المتوهمة‬ ‫التي انتهت – كإشاعة – بخبر موته في سجنه‪.‬‬ ‫لقد تهشم المجتمع الصغير‪ ،‬وحتي عندما أيقن الجميع أن الغائب لن‬ ‫ ‬ ‫يعود‪ ،‬فإن عالقات الجماعة تظل مفككة‪ ،‬حيث انطوي النسيج االجتماعي على‬ ‫جريمتين‪ ،‬فانكفأت الجماعة على ذاتها اآلسنة‪ ،‬وظل صالح وصابحة مسترسلين‬ ‫في أحالمهما الوهمية وعالمهما المشترك‪.‬‬ ‫لو الحكاية دي تفوت على خير‪.‬‬ ‫صابحة ‪ :‬‬ ‫ويرجع أبوكي من غير شر‪.‬‬ ‫صالح ‪ :‬‬ ‫نتلم تأني زي بجية الخلجة‪.‬‬ ‫صابحة ‪ :‬‬ ‫ونبني دارنا وتبجي أحسن دار‪.‬‬ ‫صالح ‪ :‬‬ ‫وأهي أرضنا حدانا نزرعها‪.‬‬ ‫صابحة ‪ :‬‬ ‫وأتجوز يا حليمة‬ ‫صالح ‪ :‬‬ ‫‪..........................‬‬ ‫صابحة ‪ :‬‬ ‫وأنت في الساعة دي ألف مين يتمنى يتجوزك‪.‬‬ ‫صالح ‪ :‬‬ ‫***‬


‫ ‬ ‫بالتحديدات السابقة لمحوري األقوال واألفعال‪ ،‬يمكننا أن نرصد تداخالً‬ ‫وتفاعال بين نسقين ‪:‬‬ ‫النسق المثير (المستدعي)‬ ‫‪ -1‬‬ ‫(‪)17‬‬ ‫النسق االستجابة (المتصور – المتخيل)‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬ ‫وهما يخلقان معاً النسق المعيش‪ ،‬وأنماط االتصال بين الذات واآلخر‪،‬‬ ‫ ‬ ‫والذات والمجموعة االجتماعية المحيطة‪.‬‬ ‫النسق المثير هو النسق المستدعي من الموروثات المشتركة‪ ،‬والواقع‬ ‫ ‬ ‫القبلي على التجربة‪ ،‬األساطير‪ ،‬الذاكرة الجمعية‪.‬‬ ‫أما النسق – االستجابة‪ ،‬فهو ذلك النسق الخاص الذي يشتمل على جماع‬ ‫ ‬ ‫معتقدات وأحالم وأفكار وانفعاالت ومخاوف وإحباطات وإشباعات وصراعات‬ ‫الشخصية المسرحية‪.‬‬ ‫وفيما بين ذلك النسق المثير المستدعي المستحضر المتذكر‪ ،‬وذلك النسق‬ ‫ ‬ ‫المتصور المبتدع المبتكر‪ ،‬يتكون النسق الخاص الثالث‪ ،‬الذي ُيسمى بالنسق‬ ‫الجامع‪ ،‬أو النسق البوتقة الذي هو نسيج النص‪ ،‬ففيما بين المستدعى والخاص‪،‬‬ ‫المسترجع والتجربة‪ ،‬فيما بين زمن الحكاية وزمن الكتابة – بمصطلحات تودروف‬ ‫– ومن خاللهما معاً‪ ،‬يتكون هذا النسق الخاص للنص عالمه ورموزه وإشاراته‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪75 74‬‬


‫ولكن – يجب التأكيد هنا‪ ،‬كما يرى شاكر عبد الحميد‪ ،‬على أن هذين‬ ‫ ‬ ‫النسقين ليسا منفصلين داخل العالقات النصية‪ ،‬ولكنهما متداخالن‪ ،‬حيث يكون‬ ‫النسق المثير نسقا استجابيا‪ ،‬وبالعكس‪ ،‬فالفصل بين النسقين هو فصل منهجي‪،‬‬ ‫إجرائي‪ ،‬يستهدف بحث شروط إنتاج الدالالت وكيفيات تشكلها‪.‬‬ ‫وتشكل المادة التراثية والتاريخية مادة أولي لتشكالت النسق االسترجاعي‬ ‫ ‬ ‫لدى محمود دياب فيستدعي لحظة تاريخية معينة ويقيم بينها وبين الواقع اآلنى‬ ‫عالقات تماثل وتداخل‪ ،‬ويتركز مستوى التاريخ في المفارقة اللغوية والداللية ‪:‬‬ ‫اللغوية بين جمل «العماد» المؤطرة ذات الترجيعات الصوتية المسجوعة والبنية‬ ‫المنغلقة في دورة تك اررية‪ ،‬وبين لغة «باب الفتوح» الكتاب – البشارة‪ ،‬بطابعها‬ ‫االختزالي المبني على جمل قصيرة متتابعة تحمل كل منها فكرة قائمة بذاتها‪،‬‬ ‫ومفضية في الوقت ذاته إلى غيرها‪ ،‬وتتمثل المفارقة الداللية بين تأكيد النصر‬ ‫واستالبه معا‪ ،‬وتشكل تلك المفارقة بمستوييها نسق االستجابة لدى أسامة‪ ،‬فيبدأ‬ ‫رحلته المتزاج فكرته بقوة الفرد (القائد المنتصر) منتهيا إلشاعتها بين الكتلة‬ ‫الجماعية‪.‬‬ ‫ويتوزع النسق المثير‪ ،‬المستدعي‪ ،‬في النصوص بين الذاكرة الجماعية‬ ‫ ‬ ‫التراثية بوعيها الجمعي واستلهاماتها المشتركة (باب الفتوح) وبين الذاكرة الفردية‬ ‫التي تحتوي على مشاهد وخبرات وتصورات خاصة‪ ،‬ففي «الغرباء ال يشربون‬


‫القوة» تتعرض ذاكرة الرجل وأوراقه الشخصية المثبته‪ ،‬الموثقة‪ ،‬لالستالب‪ ،‬حيث‬ ‫يمزق الغرباء ما بداخل الصندوق الصفيح من وثائق ومستندات ‪ :‬صورة الطفل‬ ‫بين أخوته وأمه‪ ،‬عقود الملكية والزواج وميالد االبن‪ ،‬قصائد الصبا البعيد‪ ،‬ولكن‬ ‫الذاكرة المنقوشة على جذع الشجرة والجدران‪ ،‬والمنبثة في األركان والزوايا مشكلة‬ ‫زمنها الخاص‪ ،‬غير القابل للتالشي واإلمحاء‪ ،‬تظل باقية‪ ،‬وشاهدة على امتالك‬ ‫البيت والهوية‪،‬وإذا كان استالب الذاكرة وتفريغ محتوياتها واستبقاء جزئها المنقوص‬ ‫قد تم في «الغرباء» بفعل تصادمي أساساً‪ ،‬حين يتواجه الرجل والغرباء‪ ،‬فتتوحد‬ ‫الهوية بالذاكرة وتصبح إثباتا لها ونفيا في آن‪ ،‬فإن استعادة الصور والخياالت‬ ‫والوقائع الخاصة في الزوبعة‪ ،‬يتم بفعل تكشف وتطهير‪.‬‬

‫محمود دياب‬

‫‪77 76‬‬



‫محمود دياب‬

‫‪79 78‬‬


‫رؤى العالم‬


‫‪ -1‬يوتوبيا العالم البديل ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫تتشكل شخصية أسامة بن يعقوب في إطار تصوري يستهدف نقض‬ ‫العالم القائم وإقامة عالم بديل‪ ،‬فهي شخصية ضدية‪ ،‬صراعية‪ ،‬تتحرك بداخلها‬ ‫شهوة إلصالح الكون بحس أخالقي ونزهة استشهادية كأثر من بنية ال شعورية‬ ‫كامنة تمزج بين المخلص وكبش الغداء‪ ،‬وما بين حدى التناقض بمسعاه الهدمي‬ ‫واستشراف العالم اآلخر تتحرك تلك الشخصية بجموحات خيالية‪ ،‬مثالية‪،‬‬ ‫وهذيانات محكومة ومرسلة‪ ،‬وتوجهات اجتماعية‪ ،‬وهى تستشرف عالماً مثالياً‬ ‫قائماً على العدل والحرية‪ ،‬فالثائر األندلسي يصوغ عالمه البديل في كتابه‬ ‫اإلرشادي للسلطان «باب الفتوح» ويصك كلمات تبشرية‪.‬‬ ‫لو أنا اعتقنا الناس جميعاً‪ ،‬ومنحنا كال منهم شبرا في األرض‪.‬‬ ‫وأزلنا أسباب الخوف‪ ،‬لحجبنا الشمس – إذا شئنا – بجنود يسعون إلى الموت‪.‬‬ ‫ليذودوا عن أشياء امتلكوها‪ ،‬واكتشفوا كل معانيها‪.‬‬ ‫الحرية‪ ،‬شبر األرض‪ ،‬وماء النبع‪ ،‬قبر الجد وأمل الغد‪.‬‬ ‫وضحكة طفل يلهو في ظل البيت‪.‬‬ ‫وذكري حب‬ ‫وقبة جامع أدوا يوماً فيه صالة الفجر‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪81 80‬‬


‫في تلك الكلمات بطابعها الرسولي التبشيري المنتظمة في جمل قصيرة‬ ‫ ‬ ‫موقعة – كسجع الكهان – يتكون العالم الضد كيوتوبيا خيالية قائمة على‬ ‫المساواة والحرية‪ ،‬تستقطب لحلمها الجماعة المهمشة ‪ :‬المجموعة المعاصرة‬ ‫والعائدين إلى القدس وزياد كاتب المؤرخ الرسمي‪ ،‬بينما يتركب العالم القائم‬ ‫من مؤسسات عسكرية واقتصادية وفكرية تكون الجماعة المهيمنة‪ ،‬سيف الدين‬ ‫والتجار والعماد‪.‬‬ ‫ويكون التضاد بين الجماعة المهمشة والجماعة المهينة الصراع بين‬ ‫ ‬ ‫العالمين ‪ :‬القائم والبديل‪ ،‬ويتركز الصراع حول أسامة وكتابة‪ ،‬وحول بيت‬ ‫أبي الفضل في القدس‪ ،‬حيث تسعى كل جماعة نحو أهداف مغايرة لألخرى‪،‬‬ ‫فالجماعة المهمشة تستهدف حماية أسامة وحفظ كلمات الكتاب بالنسخ أو‬ ‫بالحفظ‪ ،‬واستعادة بيت أبي الفضل‪ ،‬بينما تستهدف الجماعة المهيمنة قتل أسامة‬ ‫ومحو كلمات الكتاب وحصار إمكانية الوصول إلى السلطان وإبقاء جماعة أبي‬ ‫الفضل في خرائب المدينة المستعادة‪ ،‬وتأكيد تواجد اليهودية في البيت وحيازتها‬ ‫له‪ ،‬ويأتي االنتصار العسكري ليفعل عكس منطقه‪ ،‬فيؤكد الجماعة المهيمنة‬ ‫وينفي األخرى‪ ،‬ويرسخ العالم القائم ال البديل‪ ،‬ويلجأ النص إلى جدلية التضاد‬ ‫عبر فعلين ‪ :‬استعادة المدينة واستالب البيت‪ ،‬قتل أسامة وحفظ كلماته‪.‬‬ ‫إن سيف الدين يؤكد استيالء اليهودية على بيت أبي الفضل بتعيينه‬ ‫ ‬ ‫جندياً لحراسة البيت ومنع اعتداء المالك الحقيقي – أبي الفضل – على «سارة»‬


‫– المالك المزيف – ويأتي تحول البيت إلى ماخور ومبغى ونفى الجماعة‬ ‫العائدة الى الخرائب إضافتيين على تأكيد العالم القائم ونفي بدائله‪.‬‬ ‫ويأتي تحالف التجار الثالثة مع سارة معبرا عن إدراكهم الضمني‬ ‫ ‬ ‫لرمزية البيت ولهويتهم كعناصر متحالفة في العالم القائم‪ ،‬فحين تنتحل اليهودية‬ ‫لقائد جند السلطان واقعة اعتداء أبي الفضل وجماعته عليها‪ ،‬فإن التجار الثالثة‬ ‫يؤكدون كالمها ويقدمون شهادات مزيفة للواقعة‪ ،‬لتتأكد مفارقة دالة‪ ،‬فبينما‬ ‫تعلن األبواق واألناشيد انتصار األمة وعودة مدنها السليبة‪ ،‬يتم تزييف الواقع‬ ‫االجتماعي واستالب البيت‪.‬‬ ‫لقد تعطف علينا السلطان وأعطانا األمان‪ ،‬فأنا يهودية يا سيدي‪،‬‬ ‫سارة ‪ :‬‬ ‫ولكنني عربية من مكة نفسها‪ ،‬وقد نبهتهم إلى ذلك ولكنهم لم يكترثوا‪ ،‬وأصروا‬ ‫على أن يسلبوني بيتي‪.‬‬ ‫يتحدون السلطان‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫سيف الدين ‬ ‫نعم يا سيدي‪ ،‬ولقد ذهب العجوز يستدعي قبيلته‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫سارة‬ ‫ليستعين بها فيما عزم عليه من انتزاع البيت‪.‬‬ ‫أنا ال عالقة لي بالعجوز‪ ،‬فقد جمعتني وإياه صدفة هنا‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫الشاب‬ ‫وكان يطالبها بأن ترد إليه بيته‪.‬‬ ‫المرأة لم تكذب‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫تاجر العبيد ‬ ‫نحن شهودها‪.‬‬ ‫تاجر النفائس ‪ :‬‬ ‫الحق أحق أن يتبع‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫تاجر العبيد ‬ ‫محمود دياب‬

‫‪83 82‬‬


‫حاولت بنفسي أن أنهي األمر‪ ،‬وأقر الحق لصاحبته‪،‬‬ ‫تاجر النفائس ‪ :‬‬ ‫فألهبتني ألسنة كالخناجر‪.‬‬ ‫وتهينون كرام الناس‪ ،‬خنوه إلى سجون القلعة وأحرقوا‬ ‫‪ :‬‬ ‫سيف الدين ‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬فال تدعوا كلمة واحدة تفلت من النار‪.‬‬ ‫وماذا أفعل يا سيدي ألحمي نفسي وبيتي وابنتي ‪ ..‬أنا‬ ‫‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫سارة‬ ‫ال أستطيع وحدي أن أنفذ أوامر السلطان‪.‬‬ ‫سأجعل على بابك جنداً يحمونك‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫سيف الدين ‬ ‫ويفضي تحالف التجار وقائد الحرس مع اليهودية المتالك البيت إلى‬ ‫ ‬ ‫تحالف آخر يشملهم جميعا ضد أسامة بن يعقوب وكتابه‪ ،‬فيكونون دائرة جسدية‬ ‫قاتلة تضيق على أسامة تدريجياً‪ ،‬وباستالب البيت وقتل األندلسي وإبقاء أهل‬ ‫القدس في الخرائب‪ ،‬يتم تأكيد العالم القائم‪ ،‬بينما يظل العالم البديل متجسدا في‬ ‫الكلمات التبشيرية ومحفوظا في ذاكرة الجماعة المهمشة‪.‬‬ ‫ويشكل محمود دياب مشهد النص النهائي بمفارقة لغوية تؤكد داللة‬ ‫ ‬ ‫الهيمنة والتهميش‪ ،‬حيث يعلو صوت عماد الدين بأبيات إنشائية منظومة‬ ‫ومسجوعة‪ ،‬تكريسا لبقاء العالم القائم بآلياته وقواه المهيمنة ونظامه الفكري‬ ‫واللغوي‪ ،‬بينما يأتي صوت الجماعة المعاصرة معلنا زيف االنتصار العسكري‬ ‫باعتباره تغييرا سطحيا وظاهريا ومؤقتا‪ ،‬فقد عادت الهزائم وتساقطت المدن‬ ‫العربية مجددا‪ ،‬لتبقي كلمات باب الفتوح‪ ،‬النبوءة الفاجعة والبشارة الكاشفة‬


‫والمجهضة‪ ،‬دالة على حلم الجماعة المهمشة بعالم بديل‪.‬‬ ‫سأفتح قوسا استطراديا هنا‪ ،‬وأقابل جزئيا بين نصوص « محمود دياب «‬ ‫وبعض نصوص» صالح عبد الصبور» لوجود تماثالت وتعارضات بين العوالم‬ ‫المتداخلة والمركبة لكال الكاتبين‪ ،‬وهو ما يؤدى بشكل مجمل الستخالصات‬ ‫واستشرافات نقدية متعددة‪0‬‬ ‫استنادا إلى ذلك‪ ،‬يمكن التوصل إلى أن نص محمود دياب قد صاغ يوتوبيا‬ ‫العالم البديل عبر ثنائية ضدية ‪ :‬الجماعة المهمشة‪ ،‬والجماعة المهيمنة وركزها‬ ‫في عالمات بصرية وسمعية (البيت‪ ،‬كلمات باب الفتوح)‪،‬وكذلك فإن نص‬ ‫«مأساة الحالج» قد صاغها عبر الثنائية نفسها‪:‬‬ ‫‪ :‬‬

‫الجماعة المهمش ة‬ ‫المتصوفة والسجينين‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫الجماعة المهيمنة ‬ ‫والسلطان‪.‬‬

‫وتشمل المتسكعين الثالثة‪ ،‬والفقراء‪ ،‬وجماعات‬ ‫القضاة والجنود ورموز الدولة وزير القصر‬

‫غير أن هناك تبديال جوهريا هنا‪ ،‬فالجماعة المهمشة في باب الفتوح‬ ‫ ‬ ‫تحفظ كلمات ثائرها وتتوحد به وإن لم تستطع الحفاظ على حياته‪ ،‬بينما هي في‬ ‫الحالج تشارك‪ ،‬ضمنيا وتواطؤا في قتل فاديها المخلص وهدر كلماته‪ ،‬وتظل‬ ‫منفصلة عنه ككتلة خارجية‪ ،‬مشاهدة ال مشاركة‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪85 84‬‬


‫إن الجماعة المهمشة ‪ :‬المتسكعين الثالثة‪ ،‬الفقراء‪ ،‬المتصوفة‪ ،‬جماعة‬ ‫ ‬ ‫مشاركة في قتل الحالج وصانعة له‪ ،‬وعدا األولي التي تأخذ موقف المتفرج‬ ‫والمعلق من بعيد‪ ،‬فإن الثانية تشارك مدفوعة بما يملي عليها مدركة لما يجري‬ ‫لها من خداع وتزييف‪ ،‬أما الثالثة فقد شاركت بالتواطؤ وساهمت في إنفاذ‬ ‫الجريمة بالصمت‪.‬‬ ‫وتتخلل ثنائية ‪ :‬الجماعة المهمشة‪/‬الجماعة المهيمنة‪ ،‬وتؤطرها ثنائيات‬ ‫ ‬ ‫أخرى متعددة (الكلمة‪/‬الفعل‪ ،‬القوة‪/‬الفكرة) وتفضي كلها إلى ثنائية مركزية‬ ‫متمثلة في ‪ :‬العالم القائم‪/‬العالم البديل‪.‬‬ ‫ويستشرف الحالج العالم البديل عبر رؤاه الصوفية بطابعها الكلي‬ ‫ ‬ ‫المجرد‪ ،‬رافضاً العالم القائم‪.‬‬ ‫الحالج ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫يا شبلي‪.‬‬ ‫الشر استولي في ملكوت هللا‪.‬‬ ‫حدثني ‪ ..‬كيف أغض العين عن الدنيا إال أن يظلم قلبي‪.‬‬

‫ويبادره الشبلي بسؤال خطر‪ ،‬مفارقاً – للحظات – طبيعته اآلمنة‬ ‫ ‬ ‫المطمئنة‪ ،‬مفسرا الشر باعتباره جزءا من بناء العالم ومدار عالقاته وفق إرادة‬


‫إلهية مريدة مختارة‪ ،‬غير أن أصداء السؤال الخطر – رغم تفسير الشبلي –‬ ‫تظل ماثلة ومعلقة‪ ،‬دافعة الحالج إلى تفسير مغاير وفعل مضاد‪.‬‬ ‫الشبلي ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫الحالج ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫محمود دياب‬

‫هل تسألني من ذا صنع الفقر‪ ،‬االستعباد وإليك جواب سؤالك‪.‬‬ ‫الظلم‬ ‫لكني ألقي في وجهك بسؤال مثل سؤالك‪.‬‬ ‫قل ‪ :‬من صنع الموت؟‬ ‫قل ‪ :‬من صنع العلة والداء؟‬ ‫قل ‪ :‬من وسم المجذومين‪.‬‬ ‫والمصروعين ؟‬ ‫قل ‪ :‬من سمل العميان؟‬ ‫من مد أصابعه في آذان الصم؟‬ ‫من شد لسان البكم؟‬ ‫من ألقانا في هذي الدنيا مأسورين؟‬ ‫ال ‪ ..‬ال أجرؤ‬ ‫أتريد أن تقول‬ ‫ال ‪ ..‬ال‬ ‫ال تمأل نفسي شكاً يا شبلي‬ ‫دعني أتأمل فيما قلت اآلن‬ ‫ها أنت تزلزني في داري‬ ‫والسوق يزلزني أن أترك داري‬ ‫‪87 86‬‬


‫ويستجيب الحالج لزلزلة السوق فيترك داره نازالً – بالكلمات إلى‬ ‫ ‬ ‫الساحة‪ ،‬خالعا خرقة الصوفية‪ ،‬موحدا بينها وبين عناصر عالمه القائم الذي‬ ‫يسعى إلى تجاوزه واستشراف عالم آخر‪ ،‬فالخرقة هنا ليست عالمة في جماعة‬ ‫نوعية (المتصوفة) وال شارة انضواء بها‪ ،‬بل هي – كعالمة متحولة – تصبح‬ ‫قيدا في األطراف‪ ،‬وشارة ذل ومهانة‪ ،‬ورمزا يفضح فقر الروح‪ ،‬ولذلك يصبح‬ ‫خلع الخرقة فعال محوريا يؤشر ال على تحوالت الحالج فقط‪ ،‬وإنما على انتهاء‬ ‫العالم المغلق وابتداء عالم آخر‪.‬‬ ‫وتظل الثنائية ذاتها‪ :‬الجماعة المهمشة‪/‬الجماعة المهينة‪ ،‬فاعلة في نص‬ ‫ ‬ ‫«ليلى والمجنون»‪ ،‬ولكن مع فوارق رئيسية في بنية التشكيل والرؤية حيث‬ ‫تحتل الجماعة المهمشة مجمل المساحة النصية مع تغييب تدريجي دائم لفاعليتها‬ ‫النسبية‪ ،‬بينما تبقي الجماعة األخرى غائبة ومهينة‪ ،‬ومن جدل الجماعتين ‪:‬‬ ‫الحاضرة المهمشة‪ ،‬الغائبة الفاعلة‪ ،‬تتشكل الثنائية الضدية ‪ :‬العالم القائم والعالم‬ ‫البديل‪.‬‬ ‫ويؤدي حريق القاهرة فى « ليلى والمجنون»– كحدث خارجي –‬ ‫ ‬ ‫الوظيفة نفسها التي يؤديها االنتصار العسكري في «باب الفتوح» فيفضي‬ ‫إلى تأكيد العالم القائم ونفي بدائله‪ ،‬فحريق القاهرة يشكل عالمة فارقة في‬ ‫مصائر الشخصيات وتكوين عوالمهم‪ ،‬فهو ينهي التماسك النسبي للجماعة‬ ‫المهمشة وتطلعاتها الحلمية‪ ،‬ويخلخل منطق رؤيتها وتجانسها الظاهري وحتي‬


‫تواجدها كجماعة‪ ،‬يتفكك المشروع المشترك والحلم الجماعي وتبدأ – بوقع‬ ‫الحريق واألزمة الداخلية – المشاريع الفردية واالنسحابات المتوالية إلى األديرة‬ ‫وحضانات األطفال والمعتقالت‪.‬‬ ‫ويأتي توصيف الجماعة من خالل شخصية األستاذ وحديثه العاكس‬ ‫ ‬ ‫لحلم الجماعة وأزمتها معاً‪.‬‬ ‫من بضعة أشهر‬ ‫وكتيبتنا تتقدم في أفق الليل المربد حاديها نجمان مضيئان بعيدان الحرية والعدل‬ ‫ينصب شعاعهما في أعيننا‪ ،‬فيثير جنوناً كجنون العشاق‪.‬‬ ‫‪........................‬‬ ‫اخترتكم من بين شباب الكتاب لتصلوا جبني للزمن اآلتي كي ينكشف‬ ‫وأنا حين‬ ‫ُ‬ ‫ويتقدم كنت حزيناً‪ ،‬أعلم أني أسلبكم أياماً ماثلة كي أعطيها للحلم‬ ‫حلم قد ال نشهده‪ ،‬خلجان قد ال نرسو فيها رغم محبتنا للمدن الدافئة النائمة‬ ‫ببطن الخلجان‪.‬‬ ‫ويتمثل «سعيد» مثل « أسامة»وعي الجماعة المأزومة وصوتها‪،‬‬ ‫ ‬ ‫انسحاقاتها وارتداداتها الذاتية‪ ،‬واستشرافها لعالم مغاير‪ ،‬مجمال حقيقته الواقعية‬ ‫وطابعه الرمزي في عنوان القصيدة – النبوءة ‪ :‬يوميات نبي مهزوم‪ ،‬يحمل‬ ‫قلما‪ ،‬ينتظر نبياً يحمل سيفاً‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪89 88‬‬


‫وهكذا يتشكل بناء العالم البديل في نصوص الكاتبين « دياب‪ -‬صالح‬ ‫ ‬ ‫المخِّلص – الضحية‪ ،‬التي تخللت األبنية النصية من‬ ‫عبد الصبور» عبر ثنائية ُ‬ ‫حيث الرؤى والتصورات وتركيب المواقف والعالمات‪ ،‬مكونة نموذج عالقات‬ ‫عناصره ‪:‬‬ ‫نظام سياسي واجتماعي قمعي‪ ،‬وفاسد‪.‬‬ ‫‪ -1‬‬ ‫فرد أو جماعة متمردة‪ ،‬عاصية‪ ،‬متصادمة‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬ ‫وسيلة التمرد ‪ :‬الكلمات‪.‬‬ ‫‪ -3‬‬ ‫هزيمة ( قتل – اعتقال )‪.‬‬ ‫‪ -4‬‬ ‫مع ضرورة إيراد عدد من النقاط األساسية ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫رغم تمرد الشخصيات أو تعارضها الجزئي مع النظام القائم‪ ،‬إال أنها ال‬ ‫‪ -1‬‬ ‫تسعى للمواقف الصدامية‪ ،‬بل هي دائمة التهرب منها‪ ،‬فأسامة يسعى دائماً إلى‬ ‫اللقاء المنفرد مع السلطان متقافزا على الحواجز والحراس‪ ،‬وفي ليلى والمجنون‬ ‫ال يوجد أصال موقف صدامي‪ ،‬وتواجد تلك المواقف المتصادمة في «الحالج»‬ ‫و «باب الفتوح» يتم من خالل السلطة المتعقبة ألسامة والحالج‪.‬‬ ‫العالقات مجردة ومنتهية منذ بداية النصوص‪ ،‬فالعالم ثنائي وثابت‪،‬‬ ‫‪ -2‬‬ ‫وفرضيات الصراع والشخصيات محددة ابتداء‪.‬‬ ‫‪ -3‬‬

‫الشخصيات متكونة تكونا نهائيا قبل النص‪ ،‬وهي ليست عرضة للتحول‪،‬‬


‫وإن كانت ذات قابلية واضحة لالنكسار وأحيانا هي ساعية إليه (الحالج‪-‬‬ ‫أسامة‪ ،‬ونزعتهما االستشهادية )‪.‬‬ ‫تدخل الشخصيات قسرا ال اختيارا في عالقة تصادمية مباشرة مع‬ ‫‪ -4‬‬ ‫السلطة السياسية‪ ،‬فهي في الحالج وباب الفتوح تتشكل ابتداء من إطار تعارضي‬ ‫مع األنظمة القائمة وتظل كذلك إلى أن ينتهي التضاد أو يتأكد بالتصفية الجسدية‪،‬‬ ‫أما سعيد وباقي مجموعة العمل الصحفي في ليلى والمجنون‪ ،‬فإن العالقة تأخذ‬ ‫أشكاال متعددة ‪ :‬صدامية (حسان) متواطئة (حسام) متمردة (زياد – حنان –‬ ‫سعيد) وتفضي إلى التصفية المعنوية‪.‬‬ ‫الكتلة االجتماعية مغيبة في الصراعات األساسية في النصوص‪ ،‬فرغم‬ ‫‪ -5‬‬ ‫أن حركة األبطال اإلصالحيين متوجهة إلى التكتالت والجموع‪ ،‬إال أن الجماعة‬ ‫(الشعب) تظل كتلة هالمية ساكنة‪ ،‬مجردة وكلية‪ ،‬خارج دائرة العالقات‪ ،‬تلعب‬ ‫دور الخلفية العامة أو اإلطار‪.‬‬ ‫رغم التعارض الذي يبدو جذريا بين الشخصيات الرئيسية والعالم القائم‬ ‫‪ -6‬‬ ‫إال أنهم يصوغون عوالمهم البديلة من خالل أطر إصالحية ال تستهدف تغيير‬ ‫الجذور والهياكل قد ما تستهدف إحداث تغييرات جزئية مع نزعات إصالحية‬ ‫ذات طابع أخالقي وطوباوي‪ ،‬فهم يقدمون أنفسهم قرابين لصياغة يوتوبيا‬ ‫بديلة‪ ،‬باستثناء نسبي خاص بأسامة بن يعقوب الذي يبدو ممتلكا لمشروع فكري‬ ‫محمود دياب‬

‫‪91 90‬‬


‫واجتماعي محدد‪ ،‬غير أن مجاله الحركي والداللي ذو طابع مثالي أساسا‪ ،‬فهو‬ ‫يتوجه من اشبيلية – المكان المهزوم – إلى القدس – المكان المنتصر‪ ،‬بينما‬ ‫منطق نظريته الثورية يحتم الحركة المضادة العكسية‪ ،‬فالنظرية الثورية يجب‬ ‫احتياجا لها وهو هنا اشبيلية ال القدس‪ ،‬كما‬ ‫أن تتوجه أوال إلى المكان األكثر‬ ‫ً‬ ‫أنه يحمل كتابا يحوي أفكارا مجردة للقائد الفرد وليس للجماعة‪.‬‬ ‫في النصوص ما يمكن توصيفه بالرحلة الفاشلة‪ ،‬سواء أخذت الرحلة‬ ‫‪ -7‬‬ ‫معناها الحرفي أي انتقال المكان كما في باب الفتوح‪ ،‬أو أخذت معناها الرمزي‬ ‫المتمثل في االنتقال المعنوي من عالم إلى آخر‪ ،‬ففي ليلى والمجنون تتفرق‬ ‫الجماعة بعد رحلة محبطة‪ ،‬ويضفي الحدث الواقعي (احتراق القاهرة) على‬ ‫الرحلة أبعاداً رمزية‪ ،‬فتتعدد طرق الخالص – الخالص الديني (الرهبنة داخل‬ ‫الدير) والخالص بالحياة العادية‪ ،‬واالستغراق في تفصيالتها وأشيائها الصغيرة‬ ‫دون رغبة في التغيير أو حلم التجاوز‪ ،‬أما األستاذ فيسترسل في تعميد شعري‬ ‫لمأساوية النهاية بلغة تحمل إشارات إلى اإللياذة ‪ :‬الريح – القربان البشري –‬ ‫البحر – رحلة األثينيين إلى طروادة‪ ،‬وبعد محاولة عابرة إلثناء الجماعة‪ ،‬يعود‬ ‫فيبارك اختياراتهم بينما تتردد صيحته الختامية «أغلق‪ ،‬أغلق» لتؤكد فساد العالم‬ ‫وعدم القدرة على الفعل‪ ،‬ويأتي ذلك تمهيدا لموقف سعيد التالي مباشرة ‪ :‬انتظار‬ ‫القائم‪ ،‬فيختفي صوت سعيد ليحل محله صوت الشاعر أو هما يمتزجان معا في‬ ‫صوت واحد معلنا الموقف األخير – االنتظار – في ترتيله النهاية‪.‬‬ ‫***‬


‫‪ -2‬إبدال األضحية ‪ :‬خداع العنف‬

‫ ‬

‫إن كل مجتمع – كما يري االجتماعيون – هو مجتمع ضاغط‪ ،‬فكما‬ ‫ ‬ ‫يري «دور كايم» فإن أولي خصائص الحياة االجتماعية هي اإلكراه الذي يعتبر‬ ‫مقياسا ُيستدل به على ما هو اجتماعي أو غير اجتماعي‪ ،‬وكذلك «ماركس»‬ ‫الذي يرى أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ صراعي‪ ،‬وأن العنف ينجم عن‬ ‫تحول بنية ال عنف فيها هي «الملكية التجارية» إلى بنية عنيفة هي (الملكية‬ ‫الرأسمالية)‪ ،‬وينتهي هذا التطور إلى وضع عنيف‪ ،‬هو فقدان العامل ملكية عمله‬ ‫واستغالل فائض قيمته‪ ،‬عند هذا نجد أنفسنا في وضع عنيف‪ ،‬ولذلك فإن العنف‬ ‫لدى ماركس يلعب دورا هاما في التاريخ‪ ،‬فكل مجتمع قديم يحمل في طياته‬ ‫مجتمعا نقيضا يحطم أشكاال اجتماعية جامدة‪.‬‬ ‫ومن زاوية أخرى‪ ،‬يذهب «رينيه جيرار» إلى أن العنف يوجد في‬ ‫ ‬ ‫أصل الطقوس واألساطير واألديان معتمداً على إعادة قراءة المآسي اإلغريقية‪،‬‬ ‫وفي هذا النطاق يبرز الدور األساسي للعنف المقدس والدور الهام الذي ابتدعته‬ ‫البشرية لكبش الفداء‪.‬‬ ‫لقد عارض جيرار النظرية الفرويدية حول «عقدة أوديب»‪ ،‬وحاول‬ ‫ ‬ ‫وضعها في نطاق أكثر اتساعاً من التهدئة للمجتمع وذلك بتخصيص كبش‬ ‫محمود دياب‬

‫‪93 92‬‬


‫فداء تتمكن الجماعة من التحالف ضده بدالً من أن تتمزق‪ ،‬ولكي يدعم آراءه‬ ‫تبني خططاً واضحة في كتاباته بحيث جمع أمثلة عن األضحيات المتعددة‬ ‫والمستخلصة من ثقافات متباعدة‪ ،‬واعتمد في ذلك على مالحظات علماء‬ ‫األجناس حول الديانات البدائية والتراجيديات اإلغريقية واألساطير‪ ،‬في محاولة‬ ‫لوضع نظرية تتيح الجواب على المسألة الشائكة وهي ‪ :‬لماذا طبقت األديان‬ ‫المتباعدة والمختلفة ابتداء من تعدد اآللهة لدى اإلغريق إلى الديانات التوحيدية‪،‬‬ ‫طبقت القربان الدموي‪ ،‬إن التراجيديات اإلغريقية فيما يري «رينيه جيرار»‬ ‫تمثل تشويهاً مخادعاً ورقيقاً ألحداث تاريخية فعالً‪ ،‬وليست تجسيداً لغرائز‬ ‫جنسية ال واعية وفردية‪ ،‬أو تجسيماً لتصور خيالي جماعي‪ ،‬وإنما هي طريقة‬ ‫لتحاشي حادث شرير ُيرغب في عدم حصوله‪»18».‬‬ ‫إن ذلك التحاشي‪ ،‬أو بتعبير آخر ‪ :‬خداع العنف‪ ،‬يشير إلى لعبة‬ ‫ ‬ ‫االستبدالت التي ينتجها المجتمع لحماية أفراده‪ ،‬لقد رأي «جوزيف دي ميستير»‬ ‫في األضحية الطقوسية دائماً مخلوقاً بريئاً يسدد عن أحد المذنبين‪ ،‬لكن الفرضية‬ ‫التي يقترحها «جيرار» تزيل هذا التوصيف األخالقي‪ ،‬فالعالقة بين األضحية‬ ‫الممكنة واألضحية الفعلية ال ينبغي أن تعرف بعبارات الجرمية والبراءة‪ ،‬فال‬ ‫يوجد شيء للتكفير‪ ،‬فالمجتمع يسعى لالنعطاف نحو ضحية حيادية نسبياً‪،‬‬ ‫وبذلك – فإن كل الصفات التي تجعل العنف مرعباً‪ ،‬وحشياً‪ ،‬ليست بدون مقابل‬ ‫‪ :‬إنها ال تشكل سوى شيء واحد مع نزوع الجماعة التلقائي لالنقضاض على‬ ‫ِ‬ ‫األضحيات البديلة‪ ،‬إنها تتيح مخادعة العدو‪ ،‬وذلك بأن تلقى إليه في الوقت‬


‫المناسب المغنم الزهيد الذي سوف يرضيه‪ ،‬فحتي حكايات الجنيات التي تظهر‬ ‫لنا الذئب‪ ،‬والغول أو التنين وهي تبتلع بشراهة حجراً كبيراً بديالً عن الولد الذي‬ ‫(‪)19‬‬ ‫اشتهته يمكن أن تكون لها خاصية تضحوية‪.‬‬ ‫في العهد القديم واألساطير اإلغريقية‪ ،‬األخوة هم تقريباً على الدوام‬ ‫ ‬ ‫متعادون‪ ،‬والعنف الذي يبدو أنهم مدعوون ال محالة لممارسته ضد بعضهم‬ ‫البعض ال يمكن أن يتبدد أبداً إال على ضحايا تكون طرفاً ثالثاً‪ ،‬وحسب التقليد‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬فإن الكبش الذي سبق لهابيل أن ضحي به هو الذي أرسله هللا إلى‬ ‫إبراهيم ليضحي به بدالً عن ابنه إسماعيل‪ ،‬فبعد أن كان قد أنقذ أول حياة‬ ‫بشرية‪ ،‬ينقذ الحيوان نفسه حياة إنسان ثان‪ ،‬فنحن هنا على صلة‪ ،‬ليس ببعض‬ ‫(‪)20‬‬ ‫الرؤى الصوفية‪ ،‬وإنما مع حدس يقوم على وظيفة التضحية‪.‬‬ ‫إن العنف بتحوله دائماً نحو األضحية البديلة (عبر لعبة االستبداالت)‬ ‫ ‬ ‫يفقد رؤية الموضوع الذي قصده بدئياً‪ ،‬وطالما بقيت األضحية حية ال يمكنها‬ ‫أن تجعل التحويل الذي بنيت عليه ظاهراً‪ ،‬ومن ثم تفقد األضحية فاعليتها‪.‬‬ ‫استناداً إلى النقاط السابقة – فإن لإلبدال التضحوي خاصية وهدفاً‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فهو يستبدل األضحية الفعلية باألضحية الممكنة مستهدفاً خداع العنف وحماية‬ ‫الجماعة‪ ،‬وهو ما يمكن تطبيقه بتحويرات معينة على النصوص المدروسة‪،‬‬ ‫فالشخصيات الثالث (الحالج – سعيد – أسامة) بتحولهم إلى أضحيات فعلية‪،‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪95 94‬‬


‫بإرادة جماعية وفردية معاً‪ ،‬فإنهم يسعون عبر عملية استبداالت إلى حماية‬ ‫كلماتهم ذاتها‪ ،‬فالشخصيات هنا ال تمثل باعتبارها كياناً مادياً واقعياً هدفاً للعنف‬ ‫المضاد الذي يستهدف الكلمات ال أشخاص قائليها‪ ،‬ويتبدي وعي الشخصيات‬ ‫بتلك الحقيقة واضحاً‪ ،‬ولذلك فإنهم يسعون إلى فداء الكلمات وتقديم أنفسهم‬ ‫كأضحيات بديلة بحيث يصبح لنجاة الكلمات معنى رمزياً يدل على نجاة‬ ‫صاحبها ذاته‪ ،‬إن بقاء الكلمات حية‪ ،‬بهذا المعني‪ ،‬ينفي موت أصحابها المادي‪،‬‬ ‫وبذلك تصبح األضحية الممكنة سبباً للحياة وعالمة عليها في آن‪ ،‬حياة الجسم‬ ‫والكلمات‪.‬‬ ‫ففي باب الفتوح‪ ،‬وقد ضاقت الدائرة الوحشية المتشكلة من أجسام‬ ‫ ‬ ‫التجار الثالثة على أسامة مفضية إلى موته‪ ،‬فإن أحد الشبان الخمسة يتساءل‬ ‫موحداً بين الشخص وكلماته‪ ،‬هل مات أسامة؟ هل ماتت كلماته؟ ‪ -‬فيجيب شاب‬ ‫ثان نافياً الموت كمعني ال كواقعة‪ ،‬مؤكداً على أن بقاء الكلمات يعني بقاء قائلها‪،‬‬ ‫مردداً « ال‪ ،‬فأنا أحفظها وبوسعي أن أسمعها لك إن شئت»‪.‬‬ ‫وفي مشاهد سابقة‪ ،‬فإن الجماعة تستنسخ الكتاب كأنها تجعل من حياة‬ ‫ ‬ ‫صاحبه حيوات متعددة‪ ،‬وحين تسقط النسخ المتداولة في أيدي الحراس الذين‬ ‫يحرقونها واحدة بعد األخرى‪ ،‬وال يتبقي سوى نسخة واحدة من أصل الكتاب‪،‬‬ ‫فإن أسامة يسعى ضمنياً للوقوع في أيدي مطارديه كي يفدي النسخة الباقية‪.‬‬ ‫أهذه نسخة جديدة من الكتاب؟‬ ‫أسامة ‪ :‬‬


‫ال‪ ،‬بل هو أصل كتابك‬ ‫« في آسى « ‪:‬ألم تنسخه؟‬ ‫لم يمكنني الشيخ من العمل في كتابك الليلة‪.‬‬ ‫« في ألم « ‪ :‬إنها النسخة الوحيدة الباقية إذن‪.‬‬ ‫كال ‪ ..‬فإن في صدري مئات النسخ‪ ،‬فلقد حفظت الكتاب كلمة‬

‫زياد ‪:‬‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫زياد ‪ :‬‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫زياد ‪ :‬‬ ‫‪ ..‬كلمة‪.‬‬ ‫قد تحرق هذه النسخة اليوم أيضاً‪.‬‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫هم لن يضعوا أيديهم عليك‪ ،‬أنا على يقين من براعتك في‬ ‫زياد ‪ :‬‬ ‫اإلفالت‪.‬‬ ‫فإن وقعت في أيديهم ‪ ..‬؟‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫هذا فرض ال أحب أن أفكر فيه‪.‬‬ ‫زياد ‪ :‬‬ ‫فلتفكر في هذا الفرض‪.‬‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫لن ينتهي كتابك أبداً‪ ،‬فلن أدع فرصة تسنح لي إال وأسمعت‬ ‫زياد ‪ :‬‬ ‫كلماته للناس‪ ،‬سأتلوها في األسواق وفي الساحات‪ ،‬على أبواب المساجد‬ ‫والكنائس‪ ،‬وفي مداخل الطرقات سنمأل الدنيا بكلمات باب الفتوح‪.‬‬ ‫إن الجماعة المعاصرة وبطلها المتخيل‪ ،‬وقد أيقنوا االستحالة العملية‬ ‫ ‬ ‫للقاء أسامة وصالح الدين تحقيقاً للمسعى المثالي المتمثل في امتزاج السيف‬ ‫بالفكرة‪ ،‬فإنهم يسعون إلبقاء كلمات باب الفتوح حية عبر نسخ الكتاب وحفظ‬ ‫عباراته وأفكاره والتبشير بها بين الجموع‪ ،‬بحيث يصبح ذلك الفعل هو فعلها‬ ‫محمود دياب‬

‫‪97 96‬‬


‫األخير كجماعة مهمشة بإزاء الجماعات المهينة‪.‬‬

‫‪ -3‬جدلية الغياب والحضور‬

‫***‬

‫باإلضافة إلى الثنائيات الضدية التي تشكل العالمات الرئيسية في نص‬ ‫ ‬ ‫باب الفتوح‪ ،‬تتمحور نصوص ‪ :‬الزوبعة‪ ،‬الغرباء ال يشربون القهوة‪ ،‬حول‬ ‫ثنائيات أخرى تجسد رؤاها بشكل أساسي‪ ،‬وأول هذه الثنائيات الضدية التي‬ ‫تجسد العالمين اللذين تراهما النصوص طرفي نقيض ‪ :‬العالم القديم ‪ /‬العالم‬ ‫الضد‪.‬‬ ‫وضدية الثنائية هنا ليست ضدية مفهومية فقط‪ ،‬بل إنها ضدية بنائية‬ ‫ ‬ ‫كذلك‪ ،‬ولهذه الضدية أبعاد ترتفع بها عن كونها عرضية أو صدفية‪ ،‬ذلك أن‬ ‫ما يشير إلى العالم القائم في النصوص له هذه الحقيقة الشمولية مفهومياً‪،‬‬ ‫وبنائياً‪ ،‬ألن العالم القائم كتلة صلبة مجردة من الموروثات الجماعية والعالقات‬ ‫المهيمنة‪.‬‬ ‫لكن التضاد بين العالمين – رغم ذلك – ليس مطلقاً في رؤى النصوص‪،‬‬ ‫ ‬ ‫خاصة في الزوبعة‪ ،‬إلى الدرجة التي يستحيل معها إحداث توسط بينهما‪ ،‬فثمة‬ ‫خصائص مشتركة بين العالمين‪ ،‬بل إن العالم البديل – بطابعه الطوباوي – ليس‬ ‫إال العالم القائم مضافاً إليه بعض النزعات األخالقية والتصورات المثالية‪.‬‬


‫ويتجسد جدل الغياب والحضور في النصوص عبر أفعال أو آليات‬ ‫ ‬ ‫معينة‪ ،‬حيث يتجسد في نصوص ‪ :‬الزوبعة – الغرباء – ليلى والمجنون‪،‬‬ ‫المخلص الغائب‪ ،‬وهو يمكن أن يكون إنساناً معيناً كحسين أبي شامة في‬ ‫نموذج ُ‬ ‫«الزوبعة»‪ ،‬واالبن في «الغرباء»‪ ،‬فهما شخصيتان تمتلكان مواصفات معينة‬ ‫سواء كانت حقيقية او متوهمة‪ ،‬ويمكن أن يكون النموذج حالة خيالية مجردة‬ ‫كما في ليلى والمجنون‪ ،‬حيث ينتظر سعيد ُمخلصاً غائباً ‪ :‬نبياً يحمل سيفاً‪.‬‬ ‫المخلص يشكل قيمة‬ ‫ ‬ ‫ورغم الغياب المادي في تلك النصوص‪ ،‬إال أن ُ‬ ‫يفجر العالقات في القرية‬ ‫مهيمنة‪ ،‬فخبر عودة حسين أبي شامة في «الزوبعة» ُ‬ ‫المخلص في نصي «ليلى والمجنون» و‬ ‫ويحدد تحوالتها الالحقة‪ ،‬وإنتظار ُ‬ ‫«الغرباء» ليس حالة درامية بقدر ما هو حالة رؤيوية مشكلة لموقف الشخصيات‬ ‫النهائي ودالة عليه معاً‪.‬‬ ‫المخلص الغائب – أن نصوغ عناصر مخطط‬ ‫ ‬ ‫ويمكننا – ونحن نرصد ُ‬ ‫تفسيري في النقاط التالية ‪:‬‬ ‫عالقات ساكنة لجماعة معينة في إطار اجتماعي (قرية – جريدة –‬ ‫‪ -1‬‬ ‫بيت)‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬

‫أزمة مفاجئة تتشكل في حدوث رمزي أو واقعي ‪:‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪99 98‬‬


‫خبر عودة حسين أبي شامة واكتشاف الجماعة لبراءته ومعرفته‬ ‫أ‪ -‬‬ ‫ ‬ ‫القاتل الفعلي‪ ،‬ثم استمرار الجريمة بتواطؤ الجماعة ضد الغائب‪« ،‬الزوبعة»‪.‬‬ ‫ب‪ -‬دخول الغرباء‪ ،‬واحداً إثر األخر‪ ،‬وتعاقب أفعالهم المادية –‬ ‫ ‬ ‫قياس واجهة البيت والجدران والمسافات‪ ،‬والرمزية – تمزيق هوية الرجل‬ ‫وأوراقه الشخصية‪« ،‬الغرباء ال يشربون القهوة»‪.‬‬ ‫تسيطر على حركة الشخصيات الرئيسية ما يمكن أن نسميه وعي‬ ‫‪ -3‬‬ ‫األزمة ويتمثل ذلك في ‪:‬‬ ‫ب‪ -‬استغراق الرجل في الغرباء وسعيد في ليلى والمجنون في‬ ‫ ‬ ‫لمخلص‬ ‫خطاب ذات وهذيانات مرسلة متراوحة بين النبوة والحلم‪ ،‬في انتظار ُ‬ ‫قادم يحدده الخطاب في عالمة مادية ‪ :‬السيف في ليلى والمجنون والبندقية في‬ ‫الغرباء‪.‬‬ ‫جـ‪ -‬استعادة صالح الوقتية ألحالمه المجهضة بينما تبدو الجماعة في‬ ‫ ‬ ‫سلوك تطهيري يتمثل في إعادة الممتلكات المسلوبة إلى صالح وأخته صابحة‪،‬‬ ‫بحيث تسيطر على عالقات القرية كلها حركة عكسية ‪ :‬الجماعة تسعي للتطهر‬ ‫وتبرئة الذات أو حمايتها من االنتقام المتوقع للغائب‪ ،‬بينما صالح يغادر حالته‬ ‫الساكنة إلى حالة أكثر تفاعالً مع الواقع والذات‪ ،‬متناقضاً – بشكل نسبي – مع‬ ‫حالته األولي القانعة المنسحبة‪.‬‬ ‫‪ -4‬‬

‫يتداخل وعي األزمة في النصوص مع المخيلة الجماعية (الكتلة‬


‫االجتماعية خارج النص) في خصيصة أساسية هي ‪ :‬صياغة العالم البديل‬ ‫صياغة خارجية مجردة‪ ،‬حلمية‪ ،‬ومفارقة‪ ،‬وليست صياغة مستمدة من بنية‬ ‫العالقات القائمة داخل العالم الموجود‪ ،‬بمعني أنها صياغة هروبية وليست‬ ‫صدامية‪ ،‬خيالية وليست متجادلة مع األنساق االجتماعية والمعرفية الحادثة‪،‬‬ ‫فالمالحظ أن صياغات العالم البديل في النصوص قائمة على تصورات مثالية‬ ‫ذات طوابع أخالقية وليست صياغة جدلية قائمة على تركيب مركب ثالث من‬ ‫نقيضين‪.‬‬ ‫وكتفصيل جزئي للنقاط السابقة‪ ،‬فإن جدلية الغياب والحضور في‬ ‫ ‬ ‫النصوص ليست جدلية خاصة برؤيتها فقط وإنما هي جدلية بنائية تشكل أنساق‬ ‫العالقات النصية وأنظمتها اإلشارية‪ .‬ويتضح ذلك في الزوبعة‪ ،‬فهناك زمن‬ ‫غائب (القرية منذ عشرين عاماً) ومكان غائب (السجن) ورجل غائب (حسين‬ ‫أبو شامة) في مقابل تعارضي مع زمن آني ومكان حاضر وشخصيات قائمة‪،‬‬ ‫وينتج الغياب قيماً مهيمنة على الحضور في صياغة تركيبية بينهما على‬ ‫مستوى األزمنة واألمكنة والمواقف والشخصيات‪ ،‬فإذا تجاوزنا عالقة صالح‬ ‫مع أهل القرية لنرصد العالقة األعمق وهي عالقة أبيه مع الجماعة‪ ،‬فيمكننا أن‬ ‫نرصد نقاطاً محددة ‪:‬‬ ‫صورة الجماعة غير تقليدية إلى الصور المماثلة في النصوص‬ ‫‪ -1‬‬ ‫األخرى‪،‬حيث تظهر الجماعة عادة في صورة طيبة‪ ،‬منساقة‪ ،‬مغيبة‪ ،‬مهمشة ‪..‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬لكن الجماعة في الزوبعة جماعة ذئبية متوحشة «قلوبهم مليانة غل» ما‬ ‫محمود دياب‬

‫‪101 100‬‬


‫وراهمش غير الشر)‬ ‫تؤسس العالقة وتحكم تطوراتها الالحقة بنية متضادة ‪ :‬الغياب‬ ‫‪ -2‬‬ ‫والهيمنة‪ ،‬فحسين أبو شامة غائب داخل السجن منذ عشرين عاماً‪ ،‬تمت خاللها‬ ‫صياغة عالقات جديدة مستقرة مبنية على غيابه‪ ،‬غير أن خبر عودته يفكك‬ ‫تلك العالقات اآلمنة ويثير «زوبعة» نفسية واجتماعية‪ ،‬ويفضي إلى عدد من‬ ‫التحوالت األساسية‪.‬‬ ‫هناك جريمة غائبة ومستمرة‪ ،‬فتواطؤ القرية الذي أفضى بحسين أبي‬ ‫‪ -3‬‬ ‫شامة إلى السجن‪ ،‬يجري ابتعاثه لنكتشف ليس فقط التواطؤ القديم والوشاية‬ ‫الكاذبة وشهادة الزور‪ ،‬وإنما استمرار الجريمة أيضاً من خالل عزل االبن‬ ‫ومحاصرته النفسية واالجتماعية‪ ،‬وتحالف الجماعة ضد العودة والتربص‬ ‫بالغائب‪.‬‬ ‫استعادة حسين أبو شامة في مخيلة القرية يتم على مستويين ‪:‬‬ ‫‪ -4‬‬ ‫يتحول إلى ُمخلص عند شخصيات عاجزة عن الفعل ال تملك‬ ‫أ‪ -‬‬ ‫ ‬ ‫غير انتظاره (صالح – صابحة) في عملية أقرب إلى اإلشباع النفسي والتعبير‬ ‫عن الفقدان‪ ،‬فتتم – من خالله عودته المرتقبة – االستعادة الوهمية لحلم البيت‬ ‫والزواج والحقل واألمان‪.‬‬ ‫ب‪ -‬يتحول إلى منتقم عند الجماعة الذئبية‪ ،‬ويثير مشاعر الخوف‬ ‫ ‬


‫ال اإلحساس بالذنب‪ ،‬وبفعل الخضوع إلرادة منتقمة عائدة‪ ،‬تعود المسلوبات‬ ‫للعائلة‪ ،‬في الوقت نفسه الذي تتحالف فيه الجماعة متحفزة لجريمة أخرى‪.‬‬ ‫هناك إطاران زمنيان كليان ‪ :‬القرية منذ عشرين عاماً‪ ،‬والقرية اآلن‪،‬‬ ‫‪ -5‬‬ ‫وبين هذين الزمنين زمن مغيب سوى من إشارات دالة على أن القرية قد‬ ‫تواطأت على الصمت والنسيان‪ ،‬ورغم أن زمن النص هو الزمن اآلني إال أن‬ ‫الزمن األول هو الذي يحرك األحداث والشخصيات‪ ،‬جدلية متنامية دائماً بين‬ ‫عناصر غائبة وأخري حاضرة‪ ،‬فكما يغيب حسين أبو شامة ويظل مهيمناً‪،‬‬ ‫يغيب كذلك الزمن األول ولكنه يظل في الذاكرة الجماعية محركاً للمواقف‬ ‫واالنفعاالت‪ ،‬المخاوف والرغبات‪.‬‬ ‫تحمل نهاية المسرحية معني تحقق الخالص الفردي‪ ،‬حيث تتبدل صورة‬ ‫‪ -6‬‬ ‫صالح لدى الجماعة‪ ،‬ويتحول من حالة (األهطل) إلى وضع الرجل ومكانته‪،‬‬ ‫فقد اكتسبته التجربة قوة وفاعلية‪ ،‬ويبدو مصمماً على االحتفاظ بحقوقه بلغة تبدو‬ ‫حالمة ومثالية لكنها تعكس موقفاً جديداً‪ ،‬غير أن الخالص الجماعي للقرية يظل‬ ‫معلقا ومفتوحا على إمكانيات متعددة فخالص القرية النفسي وتطهرها الجماعي‬ ‫من جريمتها القديمة ال يتحقق‪ ،‬إذ يظل جوهر العالقات واألوضاع قائماً بحيث‬ ‫يمكن أن يفضي إلى جريمة أخرى‪.‬‬ ‫ ‬

‫المخلص الغائب في الزوبعة رغم غيابه المادي‪ ،‬إال أنه يشكل النص‬ ‫إن ُ‬ ‫محمود دياب‬

‫‪103 102‬‬


‫المخلص الغائب – في ليلى والمجنون‬ ‫بنيوياً ومفهومياً‪ ،‬غير أن ذات النموذج – ُ‬ ‫والغرباء ال يؤدي الوظيفة نفسها‪ ،‬إذ يظل رؤية فرد مأزوم في سياق عالقات‬ ‫نصية مغايرة‪ ،‬فالرجل في الغرباء وقد استرسل في هذيانه األخير ملتجئاً إلى‬ ‫محتويات المكان وتذكاراته البصرية في الحجرات والممرات وعلي جذع‬ ‫الشجرة (القلب والسهم‪ ،‬جدول الضرب المحفور على جدار غرفة الولد ‪.. ..‬‬ ‫إلخ‪ ).‬حيث تنتابه حالة حماسية مفاجئة وهو يحدث زوجته الغائبة خلف شيش‬ ‫النافذة المتواربة‪.‬‬ ‫ستظل هناك وسيلة لنحتفظ ببيتنا سنتحصن بداخله‪ ،‬أنا وأنت‪.‬‬ ‫ستمسكين بسكين وأمسك أنا بساطور وسنقيم المتاريس‬ ‫ولن نسمح بالدخول لغير األصدقاء‬ ‫هل انتهيت أنا إذن؟ ‪ ..‬أترينني انتهت‬ ‫كال ‪ ..‬فأنا قائم ‪ ..‬وحي‬ ‫وهو – بعد حماسته الفجائية وكلماته المتقاطعة مع تكوينه النفسي‬ ‫ ‬ ‫والزمني – يستدير ليدخل البيت‪ ،‬غير أن بصره يقع على أحد الجيران‪ ،‬فترتسم‬ ‫على شفتيه ابتسامة كبيرة سرعان ما تزول‪ ،‬فالجار سكران‪ ،‬وهو يسير محاذراً‬ ‫يخشى السقوط‪،‬يدندن بأغنية قديمة في غير اتزان‪ ،‬ويتابعه الرجل ينظره من‬ ‫أعلي سلم المدخل غير أن الجار ال يلحظه‪ ،‬حينئذ يتوقف الرجل عند المنضدة‪،‬‬ ‫يتأمل أدوات القهوة والصحيفة واألوراق الممزقة‪ ،‬فتعاوده انكساراته الروحية‪،‬‬


‫وينعكس عليه وعي األزمة‪ ،‬فيستحضر ابنه الغائب متماساً مع مخيلة الجماعة‬ ‫لمخلصها المنتظر‪ ،‬ويسترسل في‬ ‫المأزومة فى استدعاء الصورة المجردة ُ‬ ‫حديثه الذاتي وهو يجتر عالمه المتهاوي‪.‬‬ ‫غداً يا سنية‪ ،‬مع أول شعاع للشمس سأبعث ببرقية إلى الولد‪.‬‬ ‫برقية أقول له فيها ‪ ..‬عد إلينا ‪ ..‬تعال عش معنا‬ ‫أنا وأمك والبيت بحاجة إليك‬ ‫فالغرباء كثيرون‬ ‫أو لعل األفضل أال أشير في البرقية إلى الغرباء‪.‬‬ ‫بل ال ضرورة لن أكتب كل هذا فيها‬ ‫يكفي أن أقول ‪ :‬أحضر حاالً‪.‬‬ ‫وال تنسي وأنت قادم‪ ،‬أن تحمل معك بندقية وسيفهم هو حتماً‪ ،‬ما أعنيه بالبندقية‪.‬‬ ‫المخلص الغائب رؤية وهاجساً لدي النبي‬ ‫ ‬ ‫وفي ليلى والمجنون‪ ،‬يظل ُ‬ ‫المهزوم – سعيد – عبر فعل سكوني ‪ :‬االنتظار‪ ،‬وهو فعل يحمل دالالت‬ ‫العالم المؤجل والتوقف النفسي واالجتماعي‪ ،‬ويصوغ سعيد ُمخلصه المنتظر‬ ‫في صورة نبي (صاحب رسالة – وجود فكري ومعرفي مفارق) يحمل سيفاً‬ ‫(المقابل المضاد للكلمة العاجزة) وإذ يصوغ تلك الصورة المثالية لنبي مسلح‪،‬‬ ‫فأنه يصوغ صورة مناقضة لذاته‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪105 104‬‬


‫وتتحدد صورة الذات عند أسامة من خالل المجموعة المعاصرة المكونة له‬ ‫على صورتها‪ ،‬فهو وجود افتراضي تقترحه الجماعة باستقرائها للتاريخ‪ ،‬أو‬ ‫لثنائية التاريخ المكرس المدون‪/‬المهمش الشفوي) وإحساسها بضرورة نموذج‬ ‫مضاد للنماذج المحفوظة في خزانة التاريخ الرسمي وأيدلويوجيته المهنية‪.‬‬ ‫فكرتي أن التاريخ وهو ينافق السادة تجاهل الثوار عن‬ ‫الشاب الرابع ‪ :‬‬ ‫عمد فالثوار هم في العادة ضد السادة‪.‬‬ ‫ومن هنا يا رفاق‪.‬‬ ‫الشاب الخامس ‪ :‬‬ ‫تبدأ مهمتنا في إعادة صوغ التاريخ‬ ‫ ‬ ‫علينا أن نفتش عن هؤالء الثوار‬ ‫ ‬ ‫فال بد أنهم وجودوا بكثرة في الزمن الذي اخترناه‪.‬‬ ‫ ‬ ‫وكيف نتعرف عليهم‪ ،‬والزمن بعيد ولم يرد اسم واحد‬ ‫‪ :‬‬ ‫الفتاة ( ‪ ) 1‬‬ ‫منهم‪ ،‬ال في المراجع وال حتي في سجالت المدافن‪.‬‬ ‫ ‬ ‫بالقرائن‪ ،‬إن عصراً تتمزق فيه أمة عظيمة‬ ‫‪ :‬‬ ‫المجموعة ‬ ‫البد أن يشهد يوماً ميالد ثائر‬ ‫فلنجعل هذا الثائر يظهر في أيام صالح الدين ‬ ‫‪ :‬‬ ‫الفتاة ( ‪ ) 2‬‬ ‫ولنجعلهما يلتقيان‬ ‫ ‬

‫وهكذا – صنعت المجموعة نموذجها المتخيل‪ ،‬واختارت له االسم‬


‫(أسامة بن يعقوب) والوطن (األندلس) والزمن (عصر صالح الدين) وحددت‬ ‫له المهمة (االلتقاء بالقائد المنتصر) ومجاله الحركي (من أشبيلية إلى القدس)‬ ‫ولحظته اآلنية (مطارد من الحراس)‪ ،‬وبذلك فإن صورة أسامة افتراضية‬ ‫كتجسيم مرئي لذاكرة الجماعة وأزمنتها المعيشية‪ ،‬ولذلك تصوغه نقيضاً لواقعها‬ ‫في هيئة مثالية‪ ،‬فهو ‪:‬‬ ‫شاب‬ ‫ ‬‫ال بد أن يكون فارساً‪.‬‬ ‫ ‬‫شجاع‪ ،‬ذكي‪ ،‬أمين‪.‬‬ ‫ ‬‫عنيد في الحق‬ ‫ ‬‫له قلب شاعر وحسه‬ ‫ ‬‫مفكر‬ ‫ ‬‫فدائي عند الضرورة‬ ‫ ‬‫يعرف ما يريد‬ ‫ ‬‫وإذ تتوالي االقتراحات الخاصة بتكوين النموذج من قبل كل فرد في‬ ‫ ‬ ‫المجموعة‪ ،‬فإن أسامة يتجسد في شكل مرئي من خالل فعل متناقض مع‬ ‫الصورة المثالية (فهو قلق وخائف من مطاردة الحراس)‪ ،‬ويؤشر هذا التضاد‬ ‫األولي بين الصورة وتجسدها الحركي مجمل التناقضات المتوالية في النص‪.‬‬ ‫ ‬

‫وتكتمل صياغة النموذج في مخيلة الجماعة‪ ،‬ويبدأ فعل التداخل مع‬ ‫محمود دياب‬

‫‪107 106‬‬


‫الزمن المستدعى‪ ،‬وحلم الجماعة في تكوين عالمها الضد‪.‬‬ ‫المجموعة «إلى الجمهور» ‪:‬‬ ‫أسامة بن يعقوب‪ ،‬هو اسم فتانا الثائر‬ ‫لن تجدوا له أثراً في فهارس أو مراجع‬ ‫أو على جدران قلعة‪ ،‬وال في نقش جامع‬ ‫أو في مالحم الشطار‬ ‫لم يكن يوماً خليفة‪ ،‬أو أميراً في والية‬ ‫أو من رجال المناصب‪.‬‬ ‫لم يكن بوق دعاية‪ ،‬أو كلب صيد لحاكم‬ ‫لم يبع أهله من أجل منصب‬ ‫لذلك‪ ،‬لم يذكر اسمه‬ ‫في الوثائق والمراجع‬ ‫ومع تجسد النموذج في صورة مرئية‪ ،‬تختفي الجماعة المعاصرة‬ ‫ ‬ ‫وزمنها اآلني‪ ،‬ويستقل أسامة عن الجماعة المكونة ليدخل في تصادم مع‬ ‫الجماعة التاريخية (العماد – سيف الدين)‪ ،‬وهو يحدد صورته عن نفسه من‬ ‫خالل تحديده لكتابه «باب الفتوح» ولوظيفته كمرشد للسلطان‪ ،‬ولكنه يحول‬ ‫اإلرشاد كرؤية متجاوزة إلى مجرد المشورة‪.‬‬


‫أهو قرآن جديد يا أسامة ؟‬ ‫العماد ‪ :‬‬ ‫أسامة ‪ :‬إنه ليس قرآناً ‪ ..‬إنه حلم‬ ‫‪.........‬‬ ‫أنا ما جئت إال ألرشد السلطان إلى ما يحسن صنعه بعد النصر‬ ‫أسامة ‪:‬‬ ‫أنت يا أندلسي‪ ،‬ترشد السلطان إلى ما يحسن صنعه‬ ‫العما د ‪ :‬‬ ‫النبي محمد‪ ،‬كان يقبل المشورة من أصحابه‪.‬‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫لكنك لست من أصحاب السلطان‪ ،‬نحن أصحابه‪.‬‬ ‫العماد ‪ :‬‬ ‫***‬ ‫لقد أدرك أسامة منذ خروجه من إشبيلية استحالة تحقق أفكاره‪ ،‬وإن كان‬ ‫ ‬ ‫رجاؤه ذاك لم يفارقه التطلع إلى التصالح مع العالم إذا ما تبني صالح الدين‬ ‫أفكاره‪ ،‬ولكن السياقات النصية وتصاعداتها أدت إلى تبدد ذلك الحلم تبدداً نهائياً‪،‬‬ ‫إن أسامة – كنموذج متخيل – يتوحد بفكرته وكلمته‪ ،‬لذلك تحتل الكلمة المنطوقة‬ ‫والمكتوبة أهمية متنامية‪ ،‬وبناء على هذا تكون أزمة أسامة هي أزمة الكالم‬ ‫المحتجز الذي يفرض ضرورة تحرره في زمن غير زمانه‪ ،‬زمن محكوم بحتمية‬ ‫االنقضاء‪ ،‬إنه مدفوع بقوة إلى إبالغ الرسالة‪ ،‬ودافعه أخالقي يتمثل في رفض‬ ‫السائد ومحاولة تكوين عالم بديل عن طريق التزاوج بين القوة والفكرة‪ ،‬ولكنه‬ ‫يسقط في هوة وهم كبير يغيب في أغوارها الوعي بحقيقة الظروف الموضوعية‬ ‫التي تحكم عالمه‪ ،‬إن نقاءه ومثاليته تحددان موقفه من العالم‪ ،‬ويجعالن الواقع‪،‬‬ ‫محمود دياب ‪109 108‬‬


‫الذي ال يتوافق مع قيمه المطلقة‪ ،‬حقيقة سلبية يرفضها منذ البداية ويسعي إلى‬ ‫تغييرها دفعة واحدة‪ ،‬واهماً أن في استطاعته فرض نظامه الخاص‪ ،‬ولكن‬ ‫سعيه الفردي ينتهي إلى اإلحباط‪ ،‬في حين تتعرض أفكاره لنفي مبكر‪ ،‬فال‬ ‫يبقى من كتابه – الذي أحرق رجال السلطان نسخته األصلية والمستنسخة –‬ ‫سوى صورة ضبابية في ذاكرة زياد تلميذ المؤرخ الرسمي‪ ،‬الذي آمن بأفكاره‬ ‫(‪)21‬‬ ‫وعاهده على دعوة الناس إليها‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ويؤدي هذا الموقف إلى بقاء أسامة عاجزاً عن إدارة صراعاته مكتفياً‬ ‫بحمل كتابه انتظاراً للقائه المنتظر مع صالح الدين‪ ،‬وهو ما يثير تساؤالت‬ ‫حول طبيعة توجه أسامة لفرد ال للكتلة االجتماعية‪ ،‬وفي تلك النقطة‪ ،‬فإن‬ ‫مشروع أسامة يرتبط بتصوره عن الزمن ال كوحدات منفصلة ولكن كحراك‬ ‫اجتماعي ومعرفي‪ ،‬فهو يتوجه إلى القائد ال إلى الجموع‪ ،‬ألنها – الجموع –‬ ‫مازالت بحاجة إلى زمن كي تعي ذاتها وتمتلك القدرة والفكرة والحركة‪.‬‬ ‫أنت لم تضع عنصر الزمن في اعتبارك‬ ‫أسامة ( الشاب الرابع ) ‪ :‬‬ ‫متى تبدأ الجماهير مسيرتها في تقديرك؟‬ ‫ ‬ ‫لو التجأنا إليها إنها لن تبدأ قبل أن يمضي زمن يحسب بالسنوات‬ ‫ ‬ ‫الشاب الرابع ‪ :‬ولكنها ستتحرك حتماً ‪ ..‬يوماً ما‬ ‫‪ :‬يوماً ما ‪ ..‬هو إذن يوم مجهول في المستقبل‬ ‫أسامة‬ ‫أرأيت‪ ،‬لعل الزمن ال يعني شيئاً بالنسبة لك‪ ،‬أما بالنسبة لي‪ ،‬فهو يعني‬ ‫ ‬


‫كل شيء أن كل يوم يمر من عمر األندلس يقربها من الخاتمة الكئيبة‪.‬‬ ‫وإن لم نعجل بحل‪ ،‬فأخشى أن أعود إليها فال أجد شبر اً باقياُ منها‬ ‫ ‬ ‫أضح قدمي عليه‪ .‬فلترحلوا أنتم إن شئتم‪ ،‬خذوا معكم كتابي وابدءوا رحلتكم‬ ‫مع الزمن أما أنا ‪ ..‬فقد اخترت طريقي‬ ‫***‬ ‫وبتحديد إجمالي – يمكن التوصل إلى أن الجماعة العصرية قد شكلت‬ ‫ ‬ ‫نموذجها المتخيل (أسامة) وأسقطت عليه صفاتها ورؤيتها للتاريخ والعالم‪،‬‬ ‫وصاغته عبر تداخل األزمنة وتصارع الرؤى واإلرادات‪ ،‬بحيث يمكن استجالء‬ ‫صورة الجماعة ووظائفها – وهي وظائف موحدة وكلية بينها تمايزات معينة‬ ‫(الشاب الخامس ‪ /‬الفتاة الثانية) – في النقاط التالية ‪:‬‬ ‫استحضار اللحظة التاريخية وافتراض وجود شخصية أسامة نتيجة‬ ‫‪ -1‬‬ ‫الفتراض وجود تاريخ مختلف ‪ :‬مهمش ‪ /‬متمرد ‪ /‬خارج السياق والمتن‬ ‫الرسمي‪.‬‬ ‫تقترح الجماعة التاريخ كخالص محتمل‪ ،‬وتتخيل ثائراً يحمل نظرية‬ ‫‪ -2‬‬ ‫فكرية للتغيير‪ ،‬وتنسجه على صورتها في محاولة إلدراك الشبيه على المستوي‬ ‫التاريخي‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪111 110‬‬


‫إلقاء جمل من الكتاب والتقاطع داللياً مع المؤرخ الرسمي (العماد)‪،‬‬ ‫‪ -3‬‬ ‫حيث يتم تشكيل الداللة من خالل محور التقاطع‪ ،‬والتداخل بين الجماعة والعماد‪.‬‬ ‫امتزاج الجماعة كلية في اللحظة التاريخية‪ ،‬وانخراطها في اللعبة‬ ‫‪ -4‬‬ ‫المسرحية‪ ،‬وانتهاء المستويين الزمنيين ليصبحا زمناً مسرحياً واحداً هو الزمن‬ ‫التاريخي‪ ،‬وذلك من خالل انخراط الجماعة في اللعبة المسرحية ودخولها‬ ‫القدس مع الجماعات العائدة لتكون سنداً ألسامة في المواجهة النهائية المحتملة‪.‬‬ ‫وهو تعديل في شكل اللعبة أدى إلى تغيير جوهري في الزمن المسرحي‪.‬‬ ‫تحول الجماعة إلى فاعل مشارك وامتزاجها بالحدث المسرحي في‬ ‫‪ -5‬‬ ‫مستواه التاريخي‪ ،‬ثم كوظيفة أخيرة – التبشير بكلمات باب الفتوح‪.‬‬ ‫وهكذا – تتحول الجماعة‪ ،‬مسرحياً وداللياً‪ ،‬عبر تغير وظائفها‪ ،‬بحيث‬ ‫‪ -6‬‬ ‫تتكون أشكال متحولة‪ :‬الجماعة المأزومة‪،‬الجماعة المتداخلة‪،‬الجماعة الفاعلة‪،‬‬ ‫الجماعة المبشرة‪0‬‬ ‫***‬ ‫اتصاال بتلك النقاط المجملة‪ ،‬وبما حاولته سابقا من إقامة تقابالت‬ ‫ ‬ ‫جزئية بين نصى «باب الفتوح» ومأساة الحالج» فإننى أتوقف قليال عند‬ ‫بعض العالمات التكوينية فى شخصيتى « أسامة‪ ،‬والحالج»‪ ،‬وخاصة ما‬ ‫يخص منها يوتوبيا العالم البديل مركزا بدرجة ما على النسق التصورى‬


‫الخاص بهما‪ ،‬وأبدأ بقضية العدل والشر التي تشكل هاجساً مؤرقاً لدى الحالج‬ ‫وموضعا ألسئلته الخطرة‪،‬والتى ُتعد واحدة من القضايا األساسية التي يتجسد‬ ‫فيها النموذج المعرفي للجماعة اإلسالمية‪ ،‬حيث ترتبط تلك القضية بتصورات‬ ‫الفرق اإلسالمية عن إرادة هللا ‪ :‬فيذهب األشعرية إلى أنها إرادة مطلقة‪ ،‬فاهلل‬ ‫مريد لما كان‪ ،‬وغير مريد لما لم يكن‪ ،‬ولما كان الشر موجوداً في العالم‪ ،‬فاهلل‬ ‫مريد له‪ ،‬وليس لإلنسان اختيار فيما يريده هللا له من طاعة أو عصيان‪ ،‬ويذهب‬ ‫األشعري إلى أبعد حد يمكن أن يتصوره العقل في استنباط نتائج هذا الرأي‪،‬‬ ‫فيقرر – متجاوزاً أسس الثواب والعقاب – أن هللا خلق جماعة للنار وجماعة‬ ‫للجنة أبداً‪ ،‬أما المعتزلة فإنهم ينكرون تعدد الصفات ويوحدون بينها وبين الذات‬ ‫حتي ال يكون في التسليم بتعددها اتجاه إلى القول بتعدد القدماء في ذات هللا‪،‬‬ ‫ومن ثم – فإن العدل عندهم صفة من الصفات اإللهية‪ ،‬ألنها صفة كمال‪ ،‬ولكنها‬ ‫صفة سلبية‪ ،‬بمعني أنها تنفي الشر عن هللا وتوجب علينا تنزيه إرادته عن‬ ‫(‪)22‬‬ ‫ارتكاب األفعال التي توصف بالقبح والظلم‪.‬‬ ‫وفي تلك القضية – يفترق الشبيهان (الحالج – الشبلي) ويختلفان‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فبينما يذهب الشبلي في تفسيره للشر في العالم وجهة ميتافيزيقية‪ ،‬فإن الحالج‬ ‫يضفي على نظرته التأملية أبعاداً اجتماعية‪ ،‬فالشبلي يري في الشر تجسيداً‬ ‫إلرادة إالهية تخفي عنا حكمتها‪ ،‬فهي جزء من بناء الكون ومن انتظامه‪ ،‬كي‬ ‫يعرف هللا من ينجو ومن يتردي‪ ،‬هو مرتبط إذن بإرادة علوية وبفعل االختيار‬ ‫اإلنساني معا‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪113 112‬‬


‫يا حالج‬ ‫الشبلي ‪ :‬‬ ‫الشر قديم في الكون‬ ‫ ‬ ‫الشر أريد بمن في الكون‪.‬‬ ‫ ‬ ‫كي يعرف ربي من ينجو ممن يتردي وعلينا أن يتدبر كل منا‬ ‫ ‬ ‫درب خالصة فإذا صادفت الدرب فسر فيه واجعله سراً‪ ،‬ال تفضح سرك‪.‬‬ ‫ولكن الحالج ينحو منحي مختلفاً‪ ،‬هو ال يعنيه الشر كقضية مجردة‬ ‫ ‬ ‫مرتبطة باإلرادة واالختيار‪ ،‬وإنما يعنيه تجسد الشر في مظاهر مادية محددة‪،‬‬ ‫وتأثيراته على الروح البشرية واتساق الجماعة‪ ،‬فحين يسائله الشبلي عن معني‬ ‫الشر‪ ،‬فإنه يتجاوز تحديد المعني ألى تحديد ظواهره‪.‬‬ ‫الحالج ‪ :‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫الشر ؟‬ ‫فقر الفقراء‪ ،‬جوع الجوعى‬ ‫في أعينهم تتوهج ألفاظ ال أوقن معناها أحياناً أقرأ فيها‬ ‫ها أنت تراني‬ ‫لكن تخشي أن تبصرني‬ ‫لعن الديان نفاقك‬ ‫‪.. .. ..‬‬ ‫أما ما يمأل قلبي خوفاً‪ ،‬يضني روحي فزعاً وندامة‪.‬‬


‫فهي العين المرخاة الهدب على استفهام جارح‬ ‫أين هللا ؟‬ ‫والمسجونون المصفودون يسوقهم شرطي مذهوب اللب‬ ‫من أشرع في يده سوطاً‪.‬‬ ‫‪.. .. ..‬‬ ‫يا شبلي‬ ‫الشهر استولي في ملكوت هللا‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫***‬ ‫ ‬ ‫إن هذا الفارق الجوهري بين الصديقين ليس فارقاً فكرياً واختالفاً‬ ‫مذهبياً فقط‪ ،‬وإنما هو محدد أساسي لمجال حركتهما النوعية ومصيرهما‬ ‫النهائي‪ ،‬فالحالج يستجيب لنزوعه االجتماعي باالنخراط في حياة الناس وأماكن‬ ‫تواجدهم (الساحات – األسواق) ويصرح بأفكاره اإلصالحية‪ ،‬فتكون محاكمته‬ ‫الصورية ونهايته مصلوباً على جذع شجرة‪ ،‬بينما يظل الشبلي في إطار‬ ‫الجماعة الصوفية المنعزلة المستغرقة في أسرارها الباطنية الخاصة‪.‬‬ ‫وهكذا – يندرج الحالج ضمن اإلطار التصوري للجماعة اإلسالمية –‬ ‫ ‬ ‫الصوفية خاصة – وفي سياق نماذجها المعرفية ورؤاها الكونية‪.‬‬ ‫ ‬

‫وكذلك – يندرج أسامة بن يعقوب في ذات األطر والنماذج‪ ،‬مع فروق‬ ‫محمود دياب‬

‫‪115 114‬‬


‫جوهرية ‪:‬‬ ‫الجماعة المشكلة للنموذج المعرفي للشخصية في الحالج توجد خارج‬ ‫‪ -1‬‬ ‫النص‪ ،‬منعكسة كرؤية في وعي الشخصية‪ ،‬ومتداخلة كصورة في نظامها‬ ‫المعرفي‪ ،‬بينما الجماعة المشكلة للشخصية في باب الفتوح توجد ضمن العالقات‬ ‫النصية‪ ،‬وكما سبقت اإلشارة‪ ،‬كونت المجموعة المعاصرة نموذجها المتخيل‬ ‫(أسامة) على صورتها‪ ،‬وصاغته كوجود افتراضي‪.‬‬ ‫رؤى الحالج كونية أوالً ‪ :‬ذات طابع اجتماعي ثانياً‪ ،‬بينما رؤى أسامة‬ ‫‪ -2‬‬ ‫اجتماعية قائمة على فكرة العدل االجتماعي والملكية العامة‪ ،‬وسياسية تطرح‬ ‫تصوراً محدداً عن الدولة والحاكم وحق األمة في االختيار والعزل‪ ،‬فأسامة‬ ‫ال يصوغ تصورات معينة عن القضايا الكلية المجردة (الشر – العدل –‬ ‫الخلق) ولكنه يمتلك مشروعاً فكرياً لواقع اجتماعي وسياسي محدد‪ ،‬هو صوت‬ ‫جماعته المشكلة له‪ ،‬والمهمشة في التاريخ والواقع‪ ،‬وليس صوت جماعة نوعية‬ ‫(الصوفية) بحس تبشيرى كما هي المسالة لدى الحالج‪.‬‬ ‫يمتلك الحالج طابعاً رسولياً استشهادياً مندرجاً في إطار اختيار هللا‪،‬‬ ‫‪ -3‬‬ ‫بينما أسامة يمتلك إرادته الخاصة في تكوين واقعي – مثالي وحالم أحياناً –‬ ‫يدرك ذاته وموقعه ومجاله الحركي والفكري‪ ،‬ويشترك االثنان في اإليمان‬ ‫بالكلمات كطاقة إخبار وإشهاد وتبليغ‪.‬‬


‫صراعات الحالج واختياراته فردية‪ ،‬ولدى أسامة اجتماعية‪ ،‬تضاد‬ ‫‪ -4‬‬ ‫تواريخ وصراع الكتلة والكتلة‪ ،‬واختياراته محسومة قبل بداية النص‪ ،‬وهو‬ ‫داخل ما يسميه (محمد عزيزة) الصراع األفقي‪ ،‬حيث يواجه الفرد قوانين‬ ‫(‪)23‬‬ ‫المجموعة والكيان االجتماعي‪.‬‬ ‫في باب الفتوح تستخلص الثنائيات (الكلمة‪/‬السيف – الفكرة‪/‬القوة) من‬ ‫‪ -5‬‬ ‫التاريخ وتفرض عليه كذلك‪ ،‬بينما يفترضها النص في الحالج كرؤية متجذرة‬ ‫في وعي الكاتب ومتبطنة فيه‪ ،‬تدرك العالم في ثنائيات غير محلولة‪.‬‬ ‫يندرج الحالج في سياق تصورات جماعته النوعية عن العالم – كخلق‬ ‫‪ -6‬‬ ‫مقدس متكامل ونهائي – وعن انضواء اإلرادة البشرية وانتظامها ضمن اإلرادة‬ ‫العلوية‪ ،‬لكن أسامة – كذات متضادة مع الواقع والتاريخ – يطرح نموذجاً‬ ‫مغايراً‪ ،‬فالعالم في تشكل‪ ،‬في صيرورة وتغير‪ ،‬وليس ثابتاً ومنتهياً‪ ،‬واإلرادة‬ ‫البشرية حرة ومختارة ومنفصلة عن الذات اإللهية‪ ،‬وهو يصوغ في كتابة‬ ‫التبشيري عبارة قاطعة ‪« :‬أني أمنح هللا قلبي عن طيب خاطر ‪ ..‬أما إرادتي‬ ‫فإني أحتفظ بها‪ ،‬طالما أني مسئول عما أفعل»‪.‬‬ ‫ينتظم االثنان في إطار سعيهما المشترك للدولة (الوالي – السلطان)‬ ‫‪ -7‬‬ ‫وإذ يكتفي الحالج بإرسال رسائل سرية‪ ،‬فإن أسامة يسعى من إشبيلية إلى‬ ‫القدس إلعطاء كلماته للسلطان‪ ،‬حيث يهدف االثنان إلى تحقيق فكرتهما المثالية‬ ‫محمود دياب‬

‫‪117 116‬‬


‫عن امتزاج قوة الوالي بأفكارهما اإلصالحية‪ ،‬وهما – في إطار هذا المسعى‬ ‫المشترك – يصوغان رؤية معينة لشخص الوالي وموقعه‪ ،‬فلدى الحالج‪.‬‬ ‫الوالي قلب األمة‬ ‫هل تصلح إال بإصالحه‬ ‫فإذا وليتم ال تنسوا أن تضعوا خمر السلطة في أكواب العدل‪.‬‬ ‫‪.. ..‬‬ ‫هم بعض وجوه األمة‬ ‫وهم أيضاً خلطائي ‪ -‬أحبابي‬ ‫وعدواني إن ملكوا األمر‬ ‫أن يعطوا الناس حقوق الناس على الحكام فنجاوبهم بحقوق الحكام على الناس‪.‬‬ ‫ويصوغ أسامة رؤية مماثلة في توجهها إلى شخص الحاكم‪ ،‬ولكنها‬ ‫ ‬ ‫مختلفة في صياغتها الفكرية واالجتماعية‪ ،‬فإذا كان الحالج يكاد يطابق بين‬ ‫الحكام واألمة استمراراً لرؤيته في تماثل اإلنسان وهللا‪ ،‬فإن أسامة يضيف حق‬ ‫األمة في اختيار حاكمها وعزله‪ ،‬ويضفي أبعاداً تفصيلية‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‬‫ ‬‫‪ -‬‬

‫كرسي الحكم ملك األمة‪ ،‬ال يورث ‪ ..‬أو يباع‪.‬‬ ‫وال يعار‪ ،‬وال يوهب‬ ‫ليس الحكم بجارية مبتذلة‪ ،‬يتخاطفها الفتيان‪.‬‬


‫يملكها األسرع سيفا ‪ ..‬واألدهى‬ ‫واألخبث في تدبير القتل‬ ‫من حق األمة أن تختار حاكمها‪ ،‬بحرية‬ ‫ ‬‫أن تعطي البيعة لألحكم واألعدل واألكثر إيمانا بقضايا الناس‬ ‫ ‬‫الحكم فى أمتنا شورى‪ ،‬الحاكم خادم أمته ال مالكها‬ ‫‬‫لألمة مجلس حكماء‪ ،‬يرعى بيت المال ويراقب أفعال الحاكم‬ ‫‬‫ورجاله‬ ‫تثير تلك الفقرات بمحتواها الصدامى الذهنية اإلتباعية التقليدية‪ ،‬المؤرخ‬ ‫الرسمى المضاد « العماد»‪ ،‬الذى يصوغ رؤية مناقضة للتاريخ وكيفيات كتابته‬ ‫وتسجيله‪،‬حيث ال تؤدى اللغة وظيفتها وإنما تُعامل بوصفها زركشة صوتية‬ ‫وحلية مضافة «السجع والترادف والجناسات الصوتية»‪ ،‬ولذلك يرفض العماد‬ ‫ كذات متطابقة ‪-‬منطق الشذوذ عن الزمن واالنفصال عن األيام من أجل‬‫التكيف معها والتعبير عنها بقوانينها ال التمرد عليها‪ ،‬فهو يفرق بين الكالم‬ ‫الذى ُيكتب والكالم الذى ُيقال فى مقابل التعبير المباشر الحر التلقائى الذى‬ ‫يقترحه تلميذه زياد‬ ‫وبذلك ينضوى العماد فى نموذج معرفى مضاد حيث تتشكل صورة أسامة لديه‬ ‫فى جمل محددة ‪ :‬أنت تستعلى بإرادتك على هللا‪ ،‬تخالف القرآن فيما أوحبه من‬ ‫طاعة أولى األمرفتؤلب العامة على السلطان‪ ،‬تتدخل بين هللا وعباده فى توزيع‬ ‫األرزاق‪ ،‬جعل هللا الناس درجات وأنت تعارض حكمه‪ ،‬تؤلف كتبا فى حين‬ ‫محمود دياب‬

‫‪119 118‬‬


‫أنك ال علم لك بأصول الكتابة‪ ،‬تستخدم فى كتابك ما ينطقه العامة من كلمات‬ ‫وليس فيه كلمة سجع واحدة‪0‬‬ ‫***‬

‫‪ -4‬العالم كرؤية والعالم كبنية‪ :‬‬ ‫أ‪ -‬الرؤية‬ ‫يؤلف مفهوم «رؤية العالم» الهيكل األساسي المكون من االفتراضات‬ ‫ ‬ ‫المعرفية والمسلمات التي يقوم عليها كل أنماط السلوك والتصرفات والعادات‬ ‫السائدة في الثقافة المشتركة‪ ،‬فإذا كان المدخل البنائي الوظيفي يهتم بدراسة‬ ‫العالقات والنظم واألنساق االجتماعية التي تؤلف البناء االجتماعي‪،‬فإن «رؤية‬ ‫العالم» من حيث هى مدخل ونظرية ومنهج ومادة إثنوجرافية‪ ،‬تؤلف نسق‬ ‫(‪)24‬‬ ‫المعتقدات ونسق الرموز التي تكمن وراء هذه العالقات والنظم‪.‬‬ ‫فرؤية العالم تختلف عن مفهوم «روح الجماعة» وعن نمط التفكير وعن الطابع‬ ‫القومي‪ ،‬في أن رؤية العالم هي الصورة التي تكونها الجماعة عن ذاتها وعن‬ ‫عالمها المحيط‪ ،‬إذ بينما يشير مصطلح الطابع القومي إلى الحالة التي تتبدي‬ ‫عليها الجماعة إزاء اآلخر‪ ،‬يشير مصطلح رؤية العالم إلى الشكل الذي يبدو‬ ‫به العالم لدى الجماعة ذاتها‪ ،‬ومن بين جميع المعاني التي يتضمنها المفهوم‪،‬‬


‫فإنه يعني – بوجه خاص – بخصائص الوجود ومقوماته من حيث تمايزها‬ ‫عن الذات وارتباطه في الوقت نفسه بهذه الذات‪ ،‬إنها منظومة التصورات التي‬ ‫تعطي اإلنسان إجابة عن تساؤالته حول موقفه من الوجود‪ ،‬واألشياء التي تحيط‬ ‫به‪ ،‬وعالقاته بتلك األشياء‪.‬‬ ‫في كتاب «الصورة» يعرض «كينيث بولدنج» ألهم األبعاد والخصائص‬ ‫ ‬ ‫النظرية لمفهوم رؤى العالم‪ ،‬وقد سبقت اإلشارة إلى هذه الخصائص وإجمالها في‬ ‫نقاط محددة‪ ،‬وهنا – فسوف أحاول بحث النصوص من خالل تلك الخصائص‬ ‫أو النقاط‪ ،‬وتكوين نموذج لرؤية العالم كما تجسده تلك النصوص‪:‬‬ ‫‪ -1‬الصورة المكانية ‪ :‬وهي الصورة التي لدى الفرد عن وضعه أو موضعه‬ ‫في المكان المحيط به‪ ،‬وتتركب األنساق المكانية في النصوص عبر ثنائيات ‪:‬‬ ‫المكان المغلق‪/‬المكان المفتوح‪.‬‬ ‫ ‬‫المكان الواقعي‪/‬المكان المتخيل‬ ‫ ‬‫المكان الحاضر‪/‬المكان الغائب‬ ‫ ‬‫ويؤدي إحساس الشخصية بالمكان وظيفة تكوينية أساسية‪ ،‬فالحالج‬ ‫ ‬ ‫يستشعر األمان النفسي واالجتماعي خالل جلسته المطمئنة مع الشبلي في بيته‬ ‫(ما أجمل خلوة روحينا يا شيخ)‪ ،‬وبفعل خلع الخرقة – يخرج الحالج‪ ،‬مكانياً‪،‬‬ ‫من بيته إلى الساحة ثم السجن فقاعة المحكمة‪ ،‬وداللياً‪ ،‬من الصوفية المنعزلة‬ ‫إلى الصوفية الفاعلة‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪121 120‬‬


‫فتحوالت الشخصيات تحوالت مكانية‪ ،‬أو هي – بتعبير آخر – تأخذ‬ ‫ ‬ ‫صورة مكانية‪ ،‬فلدي محمود دياب ‪ :‬تأخذ العالقة مع األمكنة صياغات متعددة‪،‬إذ‬ ‫يتوحد الرجل في «الغرباء» مع بيته‪ ،‬ليصبح البيت هو الهوية وليس مجرد‬ ‫جدران ونوافذ وغرف‪ ،‬بل يتحول – عبر تجسدات الذاكرة المنقوشة ‪ :‬جدول‬ ‫الضرب المحفور‪ ،‬القلبين والسهم‪ ،‬آثار الدم على الجدران – ليكون ذاكرة‬ ‫الرجل وعالمة هويته وأداة االمتالك ذاتها (بعد أن كان موضوعاً لصراع‬ ‫التملك)‪.‬‬ ‫وفي «باب الفتوح» تتداخل حركة الشخصيات مع األمكنة المتغيرة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فهناك حركة متنقلة بين مكانين ‪ :‬إشبيلية والقدس تتوخي حركة انتقال عكسية من‬ ‫القدس إلى إشبيلية بعد اللقاء المرتقب مع القائد المنتصر واالمتزاج المستهدف‬ ‫بين سيف القائد وكلمات المفكر‪ ،‬وكذلك أبواب المدن الموصدة أمام الجموع‬ ‫الراجعة والجماعة العصرية‪ ،‬والمفتوحة للتجارة والسادة والحراس‪ ،‬والداللة‬ ‫العكسية لعودة المدينة (القدس) وتحررها‪ ،‬واستالب البيت (بيت أبي الفضل)‬ ‫وانزواء صاحبه في ركن بإحدى الخرائب‪ ،‬حيث تكاد العالقات والدالالت‬ ‫النصية تتلخص وتتركز في تلك العالقة المزدوجة بين المدينة والبيت‪ ،‬وفي‬ ‫«الزوبعة» تكون العالقة بين المكان الغائب (السجن) حيث الغائب المنتقم‪،‬‬ ‫والمكان الحاضر (القرية) حيث الجماعة الذئبية واألسرة المستلبة (صالح –‬ ‫حليمة – الجدة صابحة) تكون حركة األعماق النفسية واالجتماعية وتفجرها‪،‬‬


‫ويتداخل مع تركيب األنساق المكانية في النصوص بناء العالمات المادية‬ ‫واللغوية – وهي عالمات متحولة مثل كلمات «باب الفتوح» التي تكتسب‬ ‫صفات تبشيرية كاشفة‪ ،‬فتحفظها الجماعة وترددها في ممارسة إحيائية كشفية‬ ‫تبتغي إحياء صاحبها وكشف عالقات التاريخ والواقع معاً‪.‬‬ ‫‪ -2‬الصورة الزمانية ‪ :‬وهي الصورة التي يكونها الفرد عن مجري الزمن‬ ‫ومكانه فيه‪ ،‬فإذا كان المكان مجموعة من األشياء المتجانسة أو المتضادة‪ ،‬ومن‬ ‫الظواهر أو الحاالت أو الوظائف أو األشكال المتغيرة التي تقوم بينها عالقات‬ ‫مثل االتصال ‪ /‬المسافة‪ ،‬فإن الزمن المسرحي يتركب عبر آليات مغايرة‪ ،‬فال‬ ‫يتصل بوجود مادي كالشخصية والموقف والمكان‪ ،‬وإنما هو عنصر بنائي‬ ‫يتخلل تلك التجسدات المادية ويؤطرها‪ ،‬وتكتسب الشخصيات في النصوص‬ ‫داللتها النهائية من خالل وجودها الزمني‪ ،‬ويشكل إجمالي‪ ،‬وباستثناء الحالج‬ ‫المندرج‪ ،‬وجوداً واختياراً‪ ،‬في زمن هللا – فإن الشخصيات توجد‪ ،‬ابتداء‪ ،‬في‬ ‫عالقات ضدية مع زمنها الخاص‪ ،‬وتسعى الستحضار زمن غائب‪ ،‬ففي «باب‬ ‫الفتوح» – وكما سبقت اإلشارة – تقوم البنية النصية على استدعاء إرادي موجه‬ ‫لواقع تاريخي معين‪ ،‬وافتراض وجود شخصية تصوغها الجماعة على شاكلتها‪،‬‬ ‫حاملة لنظرية فكرية هي في النهاية أفكار الجماعة ذاتها‪ ،‬ويتحقق – باندماج‬ ‫الكتلة المعاصرة مع هذا المستوي – زمن النص المستحضر كامالً‪ ،‬وينقطع‬ ‫بموت أسامة مفضياً إلى الزمن الواقعي الحالي‪ ،‬لتتم استدارة الزمن – الذي يبدو‬ ‫كأقواس مفتوحة ومتداخلة – بخروج الجماعة من الزمن المتخيل وارتدادها إلى‬ ‫زمن الفعل – اللحظة المعاشة‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪123 122‬‬


‫وتتأكد تلك العالقة الضدية لدى شخصية صالح فى « الزوبعة»حيث‬ ‫ ‬ ‫ينبني المجال الحركي واإلدراكي له على انفصال وتقاطع مع الزمن الفردي‬ ‫والزمن الجماعي معاً‪ ،‬إنه يسعى المتالك زمن آخر‪ ،‬ربما يكون غير محدد‪،‬‬ ‫وهالمياً لكنه يستعيد وجوداً مستلباً (الدار – الحقل)‪ ،‬وترتبط بتلك الدالالت‬ ‫– على نحو جزئي آليات التكوين الزمني‪ ،‬فال تقوم على التعاقب والتتابع‬ ‫والخطية‪ ،‬ولكن على التداخل والشبكية والتضاد وامتزاج المستويات‪.‬‬ ‫‪ -3‬الصورية العالقية ‪ :‬وهي الصورة التي لدى الفرد عن الكون من حيث هو‬ ‫نسق من االنتظامات والعالقات‪ ،‬وتقوم الرؤية في تلك النقطة على ما يسميه‬ ‫«دلتاى» الصورة الكونية»‪ ،‬التي تؤلف النواة أو الكتلة األساسية للمعتقدات‬ ‫والمسلمات االفتراضية عن العالم‪ ،‬ويمكننا هنا أن نميز بين ثالثة أنواع أو‬ ‫نماذج أساسية من رؤى العالم في النصوص ‪:‬‬ ‫أ‪ -‬نموذج العالم المثالي ‪ :‬أو الرؤية المثالية الموضوعية للكون من حيث هو‬ ‫كل عضوي أو وحدة منتظمة بما يترتب على ذلك من تجانس وانسجام بين‬ ‫األجزاء المكونة لهذا الكل‪ ،‬ويتجسد ذلك النموذج في الصورة الكونية لدى‬ ‫الحالج‪ ،‬فالكون لديه خلق مقدس وفيض تلقائي ذاتي عن هللا‪ ،‬وتأتي تعارضات‬ ‫الحالج مع الكتلة االجتماعية ابتغاء استعادة الجوهر النقي للعالم وإعادته إلى‬ ‫طبيعته األولي‪.‬‬


‫ب‪ -‬نموذج العالم كابوسي ‪ :‬ويتأسس هذا النموذج على جريمة أو ينتهي‬ ‫بها‪ ،‬على نحو ما يتجسد في شخصيات الرجل الطيب وصالح‪ ،‬وسواء كان‬ ‫العالم االفتراضي واقعياً (الزوبعة ) أو خيالياً (الغرباء) فإن الصورة الكونية‬ ‫صورة كابوسية قائمة على استالب الوجود ذاته‪ ،‬وفي هذا النموذج تواجه‬ ‫الشخصية الرئيسية كياناً خارجياً‪ ،‬ضدياً ومهيمناً‪ ،‬ففي الزوبعة يواجه صالح‬ ‫جماعته المتوحشة التي استلبت منه األب والبيت والمال والحبيبة‪ ،‬وتتركب‬ ‫العوالم النصية ال من مشاهد كابوسية منفصلة لفوضى الواقع اليومي واغتراباته‪،‬‬ ‫ولكن من نسيج مركب تتداخل فيه العالمات والحوارات المفككة‪ ،‬اإلسقاطات‬ ‫وارتدادات الذات إلى عوالمها الداخلية المحبطة‪ ،‬في استعادة قائمة على خلط‬ ‫األزمنة والتراوح بين اليقظة والحلم‪ ،‬الهذيانات والتناثر اللغوي والحركي مع‬ ‫لقطات هزلية مؤطرة بأحداث واقعية‪.‬‬ ‫جـ‪ -‬نموذج العالم الضد ‪ :‬حيث تنتظم الصورة الكونية في نقيض مثالي تسعى‬ ‫الشخصيات المتالكه وإحالله بديالً عن عالم قائم مرفوض‪ ،‬فخالفاً للحالج الذي‬ ‫يري العالم فيضأ من إرادة علوية ويسعي لتأكيد صورته األولية‪ ،‬فإن أسامة يوجد‬ ‫– كجماعته المكونة – في تعارض حاد مع البنية االجتماعية القائمة‪ ،‬ويصوغ‬ ‫عالمه الضد في صورة الملكية الجماعية وحق األمة واستقالل اإلرادة البشرية‬ ‫وحريتها في االختيار والوجود ‪.‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪125 124‬‬


‫‪ -4‬الصورة الشخصية ‪ :‬وتتعلق بمكان الفرد في العالم الجماعي‪ ،‬واألدوار‪،‬‬ ‫والنظم التى تحيط به‪ ،‬وترتبط بتلك الصورة ثالث صور ‪ :‬األولي صورة‬ ‫القيمة‪ ،‬وتتألف من األحكام المتعلقة بما هو خير وشر‪ ،‬والمرتبطة بالعناصر‬ ‫واألجزاء المختلفة من رؤى العالم ككل‪ ،.‬الثانية هي الصورة الوجدانية‪ ،‬وهي‬ ‫الصورة التي تصبغ فيها األجزاء المتنوعة من رؤية العالم بصبغة عاطفية‬ ‫انفعالية‪ ،‬وهذه الصورة تتعلق بالمخاوف والرغبات‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬الثالثة هي‬ ‫الصورة من حيث هي مقسمة إلى جوانب شعورية وال شعورية‪ ،‬ومعني ذلك‬ ‫أن األفراد ليسوا على وعي كامل بكل جوانب رؤى العالم‪ ،‬حيث توجد درجات‬ ‫إدراك متفاوته‪ ،‬وحاالت شعورية متباينة‪.‬‬ ‫وبصورة مجملة – يمكن بحث تلك النقاط من خالل البنية الثنائية‬ ‫ ‬ ‫المتركزة – من حيث الصورة الشخصية والقيمية واالنفعالية في ‪:‬‬ ‫الذات المتضادة‪/‬الذات المتطابقة‪.‬‬ ‫ ‬‫الكون المغلق‪/‬الكون المفتوح‬ ‫ ‬‫وإذا كان « جولدمان» يري أن ‪:‬‬ ‫العنصر البنيوي األساسي لوقائع الوعي‪ ،‬هو درجة مالئمتها‪ ،‬وكذلك‬ ‫أ‪ -‬‬ ‫العكس‪ ،‬أي درجة الال تجانس مع الواقع‪.‬‬ ‫ب‪ -‬إن المعرفة المفسرة لوقائع الوعي‪ ،‬ودرجة تالئمها أو عدم تالئمها‪،‬‬ ‫ودرجة حقيقتها أو خطأها‪ ،‬ال يمكن الوصول إليها إال بإدراجها ضمن كليات‬


‫اجتماعية أكثر اتساعاً نسبياً‪ ،‬وهذا اإلدراج وحده يسمح يفهم داللة تلك المعرفة‬ ‫(‪)25‬‬ ‫وضرورتها‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن درجة التوحد أو التضاد تنتج في النصوص ذاتين كليتين‬ ‫ ‬ ‫‪ :‬الذات المتضادة والذات المتطابقة‪ ،‬وكلتا الذاتين يمكن إدراجهما في كليات‬ ‫اجتماعية أوسع‪ ،‬باعتبار ارتباطهما بالثنائية األولي ‪ :‬العالم القائم والعالم الضد‪.‬‬ ‫وتتجسد ثنائية الذاتين‪ :‬المتضادة المتطابقة في العالقة الضدية بين ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫الحالج – الشبلي‪ ،‬أسامة – العماد‪ ،‬الرجل الطيب –الغريب‪ ،‬وتنعكس على‬ ‫الصور االنفعالية والقيمية الحاكمة لحركة الشخصيات وتجربتها الحياتية‬ ‫وصياغتها للعالم المحيط‪.‬‬ ‫إن التقابل الضدي بين الحالج والشبلي ليس خالفاً فكرياً بين رجلين‬ ‫ ‬ ‫قدر ما هو نزوع أولي لدى الحالج نحو التضاد مع العالم القائم الستعادة جوهره‬ ‫األصلي كفيض عن هللا‪ ،‬ونزوع أولي كذلك لدى الشبلي للتطابق مع العالم‬ ‫القائم باعتباره – كاختيار الهي – أفضل العوالم الممكنة‪ ،‬وكذلك تعكس العالقة‬ ‫بين أسامة والعماد والتى حكمت طبيعة التوجه واألداء اللغوي والموقف من‬ ‫اللحظة التاريخية المستحضرة‪ ،‬تعكس مستويين من الوجود والمعرفة‪ ،‬فبينما‬ ‫يؤكد العماد الطابع اإلثباتي للمعرفة يؤكد اسامة طابعها التغييري‪ ،‬ويصبح‬ ‫بذلك إبقاء العماد على الزخارف اللغوية في خطابه التوثيقي للواقع والتاريخ‬ ‫محمود دياب ‪127 126‬‬


‫ليس ابقاء على التقاليد المتوارثة بقدر ما هو ابقاء على اللغة كمؤسسة وإبقاء‬ ‫على التراتب االجتماعي والبناء الهرمي للعالم‪ ،‬وبالمقابل – فإن تحرر أسامة‬ ‫اللغوي ليس تخلصاً من الحوشي والنافر‪ ،‬ولكنه مقدمة تؤشر على صياغة‬ ‫ويرتبط بهذا التحديد اإلجمالي للذات المتضادة والذات‬ ‫اجتماعية مغايرة ‪ 0‬‬ ‫المتطابقة تصوران عن العالم يتمثالن في ‪ :‬العالم المغلق‪/‬العالم المفتوح‪.‬‬ ‫فالذات المتطابقة تصوغ عالماً مغلقاً على الذات والبنية االجتماعية‬ ‫ ‬ ‫والمعرفية في نزوع يهدف إلى تثبيت هذا العالم وتأكيده‪ ،‬بينما تصوغ الذات‬ ‫المتضادة عالماً مفتوحاً وإن اكتفت باستشراف طوباوي له ونفي نقيضه القائم‪،‬‬ ‫وتلك الثنائية الضدية بين الذاتين والعالمين كونت المصير النهائي للشخصيات‪،‬‬ ‫المتمثل في نفي الذات المتضادة (موت أسامة ) وتأكيد الذات المتطابقة (الوجود‬ ‫اآلمن وهيمنة العماد وحسام)‪.‬‬ ‫‪ -5‬ويرتبط بالثنائيات السابقة ما يسميه جولدمان ‪ :‬الوعي الممكن‪/‬الوعي الفعلي‬ ‫حيث ينص على أن وقائع الوعي تأخذ شكلين متمايزين رغم ما بينهما من‬ ‫تداخل يشكل وحدة‪ ،‬أولهما هو ما يسميه ‪ :‬الوعي الفعلي‪ ،‬وهو الوعي الموجود‬ ‫تجريبياً على مستوي السلب وينحصر في مجرد الوعي بالحاضر‪ ،‬هو وعي‬ ‫الممارسة اليومية بطابعها الجزئي واللحظي‪ ،‬أما ثانيهما‪ ،‬فهو الوعي الممكن‪،‬‬ ‫وينشأ عن الوعي الفعلي ولكنه يتجاوزه ليشكل الوعي بالمستقبل‪ ،‬وعندما يصل‬ ‫الوعي الممكن إلى درجة من التالحم الداخلي تصنع بنية أوسع من التصورات‬ ‫(‪)26‬‬ ‫االجتماعية والكونية في آن‪ ،‬فإن الوعي الممكن يصبح رؤية للعالم‪.‬‬


‫وعلي ذلك‪ ،‬يمكن التوصل إلى رصد ارتباطات جزئية بين البنية‬ ‫ ‬ ‫الثنائية وشكلي الوعي ‪ :‬الفعلي والممكن‪ ،‬كالتالي ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫ ‬ ‫الذات المتطابقة‬ ‫ ‬ ‫الذات المتضادة‬

‫وعي فعلي‬ ‫وعي ممكن‬

‫فالذات المتطابقة تنتج وعي الممارسة اليومية بطابعها الجزئي والعملي‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فهي ذات ملتصقة باليومي واإلجرائي والمعاش‪ ،‬مرتبطة بتصورات الجماعة‬ ‫المهيمنة‪ ،‬وبالهيكل االجتماعي المؤسسي‪ ،‬سواء كان معرفياً أو سلطوياً‪ ،‬بينما‬ ‫تنتج الذات المتضادة وعي المستقبل‪ ،‬وعي الجماعة المهمشة التي تسعى إلى‬ ‫صياغة عالم مغاير ونقض األبنية المكرسة‪.‬‬ ‫إن المجموعة المعاصرة في باب الفتوح – المكونة لنموذجها المتخيل‪:‬‬ ‫ ‬ ‫أسامة – تبدأ من نقطة النقض والسؤال الهدمي مفضلة لحظة النهائية‪.‬‬ ‫سنكون أكثر قدرة على تمثل النهاية‬ ‫فنحن األبناء الشرعيون لها‬ ‫وما زلنا نحتفظ بطرف خيطها في أيدينا‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪129 128‬‬


‫ومن تلك النقطة‪ ،‬يصوغ أسامة رؤيته للواقع والتاريخ والخالص‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وعي الكتلة االجتماعية المضادة ونزوعها المستقبلي مركزاً على إرادة الجماعة‬ ‫وطاقتها الهادمة لعالم فاسد‪ ،‬فيرفض الخالص الميتافيزيقي (المعجزة السماوية)‬ ‫ويؤكد على الخالص الجماعي (معجزة نصنعها بأنفسنا) ويركز على الجانب‬ ‫الهدمي من عملية التغيير‪ ،‬معبراً عن الوعي الممكن لكتلته االجتماعية‪.‬‬ ‫شيء يقلب مصير األمة رأساً على عقب‪ ،‬شيء ال أعرف بماذا‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫أسميه‪ ،‬ولكني أحسه وكأنما هو بركان يتفجر‪ ،‬ويفرغ كل ما في جوف األمة‬ ‫من قيح ومرض‪.‬‬ ‫شيء قاس كالحجيم‪.‬‬ ‫‪ :‬‬ ‫المجموعة ‬ ‫المجموعة ومعها أسامة ‪ :‬يحرق كل شيء ال يصلح للبقاء‪.‬‬ ‫سراديب الدسائس‪ ،‬والمشانق‪ ،‬وكل أدوات الرعب والتعذيب‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫وستر المحظيات‪ ،‬ودواوين الكذابين من الشعراء‪ ،‬وكتب العلماء الجهلة‪ ،‬وسياط‬ ‫جباة المال‪ ،‬وتجار العبيد‪ ،‬والمرتشين والقوادين‪ ،‬ولصوص بيت المال‪.‬‬ ‫يا رحمة هللا ‪ ..‬كأنما هو يوم البعث‪.‬‬ ‫زياد ‪ :‬‬ ‫وعلي أنقاض هذا كله‪ ،‬تنهض أمة نظيفة جديدة‬ ‫أسامة ‪ :‬‬ ‫وبتلك الجدلية القائمة بين النقض والبناء‪ ،‬يصوغ أسامة الوعي الممكن‬ ‫ ‬ ‫لجماعته المكونة‪ ،‬بحيث يمكن رصد عالقات متتابعة كالتالي ‪:‬‬


‫ ‬ ‫العالم القائم‬

‫ ‬ ‫جماعة مهيمنة‬

‫ذات متطابقة ‬

‫وعي فعلي‬

‫ ‬ ‫العالم البديل‬

‫ ‬ ‫جماعة مهمشة‬

‫ذات متضادة ‬

‫وعي ممكن‬

‫فالرؤية هنا نتاج ذات مجاوزة للفرد – كما يحدد جولدمان – حيث‬ ‫ ‬ ‫تواجه هذه الذات عالماً اجتماعياً مبنياً‪ ،‬على نحو يحدث تعارضاً بين طموحاتها‬ ‫وعالقاته‪ ،‬وينتج التعارض ما بين أبنية العالم االجتماعي‪ ،‬المستقلة والموجودة‬ ‫سلفاً‪ ،‬وبين هذه الذات‪ ،‬أبنية جديدة‪ ،‬لتحل الذات الجماعية مشكلها‪ ،‬هذه األبنية‬ ‫الجديدة هي «وعي ممكن» يصنع بوحدته «رؤية للعالم»‪ ،‬وسواء نظرنا إليه‬ ‫باعتباره بنية واحدة‪ ،‬أو أبنية متعددة‪ ،‬فإنه من نتاج ذات جماعة‪ ،‬أو فئة‬ ‫اجتماعية‪ ،‬تواجه مشكالً اجتماعياً ال يحل إال بعملية هدم ألبنية‪ ،‬وبناء ألبنية‬ ‫(‪)27‬‬ ‫جديدة‪ ،‬تعيد التوازن المفتقد‪ ،‬من منظور الجماعة أو الطبقة‪.‬‬ ‫***‬ ‫ب‪ -‬البنية ‪:‬‬ ‫كما وردت اإلشارة سابقاً ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫يحدد جولدمان مقدمات منهجه في خمس نقاط‪ ،‬وسوف أتناول هنا من‬ ‫ ‬ ‫هذه المقدمات ثالث نقاط‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪131 130‬‬


‫العالقة الجوهرية بين الحياة االجتماعية واإلبداع األدبي ال تتمثل في‬ ‫‪ -1‬‬ ‫مضمون هذين القطاعين‪ ،‬ولكن في البنى الذهنية‪ ،‬وهي ما يمكن تسميته‬ ‫بالمقوالت التي تنتظم في وقت واحد الوعي التجريبي لفئة اجتماعية معينة‪،‬‬ ‫والكون التخيلي الذي يبدعه الكاتب‪.‬‬ ‫البني المقوالتية التي تنتظم الوعي الجمعي‪ ،‬والتي يتم نقلها إلى الكون‬ ‫‪ -2‬‬ ‫التخيلي المبدع‪ ،‬ليست واعية وليست ال واعية بالمعني الفرويدي للكلمة‪ ،‬ذلك‬ ‫المعني الذي يفترض كبتا ما‪ ،‬ولكنها سيرورات غير واعية‪ ،‬مماثلة من بعض‬ ‫الجوانب لتلك التي تنتظم عمل البنى العضلية وتحدد الطابع الخاص لحركاتنا‬ ‫وإيماءاتنا‪ ،‬دون أن تكون في ذلك ال مكبوتة وال واعية‪.‬‬ ‫العالقة بين بنية الوعي الخاص بفئة اجتماعية ما‪ ،‬والبنية التي تنظم‬ ‫‪ -3‬‬ ‫كون العالم اإلبداعي‪ ،‬تكون متماثلة تماثالً دقيقاً بهذا القدر أو ذاك‪ ،‬إال أنها‬ ‫غالباً ما تشكل أيضاً عالقة ذات داللة‪ ،‬هكذا يمكن لكون تخيلي‪ ،‬غريب عن‬ ‫العالم التجريبي تماماً في الظاهر‪ ،‬كخرافات الجن مثالً‪ ،‬أن يكون مماثالً تماماً‬ ‫في بنيته‪ ،‬لتجربة فئة اجتماعية معينة‪ ،‬أو على األقل‪ ،‬مرتبطاً بها بطريقة ذات‬ ‫(‪)28‬‬ ‫داللة‪.‬‬ ‫بتلك النقاط المنهجية الثالث‪ ،‬سوف أحاول بحث عالقات التماثل أو‬ ‫ ‬ ‫التضاد بين البنية اإلبداعية وبين البني الذهنية أو المقوالت للفئات االجتماعية‬


‫التي ينتمي إليها مبدع النص‪ ،‬مركزاً على الداللة المستمدة عن التماثل أو التضاد‪،‬‬ ‫وسوف أعتمد في ذلك على الدراسة الهامة التي أجراها «السيد حافظ األسود»‬ ‫عن أنماط التفكير ‪ :‬دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم في المجتمع المصري(‪،)29‬‬ ‫والدراسة تتناول مجاالت متعددة ومتنوعة من أجل فهم أوجه الخالف والتشابه‬ ‫في رؤى العالم وأنماط التفكير‪ ،‬وقد شملت الدراسة البناء االجتماعي‪ ،‬األنساق‬ ‫االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬الشعائر والمعتقدات الدينية وغير الدينية‪ ،‬ورؤى‬ ‫العالم في عالقتها بالموضوعات السابقة‪ ،‬وتهدف الدراسة ليس فقط الكشف‬ ‫عن تأثير رؤى العالم في سلوك األفراد بل أيضاً إظهار التأثير المتبادل أو‬ ‫التفاعل بين أفعال الناس وتلك الرؤى‪ ،‬وإلي أي مدى ينتج عن ذلك التفاعل‬ ‫نمط أو أنماط من التفكير المميز لألفراد‪ ،‬والدراسة تهتم أيضاً بتفسير وتحليل‬ ‫رؤى العالم وتصورات المجتمع المصري عن العالم والذات والمكان والزمان‪،‬‬ ‫والسببية بنوعيها الطبيعي والغيبي‪ ،‬مع التركيز على ارتباط تلك التصورات‬ ‫بعضها ببعض وارتباطها بقيم معينة‪ ،‬بما يعني االهتمام بالجوانب المعرفية‬ ‫والمعيارية والوجدانية المرتبطة برؤى العالم‪ .‬والمنهج المتبع في الدراسة هو‬ ‫منهج التحليل اللغوي الذي يهتم بالكشف عن التشابهات واالختالفات في معاني‬ ‫الكلمات والعبارات المستخدمة في الحياة اليومية‪ ،‬مركزاً على االرتباطات بين‬ ‫التصورات المحورية المؤسسة لبناء رؤى العالم وأنماط التفكير في المجتمع‬ ‫المصري‪ ،‬وذلك باإلضافة إلى المدخل المركزي الذي يسعى نحو الكشف عن‬ ‫الرموز‪ ،‬سواء كانت موضوعات أو أحداثاً‪ ،‬كلمات أو أفعاالً‪ ،‬وخاصة تلك‬ ‫التي يستخدمها األفراد للتعبير عن األفكار المحورية المجردة التي ال يمكن‬ ‫محمود دياب ‪133 132‬‬


‫التعبير عنها دون االعتماد على الصور أو الرموز المشخصة ‪ .‬وقد اعتمدت‬ ‫الدراسة فى تحليلها لرؤى العالم على األفكار المتعلقة بمفهوم التقابل أو األضداد‬ ‫الهرمية‪ ،‬وهذا المفهوم يعني وجود عالقة بين الكل والجزء الداخل في بناء‬ ‫ذلك الكل‪ ،‬وهذه العالقة لها بعدان أساسيان ‪ :‬فمن ناحية تتسم هذه العالقة بأنها‬ ‫عالقة تقابل (أو عالقة ضدية) والتي يكون فيها الكل في مقابل الجزء‪ ،‬ومن‬ ‫ثانية‪ ،‬تتصف بأنها عالقة شمولية استغراقية بمعني أنه بالرغم من أن الكل‬ ‫(‪)30‬‬ ‫يكون مقابالً للجزء‪ ،‬إال أنه يحتويه ويشمله‪.‬‬ ‫وقد توصلت الدراسة إلى أن رؤى العالم في المجتمع المصري تنتظم‬ ‫ ‬ ‫حول تصورين أساسيين ترتبط بهما عدة تصورات أخرى مؤلفة شبكة من‬ ‫األفكار والمعتقدات المتداخلة فيما بينها‪ ،‬وتأخذ تلك التصورات األساسية شكل‬ ‫التقابل أو التضاد أو االستغراق‪ ،‬وتدور حول «الباطن» و«الظاهر» التي ترتبط‬ ‫بدورها بتصورات «الغيب» و«الشهادة»‪ ،‬وعالقة ما هو ظاهر في الكون‬ ‫تتضح في األفكار والتصورات المتصلة بالسماء واألرض والنجوم والكواكب‬ ‫والشمس‪ ،‬ونحو ذلك من عناصر ومكونات طبيعية تؤلف في جملتها مفهوم‬ ‫«الدنيا» أو «عالم الشهادة» التي يخضع للحواس والتجربة الحسية‪ ،‬ويعلب‬ ‫نمط التفكير التجريبي فيه دوراً أساسياً‪ ،‬وال يقتصر تصور الظاهر على‬ ‫عناصر الطبيعة منفصلة عن اإلنسان بل يشمل تصورات األفراد عن المكونات‬ ‫األساسية المنظورة لإلنسان كالجسد واألفعال الظاهرة‪.‬‬


‫أما عن تصور «الباطن» في عالقته باإلنسان فيشمل «البنية»‬ ‫ ‬ ‫و«الضمير» والتفكير والوجدان‪ ،‬وكل ما هو مستتر وغير ظاهر وال يمكن‬ ‫معرفته إال عن طريق اللغة أو األفعال الظاهرة‪ ،‬أما عن تصور «الغيب» فيشير‬ ‫إلى كل ما هو في عالم هللا‪ ،‬الذي ال يخضع للحواس أو التجربة العينية المباشرة‬ ‫بل يكون مؤسساً على االعتقاد‪ .‬ويشمل األرواح والمالئكة وسائر الكائنات‬ ‫والقوى غير المنظورة‪.‬‬ ‫ومن الموضوعات الرئيسية في رؤى العالم تلك المقارنة التي يقيمها‬ ‫ ‬ ‫األفراد بين مكونات أو عناصر الكون (العالم) ومكونات الشخص أو الذات‪،‬‬ ‫فالذات ينظر إليها على أنها تشترك في الجوانب الالمادية أو الغيبية والمادية‬ ‫التي يتصف بها الكون‪ ،‬فكما أن األرض مركبة من تراب فكذلك جسد اإلنسان‬ ‫الذي يمثل الخاصية المادية الظاهرة للذات‪ ،‬وجسد اإلنسان له بعدان ‪ :‬بعد‬ ‫زماني يشير إلى فترة الحياة الذي يعيشها على األرض متحداً بالروح‪ ،‬ويعد‬ ‫مكاني يشير إلى الحيز أو المجال المكاني الذي يشغله هذا الجسد‪ ،‬والعالم‬ ‫المادي الظاهر بما فيه من أجرام سماوية وموضوعات أرضية مصيره الفناء‪،‬‬ ‫وينطبق ذلك على الجسد البشري‪ ،‬أما اشتراك الذات في الجانب الالمادي‬ ‫والغيبي فيكون عن طريق تصور (الروح) التي تنتمي إلى عالم الغيب وال‬ ‫يعرف طبيعتها أحد‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪134‬‬

‫‪135‬‬


‫كما أن الروح تضفي على الجسد الحياة وبانفصالها يفني ويتالشى‬ ‫ ‬ ‫الجسد‪ ،‬وبالرغم من أن الروح هنا تكون في مقابل الجسد (كما هو في التقابل‬ ‫بين الالمادي ‪ /‬الغيبي ‪ /‬الظاهر) إال أنها تحتويه وتسيطر عليه وتمنحه الحياة‪،‬‬ ‫وكما أن الكون أو العالم مملوء بكائنات غير منظورة (الجن والمالئكة) كذلك‬ ‫اإلنسان حيث ترتبط به كائنات غير منظورة مثل المالئكة التي تستقر على‬ ‫كتفيه كي ترصد الحسنات والسيئات‪ ،‬وكذلك نجد تصورات «القرين واألخت»‬ ‫وهي كائنات غير منظورة ترتبط بالشخص ويقع أو يحدث لها ما يحدث له في‬ ‫حياته اليومية‪ ،‬وفي الواقع فإن األمثلة متعددة حول وجود التشابه بين الذات‬ ‫والعالم‪ ،‬وكلها تؤكد على التماثل في الجوانب غير المنظورة لدى كل من الذات‬ ‫والعالم‪ ،‬فاإلنسان كون صغير‪.‬‬ ‫وهكذا – يوجد في المجتمع المصري رؤى عالم مختلفة لكنها مترابطة‬ ‫ ‬ ‫ومتشابكة وتؤلف وحدة واحدة‪ ،‬فهناك رؤى عالم غيبية‪ ،‬ورؤى عالم دينية‪،‬‬ ‫ورؤى عالم دنيوية‪ ،‬ورؤى عالم قائمة على التفكير التجريبي‪ ،‬بحيث يتكون لدى‬ ‫الجماعة المصرية عالمان مختلفان ‪ :‬أحدهما منظور ويخضع لعالم الحواس‪،‬‬ ‫واآلخر غير منظور أو غيبي وال يخضع للحواس‪ ،‬وهذا التقسيم يفسر كثيراً‬ ‫من أفعال األفراد وأنماط سلوكهم‪ ،‬إذ يفسر االعتماد على نمط التفكير التجريبي‬ ‫في المناشط الزراعية واالقتصادية والعالقة بين الطبيعة والتربة والماء‪ ،‬وهذا‬ ‫التقسيم – المنظور‪/‬غير المنظور‪ ،‬الغيبي الالمادي‪ /‬الظاهر المادي‪ ،‬يفسر‬ ‫أيضاً لجوء الجماعة إلى نمط التفكير الغيبي كما هو الحال في االعتقاد بظهور‬


‫المخلص والممارسات السحرية‪ ،‬لكن بالرغم من وجود ذلك التقسيم الثنائي بين‬ ‫ُ‬ ‫العالم الغيبي والعالم المادي‪ ،‬إال أن الجماعة تنظر إليهما باعتبارهما يؤلفان‬ ‫قسمين أو جانبين مختلفين غير منفصلين‪ ،‬أو بعبارة ثانية‪ ،‬يؤلفان وحدة واحدة‬ ‫هي العالم ذاته ككل‪ ،‬وبالرغم من تلك الوحدة‪ ،‬إال أن العالم الغيبي ترتبط به‬ ‫قيمة تعلو على العالم المنظور‪ ،‬فوحدة األضداد هنا تأتي أو تتحقق عن طريق‬ ‫االعتقاد بأن وراء العالم المحسوس المادي واقعاً أو عالماً آخر غير منظور‬ ‫وغير مادي يمنحه الوجود والصفة التي عليها‪ ،‬فالغيبي يحتوي المنظور أو‬ ‫المادي بالرغم من عالقة التقابل أو التضاد القائمة بينهما‪.‬‬ ‫وطبقاً لتصور العلية أو السببية لدى الجماعة المصرية‪ ،‬فإن األحداث‬ ‫ ‬ ‫ال تقع بشكل عشوائي بل تحدث بواسطة قوى مشخصة‪ ،‬وتتألف الذات طبقاً‬ ‫لذات المعتقدات من المادة والروح‪ ،‬لكن الفكرة األساسية في رؤى العالم هي‬ ‫الوعي الذي لدى الفرد بأنه يؤلف كياناً منفصالً عن اآلخر بالرغم من وجود‬ ‫عالقة ما بينهما‪ ،‬وبالنسبة لتصور «الذات واآلخر»‪ ،‬فإن صورة الذات هي أنها‬ ‫جزء من ذات أكبر تشمل الجماعة‪ ،‬األسالف‪ ،‬األحياء واألموات والنسل‪ ،‬وال‬ ‫يقتصر مفهوم العالقة على تلك العالقة بين الذات واآلخرين‪ ،‬بل تتسع لتعني‬ ‫ما يطلق عليه «اإلنسان في عالقة» التي تشمل عالقة اإلنسان بالكون‪ ،‬فالوعي‬ ‫باآلخر يتضمن عالقة الذات بكل شيء آخر في الكون ‪ :‬بشر‪ ،‬آلهة‪ ،‬أرواح‪،‬‬ ‫وكل الكائنات الحية وغير الحية‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪137 136‬‬


‫وهكذا – فإن رؤى العالم في الدراسة تؤلف إطاراً زمنياً ومكانياً لسلوك‬ ‫ ‬ ‫األفراد في حياتهم االجتماعية‪ ،‬كما أنها تأخذ شكالً معرفياً من خالل السياق أو‬ ‫التفاعل االجتماعي‪.‬‬ ‫واآلن ‪ :‬هل يمكن إقامة عالقات تماثل أو تضاد بين البيئة اإلبداعية‬ ‫ ‬ ‫وبين البني المقوالتية التي تنتظم الوعي الجمعي‪ ،‬والتي عرضنا جانباً منها‬ ‫سابقاً‪ ،‬وهل يمكن إدراك الداللة التي تنطوي عليها عالقات التماثل أو التضاد؟‬ ‫‪...................‬‬ ‫البنية الثنائية في العام‪/‬البنية الثنائية في النص ‪:‬‬ ‫كما سبقت اإلشارة – يذهب «السيد حافظ األسود» إلى أنه توجد في‬ ‫ ‬ ‫المجتمع المصري رؤى عالم مختلفة لكنها مترابطة ومتشابكة وتؤلف وحدة‬ ‫واحدة‪ ،‬بحيث يتكون لدى الجماعة عالمان مختلفان ‪ :‬أحدهما منظور ويخضع‬ ‫لعالم الحواس‪ ،‬واآلخر غير منظور وغيبي‪.‬‬ ‫ويأخذ هذان العالمان شكل التقابل أو التضاد‪ ،‬هذه البنية المتركزة في‬ ‫ ‬ ‫ثنائيات‪ :‬الظاهر‪/‬الباطن – الشهادة‪/‬الغيب – المنظور‪/‬غير المنظور‪ ،‬تتماثل‬ ‫مع األبنية النصية‪ ،‬ال من حيث المحتوى والمضامين والتصورات‪ ،‬ولكن‬ ‫من خالل‪ :‬البنية الثنائية‪ ،‬والتضاد أو التقابل‪ ،‬فكما تنتظم في رؤى العالم لدى‬ ‫الجماعة ثنائيات متضادة تنتظم في النصوص كذلك ثنائيات متقابلة‪ ،‬تتركز‬ ‫الجماعة المهيمنة‪/‬الجماعة المهمشة ‬ ‫في‪ :‬العالم القائم‪/‬العالم الضد ‬


‫الذات المتطابقة‪/‬الذات المتضادة‬ ‫إن التماثل بين البنيتين ‪ :‬االجتماعية واإلبداعية‪ ،‬هنا‪ ،‬ال يتجسد في‬ ‫ ‬ ‫مضمونها أو محتواهما الكفري والداللي‪ ،‬وإنما في تركيب العالم الثنائي‬ ‫المتضاد‪ ،‬وفي وجود تقابالت حدية بين جزئين متعارضين‪ ،‬في الواقع والنص‬ ‫معاً‪،‬حيث تكشف العالقات النصية عن العناصر األساسية المكونة لرؤية العالم‬ ‫لدي محمود دياب والتي تشكل نسقاً ثابتاً لعالقة ثالثية بين التاريخ – الواقع‬ ‫الذات‪ ،‬وتتغير العالقة بين عناصر تلك الرؤية خالل مراحل إنتاجه المختلفة‬‫وتنوع أشكال إبداعه‪ ،‬وإن احتفظت بعناصرها األساسية‪.‬‬ ‫هناك دائماً قيمة مهيمنة‪ ،‬غائبة بوجودها المادي حاضرة بشكل صريح‬ ‫ ‬ ‫أو مضمر‪ ،‬ومؤثرة بحكم أنها واقع أولي أصلي ال ينعكس‪ ،‬ما يحدث بعده ناتج‬ ‫عنه‪ ،‬ومن هنا تأثيرها غير المحدود على األحداث والشخصيات‪ ،‬وتتجلي تلك‬ ‫القيمة المهيمنة في أشكال عدة‪ ،‬قد تحمل ظالالً ميتافيزيقية‪ ،‬أو تظهر في شكل‬ ‫(‪)31‬‬ ‫سلطة أو رابطة أبوية‪.‬‬ ‫وفيما تقول اعتدال عثمان‪ ،‬فإن عالقة دياب بالتاريخ (هللا – الحاكم –‬ ‫ ‬ ‫األب) قد تغيرت‪ ،‬وتراوح موقفه منه بما يعكس حركة الشريحة االجتماعية‬ ‫التي يمثلها والتي تغيرت رؤيتها للعالم نتيجة تغير وضعها االجتماعي‪ ،‬وهي‬ ‫تربط ذلك التغير بوقائع اجتماعية وسياسية‪ ،‬فقد صاحب قيام الثورة تفتح آفاق‬ ‫محمود دياب ‪138‬‬

‫‪139‬‬


‫النمو االقتصادي واالجتماعي للجناح المدني من الطبقة البرجوازية الصغيرة‬ ‫والمتوسطة‪ ،‬ولكن األزمات االقتصادية التي نشأت عن الحروب المتوالية وغياب‬ ‫الممارسة السياسية الحرة‪ ،‬أدت هذه الظروف مجتمعة إلى ظهور تناقضات في‬ ‫المجتمع المصري وتراجع شرائح من هذه الطبقة وفقدانها لمواقعها المتقدم التي‬ ‫كانت تتمتع به‪ ،‬األمر الذي انعكس على رؤية الكتاب في األعمال اإلبداعية‬ ‫لتلك الفترة‪.‬‬ ‫ففي «أحزان مدينة» وهي رواية سيرة ذاتية‪ ،‬ترجع إلى فترة مبكرة من‬ ‫ ‬ ‫حياة الكاتب‪ ،‬يقدم محمود دياب صورة عالم قديم متناسق ومتماسك‪ ،‬يبدأ في‬ ‫االهتزاز والتهاوي نتيجة القتحام عنصر غريب ودخيل‪ ،‬مما أفضي إلى تغير‬ ‫اجتماعي واقتصادي في عالقات المدينة‪ ،‬وأصبح العالم ينقسم إلى قسمين ‪:‬‬ ‫األهالي ‪ :‬فئة أصلية متماسكة ومتآلفة‪ ،‬يشكل تالحمها النظام واالنتماء‪.‬‬ ‫األجانب‪ :‬فئة دخيلة متنافرة‪ ،‬يؤسس وجودها الفوضى واالغتراب‪.‬‬ ‫إن انهيار العالم في ذلك النص يتم نتيجة تدخل قوي خارجية‪ ،‬يستحيل‬ ‫ ‬ ‫وقف تقدمها الدائب وتأثيرها في تفسخ عالقات العالم القديم‪ ،‬وهو ما يؤدي في‬ ‫النهاية إلى أنفصال أليم عن ماض تهدم تمثلت فيه كلية الحياة وثبات اليقين‪.‬‬ ‫وفي «البيت القديم‪ ،‬يحدث تصدع آخر في الواقع نتيجة فعل إرادي يتمثل في‬ ‫االنفصال عن الجذور الطبقية‪ ،‬كذلك فإن للماضي – األب – سطوة مهيمنة‪،‬‬ ‫إذ أن غيابه في «الزوبعة» يسلب االبن حقوقه كاملة‪ ،‬ويصبح مصيره معلقاً‬


‫بظهور براءة األب من جريمة ملفقة‪ ،‬بسبب تواطؤ أهل القرية القتلة منهم‬ ‫والسلبيين واالنتهازيين – وإجماعهم على التستر على الجريمة وإهدار حقوق‬ ‫القصاص‪ ،‬استكانة الضمائر اآلثمة والمتواطئة‪ ،‬وعندما يصل صالح إلى يقين‬ ‫بشأن الماضي‪ ،‬ويتمكن من التخلص من اإلحساس بوزر االنتساب إلى ماض‬ ‫(‪)32‬‬ ‫أثم‪ ،‬عندئذ يمتلك القدرة على صيانة عالقته بجماعته المتوحشة‪.‬‬ ‫ترتبط رؤية العالم في «الزوبعة» بما يسميه «السيد حافظ األسود»‬ ‫ ‬ ‫في استقرائه لرؤى العالم في المجتمع المصري بـ «صورة الخير المحدود»‪،‬‬ ‫وطبقاً لهذه الصورة‪ ،‬فإن الجوانب العامة من سلوك الفالحين تكون منمطة من‬ ‫خالل رؤيتهم لعالمهم الطبيعي واالجتماعي‪ ،‬وهذه الرؤية أو صورة الخير‬ ‫المحدود تصف الكون على أنه عالم توجد فيه األشياء المرغوب فيها مثل‬ ‫األرض والثروة والحب واالحترام والمكانة‪ ،‬بقدر محدود وأنها دائماً شحيحة‪،‬‬ ‫ونتيجة لتلك الرؤية يظهر اتجاه لدى الفالحين خالصته إنه إذا كان الخير يوجد‬ ‫بقدر محدود ال يمكن اإلكثار منه‪ ،‬وأنه إذا كان النسق مغلقاً‪ ،‬فإن الفرد يمكن‬ ‫أن يحسن وضعه فقط على حسب اآلخرين‪ ،‬وبالتالي فإن االرتقاء أو التحسين‬ ‫(‪)33‬‬ ‫النسبي في وضع الفرد يمكن أن يتمثل تهديداً للجماعة بأسرها‪.‬‬ ‫وينطبق على صالح وأسامة والرجل الطيب وغيرهم من الشخصيات‬ ‫ ‬ ‫المركبة فى نصوص دياب تلك المنظومة المعرفية‪ ،‬وكذلك تعكس رؤية العالم‬ ‫محمود دياب‬

‫‪141 140‬‬


‫حيث ال يكون الفرد واعيا بالضرورة أو مدركاً للمبدأ المعرفي الذي يوجه‬ ‫تفكيره‪ ،‬فرؤية العالم تكون ال شعورية وغير مدركة ولكنها تكون متضمنة في‬ ‫األفعال والممارسات‪.‬‬ ‫وهكذا تتجسد نصوص دياب كرؤية للعالم‪ ،‬وتعكس الوعي في ارتباطه‬ ‫ ‬ ‫بالحياة االجتماعية والنماذج المعرفية للجماعة ‪0‬‬

‫ليايل احلصاد‬


‫محمود دياب ‪143 142‬‬


‫أرض ال تنبت الزهور‬ ‫العالم المتحول واللحظات‬ ‫المنسية‬


‫فى تلك اللحظات الكثيفة‪ ،‬الفاصلة بين عالمين‪ ،‬التى تستهل بها الملكة‬ ‫ ‬ ‫«الزباء» حضورها واقفة على السلم الحجرى‪ ،‬تطل على القاعة الخاوية إال‬ ‫من أعمدة مجردة‪ ،‬وتسائل قائد جندها الذى يخفى انفعاالته الملتهبة‪ :‬هل لى أن‬ ‫أفرح؟ فإن تساؤلها يتكشف عن سخرية حارقة ويضمر مفارقة خفية‪ ،‬فالعروس‬ ‫الملكة فى ليلة زفافها الدامى‪ ،‬تنتظر رجال خرج من مدينته مستجيبا لندائها‬ ‫ومنجذبا لغوايتها‪ ،‬هو ذاته قاتل أبيها يأتيها اآلن وروائح متفاوحة من دم األب‬ ‫المسفوح تنشع تحت ثيابه وجلده المرتجف‪ ،‬هذا الدم الذى عاشت طالبة ثأره‬ ‫يذكرها اآلن – وهي تلقي سؤالها المرسل إلى قائدها العاشق – بأنها ولدت‬ ‫ال امرأة وال رجال بل منتقمة‪ ،‬وأنها سفحت هى األخرى مع دم أبيها النازف‬ ‫طبيعتها الجسدية ذاتها وعالمها الخاص‪ ،‬فاستجمعت قطرات الدم وحولتها إلى‬ ‫صور معلقة على جدران قصرها الخاوية‪ ،‬وقضت أيامها الهاربة تحدق في‬ ‫الصورة وتحيك مكيدتها الصطياد الملك الغادر‪ ،‬فأوحت لها الصورة الذاوية‬ ‫على الجدار بحيلة بصرية‪ ،‬فأرسلت صورتها مرفقة بكلمات تغوى بالحب وتدعو‬ ‫للنسيان‪ ،‬فاستجاب الرجل المغتر لنداء المرأة وتناشدها التواصل وااللتقاء‪،‬‬ ‫وأنسته صورة االبنة بجدائلها المنسدلة على ظهرها كأشعة ليلية متماوجة‬ ‫صورة األب المتهاوى مقتوال ومغدورا فاجتلى كعريس وتهيأ الحتفاله الخاص‬ ‫وللمرأة المشتهاة‪ ،‬وعند أسوار مدينتها تطايرت منه النشوة المزهوة‪ ،‬فقد التف‬ ‫حوله حراس الملكة وأوقعوه فى شباكها المنصوبة‪ ،‬وساقوه إليها كى تنفذ فيه‬ ‫قضاءها الشخصى ومشيئتها المقدرة‪ ،‬وها هى اللحظة اكتملت‪ ،‬تنزل الملكة من‬ ‫السلم الحجرى وتبادل قائدها كلمات خاطفة تخفى أكثر مما تكشف وتوحى أبعد‬ ‫محمود دياب ‪145 144‬‬


‫مما تحدد‪ ،‬لعلها من أكثف الكلمات الحوارية في الكتابة المسرحية العربية قدرة‬ ‫على اإليحاء بعكس دالالتها المباشرة‪ ،‬فالملكة وقائدها يتفوهان بعبارات عابرة‬ ‫عن جمال وجه جذيمة وما إذا كان البرص حقيقيا أم لقبا‪ ،‬وعما إذا كان يصلح‬ ‫حقا زوجا للملكة‪ ،‬وتغلف تلك الكلمات تساؤالت مضمرة عن وقع المكيدة عليه‪،‬‬ ‫وهل كان راسخا وهو يتهاوى في الشرك المنصوب أم كان مرتجفا‪ ،‬متقبضا‬ ‫في هذيانات مضطربة وحواس مأخوذة‪ ،‬تراسل حوارى خارجى‪ ،‬بينما تتكشف‬ ‫تدريجيا المساحات المختفية خلف الكلمات المنطوقة‪ ،‬لتصوغ عالما خبيئا ومكثفا‬ ‫من االنفعاالت المكتومة وااللتهابات المضطرمة‪ ،‬المخاوف والرغبات‪ ،‬النشوات‬ ‫المستهلكة في انتظار لحظة تأتى اآلن فادحة ومراوغة وملتبسة‪.‬‬ ‫ويستجيب الكاتب وهو يصوغ عرس الملكة الدموى لذلك التراوح الجدلى‬ ‫ ‬ ‫الخفى بين كلمات الحوار الخارجية والمساحات المختفية والتيارات الشعورية‬ ‫الخبيئة‪ ،‬فيدفع بعرافة عجوز إلى مشهده المسرحى لتعطيه امتدادا وكثافة سحرية‪،‬‬ ‫فتنتقل الملكة من حوارها النمطى مع قائدها إلى حوار كاشف مع عرافتها التى‬ ‫تكشف لها طبيعتها ال طالعها‪ ،‬وتبصرها بزمنها المأساوى ال أقدارها المتحكمة‪،‬‬ ‫تقول لها العرافة كأنها تخط على جسمها كتابتها الموشومة بالسحر والمعرفة‪:‬‬ ‫«ستملكين شعبا لكنك لن تملكى رجال»‪ ،‬وإذ تستعيد الملكة تلك الكلمات عارفة‬ ‫قدرها المأساوى الخاص الذى ينفى طبيعتها الحسية ويلقيها على مقعد ملكى خاو‬ ‫تحيطها أطياف أبيها وصورته‪ ،‬فإن العرافة تحذرها بصوت منذر وقد أدركت‬ ‫أن مليكتها امتلكت لحظتها المنشودة وانخرطت فى طقسها الدموى ‪« :‬ال تدعى‬


‫قطرة من دم تسقط على األرض‪ ،‬لو سقطت ألضحت نذير ثأر متجدد» تهجس‬ ‫العرافة بنبوءتها وتلقى كلماتها التحذيرية وتمضى مخلفة مدارها السحرى لتظل‬ ‫الملكة عالقة به مشدودة بين أقواسه المغلقة‪ ،‬لكنها اآلن وهى تلقى تحذيرات‬ ‫العرافة بهدوء خارجى وال مباالة مستعارة تسعى إلى االنفالت من الدائرة‬ ‫الوحشية‪ ،‬فتستقر نظرتها على وجه زبداى‪ ،‬قائدها وعاشقها‪ ،‬فتعابثه برقة مفاجئة‬ ‫وبساطة آسرة‪ ،‬وتباغته بالحقيقة المدهشة والمكتومة معا ‪« :‬أنت تحبنى» ثم‬ ‫تردف كاشفة ال جتالئه العاطفى وتدفقاته الشعورية المختفية‪ :‬ال كملكة ولكن‬ ‫كامرأة‪ .‬وتسترسل الزباء فجأة فى استعادة لحظاتهما المنسية‪ ،‬وتسترجع لحظة‬ ‫خاطفة خفق فيها قلبها وزبداى يضعها على الجواد‪ ،‬يضطرب الرجل العاشق‬ ‫ويستعد المتالك لحظته المستحيلة‪ ،‬لكن الملكة ترتد إلى عرسها الدموى‪ ،‬فقد‬ ‫تهربت منها طبيعتها كامرأة واستقرت فى المهاوى السحيقة‪ ،‬وامتلكتها اإلرادة‬ ‫المنتقمة واختزلت عالمها فى رغبة واحدة هى رؤية الملك الغادر نازفا كأبيها‪،‬‬ ‫ولذلك يغيب زبداى عنها وتتالشى إحساساتها الخاطفة وتذكاراتها الحية‪ ،‬ويحل‬ ‫وجه أبيها المتجسد فى صورة على جدار‪ ،‬فتشير إليها وتبدأ ترنيمتها الغامضة‪:‬‬ ‫«هذا هو اإلله ينظر ويتلقى صالتى‪ ،‬هنا تجرى كل الطقوس‪ ،‬هذا هو المذبح‬ ‫وعليه يقدم القربان‪ ..‬عبادة مجنونة من خلقى‪ ،‬ولها تراتيل سيسمعها فتتمزق منه‬ ‫األحشاء‪ ،‬وينتهى فتنتهى معه العبادة بكل طقوسها‪ ،‬وتبقى الكاهنة حرة»‪.‬‬

‫محمود دياب ‪147 146‬‬


‫وتفرغ الملكة من ترنيمتها ألبيها – اإلله الذبيح – لتبدأ ترنيمتها‬ ‫ ‬ ‫الوحشية‪ ،‬فتفك عقدة شعرها لينفرط على كتفيها فتنكته مغلولة‪ ،‬متجمدة على‬ ‫السلم وعيناها على المدخل‪ ،‬حيث يظهر «جذيمة الوضاح»‪ .‬واآلن – تلك هى‬ ‫اللحظة المشتهاة – انتظرتها الملكة واصطفتها من أوهامها المنتقاة‪ ،‬يقف جذيمة‬ ‫رهين إرادتها المنتقمة ومشيئتها القادرة‪ ،‬تسائله الملكة وكأنها تتحسس خالياه‬ ‫وتشتم رائحة باقية من دم أبيها على جلده المرتعش‪ ،‬تريد التأكد من وجوده‬ ‫حيا بين يديها‪« :‬هو أنت جذيمة؟ يجيبها ملك الحيرة ويسائلها كأنما يريد هو‬ ‫اآلخر التأكد من حقيقتها الملتبسة‪« :‬ومن أنت ؟ عند تلك النقطة‪ ،‬وقد عبرت‬ ‫الملكة اللحظة األولى من اللقاء الشائك‪ ،‬تبدأ فى تعابثها الساخر‪ :‬أنا العروس‪ ،‬ثم‬ ‫يشتبك الضدان فى جمل حوارية وقد تقاطعت مصائرهما وتداخلت فى سياقات‬ ‫فاجعة‪ ،‬بغتة‪ ،‬تنفصل الملكة عن طقسها المتوحش‪ ،‬وتتأمل لحظتها المنشودة‪،‬‬ ‫تدعو الخمار بن حنكل كى يسقى األبرص من خمره‪ ،‬فهى تريد أعضاءه منحلة‬ ‫وحواسه مغيبة مفككة حتى يتسنى لها استقطار دمه وتفريغه من خالياه‪ ،‬لكنها‬ ‫تستشعر فراغا وجوديا يتخللها وبردا فى الروح ونزيفا فى الحواس‪ ،‬الجنية‬ ‫ماتت فى جلدها وتركت لها امرأة تستهلك نشواتها فى االنتظار وتختزل العالم‬ ‫فى رغبة مطفأة‪ ،‬إن اللحظة فى اكتمالها تبدأ فى التالشى‪ ،‬والمشهد الهزلى‬ ‫يجرى أمام الملكة‪ ،‬الخمار يسقى جذيمة مثرثرا عن جودة خمرته الذهبية‬ ‫ومزيجها المصفى وتأثيرها الذى يحل العقل ويفكك الحواس ويلغى قدرتها على‬ ‫تحديد األحجام فتستوى النملة والفيل‪ ،‬ويتالشى الفارق بين الكأس والسكين‪،‬‬ ‫لقد أفضي الطقس الدموى إلى مشهد هزلى ‪ :‬جذيمة يستلقى على أرض‬


‫الحجرة يصب فى دمه المهدور مزيج الخمار الثرثار‪ ،‬ويهيئ جسمه للموت‬ ‫متفسخا ومنحال‪ ،‬ويرسل إشارات حوارية للملكة عن دهاء وزيره الهارب من‬ ‫الشرك العنكبوتى‪ ،‬وهنا تقرر الملكة فض المشهد الهزلى ليحل الطقس الدموى‬ ‫المنتظر‪ ،‬فقد أحست‪ ،‬وكأنها تتلقى رؤى إشراقية مبهمة‪ ،‬أنها هى ذاتها التى‬ ‫اشتبكت فى الشراك المنصوبة‪ ،‬وامتصت سم العنكبوت الزاحف بين صورة‬ ‫أبيها ودم جذيمة‪ ،‬تدعو الملكة العجائز وتشير إلى الشريان‪ ،‬وتستعيد صوت‬ ‫العرافة فتحذرهن من سقوط قطرة من دمه على األرض‪ ،‬وحين تحيط العجائز‬ ‫جذيمة بأجسادهن ويسحبن ذراعه ويقطعن الشريان يبدأ الجسد المخدر نزيفه‬ ‫األخير‪ ،‬تندفع الزباء فى تقبضات حسية وانفعالية متنقلة بين صورة أبيها والدم‬ ‫النازف‪ ،‬وتستخرج أعماقها المطمورة وتصوغها فى سؤال حاد وجارح «لماذا‬ ‫طاوعنى‪ ،‬كنت ألعب‪ ،‬فلماذا لم ينتبه؟ « فهل كانت تود أن ال يشاركها اللعبة‬ ‫أحد‪ ،‬لتظل لعبتها منفردة دائرة فى مدارها الخاص‪ ،‬وحين اشتبك جذيمة فى‬ ‫شراك اللعبة أضحت اللعبة خارجها‪ ،‬أصبحت لعبة اآلخرين الذين عليهم اآلن‬ ‫أن يصوغوا دوائرهم داخلين طقوس النبوءات الفاجعة والشرايين المفتوحة‪،‬‬ ‫تنظر الملكة إلى جسم جذيمة النازف فتبصر قطرة من دمه تفج على األرض‬ ‫وتفوح فى المكان‪ ،‬فتصرخ من رجة انفجار النواة مدركة انغالق الدائرة عليها‬ ‫واصطدام المصائر‪ ،‬إنها نذر المكائد والثارات المتجددة‪ ،‬وثانية قطرات الدم‪:‬‬ ‫نزف األب فصار ميراثا لالبنة وحولها من امرأة إلى ذات مجردة منتقمة‪،‬‬ ‫وحين استولت على ضحيتها ونذرته إلى عجائزها جسدا متفسخا مهدورا‪ ،‬فإن‬ ‫قطرات دمه المتهربة خارج آنية العجائز مترقرقة بألوانها المسفوحة على‬ ‫أرض الحجرة المغلقة‪ ،‬تصبح نذير ثأر متجدد‪ ،‬وتوقعها فى دائرة أبدية من‬ ‫محمود دياب ‪149 148‬‬


‫االنتقامات المتبادلة والمكائد المتجددة‪ ،‬والدماء التى تسقط تلبية لثأر وتصحو‬ ‫طالبة ثأرها‪.‬‬ ‫اآلن – اكتملت للملكة لحظتها المنشودة‪ ،‬لقد قتلت راقصة النار الثعبان‬ ‫ ‬ ‫الملتف فى شباكها الذهبية‪ ،‬لكنها امتصت السم فى جسمها واختزنته فى نسيجها‬ ‫الحى‪ ،‬وقد تهربت قطرة الدم من جسد الضحية المغدور بها وانفصلت‪ ،‬لتصنع‬ ‫قدرا مضادا‪ ،‬إن الملكة قبل انتقامها كانت تعيش فى فرحها الخاص‪ ،‬استكملت‬ ‫كل أدوار اللعبة واستجمعتها فى يدها ومضت تعددها فى انتشاء كاشف ‪:‬‬ ‫«كل أدوار الحفل من نصيبى‪ ،‬فأنا اآللهة‪ ،‬والملكة والعروس‪ ،‬وراقصة النار‬ ‫والمهرج‪ ،‬وقاتلة الثعبان‪ ..‬أنا أعيش فرحى‪ ،‬فلقد نجحت لعبتى‪ ،‬هى لعبة‬ ‫حقيرة‪ ،‬ولكنها ذكية»‪ ،‬ويخفت انتشاؤها تدريجيا ويذوى على سطح قطرة الدم‬ ‫المتهربة‪ ،‬وتجف المرأة فيها‪ ،‬وتنغرس فى مقعدها الملكى محاطة بصورة أبيها‬ ‫وقد أضافت لها صورا متعددة لعمرو بن عدى المنتقم الوليد‪ ،‬تصنع السراديب‬ ‫وتبنى الدهاليز السرية وتبعث بمصورها الخاص عينا متلصصة إلى قصر‬ ‫ملك الحيرة‪ ،‬وحين تأتيها شقيقتها وتزف إليها خبر امتالء رحمها بجنين‪،‬‬ ‫تنتاب الملكة مشاعر مضطرمة ومتناقضة تصوغها فى جمل حوارية متقطعة‬ ‫وهذيانات مرسلة‪ ،‬إن الجنين الذى تدب بشائره األولى فى جسد الشقيقة يذكرها‬ ‫بأن لها رحما ولكنه جف‪ ،‬وأن لها جسدا يتشهى ويطلب ولكنه فقد طبيعته وكف‬ ‫عن الرغبة والجيشان وغاض فى عوالم موحشة‪ ،‬وكأن جسدها هو الذى يتفجر‬ ‫اآلن بالميالد الجديد‪ ،‬أو كأنها تستعير جسم شقيقتها بعد أن استعارت مالمح‬ ‫أبيها ورغبته المنتقمة فتجيش متدفقة برغباتها المنسية وتشوقاتها المكتومة‬


‫المتالك جنينها الخاص‪ ،‬فتهمس ألختها بكلماتها الراغبة‪« :‬أريده رجال‪ ،‬هاتيه‬ ‫رجال‪ ،‬إن جاءت بنت رديها‪ ،‬افرضى شروطك على اآللهة‪ .. ،‬عرش الملك‬ ‫ال يحمل امرأة يا زبيبة‪ ،‬وإنما على المرأة أن تحمله‪ ،‬إننى أحمل عرشى فوق‬ ‫رأسى فليكن هذا الذى فى جسدك ولدا‪ ،‬ليكون ملكا»‪.‬‬ ‫ماذا تقصد الملكة بعبارتها الغامضة‪ :‬إن جاءت بنت رديها‪ ،‬هل كانت‬ ‫ ‬ ‫طلبا يحتفى بإرادة األم على تحديد نوع جنينها‪ ،‬أم إن العبارة انفلتت من خفايا‬ ‫الملكة وترددت على لسانها كاشفة عن قرارها الخفى بالموت‪ ،‬فهى األخرى‬ ‫جاءت بنتا‪ ،‬وفى أعماقها المطمورة تحت ثقل المقعد الملكى قرار بإعادة البنت‬ ‫فيها إلى الرحم وردها إلى الطبيعة حتى ولو منتحرة‪ ،‬لقد اختبرت الملكة تلك‬ ‫الحالة الوجودية الخاصة والمكثفة‪« :‬أن تكتمل الرغبة المنشودة‪ ،‬وفى لحظة‬ ‫اكتمالها تبدأ فى النقصان‪ ،‬وأن تحل النشوة المنتظرة‪ ،‬وحين تهم اليد اللتقاطها‬ ‫تتالشى مخلفة انعكاسات متهربة كأنها بقايا وجوه فى مرايا محطمة‪ ،‬تلك الحالة‬ ‫اختبرتها الملكة وامتصتها خالياها المرتعشة وهى تحيك مكيدتها المتقنة‪ ،‬فإذا‬ ‫بها تستشعر التفاف الشباك عليها‪ ،‬ثم وهى تحقق انتقامها الفريد‪ ،‬فإذا بالدم‬ ‫يرتد ويستقر بين خطوط الكف صانعا أقداره الوليدة‪ ،‬كما أنها اعتادت أن‬ ‫تصوغ لعبتها المنفردة وتستجمع كل أدوارها‪ ،‬فهى المدار والنواة وغيرها‬ ‫أجسام دائرة وذرات متطايرة حول مركزها‪ ،‬وحين تبدلت أدوار اللعبة وأصبح‬ ‫الالعب الرئيسى فيها خارجها‪ ،‬أدركت المرأة أنها نهاية اللعبة‪ ،‬وقد تجسد‬ ‫ذلك فى اللحظة التى ارتمى فيها «قصير بن سعيد» على قدميها والضمادات‬ ‫محمود دياب‬

‫‪151 150‬‬


‫تلف وجهه المشوه‪ ،‬والك كالما غريبا من فراره من عمرو بن عدى والتجائه‬ ‫لمملكتها طالبا حمايتها‪ ،‬هنا – ال تتوقف الملكة لتسائل نفسها ذلك التساؤل‬ ‫البسيط والضرورى‪ :‬كيف يحتمى بها وزير جذيمة الذى استطاع الفكاك وقد‬ ‫اشتم رائحة الخدعة وشاهد المكيدة تلتف حول مليكه‪ ،‬ثم كيف كذلك يطلب منها‬ ‫إيفاده للتحدث باسمها رسوال شخصيا للملك الفارسى؟ إن الملكة قطعا تدرك‬ ‫تلك التساؤالت لكنها تتجاوزها وقد قررت االستمرار فى لعبة المكائد المتبادلة‬ ‫والثارات المتداخلة‪ ،‬فوزيرها وعاشقها الذى ال يرى من اللعبة غير سطحها‪،‬‬ ‫فال يدرك المستويات المختفية خلف ظواهر المواقف والعبارات المتداولة بين‬ ‫طرفى اللعبة الجديدة‪ :‬الملكة والوزير الهارب‪ ،‬ولذلك يحتد على الزباء ويجابهها‬ ‫بتساؤالته الغاضبة‪ :‬لماذا أغلقنا أبواب مدينتنا؟ إن كنا نأوى الشر بأنفسنا‬ ‫خلف األسوار؟ فتالطفه الملكة مهدئة من سورة انفعاالته الهائجة‪ ،‬فهى تدرك‬ ‫جيشاناته القديمة فتقول له الكلمة الوحيدة التى ترضيه‪ :‬أنت واحد من مالئكتى‪،‬‬ ‫فيخفق الوزير منفعال وساكنا‪ ،‬ليترك المساحة للملكة‪ ،‬كى تبادل الداهية اآلخر‬ ‫خطوته فى لعبتهما المتجددة‪ ،‬فتعطيه بيتا وطبيبا وحراسة‪ ،‬وتستجيب لتحركاته‬ ‫المكشوفة فترسله مبعوثا لها بينما تطأ صورة الملك الشاعر بقدميها بحركة‬ ‫ناعمة‪ ،‬وتنجرف الملكة بعد ذلك فى المكيدة المضادة‪ ،‬وتصبح متلقية للفعل ال‬ ‫صانعة له‪ ،‬فتستجيب للترتيبات التى يصنعها عدوها الماكر كأنها تساعده فى‬ ‫إحكام الدائرة ونسج الشباك‪ ،‬وحين يحين موعد الخطوة األخيرة‪ ،‬تهيأت راقصة‬ ‫النار للمشهد الختامى‪ ،‬فوافقت قصيرا على حيلته المكشوفة باستقدام تجارته‬ ‫التى تعرف يقينا أنها ستار يخفى ضربته القادمة‪ ،‬وتخطو أبعد مما قدر العجوز‬


‫الماكر فتأمر بمرور القوافل من األسوار دون أن يتعرض الحراس لها‪ ،‬وأخيرا‬ ‫– توافق على دخول الصندوق إلى مخدعها الملكى عارفة أن خصمها الطالب‬ ‫دمها يتمدد داخله مختفيا‪ ،‬وحين تصبح وحدها تطرق منتظرة انفراج الصندوق‬ ‫الخشبى عن خبيئته المنتقمة‪ ،‬فيخرج عمرو بن عدى ويده مكبلة بالسيف‪،‬‬ ‫ليجرى إثر ذلك حوار إشكالى بين صانعة الغرائب والملك الشاعر‪ ،‬فالخصمان‬ ‫يبدوان كأنهما عاشقان ينتظران الخلوة فى اشتياق واحتراق‪ ،‬يتبادالن جمال‬ ‫حوارية حول المكائد وعدمية الدم المراق وحتى الزواج والرغبات المستحيلة‬ ‫والفرار إلي عالم مغاير‪ ،‬وفى تلك الحوارات يجرى محمود دياب تحويال فى‬ ‫نمط استجابة الشخصيتين للموقف الحاد بينهما ويقلب أفق التوقعات‪ ،‬فنحن نتوقع‬ ‫اضطرابا واهتياجا نفسيا لدى الملكة وهى تشهد عدوها خارجا من الصندوق‬ ‫حتى لو كانت تنتظره‪ ،‬لكننا نشهدها هادئة متأملة واقعية‪ ،‬بينما يبدو عمرو‬ ‫مهتاجا ومضطربا رافضا للموقف كله طامحا إلى تغييره بشكل جذرى حالما‬ ‫بعالقة تجمعه بالملكة خارج شروط اللحظة وسياقاتها النفسية واالجتماعية‪،‬‬ ‫وحين تدرك الملكة عجز الخارج من الصندوق عن الفعل‪ ،‬تدرك أنها تعيش‬ ‫انتصارها األخير‪ ،‬وأنها سوف تعطى اللمسة الختامية للمشهد المركب‪ ،‬وأن‬ ‫ال أحدا غيرها سوف يتم اللعبة‪ ،‬فتسكب سم الخاتم فى جسمها لترد المرأة فيها‬ ‫للطبيعة‪ ،‬ولكى تكتمل بها كل أدوار اللعبة‪ ،‬وتتوحد فى لحظتها الختامية راقصة‬ ‫النار وقاتلة الثعبان‪ ،‬والملكة والعروس‪.‬‬

‫محمود دياب‬

‫‪153 152‬‬


‫تنتظم العالقات بين الشخصيات النصية في دوائر متداخلة‪ ،‬مركزها‬ ‫ ‬ ‫جميعا هو الملكة التى تبدو حتى فى لحظات غيابها كالنواة‪ ،‬تتكون فى مدارها‬ ‫الخفى الشخصيات والسياقات والمواقف‪ ،‬وتتشكل تبعا لحركتها الوجودية‬ ‫المصائر والتحوالت‪ ،‬ورغم مركزية الملكة وبنيتها المسرحية المهيمنة‪ ،‬فإن‬ ‫النص يضفى على شخصياته األخرى أبعادا وظالال متكاثفة‪ ،‬وكأنه يفعل ذات‬ ‫الفعل الذى يسلكه المصور الجاسوس «ابن الحكم» حين يلتقط الوجوه من زوايا‬ ‫معينة ويثبتها فى رقعة عبر كثافة لونية وانفعالية خاصة‪ ،‬إن النص يستعير‬ ‫الفعل ذاته ويأخذ نفس االتجاه‪ ،‬فيصوغ شخصياته عبر لقطات مختزلة ومواقف‬ ‫وجودية حادة‪ ،‬ويتبدى ذلك واضحا فى بنائه لشخصية جذيمة الوضاح الذى‬ ‫يتكون قبل ظهوره الفعلى فى النص من خالل كلمات الملكة ورؤيتها له‪ ،‬حيث‬ ‫نستدل من تلك الكلمات األولى على صورته المخادعة‪ ،‬فهو قد استدرج أباها‬ ‫إلى جلسة صلح ثم قتله‪ ،‬ورغم طبيعته المخادعة تلك إال إنه ليس حذرا وال‬ ‫متشككا‪ ،‬فهو قابل للخداع قدر استطاعته له‪ ،‬فحين تأتيه صورة الملكة وكلماتها‬ ‫اإلغوائية فإنه يلتقط الرسالة مستجيبا ومغترا دون أن يتوقف لحظة يتساءل‬ ‫فيها عن نوايا االبنة‪ ،‬وكيف من دون الرجال جميعا تختار قاتل أبيها ليشاركها‬ ‫الفراش والمملكة‪ ،‬ال يتوقف جذيمة رغم خبرته الخداعية‪ ،‬ورغم تحذيرات‬ ‫وزيره الداهية أمام تلك اإلشارات‪ ،‬ومضى مزهوا فى موكبه الملكى وقد‬ ‫التقطته الصورة واجتذبته كلمات المرأة وإغواؤها الجسدى‪ ،‬ليجد نفسه مجردا‬ ‫ومنفردا واقعا فى شباك المرأة المنتقمة‪.‬‬


‫ألقى جذيمة نظرة مجملة على القصر الملكى بجدرانه العارية وأعمدته‬ ‫ ‬ ‫المجردة‪ ،‬فأدرك أن الليلة التى ظنها ليلة النشوات وااللتذاذات هى ليلته األخيرة‪،‬‬ ‫وأنه فريسة المرأة التى ظنها عاشقة فألقته إلى خمارها وعجائزها منحال ونازفا‪،‬‬ ‫فى تلك اللحظة القصوى ترتد إلى جذيمة روحه المرحة وتعتاده انفعاالت‬ ‫ساخرة‪ ،‬فيمضى فى تعابثه اللغوى والوجودى مع الخمار والملكة‪ ،‬يتجرع‬ ‫مزيج ابن حنكل الذهبى ويرتشف القطرات الحارقة‪ ،‬فتفور حواسه المخمورة‬ ‫وتضطرم خالياه المحترقة‪ ،‬فيشتبك مع الزباء فى اصطراع وجودى خفى‬ ‫واشتباك مصيرى محسوم‪ ،‬إنهما إرادتان عاريتان‪ ،‬مستهلكتان فى االنتظار‬ ‫ورغبات االنتقام المتبادلة والمكائد الدموية‪ ،‬وهما يلتقيان على أرض الحجرة‬ ‫المغلقة‪ ،‬تستجمع الملكة إرادتها وتقبع متوحشة على مقعدها تطل على المشهد‬ ‫المنتظر‪ ،‬وخمارها يسقى قاتل أبيها وينادمه باألقداح والكلمات الفارغة‪ ،‬بينما‬ ‫ينثر جذيمة إرادته المستباحة على مزيج الخمار وعصائر كرمته المسكرة‪،‬‬ ‫فقد استوت األشياء بعد نجاح العصفور بصورته الغاوية فى اصطياد األسد‬ ‫من قلعته المحصنة وبروجه المشيدة‪ ،‬وحين تقرر الملكة فض عرسها الدموى‬ ‫وإنهاء احتفالها الخاص‪ ،‬تسأل ضحيتها المخمورة‪« :‬ماذا تشتهى قبل أن تنتهي؟‬ ‫كأنها تعطيه إشارة النهاية الفادحة‪ ،‬يلتقط الملك اإلشارة فيستجمع وجوده فى‬ ‫دفقة كلية وختامية‪ ،‬ويبادرها بتحديه األخير‪« :‬اشتهى أن أقتل أباك ثانية وثالثة‬ ‫ورابعة‪ ،‬المرة بعد المرة‪ ،‬أشتهى أن أرى تدمر غارقة فى الدم حتى ذرى‬ ‫نخيلها وأرى وجهك الجميل طافيا على صفحة البحيرة مختنقا‪ ،‬ثم أراه يغوص‬ ‫ويغوص حتى القرار‪ ..‬وأشتهى بعد ذلك أن أموت قبل أن تمدى يدك إلى»‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪155 154‬‬


‫يفرغ جذيمة قدحه األخير فى دمه المنذور للفجيعة والثأر المتجدد‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ويلقى اشتهاءاته الختامية ويبدأ فى الغيبوبة محاطا بالعجائز الالتى يشبهن ربات‬ ‫االنتقام فى األساطير القديمة‪ .‬وتنسكب الدماء من الشرايين المفتوحة مترقرقة‬ ‫فى اآلنية‪ ،‬ويختم جذيمة مشهده الوجودى والمسرحى معا بصرخة مخمورة‬ ‫هاذية‪ ،‬وجسد يتقبض فى عرسه الوحشى‪ ،‬بينما تتسرب قطرة من دمه صانعة‬ ‫مدارها الخاص الذى تشتبك به الشخصيات المتبقية من االحتفال الدامى‪ ،‬إنها‬ ‫تلك العوالم المتداخلة والمتصادمة والمنتسجة فى بنية محكمة ومتحولة من‬ ‫االنفعاالت المكتومة والمستترة والدماء النازفة وسكرات الخمرة والنبوءات‬ ‫الفاجعة‪ ،‬وقد صاغها الكاتب الفذ ببساطة آسرة ولقطات منتقاة‪ ،‬هنا – ثالث‬ ‫شخصيات فى مواقف قصوى‪ ،‬فبينما يستلقى جذيمة بين يدى ابن حنكل يرتشف‬ ‫القطرات المصفاة ويهذى بكلمات ساخرة مفجوعة‪ ،‬فإن الكاتب يضيف خمارا‬ ‫ثرثارا إلى مشهده الحاد ال لكى يخفف من ثقل الفجيعة ورجفة النزف‪ ،‬وإنما‬ ‫لكى يصنع لحظة وجودية مشبعة بالخمرة والدم والنبوءة‪ ،‬فابن حنكل ليس‬ ‫ساقيا لخمرة متقنة بل هو بأقداحه وعصيره المصفى يمثل الجزء الهزلى من‬ ‫الطقوس المتوحشة‪ ،‬طرف ثنائية متضادة ولكنها متوحدة فى الموت‪ :‬الخمرة‬ ‫والدم‪ ،‬السكر والنزف‪ ،‬النشوة المستقطرة واأللم الفجائى الحاد والسكين تتوغل‬ ‫فى الشريان‪ ،‬إن المشهد بكامله مركب من ثنائيات متضادة‪ ،‬الملكة وجذيمة‪ ،‬ابن‬ ‫حنكل والعجائز‪ ،‬ومن تلك الثنائيات المتضادة‪ ،‬وجودا ورؤية ودالالت‪ ،‬ينسج‬ ‫النص ظالله الحية ويلقيها على األجساد الميتة المفرغة من دمائها وحيويتها‬ ‫وطبيعتها ذاتها‪.‬‬


‫ينتقل النص إثر ذلك انتقالة مكانية وزمنية لنشهد شخصيتين دائرتين‬ ‫ ‬ ‫فى مدار الملكة معلقتين فى مجالها السحرى المركزى‪ ،‬ابن الحكم ‪ -‬الجاسوس‬ ‫والمصور – بفرشاته ورقعه وألوانه يلتقط زوايا متعددة وانفعاالت معينة للملك‬ ‫الشاعر المسترخى فى مقعده رازحا تحت ثقل المواريث والمكائد واالنتقامات‬ ‫المتجددة‪ ،‬وتدريجيا‪ ،‬مع التتابعات الحوارية المكثفة‪ ،‬يتالشى الملك فى عمرو‬ ‫ويتضاءل الجاسوس فى ابن الحكم‪ ،‬ليبقى على المسرح اثنان فى حالة وجودية‬ ‫ممتلئة‪ ،‬المصور والشاعر‪ ،‬يتأمالن زمن الصورة وزمن الروح‪ ،‬إن الصورة‬ ‫ليست ألوانا ومساحات وكتال وتكوينات وإنما هى لحظة مرصودة من وجود‬ ‫بشرى تحيا منفصلة فى الرقعة‪ ،‬ويصبح لتلك اللحظة عمر خاص بها‪ ،‬وجود‬ ‫نوعى يتشكل فى تلك اللحظة التى عبرت‪ ،‬ولكنها مازالت تحيا طالما بقيت‬ ‫الرقعة‪ ،‬ويفضى التأمل بالمصور والشاعر إلي صورة المرأة المنحدرة من‬ ‫عوالم مبهمة‪ ،‬الصورة التى اجتذبت يوما جذيمة والتقطته من مملكته وألقته‬ ‫مسفوحا ومهدرا‪ ،‬يتأملها اآلن الملك الشاعر‪ ،‬فيرى فيها لحظة مرصودة من‬ ‫زمن امرأة فيحاول أن يستوضح ما بنفس المرأة من همس عينيها فى صورتها‪،‬‬ ‫فيرتد منبهما يلفه الغموض‪ ،‬فيلجأ للمصور الذى يحيل التأويل للذات الناظرة‪،‬‬ ‫فمعنى المرأة وليد ثنائية متداخلة بين الصورة والذات‪ .‬وبتأمل زمن المرأة‬ ‫وصورتها‪ ،‬ينفض المشهد بين المصور والشاعر‪ ،‬ليسترد ابن الحكم طبيعته‬ ‫المتلصصة ويلم رقعه التى صور فيها ملك الحيرة من زوايا متعددة ويخرج من‬ ‫القصر الملكى آفال إلى تدمر ليلقى الملكة التى أوفدته عينا لها‪ ،‬فيعطيها الرقع‬ ‫محمود دياب ‪157 156‬‬


‫المصورة ويحيطها باألخبار والمعلومات التى استقاها من تجواله فى طرقات‬ ‫الحيرة وقصورها‪ ،‬بينما يبقى الشاعر مثقال بالميراث الدامى ومهماته الملكية‬ ‫الفادحة‪ ،‬إن السهام تتجمع وتندك فى جسمه هو ال فى جسم الملكة الفاتنة‪،‬‬ ‫حين يظهر قصير برغبته فى االنتقام وقدرته على صنع المكائد وإحساسه‬ ‫المأساوى بموت صديقه ومليكه جذيمة‪ ،‬يسعى الملك الشاعر إلى االنفالت‬ ‫من دائرة المكائد واالنتقامات‪ ،‬ولكن الوزير يحكم عليه الخيوط ويدفعه إلى‬ ‫مصيره الوليد الذى أعطته قطرة الدم المتهربة حتمية القدر وطابع النبوءة‪ ،‬يتفق‬ ‫الملك والوزير على المكيدة المضادة‪ ،‬ويمضى الوزير فى تنفيذها بينما يبقى‬ ‫الشاعر فى مملكته مستوحدا يتابع أخبار وزيره وخطواته المتسللة إلى قصر‬ ‫الزباء مندهشا من النجاحات السهلة وانطالء الخدعة على الملكة متراوحا بين‬ ‫أحاسيس متناقضة وتيارات شعورية متشابكة‪ ،‬هو يود التوقف واالنفالت من‬ ‫الموقف كله‪ ،‬ال يريد قتل الملكة وال أن يصير الشاعر فيه قاتال والملك متآمرا‬ ‫والحياة مكيدة‪ ،‬ولكنه يندفع منجرفا فى لعبة عدمية وعبثية معا‪ ،‬ال يملك الفكاك‬ ‫تماما كجذيمة والملكة‪ ،‬إنها شخصيات محاصرة‪ ،‬تتحرك بإرادة فاعلة وحركة‬ ‫متحررة ولكن داخل دائرة من الحتميات والنبوءات المتحققة‪ ،‬واآلن – يحين‬ ‫دوره الخاص في اللعبة الدائرة‪ ،‬يأتيه قصير بصندوق يتمدد فيه داخال مملكة‬ ‫المرأة الضد كجزء من قوافل سيارة وتجارة وهمية‪ ،‬وها هو الصندوق الخشبى‬ ‫ينفتح ليجد نفسه أمام الملكة فى حجرتها العارية‪ ،‬لكن الملكة ال تبدو مفاجأة أو‬ ‫مندهشة أو مرتعبة بل منتظرة وربما مرحبة‪ ،‬إنها صانعة الغرائب بتعبيرها‬ ‫الذى تضيف به إلى توصيفاتها السابقة لنفسها توصيفا جديدا‪ ،‬ينخرط الملك‬


‫الشاعر تدريجيا فى عالم الملكة اآلسر ويدخل دنيا غرائبها‪ ،‬فيعيد السيف إلى‬ ‫غمده ويجالسها مأخوذا بجمالها وفتنتها وينسى طبيعته المستعارة‪ :‬الملك المنتقم‪،‬‬ ‫ليسترد طبيعته األصلية‪ :‬الشاعر والعاشق‪ ،‬فيصوغ رؤية للحياة ال للموت‬ ‫ورغبة فى التواصل ال التضاد‪ ،‬إنه يتأمل لحظته األخيرة فيجد نفسه متسلال‬ ‫إلى قصر الملكة كلص صغير منخرطا فى لعبة أالعيب ومكائد دائمة‪ ،‬فال‬ ‫يستهويه المشهد الدموى المتكرر‪ ،‬فيقرر أن يناقض الموقف جذريا بأن يعرض‬ ‫على المرأة الزواج ال الموت‪ ،‬وتالقى المصائر ال تعارضها‪ ،‬وتوحد الوجود‬ ‫ال تناقضه‪ ،‬لكن صانعة الغرائب ترتد إلى واقعها مدركة أن تحقق العالقات‬ ‫مشروط بسياقات وضرورات‪ ،‬وأن المصائر ليست وليدة اختيار فردى وإرادة‬ ‫ذاتية ولكنها نتاج واقع وانعكاس تاريخ‪ ،‬فتقول لغريمها العاشق الذى يطلب منها‬ ‫إنهاء العداء الموروث جمال قاطعة وحادة‪« :‬هل فكرت فى شعبى وشعبك؟ ‪..‬‬ ‫فتراث توارثه الناس على مدى أجيال‪ ،‬ال يتالشى بكلمة من ملك‪ ،‬والحب ال‬ ‫يقحم على قلوب الناس‪ ،‬بزواج ملكة من ملك‪ .. ،‬خذها حكمة من الزباء وال‬ ‫تنسها‪ ،‬إن أرضا ارتوت بالحقد ال تنبت زهرة حب»‪ .‬يفهم الشاعر كلمات الملكة‬ ‫رافضا دالالتها النهائية التى تفضى يقينا إلى نقيض ما يريد‪ ،‬ويرضى مؤقتا‬ ‫بالفرار من الموقف وقد عجز عن تغييره‪ ،‬فيشير إليها بطرق التهرب وأساليب‬ ‫النجاة‪ ،‬ولكنها كانت قد قررت إنهاء اللعبة حتى ولو بيدها ال بيد عمرو‪ ،‬ورد‬ ‫المرأة إلى الطبيعة لكى تستكمل فى الموت األدوار الباقية‪ ،‬فترفع غطاء الخاتم‬ ‫وتصب السم فى دمها‪ ،‬ليبقى الشاعر هاذيا أمام الملكة المتهاوية صارخا وبقع‬ ‫الدم تنمو متجددة فى الحجرة العارية‪.‬‬ ‫محمود دياب ‪159 158‬‬


‫أستعيد اآلن تلك الكلمات المحورية التى أوردتها سابقا والتى جابهت بها‬ ‫ ‬ ‫الملكة شاعرها الملكى العاشق وردته من دنيا غرائبها إلى الواقع الموضوعى‬ ‫بمستوياته التاريخية والنفسية واالجتماعية‪ ،‬قائلة فى جمل تلخيصية رامزة‬ ‫رؤيتها لتراث األجيال وارتواء األرض بالدم‪ ،‬إن تلك الكلمات تشى باحتمال‬ ‫كونها صادرة عن صوت المؤلف ال صوت الشخصية‪ ،‬فبناؤها اللغوى التلخيصى‬ ‫ينتهج منهجا مغايرا للبناءات اللغوية فى النص‪ ،‬كما أن دالالتها الرمزية‬ ‫بإجمالها الكلى لتصورات مجردة تنبو عن كيفيات إنتاج الدالالت وطرائق‬ ‫عملها‪ ،‬فالملكة الصادرة عنها تلك الكلمات التلخيصية فى موقف حاد ولحظة‬ ‫وجودية مكثفة‪ ،‬وتعبيراتها اللغوية خاصة وكاشفة لتياراتها االنفعالية المستترة‬ ‫ورغباتها المختفية‪ ،‬ولم نشهدها طيلة النص تصوغ حكمة أو تجمل مقولة‪،‬‬ ‫ولذلك تبدو تلك الكلمات مقحمة على الشخصية ومنفصلة عنها مستعيرة صوتا‬ ‫خارجيا لعله صوت الراوى الخفى‪ ،‬أى المؤلف ذاته‪ ،‬وربما ابتداء من تلك‬ ‫النقطة تحديدا واستنادا إلى تلك الكلمات نفسها‪ ،‬وجدت بعض الكتابات النقدية‬ ‫مدخال لقراءة سياسية للنص ومرتكزا الجتالء رؤية محمود دياب الفكرية‬ ‫للقضايا الراهنة‪ ،‬ولتقصيات تفصيلية بدرجة معينة للرؤية الكلية للنص‪ ،‬أورد‬ ‫عدة نقاط مجملة‪:‬‬


‫أوال – يوحى ظاهر العبارات الخادع بإدانة مضمرة للمدينتين‬ ‫ ‬ ‫المتعاديتين وسالالت الدم المتضادة والثارات المتبادلة‪ ،‬فحين يحاول الملك‬ ‫الشاعر أن يتجاوز الميراث الدامى مستجيبا لتدفقات الحياة وتجددها‪ ،‬فإن الملكة‬ ‫ترده فى إشارة نهائية إلى ارتواء األرض بالدم وعقمها عن استنبات زهرة‬ ‫حب‪ ،‬ولكن هذا الظاهر الخادع يتكشف عن نقيضه‪ ،‬أى عن إدانة الذات ال‬ ‫المدينة‪ ،‬ورفض الفردية المنكفئة على محورها الخاص وعجزها عن التواصل‬ ‫الحى والوجود المتجدد‪ ،‬ويرجع هذا االلتباس بين الداللتين إلى لفظة األرض‬ ‫في العبارة‪ ،‬فبعض التفسيرات أحالت معنى األرض وداللتها الرمزية إلى‬ ‫الواقع الموضوعى‪ ،‬فركزت على أن الملكة تقصد المدينة وعالقاتها المتوارثة‬ ‫بإشارتها إلى األرض المرتوية بالدم‪ ،‬وتلك إحالة خاطئة‪ ،‬فالملكة تقصد نفسها‬ ‫باألرض وتحيل إلي ذاتها حين تشير إلى عدم القدرة على استنبات زهرة حب‪،‬‬ ‫فالملك الشاعر يعرض عليها الحب واالرتواء الجسدى والعاطفى ولكنها تدرك‬ ‫أنها فقدت طبيعتها األنثوية وأصبحت أرضا مجدبة‪ ،‬ومن هنا تأتى إشارتها إلى‬ ‫عقم األرض داللة على عقمها الجسدى ذاته‪.‬‬ ‫ثانيا – تعد الملكة مشروعها االنتقامى الفردى فى حجرة مغلقة‪ ،‬محاطة‬ ‫ ‬ ‫بصورة على جدار‪ ،‬وتوجه فعلها االنتقامى إلى ملك المدينة المعادية‪ ،‬بينما يتم‬ ‫تهميش الكتلة االجتماعية وإبعادها عن الصراع الدموى الدائر‪ ،‬فهى إذن مكائد‬ ‫قصور واألعيب ساسة وثارات فردية فى دورة تكرارية عدمية‪ ،‬وهنا يطرح‬ ‫النص رؤيته لعقم الحاكم المنفصل عن محيطه االجتماعى وسياقه التاريخى‬ ‫محمود دياب‬

‫‪161 160‬‬


‫وعجزه حتى عن امتالك لحظته الخاصة‪ ،‬فالملكة فى مشهدها االنتقامى وجذيمة‬ ‫ينزف فى آنية العجائز‪ ،‬تستشعر المحنة ربما على نحو أكثر كثافة وأعمق‬ ‫وطأة‪ ،‬وحين يبادرها عمرو بن عدى بكلمات شاعرية تبغى محو الميراث‬ ‫الدامى وتجاوزه برغبات فردية‪ ،‬فإن الملكة التى جربت عزلة المشروع الفردى‬ ‫تشير ألول مرة إلى تراث األجيال ومكونات الكتلة االجتماعية التى ال يمكن‬ ‫القفز على شروطها ومنطقها فى صياغة أي مشروع تصالحي‪ ،‬وإال سيكون‬ ‫كاالنتقام الفردى شكليا منفصال مرتدا إلى الذات مؤكدا عجزها المتجدد‪.‬‬ ‫ثالثا – يذهب النص فى تصوره اإلجمالى إلى أن تغييب الكتلة‬ ‫ ‬ ‫االجتماعية وتهميش فعلها التاريخى وإبقاءها خارج الصراعات المصيرية‬ ‫لن يؤدى إلى التقاء الضدين حتى لو كان أحدهما شاعرا‪ ،‬ولن يفضى إلى‬ ‫اجتماع النقيضين حتى لو كان أحدهما راغبا فى تجاوز المواريث االجتماعية‬ ‫والتاريخية‪ ،‬ولذلك يعمد النص إلى تكوين افتراض خيالى‪ ،‬وهو أن يكون‬ ‫الخصم شاعرا ممتلكا لمشاعر دافقة‪ ،‬وراغبا فى إنهاء دائرة الدم التكرارية‪،‬‬ ‫وينسج على هذا االفتراض الخيالى رؤيته الفكرية ونبوءته الفاجعة‪ ،‬ويتشابه‬ ‫الفعل المسرحى لمحمود دياب فى ذلك النص بفعله المسرحى فى نصه الكبير‬ ‫اآلخر «باب الفتوح»‪ ،‬حيث يختار لحظة تاريخية منتصرة هى انتصار صالح‬ ‫الدين األيوبى فى حطين واستعادته القدس والمدن العربية المستلبة‪ ،‬ليقرأ من‬ ‫خالل تلك اللحظة المنتصرة العالقات االجتماعية المهزومة والمنحسرة‪.‬‬


‫في كال النصين‪ ،‬يذهب محمود دياب إلى طرف الموقف األقصى‬ ‫ ‬ ‫ليقرأ السياق النقيض والعالقات المستترة واألعماق المتضادة مع السطوح‬ ‫الالمعة‪ :‬فى «أرض ال تنبت الزهور» ‪ :‬ال يكتسب الخصم فى الموقف الختامى‬ ‫بين الملكة والشاعر صفاته المعتادة‪ ،‬فهو ليس طالبا لدم الملكة بل هو يريد‬ ‫تواصلها‪ ،‬وليس راغبا فى االستمرار اآللى فى الدورة الوحشية بل يسعى إلى‬ ‫إنهائها ونقض منطقها‪ ،‬فهو شاعر وحالم ويبدو آتيا من عوالم خيالية‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬ ‫يصوغ النص رؤيته الصلبة‪ ،‬فليست المسألة كلمة من ملكة أو رغبة من حاكم‪،‬‬ ‫بل تراث توارثه األجيال وشروط موضوعية تبرر االقتتال أو تحتم الوئام‪،‬‬ ‫والقفز على ذلك التراث حفر فى الماء‪ ،‬وتجاوز تلك الشروط حركة دائرة فى‬ ‫فراغ‪.‬‬ ‫وفى «باب الفتوح» يختار دياب أبهى لحظات التاريخ العربى وأكثفها‬ ‫ ‬ ‫داللة على الزهو القومى واالنتصار‪ ،‬ولكنه برؤيته الجدلية يكشف الخرائب‬ ‫المتنامية خلف الواجهات المتوهجة‪ ،‬فرغم طابور الفرنجة المكبلين الذين‬ ‫يمرون أمام خيمة صالح الدين فى استعراض لألسرى‪ ،‬ورغم جميع المظاهر‬ ‫االحتفالية األخرى التى تشى باالنتصار العسكرى‪ ،‬إال أن أسامة بن يعقوب‬ ‫يعكس وعيا مخالفا ونقيضا‪ ،‬فما األندلس – وطنه األصلى – إال عضو مبتور‬ ‫من جسد ضرب فيه العفن وسرى فيه الدود‪ ،‬عاكسا بذلك رؤية الجماعة‬ ‫المعاصرة للزمن التاريخى المستدعى‪ ،‬وراصدا مفارقة انتصار العرب فى الشام‬ ‫والمشرق وهزيمتهم فى األندلس والمغرب‪ ،‬واختالف صورتهم فى المنطقتين‪،‬‬ ‫محمود دياب ‪163 162‬‬


‫فى األولى هناك موقعة منتصرة وقائد يستعرض األسرى وتكبيرات نصر‬ ‫وتهليالت جند ومؤرخ مشغول بتسجيل االنتصار وتطويع الكلمات وضبط‬ ‫أواخرها التزاما بأصول الكتابة‪ ،‬وفى الثانية يعيش العرب في دائرة ضيقة من‬ ‫األرض كاألسرى‪ ،‬بينما يبيع الفرنج األسير بزق صغير من الخمر‪ ،‬ويحولون‬ ‫الجوامع إلى خمارات وبيوت دعارة‪ ،‬وهكذا – صورتان متناقضتان داخل‬ ‫اللحظة ذاتها والزمن الواحد‪ ،‬وهو ما يؤدى بأسامة إلى تجاوز نشوات النصر‬ ‫وظواهره االحتفالية إلى رؤية تستبصر اللحظة المقبلة‪ ،‬حيث استثمار النصر‬ ‫وتفريغه من محتواه ودالالته‪ ،‬ليصبح مادة لقصائد متملقة واحتفاالت شكلية‪.‬‬ ‫هكذا – نسج محمود دياب فى الذاكرة المسرحية نصه األخير وعالمته‬ ‫ ‬ ‫الباقية «أرض ال تنبت الزهور» ثم أغلق الباب ليذوى جسمه مستوحدا فى‬ ‫حجرة مغلقة‪ ،‬تاركا لنا تراثه اإلبداعى الذى رغم وفاة صاحبه منذ نحو أقل‬ ‫قليال من ثالثين عاما‪ ،‬إال أنه مازال ممتلكا لطاقة إبداعية متنامية وقابلة لصياغة‬ ‫أسئلة متجددة والتحاور مع معطيات معرفية ومراحل اجتماعية متحولة‪0‬‬



‫الهوامش والمراجع‬


‫‪ -1‬‬

‫سي از قاسم‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬هيئة الكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪27‬‬

‫يورى لوتمان‪:‬مشكلة المكان الفنى‪،‬ترجمة سي از قاسم‪،‬مجلة ألف‪،‬العدد‬ ‫‪ -2‬‬ ‫السادس‪،‬الجامعة األمريكية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪86‬‬ ‫سامية أسعد‪ :‬إشكالية الزمن فى المسرح المصرى‪ ،‬مجلة ألف‪،‬العدد‬ ‫‪ -3‬‬ ‫التاسع‪،‬الجامعة األمريكية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪189‬‬ ‫‪ -4‬‬

‫سامية أسعد‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪29‬‬

‫فدوى مالطى دوجالس‪ :‬التحليل التضمينى لمسرحية ليلى والمجنون‪،‬‬ ‫‪ -5‬‬ ‫فصول‪،‬المجلد األول‪،‬العدد الثانى‪،‬هيئة الكتاب‪،‬يناير ‪ ،1988‬ص‪210‬‬ ‫انظر لمزيد من التحديدات واإلضافات‪:‬‬ ‫ يمنى طريف الخولى‪ :‬إشكالية الزمان فى الفلسفة والعلم‪ ،‬مجلة ألف‪،‬العدد‬‫التاسع‪،‬الجامعة األمريكية‪ ،‬القاهرة ‪0‬‬ ‫ ياسين النصير‪ :‬الرواية والمكان‪،‬و ازرة الثقافة واإلعالم‪ ،‬بغداد‪0‬‬‫‪ -6‬روالن بارت ‪ :‬نظرية النص‪ ،‬ترجمة محمد خير البقاعى‪ ،‬مجلة العرب والفكر‬ ‫العالمى‪ ،‬العدد الثالث‪ ،‬مركز اإلنماء القومى‪ ،‬بيروت‪ ،‬صيف‪ ،1988‬ص‪93‬‬ ‫محمود دياب ‪167 166‬‬


‫‪ -7‬أوزفلد دوكر ‪ :‬نظرية األفعال الكالمية‪،‬ترجمة عبد العزيز شبيل‪ ،‬مجلة‬ ‫العرب والفكر العالمى‪،‬العدد العاشر‪ ،‬مركز اإلنماء العربى‪ ،‬بيروت‪ ،‬ربيع ‪،1990‬‬ ‫ص‪146‬‬ ‫‪-8‬يشيرالباحث الى استفادته من بحث غير منشور لمحمد عبد الهادى عن تاثير‬ ‫كليوبات ار شكسبير على شوقى‪0‬‬ ‫‪-9‬اعتدال عثمان‪:‬الواقع والتاريخ فى باب الفتوح‪ ،‬مجلة فصول‪،‬المجلد الثانى‪،‬العدد‬ ‫الثالث‪،‬هيئة الكتاب‪ ،‬القاهرة ‪،‬ص‪237‬‬ ‫‪ -10‬اعتدال عثمان‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪238‬‬ ‫‪ -11‬اعتدال عثمان‪ :‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪240‬‬ ‫‪-12‬اعتدال عثمان ‪:‬مرجع سبق ذكره‪ :‬ص‪242‬‬ ‫‪ -13‬يتماثل المستويان التجريدى والواقعى فى نص دياب مع المستويين ذاتهما‬ ‫فى نص يونسكو «ارتجالية الما» حيث يونسكو المؤلف الذى جلس ليكتب‬ ‫مسرحيته الجديدة‪ ،‬ويتوافد عليه ثالثة من النقاد أو مديرى المسارح يحملون اسما‬ ‫واحدا وذلك فى محاولة منهم لسلب يونسكو عقليته المجددة مثلما توافد الغرباء‬


‫على الرجل الطيب لسلب ملكية البيت‪ ،‬ورغم ما فى االرتجالية من خصوصية‬ ‫وما فى الغرباء من عمومية إال انهما يقتربان فى عرضهما للحدث الدرامى الذى‬ ‫يبدأ بقوة ما تمارس ضغطا متزايدا على الشخصية المحورية معتمدتين على تأكيد‬ ‫الداللة عبر بعثرة المخطوطات وإشاعة الفوضى فى المكان وفى هيئة يونسكو‬ ‫نفسها وذلك فى االرتجالية‪ ،‬أو بالقهر المادى للرجل وتمزيق مستنداته فى الغرباء‪،‬‬ ‫ويتم ذلك فى شكل هزلى‪0‬‬ ‫ انظر ‪ :‬أسامة أنور‪ ،‬تأثير العبث فى ثالثية محمود دياب‪،‬مجلة القاهرة‪،‬الهيئة‬‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬العدد ‪ ،67‬يناير‪ ،1987‬ص‪15‬‬ ‫‪ -14‬يستعمل «أرسطو» هذا المصطلح فى فن الشعر ليدل به على لحظة‬ ‫التنوير التى تتحرك فيها الشخصية من الجهل إلى المعرفة‪ ،‬وتعنى بذلك عنده‬ ‫تعرف شخصين على بعضهما بعد طول انفصال أو اكتشاف مجهول‪ ،‬ويقسم‬ ‫«أرسطو» التعرف فى الماساة إلى ستة أنواع‪ ،‬ويرى بعض الباحثين أن التعرف‬ ‫مستمد من طقوس العبور فى المجتمعات العشائرية القديمة ‪0‬‬ ‫انظر ‪:‬ابراهيم حمادة‪ ،‬معجم المصطلحات الدرامية‪،‬دارالمعارف‪،‬القاهرة‪ ،‬ص‪75‬‬ ‫‪ -15‬بهاء طاهر‪ :‬الزوبعة‪ ،‬مقال ملحق بالنص‪،‬مؤسسة التأليف والنشر‪،‬القاهرة‬ ‫ص ‪248‬‬

‫محمود دياب ‪169 168‬‬


‫‪ -16‬وحيد النقاش‪ :‬أزمة الخوف التى فجرت قوى الخير فى الزوبعة‪ ،‬مقال ملحق‬ ‫بالنص‪،‬مؤسسة التأليف والنشر‪،‬القاهرة‪،‬ص‪257‬‬ ‫‪ -17‬شاكر عبد الحميد‪:‬الزمن اآلخر‪ ،‬الحلم وانصهار األساطير‪ ،‬مجلة فصول‬ ‫المجلد الخامس‪،‬العددالرابع‪،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪,‬القاهرة‪،1985،‬‬ ‫ص‪231‬‬ ‫‪ -18‬رينيه جيرار‪:‬العنف واالضطهاد‪ ،‬كبش الفداء‪ ،‬ترجمة جهاد هواش‪،‬عبد‬ ‫الهادى عباس‪ ،‬دار دمشق‪ ،‬ص‪29‬‬ ‫‪ -19‬رينيه جيرار‪ :‬العنف المقدس‪ ،‬ترجمة جهاد هواش‪،‬عبد الهادى عباس‪ ،‬دار‬ ‫الحصاد‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪20‬‬ ‫‪ -20‬رينيه جيرار‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪146‬‬ ‫‪ -21‬اعتدال عثمان‪:‬الواقع والتاريخ فى باب الفتوح‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪240‬‬ ‫‪ -22‬محمود قاسم‪ :‬مناهج األدلة فى عقائد الملة البن رشد‪ ،‬مكتبة االنجلو‪،‬القاهرة‬ ‫ص‪162‬‬ ‫وانظر للمزيد‪ :‬محمود قاسم ‪ :‬ابن رشد وفلسفته الدينية‪ ،‬مكتبة االنجلو‪ ،‬القاهرة‬


‫‪ -23‬محمد عزيزة‪ :‬اإلسالم والمسرح‪،‬ترجمة رفيق الصبان‪ ،‬المكتبة الثقافية‪،‬‬ ‫الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪20‬‬ ‫‪ -24‬أحمد أبو زيد ‪:‬الذات وما عداها‪ ،‬مدخل لدراسة رؤى العالم‪ ،‬المجلة‬ ‫االجتماعية القومية‪،‬المجلد السابع والعشرون‪ ،‬العدد األول‪ ،‬المركز القومى للبحوث‬ ‫االجتماعية والجنائية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬يناير ‪ ،1990‬ص‪67‬‬ ‫‪ -25‬جابر عصفور‪ ،‬عن البنيوية التوليدية‪،‬مجلة فصول‪ ،‬المجلد األول‪،‬العدد‬ ‫الثانى‪،‬الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬يناير ‪ ،1981‬ص‪85‬‬ ‫‪ -26‬جابر عصفور‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪86‬‬ ‫‪ - 27‬جابر عصفور‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪87‬‬ ‫‪ -28‬لوسيان جولدمان‪ :‬المنهجية فى علم االجتماع األدبى‪ ،‬ترجمة مصطفى‬ ‫المسناوى‪،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪،‬ص ص ‪ ،10‬اا‬ ‫‪ -29‬السيد حافظ األسود ‪ :‬أنماط التفكير‪ ،‬دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم‬ ‫فى المجتمع المصرى‪ ،‬ضمن ‪ :‬المجلة االجتماعية القومية‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪،‬‬ ‫محمود دياب‬

‫‪171 170‬‬


‫ص‪ 38‬وما بعدها‪0‬‬ ‫‪ -30‬السيد حافظ األسود‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪44‬‬ ‫‪ -31‬اعتدال عثمان‪:‬الواقع والتاريخ فى باب الفتوح‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪241‬‬ ‫‪ -32‬اعتدال عثمان‪:‬الواقع والتاريخ فى باب الفتوح‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪،‬‬ ‫‪ -33‬السيد حافظ األسود ‪ :‬أنماط التفكير‪ ،‬دراسة أنثروبولوجية لرؤى العالم فى‬ ‫المجتمع المصرى‪ ،‬ضمن ‪ :‬المجلة االجتماعية القومية‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪40‬‬

‫باب الفتوح‬



‫المحتويات‬


‫‪ -‬البنية الداللية‬

‫‪13‬‬

‫‪-‬رؤى العالم‬

‫‪75‬‬

‫ العالم المتحول واللحظات المنسية ‪139‬‬‫‪-‬الهوامش والمراجع ‪161‬‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.