الكالم الصفي وقصة إنتاجه تعبريًا
وص يف ِخ ِ الس َياق) يانة ِّ ص ٌ (ن ُ ُ
خـداش زيـاد َّ
مركز القطَّ ان للبحث والتطوير التربوي مؤسسة عبد احملسن القطَّ ان رام الله – فلسطني 2009
عنوان الكتاب: ِ ِ َات َج ِميلةٌ َ أل َ الس َياق َأ ْوق ٌ خطائِنا ال َّن ِض َرة ُ ..ن ُص ٌ وص في خيانة ِّ خداش تأليف :زياد َّ شمالة مراجعة لغوية :عبد الرحمن أبو َّ Book Title: Delightful Rushes of Zesty Blunders: The Duplicity of Context Author: Ziad Khaddash
الناشر: مؤسسة عبد احملسن القطَّ ان مركز القطَّ ان للبحث والتطوير التربوي رام الله – فلسطني الطبعة األولى 2009 هاتف)972( 2 2963281 : فاكس)972( 2 2963283 : Publisher: A. M. Qattan Foundation Qattan Center for Educational Research and Development P. O. Box 2276 Ramallah – Palestine First Edition - 2009 ISBN: 978-9950-313-31-6 Tel: +972 2 2963281 Fax: +972 2 2963283 www.qattanfoundation.org
لوحة الغالف واللوحات الداخلية للفنان جاد سلمان-فلسطني.
ـداء ِإ ْه َ
إلى هيفاء ... بطلة قصتي ..وحياة قصتي ..وقصتي.
قائمة احملتويات 7إضاءات 9مقدمة
شغف مضاد ،رغبة معاكسة ...وفعل طافح بالعافية ملعلم ال يشاء أن يكون معلماً!
13تَجربتي يف تَ للص ِّ السابع الكتابة دريس ف َّ اإلبداعية َّ ِ ِ ِ السطح رب ِض َّد ال َي َباب، حرب ِض َّد َّ ٌ َ 21ح ٌ ِ ِ الع َر ّبية) نهاج (إعدام اخليال في ِم ِ ُ اللغة َ
وسح ُر الالمتحقق َ 37ج َمالياتُ ال َّت خريب ِ ِ
ارسة القف ِز من ال َّن ِ دريبات صفيةٌ َع َلى مُ َم ِ ِ وعناق ا ُ حللم) وافذ ( َت ٌ
حث عن َ ُ الم َّ الضائع اعتناق َع 49 الك ِ قيدة ال َّت َجاو ِز يف ال َب ِ ِ ِ تدريس َنص) (جتربةٌ في
ثمة َ ون األُس َتاذ َ ... مل َعانٌ ُم َب َّلل .هل تَ َراه؟ 61انظ ْر ُع َي َ مل َ العينني ا ُ ُ كاية ُمع ِّلم َ تني اجملنون ِذي ن ِ 71ح الف ِّ ش َّج َر ِ ِ ِ َ َ َّ َ ُ وطال ِب ِه الذين اختفوا فجأة ُ الطالب املذعو ِر الَّذي ُض َ ف حكاية أَمين بط يف َّ 79 الص ِ ِ س َده س َج َ تحس ُ يَ َّ متد َد َع َلى َ مس ل َت ْن َه َ واستسلم َّ شه رض س ّ َ للش ِ األ ِ 93اعرتافاتُ مد ِّر ٍ َات جميلةٌ َ ألخطائنا ال َّن ِض َرة) ( َأوق ٌ
ون يحت ّلون ا َ ُ 103ط َّ ملدرسة ال ِبي االنتحاريُّ َ َ ٌ ٌ حلوة تَ ُع ُّ ض يَدي غيمة 109 ْ شجا َر َها 115 كانت ت ُ َح ِّد ُث أَ َ ْ 121 بصو ِتك َ ..ف ُ الدي َك ِثري س ِليني َ الغبا ُر يف ِب ِ اغ ِ ريوز لماتٌ عن َف ُ َ 127ك َ ِ الس َياق) (في خيانة ِّ
الد َ هشة! َ 131هيـَّـا نُطار ُد َّ 135ال َبح ُر َ طف ُ واأل َ والك َتابَة ال ِ اد َو ِح َكايَات جس ٌ 139أَ َ
إضــاءات نصوصي هذه ليست قصص ًا متخيلة ،وليست وقائع مؤكدة ،إنها كل شيء، تخييل وواقع ،أوهام ومتنيات ،أحالم وشطح .إنها ببساطة حتليق (غير شرعي) فوق جبل الثلج الراكد املسمى مدرسة. أنا لست رج ً ال تربوي ًا أبداً ،لم أحلم يوم ًا أن أكون مدرساً ،تورطت في املهنة، وما زلت بسبب انعدام اخليارات ،وملا كان التدريس –برأيي -جرمية بحق أجسادنا ال واغتيا ً أو ً ال ،وقت ً اضطررت للبحث عن ال لروح اإلنسان فينا وإمكاناته ،فقد ّ طرق التفافية لقتل القتل ،وحشر اجلرمية في زواياها النتنة ،وحفظ كرامة أجسادنا، فكانت هذه الدروب والشعاب ،التي اجترحتها مع تالميذي الذين تورطوا هم بالوجود هنا مثلي متاماً .نحن نحاول هنا إثبات حقنا في االستمتاع بكوننا بشراً. املدارس في بالدنا أمكنة مثالية لنفي إنسانيتنا. اضطررت إلى صياغة مشاركات طالبي في النقاش بطريقتي اللغوية اخلاصة ،مع ّ االحتفاظ الكامل مبعانيهم وأفكارهم وهواجسهم. الشكر لطالبي الذي تعاونوا معي في كسر جمود املكان-املدرسة ،وحتطيم عنجهيته البليدة. الشكر لـ «القطان»؛ املؤسسة التي فهمتني وشجعتني.
7
مقدمة شغف مضاد ،رغبة معاكسة ...وفعل طافح بالعافية ملعلم ال يشاء أن يكون معلمًا! وسيم الكردي خداش حني يكتب بعض ًا من ال تذوي جذوة الشغف القصصي لدى القاص زياد َّ جتاربه في «مهنة التدريس» من موقعه «كمعلم» ،فال جترده «بالدة املدرسة» أو القص هذه ،فيستمر القص ،ولكن ما يروى هنا «بالؤها» أو «بالهتها» من جذوة ّ سيد النص في حضور هو قصص أخرى ،من طراز آخر ،يقف احلوار فيها ،وكأنه ّ الكلمات ،وفي حضور أصحابها الغائبني؛ الطالب.
9
ِ جتليات هذه التجارب املتناثرة في أزمان انعقادها، احلوار ،نعم احلوار؛ أعمق املنتظمة في مكان انعقادها وسياقات إنتاجها .طلبته يتحررون من املألوف والعادي من التعبير ،واملسكون بالنمطي من التعبير ،يقفزون على أجنحة احلكي يحيكون مجازات واستعارات وصور ًا عبر نصوص لم يحيكوا من قبل ذلك ما يشبهها ،ولم يروا في نصوص كتبهم املدرسية ما مياثلها ،يدفعهم املعلم أو القاص أو كالهما مع ًا إلى مغامرة ال تقع في أقصى ما تسمح به حدود اللغة وحسب ،بل في ما ميكن جتاوزه من حدود اخليال عبر ذائقة تتجاوز ما ُأفسد منها في «حقل التعليم»، لتصل إلى ما فيها من يناعة وطزاجة في «مجال التعلم» .وعلى الرغم من أنه يعيد بعض االشتغال على نصوص تالمذته حني يدونها مستعين ًا بذاكرته الرطبة ،فإنه يحاول أن يجد لنفسه عذر ًا حتت وطأة قيود البحث ومتطلبات النقل« :االضطرار إلى صياغة مشاركات طالبي في النقاش بطريقتي اللغوية اخلاصة ،مع االحتفاظ الكامل مبعانيهم وأفكارهم وهواجسهم» .وهو جلوء اعتذاري ال ضرورة له حني نرى البحث التأملي متجلي ًا عبر بنية قصصية تضع ال ّناص فيها في موقع متغير داخل مجاله العملي ،وتتيح له إمكانية إعادة سردها وفق تأويل يخدم غايات النص النهائية كتجربة جسدية وكفعل كتابي إبداعي .ورمبا تأتي اعتذاريته هذه من مالحظة كنت قد أشرت فيها إلى ذلك لزياد في أول مرة نشر فيها نص ًا من هذه النصوص في مجلة رؤى تربوية حني قلت له إن كالم طالبه يتغير عبر إعادة كتابته من قبله ،وهذا التغيير قد يخدش املعنى أو يعكره أو ينأى به عن منبعه األصلي،
وكم ُل ْه ٍم من ناحية ثانية ،وفي ومع ذلك فهو يستعمل كالمهم كنص من ناحيةَ ، االستعمالني فهو يشتغل على القول كي يغدو قصصاً ،وكي يغدو شهادة ،وفي كلتا احلالتني فهو بحث داخل البحث وخارجه ...ولنتجرأ ،قليالً ،ونسميه «بحث ًا عبر القص» .إن النظر في هذه النصوص مع ًا يدفعنا إلى أن نشفع له جترأه يؤمن النقل .ولعل املراد على «أمانة النقل» عبر «أمانة القص» الذي ال َّ يؤمن كما ال ّ املعبر عنها ملستقبل األيام، هنا من هذه النصوص هو الرسائل التي ستبثها التجارب ّ وليس املراد هو الصور التي ميكن أن تلتقطها الذاكرة مما أنتجته التجربة في ماضيها وحسب .إنها كتابة جديدة تأخذ مما قيل ،وتبثه كما يراد للنص أن يكون ،لذلك فهو «يخون السياق» كما يشتهي ،وبهذه «اخليانة» فهو ال يعيد انتماء املعلم للسياق فحسب ،بل انتماء السياق لإلنسان في املعلم .إنه ال يتلعثم حني يبوح بخياناته، أو يجأر بها؛ إنها جرأة اخلائف ،اخلائف من اتهامه بالتخلي عن نصه القصصي وارتكابه فظاعة «البحث العلمي» ،فإذ به يخون خيانتني؛ يتواطأ مع «القاص» فيما يقص لنا ،ويتواطأ مع «املعلم» حني يحكي لنا عن عمله املهني الذي يكرهه ،وإذ ال تعلمي ًا من طراز رفيع ينبغي محاورته ،فع ً باخليانة «التربوية» تغدو فع ً ال يتحقق ضمن عملية يتضافر فيها «النقض فالبناء ثم نقض آخر فبناء آخر »...يسيران معاً ،أحدهما مالزم لآلخر والزم له .إذن ،فهو ال يجعل من «املدرسة» كما هو متواضع عليها في الذهن االجتماعي السائد مرجعي َته ،بل يفككها ويعيد مساءلتها َ املدعاة ،ودورها «الرسولي» مجرد ستارات حتجب ويخبرها بأن «طهارتها» ّ معاولها الطاغية التي تفعل فعلها في إفساد اخليال ،وتكريس ال الببغاء كله ،بل رجع صداه وحسب.
10
نفسه مجبر ًا على عبورها ،وحتقنه بكراهيتها: هذه التجربة التي يجد «املعلم» َ «فالتدريس جرمية بحق أجسادنا» ،إنها «مهنته» التي يظن أنها «متتهنه» ،ورمبا هي كذلك ،إنه «ميتهنها» أيضاً ،فتبث فيه شغف ًا مضاد ًا ملا ميكن أن نسميه «املدرسة» .إن «املدارس في بالدنا أمكنة مثالية لنفي إنسانيتنا» .إنه االمتهان بجذري الكلمة معاً: وم ُه َن) .ومن هنا يتجلى يقينه الوحيد ،بأنه في املكان الذي ال ينبغي له أن (م َه َن َ َ يكون فيه ،وتبدو املجازفة في قبوله في حدها األكثر غرابة ،ضجيجه الهادئ ميعن في ارتكاب «التدريس» على الرغم من موقفه املعرفي من كل هذه املهنة التي يتخلق فيها «هاجس أن يكون التدريس جرمية بحق اجلسد ،أن تكون املدرسة املكان املثالي لنفي اإلنسانية» ،ويبقى معلماً؛ معلم ًا ليس وفي ًا ملا يقوم به قو ً ال ،وهو في اآلن وفي ملا يقوم به فع ً ال ...وليقل «الكاتب» عن «املعلم» ما يشاء ،وليحشد نفسهٌّ ، ما يشاء من اللعنات على هذه املهنة «اللعينة» ،لكنه ال يتبرأ منها حني ينبغي أن
يكون «معلماً» ،ولكنه يختار في أحيان كثيرة التسرب مما اعتاد الناس فيما ينبغي أن يكون عليه املعلم ...يجتاز ذلك ويتجاوزه بكفاءة نادرة؛ بكفاءة «الكاتب» و»املعلم» معاً ،ويضع كليهما مع ًا مضفرين في داخل التجربة التعليمية ،بل في صميمها ،وليقل« :لست تربوياً ،ولم أحلم بأن أكون مدرساً ،تورطت في املهنة، ولنر كيف يقتص أحدهما من جلأت إليها لغياب اخليارات ،»...ليكن ذلكَ ، اآلخر في لعبة يتواطأ كالهما على اآلخر مبعرفته. ستستغربون كم يحتفي مبا يقوم به مع التالميذ كما يحتفي بقصة جديدة له ،يقيم لذلك احتفا ً األولي الطازج، ال كرنفالي ًا ال ينتهي ،تدوم احتفائيته املشبعة ببراءة ّ وتستمر ،وكأنها تفرط في بث براءتها على الرغم من مرروها على عوالم ال منتهية مما يفقدها هذه البراءة في شوارع رام الله األخاذة بالنشوة حني يذرعها بقدميه من أقصاها إلى أقصاها؛ يذرعها كقاص في ثوب املعلم ،كما يذرعها كمعلم في سيدون نطفتها اآلن ستتراءى له حلظة ثوب القاص ،وكما تتراءى له حلظة قصصية ِّ «مدرسية» ،سيتعجل الغد كي ينثرها في صفه بني طالبه ،فيتلقفونها لتغدو كتابة، وتبدو الكتابة هنا نص ًا بنص. إنه في هذا الكتاب يكتب شذرات من جتربة مليئة بالشغف في عمقها ،محاطة بكراهية سياق إنتاجها ،لكن األمر ليس كراهية صرفة ،ورمبا لم تكن الكراهية وحدها دافع ًا وراء ما أجنز املعلم القاص أو القاص املعلم؛ إن زياد يتنصل من أن يكون “رج ً ال تربوياً” ،إنه يقول ذلك ويفعله ،وهو يدرك حجم املجزرة التي تقوم جتسد أي شكل من أشكال بها املدرسة .إن إدراكه ملا تعنيه “املدرسة” وأنها ال ِّ العافية ،وأنها املكان الذي يزج فيه الصغار ،وتبدأ املفرمة بفرم خياالتهم وأفكارهم وهواجسهم وتطلعاتهم ...يدفع به إلى أن ينزاح كثير ًا عما هو مرتب ومنظم فضاء دراسي ًا مفتوح ًا لطاقة ومدروس ،ويحاول أن يجعل من احليز املدرسي املغلق ً التالميذ كي يرحلوا بعيد ًا في خياالتهم التي قلي ً ال ما تتيح لهم املدرسة هذا النوع من الرحلة.
11
ويبدو الكتاب كرحلة أيضاً ،بكل ما احتوى بني دفتيه من خبرة وجتريب؛ وكما اخلبر ُة قصةٌ ،فالقصةُ خبر ٌة ،وفي احلالتني لدينا فعل في احلياة وفعل في روايتها، وكالهما -فعل الرواية ورواية الفعل -يتضافران ،تضيف املسافة فيما بني افتراقهما ،أو لعلها تذوب . ...فالقصة ليست إطار ًا فقط أو مترين ًا في الكتابة، إنها الفعل (الذي يصور) ما ال منلك ،وهي ليست إطار ًا براني ًا وحسب ...تحُ شر
فيه األفعال التعليمية بل هي رواية ،روايةٌ (ما للتجربة) كما يراها الراوي وكما يرويها ،تقول ما يرد فيها ،ولكنها أيض ًا (وهذا األهم) تقول ما ال يرد فيها ... إنها ال تعني فقط (أن الضمني مسكوت عنه) ،بل إن الضمني هو النص األصلي الذي تقوله كل كلمات النص “الظاهر” ،إنها تقول “أبعد” مما “تقول” ،وتسلك أحيان ًا الطرق االلتفافية لتقول ما تنوي قوله؛ ففي النص السياسي/اجلغرافي، وطرقَها ليقتل القتل كما يقول ،تستدعي فإن “الطرق االلتفافية” التي بحث عنها َ خنق مدننا وقرانا من قبل غاصبها ،وتغدو الطرق االلتفافية شرايني حياة ملستوطناته ...أما في حالتنا ،فإن االستعارة هنا تذهب إلى مكان آخر ،على الرغم من أن هذه اإلحالة “تتجه بنا نحن الذين نعرف “الطرق االلتفافية” ،إلى تلك الطرق اخلانقة “لنا” ...واملنفتحة “لهم” .تذهب االستعارة إلى جتاوز الطرق املعروفة واملطروقة واملعتادة على طرق أخرى تلتف فترى ما لم تعتد رؤيته ،وتعرف أن هناك موجودات ما وراء العني ،وتغدو العني مؤهل ًة ليس اللتقاط مكرر منسوخ، بل التقاط فريد وبكر وخاص وشخصي. أكاد أقول :شكراً ،ملعلم لم ينتظر شكر ًا من أحد ،ولم يشأ أن يكون معلماً ،ولم يرغب في أن يكون مدرساً ،ومع ذلك فقد أعطى املهن َة كما لم يعط كثيرون ،إن املسألة رمبا لم تكن “حباً” أو “كراهية” ،بل كانت كما ينبغي أن تكون ،لشخص وجد نفسه في مكان مدرسي “طوع ًا أم إجباراً” ،فما كان منه إال أن يعطي كل ما لديه ،ولذلك ،سأقول له :شكر ًا على ذلك .وسأقول له :بإمكانك أن تذرع صفك من أقصاه إلى أقصاه كما تذرع املدينة من أقصاها إلى أقصاها مضفر ًا بخيالني ال ينجو أحدهما من اآلخر ،على األقل ،إلى حني ...وحتى ذلك احلني فسيكون بإمكان طالبك أن يحلقوا بخياالتهم ونصوصهم كما يبتغون ،وكما ينبغي أن يكون.
12
ِ ِ ِ اإلبداعية الكتابة دريس َتجربتي يف َت للص ِّ السابع ف َّ َّ
للص ِّ ِ ِ ِ السابع الكتابة دريس َتجربتي يف َت ف َّ اإلبداعية َّ الكتابة كبحث خلف السور ألدرسهم التعبير، عندما وقفت أمام طالب الصف السابع ألول مرة في حياتي ّ أذكر أنني قلّدت أستاذي الذي علمني في الصف السابع اللغة العربية .قلت لهم متام ًا كما قال أستاذي :اكتبوا عن الفرق بني الشتاء والصيف .وال تصدروا ضجيجاً .كان األستاذ ميشي بيننا ويسرح في ذهنه إلى البعيد ،لم يكن يفكر بالتأكيد في طريقة جديدة لتدريسنا الكتابة .كان يعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية ونفسية ،وكذلك كنت أنا .أمتشى عادة بني الطالب ،أنظر إلى اجلبل املقابل للنافذة على يسار الطالب وأفكر :يا إلهي! متى ستنتهي هذه احلصة الطويلة اململّة؟ متى سينتهي هذا اليوم الدراسي الطويل؟ فجأة ،انقض صوت طالب على السكون البليد للحصة: أستاذ ،ممكن سؤال؟ تفضل يا رام. لدينا أربعة فصول ،اخلريف ،الشتاء ،الربيع ،الصيف .ملاذا ال يوجد فصلخامس؟ فاجأني رام بسؤاله ،تلك املفاجأة التي توقظ مريض ًا من غيبوبته .كان األستاذ القدمي الذي علّمني يتهيأ إلجابة رام إجابة محبطة وقاسية ،لو حدثت بالفعل كانت ستدمر أو تشل طاقة الكائن احلساس واملوشك على االمتداد والتعمق في األشياء. انفتاح فضاء التساؤل! الصدمة! فجأة ،شعرت بصراع طاحن في داخلي؛ بني األستاذ املترهل القدمي احملبط وبني الكاتب احلساس املتفتح والرقيق املتعاطف مع الطفولة املعذبة ،الذي يطمح دائم ًا إلى تطوير قدراته التخيلية وتطهير ذهنه من رواسب التفكير السطحي والعشائري، وذي البعد الواحد .الصراع ما بني أستاذين في شخصية واحدة. 15
جلست على الكرسي حائر ًا وممزقاً .وجدت نفسي انهض ،وسمعتني أقول :يا له من سؤال رائع يا رام! سؤال غريب ومثير للتفكير والتخيل .طلبت من الطالب أن
يتركوا ما بأيديهم ويتوقفوا عن الكتابة .حتفز الطالب لهيأتي اجلديدة ،وأطل من عودهم على إصدار عيونهم فضول كبير ملعرفة سر احليوية املفاجئة ألستاذهم الذي ّ األوامر واملشي بينهم والتأفف من ضجيجهم .كتبت على السبورة كلمة “كتابة إبداعية” وقلت لهم :ال “تعبير” بعد اليوم ،هناك “كتابة إبداعية” ،فسمعت العبارة تتردد همس ًا بينهم فيما هم يتبادلون النظر احلائر. ماذا تعني “كتابة إبداعية” يا أستاذ؟ الكتابة اإلبداعية هي الكتابة التي تقع خلف السور. ما هو السور يا أستاذ؟ السور هو احلاجز الذي يفصل املألوف عن الغرائبي ،الواقعي عن اخليالي ،أما ماقبل السور فهو الواقع مبوجوداته كافة :الشارع ،البيت ،املصنع ،املستشفى ... الخ .وخلف السور هو كل ما نخافه أو ال نعرفه أو نخجل منه ،هو املجهول. إذن سنهرب من الواقع لنطير خلف السور يا أستاذ؟ نعم هو هروب باملعنى اإليجابي والسلبي ،نحن نهرب من الواقع لنواجهه،نستخدمه ،ونختبره ثم نحوله إلى واقع فني ،ال هروب ًا نهائي ًا من الواقع ،هو يالحقنا كظلنا ،لكننا نضحك عليه ،نراوغه ونعيد خلقه من جديد ليصبح واقع ًا جديد ًا بشروط أخرى وقوانني مختلفة .لذلك ،فالكتابة األدبية مزيج من البقاء داخل السور وخارجه. هيا نهرب يا أستاذ! علّمنا الهروب ،علّمنا الطيران! الكتابة خلف السور هي الكذب بعينه ،نعم ،ولكنه الكذب الضروري الصادقالذي يؤدي إلى اكتشاف قدراتنا وسبر طاقاتنا وإضاءة أبعاد جديدة من احلياة.
16
أستاذ ،رام سألك ملاذا ال يوجد فصل خامس ،أنا أسألك أال يوجد وقت آخربني الليل والنهار؟
نعم ،توجد هناك مساحة صغيرة ،عجيبة ،كأنها السحر بني الظلمة والضوء،ألم تشاهدها ،تقع فجر ًا عند الرابعة تقريباً .يقولون إن هذا اللون يشبه لون الضوء في اجلنة. وملاذا ال توجد نهاية للعالم ،نهاية أرضية؟ أتخيل أحيان ًا -يا أستاذ -أنني أسافربعيد ًا بعيد ًا حتى آخر العالم ،وهناك أقف على حافة الدنيا ،أحب أن أعرف أو أتخيل ماذا يوجد وراء العالم الذي نعيش فيه. ذهلت أميا ذهول من أسئلة طالبي .لم أستطع أن أكمل لسببني .أولهما ،أن احلصة انتهت ،يا إلهي! انتهت احلصة بسرعة ،ملاذا؟ وألن دهشتي شلّتني ،قلت لهم سنكمل الحقاً. خرجت من الصف مبهور ًا وشاعر ًا بخجل شديد .وجثة بداخلي تتحلل وتتساقط إلى اخلارج .ضوء غريب غمرني ،لم أسمع حديث الزمالء معي .طلبت إذن ًا من مديري وخرجت إلى املدينة ،جلست في مقهى بعيد عن الضوضاء وعن العالم ورحت أجلد نفسي ،ست سنوات من األوامر أمضيتها أمام الطالب أعبس في وجوههم وأقمع أسئلتهم وأسخر من جنونهم وأغضب من ضحكاتهم وتعليقاتهم .ست سنوات من اجلفاف واملشي املتواصل بني الطالب ،ال أفعل شيئ ًا سوى انتظار نهاية احلصة وانتظار نهاية العام ،وانتظار نهاية العالم الذي فيه مدارس ودفاتر حتضير ومديرون وكتب .اليوم صحوت ،اليوم صرت حقيقي ًا صحاني؟ ألكوني كاتباً؟ وثري ًا وانسجمت مع رؤياي للعالم واإلنسان .ما الذي ّ أم لكوني إنسان ًا عنده ضمير؟ اليوم اكتشفت بفضل الطالب الرائعني أنه باإلمكان استغالل املدرسة املثقلة بالقيود والبالدة والروتني والعادي وحتويلها إلى واقع آخر، وأحوله إلى عالم فني آخر. متام ًا كما استغل أنا الواقع ألعيد خلقه ّ
17
في صباح اليوم التالي ،عدت إلى املدرسة إنسان ًا آخر بالفعل ،كانت هذه احلادثة مفص ً حولني الجتاه آخر ،مات األستاذ القدمي داخلي وانتصر الكاتب ال حقيقي ًا ّ الذي يحلم بالطيران هناك خلف السور ،واكتشاف الكنوز والتعمق في املجهول وغير املألوف ،ومالمسة الغريب واختبار عالقات جديدة بني األشياء .استغربت من حالي كثيراً؛ ما دمت كاتب ًا أعيش أغلب وقتي خلف السور كتابة وحياة ،فلماذا لم أحاول تدريب طالبي على القفز معي والطيران؟
هل السبب في ذلك هو نفسيتي اخلربة؟ أم وضعي االقتصادي البائس؟ أم هو اإلحباط العام للوطن ولإلنسانية؟ ال أدري؟ وال أريد أن أدري .املهم أنني حتولت إلى إنسان آخر .وقفت أمام الطالب بهيئة جديدة وروح مختلفة ،كتبت على السبورة “كتابة إبداعية” .طلبت منهم أن يستعدوا للكذب -الكتابة ،القفز خلف السور. سألتهم :هل لديكم تعريفات أخرى للكتابة اإلبداعية؟ نظروا في وجوه بعضهم البعض ،وابتسموا ،حاولوا أرجوكم. قال خالد :قد تكون الضحك على الواقع. قال باسم :قد تكون الهرب من الواقع. قال حامد :قد تكون الطيران خلف األشياء املوجودة. قال أسعد :قد تكون التحول إلى شيء آخر. قال سليم :قد تكون اكتشاف اجلديد. قال محمد :قد تكون اإلنسان اآلخر. رائع ..رائع ،هتفت بصوت ٍ عال ،أحسست برغبة في إطالق صوت يشبه االعتذار ،يشبه الندم ،يشبه اخلجل ،يشبه البكاء ...لم أفعل ،متالكت نفسي وجلست على الكرسي ،أتنفس بسرعة. لدي رؤية معينة لتدريس الكتابة نهضت بعد خمس دقائق عن الكرسي .لم يكن َّ اإلبداعية .لم يكن لدي دفتر حتضير ،ال أؤمن به .أشعر به شيئ ًا ثقي ً ال يكتم أنفاسي ويحدد إمكانياتي ويحد من طيراني ،ويغلق أفقي“ ،ال أحب أن يحددني أو يسورني أحد” .جاءت األشياء هكذا على عواهنها .رأيت نفسي أسألهم: 18
-أتعرفون كائن ًا اسمه البحر.
نعم ،نعرفه ،ونحبه ،ونشتاق إليه ،ونخافه. إذن اكتبوا عنه انطباع ًا سريع ًا من كلمة واحدة “دون أل التعريف ،وذلك لعدمالتحديد والقولبة ولتوسيع أفق الصفة إلى أبعد حد ،لتصبح كلمة كونية”. قال أمجد :البحر عمق. قال أمين :البحر خوف. قال سليم :البحر زرقة. قال زياد :البحر ضياع. قال راضي :البحر سفر. قال عدنان :البحر موت. قال رام :البحر ليل. قال فراس :البحر شهيق. قال مالك :البحر جنون. سجلت كلمات الطالب على السبورة ،رأيتني أطلب منهم أن يوظفوا كلماتهم في جمل مفيدة .كتبوا جم ً ال جيدة: في البحر أضيع واختفي. في البحر ليل عميق. في البحر زرقة خائنة. البحر سفر طويل بال عودة.19
كتبت اجلمل على السبورة ،طلبت منهم تسجيلها في الدفاتر.
طلبت منهم حتضير مخيالتهم والتعاون لكتابة نص مشترك عن البحر ،كل طالب يكتب جملة ،أنا أيض ًا سأكتب معهم. كتبت أنا اجلملة األولى “أمشي وحدي على شاطئ البحر ليالً ،ال بشر حولي”. كتب الطالب أحمد اجلملة الثانية “كنت حزين ًا جد ًا وخائفاً” .كتب الثالث “وكان البحر بجانبي شخص ًا غريب ًا مخيف ًا يتنفس بقوة” .وكتب الرابع فجأة “رأيت ضوء ًا قوي ًا يأتي من بعيد”. كتب الرابع “رأيت نفسي اجته نحو الضوء” ،كتب اخلامس “كان الضوء يتجه نحوي هو اآلخر” ،السادس “كنت خائف ًا جداً ،لكني مصمم على التقدم” ،السابع “الضوء كان خائف ًا أيض ًا هكذا أحسست” ،الثامن “وقفت قبالة الضوء حائراً ،إنه ضوء غريب غير متشكل على أية هيئة ،أنه ليس إنسان ًا وال حيوان ًا أنه ضوء فقط”. التاسع “أهو أنا ،مددت يدي فاختفت في الضوء ،حاولت أن أرجعها فلم تعد، أصبحت بال يد” .العاشر “مددت رأسي ،اختفى وذاب ،أصبحت بال رأس”، قدمي اختفيا” ،الثاني عشر “رميت كامل جسدي نحو الضوء احلادي عشر “مددت َّ العجيب الساطع ،فاختفيت عن نفسي ولم أعرف حتى اآلن أين أنا”. طلبت من الطالب كتابة النص املشترك على دفاترهم ،ثم طلبت منهم كتابة نصوصهم الشخصية بعيد ًا عن أجواء النص املشترك. شرعوا يكتبون ،كنت أكتب معهم نصي ،كنت أقفز معهم خلف السور ،كنت أعتذر منهم ومن الوطن ومن الكتابة ومن نفسي ...وكنت أعانق احلياة.
20
السطح الي َباب، حرب ِض َّد َّ ٌ َح ٌ رب ِض َّد َ
21
السطح الي َباب، حرب ِض َّد َّ ٌ َح ٌ رب ِض َّد َ
ِ ِ الع َر ّبية) نهاج (إعدام اخليال في ِم ِ ُ اللغة َ
ابتداء أتذكر ذلك اليوم جيداً ،كان صباح ًا كئيب ًا في طقسه وفي تفاصيله األخرى ً من تكرارية األشياء واألصوات واحلركات في املدرسة« :صياح املدير ،اجلنازات املعلقة في وجوه املعلمني ،شغب الطالب على الدرج ،رنني اجلرس ،الصمت الذي يسيطر فجأة على الدرج وبني الصفوف» ،مرور ًا بالوقت الذي يتباطأ في انتهاء بلعنة ال سبيل لصدها اسمها لعنة احلصة الصف كأنه مؤامرة أو كابوس، ً السادسة .إ َّنه اليوم األول في العام الدراسي اجلديد ،جلست على الطاولة أمام درستهم اللغة العربية في طالب الصف الثامن – طالب أعرفهم جيداً ،فقد َّ درستهم طرق ًا ُأخرى في اإلحساس باألشياء والتعبير عنها ،ها الصف السابعَّ ، هم يجلسون أمامي اآلن بانتظار استكمال مشروع «الرؤية املجنونة للعالم» .نحن بانتظار كتاب اللغة العربية للصف الثامن؛ وهو منهاج جديد وضعته نخبة من األكادمييني واملعلمني اختارتها وزارة التربية والتعليم. دخل سكرتير املدرسة يرافقه طالبان يحمالن كتباً ،وزع السكرتير كتاب اللغة العربية على الطالب وألقى أمامي بنسختني .حدثت جلبة في الصف ،فقد ابتهج الطالب بكتابهم اجلديد الذي يؤكد نضوجهم ودخولهم بنجاح مرحلة أخرى من مراحل حياتهم .تصفَّحت الكتاب بكسل ،كان لدي يقني كامل بأن ال جديد هنا وال تغيير .فالعقل الذي صاغ هذا املنهاج هو العقل نفسه الذي صاغ منهاج السابع والسادس ،فليس من املعقول أن يتطور العقل فجأة ليصبح منهاج ًا مختلفاً ،يعتذر عن سطحيته السابقة .على حواف شفتي وقفت هذه الكلمات :يا أعزائي إنها حرب أخرى سنخوضها هذا العام ضد يباس الفكرة وتكلس األحاسيس وزيف الصورة وتسطح الوعي .لم أنطق هذه الكلمات همستها لنفسي ،وأنا أنظر حزين ًا لطالب أبرياء جاهزين لتقبل أفكاري بحماس ،لكنهم قد يتقبلون أفكار ًا أخرى من مدرس آخر مؤمن باملنهاج ومطيع له.
23
إنهم يعيشون مرحلة قلقة جد ًا ورخوة ،مهيأون فيها للتأثر بأية فكرة صادرة عن شخص يقف أمامهم معلم ًا عادي ًا جد ًا يشبهه آالف املعلمني املنتشرين في القرى واملدن واملخيمات .شخص يلقي عليهم مبعلوماته طالب ًا منهم حفظها ،شخص ال يجرؤ على اخلروج عن املنهاج قيد أمنلة ،ليس خوف ًا من وصايا األسياد في املكاتب
الرطبة فحسب ،بل إحساس منه بالضياع وفقدان البوصلة –املسطرة خارج هذا املنهاج الذي يشكل له الطريق والدليل واإلدارة والسقف ،وحتى الشرف الوطني، والعائلي ،والديني .انتهت احلصة األولى ،انصرفت متأبط ًا حربي إلى غرفة املعلمني ،هناك كان الزمالء كسالى ومتشابهني متام ًا ومتأففني .كالعادة ،انزويت وحدي في أقصى الغرفة .ورحت أتصفح تفاصيل احلرب التي سأخوضها ضد العقل املتكرر ،العقل الراضي عن نفسه ،العقل املطمئن والهادئ واملنتصر ،العقل الذي وصل إلى نهاية التفكير ونهاية األشياء ،العقل الذي ال عقل بعده. كانت أصوات املعلمني حولي تتعالى ،وكنت أبذل جهد ًا خارق ًا ألنفيهم عن حيز أفكاري وهواجسي واحتراقاتي. أحيان ًا كنت أجنح ،وأحيان ًا كانت عزلتي (املختارة) عنهم ُتهزم أمام صياحهم ونقاشاتهم احملتدمة حول موعد الراتب وموعد مجيء املفتشني ،وموعد العطلة املقبلة. وكنت أهرب إلى امللعب ،أمشي هناك مستكم ً ال جتميع خيوط خططي ،ملواجهة وحش هائل األنياب ،يتستر خلف أقنعة مخملية من احلب ،واألخالق ،والترابط األسري ،والقيم الدينية ،واملهارات اللغوية ،واملعلومات التاريخية ،والقصائد، والقصص. لم يكن حولي أحد تقريب ًا أناقشه في خططي أو حتى أكاشفه بأسرار حربي. بالعكس متاماً ،فالبيئة التي أعمل وسطها كانت دائم ًا حتاول إحباطي وكسر شوكة مشروعي التثويري –»التجريبي» .املعلمون في عالم وأنا في عالم آخر.
التوغل في زرقة األشياء
24
الوحيد الذي فهم رؤيتي واستوعب جنوني هو مدير مدرستي ،والواقع أنني يجب أن أعترف أن وسط كل هذه الكآبات التي أعيشها في املدرسة بسبب طبيعة القوانني واألنظمة ،وبسبب عماء وغباء الشروط والواجبات اجلامدة وغير القابلة للتعديل أو املناقشة ،كان ُّ احلظ يبتسم لي جزئي ًا هذه املرة؛ بسبب وجود مدير مدرسة صغير في السن نسبي ًا ( 28سنة) ليبرالي ،يحترم الفكرة األخرى ،يناقش بأدب في املسائل اخلالفية ،واألهم من ذلك جرأته في طرح ما يعتقده صحيح ًا
أمام املسؤولني الطحلبيني ذوي الطاعة العمياء للتقارير والكتب الرسمية واألوامر واألرقام والسجالت .واألهم من األهم هو امتالكه حلس فني رفيع مييز بني اجلميل والقبيح في السلوك واحلياة. صباح اليوم التالي ،أقف أمام طالبي قائ ً ال لهم :ها هو عام آخر يأتي .سنستكمل مشروعنا يا أصدقائي .سنمد في طول أجنحتنا وسنتوغل أكثر في زرقة األشياء. هل أنتم مستعدون للطيران إلى أبعد مما فعلنا؟ نعم ،مستعدون .أجابوا بصوت واحد. حسناً ،هذا كتاب الصف الثامن (رفعت الكتاب بيدي) منهاج جديد .وكلمةمنهاج تعني الطريق أو الرؤية ،ما يعني أنهم يعتقدون (مؤلفو الكتاب) أنهم يعطوننا طريق ًا لنمشي عليها أو رؤية لنهتدي بها. ال بأس! لندعهم هانئني في قاع يقينهم اليابس ،ولنحترم وهمهم .ولكننا سنعتذر لهم في سرنا طبع ًا (ضحك الطالب يرتفع ويتخذ شكل نشوة) :نحن شاكرون لكم جد ًا إعطاءنا املعلومات القيمة حول قواعد اللغة العربية ،وقواعد اإلمالء واخلط، هذه مهارات نحن ملتزمون بها متاماً .ولكننا لن ننصاع لتوجيهاتكم بخصوص طرق التفكير ،وآليات مناقشة الدروس ،وفي مضامني التعبير اخلاوية واململة والقاتلة للمخيلة ،واملعدمة للحياة الداخلية لصالح احلياة اخلارجية الرتيبة .هنا صراعنا معهم .هنا ساحة املواجهة .لن نقول لهم ذلك بصوت ٍ عال ،سنهمس ذلك همس ًا حتى ال يسمعوا .ها هاهاها. أصدقائي األعزاء سأقرأ لكم اآلن مقدمة هذا املنهاج ،وهي حتتوي على أهداف هذا الكتاب وعلى رؤيته أو خطابه العام.
25
1 .1الطالب محور العملية التعليمية ،فال بد من مراعاة منوه املعرفي واللغوي واالجتماعي والنفسي. 2 .2اختيار املادة التعليمية والنصوص األدبية والشعرية والنثرية مت في إطار األبعاد املعرفية والوجدانية والوطنية والعربية واإلسالمية واإلنسانية ،مع احملافظة على خصوصية الواقع الفلسطيني.
3 .3مراعاة التنوع في الفنون األدبية-الشعرية والنثرية املمثلة للعصور التاريخية املتعاقبة ،مع التركيز على النص املعاصر ،تعميم ًا للتواصل بني الطالب وحاضره. وقد حرصنا في معاجلة كل نص على توافر العناصر التالية: .1 .2 .3 .4 .5 .6
1جو النص :نبذة عن سيرة الشاعر وإضاءة حول نصه. 2املعجم والداللة :يتناول تعدد داللة الكلمة الواحدة في سياقات لغوية مختلفة. 3الفهم واالستيعاب :يقوم على أسئلة سهلة قريبة اإلجابة تساعد على فهم النص. 4التحليل :يقوم على أسئلة تثير التفكير وتتناول بناء النص وتوضيح الصور الفنية. 5التعبير أو التلخيص :يقوم على مراعاة التدرج في تنمية مهارات التعبير بأنواعه ،والترابط مع موضوعات الدرس. “6أقرأ وأستمتع” :يشمل مجموعة من النصوص اجلميلة املشوقة التي مت اختيارها من أجل املتعة والفائدة.
إن األسس العامة ملنهاج اللغة العربية الفلسطيني تستمد مبادئها من إرث املجتمع العربي الفلسطيني وقيمه الدينية واالجتماعية والثقافية ومن وثيقة إعالن دولة فلسطني العام .1988 إلى هنا ما ورد في مقدمة منهاج الثامن للغة العربية. سأحتدث لكم اآلن يا أصدقائي عن كلمة صغيرة مكونة من أربعة حروف :هي كلمة (خيال) (هنا رن اجلرس معلن ًا انتهاء احلصة) «وكأن اجلرس هنا يرمز إلى رفض هذه الكلمة ويعلن اخلطر منها».
26
املدير يبلغني بفرح أنه مت اختياري أمين ًا ملكتبة املدرسة .بإمكاني اآلن أن أفكر بهدوء بعيد ًا عن عادية الزمالء .بإمكاني أن أكون وحدي في قاعة مليئة باملوسيقى والكتب واللوحات وجبل مجاور طويل ومليء بالشجر والغزالن الشاردة. سأعتبر اآلن أن احلظ ابتسم لي هذا العام مرتني :حني أرسل لي مدير ًا مختلف ًا يتفهم
جنوني (وعصياني) ،وحني أهداني قاعة واسعة أرسم فيها بهدوء خطوات املعارك وشكلها وحجمهاُ .أدير احلرب على خصمي في عقر داره وباستخدام أشيائه: كتب ،وحاسوب ،وقاعة ،ومدفأة ،وستائر ،وسبورة ،وطباشير ،وكراسي.
جنود لكسر العتمة حصة جديدة أمام طالب الصف الثامن أ .هؤالء هم لكسر العتمة وإضاءة الغرفة السحرية املراد إبقاؤها معتمة .غرفة معلقة بحزن وصمت في سقف روحنا .غرفة موجودة داخل كل إنسان في هذا الكون ...غرفة مخذولة ومقصية ،إضاءتها خطرة جد ًا ومحرجة ألنها تكشف عوالم أخرى وهواجس مختلفة تتطلب جهود ًا السهولة في كل شيء، ذهنية ونفسية خاصة ال تتوافر فينا بسهولة؛ ألننا تربينا على ُّ السهولة في التفكير والقراءة والعالقات االجتماعية والكتابة والزواج واختيار املهنة ،وحتى في العالقة مع الله واألصدقاء .دعونا نناقش بند (التحليل) الوارد في مقدمة املنهاج التي حتتوي (هذه املقدمة) على األهداف العامة للمنهاج .يقول هذا البند :التحليل« :يقوم على أسئلة تثير التفكير وتتناول بناء النص وتوضيح الصورة الفنية فيه».
غياب التحليل في التحليل هيا بنا نرى تطبيق هذا البند على درس (احملبة بني الناس) ص .9انظروا أسئلة هذا الدرس املفترض فيها أن تثير التفكير وتبعث على توضيح الصورة وبناء النص. .1 .2 .3 .4 .5
27
1ماذا يقصد الكاتب باحملبة؟ 2للحب العقلي أنواع ،أذكرها. 3ملن وجبت محبة الله؟ 4هناك أمور إذا فعلها اإلنسان كان حري ًا بحب جليسه ،أذكر أهمها. 5بني كيف يحافظ الصديق على صديقه؟
أين هي األسئلة التي تدفع إلى جو ذهني يثير التفكير ،هل سؤال من نوع ( ُأذكر وملن وبينّ ) يثير تفكيري .وحتى لو اعتبرنا َأن هذا النوع من األسئلة يثير التفكير ،كيف ميكن أن يثار تفكير شخص ما ال ميتلك مخيلة ،وإن امتلكها فهي كسيحة وعاجزة؟ فكلمة املخيلة أو اخليال لم ترد في مقدمة املنهاج أبداً ،هذه الكلمة الضائعة واملغيبة
يفترض فيها أن تشكل فضاء العملية التعليمية كلها( .سنتكلم الحق ًا عن مجزرة غياب هذه الكلمة) .انظروا أسئلة الفهم واالستيعاب في درس (حكاية عبد الله البري مع عبد الله البحري) لتتأكدوا بأنفسكم من عدم وجود فرق بني أسئلة التحليل وأسئلة الفهم واالستيعاب ،علم ًا بأن مقدمة الكتاب تدعي وجود فرق بني منطي هذه األمثلة ،سأختار ثالثة أمثلة للتمثيل. 1 .1كيف كانت معنويات الصياد؟ 2 .2ما موقف امللك من اتهام البري بسرقة مجوهرات امللكة؟ 3 .3ما األسباب التي جعلت امللك يعني الصياد؟ ما الفرق هنا بني منط سؤال (بني) وبني (كيف) (وما موقف) وبني (أذكر) وما األسباب؟ لنذهب إلى قصيدة (فتح طبريا) ،اُنظروا أسئلة حتليلها: أي الصور توحي بذلك 1 .1تكلم الشاعر عن القدس وكأنها شخص ماثل أمامهُّ ، (دور الطالب هنا هو فقط العثور على الصورة). 2 .2تتعدد األفكار في النص لكنها تبقى مترابطة في مضمون واحد ،وهذا النص يعبر عن األفكار التالية: •اإلشادة ببطولة صالح الدين. •متجيد فتح طبريا. •سرور مدينة القدس (دور الطالب هنا كما ترون حتديد اجلملة الصحيحة). أبني األبيات التي تعبر عن كل فكرة. 3 .3كانت مدينة طبريا حصينة لكنها استسلمتُ .أوضح الصورة التي تعبر عن هذه الفكرة“ .دور الطالب هنا هو التوضيح”. قصيدة “فتح طبريا” ليست غنية جد ًا بالصور الفنية ،لكن حتى مع بساطة صورها وعاديتها لم تستطع أسئلة (التحليل) أن تصل إلى شواطئ هذه الصور“ .ملاذا ال نطلب منهم أن يقارنوا أو يربطوا أو يتأملوا أو يفككوا أو يعيدوا صياغة؟!”.
28
انظروا أسئلة “زائر املساء” ،وهي قصة للقاص خليل السواحري ،سأمثل على هذه األسئلة ببضع أسئلة فقط.
1 .1ما موضوع القصة وما الذي ترمز إليه؟ 2 .2تدور أحداث القصة في مواقع عدة ،أبينها وأوضح صلتها بالكفاح الفلسطيني. 3 .3تكثر في القصة الصور الفنية ،أشرح منها ما يأتي: مزقت جسد صالح زخة رصاص. كأن صاعقة انقضت على ذاكرتي ومسحت منها كل األسماء. موجة من األرق تغزو مفاصلي وتسبح عبر َأطرافي.يقرأ طالب الصف الثامن هذه القصة القصيرة وهو ال يعر ف ما هي القصة القصيرة. غاب تعريف هذا اجلنس األدبي وتوضيحه وجذوره وطبيعته( .هذا تفسير التباس التعريف بني القصة والرواية) .كثيرون من الكبار ال يعرفون الفرق بني هذين اجلنسني ،فقد تعرضت أكثر من مرة لسؤال غريب :أما زلت تكتب روايات؟ قصة «زائر املساء» قصة عادية جداً ،مساحة التأويل فيها ضعيفة جداً .هناك قيم وطنية صحيح تعززها أحداث القصة ،هناك دالالت إنسانية لطيفة ،لكنها ال تغني مخيلة الطالب وال تثير عنده شهية االكتشاف والكشف عن املخبوء من األمور .هذه هي مشكلة صائغي املنهاج :غياب إميانهم بأهمية تقدمي نصوص تتحمل تأويالت متعددة .فالذهن القائم على صياغة هذا املنهاج تربى على البعد الواحد للقصيدة ،والرؤية الواحدة للقصة ،وهو ينفر من تعدد الدالالت؛ ألنها تربكه وتشتت أفكاره التي اعتادت على االستقرار واألمان؛ أمان اإلجابة اجلاهزة املسبقة ،أمان الذهن املرتاح. سأنتقل إلى مناقشة بند آخر من بنود املقدمة. انظروا هذا البند :الطالب محور العملية التعليمية؛ فال بد من مراعاة منوه املعرفي واللغوي واالجتماعي والنفسي.
29
أنا ال أعرف (وأعود اآلن إلى الكلمة املقصية) كيف ميكن أن ينمو الطالب معرفي ًا ولغوي ًا ونفسي ًا واجتماعي ًا وهو يعاني من مخيلة مشلولة .سأحيلكم اآلن على مهارة التعبير في املنهاج .انظروا عدد ًا من املواضيع التي يقترحها الكتاب -عفو ًا هو ال يقترحها هو يفرضها -على الطالب.
.1 .2
.3
.4 .5 .6 .7 .8
1أعبر شفوي ًا عن فرحتي لتحرير وطني. 2أكتب فقرة حول بلدتي تكون اجلملة املفتاحية فيها واحدة مما يأتي: •تشتهر بلدتي بكثرة املدارس. •في بلدتي أماكن أثرية كثيرة. •يعتمد اقتصاد بلدتي على أشياء عدة. 3أكتب فقرة تكون اجلملة املفتاحية فيها واحدة مما يأتي: •جاء إعالن قيام دولة فلسطني بعد نضاالت عديدة. •حرية الرأي من األسس التي تقوم عليها دولة فلسطني. •حترص الدولة الفلسطينية على توافر العدالة واملساواة بني أفرادها. 4أخاطب شفوي ًا أخي العربي باألفكار األساسية الواردة في قصيدة (فلسطني) لعلي محمود طه(.ملاذا ال يخاطب نفسه ،يحاورها ،يكتشفها؟). 5أحتدث شفوي ًا عن املهنة التي أحب أن أمارسها. 6أكتب فقرة تبدأ باجلملة التالية :تتسم شخصية روزاليا باحلنان والرحمة. 7أخلص قصة (جزاء اإلحسان) مبا ال يزيد على عشرين سطراً. 8أكتب واحدة من األفكار التالية: •املعاملة التي أحب أن يعاملني بها أفراد أسرتي. •املعاملة التي أحب أن يعاملني بها املهتمون بالتربية. •احلرص على العالقة مع أبنائي.
َأنا لغتي هذه هي مضامني التعبير التي فرضها صائغو ذهن مستقبلنا على أجيالنا البريئة، كيف ميكن أن ينمو الطالب معرفي ًا ولغوي ًا واجتماعي ًا ونفسي ًا بهذه املضامني اخلاوية اململة ،وبهذا القدر الفظيع من العداء الكتشاف املجهول ومغامرة التوغل في مضامني شخصية تعتمد على احللم والهواجس الفردية واقتحام األشياء؟ كيف؟
30
ما هو النمو اللغوي الذي سيحققه الطالب حني يلخص قصة «جزاء اإلحسان» ،أو حني يتحدث شفوي ًا عن املهنة التي يحبها؟ فهذه املضامني اليومية السطحية تستدعي لغة سطحية تقريرية وجافة (حتى لو كانت صحيحة املبنى) ،هل هذا هو املطلوب: ال وتسلس ً صحة الكلمات واجلمل ،مبنى وقواعد ،وتنقيط ًا وخط ًا جمي ً ال ألفكار منظمة؟ هل هذا هو املطلوب؟ إذا كان هذا هو املطلوب ،فأين النمو اللغوي الذي سيتحقق من هذا املضمون؟ ثم ما هو النمو اللغوي؟ هل هو متاسك الفكرة
وانتظامها مع سياق اجلمل األخرى ،واستخدام كلمات جديدة وتوظيفها في جمل مفيدة؟ إذا كان هذا هو النمو اللغوي فهذه مصيبة ،هذا تدمير للغة وتخريب للثقة بها أو قتل لها إن وجدت عند الطالب .النمو اللغوي -حسب وجهة نظري -هو إعادة صياغة اللغة بطريقة تفتح أمامها الطريق الكتشاف أبعاد أخرى للحياة ،هو إعادة توظيف الكلمة في سياقات جديدة ،هو تدريب لغتنا ومفرداتنا على املغامرة وخلق كلمات جديدة من كلمات قدمية ،إذا كانت احلالة أو الصورة التي أكتب عنها تتطلب ذلك .النمو اللغوي هو اجلرأة اللغوية في سبر أعماق األشياء، وليس الهرب أمام اجلديد من الصور واملشاعر واحلاالت .النمو اللغوي يعني أن ال أكون عبد ًا للغة وقوانينها ،بل عاشق لها وناقد ومعدل بحب ومودة وانتماء. نعود طالبنا على أن يصادقوا اللغة ...يعشقوها ،ويكتشفوا معها وبها علينا أن ِّ وفيها األشياء .طالب الصف الثامن الذي يطلب منه أن يكتب عن (كثرة املدارس في منطقته) لن يجد سوى الكلمات اجلاهزة واملستقرة املصفوفة بأدب في قاموس االستخدام اليومي.
أنعذرهم أم نلومهم؟ مرة أخرى أجد نفسي عاذر ًا للذهن الذي صاغ املنهاج ،فهذا الذهن ال يعرف شيئ ًا عن املغامرة في اللغة وتدريب اللسان على تذوق الناتئ واملنحني في اللغة .هم تربوا في املدارس (وفي اجلامعات حتى) على العوم في سطح اللغة ،في الدائرة اآلمنة منها ،أما الدوائر اخللفية املعتمة فال أحد يجرؤ على دخولها ،فهناك يتم الوقوف وجه ًا لوجه أمام احللم .واحللم خطير جداً ،فهو ال يعترف بالسائد واملستقر واملتفق عليه .هو خارج عن القانون( .أجمل لص خارج عن القانون). هل ألومهم أم أعذرهم؟ فبالتأكيد سوف أعذرهم .فهم ضحايا تربية عقيمة وأساليب بالية ورؤى قدمية ،ولكن كيف ميكن أن نقنعهم أنهم ضحايا؟ كيف ميكن إنقاذهم من ذهنهم؟ وبالتالي إنقاذ ذهن أوالدنا ،إنه ألمر فظيع أن يصيغ الضحايا ذهن ضحايا جدد ،وهكذا تتوالى املأساة ضحايا يخلقون ضحايا. 31
قررت أن أبدأ بشن أول املعارك بالتعاون مع جنودي ،قررت بالتعاون مع طالبي
الذين فهموا انتقاداتي ومالحظاتي أن نشعل شموع الغرفة املعتمة داخلنا .قلت لهم :لن نكتب عن كثرة املدارس في منطقتنا ،ولن نوجه رسالة إلى الشعوب العربية؟ ولن نلخص قصة «جزاء اإلحسان» ،ولن نكتب عن املهنة التي نحبها. سنكتب عن حلم حلمناه ليلة أمس .عن اجلبل املجاور وهو ينحني على مدرستنا وكأنه يعانقنا أو يخنقنا ،سنكتب عن النهر الغادر والصديق اجلبان والشجاع. سنكتب عن العالقة الغامضة بني الرياح واملطر ،سنكتشف اللغة السرية للغيوم. سنحاول محاورة غابة بعيدة ،سنطير إلى القمر وجنري معه حوار ًا صحافياً، سنحاول أن نعرف ملاذا اختفى سكان قرية ما فجأة ،وسنقرأ يوميات بنت صغيرة اختفت دون سبب ،سنكتشف سر الصداقة الغريبة بني املطر والشجر ،وسر احلرب الهائلة بني النار واملاء .سنرسم رائحة زهرة ،ونفتح نافذة فكرة ،سنعرف ملاذا سجن القمر الشمس ،وسنقوم بتجربة تزويد النار بدفء .سنبتعد عن املدرسة وساحتها ومقاعدها وعن بيوتنا وأهلنا ومدينتنا ووطننا ،سنذهب إلى أماكن بعيدة. ال تقلقوا يا أهلنا ويا مدرسينا ويا شرطة مدينتنا ،نحن لسنا تائهني ،نحن نخلع فقط ذاكرتنا ملدة مؤقتة ،ونطير مع الريح لنعرف أكثر عن وجوه أخرى للحياة .حاالت وأحاسيس وصور ومناطق غير مأهولة في أعماقنا .سنعود ال تقلقوا ..سنعود ..سنعود.
في أعماق الغرفة السحرية نحن داخل الغرفة ،اآلن أغلقنا باب الصف باملفتاح ،أشعلنا شمعة ،أسدلنا ستائر النوافذ ،استرخى جنودي في مقاعدهم ،فككوا الزرين األولني في قمصانهم، وراحوا يحدقون في الشمعة ،غابوا عن الوجود ،وغبت أنا معهم .كنت قد قلت لهم ،الشمعة نص ،لنحاول أن نقرأه.
32
نصف نائم أجاب بشار :الشمعة حزن. الشمعة انهيار: إبراهيم: الشمعة خوف: فراس: الشمعة تضحية: عمر: الشمعة موت: أحمد: الشمعة خالص: عمرو: الشمعة حرية: براء:
تنهار الشمعة أمام املطر تخاف الشمعة من الريح تضحي بجسمها متوت بهدوء دون مقاومة خالصها في موتها حريتها في موتها
محمد: رام: عبد الله: خالد:
الشمعة صمت: الشمعة متاهة: الشمعة قوة: الشمعة ابتسام:
صمتها في انطفائها متاهتها في لهبها قوتها في موتها ابتسامتها في ضوئها
تعالوا نكتب مشهد ًا صغير ًا نصف فيه حالة من حاالت الشمعة أو داللة من داللتها! اكتب أنا :امتطي لهب الشمعة وأسافر إلى الثلج. يكتب رام :ارسم معاناتها في لوحة صغيرة فيحترق اإلطار. يكتب محمد :الشمعة تنزف جما ً ال حزيناً. يكتب وسام :الشمعة تخون لهبها وتنطفئ قبل أوانها. يكتب فراس :تبتسم ومتوت وتترك وراءها جسم ًا غريب ًا غير مرتب. يطرق أحدهم الباب – يا إلهي! نهبط على األرض ،نصحو من حلمنا ،نتأفف أفتح الباب ،يا للمهزلة! معلم يرسل طالب ًا إلى الصفوف بحث ًا عن (عصا) معاًُ ، ..يضحك الطالب. يقترح عمر :ال تفتح الباب ألي سبب حتى لو كان املدير .أوافقه وأقرر عدم فتح الباب أبداً. ولكن مجرد الطرق على الباب سيوقظنا يا أستاذ وقد يطفئ الشمعة يقولأحمد.
33
تبدو احليرة على وجهي ،أتوتر وأصيح :أين نذهب؟ أليس هناك مكان آخر للحلم ،للهدوء ،مكان ال يزعجنا فيه أحد ،ال يخدش طيراننا طرقات باب أو جرافة .أتدرون أحس أحيان ًا أن هناك مؤامرة ضد احللم ،ضد اخليال، صوت ّ يبتسم الطالب .نعاود احللم .نصف إغماضة وتشتعل الشمعة ،عتمة خفيفة في
الصف .نكتب أحالمنا وهواجسنا على السبورة. يكتب جنودي نصوصهم على الدفاتر .أكتب أنا معهم نصي .نقرأ نصوصنا على بعضنا البعض. أطلب من طالبي أن يبدوا مالحظاتهم ،أقول لهم :لقد ودعنا صيغ السؤال التقليدية( :ملاذا وبني واذكر وعدد واشرح وعلل). دعونا نستخدم اآلن صيغ ًا جديدة :قارن ،اربط ،حلل ،صغ ،فكك ،ركب، تأمل ،من هذه الصيغ نستطيع أن نصنع حلماً ،حلم ًا قادر ًا على إمتاعنا ذهني ًا ومعرفياً. رام يبدي مالحظاته على نص إبراهيم: إبراهيم أنت تكرر كلمات كثيرة في نصوصك. إبراهيم يبدي مالحظاته على نص رام: رام أنت متفائل جد ًا في نصوصك. أنا أبدي مالحظاتي على نص عمر: عمر ،يا صديقي أنت تكثر من األسئلة في نصك.
34
أندهش لنصوص طالبي .أرافقهم إلى املدير .يقرأون نصوصهم أمامه ،املدير يندهش واملعلمون مستغربون من اندهاشنا .وال يعرفون ما الذي يدهشنا؟ ما الذي يستأهل هذه الدهشة السعيدة؟ إنهم يرثون لنا اهتمامنا وتوترنا .آخذ تلفون املدرسة الالسلكي إلى غرفة صف فارغ في االستراحة .أهاتف وسيم الكردي الشاعر والتربوي ،يقرأ طالبي نصوصهم لوسيم .طالبي فرحون ومتوترون ورائعون .وسيم يقول لي الحقاً :هل تعرف أثر هذه االتصاالت على الطالب؟ أجيبه :نعم ،أعرف .الطالب يقرأ ما يكتبه ،لشخص خارج نطاق الصف، يتواصل معه لغوي ًا دون أن يراه ،يسمع آثار تفاعالته ،يتخيل متلقي ًا مجهو ً ال
بالنسبة إليه. ... وأعرف أيض ًا أن ملركز القطان للبحث والتطوير التربوي دور ًا كبير ًا في إيقاظ املعلم اجلميل الذي كان غافي ًا داخلي. في االستراحة :أغادر الطالب والضجيج واملعلمني وأدخل قاعة املكتبة املالصقة للجبل الذي ينحني على املدرسة كأنه يعانقها أو يخنقها .أتنفس بعمق. أضع (سي دي) موسيقى الهنود احلمر في بيته في جهاز احلاسوب. تشتعل القاعة أصواتاً .رجال في غابة يصلون أو يبكون أو ينادون أو يضحكون أو يحتضرون أو يغضبون .صوت جماعي .ال أفهم من كالمه شيئ ًا لكني أفهم كل شيء .كأنهم يغنون ملطر سوف يطرد غبار الطريق ،أو كأنهم يقولون كونوا غابة ال شجرة .ال أدري إن كان أحدهم يطرق الباب أم ال .لم انتبه ،ال أريد أن أصغي إال إلى املوسيقى الغريبة التي يعزفها هذا اجلبل الضخم .بجانبي اجلرافة في املكان، علي األصوات – طرقات باب القاعة ،مع ضجيج َّ اختلطت َّ مع صوت هنود احلمر ،مع صوت الغرفة املفتوحة داخلي ،مع صوت الرصاص في املدينة. إنها احلياة .أصوات ..أصوات ..أصوات .بعضها يزعج وبعضها يريح. أسير على جبل يقود إلى بعضها معك وبعضها ضدك .إنها احلياة .أرى نفسي ُ غابة ،حتتي أصوات غاضبة ،وفوقي مطر غزير ،وحولي رياح هوجاء تدفعني نحو الهاوية ،وبعيد ًا بعيد ًا أسمع صوت طالبي يضحكون ويغنون :كن غابة ال شجرة. كن حديقة ال زهرة .كن مدى ال جداراً .كن أفق ًا ال سياجاً .ما زلت على اجلبل أسير ،متوتر ًا وآي ً ال للسقوط فوق األصوات اخلشنة والغاضبة .أكاد أهوي ،آه ُ إني أهوي ،آه ..آه ،..فجأة يرسم طالبي شمعة ضخمة بلهب واسع وهادئ، يحملني اللهب كصهوة حصان باجتاه الغابة باجتاه طالبي .هناك أراهم يتوغلون في أعماق املجهول -عنوان الرحلة يا أستاذ هو (املواجهة مع املجهول -وداع ًا للمعلوم) أسير معهم .ال نعرف ما الذي ينتظرنا. 35
أليس هذا هو هدف احلياة :أن نكتشف ونغامر ونقتحم ونخرق الوصايا ونحرق الطرق القدمية التي ال تؤدي إال إلى العبودية واخلوف ،أن نعرف أكثر ،أن نبحث
عن آفاق جديدة للعيش؟ ليس للغابة نهاية ،ما زلنا نشق طريقنا غير املعروف طريق بكر ،منشي عليه كأننا نعزفه أو نرقصه .إلى أين نذهب؟ يا له من سؤال رائع. واجلواب األروع :هو إلى حيث ال ندري ،إلى حيث ال نعرف ،إلى املجهول ،آه املجهول ...املجهول.
36
خريب ِ ِ حر الالمتحقق اليات ال َّت َج َم ُ وس ُ
37
خريب ِ ِ حر الالمتحقق اليات ال َّت َج َم ُ وس ُ
ارسة القف ِز من ال َّن ِ دريبات صفيةٌ َعلَى مُ َم ِ ِ وعناق ا ُ حللم) وافذ ( َت ٌ األطفال واملجانني واألموات هم وحدهم األحرار متاماً .اندهش طالبي لكالمي هذا ،وهمسوا :لقد جن أستاذنا .حصتنا هذا اليوم ستكون حصة جنون وحلم وتدمير للعرف التربوي ،سنقفز من النافذة واحد ًا تلو اآلخر .سنختار أن نكون إما مجانني وإما أموات ًا وإما أطفا ً ال ،دون أن نأخذ إذن ًا من أحد .أترون تلك البحيرة القذرة هناك ،سنذهب إليها ونتحلَّق حولها وجنرب أن نخرب تقاليد هذا اليوم الدراسي ،وأن نستبدل هذه التقاليد بتقاليد غريبة ،بحث ًا عن اإلنساني املشوه فينا، عن طاقتنا على احلياة ،عن حقنا في التجريب وممارسة األخطاء. قال ماجد :سيغضب املدير ألننا لم نأخذ إذنه للخروج. قال رام :ليغضب ،نحن نريده أن يغضب .ألسنا نهدف إلى التخريب؟ قال فراس :لكن التخريب عمل غير جيد ألنه يؤدي إلى خراب املجتمع. قال عمر :ال أتفق معك .هذا يعتمد على ما سنخربه. قال ماهر :أنا سأخرج من بوابة املدرسة ألنني ال أستطيع القفز من النافذة بسبب ألم في كاحلي. لتبق في الصف إذن .أنت ال تصلح للجنون. قال وسامَ : قلت أنا :األلم ضروري الكتشاف هنائنا الداخلي ،اقفز وتألم مرة أخرى ،ألنك ستصل قبلنا إلشراقات اجلنون. قال أنس :أستاذ أنت غريب جداً ،كيف تنصح شخص ًا باأللم؟! 39
سمعت أحمد يهمس :بالفعل ،أستاذنا مجنون.
قلت :أو قد أكون طف ً ال أو ميتاً ،وتعلم دائم ًا أن ترفع صوتك في احلديث ،ال تهمس برأيك همساً ،يا أحمد هناك مساحة هائلة هنا من حرية الرأي ،تذكر ذلك ،ألسنا مخربني للوضع االجتماعي السائد ،حيث ال يتمكن إنسان بالدنا من إبداء رأيه في وجه أبيه أو معلمه أو حاكمه أو شيخ اجلامع ،لقد خربنا هذا التقليد واستبدلناه بتقليد آخر :أن نتحرر من اخلوف ونقول ما نحسه متاماً. قال عمرو :اآلن عرفت معنى التخريب ،إنه يعني حتطيم السيئ ،وهذا سلوك رائع. ضج الصف بشغب مفاجئ ،اشتبك الطالب مع بعضهم البعض في نقاش عنيف، إلي :تذكروا أن اجلنون تخلله صياح واتهامات ،طلبت منهم أن يصمتوا ويستمعوا ّ والتخريب ال يعني الفوضى والصياح والتجريح! تذكروا أن التحرر من السجون التي فينا هو عمل منظم ووا ٍع ،وأن التخريب اجلميل هو عمل إنساني وأخالقي يهدف إلى البحث عن النضير واملزدهر واألزرق فينا ،ال ..ال فائدة أبد ًا في كالمنا وإمياننا إذا لم نقرن هذا الكالم بسلوك. لنبدأ اجلنون! ماذا اخترمت أن تكونوا؟قال القليل منهم :مجانني. قال الكثير منهم :أطفا ً ال. طالبان اثنان فقط اختارا أن يكونا ميتني.
40
الصف الثامن يقع في الطابق الثاني ،والعلو ليس مرتفع ًا جداً .قلت لهم :اقفزوا ورائي واحد ًا تلو اآلخر ،مع صيحة يطلقها كل قافز تعبر عن فرحه بالتحرر من اجلدران ،قفزت أمامهم ،مع صيحة فرح وحشية ،فقفزوا ورائي ،مالئني الدنيا صياحاً ،أكثر من نصف الطالب بقوا في الصف ،أطلوا برؤوسهم واعتذروا قائلني :ال نستطيع أن منارس هذا اجلنون ،سيغضب املدير منا ،ونخاف من آالم القفز ،ثم أننا غير مقتنعني بالفكرة.
قلت لهم :رائع أن تختاروا موقف ًا حتى لو كان معارض ًا لفكرتي ،لكم احلرية في الرفض ،مطلق احلرية لكم. مشيت مع الطالب اخلمسة عشر متجهني إلى البركة القذرة القريبة من املدرسة، أطلت رؤوس املدرسني والطالب من الصفوف املختلفة ،أطلت ساخرة وغاضبة ومستغربة ،سمعنا الفوضى تدب في أنحاء املدرسة ،صاح الطالب :يا مجانني! ابتسم مجانيني .قلت لهم :يا لها من تسمية رائعة ،نحن بالفعل مجانني. سمعنا مدرس التاريخ يصيح :يجب أن نضع حد ًا لهذا اجلنون ،أنت تشجع الطالب على الفوضى والعبث. درست في عشر مدارس ،لم أشهد سلوك ًا مثل هذا في صاح مدرس الفيزياءَّ : حياتي ،يجب أن يوجه لك إنذار فوري. سمعنا املدير ينادي بصوت عال :ارجع يا أستاذ أرجوك ،إلى أين أنت ذاهب مع الطالب ،أنت لم تستشرني ،أرجوك هناك ضيوف قادمون من وزارة التربية بعد نصف ساعة ،ال تفضحني أرجوك ،عد يا أستاذ ،عودوا يا طالب ،سأوجه لكم إنذارات. ضحكت مع الطالب بصوت ٍ عال. قال رام :هذا ما ننتظره .صح أستاذ؟ أجبت :طبع ًا لو لم َنر سخريتهم واستغرابهم وتهديداتهم ملا جنحت فكرتنا. سأل أمين :وما هي فكرتنا يا أستاذ؟ الفكرة ستتوصلون إليها بأنفسكم ،فقط وافقوا على التجربة. ٍ وعال :نحن موافقون. قالوا بصوت واحد 41
حتلقنا حول البركة ،كانت بركة قذرة مليئة باألوراق واألكياس وبقايا الطعام
وحيوانات ميتة ،كانت الدنيا مهيأة ملطر غزير ،الرؤوس الساخرة ما زالت تطل علينا ،التهديدات نسمعها بوضوح ،وصياح الطالب الساخر داخل الصفوف ميأل الدنيا. إلي أن أعود ،فهناك ضيوف ،بإمكاني أن أفعل ذالك الحق ًا إن جاء املدير ،توسل َّ أردت ،قلت له: عد إلى مكتبك أرجوك ال حترجني أنا ،نحن نتعلم اآلن ،أنا لم أفعل شيئ ًا سيئ ًا أو مخالف ًا ملصالح الطالب ،فقط هي جتربة. قال :لكنك لم تأخذ إذني .قلت :هذا من شروط التجربة .معط املدير شعره غاضب ًا وشتم جتاربي وصاح :قلت لك هناك ضيوف قادمون ،لن يستوعبوا طريقة خروجك إلى هنا بالقفز مع الطالب من النافذة ،ولن يفهموا وجود طالب حتت املطر مع مدرسهم أرجوك ُعـد! ال تتعب نفسك يا مديري ،افعل ما تراه مناسباً ،قم بصالحياتك ،أعطني إنذار ًا ولن متس بسوء من قبل مفتشيك. انصرف املدير غاضب ًا ومتوعداً ،وحائر ًا وانصرفنا نحن إلى تخريبنا. قلت للطالب :وكأن السماء تشاطرنا رغبتنا في اكتشاف أنفسنا وفي فحص األشياء. قال عالء :املطر ضروري لزيادة اجلنون. قال راضي :الرياح جد ًا مطلوبة للتحدي. قلت :لنبدأ. قال سمير :أستاذ أنا خائف من املدير ،فهو صديق والدي أخشي أن يعاقبني. 42
عاد سمير إلى الصف وراح يشارك في السخرية منا مع جوقة الساخرين.
حتلقنا نحن األربعة عشر طالب ًا ومعلم ًا حول البركة .بدأ املطر يتساقط والرياح تعصف بوجوهنا ،والدوريات العسكرية االحتاللية متر من أمامنا متشككة وخائفة. بدأت احلديث: ال شك أن احلياة ورطة ،نحن متورطون فيها بوجودنا ألن احلرية هي نقيض احلياة، احلرية احلقيقية توجد فقط في امليت وفي املجنون والطفل .نحن لسنا ميتني ولسنا أطفا ً ال وال مجانني ،حتى لو زعمنا ذلك ،فنحن نكذب ،لهذا نحن متورطون. إن املدرسة متثل رمز ًا واضح ًا من رموز هذا التورط في شكل مصغر وصادق جد ًا عن احلياة وشروطها وقيودها ،في املدرسة نحن نتحرك حواس ًا وأذهان ًا ... معلمني وطالباً ،بأمر شيء جهنمي ومروع اسمه اجلرس ،هذا اجلرس هو معادل موضوعي عادل ومنطقي ووفي للحياة ،احلياة جرس ضخم معلق في أعناقنا .إذا أحببنا أن نضحك بصوت ٍ عال مث ً ال في قاعة كبيرة يتم فيها تأبني زعيم أمة سابق، يدق اجلرس دقة فظيعة وينهرنا معلن ًا توبيخنا ويهددنا بعقاب كبير ،فنمتنع عن الضحك صاغرين. قال عبد الله :ولكن الضحك حرام في مناسبة كهذه. قلت :أرأيت يا عبد الله اجلرس دق عندك اآلن ،كما سيدق عندي وعند أي بشر آخرين ،إنها احلياة ،نحن ال نناقش أخالقية املوضوع أو عدم أخالقيته ،نحن نناقش داللته الوجودية واإلنسانية ،نحن نصف عن بعد وبشكل حيادي جداً. سأل رشيد :وما احلل يا أستاذ هل منوت؟ أم جنن؟ أم نصبح أطفا ً ال؟ املوت مرفوض ألننا نحب احلياة ،نحب ورطتنا ،أرأيتم شخص ًا يحب أمله ،إنهاإلنسان. قال زيد :إذن ،سنختار اجلنون أو الطفولة. هيا اختاروا! قلت لهم.43
معظمهم اختار الطفولة وقليل منهم اختار اجلنون.
أنا اخترت الطفولة ،قلت لهم.طلبت منهم أن يفتحوا عيونهم ويرفعوا نظراتهم إلى األعلى ،ضامني حبات املطر إلى حدقاتهم ،ويحلموا مبدرسة جديدة مفترضة. مدرسة مستحيلة وبعيدة عن الواقع البشري ،مارسوا احللم الغريب والالمتحقق، فهنا السعادة ،أن نحلم مبا ال يأتي أبداً ،هنا اجلمال :أن منشي باجتاه احللم الصعب، متعبني ومتحدرين من ساللتنا الهشة واملسكينة ،رفع الطالب نظراتهم إلى األعلى ...اغتسلت عيونهم باملطر. قال هيثم :أريد مدرسة مصنوعة من شجر ،ال أريد جدران وأسقفاً ،أريد أن أتلقى دروسي وبجانبي ثمار التوت. قال جمعة :أريد مدرسة في البحر ،املقاعد فيها زوارق ،والطباشير زيت السمك. قال خالد :ال أريد بنايات ،بإمكاننا أن ندرس حتت الشجر أو فوق اجلبال. قال أسعد :ال نريد سبورات ،نريد أن نكتب على اجلدران. قال عوني :املدرسة التي أحلم بها أريدها بعيدة عن املدينة ،وتؤدي إليها شوارع خاصة بنا ،ال سيارات نرى ،وال مارة. قال رمزي :أحب املدرسة التي أجلس فيها براحتي ،أمد رجلي أو أجلس على األرض مثالً. قال هادي :أريد مدرسة فيها مسابح وقاعات واسعة للرياضة وحواسيب كبيرة بحجم املدينة ،حتى ندخل في احلاسوب ونتحول إلى أرقام أو صفحات. قال سالم :أريد مدرسة ال أجراس فيها أبداً. 44
قال صالح :أريد مدرسة ال مدير فيها وال نائب مدير ،فقط معلمون.
سألت الطالب :ألم تشعروا مبتعة في احللم املستحيل. أجابوا :نعم ..نعم ..نعم. كم هو رائع أن نحلم بأشياء ال تتحقق ،لو حتققت هذه األحالم لفقدت كونها أحالماً ،لفقدت جمالها وغرائبيتها اخلاصة ،ألصبحت واقع ًا ممالً ،نتمنى أن نغيره ،لواقع آخر ،هنا السعادة :في الطريق إلى احللم :نحن محرومون من احللم املستحيل ،ألننا نريد أن نغير واقعنا نحو األفضل وال نعرف لذة احللم نفسها. للتخلص من لعبة األحالم املتحققة واملتواصلة ،اقترح أن نتدرب على احللم الصعب ،ليس بحث ًا عن واقع جديد ،بل بحث عن لذة احللم نفسها ،عن دهشة التحسر واأللم والتأمل في ورطتنا وسجوننا ومحدوديتنا الذهنية ،هذا ال يعني أني أطلب منكم أن ال حتلموا أحالم ًا تتحقق لتغيروا واقعكم ،أبد ًا أنا مع تغيير الواقع دائماً ،ولكن هذا موضوع آخر. قال رام :سأحلم أن أصبح إلهاً. ضحك الطالب. قال رشيد :سأحلم أن يصبح لي ست عيون وأربع عشرة أذن ًا حتى اسمع موسيقي احلوت األزرق. قلت أنا :سأحلم أن أطير فوق العالم واسمع ثرثرة الفراش. قال خالد :سأحلم أن أصبح الهواء ألجتسس على اليهود. حلم طالبي أحالم ًا خرافية ،وحلمت معهم ،راقبت النشوة وهي تقطر من رموشهم مع حبات املطر ،كنا خمسة عشر كائن ًا بشري ًا نحاول أن نلتف على ورطتنا الوجودية وعلى أجراسنا( ،خربنا) التقليد اليومي ،دون أن نؤذي أحداً. 45
هل رأيتم كم هو رائع أن نخرج عن السائد واليومي ،وأن نتعرض للتهديد؛ تهديد الذين ال يشبهوننا ،تهديد الذين لم يصل ذهنهم ملستوى ذهننا ،أن تشعر بالتميز
عن غيرك فهذا انتصار كبير ولذة عميقة. قال رشيد :نحن خربنا اخلراب إذن. قال رام :نحن متميزون ومرتفعون عن األرض ،نحن نبني بطريقتنا وهم يهدمون ويعتقدون أنهم يبنون. قال سالم :سمير تخاذل وهرب. قلت أنا :وهكذا هي احلياة؛ هناك متخاذلون وصامدون ،وهناك مرتبكون ومؤمنون ،وتذكروا أن اجلميل غريب دائماً. نحن غرباء بالنسبة إليهم ألننا جميلون ،رقص الطالب فرحاً. نحن جميلون ،نحن جميلون. ماذا تعلمنا من هذه التجربة؟ سألت الطالب ونحن عائدون إلى سجوننا:قال عبد الله :أنا ال أدري ،ولكني أدري أني استمتعت. قال خالد :خربنا اخلراب ،نحن ،إذن ،مناضلون ومنتمون. قال رام :تدربنا على احللم املستحيل. قال سليم :عرفنا كم نحن متميزون. قال زيد :غامرنا ولم نخف من التهديدات. قال عمر :عرفنا قيمة ومتعة أن ال نستمع إال ألنفسنا. 46
قال رشيد :قاومنا اخلوف من اجلرس.
قال أمين :قمنا مبا نحن مقتنعون به على الرغم من التهديد والوعيد. سألت طالبي :وما داللة البركة القذرة؟ ألم تتساءلوا عنها وعن رمزيتها؟ قال رام :هي القبح والظالم واخلوف ونحن حولها لنتحداها. قال عبد الله :هي الغموض املثير. قال خالد :هي الضحية التي تشبهنا. قال راضي :هي نحن ،ونحن نحاول أن نصفي أنفسنا من القاذورات. صحت بصوت ٍ عال :كم أنتم رائعون ...نعم ...نعم .كلكم صح ،ال أحد مخطئ أبداً ،تعالوا أحضنكم. عدنا إلى الصف -السجن ،كان صفير الطالب يتعالى سخرية منا ،وكان املعلمون يرمقوننا بحنق وحيرة ،واملدير ينتظرنا بإنذاراته ،وكنا نحن موكب نور ومعرفة يشق طريقه وسط ظلمة مثيرة للشفقة.
47
الب ِ ِ حث اعتناق َع ُ قيدة ال َّت َجاو ِز يف َ الم َّ الك ِ الضائع عن َ 49
الم َّ حث عن الكَ ِ الب ِ ِ الضائع اعتناقُ َع قيدة ال َّت َجاو ِز يف َ
ِ تدريس َنص) (جتربةٌ في
قلت لطالبي :تهيأوا لساعة من اإلجهاد الذهني اللذيذ ،ساعة من االحتماالت، واالقتحامات ،والتفسيرات ،سنغادر هذا الصف اآلن (صفق الطالب بقوة وساد ضجيج خفيف) ،هذه املساحة املنقبضة التي ال تساعدنا أبد ًا على مد سيقان مخيالتنا وأذرع جنوننا نحو القصي والالمحدود والغريب ،سنجلس في احلديقة هناك حيث تنمو األزهار بهدوء دون أن يعترضها أحد هناك في احلديقة ،سنبدع ونكتشف كما تكتشف األزهار ذاتها وروعتها ورائحتها ،هناك نستطيع أن جنلس على التراب ...نتشممه ...جنلس عليه ...نتحسسه بينما نحن نفكك مبتعة هائلة ظل صورة معلقة ،أو نبدد ضباب عبارة عالقة ،أو ننطح عتمة كلمة حرون. في احلديقة يحثنا منظر األزهار على اإلميان برائحة الكلمات ،نعم يا أصدقائي، هناك رائحة خاصة للكلمات ،تلك الرائحة التي تدوخنا وتسكرنا ،وتأخذ بأيدينا لنرقص ونطير ونذوب ونطلق سراحنا في أبدية األشياء .في احلديقة سنجلس بالطريقة التي تريحنا ،ال رقابة على اجللسات ،ال رقابة على شيء ،هناك رقابة فقط على جفاف التفكير وجموده وضيقه ،لن نسمح بفكرة مترهلة للمرور، الكلمات الساخنة والبعيدة واملغمورة واحمللوم بها هي كلماتنا ،هي طريقنا هي قاموسنا ،هذه الساعة ستكون ساعة اقتحام هائلة لكهوف الصور وتفجير ألنفاق املعاني وآبارها. بناء على حبهم لألدب ورغبتهم في أن يصبحوا عدد طالبي عشرة ،فقد اخترتهم ً كتاب ًا وشعراء. سيسألني يزن :هي حرب إذن يا أستاذ؟
51
سأجيب ،نعم .هي حرب باملعنى العنيف والدقيق للكلمة ،سنطيح بطريقة التفكير القدمية ،سننسف حصون املعاني املكررة ،سنغير على قالع املفاهيم النهائية ،وسنبني خنادق وحصون ًا وقالع ًا من املفاهيم واملعاني املفتوحة والقابلة للتجدد والعاشقة للنور واحلياة.
سيسألني أمير :هل سيكون هناك أسرى يا أستاذ؟ سأضحك أنا والطالب بصوت عال ،سيطل املدير مستغرب ًا ومتهيئ ًا االعتراض أو مساءلة. قلت :ال أسرى في حربنا ضد املوت والبالدة والظالم .نحن أمراء النور ومكتشفو األبعاد اجلديدة وأصدقاء الظالل ،نريد أن نكسب هذه احلرب لصالح اجلمال واحلب ،لصالح هذه احلديقة املفتوحة واحلرة والنظيفة. طالبي في احلديقة اآلن .كل يجلس حسب راحة جسده ،بعضهم جلس على تفيأ ظالل الورد القصير ،آخرون وقفوا متكئني األرض متكئاً ،قسم منهم ّ بأجسامهم على السور ،جلست أنا على حافة السور بيدي أوراق مطبوع عليها سطور من قصيدة محمود درويش «ورد أقل» .أوزع األوراق على الطالب. الطالب ينظرون باهتمام ،أراقب البهجة القلقة في وجوههم. أقول لهم :أعيروني انتباهكم ،حاولوا أن تنسوا ما يدور حولكم من أصوات سيارات وطالب وباعة خضار متجولني ومدرسني يصرخون ويهددون. أصدقائي أمامنا بضعة سطور شعرية للكبير واجلميل محمود درويش ،سنحاول أن نلج هذا اإلنسان الفني ،مزودين باخلبرة واألدوات التي اكتسبناها في العام املاضي ،خبرة الرؤية املجنونة احلرة ،خبرة حتسس العالم بأصابع من حلم ،خبرة اختراق احلدود بأقدام من وهم ،خبرة حتطيم احلواجز أمام رغباتنا في استخدام طاقاتنا على بناء عالم جديد على أنقاض القدمي اليابس. طالبي يقرأون بصمت سطور املقطوعة ،ال شيء يتحرك فيهم سوى أذهانهم. أرفعوا رؤوسكم واسمعوني ،قلت لهم. بدأت أقرأ بصوت متلون منخفض ٍ عال تبع ًا ملنخفضات املعاني ومرتفعاتها. 52
ورد أقل «أريد مزيد ًا من العمر كي نلتقي ومزيد ًا من االغتراب
ولو كان قلب ًا خفيف ًا ألطلقت قلبي على كل نخلة أريد مزيد ًا من القلب كي أستطيع الوصول إلى ساق نخلة ولو كان عمري معي النتظرتك خلف زجاج الغياب أريد مزيد ًا من األغنيات ألحمل مليون باب وباب وأنصبها خيمة في مهب البالد وأسكن جملة أريد مزيد ًا من السيدات ألعرف آخر قبلة وأول موت جميل على خنجر من نبيذ السحاب أريد مزيد ًا من العمر كي يعرف القلب أهله وكي أستطيع الرجوع إلى ...ساعة من تراب». أنهيت القراءة ،رفعت رأسي ،ألرى تأثير إلقائي الشعري على الطالب ،بعضهم كان حائراً ،آخرون ابتسموا ،البعض كان يتنهد ،طلبت منهم أن يقولوا لي ما ٍ معان وأفكار وأحاسيس. وصلهم من قال رام :محمود يطلب عمر ًا إضافي ًا ليعيش أكثر ،يبدو أن في انتظاره أشياء كثيرة ليحققها والعمر قصير. قال براء :الزمن قصير والشاعر يخافه. قال أحمد :الشاعر يحب احلياة لكن احلياة ال تكترث له. قال أمير :الشاعر يعرف أن الزمن لن يستجيب له ،فهو يستجدي أيام ًا جديدة حلياة أخرى ،الشاعر يبدو مسكين ًا لكنه جميل. قال سامر :الشاعر يريد أن يسكن جملة ،هذا تعبير عن رغبته في اخللود والبقاء عبر األدب. هرب محمود قال محمد :فلسطني غير موجودة هنا ،اإلنسان هو املوجود ،ملاذا ّ فلسطني خارج القصيدة. 53
قال خالد :أتساءل فقط عن عالقة األغنيات باألبواب ،يبدو أن كل أغنية تعني باباً ،وكل باب يؤدي أو يسلم ألغنية.
قال يزن :محمود يريد نساء كثيرات ،ملاذا؟ قال ؟؟؟؟ :ملاذا يريد محمود مزيد ًا من االغتراب؟ أحب أن أفكر ،ملاذا؟ فاإلنسان يبحث دائم ًا عن االنسجام مع محيطه ال االغتراب. قال معتصم :الشاعر يحلم بالوصول إلى ساق نخلة ،ملاذا نخلة وليس زيتونة؟ محمود ال يتحدث عن فلسطني ،والدليل أنه ال يتحدث عن الزيتون ،فالزيتون رمز معروف من رموز بالدنا. قلت أنا :انطباعي األول يا أصدقائي عن القصيدة أن محمود يحب احلياة جداً، تأملوا يا أصحابي ،الفراغ املفاجئ في السطر األخير :وكي أستطيع الرجوع إلى ...ساعة من تراب. أنا أرى أن جوهر املقطوعة الشعرية ولغزها وداللتها موجودة هنا ،في هذا الفراغ الذي ينتظر أن نعبئه .مهمتنا اليوم في هذه الساعة أن نحاول تعبئة هذه املساحة بكلمة واحدة ،محمود ترك هذه املساحة لنا ،لنستخدم مخيالتنا ،الروعة ستكون في جتاور تفسيراتنا ،لن تكون هناك إجابات خاطئة ،كل إجاباتكم ستكون صحيحة ،أريد منكم أن تربطوا بني :الزمن ،والنخلة ،والقلب ،واجلملة، واخليمة ،والتراب ،واألبواب ،والغياب. من هذه الكلمات ميكننا ،على ما أعتقد ،أن نعبئ املساحة الفارغة ،في السطر األخير. اعترض أمير قائالً :أستاذي أنا اقترح أن نضيف كلمات أخرى ،إلضاءة عتمة مساحة الفراغ ،الكلمة هي :االغتراب. أثنيت على إضافة أمير للكلمة ،طلبت من طالبي التصفيق له ،قبل أن أطلب منهم أن يبدأوا في التفكير ،بالكلمة الضائعة.
54
قلت لهم :سأذكركم فقط مبا سبق وقلته لكم عن طبيعة أسرار الشعر وعالقته بالواقع ،وعن حق الشاعر في االنزياح بعيد ًا عن احلياة ،وموجوداتها بهدف القبض على سر احلياة وجوهرها ،وعن حقه في الهذيان والتوغل في احللم واألسطورة.
الشاعر إنسان مختلف متاماً ،يرى األشياء ،ويحس بها بطريقة مختلفة .الشاعر كائن حساس جداً ،يرى ما ال نرى ،أسلوبه في التعبير عن شعوره ،يختلف عن أسلوب الناس العاديني ،لذلك علينا أن نتأفف من تركيباته اللغوية ،وكلماته الغريبة ،علينا أن نكون صبورين جد ًا في تفكيك معانيه وصوره .دالالت الشاعر عبارة عن حصان حرون ومجنون ،ال يستطيع ترويضها إال اخلبير والصبور واحملب العاشق للوصول إلى أوار اللهب ،أوار اللهب األزرق ،منطقة خطيرة وبعيدة ،مثل قمة (إيفرست) .املتسلقون اخلطرون والصبورون هم وحدهم الذين يستأهلون الوصول للقمة – اللهب ،تأملوا السطور جيداً ،اربطوا بني الكلمات، فككوا الصور ،وحللوا األفكار ،اقلبوا أرض الكلمات رأس ًا على عقب ،انبشوا التراب حتت العبارة ،واغطسوا في فضائها ،جتاوزوا معاني الشاعر نفسه ،دائم ًا اعتنقوا عقيدة التجاوز ،اخلقوا معانيكم أنتم ،اكتبوا نصوص ًا شفاهية ،منطلقني من نص درويش اجلميل ،هذه هي إحدى مهمات األدب ،حتويل القارئ إلى مؤلف، دفعه إلى اجلنون ،الكتشاف ذاته ،ومعرفة أعماقه جيداً ،تعرفوا إلى أرواحكم، من خالل هذا النص الالهب ،سافروا إلى القمم ،قمم أنفسكم املضببة ،واهبطوا إلى قيعانكم املغبشة والراكدة. تنفس طالبي بعمق ،مشى بعضهم في احلديقة وهو يقرأ بعمق وصمت وتوتر، البعض انزوى في طرف احلديقة حتت ظل السور ،آخرون متددوا ،مستلقني على ظهورهم ،رافعني األوراق ،وذائبني في سطورها. لم تعد هناك أصوات معادية ،سبق وأن دربت طالبي على نفي اخلارج ،والتركيز على الداخل ،املدرسة اختفت ،املدير مات ،زعيق الصفوف وهدير األروقة، انطفأ. سألت طالبي :أين نحن اآلن؟ أجابوا :نحن فينا. ابتسمت ،وكررت اجلملة همس ًا بيني وبيني ،التي سبق وعلمتهم اللجوء إليها، حني تداهمنا سيول الواقع الثقيل. 55
اختفى طالبي ،واختفيت أنا أيضاً ،كل غطس في ذاته ،في كنوزه ،حقيقته.
بعد نصف ساعة عدنا إلى األرض ،هبط طالبي أمامي بأقدامهم املتعبة. كانوا يبتسمون. قال يزن :الكلمة هي موت. قال أشرف :إله. قال محمد :زيتونة. قال خالد :ساعة. قال رام :بريق. قال سالم :غياب. قال أحمد :وردة. قال محمود :جحيم. قال فراس :صمت. قال راضي :رعب. قلت أنا :أرض. قلت لهم :بعد ٍ ثوان سأختفي من أمامكم ،ستخطفني جنيات الوادي ،أريد من ال ،ويتلقى منه سؤا ً كل واحد منكم أن يسأل صديق ًا يختاره ،سؤا ً ال أيض ًا حول دالالت هذه القصيدة وكلماتها وعباراتها وأجوائها. 56
رأيت في وجوههم الدهشة املثيرة ،وخرجت من احلديقة ،ووقفت في امللعب.
سمعت أحمد يسأل راضي :هل هناك موت جميل وآخر غير جميل؟ سأل رام فراس :كيف يكون السحاب نبيذاً؟ سأل سالم محمود :ما داللة الباب في القصيدة؟ سأل خالد أشرف :يتحدث محمود عن القبالت والسيدات وفي الوقت نفسه يتحدث عن اخليمة والرجوع ،ما داللة هذا املزج بني الوطني والعاطفي؟ دخلت احلديقة قفزاً ،والفرح يتطاير من جسدي وقلبي ،صحت فيهم :تعالوا أضمكم ،فقد أطلقت جنيات الوادي سراحي بعد أن سمعت هذه اجلنيات ضحكاتكم ،وحواركم ،وأسئلتكم ،ضممتهم ،تساقط بعض دمعي فوقهم: فقال أحمد :إنه نبيذ السحاب يأتي عبر عيونك يا أستاذ. ضحكت وضحكوا. قلت لهم :اكتبوا اآلن جم ً ال قصيرة ،تعليق ًا أو إضافة لقصيدة درويش. قال أشرف :يا زمن ،أيها القاتل :أعطني فرح أن أبقى ألساعد أبي في احلفل فهو عجوز. قال سامر :أريد مزيد ًا من الوقت ألحارب أعداء وطني. قال سالم :أريد وقت ًا إضافي ًا يا الهي ألحب وطني أكثر. قال خالد :أقيم أنا اآلن في بطن عبارة ،ال أريد أن أخرج ،فالدنيا في اخلارج برد. قال رام :أغرقني يا نبيذ السحاب البني ،أريد أن أغيب عن الوعي. 57
قال محمود :غنيت فجأة ،فانفتحت أبواب العالم أمامي.
قال أمين :ال نخيل هنا ،بل زيتون ونخيل روحي هرمت وأنا حزين. قال فراس :أحب أن اغترب أكثر ألرى وطني أفضل وأحبه. أقبل حبيبتي بطريقة جديدة. قلت أنا :يا هدير العمر توقف ،أريد أن ِّ ضحك الطالب هنا ،برز اخلجل السعيد على أعينهم. أثنيت على إبداعات أصدقائي ،صفقت لهم بحرارة ،وطلبت منهم أن يستعدوا لقراءتها بصوت ٍ عال. قرأوها ،أو غنوها ،أو رسموها ،صححت أخطاءهم القرائية ،واإللقائية. طلبت منهم أن يستبدلوا الزمان باملكان باعتباره شقيقه ،ويبدعوا جم ً ال من مخيالتهم. قال سالم :أريد مزيد ًا من األمكنة ،فقد سرق اليهود أرضي. قال أحمد :أريد مزيد ًا من األمكنة ،ألسافر أكثر. قال أشرف :أريد مزيد ًا من األمكنة ،ألرى أصدقائي البعيدين. قال خالد :أريد مزيد ًا من األمكنة ،ألموت في أكثر من مكان. قال محمد :أريد مزيد ًا من األمكنة ،ألكون في كل مكان حياً. قال رام :أريد مزيد ًا من األمكنة ،ألهرب من االحتالل. طلبت منهم البحث عن الكلمات التي تشكل دالالت وطنية ألي شعب مضطهد أو غير مضطهد في العالم. 58
قال سامر :خيمة.
قال أحمد :رجوع. قال أشرف :االغتراب. قال رام :أهله. قال خالد :موت جميل. قال راضي :البالد. قال خالد :موت. قلت لهم :أعيروني سمعكم مرة أخرى ،قرأت القصيدة بصوت ٍ عال. الحظت أن استجابتهم الذهنية أصبحت أفضل اآلن ،كانوا يتمايلون كأني أغني أو أرقص. قلت لهم :الحظوا املشترك فيما يريد درويش :أغنيات ،قلب ،عمر ،سيدات. سألتهم :ما املشترك هنا؟ أجابوا بصوت واحد :احلياة ،احلياة ،احلياة. سأل أمين :ما رمز النخلة في القصيدة؟ قلت لهم :فكروا! أجاب رام :النخلة رمز للعلو والرشاقة والزمن اخلالد. أجاب أحمد :النخلة هي رمز للصعود واالمتداد والقوة. 59
قال خالد :النخلة رمز لنساء غير موجودات.
قال راضي :النخلة هي الكون أو الوطن. طلبت منهم أن يكتبوا في البيت نصاً ،مستخدمني فيه كلمات نص درويش ،بعيد ًا عن دالالت نص درويش ،وفضائه :الغياب ،البالد ،السيدات ،نبيذ ،تراب، انتظرتك ،ساق ،باب ،أهل ،موت ،قبلة. فجأة ،رن اجلرس ،معلن ًا نهاية احلصة ،خرجنا من احلديقة ،عدنا إلى الصف، وال أدري هل سمعت حق ًا طالبي يرددون هذه اجلملة أثناء صعودهم الدرج أم أني توهمتها :نريد مزيد ًا من الوقت واألمكنة واألغنيات والسيدات ،كي نستطيع الرجوع إلى ساعة من لهب لذيذ.
60
ون األُس َتاذ... انظر ُع َي َ ْ ان ُم َب َّلل .هل َت َراه؟ ثمة َ َ مل َع ٌ 61
ان ُم َب َّلل .هل َت َراه؟ ون األُس َتاذ ... ثمة َ َ مل َع ٌ انظر ُع َي َ ْ بينما الشتاء في اخلارج يزدهر على حواف شبابيك الصف .قلت لطالب الصف الثامن :أنا ضجر هذا اليوم ،هيا نرتكب خروج ًا عن العادي واليومي .ونتوه في دروب معرفة جديدة .ابتهج الطالب .قفز أحمد من مقعده باجتاه النوافذ ،أسدل الستائر وعاد إلى املعقد وهو يكاد يطير طاقة. الستائر؟ سألته. أحمد ،ملاذا أسدلت َّ ألن الشتاء هو الصوت ،ألم تدرسنا وتدربنا على اإلصغاء إلى األصوات .ألمالسمع هي ملكة احلواس ... تقل لنا أن حاسة َّ البارحة لي ًال أصغيت (تابع أحمد) إلى صوت املطر وهو يصفع األرض والبيوت، وأصغيت أكثر إلى صوت املاء وهو ميشي بهدوء وصمت في أخاديد الطريق الوعر خلف غرفة نومي .شعرت حينها أن الشتاء فع ً ال هو الصوت ،وددت حلظتها لو أخبئ الشتاء حتت حلافي ،أتسامر معه وأحدثه ويحدثني عن الصيف الذي يتربص به ،واخلريف الذي انتحر والربيع الذي سافر جبن ًا أو مكراً. رائع ما قلته يا أحمد ،أجمل ما فيه توحدك مع الطبيعة وانسجامك مع أصواتها.الناس تنسى أن الطبيعة تتحرك وتتنفس وتراقبنا بحزن وحيرة. سأل محمود :ما هي املعرفة اجلديدة التي تقترح التيه في دروبها يا أستاذ؟ لدي يا أصدقائي موضوع يؤرقني منذ مدة طويلة ،هذا املوضوع نتج عن ذكريات ّاملدرسة واجلامعة التي تهاجمني في الليل والنهار ،هذه الذكريات احلزينة في أغلبها ال تقتصر على سنني حياتي كتلميذ أو طالب ،بل تشمل كذلك سنني حياتي كمعلم جديد في مدارس عديدة. رفع أمير يده مستأذن ًا باحلديث: 63
-هل سنبحر في هذه املعرفة اجلديدة هنا بني املقاعد اجلديدة ،هنا بني املقاعد اخلشبية
اجلامدة والسبورة اخلرساء واجلدران الصماء .هيا نخرج إلى مكان آخر يا أستاذ يتالءم مع اإلبحار بعيد ًا والتيه واخلروج على القوانني العمياء؟ جميل هذا االقتراح يا أمير ،فاألمكنة مهمة جداً ،فحني تكون األفكار مجنونةحتتاج إلى مكان مجنون يحتوي على طاقة كبيرة ،على اقتراح اخليارات وتفتيح الذهن ،وتفجير احلدود .وحدها األفكار العادية السطحية ما حتتاج إلى أمكنة فقيرة وسطحية .فالسطح يبحث عن السطح دوماً ،والعمق يلهث خلف العمق. لكن املشكلة يا أمير أن الشتاء في اخلارج يضيق علينا اخليارات .فمن غير املعقول أن نتوه في معرفتنا اجلديدة حتت وابل املطر والريح. قال خالد :أنت تقول من غير املعقول؟ ال أصدق إنك أنت يا أستاذي الذي علمتنا حتويل الالمعقول إلى معقول تتحدث اآلن عن استحالة شيء على الذهن اإلنساني والروح اإلنسانية. إذن دعونا نخترع في الصف عامل ًا جديداً ،أعطوني اقتراحاتكم .قال أحمد:نقوم بقصقصة ورق الدفاتر ونصنع منها ورود ًا وسناسل وحدائق. قال رمزي :نرسم على السبورة غابة فيها أسود وفيلة ومنور وغزالن. قال حذيفة :نقوم بابتكار شجرة وصخور وطرق وعرة من أغلفة الكتب املهترئة. قلت لهم :رائع جد ًا يا أصدقائي أن تكون لديكم القدرة الذهنية على تغيير العالم، استبداله والعبث اجلميل بأشيائه وحتويل مصيره ،نعم أنه الذهن البشري (املهمل) الذي يستطيع حتريك اجلمادات بطاقته الكامنة التي هي بحاجة إلى استدراج ولغة خاصة للقبض عليها وإطالقها.
64
شرع الطالب بحماس شديد بتغيير معالم الصف ،أخرجوا املقاعد من الصف، بدأوا يقصقصون األوراق ويشكلونها على شكل أزهار وسناسل وصخور وأشجار ومنور وأسود و ...و ...و ...الخ .أما على السبورة ،فقد ألصقت غابة كبيرة تطل من بني أشجارها الكثيفة أصوات طيور وحيوانات كاسرة .وهكذا لم يعد
الصف صفاً ،فقد أعمل فيه الطالب أياديهم وأذهانهم وأفكارهم واقتراحاتهم العنيدة ،كنت أراقبهم وأنا أهمس لنفسي :هكذا هو الذهن البشري املستيقظ الرشيق الذي يعرف عمقه وتأثيره وقوته .ال شيء يقف أمام إرادة هذا الذهن. ذهن مليء باخليارات والطرق البديلة والرغبات في التغيير الدائم ،ذهن يتمتع بكبرياء عظيم ،ورفض دائم للتدجني وتلقي األوامر .ذهن يعمل وحده ،مبرمج على اقتحام الطرق املقفلة وحتدي السدود وهز القناعات. قال فؤاد :هيا يا أستاذ ،نحن مستعدون متام ًا للتيه. قال حسن :ما هو املوضوع الذي يؤرقك منذ فترة؟ وما هي الذكريات يا أستاذ التي هيجت هذا املوضوع فيك؟
65
قبل ٍليال عدة يا أصدقاء ،شاهدت فيلم ًا أجنبي ًا على إحدى القنوات الفضائية، في هذا الفيلم ظهرت امرأة فاتنة جداً ،مالمح هذه املرأة الطفلية سكنتني إلى حد األرق .وال أعرف ملاذا أحسست حينها أني أعرف هذه املالمح وهي ليست غريبة عني ،وكنت كلما اقتربت من معرفة هذه املالمح في أعماقي وذاكرتي تهت من جديد ،وتداخلت مالمح أخرى مع بعضها .فأشعر بحسرة لذيذة، حسرة شخص يبحث عن شخص منذ زمن لكنه يعرف جيداً ،أنه سيجده في منكب بكل كياني على سطور رواية، آخر املطاف .وفي ذات ليلة طويلة ،وأنا ٌ عيني وتركت الكتاب يسقط علي املالمح من جديد .وعندها أغمضت ّ هجمت ّ توضحت املالمح وتكشفت يدي وغرقت في عتمة هائلة ،ورويد ًا رويد ًا ّ من بني ّ عن صورة وجه أعرفه جيد ًا وأتذكره ،إ َّنه وجه (هدى) زميلتي وصديقتي في الرابع ،وجه واسع ،مستدير أبيض جداً ،ال يعرف معنى كلمة شر أو َّ الصف ّ أذى ،أو عنف ،منذ الصف األول وأنا أجلس بجانب هدى ،كنا نتقاسم أرغفة الساندويتش وقطع احللوى ،وكانت متفوقة جد ًا في دراستها ،ومواظبة على واجباتها املدرسية ،وحني سخر تالميذ وتلميذات الصف من خطي القبيح وهتفوا في وجهي ونحن نازلون على درج املدرسة :خرابيش الدجاج ،خرابيش الدجاج .صرخت هدى في وجوههم ،وهددتهم بإبالغ املديرة .فلزموا الصمت وتفرقوا .بعد الصف الرابع ،انتقلت إلى مدرسة أخرى .وانتقلت هدى إلى مدرسة أخرى ،ذهبت هي إلى مدرسة إناث وذهبت أنا إلى مدرسة ذكور .لم أعد أرى هدى ،صار يجلس بجانبي في الصف اخلامس تلميذ اسمه صالح ،هنا وقف أمين وسألني وابتسامة خفيفة على شفتيه :هدى وصالح،
عاملان مختلفان .صحيح أستاذ؟ بالتأكيد مختلفان ،ولكن مهالً ،هما أيض ًا متكامالن مبعنى أنهما ال يستطيعاناالستغناء عن بعضهما البعض .أرجو أن ال يفهم من كلمة (مختلفان) أن أحدهما أقل قيمة من اآلخر. أكمل يا أستاذ أكمل .قال حسن. وهكذا اختفت (هدى) من حياتي .كنت أحس اجتاهها بشعور مريح جداً .لمأحزن كثير ًا حينها ،لكني شعرت بفراغ ما يتكون شيئ ًا فشيئ ًا في أعماقي ،وكبر معي هذا الفراغ ،حتى حتول إلى حزن خفي وصامت ،وغصة هادئة تتحرك ببطء في دمي .ومضت بي السنون جترفني بأحداثها وخارطاتها وتقلباتها.
66
لم أجلس أثناءها بجانب بنت في مدرسة ،كان هناك أشرف وهادي وخالد وعدنان، أنس هدى أبد ًا – ظلت حتى فترة بعيدة تتربع بخيالء وهدوء في داخلي ،وشيئ ًا لم َ فشيئ ًا غامت صورتها واندثرت .ولم أعد أذكر مالمحها ،وإن كنت أتذكر أسمها أحياناً .وحني شاهدت املمثلة األجنبية ،استيقظت هدى داخلي بكامل براءتها وصفاء نظرتها ،وطيبة قلبها .ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث بيني وبني نفسي في سؤال مهم جداً :إلى أي مدى أثَّر غياب هدى كزميلة صف على طاقتي وروحي؟ أريد منكم اآلن يا أصدقائي أن تعينوني بإحساساتكم واقتراحاتكم وآرائكم على فهم هذا املوضوع ومحاولة الوصول إلى إجابة تريح أذهاننا ،على الرغم من أنني متأكد أننا سنظل نسأل ونسال ،ونتوهم أننا وصلنا إلى إجابات ،إنني أعرف متام ًا أحفاد للسؤال وأحباؤهًّ ،أما اإلجابات فهي ال تريحنا وال ترغب فينا ،كما أننا أننا ُ ال نحبها وال نرغب فيهاُ .أريد منكم يا أحبائي أن تدركوا أمر ًا مهماً ،وهو أنكم بحكم أنكم لم تعيشوا واقع االختالط وإحساس عدم االختالط ،لذلك ،أرجو منكم أن تتأنوا في اإلفصاح عن مشاعركم اجتاه غياب اجلنس اآلخر عن صفوفكم، فأنتم قد تصدرون في مواقفكم عن حنني عاطفي وعطش إنساني طبيعي ،وهذا مشروع وعادي .لكن ال أريد أن يكون الدافع وراء رغبتكم في االختالط هو فقط االندفاع العاطفي وتلبية ألشواق جسدية أو عاطفية ،فقط أريدكم أن تتعمقوا في فهم املسألة وتقيسوا ضرر غياب االختالط الواقع ليس فقط على قلوبكم ومشاعركم ،ولكن على طاقتكم على احلياة ،وعلى روحك املعنوية وإحساسك بنفسك وعالقتك مع العالم .أريدكم أن جتيبوا عن هذا السؤال بكلمة صغيرة دون
أل التعريف :السؤال هو :ماذا تعني لك زميلة املعقد الدراسي .وهو املعنى الذي ال ينطبق على الزميل. قال هاشم :راحة. قال سمير :سفر. قال رامي :ارتفاع. قال علي :صمت. قال كامل :مكتبة. قال زكي :هياج. قال صابر :حديقة. قال هيثم :حلم. قال هادي :صعود. قال رائد :حركة. قال سليم :نار. قال عبد الرحمن :ذكاء. قال سمير :مطر. قال أمجد :تعطل. 67
قال فادي :ثرثرة.
قال مسعود :حرام. قال خليل :بئر. سجلت كلمات أصدقائي على السبورة .طلبت منهم تأمل كلماتهم واإلسهاب في شرحها وتفكيكها. قال هاشم :ارتاح حني جتلس بجانبي بنت ،وال أعرف ملاذا؟ عيني أجنحة وأطير. قال سمير :أسافر إلى النجوم وتنبت في َّ قال رامي :أحس بارتفاع في نظري لألشياء. قال علي :أصمت أكثر بجانب بنت ،بجانب شاب أثرثر. قال كامل :أحس أني أجتول بني رفوف مكتبة. قال ربحيُ :أحس هياج أمواج في قلبي. قال صابر :كأني أقطف وردة زنبق من حديقة. قال هيثم :كأني أحلم. قال هادي :كأني أصعد جب ً ال وألهث وال أصل. قال رائد :األشياء تتحرك ،الستائر تغني. قال سليم :نار تأكل عيني. قال سمير :أحس أني ذكي. 68
قال أمجد :أحس أنها ستمطر بعد قليل.
قال فادي :أحس برغبة في الثرثرة. قال مسعود :أحس أنني أرتكب حرام ًا وأخاف. قال خليل :أحس أني أغوص في بئر ال قاع فيها. وماذا كنت حتس أنت يا ُأستاذ؟ سؤال مفيد. كنت أحس أنني إنسان جميل جداً ،رغبتي في الدراسة تزداد وحتصيلي يتحسن،كنت أحس أن طاقتي على احلياة كبيرة ،أرغب في الرقص والكالم ،وأحيان ًا الصمت املمتع ،كنت أحس أني طائر يستطيع الطيران في أي فضاء يريده ،وأنني إلي .كنت أحس أن طعم املعلم واحلياة واملواد محمي وال خطر يستطيع الوصول ّ والعام مختلف. وماذا كانت حتس هي يا ُأستاذ؟ سأل خليل. ال أعرف ،لكني أعتقد أنها لو سئلت اآلن ألجابت اإلجابات نفسها. أين هدى اآلن يا أستاذ؟ سأل شادي. ليتني أعرف يا صديقي شادي ،ليتني أعرف ،حق ًا أود لو أعرف قد تكونموجودة في أي مكان -بجوار املدرسة أو خارج البالد .لكن هذا موضوع غير مهم إطالقاً .هدى فراغ ما زال يعيش داخلي -وعلى الرغم من أني جتاوزت األربعني وعبرت حياتي نساء كثيرات ...صديقات وحبيبات ،وزميالت وقريبات( .الطالب يبتسمون) ،إال أن هذا الفراغ ما زال موجوداً .وهو لن يزول أبداً ،إن األمر يشبه أن تفصل قوة شريرة عينك اليسرى عن وجهك بعد فترة قصيرة من والدتك بعينني سليمتني ،وبعد سنني طويلة من العيش بعني واحدةُ ،تعاد لك العني املفقودة .إنك لن تنسى سنني العمر النصفي تلك املؤملة احملفورة في فضاء ذاكرتك .ستبقى تعاني من دوار العتمة اخلفيفة ،حتى ولو ُدلقت عليك كل أنوار العالم. 69
الطالب ساكتون ،ثمة صمت قلق يفترس املكان والشتاء ما زال يزدهر ،اسمع
همسات هنا وهناك ،وال أدري إن كان ما سمعته من أحمد لزميله هو بالضبط ما قاله أم أنني توهمت هذه الكلمات: انظر عيون األستاذ ،ثمة ملعان مبلل فيها .هل تراه؟
70
ِ اجملنون ن ِح الف ِّ كاية ُمع ِّلم َ ُ مل َ ش َّج َرتنيِ ِذي العيننيِ ا ُ اختفوا فَ ج َأة وطالب ِِه الَّذين َ ُ 71
ِ اجملنون ن ِح الف ِّ كاية ُمع ِّلم َ ُ مل َ ش َّج َرتنيِ ِذي العيننيِ ا ُ اختفوا فَ ج َأة وطالب ِِه الَّذين َ ُ الشرطة رن هاتف املركز ،اندفع صوت متوتر يصيح« :أن طالب صف كامل مع معلم الفن في مدرسة ما في املدينة قد اختفوا» .لم نفهم في البداية ماذا عنى الصوت املتوتر باختفاء الطالب ،ذهبنا إلى املدرسة ،استجوبنا املدير املنذهل وطالب الصفوف األخرى اخلائفني ،الكل أجمع على أنهم شاهدوا املعلم «غريب األطوار ذا القميص املشجر والشعر الشجري والعينني املشجرتني» وطالب الصف الثامن «ج» يدخلون الصف بداية احلصة الثانية ،وأنهم لم يشاهدوا الباب يفتح أبداً ،ولم يخرج أي طالب إلى املرحاض أو إلحضار غرض ،مثل طباشير أو أوراق ... الخ ،كما يحدث عاد ًة.
73
املدير قال لنا :إنه لم يرحت ملعلم هذا الصف ومربيه منذ تعني في املدرسة منذ عامني ،فهو ال يتكلم مع املدرسني ،يعتكف معظم استراحاته في املكتبة ،يغلق الباب على نفسه ،وأنه تسمع في املكتبة أصوات موسيقى غريبة يتخللها أصوات طيور وحيوانات وبشر يبكون أو يرقصون أو يصلون ،العالقة بني طالب هذا الصف املختفي وبني هذا املعلم ذي القميص املشجر والعينني املشجرتني والشعر الشجري ،كانت غريبة ،منذ جاء هذا املعلم إلى املدرسة ،منذ احلصة األولى مفاجئ ،صاروا أميل إلى الصمت ،ميشون على تغير ٌ تقريباً ،أصاب الطالب ٌ األرض أثناء الدخول إلى املدرسة واخلروج منها ،وكأنهم يستعدون لطيرانٍ قاد ٍم بعد قليل ،ينظرون كثير ًا إلى السماء ،لم يعودوا يلعبون ويركضون خلف ٍ بسقف دائري بعضهم البعض ،وقت االستراحة ميضونه داخل بيت قدمي جد ًا وأرضية مبعثرة وجدران سميكة وفوضوية .وهو قبر أو مسكن لولي مات قبل خمسمائة سنة كما يروي سكان املنطقة اسمه (سيدي جنم) .مفتاح بيت «سيدي موجود فقط بحوزة معلم هذا الصف الغريب .بحكم كونه معلم الفن. جنم» ٌ إفادة آذن املدرسة قالت إنه سمع طالبني من هذا الصف يهمسان لبعضهما البعض بهذه اجلمل:
األول للثاني :أنا اخترت أن أكون طائر ًا متوحشاً. الثاني لألول :أنا اخترت أن أكون حصان ًا بري ًا ال يفعل شيئ ًا سوى الركض ،وال يصلح ظهره لركوب أحد سوى الريح. األول للثاني :اخفض صوتك ،فلو عرف الناس مبا ننوي فعله ألخفقت خططنا وبقينا بشر ًا عاديني نساق كالشياه في محفل الطاعة األبدية. الثاني لألول :هل تدري ماذا يعني أن تكون حصان ًا بري ًا ال يفعل شيئ ًا سوى الركض ،وظهره ال يصلح لركوب أحد سوى الريح؟ ذلك يعني أنني سأتذوق طعم بدائية الريح ،وهي تذوب في منخري ،وأنني سوف اختلط في الريح لدرجة أنني سأعجز عن معرفة نفسي :هل أنا حصان أم ريح؟ ذلك يعني أني لن أخاف حني يقول لنا املعلم غد ًا امتحان فاستعدوا ...وإال. ذلك يعني أني لن أرضخ لتهديدات مدير املدرسة لي حني أقص شعري وفق رغبتي ،وحني أحضر بلباس اختاره أنا ال قوانني املدرسة ،وحني أحتج على ضرب معلم الرياضيات لزميل لي ،ألنه يبتسم باستمرار في احلصة. األول للثاني :يا الهي! ماذا فعل بنا هذا املعلم املجنون؟ وهل تعرف ماذا يعني أن تصبح طائر ًا متوحش ًا ...يعني أنني لن أقف في الطابور الصباحي مستمع ًا للنشيد الوطني الذي مللته ومتثائب ًا مع مئات املتثائبني من زمالئي، وخاضع ًا ألوامر االنحناء واالرتفاع ...يعني أنني سأمتلك نظرة أخرى لألشياء غير نظرة النملة الضيقة. الثاني لألول :يا إلهي! ماذا فعل بنا هذا املدرس املجنون؟
إفادة معلم الرياضة
74
بينما كنت في امللعب أعلّم طالب اخلامس»ب» فن االنحناء أمام احلواجز ،مر بي طالب الصف املختفي صامتني ومعلمهم الغريب ،واندسوا كلهم في عتمة «سيدي جنم» ،أغلقوا الباب خلفهم بإحكام ،وساد صمت غير مفهوم.
أفاد الطالب أمين في الصف اخلامس «ب» :أقسم أني رأيت ما يشبه طرف أجنحة فضية المعة منغرسة بخاصرة أحد الطالب. إفادة احلاجة «أم أحمد» جارة املدرسة :شاهدت بأم عيني من خالل شرفتي املطلة على الصف املختفي طالب الصف وهم يرسمون بأيديهم أشكا ً ال غريبة في الهواء ،معلمهم ذي العينني املشجرتني والقميص املشجر والشعر املشجر كان يرسم هو اآلخر ،عيناه بدتا جاحظتان ،انفعاالت مخيفة تسيل في وجهه ،فجأة رأيتهم وكأنهم يعانقون أو يلبسون الرسومات التي رسموها ،ويختفون من أمام عيني الكليلتني. ناظري ،اعتقدت في البداية أني أتخيل أشياء غريبة بفعل َّ
احملققون حائرون جمع رئيس قسم التحقيقات ،في مركز شرطة املدينة إفادات املدير والطالب واآلذن ومدرس الرياضة واحلاجة أم أحمد ،واملعلمني ،وضعها أمام طاقم احملققني ،ساد فضاء املكتب إحساس بعجز كبير عن كشف سر االختفاء ،ووقع الرئيس بحرج كبير أمام أسئلة الصحافيني الذين تدفقوا على املركز ،زاد من إرباك املوقف وفوضاه صراخ أهالي الطلبة وجتمعهم العنيف على بوابات املركز ،ومطالبتهم الباكية واملهددة بكشف سر اختفاء أبنائهم.
االحتالل ينفي اعتقال الطالب نفى مصدر مسؤول في قوات االحتالل اإلسرائيلي ،مسؤوليته عن اعتقال طالب الصف الثامن «ج» في مدرسة في مدينة رام الله ،وأفاد املصدر أنه لم يبلغ في املنطقة عن حوادث تبرر احتجاز طالب مدرسة.
خبر االختفاء في صحيفة محلية
75
صف مدرسي كامل اختفي مع معلم الفن ،في إحدى مدارس رام الله ،مصادر في الشرطة أفادت أن ظروف االختفاء غامضة جداً .مصدر مسؤول في وزارة التربية والتعليم قال إنه ليس هناك دليل على جرمية جنائية أو سياسية ،وأن التحقيقات ما زالت مستمرة.
تقرير مفتش الفن عن مدرس الفن املختفي لم يعجبني شكله ،فشعره طويل وفوضوي ،طريقته في تعليم الرسم مريبة، فهو ال يؤمن باأللوان ،خامته األساسية الهواء ،وفرشاته يده وذهنه ،املدرس لم ينبس بكلمة ،أصابع يده وإمياءات عينيه هي طريقته في التعليم ،أوصي باالنتباه له ومتابعة سلوكه ،فقد يكون خطير ًا جد ًا على أذهان الطالب.
تقرير مدير املدرسة عن مدرس الفن ال أعرف بالضبط ما طبيعة هذا املعلم ،أحيان ًا أحس أنه بسيط جداً ،وأحيان ًا أخاف علي إلغاء من أفكاره وسلوكه ،فهو ال يختلط باملعلمني وال يصافحهم .اقترح َّ النشيد الوطني ،ألن استمرار سماعه يسبب للطالب امللل واإلحباط والالمعنى، ٍ بأغان لفيروز ،مث ً ال أو عبد الوهاب ،ضحكت عليه في سري ... اقترح استبداله إنه مجنون حقاً. ومرة اقترح إلغاء الزي الرسمي واستبداله مبالبس يختارها الطالب حسب ذوقه وتفكيره وأحالمه ،أوصي بإرسال جلنة لفحص ذهن هذا املعلم ،فقد يكون خطير ًا على األجيال.
بوح ليلي حزين ألم طالب مفقود
76
في اآلونة األخيرة ،كان يكثر النظر إلى النجوم ،طاقته اجلسدية مؤخر ًا ضعفت، بينما طاقته الذهنية الداخلية ،تصاعدت ،بشكل خطير ،كان يحشر نفسه في غرفته ،أراه من ثقب الباب يرسم بيده في الفراغ ،أشكا ً ال غريبة ،مرة يرسم ما يشبه احلصان ،وأخرى شمساً ،وثالثة بيوت ًا عالية تشبه اجلبال وجزر ًا نائية وعصافير مختلفة األشكال واأللوان ،وشجر ًا غريباً ،ضخم اجلذوع .كان يقول لي باستمرار أن حرية يده وهو يرسم أو حتفر في الهواء تقوده إلى شعور ممتع جداً، وأن االستمرار في الرسم مع التركيز ونفي الوجود املرئي ،يؤدي حتم ًا إلى جتسد الشكل املرسوم ووجوده احلقيقي .وقال لي مرة أن معلم الفن ذا العينني املشجرتني قال له :إنه بينما كان يرسم حصان ًا في الفراغ الليلي فوق تلة من تالل أريحا العالية اجلرداء ،في الوقت الذي كان فيه العالم نائم ًا وساكتاً ،صهل حصان فجأة بني يديه ،فركبه ومضى عائد ًا إلى رام الله القريبة.
ماذا قالت روح سيدي جنم؟ كانوا يأتون لي خفافاً ،ثملني بالصمت ،معلمهم كائن مجنون يتعاطى التحريض على التحول والذوبان في األشياء سبي ً ال للتعلم واحلب واحلياة ،فهو يقول لهم بصوت يشبه احللم :التحوالت سر هذا الكون ،الناس غافلون بانشغاالتهم حدقنا في ساق ضخم العادية عما يحيط بهم من صخور وشجر ومطر وغيوم ،فلو ّ لشجرة ،لسمعنا أصوات تنفس ،أو بكاء ،أو نداء ،أو صالة ،أو رقص... ، مشكلة الناس في عاملنا هذا ،أنهم ال يعرفون معنى كلمة حتديق ،فلو ذاقوا طعمها لتغيرت حياتهم ،الكتشفوا كم هم واسعون وجميلون وأقوياء ،التحديق يعطيك فرصة استرجاع معنى قواك غير املرئية ،التحديق ينقي الهواء الذي تتنفسه ،ويصور لك الشجرة ّأم ًا لك ،والغيمة جدة أو جارة. الطالب -والكالم ما زال لسيدي جنم -كانوا ينفذون أقوال معلمهم بفرح هادئ، كنت أراهم يحدقون في جدراني املشققة القاسية ،أو عشبة خضراء تطل بإصرار من شقوق سقفي الدائري الصلب ،كانت احلصة كاملة ميضونها محدقني دون أي حركة ،أصوات الطالب في اخلارج (في ملعب املدرسة) لم تكن تشكل لهم إزعاجاً ،فقد دربهم هذا املعلم ذو العينني املشجرتني على قتال اخلارج ،أو جتميده، املركز ،أحببت هذا املعلم ،سحرني هؤالء الطالب، أو اعتقاله في قبضة انفصالهم َّ فألول مرة يزورني أشخاص مختلفون ،يحترمون هيبة فضائي ،يعرفون قيمتي، وتاريخي ،لقد اعتدت على سطحيني ومزعجني يعبثون في أحشائي ،ينتزعون عشبي بفظاظة ،يكشطون جدراني بأرجلهم الغبية يسرقون حجارة أرضي، يشتمون تاريخ سقفي بقفزاتهم البهلوانية.
رسائل املختفني القصيرة وأخير ًا أفاد مركز شرطة املدينة في مؤمتر صحافي أن احملققني في اختفاء الطلبة الغامض قد عثروا على قصاصات رسائل قصيرة لطالب الثامن “ج” ،وذلك في شقوق جدران “سيدي جنم” ،كما عثر بجانب الكلمات على أشكال مرسومة لألشياء واألدوات التي اختفوا من خاللها. 77
املعلم :لست مختفي ًا أنا بينكم أال ترونني؟
أحمد :أنا سمكة في بحر قريب ،لن أعود إلى يابستكم أبداً .من املاء أتعلم االتساع. راضي :الله ما أجمل الريح وهي تلطم صهيلي! من الريح أتعلم فن التحرش بأوصالي الضائعة. لهاء! أتلتهمون ثمري وتدعون اختفائي؟! أتعلم اآلن من الثمر كيف صالح :يا ُب ّ أستل من موتي حياتي. ُّ خليل :صحيح أن موتي قريب ،لكني احتفظ بسر اللهب وعذوبة الزهرة ،أتعلم من الفراشات التسامح ونبل املغادرة. شاكر :تعالوا إلى موجي! فأنا صديق الصخور والبط والطيور واألطفال والقوارب ،أتعلم من البحر التاريخ احلقيقي لألشياء. محمد :أنا ملجأ الرسل ،وأنتم ملجأ الضجر والفراغ ،أتعلم من الكهوف كيف أخبئ الهاربني من الطغاة. يسار :حلمي أبيض ،روحي زرقاء ،وأنتم فحم جائع ،أتعلم من البياض متعة الفراغ حني يرفض بيع نفسه. مالك :أنا الفكرة وأنتم التردد ،أتعلم من الذهن الربط بني سقوط مملكة وبني عجز مليكها اجلنسي. أسامة :خطوتي واسعة يا عبيد اجلغرافيا ،أتعلم من الطيران طاقة التمدد ،وعمق النظر. هاشم :بال ماض وبال مستقبل أتنفس أنا األبدية ،أنا الزمن ،أتعلم من األبدية متدد الطاقة. 78
يوسف :غيمة أنا معلقة فوق رقابكم ،أراقب صحراءكم وأبتسم ،أتعلم من الغيوم الكبرياء.
ِ الطالب املذعو ِر حكاية أَمين ُ الص ِ س َده ف َي َّ الَّذي ُض َ بط يف َّ تحس ُ س َج َ 79
ِ الطالب املذعو ِر حكاية أَمين ُ الص ِ س َده ف َي َّ الَّذي ُض َ بط يف َّ تحس ُ س َج َ اخلبر انتشر في املدرسة بسرعة عجيبة :أمين الطالب في الصف الثامن ضبط في الصف يتحسس املنطقة السفلية من جسده .حسب الشهود من التالميذ قيل إن الع َرق كان يسيل من وجهه ،وأن جسمه كان ينتفض .أمين طالب متوسط الذكاء َ في الصف في مدرستي اإلعدادية التي أعلَّم فيها منذ ثالث سنوات ،عقاب أمين كان صارم ًا جد ًا وهستيرياً ،املعلم الذي ضبط الواقعة (الكريهة) جر أمين من عنقه نحو إدارة املدرسة قائ ً ال للمدير بصوت ساخر« :هذا الطالب احملترم كان ميارس السفالة مع جسده» .املدير جحظت عيناه ،ومشى باجتاه الطالب الذي وقف مذعور ًا تقف الدموع على حواف عينيه ،املعلمون الذين تصادف وجودهم في غرفة املدير وقفوا جميعهم وراحوا يسخرون ضاحكني من أمين: «املنطقة السفلية؟ يا حقير ،يا سافل ،يا منحط ،يا مجرم» .أحدهم صفع أمين على وجهه وهو يصيح :ملاذا فعلت ذلك أيها الشيطان؟ أمين كان يبكي ،معلمو الصفوف خرجوا من حصصهم ،جتمعوا حول أمين إلى أن بدا وكأنه سيشنق بعد قليل ،العينان حمراوان مليئتان بالدموع ،اجلسم كله يرتعش ،اليدان بدتا وكأنهما مشلولتان – عاطلتان حتى عن مسح الدموع أو اتقاء الصفعات، جر أمين من شعره ،باجتاه غرفة جانبية للتحقيق معه ،لم يعرف أحد من املدير َّ املعلمني نتيجة االستجواب إال في نهاية احلصة السادسة ،حني عرفنا جميع ًا أن أمين اعترف بإسهاب أنه لم يستطع أن ينسى املشهد اإلباحي الذي شاهده صباح هذا اليوم املبكر جداً ،حيث تسلل إلى غرفة التلفاز ،واستخدم رقم ًا سري ًا لفتح احملطة الفضائية اإلباحية ،هذا الرقم كان أمين قد سمع أباه يسر به لصديق له على الهاتف اخلليوي. أمين قال في اعترافاته أن أباه لم يكتشف بعد أنه كشف الرقم السري للمحطة ،وهو يتوسل إلى املدير واملعلمني أن ال يخبروا أباه باملوضوع ،فأبوه متدين جد ًا وصارم، وقد يذبحه بالسكني.
81
بطريقة ما ،وصل اخلبر لألب املتدين جداً ،شهادات الطالب الذين يسكنون بجوار بيت أمين قالت أن أمين ُح ِشر في غرفة على السطح تستخدم لتربية الدجاج ،محروم ًا من الذهاب إلى املدرسة طبعاً ،الطعام ُيلقى له كأنه دجاجة من الدجاجات من فوق
سمع من الغرفة ليالً، السياج الذي يشكل باب ًا للغرفة ،وأن صرخات قوية كانت ُت ْ بعد ذلك كان والد أمين املتدين جد ًا يخرج غاضب ًا من الغرفة حام ً ال في يده عص ًا طويلة. بعد شهر كامل عاد أمين إلى املدرسة هزيالً ،بنظرات شاردة ،ومالمح مستنفرة لسخريات متوقعة من الطالب ،وحدث متام ًا ما توقعته مالمح أمين ،فقد هاج الطالب وماجوا ملجرد رؤيتهم أمين املسكني ،كان أمين أثناء دخوله يضع يده في الساحة“ :أخرج يدك من جيبك أيها الشيطان”، مر عنه في َّ جيبه ،فنهره معلم ّ فأخرجها أمين بسرعة وهو يقول بصوت ميت“ :كنت أبحث عن الشيكل يا أستاذ ...والله كنت أبحث عن الشيكل”. ينس طالب مدرستي الستمائة مع معلميها العشرين حكاية أمين الذي ُ َ ضبط وهو لم َ يتحسس جسده ،حتى بعد مضي أشهر على وقوعها ،حتول أمين إلى شخص آخر، مشوش ،حزين ،انطوائي ،مرعوب ،يتلعثم في كالمه ،وهبط مستوى حتصيله هبوط ًا مريعاً. ذات يوم وأنا أبحث مع طالب الصف الثامن “ج” وهو الصف الذي أربيه عن مواضيع جديدة لنستخدمها في التأمل والكتابة واحللم والشرود نحو املدهش واملربك وغير الواضح واملثير لطاقاتنا وحواسنا وأرواحنا ،خطرت في بالي حكاية أمين املذعور ،قلت للطالب :ألستم تبحثون اآلن عن امللتبس واحملير والغريب من األفكار واحلكايات والوقائع واملشاعر وعن التناقض غير املفهوم في السلوك اإلنساني؟ أجاب الطالب :بلى .قلت :إذن هيا نناقش حكاية أمين املذعور الذي ضبط يتحسس جسده في الصف ،بعض الطالب انفجر بالضحك ،بعضهم هزوا رؤوسهم حزن ًا وتعاطفاً ،البعض اآلخر ،فتحوا عيونهم على مصراعيها حتمس ًا للفكرة وتفاع ً ال مع وقعها وفضاءاتها احملتملة.
82
قال سمير :هيا نصوت على الفكرة :من يؤيد مناقشة الفكرة عليه رفع يده ،رفع عشرون طالب ًا تقريب ًا أيديهم .من خمسة وثالثني طالب ًا هم مجموع طالب الثامن “ج” .قلت للطالب الذين لم يتحمسوا للفكرة :بإمكانكم الذهاب إلى املكتبة، خرج الطالب اخلمسة عشر إلى املكتبة ،وبقي في الصف العشرون املتحمسون، واكتشفت أن الطالب اخلارجني هم أنفسهم الذين ضحكوا ساخرين حني اقترحت نقاش فكرة حكاية أمين املذكور.
عشرون طالب ًا متحمس ًا للتحليق في سماء حكاية جديدة وأنا ،جالسون في الصف الثامن “ج” .صامتون ال نعرف من أين نبدأ. قال جهاد :معلمنا العزيز إن نقاش حكاية مثل هذه يحتاج إلى مكان مختلف نكون فيه ،مكان يشبه مالمح احلكاية الغريبة والطريفة واحملزنة واخلطيرة. قال عادل :أنا أقترح أن نذهب إلى قمة اجلبل ،هناك حتت شجر التني .أشار عادل إلى اجلبل القريب. قال خالد :اقتراحي أن نهبط إلى الوادي هناك حتت شجرة الزيتون .وأشار خالد نحو الوادي القريب. قلت أنا :ملاذا الوادي وملاذا اجلبل؟ قال عادل :اجلبل ٍ عال وبعيد متام ًا مثل الفكرة أو احلكاية ،فهي عالية وبعيدة، وهناك في القمة ال شيء يعترض األفكار حني تأتي من أعماقنا البعيدة .فال بيوت ،وال سيارات ،وال مدارس ،وال مناهج .كل شيء هناك غض وعفوي ومتسامح وحر. قال خالد :اقترحت الوادي؛ ألن الهبوط في املكان يوازي الهبوط في التفكير نحو األعمق ،والبعد واحلقيقي والشجاع من الهواجس الكامنة داخلنا تنتظر استفزازنا لها. قلت :رائع هذا االختالف ،رائع هو تفسيركما لألمكنة وعالقتها بالفكرة واإلحساس. “من يصوت على الوادي ،ومن يصوت على اجلبل؟” .قلت لهم .خمسة صوتوا على الوادي وخمسة عشر طالب ًا صوتوا على اجلبل .قلت لهم :استعدوا للجبل. بدأ الطالب بتجهيز احلقائب استعداد ًا للصعود .قال عدنان ستكون هناك معركة صغيرة يا أستاذ أمامنا وهي موافقة املدير. 83
حسان :لو وافق املدير بسرعة ألحسست باخلذالن واحلزن ،عليه أن يخاف قال ّ
ويرتبك ويستفسر عن سبب الصعود ومدته حتى أشعر بالبطولة والنصر والقوة. قال كامل :ماذا لو رفض املدير يا أستاذ؟ قلت :وهل هناك مهمة للمديرين في مدارسنا غير الرفض واخلوف واالرتباك أمام أفكار حديثة وغير منطية وبعيدة عن التوقع وغير مشمولة في دفتر حسابات املديرين. قال سعيد :سنقفز عن السور كما فعلنا في السابق ،أليس كذلك يا أستاذ؟ قلت :سنحاول بكل طاقاتنا أن نقنع املدير .وإذا رفض سنقفز ،وإذا استطال السور سوف نطير. ٍ وعال :نعم ..نعم لنقفز ،سوف نقفز ،ما أروع صرخ الطالب بصوت جماعي القفز عن السور .سنطير ،هيا نطير ..نطير ..نطير. الصف مع ًا بهدوء ،وقف املدير أمامنا ،غير مصدق حلكاية الصعود إلى خرجنا من َّ اجلبل. وماذا ستفعلون هناك يا أستاذ زياد؟ ماذا يختلف الصف عن اجلبل ،ثم إن اجلبلاآلن مليء باألفاعي ،أنا أخاف بصراحة على حياة طالب مدرستي. قال شريف همساً :األفاعي موجودة في الصف واملدرسة على شكل معلمني عابسني ،ومناهج وغبار ورطوبة وروتني وجرس أيض ًا وبرابيج. سأل املدير شريف مستهجن ًا همسه :ماذا قلت يا ولد؟ قال شريف :كنت أقول يا مديري العزيز أن األفاعي ميكن أن تزحف إلينا في الصف عبر اجلبل أيضاً .فاخلطر هو هو؛ سواء صعدنا أم لم نصعد. 84
لم يوافق املدير على رحلة اجلبل ،رفض بشدة معل ً ال ذلك مدعي ًا طبع ًا بأن وفد ًا من الوزارة في طريقه إلينا.
همس جمال في أذني :هيا نقفز يا أستاذ ،الوقت يداهمنا ،واألفكار املجنونة تقف على بوابة الرأس مدلية برأسها. قال عامر :القفز صعب جد ًا يا زمالئي ،فالسياج ٍ عال جداً ،والبوابة مقفلة، واملفتاح مع املدير. قلت للطالب :إذن هيا نستخدم الطريقة األخيرة “الطيران” ،فليذهب كل طالب إلى املكتبة ويخرج أجنحته .أسرع الطالب إلى املكتبة ،حلق بهم املدير مهدد ًا ومتوعداً ،كان يصيح بي :أنا أحملك املسؤولية كاملة أستاذ زياد ،فهذا آخر إنذار معك .سيكون مصيرك الفصل من املدرسة ،وعدم قبولك في أي مدرسة أخرى. تسلَّق الطالب سياج املدرسة العالي ،وطاروا بأجنحتهم التي صنعها كل منهم من خامات عديدة من البالستيك ،والورق ،والنحاس ،والقماش ،وورق الشجر، وكنت في السابق قد طلبت من طالبي جتهيز أجنحة من مواد يختارونها هم حتسب ًا ملواقف قد جند أنفسنا فيها محاصرين بالسياج واألبواب املسدودة واجلدران. طرت مع طالبي نحو اجلبل القريب .كان املشهد رائعاً ،حفرنا في أجسادنا جملة رائعة بشكل عفوي دون أن نخطط لكتابتها وهي“ :في األعالي متر األفكار بحرية” محروسة بالهواء النقي ،الصمت املهيب والطيور الصديقة. كان الطالب واملعلمون في الصفوف احملبوسة يخرجون رؤوسهم من النوافذ، وهم يلوحون لنا متفاجئني من هذا املنظر الغريب .رأينا املدير وهو يقف عند البوابة .كان جسمه صغير ًا جداً ،ورأسه لم يكن موجوداً .البيوت املجاورة للمدرسة صعقت من واحد وعشرين جسد ًا بشري ًا يطير فوقها باجتاه اجلبل. هبطنا على اجلبل ،بعض الطالب هبط على الشجرة ،وعلق هناك بعد نصف ساعة كنا جميع ًا متحررين من األجنحة وجالسني فيما يشبه دائرة حتت شجرة تني ضخمة. قال هيثم :بعض الطالب عاتبون عليك يا أستاذ ،ويعتقدون أنك لم تكن على مستوى ما نسمعه منك من نظريات وأفكار. 85
قلت :أنا مستعد لالستماع إلى عتابكم بكل رحابة صدر .فأنتم تعرفون أنني أدربكم دائم ًا على قول ما يعتمل في نفوسكم بحرية.
قال رام :ملاذا كنت محايد ًا ومتفرج ًا في حكاية أمين املذعور يا أستاذ وأنت تعرف أن املسكني لم يرتكب جرمية هو مجرد خطأ صغير كما قلت أنت لنا ،لكنك لم تترجم رأيك إلى كفاح أو صراع أو معركة كما تفعل مع املدير أحيان ًا ومع أنظمة املدرسة؟ قلت :معكم حق يا أصدقائي ،أحس أني لم أكن شجاع ًا في هذا املوضوع ،وقد حاولت بيني وبني نفسي أن أحلل األسباب الواعية وغير الواعية لذلك .عن حساسية املوضوع وارتباطه باألهالي وقيمهم املقدسة ونظراتهم اجلامدة كل ذلك قد يكون عطَّ ل حركتي اجتاه املواجهة ،قد يكون هناك سبب آخر هو أنني منذ حدثت هذه الواقعة احملزنة وأنا أفكر وأحلل وأناقش املوضوع مع نفسي ،عن الذهول واالستغراب من ردود فعل املدير واملعلمني ومعظم الطالب على هذه احلادثة قد أخ َر اتخاذ موقف يتناسب مع ما أحمله من رؤى حداثية وإنسانية انقالبية. ّ قال محمد :هل انتهت مرحلة الذهول والنقاش مع نفسك يا أستاذ. قلت :نعم ...نعم ،يجب أن نتحرك جميع ًا مبوقف جماعي مع املعلمني املتفهمني والرافضني لعقاب أمين ،كذلك من طالب املدرسة الذين تقاطعوا مع أمين. قال هاني :هل سنناقش اآلن كيفية اتخاذ موقف من اإلدارة؟ قال سعيد :ال ...ال ،اآلن سنناقش احلكاية نفسها وماهيتها ،ودالالتها، وجذورها ،وامتدادها ،وردود األفعال عليها .املوقف سنناقشه الحقاً. قلت :نعم ..نعم ،هاني على حق ،اآلن سنناقش احلكاية من ناحية فلسفية وإنسانية ،وسأبدأ بسؤال أطرحه عليكم يا أصدقائي ،وأرجو اإلجابة عنه بكلمة صغيرة دون أل التعريف “رأيت البهجة تشع من عيون الطالب ،فهم يحبون اإلجابات املختصرة بكلمات دون أل التعريف”. السؤال هو ما هو اجلسد؟ قال هاني :إطار. 86
قال سعيد :ورطة.
قال رام :سر. قال هاشم :متعة. قال محمد :جمال. قال خالد :خوف. قال عادل :خيانة. حسان :عذاب. قال ّ قال سمير :سؤال. قال عدنان :موت. قلت :ذكاء ،الطالب العشرة اآلخرون طلبوا املشاركة في فعالية أخرى غير هذه فوافقت. سجل سمير اإلجابات على ورقة ،طلبت من الطالب أن يضعوا الكلمات في جمل مفيدة ،بحيث تتوضح معانيهم: قال هاني :اجلسد إطار للمعاني واألحالم واألفكار. قال سعيد :اجلسد ورطة جميلة تأخذنا إلى أخطاء مشروعة. قال رام :اجلسد سر جميل أجمل ما فيه غموضه. قال هاشم :اجلسد متعة تعطينا التواصل مع العالم. 87
قال محمد :اجلسد جمال دائم ويعطينا راحة البصر.
قال خالد :اجلسد خوف الطبيعة من ذاتها املتوحشة. قال عادل :اجلسد خيانة الطبيعة لنفسها. حسان :اجلسد عذاب مستمر لكنه محتمل وأحيان ًا ممتع. قال ّ قال سمير :اجلسد سؤال كبير لم يجب عليه أحد بعد. قال عدنان :اجلسد موت دائم لكن حياة كبيرة موجودة فيه. قلت أنا :اجلسد ذكاء الطبيعة حني يستبد الغباء بالعقل. رائعة هذه اإلجابات ،قلت ألصدقائي وسأسأل اآلن سؤا ً ال آخر :هل تعتقد أن أمين أخطأ في تصرفه حني حتسس جسده في الصف؟ وما رأيك بالعقاب؟ هل توافق عليه؟ وملاذا؟ قال مأمون :أمين أخطأ ً خطأ كبير ًا لكن العقاب كان مبالغ ًا فيه. قال عبد احلليم :أمين أخطأ خطأ صغير ًا وكان العقاب غير مبرر. قال سالم :خطأ أمين أن حتسس جسده في الصف كان بإمكانه أن يفعل ذلك في البيت. قال شريف :حتسس اجلسد ليس جرمية حتى لو حدث في الصف ،أنا أرى بعض املعلمني يهرشون منطقتهم السفلية وعقاب أمين كان جرمية كاملة. قال خلدون :أمين حتسس جسده حتت ضغط معني ،واألهل يتحملون هذا اخلطأ، كان يجب أن يحافظوا على الرقم السري للمحطة اإلباحية.
88
قال عز الدين :عقاب أمين كان مبرراً ،فقد ارتكب خطأ كبير ًا جد ًا لم يفعله أحد من قبل أبداً .لكني أؤيد نسيان املوضوع ،واالعتناء بنفسية أمين املدمرة.
قال وائل :حتسس اجلسد بحد ذاته شيء لذيذ ،لكن التوقيت واملكان كانا املشكلة ذاتها. قال عبد الرحمن :أنا متعاطف جد ًا مع أمين ،لقد مررت بالتجربة نفسها في حفلة عرس أخي ،فقد شعرت باإلثارة فجأة حني رأيت بنت ًا تنحني وينزلق نصف نهدها خارج جسمها ،وبشكل ال إرادي رأيت نفسي أحتسس جسدي وشعرت براحة كبيرة حينها“ .الطالب يضحكون بصوت عال”. قلت :رأيي أن األهل يتحملون املسؤولية كاملة ،حتسس اجلسد بحد ذاته ليس جرمية ،لقد حتسس أمين جسده راغب ًا في معرفة هذا اجلسد واكتشافه وهذا طبيعي جداً ،الضغط الشهوي على أمين كان كبيراً ،لذا فهو معذور ،وميكن تبرير فعلته، ولو لم يشاهد أمين احملطة اإلباحية ملا فعل ذلك .املشكلة في األساس هي في احملطة اإلباحية ومشاهدتها ،املخطئ األول هو األب. قال رام :هل حدث وأن حتسست جسدك وأنت صغير يا أستاذ زياد؟ كان السؤال مفاجئ ًا “الطالب ينظرون بوجوه بعضهم البعض مبتسمني ومنتظرين اإلجابة بتلهف”. نعم ،فعلت ذلك وأفعله اآلن ،متام ًا كما تفعل كل الكائنات البشرية وغير البشرية. حتسس اجلسد ليست جرمية في األصل .إنها فعل إنساني حميم وبريء .الفرنسيون يسمونه“ :احلب مع الذات” ،لكن منظومة القيم والرؤى القدمية اجلديدة وضعت سيجته بسياج حديدي من املعايير اجلسد في بوتقة احملرم واملقدس لدرجة أنها ّ ّ واألفكار .ملاذا ال يتشوش العالم احليواني ويضطرب ويهتز حني تتحسس حمامة أو كلب أو بقرة أو عصفورة جسدها ،إننا نشاهد حيوانات كثيرة تتحسس جسدها حلساً ،أو تقبيالً ،أو عضاً ،وذلك مطاردة للمتعة والكتشاف قدرتها على إعطاء اللذة .ملاذا ال نستاء نحن وال نغضب وال نضطرب حني نشاهد مشاهد حتسس احليوانات ألجسامها؟ أرجو أن أسمع بعض اإلجابات منكم ،قلت لطالبي.89
قال سعيد :ألن ال قيم وال معايير في حياة احليوان وعامله.
قال عدنان :ألن البشر يخافون من أجسادهم ،وخوفهم هذا نابع من نظريات حترمي هم واضعوها. قال سالم :إذن ملاذا يضع البشر النظريات؟ لنتحسس أجسادنا بحرية ومتعة، ونكون منسجمني مع أنفسنا ،البشر أغبياء جد ًا وغريبون ،يحرمون التحسس ويتحسسون أجسادهم .إنهم يناقضون أنفسهم .إنهم كذابون. قال رام :إذن أنت يا سالم تريدنا أن نكون حيوانات بال قيم ،بال معايير ،بال أخالق. قلت :أنا اتفق مع رام :نحن بشر وعاملنا محكوم مبنظومة قوانني عامة ،علينا أن ال نتجاوزها ألن جتاوزها يعني وصولنا إلى مستوى احليوانية الهمجية. قال خالد :أستاذ ألول مرة أسمعك تتحدث عن قوانني يجب احترامها .هذا غريب. قلت :أنا أحتدث عن القوانني العامة التي تشكل حاجز ًا وفاص ً ال بيننا وبني احليوان، ّأما القوانني التي وضعها البشر للتحكم الغبي والسيطرة وتعتيم عوالم أجسادهم وتسخيفها ،فأرفضها. قال هاشم :هل ميكن أن توضح لنا هذه النقطة يا أستاذ؟ يبدو املوضوع ملتبس ًا وشائكاً. قلت :أقصد أنني أرفض مث ً ال أن ُينظر للجسد اإلنساني تلك النظرة املقدسة التي تعطيه طابع ًا خرافي ًا مخيف ًا وبعيد ًا غير قابل للمس أو التفكير أو التعبير عن شهواته، بشرط أن يتم ذلك وفق أسس معينة حتى ال نتحول إلى حيوانات كما أشرت سابقاً. قال خالد :أستاذ أنا غير مرتاح حلديثك عن األسس والقوانني أشعرك أنك تخوننا وتخذلنا. 90
قلت :يا أصدقائي احلياة الوحيدة التي بال أسس وبال قوانني حياة احليوانات ،هل
تقبلون أن تصبحوا حيوانات؟ قال عدنان :لكننا أص ً ال حيوانات يا أستاذ. قلت أنا :نحن بالفعل من أصول حيوانية ،لكننا نظمنا حياتنا وأعدنا صياغتها ورتبنا عقلنا بحيث نرتقي عن أصلنا ،ونستمتع باملعرفة واإلدراك والوعي والنظام. قال هاشم :النظام؟ أنت تتحدث عن النظام يا أستاذ؟ ألست عدو األنظمة؟ ألم تعلمنا ذلك؟ قلت :هذه نقطة يجب توضيحها .حني أقول إني ضد القوانني واألنظمة والعادات هل يعطيني هذا الكالم أو اإلدعاء احلق في خلع مالبسي كاملة والسير في رام الله دونها؟ هل يعطيني هذا احلق رفض القوانني واألنظمة أن أخرج إلى املدينة ليالً، وأن أطلق العيارات النارية على الشرفات وعجالت السيارات املتوقفة ،مستمتع ًا بثقبها ،مبرر ًا ذلك باحلرية التي أنادي بها والقوانني التي أرفضها؟ قال سعيد :اعتقد أننا خرجنا عن موضوع أمين. قال رام :نحن في صلب املوضوع ،ألم نقل إننا سنتحدث عن جذور احلكاية وامتداداتها. لنعد إلى حكاية أمين -قلت -ولنحدد أين املجرم وأين الضحية.قال هاشم :املجرم هو األب وأمين هو الضحية. قال سعيد :الضحية هو األب وأمين أيضاً. قال رام :املجرم هو املجتمع واألب وأمين ضحايا. 91
قال عدنان :أجسادنا هي املجرمة وأرواحنا ضحايا.
قال خالد :كلنا مجرمون وضحايا في آن. قال سالم :بصراحة ال أعرف أين حدود الضحية ،وأين حدود املجرم. قلت :أنا ال أعرف في احلقيقة ففي داخل كل مجرم ضحية ،وداخل كل ضحية مجرم ،املوضوع مشوش. قال عبد احلليم :املجرم هو املدير والضحايا هم نحن جميعاً ،أهالي وطالب ومعلمني «ضحك الطالب». عز الدين :املجرمة هي احلياة ،احلياة نفسها غريبة ،تفرز الضحايا واملجرمني، قال ّ كما تخلق السمك الصغير والسمك الكبير ،األسد واألرنب ،النار والعشب، السيف والزهرة. قلت :لقد قاربت الشمس على املغيب .أهالينا يبحثون اآلن عنا ،هيا نستعد للعود يا أصدقائي! لبس الطالب أجنحتهم ،لبست أنا جناحي املصنوعني من القماش ،طرنا عائدين كانت املدرسة خاوية ،ال جرس ،ال ضجيج ال مديرين ،ال معلمني .مررنا فوق املدينة ،رأينا الناس وهم يشيرون إلينا مستغربني أو خائفني ،أو فضوليني .سمعت رام يهمس لصديقه عدنان :ليتنا نبقى طائرين في السماء ،هنا بإمكاننا أن نتحسس أجسادنا بحرية .هنا ال بيوت دجاج نحشر فيها ،ال مدير يفصلنا وآباء قساة ،ال معلمني يهجمون علينا حانقني متوترين مرعوبني ،هنا ال حاجة ألرقام سرية، ومحطات مغلقة ،كل شيء مفتوح هنا ،مفتوح بقوة وذكاء وتسامح الطبيعة.
92
متد َد َع َلى ا َأل ِ رض اعرتافات مد ِّر ٍ ُ س ّ واستسلم َّ مس ل َت ْن َه َ للش ِ شه َ 93
متد َد َع َلى ا َأل ِ رض اعرتافات مد ِّر ٍ ُ س ّ واستسلم َّ مس ل َت ْن َه َ للش ِ شه َ
َات جميلةٌ َألخطائنا ال َّن ِض َرة) ( َأوق ٌ
أريد أن أعتذر مني ومنكم ،قلت لطالبي واقف ًا ثم جلست ،إنه يوم مشمس من ذلك النوع الذي يجعلك تشعر برغبة خرساء في اإلفصاح عما بداخلك ،يوم للصراخ لنفض الكسل عن ثيابنا ،للتمطي ،للرقص ،للحب ،يبتسمون ... يوم مغ ٍر لالعترافات ..لالنكشاف على بعضنا البعض ،لتأمل الطيات الداخلية لقمصاننا ومعاطفنا ،بعد كل عاصفة ثلجية ،ثمة شمس تأتي لتقول لنا :هيا تعروا واخلعوا القفازات واجلوارب السميكة ،حترروا من الكنكنة ،واالنكماش على الذات ،مددوا أذهانكم وابسطوا أرواحكم ،إنه وقت للفضفضة: ماذا فعلت يا أستاذ؟ هل أسأت إلى زياد أم إلينا؟ أسأت لزياد وذهنه وقلبه ،أسأت لروح قصصي ،وجوهر عاملي الفني ،أسأتلكم ألني خنتكم واجنرفت مع ما يناقض ما أقوله لكم ،أجبتهم. تشوقنا للجواب. خبرنا ،أنت ّ ماذا فعلت؟ ّكل أسبوع أكون على موعد مع طالبي في حصة سرية ابتكرتها واستللتها من برنامج الدروس ،أطلقت عليها مبساعدة طالبي اسم (حصة االعترافات) ،شيء يشبه االسترخاء اجلسماني والتمدد الذهني وفتح صنبور الرأس لتسيل ديدانه وتنفجر دمامله الداخلية ويهرب قيحه .ثمة ديدان في الرأس تتغذى على تبجحنا وغطرستنا وغبائنا وانغالقنا على ما ربينا عليه ،االعترافات هواء نظيف يهز الركود ويخلخل الرتابة. أرجوك! قل لنا ما الذي فعلته حتى تعتذر لنا ولزياد؟ سأقول لكم :سأفصح ،سأدلق خيبتي أمامكم ،كما علّمتكم أن تفعلوا. 95
أتذكرون يوم قلت لكم :إن دلق اخليبات العكرة على األرض يحولها داخلنا إلى ٍ صاف ولذيذ. نبيذ
كنت أمشي في الشارع ،معي صديقي “م” ،واملشي في الشارع عادتي اليومية التي ال هدف من ورائها سوى البحث عني واستنفار حواسي واختبار أبعادي وحتسس نبض روحي احلقيقي .غالب ًا ما أرى زياد احلقيقي أثناء املشي ،حتت خطواتي أمتدد، أمامي تنزاح الستائر عن مشاعري .فجأة رأيت رج ً ال خمسيني ًا يركب دراجة في الشارع ،ويضع على رأسه خوذة وخلفه كان يركب ابنه الصغير ،كان املنظر غريب ًا بالنسبة لي ،فالرجل فلسطيني يحمل على وجهه مالمح أجنبية ،استفزني املشهد، ال أعرف ملاذا ،شعرت بالضيق وال أعرف ملاذا .كان الناس املتشابهون جد ًا ميشون في الشارع أو يركبون السيارات .يا إلهي كم يشبهون بعضهم البعض! املالمح نفسها ،الثياب نفسها ،حركة األجسام نفسها ،الرائحة نفسها ،وكنت أنا أشبههم جداً ،وكان صديقي “م” كذلك ،أما ذلك الرجل الغريب فقد كان مختلف ًا عنا جميعاً؛ في هيئته العامة وابتسامته الدائمة .استغرب صديقي “م” الصيحة املكبوتة وعيني ،ولم أعرف أال الحق ًا ما هي تلك الصرخة ،وما التي صدرت عن جسدي ّ داللتها املرعبة بالنسبة لي .قال لي صديقي عندما جلسنا في املقهى إنني نظرت للرجل باشمئزاز غير مبرر ،وإنني بدوت وكأنني أتعرض للدغة نحلة ،أصابتني دهشة مؤملة كثيرة ،بدأت حبال األسئلة حتيط بعنقي ،وتتحول إلى أفا ٍع .ملاذا تأملت حني رأيت الرجل الغريب املنظر؟ الرجل لم يؤذني ،كان يركب الدراجة وخلفه ابنه ،لم يشتمني ،لم يعرقل خطواتي ،لم يرني أصالً. قد يكون نظر إليك نظرة عدم اهتمام أو استهتار يا أستاذ ،قال جعفر.ذكرتك مالمحه بشخص ال حتبه يا أستاذ ،قال مجد. قد ّ -قد يكون شخص ًا تعرفه وقد أساء إليك في أيام قدمية ،قال وليد.
96
ال ..ال أبداً ،ليس صحيح ًا ما قلتموه ،لكني عرفت السبب الحقاً“ ،استنفرتمالمح الطالب وبان على وجوههم حتفز وتشوق كبيران” ،ألنني ُربيت على االنتماء األعمى لفكرة التشابه ،ألنني ُدربت على كره املختلفني عني ،ألنني ُد ّجنت على اخلوف من التغيير واحتمال التنوع ،ألنني ضعيف كما أنتم ،كما كلنا ،نرتعب من فكرة أن يزاحم وقتنا آخرون قادمون من فكرة أخرى ،أو أرض جديدة ،أو لون آخر .بسبب ذلك ،كرهت الرجل الذي ال أعرف حتى اسمه، رفضت وجوده ،هذا شعور مقزز ،أن أرفض اآلخرين ألنهم ال يشبهونني، أحس براحة جد ًا اآلن ألني انتقد نفسي ،أشرحها ،أحللها ،أدعها تعترف
وتندم ،حتى ال تعيد اخلطأ مرة أخرى. سأدعكم اآلن تتذكرون متى آخر مرة تورطتم في خطأ رفض اآلخرين ألنهم فقط ال يشبهونكم: أحمد :ابن جيراننا سمير ،ربى شعر رأسه حتى أصبح يشبه شعر بنت ،فلحقته في الشارع وسخرت منه ،وصرخت عليه :شعر بنات ،شعر بنات ،فعلت ذلك ألن شعره فقط ال يشبه شعري. أمين :سخرت من ابن خالي القادم من الناصرة ألنه طويل جداً ،وطوله ال يتناسب مع عمره ،سخرت منه ألن طوله ال يشبه طولي. معاذ :رفضت وجود بنت عمي معي في غرفة واحدة ،ألنها بنت وأنا صبي، رفضت وجودها ألنها تختلف عني. ضرار :شعرت في الصيف املاضي بقلق وضيق لوجود أجانب على شاطئ البحر امليت ،ألنهم ال يشبهوننا ،يتحدثون لغة أخرى ،ويضحكون بطريقة تختلف عن ضحكاتنا ،كما أن جلدهم شديد البياض ،أنا أكره اليهود جداً ،ألنهم يحتلون بالدنا ويقتلون أطفالنا ،لكني حني رأيت يهود ًا يقطفون معنا الزيتون ،ويحموننا من املستوطنني اليهود أيض ًا استغربت ،وشعرت بارتباك وبعدم فهم لألشياء. طارق :لهجة ابن جيراننا تختلف عن لهجتي ،فهو من قرية وأنا من قرية أخرى، أشعر بعدم ارتياح له وهو يتحدث ،أفضل لهجة أهل قريتي ،واآلن أشعر بخجل من ذلك. شكرت طالبي على صراحتهم ،قلت لهم :املشكلة ليست في اخلطأ ،فاألخطاء مطلوبة ،وهي نضرة وشرعية ،وتقودنا إلى احلقائق دائماً ،املشكلة -بل الكارثة- هي في اعتقادنا أننا لم نخطئ.
97
وهل هناك يا أستاذ أشخاص يحبون اآلخرين ويحترمونهم وال يقعون في أخطاء الرفض واإلقصاء؟ هل هناك شخص كامل في هذا الشعور؟
طبع ًا ال ،أبداً ،كلنا معرضون لهذا الشعور ،ألننا -كما قلت لكم -تربينا على قيم وعادات ترفض الغريب ،ومتجد احمللي والوطني متجيد ًا عنصرياً. وهل هذا معناه يا أستاذ أن ال نرفض االحتالل ألنه غريب ومختلف؟ هل يجب أن نحترمه وال نرفضه؟ سأل مجيد. ال ...ال ،إياكم أن تخلطوا بني املوضوعني ،هذا موضوع مختلف ،االحتالل ٍ ومؤذ .قلت لكم سابق ًا شيء آخر يا أصدقائي ،االحتالل فعل همجي وعنصري إنه إذا كان املختلف عنا مؤذي ًا وضار ًا للحياة ،فعلينا أن نرفضه ،فحريته تنتهي إذا كانت تعني ضرر ًا للحياة والبشر ،ما دام املختلف عني طيب ًا وإنسان ًا ومسامل ًا وغير ٍ مؤذ فال مشكلة في جتاوره معي .إذن ،ال مشكلة بيننا وبني املختلف اإلنساني غير املؤذي .قد يؤذيني شبيهي ،أيضاً ،وهنا أرى أنني يجب أن أرفضه وأقصيه ،ففعل الرفض عند اإليذاء مطلوب وضروري. يعني لو آذاك الرجل الغريب راكب الدراجة كنت رفضته وكرهته صح أستاذ؟ طبع ًا صح ،أرفضه ليس ألنه غريب ،بل ألنه آذاني وأضر مبصاحلي كإنسان. انظروا إلى هذين الصندوقني ،كان هناك صندوقان خشبيان ،مملوءان بالتراب ،في أحدهما زرعت ست وردات من شقائق النعمان ،واآلخر زرعت فيه أنواع مختلفة من الورود؛ ياسمني ،نرجس ،جدل احلمام ،جوري ،قرن الغزال ،قرنفل، فل. طلبت منهم أن يتأملوا الصندوقني ،ويحكوا لي عما يفضلونه جمالياً. تأمل الطالب الصندوقني وكتبوا لي انطباعاتهم عنهما: مصعب :أحب صندوق الورود املتعددة ،ألنه منحني إحساس ًا بالتنوع واالختالف. 98
أمين :أحببت التنوع في الورد ألنه أعطاني شعور ًا بالتنقل ،وبالتالي عدم امللل.
جميل :أحببت وردة شقائق النعمان ،حتى ولو كانت مكررة ،ألنها تذكرني بالدم الفلسطيني واحلزن الفلسطيني. سفيان :أحببت صندوق الورد املتنوع ،ألنه يشبه احلياة فهي متنوعة. نادر :أحببت الزهرات املتنوعة ألنها تعطيني حكايات متنوعة؛ كل زهرة لديها حكاية. وماذا عنك يا أستاذ؟ أيهما تفضل؟ وملاذا؟ سأل نعيم. سأقول لكم انطباعي :أنا أؤمن دائم ًا أن االختالف هو سمة احلياة وقانونها ولغزها ومتعتها ،لكن تربيتنا الظاملة حجبت عنا طبيعتنا ،وحرفت مسارها باجتاه مرضي هو حب التشابه ،ورفض اآلخر ،وكره التنوع ،والغريب أننا نعرف أن احلياة لم تكن لتكون لوال وجود حواء وآدم ،تخيلوا لو هبط آدم وحده ،هل كان سيكون هناك أرض وحياة .إن أساس احلياة ومبتدأها وصرختها األولى هو االختالف، فلنختلف عن بعضنا البعض ،ونحب اختالفنا ،ألنه احلياة نفسها. تفضل الفرنسي أم وماذا عن إحساسنا الوطني يا أستاذ؟ بالنسبة إليك من ّالفلسطيني؟ أنا فلسطيني ،أنتمي إلى فلسطني وطني ًا وتاريخياً ،وإنسان أيض ًا أنتمي إلىاإلنسانية ،أحب فلسطني وأحب العالم ،وليس هناك تناقض بني فلسطينيتي وإنسانيتي أبداً ،يجمعني مع الفلسطيني األرض والتاريخ واجلغرافيا واللغة، ويجمعني مع الفرنسي أو اإليطالي أو البرتغالي كوننا ننتمي إلى كوكب األرض، وكوننا بشر ًا نحمل األحالم نفسها بالرخاء والسالم واحلب والتطور ،إذن ال تناقض هنا. -وماذا عن الدين يا أستاذ ،أنت مسلم والفرنسي كافر؟
99
الفرنسي أو ًال ليس بكافر ،من الذي قرر أنه كافر؟ له دينه ولي ديني ،أحترم دينه ويحترم ديني ،ثم إن األديان جوهرها واحد :احلب والسالم.
شكر ًا لكم ،أريد منكم اآلن أن تذكروا لي مشاهد أو حاالت أو مواقف من احلياةاملدرسية ،تشعر فيها ومعها بامللل والفراغ والضيق ألنها غير متنوعة ومكررة: عدنان :أكره النشيد الوطني يا أستاذ ،إنه ممل ومكرر وال أشعر معه بانفعال أبداً. خالد :أكره حصص الرياضيات ،ال تنوع فيها أبداً ،أرقام ...أرقام. راضي :أكره الزي املوحد ،أشعر به ثقي ً ال ومعتماً. عمر :أكره “البربيش” في أيادي املدرسني ،كم أحب لو يحملوا ورد ًا أو مشاعل. فادي :أكره طريقة املدرسني في التدريس ،إنها واحدة ومملة وغير متنوعة. نضال :أكره شكل الصف وشكل املقاعد وترتيبها ،كم أحب أن تتنوع جلساتنا وجنلس كل مرة بطريقة مختلفة. تفكيركم يعجبني -قلت لهم -أريد منكم غد ًا أن تقترحوا طرق ًا غريبة وصاعقةلتغيير منط الصف .أريدكم أن حتضروا معكم خامات التغيير وال تكترثوا الستياءات املدرسني واملدير واستغراباتهم القادمة. في الصباح ،عند احلصة األولى ،فوجئ مدرس اجلغرافيا بشجرتي سرو مزروعتني في أرض الصف ،في تربة بالطتني مت خلعهما من األرض ،خرج املدرس مرغي ًا مزبداً ،حضر املدير ،ضحك الطالب طويالً .في اليوم الثاني ،أحضر طالب قفص عصافير ،وأثناء حصة الرياضيات ،فتح القفص وأطلق سراح العصافير، هجمت اإلدارة وحققت في هذه املفاجأة ،كالعادة لم يعترف أحد. -العصافير دخلت وخرجت وحدها يا مدير ،قال أحد الطالب.
100
في الصباح الثالث فوجئ مدرس اإلجنليزي ،بترتيب آخر للمقاعد ،احتج وهدد مبعاقبة الفاعلني.
ملاذا يا أستاذ؟ دعنا منارس التغيير لقد مللنا من الشكل القدمي لترتيب املقاعد. أنا متعود على النمط القدمي ،اهدأوا وأعيدوا النظام السابق إلى عهده .قالمدرس اإلجنليزي. الصباح الرابع :كانت فيروز تصدح في املدرسة “في قهوة عاملفرق” أمام ذهول الطالب الراقص وتصفيقهم احلار ،وجوههم كانت تضج باحليوية وعيونهم متتلئ باحلياة. أليس هذا املطلوب؟ أن نبعث احليوية والطاقة في جسد الطالب وروحه قبلالدخول إلى عالم التلقني القاتل؟ قلت للمدير. وماذا عن التربية ،أنا أعمل وفق شروطهم ،وال يهمني من أفضل ومن أنسب،أجابني املدير. الصباح اخلامس كانت صخرة كبيرة تتربع حتت اللوح مباشرة ،صخرة مبلولة، مخلوعة من األرض للتو. صعق مدرس العربي وصاح إلهي! صخرة في صف؟! قال طالب لصديقه :أول مرة بشوف أستاذ العربي مصعوق ومندهش ،أول مرة ومضاء باألسئلة والبحث. بشوف وجهه زاخر بالقلق ُ
101
ُط َّ املدرسة البِي ون يحت ّلون َ االنتحار ُّي َ َ
103
ُط َّ املدرسة البِي ون يحت ّلون َ االنتحار ُّي َ َ كان األمر مفاجئ ًا بالنسبة لي ،إذ لم أكن أتوقع أن تسبب تربيتي اخلاصة واملختلفة ألذهان طالبي إلى اجنرافات متهورة وغريبة كهذه .لم أكن أشعر برضا تام ،في الوقت نفسه لم أكن أشعر برفض تام أيضاً .كنت محتار ًا وأتخبط في تلك املنطقة أدرب طالبي على رفض اخلضوع للقوانني التي الواقعة بني الرغبة واخلوف ،كنت ّ تكسر الروح وتشل الطاقة الداخلية ،لم أكن متأكد ًا أن اقتراحهم املجنون اجلديد الذي وضعوه أمامي هذا الصباح يصب في اجتاه رفض اخلضوع أم ال؟ إذ ماذا يعني احتالل املدرسة من قبل الطالب واعتقال املدرسني واملدير واآلذن وعمال الكافتيريا في غرفهم؟ هل يصب هذا اجلنون في مصلحة طاقة الطالب ومحاربة األنظمة التعليمية التي تقهر األحاسيس؟ طلبت من أحمد وصهيب وخالد ومحمود وأمير وهم أعضاء الهيئة اإلدارية لنادي األدباء أن يتركوني وحدي في املكتبة ُأفكر في اقتراحهم .تأملت اخلطة املكتوبة التي كتبها الطالب جيداً ،رحت أناقش املسألة بشكل موضوعي محايد ،فوجدت أنها متهورة ،وقد تؤذي طاقة الطالب بد ً ال من تنميتها .لكني سرعان ما استبدلت (موضوعيتي) و(حياديتي) برؤيتي اخلاصة لألشياء ،فوجدت أنها خطة رائعة وطريفة ،تعلم الطالب التخطيط واملبادرة ورفض األوامر املتعفنة واملريضة ،ومناقشة الوصايا قبل تنفيذها .وحلظة بعد حلظة ،أقنعت نفسي أن املوضوعية واحليادية اللتني حتججت بهما لرفض اخلطة ما هما إال قناع خلوفي من فقدان وظيفتي التي اعتاش منها ،فأنا في النهاية موظف- عبد ،أنفذ ما أتلقاه من وصايا وكتب وتقارير ومناهج ،وإذا أردت أن أرفض كوني ذلك فهذا معناه أن أكون في الشارع عاط ً ال عن العمل والتأثير والفاعلية واملتعة أيضاً.
105
وفجأة! سمعت داخلي صوت ًا آخر ،عنيف ًا وغاضباً ،يتهمني باجلنب وعدم االنسجام ومر مع الذات ،والثرثرة املجانية ،والصوتية ،فدب ذعر غريب في مفاصليّ ، أمامي شريط احلوارات التي أجراها معي صحافيون حول عالقة نصوصي القصصية بحياتي الشخصية ،كنت أجيبهم بلذة :أنا نصوصي ،ونصوصي أنا ،تذكرت ما كنت أقول لطالبي حول ضرورة أن يكون اإلنسان منسجم ًا مع نفسه ،ال أن يقول عكس ما يفعل ،رأيت نفسي أنهض ،أزيح الستائر عن شبابيك املكتبة ،فتشتعل أشياء املكتبة بنور الشمس الشتائية الدافئة ،ناديت طالبي املجانني .أبلغتهم موافقتي وبحماسي .ابتسم الطالب ،عانقوني فشعرت أن الله نفسه يبتسم
ويعانقني ،باشرنا في اخلطة .كان املطلوب هو احتالل املدرسة كلها في ظرف نصف ساعة .كان هناك اجتماع في غرفة املعلمني يضم املدير والسكرتير ونائب املدير واآلذن والفرصة كانت سانحة إلغالق الغرفة ،عند الساعة العاشرة والثلث خرج الطالب إلى االستراحة ،كان عدد طالب املدرسة يزيد على الستمائة، املشاركون في االنقالب هم عشرة فقط ،مت إغالق الغرفة باملفتاح ،تقدم أحمد من ميكروفون املدرسة ،راح يتلو على الطالب بيان االنقالب: أيها األعزاء ،يا زمالئي ،نعلن أمامكم سيطرتنا التامة على مرافق املدرسة ،سندير املدرسة هذا اليوم كما نشتهي ،املعلمون واملدير ونائبه واآلذن والسكرتير معتقلون باحترام شديد في غرفة املعلمني. كان املدير يصيح ويهدد ،واملعلمون ذهلوا من سلوك كهذا ،لزموا الصمت ،بعضهم كان يضحك ،قطع الطالب االنتحاريون (قادة االنقالب) هاتف املدرسة. بإمكانك يا أستاذ زياد أن تفعل ما تشاء ،أن تراقب ما نفعل أو أن جتلس في غرفةاإلدارة أو أن تغادر املدرسة قال لي خالد أحد االنقالبيني. قلت له :إنني سأراقب ما يحدث ولن أتدخل أبداً. دس صهيب رسالة من حتت الباب موجهة للمدير واملعلمني والسكرتير والنائب واآلذن .ملخصها “نحن نعتذر عن هذا األسلوب في املطالبة باحلقوق ،لكننا مضطرون إلى ذلك بحكم استهتار اإلدارة بنا وتعاملها معنا وكأننا أطفال سذّ ج، لذلك أرجو أن تتحملوا هذا اجلنون الذي لن يستمر سوى ليوم واحد فقط ،رد املدير على الرسالة بالصباح مهدد ًا ومتوعد ًا بعقوبات شديدة.
106
جلست أنا في غرفة اإلدارة أراقب ما يفعل االنتحاريون الرائعون الذين هم نتاج أسلوبي اخلطير معهم في زرع داء املغامرة اجلميل وحس االنقالب على األشياء التي فقدت ضياءها وفائدتها وشرعيتها ومستقبلها .طلب أحمد من الطالب جمع (برابيج) املعلمني التي يضربون بها الطالب ،جمع الطالب األربعة عشر البرابيج، كومها أحمد بعضها فوق بعض ،أشعل فيها النيران في رواق املدرسة الرئيسي. ّ صاح محمود :هيا نرقص حول ال ّنار ابتهاجاً .رقص الطالب وصاحوا بأعلى أصواتهم إلى اجلحيم :أيها العنف إلى اجلحيم ،أيها األذى .أصابتني قشعريرة
لذيذة ،وتذكرت العرائض التي تقدم بها الطالب لإلدارة مطالبني فيها بإلغاء عقوبة الضرب (بالبربيج) .إلى اخلطوة التالية ،صاح أحمد ،ركض الطالب اخلمسة عشر (وهم من صفوف مختلفة) باجتاه الصفوف الفارغة من الطالب ،وهناك سمعت أصوات حتطيم ،ركضت باجتاه الصوت فإذا باالنتحاريني يفصلون بفأس املقعد الذي يجلس عليه طالبان إلى مقعدين متجاورين. قال لي رمزي .ألم تعلمنا االحتفاء بجسديتنا وفردانيتنا يا أستاذ؟ نحن نطبق تعاليمك. صاح أمجد :ال تلفظ كلمة تعاليم ،التعاليم وصايا وحكم وقوانني ،ونحن نرفض كل ذلك ،أنا أفضل كلمة اقتراحاتك بدل تعاليمك. نعم ..نعم ،كم أنا فخور بكم أيها االنقالبيون الرائعون! قلت لهم.قال مفيد :إنه وقت رمي الطباشير هيا ،تبعه الطالب ،جمعوا الطباشير في سلة كبيرة وألقوا بها من النافذة وهم يصيحون مبتهجني ،الطباشير تسبب لنا التشويش الذهني واألذى الصحي أليس كذلك يا أستاذ؟ نعم ..نعم ،وقد أبلغت اإلدارة مرار ًا استبدالها بأقالم “فلوماستر” ولكن بال جدوى.
107
بعد ذلك دخل الطالب صف ًا من الصفوف ،وقف سمير وقال :سنناقش هذا اليوم قصيدة محمود درويش امللحمية (اجلدارية) وأجمل ما في هذه القصيدة هو أنها غير مقررة في املنهاج بعد نصف ساعة من النقاش بني طالبي الرائعني (وهم باملناسبة من صفوف مختلفة أصغرهم في الصف اخلامس وأكبرهم في الثامن) طلب باسل أن يعطي الطالب محاضرة قصيرة عن حياة أبي ذر الغفاري ،أحد الصحابة اجلليلني املنحازين للفقراء والبسطاء ،وهكذا أعطى كل طالب ما لديه من خبرات ومعلومات أعد لها جيد ًا في األيام السابقة في الرياضيات ،والعلوم، واللغة اإلجنليزية ..الخ .خرج الطالب من الصف هادئني ،توجه أحمد نحو غرفة املعلمني ،فتح الباب ،تدفق سباب املعلمني وصياح املدير كشالل ،هرب الطالب إلى املكتبة ،فتحت أبواب املدرسة ،دخل الطالب إلى الصفوف بينما مشيت أنا إلى املكتبة بهدوء خفيف وسعادة منقطعة النظير .هناك أغلقنا باب املكتبة ،رحنا نناقش اخلطوة التالية بعد أن سلمني املدير قرار ًا بفصل الطالب وإنذار ًا أخير ًا لي.
كنا محاطني بالكتب ،جلسنا على األرض على شكل دائرة ،الستائر كانت ُمزاحة، النوافذ مفتوحة الشمس جتلس معنا ،وفراشات مختلفة األشكال واأللوان تقتحم املكتبة ،تزقزق فوقنا ،تطلق أصوات ًا تشبه الغناء ،أو الصالة ،وهل من فرق؟
108
غيمةٌ حلوةٌ َت ُع ُّ ض َيدي
109
غيمةٌ حلوةٌ َت ُع ُّ ض َيدي تخرب عقولنا بد ً ال من أن تبنيها .جمدت أمام أحد طالبي أستاذ زياد :أنت ّ في الصف التاسع وهو يلسعني بهذه اجلملة ،في آخر العام الدراسي .أستاذ: أنت تشبه شخص ًا يتلذذ في تعذيب الناس ،أنت تسيل املاء أمام رجل محبوس لم يشرب املاء منذ أيام كثيرة ،ملاذا تفعل ذلك؟ لم ال تتركنا عميان ًا ومظلمني بد ً ال من أن تصدمنا وتخرب أذهاننا وتشيع اإلرباك في مخيالتنا؟ هذا ما قاله لي أخي الذي علمته أنت في العام املاضي ،هو اآلن يعاني من أزمة العودة إلى الطريقة املعتادة في اإلحساس باألشياء ،أنت ظالم يا أستاذ ظالم ،وأهلي مستاؤون منك ،وأبي يفكر في تقدمي شكوى ضدك إلى الوزارة ،سامحك الله! ال أدري كيف لبيت طلبك وأطللت من الشباك مرة ومددت يدي إلى الغيمة حتى تعضها عضة خفيفة وأشفى من احلزن كيف؟؟ نحن ال ندري أين اخللل؟ هل هو فيك؟ أم في املعلمني اآلخرين؟ بصراحة لم نعد نعرف ...أنت تدعي أنك حداثي ومجدد ،لكن ملاذا ال يكون اخللل فيك؟ وما هي احلداثة؟ هل احلداثة أن أكون حديث ًا في نصوصي وقدمي ًا في سلوكي؟ ،ملاذا ال نكون مثل املدارس األخرى؟ ماذا يعني أن نختلف عنهم؟ أنت علمتنا أن ثمن االختالف مؤلم وصعب وخطير ،ال تزعل منا أستاذنا، الصف الذي علمته العام املاضي والذي هو اآلن في مدرسة أخرى أنت تعتبرها تقليدية يعاني من نتائج حداثتك وجنونك ،ماذا يعني أن الشجر ميكن زرعه في الضباب ،وأن القمر يتسلل إلى فراشنا ويبكي على وسائدنا ،وأن الورد هو شوك نادم أو متزوج حديثاً ،وأن العقارب أصلها فراشات مرتدة وخائنة أو مسحورة؟ صعقتني كلمات يزن ،قلت له متلعثماً :لن أجيبك اآلن ،سأذهب اآلن إلى البيت، سأفكر فيما قلته ..ما قلته مهم جد ًا ومثير للنقاش.
111
أمام النافذة املفتوحة بانتظار غيمة ثقيلة الفم تعض وجهي ألتخلص من شعوري باالختناق ،هكذا علمت طالبي أن يفعلوا وهي طريقة اليابانيني القدامى في طرد األسى ،لم أفكر كثير ًا فيما قاله يزن بناء على استياء أخيه زيد الذي علمته العام املاضي جماليات تقليب األشياء وتأمل طياتها وتفكيكها ،ورفض االنحناء أمام سطوح الظواهر املخادعة ،واإلصغاء برهافة إلى الصامت والعميق واملخبوء من مفردات العالم .منذ اللحظة األولى فهمت أن هناك بالفعل أزمة ،والغريب أني لم أفكر فيما قاله يزن من قبل ،كنت أعتقد أن مجرد زرع بذرة اجلنون في أذهانهم
كفيل بأن يجعلهم ينمون في جو حداثي حواري دميقراطي ،صحي ،نقي... وأنهم سوف يجرفون في طريقهم كل ما يعطّ ل تذوقهم التلقائي والطفولي والغرائبي للحياة .لم أفكر في عنف ورخاوة وبالدة ما ينتظرهم في الصف العاشر في املدرسة األخرى التي سينتقلون إليها ،لم أفكر في أن الصخرة املتربة التي حملتها قبل أسبوعني تقريب ًا مبساعدة خمسة طالب ضخام اجلثث من اجلبل املجاور ووضعناها على طاولة الصف وزيناها بالشموع ،خلفية أو مقدمة لدرس الكتابة، ستشكل ذكرى حزينة محبطة للطالب حني يستمر مشهد الصف بتكراريته القاتلة وأشيائه الثابتة كما هو طوال عام كامل قادم ،لم أفكر في أن األساتذة اآلخرين في املدرسة األخرى سوف يتهمونني باخلرف والهرم واالدعاء ،حني يسألهم طالبي ملاذا ال نقرأ سأم الريح الليلي اخلريفي اخلفيف ونتحسس قفا املدينة صباحاً ،ونحاكم أكاذيب الصيف ،ونلبس وجوه الشجر واملوت والبرد ،ونرسم لون اخلطيئة ،كما كنا نفعل في املدرسة السابقة؟ سوف أعترف اآلن أن الطريق الغريب الذي شققته لروح طالبي ومشاعرهم كان محاولة شخصية مني ،كي أهرب من الوحش الذي يسكن املدرسة دون أن يغادرها حلظة واحدة ،هو التكرار ،هو إبحار جماعي إذن لهروب كبير من طوفان التكرار والثبات الذي ال يتوقف عن الفيضان هناك في البنايات املسورة بإحكام، ال شيء يتغير ،كل أعوام الدراسة تشبه نفسها ،املدرسة التي تعلم فيها أبي هي نفسها التي تعلمت فيها أنا ،هي ذاتها التي يتعلم فيها طالبي .املعلمون الذين كانوا زمالء ألبي هم أنفسهم زمالئي اآلن .أنا رفضت أن أكون منهم ،لذلك أنا في نظرهم غير طبيعي ،مريب ومخيف ،األسوار نفسها العالية والكاحلة التي حتيط بامللعب ،الطباشير نفسها يعاد تدويرها من غبار الطباشير القدمية ،كل شيء هنا يتم تدويره :املنهاج ،السبورات ،الدفاتر ،املقاعد ،الكتب ،الغرف ،األقالم، فضاءات النصوص والدروس املقررة في املنهاج هي هي حتى لو اختلفت أسماء مؤلفي املنهاج ،حيث ال أسئلة وال نبش وتقليب ومساءلة لتربة النصوص وأوجهها اخلفية ،وال حتريض على حوار أو اقتحام ملناطق جديدة في التفكير والشعور ،أو استفزاز جلدل .ما زال الطالب في بالدنا ميزقون دفاترهم وكتبهم ابتهاج ًا بنهاية العام .أنا مزقتها وأساتذتي مزقوها قبلي ،وطالبي ميزقونها اآلن ،وطالب طالبي سيمزقونها الحقا .اإلذعان والثبات واخلوف ،هذه هي عناوين احلياة املدرسية في بالدنا .كيف ال أهرب إلى احللم ألحافظ على صحة عقلي؟ كيف؟ 112
حبيبي يزن :أعترف لك متام ًا بوجود أزمة كبيرة ستنتج عن الصدام بني الطعم
السدميي لألشياء الذي دربتكم عليه وبني الطعم احلامض ،القدمي اجلديد الذي حاولت أن أخلصكم منه ،سيكون هناك صراع بني احلموضة والسدمي .أنت تعتقد أن احلموضة ستنتصر بحكم طول فترة الدراسة القادمة في مدارس تقليدية جداً ،وبحكم قصر فترة احلياة احللمية التي عشناها معاً ،هل أعتذر لك؟ هل أبدي لك عجزي عن التفكير؟ ال ..ال يا صديقي الصغير ،لن أعتذر ،ألنني ببساطة ال أستطيع أن أستسلم للوحش ،ليس ذنبي أن عاملنا ٍ قاس جد ًا ومراوغ وال يكترث بأحاسيس اآلخرين النيرة والصادقة .إن القدر وضعني أمامكم ،ال بديل لي عنكم ،ال أخفي استمتاعي معكم في كل حصص محاصرة بقطع الروث التي تتساقط علينا من فتحات السقف وتتسرب من النوافذ ومن حتت الباب ،وال أخفي في الوقت ذاته تعبي ،نعم أنا تعب جد ًا جد ًا من هذه املهنة التي خفضت من مستوى ذكائي ،صحيح أني هزمت الوحش ،لكني تعبت من ردعه ،هو ال يتوقف عن مهاجمتي والتربص بي. اطمئن صديقي الصغير ،فالروح السدميية املبدعة إن دخلت كيان ًا أو حواس إنسان فصعب أن تتركه ،لن يهزموك ،وسوف حتلم بضوء الصخرة الغريبة في الصف كل يوم ،أما الشموع فسوف تبدد لك رائحة الصفوف اخلانقة وتهديك أجمل الروائح وأصفاها. الغيوم احللوة ستظل تدق نافذتك يا يزن لتتعرض يدك لعضها الندي ،ولن متل العقارب من مالحقتك في صورتها األولى وحقيقتها املؤكدة ..الفراشات املسحورة .ولن يتركك الورد وهو يومئ إليك من بعيد ،مذكر ًا إياك بأنه شوك نادم ...لن يهزموك يا صديقي الصغير لن يهزموك!
113
ار َها ْ شج َ كانت تُ َح ِّدثُ أَ َ
115
ار َها ْ شج َ كانت تُ َح ِّدثُ أَ َ أثمة عالقة بني املرأة والشجرة؟ طلبت من تالميذي مرة أن يرسموا امرأة ،فرسم أحدهم شجرة ،آخرون رسموا ضباب ًا وبحر ًا وساح ً ال ومطر ًا وباباً ،لم تهزني في رسوماتهم سوى الشجرة – لكني لم أعرف في حينها ملاذا طلبت من تالميذي أن يحولوا رسوماتهم إلى جمل أو نصوص قصيرة ،بينما غرقت أنا في صورة الشجرة بحث ًا عن امرأتي فيها ،أو بحث ًا عني وعن أشياء مبعثرة أحسها وال أستطيع أن أحددها أو أقبض على أجزائها. سالم :هي كائن مثل الضباب غريب ينقشع بسرعة ولكنه يجدد غموضه بسرعة أيضاً. حسام :مثل البحر هي عميقة وواسعة ،قد يغرق فيها الرجال وقد ينجون وقد يبقون معلقني ما بني النجاة والغرق. أمين :مخلوق يشبه السواحل ،ترتاح فيه السفن أو تستعد لسفر بعيد. عادل :إنسان يشبه الباب حني نفتحه قد نرى اجلنة أو النار ،وقد نرى أبوب ًا أخرى، فتمشي حياتنا في فتح األبواب والبحث خلفها. أحمد :كم تشبه الشجرة هذه املرأة وال أعرف ملاذا وكيف؟ انتهت احلصة ،انتهى اليوم الدراسي ،انتهى العام الدراسي ،ذهب الطالب إلى متزقاتي عطلة األذهان ،سكنت السبورة ،هدأت مقاعد الصفوف ،ذهبت أنا إلى ّ واضطرابات قراراتي :هل سأعود إلى مهنة التعليم العام القادم؟
117
وجدت نفسي أعود إلى دنيا الرتابة املسكونة بصورة املرأة – الشجرة .نسيت متاعب املهنة من سياط اجلرس إلى ألم تكرار األيام الدراسية ،كان أحمد يهاتفني طوال أيام العطلة ،يسألني سؤا ً ال واحداً :هل فككت لغز العالقة يا أستاذ؟ يطول صمتي على الهاتف ،فيغلق أحمد السماعة كأنه يعتذر عن إرباكي .على جدران سور املدرسة العالي فوجئت بأربع شجرات مرسومة بتأن بالغ ،على جذوعها
وجوه أربع نساء ،في الصف كان أحمد يبتسم بهدوء وهو يقول لي“ :أحببت أن أشرك طالب املدرسة الستمائة في البحث عن لغز العالقة”. البيت القدمي وهو متهالك ،بعيد عن املدينة وقريب في آن ،شجر كثير حوله وكالب ،يا إلهي ماذا تفعل الكالب حول هذا البيت؟ تسكنه امرأة عجوز مجنونة. الضوء ال يعرف هذا البيت .النوافذ مغلقة دائم ًا وبإصرار .املرأة العجوز التي ال يعرف اسمها وحكاياتها أحد ،ال تخرج من البيت إال بعد منتصف الليل ،تطلق الصيحات الغامضة وحتدث أشجارها .الكالب تخرج من هدوئها وتطلق هي األخرى نباحها املتواصل .تصحو احلارة ،تتأفف النساء ،يغضب الرجال ،يخاف األطفال ،لكن أحد ًا لم يجرؤ بعد على االقتراب من البيت القدمي املعتم واملرأة املجنونة والكالب. ما عالقة هذه القصة مبوضوع املرأة – الشجرة يا أستاذ؟ ماذا تقول املرأة العجوز املجنونة للشجر؟ هل هو مفتاح لغزنا ،لو أننا سمعنا بوضوح الكلمات ،القتربنا من احلل .لكنأحد ًا ال يستطيع أن يقترب ليسمع الكلمات الهامسة ،فدائم ًا الطريق إلى اللغز محفوفة باخلطر. هل أنت متأكد أن هناك شجر ًا كثير ًا حول البيت القدمي يا أستاذ؟ سألني طالبمبتسم دربته على فن الربط بني األشياء وتبديل املواقع. هل أنت متأكد أن هناك امرأة مجنونة وكالب ًا وبيت ًا قدمي ًا يا أستاذ؟ سألني طالبآخر علمته فن التشكيك في كل احلكايا ،ألن ال شيء نهائي ًا ومؤكد ًا في هذا العالم. طلب الطالب عنوان بيت املرأة العجوز .قلت لهم حني تعرفون تفاصيل الكالم اخلافت ما بني الشجر واملرأة ستعرفون فور ًا عنوان البيت. 118
قال ليث :ما دام بعض الطالب وأنا منهم يعتقد أنك ابتكرت حكاية البيت والكالب والشجر والعجوز ،فلنقم أيض ًا بابتكار كالم املرأة للشجر وكالم الشجر للمرأة.
وافقت على االقتراح دون أن أؤكد أو أنفي حقيقة االبتكار أو حقيقة احلكايا. سعيد :املرأة للشجر :ضموني إليكن يا شجراتي ،أشعر بالبرد واخلوف ،أشعر باملوت يقترب .الشجرات تتحرك وتغطي جسد املرأة البارد. حسن :مدت املرأة العجوز يدها املتجعدة ،ألصقتها في جذع الشجرة العالية، حتولت اليد إلى غصن جديد .همست الشجرة :يا إلهي ما أجمل أن تعود غصوني إلي بعد فقدان سنوات طويلة! علي :وضعت املرأة خدها على األرض ،حتول فور ًا إلى جذع كبير وصلب، امتدت جنو اجلذع غصون كثيرة كانت مقصوفة من شجر ميت كثير ،أضيفت شجرة جديدة إلى عشرات الشجر حول البيت القدمي. فتحي :قالت شجرة صغيرة للمرأة العجوز :ملاذا أنت بعيدة عني يا أمي؟ اقتربي ألعيد لك شبابك وأعيدي لي توازني وروعتي. أجابت املرأة :كم أود ذلك يا ابنتي لكن الكالب تتربص بي. سهيل :اقتربت املرأة العجوز املجنونة من شجرة عالية ،وضعت على جذعها بنطا ً حتول اجلذع إلى خصر امرأة ،وضعت املرأة العجوز على الغصون ال أزرقّ . فتحولت األغصان إلى يدي امرأة ونهديها. قميص ًا أسود ّ هاشم :لم يكن ثمة شجرة وال كالب ،وال بيت قدمي ،كان محض حلم ،صحوت بعده خائفاً ،وبحثت عن أمي وأنا ارجتف. جرافات البلدية البيت القدمي واقتلعت الشجر ،هربت الكالب. خلدون :هدمت ّ ماتت املرأة ،حتول املكان إلى سوبرماركت كبير ،لكن اجليران ما زالوا يسمعون صياح املرأة ونباح الكالب. هل عرفتهم اآلن سر املرأة “الشجرة “ يا أصدقائي؟ سألت طالبي.119
أجاب الطالب بصوت واحد :لم نعرف شيئ ًا بعد يا أستاذ .انتهت احلصة ،انتهى
اليوم الدراسي ،انتهى العام الدراسي .تركت مهنة التعليم ،مرت سنوات طويلة، نسيت حكاية البيت والشجرة واملرأة العجوز والكالب ،ولم أعد أذكر إن كانت من ابتكارات ذهني لتدريب الطالب على تعلم التخييل والكتابة ،أم كانت حكاية حقيقة ،استخدمتها ألغراض تعليمية وتربوية .أنا اآلن رجل مجنون بال عمل، هكذا يقول الناس عني ،ألنني ببساطة أعتقد أن الشجر نساء وأن النساء شجر، أتعرض دائم ًا لضرب الناس وتعنيفهم حني يرونني أملس عني امرأة معتقد ًا أنها ثمرة خوخ ناضجة للقطف .يا إلهي! أنا مجنون فعالً.
120
اغ ِ بصو ِتك .. ْ س ِليني َ بار يف ب ِ ِالدي َك ِثري فَ ُ الغ ُ 121
بار يف ب ِ اغ ِ ِالدي ك َِثري ْ بصو ِتك ..فَ ُ الغ ُ س ِليني َ ال أدري كيف خطرت لي هذه الفكرة ،أنا أيض ًا فوجئت بها تتلبسني ،لكنها جاءت ضمن سياق رؤية جديدة بدأت أتعامل وفقها مع أذهان طالبي .رؤية خارجة عن القانون وعن السائد واملكرس .رؤية مجنونة تعيد صياغة العالم على ضوء شروط جديدة ،شروط قوامها اجلمال والتنوع واحلب والرشاقة الذهنية والنضارة الروحية والنفسية. طيلة حياتي املدرسية ،ال أتذكر أنني سمعت من أستاذي كلمة مدح أو ذم للموسيقى ،وكأن هذا العالم األثيري الشفاف اإلنساني الذي يسمونه (املوسيقى) ال يستحق التفاتة صغيرة أو تأم ً ال بسيطاً .كانت حصص الفن متر في جدول أيام األسبوع فارغة وطويلة ومملة ،يطلب منا املدرس أن نرسم أي شيء .شجرة، عربة ،جبالً ،مطر ،أي شيء ..أي شيء .وحني نرسم الـ “أي شيء” ،ال يتكرم علينا املدرس حتى بنظرة ،فيخرج مسرع ًا حني يرن اجلرس ،ونقوم نحن بتمزيق رسوماتنا وإلقائها في سلة القمامة.
123
في املدارس ،هنا في بالدنا القاسية التي نحبها ،ال يحبون املوسيقى ،هل يخافونها ألنها تأخذهم دون أن يشعروا إلى أعماقهم؟! هي سفيرتنا إلينا إذن .املوسيقى عالم محير جد ًا ومتعب على الرغم من حريرية ملمسة ونعومته ،املوسيقى هي الالمكان والالزمان ،هي الضياع البهيج والتشرد األعمى ،هي الصيد الصعب في براري الروح وأدغال الوقت العادي .في املدارس يحرصون جيد ًا على ترتيب ذهن الطالب وفق أسس راسخة جد ًا قائمة على الطاعة العمياء للوصايا والقيم االجتماعية البالية ،وعلى ضرورة النظرة اجلزئية لألشياء ،وعلى حترمي اخلوض والتفكير في األحالم التي حلموها ليلة أمس ،األحالم والتشتت والشعر واملوسيقى والهذيان ،مفاهيم محرمة وخطيرة على ذهن الطالب ،املوسيقى هي أخطر هذه املفاهيم ألنها تدرب الذهن على القفز عن أسواره املرسومة له ،وحترض الذاكرة على االحتفاظ بالنضير والعميق واحملير واملخبوء واحملظور من املشاعر واألشياء ،واملشاهد ،املوسيقى تطرد الرضا عن النفس والقناعة الزائفة ،ومطلوب من الذهن أن يكون راضي ًا عن قدراته قانع ًا بحدوده ،املوسيقى ضد احلدود ،ألنها تلغي العداء بني الشعوب باملوسيقى ،تذوب الفوارق بني األبيض واألسود ،بني الغني والفقير ،بني الذكر واألنثى ،بني الشرقي والغربي ،بني الله واإلنسان.
باملوسيقى نشتت جحافل األحقاد بيننا ،ونزرع في سمائنا الداخلية عواصف األسئلة .املوسيقى حترض على السؤال ،ال حتب اإلجابات .تقرب اإلنسان من حواسه وطبيعته وبهاء أعماقه األصلية ،ومطلوب من الطالب عندنا من قبل صائغي وجداننا وساجني الغابة فينا وقامعي البراءة والعفوية أن يحاربوا حواسهم، ويفقدوا ذاكرة أعماقهم ،ألن احلواس حتض على الرذيلة ،وتترك الباب مفتوح ًا على مصراعيه أمام “الفساد واالنحطاط” .هم ال يدرون -أولئك الذين يخططون ذهن طالبنا ويصيغون وجدان أجيالنا -أن الذهن البشري ال ينمو وال يتطور بال حواس ،احلواس هي أهم الطرق وأنفذها للوصول إلى املعرفة ،الحق ًا تعلمت هذه املفاهيم .تدريب على مصافحة النجوم عبر صوت فيروز ،اقتربت جد ًا جد ًا من املطلق ..األبدية ،على أجنحة صوت فيروز ،وهي حتملني إلى الالزمان، والالشعوب ،والالدول ،والالقيود ،والالحدود ،والالفوضى ،والالمسافات. فيروز هي التي علمتني كيف أثق بإنسانيتي واكتشف بكارة أشيائي وحواسي وأمترد على احلدود ،سيدة الالتوقف ،الالأسوار هي فيروز .حني كنت أسمع صوتها وأنا في الصف العاشر (أهدتني بنت في الصف السابع شريط ًا لها) كنت أشعر بزوال هويتي (كعربي وكفلسطيني وكطالب وكالجئ وكذكر) كنت أشعر بهوية واحدة (اإلنسانية) هويتي هي :بشريتي بال تعريفات قومية أو ذكورية أو أكادميية. أذكر أن الدنيا كانت متطر بشدة ،الشوارع خالية من الناس والعربات قليلة ومسرعة، وأنا وحدي عند النافذة أتكئ على الزجاج املبلول ،وفيروز خلفي وأمامي وفوقي تغني (رجعت الشتوية) كأنها (فيروز) كانت تغسلني من غبار الواجبات املدرسية الثقيلة ،كأنها كانت تخلق عندي سعادة غريبة غامضة (سعادة أني إنسان(. اإلنسان احملب واملسالم واملكتشف واملندهش .إنسان ال يخوض حرب ًا ضد أحد، ال يؤذي عصفور ًا بل يبتسم ويطير ،ويحب .أول دهشات حياتي ما زلت أذكرها حني سمعت أغنية فيروز (رجعت الشتوية) ،فيروز بهذه األغنية أهدتني ذهن ًا جديد ًا هو ذهن اجلبل العالي ،ذهن النسر املتجول ،ذهن األفق املتطاول.
124
اآلن ،وأنا أعمل مدرس ًا في إحدى املدارس احلكومية ،أشعر أني أحمل مسؤولية أن أربي طالبي على مصادقة النسور ،والتحرش باجلبال ،واللعب مع األفق ،اآلن وأنا أمتهن مهنة التدريس وبد ً ال من التباكي على فساد نظامنا التعليمي والتربوي، وبد ً ال من التذمر الالمجدي من بالدة املنهاج وغبائه ،أجد نفسي متمرد ًا على كل
شيء :على املنهاج ،على املفتش ،على املدير ،على نظام اجللسات في الصفوف، وحتى على لون الستارة في الصف ،وعلى اللوحات املعلقة على جدران الصفوف، وعلى قسوة مالمح آذن املدرسة ،وعلى ضيق ساحة املدرسة ،وارتفاع أسوارها املبالغ فيه ،وعلى هشاشة طباشير املدرسة ،وعلى لون رخام املرحاض ،وعلى الرنني املتعجرف للجرس ،وعلى حمل املدرسني للعصا ،وعلى جتهم مالمح املدير دائماً ،وعلى غياب األنثى عن صفوف املدرسة ،وعلى طاعة الطالب العمياء لوصايا املدرسني. فجأة وهكذا كما أنا دائم ًا عصفت برأسي فكرة مجنونة ،طلبت من طالبي أن يلحقوا بي ،أخذتهم إلى قاعة املكتبة ،هناك أغلقت القاعة بإحكام وأشعلت صوت فيروز ،طلبت منهم اإلصغاء ،فقط اإلصغاء ومحاولة فهم الكلمات ومصاحبة اللحن .رأيت التذمر في وجوههم في البداية .رأيت االستغراب من فيروز هذه ،لتمضي حصة كاملة نسمعها صامتني؟ طالبي لم يتعودوا على الصمت ،الصمت هو عدو الطالب ،وعدو كل من يعيش في هذا الوطن القاتل والقتيل .لم يتعودوا اإلصغاء ،اإلصغاء في بالدنا هو امللل هو السطح ،هو الفراغ ،هو الالشيء .قلت لهم :اإلصغاء أيض ًا موهبة ،الثرثرة الفارغة والكالم الكثير هو دمار وخراب ،تعرفوا على اإلصغاء ،تعرفوا على الصمت ،تذمر الطالب ومتلملوا ،قلت لهم :هناك صوت للصمت ،انتبهوا له وادرسوه تأملوه ،الصمت ليس الفراغ ،كما هو ظاهر ،الصمت لغة أخرى ال يتقنها سوى من يريد حلياته أن تتطور وتتعمق ،ملن يريد أن يعرف أكثر ،الصمت صديق الفراشة والقصيدة والنهر واحللم والظالل والله واحلقيقة والطفولة والبراءة. شيئ ًا فشيئ ًا أقنعت طالبي جزئي ًا بالتدريب على اإلصغاء والصمت. اشتعلت القاعة أغاني لفيروز ،قلت لهم :فكروا في “شادي” الصبي الذي مات، عيشوا موته ،عيشوا حزن فيروز ،غنوا حنينها ،والبسوا ذاكرتها ،راحوا يرسمون مشاهد أخرى حلكاية شادي: شادي كان صبي ًا خجو ً ال ورقيق ًا وكانت فيروز حتبه. 125
شادي لم ميت بل اختفى ،سيظهر ذات مساء وستغني فيروز أغنية عودته.
شادي كبر وسافر إلى البرازيل وهناك حتول إلى قاطع طرق وفيروز ال تعرف. وهكذا عشنا مع فيروز أجمل وأبهى اللحظات ،طلبت من طالبي أن يكتبوا انطباعاتهم فكانت هذه الكلمات: الطالب بالل عمر :صوت جبل يخرج من قلب حزين ودافئ .ومن حنجرة رائعة. الطالب رام زاهر :أسبح وأطفو على بحر جائع ،بحر يريد أن يأكل أغنية فيروز، فيروز نهر يسحبني إلى الغابة ،يقتل الظالم ويحطم املوت. الطالب محمد ناصر :أشعر أن قلبي ميتلئ باألشياء املجنونة. الطالب عمر وماجد :أغنياتها جتردني من همومي. الطالب عمر جناتي :تشع نور ًا واختفي بها مع النسيم. الطالب براء قطيط :أشعر بروحي تغتسل بصوتها ،أشعر بالنغمات تقتحمني وتعريني ،أشعر بطفولتي ،أشعر بضوابط عقلي تطير ،أشعر باهتزاز مشاعري. الطالب حجازي فؤاد :صوت جميل جد ًا ينطلق من مشاعر محرومة ونبيلة ومن خوف قدمي. ذهب الطالب إلى صفهم ،بقيت وحدي في قاعة املكتبة ،وحدي مع فيروز .فجأة رأيت فيروز تتسلل من صوتها ،متسك بيدي وتهمس :هل أنت جاهز للطيران؟!
126
سمعتني أجيب همساً :نعم أنا جاهز .نشرت فيروز أجنحتها :ال أدري أين أنا اآلن؟! املكان بال مواصفات ،غامض وسائل ،ال أدري كم هي الساعة ،هنا ال زمن ،ال صبح ال مساء ال ليل ،ال نهار ،ال شيخوخة ،ال أمراض ،ال موت. كينونة بال قيود ،أحاسيس حرة ال ُيتعامل معها وفق “معيار الفضيلة والرذيلة”. إ ْذ ال فضيلة وال رذيلة هنا ،هنا خير دائم ونور مقيم .هنا في هذا املكان يعيش الله واألنبياء والقديسون ،تعيش احلقيقة ،يعيش احلب والسالم.
ريوز لم ٌ ات عن فَ ُ َك َ
127
ريوز َلم ٌ ات عن فَ ُ ك َ
ِ الس َياق) (في خيانة ِّ
ألقيت هذا النص أمام طالبي في الصف التاسع قائ ً ال لهم :إني ال أمتلك مزاج ًا للتدريس هذا اليوم ،دعونا نتواطأ مع جمالنا الداخلي (ونخون) سياقنا املدرسي املجرم ،نحتفل على طريقتنا بعيد ميالد مجرتنا املشعة فيروز ،ونهرب إلى حيث هذياننا وشطحنا وذاتيتنا العارمة املخنوقة ،سأفتح صنبور روحي وأدلق أمامكم قصتي مع فيروز .تفاوتت ردود أفعال طالبي ،منهم من كان يسمعني مبتسماً، منهم من كان يخربش على دفتره ،منهم من كان ينظر إلى اجلبل ضجراً ،ومنهم من كان نائماً ،إنها احلياة ..إنها احلياة. كيف ميكن أن نصدق أن فيروز بلغت من العمر السبعني؟ كيف ميكن أن نسمح ألحد بأن يزعم أن فيروز هي امرأة عادية زمنية ،مثلنا كانت طفلة فشابة فكهلة وأخير ًا صارت عجوزاً؟ أي صفاقة يتمتع بها هذا الشخص الذي يرى في فيروز ما رآه ابن خلدون في الدول؟ ما الذي ميكن أن يقال في فيروز؟ ما الذي ميكن أن يقال في الله أو املاء أو الشمس أو املطر أو الطفولة أو املوسيقى أو احلب أو محمود درويش؟ ال ،نحن ال نستطيع أن نعرف احلب أو الشعر ،أنا ال أعرف ملاذا تعجبني هذه البنت وال تعجبني تلك ،وصديقي صالح يستغرب كيف أني أذوب وأتهاوى أمام ابتسامة امرأة ما هو يراها عادية جداً.
129
ال أستطيع أن اقنع صديقي بإحساسي ألنني أنا نفسي ال أفهم هذا االنخطاف الذي يحصل لي .الشعر أيض ًا ال نستطيع أن نعرفه ،إنه يجبرنا على االندهاش والرقص أو النشوة ،لكننا ال نعرف ملاذا .أيض ًا نحن ال نستطيع أن نعرف فيروز ،هي مثل احلب والشعر ال توضع في قوالب وال متسك في حدود ،وال يحاط بطاقتها ،نحن هنا رهائن أحاسيس فحسب ،أسرى غموض ،أحياناً، نحن نستعذب هذا العجز عن حتديد هذه الظواهر وفهمها ،ألن الالمعرف وحتى الالمسمى أقرب لإلثارة الذهنية وللجمال واللذة .وأجمل وأنبل أنواع العماء هو هذا الذي يزودك باملتعة وأنت ال تراه متام ًا مثل احلب مع ذكرى معتقة وغامقة ،ال امرأة سكن عطرها في قلب البيت ،أو بيت القلب ،ثمة أفراد
عابرون للزمن والتاريخ واألمكنة يتحولون فجأة إلى ظواهر مثل ظاهرة شروق الشمس وغروبها ،أو مجيء الشتاء بعد اخلريف ،أو حب األطفال الغامض للمفاتيح. أنقذتني فيروز من موت اخترته بنفسي! هل كنت أحلم ذلك أم هي حقيقة؟ أهو نادل املطعم الذي أنفذني؟ وكانت فيروز تغني بالصدفة؟ لم أد ِر حتى اآلن، الصورة ضبابية تشبه نص ًا هممت بكتابته وزهقت منه أو يئست منه ومزقته في شتاء ما .نخر روحي خواء مدمر ،فركضت نحو جبل قرنطل في أريحا اخلالدة ،وقفت خلف السور ،رفعت قدمي اليمنى مستعد ًا للسقوط اجلميل ،فجأة سمعت صوت فيروز يقف معي مستعد ًا هو اآلخر للقفز؛ “أنا اللي بسموني امللكة ،بالغار متوج زمني ،مملكتي ما فيها بكي ،وجبيني وال مرة حني” .جتمدت قدمي على السور، لم أستطع التحرك ،وكأن يد ًا عمالقة متسك بجسمي كله ،شعرت بشخص يقف خلفي ،ميد يده ،وكأنه يقول :كيف تترك زمن ًا تعيش فيه هذه السيدة؟ فيروز ال تعيش في املوت ،هي ابنة احلياة ،تعال إلى احلياة! تعال إلى فيروز! سقطت قدمي عن السور ،مشيت باجتاه املطعم بجانبي متشي فيروز بصوتها وكلماتها ورنني يديها ،مشيت باجتاه حياتي وواصلت سنيني ،من منا ال يعتقد أو لم يعتقد أن فيروز صديقته الشخصية ،وإنها تغني له وحده؟ من منا لم يشعر أن فيروز تغني حنينه إلى حبيبته املفقودة؟ وفرحه وذهوله حلبيبته الراسخة في حياته؟
130
كم عالقة حب على هذه األرض كانت تقف على أبواب خراب ،فجاء صوت فيروز وأصلحها وأعاد لها نسغها؟ كم عالقة حب لم يكن مقدر ًا لها أن ال تصير أو حتدث لو لم يأت صوت فيروز ومينحها ما حتتاجه من كيمياء وسقاية مشاعر ودوافع؟ كل الناس يحبون صوت فيروز ،هذا الصوت ال يغني للمثقفني فقط، إنه يغني لكل األعمار والفئات متام ًا كشعر محمود درويش ،شعر محمود يخطف قلوب املثقفني والناس العاديني وعقولهم ،لذالك جند في أمسياته الطالب والطبيب وربة البيت والكوافيرة والعامل والتاجر واملثقف ،وهكذا هو صوت فيروز ،نعثر عليه في سيارة األجرة ،وفي البيوت ،واحملالت ،والقصور ،ملاذا أرى تشابه ًا وترابط ًا غريب ًا بني شعر محمود وصوت فيروز؟ أألنهما أهم من ميكن أن نباهي به األمم في هذا الزمن العربي املختل عقلياً؟ ما الذي ميكن أن نقوله ملستشرق حاقد حني يتهمنا بالضحالة احلضارية اآلن؟ هل هناك غير فيروز ومحمود درويش نهرع إليهما صائحني :هنا حضارتنا ،هنا روعتنا ،هنا جمالنا .فاذهب إلى خيبتك أيها املستشرق.
الد َ هشة! َهيـَّـا ن ُ طارد َّ ُ
131
الد َ هشة! َهيـَّـا ن ُ طارد َّ ُ أيها القارئ/ة العزيز/ة ،ولّى زمن كسلك ،وذهب زمن تفاصيلي اجلاهزة ونهاياتي النهائية ،وحضوري املستبد .أعتذر؛ ألنني سوف أتعبك قليالً ،عليك أن تنهي ما سأبدأ به اآلن ،أنت مضطر إلى ذلك ،ال خيار أمامك ،عليك أن تختار/ي مشهدك األخير ،مبا يتناسب مع همومك وهواجسك وثقافتك وروحك ورغباتك ومرجعياتك ،بصراحة تعبت من هيمنتي ومركزيتي وإطالقية مخيلتي ،فض ً ال عن أنه لم يعد لدي وقت؛ فاملشاغل كثيرة ،واملزاج ،غالباً ،ما يكون متعكّ راً ،سنكتب النص القصير جداً ،سأترك لك/ي الـمشهد األخير( ،إذا كان هناك مشهد مع ًا هذا ّ أخير؛ فحسب «بارت» الذي أعلن ميالد القارئ وموت الـمؤلف ،فإنه ال نهايات في السرد أبداً) ،سأعلن هنا نصف موتي ،وأحتفي بنصف حياتك ،فمرحب ًا يا شريكي في صناعة األلم وصياغة الدهشة ،وترتيل املنفى . ...
سعلة أب غائب تهم بدخول مدرستها ،بطيئة ،مبتسمة .أمشي أنا البنت صغيرة جد ًا وضريرةّ ، باجتاه مدرستي ،وحني حاذيتها صدرت عني سعلة سريعة وعنيفة ،سمعتها تقول بصوت صغير« :ياه ،كم تشبه هذه السعلة سعلة املرحوم أبي ،أرجوك ،اسعل مر ًة أخرى يا عمو» .ابتسمت ،حاولت أن أعيدها ،لكنني لم أجنح؛ فالسعال ليس فع ً ال إرادي ًا كما نعرف ،افتعلت سعلة سريعة ،لكنها رفضتها قائلةً« :ال ال ال ،مش هاي يا عمو ،بدي زي األولى ،أرجوك زي األولى» .مشت باجتاهي وهي تنظر إلي محاول ًة توقع اجتاه وجهي .اعتذرت منها بارتباك ،ومشيت. أي مكان أتذكرها وأحتسر؛ ألنني لست صرت كلما تهيأت لسعال حقيقي في ّ أمامها ...في صباح آخر ،رأيتها تخطو باجتاه بوابة مدرستها ببطء جريح وناعم ومليء بالنداءات ميسك بيد ابتسامة ،ابتسامة غريبة ،فحواها اعتذارات للشارع؛ ألنها مشت عليه ،وللـمارة؛ ألنها شوشت طريقهم ،ولسائقي السيارات؛ ألنها أبطأت حركتهم ،وللهواء؛ ألنها قضمت منه جرعتني أو ثالثاً ،وللوجود؛ ألنها شقت فيه حيز ًا ألنفاسها وحضورها اجلسدي .بحثت عن سعلة داخل حنجرتي، لـم أجد ،شعرت بحزن شديد. ... 133
مر ًة داهمتني في الصف نوبة سعال شديد ،فركضت بسرعة باجتاه مدرستها، وهناك . ...
ال ِ والك َتابَة حر وا َأل َ طف ُ الب ُ َ
135
ال ِ والك َتابَة حر وا َأل َ طف ُ الب ُ َ منذ ست سنوات لم أزر بحر بالدي ،أنا الكائن املائي القادم من برج السرطان، املصنوع من رمل وعواصف وصخور مبللة وأمواج ،وقوارب عتيقة ،وتنهدات أشباح بحارة ميتني ،أعيش في رام الله ،منذ ستة آالف سنة ،أنتظر غرق ًا غامض ًا وجميالً ،يحييني وفق صياغة أخرى ،في بحر قريب ،بحر يعرفني وأعرفه يريدني وأريده ،ال يبعد عني سوي عشرين سنة ضوئية ،البارحة تسللت لي ً ال إلى بحر بالدي ،على أطراف أصابعي رأيت نفسي أقترب رويد ًا ..رويد ًا من أضخم وأعنف موجاته ،أستدرجها إلى قلبي اليابس العطش ،فتهرع إليه بجنون لتطفئ جفافه وتنقذ رمقه األخير ،وهناك أغلق عليها جدران روحي وأهرب بها إلى رام الله ،أغلق باب نوافذ وأبواب غرفتي بإحكام ،ثم أطلق سراحها برفق ومحبة، أشرع في تربيتها وترويضها كغزالة البر املذهولة ،وفي صباح اليوم التالي أعلن في الصحف خبر اصطياد وطني. وفجأة! وبينما أنا غاط في نوم أبله ،أشعر ببلل في جسمي ،فأصحو فزع ًا ومشوشاً، فإذا باملوجة الضخمة والعنيفة تزحف على وجهي غاضبة ومستاءة ،تلطم صدري، تتجاوز جسدي متسلقة النوافذ ودافعة الباب أمامها .متجهة صوب حيفا. في احللم األول اصطدت موجة ،وفي احللم الثاني هربتها إلى بيتها« ،ليش اعملت هيك يا أبو الذوذ؟» هكذا سألتني نانسي ابنة جاري األمورة الصغيرة ذات األربع سنني. نانسي تلثع بحرف السني ،وهي اللثغة اللذيذة التي تكاد تطيح بعقلي ،من فرط عذوبتها ،لم أستطع أن أجيبها إجابة عاقلة مقنعة ،اكتفيت بقولي :إنه مجرد حلم يا صغيرتي ،فأسمعها تهمس ألمها« :عمو ذوذو بحكيلي قصص كذابة» .وفي مدرستي ،في الصف الرابع حتديداً ،مطبق ًا حصة إشغال لغياب معلمها ،أروي للتالميذ املندهشني الصامتني حكايتي مع األفعى واألسد في الغابة.
137
فأقول لهم ،في نهاية حكاية خرافية :وهكذا يا أحبائي الصغار أقنعت األفعى بأن ترقص معي فرقصنا وصرنا أصحاباً.
فأسمع همس ًا آخر في املقعد األخير بني تلميذين :هذا األستاذ كزاب ،بضحك علينا ،كيف برقص مع احلية ،مهي ممكن توكله. فاهمس أنا اآلخر بيني وبيني :آه يا أصحابي اللذيذين ،ومن قال إن األدب والفن ليسا وهم ًا وكذباً .ولكنه الوهم اجلميل والرائع الضروري واملفيد ،الوهم الذي ينقذ البشرية من السقوط السريع املدوي في حفرة احلقيقة ،األدب والفن ال مينعان السقوط لكنهما يبطئانه ،ويزينانه باأللوان والعطور ،ويفلسفانه ،ويعمقانه، بحيث تتكشف من خالله أبعاد أخرى للعالم ،وممكنات جديدة للوجود. نانسي ناسي البارحة حلمت. -كمان كذبة يا أبو الذوذ؟ يا الله! بكفي تكزب!
138
ايات جس ٌ اد َو ِح َك َ أَ َ
139
ايات جس ٌ اد َو ِحكَ َ أَ َ احلكاية حياة متفوق في دراسته ،دمه خفيف ،يحب الرقص عطية تلميذ في الصف اخلامسّ ، جداً ،يسحبني من يدي ويقول لي همس ًا بعيد ًا عن زمالئه“ :أستاز اليوم راح أرقص رقصة اخلوف من الليل” .في قاعة مكتبة املدرسة أجلس في حلقة دائرية مع ثالثني تلميذ ًا من أعضاء (نادي أصدقاء اجلسد) .عطية يرقص اآلن ،املوسيقى تشتعل منخفض ًة ومرتفع ًة غاضب ًة وخائف ًة وفرح ًة وغامض ًة وساحر ًة وحر ًة ،بال تخطيط بال منهاج بال تنظير ،بال حدود يتحرك جسد عطية أمامنا ،عيناه وقدماه وذراعاه حتكي وتروي قصة اخلوف من الليل ،الطالب هادئون ،يتأملون رقص عطية ،ليكتشفوا مداخلَ حلكاية اخلوف ،كما أطلب منهم بعد كل رقصة .ينهي عطية رقصته، تسكت املوسيقى ونصفق له ،يبدأ الطالب في تأويل رقصته ،أستمع وأسجل تأمالتهم ،بينما أراقب من النافذة بني احلني واآلخر زهور شقائق النعمان وهي الهش املمتع ،أو وهي تعيد اكتشاف فنائها تروي قصة القصة املتجددة ،قصة اجلسد ّ الرائع في مهب صيف سيطيح بها بعد أشهر قليلة ،أترون تلك الزهور الراقصة يا أصدقائي؟ إنها أجسادكم ،حني تفرح بالوجود ،ترقّص إحساسها وتغني نبضها، بينما هي تعرف أن ثمة فص ً ال قادم ًا ستختفي فيه ،لكنها تدرك ،أيضاً ،أنها ستعود في ربيع ما ،نضرة وندية ومضرجة باحلياة ،واحلكايات اجلديدة ،التي سيرويها احلجر واجلبل والبشر والشجر ،أجسادنا تذهب لكن حكاياتنا تبقى“ .أستاز، أنا راح أرقص هال رقصة البحر املالح .وأنا بعده أستاز راح أرقص رقصة الطريق الصحراوي” ،وهكذا تباع ًا يرقص أصدقائي الصغار حكاياتهم ،وأنا ال أتوقف عن النظر إلى الزهور ،مدرك ًا أن الزهور نفسها تنظر إلينا وتقول لبتالتها -صغارها: إن األجساد التي ترقص اآلن في مكتبة هذا البشري ،ستموت يوم ًا ما لكنها ستترك خلفها قصص ًا كما نحن يا صغاري.
141
هشاشة تنظر إلى هشاشة .حكايات تتأمل حكايات .الشجرة أختنا ،ونحن أشقاء الصخور ،كل شيء في الوجود موجود في كل شيء ،تذكروا أصدقائي ال شيء مفصو ً ال عن شيء ،في داخلنا زهور وفي داخل الزهور دمنا ،في جوف احلجر رائحتنا ،كنا جسد ًا واحد ًا ضخم ًا مترامي األطراف ،مكون ًا من صخور وانهار وزهور وجبال ومعادن وفصول وغيوم وحشرات وطيور وشجر وبحار ،والله
موزع فينا جميعاً ،ونحن منثورون فيه ،حدث االنفصال ،لسبب ما ،ولكن كل منا احتفظ بالله داخله ،كعالمة شاسعة على وحدة األصل ووحدة احلكايات، هنا تعالى صوت التالميذ :ملاذا ال نرقص رقصة االنفصال؟ اقترب التالميذ من بدوا فيه وكأنهم جسد ًا واحداً ،انفصلوا ببطء رقصاً، بعضهم البعض بشكل َ أياديهم وأطرافهم ،تتحرك باجتاهات متباعدة. الزهور تترك خلفنا حكاياتنا /حكاياتها ومنضي سعداء إلى نهايتنا ،ما هي لذة احلياة إن لـم تترك أثر ًا على شكل حكاية؟ سمعت اجلرس يرن ،انتبهت فجأة إال أنني وحدي في املكتبة ،كنت أحتدث مع نفسي إذن .هل التالميذ قناعي واستعارتي ومجازي؟ ألقيت من خالل النافذة نظرة كسولة باجتاه زهرات األرض البرية القريبة ،كانت ثمة شياه تقضم الزهرات بتلذذ أعمى ،ابتسمت ،ياه البتالت اآلن ممضوغة في جوف الشاة ،الشاه ستذبح بعد نصف ساعة ليمضغ حلمها البشر، البشري الذي سيمضغها سيموت بعد ستة أيام ،دود األرض سيمضغ حلمه. ألم أقل لكم أننا كل شيء يا أصدقائي؟ وأن كل شيء نحن؟ نحن الشياه واألرض والدود والزهر ونحن البشر و ...متضغ حكايات ..حكايات ..حكايات.
حنني وجبل
142
على جبل عال جد ًا وجدنا أنفسنا قريبني جد ًا من الغيوم ،ست مدرسني وسبعون طالب ًا متفوق ًا من مدرستنا ،كان من املقرر أن تكون الرحلة إلى أريحا لكن السائق محبة :سآخذكم إلى املقدسي بحافلته التي حتمل لوحة صفراء صرخ في وجوهنا ّ فتجمد الدم في عروقي ذهو ً ال من الفكرة ،هل يتجمد الدم البحر إلى عني جدي، ّ في العروق ذهو ً ال؟ نعم ،فأن أزور عني جدي التي حتتفظ لي في أغصان أشجارها وسعف نخيلها ،وبوصها بأكثر من شهقة أو رقصة أو عتاب أو غضب أو فرح أو صدمة ألكثر من امرأة ،فهذا أمر مذهل ،وال أعرف كيف سأتصرف جتاهه ،هل أحزن أم أفرح أم أحزن وأفرح معاً؟ هل أخاف؟ هل أبكي؟ “أستاز ،اطّ لع هناك في إشي أزرق اكبير واسع ،قطع تلميذ يجلس بجانبي حبل أفكاري بصرخته التي هزت فضائي ،نظرت حيث يشير فإذا بالوحش احلبيب يجلس بحنكته الوجودية وملوح ًا بحب لكل ناظر .أستاز ،نفسي أملس البحر ،عمري الزرقاء كعادته صابر ًا ّ ما ملسته في حياتي ،أستاز ،إنت بتعرف تسبح؟ أنا بخاف .أستاز ،يال ننزل على البحر إحنا وين رايحني؟ أستاز ،البحر شكله ما بخلص يا الله ما أطوله .أستاز
سيدي حكالي إنه كان زمان يسبح في بحر يافا ،وستي كانت اتخاف واضلها قاعدة على الشط ،وين يافا أستاز؟ يال انروح عليها ،كانوا يصرخون حولي بينما كنت أنا أتذكر ،فقط أتذكر .قبل النزول للبحر ،اقترح أحد املعلمني أن نصعد إلى جبل قريب يدعى محمية عني جدي ،صعدنا مشياً ،سمعت أصوات ًا هامسة :أستاز ،إحنا جايني منشي؟! يا الله ،نفسي أملس البحر خلينا انروح نلمسه ،ساعات من الصعود املتقطع ،طالب املدارس اليهود ميرون عنا أو منر عنهم نظرات خائفة وتشكيك ومخيالت مزروعة بالقنابل واملوت ،قلت لنفسي :كان ميكن أن تكون الرحالت مشتركة بيننا وبينهم لو أنهم فقط يعترفون أن الشمس تشرق كل يوم .نواصل الصعود ونحن املدرسني جنر أجسادنا القدمية الهثني خلف التالميذ اخلفيفني، وأخير ًا نصل إلى قمة اجلبل بعد أن سبقنا التالميذ ركض ًا إلى هناك ،غير مدركني ما ينتظرنا من مفاجآت ،وفجأة أدركنا متأخرين أننا وقعنا في مصيدة جبل عال بال إمكانية للعودة منه إلى البحر ،إال عبر طريق الصعود نفسها ،وطريق الصعود مخيفة ،فقد تنزلق أجساد التالميذ واملدرسني وتهوي إلى قاع الوادي ،جلسنا على القمة الواسعة والطيور الغريبة حتلّق خلفنا ،كان املدير مرتعب ًا أما التالميذ فكانوا يضحكون فرحني ،املدرسون كانوا مشغولني بالتقاط أنفاسهم ،ولم يقرروا بعد الهلع أو الذهول. أستاز ،يال نرقص رقصة اخلوف من اجلبل ،نهر املدير الطالب املجنون :،إحنا في ايش وأنت في إيش ،وأمام ذهول املدير واملدرسني أشرت ألصدقائي في نادي أصدقاء اجلسد لالستعداد ،كان عددهم عشرين ،أشعلت املوسيقى من هاتفي اخلليوي انتحينا جانباً ،ورحنا نرقص خوفنا وحنيننا إلى الوادي ،إلى البحر، إلى البيوت ،املدير ضحك ،الطالب اآلخرون كانوا يصفقون ،املدرسون كانوا ال مشان الله! محتارين .أستاز ،يال ننزل على البحر ،نفسي أملسه ي ّ
143