(حياة القس حنا قاشا و مصرعه و مذبحة صوريا 16/ايلول/1969 (بانوراما الشهادة

Page 1

‫بانوراما الشهادة‬

‫‪1‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫سليمان ايليا‬ ‫ابو يوسف‬

‫‪2‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫حياة القس حنا قاشا و مصرعه‬ ‫و مذبحة صوريا ‪/16‬ايلول‪1969/‬‬

‫اسم الكتاب‪ :‬حياة القس حنا قاشا و مصرعه‬ ‫و مذبحة صوريا ‪/16‬ايلول‪1969/‬‬ ‫المؤلف‪ :‬ابو يوسف‬ ‫الطبع والتدقيق‪ :‬ابو هيَفا‬ ‫التصميم‪ :‬هيرش مغديد‬ ‫عدد النسخ‪500 :‬‬ ‫المطبعة‪ :‬بينايى‬ ‫رقم االيداع‪502 :‬‬ ‫السنة‪2014 :‬‬ ‫وزارة الثقافة والشباب‬ ‫‪3‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫أقليم كوردستان‪/‬أربيل‬

‫‪4‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫االهداء‬

‫الى روح أبتي الطاهر البار‪ .‬خالي الشهيد القس حنا قاشا‬ ‫وأهل قريته صوريا‪ ،‬و الى كل شهداء البراءة في‬ ‫كوردستان و المقابر الجماعية في العراق بأجمعه‪ .‬نبضة‬ ‫ب يع ّج بالوفاء‬ ‫قل ٍ‬ ‫أبو يوسف‬

‫‪5‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫شكر و تقدير‬

‫اتقدم بجزيل الشكر و التقدير الى السيدة جنان بولص‬ ‫كوركيس على تجشمها عناء مراجعة هذا الكتاب‪ .‬كما اتقدم‬ ‫بشكري الى الشاب القدير ريبين توفيق حكيم‪ ،‬على مثابرته‬ ‫في تنضيد الكتاب اليهما ارفع تحياتي و خالص تمنياتي‪.‬‬

‫‪6‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫المقدمة‬ ‫عزيزتي القارئة – عزيزي القارئ‬ ‫"بانوراما" كلمة أجنبيّة تعني اللوحة المتكاملة وهذا ما‬ ‫قصدت التعبير عنه في هذا الكتاب‪ ،‬عن حياة القس حنّا قاشا‬ ‫واستشهاده الدّرامي الفاجع‪ ،‬هو وأبناء قرية صوريا الذين‬ ‫صليب‬ ‫جاءهم القس ليحتفل واياهم باقامة مراسيم عيد ال ّ‬ ‫مرة على يد القديسة‬ ‫المقدّس‪ ،‬في أيام اكتشافه ألول ّ‬ ‫"هيالنة" أم "قسطنطين" القائد البيزنطي الذي كان يقاتل‬ ‫سماء والى جانبها‬ ‫األعداء‪ ،‬فظهرت له عالمة الصليب في ال ّ‬ ‫كتابة باليونانية تقول‪:‬‬ ‫ "بهذ ِه العالمة انتصر"‪...‬‬‫وبعد انتصاره‪ ،‬ارسل ا ّمهُ الى بيت المقدس‪ ،‬في رحلة‬ ‫الكتشاف الصليب الذي صعد عليه المسيح له المجد‪ .‬فقامت‬ ‫الملكة هيالنة بتدمير معبد افروديت (فينوس) الذي اقامه‬ ‫الرومان الوثنيون فوق مكان الصليب األصلي‪ ،‬وظهر تحت‬ ‫المعبد الصليب الحقيقي‪ ،‬وقد عرفوه من خالل وضعه على‬ ‫جسد ميت‪ ،‬فعادت له الحياة في أعجوبة نادرة‪ .‬ومن ثم‬ ‫قامت هيالنة باشعال النار التي كانت تتوالى اشعالها القرى‬ ‫والدساكر‪ ،‬حتى وصلت الرسالة الى روما‪ .‬وهذا التقليد‬ ‫‪7‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫جرى عليه المسيحيون منذ ذلك الحين‪ ،‬فيقومون باشعال‬ ‫النيران واقامة الصلوات للذكرى‪.‬‬ ‫تحولت صوريا في ذلك اليوم السادس عشر من ايلول‬ ‫لقد ّ‬ ‫‪ 1969‬الى جلجلة معاصرة‪ ،‬قتل فيها خادم المسيح القس‬ ‫حنا قاشا‪ ،‬وشعب قرية صوريا بكل ماتعني كلمة شعب من‬ ‫رجال ونساء وأطفال‪ ،‬قتلوا دون أدنى رحمة يملكها بشري‪.‬‬ ‫سها الدائم‪،‬‬ ‫القس حنّا قاشا لم يكن من أهل القرية‪ ،‬وال حتى ق ّ‬ ‫مر في ذلك اليوم الذي أطفئت فيه الشمس‪ ،‬ليالقي‬ ‫لقد ّ‬ ‫الرجال روحا ً وعقالً‪..‬‬ ‫الموت على يد أشنع األنظمة وأبشع ّ‬ ‫نظام البعث ورجله العسكري المالزم عبد الكريم الجحيشي‪.‬‬ ‫ولكن ماذا نقول لو أن القس حنا لم يذهب الى صوريا في‬ ‫ذلك المصباح‪ ،‬ألي سبب من االسباب؟ هل كان سيعيش ما‬ ‫تبقى من حياته مرتاح الضمير؟ اننا‪ -‬نحن الذين عرفناه‪-‬‬ ‫نجزم بأنه كان سيموت كمدا ً وحزنا ً على الضحايا‪.‬‬ ‫كان القس حنّا سيقول‪:‬‬ ‫ لو انني كنت حاضرا ً بينهم لمنعتُ المذبحة‪.‬‬‫يعول على صحوة الضمير عند‬ ‫هكذا كان القس حنّا قاشا ّ‬ ‫سائر الناس مهما كان دينهم او لونهم او قوميتهم‪.‬‬ ‫االّ أن الحكمة عجزت عن تأدية عملها في ذلك الصباح‬ ‫الدامي‪.‬‬ ‫لم تستطع كلمات القس حنّا الدافقة باإلنسانية والتذكير‬ ‫سهم الزائر غائلة‬ ‫بالرأفة‪ ،‬أن تدفع عن اهل صوريا وعن ق ّ‬ ‫الموت‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫لقد قال احد الخطباء في قدّاس التأبين للقس الشهيد وأهالي‬ ‫صوريا‪:‬‬ ‫ إني أرى اصبع هللا في مثل هذه األحداث‪.‬‬‫ولعلكم بعد االنتهاء من قراءة هذا الكتاب‪ ،‬ستوافقون‬ ‫الخطيب الحكيم على استنتاجه البليغ هذا‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫مدخل‬

‫"وح َدث يوما ً أن نبي أيوب وبناته كانوا يأكلون ويشربون‬ ‫خمرا ً في بيت أخيهم األكبر"‬ ‫فأقبل رسول الى أيوب وقال‪:‬‬ ‫فآنقض بنو‬ ‫"كانت البقر تحرث والحمير ترعى الى جانبها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫سبأ‪.‬‬ ‫وأخذوها وقتلوا الرعيان بحد السيف‪ ،‬ونجوت انا وحدي‬ ‫ألخبرك" ايوب‪13/1‬‬ ‫صباح السادس عشر من ايلول عام ‪، 1969‬إبان حرب‬ ‫البعث الثانية على كوردستان ثاني أيام عيد الصليب‪ ،‬كان‬ ‫القس حنا قاشا يقيم قدّاسا ً لرعيّة قرية صوريا ضيفا ً على‬ ‫القرية‪ .‬انفجر لغم على قافلة عسكرية قرب القرية‪ .‬اقترح‬ ‫مختار القرية على القس ان يهرب الجميع حفاظا ً على‬ ‫األرواح‪ ،‬رأى القس ان يذهب مع المختار لمقابلة قائد‬ ‫القافلة‪ ،‬إلثبات البراءة‪.‬‬ ‫فور مواجهة الطرفين‪ ،‬أخذ الضابط عبد الكريم الجحيشي‬ ‫يسب القس والمختار ومعهم اهل القرية‪ ،‬وأمر ان يجتمع‬ ‫الموجودون في ساحة لألغنام‪..‬‬ ‫سائق سيارة القس كوردي ومسلم‪ ،‬أمره الضابط باالنضمام‬ ‫الى اهل القرية‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫رفع القس يديه الى السماء فأطلق الجحيشي اولى‬ ‫رصاصاته في صدر القس‪ .‬وآنهمر الرصاص مدراراً‪ ،‬لكن‬ ‫الضابط لم يكتف‪ ،‬بل أمر جنوده ان يفتشوا عن االحياء بين‬ ‫جثث الضحايا‪" ،‬رفعت رأسي" يقول الراوي‪" :‬فإذا بجندي‬ ‫يوجه فوهة رشاشته صوبي ويقول بصوت خافت‪ :‬ولّي!‬ ‫فعدت الى وضعي‪ .‬وهكذا نجوت ثانية بفضل يقظة روح‬ ‫الخير في ذلك الجندي‪" ،‬اما كيف نجوت؟" يقول الشيخ‬ ‫ّ‬ ‫المسن‪:‬‬ ‫"ان بناتي الثالث‪ ،‬جعلن من اجسادهن درعا ً بشريا ً وسقطن‬ ‫فوقي تحت زخات الرصاص الكثيف"‬ ‫رواية شيخ مسن التقيته بعد أيام من المذبحة‪ ،‬جاء لتعزية‬ ‫جدتي ألمي والدة القس حنا قاشا‬ ‫يحرفون ال َك ِلم‬ ‫قالوا على قومي ‪ :‬انهم ّ‬ ‫و ان ك ّل كلمة (حرب) قرأوها (سلم)‬ ‫و إذ قال المعلم لهم ‪:‬‬ ‫جئت أللقي سيفاً!‬ ‫القوا سيوفهم ارضا ً‬ ‫و مدّوا االعناق‬ ‫لسيف ال ُ‬ ‫ظلم‬ ‫‪ -1‬س ّميل‬ ‫هي أرض هللا امتدت واسعة‬ ‫يضع اثقالهم في رحابها المتعبون‬ ‫الشيخ و الطفل و مكحالت العيون‬ ‫‪11‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫القوا سالحهم و هم للغفلة طائعون‬ ‫وفتحت جهنم ابوابها‬ ‫و خضبت بالدم راياتها‬ ‫و أطاحت النار بأجوائها‬ ‫و أخلى الوجود ي َده ليد ال َع َدم‬ ‫‪ -2‬صوريا‬ ‫يُقتل البريء مثل طيور الجنة‬ ‫كذلك في مأوى الخراف‬ ‫قتل مع شعبه القاشا حنا‬ ‫"فلنهرب سيدي" قالها المختار‬ ‫"براءتنا تنجينا" أجاب القس فال تحتار‬ ‫لكن الجحيشي غير الكريم يسحب رشاشته‬ ‫الكالشنكوف المغدور بحقد عداوته‬ ‫هيا ايها الكالب تجمعوا افواجا‬ ‫فبغير قتلكم ال تكون راحة‬ ‫صوت يرتفع في البعيد‬ ‫انا سائق كوردي و انا مسلم!‬ ‫ خذ مكانك حيث انت انك منهم!‬‫يرفع القس يديه بالصالة‬ ‫يا رب انت وحدك قادر‬ ‫على صنع المعجزات‬ ‫أبعد الكأس ال عني لكن عن شعبك‬ ‫فتلقى بصدره اولى االطالقات‬ ‫‪12‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫فلتعلم انت ان كنت ال تعلم‬ ‫‪ -3‬سيدة النجاة‬ ‫كنيسة هللا هي ثالثة األثافي‬ ‫في قتلهم كان الدواء الشافي‬ ‫صبّ عليهم الليث جام غضبه‬ ‫فجندل الشيخ المنير في تهجده‬ ‫و لم يشفع للعبد تعبده لسيده‬ ‫فالرحمة غادرت و الغضب ع ّم‬ ‫و عطشت نفو س و الشراب دم‬ ‫النوم‬ ‫فمتى لفجر الحقيقة يصحو ّ‬

‫‪13‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)1‬‬ ‫(مار ياقو)‬

‫هي قرية كانت في أعلى الجبل‪ ،‬ثم صارت فكرة انتقلت الىى‬ ‫السىىهل و سىىارت مىىع مجىىرى النهىىر حتىىى وصىىلت البحىىر‪ ،‬و‬ ‫سافرت عبىر المحىيط الىى اقاصىي األرض‪ ،‬فآنزرعىت علىى‬ ‫الشواطئ‪ ،‬و صعدت الى أعالي الجبىال مىن جديىد و شىمخت‬ ‫باسىىمها الرديىىف‪" :‬شىىانت يىىاقو" كمىىا فىىي مىىدونات الرحالىىة‬ ‫العرب‪ ،‬و "سانت ياغو" ‪ ،‬حسب السكان اإلفرنج فىي عمىوم‬ ‫األمصار و البلدان‪.‬‬ ‫و يعود سبب تأثر الفتى الذي يقوم بروايىة األحىداث‪ ،‬الىى ان‬ ‫البيت الذي كان لىه اكبىر األثىر فىي حياتىه و هىو بيىت جدتىه‪-‬‬ ‫والدة القىس حنىا قاشىا الشىهيد ‪ -‬الىذي لىم يكىن ذكىر مىار يىاقو‬ ‫ينقطع فيه‪ ،‬حتى بات يتصورها الجنة المفقودة او الحلم الذي‬ ‫ال يمكىىىن تحقيقىىىه‪ ،‬و لكىىىن الىىىذي يبقىىىى حيىىىا ً يىىىرى‪ ،‬كمىىىا فىىىي‬ ‫االمثال‪..‬فتصىىىادف ان يكىىىون جىىىاري بعىىىد عقىىىود عتيىىىة مىىىن‬ ‫السنين‪ ،‬رجالً بعمري و هو ماموسىتا (حنىا سىليمان)‪ ،‬ولىد و‬ ‫ترعرع في (مار ياقو) ‪ ،‬جاء ليتحفني بما أحفر بأظافري و‬ ‫اسناني بحثا ً عنىه‪ ،‬و ليىروي ظمىأي الىى معرفىة حقيقىة (مىار‬ ‫ياقو) في الزمان و المكان‪...‬‬ ‫‪14‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(مىىىىار يىىىىاقو) و اسىىىىمها فىىىىي سىىىىجالت الطىىىىابو و االحىىىىوال‬ ‫المدنية(قَشَه فَرو)‪ ،‬و هي تسمية جاءتها من اسم احد الكهنىة‬ ‫الذي خدم القريىة فىي فتىرة مىن الفتىرات‪ ،‬و كىان اسىمه القىس‬ ‫فرنسيس‪.‬‬ ‫اما اسم مار ياقو ‪ ،‬فجاء من اسم الدير (مار يعقوب الرائىي)‬ ‫و الذي بنيت القرية الى جانبه‪ .‬و مىار يعقىوب شىفيع القريىة‪،‬‬ ‫تحتفل بعيده في يوم االثنين بعد عشرين يوما ً من عيد القيامة‬ ‫‪.‬‬ ‫تأسىىس ديىىر مىىار يعقىىوب حىىوالي سىىنة (‪ 664‬م )‪ ،‬علىىى يىىد‬ ‫الراهب ايشوعياب من دير مار ايث االها‪.‬‬ ‫في بيت جدتي كان الحديث يخلط الواقع بأالساطير‪ ،‬فيصور‬ ‫اجدادي ألمي‪ ،‬مثل "شعب طروادة" الذي نىزح بعىد احتىراق‬ ‫المدينة التاريخية‪ ،‬فكان المتحدثون يقولون ‪:‬‬ ‫ان اصلنا هو من قبائل "التياري"‪ ،‬التي نزحت مىن الجبىال‬ ‫العليا في ارارات التي استقرت عليها سفينة نوح النبىي عليىه‬ ‫السالم‪.‬‬ ‫امىىىا الكاتىىىب المىىىدني الشىىىماس "جميىىىل برنىىىادوس اسىىىكندر‬ ‫هومي"‪ ،‬فيقول في تاريخ مار ياقو و عن الدير و الكنيسة ما‬ ‫يلي ‪:‬‬ ‫" َ‬ ‫ظىى ّل الىىىدير عىىىامرا ً الىىىى اواخىىىر القىىىرن ‪ ،14‬حيىىىث هجىىىره‬ ‫رهبانىىه و اصىىابه الخىىراب‪ ،‬و خاصىىة الجهىىة الجنوبيىىة التىىي‬ ‫كانت تشمل غرف (االستقبال و المطبخ و غرفىة الطعىام) ‪،‬‬ ‫‪15‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫امىىىا الكنيسىىىة كانىىىت باقيىىىة حتىىىى سىىىنة (‪1988‬م) عنىىىدما تىىىم‬ ‫تفجيرها من قبل نظام البعث السابق في عمليات االنفال‪.‬‬ ‫ثم يتابع الكاتب الجليل‪:‬‬ ‫" و قامىىت بجانىىب الىىدير قريىىة "مىىار يىىاقو"‪ ،‬سىىكنتها عوائىىل‬ ‫نزحىىت اليهىىا مىىن معلثايىىا‪ ،‬خاصىىة عائلىىة هىىومي و سىىكو و‬ ‫شىىينو‪ ،‬ثىىم سىىكنت القريىىة عوائىىل أخىىرى جىىاءت مىىن مختلىىف‬ ‫المناطق الجبلية ال مجال هنا لذكرها مع اعتزازي بها جميعا ً‬ ‫"‪.‬‬ ‫فهىىل تكىىون عائلىىة اجىىدادي "ال قاشىىا" مىىن العوائىىل التىىي ال‬ ‫مجال لذكرها ؟ و بهذا لعلى اكون امسىكت بىأول الخىيط عىن‬ ‫ار منها جدي يعقوب ‪ ،‬و هذا هو اسىمه ‪،‬‬ ‫تلك العائلة التي لم َ‬ ‫و كل ما نسج حول شخصيته مىن قصىص تأخىذ باأللبىاب‪ ،‬و‬ ‫منهىىا‪ :‬ان اعمىىام أمىىي (بطىىرس و يوسىىف و ميخىىو)‪ ،‬كىىانوا‬ ‫يىىذهبون بصىىحبة جىىدي لجنىىي العسىىل مىىن فىىوق قمىىم الجبىىال‬ ‫العاليىىىة ‪ ،‬فكىىىانوا يلفىىىون حىىىول خصىىىره حىىىبالً و يحمىىىل معىىىه‬ ‫صفيحة و سكين ‪ ،‬فيدلونه من اعلى الجبىل الىى حيىث يسىكن‬ ‫النحىىل فىىي المغىىاور‪ ،‬فيقىىوم باشىىعال النىىار الحىىداث الىىدخان‬ ‫فيهرب النحل‪ ،‬و يقوم هىو بقطىع (شىانات) العسىل و يضىعها‬ ‫في الصفيحة و يرسلها عن طريق الحبل الى األعلى‪.‬‬ ‫اعىىود الىىى مدونىىة الكاتىىب الشىىماس (هىىومي) ليكىىون التىىاريخ‬ ‫ثابتىىىاً‪ ،‬فىىىنحن كلنىىىا مسىىىؤولون عىىىن المصىىىداقية و ال يجىىىوز‬ ‫االجتهىاد‪ .‬كىىان جميىع سىىكان القريىة نسىىاطرة يتبعىون كنيسىىة‬ ‫المشىىىرق النسىىىطورية‪ ،‬عنىىىدما حىىىل بيىىىنهم األب كامبىىىانيللي‬ ‫‪16‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫الدومنيكي اإليطالي مبشرا ً بالكثلكة ‪ ،‬و حلّهم من "الهرطقة"‬ ‫النسىىطورية ‪ -‬حسىىب تعبيىىر ذلىىك الزمىىان‪ -‬و ذلىىك فىىي سىىنة‬ ‫(‪1810‬م)‪ ،‬و اعادهم الى حضن الكنيسىة الكاثوليكيىة ‪ .‬و قىد‬ ‫اشتهر من قسس القرية‪ :‬الخوري يونان توما بيداويذ و القس‬ ‫جبرائيل سليمان و القس يوسف توما و القس حنا قاشىا الىذي‬ ‫استشهد في صوريا ‪1969‬م‪.‬‬ ‫بسىىاتين و كىىروم و مجىىاري ميىىاه عذبىىة ‪ ،‬تلىىك كانىىت قىىرى‬ ‫المسيحيين عموماً‪ ،‬و لهذا جذبت اليها اطمىاع القىوى التىي ال‬ ‫تحب الجمال من كل مكان‪ .‬ففي كىل دور كانىت تىأتي موجىة‬ ‫تقوم بتخريبها ‪ ،‬و ياليت انهم يسكنونها‪ .‬فان مار يىاقو ‪ -‬كمىا‬ ‫يتحىىدث ماموسىىتا حنىىا ‪ -‬هىىي االن عبىىارة عىىن بقايىىا ديىىر‪ ،‬امىىا‬ ‫الكنيسة فقد محيت من الوجود نهائياً‪ .‬اهتم االبىاء الىدومنيكان‬ ‫بالبنية التحتية للقريىة‪ ،‬فشىيدوا لهىم مدرسىة سىنة ‪1851‬م مىع‬ ‫قسم داخلي يستقبل التالميذ القادمين من القرى البعيدة ‪ ،‬امىا‬ ‫الراهبات الدومنيكيات‪ ،‬فانصرفن الى التعليم و تثقيف النساء‬ ‫و ارشادهن‪.‬‬ ‫كما كان هناك لآلباء مستوصف منذ سنة ‪ 1857‬م‪ ،‬يسىتقبل‬ ‫المرضى من مختلف األديان ‪ ،‬و منهم تعلم جدّي الكثيىر مىن‬ ‫االمور الطبية البسيطة‪ ،‬و لما كان التلقيح ضىد الجىدري هىي‬ ‫المهنىىة المعمىىول بهىىا فىىي ذلىىك الزمىىان ‪ ،‬اصىىبح جىىدي ملقح ىا ً‬ ‫جواالً حتى وفاته اوائل األربعينيات من القرن العشىرين ‪ ،‬و‬ ‫لىىىم يشىىىهد رسىىىامة ابنىىىه الكبيىىىر القىىىس حنىىىا التىىىي تمىىىت سىىىنة‬ ‫‪1943‬م‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫امىىا مىىا آلىىت اليىىه القريىىة فىىي آخىىر ايامهىىا مىىن احىىداث‪ ،‬فيقىىول‬ ‫الشماس هومي‪:‬‬ ‫" تىىم تىىرك الىىدير نهائي ىا ً سىىنة ‪1961‬م بسىىبب احىىداث الثىىورة‬ ‫الكوردية‪ ،‬و هاجر اهالي القرية و كانوا ‪ 45‬بيتا ً ‪.‬‬ ‫و تم تفجير دير مار يعقىوب ايضىا ً و مىا تبقىى مىن القريىة‪ ،‬و‬ ‫لىىىىم يسىىىىلم مىىىىن تخريىىىىب الحاقىىىىدين حتىىىىى ضىىىىريح اآلبىىىىاء‬ ‫الدومنيكان"‪.‬‬ ‫درة الجبىىل االبىىيض الىىذي تقىىع الىىى جانبىىه دهىىوك‬ ‫مىىار يىىاقو ّ‬ ‫عاصىمة السىىهول المعطىاءة كسىىهلي (السىليفاني و السىىندي) ‪،‬‬ ‫مار ياقو ترتفع عن مسىتوى سىطح البحىر (‪)930‬م‪ ،‬بجمالهىا‬ ‫الذي ال تشبع منه العىين ابىداً‪ ،‬كمىا يقىول الىذين رؤوهىا‪ ،‬هىي‬ ‫الفكرة التىي عشىناها و نبقىى نعيشىها و ننقلهىا الىى االوالد و‬ ‫االحفاد‪ ،‬ليبقى المكان خالدا ً في العقىول و االفكىار مهمىا يمىر‬ ‫الزمان‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪) 2‬‬ ‫التّياري‬

‫إن الذي يقرأ حالة هؤالء القوم‪ ،‬قد ال يجد لهىم اشىباها ً علىى‬ ‫وجه األرض قاطبةً‪ ،‬في الشدة و الشراسة في حفظ الذِمار‪.‬‬ ‫انهم مثل اشجار الحور و السنديان‪ ،‬و اسىبندار الجبىال‪ ،‬انهىم‬ ‫السىىادة الفعليىىون ألمىىاكن تواجىىدهم‪ ،‬المحىىافظون علىىى البقىىاع‬ ‫التي ولدتهم‪.‬‬ ‫موطنهم طىول الجبىال وعرضىها‪ ،‬يصىعب اختىراق صىفوفهم‬ ‫ص ّوان األصم‪ ،‬و مثل ذوبان المعادن التىي‬ ‫صعوبة اختراق ال ُ‬ ‫تقىىذفها حمىىم البىىراكين الدائمىىة األوار– قىىذفت الحيىىاة بىىبعض‬ ‫مىن صىفوفهم مىن عىرائنهم العاليىة الىى قمىم أقىل علىواً‪ .‬لكىن‬ ‫تلك العملية لم تنل من شكيمتهم‪ ،‬و شدة بأسهم‪.‬‬ ‫التيىىىاري الىىىذي وصىىىل الىىىى مدينىىىة الموصىىىل أوائىىىل القىىىرن‬ ‫صىىحبة االرسىىالية الدومنيكيىىة‪ ،‬و آرتىىبط بهىىا هىىو‬ ‫العشىىرين ِب ُ‬ ‫جىىدي ألمىىي " يىىاقو" و اسىىمه فىىي سىىجالت النفىىوس يعقىىوب‬ ‫يونىىان قاشىىا‪ ،‬و ال احىىد يعىىرف عىىن يونىىان مىىا يكشىىف عىىن‬ ‫موطنه االصلي‪ ،‬اال اسمه الملحمىي الىذي يىذكر بىالنبي الىذي‬ ‫ِف بىىه حي ىا ً ليكمىىل‬ ‫مكىىث ثالثىىة ايىىام فىىي بطىىن الحىىوت‪ ،‬ثىىم قُىذ َ‬ ‫‪19‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫رسالته الى اهل نينوى بأن يتوبوا‪ ،‬لئال يقضي عليهم غضب‬ ‫هللا كما قضى على أهل الطوفان من قبل‪.‬‬ ‫مدينىىة الموصىىل هىىي وجىىه نينىىوى القديمىىة‪ ،‬و تشىىكل مركىىز‬ ‫جىب فىي ذلىك‪ ،‬فهىي مىدينتهم‬ ‫جذب لألصول اآلشىورية‪ ،‬ال َع َ‬ ‫الغىىابرة و الىىدم يحىىن دائم ىا ً الىىى اصىىله‪ ،‬فيهىىا التقىىى يعقىىوب‬ ‫التيىىىاري بحسىىىينة كىىىاكوز ابنىىىة السىىىهل النينىىىوي القادمىىىة مىىىن‬ ‫تلكيىىف‪ ،‬إحىىدى اكبىىر و اجمىىل حواضىىر سىىهل نينىىوى‪ ،‬الىىذي‬ ‫يأوي ابناء شىعب نينىوى منىذ سىقوط مىدينتهم سىنة ‪ 612‬قبىل‬ ‫المىىيالد‪ ،‬وهىىم الورثىىة التىىاريخيون و االبنىىاء المتوالىىدون م ىن‬ ‫ذلىىك الشىىعب منىىذ بدئىىه و حتىىى اليىىوم‪ ،‬و لقىىد تحىىدث اسىىتاذ‬ ‫مصري أزهري الثقافة متخصص باللغة اآلرامية‪ ،‬زار قرى‬ ‫سهل نينوى فقال بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫"لقىىد غمرنىىي فىىرح عظىىيم و أنىىا اسىىتمع الىىى هىىؤالء النىىاس‬ ‫يتكلمىىون اللغىىة االراميىىة العريقىىة نفسىىها‪ ،‬كمىىا درسىىتها فىىي‬ ‫صت فيها حتى حصلت على الدكتوراه"‪..‬‬ ‫المانيا و تخص ّ‬ ‫ان ارتبىىىاط يىىىاقو التيىىىاري بزوجتىىىه الموصىىىلية‪ ،‬افقىىىد اوالده‬ ‫ارتباطهم بلغىة اآلبىاء و االجىداد (السىريانية)‪ .‬ذلىك الن ابنىاء‬ ‫سىىىهل نينىىىوى و بناتهىىىا يتركىىىون لغىىىتهم األم‪ ،‬و يسىىىتبدلونها‬ ‫بالعربيىة بسىىبب نشىأتهم فىىي المدينىة‪ ،‬فينشىىؤون علىى العربيىىة‬ ‫تكلما ً و دراسةً‪.‬‬ ‫أما اكثر ما نغّص علىى الفتىى تصىوراته عىن جىده‪ ،‬هىو عىدم‬ ‫وجود صورة او أثر للجد العتيد‪.‬‬

‫‪20‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اعمام أمه الثالثة‪ ،‬قُيّض له ان يراهم رؤية العىين‪ ،‬فآنطبعىت‬ ‫في ذهنه مالمحهم الفوالذية‪ ،‬و ذكاؤهم الفطىري الىذي ينبثىق‬ ‫مىىىن احىىىداق عيىىىونهم‪ .‬ان كىىىالً مىىىن االخىىىوة االربعىىىة( يىىىاقو‪،‬‬ ‫يوسف‪ ،‬بطىرس‪ ،‬و ميخىو) انجىب ولىدا ً علىى االقىل يشىار لىه‬ ‫بالبنىىىىان‪ .‬األك الكبيىىىىر (يوسىىىىف) الىىىىذي يشىىىىبه شخصىىىىية‬ ‫برجوازيىىة مثقفىىة دائىىم االبتسىىام‪ ،‬و عينىىاه الىىذكيتان تخترقىىان‬ ‫زجاج نظارتين شفافتين ال يمكن للمىرء ان ينسىاهما‪ ،‬أنجىب‬ ‫(كوركيس) الذي َد َرس الكهنوت و لم يكمل رسالته‪ ،‬فأصىبح‬ ‫محاسىىىبا ً مشىىىهورا ً لىىىدى اسىىىواق اوروزدي بىىىاك فىىىي بغىىىداد‬ ‫العاصمة‪.‬‬ ‫أما (بطرس) االك الثاني‪ ،‬فعاش في المدينة و كأنىه مىا يىزال‬ ‫يعىىيش فىىي الجبىىال‪ ،‬اتخىىذ مىىن بيىىع الفحىىم مهنىىة‪ ،‬ليبقىىى علىىى‬ ‫ارتباط برائحته النفاذة ‪ .‬كان فحاما ً ال يكل‪ ،‬يجلس امىام بىاب‬ ‫دكانىىه و ينظىىر الىىى البعيىىد و كأنىىه يسىىتعيد ايامىىه حىىين كىىان‬ ‫يُحضر االخشاب مع اخوتىه‪ ،‬و يرصىفونها فىي كومىة جبىارة‬ ‫و يرطبونهىىا و يشىىعلون فيهىىا نىىارا ً هادئىىة‪ ،‬فينفىىذ الىىدخان فيهىىا‬ ‫ايامىا ً حتىىى تتحىىول الىىى فحىىم‪ ،‬كىىان يشىىرح لنىىا قصىىة تحضىىير‬ ‫الفحم بشوق عظيم‪ .‬اما ولده المميز فهو (كامل) الذي اصىبح‬ ‫شىىيوعيا ً مرموقىىاً‪ ،‬مىىارس نضىىاله ضىىد العهىىد الملكىىي بعنىىاد‬ ‫منقطع النظير‪.‬‬ ‫و (ميخو) االك الثالث‪ ،‬انجب (يونس) الذي التحىق بصىفوف‬ ‫الثورة الكوردية‪ ،‬و برز (بيشمركة) مقىاتالً عىرف بشىجاعت ِه‬ ‫القصىىوى‪ ،‬و شىىهد لىىه الىىذين عرفىىوه‪ ،‬انىىه مىىن بىىين المقىىاتلين‬ ‫االشوريين األصالء في صفوف الثورة الكوردية‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اما جدي (ياقو) أخوهم الرابع‪ ،‬فكان بيته منىارة ً للثقافىة‪ ،‬فىإن‬ ‫زوجتىىه المتعلمىىة (حسىىينة كىىاكوز) زودت اوالدهىىا و بناتهىىا‬ ‫بثقافة اولية‪ ،‬فنشؤوا كلهم متعلمين‪ ،‬و اكثىرهم تىرك الدراسىة‬ ‫بسبب وفاة جدي المبكرة‪ ،‬إال ان االبىن البكىر "حنىا" اسىتمر‬ ‫فىىىي دراسىىىته فىىىي "السىىىيمينير"‪ ،‬و هىىىو معهىىىد مىىىار يوحنىىىا‬ ‫الحبيب‪ ،‬حتى أنهىى دراسىته و رسىم كاهنىاً‪ ،‬قىدم اروع مثىال‬ ‫للكاهن األديب‪ ،‬الفليسوف – كمىا سىنرى فيمىا بعىد ‪ -‬و حتىى‬ ‫استشىىهاده الىىدرامي فىىي (صىىوريا)‪ ،‬القريىىة الشىىهيدة‪ .‬التيىىاري‬ ‫عنصر ثمين ذائب‪ ،‬إنحدر من الجبال و سار بين األخاديىد و‬ ‫ُ‬ ‫الوهىىىاد‪ ،‬لقّىىىح العناصىىىر الخامىىىدة و بعىىىث فيهىىىا نسىىىغ الىىىروح‬ ‫الوثابة‪ ،‬و التياري ياقو‪ ،‬و لو أنه تىوفي فىي وقىت مبكىر جىدا ً‬ ‫عن اخوته‪ ،‬اال انه ترك اثرا ً بقىي حيىاً‪ ،‬و لىيس ابلىغ مىن ولىد‬ ‫صالح يتركه امرؤ بعد انتقاله الى عالم الخلود‪..‬‬

‫‪22‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)3‬‬ ‫السمينير‬

‫االب يوسف اومي (بالمالبس البيضاء) ملهم الشهيد القس‬ ‫حنا قاشا و مدير معهد ماريوحنا الحبيب لمدة ‪ 30‬سنة‬ ‫‪23‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫القنصلية البلجيكية ‪ ،‬القصادة ‪ ،‬بيتالقاصد‪ ،‬السيمينير ‪ ،‬معهد‬ ‫مار يوحنا الحبيب ‪ ،‬هذه كلها اسماء الصرح العظيم الذي‬ ‫يربض في قلب مدينة الموصل‪ ،‬قريبا ً من تقاطع الساعة‪ ،‬و‬ ‫الساعة هي احدى رموز المدينة جلبها الفرنسيون المرسلون‬ ‫ابّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫هذا البناء بجدرانه الشاهقة كجدران سجن التي تشير الى أنه‬ ‫كان مركزا ً حكوميا ً عثمانيا ً في عهد من العهود‪ ،‬ثم اصبح‬ ‫من امالك ال الجلبي حسب بعض الروايات‪ .‬و تحول الى‬ ‫امالك اإلرسالية الدومنيكية الفرنساوية مع بضعة أبنية‬ ‫مجاورة من ضمنها روضة و مدرسة ابتدائية‪ ،‬و الى جانبها‬ ‫كنيسة القديس عبداالحد – كنيسة الدومنيكان ‪ -‬المعروفة‬ ‫بمكتبتها و مطبعتها األولى في المدينة‪،‬و كانت مطبعة‬ ‫حجرية في اول األمر‪ ،‬حيث اخرجت – المطبعة الدومنيكية‬ ‫ عشرات الكتب التي خدمت الثقافة و الدين‪ ،‬و المعرفة‬‫عموماً‪.‬‬ ‫و كما في مختلف البقاع التي يعلو فيها صوت التسامح على‬ ‫االختالف‪ ،‬قام البناء الى جانب جامع يغور عميقا ً في قلب‬ ‫األرض هو جامع "الرابعية"‪ ،‬المنسوب الى المتصوفة‬ ‫العربية األشهر"رابعة العدوية"‪ ،‬مما جعل المكان يعج‬ ‫بالروح الحميد من كل الجوانب‪ ،‬و الجامع الكبير هو اآلخر‬ ‫مشيد على منخفض من األرض‪ ،‬حيث ان بناءه مع قبته و‬ ‫حتى اعلى الهالل ال يصالن الى ارتفاع جدران بيت‬ ‫القاصد‪ ،‬مما يدفع الزائر لذلك المكان من خالل المقارنة‬ ‫‪24‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫الى معرفه كم هي عتيقة مدينة الموصل‪ ،‬و فيها هذا الجامع‬ ‫و مثله كنيسة مار احودامة‪ ،‬و هي االخرى تغور بعيدا ً في‬ ‫اعماق المدينة القديمة‪.‬و لدخول المبنى و اإلطالع على ما‬ ‫كان عليه يوما ً ما‪ ،‬عندما كان القس حنا قاشا الشهيد‬ ‫تلميذاًفيه‪ ،‬استعنت بصديقي الشماس نوئيل الطباك‪ ،‬و قمنا‬ ‫بزيارة الى بيت الكهنة المالصق لكنيسة مار يوسف في‬ ‫عنكاوا‪،‬لمقابلة األبين المباركين (البير ابونا و فرنسيس‬ ‫شير)من خريجي معهد مار يوحنا الحبيب‪ ،‬فكان لقاء يشفي‬ ‫غلة كتمت في الصدر منذ زمن‪.‬‬ ‫ تريد ان تكتب عن صوريا؟ قال األب البير ابونا‪ ..‬لقد‬‫ب الكثير عنها‪ ،‬منه الدقيق الصحيح و اآلخر ال صحة له‪،‬‬ ‫ُكتِ َ‬ ‫مثل اكتشافعظام القس حنا بين ضحايا المقابر الجماعية‬ ‫لشهداء صوريا‪ ،‬بينما جسد القس مدفون بكامله في كنيسة‬ ‫مار كوركيس في زاخو ‪.‬‬ ‫ اجل يا أبتِ‪ ،‬فلقد حضرت الدفنة و قد جلب جثة القس‬‫بعد ثالثة ايام من المذبحة أحد السائقين‪ ،‬و اردنا ان نجلبها‬ ‫الى الموصل االّ ان المطران عمانوئيل ددّي‪ ،‬يرحمه هللا‪،‬‬ ‫قال بالحرف الواحد‪( :‬اوالدي استروا علينا‪ ..‬ادفنوه في‬ ‫زاخو‪..‬و سأعمل له قداسا ً و جنازا ً هنا في الموصل‪ ..‬كان‬ ‫الرجل خائفاً‪ ،‬و هذا ديدن االنسان الذي يأخذ االمور )تُقية(‬ ‫خوف بطش االقوياء‪.‬‬ ‫ و لكن يا ابت‪ ،‬قلت لألب البير‪ ،‬انا عندما اكتب عن‬‫القس حنا‪ ،‬انما اكتب عن قطعة من لحمي‪ ،‬فلقد كان الشهيد‬ ‫‪25‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫خالي و أخو أمي من اب وام‪ ،‬و عندما اكتب عنه فأنني‬ ‫اسدد بعض الدين للذي كان له الفضل في تعليمي و ثقافتي‪،‬‬ ‫و اسأل هللا ان يعينني في مسعاي هذا‪.‬‬ ‫ هكذا اذن‪ ،‬اجاب األب المبارك البير ابونا‪،‬فليوفقك هللا‬‫أر ِبك‪ ،‬يقول الراوي االب البير ابونا‪:‬‬ ‫و دونك ما تريد من َ‬ ‫ رافقت القس حنا قاشا لعدة سنوات في معهد مار يوحنا‬‫الحبيب‪ ،‬لكن القس تخرج قبلي عام ‪ 1943‬هو و االب‬ ‫يوسف شليطا‪ ،‬اما انا فقد تخرجت عام ‪ ،1951‬و كان القس‬ ‫حنا محبوبا ً من اساتذته و خاصةً مدير المعهد االب يوسف‬ ‫اومي الفرنسي‪ ،‬و هو مديره منذ عام ‪ 1932‬و حتى وفاته‬ ‫في سن متأخرة‪.‬‬ ‫ و لن انسى‪ ،‬يتابع البير ابونا‪ ،‬صدمته و وجومه عندما‬‫سمع بخبر مقتل تلميذه القس حنا قاشا‪ ،‬و امتناعه عن الكالم‬ ‫لئال يبوح لنا بالسر الذي عرفه‪،‬ألنه كان يعرف ان اهل‬ ‫قرية صوريا الشهيدةهم من اقربائي‪ ،‬فكتم األلم في نفسه‬ ‫حتى شيوع الخبر‪ ،‬لقد كنت في تلك الفترة منذ عام ‪،1969‬‬ ‫أدرس في المعهد بعد ان تخرجت منه منذ زمن‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫درسوا في المعهد أذكر بعضا ً‬ ‫ و من الذين‬‫ّ‬ ‫منهم‪،‬اآلباء‪:‬بستونا – فيليات‪ ،‬و باتري توما‪ ،‬ومن العراقيين‬ ‫االستاذ ادور حراق مدرس العربية رحمه هللا‪.‬‬ ‫اما االب فرنسيس شير ‪ ،‬و هو االخر درس في المعهد و‬ ‫كان مديره لالعوام من ‪ 1985- 1974‬فيقول‪:‬‬ ‫‪26‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ افتتح المعهد عام ‪ ،1878‬و مدة الدراسة فيه اثنتا‬‫عشرة سنة‪ .‬يقبل التالميذ بعد تخرجهم من الصف السادس‬ ‫االبتدائي‪..‬‬ ‫ و كيف حال الدراسة فيه؟ يقولون انها صارمة‪..‬‬‫يضحك االب و يتابع‪:‬‬ ‫ صارمة ‪ ،‬نعم‪ .‬و بعد االسبوع االول من الدوام على‬‫الطالب ان يتكلم الفرنسية‪.‬‬ ‫ كيف! يا الهي ابهذه السرعة؟‬‫ اجل‪ ،‬يجيب االب شير‪ ،‬و ال مجال للتسامح في هذا‬‫الخصوص‪.‬‬ ‫ و هل كان هناك (شيطنة) من قبل التالميذ؟‬‫يضحك المتحدثان الوقوران لهذا السؤال ‪..‬‬ ‫ اجل‪ ،‬انهم فتيان يخوضون تجربة جديدة‪ ،‬عليهم ان‬‫يتهيأوا لتقبل اسرار جسيمة‪.‬‬ ‫لقد سمعت االب جبرائيل جرخي‪ ،‬رحمه هللا‪ ،‬انه كان‬ ‫يمارس التدخين تحت الفراش تهربا ً من مالحظة المراقبين!‪.‬‬ ‫ لقد كان الكثيرون يدخنون‪ ،‬يقولها االب البير مع ابتسامة‪..‬‬‫ و اذكر ايضاً‪ ،‬يقول االب فرنسيس شير‪ ،‬ان الذين يدخلون‬‫المعهد كانوا كثيرين‪ ،‬فقد وصل عددهم الى مائة و واحد في‬ ‫بعض الدورات‪ .‬لكن الذين يتخرجون يكونون اما اثنين او‬ ‫ثالثة او واحد في بعض االحيان!‪.‬‬ ‫اما نهاية معهد مار يوحنا الحبيب‪ ،‬ففيها يقول االب شير‪:‬‬ ‫‪27‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ كنت مدير المعهد للسنوات من ‪ 1974‬الى ‪ .1985‬و‬‫بناء على مشورة المهندس "فريد مطلوب" الذي قرر ان‬ ‫منطقة المطبخ و غرف النوم تهالكت بسبب نضوح الماء‪،‬‬ ‫اغلق المعهد بقرار من مجلس المطارنة مع السفير الباباوي‬ ‫في ‪.1985-5-28‬و البناء اآلن ملجأ يشغله المهاجرون من‬ ‫بقاع مختلفة‪ ،‬و مازالت جدرانه تضم في داخلها الكنيستين و‬ ‫قاعة االستقبال‪ ،‬و غرف الطعام و المطبخ الذي اشتهر‬ ‫بأكالته الشهية من فرنسية و محلية‪ ،‬و ترددت في ارجائه‬ ‫اصوات العراك بين العم لويس كبير الطباخين و جدتي‬ ‫حسينة كاكوز التي كانت تنافسه على رئاسة المطبخ‪ ،‬مما‬ ‫وفر الكثير من الضحك و المواقف النادرة في تلك األجواء‬ ‫من المحبة و فيوض الروح‪ .‬ان المسيحيين و اهل المدينة‬ ‫عموما ً لن ينسوا اسماء قساوسة افذاذ مثال لمطران الشهيد‬ ‫ادي شير و المطران اوجين منا و المطران اسطفان جبري‬ ‫و من بعدهم القساوسة اسطفان زكريا‪ ،‬هرمز حنا‪،‬ادور‬ ‫بيكوما يوسف رفو البوعه‪ -‬ابو التعليم المسيحي للكبار‪ -‬و‬ ‫الكبيران الشامخان البير ابونا و فرنسيس شير‪ .‬اما عنكاوا‬ ‫الحبيبة فلقد كرز فيها القس حنا قاشا يوم الجمعة العظيمة‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)4‬‬ ‫قرة ولّة‬

‫كان لتعهد الوالد – ياقو يونان قاشا‪ -‬بأن ولده التلميذ في‬ ‫المعهد الكهنوتي – معهد مار يوحنا الحبيب‪ -‬لن يخدم اذا ما‬ ‫تخرج و أصبح كاهنا ً إال في االعالي ( و يقصد الجبال التي‬ ‫ّ‬ ‫نزحوا منها)‪ .‬عليه كان تعيين القس الجديد – األب حنا‬ ‫قاشا‪ -‬في قرية قرةولّة‪ ،‬و هي أول قرية تلي قضاء زاخو‬ ‫باتجاه المغيب‪ ،‬و ليس بينها و بين التراب التركي اال نهر‬ ‫الخابور و هو اكبر فرعي دجلة اللذين يلتقيان عند قرية‬ ‫فيشخابور عند المثلث العراقي‪ -‬التركي‪ -‬السوري‪.‬‬ ‫لم يضيع القس الشاب وقته حتى يتأقلم كليا ً مع محيطه‬ ‫الجديد و حياة لم يعشها ابداً‪ ،‬ألن مولده كان في المدينة و‬ ‫تربى في مدارسها و نهض بقوته وشبابه في معهدها ذي‬ ‫الطراز الفرنسي بالكامل في التعليم و المعيشة‪.‬‬ ‫فور وصوله الى قرية (قرةولة) بادر القس حنا قاشا الى‬ ‫بناء كنيسته و بيته على قطعة كبيرة من االرض تقع في‬ ‫الجهة الشرقية من القرية‪ ،‬فتمر عليها نسائم النهر في‬ ‫الصباح و تداعبها ريح الجبل الخفيفة اثناء المساء و الليل‪،‬‬ ‫كان البيت و الكنيسة كالهما مبنيان باللبن‪ -‬الطين المنظوم‬ ‫و المجفف تحت الشمس – و الطين‪ ،‬و سقفهما من الخشب‬ ‫المأخوذ من جذوع اشجار االسبندار و شقلها و المغطى‬ ‫بالقصب و الطين‪ .‬و كانت "المندرة" على السطح‪ ،‬و هي‬ ‫‪29‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫حجرة اسطوانية كبيرة تُدحرج لسد الشقوق في سقف البناء‬ ‫الطيني ايام المطر‪.‬‬ ‫كانت غرفة القس جميلة و نظيفة‪ ،‬و الى مسافة قريبة منها‬ ‫تقع اماكن منتظمة للبط و الدجاج و األوز العراقي الجميل‬ ‫المعروف محليا ً باسم "القاز"‪.‬‬ ‫و لكن القس الشاب يملك خزينا ً هائالً من الفكر و الوقت‪،‬‬ ‫فهل يكتمه او يضيعه؟‬ ‫لم يتأخر االب حنا عن فتح مدرسة لمحو االمية في كنيسته‪،‬‬ ‫و كذلك لتعليم االطفال القراءة و الكتابة‪ ،‬النه لم تكن توجد‬ ‫مدرسة في القرية‪.‬‬ ‫تدرب القس على المعالجات الطبية‬ ‫و في الوقت نفسه ّ‬ ‫البسيطة و اقتنى االدوية الالزمة لمثل تلك الحاالت‪ ،‬فما لبث‬ ‫ان وجد نفسه طبيب القرية و معلمها و قسها في آن واحد‪.‬‬ ‫و ايضا ً من المآثر التي تحكى عنه انه سمع في ليلة شتائية‬ ‫ان جثة رجل مجهول تقبع في العراء قرب الجبل‪،‬‬ ‫فاصطحب رجالً متوحدا ً اسمه شمعونكي‪ ،‬و ذهبا سوية في‬ ‫الليل و تحت المطر و جلبا الجثة الى الكنيسة‪ ،‬فغسلها‬ ‫بمعونة شمعونكي الصياد و كفّنها ثم دفناها قرب القرية‪ ،‬و‬ ‫ظل القبر حتى االخير يحمل اسم "المجهول"‪.‬‬ ‫اول زيارة للفتى لقرية خاله "قرةولة" كانت بعيدة في‬ ‫الطفولة‪ ،‬حيث قطع مع والده و شلة من المسافرين مسافات‬ ‫طويلة – كما بدت لصبي صغير في حينها‪ -‬سيرا ً على‬ ‫األقدام‪ ،‬لوعورة الطريق و خطورة ركوب السيارة‪ ،‬كانوا‬ ‫‪30‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫خاللها يركبون سيارة الجيب عندما يكون الطريق صالحاً‪.‬‬ ‫فنال من الصبي التعب الشديد لم ينساه طيلة حياته‪.‬‬ ‫الزيارة الثانية كانت في عمر اكبر‪ ،‬فاستمتع في التعرف‬ ‫على القرية و خزن الكثير من الذكريات عنها‪ ،‬و امتع ما‬ ‫فيها كان النهر‪ ،‬فكان يسبح فيه و يقطعه و يصل الى الجانب‬ ‫االخر فيهتف فرحاً‪:‬‬ ‫ لقد عبرت الحدود‪ ..‬انا االن في تركيا!‬‫و لكنه في احد األيام تلقى تأنيبا ً من زوجة خاله التي كان‬ ‫يرافقها في تلك السفرة الطويلة الى قرةولة‪ .‬ذلك انه عاد‬ ‫من السباحة في النهر فوجدها مع الخادمة المرأة الكبيرة و‬ ‫التي كانت تعتبر والدة القس الثانية (االم ريحاني)‪ ،‬تقومان‬ ‫بنتف الريش عن إوزة‪ ،‬عراقية كبيرة (قازة)‪ ،‬فيظهر اللحم‬ ‫الجميل للطائر بعد نتف الريش عنه‪ ،‬و التأنيب لم يكن الن‬ ‫الفتى يقضي معظم وقته في النهر و لكن‪:‬‬ ‫ كيف لم تتعرف على الذي ضرب هذه القازة بالحصاة‬‫حتى قتلها؟‬ ‫فكان جواب الفتى متلعثما مرتبكاً‪ ،‬لكنه في داخله كان يطير‬ ‫من الفرح لموت القازة‪ ،‬النه هذه المرة سيتذوق لحم األوز‬ ‫اللذيذ‪ ،‬الن القس كان يحرم المساس باويزاته العزيزات‪.‬‬ ‫كانت للقس حنا جولة عصرية على بيوت القرية كلها ال‬ ‫يستثني منها أحداً‪ ،‬يجلس لبعض الوقت في كل بيت‪ ،‬و‬ ‫خاللها يتفقد الحاالت المرضية لألطفال و لكبار السن‪ .‬و‬ ‫كان الفتى يصاحب خاله في تلك الجوالت‪ .‬و كان القس‬ ‫‪31‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫يضع بين شفتيه سيكارة يأخذها من اول بيت يزوره‪ .‬و كان‬ ‫ال يشعل تلك السيكارة ابداً‪ ،‬فهو لم يكن يدخن لسنين كثيرة‬ ‫في بداية حياته‪.‬‬ ‫"الورزة" من اجمل بقاع الدنيا‪ ،‬و هي الغابة القريبة التابعة‬ ‫لقرية "قرةولة"‪ ،‬لكن الغابة كانت تضم بساتين كثيرة‬ ‫لزراعة الرقي فهي غابة مختلطة‪ ،‬و إلى جانب البساتين‬ ‫كانت قطعان الجواميس الكثيرة تجوب الغابة و تسبح في‬ ‫تجمعات الماء فيها‪ ،‬فكنا نستمتع بوافر االلبان و الزبد‬ ‫الطبيعي الذي كان يقدمه اهل القرية لفطور قسهم الصباحي‪.‬‬ ‫الطابع الرئيس لبيت القس حنا كان اكرام الضيف‪ ،‬و لما‬ ‫كانت القرية ال تحتوي نزالً او فندقاً‪ ،‬فكان الغرباء ينامون‬ ‫في اماكن خاصة في بيت القس‪ ،‬و ال ينسى الفتى منظر‬ ‫عابر سبيل نزل بيت ضيافة القس‪ ،‬وعند المغرب جاؤوا له‬ ‫بابريق فتوضأ و صلى صالته قريبا ً جدا ً من موقع هيكل‬ ‫الكنيسة‪ ،‬فأكبر الفتى في خاله تلك الروح المتسامحة و‬ ‫التي ال تفرق بين الناس في طرائقهم المختلفة في العبادة‪.‬‬ ‫و عند قيام ثورة ايلول الكوردية عام ‪ ،1961‬ازداد عدد‬ ‫الضيوف الذين يؤمون بيت القس‪ ،‬و صارت له صداقات‬ ‫مع قياداتهم مما لفت اليه عيون السلطات‪ ،‬و هذا ما سنتناوله‬ ‫في الفصول القادمة‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)5‬‬ ‫الصيف‬

‫اتخذ القس حنا قاشا لنفس ِه عطلة‪ ،‬عادة ً ما تكون في فصل‬ ‫الصيف‪ ،‬و كان يزجي ايامها في بيت والدته الذي يضم‬ ‫باالضافة اليها‪ ،‬اخوته جميل و جبرائيل‪ ،‬و عزيز‪ .‬و اخواته‬ ‫ماري و جينا بعد زواج االخت الكبرى جليلة‪.‬‬ ‫و كان البيت أحد بيوت الموصل القديمة‪ ،‬مالكته أرملة‬ ‫تدعى "اسومة" تسكن غرفةً هي العلية الوحيدة في الطابق‬ ‫الثاني‪ .‬و كانت المالكة تفرض نظامها على البيت كله‪ .‬و‬ ‫تشارك اهله في المطبخ‪ .‬وضعت اصصا ً كثيرة و جميلة‬ ‫بأزهارها المختلفة األلوان و اتخذت من البراميل القديمة‬ ‫يتوسطها زير كبير ناله كسر بسيط‪ ،‬مشاتل لشجيرات‬ ‫"الف ّل" االبيض الذي كانت رائحته تواجه الداخل الى البيت‬ ‫فور ولوجه الباب الرئيسي‪ .‬و كانت السيدة تعتبر ان ازهار‬ ‫َ‬ ‫"الفل" ملكا ً لها فتدخل بسببها في مشاجرات مع كل من‬ ‫يحاول ان يقطف االزهار لغرض الزينة او الهدائها الى‬ ‫األحبة و االقارب‪.‬‬ ‫إنضم الفتى الى العائلة الكبيرة الخواله عند دخول ِه الصف‬ ‫االول االبتدائي‪ .‬وهو ابن االخت الكبرى للقس حنا‪ .‬و كانت‬ ‫بصحبة زوجها المزارع في البيت الريفي الذي ال توجد‬ ‫قربه مدرسة‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫كانت اكبر غرف البيت تستعمل لالستقبال نهاراً‪ ،‬و في‬ ‫الليل ينام فيها اكثر افراد العائلة‪ ،‬قسم ينام على االرائك‪ ،‬و‬ ‫الباقي يفترشون االرض‪ .‬فإذا قام احدهم في الليل لحاجة‪،‬‬ ‫كان عليه أن يتأنى جيدا ً حتى ال يدوس على بطن أحد‬ ‫النائمين على االرض و كانت هذه حال اغلب العوائل التي‬ ‫تسكن بيوت الموصل القديمة‪ .‬و تعيش دون المتوسط في‬ ‫مستوى المعيشة‪.‬‬ ‫كان القس يواجه طلبات كثيرة ايام العطلة‪ ،‬و أول مسألة‬ ‫واجهته هي زواج اكبر اخوته الذي يليه في البيت فكان يدفع‬ ‫بما يتيسر له توفيره و كذلك من السنين السابقة‪ ،‬لشراء‬ ‫مستلزمات العرس‪ .‬و لقد أتكا هذا االك كليا ً على القس في‬ ‫توسيع مشاريعه و ترك عمله االساسي المتعب في النجارة‪،‬‬ ‫و توجه الى الزراعة‪ .‬كل ذلك بمساعدة القس‪.‬‬ ‫و فيما بعد قام االب حنا بمساعدة باقي اخوته و اخواته بكل‬ ‫ما يملك من مال‪ .‬و كان لسان حاله يقول‪:‬‬ ‫الرب‬ ‫‪ :‬انا قس و ال احتاج الى المال‪ ،‬لي قوت يومي و ّ‬‫يتكفل بالقادم من االيام‪..‬‬ ‫لم يدخر و لم يوفر اي مبلغ للمستقبل‪ ،‬و لما احتاج يوما ً لم‬ ‫يجد من يقف الى جانبه من احد‪.‬‬ ‫نعود الى غرفة االستقبال و هي الغرفة االكثر ترتيبا ً في‬ ‫البيت‪ ،‬في النهار طبعا ً و كانت تفضي من احدى زواياها‬ ‫الى سرداب تحتفظ به العائلة بالمؤونه و هي عبارة عن‬ ‫مشتقات الحنطة و مسلوقها من البرغل و احجامه المختلفة‪.‬‬ ‫‪34‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫و ال َحبية و الرشتة‪ .‬و كلها تستعمل في صنع االكالت‬ ‫الموصلية المعروفة‪ ،‬و اهم ما في السرداب كانت قناني‬ ‫شراب النبيذ‪" -‬الواين"‪ ،‬و على رأسها الشراب الفرنسي‬ ‫المعروف ‪ ،‬الكونياك‪.‬‬ ‫استقبل القس حنا قاشا على مدى حياته الكثير من الوجوه‬ ‫الدينية و الثقافية في البلد‪ .‬في تلك الغرفة‪.‬‬ ‫و من ألمع الرجال الذين كان يستقبلهم هو األب يوسف‬ ‫اومي‪،‬رئيس معهد مار يوحنا الحبيب ذي النظام الفرنسي‬ ‫العريق‪.‬‬ ‫يقول الفتى‪:‬‬ ‫كنت اقوم بتقديم القهوة لضيوف خالي القس ثم انسحب الى‬ ‫زاوية الغرفة‪ ،‬فاستمع الى االحاديث‪ .‬و اصغي اليها جيدا ً‬ ‫فتعلمت كثيرا ً عن الدين و الفلسفة‪ ،‬عن االنشقاقات الدينية‪،‬‬ ‫و االجتهادات الفلسفية‪ ،‬و عرفت لماذا يجمد رجال الدين‬ ‫امام امر ما‪ .‬ال يقرونَهُ في دواخلهم كزواج القس مثالً‪ .‬في‬ ‫ظل بابوية اصولية على ايام الحبر االعظم البابا بيوس‬ ‫الثاني عشر‪ ،‬الذي حظر النقاش و سد باب االجتهاد حتى‬ ‫جاء وريثه‪ ،‬ففتح االبواب و غير االحوال‪ ،‬و البابا الجديد‬ ‫هو الحبر األعظم يوحنا الثالث و العشرين‪.‬‬ ‫اال ان الصعوبة التي الزمت الفتى كانت عدم فهمه اللغة‬ ‫الفرنسية‪ ،‬فحين يحضر اآلباء الدومنيكان يتحول الحديث‬ ‫الى تلك اللغة‪ .‬و لكن حين يحتدم النقاش‪ ،‬يوحي للفتى ان‬ ‫القضية على درجة من االهمية‪ .‬و هي مثار خالف‪ ،‬فكان‬ ‫‪35‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫يعجب ّ‬ ‫الن القوم يختلفون على قضايا تعتبر من المقدسات‬ ‫بالنسبة للعامة من الناس‪.‬‬ ‫كل هذا عمل على تفتّح ذهنية الفتى ووقوفه على مبدأ الشك‪،‬‬ ‫فامتلك من ذلك المجلس القابلية على مناقشة االفكار و‬ ‫االشياء‪ .‬و هو يدين الى اليوم لذلك المجلس بأنه كان‬ ‫مدرسته االولى الى التفكير السليم‪.‬‬ ‫صورة ظلت عالقة في ذهن الفتى‪ .‬يوم كان خاله القس حنا‬ ‫داخالً في نقاش في احدى الجلسات فرأى أن القس يرتجف‬ ‫و تصطك اسنانه و تخرج الكلمات متسارعة من فمه‬ ‫مقرونة بالعصبية و االنفعال‪.‬‬ ‫كان القس يبدو و كأنه يوبخ الجماعة على امور لم يكن‬ ‫يقبلها‪ ،‬و الكل ساكتون و هم في ضيافته و لكن لم يستطع‬ ‫على عواطفه صبراً‪.‬‬ ‫اختلس الفتى نظرة الى وجه خاله و صوته الهادر و انتقل‬ ‫بأخرى الى وجه االب يوسف أومي‪ .‬و كان االخير يبدو‬ ‫غائصا ً في التفكير‪ ،‬و عيناه مغمضتان دليل التفكير العميق‪.‬‬ ‫ال يعلم حتى اليوم لماذا ذهب بتفكيره الى ان سبب انفعال‬ ‫خاله هو تعرضه للحياة الجنسية لرجال الدين‪ .‬لقد بدأ القس‬ ‫الشاب صارما ً‪ ،‬و كان يأخذ على زمالئه من مختلف‬ ‫االعمار اي تساهل في هذا المجال‪ .‬و لعل هذه هي اول‬ ‫مالمح الفكر االكويني لديه‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫كان الصيف جميالً و مفيدا ً و ممتعاً‪ ،‬يزينه القس حنا بهامته‬ ‫و جلساته حتى كان صيف ذهب فيه القس ليصطدم‬ ‫بالوحشية بأعلى صورها‪ ،‬و لم يعد الى احبائه بعد‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫‪38‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)6‬‬ ‫القس حنّا قاشا والقديس توما االكويني‬

‫طرا ْ‬ ‫إن في مشرق االرض أو في‬ ‫يكاد ال يوجد في الناس ّ‬ ‫ب‬ ‫مغاربها شخص أحبّ القديس توما االكويني‬ ‫ّ‬ ‫وتشر َ‬ ‫بمبادئه‪ ،‬وتمث ّ َل أفكاره‪ .‬وآستخر َج منها مايفيد الحياة ويغنيها‪.‬‬ ‫مثل القس حنّا قاشا الذي َو َج َد نفسه في قرية نائية تع ّج‬ ‫باألميين والبسطاء من الفالّحين الفقراء‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ولكن من هو توما االكويني؟‬ ‫إنّه الفيلسوف‪ -‬القديس‪ -‬المف ّكر الذي أرسى اصول الفلسفة‬ ‫سية"‪ ،‬ليس في الكنيسة الكاثوليكية فحسب‪.‬‬ ‫السكوالئية "المدر ّ‬ ‫بل في المسيحية كلها وملخص فلسفته التي اخذها عن‬ ‫أرسطو اإلغريقي‪ -‬أنها تستند الى مبدأ العلل األربعة الذي‬ ‫يقول بأن العالم نشأ من علل أربع هي‪:‬‬ ‫علّة صورية‪ -‬علّة مادية‪ -‬علّة فاعلة‪ ،‬وعلّة غائية‪ .‬وهذا هو‬ ‫مذهب الخلق األرسطي‪ -‬نسبة الى ارسطو طاليس‪ .‬وقد‬ ‫سحه (جعله مسيحيا ً)‬ ‫أخذه القديس توما اإلكويني وع ّم َده وم ّ‬ ‫نسبة الى السيد المسيح له المجد‪.‬‬ ‫ولكي نفهم شخصية القس الشهيد حنّا قاشا الب ّد لنا ان نمر‬ ‫بعض الشيء على سيرة شفيعه القديس اإلكويني‪ ،‬الذي‬ ‫عاش بين (‪1274 -1225‬م) قديس‪ .‬راهب دومينكاني‪ُ ،‬و ِل َد‬ ‫في ايطاليا‪ .‬و َعلّ َم في جامعة باريس‪ .‬معلم الكنيسة وحجت ّها‬ ‫في الالهوت‪ .‬والفلسفة المدرسية‪ّ .‬‬ ‫إطل َع على آراء ابن سينا‬ ‫والغزالي وابن رشد‪ -‬ما يزال هؤالء الفالسفة الثالثة ت ُ ّدرس‬ ‫نظرياتهم في الجامعات المسيحية ويأخذ القسس اعلى‬ ‫الشهادات فيها‪ ..‬وعن طريق الترجمات الالتينية درس‬ ‫االكويني تلك النظريات وانتقدها‪.‬‬ ‫من مؤلفات القديس توما العديدة‪ :‬الخالصة الالهوتية‪.‬‬ ‫والخالصة ضد االمم‪.‬‬ ‫وحصل القديس على لقبه من المكان الذي ولد فيه –‬ ‫اكويناس‪ -‬بمعنى الصخرة‪ .‬وتربّى تربية عسكرية صارمة‬ ‫‪40‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫في أول حياته نقل اصولها الى أنظمة الكنيسة‪ .‬وظلّت‬ ‫الكنيسة تحت سطوة أفكاره قرابة سبعمائة عام‪ .‬حتى جاءت‬ ‫الدّراسات الالهوتية الحديثة‪ .‬واطروحات الالهوت‬ ‫المعاصر‪ .‬ثم من بعد ِه الهوت التحرير‪ ،‬فن ُحيّت جانبا ً معظم‬ ‫اطروحات القديس توما‪ .‬لكن القس حنّا قاشا بقي صامدا ً‬ ‫متمسكا ً بحذافيرها‪ .‬وكان يلوم أقرانه من القسس المحدثين‬ ‫على خروجهم على الفلسفة األصولية الرشيدة لشفيعه‬ ‫االكويني‪.‬‬

‫يقول الراوي‬ ‫سعي في شرح فلسفة االكويني‪ .‬فَشرع في تأليف‬ ‫أخذه ال ّ‬ ‫توفر عليه القديس‪.‬‬ ‫كتابه المخطوط عن كامل النتاج الذي‬ ‫ّ‬ ‫واستغرق هذا الجهد الثمين سنين طواالً من عمر القس‪.‬‬ ‫ولقد عثرت عليه بعد مدّة من استشهادِه ورحت اقلبه لكن‬ ‫َجدّتي رحمها هللا‪ -‬وكانت حيّة ترزق‪ .‬جذبته ووضعته الى‬ ‫مرة اخرى‪.‬‬ ‫جانبها فلم تقع عليه عيناي ّ‬ ‫ومرة حاولت مع األب المرحوم يوسف حبّي ان استخرج‬ ‫ّ‬ ‫الكتاب من عاصرةِ الذين يضمونهُ‪ .‬فذهبتُ واياه الى بيت‬ ‫امه حيث مكتبتِ ِه‪ ،‬للتفاوض حول سحب المخطوط‪ .‬وان نقوم‬ ‫ببيع بعضا ً من محتويات المكتبة لنصرفها على طبعه‪ -‬لكن‬ ‫لم نقع له على أثر‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ومازلت أمنّي النفس بأن يرى ذلك المخطوط النّور ليطلع‬ ‫الناس على عمق وعظمة الفكر التحليلي للقس الشهيد حنّا‬ ‫قاشا‪ .‬أ ّما التأثيرات الشخصية والحياتية للقديس توما‬ ‫االكويني على سلوكية القس الشهيد فكانت كبيرة جدّا‪.‬‬ ‫كان القس يتسم بطبيعة هادئة ظاهرة للعيان تخفي تحتها‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪ .‬وما‬ ‫عصبية هائلة وثورة عارمة في الدّفاع عن فلسفة‬ ‫السيكارة المطفأة التي كان يضعها بين شفتيه األ للسيطرة‬ ‫سة ناضجة طيبة الوقع على‬ ‫س ِل َ‬ ‫على أفكاره حتى يخرجها َ‬ ‫السامعين‪.‬‬ ‫يقول القس حنّا عن شفيعه اإلكويني‪:‬‬ ‫كان القديس توما يلقي ُخ َ‬ ‫طب ِه على جماهير غفيرة‪ ،‬ويعتقد‬ ‫القديس ّ‬ ‫ان هذا الحشد الهائل الذي يصغي الي ِه سوف يصيبهُ‬ ‫بالغرور!‬ ‫فكان بعد انتهائ ِه من القاء خطبت ِه يختلى مع خادمه وينزع‬ ‫قميصه‪ .‬ويأمر الخادم بأن يجلده على ظهره حتى يطفر الدم‬ ‫سوط كل ذلك حتى يشعر بالضعة‬ ‫من تحت ضربات ال ّ‬ ‫والمهانة فال يغتر وال يتعالى فأية عظم ٍة اكبر من هذ ِه؟‬ ‫وال أعلم هل كان القس حنّا يحذو َح ْذ َو استاذه في ممارسة‬ ‫ت حتى ولو بصورة معنويَة تيمنا ً بشفيع ِه وقدوت ِه‬ ‫َجلَد الذّا ِ‬ ‫القديس توما‪.‬‬ ‫مرة كنت مع جدّتي بعد استشهاد ولدها وفلذةِ كبدها القس‬ ‫ّ‬ ‫حنّا‪ .‬وكانت تحمل ثقل سنين كثيرة‪ .‬ووزن يفوق المعهود‬ ‫‪42‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫تراكم في جسدها المتعب رغما ً عنها‪ ،‬اال انه لم يؤثر على‬ ‫عينيها الذكيتين وفكرها الوقاد فأخبرتني باالتي‪:‬‬ ‫مرة بعد ان‬ ‫كان خالك‪ -‬تقصد القس حنّا‪ -‬قبل سفر ِه ك ّل ّ‬ ‫ت عام‬ ‫أزداد الخطر في عمل ِه اثر الثورة الكردية التي انطلق ِ‬ ‫‪ .1961‬كان يفتعل المشادّة معي قبل أن يسافر حتى و ان‬ ‫مرة‪ -‬تقول الجدّة‪ -‬عن‬ ‫كان بدون اي سبب يذكر‪ .‬ولما سألته ّ‬ ‫تصرفه ذاك اجاب قائالً‪:‬‬ ‫ي‪ .‬فأنا ال‬ ‫ ال اريدك ان تحبيني‪ .‬يجب ان يقسو‬‫ِ‬ ‫قلبك علَ ّ‬ ‫مرة اخرى ام ال؟‬ ‫أعلم هل سأعود اليك ّ‬ ‫وما هذا التصرف من القس الشهيد حنّا قاشا مع والدته‬ ‫حسب اعتقادي األ من تأثيرات فلسفة اإلكويني عليه‪.‬‬ ‫رف القس حنّا‪ ،‬وليس أ ّمه وحدها كان يبكيه‬ ‫ولكن كل من َع َ‬ ‫كلما خطرت ذكراه على البال‪.‬‬

‫(‪)7‬‬ ‫ظهور النبي في الديرابون‬

‫شهدت القرى المسيحية اواخر العهد الملكي‪ ،‬اياما ً من‬ ‫األمان و االستقرار‪ ،‬كانت األكثر جذبا ً للزوار و الضيوف‬ ‫من مختلف األرجاء و من سائر الطوائف و األديان‪ ،‬ينعم‬ ‫هؤالء بالحليب و اللبن و الجبن و القشطة التي ينتجها‬ ‫‪43‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫األهالي و يقدمونها بكل كرم و ضيافة‪ .‬باإلضافةإلى اللحوم‬ ‫المقددة و المدخنة و من سائر األنواع‪ ،‬و يمتعون أنظارهم‪-‬‬ ‫الزوار – بمرأى بساتينها العامرة‪ .‬لما للسكان المسيحيين‬ ‫من نشاط و دأب و حب األرض و االستزراع فيها‪.‬‬ ‫وقرية ديرابون التي ارتبط اسم القس حنا قاشا باسمها في‬ ‫بعض سنين خدمته الكهنوتية‪ ،‬هي احدى الحواضر العامرة‪.‬‬ ‫انعم هللا سبحانه عليها بعين ماء دافق يخرج من كهف كبير‬ ‫بقوة و عنفوان ‪ ،‬يتسع للسباحة مثل نهر صغير‪ .‬و قامت‬ ‫على الماء بساتين عدة‪ ،‬اما الزائد فيذهب إلرواء االهالي مع‬ ‫مواشيهم و بساتينهم في القرى المجاورة التي تقع في‬ ‫حوضه الفسيح‪ .‬اما مالمح الجمال و الهدوء اللذان تبثهما‬ ‫فلسفة السالم المنبثقة عن الديانة المسيحية السمحاء‪ ،‬فكانا‬ ‫مبعث سرور و نعمة مضافتين الى الخير العميم الذي توفره‬ ‫االرض المعطاء‪.‬‬ ‫و تشاء الظروف ان يصاحب تعيين القس حنا قاشا في‬ ‫قريةقرةولة كما اسلفنا‪ ،‬ان يعين زميله الذي تخرج معه في‬ ‫العام نفسه االب يوسف‪ ،‬قسا ً على ديرابون‪ ،‬و كان القس‬ ‫يوسف ابنا ً للقرية نفسها‪.‬‬ ‫اما (ديرابون) فهي القرية المجاورة لـ(فيشخابور) القرية‬ ‫المعروفة بانها رأس المثلث الحدودي(العراقي‪ ،‬التركي‪،‬‬ ‫السوري)‪ .‬كانت الحياة تسير جميلة‪ ،‬رائعة في المنطقة كلها‬ ‫حتى جاء عام ‪ ،1957‬الذي سبق ثورة الرابع عشر من‬ ‫‪44‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫تموز عام ‪ ،1958‬التي قضت على الملكية و اقامت الحكم‬ ‫الجمهوري في العراق‪.‬‬ ‫في ذلك العام الذي سبق عام الثورة‪ ،‬ظهر صوت ارتفع في‬ ‫االرجاء يقول‪:‬‬ ‫"توبوا فإن الزلزلة قادمة!"‪..‬‬ ‫كان هذا صوت االب يوسف قس الديرابون‪ ،‬الذي ادعى‬ ‫ايضا ً ان المسيح نفسه يقابله في الكنيسة‪ ،‬او في محيطها‪.‬‬ ‫و لما كان العراق يعيش اوضاعا ً ساكنة‪،‬يعشش تحتها فقر‬ ‫مدقع مع وجود الثروات الهائلة التي يتمتع بها البلد‪ .‬هذا‬ ‫الوضع جعل من ادعاء النبوة من قبل القس يوسف مقبوالً‪،‬‬ ‫و محط جذب للمؤمنين‪ ،‬فتوافدت الجموع من اصقاع‬ ‫العراق كلها‪ .‬ابتدا ًء من البصرة في اقصى الجنوب الى‬ ‫الحدود التركية‪-‬العراقية‪-‬السورية حيث تقع ديرابون‪.‬‬ ‫صت القرية بالوافدين من مختلف االديان‪ ،‬الذين اتخذوا‬ ‫َغ ّ‬ ‫االرض فراشاً‪ ،‬و السماء لحافا ً لهم‪ ،‬يحيطون بنبيهم‬ ‫المحبوب‪.‬و الحق فإن خطب القس يوسف كانت تلقى اعجابا ً‬ ‫شديدا ً لدى سامعيه‪ .‬و شاعت عنه اعاجيب و شفاءات كثيرة‬ ‫صنعها‪ ،‬فتوجه العميان‪ ،‬و البرصان‪ ،‬و المجذومين الى‬ ‫ديرابون لالستشفاء‪ ،‬و قيل ان القس شفى كثيرين من‬ ‫امراضهم المزمنة‪ .‬يقول الذين قابلوا القس المتنبي‪" :‬ادعى‬ ‫القس ان السيد المسيح (له المجد)‪ ،‬يظهر له في كل ليلة"‪ ،‬و‬ ‫من احد ادعاءاته‪:‬‬ ‫‪45‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ لقد ظهر المسيح لي هنا‪ ،‬و احتضنني‪ ،‬و قال لي‪ :‬أنت‬‫النبي!‬ ‫ مثل هذه االحاديث و غيرها انتشرت عن القس و ادت‬‫الى تعلق الكثيرين و اعتقادهم بصحة ادعاءاته‪.‬‬ ‫ كان القس حنا قاشا في وقتها يقضي عطلته في‬‫الموصل‪ ،‬و كانت اخبار زميله تصله باستمرار‪ ،‬فكان‬ ‫يصمت و يتأمل‪ ،‬فال تعلم هل هو آسف على ما يحدث‪ ،‬ام‬ ‫انه يرثي لصديقه تلك الحال‪ .‬المهم انه لم يكن مرتاحا ً قط‬ ‫للوضع الجديد‪.‬‬ ‫ يقول الراوي‪:‬‬‫ كان لي عم طاعن في السن يسكن مدينة البصرة‬‫البعيدة‪ ،‬جيء به الى الموصل قصد التوجه لمقابلة النبي‬ ‫الجديد‪ ،‬عله يشفى على يديه من مرض مزمن في عينيه‬ ‫يعيقه عن االبصار الكامل‪.‬‬ ‫ و لكن هذا العم لم يتزحزح عن مدينة الموصل‪ .‬فان‬‫بقاءه فيها لمدة طويلة لم يوفقه الى تحقيق مبتغاه‪ ،‬الن‬ ‫المسألة انتهت و عاد النبي قساًمعتادا ً الى كنيسته‪ ،‬بعد انتهاء‬ ‫الفورة و عودة االمور الى سابق عهدها‪.‬‬ ‫ التقيت القس يوسف قبيل وفاته ‪-‬رحمه هللا‪ -‬و كان‬‫يبدو صحيحا ً نشيطاً‪ ،‬يضع رجالً فوق رجل اثناء جلوسه‪ ،‬و‬ ‫لكن ال يكف عن هز رجله بشكل متسارع‪ ،‬و االبتسامة ال‬ ‫تفارق شفتيه‪ .‬و كان مضيفنا احد ابناء منطقته يعيش مع‬ ‫‪46‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫زوجته الشابة‪ .‬و كان االثنان متزوجين حديثاً‪ ،‬نقل القس‬ ‫نظره بيني و بين المرأة الشابة و سألني‪:‬‬ ‫ هل انت متزوج؟‬‫ فأجبته بالنفي‪ ،‬فقال القس الظريف لي‪:‬‬‫ لماذا ال تبحث لك عن امرأة مثل هذه؟‬‫ و اشار الى زوجة مضيفنا‪.‬‬‫ عند ذاك علمت مدى الذوق السليم عند االب يوسف‪.‬‬‫ و غير هذا و ذاك‪ ،‬توالت اخبار القس الذي ادعى‬‫النبوة متقطعة عبر السنين‪ ،‬حتى جاءني في هذه االيام‪ ،‬اكثر‬ ‫من خمسين عاما ً على االحداث‪ ،‬رجل من اهالي فيشخابور‪،‬‬ ‫و كان عارفا ً باالمور‪ :‬انه كانت للقس اخت جميلة‪ ،‬استهدفها‬ ‫مالك القرية الثري و المسنود من قبل الدولة‪ ،‬و لما علم‬ ‫القس بنوايا المالك الشريرة‪ ،‬و لم يكن يملك سالحا ً يوازي‬ ‫قوة خصمه‪ ،‬ثارت ثائرته‪ ،‬فوصل الى ما وصل اليه من‬ ‫ادعاء للنبوة‪ ،‬و ظهور المسيح ليعيد االمور الى نصابها!‪.‬‬

‫(‪)8‬‬ ‫‪47‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫القس في ديرابون‬

‫شاءت الظروف أن ينتقل القس حنا قاشا من قريته االولى‬ ‫التي خدم فيها إبانَ شبابه و ردحا ً من كهولته الى قرية‬ ‫ديرابون بسكانها الكثيرين‪ .‬و موقعها المهم‪ ،‬فهي ظهير‬ ‫فيشخابور‪ ،‬و كنيستها مركز لكنائس القرى التي تمتد على‬ ‫طول النهر من اقصى الشمال نزوالً الى الجنوب حتى قرية‬ ‫صوريا بالقرب من مفرق زاخو – ديرابون‪ ،‬و تغطى سهل‬ ‫السندي بأجمعه‪.‬‬ ‫واصبحت ديرابون مركزا ً للقس حنا قاشا ينطلق منه الى‬ ‫الكنائس كافة في المنطقة‪ .‬فيصلي و يقيم قداديسه في كل‬ ‫قرية من قراها على حسب ايام معينة من ايام االسبوع‪.‬‬ ‫فتفر َ‬ ‫غ للقراءة‪ ،‬وأقتنى في تلك‬ ‫و َح َد القس راحةً في القرية‪ّ ،‬‬ ‫الفترة كتبا ً كثيرة في الفلسفة و الالهوت و التاريخ زخرت‬ ‫بها مكتبته العامرة اصالً بالكتب في مختلف المجاالت حتى‬ ‫تلك التي ال تتوافق محتوياتها مع افكار القس و توجهاته‬ ‫الدينية‪.‬‬ ‫و لقد تعلق القس بوجه خاص بالشاعر الجاهلي عصرا ً‪-‬‬ ‫المسيحي دينا ً اال و هو امرؤ القيس‪ ،‬الملك الضليل‪ ،‬صاحب‬ ‫المعلقة المشهورة و التي مطلعها‪:‬‬ ‫قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل‬ ‫بسقط اللوى بين الدخول فحوم ِل‬

‫‪48‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫و اخذ يجمع المؤلفات التي كتبت حول الشاعر و القصيدة‪،‬‬ ‫و يدرسها بعمق حتى اخبرني مرة‪ ،‬و اخبر المهتمين باالدب‬ ‫بانه مزمع على تأليف كتابه عن امرئ القيس‪.‬‬ ‫كان خبرا ً مفرحا ً و رائعا ً ان يقوم القس الزاهد بالكتابة عن‬ ‫الشاعر الذي قضى حياته متعلقا ً بأهداب الحياة و الخمرة و‬ ‫الحب‪.‬‬ ‫لم يكن مشروع الكتابة في الشعر غريبا ً على القس حنا قاشا‬ ‫فهو نفسه يملك القريحة والموهبة و لقد نظم الكثير من‬ ‫القصائد‪ ،‬اطلعني على احدها حين كان يقوم بنظمها ايام‬ ‫العطلة في الموصل‪ .‬و كانت قصيدة ترحيب و تهنئة‬ ‫للمطران الجديد يوسف بابانا‪ ،‬الذي نصب مطرانا ً على‬ ‫زاخو في الوقت الذي كان القس حنا نفسه يرغب في هذا‬ ‫المنصب‪ ،‬و هذا ما سنتحدث عنه الحقاً‪.‬‬ ‫كانت قصيدة من الشعر العمودي مملوءة بالحكمة و‬ ‫الموعظة و الكالم البليغ‪ .‬لكن تلك القصيدة و غيرها من‬ ‫اخواتها الكثيرات لم تر النور مثل كتابيه العتيدين‪ ،‬االول‬ ‫ذلك الذي كان عن القديس توما االكويني كما اسلفنا‪ ،‬و‬ ‫االخر الذي شرع في تأليفه لكن وافته المنية على يد الضابط‬ ‫البعثي البغيض‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إن اشد ما يحزنني الى هذا اليوم هو ما آلت اليه مكتبه‬ ‫القس حنا قاشا‪ ،‬فانا شهدت كيفية تصنيعها عند النجار‪ .‬و‬ ‫االحتفال الكبير يوم جلبها إلى البيت و تصنيف الكتب‪ ،‬و‬

‫‪49‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫تصفيفها على الرفوف التي تفوح منها رائحة الخشب و‬ ‫االسبيرتو‪.‬‬ ‫لكن بعد موته عبثت بها االيادي فأخذ احد اقربائه المنجد و‬ ‫طار به الى غير رجعة‪ ،‬و استعار احد القسس معجم البلدان‬ ‫لياقوت الحموي بأجزائِ ِه المتعددة و ندرته الفائقة‪ ،‬و لم يعد‬ ‫ذلك كتاب النادر الى مكانه في مكتبة القس حنا قاشا ابدا ً‪.‬‬ ‫و نقلت باقي الكتب الى بيت ابن اخيه "اردوان" الذي‬ ‫استشهد على يد االرهابيين في الموصل‪ ،‬فلم يعد للمكتبة اثر‬ ‫يذكر(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬وصلني الحقا ً ان ما تبقى من مكتبة القس حنا قاشا قد‬ ‫نقل الى مكتبة السيمينر او االباء الدومنيكان‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)9‬‬ ‫ثورة أيلول ‪1961‬‬

‫ال يستطيع اي باحث في تاريخ العراق الحديث ان ينكر ما‬ ‫وقع على الكورد من الحيف و الظلم من نصيب يفوق الذي‬ ‫نال من عموم الشعب العراقي‪ .‬ففي كتابه "الحركة القومية‬ ‫الكوردية في كوردستان العراق" يورد شيرزاد زكريا احمد‬ ‫ما يأتي اقتباسا ً عن ُكتّاب آخرين‪:‬‬ ‫" ان التخلف الذي كانت كوردستان العراق تعاني منه في‬ ‫المجاالت كافة‪ ،‬و الحالة البائسة التي كان عليها الشعب‬ ‫الكوردي رغم غنى كوردستان بالثروات الطبيعية‪ ،‬يرجع‬ ‫سببه الى سياسة التمييز التي كانت تمارسها الحكومات‬ ‫العراقية في العهد الملكي‪ ،‬اقتباس عن ماجد عبدالرضا‪،‬‬ ‫المسألة القومية الكوردية في العراق ‪.1975-1958‬‬ ‫و هذا اقتباس آخر عن رئيس الوزراء العراقي السابق‬ ‫عبدالرحمن البزاز عن وضع السكان الكورد في نهاية العهد‬ ‫الملكي عن كتابه "صفحات من االمس القريب‪ ..‬ثورة‬ ‫االكراد‪..‬هل كانت حتمية؟"‬ ‫"‪....‬كان الفقر واضحا ً على مالمح القرويين‪ .‬و كانت‬ ‫األسمال التي يغطون أجسامهم بها تنم عن الحاجة الشديدة‪.‬‬ ‫و كانت وسائل الفالحة البدائية التي يستعملونها تذكرنا‬ ‫بالقرون الخالية"‪.‬‬ ‫و جاء الرد الطبيعي على كل هذا التاريخ الطويل من هضم‬ ‫الحقوق و التمييز الفاضح‪ -‬يوم ‪ 16‬ايلول ‪ 1961‬عندما‬ ‫‪51‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اعلن البارزاني الخالد‪ ،‬انطالق الثورة الكوردية بعد‬ ‫تحرشات و مضايقات السلطات المحلية للكورد في مناطقهم‬ ‫التاريخية‪.‬‬ ‫و لقد حظيت الثورة الكوردية و منذ انطالقتها االولى‪ ،‬بتأييد‬ ‫و حب ابناء العراق جميعاً‪ ،‬النهم كانوا في اشتياق شديد الى‬ ‫الحرية و الديمقراطية اللتين افتقدتهما ثورة ‪ 14‬تموز‬ ‫‪ 1958‬بفعل التآمر عليها‪ ،‬و بفعل تذبذب الزعيم الشهيد‬ ‫عبدالكريم قاسم بين مختلف القوى و محاولته الفاشلة اليجاد‬ ‫التوازن المطلوب‪ ،‬فآنتهى الى استشهاده المأساوي و الى‬ ‫سقوط جمهورية ‪ 14‬تموز ‪ 1958‬تحت اقدام البعثيين‬ ‫الفاشيست و معهم باقي القوى الحاقدة على كل قيم الثورة و‬ ‫الحرية و االنعتاق‪.‬‬ ‫لم تستطع ثورة تموز الجبارة التي أزالت الملكية ان توفر‬ ‫الخبز و الحرية الالزمين للبقاء و االستمرار و النمو‪ .‬فبدأ‬ ‫التململ الحقيقي لكل الشرائح المظلومة التي بدأت تتساءل‬ ‫عن جدوى الشعارات و الوعود البراقة التي ما تلبث ان‬ ‫تذهب ادراج الرياح‪.‬‬ ‫و في السياق نفسه‪ ،‬نفذ صبر الكورد على جمود االوضاع‬ ‫و حاالت التخلف و االهمال الموروثة من العهد السابق‪.‬‬ ‫فآنطلقت شرارة الثورة االولى من ربوع بارزان و امتدت‬ ‫الى كوردستان كلها‪ .‬و اخذت رقعة المساحات المحررة‬ ‫تزداد يوما ً بعد يوم‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫تفاقم الوضع االمني و السياسي و اإلقتصادي في المنطقة‪،‬‬ ‫فلم يعد بإمكان قوى الشرطة مواجهة الحركة المسلحة‬ ‫للثوار الكورد‪ ،‬فاستعانت حكومة المركز بالجيش‪ ،‬و بهذا‬ ‫اصبحت الحرب حقيقية ضد الشعب الكوردي و عموم‬ ‫سكان كوردستان‪ ،‬فامتدت الحرائق الى القرى اآلمنة‪،‬‬ ‫فالتهمت األخضر و اليابس‪ ،‬و ُ‬ ‫ش ِ ّر َد األهالي المسالمون بما‬ ‫فيهم المسيحيون‪ ،‬فاستقبلت المدن العراقية الكبرى مثل بغداد‬ ‫و الموصل و البصرة مئات العوائل التي دمرت قراها‬ ‫بحجة تأمين خطوط المواصالت للجيش ‪ ،‬و منعها من ان‬ ‫تكون ساندة ً للثوار في تنقالتهم و حركاتهم التكتيكية‬ ‫المطلوبة لنجاح العمليات المسلحة‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫" استقبلت الكنيسة في الموصل الالجئين المسيحيين و‬ ‫اسكنتهم في المدارس و الكنائس القديمة‪ ،‬و آخرون اجروا‬ ‫بيوتا ً سكنتها عوائل متعددة في البيت الواحد‪ ،‬و كانت خالتي‬ ‫(جينا)‪ ،‬اخت القس حنا قاشا‪ ،‬من بين الذين استقبلوا تلك‬ ‫العوائل‪ ،‬و كان بيتها بيتا ً كبيرا ً على الطراز الشرقي من‬ ‫بيوت الموصل القديمة‪ ،‬ضم غرفا ً كثيرة ً خاصةً في الطابق‬ ‫الثاني‪ ،‬فسكنته عوائل عدة جاءت من اطراف زاخو تحديدا ً‪.‬‬ ‫كانت تلك العوائل تعيش في عوز شديد و فقر ال يطاق‪،‬‬ ‫ففرص العمل قليلة او منعدمة‪ .‬و كان احد هؤالء الساكنين‬ ‫يخرج يوميا ً مهندما ً مزينا ً وجهه و مرتبا ً شاربه حتى يبدو‬ ‫في احسن حال‪ ،‬و كانت زوجته الشابة تنزل و تجالس‬ ‫‪53‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫خالتي‪ ،‬لكن صفرة غريبة بدت على وجهها في االيام‬ ‫االخيرة‪ ،‬حتى جاء يوم قيل ان المرأة الشابة قد توفيت الى‬ ‫رحمة هللا‪.‬‬ ‫و في يوم ُكنّا جالسين ‪ ،‬يقول الراوي‪ ،‬القس حنا و خالتي و‬ ‫انا‪ ،‬فحكت الخالة عن سر المرأة المتوفاة‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫ هذه المرأة التي عرفتموها ماتت من الجوع؟ لقد‬‫اعلمتني المرأة بعد فوات االوان‪ -‬و الكالم للخالة جينا‪-‬‬ ‫انها كانت تبقى ليومين او ثالثة من دون طعام‪ ،‬و لسان‬ ‫حالها يقول‪:‬‬ ‫ هل اصرح بانني جائعة فيتحدث الناس عن زوجي‬‫بالسوء؟ هل ان ّكس رأسه النه ال يجد عمالً يقيتنا منه؟ انني‬ ‫سر زوجي! لم‬ ‫افضل الموت الف ّ‬ ‫مرة على ان افضح َ‬ ‫يتملك القس حنا السيطرة على دموعه فسالت على خديه و‬ ‫على لحيته‪ ،‬و نهض ذاهبا ً من دون ان ينبس بكلمة واحدة‪.‬‬ ‫مع كل يوم جديد كانت اعداد النازحين و المدمرة قراهم‬ ‫تتزايد‪ ،‬و شاركت الحكومة احيانا ً في نقل العاملين و‬ ‫المحسوبين عليها من المناطق الساخنة بواسطة طائرات‬ ‫الهيلوكوبتر‪ .‬و من ضمن الذين عادوا من منطقة العمادية‬ ‫تحديدا ً عائلة االب المرحوم د‪.‬يوسف حبي‪ ،‬و كان اخواه‬ ‫يعمالن كبنائين في المشاريع الحكومية في تلك المدينة‪ ،‬و‬ ‫اصبح والدهُ المسن يورد مسألة ركوب طائرة الهيلوكوبتر‬ ‫كنادرة لم يكن يحلم بها في حياته‪ ،‬و بهذا كان يخفف العناء‬ ‫عن العائلة التي فقدت كل شيء في برهة من الزمن‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫لم ينصت الزعيم عبدالكريم قاسم لكل نداءات وقف الحرب‬ ‫ضد الشعب الكوردي‪ ،‬فرفض العرائض الموقعة من قبل‬ ‫كبار المثقفين و الكتاب و االدباء‪ ،‬و لم يستجب للمظاهرات‬ ‫المنادية بـ "السلم في كوردستان و الديمقراطية للعراق"‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫"في تلك االيام من عام ‪ ،1962‬خرجت تظاهرة لطلبة دار‬ ‫المعلمين‪ /‬اربيل تنادي بالسلم في كوردستان‪ ،‬و كنت من‬ ‫المشاركين فيها‪ ،‬و في اليوم التالي اعتقل عدد من الطلبة و‬ ‫فصلوا و هرب البعض منهم تاركا ً الدراسة!!"‬ ‫هذه هي الخسارة الكبرى للوطن عندما يصم العقل اذنيه عن‬ ‫سماع صوت الحكمة و التعقل‪ ،‬و هكذا كان‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)10‬‬ ‫القس والثورة‬ ‫ّ‬

‫ليس من باب التفاخر والتباهي‪ ،‬حقا ًّ أن المسيحيين يشعرون‬ ‫بوطنيّة عالية للمكان الذي يعيشون فيه وللناس الذين‬ ‫يساكنونهم‪.‬‬ ‫واالمثلة على ذلك تفوق الحصر لكن حبّذا ان نورد واحدا ً او‬ ‫اثنين منها على سبيل التذكرة والتوكيد‪ .‬وأول مثل في‬ ‫العصر الحديث على وطنية ابناء هذا الدين‪ ،‬هو محاولة‬ ‫االنكليز الذين احتلوا العراق عند نهاية الحرب العالمية‬ ‫االولى ‪ ،1918-1914‬استمالة الرئيس االعلى للمسيحيين‬ ‫في العراق البطريرك عمانوئيل الثاني‪ ،‬فرفض بإباء ان‬ ‫يكون عميالً لالجنبي‪ .‬فقام المحتلون بنفيه الى جزيرة‬ ‫هنجام‪ -‬الهندية‪ ،‬وهناك طرفة تروى بصدد البطرك الذي‬ ‫كان يرتدي المالبس الحمراء ويتوكأ على عكاز في يده‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫"ان الذين يلتقون البطرك من اهالي الجزيرة‪ ،‬كانوا يقبلون‬ ‫االرض بين يديه ويقولون‪:‬‬ ‫ ان اإلله نفسه قد نزل في جزيرتهم في شخص البطرك‬‫بعكازه ومالبسه الحمراء‪.‬‬ ‫معززا ً‬ ‫واخيرا ً اضطر االنكليز الى اطالق سراحه واعادته ّ‬ ‫مكرما ً الى وطنه‪.‬‬ ‫والمثل الثاني ولكن المؤلم هو خيانة االنكليز لقادة الشعب‬ ‫من االخوة االثوريين‪ -‬في وقتها‪ -‬وتوريطهم وز ّجهم اخيرا ً‬ ‫‪56‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫في معركة غير متكافئة ادّت الى ذبحهم وتشريد االحياء‬ ‫منهم‪ .‬كل ذلك الن هؤالء الرجال االفذاذ أبوا االنصياع االّ‬ ‫الحرة لشعبهم واخالصهم الرضهم ووطنهم‬ ‫الى االرادة‬ ‫ّ‬ ‫وتعلقهم به‪.‬‬ ‫ولما قامت ثورة ايلول الكوردية التحررية‪ ،‬كان من الطبيعي‬ ‫ان يتعلق قلب القس حنّا قاشا باهدافها‪ ،‬مع انه رجل دين‪،‬‬ ‫حريا ً بأن يتماهى مع هذا الحدث‬ ‫لكن ح ّ‬ ‫ي كان ّ‬ ‫سه الوطن ّ‬ ‫لثوار‬ ‫الجليل ويستقبله بالتأييد والدّعم‪ ،‬فيفرح النتصارات ا ّ‬ ‫في المعارك‪ ،‬ويحزن لمآسي االهلين من كورد ومسيحيين‬ ‫وباقي االديان والقوميات التي تضمها كوردستان في كافة‬ ‫ارجائها‪.‬‬ ‫ولما كانت كنيسته في قلب الحدث‪ ،‬استقبل القس حنّا‪ ،‬رجال‬ ‫الثورة الذين كانوا يأتون للزيارة او للمكوث بعض الوقت‬ ‫الذي تستلزمه الحركة‪.‬‬ ‫قامت صداقة وطيدة بين القس حنّا قاشا والقائد الثوري‬ ‫لمنطقة زاخو "عيسى سوار "‪ ،‬ودامت العالقة بين الرجلين‬ ‫طيلة المدّة التي كانا يتواجدان فيها معاً‪ .‬ولم تخف تلك‬ ‫العالقة بين المقاتلين الكورد وزعيمهم "عيسى" وهو اسم‬ ‫عيسى سوار المتداول‪ .‬وبين القس حنّا قاشا عن اعين‬ ‫السلطات‪ .‬ولكنهم كانوا يؤجلون مالحقته الى حين‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫"في تلك االيام حدثت معركة كلي زاخو بين المقاتلين‬ ‫الكورد من جهة والجيش النظامي من جهة اخرى‪ .‬ولقد‬ ‫‪57‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ابلى المقاتلون الكورد بال ًء حسنا ً وشتتوا المقابل واعطبوا‬ ‫دباباته وهزموا فوجا ً او اكثر من قوات الجيش‪ .‬فرفعت تلك‬ ‫المعركة المعنويات في صفوف المقاتلين وأُلفت في ذلك‬ ‫االغاني التي تشيد بالثورة وقوة رجالها على االنتصار‪.‬‬ ‫ويتابع الراوي‪.‬‬ ‫لقد كنت اسكن عند احد اقربائي في اربيل‪ ،‬وكان البيت‬ ‫المقابل لنا هو بيت آمر الفوج الذي ُه ِزم في زاخو‪ ،‬وقد أتوا‬ ‫به جريحا ً الى بيته‪.‬‬ ‫وكان يروي الكثير عن قدرة المقاتلين الشجعان الذين‬ ‫واجههم‪ ،‬وعن جدارتهم في القتال الجبلي التي يفتقر اليها‬ ‫جنود الجيش النظامي‪.‬‬ ‫انقطع القس حنّا قاشا عن التمتع بعطلته المعتادة‪ ،‬ورأى ان‬ ‫وجوده بين ابناء شعبه ضروري في تلك المرحلة‪ .‬إلن‬ ‫القرى المسيحية في األعم األغلب لم تكن مسلحة‪ .‬لكنهم‬ ‫كانوا يستقبلون المقاتلين ويدعمونهم على االرض‪ ،‬ومثلهم‬ ‫كان يفعل القس حنّا قاشا في بيته وكنيسته‪.‬‬ ‫استمرت المعارك العسكرية ضد الثوار الكورد على مختلف‬ ‫الجبهات‪ .‬واشتركت فيها معظم الصنوف القتالية في الجيش‪،‬‬ ‫حتى الطائرات‪ .‬اخذت بقصف مواقع الثوار وكهوفهم التي‬ ‫اتخذوا منها حصونا ً استراتيجية التصل اليها القوات‬ ‫الحكومية من المشاة‪.‬‬ ‫الجوي لطائرات الحكومة‪ ،‬المراكز السكانية‬ ‫وطال القصف‬ ‫ّ‬ ‫وحتى القرى بحجة تمشيط المناطق‪ .‬ومنع الدعم اللوجستي‬ ‫‪58‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫للمقاتلين الكورد‪ .‬وفي غارة على القرية التي يؤدي فيها‬ ‫القس حنّا قاشا مهامه الدينية‪ ،‬سقط صاروك في فناء‬ ‫الكنيسة‪ ،‬وكانت تتوسطه حديقة مغمورة بالمياه‪ ،‬فآنغرس‬ ‫الصاروك الى منتصفه في الطين ولم ينفجر‪.‬‬ ‫فرح اهل القرية ومعهم القس بالنجاة لعدم انطالق الصاروك‬ ‫داخل بيت قسهم وكنيستهم‪ ،‬ولم يخبروا احدا ً باألمر‪ ،‬بل‬ ‫فوض القس أمر الصاروك لرجل المهمات الصعبة المدعو‬ ‫مر بنا هذا االسم من قبل‪ ،‬والبأس‬ ‫شمعون(شمعونكي)‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ان نعيد التذكير بهذه الشخصية البسيطة الهامشية التي تقوم‬ ‫بجالئل االعمال‪.‬‬ ‫توجه شمعونكي الى حديقة الكنيسة وجلس القرفصاء‬ ‫واحتضن اعلى الصاروك بكلتا يديه واسند رجليه الى‬ ‫اسفله‪ ،‬واخذ يهزه برفق ثم بشدّة حتى زحزحه عن مكانه‪،‬‬ ‫وما لبث ان اخرجه من الطين وحمله لوحده على كتفه وسط‬ ‫فرح وثناء االهلين‪ ،‬حتى القاه في النهر‪ ،‬وكانت تلك نهاية‬ ‫المعجزة‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)11‬‬ ‫الضّباب األ ْس َود‬ ‫إن جمود الوضع في ايام الزعيم عبدالكريم قاسم‬ ‫االخيرة‪،‬أفصح عن الحاجة الى التغيير فليس للشعب‬ ‫العراقي ان ينتظر اكثر‪ ،‬فاالوضاع االقتصادية ساءت الى‬ ‫أبعد حد‪ ،‬و الحرب على الكورد تستنزف موارد الدولة‪ ،‬و‬ ‫تسيل دماء ابناء الشعب‪ ،‬فكان البد أن تتصدى احدى القوى‬ ‫الموجودة على الساحة لتغيير الوضع‪ ،‬والبعثيون بما عرفوا‬ ‫به من إيمانهم بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"‪ ،‬بادروا للتحالف‬ ‫مع القوى القومية و الرجعية مجتمعة‪ ،‬ووضعوا ايديهم‬ ‫بأيدي شركات النفط التي تضررت من القرار رقم (‪)80‬‬ ‫الذي اصدره الزعيم عبدالكريم قاسم‪ ،‬بتحديد مناطق انتشار‬ ‫الشركات العاملة في العراق و التي كانت تسيطر على كامل‬ ‫مساحة العراق‪.‬‬ ‫و بمباركة و اسناد من الرئيس جمال عبدالناصر و حكومة‬ ‫الجمهورية العربية المتحدة "سوريا و مصر" آنذاك‪ ،‬ركب‬ ‫البعثيون القطار االمريكي‪ ،‬و نفذوا اعتى مؤامرة تصدت‬ ‫لنظام عبدالكريم قاسم و ثورة ‪ 14‬تموز ‪ 1958‬و اسقطتها‬ ‫و ذبحتها‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫شملت التصفيات الجسدية و من ثم الفكرية‪ ،‬جميع القوى‬ ‫التي يتوقع منها االنقالبيون المقاومة‪ ،‬فحدثت ملحمة كبرى‬ ‫حقيقية ذبح فيها االالف‪ ،‬و تقطع اللحم البشري مزقا ً بايدي‬ ‫العُتاة و المجرمين‪.‬‬ ‫في هذا الخضم الهائل‪ ،‬لمعت في ذهن القس حنا قاشا و هو‬ ‫في قريته البعيدة على الحدود العراقية‪ -‬التركية‪ ،‬فكرة ان‬ ‫الفتى ابن اخته الطالب في دار المعلمين‪ -‬اربيل‪ ،‬ربما يكون‬ ‫ضمن الذين تطالهم االيدي الغادرة‪ ،‬لعلمه بنشاط الفتى و‬ ‫ديناميكيته‪ ،‬و ربما انتمائه الى الفكر اليساري الذي جاءت‬ ‫مؤامرة الثامن من شباط من اجل استئصاله و محوه من‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫شاءت الظروف ان يكون الفتى في عطلة نصف السنة‬ ‫بعيدا ً عن مكان دراسته‪ ،‬فمرت الموجة دون ان تطال الطلبة‬ ‫المداومين في الدار‪..‬‬ ‫و لما عاد من العطلة‪ ،‬كانت السحابة قد خفت و انشغل‬ ‫القائمون على الحكم الجديد بترتيب اوضاعهم‪ ،‬لكن دون ان‬ ‫ينسوا مهمتهم التصفوية‪.‬‬ ‫سنة) في رحلة من‬ ‫أرسل القس حنّا قاشا خادمته (المرأة ال ُم ِ ّ‬ ‫القرية الى زاخو فالموصل‪ ،‬لالستفسار عن مصير الفتى‪،‬‬ ‫لعدم وجود وسائل اتصال سريعة في ذلك الزمن‪.‬‬ ‫جاءت المرأة و عادت في اقصر وقت‪ ،‬بعد أن حملت رسالة‬ ‫اطمئنان الى القس بأن ابن اخته في امان‪ ،‬فأطمأن الى حين‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫لكن للزمن تقلباته‪ ،‬و ال يعلم احد من سوف تطاله يد‬ ‫الحدثان‪ ،‬فماهي االّ بضعة اشهر من قيام انقالب ‪ 8‬شباط‬ ‫االسود‪ ،‬حتى عاود البعثيون حالة االقتتال ضد الكورد‪.‬‬ ‫جهزت الحكومة البعثية ‪ ،‬اكبر حملة عسكرية قادها صالح‬ ‫مهدي عماش وزير الدفاع في وقتها‪ ،‬لتمشيط المنطقة‬ ‫الشمالية‪ -‬هكذا كانوا يسمون كوردستان‪ -‬و تصاعد القتال و‬ ‫اشتدت حدته‪ ،‬فعاد التهجير الى سابق عهده و امتألت المدن‬ ‫الرئيسية بالنازحين من الكورد و المسيحيين‪ ،‬لكن القس حنا‬ ‫قاشا بقي في قريته بين ابناء شعبه‪ ،‬حتى جاء مساء و صلت‬ ‫فيه خادمة القس‪ ،‬الى الموصل و الى بيت اهله و هي تبكي‬ ‫و تقول‪:‬‬ ‫لقد اعتقلوا القس ‪ ،‬و ال أعلم الى اين اخذوه‪ ،‬و هل هو حي‬ ‫ام ميت بين ايديهم؟!‬ ‫وقع هذا الخبر وقوع الصاعقة على كل معارف القس حنا‬ ‫قاشا و اهله و ذويه‪ ،‬ال يستطيع اح ُد ان يقوم بعمل في هذا‬ ‫الباب‪.‬‬ ‫الرحوم على غيره‪ ،‬وقع هو فيه! و ها‬ ‫الذي خاف منه القس ّ‬ ‫هو في المعتقل ال يعلم احد عنه شيئاً‪ ،‬الى ان جاءت رحمة‬ ‫هللا فاطلقوا سراحه و عاد الى قريته بسالم‪.‬‬ ‫لم يتكلم القس حنا قاشا عما حدث له في السجن‪ ،‬و لم يخبر‬ ‫احدا ً قط فيما كانوا عذبوه او مارسوا بحقه اي نوع من‬ ‫انواع الضغط النفسي و الجسدي‪ ،‬و احتفظ بسره الى ان‬ ‫استشهد عام ‪.1969‬‬ ‫‪62‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫"في العام التالي الستشهاد القس حنا‪ ،‬كنت مع والدي في‬ ‫زيارة البن عم لنا و هو الكاتب و االديب المعروف نجيب‬ ‫قاقو‪.‬‬ ‫و كان عنده ضيوف احدهم يدعى المقدم لطيف‪ ،‬و هو من‬ ‫بغداد على ما ظننت‪.‬‬ ‫و في معرض الحديث‪ ،‬تفوه المقدم لطيف عن عمله‬ ‫كعسكري في عمليات زاخو ايام ‪ ،1963‬و هي السنة التي‬ ‫سجن فيها القس حنا‪:‬‬ ‫ لقد كنت مسؤوالً عن العمليات العسكرية في زاخو‪ ،‬و كان‬‫معتقال عندي القس حنا قاشا‪.‬‬ ‫و هنا بادر نجيب قاقو و اشار الى والدتي قائالً‪:‬‬ ‫ هذه اخت قس حنا!‬‫فآبتسم المقدم لطيف‪ ،‬و كان يبدو رجالً مهنيا ً في عمله‬ ‫كعسكري‪ ،‬تابع مسترسالً‪:‬‬ ‫ لقد قمت باستجوابه‪ ،‬و استعملت لذلك عصا كنت اضربه‬‫بها عن ظهره‪ ،‬فكان القس يقول لي‪:‬‬ ‫ال تفعل ذلك انه يوجع!‬ ‫فكففت عن ضربه‪ ،‬لكن استنتجت انه عنده شيء‪ ،‬يعتقد انه‬ ‫متواصل مع الحركة الكوردية‪ ،‬لقد فسرت انا ايضا ً هذه‬ ‫الـ"عنده شيء" بأن خالي ربما كان منتميا ً الى الحركة‬ ‫الكوردية‪ ،‬لكن كل الدالئل كانت تشير الى انه كقس‪ ،‬لم يكن‬ ‫يفكر ابدا ً باالنتماء العملي الى حزب و حركة ايا ً كانت‪ ،‬لكنه‬ ‫‪63‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫كان يعطف و يساعد و يصادق الرجال المسلحين و قائدهم‬ ‫عيسى سوار‪ ،‬و يستقبلهم في بيته و يكرم ضيافتهم‪.‬‬ ‫و لكن كيف اطلقتم سراحه؟ سألنا المقدم لطيف‪...‬‬ ‫ بالحقيقة ‪ ،‬ان التهمة كانت ثابتة عليه و عقوبتها االعدام‪،‬‬‫لكن القائد السوري للقوات التي اتت من سوريا لمساندة‬ ‫حزب البعث العراقي في حربه ضد الكورد‪ ،‬و كان ذلك‬ ‫القائد مسيحياً‪ ،‬فقال لنا بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫سنا!‬ ‫ ال تعدموا قَ ّ‬‫فأطلقنا سراحه اكراما ً للقائد السوري‪ .‬هذه الرواية وقعت‬ ‫عليها بالصدفة‪ ،‬فرأيت كيف تعمل ارادة هللا في انقاذ االبرار‬ ‫و االبرياء‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)12‬‬ ‫زاخـــو‬

‫أما قيادة الثورة الكوردية فلم تكن في الواقع تثق بالبعثيين و‬ ‫حلفائهم و الحكومات العراقية المتعاقبة‪ ،‬اال انها كانت تسعى‬ ‫للحصول على هدنة و التقاط األنفاس‪ ،‬و كانت بالنسبة لها‬ ‫بمثابة"استراحة المحارب"‪.‬‬ ‫من كتاب‪ :‬الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق‬ ‫‪ 8‬شباط ‪ 17 -1963‬تموز ‪ ،1968‬بقلم "شيرزاد زكريا‬ ‫محمد"‪.‬‬ ‫هذا وان ثورة ‪ 11‬ايلول ‪ 1961‬الكوردية التحررية‪ ،‬كان‬ ‫لها توقفات و محطات استراحة عدة‪ .‬فبعد سقوط حكم حزب‬ ‫البعث االول في ‪ 18‬تشرين الثاني ‪ ،1963‬واصل عبد‬ ‫السالم عارف الحرب على الشعب الكوردي‪ ،‬اال انه اضطر‬ ‫الى ايقاف القتال في ‪ 10‬شباط ‪ ،1964‬و عاد القتال فاندلع‬ ‫من جديد في نيسان ‪ ،1965‬و استمر لحين مصرع الرئيس‬ ‫عبد السالم محمد عارف في ‪ 13‬نيسان ‪.1966‬‬ ‫و في حزيران ‪ ،1966‬ادرك رئيس الوزراء المدني‬ ‫عبدالرحمن البزاز خطأ سياسة حكومته‪ ،‬فدخل في‬ ‫مفاوضات مع قيادات الثورة الكوردية‪ ،‬و تم التوصل الى‬ ‫اتفاقية ‪ 29‬حزيران ‪ ،1966‬و التي عدت انجازا ً مهما ً‬ ‫‪65‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫للشعب الكوردي‪ ،‬حيث اعترفت الحكومة الول مرة بالطابع‬ ‫القومي الثنائي للعراق‪ .‬فضالً عن ايجابيات (البيان)‬ ‫االخرى‪ -‬نفس المصدر)‪.‬‬ ‫كانت فترة حكم الدكتور عبدالرحمن البزاز من أهدأ الفترات‬ ‫على كوردستان‪ ،‬و ظهرت حالة من االستقرار النسبي في‬ ‫المنطقة‪.‬‬ ‫" و استمرت حالة الالسلم و الالّحرب هذه من (‪29‬‬ ‫حزيران ‪ 17 -1966‬تموز ‪ ،)1968‬حتى قيام حزب البعث‬ ‫بانقالبه الثاني في ‪ 17‬تموز ‪ 1968‬و استيالئه على‬ ‫السلطة‪ ،‬و بذلك دخلت الحركة القومية الكوردية مرحلة‬ ‫جديدة من تاريخها"‪ ..‬نفس المصدر‪.‬‬ ‫ووجد القس حنا قاشا بعض الراحة في هذه المرحلة‪ ،‬و‬ ‫كان القس يتميز بحب لمدينة زاخو الحدودية ال يعادله شيء‬ ‫اخر في حياته‪ ،‬فاشترى منزالً قرب الكنيسة‪ ،‬اال انه كان‬ ‫يفضل الجلوس في ايوان دار المطرانية المالصقة للكنيسة‪،‬‬ ‫و من هناك ينظر الى الجبال التركية و يتأمل تساقط الثلوج‬ ‫على شعابها و منعطفاتها في فصل الشتاء‪ ،‬و كان لسان‬ ‫حاله يقول‪:‬‬ ‫ ال اجد في الدنيا لحظة اجمل من رؤية الثلوج تسقط‬‫على الجبال في تركيا و انا جالس في دار المطرانية في‬ ‫زاخو‪.‬‬ ‫لهذا ذكرت ان نفسه قد شغفت بمنصب مطران زاخو‪ ،‬و‬ ‫حين فرغ هذا المنصب يوما ً ما و بقي شاغرا ً لعدة اشهر‪،‬‬ ‫‪66‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫بخل عليه رؤساؤه و أتوا بشخص اخر هو نيافة المطران‬ ‫"يوسف بابانا" رحمه هللا‪ ،‬الذي استقبله القس حنا قاشا بكل‬ ‫الحب و االخالص‪ ،‬و اشاد به اشادة رائعة في قصيدة‬ ‫تكلمت عنها في فصل سابق‪ .‬و لقد قدر المطران الجديد‬ ‫طاقات القس حنا قاشا‪ ،‬فاعتمد عليه في العمل الراعوي الى‬ ‫اقصى حد‪.‬‬ ‫ان ايام الهدوء النسبي تلك‪ ،‬عادت على القس حنا قاشا‪-‬‬ ‫باالضافة الى الراحة النفسية‪ -‬بالوقت الكافي ليقوم بدراساته‬ ‫في مختلف المجاالت االدبية و الدينية و الفلسفية‪ ،‬و شرع‬ ‫باقتناء الكتب‪ ،‬و اعظم مؤلف وجدته في مكتبته في تلك‬ ‫الفترة هو كتاب الالهوت االدبي في عدة مجلدات‪ ،‬و من‬ ‫الكتب النادرة التي لم اعثر عليها في مكان اخر‪ ،‬هو كتاب‬ ‫قصة الفلسفة الحديثة للكاتب الوجودي العربي عبدالرحمن‬ ‫بدوي‪ ،‬و غيرها الكثير الذي ذرته الرياح‪.‬‬ ‫كانت عالقاته تتوطد مع رجال الثورة‪ ،‬و أظهر حبه و تعلقه‬ ‫بشخصية قائد الثورة المال مصطفى البرزاني‪ ،‬و كان يرى‬ ‫فيه مثالً اعلى للقيادة و الحكمة‪ .‬و ال يشك لحظة واحدة في‬ ‫انتصار الثورة و القضية الكوردية عموما ً مادام قائدها هو‬ ‫البارزاني الخالد ‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫"كلما جالست خالي القس حنا قاشا عند زياراته الهله في‬ ‫الموصل‪ ،‬كان يروي لنا بشكل ال يعرف انقطاعاً‪ ،‬عن‬ ‫المراحل التي وصلت اليها الثورة و عن رجاالتها‪ .‬و انا‬ ‫‪67‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اقول هذا للتاريخ و انا اتحدث عن احب رجل عرفته‪ ،‬كيف‬ ‫ال و انا قطعة منه!‪.‬‬ ‫اقول ان القس حنا قاشا كان يرى في الثورة الكوردية و في‬ ‫شخصية قائدها البارزاني الخالد‪ ،‬طريق الخالص ليس‬ ‫للكورد فقط‪ ،‬و انما لكل المظلومين و المهمشين من ابناء‬ ‫كوردستان و العراق كافة‪.‬‬ ‫و انا اعتقد جازماً‪ ،‬ان تلك كانت نظرة الكثير من العراقيين‬ ‫الذين عانوا من الظلم على يد الحكومات المتعاقبة‪ ،‬و اكثرها‬ ‫شوفينية و فاشستية‪ -،‬حكومة حزب البعث المقبور‪.‬‬ ‫كذلك عمل القس حنا قاشا في فترة الهدوء تلك‪ ،‬على اقامة‬ ‫صداقات مع معظم العوائل في قصبة زاخو التي احبها‪ .‬و‬ ‫من الذين صادقهم و كانوا له بمثابة االهل(آل الزار)‪ ،‬و‬ ‫منهم اخوان يعمالن معلمين في المدينة‪ ،‬هما‪ :‬بطرس و‬ ‫سليم الزار‪ ،‬و اتفق ان االك االكبر بطرس اظهر للقس حنا‬ ‫فكرته عن الزواج‪ ،‬فما كان من القس اال ان م ّد له يد العون‪،‬‬ ‫و اخذه بيده الى سميل حيث ابناء عمومته‪ ،‬و اختار له الفتاة‬ ‫المناسبة من آل قاشا‪ ،‬و هي "نادرة" ابنة اسطيفان ع ّمة‬ ‫القس مازن قاشا قس زاخو حالياً‪ ،‬و اقيمت الحفالت على‬ ‫حسب عادات اهل زاخو‪ ،‬و جلبت العروس من سميل الى‬ ‫زاخو‪ .‬لكن جيء بها قبل ذلك الى بيت اهل القس حنا قاشا‬ ‫في الموصل‪ ،‬و من هناك انطلق الموكب الى زاخو بأروع‬ ‫مشهد للعروس نادرة اسطيفان‪ .‬لن انسى يوما ً مرأى هذه‬ ‫الفتاة! و هي الوحيدة من بين آل قاشا التي شهدت دفن القس‬ ‫‪68‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫حنا بعد استشهاده‪ .‬كانت تلطم و هي حافية القدمين‪ ،‬و‬ ‫يحاول االخرون تهدئتها دون جدوى‪ ..‬هكذا يكون الوفاء‬ ‫لمن احب الناس و اعطاهم دون حد للعطاء‪.‬‬ ‫كان القس حنا يحب االنغام الكوردية‪ ،‬و يعجب باداء المغني‬ ‫القدير حسن جزراوي‪ ،‬و كان يحفظ قصة تربيته و يرويها‬ ‫للسامعين‪ ،‬يقول القس فيها‪:‬‬ ‫عندما كان حسن جزراوي صغيرا ً و ضريراً‪ ،‬و دأب والده‬ ‫على تعليمه الغناء ليكون حرفة يتكسب منها و هو في تلك‬ ‫الحال‪ .‬و لما كان الصبي يتهرب من التعليم‪ ،‬كان والده‬ ‫يضربه حتى يستجيب لرغبة والده‪ ،‬و هكذا اصبح حسن‬ ‫جزراوي أروع و اكبر مطرب كوردي في ذلك الوقت‬

‫‪69‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)13‬‬ ‫عودة االقتتال‬

‫إن أي متتبع لتاريخ حزب البعث‪ ،‬البد ان يالحظ بوضوح‬ ‫تام مالهذا الحزب من الميكافيليّة الراسخة في التعامل مع‬ ‫اآلخرين‪،‬أصدقاء كانوا أم خصوما ً و في صدد تعاملهم مع‬ ‫القضية الكوردية انقل هنا ما جاء في تاريخ الحزب‬ ‫الديمقراطي الكوردستاني " العراق في محطات رئيسية‬ ‫‪ "1946‬لمؤلفه حبيب محمد كريم‪ ،‬و هو رأي ال اعتقد‬ ‫يختلف فيه اثنان‪.‬‬ ‫ور َد ما يلي‪:‬‬ ‫ففي الصفحة ‪ 114‬من الكتاب المذكور‪َ ،‬‬ ‫" و في ‪ 17‬تموز عام ‪،1968‬أقدم البعثيون بالتعاون مع‬ ‫عبدالرزاق النايف و ابراهيم عبدالرحمن الداوود‪ ،‬كما هو‬ ‫معلوم‪ ،‬على انقالبهم ضد عبدالرحمن عارف و نجحوا في‬ ‫االستيالء على زمام السلطة‪ .‬و قد طلب منّا االنقالبيون‬ ‫المساهمة معهم في حكومتهم الجديدة‪ ،‬فوافقنا من حيث المبدأ‬ ‫على المشاركة بوزيرين على شرط عدم اشتراك القيادة‬ ‫السابقة في الحكومة الجديدة‪ ،‬ثم يستطرد الكاتب‪:‬‬ ‫" و قام حزب البعث خالل هذه الفترة بالتخلص من شركاء‬ ‫األمس‪ ،‬و هم كتلة النايف ‪ -‬الداوود‪ ،‬يوم ‪ 30‬تموز‪ ،‬و‬ ‫آستأثروا وحدهم بمقاليد الحكم‪ ،‬و عند االعالن عن مراسيم‬ ‫تشكيل الوزارة لم يلتزم البعثيون بما تم االتفاق عليه معهم‪،‬‬ ‫‪70‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫فقد خصصوا مقعدين لحزبنا في الوزارة شغلهما كل من‬ ‫االستاذ محسن دزةيي و احسان شيرزاد‪ ،‬اال انهم ادخلوا‬ ‫ممثالً عن القيادة السابقة في الوزارة هو طه محي الدين‬ ‫معروف‪ ،‬وقد اضطررنا ازاء ذلك الى سحب ممثلنا و عدم‬ ‫االشتراك في الوزارة‪ .‬و يبدو انهم كانوا يسعون الى هذه‬ ‫النتيجة‪،‬فانتهزوا هذه الفرصة و اندفعوا نحو تعزيز صالتهم‬ ‫بهؤالء‪ ،‬و إغداق األموال و األسلحة عليهم لتجنيد المرتزقة‬ ‫و تسخيرهم لالعتداء على مواقع البيشمركة‪ ،‬و على‬ ‫المواطنين المؤيدين للحزب و الثورة في كل مكان‪ ،‬و بدأت‬ ‫العالقات بيننا و بينهم بالتوتر التدريجي و التردي‪ ،‬و انتهت‬ ‫الى استئناف العدوان على شعبنا في آذار عام ‪ 1969‬و‬ ‫على نطاق واسع‪...‬‬ ‫عندما ش ََّن حزب البعث الحاكم حربه القذرة على الكورد في‬ ‫التاريخ اعاله‪ ،‬كان يبدو في أشد القوة و االستعالء‪ ،‬فأن‬ ‫البعثيين المعدودين الذين اجبروا الفريق عبدالرحمن عارف‬ ‫على التنازل عن السلطة في ‪ 17‬تموز ‪ ،1968‬زاد عددهم‬ ‫بعد محاوالت و اغراءات و تهديدات للقوى السياسية‬ ‫االخرى التي كانت موجودة على الساحة‪ .‬إن أول عمل‬ ‫قاموا به بعد تصفية شركائهم في االنقالب‪ ،‬النايف و‬ ‫الداوود‪ ،‬كان القضاء على المنشقين عن حزبهم قضاء‬ ‫ماحقاً‪ ،‬بعدها صفّوا شركاءهم من القوميين العرب اصحاب‬ ‫عدنان ايوب صبري العزي الذي انغمس معهم‪ ،‬لكن لم يجده‬ ‫‪71‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫عمله نفعاً‪ ،‬و قتلوا ناصر الحاني وزير خارجيتهم بعد ‪28‬‬ ‫يوما ً من االنقالب‪.‬‬ ‫و التفتوا الى موظفي الدولة و المعلمين‪ ،‬فبدأوا باستقطاب‬ ‫العناصر المتذبذبة و النفعية بالتهديد او باالغراء بالمناصب‪،‬‬ ‫فكانت لهم بطانة عريضة من االنتهازيين و األصوليين و‬ ‫عشاق السلطة‪ .‬هكذا تش ّكل النظام الذي سيحكم العراق لعقود‬ ‫من السنين و يجلب لشعبه المآسي و االهوال التي ال تنسى‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫كان القس حنا قاشا يقضي عطلة الصيف المعتادة في بيت‬ ‫والدته و اكبر اخوته من بعده (جميل)‪ ،‬صاحب العائلة التي‬ ‫كانت بمثابة عائلته هو مع وجود والدته على قيد الحياة‪.‬‬ ‫كنت ازوره عصر كل يوم تقريباً‪ ،‬حيث كان يجلس في‬ ‫االيوان على اريكة معينة‪ ،‬و َيجول بعينيه خالل السماء من‬ ‫ذلك االيوان المفتوح‪.‬‬ ‫كان القس يتتبع اخبار الثورة الكوردية اوالً فأول‪ ،‬حتى قبل‬ ‫اندالع القتال و لشدة تعلقه بقائد الثورة البارزاني الخالد‪ ،‬كما‬ ‫اسلفت‪ ،‬كان يتابع اخباره و ال يشبع من االشادة بعظمة هذا‬ ‫الرجل و حبه لشعبه‪ ،‬و حكمته في القيادة للوصول بهذا‬ ‫الشعب المظلوم الى بر االمان‪.‬‬ ‫قد يسأل سائل عن سر تعلق القس حنا بالثورة الكوردية و‬ ‫قائدها‪ ،‬و هو رجل الدين الكلداني االشوري االصل‪،‬‬ ‫القادمون اجداده من اعالي الجبال‪ ،‬حيث المناطق التي‬ ‫يقطنها شعبه بين العراق و تركيا؟!‪.‬‬ ‫‪72‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اقول ّ‬ ‫إن هذا هو احساس االنسان العالي المشاعر االنسانية‬ ‫بأن النضال ضد الظلم واحد‪ ،‬و ان الحيف و الالعدالة اذا‬ ‫رفِعا عن الشعب الكوردي‪ ،‬فسوف يرفعان حتما ً عن كل‬ ‫القوميات و االديان القاطنة في هذه البقعة العزيزة "‬ ‫كوردستان"‪.‬‬ ‫اخذ القتال يقوىو يشتد ضراماً‪ ،‬و كلما رأى البعثيون مقاومة‬ ‫تفوق طاقتهم من قبل قوات الثورة الكوردية‪ ،‬هيأوا لها‬ ‫اسلحة اشد و قوات اكبر‪ ،‬انهم ال يريدون ان يخسروا هذه‬ ‫الجولة من القتال التي بدت لهم انها االخيرة‪ ،‬و انها مواتية‬ ‫لمحو هزائمهم السابقة عام ‪ .1963‬كذلك هزائم الحكومات‬ ‫المتعاقبة امام ارادة الثورة الكوردية و مقاتليها االشداء‪.‬‬ ‫طالت مدة االجازة على القس حنا كثيرا ً هذه المرة‪ ،‬كان‬ ‫القس يترقب ان تخف حدّة القتال حتى يستطيع ان يعاود‬ ‫خدمته الكهنوتية التي اصبحت ثقيلة بضم قرى كثيرة الى‬ ‫رعويته‪ ،‬فلقد اصبح القس حنا مسؤوالً ليس فقط عن‬ ‫ديرابون مركز خورنته‪ ،‬بل عن كل القرى المحاذية لنهر‬ ‫دجلة نزوالً حتى قرية صوريا في آخر الخط‪ .‬في تلك الفترة‬ ‫أنعمت السلطات الكنسية على القس حنا قاشا برتبة‬ ‫"الخورنة"‪ ،‬لخدماته الطويلة و الكثيرة في سلك الكهنوت‪،‬‬ ‫لكن ما كان للقس المنشغل باألمور الفكرية و األدبية و‬ ‫الفلسفية أن يقبل برتبة إدارية كان يستحقها او األكثر منها‬ ‫منذ زمن بعيد‪ ،‬فرفض الرتبة بكل خشوع للرب و الشكر له‬ ‫على نعمائه‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫مالبث القس حنا الذي كان معتادا ً على استقبال زواره بتبادل‬ ‫االحاديث في مختلف شؤون الحياة ان اخلد إلى الصمت‪،‬‬ ‫ت عند زيارته ال تحضى منه اال بر ّد السالم‪ ،‬ثم تجلس‬ ‫ف ُك ْن َ‬ ‫في حضرته في سكوت تام ال تتخلله حتى و ال كلمة واحدة‪.‬‬ ‫لقد استعصى علينا نحن أحباؤه ان نفهم هذا السلوك الجديد‬ ‫للقس حنا قاشا! و لكن االيام أفهمتنا فيما بعد‪ ،‬ان ذلك‬ ‫الصمت العظيم كان استعدادا ً للشهادة التي رآها متوقعة‬ ‫ظاهرة أمام ناظريه‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)14‬‬ ‫عيد الصليب المقدس‬ ‫حالة التزام الصمت من قبل القس حنّا قاشا أمام زواره‪،‬‬ ‫قابلتها حالة زمجرة وأصوات عالية وانفجارات عمت أرض‬ ‫كوردستان العراق بأجمعها في تلك اآليام‪ ،‬أي نهاية صيف‬ ‫عام ‪. 1969‬‬ ‫لقد مأل ّ‬ ‫الزهو قادة حكومة البعث‪ ،‬حتى أن وزير الدفاع‬ ‫يومها "صالح مهدي عماش"‪ ،‬أصدر من القرارات ما يتنافى‬ ‫مع أبسط القيم اإلنسانية‪ ،‬للبطش بالشعب الكوردي‪ ،‬وإلنهاء‬ ‫حركة التمرد او (العصاة) كما كانوا يطلقون على الثورة‬ ‫الكوردية ورجالها األبطال‪ ،‬ومن تلك القرارات الجائرة كان‬ ‫قرار عماش بإبادة اية قرية يصدر عن قربها لمسافة‬ ‫خمسين متراً‪ ،‬اطالق نار أو انفجار لغم أو أي عمل‬ ‫عسكري آخر ‪.‬‬ ‫في ظل تلك األجواء الملتهبة‪ ،‬تمخض صمت القس حنّاعن‬ ‫سفر الى موقع خورنته‪ ،‬لقد رأى ان من واجبه في‬ ‫نيته في ال ّ‬ ‫هذه المرحلة ان يكون بينهم‪ ،‬وهو المكان الطبيعي حسب‬ ‫صوره‪ ،‬ألنه لم يعتد البقاء عند اهله (امه وعائلة اخيه)‬ ‫ت ّ‬ ‫الكثر من تلك المدّة ‪.‬‬ ‫‪75‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫وبالحقيقة فإن احدا ً لم يتكهن بخطورة الموقف على القس في‬ ‫تلك األوضاع ‪ .‬وبدا ان الجميع نسوا ما حصل له ايام حكم‬ ‫البعث االول في شباط عام ‪ ،1963‬وكيف نجا من اإلعدام‬ ‫باعجوبة ‪ ،‬فلم يتحرك أحد للحؤول بينه وبين تنفيذ فكرته‪،‬‬ ‫في السفر الى ديرابون مقر خورنته والتي منها ينطلق الى‬ ‫السهل الفسيح كله ‪.‬‬ ‫يمض االّ يومان او ثالثة حتٌى نفّذ القس حنّا ارادته ‪.‬‬ ‫لم‬ ‫ِ‬ ‫‬‫وجاء صباح يوم وقفت السيارة بالشارع العام‬ ‫شارع الفاروق – بالقرب من بيتهم‪ ،‬فوصلها القس حنّا‬ ‫يصحبه معلمه وصديقه االستاذ سعد الرسام‪ ،‬الذي كان‬ ‫يدرس في معهد ماريوحنا الحبيب ايام كان القس حنّا تلميذا ً‬ ‫في المعهد ‪.‬‬ ‫عند باب السيارة‪ ،‬جذب االستاذ سعد الحقائب من يد القس‬ ‫محاوالً انزالها الى األرض‪،‬ليمنعه في اللحظة األخيرة من‬ ‫سفر وقال له‪:‬‬ ‫ال ّ‬ ‫أنا أقول لك‪ :‬التذهب‪ ..‬أرجع وانتظر أياما ً أخرى‪ ،‬لعل‬‫الرب يفرج الغ ّمة ويحل سالمه علينا ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عرف عنه من ارادة صلبة وعناد‬ ‫لكن القس حنّا قاشا بما ُ‬ ‫اليقاوم‪ ،‬رفض رغبة استاذه وعاون سائق السيارة في وضع‬ ‫حقائبه فيها ‪ .‬فآنطلقت به السيارة الى ديرابون لتكون تلك‬ ‫سفرته إلى حيث ال عودة‪..‬‬ ‫وصل القس حنّا قاشا الى ديرابون أيام عيد الصليب‪ ،‬وشرع‬ ‫فور وصوله بإقامة القداديس الخاصة بالمناسبة العظيمة‪،‬‬ ‫‪76‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫وزعها بحسب ايام االسبوع‪ ،‬كل يوم يقدس في قرية أو‬ ‫أكثر‪ .‬عا َد الدم الى شرايين القس حنّا بلقائه بأبناء شعبه‪،‬‬ ‫والذين اصبحوا أهله الحقيقيين‪ .‬فكان يقابل بالبشر والفرح‬ ‫في كل مكان يحل ضيفا ً عزيزا ً فيه‪ ،‬فتشارك القرية بكل‬ ‫افرادها ابتدا ًء من مختارها الى اصغر فالح فيها‪ ،‬فتشارك‬ ‫رجاالً ونسا ًء‪ ،‬في صلوات تلك القداديس الجميلة‪ ،‬يغمرهم‬ ‫الفرح الكبير بأن القس حنّا قد ح ّل بينهم ‪.‬‬ ‫وللتعريف بعيد الصليب وأهميته بالنسبة للمسيحيين عموماً‪،‬‬ ‫‪.‬فأن قسطنطين عندما اصبح قائدا ً عسكريا ً في روما‪ ،‬رأى‬ ‫في احدى المعارك صليبا ً من النار في السماء و إلى جانب ِه‬ ‫كتابة باليونانية تقول " بهذه العالمة انتصر"‪ .‬فأمر جيشه‬ ‫بأن يرسم عالمة الصليب على اعالمهم‪ .‬وعندما أصبح‬ ‫امبراطورا ً جعل المسيحية الدين الرسمي للدولة‪ .‬سافرت‬ ‫أمه (هيالنا) بتكليف منه الى أورشليم ودمرت معبد‬ ‫افرويتي (فينوس)‪ ،‬وظهر تحته الضريح المقدس وفيه‬ ‫الصليب الذي مات عليه المسيح ‪ .‬عادت هيالنا الى‬ ‫القسطنطينية لتموت بين ذراعي ولدها ‪.‬‬ ‫يقول الراوي ‪:‬‬ ‫وهذه قصيدة عن عيد الصليب المقدس‪ ،‬اوردها هنا‪ ،‬وكم‬ ‫ت القس حنّا قاشا حيا ً ليقرأها‪:‬‬ ‫تمنيت ان يكون خالي وأب ِ‬ ‫بعد أن اوقدت نارها‬ ‫عيــد الصـليب شـــ ّع بأنـواره‬ ‫هيالنا‬ ‫‪77‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫من حانة الذّل خرجت المليكة‬ ‫أورق اغصانا‬ ‫فأنجبت للمسيح طودا ً شامخا ً‬ ‫قسطين له من في‬ ‫األرض دانا‬ ‫فما وجدت غير‬ ‫لسور يحرسه‬ ‫وهفا قلب األم‬ ‫ٍ‬ ‫صانا‬ ‫الصليب َح َ‬ ‫حتى أتت القدس‬ ‫فآمتطت للصعاب كل مركبة‬ ‫الشريف بنيانا‬ ‫وأقامت شاهدا ً لل ّ‬ ‫حق‬ ‫فهدمت للباطل القديم هيكال‬ ‫برهانا‬ ‫للرب تسبيحا ً‬ ‫وابطلت لفينوس صالة باطل‬ ‫وأصعدت ّ‬ ‫وشكرانا‬ ‫من مشرق االرض رحل النور ساطعا ً حتى التهبت تالل‬ ‫رومة نيرانا‬ ‫وصار الميت حيّا‬ ‫وأحيت بمائت االخشاب روح َميت‬ ‫ويحيى انسانا‬ ‫كالعو ِد اليابس‬

‫وصار الصليب للجا ِه رمزَ كرامةٌ‬ ‫نصبا ً وعدوانا‬

‫وصار الصليب للجهل‬

‫المتعب‬ ‫من اجله مــات التقــي راضيـا ً ومن اجله ك ّد‬ ‫ُ‬ ‫المأسور جذالنا‬ ‫ولم تتعب‬ ‫حملنا الصليب على الصدور زهوا ومحبة ً‬ ‫االكتاف حملت صلبانا ‪.‬‬ ‫***‬ ‫‪78‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫هذا ويعتقد ان خشبة الصليب أحيت احد الموتى عند‬ ‫اكتشافها ووضعها على جسد الميت ‪ .‬فثبت أنها صليب‬ ‫المسيح نفسه‪ ،‬لذلك يطلق على صليب المسيح اسم‬ ‫(الصليب الحي) ‪.‬‬ ‫يوم عيد الصليب ‪ 15‬ايلول ‪ 1969‬أقام القس حنّا قاشا‬ ‫قداس العيد في قرية (افزروك) كبرى القرى على اسفل‬ ‫السهل السندي‪ ،‬وكان قداسا ً رائعا ً الينسى ‪ .‬توجه بعده الى‬ ‫ديرابون مركز خورنته ليبيت ليلته فيها‪ ،‬ولم ينس أن‬ ‫يوصي السائق أن يكون عنده في الصباح الباكر‪ ،‬ليكون‬ ‫قداسه االخير في صوريا ‪.‬وفيها ختام جولة القداديس لعيد‬ ‫الصليب المقدس ‪... .‬‬

‫‪79‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)15‬‬ ‫المذبحة‬

‫جاء السائق الكوردي ليصحب القس حنا قاشا في يوم‬ ‫السادس عشر من ايلول ‪ ،1969‬و كان القس كالعادة‪ ،‬قد‬ ‫استيقظ و تهيأ و قرأ شيئا ً من كتابه المعهود المكتوب باللغة‬ ‫الكلدانية‪ ،‬فلم يستطع احد ان يفهم منه شيئا ً اال القس وحده‪.‬‬ ‫كان الطريق عاديا ً من ديرابون الى صوريا‪ ،‬يتخلله احيانا ً‬ ‫مرور سيارات عسكرية تقوم باعمالها المعتادة‪ .‬في كنيسة‬ ‫صوريا اقام القس حنا ألهاليهاقداس عيد الصليب‪ ،‬و في‬ ‫نهاية القداس خرجت الجموع فرحةً مهللةً‪ ،‬و توجه القس‬ ‫بصحبة المختار لتناول الفطور و كانت تتقدمهما "ليلو" اي‬ ‫"ليلى" ابنة المختار ذات السبعة عشر ربيعاً‪ ،‬و هي تحمل‬ ‫س ِم َع‬ ‫بيدها مزهوة حقيبة القس‪ ،‬و ما هي اال خطوات حتى ُ‬ ‫دوي انفجار‪ ،‬اتجهت نحوه االنظار! فإذا برتل عسكري قد‬ ‫توقف على الشارع قرب القرية‪.‬‬ ‫بسرعة فائقة‪ ،‬تبادل القس و المختار اآلراء‪ ،‬و كان من رأي‬ ‫المختار أن يهرب أهل القرية فال امان في مواجهة‬ ‫العسكر‪.‬‬ ‫لكن القس رأى غير ذلك‪ ،‬و قال للمختار‪:‬‬ ‫ اهل القرية ابرياء‪ ،‬فلماذا نهرب؟! هيا نذهب لمقابلة‬‫الجيش و نهنئهم بالسالمة‪.‬‬ ‫لم يكن للمختار بدّ‪ ،‬فوافق على رأي القس و توجها الى‬ ‫موقع الحادثة‪ ،‬و كان اول من قابلهما"المالزم عبد الكريم‬ ‫‪80‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫الجحيشي" قائد الرتل‪ ،‬و عندما بادره القس بالسالم‪ ،‬واجهه‬ ‫الجحيشي بالسباب و الشتم‪ ،‬و خاطب الرجلين قائالً‪:‬‬ ‫هيا ارجعا الى قريتكما و نحن قادمون اليكم‪.‬‬ ‫تسارع الجنود لالحاطة بالقرية لمنع من يفكر بالهرب من‬ ‫اهلها‪ ،‬و قادوا الجميع الى ساحة كانت تستعمل لمبيت‬ ‫األغنام‪.‬‬ ‫امتألت الساحة بالرجال و النساء و االطفال‪ ،‬يتوسطهم القس‬ ‫و المختار‪ ،‬فأمر الجحيشي جنوده باالستعداد الطالق النار‪.‬‬ ‫و هنا رفع القس يديه الى السماء‪ ،‬و ناشد العسكري الفظ‬ ‫باسم هللا ان يكف عن تلك الفعلة الشنيعة‪ ،‬و ان ال يقتل‬ ‫هؤالء الناس االبرياء‪ ،‬و هنا قال السائق الكوردي‪:‬‬ ‫ انا لست من اهل القرية‪ ،‬و انا مسلم‪ ..‬فر ّد عليه‬‫الجحيشي‪:‬‬ ‫اخرس انت ايضا ً منهم‪!..‬‬ ‫ و فتح الجحيشي النيران وامطر القس بوابل من‬‫رشاشته‪ ،‬و انطلقت رشاشات الجنود تقذف حممها على‬ ‫الجميع من دون استثناء‪ ،‬حتى صوت "ليلو" الشابة و هي‬ ‫توبخ ذلك المالزم المتوحش‪ ،‬ضاع و سكت الى األبد تحت‬ ‫زخات الرصاص‪.‬‬ ‫ يقول شيخ كبير كان موجودا ً في الساحة‪ ،‬و هو من‬‫اهل قرية صوريا الشهيدة‪:‬‬ ‫ سقطت على االرض‪ ،‬و عندما فتحت عيني رأيت‬‫بناتي الثالث صريعات فوق جسدي‪ ،‬لقد حاولن ان يحمين‬ ‫‪81‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫جسدي باجسادهن‪ ،‬و هكذا نجوت و ماتت بناتي الثالث‬ ‫جميعهن‪.‬‬ ‫ ويتابع الشيخ و هو الشاهد على الحادثة‪:‬‬‫ أمر الجحيشي احد الجنود ان يتجول بين الجثث بحثا ً‬‫عن احياء ليقوم بقتلهم‪ ،‬و عندما وصلني‪،‬يقول الشيخ‪:‬‬ ‫ حاولت النهوض‪ ،‬فضربني الجندي بأخمص رشاشته‬‫و قال لي بالحرف الواحد و بصوت خافت‪:‬‬ ‫ و لّي! اسكت‪ ..‬ابق في مكانك‪.‬‬‫و هكذا انقذ ذلك الجندي الذي بقيت فيه روح االنسانية‬ ‫حياتي‪.‬‬ ‫و إنّي كاتب هذه السطور ‪ ،‬اعتمد شهادة ذلك الشيخ في‬ ‫معلوماتي عن المذبحة‪ ،‬و ال انقلها عن كتاب او اي شخص‬ ‫اخر‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫دعيت مساء يوم السابع عشر من ايلول‪ ،‬الى معهد مار‬ ‫يوحنا الحبيب في السيمينير‪ ،‬فذهبت بصحبة االستاذ سعد‬ ‫الرسام‪ ،‬فقابلنا في حوش السيمينير رئيس المعهد الشيخ‬ ‫الجليل االب يوسف اومي‪ ،‬و كان يبدو عليه الوجوم‪ ،‬و كان‬ ‫الى جانبه سائق سيارة مسيحي قادم من زاخو‪ .‬تكلم األب‬ ‫يوسف اومي كلمات مقتضبة باللغة الفرنسية التي ال‬ ‫افهمها‪ ،‬خرجنا بعدها من المعهد بصحبة السائق الذي اخذ‬ ‫يتحدث بالعربية عن االوضاع هناك‪:‬‬ ‫‪82‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫ ان الموت قد اصبح حقيقة حياتنا اليومية‪ ،‬و الذي‬‫يموت ال يجد لدينا وقتا ً لنحزن عليه‪ ،‬اننا نضع عليه التراب‬ ‫و ينتهي كل شيء‪.‬‬ ‫ هذا الحديث عن الموت من قبل السائق غمرني‬‫بالشكوك‪ ،‬فقلت لالستاذ سعد‪:‬‬ ‫ هل ان خالي ميت االن؟‬‫لم يجاوبني االستاذ سعد الرسام الذي عرف كل شيء‪،‬‬ ‫فاعدت عليه الكرة‪ ،‬لكن قلت له هذه المرة‪:‬‬ ‫ اني ال اعتقد ابدا ً ان خالي على قيد الحياة االن‪.‬‬‫ فلم يجاوب االستاذ سعد‪ ،‬و بدالً عن ذلك قال‪:‬‬‫ غدا ً صباحا ً تذهبون جميعا ً الى زاخو‪ ،‬لكن لم يصرح‬‫ابدا ً بأن خالي ميت‪.‬‬ ‫ في الصباح الباكر حملتنا السيارة باتجاه زاخو‪ ،‬النساء‬‫يولولن و لكن دون معلومات قاطعة عن حقيقة الذي حدث‪،‬‬ ‫كان األمل ما يزال بأن القس ربما يكون جريحا ً او‬ ‫مسجوناً‪ ،‬و لكن لم يقبل احد بحقيقة ان القس قد توفى‪.‬‬ ‫وصلنا زاخو حوال الساعة العاشرة‪ ،‬و توجهت السيارة‬ ‫فورا ً الى كنيستها‪ ،‬كانت الجموع قد خرجت و لم يبقَ اال‬ ‫القليل‪ ،‬و من باب الكنيسة المفتوح على مصراعيه‪ ،‬رأينا‬ ‫"نادرة" ابنة عم القس حنا و زوجة بطرس الزار‪ ،‬و هي‬ ‫قريبة القس الوحيدة‪ ،‬تلطم حافية القدمين عند القبر قرب‬ ‫باب الكنيسة الداخلي‪ ،‬ان القس حنا قد استشهد‪.‬‬ ‫‪83‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫لقد دفنوه قبل وصولنا‪ ،‬الن الجثة كانت متورمة و قد مضى‬ ‫على مقتله ثالثة ايام‪.‬‬ ‫و كما فعل القس حنا في تلك الليلة‪ ،‬حين ذهب مع شمعونكي‬ ‫و جلبا جثة القتيل المجهول‪ ،‬هكذا ذهب سائق شجاع الى‬ ‫ارض المذبحة و جلب جثة القس الى زاخو لدفنها في ساحة‬ ‫الكنيسة‪ ،‬اما شهداء صوريا فحفرت لهم مقبرة جماعية‪.‬‬ ‫يقول االب البير ابونا في مقابلتي معه سنة ‪ ،2013‬و هو‬ ‫األب الجليل من اهالي فيشخابور‪"،‬ان سكان صوريا من‬ ‫المسيحيين و الكورد‪ ،‬و ان عدد الشهداء اكثر من ثالثين"‪،‬‬ ‫و هذا ايضا ً من شهادة الشيخ الذي نجا من المذبحة كما‬ ‫اسلفت‪.‬‬ ‫و ان معهم عشرة من الكورد‪ ،‬لم يشفع لهم انهم مسلمون‬ ‫للنجاة من عدوانية الجحيشي الحاقد‪...‬‬ ‫نجا من المذبحة سبعة شباب هربوا من القرية عند تقدم‬ ‫الجحيشي‪ ،‬النهم مطلوبون للعسكرية‪ ،‬و كان احدهم بصحبة‬ ‫الشيخ الذي كان في الساحة وقت المذبحة‪ ،‬و كان الشاب‬ ‫واجما ً يرتجف داخل معطفه كأنه فرك طائر قد سقط من‬ ‫عشه للتو‪.‬‬

‫‪84‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)16‬‬ ‫التطويب‬

‫هل كان القس حنا قاشا قديساً؟ و اذا لم يكن كذلك‪ ،‬فأنه‬ ‫تقدس بالشهادة و تقدس معه كل اهل صوريا الشهداء نسا ًء‬ ‫و اطفاالً و رجاالً ‪ ،‬انهم شهداء عيد الصليب المقدس‬ ‫الخارجون من الكنيسة اثناء حلول القربان جسد يسوع و‬ ‫دمه الطاهرين‪ ،‬ليسفح دمهم البريء ظلما ً و عدواناً‪ ،‬فأي‬ ‫تقديس يستحقه هذا؟!‪.‬‬ ‫و "التطويب" بمعنى اعتبار الشخص الصالح قديسا ً بعد‬ ‫وفاته‪ ،‬يصدر عن اعلى مقام في الكنيسة‪ .‬و في الكنيسة‬ ‫الكاثوليكية عادة ما يكون البابا هو صاحب القرار في هذا‬ ‫الشأن‪.‬‬ ‫و يستند قرار الحبر االعظم على مجموعة معطيات تزودهُ‬ ‫بها الكنيسة المحلية‪ ،‬عن المستحق للتطويب رجالً كان ام‬ ‫امرأة‪.‬‬ ‫و اذا عدنا الى موقف كنيسة العراق و هي كنيسة القس‬ ‫الشهيد حنا قاشا‪ ،‬و استعرضنا المواقف المختلفة للمعنيين‬ ‫بالحدث‪ ،‬نشهد على ما يأتي‪:‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫في صباح يوم الدفن‪ ،‬قابلت المغفور له المطران "عمانوئيل‬ ‫ددي"‪ ،‬مطران الكلدان في الموصل‪ ،‬في مقره في‬ ‫المطرانخانة‪ .‬و كانت البطركخانة في العهد التركي‪ .‬قبل‬ ‫‪85‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫نقل مقر البطريركية الى بغداد بعد االستقالل و قيام الحكم‬ ‫الوطني (الملكي)‪.‬‬ ‫قلت للشيخ الجليل المطران ددّي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إن خالي قد قتل‪ ،‬و نريد نقل جثمانه لدفنه هنا في الموصل‪،‬‬ ‫مسقط رأسه‪.‬‬ ‫بادرني المرحوم المطران ددي بلطم خدود ِه و قال‪:‬‬ ‫ يا ابني‪ ..‬اذهبوا و ادفنوه هناك – اي في زاخو‪ -‬و‬‫سوف اعمل له قداسا ً عظيما ً هنا – اي في الموصل‪-‬‬ ‫ فأثارني كالم المطران و خوفه الالمتناهي هذا‪،‬‬‫فساءني ان اقف في وجهه وهو معلمي الذي احترمه و اجله‬ ‫و كذلكلمكانته الحالية‪ ،‬لكن في حالة من الغضبلم اتمالك‬ ‫اعصابي فقلت له‪:‬‬ ‫ سوف نذهب و ندفنه و ال نريد قداسا ً منك‬‫ بكل تواضع و ادب جم‪ ،‬و ما يزال المطران تحت‬‫وطأة خوفه– من الحكومة – اجابني‪:‬‬ ‫ الشأن شأنك‪..‬‬‫لكن مع ذلك‪ ،‬بعد عودتنا من زاخو‪ ،‬اقام المطران قداديس‬ ‫ال َعزاء أليام ثالثة‪،‬متجاوزا ً خوفه من ان يكون القس متهما ً‬ ‫بالتعاون مع الثورة الكوردية‪.‬‬ ‫اما ابن خالة القس حنا قاشا المدعو عوني قزازي"‪ ،‬فقد‬ ‫ارسل خبرا ً الى كل الصحف الصادرة ذلك اليوم بأن "القس‬ ‫حنا توفى بالسكتة القلبية في زاخو"‪ .‬و لم يكن تصرف‬ ‫عوني قزازي هذا مريحا ً ابداً‪..‬‬ ‫‪86‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫مجلة الفكر المسيحي التي تصدر في الموصل‪ ،‬نشرت خبرا ً‬ ‫من عدة اسطر عن استشهاد القس حنا قاشا‪ ،‬و كانت‬ ‫الصحيفة معبرة عن الحدث‪ ،‬و هذا كثير على عهد البعث و‬ ‫سلطته الغاشمة!‪.‬‬ ‫و غير ذلك كان الصمت هو صفة الموقف الكنسي العام‪،‬‬ ‫بطريركا ً و كنيسة بوجه عام‪ ،‬فلم يطالب احد بدماء قرية‬ ‫مسيحية ذبحت‪ ،‬او قس استشهد مع ابناء شعبه و كنيسته‬ ‫األب البير ابونا و هو ابن المنطقة‪ ،‬كان متابعا ً للحدث‪ ،‬و قد‬ ‫التقيته ذات صباح في بيت جدتي ام القس حنا‪ ،‬و كان يتابع‬ ‫ي ان احضر معهم بعد يومين‪ ،‬و‬ ‫تركة القس حنا و اشار ال ّ‬ ‫لما خرجنا سوية انا و األب البير من بيت جدتي‪......،‬‬ ‫خالل الطريق عن ضرورة ان اكون بينهم عند احصاء‬ ‫التركة‪ ،‬فبينت له انني ايضا ً ال ارغب بأن اكون شاهدا ً في‬ ‫قضية الميراث‪.‬‬ ‫و لم اعلم عن اي موقف لالب البير ابونا غير هذا‪ ،‬و هو‬ ‫الباحث و المؤرك المعروف‪.‬‬ ‫اما عن موقف البابا من المذبحة‪ ،‬فقيل انه قد علم بها و‬ ‫اصدر تصريحا ً لم يصلنا فحواه‪ ،‬لكن عند زيارة البطريرك‬ ‫للبابا بعدها بسنوات‪ ،‬قال له الحبر االعظم‪:‬‬ ‫فقدت قسا ً جيداً‪.‬‬ ‫ لقد‬‫َ‬ ‫اشارة ً الى القس حنا قاشا الشهيد‪.‬‬ ‫ثم جاء الى سدة البابوية‪ ،‬البابا البولوني يوحنا بولص‬ ‫الثاني‪ ،‬و اشتهر هذا الحبر األعظم بكثرة التطويبات‪ ،‬و من‬ ‫‪87‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫جملة تطويباته انه شمل بها القس حنا قاشا شهيد صوريا‪،‬‬ ‫و اخبرتنا الخالة جينا و قد كانت دائبة البحث عن اخبار‬ ‫اخيها الشهيد القس حنا قاشا و المواقف المختلفة من قضيته‪،‬‬ ‫فمثالً اتصلت بحكومة االقليم التي كانت قد صرفت (راتب‬ ‫شهيد) للقس حنا قاشا‪ ،‬و آل هذا الراتب الى اخته المقعدة‬ ‫"ماري" و هي ما تزال تستلمه لحد االن ‪.‬‬ ‫اما التطويب‪ ،‬فلقد صدر فعالً عن قداسة البابا على حسب‬ ‫قول الخالة جينا‪ ،‬و انه سوف يعلنه عند قدومه الى لبنان‪ ،‬و‬ ‫انها ذاهبة لحضور الحفل الخاص بالمشمولين بالتطويب من‬ ‫الشهداء و الصالحين‪ ،‬ثم لم نعلم عن ذلك شيئاً‪ .‬هل نفذ‬ ‫البابا قراره‪ ،‬هل حضرت الخالة جينا ذلك اليوم المجيد؟‬ ‫ان الذي نعلمه و نقره ان القس حنا الشهيد و شهداء صوريا‬ ‫جميعاً‪ ،‬تطوبوا بالشهادة‪ ،‬و هي اعلى من اي قرار‪.‬‬

‫‪88‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫(‪)17‬‬ ‫قريبا ً من صوريا‬

‫نفذ المطران عمانوئيل ددّي المثلث الرحمات َو ْع َده‪ ،‬و اقام‬ ‫قداديس رائعة أليام ثالثة بعد عودة اهل القس حنا قاشا‬ ‫الشهيد من زاخو‪ .‬و أقيمت مراسيم العزاء في بيت والدته‪،‬‬ ‫و هي جدّة الراوي‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫بعد ايام العزاء‪ ،‬بدأ ازالم السلطة بالبحث عن سليمان‬ ‫يعقوب القس‪ ،‬وآلتُهمة هي التعاون مع الحركة الكوردية‪ ،‬و‬ ‫لكن االسم لم يكن مطابقا ً للشخصية‪ ،‬فلقد ظنوا أني اخو‬ ‫القس حنا‪ .‬و هذا االختالف و بمساعدة بعض االشخاص‬ ‫جعلهم يغضون النظر و يلفلفون الموضوع‪ ،‬فمرت الموجة‬ ‫بسالم‪.‬‬ ‫لم تأخذ مذبحة صوريا و مصرع القس حنا قاشا على يد‬ ‫العسكر البعثيين‪ ،‬حقها من االهتمام ال من كنيسة العراق و‬ ‫ال منظمات المجتمع المدني و الرأي العام الدولي‪ ،‬حتى‬ ‫البابا و قد وصله علم بالمذبحة و استشهاد القس‪ ،‬لم يزد عن‬ ‫كلمات مقتضبة و ابداء األسف على ما حدث‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اال االذاعة الكوردية التي كانت تبث من المناطق المحررة‪،‬‬ ‫استمرت أليام عدة في عرض وافٍ و كشف لما اقترفه‬ ‫الجيش الذي ينفذ اوامر الحكومة البعثية‪ ،‬ليس في صوريا و‬ ‫حدها بل في داكان ايضاً‪ ،‬و هو كهف احتمت فيه بعض‬ ‫العوائل الكوردية‪ ،‬فطوقه الجيش و قاموا بذبح من فيه من‬ ‫العوائل و احرقوه انتقاما ً من الثورة و من رجالها‪.‬‬ ‫لم يرتدع الحكام البعثيون بعد تلك المذبحة و لم يخفضوا من‬ ‫قسوتهم‪ ،‬و لم يقدموا و ال حتى اعتذارا ً شكليا ً عن قتل‬ ‫االبرياء و اراقة الدماء دون ذنب يذكر‪.‬‬ ‫كان الصراع يشتد‪ ،‬فكلما صعدت الحكومة البعثية من حدة‬ ‫عملياتها العسكرية كان المقاومون الكورد يزدادون تماسكا ً‬ ‫و اصراراً‪ ،‬و يوقعون الضربات الموجعة في قوات‬ ‫الحكومة‪ ،‬التي لم يكن يؤمن معظم افرادها بهذا القتال‬ ‫الجائر و الظلم بحق اخوتهم الكورد‪.‬‬ ‫و لما كان القتال في اعلى شدته‪ ،‬جاءت االخبار ان الحكومة‬ ‫سوف توافق على وقف القتال‪ ،‬و ان بيانا ً سيصدر مساء‬ ‫الحادي عشر من اذار بهذا الشأن‪ ،‬و سيقرأ البيان الرئيس‬ ‫احمد حسن البكر نفسه‪.‬‬ ‫و جاء بيان اذار التاريخي ليضع حدا ً لالقتتال‪ ،‬و سمي من‬ ‫الجانب الكوردي باتفاقية اذار‪ .‬اال ان حكومة البعث لم تلتزم‬ ‫بتلك التسمية‪ ،‬و هذه اشارة اولى عن نياتها غير الحسنة‪ .‬و‬ ‫كانت المدة بين وقف القتال و تنفيذ وعود الحكومة اربع‬ ‫‪90‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫سنوات‪ ،‬فاطمأن الشعب الى ان اربع سنوات من السالم‬ ‫سوف تسود على االقل‪.‬‬ ‫كان فرح العراقيين جميعا ً ال يوصف بوقف القتال‪ ،‬و‬ ‫اعتبره الكورد نصرا ً لثورتهم‪ ،‬و نامت ارواح الشهداء‬ ‫مطمئنة تلك الليلة‪ ،‬و اعتبرته الحكومة تنفيذا ً لمبدأ البعث‬ ‫باعترافه بحقوق القوميات‪ ،‬و هذا دجل ما بعده دجل! ألن‬ ‫البعث يسعى الى تذويب كافة القوميات و االثنيات التي‬ ‫تقطن الوطن العربي في قومية واحدة و هي القومية‬ ‫العربية‪ ،‬و يريد ان تسود اللغة العربية المنطقة بأجمعها‪ ،‬و‬ ‫ان تُلغى و تطمس كافة القوميات التي تقطن في الوطن‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫بُ َعي َد بيان اذار‪ ،‬اقرت الحكومة العراقية بالحقوق للناطقين‬ ‫بالسريانية من الكلدان االشوريين السريان‪ ،‬و بحقوق‬ ‫التركمان‪ ،‬و كان هدفها من تلك القرارات اعالميا ً و لتجميل‬ ‫صورة البعث الفاشية التي تركزت في االذهان‪.‬‬ ‫يقول الراوي‪:‬‬ ‫في عام ‪ 1984‬ابان الحرب العراقية االيرانية‪ ،‬استدعوني‬ ‫عن طريق مديرية تربية محافظة نينوى الى قاطع الجيش‬ ‫الشعبي الخامس بالمعلمين‪ ،‬و بالحقيقة فقد وجدتها فرصة‪،‬‬ ‫فأنا لم اكن مشموالً بالخدمة العسكرية كوني معلماً‪ ،‬و هذه‬ ‫فرصة للتعلم على استعمال السالح الضروري لكل فرد‪.‬‬ ‫و كم كانت فرصة ال توصف عندما علمت ان المكان‬ ‫المخصص لقاطعنا هو ديرابون‪ ،‬اي انني ساكون قريبا ً من‬ ‫‪91‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫صوريا‪ ،‬و سأزور االماكن التي خدم بها خالي القس حنا‬ ‫قاشا الشهيد‪.‬‬ ‫و بالفعل التحقنا بالقاطع و كانت خدمتي في ربية النمر‪ ،‬و‬ ‫هي نقطة سيطرة القاطع في مفرق زاخو‪-‬ديرابون‪.‬‬ ‫كان وقت االلتحاق شتاء‪ ،‬و ما ان اط ّل الربيع برأسه حتى‬ ‫اخذت افتعل من المناسبات‪،‬او اركب في سيارة االرزاق‬ ‫لالطالع على المنطقة‪ ،‬فرأيت‪ :‬ديرابون‪،‬قرولة‪،‬فيشخابور‪،‬‬ ‫و لكن كان يسكنها العرب‪ ،‬فال زراعة تذكر و المياه تذهب‬ ‫في االرض عبثاً‪.‬‬ ‫و في جولة مشيا ً على االقدام مع سفح الجبل‪ ،‬كنا نمر على‬ ‫اثار القرى المسيحية المندرسة‪ ،‬كانت القرى قد سويت‬ ‫باالرض‪ ،‬و لم يبقَ منها اال األسس الحجرية لكنائسها و‬ ‫االعشاب تنمو فوقها و تغطيها من كل جانب‪ ،‬اما كرومها‬ ‫فتحولت برية متشابكة االغصان تختلط مع االشواك و‬ ‫العواسج‪..‬‬ ‫مر رجل‬ ‫في احد االيام و بينما انا واقف في نقطة الحراسة‪ّ ،‬‬ ‫كوردي‪ ،‬و كان هذا الرجل يأتي لنا بقالب من الثلج ك ّل يوم‪،‬‬ ‫لكن عندما التقى بي في ذلك اليوم قال لي ‪:‬‬ ‫انت تشبهنا‪ ،‬فما الذي اتى بك الى هنا؟‪.‬‬‫اجبته قائالً‪:‬‬ ‫ نعم فأنا مسيحي‪ ،‬و لي عندكم في زاخو عترةٌ(اي‬‫قرابة)‪ ..‬هو خالي القس حنا قاشا شهيد صوريا‪.‬‬ ‫‪92‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫فما ان سمع الرجل اقوالي‪ ،‬حتى تغيرت الوانه و صعد الى‬ ‫سيارته و لم يعد الينا ابداً‪ ،‬فحرمنا من الثلج الذي كان يجلبه‬ ‫يومياً‪.‬‬ ‫كان ذلك الرجل الكوردي من المتعاونين مع الحكومة‪ ،‬و هو‬ ‫و كيل للشخص الذي كان يزرع السهل الكبير المحاذي‬ ‫لجبل زاخو‪،‬يقال انه كان يزرعه مناصفةً مع خير هللا طلفاح‬ ‫والد زوجة صدام حسين و خاله‪.‬‬ ‫فهل كان ذلك الرجل يعرف اشياء عن صوريا ال نعرفها‬ ‫نحن؟ و من ضمنها عن الشخص الذي وضع اللغم قريبا ً من‬ ‫القرية و ادى الى ذبحها؟‬ ‫مر بنا على طريق الربية بضعة‬ ‫ذات صباح مشرق جميل ّ‬ ‫شباب‪ ،‬كانوا بعمر الذي رأيته يوماًُ​ُ مع الشيخ الذي نجا‬ ‫من المذبحة‪ ،‬فقابلتهم و سألتهم‪:‬‬ ‫ الى اين تذهبون ايها الشباب؟‬‫ اجابوا و قالوا‪:‬‬‫ نحن من صوريا‬‫ صوريا! و اين هي صوريا؟‬‫ انها هناك‪ ،‬و اشار احدهم بيده نحو القرية‪ ،‬انها على‬‫بعد ربع ساعة فقط مشيا ً على االقدام‪.‬‬ ‫ و هل تأخذوني معكم اليها‪.‬‬‫ هيا تفضل على الرحب و السعة‪.‬‬‫ لم اذهب معهم الن مالبسي كانت بغيضة‪ ،‬و كنت‬‫احمل على كتفي رشاشة العدوان التي بمثلها ابيد‬ ‫‪93‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫الصوريون و قسهم الشهيد‪ .‬و هذه احدى مفارقات الدرس‬ ‫العظيم الذي يسمونه التاريخ‪.‬‬ ‫انتهى‬

‫‪94‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫شهادة من صديق‬ ‫الشهيد البار القس حنا يعقوب قاشا‬ ‫رحمة هللا عليه فقد كان مناضالً حقا ً و كان شهيدا ً للواجب‬ ‫حقاً! فهو إذن قديس حقاً‪.‬‬ ‫كنت قد عرفته منذ ‪ 1942‬تلميذا ً اكليريكيا ً شابا ً في معهد‬ ‫مار يوحنا الحبيب لالباء الدومنيكان بالموصل‪ ،‬يحضر مع‬ ‫رفاقه االكليريكيين اجتماعات اخويتنا و نشاطاتها و هي‬ ‫اخوية مسيحية للشباب في رحاب الكاتدرائية الشهيرة‬ ‫للسريان الكاثوليك بارشاد القس حنا رباني العالمة‬ ‫المعروف حامل شهادة الدكتوراه بالفلسفة و معلم االجيال‪.‬‬ ‫و مرت االيام و شاهدت التلميذ االكليركي حنا بل تأملته‬ ‫راكعا ً امام مذبح الرب مع رفاقه الخمسة مستعدين القتبال‬ ‫درجة الكهنوت في كاتدرائية مسكنتا العريقة على يد مار‬ ‫يوحنا قريو مطران العمادية و بحضور القاصد الرسولي‬ ‫حينذاك المنسونيور جورج البلجيكي و ذلك الصباح‬ ‫‪ ،1943/5/15‬و شاهدت القسيس الجديد حنا قاشا يقيم‬ ‫قداسه االول في كنيسة مار كوركيس (قرب خزرج)‬ ‫بحضور والدته (خالة حسينة) و اخوته جميل و جبرائيل و‬ ‫عزيز و اخواته‪.‬‬ ‫هذا و بعد انتهاء السنة الدراسية في المعهد التحق القس حنا‬ ‫بأبرشية زاخو المنتمي اليها اصالً و تعين في قرية حدودية‬ ‫نائية اسمها (قرولة) يسكنها نازحون من هنا و هناك ‪ ،‬تقع‬ ‫‪95‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫هذه القرية على نهر الهيزل و هو جدول صغير يصب في‬ ‫الخابور‪ ،‬و امضى الكاهن الجديد سنوات من حياته في‬ ‫خدمة ابناء هذه القرية فكان القس حنا هو المرشد و االب و‬ ‫المعلم و الطبيب و المضمد و هو الكل في الكل‪ ..‬و يجمع‬ ‫االوالد يعلمهم الصلوات‪ ،‬و يجمع مسا ًء الشبان و الرجال‬ ‫ليتلوا عليهم بعض فصول من الكتاب المقدس و يقص‬ ‫عليهم بعض القصص التاريخية‪ .‬اما في قداس الصباح‬ ‫فاالرشادات و التوجهات عامة لجميع نظرا ً للظروف و‬ ‫االحوال السائدة!‬ ‫سقط الشهيد القس حنا مع زمرة من ابناء رعيته و سواهم‬ ‫يربو عددهم على الثالثين ذهبوا يشكون الى هللا ظلم االنسان‬ ‫و غدره‪:‬‬ ‫نقل جثمان الشهيد المبارك الى كنيسة الكلدان في زاخو‬ ‫حيث احتفل الجميع بالصالة من اجله و دفنه بين الدموع و‬ ‫الحزن في ضريح امام باب الرجال في تلك الكنيسة بعد ان‬ ‫حضر اخوته و اقاربه من الموصل و سواها‪.‬‬ ‫و في الموصل اقيمت له الصلوات و مجلس العزاء بحضور‬ ‫الغفير من الناس و قد هالهم المصاب بفقدان هذا القسيس‬ ‫المناضل الذي لم يكد إن يتم الخمسين من عمره فقد كان‬ ‫من مواليد ‪.1919‬‬ ‫وقد عنيت بتهيئة قطعة مرمرية صورته الكهنوتية ثم نبذة‬ ‫صغيرة عن سيرته في الحياة جلبها اخوته الى زاخو‬ ‫واضعين اياها فوق ضريحة المبارك‪.‬‬ ‫‪96‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫هكذا قضى هذا القس الشهيد خدمته مدة ‪ 26‬سنة اصعب‬ ‫الظروف و اقساها متنقالً الى دار البقاء يشكو الى هللا قسوة‬ ‫االنسان و غدره بأخيه االنسان‪.‬‬ ‫رحمك هللا ايها الكاهن المناضل و جعل نصيبك مع زمرة‬ ‫الشهداء االبرار في دار الخلود‪.‬‬ ‫صديقك الذي ال ينساك‬ ‫بهنام سليم حبابة‬

‫‪97‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫خاتمة‬ ‫لم يكن للقس حنّا قاشا التّياري الدّماء‪ ،‬القوي‬ ‫الشكيمة؟‪،‬المفكر‪ ،‬الفيلسوف‪ ،‬الشاعر‪ ،‬ان ينتظر حتى يشيخ‬ ‫ليموت على فراش المرض‪ .‬ان معظم األفذاذ من أمثاله‬ ‫ماتوا في عمر الخمسين كما قضى هو شهيداً‪.‬‬ ‫َر َح َل في زمن نُضجه‪ .‬وقمة عطائه‪ .‬لكن الفرصة‪ ،‬وأية‬ ‫فرصة ضاعت‪ ،‬وهدرت‪ .‬وكم من فرص مثلها ضاع‬ ‫و ُهد َِر‪ ،‬على أيدي التوحش البشري الملتحف باسماء كبيرة‬ ‫مثل الدين والوطنية والقومية‪ ،‬وهي كلها منه براء‪.‬‬ ‫ما كان لعقل القس حنّا قاشا الكبير‪ ،‬ان يظ ّل بعيدا ً عن‬ ‫مشاكل قومه ومعاناة شعبه‪ ،‬حتى لو كان األمر يس ّمى‬ ‫سياسة‪ .‬وهو رجل دين وخادم رعيّة‪.‬‬ ‫ان الثورة الكورديّة التي قامت في ‪ 11‬ايلول ‪،1961‬‬ ‫وجدت طريقها الى قلب وعقل القس حنا قاشا‪ ،‬كطريق‬ ‫للخالص من االستغالل والظلم واالضطهاد‪ .‬وكان هذا رأي‬ ‫حر شريف في العراق عموماً‪ ،‬حتى ولو لم يكن‬ ‫كل ّ‬ ‫كوردّياً‪.‬‬ ‫وتعلّقت مشاعر القس بشخصيّة قائد الثورة "المال مصطفى‬ ‫البارزاني"الخالد الذكر‪ .‬واعتبره ليس قائدا ً ثوريا ً فحسب‪،‬‬ ‫‪98‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫وانما أبا ً للشعب الكوردي‪ ،‬لما وقع في قلبه من حب عميق‬ ‫للمشاعر االنسانية في شخصية المال البارزاني‪ ،‬وفي تعامله‬ ‫وغير ِه‪.‬‬ ‫مع األحداث‪ ،‬وتسييره لها بأقل الخسائر‪ ،‬لهذا‬ ‫َ‬ ‫والقس حنّا نفسه ابن شعب مضطهد‪ ،‬وض َع امكانياته كلها‬ ‫في خدمة الثورة ورجالها‪ ،‬بحدود ما يسمح له موقعه كقس‬ ‫يقدم الخدمة لمن يحتاجها ولكن تصرفه االنساني المحض‪،‬‬ ‫كاد ان يوصله الى االعدام‪ ،‬وقد وصله لوال تدخل الضابط‬ ‫السوري‪ ..‬كما اسلفنا في احد الفصول‪.‬‬ ‫انني اذكر هذا للتاريخ‪ ،‬ال ابتغي اال اراحة ضميري وازالة‬ ‫الثقل عنه‪ ..‬عليه اقول‪:‬‬ ‫ ان موقف القس حنّا من الثورة الكوردية‪ ،‬ال يقل عن‬‫موقف القس الثائر الكولومبي كاميللو توريز‪ ،‬الذي انضم‬ ‫الى الثوار في موطنه كولومبيا‪ ،‬وقاتل معهم حتى قُتِ َل‬ ‫وسالحه بيد ِه‪.‬‬

‫‪99‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫اال ان طبيعة القس الشهيد حنّا قاشا السلميّة‪ ،‬لم تكن تسمح‬ ‫له بحمل السالح‪ ،‬وال هو رجل سالح‪ .‬فقدّم للثورة ما‬ ‫استطاع من دعم انساني‪ ،‬وتحمل كافة النتائج المترتبة على‬ ‫ذلك في سبيلها‪.‬‬ ‫تم في يوم الخميس‬ ‫‪ 26‬ايلـول ‪2013‬‬ ‫ابــو يوســف‬ ‫عنكاوا‪ /‬اربيل‪ /‬كوردستان‬

‫‪100‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫التلميذ حنا قاشا الصورة الثاني من اليمين اسفل‪..‬‬ ‫في معهد مار يوحنا الحبيب‬ ‫من ارشيف االستاذ بهنام حبابة‬

‫‪101‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫المؤلف‬ ‫سليمان ايليا – ابو يوسف‬ ‫المواليد‪1946:‬‬ ‫التحصيل الدراسي ‪:‬خريج دار المعلمين‪-‬اربيل ‪1964‬‬ ‫صدر له‪:‬‬ ‫‪ -1‬الطريق الى المجد – رواية‪-‬‬ ‫‪ -2‬الفك المفترس – رواية في ثالثة اجزاء‪-‬‬ ‫أ‪ -‬قلعة الصياح‬ ‫ب‪ -‬العُقاب‬ ‫ت‪ -‬سنوات الحصار‪.‬‬ ‫و هو ابن اخت الشهيد القس حنا قاشا و من اشد المتأثرين‬ ‫بالنظرة الثاقبة و المنهج المستقيم للقس الشهيد‪ ،‬و خاصة‬ ‫اراؤه في قضية العادلة للشعب الكوردي‪ ،‬و عالقته الوثيقة‬ ‫بكل الشعوب المظلومة‪ ،‬و ما مآساة صوريا االّ احدى صور‬ ‫االضطهاد و التي تنتج عن العقلية الجاهلة و المتعصبة على‬ ‫هذه االرض ‪ ...‬و في كل مكان‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫بانوراما الشهادة‬

‫‪103‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.