بانوراما الشهادة
1
بانوراما الشهادة
سليمان ايليا ابو يوسف
2
بانوراما الشهادة
حياة القس حنا قاشا و مصرعه و مذبحة صوريا /16ايلول1969/
اسم الكتاب :حياة القس حنا قاشا و مصرعه و مذبحة صوريا /16ايلول1969/ المؤلف :ابو يوسف الطبع والتدقيق :ابو هيَفا التصميم :هيرش مغديد عدد النسخ500 : المطبعة :بينايى رقم االيداع502 : السنة2014 : وزارة الثقافة والشباب 3
بانوراما الشهادة
أقليم كوردستان/أربيل
4
بانوراما الشهادة
االهداء
الى روح أبتي الطاهر البار .خالي الشهيد القس حنا قاشا وأهل قريته صوريا ،و الى كل شهداء البراءة في كوردستان و المقابر الجماعية في العراق بأجمعه .نبضة ب يع ّج بالوفاء قل ٍ أبو يوسف
5
بانوراما الشهادة
شكر و تقدير
اتقدم بجزيل الشكر و التقدير الى السيدة جنان بولص كوركيس على تجشمها عناء مراجعة هذا الكتاب .كما اتقدم بشكري الى الشاب القدير ريبين توفيق حكيم ،على مثابرته في تنضيد الكتاب اليهما ارفع تحياتي و خالص تمنياتي.
6
بانوراما الشهادة
المقدمة عزيزتي القارئة – عزيزي القارئ "بانوراما" كلمة أجنبيّة تعني اللوحة المتكاملة وهذا ما قصدت التعبير عنه في هذا الكتاب ،عن حياة القس حنّا قاشا واستشهاده الدّرامي الفاجع ،هو وأبناء قرية صوريا الذين صليب جاءهم القس ليحتفل واياهم باقامة مراسيم عيد ال ّ مرة على يد القديسة المقدّس ،في أيام اكتشافه ألول ّ "هيالنة" أم "قسطنطين" القائد البيزنطي الذي كان يقاتل سماء والى جانبها األعداء ،فظهرت له عالمة الصليب في ال ّ كتابة باليونانية تقول: "بهذ ِه العالمة انتصر"...وبعد انتصاره ،ارسل ا ّمهُ الى بيت المقدس ،في رحلة الكتشاف الصليب الذي صعد عليه المسيح له المجد .فقامت الملكة هيالنة بتدمير معبد افروديت (فينوس) الذي اقامه الرومان الوثنيون فوق مكان الصليب األصلي ،وظهر تحت المعبد الصليب الحقيقي ،وقد عرفوه من خالل وضعه على جسد ميت ،فعادت له الحياة في أعجوبة نادرة .ومن ثم قامت هيالنة باشعال النار التي كانت تتوالى اشعالها القرى والدساكر ،حتى وصلت الرسالة الى روما .وهذا التقليد 7
بانوراما الشهادة
جرى عليه المسيحيون منذ ذلك الحين ،فيقومون باشعال النيران واقامة الصلوات للذكرى. تحولت صوريا في ذلك اليوم السادس عشر من ايلول لقد ّ 1969الى جلجلة معاصرة ،قتل فيها خادم المسيح القس حنا قاشا ،وشعب قرية صوريا بكل ماتعني كلمة شعب من رجال ونساء وأطفال ،قتلوا دون أدنى رحمة يملكها بشري. سها الدائم، القس حنّا قاشا لم يكن من أهل القرية ،وال حتى ق ّ مر في ذلك اليوم الذي أطفئت فيه الشمس ،ليالقي لقد ّ الرجال روحا ً وعقالً.. الموت على يد أشنع األنظمة وأبشع ّ نظام البعث ورجله العسكري المالزم عبد الكريم الجحيشي. ولكن ماذا نقول لو أن القس حنا لم يذهب الى صوريا في ذلك المصباح ،ألي سبب من االسباب؟ هل كان سيعيش ما تبقى من حياته مرتاح الضمير؟ اننا -نحن الذين عرفناه- نجزم بأنه كان سيموت كمدا ً وحزنا ً على الضحايا. كان القس حنّا سيقول: لو انني كنت حاضرا ً بينهم لمنعتُ المذبحة.يعول على صحوة الضمير عند هكذا كان القس حنّا قاشا ّ سائر الناس مهما كان دينهم او لونهم او قوميتهم. االّ أن الحكمة عجزت عن تأدية عملها في ذلك الصباح الدامي. لم تستطع كلمات القس حنّا الدافقة باإلنسانية والتذكير سهم الزائر غائلة بالرأفة ،أن تدفع عن اهل صوريا وعن ق ّ الموت. 8
بانوراما الشهادة
لقد قال احد الخطباء في قدّاس التأبين للقس الشهيد وأهالي صوريا: إني أرى اصبع هللا في مثل هذه األحداث.ولعلكم بعد االنتهاء من قراءة هذا الكتاب ،ستوافقون الخطيب الحكيم على استنتاجه البليغ هذا.
9
بانوراما الشهادة
مدخل
"وح َدث يوما ً أن نبي أيوب وبناته كانوا يأكلون ويشربون خمرا ً في بيت أخيهم األكبر" فأقبل رسول الى أيوب وقال: فآنقض بنو "كانت البقر تحرث والحمير ترعى الى جانبها، َّ سبأ. وأخذوها وقتلوا الرعيان بحد السيف ،ونجوت انا وحدي ألخبرك" ايوب13/1 صباح السادس عشر من ايلول عام ، 1969إبان حرب البعث الثانية على كوردستان ثاني أيام عيد الصليب ،كان القس حنا قاشا يقيم قدّاسا ً لرعيّة قرية صوريا ضيفا ً على القرية .انفجر لغم على قافلة عسكرية قرب القرية .اقترح مختار القرية على القس ان يهرب الجميع حفاظا ً على األرواح ،رأى القس ان يذهب مع المختار لمقابلة قائد القافلة ،إلثبات البراءة. فور مواجهة الطرفين ،أخذ الضابط عبد الكريم الجحيشي يسب القس والمختار ومعهم اهل القرية ،وأمر ان يجتمع الموجودون في ساحة لألغنام.. سائق سيارة القس كوردي ومسلم ،أمره الضابط باالنضمام الى اهل القرية. 10
بانوراما الشهادة
رفع القس يديه الى السماء فأطلق الجحيشي اولى رصاصاته في صدر القس .وآنهمر الرصاص مدراراً ،لكن الضابط لم يكتف ،بل أمر جنوده ان يفتشوا عن االحياء بين جثث الضحايا" ،رفعت رأسي" يقول الراوي" :فإذا بجندي يوجه فوهة رشاشته صوبي ويقول بصوت خافت :ولّي! فعدت الى وضعي .وهكذا نجوت ثانية بفضل يقظة روح الخير في ذلك الجندي" ،اما كيف نجوت؟" يقول الشيخ ّ المسن: "ان بناتي الثالث ،جعلن من اجسادهن درعا ً بشريا ً وسقطن فوقي تحت زخات الرصاص الكثيف" رواية شيخ مسن التقيته بعد أيام من المذبحة ،جاء لتعزية جدتي ألمي والدة القس حنا قاشا يحرفون ال َك ِلم قالوا على قومي :انهم ّ و ان ك ّل كلمة (حرب) قرأوها (سلم) و إذ قال المعلم لهم : جئت أللقي سيفاً! القوا سيوفهم ارضا ً و مدّوا االعناق لسيف ال ُ ظلم -1س ّميل هي أرض هللا امتدت واسعة يضع اثقالهم في رحابها المتعبون الشيخ و الطفل و مكحالت العيون 11
بانوراما الشهادة
القوا سالحهم و هم للغفلة طائعون وفتحت جهنم ابوابها و خضبت بالدم راياتها و أطاحت النار بأجوائها و أخلى الوجود ي َده ليد ال َع َدم -2صوريا يُقتل البريء مثل طيور الجنة كذلك في مأوى الخراف قتل مع شعبه القاشا حنا "فلنهرب سيدي" قالها المختار "براءتنا تنجينا" أجاب القس فال تحتار لكن الجحيشي غير الكريم يسحب رشاشته الكالشنكوف المغدور بحقد عداوته هيا ايها الكالب تجمعوا افواجا فبغير قتلكم ال تكون راحة صوت يرتفع في البعيد انا سائق كوردي و انا مسلم! خذ مكانك حيث انت انك منهم!يرفع القس يديه بالصالة يا رب انت وحدك قادر على صنع المعجزات أبعد الكأس ال عني لكن عن شعبك فتلقى بصدره اولى االطالقات 12
بانوراما الشهادة
فلتعلم انت ان كنت ال تعلم -3سيدة النجاة كنيسة هللا هي ثالثة األثافي في قتلهم كان الدواء الشافي صبّ عليهم الليث جام غضبه فجندل الشيخ المنير في تهجده و لم يشفع للعبد تعبده لسيده فالرحمة غادرت و الغضب ع ّم و عطشت نفو س و الشراب دم النوم فمتى لفجر الحقيقة يصحو ّ
13
بانوراما الشهادة
()1 (مار ياقو)
هي قرية كانت في أعلى الجبل ،ثم صارت فكرة انتقلت الىى السىىهل و سىىارت مىىع مجىىرى النهىىر حتىىى وصىىلت البحىىر ،و سافرت عبىر المحىيط الىى اقاصىي األرض ،فآنزرعىت علىى الشواطئ ،و صعدت الى أعالي الجبىال مىن جديىد و شىمخت باسىىمها الرديىىف" :شىىانت يىىاقو" كمىىا فىىي مىىدونات الرحالىىة العرب ،و "سانت ياغو" ،حسب السكان اإلفرنج فىي عمىوم األمصار و البلدان. و يعود سبب تأثر الفتى الذي يقوم بروايىة األحىداث ،الىى ان البيت الذي كان لىه اكبىر األثىر فىي حياتىه و هىو بيىت جدتىه- والدة القىس حنىا قاشىا الشىهيد -الىذي لىم يكىن ذكىر مىار يىاقو ينقطع فيه ،حتى بات يتصورها الجنة المفقودة او الحلم الذي ال يمكىىىن تحقيقىىىه ،و لكىىىن الىىىذي يبقىىىى حيىىىا ً يىىىرى ،كمىىىا فىىىي االمثال..فتصىىىادف ان يكىىىون جىىىاري بعىىىد عقىىىود عتيىىىة مىىىن السنين ،رجالً بعمري و هو ماموسىتا (حنىا سىليمان) ،ولىد و ترعرع في (مار ياقو) ،جاء ليتحفني بما أحفر بأظافري و اسناني بحثا ً عنىه ،و ليىروي ظمىأي الىى معرفىة حقيقىة (مىار ياقو) في الزمان و المكان... 14
بانوراما الشهادة
(مىىىىار يىىىىاقو) و اسىىىىمها فىىىىي سىىىىجالت الطىىىىابو و االحىىىىوال المدنية(قَشَه فَرو) ،و هي تسمية جاءتها من اسم احد الكهنىة الذي خدم القريىة فىي فتىرة مىن الفتىرات ،و كىان اسىمه القىس فرنسيس. اما اسم مار ياقو ،فجاء من اسم الدير (مار يعقوب الرائىي) و الذي بنيت القرية الى جانبه .و مىار يعقىوب شىفيع القريىة، تحتفل بعيده في يوم االثنين بعد عشرين يوما ً من عيد القيامة . تأسىىس ديىىر مىىار يعقىىوب حىىوالي سىىنة ( 664م ) ،علىىى يىىد الراهب ايشوعياب من دير مار ايث االها. في بيت جدتي كان الحديث يخلط الواقع بأالساطير ،فيصور اجدادي ألمي ،مثل "شعب طروادة" الذي نىزح بعىد احتىراق المدينة التاريخية ،فكان المتحدثون يقولون : ان اصلنا هو من قبائل "التياري" ،التي نزحت مىن الجبىال العليا في ارارات التي استقرت عليها سفينة نوح النبىي عليىه السالم. امىىىا الكاتىىىب المىىىدني الشىىىماس "جميىىىل برنىىىادوس اسىىىكندر هومي" ،فيقول في تاريخ مار ياقو و عن الدير و الكنيسة ما يلي : " َ ظىى ّل الىىىدير عىىىامرا ً الىىىى اواخىىىر القىىىرن ،14حيىىىث هجىىىره رهبانىىه و اصىىابه الخىىراب ،و خاصىىة الجهىىة الجنوبيىىة التىىي كانت تشمل غرف (االستقبال و المطبخ و غرفىة الطعىام) ، 15
بانوراما الشهادة
امىىىا الكنيسىىىة كانىىىت باقيىىىة حتىىىى سىىىنة (1988م) عنىىىدما تىىىم تفجيرها من قبل نظام البعث السابق في عمليات االنفال. ثم يتابع الكاتب الجليل: " و قامىىت بجانىىب الىىدير قريىىة "مىىار يىىاقو" ،سىىكنتها عوائىىل نزحىىت اليهىىا مىىن معلثايىىا ،خاصىىة عائلىىة هىىومي و سىىكو و شىىينو ،ثىىم سىىكنت القريىىة عوائىىل أخىىرى جىىاءت مىىن مختلىىف المناطق الجبلية ال مجال هنا لذكرها مع اعتزازي بها جميعا ً ". فهىىل تكىىون عائلىىة اجىىدادي "ال قاشىىا" مىىن العوائىىل التىىي ال مجال لذكرها ؟ و بهذا لعلى اكون امسىكت بىأول الخىيط عىن ار منها جدي يعقوب ،و هذا هو اسىمه ، تلك العائلة التي لم َ و كل ما نسج حول شخصيته مىن قصىص تأخىذ باأللبىاب ،و منهىىا :ان اعمىىام أمىىي (بطىىرس و يوسىىف و ميخىىو) ،كىىانوا يىىذهبون بصىىحبة جىىدي لجنىىي العسىىل مىىن فىىوق قمىىم الجبىىال العاليىىىة ،فكىىىانوا يلفىىىون حىىىول خصىىىره حىىىبالً و يحمىىىل معىىىه صفيحة و سكين ،فيدلونه من اعلى الجبىل الىى حيىث يسىكن النحىىل فىىي المغىىاور ،فيقىىوم باشىىعال النىىار الحىىداث الىىدخان فيهرب النحل ،و يقوم هىو بقطىع (شىانات) العسىل و يضىعها في الصفيحة و يرسلها عن طريق الحبل الى األعلى. اعىىود الىىى مدونىىة الكاتىىب الشىىماس (هىىومي) ليكىىون التىىاريخ ثابتىىىاً ،فىىىنحن كلنىىىا مسىىىؤولون عىىىن المصىىىداقية و ال يجىىىوز االجتهىاد .كىىان جميىع سىىكان القريىة نسىىاطرة يتبعىون كنيسىىة المشىىىرق النسىىىطورية ،عنىىىدما حىىىل بيىىىنهم األب كامبىىىانيللي 16
بانوراما الشهادة
الدومنيكي اإليطالي مبشرا ً بالكثلكة ،و حلّهم من "الهرطقة" النسىىطورية -حسىىب تعبيىىر ذلىىك الزمىىان -و ذلىىك فىىي سىىنة (1810م) ،و اعادهم الى حضن الكنيسىة الكاثوليكيىة .و قىد اشتهر من قسس القرية :الخوري يونان توما بيداويذ و القس جبرائيل سليمان و القس يوسف توما و القس حنا قاشىا الىذي استشهد في صوريا 1969م. بسىىاتين و كىىروم و مجىىاري ميىىاه عذبىىة ،تلىىك كانىىت قىىرى المسيحيين عموماً ،و لهذا جذبت اليها اطمىاع القىوى التىي ال تحب الجمال من كل مكان .ففي كىل دور كانىت تىأتي موجىة تقوم بتخريبها ،و ياليت انهم يسكنونها .فان مار يىاقو -كمىا يتحىىدث ماموسىىتا حنىىا -هىىي االن عبىىارة عىىن بقايىىا ديىىر ،امىىا الكنيسة فقد محيت من الوجود نهائياً .اهتم االبىاء الىدومنيكان بالبنية التحتية للقريىة ،فشىيدوا لهىم مدرسىة سىنة 1851م مىع قسم داخلي يستقبل التالميذ القادمين من القرى البعيدة ،امىا الراهبات الدومنيكيات ،فانصرفن الى التعليم و تثقيف النساء و ارشادهن. كما كان هناك لآلباء مستوصف منذ سنة 1857م ،يسىتقبل المرضى من مختلف األديان ،و منهم تعلم جدّي الكثيىر مىن االمور الطبية البسيطة ،و لما كان التلقيح ضىد الجىدري هىي المهنىىة المعمىىول بهىىا فىىي ذلىىك الزمىىان ،اصىىبح جىىدي ملقح ىا ً جواالً حتى وفاته اوائل األربعينيات من القرن العشىرين ،و لىىىم يشىىىهد رسىىىامة ابنىىىه الكبيىىىر القىىىس حنىىىا التىىىي تمىىىت سىىىنة 1943م. 17
بانوراما الشهادة
امىىا مىىا آلىىت اليىىه القريىىة فىىي آخىىر ايامهىىا مىىن احىىداث ،فيقىىول الشماس هومي: " تىىم تىىرك الىىدير نهائي ىا ً سىىنة 1961م بسىىبب احىىداث الثىىورة الكوردية ،و هاجر اهالي القرية و كانوا 45بيتا ً . و تم تفجير دير مار يعقىوب ايضىا ً و مىا تبقىى مىن القريىة ،و لىىىىم يسىىىىلم مىىىىن تخريىىىىب الحاقىىىىدين حتىىىىى ضىىىىريح اآلبىىىىاء الدومنيكان". درة الجبىىل االبىىيض الىىذي تقىىع الىىى جانبىىه دهىىوك مىىار يىىاقو ّ عاصىمة السىىهول المعطىاءة كسىىهلي (السىليفاني و السىىندي) ، مار ياقو ترتفع عن مسىتوى سىطح البحىر ()930م ،بجمالهىا الذي ال تشبع منه العىين ابىداً ،كمىا يقىول الىذين رؤوهىا ،هىي الفكرة التىي عشىناها و نبقىى نعيشىها و ننقلهىا الىى االوالد و االحفاد ،ليبقى المكان خالدا ً في العقىول و االفكىار مهمىا يمىر الزمان.
18
بانوراما الشهادة
() 2 التّياري
إن الذي يقرأ حالة هؤالء القوم ،قد ال يجد لهىم اشىباها ً علىى وجه األرض قاطبةً ،في الشدة و الشراسة في حفظ الذِمار. انهم مثل اشجار الحور و السنديان ،و اسىبندار الجبىال ،انهىم السىىادة الفعليىىون ألمىىاكن تواجىىدهم ،المحىىافظون علىىى البقىىاع التي ولدتهم. موطنهم طىول الجبىال وعرضىها ،يصىعب اختىراق صىفوفهم ص ّوان األصم ،و مثل ذوبان المعادن التىي صعوبة اختراق ال ُ تقىىذفها حمىىم البىىراكين الدائمىىة األوار– قىىذفت الحيىىاة بىىبعض مىن صىفوفهم مىن عىرائنهم العاليىة الىى قمىم أقىل علىواً .لكىن تلك العملية لم تنل من شكيمتهم ،و شدة بأسهم. التيىىىاري الىىىذي وصىىىل الىىىى مدينىىىة الموصىىىل أوائىىىل القىىىرن صىىحبة االرسىىالية الدومنيكيىىة ،و آرتىىبط بهىىا هىىو العشىىرين ِب ُ جىىدي ألمىىي " يىىاقو" و اسىىمه فىىي سىىجالت النفىىوس يعقىىوب يونىىان قاشىىا ،و ال احىىد يعىىرف عىىن يونىىان مىىا يكشىىف عىىن موطنه االصلي ،اال اسمه الملحمىي الىذي يىذكر بىالنبي الىذي ِف بىىه حي ىا ً ليكمىىل مكىىث ثالثىىة ايىىام فىىي بطىىن الحىىوت ،ثىىم قُىذ َ 19
بانوراما الشهادة
رسالته الى اهل نينوى بأن يتوبوا ،لئال يقضي عليهم غضب هللا كما قضى على أهل الطوفان من قبل. مدينىىة الموصىىل هىىي وجىىه نينىىوى القديمىىة ،و تشىىكل مركىىز جىب فىي ذلىك ،فهىي مىدينتهم جذب لألصول اآلشىورية ،ال َع َ الغىىابرة و الىىدم يحىىن دائم ىا ً الىىى اصىىله ،فيهىىا التقىىى يعقىىوب التيىىىاري بحسىىىينة كىىىاكوز ابنىىىة السىىىهل النينىىىوي القادمىىىة مىىىن تلكيىىف ،إحىىدى اكبىىر و اجمىىل حواضىىر سىىهل نينىىوى ،الىىذي يأوي ابناء شىعب نينىوى منىذ سىقوط مىدينتهم سىنة 612قبىل المىىيالد ،وهىىم الورثىىة التىىاريخيون و االبنىىاء المتوالىىدون م ىن ذلىىك الشىىعب منىىذ بدئىىه و حتىىى اليىىوم ،و لقىىد تحىىدث اسىىتاذ مصري أزهري الثقافة متخصص باللغة اآلرامية ،زار قرى سهل نينوى فقال بالحرف الواحد: "لقىىد غمرنىىي فىىرح عظىىيم و أنىىا اسىىتمع الىىى هىىؤالء النىىاس يتكلمىىون اللغىىة االراميىىة العريقىىة نفسىىها ،كمىىا درسىىتها فىىي صت فيها حتى حصلت على الدكتوراه".. المانيا و تخص ّ ان ارتبىىىاط يىىىاقو التيىىىاري بزوجتىىىه الموصىىىلية ،افقىىىد اوالده ارتباطهم بلغىة اآلبىاء و االجىداد (السىريانية) .ذلىك الن ابنىاء سىىىهل نينىىىوى و بناتهىىىا يتركىىىون لغىىىتهم األم ،و يسىىىتبدلونها بالعربيىة بسىىبب نشىأتهم فىىي المدينىة ،فينشىىؤون علىى العربيىىة تكلما ً و دراسةً. أما اكثر ما نغّص علىى الفتىى تصىوراته عىن جىده ،هىو عىدم وجود صورة او أثر للجد العتيد.
20
بانوراما الشهادة
اعمام أمه الثالثة ،قُيّض له ان يراهم رؤية العىين ،فآنطبعىت في ذهنه مالمحهم الفوالذية ،و ذكاؤهم الفطىري الىذي ينبثىق مىىىن احىىىداق عيىىىونهم .ان كىىىالً مىىىن االخىىىوة االربعىىىة( يىىىاقو، يوسف ،بطىرس ،و ميخىو) انجىب ولىدا ً علىى االقىل يشىار لىه بالبنىىىىان .األك الكبيىىىىر (يوسىىىىف) الىىىىذي يشىىىىبه شخصىىىىية برجوازيىىة مثقفىىة دائىىم االبتسىىام ،و عينىىاه الىىذكيتان تخترقىىان زجاج نظارتين شفافتين ال يمكن للمىرء ان ينسىاهما ،أنجىب (كوركيس) الذي َد َرس الكهنوت و لم يكمل رسالته ،فأصىبح محاسىىىبا ً مشىىىهورا ً لىىىدى اسىىىواق اوروزدي بىىىاك فىىىي بغىىىداد العاصمة. أما (بطرس) االك الثاني ،فعاش في المدينة و كأنىه مىا يىزال يعىىيش فىىي الجبىىال ،اتخىىذ مىىن بيىىع الفحىىم مهنىىة ،ليبقىىى علىىى ارتباط برائحته النفاذة .كان فحاما ً ال يكل ،يجلس امىام بىاب دكانىىه و ينظىىر الىىى البعيىىد و كأنىىه يسىىتعيد ايامىىه حىىين كىىان يُحضر االخشاب مع اخوتىه ،و يرصىفونها فىي كومىة جبىارة و يرطبونهىىا و يشىىعلون فيهىىا نىىارا ً هادئىىة ،فينفىىذ الىىدخان فيهىىا ايامىا ً حتىىى تتحىىول الىىى فحىىم ،كىىان يشىىرح لنىىا قصىىة تحضىىير الفحم بشوق عظيم .اما ولده المميز فهو (كامل) الذي اصىبح شىىيوعيا ً مرموقىىاً ،مىىارس نضىىاله ضىىد العهىىد الملكىىي بعنىىاد منقطع النظير. و (ميخو) االك الثالث ،انجب (يونس) الذي التحىق بصىفوف الثورة الكوردية ،و برز (بيشمركة) مقىاتالً عىرف بشىجاعت ِه القصىىوى ،و شىىهد لىىه الىىذين عرفىىوه ،انىىه مىىن بىىين المقىىاتلين االشوريين األصالء في صفوف الثورة الكوردية. 21
بانوراما الشهادة
اما جدي (ياقو) أخوهم الرابع ،فكان بيته منىارة ً للثقافىة ،فىإن زوجتىىه المتعلمىىة (حسىىينة كىىاكوز) زودت اوالدهىىا و بناتهىىا بثقافة اولية ،فنشؤوا كلهم متعلمين ،و اكثىرهم تىرك الدراسىة بسبب وفاة جدي المبكرة ،إال ان االبىن البكىر "حنىا" اسىتمر فىىىي دراسىىىته فىىىي "السىىىيمينير" ،و هىىىو معهىىىد مىىىار يوحنىىىا الحبيب ،حتى أنهىى دراسىته و رسىم كاهنىاً ،قىدم اروع مثىال للكاهن األديب ،الفليسوف – كمىا سىنرى فيمىا بعىد -و حتىى استشىىهاده الىىدرامي فىىي (صىىوريا) ،القريىىة الشىىهيدة .التيىىاري عنصر ثمين ذائب ،إنحدر من الجبال و سار بين األخاديىد و ُ الوهىىىاد ،لقّىىىح العناصىىىر الخامىىىدة و بعىىىث فيهىىىا نسىىىغ الىىىروح الوثابة ،و التياري ياقو ،و لو أنه تىوفي فىي وقىت مبكىر جىدا ً عن اخوته ،اال انه ترك اثرا ً بقىي حيىاً ،و لىيس ابلىغ مىن ولىد صالح يتركه امرؤ بعد انتقاله الى عالم الخلود..
22
بانوراما الشهادة
()3 السمينير
االب يوسف اومي (بالمالبس البيضاء) ملهم الشهيد القس حنا قاشا و مدير معهد ماريوحنا الحبيب لمدة 30سنة 23
بانوراما الشهادة
القنصلية البلجيكية ،القصادة ،بيتالقاصد ،السيمينير ،معهد مار يوحنا الحبيب ،هذه كلها اسماء الصرح العظيم الذي يربض في قلب مدينة الموصل ،قريبا ً من تقاطع الساعة ،و الساعة هي احدى رموز المدينة جلبها الفرنسيون المرسلون ابّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر. هذا البناء بجدرانه الشاهقة كجدران سجن التي تشير الى أنه كان مركزا ً حكوميا ً عثمانيا ً في عهد من العهود ،ثم اصبح من امالك ال الجلبي حسب بعض الروايات .و تحول الى امالك اإلرسالية الدومنيكية الفرنساوية مع بضعة أبنية مجاورة من ضمنها روضة و مدرسة ابتدائية ،و الى جانبها كنيسة القديس عبداالحد – كنيسة الدومنيكان -المعروفة بمكتبتها و مطبعتها األولى في المدينة،و كانت مطبعة حجرية في اول األمر ،حيث اخرجت – المطبعة الدومنيكية عشرات الكتب التي خدمت الثقافة و الدين ،و المعرفةعموماً. و كما في مختلف البقاع التي يعلو فيها صوت التسامح على االختالف ،قام البناء الى جانب جامع يغور عميقا ً في قلب األرض هو جامع "الرابعية" ،المنسوب الى المتصوفة العربية األشهر"رابعة العدوية" ،مما جعل المكان يعج بالروح الحميد من كل الجوانب ،و الجامع الكبير هو اآلخر مشيد على منخفض من األرض ،حيث ان بناءه مع قبته و حتى اعلى الهالل ال يصالن الى ارتفاع جدران بيت القاصد ،مما يدفع الزائر لذلك المكان من خالل المقارنة 24
بانوراما الشهادة
الى معرفه كم هي عتيقة مدينة الموصل ،و فيها هذا الجامع و مثله كنيسة مار احودامة ،و هي االخرى تغور بعيدا ً في اعماق المدينة القديمة.و لدخول المبنى و اإلطالع على ما كان عليه يوما ً ما ،عندما كان القس حنا قاشا الشهيد تلميذاًفيه ،استعنت بصديقي الشماس نوئيل الطباك ،و قمنا بزيارة الى بيت الكهنة المالصق لكنيسة مار يوسف في عنكاوا،لمقابلة األبين المباركين (البير ابونا و فرنسيس شير)من خريجي معهد مار يوحنا الحبيب ،فكان لقاء يشفي غلة كتمت في الصدر منذ زمن. تريد ان تكتب عن صوريا؟ قال األب البير ابونا ..لقدب الكثير عنها ،منه الدقيق الصحيح و اآلخر ال صحة له، ُكتِ َ مثل اكتشافعظام القس حنا بين ضحايا المقابر الجماعية لشهداء صوريا ،بينما جسد القس مدفون بكامله في كنيسة مار كوركيس في زاخو . اجل يا أبتِ ،فلقد حضرت الدفنة و قد جلب جثة القسبعد ثالثة ايام من المذبحة أحد السائقين ،و اردنا ان نجلبها الى الموصل االّ ان المطران عمانوئيل ددّي ،يرحمه هللا، قال بالحرف الواحد( :اوالدي استروا علينا ..ادفنوه في زاخو..و سأعمل له قداسا ً و جنازا ً هنا في الموصل ..كان الرجل خائفاً ،و هذا ديدن االنسان الذي يأخذ االمور )تُقية( خوف بطش االقوياء. و لكن يا ابت ،قلت لألب البير ،انا عندما اكتب عنالقس حنا ،انما اكتب عن قطعة من لحمي ،فلقد كان الشهيد 25
بانوراما الشهادة
خالي و أخو أمي من اب وام ،و عندما اكتب عنه فأنني اسدد بعض الدين للذي كان له الفضل في تعليمي و ثقافتي، و اسأل هللا ان يعينني في مسعاي هذا. هكذا اذن ،اجاب األب المبارك البير ابونا،فليوفقك هللاأر ِبك ،يقول الراوي االب البير ابونا: و دونك ما تريد من َ رافقت القس حنا قاشا لعدة سنوات في معهد مار يوحناالحبيب ،لكن القس تخرج قبلي عام 1943هو و االب يوسف شليطا ،اما انا فقد تخرجت عام ،1951و كان القس حنا محبوبا ً من اساتذته و خاصةً مدير المعهد االب يوسف اومي الفرنسي ،و هو مديره منذ عام 1932و حتى وفاته في سن متأخرة. و لن انسى ،يتابع البير ابونا ،صدمته و وجومه عندماسمع بخبر مقتل تلميذه القس حنا قاشا ،و امتناعه عن الكالم لئال يبوح لنا بالسر الذي عرفه،ألنه كان يعرف ان اهل قرية صوريا الشهيدةهم من اقربائي ،فكتم األلم في نفسه حتى شيوع الخبر ،لقد كنت في تلك الفترة منذ عام ،1969 أدرس في المعهد بعد ان تخرجت منه منذ زمن.. ّ درسوا في المعهد أذكر بعضا ً و من الذينّ منهم،اآلباء:بستونا – فيليات ،و باتري توما ،ومن العراقيين االستاذ ادور حراق مدرس العربية رحمه هللا. اما االب فرنسيس شير ،و هو االخر درس في المعهد و كان مديره لالعوام من 1985- 1974فيقول: 26
بانوراما الشهادة
افتتح المعهد عام ،1878و مدة الدراسة فيه اثنتاعشرة سنة .يقبل التالميذ بعد تخرجهم من الصف السادس االبتدائي.. و كيف حال الدراسة فيه؟ يقولون انها صارمة..يضحك االب و يتابع: صارمة ،نعم .و بعد االسبوع االول من الدوام علىالطالب ان يتكلم الفرنسية. كيف! يا الهي ابهذه السرعة؟ اجل ،يجيب االب شير ،و ال مجال للتسامح في هذاالخصوص. و هل كان هناك (شيطنة) من قبل التالميذ؟يضحك المتحدثان الوقوران لهذا السؤال .. اجل ،انهم فتيان يخوضون تجربة جديدة ،عليهم انيتهيأوا لتقبل اسرار جسيمة. لقد سمعت االب جبرائيل جرخي ،رحمه هللا ،انه كان يمارس التدخين تحت الفراش تهربا ً من مالحظة المراقبين!. لقد كان الكثيرون يدخنون ،يقولها االب البير مع ابتسامة.. و اذكر ايضاً ،يقول االب فرنسيس شير ،ان الذين يدخلونالمعهد كانوا كثيرين ،فقد وصل عددهم الى مائة و واحد في بعض الدورات .لكن الذين يتخرجون يكونون اما اثنين او ثالثة او واحد في بعض االحيان!. اما نهاية معهد مار يوحنا الحبيب ،ففيها يقول االب شير: 27
بانوراما الشهادة
كنت مدير المعهد للسنوات من 1974الى .1985وبناء على مشورة المهندس "فريد مطلوب" الذي قرر ان منطقة المطبخ و غرف النوم تهالكت بسبب نضوح الماء، اغلق المعهد بقرار من مجلس المطارنة مع السفير الباباوي في .1985-5-28و البناء اآلن ملجأ يشغله المهاجرون من بقاع مختلفة ،و مازالت جدرانه تضم في داخلها الكنيستين و قاعة االستقبال ،و غرف الطعام و المطبخ الذي اشتهر بأكالته الشهية من فرنسية و محلية ،و ترددت في ارجائه اصوات العراك بين العم لويس كبير الطباخين و جدتي حسينة كاكوز التي كانت تنافسه على رئاسة المطبخ ،مما وفر الكثير من الضحك و المواقف النادرة في تلك األجواء من المحبة و فيوض الروح .ان المسيحيين و اهل المدينة عموما ً لن ينسوا اسماء قساوسة افذاذ مثال لمطران الشهيد ادي شير و المطران اوجين منا و المطران اسطفان جبري و من بعدهم القساوسة اسطفان زكريا ،هرمز حنا،ادور بيكوما يوسف رفو البوعه -ابو التعليم المسيحي للكبار -و الكبيران الشامخان البير ابونا و فرنسيس شير .اما عنكاوا الحبيبة فلقد كرز فيها القس حنا قاشا يوم الجمعة العظيمة.
28
بانوراما الشهادة
()4 قرة ولّة
كان لتعهد الوالد – ياقو يونان قاشا -بأن ولده التلميذ في المعهد الكهنوتي – معهد مار يوحنا الحبيب -لن يخدم اذا ما تخرج و أصبح كاهنا ً إال في االعالي ( و يقصد الجبال التي ّ نزحوا منها) .عليه كان تعيين القس الجديد – األب حنا قاشا -في قرية قرةولّة ،و هي أول قرية تلي قضاء زاخو باتجاه المغيب ،و ليس بينها و بين التراب التركي اال نهر الخابور و هو اكبر فرعي دجلة اللذين يلتقيان عند قرية فيشخابور عند المثلث العراقي -التركي -السوري. لم يضيع القس الشاب وقته حتى يتأقلم كليا ً مع محيطه الجديد و حياة لم يعشها ابداً ،ألن مولده كان في المدينة و تربى في مدارسها و نهض بقوته وشبابه في معهدها ذي الطراز الفرنسي بالكامل في التعليم و المعيشة. فور وصوله الى قرية (قرةولة) بادر القس حنا قاشا الى بناء كنيسته و بيته على قطعة كبيرة من االرض تقع في الجهة الشرقية من القرية ،فتمر عليها نسائم النهر في الصباح و تداعبها ريح الجبل الخفيفة اثناء المساء و الليل، كان البيت و الكنيسة كالهما مبنيان باللبن -الطين المنظوم و المجفف تحت الشمس – و الطين ،و سقفهما من الخشب المأخوذ من جذوع اشجار االسبندار و شقلها و المغطى بالقصب و الطين .و كانت "المندرة" على السطح ،و هي 29
بانوراما الشهادة
حجرة اسطوانية كبيرة تُدحرج لسد الشقوق في سقف البناء الطيني ايام المطر. كانت غرفة القس جميلة و نظيفة ،و الى مسافة قريبة منها تقع اماكن منتظمة للبط و الدجاج و األوز العراقي الجميل المعروف محليا ً باسم "القاز". و لكن القس الشاب يملك خزينا ً هائالً من الفكر و الوقت، فهل يكتمه او يضيعه؟ لم يتأخر االب حنا عن فتح مدرسة لمحو االمية في كنيسته، و كذلك لتعليم االطفال القراءة و الكتابة ،النه لم تكن توجد مدرسة في القرية. تدرب القس على المعالجات الطبية و في الوقت نفسه ّ البسيطة و اقتنى االدوية الالزمة لمثل تلك الحاالت ،فما لبث ان وجد نفسه طبيب القرية و معلمها و قسها في آن واحد. و ايضا ً من المآثر التي تحكى عنه انه سمع في ليلة شتائية ان جثة رجل مجهول تقبع في العراء قرب الجبل، فاصطحب رجالً متوحدا ً اسمه شمعونكي ،و ذهبا سوية في الليل و تحت المطر و جلبا الجثة الى الكنيسة ،فغسلها بمعونة شمعونكي الصياد و كفّنها ثم دفناها قرب القرية ،و ظل القبر حتى االخير يحمل اسم "المجهول". اول زيارة للفتى لقرية خاله "قرةولة" كانت بعيدة في الطفولة ،حيث قطع مع والده و شلة من المسافرين مسافات طويلة – كما بدت لصبي صغير في حينها -سيرا ً على األقدام ،لوعورة الطريق و خطورة ركوب السيارة ،كانوا 30
بانوراما الشهادة
خاللها يركبون سيارة الجيب عندما يكون الطريق صالحاً. فنال من الصبي التعب الشديد لم ينساه طيلة حياته. الزيارة الثانية كانت في عمر اكبر ،فاستمتع في التعرف على القرية و خزن الكثير من الذكريات عنها ،و امتع ما فيها كان النهر ،فكان يسبح فيه و يقطعه و يصل الى الجانب االخر فيهتف فرحاً: لقد عبرت الحدود ..انا االن في تركيا!و لكنه في احد األيام تلقى تأنيبا ً من زوجة خاله التي كان يرافقها في تلك السفرة الطويلة الى قرةولة .ذلك انه عاد من السباحة في النهر فوجدها مع الخادمة المرأة الكبيرة و التي كانت تعتبر والدة القس الثانية (االم ريحاني) ،تقومان بنتف الريش عن إوزة ،عراقية كبيرة (قازة) ،فيظهر اللحم الجميل للطائر بعد نتف الريش عنه ،و التأنيب لم يكن الن الفتى يقضي معظم وقته في النهر و لكن: كيف لم تتعرف على الذي ضرب هذه القازة بالحصاةحتى قتلها؟ فكان جواب الفتى متلعثما مرتبكاً ،لكنه في داخله كان يطير من الفرح لموت القازة ،النه هذه المرة سيتذوق لحم األوز اللذيذ ،الن القس كان يحرم المساس باويزاته العزيزات. كانت للقس حنا جولة عصرية على بيوت القرية كلها ال يستثني منها أحداً ،يجلس لبعض الوقت في كل بيت ،و خاللها يتفقد الحاالت المرضية لألطفال و لكبار السن .و كان الفتى يصاحب خاله في تلك الجوالت .و كان القس 31
بانوراما الشهادة
يضع بين شفتيه سيكارة يأخذها من اول بيت يزوره .و كان ال يشعل تلك السيكارة ابداً ،فهو لم يكن يدخن لسنين كثيرة في بداية حياته. "الورزة" من اجمل بقاع الدنيا ،و هي الغابة القريبة التابعة لقرية "قرةولة" ،لكن الغابة كانت تضم بساتين كثيرة لزراعة الرقي فهي غابة مختلطة ،و إلى جانب البساتين كانت قطعان الجواميس الكثيرة تجوب الغابة و تسبح في تجمعات الماء فيها ،فكنا نستمتع بوافر االلبان و الزبد الطبيعي الذي كان يقدمه اهل القرية لفطور قسهم الصباحي. الطابع الرئيس لبيت القس حنا كان اكرام الضيف ،و لما كانت القرية ال تحتوي نزالً او فندقاً ،فكان الغرباء ينامون في اماكن خاصة في بيت القس ،و ال ينسى الفتى منظر عابر سبيل نزل بيت ضيافة القس ،وعند المغرب جاؤوا له بابريق فتوضأ و صلى صالته قريبا ً جدا ً من موقع هيكل الكنيسة ،فأكبر الفتى في خاله تلك الروح المتسامحة و التي ال تفرق بين الناس في طرائقهم المختلفة في العبادة. و عند قيام ثورة ايلول الكوردية عام ،1961ازداد عدد الضيوف الذين يؤمون بيت القس ،و صارت له صداقات مع قياداتهم مما لفت اليه عيون السلطات ،و هذا ما سنتناوله في الفصول القادمة.
32
بانوراما الشهادة
()5 الصيف
اتخذ القس حنا قاشا لنفس ِه عطلة ،عادة ً ما تكون في فصل الصيف ،و كان يزجي ايامها في بيت والدته الذي يضم باالضافة اليها ،اخوته جميل و جبرائيل ،و عزيز .و اخواته ماري و جينا بعد زواج االخت الكبرى جليلة. و كان البيت أحد بيوت الموصل القديمة ،مالكته أرملة تدعى "اسومة" تسكن غرفةً هي العلية الوحيدة في الطابق الثاني .و كانت المالكة تفرض نظامها على البيت كله .و تشارك اهله في المطبخ .وضعت اصصا ً كثيرة و جميلة بأزهارها المختلفة األلوان و اتخذت من البراميل القديمة يتوسطها زير كبير ناله كسر بسيط ،مشاتل لشجيرات "الف ّل" االبيض الذي كانت رائحته تواجه الداخل الى البيت فور ولوجه الباب الرئيسي .و كانت السيدة تعتبر ان ازهار َ "الفل" ملكا ً لها فتدخل بسببها في مشاجرات مع كل من يحاول ان يقطف االزهار لغرض الزينة او الهدائها الى األحبة و االقارب. إنضم الفتى الى العائلة الكبيرة الخواله عند دخول ِه الصف االول االبتدائي .وهو ابن االخت الكبرى للقس حنا .و كانت بصحبة زوجها المزارع في البيت الريفي الذي ال توجد قربه مدرسة. 33
بانوراما الشهادة
كانت اكبر غرف البيت تستعمل لالستقبال نهاراً ،و في الليل ينام فيها اكثر افراد العائلة ،قسم ينام على االرائك ،و الباقي يفترشون االرض .فإذا قام احدهم في الليل لحاجة، كان عليه أن يتأنى جيدا ً حتى ال يدوس على بطن أحد النائمين على االرض و كانت هذه حال اغلب العوائل التي تسكن بيوت الموصل القديمة .و تعيش دون المتوسط في مستوى المعيشة. كان القس يواجه طلبات كثيرة ايام العطلة ،و أول مسألة واجهته هي زواج اكبر اخوته الذي يليه في البيت فكان يدفع بما يتيسر له توفيره و كذلك من السنين السابقة ،لشراء مستلزمات العرس .و لقد أتكا هذا االك كليا ً على القس في توسيع مشاريعه و ترك عمله االساسي المتعب في النجارة، و توجه الى الزراعة .كل ذلك بمساعدة القس. و فيما بعد قام االب حنا بمساعدة باقي اخوته و اخواته بكل ما يملك من مال .و كان لسان حاله يقول: الرب :انا قس و ال احتاج الى المال ،لي قوت يومي و ّيتكفل بالقادم من االيام.. لم يدخر و لم يوفر اي مبلغ للمستقبل ،و لما احتاج يوما ً لم يجد من يقف الى جانبه من احد. نعود الى غرفة االستقبال و هي الغرفة االكثر ترتيبا ً في البيت ،في النهار طبعا ً و كانت تفضي من احدى زواياها الى سرداب تحتفظ به العائلة بالمؤونه و هي عبارة عن مشتقات الحنطة و مسلوقها من البرغل و احجامه المختلفة. 34
بانوراما الشهادة
و ال َحبية و الرشتة .و كلها تستعمل في صنع االكالت الموصلية المعروفة ،و اهم ما في السرداب كانت قناني شراب النبيذ" -الواين" ،و على رأسها الشراب الفرنسي المعروف ،الكونياك. استقبل القس حنا قاشا على مدى حياته الكثير من الوجوه الدينية و الثقافية في البلد .في تلك الغرفة. و من ألمع الرجال الذين كان يستقبلهم هو األب يوسف اومي،رئيس معهد مار يوحنا الحبيب ذي النظام الفرنسي العريق. يقول الفتى: كنت اقوم بتقديم القهوة لضيوف خالي القس ثم انسحب الى زاوية الغرفة ،فاستمع الى االحاديث .و اصغي اليها جيدا ً فتعلمت كثيرا ً عن الدين و الفلسفة ،عن االنشقاقات الدينية، و االجتهادات الفلسفية ،و عرفت لماذا يجمد رجال الدين امام امر ما .ال يقرونَهُ في دواخلهم كزواج القس مثالً .في ظل بابوية اصولية على ايام الحبر االعظم البابا بيوس الثاني عشر ،الذي حظر النقاش و سد باب االجتهاد حتى جاء وريثه ،ففتح االبواب و غير االحوال ،و البابا الجديد هو الحبر األعظم يوحنا الثالث و العشرين. اال ان الصعوبة التي الزمت الفتى كانت عدم فهمه اللغة الفرنسية ،فحين يحضر اآلباء الدومنيكان يتحول الحديث الى تلك اللغة .و لكن حين يحتدم النقاش ،يوحي للفتى ان القضية على درجة من االهمية .و هي مثار خالف ،فكان 35
بانوراما الشهادة
يعجب ّ الن القوم يختلفون على قضايا تعتبر من المقدسات بالنسبة للعامة من الناس. كل هذا عمل على تفتّح ذهنية الفتى ووقوفه على مبدأ الشك، فامتلك من ذلك المجلس القابلية على مناقشة االفكار و االشياء .و هو يدين الى اليوم لذلك المجلس بأنه كان مدرسته االولى الى التفكير السليم. صورة ظلت عالقة في ذهن الفتى .يوم كان خاله القس حنا داخالً في نقاش في احدى الجلسات فرأى أن القس يرتجف و تصطك اسنانه و تخرج الكلمات متسارعة من فمه مقرونة بالعصبية و االنفعال. كان القس يبدو و كأنه يوبخ الجماعة على امور لم يكن يقبلها ،و الكل ساكتون و هم في ضيافته و لكن لم يستطع على عواطفه صبراً. اختلس الفتى نظرة الى وجه خاله و صوته الهادر و انتقل بأخرى الى وجه االب يوسف أومي .و كان االخير يبدو غائصا ً في التفكير ،و عيناه مغمضتان دليل التفكير العميق. ال يعلم حتى اليوم لماذا ذهب بتفكيره الى ان سبب انفعال خاله هو تعرضه للحياة الجنسية لرجال الدين .لقد بدأ القس الشاب صارما ً ،و كان يأخذ على زمالئه من مختلف االعمار اي تساهل في هذا المجال .و لعل هذه هي اول مالمح الفكر االكويني لديه.
36
بانوراما الشهادة
كان الصيف جميالً و مفيدا ً و ممتعاً ،يزينه القس حنا بهامته و جلساته حتى كان صيف ذهب فيه القس ليصطدم بالوحشية بأعلى صورها ،و لم يعد الى احبائه بعد.
37
بانوراما الشهادة
38
بانوراما الشهادة
()6 القس حنّا قاشا والقديس توما االكويني
طرا ْ إن في مشرق االرض أو في يكاد ال يوجد في الناس ّ ب مغاربها شخص أحبّ القديس توما االكويني ّ وتشر َ بمبادئه ،وتمث ّ َل أفكاره .وآستخر َج منها مايفيد الحياة ويغنيها. مثل القس حنّا قاشا الذي َو َج َد نفسه في قرية نائية تع ّج باألميين والبسطاء من الفالّحين الفقراء. 39
بانوراما الشهادة
ولكن من هو توما االكويني؟ إنّه الفيلسوف -القديس -المف ّكر الذي أرسى اصول الفلسفة سية" ،ليس في الكنيسة الكاثوليكية فحسب. السكوالئية "المدر ّ بل في المسيحية كلها وملخص فلسفته التي اخذها عن أرسطو اإلغريقي -أنها تستند الى مبدأ العلل األربعة الذي يقول بأن العالم نشأ من علل أربع هي: علّة صورية -علّة مادية -علّة فاعلة ،وعلّة غائية .وهذا هو مذهب الخلق األرسطي -نسبة الى ارسطو طاليس .وقد سحه (جعله مسيحيا ً) أخذه القديس توما اإلكويني وع ّم َده وم ّ نسبة الى السيد المسيح له المجد. ولكي نفهم شخصية القس الشهيد حنّا قاشا الب ّد لنا ان نمر بعض الشيء على سيرة شفيعه القديس اإلكويني ،الذي عاش بين (1274 -1225م) قديس .راهب دومينكانيُ ،و ِل َد في ايطاليا .و َعلّ َم في جامعة باريس .معلم الكنيسة وحجت ّها في الالهوت .والفلسفة المدرسيةّ . إطل َع على آراء ابن سينا والغزالي وابن رشد -ما يزال هؤالء الفالسفة الثالثة ت ُ ّدرس نظرياتهم في الجامعات المسيحية ويأخذ القسس اعلى الشهادات فيها ..وعن طريق الترجمات الالتينية درس االكويني تلك النظريات وانتقدها. من مؤلفات القديس توما العديدة :الخالصة الالهوتية. والخالصة ضد االمم. وحصل القديس على لقبه من المكان الذي ولد فيه – اكويناس -بمعنى الصخرة .وتربّى تربية عسكرية صارمة 40
بانوراما الشهادة
في أول حياته نقل اصولها الى أنظمة الكنيسة .وظلّت الكنيسة تحت سطوة أفكاره قرابة سبعمائة عام .حتى جاءت الدّراسات الالهوتية الحديثة .واطروحات الالهوت المعاصر .ثم من بعد ِه الهوت التحرير ،فن ُحيّت جانبا ً معظم اطروحات القديس توما .لكن القس حنّا قاشا بقي صامدا ً متمسكا ً بحذافيرها .وكان يلوم أقرانه من القسس المحدثين على خروجهم على الفلسفة األصولية الرشيدة لشفيعه االكويني.
يقول الراوي سعي في شرح فلسفة االكويني .فَشرع في تأليف أخذه ال ّ توفر عليه القديس. كتابه المخطوط عن كامل النتاج الذي ّ واستغرق هذا الجهد الثمين سنين طواالً من عمر القس. ولقد عثرت عليه بعد مدّة من استشهادِه ورحت اقلبه لكن َجدّتي رحمها هللا -وكانت حيّة ترزق .جذبته ووضعته الى مرة اخرى. جانبها فلم تقع عليه عيناي ّ ومرة حاولت مع األب المرحوم يوسف حبّي ان استخرج ّ الكتاب من عاصرةِ الذين يضمونهُ .فذهبتُ واياه الى بيت امه حيث مكتبتِ ِه ،للتفاوض حول سحب المخطوط .وان نقوم ببيع بعضا ً من محتويات المكتبة لنصرفها على طبعه -لكن لم نقع له على أثر. 41
بانوراما الشهادة
ومازلت أمنّي النفس بأن يرى ذلك المخطوط النّور ليطلع الناس على عمق وعظمة الفكر التحليلي للقس الشهيد حنّا قاشا .أ ّما التأثيرات الشخصية والحياتية للقديس توما االكويني على سلوكية القس الشهيد فكانت كبيرة جدّا. كان القس يتسم بطبيعة هادئة ظاهرة للعيان تخفي تحتها ّ الحق .وما عصبية هائلة وثورة عارمة في الدّفاع عن فلسفة السيكارة المطفأة التي كان يضعها بين شفتيه األ للسيطرة سة ناضجة طيبة الوقع على س ِل َ على أفكاره حتى يخرجها َ السامعين. يقول القس حنّا عن شفيعه اإلكويني: كان القديس توما يلقي ُخ َ طب ِه على جماهير غفيرة ،ويعتقد القديس ّ ان هذا الحشد الهائل الذي يصغي الي ِه سوف يصيبهُ بالغرور! فكان بعد انتهائ ِه من القاء خطبت ِه يختلى مع خادمه وينزع قميصه .ويأمر الخادم بأن يجلده على ظهره حتى يطفر الدم سوط كل ذلك حتى يشعر بالضعة من تحت ضربات ال ّ والمهانة فال يغتر وال يتعالى فأية عظم ٍة اكبر من هذ ِه؟ وال أعلم هل كان القس حنّا يحذو َح ْذ َو استاذه في ممارسة ت حتى ولو بصورة معنويَة تيمنا ً بشفيع ِه وقدوت ِه َجلَد الذّا ِ القديس توما. مرة كنت مع جدّتي بعد استشهاد ولدها وفلذةِ كبدها القس ّ حنّا .وكانت تحمل ثقل سنين كثيرة .ووزن يفوق المعهود 42
بانوراما الشهادة
تراكم في جسدها المتعب رغما ً عنها ،اال انه لم يؤثر على عينيها الذكيتين وفكرها الوقاد فأخبرتني باالتي: مرة بعد ان كان خالك -تقصد القس حنّا -قبل سفر ِه ك ّل ّ ت عام أزداد الخطر في عمل ِه اثر الثورة الكردية التي انطلق ِ .1961كان يفتعل المشادّة معي قبل أن يسافر حتى و ان مرة -تقول الجدّة -عن كان بدون اي سبب يذكر .ولما سألته ّ تصرفه ذاك اجاب قائالً: ي .فأنا ال ال اريدك ان تحبيني .يجب ان يقسوِ قلبك علَ ّ مرة اخرى ام ال؟ أعلم هل سأعود اليك ّ وما هذا التصرف من القس الشهيد حنّا قاشا مع والدته حسب اعتقادي األ من تأثيرات فلسفة اإلكويني عليه. رف القس حنّا ،وليس أ ّمه وحدها كان يبكيه ولكن كل من َع َ كلما خطرت ذكراه على البال.
()7 ظهور النبي في الديرابون
شهدت القرى المسيحية اواخر العهد الملكي ،اياما ً من األمان و االستقرار ،كانت األكثر جذبا ً للزوار و الضيوف من مختلف األرجاء و من سائر الطوائف و األديان ،ينعم هؤالء بالحليب و اللبن و الجبن و القشطة التي ينتجها 43
بانوراما الشهادة
األهالي و يقدمونها بكل كرم و ضيافة .باإلضافةإلى اللحوم المقددة و المدخنة و من سائر األنواع ،و يمتعون أنظارهم- الزوار – بمرأى بساتينها العامرة .لما للسكان المسيحيين من نشاط و دأب و حب األرض و االستزراع فيها. وقرية ديرابون التي ارتبط اسم القس حنا قاشا باسمها في بعض سنين خدمته الكهنوتية ،هي احدى الحواضر العامرة. انعم هللا سبحانه عليها بعين ماء دافق يخرج من كهف كبير بقوة و عنفوان ،يتسع للسباحة مثل نهر صغير .و قامت على الماء بساتين عدة ،اما الزائد فيذهب إلرواء االهالي مع مواشيهم و بساتينهم في القرى المجاورة التي تقع في حوضه الفسيح .اما مالمح الجمال و الهدوء اللذان تبثهما فلسفة السالم المنبثقة عن الديانة المسيحية السمحاء ،فكانا مبعث سرور و نعمة مضافتين الى الخير العميم الذي توفره االرض المعطاء. و تشاء الظروف ان يصاحب تعيين القس حنا قاشا في قريةقرةولة كما اسلفنا ،ان يعين زميله الذي تخرج معه في العام نفسه االب يوسف ،قسا ً على ديرابون ،و كان القس يوسف ابنا ً للقرية نفسها. اما (ديرابون) فهي القرية المجاورة لـ(فيشخابور) القرية المعروفة بانها رأس المثلث الحدودي(العراقي ،التركي، السوري) .كانت الحياة تسير جميلة ،رائعة في المنطقة كلها حتى جاء عام ،1957الذي سبق ثورة الرابع عشر من 44
بانوراما الشهادة
تموز عام ،1958التي قضت على الملكية و اقامت الحكم الجمهوري في العراق. في ذلك العام الذي سبق عام الثورة ،ظهر صوت ارتفع في االرجاء يقول: "توبوا فإن الزلزلة قادمة!".. كان هذا صوت االب يوسف قس الديرابون ،الذي ادعى ايضا ً ان المسيح نفسه يقابله في الكنيسة ،او في محيطها. و لما كان العراق يعيش اوضاعا ً ساكنة،يعشش تحتها فقر مدقع مع وجود الثروات الهائلة التي يتمتع بها البلد .هذا الوضع جعل من ادعاء النبوة من قبل القس يوسف مقبوالً، و محط جذب للمؤمنين ،فتوافدت الجموع من اصقاع العراق كلها .ابتدا ًء من البصرة في اقصى الجنوب الى الحدود التركية-العراقية-السورية حيث تقع ديرابون. صت القرية بالوافدين من مختلف االديان ،الذين اتخذوا َغ ّ االرض فراشاً ،و السماء لحافا ً لهم ،يحيطون بنبيهم المحبوب.و الحق فإن خطب القس يوسف كانت تلقى اعجابا ً شديدا ً لدى سامعيه .و شاعت عنه اعاجيب و شفاءات كثيرة صنعها ،فتوجه العميان ،و البرصان ،و المجذومين الى ديرابون لالستشفاء ،و قيل ان القس شفى كثيرين من امراضهم المزمنة .يقول الذين قابلوا القس المتنبي" :ادعى القس ان السيد المسيح (له المجد) ،يظهر له في كل ليلة" ،و من احد ادعاءاته: 45
بانوراما الشهادة
لقد ظهر المسيح لي هنا ،و احتضنني ،و قال لي :أنتالنبي! مثل هذه االحاديث و غيرها انتشرت عن القس و ادتالى تعلق الكثيرين و اعتقادهم بصحة ادعاءاته. كان القس حنا قاشا في وقتها يقضي عطلته فيالموصل ،و كانت اخبار زميله تصله باستمرار ،فكان يصمت و يتأمل ،فال تعلم هل هو آسف على ما يحدث ،ام انه يرثي لصديقه تلك الحال .المهم انه لم يكن مرتاحا ً قط للوضع الجديد. يقول الراوي: كان لي عم طاعن في السن يسكن مدينة البصرةالبعيدة ،جيء به الى الموصل قصد التوجه لمقابلة النبي الجديد ،عله يشفى على يديه من مرض مزمن في عينيه يعيقه عن االبصار الكامل. و لكن هذا العم لم يتزحزح عن مدينة الموصل .فانبقاءه فيها لمدة طويلة لم يوفقه الى تحقيق مبتغاه ،الن المسألة انتهت و عاد النبي قساًمعتادا ً الى كنيسته ،بعد انتهاء الفورة و عودة االمور الى سابق عهدها. التقيت القس يوسف قبيل وفاته -رحمه هللا -و كانيبدو صحيحا ً نشيطاً ،يضع رجالً فوق رجل اثناء جلوسه ،و لكن ال يكف عن هز رجله بشكل متسارع ،و االبتسامة ال تفارق شفتيه .و كان مضيفنا احد ابناء منطقته يعيش مع 46
بانوراما الشهادة
زوجته الشابة .و كان االثنان متزوجين حديثاً ،نقل القس نظره بيني و بين المرأة الشابة و سألني: هل انت متزوج؟ فأجبته بالنفي ،فقال القس الظريف لي: لماذا ال تبحث لك عن امرأة مثل هذه؟ و اشار الى زوجة مضيفنا. عند ذاك علمت مدى الذوق السليم عند االب يوسف. و غير هذا و ذاك ،توالت اخبار القس الذي ادعىالنبوة متقطعة عبر السنين ،حتى جاءني في هذه االيام ،اكثر من خمسين عاما ً على االحداث ،رجل من اهالي فيشخابور، و كان عارفا ً باالمور :انه كانت للقس اخت جميلة ،استهدفها مالك القرية الثري و المسنود من قبل الدولة ،و لما علم القس بنوايا المالك الشريرة ،و لم يكن يملك سالحا ً يوازي قوة خصمه ،ثارت ثائرته ،فوصل الى ما وصل اليه من ادعاء للنبوة ،و ظهور المسيح ليعيد االمور الى نصابها!.
()8 47
بانوراما الشهادة
القس في ديرابون
شاءت الظروف أن ينتقل القس حنا قاشا من قريته االولى التي خدم فيها إبانَ شبابه و ردحا ً من كهولته الى قرية ديرابون بسكانها الكثيرين .و موقعها المهم ،فهي ظهير فيشخابور ،و كنيستها مركز لكنائس القرى التي تمتد على طول النهر من اقصى الشمال نزوالً الى الجنوب حتى قرية صوريا بالقرب من مفرق زاخو – ديرابون ،و تغطى سهل السندي بأجمعه. واصبحت ديرابون مركزا ً للقس حنا قاشا ينطلق منه الى الكنائس كافة في المنطقة .فيصلي و يقيم قداديسه في كل قرية من قراها على حسب ايام معينة من ايام االسبوع. فتفر َ غ للقراءة ،وأقتنى في تلك و َح َد القس راحةً في القريةّ ، الفترة كتبا ً كثيرة في الفلسفة و الالهوت و التاريخ زخرت بها مكتبته العامرة اصالً بالكتب في مختلف المجاالت حتى تلك التي ال تتوافق محتوياتها مع افكار القس و توجهاته الدينية. و لقد تعلق القس بوجه خاص بالشاعر الجاهلي عصرا ً- المسيحي دينا ً اال و هو امرؤ القيس ،الملك الضليل ،صاحب المعلقة المشهورة و التي مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحوم ِل
48
بانوراما الشهادة
و اخذ يجمع المؤلفات التي كتبت حول الشاعر و القصيدة، و يدرسها بعمق حتى اخبرني مرة ،و اخبر المهتمين باالدب بانه مزمع على تأليف كتابه عن امرئ القيس. كان خبرا ً مفرحا ً و رائعا ً ان يقوم القس الزاهد بالكتابة عن الشاعر الذي قضى حياته متعلقا ً بأهداب الحياة و الخمرة و الحب. لم يكن مشروع الكتابة في الشعر غريبا ً على القس حنا قاشا فهو نفسه يملك القريحة والموهبة و لقد نظم الكثير من القصائد ،اطلعني على احدها حين كان يقوم بنظمها ايام العطلة في الموصل .و كانت قصيدة ترحيب و تهنئة للمطران الجديد يوسف بابانا ،الذي نصب مطرانا ً على زاخو في الوقت الذي كان القس حنا نفسه يرغب في هذا المنصب ،و هذا ما سنتحدث عنه الحقاً. كانت قصيدة من الشعر العمودي مملوءة بالحكمة و الموعظة و الكالم البليغ .لكن تلك القصيدة و غيرها من اخواتها الكثيرات لم تر النور مثل كتابيه العتيدين ،االول ذلك الذي كان عن القديس توما االكويني كما اسلفنا ،و االخر الذي شرع في تأليفه لكن وافته المنية على يد الضابط البعثي البغيض. يقول الراوي: ّ إن اشد ما يحزنني الى هذا اليوم هو ما آلت اليه مكتبه القس حنا قاشا ،فانا شهدت كيفية تصنيعها عند النجار .و االحتفال الكبير يوم جلبها إلى البيت و تصنيف الكتب ،و
49
بانوراما الشهادة
تصفيفها على الرفوف التي تفوح منها رائحة الخشب و االسبيرتو. لكن بعد موته عبثت بها االيادي فأخذ احد اقربائه المنجد و طار به الى غير رجعة ،و استعار احد القسس معجم البلدان لياقوت الحموي بأجزائِ ِه المتعددة و ندرته الفائقة ،و لم يعد ذلك كتاب النادر الى مكانه في مكتبة القس حنا قاشا ابدا ً. و نقلت باقي الكتب الى بيت ابن اخيه "اردوان" الذي استشهد على يد االرهابيين في الموصل ،فلم يعد للمكتبة اثر يذكر(.)1 ( )1وصلني الحقا ً ان ما تبقى من مكتبة القس حنا قاشا قد نقل الى مكتبة السيمينر او االباء الدومنيكان.
50
بانوراما الشهادة
()9 ثورة أيلول 1961
ال يستطيع اي باحث في تاريخ العراق الحديث ان ينكر ما وقع على الكورد من الحيف و الظلم من نصيب يفوق الذي نال من عموم الشعب العراقي .ففي كتابه "الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق" يورد شيرزاد زكريا احمد ما يأتي اقتباسا ً عن ُكتّاب آخرين: " ان التخلف الذي كانت كوردستان العراق تعاني منه في المجاالت كافة ،و الحالة البائسة التي كان عليها الشعب الكوردي رغم غنى كوردستان بالثروات الطبيعية ،يرجع سببه الى سياسة التمييز التي كانت تمارسها الحكومات العراقية في العهد الملكي ،اقتباس عن ماجد عبدالرضا، المسألة القومية الكوردية في العراق .1975-1958 و هذا اقتباس آخر عن رئيس الوزراء العراقي السابق عبدالرحمن البزاز عن وضع السكان الكورد في نهاية العهد الملكي عن كتابه "صفحات من االمس القريب ..ثورة االكراد..هل كانت حتمية؟" "....كان الفقر واضحا ً على مالمح القرويين .و كانت األسمال التي يغطون أجسامهم بها تنم عن الحاجة الشديدة. و كانت وسائل الفالحة البدائية التي يستعملونها تذكرنا بالقرون الخالية". و جاء الرد الطبيعي على كل هذا التاريخ الطويل من هضم الحقوق و التمييز الفاضح -يوم 16ايلول 1961عندما 51
بانوراما الشهادة
اعلن البارزاني الخالد ،انطالق الثورة الكوردية بعد تحرشات و مضايقات السلطات المحلية للكورد في مناطقهم التاريخية. و لقد حظيت الثورة الكوردية و منذ انطالقتها االولى ،بتأييد و حب ابناء العراق جميعاً ،النهم كانوا في اشتياق شديد الى الحرية و الديمقراطية اللتين افتقدتهما ثورة 14تموز 1958بفعل التآمر عليها ،و بفعل تذبذب الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم بين مختلف القوى و محاولته الفاشلة اليجاد التوازن المطلوب ،فآنتهى الى استشهاده المأساوي و الى سقوط جمهورية 14تموز 1958تحت اقدام البعثيين الفاشيست و معهم باقي القوى الحاقدة على كل قيم الثورة و الحرية و االنعتاق. لم تستطع ثورة تموز الجبارة التي أزالت الملكية ان توفر الخبز و الحرية الالزمين للبقاء و االستمرار و النمو .فبدأ التململ الحقيقي لكل الشرائح المظلومة التي بدأت تتساءل عن جدوى الشعارات و الوعود البراقة التي ما تلبث ان تذهب ادراج الرياح. و في السياق نفسه ،نفذ صبر الكورد على جمود االوضاع و حاالت التخلف و االهمال الموروثة من العهد السابق. فآنطلقت شرارة الثورة االولى من ربوع بارزان و امتدت الى كوردستان كلها .و اخذت رقعة المساحات المحررة تزداد يوما ً بعد يوم. 52
بانوراما الشهادة
تفاقم الوضع االمني و السياسي و اإلقتصادي في المنطقة، فلم يعد بإمكان قوى الشرطة مواجهة الحركة المسلحة للثوار الكورد ،فاستعانت حكومة المركز بالجيش ،و بهذا اصبحت الحرب حقيقية ضد الشعب الكوردي و عموم سكان كوردستان ،فامتدت الحرائق الى القرى اآلمنة، فالتهمت األخضر و اليابس ،و ُ ش ِ ّر َد األهالي المسالمون بما فيهم المسيحيون ،فاستقبلت المدن العراقية الكبرى مثل بغداد و الموصل و البصرة مئات العوائل التي دمرت قراها بحجة تأمين خطوط المواصالت للجيش ،و منعها من ان تكون ساندة ً للثوار في تنقالتهم و حركاتهم التكتيكية المطلوبة لنجاح العمليات المسلحة. يقول الراوي: " استقبلت الكنيسة في الموصل الالجئين المسيحيين و اسكنتهم في المدارس و الكنائس القديمة ،و آخرون اجروا بيوتا ً سكنتها عوائل متعددة في البيت الواحد ،و كانت خالتي (جينا) ،اخت القس حنا قاشا ،من بين الذين استقبلوا تلك العوائل ،و كان بيتها بيتا ً كبيرا ً على الطراز الشرقي من بيوت الموصل القديمة ،ضم غرفا ً كثيرة ً خاصةً في الطابق الثاني ،فسكنته عوائل عدة جاءت من اطراف زاخو تحديدا ً. كانت تلك العوائل تعيش في عوز شديد و فقر ال يطاق، ففرص العمل قليلة او منعدمة .و كان احد هؤالء الساكنين يخرج يوميا ً مهندما ً مزينا ً وجهه و مرتبا ً شاربه حتى يبدو في احسن حال ،و كانت زوجته الشابة تنزل و تجالس 53
بانوراما الشهادة
خالتي ،لكن صفرة غريبة بدت على وجهها في االيام االخيرة ،حتى جاء يوم قيل ان المرأة الشابة قد توفيت الى رحمة هللا. و في يوم ُكنّا جالسين ،يقول الراوي ،القس حنا و خالتي و انا ،فحكت الخالة عن سر المرأة المتوفاة ،فقالت: هذه المرأة التي عرفتموها ماتت من الجوع؟ لقداعلمتني المرأة بعد فوات االوان -و الكالم للخالة جينا- انها كانت تبقى ليومين او ثالثة من دون طعام ،و لسان حالها يقول: هل اصرح بانني جائعة فيتحدث الناس عن زوجيبالسوء؟ هل ان ّكس رأسه النه ال يجد عمالً يقيتنا منه؟ انني سر زوجي! لم افضل الموت الف ّ مرة على ان افضح َ يتملك القس حنا السيطرة على دموعه فسالت على خديه و على لحيته ،و نهض ذاهبا ً من دون ان ينبس بكلمة واحدة. مع كل يوم جديد كانت اعداد النازحين و المدمرة قراهم تتزايد ،و شاركت الحكومة احيانا ً في نقل العاملين و المحسوبين عليها من المناطق الساخنة بواسطة طائرات الهيلوكوبتر .و من ضمن الذين عادوا من منطقة العمادية تحديدا ً عائلة االب المرحوم د.يوسف حبي ،و كان اخواه يعمالن كبنائين في المشاريع الحكومية في تلك المدينة ،و اصبح والدهُ المسن يورد مسألة ركوب طائرة الهيلوكوبتر كنادرة لم يكن يحلم بها في حياته ،و بهذا كان يخفف العناء عن العائلة التي فقدت كل شيء في برهة من الزمن. 54
بانوراما الشهادة
لم ينصت الزعيم عبدالكريم قاسم لكل نداءات وقف الحرب ضد الشعب الكوردي ،فرفض العرائض الموقعة من قبل كبار المثقفين و الكتاب و االدباء ،و لم يستجب للمظاهرات المنادية بـ "السلم في كوردستان و الديمقراطية للعراق". يقول الراوي: "في تلك االيام من عام ،1962خرجت تظاهرة لطلبة دار المعلمين /اربيل تنادي بالسلم في كوردستان ،و كنت من المشاركين فيها ،و في اليوم التالي اعتقل عدد من الطلبة و فصلوا و هرب البعض منهم تاركا ً الدراسة!!" هذه هي الخسارة الكبرى للوطن عندما يصم العقل اذنيه عن سماع صوت الحكمة و التعقل ،و هكذا كان.
55
بانوراما الشهادة
()10 القس والثورة ّ
ليس من باب التفاخر والتباهي ،حقا ًّ أن المسيحيين يشعرون بوطنيّة عالية للمكان الذي يعيشون فيه وللناس الذين يساكنونهم. واالمثلة على ذلك تفوق الحصر لكن حبّذا ان نورد واحدا ً او اثنين منها على سبيل التذكرة والتوكيد .وأول مثل في العصر الحديث على وطنية ابناء هذا الدين ،هو محاولة االنكليز الذين احتلوا العراق عند نهاية الحرب العالمية االولى ،1918-1914استمالة الرئيس االعلى للمسيحيين في العراق البطريرك عمانوئيل الثاني ،فرفض بإباء ان يكون عميالً لالجنبي .فقام المحتلون بنفيه الى جزيرة هنجام -الهندية ،وهناك طرفة تروى بصدد البطرك الذي كان يرتدي المالبس الحمراء ويتوكأ على عكاز في يده. يقول الراوي: "ان الذين يلتقون البطرك من اهالي الجزيرة ،كانوا يقبلون االرض بين يديه ويقولون: ان اإلله نفسه قد نزل في جزيرتهم في شخص البطركبعكازه ومالبسه الحمراء. معززا ً واخيرا ً اضطر االنكليز الى اطالق سراحه واعادته ّ مكرما ً الى وطنه. والمثل الثاني ولكن المؤلم هو خيانة االنكليز لقادة الشعب من االخوة االثوريين -في وقتها -وتوريطهم وز ّجهم اخيرا ً 56
بانوراما الشهادة
في معركة غير متكافئة ادّت الى ذبحهم وتشريد االحياء منهم .كل ذلك الن هؤالء الرجال االفذاذ أبوا االنصياع االّ الحرة لشعبهم واخالصهم الرضهم ووطنهم الى االرادة ّ وتعلقهم به. ولما قامت ثورة ايلول الكوردية التحررية ،كان من الطبيعي ان يتعلق قلب القس حنّا قاشا باهدافها ،مع انه رجل دين، حريا ً بأن يتماهى مع هذا الحدث لكن ح ّ ي كان ّ سه الوطن ّ لثوار الجليل ويستقبله بالتأييد والدّعم ،فيفرح النتصارات ا ّ في المعارك ،ويحزن لمآسي االهلين من كورد ومسيحيين وباقي االديان والقوميات التي تضمها كوردستان في كافة ارجائها. ولما كانت كنيسته في قلب الحدث ،استقبل القس حنّا ،رجال الثورة الذين كانوا يأتون للزيارة او للمكوث بعض الوقت الذي تستلزمه الحركة. قامت صداقة وطيدة بين القس حنّا قاشا والقائد الثوري لمنطقة زاخو "عيسى سوار " ،ودامت العالقة بين الرجلين طيلة المدّة التي كانا يتواجدان فيها معاً .ولم تخف تلك العالقة بين المقاتلين الكورد وزعيمهم "عيسى" وهو اسم عيسى سوار المتداول .وبين القس حنّا قاشا عن اعين السلطات .ولكنهم كانوا يؤجلون مالحقته الى حين. يقول الراوي: "في تلك االيام حدثت معركة كلي زاخو بين المقاتلين الكورد من جهة والجيش النظامي من جهة اخرى .ولقد 57
بانوراما الشهادة
ابلى المقاتلون الكورد بال ًء حسنا ً وشتتوا المقابل واعطبوا دباباته وهزموا فوجا ً او اكثر من قوات الجيش .فرفعت تلك المعركة المعنويات في صفوف المقاتلين وأُلفت في ذلك االغاني التي تشيد بالثورة وقوة رجالها على االنتصار. ويتابع الراوي. لقد كنت اسكن عند احد اقربائي في اربيل ،وكان البيت المقابل لنا هو بيت آمر الفوج الذي ُه ِزم في زاخو ،وقد أتوا به جريحا ً الى بيته. وكان يروي الكثير عن قدرة المقاتلين الشجعان الذين واجههم ،وعن جدارتهم في القتال الجبلي التي يفتقر اليها جنود الجيش النظامي. انقطع القس حنّا قاشا عن التمتع بعطلته المعتادة ،ورأى ان وجوده بين ابناء شعبه ضروري في تلك المرحلة .إلن القرى المسيحية في األعم األغلب لم تكن مسلحة .لكنهم كانوا يستقبلون المقاتلين ويدعمونهم على االرض ،ومثلهم كان يفعل القس حنّا قاشا في بيته وكنيسته. استمرت المعارك العسكرية ضد الثوار الكورد على مختلف الجبهات .واشتركت فيها معظم الصنوف القتالية في الجيش، حتى الطائرات .اخذت بقصف مواقع الثوار وكهوفهم التي اتخذوا منها حصونا ً استراتيجية التصل اليها القوات الحكومية من المشاة. الجوي لطائرات الحكومة ،المراكز السكانية وطال القصف ّ وحتى القرى بحجة تمشيط المناطق .ومنع الدعم اللوجستي 58
بانوراما الشهادة
للمقاتلين الكورد .وفي غارة على القرية التي يؤدي فيها القس حنّا قاشا مهامه الدينية ،سقط صاروك في فناء الكنيسة ،وكانت تتوسطه حديقة مغمورة بالمياه ،فآنغرس الصاروك الى منتصفه في الطين ولم ينفجر. فرح اهل القرية ومعهم القس بالنجاة لعدم انطالق الصاروك داخل بيت قسهم وكنيستهم ،ولم يخبروا احدا ً باألمر ،بل فوض القس أمر الصاروك لرجل المهمات الصعبة المدعو مر بنا هذا االسم من قبل ،والبأس شمعون(شمعونكي) ،وقد ّ ان نعيد التذكير بهذه الشخصية البسيطة الهامشية التي تقوم بجالئل االعمال. توجه شمعونكي الى حديقة الكنيسة وجلس القرفصاء واحتضن اعلى الصاروك بكلتا يديه واسند رجليه الى اسفله ،واخذ يهزه برفق ثم بشدّة حتى زحزحه عن مكانه، وما لبث ان اخرجه من الطين وحمله لوحده على كتفه وسط فرح وثناء االهلين ،حتى القاه في النهر ،وكانت تلك نهاية المعجزة.
59
بانوراما الشهادة
()11 الضّباب األ ْس َود إن جمود الوضع في ايام الزعيم عبدالكريم قاسم االخيرة،أفصح عن الحاجة الى التغيير فليس للشعب العراقي ان ينتظر اكثر ،فاالوضاع االقتصادية ساءت الى أبعد حد ،و الحرب على الكورد تستنزف موارد الدولة ،و تسيل دماء ابناء الشعب ،فكان البد أن تتصدى احدى القوى الموجودة على الساحة لتغيير الوضع ،والبعثيون بما عرفوا به من إيمانهم بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" ،بادروا للتحالف مع القوى القومية و الرجعية مجتمعة ،ووضعوا ايديهم بأيدي شركات النفط التي تضررت من القرار رقم ()80 الذي اصدره الزعيم عبدالكريم قاسم ،بتحديد مناطق انتشار الشركات العاملة في العراق و التي كانت تسيطر على كامل مساحة العراق. و بمباركة و اسناد من الرئيس جمال عبدالناصر و حكومة الجمهورية العربية المتحدة "سوريا و مصر" آنذاك ،ركب البعثيون القطار االمريكي ،و نفذوا اعتى مؤامرة تصدت لنظام عبدالكريم قاسم و ثورة 14تموز 1958و اسقطتها و ذبحتها. 60
بانوراما الشهادة
شملت التصفيات الجسدية و من ثم الفكرية ،جميع القوى التي يتوقع منها االنقالبيون المقاومة ،فحدثت ملحمة كبرى حقيقية ذبح فيها االالف ،و تقطع اللحم البشري مزقا ً بايدي العُتاة و المجرمين. في هذا الخضم الهائل ،لمعت في ذهن القس حنا قاشا و هو في قريته البعيدة على الحدود العراقية -التركية ،فكرة ان الفتى ابن اخته الطالب في دار المعلمين -اربيل ،ربما يكون ضمن الذين تطالهم االيدي الغادرة ،لعلمه بنشاط الفتى و ديناميكيته ،و ربما انتمائه الى الفكر اليساري الذي جاءت مؤامرة الثامن من شباط من اجل استئصاله و محوه من الوجود. شاءت الظروف ان يكون الفتى في عطلة نصف السنة بعيدا ً عن مكان دراسته ،فمرت الموجة دون ان تطال الطلبة المداومين في الدار.. و لما عاد من العطلة ،كانت السحابة قد خفت و انشغل القائمون على الحكم الجديد بترتيب اوضاعهم ،لكن دون ان ينسوا مهمتهم التصفوية. سنة) في رحلة من أرسل القس حنّا قاشا خادمته (المرأة ال ُم ِ ّ القرية الى زاخو فالموصل ،لالستفسار عن مصير الفتى، لعدم وجود وسائل اتصال سريعة في ذلك الزمن. جاءت المرأة و عادت في اقصر وقت ،بعد أن حملت رسالة اطمئنان الى القس بأن ابن اخته في امان ،فأطمأن الى حين. 61
بانوراما الشهادة
لكن للزمن تقلباته ،و ال يعلم احد من سوف تطاله يد الحدثان ،فماهي االّ بضعة اشهر من قيام انقالب 8شباط االسود ،حتى عاود البعثيون حالة االقتتال ضد الكورد. جهزت الحكومة البعثية ،اكبر حملة عسكرية قادها صالح مهدي عماش وزير الدفاع في وقتها ،لتمشيط المنطقة الشمالية -هكذا كانوا يسمون كوردستان -و تصاعد القتال و اشتدت حدته ،فعاد التهجير الى سابق عهده و امتألت المدن الرئيسية بالنازحين من الكورد و المسيحيين ،لكن القس حنا قاشا بقي في قريته بين ابناء شعبه ،حتى جاء مساء و صلت فيه خادمة القس ،الى الموصل و الى بيت اهله و هي تبكي و تقول: لقد اعتقلوا القس ،و ال أعلم الى اين اخذوه ،و هل هو حي ام ميت بين ايديهم؟! وقع هذا الخبر وقوع الصاعقة على كل معارف القس حنا قاشا و اهله و ذويه ،ال يستطيع اح ُد ان يقوم بعمل في هذا الباب. الرحوم على غيره ،وقع هو فيه! و ها الذي خاف منه القس ّ هو في المعتقل ال يعلم احد عنه شيئاً ،الى ان جاءت رحمة هللا فاطلقوا سراحه و عاد الى قريته بسالم. لم يتكلم القس حنا قاشا عما حدث له في السجن ،و لم يخبر احدا ً قط فيما كانوا عذبوه او مارسوا بحقه اي نوع من انواع الضغط النفسي و الجسدي ،و احتفظ بسره الى ان استشهد عام .1969 62
بانوراما الشهادة
يقول الراوي: "في العام التالي الستشهاد القس حنا ،كنت مع والدي في زيارة البن عم لنا و هو الكاتب و االديب المعروف نجيب قاقو. و كان عنده ضيوف احدهم يدعى المقدم لطيف ،و هو من بغداد على ما ظننت. و في معرض الحديث ،تفوه المقدم لطيف عن عمله كعسكري في عمليات زاخو ايام ،1963و هي السنة التي سجن فيها القس حنا: لقد كنت مسؤوالً عن العمليات العسكرية في زاخو ،و كانمعتقال عندي القس حنا قاشا. و هنا بادر نجيب قاقو و اشار الى والدتي قائالً: هذه اخت قس حنا!فآبتسم المقدم لطيف ،و كان يبدو رجالً مهنيا ً في عمله كعسكري ،تابع مسترسالً: لقد قمت باستجوابه ،و استعملت لذلك عصا كنت اضربهبها عن ظهره ،فكان القس يقول لي: ال تفعل ذلك انه يوجع! فكففت عن ضربه ،لكن استنتجت انه عنده شيء ،يعتقد انه متواصل مع الحركة الكوردية ،لقد فسرت انا ايضا ً هذه الـ"عنده شيء" بأن خالي ربما كان منتميا ً الى الحركة الكوردية ،لكن كل الدالئل كانت تشير الى انه كقس ،لم يكن يفكر ابدا ً باالنتماء العملي الى حزب و حركة ايا ً كانت ،لكنه 63
بانوراما الشهادة
كان يعطف و يساعد و يصادق الرجال المسلحين و قائدهم عيسى سوار ،و يستقبلهم في بيته و يكرم ضيافتهم. و لكن كيف اطلقتم سراحه؟ سألنا المقدم لطيف... بالحقيقة ،ان التهمة كانت ثابتة عليه و عقوبتها االعدام،لكن القائد السوري للقوات التي اتت من سوريا لمساندة حزب البعث العراقي في حربه ضد الكورد ،و كان ذلك القائد مسيحياً ،فقال لنا بالحرف الواحد: سنا! ال تعدموا قَ ّفأطلقنا سراحه اكراما ً للقائد السوري .هذه الرواية وقعت عليها بالصدفة ،فرأيت كيف تعمل ارادة هللا في انقاذ االبرار و االبرياء.
64
بانوراما الشهادة
()12 زاخـــو
أما قيادة الثورة الكوردية فلم تكن في الواقع تثق بالبعثيين و حلفائهم و الحكومات العراقية المتعاقبة ،اال انها كانت تسعى للحصول على هدنة و التقاط األنفاس ،و كانت بالنسبة لها بمثابة"استراحة المحارب". من كتاب :الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق 8شباط 17 -1963تموز ،1968بقلم "شيرزاد زكريا محمد". هذا وان ثورة 11ايلول 1961الكوردية التحررية ،كان لها توقفات و محطات استراحة عدة .فبعد سقوط حكم حزب البعث االول في 18تشرين الثاني ،1963واصل عبد السالم عارف الحرب على الشعب الكوردي ،اال انه اضطر الى ايقاف القتال في 10شباط ،1964و عاد القتال فاندلع من جديد في نيسان ،1965و استمر لحين مصرع الرئيس عبد السالم محمد عارف في 13نيسان .1966 و في حزيران ،1966ادرك رئيس الوزراء المدني عبدالرحمن البزاز خطأ سياسة حكومته ،فدخل في مفاوضات مع قيادات الثورة الكوردية ،و تم التوصل الى اتفاقية 29حزيران ،1966و التي عدت انجازا ً مهما ً 65
بانوراما الشهادة
للشعب الكوردي ،حيث اعترفت الحكومة الول مرة بالطابع القومي الثنائي للعراق .فضالً عن ايجابيات (البيان) االخرى -نفس المصدر). كانت فترة حكم الدكتور عبدالرحمن البزاز من أهدأ الفترات على كوردستان ،و ظهرت حالة من االستقرار النسبي في المنطقة. " و استمرت حالة الالسلم و الالّحرب هذه من (29 حزيران 17 -1966تموز ،)1968حتى قيام حزب البعث بانقالبه الثاني في 17تموز 1968و استيالئه على السلطة ،و بذلك دخلت الحركة القومية الكوردية مرحلة جديدة من تاريخها" ..نفس المصدر. ووجد القس حنا قاشا بعض الراحة في هذه المرحلة ،و كان القس يتميز بحب لمدينة زاخو الحدودية ال يعادله شيء اخر في حياته ،فاشترى منزالً قرب الكنيسة ،اال انه كان يفضل الجلوس في ايوان دار المطرانية المالصقة للكنيسة، و من هناك ينظر الى الجبال التركية و يتأمل تساقط الثلوج على شعابها و منعطفاتها في فصل الشتاء ،و كان لسان حاله يقول: ال اجد في الدنيا لحظة اجمل من رؤية الثلوج تسقطعلى الجبال في تركيا و انا جالس في دار المطرانية في زاخو. لهذا ذكرت ان نفسه قد شغفت بمنصب مطران زاخو ،و حين فرغ هذا المنصب يوما ً ما و بقي شاغرا ً لعدة اشهر، 66
بانوراما الشهادة
بخل عليه رؤساؤه و أتوا بشخص اخر هو نيافة المطران "يوسف بابانا" رحمه هللا ،الذي استقبله القس حنا قاشا بكل الحب و االخالص ،و اشاد به اشادة رائعة في قصيدة تكلمت عنها في فصل سابق .و لقد قدر المطران الجديد طاقات القس حنا قاشا ،فاعتمد عليه في العمل الراعوي الى اقصى حد. ان ايام الهدوء النسبي تلك ،عادت على القس حنا قاشا- باالضافة الى الراحة النفسية -بالوقت الكافي ليقوم بدراساته في مختلف المجاالت االدبية و الدينية و الفلسفية ،و شرع باقتناء الكتب ،و اعظم مؤلف وجدته في مكتبته في تلك الفترة هو كتاب الالهوت االدبي في عدة مجلدات ،و من الكتب النادرة التي لم اعثر عليها في مكان اخر ،هو كتاب قصة الفلسفة الحديثة للكاتب الوجودي العربي عبدالرحمن بدوي ،و غيرها الكثير الذي ذرته الرياح. كانت عالقاته تتوطد مع رجال الثورة ،و أظهر حبه و تعلقه بشخصية قائد الثورة المال مصطفى البرزاني ،و كان يرى فيه مثالً اعلى للقيادة و الحكمة .و ال يشك لحظة واحدة في انتصار الثورة و القضية الكوردية عموما ً مادام قائدها هو البارزاني الخالد . يقول الراوي: "كلما جالست خالي القس حنا قاشا عند زياراته الهله في الموصل ،كان يروي لنا بشكل ال يعرف انقطاعاً ،عن المراحل التي وصلت اليها الثورة و عن رجاالتها .و انا 67
بانوراما الشهادة
اقول هذا للتاريخ و انا اتحدث عن احب رجل عرفته ،كيف ال و انا قطعة منه!. اقول ان القس حنا قاشا كان يرى في الثورة الكوردية و في شخصية قائدها البارزاني الخالد ،طريق الخالص ليس للكورد فقط ،و انما لكل المظلومين و المهمشين من ابناء كوردستان و العراق كافة. و انا اعتقد جازماً ،ان تلك كانت نظرة الكثير من العراقيين الذين عانوا من الظلم على يد الحكومات المتعاقبة ،و اكثرها شوفينية و فاشستية -،حكومة حزب البعث المقبور. كذلك عمل القس حنا قاشا في فترة الهدوء تلك ،على اقامة صداقات مع معظم العوائل في قصبة زاخو التي احبها .و من الذين صادقهم و كانوا له بمثابة االهل(آل الزار) ،و منهم اخوان يعمالن معلمين في المدينة ،هما :بطرس و سليم الزار ،و اتفق ان االك االكبر بطرس اظهر للقس حنا فكرته عن الزواج ،فما كان من القس اال ان م ّد له يد العون، و اخذه بيده الى سميل حيث ابناء عمومته ،و اختار له الفتاة المناسبة من آل قاشا ،و هي "نادرة" ابنة اسطيفان ع ّمة القس مازن قاشا قس زاخو حالياً ،و اقيمت الحفالت على حسب عادات اهل زاخو ،و جلبت العروس من سميل الى زاخو .لكن جيء بها قبل ذلك الى بيت اهل القس حنا قاشا في الموصل ،و من هناك انطلق الموكب الى زاخو بأروع مشهد للعروس نادرة اسطيفان .لن انسى يوما ً مرأى هذه الفتاة! و هي الوحيدة من بين آل قاشا التي شهدت دفن القس 68
بانوراما الشهادة
حنا بعد استشهاده .كانت تلطم و هي حافية القدمين ،و يحاول االخرون تهدئتها دون جدوى ..هكذا يكون الوفاء لمن احب الناس و اعطاهم دون حد للعطاء. كان القس حنا يحب االنغام الكوردية ،و يعجب باداء المغني القدير حسن جزراوي ،و كان يحفظ قصة تربيته و يرويها للسامعين ،يقول القس فيها: عندما كان حسن جزراوي صغيرا ً و ضريراً ،و دأب والده على تعليمه الغناء ليكون حرفة يتكسب منها و هو في تلك الحال .و لما كان الصبي يتهرب من التعليم ،كان والده يضربه حتى يستجيب لرغبة والده ،و هكذا اصبح حسن جزراوي أروع و اكبر مطرب كوردي في ذلك الوقت
69
بانوراما الشهادة
()13 عودة االقتتال
إن أي متتبع لتاريخ حزب البعث ،البد ان يالحظ بوضوح تام مالهذا الحزب من الميكافيليّة الراسخة في التعامل مع اآلخرين،أصدقاء كانوا أم خصوما ً و في صدد تعاملهم مع القضية الكوردية انقل هنا ما جاء في تاريخ الحزب الديمقراطي الكوردستاني " العراق في محطات رئيسية "1946لمؤلفه حبيب محمد كريم ،و هو رأي ال اعتقد يختلف فيه اثنان. ور َد ما يلي: ففي الصفحة 114من الكتاب المذكورَ ، " و في 17تموز عام ،1968أقدم البعثيون بالتعاون مع عبدالرزاق النايف و ابراهيم عبدالرحمن الداوود ،كما هو معلوم ،على انقالبهم ضد عبدالرحمن عارف و نجحوا في االستيالء على زمام السلطة .و قد طلب منّا االنقالبيون المساهمة معهم في حكومتهم الجديدة ،فوافقنا من حيث المبدأ على المشاركة بوزيرين على شرط عدم اشتراك القيادة السابقة في الحكومة الجديدة ،ثم يستطرد الكاتب: " و قام حزب البعث خالل هذه الفترة بالتخلص من شركاء األمس ،و هم كتلة النايف -الداوود ،يوم 30تموز ،و آستأثروا وحدهم بمقاليد الحكم ،و عند االعالن عن مراسيم تشكيل الوزارة لم يلتزم البعثيون بما تم االتفاق عليه معهم، 70
بانوراما الشهادة
فقد خصصوا مقعدين لحزبنا في الوزارة شغلهما كل من االستاذ محسن دزةيي و احسان شيرزاد ،اال انهم ادخلوا ممثالً عن القيادة السابقة في الوزارة هو طه محي الدين معروف ،وقد اضطررنا ازاء ذلك الى سحب ممثلنا و عدم االشتراك في الوزارة .و يبدو انهم كانوا يسعون الى هذه النتيجة،فانتهزوا هذه الفرصة و اندفعوا نحو تعزيز صالتهم بهؤالء ،و إغداق األموال و األسلحة عليهم لتجنيد المرتزقة و تسخيرهم لالعتداء على مواقع البيشمركة ،و على المواطنين المؤيدين للحزب و الثورة في كل مكان ،و بدأت العالقات بيننا و بينهم بالتوتر التدريجي و التردي ،و انتهت الى استئناف العدوان على شعبنا في آذار عام 1969و على نطاق واسع... عندما ش ََّن حزب البعث الحاكم حربه القذرة على الكورد في التاريخ اعاله ،كان يبدو في أشد القوة و االستعالء ،فأن البعثيين المعدودين الذين اجبروا الفريق عبدالرحمن عارف على التنازل عن السلطة في 17تموز ،1968زاد عددهم بعد محاوالت و اغراءات و تهديدات للقوى السياسية االخرى التي كانت موجودة على الساحة .إن أول عمل قاموا به بعد تصفية شركائهم في االنقالب ،النايف و الداوود ،كان القضاء على المنشقين عن حزبهم قضاء ماحقاً ،بعدها صفّوا شركاءهم من القوميين العرب اصحاب عدنان ايوب صبري العزي الذي انغمس معهم ،لكن لم يجده 71
بانوراما الشهادة
عمله نفعاً ،و قتلوا ناصر الحاني وزير خارجيتهم بعد 28 يوما ً من االنقالب. و التفتوا الى موظفي الدولة و المعلمين ،فبدأوا باستقطاب العناصر المتذبذبة و النفعية بالتهديد او باالغراء بالمناصب، فكانت لهم بطانة عريضة من االنتهازيين و األصوليين و عشاق السلطة .هكذا تش ّكل النظام الذي سيحكم العراق لعقود من السنين و يجلب لشعبه المآسي و االهوال التي ال تنسى. يقول الراوي: كان القس حنا قاشا يقضي عطلة الصيف المعتادة في بيت والدته و اكبر اخوته من بعده (جميل) ،صاحب العائلة التي كانت بمثابة عائلته هو مع وجود والدته على قيد الحياة. كنت ازوره عصر كل يوم تقريباً ،حيث كان يجلس في االيوان على اريكة معينة ،و َيجول بعينيه خالل السماء من ذلك االيوان المفتوح. كان القس يتتبع اخبار الثورة الكوردية اوالً فأول ،حتى قبل اندالع القتال و لشدة تعلقه بقائد الثورة البارزاني الخالد ،كما اسلفت ،كان يتابع اخباره و ال يشبع من االشادة بعظمة هذا الرجل و حبه لشعبه ،و حكمته في القيادة للوصول بهذا الشعب المظلوم الى بر االمان. قد يسأل سائل عن سر تعلق القس حنا بالثورة الكوردية و قائدها ،و هو رجل الدين الكلداني االشوري االصل، القادمون اجداده من اعالي الجبال ،حيث المناطق التي يقطنها شعبه بين العراق و تركيا؟!. 72
بانوراما الشهادة
اقول ّ إن هذا هو احساس االنسان العالي المشاعر االنسانية بأن النضال ضد الظلم واحد ،و ان الحيف و الالعدالة اذا رفِعا عن الشعب الكوردي ،فسوف يرفعان حتما ً عن كل القوميات و االديان القاطنة في هذه البقعة العزيزة " كوردستان". اخذ القتال يقوىو يشتد ضراماً ،و كلما رأى البعثيون مقاومة تفوق طاقتهم من قبل قوات الثورة الكوردية ،هيأوا لها اسلحة اشد و قوات اكبر ،انهم ال يريدون ان يخسروا هذه الجولة من القتال التي بدت لهم انها االخيرة ،و انها مواتية لمحو هزائمهم السابقة عام .1963كذلك هزائم الحكومات المتعاقبة امام ارادة الثورة الكوردية و مقاتليها االشداء. طالت مدة االجازة على القس حنا كثيرا ً هذه المرة ،كان القس يترقب ان تخف حدّة القتال حتى يستطيع ان يعاود خدمته الكهنوتية التي اصبحت ثقيلة بضم قرى كثيرة الى رعويته ،فلقد اصبح القس حنا مسؤوالً ليس فقط عن ديرابون مركز خورنته ،بل عن كل القرى المحاذية لنهر دجلة نزوالً حتى قرية صوريا في آخر الخط .في تلك الفترة أنعمت السلطات الكنسية على القس حنا قاشا برتبة "الخورنة" ،لخدماته الطويلة و الكثيرة في سلك الكهنوت، لكن ما كان للقس المنشغل باألمور الفكرية و األدبية و الفلسفية أن يقبل برتبة إدارية كان يستحقها او األكثر منها منذ زمن بعيد ،فرفض الرتبة بكل خشوع للرب و الشكر له على نعمائه. 73
بانوراما الشهادة
مالبث القس حنا الذي كان معتادا ً على استقبال زواره بتبادل االحاديث في مختلف شؤون الحياة ان اخلد إلى الصمت، ت عند زيارته ال تحضى منه اال بر ّد السالم ،ثم تجلس ف ُك ْن َ في حضرته في سكوت تام ال تتخلله حتى و ال كلمة واحدة. لقد استعصى علينا نحن أحباؤه ان نفهم هذا السلوك الجديد للقس حنا قاشا! و لكن االيام أفهمتنا فيما بعد ،ان ذلك الصمت العظيم كان استعدادا ً للشهادة التي رآها متوقعة ظاهرة أمام ناظريه.
74
بانوراما الشهادة
()14 عيد الصليب المقدس حالة التزام الصمت من قبل القس حنّا قاشا أمام زواره، قابلتها حالة زمجرة وأصوات عالية وانفجارات عمت أرض كوردستان العراق بأجمعها في تلك اآليام ،أي نهاية صيف عام . 1969 لقد مأل ّ الزهو قادة حكومة البعث ،حتى أن وزير الدفاع يومها "صالح مهدي عماش" ،أصدر من القرارات ما يتنافى مع أبسط القيم اإلنسانية ،للبطش بالشعب الكوردي ،وإلنهاء حركة التمرد او (العصاة) كما كانوا يطلقون على الثورة الكوردية ورجالها األبطال ،ومن تلك القرارات الجائرة كان قرار عماش بإبادة اية قرية يصدر عن قربها لمسافة خمسين متراً ،اطالق نار أو انفجار لغم أو أي عمل عسكري آخر . في ظل تلك األجواء الملتهبة ،تمخض صمت القس حنّاعن سفر الى موقع خورنته ،لقد رأى ان من واجبه في نيته في ال ّ هذه المرحلة ان يكون بينهم ،وهو المكان الطبيعي حسب صوره ،ألنه لم يعتد البقاء عند اهله (امه وعائلة اخيه) ت ّ الكثر من تلك المدّة . 75
بانوراما الشهادة
وبالحقيقة فإن احدا ً لم يتكهن بخطورة الموقف على القس في تلك األوضاع .وبدا ان الجميع نسوا ما حصل له ايام حكم البعث االول في شباط عام ،1963وكيف نجا من اإلعدام باعجوبة ،فلم يتحرك أحد للحؤول بينه وبين تنفيذ فكرته، في السفر الى ديرابون مقر خورنته والتي منها ينطلق الى السهل الفسيح كله . يمض االّ يومان او ثالثة حتٌى نفّذ القس حنّا ارادته . لم ِ وجاء صباح يوم وقفت السيارة بالشارع العام شارع الفاروق – بالقرب من بيتهم ،فوصلها القس حنّا يصحبه معلمه وصديقه االستاذ سعد الرسام ،الذي كان يدرس في معهد ماريوحنا الحبيب ايام كان القس حنّا تلميذا ً في المعهد . عند باب السيارة ،جذب االستاذ سعد الحقائب من يد القس محاوالً انزالها الى األرض،ليمنعه في اللحظة األخيرة من سفر وقال له: ال ّ أنا أقول لك :التذهب ..أرجع وانتظر أياما ً أخرى ،لعلالرب يفرج الغ ّمة ويحل سالمه علينا . ّ عرف عنه من ارادة صلبة وعناد لكن القس حنّا قاشا بما ُ اليقاوم ،رفض رغبة استاذه وعاون سائق السيارة في وضع حقائبه فيها .فآنطلقت به السيارة الى ديرابون لتكون تلك سفرته إلى حيث ال عودة.. وصل القس حنّا قاشا الى ديرابون أيام عيد الصليب ،وشرع فور وصوله بإقامة القداديس الخاصة بالمناسبة العظيمة، 76
بانوراما الشهادة
وزعها بحسب ايام االسبوع ،كل يوم يقدس في قرية أو أكثر .عا َد الدم الى شرايين القس حنّا بلقائه بأبناء شعبه، والذين اصبحوا أهله الحقيقيين .فكان يقابل بالبشر والفرح في كل مكان يحل ضيفا ً عزيزا ً فيه ،فتشارك القرية بكل افرادها ابتدا ًء من مختارها الى اصغر فالح فيها ،فتشارك رجاالً ونسا ًء ،في صلوات تلك القداديس الجميلة ،يغمرهم الفرح الكبير بأن القس حنّا قد ح ّل بينهم . وللتعريف بعيد الصليب وأهميته بالنسبة للمسيحيين عموماً، .فأن قسطنطين عندما اصبح قائدا ً عسكريا ً في روما ،رأى في احدى المعارك صليبا ً من النار في السماء و إلى جانب ِه كتابة باليونانية تقول " بهذه العالمة انتصر" .فأمر جيشه بأن يرسم عالمة الصليب على اعالمهم .وعندما أصبح امبراطورا ً جعل المسيحية الدين الرسمي للدولة .سافرت أمه (هيالنا) بتكليف منه الى أورشليم ودمرت معبد افرويتي (فينوس) ،وظهر تحته الضريح المقدس وفيه الصليب الذي مات عليه المسيح .عادت هيالنا الى القسطنطينية لتموت بين ذراعي ولدها . يقول الراوي : وهذه قصيدة عن عيد الصليب المقدس ،اوردها هنا ،وكم ت القس حنّا قاشا حيا ً ليقرأها: تمنيت ان يكون خالي وأب ِ بعد أن اوقدت نارها عيــد الصـليب شـــ ّع بأنـواره هيالنا 77
بانوراما الشهادة
من حانة الذّل خرجت المليكة أورق اغصانا فأنجبت للمسيح طودا ً شامخا ً قسطين له من في األرض دانا فما وجدت غير لسور يحرسه وهفا قلب األم ٍ صانا الصليب َح َ حتى أتت القدس فآمتطت للصعاب كل مركبة الشريف بنيانا وأقامت شاهدا ً لل ّ حق فهدمت للباطل القديم هيكال برهانا للرب تسبيحا ً وابطلت لفينوس صالة باطل وأصعدت ّ وشكرانا من مشرق االرض رحل النور ساطعا ً حتى التهبت تالل رومة نيرانا وصار الميت حيّا وأحيت بمائت االخشاب روح َميت ويحيى انسانا كالعو ِد اليابس
وصار الصليب للجا ِه رمزَ كرامةٌ نصبا ً وعدوانا
وصار الصليب للجهل
المتعب من اجله مــات التقــي راضيـا ً ومن اجله ك ّد ُ المأسور جذالنا ولم تتعب حملنا الصليب على الصدور زهوا ومحبة ً االكتاف حملت صلبانا . *** 78
بانوراما الشهادة
هذا ويعتقد ان خشبة الصليب أحيت احد الموتى عند اكتشافها ووضعها على جسد الميت .فثبت أنها صليب المسيح نفسه ،لذلك يطلق على صليب المسيح اسم (الصليب الحي) . يوم عيد الصليب 15ايلول 1969أقام القس حنّا قاشا قداس العيد في قرية (افزروك) كبرى القرى على اسفل السهل السندي ،وكان قداسا ً رائعا ً الينسى .توجه بعده الى ديرابون مركز خورنته ليبيت ليلته فيها ،ولم ينس أن يوصي السائق أن يكون عنده في الصباح الباكر ،ليكون قداسه االخير في صوريا .وفيها ختام جولة القداديس لعيد الصليب المقدس ... .
79
بانوراما الشهادة
()15 المذبحة
جاء السائق الكوردي ليصحب القس حنا قاشا في يوم السادس عشر من ايلول ،1969و كان القس كالعادة ،قد استيقظ و تهيأ و قرأ شيئا ً من كتابه المعهود المكتوب باللغة الكلدانية ،فلم يستطع احد ان يفهم منه شيئا ً اال القس وحده. كان الطريق عاديا ً من ديرابون الى صوريا ،يتخلله احيانا ً مرور سيارات عسكرية تقوم باعمالها المعتادة .في كنيسة صوريا اقام القس حنا ألهاليهاقداس عيد الصليب ،و في نهاية القداس خرجت الجموع فرحةً مهللةً ،و توجه القس بصحبة المختار لتناول الفطور و كانت تتقدمهما "ليلو" اي "ليلى" ابنة المختار ذات السبعة عشر ربيعاً ،و هي تحمل س ِم َع بيدها مزهوة حقيبة القس ،و ما هي اال خطوات حتى ُ دوي انفجار ،اتجهت نحوه االنظار! فإذا برتل عسكري قد توقف على الشارع قرب القرية. بسرعة فائقة ،تبادل القس و المختار اآلراء ،و كان من رأي المختار أن يهرب أهل القرية فال امان في مواجهة العسكر. لكن القس رأى غير ذلك ،و قال للمختار: اهل القرية ابرياء ،فلماذا نهرب؟! هيا نذهب لمقابلةالجيش و نهنئهم بالسالمة. لم يكن للمختار بدّ ،فوافق على رأي القس و توجها الى موقع الحادثة ،و كان اول من قابلهما"المالزم عبد الكريم 80
بانوراما الشهادة
الجحيشي" قائد الرتل ،و عندما بادره القس بالسالم ،واجهه الجحيشي بالسباب و الشتم ،و خاطب الرجلين قائالً: هيا ارجعا الى قريتكما و نحن قادمون اليكم. تسارع الجنود لالحاطة بالقرية لمنع من يفكر بالهرب من اهلها ،و قادوا الجميع الى ساحة كانت تستعمل لمبيت األغنام. امتألت الساحة بالرجال و النساء و االطفال ،يتوسطهم القس و المختار ،فأمر الجحيشي جنوده باالستعداد الطالق النار. و هنا رفع القس يديه الى السماء ،و ناشد العسكري الفظ باسم هللا ان يكف عن تلك الفعلة الشنيعة ،و ان ال يقتل هؤالء الناس االبرياء ،و هنا قال السائق الكوردي: انا لست من اهل القرية ،و انا مسلم ..فر ّد عليهالجحيشي: اخرس انت ايضا ً منهم!.. و فتح الجحيشي النيران وامطر القس بوابل منرشاشته ،و انطلقت رشاشات الجنود تقذف حممها على الجميع من دون استثناء ،حتى صوت "ليلو" الشابة و هي توبخ ذلك المالزم المتوحش ،ضاع و سكت الى األبد تحت زخات الرصاص. يقول شيخ كبير كان موجودا ً في الساحة ،و هو مناهل قرية صوريا الشهيدة: سقطت على االرض ،و عندما فتحت عيني رأيتبناتي الثالث صريعات فوق جسدي ،لقد حاولن ان يحمين 81
بانوراما الشهادة
جسدي باجسادهن ،و هكذا نجوت و ماتت بناتي الثالث جميعهن. ويتابع الشيخ و هو الشاهد على الحادثة: أمر الجحيشي احد الجنود ان يتجول بين الجثث بحثا ًعن احياء ليقوم بقتلهم ،و عندما وصلني،يقول الشيخ: حاولت النهوض ،فضربني الجندي بأخمص رشاشتهو قال لي بالحرف الواحد و بصوت خافت: و لّي! اسكت ..ابق في مكانك.و هكذا انقذ ذلك الجندي الذي بقيت فيه روح االنسانية حياتي. و إنّي كاتب هذه السطور ،اعتمد شهادة ذلك الشيخ في معلوماتي عن المذبحة ،و ال انقلها عن كتاب او اي شخص اخر. يقول الراوي: دعيت مساء يوم السابع عشر من ايلول ،الى معهد مار يوحنا الحبيب في السيمينير ،فذهبت بصحبة االستاذ سعد الرسام ،فقابلنا في حوش السيمينير رئيس المعهد الشيخ الجليل االب يوسف اومي ،و كان يبدو عليه الوجوم ،و كان الى جانبه سائق سيارة مسيحي قادم من زاخو .تكلم األب يوسف اومي كلمات مقتضبة باللغة الفرنسية التي ال افهمها ،خرجنا بعدها من المعهد بصحبة السائق الذي اخذ يتحدث بالعربية عن االوضاع هناك: 82
بانوراما الشهادة
ان الموت قد اصبح حقيقة حياتنا اليومية ،و الذييموت ال يجد لدينا وقتا ً لنحزن عليه ،اننا نضع عليه التراب و ينتهي كل شيء. هذا الحديث عن الموت من قبل السائق غمرنيبالشكوك ،فقلت لالستاذ سعد: هل ان خالي ميت االن؟لم يجاوبني االستاذ سعد الرسام الذي عرف كل شيء، فاعدت عليه الكرة ،لكن قلت له هذه المرة: اني ال اعتقد ابدا ً ان خالي على قيد الحياة االن. فلم يجاوب االستاذ سعد ،و بدالً عن ذلك قال: غدا ً صباحا ً تذهبون جميعا ً الى زاخو ،لكن لم يصرحابدا ً بأن خالي ميت. في الصباح الباكر حملتنا السيارة باتجاه زاخو ،النساءيولولن و لكن دون معلومات قاطعة عن حقيقة الذي حدث، كان األمل ما يزال بأن القس ربما يكون جريحا ً او مسجوناً ،و لكن لم يقبل احد بحقيقة ان القس قد توفى. وصلنا زاخو حوال الساعة العاشرة ،و توجهت السيارة فورا ً الى كنيستها ،كانت الجموع قد خرجت و لم يبقَ اال القليل ،و من باب الكنيسة المفتوح على مصراعيه ،رأينا "نادرة" ابنة عم القس حنا و زوجة بطرس الزار ،و هي قريبة القس الوحيدة ،تلطم حافية القدمين عند القبر قرب باب الكنيسة الداخلي ،ان القس حنا قد استشهد. 83
بانوراما الشهادة
لقد دفنوه قبل وصولنا ،الن الجثة كانت متورمة و قد مضى على مقتله ثالثة ايام. و كما فعل القس حنا في تلك الليلة ،حين ذهب مع شمعونكي و جلبا جثة القتيل المجهول ،هكذا ذهب سائق شجاع الى ارض المذبحة و جلب جثة القس الى زاخو لدفنها في ساحة الكنيسة ،اما شهداء صوريا فحفرت لهم مقبرة جماعية. يقول االب البير ابونا في مقابلتي معه سنة ،2013و هو األب الجليل من اهالي فيشخابور"،ان سكان صوريا من المسيحيين و الكورد ،و ان عدد الشهداء اكثر من ثالثين"، و هذا ايضا ً من شهادة الشيخ الذي نجا من المذبحة كما اسلفت. و ان معهم عشرة من الكورد ،لم يشفع لهم انهم مسلمون للنجاة من عدوانية الجحيشي الحاقد... نجا من المذبحة سبعة شباب هربوا من القرية عند تقدم الجحيشي ،النهم مطلوبون للعسكرية ،و كان احدهم بصحبة الشيخ الذي كان في الساحة وقت المذبحة ،و كان الشاب واجما ً يرتجف داخل معطفه كأنه فرك طائر قد سقط من عشه للتو.
84
بانوراما الشهادة
()16 التطويب
هل كان القس حنا قاشا قديساً؟ و اذا لم يكن كذلك ،فأنه تقدس بالشهادة و تقدس معه كل اهل صوريا الشهداء نسا ًء و اطفاالً و رجاالً ،انهم شهداء عيد الصليب المقدس الخارجون من الكنيسة اثناء حلول القربان جسد يسوع و دمه الطاهرين ،ليسفح دمهم البريء ظلما ً و عدواناً ،فأي تقديس يستحقه هذا؟!. و "التطويب" بمعنى اعتبار الشخص الصالح قديسا ً بعد وفاته ،يصدر عن اعلى مقام في الكنيسة .و في الكنيسة الكاثوليكية عادة ما يكون البابا هو صاحب القرار في هذا الشأن. و يستند قرار الحبر االعظم على مجموعة معطيات تزودهُ بها الكنيسة المحلية ،عن المستحق للتطويب رجالً كان ام امرأة. و اذا عدنا الى موقف كنيسة العراق و هي كنيسة القس الشهيد حنا قاشا ،و استعرضنا المواقف المختلفة للمعنيين بالحدث ،نشهد على ما يأتي: يقول الراوي: في صباح يوم الدفن ،قابلت المغفور له المطران "عمانوئيل ددي" ،مطران الكلدان في الموصل ،في مقره في المطرانخانة .و كانت البطركخانة في العهد التركي .قبل 85
بانوراما الشهادة
نقل مقر البطريركية الى بغداد بعد االستقالل و قيام الحكم الوطني (الملكي). قلت للشيخ الجليل المطران ددّي: ّ إن خالي قد قتل ،و نريد نقل جثمانه لدفنه هنا في الموصل، مسقط رأسه. بادرني المرحوم المطران ددي بلطم خدود ِه و قال: يا ابني ..اذهبوا و ادفنوه هناك – اي في زاخو -وسوف اعمل له قداسا ً عظيما ً هنا – اي في الموصل- فأثارني كالم المطران و خوفه الالمتناهي هذا،فساءني ان اقف في وجهه وهو معلمي الذي احترمه و اجله و كذلكلمكانته الحالية ،لكن في حالة من الغضبلم اتمالك اعصابي فقلت له: سوف نذهب و ندفنه و ال نريد قداسا ً منك بكل تواضع و ادب جم ،و ما يزال المطران تحتوطأة خوفه– من الحكومة – اجابني: الشأن شأنك..لكن مع ذلك ،بعد عودتنا من زاخو ،اقام المطران قداديس ال َعزاء أليام ثالثة،متجاوزا ً خوفه من ان يكون القس متهما ً بالتعاون مع الثورة الكوردية. اما ابن خالة القس حنا قاشا المدعو عوني قزازي" ،فقد ارسل خبرا ً الى كل الصحف الصادرة ذلك اليوم بأن "القس حنا توفى بالسكتة القلبية في زاخو" .و لم يكن تصرف عوني قزازي هذا مريحا ً ابداً.. 86
بانوراما الشهادة
مجلة الفكر المسيحي التي تصدر في الموصل ،نشرت خبرا ً من عدة اسطر عن استشهاد القس حنا قاشا ،و كانت الصحيفة معبرة عن الحدث ،و هذا كثير على عهد البعث و سلطته الغاشمة!. و غير ذلك كان الصمت هو صفة الموقف الكنسي العام، بطريركا ً و كنيسة بوجه عام ،فلم يطالب احد بدماء قرية مسيحية ذبحت ،او قس استشهد مع ابناء شعبه و كنيسته األب البير ابونا و هو ابن المنطقة ،كان متابعا ً للحدث ،و قد التقيته ذات صباح في بيت جدتي ام القس حنا ،و كان يتابع ي ان احضر معهم بعد يومين ،و تركة القس حنا و اشار ال ّ لما خرجنا سوية انا و األب البير من بيت جدتي......، خالل الطريق عن ضرورة ان اكون بينهم عند احصاء التركة ،فبينت له انني ايضا ً ال ارغب بأن اكون شاهدا ً في قضية الميراث. و لم اعلم عن اي موقف لالب البير ابونا غير هذا ،و هو الباحث و المؤرك المعروف. اما عن موقف البابا من المذبحة ،فقيل انه قد علم بها و اصدر تصريحا ً لم يصلنا فحواه ،لكن عند زيارة البطريرك للبابا بعدها بسنوات ،قال له الحبر االعظم: فقدت قسا ً جيداً. لقدَ اشارة ً الى القس حنا قاشا الشهيد. ثم جاء الى سدة البابوية ،البابا البولوني يوحنا بولص الثاني ،و اشتهر هذا الحبر األعظم بكثرة التطويبات ،و من 87
بانوراما الشهادة
جملة تطويباته انه شمل بها القس حنا قاشا شهيد صوريا، و اخبرتنا الخالة جينا و قد كانت دائبة البحث عن اخبار اخيها الشهيد القس حنا قاشا و المواقف المختلفة من قضيته، فمثالً اتصلت بحكومة االقليم التي كانت قد صرفت (راتب شهيد) للقس حنا قاشا ،و آل هذا الراتب الى اخته المقعدة "ماري" و هي ما تزال تستلمه لحد االن . اما التطويب ،فلقد صدر فعالً عن قداسة البابا على حسب قول الخالة جينا ،و انه سوف يعلنه عند قدومه الى لبنان ،و انها ذاهبة لحضور الحفل الخاص بالمشمولين بالتطويب من الشهداء و الصالحين ،ثم لم نعلم عن ذلك شيئاً .هل نفذ البابا قراره ،هل حضرت الخالة جينا ذلك اليوم المجيد؟ ان الذي نعلمه و نقره ان القس حنا الشهيد و شهداء صوريا جميعاً ،تطوبوا بالشهادة ،و هي اعلى من اي قرار.
88
بانوراما الشهادة
()17 قريبا ً من صوريا
نفذ المطران عمانوئيل ددّي المثلث الرحمات َو ْع َده ،و اقام قداديس رائعة أليام ثالثة بعد عودة اهل القس حنا قاشا الشهيد من زاخو .و أقيمت مراسيم العزاء في بيت والدته، و هي جدّة الراوي. يقول الراوي: بعد ايام العزاء ،بدأ ازالم السلطة بالبحث عن سليمان يعقوب القس ،وآلتُهمة هي التعاون مع الحركة الكوردية ،و لكن االسم لم يكن مطابقا ً للشخصية ،فلقد ظنوا أني اخو القس حنا .و هذا االختالف و بمساعدة بعض االشخاص جعلهم يغضون النظر و يلفلفون الموضوع ،فمرت الموجة بسالم. لم تأخذ مذبحة صوريا و مصرع القس حنا قاشا على يد العسكر البعثيين ،حقها من االهتمام ال من كنيسة العراق و ال منظمات المجتمع المدني و الرأي العام الدولي ،حتى البابا و قد وصله علم بالمذبحة و استشهاد القس ،لم يزد عن كلمات مقتضبة و ابداء األسف على ما حدث. 89
بانوراما الشهادة
اال االذاعة الكوردية التي كانت تبث من المناطق المحررة، استمرت أليام عدة في عرض وافٍ و كشف لما اقترفه الجيش الذي ينفذ اوامر الحكومة البعثية ،ليس في صوريا و حدها بل في داكان ايضاً ،و هو كهف احتمت فيه بعض العوائل الكوردية ،فطوقه الجيش و قاموا بذبح من فيه من العوائل و احرقوه انتقاما ً من الثورة و من رجالها. لم يرتدع الحكام البعثيون بعد تلك المذبحة و لم يخفضوا من قسوتهم ،و لم يقدموا و ال حتى اعتذارا ً شكليا ً عن قتل االبرياء و اراقة الدماء دون ذنب يذكر. كان الصراع يشتد ،فكلما صعدت الحكومة البعثية من حدة عملياتها العسكرية كان المقاومون الكورد يزدادون تماسكا ً و اصراراً ،و يوقعون الضربات الموجعة في قوات الحكومة ،التي لم يكن يؤمن معظم افرادها بهذا القتال الجائر و الظلم بحق اخوتهم الكورد. و لما كان القتال في اعلى شدته ،جاءت االخبار ان الحكومة سوف توافق على وقف القتال ،و ان بيانا ً سيصدر مساء الحادي عشر من اذار بهذا الشأن ،و سيقرأ البيان الرئيس احمد حسن البكر نفسه. و جاء بيان اذار التاريخي ليضع حدا ً لالقتتال ،و سمي من الجانب الكوردي باتفاقية اذار .اال ان حكومة البعث لم تلتزم بتلك التسمية ،و هذه اشارة اولى عن نياتها غير الحسنة .و كانت المدة بين وقف القتال و تنفيذ وعود الحكومة اربع 90
بانوراما الشهادة
سنوات ،فاطمأن الشعب الى ان اربع سنوات من السالم سوف تسود على االقل. كان فرح العراقيين جميعا ً ال يوصف بوقف القتال ،و اعتبره الكورد نصرا ً لثورتهم ،و نامت ارواح الشهداء مطمئنة تلك الليلة ،و اعتبرته الحكومة تنفيذا ً لمبدأ البعث باعترافه بحقوق القوميات ،و هذا دجل ما بعده دجل! ألن البعث يسعى الى تذويب كافة القوميات و االثنيات التي تقطن الوطن العربي في قومية واحدة و هي القومية العربية ،و يريد ان تسود اللغة العربية المنطقة بأجمعها ،و ان تُلغى و تطمس كافة القوميات التي تقطن في الوطن العربي. بُ َعي َد بيان اذار ،اقرت الحكومة العراقية بالحقوق للناطقين بالسريانية من الكلدان االشوريين السريان ،و بحقوق التركمان ،و كان هدفها من تلك القرارات اعالميا ً و لتجميل صورة البعث الفاشية التي تركزت في االذهان. يقول الراوي: في عام 1984ابان الحرب العراقية االيرانية ،استدعوني عن طريق مديرية تربية محافظة نينوى الى قاطع الجيش الشعبي الخامس بالمعلمين ،و بالحقيقة فقد وجدتها فرصة، فأنا لم اكن مشموالً بالخدمة العسكرية كوني معلماً ،و هذه فرصة للتعلم على استعمال السالح الضروري لكل فرد. و كم كانت فرصة ال توصف عندما علمت ان المكان المخصص لقاطعنا هو ديرابون ،اي انني ساكون قريبا ً من 91
بانوراما الشهادة
صوريا ،و سأزور االماكن التي خدم بها خالي القس حنا قاشا الشهيد. و بالفعل التحقنا بالقاطع و كانت خدمتي في ربية النمر ،و هي نقطة سيطرة القاطع في مفرق زاخو-ديرابون. كان وقت االلتحاق شتاء ،و ما ان اط ّل الربيع برأسه حتى اخذت افتعل من المناسبات،او اركب في سيارة االرزاق لالطالع على المنطقة ،فرأيت :ديرابون،قرولة،فيشخابور، و لكن كان يسكنها العرب ،فال زراعة تذكر و المياه تذهب في االرض عبثاً. و في جولة مشيا ً على االقدام مع سفح الجبل ،كنا نمر على اثار القرى المسيحية المندرسة ،كانت القرى قد سويت باالرض ،و لم يبقَ منها اال األسس الحجرية لكنائسها و االعشاب تنمو فوقها و تغطيها من كل جانب ،اما كرومها فتحولت برية متشابكة االغصان تختلط مع االشواك و العواسج.. مر رجل في احد االيام و بينما انا واقف في نقطة الحراسةّ ، كوردي ،و كان هذا الرجل يأتي لنا بقالب من الثلج ك ّل يوم، لكن عندما التقى بي في ذلك اليوم قال لي : انت تشبهنا ،فما الذي اتى بك الى هنا؟.اجبته قائالً: نعم فأنا مسيحي ،و لي عندكم في زاخو عترةٌ(ايقرابة) ..هو خالي القس حنا قاشا شهيد صوريا. 92
بانوراما الشهادة
فما ان سمع الرجل اقوالي ،حتى تغيرت الوانه و صعد الى سيارته و لم يعد الينا ابداً ،فحرمنا من الثلج الذي كان يجلبه يومياً. كان ذلك الرجل الكوردي من المتعاونين مع الحكومة ،و هو و كيل للشخص الذي كان يزرع السهل الكبير المحاذي لجبل زاخو،يقال انه كان يزرعه مناصفةً مع خير هللا طلفاح والد زوجة صدام حسين و خاله. فهل كان ذلك الرجل يعرف اشياء عن صوريا ال نعرفها نحن؟ و من ضمنها عن الشخص الذي وضع اللغم قريبا ً من القرية و ادى الى ذبحها؟ مر بنا على طريق الربية بضعة ذات صباح مشرق جميل ّ شباب ،كانوا بعمر الذي رأيته يوماًُُ مع الشيخ الذي نجا من المذبحة ،فقابلتهم و سألتهم: الى اين تذهبون ايها الشباب؟ اجابوا و قالوا: نحن من صوريا صوريا! و اين هي صوريا؟ انها هناك ،و اشار احدهم بيده نحو القرية ،انها علىبعد ربع ساعة فقط مشيا ً على االقدام. و هل تأخذوني معكم اليها. هيا تفضل على الرحب و السعة. لم اذهب معهم الن مالبسي كانت بغيضة ،و كنتاحمل على كتفي رشاشة العدوان التي بمثلها ابيد 93
بانوراما الشهادة
الصوريون و قسهم الشهيد .و هذه احدى مفارقات الدرس العظيم الذي يسمونه التاريخ. انتهى
94
بانوراما الشهادة
شهادة من صديق الشهيد البار القس حنا يعقوب قاشا رحمة هللا عليه فقد كان مناضالً حقا ً و كان شهيدا ً للواجب حقاً! فهو إذن قديس حقاً. كنت قد عرفته منذ 1942تلميذا ً اكليريكيا ً شابا ً في معهد مار يوحنا الحبيب لالباء الدومنيكان بالموصل ،يحضر مع رفاقه االكليريكيين اجتماعات اخويتنا و نشاطاتها و هي اخوية مسيحية للشباب في رحاب الكاتدرائية الشهيرة للسريان الكاثوليك بارشاد القس حنا رباني العالمة المعروف حامل شهادة الدكتوراه بالفلسفة و معلم االجيال. و مرت االيام و شاهدت التلميذ االكليركي حنا بل تأملته راكعا ً امام مذبح الرب مع رفاقه الخمسة مستعدين القتبال درجة الكهنوت في كاتدرائية مسكنتا العريقة على يد مار يوحنا قريو مطران العمادية و بحضور القاصد الرسولي حينذاك المنسونيور جورج البلجيكي و ذلك الصباح ،1943/5/15و شاهدت القسيس الجديد حنا قاشا يقيم قداسه االول في كنيسة مار كوركيس (قرب خزرج) بحضور والدته (خالة حسينة) و اخوته جميل و جبرائيل و عزيز و اخواته. هذا و بعد انتهاء السنة الدراسية في المعهد التحق القس حنا بأبرشية زاخو المنتمي اليها اصالً و تعين في قرية حدودية نائية اسمها (قرولة) يسكنها نازحون من هنا و هناك ،تقع 95
بانوراما الشهادة
هذه القرية على نهر الهيزل و هو جدول صغير يصب في الخابور ،و امضى الكاهن الجديد سنوات من حياته في خدمة ابناء هذه القرية فكان القس حنا هو المرشد و االب و المعلم و الطبيب و المضمد و هو الكل في الكل ..و يجمع االوالد يعلمهم الصلوات ،و يجمع مسا ًء الشبان و الرجال ليتلوا عليهم بعض فصول من الكتاب المقدس و يقص عليهم بعض القصص التاريخية .اما في قداس الصباح فاالرشادات و التوجهات عامة لجميع نظرا ً للظروف و االحوال السائدة! سقط الشهيد القس حنا مع زمرة من ابناء رعيته و سواهم يربو عددهم على الثالثين ذهبوا يشكون الى هللا ظلم االنسان و غدره: نقل جثمان الشهيد المبارك الى كنيسة الكلدان في زاخو حيث احتفل الجميع بالصالة من اجله و دفنه بين الدموع و الحزن في ضريح امام باب الرجال في تلك الكنيسة بعد ان حضر اخوته و اقاربه من الموصل و سواها. و في الموصل اقيمت له الصلوات و مجلس العزاء بحضور الغفير من الناس و قد هالهم المصاب بفقدان هذا القسيس المناضل الذي لم يكد إن يتم الخمسين من عمره فقد كان من مواليد .1919 وقد عنيت بتهيئة قطعة مرمرية صورته الكهنوتية ثم نبذة صغيرة عن سيرته في الحياة جلبها اخوته الى زاخو واضعين اياها فوق ضريحة المبارك. 96
بانوراما الشهادة
هكذا قضى هذا القس الشهيد خدمته مدة 26سنة اصعب الظروف و اقساها متنقالً الى دار البقاء يشكو الى هللا قسوة االنسان و غدره بأخيه االنسان. رحمك هللا ايها الكاهن المناضل و جعل نصيبك مع زمرة الشهداء االبرار في دار الخلود. صديقك الذي ال ينساك بهنام سليم حبابة
97
بانوراما الشهادة
خاتمة لم يكن للقس حنّا قاشا التّياري الدّماء ،القوي الشكيمة؟،المفكر ،الفيلسوف ،الشاعر ،ان ينتظر حتى يشيخ ليموت على فراش المرض .ان معظم األفذاذ من أمثاله ماتوا في عمر الخمسين كما قضى هو شهيداً. َر َح َل في زمن نُضجه .وقمة عطائه .لكن الفرصة ،وأية فرصة ضاعت ،وهدرت .وكم من فرص مثلها ضاع و ُهد َِر ،على أيدي التوحش البشري الملتحف باسماء كبيرة مثل الدين والوطنية والقومية ،وهي كلها منه براء. ما كان لعقل القس حنّا قاشا الكبير ،ان يظ ّل بعيدا ً عن مشاكل قومه ومعاناة شعبه ،حتى لو كان األمر يس ّمى سياسة .وهو رجل دين وخادم رعيّة. ان الثورة الكورديّة التي قامت في 11ايلول ،1961 وجدت طريقها الى قلب وعقل القس حنا قاشا ،كطريق للخالص من االستغالل والظلم واالضطهاد .وكان هذا رأي حر شريف في العراق عموماً ،حتى ولو لم يكن كل ّ كوردّياً. وتعلّقت مشاعر القس بشخصيّة قائد الثورة "المال مصطفى البارزاني"الخالد الذكر .واعتبره ليس قائدا ً ثوريا ً فحسب، 98
بانوراما الشهادة
وانما أبا ً للشعب الكوردي ،لما وقع في قلبه من حب عميق للمشاعر االنسانية في شخصية المال البارزاني ،وفي تعامله وغير ِه. مع األحداث ،وتسييره لها بأقل الخسائر ،لهذا َ والقس حنّا نفسه ابن شعب مضطهد ،وض َع امكانياته كلها في خدمة الثورة ورجالها ،بحدود ما يسمح له موقعه كقس يقدم الخدمة لمن يحتاجها ولكن تصرفه االنساني المحض، كاد ان يوصله الى االعدام ،وقد وصله لوال تدخل الضابط السوري ..كما اسلفنا في احد الفصول. انني اذكر هذا للتاريخ ،ال ابتغي اال اراحة ضميري وازالة الثقل عنه ..عليه اقول: ان موقف القس حنّا من الثورة الكوردية ،ال يقل عنموقف القس الثائر الكولومبي كاميللو توريز ،الذي انضم الى الثوار في موطنه كولومبيا ،وقاتل معهم حتى قُتِ َل وسالحه بيد ِه.
99
بانوراما الشهادة
اال ان طبيعة القس الشهيد حنّا قاشا السلميّة ،لم تكن تسمح له بحمل السالح ،وال هو رجل سالح .فقدّم للثورة ما استطاع من دعم انساني ،وتحمل كافة النتائج المترتبة على ذلك في سبيلها. تم في يوم الخميس 26ايلـول 2013 ابــو يوســف عنكاوا /اربيل /كوردستان
100
بانوراما الشهادة
التلميذ حنا قاشا الصورة الثاني من اليمين اسفل.. في معهد مار يوحنا الحبيب من ارشيف االستاذ بهنام حبابة
101
بانوراما الشهادة
المؤلف سليمان ايليا – ابو يوسف المواليد1946: التحصيل الدراسي :خريج دار المعلمين-اربيل 1964 صدر له: -1الطريق الى المجد – رواية- -2الفك المفترس – رواية في ثالثة اجزاء- أ -قلعة الصياح ب -العُقاب ت -سنوات الحصار. و هو ابن اخت الشهيد القس حنا قاشا و من اشد المتأثرين بالنظرة الثاقبة و المنهج المستقيم للقس الشهيد ،و خاصة اراؤه في قضية العادلة للشعب الكوردي ،و عالقته الوثيقة بكل الشعوب المظلومة ،و ما مآساة صوريا االّ احدى صور االضطهاد و التي تنتج عن العقلية الجاهلة و المتعصبة على هذه االرض ...و في كل مكان.
102
بانوراما الشهادة
103