الناشر رئيس جملس اإلدارة ورئيس التحرير
د .حســـني الشــــــافعي h.elshafie57@mail.ru املراسالت القاهرة – مدينة العبور
44971مكتب بريد مجعية أمحد عرابي
ص .ب 72 . Tel. & Fax: + (202) 24 77 38 70 & 71 E-mail: secertary_ert@yahoo.com شارك يف اإلعداد شيماء حممد الشافعى أمحد حممد جنيب التصحيح واملراجعة حامد أمحد حممد
اإلخراج الفين مــى مـجـدى حترير
نور اهلدى احلسن عبد الكريم والء عماد قاسم مارى دانيال
الطباعة دار الطباعة املتميزة مدينة العبور – القاهرة
Tel. & Fax: + (202) 4478 96 44 & 46
الطبعة األوىل 1988
مطبعة إخوان مورافتلى
شركة األمل للطباعة و النشر و التوزيع
الطبعة الثانية 2014
دار نشر أنباء روسيا مجي��ع حق��وق الطبع والنش��ر حمفوظة للناش��ر. ال حيق إعادة طبع أو نسخ حمتويات هذا الكتاب ً ً ضوئيا دومنا ٌ إذن كتابي من الناشر . إلكرتونيا أو
رقم اإليداع
بالتعاون مع اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم
При содействии
eгипетско –российской ассоциации по культуре и науке رئيس جملس األمناء
رئيس جملس اإلدارة
ا.د فيتالي ناؤمكني
د.حسني الشافعى
إهــــــــداء إىل .. رباب ...شادى ... هذا هو ماضيكم ،فثقوا فى مستقبلكم فلسوف يثمر الغرس ، وتسطع مشس احلقيقة ،وتنتصب قامة مصر . فى يوم سيكون طوع بنانكم باجلهد والعلم واإلخالص
أبوكم أمحــد شرف
تقــــد يم ذكريات جندى مصرى التحق باخلدمة فى الثلث األخري من عام ، 1968 واستمرت خدمته بالقوات املسلحة ألكثر من ست سنوات شهد فيها من صنوف املعارك واملعاناة الكثري. تذكر اجلندى – آنذاك – أمحد شرف قصة اإلعداد لنصر 1973من خالل حرب االستنزاف اجمليدة ،والتى مشلت جمموعة ضخمة من العمليات العسكرية املستمرة واملتواترة بهدف إرهاق وتشتيت قدرات العدو الصهيونى ،وجعله فى حالة استنفار دائم ،وحتى تستعيد القوات املسلحة عافيتها ،وتصبح جاهزة ملعركة املصري التى انتصرت فيها القوات املسلحة وحطمت أسطورة عدو ال يقهر . ً أيضا كما كانت مبادرة حرب 1973بأيدى قواتنا ،كانت حرب االستنزاف مبادرة مصرية ُفرضت على العدو الصهيونى ّ ، وسطر فيها اجلندى املصرى أروع بطوالته وتضحياته . إنها ذكريات عن البشر والسالح ،تسجل مرحلة تارخيية هامة التقى فيها املصرى والسوفيتى ليخُطَّا ملحمة بناء جبارة لن تسقط من ذاكرة الشعبني . فى الذكرى األربعني لنصر ، 1973ما أحوجنا أن نتذكر هذه امللحمة ،و التى اكدت أن عشق األوطان و الزود عنها يكون بالبناء و العمل ،فـهما اللذان صاغا النصر و سيظالن عماده الناشر
دار نشر أنباء روسيا يناير 2014 5
مقــــدمة عــامة منذ فرتة طويلة والذكريات بني أيدينا تلح على ،واألصدقاء ً ً وتبكيتا لي ،كلما جاءت سرية أيام اجلندية، غضبا يزدادون ً ويطلبون حدا لصمتى ،ويؤكدون أن ما لدى ليس ملكى ً وكثريا ما عللت صمتى وحدى ،وقد آن له أن خيرج إىل الناس . برغبة فى إعطاء البحث حقه ،وتناول حرب االستنزاف فى دراسة توثيقية دقيقة .وكلما مرت األيام ازدادت الصعوبات أمامى . فأنا بعيد عن نطاق الدراسات العسكرية ،وما كتب عن حرب االستنزاف قليل ً جدا . فهناك حبث إسرائيلى كتبه العميدان زئيف ،وجازيت ضمن دراسة عن حروب إسرائيل ،وهناك دراسة أو دراستان نشرها اللواء حسن البدرى فى السياسة الدولية ،وهناك تناول سريع ملا صاحبها من أحداث ،نشرها األستاذ أمحد محرش فى كتابه اخلامس عن تاريخ ثورة 23يوليو سنة 1952وهو خريف عبد الناصر . ودراسة هنا وهناك كتبها معلق إسرائيلى أو باحث عربى .وهذه جمموعة من الدراسات تقل عن ما كتب فى املواضيع املشابهة ً كثريا . 9
« صدر بعد ذلك حرب الثالث سنوات للفريق أول حممد فوزى، وكان لصدوره الفضل فى اإلفراج عن هذه الدراسة املكتوبة منذ مايو . »1983 وإزاء الرغبة فى البحث والتوثيق من جهة ،وقلة املعلومات من جهة أخرى ،واإلحلاح على إخراج ما وعدت به أصدقائى وما سردت بعض تفاصيله فى أحيان كثرية ،وتباعد األيام التى تؤدى إىل النسيان ،كان على أن أحسم األمر بأن أسلك طريق تسجيل الذكريات وعلى قدر اإلمكان أن أطابق بني الذكريات وبني ً ً ما مت توثيقه .وال أدعى أننى سأقدم ً دقيقا ،ولكن عليما حبثا كل ما أدعيه أن هذه ذكريات ،أردت بتسجيلها أن أضعها أمام القارئ ،وكلى أمل أن تساعد على إزاحة بعض الغموض الذى الزم تلك الفرتة فى حياة مصر وشـعبها ،بل والشعب العربى عامة . وألن ما سأكتبه أقرب إىل املذكرات ،فإن جمال تركيزى سيكون حول الدفاع اجلوى ،باعتباره السالح الذى خدمت فيه كل سنوات جتنيدى ،وألنه اجملال األقرب إىل معارفى وجتاربى. وعليه :فما أقدم على عرضه خيص الدفاع اجلوى أكثر من غريه من فروع القوات املسلحة املصرية .وهنا يضيق العرض ليشرح قصة بناء حائط الصواريخ ونظام الدفاع اجلوى املصرى ، ً منعزال عن باقى معارك حرب وال يعنى هذا أنى سأعرض األمر االستنزاف ،ولكن أردت التنبيه إىل نقاط تركيزى . 10
وبعد .. لعل ما سأسجله على الصفحات التالية يستحق ما كتب به من مداد ،وإن كنت أعلم علم اليقني أنه سيعجز عن الوفاء لقطرة دم واحدة سالت من شهيد واحد ،ضمن كوكبة شريفة مضحية من أبناء هذا الوطن .
11
صعوبات البحث يصعب على الباحث العربى أن خيوض فى مسائل البحوث ً ً خصوصا .وال حيتاج عموما والعسكرية االسرتاتيجية ً األمر عنا ًء كبريا لتبني مدى هذه الصعوبات .فما زال الفكر ً جنينا مل ير بعد نور احلياة ، االسرتاتيجى والعسكرى العربى وجترى عملية نقل التجارب واألفكار العسكرية اخلارجية ببطء شديد ،فلم تتعد بعد دائرة ضيقة من املتخصصني ،تنقل هلم دون ربطها بظروف نشأتها على كافة األصعدة االجتماعية واالقتصادية والسياسية واأليديولوجية ،وتقدم هذه التجارب دون تالؤمها وتكيفها مع الفن اإلنتاجى الذى نشأت فى إطاره ، وال حتسب على ضوء عناصر القوة والضعف للظروف التى جترى فيها ،أى أنها تقدم وكأنها أفكار وجتارب جمردة ،وهذا بعدها األول ،ثم ال تنشر وال تعمم ،كى تكون فى متناول دوائر ً ً وصوال إىل االتساع عموما ، أوسع من املهتمني ،ومن املثقفني ً فعليا باملشاركة فى صراع مستمر ال هوادة اجلماهريى املعنى فيه مع عدو يزحف صوب حدوده ،بل وعواصمه ،وال مانع من تقدمه إىل بيوته وخمادعه ! ،وهذا بعدها اآلخر . 13
وتأتى بعد ذلك صعوبات أخرى ال تقل أهمية فى جمال البحث العسكرى العربى .فلم تتحدد بعد الفواصل بني ضرورات املعرفة وضرورات األمن .وتتعقد تلك املسألة بتعقد الظروف العربية ذاتها .فالفكر العسكرى العربى ،والعمل العسكرى ً متحوصال بالقهر فى يد قلة تضيق ،وذلك عكس اجتاه العربى الصراع ومشوله مع اإلمربيالية والصهيونية .واحلكومات العربية مازال أغلبها ذو طابع عسكرى ،باملعنى الشكلى ً أساسا من طابع القهر واإللزام اجلربى ،والذى للكلمة واملستمد يتخلى عن املفاهيم العلمية إلدارة الصراع ،وطابع عمليات االلتزام الطوعى التى تبنى بإذكاء الوعى باملصاحل والوجود فى مناخ اإلرادات احلرة والدميقراطية .إن هذه الصعوبات تضع الباحث العربى فى اجملال العسكرى فى دائرة عميقة من الرتدد بني اخلوف من العقاب باملعنى القانونى والسياسى لدى تناوله لقضاياه العسكرية العربية ،وبني اخلوف من نشر وإبراز ما لديه إذا كان قد عايش جتربة أو حقيقة ،بفعل رقابة الضمري ً ظاهريا أو ما يسمى بالرقابة الداخلية ،وسط ساحة حتمل -ولو ً ً ً ً وانكماشا للعسكرية وتقهقرا مضطردا للعدو ، تقدما ً العربية فى جماهلا الرمسى غالبا . وتزداد الصعوبات أمام الباحث العسكرى العربى فى ظروف غياب االسرتاتيجية العربية ،أو ما يسمى باختفاء نظرية لألمن القومى العربى .ونقصد بهذا الغياب إما عدم وجود اسرتاتيجية ً مطلقا ،وإما وجود مشوه هلا ال يساير مقتضى الظروف الفعلية التى حتياها املنطقة العربية . 14
وميكن القول :أن هاتني احلالتني ختصان احلكومات ً ً كثريا من القوى عموما ،بل وختصان واألنظمة العربية السياسية الفاعلة على الساحة العربية ،ويوجد االستثناء لدى بعض القوى الطليعية التى مل حتل بعد معضلة التحام الطليعة باجلماهري . إن هذا الغياب لوجود اسرتاتيجية عربية ،أو نظرية لألمن القومى العربى ،حيمل عدم تواجد البنيان املكتمل ،عدم تواجد من القواعد املنهجية املستقرة لبناء مثل هذه النظرية تكون حمل اتفاق عربى واسع .لقد قدم الفكر االسرتاتيجى مثل هذه القواعد املنهاجية لبناء اسرتاتيجية ،واستقر على أن األخذ بأصوهلا يوصل إىل بنيان اسرتاتيجى متكامل .ويتحدد ً صوابا أو خطأ ،مبدى التحديد الفرق بني بنيان اسرتاتيجى أو آخر الصادق للعناصر املكونة هلذا البنيان . ولو استعرضنا فى عجالة هذه اخلطوات ،وزاد أملنا فى أن تستقر فى العقل العربى كخطوات علمية لتحديد البنيان االسرتاتيجى العربى ،ميكن بعد ذلك أن نرصد اخللط والتشويش املصاحب لتحديد عناصرها ،ورد هذا اخللط إىل الفكر الذى يعكس مصاحل القوى املسيطرة على السلطات العربية ،وتبني مصاحل القوى اجلماهريية والشعبية واألفكار املعربة عنها ،والتى توجب حتديد عناصر البناء االسرتتيجى مبا يعكس هذه املصاحل واألفكار . 15
لتحديد مدى الصعوبات التى تقابل الباحث االسرتاتيجى والعسكرى العربى جنمل هذه اخلطوات ،وحناول تتبع ما يلحق بها من خلط وتشويش وذلك من اآلتى : – 1إن طبيعة اسرتاتيجية أى مرحلة تتحدد بإظهار التناقض الرئيسى الذى حيكم هذه املرحلة .ويتم إظهار التناقض الرئيسى بإظهار موضوعه .بعد ذلك يتم فرز هذا التناقض ومتييزه عن التناقضات الثانوية ،ويعترب حل التناقض الرئيسى هو حمور احلركة العامة هلذه املرحلة . فى نطاق هذه اخلطوة نالحظ أن التشوش العربى يبلغ مداه، فهل الصراع الرئيسى هو صراع عنصرى بني العرب واليهود ؟ موضوعه الشخصية العربية مبكوناتها لو جاز التعبري ؟ أم هل هو صراع طبقى بني املستغلني العرب ؟ وموضوعه ملكية وسائل اإلنتاج العربية ؟ أم هو صراع قومى دميقراطى بني االمربيالية والصهيونية وحلفائهما فى الداخل من القوى االجتماعية املشاركة بالفتات والتابعة هلما! ،وبني جممل القوى الوطنية الدميقراطية داخل الوطن العربى وموضوعه السوق العربية والثروة العربية ،ومدى استقالليتها أو تبعيتها لألجنبى ؟ أم هو مجاع ذلك ؟ هل التناقض الرئيسى موجه ضد إسرائيل والصهيونية وضد االمربيالية وبالذات األمريكية منها ؟ أم أنه موجه ضد دول أخرى؟ أيهما الرئيسى والثانوى ؟ 16
– 2حتديد القوى صاحبة املصلحة فى حسم التناقض الرئيسى لصاحلها ،مبا يتماشى مع حقها ،ومدى مالئمة هذا احلق ملنطق التطور التارخيى ،أى حتديد القوى الصاعدة . – 3حتديد القوى املضادة للحق التارخيى ،والتى تشكل طرف الصراع الذى يبغى احملافظة على الوضع اخلاطئ واملضاد حلركة التارخيى ،أى القوى املعاكسة أو القوى اهلابطة . – 4حتديد جممل أهداف ومهام املرحلة على ضوء مصاحل هذه القوى الصاعدة ،وتقويض دور ومصاحل القوى املعاكسة ، وترتيب هذه املهام حسب أولويات حتدد احللقة الرئيسية فى الصراع ،واجتاه الضربة الرئيسية ،والشعار الرئيسى ،وحتديد عسكريا أم باالثنني ً ً ً معا . سياسيا أو أسلوب إدارة الصراع إن عدم التحديد الدقيق للعناصر التى تتطلبها هذه اخلطوات إلجناز بنيان اسرتتيجى متكامل ،يعرب عن مصاحل اجلماهري الشعبية العربية ،جيسد أخطر الصعوبات أمام الباحث العربى ً ً خصوصا .لقد صار عموما والعسكرية فى جمال االسرتاتيجية ً ً صديقا لدى البعض ،وصار الصديق عدوا لدى الكثريين. العدو والسالح ال ملالقاة العدو لدى البعض ،ولكن لتوجيهه إىل صدور ً أحيانا .وسوق السالح األشقياء بل للمواطنني فى البلد ذاته غابت فيها املصاحل الوطنية ،والتكنولوجيا العسكرية صارت تطلب الستهالك املزيد من املوارد العربية ،ولتلبية متطلبات العنجهية لبعض احلكام دون أن تكون عملية حمسوبة على ضوء االحتياجات الفعلية للواقع العربى . 17
هذه بعض القضايا املعقدة التى يثريها غياب ،أو تشوه ، اسرتاتيجية عربية .لكل ما تقدم تربز صعوبات أساسية أمام ً عموما ،والباحث الباحث العربى فى جمال االسرتاتيجية العربية ً خصوصا. فى جمال الدراسات العسكرية وتزداد تلك الصعوبات بالنسبة لشخص مثلى ،فأنا لست ً ً مزاوال متخصصا فى الشئون العسكرية ،مبعنى أننى لست ملهنة العسكرية وكان وجودى داخل صفوف القوات املسلحة ً إجباريا .وهذه أول حماولة املصرية من موقع اجلندى اجملند ىل لدخول ميدان الكتابة العسكرية ،بل هو أول حماولة ملثلى ،فلم يعودنا الواقع العربى أن يفكر اجلنود ،فالفكر العسكرى له سدنته ،ودائرة ال يلجها إال اجلنراالت ،ولكن رغم كل الصعوبات العامة واخلاصة رأيت أن أبدأ بقهرها ً سلفا ،سأدخل مبجرد النزول إىل ميدان الكتابة ،وكما قررت هذا الباب عن طريق الذكريات ،ووضع ما عشته من جتارب أمام اجلميع لعلى أستطيع أن أقدم إىل عملية بناء اسرتاتيجية ً مفيدا فى جتميع عربية ،عناصره مفيدة ،فقد يكون اجلزء ً دافعا حملاولة جتميع الكثري ،وقد الكل ،وقد يكون القليل ً باعثا خللق الشامل ،سواء كان كل ذلك يكون الفرعى على مستوى النظرة أو على مستوى بناء النظرية .وليغفر ىل ً بداية ما قد يربز من إرتباط للعام باخلاص واملوضوعى القارئ بالذاتى ،فهذه وقفة مع الذكريات تلك حدودها ،وال أدعى بها ً ً ً متكامال ،فهذا فوق جهدى ،وخارج إمكاناتى . توثيقيا عمال 18
بـداية التعـارف بعد مولدى بسنوات قليلة ،فرض على أسرتى الصغرية صراع اجتماعى حاد كان موضوعه أكثر من نصف حيازة والدى الفالح الصغري من األرض الزراعية ،ولسوء احلظ وقعت قطعة األرض هذه أمام قصور عائلة إقطاعية عريقة ،وكانت هذه ً ً مثاليا بالنسبة هلذه العائلة ليقام عليها وابور ملياه مكانا القطعة الشرب النقية ،ضمن خطة وزارة الشئون االجتماعية والبلدية آنذاك ومل يغري من مزايا هذه األرض أنها كانت تبعد أقل من ً 500 مرتا عن أراضى بور وقف .ودار الصراع من جانب أسرتى الصغرية فى اجتاهني :أبى يعتمد على حكمته وتدينه فى الشكاية والسعى بني الوزارات ،والدعاء ألولياء اهلل الصاحلني أن يرفع عنا هذه الغمة ،وأخوتى من الشباب يريدون التصدى بالقوة ،فهم يلقون حبديد املشروع تارة فى الرتعة ،ويعاركون املقاولني واملهندسني تارة ،ويوضعون فى احلجز تارة أخرى ، وتقصر جمهودات أبى وأخوتى عن إنهاء الصراع لصاحلهم . وال أنسى ما حييت البشر والسرور الذى عال وجه أبى صباح 23 يوليو ، 1952وهو يضع جهاز الراديو البدائى على أذنه ،والذى ال يستطيع آخر أن يسمعه .وكيف خرج أبى عن وقاره املعهود، 19
وأخذ يصيح « لقد استجاب اهلل لدعائى ،بركتك يا إمام يا شافعى ،اجليش قام حبركة ضد الفساد» .وتردد تعبري حركة ً كثريا أمام مسامعى ،وأخذ والدى فى آخر أيام اجليش املباركة حياته تعويض أرضه .ومتكن أخوتى من شراء بديل هلا يتجاوز ً كثريا الفدان ببضعة قراريط .وانكسرت شوكة اإلقطاعيني مما ثبت تعبري حركة اجليش املباركة مبعانى اخلري ومقاومة البغى والفساد فى وجدانى الصغري . وفى عامى العاشر جرت أحداث العدوان الثالثى على مصر ،وال أنسى نشاط أخى الكبري ( الفالح البسيط ) وتطوعه فى املقاومة الشعبية هو ومعظم شباب قريتنا .وال أنسى التفاف اجلميع حول جهازين أو ثالثة للراديو وقت نشرات األخبار ،وهى تلك األجهزة التى كانت حتوزها قريتنا .وال أنسى دأبى أنا وأطفال قريتنا فى اقتياد أحد الكالب اهلزيلة ،وربطه حببل وجره طول اليوم فى طرقات القرية ،وسط صيحاتنا « أجرى يا إيدن» ،وال أنسى أن كل شىء وكل شخص دميم أخذ أحد املسميات ،إيدن – مولييه ،بن جوريون ،جولدا مائري . وحفزت هذه األحداث رغباتى للمعرفة ،وتفتح وعيى العام على تلك األحداث ،أحداث العدوان الثالثى على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ،لرتسم أمامى بعد صقل الدراسة والبحث املالمح اآلتية : - 1مل يصدر هذا العدوان عن قوة واحدة أو دولة واحدة .وكان حلفا ً ُ قويا ،جيمع بني قوى االمربيالية الربيطانية الطرف املعادى 20
والفرنسية ،وبني الصهيونية العنصرية ركيزة االمربيالية فى الوجود والعدوان داخل منطقتنا ،واملتمثلة فى إسرائيل .وإن هذا العدوان حفز بعض القوى االجتماعية فى الداخل إىل الدعوة للتسليم حتت مقولة « إنه ال قبل لنا مبعاداة هؤالء الكبار» . - 2مل تتصد هلذا العدوان وتقاومه قوة واحدة .ففى الداخل شاركت فى رده قوات املقاومة الشعبية إىل جوار القوات املسلحة املصرية ،وبدور لألوىل -إن مل يكرب الثانية -فهو مل يقل عنه . وخارج مصر ،اشتعل العامل العربى حبركة عارمة تشارك فى توجيه الضربات للمصاحل االمربيالية ،لعبت فيها القوى الشعبية العربية ً دورا يفوق دور األنظمة واحلكومات ،ووقفت شعوب ودول حركة التحرر الوطنى إىل جوار احلق املصرى والعربى ، وضد قوى العدوان االستعمارية .ووقفت شعوب ودول املعسكر اإلشرتاكى ،وعلى رأسها الشعب واحلكومة السوفيتية ، ً ً حامسا فى تأييد حق مصر فى االستقالل ورد العدوان . موقفا مد االحتاد السوفيتى مصر بالسالح ً بدءا من صفقة األسلحة
التشيكية سنة 1955وتتابعت اإلمدادات بعد ذلك ،حتى ً وصوال إىل التأييد السياسى الذى اإلمداد بالطائرات احلديثة ،ثم جتسدت قمته فى اإلنذار السوفيتى الشهري “ إنذار بوجلانني “ لوقف العدوان بالتدخل السوفيتى إىل جانب مصر فى املعركة. فى داخل الدول االمربيالية ذاتها وداخل معسكرها ،تفجرت التناقضات الثانوية حول توقيت العدوان واختلفت إدارة أيزنهاور فى موقفها من العدوان عن إدارة إيدن ومولييه ،وانفجرت 21
احلركات الدميقراطية والعمالية فى البالد تندد بالعدوان وتدينه ،حتى فى عقر دار املعتدى ذاته ،داخل بريطانيا وفرنسا . - 3اتضح للجميع أن هذا العدوان مل يكن جمرد صراع قومى عنصرى ،أو دينى بني بريطانيا وفرنسا ،وإسرائيل أو اليهود من جانب .وبني مصر والعرب من جانب آخر ،ولكنه صراع وطنى دميقراطى بني االمربيالية والعنصرية وحلفائها فى الداخل وبني مصر الوطنية التى ارتكب نظامها سابقة -أو سوابق -فى جمال حترير اإلرادة الوطنية ،واالجتاه فى العمل القومى العربى املعادى لإلمربيالية والصهيونية ،وااللتجاء إىل حلف معاداة االمربيالية (سواء املعسكر اإلشرتاكى – أو حركة التحرر الوطنى ) . ً إنتصارا فى حدود أهداف ومهام حمددة، - 4إن رد العدوان كان تأكدت بانسحاب قوات العدوان ،وحترر إرادة الفعل املصرى صوب التوجهات التى بدأت بالسري فيها حنو تقويض التبعية ً ً وسياسيا . إقتصاديا لالستعمار وبناء االستقالل الوطنى إن هذه اإلنتصارات متت حتت قيادة سلطة وطنية قادها جمموعة من الضباط الشبان على رأسهم مجال عبد الناصر .مما دعم لدى ولدى جيلى ً حبا وثقة أخذا يتناميان فى العسكرية املصرية ،بعدما عرفت دور القوات املسلحة املصرية فى النضال الوطنى التحررى للشعب املصرى ً ، بدءا من دور أمحد عرابى قائد أول حلقات الكفاح الوطنى التحررى للشعب املصرى فى تارخيه احلديث ضد قوى العدوان االمربيالية ،وانتهاء حبركة اجليش املباركة التى صاغت قيادتها والتأييد الشعبى العارم هلا أحداث ثورة 23يوليو اجمليدة . 22
وأخذت هذه املشاعر تكرب معى كلما توطد انتصار جديد سطرته قيادة ثورة يوليو سنة . 1952وال أنكر أن أجهزة اإلعالم حينذاك أثرت فى تضخيم مشاعرى احملبة للقوات املسلحة ، فالسلطة طابعها لعام ،الطابع العسكرى ،واإلعالم يصور أن أى خلل فى احلياة االقتصادية أو االجتماعية ،أو حتى السياسية إذا امتدت إليه يد القوات املسلحة حتسن وضعه وتعدل .فالقوات املسلحة تقوم باإلشراف على هيئة النقل العام بالقاهرة وكثري من كوادرها حيتلون مواقع القيادة اإلدارية فى مؤسسات الدولة والقطاع العام اإلنتاجى ،واملشري عبد احلكيم عامر يتقدم لريأس جلنة تصفية اإلقطاع فى منتصف الستينات ، ليقضى على اجليوب االجتماعية املتخلفة واملوجودة من بقايا عهد االستبداد فى الريف املصرى ،وقوات الشرطة العسكرية واملخابرات تتقدم لتساعده فى هذه املهمة . لكل شىء إذا ما مت نقصان ! هكذا تنامى حبى للعسكرية املصرية وثقتى بها ،ومل يك هذا حاىل وحدى ،بل كان التيار الغالب فى جيل بأكمله . ولكن لكل شىء إذا ما مت نقصان ،فما كانت هلذه الصورة الوردية أن تستمر فى وجدانى الغض ،طاملا أن الواقع أكثر ً تعقيدا من أحادية املشاعر ،أو حتى أحادية املعرفة املتعقلة . فى بداية الثلث األخري من سنة 1966حدثت واقعة أضافت إىل ً أبعادا جديدة الستكمال مالمح الصورة ،فقد حان وقت نظرتى جتنيدى .وكان البد من الذهاب لتوقيع الكشف الطبى على 23
ً طبيا ،وبالتعبري الدارج « اليق أو لتحديد صالحيتى من عدمها غري اليق» .فإذا ثبتت لياقتى ،أحصل على تأجيل حلني إنهاء دراستى اجلامعية . وذهبت إىل معسكر االستقبال فى منطقة اإلسكندرية، وكان ذلك فى سبتمرب سنة ، 1966وكانت أول جتربة ىل لالحتكاك بالقوات املسلحة من الداخل .ووجدت فيها ما راعنى، وفجرت لدى مشاعر القهر التى أمحلها كابن فالح مصرى على كتفى من آالف السنني فقد تصادف حضورى أنا واثنني ،حالتهم كحالتى ،مع دفعة من شباب الفالحني القادمني من حمافظة الغربية ،وشاهدت هؤالء الشباب من الفالح يعاملون وكأنهم بقايا عبيد األرض ،أو جيش السخرة التى بنت األهرامات وحفرت قناة السويس . فالضرب واالهانات بال سبب ،واإلرغام على مزاولة بعض حركات القردة دون ما مربر هى األساليب التى شاهدتها فى يومى األول فى هذا املعسكر وحركت هذه املظاهر أحاسيسى، فقد اخرتت منذ شهرين فقط كعضو باللجنة املركزية ملنظمة الشباب االشرتاكى .ومشاعر حب الوطن واخلدمة العامة تتحركان بداخلى ،ومرياث مقاومة الظلم والقهر ،كل ذلك يستصرخنى للتقدم لوقف هذه املهزلة ،وهذا النعت الذى ال مربر له ،ولكن حتت إحلاح االثنني اللذين مل أرهما طوال حياتى وال أذكرهما اآلن ،بأن مهمتنا ستنتهى فى يوم أو اثنني وخنرج ، فلماذا االحتكاك؟ والتعرض ملوضوع أكرب من قدرتنا على رده؟ 24
مر اليوم األول بهدوء خارجى وغليان جيرى بداخلى ،وجاء اليوم الثانى ونفذت طاقة احتماىل أمام فجاجة ما أراه وبشاعته ،فتقدمت ً موجها لوقف إجراءات الضرب مبحاولة التفاهم مع صف الضابط ، كالمى هلم ،بأنهم إما أخوة ألمثال هؤالء الشباب الفالحني ،وإما ً كثريا ،وإذا كان اهلدوء هم أبناء فقراء املدن واحلال ال خيتلف والطاعة هما املرجوان ،فيمكن الوصول إليهما باإلرادة احلرة واالختيار الطوعى فى حالة املعاملة احلسنة .ولكنهما أحاالنى ً وبدال من أن يفهم ما أطلبه ،قام على ضابط برتبة مالزم أول ، بصفعى ،وانفجرت بصوت جهورى أخاطب اجلميع -بل وأخاطب نفسى -هل ينسجم ما أراه اآلن ،مع احلرية ومع االشرتاكية؟، هل هذا الذى جيرى ،يتم فى نفس اجليش الذى يرتأس قائده العام جلنة تصفية اإلقطاع؟ . وصعدت األمر وأشركت كل القيادات الشعبية ملدينة اإلسكندرية من خالل أجهزة الشباب واالحتاد االشرتاكى فى التصدى هلذا ملوقف ،ومع قيادة منطقة التجنيد بها ملدة تقرب من ثـمان ساعات ،استخدمت فيها كل صنوف الضغط والتهديد بإبالغ األمر إىل الرئيس عبد الناصر واملشري عامر .
متكنا من الوصول إىل نتيجتني : ً أوال :أن تأتى قيادة منطقة التجنيد ،ومندوب من كبار الضباط فى املنطقة الشمالية لالعتذار للشعب فى شخصى داخل مبنى االحتاد االشرتاكى باملنشية . 25
ً ثانيا :دعوة اإلحتاد االشرتاكى لتشكيل جلان رقابية ملعاملة شباب معسكر االستقبال للتجنيد العسكرى ،معاملة الئقة . وخرجت من هذه الواقعة بعدة دروس مستفادة ،فمهما بلغت طاقة القهر ،يستطيع املقهورون ردها بإحلاحهم على حقهم فال يضيع حق من وراءه مطالب .ويتم هذا حبشد كافة اإلمكانات لتقويض طاقة الظاملني ،مبا فيها إمكانات حلف معاداة الظلم ً أيضا بفكرة غامضة مل والقهر فى خمتلف جوانبه .وخرجت أتبني أبعادها إال بعد مرور حواىل عشرة أشهر ،فلقد قابلت فى ً ضباطا كثرين ،كان أقربهم إىل الصورة التى فى هذه الواقعة ذهنى عن طابع رجال القوات املسلحة الوطنيني العلميني ،هو عميد مصرى علمت منه أنه درس فى االحتاد السوفيتى وحصل على أعلى األنواط العسكرية نتيجة لكفاءته .ولكنه أتى به إىل هذا املكان اإلدارى للراحة ً ، خوفا من أن يذهب العلم بعقله داخل الوحدات القتالية .وذلك عل حد تعبري ضابط حيمل رتبة صغرية ،قاهلا فى معرض إشادتى بهذا الرجل إزاء أحداث اليوم .
األبعاد األخرى للصورة تستمر فى الظهور : بعد واقعة سبتمرب سنة 1966بشهور ،وفى املسافة بينهما وبني عدوان سنة 1967حدثت غارة إسرائيلية واسعة على قرية السموع األردنية .وراعنى أن مير هذا العدوان دون أن يتحرك أحد .فالكل يقف مكتوف األيدى .وناقشت األمر مع زمالء لي فى اللجنة املركزية ملنظمة الشباب اإلشرتاكى آنذاك .وتأكد 26
أن أحاسيسنا واحدة .وفى أول اجتماع تاىل للجنة املركزية للمنظمة ،وضعنا هذه األحاسيس فى صورة تساؤل أمام السيد على صربى نائب رئيس اجلمهورية آنذاك ،وكان رده يعكس ً تصورا يقوم على أن لكل فعل رد فعل ،وأن هذه سياستنا مع إسرائيل .فعلى قدر العدوان يكون الرد .وإننا ال ننوى وال نرى أن هناك حربا شاملة مع إسرائيل فى املدى القريب ،ورغم أن هذا الرد احملدود مل حيدث ،فقد كانت اإلجابة ترجو استمرار صمتنا أكثر من الرغبة فى احلوار واملشاركة بالرأى .وما هى إال شهور وجاء عدوان ، 1967وكانت اهلزمية املؤملة ،وانعقد اجتماع آخر للجنة املركزية ملنظمة الشباب بعد فرتة قليلة من نهاية األحداث ً حتليال املصاحبة حلرب يونيو سنة . 1967وقدم السيد على صربى للعدوان ،يقوم على أنه نبع من ضرورة ضرب مصر قبل أن تدخل ما يسمى بتجاوز النقطة احلرجة على منحنى النمو االقتصادى ، ً تلك النقطة التى يبلغ فيها معدل النمو االقتصادى ً متصاعدا حدا ال ميكن أن ينكسر ،ورغم اقتناعى بأن هذا التحليل هو عني الصواب ،وأن إسرائيل أرادت بعدوانها ضرب النموذج االقتصادى املستقل املصرى ،وأنها قامت بعدوانها مبباركة االمربيالية ً ً خصوصا ،إال أن تناقض الرأى فى ذات املدى عموما واألمريكية الزمنى ،وتبني احلقيقة بعد حلول الكارثة قد ترك فى وجدانى وعقلى أهمية وضوح االسرتاتيجية لدى قوى الدفاع عن الوطن ومصاحله ،أن غياب هذا الوضوح يكلف الكثري . وهذا ما دفعنى فى حماولة دؤوبة الستمرار البحث عن احلقيقة ، ومعرفة جوانب الصورة بتعقيداتها املستمدة من تعقد الواقع ذاته، 27
بل دفعنى للسعى حنو إظهار هذه احلقيقة ،وأجهدت نفسى فى إظهار هذا داخل منظمة الشباب .وتصورت أن ضرورة وصول شيئا ً ً هاما .ولكنى خربت كم من احلواجز رأينا إىل الرئيس ً تقف أمامى جملرد توضيح ما أصبح واضحا فى ذهنى ووجدانى . وفى يوم 20فرباير سنة ، 1968مسعت ضمن من مسع إعالن أحكام قادة سالح الطريان .وقدرنا كم هى رخيصة حوادث التقصري فى حياة األوطان لدى من هم فى دائرة السلطة ،فثمن اهلزمية العسكرية أحكام سجن لقلة بضع سنوات ،وفى اليوم الثانى :انفجر غضب عمال حلوان ،وخرجت مظاهرتهم إىل الشارع ترفض تلك األحكام ،وتدين املسئولني عن التقصري ووقوع ً ً إضافيا دافعا الكارثة ،وفتحت النريان عليهم ،وكان هذا لنا حيث خرجنا حنن الطلبة فى مظاهرة ،سجلت مع سابقتها العمالية أول مظاهرات شعبية سياسية معارضة منذ أحداث مارس ، 1954وتفجرت فى األيام التالية سلسلة من املظاهرات نشط فيها الطالب ،وطرحت شعارات التغيري الثورى كمطلب فورى . وكان من نتيجتها بيان 30مارس سنة . 1968وهو تلك الوثيقة الدميقراطية اهلامة ،التى صدرت فى األعوام األخرية من حكم الرئيس مجال عبد الناصر . ً واضحا ،فاجلماهري هى التى متلك طاقة لقد كان الدرس التغيري .ومتلك الضغط حلدوثه متى أعطيت هلا حقوق املبادرة 28
ً غضبا حتى ولو قيدت حركتها والتحرك املنظم ،وأنها ستنفجر كما كان فى أحداث الطالب فى نوفمرب سنة . 1968 ومع بداية الثلث األخري من سنة 1968مت اخنراطى فى سلك اجلندية ،ودخلت إىل القوات املسلحة كجندى مؤهالت عليا . وكانت جتربة طويلة وعميقة .فلقد امتدت ألكثر من ست سنوات .وختللتها كثري من صنوف املعارك واملعاناة ،تعرضت فيها للموت ثالث مرات .فى كل مرة منها كنت أنطق بالشهادتني ً انتظارا ألمر اهلل ،وكانت النجاة من نصيبى ،ولكن كان ً ساخنا على شباب افتدى بروحه حرمة األوطان ومصاحل الدمع الشعب املصرى العتيد ،وكان -وسيظل -العرفان هلؤالء الشهداء بعض من الواجب الواقع على كاهلى وكاهل كل من حييا على أرض مصر احلبيبة .
29
حتضريات حرب االستنزاف نقلت نشرة وكالة وفا « وكالة األنباء الفلسطينية » فى أوائل ً تعليقا التقطته من إذاعة العدو اإلسرائيلى ،لكبري سنة ، 1975 املعلقني العسكريني اإلسرائيليني فى الراديو حاييم هرتزوج ، رئيس املخابرات اإلسرائيلية السابق ،عن حرب االستنزاف ،قال فيه « إنها احلرب الرابعة بني إسرائيل والعرب ،وهى أخطر احلروب على إسرائيل ،ففيها كان يتعلم املصريون كل يوم جديد . إنها كانت مدرسة لرتبية العسكرية املصرية ،ظهرت نتائجها بعد ذلك .لذا كان ً لزاما علينا العمل على وقفها» . مل أجد كمعايش هلذه احلرب أبلغ من تلك الكلمات لوصف حرب االستنزاف ً ، حقا أنها كانت مدرسة ،تتعلم فيها العسكرية ً دروسا جديدة ،وتطور من أساليبها وفنونها املصرية كل يوم القتالية ،وتضيف بإجنازاتها أنصع الصفات لكتاب تارخيها اجمليد ،ولكن كيف كان ذلك ؟ بعد إنتهاء عمليات يونيو ، 1967كانت املهمة األوىل للقوات املسلحة املصرية هى مل الشمل ،واستجماع ما يتاح من عناصر القوة البشرية ،واستعواض األسلحة والذخائر لتكوين خط 31
دفاع غربى قناة السويس ،لصد أى هجوم أو تصعيد حمتمل من جانب القوات اإلسرائيلية صوب العمق املصرى غرب القناة . وبقدر تشتت القوات ،وما أصاب القيادة من شلل ،واخلسائر العالية فى البشر واملعدات ،كانت صعوبة هذه العملية ،وكان البد من انتقاء قيادة عسكرية جديدة ،ليست مرتبطة بتلك ً بعيدا عن اجملموعة التى تولت قيادة اجليش على أسس شللية ، مقتضيات الفن العسكرى ،والتى عملت على اسرتجاع عناصر السلطة والسلطان فى يدها مرة أخرى .ولكنها فشلت . وكان العامل الثانى بعد اختيار القيادة هو استعواض السالح وفى هذا اجملال لعب اإلحتاد السوفيتى ً ً دورا ً وملموسا باملبادرة هاما ً أحيانا ،أو بواسطة بعض التحركات العربية ( .زيارتا الذاتية بودجورنى للقاهرة وبومدين ملوسكو ) . وكان العنصر الثالث ،يكمن فى إعادة تنظيم القوات املسلحة ،وإقامة ما يسمى بنهج التعاون بني فروعها من ناحية، والنزول بهذا التعاون حتى مستويات أدنى من قيادات الفروع ، ً وصوال لقيادة التشكيالت امليدانية الصغرية . وفى هذا الصدد يذكر اجلميع ذلك اخلالف الشهري بني الفريق مدكور أبو العز وبني القيادة العامة ،حول دور سالح الطريان فى تلك املرحلة ورغبته فى استخدام الطريان لردع القوات اإلسرائيلية على أساس املوقف املستقل لسالح الطريان املصرى فحسب ،دون مراعاة لوضع القوات األخرى وموازين القوى املرتتبة على ذلك . 32
وكان البد من انتصار نهج التعاون ،وخروج الفريق مدكور أبو العز من قيادة سالح الطريان ،هذا االنتصار الذى توج عملية املوائمة بني السالح وخصائصه الفنية والتكتيكية من ً اسرتاتيجيا جانب ،وبني األسلوب العسكرى فى إدارة املعارك ً وتكتيكيا واملتوافق مع هذه األسلحة ،أى أنه مبثابة عقد للزواج بني أسلوب إدارة العمليات حسب ما يسمى باملدرسة السوفيتية القتالية وبني السالح السوفيتى ذاته . وتطلب تنظيم القوات فى تلك الفرتة استخدام عناصر أخرى، كان فى مقدمتها جتنيد املؤهالت العليا واملتوسطة بأعداد كبرية ،وحشدهم فى مستوى اجلنود وصف الضباط ،لتسهيل عملية فهم األسلحة احلديثة املعقدة ،وزيادة كفاءة تشغيلها، والوصول إىل أعلى معدالت أداء باستخدامها . ً أيضا انبثاق قيادة مستقلة لفرع رابع من ثم تطلب التنظيم أفرع القوات املسلحة هو الدفاع اجلوى ،فرع ميثل جمموعة من املعارف واألساليب االسرتاتيجية والتكتيكية املتنوعة ويضم جمموعة هائلة من األسلحة واملعدات املصممة واملستخدمة ألرقى األساليب العلمية والتكنولوجية .إنه الفرع الذى يرسم أبعاد النمو اهلائل الذى ينتظر القوات املسلحة املصرية ،وحيضر للدور اهلام واحلاسم فى إدارة جممل املعارك القادمة ،إنه -وبال أدنى شك -القوة الرابعة . ً إمجاال أنه مع حلول شهر نوفمرب سنة 1967 وميكن القول كانت قوى الدفاع املصرية قد قاربت االستكمال .وذلك بعد 33
إعادة تنظيم القوات املسلحة املصرية ،واستعواض األسلحة والذخائر بكميات كبرية ومتقدمة ،وزيادة دور املستشارين واخلرباء السوفيت فى عمليات التخطيط واإلشراف على متابعة التنفيذ والتدريبات الشاقة واملستمرة ،ثم بوجود قيادة حديثة كان من أبرز رجاهلا الفريقان حممد فوزى وعبد املنعم رياض . بعد هذه املرحلة التى ميكن تسميتها مرحلة استجماع قوى الدفاع والتماسك ،أى مرحلة الصمود ،بدأت مرحلة جديدة ، ميكن تسميتها مبرحلة الردع ،وهى مرحلة تقوم على منازلة العدو ،فى نقط االحتكاك به ،وكان أبرز أحداثها تدمري القوات البحرية املصرية للمدمرة اإلسرائيلية آيالت بأحد زوارق الصواريخ البحرية املصرية .وخوض معركة شدوان .ثم بداية الرتاشق املدفعى عرب قناة السويس ،وعمليات عبور القوات اخلاصة للرب الشرقى من القناة .ثم كانت البداية احلقيقية حلرب طويلة ،امتدت على مدى ما يقرب من عامني .إنها حرب االستنزاف ،احلرب الرابعة بني العرب وإسرائيل .
34
حرب االســتنزاف ميكن القول منذ البداية ،أن حرب االستنزاف التى خاضتها القوات املصرية جتاه إسرائيل ،كانت تتكون من جمموعة من العمليات العسكرية املستمرة واملتواترة ،وذات الطبيعة اجلزئية ،بهدف إرهاق العدو اإلسرائيلى ،وحتميله أكرب خسارة ممكنة ،وجعله فى حالة توتر واستنفار مستمرة ، ً عوضا عن حرب شاملة مل تستعد حبيث تكون هذه العمليات ً ً القوات بعد خلوضها ،وحتضريا فعليا للحرب الشاملة على مسرح العمليات كله فى مرحلة تالية . لقد شنت القوات املصرية هذه احلرب ،وقد امتلكت املبادرة فى فرضها على العدو ،وظل تاريخ هذه احلرب ،هو تاريخ احملافظة على تلك املبادرة فى أيدى القوات املصرية ،والسعى ً ً جديدا فى امليدان عنصرا إىل استعادتها ،كلما أدخل العدو النتزاعها ،وتطوير القوات املصرية لتلك املبادرة فى حالة استعادتها حتى متكنت من شل فاعلية املبادرات اإلسرائيلية ، ً فعليا عن تطوير مبادراتها إىل أن انتهت بعجز القوات اإلسرائيلية وخساراتها ملواقع عسكرية ،اسرتتيجية وتكتيكية كانت ً فعليا لغري صاحلها فى املدى الطويل . تعنى انتقال املؤشر 35
وميكن حتديد البداية الفعلية حلرب االستنزاف فى أواخر سبتمرب سنة . 1968وعلى وجه التحديد فى اليوم الثامن والعشرين منه .حيث بدأت مرحلتها األوىل ،بتوجيه وابل من النريان ،قامت بصبه مدفعية امليدان املصرية عرب قناة السويس وجتاه املواقع اإلسرائيلية فى الضفة الشرقية من القناة .واعتمدت هذه املرحلة ً إمجاال على االستخدام املكثف لنريان مدفعية امليدان ،ومهامجة املواقع اإلسرائيلية شرق القناة بواسطة وحدات صغرية تقوم بعبور قناة السويس .وذلك بهدف إجبار القوات اإلسرائيلية على التحوصل وعدم االنتشار وعدم متكينها من إقامة حتصيناتها فى الضفة الشرقية من القناة ،والتأثري فى معنوياتها وتكبيدها خسائر كبرية . وفى هذا اجملال استخدمت القوات اإلسرائيلية كافة أنواع اخلداع واحليل إلرباك القوات املصرية ،وبالذات قوات مدفعية امليدان . فعلى سبيل املثال كانت تقوم ً ليال بوضع جمموعة كبرية من أعمدة النور فى خط أفقى حياذى قناة السويس ،وتقوم بإضاءة أنواره بالتتابع أى لو بدأت من اليمني تنري العمود األول ثم الثانى، ثم الثالث ...وهكذا ،وفى ذات الوقت تضع مكربات الصوت تذيع من خالهلا أصوات حمركات العربات واملركبات وذلك ً أرتاال عسكرية تتحرك ،وذلك كى لكى توحى بأن هناك تستجلب نريان مدفعية امليدان املصرية على الرمال ،وتعمل هى على استنزاف هذه األسلحة وحماول إتباع ما يسمى بسـياسـة « قلب املائدة » ،ومن ناحية أخرى كانت تريد من تلك املناورات رصد املواقع املصرية وحتديد إحداثياتها لدكها بعد ذلك ، 36
لكن هذه العمليات فشلت من جانب إسرائيل فى خداع القوات املصرية ،بل على العكس لقد جاءت بنتائج باهرة على اجلانب املصرى ،متثلت فى حتسني أداء قوات مدفعية امليدان ،وذلك على مستوى حتديد األهداف بدقة وتدريب جمموعات كبرية من الكوادر املؤهلة ،لفهم خمتلف العمليات الفنية ،والقدرة على حتديد إحداثيات املواقع املعادية بأكثر من طريقة فنية حديثة كاستخدام الصوت والضوء والرادار . ومن ناحية أخرى ،فقد محلت هذه العمليات للجانب املصرى قدرة متتابعة فى النمو على كيفية إدارة حرب املدافع من مواقع ثابتة ،والقدرة على املناورة بالنريان ومصادرها األرضية. وكانت هذه من أول اخلربات اهلامة فى حياة العسكرية ً واضحا عجز القوات اإلسرائيلية املماثلة عن املصرية ،لقد كان التصدى لنريان املدافع املصرية الكثيفة ،حتى كان شهر مارس ً نهائيا فى حرب املدفعية لصاحل سنة 1969حينما حسم األمر ً حجما القوات املسلحة املصرية ،وبدأت عمليات العبور تزداد وكثافة حتى كادت تكون شبه مستمرة ،ووصلت حتى عبور كتيبة كاملة مبعداتها .
ذكرى تستحق التكريم : فى غمرة حرب املدافع ،وارتفاع مستوى أداء القوات املصرية ، وارتفاع الروح املعنوية معها وفى صباح يوم ساخن من أيام القتال، تواجد القائد الكبري وسط قواته ،وتقدم فى الدخول إىل أقرب املواقع ملالقاة العدو ،وبنريان العدو اإلسرائيلى . 37
استشهد الفريق عبد املنعم رياض فى 9مارس سنة . 1969 وباستشهاده واصل تقدمه إىل داخل قلب أمته ووجدانها .ومنذ ً ومثاال للتضحية ذلك التاريخ أصبح هذا الرجل ذكرى عطرة والفداء ينحنى أمامه جبني كل حمب ألرض مصر وشعبها ، ً ومنوذجا وضا ًء لعطاء القوات املسلحة املصرية للدفاع عن وطنها. واستحق أن يسجل يوم استشهاده ،كيوم لكل شهداء مصر ، ممن سقطوا فى معارك الدفاع عن الوطن ،وعن مواطنيه ،وعن أحالمهم املشروعة فى لقمة هنية وعيشة رضية كرمية . ولن أنسى ما حييت ،يوم جنازة الشهيد ،وقد خرجت مجاهري شعب مصر عن بكرة أبيها .مل يدعها أحد ،ومل تصفق بطريقة منتظمة كما عودتنا منظمة الشباب واإلحتاد االشرتاكى . ولكنها ( كل اجلماهري ) انتظمت فى موكب واحد طويل، ً ووعدا باستكمال املشوار . يهتف من القلب ،حتية للشهيد ، وكيف أن الزحام ،زحام البشر ،وزحام عواطفهم ومشاعرهم ، قد أفقد أجهزة األمن السيطرة على املوقف ،وكيف خرج مجال عبد الناصر عن دائرة التحكم األمنية؟ وكيف تكونت حوله حلقة من األجساد الشابة املتشابكة ؟ ،ومشى بها ومشت به من أول شارع طلعت حرب فى ميدان التحرير وحتى جامع شركس حيث نهاية اجلنازة الرمسية . إن جنازة الشهيد تسطر الدرس الواضح واملعتاد للشعب املصرى، إن من يكرم هذا الشعب باإلصرار على أهدافه ومصاحله ، يكرمه الشعب حتى عتبة قربه ،بل يسجله الوجدان الشعبى ً ً ومثاال حتى بعد احلياة ذاتها . بطال 38
وألن الدور الذى كان يضطلع به الشهيد ً دورا فى منظومة من ً وجزءا من كل ،فى عجلة بدأ دورانها حيدث األثر اهلام، األدوار ، وخيرج بالنتائج الباهرة ،تواصلت املعارك بنفس معدل تقدمها، ً تطورا وشهد عام 1969بعد استشهاد الفريق عبد املنعم رياض ً ً وتناميا فى كفاءة قوات مدفعية امليدان املصرية ، ملحوظا ، صاحبه إرتفاع ملحوظ فى الروح املعنوية ألفراد القوات املسلحة، وخباصة اجلنود وصف الضباط إىل احلد الذى فجر جمموعة من التسميات الفكاهية على صوت مدافع اهلاوتزر ،وإىل احلد الذى طمأن اجلميع على اعتياد ممارسة حياتهم اليومية وسط اشتباكات املدفعية التى ال تنقطع .فأفراد الوحدات املناوبة تغتسل ،وتقوم بغسل ملبوساتها ،وتعريضها للهواء الطلق والشمس إىل احلد الذى يفجر غضب القادة املصريني واملستشارين السوفيت ملا حتمله هذه التصرفات من كشف للمواقع . ً منهمكا فى إعداد الطعام وعلى اجلانب اآلخر يكون البعض وسط صيحات اجلميع « زغرد يا أبا جاموس خلى والد األبالسة يشوفوا الويل» ،وكان أبو جاموس هو مدفع اهلاوتزر املصرى الثقيل ،وبالطبع فإن أوالد األبالسة هم اإلسرائيليون على اجلانب اآلخر من قناة السوس . لقد شهدت هذه الفرتة ،وبالذات منذ مارس سنة 1969وحتى ديسمرب سنة ، 1969ما يسمى مبيالد التفوق املصرى فى جمال مدفعية امليدان ،واستخدام النريان الكثيفة من الثبات أو شبه الثبات ،وإحداث املناورة بالنريان ومبصادرها بكفاءة عالية . 39
ً أيضا القدرة على تقديم جتارب كما شهدت هذه الفرتة حية على عمليات العبور لقناة السويس ومداهمة مواقع العدو بكفاءة متنامية ،شكلت فيما بعد -وإىل جانب مراحل التدريبات املستمرة والشاقة -األساس املوضوعى لكفاءة القوات املسلحة املصرية كلها فى عبور قناة السويس أثناء حرب أكتوبر سنة . 1973 ً أيضا امتزاج اخلربة السوفيتية بالسالح وشهدت هذه الفرتة السوفيتى فى تعليم وتدريب قيادات وكوادر مصرية على مستويات عديدة ،إىل احلد الذى أصبحت لكل وحدة حتى مستوى الكتيبة ،بل مستوى السرايا فى بعض األحيان ، مستشار سوفيتى برتبة مناظرة لقائد الوحدة املصرية ،إن مل يكن أعلى ،وزاول قيادة مثل هذه الوحدة داخل جيش بالده . لقد كان كل املستشارين السوفيت يقدمون جمهوداتهم الكبرية والدؤوبة ،والتى كانت حمل رصد كل رجال القوات ً جنودا وصف وضباط فى إطار املعونة األخوية الصرفة ، املسلحة فكانت حكومة االحتاد السوفيتى هى التى تتحمل مرتباتهم وبدالت سفرهم ،وال تتحمل القوات املصرية إال إقامتهم السكنية وتكاليف معيشتهم داخل الوحدات كأفراد عاديني على مستوى الضباط فقط . ً أيضا إجهاض حماوالت إسرائيل فى إقامة وشهدت هذه الفرتة حتصيناتها وحتطيم ما يسمى خبط بارليف األول ،الذى مل تتمكن من حتصينه إال بعد سنة . 1971لقد بلغ إرهاق القوات 40
ً اإلسرائيلية خالل هذه الفرتة ً بعيدا ،وهذا ما سأحاول تبيانه مدى فى الصفحات القادمة .وسوف أستخدم معلوماتهم هم ،رغم ً مقدما أنهم ال يقولون احلقيقة ،فهم يربزون األمور فقط علمى من وجهة نظرهم ومبا خيدم مصاحلهم . فى هذه األثناء -ومع أوائل سنة - 1969مت استدعائى من وحدتى وتوجيهى لدراسة اللغة الروسية كى أعد كمرتجم روسى – عربى ،ولكى أصاحب اخلرباء واملستشارين السوفيت فى السالح الذى مت توزيعى عليه منذ البداية ،أال وهو الدفاع اجلوى، السالح الوليد ،أو القوة الرابعة املضافة إىل القوات املسلحة ،تلك القوة التى عشت مراحل بناءها ،وشاركت فيها من موقع العارف واحملنك مبستويات متعددة .فمن حيث املعيشة أنا جندى بني اجلنود ،ومن حيث املهام مصاحب للقادة ،ووسيط احلديث بينهم وبني املستشارين واخلرباء السوفيت ،مما مكننى من أخذ كثري من الدروس سوف أعمل على وضعها فى متناول يد القارئ ،لعلها تقدم له أضوا ًء على تلك الفرتة اهلامة فى تاريخ وحياة مصر ،بل والعرب أمجعني .
الدفاع اجلوى : فى منتصف شهر سبتمرب سنة ، 1968مسعت ألول مرة عن فرع للقوات املسلحة يسمى ( الدفاع اجلوى ) ،حيث مت توزيعى، وتوزيع معظم اجلنود املؤهالت لالخنراط فى صفوفه .ومل يك ً جديدا على مسامعنا فقط ،بل كان األمر كذلك ما مسعناه ً فعال .فلم تكن القوات املصرية تعرف هذا الفرع كفرع مستقل للقوات قبل ذلك التاريخ بكثري . 41
وعلى الرغم من تدافع أصحاب احلظوة والوساطة للبحث عن خمرج ينقذهم من اخلدمة فى هذا الفرع اجلاد واملرهق حسب ما تنامى ألمساعنا ،وصدقته التجربة بعد ذلك ،إال أن ارتباط هذا الفرع مبفردات كالرادار ،والصواريخ ،والصواريخ املوجهة ، واملدفعية املضادة للطريان ،والطائرات ،كان عامل جذب شديد ىل ،كى أستمر فى اخلدمة فيه ،ليس هذا فحسب ،بل جيب أن أقبل عليه بكل محية وعزم وإصرار .فاخلدمة به ستكون والشك ،دافعة لالحتكاك بالعلم احلديث والتكنولوجية املتقدمة ،هو جمال أشعر أنه ميثل نقطة ضعف فى بناء قوة وطننا العسكرية ،إن مل يك فى خمتلف امليادين ،وهذا اجملال ً حتما سيمكننى من استكشاف مدى قدرتنا على جماراة إسرائيل بسالحها وتكنولوجيته األمريكية ،ومدى القدرة ً صخبا حول إسرائيل، على التصدى هلما ،فى جو امتأل العامل فيه واحة التقدم واحلضارة فى منطقة الشرق األوسط ،وإىل احلد الذى راح فيه فيلسوف شهري كجان بول سارتر يعزف على تلك الوترية أثناء جولته الشهرية فى املنطقة فى تلك الفرتة ،ويعلن بال أدنى حتفظ -احنيازه إىل التقدم احلضارى والدميقراطيةفى مواجهة التخلف والديكتاتورية ! ،وال يشغل نفسه – ولو حلظة -بالسؤال اآلتى « أين يقف احلق ؟ ومع من ؟» . ذهبنا لتلقى التدريبات األولية للجندية فى معسكر لالستقبال يسمى مركز أساس فى إحدى املدن ،وتشكلت وحدتنا التعليمية من عدة مئات من املؤهالت العليا ،وعلى الرغم من أن دخول املؤهالت العليا كجنود بأعداد كبرية ،شكل 42
ً ً ملحوظا فى بنية القوات املسلحة من حيث الوعى واملستوى تطورا التعليمى ،مبا يوفرانه من سرعة االستجابة للتعامل مع األسلحة احلديثة املتطورة ،إال أنه على اجلانب اآلخر مل حيمل القادة فى ً استعدادا ملالقاة هذا الواقع املستويات الدنيا ،واملستويات األعلى ،ومقابلته بفكر جديد وبأسلوب جديد للتعامل ،فروح اإلدارة تقوم على استبداد مطلق ،تغلفه جمموعة من الشكليات فرغت من أى حمتوى أو مغزى موضوعى لتقريرها ،واستمرت سياسة التعامل معنا بإتباع أساليب تعليمية وإدارية أقرب إىل فنون التعامل مع كائنات غبية ،هى السياسة السائدة ،ناهيك عن إتباع جمموعة من األساليب الفجة التى تكرس التمايز الفئوى بني الضباط واجلنود . لقد شهد هذا املعسكر نتيجة هلذه السياسة فى التعامل واقعة تعد الثالثة من نوعها ،حيث جرت الواقعتان السابقتان فى ً أيضا مع اجلنود املؤهالت معسكرى أساس املشاة واملدرعات ، العليا ،وميكن اختصار هذه الواقعة ،فى حدوث ما ميكن أن نسميه ( حركة مترد عام ) . ً ً ومعتادا فى أجواء يسودها توتر بسيطا كان سببها املباشر ً ً العالقات اليومية فى جيشنا .ولكنها فجرت سخطا عاما ،غذاه منطق بريوقراطى من قائد املعسكر حول ضرورة إطاعة األمر حتى ولو كان الوقوف على قلة فوق كرسى يعلو منضدة ،إن هذا املنطق قابله منطقى ومنطق زمالئى بأننا نستهون أرواحنا ونسرتخص دمائنا ،فما بالنا باجلهد والعرق فى سبيل علو شأن 43
هذا الوطن والدفاع عن أرضه ،وصد العدوان الذى حرق أكبادنا فى يونيو سنة 1967؟ ؛ ولكن لن يكون ذلك إال باختيارنا الطوعى ،و الذى يدخل كعنصر ثابت ضرورة التحرك خلف قائد صوب مهمة نعرف خطها العام ،وندرك مغزى حتركنا ولو فى أقل احلدود مبا حيفظ األمن واألسرار .ولكننا نرفض أن نساق كقطيع املاعز . لقد كان من نتيجة هذه الوقائع الثالث أن سطر القائد العام الفريق حممد فوزى جمموعة من التعليمات حول كيفية التعامل مع اجلنود بطريقة إنسانية ،وخاصة على ضوء دخول حاملى املؤهالت العليا ضمن صفوف اجلندية بأعداد هائلة . إن هذه التعليمات التى تسطر بداية أسلوب جديد يستجيب لتغريات جديدة ،كانت تهدف إىل جتاوز آثار اهلزمية بروح تدعم صالبة الصالت داخل القوات املسلحة ،والعمل على قيام عالقات دافئة ومحيمة بني الضباط واجلنود ،وكانت خطوة لألمام ،ال أقول حنو إقرار عالقات دميقراطية فى حدود اإللزام العسكرى اجلربى والقائم على وحدة العمل ،واملفرتض أن يهدف إىل أن يقوم على حد أدنى من وحدة اهلدف املدعمة على املعرفة باملصاحل ،واملبنية على اإلرادة احلرة ولكن أقول: أنها كانت خطوة لألمام فى حدود حتسني العالقات فى جيش مازال حيرم السياسة فى داخله ،ويستبدهلا بشىء من التلقني ً غالبا ما يعكس حالة عدم الوضوح العام والتوجيه املعنوى الذى فى األهداف واخلطط ،أو عدم الوضوح اإلسرتاتيجى عامة . 44
إن ما حصلنا عليه من حقوق كان ثـمرة لرفضنا لتلك املعاملة التى ال تتماشى مع الضرورات املوضوعية التى تتطلبها هذه ً جتسيدا للحكمة األبدية أن احلقوق تؤخذ وال الفرتة ،وكان تعطى ،وأن الكفاح من أجل احلقوق يكون فى كل الظروف حتى ولو اشتدت أطر القهر الذى يوضح فيها املكافحون ،كما أن استجابة القيادة هلذه احلقوق يدخل ضمن وطنيتها وتقديرها العام للظروف احمليطة ،وملتطلباتها وأهدافها العزيزة التى تتطلب احلشد وااللتفاف حوهلا والتضحية من أجلها ،والتقدم بثبات وبإرادة طوعية حنو إجناز هذه املهام . بعد فرتة إمتام التدريبات األولية ،مت توزيعنا على الوحدات القتالية ،ووزعت على تشكيل عسكرى فى اجلبهة دون إعداد ختصصى ،ومع ذلك متكنت من تعلم ما أسند إىل من مهام بأسلوب التعلم الذاتى ،ومبساعدة زمالء العمل القدامى من اجلنود وصف الضباط . ً طويال ،حتى مت استدعائى ومل يلبث وجودى فى هذا التشكيل لتعلم اللغة الروسية باعتبارى خريج إحدى الكليات التى تدرس ً نسبيا ،وبالرغم من متتع هذه اللغات األجنبية بصورة واسعة الدراسة بعوامل طرد كثرية لدى الكثريين ،ككون اللغة املدروسة هى الروسية مبا حتمله من صعوبات دراسية وعدم جاذبية جملتمعنا الذى احتك باللغات الغربية الالتينية أكثر ،أو كون ً أيضا هذه الدراسة ستمد خدمتنا ألطول مدة ممكنة ،إال أننى أقبلت على الدراسة مبنتهى اجلدية ،وما كانت مربرات إقباىل ً كثريا عما سقته من مربرات سابقة شدتنى لإلقبال ختتلف 45
على الدفاع اجلوى ،بل إن األمر فى هذه املرة األخرية محل دوافع إضافية ،ففرص االحتكاك باخلربة والتقدم التكنولوجى ً حتما ستكون أكرب ،والتعامل املباشر مع السوفيت وبلغتهم سيجعلنى أقف على مستوى الفكر العسكرى العصرى ، واملفاهيم االسرتاتيجية والتكتيكية املرتبطة بذلك . ومتكنت مع كثريين من إمتام هذه الدراسة ،واإلملام املبدئى بأصول اللغة الروسية .وتأهلنا للعمل كمرتمجني مباشرين ٌ كل فى فرعه .وبدأ عملى كمرتجم ،ورغم التعثر فى البداية، ً ً فشيئا .ومع بداية شيئا إال أننى متكنت من إتقان العمل عملى كمرتجم بدأت معارفى بقضايا الدفاع اجلوى تتكون وتزداد ،وأخذت تتكون معها بعض املعارف بالعلوم العسكرية وبقواعد التكتيك واالسرتاتيجية العسكرية ،واألهم من كل ذلك بدأت أدخل امليدان احلى وأقف على جمموعة من ً جاهدا التجارب واملشاهدات عشتها بكل انتباهى .وسأعمل على وضعها -وبصفة خاصة من جانبها العام -أمام القارئ ،لعلها تفيد -كما سبق أن أثرت -فى تكوين عناصر هامة تدخل فى بنيان اسرتاتيجية عربية موجودة .
46
صواريـخ ســام وقصتـها معنا فى البداية البد أن أقرر أننى حتى اآلن ال أعرف معنى كلمة «سام» فهى ليست كلمة روسية ،كما أننى ال أعرف ماذا تعنى هذه الكلمة باإلجنليزية ،هل هى اختصار جملموعة كلمات وسام حروفها األوىل ؟ ؟ املهم أنه ال ضرر من استخدامها ، مبعنى أنها تلك الصواريخ السوفيتية الصنع أرض – جو املضادة ً أيضا ال أعرف مدلول أرقامها على وجه للطائرات .كما أننى التحديد ،فهناك سام ... 3 ، 2 ، 1إخل ،ومدى انطباق هذه األرقام على مدى التطور فى صناعة هذه الصواريخ ذات اخلصائص الفنية املختلفة. ولكن ما أعرفه أن هذه الصواريخ حتمل أمسا ًء روسية أخرى، وأعرف أن السوفيت يقومون بتسمية كل نوع منها على اسم أحد أنهار بالدهم الشاسعة ،فهناك نهر الديفينا ويوجد صاروخ الديفينا ،وهناك نهر الديسنا ويوجد صاروخ الديسنا ،وهناك نهر البتشيورا ويوجد صاروخ البتشيورا ..وهكذا . وتبدأ قصة هذه الصواريخ فى مصر منذ أوائل الستينات ، حيث أدخلت إىل وحدات املدفعية املضادة للطائرات فى الفرتة ما 47
بني سنتى ( ، ) 1964 ، 1962وكانت من حيث وضعها داخل التشكيالت ال تتمتع باالستقالل الذاتى ،سواء على مستوى التنظيم القتاىل ،واشرتاكها فى مهام محاية بعضها ،وذلك بتداخل أقواس نريان وحداتها ،أو على مستوى إدارة النريان وصدور أوامر القتال .فهى مل تعدو أن تكون وحدات مكملة للرتكيبة األساسية للدفاع اجلوى ،والتى تعتمد على املدافع م /ط ( أى ً اصطالحا « باملواسري» ،لذا املضادة للطائرات ) ،وهى ما تسمى كانت وحدات الصواريخ املضادة للطائرات منتشرة على رقعة ً ضربا واسعة ،مما جيعل عملية التنسيق بني الوحدة واألخرى من املستحيل . أما من حيث أطقم التشغيل العاملة عليها ،فكانوا فى الغالب من الضباط العاديني ،أى الذين مل يتلقوا التعليم اهلندسى الطويل ،سواء فى الكليات العسكرية الفنية أو املدنية . وكان اجلنود والصف من املتطوعني ،وأغلبهم من أكمل ً متطوعا باجليش .على الرغم دروس املرحلة اإلعدادية والتحق من أن هذه الصواريخ تتمتع خباصيتني حمددتني ،أوهلما التعقيد الفنى الشديد واملعتمد فى أسسه على علوم الكهربية واملغناطيسية وااللكرتونات ،وثانيهما أن قواعد الضرب واالشتباك بها حتتاج معارف عالية من الدراسات الرياضية واهلندسية ،وأن القرار له جانب فنى معقد إىل جوار جانبه التنفيذى ،حيث حيتاج جملموعة من احلسابات الدقيقة . ٌ كثري وفى الفرتة ما قبل يونيو سنة - 1967وكما روى ىل 48
من العاملني فى وحدات الصواريخ آنذاك -كانت الصواريخ تعامل وكأنها حتف منزلية نادرة .فكانت أبواب احملطة ً غالبا ال يعود لفتحها تقفل باإلقفال ويأخذ مفاتيحها القائد الذى مرة أخرى إال كل ثالثاء ،وهو اليوم املتفق عليه آنذاك إلجراء أعمال الصيانة األسبوعية هلذه الصواريخ .وكانت عملية الصيانة جترى مبعناها امليكانيكى ،أى عملية التنظيف وإزالة األتربة ،وعمليات التزييت والتشحيم ،وال جترى الصيانة مبعناها الكهربى ،أى تشغيل املعدات وقياس كفاءة وحدات التشغيل والصمامات والرتنزاستورات ،ناهيك عن عدم عمل أى تدريبات على وحدة املقلد امللحقة باحملطة ،والتى متازج بني أعمال الصيانة والتدريب أى مطابقة اخلصائص الفنية والتكتيكية ،ومدى كفاءتها مع قواعد االشتباكات والضرب وقدرة هذه الوحدات على أداء املهام القتالية بأعلى كفاءة ممكنة . ً ً ملفتا للنظر حينما نعلم أن غامضا أو وعليه مل يك األمر وحدات الصواريخ املوجهة املضادة للطائرات مل تشتبك مع الطريان اإلسرائيلى فى يوم 5يونيو سنة 1967وال األيام التى تليه ،أو أن ً مدهشا -وإن اشتباكاتها كانت غري مؤثرة .وكذلك مل يك ً مثريا لألسى – أن نعلم أنه أثناء عمليات االنسحاب ،مت كان ترك عدد من البطاريات بكامل عدتها وشكلها امليدانى دومنا حتى تفكري فى تفجريها أو تدمريها قبل اإلنسحاب ،وبالتاىل سقطت بني أربع وست بطاريات صواريخ سام كاملة فى أيدى القوات اإلسرائيلية بوثائقها ،وخمططاتها الكهربية واهلندسية، 49
وصناديق الشفرة الرادارية املستخدمة فيها . وفى أعقاب هزمية يونيو سنة ، 1967أدخل على سالح الصواريخ املضادة للطائرات بعض حماوالت اإلصالح كما أدخلت إصالحات على غريه من االسلحة ،وميكن القول أن ذلك السالح دخل مرحلة جديدة بدأت بانسالخ الدفاع اجلوى ذاته ً ً مشكال ً جديدا وقوى رابعة للقوات املسلحة املصرية . فرعا
الصواريخ املضادة للطائرات حتى انتهاء سيادة مدفعيـة امليدان : ميكن اعتبار املرحلة الثانية بالنسبة للصواريخ املضادة للطائرات ،تلك املرحلة التى متتد بعد انتهاء حرب 1967وحتى نهاية سنة ، 1969وهلذا التحديد مغزى سوف نلمسه ً جليا فيما بعد ،ولكن قبل ذلك البد من تبني خصائص تلك املرحلة ،ومدى متيزها عن املرحلة األوىل التى سبقتها . إذا كانت املرحلة األوىل هى مرحلة سيادة املدافع املضادة للطائرات بالنسبة للصواريخ املضادة للطائرات ،ضمن نطاق وسائل الدفاع اجلوى ،سواء كان ذلك بالنسبة لعدد أو كمية النريان املطلوبة ،أو مدى الفاعلية ،أو بالنسبة للشكل التنظيمى املالئم لكل منهما ،أو حتى بالنسبة لإلمكانات البشرية التى تتطلبها هذه أو تلك ،فإن املرحلة الثانية شهدت بعض التغريات فى الرتكيبة النسبية حلجم الصواريخ املضادة للطائرات ،مبا يعنيه ذلك من حدوث كثري من املتغريات التى يستلزمها هذا األمر ،فعندما زاد عدد وحدات الصواريخ ضمن حيز 50
القوة الرابعة ،زاد الدور املطلوب منها من حيث كمية النريان ومدى االعتماد عليها ،وبالتاىل بدء اإلعداد السليم واملتطور للكوادر الفنية الصاحلة للتعامل مع هذه األسلحة املتطورة ،وذلك على مستوى اإلعداد الفنى للتشغيل ،وإصالح األعطال ،وعلى املستوى القتاىل بالنسبة لقواعد الرمى أو الضرب ،وتكتيكات االستخدام ،كما بدأ التنسيق بني بطاريات الصواريخ وحمطات ً ً دقيقا من حيث استخدام املعلومات ،وانتظام شكال الرادار يأخذ ورودها ،وسرعة االتصال بني املراكز القيادية هلما ،كذلك بدأ التنسيق بني الصواريخ املضادة للطائرات وبني سالح الطريان يدخل مرحلة نوعية جديدة ،سواء فى جمال التدريبات احلية ،أو فى جمال التنسيق أثناء العمليات احلربية وتوزيع األدوار بينهما . ولكن بقيت مشكلة خطرية مل يتم حلها أو حتى التصدى اجلاد هلا ،أال وهى مشكلة وضع وحدات الصواريخ فى نظام متكامل للدفاع اجلوى ،تقوم فيه وحداتها باحلماية املشرتكة لبعضها البعض ،وحيث تصري لكل وحدة صواريخ جزء من املهمة فى تأمني الوحدة األخرى اجملاورة هلا ضد هجمات الطريان، وذلك كما يقال عنه « تقاطع أقواس نريانهما» .وبالرغم من ذلك ،مت حتسني جمال الدفاع حول الوحدة الواحدة من الصواريخ املضادة للطائرات ،وقد حدث ذلك فى اجتاهني ،األول :تأمينها ضد هجمات الطريان بالبدء فى إحاطة كل وحدة بتشكيل أو أكثر من وحدات املدفعية املضادة للطائرات ،ذات األعرية اخلفيفة لتأمني الصواريخ ضد هجوم الطريان املعادى املنخفض واملباغت ،والثانى :تأمني الدفاعات األرضية لوحدات الصواريخ 51
املضادة للطائرات بواسطة قوات املشاة واملدرعات ،ضد عمليات التخريب وأعمال الكوماندز املعادى ،وعلى الرغم من سطو إحدى فرق الكوماندز اإلسرائيلى على إحدى احملطات الرادارية الصغرية على ساحل البحر األمحر ،وما كشف عنه من خلل معيب ،إال أنه كشف أهمية التحصني األرضى لقوات الرادار وقوات الصواريخ املضادة للطائرات . كما أن هذه املرحلة شهدت زيادة كبرية فيما يقدم من املعاونة السوفيتية ،فوضع إىل جانب كل قائد فى مستوى الكتيبة مستشار سوفيتى مقيم بالوحدة ،كان هذا املستشار يبذل أقصى اجلهد فى عمليات اإلشراف اليومى على التدريبات، وصيانة املعدات ،سواء على مستوى الصيانة امليكانيكية ،أو الصيانة الكهربية ،وكان يقوم بتحضري املشروعات التدريبية سواء على مستوى إدارة املعركة وفنون القتال ،أو بالنسبة لعمليات التحرك والفك والرتكيب املصاحب هلا . لقد كان متوسط ساعات عمل املستشار السوفيتى كقائد الكتيبة ال يقل بأى حال من األحوال عن عشر ساعات عمل ً ً ً وخمتلطا بالضباط متنقال بني هذه املهام املتعددة ، يوميا ، واجلنود فى ختصصاتهم .كما أن مثل هذا املستشار ينتظم فى جهاز هرمى كامل من املستشارين من أول مستشار قائد السالح ومستشار رئيس العمليات حتى هذا املستوى األدنى ،وكان ً مجيعا ينصب على استمرار وتواتر عمليات التدريب إحلاحهم ً يوميا مبعدالت متزايدة . 52
كذلك استعانت القيادة املصرية على املستويات العليا والوسطى مبجموعات من اخلرباء املتخصصني السوفيت ،وهم ً غالبا مهندسون فنيون ومصممون وعاملون فى مصانع إنتاج هذه الصواريخ ،وكانت مهماتهم تنحصر فى اإلشراف الفنى، وإصالح األعطال ،والتدريب لألطقم الفنية وأطقم إصالح األعطال ،وكان وضع اخلبري خيتلف عن وضع املستشار ،حيث ً كامال بالتعاقد مع القوات املسلحة أن اخلبري كان يأخذ مرتبه ً املصرية من خالل القوات السوفيتية ،أى أن مرتبه كامال كان على حساب مصر ،وكان تواجده يرتبط مبهام حمددة ،وذلك ً كامال من حكومة غري وضع املستشار الذى كان يأخذ مرتبه بالده ،وكان تواجده يرتبط بفرتة حمددة ،يتبدل فيها مع غريه حينما تنتهى مدة األول ...وهكذا . ً طورا من اجلدية مل تشهده ودخلت التدريبات فى املرحلة الثانية ً املرحلة األوىل من قبل ،وال أكون مبالغا إذا قلت أن مثل هذا ً أصال من قبل ،فقد مت التوسع فى إرسال لبتدريب مل يك بدأ البعثات التعليمية والتدريبية داخل االحتاد السوفيتى على املستويني الفنى والتكتيكى ،ومت تنشيط املعاهد التعليمية الداخلية وزاد اإلقبال عليها ،كما بدأت وتطورت التدريبات امليدانية حتت إشراف املستشارين السوفيت على خمتلف مستويات التشكيالت القتالية . وميكن القول – بالرغم من متيز املرحلة الثانية عن األوىل – إال أنها ظلت حلقة وسطى بني ما سبقها وما سيتلوها ،مبا تعنيه احللقة الوسطى من محلها خلصائص األوىل والتدرج حنو 53
اكتساب صفات التالية ،فعلى قدر ما شهدته هذه املرحلة الثانية من تطورات ،إال أن سالح الصواريخ املضاد للطائرات مل يصل فيها إىل اعتباره القوة األساسية ضمن وسائل الدفاع اجلوى املختلفة. ً نظاما كما أن هذه الفرتة مل متتد بالدفاع اجلوى لتجعل منه ً متكامال ميكنه تأمني حميط البالد فى حده األقصى ،أو تأمني وضع اجليشني امليدانيني وبعض األهداف احليوية داخل الوطن فى حده األدنى .
صدفة البد من الوقوف أمامها : فى الشهور األخرية من عام ، 1969دخلت حرب االستنزاف -كما سبق اإلشارة إليه -مرحلة هامة ،تسيدت املوقف فيها وسائل النريان األرضية املصرية ،وعلى األخص مدفعية امليدان .وأصبحت احلرب من مواقع ثابتة عالمة شؤم ووبال على إسرائيل ،فمدفعية امليدان املصرية ذات الضرب املباشر تقصف أى حترك معادى فى مدى نريانها ،ومتنع أى جتهيزات أو حتصينات إسرائيلية من أن تقوم وجتهض وحتطم ما مسى خبط بارليف األول . ً فعاال لعمليات عبور وحدات الفدائيني ، وتشكل غطا ًء ووحدات القوات اخلاصة التى تعمل على إقالق العدو وتكبيده خسائر فادحة ،ولكى نقف على حجم اخلسائر املادية املتنامية إلسرائيل سوف نستعرض بعض بياناتهم ،بالرغم من أهمية التنبيه على أن هذه التقديرات معادية ومهونة للواقع ،فحسب تقديرات العميدين اإلسرائيليني زئيف وجازيت « أن معدالت خسائر إسرائيل فى الفرتة التى سبقت حرب االستنزاف ،وعلى 54
وجه التحديد من 11يونيو 1967إىل 7سبتمرب 1968مل تتعدى ً شهريا ،بينما ارتفع هذا املعدل فى إصابة أقل من عشر جنود الفرتة من 8سبتمرب 1968إىل 4يونيو 1969ليصبح من ( 40 ً شهريا ) ،وارتفع فى الفرتة التالية لذلك – 50جندى مصاب ً وحتى نهاية حرب االستنزاف إىل 72إصابة شهريا ،وهو ما يرفع ما خسرته إسرائيل فى حرب االستنزاف إىل ثالثة أمثال ما خسرته فى حرب يونيو 1967كلها» . على اجلانب اآلخر ،مل تستطع إسرائيل وقف هذه التطورات التى حتمل هلا نذر اخلطر ،وتنبئ بهبوط منحنى قوتها ،لقد فشلت قوات العدو اإلسرائيلى فى استخدام وسائل مماثلة من مصادر النريان األرضية للتصدى ملصادر النريان األرضية املصرية. وظلت مدفعية امليدان املصرية فى وضع التسيد للموقف ،وبدا األمر وكأن امليزان مال لصاحل القوات املصرية ،وحسم تفوق مصادر نريانها األرضى .عند هذا احلد مل يك أمام إسرائيل إال خيارها السهل ،أال وهو ضرورة استخدام يدها الطوىل ،ونقطة القوة فى بنيان قواتها ،سالح طريانها ،فلم يك مبقدور إسرائيل عبور القناة بأرتاهلا املدرعة ملواجهة هذه القوات املصرية ،فالعبور عملية صعبة فى حد ذاتها ،وغري مضمونة النتائج من ناحية ثانية ،وتبدو وكأنها تصعيد خطري فى جو وظروف دولية لن ً متاما ،لذا مل يك أمامها غري حلها األسهل، تكون مواتية هلا وعليه أقدمت على ما ليس منه بد ،ودخلت بسالحها اجلوى ميدان املعركة دخلة قوية . 55
وفى األسبوع األخري من شهر ديسمرب سنة ، 1969كان الرئيس مجال عبد الناصر يقوم بزيارة للمغرب العربى .وقبل أن يقوم بهذه الزيارة عني أنور السادات ً نائبا له ،وتوىل السادات -ألول مرة إدارة شئون الدوله بالنيابة .وفى يوم 25ديسمرب سنة 1969يوم عيد امليالد اجمليد حسب التقويم الغربى ،ويوم عيد ميالد السادات ذاته ،قامت إسرائيل بعملية قصف مركزة على كل مواقع الصواريخ فى منطقتى القناة ومشال البحر األمحر فى توقيتات متقاربة ،أو باألحرى فى ً فعليا من تدمري وإعطاب معظم – إن مل توقيت واحد .ومتكنت يك كل -بطاريات صواريخ سام التى أغارت عليها فى هذا اليوم. وكانت نهاية مرحلة ،وبداية أخرى .رمبا صاغها القدر كى تكون مصادفة تشكلت على طالع السادات ،ورمبا تكون ً شيئا آخر ينسجم مع تاريخ السادات ،قبل وبعد هذا اليوم .ولكن املؤكد أن إسرائيل أقدمت على فعلتها وهى تعلم أن إمكانات هذه القيادة املؤقتة ستوفر املناخ السهل لتنفيذ غدرها واملرور منه بسالم وأن االرتباك واإلهمال وبطء احلركة كحد أدنى هلذه املصادفة أو إن شئنا الدقة الواقعة – يكفل هلا الضمان املرجو لإلقدام على ما أقدمت عليه . وعلى الرغم من عجزنا فى تبني أبعاد هذه القضية وافرتاض أن حدها األدنى هو احلد املقبول واملعقول حتى هذه اللحظات ،إال ً فعليا فى هذا اليوم أننا ال جند صعوبة حينما نقرر أنه قد بدأت عملية فتح أبواب مصر أمام طريان العدو .وبدأت مرحلة غزو 56
األعماق املصرية فيما يسمى ( بغارات العمق ) ،وبدأت بالتاىل مرحلة جديدة فى حرب االستنزاف انتقلت فيها املبادرة إىل أيدى إسرائيل ،وقلب امليزان لصاحلها .
الفعل ونقيضه هما أساس احلركة : ً قدميا أن الظاهرة إذا زادت عن حدها انقلبت إىل ضدها ، قالوا مساو له فى املقدار وأثبت العلم احلديث أن لكل فعل رد فعل ٍ ومضاد له فى االجتاه .وخلصت علوم التفكري فى املنطق والفلسفة إىل أن احلركة أساسها صراع املتناقضات ،وأن بروز ظاهرة يوجب بروز نقيضها ،وأنه مامن سالح خيرتع إال ويظهر سالح آخر يردعه ،وأن املعيار ليس فى أن حيمل السالح األول أو الثانى خصائص متطورة فحسب ،ولكن يتوقف األمر على اجلهد والوضوح املستخدم للسالح فى حدود شرعية اهلدف بالنسبة ملصاحل الشعوب ،واجتاه حركة التاريخ . ً حقا فتحت بوابات مصر أمام طريان العدو اإلسرائيلى ،ولكن بدأت على الفور عملية بناء نظام دفاعى حيمى أجواء مصر ، ً ً ً وجديدا ،فبذلت جادا شكال بدأت هذه العملية بأن أخذت احملاوالت إلحاطة مصر بسور عظيم من حوائط الصواريخ ،سور كاد ينافس سور الصني العظيم فى شهرته ،ورمبا تفوق عليه ً ملمحا فى خدماته الدفاعية ملصر .إن هذا احلائط العظيم شكل ً ً وبارزا لطابع عمليات احلركة والتطور والصراع بني مصر هاما وإسرائيل ،بني إرادة الشعوب وإرادة مغتصبيها ،بني جبهة وحتالف األصدقاء فى مواجهة جبهة وحتالف األعداء ،إنه شكل 57
التجسيد العملى لداللة كل هذه املتناقضات وحسمها فى اجتاه مصاحل الشعوب ،ومع حركة التاريخ .
غارات العمق ،وإنهاك القوات املصرية بالقصف اجلوى اإلسرائيلى اخلطري : منذ ذلك اليوم ،فتحت بوابات مصر أمام طريان العدو اإلسرائيلى ً ً فشيئا ،دخل الطريان اإلسرائيلى فى أخطر وأشرس عملية وشيئا لتصفية كل بطاريات الصواريخ املضادة للطائرات على عرض واتساع الساحة املصرية ،فى مشال الدلتا ومشال البالد كلها، فى العمق حتى قلب القاهرة عاصمة الوطن وأكرب جتمعاته السكنية ،فى صعيد مصر حتى أسوان وجنع محادى .ومل ميتد القصف فقط على مواقع الصواريخ ،بل امتد إىل كل ً دعما لنشاط قوات الصواريخ املضادة نشاط تصورته إسرائيل للطائرات. فقام طريان العدو بضرب املدارس واملستشفيات واحلدائق واملطارات املهجورة ،لعل قوات الصواريخ خمتبأة بها ،فهو يقصف مصنع حديد التسليح مبنطقة أبى زعبل ألنه – وكما ترى إسرائيل – ينتج حديد التسليح اخلاص ببناء القواعد اخلرسانية حملطات الصواريخ ،وخيلف هذا القصف الغادر وراءه عشرات الضحايا من العمال والسكان املدنيني . وهو يقصف مدرسة حبر البقر ألن إسرائيل تظن أن على سطحها ،أو أسطح منازل جماورة هلا وحدات صواريخ مضادة للطائرات ،وخيلف هذا القصف الوحشى عشرات من جثث األطفال املدنيني . 58
وهكذا اشتدت محلة إسرائيل فى البحث عن الصواريخ املصرية ،وبرزت معها بأوضح الصور واألساليب الطبيعة العدوانية الغادرة للعسكرية اإلسرائيلية ،واحلقد األسود للعدو املستمد من نهج اغتصاب أرض الغري ومصاحل الشعوب ،والرغبة الشريرة فى الضغط على أصحاب احلق للتخلى عن حقهم فى مواجهة أساليب القهر البشعة التى جتيدها العسكرية اإلسرائيلية ، والتى عرب عنها جبالء ووضوح رئيس أركان حرب العدو آنذاك ، اجلنرال ( دافيد العازر ) حينما قال : « إن خمطط اجليش اإلسرائيلى لعام 1971 – 70يتضمن مواصلة الضغط على مصر بالقصف وفى األعماق» (. )1 ً جناحا فى مهمته وحينما استطاع الطريان اإلسرائيلى أن حيقق الوضيعة ،ويصيب ويعطب كل قواعد الصواريخ املضادة للطائرات على اجلبهة والبحر األمحر ،وجيرب القواعد األخرى التى مل تصب فى أماكن متعددة بالعمق على التحوصل تارة فى مواقع حصينة ،والتشوين تارة أخرى النتظار ظرف حيسب وخيطط له ،إندفع العدو اإلسرائيلى باستخدام سالح طريانه فى أكرب عملية استباحة وعربدة فوق مواقع قوات اجليشني امليدانيني الثانى والثالث على خط اجلبهة فى قناة السويس ومشال البحر األمحر . ً مشهورا أن إسرائيل تقذف كل يوم تلك املواقع مبا وأصبح اللواء الركن حسن البدرى ،حرب االستنزاف ( 28سبتمبر 7 – 1968 ( )1 أغسطس ) 1970القاهرة ،مجلة السياسة الدولية -مؤسسة األهرام المصرية ، أكتوبر ، 1978ص . 183 59
قيمته مليون جنيه من القذائف والذخائر ،كما كان يردد الرئيس عبد الناصر فى خطبه آنذاك ،وتعكس اإلحصاءات ً أرقاما تدعو إىل الفزع ،إذا علمنا أنه فى شهر يونيو سنة 1970 قام الطريان اإلسرائيلى بعمليات قصف على مواقع اجليشني امليدانيني الثانى والثالث تقدر بــ 246ساعة قصف جوى ،جممعة فى 1912طلعة جوية ( )2حظى منها اجليش الثانى بنسبة 81% من مجلة القصف ،واجليش الثالث بنسبة . 13,6% إن هذه األرقام املخيفة حول طاقة القصف اإلسرائيلى أثبتت بوضوح أن الطريان اإلسرائيلى قد دخل ميدان القتال وأصبح فى مواجهة التشكيالت امليدانية األرضية للقوات املسلحة املصرية .ومع هذا اهلجوم الشرس – وأمام قدرة حمدودة لسالح الطريان املصرى -استطاع بواسطتها القيام مبحاولة الرد على املواقع اإلسرائيلية حيث قام فى شهر أبريل سنة 1970خبمس ً واضحا غارات على املواقع اإلسرائيلية فى مشال سيناء ( ، )3كان مدى التفوق الذى سجله الطريان املعادى فى مواجهة تشكيالت القوات املسلحة املصرية ،مبختلف فروعها سواء الربية أو البحرية، أو وسائل الدفاع اجلوى ،مما بدا معه ،وكأن حرب االستنزاف قد ارتدت سهامها إىل صدر مصر . ً ً كبريا ،وليس فى صعبا وما هو مطلوب وكان املوقف إمكانية مصر أو العرب ،فالبد إذن من االلتجاء إىل حلف معاداة اإلمربيالية والصهيونية ،وفى هذا احللف يربز االحتاد السوفيتى ( )2 ( )3
المرجع السابق .ص . 190 المرجع السابق .ص . 190 60
باعتباره القوة األوىل ،والسند العضود الجتاه معاداة االستعمار فكان ال بد من اللجوء إىل االحتاد السوفيتى ،ومل يك املطلوب ً علميا فى هذه املرة جمرد قطع من األسلحة أو الصواريخ املتقدمة ً وتكنولوجيا ،ولكن كان األمر أكرب من ذلك ،فالطلب فى هذه املرة قوات مسلحة سوفيتية متكاملة ( أى بشر وسالح ) . وبالفعل ،سافر الرئيس مجال عبد الناصر فى زيارته السرية ملوسكو فى أوائل يناير سنة 1970برفقة القائد العام للقوات املسلحة املصرية ،ووضع الرئيس طلبه أمام القادة السوفيت ، وألن الطلب خطري -وألنه خطوة مل يسبق هلا مثيل خارج نطاق منظومة الدول االشرتاكية -وجد القادة السوفيت أن القرار أكرب من قدرتهم على تلبيته فى دوائر حمددة ،ومل تستطع احلكومة السوفيتية ،وال حتى جملس الرئاسة األعلى ،وال املكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفيتى أن يتخذ القرار على مسئوليته اخلاصة ،فكان البد من وجود هيئة أعلى وأوسع . إنها اللجنة املركزية للحزب الشيوعى السوفيتى ،السلطة العليا واملوسعة الدائمة فيما بني انعقاد مؤمترات احلزب ً وفعال قام املكتب السياسى بدعوة جلنة الشيوعى العامة ، احلزب الشيوعى السوفيتى املركزية الجتماع طارئ وعاجل ، خرجت فيه الطائرات املدنية السوفيتية لتجمع أعضاء اللجنة من أماكن تواجدهم فى بالدهم املرتامية األطراف ،إىل موسكو عاصمتهم ،حيث مقر االجتماع املرتقب والضرورى . ومت عقد اجتماع اللجنة املركزية للحزب الشيوعى السوفيتى، 61
ومتت فيها املوافقة على الطلبات املصرية بإرسال قوات مسلحة سوفيتية للدفاع اجلوى عن أرض مصر وأجوائها وإجراء عملية سد سريع لتلك األبواب التى فتحت ،واملوافقة على استقبال جمموعات كبرية من القوات املسلحة املصرية كأطقم عمليات مكتملة ً أنواعا جديدة من فنون للدراسة داخل االحتاد السوفيتى ،وتتعلم القتال على صواريخ مضادة للطائرات من طراز ،حديث وهى ً أيضا على إرسال صواريخ البتشيورا ،صواريخ سام ، 3واملوافقة وفد عسكرى سوفيتى رفيع املستوى ،للمساعدة فى عمل خطة على الواقع ،لبناء نظام متكامل للدفاع عن أجواء مصر ، ومتابعة تنفيذ هذه اخلطة . لقد قوبلت قرارات اللجنة املركزية للحزب الشيوعى السوفيتى هذه بارتياح كبري لدى القيادة املصرية ،وتأكد الشعب املصرى مع كل يوم مير ويبعد فيه شبح الغدر اإلسرائيلى وشراسة قصف طريان العدو من موقفه بأن هذه القرارات هى قرارات حلفاء مصلحة وأهداف مشروعة . وتأكدنا حنن داخل صفوف القوات املسلحة أننا ضمن رفقة واعية بأهدافها ومصاحلها واضحة فى التعبري عن مبادئها وقضاياها فى معاداة االستعمال والصهيونية . ولكن على اجلانب اآلخر -جانب األعداء -كانت املفاجأة وكان االرتباك ،ففى أوائل سنة ، 1970عندما سئل عيزرا وايزمان عن احتماالت جناح مصر فى جذب االحتاد السوفيتى إىل مزيد من التدخل فى الشرق األوسط حتت ضغط غارات العمق ، 62
أجاب قائد سالح الطريان السابق ووزير املواصالت وقتها بقوله « ال يوجد هناك أمل كبري فى تدخل السوفيت فى الشرق األوسط بضغط من مصر» (. )4 ورغم هذا التأكيد اإلسرائيلى ،خابت تقديرات عيزرا وايزمان وخابت معها تقديرات كل دوائر العدوان داخل اإلمربيالية وإسرائيل ،فاجلبهة املعادية لإلمربيالية إذا وعى أطرافها حقائق ً الصراع ،والتعاون بني األصدقاء ،ورفض أى دعاوى ختديرية حتذيرية عن انصالح مواقف األعداء ال تقف فى وجهها مثل تقديرات وايزمان أو خالفه . لقد بدأ على الفور تنفيذ االتفاقات املصرية السوفيتية الثالثة ،وحتققت ما يسميها اخلرباء العسكريون باملفاجأة ً ورويدا رويدا احنسرت غارات العمق ،ولكن االسرتاتيجية ، فى الطريق إىل ذلك كانت األحداث كبرية وعميقة ،وكان تالمسها لي حقيقة ،وتشكيلها ملعارفى حقيقة أوضح . خالل مدى زمنى بسيط ،بدأ توارد القوات السوفيتية إىل األراضى املصرية ،وجاءت هذه القوات فى اجتاهني : األول :قوات طريان كبرية تضم تشكيالت متكاملة لتقوم بعملية تأمني سريع باملظالت اجلوية حلماية األهداف احليوية لألعماق املصرية ،وخاصة حول القاهرة واإلسكندرية وأسوان . ولقد متركزت هذه القوات فى قواعد جوية يسهل منها تنفيذ ( )4
اللواء الركن حسن البدرى – المرجع السابق . 63
مهامها السريعة ،وألن حجم هذه القوات قد يكون من قبيل األسرار العسكرية ،إال أنه مل ميكن التأكيد على أنها كانت أطقم قتالية متكاملة ،سواء على مستوى الطيارين أو املوجهني األرضيني ،أو األطقم الفنية أو األطقم الرادارية ،وكانت من الكرب من حيث العدد واحلجم وكفاءة التشغيل ،مبا ميكنها من تنفيذ مهامها ،فى تأمني األهداف احليوية وتأمني احلماية لألعماق املصرية منفردة ،اللهم إال من معاونة أطقم الصواريخ املضادة للطائرات ،والسوفيتية التشغيل والصنع ،بإتباع أسلوب املظالت اجلوية ؟ ً أساسا من جمموعات كبرية الثانى :قوات دفاع جوى تتكون من وحدات صواريخ البتشيورا « سام ، »3واملنتظمة ضمن جمموعة من التشكيالت املتكاملة .فهناك األطقم القتالية السوفيتية ،واألطقم الفنية ،وأطقم اإلصالحات ،وأطقم مجع املعلومات الرادارية ،وأطقم توصيل هذه املعلومات وإذاعتها للقوات القتالية ،وأطقم القيادة بل وأطقم اإلعاشة واألطقم اإلدارية ،وكلها أطقم سوفيتية خالصة .ومتركزت فى مواقعها حول القاهرة ،واإلسكندرية وأسوان ،حيث كان لكل دائرة من هذه الدوائر الثالثة قيادتها الفرعية ورغم سرية املعلومات اخلالصة باحلجم والعدد هلذه التشكيالت ،إال أنها كانت من الكرب والكفاءة القادرة على تنفيذ مهام احلماية للعمق ولألهداف احليوية املصرية وحدها ومنفردة ،إال من التنسيق ومعاونة الطائرة السوفيتية التشغيل . 64
ورب قائل بتساؤل ،ملاذا جاءت القوات السوفيتية ،ومتركزت فى العمق فحسب ؟ واإلجابة واضحة وبسيطة ،فاملهام األوىل بالرعاية ،والتى تسبق ما عداها من حيث األولوية ،هى مهام محاية العمق ،وتأمني املدنيني الذين بدأت إسرائيل برتويعهم من خالل غارات العمق . كان ذلك لتأمني املواطنني بهدف احملافظة على الروح املعنوية ثان تأمني دوائر العامة فى البالد ،هذا من جانب ،ومن جانب ٍ داخلية حمددة ضمن العمق املصرى للم شتات قوات الدفاع اجلوى املصرية ،وإعادة ترتيبها وتنظيمها ضمن تشكيالت قتالية قادرة على خلق بديل وطنى كنظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى ،حيتاج لفرتة كافية من الوقت ،وملناطق آمنة بعيدة عن مدى القصف اإلسرائيلى بهدف إعادة التشكيل والتدريب واإلعداد . إن من ينظر إىل حجم القوات السوفيتية التى قدمت إىل مصر فى الشهور األوىل من سنة 1970خيرج بنتيجة حمددة ،وهى أنه قد جئ بنظام متكامل يكفل تأمني محاية العمق املصرى من الطريان اإلسرائيلى ،ويتكفل بتنفيذ مهام الدفاع ذات األولوية احلادة التى تواجه القوات املسلحة املصرية وتواجه القيادة العسكرية ،بل والقيادة السياسية للبالد ،وتؤمن األجواء إلعادة تشكيل وتطوير نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى، ً ً تدريبا أساسا على القوات الوطنية باملعاونة السوفيتية يقوم ً ً وتسليحا وتنفيذا لبعض املهام القتالية. 65
نظام جديد للدفاع اجلوى املصرى تتبعنا فى الفقرات السابقة حدود االتفاق األول بني مصر واالحتاد السوفيتى ،والذى مت مبوجبه قدوم تشكيالت متكاملة من قوات الطريان والدفاع اجلوى السوفيتية وكان االتفاقان اآلخران يضعان األساس املتني لبناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى .ففى نفس الفرتة -وهى أوائل سنة - 1970مت حشد جمموعات ضخمة من الضباط واجلنود وصف الضباط املصريني ،ومت توزيعهم فى تشكيالت حمددة ،ثم ً مجيعا للدراسة داخل االحتاد السوفيتى ليتعلموا على ذهبوا سالح جديد ،مل يك اجليش املصرى تسلمه قبل هذا التاريخ ،وهو صاروخ البتشيورا املضاد للطائرات ،ذلك الصاروخ الذى ميلك قدرة عالية على التعامل مع الطريان املنخفض .وكانت هذه األطقم تعد كأطقم متكاملة ،سواء على املستوى الفنى أو القتاىل أو اإلدارى . وعلى مستوى االتفاق الثالث ،ومنذ أوائل سنة 1970أخذ العاملون بالدفاع اجلوى املصرى يلحظون ظاهرتني واضحتني، األوىل :ورود سيل ال ينقطع من معدات الصواريخ الديسنا والديفينا ،والتى ميكن أن يقال عنها سام ، 1سام ، 2وهذه 67
ً نسبيا الصواريخ املضادة للطائرات صواريخ بعيدة املدى وكفاءتها القتالية عالية مع الطريان العاىل واملتوسط من حيث االرتفاع ،وهى تلك الصواريخ التى كانت موجودة لدى مصر منذ فرتة طويلة وبالذات الصاروخ من طراز الديفينا ،وعليه كانت اخلربة املصرية منحصرة فى العمل على هذين الصنفني حتى تلك األيام . الظاهرة الثانية :تتمثل فى حضور وتواجد جمموعة كبرية من كبار السوفيت العسكريني واملتخصصني فى الدفاع اجلوى، وذلك للمشاركة فى التخطيط واإلشراف على التنفيذ لعملية كبرية وضخمة ،أال وهى عملية بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى على أسس جديدة .وحبكم احتكاكى كمرتجم قابلت ً رتبا عالية ،حيث كان أحدهم حيمل رتبة مارشال اإلحتاد السوفيتى .وهذه الرتبة حسب ما أعلم مل يك حيملها فى كل االحتاد السوفيتى غري مخسة أو ستة أشخاص ،وطال وجود هذه الرتب العالية بيننا إىل عدة شهور . إن هاتني الظاهرتني شكلت إىل جوار ظواهر أخرى البعد الثالث لالتفاق املصرى السوفيتى ،وهو البعد األكثر أهمية ،والذى يستمد أهمية من كونه البعد األبقى ذى املهام املستمرة .إنه بناء نظام مصرى خالص ومتكامل للدفاع اجلوى ،يعتمد على السواعد املصرية واألسلحة السوفيتية املتطورة .إن بناء القوة احمللية ألى نظام هو اللبنة األساسية لعمليات البناء املتطورة ً عموما .إن أى معونة أو مساعدة تأتى على نظام متواجد تكون 68
أجدى وأنفع ،وفرق كبري بني تعاون يقوم بني حلفاء ،وبني عمل يقوم به طرف نيابة عن الطرف األخرى . ولقد اعتمدت خطة بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى على جمموعة األسس واللبنات ،وذلك حسب اهلدف املرجو وزاوية ً فمثال من حيث نسبة الصواريخ إىل الرؤية التى ننظر منها ، باقى وسائل الدفاع اجلوى األخرى مثل املدافع املضادة للطائرات ذات األعرية املختلفة ،تزايدت نسبة الصواريخ املوجهة املضادة للطائرات إىل حد أنها أصبحت تشكل القوة األساسية ضمن مصادر نريان الدفاع اجلوى ،وأصبحت املواسري تقوم بدور تكتيكى تكميلى سواء حول وحدات الصواريخ ،أو فى ً ً مكثفا وجودا األماكن واملواقع التكتيكية التى ال تتطلب لنريان الدفاع اجلوى . أما من حيث شكل البناء لنظام الدفاع اجلوى املصرى ،أى شكل توزيع الوحدات ومواقعها ،فقد اعتمدت اخلطة اجلديدة على شبكة كثيفة من مواقع الصواريخ املوجهة املضادة للطائرات تقوم فكرتها على تكوين خط حصني مبوازاة مشال البحر األمحر وقناة السويس ،ومشال البالد مبوازاة البحر املتوسط ،ويعتمد بناؤه على صفني أحدهما وراء اآلخر ، وتتقاطع مواقعهما فى أقواس نريانها ،حبيث تشكل جمموعة من املثلثات املرتاصة ،كل مثلث منها تشرتك رؤوسه الثالثة فى محاية بعضها البعض .ومن ناحية أخرى بناء خطوط دائرية تقوم فى داخل البالد لتأمني األجواء حول املدن الكربى واألهداف 69
احليوية ،وتقوم على ذات الرتتيب السابق أى على فكرة املثلثات املرتاصة ،واملتداخلة أقواس نريان املواقع املقامة على رءوسها ،وتداخل الواجب الدفاعى بني املثلثات املتجاورة . وكذلك اعتمدت اخلطة اجلديدة على حشد كافة اإلمكانات إلجناح مهمة هذا البناء املرتاص ،فاجتهت إىل ً ً تأهيال ً عاليا ،سواء كانوا من فنيا زيادة عدد األفراد املؤهلني الضباط أو اجلنود ،واتسعت خطة التدريب وتعمقت ،سواء على املستوى الفنى وإصالح األعطال ،أو على مستوى إدارة العمليات القتالية ،كذلك مت حشد كثري من املعدات املعاونة جملهود الدفاع اجلوى ،وزادت وحتددت مالمح أعمال املعاونة والتعاون مع األسلحة األخرى كأسلحة اإلشارة ،واملهندسني ،وسالح الطريان ،والشرطة العسكرية واملخابرات العسكرية. وكان أنسب األماكن وأيسرها لبدء تنفيذ عملية بناء هذا النظام القائم على األسس التى أوضحنا بعضها فى السطور السابقة هو اخلط الشماىل فى موازاة ساحل البحر املتوسط ، وذلك لعدة اعتبارات نذكر منها أنه كان أكثر ً أمنا من حيث أنه يبعد عن خط املواجهة الرئيسية مع العدو ،وأن تركيز العدو بطريانه عليه أقل حدة من تركيز الطريان املعادى فوق اخلط الشرقى . وكانت وحدات القطاع الشماىل من بطاريات صواريخ سام ً تعرضا للخسارة فى اهلجمات املضادة للطائرات هى أقل الوحدات اإلسرائيلية ،وكذلك كانت القوت السوفيتية التى تعمل 70
ً حيزا ال على بطاريات صواريخ سام 2املضادة للطائرات تغطى بأس به من هذا الضلع الشماىل للمستطيل املصرى ،وذلك حول اإلسكندرية .لكل هذه االعتبارات كان ميكن دفع املزيد من بطاريات الصواريخ التى مت جتميعها من القوات الناجية من غارات القصف اإلسرائيلى الوحشى إىل هذا اخلط الشماىل ، وتنفيذ الفكرة العامة للبناء ككل بتلك التجربة احملددة فى اخلط الشماىل . أما فيما يتعلق باخلط الشرقى مشال البحر األمحر ومبوازاة قناة السويس ،وهو اخلط األهم و األخطر ،والذى يشكل ً سرعة حجر الزاوية ضمن هذا النظام املتكامل ،والذى يتطلب ً ً كبريا ،ميكن من تغطية اجليشني امليدانيني ، وإحلاحا ً ً دقيقا عمال وكفالة احلماية اجلوية لقواتهما ،فقد يلزمه ً وخمططا .فذلك اخلط حتت سيطرة طريان العدو الذى ينفث فيه مسومه بعد أن ضاق عليه اخلناق ،وأصبح العمق ً آمنا ومنطقة ال ً حشدا وتعبئة فائقة، ميكن له االقرتاب إليها .كما أنه يلزمه جيب التقدم إليها بعمل دءوب ودقيق ،أى أن األمر فيما يتعلق ببناء هذا اخلط حيتاج إىل إعداد من نوع خاص وجمهود مركز ، أخذ االجتاهني اآلتيني :
ً أوال :اإلعداد السياسى واالسرتاتيجى العام : شارك فى هذا املستوى من اإلعداد كل من القيادتني السياسية العليا والعسكرية العليا ،فقد نزل الرئيس مجال عبد الناصر ً شخصيا إىل ساحة امليدان ،وبدأ مباشرة عملية اإلعداد بنفسه، 71
وكان يصطحب القائد العام للقوات املسلحة املصرية معه ، فأجرى سلسلة من االجتماعات امتدت حتى مشلت كل رتب الضباط حتى رتبتى رائد ونقيب ،أى مشلت كل القادة حتى مستوى قائد كتيبة ،وقائد سرية داخل قوات الدفاع اجلوى ً ً خصوصا . عموما ،وداخل قوات الصواريخ املضادة للطائرات وفى أحد هذه االجتماعات املوسعة -وكان االجتماع على شكل مؤمتر كبري للقادة حتى مستوى قائد سرية فى قوات الصواريخ املضادة للطائرات -جرت مكاشفة حول طبيعة ً وعرضا ألبعاد اخلطة العامة لبناء هذا النظام املتكامل املهمة ، للدفاع اجلوى ،وبالذات مت شرح األهداف واخلطوات العملية لتنفيذ هذه اخلطة ،ووضعها فى حيز التنفيذ .وطلب الرئيس مجل عبد الناصر رأى الضباط فى هذه اخلطة ،وفى إمكاناتهم عندئذ قام ضابط حيمل رتبة صغرية -وهو برتبة رائد لتنفيذها ، ٍ وكاشف الرئيس بأننا فداء ملصر ،واخلطة كبرية وعظيمة،ً ً وفعاال ،فإنه يريد أن نشطا ولكى يكون اإلقبال عليها يسجل أن جل أمل األطقم العاملة فى وحدات الصواريخ املضادة ً ً وضباطا ينحصر فى بناء الدشم والتحصينات جنودا للطائرات ، اخلراسانية ،حول أماكن القيادة ،وللمعدات ومراكز القيادة والتوجه للنريان . ووضح أن هذا الطلب ينبع من خطورة القصف املعادى وشراسته، ً وأحيانا يشرتك الذى يستخدم قنبلة زنة ألف رطل متفجرات ، اثنني منها مبفجر واحد ،ويضرب بهما موقع الصواريخ ،مما 72
ينتج عنه نسف الطاقم مبعداته ،وتكوين حفرة يرتاوح قطرها بني 20إىل 30مرت وعمقها حواىل عشرة أمتار ،وأن ذلك يسبب أضرار بالغة وخسائر عالية فى األفراد املدربني ،ويؤثر فى الروح املعنوية للعاملني بهذه الوحدات . وحينما طرح الشاب هذه الفكرة ،وجسدها فى هذا الطلب وهو بناء الدشم اخلرسانية احملصنة ،والتى تقاوم انفجار قنبلة أو أكثر من زنة رطل متفجرات ،حتركت مشاعر اجلالسني وانفكت عقدة ألسنتهم ،وبدؤوا الواحد تلو اآلخر يدلو بدلوه فى املناقشة ،سواء توضيح أهمية هذه الدشم ،أو مناقشة اجلوانب املختلفة للخطة ،مما محل الرئيس عبد الناصر -قبل أن ينتهى ذلك املؤمتر -إىل التأكيد بأنه سيعمل على إكتمال بناء الدشم اخلرسانية احملصنة ملواقع الصواريخ قبل البدء فى تنفيذ خطة بناء النظام املتكامل للصواريخ املضادة للطائرات ،خاصة على مواقع اخلط الشرقى أى خط اجلبهة . ً وعدا منه قبل واعترب الرئيس مجال عبد الناصر أن ما قاله يعد قوات وأطقم الصواريخ ،وسيبذل قصارى جهده لتنفيذه ،وأنه لن يسمح بدخول القوات إىل مواقع اخلط الشرقى إال بعد استكمال حتصينه ،ببناء الدشم اخلرسانية . وقبل الدخول فى تسلسل األحداث ،جيب الوقوف عند داللة هذا االجتماع ،وكيف أن املناقشة احلرة ،والعمل الدميقراطى، يفجران أكرب الطاقات وأعمقها ،ويسمحان بربوز أخطر 73
األفكار وأحسنها وأوضحها وأكثرها علمية وعملية ،ألن الوضوح يكون جماهلا واالقتناع هو أساس اإلرادة احلرة التى تقدم إلجنازها .
امللحمة الكبرية : بعد انتهاء احلوار الذى أداره الرئيس مجال عبد الناصر مع ضباط الدفاع اجلوى ،بدأت اخليوط تنسج ليصنع منها أعظم وشاح غطى صدر الطبقة العاملة املصرية .لقد بدأت ملحمة حقيقية سطر فيها العمال املصريون بدمائهم الزكية العزيزة أمسى آيات التضحية والفداء .فانتشرت فى الصحراء الشرقية مبحاذاة قناة السويس ومشال البحر املتوسط وفى أعماق متباينة التباعد من خط قناة السويس ،خاليا نشطة للبناء والتشييد ،حيث تواجد آالف العمال واملهندسني والفنيني من البنائني فى تلك املواقع ، حيدوهم هدف واضح وحمدد ،وهو إجناز بناء الدشم اخلرسانية احلصينة ودعم مشقة العمال فى الصحراء القاحلة ،وقطرات ً أنهارا على اجلباه السمراء من رجال مصر ،مل العرق التى سالت يرتكهم الطريان اإلسرائيلى الغادر للبناء ،فأخذ يعمل فيهم أقذر حيله وخداعه ،ويشرع مناجله احلادة حلصد الرجال ودك ما يبنونه ،وكأنه حماريث جيرها جمموعة من الوحوش اهلمجية وحشي. حصاد أتت على هذه الواحات ،فأحالت الكثري منها إىل ٍ ٍ لقد ساهمت الطبقة العاملة املصرية بنصيبها الوافر فى معركة بناء نظام للدفاع اجلوى املصرى ،وقدمت مئات الشهداء من العمال املدنيني حتت ظروف ضراوة القصف املعادى الشرس للطريان 74
اإلسرائيلى ،إن محاس العمال املصريني وتضحياتهم تفوق أى حماولة غبية الدعاء البطولة على حسابهم ،من بعض املقاولني الذين ارتبطت حتركاتهم وأمساؤهم بأمساء بعض اجلواسيس من أقربائهم ،والذين قدموا معلومات للعدو انعكست و ترمجت إىل مزيد من عمليات القصف واإلبادة اإلسرائيلية للعمال واملهندسني والفنيني املصريني . ً حشدا وغنى عن البيان ،التذكري بأن هذه امللحمة تطلبت ً عظيما لكافة اإلمكانات املادية والبشرية فى قطاع البناء والتشييد ،فلقد ساهمت فيها كل شركات البناء املصرية واشرتك فيها لفيف وخنبة عظيمة من أخصائى البناء اخلرسانى، من العمال والفنيني واملهندسني .ومت حشد طاقات مصانع األمسنت واحلديد ومواد البناء لتزويد هذه املواقع باخلامات الضرورية ،أو بوحدات جاهزة وتامة الصنع من األلواح اخلرسانية . وفى هذا الصدد يذكر وبكل العرفان ،الدور السوفيتى ،وما أسهم به من معونة كبرية فى جمال التخطيط والتصميم للدشم واملواقع ،واإلشراف واملتابعة لعمليات البناء باملواصفات املطلوبة، وما قدموه من جهد وعرق ،بل وما جادوا به من دم ،حيث روى دم شهدائهم أرض مصر الزكية ،لريعى نبت التحالف والصداقة بني شعبى الدولتني .
ً ثانيا :اإلعداد العسكرى : فى هذا اجملال ،مت جتميع كافة الوحدات العاملة فى جمال الصواريخ املوجهة املضادة للطائرات .وتسكينها فى مواقع آمنة 75
داخل دائرة احلماية التى كفلتها القوات السوفيتية .ومت إعادة تشكيلها سواء على مستوى إعادة التشكيالت القيادية ،أو على مستوى التشكيل القتاىل األدنى .ومت ختليق جمموعة كبرية من األطقم القتالية ،وذلك بإعادة توزيع األطقم ً توزيعا يضمن احملافظة على قوتها ،وأخذ ما يزيد عن القدمية الضرورى خللق أطقم جديدة ،وفى هذا اجملال نشطت معاهد التدريب ومدارس اإلعداد الفنى والقتاىل فى خترج أعداد هائلة من الدارسني . ونشطت ً تبعا لذلك عمليات التدريب ضمن هذه املواقع املؤقتة، ً ولعب املستشارون السوفيت ً ً ومميزا فى توجيه هذا نشطا دورا التدريب واإلشراف عليه .لقد كثرت تكوينات الفرق الدراسية للتخصصات املختلفة ،وكثرت محالت التفتيش واملتابعة ، وزادت ساعات التدريب إىل حد مل تشهده القوات املسلحة من قبل . لقد قارب شهر مارس سنة 1970على االنتهاء ،لتبدأ عملية نشاط تدريبى دراسى واسعة ويتمخض هذا الشهر عن والدة تشكيالت قوية لقوات الصواريخ املوجهة أرض ــ جو واملضادة للطائرات ،تزداد وحدتها وأطقمها القتالية والفنية ،ويزداد مستوى تدريبها وإعدادها الفنى القتاىل .هذا فى الوقت الذى سجل فيه شهر مارس توقف غارات الطريان اإلسرائيلى على ً خوفا من مظلة احلماية التى كفلتها القوات العمق املصرى ، السوفيتية القتالية من سالحى الطريان والدفاع اجلوى ،وأصبح ً منحصرا فى صب نريان حقده األسود نشاط الطريان اإلسرائيلى 76
على اجلبهة املصرية مبحاذاة قناة السويس ،وفوق مواقع اجليش امليدانيني الثانى والثالث .وشهدت شهور أبريل ومايو ويونيو سنة ، 1970تزايد عمليات القصف اإلسرائيلى على هذا اخلط إىل حد اهلوس ،فلو تتبعنا إحصاء املعلومات املتوافرة ،لتبينا خطورة ما كان حيدث فى هذه األيام ،فلو افرتضنا أن معدل القصف الذى صبه الطريان املعادى على قوات اجليشني امليدانيني ميثل نسبة 100%فى شهر أبريل سنة ، 1970جند أن - « هذه النسبة ارتفعت إىل 141%خالل مايو ،ثم واصلت ارتفاعها لتصري 267%خالل شهر يونيو سنة . )5( »1970 وإذا كان الطريان املعادى ركز جمهوده األساسى على خط منطقة قناة السويس ،إال أنه كلما حانت له الفرصة لتوجيه ً مباغتة فى أى اجتاه أتى عليها بدون أدنى تردد. ضربات غادرة لذا ظهرت وسط هذا الرتكيز احلاد على قصف مواقع وقوات اجليشني امليدانيني املصريني تسلالت إسرائيلية هنا وهناك ، سواء كان ذلك فى الشمال الشرقى للبالد ،أو فى الشرق عند مناطق صعيد مصر . وهكذا بدت الصورة كاآلتى :العمق املصرى أصبح ً آمنا، وخرجت دوائر العمق عن خطوط سري الطريان املعادى ،بل بالعكس صارت مناطقه قلعة حمصنة ال جيوز للطريان اإلسرائيلى أن يقرتب منها ،لقد عرب دافيد اليعازر ( رئيس األركان اإلسرائيلى ) عن تلك احلقيقة حينما قال فى مارس ( )5
اللواء حسن البدرى – المرجع السابق . 77
سنة « : 1970إن إسرائيل مضطرة لوقف غاراتها على العمق املصرى نتيجة لضغط املفاجأة املصرية االسرتاتيجية» (. )6 ومع احنسار دائرة احلركة أمام الطريان املعادى وتقلصها ، زادت تصرحيات قادة العسكرية اإلسرائيلية شراسة وعصبية، وانصبت كلها حول أنها لن تسمح للدائرة مبزيد من التقلص ، وإذا كان مت ما قد مت ،فإن القادم لن يكون فى اجتاه حصار طريانها ،ففى 30مارس 1970صرح إجيال آلون « بأن إسرائيل تنوى القيام بأقصى جمهود ممكن ختيله للحيلولة دون توسيع شبكة الدفاع اجلوى املصرية» ،كما قال « إن السيطرة اإلسرائيلية فوق منطقة القناة ال ميكن االستغناء عنها ، فبدون هذه السيطرة تستطيع املدفعية املصرية أن تتمتع بتفوق ساحق فى النريان ،وتستطيع الطائرات املصرية أن تضرب املواقع اإلسرائيلية دون هوادة ،إن خطتنا هى متابعة قصف شبكة الدفاع اجلوى املصرية احلالية واملنشآت العسكرية األخرى ، كما سنمنع إقامة شبكة دفاعية جديدة ،أو ترميم الشبكات القدمية التى متكنا من تدمريها» (. )7 وفى مايو سنة 1970صرح موشى ديان -وزير احلرب اإلسرئيلى « بأن إسرائيل لن تسمح بإقامة أنظمة صواريخ سام 2على منطقة قناة السويس ،وأكد أنها لن تقوم بأية عمليات عسكرية خارج نطاق الدفاع عن مواقعها األمامية» (. )8 ( )6 ( )7 ( )8
اللواء حسن البدرى – المرجع السابق . المرجع السابق . المرجع السابق . 78
ورغم عنف التصرحيات لقادة املؤسسة العسكرية اإلسرائيلية وعدم مساح وزير احلرب اإلسرائيلى باتساع دوائر الدفاع اجلوى املصرى ،إال إن األمور سارت فى خطها الصحيح ، وبدت عملية « قلب املائدة»التى خططت هلا إسرائيل ونفذتها كعملية وقتية عابرة .وإن املائدة فى طريقها إىل أن تأخذ اجتاهها الصحيح فوق كاهل إسرائيل وعلى عنقها ،وإن سري األمور لن يتوقف على مساح أو عدم مساح الطرف املعادى ،والذى تعاكس حركته اجتاه حركة التاريخ .وإن احلياة تستجيب ألصحاب احلق متى علموا وعملوا على إحقاق حقهم والتشبث مبا لديهم ولدى حلفائهم للدفاع املشروع عنه . مل تتوقف احلملة الشرسة العسكرية اإلسرائيلية عند حد األقوال والتصرحيات ،ولكن راحت فى محلة حممومة تصب جام غضبها فى اجتاهني : األول فوق رأس اجليشني امليدانيني املصريني الثانى والثالث . والثانى فى اجتاه مواقع العمل إلنشاء وبناء القواعد اخلرسانية املسلحة ،والتى يقوم بها العمال والفنيون واملهندسون املدنيون والعسكريون ،لقد حظى االجتاه األول بنسبة تقرتب من 95% من عمليات القصف املعادى ،بينما حظى االجتاه الثانى بنسبة ً طبقا لبيانات هذه 5,3%من عمليات القصف املعادى .وذلك الفرتة . وحينما أوشك شهر أبريل سنة 1970على نهايته ،كادت عناصر اخلطة أن تكتمل ،لوال ما وعد به الرئيس مجال عبد 79
الناصر القادة على خمتلف املستويات من ضرورة إمتام بناء الدشم اخلرسانية احملصنة .فهذا العنصر بالذات مل يصاحبه أى قدر من التقدم أو النجاح فى هذه الفرتة ،فالطريان اإلسرائيلى نشط فى عمليات االستطالع ،ويستكمل ما لديه من معلومات بوسائل االستطالع األمريكى سواء باألقمار الصناعية أو بالطريان مبعلومات حيصل عليها ممن االسرتاتيجى ،ويؤكد ما لديه ٍ يتمكن من شرائهم من اجلواسيس خونة الشعب واألوطان . ويتابع على ضوء ذلك عمليات القصف احملموم ،وال أنسى ما حييت أن العمال املصريني توصلوا إىل ضرورة العمل الليلى ، وصاروا يواصلون تشييدهم على األضواء اخلافتة أو حتت جناح الليل الدامس الظالم ،لكى ال يتمكن العدو من متابعة عمليات االستطالع والرؤية ،ولتقليل عمليات اإلصابة أثناء القصف املعادى . ولكن الطريان املعادى كان هلم باملرصاد فال يدع بناء يكتمل ،فزرع الليل من اجلهد الشاق يأتى عليه النهار ،فيصري ً هشيما تذروه الرياح نتيجة شدة القصف والدك املعادى. ومبتابعة أحداث تلك الفرتة -وتذكر حوادثها املتتابعة ، والتفكري فيما كان يدور -جند أن إسرائيل دخلت بقصفها اجلوى العنيف مرحلة من التخويف والرتويع ،حاولت بها أن تفشل أى ختطيط مستقبلى التساع دائرة األمان التى نسج السوفيت نواتها ،وكأنها كانت تريد أن جتعل اليأس هو الطريق الوحيد أمامنا ،ورغم أن هدفها العام مل ينجح سواء على مستويات القيادة 80
أو القوات ،إال أنها تركت بعض اآلثار اجلانبية التى ال ميكن ألى رؤية علمية أن تتغاضى عنها ،فالروح املعنوية للقوات الربية تسربت إليها عوامل االهتزاز والضعف ،واإلقرار باستحالة ً ً ً ومقبوال، مستقرا شيئا بناء القواعد اخلرسانية كاد أن يكون ولكن من ناحية أخرى كان البد من مراجعة النفس وتفويت الفرصة على إسرائيل وإعادة احلسابات . وباختصار كان البد من مواجهة تنبت من أرض الواقع ،وتعتمد على تطوير اإلمكانيات املتاحة ،لدرء اخلطر املعادى ،وتثبيت األقدام للخطر حنو جناحات ضرورية مقبلة ،وكان ما كان، ً ً ً تقدما ً ً عظيما البد من الوقوف وعمال وحمسوبا ثريا وكان عنده ،ووضع بعض مالحمه أمام القارئ ليقف على جهد خارق وجتربة غنية كانت ثـمرة للعمل الشاق ،والتفكري الصحيح، والتعاون الوثيق بني املصريني والسوفيت .
تواجد متقدم ومتقطع : ً واضحا فى النصف األخري من شهر أبريل سنة ، 1970أصبح أن عملية بناء دشم الصواريخ اخلرسانية ليست عملية سهلة أو سريعة ،وصلف إسرائيل يزداد ،وهجمات طريانها وغاراته تشتد ،والروح املعنوية للقوات الربية املصرية تزحف عليها عوامل القلق والضعف من هول ما تتعرض له من قصف معادى بشع فى غياب مظلة جوية فعالة للحماية فوق خطوط جبهة قناة السويس ً ، حقا لقد كان الطريان السوفيتى املقاتل يقوم 81
ببعض الطلعات فوق هذه املنطقة ،ولكن ألن هذه الطلعات مل تكن طلعات مكثفة ،ومل تدخل ضمن مظلة جوية كاملة فوق هذه املنطقة ،خضع لكمينني معاديني من الطريان اإلسرائيلى ،القت فى أحدهما ثـمان طائرات سوفيتية أكثر من أربعني طائرة إسرائيلية ،ودارت معركة غري متكافئة سقطت فيها ست طائرات سوفيتية ،ورغم ضجة ضخمة أحدثتها أجهزة اإلعالم االمربيالية والصهيونية املعادية ،وجدت هلا بعض الصدى فى أجهزة إعالمنا احمللية . إال أن احلقيقة كانت تنطق بالرتحم على هؤالء الشهداء املقاتلني من الطيارين السوفيت الذين جاءوا من أقاصى األرض، للمساعدة فى الدفاع عن أراضى وطننا العزيز مصر ،وأن مهمتهم مل تكن فوق تلك املنطقة التى حتتاج مطارات قريبة واستعدادات كبرية خترج عن مستوى تلبية املهام األكثر ً إحلاحا فى محاية املدنيني ،وتأمني العمق املصرى للمحافظة على كثري من األهداف السياسية واحليوية والتى وقع عبؤها ً كامال على القوات السوفيتية ،سواء كانت من قوات الطريان أو الدفاع اجلوى املسلح بصواريخ سام . 3 إزاء هذا الوضع ،عقدت املشاورات بني القادة العسكريني املصريني والسوفيت على أعلى املستويات داخل مصر ومتت البحوث ووضعت احللول والبدائل ،خاصة فى ظل التسليم ببعد آخر للصورة ،أال وهو ضرورة هزمية التصرحيات املعادية وصلف إسرائيل ،وأسفرت هذه املشاورات عن ضرورة حتريك عدة 82
كمائن بالصواريخ املضادة للطائرات إىل خطوط متقدمة صوب اجلبهة ،لتقول « :حنن هنا» . ً ومل يك ذلك ً سهال ،فصواريخ الدفاع اجلوى املوجودة لدى أمرا مصر آنذاك ،صواريخ مل تصمم ألغراض سرعة املناورة األرضية، أى أن عملية فكها وتركيبها وحتريكها عملية شاقة ، ولكى نعلم صعوبة هذه العملية ،لنا أن نتخيل أن حتريك وحدة الصواريخ سام ،واحدة يلزمها من 50 - 40عربة نقل ثقيلة وذلك للطاقم القتاىل الضرورى فحسب ،مبا يعنى تكوين رتل متحرك طوله ميتد ألكثر من كيلو مرت واحد ،ومبا يعنى تشغيل جمموعة من املوتورات وأضواء العربات ذات الصوت والضوء التى تساعد على كشف التحركات ،كما أن عملية فك الوحدة من مكانها القديم ،وتركيبها فى مكانها اجلديد ً ً متواصال وخربة كبرية تدريبا عملية شاقة معقدة ،تلزم إلجنازها فى معدالت زمنية مناسبة . وحتتاج مصاحبة جمموعة من األطقم الفنية إلصالح األعطال ، أو ضبط املعدات ،والتأكد من املستوى العاىل ألدائها ،واالستمرار إىل جوارها أثناء التشغيل ملالقاة أى مفاجئات أثناء تواجدها فى مكان الكمني . وللداللة على ما أقول أسوق واقعتني تفسران إىل حد بعيد صعوبة هذه العمليات ،ففى إحدى اللياىل احلالكة الظالم ً ً مليئا باهليئات األرضية موقعا لكمني ،وكان هذا املوقع دخلنا املعيقة التى فرضت علينا مدة زمنية أكثر من طويلة ،بلغت 83
3أميال ملا حنتاجه من وقت لوضع املعدات فى مواقعها املختارة ، فلم تكن املناورة باملعدات عملية سهلة إزاء الطبيعة األرضية ً وأخريا متكنا من دخول املوقع ،وتثبيت املعدات فى للموقع ، أماكنها ،وكان الصبح قد حل ،والصبح يعنى لدينا اختفاء ً ً راداريا متفق توجيها النجم الذى نستعني به فى توجيه احملطة عليه ،يسهل عملية تطابق املعلومات الرادارية واالستفادة بها ، وكانت هناك طريق أخرى تتطلب رؤية وحدات احملطة لبعضها ً نظرا للمعوقات األرضية أو ما يسمى باهليئات البعض ،ولكن الطبيعية املانعة مل نكن نستطيع أن نلجأ إىل هذه الطريقة هى األخرى ،وها قد أطلت الشمس بنورها وجاء النهار مبا حيمله من خماطر االستطالع املعادى سواء اإلسرائيلى أو األمريكى واحتماالت القصف واردة ،وأعيتنا احليلة لوال أن أنقذ املوقف أحد املستشارين السوفيت ،فقد كان يعلم طريقة ثالثة تقوم على وسيلة بدائية جبهاز مساحى شرحها ىل كمرتجم حيث ً سويا من تنفيذها . متكنا وقبل أن أفرغ من سرد هذه الواقعة ال أنسى أننا اقتسمنا قطع ً ونظرا لكثرة اإلجهاد الذى اجلهاز ،وبدأنا نهرول هنا وهناك ، يصاحبه انعدام النوم للياىل متواصلة وثقل اجلهاز وطبيعة األرض الرملية ،تعثرت خطاى ،ولكن املستشار السوفيتى كان يلح على أن أسرع اخلطى. ً غاضبا ، ونتيجة إلحلاحه املتواصل ومشقة ما أالقيه انفجرت وقلت :أال تنظر ما أعانيه ،أال تعلم أننى مسهد اجلفن منذ عدة 84
لياىل ؟ ،وبطريقة محاسية وألفاظ موجعة أعطانى هذا املستشار ً درسا لن أنساه طوال حياتى ،فقد قال ىل « :ما أعلمه أننا على بعد أمتار من العدو ،ويقع كميننا فى متناول مدفعية امليدان ً أيضا ،وأنت اآلخر املعادية ،ولن أقول الطريان» ،ثم أردف « وأعلم ً تعلم أننى مل أذق طعم النوم منذ لياىل مثلك متاما ،وأعلم أننى أكربك بــ 22عام ،الشك أنها تفقدنى بعض اللياقة أمام شاب مثلك» ،ثم قال « :وأعلم ً آخرا أن هذه أرض وطنك ،وأننى أتيت من بعيد ،وأنك كثري الرطانة حبب الوطن ،وحب األوطان ال يكون بطول اللسان ،وحسن القصد ونقاء السريرة ،ولكن حب األوطان يكون باجلهد الشاق ،والعمل املتفانى والتقدير السليم املبنى على فهم بالواقع والظروف ،واملهام املطروحة عليه». وال أنسى أننى بعد أن مسعت هذه الكلمات احلقيقية ً خجال من نفسى وحولته إىل زيت حمرتق يشعل املوجعة ،ذبت كل طاقاتى للحركة والتقدم وسط عربات دافئة سالت على خدى ،وصوت مكتوم انبعث من داخلى شرط احلب هو اجلسارة، ً صلبا ومن حيب الوطن عليه أن يصرب على كل احملن ،ثم خيرج ً وجمربا وواسع االحتمال واألفق . أما عن الواقعة الثانية ،التى تثبت مشقة األقدام على هذه الكمائن ،وخطورة ما حتتاجه من إمكانات وحشد عوامل كثرية ملصاحبتها ،تتلخص فى اآلتى :دخلنا مع وحدة صواريخ ً موقعا لكمني، مضادة للطائرات من طراز سام « 2الديفينا» وقد متكنا من إجراء عملية تركيب املوقع ،وتسطيحه 85
وتوجيهه فى زمن قياسى ،وتوىل طاقم فنى سوفيتى من اخلرباء إجراء االختبارات الفنية والكهربية الالزمة ،وأشرق الصباح وطاقم احملطة فى كامل استعداداته ،فاجلنود والضباط ً ً ٌ متخلصا من مركزا االنتباه كل فى مكانه القتاىل املصريون كل أعباء اللياىل املاضية حيث العمل املرهق والنوم القليل ، ورغم سويعات قليلة قضاها الطاقم الذى جيلس على هذه احلال فى النوم ،كأمر قتاىل واجب التنفيذ ،إال أن االنتباه واليقظة التى يبديها اجلنود والضباط أكرب بكثري من حجم الراحة ً شيئا آخر حيرك هذه األجسام املتعبة ،إنه اجلسدية ،إن هناك انتظار الطريان املعادى فى نزهته اليومية املشئومة ،والتى تذيق ً أهواال يعجز عن احتماهلا كل ذى إخوانهم فى اجليشني امليدانني جهد وصرب عظيمني . إن الرغبة فى الثأر جترى جمرى الدماء فى العروق ،وتشحذ همم الرجال ،وتستبدل اإلرهاق باليقظة املتفتحة أو االنتباه الشديد. وسط هذا اجلو املشحون بالتوتر واالنتظار ،أمرت مبصاحبة ً قليال ،على بعد حواىل ً 500 مرتا فى بعض وفد اخلرباء للراحة املالجئ األرضية ،وصمم املستشار املصاحب للوحدة على ذلك ، ً وحيدا بال مرتجم ،وإذا حدث ما يستحق استدعائى على أن يظل فسيفعل ،وبعد ما يقرب من ثالث ساعات التقطت رادارات ً أهدافا معادية قادمة وتأهبت لالشتباك معها ،وفجأة حدث احملطة عطل مباغت عجز ضابط التخصص املصرى وطاقمه من اجلنود والصف عن إصالحه ،وبدا املوقف غاية فى اخلطورة فشاشات الرادار تعلن أنها بضع ثوان وتكون الواقعة ،وعلى الفور صدرت 86
أوامر للطاقم املقاتل باالنتشار ،وبدأت صفارة اإلنذار فى احملطة، تصدر أنينها املتقطع عالمة على هذا األمر ،وخرجت مع طاقم اخلرباء السوفيت نسابق الزمن فى اجتاه مركز القيادة ،ولثوانى ً بعيدا عن اخنلع قلبى من اهللع ،فالكل جيرى فى اجتاه النجاة مركز احملطة ،وحنن فقط جنرى فى االجتاه العكس ،ولكن وقع أقدامنا وسرعة خطواتنا فى اجتاه احملطة بدل األمر لثوانى ، بشعور اعتياد اخلطر ،وحاملا وطئت أقدامنا أبواب املعدات ،وبدأ عمل الرجال فى اجتاه إصالح العطل ،حتول اعتياد اخلطر إىل رغبة فى اإلصالح واالنتصار ،وإىل شجاعة وجسارة ال توصف فى طلب مالقاة العدو ،وحث األمور فى هذا االجتاه ،وحبكمة العلم ودروس املعارك األساسى ،وهو أن القرار الصحيح هو القرار السريع التنفيذ واملبنى على تقدير واقعى ،مت إصالح العطل وإتباع بعض اإلجراءات األمنية الرادارية لتضليل الطائرات املعادية فى اإلمساك مبكان املوقع ،ومرة أخرى انبعثت صفارة احملطة قوية حادة تستصرخ اجلميع سرعة احلضور . وما هى إال حلظات وكان كل جندى وضابط فى موقعه ، والتقطت طائرة معادية تسقط محولتها الشريرة على أحد املواقع األرضية وبضربة حامسة انطلقت ثالثة صواريخ متتابعة ،وفى ثوان قليلة سقطت الطائرة املعادية وتفجرت ،وعلت البسمة شفاه أفراد الطاقم .ولكن أمر الفك واالنسحاب كان أسرع من جمرد الفرحة واالبتسام ،وفى برهة حتولت االبتسامات إىل جهد دءوب وعمل شاق لفك احملطة ،وجتهيز الرتل للفرار السريع فى اجتاه دائرة األمان حول القاهرة . 87
ورغم هذه الصعوبات -وغريها كثري -ووقائعها كثرية، بكثرة العمليات ذاتها ،فقد جرت هذه اخلطة السريعة ، ونفدت جمموعة من الكمائن املتتابعة ،امتدت ملا يقرب من ثالثة أشهر .لقد عهد للمستشارين السوفيت وحليز ضيق ً جدا من قادة الدفاع اجلوى ،وحتت اإلشراف املباشر لقائد الدفاع اجلوى ً شخصيا الفريق حممد على فهمى بالتحضري هلذه الكمائن، واإلشراف على تنفيذ وعلى سرية عملياتها .فعلى سبيل التحديد ،كان يتم استدعاء املستشارين السوفيت على مستوى تشكيل كبري إىل مقر القيادة ،وكانوا يذهبون مبرافقة ً مستشارا عليهم وقائد كبري مصرى الختيار املواقع على أن حيفظ كل مستشار لوحدة قتالية مكان موقعه املختار ،ثم يعودون لوحدتهم ،وكان أمر التحرك يأتى للوحدة لينفذ فى حينه ،وغري مصاحب باجتاه التحرك وال بأية معلومات أخرى . وكثريا ما كان حيضر قائد القوات بذاته ،ويصدر ً ً أمرا آخر برتك جزء من الطاقم فى مكانه واالستمرار فى تبليغ قياداته األعلى بتمام املوقع .ثم حيرك الطاقم الضرورى مبصاحبة ضابط كبري من املخابرات احلربية لتأمني احلركة ،ويعطى األمر بأن التحرك يكون كما حدده املستشار السوفيتى . ً جزءا من عمل أمنى كبري إن هذه اإلجراءات األمنية كانت وواسع أجدنى فى حل من ذكره ،فتقديرى لضرورات األمن تقتضى منى ذلك ،وإن كنت أرجو ممن عاصر هذه التجارب من املسئولني أن يكشفوا سرتها ،ففيها كثري من الدروس والعرب ، ستفيد أبناء الوطن بالتأكيد أكثر من أن تفيد العدو ،ولكن 88
ما يهم ً فعال أنه منذ نهاية شهر أبريل سنة ، 1970وفى ليلة من لياليه الشديدة الظالم مت دفع أول كمني بالصواريخ املضادة للطائرات من طراز سام ، 1سام 2إىل منطقة قناة السويس ملالقاة ً يوميا فى منطقة اجليشني الطريان املعادى ،وهو حيرث األرض املصريني الثانى والثالث . وتوالت هذه الكمائن ملدة تقرب من الثالثة أشهر ،وتوالت معها إسقاطات الطائرات املعادية ،فبضربة خاطفة -وفى أول كمني مت إسقاط هيلوكبرت معادية ،وكانت جمهزة كمعملجوى إلجراء تداخل وتشويش على املعدات املصرية الرادارية ، وكان طاقمها أكثر من 15باحث وخبري من الفنيني املعاديني . ً شيئا وإن هذه الكمائن قد ارتفعت بنسبة خسائر طريان العدو ً ً عموما نتيجة لزيادة فشيئا .بل وارتفعت اخلسائر اإلسرائيلية معدل نشاط العمليات املصرية . وهكذا تبخر حتدى ديان ،والقت مقولته بأنه لن يسمح بتواجد صاروخ مصرى مضاد للطائرات فى جبهة قناة السويس مصريها احملتوم ،وعلم ديان -قبل غريه -أن إرادته ليست هى اإلرادة العليا ،أو أنها ليست هى اإلرادة الوحيدة على مسرح العمليات ،وأن مصريها ينبع من أنها ال تستند على حق وال على اجتاه التاريخ ،إنها إرادة مستمدة من إرادة املغتصبني املعادين ً حتما تصغر أمام إرادة أصحاب احلق إذا للحق والتاريخ ،وهى حسن عملهم ،ووضح فهمهم الجتاه الصراع وأطرافه على جانبى العدو والصديق . 89
لقد كان هلذه الكمائن أبلغ األثر ،ال فى إجتاه تفتيت تأثري التصرحيات املعادية ،وكسر صلف العسكرية اإلسرائيلية فحسب ،بل على رفع مستوى ارتفاع الروح املعنوية للقوات املسلحة املصرية ،فعندما أحست قوات اجليشني امليدانيني ً مستقبال املصريني بإمكانية تواجد مظلة محاية تكفلها قوات الدفاع اجلوى املصرى ،وتقيها شر وعنف القصف اإلسرائيلى املعادى بسالح الطريان ،حتسنت حالة القوات ووصلت معنوياتها مستوى من االرتفاع أعاد مستوى األيام املاضية حيث كانت النريان األرضية ،ومدفعية امليدان املصرية مسيطرة على املوقف جتاه القوات اإلسرائيلية على الرب الشرقى من قناة السويس . كذلك سرت موجة االرتفاع املعنوى خالل قوات الدفاع اجلوى نفسها ،فرغم إحساس القلق الذى تركته عملية بناء الدشم اخلرسانية ،وعدم تقدمها لألمام ،إال أن تعدد مواكب الكمائن قد فتح الباب أمام قوات الدفاع اجلوى بأن ترى أن للطريق خمارج أخرى ،وأنه رغم أهمية بناء الدشم اخلرسانية لتأمني مواقعها ومعداتها ،إال أن إمكانية التحرك مبراعاة شروط أخرى ،من املمكن أن ينجح حتركها العام حنو بناء خطها الدفاعى القوى على جبهة قناة السويس ،دون ما إصرار على شرط وجود الدشم ذاتها . ومن حيث ما أضافته هذه الكمائن إىل فنون القتال وحتسني نوعية األسلحة وبالذات الصواريخ ،فقد كانت هامة وكبرية، فلقد بينت هذه العمليات أهمية تطوير نوعيات الصواريخ 90
املضادة للطائرات ،والقادرة على سرعة املناورة األرضية واملكانية ،لذلك ال غرو أن جند بعد ذلك بشهور ظهور أنواع أخرى من الصواريخ احملمولة على مركبات جمنزرة ،أما بالنسبة لفنون القتال ،فقد اكتسبت القوات املصرية قدرة عالية ،على عمليات اإلخفاء والتمويه ،سواء إخفاء املواقع أو إخفاء النبضات الرادارية لكى ال تلتقطها الطائرات ووسائل اإلنذار املعادية . وكذلك تركت هذه العمليات ً أثرا ً بالغا على تعميق عمليات التعاون املصرية السوفيتية ،سواء على مستوى التنسيق بني القوات ذات املهام القتالية والدفاعية من اجلانبني ،أو بني أطقم اخلرباء واملستشارين وبني أطقم هذه الكمائن املصرية ،والتعاون ً أيضا بني األسلحة األخرى والدفاع اجلوى خاصة األسلحة اإلشارة واملخابرات العسكرية ،والشرطة العسكرية ،واملهندسني ،مبا كانت تكفله هذه األسلحة من معونات فنية وأمنية ضروريتني ً ميدانيا لتأمني سري الكمائن وتأمني حركتها ،وجتهيز مواقعها ً وإشاريا . لقد أعطت هذه الكمائن فرصة ساحنة لتحفيز القوات ً عموما ،وجعلتها فى وضع ميكنها من استئناف املسلحة املصرية عمليات اهلجوم .إن إفالت املبادرة من أيدى القوات اإلسرائيلية ً وشيكا ،ومبا يعنى فى املقابل أن القوات املعتدية قد بات املسلحة املصرية بدأت متسك من جديد ببعض خيوط املبادرة التى فقدت منها لفرتة ،لكى تتمكن فى النهاية من القبض بها ،لتطوير عمليات استنزاف إسرائيل . 91
إن نظرة سريعة على طابع عمليات هذه األيام يؤكد ما نقوله بشأن بداية استئناف الطابع اهلجومى للعمليات املصرية ً مجيعا ،ونرصد احلقائق التالية : ولننظر فى يوم 11أبريل سنة ، 1970أغارت الطائرات املصرية على املوقع اإلسرائيلية على بعد 25كيلو مرتا خلف خطوط العدو األمامية على شاطئ قناة السويس ،ووصلت إىل رأس سدر وعيون موسى على خليج السويس . فى يوم 23أبريل ، 1970أغارت الطائرات املصرية على مستعمرة “ ناحال يام “ فى مشال سيناء على بعد مائة كيلو مرت شرقى قناة السويس . فى يوم 25أبريل سنة ، 1970هامجت قاذفات “ اإلليوشن “ 28املصرية ،املواقع اإلسرائيلية قرب العريش على ساحل البحر املتوسط . فى 26أبريل سنة ، 1970احتلت قوة مصرية مكونة من ً ً 200جندى ،موقعا إسرائيليا فى القطاع اجلنوبى من قناة السويس على الضفة الشرقية ودمرته . فى 28أبريل سنة ، 1970أغارت مقاتالت مصر القاذفة من طراز “ سوخوى “ على املواقع اإلسرائيلية ،بينما كانت املدفعية املصرية تدك املواقع املعـ ادية مبعدل 10قذائف / دقيقة حسب تقديرات القوات املعادية اإلسرائيلية نفسها . فى أول مايو سنة ، 1970أعلنت إسرائيل أنها تصدت 92
حملاولة عبور قامت بها وحدة مصرية مكونة من 80جندى، وأنها كانت احملاولة الثالثة خالل 4أيام ،وأكدت القوات املسلحة املصرية أن هذه كانت من أجنح عمليات العبور . فى 3مايو ســنة ، 1970حتركت وحدة حبريــة مصريـة خاصة ،وقامت بقصف مركز على قيادة إسرائيل فى خليج السويس على بعد 220كيلو مرت جنوبى مدينة السويس (. )9 وهكذا حتركت األمور فى اجتاه مزيد من عمليات استنزاف إسرائيل ،وتعددت عمليات الكمائن وتواىل سقوط الطائرات املعادية ،وخفت آثار القصف اجلوى ،حيث عادت الروح املعنوية للقوات املصرية لرتتفع ،وأصبحت هناك إمكانية حقيقية لتحلل الرئيس مجال عبد الناصر من وعده بضرورة بناء الدشم اخلرسانية قبل تقدم القوات الحتالل مواقعها على خط حائط الصواريخ املضادة للطائرات ،فالتجربة أثبتت أن بناء الدشم شرطا ً ً هاما -إال أن التمسك الصلب به مل اخلرسانية -وإن كان يعد يساوى توقف الزحف لبناء حائط الصواريخ ،حتى االنتهاء من هذه الدشم . ومن ثم كان البد مما ليس منه بد ،ضرورة التقدم إلجناز بناء حائط الصواريخ على اخلط الشرقى ،خط الصدام مع العدو اإلسرائيلى ،خط املواجهة احملتدمة ،خط أمن ومحاية القوات ( )9
اللواء حسن البدرى ـ المرجع السابق . 93
الربية للجيشني امليدانيني ،خط التجهيز والتحضري لتأمني ً حتما حنو سيناء احلبيبة .إن عملية العبور الشامل القادمة احتالل قوات الدفاع اجلوى املصرية هلذا اخلط ،ومتكنها من بناء حائط الصواريخ هو أحد األهداف والغايات الرئيسية حلرب ً نهائيا االستنزاف ،حيث يرجى ملبادرة الفعل املصرى أن تتأكد لتكون القوات قادرة على بدأ معركة التحرير ،حترير سيناء من العدو اإلسرائيلى الغاصب . إنه اخلط الرئيسى واحلائط املتني ،الذى يرجى عليه تكسر موجات الطريان املعادى ،نقطة القوة فى البنيان العدوانى العسكرى اإلسرائيلى .إن احلائط املنشود هو احلائط العظيم، الذى إن مت سوف تكون له آثار دفاعية أقوى من آثار أسوار القالع القدمية ،حيث املدن الصامدة أمام الغزو األجنبى املعادى .
أسبوع تساقط الفانتوم : مع نهاية شهر يونيو سنة ، 1970وبداية شهر يوليو سنة 1970 ذهب الرئيس مجال عبد الناصر فى زيارة إىل االحتاد السوفيتى، يرافقه وفد كبري يضم جمموعة من الوزراء ،من بينهم الفريق ً أهدافا كثرية ، أول حممد فوزى ،وكانت هذه الزيارة تبتغى من بينها التشاور حول مبادرة وليم روجرز وزير خارجية أمريكا، والتى قدمها فى 24يونيو سنة . 1970وفى نفس توقيت سفر الرئيس والوفد املصاحب له إىل موسكو -وعلى وجه التحديد ً بدءا من ليلة 29يونيو سنة - 1970بدأ الزحف العظيم بوحدات الصواريخ املضادة للطائرات من طرازى سام ، 1سام ( 2الديفينا 94
والديسنا) صوب قناة السويس ،وكانت ملحمة ،وكانت خربة ثرية ،وكانت ً درسا فى التضحية والفداء واجلهد العلمى الرصني، وكانت معركة لوحدة الكفاح بني املصريني والسوفيت فى مواجهة ومقاومة االمربيالية األمريكية وإسرائيل الصهيونية ، ً مؤشرا النتصار إرادة احلق فى مواجهة حتديات الباطل، وكانت إذا تسلحت باجلهد الدؤوب واإلصرار حتى مع االختالل النسبى فى موازين القوى لصاحل العدو فى البداية . لقد بدأت حتضريات هذا الزحف من خالل عمليات الزحف املتقطع بالكمائن ،فعلى ضوء جتربة كمائن الصواريخ ً سابقا -اتضح أن التقدم فى املضادة للطائرات -وكما أشرت عملية بناء حائط الصواريخ من املتوقع هلا أن تتم دون شرط قيام الدشم اخلرسانية بل على العكس ،فإن بناء هذا احلائط سيساعد على تأمني عملية بناء الدشم اخلرسانية ذاتها ،وكانت ً دروسا حمددة فى جماالت األمن خربة العمل فى الكمائن تربز واإلخفاء والتمويه واإلعداد امليدانى السريع للمواقع . وعليه فمنذ بداية شهر يونيو سنة ، 1970بدأت قوات سالح املهندسني العسكريني تدخل فى عملية واسعة لتجهيز جمموعات كبرية من املواقع للصواريخ املضادة للطائرات . وبعد أن حتددت املواقع على اخلرائط ،وحتددت معها املواقع التبادلية أى االحتياطية على أسس تكتيكية وقتالية صرفة ، بواسطة القادة املصريني والسوفيت ،أعطيت هذه اخلرائط لقوات املهندسني لتنفيذها حتت اإلشراف الفنى لقادة ومستشارى الدفاع 95
اجلوى .وقد قامت هذه اخلطة على إجراء أعمال احلفر لتجهيز جمموعات من املالجئ واحلفر األرضية لوحدات األطقم القتالية لقوات الصواريخ املضادة للطائرات ،وقد بذلت قوات املهندسني العسكريني ورجاهلا -خاصة من اجملندين من أبناء الفالحني - جمهودات خارقة إلجناز أعمال احلفر هذه ،تساعدهم جمهودات العمال الفنيني من سائقى اجلرارات والبلدوزرات واجلريدورات . إن آالف األطنان من الرمال التى محلتها أكتاف الشباب اجملند تعجز بعدد حبات رملها عن تسجيل آيات الشكر والتمجيد جلهدهم اخلارق ،وسط قيظ الصيف الالفح على رمال الصحراء الشرقية ،ووسط ظروف عمل شاقة كادت متتد ساعاتها للطاقم الواحد إىل أكثر من 12ساعة عمل يومى .ووسط أحوال معيشية جد صعبة ،حيث قوتهم هزيل ومياههم قليلة . إننى لن أنسى مشاهداتى هلؤالء الشباب ،املفرتض فيهم التوثب والنضارة ،وقد خارت قواهم حتت أمحاهلم الثقيلة من شكاير الرمل واصفرت وجوههم وشحبت ،ولكن مع أى كلمة تشجيع وحتميس تراهم وقد حتولوا إىل كائنات جبارة تستطيع نقل اجلبال ،وليس جمرد مواقع منها هنا أو هناك .إننى على بعد الزمن ال أملك غري أن أحيى هذه اجملهودات اخلارقة ،وأسجل ً ً عاما هلا ،قد يساعد على تذكري اجلميع أن ملصر تصويرا ً وأصالبا حني تتضح قضاياهم ،وجتدهم رجاهلا ،جتدهم شجعان ثابتون وصابرون على العناء رغم ما يلقونه من عدم اهتمام حتى ً دائما ،هلم أحننى. فى الغذاء .إنهم شعب مصر ،اجلنود اجملهولون لقد كانت فكرة هذه املواقع امليدانية التى تقوم على احلفر 96
واملالجئ تهدف إىل وضع معدات وحدات الصواريخ فيها لتقليل اإلصابات إىل حدها األدنى ،خاصة فى حالة عدم تصويب ،أو ما يسمى الضرب غري املباشر من الطريان املعادى . وكان التجهيز يقوم على فكرة تعدد املواقع لتسهيل عملية املناورة وإرباك العدو مبجموعات كبرية من املواقع التبادلية واهليكلية لتشتيت نريانه ،وتقليل إصاباته املباشرة إىل أقصى حد ممكن ،وتشتيت جهوده االستطالعية ،وكانت هذه ً ً ركينا فى خطة بناء خط الدفاع ركنا العملية فى جمملها ً اجلوى كله ،وذلك تعويضا للدشم اخلرسانية ،وتقدميها كبديل سريع هلا . وفى ليلة 29يونيو سنة - 1970وكما سبقت اإلشارة -بدأ الزحف ،حيث مت تقسيم أطقم الصواريخ املضادة للطائرات املصرية من طراز ديفينا وديسنا إىل ثالث جمموعات أو أقسام، القسم الثالث أو األخري منها يتكون من جمموعة قليلة من األطقم تقوم بأعمال املناورة املكانية ،أى تغري مواقعها كل يوم بعد أن تشتبك ،وهذه اجملموعة متثل ما يسمى باالحتياطى االسرتاتيجى للقيادة ،حيث تعتمد خطة حتريكها وتلقى ً ً وطوال على امتداد خط عرضا أوامرها املباشرة من مواقعها املواجهة ،والتقدم والتقهقر إىل مقدمة هذا اخلط أو إىل عمقه ، وذلك بهدف إرباك طريان العدو ووسائل استطالعه ،وتضليله باجتاه وطريقة تقدم القوات . أما عن اجملموعتني أو القسمني األول والثانى ،فقد مت وضع 97
وحدات اجملموعة األوىل على حافة منطقة األمان التى تكفلها القوات السوفيتية حول القاهرة ،وذلك فى خط مواز لقناة السويس وخلط املواجهة مع العدو فى اجتاه فى الشرق .وبعد تثبيت هذا اخلط فى اليوم األول ،كان على اجملموعة الثانية أن تتقدم حواىل 20كيلو مرت فى اجتاه الشرق وصوب خط اجلبهة حتت محاية مواقع اجملموعة األوىل ،وعلى نفس فكرة املثلثات املتداخلة . وفى نهاية اليوم الثانى ،تفك اجملموعة األوىل معدات حمطاتها، و تتقدم اجملموعة الثانية بعشرين كيلو مرت آخرين فى اجتاه الشرق وصوب خط املواجهة فى حماذاة قناة السويس . وفى نهاية اليوم الثالث تفك اجملموعة الثانية وحدتها وتتقدم اجملموعة األوىل بعشرين كيلو مرت آخرين .. ً وهكذا يتم دفع اخلطني ً تبادليا حبيث يشهد النهار كل دفعا وحدات الصواريخ املصرية ضمن حائط للصواريخ يتكون من صفني ،وحيقق فكرة املثلثات التى تتداخل أقواس نريانها ، وتتشابك مناطق تدمريها « منطقة التدمري هى املنطقة احمليطة باحملطة والتى ميكن تدمري أى هدف معادى فى نطاقها» ،ويشهد الليل ثبات أحد الصفني وانسحاب الصف املتأخر إىل صف يتقدم مواقع الصف الثابت حتى الوصول إىل حافة خط املواجهة مع العدو اإلسرائيلى على قناة السويس . كانت هذه فكرة التحرك حنو بناء حائط الصواريخ املصرية 98
املضادة للطائرات على خط املواجهة بطول قناة السويس ومشال البحر األمحر .وقد استغرقت هذه التحركات حواىل مخسة أيام، متكنت فيها قوات الدفاع اجلوى املصرية بأطقم تشغيلها من الوصول إىل أقرب خط قناة السويس خارج مناطق التدمري ملدفعية امليدان واملدفعية األرضية امليدانية اإلسرائيلية ،وبالطبع فإن هذا اخلط كان ميثل اجتاه غالبية املواقع ،مع العلم أن هناك مواقع كانت تتقدمه وتقوم على فكرة الكمائن ،وهى من عمل جمموعة االحتياطى االسرتاتيجى ،والتى تضم وحدات القسم الثالث من القوات التابعة لوحدات الصواريخ املضادة للطائرات املصرية . لقد شهد مسرح العمليات فى هذه األيام اخلمسة أخطر وأهم عمليات قوات الدفاع اجلوى املصرية ،ويدخل هذا األسبوع من االشتباكات بني وسائل الدفاع اجلوى املصرية والطريان اإلسرائيلى تاريخ احلروب بصفة عامة باعتباره فاحتة عهد جديد للصراع العلمى املتقدم ضمن نطاق ما ميكن أن يسمى ( احلرب االلكرتونية ) . لقد كانت هذه األيام القليلة واجمليدة ،واأليام التى تليها فرتة حافلة بكل ما هو جديد وخطري ،ليس فى جمال الصراع العسكرى بني إسرائيل والعرب فحسب ،ولكن فى جمال أوسع ،إنها جتسد أخطر مراحل الصراع العسكرى بني السالح السوفيتى وتكنولوجيته وأسلوب استخدامه ،وبني السالح 99
األمريكى وتكنولوجيته وأسلوب استخدامه ،ففى هذه الفرتة وألول مرة فى تاريخ الصراع العسكرى العربى اإلسرائيلى -متاستخدام الطريان اإلسرائيلى للطائرات األمريكية املتطورة من طراز فانتوم وسكاى هوك بكثافة ،بل منذ تلك الفرتة دخل الطريان اإلسرئيلى عصر الطائرات األمريكية الصنع بعد أن كانت الطائرات الفرنسية الصنع هى تسلحيه األساسى . ومل يقتصر األمر على استخدام إسرائيل للطائرات األمريكية الصنع ألول مرة ،وبالذات طائرة الفانتوم ،بل تعدى األمر ذلك، فألول مرة حتصل إسرائيل على أجهزة استطالع رادارى من أمريكا ،زودت بها طائرات الفانتوم ،واستخدمتها فى هذه الفرتة من العمليات ألول مرة فى تاريخ احلروب ،وكانت هذه األجهزة تستطيع أن حتدد للطائرة املركبة فيها إن كانت متابعة بواسطة حمطة صواريخ موجهة أم ال ،وتعطيها إشارة مبوقع هذه احملطة ،بل وحتدد حلظة انطالق الصواريخ إزاءها . ً أيضا بدخول أسلحة أمريكية أخرى بل حفلت هذه الفرتة ميدان املعركة ،حيث حصلت القوات اإلسرائيلية على جمموعة ً ً سلبيا على توجيها من القنابل والصواريخ جو /أرض املوجهة أشعة الرادارات األرضية ،أو الصور التلفزيونية ملواقع حمطات الصواريخ ،مثل صواريخ شرايك التى تنطلق من الطائرة لتتبع الشعاع الرادارى للمحطة األرضية سواء كانت حمطة استكشاف رادارى ،أو حمطة صواريخ مضادة للطائرات وموجهة بالرادار ،ومثل قنبلة أو -ال -ى ،ومثل قنبلة مسارت التى توجهان 100
ً تليفزيونيا ،أى بواسطة كامريات تلفزيونية على حمطة الصواريخ لتدمريها . ً تصارعا ال هوادة فيه بني أعقد كما سجلت هذه الفرتة ً تكتيكات حرب الصواريخ والطريان .إنها حقا أغنى فرتات اخلربة حتى حلظتها ملثل هذا النوع من احلروب بصفة عامة ، ولقوات األطراف املتحاربة بصفة خاصة . وإذا كانت هذه هى املالمح العامة لتلك الفرتة احلافلة باألحداث ،إال أن تفاصيلها جتسد الصورة العامة ألخطر وأهم جتارب البناء فى حياة الشعب املصرى وقواته املسلحة . إن هذه التفاصيل جيب الوقوف عليها ،ففيها من الغنى والثراء ، ما يشعل النفوس باحلمية وميأل القلوب باألمل ،ويثبت العقول بدروسها اهلامة ،التى تظهر أن بذرة صغرية فى تربة خصبة وبرعاية دؤوبة تنتج شجرة عالية ممتدة تظل األرض ،وتكثر اجلنى ،وتعيش العمر . إن جتربة هذه الفرتة اهلامة شهادة تقدير لعامل اإلرادة واإلصرار، شهادة تقدير حللف معاداة االمربيالية والصهيونية ،وها هى حملات منها تربز معانيها وعربها .
101
احلائط العظيم يتشــكل كما سبق القول ،بدأ الزحف بالصواريخ منذ ليلة 29يونيو سنة ، 1970وأشرقت مشس اليوم األخري من يونيو سنة ،1970 ليفاجئ الطريان املعادى ووسائل استطالعه خبط ممتد من صواريخ الدفاع اجلوى املصرية ،وقد خرجت من نطاق دائرة األمن حول القاهرة واقرتبت أكثر من خط جبهة السويس وأصاب السعار إسرائيل ،وبهجمات متتالية وقوية ،اصطدم الطريان املعادى حبائط من صواريخ الدفاع اجلوى املصرية ،وكان ً يوما ً ً وعنيفا ملعارك ضارية دارت بني طريان إسرائيل فى اجلو ، طويال وبني وحدات من الصواريخ املضادة للطائرات مرابطة فى الرب ،فقد فيها الطريان املعادى نسبة من األهداف مل تشهدها يوميات الصراع قبل هذا اليوم .فقد خسرت إسرائيل أربع طائرات أمريكية الصنع من طرازى فانتوم وسكاى هوك ،ومت أسر ثالثة طيارين إسرائيليني . وفى صبيحة اليوم التاىل يوم الفاتح من يوليو سنة ، 1970 جرب الطريان اإلسرائيلى من جديد أن ينطح احلائط برأسه ،ذلك احلائط الذى زحف إىل األمام أكثر من مواقعه باألمس مبقدار من 20إىل 30كيلو مرت .كانت خسارته عالية ،ومعدل تساقط 103
ً مرتفعا ،لقد فقد الطريان اإلسرائيلى فى هذا اليوم ثالث طائراته طائرات أخرى .وتوالت أيام األسبوع األول من بدء الزحف الكبري، ليسجل اليوم السابع يوم 6يوليو سنة 1970خسارة جديدة إلسرائيل ،حيث فقد طريانها طائرتني مقاتلتني قاذفتني ،وطائرة استطالع الكرتونى عليها طاقم يتكون من 12عامل وخبري من قوات العدو .وانتهى األسبوع األول لريتفع سقوط الطائرات اإلسرائيلية من طراز الفانتوم األمريكى الصنع وحدها -والذى يستخدم ألول مرة -إىل سبع طائرات . وكم كانت ظروف القتال شاقة ومضنية ،ولن أنسى يوم األول من يوليو سنة ، 1970اليوم الذى وهبت فيه احلياة من جديد أنا ومن أشاركهم العمل ،فلقد حتركت وحدتنا ضمن جمموعة املناورة -أى جمموعة االحتياط االسرتاتيجى للقيادة -إىل أكثر املواقع ً قربا من القناة . وبكل اجلهد وسرعة اإلجناز ،قام طاقمنا بفك املعدات مع خيوط الظالم األوىل ملساء 30يونيو ،وانتظمنا فى رتل طويل ميشى اهلوينا ،فاإلضاءة ممنوعة ،والسرعة ً تبعا لذلك جيب أن تكون متدنية ،خاصة أن أصوات مواتري العربات جيب أال تعلو هى األخرى فى ليلة كثرت حتركاتها ،وبدت فيها حركة املرور ألرتال الدفاع اجلوى على الطرق املؤدية جلبهة قناة السويس ،وكأنها مناظر مألوفة لسيارات عام 1982فى وسط مدينة القاهرة ،ودخلنا املوقع وقمنا بأعمال املناورة التى تصاحب دخول وحدات احملطة إىل أماكنها ،بسرعة وجسارة ومهارة 104
مدتنا بها خربة حتركات الكمائن املتعددة التى اشرتكت فيها هذه الوحدة ،مت تركيب املعدات وتوجيهها وتسطيحها فى مستو ،ومع اخليوط األوىل إلشراقة هذا اليوم األول من يوليو وضع ِ سنة ، 1970بدأ تشغيل احملطة فى أثناء العمل الليلى ،كانت قد صدرت أوامر القائد حتت إحلاح ورجاء املستشار السوفيتى ، بإعفاء وردية متكاملة من الطاقم القتاىل من أعمال التجهيزات ، ً مبكرا ،وتكون على وإصدار األوامر هلا بالنوم كى تستيقظ ً أهبة االستعداد القتاىل ملالقاة طريان العدو ،وفعال حدث ذلك . والنشغاىل مبصاحبة املستشار السوفيتى طوال اليوم لإلشراف على عملية الرتكيب والتوجيه والتسطيح للمعدات ،ثم باملرور على كل وحدات التخصصات الرادارية والكهربية املختلفة لإلشراف على ضبطها ،وجعلها فى أحسن األوضاع لالشتباك ، مل أذق طعم النوم -أنا واملستشار السوفيتى -وانبلج نور الصباح، ومعه بدأ تشغيل وحدات احملطة ،وجلسنا ندقق النظر فى ً حبثا عن طريان العدو لضربه وإسقاطه وسط ظالم املبينات دامس حيث األبواب مغلقة ،وطاقم القيادة والتوجيه يتواجد فى وحدة مكانية فراغها ال يتعدى ثالثة أو أربعة أمتار من سطح الوحدة ،الوحدة مليئة باألجهزة االلكرتونية ذات املبينات ( الشاشات املنرية ) وذات الصمامات الكثرية ،مما يرفع درجة احلرارة ،باإلضافة إىل إغالق الوحدة وتواجدها وسط قيظ يوليو على رمال الصحراء . لقد كان ترمومرت الوحدة الداخلى يشري إىل درجة ° 52مئوية فاألجساد تتصب ً عرقا ،وال يفيد معها أن خنلع ما نلبسه قطعة 105
أثر قطعة ،واملراوح الداخلية للوحدة ال تأتى إال بهواء ساخن ، يعمل عمله فى زيادة معدالت حرارة اجلو املشبع بالرطوبة نتيجة تنفسنا فى هذا احليز الضيق املغلق . وفى منتصف اليوم ،وفى توقيت يرتاوح بني احلادية عشر ً صباحا التقطنا إحدى موجات اهلجوم للطريان والثانية عشر املعادى ،وتأهبنا لالشتباك معها ،ولكنها احنرفت عن دائرة نرياننا ،وكانت قد تفرقت وتغريت ارتفاعاتها ملهامجة وحدات صواريخ أخرى فى غري قطاعنا ،وعلى شاشات ومبينات الرادار شاهدنا الصواريخ املصرية املضادة للطائرات وهى تفجر طائرتني معاديتني ،وطال انتظارنا حتى الساعة الرابعة بعد الظهر ، حيث وصلت ساعات تشغيل احملطة ملا يقرب من إحدى عشر ساعة متواصلة ،إىل احلد الذى يفوق أى معدل للتشغيل قالت ً خاصة فى هذه احلرارة والرطوبة القاتلة . به الكتب والدراسات ، لذلك طلب قائد الوحدة من قائد التشكيالت إعطائنا ساعة لراحة املعدات واألفراد ،ونال القائد احمللى طلبه ،ومرت حواىل 15دقيقة كنا قد وصلنا فيها ،القائد واملستشار وأنا إىل امللجأ ( خمبأ حتت األرض صغري ) . ودوت صفارة احملطة تنذر باقرتاب الطائرات املعادية ،وفى أقل من دقيقتني كنا فى مواقعنا ،وكانت البالغات املتعددة للرؤية الرادارية وللرؤية بالنظر تؤكد اقرتاب ثـمانى طائرات معادية منا ،وعلى التو انقسمت هذه الثمانية ،وصارت أربعة 106
طائرات تعلونا ،فيما يسمى بالتعبري العسكرى «ركبت احملطة» واألربعة األخرى ركبت حمطة جماورة . ورغم أن إعادة تشغيل احملطة قد مت منذ انطالق الصفارة بأمر القائد املناوب ،إال أن احملطة كان يصعب عليها االشتباك بل يستحيل ،فهى حتتاج بضع دقائق لتكون فى وضع اإلرسال ، أى وضع القدرة على إطالق الصواريخ ،حيث أن الصمامات ال ثان تصل إىل مستوى إشعاعها إال بعد هذه الدقائق ،ومن جانب ٍ ٍ فال ميكن االشتباك مع األهداف بزاوية قائمة ،فاألهداف التى تعلونا زاويتها قائمة ،وفى حلظات قليلة جرت أحداث أيام وأيام ، ومر على عقل كل منا أيام عمره الذى مضى . وخبت أيامه القادمة ،فاللحظة هى حلظة الفصل .وكانت الطائرات تعلونا بارتفاع يصل إىل 22كيلو مرت ،وهى ال ميكن أن تسقط محولتها من هذا العلو .وكان الطريان املعادى يفضل ما يسمى بطريقة ( القصف الغاطس ) ،أى تنقض الطائرة من علو شاهق بزاوية حادة على اهلدف ،ثم تفرغ محولتها من ارتفاع 800إىل ً 600 ً سريعا ،لذلك كانت مرتا ،وتأخذ منحنى وتهرب الطائرات تتأهب لالنقضاض علينا ،وبدون أن ندرى وجدنا أنفسنا حتت محاية وحدة كبرية من املدفعية املضادة للطائرات، وباستماتة واضحة وجهد خارق أقام هذا التشكيل غاللة من النريان تعلونا بارتفاع 6كيلو مرت ،أى أن هذه املدافع قد فرشت مالءة من النريان على علو ستة كيلو مرتات فوق موقعنا ،وذلك ملنع طائرات العدو املغرية من االنقضاض على موقعنا . 107
وهكذا دارت رحى معركة شرسة ،كلما حاولت فيها الطائرات املعادية االنقضاض ،نظرت ملالءة النريان حتتها وعلت مذعورة ،ومرت بضع عشرات من الثوانى ،بدت كأنها الدهر كله أصاب فيها اليأس طائرات العدو ،فصبت نريان محولتها من ارتفاعها الشاهق ،لذلك نزلت طاقة التدمري اهلائلة هذه منحرفة عنا بأكثر من ً 600 مرتا ،وتوالت انفجاراتها ،واهتزت األرض معها ،ومعها تنفسنا الصعداء . ً ً كبريا الستعادة السيطرة على القوى واألعصاب إىل جهدنا بدأ احلد الذى جنحت فيه الطائرات املعادية من الفرار ،دون أن تشيعها صوارخينا حتى وهى مبتعدة ،على الرغم من أن هذا الطاقم ً ً ناصعا سطرت فيه عمليات الكمائن ،إسقاطه سجال ميتلك ألربعة طائرات معادية ،وتسلم أفراده مكافآت تشجيعية نظري ذلك ،بلغت ألفني من اجلنيهات ً تبعا لنظام التشجيع الذى عمل به فى تلك الفرتة . ً ً مفصال ليوم منوذجا لقد سردت هذه الواقعة ألبني للقارئ من القتال ،بكل ما يزخر به من جهد وعرق ،وجناح وفشل ، ً وضعف وقوة .وما هذا اليوم ،إال ً متشابها مع غريه من أيام يوما تلك الفرتة التى جافى فيها النوم أعني الكثريين ،فعلى سبيل ً طعما للنوم على مدى ستة أيام متواصلة إال قليال، املثال ،مل أذق ومل ألق جبسدى على فراشى أو حتى أخلع حذائى ،وكل ما اختلسته من نوم كان أثناء ساعات التنقالت داخل العربات وبني األوقات املتوترة فى انتظار طائرات العدو ،وكان هذا حال 108
ً أيضا من االستحمام ملدة وصلت غريى ،فالكثري منا مل يتمكن إىل األسبوعني ،رغم حرارة يوليو الكبرية وسط قيظ الصحراء ، وفى أجواء وحدات الصواريخ اخلانقة .
راب الصدع : تناولت فى السطور السابقة الوجه املشرق ملا مسى فيما بعد بأسبوع تساقط الفانتوم ،ولكن كان هناك وجه آخر ،لقد شهد هذا األسبوع تصاعد خسائر العدو لطائراته املغرية ،ولكنه مل مير دون أن يرفع من خسائر قواتنا ،فلقد حدثت خسائر مرتفعة فى وحدات الصواريخ املضادة للطائرات ،مشلت املعدات واألسلحة ،ومشلت -وهذا وهو األهم -فقدان جمموعة من األفراد ً ً عاليا .فمع اشتداد املعارك ،والسعار الذى تدريبا واألطقم املدربة حلق بطريان العدو ،وحبكم استخدامه -وألول مرة -لطائرات الفانتوم املزودة بأجهزة لالستطالع االلكرتونى ،حتدد مواقع الصواريخ ،وموعد واجتاه انطالق الصاروخ أرض /جو جتاهها ، ً ً غاليا إلصرارها على بناء ثـمنا دفعت قوات الدفاع اجلوى املصرى ً عمليا أن الشرط الذى مت التغاضى عنه حائط الصواريخ .لقد بدا ً وهو شرط بناء الدشم اخلرسانية -كان ثـمنه مرتفعا .فمع نهاية هذا األسبوع ،فقدت القوات التى حتركت بأطقم ووحدات الصواريخ املضادة للطائرات من طرازى ديفينا وديسنا ً ً ً ما يقرب من ربع القوى البشرية املدربة ً عاليا، تدريبا وقتاليا فنيا لقد كان أخطر ما فى وحدات الصواريخ أن املوت ال يصيب رجاهلا فرادى ،ففى حالة تشغيل احملطة يعترب الطاقم كله - 109
وبالذات طاقم القيادة والتوجيه والتخصصات الفنية الكهربية وكأنه رجل واحد وأن من ينجو ،يكون من الورديات البديلة ،وأطقم إعادة التعمري ،واألطقم املناوبة للخدمة الرادارية وخدمة املعلومات ،واألطقم اإلدارية . ً خطرا لقد كانت هذه التضحيات البشرية الواسعة متثل ً ً وهاما ،ال لكون فقد الرجال فى ذاتهم يبعث على احلسرة، كبريا ولكن ألنه ال ميكن تدريب أمثال هؤالء الرجال بسرعة ،خاصة أن من استشهدوا هم من خاضوا جتارب القتال ومعاركه .إن هذه اخلسائر البشرية الكبرية ،قابلتها خسائر فى املعدات أكرب وأوسع ،لقد أصيبت نسبة تصل إىل نصف عدد احملطات التى حتركت فى يوم بدء الزحف العظيم . ولقد كان أمر املعدات أسهل بكثري ،فالشهور التى مضت ، شهدت ،وكما سبق أن أوضحت ،ورود سيل ال ينقطع من وحدات وحمطات الصواريخ من طرازى الديفينا والديسنا ،واالستعواض ً تبعا هلذا فى ساعات قليلة ،وبالفعل كان ميكن أن يتم الطاقم الذى تدمر معداته ،أو تدمر بعض أجزائها ،وتكون نسبة اإلصابة فى أفراده ضعيفة ،وذلك فى حالة عدم التشغيل أو فى حالة الورديات املخففة ،كان يستعوض ما يلزمه بسرعة . بل كان األمر جيرى على حنو جتميع األفراد الناجني من أكثر من طاقم لتكوين طاقم واحد متكامل يستعوض املعدات ،ويشكل وحدة تأخذ مكانها وسط باقى وحدات حائط الصواريخ . 110
إن هذه اخلسائر املرتفعة ،وبالذات فى األفراد واألطقم الفنية، والتى تعرب عنها بعض اإلحصاءات املتاحة ،والتى تشري إىل ما يلى « بلغت مجلة خسائر مصر خالل شهر يونيو سنة 678 ( 1970 ً ً وجرحيا ) من كل القوات املسلحة املصرية ،وحتملت قوات شهيدا الدفاع اجلوى منها نسبة 43,47%من عدد كل شهداء القوات املسلحة ( )10ومصابيها» ،أدخلت أوضاع قواع الدفاع اجلوى على ً واضحا أن الصراع بني جبهة قناة السويس فى نقطة حرجة ،وبدا الطريان اإلسرائيلى ،ووسائل الدفاع اجلوى املصرى الذى يتجه إىل التصاعد واالحتدام ،تشكل مرحلته الراهنة ما يسمى مرحلة ( عنق الزجاجة ) لقوات الصواريخ املصرية . وجاء يوم 7يوليو سنة 1970ليظهر الصورة اآلتية ،وصل اإلنهاك إىل حده األقصى بالنسبة ألطقم التشغيل املصرية ، وارتفعت نسبة اإلصابات والتدمري إىل حد فتح ثغرات ،يتسع عرضها وتهدد بتقويض فكرة اخلط الدفاعى ،أو حائط الصواريخ من أساسه ،وعملية االستعواض تتعثر -وعلى وجه التحديد -فى جمال االستعواض البشرى فى مستواه املدرب ً فنيا ً وقتاليا .والطريان اإلسرائيلى يرتفع مبستوى أداؤه ،ويدقق من إصابته مع حتسن استخدامه لوسائل االستطالع الرادارى اجلديدة ،واملوجودة على الطائرات األمريكية الصنع ، خاصة طائرات الفانتوم .وانتشار نوازع وعوامل القلق بدأت تغزو الروح املعنوية لقوات الصواريخ املضادة للطائرات . ( )10
اللواء الركن حسن البدرى – المرجع السابق . 111
ولن أنسى ما حييت ما حدث بعد حلول مساء يوم 7يوليو سنة . 1970فلقد مر قائد قوات الدفاع اجلوى على جبهة القناة ليتفقد القوات وأحوال أطقم التشغيل ،ولكى يعمل على رفع الروح املعنوية للقوات ،وفى إحدى املواقع -ووسط طاقم متكامل ً ً ً وإداريا -ألقى هذا القائد كلمة قصرية ومؤثرة وفنيا قتاليا حول ضرورة الصمود ،وأشاد باجملهودات التى تبذل ،وأثر ما ً عموما ،وعلى مستقبل املعركة حيدث على مستقبل الصراع احلتمية بني مصر وإسرائيل . بعد هذه الكلمة انفجر ضابط برتبة نقيب ،آنذاك ،وينحدر من عائلة إقطاعية من حمافظة الدقهلية ،حيث صادر قانون اإلصالح الزراعى بعض من ممتلكاتها ،انفجر يقول « :إن الصراع الدائر اآلن بني سالحى الطريان اإلسرائيلى ووسائل الدفاع اجلوى املصرى ال يراعى على جانبه املصرى املعدالت الصحيحة للمواجهة ،فال ميكن لعدد من أطقم الصواريخ القليلة هذه أن تقابل طريان إسرائيل كله ،ومن وراءه اإلمدادات األمريكية الكثيفة بالسالح والتكنولوجيا احلديثة ،بل وباألفراد خاصة الطيارين .إن اإلصرار على القتال ،رغم قلة اإلمكانات وقلة عدد األطقم املقابلة لقوات صواريخ الدفاع اجلوى ليس إال عملية انتحار ،وتصدير بعض من القوات التى ال حول هلا وال طول ،ملالقاة قوة طريان ال يقدر عليها ،إال أضعاف مضاعفة من مثل هذه األطقم التى جيب أن يعاونها سالح طريان مصرى قوى وقادر على لعب دور كبري ضد طريان إسرائيل» . 112
وتزيد هذا الضابط وواصل كالمه « إن ما يدور ال جتمله اجلمل ً تأكيدا للوطنية ،إنه جنون الطنانة عن الوطن ،فليس ما حيدث مجال عبد الناصر ومن حيذو حذوه حتى ولو كنت أنت أيها القائد أليس دليل ما أقول أنكم تتعسفون األشياء ،وجتعلون من هذه األسلحة -التى ال حتتمل خصائصها الفنية القدرة على املناورة املكانية -أسلحة مرنة ،وهى ليست كذلك ،إنكم ال ترغبون إال فى حتدى احلقائق وحتدى قدرتنا القليلة فى مواجهة قدرة العدو الكبرية» . ورغم جسارة االتهام وسفوره ،ورغم أنه مس القائد فى وجهه، ورغم أنه نظر إىل الصراع من زاوية ضيقة (وفنية فحسب) تعكس األصل الطبقى للمتحدث ،وفهمه للوطنية من منظور االستسالم والقدرة احملدودة ،إال أن هذا االنفجار كان يعكس بدرجة ما الواقع الذى بدأ التململ يتخلله ،لذا فإننى لن أنسى حكمة القائد وبعد نظره فى حماصرة تفجر هذا الضابط بتعميق داللة هذا الصراع املسلح الدائر على جمريات الصراع فى منظوره العام بني العرب وحلفائهم ،وبني إسرائيل وحلفائها، وبتوضيح أن احلروب ال تقوم فقط على النسب واألرقام واألعداد ً دائما حيز كبري للبشر وإلرادتهم ، اجلامدة ،ولكن هناك وألهمية االستمرار والتواصل فيما يبدءونه ،هكذا تكلم هذا القائد الكبري ،الرجل الوطنى املخلص ،والشخص العاقل الصبور ،رغم كرب سنه ( اللواء أمحد سالمة غنيم ) . وهكذا يتضح أن حرج األوضاع فى نهاية اليوم الثامن من بدء الزحف العظيم كان من نصيب اجلانب املصرى ،وأن املبادرة 113
التى بدأت خيوطها تتجمع فى أيدى قوات الدفاع اجلوى املصرى مهددة بالتسرب والتهتك ،وأن قوات الصواريخ التى بدأت زحفها ً ً عظيما بالصواريخ للدفاع عن أجواء مصر حائطا وثابة ،وأقامت الشرقية. ً مرئيا ،واخلوف من اتساع ثغرات هذا بدأ القلق يتماثل أمامها ً ً احلائط العظيم أصبح خطرا واقعا وكان البد من إضافة عوامل جديدة لرأب الصدع ،وألن دائرة األمان اتسعت فى الدفاع عن أجواء مصر حتى حدود جبهة قناة السويس ،وألن تهديدها باالحنسار ً تداعيا ألخطار جسام تهدد كل ما حتقق ومت ،كان من يعنى الضرورى االلتجاء إىل القوات السوفيتية مرة أخرى ،فاملهمة األوىل تبدلت ،فبعد أن كانت محاية العمق وتأمني املدنيني واألهداف احليوية ملصر هى رأس مهام الدفاع اجلوى ،تعدلت املهمة األوىل لتكون تأمني اتساع دائرة الدفاع عن أجواء مصر حتى خط جبهة قناة السويس . وكما وقف حلفاء احلق ،وقوى حلف معاداة االمربيالية ً جنبا إىل جنب فى مرحلة الصراع األوىل ،كان والصهيونية ً واجبهم حيتم عليهم أن يستمروا فيما ابتدءوه ،وفعال -ومع بداية اليوم العاشر فى عمر حائط الصواريخ -مت حتريك جمموعة من أطقم الصواريخ املضادة للطائرات من طراز سام « 3البتشيورا» والتى تعمل عليها قوات سوفيتية كاملة إىل خط جبهة قناة السويس ،لقد تقدمت أطقم الصواريخ السوفيتية لتسد ثغرات حائط الصواريخ ،ولتدعم مواقعه مبواقع إضافية ،وإذا كان عدد 114
وحدات هذا احلائط منذ بدايته يعد من قبيل األسرار العسكرية، وكذلك عدد الوحدات السوفيتية التى أضيفت لدعمه ،إال أنه ميكن القول أن عدد بطاريات صواريخ سام 3السوفيتية الصنع والتشغيل ،التى دعمت حائط الصواريخ املصرى على جبهة قناة السويس ،بلغت ما يقرب من ضعف عدد وحدات الصواريخ من طراز سام 2الصنع واملصرية التشغيل املوجودة فى هذا اخلط فى اليوم العاشر لبدء الزحف العظيم ،لقد سدت هذه اإلضافة ما مت فقده من وحدات الصواريخ املصرية ،وارتفعت بالعدد الكامل ملواقع اخلط القتاىل إىل حواىل 150%من مواقعه التى بدء بها الزحف العظيم . إن حتريك هذه القوات السوفيتية لتشارك إىل جوار القوات املصرية فى الدفاع عن أجواء مصر عند خط قناة السويس تطلب عملية تنسيق واسعة بني وحدات القوتني ،فلقد مت لكل قطاع حمدد تكوين قيادة ميدانية مصرية سوفيتية مشرتكة ، حيث تكونت غرف عمليات مشرتكة يعمل فيها مصريون وسوفييت ،جيمعون املعلومات الرادارية وكل حيثيات العمل القتاىل ،ويقومون بتوزيع هذه املعلومات وتوزيع املهام على الوحدات القتالية ،لكل بلغته ،وهكذا امتزجت املهام القتالية سواء على املستوى القيادى ومستوى مجع املعلومات وتوزيعها ، أو على مستوى تداخل أقواس النريان ،وتداخل مهام احلماية بني كل من قوات الصواريخ املصرية العاملة على الصواريخ املضادة للطائرات من طرازى الديفينا والديسنا ،وبني القوات السوفيتية العاملة على الصواريخ املضادة للطائرات من طراز البتشيورا . 115
ً واسعا أمام أكرب عملية إن هذا التمازج واالختالط فتح الباب احتكاك ،وتبادل للمعارف والفنون واألساليب القتالية واإلدارية والفنية ،كما مسح خبلق فرص التنافس املشروع لتحسني معدالت استهالك الصواريخ للهدف الواحد ،والغرو إذن ،إذا علمنا أن معدالت الكفاءة القتالية لألطقم املصرية قد حتسنت فى ظل هذه الظروف ،بني األسبوع األول واألسبوع الرابع ،لينخفض معدل استهالك الصواريخ للهدف الواحد إىل ما يقرب من . 300% إن أى رصد أمني لتاريخ القوات املسلحة السوفيتية يبني أن هذه التجربة للعمل امليدانى املشرتك هى التجربة األوىل للقوات السوفيتية مع قوات أجنبية فى معمعان املعارك خارج دول اجملموعة االشرتاكية ،ورمبا التجربة األوىل هلا على اإلطالق مع قوات أجنبية بعد انقضاء معارك احلرب العاملية الثانية ،أو ما يسمى داخل االحتاد السوفيتى «باحلرب الوطنية العظمى». إن مساح القوات املسلحة السوفيتية بهذا التداخل والعمل املشرتك -مع ما اشتهر عن السوفيت من تزيد فى إجراءات األمن ً ً خصوصا -يعكس عمق التوجه عموما واألمن العسكرى السوفيتى فى دعم احللف املعادى لالمربيالية والصهيونية ، ويشكل ً ً عمليا على كل موجات التشكيك والكذب ردا ً حتديا وإجابة والتدليس التى انطلقت بعد ذلك ،بل وتشكل بليغة على روح العداء للسوفيت التى محلها وحترك فى إطارها بعض قادة العسكرية املصرية آنذاك . 116
وفى هذا اجملال ،ال أنسى ما حييت تلك الواقعة التى تبني ما أدعيه بصدد الكلمات السابقة ،فمنذ اليوم اخلامس وحتى الثامن لبداية زحف وحدات الصواريخ حنو اجلبهة ،ظهرت آثار استخدام الطائرات اإلسرائيلية ،وبالذات األمريكية الصنع ً سابقا ، منها ملعدات االستطالع االلكرتونى التى نوهت عنها ومل يك أمر هذه املعدات قد كشف لنا بعد ،وصاحب وجود هذه املعدات احلديثة استخدام الطائرات اإلسرائيلية لتكتيكات حديثة استفادت فى تنفيذها مما حتصل عليه من معلومات هذه األجهزة احلديثة ،مما شكل لوحداتنا عملية استجالب خطرية ً أهدافا معادية فى مقابلها ،فلقد زاد لصوارخيها دون إسقاط معدل استهالك الوحدات املصرية للصواريخ دون مقابل معقول فى إسقاط الطائرات اإلسرائيلية ،فى هذه األثناء أطلق أحد قادة األطقم القتالية املصرية شائعة علمية أثر اشتباكه مرتني فى يومني متتاليني ،أطلق فيهما ثـمان صواريخ دون أن يصيب ً ً واحدا . هدفا وكانت هذه الشائعات تقول أن الطائرات املعادية متتلك معدات رادارية تستطيع بواسطتها التحكم فى توجيه حركة الصواريخ التى تنطلق عليها ،وأنها تتمكن من إبعاد الصواريخ عنها وإعطاء هذه الصواريخ األمر باالرتفاع والتفجري الذاتى فى طبقات اجلو العليا ،وسرت هذه الشائعة مسرى النار فى اهلشيم، فكل الظروف كانت مهيأة لقبوهلا وترديدها ،فكل وحدات الصواريخ ترصد طائرات معادية ذات ارتفاع عاىل . 117
ً أحيانا فى التحدى وترتك وراءها خط العادم األبيض متعن الذى يكشف عنها مبجرد النظر ،وليس بوسائل االستطالع أو املتابعة الرادارية فقط .ومع ذلك ،ما تكاد هذه الوحدات تطلق صوارخيها من طراز سام - 2والذى ميتلك قدرات عالية لالشتباك مع الطريان العاىل -حتى ترى أن هذه الصواريخ ال تكاد تلحق بالطائرات ،فالطائرات اإلسرائيلية تنحرف مبجرد انطالق الصواريخ وتغري اجتاهها ،والصاروخ ً بدال من أن يتابعها يعرب منطقة التدمري ،ويأخذ أوامر التفجري الذاتى فى طبقات اجلو العليا . هكذا انتشرت هذه الشائعة ،ووسط هذه الظروف التى ً ً عندئذ عايشت رد الفعل على هذه صاحلا لقبوهلا . مناخا تهيىء ٍ الشائعة ،و المست واقعتني هامتني ،شكلت اجتاهني جيب رصدهما : األول :وصلت هذه الشائعة إىل القائد العام للقوات املسلحة بالنيابة ،الفريق حممد أمحد صادق ( رئيس األركان آنذاك )، والذى كان يتوىل أمر قيادة القوات املسلحة فى غياب الفريق أول حممد فوزى ( القائد العام ) ،الذى كان يرافق الرئيس مجال عندئذ استدعى الفريق صادق عبد الناصر فى زيارته ملوسكو ، ٍ قائد الطاقم الذى أطلق هذه الشائعة . وذهبت أنا ومستشار سوفيتى برفقة هذا القائد ملقابلة الفريق صادق ،وما كدنا نغادر املوقع ومنسك بالطريق العام الذى يفضى بنا إىل مقر قيادة الفريق صادق ،إال وتعطلت العربة التى 118
كنا نرتادها ،ودب االرتباك بيننا وبسرعة فائقة تصدر املستشار السوفيتى الطريق ،وأخذ يستوقف العربات العسكرية ، ووقفت إحدى العربات ومل يك بها غري مكان واحد ،ركب فيه قائد الطاقم . ثم حلقنا به بعد ذلك بعد أن متكنا من إصالح عطل العربة، وعند مقر القيادة علمت أن قائد الطاقم دخل ملقابلة الفريق صادق ،وما إن هممنا بطلب لقاء القائد العام بالنيابة ،إال ورأينا قائد الطاقم قادم ووجهه يطفح بالبشر والسرور ،وطلب منى أن يدخل املستشار السوفيتى للتسليم على الفريق صادق ،ومل أصاحبه ،وإذا بقائد الطاقم يبادرنى القول « :ابسط يا عم ،إحنا الثالثة مدعوون فى فندق الشرياتون على العشاء الليلة على شرف القائد العام بالنيابة» ،وعلمت منه أن القائد العام بالنيابة ً ً وفرحا ألن قائد الطاقم قد كشف الغباء السوفيتى بشرا تهلل وأسلحتهم املتخلفة ،وحتمس وقال له « :أنت يا ابنى مدعو الليلة على العشاء فى الشرياتون نتيجة أنك راجل صاحى « ،وأخربه قائد الطاقم بأن يصطحب املستشار السوفيتى واملرتجم ،فابلغه ً أيضا إىل العشاء .وسألت قائد بأنه ميكنه أن يصطحبهم معه الطاقم « :أمل حيقق معك صدق ما تقوله أو تدعى ؟» ،فرد على: « سيادته فرح ألننا كشفنا غباءهم» . وبلعت امتعاضى هلذا األسلوب ،وأخذت أحل عليه بأنه ال داعى ً خاصة أننا سنذهب لعشاء الشرياتون ،فأوالده أحق بهذه الفرتة ، إىل املوقع مع اخليوط األوىل لصباح هذه الليلة .ورغم أنه مال إىل 119
ً مداعبا « :أال تعلم ان فندق الشرياتون أحدث ما أقول ،إال انه رد وأفخم فنادق القاهرة» فقلت له ً « : حقا ما تقول ،ولكن األحق به املرتفون فى القاهرة، ً دفاعا عن أرض الوطن ،فالشك أن ما سيلقونه أما من حياربون فى هذا الفندق سوف جيسد هلم كل صور اهلم والغم من أجل ً ً خيطا من سعادة». مطلقا فى أن جيلب هلم ولو األوطان ،ولن يفلح وحضر املستشار السوفيتى بعد أن سلم على رئيس األركان العامة للقوات املسلحة املصرية ،وتقابلت عيوننا وتالقت مشاعر تطفح منها بعالمة الرضا والتوجس ،ولكن مل تتحرك ألسنتنا ببنت شفة ،وانصرفنا على وعد بلقاء بعد ثـمان ساعات فى الصباح الباكر لنذهب إىل حيث أتينا ،وفى الطريق إىل منزىل كادت عربات ساخنة أن ختنق حسى ،وأن تنهمر من مقلتى ، وقلقى يتزايد ،هل ً حقا ما مسعت ؟ ؛ هل ميكن أن نستبدل ما هو كبري بالصغري الصغري ؟ ؛ هل ننصرف عن حتقيق مشاكلنا وحل معضالتنا لنهنىء بفشل اآلخرين وبالتشفى فيمن ميدون لنا يد العون ؟ ؛ هل هذه قيادة تستحق موقعها ؟ ؛ إن العني حينما تكون مفتوحة على أبواب الشرياتون ،وموصدة عن أبواب حل مشاكل احلرب والقتال ،ال جيب أن يصيبنى احلزن على تلك احلياة الطبيعية املعتادة التى تدور أمامى فى القاهرة ،وختتلف ً ً ً وجزئيا عما نعانيه هناك فى خفر وخنادق معداتنا كليا اختالفا وحتت تهديد القصف املعادى. هنا تدخل صوت عقلى وحدثنى ً مهال :إن من ينشغلون بالعشاء 120
ً كثريا ،مهما تغريت الفاخر ،واألماكن الثرية ال خيتلفون مواقعهم هنا أو هناك ،وإن من يعانون هموم الوطن ومشاكله، ً أيضا مهما تغريت ويكدحون للبناء والتحرير ،ال خيتلفون فلتنحبس أيتها الدمعة القلقة ،ولتنفتح مواقعهم هنا أو هناك ، ِ أيها العقل والوجدان على تلك احلقيقة البسيطة .إنه ال حيس الشوق إال من يكابده ،والنار ال حترق إال كابشها ،فهذه حياتنا وهذا وطننا وتلك مشاكلنا ،وال ضري من أن لسعها يشتد علينا، ولكن حنن هلا . الثانى :حترك ركبنا إىل املوقع مع اخليوط األوىل لصباح هذا اليوم ،وما كدنا ندخل املوقع إال ووجدنا أمامنا جمموعة كبرية من اخلرباء السوفيت .وبعد أن تعرفنا بهم وعرفنا مهمتهم ،فهمت أن هذا وفد خرباء السوفيت الفنيني فى تصميم وتصنيع الصواريخ املضادة للطائرات ،وأنهم يكونون جمموعة متكاملة لكل ختصصات احملطة ،وهم اثنى عشر خبري يقودهم جنرال فنى ، ً حتينا حلدوث وأن مهمتهم تتخلص فى املرابطة فى هذا الوقع اشتباك ،ومتابعة كافة التخصصات أثناء االشتباك ،لتحقيق ً مسبقا ،هل هى ما أثري حول هذه الشائعة التى نوهت عنها حقيقة؟ ؛ أم هل هناك أخطاء فنية ؟ ؛ أم هناك أبعاد أخرى ؟ ،ومر اليوم األول لوجودهم بيننا ومل تقرب طائرات العدو من دائرة هذا املوقع ،وتواىل اليوم التاىل كسابقه ،حتى اليوم الثالث أوشك أن مير واحلال ثابتة . عندئذ علمت من اجلنرال السوفيتى أنهم سينهون انتظارهم مع ٍ 121
حلول املساء .ودارت معه مناقشة ،سألته « :ما رأيك فى علميـة هذه الشـائعة ؟» فرد بهدوء ،وقال « :إن أمر حدوث هذه االدعاءات شىء يكاد يكون فى دائرة املستحيل ،فالصاروخ املضاد للطائرات من هذا الطراز صاروخ موجه ،وبه جهاز معني مثبت فى مؤخرته ،ومصمم على أن يأخذ األوامر من اجتاه واحد ( احملطة ـ الصاروخ ) لذا يستحيل أن تدخل طائرة من خلفه وتعطيه أوامر أخرى ختالف أوامر احملطة التى تطلقه وتتابعه . وإن الطائرة التى يفرتض أنه يتجه لتدمريها ال تستطيع أن تعطيه مثل هذه األوامر ،فاجتاه أوامرها سيكون عكس ثان :إن هناك اجتاه األوامر املؤثرة على الصاروخ ،وهناك سبب ٍ ً كهرومغناطيسيا يقول بأن قوة النبضة الرادارية تتناسب مبدأ ً طرديا مع قدرة مصدر بعثها ،وإن قدرة هذا املصدر تتحدد تناسبا حبجم وثقل اهلوائيات الباعثة هلذه النبضة ،ولكى تكون أوامر الطائرة أقوى من أوامر احملطة ،فعلى الطائرة أن حتمل معدات وهوائيات تزيد عن ثالثني طن ،وهو ثقل كبري تنوء الطائرة املقاتلة أو املقاتلة القاذفة حبمله» ،فسائلته « :إذا كان ذلك كذلك ،فلما جئتكم إىل هذا املوقع ؟». فابتسم اجلنرال ابتسامة خفيفة ،وقال ىل « :أيها الشاب ،أال تعلم أننا فى عصر العلم ،وأن حدود معارفنا حتى هذه اللحظة ً فعليا من علم ،ولكن ما مل يكتشف بعد هى ما اكتشفت قد يكرب ما نعرفه ،عندها قد تتبدل احلقائق العلمية ،وهذا ما نسعى إليه ،أو نثبت على ما حنن عليه» . 122
وانصرف هذا الوفد مع حلول املساء من املوقع ،وبعدها بيوم واحد تقدم إلينا جنرال سوفيتى آخر ،كنت أعرفه حق املعرفة ،فهو مستشار رئيس عمليات الدفاع اجلوى ،وقدم معلومات هامة حول استخدام إسرائيل وطائراتها األمريكية ألجهزة استطالع رادارى أمريكى حديثة الصنع ،وهى حتدد حلظة انطالق الصاروخ املوجه إليها ،هلذا فإن مثل هذه الطائرة تأتى خبصائص معينة ً بعيدا تضمن فيها أن يكون احلد األدنى ملنطقة تدمري احملطة ً ً عمقا قليال ، عن مركزها ،ويكون عمق منطقة التدمري وهذان الشرطان يتحققان مع علو الطائرة وارتفاعها . وإنها مبجرد أن ترصد حلظة انطالق الصاروخ تنحرف فى االجتاه، وتغادر احلد األقصى ملنطقة التدمري قبل أن جيتاز الصاروخ احلد عندئذ ال ميكن للصاروخ أن يلتقى بها فيعرب منطقة األدنى ، ٍ ً التدمري وينفجر ذاتيا حسب ما هو مصمم عليه . ً مزيدا من استجالب وأوضح اجلنرال أن مثل هذا اهلدف ال يريد إال الصواريخ ،وبث روح اليأس لدى األطقم املقاتلة ،ويرغب فى ً ً دقيقا ليسهل دكها ،وأن ما أنقذ هذا املوقع حتديدا حتديد املواقع بالذات من هذه اخلطة هو متويهه واختفاؤه اجليد ،وأنه بالفعل ً ً ً هيكليا كان يبعد عن املوقع األصلى تبادليا موقعا مت قصف ببضع مئات األمتار ،وذلك عقب الوقت الذى جرى فيه اإلطالق ، وأنه إذا كان قد سكن وترك هذه املنطقة فألنه توهم أنه دمر املوقع ،ومل يتمكن من رصده ثانية . بعد ذلك -وقبل أن متر 24ساعة على هذا اللقاء -استدعيت 123
إىل الرتمجة فى مؤمتر قتاىل عام لتقييم نتائج االشتباكات، وتكتيكات العمليات ،والوقوف على التكتيكات املعادية ،وكيفية تعميم اخلربات فى هذا اجملال ،وذهبت إىل املؤمتر ،وحتدث نفس هذا اجلنرال وطال حديثه إىل ست ساعات ً ً ومدققا يقظا ، متواصلة ،ورغم إنهاكى وجدتنى وقد صرت للكلمات واملعانى ،ومل ينل اإلجهاد منى فحينما يرى اإلنسان ً عطرا ناتج عمله ال يأبه بأى صعوبات تقابله ،وال جيد العرق إال ً شذيا ينعش كل مشاعر احلب فيه ملن حيب ،إنه التحرير ،وإنها مصر . لقد ذكرت هذه الوقائع ،وما صاحبها من حتركات ذات دالالت خمتلفة ليتضح ألبناء وطنى مصر وكل الشعب العربى أن حتريك قوات الدفاع اجلوى السوفيتية -والعاملة على أطقم صواريخ سام - 3إىل املواقع األمامية خلط الدفاع املصرى ،حيث ً عمال يستحق اإلبراز يبنى حائط الصواريخ العظيم ،كان والكشف عنه بكل ما صاحبه من جهود شاقة وآثار هامة لريى الشعب ويطلع على حقائق تارخيه كما هى ،ال كما يرمسها هذا الشخص أو ذاك ،خاصة أن هذه الوقائع ال ختفى على األعداء، وال ختفى على حلفائهم ،إنها -ولألسف -موضع جهد جهيد يريد طمسها فى زمن استبيحت فيه قيم النضال وشعاراته ،فصار ً ً ً ونكرانا لكل مساهمة جحودا سالما ،وصار الوفاء االستسالم جادة فى نضال وكفاح هذا الوطن ضد أعدائه ،وصار الصديق ً ً صديقا ،وتسلم السفاح بيجني جائزة نوبل عدوا ،وصار العدو للسالم مناصفة مع السادات ! 124
125
ثبـات ..وصعود ..وانطالق بعد تدعيم حائط الصواريخ بأطقم وبطاريات صواريخ البتشيورا السوفيتية الصنع والتشغيل ،دخل الصراع بني طريان العدو اإلسرائيلى ،وبني وسائل الدفاع اجلوى على جبهة مصر عند خط قناة السويس ،مرحلة هامة وجديدة . لقد بدأت النقطة احلرجة على منحنى الصراع تنتقل إىل اجلانب اإلسرائيلى ،وأخذت الدروب تتعقد وتنسد فى وجه طائرات ً ً فشيئا دب الشلل فى ذراع إسرائيل الطويلة ،ومل وشيئا العدو ، تنجح إمدادات أمريكا االمربيالية ،بأحدث األسلحة واملعدات للطريان اإلسرائيلى ،فى وقف مؤشرات امليزان حنو صاحل وحدات صواريخ ومدافع م/ط للحائط العظيم ،وعلى الرغم من ظهور صاروخ الشرايك ،وهو صاروخ جو /أرض تستخدمه الطائرات املعادية من األصناف األمريكية الصنع ،حيث يتجه على ً متهيدا مسار شعاع الرادارات ووحدات الصواريخ لكى يعطبها لقصفها ودكها وقربها إن أمكن ،وبالرغم من ظهور القنابل التلفزيونية األمريكية الصنع ،وهى قنابل جو /أرض وبداية استخدام الطائرات اإلسرائيلية هلا ،إال أنها مل تغري من اجتاهات األمور واملوازين . 127
فميكانزم الصعود للمنحنى املصرى قد بدأ ،والعجلة دارت وبدأت تتجه ملزيد من السرعة .فخط الدفاع اجلوى املصرى بوحداته املصرية والسوفيتية من صواريخ سام ، 2سام ، 3أصبح أكثر ً ً فتكا ،فقد أصبحت معدالت استهالك الصواريخ مراسا وأشد للهدف الواحد تقل وتأخذ اجتاهها حنو املعدالت النموذجية ، ً وبدا تعاون الوحدات وتداخل مهام الدفاع عن بعضها ً ظاهرا أمرا ً وملموسا . ولن أنس يوم تقدمت مع طاقم وحدة من وحدات جمموعة االحتياطى االسرتاتيجى للقيادة إىل موقع جد متقدم ،ال يبعد عن مياه قناة السويس إال بعشرات األمتار ،ولكنه موقع مموه ً ً عاليا ،وقد كمنا فيه وسط يقظة وهدوء مل أحسها من متويها قبل فى ومن حوىل ،ولن أنسى أن انتظارنا مل يطل فى هذا الصباح، فما هى إال ساعتني وبضع الساعة منذ انبالج نور الصباح ،حتى رأينا الطائرات اإلسرائيلية مترق على ارتفاعات جد منخفضة صوب مواقع قواتنا وقد تصادف وجودى خارج مركز القيادة والتوجيه ،وشاهدت مع آخرين طائرات إسرائيل. وقد ميزنا طرازها وكانت طائرات سكاى هوك األمريكية الصنع ،وفى ملح البصر أطلق طاقم الوحدة ستة صواريخ على دفعتني ،ومتكنا من إسقاط هدفني ،واشتبكت فى ذات الوقت وحدتني سوفيتيني ،وأسقطنا أربع طائرات ،ومع انطالق صواريخ وحدتنا ،اندفعت محم النريان التى تنفثها الصواريخ من مؤخراتها إىل كميات هائلة من عشب األرض ،وشب حريق 128
هائل مروع ،ونزل املستشار السوفيتى ونزلت معه ونزل اجلنود ً جريا وراءنا ،ورحنا نطفأ النريان بقبضات أيدينا من والضباط تراب املوقع ،وبوقع أقدامنا حتى ال متتد إىل املعدات والصواريخ فتفجرها وتدمرها ،ولكى ال ينكشف سرت املوقع حتى نغادره بأسرع ما ميكن . إن وحدة العمل بني الضباط واجلنود صورت األمر لي فى حينها وكأن يد عمالق مدرب وجمرب قد امتدت ،وبلمسة حانية أخذت حترك أوتار قلوبنا لتعزف حلن الشجاعة واإلقدام ،لقد بدا للوهلة األوىل لبعض األفراد أنه من العبث أن نطفئ النار بأيدينا وبأرجلنا ،ولكن شجاعة الرجال وتصميمهم قد حاصر النار فى مهدها ،وأنقذنا املوقع وما هى إال دقائق حتى بدائنا التجهيز للتحرك ،وحتركنا وأدخلنا املعدات فى مكان امن ،وبسرعة وتواصل قام قائد التشكيل األعلى مع قائد الطاقم ،يرافقهما املستشار السوفيتى لكل منهما ومعى ،وباختيار موقع جديد ومع حلول املساء -دخلنا املوقع اجلديد ،وقبل أن ينتصف الليلكنا قد أنهينا التجهيزات وأصبحنا فى وضع االشتباك ،وقرت جفوننا بالنوم نصف ليلة كاملة ،ومع ساعات الصباح األوىل دق تليفون القائد ليقرر منحنا أنواط الشجاعة للضباط من الدرجة األوىل وللجنود والصف من الدرجة الثانية ،ويزف إلينا أن الشيك النقدى ملكافأة إسقاط سكاى هوك جاهز. وال أنسى كم كانت أفراحنا ونكاتنا تكاد تصل إىل العنان ،ولن أنسى توسالت جندى زميل لنا ومناجاته هلل ، 129
وكان أحد اثنني يشكالن طاقم ما يسمى بكابينة املوت ، وهو راسب إعدادية األزهر ،حيث كان يدعو اهلل أن ميهله من املوت ملدة مخسة أيام فقط يتمكن فيها من إرسال ما جتمع لديه من نقود ألوالده الصغار فى قريته بالصعيد ،وال أنسى تعليقاتنا عليه ،حيث كان كل مخسة أيام يطلب جتديدها خبمسة أيام أخرى ،حيث كنا نداعبه ونناديه « :أهال بالرجل اللى عمره مخسة أيام !» . وهكذا محلت عوامل الدعم والتأمني للحائط العظيم مظاهر التثبت والصعود لقوات الصواريخ املضادة للطائرات ،وارتفاع معنويات أطقمها ،واكتساب ثقتها فى أنفسها ،وفى مستوى ً أيضا على جذر واضح بدا على أدائها القتاىل ،وانعكس هذا طريان إسرائيل ،فمع بداية األسبوع الثالث من حلظة الزحف العظيم ،قلت غارات الطائرات املعادية ،وبدأ اهلدوء يرتسم على حلبة الصراع ،ولكن ما هى إال فرتة قليلة حتى ظهر أن هذا ً هدوءا اللتقاط األنفاس للطريان املعادى ،إنه هدوء اهلدوء كان ما قبل العاصفة .
130
يوم العيد ً وإعماال لسياسة استجمع سالح الطريان املعادى كل قواه ، القبضة احلديدية ،حشد كل ما مجعه وأراد أن يكرر مأساة األسبوع األخري من ديسمرب سنة ، 1969ففى يوم 18يوليو سنة ، 1970ألقى بكل ثقله فى املعركة حيث أراد أن حيول هذا إىل يوم فاصل فى تاريخ الصراع ،لقد توهم طريان العدو اإلسرئيلى أن جيعل من هذا اليوم ،اليوم األخري حلياة احلائط العظيم ، ً حقا كان ً ولكنه ً فاصال ،ولكن مل تسري نتائجه فى اجتاه يوما من خطط هلا ،وحتول اليوم إىل يوم العيد للدفاع اجلوى املصرى . ففى 18يوليو سنة ، 1970قام الطريان اإلسرائيلى باهلجوم على خط صواريخ الدفاع اجلوى على جبهة قناة السويس ، مبجموعة من اهلجمات والغارات املكثفة ،لقد شاركت فى هجوم هذا اليوم حواىل ثلثى الطاقة العامة للطريان اإلسرائيلى، فاشرتكت فى هذه اهلجمات ما يقرب من 250طائرة فى طلعتني متواصلتني ،لقد كانت الطلعة الواحدة تضم أكثر من 120طائرة إسرائيلية معادية من املقاتالت والقاذفات ، واملقاتالت القاذفات ،وأغارت هذه األعداد الكبرية من الطائرات 131
فى آن واحد ،وخبطة متكاملة األدوار ،فكانت هناك طائرات تطري على ارتفاعات شاهقة حيث يصل ارتفاعها إىل 24كيلو ً نافثة إياه خلفها لكى مرت ،وتقوم بإطالق خط العادم األبيض ، ترى بالعني اجملردة ،ناهيك عن التقاط أجهزة الرادارات وأجهزة توجيه الصواريخ هلا ،وهذه األهداف كانت تأمل فى شد االنتباه إليها ،واالستفادة من ارتفاعاتها الشاهقة ،وقدرتها على املناورة باملسافة وبعد خط مسقطها عن مركز احملطة ( كرب بارامرت اهلدف ) وضيق عمق منطقة التدمري ،وذلك لتستجلب الصواريخ عليها من ناحية ،ولتحدد مواقع هذه الصواريخ بدقة من ناحية ثانية مع انطالق الصواريخ ،خاصة أن مواقع الصواريخ كانت من الكثافة حبيث ال ميكن التمييز بني احلقيقى واهليكلى ً ً رفيعا بفضل مستوى منها ،وأن فنون اإلخفاء والتمويه قد بلغت التدريب املتواىل وخربة جتارب الكمائن ،هذا غري اخلربة النظرية للمستشارين السوفيت واإلشراف الفنى الدائم على هذه العمليات ومتابعتها . وفى ذات الوقت كانت تسبح عدة موجات من الطريان املعادى حتت هذه الطائرات املرتفعة على ارتفاع جد منخفض ،حبيث ال يسهل ألجهزة الرادار وأجهزة التوجيه الصاروخى التقاطها ،وتقوم هذه الطائرات -أو بتعبري أدق -كان من املفرتض على هذه املوجات أن تغطى مهام الطائرات املرتفعة وحتصد من ورائها ،فتمر املوجة األوىل لتعطب احملطة التى حددت موقعها ،تتلوها -وعلى الفور -طائرات قاذفة تقوم بدك املوقع ،وإن مسحت هلا الظروف بالقيام باملهمتني ً معا كان هلا ذلك وكان هذا أفضل ،لقد 132
كان هذا اهلجوم الشرس لطريان العدو حيدث فى ظل عملية كبرية وواسعة ومعقدة ،من بث كل حيل التشويش والتداخل الرادارى ،فلقد حضرت إسرائيل هلذه املعركة حبشد كمية هائلة من معدات التشويش والتداخل الرادارى .فأخذت ترسل كل صنوف وأنواع التداخل املتصورة واحملتملة استخدامها فى وقت واحد . إن قوة اهلجمة اإلسرائيلية فى يوم الثامن عشرة من يوليو سنة - 1970وما أحاطتها من عوامل مساعدة -قد بينت أقصى ما متلكه إسرائيل ،ومن وراءها الواليات املتحدة األمريكية فى ترسانتهما العسكرية ،ومع ذلك ظهر التحدى على اجلانب اآلخر ،جبهة أصحاب احلق وحلفاء احلق ،املصريون والسوفيت ،فبوسائل بدائية بسيطة أبطل مفعول أحدث مستوى للتكنولوجيا األمريكية ،فكان السوفيت قد توصلوا لتعديل بسيط ،وهو أن كل حمطة صواريخ من سام 2تزود بنظامني اللتقاط األهداف األول واألساسى هو للنظام الرادارى ،والثانى هو العني اجملردة بواسطة تلسكوب مكرب ومقرب يكشف ملدى ثالثني كيلو مرت أمامه ،وكان هذا التعديل األخري رغم بدائيته يفقد وسائل التشويش الرادارى والتداخل أى أثر فعال هلا . وكان يقوم على تنفيذ هذه الفكرة جمرد جنديني حيتالن كابينة عالية عليها مركبة على أعلى اهلوائيات -وهى ما ً مسبقا بالتسمية الفكاهية هلا بأنها ( كابينة نوهت عنها املوت ) ،ومن ناحية أخرى كانت بعض احملطات تضم وحدات 133
حديثة هلا القدرة على التقليل أو إلغاء آثار التداخل والتشويش الرادارى ،وهذه هى الصواريخ من طراز الديسنا ،كما أن صواريخ البتشيورا كانت تتمتع مبثل هذه اخلصائص . إن هذه النظم مكنت وحدات الصواريخ من تكشف أبعاد اهلجمة اإلسرائيلية والظروف التى تتم فيها .فى الوقت الذى تكشفت هذه األبعاد ملراكز القيادة امليدانية ،وأعطت أوامرها بإطالق كثيف للصواريخ من خالل وحدات املقلد ،وهى وحدات تطلق نفس نبضات اإلطالق احلقيقى دون خروج أو انطالق فعلى ألى صاروخ ،مما جعل أسراب الطائرات اإلسرائيلية توىل الفرار ،وبدت كأنه حركتها خبط عشواء .لقد أسفرت كل هجمات هذا اليوم العنيف ،ونتائج استخدم إسرائيل لقبضتها احلديدية ،عن قصف جزئى لوحدة من صواريخ سام 3السوفيتية الصنع والتشغيل ،فبعد أن اشتبكت هذه الوحدات مع الطريان اإلسرائيلى وأسقطت منه طائرة تفجرت فى اجلو ،وأخرى أصيبت وهوت فى اجلانب اآلخر من القناة ،أغارت موجة من الطريان املعادى على طاقم تغيري منصة إطالق فدمرته ،واستشهد فى هذه الواقعة ثـمانية من شباب االحتاد السوفيتى ،ستة جنود ومالزمني . كذلك أصيبت إحدى الوحدات من صواريخ سام 2ذات طاقم ً أيضا ،وجنا معظم طاقمها ،ودمرت هذه مصرى ،إصابة جزئية الوحدة ،طائرة إسرائيلية وفجرتها فى اجلو . وهكذا كانت نتيجة هذا اهلجوم :لقد حتطمت موجات الطريان اإلسرائيلى املعادى على حائط الصواريخ املصرى ،ومنذ 134
هذا اليوم اتضح أن احلائط العظيم وجد ليبقى ،ولن تقدر عليه إسرائيل بعد اآلن .وال غرو إذن ،إذ أعترب يوم الثامن عشر من يوليو يوم العيد للدفاع اجلوى املصرى . ً مشهودا .وكان ً يوما لقد كان 18يوليو سنة 1970يوما حيمل ىل ذكريات خاصة ،فكما ولدت من جديد فى اليوم األول من يوليو ،ولدت من جديد فى هذا اليوم مرتني .ففى ً موجودا فى وحدة قتالية من وحدات صواريخ هذا اليوم كنت الديفينا ،وكانت هذه الوحدة قد اشتبكت من موقعها هذا منذ يوم أو اثنني ،وأتت موجات الطريان املعادية ،وهى ترصد أن بهذا ً ً رويدا موقعا لوحدة صواريخ ،وأخذت الطائرات تقرتب منا املكان ً ً رويدا وشاشات ومبينات الوحدات ال تكاد حتدد شيئا فالتداخل والتشويش على أشده ،وبالغات املراقبة بالنظر ،واملتابعة ً أزيزا جملموعات كثيفة من الطائرات ، التلسكوبية ترصد ً وخطوطا بيضاء تعلو فى السماء ألهداف على ارتفاعات شاهقة، ً سويا أن باألمر وتشاور القائد مع املستشار السوفيتى وأدركا غموض ،والبد أن تكون هذه األهداف املرئية املرتفعة جمرد خدعة ،وأن هذا األزيز يعنى أن هناك موجات من الطريان املنخفض مرتبصة بنا ،والوحدة فى موقع أكثر من ممتاز بالنسبة لظروف اإلخفاء والتمويه ،وبالتاىل ال جيب أن تستفز . وفى برهة استطعنا بوحدات تقليل التداخل -ونتيجة للخربة والكفاءة العالية لطاقم التوجيه -التمكن من حتديد األهداف ، ولكن كان قد استقر الرأى على عدم الضرب .ووجدنا األهداف 135
تعرب احلد األدنى لدائرة تدمري احملطة ،أى أنها قاب قوسني أو أدنى لركوبنا ،وأنها فى هذه الدائرة ،ال ميكن لنا أن نشتبك معها . هنا اقرتح املستشار السوفيتى أن نطلق النبضة املصاحبة لالنطالق الصاروخى من جهاز املقلد ،ومبجرد إطالقها انربت ً ً هيكليا يبعد عنا بعدة مئات من موقعا غارة إسرائيلية تدك األمتار وفى مكان ظاهر وولت هاربة ،واملوجات األخرى فرت هرباً عندئذ تنفسنا الصعداء ،وأدركت عندها أن القرار ال كذلك . ٍ قرارا جملرد الضرب فى ذاته ،ولكنه يكون ً يكون ً قرارا أيضاً، ً ً أحيانا . وضروريا باحلساب والرتوى وأبلغنا أمرنا للقيادة ،وجاءتها بالغات مشابهة ،وعممت هذه اخلربة على كل الوحدات ،وفى الوقت نفسه جاءنا قرار باالستعداد للتحرك وتغيري املكان .وخرج الستكشاف املوقع اجلديد ثالثة من املستشارين السوفيت واثنان من الضباط ً مجيعا ،وما إن املصريني واحد منهما قائد الوحدة -وصاحبتهم دخلنا املوقع احملدد الستكشافه ،وكنا قد اقرتبنا من مركزه بالعربات ،إال ووجدت كبري املستشارين السوفيت الذى يرافقنا ً ً الهثا “ ابعد وأبعد حمذرا ،وهو جيرى يصيح على بأعلى صوته من معك .فأنا أشم رائحة قنبلة زمنية على وشك االنفجار “ ، وسابقنا الرياح لدرجة أن العربات بدت على الرمال متعثرة فى سريها أكثر من أرجلنا التى بدت وكأنها أرجل مجال نافرة فى لسعة اهلجري بالصحراء ،وما إن ابتعدنا حبواىل ً 400 مرتا إال ودوت سلسلة من االنفجارات بلغت ستة انفجارات متتالية ،ووسط جو 136
ً وتعليقا على التوتر الشديد ،ومع عدم قدرتنا على كتم هلاثنا ، ً منظر الكبار فينا ً ومقاما وقد حتولوا إىل فرسان جاحمة ، سنا انفجرنا فى موجة ضحك وصخب عاىل امتدت بنا حتى أرهقتنا . وتركنا هذا املوقع ،وذهبنا إىل آخر ،حيث قررنا أنه سيكون ً ً جديدا لوحدتنا ،وهكذا مر نهار الثامن عشر من يوليو سنة مقرا ، 1970ليمنح احلائط العظيم شهادة باكتمال قوته وقواه، ولينقدنى من موت حمقق حام فوق رأسى مرتني ،وفى املساء ذهبت أنا ومن معى من املستشارين السوفيت إىل غرفة العمليات ً حزنا الرئيسية ،ودخلنا إىل حيث الطاقم السوفيتى فوجدت ً عميقا خييم على املكان . واقرتبت من قائد الطاقم ،وكان برتبة عقيد ( وهى الرتبة التى تسبق رتبة اجلنراالت مباشرة ) ،ووجدت الدموع ترتقرق فى ً مستغربا “ :ملاذا كل هذا احلزن ،وخسارتكم عينيه ،فسألته فى هذا اليوم ليست كبرية ؟ فاستشهاد ثـمانية أفراد من صغار الرتب ،ال يتحمل هذا االنقباض واحلزن العميق “ ،وذكرته بأننى شاهدت جمموعة من املستشارين السوفيت إبان غارات العمق وقد استشهد هلم ستة أفراد حيملون ً رتبا عالية وأظن معظمهم برتبة العقيد ،ومع ذلك مل أر أمارات احلزن التى أراها ً أيضا ،وقال “ :إن شهداء اليوم منا هم اآلن .فرد على باستغراب من الشباب ،الشباب السوفيتى الذين نبنى هلم اجملد واحلياة فى بالد أوطانهم فى االحتاد السوفيتى ،وقبل أن جينون ما نزرعه، حيصدهم املوت على أرض أوطان الغري .إن فاجعة فقد ستة من العقداء فى موقع حول القاهرة فى أوائل العام ال يضاهى فقد 137
جمموعة من الشباب “ ،أنهى كالمه وساد الصمت ،ولفنى شعور مل أتعود عليه من قبل . هل ً حقا تتحدد قيمة اإلنسان فى ذاته ومبستقبله ،أكثر من قيمته برتبته أو ماضيه ؟ ؛ وتذكرت على الفور كم حيزن البسطاء من أهلى وشعبى على فقد شاب أكثر من حزنهم على فقد شيخ مهيب! .ورحت أردد بصوت خفيض وكأننى أريد أن أثبت هذا الدرس فى قرارة نفسى ،إنه النضج االجتماعى والتفاؤل باحلياة هو الذى يرى فى الشباب أصحاب الغد واملستقبل ،وعليه فإنهم أحق باحلاضر واحلياة من غريهم . وهكذا انقضى يوم الثامن عشر من يوليو سنة . 1970لقد كان يوم اهلروب الكبري للطائرات املعادية ،يوم فشل الطريان اإلسرائيلى فى استعادة املبادرة التى بدأت تتسرب من بني يديه، يوم ارتطام رأس القوة اإلسرائيلى حبائط الصواريخ املصرية ، يوم عيد الدفاع اجلوى املصرى ،يوم جيسد عظمة حلف معاداة االمربيالية واالستعمار ،يوم اختلطت فيه الدماء املصرية بالدماء السوفيتية على أرض وطننا احلبيب مصر ،لتسطر نشيد الصداقة اخلالدة ،الذى سرتتفع أحلانه ،حتى ولو كره الكارهون ،وجنح املغرضون فى خفوت صوتها حلني . يوم راح الطريان اإلسرائيلى بعده يلعق جراحه ،وال يقوى ً نادرا ،يوم اهلزمية الكاملة على االقرتاب من قناة السويس إال لتصرحيات ديان وباقى قادة املؤسسة العسكرية اإلسرائيلية، 138
فعلى الرغم من قوهلم بأنهم لن يسمحوا بدخول صاروخ واحد مضاد للطائرات إىل جبهة قناة السويس ،حتول هذا الصاروخ ً ً عظيما من وحدات الصواريخ . حائطا ليصري ً واقعا يدحض ما يقوله دايان -و قد يقول :أصبح هذا احلائط ً واثقا مما يقول “ -اللى يفوت الزم ميوت “ ،يوم بدا فيه كان السالح األمريكى املتطور ،وبدت فيه التكنولوجيا األمريكية التى حيلو للبعض أن يطنطن هلابدت كالقزم أمام إرادة احلق، وعمل العاملني ،وجهد الشعب ،وجهد حلفائه فى املصلحة واملصري ،مصلحة معاداة االمربيالية والصهيونية ،ومصري العامل ، ً ً متطهرا من الرأمسالية واالستعمار . اشرتاكيا وقد غدا يوم برزت فيه حقائق العامل واضحة ،فالتنظيم القتاىل اجليد ووضع التشكيالت ،وتنظيم وحداتها فى نظام يوضح املهام وحيددها ،والتنسيق القتاىل والتعاون بني هذه الوحدات، والعمل النشط والدءوب فى إخضاع اخلصائص الفنية والتكتيكية لألسلحة ملقتضيات الواقع واحلال ،وسد ثغرات أى سالح بإجيابيات أخرى ،كأن حتيط وحدات الصواريخ املهيأة لالشتباكات العالية واملرتفعة وحدات مدفعية وصواريخ خفيفة لتأمني االشتباك مع األهداف املنخفضة ،كذلك فإن إدارة العمليات إدارة سليمة تقوم على مبادئ خلق وابتداع األشكال القتالية التى تؤدى للحصول على أحسن النتائج ، وحشد وتنسيق كافة اجملهودات املعاونة ،كمجهودات أسلحة املهندسني العسكريني ،واإلشارة ،والشرطة العسكرية ، 139
ووحدات املخابرات واالستطالع احلربى ،ثم تنفيذ اخلطة فى إطار من املرونة ،والقدرة على دفع أوتأخري هذا املوقع أو ذلك وإحداث املناورة ،واستغالل إمكاناتها أحسن استغالل للوصول إىل أعلى معدالت ونتائج ثم متابعه كل هذه العناصر بروح التحدى واإلصرار ،إن كل هذه املبادئ ساعدت على جتسيد حقائق العلوم القتالية ،وأظهرت كيف استفادت منها قيادة عمليات الدفاع اجلوى العامة فى مصر آنذاك . إن درس هذه األيام واضح وحمدد فالقتال علم وعمل ،خربة وجهد ،بشر وسالح ،اعتماد على الذات ومعاونة احللفاء . فكر وتنظيم ،لقد علمتنى خربة وجتارب هذه األيام أن منازلة العدو ومالقاته ،ال تقوم على التمائم والصلوات ،وال تقوم على الشعارات والصيحات ،فاحلرب احلديثة عمل رصني ،وفكر موزون ،وخربة جتارب ،وجهد متواصل ،ووضوح للهدف واملهام وتلك كانت دروس بناء احلائط العظيم ،أو على وجه الدقة دروس ما مت تأمينه من بناء وجمهودات ساعدت فى دعم حائط الصواريخ .ولكن ما مت بناؤه كان خطوة على الطريق ،فمازال للمشوار بقية ،وما زالت للحائط لبنات وصفوف جيب أن تضاف إليه . ً مستهدفا فى ذاته ،ولكن كان إن حائط الصواريخ مل يك الغرض منه تأمني املداخل الشرقية ملصر ،وسدها أمام عبث وعربدة الطريان اإلسرائيلى ،وتأمني احلماية الالزمة ،والغطاء 140
اجلوى الضرورى للوحدات والتشكيالت الربية من قوات اجليشني امليدانيني الثانى والثالث . ثم كان اهلدف ومازال ،تأمني عبور القوات إىل الضفة األخرى من القناة ،حيث بداية حرب حترير سيناء ،واستعادتها حرة خالصة لباقى أجزاء وطنها األم ،مصر احلبيبة . إن اإلعداد هلذه اخلطوة ،كان يلزمه إعداد مكثف ملكامن القوة ،واستنفارها يوم احلسم ،يوم يعود احلق إىل صاحبه ،وتعلو احلكمة القائلة “ إن ما أخذ بالقوة ،ال يسرتد بغري القوة “ .
141
وسـكنت املبادرة فى جانب مصر انقضى يوم 18يوليو سنة ، 1970وانقضت معه شراسة وهمجية الطريان اإلسرائيلى املعادى فقلت غاراته على املواقع املصرية بصورة ملحوظة ،وحتولت من عملية اكتساب صلف مغرور ،ونزهات يومية ال تنقطع ،تصب نار حقدها األسود على مواقع القوات املصرية ،إىل عمليات سطو متقطعة ،وجس نبض متباعد ملدى ما بلغته قوات الدفاع اجلوى املصرى من كفاءة ً واضحا أن طريان إسرائيل خيشى تعريض وكثافة .وأصبح أصابعه العشرة لعمليات قضم حائط الصواريخ املصرى ،حتى ال يتحول نزيفه إىل تدفق متصل يؤدى إىل االنهيار . لقد انعكست آثار هذه احلالة ،على التشكيالت األرضية القتالية املصرية ،وبدأت هى األخرى تصب جام ثأرها على املواقع اإلسرائيلية ،ونشطت مدفعية امليدان املصرى فى تلقني فلول قوات العدو الويل والثبور .وهكذا عادت املبادرة إىل أيدى ً مغاليا إذا قلت :هكذا سكنت القوات املصرية بل ال أكون املبادرة على اجلانب املصرى . ولكن هل يعنى هذا أن مهام القتال قد حتققت ؟ وأن هذه احلرب قد انتهت ؟ 143
إن اإلجابة على هذا السؤال ،تتلون مبدى االعتقاد فى حركية أو سكونية األشياء ،فمن يستقيم فكره ،ويفهم احلياة والواقع كما يسري ،ويعلم أن احلركة هى أساس احلياة ،يستطيع أن ً حمتدما ،واملهام مازالت كثرية ،ونهاية جييب بأن القتال مازال ً عمليا إال بداية أخرى ،والوصول إىل اهلدف القريب مرحلة ال تعنى ما هو إال نقطة وثوب للوصول إىل اهلدف البعيد . ً حقا ،بنى احلائط العظيم ،ولكن مواقعه جيب أن تزحف إىل األمام أكثر ،فهناك مسافة مرعبة تقدر ببضع كيلو مرتات، ً حتسبا ألى هجمات معادية بنريان مدافع امليدان أو مرتوكة القوات األرضية اإلسرائيلية .والبد من قطع هذه املسافة ،ونصب قواعد صواريخ الدفاع اجلوى على حافة القناة ،لتأمني عملية عبور القوات ،وبناء رءوس جسور الكبارى ،والتقدم بضع كيلو مرتات ،لتأمني عملية الزحف حتى حدودنا ،وإرجاع سيناء كلها إىل أحضان أمها . وإذا كان قد مت التغاضى عن شرط بناء الدشم اخلرسانية ً مؤقتا ،إلمتام عملية الزحف حنو القناة ،فقد وضحت جتربة األيام املاضية ،وبالذات بعد انطالق عمليات الزحف ،أن هذا الشرط ً وعمال ً ً ً هاما لتأمني القوات ،وتقليل غاليا ، هدفا مازال ميثل فقدان األفراد واألطقم املدربة ،وتقليل خسائر املعدات واألسلحة املتقدمة من الصواريخ املضادة للطائرات .إن مقرتحات الضابط الذى حيمل رتبة الرائد للرئيس مجال عبد الناصر ،بالتأكيد مازالت ترن فى أذن الرئيس ،واملؤكد ً حقا أن كلنا فى إطار 144
الدفع اجلوى -وبالذات وحدات الصواريخ املضادة للطائرات - نذكر وعد الرئيس وننتظره ،فمآسى القتال ،وخسارة فقد ً ثـمنا حلرية مصر وتقدم قواتها األطقم والرجال ،وإن كانت ً صورا مروعة ملا حدث مازالت ترتسم فى خميلة كل ،إال أن فرد فينا ،فلن أنسى خفة روح هذا الرائد املسيحى املصرى وهو حيكى لنا كيف كان عرسه منذ أيام ،وكيف أن حركة الكمائن والتأهب للزحف قد شدته من أحضان عروسته ،ليقود ً متقدما بها صوب القناة ،وأن وحشة أحضان عروسته له وحدته ً سوف يرتمجها أهدافا دقيقة يصيب بها من يتسببون فى إقالقه وإقالق بنى شعبه ،وكيف أن هذا الشاب الطويل األمسر ذو األصل الصعيدى أستشهد هو ومعظم الطاقم القتاىل الذى كان يعمل حتت قيادته ،عندما دكت طائرات العدو اإلسرائيلى موقعه بالقنابل زنة األلف رطل ،وأعتقد حبساب الفرتة بني كالم الشهيد ويوم استشهاده أنه مل يتمكن من مالقاة أحضان عروسته إال مرة واحدة ،ثم بعد ذلك تزوج أرض مصر هو ورفاقه وإىل األبد ،ومل يستطع أحد حتى اآلن أن ينتزعه من جوف معدتها فى جوف موقعه . ومن ناحية أخرى ،فالوحدات التى ذهبت للدراسة والتدريب على وحدات صواريخ البتشيورا قاربت على العودة ،والبد هلا أن تستبدل القوات السوفيتية التى شاركت بالقتال والتضحية والصمود ،وآن هلا أن تدع اهلم ألصحابه ،طاملا قويت شوكتهم، وأصبحوا فى وضع مهيأ لالعتماد على النفس .فاملعركة مصرية باألساس ،وجيب أن يتحمل أبناء مصر أمحاهلا األساسية. 145
لكل هذه االعتبارات مازال االستمرار هو احلل ،واملعركة مل تنته بعد . ً حقا لقد انتقلت املبادرة إىل اجلانب املصرى .ولن يؤمن وجودها واستقرارها إال املزيد من اجلهد والبذل والتضحية ،وهكذا ً نشاطا وحركة ،فرغم قلة غارات اشتعلت جبهة قناة السويس طريان العدو ،إال أن عمليات االستنزاف أخذت فى التصاعد، وأخذ االجتاه حنو بناء الدشم اخلرسانية يدخل -وألول مرة - مرحلة التقدم الفعلى ،باألخص فى الدوائر التى تقع حنو الداخل أكثر ،فها هو جهد العمال واملهندسني والفنيني يأتى بنتائجه ، ومظالت األمان تظلهم ،ودوافع وأهداف عملهم تشعلهم محاسة ً واتقادا فى إجناز ما يقدر هلم بسرعة ومتانة .وعليه فقد عادت حلرب االستنزاف قوتها ،وكما قلت لقد سكنت املبادرة القتالية على اجلانب املصرى .
مبادرة روجرز : فى ميدان آخر ،خارج مسرح العمليات -وإن كان يرتبط به كانت األمور تدور بسرعة ونشاط هى األخرى ،وألن امليداننيمرتبطان بعضهما ببعض ،حيث تتأكد القاعدة الدراسية اآلتية : « إن احلرب والدبلوماسية هما وسيلتان لتنفيذ وحتقيق أهداف السياسة اخلارجية للبلد الواحد» ،وألن النشاط فى احلرب يتبعه نشاط فى الدبلوماسية ،والدبلوماسية النشطة ختدم العمل 146
العسكرى ،وألن احلرب والدبلوماسية ً معا يتحركان مبقدار قدرتهما على حتريك ميزان القوى العسكرية فى أى صراع لصاحل أحد األطراف ،كانت عجلة التحركات الدبلوماسية قد بدأت تدور وتسرع مع دوران عجلة العمليات العسكرية ، ً ً رويدا فى اجتاه الصاحل العام ملصر . رويدا ودخوهلا ففى 24يونيو سنة ، 1970قدم وليام روجوز ( وزير خارجية الواليات املتحدة األمريكية ) ،مبادرته املعروفة بامسه للبدء فى حل الصراع .حيث عرضها على هيئة خطاب موجه منه إىل السيد حممود رياض ( وزير اخلارجية املصرية ) آنذاك .يدعو فيه مصر وإسرائيل إىل االلتزام بوقف إطالق النار فرتة حمددة ،يتم خالهلا التحضري لتنفيذ قرار جملس األمن رقم . 242 وغنى عن الذكر أن تقديم هذه املبادرة فى 24يونيو سنة ،1970مل يشكل أى قيد على بدء خطة الزحف العظيم بالصواريخ ،والتى بدأت ليلة 29يونيو سنة ، 1970أى بعد ً مسبقا ،فقد تقديم روجرز ملبادرته خبمسة أيام ،وكما أشرت سافر الرئيس مجال عبد الناصر إىل موسكو مع بداية يوليو سنة ، 1970وكان ضمن مهام زيارته التشاور حول هذه املبادرة . لقد ترك الرئيس عبد الناصر نائبه أنور السادات ليقوم بأعمال الرئيس بالنيابة ،ومل يعلن عبد الناصر موقفه من قبول مبادرة روجرز أو رفضها ،وتوالت األيام على تقديم روجرز ملبادرته ، ً شيئا مل جيد ،وشهدت وسارت األمور فى ساحة القتال وكأن 147
اجلبهة املصرية بناء وتدعيم احلائط العظيم من صواريخ سام ،1 سام 2ذات األطقم السوفيتية . وضمن حسابات السادات لتدعيم موقعه ،قاس اجتاه األمور وأيقن على ضوء رؤيته هذه أن كل التحركات توحى برفض مبادرة روجرز ،وبالفعل -وفى اجتماع على مستوى عال -أعلن السادات رفضه ،بل رفض مصر هلذه املبادرة .وعلى الرغم من أن السادات مل يتمسك بهذا املسلك الثورى أو الرافض حتى ملدة ستة شهور ،حيث أنه قدم مبادرته املعروفة إلسرائيل فى 4فرباير سنة ، 1971بعد أن آلت إليه األمور ،بعد موت عبد الناصر فى 28سبتمرب سنة ، 1970إال أن السادات مل حيسب األمر إال مبنظور تثبيت موقعه على كراسى السلطة فحسب ،لقد حنى منحى الكثريين ممن يستعذبون اخللط بني التكتيك واالسرتاتيجية ،ويتصورون إنهاء الصراع بالضربة القاضية ، ويرون مواقع الرفض من السكون والثبات هى املواقع احلصنية ، دون أن يتعلموا أن السكون ال حيصن أحد . وأن اجلدية كل اجلدية تكمن فى تثبيت القدم ،وتهيئة األرض للقدم األخرى ،والسري فى االجتاه الصحيح باخلطى الثابتة املوزونة ،لو كان السادات من هؤالء ،لكان من السهل أن تنتحل له األعذار ،ولو مل يأخذ هذا املسلك الثورى احلاد ،ملا جرؤنا -وال جرؤ غرينا -على اإلشارة بأنه حترك بوحى دعم موقعه على كراسى السلطة ،ورب قائل أن األمر فى يوليو سنة 1970 ً تقديرا ملوقف رآه السادات ،وأن األمر فى 4فرباير 1971 كان ً كان تقديرا ملوقف آخر رآه . 148
وإن االختالف الذى يصل إىل حد التناقض بينهما اختالف طبيعى ،ورغم كل هذا فإن ما يعنينا أن الرئيس عبد الناصر مل يعلن موقفه من مبادرة روجرز ملدة تعدت األربعني ً يوما ،خاضت فيها القوات املصرية أخطر املعارك فى تارخيها احلديث ،فلقد مت بناء حائط الصواريخ ،ومت إجناز الضلع األساسى من أضالع نظام الدفاع اجلوى املصرى . وعاد مجال عبد الناصر من موسكو ،وعاد معه القائد العام للقوات املسلحة الفريق أول حممد فوزى .وكانت املبادرة قد سكنت على اجلانب املصرى ،واحلائط العظيم قد بنى وتدعم ، ً عودا . وعرب يوم 18يوليو وهو أكثر فتوة وأشد ورغم ذلك كانت تربز ثالث مهام قتالية رئيسية ،كان البد من تأمني الظروف إلجنازها ،وهذه ميكن حتديدها فيما يلى : - 1ضرورة إمتام بناء الدشم اخلراسانية ،لوقاية وتأمني أطقم وبطاريات صواريخ الدفاع اجلوى املصرى . - 2تهيئة األوضاع الستيعاب األطقم الكثرية واحلديثة التى ً فعليا تدرس فى االحتاد السوفيتى على صواريخ سام ، 3ووضعها فى جو االشتباكات امليدانية .والتى قاربت على الوصول . - 3ضرورة تقدم وحدات حائط الصواريخ لتخطى املسافة املرعية لتأمينها ضد عوامل القصف األرضى ،أو ضد مدفعية امليدان املعادية ،والتقدم حتى حافة القناة لتأمني عملية عبور القوات فى مرحلة تالية ،وتأمني رءوس اجلسور ،وتقدمها حتى 149
املسافة التى متهد القتحام منطقة املمرات داخل سيناء باعتبارها منطقة موانع طبيعية . وبالنظر إىل هذه املهام القتالية ،وإىل الظروف التى تتطلبها ميكن لنا أن حنكم على قبول أو رفض مبادرة روجرز ،ورغم أن األمر خيرج عن إطار هذه الذكريات وهذه السطور ،إال أن تتبع هذه املهام سيوضح إىل حد كبري عناصر هامة وكثرية جيب وضعها فى االعتبار عند تقييم قبول مبادرة روجرز .والتى متت املوافقة عليها من قبل الرئيس مجال عبد الناصر ،وسرت ً بدءا من ساعة الصفر ليوم الثامن من أغسطس سنة . 1970ومت مبوجبها قبول وقف إطالق النار ملدة ثالثة أشهر تنتهى مع نهاية يوم 7نوفمرب سنة . 1970
املهام الثالثة وتعقيداتها الفنية : إن من يتتبع حديث الذكريات الذى سطرته فى الصفحات السابقة ويتبع معى عملية بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى ،بعد أن فتحت بوابات مصر أمام الطريان املعادى ،سوف خيرج بنتيجة هامة وحمددة ،وهى تتلخص فى فكرة بسيطة أن كل عملية وجناح يفضى لعملية أخرى وجناح آخر بشرط وضوح اهلدف ،واإلصرار على استمرار املسرية وتواصلها ،وبشرط فهم كل عملية فى ضوء املعطيات والظروف التى حتيط بها . فعلى سبيل املثال ،حتدد منذ البداية ضرورة بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى ،تلعب فيه وحدات الصواريخ املضادة للطائرات واملوجهة الدور الرئيسى . 150
وما كان ميكن تنفيذ هذه املهمة بضربة واحدة ،فكان البد -فى البداية -من تأمني الدفاع اجلوى لألهداف احليوية واملراكز السكانية املأهولة ملنع ترويع املوطنني واحملافظة على ارتفاع معنويات الشعب ومواصلة قضيا اإلنتاج .وما كان ميكن لوحدات الدفاع اجلوى املصرية التى تبعثرت منذ األسبوع األخري من ديسمرب أن تفى بهذه املهمة ،فكان البد للجوء إىل القوات السوفيتية لالضطالع بتنفيذ هذه املهمة بتكامل دورى الطريان ووسائل الدفاع اجلوى مع بعضها . ً ضروريا على املستوى العسكرى لقد كفلت هذه املهمة شرطا احملض ،وهو تأمني منطقة ميكن فيها إعادة ترتيب وتنظيم وتدريب قوات صواريخ الدفاع اجلوى املصرية للتقدم حنو بناء حزام األمان حول الوطن املصرى . ورأينا أنه ما كان مبقدور وال بإمكان القوات السوفيتية ذاتها العاملة داخل مصر أن تقوم مبهمة ثابتة ،وهى مهمة تأمني دائرة أوسع متتد إىل محاية منطقة جبهة قناة السويس ،ألن الرتكيز على املهمة الثانية يعنى جمموعة من الرتتيبات قد تضر باملهمة األوىل .وهى أوىل ،والشك بالرعاية من الثانية ، فتحمل العسكريني للقصف وللعربدة املعادية أهون بكثري من احتمال املدنيني وطاقة البالد االقتصادية واإلنتاجية هلذا اهلول املخيف والدمار الكثيف . وإن تناثر دورية أو أخرى -حتى لو أخذ شكل االنتظام من الطائرات السوفيتية فوق منطقة اجلبهة -مل يك بالضرورة ألهداف 151
احلماية والتأمني ،فال شك أن املعارك حتتاج معلومات كثرية وتتعدد فيها األهداف واملهام ،ولكن مهمة احلماية مل تكن هى بالتأكيد املهمة األوىل فى منطقة قناة السويس . ولو تتبعنا الشريط لوجدنا أن اختيار الضلع الشماىل للبالد كان ميثل اخلط األسهل والذى يساير القدرات املتاحة لتنفيذ بناء نظام الدفاع اجلوى رغم أنه مل يك اخلط األهم ،ولكنه حظى ً اتساقا مع فن املمكن .ثم كان األمر بعد ذلك يتطلب باألولوية ً بناء الدشم اخلرسانية زحفا حنو خط جبهة قناة السويس لتأمني عملية بناء نظام الدفاع اجلوى املتكامل على هذا الضلع من أضالع املستطيل املصرى ،والذى ميثل خط الصدام األساسى مع ً مجيعا أنه رغم التضحيات اهلائلة العدو اإلسرائيلى ،واتضح لنا للبنائني املصريني مل يتمكن أحد من تنفيذ هذه املهمة . ً واعتمادا على السرية املطلقة فى اإلعداد والتحركات ، ً ً ً وراداريا، ظاهريا واعتمادا على اإلخفاء والتمويه اجليد للمواقع ً وتطويرا لقدرات السالح ،وإدخال عوامل جديدة تضاف إىل قوة سالح الصواريخ ،استغلت املناورة بالتحركات ،لتنفيذ ً واعتمادا على التدريب الشاق ،واملران عمليات الكمائن ، املتواتر على عمليات الفك والرتكيب والتحركات ،جنحت عمليات الكمائن .ومهدت األرض لبدء الزحف العظيم حنو خط قناة السويس . وألن احلائط العظيم قام وارتفع بالقرب من جبهة القناة ،وألن اتساع ثغراته أو تقويض بنيانه ميثل خسارة ال توصف ،تطورت 152
املهمة األوىل التساع دائرة األمان وغلق بوابات مصر التى فتحت فى ديسمرب املشئوم ،وعليه تقدمت بطاريات صواريخ سام 3 بأطقمها السوفيتية لدعم هذا النظام ولالضطالع باملشاركة فى كفالة جناح املهمة األساسية للدفاع اجلوى املصرى فى هذا الوقت . ً ً ً ملحوظا نوعيا تطورا وجاء يوم 18يوليو سنة ، 1970ليضيف على عملية بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى ،ولكنه على اجلانب اآلخر يشكل اإلطار النهائى ،واحلد األقصى لعملية البناء هذه فى ظل املعطيات والظروف القائمة ،فالزحف التبادىل الذى بدأ من حتت مظلة احلماية السوفيتية ملنطقة القاهرة ما كان ميكنه أن يتقدم خطوة واحدة دون تدخل معطيات جديدة ،وظروف أخرى . ورب سائل يقول :لقد أشرت فيما سبق من حكايتك أنك كنت فى موقع على حافة القناة هل يستقيم هذا املنطق مع ما تقول به اآلن ؟ واإلجابة بسيطة للغابة ،فتقدم وحدة من وحدات الصواريخ املضادة للطائرات ميكن أن يتم وسط معطيات الكمني ،أى يقوم على سرية التحرك وسرعته وعلى تشديد عمليات اإلخفاء ً ً وراداريا .وعلى أساس التغيري السريع للموقع شكليا والتمويه بعد االشتباك منه ..وهكذا -وإذا جاز توفري هذه الظروف ،وتأمني هذه الفروض ملوقع واحد أو اثنني -فال ميكن تأمينها خلط ممتد ً شيئا من الثبات الذى يستتبعه بعض ومتكامل ،يفرتض فيه الظهور واالنكشاف . 153
إن الشرط الضرورى لزحف هذه الوحدات وتقدمها حتى قرب حافة القناة ،كان ميكن فى شل فاعلية وسائل النريان األرضية وامليدانية للقوات اإلسرائيلية ،فالشك أن حصر الصراع بني الطريان املعادى ووسائل الدفاع اجلوى املصرية أسهل وأجدى ،من إدخال عناصر قوة أخرى للعدو ،وتعديل أطراف الصراع ليصري الطريان املعادى ومدفعية امليدان املعادية وباقى وسائل النريان األرضية ،وأعمال الكوماندز والتسلل والتخريب اإلسرائيلية فى مواجهة وسائل الدفاع اجلوى املصرى فقط ،خاصة أن مدفعية امليدان املصرية ووسائل النريان األرضية ال ميكن هلا تأمني مواقع وفعاال طول الوقت ً ً ً ً ً ونهارا . ليال مؤثرا تأمينا الصواريخ إن حتقيق شرط شل فاعلية وسائل النريان األرضية وامليدانية اإلسرائيلية ميكن حتقيقه بإحدى وسيلتني أو بهما ً معا ، إما وقف القتال ،وإما بناء الدشم اخلرسانية ،هذا مع استبعاد إمكانية القضاء املربم على هذه الوسائل املعادية للنريان . مما تقدم يتضح أن مهمة زحف وتقدم حائط الصواريخ حتى ً وقفا للنريان ،حتى تبنى الدشم حافة القناة كان يستلزم ً ً تأمينا كبريا يقلل من اخلسائر وحيصرها فى وتؤمن املواقع معدالت معقولة ومقبولة ،إذن فشرط املزيد من التقدم ،هو توقف مؤقت لتثبيت القدم ،وبنظرة فاحصة إىل األشياء ،وعودة إىل حديث الذكريات ،ورجاء ومناشدة كل من يهتم بأن يستعيد معلومات هذه الفرتة وميحصها ،نرى اآلتى : مع اقرتاب يوم الثامن من أغسطس سنة ، 1970وهو اليوم احملدد لقبول مبادرة روجرز وقبول إطالق النار ،جرت عملية حتضري 154
هامة وكبرية داخل وحدات الدفاع اجلوى مل تشهد هلا هذه القوات ً مثيال من قبل .وللوقوف على أبعاد عملية التحضريات هذه علينا أن نتصور املهمة ،ونتصور حجمها لنستطيع أن نقدر ونثمن ما مت إجنازه .فاملهمة كانت تتلخص فى ضرورة حتريك كل - أو معظم -وحدات نظام الدفاع اجلوى على القناة حنو األمام فى فرتة تنحصر بعد حلول مساء 7أغسطس وحتى نهاية هذا اليوم أى قبيل الثانية عشر ً ليال ،لقد كان يلزم هذه املهمة حشد أسطول كبري من املركبات وعربات النقل الثقيلة لتحريك هذه القواعد من مواقعها إىل مواقع أخرى . إن معدة واحدة كالونش -وهى عنصر أساسى فى عمليات الفك والرتكيب -كادت أن تسبب أزمة خطرية فى تلك الليلة، ً دائما أن يغطى الونش الواحد احتياجات فقد كان املعمول به أكثر من وحدة وأكثر من موقع فى توقيت وأماكن متقاربة، ً نظرا لضيق زمن هذه الليلة كان يلزم حشد كمية ولكن كبرية من األوناش ،مل تكن لدى قوات الدفاع اجلوى كلها ،بل ومل يك لدى القوات املسلحة كلها ،مما حتم ضرورة االستعانة بشركات القطاع العام ومؤسسات الدولة األخرى ،ومما شكل ً تبعا لذلك عملية ارتباك واسعة النطاق أثناء عمليات الفك والرتكيب ،حيث وجود عمال األوناش غري املدربني على مثل هذه األعمال ،مبا حتتاجه من قدرة عالية على املناورة واإلتقان فى حتريك هذه املعدات احلساسة والباهظة األثـمان . وما إن حل مساء يوم السابع من أغسطس سنة ، 1970وحتت ستار كثيف صبته مدفعية امليدان املصرية عرب قناة السويس، 155
على رأس املواقع اإلسرائيلية فى الضفة الشرقية من القناة ، تقدمت قوات الدفاع اجلوى املصرى لتزحف بوحداتها الصاروخية ً تقدما من حافة القناة . إىل موقع أكثر وفى سباق مع الزمن ،وبتحدى واضح ألى قصور فى املعدات ً وإعماال لكل جتارب ودروس األيام املاضية واألجهزة املساعدة ، فى عمليات الفك والتحرك والرتكيب ،جاءت ساعة الصفر ، ً ً فعليا فى تغريا وهى الدقيقة األخرية من يوم 7/8/1970لتسجل مواقع وترتيب وحدات الصواريخ املضادة للطائرات ضمن نظام الدفاع اجلوى املتكامل على خط قناة السويس ،لقد شهدت ً ً جديدا حائطا اللحظة األوىل من يوم 8/8/1970يوم وقف النار ، ً ً إحكاما وأشد متاسكا وأجدى تنتظم لبناته بطريقة أكثر ً نفعا وفاعلية ،لقد فتحت إسرائيل عيونها مع إشراقة 8/8/1970 لتفاجأ بهول ما رأت ،ولتضج بالشكوى والنواح تارة ،وبالكذب والبهتان تارة أخرى ،حيث تدعى بأن القوات املصرية حركت صوارخيها بعد قبول مبادرة روجرز . وبالرغم من بعد هذا االدعاء عن احلقيقة ،إال أن إسرائيل مل متلك إزاء املوقف اجلديد غري الشكوى والنواح ،فتعلمت وألول مرة أن تقدم عرائض االحتجاج تارة لسكرتري عام األمم املتحدة ،وتارة لوزير خارجية أمريكا .ومل تقدر أو تستطيع أن تقوم ً خاطئا وحمل شكاية ،رغم أنها عودتنا وعودت بتصحيح ما تراه ً اجلميع أنها القادرة دوما على فعل ما حيلو هلا ،طاملا تستطيع الفعل ،وطاملا مييل ميزان القوة فى اجتاهها . 156
وجاء يوم الثامن من أغسطس 1970ليطلق العنان للمهمة األوىل كى تنجز وتقوم .فبكل طاقات الفعل املختزن لدى عمال مصر ،وبروح الثأر لشهدائهم فى حماوالتهم املستمرة واملتكررة لبناء هذه الدشم اخلرسانية ،جرى العمل على قدم وساق لتنفيذ هذه املهمة األمل .وال أنسى املساعدات التى قدمتها أملانيا الدميقراطية فى تلك اآلونة ،حيث ساعدت فى جتهيز ألواح اخلرسانة املسلحة املقاومة للضغط واالنفجار مما يسر عمليات البناء ،وجعلها حتتاج لزمن قليل ال يقاس مبا كانت تأخذه ،لقد ً سلفا ال على اختصار الوقت فحسب ، ساعدت هذه األلواح املعدة بل على التقدم فى عمليات البناء على أساس الثقة وعدم اخلوف من القصف الغادر الذى يعصف باجملهودات الشاقة السابقة فى حلظة واحدة . إن ظروف وقف إطالق النار هيأت األجواء ،للتقدم بهذا العمل مبعدالت قياسية .ولن أنسى ما حييت أن الوحدات املصرية التى عادت بعد إمتام تدريباتها فى أوائل سبتمرب سنة 1970قد ً دمشا خرسانية جاهزة ومعدة ، متكنت من أن يدخل بعضها ومصممة ملقاومة انفجارات قنابل األلف رطل املشئومة . وهكذا ،فإن حلول الثامن من أغسطس ، 1970الذى محل بدء وقف إطالق النار ،مل حيمل وقف العمل من أجل إجناز املهام ً ً استعدادا عموما السابقة ،واستمر تطوير العمل العسكرى ليوم ال ريب فيه ،يوم االندفاع والعبور حنو حترير سيناء وإرجاعها إىل أحضان مصر األم . 157
فما إن تواردت األطقم الدارسة فى االحتاد السوفيتى ،إال ومت وضعها وتنظيمها ضمن النظام املتكامل للدفاع اجلوى ، وأخذت فرتة كافية للتدريبات امليدانية العملية ،ونقل اخلربة القتالية التى جرت إليها ،وقد مت حشد هذه القوات للعب ً دورا من اثنني ،األول :هو تكميل أى نقص فى هذا النظام وسد ثغراته، والثانى :هو حتقيق سياسة اإلحالل ملواقع األطقم السوفيتية املوجودة ضمن وحدات هذا النظام .ومت بهذا دخول القوات املصرية – وألول مرة -ميدان استخدام صاروخ البتشيورا املضاد للطائرات “ سام ، “ 3هذا الصاروخ الذى يتمتع خبصائص متعددة لالشتباك مع األهداف املنخفضة . إن الفرتة التى تلت بداية وقف إطالق النار منذ صباح الثامن تكثيفا ً ً حادا جملموعة من األعمال من أغسطس 1970شهدت القتالية واملهام الفنية ،ميكن عرض خطوطها العامة فيما يلى: – 1جرت عملية إحالل واستعواض أطقم بأخرى ومعدات بأخرى ،وذلك إلجراء أعمال العمرة واإلصالحات الطويلة والكبرية .خاصة بعد إجهاد املعدات وإجنازها ملعدالت تشغيل فاقت كل تصور دراسى أو عملى . إن أهمية هذه العملية ال ترتبط فقد بتجديد احملطات واملعدات ً أيضا بضرورة االهتمام بعد فرتة إنهاك فعلى ،ولكنها ترتبط باألطقم القتالية واألفراد ،فمن ناحية جيب إعطاؤهم بعض الراحة ،إثر جمهودات تعد بكل املعايري جمهودات خارقة ،ومن ناحية ثانية جيب إخضاعهم جملموعة من التدريبات والدورات 158
املدرسية هلضم ما قابلوه أثناء أعماهلم القتالية وامليدانية ، ً استعدادا جملهودات والستخالص الدروس والعرب لتعميمها حمتملة لن تقل ظروفها صعوبة وتعقد . ومن ناحية ثالثة أهمية املوائمة بني املعدات واملهام واألطقم على ضوء جتارب امليدان ذاتها . -2مت تعميق التدريبات واحلصص التعليمية على دروس جديدة وعوامل حديثة ظهرت فى امليدان ألول مرة ،كاستخدام إسرائيل لطائرات الفانتوم ،فكان جيب دراسة خصائصها وقدراتها الفعلية ،وأشكاهلا ،وسرعاتها ،وإمكاناتها فى املناورة إىل غري ذلك ،كذلك دخلت عملية التدريب على تالفى آثار الصاروخ شرايك الذى يتجه على الشعاع الرادارى حملطة الصواريخ مرحلة جديدة وعميقة .وهذه وحدها قصة تطول ،فلقد حضرت إىل مصر جمموعة من اخلرباء الفنيني الروس لتعميق خربة التعامل مع هذا الصاروخ ،وأخذت جتوب البالد ً ً ً ً وجنوبا لتلقني األطقم والوحدات الدراسية ومشاال وغربا شرقا ً ً وعمليا ، نظريا كيفية التعامل مع هذا النوع من الصواريخ ً ً ً يوميا ثابتا . واجبا وأصبح التدريب على هذا العمل كذلك كثفت عملية التدريب على االشتباك مع القنابل التلفزيونية ،وعلى التعامل مع صنوف وأنظمة التداخل والتشويش التى أقدم العدو اإلسرائيلى على استخدامها بكثافة وتنوع أثناء فرتة االشتباكات . 159
وإذا كان ما سبق يوضح أن 8/8/1970مل يعق عملية تنفيذ املهام واالستمرار فيها ،بل وتهيئته لظروف أحسن ،إال أن هذا اليوم مثل معنى آخر ،فلقد دخل يوم 7/8/1970التاريخ باعتباره يوم نهاية حرب االستنزاف ،وهكذا جاء صباح الثامن من أغسطس سنة 1970ليدخل زمن ما بعد انتهاء حرب االستنزاف ،وليحدد نهاية هذه احلرب التى بدأت فى نهاية سبتمرب سنة . 1968 إن القوات املصرية عندما أمتت اجتياز مرحلة الصمود فى نهاية سنة ، 1967ودخلت مرحلة الردع مع بداية ، 1968قد متكنت بامتالك املبادرة من شن حرب الستنزاف القوات اإلسرائيلية شرق قناة السويس .وذلك مع بداية الربع األخري لسنة . 1968إن هذه املبادرة -رغم أنها انتقلت إىل أيدى القوات اإلسرائيلية فى بعض الفرتات -إال أن سري العمليات القتالية ،وتطور حرب االستنزاف قد ً أخريا ،على الرغم مكن القوات املصرية من استعادة هذه املبادرة من دخول الطريان اإلسرائيلى ساحة املعركة ،بل واإللقاء بثقل الطريان املعادى كله فى املعركة . لقد متكنت القوات املسلحة املصرية ،على مدى ما يقرب من عامني فى الفرتة ما بني سبتمرب 1968إىل أغسطس ، 1970من أن تدير حرب استنزاف حقيقية إزاء القوات اإلسرائيلية .وكما كتب اللواء حسن البدرى فى دراسته اهلامة واجليدة عن حرب االستنزاف ،والتى نشرت فى عدد أكتوبر سنة 1978من جملة السياسة الدولية التى تصدر عن مؤسسة األهرام « ..من الواضح أن غاية النظرية العسكرية املصرية فى إدارة حرب االستنزاف 160
هو توريط إسرائيل فى حرب نشطة طويلة املدى ،تتضمن ً أشكاال متنوعة من الصراع املسلح ،تعلو فوق مستوى احلرب الباردة ،وتهبط عن مستوى احلرب الشاملة ً تبعا للفرص الساحنة والظروف السائدة فى املسرح » . ويستطرد ،يقول “:إن حرب االستنزاف هى أول حرب بني العرب وإسرائيل ،اضطرت فيها إسرائيل لتعبئة قواتها العامة ملدد طويلة ً نسبيا ،مما ترك آثاره السيئة على الناحية االقتصادية واملعنوية فى اجملتمع اإلسرائيلى على حنو مل يسبق له مثيل ،فلقد اضطرت إسرائيل إىل أن تعبئ ما يزيد على 20لواء من جيشها ، وهى نسبة تعبئة تزيد على 50%من إمجاىل وعاء التعبئة الربية اإلسرائيلية ،كما اضطرت إىل تعبئة كل سالحها اجلوى أى بنسبة 100%من وعاء التعبئة فيه ،هذا وقد خفضت إسرائيل التعبئة فى سنة 1971إىل من 15% -10من قواتها الربية ،كما هبوطا ً ً حادا . هبطت التعبئة فى القوات اجلوية لقد تسببت حرب االستنزاف ،وألول مرة فى تاريخ العسكرية اإلسرائيلية ،أن جتمد قواتها فى خنادق ثابتة ،فغريت بذلك من شكل و أسلوب التكتيك امليدانى اإلسرائيلى الذى اعتمد ً ً ً وتنفيذا . ختطيطا دائما على املرونة العالية وخفة احلركة بينما محلت نفس احلرب على املصرى الفرص احلقيقية للتدريب الواقعى ،واكتساب اخلربات القتالية من امليدان ، ً ً ملموسا ،وأفرزت الكوادر تعرفا والتعرف على العدو وأساليبه 161
العسكرية املصرية من القادة والضباط واجلنود الذين ميتلكون فرص مالقاة العدو ،واالستفادة العصرية من الوسائل واألساليب القتالية احلديثة “ . “ أما عن اخلسائر التى تكبدتها إسرائيل فى هذه احلرب ، فكما تقول اجمللة العسكرية للجيش اإلسرائيلى :أن القوات ً طيارا ،وأن اإلسرائيلية فقدت خالل حرب االستنزاف أربعني ً ً ً قتيال 3141 ،جرحيا وأسريا ، خسائر القوات الربية بلغت 827 وأما خسائر املعدات اإلسرائيلية فقد بلغت 27طائرة ومدمرة ، وسبعة زوارق وسفن إنزال ونقل 119 ،جمنزرة 72 ،دبابة 81 ، مدفع ميدان وهاون ،أما عن التكلفة االقتصادية التى ختص إسرائيل فى حرب االستنزاف فقد زاد العبءاالقتصادى على كل فرد فى إسرائيل بنحو ، 300%إذ بلغ متوسط ما حتمله كل فرد إسرئيلى 417دوالر خالل سنة 1970بينما كان هذا املتوسط 138دوالر فى سنة . “ 1966 ومع ذلك هناك تقديرات أخرى تبني زيادة حجم اخلسارة اإلسرائيلية ففى عدد 16نوفمرب 1970ذكرت جملة « أفيشن ويك » بأن خسائر إسرائيل بلغت 51طائرة منها 17طائرة دمرت ً تدمريا ً تاما 34 ،طائرة أصيبت “ (. )11 وعن التكلفة االقتصادية يورد اللواء حسن البدرى ما يلى : « أشار موسى ديان فى حماضرته التى ألقاها أمام كلية القادة أحمد حمروش :عبد الناصر لم يحاصر منظمة التحرير الفلسطينية – ( )11 القاهرة – األهرام -االقتصادى بتاريخ 7مارس . 1983 162
واألركان فى إسرائيل بتاريخ 17أغسطس ، 1972أن تكاليف اإلنفاق العسكرية اإلسرائيلى فى األراضى احملتلة منذ نهاية يونيو 1967وحتى مبادرة روجرز فى 8أغسطس 1970قد بلغت 1364مليون لرية إسرائيلية أى حواىل 320مليون دوالر أمريكى ،انفق أكثر من 60%منها ملواجهة آثار حرب االستنزاف. إن معدل اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى ارتفع سنة 1970مبعدل 81%عن سنة 1969مبا جتاوز معدل تزايد موارد إسرائيل املتاحة والتى مل تزد بني السنيتني إال مبقدار . »13,7% إن حرب االستنزاف محلت على اجلانب اآلخر وبالذات على ً تزايدا فى اجلبهة الشرقية « السورية الفلسطينية اللبنانية « النشاط العسكرى « فلقد مارست املقاومة الفلسطينية فى ً عددا من العمليات ،كان أبرزها فرتة حرب االستنزاف املصرية معركة الكرامة فى 21مارس سنة ، 1968وقامت بــ 4948 حادثة قتال مع العدو اإلسرائيلى منها 996داخل إسرائيل 3425 ، من األردن 346 ،من سوريا 181 ،من لبنان» (. )12 وهذه بعض من نتائج حرب االستنزاف ،كما جاءت فى ً غالبا تقديرات منحازة التقديرات اإلسرائيلية والغربية ،وهى وختفى احلقائق .وال تظهر منها إال ما يتماشى مع ما تريده ،ومما يذكر أن هذه احلرب قد وصلت إىل نهايتها الفعلية بقبول وقف إطالق النار نتيجة ملبادرة روجرز فى الثامن من أغسطس سنة . 1970 ( )12
اللواء الركن حسن البدرى – مرجع سابق . 163
وبالرغم من أن حلول هذا التاريخ ،مل يوقف عمليات االستعداد والتحضري لتطوير مواقف ومواقع القوات املسلحة املصرية ،ودعم حائط الصواريخ باتساع عدد وحداته وتعميق عمليات التدريب وهضم اخلربة والتجارب السابقة ،واستيعاب األطقم احلديثة املصرية التى عادت من دراستها فى االحتاد السوفيتى ،إال أن هناك جمموعة من العوامل األخرى متكنت من الواقع املصرى بصفة عامة ،وسطرت بالثامن من أغسطس 1970النهاية الفعلية حلرب االستنزاف املصرية ،التى أديرت ملدة عامني ضد قوات العدو احملتملة جلزء من أرض الوطن فى سيناء األسرية . ***
نهاية االستنزاف التالزم والسبب : ذكرنا فى الصفحات السابقة كيف طورت القوات املسلحة املصرية من أوضاعها ً بدءا من مرحلة الصمود عقب هزمية 1967 ً ً دخوال فى شن حرب الستنزاف العدو مرورا مبرحلة الردع ، ، إدارتها على ما يقرب من عامني .أضافت بها إىل قوتها الكثري ، وخرجت منها وهى مالكة لزمام املبادرة قادرة على توسيع مسرح العمليات الثابت ومواصلة االستعدادات حلرب التحرير الستعادة سيناء األسرية .ولن أنهى هذه الصفحات دون تتبع تطورات هذا اجلهد ،بصفة خاصة فى جمال بناء النظام املتكامل للدفاع اجلوى املصرى . ولكن حدث تالزم غريب بني قبول مبادرة روجرز ووقف إطالق النار املرتبط بها من جهة ،وبني النهاية الفعلية حلرب االستنزاف، 164
بل بينها وبني دخول العمليات فى مرحلة سكون امتدت حتى يوم اجتياح القوات املسلحة لكثري من املواقع ،وعبورها قناة السويس فى 6أكتوبر سنة . 1973وعلى الرغم من تواصل اجلهود وتطور القدرات الذى انعكس فى إدارة هذه احلرب الوطنية بكل االقتدار ،وبكل احلماسة والشجاعة واإلقدام ، وعلى الرغم من كل ما صاحب عملية العبور اجمليدة من آيات البطولة ونضج اخلربة ،وبروز رقى فنون القتال لدى أفرع القوات املسلحة املصرية مجيعها ،إال أن نتائج هذه احلرب الوطنية اجمليدة وحصادها جاء بأقل مما تعطيه بذورها ،واجلهد اخلارق الذى صاحب كل العمليات اخلاصة بها ً بدءا من البذر ورعاية اجلنني ،وانتها ًء باشتداد عودها وكرب سنابلها ،واألمل املقدر ملا حتمله من حمصول وفري . ففجأة فرض على عودها اليانع أن يوقف منوه ،وأن يتحدد جماله ،وال غرو إذن إذا كان احلصاد ال يتواصل مع عمليات البذر والرعاية هلذا النبت العظيم ،وهذه الشجرة الباسقة القوية، شجرة اجلهد واخلربة والتطور داخل القوات املسلحة املصرية . لقد محلت مالمح هذه الصورة فى تتابعها ،حتى اإلحنناء أمام قرب اجلندى اجملهول اإلسرائيلى الذى أذاق أبناء العروبة مدنييهم وعسكرييهم كل مرارة حقده األسود عليهم ،واجرتائه على ضرب مصاحلهم ،واغتصاب حقهم ً ً ً وبهتانا ،محلت وسحتا زورا البعض على االعتقاد والربط بني تالزم انتهاء االستنزاف وقبول مبادرة روجرز ،وبني ما آلت إليه احلالة املؤسفة التى أصبحنا فيها. 165
فهل ً حقا هذا التالزم هو تالزم بني سبب ونتيجة ؟ وهل طريق اخلطوة خطوة بدأ من هذه اخلطوة ؟ إننى ال أدعى منذ البداية أنه ميكن إتفاق اجلميع على نتيجة حول هذه القضية ،ولكن ما جيب توضيحه هى تلك العوامل التى أشرت إليها ،ومل أدخل فيها حتى اآلن .وتتبع أغوارها لدينا ولدى العدو لعلها تلقى أضواء تساعد كل من يريد أن يصل إىل احلقيقة إىل بغيته .فمع اشتداد وطأة حرب االستنزاف على قوات العدو ،وتطور عمليات عبور القوات املصرية لقناة السويس حتى وصلت إىل عبور كتيبة كاملة مبعداتها .ومع تصاعد قصف مدفعية امليدان املصرية ملواقع العدو على اجلبهة الشرقية لقناة السويس . وقبل إقدام إسرائيل على اإللقاء بقوة سالح طريانها فى املعركة ،صرحت جولدا مائري ( رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك ) فى 13نوفمرب سنة « 1969أنها ال ترى هناك فرصة للسالم ،مادام عبد الناصر فى احلكم» ( . )13وعادت جولدا مائري لتؤكد نفس هذه املعانى فى فرباير سنة ، 1970حيث قالت « :إن اهلدف السياسى االسرتاتيجى إلسرائيل هو إسقاط مجال عبد الناصر ،عسى أن ً استعدادا للتفاوض مع إسرائيل منه، يكون هناك من هو أكثر ً ()14 فالبد أن أى أنسان غريه سوف يكون خمتلفا عنه» . ويعلل عاموس بريملرت ( أستاذ العلوم السياسية اإلسرائيلى جبامعة هارفارد األمريكية ) هذا التطور فى اهلدف السياسى ( )13 ( )14 166
اللواء حسن البدرى -مرجع سابق . اللواء حسن البدرى -مرجع سابق .
االسرتاتيجى اإلسرائيلى فى دراسة له نشرتها صحيفة « معاريف اإلسرائيلية « آنذاك حتت عنوان « العدو كان ومازال ناصر» ، ً ً ً شامال للقوات املصرية ،فعرض جلميع سياسيا حتليال أورد فيه إمكانات التحرك املتاحة أمام مصر ،ابتدا ًء من احتمال عدم حماربة إسرائيل واحلفاظ على الوضع القائم -وهو ما استبعده ً فورا -وحتى احتمال تدمري إسرائيل كلية ..وتناول بالتحليل فرص مصر فى كسب تأييد ومساندة األصدقاء ،والضغط على األعداء فى كل من هذه االحتماالت ،وانتهى بريملرت فى حتليله إىل استنتاج أن هذه اإلمكانات املتاحة أمام مصر هى األكثر ً ً حجما وقدرة على التأثري فى املوقت ، تنوعا ،ومن ثم فهى األكرب من تلك التى ميتلكها أى من أطراف أزمة الشرق األوسط . وبالتاىل -وعلى حد تعبريه – يقول « :إن اإلمكانات املتاحة ملصر موجهة حنو جمهود مركز لتحقيق أعز القيم السياسية لدى عبد الناصر ،وهى ضرب إسرائيل « ،ويستطرد « :إن واجبنا املقدس اآلن هو تشجيع نظام حكم آخر فى مصر ،ولنجعل من هذا حمور اسرتاتيجيتنا العليا .فنخصص كل املفاوضات ،وكل سياساتنا جتاه الدول العربية واألجنبية ،وجتاه فلسطني واألمم املتحدة ،وكل ميزانيتنا العسكرية ،وكل جهودنا خللق صورة عنا ،وعن أعدائنا فى العامل ،كل ذلك جيب توجيهه من أجل زعزعة الثقة فى النظام املصرى ،بصفته النظام العربى الوحيد القادر على أن يهيئ لنفسه أحسن الفرص ملواجهتنا ، 167
علينا اآلن حتقيق ما مل حنققه عام ، 1967ألن ناصر هو الزعيم الوحيد املوثوق فيه لدى العرب والشرق والغرب على السواء» (. )15 وهكذا يتضح وضوح اهلدف االسرتاتيجى لقادة إسرائيل . وعلى الرغم من قبول مجال عبد الناصر ملبادرة روجرز وموافقته على وقف إطالق النار ملدة ثالثة أشهر تنتهى فى 7نوفمرب سنة . 1970 ً كثريا على هذه املبادرة فقـد قال: إال أن عبد الناصر مل يعول « إننى ال أعتقد أن هلذه املبادرة أى نصيب من النجاح وفرصتها ً عموما هى فى ذلك ال تتعدى نصف . )16( »%واألهم من األقوال األفعال ،فلقد استمر خط التواصل فى دعم وتطوير القوات املسلحة فى جمراه وفى سرعته الطبيعية . وفى منتصف سبتمرب ، 1970قام النظام األردنى بتدبري مذحبة رهيبة لقوات وأنظمة منظمة التحرير الفلسطينية ،املستقرة والكبرية هناك ،وأقدم على إحداث أكرب تصفية للشعب الفلسطينى متت على أيدى غري إسرائيلية حتى حينه . وحترك مجال عبد الناصر بفعل وضوح اسرتاتيجى حول طبيعة الصراع مع الصهيونية واالمربيالية ،ووضوح قوى األعداء لديه ،وقوى األصدقاء أى حتديد القوى املعاكسة ،وقوى احلق العربى ،ودعا زعماء العرب لعقد مؤمتر قمة عاجل لوقف املذحبة وخفض حدة التناقضات الثانوية ،كى ال تتحول إىل ( )15 ( )16 168
اللواء حسن البدرى مرجع سابق . أحمد حمروش :مرجع سابق .
تناقضات عدائية خترج اجلميع عن جادة الصواب فى حتديد العداء احلقيقى واملوضوعى لكل من االمربيالية والصهيونية، وجنح عبد الناصر فى مسعاه إىل حد ،وأوقف املذحبة ،وفى اليوم األخري ملؤمتر القمة الطارئ هذا ،رحل مجال عبد الناصر ،وعلى الرغم مما يشاع حول رحيله ،وعن قصة تروى عن إصابة عضلة قلبه بشلل بطئ ومتعمد من قبل أحد معاجليه ،وبالرغم من اختفاء مركز العناية الطبية املركزية واملنتقل من موكبه حلظة وقوعه فى األزمة ،وعلى الرغم من تصريح ألحد املسئولني فى البحرية األمريكية عن حدث سيهتز له العامل فى غضون الساعات القادمة ! ،ومل يك هناك من أحداث غري رحيل مجال عبد الناصر ،وعلى الرغم من كل ذلك ،فلقد رحل مجال عبد الناصر ،وجاء رحيله فى اجتاه رغبة أكيدة ،وتصرحيات مفضوحة للدوائر اإلسرائيلية واالمربيالية .وجاء رحيله قبل أن تنقضى فرتة وقف إطالق املقدرة بثالثة أشهر . وألن النظام الوطنى املصرى املعادى لالمربيالية وإسرائيل مل يك كله ،هذا الزعيم الوطنى البارز مجال عبد الناصر فحسب . ولكن هو مجاع عدة مؤسسات وطنية تربز على رأسها القوات املسلحة املصرية ،وألن القرار السياسى هو حمصلة حلركة وفاعلية القوى السياسية املتعددة داخل البلد احملدد . وألن احلركة الوطنية والدميقراطية للشعب املصرى كانت فى حالة مد عارم ،حتركه الرغبة واملصلحة فى كسر إسرائيل وحترير األرض املغتصبة ،وعربت عنه فى سلسلة من احللقات 169
واهلبات التلقائية واملنظمة ،كانت أبرزها انتفاضة 10 ،9 يونيو 1967العمالقة اجلبارة ،وأحداث العمال والطلبة فى فرباير ونوفمرب سنة ، 1968وجنازة الشهيد عبد املنعم رياض فى 10مارس ، 1969وهبة اجلماهري العريضة فى جنازة الزعيم الوطنى اخلالد مجال عبد الناصر فى أول أكتوبر سنة ، 1970ثم مظاهرات العمال والطلبة على امتداد أعوام .1973 ، 1972 ، 1971
وألن كل هذه عوامل فاعلة ،استمرت معركة تطوير القوات املسلحة ،واستمرت عملية بناء احلائط العظيم ،بل النظام املتكامل للدفاع اجلوى عن مصر كلها ،تسري على قدم وساق . وعلى الرغم من التغيري الذى حدث فى القيادة السياسية للبالد ، وتزايد وتنامى دور أنور السادات فى القرار السياسى والعسكرى من 15مايو سنة ، 1971مبا ميثله من قوى سياسية واجتماعية ذات توجه خمالف عن توجهات قيادة البالد إبان حرب االستنزاف . وبالرغم من تفكيك احللف املعادى لإلمربيالية والصهيونية ، وإذكاء روح العداء للسوفيت ،وطرد مستشاريهم وخربائهم من القوات املسلحة املصرية ،فقد كانت احملصلة لكل هذه العوامل استمرار وتطوير للقوات املسلحة وسط جو الصمت والسكون ، حيث صمتت املدافع حلني ،وانتهى االستنزاف ،ولكن مل تنته عمليات التطوير والبناء .
احلائط العظيم يكتمل : بينا فيما سبق أن يوم الثامن من أغسطس سنة ، 1970وإن كان حيدد نهاية حرب االستنزاف ،إال أنه مل يك حيمل نفس 170
املعنى لعملية بناء احلائط العظيم ،بل لعملية بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى على أضالع املستطيل املصرى فى اجتاه اخلطر اإلسرائيلى . فما هى إال أيام انقضت ،حتى عادت القوات واألطقم املصرية التى أمتت تدريباتها داخل االحتاد السوفيتى ،وأخذت حتل مكان وتستبدل مواقع القوات واألطقم السوفيتية األمامية ً متاما . لتصري هذه املواقع واملعدات فى أيدى األطقم املصرية ولتسجيل بداية عمل املصريني على أنظمة الصواريخ من طراز سام ، 3التى أضحت بدورها تشكل ً ً ملحوظا بالنسبة لبيان دورا قوات ووسائل الدفاع اجلوى كلها ،وحائط الصواريخ بصفة خاصة . وأخذ العمل جيرى على قدم وساق فى عملية بناء الدشم اخلرسانية لوقاية وحتصني مواقع وأطقم الصواريخ من كافة األنظمة سواء البتشيورا أو الديسنا أو الديفينا .وأصبح ما ً ً ً متاحا .فالدشم واقعا مستحيال من أشهر يقرتب من كونه كان والتحصينات أخذت تعلو وتنتشر وكأنها قطوف دانية جلهد دءوب للبنائني املصريني ،العسكريني منهم واملدنيني ومثرة للمشاركة السوفيتية باخلربة فى عمليات التخطيط واختيار املواقع ،والتصميم واإلشراف على التنفيذ . وفى هذا اجملال لن أنسى العزم واإلصرار الذى محله أحد املستشارين السوفيت ،ممن أعمل معهم والذى قاربت مدة خدمته فى مصر على االنتهاء ،حني جاء من إجازته فى أحد األيام وأخرج 171
ً مسرحا لعمليات البناء فى فرتة الكمائن خريطة مبوقع كان وقد قصفه العدو ،وأخذ يستحثنى على مرافقته هلذا املوقع ً تفسريا لذلك وضع يده للضرورة القصوى ،وحني طلبت منه على جيبه ،وعجز عن الكالم وقد اغرورقت عيناه بالدموع ،مما جعلنى ال أحل فى طلب هذا التفسري واستأذنت وقمت ملصاحبته ، وإذا بنا نفاجأ فى أرض املوقع املقصوف بأطالل ملبانى مل تكتمل، ً بعصا ،وأنا ال أفهم ما يدور .وبعد أن وأخذ املستشار ينبش األرض ً أعياه البحث ونبش املوقع بوصة بوصة ،وجدته جيرى إىل العربة ، وحيضر زجاجة فارغة وميلؤها جبزء من تراب املوقع ،بعد ذلك زفر ً تفسريا ملا جرى ،فقال :هذا وتنهد وكأنه اسرتاح ،فرحت أطلب خطاب ابن زميل ىل مقدم مهندس فى القوات املسلحة السوفيتية، استشهد فى هذا املوقع ،وهذا اخلطاب يطلب رفات أبيه ،أو ً جزءا من األرض التى استشهد عليها .وها هى فى الزجاجة ،وأردف : لقد اسرتاح ضمريى فبعد أيام قليلة سأكون فى أرض الوطن ، وما كنت ألستطيع أن أقابل ولد الصديق بدون هذه الزجاجة ، إنها جسد أبيه ،وما كان هذا اجلسد غري حفنة من تراب وطنى امتزج فيها العرض باألرض ،وصارت ً رمزا لصداقة بنيت عليها بالدم والعرق . وهكذا وقبل أن ينتهى عام ، 1970أصبح حائط الصواريخ حقيقية مادية جمسمة بكل أبعادها .فلقد كثرت وحداته، ً سرحا أحكم بناؤه ،وتراصت وتداخلت أقواس نريانها لتكون ً بعضا .وأصبحت أطقمه ووحداته آمنة لبناته حبيث يشد بعضها فى مرابضها حمصنة داخل دشم خرسانية شـديدة املتانة والتحمل . 172
ودخلت وحداته فى أكرب عملية تدريب واجرتار خلربة القتال واملران على احملتمل من أساليب جديدة وأسلحة متطورة للعدو. وجرت عملية إحالل وتبديل للمواقع ،تنقلت فيها الوحدات بني الضلع الشرقى والضلع الشماىل هلذا احلائط العظيم .وجاء عام 1971ليشهد قيام هذا البناء املتكامل ألنظمة الدفاع اجلوى املصرى .فهل انتهت امللحمة الكربى ؟ . لإلجابة على هذا السؤال جيب تتبع ما يلى : حبث عن الثغرات ..وسدها : قلنا أنه مع نهاية : 1970أصبح هناك ما يسمى بنظام ً ً فعليا على اعتمادا متكامل للدفاع اجلوى املصرى ،يعتمد شبكة من صواريخ سام السوفيتية من البتشيورا ،والديفنا، ً توجها والديسنا ،واالسرتال « األخري صاروخ خفيف غري موجه ً راداريا ،ولكنه باحث عن احلرارة وله أثره البالغ ضد الطريان املنخفض» ،وأن هذا النظام قد تشكل على أضالع املستطيل املصرى التى حيمل منها الصدام مع العدو اإلسرائيلى ،وبالذات ً ممتدا الضلع الشماىل ،وعلى وجه التحديد الشماىل الشرقى إىل غرب اإلسكندرية ،والضلع الشرقى وبالتحديد فى مواجهة قناة السويس وخليج السويس ،ولكن بالنظر إىل خريطة مصر ،ودراسة قوات الطريان املعادية هلا دراسة مدققة بدت هناك ثالث ثغرات حقيقية على طول الضلعني الشماىل ،والشرقى للمستطيل املصرى . 173
ومل تكتف قوات الطريان اإلسرائيلى املعادى ،بالدراسة والتدقيق فقط ،بل راحت ختترب قدرتها على حتسس اجلسد املصرى بيدها الطوىل من هذه املواقع .وما كان لنظام حمكم أن يستمر دون سد هذه الثغرات وحلمها ضمن نسيج احلائط العظيم ،فأين كانت هذه التغريات ؟ ؛ وكيف استغلها طريان العدو ؟ ؛ وكيف ومبن سدت ؟ كانت أوىل هذه الثغرات فى نظام الدفاع اجلوى املصرى ،هو موقع مدينة بورسـعيد ،وشريط ضيق فى املسافة بينها وبني املنزلة .فمدينة بورسعيد حتيطها املياه من كل اجلوانب ،وال يربطها بداخل البالد إال طريقني جنوبها وغربها إىل الساحل ، ومياه البحريات ومياه البحر املتوسط ومياه قناة السويس حتاصرها من كل جانب . وكانت مشكلة اليابسة مشكلة معقدة ،فال ميكن نصب قواعد الصواريخ على مياه البحرية .وعمق البحرية من الكرب حبيث جيعل املدينة خاضعة البتزاز الطريان ،لذلك مت قدح الذمن العسكرى املصرى والسوفيتى ،ومت تطريز ساحل البحريات حبزام من املواقع احلصينة للصواريخ املضادة للطائرات، وعوجل ما تبقى من أى احتمال يهدد أمن املدينة ذاتها ،بفكرة الكمائن التى تعتمد على اإلخفاء والتمويه وتستغل أى لسان من اليابسة فى كفالة األمن للمدينة الباسلة .وقد قامت على هذه العملية أطقم الصواريخ املضادة للطائرات ،والتى يعمل عليها أطقم تشغيل مصرية كاملة . 174
وشاركت اخلربة السوفيتية فى التخطيط واملستشاران االعتياديان للوحدات فقط . الثغرة الثانية والثالثة :يتحدد موقعها فى أماكن قرب كل من مدينتى أسيوط وجنع محادى .ففى مواجهة مدينة أسيوط ينقطع امتداد سالسل اجلبال الشرقية ليشقها سهل صحراوى يسمى ( وادى األسيوطى ) ،وهو ميتد من شاطئ البحر وحتى ً كثريا .وكانت الطائرات أسيوط فى مسافة ال تتعدى 50كم املعادية تستخدم هذا الوادى كممر حممى بني سالسل اجلبال لتنقض منه على املدينة اهلامة ،والتى تعد عاصمة الصعيد ً ً وجنوبا . مشاال كما يقولون ،ولتتجه منها وباملثل كانت هناك ثغرة مماثلة عند جنع محادى .هذه املدينة اهلامة التى تقسم قناطرها الوطن إىل قسمني ،فعندها ً شرقا ليدخل فى الصحراء ،وتصري يضيق الوادى وينحرف النيل القناطر ،الكوبرى الذى يفصل مشال البالد عن جنوبها ، كذلك فهى املدينة الصناعية اهلامة وألن هذه الثغرات أبعد عن منطقة اجلهد الرئيسى ،وحيتاج سدهما إىل جمهود كبري، مل يك من السهل تدبريه من وحدات النظام فى ضلعيه الشماىل والشرقى الشماىل .فأى توفري لوحدة من وحدات هذا اخلط تعنى ً خلال قد يصيب احلائط فى الصميم ،ووحدات العمق حول القاهرة واإلسكندرية وأسوان تشكل حزام ال غنى عنه ،وخط للدفاع عن أهداف حيوية ال ميكن التفريط فيها .مرة أخرى مل يك هناك من منقذ غري قوات حلف معاداة االمربيالية والصهيونية . 175
وألن هذه القوات جاءت فى املرة السابقة بأسلحة جديدة ،وبنوع من الصواريخ مل نكن نعرفه من قبل ،وكان أحدث الصواريخ فى الدفاع اجلوى السوفيتى حتى هذا الوقت ،وهو صاروخ سام3 “ البتشيورا “ فقد جاءت به القوات السوفيتية لتسد به أبواب نظاما يلعب ً ً ً ملحوظا دورا مصر التى فتحت آنذاك ،ولتجعل منه فى بنية نظام الدفاع اجلوى املصرى ،وبالذات حائط الصواريخ املصرى .وفى هذه املرة جـاءت القوات ،وجاءت معها باملفاجآت ً أيضا .فكيف جاءت ؟ ؛ ومباذا جاءت ؟ مع نهاية شهر مارس سنة ، 1971مت اختيار جمموعة من املستشارين السوفيت حتت قيادة جنرال سوفيتى لتشارك بعض القادة املصريني -وعلى رأسهم قائد قوات الدفاع اجلوى الفريق (حممد على فهمى ) -لتخطط شبكة من مواقع الصواريخ ، كى يتم إعدادها وجتهيزها فى الثغرتني حول أسيوط وجنع محادى . وقد رافقت الفريق املتجه إىل أسيوط .وجبهد جهيد ،توغلنا فى الصحراء هنا وهناك ،وتسلقنا قمم اجلبال الشاهقة باألقدام ً أحيانا الختصار املسافات .وركبنا سيارات اجليب السوفيتية ً أحيانا أخرى، الصنع واملتينة والقادرة على االحتمال من طراز جاز لنلتف حول هذا اجلبل الشاهق حتى ننفذ منه إىل قمته على مدقات تستخدمها سيارات احملاجر . ً كثريا حكايات ومواقف اجلبال الطريفة وشاهدنا وعشنا ً ً أحيانا ،والشاقة والشديدة الصعوبة أحيانا أخرى .فلن أنسى 176
يوم أن قطعنا مسافة 37كيلو مرت فيما يقرب من أربع ساعات بالسيارة اجليب ،يومها خرج علينا ذئبان بدوا ىل فى ضخامتهما وكأنهما متثاالن مروعان وقد انتفضا واقفني من طريق الكباش فى معبد الكرنك باألقصر .وأخذا حيتكان بنا ،بل وجتاسرا إىل حد حماولة قلب السيارة . ورحنا نبحث عن سالح لدى ركاب العربة ،ومل جنده ،وكم اختلط خوفنا ساعتها بضحكنا بتهكم املستشار السوفيتى عن جمموعة عسكرية تقوم مبهمة بدون سالح ،وبعد تدقيق وجدنا أن السائق معه رشاشه فى صندوق العربة ،ولكن ليس به طلقات ،وضحكنا على الذئبني وأخرجنا الرشاش من أحد اجلوانب وراح أحدنا يشد األجزاء ويرجعها حتى تصورا أننا نستعد إلطالق النار ،فرتكا نفسيهما للريح وتنفسنا الصعداء، وحسبنا غيظنا من أنفسنا .فكيف خنطئ هذا اخلطأ الصغري، الذى ميكن أن يتحول فى طرفة عني إىل خطأ كبري يكون ثـمنه حياتنا . ولن أنسى يوم أن علمنا بأنه توجد وحدة صواريخ ضمن جمموعة من الوحدات أتت على عجل ،وكانت هذه الوحدة ً امتالكا لسجل باهى عظيم ،فلقد واحدة من أكثر الوحدات اشرتكت فى عمليات الكمائن وأسقطت أكثر من طائرة معادية ،واحتلت موقعها فى حائط الصواريخ على خط قناة السويس .وبعد أن أجريت هلا عمرة ما بعد القتال ،جاءت هنا على الفور لتسد الثغرة إىل حني ،ثم تعاود مهامها حيث أنها 177
تدخل ضمن وحدات االحتياطى االسرتاتيجى للقادة .ولدى علم ً اتصاال، املستشار الذى أعمل معه بوجود هذه الوحدة أجرينا معهم ً وحتدد وقت الستقبالنا ،وكنت أعرف هذه الوحدة جيدا ،فهى مل تتمتع مبستوى قتاىل رفيع فحسب ،بل مبستوى إدارى عال ً ً دائما . أيضا ،ويبدو أن هذه مسة املنجزين فهم متفوقون فى كل االجتاهات ،حتى ولو أجادوا بعضها دون البعض ولو من منظورهم . وبعد أن انتهينا من عمل اليوم توجهنا إىل هذه الوحدة ،وكم ً ً ميدانيا ،وليست به جتهيزا كانت حياة جد شاقة ،فاملوقع جمهز دشم حصينة ،وطبيعة األرض واملكان طبيعة موحشة ،ورغم ذلك حول الرجال هذه البقعة املوحشة إىل موقع ميكن اإلقبال عليه ،وميكن أن حتس لديه بالراحة ،وجلسنا وأخذنا نسرتجع الذكريات ،وقائد هذه الوحدة الرائد الشاب يشكو من القذف به إىل هذا املكان ،واملستشار السوفيتى يعزيه بأنه إذا مل يك ً أهال للثقة ،ما أتى إىل هنا ،وسط صيحات اجلميع والتندر بأن ً ً وإرهاقا ،ويسلم املستشار السوفيتى عبئا األكثر عطا ًء أكثر بهذه املقولة ثم يتحفظ بقوله أن ذلك يكون كذلك ،طاملا ضاقت دائرة اخلربة ودائرة الثقة . ً أنفسنا أمام مأدبة غنية بكل ما لذ ويدعونا إىل الغداء ،وجند ً تنسيقا وطاب فى نطاق إمكانيات هذا املوقع الفقري ،ومنسقة ً رائعا ،بدت معه وكأنها امتدت على ساحة فندق سياحى فاخر ،وهممنا باجللوس ،وإذا برياح اخلماسني العاصفة تضع 178
بصماتها الرملية على كل األكل واألطباق ،ومل جتد معها أى جمهودات بذلت إلنقاذ املوقف ،ومل يك أمامنا غري أن نتناول هذه الوجبة الدمسة ،وقد تبلت برمال الصحراء النقية الصفراء وسط صـيحات تعلو “ هل هذا قـدر املبدعني ؟ “ “ ،أهو كل يـوم مـن ده ! “ وأنا أترجم “ :حتملوا أيها الرجال تلكم واجبات مالقاة عدو اإلنسان وعدو األوطان “ . وتطول الذكريات وتربز إىل الذهن عشرات القصص والنوادر، ولكن حتضرنى واقعة ذات داللة كبرية .فبعد انقضاء بعض الشهور على بداية حكم السادات ،أخذت بعض النغمات تظهر هنا وهناك حول تقصري االحتاد السوفيتى فى إمداداته لنا ً ً ً ً ومتقدما .وألن األمر مل يتحول بعد حديثا ونوعا كما بالسالح ، ً إىل تيار كامل ،كثريا ما ترمجت بعض املناقشات بني ضباط مصريني تصفو سرائرهم وتبيض نوازعهم فى هذا املوضوع ، وبني مستشارين سوفيت ،وحتضرنى واقعة حوار حتمست هلا فى البداية للضابط املصرى الذى أثارها . ً نظاما فقال “ :إننى أعلم أن االحتاد السوفيتى ميتلك ً آليا ،وآخر نصف آىل للتحكم من بعد ومن مركز واحد فى جمموعة متكاملة من وحدات الصواريخ ،وأن هذا النظام املتطور للغاية مل نعرفه حنن هنا بعد ،فلماذا مل يعطيه االحتاد السوفيتى لنا ؟ “ . ووجهت السؤال ،وأضفت من عندى أن هذا إن صح تقصري من 179
حليف حلليفه ضمن منظومات معاداة االستعمار والصهيونية ، فهذا شىء ال يغتفر . ورد الضـابط السوفيتى ( عضو احلزب الشيوعى السوفيتى ) ً قائال “ :هل لديكم ما يثبت أنكم طلبتم هذا ،وأننا مل جنب طلبكم ومل نلبيه “ ،فاندفعت من فورى “ :األمر ال حيتاج ألى طلب ،ألسنا شركاء كفاح ؟ “ . استوقفنى الضابط السوفيتى وقال “ :أيها األصدقاء ال تدعونا خنمن احتياجاتكم ،وال تدعونا نقدر إمكانياتكم فى استخدام هذا أو ذاك ،فأنتم تفهمون التكنولوجيا احلديثة والتقدم العلمى على أنه األحدث فقط .إن قمة العلم والتكنولوجيا أن تستخدم السالح الذى يربز قوتك ،وتربز أنت نقط القوة التى فيه “ ،وأضاف « :إن الفيتناميني مل حيصلوا على نصف ما حصلتم عليه من أصناف ،ومل تكن هذه مسألة مطروحة على مائدة مفاوضاتهم قط ،وكانوا يرحبون بالسالح ً تطورا ،وجيربون السالح املتطور على مالقاته فى حدود األقل ً وضمن الظروف التى ينسجونها هم ،ويظهر دائما أن أداؤهم ً تفوقا ،فهم يستخدمون اإلدارة والعقل إىل جوار السالح ، أكثر فليس بالسالح وحده حتسم املعارك» . ثم أضاف يسأل الضابط املصرى “ :هل درست هذا النظام الذى تقول عليه ؟ ودرست ظروف استخدامه ؟ “ وأجاب الضابط املصرى: ً توزيعا “ أنا أعلم أنه نظام متطور ،وهو يكفل توزيع النريان 180
ً ً ً تنوعا من اتساعا وأكثر حمسوبا على ضوء إمكانات أكرب ظروف وحدة واحدة” . ورد الضابط السوفيتى ً “ : حقا ما تقول ،ولكن أال ترى معى ً معدا أيها الصديق ،أن طاقم اللوحة املركزية جيب أن يكون ً وتكتيكيا ً ً إعدادا ً راقيا؟ ،وأن دور القائد العام للتشكيل فنيا دور يقوم على مهارات يدوية وفنية وأخرى عقلية وتكتيكية ً نسبيا ،ومل قتالية ؟ ،وأن نظام الصواريخ لديكم نظام حديث يتواجد قائد التشكيل األعلى الذى ترقى من ضابط توجيه درب ً ً وفنيا على إدارة املناجل وإجراء عملية البحث والتفتيش يدويا الرادارى ؟ “ . وأكمل فى سؤال « :أيكون النظام أحسن أم أسوأ فى ظل ندرة أو عدم تواجد مثل هذا القائد ؟ » وصمتنا ،وأحسست أن ً كثريا من حججنا قد تكسر ،ولكن بقيت ىل بعض قناعة عن أن األمر مل خيل من تقصري ،وقبل أن أترك القوات املسلحة علمت أن هذا النظام قد عمم ،ولكن ما حاولت معرفته ،أكان هذا أجدى أم أقل جدوى ؟ ؛ سؤال مل أحظ باجلواب عليه ألننى مل أعايش جتربته . املهم أن هذه عينة ملا كان جيرى حول هذا املوضوع فى تلك األيام ،سردتها قبل أن أدخل إىل الواقعة ،وذلك بهدف حشد أكرب جمموعة من العناصر إلظهار الصورة على حقيقتها .وتتلخص الواقعة فيما يلى : صاحبت ثالثة من املستشارين السوفيت فى أحد األيام .وذهبنا 181
حندد على الطبيعة مكان موقع كان قد حتدد على اخلريطة. وتشعبت بنا الصحراء ،ومل تسعفنا خرائط الطبوغرافيا التى ً ً كثريا من مدربا على استخدامها ،وحتى حنملها ،فأنا لست مصطلحاتها مل مير على من قبل ،وفى بطن أحد اجلبال الشاهقة وجدت ً ً حقا أثرا لعسكريني ،وتقدمنا إليهم وعلمنا أنهم يشكلون وحدة عسكرية تتبع سالح املهمات والذخرية -فرع التسليح ،وأن وحدتهم عبارة عن خمزن كبري ،وهم اجلنود فى استحضار قائدهم ،وأتى القائد وهو رجل بدين مل أتوقع وجود مثل ً شخصا خفيف حجمه فى األفرول العسكرى .ولكنه كان ً مفهوما الظل ،لقبه بالعربى كان منطوق كلمة روسية تعنى ً طربا لسماعه ،ويعتربون أنفسهم يقدسه السوفيت وينتشون أبطال ودعاة هذا املفهوم ( السالم ) . وبسبب هذا اللقب نشأت ألفة سريعة بني هذا القائد املصرى وبني املستشارين السوفيت ،وقرر أن يستضيفنا على الغداء، وكان مسلكه يأتى إىل خميلى بصورة شيخ البلد البدين املعمم صاحب املندرة الكبرية ،واالبتسامة املرحية ،والغضبة الشرسة اجلهول .وقرر ضمن ما قد قرره أن يصطحبنا فى جولة داخل خمازنه لريينا قمة التطور والتكنولوجيا .وفى جو مرح خفيف بدأنا هذه اجلولة .والتقط أحد املستشارين بعينيه - وكانت رتبته عقيد مهندس ،ويشغل منصب كبري مهندسى ً مستشارا ملنصب أحد التشكيالت الكبرية فى بالده ،ويعمل مناظر فى بلدنا مصر -اكتشف هذا املستشار تواجد جمموعة من حمطات اختبار الصواريخ ،وأحصيناها فوجدنا منها ستة 182
وحدات كاملة مل تفتح منذ قدمت من بالدها ،وأن هذه الوحدات الستة ميكنها متابعة وتلبية االحتياجات الفنية ملا بني ، 30 35وحدة قتالية ،وأن هذه احملطة كانت حمل شكوى دائم عن نقص وحداتها .وتكهرب اجلو ،وانقلب الصفاء واملرح إىل صياح وزجمرة . ً طرفا فى احلوار وكان ضمن هؤالء الثالثة املستشار الذى كان ً سابقا ،وحتولت أنا فجأة وكأننى املسئول األول فى املشار إليه مصر ألواجه هذه الغضبة ،ومل يفهم القائد البدين ما الذى جرى . وأفهمته ،فقال « :طيب ،وأنا ماىل ؟ أنا جمرد قائد خمزن» . وكان املوقف قد تعقد بصورة ال يسهل معها عودة الصفاء ً سريعا .حاولت تفادى موجة الغضب هذه ،وأظهرت هلم أن هذا القائد غري مسئول ،فسأل أحدهم :هل يبلغ القيادة مبا لديه ؟، وعلى الفور أحضر هذا الضابط نسخة من تقريره اليومى الذى يرسله إىل قيادته هو .وحتول غيظهم جتاهى فرتة ،ومع مساحة ً نسبيا ،ولكنهم رفضوا الغداء، وجه هذا الرجل البدين قل التوتر واكتفوا مبضغ غضبهم ،واقتاتوا أحزانهم وهمهم ،ولذت أنا بالصمت العميق .وأخذنا اجتاهنا إىل املوقع وذهبنا إليه وأجنزنا مهمتنا . ً ً هندسيا جتهيزا وانصب جهدنا فى هذه الفرتة على جتهيز املواقع ً سريعا ،وفى مواقع تبادلية كانت جترى عمليات بناء الدشم ً ً حصينا .والحظت أن العمل الذى جيرى تشييدا وتشيد املواقع سواء فى األول أو الثانية ،خيتلف عما شاهدته من قبل .فاملخطط 183
الداخلى لكل موقع خيتلف عن الصور املألوفة لدينا ،وتركيز املتابعة يظهر ىل بوضوح شديد ،فهو يتم حتت إشراف جنرال سوفيتى يشغل منصب مستشار رئيس عمليات الدفاع اجلوى . ً أيضا أن كل موقع يلحق به موقعني إداريني . والحظت ومرت فرتة تقرب من الشهرين ،وفى مايو سنة 1971قدم تشكيالن كبريان يضمان جمموعة من الوحدات املتعددة تعمل على أصناف جديدة من الصواريخ .مل تك قد قدمت إىل مصر قبل هذا التاريخ ،بل أكد ىل املستشار الذى أرافقه بأنه مل يرها قط قبل اآلن ،وإذا كانت انقضت فرتة العام ملغادرته االحتاد السوفيتى ،فإنه يقطع أن هذا الطراز مل يوجد على اإلطالق فى أى من التشكيالت الكربى التى يعرفها ،إنه صاروخ جديد للغاية ،إنه صاروخ سام “ 4الفوجلا “ ،إنه الصاروخ املتطور الذى طور على ضوء جتارب القتال على الساحة املصرية ، إنه حيمل إمكانيات هائلة للمناورة املكانية فهو مثبت على قواعد إطالق متحركة . لقد اجته أحد الفريقني إىل جنع محادى ،وظل اآلخر فى أسـيوط ،وانتشرت األطقم السوفيتية للصواريخ املضادة للطائرات من طراز سام 4فى مواقعها ،وفى نفس التوقيت قدمت معها أطقم قتالية عسكرية مساعدة تعمل على سالح أشبه باملدفعية الصاروخية اخلفيفة ،يقوم مبهام احلماية حول املوقع األصلى ،وهو سالح جد متطور ،إنها مدافع “ الشيلكا “ ذات املواسري األربعة واحملمولة على شاسيهات الدبابات . وتواجد إىل جوار كل طاقم قتاىل سوفيتى ،طاقم مصرى 184
متكامل ،سواء فى وحدات الصواريخ أو فى وحدات املدفعية من طراز «الشيلكا» .وحتددت بهذا مهمة كل طاقم سوفيتى فى اجتاهني ،األول :القيام مبهمة العمل القتاىل ،واالشرتاك ضمن شبكة الدفاع اجلوى املصرى ،وفى نظام متكامل يقوم على فكرة التغطية املتبادلة بني وحدات الصواريخ من ذات الصنف من ناحية ،ومن ناحية أخرى تأمني كل وحدة صواريخ ، مبجموعة من مدافع الشيلكا تشكل عليها دائرة محاية ضد األهداف املنخفضة . واالجتاه الثانى :يقوم الطاقم السوفيتى بتدريب ونقل اخلربة الفنية والقتالية إىل الطاقم املصرى حبيث ال يغادر األول املوقع ، إال ويكون الثانى فى وضع القدرة على تشغيل وإدارة الوحدة ً متاما وبصورة مستقلة . واالشتباك بها وأذكر أن هذه الفرتة مل تشهد فقط هذه األسلحة الراقية واحلديثة ً جدا فحسب ،ومل تشهد األطقم السوفيتية -وقد انكبت على واجباتها القتالية والتدريبية -فحسب ،ولكن ً ً عموما، أيضا استخدام جمموعة متكاملة من األسلحة شاهدت فعلى سبيل املثال حظى سالح اإلشارة بأكثر حمطات االتصال ً ً وتطورا ،وكذلك سالح املركبات تقدما الالسلكى السوفيتى ..إخل . وحتمل ىل ذكرى هذه األيام فرص لن تعوض ،فقد عشت أليام ضمن وحدة سوفيتية كاملة ،وخربت أكلهم ،وطريقة معيشتهم ،وبرناجمهم اليومى ،ونظام جتنيدهم ،وطريقتهم فى 185
التدريب والقتال ،والعالقات بني الضابط واجلنود ،ورأيت ما يبذلونه من جهد وعمل ضمن نظام دفاعنا اجلوى . ولن أنسى احلاالت املتكررة لنزيف اجلنود من الشباب ً نظرا للحر الشديد واجملهود املضنى ،فمازالت ترتسم السوفيتى فى ذاكرتى صورة هذا الشاب السوفيتى الذى مل يبلغ التاسعة عشر من عمره ،حينذاك ،وقد اندفع الدم من أنفه ومن عينيه ومن أذنه نتيجة جمهود وقيظ ذلك اليوم ،إن حرارة مشس اجلنوب الالفحة التى فجرت الدم ،وأسالته من أنوف ومآقى وآذان بعض ً دفاعا عن أرضنا، الشباب السوفيتى الذى جاء ليقاتل إىل جوارنا وضد عدونا املشرتك االمربيالية وربيبتها إسرائيل ،ألقل حرارة من حرارة الوجدان املصرى األصيل والوفى ،والعارف بعمق أبعاد الصداقة املصرية السوفيتية التى سطرتها دماء الشهداء وجهد وعرق املدافعني عن أرض مصر من خندق واحد .إن عمق هذه ً ً عودا من بعض النغمات الناشزة ، غورا وأصلب الصداقة ألشد والتى تطن بعبارات التقصري السوفيتى ،والضغط السوفيتى ، واهليمنة السوفيتية ،حتى ولو علت إىل حني . ***
نهاية اجلولة : جاء منتصف عام 1971ليشهد اكتمال نظام فعال ومتطور للدفاع اجلوى املصرى ،تلعب فيه أنظمة الصواريخ املضادة للطائرات من طراز سام السوفيتية الدور الرئيسى ،لقد كان لدينا مع بداية حرب االستنزاف صنف واحد من هذه الصواريخ ، 186
اتسعت أصناف هذا النظام لتصري ستة أنظمة للصواريخ املوجهة ً ً وحراريا من أصناف الديفنا ،والديسنا ،والبتشيورا ، راداريا والفوجلا ،واإلسرتيال ،والشيلكا . لقد تعددت وحدات هذا النظام ،وشاركت فى إجناز مهماته ً قتاليا أطقم مصرية وأطقم سوفيتية ،وعلت أبنية هذا النظام وتراصت لبناته لريتفع حول مصر من أكثر من اجتاه حيتمل منها أن يأتى عدو مصر والعرب إسرائيل ومن وراء إسرائيل ، ً ً عظيما ،قلت بصدده فى بداية هذه الذكريات ،رمبا حائطا اشتهر عن سور الصني العظيم ،ومن املؤكد أنه أدى خدمات دفاعية ملصر ال ميكن لسور الصني العظيم أن يؤديها فى عصر الطريان واجليوش املتطورة واألسلحة احلديثة ،وإذا محل سور الصني العظيم صفته باعتباره أحد عجائب الدنيا السبع ،فإن حائط الصواريخ املصرى ،سوف حيمل ذكرى ستخلدها األجيال القادمة ،وكتب التاريخ العسكرى ،فعلى عتباته دارت أول معارك ما يسمى باحلرب ( االلكرتونية احلديثة ) ،وعلى عتباته أسقطت أحدث الطائرات األمريكية الصنع اإلسرائيلية التشغيل حتى حينه ،وعلى عتباته احنصر نفوذ القوة اجلبارة للعسـكرية اإلسرائيلية الغامشة والتى تتجسد فى يدها الطوىل ،سالح الطريان املعادى ،إنه احلائط العظيم . وقبل أن تفرغ قصتى مع هذا احلائط العظيم ،بقيت بعض سطور تكمل رتوش هذه الصورة التى أود أن تساوى ما كتبت به من مداد ،وإن كنت أعلم أنها ستعجز عن الوفاء لقطرة دم 187
واحدة سالت من شهيد واحد مصرى أو سوفيتى دافع عن تراب وطنى احلبيب مصر . فبعد أن فرغت من املشاركة فى سد ثغرات اجلنوب ،جاء دورى للمشاركة فى سد ثغرات الشمال ،وكانت األقدار أرادت أن ً شاهدا واسع الرؤية واالحتكاك هلذه التجربة هلذه جتعل منى التجربة العميقة ،واخلربة الثرية للعسكرية املصرية . فلقد توافق أمر التحرك لوحدتى الحتالل موقع الكمني فى الشمال ،لطلب قدم ووفق عليه وكان سينفذ بعد يومني ،هذا الطلب كان طلب إجازة إلمتام مراسيم زواجى . ولن أنسى نوبة الضحك التى غرق فيها املستشار السوفيتى حلظة علمه بهذا األمر ،وقوله « :يبدو أنك بعد جهدك وانشغالك فى جتهيز بيتك املضنى هذا لن تتزوج» ،فقلت له « :ملاذا ؟» ، فأجابنى إجابة متقطعة بضحكات هستريية « :لقد جاء أمر حترك لكمني» .وأسكتنى الذهول ،وتتطاير الشرر من عينى لضحكه ،وهممت بالكالم ،ولكنه تدارك املوقف ،وقال « : فلنتحرك ً أوال لنستقر فى املكان اجلديد ،وبعدها سأطلب لك اإلجازة بنفسى ،فإذا مل نستطع ،سأدبرها مع قائد الوحدة» . وكان هذا املستشار حديث فى مقدمه إىل مصر ،ومل يلتقط بعد الكلمات العربية التى تساعده على حد أدنى من التفاهم . وحتركنا ،واحتللنا موقعنا ،ثم تأخر نزوىل يوم واحد ،وسافرت قبل زفافى بيوم واحد ،وتزوجت ومل تطل إجازتى ،فقد مت استدعائى ملصاحبة وفد سوفيتى قادم لتوه للطواف بوحدات قطاع 188
معني ،لشرح وتدريب األطقم القتالية على كيفية استخدام وحدات جديدة أضيفت إىل احملطات لتقليل آثار عمليات التداخل ً ً نظريا جهدا والتشويش الرادارى .ورافقت هذا الوفد ،وقد بذلنا ً ً عظيما ،أتى بثمار كبرية فيما بعد ،وبعد انتهاء هذه وتدريبيا اجلولة رجعت إىل الوحدة ،ومنها إىل املنزل حيث واصلت ما انقطع من إجازة الزواج . ً ً قتاليا ،ومل حيسم ما سلميا أو وانتهى عام 1971عام احلسم إن كنا ننتظر حسمه ،واتضح أن األسباب تكمن فى الضباب . ورغم أن الضباب ظاهرة طبيعية ،إال أن السادات تصور أن احلرب التى نشبت فى شبه القارة اهلندية قد لفتنا بالضباب ،وتذكرت ً يوما يتغنى بها أغنية أوبراليه روسية انفجر أحد املستشارين عندما كنا نسري فى رتل من أرتال حتركاتنا الكثرية ،حيث ً كثيفا ،وهى تقول « خلف الضباب ال ترى كان الضباب األشياء» ،ومل يدر خبلدى حلظة واحدة أن السادات كان قد مسع ً عنوانا إلحدى خطبه فى تربيره هذه األغنية ،ولكنها كانت ً ً سلميا أو قتاليا بال حسم . النقضاء عام احلسم ً بعضا من خطواته ،ووجدت استدعا ًء آخر وخطا عام 1972 يطلبنى ،ومل يك هذه املرة استدعاء من إجازة لعمل ،ولكنه كان استدعاء من قيادة الدفاع اجلوى يطلبنى من وحدتى . ولبيت الطلب ،وذهبت إىل حيث استدعيت ،وعلمت أن هناك ً قرارا باستبعادى عن الرتمجة ومصاحبة املستشارين واخلرباء ً تفسريا لذلك ،مل أحظ بأى رد ،ووجدتنى السوفيت ،وملا طلبت 189
ً ً ً ومبعدا إىل أقصى مطاردا رقيبا باجليش ، فى حجمى احلقيقى الوحدات على ساحل البحر األمحر . وتذكرت جهدى وذكرت به من يريد ،ومل أجد ً أذنا صاغية، وقررت رفض العقاب على فعل يعجز أحد عن بيانه ،وطلبت ً تفسريا مرة أخرى ،ووعدت بذلك ،وبعد جتدد مدة الوعد مرة ثم مرات ،مل جيبنى أحد بنبت شفة ،وتشبثت مبوقف حمدد ، إذا كنت فعلت أى خطأ ،فأوىل بى أن أظل فى هذا املبنى الفخم حتت رقابة من يريد أن يعاقبنى ،فأنا رجل متزوج وتضاعفت خدمتى فى القوات املسلحة عن املدة املقررة بثالثة أضعافها ،وإذا كنت سأجلس فى الظل ،فال شك أن ظل القيادة أحسن وأنعم . وبعد جهد جهيد مت توزيعى عن وحدة من وحدات الدفاع اجلوى ، ً تسليحا سوفيتى الصنع، كان شرطها الوحيد ،أن ال يكون بها ً وفعال -ومع بداية مارس سنة - 1972نقلت إىل وحدة قريبة من منزىل للمدفعية املضادة للطائرات ،كان تسليحها إسبانى ، وترجع أعمار مدافعها إىل نهاية احلرب العاملية الثانية . وعشت فى هذه الوحدة اجلديدة حواىل أربعة شهور ،وذات صباح وعلى وجه التحديد فى 21يوليو سنة - 1972قرأت ضمن من قرأصحف الصباح ،وعلمت منها أن األمر مل يعد قرار إبعادى وطردى من مصاحبة اخلرباء واملستشارين السوفيت ،ولكن أصبح القرار هو طرد اخلرباء واملستشارين السوفيت أنفسهم من مصر ،وفى زمن أقل مما حدد هلم خرج املستشارون واخلرباء وأطقم القتال والقوات السوفيتية التى كانت تلعب ً دورا ً هاما ،وبنا ًء على 190
طلب من مصر وجاءت لتنفيذ مهام الدفاع األوىل عن مدن مصر اآلهلة وأهدافها احليوية فى عهد الرئيس مجال عبد الناصر، وجاءت بأحدث صوارخيها لتسد ثغرتى نظام الدفاع الكامل عند جنع محادى وأسيوط فى عهد أنور السادات ،وأبى السادات إال أن يرى السوفيت استعمارين ومهيمنني ،ولكن كيف ؟ ؛ مل أيضا ،لقد صور السادات هذا القرار ً ً دوما حنظ جبواب هذه املرة ً واحدا من أعظم إجنازاته ،وأخذ يتغنى به حتى صرعه على أنه أحد شباب القوات املسلحة املصرية فى 6أكتوبر سنة . 1981 وبصرف النظر عن القرار وصاحبه ،فالتاريخ وحده هو احلكم على القرار وعلى صاحبه ،إال أن القوات السوفيتية مل تغادر ً نظاما ً ً ومتكامال للدفاع عن أجواء قويا أوطاننا إال وقد خلفت ً ً مصر ،لقد ساهمت فى إقامة هذا النظام ختطيطا ومدا بالسالح ً ً وإشرافا على التنفيذ ،ثم ساهمت بقوات مقاتلة ،وروت وتدريبا ً بقعا كثرية من أرض الوطن مصر .ومع ذلك مل بدم الصداقة تذكر هذه القوات -وال من ميثلها -أنها كانت وحدها فى امليدان ،لقد ثـمنت دورها ضمن وفى إطار الدور املصرى البطل لقادة عظام وضباط أبطال وجنود بواسل ،ورأت فى سالحها جمرد سالح حتمله إرادة رجال ،ومل تتغن -ولو حلظة -بفنونها ً عامليا ،وبالذات فى جمال أو تكنولوجيتها الراقية واملشهود هلا الصواريخ ،ولكنها رأت وعلمت أن القتال بشر وسالح ،وأن ً دائما قبل السالح . البشر لقد عاش املستشارون واخلرباء السوفيت بني أفراد القوات 191
املسلحة املصرية ،يأكلون مما نأكل ،ويشربون مما نشرب ، مل يطلبوا ميزة أو يأتوا مبيزة معهم ،مل يأتوا بثالجات أو مربدات للمياه ،ومل يأتوا خبيام محراء أو زرقاء أو خضراء أو صفراء تذخر بأصناف املأكوالت الشهية واملعلبات الفاخرة .ومل ينزلوا بالفنادق الفاخرة على حساب القوات املسلحة ،ولكنهم أكلوا الفول معنا ،ولبسوا نفس األفرول ،وتبادلوا السجائر مع الضباط واجلنود ،وناموا فى العراء حيث مننا . ولن أنسى ما حييت تلك الواقعة التى ما زالت تصيبنى بالقشعريرة كلما تذكرتها ،فبعد إرهاق عدة لياىل متتالية، وفى ساعة السحر أى قبل الفجر بقليل ،وقد نصبنا املعدات وفرغنا من تسطيحها وتوجيهها ،وبقيت عمليات الصيانة ، وضبط املعدات ،وبعض األعمال الروتينية اخلاصة بأطقم التعمري ومنصات اإلطالق ،وبني منصتى إطالق كانت هناك كومة من شباك التمويه ،ونادى املستشار السوفيتى على قائد الوحدة فوجده قد افرتش مرتبة فى العربة اجليب ونام عليها . وجلسنا ( املستشار وأنا ) على هذه الكومة ،ومع لسعة برد ً ركوبا فى السحر ،وإرهاق أيام متتالية ،اختلسنا فيها النوم ً العربات فقط ،غالبنا النوم ومنت ونام املستشار متكورا على ندر كم مر من الوقت ،وصحونا على صرخات عالية نفسه ،ومل ِ وهرولة حنونا وصوت موتور رهيب ،إنه صوت إحدى اجملنزرات التى توجد ضمن معدات احملطة ألعمال اجلر واملناورة املكانية ، وكل ما كان يفصل جنزيرها عنا بضع سنتيمرتات ،ومل يرنا 192
السائق ،ولكن ظن أنه يسري على تبة من الرمال ،فلما التف الشباك على اجلنزير أوقف اجملنزرة وراح هو ومساعده خيلصان اجلنزير من الشباك ،ففوجئا بنا وكأننا جثتني ،فعال صراخهما، وأدركنا ما كان حيدث وسيحدث ،وتعانقنا من فورنا . وألول مرة أحس بالدمع الساخن يتساقط من عني هذا الرجل احلديـدى ،والذى عملت معه ألكثر من سـنة ،وأجهش بالبكاء ،وذكر طفله الصغري ذا السنوات السـت ،وهزنى ما حدث لألعماق ،وذهبت لقائد الوحدة ألفت نظره ملا حدث ،فرد على بالصراخ والسباب ،وذهبت من فورى لقائد التشكيل األعلى وأخربته مبا حدث ،فأتى مبستشاره وأخربه بالواقعة ، وطلب مستشار وحدتى ليتأسف له ،فلما علم املستشار مبا فعلته عنفنى ،وقال « :لقد جئنا لنحارب عدونا املشرتك ومل آت للنزهة ،وما هزنى باألمس كان جمرد نوبة ضعف أمام تصورى صورة طفلى وقد صار يتيما» . هكذا عاش السوفيت بيننا ،هكذا كنا معهم .وها هى قصتى مع حائط الصواريخ قد انتهت ،ولعلى قد أكون أضفت ً جديدا للقارئ ،ولعلى أكون قد ساهمت فى تكريم بها جهد خارق قامت عليه جمموعات من أخلص أبناء هذا الوطن ، وأكثرهم ً بذال وعطا ًء ،ولعلى أكون قد أوضحت ما غمض من دور القوات السوفيتية الصديقة ،ورددت هلم بعض الدين وفا ًء ً وعرفانا مبصاحلها وحلفائها . ملصر ولقضيتها ، ً ولكن ما أعيه جيدا أن ما قلته وما سردته مل يف دين شهداء 193
الوطن وشهداء الصداقة ملصر .فدماؤهم الطاهرة ستظل فى وجدانى راية للتحرر والثورة والعطاء . وليغفر ىل القارئ إن كانت اختلطت األمور الشخصية باألمور العامة ،فقد عملت قدر طاقتى لتجنب اجلوانب اإلنسانية واحلياتية هلذه الفرتة الثرية من عمرى ،وبذلت اجلهد كل اجلهد ألصنف هذه املواد لتنطبق على النموذج احملدد للمفهوم االسرتاتيجى كما حددته فى مقدمة هذه الصفحات ،حول الصراع الرئيسى ومتييزه عن الثانوى ،وحول قوى األصدقاء واحللفاء ،وحول قوة األعداء وحلفهم ،وحول املهام وأولوياتها ،ولو قدر هلذه الصفحات أن تزيل تداخل املفاهيم والتشويش املتعمد أو غري املتعمد املرتبط بقضية وطننا ،لكان هذا مبلغ طموحى . فنحن كما يقولون ،نعيش الزمن الرديء ،حيث نرى االستسالم ً ً ً عدوا ، صديقا ،واحلليف يصنف سالما ،والعدو يصري يسمى واألخوة واألشقاء يكونون ألد األعداء . وبواعث الصراع وخملفاته من مصاحل وأرض ودماء تصري بواعث وهواجس نفسية ،والعدو يصري احلكم ،والصراع الوطنى الدميقراطى املقدس ضد أعداء األوطان ومغتصبى املصاحل وقاهرى الشعوب يصري لعبة ،وإن أوراقها بيد عدو األوطان والشعوب ومصاحلها . وعلى ضوء جتربتى التى سردتها فى الصفحات السابقة ،وعلى قدر الثقة التى تولدت من خالهلا ،وعلى قدر نتائجها وانتصاراتها 194
الباهرة ،وعلى قدر طاقة العطاء التى تفجرت من أبناء مصر الذين بنوها بعرقهم وجهدهم ودمائهم ،وعلى قدر وقوف حلفاء ً فيضانا من أبناء احلق معنا ،وعلى قدر طاقة العطاء التى تفجرت ً ً وعونا ملهامنا ومعضالتنا ،أعلم علم اليقني أن هذا سندا لنا مصر ً ً الزمن الرديء حتما سيعرب ومير ،بل ويفر سريعا ،وإنه لن يدوم وملصر رجاهلا ،وللشعب مصاحله ،وللحقوق وضوحها ،وللتاريخ حتميته . متت أمحد عبد احلميد شرف مايو 1983
195
حرب االستنزاف *
بقلم اللواء حسن أمحد البدرى
* دراسة نشرت للواء حسن أمحد البدرى مبجلة السياسة الدولية -أكتوبر - 1978إصدار مؤسسة األهرام .
حرب االستنزاف (28سبتمرب 1968-7أغسطس )1970 بقلم :اللواء حسن امحد البدرى التزمت الصهيونية فى تنفيذ خمططها التوسعى ،بأسلوب اسرتاتيجية القضمات ،وسلكت فى ذلك ،نفس النهج الذى سارت عليه النازية من قبل مع فارق وحيد هو املدى الزمنى الذى يفصل بني مراحل التنفيذ. فشهور استيعاب النازية لكل مكسب جديد قبل العودة إىل العدوان حتولت إىل سنوات فى املخطط الصهيونى ويعود ذلك الفارق إىل واقع التطور التارخيى فى املنطقة التى نشأت فيها كل من الصهيونية والنازية ،وكذلك الفارق بني حجم قاعدة القوة التى انطلقت منها كل من العقيدتني التوسعيتني فقد انطلقت النازية من دولة قوية معرتف بها. أما الصهيونية فقد انطلقت استنادا إىل عصابات مسلحة وأقلية سكانية ،وعلى أرض عربية ،مل يكن االعرتاف الدوىل بسيادة السلطة الصهيونية عليها قد توفر بعد فبينما اكتفت األركان العظمى األملانية ببضعة أشهر فحسب ،كفرتة هدوء بني قضماتها املتتالية فى النمسا ثم تشيكوسلوفاكيا ثم بولندا ثم فرنسا قبيل وأثناء احلرب العاملية الثانية فإن التطبيق الصهيونى السرتاتيجية القضمات ،عمل على أن تطول تلك الفرتة إىل حنو عشر سنوات ،كمعدل عام . 199
كما أن فرتة اهلدوء التى وقعت بني غزو بولندا فى سبتمرب 1939وغزو فرنسا فى مايو 1940وهى الفرتة التى عرفت فى التاريخ باسم احلرب الكاذبة والتى بلغت ثـمانية أشهر ،قد متيزت بنشاط دبلوماسى وسياسى زائد لفرض األمر الواقع ،وإجبار احللفاء على قبول اخلريطة النازية اجلديدة ألوروبا ،كذلك فإن ً أيضا ،بزيادة فرتات اهلدوء بني اجلوالت اإلسرائيلية قد متيزت هى النشاط لفرض واقع جديد فى املسرح ،ورسم خريطة خمتلفة له وينبئنا سجل التاريخ ،أنه بقدر ما خدمت فرتة اهلدوء بني املعارك ً ً واقتصاديا سياسيا للمنتصر ،وقربته من حتقيق أهدافه ومراميه، ًَ ً ومعنويا فأنها ،وبدرجة أشد أضرت باملهزوم ليتفشى وعسكريا اليأس فى صفوفه ويتشتت مجعه وتهبط معنوياته ،وقد ينصرف الرأى العام العاملى عن قضيته ،حتى تتوارى فى زوايا النسيان أو تهبط إىل قاع اهتمامات اجملتمع الدوىل . وبتطبيق ما سبق من نظريات على الصراع العربى اإلسرائيلى، يتضح أنه غداة هزمية 1967وإسرائيل جتتاز فرتة احتواء مكاسب اجلولة الثالثة وتستكمل وتهيئ االستعداد جلولة تالية ،كما أن جناح املخطط الصهيونى فى تلك الفرتة ،كان متوقفا على استمرار اهلدوء فى املسرح ،أو حصر الصراع فى أضيق احلدود املمكنة ،وبغاية السرعة وقد أكدت املؤسسة العسكرية اإلسرائيلية سالمة ذلك التقدير فيما بعد ،مبا مارسته من أعمال الردع اجلسيم ،والعمليات الوقائية أو اجلهات املضادة املسبقة التى شنتها ضد كافة اجلبهات العربية من نهاية ،1967وحتى معركة نهر البارد فى مشال لبنان . 200
ً ضررا باملصلحة القومية العربية ،من أن يتدهور وليس هناك أشد الصراع فى املسرح إىل مستوى احلرب الكاذبة أو حالة الال حرب و الالسلم فالرتمجة الصادقة هلذا الوضع ،هى إتاحة الفرصة للعدو لتحقيق أهدافه العدوانية ،واحتواء مكاسبه ،حتت أفضل ً جاهدا على فرضها فى املسرح . الظروف التى ينشدها ،ويعمل كما أن أكثر ما خيدم املخطط الصهيونى ،إطالة فرتة اهلدوء التى تفصل بني اجلوالت ،كى يسهل أمامه الطريق لبلوغه أهدافه املرسومة وأن يكون شكل النصر الذى حتقق ً سريعا فى املسرح فى اجلولة العدوانية السابقة عليه ،نصرا بفضل احلرب اخلاطفة ،على أن يكون زهيد التكلفة ،قليل اخلسارة املادية والبشرية ،بفضل الضربات اجلوية املفاجئة املركزة ،وعمليات التطويق البعيد وااللتفاف ثم االندفاع إىل األعماق التعبوية فى املسرح ،إلفساد االتزان االسرتاتيجى على خمتلف اجلبهات ويؤكد تقدير املؤسسة العسكرية اإلسرائيليةأن هاتني الصفتني األساسيتني للنصر ،ونعنى بهما السرعة وقلة التكلفة هما أكثر العوامل التى متكنها من بث اليأس فى صفوف العرب ،وأنه ال جدوى من مواصلة النضال . وإزاء هذا الواقع الذى ترتب على هزمية يونيو 1967والذى انتفخت أوداج صقور املؤسسة العسكرية الصهيونية زهوا بنصرهم، لدرجة أن وقف أبرز زعمائها يوم 12يونيو ليعلن بكل غطرسة بأن العرب يعرفون رقم هاتفه ،وأنه فى إنتظار رجائهم ليأتوه مستسلمني ،إال أن أضغاث أحالمه مل تتحقق ،بل ذهبت أدراج الرياح ،حني فاجأهم العرب ،بكل صالبة وإميان راسخ ،وبدأت 201
حرب االستنزاف بعد عبورها مرحلة الصمود ،فكانت مفاجأة لقادة ً وإكبارا وإجالال من الذين يؤمنون بتسفيه العدوان . إسرائيل، ولرمبا بدت حرب االستنزاف أو حرب السنوات الثالث أقل صور الرفض العربى احلقيقى إجيابية من ناحية النوع لفهم إسرائيل (بعد استبعاد الرفض بالكالم الذى متيزت به املمارسة العربية ً حتركا ،فى ضوء الظروف طويال) إال أنها كانت األنسب السياسية والعسكرية واملعنوية التى سادت املسرح غداة يونيو ،1967لعبور فرتة اإلعداد والتجهيز ملا هو أكثر إجيابية من صور الصراع ،ولتجنب سقوط قضية االحتالل اإلسرائيلى فى مهاوى التجمد ،بكل ما يعنيه ذلك ،ولكى ال تنخر اهلزمية فى كيان األمة العربية من ناحية ،وحلرمان إسرائيل من االستيعاب اهلادئ واملتئد لنتائج إنتصارها العسكرى .
األهداف العسكرية حلرب االستنزاف :
إن حرب االستنزاف ،فى مفهومها العسكرى :هى تلك الصورة من الصراع املسلح اإلجيابى الذى يدور بني خصمني أو عدة ً مؤقتا وألسباب مرحلية خصوم ال يستطيع أحدهم أو بعضهم أن يستخدم قوته الرئيسية الضاربة ،حلسم املوقف لصاحله فى مسرح احلرب ،بل يفضل حصر جمال نشاطه احلربى ،فى شن أعمال عسكرية متعددة ،وإن كانت حمدودة اهلدف ،ممتدة املدى والزمن تشكل فى جمموعها ً عبئا على العدو ،ويعنى ذلك أن حرب االستنزاف جيب أن تشتمل على أنشطة عسكرية تدار ً ً ً ومعنويا ،كما جيب أن واقتصاديا بشريا بغرض إنهاك اخلصم 202
تهدف إىل اكتساب اخلربة امليدانية ،وإمتام االستعداد ملواجهة تكون أشد حسما فى املستقبل. هذا عن األهداف العامة حلرب االستنزاف ،أما األهداف التفصيلية فهى : -1إنزال أكرب قدر ممكن من اخلسائر البشرية بالعدو . -2النيل من معنويات العدو . -3توفري أفضل الظروف املمكنة ،لبناء جيش متمرس على احلرب ،بهدف إنتزاع النصر فى املواجهة احلتمية التالية . أما بناء اجليش املتمرس على القتال ،فال يكون إال فى هليب املعركة ،وفى جمال الواقع ،باعتبار ذلك أفضل الطرق حلشد القوى املسلحة ،وخلق القائد احملنك ،واملقاتل الكفء . فالتاريخ العسكرى يشري إىل أن أبناء اجليوش القوية القادرة قد اختذ أحد مسارين ،أو كليهما معا : فأما جيوش بنيت فى مسارح حرب بعيدة عن دوهلا ،مثل مسرح غاليبوىل خالل احلرب العاملية األوىل ،ومسرح احلرب األسبانية قبيل احلرب العاملية الثانية بالنسبة للجيش األملانى ،ومسرح إيطاليا خالل احلرب العاملية الثانية ومسارح احلرب املعاصرة فى كوريا وفيتنام وشبه القارة اهلندية بالنسبة للجيش اإلسرائيلى ،ولعل من قدر هلم أن يقرءوا كتاب موشى ديان عن حرب العصابات بعد زيارته ملسارح احلرب فى الشرق األقصى عام ،1966قد استوقفهم قوله :أن التطبيق الذكى لشكل 203
املعركة القادمة ،يتم من خالل االقتحام اجلوى الرأسى وعلى الرغم من ذلك ،فقد كانت املفاجأة وحدها ،هى التى قابلت قوات االقتحام اجلوى الرأسى احملمولة جوا واحملدودة العدد نسبيا التى دفعت بها إسرائيل إىل ميدان املعارك على اجلبهات العربية عام (1967وأصبحت هذه القوات اآلن من ركائز القوة اإلسرائيلية بعد التوسع فيها ،واستخدامها فى العديد من االشتباكات العسكرية وشبه العسكرية) . وأما جيوش بنيت فى مسرحها ،ومن خالل أشكال بسيطة من القتال تتزايد وتتسع بتزايد قدرتها القتالية ومن األمثلة عليها: اجليش اإلسرائيلى كذلك الذى كانت قواته هى منظمات اهلاجاناه والباملاخ العسكرية فى فلسطني ،فيما بني احلرب العامليتني األوىل والثانية ،وحتى إعالن قيام الدولة سنة 1948 وما تالها من أعمال إغارات ما بني 1956- 1952وفى هذا الصدد مل نزل نذكر قول ديان “أننى ال أميل إىل استخدام وسائل متثل املعركة إلضفاء الواقعية والتمرس على القتال فى تدريبات القوات اإلسرائيلية فالقوات العربية التى نغري عليها ،ونشتبك معها ،تكفل لنا مستوى ممتازا من التطعيم للمعركة” . ولقد كان حلرب السنوات الثالث ،دورها البارز فى خلق املقاتل العربى اجلديد ،فاجلندى العربى الذى عاد من معركة 1967 ليقص اخلرافات عن أهوال جيش العدو الذى يقهر ،وجنوده الذين يتطاير الشرر من أعينهم ،أصبح يستهل عمليات العبور إىل الضفة الشرقية حتى صارت جمرد مسألة روتينية ،وفاق عدد املتطوعني للعبور قبل كل عملية العدد املطلوب اشرتاكهم 204
فيها ،والسبب باختصار هو أن اجلندى العربى ،قد أتيحت له ،وألول مرة منذ معارك ،1948فرصة متكافئة فى إالشتباك مع العدو، وأصبح يرى جنود األعداء جيفلون من رؤيته ،ويفرون حتى قبل أن يقتحم عليهم حتصيناتهم ،ويرى دماءهم تسيل من هول ضرباته ،وتتناثر أرواحهم ً فرقا عن أجسادهم ،فاكتشف املقاتل العربى نفسه ،وعادت ثقته فى قدرته ،فتلهف على قتال العدو، ً مسبقا أنه املنتصر بعون اهلل وكأنه فى مباراة رياضية ،يعلم وتأييده . وال يقتصر أثر حرب االستنزاف بالنسبة هلدف بناء جيش قادر ومتمرس على القتال على هذا اجلانب املعنوى فقط بل ما ال يقل عنه خطورة وهو ما يتصل باملفاهيم العسكرية وبتطوير السالح وباختيار قدرة القادة فاجليوش التى ال تبنى من خالل املعارك سواء أكان ذلك فى مسارح أجنبية أم حملية ال شك فى أنها ستدخل احلروب مبفاهيم عسكرية متأخرة ولنا فى ذلك عربة من اجليش الروسى الذى دخل احلرب العاملية الثانية مبفاهيم احلرب العاملية األوىل ،وكذا جيش بريطانيا ،الذى مل يعرف انتصارا ما بني . 1939-1942 ذلكما مثاالن بارزان على ذلك ،كما أن السالح الذى حارب به أى من اجليوش املنتصرة مبعاركه األخرية ،مل يكن أبدا هو نفس السالح الذى خاض به أوىل معاركه فى ذات احلرب ، فاملعارك املستمرة تدفع إىل التطوير املستمر ،واألسلحة العربية فى نهاية حرب االستنزاف ،كانت حقا خمتلفة نوعا وليس فقط 205
كما عن تلك التى بدأت بها هذه احلرب أما حني يسود اهلدوء جبهات القتال فإن معيار احلكم على نوعية السالح ،يصبح إجتهادا ،ويتفاقم خطر اكتشاف جيش ما بعد فوات األوان أنه قد تورط فى حرب بأسلحة اجليل السابق .األمر الذى عانى منه العرب أكثر من مرة فى صراعهم مع إسرائيل وكذلك فإن املعارك احلقيقية حني حتتدم ،تصبح كالبوتقة التى تنصهر بداخلها املعادن ،فتظهر النفيس منه واخلبيث ،كما أنها احملك للحكم على كفاءة القادة وقدراتهم الذهنية والقتالية وهو بالقطع، ً صدقا من عدد األنواط والرتب التى حيملونها على معيار أكثر صدورهم وأكتافهم ،فى فرتات املهادنة العسكرية . ولقد كانت للفيلد مارشال مونتجمرى كلمة معربة قاهلا حني زار مصر منذ سنوات فسألته عن األسباب احلقيقية التى ً قائدا من أبرز نال بفضلها كل هذا التقدير ،وتلك التى جعلته القادة فى التاريخ العسكرى فجاءت إجابة ذلك القائد املرموق، أبسط بكثري عما توقعه الكثريون ولكنها كانت أيضا ً حمظوظا أعمق مما يسهل استيعابه إذ أجاب بقوله :لقد كنت كانت أقدميتى جتعلنى بعد هؤالء القادة الذين دفعوا من قبلى ً جيوشا غري مثن إهمال وختلف مفاهيم من سبقوهم ،بأن قادوا مدربة وبأسلحة متخلفة ،تسريها املفاهيم العسكرية لقرن مضى وفى نفس الوقت ،كانت أقدميتى تضعنى قبل اجليل الذى تعلم ممن سبقه من هؤالء الذين تطوروا فال هليب املعارك، فأصبحت أنا قائدهم . 206
مراحل حرب االستنزاف: مبجرد أن قرر العرب فى مؤمتر قمة اخلرطوم ،وضع اسرتاتيجية قومية شاملة ملعركة التحرير استطاعوا أن يعربوا إىل مراحل ما بعد اهلزمية مرحلة الصمود وأن يدخلوا ثانية املراحل مرحلة الردع فى طريقهم إىل مرحلة التحرير ولقد مرت ثانية هذه املراحل ،وهى التى جتسدت فى حرب االستنزاف ،بعد فرتات زمنية ،كانت لكل منها ظروفها فى ضوء املوقف املتطور باستمرار ،حتت ضغط املعارك العسكرية .
املرحلة األوىل (28سبتمرب 68-19أبريل :)1969
بدأت هذه املرحلة ،برتاشق املدفعية عرب قناة السويس ،وكانت أول إعالن إجيابى جاد وحقيقى عن التصميم العربى على رفض نتائج اهلزمية ،إذ كان هذا اإلعالن بالطلقات وباالستعداد لدفع الثمن ولقد كانت بداية الرتاشق ،مفاجأة تامة للقوات اإلسرائيلية وقد وصفها زئيف شيف أبرز املعلقني العسكريني اإلسرائيليني بقوله :فى الساعة 17,40بينما كانت الشمس فى ظهر املصريني ،تبهر أبصار رجال املدفعية اإلسرائيلية ،بدأت ً ً مركزا وهبط الظالم بسرعة وبذلك ضمن ضربا املدافع املصرية املصريون عدم تدخل الطائرات اإلسرائيلية وفى ذلك الوقت ضربوا حواىل 10اآلف قذيفة واستمرت عملية القصف حتى الغد ،وملدة يومني متواليني خالل هذا األسبوع وخالل سلسلة هذا القصف، أطلق املصريون حواىل 40ألف قذيفة وقنبلة ،جتاوز جمموع أوزانها 2مليون رطل من املتفجرات . 207
املرحلة الثانية من ( 19أبريل 1969-4يونيو:)1969
وهى الفرتة التى بدأت بأول عملية عبور مصرية حمدودة إىل الضفة الشرقية ،واحتالل موقع إسرائيلى لعدة ساعات ،ورفع ً مرفرفا ،ليعلن أن مصر على الدرب تسري ،وأنه العلم املصرى عليه ال مناص للعدو من أن يندحر أو يعود مرغما من حيث أتى ومنذ ذلك التاريخ ،أصبحت عمليات العبور تسريً ، جنبا إىل جنب ،مع عمليات القصف املدفعى.
املرحلة الثالثة ( 5يونيو 1969-19يوليو : )1969
إن ما مييز هذه املرحلة ،هو تزايد حدة تصعيد العمل العربى على اجلبهة املصرية ،فقد اختذ شكل الغارات الربية القوية ً حجما ،حتى وصلت مبجموعات قتال كبرية ،راحت تتزايد إىل مستوى الكتيبة الكاملة ،وتزايدت مهامها القتالية ،حتى وصلت إىل مستوى املعركة الكاملة ،كما تزايدت مدتها، حتى وصلت إىل مستوى اليوم الكامل ،بل ولعدة أيام متتالية . املرحلة الرابعة ( 20يوليو 1969-6يناير : )1970 اعرتفت إسرائيل دون قصد بقدرة اجليش املصرى وشجاعته، وتضحيات أبطاله ،وذلك ملا أصابها من خسائر فادحة ،بفضل إلقدامه وبطوالته فى حرب االستنزاف التى قاست منها األمرين، وذلك عندما بدأت هذه املرحلة ،بدفع سالح طريانها إىل املعركة ولذلك كان قرارها هذا ،مبثابة نقطة حتول بارزة ،ذات داللة خاصة إذ كانت وجهة نظر موشى ديان ،منذ بدأت حرب االستنزاف ،هى :عدم تدخل سالح الطريان ،إال عندما حتاول 208
مصر العبور الشامل لقناة السويس ،مبا جيرب إسرائيل ،عندئذ، على توجيه ضربة وقائية مكثفة للقوات املصرية وكان رأى املعارضني لدفع سالح الطريان إىل املعركة قبل عمليات العبور املصرى الشاملة للقناة ،هو أن ذلك سيكون من شأنه استهالك الطائرات فى عمليات غري أساسية نسبيا ،على أن يتدخل الطريان فقط لوقف العبور الشامل للجيش املصرى ،وليس قبل ذلك . ولكن القيادة السياسية العسكرية اإلسرائيلية ،إضطرت إىل إصدار أوامرها لسالح طريانها باالشرتاك فى املعارك حني وجدت بالقياس والدراسات أن تطورات حرب االستنزاف ،أصبحت تنبئ مبعدل سريع فى تزايد القدرات العسكرية املصرية ،التى سوف تنتهى دون شك باستكمال البناء إىل عملية عبور شامل ،وحني ً أيضا ،بأن حجم اخلسائر اإلسرائيلية ،وخباصة البشرية شعرت منها ،فى تزايد مستمر ،وأنها ارتفعت إىل معدل يصعب قبوله ومما يؤيد ذلك ،أن ما أذاعته مصادر إسرائيلية ،يتبني أن معارك الشهور الثالثة مايو ويونيو ويوليو 1969قد أحلقت بالقوات اإلسرائيلية على القناة خسائر كبرية إرتفعت وفق األرقام اإلسرائيلية من 51إصابة بينهم 13قتيال فى مايو ،إىل 89إصابة بينهم 17قتيال فى يونيو ،إىل 112إصابة بينهم 30قتيال فى يوليو . وتأكيدا هلذه الدالالت اإلجيابية التى فرضت على إسرائيل، دفع سالح طريانها إىل املعركة ،رغما من التقديرات السابقة لوزير دفاعها وهيئة أركانها. 209
يوضح ذلك زئيف شيف فيقول: كان السبب املباشر الذى أنهى اجلدل فى القيادة اإلسرائيلية حول إدخال سالح اجلو فى املعركة ،هو عملية العبور التى قامت بها وحدة مصرية يوم 10يوليو 1969فى منطقة بور توفيق وكانت القيادة املصرية ،قد ذكرت أن قواتها اخلاصة ،قامت باقتحام املواقع اإلسرائيلية ،وقتلت وجرحت ً ً إسرائيليا ،بعد ما مت احتالل املوقع ملدة 24 جنديا حنو 40 ساعة كاملة ،وتدمري مخس دبابات إسرائيلية ومركز ً أيضا ،أن ختتطف جنديا مراقبة واستطاعت القوات املصرية إسرائيليا ،وأن تعود به عرب القناة إىل املواقع املصرية . ويستطرد شيف قائال :وكان ذلك هو أبرز جناح حققه املصريون، ومن الواضح أنه سوف حيفزهم على بذل نشاط أخر وكان ال بد من إيقافهم بسرعة .واستمرت خسائرنا تتصاعد ألسبوع أخر، إىل أن اختذ القرار احلاسم ،بدفع سالح الطريان إىل املعركة . وتتناول صحيفة معاريف اإلسرائيلية املوضوع نفسه فتقول: أمام الضغط اهلائل الذى مارسه املصريون ،واحلياة التى أصبحت ال تطاق على اجلبهة اجلنوبية رجحت القيادة اإلسرائيلية فكرة استخدام سالح اجلو هذا السالح الذى كانت كل التقديرات، تؤكد اإلصرار على االحتفاظ به للمستقبل. وفى 7سبتمرب 1969أعلن رئيس األركان العامة
اإلسرائيلية:
لقد قامت طائراتنا بنحو 1000غارة فوق اجلبهة املصرية منذ 20يوليو املاضى ،وهدف هذه اإلغارات ،هو ختفيف حدة العمليات 210
املصرية الربية على طول قناة السويس ولكن جيب أن يكون ً مفهوما لنا ،أن إسرائيل ال تستطيع إجبار مصر على االلتزام الكامل بوقف النار . اجلدير باملالحظة ،أنه حتى هذه املرحلة وخالهلا ،مل تشرتك اجلبهة الشرقية فى القتال ،وإمنا اقتصر النشاط فى غري جبهة القناة ،على عمليات الفدائيني الفلسطينيني. وقد ركزت إسرائيل فى هذه املرحلة ،بالدرجة األوىل ،على توسيع ساحة القتال مع مصر ،لرتغمها على نشر قواتها فى اجتاهات ثانوية وفرعية ليقل احلشد املصرى على اجلبهة الرئيسية ،مبا جيرب مصر على إعادة توزيعه بشكل دفاعى يضر باالتزان االسرتاتيجى العربى اإلجيابى فى املسرح . كما اهتمت إسرائيل بفتح ممر جوى ،على اجلبهة ،لتستطيع الطائرات اإلسرائيلية ،أن تتسلل منه إىل عمق األراضى املصرية، بعد تعرية اجلبهة من دفاعها اجلوى ،كى تستدرج الطريان املصرى إىل جمابهة مباشرة مع الطريان اإلسرائيلى ،وجتره إىل معارك غري متكافئة ،مما يؤدى إىل إضعاف معنوياته ،وانكماش عملياته . وتنفيذ هلذه اخلطة ،راحت الطائرات اإلسرائيلية ،فى أواخر أغسطس وخالل سبتمرب وأكتوبر ،وحتى أوائل نوفمرب من ،1969تقصف شبكات الرادار ،ومواقع الصواريخ املصرية ،فى جبهة القناة ،وعلى امتداد ساحل خليج السويس . وقد وضح ملصر ،أنه ال مناص من استمرار مزاولة الضغط على إسرائيل ،برغم كل املصاعب ،وعدم التحول إىل املوقف الدفاعى 211
السلبى الذى تريده إسرائيل ،وإال فقدت حرب االستنزاف غايتها األساسية ،وهى القيام بأعمال هجومية مستمرة على القوات اإلسرائيلية حتى ال تستقر فى مواقعها فى سيناء وهلذا قامت قوات الصاعقة املصرية ،بعدد من اهلجمات فى هذه الفرتة فى عمق سيناء ،كما واصلت القوات اجلوية املصرية ،هجماتها على األهداف اإلسرائيلية ،مبا أثبت أنها مل تهزم خالل معارك يوليو وأغسطس ،أو ينال اليأس من إرادتها .
وكان من أبرز العمليات العسكرية املصرية التى أكدت هذا االجتاه ما يلى : فى 11سبتمرب :1969قامت القوات اجلوية املصرية بأكرب هجوم هلا على القوات اإلسرائيلية منذ عام 1967إذ شنت 60 طائرة مصرية ،غارات مفاجئة على قوات إسرائيل فى سيناء . وفى 28سبتمرب ،1969قامت وحدة مصرية خاصة حممولة جوا ،بهجوم على مركز للجيش اإلسرائيلى فى منطقة املصفق، على مسافة 85كيلو مرتا شرق القنطرة . وفى 2أكتوبر :1969أعلنت مصر عن قيامها بهجوم مماثل على العدو اإلسرائيلى فى خليج السويس وفى ليلة 3-4أكتوبر :1969قامت الوحدات اخلاصة بهجوم كبري عرب القناة وفى 9 أكتوبر :1969قامت وحدة مصرية خاصة تتكون من 250 جنديا ،بعبور القناة ،واشتبكت مع أحد املواقع املعادية ودمرته . 212
املرحلة اخلامسة ( 7يناير 1970إىل 13أبريل:)1970 وللمرة الثانية ،متنح إسرائيل دون وعى أرفع األومسة للجيش املصرى ،الذى أقضى مضجعها ،وزلزل األرض من حتتها ،وأمطر عليها السماء بنار حامية من فوقها ،فى الوقت الذى تعلن فيه ً أيضا أنها دولة همجية ،ال حترتم املواثيق للعامل أمجع ودون وعى الدوليةوذلك حني بدأت هذه الفرتة بتصعيد خسيس وضيع فى اهلدف السياسى اإلسرائيلى ،وفى نوعية األهداف املنتقاة ً عسكريا ومدنيا ،لشن الغارات اجلوية عليها. فراحت تقصف معسكرات دهشور وأنشاص والتل الكبري وهاكستب واخلانكة على بعد كيلو مرتات من العاصمة املصرية ،وزادت خالهلا من كثافة اإلغارات فى األعماق ،ثم حتولت إىل ضرب األهداف املدنية فقصفت مصنع أبى زعبل ومدرسة أطفال فى حبر البقر وفى هذه املرحلة أيضا ،استمرت اإلغارات اإلسرائيلية على القوات املصرية فى جبهة القناة وكان واضحا أن خطة إسرائيل فى هذه املرحلة ،تستهدف اآلتى: استغالل الثغرات التى فتحتها اإلسرائيلية منذ يوليو 1969فى شبكة الدفاع اجلوى املصرية على القناة وخليج السويس للتوغل خلف اخلطوط األمامية ،والضرب فى األعماق. مواصلة الضغط على جبهة قناة السويس ،لعرقلة عملية بناء القدرة العسكرية املصرية الالزمة لالنتقال إىل مرحلة التحرير وتشتيت احلشد املصرى ،وإجبار مصر على إعادة توزيع قواتها فى هيكل دفاعى جامد. 213
إجهاض اإلجنازات العسكرية املصرية التى حتققت حتى هذه الفرتة ،والتى قد تدفع أو جترب خمتلف األطراف العربية، وخباصة دول املواجهة ،على املشاركة اإلجيابية فى اجلهد العسكرى املوجه ضد إسرائيل ،حتت ضغط الرأى العام الشعبى فيها حماولة االسراع بتوجيه الضربات املخططة بدقة ،إىل ما بعد عصب اجلهد العسكرى املصرى من أهداف ،على أمل إصابة القدرة العسكرية املصرية ،بشلل يكسر حدة االجتاه الثورى، وما يلقاه من تدعيم وانتشار ،بالتحام ثورة مصر بثورة ليبيا والسودان. هذا من حيث اخلطة وأهدافها املباشرة ،أما عن اهلدف السياسى االسرتاتيجى هلذا التطور اإلسرائيلى الذى بلغ أقصى مراحل التصعيد ،فقد متثل فى الرتكيز بالدرجة األوىل على إسقاط نظام احلكم فى مصر باإلضافة إىل بث اليأس فى نفسية الشعب املصرى ،لعله يكفر باستمرار احلرب ،واحتماالت التحرير وكانت جولدا مائري رئيسة وزراء إسرائيل ،قد أعلنت صراحة فى 13نوفمرب 1969أنها ال ترى هناك فرصة للسالم ،ما دام عبد الناصر فى احلكم وفى فرباير 1970أكدت مائري من جديد ،أن اهلدف السياسى االسرتاتيجى إلسرائيل ،هو إسقاط مجال عبد الناصر ،عسى أن يكون هناك من هو أكثر استعدادا للتفاوض من عبد الناصر ،فال بد أن أى إنسان غريه ،سوف يكون خمتلفا عنه . وحيلل عاموس بريملرت أستاذ العلوم السياسية اإلسرائيلى جبامعة هارفارد األمريكية ،هذا التطور فى اهلدف السياسى 214
االسرتاتيجى ،فى دراسة له نشرتها صحيفة معاريف االسرايلية أنذاك حتت عنوان :العدو كان وما زال ناصر أورد فيها حتليال سياسيا شامال للقدرات املصرية فعرض جلميع إمكانات التحرك املتاحة أمام مصر ابتداء من احتمال عدم حماربة إسرائيل واحلفاظ على الوضع القائم وهو ما استبعده على الفور حتى احتمال تدمري إسرائيل كلية وتناول بالتحليل ،فرص مصر فى كسب تأييد ومساندة األصدقاء ،والضغط على األعداء فى كل من هذه االحتماالت وانتهى بريملرت فى حتليله إىل استنتاج أن هذه اإلمكانات املتاحة أمام مصر ،هى األكثر تنوعا ،ومن ثم فهى األكرب حجما وقدرة على التأثري فى املوقف ،من تلك التى ميلكها أى من أطراف أزمة الشرق األوسط . وانتهى بريملرت إىل حتديد اهلدف السياسى االسرتاتيجى إلسرائيل فى هذه املرحلة ،فقال : إن اإلمكانات املتاحة ملصر ،موجهة حنو جمهود مركز ،لتحقيق أعز القيم السياسية لدى عبد الناصر ،وهى ضرب إسرائيل . أن واجبنا املقدس اآلن ،هو تشجيع قيام نظام حكم آخر فى مصر ،ولنجعل هذا حمور اسرتاتيجيتنا العليا فنخصص كل املفاوضات وكل سياستنا جتاه الدول العربية واألجنبية ،وجتاه فلسطني واألمم املتحدة ،وكل ميزانيتنا العسكرية ،وكل جهودنا ،خللق صورة عنا ،وعن أعدائنا فى العامل ،كل ذلك جيب توجيهه من أجل زعزعة الثقة فى النظام املصرى ،بصفة كونه النظام العربى الوحيد القادر على أن يهيئ لنفسه أحسن الفرص ملواجهتنا علينا اآلن حتقيق ما مل حنققه عام ،1967ألن ناصر هو 215
الزعيم الوحيد املوثوق فيه لدى العرب والشرق والغرب على السواء وخلال هذه الفرتة من االستنزاف املضاد والضربات اإلسرائيلية التى أدت إىل كشف الغطاء اجلوى املصرى ،استطاعت القوات املصرية ،برغم ذلك ،ورغما عن التفوق اجلوى اإلسرائيلى أن تستمر فى عمليات هجومية نشطة بل إذا ما راجعنا العمليات اجلوية املصرية خالل هذه الفرتة ،لوجدناها تفوق فى كثافتها أية فرتة سابقة. ففى 24يناير 1970أغارت الطائرات املصرية على املواقع اإلسرائيلية شرق حبرية التمساح ،وفى اليوم نفسه ،أغارت أيضا الطائرات املصرية على املواقع اإلسرائيلية ثالث مرات ،وصلت إحداها إىل منطقة العريش ،فى أبعد هجوم جوى مصرى منذ حرب .1967 وفى 25يناير ،أعلنت مصر أن وحدة من الصاعقة هامجت حمطة الرادار اإلسرائيلى فى منطقة حوض أبو مسارة على مسافة 30كيلو مرت شرق القنطرة وفى 5فرباير ،قامت وحدة مصرية بعبور القناة ،ودمرت دبابتني وعربتى نصف جنزير . وفى 6فرباير أعلنت مصر أن وحدة من رجال الضفادع البشرية هامجت ميناء أيالت وأغرقت سفينتى متوين ،فى هجوم مماثل للهجوم الذى كانت قد شنته فى 17نوفمرب . 1969 وعلق رئيس األركان اإلسرائيلى على اهلجوم املصرى على إيالت ،فاعرتف بالرباعة التنفيذية التى مت بها وفى هذه الفرتة، سئل عزرا وايزمان ،عن احتماالت جناح مصر فى جذب اإلحتاد السوفيتى إىل مزيد من التدخل فى الشرق األوسط ،حتت ضغط 216
غارات العمق ،فأجاب قائد سالح الطريان السابق ووزير املواصالت وقتها بقوله :ال يوجد هناك أمل كبري فى تدخل السوفييت فى الشرق األوسط بضغط من مصر .
املرحلة السادسة واألخرية من 13أبريل 1970إىل 7أغسطس : 1970 فى هذه املرحلة أعلنت إسرائيل عن إفالسها العسكرى فى ردع مصر أو النيل منها ،وذلك بوقف غارات العمق اإلسرائيلى وهى مرغمة وانتهت بوقف إطالق النار على جبهة قناة السويس، ً اضطرارا حتت ضغط ولقد جاء قرار إسرائيل بوقف غارات العمق املفاجأة االسرتاتيجية املتطورة التى حققتها مصر ،بإدخاهلا بطاريات صواريخ الدفاع اجلوى سام 3-إىل العمق املصرى، إلحكام الدفاع عنها ومما يؤكد تلك املفاجأة ،أن دافيد العازر رئيس األركان اإلسرائيلية ،أدىل بتصريح قال فيه :أن خمطط اجليش اإلسرائيلى لعام 1970-1971يتضمن مواصلة الضغط على مصر بالقصف اجلوى على القناة وفى األعماق ثم بعد تصرحيه بأيام قليلة فقط ،إذ بإسرائيل تضطر لوقف غاراتها على العمق املصرى ،نتيجة لضغط املفاجأة االسرتاتيجية املصرية ،على حنو ما قدمنا. وبإيقاف غارات العمق ،انقلب الوضع االسرتاتيجى ،واستطاعت مصر االنتقال من فرتة ،كانت فى جمموعها دفاعية خالل املرحلتني الرابعة واخلامسة إىل فرتة هى فى أساسها هجومية فى املرحلتني التاليتني بعدهما ،ويعود الفضل األكرب فى ذلك إىل 217
اخلطوة االسرتاتيجية البارعة التى جنحت القيادة السياسية املصرية فى اختاذها على املستويني احمللى والدوىل ومل يتوقف أثر هذه اخلطوة ،على نتائجها العسكرية املتمثلة فى الدعم ً ً ً ً خطريا، ومانعا سياسيا، ردعا احلديث واملؤثر ،وإمنا فى كونها حال دون توسيع إسرائيل جملال ضرباتها على مصر ،وتصعيد خططها لالستنزاف املضاد ونتيجة لذلك ركزت مصر كل قواها فى منطقة الصدام املباشر على امتداد قناة السويس ،فى شكل ً ً جديا فى العنف والكثافة، طابعا هجمات برية وجوية ،أخذت وازدادت كذلك اهلجمات اإلسرائيلية على القناة ،ودخل الصراع أعنف مراحله وأخطرها .وميكن أن حندد اخلطوط العامة للخطة املصرية فى هذه املرحلة باآلتى: حشد مجيع الطاقات العسكرية وتركيزها فى منطقة الصدام املباشر ،ملواصلة الضغط على اخلطوط األمامية اإلسرائيلية . حتريك أنظمة صواريخ الدفاع اجلوى املصرية إىل داخل منطقة الصدام املباشر ،لتخفيف التفوق اجلوى اإلسرائيلى ،وتهيئة أفضل الظروف على جبهة القناة ملا يلى ذلك من أعمال تعريضة مصرية. املتابعة بالغارات اجلوية ،والغارات الربية على اخلطوط اإلسرائيلية األمامية واخللفية ،الستكمال سلسلة احللقات فى احلرب النفسية . ومما ال شك فيه ،أن مصر كانت تدرك أن جناحها فى دفع بطاريات صوارخيها ،وعناصر دفاعها اجلوى ،إىل اخلطوط 218
األمامية سيؤدى إىل نتائج خطرية بالنسبة للموقف االسرتاتيجى اإلسرائيلى العام ،ألن خطوة كهذه ،مل تكن تعنى فقط فقدان إسرائيل السيطرة اجلوية فوق املواقع املصرية فحسب بل فوق مواقعها األمامية أيضا ألن مدى الصواريخ املصرية ،ميكن أن ينال حينئذ من الطائرات اإلسرائيلية ملسافة 20-30كم داخل ً ً حقيقيا ،وخطوة حيوية فى أية خطة خطرا سيناء وهو ما يعترب تستهدف اقتحام قناة السويس فى جولة مقبلة. وقد تنبهت إسرائيل هلذا االحتمال فقامت بقصف عنيف لشبكة الدفاع اجلوى املصرى فى اجلبهة ،للحيلولة دون توسعها واقرتابها من القناة وكانت الغارات تستمر 24ساعة متواصلة على مواقع العمل فى قواعد الصواريخ املتقدمة . وفى 30مارس 1970صرح أجيال ألون :بأن إسرائيل تنوى القيام بأقصى جمهود ممكن للحيلولة دون توسع شبكة الدفاع اجلوى املصرية كما قال :أن السيطرة اإلسرائيلية فوق منطقة القناة ،ضرورة ال ميكن االستغناء عنها ،فبدون هذه السيطرة، تستطيع املدفعية املصرية ،أن تتمتع بتفوق ساحق فى النريان، وتستطيع الطائرات املصرية ،أن تضرب املواقع اإلسرائيلية دون هوادة .أن خطتنا هى متابعة قصف شبكة الدفاع اجلوى املصرية احلالية واملنشآت العسكرية األخرى ،كما سنمنع إقامة أية شبكة دفاعية جديدة أو ترميم الشبكات القدمية التى متكننا من تدمريها . 219
وفى 10مايو 1970صرح موشى ديان بأن إسرائيل لن تسمح بإقامة أنظمة صواريخ سام 3-على قناة السويس ،وأكد أنها لن تقوم بأية عمليات عسكرية خارج نطاق الدفاع عن مواقعها ً ً جديدا على إدراك إسرائيل للخطر تأكيدا األمامية وكان ذلك البالغ الذى ميكن أن تواجهه ،إذا ما جنحت مصر فى دفع صوارخيها احلديثة ،إىل منطقة اجلبهة ،لتغطى بها عشرات الكيلو مرتات من مساء سيناء وتتمكن بذلك من إدارة عمليات عبور شامل إىل شرق القناة كما كان هذا التصريح لوزير الدفاع اإلسرائيلى، تعبريا عن طبيعة املرحلة اجلديدة التى دخلتها حرب االستنزاف، والتى أجهضت فيها حماوالت إسرائيل إلنهاء هذه احلرب ،برفعها إىل أقصى درجات التصعيد ضد وفى ظروف غري متكافئة ، نظرا لتفوق سالحها اجلوى العمق املصرى ،وقد ركزت إسرائيل غاراتها اجلوية فى هذه املرحلة ،بوحشية على الشرحية األمامية للجبهة املصرية على طول القناة ،كما تعقب سالحها اجلوى احملاوالت املصرية املستمرة ،لبناء قواعد الصواريخ على اجلبهة ، والذى سقط الكثري من عمال مصر األبطال شهداء الواجب ،وهم ً أميانا منهم يعملون بال كلل على إقامة هذه القواعد اجلوية، بأنها سوف تزود قواتهم املسلحة بالغطاء املؤثر ضد خطر سالح الطريان اإلسرائيلى . وقد بلغت مجلة خسائر مصر خالل شهر يونيو 678شهيدا وجرحيا شكلت نسبة 0,13%من تعداد القوات املسلحة التى بلغت أنذاك حنو نصف مليون فرد وكانت نسبة اخلسائر فى الضباط إىل الرتب األخضر 6,5 :1فى الشهداء ،و 32,5 :1فى 220
اجلرحى وحتملت قوات الدفاع اجلوى أعلى نسبة خسائر بني سائر التخصصات األخرى ( )43,47%مما أكد استمرار تركيز إسرائيل على تدمري وسائل الدفاع اجلوى ،ومنع اقرتابها من ضفة القناة ،ال سيما وقد كشفت اإلحصاءات ،أن عدد الطائرات اإلسرائيلية املغرية خالل شهر يونيو ،وقد ازداد بنسبة 141% عما كان عليه فى شهر مايو ،كما ازداد بنسبة 267%عما كان عليه فى شهر أبريل .1970 ومبقارنة أعمال العدو اجلوى فى منطقة اجلبهة ،جند أنه خص اجليش الثانى بنسبة 81%من إمجاىل حجم القصف اجلوى خالل شهر يونيو ،ومل يوجه إىل اجليش الثالث سوى 13,6%من جهوده ،وكان عدد أيام القصف على اجليش الثانى ً 20 يوما ، بلغت خالهلا 1638طلعة طائرة ،بينما كان عدد أيام القصف على اجليش الثالث 12يوما ً ،بلغت خالهلا 274طلعة طائرة فقط ويعود ذلك إىل أن هيكل متركز كتائب الصواريخ املضادة للطائرات ،كان أشد كثافة فى نطاق اجليش الثانى، وهلذا بلغ زمن القصف اجلوى عليه 204ساعات بينما مل يتجاوز زمن القصف اجلوى على اجليش الثالث 42ساعة فقط واجلدير باملالحظة ،أن العدو مل يقم بأى قصف فى العمق ،وأنه خص التجهيزات اهلندسية لكتائب صواريخ الدفاع اجلوى بنحو 5,3% من إمجاىل حجم اجملهود اجلوى لشهر يونيو أما الرتاشق بنريان ً تراشقا املدفعية امليدانية ،فقد بلغ على اجلانب املصرى 853 مقابل 1199على اجلانب اإلسرائيلى ،طوال شهر يونيو .1970 وبرغم تركيز الغارات اإلسرائيلية املكثفة على اجلبهة فقد 221
ظلت القوات املسلحة املصرية ،تبذل أقصى اجلهد لالحتفاظ بالنمو اهلجومى لعملياتها بعد مرحلة االنتشار ،التى أجنزتها بسرعة وجناح فى املرحلة السابقة ومن األمثلة اجلريئة هلذه العمليات ،إغارة الطائرات املصرية فى 11أبريل 1970على املواقع اإلسرائيلية على بعد 25كيلو مرت خلف خطوط املواجهة األمامية اإلسرائيلية ،وصلت إىل رأس سدر وعيون موسى على الضفة الشرقية خلليج السويس . وفى 23أبريل ،أغارت الطائرات املصرية على مستعمرة ناحال يام فى مشال سيناء ،على بعد مائة كيلو مرت شرقى القناة . وفى 25أبريل ،هامجت قاذفات االليوشن 28 -املصرية املواقع اإلسرائيلية قرب العريش ،على ساحب البحر املتوسط . وفى 26أبريل احتلت قوة مصرية مكونة من 200جندى، ً ً إسرائيليا فى القطاع اجلنوبى من القناة ودمرته. موقعا وفى 28أبريل ،أغارت مقاتالت مصر القاذفة ،من طراز سوخوى ،على املواقع اإلسرائيلية ،بينما كانت املدفعية املصرية تدك املواقع األمامية املعادية مبعدل 10قذائف فى الدقيقة ،وفق التقدير اإلسرائيلى وفى أول مايو ،أعلنت إسرائيل أنها تصدت حملاولة عبور قامت بها وحدة مصرية مكونة من 80جنديا، وأنها كانت احملاولة الثالثة خالل 4أيام ،وأكدت مصر أن تلك كانت من أجنح عمليات العبور . 222
وفى 3مايو ،حتركت وحدة حبرية مصرية خاصة ،وقامت بقصف مركز على قيادة إسرائيل فى خليج السويس ،على بعد 220كيلو مرتا جنوبى مدينة السويس . وفى 24يونيو ،1970تقدم وليام روجرز مببادرة أمريكية عرفت بامسه ،جاءت حتت ضغط الواقع املتغري فى مسرح احلرب، بعد أيام قليلة من بلوغ العمليات املصرية ذروتها فى أسبوع تساقط الطائرات اإلسرائيلية ففى 3يونيو ،1970أسقطت بطاريات الصواريخ املصرية 4طائرات فانتوم وسكاى هوك ،وأسرت مصر 3طيارين وفى اليوم التاىل أسقطت قوات الدفاع اجلوى املصرى 3 طائرات أخرى ،وفى يوم 6يونيو ،أسقطت طائرتني جديدتني ،ثم طائرة استطالع إلكرتونية ،كانت تقل 12ضابطا إسرائيليا فوق سيناء وبلغ بذلك جمموع ما أسقطته مصر من طائرات الفانتوم وحدها 7طائرات فى شهر واحد وقد شهدت هذه املرحلة فى شهورها األخريةً ، حربا إلكرتونية بالدرجة األوىل ،واستمرت التطورات التى أدخلت على األسلحة املستخدمة من اجلانبني خالل املعارك العديدة بني سالح اجلو اإلسرائيلى وقوات الدفاع اجلوى املصرية . واجته معدل القتلى اإلسرائيليني ،إىل االرتفاع املستمر طوال هذه املرحلة فوفق ما مسحت بإعالنه إسرائيل ،بلغ عدد القتلى 9 فى مارس ،ثم 27فى أبريل ثم 31فى مايو ،وألول مرة منذ بدأت حرب االستنزاف ،نقرأ فى صحافة إسرائيل . 223
لقد أصبحت املبادرة األمريكية وسيلة خالص أن سياستنا خالل السنوات الثالثة السابقة ،مل تكن مبثابة إجنازات جيدة، بل سلسلة من األخطاء الصعبة ،التى أدت بنا إىل نتائج خطرية للغاية ،منها دخول السوفيت إىل املنطقة وظهور املنظمات الفدائية اإلجيابية ،كما جتاوزت ميزانية الدفاع ،حنو املليار ً صحيحا دوالر وفقدنا أصدقاءنا وإذا كان األمر كذلك ،فليس أن املصريني قد استنزفوا فى حرب االستنزاف ،وإمنا األصدق أننا حنن الذين استنزفنا ولذلك استجبنا للمبادرة األمريكية .
تقويم حرب االستنزاف فى سجل الصراع العربى اإلسرائيلى : تنفرد حرب االستنزاف التى دارت على مدى ثالث سنوات ضد العدو اإلسرائيلى ،بأنها كانت أطول حرب أدارها العرب منذ اجلولة األوىل ،1949 -1947وهلذا اعتربتها السجالت العسكرية اإلسرائيلية ،رابع اجلوالت مع العرب ،وأن حرب رمضان هى اخلامسة وبرغم أن الدراسات االسرتاتيجية العربية ،مل تزل قاصرة إىل يومنا هذا فى التقدير الدقيق آلثار احلرب طويلة املدى مع إسرائيل . فأننا نلمس التعبري عن خماطر استمرار احلروب الطويلة على الكيان الصهيونى فى فلسطني ،من خالل الدراسات العديدة التى قدمها فكروهم العسكريون واالسرتاتيجيون فى تقويم حرب السنوات الثالث فنجد فى كشف احلساب والذى قدمه فى صورة كتاب ،كل من العميد يهوشع رفيف السكرتري العسكرى لوزير الدفاع اإلسرائيلى األسبق ،والعميد شلومو 224
جازيت املشرف على املناطق العربية احملتلة آنذاك ،النص التاىل الذى أورده فى دراستهما : من الواضح أن غاية النظرية العسكرية املصرية فى إدارة حرب االستنزاف ،هى توريط إسرائيل فى حرب نشطة طويلة املدى، تتضمن أشكاال متنوعة من الصراع املسلح ،تعلو فوق مستوى احلرب الباردة ،وتهبط عن مستوى احلرب الشاملة ،وتندرج فى الشدة واملهاودة بني هذه وتلك ،تبعا للفرص الساحنة ،والظروف السائدة فى املسرح . كما تنفرد حرب االستنزاف كذلك ،بأنها كانت أول جولة عربية إسرائيلية ،تضطر فيها إسرائيل إىل االحتفاظ بنسبة مرتفعة من التعبئة العامة جليشها لفرتة طويلة نسبيا ،وهو ما ترك آثاره السيئة على الناحية االقتصادية واملعنوية فى اجملتمع اإلسرائيلى على حنو مل يسبق له مثيل فقد اضطرت إسرائيل، أن تعبئ ما يزيد على 20لواء من جيشها ،وهى نسبة تعبئة تزيد على 50%من إمجاىل وعاء التعبئة الربية اإلسرائيلية كما اضطرت إىل تعبئة كل سالحها اجلوى ،أى بنسبة 100%من وعاء التعبئة فيه ،هذا وقد خفضت إسرائيل التعبئة فى سنة 1971مبجرد إنتهاء حرب االستنزاف إىل 10-15%من قواتها ً هبوطا الربية ،كما هبطت نسبة تعبئة القوات اجلوية أيضا، ً حادا. وتنفرد حرب االستنزاف ثالثا ،بأنها كانت أوىل اجلوالت التى تدور بني قوات متكافئة فى حجمها اإلمجاىل بصفة عامة ففى 225
1948مل يواجه ال 80ألف مقاتل صهيونى ،إال 30ألف جندى عربى من مجيع الدول العربية ،أى أن إسرائيل كانت متفوقة بنسبة 1 :26فى أوىل اجلوالت وفى اجلولة الثانية عام 1956 ارتفعت نسبة التفوق العددى اإلسرائيلى إىل 1 :8حيث حشدت 16لواء شكلت منها 48كتيبة فى مسرح العمليات ضد مصر ،بينما مل يكن ملصر فى سيناء حني بدأت املعارك ،سوى 6كتائب مشاه ولواء مدرع واحد وفى 1967كان إلسرائيل ربع مليون جندى ،وحواىل 375طائرة ،بينما مل يكن للعرب إال 120ألف مقاتل ،وما يقل عن 150طائرة ،أى ما حشده العرب مل يتجاوز 0,3%من إمجاىل تعدادهم ،بينما حشدت التعبئة القومية اإلسرائيلية حواىل 13%من إمجاىل تعداد السكان اإلسرائيليني أى ما يناهز 40مثال ملا حشدته الدول العربية مجيعا وما زاد الصورة أسى ،أن بعض ما حشده العرب من جهد ضئيل، مل يكن قد وصل إىل مسرح العمليات ،عندما اشتعلت نريان احلرب صباح اخلامس من يونيو ،1967فكانت القوات العراقية ما زالت تقطع فيافى بادية الشام ،والقوات السعودية خترتق الصحراء حنو عمان ،وكانت القوات الكويتية ما زالت حتتل القطار الذى سيدخل بها حمطة العريش وهكذا ميكن القول بأن حرب 1967بدأت وانتهت ،بينما قوات العرب فى الطريق إىل أرض املعركة . أما فى حرب السنوات الثالث ،فقد أجرب العرب إسرائيل وألول مرة فى تارخيها العسكرى على أن حتارب فى مسرح حرب ،بعد أن كانت تقاتل فى كل اجلوالت السابقة من 1967 -1948 226
فى مسرح عمليات فبالرغم من عدم االشرتاك الفعلى للجبهة الشرقية ،إال بعمليات قصف مدفعى سورى خالل املرحلة السادسة من حرب السنوات الثالث فقد اضطرت إسرائيل وبفضل نشاط املقاومة الفلسطينية بالدرجة األوىل إىل أن حتارب على مجيع اجلبهات ،وأجربت على العمل على احلافة اخلارجية ملسرح احلرب وعلى الرغم من أن العسكرية اإلسرائيلية ،فى هذه الظروف ً جذريا عن تلك التى مارست فيها عملياتها من قبل ،قد املختلفة أثبتت مرونة فكرية واضحة وسرعة ملحوظة فى استيعاب هذه الظروف اجلديدة ،واملسايرة العاجلة معها ،إال أنها اضطرت إىل أحداث تغريات أساسية فى البنية العسكرية اإلسرائيلية ، وخباصة فى نسبة التعبئة العامة. فقد كان حجم القوات املسلحة النظامية وقتئذ حنو 50ألف جندى ،يزيدون عند التعبئة الكاملة إىل ثلث مليون جندى وقد أجرب االستنزاف العربى ،إسرائيل على أن ترفع التعبئة إىل 50% ليصل حجم القوات اإلسرائيلية العاملة إىل حنو 150ألف جندى، أى بزيادة حنو 100ألف جندى عن األحوال العادية ولقد جلأت إسرائيل فى تدبري هذه الزيادة إىل أمرين : األول :رفع احلد األقصى لسن االستدعاء لالحتياط واخلدمة فى اجليش العامل من 49سنة ،إىل 50سنة ،وذلك فى 30أكتوبر .1969 الثانى :سحب جزء من قوة العمل املدنية ،مبا خفض من قوة العمل من الذكور من 70ألف إىل 22ألف فقط ،وذلك وفقا 227
لإلحصاءات اإلسرائيلية عن منتصف 1970ويرجع سبب هذا النقص ،إىل ما امتصته القوات املسلحة اإلسرائيلية من أيد عاملة ،نتيجة اضطرارها إىل زيادة نسبة التعبئة القومية ،ملقابلة أعباء حرب استنزاف املتزايدة التى فرضها عليها العرب كما استطاعت العسكرية املصرية ،أن حتسن االستفادة من بعض نقاط الضعف فى املوقف اإلسرائيلى اجلديد وأن حتيد بعض نقاط القوة فيه ولقد تسببت حرب السنوات الثالث فى جتمد القوات اإلسرائيلية وألول مرة فى تارخيها داخل خنادق ثابتة، فغريت بذلك من شكل وأسلوب التكتيك امليدانى اإلسرائيلى الذى اعتمد بالدرجة األوىل فى املاضى ،على املرونة العالية، وخفة احلركة املستمرة ،التى يتميز بها املقاتل اإلسرائيلى على املقاتل العربى ،ويتميز بها قبل ذلك الفكر والتخطيط العسكرى اإلسرائيلى ،على الفكر والتخطيط العسكرى اإلسرائيلى ،على الفكر والتخطيط العسكرى العربى. إن حرب السنوات الثالث ،بفضل تعدد أنواع معاركها، وامتداد مسرحها طوال وعرضا ،أفادت القوات املصرية ،وأتاحت هلا أفضل فرص التدريب الواقعى ،واكتساب خربة القتال الفعلى والتعرف على صفات العدو ،ونقط الضعف والقوة فيه كما أتاحت فرصة اختيار القادة العسكريني األكفاء ،ومكنتهم من االحتكاك بالفكر العسكرى اإلسرائيلى فى املمارسة وبفضل هذه احلرب ،تطور السالح املصرى وفق ضرورات الواقع، وأصبح السالح الذى يستعمله املقاتل املصرى فى نهاية هذه ً ً نوعيا عما كان يقاتل به عند بدايتها بقدر ما خمتلفا احلرب، 228
اختلف هذا اجلندى نفسه نوعيا ،مبا أثبته من سرعة استيعابه للسالح اجلديد واملعقد ،مع إتقانه القتال به ولقد جاء اعرتاف اإلسرائيليني بعد انتهاء هذه احلرب ليؤكد هذه احلقائق ومن ذلك اعرتافهم بأن عملية عبور الوحدات املصرية للقناة واشتباكها مع القوات اإلسرائيلية فى حتصيناتها واحتالهلا منطقة لسان بور توفيق لعدة ساعات ،كانت مبثاب نبه القيادة العسكرية اإلسرائيلية ،إىل ضرورة الزج بسالح طريانها، لتوجيه ضربات مكثفة منتقاة ،بهدف كسر حدة تصاعد اخلط البيانى للقدرات العسكرية املصرية . ويوضح اجلدول رقم ( )1مدى تنوع النشاط العسكرى العربى خالل املرحلة من مارس 1969إىل أغسطس 1970وفق ما أورده العميدان زئيف وجازيت لقد كبد العرب إسرائيل خالل حرب االستنزاف ،ثالثة أمثال ما حلقها من خسائر بشرية خالل حرب األيام الستة . هذا وقد أشار املعدل الشهرى للخسائر ،إىل اجتاه للتزايد املستمر طوال مراحل حرب االستنزاف فخالل مرحلة الصمود من 11يونيو 1967إىل 7سبتمرب 1968التى سبقت حرب االستنزاف ،كان ً شهريا. معدل اإلصابات البشرية اإلسرائيلية أقل من 10جنود وخالل الفرتة من 8سبتمرب 1968إىل 4يونيو ،1969إرتفع ً شهريا. املعدل ليصبح ما بني 40-50جندى وخالل الفرتة من 5يونيو 1969إىل 7أغسطس 1970وصل املعدل إىل 72إصابة شهريا وهى أعلى نسبة حتملتها إسرائيل 229
فى عدوانها على العرب ،على مدى ثلث القرن املنصرم. وتشري اإلسرائيلية كذلك إىل تزايد اخلسائر البشرية على كافة جبهات القتال خالل الفرتة من مارس 1969وحتى أغسطس ،1970وذلك طبقا ملا مسحت بنشره السلطات اإلسرائيلية وأورده العميدان زئيف وجازيت فى دراستهما التى سبق اإلشارة إليها مبينة فى اجلدول ( .)2 وقد نشرت اجمللة العسكرية جليش الدفاع اإلسرائيلى أن القوات اإلسرائيلية فقدت خالل حرب االستنزاف أربعني طيارا، وأن خسائر القوات الربية فى نفس الفرتة بلغت 827قتيال و 3141جرحيا وأسريا ،وهى أرقام ال تقل كثريا عما أورده زئيف وجازيت كما أوردت نفس اجمللة ،ما مسحت بنشره الرقابة العسكرية عن اخلسائر فى األسلحة واملعدات فقالت أن إسرائيل قد فقدت خالل حرب االستنزاف 27طائرة قتال (و40 طيارا) ومدمرة وسبعة زوارق وسفن إنزال ونقل و 119جمنزرة، 72دبابة 81 ،مدفع ميدان وهاون. وعلى الرغم من حرص إسرائيل على إخفاء احلجم احلقيقى ً منعا ملا قد يرتتب خلسائرها املادية من أفراد وأسلحة ومعدات، عليها من آثار معنوية سيئة على الصعيد احمللى واخلارجى، بني التجمعات اليهودية فى خمتلف أرجاء العامل ،وازدياد الشعور املعنوى بانعدام األمان ،إال أن حجم هذه اخلسائر على النحو الذى أورده زئيف وجازيت ،يشكل 6,6%من متوسط معدل تزايد سكان إسرائيل ،مما يعد نسبة مرتفعة ً جدا تؤثر على معدل 230
اهلجرة إىل إسرائيل بالنقص بشكل مباشر وعنيف كما تؤثر على اهلجرة املضادة منها بالزيادة مبا يعنى ردود الفعل السياسية واملعنوية بالتأثريات السلبية على اجملتمع الصهيونى بعامة وعلى اجملتمع اإلسرائيلى خباصةهلذا اجتمعت مراكز البحث املختلفة على أن االستنزاف البشرى كان له تأثريه الواضح فى جمالني: األول :معدالت تدفق اهلجرة اليهودية إىل إسرائيل بالنقص . الثانى :الشعور بالعقد النفسية جتاه تزايد اخلسائر البشرية . هذا عن االستنزاف البشرى ،أما عن االستنزاف االقتصادى ،فقد بلغ متوسط ما حتمله كل فى فرد فى إسرائيل من اإلنفاق العسكرى حنو 417دوالر خالل عام ،1970بينما كان 138 دوالرا فقط عام 1966وهذا يعنى أن حرب االستنزاف ،قد زادت من العبء االقتصادى على كل فرد فى إسرائيل بنحو ،300% وبهذا اتسع مسرح حرب االستنزاف ليشل باإلضافة إىل االستنزاف املباشر للطاقة البشرية واملعنوية على خطوط املواجهة األمامية، استنزافا غري مباشر بدرجة أو بأخرى للقاعدة االقتصادية اإلسرائيلية نفسها ولقد أشار ديان إىل جانب من جوانب التكلفة االقتصادية املباشرة حلرب االستنزاف فى حماضرة ألقاها يوم 17 أغسطس 1972أمام طلبة كلية القيادة واألركان ،حني قال أن تكاليف اإلنفاق العسكرى فى األراضى العربية احملتلة منذ نهاية جولة يونيو 1967وحتى مبادرة روجرز فى 7أغسطس 1970بلغت 1364مليون لرية إسرائيلية (حواىل 320مليون 231
دوالر) ،انفق أكثر من 60%ملواجهة أثار حرب االستنزاف ،وإعادة إنشاء خط بارليف ،وما مت تدمريه من حتصينات خالل االستنزاف وبديهى أن ذلك ال ميثل إمجاىل التكلفة االقتصادية حلرب االستنزاف . ولقد استمر اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى يرتفع مبعدالت متزايدة منذ عام ،1968حتى بلغ ذروته عام ،1970عندما بلغ معدل الزيادة حنو 81%عن سنة ،1969مبا جتاوز معدل تزايد موارد إسرائيل املتاحة ،التى مل تزد إال مبقدار 13,7%عما كانت عليه عام 1969وعلى نقيض ما حدث عقب عدوان إسرائيل عام 1956فإن اإلنفاق احلربى مل ينخفض عقب عدوان 1967بل تزايد خبطى حثيثة ،فمن 7,1%عام ،1968إىل 34%عام ،1969 إىل 81%عام ،1970وبهذا وصل عام 1970إىل حنو 26,5% من الناتج القومى اإلمجاىل و 20%من إمجاىل املوارد املتاحة، وتعترب كلها أعلى النسب فى العامل فيما بعد احلرب العاملية الثانية ،إذ أنه حتى عندما تورطت أمريكا فى حرب فيتنام، وما ترتب عليها من أعباء عسكرية ثقيلة ،شكا منها املواطن األمريكى مبرارة ،فإن اإلنفاق احلربى مل يتجاوز إال 10%من الناتج القومى اإلمجاىل وهناك ارتباط طردى وثيق بني زيادة اإلنفاق العسكرى وزيادة حجم فائض االسترياد (عجز ميزان املدفوعات) فالزيادة فى اإلنفاق احلربى متول عن طريق زيادة فائض االسترياد بدرجة أكرب مما متوله به عن طريق زيادة الناتج القومى اإلمجاىل فعلى حني تراخى معدل النمو فى الناتج القومى اإلمجاىل من 13%إىل 11%إىل 8,5%فى السنوات ،1968،1969 232
،1970على التواىل ،زايد فائض االسترياد ملقابلة الزيادة فى اإلنفاق احلربى من 4,6%سنة 1969إىل 42%سنة .1970 وتعكس الزيادة الكبرية فى اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى آثار االستنزاف العربى من ناحية ،وتزايد الواردات العسكرية مبقدار ثالثة أضعاف ما كانت عليه سنة ،1967لتصل سنة 1970إىل 778مليون دوالر (وهناك ما يشري إىل أن إسرائيل استخدمت 415مليون دوالر من احتياطاتها لشراء معدات حربية مل تسجل فى ميزان املدفوعات) ،وهو ما تأكد بعد فحص بنود املوازنة العسكرية فبينما شكل ما انفق بالعملة األجنبية حواىل 50%منها سنة ،1968ارتفع سنة .1970 إىل 62%من امليزانية العسكرية ،ليستوعب ما أنفق على الواردات احلربية ،والذى جتاوز 54%من حصيلة الصادرات سنة 1970واجلدير باملالحظة ،أنه للمرة الوىل منذ قيام إسرائيل مل تغط فيها واردات رأس املال ،العجز فى ميزان املدفوعات، وبالتاىل املنخفض االحتياطى مبقدار الفارق ،واستمر هذا الوضع طوال فرتة االستنزاف العسكرى حتى سنة 1970فاخنفض االحتياطى نتيجة لعجز واردات رأس املال مبختلف أنواعه ،عن تغطية عجز ميزان املدفوعات ب 2,2%سنة 1968عما كان عليه سنة 1967واستمر االخنفاض فى االحتياطى حتى بلغ أدناه سنة ،1969مبعدل اخنفاض قدره ،20%ثم خفضت حدة االخنفاض سنة .1970 فوصل االحتياطى إىل 350مليون دوالرا وهذا احلجم من 233
االحتياطى ،مل يكن يكفى لتغطية واردات إسرائيل لشهر ونصف فقط ،وهو أقل من احلجم الذى ينصح االقتصاديون باالحتفاظ به والذى يوجب ضرورة االحتفاظ باحتياطى يغطى واردات الدولة ملدة ثالثة شهور ،أى ما ال يقل عن 600مليون دوالر بالنسبة إلسرائيل .ولقد انعكس استمرا ارتفاع اإلنفاق العسكرى مبعدالت متزايدة خالل مراحل حرب االستنزاف ،مع حمدودية املوارد املتاحة على اخنفاض معدالت منو التكوين الرأمساىل ،التى اخنفضت من 44%إىل 25%إىل 15%فى سنة 1970 ،1969 ،1968على التواىل ،األمر الذى أدى إىل اخنفاض معدل منو الناتج القومى اإلمجاىل من 13%إىل 11%إىل 8,5% فى سنة 1970 ،1969 ،1968على التعاقب. وباإلضافة إىل اآلثار السلبية سالفة الذكر على االقتصاد اإلسرائيلى طوال مراحل حرب االستنزاف ،فإن هناك ظاهرة أخرى توضح لنا مدى ضغط ارتفاع اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى خالل تلك احلرب على املوارد املتاحة ونعنى بذلك ،تزايد نصيب القروض من إمجاىل واردات رأس املال منذ شهدت سنوات ،1968 1970 ،1969اضطرار إسرائيل إىل اللجوء إىل االقرتاض لتغطية احتياجاتها وهذا يعنى أن املصادر التقليدية للمعونات واهلبات مل تستطع فى فرتة حرب االستنزاف ،أن تلبى احتياجات إسرائيل من رأس املال وتعترب تلك النقطة بالغة األهمية ،وهى رد بالدليل العلمى على أولئك الذين يدعون قدرة إسرائيل على احلصول على معونات بال حدود فقد ارتفعت أهمية القروض النسبية لواردات رأس املال من حواىل 45%سنة ،1969إىل حواىل 55% 234
سنة 1970وال شك أن جلوء إسرائيل إىل االقرتاض لتغطية عجز ميزان مدفوعاتها خالل حرب االستنزاف ،قد ألقى على أجياهلا القادمة عبء تسديد هذه الديون وفوائدها ،كما أجرب إسرائيل سنة 1970على أن تطرح سندات للدفاع للبيع فى اخلارج ،بلغت قيمتها حواىل 600مليون جنيه. وقد انعكست هاتان الظاهرتان على ميزانية سنة ،1970 1971التى زادت فيها أعباء الديون اخلارجية مبقدار 58%عما كانت عليه فى السنة السابقة لتصل إىل 925مليون لرية إسرائيلية وازدادت الديون نفسها مبقدار 30%لتصل إىل 939 مليون لرية وتشمل هذه األعباء كل الديون الداخلية واخلارجية إال أن عبء الديون اخلارجية كان يشكل اجلزء األكرب فيها، ألنها تدفع بالنقد األجنبى ،وقد وصلت أعباءها سنة 1970إىل 235مليون دوالر .ونود أن نشري بهذا الصدد ،إىل أن اجتاه معدل منو الدخل القومى للتباطؤ جيب أن حيظى باملزيد من اهتمام العرب ،ألنه مع استمرار ارتفاع اإلنفاق احلربى ،ال بد أن تلجأ الدولة إىل الوسائل التضخمية لتمويله (عن طريق االقرتاض ً فعال خالل حرب من البنك املركزى) وهو ما حدث فى إسرائيل االستنزاف ،إذ كان هناك عجز فى امليزانية سنة ،1969بأكثر من بليون لرية ،ارتفع سنة 1970إىل أكثر من 3باليني لرية، وكان ال بد لذلك أن ينعكس على مزيد من اجتاه األسعار لالرتفاع ،وهو ما حدث أيضا سنة ،1970إذ ارتفع مستوى األسعار بنحو 10%ثم 12%فى سنة ،1971األمر الذى انتهى بتخفيض 235
اللرية اإلسرائيلية فى نوفمرب سنة .1971 لقد أثارت هذه االجتاهات التضخمية لألسعار ،صعوبات كثرية أمام املخطط اإلسرائيلى فى اتفاقاته على جتميد األجور بني احلكومة واهلستدروت ،ألنها كانت تعنى املزيد من اإلضرابات لرفع األجور وارتفاع األجور يعنى مزيد من ارتفاع األسعار ومن ثم املطالبة برفع األجور مرة أخرى ،وهكذا دواليك إىل أن جيد االقتصاد نفسه فى حلقة مفرغة ،من ارتفاع األجور وغلو األسعار وذلك بهدف من بني أهداف حيوية عديدة أخرى فى اجملال اإلسرائيلى الداخلى مل نزل ندير صراعنا العربى ً بعيدا عنه نتيجة الفهم احملدود لطبيعة وظروف اإلسرائيلى عدونا املشرتك ،وبدرجة أهم للفصل التعسفى بني دراسة العدو ً عليما وبني التخطيط ملواجهته ،فضال عن عدم تكامل هذا ً ً ً ً وسياسيا ،وسيادة واجتماعيا واقتصاديا عسكريا التخطيط النظرة العربية اجلزئية إىل النزاع العربى اإلسرائيلى ،األمر الذى تتفوق فيه إسرائيل نتيجة التزامها مبا يعرف اليوم ،فى شتى أحناء املعمورة بعلم إدارة الصراع .االعتبارات السياسية العربية املعوقة: هذا عن اجلانب االقتصادى ،أما عن اجلانب السياسى حلرب االستنزاف التى متيزت بضعف فعالية اجلبهة الشرقية خالل العمليات فليس ثـمة شك ،أن هذا الضعف يعود بالدرجة األوىل إىل عدة اعتبارات سياسية تتصل مبحاوالت بعض األنظمة العربية عدم االشرتاك فى القتال ،حتى أن مصر واملقاومة الفلسطينية هما اللتان أعلنتا رمسيا عدم التزامها بقرار وقف إطالق النار الصادر فى 8يونيو ،1967وخاضتا معا 236
حرب االستنزاف ضد إسرائيل وضاعف من غيبة فعالية اجلبهة الشرقية وهى عنصر حاسم فى الصراع اإلسرائيلى ضد إسرائيل مشكالت التنسيق بني القوات العربية املرابطة على هذه اجلبهة مع بعضها بعضا وبينها وبني اجلبهة املصرية ،والعمل الفدائى الفلسطينى داخل وخارج الوطن احملتل ويشري اجلدول ( )3الذى أورده العميدان زئيف وجازيت ،إىل حجم مشاركة اجلبهة الشرقية فى أعمال القتال ما بني مارس 1969وأغسطس ً نسبيا لألنشطة 1970باألرقام ويبني اجلدول ( )3احلجم الكبري القتالية التى مارستها املقاومة الفلسطينية ،وخباصة خالل عامى 1968و ،1969وعلى رأسها معركة الكرامة العظيمة فى مارس .1968 التى مارستها بعض احلكومات العربية ضد حركة املقاومة الفلسطينية ،والسلبيات فى املمارسة من جانب قيادات املقاومة الفلسطينية ،وأثرها فى حتويل جهد املقاومة ،من جهد موجه ضد العدو اإلسرائيلى ،إىل خالفات فيما بني املنظمات من ناحية وبينها وبني احلكومات التى ينطلق العمل الفدائى من قواعد فى أرضها من ناحية أخرى وقد انتهى ذلك مجيعه ،إىل موقف خطري فجرته بعض األنظمة العربية التى مل تشرتك قواتها املرابطة فى األردن بأى جمهود فى حرب االستنزاف ،واستغلت فيه مزايدات بعض قيادات العمل الفدائى ،األمر الذى مهد لنظام احلكم األردنى لكى يوجه ضربته القاصمة للعمل الفدائى الفلسطينى فى سبتمرب .1970 ورغما عن ذلك ،فإن اجلدول ( )4يشري ألسباب خسائر إسرائيل 237
فى األفراد ما بني مارس 1969وأغسطس ،1970والذى نشر فى نفس املصدر السابق ،وهو يبني مدى فعالية املقاومة الفلسطينية، ً موجها إىل العمل الفدائى السرى، حني كان جهدها األساسى ً موجها إىل العمل السياسى العلنى. بأكثر مما أصبح وقد ظهر من خالل حرب االستنزاف كذلك ،أن املخطط العسكرى العربى ،مل حيكم الضوابط احلقيقية التى ينظم ً عمليا بها معدل التصعيد فى سلم االستنزاف قبل أن ميارسه فى امليدان األمر الذى وضحت نتائجه خالل املرحلة اخلامسة من حرب السنوات الثالث حني دفعت القيادة اإلسرائيلية بسالح طريانها إىل املعركة بهدف نزع الغطاء اجلوى املصرى وفق خطة مدروسة على مدى شهور وهو التصعيد اإلسرائيلى املضاد الذى خطط بدقة حبيث يستفيد سالح اجلو من نقطة التفوق اإلسرائيلى البارزة ،ويستفيد كذلك الطيارون من إحدى احلقائق املعاصرة للحرب ،وهى طول الوقت الذى يستلزمه إعداد متكامل ،وذلك خللق الطيار املقاتل القادر على أن ً ً جويا بطائرة بالغة التعقيد وتدريب قتاال خيوض بكفاءة وإعداد العاملني األكفاء على األجهزة األرضية املعقدة . ً وصوال إىل الطاقم الفنى األرضى الرفيع املستوى الذى يقوم فى احلرب اجلوية بالعبء األساسى فى أية معركة جوية ،منذ حلظة إصدار األمر إىل الطائرة املقاتلة باالنطالق فى اجلو حتى حلظة إصدار األمر األرضى إىل قائدها بأن يضغط على (زر) إطالق الصاروخ ،أو الرشاش ليسقط الطائرة املعادية ورغما عن 238
ذلك فقد استطاعت القيادة السياسية املصرية أن تعوض النتائج التى ترتبت على عدم إحكام املخطط العسكرى لضوابط حرب االستنزاف ،خبطورة اسرتاتيجية بالغة األهمية ،استخدمت فيها كل ثقلها ،كزعامة ثورية عربية ،تثبتها املمارسة ويؤكد الواقع تصميمها على استمرار القتال وكانت أوىل نتائج هذه اخلطوة هى عبور املرحلة اخلامسة واخلطرية من حرب االستنزاف إىل سادس مراحلها بعد تأمني العمق املصرى بالصواريخ واألطقم ً ً وعسكريا . سياسيا السوفيتية بكل ما ترتب على ذلك وإذا كان خروج اإلسرائيليني إىل الشوارع واندفاع جنودهم من ً ابتهاجا بوقف إطالق النار فى 7أغسطس اخلنادق ،وهم يرقصون 1970فرحني بهدنة تدرا عنهم مشاهدة املواكب اليومية جلنازات قتالهم ،وهى تسري كئيبة فى شوارع حيفا وتل أبيب وغريها من ً تعبريا ،خطاب مدنهم ،كان حدثا له داللته ،فلقد كان األكثر الوادع الذى ألقاه حاييم بارليف رئيس األركان اإلسرائيلية الذى قاد جيش إسرائيل خالل حرب االستنزاف من موقع القمة العسكرية ،حني قال ملرءوسيه :إذا ما استؤنف إطالق النار مرة أخرى فعليكم أن ختتاروا جماالت عمل وأساليب قتال أكثر جتددا عما اتبع فى حرب االستنزاف ،التى خضنا خالهلا ً قتاال ً ً ظروفا كثرية قد شاقا طويل األمد مليئا بالدماء ،ذلك ألن طرأت على املسرح منذ ذلك احلني وإذا كانت حرب االستنزاف قد شهدت فى مرحلتها السادسة واألخريةً ، حربا إلكرتونية بالدرجة األوىل ،ركزت فيها إسرائيل كل ما تستطيع من أالف األطنان من املتفجرات فوق الشرحية األرضية املمتدة على قناة السويس 239
فى اجلبهة ،خشية جناح مصر فى دفع قواعد صوارخيها لتغطى جبهة القتال ،فى نطاق ميد ظالل سيطرتها اجلوية إىل مشارف املضايق فى سيناء ،ويتحقق بذلك للقوات املصرية ،الظروف املالئمة لالنتقال من مرحلة الردع إىل مرحلة التحرير ،فلقد شهدت ً استثمارا للوقت بلغ شهور الصيف ،منذ الوهلة األوىل إلطالق النار الذروة ،حبيث كانت قواعد الصواريخ املصرية فى نهايتها تقف مطمئنة مطلة على مياه قناة السويس متوثبة لتحمى جنود املتشوقني القتحام ،كى يدمروا خط بارلبف وحيطموا أسطورة جيش إسرائيل الذى ال يقهر ،وقد نالوا ما متنوا ،وأثبتوا أنهم أشبال أسد ال تضام ،على حنو ما حتقق للعرب من نصر على عدوهم عصر العاشر من رمضان اجمليد. تبقى كلمة عرفان لشهيد حرب االستنزاف وخمططها على املستوى العسكرى الفريق أول عبد املنعم رياض ،الذى كان جتسيدا لروح التحدى التى متثلت فى كل لبنة من بناء اجليوش العربية منذ اخنرط فى سلكها مع مطلع عام ،1939ثم شارك فى إقامتها من جديد بعد اخلامس من يونيو على ركائز متينة من العلم واإلميان. لقد أسهم شهيدنا العظيم ،فى إعادة البناء جبماعة فكرة وشغاف وجدانه ،وقبل أن ينصب الصرح ،إدار بشجاعة ومهارة حرب االستنزاف ،التى مهدت اجلسر املادى واملعنوى للعبور العظيم ،عصر السادس من أكتوبر ،1973بدءا بالقصف النريانى املكثف عصر 28سبتمرب ،1968وحتى سقط شهيدا فى أقصى املواقع األمامية ظهر التاسع من مارس ،1969فقدم المة العرب الدليل على روح اإلميان بغري حدود حبق الوطن املفدى ،وبرسالة املقاتل الشريف . 240
وعندما حيتفل العرب بذكرى أبنائهم األوفياء فأنهم يستعرضون سجالتهم احلافلة بافتخار ،ليستمد منها اخللف القدوة احلسنة من السلف وسجل عبد املنعم رياض قدوة للعسكرية العربية الشريفة ،استوعب نظريات احلرب احلديثة ،بوعى املفكر املثقف ،وأحاطها بدروسها امليدانية بنفاد بصرية العليم بعربة التاريخ ،ثم أدرك بذكائه وثوريته ،األبعاد احلقيقية للمخطط الصهيونى اخلبيث ،فكان أن وهب نفسه خالصة للنضال والقائد األصيل من تعلو هامته عندما تدهلم اخلطوب ،ولقد كانت بسمة عبد املنعم رياض الواثقة ،ووعده احلق فى تلك ً بلسما يشفى اجلراح أن غدنا سوف األيام احلالكة السواد، يكون أفضل من يومنا. وسواء كانت سجايا القائد تولد معه أو تصقلها اخلربة الطويلة والدراسات العميقة ،فإن موهبة عبد املنعم رياض كإنسان ،قد تفاعلت مع قراءاته كدارس ،وخرباته كقائد، ً قديرا حتى جعلت منه رجل اسرتاتيجية عليا من الطراز األول، على التنسيق والتوجيه ،وصوال إىل اهلدف املنشود .وقد أتاحت له إجادته اإلجنليزية والفرنسية واألملانية والروسية ،أن يعب من مناهل العلم واملعرفة ،من أمهات املراجع العاملية ،ثم وفرت له خربته امليدانية املزج بني النظرية والتطبيق ،فيصعد إىل الذروة . وملااجتمعتلهناصيةالعلموالتجربة،معمقوماتاخللقوالشجاعة، ً طبيعيا أن ينحو عبد املنعم رياض إىل الالمركزية فيفسح كان اجملال للمرءوسني كى يتصرفوا ويبتكرواوبهذا فاقت اإلجنازات فى مرحلة إعادة البناء التى أمسك بزمامها أشد املعدالت تفاؤال . وقوله املأثور فى ذلك قد يستحق العمل الثقيل كتفى الرجل 241
القوى ،بينما يسهل على اجلماعة املرتابطة أن تنهض به .وعندما رنا ببصره ،وهو فى القمة إىل الساحة العربية الفسيحة ،أدرك بثقاب بصريته ،موطن الداء ،فختم تقديره االسرتاتيجى للموقف العام يوم توىل منصب رئيس أركان القوات املسلحة املصرية قائال أن التحالف العسكرى ،هو أرقى مظاهر التعاون السياسى بني الدول ،ومن ثم فإن تصفية اجلو السياسى العربى ،هى اخلطوة األوىل حنو النصر وفى أخر اجتماع له باجمللس األعلى للقوات املسلحة وكنت أجلس فى مواجهته ،أدار بصره فى احلاضرين قائال النصر مستطاع طريقه شاق و دونه تضحيات وليس له ً بديال. وعندما احتجب عبد املنعم رياض جبسده فإمنا كان يلقى يومها بوصيته ،فقد ظلت تعاليمه ووصاياه متد الصرح ً ً عربيا دائم فكرا الشامخ بالثقة حتى صنعت فى النهاية، التجدد أضاء الشهيد مشعله ليشق ظالم اهلزمية ،ويسهم بالقدر املعلى فى إعادة البناء من األساس ،ثم سلم املشعل إىل ً ً منريا . وسراجا جيل العبور من زمالئه وتالميذه ،نرباسا هاديا، كان منتهى عمله أن يستعيد العرب احلق واألرض ً شرفا أنه عندما تسلم األمانة فى والكرامة ،وكفاه أعقاب اهلزمية مباشرة كان السؤال على كل شفاه متى يستسلم العرب فلما استشهد ،كان السؤال متى يعربون . وبني يونيو 1967ومارس 1969كان عبد املنعم رياض أحد الذين حققوا هذا التحول اجمليد مع زمالئه قادة العرب فى كل من األمة العربية األصيلة من احمليط إىل اخلليج فطوبى له ولشهداء العرب بني القدسني والصاحلني والشهداء وحسن أولئك رفيقا . 242
الكتاب و املؤلف * ُس ِّطر هذا الكتاب منذ بدايات السبعينات على صورة مذكرات شخصية ،و يوميات الكاتب . * فى سنة 1982متت صياغته بالصورة التى بني أيديكم،حيث استبعدت تفاصيل معينة من اليوميات أمحد عبد احلميد شريف و أضيفت بعض التوثيقات للوقائع و األحداث . * طلب البعض تنقيح هذه النسخة ،و لكن املؤلف أصر أن يصدر الكتاب للقارئ
بشكله هذا ،فصدر فى طبعتيه :االأوىل عام ، 1988و صدرت طبعته الثانيه - التى بني أيديكم -مببادرة من دار نشر أنباء روسيا فى ذكرى 40سنة على نصر أكتوبر العظيم ،و أضيف هلا ملحق دراسة عن احلرب اإلستنزاف للواء حسن البدرى، َ إعتمد عليها املؤلف فى كتابه ضمن مراجع -لألسف -حمدودة حول هذه املرحلة الساطعة من تارخينا.
* مؤلف هذا الكتاب من مواليد . 1947\2\13 -خترج من كلية االقتصاد و العلوم السياسية سنة 1968 -التحق بالقوات املسلحة كمجند فى الفرتة من سبتمرب سنة 1968حتى يناير سنة 1974 ً ً عسكريا بني القادة املصريني و اخلرباء العسكريني مرتمجا -عمل السوفييت فى الفرتة من سنة 1969حتى سنة . 1972 -ترجم بعض الكتب من الروسية اىل العربية أهمها :كتاب ناصر ألجار شيف عن دار الثقافة اجلديدة سنة .1978 -وكتاب لينني و قضايا التحرر االقتصادى و االجتماعى عن دار االمل سنة 1988
الفهرس تـــقديـم مقــــدمة عــامة ...................................................................................... صعوبات البحث .......................................................................................... بـداية التعـارف .......................................................................................... حتضريات حرب االستنزاف ................................................................... حرب االســتنزاف ....................................................................................... صواريـخ ســام وقصتـها معنا ......................................................... نظام جديد للدفاع اجلوى املصرى ................................................... احلائط العظيم يتشــكل .............................................................. ثبـات ..وصعود ..وانطالق ................................................................ يوم العيد ........................................................................................................ وسـكنت املبادرة فى جانب مصر ................................................. .......................................................................................................
5 9 13 19 31 35 47 67 103 127 131 143
ملحق : حرب االستنزاف بقلم :اللواء حسن امحد البدرى 199 ...........................