الحائط العظيم

Page 1



‫الناشر‬ ‫رئيس جملس اإلدارة ورئيس التحرير‬

‫د‪ .‬حســـني الشــــــافعي‬ ‫‪h.elshafie57@mail.ru‬‬ ‫املراسالت‬ ‫القاهرة – مدينة العبور‬

‫‪ 44971‬مكتب بريد مجعية أمحد عرابي‬

‫ص‪ .‬ب ‪72 .‬‬ ‫‪Tel. & Fax: + (202) 24 77 38 70 & 71‬‬ ‫‪E-mail: secertary_ert@yahoo.com‬‬ ‫شارك يف اإلعداد‬ ‫شيماء حممد الشافعى‬ ‫أمحد حممد جنيب‬ ‫التصحيح واملراجعة‬ ‫حامد أمحد حممد‬

‫اإلخراج الفين‬ ‫مــى مـجـدى‬ ‫حترير‬

‫نور اهلدى احلسن عبد الكريم‬ ‫والء عماد قاسم‬ ‫مارى دانيال‬

‫الطباعة‬ ‫دار الطباعة املتميزة‬ ‫مدينة العبور – القاهرة‬

‫‪Tel. & Fax: + (202) 4478 96 44 & 46‬‬

‫الطبعة األوىل ‪1988‬‬

‫مطبعة إخوان مورافتلى‬

‫شركة األمل للطباعة و النشر و التوزيع‬

‫الطبعة الثانية ‪2014‬‬

‫دار نشر أنباء روسيا‬ ‫مجي��ع حق��وق الطبع والنش��ر حمفوظة للناش��ر‪.‬‬ ‫ال حيق إعادة طبع أو نسخ حمتويات هذا الكتاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضوئيا دومنا ٌ‬ ‫إذن كتابي من الناشر ‪.‬‬ ‫إلكرتونيا أو‬

‫رقم اإليداع‬

‫بالتعاون مع‬ ‫اجلمعية املصرية الروسية للثقافة و العلوم‬

‫‪При содействии‬‬

‫‪eгипетско –российской‬‬ ‫‪ассоциации по культуре и науке‬‬ ‫رئيس جملس األمناء‬

‫رئيس جملس اإلدارة‬

‫ا‪.‬د فيتالي ناؤمكني‬

‫د‪.‬حسني الشافعى‬


‫إهــــــــداء‬ ‫إىل ‪..‬‬ ‫رباب ‪ ...‬شادى ‪...‬‬ ‫هذا هو ماضيكم ‪ ،‬فثقوا فى مستقبلكم فلسوف يثمر الغرس ‪،‬‬ ‫وتسطع مشس احلقيقة ‪ ،‬وتنتصب قامة مصر ‪.‬‬ ‫فى يوم سيكون طوع بنانكم‬ ‫باجلهد والعلم واإلخالص‬

‫أبوكم‬ ‫أمحــد شرف‬



‫تقــــد يم‬ ‫ذكريات جندى مصرى التحق باخلدمة فى الثلث األخري من عام ‪، 1968‬‬ ‫واستمرت خدمته بالقوات املسلحة ألكثر من ست سنوات شهد فيها من صنوف‬ ‫املعارك واملعاناة الكثري‪.‬‬ ‫تذكر اجلندى – آنذاك – أمحد شرف قصة اإلعداد لنصر ‪ 1973‬من خالل حرب‬ ‫االستنزاف اجمليدة ‪ ،‬والتى مشلت جمموعة ضخمة من العمليات العسكرية‬ ‫املستمرة واملتواترة بهدف إرهاق وتشتيت قدرات العدو الصهيونى ‪ ،‬وجعله فى‬ ‫حالة استنفار دائم ‪ ،‬وحتى تستعيد القوات املسلحة عافيتها ‪ ،‬وتصبح جاهزة‬ ‫ملعركة املصري التى انتصرت فيها القوات املسلحة وحطمت أسطورة عدو ال‬ ‫يقهر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫كما كانت مبادرة حرب ‪ 1973‬بأيدى قواتنا ‪ ،‬كانت حرب االستنزاف‬ ‫مبادرة مصرية ُفرضت على العدو الصهيونى ‪ّ ،‬‬ ‫وسطر فيها اجلندى املصرى أروع‬ ‫بطوالته وتضحياته ‪.‬‬ ‫إنها ذكريات عن البشر والسالح ‪ ،‬تسجل مرحلة تارخيية هامة التقى فيها‬ ‫املصرى والسوفيتى ليخُطَّا ملحمة بناء جبارة لن تسقط من ذاكرة الشعبني ‪.‬‬ ‫فى الذكرى األربعني لنصر ‪ ، 1973‬ما أحوجنا أن نتذكر هذه امللحمة ‪ ،‬و التى‬ ‫اكدت أن عشق األوطان و الزود عنها يكون بالبناء و العمل ‪ ،‬فـهما اللذان‬ ‫صاغا النصر و سيظالن عماده‬ ‫الناشر‬

‫دار نشر أنباء روسيا‬ ‫يناير ‪2014‬‬ ‫‪5‬‬





‫مقــــدمة عــامة‬ ‫منذ فرتة طويلة والذكريات بني أيدينا تلح على ‪ ،‬واألصدقاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتبكيتا لي ‪ ،‬كلما جاءت سرية أيام اجلندية‪،‬‬ ‫غضبا‬ ‫يزدادون‬ ‫ً‬ ‫ويطلبون حدا لصمتى ‪ ،‬ويؤكدون أن ما لدى ليس ملكى‬ ‫ً‬ ‫وكثريا ما عللت صمتى‬ ‫وحدى ‪ ،‬وقد آن له أن خيرج إىل الناس ‪.‬‬ ‫برغبة فى إعطاء البحث حقه ‪ ،‬وتناول حرب االستنزاف فى دراسة‬ ‫توثيقية دقيقة ‪ .‬وكلما مرت األيام ازدادت الصعوبات أمامى ‪.‬‬ ‫فأنا بعيد عن نطاق الدراسات العسكرية ‪ ،‬وما كتب عن حرب‬ ‫االستنزاف قليل ً‬ ‫جدا ‪.‬‬ ‫فهناك حبث إسرائيلى كتبه العميدان زئيف ‪ ،‬وجازيت ضمن‬ ‫دراسة عن حروب إسرائيل ‪ ،‬وهناك دراسة أو دراستان نشرها اللواء‬ ‫حسن البدرى فى السياسة الدولية ‪ ،‬وهناك تناول سريع ملا صاحبها‬ ‫من أحداث ‪ ،‬نشرها األستاذ أمحد محرش فى كتابه اخلامس‬ ‫عن تاريخ ثورة ‪ 23‬يوليو سنة ‪ 1952‬وهو خريف عبد الناصر ‪.‬‬ ‫ودراسة هنا وهناك كتبها معلق إسرائيلى أو باحث عربى ‪ .‬وهذه‬ ‫جمموعة من الدراسات تقل عن ما كتب فى املواضيع املشابهة‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫« صدر بعد ذلك حرب الثالث سنوات للفريق أول حممد فوزى‪،‬‬ ‫وكان لصدوره الفضل فى اإلفراج عن هذه الدراسة املكتوبة‬ ‫منذ مايو ‪. »1983‬‬ ‫وإزاء الرغبة فى البحث والتوثيق من جهة ‪ ،‬وقلة املعلومات من‬ ‫جهة أخرى ‪ ،‬واإلحلاح على إخراج ما وعدت به أصدقائى وما سردت‬ ‫بعض تفاصيله فى أحيان كثرية ‪ ،‬وتباعد األيام التى تؤدى إىل‬ ‫النسيان ‪ ،‬كان على أن أحسم األمر بأن أسلك طريق تسجيل‬ ‫الذكريات وعلى قدر اإلمكان أن أطابق بني الذكريات وبني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ما مت توثيقه ‪ .‬وال أدعى أننى سأقدم ً‬ ‫دقيقا ‪ ،‬ولكن‬ ‫عليما‬ ‫حبثا‬ ‫كل ما أدعيه أن هذه ذكريات ‪ ،‬أردت بتسجيلها أن أضعها أمام‬ ‫القارئ ‪ ،‬وكلى أمل أن تساعد على إزاحة بعض الغموض الذى‬ ‫الزم تلك الفرتة فى حياة مصر وشـعبها ‪ ،‬بل والشعب العربى‬ ‫عامة ‪.‬‬ ‫وألن ما سأكتبه أقرب إىل املذكرات ‪ ،‬فإن جمال تركيزى‬ ‫سيكون حول الدفاع اجلوى ‪ ،‬باعتباره السالح الذى خدمت فيه‬ ‫كل سنوات جتنيدى ‪ ،‬وألنه اجملال األقرب إىل معارفى وجتاربى‪.‬‬ ‫وعليه ‪ :‬فما أقدم على عرضه خيص الدفاع اجلوى أكثر من‬ ‫غريه من فروع القوات املسلحة املصرية ‪ .‬وهنا يضيق العرض‬ ‫ليشرح قصة بناء حائط الصواريخ ونظام الدفاع اجلوى املصرى ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫منعزال عن باقى معارك حرب‬ ‫وال يعنى هذا أنى سأعرض األمر‬ ‫االستنزاف ‪ ،‬ولكن أردت التنبيه إىل نقاط تركيزى ‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫وبعد ‪..‬‬ ‫لعل ما سأسجله على الصفحات التالية يستحق ما كتب به‬ ‫من مداد ‪ ،‬وإن كنت أعلم علم اليقني أنه سيعجز عن الوفاء‬ ‫لقطرة دم واحدة سالت من شهيد واحد ‪ ،‬ضمن كوكبة شريفة‬ ‫مضحية من أبناء هذا الوطن ‪.‬‬

‫‪11‬‬



‫صعوبات البحث‬ ‫يصعب على الباحث العربى أن خيوض فى مسائل البحوث‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ‪ .‬وال حيتاج‬ ‫عموما والعسكرية‬ ‫االسرتاتيجية‬ ‫ً‬ ‫األمر عنا ًء كبريا لتبني مدى هذه الصعوبات ‪ .‬فما زال الفكر‬ ‫ً‬ ‫جنينا مل ير بعد نور احلياة ‪،‬‬ ‫االسرتاتيجى والعسكرى العربى‬ ‫وجترى عملية نقل التجارب واألفكار العسكرية اخلارجية‬ ‫ببطء شديد ‪ ،‬فلم تتعد بعد دائرة ضيقة من املتخصصني ‪ ،‬تنقل‬ ‫هلم دون ربطها بظروف نشأتها على كافة األصعدة االجتماعية‬ ‫واالقتصادية والسياسية واأليديولوجية ‪ ،‬وتقدم هذه التجارب‬ ‫دون تالؤمها وتكيفها مع الفن اإلنتاجى الذى نشأت فى إطاره ‪،‬‬ ‫وال حتسب على ضوء عناصر القوة والضعف للظروف التى جترى‬ ‫فيها ‪ ،‬أى أنها تقدم وكأنها أفكار وجتارب جمردة ‪ ،‬وهذا بعدها‬ ‫األول ‪ ،‬ثم ال تنشر وال تعمم ‪ ،‬كى تكون فى متناول دوائر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصوال إىل االتساع‬ ‫عموما ‪،‬‬ ‫أوسع من املهتمني ‪ ،‬ومن املثقفني‬ ‫ً‬ ‫فعليا باملشاركة فى صراع مستمر ال هوادة‬ ‫اجلماهريى املعنى‬ ‫فيه مع عدو يزحف صوب حدوده ‪ ،‬بل وعواصمه ‪ ،‬وال مانع من‬ ‫تقدمه إىل بيوته وخمادعه ! ‪ ،‬وهذا بعدها اآلخر ‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫وتأتى بعد ذلك صعوبات أخرى ال تقل أهمية فى جمال البحث‬ ‫العسكرى العربى ‪ .‬فلم تتحدد بعد الفواصل بني ضرورات‬ ‫املعرفة وضرورات األمن ‪ .‬وتتعقد تلك املسألة بتعقد الظروف‬ ‫العربية ذاتها ‪ .‬فالفكر العسكرى العربى ‪ ،‬والعمل العسكرى‬ ‫ً‬ ‫متحوصال بالقهر فى يد قلة تضيق ‪ ،‬وذلك عكس اجتاه‬ ‫العربى‬ ‫الصراع ومشوله مع اإلمربيالية والصهيونية ‪ .‬واحلكومات‬ ‫العربية مازال أغلبها ذو طابع عسكرى ‪ ،‬باملعنى الشكلى‬ ‫ً‬ ‫أساسا من طابع القهر واإللزام اجلربى ‪ ،‬والذى‬ ‫للكلمة واملستمد‬ ‫يتخلى عن املفاهيم العلمية إلدارة الصراع ‪ ،‬وطابع عمليات‬ ‫االلتزام الطوعى التى تبنى بإذكاء الوعى باملصاحل والوجود‬ ‫فى مناخ اإلرادات احلرة والدميقراطية ‪ .‬إن هذه الصعوبات تضع‬ ‫الباحث العربى فى اجملال العسكرى فى دائرة عميقة من الرتدد‬ ‫بني اخلوف من العقاب باملعنى القانونى والسياسى لدى تناوله‬ ‫لقضاياه العسكرية العربية ‪ ،‬وبني اخلوف من نشر وإبراز ما‬ ‫لديه إذا كان قد عايش جتربة أو حقيقة ‪ ،‬بفعل رقابة الضمري‬ ‫ً‬ ‫ظاهريا‬ ‫أو ما يسمى بالرقابة الداخلية ‪ ،‬وسط ساحة حتمل ‪ -‬ولو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وانكماشا للعسكرية‬ ‫وتقهقرا‬ ‫مضطردا للعدو ‪،‬‬ ‫تقدما‬ ‫‬‫ً‬ ‫العربية فى جماهلا الرمسى غالبا ‪.‬‬ ‫وتزداد الصعوبات أمام الباحث العسكرى العربى فى ظروف‬ ‫غياب االسرتاتيجية العربية ‪ ،‬أو ما يسمى باختفاء نظرية لألمن‬ ‫القومى العربى ‪ .‬ونقصد بهذا الغياب إما عدم وجود اسرتاتيجية‬ ‫ً‬ ‫مطلقا ‪ ،‬وإما وجود مشوه هلا ال يساير مقتضى الظروف الفعلية‬ ‫التى حتياها املنطقة العربية ‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫وميكن القول ‪ :‬أن هاتني احلالتني ختصان احلكومات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا من القوى‬ ‫عموما ‪ ،‬بل وختصان‬ ‫واألنظمة العربية‬ ‫السياسية الفاعلة على الساحة العربية ‪ ،‬ويوجد االستثناء لدى‬ ‫بعض القوى الطليعية التى مل حتل بعد معضلة التحام الطليعة‬ ‫باجلماهري ‪.‬‬ ‫إن هذا الغياب لوجود اسرتاتيجية عربية ‪ ،‬أو نظرية لألمن‬ ‫القومى العربى ‪ ،‬حيمل عدم تواجد البنيان املكتمل ‪ ،‬عدم‬ ‫تواجد من القواعد املنهجية املستقرة لبناء مثل هذه النظرية‬ ‫تكون حمل اتفاق عربى واسع ‪ .‬لقد قدم الفكر االسرتاتيجى‬ ‫مثل هذه القواعد املنهاجية لبناء اسرتاتيجية ‪ ،‬واستقر على أن‬ ‫األخذ بأصوهلا يوصل إىل بنيان اسرتاتيجى متكامل ‪ .‬ويتحدد‬ ‫ً‬ ‫صوابا أو خطأ ‪ ،‬مبدى التحديد‬ ‫الفرق بني بنيان اسرتاتيجى أو آخر‬ ‫الصادق للعناصر املكونة هلذا البنيان ‪.‬‬ ‫ولو استعرضنا فى عجالة هذه اخلطوات ‪ ،‬وزاد أملنا فى أن‬ ‫تستقر فى العقل العربى كخطوات علمية لتحديد البنيان‬ ‫االسرتاتيجى العربى ‪ ،‬ميكن بعد ذلك أن نرصد اخللط‬ ‫والتشويش املصاحب لتحديد عناصرها ‪ ،‬ورد هذا اخللط إىل‬ ‫الفكر الذى يعكس مصاحل القوى املسيطرة على السلطات‬ ‫العربية ‪ ،‬وتبني مصاحل القوى اجلماهريية والشعبية واألفكار‬ ‫املعربة عنها ‪ ،‬والتى توجب حتديد عناصر البناء االسرتتيجى مبا‬ ‫يعكس هذه املصاحل واألفكار ‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫لتحديد مدى الصعوبات التى تقابل الباحث االسرتاتيجى‬ ‫والعسكرى العربى جنمل هذه اخلطوات ‪ ،‬وحناول تتبع ما‬ ‫يلحق بها من خلط وتشويش وذلك من اآلتى ‪:‬‬ ‫‪ – 1‬إن طبيعة اسرتاتيجية أى مرحلة تتحدد بإظهار التناقض‬ ‫الرئيسى الذى حيكم هذه املرحلة ‪ .‬ويتم إظهار التناقض الرئيسى‬ ‫بإظهار موضوعه ‪ .‬بعد ذلك يتم فرز هذا التناقض ومتييزه عن‬ ‫التناقضات الثانوية ‪ ،‬ويعترب حل التناقض الرئيسى هو حمور‬ ‫احلركة العامة هلذه املرحلة ‪.‬‬ ‫فى نطاق هذه اخلطوة نالحظ أن التشوش العربى يبلغ مداه‪،‬‬ ‫فهل الصراع الرئيسى هو صراع عنصرى بني العرب واليهود ؟‬ ‫موضوعه الشخصية العربية مبكوناتها لو جاز التعبري ؟‬ ‫أم هل هو صراع طبقى بني املستغلني العرب ؟ وموضوعه‬ ‫ملكية وسائل اإلنتاج العربية ؟ أم هو صراع قومى دميقراطى‬ ‫بني االمربيالية والصهيونية وحلفائهما فى الداخل من القوى‬ ‫االجتماعية املشاركة بالفتات والتابعة هلما! ‪ ،‬وبني جممل‬ ‫القوى الوطنية الدميقراطية داخل الوطن العربى وموضوعه‬ ‫السوق العربية والثروة العربية ‪،‬ومدى استقالليتها أو تبعيتها‬ ‫لألجنبى ؟ أم هو مجاع ذلك ؟‬ ‫هل التناقض الرئيسى موجه ضد إسرائيل والصهيونية وضد‬ ‫االمربيالية وبالذات األمريكية منها ؟ أم أنه موجه ضد دول‬ ‫أخرى؟ أيهما الرئيسى والثانوى ؟‬ ‫‪16‬‬


‫‪ – 2‬حتديد القوى صاحبة املصلحة فى حسم التناقض الرئيسى‬ ‫لصاحلها ‪ ،‬مبا يتماشى مع حقها ‪ ،‬ومدى مالئمة هذا احلق ملنطق‬ ‫التطور التارخيى ‪ ،‬أى حتديد القوى الصاعدة ‪.‬‬ ‫‪ – 3‬حتديد القوى املضادة للحق التارخيى ‪ ،‬والتى تشكل‬ ‫طرف الصراع الذى يبغى احملافظة على الوضع اخلاطئ واملضاد‬ ‫حلركة التارخيى ‪ ،‬أى القوى املعاكسة أو القوى اهلابطة ‪.‬‬ ‫‪ – 4‬حتديد جممل أهداف ومهام املرحلة على ضوء مصاحل هذه‬ ‫القوى الصاعدة ‪ ،‬وتقويض دور ومصاحل القوى املعاكسة ‪،‬‬ ‫وترتيب هذه املهام حسب أولويات حتدد احللقة الرئيسية فى‬ ‫الصراع ‪ ،‬واجتاه الضربة الرئيسية ‪ ،‬والشعار الرئيسى ‪ ،‬وحتديد‬ ‫عسكريا أم باالثنني ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معا ‪.‬‬ ‫سياسيا أو‬ ‫أسلوب إدارة الصراع‬ ‫إن عدم التحديد الدقيق للعناصر التى تتطلبها هذه اخلطوات‬ ‫إلجناز بنيان اسرتتيجى متكامل ‪ ،‬يعرب عن مصاحل اجلماهري‬ ‫الشعبية العربية ‪ ،‬جيسد أخطر الصعوبات أمام الباحث العربى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ‪ .‬لقد صار‬ ‫عموما والعسكرية‬ ‫فى جمال االسرتاتيجية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صديقا لدى البعض ‪ ،‬وصار الصديق عدوا لدى الكثريين‪.‬‬ ‫العدو‬ ‫والسالح ال ملالقاة العدو لدى البعض ‪ ،‬ولكن لتوجيهه إىل صدور‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ‪ .‬وسوق السالح‬ ‫األشقياء بل للمواطنني فى البلد ذاته‬ ‫غابت فيها املصاحل الوطنية ‪ ،‬والتكنولوجيا العسكرية صارت‬ ‫تطلب الستهالك املزيد من املوارد العربية ‪ ،‬ولتلبية متطلبات‬ ‫العنجهية لبعض احلكام دون أن تكون عملية حمسوبة على‬ ‫ضوء االحتياجات الفعلية للواقع العربى ‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫هذه بعض القضايا املعقدة التى يثريها غياب ‪ ،‬أو تشوه ‪،‬‬ ‫اسرتاتيجية عربية ‪ .‬لكل ما تقدم تربز صعوبات أساسية أمام‬ ‫ً‬ ‫عموما ‪ ،‬والباحث‬ ‫الباحث العربى فى جمال االسرتاتيجية العربية‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‪.‬‬ ‫فى جمال الدراسات العسكرية‬ ‫وتزداد تلك الصعوبات بالنسبة لشخص مثلى ‪ ،‬فأنا لست‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مزاوال‬ ‫متخصصا فى الشئون العسكرية ‪ ،‬مبعنى أننى لست‬ ‫ملهنة العسكرية وكان وجودى داخل صفوف القوات املسلحة‬ ‫ً‬ ‫إجباريا ‪ .‬وهذه أول حماولة‬ ‫املصرية من موقع اجلندى اجملند‬ ‫ىل لدخول ميدان الكتابة العسكرية ‪ ،‬بل هو أول حماولة‬ ‫ملثلى ‪ ،‬فلم يعودنا الواقع العربى أن يفكر اجلنود ‪ ،‬فالفكر‬ ‫العسكرى له سدنته ‪ ،‬ودائرة ال يلجها إال اجلنراالت ‪ ،‬ولكن‬ ‫رغم كل الصعوبات العامة واخلاصة رأيت أن أبدأ بقهرها‬ ‫ً‬ ‫سلفا ‪ ،‬سأدخل‬ ‫مبجرد النزول إىل ميدان الكتابة ‪ ،‬وكما قررت‬ ‫هذا الباب عن طريق الذكريات ‪ ،‬ووضع ما عشته من جتارب‬ ‫أمام اجلميع لعلى أستطيع أن أقدم إىل عملية بناء اسرتاتيجية‬ ‫ً‬ ‫مفيدا فى جتميع‬ ‫عربية‪ ،‬عناصره مفيدة ‪ ،‬فقد يكون اجلزء‬ ‫ً‬ ‫دافعا حملاولة جتميع الكثري ‪ ،‬وقد‬ ‫الكل ‪ ،‬وقد يكون القليل‬ ‫ً‬ ‫باعثا خللق الشامل ‪ ،‬سواء كان كل ذلك‬ ‫يكون الفرعى‬ ‫على مستوى النظرة أو على مستوى بناء النظرية ‪ .‬وليغفر ىل‬ ‫ً‬ ‫بداية ما قد يربز من إرتباط للعام باخلاص واملوضوعى‬ ‫القارئ‬ ‫بالذاتى‪ ،‬فهذه وقفة مع الذكريات تلك حدودها ‪ ،‬وال أدعى بها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متكامال ‪ ،‬فهذا فوق جهدى ‪ ،‬وخارج إمكاناتى ‪.‬‬ ‫توثيقيا‬ ‫عمال‬ ‫‪18‬‬


‫بـداية التعـارف‬ ‫بعد مولدى بسنوات قليلة ‪ ،‬فرض على أسرتى الصغرية صراع‬ ‫اجتماعى حاد كان موضوعه أكثر من نصف حيازة والدى‬ ‫الفالح الصغري من األرض الزراعية ‪ ،‬ولسوء احلظ وقعت قطعة‬ ‫األرض هذه أمام قصور عائلة إقطاعية عريقة ‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مثاليا بالنسبة هلذه العائلة ليقام عليها وابور ملياه‬ ‫مكانا‬ ‫القطعة‬ ‫الشرب النقية ‪ ،‬ضمن خطة وزارة الشئون االجتماعية والبلدية‬ ‫آنذاك ومل يغري من مزايا هذه األرض أنها كانت تبعد أقل من‬ ‫‪ً 500‬‬ ‫مرتا عن أراضى بور وقف ‪ .‬ودار الصراع من جانب أسرتى‬ ‫الصغرية فى اجتاهني ‪ :‬أبى يعتمد على حكمته وتدينه فى‬ ‫الشكاية والسعى بني الوزارات ‪ ،‬والدعاء ألولياء اهلل الصاحلني‬ ‫أن يرفع عنا هذه الغمة ‪ ،‬وأخوتى من الشباب يريدون التصدى‬ ‫بالقوة ‪ ،‬فهم يلقون حبديد املشروع تارة فى الرتعة ‪ ،‬ويعاركون‬ ‫املقاولني واملهندسني تارة ‪ ،‬ويوضعون فى احلجز تارة أخرى ‪،‬‬ ‫وتقصر جمهودات أبى وأخوتى عن إنهاء الصراع لصاحلهم ‪.‬‬ ‫وال أنسى ما حييت البشر والسرور الذى عال وجه أبى صباح ‪23‬‬ ‫يوليو ‪ ، 1952‬وهو يضع جهاز الراديو البدائى على أذنه ‪ ،‬والذى‬ ‫ال يستطيع آخر أن يسمعه ‪ .‬وكيف خرج أبى عن وقاره املعهود‪،‬‬ ‫‪19‬‬


‫وأخذ يصيح « لقد استجاب اهلل لدعائى ‪ ،‬بركتك يا إمام يا‬ ‫شافعى ‪ ،‬اجليش قام حبركة ضد الفساد» ‪ .‬وتردد تعبري حركة‬ ‫ً‬ ‫كثريا أمام مسامعى ‪ ،‬وأخذ والدى فى آخر أيام‬ ‫اجليش املباركة‬ ‫حياته تعويض أرضه ‪ .‬ومتكن أخوتى من شراء بديل هلا يتجاوز‬ ‫ً‬ ‫كثريا‬ ‫الفدان ببضعة قراريط ‪ .‬وانكسرت شوكة اإلقطاعيني‬ ‫مما ثبت تعبري حركة اجليش املباركة مبعانى اخلري ومقاومة‬ ‫البغى والفساد فى وجدانى الصغري ‪.‬‬ ‫وفى عامى العاشر جرت أحداث العدوان الثالثى على مصر ‪ ،‬وال‬ ‫أنسى نشاط أخى الكبري ( الفالح البسيط ) وتطوعه فى املقاومة‬ ‫الشعبية هو ومعظم شباب قريتنا ‪ .‬وال أنسى التفاف اجلميع حول‬ ‫جهازين أو ثالثة للراديو وقت نشرات األخبار ‪ ،‬وهى تلك األجهزة‬ ‫التى كانت حتوزها قريتنا ‪ .‬وال أنسى دأبى أنا وأطفال قريتنا‬ ‫فى اقتياد أحد الكالب اهلزيلة ‪ ،‬وربطه حببل وجره طول اليوم‬ ‫فى طرقات القرية ‪ ،‬وسط صيحاتنا « أجرى يا إيدن» ‪ ،‬وال أنسى‬ ‫أن كل شىء وكل شخص دميم أخذ أحد املسميات ‪ ،‬إيدن –‬ ‫مولييه ‪ ،‬بن جوريون ‪ ،‬جولدا مائري ‪.‬‬ ‫وحفزت هذه األحداث رغباتى للمعرفة ‪ ،‬وتفتح وعيى العام‬ ‫على تلك األحداث ‪ ،‬أحداث العدوان الثالثى على مصر من قبل‬ ‫بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ‪ ،‬لرتسم أمامى بعد صقل الدراسة‬ ‫والبحث املالمح اآلتية ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬مل يصدر هذا العدوان عن قوة واحدة أو دولة واحدة ‪ .‬وكان‬ ‫حلفا ً‬ ‫ُ‬ ‫قويا ‪ ،‬جيمع بني قوى االمربيالية الربيطانية‬ ‫الطرف املعادى‬ ‫‪20‬‬


‫والفرنسية ‪ ،‬وبني الصهيونية العنصرية ركيزة االمربيالية فى‬ ‫الوجود والعدوان داخل منطقتنا ‪ ،‬واملتمثلة فى إسرائيل ‪ .‬وإن‬ ‫هذا العدوان حفز بعض القوى االجتماعية فى الداخل إىل الدعوة‬ ‫للتسليم حتت مقولة « إنه ال قبل لنا مبعاداة هؤالء الكبار» ‪.‬‬ ‫‪ - 2‬مل تتصد هلذا العدوان وتقاومه قوة واحدة ‪ .‬ففى الداخل‬ ‫شاركت فى رده قوات املقاومة الشعبية إىل جوار القوات املسلحة‬ ‫املصرية ‪ ،‬وبدور لألوىل ‪ -‬إن مل يكرب الثانية ‪ -‬فهو مل يقل عنه ‪.‬‬ ‫وخارج مصر ‪ ،‬اشتعل العامل العربى حبركة عارمة تشارك فى‬ ‫توجيه الضربات للمصاحل االمربيالية ‪ ،‬لعبت فيها القوى الشعبية‬ ‫العربية ً‬ ‫دورا يفوق دور األنظمة واحلكومات ‪ ،‬ووقفت شعوب‬ ‫ودول حركة التحرر الوطنى إىل جوار احلق املصرى والعربى ‪،‬‬ ‫وضد قوى العدوان االستعمارية ‪ .‬ووقفت شعوب ودول املعسكر‬ ‫اإلشرتاكى ‪ ،‬وعلى رأسها الشعب واحلكومة السوفيتية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حامسا فى تأييد حق مصر فى االستقالل ورد العدوان ‪.‬‬ ‫موقفا‬ ‫مد االحتاد السوفيتى مصر بالسالح ً‬ ‫بدءا من صفقة األسلحة‬

‫التشيكية سنة ‪ 1955‬وتتابعت اإلمدادات بعد ذلك ‪ ،‬حتى‬ ‫ً‬ ‫وصوال إىل التأييد السياسى الذى‬ ‫اإلمداد بالطائرات احلديثة ‪ ،‬ثم‬ ‫جتسدت قمته فى اإلنذار السوفيتى الشهري “ إنذار بوجلانني “‬ ‫لوقف العدوان بالتدخل السوفيتى إىل جانب مصر فى املعركة‪.‬‬ ‫فى داخل الدول االمربيالية ذاتها وداخل معسكرها ‪ ،‬تفجرت‬ ‫التناقضات الثانوية حول توقيت العدوان واختلفت إدارة أيزنهاور‬ ‫فى موقفها من العدوان عن إدارة إيدن ومولييه ‪ ،‬وانفجرت‬ ‫‪21‬‬


‫احلركات الدميقراطية والعمالية فى البالد تندد بالعدوان‬ ‫وتدينه ‪ ،‬حتى فى عقر دار املعتدى ذاته ‪ ،‬داخل بريطانيا وفرنسا ‪.‬‬ ‫‪ - 3‬اتضح للجميع أن هذا العدوان مل يكن جمرد صراع قومى‬ ‫عنصرى ‪ ،‬أو دينى بني بريطانيا وفرنسا ‪ ،‬وإسرائيل أو اليهود من‬ ‫جانب ‪ .‬وبني مصر والعرب من جانب آخر ‪ ،‬ولكنه صراع وطنى‬ ‫دميقراطى بني االمربيالية والعنصرية وحلفائها فى الداخل وبني‬ ‫مصر الوطنية التى ارتكب نظامها سابقة ‪ -‬أو سوابق ‪ -‬فى جمال‬ ‫حترير اإلرادة الوطنية ‪ ،‬واالجتاه فى العمل القومى العربى املعادى‬ ‫لإلمربيالية والصهيونية ‪ ،‬وااللتجاء إىل حلف معاداة االمربيالية‬ ‫(سواء املعسكر اإلشرتاكى – أو حركة التحرر الوطنى ) ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إنتصارا فى حدود أهداف ومهام حمددة‪،‬‬ ‫‪ - 4‬إن رد العدوان كان‬ ‫تأكدت بانسحاب قوات العدوان ‪ ،‬وحترر إرادة الفعل املصرى‬ ‫صوب التوجهات التى بدأت بالسري فيها حنو تقويض التبعية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وسياسيا ‪.‬‬ ‫إقتصاديا‬ ‫لالستعمار وبناء االستقالل الوطنى‬ ‫إن هذه اإلنتصارات متت حتت قيادة سلطة وطنية قادها‬ ‫جمموعة من الضباط الشبان على رأسهم مجال عبد الناصر ‪ .‬مما‬ ‫دعم لدى ولدى جيلى ً‬ ‫حبا وثقة أخذا يتناميان فى العسكرية‬ ‫املصرية ‪ ،‬بعدما عرفت دور القوات املسلحة املصرية فى النضال‬ ‫الوطنى التحررى للشعب املصرى ‪ً ،‬‬ ‫بدءا من دور أمحد عرابى قائد‬ ‫أول حلقات الكفاح الوطنى التحررى للشعب املصرى فى تارخيه‬ ‫احلديث ضد قوى العدوان االمربيالية ‪ ،‬وانتهاء حبركة اجليش‬ ‫املباركة التى صاغت قيادتها والتأييد الشعبى العارم هلا أحداث‬ ‫ثورة ‪ 23‬يوليو اجمليدة ‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫وأخذت هذه املشاعر تكرب معى كلما توطد انتصار جديد‬ ‫سطرته قيادة ثورة يوليو سنة ‪ . 1952‬وال أنكر أن أجهزة اإلعالم‬ ‫حينذاك أثرت فى تضخيم مشاعرى احملبة للقوات املسلحة ‪،‬‬ ‫فالسلطة طابعها لعام ‪ ،‬الطابع العسكرى ‪ ،‬واإلعالم يصور أن‬ ‫أى خلل فى احلياة االقتصادية أو االجتماعية ‪ ،‬أو حتى السياسية‬ ‫إذا امتدت إليه يد القوات املسلحة حتسن وضعه وتعدل ‪ .‬فالقوات‬ ‫املسلحة تقوم باإلشراف على هيئة النقل العام بالقاهرة وكثري‬ ‫من كوادرها حيتلون مواقع القيادة اإلدارية فى مؤسسات‬ ‫الدولة والقطاع العام اإلنتاجى ‪ ،‬واملشري عبد احلكيم عامر‬ ‫يتقدم لريأس جلنة تصفية اإلقطاع فى منتصف الستينات ‪،‬‬ ‫ليقضى على اجليوب االجتماعية املتخلفة واملوجودة من بقايا‬ ‫عهد االستبداد فى الريف املصرى ‪ ،‬وقوات الشرطة العسكرية‬ ‫واملخابرات تتقدم لتساعده فى هذه املهمة ‪.‬‬ ‫لكل شىء إذا ما مت نقصان !‬ ‫هكذا تنامى حبى للعسكرية املصرية وثقتى بها ‪ ،‬ومل يك‬ ‫هذا حاىل وحدى ‪ ،‬بل كان التيار الغالب فى جيل بأكمله ‪.‬‬ ‫ولكن لكل شىء إذا ما مت نقصان ‪ ،‬فما كانت هلذه الصورة‬ ‫الوردية أن تستمر فى وجدانى الغض ‪ ،‬طاملا أن الواقع أكثر‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا من أحادية املشاعر ‪ ،‬أو حتى أحادية املعرفة املتعقلة ‪.‬‬ ‫فى بداية الثلث األخري من سنة ‪ 1966‬حدثت واقعة أضافت إىل‬ ‫ً‬ ‫أبعادا جديدة الستكمال مالمح الصورة ‪ ،‬فقد حان وقت‬ ‫نظرتى‬ ‫جتنيدى ‪ .‬وكان البد من الذهاب لتوقيع الكشف الطبى على‬ ‫‪23‬‬


‫ً‬ ‫طبيا ‪ ،‬وبالتعبري الدارج « اليق أو‬ ‫لتحديد صالحيتى من عدمها‬ ‫غري اليق» ‪ .‬فإذا ثبتت لياقتى ‪ ،‬أحصل على تأجيل حلني إنهاء‬ ‫دراستى اجلامعية ‪.‬‬ ‫وذهبت إىل معسكر االستقبال فى منطقة اإلسكندرية‪،‬‬ ‫وكان ذلك فى سبتمرب سنة ‪ ، 1966‬وكانت أول جتربة ىل‬ ‫لالحتكاك بالقوات املسلحة من الداخل ‪ .‬ووجدت فيها ما راعنى‪،‬‬ ‫وفجرت لدى مشاعر القهر التى أمحلها كابن فالح مصرى على‬ ‫كتفى من آالف السنني فقد تصادف حضورى أنا واثنني ‪ ،‬حالتهم‬ ‫كحالتى ‪ ،‬مع دفعة من شباب الفالحني القادمني من حمافظة‬ ‫الغربية ‪ ،‬وشاهدت هؤالء الشباب من الفالح يعاملون وكأنهم‬ ‫بقايا عبيد األرض ‪ ،‬أو جيش السخرة التى بنت األهرامات وحفرت‬ ‫قناة السويس ‪.‬‬ ‫فالضرب واالهانات بال سبب ‪ ،‬واإلرغام على مزاولة بعض‬ ‫حركات القردة دون ما مربر هى األساليب التى شاهدتها فى‬ ‫يومى األول فى هذا املعسكر وحركت هذه املظاهر أحاسيسى‪،‬‬ ‫فقد اخرتت منذ شهرين فقط كعضو باللجنة املركزية ملنظمة‬ ‫الشباب االشرتاكى ‪ .‬ومشاعر حب الوطن واخلدمة العامة‬ ‫تتحركان بداخلى ‪ ،‬ومرياث مقاومة الظلم والقهر ‪ ،‬كل ذلك‬ ‫يستصرخنى للتقدم لوقف هذه املهزلة ‪ ،‬وهذا النعت الذى ال مربر‬ ‫له ‪ ،‬ولكن حتت إحلاح االثنني اللذين مل أرهما طوال حياتى وال‬ ‫أذكرهما اآلن ‪ ،‬بأن مهمتنا ستنتهى فى يوم أو اثنني وخنرج ‪،‬‬ ‫فلماذا االحتكاك؟ والتعرض ملوضوع أكرب من قدرتنا على رده؟‬ ‫‪24‬‬


‫مر اليوم األول بهدوء خارجى وغليان جيرى بداخلى ‪ ،‬وجاء اليوم‬ ‫الثانى ونفذت طاقة احتماىل أمام فجاجة ما أراه وبشاعته ‪ ،‬فتقدمت‬ ‫ً‬ ‫موجها‬ ‫لوقف إجراءات الضرب مبحاولة التفاهم مع صف الضابط ‪،‬‬ ‫كالمى هلم ‪ ،‬بأنهم إما أخوة ألمثال هؤالء الشباب الفالحني ‪ ،‬وإما‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ ،‬وإذا كان اهلدوء‬ ‫هم أبناء فقراء املدن واحلال ال خيتلف‬ ‫والطاعة هما املرجوان ‪ ،‬فيمكن الوصول إليهما باإلرادة احلرة‬ ‫واالختيار الطوعى فى حالة املعاملة احلسنة ‪ .‬ولكنهما أحاالنى‬ ‫ً‬ ‫وبدال من أن يفهم ما أطلبه ‪ ،‬قام‬ ‫على ضابط برتبة مالزم أول ‪،‬‬ ‫بصفعى ‪ ،‬وانفجرت بصوت جهورى أخاطب اجلميع ‪ -‬بل وأخاطب‬ ‫نفسى ‪ -‬هل ينسجم ما أراه اآلن ‪ ،‬مع احلرية ومع االشرتاكية؟‪،‬‬ ‫هل هذا الذى جيرى ‪ ،‬يتم فى نفس اجليش الذى يرتأس قائده العام‬ ‫جلنة تصفية اإلقطاع؟ ‪.‬‬ ‫وصعدت األمر وأشركت كل القيادات الشعبية ملدينة‬ ‫اإلسكندرية من خالل أجهزة الشباب واالحتاد االشرتاكى فى‬ ‫التصدى هلذا ملوقف ‪ ،‬ومع قيادة منطقة التجنيد بها ملدة تقرب من‬ ‫ثـمان ساعات ‪ ،‬استخدمت فيها كل صنوف الضغط والتهديد‬ ‫بإبالغ األمر إىل الرئيس عبد الناصر واملشري عامر ‪.‬‬

‫متكنا من الوصول إىل نتيجتني ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أوال ‪ :‬أن تأتى قيادة منطقة التجنيد‪ ،‬ومندوب من كبار الضباط‬ ‫فى املنطقة الشمالية لالعتذار للشعب فى شخصى داخل مبنى‬ ‫االحتاد االشرتاكى باملنشية ‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫ً‬ ‫ثانيا ‪ :‬دعوة اإلحتاد االشرتاكى لتشكيل جلان رقابية‬ ‫ملعاملة شباب معسكر االستقبال للتجنيد العسكرى ‪ ،‬معاملة‬ ‫الئقة ‪.‬‬ ‫وخرجت من هذه الواقعة بعدة دروس مستفادة ‪ ،‬فمهما بلغت‬ ‫طاقة القهر ‪ ،‬يستطيع املقهورون ردها بإحلاحهم على حقهم فال‬ ‫يضيع حق من وراءه مطالب ‪ .‬ويتم هذا حبشد كافة اإلمكانات‬ ‫لتقويض طاقة الظاملني ‪ ،‬مبا فيها إمكانات حلف معاداة الظلم‬ ‫ً‬ ‫أيضا بفكرة غامضة مل‬ ‫والقهر فى خمتلف جوانبه ‪ .‬وخرجت‬ ‫أتبني أبعادها إال بعد مرور حواىل عشرة أشهر ‪ ،‬فلقد قابلت فى‬ ‫ً‬ ‫ضباطا كثرين ‪ ،‬كان أقربهم إىل الصورة التى فى‬ ‫هذه الواقعة‬ ‫ذهنى عن طابع رجال القوات املسلحة الوطنيني العلميني ‪ ،‬هو‬ ‫عميد مصرى علمت منه أنه درس فى االحتاد السوفيتى وحصل‬ ‫على أعلى األنواط العسكرية نتيجة لكفاءته ‪ .‬ولكنه أتى‬ ‫به إىل هذا املكان اإلدارى للراحة ‪ً ،‬‬ ‫خوفا من أن يذهب العلم بعقله‬ ‫داخل الوحدات القتالية ‪ .‬وذلك عل حد تعبري ضابط حيمل رتبة‬ ‫صغرية ‪ ،‬قاهلا فى معرض إشادتى بهذا الرجل إزاء أحداث اليوم ‪.‬‬

‫األبعاد األخرى للصورة تستمر فى الظهور ‪:‬‬ ‫بعد واقعة سبتمرب سنة ‪ 1966‬بشهور ‪ ،‬وفى املسافة بينهما‬ ‫وبني عدوان سنة ‪ 1967‬حدثت غارة إسرائيلية واسعة على قرية‬ ‫السموع األردنية ‪ .‬وراعنى أن مير هذا العدوان دون أن يتحرك أحد‬ ‫‪ .‬فالكل يقف مكتوف األيدى ‪ .‬وناقشت األمر مع زمالء لي فى‬ ‫اللجنة املركزية ملنظمة الشباب اإلشرتاكى آنذاك ‪ .‬وتأكد‬ ‫‪26‬‬


‫أن أحاسيسنا واحدة ‪ .‬وفى أول اجتماع تاىل للجنة املركزية‬ ‫للمنظمة ‪ ،‬وضعنا هذه األحاسيس فى صورة تساؤل أمام السيد‬ ‫على صربى نائب رئيس اجلمهورية آنذاك ‪ ،‬وكان رده يعكس‬ ‫ً‬ ‫تصورا يقوم على أن لكل فعل رد فعل ‪ ،‬وأن هذه سياستنا مع‬ ‫إسرائيل ‪ .‬فعلى قدر العدوان يكون الرد ‪ .‬وإننا ال ننوى وال نرى‬ ‫أن هناك حربا شاملة مع إسرائيل فى املدى القريب ‪ ،‬ورغم أن هذا‬ ‫الرد احملدود مل حيدث ‪ ،‬فقد كانت اإلجابة ترجو استمرار صمتنا‬ ‫أكثر من الرغبة فى احلوار واملشاركة بالرأى ‪ .‬وما هى إال شهور‬ ‫وجاء عدوان ‪ ، 1967‬وكانت اهلزمية املؤملة ‪ ،‬وانعقد اجتماع آخر‬ ‫للجنة املركزية ملنظمة الشباب بعد فرتة قليلة من نهاية األحداث‬ ‫ً‬ ‫حتليال‬ ‫املصاحبة حلرب يونيو سنة ‪ . 1967‬وقدم السيد على صربى‬ ‫للعدوان ‪ ،‬يقوم على أنه نبع من ضرورة ضرب مصر قبل أن تدخل‬ ‫ما يسمى بتجاوز النقطة احلرجة على منحنى النمو االقتصادى ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تلك النقطة التى يبلغ فيها معدل النمو االقتصادى ً‬ ‫متصاعدا‬ ‫حدا‬ ‫ال ميكن أن ينكسر ‪ ،‬ورغم اقتناعى بأن هذا التحليل هو عني‬ ‫الصواب ‪ ،‬وأن إسرائيل أرادت بعدوانها ضرب النموذج االقتصادى‬ ‫املستقل املصرى ‪ ،‬وأنها قامت بعدوانها مبباركة االمربيالية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ‪ ،‬إال أن تناقض الرأى فى ذات املدى‬ ‫عموما واألمريكية‬ ‫الزمنى ‪ ،‬وتبني احلقيقة بعد حلول الكارثة قد ترك فى وجدانى‬ ‫وعقلى أهمية وضوح االسرتاتيجية لدى قوى الدفاع عن الوطن‬ ‫ومصاحله ‪ ،‬أن غياب هذا الوضوح يكلف الكثري ‪.‬‬ ‫وهذا ما دفعنى فى حماولة دؤوبة الستمرار البحث عن احلقيقة ‪،‬‬ ‫ومعرفة جوانب الصورة بتعقيداتها املستمدة من تعقد الواقع ذاته‪،‬‬ ‫‪27‬‬


‫بل دفعنى للسعى حنو إظهار هذه احلقيقة ‪ ،‬وأجهدت نفسى فى‬ ‫إظهار هذا داخل منظمة الشباب ‪ .‬وتصورت أن ضرورة وصول‬ ‫شيئا ً‬ ‫ً‬ ‫هاما ‪ .‬ولكنى خربت كم من احلواجز‬ ‫رأينا إىل الرئيس‬ ‫ً‬ ‫تقف أمامى جملرد توضيح ما أصبح واضحا فى ذهنى ووجدانى ‪.‬‬ ‫وفى يوم ‪ 20‬فرباير سنة ‪ ، 1968‬مسعت ضمن من مسع إعالن‬ ‫أحكام قادة سالح الطريان ‪ .‬وقدرنا كم هى رخيصة حوادث‬ ‫التقصري فى حياة األوطان لدى من هم فى دائرة السلطة ‪ ،‬فثمن‬ ‫اهلزمية العسكرية أحكام سجن لقلة بضع سنوات ‪ ،‬وفى اليوم‬ ‫الثانى‪ :‬انفجر غضب عمال حلوان ‪ ،‬وخرجت مظاهرتهم إىل الشارع‬ ‫ترفض تلك األحكام ‪ ،‬وتدين املسئولني عن التقصري ووقوع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إضافيا‬ ‫دافعا‬ ‫الكارثة ‪ ،‬وفتحت النريان عليهم ‪ ،‬وكان هذا‬ ‫لنا حيث خرجنا حنن الطلبة فى مظاهرة ‪ ،‬سجلت مع سابقتها‬ ‫العمالية أول مظاهرات شعبية سياسية معارضة منذ أحداث‬ ‫مارس ‪ ، 1954‬وتفجرت فى األيام التالية سلسلة من املظاهرات‬ ‫نشط فيها الطالب ‪ ،‬وطرحت شعارات التغيري الثورى كمطلب‬ ‫فورى ‪.‬‬ ‫وكان من نتيجتها بيان ‪ 30‬مارس سنة ‪ . 1968‬وهو تلك الوثيقة‬ ‫الدميقراطية اهلامة ‪ ،‬التى صدرت فى األعوام األخرية من حكم‬ ‫الرئيس مجال عبد الناصر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واضحا ‪ ،‬فاجلماهري هى التى متلك طاقة‬ ‫لقد كان الدرس‬ ‫التغيري ‪ .‬ومتلك الضغط حلدوثه متى أعطيت هلا حقوق املبادرة‬ ‫‪28‬‬


‫ً‬ ‫غضبا حتى ولو قيدت حركتها‬ ‫والتحرك املنظم ‪ ،‬وأنها ستنفجر‬ ‫كما كان فى أحداث الطالب فى نوفمرب سنة ‪. 1968‬‬ ‫ومع بداية الثلث األخري من سنة ‪ 1968‬مت اخنراطى فى سلك‬ ‫اجلندية ‪ ،‬ودخلت إىل القوات املسلحة كجندى مؤهالت عليا ‪.‬‬ ‫وكانت جتربة طويلة وعميقة ‪ .‬فلقد امتدت ألكثر من ست‬ ‫سنوات ‪ .‬وختللتها كثري من صنوف املعارك واملعاناة ‪ ،‬تعرضت فيها‬ ‫للموت ثالث مرات ‪ .‬فى كل مرة منها كنت أنطق بالشهادتني‬ ‫ً‬ ‫انتظارا ألمر اهلل ‪ ،‬وكانت النجاة من نصيبى ‪ ،‬ولكن كان‬ ‫ً‬ ‫ساخنا على شباب افتدى بروحه حرمة األوطان ومصاحل‬ ‫الدمع‬ ‫الشعب املصرى العتيد ‪ ،‬وكان ‪ -‬وسيظل ‪ -‬العرفان هلؤالء الشهداء‬ ‫بعض من الواجب الواقع على كاهلى وكاهل كل من حييا‬ ‫على أرض مصر احلبيبة ‪.‬‬

‫‪29‬‬



‫حتضريات حرب االستنزاف‬ ‫نقلت نشرة وكالة وفا « وكالة األنباء الفلسطينية » فى أوائل‬ ‫ً‬ ‫تعليقا التقطته من إذاعة العدو اإلسرائيلى‪ ،‬لكبري‬ ‫سنة ‪، 1975‬‬ ‫املعلقني العسكريني اإلسرائيليني فى الراديو حاييم هرتزوج ‪،‬‬ ‫رئيس املخابرات اإلسرائيلية السابق ‪ ،‬عن حرب االستنزاف‪ ،‬قال‬ ‫فيه « إنها احلرب الرابعة بني إسرائيل والعرب ‪ ،‬وهى أخطر احلروب‬ ‫على إسرائيل ‪ ،‬ففيها كان يتعلم املصريون كل يوم جديد ‪.‬‬ ‫إنها كانت مدرسة لرتبية العسكرية املصرية ‪ ،‬ظهرت نتائجها‬ ‫بعد ذلك ‪ .‬لذا كان ً‬ ‫لزاما علينا العمل على وقفها» ‪.‬‬ ‫مل أجد كمعايش هلذه احلرب أبلغ من تلك الكلمات لوصف‬ ‫حرب االستنزاف ‪ً ،‬‬ ‫حقا أنها كانت مدرسة ‪ ،‬تتعلم فيها العسكرية‬ ‫ً‬ ‫دروسا جديدة ‪ ،‬وتطور من أساليبها وفنونها‬ ‫املصرية كل يوم‬ ‫القتالية‪ ،‬وتضيف بإجنازاتها أنصع الصفات لكتاب تارخيها‬ ‫اجمليد ‪،‬ولكن كيف كان ذلك ؟‬ ‫بعد إنتهاء عمليات يونيو ‪ ، 1967‬كانت املهمة األوىل للقوات‬ ‫املسلحة املصرية هى مل الشمل ‪ ،‬واستجماع ما يتاح من عناصر‬ ‫القوة البشرية ‪ ،‬واستعواض األسلحة والذخائر لتكوين خط‬ ‫‪31‬‬


‫دفاع غربى قناة السويس ‪ ،‬لصد أى هجوم أو تصعيد حمتمل من‬ ‫جانب القوات اإلسرائيلية صوب العمق املصرى غرب القناة ‪.‬‬ ‫وبقدر تشتت القوات ‪ ،‬وما أصاب القيادة من شلل ‪ ،‬واخلسائر‬ ‫العالية فى البشر واملعدات ‪ ،‬كانت صعوبة هذه العملية ‪ ،‬وكان‬ ‫البد من انتقاء قيادة عسكرية جديدة ‪ ،‬ليست مرتبطة بتلك‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن‬ ‫اجملموعة التى تولت قيادة اجليش على أسس شللية ‪،‬‬ ‫مقتضيات الفن العسكرى ‪ ،‬والتى عملت على اسرتجاع عناصر‬ ‫السلطة والسلطان فى يدها مرة أخرى ‪ .‬ولكنها فشلت ‪.‬‬ ‫وكان العامل الثانى بعد اختيار القيادة هو استعواض السالح‬ ‫وفى هذا اجملال لعب اإلحتاد السوفيتى ً‬ ‫ً‬ ‫دورا ً‬ ‫وملموسا باملبادرة‬ ‫هاما‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ‪ ،‬أو بواسطة بعض التحركات العربية ‪ ( .‬زيارتا‬ ‫الذاتية‬ ‫بودجورنى للقاهرة وبومدين ملوسكو ) ‪.‬‬ ‫وكان العنصر الثالث ‪ ،‬يكمن فى إعادة تنظيم القوات‬ ‫املسلحة ‪ ،‬وإقامة ما يسمى بنهج التعاون بني فروعها من ناحية‪،‬‬ ‫والنزول بهذا التعاون حتى مستويات أدنى من قيادات الفروع ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وصوال لقيادة التشكيالت امليدانية الصغرية ‪.‬‬ ‫وفى هذا الصدد يذكر اجلميع ذلك اخلالف الشهري بني الفريق‬ ‫مدكور أبو العز وبني القيادة العامة ‪ ،‬حول دور سالح الطريان فى‬ ‫تلك املرحلة ورغبته فى استخدام الطريان لردع القوات اإلسرائيلية‬ ‫على أساس املوقف املستقل لسالح الطريان املصرى فحسب ‪ ،‬دون‬ ‫مراعاة لوضع القوات األخرى وموازين القوى املرتتبة على ذلك ‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫وكان البد من انتصار نهج التعاون ‪ ،‬وخروج الفريق مدكور‬ ‫أبو العز من قيادة سالح الطريان ‪ ،‬هذا االنتصار الذى توج عملية‬ ‫املوائمة بني السالح وخصائصه الفنية والتكتيكية من‬ ‫ً‬ ‫اسرتاتيجيا‬ ‫جانب ‪ ،‬وبني األسلوب العسكرى فى إدارة املعارك‬ ‫ً‬ ‫وتكتيكيا واملتوافق مع هذه األسلحة ‪ ،‬أى أنه مبثابة عقد‬ ‫للزواج بني أسلوب إدارة العمليات حسب ما يسمى باملدرسة‬ ‫السوفيتية القتالية وبني السالح السوفيتى ذاته ‪.‬‬ ‫وتطلب تنظيم القوات فى تلك الفرتة استخدام عناصر أخرى‪،‬‬ ‫كان فى مقدمتها جتنيد املؤهالت العليا واملتوسطة بأعداد‬ ‫كبرية ‪ ،‬وحشدهم فى مستوى اجلنود وصف الضباط ‪ ،‬لتسهيل‬ ‫عملية فهم األسلحة احلديثة املعقدة ‪ ،‬وزيادة كفاءة تشغيلها‪،‬‬ ‫والوصول إىل أعلى معدالت أداء باستخدامها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا انبثاق قيادة مستقلة لفرع رابع من‬ ‫ثم تطلب التنظيم‬ ‫أفرع القوات املسلحة هو الدفاع اجلوى ‪ ،‬فرع ميثل جمموعة من‬ ‫املعارف واألساليب االسرتاتيجية والتكتيكية املتنوعة ويضم‬ ‫جمموعة هائلة من األسلحة واملعدات املصممة واملستخدمة ألرقى‬ ‫األساليب العلمية والتكنولوجية ‪ .‬إنه الفرع الذى يرسم أبعاد‬ ‫النمو اهلائل الذى ينتظر القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬وحيضر للدور‬ ‫اهلام واحلاسم فى إدارة جممل املعارك القادمة ‪ ،‬إنه ‪ -‬وبال أدنى‬ ‫شك ‪ -‬القوة الرابعة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إمجاال أنه مع حلول شهر نوفمرب سنة ‪1967‬‬ ‫وميكن القول‬ ‫كانت قوى الدفاع املصرية قد قاربت االستكمال ‪ .‬وذلك بعد‬ ‫‪33‬‬


‫إعادة تنظيم القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬واستعواض األسلحة‬ ‫والذخائر بكميات كبرية ومتقدمة ‪ ،‬وزيادة دور املستشارين‬ ‫واخلرباء السوفيت فى عمليات التخطيط واإلشراف على متابعة‬ ‫التنفيذ والتدريبات الشاقة واملستمرة ‪ ،‬ثم بوجود قيادة حديثة‬ ‫كان من أبرز رجاهلا الفريقان حممد فوزى وعبد املنعم رياض ‪.‬‬ ‫بعد هذه املرحلة التى ميكن تسميتها مرحلة استجماع قوى‬ ‫الدفاع والتماسك ‪ ،‬أى مرحلة الصمود ‪ ،‬بدأت مرحلة جديدة ‪،‬‬ ‫ميكن تسميتها مبرحلة الردع ‪ ،‬وهى مرحلة تقوم على منازلة‬ ‫العدو ‪ ،‬فى نقط االحتكاك به ‪ ،‬وكان أبرز أحداثها تدمري‬ ‫القوات البحرية املصرية للمدمرة اإلسرائيلية آيالت بأحد زوارق‬ ‫الصواريخ البحرية املصرية ‪ .‬وخوض معركة شدوان ‪ .‬ثم بداية‬ ‫الرتاشق املدفعى عرب قناة السويس ‪ ،‬وعمليات عبور القوات‬ ‫اخلاصة للرب الشرقى من القناة ‪ .‬ثم كانت البداية احلقيقية‬ ‫حلرب طويلة ‪ ،‬امتدت على مدى ما يقرب من عامني ‪ .‬إنها حرب‬ ‫االستنزاف ‪ ،‬احلرب الرابعة بني العرب وإسرائيل ‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫حرب االســتنزاف‬ ‫ميكن القول منذ البداية ‪ ،‬أن حرب االستنزاف التى خاضتها‬ ‫القوات املصرية جتاه إسرائيل ‪ ،‬كانت تتكون من جمموعة‬ ‫من العمليات العسكرية املستمرة واملتواترة ‪ ،‬وذات الطبيعة‬ ‫اجلزئية ‪ ،‬بهدف إرهاق العدو اإلسرائيلى ‪ ،‬وحتميله أكرب‬ ‫خسارة ممكنة ‪ ،‬وجعله فى حالة توتر واستنفار مستمرة ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عوضا عن حرب شاملة مل تستعد‬ ‫حبيث تكون هذه العمليات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫القوات بعد خلوضها ‪ ،‬وحتضريا فعليا للحرب الشاملة على مسرح‬ ‫العمليات كله فى مرحلة تالية ‪.‬‬ ‫لقد شنت القوات املصرية هذه احلرب ‪ ،‬وقد امتلكت املبادرة‬ ‫فى فرضها على العدو ‪ ،‬وظل تاريخ هذه احلرب ‪ ،‬هو تاريخ‬ ‫احملافظة على تلك املبادرة فى أيدى القوات املصرية ‪ ،‬والسعى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا فى امليدان‬ ‫عنصرا‬ ‫إىل استعادتها ‪ ،‬كلما أدخل العدو‬ ‫النتزاعها ‪ ،‬وتطوير القوات املصرية لتلك املبادرة فى حالة‬ ‫استعادتها حتى متكنت من شل فاعلية املبادرات اإلسرائيلية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فعليا عن تطوير مبادراتها‬ ‫إىل أن انتهت بعجز القوات اإلسرائيلية‬ ‫وخساراتها ملواقع عسكرية ‪ ،‬اسرتتيجية وتكتيكية كانت‬ ‫ً‬ ‫فعليا لغري صاحلها فى املدى الطويل ‪.‬‬ ‫تعنى انتقال املؤشر‬ ‫‪35‬‬


‫وميكن حتديد البداية الفعلية حلرب االستنزاف فى أواخر‬ ‫سبتمرب سنة ‪ . 1968‬وعلى وجه التحديد فى اليوم الثامن والعشرين‬ ‫منه ‪ .‬حيث بدأت مرحلتها األوىل ‪ ،‬بتوجيه وابل من النريان ‪ ،‬قامت‬ ‫بصبه مدفعية امليدان املصرية عرب قناة السويس وجتاه املواقع‬ ‫اإلسرائيلية فى الضفة الشرقية من القناة ‪ .‬واعتمدت هذه املرحلة‬ ‫ً‬ ‫إمجاال على االستخدام املكثف لنريان مدفعية امليدان ‪ ،‬ومهامجة‬ ‫املواقع اإلسرائيلية شرق القناة بواسطة وحدات صغرية تقوم‬ ‫بعبور قناة السويس ‪ .‬وذلك بهدف إجبار القوات اإلسرائيلية على‬ ‫التحوصل وعدم االنتشار وعدم متكينها من إقامة حتصيناتها‬ ‫فى الضفة الشرقية من القناة ‪ ،‬والتأثري فى معنوياتها وتكبيدها‬ ‫خسائر كبرية ‪.‬‬ ‫وفى هذا اجملال استخدمت القوات اإلسرائيلية كافة أنواع اخلداع‬ ‫واحليل إلرباك القوات املصرية ‪ ،‬وبالذات قوات مدفعية امليدان ‪.‬‬ ‫فعلى سبيل املثال كانت تقوم ً‬ ‫ليال بوضع جمموعة كبرية من‬ ‫أعمدة النور فى خط أفقى حياذى قناة السويس ‪ ،‬وتقوم بإضاءة‬ ‫أنواره بالتتابع أى لو بدأت من اليمني تنري العمود األول ثم الثانى‪،‬‬ ‫ثم الثالث ‪ ...‬وهكذا ‪ ،‬وفى ذات الوقت تضع مكربات الصوت‬ ‫تذيع من خالهلا أصوات حمركات العربات واملركبات وذلك‬ ‫ً‬ ‫أرتاال عسكرية تتحرك ‪ ،‬وذلك كى‬ ‫لكى توحى بأن هناك‬ ‫تستجلب نريان مدفعية امليدان املصرية على الرمال ‪ ،‬وتعمل هى‬ ‫على استنزاف هذه األسلحة وحماول إتباع ما يسمى بسـياسـة‬ ‫« قلب املائدة » ‪ ،‬ومن ناحية أخرى كانت تريد من تلك املناورات‬ ‫رصد املواقع املصرية وحتديد إحداثياتها لدكها بعد ذلك ‪،‬‬ ‫‪36‬‬


‫لكن هذه العمليات فشلت من جانب إسرائيل فى خداع القوات‬ ‫املصرية ‪ ،‬بل على العكس لقد جاءت بنتائج باهرة على اجلانب‬ ‫املصرى ‪ ،‬متثلت فى حتسني أداء قوات مدفعية امليدان‪ ،‬وذلك على‬ ‫مستوى حتديد األهداف بدقة وتدريب جمموعات كبرية من‬ ‫الكوادر املؤهلة ‪ ،‬لفهم خمتلف العمليات الفنية ‪ ،‬والقدرة على‬ ‫حتديد إحداثيات املواقع املعادية بأكثر من طريقة فنية حديثة‬ ‫كاستخدام الصوت والضوء والرادار ‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى ‪ ،‬فقد محلت هذه العمليات للجانب املصرى‬ ‫قدرة متتابعة فى النمو على كيفية إدارة حرب املدافع من‬ ‫مواقع ثابتة ‪ ،‬والقدرة على املناورة بالنريان ومصادرها األرضية‪.‬‬ ‫وكانت هذه من أول اخلربات اهلامة فى حياة العسكرية‬ ‫ً‬ ‫واضحا عجز القوات اإلسرائيلية املماثلة عن‬ ‫املصرية‪ ،‬لقد كان‬ ‫التصدى لنريان املدافع املصرية الكثيفة ‪ ،‬حتى كان شهر مارس‬ ‫ً‬ ‫نهائيا فى حرب املدفعية لصاحل‬ ‫سنة ‪ 1969‬حينما حسم األمر‬ ‫ً‬ ‫حجما‬ ‫القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬وبدأت عمليات العبور تزداد‬ ‫وكثافة حتى كادت تكون شبه مستمرة ‪ ،‬ووصلت حتى‬ ‫عبور كتيبة كاملة مبعداتها ‪.‬‬

‫ذكرى تستحق التكريم ‪:‬‬ ‫فى غمرة حرب املدافع ‪ ،‬وارتفاع مستوى أداء القوات املصرية ‪،‬‬ ‫وارتفاع الروح املعنوية معها وفى صباح يوم ساخن من أيام القتال‪،‬‬ ‫تواجد القائد الكبري وسط قواته ‪ ،‬وتقدم فى الدخول إىل أقرب‬ ‫املواقع ملالقاة العدو ‪ ،‬وبنريان العدو اإلسرائيلى ‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫استشهد الفريق عبد املنعم رياض فى ‪ 9‬مارس سنة ‪. 1969‬‬ ‫وباستشهاده واصل تقدمه إىل داخل قلب أمته ووجدانها ‪ .‬ومنذ‬ ‫ً‬ ‫ومثاال للتضحية‬ ‫ذلك التاريخ أصبح هذا الرجل ذكرى عطرة‬ ‫والفداء ينحنى أمامه جبني كل حمب ألرض مصر وشعبها ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومنوذجا وضا ًء لعطاء القوات املسلحة املصرية للدفاع عن وطنها‪.‬‬ ‫واستحق أن يسجل يوم استشهاده ‪ ،‬كيوم لكل شهداء مصر ‪،‬‬ ‫ممن سقطوا فى معارك الدفاع عن الوطن ‪ ،‬وعن مواطنيه ‪ ،‬وعن‬ ‫أحالمهم املشروعة فى لقمة هنية وعيشة رضية كرمية ‪.‬‬ ‫ولن أنسى ما حييت ‪ ،‬يوم جنازة الشهيد ‪ ،‬وقد خرجت مجاهري‬ ‫شعب مصر عن بكرة أبيها ‪ .‬مل يدعها أحد ‪ ،‬ومل تصفق بطريقة‬ ‫منتظمة كما عودتنا منظمة الشباب واإلحتاد االشرتاكى ‪.‬‬ ‫ولكنها ( كل اجلماهري ) انتظمت فى موكب واحد طويل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ووعدا باستكمال املشوار ‪.‬‬ ‫يهتف من القلب ‪ ،‬حتية للشهيد ‪،‬‬ ‫وكيف أن الزحام ‪ ،‬زحام البشر ‪ ،‬وزحام عواطفهم ومشاعرهم ‪،‬‬ ‫قد أفقد أجهزة األمن السيطرة على املوقف ‪ ،‬وكيف خرج مجال‬ ‫عبد الناصر عن دائرة التحكم األمنية؟ وكيف تكونت حوله‬ ‫حلقة من األجساد الشابة املتشابكة ؟‪ ،‬ومشى بها ومشت به من‬ ‫أول شارع طلعت حرب فى ميدان التحرير وحتى جامع شركس‬ ‫حيث نهاية اجلنازة الرمسية ‪.‬‬ ‫إن جنازة الشهيد تسطر الدرس الواضح واملعتاد للشعب املصرى‪،‬‬ ‫إن من يكرم هذا الشعب باإلصرار على أهدافه ومصاحله ‪،‬‬ ‫يكرمه الشعب حتى عتبة قربه ‪ ،‬بل يسجله الوجدان الشعبى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومثاال حتى بعد احلياة ذاتها ‪.‬‬ ‫بطال‬ ‫‪38‬‬


‫وألن الدور الذى كان يضطلع به الشهيد ً‬ ‫دورا فى منظومة من‬ ‫ً‬ ‫وجزءا من كل ‪ ،‬فى عجلة بدأ دورانها حيدث األثر اهلام‪،‬‬ ‫األدوار ‪،‬‬ ‫وخيرج بالنتائج الباهرة ‪ ،‬تواصلت املعارك بنفس معدل تقدمها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تطورا‬ ‫وشهد عام ‪ 1969‬بعد استشهاد الفريق عبد املنعم رياض‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتناميا فى كفاءة قوات مدفعية امليدان املصرية ‪،‬‬ ‫ملحوظا ‪،‬‬ ‫صاحبه إرتفاع ملحوظ فى الروح املعنوية ألفراد القوات املسلحة‪،‬‬ ‫وخباصة اجلنود وصف الضباط إىل احلد الذى فجر جمموعة‬ ‫من التسميات الفكاهية على صوت مدافع اهلاوتزر ‪ ،‬وإىل‬ ‫احلد الذى طمأن اجلميع على اعتياد ممارسة حياتهم اليومية‬ ‫وسط اشتباكات املدفعية التى ال تنقطع ‪ .‬فأفراد الوحدات‬ ‫املناوبة تغتسل ‪ ،‬وتقوم بغسل ملبوساتها ‪ ،‬وتعريضها للهواء‬ ‫الطلق والشمس إىل احلد الذى يفجر غضب القادة املصريني‬ ‫واملستشارين السوفيت ملا حتمله هذه التصرفات من كشف‬ ‫للمواقع ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫منهمكا فى إعداد الطعام‬ ‫وعلى اجلانب اآلخر يكون البعض‬ ‫وسط صيحات اجلميع « زغرد يا أبا جاموس خلى والد األبالسة‬ ‫يشوفوا الويل»‪ ،‬وكان أبو جاموس هو مدفع اهلاوتزر املصرى‬ ‫الثقيل ‪ ،‬وبالطبع فإن أوالد األبالسة هم اإلسرائيليون على اجلانب‬ ‫اآلخر من قناة السوس ‪.‬‬ ‫لقد شهدت هذه الفرتة ‪ ،‬وبالذات منذ مارس سنة ‪ 1969‬وحتى‬ ‫ديسمرب سنة ‪ ، 1969‬ما يسمى مبيالد التفوق املصرى فى جمال‬ ‫مدفعية امليدان ‪ ،‬واستخدام النريان الكثيفة من الثبات أو شبه‬ ‫الثبات ‪ ،‬وإحداث املناورة بالنريان ومبصادرها بكفاءة عالية ‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫ً‬ ‫أيضا القدرة على تقديم جتارب‬ ‫كما شهدت هذه الفرتة‬ ‫حية على عمليات العبور لقناة السويس ومداهمة مواقع العدو‬ ‫بكفاءة متنامية ‪ ،‬شكلت فيما بعد ‪ -‬وإىل جانب مراحل‬ ‫التدريبات املستمرة والشاقة ‪ -‬األساس املوضوعى لكفاءة‬ ‫القوات املسلحة املصرية كلها فى عبور قناة السويس أثناء حرب‬ ‫أكتوبر سنة ‪. 1973‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا امتزاج اخلربة السوفيتية بالسالح‬ ‫وشهدت هذه الفرتة‬ ‫السوفيتى فى تعليم وتدريب قيادات وكوادر مصرية على‬ ‫مستويات عديدة ‪ ،‬إىل احلد الذى أصبحت لكل وحدة حتى‬ ‫مستوى الكتيبة ‪ ،‬بل مستوى السرايا فى بعض األحيان ‪،‬‬ ‫مستشار سوفيتى برتبة مناظرة لقائد الوحدة املصرية ‪ ،‬إن مل‬ ‫يكن أعلى ‪ ،‬وزاول قيادة مثل هذه الوحدة داخل جيش بالده ‪.‬‬ ‫لقد كان كل املستشارين السوفيت يقدمون جمهوداتهم‬ ‫الكبرية والدؤوبة ‪ ،‬والتى كانت حمل رصد كل رجال القوات‬ ‫ً‬ ‫جنودا وصف وضباط فى إطار املعونة األخوية الصرفة ‪،‬‬ ‫املسلحة‬ ‫فكانت حكومة االحتاد السوفيتى هى التى تتحمل مرتباتهم‬ ‫وبدالت سفرهم ‪ ،‬وال تتحمل القوات املصرية إال إقامتهم السكنية‬ ‫وتكاليف معيشتهم داخل الوحدات كأفراد عاديني على‬ ‫مستوى الضباط فقط ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا إجهاض حماوالت إسرائيل فى إقامة‬ ‫وشهدت هذه الفرتة‬ ‫حتصيناتها وحتطيم ما يسمى خبط بارليف األول ‪ ،‬الذى مل‬ ‫تتمكن من حتصينه إال بعد سنة ‪ . 1971‬لقد بلغ إرهاق القوات‬ ‫‪40‬‬


‫ً‬ ‫اإلسرائيلية خالل هذه الفرتة ً‬ ‫بعيدا ‪ ،‬وهذا ما سأحاول تبيانه‬ ‫مدى‬ ‫فى الصفحات القادمة ‪ .‬وسوف أستخدم معلوماتهم هم ‪ ،‬رغم‬ ‫ً‬ ‫مقدما أنهم ال يقولون احلقيقة ‪ ،‬فهم يربزون األمور فقط‬ ‫علمى‬ ‫من وجهة نظرهم ومبا خيدم مصاحلهم ‪.‬‬ ‫فى هذه األثناء ‪ -‬ومع أوائل سنة ‪ - 1969‬مت استدعائى من وحدتى‬ ‫وتوجيهى لدراسة اللغة الروسية كى أعد كمرتجم روسى –‬ ‫عربى ‪ ،‬ولكى أصاحب اخلرباء واملستشارين السوفيت فى‬ ‫السالح الذى مت توزيعى عليه منذ البداية ‪ ،‬أال وهو الدفاع اجلوى‪،‬‬ ‫السالح الوليد ‪ ،‬أو القوة الرابعة املضافة إىل القوات املسلحة ‪ ،‬تلك‬ ‫القوة التى عشت مراحل بناءها ‪ ،‬وشاركت فيها من موقع العارف‬ ‫واحملنك مبستويات متعددة ‪ .‬فمن حيث املعيشة أنا جندى بني‬ ‫اجلنود ‪ ،‬ومن حيث املهام مصاحب للقادة ‪ ،‬ووسيط احلديث بينهم‬ ‫وبني املستشارين واخلرباء السوفيت ‪ ،‬مما مكننى من أخذ كثري‬ ‫من الدروس سوف أعمل على وضعها فى متناول يد القارئ ‪ ،‬لعلها‬ ‫تقدم له أضوا ًء على تلك الفرتة اهلامة فى تاريخ وحياة مصر ‪ ،‬بل‬ ‫والعرب أمجعني ‪.‬‬

‫الدفاع اجلوى ‪:‬‬ ‫فى منتصف شهر سبتمرب سنة ‪ ، 1968‬مسعت ألول مرة عن‬ ‫فرع للقوات املسلحة يسمى ( الدفاع اجلوى ) ‪ ،‬حيث مت توزيعى‪،‬‬ ‫وتوزيع معظم اجلنود املؤهالت لالخنراط فى صفوفه ‪ .‬ومل يك‬ ‫ً‬ ‫جديدا على مسامعنا فقط ‪ ،‬بل كان األمر كذلك‬ ‫ما مسعناه‬ ‫ً‬ ‫فعال ‪ .‬فلم تكن القوات املصرية تعرف هذا الفرع كفرع مستقل‬ ‫للقوات قبل ذلك التاريخ بكثري ‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫وعلى الرغم من تدافع أصحاب احلظوة والوساطة للبحث عن‬ ‫خمرج ينقذهم من اخلدمة فى هذا الفرع اجلاد واملرهق حسب ما‬ ‫تنامى ألمساعنا ‪ ،‬وصدقته التجربة بعد ذلك ‪ ،‬إال أن ارتباط هذا‬ ‫الفرع مبفردات كالرادار ‪ ،‬والصواريخ ‪ ،‬والصواريخ املوجهة ‪،‬‬ ‫واملدفعية املضادة للطريان ‪ ،‬والطائرات ‪ ،‬كان عامل جذب شديد‬ ‫ىل ‪ ،‬كى أستمر فى اخلدمة فيه ‪ ،‬ليس هذا فحسب ‪ ،‬بل جيب‬ ‫أن أقبل عليه بكل محية وعزم وإصرار ‪ .‬فاخلدمة به ستكون‬ ‫والشك ‪ ،‬دافعة لالحتكاك بالعلم احلديث والتكنولوجية‬ ‫املتقدمة ‪ ،‬هو جمال أشعر أنه ميثل نقطة ضعف فى بناء قوة‬ ‫وطننا العسكرية ‪ ،‬إن مل يك فى خمتلف امليادين ‪ ،‬وهذا اجملال‬ ‫ً‬ ‫حتما سيمكننى من استكشاف مدى قدرتنا على جماراة‬ ‫إسرائيل بسالحها وتكنولوجيته األمريكية ‪ ،‬ومدى القدرة‬ ‫ً‬ ‫صخبا حول إسرائيل‪،‬‬ ‫على التصدى هلما‪ ،‬فى جو امتأل العامل فيه‬ ‫واحة التقدم واحلضارة فى منطقة الشرق األوسط ‪ ،‬وإىل احلد‬ ‫الذى راح فيه فيلسوف شهري كجان بول سارتر يعزف على تلك‬ ‫الوترية أثناء جولته الشهرية فى املنطقة فى تلك الفرتة ‪ ،‬ويعلن‬ ‫ بال أدنى حتفظ ‪ -‬احنيازه إىل التقدم احلضارى والدميقراطية‬‫فى مواجهة التخلف والديكتاتورية ! ‪ ،‬وال يشغل نفسه – ولو‬ ‫حلظة ‪ -‬بالسؤال اآلتى « أين يقف احلق ؟ ومع من ؟» ‪.‬‬ ‫ذهبنا لتلقى التدريبات األولية للجندية فى معسكر‬ ‫لالستقبال يسمى مركز أساس فى إحدى املدن ‪ ،‬وتشكلت‬ ‫وحدتنا التعليمية من عدة مئات من املؤهالت العليا ‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫من أن دخول املؤهالت العليا كجنود بأعداد كبرية ‪ ،‬شكل‬ ‫‪42‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا فى بنية القوات املسلحة من حيث الوعى واملستوى‬ ‫تطورا‬ ‫التعليمى ‪ ،‬مبا يوفرانه من سرعة االستجابة للتعامل مع األسلحة‬ ‫احلديثة املتطورة ‪ ،‬إال أنه على اجلانب اآلخر مل حيمل القادة فى‬ ‫ً‬ ‫استعدادا ملالقاة هذا الواقع‬ ‫املستويات الدنيا‪ ،‬واملستويات األعلى‬ ‫‪ ،‬ومقابلته بفكر جديد وبأسلوب جديد للتعامل ‪ ،‬فروح اإلدارة‬ ‫تقوم على استبداد مطلق ‪ ،‬تغلفه جمموعة من الشكليات‬ ‫فرغت من أى حمتوى أو مغزى موضوعى لتقريرها ‪ ،‬واستمرت‬ ‫سياسة التعامل معنا بإتباع أساليب تعليمية وإدارية أقرب إىل‬ ‫فنون التعامل مع كائنات غبية ‪ ،‬هى السياسة السائدة‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن إتباع جمموعة من األساليب الفجة التى تكرس التمايز‬ ‫الفئوى بني الضباط واجلنود ‪.‬‬ ‫لقد شهد هذا املعسكر نتيجة هلذه السياسة فى التعامل‬ ‫واقعة تعد الثالثة من نوعها ‪ ،‬حيث جرت الواقعتان السابقتان فى‬ ‫ً‬ ‫أيضا مع اجلنود املؤهالت‬ ‫معسكرى أساس املشاة واملدرعات ‪،‬‬ ‫العليا ‪ ،‬وميكن اختصار هذه الواقعة ‪ ،‬فى حدوث ما ميكن أن‬ ‫نسميه ( حركة مترد عام ) ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومعتادا فى أجواء يسودها توتر‬ ‫بسيطا‬ ‫كان سببها املباشر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العالقات اليومية فى جيشنا ‪ .‬ولكنها فجرت سخطا عاما ‪ ،‬غذاه‬ ‫منطق بريوقراطى من قائد املعسكر حول ضرورة إطاعة األمر‬ ‫حتى ولو كان الوقوف على قلة فوق كرسى يعلو منضدة ‪ ،‬إن‬ ‫هذا املنطق قابله منطقى ومنطق زمالئى بأننا نستهون أرواحنا‬ ‫ونسرتخص دمائنا ‪ ،‬فما بالنا باجلهد والعرق فى سبيل علو شأن‬ ‫‪43‬‬


‫هذا الوطن والدفاع عن أرضه ‪ ،‬وصد العدوان الذى حرق أكبادنا‬ ‫فى يونيو سنة ‪ 1967‬؟ ؛ ولكن لن يكون ذلك إال باختيارنا‬ ‫الطوعى ‪ ،‬و الذى يدخل كعنصر ثابت ضرورة التحرك خلف‬ ‫قائد صوب مهمة نعرف خطها العام ‪ ،‬وندرك مغزى حتركنا ولو‬ ‫فى أقل احلدود مبا حيفظ األمن واألسرار ‪ .‬ولكننا نرفض أن‬ ‫نساق كقطيع املاعز ‪.‬‬ ‫لقد كان من نتيجة هذه الوقائع الثالث أن سطر القائد العام‬ ‫الفريق حممد فوزى جمموعة من التعليمات حول كيفية‬ ‫التعامل مع اجلنود بطريقة إنسانية ‪ ،‬وخاصة على ضوء دخول‬ ‫حاملى املؤهالت العليا ضمن صفوف اجلندية بأعداد هائلة ‪.‬‬ ‫إن هذه التعليمات التى تسطر بداية أسلوب جديد يستجيب‬ ‫لتغريات جديدة ‪ ،‬كانت تهدف إىل جتاوز آثار اهلزمية بروح‬ ‫تدعم صالبة الصالت داخل القوات املسلحة ‪ ،‬والعمل على‬ ‫قيام عالقات دافئة ومحيمة بني الضباط واجلنود ‪ ،‬وكانت‬ ‫خطوة لألمام ‪ ،‬ال أقول حنو إقرار عالقات دميقراطية فى حدود‬ ‫اإللزام العسكرى اجلربى والقائم على وحدة العمل ‪ ،‬واملفرتض‬ ‫أن يهدف إىل أن يقوم على حد أدنى من وحدة اهلدف املدعمة‬ ‫على املعرفة باملصاحل‪ ،‬واملبنية على اإلرادة احلرة ولكن أقول‪:‬‬ ‫أنها كانت خطوة لألمام فى حدود حتسني العالقات فى جيش‬ ‫مازال حيرم السياسة فى داخله ‪ ،‬ويستبدهلا بشىء من التلقني‬ ‫ً‬ ‫غالبا ما يعكس حالة عدم الوضوح العام‬ ‫والتوجيه املعنوى الذى‬ ‫فى األهداف واخلطط ‪ ،‬أو عدم الوضوح اإلسرتاتيجى عامة ‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫إن ما حصلنا عليه من حقوق كان ثـمرة لرفضنا لتلك املعاملة‬ ‫التى ال تتماشى مع الضرورات املوضوعية التى تتطلبها هذه‬ ‫ً‬ ‫جتسيدا للحكمة األبدية أن احلقوق تؤخذ وال‬ ‫الفرتة‪ ،‬وكان‬ ‫تعطى ‪ ،‬وأن الكفاح من أجل احلقوق يكون فى كل الظروف‬ ‫حتى ولو اشتدت أطر القهر الذى يوضح فيها املكافحون ‪ ،‬كما‬ ‫أن استجابة القيادة هلذه احلقوق يدخل ضمن وطنيتها وتقديرها‬ ‫العام للظروف احمليطة ‪ ،‬وملتطلباتها وأهدافها العزيزة التى تتطلب‬ ‫احلشد وااللتفاف حوهلا والتضحية من أجلها ‪ ،‬والتقدم بثبات‬ ‫وبإرادة طوعية حنو إجناز هذه املهام ‪.‬‬ ‫بعد فرتة إمتام التدريبات األولية ‪ ،‬مت توزيعنا على الوحدات‬ ‫القتالية ‪ ،‬ووزعت على تشكيل عسكرى فى اجلبهة دون‬ ‫إعداد ختصصى ‪ ،‬ومع ذلك متكنت من تعلم ما أسند إىل من‬ ‫مهام بأسلوب التعلم الذاتى ‪ ،‬ومبساعدة زمالء العمل القدامى من‬ ‫اجلنود وصف الضباط ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طويال ‪ ،‬حتى مت استدعائى‬ ‫ومل يلبث وجودى فى هذا التشكيل‬ ‫لتعلم اللغة الروسية باعتبارى خريج إحدى الكليات التى تدرس‬ ‫ً‬ ‫نسبيا ‪ ،‬وبالرغم من متتع هذه‬ ‫اللغات األجنبية بصورة واسعة‬ ‫الدراسة بعوامل طرد كثرية لدى الكثريين ‪ ،‬ككون اللغة‬ ‫املدروسة هى الروسية مبا حتمله من صعوبات دراسية وعدم جاذبية‬ ‫جملتمعنا الذى احتك باللغات الغربية الالتينية أكثر ‪ ،‬أو كون‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫هذه الدراسة ستمد خدمتنا ألطول مدة ممكنة ‪ ،‬إال أننى‬ ‫أقبلت على الدراسة مبنتهى اجلدية‪ ،‬وما كانت مربرات إقباىل‬ ‫ً‬ ‫كثريا عما سقته من مربرات سابقة شدتنى لإلقبال‬ ‫ختتلف‬ ‫‪45‬‬


‫على الدفاع اجلوى ‪ ،‬بل إن األمر فى هذه املرة األخرية محل دوافع‬ ‫إضافية ‪ ،‬ففرص االحتكاك باخلربة والتقدم التكنولوجى‬ ‫ً‬ ‫حتما ستكون أكرب ‪ ،‬والتعامل املباشر مع السوفيت وبلغتهم‬ ‫سيجعلنى أقف على مستوى الفكر العسكرى العصرى ‪،‬‬ ‫واملفاهيم االسرتاتيجية والتكتيكية املرتبطة بذلك ‪.‬‬ ‫ومتكنت مع كثريين من إمتام هذه الدراسة ‪ ،‬واإلملام املبدئى‬ ‫بأصول اللغة الروسية ‪ .‬وتأهلنا للعمل كمرتمجني مباشرين‬ ‫ٌ‬ ‫كل فى فرعه ‪ .‬وبدأ عملى كمرتجم ‪ ،‬ورغم التعثر فى البداية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فشيئا ‪ .‬ومع بداية‬ ‫شيئا‬ ‫إال أننى متكنت من إتقان العمل‬ ‫عملى كمرتجم بدأت معارفى بقضايا الدفاع اجلوى تتكون‬ ‫وتزداد ‪ ،‬وأخذت تتكون معها بعض املعارف بالعلوم العسكرية‬ ‫وبقواعد التكتيك واالسرتاتيجية العسكرية ‪ ،‬واألهم من‬ ‫كل ذلك بدأت أدخل امليدان احلى وأقف على جمموعة من‬ ‫ً‬ ‫جاهدا‬ ‫التجارب واملشاهدات عشتها بكل انتباهى ‪ .‬وسأعمل‬ ‫على وضعها ‪ -‬وبصفة خاصة من جانبها العام ‪ -‬أمام القارئ ‪ ،‬لعلها‬ ‫تفيد ‪ -‬كما سبق أن أثرت ‪ -‬فى تكوين عناصر هامة تدخل فى‬ ‫بنيان اسرتاتيجية عربية موجودة ‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫صواريـخ ســام وقصتـها معنا‬ ‫فى البداية البد أن أقرر أننى حتى اآلن ال أعرف معنى كلمة‬ ‫«سام» فهى ليست كلمة روسية ‪ ،‬كما أننى ال أعرف ماذا‬ ‫تعنى هذه الكلمة باإلجنليزية ‪ ،‬هل هى اختصار جملموعة‬ ‫كلمات وسام حروفها األوىل ؟ ؟ املهم أنه ال ضرر من استخدامها ‪،‬‬ ‫مبعنى أنها تلك الصواريخ السوفيتية الصنع أرض – جو املضادة‬ ‫ً‬ ‫أيضا ال أعرف مدلول أرقامها على وجه‬ ‫للطائرات‪ .‬كما أننى‬ ‫التحديد ‪ ،‬فهناك سام ‪ ... 3 ، 2 ، 1‬إخل ‪ ،‬ومدى انطباق هذه األرقام‬ ‫على مدى التطور فى صناعة هذه الصواريخ ذات اخلصائص‬ ‫الفنية املختلفة‪.‬‬ ‫ولكن ما أعرفه أن هذه الصواريخ حتمل أمسا ًء روسية أخرى‪،‬‬ ‫وأعرف أن السوفيت يقومون بتسمية كل نوع منها على اسم‬ ‫أحد أنهار بالدهم الشاسعة ‪ ،‬فهناك نهر الديفينا ويوجد صاروخ‬ ‫الديفينا ‪ ،‬وهناك نهر الديسنا ويوجد صاروخ الديسنا ‪ ،‬وهناك‬ ‫نهر البتشيورا ويوجد صاروخ البتشيورا ‪ ..‬وهكذا ‪.‬‬ ‫وتبدأ قصة هذه الصواريخ فى مصر منذ أوائل الستينات ‪،‬‬ ‫حيث أدخلت إىل وحدات املدفعية املضادة للطائرات فى الفرتة ما‬ ‫‪47‬‬


‫بني سنتى ( ‪ ، ) 1964 ، 1962‬وكانت من حيث وضعها داخل‬ ‫التشكيالت ال تتمتع باالستقالل الذاتى ‪ ،‬سواء على مستوى‬ ‫التنظيم القتاىل ‪ ،‬واشرتاكها فى مهام محاية بعضها ‪ ،‬وذلك‬ ‫بتداخل أقواس نريان وحداتها ‪ ،‬أو على مستوى إدارة النريان وصدور‬ ‫أوامر القتال ‪ .‬فهى مل تعدو أن تكون وحدات مكملة للرتكيبة‬ ‫األساسية للدفاع اجلوى ‪ ،‬والتى تعتمد على املدافع م ‪ /‬ط ( أى‬ ‫ً‬ ‫اصطالحا « باملواسري»‪ ،‬لذا‬ ‫املضادة للطائرات ) ‪ ،‬وهى ما تسمى‬ ‫كانت وحدات الصواريخ املضادة للطائرات منتشرة على رقعة‬ ‫ً‬ ‫ضربا‬ ‫واسعة ‪ ،‬مما جيعل عملية التنسيق بني الوحدة واألخرى‬ ‫من املستحيل ‪.‬‬ ‫أما من حيث أطقم التشغيل العاملة عليها ‪ ،‬فكانوا فى الغالب‬ ‫من الضباط العاديني ‪ ،‬أى الذين مل يتلقوا التعليم اهلندسى‬ ‫الطويل ‪ ،‬سواء فى الكليات العسكرية الفنية أو املدنية ‪.‬‬ ‫وكان اجلنود والصف من املتطوعني ‪ ،‬وأغلبهم من أكمل‬ ‫ً‬ ‫متطوعا باجليش ‪ .‬على الرغم‬ ‫دروس املرحلة اإلعدادية والتحق‬ ‫من أن هذه الصواريخ تتمتع خباصيتني حمددتني ‪ ،‬أوهلما‬ ‫التعقيد الفنى الشديد واملعتمد فى أسسه على علوم الكهربية‬ ‫واملغناطيسية وااللكرتونات ‪ ،‬وثانيهما أن قواعد الضرب‬ ‫واالشتباك بها حتتاج معارف عالية من الدراسات الرياضية‬ ‫واهلندسية ‪ ،‬وأن القرار له جانب فنى معقد إىل جوار جانبه‬ ‫التنفيذى ‪ ،‬حيث حيتاج جملموعة من احلسابات الدقيقة ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫كثري‬ ‫وفى الفرتة ما قبل يونيو سنة ‪ - 1967‬وكما روى ىل‬ ‫‪48‬‬


‫من العاملني فى وحدات الصواريخ آنذاك ‪ -‬كانت الصواريخ‬ ‫تعامل وكأنها حتف منزلية نادرة ‪ .‬فكانت أبواب احملطة‬ ‫ً‬ ‫غالبا ال يعود لفتحها‬ ‫تقفل باإلقفال ويأخذ مفاتيحها القائد الذى‬ ‫مرة أخرى إال كل ثالثاء ‪ ،‬وهو اليوم املتفق عليه آنذاك إلجراء‬ ‫أعمال الصيانة األسبوعية هلذه الصواريخ ‪ .‬وكانت عملية‬ ‫الصيانة جترى مبعناها امليكانيكى ‪ ،‬أى عملية التنظيف‬ ‫وإزالة األتربة‪ ،‬وعمليات التزييت والتشحيم ‪ ،‬وال جترى الصيانة‬ ‫مبعناها الكهربى ‪ ،‬أى تشغيل املعدات وقياس كفاءة وحدات‬ ‫التشغيل والصمامات والرتنزاستورات ‪ ،‬ناهيك عن عدم عمل‬ ‫أى تدريبات على وحدة املقلد امللحقة باحملطة ‪ ،‬والتى متازج‬ ‫بني أعمال الصيانة والتدريب أى مطابقة اخلصائص الفنية‬ ‫والتكتيكية‪ ،‬ومدى كفاءتها مع قواعد االشتباكات‬ ‫والضرب وقدرة هذه الوحدات على أداء املهام القتالية بأعلى‬ ‫كفاءة ممكنة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملفتا للنظر حينما نعلم أن‬ ‫غامضا أو‬ ‫وعليه مل يك األمر‬ ‫وحدات الصواريخ املوجهة املضادة للطائرات مل تشتبك مع الطريان‬ ‫اإلسرائيلى فى يوم ‪ 5‬يونيو سنة ‪ 1967‬وال األيام التى تليه ‪ ،‬أو أن‬ ‫ً‬ ‫مدهشا ‪ -‬وإن‬ ‫اشتباكاتها كانت غري مؤثرة ‪ .‬وكذلك مل يك‬ ‫ً‬ ‫مثريا لألسى – أن نعلم أنه أثناء عمليات االنسحاب ‪ ،‬مت‬ ‫كان‬ ‫ترك عدد من البطاريات بكامل عدتها وشكلها امليدانى دومنا‬ ‫حتى تفكري فى تفجريها أو تدمريها قبل اإلنسحاب ‪ ،‬وبالتاىل‬ ‫سقطت بني أربع وست بطاريات صواريخ سام كاملة فى أيدى‬ ‫القوات اإلسرائيلية بوثائقها ‪ ،‬وخمططاتها الكهربية واهلندسية‪،‬‬ ‫‪49‬‬


‫وصناديق الشفرة الرادارية املستخدمة فيها ‪.‬‬ ‫وفى أعقاب هزمية يونيو سنة ‪ ، 1967‬أدخل على سالح‬ ‫الصواريخ املضادة للطائرات بعض حماوالت اإلصالح كما‬ ‫أدخلت إصالحات على غريه من االسلحة‪ ،‬وميكن القول أن ذلك‬ ‫السالح دخل مرحلة جديدة بدأت بانسالخ الدفاع اجلوى ذاته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مشكال ً‬ ‫جديدا وقوى رابعة للقوات املسلحة املصرية ‪.‬‬ ‫فرعا‬

‫الصواريخ املضادة للطائرات حتى انتهاء سيادة‬ ‫مدفعيـة امليدان ‪:‬‬ ‫ميكن اعتبار املرحلة الثانية بالنسبة للصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات ‪ ،‬تلك املرحلة التى متتد بعد انتهاء حرب ‪ 1967‬وحتى‬ ‫نهاية سنة ‪ ، 1969‬وهلذا التحديد مغزى سوف نلمسه ً‬ ‫جليا فيما‬ ‫بعد ‪ ،‬ولكن قبل ذلك البد من تبني خصائص تلك املرحلة ‪ ،‬ومدى‬ ‫متيزها عن املرحلة األوىل التى سبقتها ‪.‬‬ ‫إذا كانت املرحلة األوىل هى مرحلة سيادة املدافع املضادة‬ ‫للطائرات بالنسبة للصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬ضمن نطاق‬ ‫وسائل الدفاع اجلوى ‪ ،‬سواء كان ذلك بالنسبة لعدد أو كمية‬ ‫النريان املطلوبة ‪ ،‬أو مدى الفاعلية ‪ ،‬أو بالنسبة للشكل‬ ‫التنظيمى املالئم لكل منهما ‪ ،‬أو حتى بالنسبة لإلمكانات‬ ‫البشرية التى تتطلبها هذه أو تلك ‪ ،‬فإن املرحلة الثانية شهدت‬ ‫بعض التغريات فى الرتكيبة النسبية حلجم الصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات ‪ ،‬مبا يعنيه ذلك من حدوث كثري من املتغريات التى‬ ‫يستلزمها هذا األمر ‪ ،‬فعندما زاد عدد وحدات الصواريخ ضمن حيز‬ ‫‪50‬‬


‫القوة الرابعة‪ ،‬زاد الدور املطلوب منها من حيث كمية النريان ومدى‬ ‫االعتماد عليها ‪ ،‬وبالتاىل بدء اإلعداد السليم واملتطور للكوادر‬ ‫الفنية الصاحلة للتعامل مع هذه األسلحة املتطورة ‪ ،‬وذلك على‬ ‫مستوى اإلعداد الفنى للتشغيل ‪ ،‬وإصالح األعطال ‪ ،‬وعلى‬ ‫املستوى القتاىل بالنسبة لقواعد الرمى أو الضرب ‪ ،‬وتكتيكات‬ ‫االستخدام ‪ ،‬كما بدأ التنسيق بني بطاريات الصواريخ وحمطات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا من حيث استخدام املعلومات ‪ ،‬وانتظام‬ ‫شكال‬ ‫الرادار يأخذ‬ ‫ورودها ‪ ،‬وسرعة االتصال بني املراكز القيادية هلما ‪ ،‬كذلك‬ ‫بدأ التنسيق بني الصواريخ املضادة للطائرات وبني سالح الطريان‬ ‫يدخل مرحلة نوعية جديدة ‪ ،‬سواء فى جمال التدريبات احلية ‪ ،‬أو‬ ‫فى جمال التنسيق أثناء العمليات احلربية وتوزيع األدوار بينهما ‪.‬‬ ‫ولكن بقيت مشكلة خطرية مل يتم حلها أو حتى التصدى‬ ‫اجلاد هلا ‪ ،‬أال وهى مشكلة وضع وحدات الصواريخ فى نظام‬ ‫متكامل للدفاع اجلوى ‪ ،‬تقوم فيه وحداتها باحلماية املشرتكة‬ ‫لبعضها البعض ‪ ،‬وحيث تصري لكل وحدة صواريخ جزء من‬ ‫املهمة فى تأمني الوحدة األخرى اجملاورة هلا ضد هجمات الطريان‪،‬‬ ‫وذلك كما يقال عنه « تقاطع أقواس نريانهما» ‪ .‬وبالرغم من‬ ‫ذلك ‪ ،‬مت حتسني جمال الدفاع حول الوحدة الواحدة من الصواريخ‬ ‫املضادة للطائرات ‪ ،‬وقد حدث ذلك فى اجتاهني ‪ ،‬األول ‪ :‬تأمينها‬ ‫ضد هجمات الطريان بالبدء فى إحاطة كل وحدة بتشكيل‬ ‫أو أكثر من وحدات املدفعية املضادة للطائرات ‪ ،‬ذات األعرية‬ ‫اخلفيفة لتأمني الصواريخ ضد هجوم الطريان املعادى املنخفض‬ ‫واملباغت ‪ ،‬والثانى ‪ :‬تأمني الدفاعات األرضية لوحدات الصواريخ‬ ‫‪51‬‬


‫املضادة للطائرات بواسطة قوات املشاة واملدرعات ‪ ،‬ضد عمليات‬ ‫التخريب وأعمال الكوماندز املعادى ‪ ،‬وعلى الرغم من سطو‬ ‫إحدى فرق الكوماندز اإلسرائيلى على إحدى احملطات الرادارية‬ ‫الصغرية على ساحل البحر األمحر ‪ ،‬وما كشف عنه من خلل‬ ‫معيب ‪ ،‬إال أنه كشف أهمية التحصني األرضى لقوات الرادار‬ ‫وقوات الصواريخ املضادة للطائرات ‪.‬‬ ‫كما أن هذه املرحلة شهدت زيادة كبرية فيما يقدم من‬ ‫املعاونة السوفيتية ‪ ،‬فوضع إىل جانب كل قائد فى مستوى‬ ‫الكتيبة مستشار سوفيتى مقيم بالوحدة ‪ ،‬كان هذا املستشار‬ ‫يبذل أقصى اجلهد فى عمليات اإلشراف اليومى على التدريبات‪،‬‬ ‫وصيانة املعدات ‪ ،‬سواء على مستوى الصيانة امليكانيكية ‪ ،‬أو‬ ‫الصيانة الكهربية ‪ ،‬وكان يقوم بتحضري املشروعات التدريبية‬ ‫سواء على مستوى إدارة املعركة وفنون القتال ‪ ،‬أو بالنسبة‬ ‫لعمليات التحرك والفك والرتكيب املصاحب هلا ‪.‬‬ ‫لقد كان متوسط ساعات عمل املستشار السوفيتى كقائد‬ ‫الكتيبة ال يقل بأى حال من األحوال عن عشر ساعات عمل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخمتلطا بالضباط‬ ‫متنقال بني هذه املهام املتعددة ‪،‬‬ ‫يوميا ‪،‬‬ ‫واجلنود فى ختصصاتهم ‪ .‬كما أن مثل هذا املستشار ينتظم فى‬ ‫جهاز هرمى كامل من املستشارين من أول مستشار قائد السالح‬ ‫ومستشار رئيس العمليات حتى هذا املستوى األدنى ‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫مجيعا ينصب على استمرار وتواتر عمليات التدريب‬ ‫إحلاحهم‬ ‫ً‬ ‫يوميا مبعدالت متزايدة ‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫كذلك استعانت القيادة املصرية على املستويات العليا‬ ‫والوسطى مبجموعات من اخلرباء املتخصصني السوفيت ‪ ،‬وهم‬ ‫ً‬ ‫غالبا مهندسون فنيون ومصممون وعاملون فى مصانع إنتاج‬ ‫هذه الصواريخ ‪ ،‬وكانت مهماتهم تنحصر فى اإلشراف الفنى‪،‬‬ ‫وإصالح األعطال ‪ ،‬والتدريب لألطقم الفنية وأطقم إصالح‬ ‫األعطال ‪ ،‬وكان وضع اخلبري خيتلف عن وضع املستشار ‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫كامال بالتعاقد مع القوات املسلحة‬ ‫أن اخلبري كان يأخذ مرتبه‬ ‫ً‬ ‫املصرية من خالل القوات السوفيتية ‪ ،‬أى أن مرتبه كامال كان‬ ‫على حساب مصر ‪ ،‬وكان تواجده يرتبط مبهام حمددة ‪ ،‬وذلك‬ ‫ً‬ ‫كامال من حكومة‬ ‫غري وضع املستشار الذى كان يأخذ مرتبه‬ ‫بالده ‪ ،‬وكان تواجده يرتبط بفرتة حمددة ‪ ،‬يتبدل فيها مع غريه‬ ‫حينما تنتهى مدة األول ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طورا من اجلدية مل تشهده‬ ‫ودخلت التدريبات فى املرحلة الثانية‬ ‫ً‬ ‫املرحلة األوىل من قبل ‪ ،‬وال أكون مبالغا إذا قلت أن مثل هذا‬ ‫ً‬ ‫أصال من قبل ‪ ،‬فقد مت التوسع فى إرسال‬ ‫لبتدريب مل يك بدأ‬ ‫البعثات التعليمية والتدريبية داخل االحتاد السوفيتى على‬ ‫املستويني الفنى والتكتيكى‪ ،‬ومت تنشيط املعاهد التعليمية‬ ‫الداخلية وزاد اإلقبال عليها ‪ ،‬كما بدأت وتطورت التدريبات‬ ‫امليدانية حتت إشراف املستشارين السوفيت على خمتلف‬ ‫مستويات التشكيالت القتالية ‪.‬‬ ‫وميكن القول – بالرغم من متيز املرحلة الثانية عن األوىل‬ ‫– إال أنها ظلت حلقة وسطى بني ما سبقها وما سيتلوها ‪ ،‬مبا‬ ‫تعنيه احللقة الوسطى من محلها خلصائص األوىل والتدرج حنو‬ ‫‪53‬‬


‫اكتساب صفات التالية ‪ ،‬فعلى قدر ما شهدته هذه املرحلة الثانية‬ ‫من تطورات‪ ،‬إال أن سالح الصواريخ املضاد للطائرات مل يصل فيها‬ ‫إىل اعتباره القوة األساسية ضمن وسائل الدفاع اجلوى املختلفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نظاما‬ ‫كما أن هذه الفرتة مل متتد بالدفاع اجلوى لتجعل منه‬ ‫ً‬ ‫متكامال ميكنه تأمني حميط البالد فى حده األقصى ‪ ،‬أو‬ ‫تأمني وضع اجليشني امليدانيني وبعض األهداف احليوية داخل‬ ‫الوطن فى حده األدنى ‪.‬‬

‫صدفة البد من الوقوف أمامها ‪:‬‬ ‫فى الشهور األخرية من عام ‪ ، 1969‬دخلت حرب االستنزاف ‪ -‬كما‬ ‫سبق اإلشارة إليه ‪ -‬مرحلة هامة ‪ ،‬تسيدت املوقف فيها وسائل النريان‬ ‫األرضية املصرية ‪ ،‬وعلى األخص مدفعية امليدان ‪ .‬وأصبحت‬ ‫احلرب من مواقع ثابتة عالمة شؤم ووبال على إسرائيل‪ ،‬فمدفعية‬ ‫امليدان املصرية ذات الضرب املباشر تقصف أى حترك معادى فى‬ ‫مدى نريانها ‪ ،‬ومتنع أى جتهيزات أو حتصينات إسرائيلية من أن‬ ‫تقوم وجتهض وحتطم ما مسى خبط بارليف األول ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فعاال لعمليات عبور وحدات الفدائيني ‪،‬‬ ‫وتشكل غطا ًء‬ ‫ووحدات القوات اخلاصة التى تعمل على إقالق العدو وتكبيده‬ ‫خسائر فادحة ‪ ،‬ولكى نقف على حجم اخلسائر املادية املتنامية‬ ‫إلسرائيل سوف نستعرض بعض بياناتهم ‪ ،‬بالرغم من أهمية‬ ‫التنبيه على أن هذه التقديرات معادية ومهونة للواقع ‪ ،‬فحسب‬ ‫تقديرات العميدين اإلسرائيليني زئيف وجازيت « أن معدالت‬ ‫خسائر إسرائيل فى الفرتة التى سبقت حرب االستنزاف ‪ ،‬وعلى‬ ‫‪54‬‬


‫وجه التحديد من ‪ 11‬يونيو ‪ 1967‬إىل ‪ 7‬سبتمرب ‪ 1968‬مل تتعدى‬ ‫ً‬ ‫شهريا ‪ ،‬بينما ارتفع هذا املعدل فى‬ ‫إصابة أقل من عشر جنود‬ ‫الفرتة من ‪ 8‬سبتمرب ‪ 1968‬إىل ‪ 4‬يونيو ‪ 1969‬ليصبح من ( ‪40‬‬ ‫ً‬ ‫شهريا ) ‪ ،‬وارتفع فى الفرتة التالية لذلك‬ ‫– ‪ 50‬جندى مصاب‬ ‫ً‬ ‫وحتى نهاية حرب االستنزاف إىل ‪ 72‬إصابة شهريا ‪ ،‬وهو ما يرفع‬ ‫ما خسرته إسرائيل فى حرب االستنزاف إىل ثالثة أمثال ما خسرته‬ ‫فى حرب يونيو ‪ 1967‬كلها» ‪.‬‬ ‫على اجلانب اآلخر ‪ ،‬مل تستطع إسرائيل وقف هذه التطورات‬ ‫التى حتمل هلا نذر اخلطر ‪ ،‬وتنبئ بهبوط منحنى قوتها ‪ ،‬لقد‬ ‫فشلت قوات العدو اإلسرائيلى فى استخدام وسائل مماثلة من‬ ‫مصادر النريان األرضية للتصدى ملصادر النريان األرضية املصرية‪.‬‬ ‫وظلت مدفعية امليدان املصرية فى وضع التسيد للموقف ‪ ،‬وبدا‬ ‫األمر وكأن امليزان مال لصاحل القوات املصرية ‪ ،‬وحسم تفوق‬ ‫مصادر نريانها األرضى ‪ .‬عند هذا احلد مل يك أمام إسرائيل إال‬ ‫خيارها السهل ‪ ،‬أال وهو ضرورة استخدام يدها الطوىل ‪ ،‬ونقطة‬ ‫القوة فى بنيان قواتها ‪ ،‬سالح طريانها ‪ ،‬فلم يك مبقدور إسرائيل‬ ‫عبور القناة بأرتاهلا املدرعة ملواجهة هذه القوات املصرية ‪ ،‬فالعبور‬ ‫عملية صعبة فى حد ذاتها ‪ ،‬وغري مضمونة النتائج من ناحية‬ ‫ثانية ‪ ،‬وتبدو وكأنها تصعيد خطري فى جو وظروف دولية لن‬ ‫ً‬ ‫متاما ‪ ،‬لذا مل يك أمامها غري حلها األسهل‪،‬‬ ‫تكون مواتية هلا‬ ‫وعليه أقدمت على ما ليس منه بد ‪ ،‬ودخلت بسالحها اجلوى‬ ‫ميدان املعركة دخلة قوية ‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫وفى األسبوع األخري من شهر ديسمرب سنة ‪ ، 1969‬كان الرئيس‬ ‫مجال عبد الناصر يقوم بزيارة للمغرب العربى ‪ .‬وقبل أن يقوم‬ ‫بهذه الزيارة عني أنور السادات ً‬ ‫نائبا له ‪ ،‬وتوىل السادات ‪ -‬ألول مرة‬ ‫ إدارة شئون الدوله بالنيابة ‪.‬‬‫وفى يوم ‪ 25‬ديسمرب سنة ‪ 1969‬يوم عيد امليالد اجمليد حسب‬ ‫التقويم الغربى ‪ ،‬ويوم عيد ميالد السادات ذاته ‪ ،‬قامت إسرائيل‬ ‫بعملية قصف مركزة على كل مواقع الصواريخ فى منطقتى‬ ‫القناة ومشال البحر األمحر فى توقيتات متقاربة ‪ ،‬أو باألحرى فى‬ ‫ً‬ ‫فعليا من تدمري وإعطاب معظم – إن مل‬ ‫توقيت واحد ‪ .‬ومتكنت‬ ‫يك كل ‪ -‬بطاريات صواريخ سام التى أغارت عليها فى هذا اليوم‪.‬‬ ‫وكانت نهاية مرحلة ‪ ،‬وبداية أخرى ‪ .‬رمبا صاغها القدر كى‬ ‫تكون مصادفة تشكلت على طالع السادات ‪ ،‬ورمبا تكون‬ ‫ً‬ ‫شيئا آخر ينسجم مع تاريخ السادات ‪ ،‬قبل وبعد هذا اليوم ‪ .‬ولكن‬ ‫املؤكد أن إسرائيل أقدمت على فعلتها وهى تعلم أن إمكانات‬ ‫هذه القيادة املؤقتة ستوفر املناخ السهل لتنفيذ غدرها واملرور منه‬ ‫بسالم وأن االرتباك واإلهمال وبطء احلركة كحد أدنى هلذه‬ ‫املصادفة أو إن شئنا الدقة الواقعة – يكفل هلا الضمان املرجو‬ ‫لإلقدام على ما أقدمت عليه ‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من عجزنا فى تبني أبعاد هذه القضية وافرتاض‬ ‫أن حدها األدنى هو احلد املقبول واملعقول حتى هذه اللحظات ‪ ،‬إال‬ ‫ً‬ ‫فعليا فى هذا اليوم‬ ‫أننا ال جند صعوبة حينما نقرر أنه قد بدأت‬ ‫عملية فتح أبواب مصر أمام طريان العدو ‪ .‬وبدأت مرحلة غزو‬ ‫‪56‬‬


‫األعماق املصرية فيما يسمى ( بغارات العمق ) ‪ ،‬وبدأت بالتاىل‬ ‫مرحلة جديدة فى حرب االستنزاف انتقلت فيها املبادرة إىل أيدى‬ ‫إسرائيل ‪ ،‬وقلب امليزان لصاحلها ‪.‬‬

‫الفعل ونقيضه هما أساس احلركة ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫قدميا أن الظاهرة إذا زادت عن حدها انقلبت إىل ضدها ‪،‬‬ ‫قالوا‬ ‫مساو له فى املقدار‬ ‫وأثبت العلم احلديث أن لكل فعل رد فعل‬ ‫ٍ‬ ‫ومضاد له فى االجتاه ‪ .‬وخلصت علوم التفكري فى املنطق‬ ‫والفلسفة إىل أن احلركة أساسها صراع املتناقضات ‪ ،‬وأن بروز‬ ‫ظاهرة يوجب بروز نقيضها ‪ ،‬وأنه مامن سالح خيرتع إال ويظهر‬ ‫سالح آخر يردعه ‪ ،‬وأن املعيار ليس فى أن حيمل السالح األول‬ ‫أو الثانى خصائص متطورة فحسب ‪ ،‬ولكن يتوقف األمر على‬ ‫اجلهد والوضوح املستخدم للسالح فى حدود شرعية اهلدف‬ ‫بالنسبة ملصاحل الشعوب ‪ ،‬واجتاه حركة التاريخ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حقا فتحت بوابات مصر أمام طريان العدو اإلسرائيلى ‪ ،‬ولكن‬ ‫بدأت على الفور عملية بناء نظام دفاعى حيمى أجواء مصر ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجديدا ‪ ،‬فبذلت‬ ‫جادا‬ ‫شكال‬ ‫بدأت هذه العملية بأن أخذت‬ ‫احملاوالت إلحاطة مصر بسور عظيم من حوائط الصواريخ ‪ ،‬سور‬ ‫كاد ينافس سور الصني العظيم فى شهرته ‪ ،‬ورمبا تفوق عليه‬ ‫ً‬ ‫ملمحا‬ ‫فى خدماته الدفاعية ملصر ‪ .‬إن هذا احلائط العظيم شكل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبارزا لطابع عمليات احلركة والتطور والصراع بني مصر‬ ‫هاما‬ ‫وإسرائيل ‪ ،‬بني إرادة الشعوب وإرادة مغتصبيها ‪ ،‬بني جبهة‬ ‫وحتالف األصدقاء فى مواجهة جبهة وحتالف األعداء ‪ ،‬إنه شكل‬ ‫‪57‬‬


‫التجسيد العملى لداللة كل هذه املتناقضات وحسمها فى اجتاه‬ ‫مصاحل الشعوب ‪ ،‬ومع حركة التاريخ ‪.‬‬

‫غارات العمق ‪ ،‬وإنهاك القوات املصرية بالقصف اجلوى‬ ‫اإلسرائيلى اخلطري ‪:‬‬ ‫منذ ذلك اليوم ‪ ،‬فتحت بوابات مصر أمام طريان العدو اإلسرائيلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فشيئا ‪ ،‬دخل الطريان اإلسرائيلى فى أخطر وأشرس عملية‬ ‫وشيئا‬ ‫لتصفية كل بطاريات الصواريخ املضادة للطائرات على عرض‬ ‫واتساع الساحة املصرية ‪ ،‬فى مشال الدلتا ومشال البالد كلها‪،‬‬ ‫فى العمق حتى قلب القاهرة عاصمة الوطن وأكرب جتمعاته‬ ‫السكنية ‪ ،‬فى صعيد مصر حتى أسوان وجنع محادى ‪ .‬ومل‬ ‫ميتد القصف فقط على مواقع الصواريخ ‪ ،‬بل امتد إىل كل‬ ‫ً‬ ‫دعما لنشاط قوات الصواريخ املضادة‬ ‫نشاط تصورته إسرائيل‬ ‫للطائرات‪.‬‬ ‫فقام طريان العدو بضرب املدارس واملستشفيات واحلدائق‬ ‫واملطارات املهجورة ‪ ،‬لعل قوات الصواريخ خمتبأة بها ‪ ،‬فهو يقصف‬ ‫مصنع حديد التسليح مبنطقة أبى زعبل ألنه – وكما ترى‬ ‫إسرائيل – ينتج حديد التسليح اخلاص ببناء القواعد اخلرسانية‬ ‫حملطات الصواريخ ‪ ،‬وخيلف هذا القصف الغادر وراءه عشرات‬ ‫الضحايا من العمال والسكان املدنيني ‪.‬‬ ‫وهو يقصف مدرسة حبر البقر ألن إسرائيل تظن أن على‬ ‫سطحها‪ ،‬أو أسطح منازل جماورة هلا وحدات صواريخ مضادة‬ ‫للطائرات ‪ ،‬وخيلف هذا القصف الوحشى عشرات من جثث‬ ‫األطفال املدنيني ‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫وهكذا اشتدت محلة إسرائيل فى البحث عن الصواريخ‬ ‫املصرية‪ ،‬وبرزت معها بأوضح الصور واألساليب الطبيعة العدوانية‬ ‫الغادرة للعسكرية اإلسرائيلية ‪ ،‬واحلقد األسود للعدو املستمد‬ ‫من نهج اغتصاب أرض الغري ومصاحل الشعوب ‪ ،‬والرغبة الشريرة‬ ‫فى الضغط على أصحاب احلق للتخلى عن حقهم فى مواجهة‬ ‫أساليب القهر البشعة التى جتيدها العسكرية اإلسرائيلية ‪،‬‬ ‫والتى عرب عنها جبالء ووضوح رئيس أركان حرب العدو آنذاك ‪،‬‬ ‫اجلنرال ( دافيد العازر ) حينما قال ‪:‬‬ ‫« إن خمطط اجليش اإلسرائيلى لعام ‪ 1971 – 70‬يتضمن‬ ‫مواصلة الضغط على مصر بالقصف وفى األعماق» (‪. )1‬‬ ‫ً‬ ‫جناحا فى مهمته‬ ‫وحينما استطاع الطريان اإلسرائيلى أن حيقق‬ ‫الوضيعة ‪ ،‬ويصيب ويعطب كل قواعد الصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات على اجلبهة والبحر األمحر ‪ ،‬وجيرب القواعد األخرى‬ ‫التى مل تصب فى أماكن متعددة بالعمق على التحوصل تارة‬ ‫فى مواقع حصينة ‪ ،‬والتشوين تارة أخرى النتظار ظرف حيسب‬ ‫وخيطط له ‪ ،‬إندفع العدو اإلسرائيلى باستخدام سالح طريانه‬ ‫فى أكرب عملية استباحة وعربدة فوق مواقع قوات اجليشني‬ ‫امليدانيني الثانى والثالث على خط اجلبهة فى قناة السويس‬ ‫ومشال البحر األمحر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مشهورا أن إسرائيل تقذف كل يوم تلك املواقع مبا‬ ‫وأصبح‬ ‫اللواء الركن حسن البدرى ‪ ،‬حرب االستنزاف ( ‪ 28‬سبتمبر ‪7 – 1968‬‬ ‫(‪ )1‬‬ ‫أغسطس ‪ ) 1970‬القاهرة ‪ ،‬مجلة السياسة الدولية ‪ -‬مؤسسة األهرام المصرية ‪،‬‬ ‫أكتوبر ‪ ، 1978‬ص ‪. 183‬‬ ‫‪59‬‬


‫قيمته مليون جنيه من القذائف والذخائر ‪ ،‬كما كان يردد‬ ‫الرئيس عبد الناصر فى خطبه آنذاك ‪ ،‬وتعكس اإلحصاءات‬ ‫ً‬ ‫أرقاما تدعو إىل الفزع ‪ ،‬إذا علمنا أنه فى شهر يونيو سنة ‪1970‬‬ ‫قام الطريان اإلسرائيلى بعمليات قصف على مواقع اجليشني‬ ‫امليدانيني الثانى والثالث تقدر بــ ‪ 246‬ساعة قصف جوى ‪ ،‬جممعة‬ ‫فى ‪ 1912‬طلعة جوية (‪ )2‬حظى منها اجليش الثانى بنسبة ‪81%‬‬ ‫من مجلة القصف ‪ ،‬واجليش الثالث بنسبة ‪. 13,6%‬‬ ‫إن هذه األرقام املخيفة حول طاقة القصف اإلسرائيلى أثبتت‬ ‫بوضوح أن الطريان اإلسرائيلى قد دخل ميدان القتال وأصبح‬ ‫فى مواجهة التشكيالت امليدانية األرضية للقوات املسلحة‬ ‫املصرية ‪ .‬ومع هذا اهلجوم الشرس – وأمام قدرة حمدودة لسالح‬ ‫الطريان املصرى ‪ -‬استطاع بواسطتها القيام مبحاولة الرد على‬ ‫املواقع اإلسرائيلية حيث قام فى شهر أبريل سنة ‪ 1970‬خبمس‬ ‫ً‬ ‫واضحا‬ ‫غارات على املواقع اإلسرائيلية فى مشال سيناء (‪ ، )3‬كان‬ ‫مدى التفوق الذى سجله الطريان املعادى فى مواجهة تشكيالت‬ ‫القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬مبختلف فروعها سواء الربية أو البحرية‪،‬‬ ‫أو وسائل الدفاع اجلوى ‪ ،‬مما بدا معه ‪ ،‬وكأن حرب االستنزاف قد‬ ‫ارتدت سهامها إىل صدر مصر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبريا ‪ ،‬وليس فى‬ ‫صعبا وما هو مطلوب‬ ‫وكان املوقف‬ ‫إمكانية مصر أو العرب ‪ ،‬فالبد إذن من االلتجاء إىل حلف معاداة‬ ‫اإلمربيالية والصهيونية ‪ ،‬وفى هذا احللف يربز االحتاد السوفيتى‬ ‫(‪ )2‬‬ ‫(‪ )3‬‬

‫المرجع السابق ‪ .‬ص ‪. 190‬‬ ‫المرجع السابق ‪ .‬ص ‪. 190‬‬ ‫‪60‬‬


‫باعتباره القوة األوىل ‪ ،‬والسند العضود الجتاه معاداة االستعمار‬ ‫فكان ال بد من اللجوء إىل االحتاد السوفيتى ‪ ،‬ومل يك املطلوب‬ ‫ً‬ ‫علميا‬ ‫فى هذه املرة جمرد قطع من األسلحة أو الصواريخ املتقدمة‬ ‫ً‬ ‫وتكنولوجيا ‪ ،‬ولكن كان األمر أكرب من ذلك ‪ ،‬فالطلب فى‬ ‫هذه املرة قوات مسلحة سوفيتية متكاملة ( أى بشر وسالح ) ‪.‬‬ ‫وبالفعل ‪ ،‬سافر الرئيس مجال عبد الناصر فى زيارته السرية‬ ‫ملوسكو فى أوائل يناير سنة ‪ 1970‬برفقة القائد العام للقوات‬ ‫املسلحة املصرية ‪ ،‬ووضع الرئيس طلبه أمام القادة السوفيت ‪،‬‬ ‫وألن الطلب خطري ‪ -‬وألنه خطوة مل يسبق هلا مثيل خارج نطاق‬ ‫منظومة الدول االشرتاكية ‪ -‬وجد القادة السوفيت أن القرار‬ ‫أكرب من قدرتهم على تلبيته فى دوائر حمددة ‪ ،‬ومل تستطع‬ ‫احلكومة السوفيتية ‪ ،‬وال حتى جملس الرئاسة األعلى ‪ ،‬وال‬ ‫املكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفيتى أن يتخذ القرار‬ ‫على مسئوليته اخلاصة ‪ ،‬فكان البد من وجود هيئة أعلى‬ ‫وأوسع ‪.‬‬ ‫إنها اللجنة املركزية للحزب الشيوعى السوفيتى ‪ ،‬السلطة‬ ‫العليا واملوسعة الدائمة فيما بني انعقاد مؤمترات احلزب‬ ‫ً‬ ‫وفعال قام املكتب السياسى بدعوة جلنة‬ ‫الشيوعى العامة ‪،‬‬ ‫احلزب الشيوعى السوفيتى املركزية الجتماع طارئ وعاجل ‪،‬‬ ‫خرجت فيه الطائرات املدنية السوفيتية لتجمع أعضاء اللجنة من‬ ‫أماكن تواجدهم فى بالدهم املرتامية األطراف ‪ ،‬إىل موسكو‬ ‫عاصمتهم ‪ ،‬حيث مقر االجتماع املرتقب والضرورى ‪.‬‬ ‫ومت عقد اجتماع اللجنة املركزية للحزب الشيوعى السوفيتى‪،‬‬ ‫‪61‬‬


‫ومتت فيها املوافقة على الطلبات املصرية بإرسال قوات مسلحة‬ ‫سوفيتية للدفاع اجلوى عن أرض مصر وأجوائها وإجراء عملية سد‬ ‫سريع لتلك األبواب التى فتحت ‪ ،‬واملوافقة على استقبال جمموعات‬ ‫كبرية من القوات املسلحة املصرية كأطقم عمليات مكتملة‬ ‫ً‬ ‫أنواعا جديدة من فنون‬ ‫للدراسة داخل االحتاد السوفيتى ‪ ،‬وتتعلم‬ ‫القتال على صواريخ مضادة للطائرات من طراز ‪ ،‬حديث وهى‬ ‫ً‬ ‫أيضا على إرسال‬ ‫صواريخ البتشيورا ‪ ،‬صواريخ سام ‪ ، 3‬واملوافقة‬ ‫وفد عسكرى سوفيتى رفيع املستوى ‪ ،‬للمساعدة فى عمل‬ ‫خطة على الواقع ‪ ،‬لبناء نظام متكامل للدفاع عن أجواء مصر ‪،‬‬ ‫ومتابعة تنفيذ هذه اخلطة ‪.‬‬ ‫لقد قوبلت قرارات اللجنة املركزية للحزب الشيوعى السوفيتى‬ ‫هذه بارتياح كبري لدى القيادة املصرية ‪ ،‬وتأكد الشعب املصرى‬ ‫مع كل يوم مير ويبعد فيه شبح الغدر اإلسرائيلى وشراسة‬ ‫قصف طريان العدو من موقفه بأن هذه القرارات هى قرارات حلفاء‬ ‫مصلحة وأهداف مشروعة ‪.‬‬ ‫وتأكدنا حنن داخل صفوف القوات املسلحة أننا ضمن رفقة‬ ‫واعية بأهدافها ومصاحلها واضحة فى التعبري عن مبادئها‬ ‫وقضاياها فى معاداة االستعمال والصهيونية ‪.‬‬ ‫ولكن على اجلانب اآلخر ‪ -‬جانب األعداء ‪ -‬كانت املفاجأة‬ ‫وكان االرتباك ‪ ،‬ففى أوائل سنة ‪ ، 1970‬عندما سئل عيزرا‬ ‫وايزمان عن احتماالت جناح مصر فى جذب االحتاد السوفيتى إىل‬ ‫مزيد من التدخل فى الشرق األوسط حتت ضغط غارات العمق ‪،‬‬ ‫‪62‬‬


‫أجاب قائد سالح الطريان السابق ووزير املواصالت وقتها بقوله «‬ ‫ال يوجد هناك أمل كبري فى تدخل السوفيت فى الشرق األوسط‬ ‫بضغط من مصر» (‪. )4‬‬ ‫ورغم هذا التأكيد اإلسرائيلى ‪ ،‬خابت تقديرات عيزرا وايزمان‬ ‫وخابت معها تقديرات كل دوائر العدوان داخل اإلمربيالية‬ ‫وإسرائيل ‪ ،‬فاجلبهة املعادية لإلمربيالية إذا وعى أطرافها حقائق‬ ‫ً‬ ‫الصراع ‪ ،‬والتعاون بني األصدقاء ‪ ،‬ورفض أى دعاوى ختديرية‬ ‫حتذيرية عن انصالح مواقف األعداء ال تقف فى وجهها مثل‬ ‫تقديرات وايزمان أو خالفه ‪.‬‬ ‫لقد بدأ على الفور تنفيذ االتفاقات املصرية السوفيتية‬ ‫الثالثة ‪ ،‬وحتققت ما يسميها اخلرباء العسكريون باملفاجأة‬ ‫ً‬ ‫ورويدا رويدا احنسرت غارات العمق ‪ ،‬ولكن‬ ‫االسرتاتيجية ‪،‬‬ ‫فى الطريق إىل ذلك كانت األحداث كبرية وعميقة ‪ ،‬وكان‬ ‫تالمسها لي حقيقة ‪ ،‬وتشكيلها ملعارفى حقيقة أوضح ‪.‬‬ ‫خالل مدى زمنى بسيط ‪ ،‬بدأ توارد القوات السوفيتية إىل‬ ‫األراضى املصرية ‪ ،‬وجاءت هذه القوات فى اجتاهني ‪:‬‬ ‫األول ‪ :‬قوات طريان كبرية تضم تشكيالت متكاملة لتقوم‬ ‫بعملية تأمني سريع باملظالت اجلوية حلماية األهداف احليوية‬ ‫لألعماق املصرية ‪ ،‬وخاصة حول القاهرة واإلسكندرية وأسوان ‪.‬‬ ‫ولقد متركزت هذه القوات فى قواعد جوية يسهل منها تنفيذ‬ ‫(‪ )4‬‬

‫اللواء الركن حسن البدرى – المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫مهامها السريعة ‪ ،‬وألن حجم هذه القوات قد يكون من قبيل‬ ‫األسرار العسكرية ‪ ،‬إال أنه مل ميكن التأكيد على أنها كانت‬ ‫أطقم قتالية متكاملة ‪ ،‬سواء على مستوى الطيارين أو املوجهني‬ ‫األرضيني ‪ ،‬أو األطقم الفنية أو األطقم الرادارية ‪ ،‬وكانت من‬ ‫الكرب من حيث العدد واحلجم وكفاءة التشغيل ‪ ،‬مبا ميكنها‬ ‫من تنفيذ مهامها ‪ ،‬فى تأمني األهداف احليوية وتأمني احلماية‬ ‫لألعماق املصرية منفردة ‪ ،‬اللهم إال من معاونة أطقم الصواريخ‬ ‫املضادة للطائرات ‪ ،‬والسوفيتية التشغيل والصنع ‪ ،‬بإتباع أسلوب‬ ‫املظالت اجلوية ؟‬ ‫ً‬ ‫أساسا من جمموعات كبرية‬ ‫الثانى ‪ :‬قوات دفاع جوى تتكون‬ ‫من وحدات صواريخ البتشيورا « سام ‪ ، »3‬واملنتظمة ضمن‬ ‫جمموعة من التشكيالت املتكاملة ‪ .‬فهناك األطقم القتالية‬ ‫السوفيتية ‪ ،‬واألطقم الفنية ‪ ،‬وأطقم اإلصالحات‪ ،‬وأطقم مجع‬ ‫املعلومات الرادارية ‪ ،‬وأطقم توصيل هذه املعلومات وإذاعتها‬ ‫للقوات القتالية ‪ ،‬وأطقم القيادة بل وأطقم اإلعاشة واألطقم‬ ‫اإلدارية ‪ ،‬وكلها أطقم سوفيتية خالصة ‪ .‬ومتركزت فى مواقعها‬ ‫حول القاهرة ‪ ،‬واإلسكندرية وأسوان ‪ ،‬حيث كان لكل دائرة‬ ‫من هذه الدوائر الثالثة قيادتها الفرعية ورغم سرية املعلومات‬ ‫اخلالصة باحلجم والعدد هلذه التشكيالت ‪ ،‬إال أنها كانت من‬ ‫الكرب والكفاءة القادرة على تنفيذ مهام احلماية للعمق‬ ‫ولألهداف احليوية املصرية وحدها ومنفردة ‪ ،‬إال من التنسيق‬ ‫ومعاونة الطائرة السوفيتية التشغيل ‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫ورب قائل بتساؤل ‪ ،‬ملاذا جاءت القوات السوفيتية ‪ ،‬ومتركزت‬ ‫فى العمق فحسب ؟‬ ‫واإلجابة واضحة وبسيطة ‪ ،‬فاملهام األوىل بالرعاية ‪ ،‬والتى تسبق‬ ‫ما عداها من حيث األولوية ‪ ،‬هى مهام محاية العمق ‪ ،‬وتأمني‬ ‫املدنيني الذين بدأت إسرائيل برتويعهم من خالل غارات العمق ‪.‬‬ ‫كان ذلك لتأمني املواطنني بهدف احملافظة على الروح املعنوية‬ ‫ثان تأمني دوائر‬ ‫العامة فى البالد ‪ ،‬هذا من جانب ‪ ،‬ومن جانب ٍ‬ ‫داخلية حمددة ضمن العمق املصرى للم شتات قوات الدفاع اجلوى‬ ‫املصرية ‪ ،‬وإعادة ترتيبها وتنظيمها ضمن تشكيالت قتالية‬ ‫قادرة على خلق بديل وطنى كنظام متكامل للدفاع اجلوى‬ ‫املصرى ‪ ،‬حيتاج لفرتة كافية من الوقت ‪ ،‬وملناطق آمنة بعيدة‬ ‫عن مدى القصف اإلسرائيلى بهدف إعادة التشكيل والتدريب‬ ‫واإلعداد ‪.‬‬ ‫إن من ينظر إىل حجم القوات السوفيتية التى قدمت إىل مصر‬ ‫فى الشهور األوىل من سنة ‪ 1970‬خيرج بنتيجة حمددة ‪ ،‬وهى أنه‬ ‫قد جئ بنظام متكامل يكفل تأمني محاية العمق املصرى من‬ ‫الطريان اإلسرائيلى ‪ ،‬ويتكفل بتنفيذ مهام الدفاع ذات األولوية‬ ‫احلادة التى تواجه القوات املسلحة املصرية وتواجه القيادة‬ ‫العسكرية‪ ،‬بل والقيادة السياسية للبالد ‪ ،‬وتؤمن األجواء‬ ‫إلعادة تشكيل وتطوير نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تدريبا‬ ‫أساسا على القوات الوطنية باملعاونة السوفيتية‬ ‫يقوم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتسليحا وتنفيذا لبعض املهام القتالية‪.‬‬ ‫‪65‬‬



‫نظام جديد للدفاع اجلوى املصرى‬ ‫تتبعنا فى الفقرات السابقة حدود االتفاق األول بني مصر‬ ‫واالحتاد السوفيتى ‪ ،‬والذى مت مبوجبه قدوم تشكيالت‬ ‫متكاملة من قوات الطريان والدفاع اجلوى السوفيتية وكان‬ ‫االتفاقان اآلخران يضعان األساس املتني لبناء نظام متكامل‬ ‫للدفاع اجلوى املصرى ‪ .‬ففى نفس الفرتة ‪ -‬وهى أوائل سنة‬ ‫‪ - 1970‬مت حشد جمموعات ضخمة من الضباط واجلنود وصف‬ ‫الضباط املصريني ‪ ،‬ومت توزيعهم فى تشكيالت حمددة ‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫مجيعا للدراسة داخل االحتاد السوفيتى ليتعلموا على‬ ‫ذهبوا‬ ‫سالح جديد‪ ،‬مل يك اجليش املصرى تسلمه قبل هذا التاريخ ‪ ،‬وهو‬ ‫صاروخ البتشيورا املضاد للطائرات ‪ ،‬ذلك الصاروخ الذى ميلك‬ ‫قدرة عالية على التعامل مع الطريان املنخفض ‪ .‬وكانت هذه‬ ‫األطقم تعد كأطقم متكاملة ‪ ،‬سواء على املستوى الفنى أو‬ ‫القتاىل أو اإلدارى ‪.‬‬ ‫وعلى مستوى االتفاق الثالث ‪ ،‬ومنذ أوائل سنة ‪ 1970‬أخذ‬ ‫العاملون بالدفاع اجلوى املصرى يلحظون ظاهرتني واضحتني‪،‬‬ ‫األوىل ‪ :‬ورود سيل ال ينقطع من معدات الصواريخ الديسنا‬ ‫والديفينا ‪ ،‬والتى ميكن أن يقال عنها سام ‪ ، 1‬سام ‪ ، 2‬وهذه‬ ‫‪67‬‬


‫ً‬ ‫نسبيا‬ ‫الصواريخ املضادة للطائرات صواريخ بعيدة املدى‬ ‫وكفاءتها القتالية عالية مع الطريان العاىل واملتوسط من حيث‬ ‫االرتفاع ‪ ،‬وهى تلك الصواريخ التى كانت موجودة لدى مصر‬ ‫منذ فرتة طويلة وبالذات الصاروخ من طراز الديفينا ‪ ،‬وعليه‬ ‫كانت اخلربة املصرية منحصرة فى العمل على هذين الصنفني‬ ‫حتى تلك األيام ‪.‬‬ ‫الظاهرة الثانية ‪ :‬تتمثل فى حضور وتواجد جمموعة كبرية من‬ ‫كبار السوفيت العسكريني واملتخصصني فى الدفاع اجلوى‪،‬‬ ‫وذلك للمشاركة فى التخطيط واإلشراف على التنفيذ لعملية‬ ‫كبرية وضخمة ‪ ،‬أال وهى عملية بناء نظام متكامل للدفاع‬ ‫اجلوى على أسس جديدة ‪ .‬وحبكم احتكاكى كمرتجم‬ ‫قابلت ً‬ ‫رتبا عالية ‪ ،‬حيث كان أحدهم حيمل رتبة مارشال اإلحتاد‬ ‫السوفيتى ‪ .‬وهذه الرتبة حسب ما أعلم مل يك حيملها فى كل‬ ‫االحتاد السوفيتى غري مخسة أو ستة أشخاص ‪ ،‬وطال وجود هذه‬ ‫الرتب العالية بيننا إىل عدة شهور ‪.‬‬ ‫إن هاتني الظاهرتني شكلت إىل جوار ظواهر أخرى البعد الثالث‬ ‫لالتفاق املصرى السوفيتى ‪ ،‬وهو البعد األكثر أهمية ‪ ،‬والذى‬ ‫يستمد أهمية من كونه البعد األبقى ذى املهام املستمرة ‪ .‬إنه‬ ‫بناء نظام مصرى خالص ومتكامل للدفاع اجلوى ‪ ،‬يعتمد على‬ ‫السواعد املصرية واألسلحة السوفيتية املتطورة ‪ .‬إن بناء القوة‬ ‫احمللية ألى نظام هو اللبنة األساسية لعمليات البناء املتطورة‬ ‫ً‬ ‫عموما ‪ .‬إن أى معونة أو مساعدة تأتى على نظام متواجد تكون‬ ‫‪68‬‬


‫أجدى وأنفع ‪ ،‬وفرق كبري بني تعاون يقوم بني حلفاء ‪ ،‬وبني‬ ‫عمل يقوم به طرف نيابة عن الطرف األخرى ‪.‬‬ ‫ولقد اعتمدت خطة بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى‬ ‫على جمموعة األسس واللبنات ‪ ،‬وذلك حسب اهلدف املرجو وزاوية‬ ‫ً‬ ‫فمثال من حيث نسبة الصواريخ إىل‬ ‫الرؤية التى ننظر منها ‪،‬‬ ‫باقى وسائل الدفاع اجلوى األخرى مثل املدافع املضادة للطائرات‬ ‫ذات األعرية املختلفة ‪ ،‬تزايدت نسبة الصواريخ املوجهة املضادة‬ ‫للطائرات إىل حد أنها أصبحت تشكل القوة األساسية ضمن‬ ‫مصادر نريان الدفاع اجلوى ‪ ،‬وأصبحت املواسري تقوم بدور‬ ‫تكتيكى تكميلى سواء حول وحدات الصواريخ ‪ ،‬أو فى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مكثفا‬ ‫وجودا‬ ‫األماكن واملواقع التكتيكية التى ال تتطلب‬ ‫لنريان الدفاع اجلوى ‪.‬‬ ‫أما من حيث شكل البناء لنظام الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬أى‬ ‫شكل توزيع الوحدات ومواقعها ‪ ،‬فقد اعتمدت اخلطة اجلديدة‬ ‫على شبكة كثيفة من مواقع الصواريخ املوجهة املضادة‬ ‫للطائرات تقوم فكرتها على تكوين خط حصني مبوازاة‬ ‫مشال البحر األمحر وقناة السويس ‪ ،‬ومشال البالد مبوازاة‬ ‫البحر املتوسط ‪ ،‬ويعتمد بناؤه على صفني أحدهما وراء اآلخر ‪،‬‬ ‫وتتقاطع مواقعهما فى أقواس نريانها ‪ ،‬حبيث تشكل جمموعة‬ ‫من املثلثات املرتاصة ‪ ،‬كل مثلث منها تشرتك رؤوسه الثالثة‬ ‫فى محاية بعضها البعض ‪ .‬ومن ناحية أخرى بناء خطوط دائرية‬ ‫تقوم فى داخل البالد لتأمني األجواء حول املدن الكربى واألهداف‬ ‫‪69‬‬


‫احليوية ‪ ،‬وتقوم على ذات الرتتيب السابق أى على فكرة‬ ‫املثلثات املرتاصة ‪ ،‬واملتداخلة أقواس نريان املواقع املقامة على‬ ‫رءوسها ‪ ،‬وتداخل الواجب الدفاعى بني املثلثات املتجاورة ‪.‬‬ ‫وكذلك اعتمدت اخلطة اجلديدة على حشد كافة‬ ‫اإلمكانات إلجناح مهمة هذا البناء املرتاص ‪ ،‬فاجتهت إىل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تأهيال ً‬ ‫عاليا ‪ ،‬سواء كانوا من‬ ‫فنيا‬ ‫زيادة عدد األفراد املؤهلني‬ ‫الضباط أو اجلنود ‪ ،‬واتسعت خطة التدريب وتعمقت ‪ ،‬سواء على‬ ‫املستوى الفنى وإصالح األعطال ‪ ،‬أو على مستوى إدارة العمليات‬ ‫القتالية‪ ،‬كذلك مت حشد كثري من املعدات املعاونة جملهود‬ ‫الدفاع اجلوى ‪ ،‬وزادت وحتددت مالمح أعمال املعاونة والتعاون‬ ‫مع األسلحة األخرى كأسلحة اإلشارة ‪ ،‬واملهندسني ‪ ،‬وسالح‬ ‫الطريان‪ ،‬والشرطة العسكرية واملخابرات العسكرية‪.‬‬ ‫وكان أنسب األماكن وأيسرها لبدء تنفيذ عملية بناء هذا‬ ‫النظام القائم على األسس التى أوضحنا بعضها فى السطور‬ ‫السابقة هو اخلط الشماىل فى موازاة ساحل البحر املتوسط ‪،‬‬ ‫وذلك لعدة اعتبارات نذكر منها أنه كان أكثر ً‬ ‫أمنا من حيث‬ ‫أنه يبعد عن خط املواجهة الرئيسية مع العدو ‪ ،‬وأن تركيز العدو‬ ‫بطريانه عليه أقل حدة من تركيز الطريان املعادى فوق اخلط‬ ‫الشرقى ‪.‬‬ ‫وكانت وحدات القطاع الشماىل من بطاريات صواريخ سام‬ ‫ً‬ ‫تعرضا للخسارة فى اهلجمات‬ ‫املضادة للطائرات هى أقل الوحدات‬ ‫اإلسرائيلية ‪ ،‬وكذلك كانت القوت السوفيتية التى تعمل‬ ‫‪70‬‬


‫ً‬ ‫حيزا ال‬ ‫على بطاريات صواريخ سام ‪ 2‬املضادة للطائرات تغطى‬ ‫بأس به من هذا الضلع الشماىل للمستطيل املصرى ‪ ،‬وذلك حول‬ ‫اإلسكندرية ‪ .‬لكل هذه االعتبارات كان ميكن دفع املزيد‬ ‫من بطاريات الصواريخ التى مت جتميعها من القوات الناجية من‬ ‫غارات القصف اإلسرائيلى الوحشى إىل هذا اخلط الشماىل ‪،‬‬ ‫وتنفيذ الفكرة العامة للبناء ككل بتلك التجربة احملددة‬ ‫فى اخلط الشماىل ‪.‬‬ ‫أما فيما يتعلق باخلط الشرقى مشال البحر األمحر ومبوازاة‬ ‫قناة السويس ‪ ،‬وهو اخلط األهم و األخطر ‪ ،‬والذى يشكل‬ ‫ً‬ ‫سرعة‬ ‫حجر الزاوية ضمن هذا النظام املتكامل ‪ ،‬والذى يتطلب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبريا ‪ ،‬ميكن من تغطية اجليشني امليدانيني ‪،‬‬ ‫وإحلاحا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا‬ ‫عمال‬ ‫وكفالة احلماية اجلوية لقواتهما ‪ ،‬فقد يلزمه‬ ‫ً‬ ‫وخمططا ‪ .‬فذلك اخلط حتت سيطرة طريان العدو الذى ينفث فيه‬ ‫مسومه بعد أن ضاق عليه اخلناق ‪ ،‬وأصبح العمق ً‬ ‫آمنا ومنطقة ال‬ ‫ً‬ ‫حشدا وتعبئة فائقة‪،‬‬ ‫ميكن له االقرتاب إليها ‪ .‬كما أنه يلزمه‬ ‫جيب التقدم إليها بعمل دءوب ودقيق ‪ ،‬أى أن األمر فيما يتعلق‬ ‫ببناء هذا اخلط حيتاج إىل إعداد من نوع خاص وجمهود مركز ‪،‬‬ ‫أخذ االجتاهني اآلتيني ‪:‬‬

‫ً‬ ‫أوال ‪ :‬اإلعداد السياسى واالسرتاتيجى العام ‪:‬‬ ‫شارك فى هذا املستوى من اإلعداد كل من القيادتني السياسية‬ ‫العليا والعسكرية العليا ‪ ،‬فقد نزل الرئيس مجال عبد الناصر‬ ‫ً‬ ‫شخصيا إىل ساحة امليدان ‪ ،‬وبدأ مباشرة عملية اإلعداد بنفسه‪،‬‬ ‫‪71‬‬


‫وكان يصطحب القائد العام للقوات املسلحة املصرية معه ‪،‬‬ ‫فأجرى سلسلة من االجتماعات امتدت حتى مشلت كل رتب‬ ‫الضباط حتى رتبتى رائد ونقيب ‪ ،‬أى مشلت كل القادة حتى‬ ‫مستوى قائد كتيبة ‪ ،‬وقائد سرية داخل قوات الدفاع اجلوى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ‪.‬‬ ‫عموما ‪ ،‬وداخل قوات الصواريخ املضادة للطائرات‬ ‫وفى أحد هذه االجتماعات املوسعة ‪ -‬وكان االجتماع على‬ ‫شكل مؤمتر كبري للقادة حتى مستوى قائد سرية فى قوات‬ ‫الصواريخ املضادة للطائرات ‪ -‬جرت مكاشفة حول طبيعة‬ ‫ً‬ ‫وعرضا ألبعاد اخلطة العامة لبناء هذا النظام املتكامل‬ ‫املهمة ‪،‬‬ ‫للدفاع اجلوى ‪ ،‬وبالذات مت شرح األهداف واخلطوات العملية‬ ‫لتنفيذ هذه اخلطة ‪ ،‬ووضعها فى حيز التنفيذ ‪ .‬وطلب الرئيس‬ ‫مجل عبد الناصر رأى الضباط فى هذه اخلطة ‪ ،‬وفى إمكاناتهم‬ ‫عندئذ قام ضابط حيمل رتبة صغرية ‪ -‬وهو برتبة رائد‬ ‫لتنفيذها ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ وكاشف الرئيس بأننا فداء ملصر ‪ ،‬واخلطة كبرية وعظيمة‪،‬‬‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفعاال ‪ ،‬فإنه يريد أن‬ ‫نشطا‬ ‫ولكى يكون اإلقبال عليها‬ ‫يسجل أن جل أمل األطقم العاملة فى وحدات الصواريخ املضادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وضباطا ينحصر فى بناء الدشم والتحصينات‬ ‫جنودا‬ ‫للطائرات ‪،‬‬ ‫اخلراسانية‪ ،‬حول أماكن القيادة ‪ ،‬وللمعدات ومراكز القيادة‬ ‫والتوجه للنريان ‪.‬‬ ‫ووضح أن هذا الطلب ينبع من خطورة القصف املعادى وشراسته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا يشرتك‬ ‫الذى يستخدم قنبلة زنة ألف رطل متفجرات ‪،‬‬ ‫اثنني منها مبفجر واحد ‪ ،‬ويضرب بهما موقع الصواريخ ‪ ،‬مما‬ ‫‪72‬‬


‫ينتج عنه نسف الطاقم مبعداته ‪ ،‬وتكوين حفرة يرتاوح قطرها‬ ‫بني ‪ 20‬إىل ‪ 30‬مرت وعمقها حواىل عشرة أمتار ‪ ،‬وأن ذلك يسبب‬ ‫أضرار بالغة وخسائر عالية فى األفراد املدربني ‪ ،‬ويؤثر فى الروح‬ ‫املعنوية للعاملني بهذه الوحدات ‪.‬‬ ‫وحينما طرح الشاب هذه الفكرة ‪ ،‬وجسدها فى هذا الطلب‬ ‫وهو بناء الدشم اخلرسانية احملصنة ‪ ،‬والتى تقاوم انفجار قنبلة‬ ‫أو أكثر من زنة رطل متفجرات ‪ ،‬حتركت مشاعر اجلالسني‬ ‫وانفكت عقدة ألسنتهم ‪ ،‬وبدؤوا الواحد تلو اآلخر يدلو بدلوه فى‬ ‫املناقشة ‪ ،‬سواء توضيح أهمية هذه الدشم ‪ ،‬أو مناقشة اجلوانب‬ ‫املختلفة للخطة ‪ ،‬مما محل الرئيس عبد الناصر ‪ -‬قبل أن ينتهى‬ ‫ذلك املؤمتر ‪ -‬إىل التأكيد بأنه سيعمل على إكتمال بناء‬ ‫الدشم اخلرسانية احملصنة ملواقع الصواريخ قبل البدء فى تنفيذ‬ ‫خطة بناء النظام املتكامل للصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬خاصة‬ ‫على مواقع اخلط الشرقى أى خط اجلبهة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وعدا منه قبل‬ ‫واعترب الرئيس مجال عبد الناصر أن ما قاله يعد‬ ‫قوات وأطقم الصواريخ ‪ ،‬وسيبذل قصارى جهده لتنفيذه ‪ ،‬وأنه لن‬ ‫يسمح بدخول القوات إىل مواقع اخلط الشرقى إال بعد استكمال‬ ‫حتصينه ‪ ،‬ببناء الدشم اخلرسانية ‪.‬‬ ‫وقبل الدخول فى تسلسل األحداث ‪ ،‬جيب الوقوف عند داللة هذا‬ ‫االجتماع ‪ ،‬وكيف أن املناقشة احلرة ‪ ،‬والعمل الدميقراطى‪،‬‬ ‫يفجران أكرب الطاقات وأعمقها ‪ ،‬ويسمحان بربوز أخطر‬ ‫‪73‬‬


‫األفكار وأحسنها وأوضحها وأكثرها علمية وعملية ‪ ،‬ألن‬ ‫الوضوح يكون جماهلا واالقتناع هو أساس اإلرادة احلرة التى‬ ‫تقدم إلجنازها ‪.‬‬

‫امللحمة الكبرية ‪:‬‬ ‫بعد انتهاء احلوار الذى أداره الرئيس مجال عبد الناصر مع ضباط‬ ‫الدفاع اجلوى ‪ ،‬بدأت اخليوط تنسج ليصنع منها أعظم وشاح‬ ‫غطى صدر الطبقة العاملة املصرية ‪ .‬لقد بدأت ملحمة حقيقية‬ ‫سطر فيها العمال املصريون بدمائهم الزكية العزيزة أمسى آيات‬ ‫التضحية والفداء ‪.‬فانتشرت فى الصحراء الشرقية مبحاذاة قناة‬ ‫السويس ومشال البحر املتوسط وفى أعماق متباينة التباعد من‬ ‫خط قناة السويس ‪ ،‬خاليا نشطة للبناء والتشييد ‪ ،‬حيث تواجد‬ ‫آالف العمال واملهندسني والفنيني من البنائني فى تلك املواقع ‪،‬‬ ‫حيدوهم هدف واضح وحمدد ‪ ،‬وهو إجناز بناء الدشم اخلرسانية‬ ‫احلصينة ودعم مشقة العمال فى الصحراء القاحلة ‪ ،‬وقطرات‬ ‫ً‬ ‫أنهارا على اجلباه السمراء من رجال مصر ‪ ،‬مل‬ ‫العرق التى سالت‬ ‫يرتكهم الطريان اإلسرائيلى الغادر للبناء ‪ ،‬فأخذ يعمل فيهم‬ ‫أقذر حيله وخداعه ‪ ،‬ويشرع مناجله احلادة حلصد الرجال ودك ما‬ ‫يبنونه ‪ ،‬وكأنه حماريث جيرها جمموعة من الوحوش اهلمجية‬ ‫وحشي‪.‬‬ ‫حصاد‬ ‫أتت على هذه الواحات ‪ ،‬فأحالت الكثري منها إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لقد ساهمت الطبقة العاملة املصرية بنصيبها الوافر فى معركة‬ ‫بناء نظام للدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬وقدمت مئات الشهداء من العمال‬ ‫املدنيني حتت ظروف ضراوة القصف املعادى الشرس للطريان‬ ‫‪74‬‬


‫اإلسرائيلى ‪ ،‬إن محاس العمال املصريني وتضحياتهم تفوق أى‬ ‫حماولة غبية الدعاء البطولة على حسابهم ‪ ،‬من بعض املقاولني‬ ‫الذين ارتبطت حتركاتهم وأمساؤهم بأمساء بعض اجلواسيس‬ ‫من أقربائهم ‪ ،‬والذين قدموا معلومات للعدو انعكست و ترمجت‬ ‫إىل مزيد من عمليات القصف واإلبادة اإلسرائيلية للعمال‬ ‫واملهندسني والفنيني املصريني ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حشدا‬ ‫وغنى عن البيان ‪ ،‬التذكري بأن هذه امللحمة تطلبت‬ ‫ً‬ ‫عظيما لكافة اإلمكانات املادية والبشرية فى قطاع البناء‬ ‫والتشييد ‪ ،‬فلقد ساهمت فيها كل شركات البناء املصرية‬ ‫واشرتك فيها لفيف وخنبة عظيمة من أخصائى البناء اخلرسانى‪،‬‬ ‫من العمال والفنيني واملهندسني ‪ .‬ومت حشد طاقات مصانع األمسنت‬ ‫واحلديد ومواد البناء لتزويد هذه املواقع باخلامات الضرورية ‪ ،‬أو‬ ‫بوحدات جاهزة وتامة الصنع من األلواح اخلرسانية ‪.‬‬ ‫وفى هذا الصدد يذكر وبكل العرفان ‪ ،‬الدور السوفيتى ‪ ،‬وما‬ ‫أسهم به من معونة كبرية فى جمال التخطيط والتصميم للدشم‬ ‫واملواقع ‪ ،‬واإلشراف واملتابعة لعمليات البناء باملواصفات املطلوبة‪،‬‬ ‫وما قدموه من جهد وعرق ‪ ،‬بل وما جادوا به من دم ‪ ،‬حيث روى دم‬ ‫شهدائهم أرض مصر الزكية ‪ ،‬لريعى نبت التحالف والصداقة بني‬ ‫شعبى الدولتني ‪.‬‬

‫ً‬ ‫ثانيا ‪ :‬اإلعداد العسكرى ‪:‬‬ ‫فى هذا اجملال ‪ ،‬مت جتميع كافة الوحدات العاملة فى جمال‬ ‫الصواريخ املوجهة املضادة للطائرات ‪ .‬وتسكينها فى مواقع آمنة‬ ‫‪75‬‬


‫داخل دائرة احلماية التى كفلتها القوات السوفيتية ‪ .‬ومت إعادة‬ ‫تشكيلها سواء على مستوى إعادة التشكيالت القيادية ‪ ،‬أو‬ ‫على مستوى التشكيل القتاىل األدنى ‪ .‬ومت ختليق جمموعة‬ ‫كبرية من األطقم القتالية ‪ ،‬وذلك بإعادة توزيع األطقم‬ ‫ً‬ ‫توزيعا يضمن احملافظة على قوتها ‪ ،‬وأخذ ما يزيد عن‬ ‫القدمية‬ ‫الضرورى خللق أطقم جديدة ‪ ،‬وفى هذا اجملال نشطت معاهد‬ ‫التدريب ومدارس اإلعداد الفنى والقتاىل فى خترج أعداد هائلة‬ ‫من الدارسني ‪.‬‬ ‫ونشطت ً‬ ‫تبعا لذلك عمليات التدريب ضمن هذه املواقع املؤقتة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولعب املستشارون السوفيت ً‬ ‫ً‬ ‫ومميزا فى توجيه هذا‬ ‫نشطا‬ ‫دورا‬ ‫التدريب واإلشراف عليه ‪ .‬لقد كثرت تكوينات الفرق الدراسية‬ ‫للتخصصات املختلفة ‪ ،‬وكثرت محالت التفتيش واملتابعة ‪،‬‬ ‫وزادت ساعات التدريب إىل حد مل تشهده القوات املسلحة من قبل ‪.‬‬ ‫لقد قارب شهر مارس سنة ‪ 1970‬على االنتهاء ‪ ،‬لتبدأ عملية‬ ‫نشاط تدريبى دراسى واسعة ويتمخض هذا الشهر عن والدة‬ ‫تشكيالت قوية لقوات الصواريخ املوجهة أرض ــ جو واملضادة‬ ‫للطائرات ‪ ،‬تزداد وحدتها وأطقمها القتالية والفنية ‪ ،‬ويزداد‬ ‫مستوى تدريبها وإعدادها الفنى القتاىل ‪ .‬هذا فى الوقت الذى‬ ‫سجل فيه شهر مارس توقف غارات الطريان اإلسرائيلى على‬ ‫ً‬ ‫خوفا من مظلة احلماية التى كفلتها القوات‬ ‫العمق املصرى ‪،‬‬ ‫السوفيتية القتالية من سالحى الطريان والدفاع اجلوى ‪ ،‬وأصبح‬ ‫ً‬ ‫منحصرا فى صب نريان حقده األسود‬ ‫نشاط الطريان اإلسرائيلى‬ ‫‪76‬‬


‫على اجلبهة املصرية مبحاذاة قناة السويس ‪ ،‬وفوق مواقع اجليش‬ ‫امليدانيني الثانى والثالث ‪ .‬وشهدت شهور أبريل ومايو ويونيو سنة‬ ‫‪ ، 1970‬تزايد عمليات القصف اإلسرائيلى على هذا اخلط إىل‬ ‫حد اهلوس ‪ ،‬فلو تتبعنا إحصاء املعلومات املتوافرة ‪ ،‬لتبينا خطورة‬ ‫ما كان حيدث فى هذه األيام ‪ ،‬فلو افرتضنا أن معدل القصف‬ ‫الذى صبه الطريان املعادى على قوات اجليشني امليدانيني ميثل‬ ‫نسبة ‪ 100%‬فى شهر أبريل سنة ‪ ، 1970‬جند أن ‪-‬‬ ‫« هذه النسبة ارتفعت إىل ‪ 141%‬خالل مايو ‪ ،‬ثم واصلت‬ ‫ارتفاعها لتصري ‪ 267%‬خالل شهر يونيو سنة ‪. )5( »1970‬‬ ‫وإذا كان الطريان املعادى ركز جمهوده األساسى على خط‬ ‫منطقة قناة السويس ‪ ،‬إال أنه كلما حانت له الفرصة لتوجيه‬ ‫ً‬ ‫مباغتة فى أى اجتاه أتى عليها بدون أدنى تردد‪.‬‬ ‫ضربات غادرة‬ ‫لذا ظهرت وسط هذا الرتكيز احلاد على قصف مواقع وقوات‬ ‫اجليشني امليدانيني املصريني تسلالت إسرائيلية هنا وهناك ‪،‬‬ ‫سواء كان ذلك فى الشمال الشرقى للبالد ‪ ،‬أو فى الشرق عند‬ ‫مناطق صعيد مصر ‪.‬‬ ‫وهكذا بدت الصورة كاآلتى ‪ :‬العمق املصرى أصبح ً‬ ‫آمنا‪،‬‬ ‫وخرجت دوائر العمق عن خطوط سري الطريان املعادى ‪ ،‬بل‬ ‫بالعكس صارت مناطقه قلعة حمصنة ال جيوز للطريان‬ ‫اإلسرائيلى أن يقرتب منها ‪ ،‬لقد عرب دافيد اليعازر ( رئيس‬ ‫األركان اإلسرائيلى ) عن تلك احلقيقة حينما قال فى مارس‬ ‫(‪ )5‬‬

‫اللواء حسن البدرى – المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫سنة ‪ « : 1970‬إن إسرائيل مضطرة لوقف غاراتها على العمق‬ ‫املصرى نتيجة لضغط املفاجأة املصرية االسرتاتيجية» (‪. )6‬‬ ‫ومع احنسار دائرة احلركة أمام الطريان املعادى وتقلصها ‪،‬‬ ‫زادت تصرحيات قادة العسكرية اإلسرائيلية شراسة وعصبية‪،‬‬ ‫وانصبت كلها حول أنها لن تسمح للدائرة مبزيد من التقلص ‪،‬‬ ‫وإذا كان مت ما قد مت ‪ ،‬فإن القادم لن يكون فى اجتاه حصار‬ ‫طريانها ‪ ،‬ففى ‪ 30‬مارس ‪ 1970‬صرح إجيال آلون « بأن إسرائيل‬ ‫تنوى القيام بأقصى جمهود ممكن ختيله للحيلولة دون توسيع‬ ‫شبكة الدفاع اجلوى املصرية» ‪ ،‬كما قال « إن السيطرة‬ ‫اإلسرائيلية فوق منطقة القناة ال ميكن االستغناء عنها ‪،‬‬ ‫فبدون هذه السيطرة تستطيع املدفعية املصرية أن تتمتع بتفوق‬ ‫ساحق فى النريان ‪ ،‬وتستطيع الطائرات املصرية أن تضرب املواقع‬ ‫اإلسرائيلية دون هوادة ‪ ،‬إن خطتنا هى متابعة قصف شبكة‬ ‫الدفاع اجلوى املصرية احلالية واملنشآت العسكرية األخرى ‪،‬‬ ‫كما سنمنع إقامة شبكة دفاعية جديدة ‪ ،‬أو ترميم الشبكات‬ ‫القدمية التى متكنا من تدمريها» (‪. )7‬‬ ‫وفى مايو سنة ‪ 1970‬صرح موشى ديان ‪ -‬وزير احلرب‬ ‫اإلسرئيلى « بأن إسرائيل لن تسمح بإقامة أنظمة صواريخ سام‬ ‫‪ 2‬على منطقة قناة السويس ‪ ،‬وأكد أنها لن تقوم بأية عمليات‬ ‫عسكرية خارج نطاق الدفاع عن مواقعها األمامية» (‪. )8‬‬ ‫(‪ )6‬‬ ‫(‪ )7‬‬ ‫(‪ )8‬‬

‫اللواء حسن البدرى – المرجع السابق ‪.‬‬ ‫المرجع السابق ‪.‬‬ ‫المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪78‬‬


‫ورغم عنف التصرحيات لقادة املؤسسة العسكرية‬ ‫اإلسرائيلية وعدم مساح وزير احلرب اإلسرائيلى باتساع دوائر‬ ‫الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬إال إن األمور سارت فى خطها الصحيح ‪،‬‬ ‫وبدت عملية « قلب املائدة»التى خططت هلا إسرائيل ونفذتها‬ ‫كعملية وقتية عابرة ‪ .‬وإن املائدة فى طريقها إىل أن تأخذ‬ ‫اجتاهها الصحيح فوق كاهل إسرائيل وعلى عنقها ‪ ،‬وإن سري‬ ‫األمور لن يتوقف على مساح أو عدم مساح الطرف املعادى ‪ ،‬والذى‬ ‫تعاكس حركته اجتاه حركة التاريخ ‪ .‬وإن احلياة تستجيب‬ ‫ألصحاب احلق متى علموا وعملوا على إحقاق حقهم والتشبث‬ ‫مبا لديهم ولدى حلفائهم للدفاع املشروع عنه ‪.‬‬ ‫مل تتوقف احلملة الشرسة العسكرية اإلسرائيلية عند حد‬ ‫األقوال والتصرحيات ‪ ،‬ولكن راحت فى محلة حممومة تصب جام‬ ‫غضبها فى اجتاهني ‪:‬‬ ‫األول فوق رأس اجليشني امليدانيني املصريني الثانى والثالث ‪.‬‬ ‫والثانى فى اجتاه مواقع العمل إلنشاء وبناء القواعد اخلرسانية‬ ‫املسلحة ‪ ،‬والتى يقوم بها العمال والفنيون واملهندسون املدنيون‬ ‫والعسكريون ‪ ،‬لقد حظى االجتاه األول بنسبة تقرتب من ‪95%‬‬ ‫من عمليات القصف املعادى ‪ ،‬بينما حظى االجتاه الثانى بنسبة‬ ‫ً‬ ‫طبقا لبيانات هذه‬ ‫‪ 5,3%‬من عمليات القصف املعادى ‪ .‬وذلك‬ ‫الفرتة ‪.‬‬ ‫وحينما أوشك شهر أبريل سنة ‪ 1970‬على نهايته ‪ ،‬كادت‬ ‫عناصر اخلطة أن تكتمل ‪ ،‬لوال ما وعد به الرئيس مجال عبد‬ ‫‪79‬‬


‫الناصر القادة على خمتلف املستويات من ضرورة إمتام بناء الدشم‬ ‫اخلرسانية احملصنة ‪ .‬فهذا العنصر بالذات مل يصاحبه أى قدر من‬ ‫التقدم أو النجاح فى هذه الفرتة ‪ ،‬فالطريان اإلسرائيلى نشط فى‬ ‫عمليات االستطالع ‪ ،‬ويستكمل ما لديه من معلومات بوسائل‬ ‫االستطالع األمريكى سواء باألقمار الصناعية أو بالطريان‬ ‫مبعلومات حيصل عليها ممن‬ ‫االسرتاتيجى ‪ ،‬ويؤكد ما لديه‬ ‫ٍ‬ ‫يتمكن من شرائهم من اجلواسيس خونة الشعب واألوطان ‪.‬‬ ‫ويتابع على ضوء ذلك عمليات القصف احملموم ‪ ،‬وال أنسى ما‬ ‫حييت أن العمال املصريني توصلوا إىل ضرورة العمل الليلى ‪،‬‬ ‫وصاروا يواصلون تشييدهم على األضواء اخلافتة أو حتت جناح‬ ‫الليل الدامس الظالم ‪ ،‬لكى ال يتمكن العدو من متابعة‬ ‫عمليات االستطالع والرؤية ‪ ،‬ولتقليل عمليات اإلصابة أثناء‬ ‫القصف املعادى ‪.‬‬ ‫ولكن الطريان املعادى كان هلم باملرصاد فال يدع بناء‬ ‫يكتمل ‪ ،‬فزرع الليل من اجلهد الشاق يأتى عليه النهار ‪ ،‬فيصري‬ ‫ً‬ ‫هشيما تذروه الرياح نتيجة شدة القصف والدك املعادى‪.‬‬ ‫ومبتابعة أحداث تلك الفرتة ‪ -‬وتذكر حوادثها املتتابعة ‪،‬‬ ‫والتفكري فيما كان يدور ‪ -‬جند أن إسرائيل دخلت بقصفها‬ ‫اجلوى العنيف مرحلة من التخويف والرتويع ‪ ،‬حاولت بها أن تفشل‬ ‫أى ختطيط مستقبلى التساع دائرة األمان التى نسج السوفيت‬ ‫نواتها ‪ ،‬وكأنها كانت تريد أن جتعل اليأس هو الطريق الوحيد‬ ‫أمامنا ‪ ،‬ورغم أن هدفها العام مل ينجح سواء على مستويات القيادة‬ ‫‪80‬‬


‫أو القوات ‪ ،‬إال أنها تركت بعض اآلثار اجلانبية التى ال ميكن‬ ‫ألى رؤية علمية أن تتغاضى عنها ‪ ،‬فالروح املعنوية للقوات‬ ‫الربية تسربت إليها عوامل االهتزاز والضعف ‪ ،‬واإلقرار باستحالة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومقبوال‪،‬‬ ‫مستقرا‬ ‫شيئا‬ ‫بناء القواعد اخلرسانية كاد أن يكون‬ ‫ولكن من ناحية أخرى كان البد من مراجعة النفس وتفويت‬ ‫الفرصة على إسرائيل وإعادة احلسابات ‪.‬‬ ‫وباختصار كان البد من مواجهة تنبت من أرض الواقع ‪ ،‬وتعتمد‬ ‫على تطوير اإلمكانيات املتاحة ‪ ،‬لدرء اخلطر املعادى ‪ ،‬وتثبيت‬ ‫األقدام للخطر حنو جناحات ضرورية مقبلة ‪ ،‬وكان ما كان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقدما ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما البد من الوقوف‬ ‫وعمال‬ ‫وحمسوبا‬ ‫ثريا‬ ‫وكان‬ ‫عنده ‪ ،‬ووضع بعض مالحمه أمام القارئ ليقف على جهد خارق‬ ‫وجتربة غنية كانت ثـمرة للعمل الشاق ‪ ،‬والتفكري الصحيح‪،‬‬ ‫والتعاون الوثيق بني املصريني والسوفيت ‪.‬‬

‫تواجد متقدم ومتقطع ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫واضحا‬ ‫فى النصف األخري من شهر أبريل سنة ‪ ، 1970‬أصبح‬ ‫أن عملية بناء دشم الصواريخ اخلرسانية ليست عملية سهلة‬ ‫أو سريعة ‪ ،‬وصلف إسرائيل يزداد ‪ ،‬وهجمات طريانها وغاراته‬ ‫تشتد‪ ،‬والروح املعنوية للقوات الربية املصرية تزحف عليها‬ ‫عوامل القلق والضعف من هول ما تتعرض له من قصف معادى‬ ‫بشع فى غياب مظلة جوية فعالة للحماية فوق خطوط جبهة‬ ‫قناة السويس ‪ً ،‬‬ ‫حقا لقد كان الطريان السوفيتى املقاتل يقوم‬ ‫‪81‬‬


‫ببعض الطلعات فوق هذه املنطقة ‪ ،‬ولكن ألن هذه الطلعات مل‬ ‫تكن طلعات مكثفة ‪ ،‬ومل تدخل ضمن مظلة جوية كاملة‬ ‫فوق هذه املنطقة ‪ ،‬خضع لكمينني معاديني من الطريان‬ ‫اإلسرائيلى ‪ ،‬القت فى أحدهما ثـمان طائرات سوفيتية أكثر‬ ‫من أربعني طائرة إسرائيلية ‪ ،‬ودارت معركة غري متكافئة‬ ‫سقطت فيها ست طائرات سوفيتية ‪ ،‬ورغم ضجة ضخمة أحدثتها‬ ‫أجهزة اإلعالم االمربيالية والصهيونية املعادية ‪ ،‬وجدت هلا بعض‬ ‫الصدى فى أجهزة إعالمنا احمللية ‪.‬‬ ‫إال أن احلقيقة كانت تنطق بالرتحم على هؤالء الشهداء‬ ‫املقاتلني من الطيارين السوفيت الذين جاءوا من أقاصى األرض‪،‬‬ ‫للمساعدة فى الدفاع عن أراضى وطننا العزيز مصر ‪ ،‬وأن‬ ‫مهمتهم مل تكن فوق تلك املنطقة التى حتتاج مطارات قريبة‬ ‫واستعدادات كبرية خترج عن مستوى تلبية املهام األكثر‬ ‫ً‬ ‫إحلاحا فى محاية املدنيني ‪ ،‬وتأمني العمق املصرى للمحافظة‬ ‫على كثري من األهداف السياسية واحليوية والتى وقع عبؤها‬ ‫ً‬ ‫كامال على القوات السوفيتية ‪ ،‬سواء كانت من قوات الطريان‬ ‫أو الدفاع اجلوى املسلح بصواريخ سام ‪. 3‬‬ ‫إزاء هذا الوضع ‪ ،‬عقدت املشاورات بني القادة العسكريني‬ ‫املصريني والسوفيت على أعلى املستويات داخل مصر ومتت‬ ‫البحوث ووضعت احللول والبدائل ‪ ،‬خاصة فى ظل التسليم ببعد‬ ‫آخر للصورة ‪ ،‬أال وهو ضرورة هزمية التصرحيات املعادية وصلف‬ ‫إسرائيل ‪ ،‬وأسفرت هذه املشاورات عن ضرورة حتريك عدة‬ ‫‪82‬‬


‫كمائن بالصواريخ املضادة للطائرات إىل خطوط متقدمة صوب‬ ‫اجلبهة ‪ ،‬لتقول ‪ « :‬حنن هنا» ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومل يك ذلك ً‬ ‫سهال ‪ ،‬فصواريخ الدفاع اجلوى املوجودة لدى‬ ‫أمرا‬ ‫مصر آنذاك ‪ ،‬صواريخ مل تصمم ألغراض سرعة املناورة األرضية‪،‬‬ ‫أى أن عملية فكها وتركيبها وحتريكها عملية شاقة ‪،‬‬ ‫ولكى نعلم صعوبة هذه العملية ‪ ،‬لنا أن نتخيل أن حتريك‬ ‫وحدة الصواريخ سام ‪ ،‬واحدة يلزمها من ‪ 50 - 40‬عربة نقل ثقيلة‬ ‫وذلك للطاقم القتاىل الضرورى فحسب ‪ ،‬مبا يعنى تكوين رتل‬ ‫متحرك طوله ميتد ألكثر من كيلو مرت واحد ‪ ،‬ومبا يعنى‬ ‫تشغيل جمموعة من املوتورات وأضواء العربات ذات الصوت‬ ‫والضوء التى تساعد على كشف التحركات ‪ ،‬كما أن عملية‬ ‫فك الوحدة من مكانها القديم ‪ ،‬وتركيبها فى مكانها اجلديد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متواصال وخربة كبرية‬ ‫تدريبا‬ ‫عملية شاقة معقدة ‪ ،‬تلزم‬ ‫إلجنازها فى معدالت زمنية مناسبة ‪.‬‬ ‫وحتتاج مصاحبة جمموعة من األطقم الفنية إلصالح األعطال ‪،‬‬ ‫أو ضبط املعدات ‪ ،‬والتأكد من املستوى العاىل ألدائها ‪ ،‬واالستمرار‬ ‫إىل جوارها أثناء التشغيل ملالقاة أى مفاجئات أثناء تواجدها فى‬ ‫مكان الكمني ‪.‬‬ ‫وللداللة على ما أقول أسوق واقعتني تفسران إىل حد بعيد‬ ‫صعوبة هذه العمليات ‪ ،‬ففى إحدى اللياىل احلالكة الظالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مليئا باهليئات األرضية‬ ‫موقعا لكمني ‪ ،‬وكان هذا املوقع‬ ‫دخلنا‬ ‫املعيقة التى فرضت علينا مدة زمنية أكثر من طويلة ‪ ،‬بلغت‬ ‫‪83‬‬


‫‪ 3‬أميال ملا حنتاجه من وقت لوضع املعدات فى مواقعها املختارة ‪،‬‬ ‫فلم تكن املناورة باملعدات عملية سهلة إزاء الطبيعة األرضية‬ ‫ً‬ ‫وأخريا متكنا من دخول املوقع ‪ ،‬وتثبيت املعدات فى‬ ‫للموقع ‪،‬‬ ‫أماكنها ‪ ،‬وكان الصبح قد حل ‪ ،‬والصبح يعنى لدينا اختفاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫راداريا متفق‬ ‫توجيها‬ ‫النجم الذى نستعني به فى توجيه احملطة‬ ‫عليه ‪ ،‬يسهل عملية تطابق املعلومات الرادارية واالستفادة بها ‪،‬‬ ‫وكانت هناك طريق أخرى تتطلب رؤية وحدات احملطة لبعضها‬ ‫ً‬ ‫نظرا للمعوقات األرضية أو ما يسمى باهليئات‬ ‫البعض ‪ ،‬ولكن‬ ‫الطبيعية املانعة مل نكن نستطيع أن نلجأ إىل هذه الطريقة‬ ‫هى األخرى ‪ ،‬وها قد أطلت الشمس بنورها وجاء النهار مبا حيمله‬ ‫من خماطر االستطالع املعادى سواء اإلسرائيلى أو األمريكى‬ ‫واحتماالت القصف واردة ‪ ،‬وأعيتنا احليلة لوال أن أنقذ املوقف‬ ‫أحد املستشارين السوفيت ‪ ،‬فقد كان يعلم طريقة ثالثة تقوم‬ ‫على وسيلة بدائية جبهاز مساحى شرحها ىل كمرتجم حيث‬ ‫ً‬ ‫سويا من تنفيذها ‪.‬‬ ‫متكنا‬ ‫وقبل أن أفرغ من سرد هذه الواقعة ال أنسى أننا اقتسمنا قطع‬ ‫ً‬ ‫ونظرا لكثرة اإلجهاد الذى‬ ‫اجلهاز ‪ ،‬وبدأنا نهرول هنا وهناك ‪،‬‬ ‫يصاحبه انعدام النوم للياىل متواصلة وثقل اجلهاز وطبيعة‬ ‫األرض الرملية ‪ ،‬تعثرت خطاى ‪ ،‬ولكن املستشار السوفيتى‬ ‫كان يلح على أن أسرع اخلطى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غاضبا ‪،‬‬ ‫ونتيجة إلحلاحه املتواصل ومشقة ما أالقيه انفجرت‬ ‫وقلت ‪ :‬أال تنظر ما أعانيه ‪ ،‬أال تعلم أننى مسهد اجلفن منذ عدة‬ ‫‪84‬‬


‫لياىل ؟‪ ،‬وبطريقة محاسية وألفاظ موجعة أعطانى هذا املستشار‬ ‫ً‬ ‫درسا لن أنساه طوال حياتى ‪ ،‬فقد قال ىل ‪ « :‬ما أعلمه أننا على‬ ‫بعد أمتار من العدو ‪ ،‬ويقع كميننا فى متناول مدفعية امليدان‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ ،‬وأنت اآلخر‬ ‫املعادية ‪ ،‬ولن أقول الطريان» ‪ ،‬ثم أردف « وأعلم‬ ‫ً‬ ‫تعلم أننى مل أذق طعم النوم منذ لياىل مثلك متاما ‪ ،‬وأعلم أننى‬ ‫أكربك بــ ‪ 22‬عام ‪ ،‬الشك أنها تفقدنى بعض اللياقة أمام شاب‬ ‫مثلك» ‪ ،‬ثم قال ‪ « :‬وأعلم ً‬ ‫آخرا أن هذه أرض وطنك ‪ ،‬وأننى أتيت‬ ‫من بعيد ‪ ،‬وأنك كثري الرطانة حبب الوطن ‪ ،‬وحب األوطان ال‬ ‫يكون بطول اللسان ‪ ،‬وحسن القصد ونقاء السريرة ‪ ،‬ولكن‬ ‫حب األوطان يكون باجلهد الشاق ‪ ،‬والعمل املتفانى والتقدير‬ ‫السليم املبنى على فهم بالواقع والظروف ‪ ،‬واملهام املطروحة عليه»‪.‬‬ ‫وال أنسى أننى بعد أن مسعت هذه الكلمات احلقيقية‬ ‫ً‬ ‫خجال من نفسى وحولته إىل زيت حمرتق يشعل‬ ‫املوجعة ‪ ،‬ذبت‬ ‫كل طاقاتى للحركة والتقدم وسط عربات دافئة سالت على‬ ‫خدى ‪ ،‬وصوت مكتوم انبعث من داخلى شرط احلب هو اجلسارة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صلبا‬ ‫ومن حيب الوطن عليه أن يصرب على كل احملن ‪ ،‬ثم خيرج‬ ‫ً‬ ‫وجمربا وواسع االحتمال واألفق ‪.‬‬ ‫أما عن الواقعة الثانية ‪ ،‬التى تثبت مشقة األقدام على هذه‬ ‫الكمائن ‪ ،‬وخطورة ما حتتاجه من إمكانات وحشد عوامل‬ ‫كثرية ملصاحبتها ‪ ،‬تتلخص فى اآلتى ‪ :‬دخلنا مع وحدة صواريخ‬ ‫ً‬ ‫موقعا لكمني‪،‬‬ ‫مضادة للطائرات من طراز سام ‪ « 2‬الديفينا»‬ ‫وقد متكنا من إجراء عملية تركيب املوقع ‪ ،‬وتسطيحه‬ ‫‪85‬‬


‫وتوجيهه فى زمن قياسى ‪ ،‬وتوىل طاقم فنى سوفيتى من اخلرباء‬ ‫إجراء االختبارات الفنية والكهربية الالزمة ‪ ،‬وأشرق الصباح‬ ‫وطاقم احملطة فى كامل استعداداته ‪ ،‬فاجلنود والضباط‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫متخلصا من‬ ‫مركزا االنتباه‬ ‫كل فى مكانه القتاىل‬ ‫املصريون‬ ‫كل أعباء اللياىل املاضية حيث العمل املرهق والنوم القليل ‪،‬‬ ‫ورغم سويعات قليلة قضاها الطاقم الذى جيلس على هذه احلال‬ ‫فى النوم ‪ ،‬كأمر قتاىل واجب التنفيذ ‪ ،‬إال أن االنتباه واليقظة‬ ‫التى يبديها اجلنود والضباط أكرب بكثري من حجم الراحة‬ ‫ً‬ ‫شيئا آخر حيرك هذه األجسام املتعبة ‪ ،‬إنه‬ ‫اجلسدية‪ ،‬إن هناك‬ ‫انتظار الطريان املعادى فى نزهته اليومية املشئومة ‪ ،‬والتى تذيق‬ ‫ً‬ ‫أهواال يعجز عن احتماهلا كل ذى‬ ‫إخوانهم فى اجليشني امليدانني‬ ‫جهد وصرب عظيمني ‪.‬‬ ‫إن الرغبة فى الثأر جترى جمرى الدماء فى العروق ‪ ،‬وتشحذ همم‬ ‫الرجال‪ ،‬وتستبدل اإلرهاق باليقظة املتفتحة أو االنتباه الشديد‪.‬‬ ‫وسط هذا اجلو املشحون بالتوتر واالنتظار ‪ ،‬أمرت مبصاحبة‬ ‫ً‬ ‫قليال ‪ ،‬على بعد حواىل ‪ً 500‬‬ ‫مرتا فى بعض‬ ‫وفد اخلرباء للراحة‬ ‫املالجئ األرضية ‪ ،‬وصمم املستشار املصاحب للوحدة على ذلك ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وحيدا بال مرتجم ‪ ،‬وإذا حدث ما يستحق استدعائى‬ ‫على أن يظل‬ ‫فسيفعل ‪ ،‬وبعد ما يقرب من ثالث ساعات التقطت رادارات‬ ‫ً‬ ‫أهدافا معادية قادمة وتأهبت لالشتباك معها ‪ ،‬وفجأة حدث‬ ‫احملطة‬ ‫عطل مباغت عجز ضابط التخصص املصرى وطاقمه من اجلنود‬ ‫والصف عن إصالحه ‪ ،‬وبدا املوقف غاية فى اخلطورة فشاشات‬ ‫الرادار تعلن أنها بضع ثوان وتكون الواقعة ‪ ،‬وعلى الفور صدرت‬ ‫‪86‬‬


‫أوامر للطاقم املقاتل باالنتشار ‪ ،‬وبدأت صفارة اإلنذار فى احملطة‪،‬‬ ‫تصدر أنينها املتقطع عالمة على هذا األمر ‪ ،‬وخرجت مع طاقم‬ ‫اخلرباء السوفيت نسابق الزمن فى اجتاه مركز القيادة ‪ ،‬ولثوانى‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عن‬ ‫اخنلع قلبى من اهللع ‪ ،‬فالكل جيرى فى اجتاه النجاة‬ ‫مركز احملطة‪ ،‬وحنن فقط جنرى فى االجتاه العكس ‪ ،‬ولكن‬ ‫وقع أقدامنا وسرعة خطواتنا فى اجتاه احملطة بدل األمر لثوانى ‪،‬‬ ‫بشعور اعتياد اخلطر ‪ ،‬وحاملا وطئت أقدامنا أبواب املعدات ‪ ،‬وبدأ‬ ‫عمل الرجال فى اجتاه إصالح العطل ‪ ،‬حتول اعتياد اخلطر إىل‬ ‫رغبة فى اإلصالح واالنتصار ‪ ،‬وإىل شجاعة وجسارة ال توصف‬ ‫فى طلب مالقاة العدو ‪ ،‬وحث األمور فى هذا االجتاه ‪ ،‬وحبكمة‬ ‫العلم ودروس املعارك األساسى‪ ،‬وهو أن القرار الصحيح هو القرار‬ ‫السريع التنفيذ واملبنى على تقدير واقعى ‪ ،‬مت إصالح العطل‬ ‫وإتباع بعض اإلجراءات األمنية الرادارية لتضليل الطائرات‬ ‫املعادية فى اإلمساك مبكان املوقع‪ ،‬ومرة أخرى انبعثت صفارة‬ ‫احملطة قوية حادة تستصرخ اجلميع سرعة احلضور ‪.‬‬ ‫وما هى إال حلظات وكان كل جندى وضابط فى موقعه ‪،‬‬ ‫والتقطت طائرة معادية تسقط محولتها الشريرة على أحد املواقع‬ ‫األرضية وبضربة حامسة انطلقت ثالثة صواريخ متتابعة ‪ ،‬وفى‬ ‫ثوان قليلة سقطت الطائرة املعادية وتفجرت ‪ ،‬وعلت البسمة‬ ‫شفاه أفراد الطاقم ‪ .‬ولكن أمر الفك واالنسحاب كان أسرع من‬ ‫جمرد الفرحة واالبتسام ‪ ،‬وفى برهة حتولت االبتسامات إىل جهد‬ ‫دءوب وعمل شاق لفك احملطة ‪ ،‬وجتهيز الرتل للفرار السريع فى‬ ‫اجتاه دائرة األمان حول القاهرة ‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫ورغم هذه الصعوبات ‪ -‬وغريها كثري ‪ -‬ووقائعها كثرية‪،‬‬ ‫بكثرة العمليات ذاتها ‪ ،‬فقد جرت هذه اخلطة السريعة ‪،‬‬ ‫ونفدت جمموعة من الكمائن املتتابعة ‪ ،‬امتدت ملا يقرب من‬ ‫ثالثة أشهر ‪ .‬لقد عهد للمستشارين السوفيت وحليز ضيق ً‬ ‫جدا‬ ‫من قادة الدفاع اجلوى ‪ ،‬وحتت اإلشراف املباشر لقائد الدفاع اجلوى‬ ‫ً‬ ‫شخصيا الفريق حممد على فهمى بالتحضري هلذه الكمائن‪،‬‬ ‫واإلشراف على تنفيذ وعلى سرية عملياتها ‪ .‬فعلى سبيل‬ ‫التحديد ‪ ،‬كان يتم استدعاء املستشارين السوفيت على مستوى‬ ‫تشكيل كبري إىل مقر القيادة ‪ ،‬وكانوا يذهبون مبرافقة‬ ‫ً‬ ‫مستشارا عليهم وقائد كبري مصرى الختيار املواقع على أن‬ ‫حيفظ كل مستشار لوحدة قتالية مكان موقعه املختار ‪ ،‬ثم‬ ‫يعودون لوحدتهم ‪ ،‬وكان أمر التحرك يأتى للوحدة لينفذ فى‬ ‫حينه ‪ ،‬وغري مصاحب باجتاه التحرك وال بأية معلومات أخرى ‪.‬‬ ‫وكثريا ما كان حيضر قائد القوات بذاته ‪ ،‬ويصدر ً‬ ‫ً‬ ‫أمرا آخر‬ ‫برتك جزء من الطاقم فى مكانه واالستمرار فى تبليغ قياداته‬ ‫األعلى بتمام املوقع ‪ .‬ثم حيرك الطاقم الضرورى مبصاحبة ضابط‬ ‫كبري من املخابرات احلربية لتأمني احلركة ‪ ،‬ويعطى األمر بأن‬ ‫التحرك يكون كما حدده املستشار السوفيتى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جزءا من عمل أمنى كبري‬ ‫إن هذه اإلجراءات األمنية كانت‬ ‫وواسع أجدنى فى حل من ذكره ‪ ،‬فتقديرى لضرورات األمن‬ ‫تقتضى منى ذلك ‪ ،‬وإن كنت أرجو ممن عاصر هذه التجارب من‬ ‫املسئولني أن يكشفوا سرتها ‪ ،‬ففيها كثري من الدروس والعرب ‪،‬‬ ‫ستفيد أبناء الوطن بالتأكيد أكثر من أن تفيد العدو ‪ ،‬ولكن‬ ‫‪88‬‬


‫ما يهم ً‬ ‫فعال أنه منذ نهاية شهر أبريل سنة ‪ ، 1970‬وفى ليلة من‬ ‫لياليه الشديدة الظالم مت دفع أول كمني بالصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات من طراز سام ‪ ، 1‬سام ‪ 2‬إىل منطقة قناة السويس ملالقاة‬ ‫ً‬ ‫يوميا فى منطقة اجليشني‬ ‫الطريان املعادى ‪ ،‬وهو حيرث األرض‬ ‫املصريني الثانى والثالث ‪.‬‬ ‫وتوالت هذه الكمائن ملدة تقرب من الثالثة أشهر ‪ ،‬وتوالت معها‬ ‫إسقاطات الطائرات املعادية ‪ ،‬فبضربة خاطفة ‪ -‬وفى أول كمني‬ ‫ مت إسقاط هيلوكبرت معادية ‪ ،‬وكانت جمهزة كمعمل‬‫جوى إلجراء تداخل وتشويش على املعدات املصرية الرادارية ‪،‬‬ ‫وكان طاقمها أكثر من ‪ 15‬باحث وخبري من الفنيني املعاديني ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شيئا‬ ‫وإن هذه الكمائن قد ارتفعت بنسبة خسائر طريان العدو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عموما نتيجة لزيادة‬ ‫فشيئا ‪ .‬بل وارتفعت اخلسائر اإلسرائيلية‬ ‫معدل نشاط العمليات املصرية ‪.‬‬ ‫وهكذا تبخر حتدى ديان ‪ ،‬والقت مقولته بأنه لن يسمح‬ ‫بتواجد صاروخ مصرى مضاد للطائرات فى جبهة قناة السويس‬ ‫مصريها احملتوم ‪ ،‬وعلم ديان ‪ -‬قبل غريه ‪ -‬أن إرادته ليست هى‬ ‫اإلرادة العليا ‪ ،‬أو أنها ليست هى اإلرادة الوحيدة على مسرح‬ ‫العمليات ‪ ،‬وأن مصريها ينبع من أنها ال تستند على حق وال على‬ ‫اجتاه التاريخ ‪ ،‬إنها إرادة مستمدة من إرادة املغتصبني املعادين‬ ‫ً‬ ‫حتما تصغر أمام إرادة أصحاب احلق إذا‬ ‫للحق والتاريخ ‪ ،‬وهى‬ ‫حسن عملهم ‪ ،‬ووضح فهمهم الجتاه الصراع وأطرافه على جانبى‬ ‫العدو والصديق ‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫لقد كان هلذه الكمائن أبلغ األثر ‪ ،‬ال فى إجتاه تفتيت تأثري‬ ‫التصرحيات املعادية ‪ ،‬وكسر صلف العسكرية اإلسرائيلية‬ ‫فحسب ‪ ،‬بل على رفع مستوى ارتفاع الروح املعنوية للقوات‬ ‫املسلحة املصرية ‪ ،‬فعندما أحست قوات اجليشني امليدانيني‬ ‫ً‬ ‫مستقبال‬ ‫املصريني بإمكانية تواجد مظلة محاية تكفلها‬ ‫قوات الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬وتقيها شر وعنف القصف اإلسرائيلى‬ ‫املعادى بسالح الطريان ‪ ،‬حتسنت حالة القوات ووصلت معنوياتها‬ ‫مستوى من االرتفاع أعاد مستوى األيام املاضية حيث كانت‬ ‫النريان األرضية ‪ ،‬ومدفعية امليدان املصرية مسيطرة على املوقف‬ ‫جتاه القوات اإلسرائيلية على الرب الشرقى من قناة السويس ‪.‬‬ ‫كذلك سرت موجة االرتفاع املعنوى خالل قوات الدفاع اجلوى‬ ‫نفسها ‪ ،‬فرغم إحساس القلق الذى تركته عملية بناء الدشم‬ ‫اخلرسانية ‪ ،‬وعدم تقدمها لألمام ‪ ،‬إال أن تعدد مواكب الكمائن‬ ‫قد فتح الباب أمام قوات الدفاع اجلوى بأن ترى أن للطريق خمارج‬ ‫أخرى ‪ ،‬وأنه رغم أهمية بناء الدشم اخلرسانية لتأمني مواقعها‬ ‫ومعداتها ‪ ،‬إال أن إمكانية التحرك مبراعاة شروط أخرى ‪ ،‬من‬ ‫املمكن أن ينجح حتركها العام حنو بناء خطها الدفاعى القوى‬ ‫على جبهة قناة السويس ‪ ،‬دون ما إصرار على شرط وجود الدشم‬ ‫ذاتها ‪.‬‬ ‫ومن حيث ما أضافته هذه الكمائن إىل فنون القتال وحتسني‬ ‫نوعية األسلحة وبالذات الصواريخ ‪ ،‬فقد كانت هامة وكبرية‪،‬‬ ‫فلقد بينت هذه العمليات أهمية تطوير نوعيات الصواريخ‬ ‫‪90‬‬


‫املضادة للطائرات ‪ ،‬والقادرة على سرعة املناورة األرضية‬ ‫واملكانية ‪ ،‬لذلك ال غرو أن جند بعد ذلك بشهور ظهور أنواع‬ ‫أخرى من الصواريخ احملمولة على مركبات جمنزرة ‪ ،‬أما بالنسبة‬ ‫لفنون القتال ‪ ،‬فقد اكتسبت القوات املصرية قدرة عالية ‪ ،‬على‬ ‫عمليات اإلخفاء والتمويه ‪ ،‬سواء إخفاء املواقع أو إخفاء النبضات‬ ‫الرادارية لكى ال تلتقطها الطائرات ووسائل اإلنذار املعادية ‪.‬‬ ‫وكذلك تركت هذه العمليات ً‬ ‫أثرا ً‬ ‫بالغا على تعميق عمليات‬ ‫التعاون املصرية السوفيتية ‪ ،‬سواء على مستوى التنسيق بني‬ ‫القوات ذات املهام القتالية والدفاعية من اجلانبني ‪ ،‬أو بني أطقم‬ ‫اخلرباء واملستشارين وبني أطقم هذه الكمائن املصرية‪ ،‬والتعاون‬ ‫ً‬ ‫أيضا بني األسلحة األخرى والدفاع اجلوى خاصة األسلحة اإلشارة‬ ‫واملخابرات العسكرية ‪ ،‬والشرطة العسكرية ‪ ،‬واملهندسني‪ ،‬مبا‬ ‫كانت تكفله هذه األسلحة من معونات فنية وأمنية ضروريتني‬ ‫ً‬ ‫ميدانيا‬ ‫لتأمني سري الكمائن وتأمني حركتها ‪ ،‬وجتهيز مواقعها‬ ‫ً‬ ‫وإشاريا ‪.‬‬ ‫لقد أعطت هذه الكمائن فرصة ساحنة لتحفيز القوات‬ ‫ً‬ ‫عموما ‪ ،‬وجعلتها فى وضع ميكنها من استئناف‬ ‫املسلحة املصرية‬ ‫عمليات اهلجوم ‪ .‬إن إفالت املبادرة من أيدى القوات اإلسرائيلية‬ ‫ً‬ ‫وشيكا ‪ ،‬ومبا يعنى فى املقابل أن القوات‬ ‫املعتدية قد بات‬ ‫املسلحة املصرية بدأت متسك من جديد ببعض خيوط املبادرة‬ ‫التى فقدت منها لفرتة ‪ ،‬لكى تتمكن فى النهاية من القبض‬ ‫بها ‪ ،‬لتطوير عمليات استنزاف إسرائيل ‪.‬‬ ‫‪91‬‬


‫إن نظرة سريعة على طابع عمليات هذه األيام يؤكد ما‬ ‫نقوله بشأن بداية استئناف الطابع اهلجومى للعمليات املصرية‬ ‫ً‬ ‫مجيعا ‪ ،‬ونرصد احلقائق التالية ‪:‬‬ ‫ولننظر‬ ‫‪‬فى يوم ‪ 11‬أبريل سنة ‪ ، 1970‬أغارت الطائرات املصرية‬ ‫ ‬ ‫على املوقع اإلسرائيلية على بعد ‪ 25‬كيلو مرتا خلف‬ ‫خطوط العدو األمامية على شاطئ قناة السويس ‪ ،‬ووصلت‬ ‫إىل رأس سدر وعيون موسى على خليج السويس ‪.‬‬ ‫‪‬فى يوم ‪ 23‬أبريل ‪ ، 1970‬أغارت الطائرات املصرية على‬ ‫ ‬ ‫مستعمرة “ ناحال يام “ فى مشال سيناء على بعد مائة‬ ‫كيلو مرت شرقى قناة السويس ‪.‬‬ ‫‪‬فى يوم ‪ 25‬أبريل سنة ‪ ، 1970‬هامجت قاذفات “ اإلليوشن‬ ‫ ‬ ‫‪ “ 28‬املصرية ‪ ،‬املواقع اإلسرائيلية قرب العريش على ساحل‬ ‫البحر املتوسط ‪.‬‬ ‫‪‬فى ‪ 26‬أبريل سنة ‪ ، 1970‬احتلت قوة مصرية مكونة من‬ ‫ ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ 200‬جندى ‪ ،‬موقعا إسرائيليا فى القطاع اجلنوبى من قناة‬ ‫السويس على الضفة الشرقية ودمرته ‪.‬‬ ‫‪‬فى ‪ 28‬أبريل سنة ‪ ، 1970‬أغارت مقاتالت مصر القاذفة‬ ‫ ‬ ‫من طراز “ سوخوى “ على املواقع اإلسرائيلية ‪ ،‬بينما كانت‬ ‫املدفعية املصرية تدك املواقع املعـ ادية مبعدل ‪ 10‬قذائف ‪/‬‬ ‫دقيقة حسب تقديرات القوات املعادية اإلسرائيلية نفسها ‪.‬‬ ‫‪‬فى أول مايو سنة ‪ ، 1970‬أعلنت إسرائيل أنها تصدت‬ ‫ ‬ ‫‪92‬‬


‫حملاولة عبور قامت بها وحدة مصرية مكونة من ‪ 80‬جندى‪،‬‬ ‫وأنها كانت احملاولة الثالثة خالل ‪ 4‬أيام ‪ ،‬وأكدت القوات‬ ‫املسلحة املصرية أن هذه كانت من أجنح عمليات العبور ‪.‬‬ ‫ ‪‬فى ‪ 3‬مايو ســنة ‪ ، 1970‬حتركت وحدة حبريــة‬ ‫مصريـة خاصة ‪ ،‬وقامت بقصف مركز على قيادة‬ ‫إسرائيل فى خليج السويس على بعد ‪ 220‬كيلو مرت‬ ‫جنوبى مدينة السويس (‪. )9‬‬ ‫وهكذا حتركت األمور فى اجتاه مزيد من عمليات استنزاف‬ ‫إسرائيل ‪ ،‬وتعددت عمليات الكمائن وتواىل سقوط الطائرات‬ ‫املعادية ‪ ،‬وخفت آثار القصف اجلوى ‪ ،‬حيث عادت الروح املعنوية‬ ‫للقوات املصرية لرتتفع ‪ ،‬وأصبحت هناك إمكانية حقيقية‬ ‫لتحلل الرئيس مجال عبد الناصر من وعده بضرورة بناء الدشم‬ ‫اخلرسانية قبل تقدم القوات الحتالل مواقعها على خط حائط‬ ‫الصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬فالتجربة أثبتت أن بناء الدشم‬ ‫شرطا ً‬ ‫ً‬ ‫هاما ‪ -‬إال أن التمسك الصلب به مل‬ ‫اخلرسانية ‪ -‬وإن كان‬ ‫يعد يساوى توقف الزحف لبناء حائط الصواريخ ‪ ،‬حتى االنتهاء‬ ‫من هذه الدشم ‪.‬‬ ‫ومن ثم كان البد مما ليس منه بد ‪ ،‬ضرورة التقدم إلجناز‬ ‫بناء حائط الصواريخ على اخلط الشرقى ‪ ،‬خط الصدام مع العدو‬ ‫اإلسرائيلى ‪ ،‬خط املواجهة احملتدمة ‪ ،‬خط أمن ومحاية القوات‬ ‫(‪ )9‬‬

‫اللواء حسن البدرى ـ المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫الربية للجيشني امليدانيني ‪ ،‬خط التجهيز والتحضري لتأمني‬ ‫ً‬ ‫حتما حنو سيناء احلبيبة ‪ .‬إن‬ ‫عملية العبور الشامل القادمة‬ ‫احتالل قوات الدفاع اجلوى املصرية هلذا اخلط ‪ ،‬ومتكنها من‬ ‫بناء حائط الصواريخ هو أحد األهداف والغايات الرئيسية حلرب‬ ‫ً‬ ‫نهائيا‬ ‫االستنزاف ‪ ،‬حيث يرجى ملبادرة الفعل املصرى أن تتأكد‬ ‫لتكون القوات قادرة على بدأ معركة التحرير ‪ ،‬حترير سيناء‬ ‫من العدو اإلسرائيلى الغاصب ‪.‬‬ ‫إنه اخلط الرئيسى واحلائط املتني ‪ ،‬الذى يرجى عليه تكسر‬ ‫موجات الطريان املعادى ‪ ،‬نقطة القوة فى البنيان العدوانى‬ ‫العسكرى اإلسرائيلى ‪ .‬إن احلائط املنشود هو احلائط العظيم‪،‬‬ ‫الذى إن مت سوف تكون له آثار دفاعية أقوى من آثار أسوار القالع‬ ‫القدمية ‪ ،‬حيث املدن الصامدة أمام الغزو األجنبى املعادى ‪.‬‬

‫أسبوع تساقط الفانتوم ‪:‬‬ ‫مع نهاية شهر يونيو سنة ‪ ، 1970‬وبداية شهر يوليو سنة ‪1970‬‬ ‫ذهب الرئيس مجال عبد الناصر فى زيارة إىل االحتاد السوفيتى‪،‬‬ ‫يرافقه وفد كبري يضم جمموعة من الوزراء ‪ ،‬من بينهم الفريق‬ ‫ً‬ ‫أهدافا كثرية ‪،‬‬ ‫أول حممد فوزى ‪ ،‬وكانت هذه الزيارة تبتغى‬ ‫من بينها التشاور حول مبادرة وليم روجرز وزير خارجية أمريكا‪،‬‬ ‫والتى قدمها فى ‪ 24‬يونيو سنة ‪ . 1970‬وفى نفس توقيت سفر‬ ‫الرئيس والوفد املصاحب له إىل موسكو ‪ -‬وعلى وجه التحديد‬ ‫ً‬ ‫بدءا من ليلة ‪ 29‬يونيو سنة ‪ - 1970‬بدأ الزحف العظيم بوحدات‬ ‫الصواريخ املضادة للطائرات من طرازى سام ‪ ، 1‬سام ‪( 2‬الديفينا‬ ‫‪94‬‬


‫والديسنا) صوب قناة السويس ‪ ،‬وكانت ملحمة ‪ ،‬وكانت خربة‬ ‫ثرية ‪ ،‬وكانت ً‬ ‫درسا فى التضحية والفداء واجلهد العلمى الرصني‪،‬‬ ‫وكانت معركة لوحدة الكفاح بني املصريني والسوفيت فى‬ ‫مواجهة ومقاومة االمربيالية األمريكية وإسرائيل الصهيونية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مؤشرا النتصار إرادة احلق فى مواجهة حتديات الباطل‪،‬‬ ‫وكانت‬ ‫إذا تسلحت باجلهد الدؤوب واإلصرار حتى مع االختالل النسبى‬ ‫فى موازين القوى لصاحل العدو فى البداية ‪.‬‬ ‫لقد بدأت حتضريات هذا الزحف من خالل عمليات الزحف‬ ‫املتقطع بالكمائن ‪ ،‬فعلى ضوء جتربة كمائن الصواريخ‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪ -‬اتضح أن التقدم فى‬ ‫املضادة للطائرات ‪ -‬وكما أشرت‬ ‫عملية بناء حائط الصواريخ من املتوقع هلا أن تتم دون شرط‬ ‫قيام الدشم اخلرسانية بل على العكس ‪ ،‬فإن بناء هذا احلائط‬ ‫سيساعد على تأمني عملية بناء الدشم اخلرسانية ذاتها ‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫دروسا حمددة فى جماالت األمن‬ ‫خربة العمل فى الكمائن تربز‬ ‫واإلخفاء والتمويه واإلعداد امليدانى السريع للمواقع ‪.‬‬ ‫وعليه فمنذ بداية شهر يونيو سنة ‪ ، 1970‬بدأت قوات سالح‬ ‫املهندسني العسكريني تدخل فى عملية واسعة لتجهيز‬ ‫جمموعات كبرية من املواقع للصواريخ املضادة للطائرات ‪.‬‬ ‫وبعد أن حتددت املواقع على اخلرائط ‪ ،‬وحتددت معها املواقع‬ ‫التبادلية أى االحتياطية على أسس تكتيكية وقتالية صرفة ‪،‬‬ ‫بواسطة القادة املصريني والسوفيت ‪ ،‬أعطيت هذه اخلرائط لقوات‬ ‫املهندسني لتنفيذها حتت اإلشراف الفنى لقادة ومستشارى الدفاع‬ ‫‪95‬‬


‫اجلوى ‪ .‬وقد قامت هذه اخلطة على إجراء أعمال احلفر لتجهيز‬ ‫جمموعات من املالجئ واحلفر األرضية لوحدات األطقم القتالية‬ ‫لقوات الصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬وقد بذلت قوات املهندسني‬ ‫العسكريني ورجاهلا ‪ -‬خاصة من اجملندين من أبناء الفالحني ‪-‬‬ ‫جمهودات خارقة إلجناز أعمال احلفر هذه ‪ ،‬تساعدهم جمهودات‬ ‫العمال الفنيني من سائقى اجلرارات والبلدوزرات واجلريدورات ‪.‬‬ ‫إن آالف األطنان من الرمال التى محلتها أكتاف الشباب اجملند‬ ‫تعجز بعدد حبات رملها عن تسجيل آيات الشكر والتمجيد‬ ‫جلهدهم اخلارق ‪ ،‬وسط قيظ الصيف الالفح على رمال الصحراء‬ ‫الشرقية ‪ ،‬ووسط ظروف عمل شاقة كادت متتد ساعاتها‬ ‫للطاقم الواحد إىل أكثر من ‪ 12‬ساعة عمل يومى ‪ .‬ووسط أحوال‬ ‫معيشية جد صعبة ‪ ،‬حيث قوتهم هزيل ومياههم قليلة ‪.‬‬ ‫إننى لن أنسى مشاهداتى هلؤالء الشباب ‪ ،‬املفرتض فيهم التوثب‬ ‫والنضارة ‪ ،‬وقد خارت قواهم حتت أمحاهلم الثقيلة من شكاير‬ ‫الرمل واصفرت وجوههم وشحبت ‪ ،‬ولكن مع أى كلمة تشجيع‬ ‫وحتميس تراهم وقد حتولوا إىل كائنات جبارة تستطيع نقل‬ ‫اجلبال ‪ ،‬وليس جمرد مواقع منها هنا أو هناك ‪ .‬إننى على بعد‬ ‫الزمن ال أملك غري أن أحيى هذه اجملهودات اخلارقة ‪ ،‬وأسجل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاما هلا ‪ ،‬قد يساعد على تذكري اجلميع أن ملصر‬ ‫تصويرا‬ ‫ً‬ ‫وأصالبا حني تتضح قضاياهم ‪ ،‬وجتدهم‬ ‫رجاهلا‪ ،‬جتدهم شجعان‬ ‫ثابتون وصابرون على العناء رغم ما يلقونه من عدم اهتمام حتى‬ ‫ً‬ ‫دائما ‪ ،‬هلم أحننى‪.‬‬ ‫فى الغذاء ‪ .‬إنهم شعب مصر ‪ ،‬اجلنود اجملهولون‬ ‫لقد كانت فكرة هذه املواقع امليدانية التى تقوم على احلفر‬ ‫‪96‬‬


‫واملالجئ تهدف إىل وضع معدات وحدات الصواريخ فيها لتقليل‬ ‫اإلصابات إىل حدها األدنى ‪ ،‬خاصة فى حالة عدم تصويب ‪ ،‬أو ما‬ ‫يسمى الضرب غري املباشر من الطريان املعادى ‪.‬‬ ‫وكان التجهيز يقوم على فكرة تعدد املواقع لتسهيل عملية‬ ‫املناورة وإرباك العدو مبجموعات كبرية من املواقع التبادلية‬ ‫واهليكلية لتشتيت نريانه ‪ ،‬وتقليل إصاباته املباشرة إىل أقصى‬ ‫حد ممكن ‪ ،‬وتشتيت جهوده االستطالعية ‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ركينا فى خطة بناء خط الدفاع‬ ‫ركنا‬ ‫العملية فى جمملها‬ ‫ً‬ ‫اجلوى كله ‪ ،‬وذلك تعويضا للدشم اخلرسانية ‪ ،‬وتقدميها‬ ‫كبديل سريع هلا ‪.‬‬ ‫وفى ليلة ‪ 29‬يونيو سنة ‪ - 1970‬وكما سبقت اإلشارة ‪ -‬بدأ‬ ‫الزحف‪ ،‬حيث مت تقسيم أطقم الصواريخ املضادة للطائرات‬ ‫املصرية من طراز ديفينا وديسنا إىل ثالث جمموعات أو أقسام‪،‬‬ ‫القسم الثالث أو األخري منها يتكون من جمموعة قليلة من‬ ‫األطقم تقوم بأعمال املناورة املكانية ‪ ،‬أى تغري مواقعها كل‬ ‫يوم بعد أن تشتبك ‪ ،‬وهذه اجملموعة متثل ما يسمى باالحتياطى‬ ‫االسرتاتيجى للقيادة ‪ ،‬حيث تعتمد خطة حتريكها وتلقى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وطوال على امتداد خط‬ ‫عرضا‬ ‫أوامرها املباشرة من مواقعها‬ ‫املواجهة‪ ،‬والتقدم والتقهقر إىل مقدمة هذا اخلط أو إىل عمقه ‪،‬‬ ‫وذلك بهدف إرباك طريان العدو ووسائل استطالعه ‪ ،‬وتضليله‬ ‫باجتاه وطريقة تقدم القوات ‪.‬‬ ‫أما عن اجملموعتني أو القسمني األول والثانى ‪ ،‬فقد مت وضع‬ ‫‪97‬‬


‫وحدات اجملموعة األوىل على حافة منطقة األمان التى تكفلها‬ ‫القوات السوفيتية حول القاهرة ‪ ،‬وذلك فى خط مواز لقناة‬ ‫السويس وخلط املواجهة مع العدو فى اجتاه فى الشرق ‪ .‬وبعد‬ ‫تثبيت هذا اخلط فى اليوم األول ‪ ،‬كان على اجملموعة الثانية أن‬ ‫تتقدم حواىل ‪ 20‬كيلو مرت فى اجتاه الشرق وصوب خط اجلبهة‬ ‫حتت محاية مواقع اجملموعة األوىل ‪ ،‬وعلى نفس فكرة املثلثات‬ ‫املتداخلة ‪.‬‬ ‫وفى نهاية اليوم الثانى ‪ ،‬تفك اجملموعة األوىل معدات حمطاتها‪،‬‬ ‫و تتقدم اجملموعة الثانية بعشرين كيلو مرت آخرين فى اجتاه‬ ‫الشرق وصوب خط املواجهة فى حماذاة قناة السويس ‪.‬‬ ‫وفى نهاية اليوم الثالث تفك اجملموعة الثانية وحدتها وتتقدم‬ ‫اجملموعة األوىل بعشرين كيلو مرت آخرين ‪..‬‬ ‫ً‬ ‫وهكذا يتم دفع اخلطني ً‬ ‫تبادليا حبيث يشهد النهار كل‬ ‫دفعا‬ ‫وحدات الصواريخ املصرية ضمن حائط للصواريخ يتكون من‬ ‫صفني ‪ ،‬وحيقق فكرة املثلثات التى تتداخل أقواس نريانها ‪،‬‬ ‫وتتشابك مناطق تدمريها « منطقة التدمري هى املنطقة احمليطة‬ ‫باحملطة والتى ميكن تدمري أى هدف معادى فى نطاقها»‪ ،‬ويشهد‬ ‫الليل ثبات أحد الصفني وانسحاب الصف املتأخر إىل صف يتقدم‬ ‫مواقع الصف الثابت حتى الوصول إىل حافة خط املواجهة مع العدو‬ ‫اإلسرائيلى على قناة السويس ‪.‬‬ ‫كانت هذه فكرة التحرك حنو بناء حائط الصواريخ املصرية‬ ‫‪98‬‬


‫املضادة للطائرات على خط املواجهة بطول قناة السويس ومشال‬ ‫البحر األمحر ‪ .‬وقد استغرقت هذه التحركات حواىل مخسة أيام‪،‬‬ ‫متكنت فيها قوات الدفاع اجلوى املصرية بأطقم تشغيلها من‬ ‫الوصول إىل أقرب خط قناة السويس خارج مناطق التدمري ملدفعية‬ ‫امليدان واملدفعية األرضية امليدانية اإلسرائيلية ‪ ،‬وبالطبع فإن هذا‬ ‫اخلط كان ميثل اجتاه غالبية املواقع ‪ ،‬مع العلم أن هناك مواقع‬ ‫كانت تتقدمه وتقوم على فكرة الكمائن ‪ ،‬وهى من عمل‬ ‫جمموعة االحتياطى االسرتاتيجى ‪ ،‬والتى تضم وحدات القسم‬ ‫الثالث من القوات التابعة لوحدات الصواريخ املضادة للطائرات‬ ‫املصرية ‪.‬‬ ‫لقد شهد مسرح العمليات فى هذه األيام اخلمسة أخطر وأهم‬ ‫عمليات قوات الدفاع اجلوى املصرية ‪ ،‬ويدخل هذا األسبوع‬ ‫من االشتباكات بني وسائل الدفاع اجلوى املصرية والطريان‬ ‫اإلسرائيلى تاريخ احلروب بصفة عامة باعتباره فاحتة عهد‬ ‫جديد للصراع العلمى املتقدم ضمن نطاق ما ميكن أن يسمى‬ ‫( احلرب االلكرتونية ) ‪.‬‬ ‫لقد كانت هذه األيام القليلة واجمليدة ‪ ،‬واأليام التى تليها‬ ‫فرتة حافلة بكل ما هو جديد وخطري ‪ ،‬ليس فى جمال الصراع‬ ‫العسكرى بني إسرائيل والعرب فحسب ‪ ،‬ولكن فى جمال‬ ‫أوسع ‪ ،‬إنها جتسد أخطر مراحل الصراع العسكرى بني السالح‬ ‫السوفيتى وتكنولوجيته وأسلوب استخدامه ‪ ،‬وبني السالح‬ ‫‪99‬‬


‫األمريكى وتكنولوجيته وأسلوب استخدامه ‪ ،‬ففى هذه الفرتة‬ ‫ وألول مرة فى تاريخ الصراع العسكرى العربى اإلسرائيلى ‪ -‬مت‬‫استخدام الطريان اإلسرائيلى للطائرات األمريكية املتطورة من‬ ‫طراز فانتوم وسكاى هوك بكثافة ‪ ،‬بل منذ تلك الفرتة دخل‬ ‫الطريان اإلسرئيلى عصر الطائرات األمريكية الصنع بعد أن‬ ‫كانت الطائرات الفرنسية الصنع هى تسلحيه األساسى ‪.‬‬ ‫ومل يقتصر األمر على استخدام إسرائيل للطائرات األمريكية‬ ‫الصنع ألول مرة ‪ ،‬وبالذات طائرة الفانتوم ‪ ،‬بل تعدى األمر ذلك‪،‬‬ ‫فألول مرة حتصل إسرائيل على أجهزة استطالع رادارى من‬ ‫أمريكا ‪ ،‬زودت بها طائرات الفانتوم ‪ ،‬واستخدمتها فى هذه‬ ‫الفرتة من العمليات ألول مرة فى تاريخ احلروب ‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫األجهزة تستطيع أن حتدد للطائرة املركبة فيها إن كانت‬ ‫متابعة بواسطة حمطة صواريخ موجهة أم ال ‪ ،‬وتعطيها إشارة‬ ‫مبوقع هذه احملطة ‪ ،‬بل وحتدد حلظة انطالق الصواريخ إزاءها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا بدخول أسلحة أمريكية أخرى‬ ‫بل حفلت هذه الفرتة‬ ‫ميدان املعركة ‪ ،‬حيث حصلت القوات اإلسرائيلية على جمموعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سلبيا على‬ ‫توجيها‬ ‫من القنابل والصواريخ جو ‪ /‬أرض املوجهة‬ ‫أشعة الرادارات األرضية ‪ ،‬أو الصور التلفزيونية ملواقع حمطات‬ ‫الصواريخ‪ ،‬مثل صواريخ شرايك التى تنطلق من الطائرة‬ ‫لتتبع الشعاع الرادارى للمحطة األرضية سواء كانت حمطة‬ ‫استكشاف رادارى ‪ ،‬أو حمطة صواريخ مضادة للطائرات وموجهة‬ ‫بالرادار ‪ ،‬ومثل قنبلة أو ‪ -‬ال ‪ -‬ى ‪ ،‬ومثل قنبلة مسارت التى توجهان‬ ‫‪100‬‬


‫ً‬ ‫تليفزيونيا ‪ ،‬أى بواسطة كامريات تلفزيونية على حمطة‬ ‫الصواريخ لتدمريها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تصارعا ال هوادة فيه بني أعقد‬ ‫كما سجلت هذه الفرتة‬ ‫ً‬ ‫تكتيكات حرب الصواريخ والطريان ‪ .‬إنها حقا أغنى فرتات‬ ‫اخلربة حتى حلظتها ملثل هذا النوع من احلروب بصفة عامة ‪،‬‬ ‫ولقوات األطراف املتحاربة بصفة خاصة ‪.‬‬ ‫وإذا كانت هذه هى املالمح العامة لتلك الفرتة احلافلة‬ ‫باألحداث‪ ،‬إال أن تفاصيلها جتسد الصورة العامة ألخطر وأهم‬ ‫جتارب البناء فى حياة الشعب املصرى وقواته املسلحة ‪.‬‬ ‫إن هذه التفاصيل جيب الوقوف عليها ‪ ،‬ففيها من الغنى والثراء ‪،‬‬ ‫ما يشعل النفوس باحلمية وميأل القلوب باألمل ‪ ،‬ويثبت العقول‬ ‫بدروسها اهلامة ‪ ،‬التى تظهر أن بذرة صغرية فى تربة خصبة‬ ‫وبرعاية دؤوبة تنتج شجرة عالية ممتدة تظل األرض ‪ ،‬وتكثر‬ ‫اجلنى ‪ ،‬وتعيش العمر ‪.‬‬ ‫إن جتربة هذه الفرتة اهلامة شهادة تقدير لعامل اإلرادة واإلصرار‪،‬‬ ‫شهادة تقدير حللف معاداة االمربيالية والصهيونية ‪ ،‬وها هى‬ ‫حملات منها تربز معانيها وعربها ‪.‬‬

‫‪101‬‬



‫احلائط العظيم يتشــكل‬ ‫كما سبق القول ‪ ،‬بدأ الزحف بالصواريخ منذ ليلة ‪ 29‬يونيو‬ ‫سنة ‪ ، 1970‬وأشرقت مشس اليوم األخري من يونيو سنة ‪،1970‬‬ ‫ليفاجئ الطريان املعادى ووسائل استطالعه خبط ممتد من‬ ‫صواريخ الدفاع اجلوى املصرية ‪ ،‬وقد خرجت من نطاق دائرة األمن‬ ‫حول القاهرة واقرتبت أكثر من خط جبهة السويس وأصاب‬ ‫السعار إسرائيل ‪ ،‬وبهجمات متتالية وقوية ‪ ،‬اصطدم الطريان‬ ‫املعادى حبائط من صواريخ الدفاع اجلوى املصرية ‪ ،‬وكان ً‬ ‫يوما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعنيفا ملعارك ضارية دارت بني طريان إسرائيل فى اجلو ‪،‬‬ ‫طويال‬ ‫وبني وحدات من الصواريخ املضادة للطائرات مرابطة فى الرب ‪ ،‬فقد‬ ‫فيها الطريان املعادى نسبة من األهداف مل تشهدها يوميات الصراع‬ ‫قبل هذا اليوم ‪ .‬فقد خسرت إسرائيل أربع طائرات أمريكية‬ ‫الصنع من طرازى فانتوم وسكاى هوك ‪ ،‬ومت أسر ثالثة طيارين‬ ‫إسرائيليني ‪.‬‬ ‫وفى صبيحة اليوم التاىل يوم الفاتح من يوليو سنة ‪، 1970‬‬ ‫جرب الطريان اإلسرائيلى من جديد أن ينطح احلائط برأسه ‪ ،‬ذلك‬ ‫احلائط الذى زحف إىل األمام أكثر من مواقعه باألمس مبقدار من‬ ‫‪ 20‬إىل ‪ 30‬كيلو مرت ‪ .‬كانت خسارته عالية ‪ ،‬ومعدل تساقط‬ ‫‪103‬‬


‫ً‬ ‫مرتفعا ‪ ،‬لقد فقد الطريان اإلسرائيلى فى هذا اليوم ثالث‬ ‫طائراته‬ ‫طائرات أخرى ‪ .‬وتوالت أيام األسبوع األول من بدء الزحف الكبري‪،‬‬ ‫ليسجل اليوم السابع يوم ‪ 6‬يوليو سنة ‪ 1970‬خسارة جديدة‬ ‫إلسرائيل ‪ ،‬حيث فقد طريانها طائرتني مقاتلتني قاذفتني‪ ،‬وطائرة‬ ‫استطالع الكرتونى عليها طاقم يتكون من ‪ 12‬عامل وخبري‬ ‫من قوات العدو ‪ .‬وانتهى األسبوع األول لريتفع سقوط الطائرات‬ ‫اإلسرائيلية من طراز الفانتوم األمريكى الصنع وحدها ‪ -‬والذى‬ ‫يستخدم ألول مرة ‪ -‬إىل سبع طائرات ‪.‬‬ ‫وكم كانت ظروف القتال شاقة ومضنية ‪ ،‬ولن أنسى يوم األول‬ ‫من يوليو سنة ‪ ، 1970‬اليوم الذى وهبت فيه احلياة من جديد أنا‬ ‫ومن أشاركهم العمل ‪ ،‬فلقد حتركت وحدتنا ضمن جمموعة‬ ‫املناورة ‪ -‬أى جمموعة االحتياط االسرتاتيجى للقيادة ‪ -‬إىل أكثر‬ ‫املواقع ً‬ ‫قربا من القناة ‪.‬‬ ‫وبكل اجلهد وسرعة اإلجناز ‪ ،‬قام طاقمنا بفك املعدات مع‬ ‫خيوط الظالم األوىل ملساء ‪ 30‬يونيو ‪ ،‬وانتظمنا فى رتل طويل‬ ‫ميشى اهلوينا ‪ ،‬فاإلضاءة ممنوعة ‪ ،‬والسرعة ً‬ ‫تبعا لذلك جيب‬ ‫أن تكون متدنية ‪ ،‬خاصة أن أصوات مواتري العربات جيب‬ ‫أال تعلو هى األخرى فى ليلة كثرت حتركاتها ‪ ،‬وبدت فيها‬ ‫حركة املرور ألرتال الدفاع اجلوى على الطرق املؤدية جلبهة قناة‬ ‫السويس‪ ،‬وكأنها مناظر مألوفة لسيارات عام ‪ 1982‬فى وسط‬ ‫مدينة القاهرة‪ ،‬ودخلنا املوقع وقمنا بأعمال املناورة التى تصاحب‬ ‫دخول وحدات احملطة إىل أماكنها ‪ ،‬بسرعة وجسارة ومهارة‬ ‫‪104‬‬


‫مدتنا بها خربة حتركات الكمائن املتعددة التى اشرتكت‬ ‫فيها هذه الوحدة ‪ ،‬مت تركيب املعدات وتوجيهها وتسطيحها فى‬ ‫مستو ‪ ،‬ومع اخليوط األوىل إلشراقة هذا اليوم األول من يوليو‬ ‫وضع‬ ‫ِ‬ ‫سنة ‪ ، 1970‬بدأ تشغيل احملطة فى أثناء العمل الليلى ‪ ،‬كانت‬ ‫قد صدرت أوامر القائد حتت إحلاح ورجاء املستشار السوفيتى ‪،‬‬ ‫بإعفاء وردية متكاملة من الطاقم القتاىل من أعمال التجهيزات ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مبكرا ‪ ،‬وتكون على‬ ‫وإصدار األوامر هلا بالنوم كى تستيقظ‬ ‫ً‬ ‫أهبة االستعداد القتاىل ملالقاة طريان العدو ‪ ،‬وفعال حدث ذلك ‪.‬‬ ‫والنشغاىل مبصاحبة املستشار السوفيتى طوال اليوم لإلشراف‬ ‫على عملية الرتكيب والتوجيه والتسطيح للمعدات ‪ ،‬ثم باملرور‬ ‫على كل وحدات التخصصات الرادارية والكهربية املختلفة‬ ‫لإلشراف على ضبطها ‪ ،‬وجعلها فى أحسن األوضاع لالشتباك ‪،‬‬ ‫مل أذق طعم النوم ‪ -‬أنا واملستشار السوفيتى ‪ -‬وانبلج نور الصباح‪،‬‬ ‫ومعه بدأ تشغيل وحدات احملطة ‪ ،‬وجلسنا ندقق النظر فى‬ ‫ً‬ ‫حبثا عن طريان العدو لضربه وإسقاطه وسط ظالم‬ ‫املبينات‬ ‫دامس حيث األبواب مغلقة ‪ ،‬وطاقم القيادة والتوجيه يتواجد فى‬ ‫وحدة مكانية فراغها ال يتعدى ثالثة أو أربعة أمتار من سطح‬ ‫الوحدة ‪ ،‬الوحدة مليئة باألجهزة االلكرتونية ذات املبينات (‬ ‫الشاشات املنرية ) وذات الصمامات الكثرية ‪ ،‬مما يرفع درجة‬ ‫احلرارة ‪ ،‬باإلضافة إىل إغالق الوحدة وتواجدها وسط قيظ يوليو‬ ‫على رمال الصحراء ‪.‬‬ ‫لقد كان ترمومرت الوحدة الداخلى يشري إىل درجة ‪° 52‬مئوية‬ ‫فاألجساد تتصب ً‬ ‫عرقا ‪ ،‬وال يفيد معها أن خنلع ما نلبسه قطعة‬ ‫‪105‬‬


‫أثر قطعة ‪ ،‬واملراوح الداخلية للوحدة ال تأتى إال بهواء ساخن ‪،‬‬ ‫يعمل عمله فى زيادة معدالت حرارة اجلو املشبع بالرطوبة‬ ‫نتيجة تنفسنا فى هذا احليز الضيق املغلق ‪.‬‬ ‫وفى منتصف اليوم ‪ ،‬وفى توقيت يرتاوح بني احلادية عشر‬ ‫ً‬ ‫صباحا التقطنا إحدى موجات اهلجوم للطريان‬ ‫والثانية عشر‬ ‫املعادى ‪ ،‬وتأهبنا لالشتباك معها ‪ ،‬ولكنها احنرفت عن دائرة‬ ‫نرياننا ‪ ،‬وكانت قد تفرقت وتغريت ارتفاعاتها ملهامجة وحدات‬ ‫صواريخ أخرى فى غري قطاعنا ‪ ،‬وعلى شاشات ومبينات الرادار‬ ‫شاهدنا الصواريخ املصرية املضادة للطائرات وهى تفجر طائرتني‬ ‫معاديتني ‪ ،‬وطال انتظارنا حتى الساعة الرابعة بعد الظهر ‪،‬‬ ‫حيث وصلت ساعات تشغيل احملطة ملا يقرب من إحدى عشر‬ ‫ساعة متواصلة ‪ ،‬إىل احلد الذى يفوق أى معدل للتشغيل قالت‬ ‫ً‬ ‫خاصة فى هذه احلرارة والرطوبة القاتلة ‪.‬‬ ‫به الكتب والدراسات ‪،‬‬ ‫لذلك طلب قائد الوحدة من قائد التشكيالت إعطائنا ساعة‬ ‫لراحة املعدات واألفراد ‪ ،‬ونال القائد احمللى طلبه ‪ ،‬ومرت حواىل‬ ‫‪ 15‬دقيقة كنا قد وصلنا فيها ‪ ،‬القائد واملستشار وأنا إىل امللجأ‬ ‫( خمبأ حتت األرض صغري ) ‪.‬‬ ‫ودوت صفارة احملطة تنذر باقرتاب الطائرات املعادية ‪ ،‬وفى‬ ‫أقل من دقيقتني كنا فى مواقعنا ‪ ،‬وكانت البالغات املتعددة‬ ‫للرؤية الرادارية وللرؤية بالنظر تؤكد اقرتاب ثـمانى طائرات‬ ‫معادية منا ‪ ،‬وعلى التو انقسمت هذه الثمانية ‪ ،‬وصارت أربعة‬ ‫‪106‬‬


‫طائرات تعلونا ‪ ،‬فيما يسمى بالتعبري العسكرى «ركبت‬ ‫احملطة» واألربعة األخرى ركبت حمطة جماورة ‪.‬‬ ‫ورغم أن إعادة تشغيل احملطة قد مت منذ انطالق الصفارة بأمر‬ ‫القائد املناوب ‪ ،‬إال أن احملطة كان يصعب عليها االشتباك بل‬ ‫يستحيل ‪ ،‬فهى حتتاج بضع دقائق لتكون فى وضع اإلرسال ‪،‬‬ ‫أى وضع القدرة على إطالق الصواريخ ‪ ،‬حيث أن الصمامات ال‬ ‫ثان‬ ‫تصل إىل مستوى إشعاعها إال بعد هذه الدقائق ‪ ،‬ومن‬ ‫جانب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فال ميكن االشتباك مع األهداف بزاوية قائمة ‪ ،‬فاألهداف التى‬ ‫تعلونا زاويتها قائمة ‪ ،‬وفى حلظات قليلة جرت أحداث أيام وأيام ‪،‬‬ ‫ومر على عقل كل منا أيام عمره الذى مضى ‪.‬‬ ‫وخبت أيامه القادمة ‪ ،‬فاللحظة هى حلظة الفصل ‪ .‬وكانت‬ ‫الطائرات تعلونا بارتفاع يصل إىل ‪ 22‬كيلو مرت ‪ ،‬وهى ال ميكن‬ ‫أن تسقط محولتها من هذا العلو ‪ .‬وكان الطريان املعادى يفضل‬ ‫ما يسمى بطريقة ( القصف الغاطس ) ‪ ،‬أى تنقض الطائرة من‬ ‫علو شاهق بزاوية حادة على اهلدف ‪ ،‬ثم تفرغ محولتها من ارتفاع‬ ‫‪ 800‬إىل ‪ً 600‬‬ ‫ً‬ ‫سريعا ‪ ،‬لذلك كانت‬ ‫مرتا ‪ ،‬وتأخذ منحنى وتهرب‬ ‫الطائرات تتأهب لالنقضاض علينا ‪ ،‬وبدون أن ندرى وجدنا‬ ‫أنفسنا حتت محاية وحدة كبرية من املدفعية املضادة للطائرات‪،‬‬ ‫وباستماتة واضحة وجهد خارق أقام هذا التشكيل غاللة من‬ ‫النريان تعلونا بارتفاع ‪ 6‬كيلو مرت ‪ ،‬أى أن هذه املدافع قد فرشت‬ ‫مالءة من النريان على علو ستة كيلو مرتات فوق موقعنا ‪ ،‬وذلك‬ ‫ملنع طائرات العدو املغرية من االنقضاض على موقعنا ‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫وهكذا دارت رحى معركة شرسة ‪ ،‬كلما حاولت فيها‬ ‫الطائرات املعادية االنقضاض ‪ ،‬نظرت ملالءة النريان حتتها وعلت‬ ‫مذعورة ‪ ،‬ومرت بضع عشرات من الثوانى ‪ ،‬بدت كأنها الدهر‬ ‫كله أصاب فيها اليأس طائرات العدو ‪ ،‬فصبت نريان محولتها من‬ ‫ارتفاعها الشاهق ‪ ،‬لذلك نزلت طاقة التدمري اهلائلة هذه منحرفة‬ ‫عنا بأكثر من ‪ً 600‬‬ ‫مرتا ‪ ،‬وتوالت انفجاراتها ‪ ،‬واهتزت األرض‬ ‫معها‪ ،‬ومعها تنفسنا الصعداء ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبريا الستعادة السيطرة على القوى واألعصاب إىل‬ ‫جهدنا‬ ‫بدأ‬ ‫احلد الذى جنحت فيه الطائرات املعادية من الفرار ‪ ،‬دون أن تشيعها‬ ‫صوارخينا حتى وهى مبتعدة ‪ ،‬على الرغم من أن هذا الطاقم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ناصعا سطرت فيه عمليات الكمائن ‪ ،‬إسقاطه‬ ‫سجال‬ ‫ميتلك‬ ‫ألربعة طائرات معادية ‪ ،‬وتسلم أفراده مكافآت تشجيعية نظري‬ ‫ذلك ‪ ،‬بلغت ألفني من اجلنيهات ً‬ ‫تبعا لنظام التشجيع الذى عمل‬ ‫به فى تلك الفرتة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مفصال ليوم‬ ‫منوذجا‬ ‫لقد سردت هذه الواقعة ألبني للقارئ‬ ‫من القتال ‪ ،‬بكل ما يزخر به من جهد وعرق ‪ ،‬وجناح وفشل ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وضعف وقوة ‪ .‬وما هذا اليوم ‪ ،‬إال ً‬ ‫متشابها مع غريه من أيام‬ ‫يوما‬ ‫تلك الفرتة التى جافى فيها النوم أعني الكثريين ‪ ،‬فعلى سبيل‬ ‫ً‬ ‫طعما للنوم على مدى ستة أيام متواصلة إال قليال‪،‬‬ ‫املثال ‪ ،‬مل أذق‬ ‫ومل ألق جبسدى على فراشى أو حتى أخلع حذائى ‪ ،‬وكل ما‬ ‫اختلسته من نوم كان أثناء ساعات التنقالت داخل العربات‬ ‫وبني األوقات املتوترة فى انتظار طائرات العدو ‪ ،‬وكان هذا حال‬ ‫‪108‬‬


‫ً‬ ‫أيضا من االستحمام ملدة وصلت‬ ‫غريى ‪ ،‬فالكثري منا مل يتمكن‬ ‫إىل األسبوعني ‪ ،‬رغم حرارة يوليو الكبرية وسط قيظ الصحراء ‪،‬‬ ‫وفى أجواء وحدات الصواريخ اخلانقة ‪.‬‬

‫راب الصدع ‪:‬‬ ‫تناولت فى السطور السابقة الوجه املشرق ملا مسى فيما بعد‬ ‫بأسبوع تساقط الفانتوم ‪ ،‬ولكن كان هناك وجه آخر ‪ ،‬لقد‬ ‫شهد هذا األسبوع تصاعد خسائر العدو لطائراته املغرية ‪ ،‬ولكنه‬ ‫مل مير دون أن يرفع من خسائر قواتنا ‪ ،‬فلقد حدثت خسائر‬ ‫مرتفعة فى وحدات الصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬مشلت املعدات‬ ‫واألسلحة ‪ ،‬ومشلت ‪ -‬وهذا وهو األهم ‪ -‬فقدان جمموعة من األفراد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاليا ‪ .‬فمع اشتداد املعارك ‪ ،‬والسعار الذى‬ ‫تدريبا‬ ‫واألطقم املدربة‬ ‫حلق بطريان العدو ‪ ،‬وحبكم استخدامه ‪ -‬وألول مرة ‪ -‬لطائرات‬ ‫الفانتوم املزودة بأجهزة لالستطالع االلكرتونى ‪ ،‬حتدد مواقع‬ ‫الصواريخ ‪ ،‬وموعد واجتاه انطالق الصاروخ أرض ‪ /‬جو جتاهها ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غاليا إلصرارها على بناء‬ ‫ثـمنا‬ ‫دفعت قوات الدفاع اجلوى املصرى‬ ‫ً‬ ‫عمليا أن الشرط الذى مت التغاضى عنه‬ ‫حائط الصواريخ ‪ .‬لقد بدا‬ ‫ً‬ ‫ وهو شرط بناء الدشم اخلرسانية ‪ -‬كان ثـمنه مرتفعا ‪.‬‬‫فمع نهاية هذا األسبوع ‪ ،‬فقدت القوات التى حتركت بأطقم‬ ‫ووحدات الصواريخ املضادة للطائرات من طرازى ديفينا وديسنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ما يقرب من ربع القوى البشرية املدربة ً‬ ‫عاليا‪،‬‬ ‫تدريبا‬ ‫وقتاليا‬ ‫فنيا‬ ‫لقد كان أخطر ما فى وحدات الصواريخ أن املوت ال يصيب‬ ‫رجاهلا فرادى ‪ ،‬ففى حالة تشغيل احملطة يعترب الطاقم كله ‪-‬‬ ‫‪109‬‬


‫وبالذات طاقم القيادة والتوجيه والتخصصات الفنية الكهربية‬ ‫ وكأنه رجل واحد وأن من ينجو ‪ ،‬يكون من الورديات البديلة ‪،‬‬‫وأطقم إعادة التعمري ‪ ،‬واألطقم املناوبة للخدمة الرادارية وخدمة‬ ‫املعلومات ‪ ،‬واألطقم اإلدارية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خطرا‬ ‫لقد كانت هذه التضحيات البشرية الواسعة متثل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وهاما ‪ ،‬ال لكون فقد الرجال فى ذاتهم يبعث على احلسرة‪،‬‬ ‫كبريا‬ ‫ولكن ألنه ال ميكن تدريب أمثال هؤالء الرجال بسرعة‪ ،‬خاصة‬ ‫أن من استشهدوا هم من خاضوا جتارب القتال ومعاركه‪ .‬إن هذه‬ ‫اخلسائر البشرية الكبرية ‪ ،‬قابلتها خسائر فى املعدات أكرب‬ ‫وأوسع ‪ ،‬لقد أصيبت نسبة تصل إىل نصف عدد احملطات التى‬ ‫حتركت فى يوم بدء الزحف العظيم ‪.‬‬ ‫ولقد كان أمر املعدات أسهل بكثري ‪ ،‬فالشهور التى مضت ‪،‬‬ ‫شهدت ‪ ،‬وكما سبق أن أوضحت ‪ ،‬ورود سيل ال ينقطع من وحدات‬ ‫وحمطات الصواريخ من طرازى الديفينا والديسنا ‪ ،‬واالستعواض‬ ‫ً‬ ‫تبعا هلذا فى ساعات قليلة ‪ ،‬وبالفعل كان‬ ‫ميكن أن يتم‬ ‫الطاقم الذى تدمر معداته ‪ ،‬أو تدمر بعض أجزائها ‪ ،‬وتكون نسبة‬ ‫اإلصابة فى أفراده ضعيفة ‪ ،‬وذلك فى حالة عدم التشغيل أو فى‬ ‫حالة الورديات املخففة ‪ ،‬كان يستعوض ما يلزمه بسرعة ‪.‬‬ ‫بل كان األمر جيرى على حنو جتميع األفراد الناجني من‬ ‫أكثر من طاقم لتكوين طاقم واحد متكامل يستعوض‬ ‫املعدات ‪ ،‬ويشكل وحدة تأخذ مكانها وسط باقى وحدات‬ ‫حائط الصواريخ ‪.‬‬ ‫‪110‬‬


‫إن هذه اخلسائر املرتفعة ‪ ،‬وبالذات فى األفراد واألطقم الفنية‪،‬‬ ‫والتى تعرب عنها بعض اإلحصاءات املتاحة ‪ ،‬والتى تشري إىل ما يلى‬ ‫« بلغت مجلة خسائر مصر خالل شهر يونيو سنة ‪678 ( 1970‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجرحيا ) من كل القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬وحتملت قوات‬ ‫شهيدا‬ ‫الدفاع اجلوى منها نسبة ‪ 43,47%‬من عدد كل شهداء القوات‬ ‫املسلحة (‪ )10‬ومصابيها» ‪ ،‬أدخلت أوضاع قواع الدفاع اجلوى على‬ ‫ً‬ ‫واضحا أن الصراع بني‬ ‫جبهة قناة السويس فى نقطة حرجة ‪ ،‬وبدا‬ ‫الطريان اإلسرائيلى ‪،‬ووسائل الدفاع اجلوى املصرى الذى يتجه إىل‬ ‫التصاعد واالحتدام ‪ ،‬تشكل مرحلته الراهنة ما يسمى مرحلة (‬ ‫عنق الزجاجة ) لقوات الصواريخ املصرية ‪.‬‬ ‫وجاء يوم ‪ 7‬يوليو سنة ‪ 1970‬ليظهر الصورة اآلتية ‪ ،‬وصل‬ ‫اإلنهاك إىل حده األقصى بالنسبة ألطقم التشغيل املصرية ‪،‬‬ ‫وارتفعت نسبة اإلصابات والتدمري إىل حد فتح ثغرات ‪ ،‬يتسع‬ ‫عرضها وتهدد بتقويض فكرة اخلط الدفاعى ‪ ،‬أو حائط‬ ‫الصواريخ من أساسه‪ ،‬وعملية االستعواض تتعثر ‪ -‬وعلى وجه‬ ‫التحديد ‪ -‬فى جمال االستعواض البشرى فى مستواه املدرب ً‬ ‫فنيا‬ ‫ً‬ ‫وقتاليا ‪ .‬والطريان اإلسرائيلى يرتفع مبستوى أداؤه ‪ ،‬ويدقق‬ ‫من إصابته مع حتسن استخدامه لوسائل االستطالع الرادارى‬ ‫اجلديدة ‪ ،‬واملوجودة على الطائرات األمريكية الصنع ‪،‬‬ ‫خاصة طائرات الفانتوم ‪ .‬وانتشار نوازع وعوامل القلق بدأت‬ ‫تغزو الروح املعنوية لقوات الصواريخ املضادة للطائرات ‪.‬‬ ‫(‪ )10‬‬

‫اللواء الركن حسن البدرى – المرجع السابق ‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫ولن أنسى ما حييت ما حدث بعد حلول مساء يوم ‪ 7‬يوليو سنة‬ ‫‪ . 1970‬فلقد مر قائد قوات الدفاع اجلوى على جبهة القناة ليتفقد‬ ‫القوات وأحوال أطقم التشغيل ‪ ،‬ولكى يعمل على رفع الروح‬ ‫املعنوية للقوات ‪ ،‬وفى إحدى املواقع ‪ -‬ووسط طاقم متكامل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإداريا ‪ -‬ألقى هذا القائد كلمة قصرية ومؤثرة‬ ‫وفنيا‬ ‫قتاليا‬ ‫حول ضرورة الصمود ‪ ،‬وأشاد باجملهودات التى تبذل ‪ ،‬وأثر ما‬ ‫ً‬ ‫عموما ‪ ،‬وعلى مستقبل املعركة‬ ‫حيدث على مستقبل الصراع‬ ‫احلتمية بني مصر وإسرائيل ‪.‬‬ ‫بعد هذه الكلمة انفجر ضابط برتبة نقيب ‪ ،‬آنذاك ‪ ،‬وينحدر‬ ‫من عائلة إقطاعية من حمافظة الدقهلية ‪ ،‬حيث صادر قانون‬ ‫اإلصالح الزراعى بعض من ممتلكاتها ‪ ،‬انفجر يقول ‪ « :‬إن‬ ‫الصراع الدائر اآلن بني سالحى الطريان اإلسرائيلى ووسائل الدفاع‬ ‫اجلوى املصرى ال يراعى على جانبه املصرى املعدالت الصحيحة‬ ‫للمواجهة ‪ ،‬فال ميكن لعدد من أطقم الصواريخ القليلة هذه أن‬ ‫تقابل طريان إسرائيل كله ‪ ،‬ومن وراءه اإلمدادات األمريكية‬ ‫الكثيفة بالسالح والتكنولوجيا احلديثة ‪ ،‬بل وباألفراد‬ ‫خاصة الطيارين ‪ .‬إن اإلصرار على القتال ‪ ،‬رغم قلة اإلمكانات‬ ‫وقلة عدد األطقم املقابلة لقوات صواريخ الدفاع اجلوى ليس إال‬ ‫عملية انتحار ‪ ،‬وتصدير بعض من القوات التى ال حول هلا وال‬ ‫طول‪ ،‬ملالقاة قوة طريان ال يقدر عليها ‪ ،‬إال أضعاف مضاعفة من‬ ‫مثل هذه األطقم التى جيب أن يعاونها سالح طريان مصرى قوى‬ ‫وقادر على لعب دور كبري ضد طريان إسرائيل» ‪.‬‬ ‫‪112‬‬


‫وتزيد هذا الضابط وواصل كالمه « إن ما يدور ال جتمله اجلمل‬ ‫ً‬ ‫تأكيدا للوطنية‪ ،‬إنه جنون‬ ‫الطنانة عن الوطن ‪ ،‬فليس ما حيدث‬ ‫مجال عبد الناصر ومن حيذو حذوه حتى ولو كنت أنت أيها‬ ‫القائد أليس دليل ما أقول أنكم تتعسفون األشياء ‪ ،‬وجتعلون‬ ‫من هذه األسلحة ‪ -‬التى ال حتتمل خصائصها الفنية القدرة على‬ ‫املناورة املكانية ‪ -‬أسلحة مرنة ‪ ،‬وهى ليست كذلك‪ ،‬إنكم ال‬ ‫ترغبون إال فى حتدى احلقائق وحتدى قدرتنا القليلة فى مواجهة‬ ‫قدرة العدو الكبرية» ‪.‬‬ ‫ورغم جسارة االتهام وسفوره ‪ ،‬ورغم أنه مس القائد فى وجهه‪،‬‬ ‫ورغم أنه نظر إىل الصراع من زاوية ضيقة (وفنية فحسب)‬ ‫تعكس األصل الطبقى للمتحدث ‪ ،‬وفهمه للوطنية من منظور‬ ‫االستسالم والقدرة احملدودة ‪ ،‬إال أن هذا االنفجار كان يعكس‬ ‫بدرجة ما الواقع الذى بدأ التململ يتخلله ‪ ،‬لذا فإننى لن أنسى‬ ‫حكمة القائد وبعد نظره فى حماصرة تفجر هذا الضابط‬ ‫بتعميق داللة هذا الصراع املسلح الدائر على جمريات الصراع‬ ‫فى منظوره العام بني العرب وحلفائهم ‪ ،‬وبني إسرائيل وحلفائها‪،‬‬ ‫وبتوضيح أن احلروب ال تقوم فقط على النسب واألرقام واألعداد‬ ‫ً‬ ‫دائما حيز كبري للبشر وإلرادتهم ‪،‬‬ ‫اجلامدة ‪ ،‬ولكن هناك‬ ‫وألهمية االستمرار والتواصل فيما يبدءونه ‪ ،‬هكذا تكلم‬ ‫هذا القائد الكبري ‪ ،‬الرجل الوطنى املخلص ‪ ،‬والشخص العاقل‬ ‫الصبور ‪ ،‬رغم كرب سنه ( اللواء أمحد سالمة غنيم ) ‪.‬‬ ‫وهكذا يتضح أن حرج األوضاع فى نهاية اليوم الثامن من بدء‬ ‫الزحف العظيم كان من نصيب اجلانب املصرى ‪ ،‬وأن املبادرة‬ ‫‪113‬‬


‫التى بدأت خيوطها تتجمع فى أيدى قوات الدفاع اجلوى املصرى‬ ‫مهددة بالتسرب والتهتك ‪ ،‬وأن قوات الصواريخ التى بدأت زحفها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما بالصواريخ للدفاع عن أجواء مصر‬ ‫حائطا‬ ‫وثابة ‪ ،‬وأقامت‬ ‫الشرقية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مرئيا ‪ ،‬واخلوف من اتساع ثغرات هذا‬ ‫بدأ القلق يتماثل أمامها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫احلائط العظيم أصبح خطرا واقعا وكان البد من إضافة عوامل‬ ‫جديدة لرأب الصدع ‪ ،‬وألن دائرة األمان اتسعت فى الدفاع عن أجواء‬ ‫مصر حتى حدود جبهة قناة السويس ‪ ،‬وألن تهديدها باالحنسار‬ ‫ً‬ ‫تداعيا ألخطار جسام تهدد كل ما حتقق ومت ‪ ،‬كان من‬ ‫يعنى‬ ‫الضرورى االلتجاء إىل القوات السوفيتية مرة أخرى ‪ ،‬فاملهمة األوىل‬ ‫تبدلت ‪ ،‬فبعد أن كانت محاية العمق وتأمني املدنيني واألهداف‬ ‫احليوية ملصر هى رأس مهام الدفاع اجلوى ‪ ،‬تعدلت املهمة األوىل‬ ‫لتكون تأمني اتساع دائرة الدفاع عن أجواء مصر حتى خط جبهة‬ ‫قناة السويس ‪.‬‬ ‫وكما وقف حلفاء احلق ‪ ،‬وقوى حلف معاداة االمربيالية‬ ‫ً‬ ‫جنبا إىل جنب فى مرحلة الصراع األوىل ‪ ،‬كان‬ ‫والصهيونية‬ ‫ً‬ ‫واجبهم حيتم عليهم أن يستمروا فيما ابتدءوه ‪ ،‬وفعال ‪ -‬ومع بداية‬ ‫اليوم العاشر فى عمر حائط الصواريخ ‪ -‬مت حتريك جمموعة من‬ ‫أطقم الصواريخ املضادة للطائرات من طراز سام ‪ « 3‬البتشيورا»‬ ‫والتى تعمل عليها قوات سوفيتية كاملة إىل خط جبهة قناة‬ ‫السويس ‪ ،‬لقد تقدمت أطقم الصواريخ السوفيتية لتسد ثغرات‬ ‫حائط الصواريخ ‪ ،‬ولتدعم مواقعه مبواقع إضافية ‪ ،‬وإذا كان عدد‬ ‫‪114‬‬


‫وحدات هذا احلائط منذ بدايته يعد من قبيل األسرار العسكرية‪،‬‬ ‫وكذلك عدد الوحدات السوفيتية التى أضيفت لدعمه ‪ ،‬إال أنه‬ ‫ميكن القول أن عدد بطاريات صواريخ سام ‪ 3‬السوفيتية الصنع‬ ‫والتشغيل ‪ ،‬التى دعمت حائط الصواريخ املصرى على جبهة قناة‬ ‫السويس ‪ ،‬بلغت ما يقرب من ضعف عدد وحدات الصواريخ من‬ ‫طراز سام ‪ 2‬الصنع واملصرية التشغيل املوجودة فى هذا اخلط فى‬ ‫اليوم العاشر لبدء الزحف العظيم ‪ ،‬لقد سدت هذه اإلضافة ما مت‬ ‫فقده من وحدات الصواريخ املصرية ‪ ،‬وارتفعت بالعدد الكامل‬ ‫ملواقع اخلط القتاىل إىل حواىل ‪ 150%‬من مواقعه التى بدء بها‬ ‫الزحف العظيم ‪.‬‬ ‫إن حتريك هذه القوات السوفيتية لتشارك إىل جوار القوات‬ ‫املصرية فى الدفاع عن أجواء مصر عند خط قناة السويس تطلب‬ ‫عملية تنسيق واسعة بني وحدات القوتني ‪ ،‬فلقد مت لكل قطاع‬ ‫حمدد تكوين قيادة ميدانية مصرية سوفيتية مشرتكة ‪،‬‬ ‫حيث تكونت غرف عمليات مشرتكة يعمل فيها مصريون‬ ‫وسوفييت ‪ ،‬جيمعون املعلومات الرادارية وكل حيثيات العمل‬ ‫القتاىل ‪ ،‬ويقومون بتوزيع هذه املعلومات وتوزيع املهام على‬ ‫الوحدات القتالية ‪ ،‬لكل بلغته ‪ ،‬وهكذا امتزجت املهام القتالية‬ ‫سواء على املستوى القيادى ومستوى مجع املعلومات وتوزيعها ‪،‬‬ ‫أو على مستوى تداخل أقواس النريان ‪ ،‬وتداخل مهام احلماية بني‬ ‫كل من قوات الصواريخ املصرية العاملة على الصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات من طرازى الديفينا والديسنا ‪ ،‬وبني القوات السوفيتية‬ ‫العاملة على الصواريخ املضادة للطائرات من طراز البتشيورا ‪.‬‬ ‫‪115‬‬


‫ً‬ ‫واسعا أمام أكرب عملية‬ ‫إن هذا التمازج واالختالط فتح الباب‬ ‫احتكاك ‪ ،‬وتبادل للمعارف والفنون واألساليب القتالية‬ ‫واإلدارية والفنية ‪ ،‬كما مسح خبلق فرص التنافس املشروع‬ ‫لتحسني معدالت استهالك الصواريخ للهدف الواحد ‪ ،‬والغرو‬ ‫إذن‪ ،‬إذا علمنا أن معدالت الكفاءة القتالية لألطقم املصرية‬ ‫قد حتسنت فى ظل هذه الظروف ‪ ،‬بني األسبوع األول واألسبوع‬ ‫الرابع‪ ،‬لينخفض معدل استهالك الصواريخ للهدف الواحد إىل ما‬ ‫يقرب من ‪. 300%‬‬ ‫إن أى رصد أمني لتاريخ القوات املسلحة السوفيتية يبني أن‬ ‫هذه التجربة للعمل امليدانى املشرتك هى التجربة األوىل للقوات‬ ‫السوفيتية مع قوات أجنبية فى معمعان املعارك خارج دول‬ ‫اجملموعة االشرتاكية ‪ ،‬ورمبا التجربة األوىل هلا على اإلطالق‬ ‫مع قوات أجنبية بعد انقضاء معارك احلرب العاملية الثانية ‪ ،‬أو‬ ‫ما يسمى داخل االحتاد السوفيتى «باحلرب الوطنية العظمى»‪.‬‬ ‫إن مساح القوات املسلحة السوفيتية بهذا التداخل والعمل‬ ‫املشرتك ‪ -‬مع ما اشتهر عن السوفيت من تزيد فى إجراءات األمن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصوصا ‪ -‬يعكس عمق التوجه‬ ‫عموما واألمن العسكرى‬ ‫السوفيتى فى دعم احللف املعادى لالمربيالية والصهيونية ‪،‬‬ ‫ويشكل ً‬ ‫ً‬ ‫عمليا على كل موجات التشكيك والكذب‬ ‫ردا‬ ‫ً‬ ‫حتديا وإجابة‬ ‫والتدليس التى انطلقت بعد ذلك ‪ ،‬بل وتشكل‬ ‫بليغة على روح العداء للسوفيت التى محلها وحترك فى إطارها‬ ‫بعض قادة العسكرية املصرية آنذاك ‪.‬‬ ‫‪116‬‬


‫وفى هذا اجملال ‪ ،‬ال أنسى ما حييت تلك الواقعة التى تبني ما‬ ‫أدعيه بصدد الكلمات السابقة ‪ ،‬فمنذ اليوم اخلامس وحتى‬ ‫الثامن لبداية زحف وحدات الصواريخ حنو اجلبهة ‪ ،‬ظهرت آثار‬ ‫استخدام الطائرات اإلسرائيلية ‪ ،‬وبالذات األمريكية الصنع‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪،‬‬ ‫منها ملعدات االستطالع االلكرتونى التى نوهت عنها‬ ‫ومل يك أمر هذه املعدات قد كشف لنا بعد ‪ ،‬وصاحب وجود هذه‬ ‫املعدات احلديثة استخدام الطائرات اإلسرائيلية لتكتيكات‬ ‫حديثة استفادت فى تنفيذها مما حتصل عليه من معلومات هذه‬ ‫األجهزة احلديثة ‪ ،‬مما شكل لوحداتنا عملية استجالب خطرية‬ ‫ً‬ ‫أهدافا معادية فى مقابلها ‪ ،‬فلقد زاد‬ ‫لصوارخيها دون إسقاط‬ ‫معدل استهالك الوحدات املصرية للصواريخ دون مقابل معقول‬ ‫فى إسقاط الطائرات اإلسرائيلية ‪ ،‬فى هذه األثناء أطلق أحد قادة‬ ‫األطقم القتالية املصرية شائعة علمية أثر اشتباكه مرتني فى‬ ‫يومني متتاليني ‪ ،‬أطلق فيهما ثـمان صواريخ دون أن يصيب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا ‪.‬‬ ‫هدفا‬ ‫وكانت هذه الشائعات تقول أن الطائرات املعادية متتلك‬ ‫معدات رادارية تستطيع بواسطتها التحكم فى توجيه حركة‬ ‫الصواريخ التى تنطلق عليها ‪ ،‬وأنها تتمكن من إبعاد الصواريخ‬ ‫عنها وإعطاء هذه الصواريخ األمر باالرتفاع والتفجري الذاتى فى‬ ‫طبقات اجلو العليا ‪ ،‬وسرت هذه الشائعة مسرى النار فى اهلشيم‪،‬‬ ‫فكل الظروف كانت مهيأة لقبوهلا وترديدها ‪ ،‬فكل وحدات‬ ‫الصواريخ ترصد طائرات معادية ذات ارتفاع عاىل ‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫ً‬ ‫أحيانا فى التحدى وترتك وراءها خط العادم األبيض‬ ‫متعن‬ ‫الذى يكشف عنها مبجرد النظر ‪ ،‬وليس بوسائل االستطالع أو‬ ‫املتابعة الرادارية فقط ‪ .‬ومع ذلك ‪ ،‬ما تكاد هذه الوحدات تطلق‬ ‫صوارخيها من طراز سام ‪ - 2‬والذى ميتلك قدرات عالية لالشتباك‬ ‫مع الطريان العاىل ‪ -‬حتى ترى أن هذه الصواريخ ال تكاد تلحق‬ ‫بالطائرات ‪ ،‬فالطائرات اإلسرائيلية تنحرف مبجرد انطالق‬ ‫الصواريخ وتغري اجتاهها ‪ ،‬والصاروخ ً‬ ‫بدال من أن يتابعها يعرب‬ ‫منطقة التدمري ‪ ،‬ويأخذ أوامر التفجري الذاتى فى طبقات اجلو‬ ‫العليا ‪.‬‬ ‫هكذا انتشرت هذه الشائعة ‪ ،‬ووسط هذه الظروف التى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عندئذ عايشت رد الفعل على هذه‬ ‫صاحلا لقبوهلا ‪.‬‬ ‫مناخا‬ ‫تهيىء‬ ‫ٍ‬ ‫الشائعة‪ ،‬و المست واقعتني هامتني ‪ ،‬شكلت اجتاهني جيب‬ ‫رصدهما ‪:‬‬ ‫األول ‪ :‬وصلت هذه الشائعة إىل القائد العام للقوات املسلحة‬ ‫بالنيابة ‪ ،‬الفريق حممد أمحد صادق ( رئيس األركان آنذاك )‪،‬‬ ‫والذى كان يتوىل أمر قيادة القوات املسلحة فى غياب الفريق‬ ‫أول حممد فوزى ( القائد العام ) ‪ ،‬الذى كان يرافق الرئيس مجال‬ ‫عندئذ استدعى الفريق صادق‬ ‫عبد الناصر فى زيارته ملوسكو ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قائد الطاقم الذى أطلق هذه الشائعة ‪.‬‬ ‫وذهبت أنا ومستشار سوفيتى برفقة هذا القائد ملقابلة الفريق‬ ‫صادق ‪ ،‬وما كدنا نغادر املوقع ومنسك بالطريق العام الذى‬ ‫يفضى بنا إىل مقر قيادة الفريق صادق ‪ ،‬إال وتعطلت العربة التى‬ ‫‪118‬‬


‫كنا نرتادها ‪ ،‬ودب االرتباك بيننا وبسرعة فائقة تصدر املستشار‬ ‫السوفيتى الطريق ‪ ،‬وأخذ يستوقف العربات العسكرية ‪،‬‬ ‫ووقفت إحدى العربات ومل يك بها غري مكان واحد ‪ ،‬ركب فيه‬ ‫قائد الطاقم ‪.‬‬ ‫ثم حلقنا به بعد ذلك بعد أن متكنا من إصالح عطل العربة‪،‬‬ ‫وعند مقر القيادة علمت أن قائد الطاقم دخل ملقابلة الفريق‬ ‫صادق ‪ ،‬وما إن هممنا بطلب لقاء القائد العام بالنيابة ‪ ،‬إال ورأينا‬ ‫قائد الطاقم قادم ووجهه يطفح بالبشر والسرور ‪ ،‬وطلب منى أن‬ ‫يدخل املستشار السوفيتى للتسليم على الفريق صادق ‪ ،‬ومل‬ ‫أصاحبه ‪ ،‬وإذا بقائد الطاقم يبادرنى القول ‪ « :‬ابسط يا عم ‪ ،‬إحنا‬ ‫الثالثة مدعوون فى فندق الشرياتون على العشاء الليلة على‬ ‫شرف القائد العام بالنيابة» ‪ ،‬وعلمت منه أن القائد العام بالنيابة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفرحا ألن قائد الطاقم قد كشف الغباء السوفيتى‬ ‫بشرا‬ ‫تهلل‬ ‫وأسلحتهم املتخلفة ‪ ،‬وحتمس وقال له ‪ « :‬أنت يا ابنى مدعو الليلة‬ ‫على العشاء فى الشرياتون نتيجة أنك راجل صاحى « ‪ ،‬وأخربه‬ ‫قائد الطاقم بأن يصطحب املستشار السوفيتى واملرتجم ‪ ،‬فابلغه‬ ‫ً‬ ‫أيضا إىل العشاء ‪.‬وسألت قائد‬ ‫بأنه ميكنه أن يصطحبهم معه‬ ‫الطاقم ‪ « :‬أمل حيقق معك صدق ما تقوله أو تدعى ؟» ‪ ،‬فرد على‪:‬‬ ‫« سيادته فرح ألننا كشفنا غباءهم» ‪.‬‬ ‫وبلعت امتعاضى هلذا األسلوب ‪ ،‬وأخذت أحل عليه بأنه ال داعى‬ ‫ً‬ ‫خاصة أننا سنذهب‬ ‫لعشاء الشرياتون ‪ ،‬فأوالده أحق بهذه الفرتة ‪،‬‬ ‫إىل املوقع مع اخليوط األوىل لصباح هذه الليلة ‪ .‬ورغم أنه مال إىل‬ ‫‪119‬‬


‫ً‬ ‫مداعبا ‪ « :‬أال تعلم ان فندق الشرياتون أحدث‬ ‫ما أقول ‪ ،‬إال انه رد‬ ‫وأفخم فنادق القاهرة»‬ ‫فقلت له ‪ً « :‬‬ ‫حقا ما تقول ‪ ،‬ولكن األحق به املرتفون فى القاهرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دفاعا عن أرض الوطن ‪ ،‬فالشك أن ما سيلقونه‬ ‫أما من حياربون‬ ‫فى هذا الفندق سوف جيسد هلم كل صور اهلم والغم من أجل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خيطا من سعادة»‪.‬‬ ‫مطلقا فى أن جيلب هلم ولو‬ ‫األوطان ‪ ،‬ولن يفلح‬ ‫وحضر املستشار السوفيتى بعد أن سلم على رئيس األركان‬ ‫العامة للقوات املسلحة املصرية ‪ ،‬وتقابلت عيوننا وتالقت مشاعر‬ ‫تطفح منها بعالمة الرضا والتوجس ‪ ،‬ولكن مل تتحرك ألسنتنا‬ ‫ببنت شفة ‪ ،‬وانصرفنا على وعد بلقاء بعد ثـمان ساعات فى‬ ‫الصباح الباكر لنذهب إىل حيث أتينا ‪ ،‬وفى الطريق إىل منزىل‬ ‫كادت عربات ساخنة أن ختنق حسى ‪ ،‬وأن تنهمر من مقلتى ‪،‬‬ ‫وقلقى يتزايد ‪ ،‬هل ً‬ ‫حقا ما مسعت ؟ ؛ هل ميكن أن نستبدل ما‬ ‫هو كبري بالصغري الصغري ؟ ؛ هل ننصرف عن حتقيق مشاكلنا‬ ‫وحل معضالتنا لنهنىء بفشل اآلخرين وبالتشفى فيمن ميدون‬ ‫لنا يد العون ؟ ؛ هل هذه قيادة تستحق موقعها ؟ ؛ إن العني حينما‬ ‫تكون مفتوحة على أبواب الشرياتون ‪ ،‬وموصدة عن أبواب حل‬ ‫مشاكل احلرب والقتال ‪ ،‬ال جيب أن يصيبنى احلزن على تلك‬ ‫احلياة الطبيعية املعتادة التى تدور أمامى فى القاهرة ‪ ،‬وختتلف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجزئيا عما نعانيه هناك فى خفر وخنادق معداتنا‬ ‫كليا‬ ‫اختالفا‬ ‫وحتت تهديد القصف املعادى‪.‬‬ ‫هنا تدخل صوت عقلى وحدثنى ً‬ ‫مهال ‪ :‬إن من ينشغلون بالعشاء‬ ‫‪120‬‬


‫ً‬ ‫كثريا ‪ ،‬مهما تغريت‬ ‫الفاخر ‪ ،‬واألماكن الثرية ال خيتلفون‬ ‫مواقعهم هنا أو هناك ‪ ،‬وإن من يعانون هموم الوطن ومشاكله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا مهما تغريت‬ ‫ويكدحون للبناء والتحرير ‪ ،‬ال خيتلفون‬ ‫فلتنحبس أيتها الدمعة القلقة ‪ ،‬ولتنفتح‬ ‫مواقعهم هنا أو هناك ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أيها العقل والوجدان على تلك احلقيقة البسيطة ‪ .‬إنه ال حيس‬ ‫الشوق إال من يكابده ‪ ،‬والنار ال حترق إال كابشها ‪ ،‬فهذه حياتنا‬ ‫وهذا وطننا وتلك مشاكلنا ‪ ،‬وال ضري من أن لسعها يشتد علينا‪،‬‬ ‫ولكن حنن هلا ‪.‬‬ ‫الثانى ‪ :‬حترك ركبنا إىل املوقع مع اخليوط األوىل لصباح هذا‬ ‫اليوم ‪ ،‬وما كدنا ندخل املوقع إال ووجدنا أمامنا جمموعة كبرية‬ ‫من اخلرباء السوفيت ‪ .‬وبعد أن تعرفنا بهم وعرفنا مهمتهم ‪ ،‬فهمت‬ ‫أن هذا وفد خرباء السوفيت الفنيني فى تصميم وتصنيع الصواريخ‬ ‫املضادة للطائرات ‪ ،‬وأنهم يكونون جمموعة متكاملة لكل‬ ‫ختصصات احملطة ‪ ،‬وهم اثنى عشر خبري يقودهم جنرال فنى ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حتينا حلدوث‬ ‫وأن مهمتهم تتخلص فى املرابطة فى هذا الوقع‬ ‫اشتباك‪ ،‬ومتابعة كافة التخصصات أثناء االشتباك ‪ ،‬لتحقيق‬ ‫ً‬ ‫مسبقا ‪ ،‬هل هى‬ ‫ما أثري حول هذه الشائعة التى نوهت عنها‬ ‫حقيقة؟ ؛ أم هل هناك أخطاء فنية ؟ ؛ أم هناك أبعاد أخرى ؟‪ ،‬ومر‬ ‫اليوم األول لوجودهم بيننا ومل تقرب طائرات العدو من دائرة هذا‬ ‫املوقع ‪ ،‬وتواىل اليوم التاىل كسابقه ‪ ،‬حتى اليوم الثالث أوشك أن‬ ‫مير واحلال ثابتة ‪.‬‬ ‫عندئذ علمت من اجلنرال السوفيتى أنهم سينهون انتظارهم مع‬ ‫ٍ‬ ‫‪121‬‬


‫حلول املساء ‪ .‬ودارت معه مناقشة ‪ ،‬سألته ‪ « :‬ما رأيك فى علميـة‬ ‫هذه الشـائعة ؟» فرد بهدوء ‪ ،‬وقال ‪ « :‬إن أمر حدوث هذه االدعاءات‬ ‫شىء يكاد يكون فى دائرة املستحيل ‪ ،‬فالصاروخ املضاد‬ ‫للطائرات من هذا الطراز صاروخ موجه ‪ ،‬وبه جهاز معني مثبت فى‬ ‫مؤخرته ‪ ،‬ومصمم على أن يأخذ األوامر من اجتاه واحد ( احملطة ـ‬ ‫الصاروخ ) لذا يستحيل أن تدخل طائرة من خلفه وتعطيه أوامر‬ ‫أخرى ختالف أوامر احملطة التى تطلقه وتتابعه ‪.‬‬ ‫وإن الطائرة التى يفرتض أنه يتجه لتدمريها ال تستطيع أن‬ ‫تعطيه مثل هذه األوامر ‪ ،‬فاجتاه أوامرها سيكون عكس‬ ‫ثان ‪ :‬إن هناك‬ ‫اجتاه األوامر املؤثرة على الصاروخ ‪ ،‬وهناك سبب ٍ‬ ‫ً‬ ‫كهرومغناطيسيا يقول بأن قوة النبضة الرادارية تتناسب‬ ‫مبدأ‬ ‫ً‬ ‫طرديا مع قدرة مصدر بعثها ‪ ،‬وإن قدرة هذا املصدر تتحدد‬ ‫تناسبا‬ ‫حبجم وثقل اهلوائيات الباعثة هلذه النبضة ‪ ،‬ولكى تكون‬ ‫أوامر الطائرة أقوى من أوامر احملطة ‪ ،‬فعلى الطائرة أن حتمل‬ ‫معدات وهوائيات تزيد عن ثالثني طن ‪ ،‬وهو ثقل كبري تنوء‬ ‫الطائرة املقاتلة أو املقاتلة القاذفة حبمله»‪ ،‬فسائلته ‪ « :‬إذا كان‬ ‫ذلك كذلك ‪ ،‬فلما جئتكم إىل هذا املوقع ؟»‪.‬‬ ‫فابتسم اجلنرال ابتسامة خفيفة ‪ ،‬وقال ىل ‪ « :‬أيها الشاب ‪ ،‬أال‬ ‫تعلم أننا فى عصر العلم ‪ ،‬وأن حدود معارفنا حتى هذه اللحظة‬ ‫ً‬ ‫فعليا من علم ‪ ،‬ولكن ما مل يكتشف بعد‬ ‫هى ما اكتشفت‬ ‫قد يكرب ما نعرفه ‪ ،‬عندها قد تتبدل احلقائق العلمية ‪ ،‬وهذا ما‬ ‫نسعى إليه ‪ ،‬أو نثبت على ما حنن عليه» ‪.‬‬ ‫‪122‬‬


‫وانصرف هذا الوفد مع حلول املساء من املوقع ‪ ،‬وبعدها بيوم واحد‬ ‫تقدم إلينا جنرال سوفيتى آخر ‪ ،‬كنت أعرفه حق املعرفة ‪ ،‬فهو‬ ‫مستشار رئيس عمليات الدفاع اجلوى ‪ ،‬وقدم معلومات هامة حول‬ ‫استخدام إسرائيل وطائراتها األمريكية ألجهزة استطالع رادارى‬ ‫أمريكى حديثة الصنع ‪ ،‬وهى حتدد حلظة انطالق الصاروخ‬ ‫املوجه إليها ‪ ،‬هلذا فإن مثل هذه الطائرة تأتى خبصائص معينة‬ ‫ً‬ ‫بعيدا‬ ‫تضمن فيها أن يكون احلد األدنى ملنطقة تدمري احملطة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عمقا قليال ‪،‬‬ ‫عن مركزها ‪ ،‬ويكون عمق منطقة التدمري‬ ‫وهذان الشرطان يتحققان مع علو الطائرة وارتفاعها ‪.‬‬ ‫وإنها مبجرد أن ترصد حلظة انطالق الصاروخ تنحرف فى االجتاه‪،‬‬ ‫وتغادر احلد األقصى ملنطقة التدمري قبل أن جيتاز الصاروخ احلد‬ ‫عندئذ ال ميكن للصاروخ أن يلتقى بها فيعرب منطقة‬ ‫األدنى ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫التدمري وينفجر ذاتيا حسب ما هو مصمم عليه ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مزيدا من استجالب‬ ‫وأوضح اجلنرال أن مثل هذا اهلدف ال يريد إال‬ ‫الصواريخ ‪ ،‬وبث روح اليأس لدى األطقم املقاتلة ‪ ،‬ويرغب فى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دقيقا ليسهل دكها ‪ ،‬وأن ما أنقذ هذا املوقع‬ ‫حتديدا‬ ‫حتديد املواقع‬ ‫بالذات من هذه اخلطة هو متويهه واختفاؤه اجليد ‪ ،‬وأنه بالفعل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هيكليا كان يبعد عن املوقع األصلى‬ ‫تبادليا‬ ‫موقعا‬ ‫مت قصف‬ ‫ببضع مئات األمتار ‪ ،‬وذلك عقب الوقت الذى جرى فيه اإلطالق ‪،‬‬ ‫وأنه إذا كان قد سكن وترك هذه املنطقة فألنه توهم أنه دمر‬ ‫املوقع ‪ ،‬ومل يتمكن من رصده ثانية ‪.‬‬ ‫بعد ذلك ‪ -‬وقبل أن متر ‪ 24‬ساعة على هذا اللقاء ‪ -‬استدعيت‬ ‫‪123‬‬


‫إىل الرتمجة فى مؤمتر قتاىل عام لتقييم نتائج االشتباكات‪،‬‬ ‫وتكتيكات العمليات ‪ ،‬والوقوف على التكتيكات‬ ‫املعادية‪ ،‬وكيفية تعميم اخلربات فى هذا اجملال ‪ ،‬وذهبت إىل‬ ‫املؤمتر ‪ ،‬وحتدث نفس هذا اجلنرال وطال حديثه إىل ست ساعات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومدققا‬ ‫يقظا ‪،‬‬ ‫متواصلة‪ ،‬ورغم إنهاكى وجدتنى وقد صرت‬ ‫للكلمات واملعانى ‪ ،‬ومل ينل اإلجهاد منى فحينما يرى اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫عطرا‬ ‫ناتج عمله ال يأبه بأى صعوبات تقابله ‪ ،‬وال جيد العرق إال‬ ‫ً‬ ‫شذيا ينعش كل مشاعر احلب فيه ملن حيب ‪ ،‬إنه التحرير ‪ ،‬وإنها‬ ‫مصر ‪.‬‬ ‫لقد ذكرت هذه الوقائع ‪ ،‬وما صاحبها من حتركات ذات‬ ‫دالالت خمتلفة ليتضح ألبناء وطنى مصر وكل الشعب العربى‬ ‫أن حتريك قوات الدفاع اجلوى السوفيتية ‪ -‬والعاملة على أطقم‬ ‫صواريخ سام ‪ - 3‬إىل املواقع األمامية خلط الدفاع املصرى ‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫عمال يستحق اإلبراز‬ ‫يبنى حائط الصواريخ العظيم ‪ ،‬كان‬ ‫والكشف عنه بكل ما صاحبه من جهود شاقة وآثار هامة لريى‬ ‫الشعب ويطلع على حقائق تارخيه كما هى ‪ ،‬ال كما يرمسها‬ ‫هذا الشخص أو ذاك ‪ ،‬خاصة أن هذه الوقائع ال ختفى على األعداء‪،‬‬ ‫وال ختفى على حلفائهم ‪ ،‬إنها ‪ -‬ولألسف ‪ -‬موضع جهد جهيد يريد‬ ‫طمسها فى زمن استبيحت فيه قيم النضال وشعاراته ‪ ،‬فصار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونكرانا لكل مساهمة‬ ‫جحودا‬ ‫سالما ‪ ،‬وصار الوفاء‬ ‫االستسالم‬ ‫جادة فى نضال وكفاح هذا الوطن ضد أعدائه ‪ ،‬وصار الصديق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صديقا ‪ ،‬وتسلم السفاح بيجني جائزة نوبل‬ ‫عدوا ‪ ،‬وصار العدو‬ ‫للسالم مناصفة مع السادات !‬ ‫‪124‬‬


125



‫ثبـات ‪ ..‬وصعود ‪ ..‬وانطالق‬ ‫بعد تدعيم حائط الصواريخ بأطقم وبطاريات صواريخ‬ ‫البتشيورا السوفيتية الصنع والتشغيل ‪ ،‬دخل الصراع بني طريان‬ ‫العدو اإلسرائيلى ‪ ،‬وبني وسائل الدفاع اجلوى على جبهة مصر‬ ‫عند خط قناة السويس ‪ ،‬مرحلة هامة وجديدة ‪.‬‬ ‫لقد بدأت النقطة احلرجة على منحنى الصراع تنتقل إىل اجلانب‬ ‫اإلسرائيلى ‪ ،‬وأخذت الدروب تتعقد وتنسد فى وجه طائرات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فشيئا دب الشلل فى ذراع إسرائيل الطويلة ‪ ،‬ومل‬ ‫وشيئا‬ ‫العدو ‪،‬‬ ‫تنجح إمدادات أمريكا االمربيالية ‪ ،‬بأحدث األسلحة واملعدات‬ ‫للطريان اإلسرائيلى ‪ ،‬فى وقف مؤشرات امليزان حنو صاحل وحدات‬ ‫صواريخ ومدافع م‪/‬ط للحائط العظيم ‪ ،‬وعلى الرغم من ظهور‬ ‫صاروخ الشرايك ‪ ،‬وهو صاروخ جو ‪ /‬أرض تستخدمه الطائرات‬ ‫املعادية من األصناف األمريكية الصنع ‪ ،‬حيث يتجه على‬ ‫ً‬ ‫متهيدا‬ ‫مسار شعاع الرادارات ووحدات الصواريخ لكى يعطبها‬ ‫لقصفها ودكها وقربها إن أمكن ‪ ،‬وبالرغم من ظهور القنابل‬ ‫التلفزيونية األمريكية الصنع ‪ ،‬وهى قنابل جو ‪ /‬أرض وبداية‬ ‫استخدام الطائرات اإلسرائيلية هلا ‪ ،‬إال أنها مل تغري من اجتاهات‬ ‫األمور واملوازين ‪.‬‬ ‫‪127‬‬


‫فميكانزم الصعود للمنحنى املصرى قد بدأ ‪ ،‬والعجلة دارت‬ ‫وبدأت تتجه ملزيد من السرعة ‪ .‬فخط الدفاع اجلوى املصرى بوحداته‬ ‫املصرية والسوفيتية من صواريخ سام ‪ ، 2‬سام ‪ ، 3‬أصبح أكثر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فتكا ‪ ،‬فقد أصبحت معدالت استهالك الصواريخ‬ ‫مراسا وأشد‬ ‫للهدف الواحد تقل وتأخذ اجتاهها حنو املعدالت النموذجية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وبدا تعاون الوحدات وتداخل مهام الدفاع عن بعضها ً‬ ‫ظاهرا‬ ‫أمرا‬ ‫ً‬ ‫وملموسا ‪.‬‬ ‫ولن أنس يوم تقدمت مع طاقم وحدة من وحدات جمموعة‬ ‫االحتياطى االسرتاتيجى للقيادة إىل موقع جد متقدم ‪ ،‬ال يبعد‬ ‫عن مياه قناة السويس إال بعشرات األمتار ‪ ،‬ولكنه موقع مموه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاليا ‪ ،‬وقد كمنا فيه وسط يقظة وهدوء مل أحسها من‬ ‫متويها‬ ‫قبل فى ومن حوىل ‪ ،‬ولن أنسى أن انتظارنا مل يطل فى هذا الصباح‪،‬‬ ‫فما هى إال ساعتني وبضع الساعة منذ انبالج نور الصباح ‪ ،‬حتى‬ ‫رأينا الطائرات اإلسرائيلية مترق على ارتفاعات جد منخفضة‬ ‫صوب مواقع قواتنا وقد تصادف وجودى خارج مركز القيادة‬ ‫والتوجيه ‪ ،‬وشاهدت مع آخرين طائرات إسرائيل‪.‬‬ ‫وقد ميزنا طرازها وكانت طائرات سكاى هوك األمريكية‬ ‫الصنع ‪ ،‬وفى ملح البصر أطلق طاقم الوحدة ستة صواريخ على‬ ‫دفعتني ‪ ،‬ومتكنا من إسقاط هدفني ‪ ،‬واشتبكت فى ذات‬ ‫الوقت وحدتني سوفيتيني ‪ ،‬وأسقطنا أربع طائرات ‪ ،‬ومع انطالق‬ ‫صواريخ وحدتنا ‪ ،‬اندفعت محم النريان التى تنفثها الصواريخ‬ ‫من مؤخراتها إىل كميات هائلة من عشب األرض ‪ ،‬وشب حريق‬ ‫‪128‬‬


‫هائل مروع ‪ ،‬ونزل املستشار السوفيتى ونزلت معه ونزل اجلنود‬ ‫ً‬ ‫جريا وراءنا ‪ ،‬ورحنا نطفأ النريان بقبضات أيدينا من‬ ‫والضباط‬ ‫تراب املوقع ‪ ،‬وبوقع أقدامنا حتى ال متتد إىل املعدات والصواريخ‬ ‫فتفجرها وتدمرها ‪ ،‬ولكى ال ينكشف سرت املوقع حتى نغادره‬ ‫بأسرع ما ميكن ‪.‬‬ ‫إن وحدة العمل بني الضباط واجلنود صورت األمر لي فى حينها‬ ‫وكأن يد عمالق مدرب وجمرب قد امتدت ‪ ،‬وبلمسة حانية‬ ‫أخذت حترك أوتار قلوبنا لتعزف حلن الشجاعة واإلقدام ‪ ،‬لقد بدا‬ ‫للوهلة األوىل لبعض األفراد أنه من العبث أن نطفئ النار بأيدينا‬ ‫وبأرجلنا ‪ ،‬ولكن شجاعة الرجال وتصميمهم قد حاصر النار‬ ‫فى مهدها ‪ ،‬وأنقذنا املوقع وما هى إال دقائق حتى بدائنا التجهيز‬ ‫للتحرك ‪ ،‬وحتركنا وأدخلنا املعدات فى مكان امن ‪ ،‬وبسرعة‬ ‫وتواصل قام قائد التشكيل األعلى مع قائد الطاقم ‪ ،‬يرافقهما‬ ‫املستشار السوفيتى لكل منهما ومعى ‪ ،‬وباختيار موقع جديد‬ ‫ ومع حلول املساء ‪ -‬دخلنا املوقع اجلديد ‪ ،‬وقبل أن ينتصف الليل‬‫كنا قد أنهينا التجهيزات وأصبحنا فى وضع االشتباك ‪ ،‬وقرت‬ ‫جفوننا بالنوم نصف ليلة كاملة ‪ ،‬ومع ساعات الصباح األوىل‬ ‫دق تليفون القائد ليقرر منحنا أنواط الشجاعة للضباط من‬ ‫الدرجة األوىل وللجنود والصف من الدرجة الثانية ‪ ،‬ويزف إلينا أن‬ ‫الشيك النقدى ملكافأة إسقاط سكاى هوك جاهز‪.‬‬ ‫وال أنسى كم كانت أفراحنا ونكاتنا تكاد تصل إىل‬ ‫العنان ‪ ،‬ولن أنسى توسالت جندى زميل لنا ومناجاته هلل ‪،‬‬ ‫‪129‬‬


‫وكان أحد اثنني يشكالن طاقم ما يسمى بكابينة املوت ‪،‬‬ ‫وهو راسب إعدادية األزهر ‪ ،‬حيث كان يدعو اهلل أن ميهله من‬ ‫املوت ملدة مخسة أيام فقط يتمكن فيها من إرسال ما جتمع لديه‬ ‫من نقود ألوالده الصغار فى قريته بالصعيد ‪ ،‬وال أنسى تعليقاتنا‬ ‫عليه ‪ ،‬حيث كان كل مخسة أيام يطلب جتديدها خبمسة‬ ‫أيام أخرى‪ ،‬حيث كنا نداعبه ونناديه ‪ « :‬أهال بالرجل اللى عمره‬ ‫مخسة أيام !» ‪.‬‬ ‫وهكذا محلت عوامل الدعم والتأمني للحائط العظيم مظاهر‬ ‫التثبت والصعود لقوات الصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬وارتفاع‬ ‫معنويات أطقمها ‪ ،‬واكتساب ثقتها فى أنفسها ‪ ،‬وفى مستوى‬ ‫ً‬ ‫أيضا على جذر واضح بدا على‬ ‫أدائها القتاىل ‪ ،‬وانعكس هذا‬ ‫طريان إسرائيل ‪ ،‬فمع بداية األسبوع الثالث من حلظة الزحف‬ ‫العظيم ‪ ،‬قلت غارات الطائرات املعادية ‪ ،‬وبدأ اهلدوء يرتسم على‬ ‫حلبة الصراع ‪ ،‬ولكن ما هى إال فرتة قليلة حتى ظهر أن هذا‬ ‫ً‬ ‫هدوءا اللتقاط األنفاس للطريان املعادى ‪ ،‬إنه هدوء‬ ‫اهلدوء كان‬ ‫ما قبل العاصفة ‪.‬‬

‫‪130‬‬


‫يوم العيد‬ ‫ً‬ ‫وإعماال لسياسة‬ ‫استجمع سالح الطريان املعادى كل قواه ‪،‬‬ ‫القبضة احلديدية ‪ ،‬حشد كل ما مجعه وأراد أن يكرر مأساة‬ ‫األسبوع األخري من ديسمرب سنة ‪ ، 1969‬ففى يوم ‪ 18‬يوليو سنة‬ ‫‪ ، 1970‬ألقى بكل ثقله فى املعركة حيث أراد أن حيول هذا إىل‬ ‫يوم فاصل فى تاريخ الصراع ‪ ،‬لقد توهم طريان العدو اإلسرئيلى‬ ‫أن جيعل من هذا اليوم ‪ ،‬اليوم األخري حلياة احلائط العظيم ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حقا كان ً‬ ‫ولكنه ً‬ ‫فاصال ‪ ،‬ولكن مل تسري نتائجه فى اجتاه‬ ‫يوما‬ ‫من خطط هلا ‪ ،‬وحتول اليوم إىل يوم العيد للدفاع اجلوى املصرى ‪.‬‬ ‫ففى ‪ 18‬يوليو سنة ‪ ، 1970‬قام الطريان اإلسرائيلى باهلجوم‬ ‫على خط صواريخ الدفاع اجلوى على جبهة قناة السويس ‪،‬‬ ‫مبجموعة من اهلجمات والغارات املكثفة ‪ ،‬لقد شاركت فى‬ ‫هجوم هذا اليوم حواىل ثلثى الطاقة العامة للطريان اإلسرائيلى‪،‬‬ ‫فاشرتكت فى هذه اهلجمات ما يقرب من ‪ 250‬طائرة فى‬ ‫طلعتني متواصلتني‪ ،‬لقد كانت الطلعة الواحدة تضم أكثر‬ ‫من ‪ 120‬طائرة إسرائيلية معادية من املقاتالت والقاذفات ‪،‬‬ ‫واملقاتالت القاذفات ‪ ،‬وأغارت هذه األعداد الكبرية من الطائرات‬ ‫‪131‬‬


‫فى آن واحد ‪ ،‬وخبطة متكاملة األدوار ‪ ،‬فكانت هناك طائرات‬ ‫تطري على ارتفاعات شاهقة حيث يصل ارتفاعها إىل ‪ 24‬كيلو‬ ‫ً‬ ‫نافثة إياه خلفها لكى‬ ‫مرت ‪ ،‬وتقوم بإطالق خط العادم األبيض ‪،‬‬ ‫ترى بالعني اجملردة‪ ،‬ناهيك عن التقاط أجهزة الرادارات وأجهزة‬ ‫توجيه الصواريخ هلا‪ ،‬وهذه األهداف كانت تأمل فى شد االنتباه‬ ‫إليها ‪ ،‬واالستفادة من ارتفاعاتها الشاهقة ‪ ،‬وقدرتها على املناورة‬ ‫باملسافة وبعد خط مسقطها عن مركز احملطة ( كرب بارامرت‬ ‫اهلدف ) وضيق عمق منطقة التدمري ‪ ،‬وذلك لتستجلب الصواريخ‬ ‫عليها من ناحية ‪ ،‬ولتحدد مواقع هذه الصواريخ بدقة من ناحية‬ ‫ثانية مع انطالق الصواريخ ‪ ،‬خاصة أن مواقع الصواريخ كانت‬ ‫من الكثافة حبيث ال ميكن التمييز بني احلقيقى واهليكلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رفيعا بفضل‬ ‫مستوى‬ ‫منها ‪ ،‬وأن فنون اإلخفاء والتمويه قد بلغت‬ ‫التدريب املتواىل وخربة جتارب الكمائن ‪ ،‬هذا غري اخلربة‬ ‫النظرية للمستشارين السوفيت واإلشراف الفنى الدائم على هذه‬ ‫العمليات ومتابعتها ‪.‬‬ ‫وفى ذات الوقت كانت تسبح عدة موجات من الطريان املعادى‬ ‫حتت هذه الطائرات املرتفعة على ارتفاع جد منخفض ‪ ،‬حبيث ال‬ ‫يسهل ألجهزة الرادار وأجهزة التوجيه الصاروخى التقاطها ‪ ،‬وتقوم‬ ‫هذه الطائرات ‪ -‬أو بتعبري أدق ‪ -‬كان من املفرتض على هذه‬ ‫املوجات أن تغطى مهام الطائرات املرتفعة وحتصد من ورائها‪ ،‬فتمر‬ ‫املوجة األوىل لتعطب احملطة التى حددت موقعها ‪ ،‬تتلوها ‪ -‬وعلى‬ ‫الفور ‪ -‬طائرات قاذفة تقوم بدك املوقع ‪ ،‬وإن مسحت هلا الظروف‬ ‫بالقيام باملهمتني ً‬ ‫معا كان هلا ذلك وكان هذا أفضل‪ ،‬لقد‬ ‫‪132‬‬


‫كان هذا اهلجوم الشرس لطريان العدو حيدث فى ظل عملية‬ ‫كبرية وواسعة ومعقدة ‪ ،‬من بث كل حيل التشويش والتداخل‬ ‫الرادارى‪ ،‬فلقد حضرت إسرائيل هلذه املعركة حبشد كمية‬ ‫هائلة من معدات التشويش والتداخل الرادارى ‪ .‬فأخذت ترسل‬ ‫كل صنوف وأنواع التداخل املتصورة واحملتملة استخدامها فى‬ ‫وقت واحد ‪.‬‬ ‫إن قوة اهلجمة اإلسرائيلية فى يوم الثامن عشرة من يوليو سنة‬ ‫‪ - 1970‬وما أحاطتها من عوامل مساعدة ‪ -‬قد بينت أقصى ما متلكه‬ ‫إسرائيل ‪ ،‬ومن وراءها الواليات املتحدة األمريكية فى ترسانتهما‬ ‫العسكرية ‪ ،‬ومع ذلك ظهر التحدى على اجلانب اآلخر ‪ ،‬جبهة‬ ‫أصحاب احلق وحلفاء احلق ‪ ،‬املصريون والسوفيت ‪ ،‬فبوسائل‬ ‫بدائية بسيطة أبطل مفعول أحدث مستوى للتكنولوجيا‬ ‫األمريكية ‪ ،‬فكان السوفيت قد توصلوا لتعديل بسيط ‪ ،‬وهو‬ ‫أن كل حمطة صواريخ من سام ‪ 2‬تزود بنظامني اللتقاط األهداف‬ ‫األول واألساسى هو للنظام الرادارى ‪ ،‬والثانى هو العني اجملردة‬ ‫بواسطة تلسكوب مكرب ومقرب يكشف ملدى ثالثني كيلو‬ ‫مرت أمامه ‪ ،‬وكان هذا التعديل األخري رغم بدائيته يفقد وسائل‬ ‫التشويش الرادارى والتداخل أى أثر فعال هلا ‪.‬‬ ‫وكان يقوم على تنفيذ هذه الفكرة جمرد جنديني حيتالن‬ ‫كابينة عالية عليها مركبة على أعلى اهلوائيات ‪ -‬وهى ما‬ ‫ً‬ ‫مسبقا بالتسمية الفكاهية هلا بأنها ( كابينة‬ ‫نوهت عنها‬ ‫املوت ) ‪ ،‬ومن ناحية أخرى كانت بعض احملطات تضم وحدات‬ ‫‪133‬‬


‫حديثة هلا القدرة على التقليل أو إلغاء آثار التداخل والتشويش‬ ‫الرادارى‪ ،‬وهذه هى الصواريخ من طراز الديسنا ‪ ،‬كما أن صواريخ‬ ‫البتشيورا كانت تتمتع مبثل هذه اخلصائص ‪.‬‬ ‫إن هذه النظم مكنت وحدات الصواريخ من تكشف أبعاد‬ ‫اهلجمة اإلسرائيلية والظروف التى تتم فيها ‪ .‬فى الوقت الذى‬ ‫تكشفت هذه األبعاد ملراكز القيادة امليدانية ‪ ،‬وأعطت أوامرها‬ ‫بإطالق كثيف للصواريخ من خالل وحدات املقلد ‪ ،‬وهى وحدات‬ ‫تطلق نفس نبضات اإلطالق احلقيقى دون خروج أو انطالق‬ ‫فعلى ألى صاروخ ‪ ،‬مما جعل أسراب الطائرات اإلسرائيلية توىل‬ ‫الفرار ‪ ،‬وبدت كأنه حركتها خبط عشواء ‪ .‬لقد أسفرت كل‬ ‫هجمات هذا اليوم العنيف ‪ ،‬ونتائج استخدم إسرائيل لقبضتها‬ ‫احلديدية ‪ ،‬عن قصف جزئى لوحدة من صواريخ سام ‪ 3‬السوفيتية‬ ‫الصنع والتشغيل ‪ ،‬فبعد أن اشتبكت هذه الوحدات مع الطريان‬ ‫اإلسرائيلى وأسقطت منه طائرة تفجرت فى اجلو ‪ ،‬وأخرى أصيبت‬ ‫وهوت فى اجلانب اآلخر من القناة ‪ ،‬أغارت موجة من الطريان املعادى‬ ‫على طاقم تغيري منصة إطالق فدمرته ‪ ،‬واستشهد فى هذه الواقعة‬ ‫ثـمانية من شباب االحتاد السوفيتى ‪ ،‬ستة جنود ومالزمني ‪.‬‬ ‫كذلك أصيبت إحدى الوحدات من صواريخ سام ‪ 2‬ذات طاقم‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ ،‬وجنا معظم طاقمها ‪ ،‬ودمرت هذه‬ ‫مصرى ‪ ،‬إصابة جزئية‬ ‫الوحدة ‪ ،‬طائرة إسرائيلية وفجرتها فى اجلو ‪.‬‬ ‫وهكذا كانت نتيجة هذا اهلجوم ‪ :‬لقد حتطمت موجات‬ ‫الطريان اإلسرائيلى املعادى على حائط الصواريخ املصرى ‪ ،‬ومنذ‬ ‫‪134‬‬


‫هذا اليوم اتضح أن احلائط العظيم وجد ليبقى ‪ ،‬ولن تقدر عليه‬ ‫إسرائيل بعد اآلن ‪ .‬وال غرو إذن ‪ ،‬إذ أعترب يوم الثامن عشر من‬ ‫يوليو يوم العيد للدفاع اجلوى املصرى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مشهودا ‪ .‬وكان ً‬ ‫يوما‬ ‫لقد كان ‪ 18‬يوليو سنة ‪ 1970‬يوما‬ ‫حيمل ىل ذكريات خاصة ‪ ،‬فكما ولدت من جديد فى اليوم‬ ‫األول من يوليو ‪ ،‬ولدت من جديد فى هذا اليوم مرتني ‪ .‬ففى‬ ‫ً‬ ‫موجودا فى وحدة قتالية من وحدات صواريخ‬ ‫هذا اليوم كنت‬ ‫الديفينا ‪ ،‬وكانت هذه الوحدة قد اشتبكت من موقعها هذا منذ‬ ‫يوم أو اثنني ‪ ،‬وأتت موجات الطريان املعادية ‪ ،‬وهى ترصد أن بهذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رويدا‬ ‫موقعا لوحدة صواريخ ‪ ،‬وأخذت الطائرات تقرتب منا‬ ‫املكان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رويدا وشاشات ومبينات الوحدات ال تكاد حتدد شيئا فالتداخل‬ ‫والتشويش على أشده ‪ ،‬وبالغات املراقبة بالنظر ‪ ،‬واملتابعة‬ ‫ً‬ ‫أزيزا جملموعات كثيفة من الطائرات ‪،‬‬ ‫التلسكوبية ترصد‬ ‫ً‬ ‫وخطوطا بيضاء تعلو فى السماء ألهداف على ارتفاعات شاهقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سويا أن باألمر‬ ‫وتشاور القائد مع املستشار السوفيتى وأدركا‬ ‫غموض ‪ ،‬والبد أن تكون هذه األهداف املرئية املرتفعة جمرد‬ ‫خدعة ‪ ،‬وأن هذا األزيز يعنى أن هناك موجات من الطريان املنخفض‬ ‫مرتبصة بنا‪ ،‬والوحدة فى موقع أكثر من ممتاز بالنسبة لظروف‬ ‫اإلخفاء والتمويه ‪ ،‬وبالتاىل ال جيب أن تستفز ‪.‬‬ ‫وفى برهة استطعنا بوحدات تقليل التداخل ‪ -‬ونتيجة للخربة‬ ‫والكفاءة العالية لطاقم التوجيه ‪ -‬التمكن من حتديد األهداف ‪،‬‬ ‫ولكن كان قد استقر الرأى على عدم الضرب ‪ .‬ووجدنا األهداف‬ ‫‪135‬‬


‫تعرب احلد األدنى لدائرة تدمري احملطة ‪ ،‬أى أنها قاب قوسني أو أدنى‬ ‫لركوبنا ‪ ،‬وأنها فى هذه الدائرة ‪ ،‬ال ميكن لنا أن نشتبك معها ‪.‬‬ ‫هنا اقرتح املستشار السوفيتى أن نطلق النبضة املصاحبة‬ ‫لالنطالق الصاروخى من جهاز املقلد ‪ ،‬ومبجرد إطالقها انربت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هيكليا يبعد عنا بعدة مئات من‬ ‫موقعا‬ ‫غارة إسرائيلية تدك‬ ‫األمتار وفى مكان ظاهر وولت هاربة ‪ ،‬واملوجات األخرى فرت هرباً‬ ‫عندئذ تنفسنا الصعداء ‪ ،‬وأدركت عندها أن القرار ال‬ ‫كذلك ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قرارا جملرد الضرب فى ذاته ‪ ،‬ولكنه يكون ً‬ ‫يكون ً‬ ‫قرارا أيضا‪ً،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ‪.‬‬ ‫وضروريا باحلساب والرتوى‬ ‫وأبلغنا أمرنا للقيادة ‪ ،‬وجاءتها بالغات مشابهة ‪ ،‬وعممت‬ ‫هذه اخلربة على كل الوحدات ‪ ،‬وفى الوقت نفسه جاءنا قرار‬ ‫باالستعداد للتحرك وتغيري املكان ‪ .‬وخرج الستكشاف املوقع‬ ‫اجلديد ثالثة من املستشارين السوفيت واثنان من الضباط‬ ‫ً‬ ‫مجيعا ‪ ،‬وما إن‬ ‫املصريني واحد منهما قائد الوحدة ‪ -‬وصاحبتهم‬ ‫دخلنا املوقع احملدد الستكشافه ‪ ،‬وكنا قد اقرتبنا من مركزه‬ ‫بالعربات ‪ ،‬إال ووجدت كبري املستشارين السوفيت الذى يرافقنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الهثا “ ابعد وأبعد‬ ‫حمذرا ‪ ،‬وهو جيرى‬ ‫يصيح على بأعلى صوته‬ ‫من معك ‪ .‬فأنا أشم رائحة قنبلة زمنية على وشك االنفجار “ ‪،‬‬ ‫وسابقنا الرياح لدرجة أن العربات بدت على الرمال متعثرة فى‬ ‫سريها أكثر من أرجلنا التى بدت وكأنها أرجل مجال نافرة فى‬ ‫لسعة اهلجري بالصحراء ‪ ،‬وما إن ابتعدنا حبواىل ‪ً 400‬‬ ‫مرتا إال ودوت‬ ‫سلسلة من االنفجارات بلغت ستة انفجارات متتالية ‪ ،‬ووسط جو‬ ‫‪136‬‬


‫ً‬ ‫وتعليقا على‬ ‫التوتر الشديد ‪ ،‬ومع عدم قدرتنا على كتم هلاثنا ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫منظر الكبار فينا ً‬ ‫ومقاما وقد حتولوا إىل فرسان جاحمة ‪،‬‬ ‫سنا‬ ‫انفجرنا فى موجة ضحك وصخب عاىل امتدت بنا حتى أرهقتنا ‪.‬‬ ‫وتركنا هذا املوقع ‪ ،‬وذهبنا إىل آخر ‪ ،‬حيث قررنا أنه سيكون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا لوحدتنا ‪ ،‬وهكذا مر نهار الثامن عشر من يوليو سنة‬ ‫مقرا‬ ‫‪ ، 1970‬ليمنح احلائط العظيم شهادة باكتمال قوته وقواه‪،‬‬ ‫ولينقدنى من موت حمقق حام فوق رأسى مرتني ‪ ،‬وفى املساء‬ ‫ذهبت أنا ومن معى من املستشارين السوفيت إىل غرفة العمليات‬ ‫ً‬ ‫حزنا‬ ‫الرئيسية ‪ ،‬ودخلنا إىل حيث الطاقم السوفيتى فوجدت‬ ‫ً‬ ‫عميقا خييم على املكان ‪.‬‬ ‫واقرتبت من قائد الطاقم ‪ ،‬وكان برتبة عقيد ( وهى الرتبة‬ ‫التى تسبق رتبة اجلنراالت مباشرة ) ‪ ،‬ووجدت الدموع ترتقرق فى‬ ‫ً‬ ‫مستغربا ‪ “ :‬ملاذا كل هذا احلزن ‪ ،‬وخسارتكم‬ ‫عينيه‪ ،‬فسألته‬ ‫فى هذا اليوم ليست كبرية ؟ فاستشهاد ثـمانية أفراد من صغار‬ ‫الرتب ‪ ،‬ال يتحمل هذا االنقباض واحلزن العميق “ ‪ ،‬وذكرته‬ ‫بأننى شاهدت جمموعة من املستشارين السوفيت إبان غارات‬ ‫العمق وقد استشهد هلم ستة أفراد حيملون ً‬ ‫رتبا عالية وأظن‬ ‫معظمهم برتبة العقيد ‪ ،‬ومع ذلك مل أر أمارات احلزن التى أراها‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ ،‬وقال ‪ “ :‬إن شهداء اليوم منا هم‬ ‫اآلن ‪ .‬فرد على باستغراب‬ ‫من الشباب ‪ ،‬الشباب السوفيتى الذين نبنى هلم اجملد واحلياة فى‬ ‫بالد أوطانهم فى االحتاد السوفيتى ‪ ،‬وقبل أن جينون ما نزرعه‪،‬‬ ‫حيصدهم املوت على أرض أوطان الغري ‪ .‬إن فاجعة فقد ستة من‬ ‫العقداء فى موقع حول القاهرة فى أوائل العام ال يضاهى فقد‬ ‫‪137‬‬


‫جمموعة من الشباب “ ‪ ،‬أنهى كالمه وساد الصمت ‪ ،‬ولفنى‬ ‫شعور مل أتعود عليه من قبل ‪.‬‬ ‫هل ً‬ ‫حقا تتحدد قيمة اإلنسان فى ذاته ومبستقبله ‪ ،‬أكثر من‬ ‫قيمته برتبته أو ماضيه ؟ ؛ وتذكرت على الفور كم حيزن‬ ‫البسطاء من أهلى وشعبى على فقد شاب أكثر من حزنهم على‬ ‫فقد شيخ مهيب! ‪ .‬ورحت أردد بصوت خفيض وكأننى أريد أن‬ ‫أثبت هذا الدرس فى قرارة نفسى ‪ ،‬إنه النضج االجتماعى والتفاؤل‬ ‫باحلياة هو الذى يرى فى الشباب أصحاب الغد واملستقبل ‪ ،‬وعليه‬ ‫فإنهم أحق باحلاضر واحلياة من غريهم ‪.‬‬ ‫وهكذا انقضى يوم الثامن عشر من يوليو سنة ‪ . 1970‬لقد‬ ‫كان يوم اهلروب الكبري للطائرات املعادية ‪ ،‬يوم فشل الطريان‬ ‫اإلسرائيلى فى استعادة املبادرة التى بدأت تتسرب من بني يديه‪،‬‬ ‫يوم ارتطام رأس القوة اإلسرائيلى حبائط الصواريخ املصرية ‪،‬‬ ‫يوم عيد الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬يوم جيسد عظمة حلف معاداة‬ ‫االمربيالية واالستعمار ‪ ،‬يوم اختلطت فيه الدماء املصرية بالدماء‬ ‫السوفيتية على أرض وطننا احلبيب مصر ‪ ،‬لتسطر نشيد الصداقة‬ ‫اخلالدة ‪ ،‬الذى سرتتفع أحلانه ‪ ،‬حتى ولو كره الكارهون ‪ ،‬وجنح‬ ‫املغرضون فى خفوت صوتها حلني ‪.‬‬ ‫يوم راح الطريان اإلسرائيلى بعده يلعق جراحه ‪ ،‬وال يقوى‬ ‫ً‬ ‫نادرا ‪ ،‬يوم اهلزمية الكاملة‬ ‫على االقرتاب من قناة السويس إال‬ ‫لتصرحيات ديان وباقى قادة املؤسسة العسكرية اإلسرائيلية‪،‬‬ ‫‪138‬‬


‫فعلى الرغم من قوهلم بأنهم لن يسمحوا بدخول صاروخ واحد‬ ‫مضاد للطائرات إىل جبهة قناة السويس ‪ ،‬حتول هذا الصاروخ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما من وحدات الصواريخ ‪.‬‬ ‫حائطا‬ ‫ليصري‬ ‫ً‬ ‫واقعا يدحض ما يقوله دايان ‪ -‬و قد‬ ‫يقول ‪ :‬أصبح هذا احلائط‬ ‫ً‬ ‫واثقا مما يقول ‪ “ -‬اللى يفوت الزم ميوت “ ‪ ،‬يوم بدا فيه‬ ‫كان‬ ‫السالح األمريكى املتطور ‪ ،‬وبدت فيه التكنولوجيا األمريكية‬ ‫التى حيلو للبعض أن يطنطن هلابدت كالقزم أمام إرادة احلق‪،‬‬ ‫وعمل العاملني ‪ ،‬وجهد الشعب ‪ ،‬وجهد حلفائه فى املصلحة‬ ‫واملصري ‪ ،‬مصلحة معاداة االمربيالية والصهيونية‪ ،‬ومصري العامل ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متطهرا من الرأمسالية واالستعمار ‪.‬‬ ‫اشرتاكيا‬ ‫وقد غدا‬ ‫يوم برزت فيه حقائق العامل واضحة ‪ ،‬فالتنظيم القتاىل اجليد‬ ‫ووضع التشكيالت ‪ ،‬وتنظيم وحداتها فى نظام يوضح املهام‬ ‫وحيددها ‪ ،‬والتنسيق القتاىل والتعاون بني هذه الوحدات‪،‬‬ ‫والعمل النشط والدءوب فى إخضاع اخلصائص الفنية‬ ‫والتكتيكية لألسلحة ملقتضيات الواقع واحلال ‪ ،‬وسد ثغرات‬ ‫أى سالح بإجيابيات أخرى ‪ ،‬كأن حتيط وحدات الصواريخ‬ ‫املهيأة لالشتباكات العالية واملرتفعة وحدات مدفعية وصواريخ‬ ‫خفيفة لتأمني االشتباك مع األهداف املنخفضة ‪ ،‬كذلك فإن‬ ‫إدارة العمليات إدارة سليمة تقوم على مبادئ خلق وابتداع‬ ‫األشكال القتالية التى تؤدى للحصول على أحسن النتائج ‪،‬‬ ‫وحشد وتنسيق كافة اجملهودات املعاونة ‪ ،‬كمجهودات أسلحة‬ ‫املهندسني العسكريني ‪ ،‬واإلشارة‪ ،‬والشرطة العسكرية ‪،‬‬ ‫‪139‬‬


‫ووحدات املخابرات واالستطالع احلربى ‪ ،‬ثم تنفيذ اخلطة فى إطار‬ ‫من املرونة ‪ ،‬والقدرة على دفع أوتأخري هذا املوقع أو ذلك وإحداث‬ ‫املناورة ‪ ،‬واستغالل إمكاناتها أحسن استغالل للوصول إىل‬ ‫أعلى معدالت ونتائج ثم متابعه كل هذه العناصر بروح التحدى‬ ‫واإلصرار ‪ ،‬إن كل هذه املبادئ ساعدت على جتسيد حقائق‬ ‫العلوم القتالية ‪ ،‬وأظهرت كيف استفادت منها قيادة عمليات‬ ‫الدفاع اجلوى العامة فى مصر آنذاك ‪.‬‬ ‫إن درس هذه األيام واضح وحمدد فالقتال علم وعمل ‪ ،‬خربة‬ ‫وجهد ‪ ،‬بشر وسالح ‪ ،‬اعتماد على الذات ومعاونة احللفاء ‪.‬‬ ‫فكر وتنظيم ‪ ،‬لقد علمتنى خربة وجتارب هذه األيام أن منازلة‬ ‫العدو ومالقاته ‪ ،‬ال تقوم على التمائم والصلوات ‪ ،‬وال تقوم على‬ ‫الشعارات والصيحات ‪ ،‬فاحلرب احلديثة عمل رصني ‪ ،‬وفكر‬ ‫موزون ‪ ،‬وخربة جتارب ‪ ،‬وجهد متواصل ‪ ،‬ووضوح للهدف واملهام‬ ‫وتلك كانت دروس بناء احلائط العظيم ‪ ،‬أو على وجه الدقة‬ ‫دروس ما مت تأمينه من بناء وجمهودات ساعدت فى دعم حائط‬ ‫الصواريخ ‪ .‬ولكن ما مت بناؤه كان خطوة على الطريق ‪ ،‬فمازال‬ ‫للمشوار بقية ‪ ،‬وما زالت للحائط لبنات وصفوف جيب أن تضاف‬ ‫إليه ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مستهدفا فى ذاته ‪ ،‬ولكن كان‬ ‫إن حائط الصواريخ مل يك‬ ‫الغرض منه تأمني املداخل الشرقية ملصر ‪ ،‬وسدها أمام عبث‬ ‫وعربدة الطريان اإلسرائيلى ‪ ،‬وتأمني احلماية الالزمة ‪ ،‬والغطاء‬ ‫‪140‬‬


‫اجلوى الضرورى للوحدات والتشكيالت الربية من قوات اجليشني‬ ‫امليدانيني الثانى والثالث ‪.‬‬ ‫ثم كان اهلدف ومازال ‪ ،‬تأمني عبور القوات إىل الضفة األخرى‬ ‫من القناة ‪ ،‬حيث بداية حرب حترير سيناء ‪ ،‬واستعادتها حرة‬ ‫خالصة لباقى أجزاء وطنها األم ‪ ،‬مصر احلبيبة ‪.‬‬ ‫إن اإلعداد هلذه اخلطوة‪ ،‬كان يلزمه إعداد مكثف ملكامن‬ ‫القوة ‪ ،‬واستنفارها يوم احلسم ‪ ،‬يوم يعود احلق إىل صاحبه ‪ ،‬وتعلو‬ ‫احلكمة القائلة “ إن ما أخذ بالقوة ‪ ،‬ال يسرتد بغري القوة “ ‪.‬‬

‫‪141‬‬



‫وسـكنت املبادرة فى جانب مصر‬ ‫انقضى يوم ‪ 18‬يوليو سنة ‪ ، 1970‬وانقضت معه شراسة‬ ‫وهمجية الطريان اإلسرائيلى املعادى فقلت غاراته على املواقع‬ ‫املصرية بصورة ملحوظة ‪ ،‬وحتولت من عملية اكتساب صلف‬ ‫مغرور ‪ ،‬ونزهات يومية ال تنقطع ‪ ،‬تصب نار حقدها األسود على‬ ‫مواقع القوات املصرية ‪ ،‬إىل عمليات سطو متقطعة ‪ ،‬وجس نبض‬ ‫متباعد ملدى ما بلغته قوات الدفاع اجلوى املصرى من كفاءة‬ ‫ً‬ ‫واضحا أن طريان إسرائيل خيشى تعريض‬ ‫وكثافة ‪ .‬وأصبح‬ ‫أصابعه العشرة لعمليات قضم حائط الصواريخ املصرى ‪ ،‬حتى ال‬ ‫يتحول نزيفه إىل تدفق متصل يؤدى إىل االنهيار ‪.‬‬ ‫لقد انعكست آثار هذه احلالة ‪ ،‬على التشكيالت األرضية‬ ‫القتالية املصرية ‪ ،‬وبدأت هى األخرى تصب جام ثأرها على املواقع‬ ‫اإلسرائيلية ‪ ،‬ونشطت مدفعية امليدان املصرى فى تلقني فلول‬ ‫قوات العدو الويل والثبور ‪ .‬وهكذا عادت املبادرة إىل أيدى‬ ‫ً‬ ‫مغاليا إذا قلت ‪ :‬هكذا سكنت‬ ‫القوات املصرية بل ال أكون‬ ‫املبادرة على اجلانب املصرى ‪.‬‬ ‫ولكن هل يعنى هذا أن مهام القتال قد حتققت ؟ وأن هذه‬ ‫احلرب قد انتهت ؟‬ ‫‪143‬‬


‫إن اإلجابة على هذا السؤال ‪ ،‬تتلون مبدى االعتقاد فى حركية‬ ‫أو سكونية األشياء ‪ ،‬فمن يستقيم فكره ‪ ،‬ويفهم احلياة والواقع‬ ‫كما يسري ‪ ،‬ويعلم أن احلركة هى أساس احلياة ‪ ،‬يستطيع أن‬ ‫ً‬ ‫حمتدما ‪ ،‬واملهام مازالت كثرية ‪ ،‬ونهاية‬ ‫جييب بأن القتال مازال‬ ‫ً‬ ‫عمليا إال بداية أخرى ‪ ،‬والوصول إىل اهلدف القريب‬ ‫مرحلة ال تعنى‬ ‫ما هو إال نقطة وثوب للوصول إىل اهلدف البعيد ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حقا ‪ ،‬بنى احلائط العظيم ‪ ،‬ولكن مواقعه جيب أن تزحف إىل‬ ‫األمام أكثر ‪ ،‬فهناك مسافة مرعبة تقدر ببضع كيلو مرتات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حتسبا ألى هجمات معادية بنريان مدافع امليدان أو‬ ‫مرتوكة‬ ‫القوات األرضية اإلسرائيلية ‪ .‬والبد من قطع هذه املسافة ‪ ،‬ونصب‬ ‫قواعد صواريخ الدفاع اجلوى على حافة القناة ‪ ،‬لتأمني عملية‬ ‫عبور القوات ‪ ،‬وبناء رءوس جسور الكبارى ‪ ،‬والتقدم بضع كيلو‬ ‫مرتات ‪ ،‬لتأمني عملية الزحف حتى حدودنا ‪ ،‬وإرجاع سيناء كلها‬ ‫إىل أحضان أمها ‪.‬‬ ‫وإذا كان قد مت التغاضى عن شرط بناء الدشم اخلرسانية‬ ‫ً‬ ‫مؤقتا‪ ،‬إلمتام عملية الزحف حنو القناة ‪ ،‬فقد وضحت جتربة األيام‬ ‫املاضية ‪ ،‬وبالذات بعد انطالق عمليات الزحف ‪ ،‬أن هذا الشرط‬ ‫ً‬ ‫وعمال ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هاما لتأمني القوات ‪ ،‬وتقليل‬ ‫غاليا ‪،‬‬ ‫هدفا‬ ‫مازال ميثل‬ ‫فقدان األفراد واألطقم املدربة ‪ ،‬وتقليل خسائر املعدات واألسلحة‬ ‫املتقدمة من الصواريخ املضادة للطائرات ‪ .‬إن مقرتحات الضابط‬ ‫الذى حيمل رتبة الرائد للرئيس مجال عبد الناصر ‪ ،‬بالتأكيد‬ ‫مازالت ترن فى أذن الرئيس ‪ ،‬واملؤكد ً‬ ‫حقا أن كلنا فى إطار‬ ‫‪144‬‬


‫الدفع اجلوى ‪ -‬وبالذات وحدات الصواريخ املضادة للطائرات ‪-‬‬ ‫نذكر وعد الرئيس وننتظره ‪ ،‬فمآسى القتال ‪ ،‬وخسارة فقد‬ ‫ً‬ ‫ثـمنا حلرية مصر وتقدم قواتها‬ ‫األطقم والرجال ‪ ،‬وإن كانت‬ ‫ً‬ ‫صورا مروعة ملا حدث مازالت ترتسم فى خميلة كل‬ ‫‪ ،‬إال أن‬ ‫فرد فينا‪ ،‬فلن أنسى خفة روح هذا الرائد املسيحى املصرى وهو‬ ‫حيكى لنا كيف كان عرسه منذ أيام ‪ ،‬وكيف أن حركة‬ ‫الكمائن والتأهب للزحف قد شدته من أحضان عروسته ‪ ،‬ليقود‬ ‫ً‬ ‫متقدما بها صوب القناة ‪ ،‬وأن وحشة أحضان عروسته له‬ ‫وحدته‬ ‫ً‬ ‫سوف يرتمجها أهدافا دقيقة يصيب بها من يتسببون فى إقالقه‬ ‫وإقالق بنى شعبه ‪ ،‬وكيف أن هذا الشاب الطويل األمسر ذو‬ ‫األصل الصعيدى أستشهد هو ومعظم الطاقم القتاىل الذى كان‬ ‫يعمل حتت قيادته ‪ ،‬عندما دكت طائرات العدو اإلسرائيلى‬ ‫موقعه بالقنابل زنة األلف رطل ‪ ،‬وأعتقد حبساب الفرتة بني‬ ‫كالم الشهيد ويوم استشهاده أنه مل يتمكن من مالقاة أحضان‬ ‫عروسته إال مرة واحدة ‪ ،‬ثم بعد ذلك تزوج أرض مصر هو ورفاقه‬ ‫وإىل األبد ‪ ،‬ومل يستطع أحد حتى اآلن أن ينتزعه من جوف معدتها‬ ‫فى جوف موقعه ‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى ‪ ،‬فالوحدات التى ذهبت للدراسة والتدريب‬ ‫على وحدات صواريخ البتشيورا قاربت على العودة ‪ ،‬والبد هلا‬ ‫أن تستبدل القوات السوفيتية التى شاركت بالقتال والتضحية‬ ‫والصمود ‪ ،‬وآن هلا أن تدع اهلم ألصحابه ‪ ،‬طاملا قويت شوكتهم‪،‬‬ ‫وأصبحوا فى وضع مهيأ لالعتماد على النفس ‪ .‬فاملعركة‬ ‫مصرية باألساس ‪ ،‬وجيب أن يتحمل أبناء مصر أمحاهلا األساسية‪.‬‬ ‫‪145‬‬


‫لكل هذه االعتبارات مازال االستمرار هو احلل ‪ ،‬واملعركة مل‬ ‫تنته بعد ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حقا لقد انتقلت املبادرة إىل اجلانب املصرى ‪ .‬ولن يؤمن وجودها‬ ‫واستقرارها إال املزيد من اجلهد والبذل والتضحية ‪ ،‬وهكذا‬ ‫ً‬ ‫نشاطا وحركة ‪ ،‬فرغم قلة غارات‬ ‫اشتعلت جبهة قناة السويس‬ ‫طريان العدو ‪ ،‬إال أن عمليات االستنزاف أخذت فى التصاعد‪،‬‬ ‫وأخذ االجتاه حنو بناء الدشم اخلرسانية يدخل ‪ -‬وألول مرة ‪-‬‬ ‫مرحلة التقدم الفعلى ‪ ،‬باألخص فى الدوائر التى تقع حنو الداخل‬ ‫أكثر ‪ ،‬فها هو جهد العمال واملهندسني والفنيني يأتى بنتائجه ‪،‬‬ ‫ومظالت األمان تظلهم ‪ ،‬ودوافع وأهداف عملهم تشعلهم محاسة‬ ‫ً‬ ‫واتقادا فى إجناز ما يقدر هلم بسرعة ومتانة ‪ .‬وعليه فقد عادت‬ ‫حلرب االستنزاف قوتها ‪ ،‬وكما قلت لقد سكنت املبادرة القتالية‬ ‫على اجلانب املصرى ‪.‬‬

‫مبادرة روجرز ‪:‬‬ ‫فى ميدان آخر ‪ ،‬خارج مسرح العمليات ‪ -‬وإن كان يرتبط به‬ ‫ كانت األمور تدور بسرعة ونشاط هى األخرى ‪ ،‬وألن امليدانني‬‫مرتبطان بعضهما ببعض ‪ ،‬حيث تتأكد القاعدة الدراسية‬ ‫اآلتية ‪:‬‬ ‫« إن احلرب والدبلوماسية هما وسيلتان لتنفيذ وحتقيق أهداف‬ ‫السياسة اخلارجية للبلد الواحد» ‪ ،‬وألن النشاط فى احلرب يتبعه‬ ‫نشاط فى الدبلوماسية ‪ ،‬والدبلوماسية النشطة ختدم العمل‬ ‫‪146‬‬


‫العسكرى ‪ ،‬وألن احلرب والدبلوماسية ً‬ ‫معا يتحركان مبقدار‬ ‫قدرتهما على حتريك ميزان القوى العسكرية فى أى صراع‬ ‫لصاحل أحد األطراف ‪ ،‬كانت عجلة التحركات الدبلوماسية‬ ‫قد بدأت تدور وتسرع مع دوران عجلة العمليات العسكرية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رويدا فى اجتاه الصاحل العام ملصر ‪.‬‬ ‫رويدا‬ ‫ودخوهلا‬ ‫ففى ‪ 24‬يونيو سنة ‪ ، 1970‬قدم وليام روجوز ( وزير خارجية‬ ‫الواليات املتحدة األمريكية ) ‪ ،‬مبادرته املعروفة بامسه للبدء فى‬ ‫حل الصراع ‪ .‬حيث عرضها على هيئة خطاب موجه منه إىل السيد‬ ‫حممود رياض ( وزير اخلارجية املصرية ) آنذاك ‪ .‬يدعو فيه مصر‬ ‫وإسرائيل إىل االلتزام بوقف إطالق النار فرتة حمددة ‪ ،‬يتم خالهلا‬ ‫التحضري لتنفيذ قرار جملس األمن رقم ‪. 242‬‬ ‫وغنى عن الذكر أن تقديم هذه املبادرة فى ‪ 24‬يونيو سنة‬ ‫‪ ،1970‬مل يشكل أى قيد على بدء خطة الزحف العظيم‬ ‫بالصواريخ‪ ،‬والتى بدأت ليلة ‪ 29‬يونيو سنة ‪ ، 1970‬أى بعد‬ ‫ً‬ ‫مسبقا ‪ ،‬فقد‬ ‫تقديم روجرز ملبادرته خبمسة أيام ‪ ،‬وكما أشرت‬ ‫سافر الرئيس مجال عبد الناصر إىل موسكو مع بداية يوليو‬ ‫سنة ‪ ، 1970‬وكان ضمن مهام زيارته التشاور حول هذه املبادرة ‪.‬‬ ‫لقد ترك الرئيس عبد الناصر نائبه أنور السادات ليقوم بأعمال‬ ‫الرئيس بالنيابة ‪ ،‬ومل يعلن عبد الناصر موقفه من قبول مبادرة‬ ‫روجرز أو رفضها ‪ ،‬وتوالت األيام على تقديم روجرز ملبادرته ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شيئا مل جيد ‪ ،‬وشهدت‬ ‫وسارت األمور فى ساحة القتال وكأن‬ ‫‪147‬‬


‫اجلبهة املصرية بناء وتدعيم احلائط العظيم من صواريخ سام ‪،1‬‬ ‫سام ‪ 2‬ذات األطقم السوفيتية ‪.‬‬ ‫وضمن حسابات السادات لتدعيم موقعه ‪ ،‬قاس اجتاه األمور‬ ‫وأيقن على ضوء رؤيته هذه أن كل التحركات توحى برفض‬ ‫مبادرة روجرز ‪ ،‬وبالفعل ‪ -‬وفى اجتماع على مستوى عال ‪ -‬أعلن‬ ‫السادات رفضه ‪ ،‬بل رفض مصر هلذه املبادرة ‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫أن السادات مل يتمسك بهذا املسلك الثورى أو الرافض حتى ملدة‬ ‫ستة شهور ‪ ،‬حيث أنه قدم مبادرته املعروفة إلسرائيل فى ‪ 4‬فرباير‬ ‫سنة ‪ ، 1971‬بعد أن آلت إليه األمور ‪ ،‬بعد موت عبد الناصر‬ ‫فى ‪ 28‬سبتمرب سنة ‪ ، 1970‬إال أن السادات مل حيسب األمر إال‬ ‫مبنظور تثبيت موقعه على كراسى السلطة فحسب ‪ ،‬لقد‬ ‫حنى منحى الكثريين ممن يستعذبون اخللط بني التكتيك‬ ‫واالسرتاتيجية ‪ ،‬ويتصورون إنهاء الصراع بالضربة القاضية ‪،‬‬ ‫ويرون مواقع الرفض من السكون والثبات هى املواقع احلصنية ‪،‬‬ ‫دون أن يتعلموا أن السكون ال حيصن أحد ‪.‬‬ ‫وأن اجلدية كل اجلدية تكمن فى تثبيت القدم ‪ ،‬وتهيئة‬ ‫األرض للقدم األخرى ‪ ،‬والسري فى االجتاه الصحيح باخلطى‬ ‫الثابتة املوزونة ‪ ،‬لو كان السادات من هؤالء ‪ ،‬لكان من السهل‬ ‫أن تنتحل له األعذار ‪ ،‬ولو مل يأخذ هذا املسلك الثورى احلاد ‪ ،‬ملا‬ ‫جرؤنا ‪ -‬وال جرؤ غرينا ‪ -‬على اإلشارة بأنه حترك بوحى دعم موقعه‬ ‫على كراسى السلطة ‪ ،‬ورب قائل أن األمر فى يوليو سنة ‪1970‬‬ ‫ً‬ ‫تقديرا ملوقف رآه السادات ‪ ،‬وأن األمر فى ‪ 4‬فرباير ‪1971‬‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫كان تقديرا ملوقف آخر رآه ‪.‬‬ ‫‪148‬‬


‫وإن االختالف الذى يصل إىل حد التناقض بينهما اختالف‬ ‫طبيعى ‪ ،‬ورغم كل هذا فإن ما يعنينا أن الرئيس عبد الناصر مل‬ ‫يعلن موقفه من مبادرة روجرز ملدة تعدت األربعني ً‬ ‫يوما ‪ ،‬خاضت‬ ‫فيها القوات املصرية أخطر املعارك فى تارخيها احلديث ‪ ،‬فلقد مت‬ ‫بناء حائط الصواريخ ‪ ،‬ومت إجناز الضلع األساسى من أضالع نظام‬ ‫الدفاع اجلوى املصرى ‪.‬‬ ‫وعاد مجال عبد الناصر من موسكو ‪ ،‬وعاد معه القائد العام‬ ‫للقوات املسلحة الفريق أول حممد فوزى ‪ .‬وكانت املبادرة قد‬ ‫سكنت على اجلانب املصرى ‪ ،‬واحلائط العظيم قد بنى وتدعم ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عودا ‪.‬‬ ‫وعرب يوم ‪ 18‬يوليو وهو أكثر فتوة وأشد‬ ‫ورغم ذلك كانت تربز ثالث مهام قتالية رئيسية ‪ ،‬كان البد‬ ‫من تأمني الظروف إلجنازها ‪ ،‬وهذه ميكن حتديدها فيما يلى ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬ضرورة إمتام بناء الدشم اخلراسانية ‪ ،‬لوقاية وتأمني أطقم‬ ‫وبطاريات صواريخ الدفاع اجلوى املصرى ‪.‬‬ ‫‪ - 2‬تهيئة األوضاع الستيعاب األطقم الكثرية واحلديثة التى‬ ‫ً‬ ‫فعليا‬ ‫تدرس فى االحتاد السوفيتى على صواريخ سام ‪ ، 3‬ووضعها‬ ‫فى جو االشتباكات امليدانية ‪ .‬والتى قاربت على الوصول ‪.‬‬ ‫‪ - 3‬ضرورة تقدم وحدات حائط الصواريخ لتخطى املسافة‬ ‫املرعية لتأمينها ضد عوامل القصف األرضى ‪ ،‬أو ضد مدفعية‬ ‫امليدان املعادية ‪ ،‬والتقدم حتى حافة القناة لتأمني عملية عبور‬ ‫القوات فى مرحلة تالية ‪ ،‬وتأمني رءوس اجلسور ‪ ،‬وتقدمها حتى‬ ‫‪149‬‬


‫املسافة التى متهد القتحام منطقة املمرات داخل سيناء باعتبارها‬ ‫منطقة موانع طبيعية ‪.‬‬ ‫وبالنظر إىل هذه املهام القتالية ‪ ،‬وإىل الظروف التى تتطلبها‬ ‫ميكن لنا أن حنكم على قبول أو رفض مبادرة روجرز ‪ ،‬ورغم‬ ‫أن األمر خيرج عن إطار هذه الذكريات وهذه السطور ‪ ،‬إال أن‬ ‫تتبع هذه املهام سيوضح إىل حد كبري عناصر هامة وكثرية‬ ‫جيب وضعها فى االعتبار عند تقييم قبول مبادرة روجرز ‪ .‬والتى‬ ‫متت املوافقة عليها من قبل الرئيس مجال عبد الناصر ‪ ،‬وسرت‬ ‫ً‬ ‫بدءا من ساعة الصفر ليوم الثامن من أغسطس سنة ‪ . 1970‬ومت‬ ‫مبوجبها قبول وقف إطالق النار ملدة ثالثة أشهر تنتهى مع نهاية‬ ‫يوم ‪ 7‬نوفمرب سنة ‪. 1970‬‬

‫املهام الثالثة وتعقيداتها الفنية ‪:‬‬ ‫إن من يتتبع حديث الذكريات الذى سطرته فى الصفحات‬ ‫السابقة ويتبع معى عملية بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى‬ ‫املصرى ‪ ،‬بعد أن فتحت بوابات مصر أمام الطريان املعادى ‪ ،‬سوف‬ ‫خيرج بنتيجة هامة وحمددة ‪ ،‬وهى تتلخص فى فكرة بسيطة‬ ‫أن كل عملية وجناح يفضى لعملية أخرى وجناح آخر بشرط‬ ‫وضوح اهلدف ‪ ،‬واإلصرار على استمرار املسرية وتواصلها ‪ ،‬وبشرط‬ ‫فهم كل عملية فى ضوء املعطيات والظروف التى حتيط بها ‪.‬‬ ‫فعلى سبيل املثال ‪ ،‬حتدد منذ البداية ضرورة بناء نظام متكامل‬ ‫للدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬تلعب فيه وحدات الصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات واملوجهة الدور الرئيسى ‪.‬‬ ‫‪150‬‬


‫وما كان ميكن تنفيذ هذه املهمة بضربة واحدة ‪ ،‬فكان‬ ‫البد ‪ -‬فى البداية ‪ -‬من تأمني الدفاع اجلوى لألهداف احليوية‬ ‫واملراكز السكانية املأهولة ملنع ترويع املوطنني واحملافظة‬ ‫على ارتفاع معنويات الشعب ومواصلة قضيا اإلنتاج ‪ .‬وما كان‬ ‫ميكن لوحدات الدفاع اجلوى املصرية التى تبعثرت منذ األسبوع‬ ‫األخري من ديسمرب أن تفى بهذه املهمة ‪ ،‬فكان البد للجوء إىل‬ ‫القوات السوفيتية لالضطالع بتنفيذ هذه املهمة بتكامل دورى‬ ‫الطريان ووسائل الدفاع اجلوى مع بعضها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ضروريا على املستوى العسكرى‬ ‫لقد كفلت هذه املهمة شرطا‬ ‫احملض ‪ ،‬وهو تأمني منطقة ميكن فيها إعادة ترتيب وتنظيم‬ ‫وتدريب قوات صواريخ الدفاع اجلوى املصرية للتقدم حنو بناء‬ ‫حزام األمان حول الوطن املصرى ‪.‬‬ ‫ورأينا أنه ما كان مبقدور وال بإمكان القوات السوفيتية‬ ‫ذاتها العاملة داخل مصر أن تقوم مبهمة ثابتة ‪ ،‬وهى مهمة تأمني‬ ‫دائرة أوسع متتد إىل محاية منطقة جبهة قناة السويس ‪ ،‬ألن‬ ‫الرتكيز على املهمة الثانية يعنى جمموعة من الرتتيبات قد‬ ‫تضر باملهمة األوىل ‪ .‬وهى أوىل ‪ ،‬والشك بالرعاية من الثانية ‪،‬‬ ‫فتحمل العسكريني للقصف وللعربدة املعادية أهون بكثري‬ ‫من احتمال املدنيني وطاقة البالد االقتصادية واإلنتاجية هلذا‬ ‫اهلول املخيف والدمار الكثيف ‪.‬‬ ‫وإن تناثر دورية أو أخرى ‪ -‬حتى لو أخذ شكل االنتظام من‬ ‫الطائرات السوفيتية فوق منطقة اجلبهة ‪ -‬مل يك بالضرورة ألهداف‬ ‫‪151‬‬


‫احلماية والتأمني ‪ ،‬فال شك أن املعارك حتتاج معلومات كثرية‬ ‫وتتعدد فيها األهداف واملهام ‪ ،‬ولكن مهمة احلماية مل تكن هى‬ ‫بالتأكيد املهمة األوىل فى منطقة قناة السويس ‪.‬‬ ‫ولو تتبعنا الشريط لوجدنا أن اختيار الضلع الشماىل للبالد‬ ‫كان ميثل اخلط األسهل والذى يساير القدرات املتاحة لتنفيذ‬ ‫بناء نظام الدفاع اجلوى رغم أنه مل يك اخلط األهم ‪ ،‬ولكنه حظى‬ ‫ً‬ ‫اتساقا مع فن املمكن ‪ .‬ثم كان األمر بعد ذلك يتطلب‬ ‫باألولوية‬ ‫ً‬ ‫بناء الدشم اخلرسانية زحفا حنو خط جبهة قناة السويس لتأمني‬ ‫عملية بناء نظام الدفاع اجلوى املتكامل على هذا الضلع من‬ ‫أضالع املستطيل املصرى ‪ ،‬والذى ميثل خط الصدام األساسى مع‬ ‫ً‬ ‫مجيعا أنه رغم التضحيات اهلائلة‬ ‫العدو اإلسرائيلى ‪ ،‬واتضح لنا‬ ‫للبنائني املصريني مل يتمكن أحد من تنفيذ هذه املهمة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واعتمادا على السرية املطلقة فى اإلعداد والتحركات ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وراداريا‪،‬‬ ‫ظاهريا‬ ‫واعتمادا على اإلخفاء والتمويه اجليد للمواقع‬ ‫ً‬ ‫وتطويرا لقدرات السالح ‪ ،‬وإدخال عوامل جديدة تضاف إىل‬ ‫قوة سالح الصواريخ ‪ ،‬استغلت املناورة بالتحركات ‪ ،‬لتنفيذ‬ ‫ً‬ ‫واعتمادا على التدريب الشاق ‪ ،‬واملران‬ ‫عمليات الكمائن ‪،‬‬ ‫املتواتر على عمليات الفك والرتكيب والتحركات ‪ ،‬جنحت‬ ‫عمليات الكمائن ‪ .‬ومهدت األرض لبدء الزحف العظيم حنو خط‬ ‫قناة السويس ‪.‬‬ ‫وألن احلائط العظيم قام وارتفع بالقرب من جبهة القناة ‪ ،‬وألن‬ ‫اتساع ثغراته أو تقويض بنيانه ميثل خسارة ال توصف ‪ ،‬تطورت‬ ‫‪152‬‬


‫املهمة األوىل التساع دائرة األمان وغلق بوابات مصر التى فتحت‬ ‫فى ديسمرب املشئوم ‪ ،‬وعليه تقدمت بطاريات صواريخ سام ‪3‬‬ ‫بأطقمها السوفيتية لدعم هذا النظام ولالضطالع باملشاركة‬ ‫فى كفالة جناح املهمة األساسية للدفاع اجلوى املصرى فى هذا‬ ‫الوقت ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا‬ ‫نوعيا‬ ‫تطورا‬ ‫وجاء يوم ‪ 18‬يوليو سنة ‪ ، 1970‬ليضيف‬ ‫على عملية بناء نظام متكامل للدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬ولكنه‬ ‫على اجلانب اآلخر يشكل اإلطار النهائى ‪ ،‬واحلد األقصى‬ ‫لعملية البناء هذه فى ظل املعطيات والظروف القائمة ‪ ،‬فالزحف‬ ‫التبادىل الذى بدأ من حتت مظلة احلماية السوفيتية ملنطقة‬ ‫القاهرة ما كان ميكنه أن يتقدم خطوة واحدة دون تدخل‬ ‫معطيات جديدة ‪ ،‬وظروف أخرى ‪.‬‬ ‫ورب سائل يقول ‪ :‬لقد أشرت فيما سبق من حكايتك أنك‬ ‫كنت فى موقع على حافة القناة هل يستقيم هذا املنطق مع ما‬ ‫تقول به اآلن ؟‬ ‫واإلجابة بسيطة للغابة ‪ ،‬فتقدم وحدة من وحدات الصواريخ‬ ‫املضادة للطائرات ميكن أن يتم وسط معطيات الكمني ‪ ،‬أى‬ ‫يقوم على سرية التحرك وسرعته وعلى تشديد عمليات اإلخفاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وراداريا ‪ .‬وعلى أساس التغيري السريع للموقع‬ ‫شكليا‬ ‫والتمويه‬ ‫بعد االشتباك منه ‪ ..‬وهكذا ‪ -‬وإذا جاز توفري هذه الظروف ‪ ،‬وتأمني‬ ‫هذه الفروض ملوقع واحد أو اثنني ‪ -‬فال ميكن تأمينها خلط ممتد‬ ‫ً‬ ‫شيئا من الثبات الذى يستتبعه بعض‬ ‫ومتكامل ‪ ،‬يفرتض فيه‬ ‫الظهور واالنكشاف ‪.‬‬ ‫‪153‬‬


‫إن الشرط الضرورى لزحف هذه الوحدات وتقدمها حتى قرب حافة‬ ‫القناة ‪ ،‬كان ميكن فى شل فاعلية وسائل النريان األرضية‬ ‫وامليدانية للقوات اإلسرائيلية ‪ ،‬فالشك أن حصر الصراع بني‬ ‫الطريان املعادى ووسائل الدفاع اجلوى املصرية أسهل وأجدى ‪ ،‬من‬ ‫إدخال عناصر قوة أخرى للعدو ‪ ،‬وتعديل أطراف الصراع ليصري‬ ‫الطريان املعادى ومدفعية امليدان املعادية وباقى وسائل النريان‬ ‫األرضية ‪ ،‬وأعمال الكوماندز والتسلل والتخريب اإلسرائيلية‬ ‫فى مواجهة وسائل الدفاع اجلوى املصرى فقط ‪ ،‬خاصة أن مدفعية‬ ‫امليدان املصرية ووسائل النريان األرضية ال ميكن هلا تأمني مواقع‬ ‫وفعاال طول الوقت ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونهارا ‪.‬‬ ‫ليال‬ ‫مؤثرا‬ ‫تأمينا‬ ‫الصواريخ‬ ‫إن حتقيق شرط شل فاعلية وسائل النريان األرضية وامليدانية‬ ‫اإلسرائيلية ميكن حتقيقه بإحدى وسيلتني أو بهما ً‬ ‫معا ‪،‬‬ ‫إما وقف القتال ‪ ،‬وإما بناء الدشم اخلرسانية ‪ ،‬هذا مع استبعاد‬ ‫إمكانية القضاء املربم على هذه الوسائل املعادية للنريان ‪.‬‬ ‫مما تقدم يتضح أن مهمة زحف وتقدم حائط الصواريخ حتى‬ ‫ً‬ ‫وقفا للنريان ‪ ،‬حتى تبنى الدشم‬ ‫حافة القناة كان يستلزم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تأمينا كبريا يقلل من اخلسائر وحيصرها فى‬ ‫وتؤمن املواقع‬ ‫معدالت معقولة ومقبولة ‪ ،‬إذن فشرط املزيد من التقدم ‪ ،‬هو توقف‬ ‫مؤقت لتثبيت القدم ‪ ،‬وبنظرة فاحصة إىل األشياء ‪ ،‬وعودة إىل‬ ‫حديث الذكريات ‪ ،‬ورجاء ومناشدة كل من يهتم بأن يستعيد‬ ‫معلومات هذه الفرتة وميحصها ‪ ،‬نرى اآلتى ‪:‬‬ ‫مع اقرتاب يوم الثامن من أغسطس سنة ‪ ، 1970‬وهو اليوم احملدد‬ ‫لقبول مبادرة روجرز وقبول إطالق النار ‪ ،‬جرت عملية حتضري‬ ‫‪154‬‬


‫هامة وكبرية داخل وحدات الدفاع اجلوى مل تشهد هلا هذه القوات‬ ‫ً‬ ‫مثيال من قبل ‪ .‬وللوقوف على أبعاد عملية التحضريات هذه علينا‬ ‫أن نتصور املهمة ‪ ،‬ونتصور حجمها لنستطيع أن نقدر ونثمن ما‬ ‫مت إجنازه ‪ .‬فاملهمة كانت تتلخص فى ضرورة حتريك كل ‪-‬‬ ‫أو معظم ‪ -‬وحدات نظام الدفاع اجلوى على القناة حنو األمام فى‬ ‫فرتة تنحصر بعد حلول مساء ‪ 7‬أغسطس وحتى نهاية هذا اليوم‬ ‫أى قبيل الثانية عشر ً‬ ‫ليال ‪ ،‬لقد كان يلزم هذه املهمة حشد‬ ‫أسطول كبري من املركبات وعربات النقل الثقيلة لتحريك هذه‬ ‫القواعد من مواقعها إىل مواقع أخرى ‪.‬‬ ‫إن معدة واحدة كالونش ‪ -‬وهى عنصر أساسى فى عمليات‬ ‫الفك والرتكيب ‪ -‬كادت أن تسبب أزمة خطرية فى تلك الليلة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دائما أن يغطى الونش الواحد احتياجات‬ ‫فقد كان املعمول به‬ ‫أكثر من وحدة وأكثر من موقع فى توقيت وأماكن متقاربة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نظرا لضيق زمن هذه الليلة كان يلزم حشد كمية‬ ‫ولكن‬ ‫كبرية من األوناش ‪ ،‬مل تكن لدى قوات الدفاع اجلوى كلها ‪ ،‬بل‬ ‫ومل يك لدى القوات املسلحة كلها ‪ ،‬مما حتم ضرورة االستعانة‬ ‫بشركات القطاع العام ومؤسسات الدولة األخرى ‪ ،‬ومما شكل‬ ‫ً‬ ‫تبعا لذلك عملية ارتباك واسعة النطاق أثناء عمليات الفك‬ ‫والرتكيب ‪ ،‬حيث وجود عمال األوناش غري املدربني على مثل‬ ‫هذه األعمال ‪ ،‬مبا حتتاجه من قدرة عالية على املناورة واإلتقان‬ ‫فى حتريك هذه املعدات احلساسة والباهظة األثـمان ‪.‬‬ ‫وما إن حل مساء يوم السابع من أغسطس سنة ‪ ، 1970‬وحتت‬ ‫ستار كثيف صبته مدفعية امليدان املصرية عرب قناة السويس‪،‬‬ ‫‪155‬‬


‫على رأس املواقع اإلسرائيلية فى الضفة الشرقية من القناة ‪،‬‬ ‫تقدمت قوات الدفاع اجلوى املصرى لتزحف بوحداتها الصاروخية‬ ‫ً‬ ‫تقدما من حافة القناة ‪.‬‬ ‫إىل موقع أكثر‬ ‫وفى سباق مع الزمن ‪ ،‬وبتحدى واضح ألى قصور فى املعدات‬ ‫ً‬ ‫وإعماال لكل جتارب ودروس األيام املاضية‬ ‫واألجهزة املساعدة ‪،‬‬ ‫فى عمليات الفك والتحرك والرتكيب‪ ،‬جاءت ساعة الصفر ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فعليا فى‬ ‫تغريا‬ ‫وهى الدقيقة األخرية من يوم ‪ 7/8/1970‬لتسجل‬ ‫مواقع وترتيب وحدات الصواريخ املضادة للطائرات ضمن نظام‬ ‫الدفاع اجلوى املتكامل على خط قناة السويس ‪ ،‬لقد شهدت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا‬ ‫حائطا‬ ‫اللحظة األوىل من يوم ‪ 8/8/1970‬يوم وقف النار ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إحكاما وأشد متاسكا وأجدى‬ ‫تنتظم لبناته بطريقة أكثر‬ ‫ً‬ ‫نفعا وفاعلية ‪ ،‬لقد فتحت إسرائيل عيونها مع إشراقة ‪8/8/1970‬‬ ‫لتفاجأ بهول ما رأت ‪ ،‬ولتضج بالشكوى والنواح تارة ‪ ،‬وبالكذب‬ ‫والبهتان تارة أخرى ‪ ،‬حيث تدعى بأن القوات املصرية حركت‬ ‫صوارخيها بعد قبول مبادرة روجرز ‪.‬‬ ‫وبالرغم من بعد هذا االدعاء عن احلقيقة ‪ ،‬إال أن إسرائيل مل‬ ‫متلك إزاء املوقف اجلديد غري الشكوى والنواح ‪ ،‬فتعلمت وألول‬ ‫مرة أن تقدم عرائض االحتجاج تارة لسكرتري عام األمم املتحدة‬ ‫‪ ،‬وتارة لوزير خارجية أمريكا ‪ .‬ومل تقدر أو تستطيع أن تقوم‬ ‫ً‬ ‫خاطئا وحمل شكاية ‪ ،‬رغم أنها عودتنا وعودت‬ ‫بتصحيح ما تراه‬ ‫ً‬ ‫اجلميع أنها القادرة دوما على فعل ما حيلو هلا ‪ ،‬طاملا تستطيع‬ ‫الفعل ‪ ،‬وطاملا مييل ميزان القوة فى اجتاهها ‪.‬‬ ‫‪156‬‬


‫وجاء يوم الثامن من أغسطس ‪ 1970‬ليطلق العنان للمهمة‬ ‫األوىل كى تنجز وتقوم ‪ .‬فبكل طاقات الفعل املختزن لدى‬ ‫عمال مصر‪ ،‬وبروح الثأر لشهدائهم فى حماوالتهم املستمرة‬ ‫واملتكررة لبناء هذه الدشم اخلرسانية ‪ ،‬جرى العمل على قدم‬ ‫وساق لتنفيذ هذه املهمة األمل ‪ .‬وال أنسى املساعدات التى قدمتها‬ ‫أملانيا الدميقراطية فى تلك اآلونة ‪ ،‬حيث ساعدت فى جتهيز ألواح‬ ‫اخلرسانة املسلحة املقاومة للضغط واالنفجار مما يسر عمليات‬ ‫البناء ‪ ،‬وجعلها حتتاج لزمن قليل ال يقاس مبا كانت تأخذه ‪ ،‬لقد‬ ‫ً‬ ‫سلفا ال على اختصار الوقت فحسب ‪،‬‬ ‫ساعدت هذه األلواح املعدة‬ ‫بل على التقدم فى عمليات البناء على أساس الثقة وعدم اخلوف‬ ‫من القصف الغادر الذى يعصف باجملهودات الشاقة السابقة فى‬ ‫حلظة واحدة ‪.‬‬ ‫إن ظروف وقف إطالق النار هيأت األجواء ‪ ،‬للتقدم بهذا العمل‬ ‫مبعدالت قياسية ‪ .‬ولن أنسى ما حييت أن الوحدات املصرية التى‬ ‫عادت بعد إمتام تدريباتها فى أوائل سبتمرب سنة ‪ 1970‬قد‬ ‫ً‬ ‫دمشا خرسانية جاهزة ومعدة ‪،‬‬ ‫متكنت من أن يدخل بعضها‬ ‫ومصممة ملقاومة انفجارات قنابل األلف رطل املشئومة ‪.‬‬ ‫وهكذا ‪ ،‬فإن حلول الثامن من أغسطس ‪ ، 1970‬الذى محل‬ ‫بدء وقف إطالق النار ‪ ،‬مل حيمل وقف العمل من أجل إجناز املهام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫استعدادا‬ ‫عموما‬ ‫السابقة ‪ ،‬واستمر تطوير العمل العسكرى‬ ‫ليوم ال ريب فيه ‪ ،‬يوم االندفاع والعبور حنو حترير سيناء وإرجاعها‬ ‫إىل أحضان مصر األم ‪.‬‬ ‫‪157‬‬


‫فما إن تواردت األطقم الدارسة فى االحتاد السوفيتى ‪ ،‬إال ومت‬ ‫وضعها وتنظيمها ضمن النظام املتكامل للدفاع اجلوى ‪،‬‬ ‫وأخذت فرتة كافية للتدريبات امليدانية العملية ‪ ،‬ونقل اخلربة‬ ‫القتالية التى جرت إليها ‪ ،‬وقد مت حشد هذه القوات للعب ً‬ ‫دورا من‬ ‫اثنني ‪ ،‬األول ‪ :‬هو تكميل أى نقص فى هذا النظام وسد ثغراته‪،‬‬ ‫والثانى‪ :‬هو حتقيق سياسة اإلحالل ملواقع األطقم السوفيتية‬ ‫املوجودة ضمن وحدات هذا النظام ‪ .‬ومت بهذا دخول القوات املصرية‬ ‫– وألول مرة ‪ -‬ميدان استخدام صاروخ البتشيورا املضاد للطائرات “‬ ‫سام ‪ ، “ 3‬هذا الصاروخ الذى يتمتع خبصائص متعددة لالشتباك‬ ‫مع األهداف املنخفضة ‪.‬‬ ‫إن الفرتة التى تلت بداية وقف إطالق النار منذ صباح الثامن‬ ‫تكثيفا ً‬ ‫ً‬ ‫حادا جملموعة من األعمال‬ ‫من أغسطس ‪ 1970‬شهدت‬ ‫القتالية واملهام الفنية ‪ ،‬ميكن عرض خطوطها العامة فيما يلى‪:‬‬ ‫‪ – 1‬جرت عملية إحالل واستعواض أطقم بأخرى ومعدات‬ ‫بأخرى‪ ،‬وذلك إلجراء أعمال العمرة واإلصالحات الطويلة‬ ‫والكبرية ‪ .‬خاصة بعد إجهاد املعدات وإجنازها ملعدالت تشغيل‬ ‫فاقت كل تصور دراسى أو عملى ‪.‬‬ ‫إن أهمية هذه العملية ال ترتبط فقد بتجديد احملطات واملعدات‬ ‫ً‬ ‫أيضا بضرورة االهتمام‬ ‫بعد فرتة إنهاك فعلى ‪ ،‬ولكنها ترتبط‬ ‫باألطقم القتالية واألفراد ‪ ،‬فمن ناحية جيب إعطاؤهم بعض‬ ‫الراحة ‪ ،‬إثر جمهودات تعد بكل املعايري جمهودات خارقة ‪ ،‬ومن‬ ‫ناحية ثانية جيب إخضاعهم جملموعة من التدريبات والدورات‬ ‫‪158‬‬


‫املدرسية هلضم ما قابلوه أثناء أعماهلم القتالية وامليدانية ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫استعدادا جملهودات‬ ‫والستخالص الدروس والعرب لتعميمها‬ ‫حمتملة لن تقل ظروفها صعوبة وتعقد ‪.‬‬ ‫ومن ناحية ثالثة أهمية املوائمة بني املعدات واملهام واألطقم‬ ‫على ضوء جتارب امليدان ذاتها ‪.‬‬ ‫‪ -2‬مت تعميق التدريبات واحلصص التعليمية على دروس‬ ‫جديدة وعوامل حديثة ظهرت فى امليدان ألول مرة ‪ ،‬كاستخدام‬ ‫إسرائيل لطائرات الفانتوم ‪ ،‬فكان جيب دراسة خصائصها‬ ‫وقدراتها الفعلية ‪ ،‬وأشكاهلا ‪ ،‬وسرعاتها ‪ ،‬وإمكاناتها فى‬ ‫املناورة إىل غري ذلك ‪ ،‬كذلك دخلت عملية التدريب على‬ ‫تالفى آثار الصاروخ شرايك الذى يتجه على الشعاع الرادارى‬ ‫حملطة الصواريخ مرحلة جديدة وعميقة ‪ .‬وهذه وحدها قصة‬ ‫تطول‪ ،‬فلقد حضرت إىل مصر جمموعة من اخلرباء الفنيني الروس‬ ‫لتعميق خربة التعامل مع هذا الصاروخ ‪ ،‬وأخذت جتوب البالد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجنوبا لتلقني األطقم والوحدات الدراسية‬ ‫ومشاال‬ ‫وغربا‬ ‫شرقا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعمليا ‪،‬‬ ‫نظريا‬ ‫كيفية التعامل مع هذا النوع من الصواريخ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يوميا ثابتا ‪.‬‬ ‫واجبا‬ ‫وأصبح التدريب على هذا العمل‬ ‫كذلك كثفت عملية التدريب على االشتباك مع القنابل‬ ‫التلفزيونية ‪ ،‬وعلى التعامل مع صنوف وأنظمة التداخل‬ ‫والتشويش التى أقدم العدو اإلسرائيلى على استخدامها بكثافة‬ ‫وتنوع أثناء فرتة االشتباكات ‪.‬‬ ‫‪159‬‬


‫وإذا كان ما سبق يوضح أن ‪ 8/8/1970‬مل يعق عملية تنفيذ‬ ‫املهام واالستمرار فيها ‪ ،‬بل وتهيئته لظروف أحسن ‪ ،‬إال أن هذا اليوم‬ ‫مثل معنى آخر ‪ ،‬فلقد دخل يوم ‪ 7/8/1970‬التاريخ باعتباره يوم‬ ‫نهاية حرب االستنزاف ‪ ،‬وهكذا جاء صباح الثامن من أغسطس‬ ‫سنة ‪ 1970‬ليدخل زمن ما بعد انتهاء حرب االستنزاف ‪ ،‬وليحدد‬ ‫نهاية هذه احلرب التى بدأت فى نهاية سبتمرب سنة ‪. 1968‬‬ ‫إن القوات املصرية عندما أمتت اجتياز مرحلة الصمود فى نهاية‬ ‫سنة ‪ ، 1967‬ودخلت مرحلة الردع مع بداية ‪ ، 1968‬قد متكنت‬ ‫بامتالك املبادرة من شن حرب الستنزاف القوات اإلسرائيلية شرق‬ ‫قناة السويس ‪ .‬وذلك مع بداية الربع األخري لسنة ‪ . 1968‬إن هذه‬ ‫املبادرة ‪ -‬رغم أنها انتقلت إىل أيدى القوات اإلسرائيلية فى بعض‬ ‫الفرتات ‪ -‬إال أن سري العمليات القتالية ‪ ،‬وتطور حرب االستنزاف قد‬ ‫ً‬ ‫أخريا ‪ ،‬على الرغم‬ ‫مكن القوات املصرية من استعادة هذه املبادرة‬ ‫من دخول الطريان اإلسرائيلى ساحة املعركة ‪ ،‬بل واإللقاء بثقل‬ ‫الطريان املعادى كله فى املعركة ‪.‬‬ ‫لقد متكنت القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬على مدى ما يقرب من‬ ‫عامني فى الفرتة ما بني سبتمرب ‪ 1968‬إىل أغسطس ‪ ، 1970‬من‬ ‫أن تدير حرب استنزاف حقيقية إزاء القوات اإلسرائيلية ‪ .‬وكما‬ ‫كتب اللواء حسن البدرى فى دراسته اهلامة واجليدة عن حرب‬ ‫االستنزاف ‪ ،‬والتى نشرت فى عدد أكتوبر سنة ‪ 1978‬من جملة‬ ‫السياسة الدولية التى تصدر عن مؤسسة األهرام ‪ « ..‬من الواضح‬ ‫أن غاية النظرية العسكرية املصرية فى إدارة حرب االستنزاف‬ ‫‪160‬‬


‫هو توريط إسرائيل فى حرب نشطة طويلة املدى ‪ ،‬تتضمن‬ ‫ً‬ ‫أشكاال متنوعة من الصراع املسلح ‪ ،‬تعلو فوق مستوى احلرب‬ ‫الباردة ‪ ،‬وتهبط عن مستوى احلرب الشاملة ً‬ ‫تبعا للفرص الساحنة‬ ‫والظروف السائدة فى املسرح » ‪.‬‬ ‫ويستطرد ‪ ،‬يقول ‪ “:‬إن حرب االستنزاف هى أول حرب بني العرب‬ ‫وإسرائيل ‪ ،‬اضطرت فيها إسرائيل لتعبئة قواتها العامة ملدد طويلة‬ ‫ً‬ ‫نسبيا ‪ ،‬مما ترك آثاره السيئة على الناحية االقتصادية واملعنوية‬ ‫فى اجملتمع اإلسرائيلى على حنو مل يسبق له مثيل ‪ ،‬فلقد‬ ‫اضطرت إسرائيل إىل أن تعبئ ما يزيد على ‪ 20‬لواء من جيشها ‪،‬‬ ‫وهى نسبة تعبئة تزيد على ‪ 50%‬من إمجاىل وعاء التعبئة الربية‬ ‫اإلسرائيلية ‪ ،‬كما اضطرت إىل تعبئة كل سالحها اجلوى أى‬ ‫بنسبة ‪ 100%‬من وعاء التعبئة فيه ‪ ،‬هذا وقد خفضت إسرائيل‬ ‫التعبئة فى سنة ‪ 1971‬إىل من ‪ 15% -10‬من قواتها الربية ‪ ،‬كما‬ ‫هبوطا ً‬ ‫ً‬ ‫حادا ‪.‬‬ ‫هبطت التعبئة فى القوات اجلوية‬ ‫لقد تسببت حرب االستنزاف ‪ ،‬وألول مرة فى تاريخ العسكرية‬ ‫اإلسرائيلية ‪ ،‬أن جتمد قواتها فى خنادق ثابتة ‪ ،‬فغريت بذلك من‬ ‫شكل و أسلوب التكتيك امليدانى اإلسرائيلى الذى اعتمد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتنفيذا ‪.‬‬ ‫ختطيطا‬ ‫دائما على املرونة العالية وخفة احلركة‬ ‫بينما محلت نفس احلرب على املصرى الفرص احلقيقية‬ ‫للتدريب الواقعى ‪ ،‬واكتساب اخلربات القتالية من امليدان ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملموسا ‪ ،‬وأفرزت الكوادر‬ ‫تعرفا‬ ‫والتعرف على العدو وأساليبه‬ ‫‪161‬‬


‫العسكرية املصرية من القادة والضباط واجلنود الذين‬ ‫ميتلكون فرص مالقاة العدو ‪ ،‬واالستفادة العصرية من الوسائل‬ ‫واألساليب القتالية احلديثة “ ‪.‬‬ ‫“ أما عن اخلسائر التى تكبدتها إسرائيل فى هذه احلرب ‪،‬‬ ‫فكما تقول اجمللة العسكرية للجيش اإلسرائيلى ‪ :‬أن القوات‬ ‫ً‬ ‫طيارا ‪ ،‬وأن‬ ‫اإلسرائيلية فقدت خالل حرب االستنزاف أربعني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قتيال ‪ 3141 ،‬جرحيا وأسريا ‪،‬‬ ‫خسائر القوات الربية بلغت ‪827‬‬ ‫وأما خسائر املعدات اإلسرائيلية فقد بلغت ‪ 27‬طائرة ومدمرة ‪،‬‬ ‫وسبعة زوارق وسفن إنزال ونقل ‪ 119 ،‬جمنزرة ‪ 72 ،‬دبابة ‪81 ،‬‬ ‫مدفع ميدان وهاون ‪ ،‬أما عن التكلفة االقتصادية التى ختص‬ ‫إسرائيل فى حرب االستنزاف فقد زاد العبءاالقتصادى على كل‬ ‫فرد فى إسرائيل بنحو ‪ ، 300%‬إذ بلغ متوسط ما حتمله كل فرد‬ ‫إسرئيلى ‪ 417‬دوالر خالل سنة ‪ 1970‬بينما كان هذا املتوسط‬ ‫‪ 138‬دوالر فى سنة ‪. “ 1966‬‬ ‫ومع ذلك هناك تقديرات أخرى تبني زيادة حجم اخلسارة‬ ‫اإلسرائيلية ففى عدد ‪ 16‬نوفمرب ‪ 1970‬ذكرت جملة « أفيشن‬ ‫ويك » بأن خسائر إسرائيل بلغت ‪ 51‬طائرة منها ‪ 17‬طائرة دمرت‬ ‫ً‬ ‫تدمريا ً‬ ‫تاما ‪ 34 ،‬طائرة أصيبت “ (‪. )11‬‬ ‫وعن التكلفة االقتصادية يورد اللواء حسن البدرى ما يلى ‪:‬‬ ‫« أشار موسى ديان فى حماضرته التى ألقاها أمام كلية القادة‬ ‫أحمد حمروش ‪ :‬عبد الناصر لم يحاصر منظمة التحرير الفلسطينية –‬ ‫(‪ )11‬‬ ‫القاهرة – األهرام ‪ -‬االقتصادى بتاريخ ‪ 7‬مارس ‪. 1983‬‬ ‫‪162‬‬


‫واألركان فى إسرائيل بتاريخ ‪ 17‬أغسطس ‪ ، 1972‬أن تكاليف‬ ‫اإلنفاق العسكرية اإلسرائيلى فى األراضى احملتلة منذ نهاية‬ ‫يونيو ‪ 1967‬وحتى مبادرة روجرز فى ‪ 8‬أغسطس ‪ 1970‬قد‬ ‫بلغت ‪ 1364‬مليون لرية إسرائيلية أى حواىل ‪ 320‬مليون دوالر‬ ‫أمريكى‪ ،‬انفق أكثر من ‪ 60%‬منها ملواجهة آثار حرب االستنزاف‪.‬‬ ‫إن معدل اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى ارتفع سنة ‪ 1970‬مبعدل‬ ‫‪ 81%‬عن سنة ‪ 1969‬مبا جتاوز معدل تزايد موارد إسرائيل املتاحة‬ ‫والتى مل تزد بني السنيتني إال مبقدار ‪. »13,7%‬‬ ‫إن حرب االستنزاف محلت على اجلانب اآلخر وبالذات على‬ ‫ً‬ ‫تزايدا فى‬ ‫اجلبهة الشرقية « السورية الفلسطينية اللبنانية «‬ ‫النشاط العسكرى « فلقد مارست املقاومة الفلسطينية فى‬ ‫ً‬ ‫عددا من العمليات ‪ ،‬كان أبرزها‬ ‫فرتة حرب االستنزاف املصرية‬ ‫معركة الكرامة فى ‪ 21‬مارس سنة ‪ ، 1968‬وقامت بــ ‪4948‬‬ ‫حادثة قتال مع العدو اإلسرائيلى منها ‪ 996‬داخل إسرائيل ‪3425 ،‬‬ ‫من األردن ‪ 346 ،‬من سوريا ‪ 181 ،‬من لبنان» (‪. )12‬‬ ‫وهذه بعض من نتائج حرب االستنزاف ‪ ،‬كما جاءت فى‬ ‫ً‬ ‫غالبا تقديرات منحازة‬ ‫التقديرات اإلسرائيلية والغربية ‪ ،‬وهى‬ ‫وختفى احلقائق ‪ .‬وال تظهر منها إال ما يتماشى مع ما تريده ‪ ،‬ومما‬ ‫يذكر أن هذه احلرب قد وصلت إىل نهايتها الفعلية بقبول وقف‬ ‫إطالق النار نتيجة ملبادرة روجرز فى الثامن من أغسطس سنة‬ ‫‪. 1970‬‬ ‫(‪ )12‬‬

‫اللواء الركن حسن البدرى – مرجع سابق ‪.‬‬ ‫‪163‬‬


‫وبالرغم من أن حلول هذا التاريخ ‪ ،‬مل يوقف عمليات االستعداد‬ ‫والتحضري لتطوير مواقف ومواقع القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬ودعم‬ ‫حائط الصواريخ باتساع عدد وحداته وتعميق عمليات التدريب‬ ‫وهضم اخلربة والتجارب السابقة ‪ ،‬واستيعاب األطقم احلديثة‬ ‫املصرية التى عادت من دراستها فى االحتاد السوفيتى ‪ ،‬إال أن‬ ‫هناك جمموعة من العوامل األخرى متكنت من الواقع املصرى‬ ‫بصفة عامة ‪ ،‬وسطرت بالثامن من أغسطس ‪ 1970‬النهاية‬ ‫الفعلية حلرب االستنزاف املصرية ‪ ،‬التى أديرت ملدة عامني ضد‬ ‫قوات العدو احملتملة جلزء من أرض الوطن فى سيناء األسرية ‪.‬‬ ‫***‬

‫نهاية االستنزاف التالزم والسبب ‪:‬‬ ‫ذكرنا فى الصفحات السابقة كيف طورت القوات املسلحة‬ ‫املصرية من أوضاعها ً‬ ‫بدءا من مرحلة الصمود عقب هزمية ‪1967‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دخوال فى شن حرب الستنزاف العدو‬ ‫مرورا مبرحلة الردع ‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫إدارتها على ما يقرب من عامني ‪ .‬أضافت بها إىل قوتها الكثري ‪،‬‬ ‫وخرجت منها وهى مالكة لزمام املبادرة قادرة على توسيع مسرح‬ ‫العمليات الثابت ومواصلة االستعدادات حلرب التحرير الستعادة‬ ‫سيناء األسرية ‪ .‬ولن أنهى هذه الصفحات دون تتبع تطورات هذا‬ ‫اجلهد ‪ ،‬بصفة خاصة فى جمال بناء النظام املتكامل للدفاع‬ ‫اجلوى املصرى ‪.‬‬ ‫ولكن حدث تالزم غريب بني قبول مبادرة روجرز ووقف إطالق‬ ‫النار املرتبط بها من جهة ‪ ،‬وبني النهاية الفعلية حلرب االستنزاف‪،‬‬ ‫‪164‬‬


‫بل بينها وبني دخول العمليات فى مرحلة سكون امتدت حتى‬ ‫يوم اجتياح القوات املسلحة لكثري من املواقع ‪ ،‬وعبورها قناة‬ ‫السويس فى ‪ 6‬أكتوبر سنة ‪ . 1973‬وعلى الرغم من تواصل‬ ‫اجلهود وتطور القدرات الذى انعكس فى إدارة هذه احلرب‬ ‫الوطنية بكل االقتدار ‪ ،‬وبكل احلماسة والشجاعة واإلقدام ‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من كل ما صاحب عملية العبور اجمليدة من آيات‬ ‫البطولة ونضج اخلربة ‪ ،‬وبروز رقى فنون القتال لدى أفرع القوات‬ ‫املسلحة املصرية مجيعها ‪ ،‬إال أن نتائج هذه احلرب الوطنية‬ ‫اجمليدة وحصادها جاء بأقل مما تعطيه بذورها ‪ ،‬واجلهد اخلارق‬ ‫الذى صاحب كل العمليات اخلاصة بها ً‬ ‫بدءا من البذر ورعاية‬ ‫اجلنني ‪ ،‬وانتها ًء باشتداد عودها وكرب سنابلها ‪ ،‬واألمل املقدر ملا‬ ‫حتمله من حمصول وفري ‪.‬‬ ‫ففجأة فرض على عودها اليانع أن يوقف منوه ‪ ،‬وأن يتحدد‬ ‫جماله ‪ ،‬وال غرو إذن إذا كان احلصاد ال يتواصل مع عمليات‬ ‫البذر والرعاية هلذا النبت العظيم ‪ ،‬وهذه الشجرة الباسقة القوية‪،‬‬ ‫شجرة اجلهد واخلربة والتطور داخل القوات املسلحة املصرية ‪.‬‬ ‫لقد محلت مالمح هذه الصورة فى تتابعها ‪ ،‬حتى اإلحنناء أمام‬ ‫قرب اجلندى اجملهول اإلسرائيلى الذى أذاق أبناء العروبة مدنييهم‬ ‫وعسكرييهم كل مرارة حقده األسود عليهم ‪ ،‬واجرتائه على‬ ‫ضرب مصاحلهم ‪ ،‬واغتصاب حقهم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبهتانا ‪ ،‬محلت‬ ‫وسحتا‬ ‫زورا‬ ‫البعض على االعتقاد والربط بني تالزم انتهاء االستنزاف وقبول‬ ‫مبادرة روجرز ‪ ،‬وبني ما آلت إليه احلالة املؤسفة التى أصبحنا فيها‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫فهل ً‬ ‫حقا هذا التالزم هو تالزم بني سبب ونتيجة ؟ وهل طريق‬ ‫اخلطوة خطوة بدأ من هذه اخلطوة ؟‬ ‫إننى ال أدعى منذ البداية أنه ميكن إتفاق اجلميع على نتيجة‬ ‫حول هذه القضية ‪ ،‬ولكن ما جيب توضيحه هى تلك العوامل‬ ‫التى أشرت إليها ‪ ،‬ومل أدخل فيها حتى اآلن ‪ .‬وتتبع أغوارها لدينا‬ ‫ولدى العدو لعلها تلقى أضواء تساعد كل من يريد أن يصل‬ ‫إىل احلقيقة إىل بغيته ‪ .‬فمع اشتداد وطأة حرب االستنزاف على‬ ‫قوات العدو ‪ ،‬وتطور عمليات عبور القوات املصرية لقناة السويس‬ ‫حتى وصلت إىل عبور كتيبة كاملة مبعداتها ‪ .‬ومع تصاعد‬ ‫قصف مدفعية امليدان املصرية ملواقع العدو على اجلبهة الشرقية‬ ‫لقناة السويس ‪.‬‬ ‫وقبل إقدام إسرائيل على اإللقاء بقوة سالح طريانها فى‬ ‫املعركة ‪ ،‬صرحت جولدا مائري ( رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك ) فى‬ ‫‪ 13‬نوفمرب سنة ‪ « 1969‬أنها ال ترى هناك فرصة للسالم ‪ ،‬مادام عبد‬ ‫الناصر فى احلكم» (‪ . )13‬وعادت جولدا مائري لتؤكد نفس هذه‬ ‫املعانى فى فرباير سنة ‪ ، 1970‬حيث قالت ‪ « :‬إن اهلدف السياسى‬ ‫االسرتاتيجى إلسرائيل هو إسقاط مجال عبد الناصر ‪ ،‬عسى أن‬ ‫ً‬ ‫استعدادا للتفاوض مع إسرائيل منه‪،‬‬ ‫يكون هناك من هو أكثر‬ ‫ً‬ ‫(‪)14‬‬ ‫فالبد أن أى أنسان غريه سوف يكون خمتلفا عنه» ‪.‬‬ ‫ويعلل عاموس بريملرت ( أستاذ العلوم السياسية اإلسرائيلى‬ ‫جبامعة هارفارد األمريكية ) هذا التطور فى اهلدف السياسى‬ ‫(‪ )13‬‬ ‫(‪ )14‬‬ ‫‪166‬‬

‫اللواء حسن البدرى ‪ -‬مرجع سابق ‪.‬‬ ‫اللواء حسن البدرى ‪ -‬مرجع سابق ‪.‬‬


‫االسرتاتيجى اإلسرائيلى فى دراسة له نشرتها صحيفة « معاريف‬ ‫اإلسرائيلية « آنذاك حتت عنوان « العدو كان ومازال ناصر» ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شامال للقوات املصرية ‪ ،‬فعرض جلميع‬ ‫سياسيا‬ ‫حتليال‬ ‫أورد فيه‬ ‫إمكانات التحرك املتاحة أمام مصر ‪ ،‬ابتدا ًء من احتمال عدم‬ ‫حماربة إسرائيل واحلفاظ على الوضع القائم ‪ -‬وهو ما استبعده‬ ‫ً‬ ‫فورا ‪ -‬وحتى احتمال تدمري إسرائيل كلية ‪ ..‬وتناول بالتحليل‬ ‫فرص مصر فى كسب تأييد ومساندة األصدقاء ‪ ،‬والضغط على‬ ‫األعداء فى كل من هذه االحتماالت ‪ ،‬وانتهى بريملرت فى حتليله‬ ‫إىل استنتاج أن هذه اإلمكانات املتاحة أمام مصر هى األكثر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حجما وقدرة على التأثري فى املوقت ‪،‬‬ ‫تنوعا ‪ ،‬ومن ثم فهى األكرب‬ ‫من تلك التى ميتلكها أى من أطراف أزمة الشرق األوسط ‪.‬‬ ‫وبالتاىل ‪ -‬وعلى حد تعبريه – يقول ‪ « :‬إن اإلمكانات املتاحة‬ ‫ملصر موجهة حنو جمهود مركز لتحقيق أعز القيم السياسية‬ ‫لدى عبد الناصر ‪ ،‬وهى ضرب إسرائيل « ‪ ،‬ويستطرد ‪ « :‬إن واجبنا‬ ‫املقدس اآلن هو تشجيع نظام حكم آخر فى مصر ‪ ،‬ولنجعل من هذا‬ ‫حمور اسرتاتيجيتنا العليا ‪ .‬فنخصص كل املفاوضات ‪ ،‬وكل‬ ‫سياساتنا جتاه الدول العربية واألجنبية ‪ ،‬وجتاه فلسطني واألمم‬ ‫املتحدة ‪ ،‬وكل ميزانيتنا العسكرية ‪ ،‬وكل جهودنا خللق‬ ‫صورة عنا ‪ ،‬وعن أعدائنا فى العامل ‪ ،‬كل ذلك جيب توجيهه‬ ‫من أجل زعزعة الثقة فى النظام املصرى ‪ ،‬بصفته النظام العربى‬ ‫الوحيد القادر على أن يهيئ لنفسه أحسن الفرص ملواجهتنا ‪،‬‬ ‫‪167‬‬


‫علينا اآلن حتقيق ما مل حنققه عام ‪ ، 1967‬ألن ناصر هو الزعيم‬ ‫الوحيد املوثوق فيه لدى العرب والشرق والغرب على السواء» (‪. )15‬‬ ‫وهكذا يتضح وضوح اهلدف االسرتاتيجى لقادة إسرائيل ‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من قبول مجال عبد الناصر ملبادرة روجرز وموافقته‬ ‫على وقف إطالق النار ملدة ثالثة أشهر تنتهى فى ‪ 7‬نوفمرب سنة‬ ‫‪. 1970‬‬ ‫ً‬ ‫كثريا على هذه املبادرة فقـد قال‪:‬‬ ‫إال أن عبد الناصر مل يعول‬ ‫« إننى ال أعتقد أن هلذه املبادرة أى نصيب من النجاح وفرصتها‬ ‫ً‬ ‫عموما هى‬ ‫فى ذلك ال تتعدى نصف ‪ . )16( »%‬واألهم من األقوال‬ ‫األفعال‪ ،‬فلقد استمر خط التواصل فى دعم وتطوير القوات‬ ‫املسلحة فى جمراه وفى سرعته الطبيعية ‪.‬‬ ‫وفى منتصف سبتمرب ‪ ، 1970‬قام النظام األردنى بتدبري مذحبة‬ ‫رهيبة لقوات وأنظمة منظمة التحرير الفلسطينية ‪ ،‬املستقرة‬ ‫والكبرية هناك ‪ ،‬وأقدم على إحداث أكرب تصفية للشعب‬ ‫الفلسطينى متت على أيدى غري إسرائيلية حتى حينه ‪.‬‬ ‫وحترك مجال عبد الناصر بفعل وضوح اسرتاتيجى حول‬ ‫طبيعة الصراع مع الصهيونية واالمربيالية ‪ ،‬ووضوح قوى األعداء‬ ‫لديه ‪ ،‬وقوى األصدقاء أى حتديد القوى املعاكسة ‪ ،‬وقوى احلق‬ ‫العربى ‪ ،‬ودعا زعماء العرب لعقد مؤمتر قمة عاجل لوقف‬ ‫املذحبة وخفض حدة التناقضات الثانوية ‪ ،‬كى ال تتحول إىل‬ ‫(‪ )15‬‬ ‫(‪ )16‬‬ ‫‪168‬‬

‫اللواء حسن البدرى مرجع سابق ‪.‬‬ ‫أحمد حمروش ‪ :‬مرجع سابق ‪.‬‬


‫تناقضات عدائية خترج اجلميع عن جادة الصواب فى حتديد‬ ‫العداء احلقيقى واملوضوعى لكل من االمربيالية والصهيونية‪،‬‬ ‫وجنح عبد الناصر فى مسعاه إىل حد ‪ ،‬وأوقف املذحبة ‪ ،‬وفى اليوم‬ ‫األخري ملؤمتر القمة الطارئ هذا ‪ ،‬رحل مجال عبد الناصر ‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم مما يشاع حول رحيله ‪ ،‬وعن قصة تروى عن إصابة عضلة‬ ‫قلبه بشلل بطئ ومتعمد من قبل أحد معاجليه ‪ ،‬وبالرغم من‬ ‫اختفاء مركز العناية الطبية املركزية واملنتقل من موكبه‬ ‫حلظة وقوعه فى األزمة ‪ ،‬وعلى الرغم من تصريح ألحد املسئولني‬ ‫فى البحرية األمريكية عن حدث سيهتز له العامل فى غضون‬ ‫الساعات القادمة ! ‪ ،‬ومل يك هناك من أحداث غري رحيل مجال‬ ‫عبد الناصر ‪ ،‬وعلى الرغم من كل ذلك ‪ ،‬فلقد رحل مجال‬ ‫عبد الناصر ‪ ،‬وجاء رحيله فى اجتاه رغبة أكيدة ‪ ،‬وتصرحيات‬ ‫مفضوحة للدوائر اإلسرائيلية واالمربيالية ‪ .‬وجاء رحيله قبل أن‬ ‫تنقضى فرتة وقف إطالق املقدرة بثالثة أشهر ‪.‬‬ ‫وألن النظام الوطنى املصرى املعادى لالمربيالية وإسرائيل مل‬ ‫يك كله ‪ ،‬هذا الزعيم الوطنى البارز مجال عبد الناصر فحسب ‪.‬‬ ‫ولكن هو مجاع عدة مؤسسات وطنية تربز على رأسها القوات‬ ‫املسلحة املصرية ‪ ،‬وألن القرار السياسى هو حمصلة حلركة‬ ‫وفاعلية القوى السياسية املتعددة داخل البلد احملدد ‪.‬‬ ‫وألن احلركة الوطنية والدميقراطية للشعب املصرى كانت‬ ‫فى حالة مد عارم ‪ ،‬حتركه الرغبة واملصلحة فى كسر إسرائيل‬ ‫وحترير األرض املغتصبة ‪ ،‬وعربت عنه فى سلسلة من احللقات‬ ‫‪169‬‬


‫واهلبات التلقائية واملنظمة ‪ ،‬كانت أبرزها انتفاضة ‪10 ،9‬‬ ‫يونيو ‪ 1967‬العمالقة اجلبارة ‪ ،‬وأحداث العمال والطلبة فى‬ ‫فرباير ونوفمرب سنة ‪ ، 1968‬وجنازة الشهيد عبد املنعم رياض‬ ‫فى ‪ 10‬مارس ‪ ، 1969‬وهبة اجلماهري العريضة فى جنازة الزعيم‬ ‫الوطنى اخلالد مجال عبد الناصر فى أول أكتوبر سنة ‪ ، 1970‬ثم‬ ‫مظاهرات العمال والطلبة على امتداد أعوام ‪.1973 ، 1972 ، 1971‬‬

‫وألن كل هذه عوامل فاعلة ‪ ،‬استمرت معركة تطوير القوات‬ ‫املسلحة ‪ ،‬واستمرت عملية بناء احلائط العظيم ‪ ،‬بل النظام‬ ‫املتكامل للدفاع اجلوى عن مصر كلها ‪ ،‬تسري على قدم وساق ‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من التغيري الذى حدث فى القيادة السياسية للبالد ‪،‬‬ ‫وتزايد وتنامى دور أنور السادات فى القرار السياسى والعسكرى‬ ‫من ‪ 15‬مايو سنة ‪ ، 1971‬مبا ميثله من قوى سياسية واجتماعية‬ ‫ذات توجه خمالف عن توجهات قيادة البالد إبان حرب االستنزاف ‪.‬‬ ‫وبالرغم من تفكيك احللف املعادى لإلمربيالية والصهيونية ‪،‬‬ ‫وإذكاء روح العداء للسوفيت ‪ ،‬وطرد مستشاريهم وخربائهم من‬ ‫القوات املسلحة املصرية ‪ ،‬فقد كانت احملصلة لكل هذه العوامل‬ ‫استمرار وتطوير للقوات املسلحة وسط جو الصمت والسكون ‪،‬‬ ‫حيث صمتت املدافع حلني ‪ ،‬وانتهى االستنزاف ‪ ،‬ولكن مل تنته‬ ‫عمليات التطوير والبناء ‪.‬‬

‫احلائط العظيم يكتمل ‪:‬‬ ‫بينا فيما سبق أن يوم الثامن من أغسطس سنة ‪ ، 1970‬وإن‬ ‫كان حيدد نهاية حرب االستنزاف ‪ ،‬إال أنه مل يك حيمل نفس‬ ‫‪170‬‬


‫املعنى لعملية بناء احلائط العظيم ‪ ،‬بل لعملية بناء نظام‬ ‫متكامل للدفاع اجلوى املصرى على أضالع املستطيل املصرى‬ ‫فى اجتاه اخلطر اإلسرائيلى ‪.‬‬ ‫فما هى إال أيام انقضت ‪ ،‬حتى عادت القوات واألطقم املصرية‬ ‫التى أمتت تدريباتها داخل االحتاد السوفيتى ‪ ،‬وأخذت حتل‬ ‫مكان وتستبدل مواقع القوات واألطقم السوفيتية األمامية‬ ‫ً‬ ‫متاما ‪.‬‬ ‫لتصري هذه املواقع واملعدات فى أيدى األطقم املصرية‬ ‫ولتسجيل بداية عمل املصريني على أنظمة الصواريخ من طراز‬ ‫سام ‪ ، 3‬التى أضحت بدورها تشكل ً‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا بالنسبة لبيان‬ ‫دورا‬ ‫قوات ووسائل الدفاع اجلوى كلها ‪ ،‬وحائط الصواريخ بصفة‬ ‫خاصة ‪.‬‬ ‫وأخذ العمل جيرى على قدم وساق فى عملية بناء الدشم‬ ‫اخلرسانية لوقاية وحتصني مواقع وأطقم الصواريخ من كافة‬ ‫األنظمة سواء البتشيورا أو الديسنا أو الديفينا ‪ .‬وأصبح ما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متاحا ‪ .‬فالدشم‬ ‫واقعا‬ ‫مستحيال من أشهر يقرتب من كونه‬ ‫كان‬ ‫والتحصينات أخذت تعلو وتنتشر وكأنها قطوف دانية جلهد‬ ‫دءوب للبنائني املصريني ‪ ،‬العسكريني منهم واملدنيني ومثرة‬ ‫للمشاركة السوفيتية باخلربة فى عمليات التخطيط واختيار‬ ‫املواقع ‪ ،‬والتصميم واإلشراف على التنفيذ ‪.‬‬ ‫وفى هذا اجملال لن أنسى العزم واإلصرار الذى محله أحد‬ ‫املستشارين السوفيت ‪ ،‬ممن أعمل معهم والذى قاربت مدة خدمته‬ ‫فى مصر على االنتهاء ‪ ،‬حني جاء من إجازته فى أحد األيام وأخرج‬ ‫‪171‬‬


‫ً‬ ‫مسرحا لعمليات البناء فى فرتة الكمائن‬ ‫خريطة مبوقع كان‬ ‫وقد قصفه العدو ‪ ،‬وأخذ يستحثنى على مرافقته هلذا املوقع‬ ‫ً‬ ‫تفسريا لذلك وضع يده‬ ‫للضرورة القصوى ‪ ،‬وحني طلبت منه‬ ‫على جيبه ‪ ،‬وعجز عن الكالم وقد اغرورقت عيناه بالدموع‪ ،‬مما‬ ‫جعلنى ال أحل فى طلب هذا التفسري واستأذنت وقمت ملصاحبته ‪،‬‬ ‫وإذا بنا نفاجأ فى أرض املوقع املقصوف بأطالل ملبانى مل تكتمل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعصا ‪ ،‬وأنا ال أفهم ما يدور ‪ .‬وبعد أن‬ ‫وأخذ املستشار ينبش األرض‬ ‫ً‬ ‫أعياه البحث ونبش املوقع بوصة بوصة ‪ ،‬وجدته جيرى إىل العربة ‪،‬‬ ‫وحيضر زجاجة فارغة وميلؤها جبزء من تراب املوقع ‪ ،‬بعد ذلك زفر‬ ‫ً‬ ‫تفسريا ملا جرى ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا‬ ‫وتنهد وكأنه اسرتاح ‪ ،‬فرحت أطلب‬ ‫خطاب ابن زميل ىل مقدم مهندس فى القوات املسلحة السوفيتية‪،‬‬ ‫استشهد فى هذا املوقع ‪ ،‬وهذا اخلطاب يطلب رفات أبيه ‪ ،‬أو ً‬ ‫جزءا‬ ‫من األرض التى استشهد عليها ‪ .‬وها هى فى الزجاجة ‪ ،‬وأردف ‪:‬‬ ‫لقد اسرتاح ضمريى فبعد أيام قليلة سأكون فى أرض الوطن ‪،‬‬ ‫وما كنت ألستطيع أن أقابل ولد الصديق بدون هذه الزجاجة ‪،‬‬ ‫إنها جسد أبيه ‪ ،‬وما كان هذا اجلسد غري حفنة من تراب وطنى‬ ‫امتزج فيها العرض باألرض‪ ،‬وصارت ً‬ ‫رمزا لصداقة بنيت عليها‬ ‫بالدم والعرق ‪.‬‬ ‫وهكذا وقبل أن ينتهى عام ‪ ، 1970‬أصبح حائط الصواريخ‬ ‫حقيقية مادية جمسمة بكل أبعادها ‪ .‬فلقد كثرت وحداته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سرحا أحكم بناؤه ‪ ،‬وتراصت‬ ‫وتداخلت أقواس نريانها لتكون‬ ‫ً‬ ‫بعضا ‪ .‬وأصبحت أطقمه ووحداته آمنة‬ ‫لبناته حبيث يشد بعضها‬ ‫فى مرابضها حمصنة داخل دشم خرسانية شـديدة املتانة والتحمل ‪.‬‬ ‫‪172‬‬


‫ودخلت وحداته فى أكرب عملية تدريب واجرتار خلربة القتال‬ ‫واملران على احملتمل من أساليب جديدة وأسلحة متطورة للعدو‪.‬‬ ‫وجرت عملية إحالل وتبديل للمواقع ‪ ،‬تنقلت فيها الوحدات بني‬ ‫الضلع الشرقى والضلع الشماىل هلذا احلائط العظيم ‪ .‬وجاء عام‬ ‫‪ 1971‬ليشهد قيام هذا البناء املتكامل ألنظمة الدفاع اجلوى‬ ‫املصرى ‪ .‬فهل انتهت امللحمة الكربى ؟ ‪.‬‬ ‫لإلجابة على هذا السؤال جيب تتبع ما يلى ‪:‬‬ ‫حبث عن الثغرات ‪ ..‬وسدها ‪:‬‬ ‫قلنا أنه مع نهاية ‪ : 1970‬أصبح هناك ما يسمى بنظام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فعليا على‬ ‫اعتمادا‬ ‫متكامل للدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬يعتمد‬ ‫شبكة من صواريخ سام السوفيتية من البتشيورا ‪ ،‬والديفنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫توجها‬ ‫والديسنا‪ ،‬واالسرتال « األخري صاروخ خفيف غري موجه‬ ‫ً‬ ‫راداريا ‪ ،‬ولكنه باحث عن احلرارة وله أثره البالغ ضد الطريان‬ ‫املنخفض»‪ ،‬وأن هذا النظام قد تشكل على أضالع املستطيل‬ ‫املصرى التى حيمل منها الصدام مع العدو اإلسرائيلى ‪ ،‬وبالذات‬ ‫ً‬ ‫ممتدا‬ ‫الضلع الشماىل ‪ ،‬وعلى وجه التحديد الشماىل الشرقى‬ ‫إىل غرب اإلسكندرية ‪ ،‬والضلع الشرقى وبالتحديد فى مواجهة‬ ‫قناة السويس وخليج السويس ‪ ،‬ولكن بالنظر إىل خريطة‬ ‫مصر‪ ،‬ودراسة قوات الطريان املعادية هلا دراسة مدققة بدت هناك‬ ‫ثالث ثغرات حقيقية على طول الضلعني الشماىل ‪ ،‬والشرقى‬ ‫للمستطيل املصرى ‪.‬‬ ‫‪173‬‬


‫ومل تكتف قوات الطريان اإلسرائيلى املعادى ‪ ،‬بالدراسة‬ ‫والتدقيق فقط ‪ ،‬بل راحت ختترب قدرتها على حتسس اجلسد‬ ‫املصرى بيدها الطوىل من هذه املواقع ‪ .‬وما كان لنظام حمكم‬ ‫أن يستمر دون سد هذه الثغرات وحلمها ضمن نسيج احلائط‬ ‫العظيم ‪ ،‬فأين كانت هذه التغريات ؟ ؛ وكيف استغلها طريان‬ ‫العدو ؟ ؛ وكيف ومبن سدت ؟‬ ‫كانت أوىل هذه الثغرات فى نظام الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬هو‬ ‫موقع مدينة بورسـعيد ‪ ،‬وشريط ضيق فى املسافة بينها وبني‬ ‫املنزلة ‪ .‬فمدينة بورسعيد حتيطها املياه من كل اجلوانب ‪ ،‬وال‬ ‫يربطها بداخل البالد إال طريقني جنوبها وغربها إىل الساحل ‪،‬‬ ‫ومياه البحريات ومياه البحر املتوسط ومياه قناة السويس حتاصرها‬ ‫من كل جانب ‪.‬‬ ‫وكانت مشكلة اليابسة مشكلة معقدة ‪ ،‬فال ميكن‬ ‫نصب قواعد الصواريخ على مياه البحرية ‪ .‬وعمق البحرية من‬ ‫الكرب حبيث جيعل املدينة خاضعة البتزاز الطريان‪ ،‬لذلك مت‬ ‫قدح الذمن العسكرى املصرى والسوفيتى ‪ ،‬ومت تطريز ساحل‬ ‫البحريات حبزام من املواقع احلصينة للصواريخ املضادة للطائرات‪،‬‬ ‫وعوجل ما تبقى من أى احتمال يهدد أمن املدينة ذاتها ‪ ،‬بفكرة‬ ‫الكمائن التى تعتمد على اإلخفاء والتمويه وتستغل أى لسان‬ ‫من اليابسة فى كفالة األمن للمدينة الباسلة ‪ .‬وقد قامت على‬ ‫هذه العملية أطقم الصواريخ املضادة للطائرات ‪ ،‬والتى يعمل‬ ‫عليها أطقم تشغيل مصرية كاملة ‪.‬‬ ‫‪174‬‬


‫وشاركت اخلربة السوفيتية فى التخطيط واملستشاران‬ ‫االعتياديان للوحدات فقط ‪.‬‬ ‫الثغرة الثانية والثالثة ‪ :‬يتحدد موقعها فى أماكن قرب كل‬ ‫من مدينتى أسيوط وجنع محادى ‪ .‬ففى مواجهة مدينة أسيوط‬ ‫ينقطع امتداد سالسل اجلبال الشرقية ليشقها سهل صحراوى‬ ‫يسمى ( وادى األسيوطى ) ‪ ،‬وهو ميتد من شاطئ البحر وحتى‬ ‫ً‬ ‫كثريا ‪ .‬وكانت الطائرات‬ ‫أسيوط فى مسافة ال تتعدى ‪ 50‬كم‬ ‫املعادية تستخدم هذا الوادى كممر حممى بني سالسل اجلبال‬ ‫لتنقض منه على املدينة اهلامة ‪ ،‬والتى تعد عاصمة الصعيد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجنوبا ‪.‬‬ ‫مشاال‬ ‫كما يقولون ‪ ،‬ولتتجه منها‬ ‫وباملثل كانت هناك ثغرة مماثلة عند جنع محادى ‪ .‬هذه‬ ‫املدينة اهلامة التى تقسم قناطرها الوطن إىل قسمني ‪ ،‬فعندها‬ ‫ً‬ ‫شرقا ليدخل فى الصحراء ‪ ،‬وتصري‬ ‫يضيق الوادى وينحرف النيل‬ ‫القناطر ‪ ،‬الكوبرى الذى يفصل مشال البالد عن جنوبها ‪،‬‬ ‫كذلك فهى املدينة الصناعية اهلامة وألن هذه الثغرات أبعد‬ ‫عن منطقة اجلهد الرئيسى ‪ ،‬وحيتاج سدهما إىل جمهود كبري‪،‬‬ ‫مل يك من السهل تدبريه من وحدات النظام فى ضلعيه الشماىل‬ ‫والشرقى الشماىل ‪ .‬فأى توفري لوحدة من وحدات هذا اخلط تعنى‬ ‫ً‬ ‫خلال قد يصيب احلائط فى الصميم ‪ ،‬ووحدات العمق حول القاهرة‬ ‫واإلسكندرية وأسوان تشكل حزام ال غنى عنه ‪ ،‬وخط للدفاع‬ ‫عن أهداف حيوية ال ميكن التفريط فيها ‪ .‬مرة أخرى مل يك هناك‬ ‫من منقذ غري قوات حلف معاداة االمربيالية والصهيونية ‪.‬‬ ‫‪175‬‬


‫وألن هذه القوات جاءت فى املرة السابقة بأسلحة جديدة ‪ ،‬وبنوع‬ ‫من الصواريخ مل نكن نعرفه من قبل ‪ ،‬وكان أحدث الصواريخ‬ ‫فى الدفاع اجلوى السوفيتى حتى هذا الوقت ‪ ،‬وهو صاروخ سام‪3‬‬ ‫“ البتشيورا “ فقد جاءت به القوات السوفيتية لتسد به أبواب‬ ‫نظاما يلعب ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا‬ ‫دورا‬ ‫مصر التى فتحت آنذاك ‪ ،‬ولتجعل منه‬ ‫فى بنية نظام الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬وبالذات حائط الصواريخ‬ ‫املصرى ‪ .‬وفى هذه املرة جـاءت القوات ‪ ،‬وجاءت معها باملفاجآت‬ ‫ً‬ ‫أيضا ‪ .‬فكيف جاءت ؟ ؛ ومباذا جاءت ؟‬ ‫مع نهاية شهر مارس سنة ‪ ، 1971‬مت اختيار جمموعة من‬ ‫املستشارين السوفيت حتت قيادة جنرال سوفيتى لتشارك بعض‬ ‫القادة املصريني ‪ -‬وعلى رأسهم قائد قوات الدفاع اجلوى الفريق‬ ‫(حممد على فهمى ) ‪ -‬لتخطط شبكة من مواقع الصواريخ ‪،‬‬ ‫كى يتم إعدادها وجتهيزها فى الثغرتني حول أسيوط وجنع‬ ‫محادى ‪.‬‬ ‫وقد رافقت الفريق املتجه إىل أسيوط ‪ .‬وجبهد جهيد ‪ ،‬توغلنا‬ ‫فى الصحراء هنا وهناك ‪ ،‬وتسلقنا قمم اجلبال الشاهقة باألقدام‬ ‫ً‬ ‫أحيانا الختصار املسافات ‪ .‬وركبنا سيارات اجليب السوفيتية‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أخرى‪،‬‬ ‫الصنع واملتينة والقادرة على االحتمال من طراز جاز‬ ‫لنلتف حول هذا اجلبل الشاهق حتى ننفذ منه إىل قمته على‬ ‫مدقات تستخدمها سيارات احملاجر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كثريا حكايات ومواقف اجلبال الطريفة‬ ‫وشاهدنا وعشنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ‪ ،‬والشاقة والشديدة الصعوبة أحيانا أخرى ‪ .‬فلن أنسى‬ ‫‪176‬‬


‫يوم أن قطعنا مسافة ‪ 37‬كيلو مرت فيما يقرب من أربع ساعات‬ ‫بالسيارة اجليب ‪ ،‬يومها خرج علينا ذئبان بدوا ىل فى ضخامتهما‬ ‫وكأنهما متثاالن مروعان وقد انتفضا واقفني من طريق‬ ‫الكباش فى معبد الكرنك باألقصر ‪ .‬وأخذا حيتكان بنا ‪ ،‬بل‬ ‫وجتاسرا إىل حد حماولة قلب السيارة ‪.‬‬ ‫ورحنا نبحث عن سالح لدى ركاب العربة ‪ ،‬ومل جنده ‪ ،‬وكم‬ ‫اختلط خوفنا ساعتها بضحكنا بتهكم املستشار السوفيتى‬ ‫عن جمموعة عسكرية تقوم مبهمة بدون سالح ‪ ،‬وبعد تدقيق‬ ‫وجدنا أن السائق معه رشاشه فى صندوق العربة ‪ ،‬ولكن ليس‬ ‫به طلقات ‪ ،‬وضحكنا على الذئبني وأخرجنا الرشاش من أحد‬ ‫اجلوانب وراح أحدنا يشد األجزاء ويرجعها حتى تصورا أننا نستعد‬ ‫إلطالق النار ‪ ،‬فرتكا نفسيهما للريح وتنفسنا الصعداء‪،‬‬ ‫وحسبنا غيظنا من أنفسنا ‪ .‬فكيف خنطئ هذا اخلطأ الصغري‪،‬‬ ‫الذى ميكن أن يتحول فى طرفة عني إىل خطأ كبري يكون‬ ‫ثـمنه حياتنا ‪.‬‬ ‫ولن أنسى يوم أن علمنا بأنه توجد وحدة صواريخ ضمن‬ ‫جمموعة من الوحدات أتت على عجل ‪ ،‬وكانت هذه الوحدة‬ ‫ً‬ ‫امتالكا لسجل باهى عظيم ‪ ،‬فلقد‬ ‫واحدة من أكثر الوحدات‬ ‫اشرتكت فى عمليات الكمائن وأسقطت أكثر من طائرة‬ ‫معادية ‪ ،‬واحتلت موقعها فى حائط الصواريخ على خط قناة‬ ‫السويس ‪ .‬وبعد أن أجريت هلا عمرة ما بعد القتال ‪ ،‬جاءت هنا‬ ‫على الفور لتسد الثغرة إىل حني ‪ ،‬ثم تعاود مهامها حيث أنها‬ ‫‪177‬‬


‫تدخل ضمن وحدات االحتياطى االسرتاتيجى للقادة ‪ .‬ولدى علم‬ ‫ً‬ ‫اتصاال‪،‬‬ ‫املستشار الذى أعمل معه بوجود هذه الوحدة أجرينا معهم‬ ‫ً‬ ‫وحتدد وقت الستقبالنا ‪ ،‬وكنت أعرف هذه الوحدة جيدا ‪ ،‬فهى‬ ‫مل تتمتع مبستوى قتاىل رفيع فحسب ‪ ،‬بل مبستوى إدارى عال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دائما ‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬ويبدو أن هذه مسة املنجزين‬ ‫فهم متفوقون فى كل االجتاهات ‪ ،‬حتى ولو أجادوا بعضها دون‬ ‫البعض ولو من منظورهم ‪.‬‬ ‫وبعد أن انتهينا من عمل اليوم توجهنا إىل هذه الوحدة ‪ ،‬وكم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ميدانيا ‪ ،‬وليست به‬ ‫جتهيزا‬ ‫كانت حياة جد شاقة ‪ ،‬فاملوقع جمهز‬ ‫دشم حصينة ‪ ،‬وطبيعة األرض واملكان طبيعة موحشة ‪ ،‬ورغم‬ ‫ذلك حول الرجال هذه البقعة املوحشة إىل موقع ميكن اإلقبال‬ ‫عليه ‪ ،‬وميكن أن حتس لديه بالراحة ‪ ،‬وجلسنا وأخذنا نسرتجع‬ ‫الذكريات ‪ ،‬وقائد هذه الوحدة الرائد الشاب يشكو من القذف‬ ‫به إىل هذا املكان ‪ ،‬واملستشار السوفيتى يعزيه بأنه إذا مل يك‬ ‫ً‬ ‫أهال للثقة ‪ ،‬ما أتى إىل هنا ‪ ،‬وسط صيحات اجلميع والتندر بأن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإرهاقا ‪ ،‬ويسلم املستشار السوفيتى‬ ‫عبئا‬ ‫األكثر عطا ًء أكثر‬ ‫بهذه املقولة ثم يتحفظ بقوله أن ذلك يكون كذلك ‪ ،‬طاملا‬ ‫ضاقت دائرة اخلربة ودائرة الثقة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أنفسنا أمام مأدبة غنية بكل ما لذ‬ ‫ويدعونا إىل الغداء ‪ ،‬وجند‬ ‫ً‬ ‫تنسيقا‬ ‫وطاب فى نطاق إمكانيات هذا املوقع الفقري ‪ ،‬ومنسقة‬ ‫ً‬ ‫رائعا ‪ ،‬بدت معه وكأنها امتدت على ساحة فندق سياحى‬ ‫فاخر ‪ ،‬وهممنا باجللوس ‪ ،‬وإذا برياح اخلماسني العاصفة تضع‬ ‫‪178‬‬


‫بصماتها الرملية على كل األكل واألطباق ‪ ،‬ومل جتد معها أى‬ ‫جمهودات بذلت إلنقاذ املوقف ‪ ،‬ومل يك أمامنا غري أن نتناول هذه‬ ‫الوجبة الدمسة ‪ ،‬وقد تبلت برمال الصحراء النقية الصفراء وسط‬ ‫صـيحات تعلو “ هل هذا قـدر املبدعني ؟ “ ‪ “ ،‬أهو كل يـوم مـن‬ ‫ده ! “ وأنا أترجم ‪ “ :‬حتملوا أيها الرجال تلكم واجبات مالقاة عدو‬ ‫اإلنسان وعدو األوطان “ ‪.‬‬ ‫وتطول الذكريات وتربز إىل الذهن عشرات القصص والنوادر‪،‬‬ ‫ولكن حتضرنى واقعة ذات داللة كبرية ‪ .‬فبعد انقضاء بعض‬ ‫الشهور على بداية حكم السادات ‪ ،‬أخذت بعض النغمات‬ ‫تظهر هنا وهناك حول تقصري االحتاد السوفيتى فى إمداداته لنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومتقدما ‪ .‬وألن األمر مل يتحول بعد‬ ‫حديثا‬ ‫ونوعا‬ ‫كما‬ ‫بالسالح ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إىل تيار كامل ‪ ،‬كثريا ما ترمجت بعض املناقشات بني ضباط‬ ‫مصريني تصفو سرائرهم وتبيض نوازعهم فى هذا املوضوع ‪،‬‬ ‫وبني مستشارين سوفيت ‪ ،‬وحتضرنى واقعة حوار حتمست هلا فى‬ ‫البداية للضابط املصرى الذى أثارها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نظاما‬ ‫فقال ‪ “ :‬إننى أعلم أن االحتاد السوفيتى ميتلك‬ ‫ً‬ ‫آليا‪ ،‬وآخر نصف آىل للتحكم من بعد ومن مركز واحد فى‬ ‫جمموعة متكاملة من وحدات الصواريخ ‪ ،‬وأن هذا النظام‬ ‫املتطور للغاية مل نعرفه حنن هنا بعد ‪ ،‬فلماذا مل يعطيه‬ ‫االحتاد السوفيتى لنا ؟ “ ‪.‬‬ ‫ووجهت السؤال ‪ ،‬وأضفت من عندى أن هذا إن صح تقصري من‬ ‫‪179‬‬


‫حليف حلليفه ضمن منظومات معاداة االستعمار والصهيونية ‪،‬‬ ‫فهذا شىء ال يغتفر ‪.‬‬ ‫ورد الضـابط السوفيتى ( عضو احلزب الشيوعى السوفيتى )‬ ‫ً‬ ‫قائال ‪ “ :‬هل لديكم ما يثبت أنكم طلبتم هذا ‪ ،‬وأننا مل جنب‬ ‫طلبكم ومل نلبيه “ ‪ ،‬فاندفعت من فورى ‪ “ :‬األمر ال حيتاج ألى‬ ‫طلب ‪ ،‬ألسنا شركاء كفاح ؟ “ ‪.‬‬ ‫استوقفنى الضابط السوفيتى وقال ‪ “ :‬أيها األصدقاء ال تدعونا‬ ‫خنمن احتياجاتكم ‪ ،‬وال تدعونا نقدر إمكانياتكم فى‬ ‫استخدام هذا أو ذاك ‪ ،‬فأنتم تفهمون التكنولوجيا احلديثة‬ ‫والتقدم العلمى على أنه األحدث فقط ‪ .‬إن قمة العلم‬ ‫والتكنولوجيا أن تستخدم السالح الذى يربز قوتك ‪ ،‬وتربز أنت‬ ‫نقط القوة التى فيه “ ‪ ،‬وأضاف ‪ « :‬إن الفيتناميني مل حيصلوا‬ ‫على نصف ما حصلتم عليه من أصناف ‪ ،‬ومل تكن هذه مسألة‬ ‫مطروحة على مائدة مفاوضاتهم قط ‪ ،‬وكانوا يرحبون بالسالح‬ ‫ً‬ ‫تطورا ‪ ،‬وجيربون السالح املتطور على مالقاته فى حدود‬ ‫األقل‬ ‫ً‬ ‫وضمن الظروف التى ينسجونها هم ‪ ،‬ويظهر دائما أن أداؤهم‬ ‫ً‬ ‫تفوقا ‪ ،‬فهم يستخدمون اإلدارة والعقل إىل جوار السالح ‪،‬‬ ‫أكثر‬ ‫فليس بالسالح وحده حتسم املعارك» ‪.‬‬ ‫ثم أضاف يسأل الضابط املصرى ‪ “ :‬هل درست هذا النظام الذى‬ ‫تقول عليه ؟ ودرست ظروف استخدامه ؟ “ وأجاب الضابط املصرى‪:‬‬ ‫ً‬ ‫توزيعا‬ ‫“ أنا أعلم أنه نظام متطور ‪ ،‬وهو يكفل توزيع النريان‬ ‫‪180‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تنوعا من‬ ‫اتساعا وأكثر‬ ‫حمسوبا على ضوء إمكانات أكرب‬ ‫ظروف وحدة واحدة” ‪.‬‬ ‫ورد الضابط السوفيتى ‪ً “ :‬‬ ‫حقا ما تقول ‪ ،‬ولكن أال ترى معى‬ ‫ً‬ ‫معدا‬ ‫أيها الصديق ‪ ،‬أن طاقم اللوحة املركزية جيب أن يكون‬ ‫ً‬ ‫وتكتيكيا ً‬ ‫ً‬ ‫إعدادا ً‬ ‫راقيا؟ ‪ ،‬وأن دور القائد العام للتشكيل‬ ‫فنيا‬ ‫دور يقوم على مهارات يدوية وفنية وأخرى عقلية وتكتيكية‬ ‫ً‬ ‫نسبيا ‪ ،‬ومل‬ ‫قتالية ؟‪ ،‬وأن نظام الصواريخ لديكم نظام حديث‬ ‫يتواجد قائد التشكيل األعلى الذى ترقى من ضابط توجيه درب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وفنيا على إدارة املناجل وإجراء عملية البحث والتفتيش‬ ‫يدويا‬ ‫الرادارى ؟ “ ‪.‬‬ ‫وأكمل فى سؤال ‪ « :‬أيكون النظام أحسن أم أسوأ فى ظل‬ ‫ندرة أو عدم تواجد مثل هذا القائد ؟ » وصمتنا ‪ ،‬وأحسست أن‬ ‫ً‬ ‫كثريا من حججنا قد تكسر ‪ ،‬ولكن بقيت ىل بعض قناعة‬ ‫عن أن األمر مل خيل من تقصري ‪ ،‬وقبل أن أترك القوات املسلحة‬ ‫علمت أن هذا النظام قد عمم ‪ ،‬ولكن ما حاولت معرفته ‪ ،‬أكان‬ ‫هذا أجدى أم أقل جدوى ؟ ؛ سؤال مل أحظ باجلواب عليه ألننى مل‬ ‫أعايش جتربته ‪.‬‬ ‫املهم أن هذه عينة ملا كان جيرى حول هذا املوضوع فى تلك‬ ‫األيام ‪ ،‬سردتها قبل أن أدخل إىل الواقعة ‪ ،‬وذلك بهدف حشد أكرب‬ ‫جمموعة من العناصر إلظهار الصورة على حقيقتها ‪ .‬وتتلخص‬ ‫الواقعة فيما يلى ‪:‬‬ ‫صاحبت ثالثة من املستشارين السوفيت فى أحد األيام ‪ .‬وذهبنا‬ ‫‪181‬‬


‫حندد على الطبيعة مكان موقع كان قد حتدد على اخلريطة‪.‬‬ ‫وتشعبت بنا الصحراء ‪ ،‬ومل تسعفنا خرائط الطبوغرافيا التى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثريا من‬ ‫مدربا على استخدامها ‪ ،‬وحتى‬ ‫حنملها ‪ ،‬فأنا لست‬ ‫مصطلحاتها مل مير على من قبل ‪ ،‬وفى بطن أحد اجلبال الشاهقة‬ ‫وجدت ً‬ ‫ً‬ ‫حقا‬ ‫أثرا لعسكريني ‪ ،‬وتقدمنا إليهم وعلمنا أنهم‬ ‫يشكلون وحدة عسكرية تتبع سالح املهمات والذخرية ‪ -‬فرع‬ ‫التسليح ‪ ،‬وأن وحدتهم عبارة عن خمزن كبري ‪ ،‬وهم اجلنود فى‬ ‫استحضار قائدهم ‪ ،‬وأتى القائد وهو رجل بدين مل أتوقع وجود مثل‬ ‫ً‬ ‫شخصا خفيف‬ ‫حجمه فى األفرول العسكرى ‪ .‬ولكنه كان‬ ‫ً‬ ‫مفهوما‬ ‫الظل ‪ ،‬لقبه بالعربى كان منطوق كلمة روسية تعنى‬ ‫ً‬ ‫طربا لسماعه ‪ ،‬ويعتربون أنفسهم‬ ‫يقدسه السوفيت وينتشون‬ ‫أبطال ودعاة هذا املفهوم ( السالم ) ‪.‬‬ ‫وبسبب هذا اللقب نشأت ألفة سريعة بني هذا القائد املصرى‬ ‫وبني املستشارين السوفيت ‪ ،‬وقرر أن يستضيفنا على الغداء‪،‬‬ ‫وكان مسلكه يأتى إىل خميلى بصورة شيخ البلد البدين‬ ‫املعمم صاحب املندرة الكبرية ‪ ،‬واالبتسامة املرحية ‪ ،‬والغضبة‬ ‫الشرسة اجلهول ‪ .‬وقرر ضمن ما قد قرره أن يصطحبنا فى جولة‬ ‫داخل خمازنه لريينا قمة التطور والتكنولوجيا ‪ .‬وفى جو مرح‬ ‫خفيف بدأنا هذه اجلولة ‪ .‬والتقط أحد املستشارين بعينيه ‪-‬‬ ‫وكانت رتبته عقيد مهندس ‪ ،‬ويشغل منصب كبري مهندسى‬ ‫ً‬ ‫مستشارا ملنصب‬ ‫أحد التشكيالت الكبرية فى بالده ‪ ،‬ويعمل‬ ‫مناظر فى بلدنا مصر ‪ -‬اكتشف هذا املستشار تواجد جمموعة‬ ‫من حمطات اختبار الصواريخ ‪ ،‬وأحصيناها فوجدنا منها ستة‬ ‫‪182‬‬


‫وحدات كاملة مل تفتح منذ قدمت من بالدها ‪ ،‬وأن هذه الوحدات‬ ‫الستة ميكنها متابعة وتلبية االحتياجات الفنية ملا بني ‪، 30‬‬ ‫‪ 35‬وحدة قتالية ‪ ،‬وأن هذه احملطة كانت حمل شكوى دائم‬ ‫عن نقص وحداتها ‪ .‬وتكهرب اجلو ‪ ،‬وانقلب الصفاء واملرح إىل‬ ‫صياح وزجمرة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طرفا فى احلوار‬ ‫وكان ضمن هؤالء الثالثة املستشار الذى كان‬ ‫ً‬ ‫سابقا ‪ ،‬وحتولت أنا فجأة وكأننى املسئول األول فى‬ ‫املشار إليه‬ ‫مصر ألواجه هذه الغضبة ‪ ،‬ومل يفهم القائد البدين ما الذى جرى ‪.‬‬ ‫وأفهمته ‪ ،‬فقال ‪ « :‬طيب ‪ ،‬وأنا ماىل ؟ أنا جمرد قائد خمزن» ‪.‬‬ ‫وكان املوقف قد تعقد بصورة ال يسهل معها عودة الصفاء‬ ‫ً‬ ‫سريعا ‪ .‬حاولت تفادى موجة الغضب هذه ‪ ،‬وأظهرت هلم أن هذا‬ ‫القائد غري مسئول ‪ ،‬فسأل أحدهم ‪:‬هل يبلغ القيادة مبا لديه ؟‪،‬‬ ‫وعلى الفور أحضر هذا الضابط نسخة من تقريره اليومى الذى‬ ‫يرسله إىل قيادته هو ‪ .‬وحتول غيظهم جتاهى فرتة ‪ ،‬ومع مساحة‬ ‫ً‬ ‫نسبيا ‪ ،‬ولكنهم رفضوا الغداء‪،‬‬ ‫وجه هذا الرجل البدين قل التوتر‬ ‫واكتفوا مبضغ غضبهم ‪ ،‬واقتاتوا أحزانهم وهمهم ‪ ،‬ولذت أنا‬ ‫بالصمت العميق ‪ .‬وأخذنا اجتاهنا إىل املوقع وذهبنا إليه وأجنزنا‬ ‫مهمتنا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هندسيا‬ ‫جتهيزا‬ ‫وانصب جهدنا فى هذه الفرتة على جتهيز املواقع‬ ‫ً‬ ‫سريعا ‪ ،‬وفى مواقع تبادلية كانت جترى عمليات بناء الدشم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حصينا ‪ .‬والحظت أن العمل الذى جيرى‬ ‫تشييدا‬ ‫وتشيد املواقع‬ ‫سواء فى األول أو الثانية ‪ ،‬خيتلف عما شاهدته من قبل ‪ .‬فاملخطط‬ ‫‪183‬‬


‫الداخلى لكل موقع خيتلف عن الصور املألوفة لدينا ‪ ،‬وتركيز‬ ‫املتابعة يظهر ىل بوضوح شديد ‪ ،‬فهو يتم حتت إشراف جنرال‬ ‫سوفيتى يشغل منصب مستشار رئيس عمليات الدفاع اجلوى ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن كل موقع يلحق به موقعني إداريني ‪.‬‬ ‫والحظت‬ ‫ومرت فرتة تقرب من الشهرين ‪ ،‬وفى مايو سنة ‪ 1971‬قدم‬ ‫تشكيالن كبريان يضمان جمموعة من الوحدات املتعددة‬ ‫تعمل على أصناف جديدة من الصواريخ ‪ .‬مل تك قد قدمت إىل‬ ‫مصر قبل هذا التاريخ ‪ ،‬بل أكد ىل املستشار الذى أرافقه بأنه‬ ‫مل يرها قط قبل اآلن ‪ ،‬وإذا كانت انقضت فرتة العام ملغادرته‬ ‫االحتاد السوفيتى ‪ ،‬فإنه يقطع أن هذا الطراز مل يوجد على‬ ‫اإلطالق فى أى من التشكيالت الكربى التى يعرفها ‪ ،‬إنه‬ ‫صاروخ جديد للغاية ‪ ،‬إنه صاروخ سام ‪ “ 4‬الفوجلا “ ‪ ،‬إنه الصاروخ‬ ‫املتطور الذى طور على ضوء جتارب القتال على الساحة املصرية ‪،‬‬ ‫إنه حيمل إمكانيات هائلة للمناورة املكانية فهو مثبت على‬ ‫قواعد إطالق متحركة ‪.‬‬ ‫لقد اجته أحد الفريقني إىل جنع محادى ‪ ،‬وظل اآلخر فى‬ ‫أسـيوط ‪ ،‬وانتشرت األطقم السوفيتية للصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات من طراز سام ‪ 4‬فى مواقعها ‪ ،‬وفى نفس التوقيت قدمت‬ ‫معها أطقم قتالية عسكرية مساعدة تعمل على سالح أشبه‬ ‫باملدفعية الصاروخية اخلفيفة ‪ ،‬يقوم مبهام احلماية حول املوقع‬ ‫األصلى ‪ ،‬وهو سالح جد متطور ‪ ،‬إنها مدافع “ الشيلكا “ ذات‬ ‫املواسري األربعة واحملمولة على شاسيهات الدبابات ‪.‬‬ ‫وتواجد إىل جوار كل طاقم قتاىل سوفيتى ‪ ،‬طاقم مصرى‬ ‫‪184‬‬


‫متكامل ‪ ،‬سواء فى وحدات الصواريخ أو فى وحدات املدفعية‬ ‫من طراز «الشيلكا» ‪ .‬وحتددت بهذا مهمة كل طاقم سوفيتى‬ ‫فى اجتاهني ‪ ،‬األول ‪ :‬القيام مبهمة العمل القتاىل ‪ ،‬واالشرتاك‬ ‫ضمن شبكة الدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬وفى نظام متكامل يقوم‬ ‫على فكرة التغطية املتبادلة بني وحدات الصواريخ من ذات‬ ‫الصنف من ناحية ‪ ،‬ومن ناحية أخرى تأمني كل وحدة صواريخ ‪،‬‬ ‫مبجموعة من مدافع الشيلكا تشكل عليها دائرة محاية ضد‬ ‫األهداف املنخفضة ‪.‬‬ ‫واالجتاه الثانى ‪ :‬يقوم الطاقم السوفيتى بتدريب ونقل اخلربة‬ ‫الفنية والقتالية إىل الطاقم املصرى حبيث ال يغادر األول املوقع ‪،‬‬ ‫إال ويكون الثانى فى وضع القدرة على تشغيل وإدارة الوحدة‬ ‫ً‬ ‫متاما وبصورة مستقلة ‪.‬‬ ‫واالشتباك بها‬ ‫وأذكر أن هذه الفرتة مل تشهد فقط هذه األسلحة الراقية‬ ‫واحلديثة ً‬ ‫جدا فحسب ‪ ،‬ومل تشهد األطقم السوفيتية ‪ -‬وقد‬ ‫انكبت على واجباتها القتالية والتدريبية ‪ -‬فحسب ‪ ،‬ولكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عموما‪،‬‬ ‫أيضا استخدام جمموعة متكاملة من األسلحة‬ ‫شاهدت‬ ‫فعلى سبيل املثال حظى سالح اإلشارة بأكثر حمطات االتصال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتطورا ‪ ،‬وكذلك سالح املركبات‬ ‫تقدما‬ ‫الالسلكى السوفيتى‬ ‫‪ ..‬إخل ‪.‬‬ ‫وحتمل ىل ذكرى هذه األيام فرص لن تعوض ‪ ،‬فقد عشت‬ ‫أليام ضمن وحدة سوفيتية كاملة ‪ ،‬وخربت أكلهم ‪ ،‬وطريقة‬ ‫معيشتهم ‪ ،‬وبرناجمهم اليومى ‪ ،‬ونظام جتنيدهم ‪ ،‬وطريقتهم فى‬ ‫‪185‬‬


‫التدريب والقتال ‪ ،‬والعالقات بني الضابط واجلنود ‪ ،‬ورأيت ما‬ ‫يبذلونه من جهد وعمل ضمن نظام دفاعنا اجلوى ‪.‬‬ ‫ولن أنسى احلاالت املتكررة لنزيف اجلنود من الشباب‬ ‫ً‬ ‫نظرا للحر الشديد واجملهود املضنى ‪ ،‬فمازالت ترتسم‬ ‫السوفيتى‬ ‫فى ذاكرتى صورة هذا الشاب السوفيتى الذى مل يبلغ التاسعة‬ ‫عشر من عمره ‪ ،‬حينذاك ‪ ،‬وقد اندفع الدم من أنفه ومن عينيه‬ ‫ومن أذنه نتيجة جمهود وقيظ ذلك اليوم ‪ ،‬إن حرارة مشس اجلنوب‬ ‫الالفحة التى فجرت الدم ‪ ،‬وأسالته من أنوف ومآقى وآذان بعض‬ ‫ً‬ ‫دفاعا عن أرضنا‪،‬‬ ‫الشباب السوفيتى الذى جاء ليقاتل إىل جوارنا‬ ‫وضد عدونا املشرتك االمربيالية وربيبتها إسرائيل ‪ ،‬ألقل حرارة‬ ‫من حرارة الوجدان املصرى األصيل والوفى ‪ ،‬والعارف بعمق أبعاد‬ ‫الصداقة املصرية السوفيتية التى سطرتها دماء الشهداء وجهد‬ ‫وعرق املدافعني عن أرض مصر من خندق واحد ‪ .‬إن عمق هذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عودا من بعض النغمات الناشزة ‪،‬‬ ‫غورا وأصلب‬ ‫الصداقة ألشد‬ ‫والتى تطن بعبارات التقصري السوفيتى ‪ ،‬والضغط السوفيتى ‪،‬‬ ‫واهليمنة السوفيتية ‪ ،‬حتى ولو علت إىل حني ‪.‬‬ ‫***‬

‫نهاية اجلولة ‪:‬‬ ‫جاء منتصف عام ‪ 1971‬ليشهد اكتمال نظام فعال ومتطور‬ ‫للدفاع اجلوى املصرى ‪ ،‬تلعب فيه أنظمة الصواريخ املضادة‬ ‫للطائرات من طراز سام السوفيتية الدور الرئيسى ‪ ،‬لقد كان‬ ‫لدينا مع بداية حرب االستنزاف صنف واحد من هذه الصواريخ ‪،‬‬ ‫‪186‬‬


‫اتسعت أصناف هذا النظام لتصري ستة أنظمة للصواريخ املوجهة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحراريا من أصناف الديفنا ‪ ،‬والديسنا ‪ ،‬والبتشيورا ‪،‬‬ ‫راداريا‬ ‫والفوجلا ‪ ،‬واإلسرتيال ‪ ،‬والشيلكا ‪.‬‬ ‫لقد تعددت وحدات هذا النظام ‪ ،‬وشاركت فى إجناز مهماته‬ ‫ً‬ ‫قتاليا أطقم مصرية وأطقم سوفيتية ‪ ،‬وعلت أبنية هذا النظام‬ ‫وتراصت لبناته لريتفع حول مصر من أكثر من اجتاه حيتمل‬ ‫منها أن يأتى عدو مصر والعرب إسرائيل ومن وراء إسرائيل ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما ‪ ،‬قلت بصدده فى بداية هذه الذكريات ‪ ،‬رمبا‬ ‫حائطا‬ ‫اشتهر عن سور الصني العظيم ‪ ،‬ومن املؤكد أنه أدى خدمات‬ ‫دفاعية ملصر ال ميكن لسور الصني العظيم أن يؤديها فى عصر‬ ‫الطريان واجليوش املتطورة واألسلحة احلديثة ‪ ،‬وإذا محل سور‬ ‫الصني العظيم صفته باعتباره أحد عجائب الدنيا السبع ‪ ،‬فإن‬ ‫حائط الصواريخ املصرى ‪ ،‬سوف حيمل ذكرى ستخلدها األجيال‬ ‫القادمة ‪ ،‬وكتب التاريخ العسكرى ‪ ،‬فعلى عتباته دارت أول‬ ‫معارك ما يسمى باحلرب ( االلكرتونية احلديثة ) ‪ ،‬وعلى‬ ‫عتباته أسقطت أحدث الطائرات األمريكية الصنع اإلسرائيلية‬ ‫التشغيل حتى حينه ‪ ،‬وعلى عتباته احنصر نفوذ القوة اجلبارة‬ ‫للعسـكرية اإلسرائيلية الغامشة والتى تتجسد فى يدها‬ ‫الطوىل ‪ ،‬سالح الطريان املعادى ‪ ،‬إنه احلائط العظيم ‪.‬‬ ‫وقبل أن تفرغ قصتى مع هذا احلائط العظيم ‪ ،‬بقيت بعض‬ ‫سطور تكمل رتوش هذه الصورة التى أود أن تساوى ما كتبت‬ ‫به من مداد ‪ ،‬وإن كنت أعلم أنها ستعجز عن الوفاء لقطرة دم‬ ‫‪187‬‬


‫واحدة سالت من شهيد واحد مصرى أو سوفيتى دافع عن تراب‬ ‫وطنى احلبيب مصر ‪.‬‬ ‫فبعد أن فرغت من املشاركة فى سد ثغرات اجلنوب ‪ ،‬جاء دورى‬ ‫للمشاركة فى سد ثغرات الشمال ‪ ،‬وكانت األقدار أرادت أن‬ ‫ً‬ ‫شاهدا واسع الرؤية واالحتكاك هلذه التجربة هلذه‬ ‫جتعل منى‬ ‫التجربة العميقة ‪ ،‬واخلربة الثرية للعسكرية املصرية ‪.‬‬ ‫فلقد توافق أمر التحرك لوحدتى الحتالل موقع الكمني فى‬ ‫الشمال ‪ ،‬لطلب قدم ووفق عليه وكان سينفذ بعد يومني ‪ ،‬هذا‬ ‫الطلب كان طلب إجازة إلمتام مراسيم زواجى ‪.‬‬ ‫ولن أنسى نوبة الضحك التى غرق فيها املستشار السوفيتى‬ ‫حلظة علمه بهذا األمر ‪ ،‬وقوله ‪ « :‬يبدو أنك بعد جهدك وانشغالك‬ ‫فى جتهيز بيتك املضنى هذا لن تتزوج» ‪ ،‬فقلت له ‪ « :‬ملاذا ؟» ‪،‬‬ ‫فأجابنى إجابة متقطعة بضحكات هستريية ‪ « :‬لقد جاء أمر‬ ‫حترك لكمني» ‪ .‬وأسكتنى الذهول ‪ ،‬وتتطاير الشرر من عينى‬ ‫لضحكه ‪ ،‬وهممت بالكالم ‪ ،‬ولكنه تدارك املوقف ‪ ،‬وقال ‪« :‬‬ ‫فلنتحرك ً‬ ‫أوال لنستقر فى املكان اجلديد ‪ ،‬وبعدها سأطلب لك‬ ‫اإلجازة بنفسى ‪ ،‬فإذا مل نستطع ‪ ،‬سأدبرها مع قائد الوحدة» ‪.‬‬ ‫وكان هذا املستشار حديث فى مقدمه إىل مصر ‪ ،‬ومل يلتقط‬ ‫بعد الكلمات العربية التى تساعده على حد أدنى من التفاهم ‪.‬‬ ‫وحتركنا ‪ ،‬واحتللنا موقعنا ‪ ،‬ثم تأخر نزوىل يوم واحد ‪ ،‬وسافرت‬ ‫قبل زفافى بيوم واحد ‪ ،‬وتزوجت ومل تطل إجازتى ‪ ،‬فقد مت‬ ‫استدعائى ملصاحبة وفد سوفيتى قادم لتوه للطواف بوحدات قطاع‬ ‫‪188‬‬


‫معني ‪ ،‬لشرح وتدريب األطقم القتالية على كيفية استخدام‬ ‫وحدات جديدة أضيفت إىل احملطات لتقليل آثار عمليات التداخل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نظريا‬ ‫جهدا‬ ‫والتشويش الرادارى ‪ .‬ورافقت هذا الوفد ‪ ،‬وقد بذلنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما ‪ ،‬أتى بثمار كبرية فيما بعد ‪ ،‬وبعد انتهاء هذه‬ ‫وتدريبيا‬ ‫اجلولة رجعت إىل الوحدة ‪ ،‬ومنها إىل املنزل حيث واصلت ما انقطع‬ ‫من إجازة الزواج ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قتاليا ‪ ،‬ومل حيسم ما‬ ‫سلميا أو‬ ‫وانتهى عام ‪ 1971‬عام احلسم إن‬ ‫كنا ننتظر حسمه ‪ ،‬واتضح أن األسباب تكمن فى الضباب ‪.‬‬ ‫ورغم أن الضباب ظاهرة طبيعية ‪ ،‬إال أن السادات تصور أن احلرب‬ ‫التى نشبت فى شبه القارة اهلندية قد لفتنا بالضباب ‪ ،‬وتذكرت‬ ‫ً‬ ‫يوما يتغنى بها‬ ‫أغنية أوبراليه روسية انفجر أحد املستشارين‬ ‫عندما كنا نسري فى رتل من أرتال حتركاتنا الكثرية ‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫كثيفا ‪ ،‬وهى تقول « خلف الضباب ال ترى‬ ‫كان الضباب‬ ‫األشياء» ‪ ،‬ومل يدر خبلدى حلظة واحدة أن السادات كان قد مسع‬ ‫ً‬ ‫عنوانا إلحدى خطبه فى تربيره‬ ‫هذه األغنية ‪ ،‬ولكنها كانت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سلميا أو قتاليا بال حسم ‪.‬‬ ‫النقضاء عام احلسم‬ ‫ً‬ ‫بعضا من خطواته ‪ ،‬ووجدت استدعا ًء آخر‬ ‫وخطا عام ‪1972‬‬ ‫يطلبنى ‪ ،‬ومل يك هذه املرة استدعاء من إجازة لعمل ‪ ،‬ولكنه‬ ‫كان استدعاء من قيادة الدفاع اجلوى يطلبنى من وحدتى ‪.‬‬ ‫ولبيت الطلب ‪ ،‬وذهبت إىل حيث استدعيت ‪ ،‬وعلمت أن هناك‬ ‫ً‬ ‫قرارا باستبعادى عن الرتمجة ومصاحبة املستشارين واخلرباء‬ ‫ً‬ ‫تفسريا لذلك ‪ ،‬مل أحظ بأى رد ‪ ،‬ووجدتنى‬ ‫السوفيت ‪ ،‬وملا طلبت‬ ‫‪189‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومبعدا إىل أقصى‬ ‫مطاردا‬ ‫رقيبا باجليش ‪،‬‬ ‫فى حجمى احلقيقى‬ ‫الوحدات على ساحل البحر األمحر ‪.‬‬ ‫وتذكرت جهدى وذكرت به من يريد ‪ ،‬ومل أجد ً‬ ‫أذنا صاغية‪،‬‬ ‫وقررت رفض العقاب على فعل يعجز أحد عن بيانه ‪ ،‬وطلبت‬ ‫ً‬ ‫تفسريا مرة أخرى ‪ ،‬ووعدت بذلك ‪ ،‬وبعد جتدد مدة الوعد مرة‬ ‫ثم مرات ‪ ،‬مل جيبنى أحد بنبت شفة ‪ ،‬وتشبثت مبوقف حمدد ‪،‬‬ ‫إذا كنت فعلت أى خطأ ‪ ،‬فأوىل بى أن أظل فى هذا املبنى الفخم‬ ‫حتت رقابة من يريد أن يعاقبنى ‪ ،‬فأنا رجل متزوج وتضاعفت‬ ‫خدمتى فى القوات املسلحة عن املدة املقررة بثالثة أضعافها ‪ ،‬وإذا‬ ‫كنت سأجلس فى الظل ‪ ،‬فال شك أن ظل القيادة أحسن وأنعم ‪.‬‬ ‫وبعد جهد جهيد مت توزيعى عن وحدة من وحدات الدفاع اجلوى ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تسليحا سوفيتى الصنع‪،‬‬ ‫كان شرطها الوحيد ‪ ،‬أن ال يكون بها‬ ‫ً‬ ‫وفعال ‪ -‬ومع بداية مارس سنة ‪ - 1972‬نقلت إىل وحدة قريبة من‬ ‫منزىل للمدفعية املضادة للطائرات ‪ ،‬كان تسليحها إسبانى ‪،‬‬ ‫وترجع أعمار مدافعها إىل نهاية احلرب العاملية الثانية ‪.‬‬ ‫وعشت فى هذه الوحدة اجلديدة حواىل أربعة شهور ‪ ،‬وذات صباح‬ ‫ وعلى وجه التحديد فى ‪ 21‬يوليو سنة ‪ - 1972‬قرأت ضمن من قرأ‬‫صحف الصباح ‪ ،‬وعلمت منها أن األمر مل يعد قرار إبعادى وطردى‬ ‫من مصاحبة اخلرباء واملستشارين السوفيت ‪ ،‬ولكن أصبح القرار‬ ‫هو طرد اخلرباء واملستشارين السوفيت أنفسهم من مصر ‪ ،‬وفى‬ ‫زمن أقل مما حدد هلم خرج املستشارون واخلرباء وأطقم القتال‬ ‫والقوات السوفيتية التى كانت تلعب ً‬ ‫دورا ً‬ ‫هاما ‪ ،‬وبنا ًء على‬ ‫‪190‬‬


‫طلب من مصر وجاءت لتنفيذ مهام الدفاع األوىل عن مدن مصر‬ ‫اآلهلة وأهدافها احليوية فى عهد الرئيس مجال عبد الناصر‪،‬‬ ‫وجاءت بأحدث صوارخيها لتسد ثغرتى نظام الدفاع الكامل‬ ‫عند جنع محادى وأسيوط فى عهد أنور السادات ‪ ،‬وأبى السادات‬ ‫إال أن يرى السوفيت استعمارين ومهيمنني ‪ ،‬ولكن كيف ؟ ؛ مل‬ ‫أيضا ‪ ،‬لقد صور السادات هذا القرار ً‬ ‫ً‬ ‫دوما‬ ‫حنظ جبواب هذه املرة‬ ‫ً‬ ‫واحدا من أعظم إجنازاته ‪ ،‬وأخذ يتغنى به حتى صرعه‬ ‫على أنه‬ ‫أحد شباب القوات املسلحة املصرية فى ‪ 6‬أكتوبر سنة ‪. 1981‬‬ ‫وبصرف النظر عن القرار وصاحبه ‪ ،‬فالتاريخ وحده هو احلكم‬ ‫على القرار وعلى صاحبه ‪ ،‬إال أن القوات السوفيتية مل تغادر‬ ‫ً‬ ‫نظاما ً‬ ‫ً‬ ‫ومتكامال للدفاع عن أجواء‬ ‫قويا‬ ‫أوطاننا إال وقد خلفت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مصر ‪ ،‬لقد ساهمت فى إقامة هذا النظام ختطيطا ومدا بالسالح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإشرافا على التنفيذ ‪ ،‬ثم ساهمت بقوات مقاتلة ‪ ،‬وروت‬ ‫وتدريبا‬ ‫ً‬ ‫بقعا كثرية من أرض الوطن مصر ‪ .‬ومع ذلك مل‬ ‫بدم الصداقة‬ ‫تذكر هذه القوات ‪ -‬وال من ميثلها ‪ -‬أنها كانت وحدها فى‬ ‫امليدان ‪ ،‬لقد ثـمنت دورها ضمن وفى إطار الدور املصرى البطل‬ ‫لقادة عظام وضباط أبطال وجنود بواسل ‪ ،‬ورأت فى سالحها‬ ‫جمرد سالح حتمله إرادة رجال ‪ ،‬ومل تتغن ‪ -‬ولو حلظة ‪ -‬بفنونها‬ ‫ً‬ ‫عامليا ‪ ،‬وبالذات فى جمال‬ ‫أو تكنولوجيتها الراقية واملشهود هلا‬ ‫الصواريخ ‪ ،‬ولكنها رأت وعلمت أن القتال بشر وسالح ‪ ،‬وأن‬ ‫ً‬ ‫دائما قبل السالح ‪.‬‬ ‫البشر‬ ‫لقد عاش املستشارون واخلرباء السوفيت بني أفراد القوات‬ ‫‪191‬‬


‫املسلحة املصرية ‪ ،‬يأكلون مما نأكل ‪ ،‬ويشربون مما نشرب ‪،‬‬ ‫مل يطلبوا ميزة أو يأتوا مبيزة معهم ‪ ،‬مل يأتوا بثالجات أو مربدات‬ ‫للمياه ‪ ،‬ومل يأتوا خبيام محراء أو زرقاء أو خضراء أو صفراء‬ ‫تذخر بأصناف املأكوالت الشهية واملعلبات الفاخرة ‪ .‬ومل ينزلوا‬ ‫بالفنادق الفاخرة على حساب القوات املسلحة ‪ ،‬ولكنهم أكلوا‬ ‫الفول معنا ‪ ،‬ولبسوا نفس األفرول ‪ ،‬وتبادلوا السجائر مع الضباط‬ ‫واجلنود ‪ ،‬وناموا فى العراء حيث مننا ‪.‬‬ ‫ولن أنسى ما حييت تلك الواقعة التى ما زالت تصيبنى‬ ‫بالقشعريرة كلما تذكرتها ‪ ،‬فبعد إرهاق عدة لياىل متتالية‪،‬‬ ‫وفى ساعة السحر أى قبل الفجر بقليل ‪ ،‬وقد نصبنا املعدات‬ ‫وفرغنا من تسطيحها وتوجيهها ‪ ،‬وبقيت عمليات الصيانة ‪،‬‬ ‫وضبط املعدات ‪ ،‬وبعض األعمال الروتينية اخلاصة بأطقم‬ ‫التعمري ومنصات اإلطالق ‪ ،‬وبني منصتى إطالق كانت هناك‬ ‫كومة من شباك التمويه ‪ ،‬ونادى املستشار السوفيتى على قائد‬ ‫الوحدة فوجده قد افرتش مرتبة فى العربة اجليب ونام عليها ‪.‬‬ ‫وجلسنا ( املستشار وأنا ) على هذه الكومة ‪ ،‬ومع لسعة برد‬ ‫ً‬ ‫ركوبا فى‬ ‫السحر ‪ ،‬وإرهاق أيام متتالية ‪ ،‬اختلسنا فيها النوم‬ ‫ً‬ ‫العربات فقط ‪ ،‬غالبنا النوم ومنت ونام املستشار متكورا على‬ ‫ندر كم مر من الوقت ‪ ،‬وصحونا على صرخات عالية‬ ‫نفسه ‪ ،‬ومل ِ‬ ‫وهرولة حنونا وصوت موتور رهيب ‪ ،‬إنه صوت إحدى اجملنزرات‬ ‫التى توجد ضمن معدات احملطة ألعمال اجلر واملناورة املكانية ‪،‬‬ ‫وكل ما كان يفصل جنزيرها عنا بضع سنتيمرتات ‪ ،‬ومل يرنا‬ ‫‪192‬‬


‫السائق ‪ ،‬ولكن ظن أنه يسري على تبة من الرمال ‪ ،‬فلما التف‬ ‫الشباك على اجلنزير أوقف اجملنزرة وراح هو ومساعده خيلصان‬ ‫اجلنزير من الشباك ‪ ،‬ففوجئا بنا وكأننا جثتني ‪ ،‬فعال صراخهما‪،‬‬ ‫وأدركنا ما كان حيدث وسيحدث ‪ ،‬وتعانقنا من فورنا ‪.‬‬ ‫وألول مرة أحس بالدمع الساخن يتساقط من عني هذا الرجل‬ ‫احلديـدى ‪ ،‬والذى عملت معه ألكثر من سـنة ‪ ،‬وأجهش‬ ‫بالبكاء ‪ ،‬وذكر طفله الصغري ذا السنوات السـت ‪ ،‬وهزنى ما‬ ‫حدث لألعماق ‪ ،‬وذهبت لقائد الوحدة ألفت نظره ملا حدث ‪ ،‬فرد‬ ‫على بالصراخ والسباب ‪ ،‬وذهبت من فورى لقائد التشكيل‬ ‫األعلى وأخربته مبا حدث ‪ ،‬فأتى مبستشاره وأخربه بالواقعة ‪،‬‬ ‫وطلب مستشار وحدتى ليتأسف له ‪ ،‬فلما علم املستشار مبا‬ ‫فعلته عنفنى ‪ ،‬وقال ‪ « :‬لقد جئنا لنحارب عدونا املشرتك ومل آت‬ ‫للنزهة ‪ ،‬وما هزنى باألمس كان جمرد نوبة ضعف أمام تصورى‬ ‫صورة طفلى وقد صار يتيما» ‪.‬‬ ‫هكذا عاش السوفيت بيننا ‪ ،‬هكذا كنا معهم ‪ .‬وها هى‬ ‫قصتى مع حائط الصواريخ قد انتهت ‪ ،‬ولعلى قد أكون أضفت‬ ‫ً‬ ‫جديدا للقارئ ‪ ،‬ولعلى أكون قد ساهمت فى تكريم‬ ‫بها‬ ‫جهد خارق قامت عليه جمموعات من أخلص أبناء هذا الوطن ‪،‬‬ ‫وأكثرهم ً‬ ‫بذال وعطا ًء ‪ ،‬ولعلى أكون قد أوضحت ما غمض من‬ ‫دور القوات السوفيتية الصديقة ‪ ،‬ورددت هلم بعض الدين وفا ًء‬ ‫ً‬ ‫وعرفانا مبصاحلها وحلفائها ‪.‬‬ ‫ملصر ولقضيتها ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولكن ما أعيه جيدا أن ما قلته وما سردته مل يف دين شهداء‬ ‫‪193‬‬


‫الوطن وشهداء الصداقة ملصر ‪ .‬فدماؤهم الطاهرة ستظل فى‬ ‫وجدانى راية للتحرر والثورة والعطاء ‪.‬‬ ‫وليغفر ىل القارئ إن كانت اختلطت األمور الشخصية باألمور‬ ‫العامة ‪ ،‬فقد عملت قدر طاقتى لتجنب اجلوانب اإلنسانية‬ ‫واحلياتية هلذه الفرتة الثرية من عمرى ‪ ،‬وبذلت اجلهد كل‬ ‫اجلهد ألصنف هذه املواد لتنطبق على النموذج احملدد للمفهوم‬ ‫االسرتاتيجى كما حددته فى مقدمة هذه الصفحات ‪ ،‬حول‬ ‫الصراع الرئيسى ومتييزه عن الثانوى ‪ ،‬وحول قوى األصدقاء‬ ‫واحللفاء ‪ ،‬وحول قوة األعداء وحلفهم ‪ ،‬وحول املهام وأولوياتها ‪ ،‬ولو‬ ‫قدر هلذه الصفحات أن تزيل تداخل املفاهيم والتشويش املتعمد أو‬ ‫غري املتعمد املرتبط بقضية وطننا ‪ ،‬لكان هذا مبلغ طموحى ‪.‬‬ ‫فنحن كما يقولون ‪ ،‬نعيش الزمن الرديء ‪ ،‬حيث نرى االستسالم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عدوا ‪،‬‬ ‫صديقا ‪ ،‬واحلليف يصنف‬ ‫سالما ‪ ،‬والعدو يصري‬ ‫يسمى‬ ‫واألخوة واألشقاء يكونون ألد األعداء ‪.‬‬ ‫وبواعث الصراع وخملفاته من مصاحل وأرض ودماء تصري بواعث‬ ‫وهواجس نفسية ‪ ،‬والعدو يصري احلكم ‪ ،‬والصراع الوطنى‬ ‫الدميقراطى املقدس ضد أعداء األوطان ومغتصبى املصاحل‬ ‫وقاهرى الشعوب يصري لعبة ‪ ،‬وإن أوراقها بيد عدو األوطان‬ ‫والشعوب ومصاحلها ‪.‬‬ ‫وعلى ضوء جتربتى التى سردتها فى الصفحات السابقة ‪ ،‬وعلى‬ ‫قدر الثقة التى تولدت من خالهلا ‪ ،‬وعلى قدر نتائجها وانتصاراتها‬ ‫‪194‬‬


‫الباهرة ‪ ،‬وعلى قدر طاقة العطاء التى تفجرت من أبناء مصر‬ ‫الذين بنوها بعرقهم وجهدهم ودمائهم ‪ ،‬وعلى قدر وقوف حلفاء‬ ‫ً‬ ‫فيضانا من أبناء‬ ‫احلق معنا ‪ ،‬وعلى قدر طاقة العطاء التى تفجرت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعونا ملهامنا ومعضالتنا ‪ ،‬أعلم علم اليقني أن هذا‬ ‫سندا لنا‬ ‫مصر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الزمن الرديء حتما سيعرب ومير ‪ ،‬بل ويفر سريعا ‪ ،‬وإنه لن يدوم‬ ‫وملصر رجاهلا ‪ ،‬وللشعب مصاحله ‪ ،‬وللحقوق وضوحها ‪ ،‬وللتاريخ‬ ‫حتميته ‪.‬‬ ‫متت‬ ‫أمحد عبد احلميد شرف‬ ‫مايو ‪1983‬‬

‫‪195‬‬



‫حرب االستنزاف *‬

‫بقلم اللواء حسن أمحد البدرى‬

‫* دراسة نشرت للواء حسن أمحد البدرى مبجلة السياسة الدولية ‪ -‬أكتوبر‬ ‫‪ - 1978‬إصدار مؤسسة األهرام ‪.‬‬



‫حرب االستنزاف‬ ‫(‪28‬سبتمرب ‪ 1968-7‬أغسطس ‪)1970‬‬ ‫بقلم‪ :‬اللواء‪ ‬حسن امحد البدرى‬ ‫التزمت الصهيونية فى تنفيذ خمططها التوسعى‪ ،‬بأسلوب‬ ‫اسرتاتيجية القضمات‪ ،‬وسلكت فى ذلك‪ ،‬نفس النهج الذى‬ ‫سارت عليه النازية من قبل مع فارق وحيد هو املدى الزمنى الذى‬ ‫يفصل بني مراحل التنفيذ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫فشهور استيعاب النازية لكل مكسب جديد قبل العودة إىل‬ ‫العدوان حتولت إىل سنوات فى املخطط الصهيونى ويعود ذلك‬ ‫الفارق إىل واقع التطور التارخيى فى املنطقة التى نشأت فيها‬ ‫كل من الصهيونية والنازية‪ ،‬وكذلك الفارق بني حجم قاعدة‬ ‫القوة التى انطلقت منها كل من العقيدتني التوسعيتني فقد‬ ‫انطلقت النازية من دولة قوية معرتف بها‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫أما الصهيونية فقد انطلقت استنادا إىل عصابات مسلحة‬ ‫وأقلية سكانية‪ ،‬وعلى أرض عربية‪ ،‬مل يكن االعرتاف الدوىل‬ ‫بسيادة السلطة الصهيونية عليها قد توفر بعد فبينما اكتفت‬ ‫األركان العظمى األملانية ببضعة أشهر فحسب‪ ،‬كفرتة هدوء‬ ‫بني قضماتها املتتالية فى النمسا ثم تشيكوسلوفاكيا ثم‬ ‫بولندا ثم فرنسا قبيل وأثناء احلرب العاملية الثانية فإن التطبيق‬ ‫الصهيونى السرتاتيجية القضمات‪ ،‬عمل على أن تطول تلك‬ ‫الفرتة إىل حنو عشر سنوات‪ ،‬كمعدل عام ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪199‬‬


‫كما أن فرتة اهلدوء التى وقعت بني غزو بولندا فى سبتمرب‬ ‫‪ 1939‬وغزو فرنسا فى مايو ‪ 1940‬وهى الفرتة التى عرفت فى‬ ‫التاريخ باسم احلرب الكاذبة والتى بلغت ثـمانية أشهر‪ ،‬قد‬ ‫متيزت بنشاط دبلوماسى وسياسى زائد لفرض األمر الواقع‪ ،‬وإجبار‬ ‫احللفاء على قبول اخلريطة النازية اجلديدة ألوروبا‪ ،‬كذلك فإن‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بزيادة‬ ‫فرتات اهلدوء بني اجلوالت اإلسرائيلية قد متيزت هى‬ ‫النشاط لفرض واقع جديد فى املسرح‪ ،‬ورسم خريطة خمتلفة له‬ ‫وينبئنا سجل التاريخ‪ ،‬أنه بقدر ما خدمت فرتة اهلدوء بني املعارك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واقتصاديا‬ ‫سياسيا‬ ‫للمنتصر‪ ،‬وقربته من حتقيق أهدافه ومراميه‪،‬‬ ‫ًَ‬ ‫ً‬ ‫ومعنويا فأنها‪ ،‬وبدرجة أشد أضرت باملهزوم ليتفشى‬ ‫وعسكريا‬ ‫اليأس فى صفوفه ويتشتت مجعه وتهبط معنوياته‪ ،‬وقد ينصرف‬ ‫الرأى العام العاملى عن قضيته‪ ،‬حتى تتوارى فى زوايا النسيان أو‬ ‫تهبط إىل قاع اهتمامات اجملتمع الدوىل ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وبتطبيق ما سبق من نظريات على الصراع العربى اإلسرائيلى‪،‬‬ ‫يتضح أنه غداة هزمية ‪ 1967‬وإسرائيل جتتاز فرتة احتواء‬ ‫مكاسب اجلولة الثالثة وتستكمل وتهيئ االستعداد جلولة‬ ‫تالية‪ ،‬كما أن جناح املخطط الصهيونى فى تلك الفرتة‪ ،‬كان‬ ‫متوقفا على استمرار اهلدوء فى املسرح‪ ،‬أو حصر الصراع فى‬ ‫أضيق احلدود املمكنة‪ ،‬وبغاية السرعة وقد أكدت املؤسسة‬ ‫العسكرية اإلسرائيلية سالمة ذلك التقدير فيما بعد‪ ،‬مبا‬ ‫مارسته من أعمال الردع اجلسيم‪ ،‬والعمليات الوقائية أو اجلهات‬ ‫املضادة املسبقة التى شنتها ضد كافة اجلبهات العربية من نهاية‬ ‫‪ ،1967‬وحتى معركة نهر البارد فى مشال لبنان ‪.‬‬ ‫‪200‬‬


‫ً‬ ‫ضررا باملصلحة القومية العربية‪ ،‬من أن يتدهور‬ ‫وليس هناك أشد‬ ‫الصراع فى املسرح إىل مستوى احلرب الكاذبة أو حالة الال حرب‬ ‫و الالسلم فالرتمجة الصادقة هلذا الوضع‪ ،‬هى إتاحة الفرصة‬ ‫للعدو لتحقيق أهدافه العدوانية‪ ،‬واحتواء مكاسبه‪ ،‬حتت أفضل‬ ‫ً‬ ‫جاهدا على فرضها فى املسرح‪ .‬‬ ‫الظروف التى ينشدها‪ ،‬ويعمل‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫كما أن أكثر ما خيدم املخطط الصهيونى‪ ،‬إطالة فرتة‬ ‫اهلدوء التى تفصل بني اجلوالت‪ ،‬كى يسهل أمامه الطريق‬ ‫لبلوغه أهدافه املرسومة وأن يكون شكل النصر الذى حتقق‬ ‫ً‬ ‫سريعا‬ ‫فى املسرح فى اجلولة العدوانية السابقة عليه‪ ،‬نصرا‬ ‫بفضل احلرب اخلاطفة‪ ،‬على أن يكون زهيد التكلفة‪ ،‬قليل‬ ‫اخلسارة املادية والبشرية‪ ،‬بفضل الضربات اجلوية املفاجئة‬ ‫املركزة‪ ،‬وعمليات التطويق البعيد وااللتفاف ثم االندفاع‬ ‫إىل األعماق التعبوية فى املسرح‪ ،‬إلفساد االتزان االسرتاتيجى‬ ‫على خمتلف اجلبهات ويؤكد تقدير املؤسسة العسكرية‬ ‫اإلسرائيليةأن هاتني الصفتني األساسيتني للنصر‪ ،‬ونعنى بهما‬ ‫السرعة وقلة التكلفة هما أكثر العوامل التى متكنها من‬ ‫‪ ‬بث اليأس فى صفوف العرب‪ ،‬وأنه ال جدوى من مواصلة النضال ‪.‬‬ ‫وإزاء هذا الواقع الذى ترتب على هزمية يونيو ‪ 1967‬والذى انتفخت‬ ‫أوداج صقور املؤسسة العسكرية الصهيونية زهوا بنصرهم‪،‬‬ ‫لدرجة أن وقف أبرز زعمائها يوم ‪ 12‬يونيو ليعلن بكل غطرسة‬ ‫بأن العرب يعرفون رقم هاتفه‪ ،‬وأنه فى إنتظار رجائهم ليأتوه‬ ‫مستسلمني ‪ ،‬إال أن أضغاث أحالمه مل تتحقق‪ ،‬بل ذهبت أدراج‬ ‫الرياح‪ ،‬حني فاجأهم العرب‪ ،‬بكل صالبة وإميان راسخ‪ ،‬وبدأت‬ ‫‪201‬‬


‫حرب االستنزاف بعد عبورها مرحلة الصمود‪ ،‬فكانت مفاجأة لقادة‬ ‫ً‬ ‫وإكبارا وإجالال من الذين يؤمنون بتسفيه العدوان ‪.‬‬ ‫إسرائيل‪،‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫ولرمبا بدت حرب االستنزاف أو حرب السنوات الثالث أقل صور‬ ‫الرفض العربى احلقيقى إجيابية من ناحية النوع لفهم إسرائيل‬ ‫(بعد استبعاد الرفض بالكالم الذى متيزت به املمارسة العربية‬ ‫ً‬ ‫حتركا‪ ،‬فى ضوء الظروف‬ ‫طويال) إال أنها كانت األنسب‬ ‫السياسية والعسكرية واملعنوية التى سادت املسرح غداة يونيو‬ ‫‪ ،1967‬لعبور فرتة اإلعداد والتجهيز ملا هو أكثر إجيابية من‬ ‫صور الصراع‪ ،‬ولتجنب سقوط قضية االحتالل اإلسرائيلى فى‬ ‫مهاوى التجمد‪ ،‬بكل ما يعنيه ذلك‪ ،‬ولكى ال تنخر اهلزمية فى‬ ‫كيان األمة العربية من ناحية‪ ،‬وحلرمان إسرائيل من االستيعاب‬ ‫اهلادئ واملتئد لنتائج إنتصارها العسكرى ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫األهداف العسكرية حلرب االستنزاف ‪:‬‬

‫‪ ‬‬ ‫إن حرب االستنزاف‪ ،‬فى مفهومها العسكرى‪ :‬هى تلك الصورة‬ ‫من الصراع املسلح اإلجيابى الذى يدور بني خصمني أو عدة‬ ‫ً‬ ‫مؤقتا وألسباب مرحلية‬ ‫خصوم ال يستطيع أحدهم أو بعضهم‬ ‫أن يستخدم قوته الرئيسية الضاربة‪ ،‬حلسم املوقف لصاحله فى‬ ‫مسرح احلرب‪ ،‬بل يفضل حصر جمال نشاطه احلربى‪ ،‬فى شن‬ ‫أعمال عسكرية متعددة‪ ،‬وإن كانت حمدودة اهلدف‪ ،‬ممتدة‬ ‫املدى والزمن تشكل فى جمموعها ً‬ ‫عبئا على العدو‪ ،‬ويعنى ذلك‬ ‫أن حرب االستنزاف جيب أن تشتمل على أنشطة عسكرية تدار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومعنويا‪ ،‬كما جيب أن‬ ‫واقتصاديا‬ ‫بشريا‬ ‫بغرض إنهاك اخلصم‬ ‫‪202‬‬


‫تهدف إىل اكتساب اخلربة امليدانية‪ ،‬وإمتام االستعداد ملواجهة‬ ‫تكون أشد حسما فى املستقبل‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫هذا عن األهداف العامة حلرب االستنزاف‪ ،‬أما األهداف التفصيلية‬ ‫فهى ‪:‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ -1‬إنزال أكرب قدر ممكن من اخلسائر البشرية بالعدو ‪.‬‬ ‫‪ -2‬النيل من معنويات العدو ‪ .‬‬ ‫‪ -3‬توفري أفضل الظروف املمكنة‪ ،‬لبناء جيش متمرس على‬ ‫احلرب‪ ،‬بهدف إنتزاع النصر فى املواجهة احلتمية التالية ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫أما بناء اجليش املتمرس على القتال‪ ،‬فال يكون إال فى هليب‬ ‫املعركة‪ ،‬وفى جمال الواقع‪ ،‬باعتبار ذلك أفضل الطرق حلشد‬ ‫القوى املسلحة‪ ،‬وخلق القائد احملنك‪ ،‬واملقاتل الكفء ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫فالتاريخ العسكرى يشري إىل أن أبناء اجليوش القوية القادرة‬ ‫قد اختذ أحد مسارين‪ ،‬أو كليهما معا ‪ :‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫فأما جيوش بنيت فى مسارح حرب بعيدة عن دوهلا‪ ،‬مثل مسرح‬ ‫غاليبوىل خالل احلرب العاملية األوىل‪ ،‬ومسرح احلرب األسبانية‬ ‫قبيل احلرب العاملية الثانية بالنسبة للجيش األملانى‪ ،‬ومسرح‬ ‫إيطاليا خالل احلرب العاملية الثانية ومسارح احلرب املعاصرة‬ ‫فى كوريا وفيتنام وشبه القارة اهلندية بالنسبة للجيش‬ ‫اإلسرائيلى‪ ،‬ولعل من قدر هلم أن يقرءوا كتاب موشى ديان عن‬ ‫حرب العصابات بعد زيارته ملسارح احلرب فى الشرق األقصى‬ ‫عام ‪ ،1966‬قد استوقفهم قوله ‪ :‬أن التطبيق الذكى لشكل‬ ‫‪203‬‬


‫املعركة القادمة‪ ،‬يتم من خالل االقتحام اجلوى الرأسى وعلى‬ ‫الرغم من ذلك‪ ،‬فقد كانت املفاجأة وحدها‪ ،‬هى التى قابلت قوات‬ ‫االقتحام اجلوى الرأسى احملمولة جوا واحملدودة العدد نسبيا التى‬ ‫دفعت بها إسرائيل إىل ميدان املعارك على اجلبهات العربية عام‬ ‫‪(1967‬وأصبحت هذه القوات اآلن من ركائز القوة اإلسرائيلية‬ ‫بعد التوسع فيها‪ ،‬واستخدامها فى العديد من االشتباكات‬ ‫العسكرية وشبه العسكرية) ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وأما جيوش بنيت فى مسرحها‪ ،‬ومن خالل أشكال بسيطة من‬ ‫القتال تتزايد وتتسع بتزايد قدرتها القتالية ومن األمثلة عليها‪:‬‬ ‫اجليش اإلسرائيلى كذلك الذى كانت قواته هى منظمات‬ ‫اهلاجاناه والباملاخ العسكرية فى فلسطني‪ ،‬فيما بني احلرب‬ ‫العامليتني األوىل والثانية‪ ،‬وحتى إعالن قيام الدولة سنة ‪1948‬‬ ‫وما تالها من أعمال إغارات ما بني ‪ 1956- 1952‬وفى هذا الصدد‬ ‫مل نزل نذكر قول ديان “أننى ال أميل إىل استخدام وسائل متثل‬ ‫املعركة إلضفاء الواقعية والتمرس على القتال فى تدريبات‬ ‫القوات اإلسرائيلية فالقوات العربية التى نغري عليها‪ ،‬ونشتبك‬ ‫معها‪ ،‬تكفل لنا مستوى ممتازا من التطعيم للمعركة” ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫ولقد كان حلرب السنوات الثالث‪ ،‬دورها البارز فى خلق املقاتل‬ ‫العربى اجلديد‪ ،‬فاجلندى العربى الذى عاد من معركة ‪1967‬‬ ‫ليقص اخلرافات عن أهوال جيش العدو الذى يقهر‪ ،‬وجنوده الذين‬ ‫يتطاير الشرر من أعينهم‪ ،‬أصبح يستهل عمليات العبور إىل‬ ‫الضفة الشرقية حتى صارت جمرد مسألة روتينية ‪ ،‬وفاق عدد‬ ‫املتطوعني للعبور قبل كل عملية العدد املطلوب اشرتاكهم‬ ‫‪204‬‬


‫فيها‪ ،‬والسبب باختصار هو أن اجلندى العربى‪ ،‬قد أتيحت له‪ ،‬وألول‬ ‫مرة منذ معارك ‪ ،1948‬فرصة متكافئة فى إالشتباك مع العدو‪،‬‬ ‫وأصبح يرى جنود األعداء جيفلون من رؤيته ‪ ،‬ويفرون حتى‬ ‫قبل أن يقتحم عليهم حتصيناتهم‪ ،‬ويرى دماءهم تسيل من هول‬ ‫ضرباته‪ ،‬وتتناثر أرواحهم ً‬ ‫فرقا عن أجسادهم ‪ ،‬فاكتشف املقاتل‬ ‫العربى نفسه‪ ،‬وعادت ثقته فى قدرته‪ ،‬فتلهف على قتال العدو‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مسبقا أنه املنتصر بعون اهلل‬ ‫وكأنه فى مباراة رياضية ‪ ،‬يعلم‬ ‫وتأييده ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وال يقتصر أثر حرب االستنزاف بالنسبة هلدف بناء جيش قادر‬ ‫ومتمرس على القتال على هذا اجلانب املعنوى فقط بل ما ال‬ ‫يقل عنه خطورة وهو ما يتصل باملفاهيم العسكرية وبتطوير‬ ‫السالح وباختيار قدرة القادة فاجليوش التى ال تبنى من خالل‬ ‫املعارك سواء أكان ذلك فى مسارح أجنبية أم حملية ال شك‬ ‫فى أنها ستدخل احلروب مبفاهيم عسكرية متأخرة ولنا فى‬ ‫ذلك عربة من اجليش الروسى الذى دخل احلرب العاملية الثانية‬ ‫مبفاهيم احلرب العاملية األوىل‪ ،‬وكذا جيش بريطانيا‪ ،‬الذى مل‬ ‫يعرف انتصارا ما بني ‪. 1939-1942‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫ذلكما مثاالن بارزان على ذلك‪ ،‬كما أن السالح الذى حارب‬ ‫به أى من اجليوش املنتصرة مبعاركه األخرية ‪ ،‬مل يكن أبدا‬ ‫هو نفس السالح الذى خاض به أوىل معاركه فى ذات احلرب ‪،‬‬ ‫فاملعارك املستمرة تدفع إىل التطوير املستمر‪ ،‬واألسلحة العربية‬ ‫فى نهاية حرب االستنزاف ‪ ،‬كانت حقا خمتلفة نوعا وليس فقط‬ ‫‪205‬‬


‫كما عن تلك التى بدأت بها هذه احلرب أما حني يسود اهلدوء‬ ‫جبهات القتال فإن معيار احلكم على نوعية السالح‪ ،‬يصبح‬ ‫إجتهادا‪ ،‬ويتفاقم خطر اكتشاف جيش ما بعد فوات األوان أنه قد‬ ‫تورط فى حرب بأسلحة اجليل السابق ‪ .‬األمر الذى عانى منه العرب‬ ‫أكثر من مرة فى صراعهم مع إسرائيل وكذلك فإن املعارك‬ ‫احلقيقية حني حتتدم‪ ،‬تصبح كالبوتقة التى تنصهر بداخلها‬ ‫املعادن ‪ ،‬فتظهر النفيس منه واخلبيث‪ ،‬كما أنها احملك للحكم‬ ‫على كفاءة القادة وقدراتهم الذهنية والقتالية وهو بالقطع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صدقا من عدد األنواط والرتب التى حيملونها على‬ ‫معيار أكثر‬ ‫صدورهم وأكتافهم‪ ،‬فى فرتات املهادنة العسكرية ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫ولقد كانت للفيلد مارشال مونتجمرى كلمة معربة قاهلا‬ ‫حني زار مصر منذ سنوات فسألته عن األسباب احلقيقية التى‬ ‫ً‬ ‫قائدا من أبرز‬ ‫نال بفضلها كل هذا التقدير‪ ،‬وتلك التى جعلته‬ ‫القادة فى التاريخ العسكرى فجاءت إجابة ذلك القائد املرموق‪،‬‬ ‫أبسط بكثري عما توقعه الكثريون ولكنها كانت أيضا‬ ‫ً‬ ‫حمظوظا‬ ‫أعمق مما يسهل استيعابه إذ أجاب بقوله‪ :‬لقد كنت‬ ‫كانت أقدميتى جتعلنى بعد هؤالء القادة الذين دفعوا من قبلى‬ ‫ً‬ ‫جيوشا غري‬ ‫مثن إهمال وختلف مفاهيم من سبقوهم‪ ،‬بأن قادوا‬ ‫مدربة وبأسلحة متخلفة ‪ ،‬تسريها املفاهيم العسكرية لقرن‬ ‫مضى وفى نفس الوقت‪ ،‬كانت أقدميتى تضعنى قبل اجليل‬ ‫الذى تعلم ممن سبقه من هؤالء الذين تطوروا فال هليب املعارك‪،‬‬ ‫فأصبحت أنا قائدهم ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪206‬‬


‫مراحل حرب االستنزاف‪:‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫مبجرد أن قرر العرب فى مؤمتر قمة اخلرطوم‪ ،‬وضع اسرتاتيجية‬ ‫قومية شاملة ملعركة التحرير استطاعوا أن يعربوا إىل مراحل ما‬ ‫بعد اهلزمية مرحلة الصمود وأن يدخلوا ثانية املراحل مرحلة الردع‬ ‫فى طريقهم إىل مرحلة التحرير ولقد مرت ثانية هذه املراحل‪ ،‬وهى‬ ‫التى جتسدت فى حرب االستنزاف‪ ،‬بعد فرتات زمنية‪ ،‬كانت‬ ‫لكل منها ظروفها فى ضوء املوقف املتطور باستمرار‪ ،‬حتت ضغط‬ ‫املعارك العسكرية ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬

‫املرحلة األوىل (‪28‬سبتمرب ‪ 68-19‬أبريل ‪:)1969‬‬ ‫‪ ‬‬

‫بدأت هذه املرحلة‪ ،‬برتاشق املدفعية عرب قناة السويس‪ ،‬وكانت‬ ‫أول إعالن إجيابى جاد وحقيقى عن التصميم العربى على رفض‬ ‫نتائج اهلزمية‪ ،‬إذ كان هذا اإلعالن بالطلقات وباالستعداد‬ ‫لدفع الثمن ولقد كانت بداية الرتاشق‪ ،‬مفاجأة تامة للقوات‬ ‫اإلسرائيلية وقد وصفها زئيف شيف أبرز املعلقني العسكريني‬ ‫اإلسرائيليني بقوله‪ :‬فى الساعة ‪ 17,40‬بينما كانت الشمس‬ ‫فى ظهر املصريني‪ ،‬تبهر أبصار رجال املدفعية اإلسرائيلية‪ ،‬بدأت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مركزا وهبط الظالم بسرعة وبذلك ضمن‬ ‫ضربا‬ ‫املدافع املصرية‬ ‫املصريون عدم تدخل الطائرات اإلسرائيلية وفى ذلك الوقت ضربوا‬ ‫حواىل ‪ 10‬اآلف قذيفة واستمرت عملية القصف حتى الغد‪ ،‬وملدة‬ ‫يومني متواليني خالل هذا األسبوع وخالل سلسلة هذا القصف‪،‬‬ ‫أطلق املصريون حواىل ‪ 40‬ألف قذيفة وقنبلة‪ ،‬جتاوز جمموع‬ ‫أوزانها ‪ 2‬مليون رطل من املتفجرات ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪207‬‬


‫املرحلة الثانية من ( ‪ 19‬أبريل ‪ 1969-4‬يونيو‪:)1969‬‬

‫‪ ‬‬ ‫وهى الفرتة التى بدأت بأول عملية عبور مصرية حمدودة إىل‬ ‫الضفة الشرقية‪ ،‬واحتالل موقع إسرائيلى لعدة ساعات‪ ،‬ورفع‬ ‫ً‬ ‫مرفرفا‪ ،‬ليعلن أن مصر على الدرب تسري‪ ،‬وأنه‬ ‫العلم املصرى عليه‬ ‫ال مناص للعدو من أن يندحر أو يعود مرغما من حيث أتى ومنذ‬ ‫ذلك التاريخ‪ ،‬أصبحت عمليات العبور تسري‪ً ،‬‬ ‫جنبا إىل جنب ‪ ،‬مع‬ ‫عمليات القصف املدفعى‪.‬‬ ‫‪ ‬‬

‫املرحلة الثالثة (‪ 5‬يونيو ‪1969-19‬يوليو ‪: )1969‬‬ ‫‪ ‬‬

‫إن ما مييز هذه املرحلة‪ ،‬هو تزايد حدة تصعيد العمل العربى‬ ‫على اجلبهة املصرية‪ ،‬فقد اختذ شكل الغارات الربية القوية‬ ‫ً‬ ‫حجما‪ ،‬حتى وصلت‬ ‫مبجموعات قتال كبرية‪ ،‬راحت تتزايد‬ ‫إىل مستوى الكتيبة الكاملة‪ ،‬وتزايدت مهامها القتالية‪ ،‬حتى‬ ‫وصلت إىل مستوى املعركة الكاملة‪ ،‬كما تزايدت مدتها‪،‬‬ ‫حتى وصلت إىل مستوى اليوم الكامل‪ ،‬بل ولعدة أيام متتالية ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫املرحلة الرابعة (‪ 20‬يوليو ‪ 1969-6‬يناير ‪: )1970‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫اعرتفت إسرائيل دون قصد بقدرة اجليش املصرى وشجاعته‪،‬‬ ‫وتضحيات أبطاله‪ ،‬وذلك ملا أصابها من خسائر فادحة‪ ،‬بفضل‬ ‫إلقدامه وبطوالته فى حرب االستنزاف التى قاست منها األمرين‪،‬‬ ‫وذلك عندما بدأت هذه املرحلة‪ ،‬بدفع سالح طريانها إىل املعركة‬ ‫ولذلك كان قرارها هذا‪ ،‬مبثابة نقطة حتول بارزة‪ ،‬ذات داللة‬ ‫خاصة إذ كانت وجهة نظر موشى ديان‪ ،‬منذ بدأت حرب‬ ‫االستنزاف‪ ،‬هى‪ :‬عدم تدخل سالح الطريان‪ ،‬إال عندما حتاول‬ ‫‪208‬‬


‫مصر العبور الشامل لقناة السويس‪ ،‬مبا جيرب إسرائيل‪ ،‬عندئذ‪،‬‬ ‫على توجيه ضربة وقائية مكثفة للقوات املصرية وكان رأى‬ ‫املعارضني لدفع سالح الطريان إىل املعركة قبل عمليات العبور‬ ‫املصرى الشاملة للقناة‪ ،‬هو أن ذلك سيكون من شأنه استهالك‬ ‫الطائرات فى عمليات غري أساسية نسبيا‪ ،‬على أن يتدخل الطريان‬ ‫‪ ‬فقط لوقف العبور الشامل للجيش املصرى‪ ،‬وليس قبل ذلك‪ .‬‬ ‫ولكن القيادة السياسية العسكرية اإلسرائيلية‪ ،‬إضطرت إىل‬ ‫إصدار أوامرها لسالح طريانها باالشرتاك فى املعارك حني وجدت‬ ‫بالقياس والدراسات أن تطورات حرب االستنزاف‪ ،‬أصبحت تنبئ‬ ‫مبعدل سريع فى تزايد القدرات العسكرية املصرية‪ ،‬التى سوف‬ ‫تنتهى دون شك باستكمال البناء إىل عملية عبور شامل‪ ،‬وحني‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬بأن حجم اخلسائر اإلسرائيلية‪ ،‬وخباصة البشرية‬ ‫شعرت‬ ‫منها‪ ،‬فى تزايد مستمر‪ ،‬وأنها ارتفعت إىل معدل يصعب قبوله‬ ‫ومما يؤيد ذلك‪ ،‬أن ما أذاعته مصادر إسرائيلية‪ ،‬يتبني أن معارك‬ ‫الشهور الثالثة مايو ويونيو ويوليو ‪ 1969‬قد أحلقت بالقوات‬ ‫اإلسرائيلية على القناة خسائر كبرية إرتفعت وفق األرقام‬ ‫اإلسرائيلية من ‪ 51‬إصابة بينهم ‪ 13‬قتيال فى مايو‪ ،‬إىل ‪ 89‬إصابة‬ ‫بينهم ‪ 17‬قتيال فى يونيو‪ ،‬إىل ‪ 112‬إصابة بينهم ‪ 30‬قتيال فى‬ ‫يوليو‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وتأكيدا هلذه الدالالت اإلجيابية التى فرضت على إسرائيل‪،‬‬ ‫دفع سالح طريانها إىل املعركة‪ ،‬رغما من التقديرات السابقة‬ ‫لوزير دفاعها وهيئة أركانها‪.‬‬ ‫‪209‬‬


‫‪ ‬يوضح ذلك زئيف شيف فيقول‪:‬‬ ‫كان السبب املباشر الذى أنهى اجلدل فى القيادة اإلسرائيلية‬ ‫حول إدخال سالح اجلو فى املعركة‪ ،‬هو عملية العبور التى‬ ‫قامت بها وحدة مصرية يوم ‪ 10‬يوليو ‪ 1969‬فى منطقة‬ ‫بور توفيق وكانت القيادة املصرية‪ ،‬قد ذكرت أن قواتها‬ ‫اخلاصة‪ ،‬قامت باقتحام املواقع اإلسرائيلية‪ ،‬وقتلت وجرحت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إسرائيليا‪ ،‬بعد ما مت احتالل املوقع ملدة ‪24‬‬ ‫جنديا‬ ‫حنو ‪40‬‬ ‫ساعة كاملة‪ ،‬وتدمري مخس دبابات إسرائيلية ومركز‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬أن ختتطف جنديا‬ ‫مراقبة واستطاعت القوات املصرية‬ ‫‪ ‬إسرائيليا‪ ،‬وأن تعود به عرب القناة إىل املواقع املصرية‪ .‬‬ ‫ويستطرد شيف قائال‪ :‬وكان ذلك هو أبرز جناح حققه املصريون‪،‬‬ ‫ومن الواضح أنه سوف حيفزهم على بذل نشاط أخر وكان ال بد‬ ‫من إيقافهم بسرعة‪ .‬واستمرت خسائرنا تتصاعد ألسبوع أخر‪،‬‬ ‫إىل أن اختذ القرار احلاسم‪ ،‬بدفع سالح الطريان إىل املعركة‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وتتناول صحيفة معاريف اإلسرائيلية املوضوع نفسه فتقول‪:‬‬ ‫أمام الضغط اهلائل الذى مارسه املصريون‪ ،‬واحلياة التى أصبحت‬ ‫ال تطاق على اجلبهة اجلنوبية رجحت القيادة اإلسرائيلية فكرة‬ ‫استخدام سالح اجلو هذا السالح الذى كانت كل التقديرات‪،‬‬ ‫تؤكد اإلصرار على االحتفاظ به للمستقبل‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وفى ‪ 7‬سبتمرب ‪ 1969‬أعلن رئيس األركان العامة‬

‫اإلسرائيلية‪:‬‬

‫لقد قامت طائراتنا بنحو ‪ 1000‬غارة فوق اجلبهة املصرية منذ‬ ‫‪ 20‬يوليو املاضى‪ ،‬وهدف هذه اإلغارات‪ ،‬هو ختفيف حدة العمليات‬ ‫‪210‬‬


‫املصرية الربية على طول قناة السويس ولكن جيب أن يكون‬ ‫ً‬ ‫مفهوما لنا‪ ،‬أن إسرائيل ال تستطيع إجبار مصر على االلتزام‬ ‫الكامل بوقف النار ‪.‬‬ ‫اجلدير باملالحظة ‪ ،‬أنه حتى هذه املرحلة وخالهلا ‪ ،‬مل تشرتك‬ ‫اجلبهة الشرقية فى القتال‪ ،‬وإمنا اقتصر النشاط فى غري جبهة‬ ‫القناة‪ ،‬على عمليات الفدائيني الفلسطينيني‪.‬‬ ‫وقد ركزت إسرائيل فى هذه املرحلة ‪ ،‬بالدرجة األوىل ‪ ،‬على‬ ‫توسيع ساحة القتال مع مصر ‪ ،‬لرتغمها على نشر قواتها فى‬ ‫اجتاهات ثانوية وفرعية ليقل احلشد املصرى على اجلبهة‬ ‫الرئيسية ‪ ،‬مبا جيرب مصر على إعادة توزيعه بشكل دفاعى‬ ‫يضر باالتزان االسرتاتيجى العربى اإلجيابى فى املسرح ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫كما اهتمت إسرائيل بفتح ممر جوى‪ ،‬على اجلبهة‪ ،‬لتستطيع‬ ‫الطائرات اإلسرائيلية‪ ،‬أن تتسلل منه إىل عمق األراضى املصرية‪،‬‬ ‫بعد تعرية اجلبهة من دفاعها اجلوى‪ ،‬كى تستدرج الطريان املصرى‬ ‫إىل جمابهة مباشرة مع الطريان اإلسرائيلى‪ ،‬وجتره إىل معارك غري‬ ‫‪ ‬متكافئة‪ ،‬مما يؤدى إىل إضعاف معنوياته‪ ،‬وانكماش عملياته‪ .‬‬ ‫وتنفيذ هلذه اخلطة‪ ،‬راحت الطائرات اإلسرائيلية‪ ،‬فى أواخر‬ ‫أغسطس وخالل سبتمرب وأكتوبر‪ ،‬وحتى أوائل نوفمرب من‬ ‫‪ ،1969‬تقصف شبكات الرادار‪ ،‬ومواقع الصواريخ املصرية‪ ،‬فى‬ ‫جبهة القناة‪ ،‬وعلى امتداد ساحل خليج السويس ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وقد وضح ملصر‪ ،‬أنه ال مناص من استمرار مزاولة الضغط على‬ ‫إسرائيل‪ ،‬برغم كل املصاعب‪ ،‬وعدم التحول إىل املوقف الدفاعى‬ ‫‪211‬‬


‫السلبى الذى تريده إسرائيل‪ ،‬وإال فقدت حرب االستنزاف غايتها‬ ‫األساسية‪ ،‬وهى القيام بأعمال هجومية مستمرة على القوات‬ ‫اإلسرائيلية حتى ال تستقر فى مواقعها فى سيناء وهلذا قامت قوات‬ ‫الصاعقة املصرية‪ ،‬بعدد من اهلجمات فى هذه الفرتة فى عمق‬ ‫سيناء‪ ،‬كما واصلت القوات اجلوية املصرية‪ ،‬هجماتها على‬ ‫األهداف اإلسرائيلية‪ ،‬مبا أثبت أنها مل تهزم خالل معارك يوليو‬ ‫وأغسطس‪ ،‬أو ينال اليأس من إرادتها ‪ .‬‬

‫وكان من أبرز العمليات العسكرية املصرية التى‬ ‫أكدت هذا االجتاه ما يلى ‪ :‬‬ ‫فى ‪ 11‬سبتمرب ‪ :1969‬قامت القوات اجلوية املصرية بأكرب‬ ‫هجوم هلا على القوات اإلسرائيلية منذ عام ‪ 1967‬إذ شنت ‪60‬‬ ‫طائرة مصرية‪ ،‬غارات مفاجئة على قوات إسرائيل فى سيناء ‪.‬‬ ‫وفى ‪ 28‬سبتمرب ‪ ،1969‬قامت وحدة مصرية خاصة حممولة‬ ‫جوا‪ ،‬بهجوم على مركز للجيش اإلسرائيلى فى منطقة املصفق‪،‬‬ ‫على مسافة ‪ 85‬كيلو مرتا شرق القنطرة ‪.‬‬ ‫وفى ‪ 2‬أكتوبر ‪ :1969‬أعلنت مصر عن قيامها بهجوم مماثل‬ ‫على العدو اإلسرائيلى فى خليج السويس وفى ليلة ‪ 3-4‬أكتوبر‬ ‫‪ :1969‬قامت الوحدات اخلاصة بهجوم كبري عرب القناة وفى ‪9‬‬ ‫أكتوبر ‪ :1969‬قامت وحدة مصرية خاصة تتكون من ‪250‬‬ ‫جنديا‪ ،‬بعبور القناة‪ ،‬واشتبكت مع أحد املواقع املعادية ودمرته ‪ .‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪212‬‬


‫املرحلة اخلامسة (‪ 7‬يناير‪ 1970‬إىل ‪ 13‬أبريل‪:)1970‬‬ ‫وللمرة الثانية‪ ،‬متنح إسرائيل دون وعى أرفع األومسة للجيش‬ ‫املصرى‪ ،‬الذى أقضى مضجعها‪ ،‬وزلزل األرض من حتتها‪ ،‬وأمطر‬ ‫عليها السماء بنار حامية من فوقها‪ ،‬فى الوقت الذى تعلن فيه‬ ‫ً‬ ‫أيضا أنها دولة همجية‪ ،‬ال حترتم املواثيق‬ ‫للعامل أمجع ودون وعى‬ ‫الدوليةوذلك حني بدأت هذه الفرتة بتصعيد خسيس وضيع‬ ‫فى اهلدف السياسى اإلسرائيلى‪ ،‬وفى نوعية األهداف املنتقاة‬ ‫ً‬ ‫عسكريا ومدنيا‪ ،‬لشن الغارات اجلوية عليها‪.‬‬ ‫فراحت تقصف معسكرات دهشور وأنشاص والتل الكبري‬ ‫وهاكستب واخلانكة على بعد كيلو مرتات من العاصمة‬ ‫املصرية‪ ،‬وزادت خالهلا من كثافة اإلغارات فى األعماق‪ ،‬ثم‬ ‫حتولت إىل ضرب األهداف املدنية فقصفت مصنع أبى زعبل‬ ‫ومدرسة أطفال فى حبر البقر وفى هذه املرحلة أيضا‪ ،‬استمرت‬ ‫اإلغارات اإلسرائيلية على القوات املصرية فى جبهة القناة‬ ‫‪ ‬وكان واضحا أن خطة إسرائيل فى هذه املرحلة‪ ،‬تستهدف اآلتى‪:‬‬ ‫استغالل الثغرات التى فتحتها اإلسرائيلية منذ يوليو ‪ 1969‬فى‬ ‫شبكة الدفاع اجلوى املصرية على القناة وخليج السويس‬ ‫للتوغل خلف اخلطوط األمامية‪ ،‬والضرب فى األعماق‪.‬‬ ‫‪ ‬مواصلة الضغط على جبهة قناة السويس‪ ،‬لعرقلة عملية بناء‬ ‫القدرة العسكرية املصرية الالزمة لالنتقال إىل مرحلة التحرير‬ ‫وتشتيت احلشد املصرى‪ ،‬وإجبار مصر على إعادة توزيع قواتها‬ ‫فى هيكل دفاعى جامد‪.‬‬ ‫‪213‬‬


‫إجهاض اإلجنازات العسكرية املصرية التى حتققت حتى‬ ‫هذه الفرتة‪ ،‬والتى قد تدفع أو جترب خمتلف األطراف العربية‪،‬‬ ‫وخباصة دول املواجهة‪ ،‬على املشاركة اإلجيابية فى اجلهد‬ ‫العسكرى املوجه ضد إسرائيل‪ ،‬حتت ضغط الرأى العام الشعبى‬ ‫فيها حماولة االسراع بتوجيه الضربات املخططة بدقة‪ ،‬إىل ما بعد‬ ‫عصب اجلهد العسكرى املصرى من أهداف ‪ ،‬على أمل إصابة‬ ‫القدرة العسكرية املصرية‪ ،‬بشلل يكسر حدة االجتاه الثورى‪،‬‬ ‫وما يلقاه من تدعيم وانتشار‪ ،‬بالتحام ثورة مصر بثورة ليبيا‬ ‫والسودان‪.‬‬ ‫هذا من حيث اخلطة وأهدافها املباشرة ‪ ،‬أما عن اهلدف السياسى‬ ‫االسرتاتيجى هلذا التطور اإلسرائيلى الذى بلغ أقصى مراحل‬ ‫التصعيد‪ ،‬فقد متثل فى الرتكيز بالدرجة األوىل على إسقاط‬ ‫نظام احلكم فى مصر باإلضافة إىل بث اليأس فى نفسية الشعب‬ ‫املصرى‪ ،‬لعله يكفر باستمرار احلرب‪ ،‬واحتماالت التحرير‬ ‫وكانت جولدا مائري رئيسة وزراء إسرائيل ‪ ،‬قد أعلنت صراحة‬ ‫فى ‪ 13‬نوفمرب ‪ 1969‬أنها ال ترى هناك فرصة للسالم ‪ ،‬ما دام عبد‬ ‫الناصر فى احلكم وفى فرباير ‪1970‬أكدت مائري من جديد‪ ،‬أن‬ ‫اهلدف السياسى االسرتاتيجى إلسرائيل‪ ،‬هو إسقاط مجال عبد‬ ‫الناصر‪ ،‬عسى أن يكون هناك من هو أكثر استعدادا للتفاوض‬ ‫من عبد الناصر ‪ ،‬فال بد أن أى إنسان غريه‪ ،‬سوف يكون خمتلفا‬ ‫عنه ‪.‬‬ ‫وحيلل عاموس بريملرت أستاذ العلوم السياسية اإلسرائيلى‬ ‫جبامعة هارفارد األمريكية‪ ،‬هذا التطور فى اهلدف السياسى‬ ‫‪214‬‬


‫االسرتاتيجى‪ ،‬فى دراسة له نشرتها صحيفة معاريف االسرايلية‬ ‫أنذاك حتت عنوان‪ :‬العدو كان وما زال ناصر أورد فيها حتليال‬ ‫سياسيا شامال للقدرات املصرية فعرض جلميع إمكانات‬ ‫التحرك املتاحة أمام مصر ابتداء من احتمال عدم حماربة إسرائيل‬ ‫واحلفاظ على الوضع القائم وهو ما استبعده على الفور حتى‬ ‫احتمال تدمري إسرائيل كلية وتناول بالتحليل‪ ،‬فرص مصر فى‬ ‫كسب تأييد ومساندة األصدقاء‪ ،‬والضغط على األعداء فى‬ ‫كل من هذه االحتماالت وانتهى بريملرت فى حتليله إىل استنتاج‬ ‫أن هذه اإلمكانات املتاحة أمام مصر‪ ،‬هى األكثر تنوعا‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فهى األكرب حجما وقدرة على التأثري فى املوقف‪ ،‬من تلك التى‬ ‫ميلكها أى من أطراف أزمة الشرق األوسط ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وانتهى بريملرت إىل حتديد اهلدف السياسى االسرتاتيجى‬ ‫إلسرائيل فى هذه املرحلة‪ ،‬فقال‪ :‬‬ ‫إن اإلمكانات املتاحة ملصر‪ ،‬موجهة حنو جمهود مركز‪ ،‬لتحقيق‬ ‫أعز القيم السياسية لدى عبد الناصر‪ ،‬وهى ضرب إسرائيل ‪ .‬‬ ‫أن واجبنا املقدس اآلن‪ ،‬هو تشجيع قيام نظام حكم آخر فى‬ ‫مصر‪ ،‬ولنجعل هذا حمور اسرتاتيجيتنا العليا فنخصص كل‬ ‫املفاوضات وكل سياستنا جتاه الدول العربية واألجنبية‪ ،‬وجتاه‬ ‫فلسطني واألمم املتحدة‪ ،‬وكل ميزانيتنا العسكرية‪ ،‬وكل‬ ‫جهودنا‪ ،‬خللق صورة عنا‪ ،‬وعن أعدائنا فى العامل‪ ،‬كل ذلك جيب‬ ‫توجيهه من أجل زعزعة الثقة فى النظام املصرى‪ ،‬بصفة كونه‬ ‫النظام العربى الوحيد القادر على أن يهيئ لنفسه أحسن الفرص‬ ‫ملواجهتنا علينا اآلن حتقيق ما مل حنققه عام ‪ ،1967‬ألن ناصر هو‬ ‫‪215‬‬


‫الزعيم الوحيد املوثوق فيه لدى العرب والشرق والغرب على السواء‬ ‫وخلال هذه الفرتة من االستنزاف املضاد والضربات اإلسرائيلية‬ ‫التى أدت إىل كشف الغطاء اجلوى املصرى‪ ،‬استطاعت القوات‬ ‫املصرية‪ ،‬برغم ذلك‪ ،‬ورغما عن التفوق اجلوى اإلسرائيلى أن‬ ‫تستمر فى عمليات هجومية نشطة بل إذا ما راجعنا العمليات‬ ‫اجلوية املصرية خالل هذه الفرتة‪ ،‬لوجدناها تفوق فى كثافتها‬ ‫أية فرتة سابقة‪.‬‬ ‫ففى ‪ 24‬يناير ‪ 1970‬أغارت الطائرات املصرية على املواقع‬ ‫اإلسرائيلية شرق حبرية التمساح‪ ،‬وفى اليوم نفسه‪ ،‬أغارت أيضا‬ ‫الطائرات املصرية على املواقع اإلسرائيلية ثالث مرات‪ ،‬وصلت‬ ‫إحداها إىل منطقة العريش‪ ،‬فى أبعد هجوم جوى مصرى منذ حرب‬ ‫‪.1967‬‬ ‫وفى ‪ 25‬يناير‪ ،‬أعلنت مصر أن وحدة من الصاعقة هامجت‬ ‫حمطة الرادار اإلسرائيلى فى منطقة حوض أبو مسارة على مسافة‬ ‫‪ 30‬كيلو مرت شرق القنطرة وفى ‪ 5‬فرباير‪ ،‬قامت وحدة مصرية‬ ‫بعبور القناة‪ ،‬ودمرت دبابتني وعربتى نصف جنزير ‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وفى ‪ 6‬فرباير أعلنت مصر أن وحدة من رجال الضفادع البشرية‬ ‫هامجت ميناء أيالت وأغرقت سفينتى متوين‪ ،‬فى هجوم مماثل‬ ‫للهجوم الذى كانت قد شنته فى ‪ 17‬نوفمرب ‪ . 1969‬‬ ‫وعلق رئيس األركان اإلسرائيلى على اهلجوم املصرى على‬ ‫إيالت‪ ،‬فاعرتف بالرباعة التنفيذية التى مت بها وفى هذه الفرتة‪،‬‬ ‫سئل عزرا وايزمان‪ ،‬عن احتماالت جناح مصر فى جذب اإلحتاد‬ ‫السوفيتى إىل مزيد من التدخل فى الشرق األوسط‪ ،‬حتت ضغط‬ ‫‪216‬‬


‫غارات العمق‪ ،‬فأجاب قائد سالح الطريان السابق ووزير املواصالت‬ ‫وقتها بقوله‪ :‬ال يوجد هناك أمل كبري فى تدخل السوفييت فى‬ ‫الشرق األوسط بضغط من مصر ‪.‬‬

‫املرحلة السادسة واألخرية‬ ‫من ‪ 13‬أبريل ‪ 1970‬إىل ‪ 7‬أغسطس ‪: 1970‬‬ ‫فى هذه املرحلة أعلنت إسرائيل عن إفالسها العسكرى فى‬ ‫ردع مصر أو النيل منها‪ ،‬وذلك بوقف غارات العمق اإلسرائيلى‬ ‫وهى مرغمة وانتهت بوقف إطالق النار على جبهة قناة السويس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اضطرارا حتت ضغط‬ ‫ولقد جاء قرار إسرائيل بوقف غارات العمق‬ ‫املفاجأة االسرتاتيجية املتطورة التى حققتها مصر‪ ،‬بإدخاهلا‬ ‫بطاريات صواريخ الدفاع اجلوى سام‪ 3-‬إىل العمق املصرى‪،‬‬ ‫إلحكام الدفاع عنها ومما يؤكد تلك املفاجأة‪ ،‬أن دافيد العازر‬ ‫رئيس األركان اإلسرائيلية‪ ،‬أدىل بتصريح قال فيه‪ :‬أن خمطط‬ ‫اجليش اإلسرائيلى لعام ‪ 1970-1971‬يتضمن مواصلة الضغط‬ ‫على مصر بالقصف اجلوى على القناة وفى األعماق ثم بعد‬ ‫تصرحيه بأيام قليلة فقط‪ ،‬إذ بإسرائيل تضطر لوقف غاراتها‬ ‫على العمق املصرى‪ ،‬نتيجة لضغط املفاجأة االسرتاتيجية‬ ‫املصرية‪ ،‬على حنو ما قدمنا‪.‬‬ ‫وبإيقاف غارات العمق‪ ،‬انقلب الوضع االسرتاتيجى‪ ،‬واستطاعت‬ ‫مصر االنتقال من فرتة‪ ،‬كانت فى جمموعها دفاعية خالل‬ ‫املرحلتني الرابعة واخلامسة إىل فرتة هى فى أساسها هجومية فى‬ ‫املرحلتني التاليتني بعدهما‪ ،‬ويعود الفضل األكرب فى ذلك إىل‬ ‫‪217‬‬


‫اخلطوة االسرتاتيجية البارعة التى جنحت القيادة السياسية‬ ‫املصرية فى اختاذها على املستويني احمللى والدوىل ومل يتوقف‬ ‫أثر هذه اخلطوة‪ ،‬على نتائجها العسكرية املتمثلة فى الدعم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خطريا‪،‬‬ ‫ومانعا‬ ‫سياسيا‪،‬‬ ‫ردعا‬ ‫احلديث واملؤثر‪ ،‬وإمنا فى كونها‬ ‫حال دون توسيع إسرائيل جملال ضرباتها على مصر‪ ،‬وتصعيد‬ ‫خططها لالستنزاف املضاد ونتيجة لذلك ركزت مصر كل قواها‬ ‫فى منطقة الصدام املباشر على امتداد قناة السويس‪ ،‬فى شكل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديا فى العنف والكثافة‪،‬‬ ‫طابعا‬ ‫هجمات برية وجوية‪ ،‬أخذت‬ ‫وازدادت كذلك اهلجمات اإلسرائيلية على القناة‪ ،‬ودخل الصراع‬ ‫أعنف مراحله وأخطرها‪ .‬وميكن أن حندد اخلطوط العامة‬ ‫للخطة املصرية فى هذه املرحلة باآلتى‪:‬‬ ‫حشد مجيع الطاقات العسكرية وتركيزها فى منطقة الصدام‬ ‫املباشر‪ ،‬ملواصلة الضغط على اخلطوط األمامية اإلسرائيلية ‪ .‬‬ ‫حتريك أنظمة صواريخ الدفاع اجلوى املصرية إىل داخل منطقة‬ ‫الصدام املباشر‪ ،‬لتخفيف التفوق اجلوى اإلسرائيلى‪ ،‬وتهيئة‬ ‫أفضل الظروف على جبهة القناة ملا يلى ذلك من أعمال تعريضة‬ ‫مصرية‪.‬‬ ‫املتابعة بالغارات اجلوية‪ ،‬والغارات الربية على اخلطوط‬ ‫اإلسرائيلية األمامية واخللفية‪ ،‬الستكمال سلسلة احللقات فى‬ ‫احلرب النفسية ‪ .‬‬ ‫ومما ال شك فيه‪ ،‬أن مصر كانت تدرك أن جناحها فى دفع‬ ‫بطاريات صوارخيها‪ ،‬وعناصر دفاعها اجلوى‪ ،‬إىل اخلطوط‬ ‫‪218‬‬


‫األمامية سيؤدى إىل نتائج خطرية بالنسبة للموقف االسرتاتيجى‬ ‫اإلسرائيلى العام‪ ،‬ألن خطوة كهذه‪ ،‬مل تكن تعنى فقط فقدان‬ ‫إسرائيل السيطرة اجلوية فوق املواقع املصرية فحسب بل فوق‬ ‫مواقعها األمامية أيضا ألن مدى الصواريخ املصرية‪ ،‬ميكن أن‬ ‫ينال حينئذ من الطائرات اإلسرائيلية ملسافة ‪20-30‬كم داخل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيا‪ ،‬وخطوة حيوية فى أية خطة‬ ‫خطرا‬ ‫سيناء وهو ما يعترب‬ ‫تستهدف اقتحام قناة السويس فى جولة مقبلة‪.‬‬ ‫وقد تنبهت إسرائيل هلذا االحتمال فقامت بقصف عنيف‬ ‫لشبكة الدفاع اجلوى املصرى فى اجلبهة‪ ،‬للحيلولة دون توسعها‬ ‫واقرتابها من القناة وكانت الغارات تستمر ‪ 24‬ساعة متواصلة‬ ‫على مواقع العمل فى قواعد الصواريخ املتقدمة ‪.‬‬ ‫وفى ‪ 30‬مارس ‪ 1970‬صرح أجيال ألون‪ :‬بأن إسرائيل تنوى القيام‬ ‫بأقصى جمهود ممكن للحيلولة دون توسع شبكة الدفاع‬ ‫اجلوى املصرية كما قال‪ :‬أن السيطرة اإلسرائيلية فوق منطقة‬ ‫القناة‪ ،‬ضرورة ال ميكن االستغناء عنها‪ ،‬فبدون هذه السيطرة‪،‬‬ ‫تستطيع املدفعية املصرية‪ ،‬أن تتمتع بتفوق ساحق فى النريان‪،‬‬ ‫وتستطيع الطائرات املصرية‪ ،‬أن تضرب املواقع اإلسرائيلية دون‬ ‫هوادة ‪ .‬أن خطتنا هى متابعة قصف شبكة الدفاع اجلوى‬ ‫املصرية احلالية واملنشآت العسكرية األخرى‪ ،‬كما سنمنع‬ ‫إقامة أية شبكة دفاعية جديدة أو ترميم الشبكات القدمية‬ ‫التى متكننا من تدمريها ‪.‬‬ ‫‪219‬‬


‫وفى ‪ 10‬مايو ‪1970‬صرح موشى ديان بأن إسرائيل لن تسمح‬ ‫بإقامة أنظمة صواريخ سام‪ 3-‬على قناة السويس ‪ ،‬وأكد أنها لن‬ ‫تقوم بأية عمليات عسكرية خارج نطاق الدفاع عن مواقعها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدا على إدراك إسرائيل للخطر‬ ‫تأكيدا‬ ‫األمامية وكان ذلك‬ ‫البالغ الذى ميكن أن تواجهه‪ ،‬إذا ما جنحت مصر فى دفع صوارخيها‬ ‫احلديثة‪ ،‬إىل منطقة اجلبهة‪ ،‬لتغطى بها عشرات الكيلو مرتات‬ ‫من مساء سيناء وتتمكن بذلك من إدارة عمليات عبور شامل إىل‬ ‫شرق القناة كما كان هذا التصريح لوزير الدفاع اإلسرائيلى‪،‬‬ ‫تعبريا عن طبيعة املرحلة اجلديدة التى دخلتها حرب االستنزاف‪،‬‬ ‫والتى أجهضت فيها حماوالت إسرائيل إلنهاء هذه احلرب‪ ،‬برفعها‬ ‫إىل أقصى درجات التصعيد ضد وفى ظروف غري متكافئة ‪،‬‬ ‫نظرا لتفوق سالحها اجلوى‪ ‬العمق املصرى ‪ ،‬وقد ركزت إسرائيل‬ ‫غاراتها اجلوية فى هذه املرحلة‪ ،‬بوحشية على الشرحية األمامية‬ ‫للجبهة املصرية على طول القناة‪ ،‬كما تعقب سالحها اجلوى‬ ‫احملاوالت املصرية املستمرة‪ ،‬لبناء قواعد الصواريخ على اجلبهة ‪،‬‬ ‫والذى سقط الكثري من عمال مصر األبطال شهداء الواجب‪ ،‬وهم‬ ‫ً‬ ‫أميانا منهم‬ ‫يعملون بال كلل على إقامة هذه القواعد اجلوية‪،‬‬ ‫بأنها سوف تزود قواتهم املسلحة بالغطاء املؤثر ضد خطر سالح‬ ‫الطريان اإلسرائيلى ‪.‬‬ ‫وقد بلغت مجلة خسائر مصر خالل شهر يونيو ‪ 678‬شهيدا‬ ‫وجرحيا شكلت نسبة‪ 0,13%‬من تعداد القوات املسلحة التى‬ ‫بلغت أنذاك حنو نصف مليون فرد وكانت نسبة اخلسائر فى‬ ‫الضباط إىل الرتب األخضر ‪ 6,5 :1‬فى الشهداء‪ ،‬و ‪ 32,5 :1‬فى‬ ‫‪220‬‬


‫اجلرحى وحتملت قوات الدفاع اجلوى أعلى نسبة خسائر بني‬ ‫سائر التخصصات األخرى (‪ )43,47%‬مما أكد استمرار تركيز‬ ‫إسرائيل على تدمري وسائل الدفاع اجلوى‪ ،‬ومنع اقرتابها من ضفة‬ ‫القناة‪ ،‬ال سيما وقد كشفت اإلحصاءات‪ ،‬أن عدد الطائرات‬ ‫اإلسرائيلية املغرية خالل شهر يونيو‪ ،‬وقد ازداد بنسبة ‪141%‬‬ ‫عما كان عليه فى شهر مايو‪ ،‬كما ازداد بنسبة ‪ 267%‬عما‬ ‫كان عليه فى شهر أبريل ‪.1970‬‬ ‫ومبقارنة أعمال العدو اجلوى فى منطقة اجلبهة‪ ،‬جند أنه خص‬ ‫اجليش الثانى بنسبة ‪ 81%‬من إمجاىل حجم القصف اجلوى‬ ‫خالل شهر يونيو‪ ،‬ومل يوجه إىل اجليش الثالث سوى ‪ 13,6%‬من‬ ‫جهوده ‪ ،‬وكان عدد أيام القصف على اجليش الثانى ‪ً 20‬‬ ‫يوما ‪،‬‬ ‫بلغت خالهلا ‪ 1638‬طلعة طائرة‪ ،‬بينما كان عدد أيام القصف‬ ‫على اجليش الثالث ‪ 12‬يوما ً‪ ،‬بلغت خالهلا ‪ 274‬طلعة طائرة‬ ‫فقط ويعود ذلك إىل أن هيكل متركز كتائب الصواريخ‬ ‫املضادة للطائرات ‪ ،‬كان أشد كثافة فى نطاق اجليش الثانى‪،‬‬ ‫وهلذا بلغ زمن القصف اجلوى عليه ‪ 204‬ساعات بينما مل يتجاوز‬ ‫زمن القصف اجلوى على اجليش الثالث ‪ 42‬ساعة فقط واجلدير‬ ‫باملالحظة‪ ،‬أن العدو مل يقم بأى قصف فى العمق ‪ ،‬وأنه خص‬ ‫التجهيزات اهلندسية لكتائب صواريخ الدفاع اجلوى بنحو ‪5,3%‬‬ ‫من إمجاىل حجم اجملهود اجلوى لشهر يونيو أما الرتاشق بنريان‬ ‫ً‬ ‫تراشقا‬ ‫املدفعية امليدانية‪ ،‬فقد بلغ على اجلانب املصرى ‪853‬‬ ‫‪ ‬مقابل ‪ 1199‬على اجلانب اإلسرائيلى‪ ،‬طوال شهر يونيو ‪ .1970‬‬ ‫وبرغم تركيز الغارات اإلسرائيلية املكثفة على اجلبهة فقد‬ ‫‪221‬‬


‫ظلت القوات املسلحة املصرية‪ ،‬تبذل أقصى اجلهد لالحتفاظ‬ ‫بالنمو اهلجومى لعملياتها بعد مرحلة االنتشار‪ ،‬التى أجنزتها‬ ‫بسرعة وجناح فى املرحلة السابقة ومن األمثلة اجلريئة هلذه‬ ‫العمليات‪ ،‬إغارة الطائرات املصرية فى ‪ 11‬أبريل ‪ 1970‬على‬ ‫املواقع اإلسرائيلية على بعد ‪ 25‬كيلو مرت خلف خطوط املواجهة‬ ‫األمامية اإلسرائيلية‪ ،‬وصلت إىل رأس سدر وعيون موسى على‬ ‫الضفة الشرقية خلليج السويس ‪.‬‬ ‫وفى ‪ 23‬أبريل‪ ،‬أغارت الطائرات املصرية على مستعمرة ناحال‬ ‫يام فى مشال سيناء‪ ،‬على بعد مائة كيلو مرت شرقى القناة ‪.‬‬ ‫وفى ‪ 25‬أبريل‪ ،‬هامجت قاذفات االليوشن‪ 28 -‬املصرية املواقع‬ ‫اإلسرائيلية قرب العريش‪ ،‬على ساحب البحر املتوسط ‪ .‬‬ ‫وفى ‪ 26‬أبريل احتلت قوة مصرية مكونة من ‪ 200‬جندى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إسرائيليا فى القطاع اجلنوبى من القناة ودمرته‪.‬‬ ‫موقعا‬ ‫وفى ‪ 28‬أبريل ‪ ،‬أغارت مقاتالت مصر القاذفة‪ ،‬من طراز‬ ‫سوخوى‪ ،‬على املواقع اإلسرائيلية‪ ،‬بينما كانت املدفعية املصرية‬ ‫تدك املواقع األمامية املعادية مبعدل ‪ 10‬قذائف فى الدقيقة ‪ ،‬وفق‬ ‫التقدير اإلسرائيلى وفى أول مايو‪ ،‬أعلنت إسرائيل أنها تصدت‬ ‫حملاولة عبور قامت بها وحدة مصرية مكونة من ‪ 80‬جنديا‪،‬‬ ‫وأنها كانت احملاولة الثالثة خالل ‪ 4‬أيام‪ ،‬وأكدت مصر أن تلك‬ ‫كانت من أجنح عمليات العبور ‪.‬‬ ‫‪222‬‬


‫وفى ‪ 3‬مايو‪ ،‬حتركت وحدة حبرية مصرية خاصة‪ ،‬وقامت‬ ‫بقصف مركز على قيادة إسرائيل فى خليج السويس‪ ،‬على‬ ‫بعد ‪ 220‬كيلو مرتا جنوبى مدينة السويس ‪.‬‬ ‫وفى ‪ 24‬يونيو ‪ ،1970‬تقدم وليام روجرز مببادرة أمريكية‬ ‫عرفت بامسه‪ ،‬جاءت حتت ضغط الواقع املتغري فى مسرح احلرب‪،‬‬ ‫بعد أيام قليلة من بلوغ العمليات املصرية ذروتها فى أسبوع تساقط‬ ‫الطائرات اإلسرائيلية ففى ‪ 3‬يونيو ‪ ،1970‬أسقطت بطاريات‬ ‫الصواريخ املصرية ‪ 4‬طائرات فانتوم وسكاى هوك‪ ،‬وأسرت مصر‬ ‫‪ 3‬طيارين وفى اليوم التاىل أسقطت قوات الدفاع اجلوى املصرى ‪3‬‬ ‫طائرات أخرى ‪ ،‬وفى يوم ‪ 6‬يونيو‪ ،‬أسقطت طائرتني جديدتني‪ ،‬ثم‬ ‫طائرة استطالع إلكرتونية‪ ،‬كانت تقل ‪ 12‬ضابطا إسرائيليا‬ ‫فوق سيناء وبلغ بذلك جمموع ما أسقطته مصر من طائرات‬ ‫الفانتوم وحدها ‪ 7‬طائرات فى شهر واحد وقد شهدت هذه املرحلة‬ ‫فى شهورها األخرية‪ً ،‬‬ ‫حربا إلكرتونية بالدرجة األوىل‪ ،‬واستمرت‬ ‫التطورات التى أدخلت على األسلحة املستخدمة من اجلانبني‬ ‫خالل املعارك العديدة بني سالح اجلو اإلسرائيلى وقوات الدفاع‬ ‫اجلوى املصرية ‪.‬‬ ‫واجته معدل القتلى اإلسرائيليني ‪ ،‬إىل االرتفاع املستمر طوال‬ ‫هذه املرحلة فوفق ما مسحت بإعالنه إسرائيل‪ ،‬بلغ عدد القتلى ‪9‬‬ ‫فى مارس ‪ ،‬ثم ‪ 27‬فى أبريل ثم ‪ 31‬فى مايو‪ ،‬وألول مرة منذ بدأت‬ ‫حرب االستنزاف ‪ ،‬نقرأ فى صحافة إسرائيل ‪.‬‬ ‫‪223‬‬


‫لقد أصبحت املبادرة األمريكية وسيلة خالص أن سياستنا‬ ‫خالل السنوات الثالثة السابقة‪ ،‬مل تكن مبثابة إجنازات جيدة‪،‬‬ ‫بل سلسلة من األخطاء الصعبة ‪ ،‬التى أدت بنا إىل نتائج خطرية‬ ‫للغاية‪ ،‬منها دخول السوفيت إىل املنطقة وظهور املنظمات‬ ‫الفدائية اإلجيابية ‪ ،‬كما جتاوزت ميزانية الدفاع‪ ،‬حنو املليار‬ ‫ً‬ ‫صحيحا‬ ‫دوالر وفقدنا أصدقاءنا وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فليس‬ ‫أن املصريني قد استنزفوا فى حرب االستنزاف ‪ ،‬وإمنا األصدق أننا‬ ‫حنن الذين استنزفنا ولذلك استجبنا للمبادرة األمريكية ‪.‬‬

‫تقويم حرب االستنزاف‬ ‫فى سجل الصراع العربى اإلسرائيلى ‪ :‬‬ ‫تنفرد حرب االستنزاف التى دارت على مدى ثالث سنوات ضد‬ ‫العدو اإلسرائيلى‪ ،‬بأنها كانت أطول حرب أدارها العرب منذ‬ ‫اجلولة األوىل ‪ ،1949 -1947‬وهلذا اعتربتها السجالت العسكرية‬ ‫اإلسرائيلية ‪ ،‬رابع اجلوالت مع العرب‪ ،‬وأن حرب رمضان هى اخلامسة‬ ‫وبرغم أن الدراسات االسرتاتيجية العربية‪ ،‬مل تزل قاصرة إىل يومنا‬ ‫هذا فى التقدير الدقيق آلثار احلرب طويلة املدى مع إسرائيل ‪.‬‬ ‫فأننا نلمس التعبري عن خماطر استمرار احلروب الطويلة على‬ ‫الكيان الصهيونى فى فلسطني‪ ،‬من خالل الدراسات العديدة‬ ‫التى قدمها فكروهم العسكريون واالسرتاتيجيون فى تقويم‬ ‫حرب السنوات الثالث فنجد فى كشف احلساب والذى قدمه‬ ‫فى صورة كتاب‪ ،‬كل من العميد يهوشع رفيف السكرتري‬ ‫العسكرى لوزير الدفاع اإلسرائيلى األسبق ‪ ،‬والعميد شلومو‬ ‫‪224‬‬


‫جازيت املشرف على املناطق العربية احملتلة آنذاك ‪ ،‬النص التاىل‬ ‫الذى أورده فى دراستهما ‪:‬‬ ‫من الواضح أن غاية النظرية العسكرية املصرية فى إدارة حرب‬ ‫االستنزاف ‪ ،‬هى توريط إسرائيل فى حرب نشطة طويلة املدى‪،‬‬ ‫تتضمن أشكاال متنوعة من الصراع املسلح‪ ،‬تعلو فوق مستوى‬ ‫احلرب الباردة‪ ،‬وتهبط عن مستوى احلرب الشاملة‪ ،‬وتندرج فى‬ ‫الشدة واملهاودة بني هذه وتلك‪ ،‬تبعا للفرص الساحنة ‪ ،‬والظروف‬ ‫السائدة فى املسرح‪ .‬‬ ‫كما تنفرد حرب االستنزاف كذلك ‪ ،‬بأنها كانت أول جولة‬ ‫عربية إسرائيلية‪ ،‬تضطر فيها إسرائيل إىل االحتفاظ بنسبة‬ ‫مرتفعة من التعبئة العامة جليشها لفرتة طويلة نسبيا‪ ،‬وهو ما‬ ‫ترك آثاره السيئة على الناحية االقتصادية واملعنوية فى اجملتمع‬ ‫اإلسرائيلى على حنو مل يسبق له مثيل فقد اضطرت إسرائيل‪،‬‬ ‫أن تعبئ ما يزيد على ‪ 20‬لواء من جيشها‪ ،‬وهى نسبة تعبئة تزيد‬ ‫على ‪ 50%‬من إمجاىل وعاء التعبئة الربية اإلسرائيلية كما‬ ‫اضطرت إىل تعبئة كل سالحها اجلوى‪ ،‬أى بنسبة ‪ 100%‬من‬ ‫وعاء التعبئة فيه‪ ،‬هذا وقد خفضت إسرائيل التعبئة فى سنة‬ ‫‪ 1971‬مبجرد إنتهاء حرب االستنزاف إىل ‪ 10-15%‬من قواتها‬ ‫ً‬ ‫هبوطا‬ ‫الربية‪ ،‬كما هبطت نسبة تعبئة القوات اجلوية أيضا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حادا‪.‬‬ ‫وتنفرد حرب االستنزاف ثالثا‪ ،‬بأنها كانت أوىل اجلوالت التى‬ ‫تدور بني قوات متكافئة فى حجمها اإلمجاىل بصفة عامة ففى‬ ‫‪225‬‬


‫‪ 1948‬مل يواجه ال ‪80‬ألف مقاتل صهيونى‪ ،‬إال ‪ 30‬ألف جندى‬ ‫عربى من مجيع الدول العربية‪ ،‬أى أن إسرائيل كانت متفوقة‬ ‫بنسبة ‪ 1 :26‬فى أوىل اجلوالت وفى اجلولة الثانية عام ‪1956‬‬ ‫ارتفعت نسبة التفوق العددى اإلسرائيلى إىل ‪ 1 :8‬حيث حشدت‬ ‫‪ 16‬لواء شكلت منها ‪ 48‬كتيبة فى مسرح العمليات ضد‬ ‫مصر‪ ،‬بينما مل يكن ملصر فى سيناء حني بدأت املعارك‪ ،‬سوى‬ ‫‪ 6‬كتائب مشاه ولواء مدرع واحد وفى ‪ 1967‬كان إلسرائيل‬ ‫ربع مليون جندى‪ ،‬وحواىل ‪ 375‬طائرة‪ ،‬بينما مل يكن للعرب‬ ‫إال ‪ 120‬ألف مقاتل‪ ،‬وما يقل عن ‪ 150‬طائرة‪ ،‬أى ما حشده العرب‬ ‫مل يتجاوز ‪ 0,3%‬من إمجاىل تعدادهم‪ ،‬بينما حشدت التعبئة‬ ‫القومية اإلسرائيلية حواىل ‪ 13%‬من إمجاىل تعداد السكان‬ ‫اإلسرائيليني أى ما يناهز ‪ 40‬مثال ملا حشدته الدول العربية مجيعا‬ ‫وما زاد الصورة أسى‪ ،‬أن بعض ما حشده العرب من جهد ضئيل‪،‬‬ ‫مل يكن قد وصل إىل مسرح العمليات‪ ،‬عندما اشتعلت نريان‬ ‫احلرب صباح اخلامس من يونيو ‪ ،1967‬فكانت القوات العراقية‬ ‫ما زالت تقطع فيافى بادية الشام‪ ،‬والقوات السعودية خترتق‬ ‫الصحراء حنو عمان‪ ،‬وكانت القوات الكويتية ما زالت حتتل‬ ‫القطار الذى سيدخل بها حمطة العريش وهكذا ميكن القول‬ ‫بأن حرب ‪ 1967‬بدأت وانتهت‪ ،‬بينما قوات العرب فى الطريق إىل‬ ‫أرض املعركة ‪.‬‬ ‫أما فى حرب السنوات الثالث‪ ،‬فقد أجرب العرب إسرائيل وألول‬ ‫مرة فى تارخيها العسكرى على أن حتارب فى مسرح حرب‪ ،‬بعد‬ ‫أن كانت تقاتل فى كل اجلوالت السابقة من ‪1967 -1948‬‬ ‫‪226‬‬


‫فى مسرح عمليات فبالرغم من عدم االشرتاك الفعلى للجبهة‬ ‫الشرقية ‪ ،‬إال بعمليات قصف مدفعى سورى خالل املرحلة السادسة‬ ‫من حرب السنوات الثالث فقد اضطرت إسرائيل وبفضل نشاط‬ ‫املقاومة الفلسطينية بالدرجة األوىل إىل أن حتارب على مجيع‬ ‫اجلبهات‪ ،‬وأجربت على العمل على احلافة اخلارجية ملسرح احلرب‬ ‫وعلى الرغم من أن العسكرية اإلسرائيلية ‪ ،‬فى هذه الظروف‬ ‫ً‬ ‫جذريا عن تلك التى مارست فيها عملياتها من قبل‪ ،‬قد‬ ‫املختلفة‬ ‫أثبتت مرونة فكرية واضحة وسرعة ملحوظة فى استيعاب‬ ‫هذه الظروف اجلديدة‪ ،‬واملسايرة العاجلة معها ‪ ،‬إال أنها اضطرت‬ ‫إىل أحداث تغريات أساسية فى البنية العسكرية اإلسرائيلية ‪،‬‬ ‫وخباصة فى نسبة التعبئة العامة‪.‬‬ ‫فقد كان حجم القوات املسلحة النظامية وقتئذ حنو ‪ 50‬ألف‬ ‫جندى‪ ،‬يزيدون عند التعبئة الكاملة إىل ثلث مليون جندى وقد‬ ‫أجرب االستنزاف العربى‪ ،‬إسرائيل على أن ترفع التعبئة إىل ‪50%‬‬ ‫ليصل حجم القوات اإلسرائيلية العاملة إىل حنو ‪ 150‬ألف جندى‪،‬‬ ‫أى بزيادة حنو ‪ 100‬ألف جندى عن األحوال العادية ولقد جلأت‬ ‫إسرائيل فى تدبري هذه الزيادة إىل أمرين‪ :‬‬ ‫األول‪ :‬رفع احلد األقصى لسن االستدعاء لالحتياط واخلدمة فى‬ ‫اجليش العامل من ‪ 49‬سنة‪ ،‬إىل ‪ 50‬سنة‪ ،‬وذلك فى ‪ 30‬أكتوبر‬ ‫‪.1969‬‬ ‫الثانى‪ :‬سحب جزء من قوة العمل املدنية‪ ،‬مبا خفض من قوة‬ ‫العمل من الذكور من ‪ 70‬ألف إىل ‪ 22‬ألف فقط‪ ،‬وذلك وفقا‬ ‫‪227‬‬


‫لإلحصاءات اإلسرائيلية عن منتصف ‪ 1970‬ويرجع سبب هذا‬ ‫النقص‪ ،‬إىل ما امتصته القوات املسلحة اإلسرائيلية من أيد‬ ‫عاملة‪ ،‬نتيجة اضطرارها إىل زيادة نسبة التعبئة القومية‪ ،‬ملقابلة‬ ‫أعباء حرب استنزاف املتزايدة التى فرضها عليها العرب كما‬ ‫استطاعت العسكرية املصرية‪ ،‬أن حتسن االستفادة من بعض‬ ‫نقاط الضعف فى املوقف اإلسرائيلى اجلديد وأن حتيد بعض‬ ‫نقاط القوة فيه ولقد تسببت حرب السنوات الثالث فى جتمد‬ ‫القوات اإلسرائيلية وألول مرة فى تارخيها داخل خنادق ثابتة‪،‬‬ ‫فغريت بذلك من شكل وأسلوب التكتيك امليدانى اإلسرائيلى‬ ‫الذى اعتمد بالدرجة األوىل فى املاضى‪ ،‬على املرونة العالية‪،‬‬ ‫وخفة احلركة املستمرة‪ ،‬التى يتميز بها املقاتل اإلسرائيلى‬ ‫على املقاتل العربى‪ ،‬ويتميز بها قبل ذلك الفكر والتخطيط‬ ‫العسكرى اإلسرائيلى‪ ،‬على الفكر والتخطيط العسكرى‬ ‫اإلسرائيلى‪ ،‬على الفكر والتخطيط العسكرى العربى‪.‬‬ ‫إن حرب السنوات الثالث‪ ،‬بفضل تعدد أنواع معاركها‪،‬‬ ‫وامتداد مسرحها طوال وعرضا‪ ،‬أفادت القوات املصرية‪ ،‬وأتاحت هلا‬ ‫أفضل فرص التدريب الواقعى‪ ،‬واكتساب خربة القتال الفعلى‬ ‫والتعرف على صفات العدو‪ ،‬ونقط الضعف والقوة فيه كما‬ ‫أتاحت فرصة اختيار القادة العسكريني األكفاء‪ ،‬ومكنتهم‬ ‫من االحتكاك بالفكر العسكرى اإلسرائيلى فى املمارسة‬ ‫وبفضل هذه احلرب‪ ،‬تطور السالح املصرى وفق ضرورات الواقع‪،‬‬ ‫وأصبح السالح الذى يستعمله املقاتل املصرى فى نهاية هذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نوعيا عما كان يقاتل به عند بدايتها بقدر ما‬ ‫خمتلفا‬ ‫احلرب‪،‬‬ ‫‪228‬‬


‫اختلف هذا اجلندى نفسه نوعيا‪ ،‬مبا أثبته من سرعة استيعابه‬ ‫للسالح اجلديد واملعقد‪ ،‬مع إتقانه القتال به ولقد جاء اعرتاف‬ ‫اإلسرائيليني بعد انتهاء هذه احلرب ليؤكد هذه احلقائق‬ ‫ومن ذلك اعرتافهم بأن عملية عبور الوحدات املصرية للقناة‬ ‫واشتباكها مع القوات اإلسرائيلية فى حتصيناتها واحتالهلا‬ ‫منطقة لسان بور توفيق لعدة ساعات‪ ،‬كانت مبثاب نبه القيادة‬ ‫العسكرية اإلسرائيلية‪ ،‬إىل ضرورة الزج بسالح طريانها‪،‬‬ ‫لتوجيه ضربات مكثفة منتقاة‪ ،‬بهدف كسر حدة تصاعد‬ ‫اخلط البيانى للقدرات العسكرية املصرية‪ .‬‬ ‫ويوضح اجلدول رقم (‪ )1‬مدى تنوع النشاط العسكرى العربى‬ ‫خالل املرحلة من مارس ‪ 1969‬إىل أغسطس ‪ 1970‬وفق ما أورده‬ ‫العميدان زئيف وجازيت لقد كبد العرب إسرائيل خالل حرب‬ ‫االستنزاف‪ ،‬ثالثة أمثال ما حلقها من خسائر بشرية خالل حرب‬ ‫األيام الستة‪ .‬‬ ‫هذا وقد أشار املعدل الشهرى للخسائر‪ ،‬إىل اجتاه للتزايد املستمر‬ ‫طوال مراحل حرب االستنزاف فخالل مرحلة الصمود من ‪ 11‬يونيو‬ ‫‪ 1967‬إىل ‪ 7‬سبتمرب ‪ 1968‬التى سبقت حرب االستنزاف‪ ،‬كان‬ ‫ً‬ ‫شهريا‪.‬‬ ‫معدل اإلصابات البشرية اإلسرائيلية أقل من ‪ 10‬جنود‬ ‫وخالل الفرتة من ‪ 8‬سبتمرب ‪ 1968‬إىل ‪ 4‬يونيو ‪ ،1969‬إرتفع‬ ‫ً‬ ‫شهريا‪.‬‬ ‫املعدل ليصبح ما بني ‪ 40-50‬جندى‬ ‫وخالل الفرتة من ‪ 5‬يونيو ‪ 1969‬إىل ‪ 7‬أغسطس ‪ 1970‬وصل‬ ‫املعدل إىل ‪ 72‬إصابة شهريا وهى أعلى نسبة حتملتها إسرائيل‬ ‫‪229‬‬


‫فى عدوانها على العرب‪ ،‬على مدى ثلث القرن املنصرم‪.‬‬ ‫وتشري اإلسرائيلية كذلك إىل تزايد اخلسائر البشرية على‬ ‫كافة جبهات القتال خالل الفرتة من مارس ‪ 1969‬وحتى أغسطس‬ ‫‪ ،1970‬وذلك طبقا ملا مسحت بنشره السلطات اإلسرائيلية وأورده‬ ‫العميدان زئيف وجازيت فى دراستهما التى سبق اإلشارة إليها‬ ‫مبينة فى اجلدول (‪ .)2‬‬ ‫وقد نشرت اجمللة العسكرية جليش الدفاع اإلسرائيلى أن‬ ‫القوات اإلسرائيلية فقدت خالل حرب االستنزاف أربعني طيارا‪،‬‬ ‫وأن خسائر القوات الربية فى نفس الفرتة بلغت ‪ 827‬قتيال‬ ‫و‪ 3141‬جرحيا وأسريا‪ ،‬وهى أرقام ال تقل كثريا عما أورده‬ ‫زئيف وجازيت كما أوردت نفس اجمللة‪ ،‬ما مسحت بنشره‬ ‫الرقابة العسكرية عن اخلسائر فى األسلحة واملعدات فقالت أن‬ ‫إسرائيل قد فقدت خالل حرب االستنزاف ‪ 27‬طائرة قتال (و‪40‬‬ ‫طيارا) ومدمرة وسبعة زوارق وسفن إنزال ونقل و‪ 119‬جمنزرة‪،‬‬ ‫‪ 72‬دبابة‪ 81 ،‬مدفع ميدان وهاون‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من حرص إسرائيل على إخفاء احلجم احلقيقى‬ ‫ً‬ ‫منعا ملا قد يرتتب‬ ‫خلسائرها املادية من أفراد وأسلحة ومعدات‪،‬‬ ‫عليها من آثار معنوية سيئة على الصعيد احمللى واخلارجى‪،‬‬ ‫بني التجمعات اليهودية فى خمتلف أرجاء العامل‪ ،‬وازدياد الشعور‬ ‫املعنوى بانعدام األمان‪ ،‬إال أن حجم هذه اخلسائر على النحو الذى‬ ‫أورده زئيف وجازيت‪ ،‬يشكل ‪ 6,6%‬من متوسط معدل تزايد‬ ‫سكان إسرائيل‪ ،‬مما يعد نسبة مرتفعة ً‬ ‫جدا تؤثر على معدل‬ ‫‪230‬‬


‫اهلجرة إىل إسرائيل بالنقص بشكل مباشر وعنيف كما‬ ‫تؤثر على اهلجرة املضادة منها بالزيادة مبا يعنى ردود الفعل‬ ‫السياسية واملعنوية بالتأثريات السلبية على اجملتمع الصهيونى‬ ‫بعامة وعلى اجملتمع اإلسرائيلى خباصةهلذا اجتمعت مراكز‬ ‫البحث املختلفة على أن االستنزاف البشرى كان له تأثريه الواضح‬ ‫فى جمالني‪:‬‬ ‫األول‪ :‬معدالت تدفق اهلجرة اليهودية إىل إسرائيل بالنقص ‪.‬‬ ‫الثانى‪ :‬الشعور بالعقد النفسية جتاه تزايد اخلسائر البشرية ‪ .‬‬ ‫هذا عن االستنزاف البشرى‪ ،‬أما عن االستنزاف االقتصادى‪ ،‬فقد‬ ‫بلغ متوسط ما حتمله كل فى فرد فى إسرائيل من اإلنفاق‬ ‫العسكرى حنو ‪ 417‬دوالر خالل عام ‪ ،1970‬بينما كان ‪138‬‬ ‫دوالرا فقط عام ‪ 1966‬وهذا يعنى أن حرب االستنزاف‪ ،‬قد زادت‬ ‫من العبء االقتصادى على كل فرد فى إسرائيل بنحو ‪،300%‬‬ ‫وبهذا اتسع مسرح حرب االستنزاف ليشل باإلضافة إىل االستنزاف‬ ‫املباشر للطاقة البشرية واملعنوية على خطوط املواجهة األمامية‪،‬‬ ‫استنزافا غري مباشر بدرجة أو بأخرى للقاعدة االقتصادية‬ ‫اإلسرائيلية نفسها ولقد أشار ديان إىل جانب من جوانب التكلفة‬ ‫االقتصادية املباشرة حلرب االستنزاف فى حماضرة ألقاها يوم ‪17‬‬ ‫أغسطس ‪ 1972‬أمام طلبة كلية القيادة واألركان‪ ،‬حني قال‬ ‫أن تكاليف اإلنفاق العسكرى فى األراضى العربية احملتلة‬ ‫منذ نهاية جولة يونيو ‪ 1967‬وحتى مبادرة روجرز فى ‪ 7‬أغسطس‬ ‫‪1970‬بلغت ‪ 1364‬مليون لرية إسرائيلية (حواىل ‪ 320‬مليون‬ ‫‪231‬‬


‫دوالر)‪ ،‬انفق أكثر من ‪ 60%‬ملواجهة أثار حرب االستنزاف‪ ،‬وإعادة‬ ‫إنشاء خط بارليف‪ ،‬وما مت تدمريه من حتصينات خالل االستنزاف‬ ‫وبديهى أن ذلك ال ميثل إمجاىل التكلفة االقتصادية حلرب‬ ‫االستنزاف‪ .‬‬ ‫ولقد استمر اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى يرتفع مبعدالت‬ ‫متزايدة منذ عام ‪ ،1968‬حتى بلغ ذروته عام ‪ ،1970‬عندما بلغ‬ ‫معدل الزيادة حنو ‪ 81%‬عن سنة ‪ ،1969‬مبا جتاوز معدل تزايد‬ ‫موارد إسرائيل املتاحة‪ ،‬التى مل تزد إال مبقدار ‪ 13,7%‬عما كانت‬ ‫عليه عام ‪ 1969‬وعلى نقيض ما حدث عقب عدوان إسرائيل‬ ‫عام ‪ 1956‬فإن اإلنفاق احلربى مل ينخفض عقب عدوان ‪1967‬بل‬ ‫تزايد خبطى حثيثة‪ ،‬فمن ‪ 7,1%‬عام ‪ ،1968‬إىل ‪ 34%‬عام ‪،1969‬‬ ‫إىل ‪ 81%‬عام ‪ ،1970‬وبهذا وصل عام ‪ 1970‬إىل حنو ‪26,5%‬‬ ‫من الناتج القومى اإلمجاىل و‪ 20%‬من إمجاىل املوارد املتاحة‪،‬‬ ‫وتعترب كلها أعلى النسب فى العامل فيما بعد احلرب العاملية‬ ‫الثانية‪ ،‬إذ أنه حتى عندما تورطت أمريكا فى حرب فيتنام‪،‬‬ ‫وما ترتب عليها من أعباء عسكرية ثقيلة‪ ،‬شكا منها املواطن‬ ‫األمريكى مبرارة‪ ،‬فإن اإلنفاق احلربى مل يتجاوز إال ‪ 10%‬من‬ ‫الناتج القومى اإلمجاىل وهناك ارتباط طردى وثيق بني زيادة‬ ‫اإلنفاق العسكرى وزيادة حجم فائض االسترياد (عجز ميزان‬ ‫املدفوعات) فالزيادة فى اإلنفاق احلربى متول عن طريق زيادة‬ ‫فائض االسترياد بدرجة أكرب مما متوله به عن طريق زيادة الناتج‬ ‫القومى اإلمجاىل فعلى حني تراخى معدل النمو فى الناتج القومى‬ ‫اإلمجاىل من ‪ 13%‬إىل ‪ 11%‬إىل ‪ 8,5%‬فى السنوات ‪،1968،1969‬‬ ‫‪232‬‬


‫‪ ،1970‬على التواىل‪ ،‬زايد فائض االسترياد ملقابلة الزيادة فى‬ ‫اإلنفاق احلربى من ‪ 4,6%‬سنة ‪ 1969‬إىل ‪ 42%‬سنة ‪.1970‬‬ ‫وتعكس الزيادة الكبرية فى اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى‬ ‫آثار االستنزاف العربى من ناحية‪ ،‬وتزايد الواردات العسكرية‬ ‫مبقدار ثالثة أضعاف ما كانت عليه سنة ‪ ،1967‬لتصل سنة‬ ‫‪ 1970‬إىل ‪ 778‬مليون دوالر (وهناك ما يشري إىل أن إسرائيل‬ ‫استخدمت ‪ 415‬مليون دوالر من احتياطاتها لشراء معدات حربية‬ ‫مل تسجل فى ميزان املدفوعات) ‪ ،‬وهو ما تأكد بعد فحص بنود‬ ‫املوازنة العسكرية فبينما شكل ما انفق بالعملة األجنبية‬ ‫حواىل ‪ 50%‬منها سنة ‪ ،1968‬ارتفع سنة ‪ .1970‬‬ ‫إىل ‪ 62%‬من امليزانية العسكرية‪ ،‬ليستوعب ما أنفق على‬ ‫الواردات احلربية‪ ،‬والذى جتاوز ‪ 54%‬من حصيلة الصادرات سنة‬ ‫‪ 1970‬واجلدير باملالحظة‪ ،‬أنه للمرة الوىل منذ قيام إسرائيل‬ ‫مل تغط فيها واردات رأس املال‪ ،‬العجز فى ميزان املدفوعات‪،‬‬ ‫وبالتاىل املنخفض االحتياطى مبقدار الفارق‪ ،‬واستمر هذا الوضع‬ ‫طوال فرتة االستنزاف العسكرى حتى سنة ‪ 1970‬فاخنفض‬ ‫االحتياطى نتيجة لعجز واردات رأس املال مبختلف أنواعه‪ ،‬عن‬ ‫تغطية عجز ميزان املدفوعات ب ‪ 2,2%‬سنة ‪ 1968‬عما كان‬ ‫عليه سنة ‪ 1967‬واستمر االخنفاض فى االحتياطى حتى بلغ‬ ‫أدناه سنة ‪ ،1969‬مبعدل اخنفاض قدره ‪ ،20%‬ثم خفضت حدة‬ ‫االخنفاض سنة ‪.1970‬‬ ‫فوصل االحتياطى إىل ‪ 350‬مليون دوالرا وهذا احلجم من‬ ‫‪233‬‬


‫االحتياطى‪ ،‬مل يكن يكفى لتغطية واردات إسرائيل لشهر‬ ‫ونصف فقط‪ ،‬وهو أقل من احلجم الذى ينصح االقتصاديون‬ ‫باالحتفاظ به والذى يوجب ضرورة االحتفاظ باحتياطى يغطى‬ ‫واردات الدولة ملدة ثالثة شهور‪ ،‬أى ما ال يقل عن ‪ 600‬مليون‬ ‫دوالر بالنسبة إلسرائيل‪ .‬ولقد انعكس استمرا ارتفاع اإلنفاق‬ ‫العسكرى مبعدالت متزايدة خالل مراحل حرب االستنزاف‪ ،‬مع‬ ‫حمدودية املوارد املتاحة على اخنفاض معدالت منو التكوين‬ ‫الرأمساىل‪ ،‬التى اخنفضت من ‪ 44%‬إىل ‪ 25%‬إىل ‪ 15%‬فى سنة‬ ‫‪ 1970 ،1969 ،1968‬على التواىل‪ ،‬األمر الذى أدى إىل اخنفاض‬ ‫معدل منو الناتج القومى اإلمجاىل من ‪ 13%‬إىل ‪ 11%‬إىل ‪8,5%‬‬ ‫فى سنة ‪ 1970 ،1969 ،1968‬على التعاقب‪.‬‬ ‫وباإلضافة إىل اآلثار السلبية سالفة الذكر على االقتصاد‬ ‫اإلسرائيلى طوال مراحل حرب االستنزاف‪ ،‬فإن هناك ظاهرة أخرى‬ ‫توضح لنا مدى ضغط ارتفاع اإلنفاق العسكرى اإلسرائيلى‬ ‫خالل تلك احلرب على املوارد املتاحة ونعنى بذلك‪ ،‬تزايد نصيب‬ ‫القروض من إمجاىل واردات رأس املال منذ شهدت سنوات ‪،1968‬‬ ‫‪ 1970 ،1969‬اضطرار إسرائيل إىل اللجوء إىل االقرتاض لتغطية‬ ‫احتياجاتها وهذا يعنى أن املصادر التقليدية للمعونات واهلبات‬ ‫مل تستطع فى فرتة حرب االستنزاف‪ ،‬أن تلبى احتياجات إسرائيل‬ ‫من رأس املال وتعترب تلك النقطة بالغة األهمية‪ ،‬وهى رد بالدليل‬ ‫العلمى على أولئك الذين يدعون قدرة إسرائيل على احلصول‬ ‫على معونات بال حدود فقد ارتفعت أهمية القروض النسبية‬ ‫لواردات رأس املال من حواىل ‪ 45%‬سنة ‪ ،1969‬إىل حواىل ‪55%‬‬ ‫‪234‬‬


‫سنة ‪ 1970‬وال شك أن جلوء إسرائيل إىل االقرتاض لتغطية عجز‬ ‫ميزان مدفوعاتها خالل حرب االستنزاف‪ ،‬قد ألقى على أجياهلا‬ ‫القادمة عبء تسديد هذه الديون وفوائدها‪ ،‬كما أجرب إسرائيل‬ ‫سنة ‪ 1970‬على أن تطرح سندات للدفاع للبيع فى اخلارج‪ ،‬بلغت‬ ‫قيمتها حواىل ‪ 600‬مليون جنيه‪.‬‬ ‫وقد انعكست هاتان الظاهرتان على ميزانية سنة ‪،1970‬‬ ‫‪ 1971‬التى زادت فيها أعباء الديون اخلارجية مبقدار ‪ 58%‬عما‬ ‫كانت عليه فى السنة السابقة لتصل إىل ‪ 925‬مليون لرية‬ ‫إسرائيلية وازدادت الديون نفسها مبقدار ‪ 30%‬لتصل إىل ‪939‬‬ ‫مليون لرية وتشمل هذه األعباء كل الديون الداخلية واخلارجية‬ ‫إال أن عبء الديون اخلارجية كان يشكل اجلزء األكرب فيها‪،‬‬ ‫ألنها تدفع بالنقد األجنبى‪ ،‬وقد وصلت أعباءها سنة ‪ 1970‬إىل‬ ‫‪ 235‬مليون دوالر‪ .‬ونود أن نشري بهذا الصدد‪ ،‬إىل أن اجتاه معدل‬ ‫منو الدخل القومى للتباطؤ جيب أن حيظى باملزيد من اهتمام‬ ‫العرب‪ ،‬ألنه مع استمرار ارتفاع اإلنفاق احلربى‪ ،‬ال بد أن تلجأ‬ ‫الدولة إىل الوسائل التضخمية لتمويله (عن طريق االقرتاض‬ ‫ً‬ ‫فعال خالل حرب‬ ‫من البنك املركزى) وهو ما حدث فى إسرائيل‬ ‫االستنزاف‪ ،‬إذ كان هناك عجز فى امليزانية سنة ‪ ،1969‬بأكثر‬ ‫من بليون لرية‪ ،‬ارتفع سنة ‪ 1970‬إىل أكثر من ‪ 3‬باليني لرية‪،‬‬ ‫وكان ال بد لذلك أن ينعكس على مزيد من اجتاه األسعار‬ ‫لالرتفاع‪ ،‬وهو ما حدث أيضا سنة ‪ ،1970‬إذ ارتفع مستوى األسعار‬ ‫بنحو ‪ 10%‬ثم ‪ 12%‬فى سنة ‪ ،1971‬األمر الذى انتهى بتخفيض‬ ‫‪235‬‬


‫اللرية اإلسرائيلية فى نوفمرب سنة ‪.1971‬‬ ‫لقد أثارت هذه االجتاهات التضخمية لألسعار‪ ،‬صعوبات‬ ‫كثرية أمام املخطط اإلسرائيلى فى اتفاقاته على جتميد‬ ‫األجور بني احلكومة واهلستدروت‪ ،‬ألنها كانت تعنى املزيد‬ ‫من اإلضرابات لرفع األجور وارتفاع األجور يعنى مزيد من ارتفاع‬ ‫األسعار ومن ثم املطالبة برفع األجور مرة أخرى‪ ،‬وهكذا دواليك‬ ‫إىل أن جيد االقتصاد نفسه فى حلقة مفرغة‪ ،‬من ارتفاع األجور‬ ‫وغلو األسعار وذلك بهدف من بني أهداف حيوية عديدة أخرى‬ ‫فى اجملال اإلسرائيلى الداخلى مل نزل ندير صراعنا العربى‬ ‫ً‬ ‫بعيدا عنه نتيجة الفهم احملدود لطبيعة وظروف‬ ‫اإلسرائيلى‬ ‫عدونا املشرتك‪ ،‬وبدرجة أهم للفصل التعسفى بني دراسة العدو‬ ‫ً‬ ‫عليما وبني التخطيط ملواجهته‪ ،‬فضال عن عدم تكامل هذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وسياسيا‪ ،‬وسيادة‬ ‫واجتماعيا‬ ‫واقتصاديا‬ ‫عسكريا‬ ‫التخطيط‬ ‫النظرة العربية اجلزئية إىل النزاع العربى اإلسرائيلى‪ ،‬األمر الذى‬ ‫تتفوق فيه إسرائيل نتيجة التزامها مبا يعرف اليوم‪ ،‬فى شتى‬ ‫أحناء املعمورة بعلم إدارة الصراع‪ .‬االعتبارات السياسية العربية‬ ‫املعوقة‪:‬‬ ‫‪ ‬هذا عن اجلانب االقتصادى‪ ،‬أما عن اجلانب السياسى حلرب‬ ‫االستنزاف التى متيزت بضعف فعالية اجلبهة الشرقية خالل‬ ‫العمليات فليس ثـمة شك‪ ،‬أن هذا الضعف يعود بالدرجة‬ ‫األوىل إىل عدة اعتبارات سياسية تتصل مبحاوالت بعض‬ ‫األنظمة العربية عدم االشرتاك فى القتال‪ ،‬حتى أن مصر‬ ‫واملقاومة الفلسطينية هما اللتان أعلنتا رمسيا عدم التزامها‬ ‫بقرار وقف إطالق النار الصادر فى ‪ 8‬يونيو ‪ ،1967‬وخاضتا معا‬ ‫‪236‬‬


‫حرب االستنزاف ضد إسرائيل وضاعف من غيبة فعالية اجلبهة‬ ‫الشرقية وهى عنصر حاسم فى الصراع اإلسرائيلى ضد إسرائيل‬ ‫مشكالت التنسيق بني القوات العربية املرابطة على هذه‬ ‫اجلبهة مع بعضها بعضا وبينها وبني اجلبهة املصرية‪ ،‬والعمل‬ ‫الفدائى الفلسطينى داخل وخارج الوطن احملتل ويشري اجلدول‬ ‫(‪ )3‬الذى أورده العميدان زئيف وجازيت‪ ،‬إىل حجم مشاركة‬ ‫اجلبهة الشرقية فى أعمال القتال ما بني مارس ‪ 1969‬وأغسطس‬ ‫ً‬ ‫نسبيا لألنشطة‬ ‫‪ 1970‬باألرقام ويبني اجلدول (‪ )3‬احلجم الكبري‬ ‫القتالية التى مارستها املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وخباصة خالل‬ ‫عامى ‪1968‬و ‪ ،1969‬وعلى رأسها معركة الكرامة العظيمة‬ ‫فى مارس ‪.1968‬‬ ‫التى مارستها بعض احلكومات العربية ضد حركة املقاومة‬ ‫الفلسطينية‪ ،‬والسلبيات فى املمارسة من جانب قيادات املقاومة‬ ‫الفلسطينية‪ ،‬وأثرها فى حتويل جهد املقاومة‪ ،‬من جهد موجه‬ ‫ضد العدو اإلسرائيلى‪ ،‬إىل خالفات فيما بني املنظمات من ناحية‬ ‫وبينها وبني احلكومات التى ينطلق العمل الفدائى من قواعد‬ ‫فى أرضها من ناحية أخرى وقد انتهى ذلك مجيعه‪ ،‬إىل موقف‬ ‫خطري فجرته بعض األنظمة العربية التى مل تشرتك قواتها‬ ‫املرابطة فى األردن بأى جمهود فى حرب االستنزاف‪ ،‬واستغلت‬ ‫فيه مزايدات بعض قيادات العمل الفدائى‪ ،‬األمر الذى مهد لنظام‬ ‫احلكم األردنى لكى يوجه ضربته القاصمة للعمل الفدائى‬ ‫الفلسطينى فى سبتمرب ‪.1970‬‬ ‫ورغما عن ذلك‪ ،‬فإن اجلدول (‪ )4‬يشري ألسباب خسائر إسرائيل‬ ‫‪237‬‬


‫فى األفراد ما بني مارس ‪ 1969‬وأغسطس ‪ ،1970‬والذى نشر فى‬ ‫نفس املصدر السابق‪ ،‬وهو يبني مدى فعالية املقاومة الفلسطينية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫موجها إىل العمل الفدائى السرى‪،‬‬ ‫حني كان جهدها األساسى‬ ‫ً‬ ‫موجها إىل العمل السياسى العلنى‪.‬‬ ‫بأكثر مما أصبح‬ ‫وقد ظهر من خالل حرب االستنزاف كذلك‪ ،‬أن املخطط‬ ‫العسكرى العربى‪ ،‬مل حيكم الضوابط احلقيقية التى ينظم‬ ‫ً‬ ‫عمليا‬ ‫بها معدل التصعيد فى سلم االستنزاف قبل أن ميارسه‬ ‫فى امليدان األمر الذى وضحت نتائجه خالل املرحلة اخلامسة من‬ ‫حرب السنوات الثالث حني دفعت القيادة اإلسرائيلية بسالح‬ ‫طريانها إىل املعركة بهدف نزع الغطاء اجلوى املصرى وفق‬ ‫خطة مدروسة على مدى شهور وهو التصعيد اإلسرائيلى املضاد‬ ‫الذى خطط بدقة حبيث يستفيد سالح اجلو من نقطة التفوق‬ ‫اإلسرائيلى البارزة‪ ،‬ويستفيد كذلك الطيارون من إحدى‬ ‫احلقائق املعاصرة للحرب‪ ،‬وهى طول الوقت الذى يستلزمه‬ ‫إعداد متكامل‪ ،‬وذلك خللق الطيار املقاتل القادر على أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جويا بطائرة بالغة التعقيد وتدريب‬ ‫قتاال‬ ‫خيوض بكفاءة‬ ‫‪ ‬وإعداد العاملني األكفاء على األجهزة األرضية املعقدة‪ .‬‬ ‫ً‬ ‫وصوال إىل الطاقم الفنى األرضى الرفيع املستوى الذى يقوم‬ ‫فى احلرب اجلوية بالعبء األساسى فى أية معركة جوية‪ ،‬منذ‬ ‫حلظة إصدار األمر إىل الطائرة املقاتلة باالنطالق فى اجلو حتى‬ ‫حلظة إصدار األمر األرضى إىل قائدها بأن يضغط على (زر)‬ ‫إطالق الصاروخ‪ ،‬أو الرشاش ليسقط الطائرة املعادية ورغما عن‬ ‫‪238‬‬


‫ذلك فقد استطاعت القيادة السياسية املصرية أن تعوض النتائج‬ ‫التى ترتبت على عدم إحكام املخطط العسكرى لضوابط حرب‬ ‫االستنزاف‪ ،‬خبطورة اسرتاتيجية بالغة األهمية‪ ،‬استخدمت فيها‬ ‫كل ثقلها‪ ،‬كزعامة ثورية عربية‪ ،‬تثبتها املمارسة ويؤكد‬ ‫الواقع تصميمها على استمرار القتال وكانت أوىل نتائج هذه‬ ‫اخلطوة هى عبور املرحلة اخلامسة واخلطرية من حرب االستنزاف‬ ‫إىل سادس مراحلها بعد تأمني العمق املصرى بالصواريخ واألطقم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعسكريا‪ .‬‬ ‫سياسيا‬ ‫السوفيتية بكل ما ترتب على ذلك‬ ‫وإذا كان خروج اإلسرائيليني إىل الشوارع واندفاع جنودهم من‬ ‫ً‬ ‫ابتهاجا بوقف إطالق النار فى ‪ 7‬أغسطس‬ ‫اخلنادق‪ ،‬وهم يرقصون‬ ‫‪1970‬فرحني بهدنة تدرا عنهم مشاهدة املواكب اليومية جلنازات‬ ‫قتالهم‪ ،‬وهى تسري كئيبة فى شوارع حيفا وتل أبيب وغريها من‬ ‫ً‬ ‫تعبريا‪ ،‬خطاب‬ ‫مدنهم‪ ،‬كان حدثا له داللته‪ ،‬فلقد كان األكثر‬ ‫الوادع الذى ألقاه حاييم بارليف رئيس األركان اإلسرائيلية‬ ‫الذى قاد جيش إسرائيل خالل حرب االستنزاف من موقع القمة‬ ‫العسكرية‪ ،‬حني قال ملرءوسيه‪ :‬إذا ما استؤنف إطالق النار‬ ‫مرة أخرى فعليكم أن ختتاروا جماالت عمل وأساليب قتال‬ ‫أكثر جتددا عما اتبع فى حرب االستنزاف‪ ،‬التى خضنا خالهلا‬ ‫ً‬ ‫قتاال ً‬ ‫ً‬ ‫ظروفا كثرية قد‬ ‫شاقا طويل األمد مليئا بالدماء‪ ،‬ذلك ألن‬ ‫طرأت على املسرح منذ ذلك احلني وإذا كانت حرب االستنزاف قد‬ ‫شهدت فى مرحلتها السادسة واألخرية‪ً ،‬‬ ‫حربا إلكرتونية بالدرجة‬ ‫األوىل‪ ،‬ركزت فيها إسرائيل كل ما تستطيع من أالف األطنان‬ ‫من املتفجرات فوق الشرحية األرضية املمتدة على قناة السويس‬ ‫‪239‬‬


‫فى اجلبهة‪ ،‬خشية جناح مصر فى دفع قواعد صوارخيها لتغطى‬ ‫جبهة القتال‪ ،‬فى نطاق ميد ظالل سيطرتها اجلوية إىل مشارف‬ ‫املضايق فى سيناء‪ ،‬ويتحقق بذلك للقوات املصرية‪ ،‬الظروف‬ ‫املالئمة لالنتقال من مرحلة الردع إىل مرحلة التحرير‪ ،‬فلقد شهدت‬ ‫ً‬ ‫استثمارا للوقت بلغ‬ ‫شهور الصيف‪ ،‬منذ الوهلة األوىل إلطالق النار‬ ‫الذروة‪ ،‬حبيث كانت قواعد الصواريخ املصرية فى نهايتها تقف‬ ‫مطمئنة مطلة على مياه قناة السويس متوثبة لتحمى جنود‬ ‫املتشوقني القتحام‪ ،‬كى يدمروا خط بارلبف وحيطموا أسطورة‬ ‫جيش إسرائيل الذى ال يقهر‪ ،‬وقد نالوا ما متنوا‪ ،‬وأثبتوا أنهم أشبال‬ ‫أسد ال تضام‪ ،‬على حنو ما حتقق للعرب من نصر على عدوهم‬ ‫عصر العاشر من رمضان اجمليد‪.‬‬ ‫تبقى كلمة عرفان لشهيد حرب االستنزاف وخمططها على‬ ‫املستوى العسكرى الفريق أول عبد املنعم رياض‪ ،‬الذى كان‬ ‫جتسيدا لروح التحدى التى متثلت فى كل لبنة من بناء اجليوش‬ ‫العربية منذ اخنرط فى سلكها مع مطلع عام ‪ ،1939‬ثم شارك‬ ‫فى إقامتها من جديد بعد اخلامس من يونيو على ركائز متينة‬ ‫من العلم واإلميان‪.‬‬ ‫‪ ‬لقد أسهم شهيدنا العظيم‪ ،‬فى إعادة البناء جبماعة فكرة‬ ‫وشغاف وجدانه‪ ،‬وقبل أن ينصب الصرح‪ ،‬إدار بشجاعة ومهارة حرب‬ ‫االستنزاف‪ ،‬التى مهدت اجلسر املادى واملعنوى للعبور العظيم‪ ،‬عصر‬ ‫السادس من أكتوبر ‪ ،1973‬بدءا بالقصف النريانى املكثف عصر‬ ‫‪ 28‬سبتمرب ‪ ،1968‬وحتى سقط شهيدا فى أقصى املواقع األمامية‬ ‫ظهر التاسع من مارس ‪ ،1969‬فقدم المة العرب الدليل على روح‬ ‫‪ ‬اإلميان بغري حدود حبق الوطن املفدى‪ ،‬وبرسالة املقاتل الشريف‪ .‬‬ ‫‪240‬‬


‫وعندما حيتفل العرب بذكرى أبنائهم األوفياء فأنهم يستعرضون‬ ‫سجالتهم احلافلة بافتخار‪ ،‬ليستمد منها اخللف القدوة احلسنة‬ ‫من السلف وسجل عبد املنعم رياض قدوة للعسكرية العربية‬ ‫الشريفة‪ ،‬استوعب نظريات احلرب احلديثة‪ ،‬بوعى املفكر‬ ‫املثقف‪ ،‬وأحاطها بدروسها امليدانية بنفاد بصرية العليم بعربة‬ ‫التاريخ‪ ،‬ثم أدرك بذكائه وثوريته‪ ،‬األبعاد احلقيقية للمخطط‬ ‫الصهيونى اخلبيث‪ ،‬فكان أن وهب نفسه خالصة للنضال‬ ‫والقائد األصيل من تعلو هامته عندما تدهلم اخلطوب‪ ،‬ولقد‬ ‫كانت بسمة عبد املنعم رياض الواثقة‪ ،‬ووعده احلق فى تلك‬ ‫ً‬ ‫بلسما يشفى اجلراح أن غدنا سوف‬ ‫األيام احلالكة السواد‪،‬‬ ‫يكون أفضل من يومنا‪.‬‬ ‫وسواء كانت سجايا القائد تولد معه أو تصقلها اخلربة‬ ‫الطويلة والدراسات العميقة‪ ،‬فإن موهبة عبد املنعم رياض‬ ‫كإنسان‪ ،‬قد تفاعلت مع قراءاته كدارس‪ ،‬وخرباته كقائد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قديرا‬ ‫حتى جعلت منه رجل اسرتاتيجية عليا من الطراز األول‪،‬‬ ‫على التنسيق والتوجيه‪ ،‬وصوال إىل اهلدف املنشود‪ .‬وقد أتاحت‬ ‫له إجادته اإلجنليزية والفرنسية واألملانية والروسية‪ ،‬أن يعب‬ ‫من مناهل العلم واملعرفة‪ ،‬من أمهات املراجع العاملية‪ ،‬ثم وفرت له‬ ‫‪ ‬خربته امليدانية املزج بني النظرية والتطبيق‪ ،‬فيصعد إىل الذروة‪ .‬‬ ‫وملااجتمعتلهناصيةالعلموالتجربة‪،‬معمقوماتاخللقوالشجاعة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫طبيعيا أن ينحو عبد املنعم رياض إىل الالمركزية فيفسح‬ ‫كان‬ ‫اجملال للمرءوسني كى يتصرفوا ويبتكرواوبهذا فاقت اإلجنازات‬ ‫‪ ‬فى مرحلة إعادة البناء التى أمسك بزمامها أشد املعدالت تفاؤال‪ .‬‬ ‫وقوله املأثور فى ذلك قد يستحق العمل الثقيل كتفى الرجل‬ ‫‪241‬‬


‫القوى‪ ،‬بينما يسهل على اجلماعة املرتابطة أن تنهض به‪ .‬وعندما‬ ‫رنا ببصره‪ ،‬وهو فى القمة إىل الساحة العربية الفسيحة‪ ،‬أدرك‬ ‫بثقاب بصريته‪ ،‬موطن الداء‪ ،‬فختم تقديره االسرتاتيجى للموقف‬ ‫العام يوم توىل منصب رئيس أركان القوات املسلحة املصرية‬ ‫قائال أن التحالف العسكرى‪ ،‬هو أرقى مظاهر التعاون السياسى‬ ‫بني الدول‪ ،‬ومن ثم فإن تصفية اجلو السياسى العربى‪ ،‬هى اخلطوة‬ ‫األوىل حنو النصر وفى أخر اجتماع له باجمللس األعلى للقوات‬ ‫املسلحة وكنت أجلس فى مواجهته‪ ،‬أدار بصره فى احلاضرين‬ ‫قائال النصر مستطاع طريقه شاق و دونه تضحيات وليس له‬ ‫ً‬ ‫بديال‪.‬‬ ‫وعندما احتجب عبد املنعم رياض جبسده فإمنا كان يلقى‬ ‫يومها بوصيته‪ ،‬فقد ظلت تعاليمه ووصاياه متد الصرح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عربيا دائم‬ ‫فكرا‬ ‫الشامخ بالثقة حتى صنعت فى النهاية‪،‬‬ ‫التجدد أضاء الشهيد مشعله ليشق ظالم اهلزمية‪ ،‬ويسهم‬ ‫‪ ‬بالقدر املعلى فى إعادة البناء من األساس‪ ،‬ثم سلم املشعل إىل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منريا‪ .‬‬ ‫وسراجا‬ ‫جيل العبور من زمالئه وتالميذه‪ ،‬نرباسا هاديا‪،‬‬ ‫كان منتهى عمله أن يستعيد العرب احلق واألرض‬ ‫ً‬ ‫شرفا أنه عندما تسلم األمانة فى‬ ‫والكرامة ‪ ،‬وكفاه‬ ‫أعقاب اهلزمية مباشرة كان السؤال على كل شفاه متى‬ ‫‪ ‬يستسلم العرب فلما استشهد‪ ،‬كان السؤال متى يعربون‪ .‬‬ ‫وبني يونيو ‪ 1967‬ومارس ‪ 1969‬كان عبد املنعم رياض أحد‬ ‫الذين حققوا هذا التحول اجمليد مع زمالئه قادة العرب فى كل من‬ ‫األمة العربية األصيلة من احمليط إىل اخلليج فطوبى له ولشهداء‬ ‫العرب بني القدسني والصاحلني والشهداء وحسن أولئك رفيقا‪ .‬‬ ‫‪242‬‬


‫الكتاب و املؤلف‬ ‫* ُس ِّطر هذا الكتاب منذ بدايات السبعينات على صورة‬ ‫مذكرات شخصية ‪ ،‬و يوميات الكاتب ‪.‬‬ ‫* فى سنة ‪ 1982‬متت صياغته بالصورة التى بني‬ ‫أيديكم‪،‬حيث استبعدت تفاصيل معينة من اليوميات‬ ‫أمحد عبد احلميد شريف‬ ‫و أضيفت بعض التوثيقات للوقائع و األحداث ‪.‬‬ ‫* طلب البعض تنقيح هذه النسخة ‪ ،‬و لكن املؤلف أصر أن يصدر الكتاب للقارئ‬

‫بشكله هذا ‪ ،‬فصدر فى طبعتيه ‪ :‬االأوىل عام ‪ ، 1988‬و صدرت طبعته الثانيه ‪-‬‬ ‫التى بني أيديكم ‪ -‬مببادرة من دار نشر أنباء روسيا فى ذكرى ‪ 40‬سنة على نصر‬ ‫أكتوبر العظيم ‪ ،‬و أضيف هلا ملحق دراسة عن احلرب اإلستنزاف للواء حسن البدرى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إعتمد عليها املؤلف فى كتابه ضمن مراجع ‪ -‬لألسف ‪ -‬حمدودة حول هذه املرحلة‬ ‫الساطعة من تارخينا‪.‬‬

‫* مؤلف هذا الكتاب من مواليد ‪. 1947\2\13‬‬ ‫ ‪-‬خترج من كلية االقتصاد و العلوم السياسية سنة ‪1968‬‬ ‫ ‪-‬التحق بالقوات املسلحة كمجند فى الفرتة من سبتمرب سنة ‪ 1968‬حتى‬ ‫يناير سنة ‪1974‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عسكريا بني القادة املصريني و اخلرباء العسكريني‬ ‫مرتمجا‬ ‫ ‪-‬عمل‬ ‫السوفييت فى الفرتة من سنة ‪ 1969‬حتى سنة ‪. 1972‬‬ ‫ ‪-‬ترجم بعض الكتب من الروسية اىل العربية أهمها ‪ :‬كتاب ناصر ألجار‬ ‫شيف عن دار الثقافة اجلديدة سنة ‪.1978‬‬ ‫ ‪-‬وكتاب لينني و قضايا التحرر االقتصادى و االجتماعى عن دار االمل سنة‬ ‫‪1988‬‬


‫الفهرس‬ ‫تـــقديـم‬ ‫مقــــدمة عــامة ‪......................................................................................‬‬ ‫صعوبات البحث ‪..........................................................................................‬‬ ‫بـداية التعـارف ‪..........................................................................................‬‬ ‫حتضريات حرب االستنزاف ‪...................................................................‬‬ ‫حرب االســتنزاف ‪.......................................................................................‬‬ ‫صواريـخ ســام وقصتـها معنا ‪.........................................................‬‬ ‫نظام جديد للدفاع اجلوى املصرى ‪...................................................‬‬ ‫احلائط العظيم يتشــكل ‪..............................................................‬‬ ‫ثبـات ‪ ..‬وصعود ‪ ..‬وانطالق ‪................................................................‬‬ ‫يوم العيد ‪........................................................................................................‬‬ ‫وسـكنت املبادرة فى جانب مصر ‪.................................................‬‬ ‫‪.......................................................................................................‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪67‬‬ ‫‪103‬‬ ‫‪127‬‬ ‫‪131‬‬ ‫‪143‬‬

‫ملحق ‪:‬‬ ‫حرب االستنزاف بقلم ‪ :‬اللواء‪ ‬حسن امحد البدرى ‪199 ...........................‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.