Write From Home Anthology

Page 47

‫خديجة فتحي‪،‬الدار البيضاء‪.‬‬ ‫تحت سقف واحد‬ ‫جائحتنا واحدة وقصصنا مختلفة‪ ،‬بشكل أو بآخر هي مرتبطة بالحاجة مليكة‪ .‬نحن عاجزون بطرق مختلفة و لكننا نستمر‪ ،‬بعضنا‬ ‫لخيار واآلخر النعدام‪ .‬كلنا تحت سقف واحد‪. ..‬‬ ‫تجلس الحاجة مليكة حاملة ذيول سنينها السبعين بمكانها المعتاد مقابل الباب‪ ،‬على فراشها المبطن بزربيتين و بطانية‪ .‬تراقب من‬ ‫مكانها كل من يدخل الدار ويغادرها‪ .‬ال أحد يروح ويجيء هذه األيام‪ .‬وحده عبد العزيز ابنها الذي صار يطرق الباب اآلن بعدما‬ ‫أجبرت األبواب على أن تغلق ‪ .‬يتسوق عبد العزيز مرة في االسبوع‪ ،‬و كل ثالث أيام يخرج لجلب الحليب من عند مهدي الذي قل‬ ‫الطلب على حليبه هذه األيام ‪.‬‬ ‫يروح عبد العزيز للمسجد كل موعد صالة‪ ،‬يصعد الصومعة ويؤذن بصوته الشجي الذي اعتاده أهل الدوار‪ ،‬نفس الصوت الذي‬ ‫تكتسحه سحنة تنهيدة خافتة مع نهاية كل جملة أذان‪ .‬ينهي األذان ويدعوا في سره أن يفرج هللا هذه األزمة‪ .‬ومن ثم يعود لمنزله‬ ‫ليصلي بأهل داره‪ .‬أغلقت المساجد‪ ،‬والمدارس هي األخرى‪ ،‬انقلب العالم كله رأسا على عقب في غمضة عين‪.‬‬ ‫في الثالث عشر من مارس‪ ،‬اتخذت تدابير الحجر الصحي لمرض غريب‪ ،‬لم يكن قبل أيام ليصل وطننا‪ .‬فيروس عبر القارات يضع‬ ‫بصمته هنا‪ ،‬والمواجهة كانت فرض حالة الطوارئ الصحية‪ .‬مذ ذاك الحين تغير الكثير‪.‬‬ ‫أصاب السكري الحاد الحاجة مليكة منذ أزيد من عشر سنوات‪ ،‬ومنذ ثالث سنين فقدت قدرتها على المشي‪ ،‬وراحت ال تنعم بليال نوم‬ ‫مريحة وال نهارات هانئة‪ .‬الحاجة مليكة التي عرفت بقوتها في سنينها السابقة‪ ،‬بطابعها الهادئ والحكيم ووجهها البشوش‪ ،‬لم تستطع‬ ‫أن تتجاوز أبدا حقيقة فقدان قدميها‪ ،‬وأنها كلما أرادت قضاء حاجتها وجب أن تنادي ابنها عزيز أو حفيدتها "المرضية" مارية‪ .‬تجلس‬ ‫بمكانها المعتاد‪ ،‬الذي يسمح لها بعناء رؤية القادم والراحل دون أن تنخرط في المشهد‪.‬‬ ‫أتسائل‪ :‬أكانت كل قوة مليكة في قدميها فقط؟ كيف لشخص يفقد قدرته على المشي أن يصير يائسا هكذا! ال نستطيع أن نحكم على‬ ‫ضعف مليكة في مواجهة مصابها‪ .‬ولكن‪ ،‬ألقي برأيي هنا عبثا‪ :‬نحن ال نتحطم على ما لم نملكه‪ ،‬بل على كل ما امتلكناه سابقا وصار‬ ‫اآلن مرادا بعيدا‪ .‬لم تغادر مليكة المنزل منذ ثالث سنوات‪ ،‬إال في المرات التي أخذت فيها وهي فاقدة للوعي‪ ،‬بين الحياة و الموت‪،‬‬ ‫بعجلة عبر سيارة اإلسعاف‪ .‬ترملت ابنتها نجاة الشتاء الماضي ولم تستطع زيارتها للمواساة في فاجعتها‪ .‬نجاة غير المتعلمة وال‬ ‫العاملة تركت بمسؤولية طفلين‪ ،‬مواجهة وحدها صهرا ينخر المال قلبه‪ ،‬ليستفرد باإلرث وحده ‪.‬‬ ‫األسبوع االول من الحجر الصحي‪ :‬األمر اذا أكثر جدية‪ ،‬حاالت متزايدة والكل مضطرب من القادم الذي يبدو أنه أكثر سوء‪ .‬تحدث‬ ‫الحاجة مليكة ابنها البعيد عبر الهاتف‪" :‬والالهيال أ ولدي هاد كورونا رجعات كلشي شاد االرض فحالي" ‪.‬‬ ‫الجميع صار مثل مليكة‪ .‬بال قدمين‪ ،‬وبتجويفات كثيرة يظهرها التوتر والخوف‪ .‬الجميع صار يمشط بعينيه الحاالت المؤكدة كل يوم‪،‬‬ ‫دون أن يكون شريكا في األحداث‪ ،‬كما حال مليكة تماما منذ ثالث سنوات‪.‬‬ ‫في الجهة األخرى‪ ،‬يطلب األستاذ الذي يترك وراءه دوما أثرا فنيا جميال من طالبه‪ ،‬بعدما أقفلوا مناقشة فيلم وثائقي عبر منصة‬ ‫‪ ، Zoom‬أن يصوروا كثيرا‪ ،‬أن يمنحوا التفاصيل وقتا‪ ،‬حبا واهتماما‪ ،‬ألنه بعد انتهاء هذه الجائحة سيغدو كل شيء ذا معنى آخر غير‬ ‫الذي هو عليه اآلن‪ .‬تتفحص خديجة هذا الحث بتمحيص‪ ،‬تود لو تخبره أمام جموع الحاضرين عبر هواتفهم وحواسيبهم‪ :‬أستاذ أود لو‬ ‫أصور‪ ،‬ولكني ال أقدر‪ ،‬ال أجد أي معنى ألي شيء أمامي! ولكنها طبعا التستطيع قول ذلك أمام المأل‪ .‬النها اعتادت في كل مرة أن‬ ‫تدفن كل أحاسيسها بعيدا جدا‪ ،‬حتى تغمر عن آخرها فتطفح للسطح‪ ،‬مفقدة إياها السيطرة‪.‬‬ ‫أتساءل ‪:‬كيف يمكن العالم أن يكون مقلوبا رأسا على عقب بينما هؤالء الطالب يستمتعون بتحليل فيلم وثائقي ويطرحون بشغف‬ ‫مضامينه الفنية وأبعاده اإلنسانية ؟ "وهل لهم غير ذلك؟"‬ ‫‪46 | P a g e‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.