خديجة فتحي،الدار البيضاء. تحت سقف واحد جائحتنا واحدة وقصصنا مختلفة ،بشكل أو بآخر هي مرتبطة بالحاجة مليكة .نحن عاجزون بطرق مختلفة و لكننا نستمر ،بعضنا لخيار واآلخر النعدام .كلنا تحت سقف واحد. .. تجلس الحاجة مليكة حاملة ذيول سنينها السبعين بمكانها المعتاد مقابل الباب ،على فراشها المبطن بزربيتين و بطانية .تراقب من مكانها كل من يدخل الدار ويغادرها .ال أحد يروح ويجيء هذه األيام .وحده عبد العزيز ابنها الذي صار يطرق الباب اآلن بعدما أجبرت األبواب على أن تغلق .يتسوق عبد العزيز مرة في االسبوع ،و كل ثالث أيام يخرج لجلب الحليب من عند مهدي الذي قل الطلب على حليبه هذه األيام . يروح عبد العزيز للمسجد كل موعد صالة ،يصعد الصومعة ويؤذن بصوته الشجي الذي اعتاده أهل الدوار ،نفس الصوت الذي تكتسحه سحنة تنهيدة خافتة مع نهاية كل جملة أذان .ينهي األذان ويدعوا في سره أن يفرج هللا هذه األزمة .ومن ثم يعود لمنزله ليصلي بأهل داره .أغلقت المساجد ،والمدارس هي األخرى ،انقلب العالم كله رأسا على عقب في غمضة عين. في الثالث عشر من مارس ،اتخذت تدابير الحجر الصحي لمرض غريب ،لم يكن قبل أيام ليصل وطننا .فيروس عبر القارات يضع بصمته هنا ،والمواجهة كانت فرض حالة الطوارئ الصحية .مذ ذاك الحين تغير الكثير. أصاب السكري الحاد الحاجة مليكة منذ أزيد من عشر سنوات ،ومنذ ثالث سنين فقدت قدرتها على المشي ،وراحت ال تنعم بليال نوم مريحة وال نهارات هانئة .الحاجة مليكة التي عرفت بقوتها في سنينها السابقة ،بطابعها الهادئ والحكيم ووجهها البشوش ،لم تستطع أن تتجاوز أبدا حقيقة فقدان قدميها ،وأنها كلما أرادت قضاء حاجتها وجب أن تنادي ابنها عزيز أو حفيدتها "المرضية" مارية .تجلس بمكانها المعتاد ،الذي يسمح لها بعناء رؤية القادم والراحل دون أن تنخرط في المشهد. أتسائل :أكانت كل قوة مليكة في قدميها فقط؟ كيف لشخص يفقد قدرته على المشي أن يصير يائسا هكذا! ال نستطيع أن نحكم على ضعف مليكة في مواجهة مصابها .ولكن ،ألقي برأيي هنا عبثا :نحن ال نتحطم على ما لم نملكه ،بل على كل ما امتلكناه سابقا وصار اآلن مرادا بعيدا .لم تغادر مليكة المنزل منذ ثالث سنوات ،إال في المرات التي أخذت فيها وهي فاقدة للوعي ،بين الحياة و الموت، بعجلة عبر سيارة اإلسعاف .ترملت ابنتها نجاة الشتاء الماضي ولم تستطع زيارتها للمواساة في فاجعتها .نجاة غير المتعلمة وال العاملة تركت بمسؤولية طفلين ،مواجهة وحدها صهرا ينخر المال قلبه ،ليستفرد باإلرث وحده . األسبوع االول من الحجر الصحي :األمر اذا أكثر جدية ،حاالت متزايدة والكل مضطرب من القادم الذي يبدو أنه أكثر سوء .تحدث الحاجة مليكة ابنها البعيد عبر الهاتف" :والالهيال أ ولدي هاد كورونا رجعات كلشي شاد االرض فحالي" . الجميع صار مثل مليكة .بال قدمين ،وبتجويفات كثيرة يظهرها التوتر والخوف .الجميع صار يمشط بعينيه الحاالت المؤكدة كل يوم، دون أن يكون شريكا في األحداث ،كما حال مليكة تماما منذ ثالث سنوات. في الجهة األخرى ،يطلب األستاذ الذي يترك وراءه دوما أثرا فنيا جميال من طالبه ،بعدما أقفلوا مناقشة فيلم وثائقي عبر منصة ، Zoomأن يصوروا كثيرا ،أن يمنحوا التفاصيل وقتا ،حبا واهتماما ،ألنه بعد انتهاء هذه الجائحة سيغدو كل شيء ذا معنى آخر غير الذي هو عليه اآلن .تتفحص خديجة هذا الحث بتمحيص ،تود لو تخبره أمام جموع الحاضرين عبر هواتفهم وحواسيبهم :أستاذ أود لو أصور ،ولكني ال أقدر ،ال أجد أي معنى ألي شيء أمامي! ولكنها طبعا التستطيع قول ذلك أمام المأل .النها اعتادت في كل مرة أن تدفن كل أحاسيسها بعيدا جدا ،حتى تغمر عن آخرها فتطفح للسطح ،مفقدة إياها السيطرة. أتساءل :كيف يمكن العالم أن يكون مقلوبا رأسا على عقب بينما هؤالء الطالب يستمتعون بتحليل فيلم وثائقي ويطرحون بشغف مضامينه الفنية وأبعاده اإلنسانية ؟ "وهل لهم غير ذلك؟" 46 | P a g e