العدد 89
2013-10-27
وللمعار�ضة
�أي�ض ًا �سجونها
�صرب دروي�ش
هل بقي هناك جي�ش ح ّر؟ الهجرة ت�ستنزف اجلامعة ذهنية العجز �أمي مهاجرة � ً أي�ضا! جماهدو �سوريا
ت�شري املالحظة �إىل �أن �أغلب املدن التي متكنت املعار�ضة من ال�سيطرة عليها ،تواجه م�شاكل جمة يف �إدارة �ش�ؤنها وتنظيم احلياة املدنية فيها. فبعد �أن يتم حترير �أغلب امل��دن تبد�أ احلياة بالعودة �إليها تدريجياً ،وتبد�أ امل�شاكل بني ال�سكان بالعودة من جديد ،وهو ال�شيء ال��ذي يفر�ض على ق��وى املعار�ضة ت�شكيل هيئات ق�ضائية تتمكن من حل النزاعات وحماية املمتلكات العامة واخلا�صة وفر�ض القانون .يقول �أبو حممد وهو قا�ض �سابق: "بعد خروج قوات الأ�سد من املدينة ،تبدا احل��ي��اة ت��دب م��ن ج��دي��د ،وت��ع��ود امل�شاكل املعتادة بني النا�س لتظهر مثل �أي جمتمع �آخر ،وبعد جهود من قبل نا�شطي املدينة مت ت�شكيل خمفر وهيئة ق�ضائية كان مطلوب منها حل النزاعات بني املدنيني ،وفر�ض �سلطة القانون". يف احلقيقة �أغلب املدن "املحررة" خا�ضت هذه التجربة ،بينما �أغلبها ف�شلت بذلك، حيث مت ا�ستبدال الهيئة الق�ضائية بهيئة �شرعية غ��ال��ب� ًا م��ا ت��ك��ون ت��اب��ع��ة لإح���دى الت�شكيالت الع�سكرية امل�سيطرة .يقول ابو حممد" :عندما �شكلنا الهيئة الق�ضائية، ال �أ���ص��ح��اب ح��اول��ن��ا االع��ت��م��اد ع��ل��ى� :أو ً االخت�صا�ص من خريجي كلية احلقوق ،وعلى الد�ستور ال�سوري نف�سه مع اج��راء بع�ض التعديالت عليه� .إال �أن ذلك ا�صطدم الحق ًا بامليول املحافظة لدى الت�شكيالت الع�سكرية يف امل��دي��ن��ة ،وع��ل��ى ه���ذا مت ح��ل الهيئة الق�ضائية وت�شكيل الهيئة ال�شرعية". تت�ألف الهيئة ال�شرعية عموم ًا من خم�سة �أ�شخا�ص ،غالبا ه��م علماء دي��ن �أو �أئمة جوامع �سابقني ،يتم اختيارهم على قاعدة الوالء والقوة االجتماعية ،بينما املرجعية القانونية املعتمدة فهي ال�شريعة اال�سالمية كما يزعمون. يتبع للهيئة خمفر ي�ضم بولي�س املدينة، وهو ما يدعى عادة بكتيبة حفظ النظام، ويف املخفر يوجد �سجن يو�ضع فيه ال�سجناء وغالبا يكون حتت الأر�ض.
التتمة �صفحة..2 ..
العدد 89
2013-10-27
�سالم ال�سعدي �أطبقت حالة اال�ستنزاف والهدم على ك��ل تفا�صيل احل��ي��اة ال�����س��وري��ة .فت�سارعت وترية الرحيل ،و�صار عدّ اد الراحلني يح�سب ب��امل�لاي�ين ،كما ���ص��ار ال��ه��رب م��ن ب�ل�ا ٍد مثقلة بدماء �أبنائها غاية الغايات لل�سوريني كافة. من ه�ؤالء ،طالب جامعيون و�أ�ساتذة ،هجروا جامعة دم�شق ،قا�صدين علم ًا �أو عم ًال ،كانا قد رحال كذلك مع الراحلني. لعقود طويلة ،احتل التعليم الر�سمي املكانة الأب��رز يف النظام التعليمي ال�سوري. ومع افتتاح العديد من اجلامعات اخلا�صة يف مطلع الألفية اجلديدة ،تراجع الإقبال على التعليم الر�سمي بع�ض ال�شيء ،لكنه حافظ على ال�صدارة ،يف ظل ارتفاع �أق�ساط التعليم اخلا�ص ب�صورة ال طاقة ملعظم ال�سوريني على احتمالها. وتعد جامعة دم�شق ،التي �أن�شئت يف مطلع القرن املا�ضي ،اجلامعة الأ�ضخم والأعرق يف �سوريا .وت�ضم بح�سب بيانات وزارة التعليم العايل للعام ،2010نحو � 140ألف طالب يف التعليم النظامي ،تكاد تختنق بهم� .إذ لطاملا �أهملت احلكومات ال�سورية املتعاقبة يف ظل حكم البعث الإنفاق على التعليم ،مبا يت�ضمنه ذلك من تطوير للبنى التحتية واخلدمات، يف مقابل �إن��ف��اق �سخي على الأم��ن واجلي�ش وخمتلف �أجهزة التحكم وال�سيطرة. وك���ان م��ن الطبيعي ج���د ًا �أن يثري هذا "اخلزان" الب�شري ،خم��اوف ال تنتهي لدى النظام .فمع اندالع الثورة ال�سورية� ،شهدت جامعة دم�شق ت�شدّ د ًا امني ًا م�ضاعف ًا ،ذلك �أن الت�شديد الأم��ن��ي مل يكن وليد ال��ث��ورة، و�إمنا رافق �سيطرة حزب البعث على مفا�صل احلكم .فقام بحظر ن�شاط الأحزاب املن�ضوية يف "اجلبهة الوطنية التقدمية" يف اجلامعات، وح�صر الن�شاط بحزب البعث. وحتى قبل الثورةُ ،وجد حاجز �أمني على مدخل كل كلية تابعة جلامعة دم�شق ،حيث ي�ستقبل عن�صران �أمنيان م�سلحان الطالب
�صرب دروي�ش
الهجرة ت�ستنزف جامعة دم�شق املقبلني على العلم يف احل��رم اجلامعي ،كما يتدخل "�أمن اجلامعة" بكل �صغرية وكبرية خم�ضع ًا احلياة اجلامعية للهيمنة الأمنية. ال�سعار الأم��ن��ي ،ليمنع ويف حني مل يكن ّ �إنتظام �سري العملية التعليمية ،كان لتطور ال�����ص��راع يف ���س��وري��ا ،وت���دم�ي�ر اال���س��ت��ق��رار االجتماعي دور كبري يف حتطيم �أ�س�س احلياة اجلامعية .ما دف��ع الطالب والأ���س��ات��ذة �إىل مغادرة البالد والهرب من احلرب . يقدر م�صدر يف جامعة دم�شق �أن "ما يقارب 10يف املئة من �أ�ساتذة جامعة دم�شق غادروا البلد مف�ضلني العرو�ض املمتازة التي جاءتهم م��ن ج��ام��ع��ات عربية" .وبح�سب �صحيفة حكومية �أي�ض ًا ت�ؤكد م�صادر �أن "�سلطنة عمان تعد الأكرث طلب ًا لأ�ساتذة اجلامعات ال�سورية، وجامعاتها تقدم روات��ب تعادل مثيالتها يف �سورية �إال �أنها بالدوالر". ي����ؤك���د ����س���ام���ح ،وه����و ط���ال���ب يف كلية االت�صاالت يف جامعة دم�شق ،هجرة �أ�ساتذة اجلامعات ،ويقول لـ"املدن"" :من �أ�صل 20 �أ���س��ت��اذ ًا يف ق�سمي ،هاجر �أربعة" ،ويعترب �سامح �أن �أ�سباب ال�سفر "ال تنح�صر بكون الأ�ستاذ متميز ًا ومرغوب ًا من جامعات �أخرى، �أو برتاجع الو�ضع املعي�شي ،و�إمنا تعود �أ�سا�س ًا لأ�سباب �سيا�سية ،كاخلوف من النظام ،وحديث ًا اخلوف من اجلي�ش احلر". كما تراجعت �أع��داد الطالب يف جامعة دم�شق ب�صورة كبرية ،وهو ما ي�ؤكده �سامح �إذ "انخف�ضت ن�سبة الدوام لدينا بنحو 70يف املئة ،كما انخف�ضت ن�سبة التقدم المتحانات نهاية الف�صل الدرا�سي بحدود 50-40يف املئة". ت�����ش��رح ���س��ل��م��ى ،وه���ي ط��ال��ب��ة يف كلية الهند�سة الزراعية ،لـ"املدن" �أ�سباب ترك جامعتها واالنتقال �إىل لبنان مع عائلتها. تقول �سلمى" :مع مطلع العام احلايل ،تزايد �سقوط القذائف يف ح��رم الكلية ،و�أ�صيب العديد م��ن ال��ط�لاب وا�ست�شهد �آخ����رون ،ما
دفعني �إىل �إيقاف الدوام �أو ًال ،قبل �أن يقرر وال��دي �أن ننتقل جميع ًا �إىل لبنان" .تبدي �سلمى ا���س��ت��ي��ا ًء ك��ب�ير ًا م��ن و�ضعها احل��ايل، وتقول" :ا�شعر بفراغ كبري هنا .لقد بقي عام واح��د على تخرجي ،ا�شعر بالندم لهروبي من �سوريا ،كان علي �أن �أكمل العام الدرا�سي الأخري يل ب�أي ثمن". هنالك من مل ي�ترك اجلامعة ب��إرادت��ه، خوف ًا على حياته ،لتتكفل �أجهزة الأمن ب�إنهاء حياته اجلامعية� .إذ تعر�ض ع��دد كبري من طالب جامعة دم�شق للف�صل التع�سفي ،وذلك بعد انخراطهم يف التظاهرات ال�سلمية التي �شهدتها اجلامعة يف العام الأول من الثورة ب�شكل خ��ا���ص .ي�شرح رام���ي ،اح��د الطالب الذين تعر�ضوا للف�صل جتربته قبل �أن ينتقل �إىل م�صر ،قائ ًال لـ"املدن"" :بد�أت احلكاية با�ستدعاء جمموعة كبرية من الطالب ممن مار�سوا ن�شاط ًا �سيا�سي ًا مل�صلحة الثورة داخل اجل��ام��ع��ة ،وب��ع��د حتقيق �أم��ن��ي م��ع ك��ل منا، �أجربونا على التوقيع على تعهد بعدم ممار�سة
تتمة :وللمعار�ضة �أي�ض ًا �سجونها
تفتقد هذه امل�ؤ�س�سات امل�شكلة حديث ًا �إىل اخلربة ،والأهم من ذلك تفتقد �إىل ثقافة القانون وحقوق االن�سان .قبل دخولنا �إىل �إحدى ال�سجون يف الغوطة ال�شرقية ،وجهنا ال�س�ؤال �إىل رئي�س املخفر :هل تعتمدون معايري حقوق االن�سان داخل ال�سجن؟ وهل يتمكن ال�سجناء من االت�صال بعوائلهم واحل�صول على زيارات منهم؟ هل يخ�ضع ال�سجناء للتعذيب؟ يف احلقيقة بدى االرباك وا�ضح ًا على �آمر ال�سجن� ،إال �أنه رد بالقول" :نعم نعتمد معايري حقوق االن�سان ،وال نتعر�ض للم�ساجني بال�ضرب �أو غريه ،كما �أننا نعالج املر�ضى ونوفر لهم الطعام املقبول". بيد �أن داخل ال�سجن عامل �آخر ،وللم�ساجني وجهة نظر خمتلفة. حممود �سجني منذ حوايل ال�شهرين ،يقول" :عندما �ألقت كتيبة حفظ علي بال�ضرب املربح ،وبعدها اقتادوين �إىل علي ،انهالوا ّ النظام القب�ض ّ املخفر ،وهناك �أثناء التحقيق تعر�ضت لل�ضرب واالهانة ،حتى �أن �أنفي مك�سور الآن و�آثار التعذيب ماتزال على ج�سدي" .فع ًال كان حممود قد �أرانا �آثار التعذيب على ج�سده ،وهو م�صر على عدم وجود دليل وا�ضح يدينه ،و�أن �سبب التعذيب كان للح�صول على اعرتاف منه ،وهو ما حدث فع ًال .يف احلقيقة تذكرنا هذه املمار�سات مبمار�سات نظام اال�سد يف التعامل مع ال�سجناء واملتهمني .فبالن�سبة لعنا�صر كتيبة حفظ النظام، فهم غالب ًا �شبان يف مقتبل العمر و�أغلبهم مل يتلقى �أي نوع من التعليم،
بينما جميعهم مل يخ�ضع لدورات تعليمية حول القانون وكيفية احرتام حقوق االن�سان ،وهو ما جعل ممار�ساتهم وعلى قاعدة �شعورهم بال�سلطة التي ميتلكونها �أ�شبه مبمار�سات نظام الأ�سد الذي خرجوا لإ�سقاطه. عبد ال�سالم رجل يف بداية الأربعينيات ،مت �إلقاء القب�ض عليه بتهمة التعامل مع نظام الأ�سد ،يقول" :انا كنت �أعمل يف الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ،وحا�صل على �شهادة معهد متو�سط ،عندما قررت ترك عملي لدى النظام والعودة �إىل مدينتي تفاج�أت ب�إلقاء القب�ض علي ،وتوجيه تهمة العمالة للنظام من دون �أي دليل" ويتابع بالقول: ّ "تعر�ضت لل�ضرب والتعذيب وك�سرة �إحدى �أ�صابع يدي ،وكانت الغاية �أن اعرتف �أنني متعاون مع النظام ،وب�سبب �شدة التعذيب اعرتفت على ما يريدون". يف احلقيقة �أغلب ال�سجناء الذين التقيناهم ،عربوا عن ا�ستيائهم جتاه طريقة عمل الهيئة ال�شرعية ،فعدا عن �سوء الطرق املعتمدة يف التحقيق مع ال�سجناء متتد املحاكمات غالب ًا لأ�شهر طويلة ،مينعوا خاللها من التوا�صل مع العامل اخلارجي ك�أ�سرهم و�أ�صدقائهم ،كما ال ي�سمح لهم بتوكيل من يدافع عنهم ،وهي �سلبيات يراها �آمر ال�سجن �أنها ظرفية ،و�أن��ه مع مزيد من الوقت �ستحل كل هذه امل�شاكل .و�أما كيف �سيكون ذلك؟ فال �أحد يعلم .بيد �أن الوا�ضح يف هذه املعادلة هو
�أي ن�شاط �سيا�سي ،واخربونا �أن امللف قد �أغلق هنا" .ويتابع" :بعد �أيام على ذلك� ،أ�صدرت رئا�سة جامعة دم�شق عقوبات طالت ع��دد ًا كبري َا من �أولئك الطالب ترتاوح بني احلرمان لف�صل درا�سي �أو لف�صلني ،والف�صل النهائي". وي�شري رام��ي ال��ذي ت��رك اجلامعة منذ ذل��ك احل�ين ،وانتقل �إىل م�صر حيث التحق ب�إحدى اجلامعات� ،إىل �أن "�أعداد ًا كبرية من الطالب مطلوبون �أمني ًا ،وال ي�ستطيعون دخول اجلامعة ،برغم وجودهم يف �سوريا". ه��ك��ذا ،ر�أى النظام ال�سوري يف جامعة دم�شق ،التي تختزن طاقة �شبابية واعية ل�ضرورات التغيري و�شغوفة به ،خطر ًا داهم ًا يهدد ب��ق��اءه و ا�ستقراره ،فعاث بها خراب ًا وتفتيت ًا .وال ا�ستثناء يف ذل��ك ،ان��ه امل�صري ال��ذي �أحلقه النظام بكل فئة راودتها �آمال التغيري ،وعرفت �أن النظام احلايل الذي جثم على حياتها لأربعة عقود ،لي�س حتمي ًا ،و�إمنا بامل�ستطاع تغيريه.
اختالل العدل ب�سبب اختالل حامله ،فالهيئات ال�شرعية ج�سم غريب على املجتمع ال�سوري وعلى ثقافته ،وبذلك فلن نقع هنا على خربات مرتاكمة �أو �أ�شخا�ص متمر�سني حتى يف فر�ض ال�شريعة اال�سالمية، ومن هنا تبد�أ الأحكام تنتج عن "الهوى" حمكومة مبعايري �شخ�صية ال قانونية ،وهو �شيء ي�ضع مفهوم العدل على املحك ويف�سح املجال للفو�ضى ،فالفو�ضى بديل العدل. ً و�إذا كان امل�شهد هنا يف حميط العا�صمة دم�شق يبدو قامتا� ،إال �أن��ه يبقى �أف�ضل من تلك امل��دن التي ت�سيطر عليها "داع�ش" وجبهة الن�صرة ،هناك حيث يبدو امل�شهد غاية يف ال�سوء ،ف�إذا كان ال�سجني يتعر�ض للتعذيب وبع�ض االنتهاكات حلقوقه يف مدن حميط العا�صمة دم�شق ،فهو يتعر�ض للقتل يف م��دن ال�شمال ال�سوري التي ت�سيطر عليها الت�شكيالت �شديدة التطرف ،حيث يجري احلديث عن �أكرث من 1500معتقل لأ�سباب �سيا�سية �أي تتعلق بالر�أي ،بينما وثقت ع�شرات االعدامات امليدانية بحق النا�شطني. حق ًا كما يقول النحات ال�سوري املعار�ض عا�صم البا�شا" :كل ّ �ضيعة ،بلدة �أو مدينة تقام فيها هيئة �شرعية ال ميكن اعتبارها حم ّررة على الإطالق" .ف�أ�سا�س "احلرية" هو العدل ،و�إذا غاب العدل ّ حل حمله الف�ساد والظلم ،وهو بال�ضبط ما �سعى ال�شعب ال�سوري �إىل الثورة عليه.
العدد 89
نقا�ش �سوري� :أمان الدجاج يف القف�ص!
هيفاء بيطار ثمة مفاهيم تتكل�س مع الزمن ،وحتتاج �إىل �إع��ادة تعريف� ،أو �إىل �صيانة .و�أكرث ما �أالحظ هذه الأيام كرثة حديث النا�س واختالفهم – الذي ي�صل �أحيان ًا «ح��د القطيعة والتخوين – حول معنى كلمة الأمان .العبارة الأكرث تداو ًال»« :كنا عاي�شني ب�أمان» .والبع�ض ي�صرخ حمتج ًا« :ال مل نكن عاي�شني ب�أمان». �أجدين بني الفريقني �أحاول �إيجاد تقاطعات م�شرتكة ،لكنني �أف�شل يف ردم ال�شرخ املتعاظم بني �شريحة حتن لأم��ان �أي��ام زمان يف �سورية – قبل الثورة �أو احل��راك �أو الإع�صار – وبني �شريحة يجن جنونها حني ي�صف ه�ؤالء العي�ش �إياه �أمان ًا». تبدو كلمة �أم��ان مك�سورة اخلاطر ،ال ر�صيد لها ومو�ضع �صراع و�شقاق بني �إخ��وة ،تبدو حمملة بكل امل��ع��اين م��ا ع��دا الأم���ان .و�أج���دين م�ضطرة ال�ستنها�ض ذكريات ال تزال طازجة يف عقلي ويف عقول معظم ال�سوريني حول عي�شنا ما قبل الثورة ال�سورية وما بعدها� .أقول �إن ه�ؤالء الذين يحنون لأم��ان �أي��ام زم��ان �أن تفكريهم ينح�صر يف ذاتهم فقط ويف �أ�سرتهم ال�صغرية� ،أن يكونوا مطمئنني �إىل �أنهم يركنون �سياراتهم يف ال�شارع و�سيجدونها يف مكانها �صباح ال��ي��وم ال��ت��ايل ،و�أن �أوالده���م يذهبون �إىل املدر�سة ويعودون �إىل البيت �آمنني �ساملني ،و�أنهم من حني لآخر يق�صدون مطعم ًا «�أو يح�ضرون حفلة ،واحلياة �آمنة وهادئة .ه�ؤالء ال يخطر ببالهم على الإطالق �سجناء الر�أي� ،آالف ال�شبان الذين �ضاعت �سنوات من زه��رة �شبابهم وراء الق�ضبان مل��ج��رد �أن��ه��م ي��ف��ك��رون بطريقة خمتلفة ،رمبا مل ي�سمعوا بهم �أ�ص ًال»� ،أو ح�صنوا �أنف�سهم من �سماع ق�ص�ص املعتقلني كي ال يُخد�ش �إح�سا�سهم بالأمان� .أحد �أ�صدقائي ُ�سجن ع�شر �سنوات ،ك��ان من املدافعني عن حقوق الإن�سان، �سجن وابنه البكر عمره �أ�سبوع ،والأهم من ذلك �أن �أخا �صديقي ُ�سجن ثالث �سنوات بتهمة �إخفاء معلومات عن �أخيه! تخيلوا ،يرعاكم اهلل ،كيف ميكن �أخ ًا �أن يكون مخُ رب ًا عن �أخيه؟ وكيف عليه �أن يذهب �إىل �أجهزة الأم��ن ليقدم �شكوى بحق �أخيه الذي يدافع عن حقوق الإن�سان ،وعن حق املعتقلني يف حماكمة نزيهة وعادلة ،الكثري الكثري
جمانة فرحات
2013-10-27
من زمالئي يف اجلامعة اختفوا �سنوات طويلة يف ال�سجون لأنهم يفكرون بطريقة خمتلفة وينتمون لأح���زاب �سيا�سية ُتعد خطرية وع���دوة� .أفكر �أي تفكري خطري ميلكه �شاب يف التا�سعة ع�شرة من عمره كي ي�سجن خم�سة ع�شر عام ًا! ه�ؤالء الندابون املتح�سرون على الأمان ال يعرتفون وال يريدون التفكري ب�أنه على بعد خطوات من قف�صهم الآمن هناك �آالف ال�شبان واملفكرين �سجناء فكرة. ه�ؤالء يربون �أوالدهم على مفاهيم قمة يف الذل مثل :احليط احليط ويا رب ال�سرتة .واليد التي ال تقدر على قطعها ق ّبلها واد ُع عليها بالقطع. و�أ�س�ألك نف�سي يا رب .وم��ن يتزوج �أمنا ن�سميه عمنا… �إلخ من املفاهيم والطرق الرتبوية التي تر�سخ اخلنوع وال��ذل يف نفو�س الأط��ف��ال رجال امل�ستقبل. ه ��ؤالء الذين يبكون �أم��ان �أي��ام زم��ان ظلوا �صامتني �صمت الذل واخلزي وهم يتفرجون بعيون خر�ساء و�شفاه �أل�صقها ببع�ضها �صمغ اخلوف على مظاهر رهيبة من الفح�ش والعهر واالنتهاكات العلنية ويف و�ضح ال�شم�س تقوم بها حفنة من املُتنفذين الل�صو�ص الأنيقني الذين �أوغ��ل��وا يف الرثاء و�إذالل النا�س وبقوا من دون محُ ا�سبة ومل يدخل �أحدهم ال�سجن قط ،ومل يمُ نعوا من ال�سفر يوم ًا «واحد ًا» ومل ي�س�ألهم �أحد من �أين لك هذا؟! مل ي��ع�تر���ض �أح���د ه�����ؤالء ال��ذي��ن ي��ذرف��ون دموع ًا «حارقة الفتقادهم الأم��ان حني �شاهدوا كيف يرتجل ال�سيد �إي��اه من املر�سيد�س الفارهة بنوافذها ال�����س��وداء ك��ي ي��رى وال ُي���رى ،وي�شهر م�سد�سه وه��و يقهقه عالي ًا» ،وي�أمر كل الرجال الكهول يف املقهى �أن ينبطحوا حتت الطاوالت وب�سرعة ،ويطلق ب�ضع ر�صا�صات يف الهواء مُنت�شي ًا «بهوى ال�سلطة .جنون ال�سلطة امل�ؤكد .وال يخطر بباله �أن �إح��دى ر�صا�صاته الطائ�شة قد ت�صيب �أحد املارة �أو �إحدى ال�صبايا التي تراقب مذهولة ما يحدث يف بلد الأم��ان .مل يخطر ببال ه�ؤالء ن��ازيف الدمع على �أي��ام الأم��ان �أن يت�ساءلوا �أين اختفى �أ�شهر �أ�ستاذ ريا�ضيات يف الالذقية وملدة عام كامل ،من اختطفه يف و�ضح النهار من �أمام بيته وغ ّيبه يف قبو لأك�ثر من ع��ام! وح�ين عاد
الأ�ستاذ القدير فج�أة �إىل �أ�سرته مل يجر�ؤ �أحد على �أن ي�س�أله �أين كنت؟ وملاذا خطفوك؟ و�أحدهم قال يل �إن زوجته مل تعرف �أين كان .فقد ُروع �إىل درجة �أنه خر�س متام ًا «ومل يتفوه بكلمة عن تلك ال�سنة من حياته .ا�ستمرت حياة النا�س �آمنة يف غياب الأ�ستاذ وا�ستمرت �آمنة والكهول يف املقهى ينبطحون �أر�ض ًا حتت الطاوالت تنفيذ ًا» لأوامر مهوو�س بال�سلطة ويجل�س ف��وق ال��ق��وان�ين وهو يالعب الهواء بقدميه ،وا�ستمرت احلياة �آمنة و�آالف ال�شبان يف ال�سجون ب�سبب جرمية حرية ال���ر�أي .ه��ذا الأم���ان ه��و �أم���ان القبور ،ه��و �أم��ان دجاجات يف قف�ص ،هو �أمان النعامة التي ُتف�ضل �أن تدفن ر�أ�سها يف الرتاب على مواجهة احلقيقة. ثمة فرق �شا�سع بني الأمان احلقيقي القائم على �إح�سا�س الإن�سان بكرامته وحريته و�إن�سانيته، وبني الأمان الزائف القائم على الرتويع .مبعنى ابتعد عن ال�سيا�سة والتفكري احلر واالعرتا�ض، واقبل ب�أمان الدجاجات يف القف�ص .جمرد عي�ش، جم��رد ت��راك��م زمني ب�لا نكهة حرية وال ع�سل احلرية الذي يذوب يف فمنا لي�شعرنا ب�أن هذا هو طعم احلياة احلقة ،وب�أن ثمه فرق ًا كبري ًا بني �أن نحيا وبني �أن نت�سول حياة� .أعرف �أي جرح بليغ
ن��ازف �صارته �سورية و�أق��ف كل يوم مذهولة من هول الإجرام وذبح الأطفال ،واملقابر اجلماعية، ووط��ن �صار �سوق �سالح وجت��ارة م��وت ،و�شياطني ي�ستعريون ا�سم اهلل ليقتلوا ويذبحوا وهم يهللون فرحني ب�أنهم يطبقون ال�شريعة ،والكل يخون الكل ،والكل يكذب على الكل ،والكل يدعي �أن �ضمريه مل يعد يتحمل ه��ول الإج����رام ،والكل يتاجر بدم ال�شعب ال�سوري ،والكل يعطينا �سعر �صرف ال��دوالر الأمريكي كل �صباح مقارنة ب�سعر الدم ال�سوري �أرخ�ص �سلعة يف العامل و ُتقدم عليه عرو�ض مُغرية ،من نوع – اقتل مئة نعطيك جائزة لقتل ع�شرة �سوريني كجائزة تر�ضية – كل هذا الأمل والدمار واالنهيار يف البالد والعباد ال مينعني من التوقف و�إع���ادة تقومي مفهوم الأم���ان ،و�أن �أطلب من ه�ؤالء الذين يحنون لأمان �أيام زمان �أن ينظروا �أبعد من �أنوفهم قلي ًال «و�أن يفتحوا قلي ًال» �شفاههم التي �أل�صقها �صمغ اخلوف و�أن يحدقوا بعيونهم اخلر�ساء بكل االنتهاكات الفظيعة التي ح�صلت فيما هم يف غيبوبة �أمانهم الزائف.
ذهنية العجز ...وح�صاد ال�سراب
منذ بداية الثورة راهن كثريون من املعار�ضني وال�سيا�سيني ال�سوريني على حلول �سيا�سية؛ ك�أن يتنحى ب�شار حتت الت�ضييق عليه وحتت الق�سر والإج�ب��ار ،ويرتاجع عن حربه بعد تخلي طائفته عنه� ،أو �أن يحدث اغتيال له بالتن�سيق بني من حوله وا�ستخبارات خارجيّة�..أو يهرب خوفا وجبنا �..أو� ...أو....و�شاع يف الأفواه والعقول مقوالت كثرية عن ا�ستحالة التغيري من دون دعم خارجي؛ فقد تر�سخ بذهنية العجز ال�ساذجة التي لديهم ان ال�شعب والثورة �ضعيفان عاجزان عن �إ�سقاط نظام ب�شار..وكل ذلك كان تنظريا �ساذجا وذا طابع انهزامي � ،أو انتهازي لدى اخلائفني من مد �شعبي ثوري للأغلبيّة. والآن جندنا نح�صد هذه ال��روح ال�سلبيّة الفوقيّة االنعزاليّة يف هزائم املعار�ضة الكثرية ،ويف خ�سائرها الفادحة بعد عجزها عن �إقامة م�شروع �سيا�سي ي��ؤدي �إىل �إ�سقاط نظام ب�شار ،واق�تراح بديل منطقي مقبول متفق عليه يتعاونون كلهم على حتقيقه بعيدا عن �أجندات فئويّة وتبعية غري وطنيّة. الإ�شكالية احلقيقية ال تكمن يف �ضعف الثورة ،ولي�س يف ت�آمر العامل اخلارجي على م�شاريع التحرر العربية النه�ضوية ،بل يف العقلية ال�سيا�سية كلها التي ت�صدر ت متثيل الثورة وحمل امل�شروع الوطني وال�سيا�سي؛ فهي متعالية ،وماكانت تثق بطاقة �شعبها ،وكانت تنافقه وتكذب عليه، وتدعي م�ساعدته ،و ال تدعمه بقوة وحمبة وعدل ،بل تبخ�سه حقه.
وعلى النقي�ض من ذلك ،كانت متار�س �سيا�سة فرق ت�سد وتنفذ برامج غري وطنبّة وفق خمططات �أنظمة الدول الغربية وال�شرفية و�سيا�ساتها التي كانت وثقت بها وهرعت �إليها حتت عنوان ن�صرة ال�شعوب املقهورة ودعم �شرعة حقوق الإن�سان يف مواجهة �إره��اب اال�ستبداد والطغاة؛ فجرت وراءه��ا يف م�شاريع �سيا�سية كثرية ،ت�ستجدي امل�ساعدة والعون ،وترتك العمل اجلوهري على امل�شروع الثوري وهو �إ�سقاط النظام ،متعامية عن الهدف الأ�سا�سي وهو ن�صرة ال�شعب املقهور الذي يواجه وحيد ًا� ،أو بذخرية م�شروطة وفا�سدة البط�ش والقتل واالعتقال والتعذيب والت�شريد والنزوح واجلوع الإهانة وانتهاك الكرامة حتت ق�ضبان نظام �سفاح ،على �أمل حت�صيل دعم �سيا�سي �أو ع�سكري �أو ت�سوية �سيا�سية حتقق طموحاتها يف ال�سلطة واحلكم واملك�سب والنفوذ .حتى �صار لدينا �ألف خطة لعدالة انتقالية ،و�ألف م�شروع ل�سلم �أهلي ،وجملدات �ضخمة عن التمكني ال�سيا�سي للمر�أة وال�شباب وعن م�ستقبل امل�شاركة ال�سيا�سية ،ومنابر منت�شرة لتب�شري مبباديء الدميقراطية و�إقامة دولة الدميقراطية املدنية العلمانية... وم�شاريع وا�سعة لتعليم الت�سامح وغريه... ويف هام�ش ذلك ك ّله ،ظل نظام الإجرام يتفرج على الفو�ضى ويفجرها مبزيد من جنونه الأمني ومكره املكائدي ،را�سخا يف �إرهابه وع�سفه، يقتل ويبط�ش ويبيد �شعب �سوريا...وا�ستمر املعار�ضون ميار�سون طقو�س اليومية من الرثثرة والغباء والنجومية والنقيق و�صوال �إىل جنيف 2
حيث التفاو�ض على �إم�ضاء انك�سارهم ال�سيا�سي ،والت�صفيق لرفع ال�ستار عن امل�شهد ال�سيا�سي الأخري ،وهو تر�سيخ بقاء املجرم ونظامه على تلة �إجرامه وا�ستمرار حكمه لعقد جديد ورمبا لقرن ،وتن�صيب بع�ض الوجوه التقليدية من معار�ضات قدمية بائدة ،او من معار�ضة اجلبهة الوطنية االنتهازية ال�ساقطة منذ عقود يف منا�صب حكومية ووزارية ّ ،و�صبغ الواقع القائم بهالة من ال�شرعية وامل�شروعية برعاية من �أ�صدقاء �سوريا .وك�أن ال�شعب ال�سوري بقدم كل هذه الت�ضحيات العظيمة من �أجل تيجان ه�ؤالء ال�سفلة ،ومن �أجل ت�شريع بقاء �سلطة الأ�شرار وا�ستمرار �ساللة الأ�سود النتنة .ك�أن الثورة �صفقة يف من�صب ورقم يف حكومة �شكلية. بب�ساطة ال حل �أم��ام ال�شعب �إال �أن يتابع ال�سري يف م�شروع الثورة النتزاع حقه مهما دفع من دمه وعي�شه؛ لأن الثورة ت�سري �إىل الأم��ام ب�أوامر القدر التاريخي ،وال تنظر للوراء لتلتقط ال�ضائعني وتتعرث مبا م�ضى .وكل الهاربني منها خوفا وجبنا وجهال وتخاذال خا�سرون جدا ،وواهمون ب�سراب جن��اة� .أم��ا حزمة ال�شروط التي تعطيها املعار�ضة وحزمة الإم�لاءات يفر�ضها �شركاء النظام؛ فهي مزيد من انزالق �أ�شد يف البالء واالنحطاط والهزائم وهدر الوقت .ال حل �إال اال�صطفاف مع الثورة و�شد ال�صفوف الثوريّة ،والعمل بجديّة والتزام وتنازل عن املكا�سب الفردية والتيجان النخبويّة من اجل حترير الأر�ض من نظام ب�شار ك ّله ومن منظومة اال�ستبداد كاملة.
العدد 89
2013-10-27
هل بقي هناك جي�ش حر؟
منذ ال��ب��داي��ة مل يكن «اجلي�ش احل���ر» ا�سم ًا وا���ض��ح� ًا وحم���دد ًا لكيان ع�سكري متجان�س ،كان ا�سم ًا ف�ضفا�ض ًا ي�ضم ك��ل املقاتلني على اختالف م�شاربهم ودوافعهم للقتال �ضد النظام ،مل يكن فيه �أب��د ًا تراتبية ع�سكرية وا�ضحة ،ومل يتحرك يف �أغلب الأحيان وفق خطط ع�سكرية طموحة تلبي �أه��داف��ا وا�سعة و�شاملة ،بقدر ما كانت حتركاته و�أفعاله عبارة عن تكتيكات حملية لتحقيق �أهداف مرحلية ،دون ه��دف ع�سكري �أو (وبكل ج��راءة) �سيا�سي وا�ضح .اليوم وبعد ت�شكيل «جي�ش الإ�سالم»، ووجود �ألوية وكتائب �ضخمة ،معظمها يحمل هوية ا�سالمية (ترتاوح بني �سلفية جهادية �إىل جهادية
مرحلية بدون ارتباط بفكر �سلفي عميق) ،ف�إنه من ال�صعب �إطالق ا�سم «اجلي�ش احلر» عليها ،بل رمبا هي نف�سها مل تعد ت�سمي نف�سها جي�ش ًا حر ًا ،بل �صارت جيو�ش ًا �أخرى .ال ننوي التقليل من قوتها القتالية وال الت�شكيك ب�أجندتها الوطنية (وهي يف �أح�سن الأحوال مبهمة وغري وا�ضحة) فهذا يحتاج درا�سة معمقة و�شاملة �أكرث .لكن يهدف املقال ملحاولة فهم مقارباتها الع�سكرية و�إىل ماذا تهدف يف النهاية. من املعلوم �أن احلروب يف النهاية هي ب�شكل ما دليل لف�شل احلل ال�سيا�سي ،و�أن كل هذه احلروب �إمنا تهدف بالنهاية لفر�ض احلل ال�سيا�سي الذي تريده هذه الدولة �أو تلك من جراء احلرب ،بحيث يتكون
خليل النعيمي مل �أكن �أت�ص ّور ،عندما كتبتُ قبل �سنوات رواية « َتفْريغ الكائن»� ،أن الأمور �ست�صل �إىل هذا احلد� .إىل حد التفريغ املرعب للكائنات من جوهرها الإن�ساين. �صحيح �أنني كنت �أرى ،و�أح�س ،و�أرتعد هَ َلع ًا من انت�شار تلك «الآف����ة»� :آف��ة التفريغ املتع َّمد للإن�سان من �أحا�سي�سه العميقة ،و َت ْخميد «طاقة احلياة» عنده، تلك التي من �ش�أنها �أن ُت ْل ِهم روحه الرف�ض ،وعقله التم ّرد ،و�أح�سا�سه ال��ع� ّزة .لكنني مل �أك��ن �أت�ص ّور �أنها(�آفة التفريغ) متلك كل هذه ال ُقدرة الهَدّ امة. البارحة عندما ا�ستمعت �إىل خطاب الرئي�س ِ�أُ�ص ْبتُ بال�صدمة .لك�أنه ال يحيا يف التاريخ ،وال حتى على هام�شه ،بل هو «حمبو�س» يف قوقعة �سلطوية كتيمة ال من َف َذ فيها ،وال م ْه َرب منها .لك�أنه لي�س من �أهل هذا الكوكب .ومل ي�سمع ب�شيء ا�سمه :احلرية، �أو الدميقراطية� ،أو العدالة� ،أو امل�ساواة .وال يعرف ما معنى الأحزاب امل�ستقلة عن ال�سلطة ،وال النقابات احلرة ،وال الإ�ضرابات العفوية «الال ُم َ�س رَّية» املطالبة بحقوقها الإن�سانية ،وال الإنتفا�ضات الكونية عندما «يطفح ال َك ْيل» .لك�أنه ال يتكلم اللغة التي تكلمت بها جموع املتظاهرين .واليجمعه و�إ ّياهم هدف �إن�سا ّ ين واحد :احلق يف حياة حرة كرمية. ما �أذهلني� ،أي�ض ًا ،هو جمهور امل�ص ِفّقني له ،امل�صفقني بحما�س وك�أنهم ي�ص ِفّقون لأنف�سهم .هم لي�سوا ممثلني لل�شعب� ،إذن ،و�إمنا ُ�ش َركاء للرئي�س يف اال�ستغالل .
�أحمد قط�شه
احلل النهائي من ق�سمني ( %90-80حل ع�سكري مقابل %10-20حل �سيا�سي) ،لكن هذه الـ10-20 هي �أهم من الـ( 90-80من احلل الع�سكري) ،بل �إن �أي �إجناز ع�سكري على الأر�ض ال ي�ستطيع �أن يفر�ض ح ًال �سيا�سي ًا ،ال ميكن االعتداد به يف نهاية املطاف. لذلك ترى يف الدول املتقدمة �أن الع�سكر يتحركون ب�إمرة ال�سا�سة ،و�أن اجلي�ش يف النهاية مهمته تغيري واقع ما لفر�ض حل �سيا�سي حمدد� ،سواء عرب حرب �سريعة �أو طويلة ،بل �إن الكثري من مفاو�ضات �إنهاء احلروب متت ،يف حني ما تزال املدافع تعمل لتقدم �أوراق ًا بيد املفاو�ضني. ل َرن الآن حال هذه الألوية واجليو�ش يف الو�ضع ال�سوري .من الوا�ضح �أن هدفها املعلن هو �إ�سقاط النظام ،حرفي ًا ،وهذا مطلب كل من ي�ؤيد الثورة، لكنها لتحقيق هذا الهدف ال تطرح طريق ًا �سيا�سي ًا مي ّكنها من قطف ثمار انت�صاراتها على الأر���ض، وحتى حني حتاول املعار�ضة ال�سيا�سية ال�سورية (على ك��ل عالتها) �أن حت�صد ث��م��ار ًا للنجاحات الع�سكريةُ ،تكال لها االتهامات ب�أنها ت�سرق �إجنازات وتعب املقاتلني ،بل وت�سرق �أي�ض ًا دم ال�شهداء ،ومن هنا ال تعرتف هذه الألوية الع�سكرية باملعار�ضة ال�سيا�سية وتبحث �إ���س��ق��اط��ه��ا ،وت��ق��ع املعار�ضة ال�سيا�سية يف ذات الفخ عندما تتج ّنب احلديث لقادة هذه الكتائب وحت��اول �أن تطرح ت�صوراتها بعيد ًا عن الو�ضع امليداين. يف احلقيقة يجب على قادة هذه الكتائب �أن يفهموا �أمر ًا وا�ضح ًا ،هو �أن العامل ال يريد للنظام �أن ي�سقط ،خ�شية من البديل ،وال��ذي هو يف هذه احلالة جيو�شهم ،والتي ال يعرف �أحد عنها �سوى ب�ضعة مقابالت �أو بيانات على اليوتيوب ،تزيد الغمو�ض ب��دل �أن ُتزيله .بناء عليه ،ف ��إن هذه
تفـريـغ الـرئيـ�س
«ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام» .وهم يريدون «�إ�سعاد الرئي�س» ،ولو كذب ًا .لكن حركة التاريخ التي ال تعود �إىل الوراء ،وال تهد�أ قبل �أن تبلغ مبتغاها ،لن تعب�أ مبا يريدون ،حتى ولو اهرت�أت �أ ُك ُفّهم ت�صفيق ًا« .تفريغ الكائن»� ،إذن ،لي�س عملية «ب�سيطة» ،وال حمدودة. �إنها نوع من الإ�ستيالء على عقله ،وعواطفه ،وح ْب�سهما عائي مغلق .وبد ًال من منطق نقدي منفتح، يف ح ِّيز ِد ّ ُي ْح�شى الكائن املف َّرغ بـ«المنطق» يعتمد على تزييف الواقع ،وجتاهل حركة التاريخ ،والإحتفاء بالتفاهة والإبتذال .وهو ما يعطيه �شعور ًا زائ ًفا بالتما�سك. ويجعله ال ميلك يف حواره مع مَنْ يناق�ضه �إال الإنحياز الدوغمائي الأعمى ملا َت َل َقّنه .حتى ليبدو مثل الكلب البولي�سي املد َّرب ال يعرف �إال �سيده ،منتظر ًا منه ،كلما �أ ْو َغل يف دفاعه امل َت َز ِّمت عنه ،لحَ ْ َ�سة �أو لمَ ْ َ�سة. والكائن امل��ف � َّرغ ،كما �صرنا نعرف ال��ي��وم ،كائن تربيري بامتياز .عالقته مبحيطه تخ�ضع لرغبته ّ العميقة بال�سيطرة املطلقة عليه .ودف��اع��ه عن «مواقفه» يقوم على التزييف والإتهام .والإتهام ،يف هذه احلال ،هو �إزاحة للآخر من الوجود� .إنه «كائن ْتف بذاته ،ال مكان لأح��د يف ر�أ�سه ،حتى ُك ّل ّي»ُ ،مك ٍ لآالف املتظاهرين �أمام عينيه. ً وقائع التاريخ ال ُت�ش ٍّكل مرجعا له ،و�إمنا مرجعه وح َّو َلتْه ،تدريجي ًا �إىل «كائن ال�سلطة التي ف َّر َغتْهَ ، ميت تاريخي ًا»� ،أو كائن �سكو ّ ين .حتى �أن ن�صف قرن
اجليو�ش م��دع� ّوة لت�شكيل ج�سم �سيا�سي لها ،من �أ�شخا�ص يختارونهم هم ويثقون بهم ،لكنهم غري مقاتلني ولي�س بال�ضرورة �أن يكونوا �أ�سما ًء معروفة من املعار�ضة .مهمة هذه التيارات ال�سيا�سية قطف ثمار العمل الع�سكري ،والتعامل مع النا�س والعامل مبنطق ال�سيا�سة ال منطق البندقية .ه�ؤالء ميكنهم �أن ي�سافروا �إىل دول العامل ويتحدثوا مع امل�س�ؤولني فيها وينقلوا وج��ه��ات نظرهم وحتى م�شاريعهم وخططهم لإدارة ال��ب�لاد ح��ال �إ�سقاط النظام. الأه��م من ذل��ك �أن يخ�ضع العمل الع�سكري على الأر���ض حل�سابات ال�سيا�سة ،كما �ست�سري ال�سيا�سة وفق ًا لتطورات العمل الع�سكري .هذا �أمر يف غاية الأهمية ،وهو لي�س بدع ًا يف حروب التحرير وال يف الثورات وال حتى يف النزاعات الأهلية .طبع ًا املهم الآخ��ر ،ال��ذي يجب �أن يتم �أي�ض ًا ،هو الأم��ر ّ توحيد هذه الف�صائل والكتائب واجليو�ش ،وجعلها جميع ًا تعمل يف �إطار عام واحد ،يهدف �إىل حترير ك��ل امل��ن��اط��ق ،ب���د ًال م��ن مناطق م��ع��زول��ة .وف�شل هذه الكتائب يف حتقيق هذا التوحد ي�شبه ف�شل املعار�ضة ال�سيا�سية يف ت�شكيل كيان واح��د قوي يت�صرف يف �إطار واحد ووا�ضح ،وبالتايل فال يجب �أن ُتنعت هذه املعار�ضة ال�سيا�سية بالت�شرذم وحده، دون املعار�ضة الع�سكرية. ب��دون مثل هذه الأج�سام ال�سيا�سية� ،سيبقى ال�شك حائم ًا فوق �أي بيان �أو مقابلة يقوم بها قادة ه��ذه اجليو�ش ،و�ستبقى �أهدافهم غام�ضة وغري مطمئنة ،والأخطر �أنه بدون هذه الكيانات �ستبقى �أي �إجن���ازات ع�سكرية على الأر���ض مك�شوفة وال معنى لها ،والأهم �أن دماء ال�شهداء الذين حققوها �ستكون مع ّر�ضة ب�شكل كبري لل�سرقة ،وم��ا �أكرث الل�صو�ص يف هذه الثورة.
من الزمن ،برغم ما م� َّر فيه من عوا�صف و�أح��داث وا�ضطرابات ،ال ي�ساوي بالن�سبة �إليه �شيئ ًا .لأنه ال يعي�ش يف َحم�أَة الف�ضاء العام :ف�ضاء املجتمع املليء والتغي والأح��داث اجلليلة .وما يجري يف بالعنف ُرْ َ َ العامل الذي يقع خارج «عامله املز َّيف» ،املُغ ّلف بغ�شاء من بال�ستيك ال�سلطة الكتيم ،يجعل كل ما يحدث حوله ي�سيل فوق عقله الأمل�س دون �أن ُيخ ِّلف �أثر ًا. ال! مل �أك����ن �أت� ّ ��وق���ع �أن«ت���ف���ري���غ ال��ك��ائ��ن» من جوهره الإن�ساين �سي�صيب كل �أحد ،وكل �شيء ،و�أن عملية«التفريغ» املرعبة هذه �ست�صل �إىل هذا احلد: �إىل َحدّ «تفريغ حتى الرئي�س» من حمتواه. واليوم ،مهما يكن الأم��ر ،ال ميكن للم َف َّرغني �أن انفتحتْ ،وال �أن ُي َر ِّقعوا ي�سدّ وا منافذ احلرية بعدما َ ُ َ ْ براقع النظام التي اهرت�أت ،وال �أن ُيل ِّوثوا عبري الربيع ب�أنفا�سهم اجلائفة« :ربيع الثورة العربية الكربى». فل ُي َ�ص ِفّقوا يف جمل�سهم املغلق الذي اجتمعوا فيه ب�إرادة الرئي�س من �أجل القمع والف�ساد .فت�صفيقهم البائ�س لي�س �أكرث من َف ْ�س َوة يف طاحون ال�سلطة التي تطحن الريح. �أم��ا املتظاهرون في�صرخون يف العراء من �أجل احلق واحلرية والكرامةُ ،مرددين بت�صميم: ل�سنا هنا ب�إرادة الرئي�س. نحن هنا ب�إرادة ال�شعب. َ ولن ن َت َز ْح َزح عن مواقفنا حتى على �أ ِ�س َنّة احلراب
العدد 89
ميت يزور قربه امل�صطفاوية قرية �صغرية تابعة ملحافظة نائية يف ال�شرق ال�سوري ،الذي مل ي�صله ما �سمي بـ"�إجنازات احلركة الت�صحيحية" التي تغنى بها الكثريون دون معرفتها. مل تهتم هذه القرية بالثورة .لطاملا عا�شت حالة ت�أييد عمياء للنظام .وما يح�صل يف ال�شارع لي�س بالن�سبة �إليها �أكرث من �أعمال �إرهابية �ستزول بعد فرتة ق�صرية ،لوال �أن الأمر �صار فيه خوف على الأبناء يف اخلدمة الع�سكرية. خملف احل�سون ،كغريه من �أبناء قريته ذهب للخدمة الع�سكرية. قالوا له ال تفكر يف �شيء وال تعرت�ض و�أط��ع الأوام���ر وابتعد عن احلديث ب�أي �أمر حتى ينتهي العامان والن�صف وتتزوج ،وهذا ج�سر عرب عليه اجلميع. ح�سن وهو ابن عم خملف ،معار�ض مل يعلن عن موقفه ال�سيا�سي، لئال يلفظه اجلميع .يروي لنا وهو يبت�سم وبعينيه بريق يوحي ب�أمر عميق ،بع�ض ًا مما عا�شه .يقول“ :ق�ضت عمتي �أم خملف �شهور ًا عدة، انتظار ًا البنها الغائب وهي تتابع بقلق ما تن�شره القنوات الف�ضائية. ثم ما تلبث �أن تكذبها وتلج�أ لقناة الدنيا ال�سورية التي ب ّردت قلوب النا�س وجمدت عقولهم �أي�ض ًا يف حيز قرى تخاف �إن �سقط النظام �أن ت�سلب منها الأرا�ضي التي وزعتها الدولة على الأه��ايل ،وكانت ملك ًا للإقطاع ال�سوري". وي�ضيف "يف يوم �شتائي ماطر �صرخت "�أم خملف" و�شقت ثوبها، حني و�صلها خرب مقتل ابنها على يد ع�صابات �إرهابية و�أحلت على "�أبي خملف" �أن يذهب جللب جثته بعد امت�صا�صها لهول ال�صدمة”. �سعى الأب كثري ًا لأجل ا�ستعادة جثمان ابنه ،وحاول مرار ًا وتكرار ًا، ويف كل مرة كان يعود وهو يجرجر �أذيال اخليبة .ومل يكن هناك ما ميكن �أن يطفئ حرقة قلب "�أم خملف" حتى ترى جثمان ولدها ،وكلما هد�أت قلي ًال كان ت�صر على �إر�سال زوجها للمحاولة �أكرث من مرة. حني انقطع �أملهما يف عودة جثمان ابنهما املقتول ودفنه ،تلقيا ات�صا ًال من جمهولني ،طلبوا من "�أبي خملف" �أن ي�أتي ومعه مبلغ مايل، مقابل م�ساعيهم للح�صول على جثمان ولده. قام الأب ببيع �شياهه القليلة وب�ضعة �أكيا�س القمح املخزنة للخبز وبذار الأر�ض ال�شحيح ،و�أتى باجلثة �أ�شال ًء ممزقة حمروقة وهو ي�شهق� :أ�صبح احل�صول على جثة الولد فرحة كبرية� ،أي قدر هذ ّا. دفنها وخالف من وح�شة منظرها عادة �أبناء الريف يف �أن يك�شفوا اجلثة للأم والبنات ليبكني عليها ويقبلن وجه امليت� .أقام خيمة العزاء التي مل تخل من الدعوات واالدع��اءات ب�أنه �شهيد يف �سبيل الوطن
مالذ الزعبي مل ي�ساورين القلق بداية .لطاملا غابت التغطية عن ج ّوال والدتي ،فمنذ انتقالها �إىل بيت جديد يف الإ�سكندرية واالت�صاالت بيننا متقطعة .قليل من ال�شك ت�سرب �إىل �أف��ك��اري لغياب التغطية ع��ن هاتف �أخ��ي املحمول �أي�����ض� ًا ،ا�ستحال ال�شك قلق ًا بعد حماولتي الفا�شلة لالت�صال بزوجة �أخي، كان �إذ ًا ال بد من االت�صال ب�أبي� ،أمر حاولت جتنبه ف��ا���ش� ً لا ك��ي ال �أ���ض��ط��ر �إىل الكذب رد ًا على ا�ستف�ساراته عن �صالتي و�صيامي وقيامي وغ�ض ب�صري وحفظ ل�ساين. مرحبا بابا وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل� ،أه ًال بابا بابا حاولت ات�صل ب�أمي وبعبد الر... �أمك و�أخ��وك ومرته وبنته بالبحرم��ن ي��وم�ين ،بطريقهم على �إيطاليا ومنها عال�سويد. ً ك��ان ج��واب �أب��ي ح��ادا كن�صل ال�سكني، وبارد ًا وك�أنه يحدثني عن زيارة �أمي املعتادة �إىل بيت جارتنا "�أم �أن�س" عندما ك��ان ال
2013-10-27
�أحمد ال�شمام
والدليل ح�ضور �أمني �شعبة احلزب وبع�ض وجهاء املنطقة وو�ضع �صورة املهاجنة) �إن تركوين" .و�أ�ضاف "وفع ًال قدموا يل كل �شيء و�أبقوين عندهم حتى وجدوا يل طريق ًا لإي�صايل لأهلي وو�صلت بخري ،حيث الرئي�س يف �صدر جمل�س العزاء وعلم البعث كذلك. و�سارت حياة العائلة بعد ذلك ب�شكل اعتيادي ،ما عدا زفرات الأم فوجئت بالأخبار التي و�صلت لأهلي عن مقتلي". وح�سراتها على ولدها خملف وح�شرجات �صوتها وهي تتحدث حل�سن الفرحة غامرة على وجه الأم التي تقول ابني ولد من جديد، عن �شوقها البنها ودمعاتها التي ماتنفك تهطل كل حني .ثوبها الأ�سود املرقع ،يداها اللتان ت�شققتا من جمع احلطب لطهي طعام الأ�سرة ،والأب الذي �أتعبته ديونه يقول كل ما ح�صل فداء البني اجلديد �أظافرها التي خم�شت وجهها حني ا�ستقبلت خرب مقتل ابنها تفرق ولن �أدعه يعود للجي�ش وعلينا ان نخبئه خوف ًا من �أن ير�سل النظام بني خرزات �سبحتها التي تخرتق �صمت ًا هائ ًال يثقل الناظر لها وهي بطلبه �أو ت�أتي �شبيحة النظام من حزب العمال �أو اجلي�ش الوطني من الع�شائر� ،أن ت�أخذه لت�سلمه علم ًا �أن القرية من الريف املحرر ولكن ت�ستغفر وتدعو البنها بالرحمة. ً يف ليلة ما دوت �صرخة عالية يف بيت �أبو خملف واغماءة الأم اخلوف ال يزال مزروعا يف النفو�س. خملف حتدث مطرق ًا �" :شعرت �أين جنوت من موت حمتم ،ولكن عندما فاج�أها زائر للمنزل ماهو �إال ابنها خملف .ت�شهدت وكربت من عودة ابنها .مل تت�ساءل �أحلم هو �أم حقيقة ،لكنها غابت عن الوعي ثم عندما و�صلت لأهلي �شعرت مب�شاعرهم حيال موتي .ف�صرت �أتعامل ا�ستيقظت و�أجه�شت بالبكاء معانقة �إياه ،غري م�صدقة �أنه حي يرزق .مع احلياة وك�أين مت ثم بعثت من جديد و�صارت لدي رغبة باحلياة بد�أت وفود القرية بزيارة البيت مهنئة عودته بال�سالمة ،حيث كقادم من املوت �أو خارج من القرب وقد ذهبت البارحة ونظرت لقربي روى ق�صة ان�شقاقه عن اجلي�ش النظامي ،خوف ًا من امل��وت .بج�سده وقر�أت الفاحتة منت�شي ًا بحياتي و�أين ل�ست هو". انتهت زيارتنا له ومل يخطر يف بال �أحد ال�س�ؤال� :إن كان �صاحب الهزيل ووجهه الأ�سمر بلحيتة الطويلة ،قال":مل �أطلق النار وا�ستجبت لدعوة املجموعات املهاجمة بعدما�شعرت بخوف قادتي من �أي عمل ذاك القرب ،من اجلي�ش �أم من الثوار؟ رغم ا�ستياء العائلة والقرية من القرب وما رافق ذلك من حزن قتايل ،حيث و�ضعونا نحن يف املقدمة .فتقدمت نحوهم (املجموعات وق��ل��ت يف نف�سي مقتول باحلالتني ول��ك��ن ه��ن��اك اح��ت��م��ال للحياة عميق ،لكنه حتول �إىل رمز ل�صفحة حزن م�ضت بال عودة.
�أمي مهاجرة غري �شرعية! يزال هناك بيت وج�يران وحي وزي��ارات يف درعا ،روايته غري املكرتثة بدت �أ�شبه ب�صعود عدة درجات من طابق �إىل طابق �أو يف �أ�سو�أ الأحوال و�صف مقت�ضب مل�شوار تب�ضع طويل وجمهد ،ال عن رحلة قد تكون الأخرية. ���ش��رح يل وال����دي ب��ح��ي��اد م��ذي��ع ن�شرة �أخ��ب��ار� ،أن��ه��م ف�ضلوا ع��دم �إخ��ب��اري ك��ي ال �أعرت�ض� ،سبق لهم �أن طرحوا الفكرة ،وثقب �صراخي الغا�ضب �سماعة الهاتف حينها، اختاروا الذهاب �إىل ال�سويد مع الذاهبني، "رحلة م�ضمونة وكل �شيء م�ؤمن"� ،سي�صلون �إىل �إيطاليا يف غ�ضون �أيام ،ومنها ينتقلون بر ًا �إىل �أملانيا عرب النم�سا ومن ثم الدمنارك قبل بلوغ هدفهم ..اجلنة ال�سويدية. تتاىل الأي��ام الالحقة يف قلق م�ستمر، وال��دت��ي ال�ستينية واب��ن��ة �أخ���ي ال��ت��ي مل تكمل عامها الأول ،ا�ستهلكا اجل��زء الأكرب من �أفكاري�" ،أخي وزوجته �شابان ق��ادران على حتمل الرحلة القا�سية"� ،أق���ول يف نف�سي ،ثم �أقر�أ خرب ًا عاج ًال عن قارب غرق
قبالة ال�شواطئ الإيطالية ركابه �سوريون وفل�سطينيون� ،أجت��اه��ل اخل�ب�ر ،حم���او ًال الرتكيز على جمزرة يف ريف �إدلب� ،أو تتبع م�سار �صاروخ �سكود انطلق من القلمون باجتاه ال�شمال ال�سوري ،ي�صبح اخلرب العاجل قدمي ًا وتت�ضح تفا�صيله �أكرث :الغارقون معظمهم �أفارقة ولي�س بينهم �سوريون ،وهو � ٍآت من ال�سواحل الليبية ولي�س امل�صرية� ،أتنف�س ال�صعداء م�ؤقت ًا ،و�أحاول ملء وقتي ب�أخبار املجازر ال�سورية التي تطبعت معها منذ زمن. ليلة اليوم اخلام�س ي�أتي خرب جديد من وكالة �آكي ،خفر ال�سواحل الإيطايل ينقذ زورق ًا يحمل مهاجرين غري �شرعيني �سوريني من الغرق ،بعد جنوحه بالقرب من جزيرة �صقلية ،ثم ي�أتي اخل�بر "ال�سعيد" �صباح اليوم التايل ،عائلتي كانت �ضمن الناجني على هذا ال��زورق حتديد ًا ،والف�ضل لأخي "البطل" ،الوحيد الذي كان يحمل جوا ًال على منت القارب ،وبف�ضل جواله ا�ستطاعت ال�سلطات الإيطالية حتديد موقع القارب
عن طريق "نظام حتديد املوقع".GPS - مرة �أخرى يعاودين ال�شعور �أنني "�أخو البطل" ،ميزة خربتها جيد ًا يف ال�شهر الثاين للثورة بعد اعتقاله من قبل الأمن يف درعا، حينها تاجرت بذلك ما ا�ستطعت للعب دور ال�ضحية والتقرب من الفتيات ،فاالعتقال يف دم�شق حيث �أق��ي��م ،ك��ان م�ؤ�سطر ًا ومل يتحول �إىل م�س�ألة معتادة بعد� .أفكر �أنني ال �أ�ستطيع ا�ستغالل ذلك الآن ،ولن يكون يف �إمكاين �إن�شاء �صفحة يف "فاي�سبوك" تطالب مبنح عائلتي اللجوء مثلما �أن�ش�أت �صفحة للمطالبة بحرية �أخي. و�صلت عائلتي �إىل ال�سويد بعد �أي��ام، ا�ستقرت يف قرية قرب مدينة "هامل�شتاد" يف انتظار �إكمال الأوراق ،االت�صاالت بيننا متقطعة� ،س�أبد�أ بالإعداد لتحقيق �صحايف ع��ن الهجرة غ�ير ال�شرعية لل�سوريني من م�صر �إىل ال�سويد عرب البحر املتو�سط ،ولدي �شاهدة عيان م�ستعدة للكالم� ..أ ّمي.
العدد 89
العدد 83
2013-10-27
«الرقيب اخلالد» لزياد كلثوم انحياز ل�سلمية الثورة وحق ال�سوريني يف احلياة عر�ض خا�ص لفيلم «الرقيب اخلالد» يف �سينما �أبراج ببريوت.
تهامة اجلندي للجي�ش م� ّن��زل��ة خا�صة يف ت�شكيالت الدولة ال�سورية ،على اعتبار �أن البلد مهدّ د و ُمقاوم ،بحكم جواره لكيان العدو ،منزلة بد�أت من التبجيل يف الن�شيد الوطني «حماة الديار عليكم �سالم� ،أبت �أن ُتذل النفو�س الكرام» وانتقلت �إىل اخلدمة الإلزامية، املفتوحة الأمد ،واملفرو�ضة على كل مواطن ذكر .وتو�سعت لتطال طالب املرحلة الثانوية �وح��د عليهم، بفر�ض ال���زيّ الع�سكري امل� ّ وم��ادة الفتوة ،ودورات ال�شبيبة ال�صيفية للع�سكرة. للتدريب على امل��ب��ادئ الأول��ي��ة ّ مرورا باالمتيازات الكبرية التي تتمتع بها الرتب العليا من ال�ضباط وما فوقهم ،انتهاء بامليزانيات الهائلة التي اق ُتطعت من خبز املاليني ،لتغطية نفقات تدريب هذا اجلي�ش وت�سليحه وبناء تر�سانته احلربية ،مبا فيها الأ�سلحة الكيماوية ،حتى غدا واحدا من �أقوى جيو�ش املنطقة العربية. جي�ش كان يعتز به جميع ال�سوريني ،قبل �أن ي�ص ّوب ر�صا�صه على �صدروهم يف بداية التظاهرات ال�س ّلمية ،2011وت�ستوطن وجدانهم ط ّعنة الغدر ،وه��م ي��رون �شباب و�شابات �سوريا ي�سقطون قتلى يف ال�شوارع ،ال لذنب �سوى �أنهم طالبوا بالكرامة واحلرية، الطعنة العميقة ال��ت��ي ُت��رج��م��ت ب�شعار املتظاهرين «ال��ل��ي بيقتل �شعبه خ��اي��ن»، و�أغنية �سميح �شقري الرائعة «ي��ا حيف»، يومها كانت الفاجعة � ّأعتى من �أن ي�صدّ قها عقل ،دفعت بالعديد من عنا�صر اجلي�ش
�أنف�سهم للتمرد على الأوامر «فكيف يقتلون م��ن �أق�سموا على ح��م��اي��ت��ه��م...؟! « وك��ان عقاب املتمردين الت�صفية الفورية� ،إال من ا�ستطاع منهم �أن يلوذ بالفرار خارج احلدود �أو داخلها ،ذلك قبل �أن تت�شكل نواة اجلي�ش احلر ،وي�صبح الر�صا�ص مزحة �أمام طائرات النظام ومدفعيته وراج��م��ات �صواريخه، التي فتحت نريانها على املدن ،وفوق ر�ؤو�س العباد ،وغدت عنوان الرعب والذهول الذي �أ�صاب املواطنني يف ال�سنة الثانية من عمر الثورة ال�سورية ،وال تزال مع �إ�ضافة ف�صل الأ�سلحة الكيماوية بدخول ال�سنة الثالثة. �أ���س��وق ه��ذه املقدمة التي ب��ات يعرفها اجلميع ،للإ�شارة �إىل حجم ال�صدمة التي اعرتت املدنيني والع�سكريني ،من جراء زج الق ّوات امل�س ّلحة يف قمع املتظاهرين ال�س ّلميني، لأنها ت�ش ّكل اخللفية الدراماتيكية ،و�سرية م��ا قبل ال��ب��داي��ة ،التي ينطلق منها فيلم زي��اد كلثوم الوثائقي «الرقيب اخل��ال��د»، الذي اف ُتتحت �أول عرو�ضه يف �سينما �أبراج ببريوت .فالفيلم ير�صد احلياة يف دم�شق ع��ام ،2012من خ�لال عيون رقيب ي��ؤدي خدمة العلم الإلزامية ،هو نف�سه املخرج ال��ذي يعلن يف نهاية املطاف ان�شقاقه عن اجلي�ش ال�سوري النظامي ،وعدم التحاقه بكتائب اجلي�ش احلر ،م�ؤكدا �أن الكامريا هي �سالحه ،واملفارقة �أن العر�ض تزامن مع بدء بعثة املفت�شني الدوليني بتفكيك تر�سانة الأ�سلحة الكيماوية يف �سوريا.
ي���ب���د�أ ال��ف��ي��ل��م ب���ك���ادر م��ائ��ل لغرفة متوا�ضعة ،تلتقطها عد�سة جهاز خليوي، ت�ستوي ال�صورة ،وتتابع قدمني بحذاء، تخرجان �إىل ال�شارع ،تقطعان م�سافات ج��رداء ،يحدّ ها �سورُ ،كتبت عليه �شعارات البعث :وحدة ،حرية ،ا�شرتاكية ،يتح ّول احلذاء �إىل بوط ع�سكري ،يخبط الأر�ض، وي�سمع دويّ االنفجارات ،ت�صل القدمان �إىل ال� ُث��ك��ن��ة ،جت���ول ع�ين ال��ع��د���س��ة على اجل���دران ،متداعية ،لكنها مليئة ب�صور الأ���س��رة احلاكمة :الأب والإب���ن و�أخيه، ومن خارج الكادر يقول �صوت�« :أنا الرقيب زي��اد ك��ل��ث��وم» ،و ُيغلق امل�شهد على جندي يل ّقم املدّ فع ،وتنطلق القذيفة من الفوهة، وب�إمكاننا �أن نتخ ّيل حجم املجازفة التي قام بها املخرج �أثناء الت�صوير داخل ال ُثكنة بعد�سة هاتفه الن ّقال ،يف ظل املنع البات ال�ستخدام �أي من �أجهزة االت�صال. يف ال�شارع يرن ج ّوال الرقيب ،ون�سمع �صوت رجل ي�س�أله� ،إن كان ب�إمكانه االلتحاق بفريق الت�صوير ،ويجيبه الرقيب �أن��ه �سي�أتي بعد �أن ينهي دوام���ه يف ال ُّثكنة، ينتقل امل�شهد �إىل امل��خ��رج حممد مل�ص، وه��و ي�ستعد لبدء ت�صوير فيلمه ،ومنذ تلك اللحظة �سوف ي�ضع الفيلم تر�سيماته الأ�سا�سية على �أرب��ع��ة حم���اور متوازية ومتداخلة ،هي :اخلدمة الإلزامية ،طاقم الت�صوير ،احلوارات وحمور الإعالم ،وعلى الرغم من عدد ال�شخ�صيات الكبري الذي تتابعه الكامريا ،من النخبة املعروفة ومن العامة ،فلن نقر�أ على ال�شا�شة �أي ا�سم �أو تعريف لأي منها� ،سوف يتقدم معظمها با�سمه الأول ،حني ُي��ن��ادى عليه ،و�سوف نتع ّرف على مهنة ال�شخ�صية من خالل ما تقوم �أو تديل به داخل الكادر ،وهي عالمة الفيلم الأوىل� :شخ�صيات بال �أ�سماء كاملة، �أو �أل��ق��اب ،تكتفي بكينونتها الإن�سانية، وبالقا�سم امل�شرتك الذي يجمعها ،موا�صلة العي�ش يف �أق��دم عا�صمة م�أهولة ،تقطع �أو�صالها متاري�س الأجهزة الأمنية ،وتغطي �سمائها الطائرات. يف حم��ور اخلدمة الإل��زام��ي��ة ،يقت�صر الت�صوير على امل�شاهد الداخلية ،العد�سة تر�صد فو�ضى امل��ك��ان ،ومظاهر الإه��م��ال والب�ؤ�س والطغيان ،الأر�ضية مت�سخة ،وعلى الطاولة ركام من الأوراق وامللفات ،الطعام بي�ض ،وامل�شروب متة ،الأ�سالك الكهربائية تتدىل خارج العلب ،اجلدران مغطاة ب�صور ق��ادة الأب��د وال�شعارات ،و�صوت الإع�لام ال�����س��وري ،ي�شكو امل���ؤام��رة الكونية التي تق ّو�ض عزمية ال�شعب. يف املحور الثاين لن نعرف عنوان الفيلم الذي يقوم ب�إخراجه مل�ص ،لن نتع ّرف على الق�صة ،وال ال�شخ�صيات ،وال امل�صري الذي �آل �إليه� ،سوف نتابع فقط بع�ض امل�شاهد املقت�ضبة واملتفرقة التي يجري ت�صويرها، وتتقاطع مع حال ال�سوريني ذاك احلني: �شاب ي�صعد �أعلى ال�سلم وي�صرخ ،غ�سان جباعي مي ّثل دور �شخ�ص تعتقله املخابرات، ام��ر�أة م�س ّنة ت�سري نحو النافذة ،وتقول: الطبيبة ماتت ،ويف املقابل �سوف ير�صد ه��ذا امل��ح��ور امل��ع� ّوق��ات التي ت��واج��ه فريق العمل كل ي��وم ،من �صعوبة الو�صول �إىل �أماكن الت�صوير ب�سبب احلواجز الأمنية والق�صف� ،إىل منع الفريق من الت�صوير يف
2013-9-15
بع�ض املناطق ،ومن ثمة �إيقاف عمله ب�سبب الو�ضع الأمني املتدهّ ور ،ومن اعتقال �أحد �أع�ضاء الطاقم من غرفته يف الفندق� ،إىل �صوت احل� ّوام��ات والقذائف ال��ذي ي�ش ّو�ش على �أ�صوات املمثلني و�أدائهم ،فيغدو الأمر �أ���ش��ب��ه مبهمة م�ستحيلة ،حت��اك��ي رحلة العذاب اليومية التي يكابدها كل �سوري يف الطريق �إىل مكان عمله� ،أو ق�ضاء حاجاته. املحور الثالث التقطته عد�سة زياد كلوم �أثناء عمله مع حممد مل�ص� ،صوته ي�س�أل من خارج الكادر ،وال�شخ�صيات تلتفت نحوه وجتيب ،واالرجت��ال �سيد اللقطة .ع ّينات خمتلفة من الب�شر ،ممثلون وتقنيون من �ضمن الطاقم الفني ومل�ص نف�سه� ،أ�شخا�ص ع���ادي���ون ي��ت��اب��ع��ون جم��ري��ات الت�صوير، و�آخ��رون �ساقتهم امل�صادفة �إىل املكان... يف كثري من الأحيان ال ن�سمع ال�س�ؤال ،لكن معظمهم يبد�أ الكالم ذاهال ،وبقدر �شديد من التح ّفظ ،ويف حلظة يك�سر خوفه ،يبوح ورمبا ينتحب ،كروان ُقتل ابنه يف املعركة، ويدمي قلبه �أن يهلك اجلي�ش ال�سوري نف�سه احلاجة النازحة �ش ّيعت �أوالده��ا بنف�سه، ّ يف حم�ص ،ال�شاب فقد والده يف املعتقل... �سجن كبري واجلنازات ال تنتهي ،وتقول جود كرثواين للعد�سة التي تتبعها وهي ت�سري: «و ّثقي دم�شق ،قد حترتق غدا» ...وحدها زوجة ال�ضابط تتحدث بتحد ووعيد ،عن بطوالت �شريكها يف �إبادة الإرهابيني ،وعن ثقتها التامة بانت�صار �أف�ضل ق��ادة العامل برر قتل املدنيني ،وتدافع عن عليهم ...ت� ّ القاتل. ُ وبني يوميات الرقيب يف الث ّكنة و�أثناء الت�صوير ،كانت الأخبار املت ّلفزة على قناتي العربية واجل��زي��رة ،تر�صد ع��دد القتلى وح��ج��م ال��دم��ار ،بينما ك��ان��ت الف�ضائية متجد اجلي�ش البا�سل ،وتدعو ال�سورية ّ ال�����ش��ب��اب ل�لال��ت��ح��اق يف ���ص��ف��وف��ه ،لينتهي املحور الرابع مب�شهد اجلثث من الفريقني املتحاربني ،النظامي واحلر ،ويختم الفيلم تفا�صيله ب ��إع�لان �صك ال��ب�راءة م��ن كال الطرفني ،منت�صرا ل�س ّلمية ال��ث��ورة ،وحق ال�سوريني يف احلياة. ق���دّ م الفيلم وثيقة ح���ارة ع��ن حياة عا�صمة ّ حتت�ضر ،و�أنا�س يقاومون املوت ،يف م�شاهد تلقائية ،بعيدة عن العنف الذي يح�صد الأرواح ،قريبة م��ن الأمل ال��ذي ي�سكن القلوب ،م�شاهد مل يمُ ار�س املخرج �سلطته عليها ،ومل ي ّقحمها ب�أ�شرطة الفيديو امل�س ّربة عن هول ما يجري ،بقدر �صب جهده ،الالفت لالنتباه ،على توليف ما ّ اللقطات الوثائقية ،ور�صفها يف �سياق درامي ت�صاعدي ،ي��وازي درام��ا ال��واق��ع ال�سوري بتجلياته املختلفة ،فعل ذل��ك بحذاقة ّ ي�صف امل��ف��ردات يف جمل تكت�سي ك��ات��ب بالكنايات ،وتفي�ض باملجاز املفتوح على الأ�سئلة والتداعيات.
العدد 89
�أيام احلداد الهادئة
�سحر مندور يخ ّيم الهدوء على احلياة هنا ،يف هذه الأيام. ك ��أن املا�ضي القريب ،ذاك ال��ذي مل يُنجَ ز بعد ليُ�س ّمى ما�ضي ًا� ،أره��ق الأع�صاب ّ وهد احلما�سة، �أع���اده���ا حت��ت ال�����س��ي��ط��رة ،جل��م��ه��ا ،يف مرحلة انتقالية ّ حتث خطاها نحو واق � ٍع جديد ينبثق من ذاك ال��ذي �سبقه .فخ ّيم الهدوء على �أي��ام كتج�سيد لهذا الهدوء ،فيها عيد جاءت عطلته ٍ ٍ ٌ ان�صراف نحو �ش�ؤون تف�صيلية يقوى امل��رء على الت�أثري فيها ،بعدما ت�أكد من جديد ب�أن �أحد ًا لن يرتدّد يف �إراقة دمه عند خروجه عن ذلك. منذ قليل� ،شعرنا يف بالد ال�شام ب�أن الر�أي هو م�ساهمة يف �صناعة القرار� ،أي قرار .وقد كان قليل فقط� .شيئ ًا ف�شيئ ًا ،واجهنا �أفولنا ذلك منذ ٍ و�صعود الوجوه املزمنة ذاتها باقرتاحات احللول. �شيئ ًا ف�شيئ ًا ،انقلبت ال�صورة لكن باملعطيات ذاتها، وال جديد حتت �شم�سنا �إال ق�صة نكتبها بال�صرب، وق�ص�ص نتلقاها بالظلم .م�شهد احلرب الأهلية اللبنانية يكرر ختامه ،يوم اجتمع ّ مهدمي الدولة اتفاق يف ما بينهم ّ ينظم وقف النار� .أن يعيد على ٍ
املدمّر بناء ما دمّره ،مرة تلو الأخرى ،هي ق�صة �أجنبت الكثري من الدمار ،و�ستنجب املزيد منه ما ا�ستم ّرت .فتلك و�سيلتها للبقاء. تراكم ولي�س مفاج�أة اليوم غري الأم�����س ،وجميعنا ي�شعر بذلك. لكنه يو ٌم ابن ذاك الأم�س ،حتى ولو بدا غري ذلك. والأم�س ال��ذي �شهد حما�ستنا للتغيري ،ثم �أبرز حمدودية قدرتنا� ،إن على الت�أثري �أو يف التغيري، لي�س ب���دوره اب��ن ذات���ه ،وال ه��و وليد ال�صدفة الفلكية� .أم�س التم ّرد هو ابن يوم �سبقه ،وقد طال فيه عمر الظلم حتى تع ّنت ح ّر ًا ّ معتد ًا بقدرته. ابن عقو ٍد رُمي فيه كل �صاحب فكر �أو فكرة ،كل �سجون تنفيه عن �صاحب ت��أث�ير �أو ق���درة ،يف ٍ جمتمعه ،جت ّرد جمتمعه منه ،لتع ّري اجلماعة حتت رحمة ال�سلطة املطلقة .والغد ،الغد بدوره �سيكون ابن هذا الرتاكم .و�سيخربنا عن ف�صول تراكمت ،و�أملنا �أن نتطور خارجها مل ّرة ،هذه املرة. لكن ال�سياق عاد �صراع ًا بني خ ٍري و�ش ّر ،يف معادلة حكمتها الن�سبية حتى ا�ست�شرت وغابت
مالحمها الأ�صلية .العدو بات جمرم ًا بعقيد ٍة دينية يعيث يف الأر���ض قت ًال ع�شوائي ًا ،بال مطالب ّ تنظم جت�سد م�ؤامر ٍة عاملية، تف�سرها� .أ�ضحى ّ حركته �أو ّ مت ّولها ٌ دول و�أه��داف ،ال م�ساحة �ضد أهداف دول ب� ٍ ل�صوت النا�س فيها �إال عند اال�ستغاثة .بذلك ،ي�صبح «اخلري» قائم ًا على التخ ّل�ص من الفو�ضى املفاجئة التي خلقتها ،و«الطموح» ّ ي�شد نحو العودة �إىل �سابق احلال .لكن العودة بالزمن م�ستحيلة� ،سيكون واقعاً جديد ًا ال مف ّر ،ي�صنعه املنت�صر يف حرب بني طرفني، واحدهما يُلبَ�س زيّ ال�ش ّر املج ّرد مبا يتيح للثاين امتالك املوقع املقابل ،خري ال�صورة. وبينما النا�س يعرفون �أن اخل�ير لي�س خ�ير ًا، تراهم يتوج�سون عن وجه حق من ال�ش ّر اجلديد ال���ذي ب��ره��ن ف��داح��ة �سوئه م����رار ًا ،يف دول� ٍ��ة تلو الأخ����رى .ي��ع��رف��ون �أن اخل�ير لي�س خ�ي�ر ًا ،لكنهم يعرفون �أي�ض ًا �أن هذا «ال�ش ّر» ٌ مارق هنا .ويعرفون �أن ف�صول «امل�ؤامرة الدولية» تط ّورت لتجعل املعادلة كذلك ،ف ُتبقي للنا�س موقعني� :إم��ا متفرجون �أو �ضحايا .متفرجون ال بد �أنهم يرتقبون هدوء احلال، �أو �ضحايا يُ�ستند على �أرقامهم ّ للحث نحو املعادلة اجلديدة .كل �شيء ّ ي�شد بالنا�س نحو الهدوء� ،أو اخلمود مبعنى �أدق� .أن تخمد لتتفادى امل��وت يف معادلة كلها خ�سارة .النا�س �شاهدوا كل �شيء على الهواء مبا�شر ًة ،و�شاهدوا ال�صور املفربكة� .شاهدوا امل��وت��ى ،و���ش��اه��دوا اخل��ط��ب��اء� .صنعوا التظاهرة، وع��رف��وا �إمكانيات تط ّورها .تلك املعلومات التي تلقوها بكلفة عالية ،وتلك الق�ص�ص التي �سترتاكم يف بيوتهمّ ، �ستبدل �سلوكهم� ،ستنمو بق�صتهم نحو ّ تتمة �أخرى .فهم يعرفون ،مهما تكثفت اخلطابة، موقعهم من اجلرمية .يعرفون �أنهم لي�سوا ال�ش ّر ولي�سوا اخلري ،و�أن ال�صورة التي �ستع ّلق على جدار الأي��ام التالية �إمن��ا عُ ّلقت بالتفاو�ض بني طرفني قاتلني ،ولي�س معهم. ال�سيئ والأ�سو�أ ..وال�شعب تراكم الأي��ام �أو�صلنا بديهي ًا �إىل هنا .ت�ص ّور البع�ض �أن للثورات ق��درة على وق��ف ال��زم��ن ،لكن ات�ضح البن زمنه �أنها لي�ست كذلك .هي انفجا ٌر طويل تراكمت �أ�سبابه ،لن تكفي �إع��ادة �إعمار احلجارة لإخفاء ندوبه .والندوب مل تت�ش ّكل بعد ،ما زالت جراح ًا يف ّر منها الدم .ومع �أن الوقت مبكر جد ًا على املبادرة نحو ت�أجيل الأمل ،لكن وقته �سيحني عاج ًال غد ،ترتاكم فيه هذه �أم �آج ًال .ت�أجيل الأمل �إىل بعد ٍ الأيام ،بوقائعها وذكرياتهاّ ، لت�شق للموتى �سياق ًا يف حياة بلدهم.
لقد �سمع امل��رء خ�لال ه��ذه الأي��ام عن جمزرة حماه التي وقعت يف الثمانينيات ما مل يُ�سمع عنها منذ حدوثها .حينها ،بقيت طي الكتمان عن �أهل البلد الواحد ،مت �إخرا�سها �إىل حني حت ّولها �إىل ذك��رى �سحيقة .لكن �أه��ل البلد نقلوا �إىل �سواهم غري ذل��ك .نقلوا �إليهم املجزرة ك�أنها وقعت الآن، حت � ّررت من معتقلها لتجد يف جم��ازر اليوم �سياق ًا يت�سع لتفا�صيلها ،حمطة را�سخة يف الذاكرة ،ما زالوا يتعاونون على بناء �صورتها الكاملة ،بجمع النتف من ذاكرة �شخ�صية و�أخرى ،من بيت و�آخر ،والآذان كلها ح�شرية ،الآذان كلها حاجة �إىل ال�سمع. �سياق التاريخ بطيء ،لكنه ّ يتقدم .وال بد �أنه ّ �سيتقدم بنا ،نحن ال�شعوب التي خرجت من بيوتها بعدما ا�ستفحل الظلم وطال مداه وندرت فوائده.. هذه ال�شعوب ،التي يُطلب منها اليوم االحتفال ب�سابق احل��ال بعدما خ�برت الأ���س��و�أ املمكن �إث��ره ،الأ�سو�أ فراغ و�إمنا من تراكم حكم العقود الذي مل ي�أت من ٍ املا�ضية .ت�سمعهم يحكون عن �ضرورة االختيار اليوم بني �سيئ و�أ�سو�أ ،وك�أن الكيانني ،ال�سيئ والأ�سو�أ ،غري مرتابطني و�إمنا مُ�سقطان بق ّفة من ال�سماء .يحكون عن �ضرورة االختيار ،واخليار لي�س متاح ًا للواقف يف موقع امل�س�ؤولية املواطنية� :إم��ا �أن تقاتل هذا وذاك ومتوت� ،أو تنكفئ مل�صلحة هذا �أو ذاك ومتوت �أي�ض ًا .فاخليار بني موت بطيء انتظم املجتمع على �إيقاعه ،وب�ين م��وت همجي ح� ّ�ل يف حلظة ال��ذروة و�أطاح بكل من تواجد يف حميطه .ال�سيئ والأ�سو�أ هما �شعار املرحلة ،ول�سخرية القدر يبدو املجتمع ّ التدخل وك��أن��ه ال�ب�ريء بينهما ،فاقد م�س�ؤولية بينهما ،الدماء التي ال يختلف خطيبان على �ضرورة حقنها .وه��و فع ًال كذلك ،هو ب��ريء من الطرفني املت�سلطني عليه ،املتحاورين حوله ،املتفاو�ضني على رزقه و�أيامه .لكنه قد خرج من بيته يوم ًا مطالب ًا بالقليل ،وال بد �أنه �سيخرج الحق ًا مطالب ًا بكل �شيء �آخر� .سيخرج ،مت�س ّلح ًا بخرب ٍة يف التن�سيق اجلماعي، وي� ٍأ�س من جدوى مفاو�ضة احلاكم ..لكن اللحظة لي�ست حلظة الأمل ،وال الرهان على تراكم .و�إمنا هي ا�ستمرار يف تلقي امل�صائب ،والإنهاك يف حماولة التعامل معها .هي حلظة �أق��رب �إىل حلظة املوت، �سيتاح للحداد �أن ّ يحل �إثرها ،على عك�س ما عا�شته حماه .ومن بعده ،من بعد احلداد ،يبنى على ال�شيء مقت�ضاه.
هل �سقط مئة �ألف �ضحية من �أجل «داع�ش»؟
يف مرحلة ما رمبا قبل ا�شهر �أو ا�سابيع ،وبدون �أن يعري العامل انتباها وا�ضحا دخلت “الثورة ال�سورية” يف منعطف جديد وم�سار خطري حولها من “ثورة �شعبية من �أج��ل احلرية” �إىل “حرب �أهلية وطائفية” تداخلت فيها عدة جهات وتنظيمات �إىل حد الفو�ضى املطلقة واالنحدار ال�سريع نحو �أدنى درجات الأخالق الإن�سانية. مل يتغري �شيء على النظام ال�سوري .انه ي�ستمر يف ارتكاب اجلرائم وح�صار مواطنيه وق�صفهم بالطائرات ومعاقبتهم ب�شكل جماعي وا�ستهدافهم طائفيا و�سيا�سيا ،ولكنه مل يعد اجلهة املجرمة الوحيدة يف ال�ساحة لأن التناف�س على ه��ذا اللقب �أ�صبح مفتوحا و�شر�سا الآن بعد التنامي اخلطري لقوة التنظيمات الإ�سالمية املتطرفة و�أهمها الدولة الإ�سالمية يف العراق وال�شام (داع�����ش) وجبهة الن�صرة وغريها والتي ب��د�أت يف ا�ستهداف اجلي�ش احلر واملعار�ضة ذات الطابع ال�سيا�سي غري امل�ؤدلج. لقد زادت حدة وب�شاعة اجلرائم اجلماعية والفردية التي
ترتكبها التنظيمات اجلهادية املتطرفة يف �سوريا والتي بلغت ذروتها يف مذبحة الالذقية التي �سقط فيها حوايل 200قتيل من الطائفة العلوية يف هجوم �شنته عدة تنظيمات م�سلحة على القرى الواقعة يف املحافظة ووثقتها منظمة العفو الدولية قبل ايام .اال�ستهداف املتكرر للمثقفني واملواطنني من ا�صحاب التوجهات املختلفة بات �أمرا م�ستمرا يف املناطق التي ت�سيطر عليها هذه التنظيمات والتي تدخل الآن يف مواجهة �ضارية مع تنظيمات معار�ضة �أخرى جعلت من م�س�ألة توحيد نطاق القوى املناه�ضة للنظام ال�سوري �أمرا �شبه م�ستحيل. ال تقدم التنظيمات املتطرفة لل�شعب ال�سوري �سوى الكوابي�س والفو�ضى العارمة ،وبات من امل�ؤ�سف حقا �أن الت�ضحيات الهائلة التي قدمها ال�شعب ال�سوري يف مقاومته لبط�ش النظام �أ�صبحت الآن وقودا ا�ستخدمته التنظيمات املتطرفة لإحكام �سيطرتها على بع�ض املناطق وفر�ض توجهاتها على النا�س وحتويل حياتهم �إىل جحيم ال يختلف عما فعله النظام ال�سوري من قبل.
2013-10-27
باتر حممدعلي وردم
من الوهم اال�ستمرار يف االعتقاد �أن ما يحدث يف �سوريا حاليا هو معركة بني دولة غا�شمة وثورة �شعبية بالرغم من �أن هذا هو ال�سبب الرئي�سي لل�صراع .الو�ضع احلايل �أ�صبح حربا بالوكالة تخو�ضها عدة دول وقوى يف املنطقة والعامل با�ستخدام ال�سوريني واملقاتلني الأجانب و�شحن التوجهات الطائفية والعقائدية والتي من �ش�أنها �إ�شاعة وا�ستمرار الفو�ضى مما يحقق يف النهاية م�صلحة النظام الذي يك�سب ا�سرتاتيجيا من هذا ال�صراع. لقد خا�ض ال�سوريون معركة قا�سية من �أج��ل حقوقهم يف احلرية والعي�ش الكرمي والإطاحة بالنظام �أو على الأقل �إ�صالحه لت�أ�سي�س دول��ة دميقراطية وطنية ومدنية جلميع ال�سوريني ،ولكن ت�ضحياتهم الكربى قد تذهب �أدراج الرياح �أو ت�صبح �أداة يف تنامي نفوذ وقوة التنظيمات الإ�سالمية املتطرفة. لقد ثار ال�شعب ال�سوري لأهداف نبيلة ولكن من يك�سب الثمار هي داع�ش و�أخواتها� .إنها م�أ�ساة ال تقل ب�شاعة عن كل ما ارتكبه النظام ال�سوري من جرائم بحق �شعبه.
العدد 89
2013-10-27
جماهدو �سورية� ..أحالم الو�صول �إىل ال�سلطة درا�سة على حلقات عمر كايد
حوار مع " قاعدي" مقال مهم حول تفكري ال�سلفية اجلهادية وحول دور القاعدة يف �سورية والفرق بني دولة اال�سالم يف العراق وال�شام وجبهة الن�صرة .
مباذا يفكر من يفجّ ر ج�سده ب�أ�شخا�ص يعتربهم �أع��داء؟ ما هو امل�شهد الأخ�ير �أم��ام عينيه ،وما هي �آخر فكرة طر�أت على عقله وما طبيعة الإح�سا�س يف قلبه؟ �أ�سئلة كثرية والإجابات قليلة .ي�س�أل املقتول ملاذا «�أنا» ال�ضحية؟ ويُ�س�أل القاتل لأي هدف ي�ضحي ب�أغلى و�أثمن ما ميلك� ،أ�شالء روحه و�شظايا ج�سده.. ّ مت�شددون ومتطرفون و�إرهابيون و�أ�صوليون، هم نعوت كثرية �صارت تطلق على كل �إن�سان يحمل راية ويق�صر ثوبه وي�صرخ مكبرّ ًا �سوداء� ،أو يرخي حليته ّ يف �ساحات ال��وغ��ى .املنطقة متر مبرحلة خطرة، انت�شرت فيها العمليات االنتحارية ،وات�سعت رقعة الفو�ضى وتعاظم نفوذ تنظيم «القاعدة» .هي لعبة �أ�صبح املوت فيها �أ�سهل الطرق �إىل الغاية بو�سائل ُّ كل يراها منا�سبة. حني و�صلت �إىل ريف دم�شق� ،أعلمت املجموعة التي كنت معها �أين �صحايف �أري���د �أن �أك��ت��ب بع�ض التقارير عن املعار�ضة ال�سورية .ع�صر ًا ا�صطحبني �شابان �إىل �أح��د امل��ن��ازل ،ك��ان هناك �أ�شخا�ص كرث يدخلون وي��خ��رج��ون .ك��ان ه��ذا امل��ن��زل �أح��د غرف العمليات كما ب��دا يل .مل يكرتث �أح��د ب��وج��ودي، جل�ست نحو �ساعة ون�صف �ساعة ،كان رجل كثيف اللحية ،ج�سده ممتلئ ،يوزع املهمات على املقاتلني، رح��ب بي حني و�صلت ،وك��ان يرحب بي بني الوقت والآخر حني تتاح له الفر�صة ،وال ي�س�ألني �شيئ ًا... بعدها ذهبت �إىل املكان الذي كان مقرر ًا �أن �أبيت فيه. عند ال�ساعة اخلام�سة فجر ًا� ،أتى هذا الرجل، طلب مني ا�صطحابه .يف الطريق� ،س�ألني ملاذا �سرت امل�سافات ال�شا�سعة و�أتيت �إىل هنا ،قلت له �أنا �صحايف، و�أ�سعى �إىل تعريف النا�س مبا يجري .كان حذر ًا ،قال �إن ال�صحافيني غالب ًا ما يكونون على عالقة ب�أجهزة ا�ستخباراتية ،فما الذي يثبت يل �أنك ل�ست كذلك؟ قلت له �إما �أن تثق بي ،و�إما �أن �أعود من حيث �أتيت، كما �أين وللمرة الأوىل �آتي �إىل هذه الديار وال �أعرف �شيئ ًا عن جغرافيتها ،كما �أنكم ت�ستطيعون �أن ت�ضعوا عيني وت��أخ��ذوا احتياطاتكم� ،أن��ا ال ع�صابة على ّ �أري��د �أن �أع��رف �أ�سراركم الع�سكرية� ،أري��د معرفة �أ�سرار تفكريكم ور�ؤيتكم لل�صراع� ،أريد �أن �أفهم ملاذا تقاتلون؟ وم��ا ه��ي نظرتكم امل�ستقبلية ل�سورية؟ �أخربته �أين دار�س لل�شريعة الإ�سالمية وعلى اطالع بعلومها� ،س�ألني بع�ض الأ�سئلة يف علوم ال�شريعة، ف�أجبته .و�صلنا �إىل �أح��د املع�سكرات يف ب�ساتني ريف دم�شق� .أدركت حينها �أين و�سط �إحدى الكتائب الإ�سالمية ،لكن مل يخطر ببايل �أن �أكون مع �إحدى جمموعات «جبهة الن�صرة» التي يتحدث العامل عن �سرية عاملها ووح�شيته.
رجل �أعزل بينكم ...ف�ضحك �أبو مالك وقال لك هذا فامل�سلمون �أذلة يف ما بينهم ،قلت له قد �أن�شر يوم ًا هذه احلوارات ،قال ال ب�أ�س ،و�أمتنى �أن تنقلها ب�أمانة و�صدق ...ناق�شت �أبا مالك على مدار �أ�سبوع ،اقرتب احل��دي��ث يف �أح��ي��ان كثرية م��ن املوا�ضيع احل�سا�سة وكاد يتجاوز اخلطوط احلمر ...وهذه �أبرز حماور النقا�ش
عامل «القاعدة
كيف يتح ّول العن�صر �إىل مك ّفر لكل مغاير ومن ثم �إىل قاتل با�سم اهلل؟ .ما هي �أبرز اخلالفات بني القاعدة والتيارات الإ�سالمية؟ هل القاعدة فكر واح��د �أم �أجنحة وم��ا �أب��رز اخلالفات بني ف�صائلها؟ وكيف ي��ت��ورط ه����ؤالء بلعبة �أمم ال يدركون �أبعادها؟ عماد فكر ال�سلفية اجلهادية �أو القاعدة كما يقول �أبو مالك هو فكرة احلاكمية التي نادى بها �سيد قطب و�أب��و الأعلى امل��ودودي .هدف الإن�سان امل�سلم �أن ي�سعى �إىل حترير بالد امل�سلمني من امل�ستعمرين و�إقامة �شرع اهلل و�إر�سائه يف الأر���ض .قال تعاىل: «�إن احلكم �إال هلل» ،ف ��أي ت�شريع �آخ��ر هو ت�شريع باطل� ،أما ال�سبيل لإقامة �شرع اهلل يف الأر���ض فهو ب��ر�أي �أبو مالك اجلهاد والقتال وقد �سميت �سلفية جهادية لأنها تتبنى اجلهاد و�سيلة للتغيري ،فكل من ي�ؤمن بهذه الفكرة ي�صبح �أخ ًا لنا يف الدين. �أما الركن الثاين فهو الوالء والرباء حيث يعترب عنا�صر القاعدة �أن كل من يعتنق هدا الفكر هو �أخ م�سلم وال بد من مواالته ون�صرته ،وكل من يخالف هذه االعتقادات فهو كافر ومرتد ،ويجب الرباء منه. �س�ألته ،عفو ًا �أبا مالك ،لكن كيف دخلت �أنت �إىل عامل «القاعدة»؟ �أخ�برين �أن �صديق ًا له ا�صطحبه م��رات ع��دة �إىل �شيخ يدعى �أب��ا حممد يف الأردن، وبعدها اقتنع ب�أقواله ب ��أن غاية وج��ود الإن�سان على الأر����ض هي تطبيق ه��ذه الر�سالة ال�سماوية واالن�ضمام �إىل ه�ؤالء الإخ��وة لإقامة �شرع اهلل يف الأر�ض. ما هي الأهداف التي ت�سعون �إليها؟ قال �أبو مالك� ،إن الهدف الأ�سا�سي هو �إقامة �شرع اهلل يف الأر�ض ،لكن الأولويات تختلف من مكان �إىل �آخر قبل الو�صول �إىل هذا الهدف .فقد يكون الهدف طرد امل�ستعمر كما بد�أ يف الثمانينات يف �أفغان�ستان مع املقاتلني العرب ،وقد يكون الهدف ا�ستهداف امل�صالح الأجنبية كما بد�أ الأم��ر يف اليمن �إب��ان الت�سعينات من تفجري للمدمرة كول عام 2000وتفجري ناقلة فرن�سية ع��ام � 2002إ�ضافة �إىل ا�ستهداف �سياح بريطانيني و�أ�سرتاليني يف �أب�ين ع��ام ،1998وقد �أبو مالك يف بالد ال�شام اع�ترف يل �أب��و مالك �أن��ه �أح��د �أم���راء جبهة يكون الهدف هو ال�سيطرة على بع�ض املناطق ،لإيجاد الن�صرة ،يف بالد ال�شام .كنت �شغوف ًا بالتعرف �إىل قاعدة لالنطالق و�أماكن للتدريب والتجنيد ،كما هي ه ��ؤالء النا�س عن كثب ،لكن يف الوقت نف�سه كان احلال يف �أفغان�ستان مع طالبان والقاعديني العرب. اجلميع ك ّفار؟ ي�ساورين قلق ره��ي��ب .طلبت منه مقابلة م�صورة ال��ي��ه��ود وال��ن�����ص��ارى وال��ب��وذي��ون والي�ساريون فرف�ض لأ���س��ب��اب �أم��ن��ي��ة ،ق��ال نحن ال نظهر على الإع��ل�ام ...فقلت ،ال ب��أ���س ،نتحاور �إذن� ،أري��د �أن والعلمانيون وال��ق��وم��ي��ون ه��م ك��اف��رون ب���ر�أي �أب��ي �أفهم كيف تفكرون� ،أري��د �أن �أناق�شك ب�شكل وا�ضح مالك وال نقا�ش يف ذلك� .أما بالن�سبة �إىل الطوائف و�صريح ،لكن يجب �أن تعطيني الأم��ان فما �أنا �سوى الإ�سالمية فال�شيعة كفرة وكذا الدروز ،ويف ما يتعلق
بال�سنة ،ف�إن كل من ي�شارك يف العملية الدميوقراطية والت�شريعات املدنية هو كافر ،وكل من ينتخب نواب الأمة هو كافر ،وكل من ال يك ّفر من ينتخب هو كافر، ودليله على ذلك :قول اهلل تعاىل :ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الكافرون. فقلت له يا �أبا مالك� ،أمام هذه النظرية ،ف�إن كل من هو خمالف لفكركم هو كافر .وال يبقى �أحد م�ؤمن ًا على ظهر الأر���ض �سواكم والر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم حدثنا �أنه �سيكاثر ب�أمته الأمم يوم القيامة، فقال �أبو مالك� :سي�أتي يوم يعود فيه كل النا�س �إىل الإ�سالم ال�صحيح ،حني تعود اخلالفة �إىل الأر�ض. ا�ستطردت يف النقا�ش قلي ًال معه حول �ضوابط التكفري ...وب�صراحة بد�أ القلق يت�سلل �إىل داخلي خ�شية �أن ي�����ص��در ع��ل��ي ح��ك��م بالتكفري يف نهاية املطاف ...فبالطبع لن يتوافق كالمي مع كالمه... هنا عدت و�أخذت ميثاق ًا من �أبي مالك بـ «�أن يف�سح �صدره يل ،حتى لو وقعت يف الكفر ،فما �أنا �سوى طالب علم �أ�سعى �إىل معرفة املزيد عن حقائق ديني». ف�ضحك �أب��و مالك ،وق��ال ال حت��زن �أيها ال�صحايف، فديننا يدعو النا�س �إىل اهلل بالتي هي �أح�سن... فقلت بالتي هي �أح�سن! فماذا تقول عن �صور القتل ال�شنيعة التي ت�ضج بها مواقع التوا�صل االجتماعي، م��ن ق��ط��ع ل��ل��ر�ؤو���س و�أك����ل ل��ل��ق��ل��وب ...ف��ق��ال ه��ذا ا�ستثناء وت�صرفات �شاذة وال يتفق عليها كل تيارات «القاعدة» ،و�س�أف�صل لك احلديث يف ما بعد .قلت له �سنناق�ش هده النقطة بالتف�صيل لكن بعد �أن �أنتهي من مو�ضوع التكفري ،لأنه مو�ضوع خطري ،وعليه تبنى الكثري من الأحكام وال�سلوكات الغريبة. قلت له لن�ضع �أو ًال بع�ض ال�ضوابط قبل اخلو�ض يف امل��و���ض��وع ،ق��ال ال��ر���س��ول(���ص) :م��ن ك ّفر م�ؤمنا فقد كفر .ويف هذا حتذير كبري للرتيّث قبل تكفري �أي �إن�سان .وقلت له �إن املعلومات التي ا�ستقيتها من درا�ستي لل�شريعة الإ�سالمية يف الأزه��ر تقول
�إن كلمة الكفر التي وردت يف ال��ق��ر�آن والأح��ادي��ث ال�شريفة ال تعني مبعظمها اخل���روج م��ن امل��ل��ة ،بل هناك كفر دون كفر...فقد قال الر�سول(�ص) :ال يزين الزاين حني يزين وهو م�ؤمن ...فالزنا بالطبع لي�س خم��رج� ًا للإن�سان م��ن ال��دي��ن ب��ل ه��و مع�صية فاملق�صود لي�س مب�ؤمن �أي لي�س مكتمل الإمي���ان... وقال الر�سول(�ص) :العهد بيننا وبينكم ال�صالة فمن تركها فقد كفر ،وقال من حلف بغري اهلل فقد �أ�شرك، فهذا كله كما يقول علماء ال�شريعة الكبار كفر دون كفر وال يخرج من امللة .فالبخاري عنون �أحد مباحث كتاب ال�صحيح :باب كفر دون كفر .وهذا الكفر ي�سمى كفر املع�صية ولي�س كفر العقيدة وال يخرج من امللة ،بل �سمي كفر ًا لرتهيب الإن�سان امل�ؤمن وتخويفه حتى ال يتجاوز ويقع يف كفر العقيدة ،لأن هذه املعا�صي �إن مل يتنبه �إليها الإن�سان فقد ت�صل به �إىل الكفر الأكرب. قلت له� :إن علماء التف�سري قالوا �إن الكفر الذي ورد يف الآية« :ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الكافرون» ،هو كفر دون كفر ولي�س كفر ًا خمرج ًا من امللة .لأن اهلل قال ومن مل يحكم مبا �أن��زل اهلل ف�أولئك هم الفا�سقون .فقاطعني �أب��و مالك ،وقال يل ،لكن �إن كان يعتقد �أن ال�شرع املدين هو �أف�ضل من �شرع اهلل فهذا كفر �صريح ،قلت له �س�أ�سلم لك بهذا، ولكن كيف تعرف حقيقة اعتقاده ،طاملا �أن االعتقاد هو قناعة موجودة يف العقل والقلب ،كيف �ستك�شف عن قلبه .وقلت له حتى لو كان الأمر كما تقول فهو مو�ضوع خاليف ،وال يجوز �أن تكفر �إن�سان ًا �إال �إذا خالف �أم���ر ًا قطعي الثبوت وال��دالل��ة� .إ�ضافة �إىل ذلك، فالر�سول يقول «من قال ال �إله �إال اهلل دخل اجلنة» �أال تكفي كلمة التوحيد للع�صمة من الكفر ،خ�صو�ص ًا �أن الكثري من النا�س عوام ولي�سوا مطلعني على فكر ال�شريعة وتفا�صيلها ..يتبع