جريدة شرارة آذار العدد 89

Page 1

‫العدد ‪89‬‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫وللمعار�ضة‬

‫�أي�ض ًا �سجونها‬

‫�صرب دروي�ش‬

‫هل بقي هناك جي�ش ح ّر؟‬ ‫الهجرة ت�ستنزف اجلامعة‬ ‫ذهنية العجز‬ ‫�أمي مهاجرة � ً‬ ‫أي�ضا!‬ ‫جماهدو �سوريا‬

‫ت�شري املالحظة �إىل �أن �أغلب املدن التي‬ ‫متكنت املعار�ضة من ال�سيطرة عليها‪ ،‬تواجه‬ ‫م�شاكل جمة يف �إدارة �ش�ؤنها وتنظيم احلياة‬ ‫املدنية فيها‪.‬‬ ‫فبعد �أن يتم حترير �أغلب امل��دن تبد�أ‬ ‫احلياة بالعودة �إليها تدريجياً‪ ،‬وتبد�أ امل�شاكل‬ ‫بني ال�سكان بالعودة من جديد‪ ،‬وهو ال�شيء‬ ‫ال��ذي يفر�ض على ق��وى املعار�ضة ت�شكيل‬ ‫هيئات ق�ضائية تتمكن من حل النزاعات‬ ‫وحماية املمتلكات العامة واخلا�صة وفر�ض‬ ‫القانون‪ .‬يقول �أبو حممد وهو قا�ض �سابق‪:‬‬ ‫"بعد خروج قوات الأ�سد من املدينة‪ ،‬تبدا‬ ‫احل��ي��اة ت��دب م��ن ج��دي��د‪ ،‬وت��ع��ود امل�شاكل‬ ‫املعتادة بني النا�س لتظهر مثل �أي جمتمع‬ ‫�آخر‪ ،‬وبعد جهود من قبل نا�شطي املدينة مت‬ ‫ت�شكيل خمفر وهيئة ق�ضائية كان مطلوب‬ ‫منها حل النزاعات بني املدنيني‪ ،‬وفر�ض‬ ‫�سلطة القانون"‪.‬‬ ‫يف احلقيقة �أغلب املدن "املحررة" خا�ضت‬ ‫هذه التجربة‪ ،‬بينما �أغلبها ف�شلت بذلك‪،‬‬ ‫حيث مت ا�ستبدال الهيئة الق�ضائية بهيئة‬ ‫�شرعية غ��ال��ب� ًا م��ا ت��ك��ون ت��اب��ع��ة لإح���دى‬ ‫الت�شكيالت الع�سكرية امل�سيطرة‪ .‬يقول ابو‬ ‫حممد‪" :‬عندما �شكلنا الهيئة الق�ضائية‪،‬‬ ‫ال �أ���ص��ح��اب‬ ‫ح��اول��ن��ا االع��ت��م��اد ع��ل��ى‪� :‬أو ً‬ ‫االخت�صا�ص من خريجي كلية احلقوق‪ ،‬وعلى‬ ‫الد�ستور ال�سوري نف�سه مع اج��راء بع�ض‬ ‫التعديالت عليه‪� .‬إال �أن ذلك ا�صطدم الحق ًا‬ ‫بامليول املحافظة لدى الت�شكيالت الع�سكرية‬ ‫يف امل��دي��ن��ة‪ ،‬وع��ل��ى ه���ذا مت ح��ل الهيئة‬ ‫الق�ضائية وت�شكيل الهيئة ال�شرعية"‪.‬‬ ‫تت�ألف الهيئة ال�شرعية عموم ًا من خم�سة‬ ‫�أ�شخا�ص‪ ،‬غالبا ه��م علماء دي��ن �أو �أئمة‬ ‫جوامع �سابقني‪ ،‬يتم اختيارهم على قاعدة‬ ‫الوالء والقوة االجتماعية‪ ،‬بينما املرجعية‬ ‫القانونية املعتمدة فهي ال�شريعة اال�سالمية‬ ‫كما يزعمون‪.‬‬ ‫يتبع للهيئة خمفر ي�ضم بولي�س املدينة‪،‬‬ ‫وهو ما يدعى عادة بكتيبة حفظ النظام‪،‬‬ ‫ويف املخفر يوجد �سجن يو�ضع فيه ال�سجناء‬ ‫وغالبا يكون حتت الأر�ض‪.‬‬

‫التتمة �صفحة‪..2 ..‬‬


‫العدد ‪89‬‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫�سالم ال�سعدي‬ ‫�أطبقت حالة اال�ستنزاف والهدم على‬ ‫ك��ل تفا�صيل احل��ي��اة ال�����س��وري��ة‪ .‬فت�سارعت‬ ‫وترية الرحيل‪ ،‬و�صار عدّ اد الراحلني يح�سب‬ ‫ب��امل�لاي�ين‪ ،‬كما ���ص��ار ال��ه��رب م��ن ب�ل�ا ٍد مثقلة‬ ‫بدماء �أبنائها غاية الغايات لل�سوريني كافة‪.‬‬ ‫من ه�ؤالء‪ ،‬طالب جامعيون و�أ�ساتذة‪ ،‬هجروا‬ ‫جامعة دم�شق‪ ،‬قا�صدين علم ًا �أو عم ًال‪ ،‬كانا قد‬ ‫رحال كذلك مع الراحلني‪.‬‬ ‫لعقود طويلة‪ ،‬احتل التعليم الر�سمي‬ ‫املكانة الأب��رز يف النظام التعليمي ال�سوري‪.‬‬ ‫ومع افتتاح العديد من اجلامعات اخلا�صة يف‬ ‫مطلع الألفية اجلديدة‪ ،‬تراجع الإقبال على‬ ‫التعليم الر�سمي بع�ض ال�شيء‪ ،‬لكنه حافظ‬ ‫على ال�صدارة‪ ،‬يف ظل ارتفاع �أق�ساط التعليم‬ ‫اخلا�ص ب�صورة ال طاقة ملعظم ال�سوريني على‬ ‫احتمالها‪.‬‬ ‫وتعد جامعة دم�شق‪ ،‬التي �أن�شئت يف مطلع‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬اجلامعة الأ�ضخم والأعرق يف‬ ‫�سوريا‪ .‬وت�ضم بح�سب بيانات وزارة التعليم‬ ‫العايل للعام ‪ ،2010‬نحو ‪� 140‬ألف طالب يف‬ ‫التعليم النظامي‪ ،‬تكاد تختنق بهم‪� .‬إذ لطاملا‬ ‫�أهملت احلكومات ال�سورية املتعاقبة يف ظل‬ ‫حكم البعث الإنفاق على التعليم‪ ،‬مبا يت�ضمنه‬ ‫ذلك من تطوير للبنى التحتية واخلدمات‪،‬‬ ‫يف مقابل �إن��ف��اق �سخي على الأم��ن واجلي�ش‬ ‫وخمتلف �أجهزة التحكم وال�سيطرة‪.‬‬ ‫وك���ان م��ن الطبيعي ج���د ًا �أن يثري هذا‬ ‫"اخلزان" الب�شري‪ ،‬خم��اوف ال تنتهي لدى‬ ‫النظام‪ .‬فمع اندالع الثورة ال�سورية‪� ،‬شهدت‬ ‫جامعة دم�شق ت�شدّ د ًا امني ًا م�ضاعف ًا‪ ،‬ذلك‬ ‫�أن الت�شديد الأم��ن��ي مل يكن وليد ال��ث��ورة‪،‬‬ ‫و�إمنا رافق �سيطرة حزب البعث على مفا�صل‬ ‫احلكم‪ .‬فقام بحظر ن�شاط الأحزاب املن�ضوية‬ ‫يف "اجلبهة الوطنية التقدمية" يف اجلامعات‪،‬‬ ‫وح�صر الن�شاط بحزب البعث‪.‬‬ ‫وحتى قبل الثورة‪ُ ،‬وجد حاجز �أمني على‬ ‫مدخل كل كلية تابعة جلامعة دم�شق‪ ،‬حيث‬ ‫ي�ستقبل عن�صران �أمنيان م�سلحان الطالب‬

‫�صرب دروي�ش‬

‫الهجرة ت�ستنزف جامعة دم�شق‬ ‫املقبلني على العلم يف احل��رم اجلامعي‪ ،‬كما‬ ‫يتدخل "�أمن اجلامعة" بكل �صغرية وكبرية‬ ‫خم�ضع ًا احلياة اجلامعية للهيمنة الأمنية‪.‬‬ ‫ال�سعار الأم��ن��ي‪ ،‬ليمنع‬ ‫ويف حني مل يكن ّ‬ ‫�إنتظام �سري العملية التعليمية‪ ،‬كان لتطور‬ ‫ال�����ص��راع يف ���س��وري��ا‪ ،‬وت���دم�ي�ر اال���س��ت��ق��رار‬ ‫االجتماعي دور كبري يف حتطيم �أ�س�س احلياة‬ ‫اجلامعية‪ .‬ما دف��ع الطالب والأ���س��ات��ذة �إىل‬ ‫مغادرة البالد والهرب من احلرب ‪.‬‬ ‫يقدر م�صدر يف جامعة دم�شق �أن "ما يقارب‬ ‫‪ 10‬يف املئة من �أ�ساتذة جامعة دم�شق غادروا‬ ‫البلد مف�ضلني العرو�ض املمتازة التي جاءتهم‬ ‫م��ن ج��ام��ع��ات عربية"‪ .‬وبح�سب �صحيفة‬ ‫حكومية �أي�ض ًا ت�ؤكد م�صادر �أن "�سلطنة عمان‬ ‫تعد الأكرث طلب ًا لأ�ساتذة اجلامعات ال�سورية‪،‬‬ ‫وجامعاتها تقدم روات��ب تعادل مثيالتها يف‬ ‫�سورية �إال �أنها بالدوالر"‪.‬‬ ‫ي����ؤك���د ����س���ام���ح‪ ،‬وه����و ط���ال���ب يف كلية‬ ‫االت�صاالت يف جامعة دم�شق‪ ،‬هجرة �أ�ساتذة‬ ‫اجلامعات‪ ،‬ويقول لـ"املدن"‪" :‬من �أ�صل ‪20‬‬ ‫�أ���س��ت��اذ ًا يف ق�سمي‪ ،‬هاجر �أربعة"‪ ،‬ويعترب‬ ‫�سامح �أن �أ�سباب ال�سفر "ال تنح�صر بكون‬ ‫الأ�ستاذ متميز ًا ومرغوب ًا من جامعات �أخرى‪،‬‬ ‫�أو برتاجع الو�ضع املعي�شي‪ ،‬و�إمنا تعود �أ�سا�س ًا‬ ‫لأ�سباب �سيا�سية‪ ،‬كاخلوف من النظام‪ ،‬وحديث ًا‬ ‫اخلوف من اجلي�ش احلر"‪.‬‬ ‫كما تراجعت �أع��داد الطالب يف جامعة‬ ‫دم�شق ب�صورة كبرية‪ ،‬وهو ما ي�ؤكده �سامح �إذ‬ ‫"انخف�ضت ن�سبة الدوام لدينا بنحو ‪ 70‬يف‬ ‫املئة‪ ،‬كما انخف�ضت ن�سبة التقدم المتحانات‬ ‫نهاية الف�صل الدرا�سي بحدود ‪ 50-40‬يف‬ ‫املئة"‪.‬‬ ‫ت�����ش��رح ���س��ل��م��ى‪ ،‬وه���ي ط��ال��ب��ة يف كلية‬ ‫الهند�سة الزراعية‪ ،‬لـ"املدن" �أ�سباب ترك‬ ‫جامعتها واالنتقال �إىل لبنان مع عائلتها‪.‬‬ ‫تقول �سلمى‪" :‬مع مطلع العام احلايل‪ ،‬تزايد‬ ‫�سقوط القذائف يف ح��رم الكلية‪ ،‬و�أ�صيب‬ ‫العديد م��ن ال��ط�لاب وا�ست�شهد �آخ����رون‪ ،‬ما‬

‫دفعني �إىل �إيقاف الدوام �أو ًال‪ ،‬قبل �أن يقرر‬ ‫وال��دي �أن ننتقل جميع ًا �إىل لبنان"‪ .‬تبدي‬ ‫�سلمى ا���س��ت��ي��ا ًء ك��ب�ير ًا م��ن و�ضعها احل��ايل‪،‬‬ ‫وتقول‪" :‬ا�شعر بفراغ كبري هنا‪ .‬لقد بقي عام‬ ‫واح��د على تخرجي‪ ،‬ا�شعر بالندم لهروبي‬ ‫من �سوريا‪ ،‬كان علي �أن �أكمل العام الدرا�سي‬ ‫الأخري يل ب�أي ثمن"‪.‬‬ ‫هنالك من مل ي�ترك اجلامعة ب��إرادت��ه‪،‬‬ ‫خوف ًا على حياته‪ ،‬لتتكفل �أجهزة الأمن ب�إنهاء‬ ‫حياته اجلامعية‪� .‬إذ تعر�ض ع��دد كبري من‬ ‫طالب جامعة دم�شق للف�صل التع�سفي‪ ،‬وذلك‬ ‫بعد انخراطهم يف التظاهرات ال�سلمية التي‬ ‫�شهدتها اجلامعة يف العام الأول من الثورة‬ ‫ب�شكل خ��ا���ص‪ .‬ي�شرح رام���ي‪ ،‬اح��د الطالب‬ ‫الذين تعر�ضوا للف�صل جتربته قبل �أن ينتقل‬ ‫�إىل م�صر‪ ،‬قائ ًال لـ"املدن"‪" :‬بد�أت احلكاية‬ ‫با�ستدعاء جمموعة كبرية من الطالب ممن‬ ‫مار�سوا ن�شاط ًا �سيا�سي ًا مل�صلحة الثورة داخل‬ ‫اجل��ام��ع��ة‪ ،‬وب��ع��د حتقيق �أم��ن��ي م��ع ك��ل منا‪،‬‬ ‫�أجربونا على التوقيع على تعهد بعدم ممار�سة‬

‫تتمة‪ :‬وللمعار�ضة �أي�ض ًا �سجونها‬

‫تفتقد هذه امل�ؤ�س�سات امل�شكلة حديث ًا �إىل اخلربة‪ ،‬والأهم من ذلك‬ ‫تفتقد �إىل ثقافة القانون وحقوق االن�سان‪ .‬قبل دخولنا �إىل �إحدى‬ ‫ال�سجون يف الغوطة ال�شرقية‪ ،‬وجهنا ال�س�ؤال �إىل رئي�س املخفر‪ :‬هل‬ ‫تعتمدون معايري حقوق االن�سان داخل ال�سجن؟ وهل يتمكن ال�سجناء‬ ‫من االت�صال بعوائلهم واحل�صول على زيارات منهم؟ هل يخ�ضع ال�سجناء‬ ‫للتعذيب؟ يف احلقيقة بدى االرباك وا�ضح ًا على �آمر ال�سجن‪� ،‬إال �أنه‬ ‫رد بالقول‪" :‬نعم نعتمد معايري حقوق االن�سان‪ ،‬وال نتعر�ض للم�ساجني‬ ‫بال�ضرب �أو غريه‪ ،‬كما �أننا نعالج املر�ضى ونوفر لهم الطعام املقبول"‪.‬‬ ‫بيد �أن داخل ال�سجن عامل �آخر‪ ،‬وللم�ساجني وجهة نظر خمتلفة‪.‬‬ ‫حممود �سجني منذ حوايل ال�شهرين‪ ،‬يقول‪" :‬عندما �ألقت كتيبة حفظ‬ ‫علي بال�ضرب املربح‪ ،‬وبعدها اقتادوين �إىل‬ ‫علي‪ ،‬انهالوا ّ‬ ‫النظام القب�ض ّ‬ ‫املخفر‪ ،‬وهناك �أثناء التحقيق تعر�ضت لل�ضرب واالهانة‪ ،‬حتى �أن �أنفي‬ ‫مك�سور الآن و�آثار التعذيب ماتزال على ج�سدي"‪ .‬فع ًال كان حممود قد‬ ‫�أرانا �آثار التعذيب على ج�سده‪ ،‬وهو م�صر على عدم وجود دليل وا�ضح‬ ‫يدينه‪ ،‬و�أن �سبب التعذيب كان للح�صول على اعرتاف منه‪ ،‬وهو ما حدث‬ ‫فع ًال‪ .‬يف احلقيقة تذكرنا هذه املمار�سات مبمار�سات نظام اال�سد يف‬ ‫التعامل مع ال�سجناء واملتهمني‪ .‬فبالن�سبة لعنا�صر كتيبة حفظ النظام‪،‬‬ ‫فهم غالب ًا �شبان يف مقتبل العمر و�أغلبهم مل يتلقى �أي نوع من التعليم‪،‬‬

‫بينما جميعهم مل يخ�ضع لدورات تعليمية حول القانون وكيفية احرتام‬ ‫حقوق االن�سان‪ ،‬وهو ما جعل ممار�ساتهم وعلى قاعدة �شعورهم بال�سلطة‬ ‫التي ميتلكونها �أ�شبه مبمار�سات نظام الأ�سد الذي خرجوا لإ�سقاطه‪.‬‬ ‫عبد ال�سالم رجل يف بداية الأربعينيات‪ ،‬مت �إلقاء القب�ض عليه‬ ‫بتهمة التعامل مع نظام الأ�سد‪ ،‬يقول‪" :‬انا كنت �أعمل يف الهيئة العامة‬ ‫للإذاعة والتلفزيون‪ ،‬وحا�صل على �شهادة معهد متو�سط‪ ،‬عندما قررت‬ ‫ترك عملي لدى النظام والعودة �إىل مدينتي تفاج�أت ب�إلقاء القب�ض‬ ‫علي‪ ،‬وتوجيه تهمة العمالة للنظام من دون �أي دليل" ويتابع بالقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫"تعر�ضت لل�ضرب والتعذيب وك�سرة �إحدى �أ�صابع يدي‪ ،‬وكانت الغاية‬ ‫�أن اعرتف �أنني متعاون مع النظام‪ ،‬وب�سبب �شدة التعذيب اعرتفت على‬ ‫ما يريدون"‪.‬‬ ‫يف احلقيقة �أغلب ال�سجناء الذين التقيناهم‪ ،‬عربوا عن ا�ستيائهم‬ ‫جتاه طريقة عمل الهيئة ال�شرعية‪ ،‬فعدا عن �سوء الطرق املعتمدة‬ ‫يف التحقيق مع ال�سجناء متتد املحاكمات غالب ًا لأ�شهر طويلة‪ ،‬مينعوا‬ ‫خاللها من التوا�صل مع العامل اخلارجي ك�أ�سرهم و�أ�صدقائهم‪ ،‬كما ال‬ ‫ي�سمح لهم بتوكيل من يدافع عنهم‪ ،‬وهي �سلبيات يراها �آمر ال�سجن‬ ‫�أنها ظرفية‪ ،‬و�أن��ه مع مزيد من الوقت �ستحل كل هذه امل�شاكل‪ .‬و�أما‬ ‫كيف �سيكون ذلك؟ فال �أحد يعلم‪ .‬بيد �أن الوا�ضح يف هذه املعادلة هو‬

‫�أي ن�شاط �سيا�سي‪ ،‬واخربونا �أن امللف قد �أغلق‬ ‫هنا"‪ .‬ويتابع‪" :‬بعد �أيام على ذلك‪� ،‬أ�صدرت‬ ‫رئا�سة جامعة دم�شق عقوبات طالت ع��دد ًا‬ ‫كبري َا من �أولئك الطالب ترتاوح بني احلرمان‬ ‫لف�صل درا�سي �أو لف�صلني‪ ،‬والف�صل النهائي"‪.‬‬ ‫وي�شري رام��ي ال��ذي ت��رك اجلامعة منذ‬ ‫ذل��ك احل�ين‪ ،‬وانتقل �إىل م�صر حيث التحق‬ ‫ب�إحدى اجلامعات‪� ،‬إىل �أن "�أعداد ًا كبرية من‬ ‫الطالب مطلوبون �أمني ًا‪ ،‬وال ي�ستطيعون دخول‬ ‫اجلامعة‪ ،‬برغم وجودهم يف �سوريا"‪.‬‬ ‫ه��ك��ذا‪ ،‬ر�أى النظام ال�سوري يف جامعة‬ ‫دم�شق‪ ،‬التي تختزن طاقة �شبابية واعية‬ ‫ل�ضرورات التغيري و�شغوفة به‪ ،‬خطر ًا داهم ًا‬ ‫يهدد ب��ق��اءه و ا�ستقراره‪ ،‬فعاث بها خراب ًا‬ ‫وتفتيت ًا‪ .‬وال ا�ستثناء يف ذل��ك‪ ،‬ان��ه امل�صري‬ ‫ال��ذي �أحلقه النظام بكل فئة راودتها �آمال‬ ‫التغيري‪ ،‬وعرفت �أن النظام احلايل الذي جثم‬ ‫على حياتها لأربعة عقود‪ ،‬لي�س حتمي ًا‪ ،‬و�إمنا‬ ‫بامل�ستطاع تغيريه‪.‬‬

‫اختالل العدل ب�سبب اختالل حامله‪ ،‬فالهيئات ال�شرعية ج�سم غريب‬ ‫على املجتمع ال�سوري وعلى ثقافته‪ ،‬وبذلك فلن نقع هنا على خربات‬ ‫مرتاكمة �أو �أ�شخا�ص متمر�سني حتى يف فر�ض ال�شريعة اال�سالمية‪،‬‬ ‫ومن هنا تبد�أ الأحكام تنتج عن "الهوى" حمكومة مبعايري �شخ�صية‬ ‫ال قانونية‪ ،‬وهو �شيء ي�ضع مفهوم العدل على املحك ويف�سح املجال‬ ‫للفو�ضى‪ ،‬فالفو�ضى بديل العدل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫و�إذا كان امل�شهد هنا يف حميط العا�صمة دم�شق يبدو قامتا‪� ،‬إال‬ ‫�أن��ه يبقى �أف�ضل من تلك امل��دن التي ت�سيطر عليها "داع�ش" وجبهة‬ ‫الن�صرة‪ ،‬هناك حيث يبدو امل�شهد غاية يف ال�سوء‪ ،‬ف�إذا كان ال�سجني‬ ‫يتعر�ض للتعذيب وبع�ض االنتهاكات حلقوقه يف مدن حميط العا�صمة‬ ‫دم�شق‪ ،‬فهو يتعر�ض للقتل يف م��دن ال�شمال ال�سوري التي ت�سيطر‬ ‫عليها الت�شكيالت �شديدة التطرف‪ ،‬حيث يجري احلديث عن �أكرث من‬ ‫‪ 1500‬معتقل لأ�سباب �سيا�سية �أي تتعلق بالر�أي‪ ،‬بينما وثقت ع�شرات‬ ‫االعدامات امليدانية بحق النا�شطني‪.‬‬ ‫حق ًا كما يقول النحات ال�سوري املعار�ض عا�صم البا�شا‪" :‬كل ّ‬ ‫�ضيعة‪ ،‬بلدة �أو مدينة تقام فيها هيئة �شرعية ال ميكن اعتبارها حم ّررة‬ ‫على الإطالق"‪ .‬ف�أ�سا�س "احلرية" هو العدل‪ ،‬و�إذا غاب العدل ّ‬ ‫حل حمله‬ ‫الف�ساد والظلم‪ ،‬وهو بال�ضبط ما �سعى ال�شعب ال�سوري �إىل الثورة عليه‪.‬‬


‫العدد ‪89‬‬

‫نقا�ش �سوري‪� :‬أمان الدجاج يف القف�ص!‬

‫هيفاء بيطار‬ ‫ثمة مفاهيم تتكل�س مع الزمن‪ ،‬وحتتاج �إىل‬ ‫�إع��ادة تعريف‪� ،‬أو �إىل �صيانة‪ .‬و�أكرث ما �أالحظ‬ ‫هذه الأيام كرثة حديث النا�س واختالفهم – الذي‬ ‫ي�صل �أحيان ًا «ح��د القطيعة والتخوين – حول‬ ‫معنى كلمة الأمان‪ .‬العبارة الأكرث تداو ًال»‪« :‬كنا‬ ‫عاي�شني ب�أمان»‪ .‬والبع�ض ي�صرخ حمتج ًا‪« :‬ال مل‬ ‫نكن عاي�شني ب�أمان»‪.‬‬ ‫�أجدين بني الفريقني �أحاول �إيجاد تقاطعات‬ ‫م�شرتكة‪ ،‬لكنني �أف�شل يف ردم ال�شرخ املتعاظم بني‬ ‫�شريحة حتن لأم��ان �أي��ام زمان يف �سورية – قبل‬ ‫الثورة �أو احل��راك �أو الإع�صار – وبني �شريحة‬ ‫يجن جنونها حني ي�صف ه�ؤالء العي�ش �إياه �أمان ًا»‪.‬‬ ‫تبدو كلمة �أم��ان مك�سورة اخلاطر‪ ،‬ال ر�صيد لها‬ ‫ومو�ضع �صراع و�شقاق بني �إخ��وة‪ ،‬تبدو حمملة‬ ‫بكل امل��ع��اين م��ا ع��دا الأم���ان‪ .‬و�أج���دين م�ضطرة‬ ‫ال�ستنها�ض ذكريات ال تزال طازجة يف عقلي ويف‬ ‫عقول معظم ال�سوريني حول عي�شنا ما قبل الثورة‬ ‫ال�سورية وما بعدها‪� .‬أقول �إن ه�ؤالء الذين يحنون‬ ‫لأم��ان �أي��ام زم��ان �أن تفكريهم ينح�صر يف ذاتهم‬ ‫فقط ويف �أ�سرتهم ال�صغرية‪� ،‬أن يكونوا مطمئنني‬ ‫�إىل �أنهم يركنون �سياراتهم يف ال�شارع و�سيجدونها‬ ‫يف مكانها �صباح ال��ي��وم ال��ت��ايل‪ ،‬و�أن �أوالده���م‬ ‫يذهبون �إىل املدر�سة ويعودون �إىل البيت �آمنني‬ ‫�ساملني‪ ،‬و�أنهم من حني لآخر يق�صدون مطعم ًا «�أو‬ ‫يح�ضرون حفلة‪ ،‬واحلياة �آمنة وهادئة‪ .‬ه�ؤالء ال‬ ‫يخطر ببالهم على الإطالق �سجناء الر�أي‪� ،‬آالف‬ ‫ال�شبان الذين �ضاعت �سنوات من زه��رة �شبابهم‬ ‫وراء الق�ضبان مل��ج��رد �أن��ه��م ي��ف��ك��رون بطريقة‬ ‫خمتلفة‪ ،‬رمبا مل ي�سمعوا بهم �أ�ص ًال»‪� ،‬أو ح�صنوا‬ ‫�أنف�سهم من �سماع ق�ص�ص املعتقلني كي ال يُخد�ش‬ ‫�إح�سا�سهم بالأمان‪� .‬أحد �أ�صدقائي ُ�سجن ع�شر‬ ‫�سنوات‪ ،‬ك��ان من املدافعني عن حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫�سجن وابنه البكر عمره �أ�سبوع‪ ،‬والأهم من ذلك‬ ‫�أن �أخا �صديقي ُ�سجن ثالث �سنوات بتهمة �إخفاء‬ ‫معلومات عن �أخيه! تخيلوا‪ ،‬يرعاكم اهلل‪ ،‬كيف‬ ‫ميكن �أخ ًا �أن يكون مخُ رب ًا عن �أخيه؟ وكيف عليه‬ ‫�أن يذهب �إىل �أجهزة الأم��ن ليقدم �شكوى بحق‬ ‫�أخيه الذي يدافع عن حقوق الإن�سان‪ ،‬وعن حق‬ ‫املعتقلني يف حماكمة نزيهة وعادلة‪ ،‬الكثري الكثري‬

‫جمانة فرحات‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫من زمالئي يف اجلامعة اختفوا �سنوات طويلة يف‬ ‫ال�سجون لأنهم يفكرون بطريقة خمتلفة وينتمون‬ ‫لأح���زاب �سيا�سية ُتعد خطرية وع���دوة‪� .‬أفكر‬ ‫�أي تفكري خطري ميلكه �شاب يف التا�سعة ع�شرة‬ ‫من عمره كي ي�سجن خم�سة ع�شر عام ًا! ه�ؤالء‬ ‫الندابون املتح�سرون على الأمان ال يعرتفون وال‬ ‫يريدون التفكري ب�أنه على بعد خطوات من قف�صهم‬ ‫الآمن هناك �آالف ال�شبان واملفكرين �سجناء فكرة‪.‬‬ ‫ه�ؤالء يربون �أوالدهم على مفاهيم قمة يف الذل‬ ‫مثل‪ :‬احليط احليط ويا رب ال�سرتة‪ .‬واليد التي‬ ‫ال تقدر على قطعها ق ّبلها واد ُع عليها بالقطع‪.‬‬ ‫و�أ�س�ألك نف�سي يا رب‪ .‬وم��ن يتزوج �أمنا ن�سميه‬ ‫عمنا… �إلخ من املفاهيم والطرق الرتبوية التي‬ ‫تر�سخ اخلنوع وال��ذل يف نفو�س الأط��ف��ال رجال‬ ‫امل�ستقبل‪.‬‬ ‫ه ��ؤالء الذين يبكون �أم��ان �أي��ام زم��ان ظلوا‬ ‫�صامتني �صمت الذل واخلزي وهم يتفرجون بعيون‬ ‫خر�ساء و�شفاه �أل�صقها ببع�ضها �صمغ اخلوف على‬ ‫مظاهر رهيبة من الفح�ش والعهر واالنتهاكات‬ ‫العلنية ويف و�ضح ال�شم�س تقوم بها حفنة من‬ ‫املُتنفذين الل�صو�ص الأنيقني الذين �أوغ��ل��وا يف‬ ‫الرثاء و�إذالل النا�س وبقوا من دون محُ ا�سبة ومل‬ ‫يدخل �أحدهم ال�سجن قط‪ ،‬ومل يمُ نعوا من ال�سفر‬ ‫يوم ًا «واحد ًا» ومل ي�س�ألهم �أحد من �أين لك هذا؟!‬ ‫مل ي��ع�تر���ض �أح���د ه�����ؤالء ال��ذي��ن ي��ذرف��ون‬ ‫دموع ًا «حارقة الفتقادهم الأم��ان حني �شاهدوا‬ ‫كيف يرتجل ال�سيد �إي��اه من املر�سيد�س الفارهة‬ ‫بنوافذها ال�����س��وداء ك��ي ي��رى وال ُي���رى‪ ،‬وي�شهر‬ ‫م�سد�سه وه��و يقهقه عالي ًا»‪ ،‬وي�أمر كل الرجال‬ ‫الكهول يف املقهى �أن ينبطحوا حتت الطاوالت‬ ‫وب�سرعة‪ ،‬ويطلق ب�ضع ر�صا�صات يف الهواء مُنت�شي ًا‬ ‫«بهوى ال�سلطة‪ .‬جنون ال�سلطة امل�ؤكد‪ .‬وال يخطر‬ ‫بباله �أن �إح��دى ر�صا�صاته الطائ�شة قد ت�صيب‬ ‫�أحد املارة �أو �إحدى ال�صبايا التي تراقب مذهولة‬ ‫ما يحدث يف بلد الأم��ان‪ .‬مل يخطر ببال ه�ؤالء‬ ‫ن��ازيف الدمع على �أي��ام الأم��ان �أن يت�ساءلوا �أين‬ ‫اختفى �أ�شهر �أ�ستاذ ريا�ضيات يف الالذقية وملدة‬ ‫عام كامل‪ ،‬من اختطفه يف و�ضح النهار من �أمام‬ ‫بيته وغ ّيبه يف قبو لأك�ثر من ع��ام! وح�ين عاد‬

‫الأ�ستاذ القدير فج�أة �إىل �أ�سرته مل يجر�ؤ �أحد‬ ‫على �أن ي�س�أله �أين كنت؟ وملاذا خطفوك؟ و�أحدهم‬ ‫قال يل �إن زوجته مل تعرف �أين كان‪ .‬فقد ُروع �إىل‬ ‫درجة �أنه خر�س متام ًا «ومل يتفوه بكلمة عن تلك‬ ‫ال�سنة من حياته‪ .‬ا�ستمرت حياة النا�س �آمنة يف‬ ‫غياب الأ�ستاذ وا�ستمرت �آمنة والكهول يف املقهى‬ ‫ينبطحون �أر�ض ًا حتت الطاوالت تنفيذ ًا» لأوامر‬ ‫مهوو�س بال�سلطة ويجل�س ف��وق ال��ق��وان�ين وهو‬ ‫يالعب الهواء بقدميه‪ ،‬وا�ستمرت احلياة �آمنة‬ ‫و�آالف ال�شبان يف ال�سجون ب�سبب جرمية حرية‬ ‫ال���ر�أي‪ .‬ه��ذا الأم���ان ه��و �أم���ان القبور‪ ،‬ه��و �أم��ان‬ ‫دجاجات يف قف�ص‪ ،‬هو �أمان النعامة التي ُتف�ضل‬ ‫�أن تدفن ر�أ�سها يف الرتاب على مواجهة احلقيقة‪.‬‬ ‫ثمة فرق �شا�سع بني الأمان احلقيقي القائم على‬ ‫�إح�سا�س الإن�سان بكرامته وحريته و�إن�سانيته‪،‬‬ ‫وبني الأمان الزائف القائم على الرتويع‪ .‬مبعنى‬ ‫ابتعد عن ال�سيا�سة والتفكري احلر واالعرتا�ض‪،‬‬ ‫واقبل ب�أمان الدجاجات يف القف�ص‪ .‬جمرد عي�ش‪،‬‬ ‫جم��رد ت��راك��م زمني ب�لا نكهة حرية وال ع�سل‬ ‫احلرية الذي يذوب يف فمنا لي�شعرنا ب�أن هذا هو‬ ‫طعم احلياة احلقة‪ ،‬وب�أن ثمه فرق ًا كبري ًا بني �أن‬ ‫نحيا وبني �أن نت�سول حياة‪� .‬أعرف �أي جرح بليغ‬

‫ن��ازف �صارته �سورية و�أق��ف كل يوم مذهولة من‬ ‫هول الإجرام وذبح الأطفال‪ ،‬واملقابر اجلماعية‪،‬‬ ‫ووط��ن �صار �سوق �سالح وجت��ارة م��وت‪ ،‬و�شياطني‬ ‫ي�ستعريون ا�سم اهلل ليقتلوا ويذبحوا وهم يهللون‬ ‫فرحني ب�أنهم يطبقون ال�شريعة‪ ،‬والكل يخون‬ ‫الكل‪ ،‬والكل يكذب على الكل‪ ،‬والكل يدعي �أن‬ ‫�ضمريه مل يعد يتحمل ه��ول الإج����رام‪ ،‬والكل‬ ‫يتاجر بدم ال�شعب ال�سوري‪ ،‬والكل يعطينا �سعر‬ ‫�صرف ال��دوالر الأمريكي كل �صباح مقارنة ب�سعر‬ ‫الدم ال�سوري �أرخ�ص �سلعة يف العامل و ُتقدم عليه‬ ‫عرو�ض مُغرية‪ ،‬من نوع – اقتل مئة نعطيك جائزة‬ ‫لقتل ع�شرة �سوريني كجائزة تر�ضية – كل هذا‬ ‫الأمل والدمار واالنهيار يف البالد والعباد ال مينعني‬ ‫من التوقف و�إع���ادة تقومي مفهوم الأم���ان‪ ،‬و�أن‬ ‫�أطلب من ه�ؤالء الذين يحنون لأمان �أيام زمان �أن‬ ‫ينظروا �أبعد من �أنوفهم قلي ًال «و�أن يفتحوا قلي ًال»‬ ‫�شفاههم التي �أل�صقها �صمغ اخلوف و�أن يحدقوا‬ ‫بعيونهم اخلر�ساء بكل االنتهاكات الفظيعة التي‬ ‫ح�صلت فيما هم يف غيبوبة �أمانهم الزائف‪.‬‬

‫ذهنية العجز‪ ...‬وح�صاد ال�سراب‬

‫منذ بداية الثورة راهن كثريون من املعار�ضني وال�سيا�سيني ال�سوريني‬ ‫على حلول �سيا�سية؛ ك�أن يتنحى ب�شار حتت الت�ضييق عليه وحتت الق�سر‬ ‫والإج�ب��ار‪ ،‬ويرتاجع عن حربه بعد تخلي طائفته عنه‪� ،‬أو �أن يحدث‬ ‫اغتيال له بالتن�سيق بني من حوله وا�ستخبارات خارجيّة‪�..‬أو يهرب خوفا‬ ‫وجبنا ‪�..‬أو‪� ...‬أو‪....‬و�شاع يف الأفواه والعقول مقوالت كثرية عن ا�ستحالة‬ ‫التغيري من دون دعم خارجي؛ فقد تر�سخ بذهنية العجز ال�ساذجة التي‬ ‫لديهم ان ال�شعب والثورة �ضعيفان عاجزان عن �إ�سقاط نظام ب�شار‪..‬وكل‬ ‫ذلك كان تنظريا �ساذجا وذا طابع انهزامي ‪� ،‬أو انتهازي لدى اخلائفني من‬ ‫مد �شعبي ثوري للأغلبيّة‪.‬‬ ‫والآن جندنا نح�صد هذه ال��روح ال�سلبيّة الفوقيّة االنعزاليّة يف‬ ‫هزائم املعار�ضة الكثرية‪ ،‬ويف خ�سائرها الفادحة بعد عجزها عن �إقامة‬ ‫م�شروع �سيا�سي ي��ؤدي �إىل �إ�سقاط نظام ب�شار ‪ ،‬واق�تراح بديل منطقي‬ ‫مقبول متفق عليه يتعاونون كلهم على حتقيقه بعيدا عن �أجندات فئويّة‬ ‫وتبعية غري وطنيّة‪.‬‬ ‫الإ�شكالية احلقيقية ال تكمن يف �ضعف الثورة‪ ،‬ولي�س يف ت�آمر العامل‬ ‫اخلارجي على م�شاريع التحرر العربية النه�ضوية‪ ،‬بل يف العقلية ال�سيا�سية‬ ‫كلها التي ت�صدر ت متثيل الثورة وحمل امل�شروع الوطني وال�سيا�سي؛‬ ‫فهي متعالية‪ ،‬وماكانت تثق بطاقة �شعبها‪ ،‬وكانت تنافقه وتكذب عليه‪،‬‬ ‫وتدعي م�ساعدته‪ ،‬و ال تدعمه بقوة وحمبة وعدل‪ ،‬بل تبخ�سه حقه‪.‬‬

‫وعلى النقي�ض من ذلك‪ ،‬كانت متار�س �سيا�سة فرق ت�سد وتنفذ برامج غري‬ ‫وطنبّة وفق خمططات �أنظمة الدول الغربية وال�شرفية و�سيا�ساتها التي‬ ‫كانت وثقت بها وهرعت �إليها حتت عنوان ن�صرة ال�شعوب املقهورة ودعم‬ ‫�شرعة حقوق الإن�سان يف مواجهة �إره��اب اال�ستبداد والطغاة؛ فجرت‬ ‫وراءه��ا يف م�شاريع �سيا�سية كثرية‪ ،‬ت�ستجدي امل�ساعدة والعون‪ ،‬وترتك‬ ‫العمل اجلوهري على امل�شروع الثوري وهو �إ�سقاط النظام ‪ ،‬متعامية عن‬ ‫الهدف الأ�سا�سي وهو ن�صرة ال�شعب املقهور الذي يواجه وحيد ًا‪� ،‬أو بذخرية‬ ‫م�شروطة وفا�سدة البط�ش والقتل واالعتقال والتعذيب والت�شريد‬ ‫والنزوح واجلوع الإهانة وانتهاك الكرامة حتت ق�ضبان نظام �سفاح‪ ،‬على‬ ‫�أمل حت�صيل دعم �سيا�سي �أو ع�سكري �أو ت�سوية �سيا�سية حتقق طموحاتها‬ ‫يف ال�سلطة واحلكم واملك�سب والنفوذ‪ .‬حتى �صار لدينا �ألف خطة لعدالة‬ ‫انتقالية‪ ،‬و�ألف م�شروع ل�سلم �أهلي‪ ،‬وجملدات �ضخمة عن التمكني ال�سيا�سي‬ ‫للمر�أة وال�شباب وعن م�ستقبل امل�شاركة ال�سيا�سية‪ ،‬ومنابر منت�شرة لتب�شري‬ ‫مبباديء الدميقراطية و�إقامة دولة الدميقراطية املدنية العلمانية‪...‬‬ ‫وم�شاريع وا�سعة لتعليم الت�سامح وغريه‪...‬‬ ‫ويف هام�ش ذلك ك ّله‪ ،‬ظل نظام الإجرام يتفرج على الفو�ضى ويفجرها‬ ‫مبزيد من جنونه الأمني ومكره املكائدي‪ ،‬را�سخا يف �إرهابه وع�سفه‪،‬‬ ‫يقتل ويبط�ش ويبيد �شعب �سوريا‪...‬وا�ستمر املعار�ضون ميار�سون طقو�س‬ ‫اليومية من الرثثرة والغباء والنجومية والنقيق و�صوال �إىل جنيف ‪2‬‬

‫حيث التفاو�ض على �إم�ضاء انك�سارهم ال�سيا�سي‪ ،‬والت�صفيق لرفع ال�ستار‬ ‫عن امل�شهد ال�سيا�سي الأخري ‪ ،‬وهو تر�سيخ بقاء املجرم ونظامه على تلة‬ ‫�إجرامه وا�ستمرار حكمه لعقد جديد ورمبا لقرن‪ ،‬وتن�صيب بع�ض الوجوه‬ ‫التقليدية من معار�ضات قدمية بائدة‪ ،‬او من معار�ضة اجلبهة الوطنية‬ ‫االنتهازية ال�ساقطة منذ عقود يف منا�صب حكومية ووزارية ّ‪ ،‬و�صبغ الواقع‬ ‫القائم بهالة من ال�شرعية وامل�شروعية برعاية من �أ�صدقاء �سوريا‪ .‬وك�أن‬ ‫ال�شعب ال�سوري بقدم كل هذه الت�ضحيات العظيمة من �أجل تيجان ه�ؤالء‬ ‫ال�سفلة‪ ،‬ومن �أجل ت�شريع بقاء �سلطة الأ�شرار وا�ستمرار �ساللة الأ�سود‬ ‫النتنة‪ .‬ك�أن الثورة �صفقة يف من�صب ورقم يف حكومة �شكلية‪.‬‬ ‫بب�ساطة ال حل �أم��ام ال�شعب �إال �أن يتابع ال�سري يف م�شروع الثورة‬ ‫النتزاع حقه مهما دفع من دمه وعي�شه؛ لأن الثورة ت�سري �إىل الأم��ام‬ ‫ب�أوامر القدر التاريخي‪ ،‬وال تنظر للوراء لتلتقط ال�ضائعني وتتعرث مبا‬ ‫م�ضى‪ .‬وكل الهاربني منها خوفا وجبنا وجهال وتخاذال خا�سرون جدا‬ ‫‪ ،‬وواهمون ب�سراب جن��اة‪� .‬أم��ا حزمة ال�شروط التي تعطيها املعار�ضة‬ ‫وحزمة الإم�لاءات يفر�ضها �شركاء النظام؛ فهي مزيد من انزالق �أ�شد‬ ‫يف البالء واالنحطاط والهزائم وهدر الوقت‪ .‬ال حل �إال اال�صطفاف مع‬ ‫الثورة و�شد ال�صفوف الثوريّة‪ ،‬والعمل بجديّة والتزام وتنازل عن املكا�سب‬ ‫الفردية والتيجان النخبويّة من اجل حترير الأر�ض من نظام ب�شار ك ّله‬ ‫ومن منظومة اال�ستبداد كاملة‪.‬‬


‫العدد ‪89‬‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫هل بقي هناك جي�ش حر؟‬

‫منذ ال��ب��داي��ة مل يكن «اجلي�ش احل���ر» ا�سم ًا‬ ‫وا���ض��ح� ًا وحم���دد ًا لكيان ع�سكري متجان�س‪ ،‬كان‬ ‫ا�سم ًا ف�ضفا�ض ًا ي�ضم ك��ل املقاتلني على اختالف‬ ‫م�شاربهم ودوافعهم للقتال �ضد النظام‪ ،‬مل يكن فيه‬ ‫�أب��د ًا تراتبية ع�سكرية وا�ضحة‪ ،‬ومل يتحرك يف‬ ‫�أغلب الأحيان وفق خطط ع�سكرية طموحة تلبي‬ ‫�أه��داف��ا وا�سعة و�شاملة‪ ،‬بقدر ما كانت حتركاته‬ ‫و�أفعاله عبارة عن تكتيكات حملية لتحقيق �أهداف‬ ‫مرحلية‪ ،‬دون ه��دف ع�سكري �أو (وبكل ج��راءة)‬ ‫�سيا�سي وا�ضح‪ .‬اليوم وبعد ت�شكيل «جي�ش الإ�سالم»‪،‬‬ ‫ووجود �ألوية وكتائب �ضخمة‪ ،‬معظمها يحمل هوية‬ ‫ا�سالمية (ترتاوح بني �سلفية جهادية �إىل جهادية‬

‫مرحلية بدون ارتباط بفكر �سلفي عميق)‪ ،‬ف�إنه من‬ ‫ال�صعب �إطالق ا�سم «اجلي�ش احلر» عليها‪ ،‬بل رمبا‬ ‫هي نف�سها مل تعد ت�سمي نف�سها جي�ش ًا حر ًا‪ ،‬بل �صارت‬ ‫جيو�ش ًا �أخرى‪ .‬ال ننوي التقليل من قوتها القتالية‬ ‫وال الت�شكيك ب�أجندتها الوطنية (وهي يف �أح�سن‬ ‫الأحوال مبهمة وغري وا�ضحة) فهذا يحتاج درا�سة‬ ‫معمقة و�شاملة �أكرث‪ .‬لكن يهدف املقال ملحاولة فهم‬ ‫مقارباتها الع�سكرية و�إىل ماذا تهدف يف النهاية‪.‬‬ ‫من املعلوم �أن احلروب يف النهاية هي ب�شكل ما‬ ‫دليل لف�شل احلل ال�سيا�سي‪ ،‬و�أن كل هذه احلروب �إمنا‬ ‫تهدف بالنهاية لفر�ض احلل ال�سيا�سي الذي تريده‬ ‫هذه الدولة �أو تلك من جراء احلرب‪ ،‬بحيث يتكون‬

‫خليل النعيمي‬ ‫مل �أكن �أت�ص ّور‪ ،‬عندما كتبتُ قبل �سنوات رواية «‬ ‫َتفْريغ الكائن»‪� ،‬أن الأمور �ست�صل �إىل هذا احلد‪� .‬إىل‬ ‫حد التفريغ املرعب للكائنات من جوهرها الإن�ساين‪.‬‬ ‫�صحيح �أنني كنت �أرى‪ ،‬و�أح�س‪ ،‬و�أرتعد هَ َلع ًا من انت�شار‬ ‫تلك «الآف����ة»‪� :‬آف��ة التفريغ املتع َّمد للإن�سان من‬ ‫�أحا�سي�سه العميقة‪ ،‬و َت ْخميد «طاقة احلياة» عنده‪،‬‬ ‫تلك التي من �ش�أنها �أن ُت ْل ِهم روحه الرف�ض‪ ،‬وعقله‬ ‫التم ّرد‪ ،‬و�أح�سا�سه ال��ع� ّزة‪ .‬لكنني مل �أك��ن �أت�ص ّور‬ ‫�أنها(�آفة التفريغ) متلك كل هذه ال ُقدرة الهَدّ امة‪.‬‬ ‫البارحة عندما ا�ستمعت �إىل خطاب الرئي�س‬ ‫ِ�أُ�ص ْبتُ بال�صدمة‪ .‬لك�أنه ال يحيا يف التاريخ‪ ،‬وال حتى‬ ‫على هام�شه‪ ،‬بل هو «حمبو�س» يف قوقعة �سلطوية‬ ‫كتيمة ال من َف َذ فيها‪ ،‬وال م ْه َرب منها‪ .‬لك�أنه لي�س من‬ ‫�أهل هذا الكوكب‪ .‬ومل ي�سمع ب�شيء ا�سمه‪ :‬احلرية‪،‬‬ ‫�أو الدميقراطية‪� ،‬أو العدالة‪� ،‬أو امل�ساواة‪ .‬وال يعرف‬ ‫ما معنى الأحزاب امل�ستقلة عن ال�سلطة‪ ،‬وال النقابات‬ ‫احلرة‪ ،‬وال الإ�ضرابات العفوية «الال ُم َ�س رَّية» املطالبة‬ ‫بحقوقها الإن�سانية‪ ،‬وال الإنتفا�ضات الكونية عندما‬ ‫«يطفح ال َك ْيل»‪ .‬لك�أنه ال يتكلم اللغة التي تكلمت بها‬ ‫جموع املتظاهرين‪ .‬واليجمعه و�إ ّياهم هدف �إن�سا ّ‬ ‫ين‬ ‫واحد‪ :‬احلق يف حياة حرة كرمية‪.‬‬ ‫ما �أذهلني‪� ،‬أي�ض ًا‪ ،‬هو جمهور امل�ص ِفّقني له‪ ،‬امل�صفقني‬ ‫بحما�س وك�أنهم ي�ص ِفّقون لأنف�سهم‪ .‬هم لي�سوا ممثلني‬ ‫لل�شعب‪� ،‬إذن‪ ،‬و�إمنا ُ�ش َركاء للرئي�س يف اال�ستغالل ‪.‬‬

‫�أحمد قط�شه‬

‫احلل النهائي من ق�سمني (‪ %90-80‬حل ع�سكري‬ ‫مقابل ‪ %10-20‬حل �سيا�سي)‪ ،‬لكن هذه الـ‪10-20‬‬ ‫هي �أهم من الـ‪( 90-80‬من احلل الع�سكري)‪ ،‬بل �إن‬ ‫�أي �إجناز ع�سكري على الأر�ض ال ي�ستطيع �أن يفر�ض‬ ‫ح ًال �سيا�سي ًا‪ ،‬ال ميكن االعتداد به يف نهاية املطاف‪.‬‬ ‫لذلك ترى يف الدول املتقدمة �أن الع�سكر يتحركون‬ ‫ب�إمرة ال�سا�سة‪ ،‬و�أن اجلي�ش يف النهاية مهمته تغيري‬ ‫واقع ما لفر�ض حل �سيا�سي حمدد‪� ،‬سواء عرب حرب‬ ‫�سريعة �أو طويلة‪ ،‬بل �إن الكثري من مفاو�ضات �إنهاء‬ ‫احلروب متت‪ ،‬يف حني ما تزال املدافع تعمل لتقدم‬ ‫�أوراق ًا بيد املفاو�ضني‪.‬‬ ‫ل َرن الآن حال هذه الألوية واجليو�ش يف الو�ضع‬ ‫ال�سوري‪ .‬من الوا�ضح �أن هدفها املعلن هو �إ�سقاط‬ ‫النظام‪ ،‬حرفي ًا‪ ،‬وهذا مطلب كل من ي�ؤيد الثورة‪،‬‬ ‫لكنها لتحقيق هذا الهدف ال تطرح طريق ًا �سيا�سي ًا‬ ‫مي ّكنها من قطف ثمار انت�صاراتها على الأر���ض‪،‬‬ ‫وحتى حني حتاول املعار�ضة ال�سيا�سية ال�سورية‬ ‫(على ك��ل عالتها) �أن حت�صد ث��م��ار ًا للنجاحات‬ ‫الع�سكرية‪ُ ،‬تكال لها االتهامات ب�أنها ت�سرق �إجنازات‬ ‫وتعب املقاتلني‪ ،‬بل وت�سرق �أي�ض ًا دم ال�شهداء‪ ،‬ومن‬ ‫هنا ال تعرتف هذه الألوية الع�سكرية باملعار�ضة‬ ‫ال�سيا�سية وتبحث �إ���س��ق��اط��ه��ا‪ ،‬وت��ق��ع املعار�ضة‬ ‫ال�سيا�سية يف ذات الفخ عندما تتج ّنب احلديث‬ ‫لقادة هذه الكتائب وحت��اول �أن تطرح ت�صوراتها‬ ‫بعيد ًا عن الو�ضع امليداين‪.‬‬ ‫يف احلقيقة يجب على قادة هذه الكتائب �أن‬ ‫يفهموا �أمر ًا وا�ضح ًا‪ ،‬هو �أن العامل ال يريد للنظام‬ ‫�أن ي�سقط‪ ،‬خ�شية من البديل‪ ،‬وال��ذي هو يف هذه‬ ‫احلالة جيو�شهم‪ ،‬والتي ال يعرف �أحد عنها �سوى‬ ‫ب�ضعة مقابالت �أو بيانات على اليوتيوب‪ ،‬تزيد‬ ‫الغمو�ض ب��دل �أن ُتزيله‪ .‬بناء عليه‪ ،‬ف ��إن هذه‬

‫تفـريـغ الـرئيـ�س‬

‫«ال�شعب يريد �إ�سقاط النظام»‪ .‬وهم يريدون «�إ�سعاد‬ ‫الرئي�س»‪ ،‬ولو كذب ًا‪ .‬لكن حركة التاريخ التي ال تعود‬ ‫�إىل الوراء‪ ،‬وال تهد�أ قبل �أن تبلغ مبتغاها‪ ،‬لن تعب�أ مبا‬ ‫يريدون‪ ،‬حتى ولو اهرت�أت �أ ُك ُفّهم ت�صفيق ًا‪« .‬تفريغ‬ ‫الكائن»‪� ،‬إذن‪ ،‬لي�س عملية «ب�سيطة»‪ ،‬وال حمدودة‪.‬‬ ‫�إنها نوع من الإ�ستيالء على عقله‪ ،‬وعواطفه‪ ،‬وح ْب�سهما‬ ‫عائي مغلق‪ .‬وبد ًال من منطق نقدي منفتح‪،‬‬ ‫يف ح ِّيز ِد ّ‬ ‫ُي ْح�شى الكائن املف َّرغ بـ«المنطق» يعتمد على تزييف‬ ‫الواقع‪ ،‬وجتاهل حركة التاريخ‪ ،‬والإحتفاء بالتفاهة‬ ‫والإبتذال‪ .‬وهو ما يعطيه �شعور ًا زائ ًفا بالتما�سك‪.‬‬ ‫ويجعله ال ميلك يف حواره مع مَنْ يناق�ضه �إال الإنحياز‬ ‫الدوغمائي الأعمى ملا َت َل َقّنه‪ .‬حتى ليبدو مثل الكلب‬ ‫البولي�سي املد َّرب ال يعرف �إال �سيده‪ ،‬منتظر ًا منه‪ ،‬كلما‬ ‫�أ ْو َغل يف دفاعه امل َت َز ِّمت عنه‪ ،‬لحَ ْ َ�سة �أو لمَ ْ َ�سة‪.‬‬ ‫والكائن امل��ف � َّرغ‪ ،‬كما �صرنا نعرف ال��ي��وم‪ ،‬كائن‬ ‫تربيري بامتياز‪ .‬عالقته مبحيطه تخ�ضع لرغبته‬ ‫ّ‬ ‫العميقة بال�سيطرة املطلقة عليه‪ .‬ودف��اع��ه عن‬ ‫«مواقفه» يقوم على التزييف والإتهام‪ .‬والإتهام‪ ،‬يف‬ ‫هذه احلال‪ ،‬هو �إزاحة للآخر من الوجود‪� .‬إنه «كائن‬ ‫ْتف بذاته‪ ،‬ال مكان لأح��د يف ر�أ�سه‪ ،‬حتى‬ ‫ُك ّل ّي»‪ُ ،‬مك ٍ‬ ‫لآالف املتظاهرين �أمام عينيه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقائع التاريخ ال ُت�ش ٍّكل مرجعا له‪ ،‬و�إمنا مرجعه‬ ‫وح َّو َلتْه‪ ،‬تدريجي ًا �إىل «كائن‬ ‫ال�سلطة التي ف َّر َغتْه‪َ ،‬‬ ‫ميت تاريخي ًا»‪� ،‬أو كائن �سكو ّ‬ ‫ين‪ .‬حتى �أن ن�صف قرن‬

‫اجليو�ش م��دع� ّوة لت�شكيل ج�سم �سيا�سي لها‪ ،‬من‬ ‫�أ�شخا�ص يختارونهم هم ويثقون بهم‪ ،‬لكنهم غري‬ ‫مقاتلني ولي�س بال�ضرورة �أن يكونوا �أ�سما ًء معروفة‬ ‫من املعار�ضة‪ .‬مهمة هذه التيارات ال�سيا�سية قطف‬ ‫ثمار العمل الع�سكري‪ ،‬والتعامل مع النا�س والعامل‬ ‫مبنطق ال�سيا�سة ال منطق البندقية‪ .‬ه�ؤالء ميكنهم‬ ‫�أن ي�سافروا �إىل دول العامل ويتحدثوا مع امل�س�ؤولني‬ ‫فيها وينقلوا وج��ه��ات نظرهم وحتى م�شاريعهم‬ ‫وخططهم لإدارة ال��ب�لاد ح��ال �إ�سقاط النظام‪.‬‬ ‫الأه��م من ذل��ك �أن يخ�ضع العمل الع�سكري على‬ ‫الأر���ض حل�سابات ال�سيا�سة‪ ،‬كما �ست�سري ال�سيا�سة‬ ‫وفق ًا لتطورات العمل الع�سكري‪ .‬هذا �أمر يف غاية‬ ‫الأهمية‪ ،‬وهو لي�س بدع ًا يف حروب التحرير وال‬ ‫يف الثورات وال حتى يف النزاعات الأهلية‪ .‬طبع ًا‬ ‫املهم الآخ��ر‪ ،‬ال��ذي يجب �أن يتم �أي�ض ًا‪ ،‬هو‬ ‫الأم��ر ّ‬ ‫توحيد هذه الف�صائل والكتائب واجليو�ش‪ ،‬وجعلها‬ ‫جميع ًا تعمل يف �إطار عام واحد‪ ،‬يهدف �إىل حترير‬ ‫ك��ل امل��ن��اط��ق‪ ،‬ب���د ًال م��ن مناطق م��ع��زول��ة‪ .‬وف�شل‬ ‫هذه الكتائب يف حتقيق هذا التوحد ي�شبه ف�شل‬ ‫املعار�ضة ال�سيا�سية يف ت�شكيل كيان واح��د قوي‬ ‫يت�صرف يف �إطار واحد ووا�ضح‪ ،‬وبالتايل فال يجب‬ ‫�أن ُتنعت هذه املعار�ضة ال�سيا�سية بالت�شرذم وحده‪،‬‬ ‫دون املعار�ضة الع�سكرية‪.‬‬ ‫ب��دون مثل هذه الأج�سام ال�سيا�سية‪� ،‬سيبقى‬ ‫ال�شك حائم ًا فوق �أي بيان �أو مقابلة يقوم بها قادة‬ ‫ه��ذه اجليو�ش‪ ،‬و�ستبقى �أهدافهم غام�ضة وغري‬ ‫مطمئنة‪ ،‬والأخطر �أنه بدون هذه الكيانات �ستبقى‬ ‫�أي �إجن���ازات ع�سكرية على الأر���ض مك�شوفة وال‬ ‫معنى لها‪ ،‬والأهم �أن دماء ال�شهداء الذين حققوها‬ ‫�ستكون مع ّر�ضة ب�شكل كبري لل�سرقة‪ ،‬وم��ا �أكرث‬ ‫الل�صو�ص يف هذه الثورة‪.‬‬

‫من الزمن‪ ،‬برغم ما م� َّر فيه من عوا�صف و�أح��داث‬ ‫وا�ضطرابات‪ ،‬ال ي�ساوي بالن�سبة �إليه �شيئ ًا‪ .‬لأنه ال‬ ‫يعي�ش يف َحم�أَة الف�ضاء العام‪ :‬ف�ضاء املجتمع املليء‬ ‫والتغي والأح��داث اجلليلة‪ .‬وما يجري يف‬ ‫بالعنف‬ ‫ُرْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫العامل الذي يقع خارج «عامله املز َّيف»‪ ،‬املُغ ّلف بغ�شاء‬ ‫من بال�ستيك ال�سلطة الكتيم‪ ،‬يجعل كل ما يحدث‬ ‫حوله ي�سيل فوق عقله الأمل�س دون �أن ُيخ ِّلف �أثر ًا‪.‬‬ ‫ال! مل �أك����ن �أت� ّ‬ ‫��وق���ع �أن«ت���ف���ري���غ ال��ك��ائ��ن» من‬ ‫جوهره الإن�ساين �سي�صيب كل �أحد‪ ،‬وكل �شيء‪ ،‬و�أن‬ ‫عملية«التفريغ» املرعبة هذه �ست�صل �إىل هذا احلد‪:‬‬ ‫�إىل َحدّ «تفريغ حتى الرئي�س» من حمتواه‪.‬‬ ‫واليوم‪ ،‬مهما يكن الأم��ر‪ ،‬ال ميكن للم َف َّرغني �أن‬ ‫انفتحتْ ‪ ،‬وال �أن ُي َر ِّقعوا‬ ‫ي�سدّ وا منافذ احلرية بعدما‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫براقع النظام التي اهرت�أت‪ ،‬وال �أن ُيل ِّوثوا عبري الربيع‬ ‫ب�أنفا�سهم اجلائفة‪« :‬ربيع الثورة العربية الكربى»‪.‬‬ ‫فل ُي َ�ص ِفّقوا يف جمل�سهم املغلق الذي اجتمعوا فيه‬ ‫ب�إرادة الرئي�س من �أجل القمع والف�ساد‪ .‬فت�صفيقهم‬ ‫البائ�س لي�س �أكرث من َف ْ�س َوة يف طاحون ال�سلطة التي‬ ‫تطحن الريح‪.‬‬ ‫�أم��ا املتظاهرون في�صرخون يف العراء من �أجل‬ ‫احلق واحلرية والكرامة‪ُ ،‬مرددين بت�صميم‪:‬‬ ‫ل�سنا هنا ب�إرادة الرئي�س‪.‬‬ ‫نحن هنا ب�إرادة ال�شعب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ولن ن َت َز ْح َزح عن مواقفنا حتى على �أ ِ�س َنّة احلراب‬


‫العدد ‪89‬‬

‫ميت يزور قربه‬ ‫امل�صطفاوية قرية �صغرية تابعة ملحافظة نائية يف ال�شرق‬ ‫ال�سوري‪ ،‬الذي مل ي�صله ما �سمي بـ"�إجنازات احلركة الت�صحيحية"‬ ‫التي تغنى بها الكثريون دون معرفتها‪.‬‬ ‫مل تهتم هذه القرية بالثورة‪ .‬لطاملا عا�شت حالة ت�أييد عمياء‬ ‫للنظام‪ .‬وما يح�صل يف ال�شارع لي�س بالن�سبة �إليها �أكرث من �أعمال‬ ‫�إرهابية �ستزول بعد فرتة ق�صرية‪ ،‬لوال �أن الأمر �صار فيه خوف على‬ ‫الأبناء يف اخلدمة الع�سكرية‪.‬‬ ‫خملف احل�سون‪ ،‬كغريه من �أبناء قريته ذهب للخدمة الع�سكرية‪.‬‬ ‫قالوا له ال تفكر يف �شيء وال تعرت�ض و�أط��ع الأوام���ر وابتعد عن‬ ‫احلديث ب�أي �أمر حتى ينتهي العامان والن�صف وتتزوج‪ ،‬وهذا ج�سر‬ ‫عرب عليه اجلميع‪.‬‬ ‫ح�سن وهو ابن عم خملف‪ ،‬معار�ض مل يعلن عن موقفه ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫لئال يلفظه اجلميع‪ .‬يروي لنا وهو يبت�سم وبعينيه بريق يوحي ب�أمر‬ ‫عميق‪ ،‬بع�ض ًا مما عا�شه‪ .‬يقول‪“ :‬ق�ضت عمتي �أم خملف �شهور ًا عدة‪،‬‬ ‫انتظار ًا البنها الغائب وهي تتابع بقلق ما تن�شره القنوات الف�ضائية‪.‬‬ ‫ثم ما تلبث �أن تكذبها وتلج�أ لقناة الدنيا ال�سورية التي ب ّردت قلوب‬ ‫النا�س وجمدت عقولهم �أي�ض ًا يف حيز قرى تخاف �إن �سقط النظام �أن‬ ‫ت�سلب منها الأرا�ضي التي وزعتها الدولة على الأه��ايل‪ ،‬وكانت ملك ًا‬ ‫للإقطاع ال�سوري"‪.‬‬ ‫وي�ضيف "يف يوم �شتائي ماطر �صرخت "�أم خملف" و�شقت ثوبها‪،‬‬ ‫حني و�صلها خرب مقتل ابنها على يد ع�صابات �إرهابية و�أحلت على‬ ‫"�أبي خملف" �أن يذهب جللب جثته بعد امت�صا�صها لهول ال�صدمة”‪.‬‬ ‫�سعى الأب كثري ًا لأجل ا�ستعادة جثمان ابنه‪ ،‬وحاول مرار ًا وتكرار ًا‪،‬‬ ‫ويف كل مرة كان يعود وهو يجرجر �أذيال اخليبة‪ .‬ومل يكن هناك ما‬ ‫ميكن �أن يطفئ حرقة قلب "�أم خملف" حتى ترى جثمان ولدها‪ ،‬وكلما‬ ‫هد�أت قلي ًال كان ت�صر على �إر�سال زوجها للمحاولة �أكرث من مرة‪.‬‬ ‫حني انقطع �أملهما يف عودة جثمان ابنهما املقتول ودفنه‪ ،‬تلقيا‬ ‫ات�صا ًال من جمهولني‪ ،‬طلبوا من "�أبي خملف" �أن ي�أتي ومعه مبلغ مايل‪،‬‬ ‫مقابل م�ساعيهم للح�صول على جثمان ولده‪.‬‬ ‫قام الأب ببيع �شياهه القليلة وب�ضعة �أكيا�س القمح املخزنة‬ ‫للخبز وبذار الأر�ض ال�شحيح‪ ،‬و�أتى باجلثة �أ�شال ًء ممزقة حمروقة‬ ‫وهو ي�شهق‪� :‬أ�صبح احل�صول على جثة الولد فرحة كبرية‪� ،‬أي قدر هذ ّا‪.‬‬ ‫دفنها وخالف من وح�شة منظرها عادة �أبناء الريف يف �أن يك�شفوا‬ ‫اجلثة للأم والبنات ليبكني عليها ويقبلن وجه امليت‪� .‬أقام خيمة العزاء‬ ‫التي مل تخل من الدعوات واالدع��اءات ب�أنه �شهيد يف �سبيل الوطن‬

‫مالذ الزعبي‬ ‫مل ي�ساورين القلق بداية‪ .‬لطاملا غابت‬ ‫التغطية عن ج ّوال والدتي‪ ،‬فمنذ انتقالها‬ ‫�إىل بيت جديد يف الإ�سكندرية واالت�صاالت‬ ‫بيننا متقطعة‪ .‬قليل من ال�شك ت�سرب �إىل‬ ‫�أف��ك��اري لغياب التغطية ع��ن هاتف �أخ��ي‬ ‫املحمول �أي�����ض� ًا‪ ،‬ا�ستحال ال�شك قلق ًا بعد‬ ‫حماولتي الفا�شلة لالت�صال بزوجة �أخي‪،‬‬ ‫كان �إذ ًا ال بد من االت�صال ب�أبي‪� ،‬أمر حاولت‬ ‫جتنبه ف��ا���ش� ً‬ ‫لا ك��ي ال �أ���ض��ط��ر �إىل الكذب‬ ‫رد ًا على ا�ستف�ساراته عن �صالتي و�صيامي‬ ‫وقيامي وغ�ض ب�صري وحفظ ل�ساين‪.‬‬ ‫ مرحبا بابا‬‫ وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل‪� ،‬أه ًال بابا‬‫ بابا حاولت ات�صل ب�أمي وبعبد الر‪...‬‬‫ �أمك و�أخ��وك ومرته وبنته بالبحر‬‫م��ن ي��وم�ين‪ ،‬بطريقهم على �إيطاليا ومنها‬ ‫عال�سويد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ك��ان ج��واب �أب��ي ح��ادا كن�صل ال�سكني‪،‬‬ ‫وبارد ًا وك�أنه يحدثني عن زيارة �أمي املعتادة‬ ‫�إىل بيت جارتنا "�أم �أن�س" عندما ك��ان ال‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫�أحمد ال�شمام‬

‫والدليل ح�ضور �أمني �شعبة احلزب وبع�ض وجهاء املنطقة وو�ضع �صورة املهاجنة) �إن تركوين"‪ .‬و�أ�ضاف "وفع ًال قدموا يل كل �شيء و�أبقوين‬ ‫عندهم حتى وجدوا يل طريق ًا لإي�صايل لأهلي وو�صلت بخري‪ ،‬حيث‬ ‫الرئي�س يف �صدر جمل�س العزاء وعلم البعث كذلك‪.‬‬ ‫و�سارت حياة العائلة بعد ذلك ب�شكل اعتيادي‪ ،‬ما عدا زفرات الأم فوجئت بالأخبار التي و�صلت لأهلي عن مقتلي"‪.‬‬ ‫وح�سراتها على ولدها خملف وح�شرجات �صوتها وهي تتحدث حل�سن‬ ‫الفرحة غامرة على وجه الأم التي تقول ابني ولد من جديد‪،‬‬ ‫عن �شوقها البنها ودمعاتها التي ماتنفك تهطل كل حني‪ .‬ثوبها الأ�سود‬ ‫املرقع‪ ،‬يداها اللتان ت�شققتا من جمع احلطب لطهي طعام الأ�سرة‪ ،‬والأب الذي �أتعبته ديونه يقول كل ما ح�صل فداء البني اجلديد‬ ‫�أظافرها التي خم�شت وجهها حني ا�ستقبلت خرب مقتل ابنها تفرق ولن �أدعه يعود للجي�ش وعلينا ان نخبئه خوف ًا من �أن ير�سل النظام‬ ‫بني خرزات �سبحتها التي تخرتق �صمت ًا هائ ًال يثقل الناظر لها وهي بطلبه �أو ت�أتي �شبيحة النظام من حزب العمال �أو اجلي�ش الوطني من‬ ‫الع�شائر‪� ،‬أن ت�أخذه لت�سلمه علم ًا �أن القرية من الريف املحرر ولكن‬ ‫ت�ستغفر وتدعو البنها بالرحمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يف ليلة ما دوت �صرخة عالية يف بيت �أبو خملف واغماءة الأم اخلوف ال يزال مزروعا يف النفو�س‪.‬‬ ‫خملف حتدث مطرق ًا ‪�" :‬شعرت �أين جنوت من موت حمتم‪ ،‬ولكن‬ ‫عندما فاج�أها زائر للمنزل ماهو �إال ابنها خملف‪ .‬ت�شهدت وكربت من‬ ‫عودة ابنها‪ .‬مل تت�ساءل �أحلم هو �أم حقيقة‪ ،‬لكنها غابت عن الوعي ثم عندما و�صلت لأهلي �شعرت مب�شاعرهم حيال موتي‪ .‬ف�صرت �أتعامل‬ ‫ا�ستيقظت و�أجه�شت بالبكاء معانقة �إياه‪ ،‬غري م�صدقة �أنه حي يرزق‪ .‬مع احلياة وك�أين مت ثم بعثت من جديد و�صارت لدي رغبة باحلياة‬ ‫بد�أت وفود القرية بزيارة البيت مهنئة عودته بال�سالمة‪ ،‬حيث كقادم من املوت �أو خارج من القرب وقد ذهبت البارحة ونظرت لقربي‬ ‫روى ق�صة ان�شقاقه عن اجلي�ش النظامي‪ ،‬خوف ًا من امل��وت‪ .‬بج�سده وقر�أت الفاحتة منت�شي ًا بحياتي و�أين ل�ست هو"‪.‬‬ ‫انتهت زيارتنا له ومل يخطر يف بال �أحد ال�س�ؤال‪� :‬إن كان �صاحب‬ ‫الهزيل ووجهه الأ�سمر بلحيتة الطويلة‪ ،‬قال‪":‬مل �أطلق النار وا�ستجبت‬ ‫لدعوة املجموعات املهاجمة بعدما�شعرت بخوف قادتي من �أي عمل ذاك القرب‪ ،‬من اجلي�ش �أم من الثوار؟‬ ‫رغم ا�ستياء العائلة والقرية من القرب وما رافق ذلك من حزن‬ ‫قتايل‪ ،‬حيث و�ضعونا نحن يف املقدمة‪ .‬فتقدمت نحوهم (املجموعات‬ ‫وق��ل��ت يف نف�سي مقتول باحلالتني ول��ك��ن ه��ن��اك اح��ت��م��ال للحياة عميق‪ ،‬لكنه حتول �إىل رمز ل�صفحة حزن م�ضت بال عودة‪.‬‬

‫�أمي مهاجرة غري �شرعية!‬ ‫يزال هناك بيت وج�يران وحي وزي��ارات يف‬ ‫درعا‪ ،‬روايته غري املكرتثة بدت �أ�شبه ب�صعود‬ ‫عدة درجات من طابق �إىل طابق �أو يف �أ�سو�أ‬ ‫الأحوال و�صف مقت�ضب مل�شوار تب�ضع طويل‬ ‫وجمهد‪ ،‬ال عن رحلة قد تكون الأخرية‪.‬‬ ‫���ش��رح يل وال����دي ب��ح��ي��اد م��ذي��ع ن�شرة‬ ‫�أخ��ب��ار‪� ،‬أن��ه��م ف�ضلوا ع��دم �إخ��ب��اري ك��ي ال‬ ‫�أعرت�ض‪� ،‬سبق لهم �أن طرحوا الفكرة‪ ،‬وثقب‬ ‫�صراخي الغا�ضب �سماعة الهاتف حينها‪،‬‬ ‫اختاروا الذهاب �إىل ال�سويد مع الذاهبني‪،‬‬ ‫"رحلة م�ضمونة وكل �شيء م�ؤمن"‪� ،‬سي�صلون‬ ‫�إىل �إيطاليا يف غ�ضون �أيام‪ ،‬ومنها ينتقلون‬ ‫بر ًا �إىل �أملانيا عرب النم�سا ومن ثم الدمنارك‬ ‫قبل بلوغ هدفهم‪ ..‬اجلنة ال�سويدية‪.‬‬ ‫تتاىل الأي��ام الالحقة يف قلق م�ستمر‪،‬‬ ‫وال��دت��ي ال�ستينية واب��ن��ة �أخ���ي ال��ت��ي مل‬ ‫تكمل عامها الأول‪ ،‬ا�ستهلكا اجل��زء الأكرب‬ ‫من �أفكاري‪�" ،‬أخي وزوجته �شابان ق��ادران‬ ‫على حتمل الرحلة القا�سية"‪� ،‬أق���ول يف‬ ‫نف�سي‪ ،‬ثم �أقر�أ خرب ًا عاج ًال عن قارب غرق‬

‫قبالة ال�شواطئ الإيطالية ركابه �سوريون‬ ‫وفل�سطينيون‪� ،‬أجت��اه��ل اخل�ب�ر‪ ،‬حم���او ًال‬ ‫الرتكيز على جمزرة يف ريف �إدلب‪� ،‬أو تتبع‬ ‫م�سار �صاروخ �سكود انطلق من القلمون باجتاه‬ ‫ال�شمال ال�سوري‪ ،‬ي�صبح اخلرب العاجل قدمي ًا‬ ‫وتت�ضح تفا�صيله �أكرث‪ :‬الغارقون معظمهم‬ ‫�أفارقة ولي�س بينهم �سوريون‪ ،‬وهو � ٍآت من‬ ‫ال�سواحل الليبية ولي�س امل�صرية‪� ،‬أتنف�س‬ ‫ال�صعداء م�ؤقت ًا‪ ،‬و�أحاول ملء وقتي ب�أخبار‬ ‫املجازر ال�سورية التي تطبعت معها منذ زمن‪.‬‬ ‫ليلة اليوم اخلام�س ي�أتي خرب جديد من‬ ‫وكالة �آكي‪ ،‬خفر ال�سواحل الإيطايل ينقذ‬ ‫زورق ًا يحمل مهاجرين غري �شرعيني �سوريني‬ ‫من الغرق‪ ،‬بعد جنوحه بالقرب من جزيرة‬ ‫�صقلية‪ ،‬ثم ي�أتي اخل�بر "ال�سعيد" �صباح‬ ‫اليوم التايل‪ ،‬عائلتي كانت �ضمن الناجني‬ ‫على هذا ال��زورق حتديد ًا‪ ،‬والف�ضل لأخي‬ ‫"البطل"‪ ،‬الوحيد الذي كان يحمل جوا ًال‬ ‫على منت القارب‪ ،‬وبف�ضل جواله ا�ستطاعت‬ ‫ال�سلطات الإيطالية حتديد موقع القارب‬

‫عن طريق "نظام حتديد املوقع"‪.GPS -‬‬ ‫مرة �أخرى يعاودين ال�شعور �أنني "�أخو‬ ‫البطل"‪ ،‬ميزة خربتها جيد ًا يف ال�شهر الثاين‬ ‫للثورة بعد اعتقاله من قبل الأمن يف درعا‪،‬‬ ‫حينها تاجرت بذلك ما ا�ستطعت للعب دور‬ ‫ال�ضحية والتقرب من الفتيات‪ ،‬فاالعتقال‬ ‫يف دم�شق حيث �أق��ي��م‪ ،‬ك��ان م�ؤ�سطر ًا ومل‬ ‫يتحول �إىل م�س�ألة معتادة بعد‪� .‬أفكر �أنني‬ ‫ال �أ�ستطيع ا�ستغالل ذلك الآن‪ ،‬ولن يكون يف‬ ‫�إمكاين �إن�شاء �صفحة يف "فاي�سبوك" تطالب‬ ‫مبنح عائلتي اللجوء مثلما �أن�ش�أت �صفحة‬ ‫للمطالبة بحرية �أخي‪.‬‬ ‫و�صلت عائلتي �إىل ال�سويد بعد �أي��ام‪،‬‬ ‫ا�ستقرت يف قرية قرب مدينة "هامل�شتاد"‬ ‫يف انتظار �إكمال الأوراق‪ ،‬االت�صاالت بيننا‬ ‫متقطعة‪� ،‬س�أبد�أ بالإعداد لتحقيق �صحايف‬ ‫ع��ن الهجرة غ�ير ال�شرعية لل�سوريني من‬ ‫م�صر �إىل ال�سويد عرب البحر املتو�سط‪ ،‬ولدي‬ ‫�شاهدة عيان م�ستعدة للكالم‪� ..‬أ ّمي‪.‬‬


‫العدد ‪89‬‬

‫العدد ‪83‬‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫«الرقيب اخلالد» لزياد‬ ‫كلثوم‬ ‫انحياز ل�سلمية الثورة وحق ال�سوريني يف احلياة‬ ‫عر�ض خا�ص لفيلم «الرقيب اخلالد» يف �سينما �أبراج‬ ‫ببريوت‪.‬‬

‫تهامة اجلندي‬ ‫للجي�ش م� ّن��زل��ة خا�صة يف ت�شكيالت‬ ‫الدولة ال�سورية‪ ،‬على اعتبار �أن البلد مهدّ د‬ ‫و ُمقاوم‪ ،‬بحكم جواره لكيان العدو‪ ،‬منزلة‬ ‫بد�أت من التبجيل يف الن�شيد الوطني «حماة‬ ‫الديار عليكم �سالم‪� ،‬أبت �أن ُتذل النفو�س‬ ‫الكرام» وانتقلت �إىل اخلدمة الإلزامية‪،‬‬ ‫املفتوحة الأمد‪ ،‬واملفرو�ضة على كل مواطن‬ ‫ذكر‪ .‬وتو�سعت لتطال طالب املرحلة الثانوية‬ ‫�وح��د عليهم‪،‬‬ ‫بفر�ض ال���زيّ الع�سكري امل� ّ‬ ‫وم��ادة الفتوة‪ ،‬ودورات ال�شبيبة ال�صيفية‬ ‫للع�سكرة‪.‬‬ ‫للتدريب على امل��ب��ادئ الأول��ي��ة ّ‬ ‫مرورا باالمتيازات الكبرية التي تتمتع بها‬ ‫الرتب العليا من ال�ضباط وما فوقهم‪ ،‬انتهاء‬ ‫بامليزانيات الهائلة التي اق ُتطعت من خبز‬ ‫املاليني‪ ،‬لتغطية نفقات تدريب هذا اجلي�ش‬ ‫وت�سليحه وبناء تر�سانته احلربية‪ ،‬مبا فيها‬ ‫الأ�سلحة الكيماوية‪ ،‬حتى غدا واحدا من‬ ‫�أقوى جيو�ش املنطقة العربية‪.‬‬ ‫جي�ش كان يعتز به جميع ال�سوريني‪ ،‬قبل‬ ‫�أن ي�ص ّوب ر�صا�صه على �صدروهم يف بداية‬ ‫التظاهرات ال�س ّلمية ‪ ،2011‬وت�ستوطن‬ ‫وجدانهم ط ّعنة الغدر‪ ،‬وه��م ي��رون �شباب‬ ‫و�شابات �سوريا ي�سقطون قتلى يف ال�شوارع‪ ،‬ال‬ ‫لذنب �سوى �أنهم طالبوا بالكرامة واحلرية‪،‬‬ ‫الطعنة العميقة ال��ت��ي ُت��رج��م��ت ب�شعار‬ ‫املتظاهرين «ال��ل��ي بيقتل �شعبه خ��اي��ن»‪،‬‬ ‫و�أغنية �سميح �شقري الرائعة «ي��ا حيف»‪،‬‬ ‫يومها كانت الفاجعة � ّأعتى من �أن ي�صدّ قها‬ ‫عقل‪ ،‬دفعت بالعديد من عنا�صر اجلي�ش‬

‫�أنف�سهم للتمرد على الأوامر «فكيف يقتلون‬ ‫م��ن �أق�سموا على ح��م��اي��ت��ه��م‪...‬؟! « وك��ان‬ ‫عقاب املتمردين الت�صفية الفورية‪� ،‬إال من‬ ‫ا�ستطاع منهم �أن يلوذ بالفرار خارج احلدود‬ ‫�أو داخلها‪ ،‬ذلك قبل �أن تت�شكل نواة اجلي�ش‬ ‫احلر‪ ،‬وي�صبح الر�صا�ص مزحة �أمام طائرات‬ ‫النظام ومدفعيته وراج��م��ات �صواريخه‪،‬‬ ‫التي فتحت نريانها على املدن‪ ،‬وفوق ر�ؤو�س‬ ‫العباد‪ ،‬وغدت عنوان الرعب والذهول الذي‬ ‫�أ�صاب املواطنني يف ال�سنة الثانية من عمر‬ ‫الثورة ال�سورية‪ ،‬وال تزال مع �إ�ضافة ف�صل‬ ‫الأ�سلحة الكيماوية بدخول ال�سنة الثالثة‪.‬‬ ‫�أ���س��وق ه��ذه املقدمة التي ب��ات يعرفها‬ ‫اجلميع‪ ،‬للإ�شارة �إىل حجم ال�صدمة التي‬ ‫اعرتت املدنيني والع�سكريني‪ ،‬من جراء زج‬ ‫الق ّوات امل�س ّلحة يف قمع املتظاهرين ال�س ّلميني‪،‬‬ ‫لأنها ت�ش ّكل اخللفية الدراماتيكية‪ ،‬و�سرية‬ ‫م��ا قبل ال��ب��داي��ة‪ ،‬التي ينطلق منها فيلم‬ ‫زي��اد كلثوم الوثائقي «الرقيب اخل��ال��د»‪،‬‬ ‫الذي اف ُتتحت �أول عرو�ضه يف �سينما �أبراج‬ ‫ببريوت‪ .‬فالفيلم ير�صد احلياة يف دم�شق‬ ‫ع��ام ‪ ،2012‬من خ�لال عيون رقيب ي��ؤدي‬ ‫خدمة العلم الإلزامية‪ ،‬هو نف�سه املخرج‬ ‫ال��ذي يعلن يف نهاية املطاف ان�شقاقه عن‬ ‫اجلي�ش ال�سوري النظامي‪ ،‬وعدم التحاقه‬ ‫بكتائب اجلي�ش احلر‪ ،‬م�ؤكدا �أن الكامريا هي‬ ‫�سالحه‪ ،‬واملفارقة �أن العر�ض تزامن مع بدء‬ ‫بعثة املفت�شني الدوليني بتفكيك تر�سانة‬ ‫الأ�سلحة الكيماوية يف �سوريا‪.‬‬

‫ي���ب���د�أ ال��ف��ي��ل��م ب���ك���ادر م��ائ��ل لغرفة‬ ‫متوا�ضعة‪ ،‬تلتقطها عد�سة جهاز خليوي‪،‬‬ ‫ت�ستوي ال�صورة‪ ،‬وتتابع قدمني بحذاء‪،‬‬ ‫تخرجان �إىل ال�شارع‪ ،‬تقطعان م�سافات‬ ‫ج��رداء‪ ،‬يحدّ ها �سور‪ُ ،‬كتبت عليه �شعارات‬ ‫البعث‪ :‬وحدة‪ ،‬حرية‪ ،‬ا�شرتاكية‪ ،‬يتح ّول‬ ‫احلذاء �إىل بوط ع�سكري‪ ،‬يخبط الأر�ض‪،‬‬ ‫وي�سمع دويّ االنفجارات‪ ،‬ت�صل القدمان‬ ‫�إىل ال� ُث��ك��ن��ة‪ ،‬جت���ول ع�ين ال��ع��د���س��ة على‬ ‫اجل���دران‪ ،‬متداعية‪ ،‬لكنها مليئة ب�صور‬ ‫الأ���س��رة احلاكمة‪ :‬الأب والإب���ن و�أخيه‪،‬‬ ‫ومن خارج الكادر يقول �صوت‪�« :‬أنا الرقيب‬ ‫زي��اد ك��ل��ث��وم»‪ ،‬و ُيغلق امل�شهد على جندي‬ ‫يل ّقم املدّ فع‪ ،‬وتنطلق القذيفة من الفوهة‪،‬‬ ‫وب�إمكاننا �أن نتخ ّيل حجم املجازفة التي‬ ‫قام بها املخرج �أثناء الت�صوير داخل ال ُثكنة‬ ‫بعد�سة هاتفه الن ّقال‪ ،‬يف ظل املنع البات‬ ‫ال�ستخدام �أي من �أجهزة االت�صال‪.‬‬ ‫يف ال�شارع يرن ج ّوال الرقيب‪ ،‬ون�سمع‬ ‫�صوت رجل ي�س�أله‪� ،‬إن كان ب�إمكانه االلتحاق‬ ‫بفريق الت�صوير‪ ،‬ويجيبه الرقيب �أن��ه‬ ‫�سي�أتي بعد �أن ينهي دوام���ه يف ال ُّثكنة‪،‬‬ ‫ينتقل امل�شهد �إىل امل��خ��رج حممد مل�ص‪،‬‬ ‫وه��و ي�ستعد لبدء ت�صوير فيلمه‪ ،‬ومنذ‬ ‫تلك اللحظة �سوف ي�ضع الفيلم تر�سيماته‬ ‫الأ�سا�سية على �أرب��ع��ة حم���اور متوازية‬ ‫ومتداخلة‪ ،‬هي‪ :‬اخلدمة الإلزامية‪ ،‬طاقم‬ ‫الت�صوير‪ ،‬احلوارات وحمور الإعالم‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم من عدد ال�شخ�صيات الكبري الذي‬ ‫تتابعه الكامريا‪ ،‬من النخبة املعروفة ومن‬ ‫العامة‪ ،‬فلن نقر�أ على ال�شا�شة �أي ا�سم �أو‬ ‫تعريف لأي منها‪� ،‬سوف يتقدم معظمها‬ ‫با�سمه الأول‪ ،‬حني ُي��ن��ادى عليه‪ ،‬و�سوف‬ ‫نتع ّرف على مهنة ال�شخ�صية من خالل ما‬ ‫تقوم �أو تديل به داخل الكادر‪ ،‬وهي عالمة‬ ‫الفيلم الأوىل‪� :‬شخ�صيات بال �أ�سماء كاملة‪،‬‬ ‫�أو �أل��ق��اب‪ ،‬تكتفي بكينونتها الإن�سانية‪،‬‬ ‫وبالقا�سم امل�شرتك الذي يجمعها‪ ،‬موا�صلة‬ ‫العي�ش يف �أق��دم عا�صمة م�أهولة‪ ،‬تقطع‬ ‫�أو�صالها متاري�س الأجهزة الأمنية‪ ،‬وتغطي‬ ‫�سمائها الطائرات‪.‬‬ ‫يف حم��ور اخلدمة الإل��زام��ي��ة‪ ،‬يقت�صر‬ ‫الت�صوير على امل�شاهد الداخلية‪ ،‬العد�سة‬ ‫تر�صد فو�ضى امل��ك��ان‪ ،‬ومظاهر الإه��م��ال‬ ‫والب�ؤ�س والطغيان‪ ،‬الأر�ضية مت�سخة‪ ،‬وعلى‬ ‫الطاولة ركام من الأوراق وامللفات‪ ،‬الطعام‬ ‫بي�ض‪ ،‬وامل�شروب متة‪ ،‬الأ�سالك الكهربائية‬ ‫تتدىل خارج العلب‪ ،‬اجلدران مغطاة ب�صور‬ ‫ق��ادة الأب��د وال�شعارات‪ ،‬و�صوت الإع�لام‬ ‫ال�����س��وري‪ ،‬ي�شكو امل���ؤام��رة الكونية التي‬ ‫تق ّو�ض عزمية ال�شعب‪.‬‬ ‫يف املحور الثاين لن نعرف عنوان الفيلم‬ ‫الذي يقوم ب�إخراجه مل�ص‪ ،‬لن نتع ّرف على‬ ‫الق�صة‪ ،‬وال ال�شخ�صيات‪ ،‬وال امل�صري الذي‬ ‫�آل �إليه‪� ،‬سوف نتابع فقط بع�ض امل�شاهد‬ ‫املقت�ضبة واملتفرقة التي يجري ت�صويرها‪،‬‬ ‫وتتقاطع مع حال ال�سوريني ذاك احلني‪:‬‬ ‫�شاب ي�صعد �أعلى ال�سلم وي�صرخ‪ ،‬غ�سان‬ ‫جباعي مي ّثل دور �شخ�ص تعتقله املخابرات‪،‬‬ ‫ام��ر�أة م�س ّنة ت�سري نحو النافذة‪ ،‬وتقول‪:‬‬ ‫الطبيبة ماتت‪ ،‬ويف املقابل �سوف ير�صد‬ ‫ه��ذا امل��ح��ور امل��ع� ّوق��ات التي ت��واج��ه فريق‬ ‫العمل كل ي��وم‪ ،‬من �صعوبة الو�صول �إىل‬ ‫�أماكن الت�صوير ب�سبب احلواجز الأمنية‬ ‫والق�صف‪� ،‬إىل منع الفريق من الت�صوير يف‬

‫‪2013-9-15‬‬

‫بع�ض املناطق‪ ،‬ومن ثمة �إيقاف عمله ب�سبب‬ ‫الو�ضع الأمني املتدهّ ور‪ ،‬ومن اعتقال �أحد‬ ‫�أع�ضاء الطاقم من غرفته يف الفندق‪� ،‬إىل‬ ‫�صوت احل� ّوام��ات والقذائف ال��ذي ي�ش ّو�ش‬ ‫على �أ�صوات املمثلني و�أدائهم‪ ،‬فيغدو الأمر‬ ‫�أ���ش��ب��ه مبهمة م�ستحيلة‪ ،‬حت��اك��ي رحلة‬ ‫العذاب اليومية التي يكابدها كل �سوري يف‬ ‫الطريق �إىل مكان عمله‪� ،‬أو ق�ضاء حاجاته‪.‬‬ ‫املحور الثالث التقطته عد�سة زياد كلوم‬ ‫�أثناء عمله مع حممد مل�ص‪� ،‬صوته ي�س�أل‬ ‫من خارج الكادر‪ ،‬وال�شخ�صيات تلتفت نحوه‬ ‫وجتيب‪ ،‬واالرجت��ال �سيد اللقطة‪ .‬ع ّينات‬ ‫خمتلفة من الب�شر‪ ،‬ممثلون وتقنيون من‬ ‫�ضمن الطاقم الفني ومل�ص نف�سه‪� ،‬أ�شخا�ص‬ ‫ع���ادي���ون ي��ت��اب��ع��ون جم��ري��ات الت�صوير‪،‬‬ ‫و�آخ��رون �ساقتهم امل�صادفة �إىل املكان‪...‬‬ ‫يف كثري من الأحيان ال ن�سمع ال�س�ؤال‪ ،‬لكن‬ ‫معظمهم يبد�أ الكالم ذاهال‪ ،‬وبقدر �شديد‬ ‫من التح ّفظ‪ ،‬ويف حلظة يك�سر خوفه‪ ،‬يبوح‬ ‫ورمبا ينتحب‪ ،‬كروان ُقتل ابنه يف املعركة‪،‬‬ ‫ويدمي قلبه �أن يهلك اجلي�ش ال�سوري نف�سه‬ ‫احلاجة النازحة �ش ّيعت �أوالده��ا‬ ‫بنف�سه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف حم�ص‪ ،‬ال�شاب فقد والده يف املعتقل‪...‬‬ ‫�سجن كبري واجلنازات ال تنتهي‪ ،‬وتقول جود‬ ‫كرثواين للعد�سة التي تتبعها وهي ت�سري‪:‬‬ ‫«و ّثقي دم�شق‪ ،‬قد حترتق غدا»‪ ...‬وحدها‬ ‫زوجة ال�ضابط تتحدث بتحد ووعيد‪ ،‬عن‬ ‫بطوالت �شريكها يف �إبادة الإرهابيني‪ ،‬وعن‬ ‫ثقتها التامة بانت�صار �أف�ضل ق��ادة العامل‬ ‫برر قتل املدنيني‪ ،‬وتدافع عن‬ ‫عليهم‪ ...‬ت� ّ‬ ‫القاتل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبني يوميات الرقيب يف الث ّكنة و�أثناء‬ ‫الت�صوير‪ ،‬كانت الأخبار املت ّلفزة على قناتي‬ ‫العربية واجل��زي��رة‪ ،‬تر�صد ع��دد القتلى‬ ‫وح��ج��م ال��دم��ار‪ ،‬بينما ك��ان��ت الف�ضائية‬ ‫متجد اجلي�ش البا�سل‪ ،‬وتدعو‬ ‫ال�سورية ّ‬ ‫ال�����ش��ب��اب ل�لال��ت��ح��اق يف ���ص��ف��وف��ه‪ ،‬لينتهي‬ ‫املحور الرابع مب�شهد اجلثث من الفريقني‬ ‫املتحاربني‪ ،‬النظامي واحلر‪ ،‬ويختم الفيلم‬ ‫تفا�صيله ب ��إع�لان �صك ال��ب�راءة م��ن كال‬ ‫الطرفني‪ ،‬منت�صرا ل�س ّلمية ال��ث��ورة‪ ،‬وحق‬ ‫ال�سوريني يف احلياة‪.‬‬ ‫ق���دّ م الفيلم وثيقة ح���ارة ع��ن حياة‬ ‫عا�صمة ّ‬ ‫حتت�ضر‪ ،‬و�أنا�س يقاومون املوت‪ ،‬يف‬ ‫م�شاهد تلقائية‪ ،‬بعيدة عن العنف الذي‬ ‫يح�صد الأرواح‪ ،‬قريبة م��ن الأمل ال��ذي‬ ‫ي�سكن القلوب‪ ،‬م�شاهد مل يمُ ار�س املخرج‬ ‫�سلطته عليها‪ ،‬ومل ي ّقحمها ب�أ�شرطة‬ ‫الفيديو امل�س ّربة عن هول ما يجري‪ ،‬بقدر‬ ‫�صب جهده‪ ،‬الالفت لالنتباه‪ ،‬على توليف‬ ‫ما ّ‬ ‫اللقطات الوثائقية‪ ،‬ور�صفها يف �سياق درامي‬ ‫ت�صاعدي‪ ،‬ي��وازي درام��ا ال��واق��ع ال�سوري‬ ‫بتجلياته املختلفة‪ ،‬فعل ذل��ك بحذاقة‬ ‫ّ‬ ‫ي�صف امل��ف��ردات يف جمل تكت�سي‬ ‫ك��ات��ب‬ ‫بالكنايات‪ ،‬وتفي�ض باملجاز املفتوح على‬ ‫الأ�سئلة والتداعيات‪.‬‬


‫العدد ‪89‬‬

‫�أيام احلداد الهادئة‬

‫�سحر مندور‬ ‫يخ ّيم الهدوء على احلياة هنا‪ ،‬يف هذه الأيام‪.‬‬ ‫ك ��أن املا�ضي القريب‪ ،‬ذاك ال��ذي مل يُنجَ ز بعد‬ ‫ليُ�س ّمى ما�ضي ًا‪� ،‬أره��ق الأع�صاب ّ‬ ‫وهد احلما�سة‪،‬‬ ‫�أع���اده���ا حت��ت ال�����س��ي��ط��رة‪ ،‬جل��م��ه��ا‪ ،‬يف مرحلة‬ ‫انتقالية ّ‬ ‫حتث خطاها نحو واق � ٍع جديد ينبثق‬ ‫من ذاك ال��ذي �سبقه‪ .‬فخ ّيم الهدوء على �أي��ام‬ ‫كتج�سيد لهذا الهدوء‪ ،‬فيها‬ ‫عيد جاءت عطلته‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ان�صراف نحو �ش�ؤون تف�صيلية يقوى امل��رء على‬ ‫الت�أثري فيها‪ ،‬بعدما ت�أكد من جديد ب�أن �أحد ًا لن‬ ‫يرتدّد يف �إراقة دمه عند خروجه عن ذلك‪.‬‬ ‫منذ قليل‪� ،‬شعرنا يف بالد ال�شام ب�أن الر�أي‬ ‫هو م�ساهمة يف �صناعة القرار‪� ،‬أي قرار‪ .‬وقد كان‬ ‫قليل فقط‪� .‬شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬واجهنا �أفولنا‬ ‫ذلك منذ ٍ‬ ‫و�صعود الوجوه املزمنة ذاتها باقرتاحات احللول‪.‬‬ ‫�شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬انقلبت ال�صورة لكن باملعطيات ذاتها‪،‬‬ ‫وال جديد حتت �شم�سنا �إال ق�صة نكتبها بال�صرب‪،‬‬ ‫وق�ص�ص نتلقاها بالظلم‪ .‬م�شهد احلرب الأهلية‬ ‫اللبنانية يكرر ختامه‪ ،‬يوم اجتمع ّ‬ ‫مهدمي الدولة‬ ‫اتفاق يف ما بينهم ّ‬ ‫ينظم وقف النار‪� .‬أن يعيد‬ ‫على ٍ‬

‫املدمّر بناء ما دمّره‪ ،‬مرة تلو الأخرى‪ ،‬هي ق�صة‬ ‫�أجنبت الكثري من الدمار‪ ،‬و�ستنجب املزيد منه ما‬ ‫ا�ستم ّرت‪ .‬فتلك و�سيلتها للبقاء‪.‬‬ ‫تراكم ولي�س مفاج�أة‬ ‫اليوم غري الأم�����س‪ ،‬وجميعنا ي�شعر بذلك‪.‬‬ ‫لكنه يو ٌم ابن ذاك الأم�س‪ ،‬حتى ولو بدا غري ذلك‪.‬‬ ‫والأم�س ال��ذي �شهد حما�ستنا للتغيري‪ ،‬ثم �أبرز‬ ‫حمدودية قدرتنا‪� ،‬إن على الت�أثري �أو يف التغيري‪،‬‬ ‫لي�س ب���دوره اب��ن ذات���ه‪ ،‬وال ه��و وليد ال�صدفة‬ ‫الفلكية‪� .‬أم�س التم ّرد هو ابن يوم �سبقه‪ ،‬وقد طال‬ ‫فيه عمر الظلم حتى تع ّنت ح ّر ًا ّ‬ ‫معتد ًا بقدرته‪.‬‬ ‫ابن عقو ٍد رُمي فيه كل �صاحب فكر �أو فكرة‪ ،‬كل‬ ‫�سجون تنفيه عن‬ ‫�صاحب ت��أث�ير �أو ق���درة‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫جمتمعه‪ ،‬جت ّرد جمتمعه منه‪ ،‬لتع ّري اجلماعة‬ ‫حتت رحمة ال�سلطة املطلقة‪ .‬والغد‪ ،‬الغد بدوره‬ ‫�سيكون ابن هذا الرتاكم‪ .‬و�سيخربنا عن ف�صول‬ ‫تراكمت‪ ،‬و�أملنا �أن نتطور خارجها مل ّرة‪ ،‬هذه املرة‪.‬‬ ‫لكن ال�سياق عاد �صراع ًا بني خ ٍري و�ش ّر‪ ،‬يف‬ ‫معادلة حكمتها الن�سبية حتى ا�ست�شرت وغابت‬

‫مالحمها الأ�صلية‪ .‬العدو بات جمرم ًا بعقيد ٍة دينية‬ ‫يعيث يف الأر���ض قت ًال ع�شوائي ًا‪ ،‬بال مطالب ّ‬ ‫تنظم‬ ‫جت�سد م�ؤامر ٍة عاملية‪،‬‬ ‫تف�سرها‪� .‬أ�ضحى ّ‬ ‫حركته �أو ّ‬ ‫مت ّولها ٌ‬ ‫دول و�أه��داف‪ ،‬ال م�ساحة‬ ‫�ضد‬ ‫أهداف‬ ‫دول ب�‬ ‫ٍ‬ ‫ل�صوت النا�س فيها �إال عند اال�ستغاثة‪ .‬بذلك‪ ،‬ي�صبح‬ ‫«اخلري» قائم ًا على التخ ّل�ص من الفو�ضى املفاجئة‬ ‫التي خلقتها‪ ،‬و«الطموح» ّ‬ ‫ي�شد نحو العودة �إىل �سابق‬ ‫احلال‪ .‬لكن العودة بالزمن م�ستحيلة‪� ،‬سيكون واقعاً‬ ‫جديد ًا ال مف ّر‪ ،‬ي�صنعه املنت�صر يف حرب بني طرفني‪،‬‬ ‫واحدهما يُلبَ�س زيّ ال�ش ّر املج ّرد مبا يتيح للثاين‬ ‫امتالك املوقع املقابل‪ ،‬خري ال�صورة‪.‬‬ ‫وبينما النا�س يعرفون �أن اخل�ير لي�س خ�ير ًا‪،‬‬ ‫تراهم يتوج�سون عن وجه حق من ال�ش ّر اجلديد‬ ‫ال���ذي ب��ره��ن ف��داح��ة �سوئه م����رار ًا‪ ،‬يف دول� ٍ��ة تلو‬ ‫الأخ����رى‪ .‬ي��ع��رف��ون �أن اخل�ير لي�س خ�ي�ر ًا‪ ،‬لكنهم‬ ‫يعرفون �أي�ض ًا �أن هذا «ال�ش ّر» ٌ‬ ‫مارق هنا‪ .‬ويعرفون �أن‬ ‫ف�صول «امل�ؤامرة الدولية» تط ّورت لتجعل املعادلة‬ ‫كذلك‪ ،‬ف ُتبقي للنا�س موقعني‪� :‬إم��ا متفرجون �أو‬ ‫�ضحايا‪ .‬متفرجون ال بد �أنهم يرتقبون هدوء احلال‪،‬‬ ‫�أو �ضحايا يُ�ستند على �أرقامهم ّ‬ ‫للحث نحو املعادلة‬ ‫اجلديدة‪ .‬كل �شيء ّ‬ ‫ي�شد بالنا�س نحو الهدوء‪� ،‬أو‬ ‫اخلمود مبعنى �أدق‪� .‬أن تخمد لتتفادى امل��وت يف‬ ‫معادلة كلها خ�سارة‪ .‬النا�س �شاهدوا كل �شيء على‬ ‫الهواء مبا�شر ًة‪ ،‬و�شاهدوا ال�صور املفربكة‪� .‬شاهدوا‬ ‫امل��وت��ى‪ ،‬و���ش��اه��دوا اخل��ط��ب��اء‪� .‬صنعوا التظاهرة‪،‬‬ ‫وع��رف��وا �إمكانيات تط ّورها‪ .‬تلك املعلومات التي‬ ‫تلقوها بكلفة عالية‪ ،‬وتلك الق�ص�ص التي �سترتاكم‬ ‫يف بيوتهم‪ّ ،‬‬ ‫�ستبدل �سلوكهم‪� ،‬ستنمو بق�صتهم نحو‬ ‫ّ‬ ‫تتمة �أخرى‪ .‬فهم يعرفون‪ ،‬مهما تكثفت اخلطابة‪،‬‬ ‫موقعهم من اجلرمية‪ .‬يعرفون �أنهم لي�سوا ال�ش ّر‬ ‫ولي�سوا اخلري‪ ،‬و�أن ال�صورة التي �ستع ّلق على جدار‬ ‫الأي��ام التالية �إمن��ا عُ ّلقت بالتفاو�ض بني طرفني‬ ‫قاتلني‪ ،‬ولي�س معهم‪.‬‬ ‫ال�سيئ والأ�سو�أ‪ ..‬وال�شعب‬ ‫تراكم الأي��ام �أو�صلنا بديهي ًا �إىل هنا‪ .‬ت�ص ّور‬ ‫البع�ض �أن للثورات ق��درة على وق��ف ال��زم��ن‪ ،‬لكن‬ ‫ات�ضح البن زمنه �أنها لي�ست كذلك‪ .‬هي انفجا ٌر طويل‬ ‫تراكمت �أ�سبابه‪ ،‬لن تكفي �إع��ادة �إعمار احلجارة‬ ‫لإخفاء ندوبه‪ .‬والندوب مل تت�ش ّكل بعد‪ ،‬ما زالت‬ ‫جراح ًا يف ّر منها الدم‪ .‬ومع �أن الوقت مبكر جد ًا على‬ ‫املبادرة نحو ت�أجيل الأمل‪ ،‬لكن وقته �سيحني عاج ًال‬ ‫غد‪ ،‬ترتاكم فيه هذه‬ ‫�أم �آج ًال‪ .‬ت�أجيل الأمل �إىل بعد ٍ‬ ‫الأيام‪ ،‬بوقائعها وذكرياتها‪ّ ،‬‬ ‫لت�شق للموتى �سياق ًا يف‬ ‫حياة بلدهم‪.‬‬

‫لقد �سمع امل��رء خ�لال ه��ذه الأي��ام عن جمزرة‬ ‫حماه التي وقعت يف الثمانينيات ما مل يُ�سمع عنها‬ ‫منذ حدوثها‪ .‬حينها‪ ،‬بقيت طي الكتمان عن �أهل‬ ‫البلد الواحد‪ ،‬مت �إخرا�سها �إىل حني حت ّولها �إىل‬ ‫ذك��رى �سحيقة‪ .‬لكن �أه��ل البلد نقلوا �إىل �سواهم‬ ‫غري ذل��ك‪ .‬نقلوا �إليهم املجزرة ك�أنها وقعت الآن‪،‬‬ ‫حت � ّررت من معتقلها لتجد يف جم��ازر اليوم �سياق ًا‬ ‫يت�سع لتفا�صيلها‪ ،‬حمطة را�سخة يف الذاكرة‪ ،‬ما زالوا‬ ‫يتعاونون على بناء �صورتها الكاملة‪ ،‬بجمع النتف‬ ‫من ذاكرة �شخ�صية و�أخرى‪ ،‬من بيت و�آخر‪ ،‬والآذان‬ ‫كلها ح�شرية‪ ،‬الآذان كلها حاجة �إىل ال�سمع‪.‬‬ ‫�سياق التاريخ بطيء‪ ،‬لكنه ّ‬ ‫يتقدم‪ .‬وال بد �أنه‬ ‫ّ‬ ‫�سيتقدم بنا‪ ،‬نحن ال�شعوب التي خرجت من بيوتها‬ ‫بعدما ا�ستفحل الظلم وطال مداه وندرت فوائده‪..‬‬ ‫هذه ال�شعوب‪ ،‬التي يُطلب منها اليوم االحتفال ب�سابق‬ ‫احل��ال بعدما خ�برت الأ���س��و�أ املمكن �إث��ره‪ ،‬الأ�سو�أ‬ ‫فراغ و�إمنا من تراكم حكم العقود‬ ‫الذي مل ي�أت من ٍ‬ ‫املا�ضية‪ .‬ت�سمعهم يحكون عن �ضرورة االختيار اليوم‬ ‫بني �سيئ و�أ�سو�أ‪ ،‬وك�أن الكيانني‪ ،‬ال�سيئ والأ�سو�أ‪ ،‬غري‬ ‫مرتابطني و�إمنا مُ�سقطان بق ّفة من ال�سماء‪ .‬يحكون‬ ‫عن �ضرورة االختيار‪ ،‬واخليار لي�س متاح ًا للواقف‬ ‫يف موقع امل�س�ؤولية املواطنية‪� :‬إم��ا �أن تقاتل هذا‬ ‫وذاك ومتوت‪� ،‬أو تنكفئ مل�صلحة هذا �أو ذاك ومتوت‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬فاخليار بني موت بطيء انتظم املجتمع على‬ ‫�إيقاعه‪ ،‬وب�ين م��وت همجي ح� ّ�ل يف حلظة ال��ذروة‬ ‫و�أطاح بكل من تواجد يف حميطه‪ .‬ال�سيئ والأ�سو�أ‬ ‫هما �شعار املرحلة‪ ،‬ول�سخرية القدر يبدو املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫التدخل‬ ‫وك��أن��ه ال�ب�ريء بينهما‪ ،‬فاقد م�س�ؤولية‬ ‫بينهما‪ ،‬الدماء التي ال يختلف خطيبان على �ضرورة‬ ‫حقنها‪ .‬وه��و فع ًال كذلك‪ ،‬هو ب��ريء من الطرفني‬ ‫املت�سلطني عليه‪ ،‬املتحاورين حوله‪ ،‬املتفاو�ضني على‬ ‫رزقه و�أيامه‪ .‬لكنه قد خرج من بيته يوم ًا مطالب ًا‬ ‫بالقليل‪ ،‬وال بد �أنه �سيخرج الحق ًا مطالب ًا بكل �شيء‬ ‫�آخر‪� .‬سيخرج‪ ،‬مت�س ّلح ًا بخرب ٍة يف التن�سيق اجلماعي‪،‬‬ ‫وي� ٍأ�س من جدوى مفاو�ضة احلاكم‪ ..‬لكن اللحظة‬ ‫لي�ست حلظة الأمل‪ ،‬وال الرهان على تراكم‪ .‬و�إمنا‬ ‫هي ا�ستمرار يف تلقي امل�صائب‪ ،‬والإنهاك يف حماولة‬ ‫التعامل معها‪ .‬هي حلظة �أق��رب �إىل حلظة املوت‪،‬‬ ‫�سيتاح للحداد �أن ّ‬ ‫يحل �إثرها‪ ،‬على عك�س ما عا�شته‬ ‫حماه‪ .‬ومن بعده‪ ،‬من بعد احلداد‪ ،‬يبنى على ال�شيء‬ ‫مقت�ضاه‪.‬‬

‫هل �سقط مئة �ألف �ضحية من �أجل «داع�ش»؟‬

‫يف مرحلة ما رمبا قبل ا�شهر �أو ا�سابيع‪ ،‬وبدون �أن يعري العامل‬ ‫انتباها وا�ضحا دخلت “الثورة ال�سورية” يف منعطف جديد‬ ‫وم�سار خطري حولها من “ثورة �شعبية من �أج��ل احلرية” �إىل‬ ‫“حرب �أهلية وطائفية” تداخلت فيها عدة جهات وتنظيمات‬ ‫�إىل حد الفو�ضى املطلقة واالنحدار ال�سريع نحو �أدنى درجات‬ ‫الأخالق الإن�سانية‪.‬‬ ‫مل يتغري �شيء على النظام ال�سوري‪ .‬انه ي�ستمر يف ارتكاب‬ ‫اجلرائم وح�صار مواطنيه وق�صفهم بالطائرات ومعاقبتهم ب�شكل‬ ‫جماعي وا�ستهدافهم طائفيا و�سيا�سيا‪ ،‬ولكنه مل يعد اجلهة‬ ‫املجرمة الوحيدة يف ال�ساحة لأن التناف�س على ه��ذا اللقب‬ ‫�أ�صبح مفتوحا و�شر�سا الآن بعد التنامي اخلطري لقوة التنظيمات‬ ‫الإ�سالمية املتطرفة و�أهمها الدولة الإ�سالمية يف العراق وال�شام‬ ‫(داع�����ش) وجبهة الن�صرة وغريها والتي ب��د�أت يف ا�ستهداف‬ ‫اجلي�ش احلر واملعار�ضة ذات الطابع ال�سيا�سي غري امل�ؤدلج‪.‬‬ ‫لقد زادت حدة وب�شاعة اجلرائم اجلماعية والفردية التي‬

‫ترتكبها التنظيمات اجلهادية املتطرفة يف �سوريا والتي بلغت‬ ‫ذروتها يف مذبحة الالذقية التي �سقط فيها حوايل ‪ 200‬قتيل‬ ‫من الطائفة العلوية يف هجوم �شنته عدة تنظيمات م�سلحة‬ ‫على القرى الواقعة يف املحافظة ووثقتها منظمة العفو الدولية‬ ‫قبل ايام‪ .‬اال�ستهداف املتكرر للمثقفني واملواطنني من ا�صحاب‬ ‫التوجهات املختلفة بات �أمرا م�ستمرا يف املناطق التي ت�سيطر‬ ‫عليها هذه التنظيمات والتي تدخل الآن يف مواجهة �ضارية مع‬ ‫تنظيمات معار�ضة �أخرى جعلت من م�س�ألة توحيد نطاق القوى‬ ‫املناه�ضة للنظام ال�سوري �أمرا �شبه م�ستحيل‪.‬‬ ‫ال تقدم التنظيمات املتطرفة لل�شعب ال�سوري �سوى الكوابي�س‬ ‫والفو�ضى العارمة‪ ،‬وبات من امل�ؤ�سف حقا �أن الت�ضحيات الهائلة‬ ‫التي قدمها ال�شعب ال�سوري يف مقاومته لبط�ش النظام �أ�صبحت‬ ‫الآن وقودا ا�ستخدمته التنظيمات املتطرفة لإحكام �سيطرتها‬ ‫على بع�ض املناطق وفر�ض توجهاتها على النا�س وحتويل حياتهم‬ ‫�إىل جحيم ال يختلف عما فعله النظام ال�سوري من قبل‪.‬‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫باتر حممدعلي وردم‬

‫من الوهم اال�ستمرار يف االعتقاد �أن ما يحدث يف �سوريا حاليا‬ ‫هو معركة بني دولة غا�شمة وثورة �شعبية بالرغم من �أن هذا هو‬ ‫ال�سبب الرئي�سي لل�صراع‪ .‬الو�ضع احلايل �أ�صبح حربا بالوكالة‬ ‫تخو�ضها عدة دول وقوى يف املنطقة والعامل با�ستخدام ال�سوريني‬ ‫واملقاتلني الأجانب و�شحن التوجهات الطائفية والعقائدية‬ ‫والتي من �ش�أنها �إ�شاعة وا�ستمرار الفو�ضى مما يحقق يف النهاية‬ ‫م�صلحة النظام الذي يك�سب ا�سرتاتيجيا من هذا ال�صراع‪.‬‬ ‫لقد خا�ض ال�سوريون معركة قا�سية من �أج��ل حقوقهم‬ ‫يف احلرية والعي�ش الكرمي والإطاحة بالنظام �أو على الأقل‬ ‫�إ�صالحه لت�أ�سي�س دول��ة دميقراطية وطنية ومدنية جلميع‬ ‫ال�سوريني‪ ،‬ولكن ت�ضحياتهم الكربى قد تذهب �أدراج الرياح �أو‬ ‫ت�صبح �أداة يف تنامي نفوذ وقوة التنظيمات الإ�سالمية املتطرفة‪.‬‬ ‫لقد ثار ال�شعب ال�سوري لأهداف نبيلة ولكن من يك�سب الثمار هي‬ ‫داع�ش و�أخواتها‪� .‬إنها م�أ�ساة ال تقل ب�شاعة عن كل ما ارتكبه‬ ‫النظام ال�سوري من جرائم بحق �شعبه‪.‬‬


‫العدد ‪89‬‬

‫‪2013-10-27‬‬

‫جماهدو �سورية‪� ..‬أحالم الو�صول �إىل ال�سلطة‬ ‫درا�سة على حلقات‬ ‫عمر كايد‬

‫حوار مع " قاعدي" مقال مهم حول تفكري ال�سلفية اجلهادية وحول دور‬ ‫القاعدة يف �سورية والفرق بني دولة اال�سالم يف العراق وال�شام وجبهة الن�صرة ‪.‬‬

‫مباذا يفكر من يفجّ ر ج�سده ب�أ�شخا�ص يعتربهم‬ ‫�أع��داء؟ ما هو امل�شهد الأخ�ير �أم��ام عينيه‪ ،‬وما هي‬ ‫�آخر فكرة طر�أت على عقله وما طبيعة الإح�سا�س يف‬ ‫قلبه؟ �أ�سئلة كثرية والإجابات قليلة‪ .‬ي�س�أل املقتول‬ ‫ملاذا «�أنا» ال�ضحية؟ ويُ�س�أل القاتل لأي هدف ي�ضحي‬ ‫ب�أغلى و�أثمن ما ميلك‪� ،‬أ�شالء روحه و�شظايا ج�سده‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫مت�شددون ومتطرفون و�إرهابيون و�أ�صوليون‪،‬‬ ‫هم‬ ‫نعوت كثرية �صارت تطلق على كل �إن�سان يحمل راية‬ ‫ويق�صر ثوبه وي�صرخ مكبرّ ًا‬ ‫�سوداء‪� ،‬أو يرخي حليته ّ‬ ‫يف �ساحات ال��وغ��ى‪ .‬املنطقة متر مبرحلة خطرة‪،‬‬ ‫انت�شرت فيها العمليات االنتحارية‪ ،‬وات�سعت رقعة‬ ‫الفو�ضى وتعاظم نفوذ تنظيم «القاعدة»‪ .‬هي لعبة‬ ‫�أ�صبح املوت فيها �أ�سهل الطرق �إىل الغاية بو�سائل ُّ‬ ‫كل‬ ‫يراها منا�سبة‪.‬‬ ‫حني و�صلت �إىل ريف دم�شق‪� ،‬أعلمت املجموعة‬ ‫التي كنت معها �أين �صحايف �أري���د �أن �أك��ت��ب بع�ض‬ ‫التقارير عن املعار�ضة ال�سورية‪ .‬ع�صر ًا ا�صطحبني‬ ‫�شابان �إىل �أح��د امل��ن��ازل‪ ،‬ك��ان هناك �أ�شخا�ص كرث‬ ‫يدخلون وي��خ��رج��ون‪ .‬ك��ان ه��ذا امل��ن��زل �أح��د غرف‬ ‫العمليات كما ب��دا يل‪ .‬مل يكرتث �أح��د ب��وج��ودي‪،‬‬ ‫جل�ست نحو �ساعة ون�صف �ساعة‪ ،‬كان رجل كثيف‬ ‫اللحية‪ ،‬ج�سده ممتلئ‪ ،‬يوزع املهمات على املقاتلني‪،‬‬ ‫رح��ب بي حني و�صلت‪ ،‬وك��ان يرحب بي بني الوقت‬ ‫والآخر حني تتاح له الفر�صة‪ ،‬وال ي�س�ألني �شيئ ًا‪...‬‬ ‫بعدها ذهبت �إىل املكان الذي كان مقرر ًا �أن �أبيت فيه‪.‬‬ ‫عند ال�ساعة اخلام�سة فجر ًا‪� ،‬أتى هذا الرجل‪،‬‬ ‫طلب مني ا�صطحابه‪ .‬يف الطريق‪� ،‬س�ألني ملاذا �سرت‬ ‫امل�سافات ال�شا�سعة و�أتيت �إىل هنا‪ ،‬قلت له �أنا �صحايف‪،‬‬ ‫و�أ�سعى �إىل تعريف النا�س مبا يجري‪ .‬كان حذر ًا‪ ،‬قال‬ ‫�إن ال�صحافيني غالب ًا ما يكونون على عالقة ب�أجهزة‬ ‫ا�ستخباراتية‪ ،‬فما الذي يثبت يل �أنك ل�ست كذلك؟‬ ‫قلت له �إما �أن تثق بي‪ ،‬و�إما �أن �أعود من حيث �أتيت‪،‬‬ ‫كما �أين وللمرة الأوىل �آتي �إىل هذه الديار وال �أعرف‬ ‫�شيئ ًا عن جغرافيتها‪ ،‬كما �أنكم ت�ستطيعون �أن ت�ضعوا‬ ‫عيني وت��أخ��ذوا احتياطاتكم‪� ،‬أن��ا ال‬ ‫ع�صابة على ّ‬ ‫�أري��د �أن �أع��رف �أ�سراركم الع�سكرية‪� ،‬أري��د معرفة‬ ‫�أ�سرار تفكريكم ور�ؤيتكم لل�صراع‪� ،‬أريد �أن �أفهم ملاذا‬ ‫تقاتلون؟ وم��ا ه��ي نظرتكم امل�ستقبلية ل�سورية؟‬ ‫�أخربته �أين دار�س لل�شريعة الإ�سالمية وعلى اطالع‬ ‫بعلومها‪� ،‬س�ألني بع�ض الأ�سئلة يف علوم ال�شريعة‪،‬‬ ‫ف�أجبته‪ .‬و�صلنا �إىل �أح��د املع�سكرات يف ب�ساتني‬ ‫ريف دم�شق‪� .‬أدركت حينها �أين و�سط �إحدى الكتائب‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬لكن مل يخطر ببايل �أن �أكون مع �إحدى‬ ‫جمموعات «جبهة الن�صرة» التي يتحدث العامل عن‬ ‫�سرية عاملها ووح�شيته‪.‬‬

‫رجل �أعزل بينكم‪ ...‬ف�ضحك �أبو مالك وقال لك هذا‬ ‫فامل�سلمون �أذلة يف ما بينهم‪ ،‬قلت له قد �أن�شر يوم ًا‬ ‫هذه احلوارات‪ ،‬قال ال ب�أ�س‪ ،‬و�أمتنى �أن تنقلها ب�أمانة‬ ‫و�صدق‪ ...‬ناق�شت �أبا مالك على مدار �أ�سبوع‪ ،‬اقرتب‬ ‫احل��دي��ث يف �أح��ي��ان كثرية م��ن املوا�ضيع احل�سا�سة‬ ‫وكاد يتجاوز اخلطوط احلمر‪ ...‬وهذه �أبرز حماور‬ ‫النقا�ش‬

‫عامل «القاعدة‬

‫كيف يتح ّول العن�صر �إىل مك ّفر لكل مغاير ومن‬ ‫ثم �إىل قاتل با�سم اهلل؟‪ .‬ما هي �أبرز اخلالفات بني‬ ‫القاعدة والتيارات الإ�سالمية؟‬ ‫هل القاعدة فكر واح��د �أم �أجنحة وم��ا �أب��رز‬ ‫اخلالفات بني ف�صائلها؟‬ ‫وكيف ي��ت��ورط ه����ؤالء بلعبة �أمم ال يدركون‬ ‫�أبعادها؟‬ ‫عماد فكر ال�سلفية اجلهادية �أو القاعدة كما‬ ‫يقول �أبو مالك هو فكرة احلاكمية التي نادى بها �سيد‬ ‫قطب و�أب��و الأعلى امل��ودودي‪ .‬هدف الإن�سان امل�سلم‬ ‫�أن ي�سعى �إىل حترير بالد امل�سلمني من امل�ستعمرين‬ ‫و�إقامة �شرع اهلل و�إر�سائه يف الأر���ض‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫«�إن احلكم �إال هلل»‪ ،‬ف ��أي ت�شريع �آخ��ر هو ت�شريع‬ ‫باطل‪� ،‬أما ال�سبيل لإقامة �شرع اهلل يف الأر���ض فهو‬ ‫ب��ر�أي �أبو مالك اجلهاد والقتال وقد �سميت �سلفية‬ ‫جهادية لأنها تتبنى اجلهاد و�سيلة للتغيري‪ ،‬فكل من‬ ‫ي�ؤمن بهذه الفكرة ي�صبح �أخ ًا لنا يف الدين‪.‬‬ ‫�أما الركن الثاين فهو الوالء والرباء حيث يعترب‬ ‫عنا�صر القاعدة �أن كل من يعتنق هدا الفكر هو �أخ‬ ‫م�سلم وال بد من مواالته ون�صرته‪ ،‬وكل من يخالف‬ ‫هذه االعتقادات فهو كافر ومرتد‪ ،‬ويجب الرباء منه‪.‬‬ ‫�س�ألته‪ ،‬عفو ًا �أبا مالك‪ ،‬لكن كيف دخلت �أنت �إىل‬ ‫عامل «القاعدة»؟ �أخ�برين �أن �صديق ًا له ا�صطحبه‬ ‫م��رات ع��دة �إىل �شيخ يدعى �أب��ا حممد يف الأردن‪،‬‬ ‫وبعدها اقتنع ب�أقواله ب ��أن غاية وج��ود الإن�سان‬ ‫على الأر����ض هي تطبيق ه��ذه الر�سالة ال�سماوية‬ ‫واالن�ضمام �إىل ه�ؤالء الإخ��وة لإقامة �شرع اهلل يف‬ ‫الأر�ض‪.‬‬ ‫ما هي الأهداف التي ت�سعون �إليها؟‬ ‫قال �أبو مالك‪� ،‬إن الهدف الأ�سا�سي هو �إقامة �شرع‬ ‫اهلل يف الأر�ض‪ ،‬لكن الأولويات تختلف من مكان �إىل‬ ‫�آخر قبل الو�صول �إىل هذا الهدف‪ .‬فقد يكون الهدف‬ ‫طرد امل�ستعمر كما بد�أ يف الثمانينات يف �أفغان�ستان مع‬ ‫املقاتلني العرب‪ ،‬وقد يكون الهدف ا�ستهداف امل�صالح‬ ‫الأجنبية كما بد�أ الأم��ر يف اليمن �إب��ان الت�سعينات‬ ‫من تفجري للمدمرة كول عام ‪ 2000‬وتفجري ناقلة‬ ‫فرن�سية ع��ام ‪� 2002‬إ�ضافة �إىل ا�ستهداف �سياح‬ ‫بريطانيني و�أ�سرتاليني يف �أب�ين ع��ام ‪ ،1998‬وقد‬ ‫�أبو مالك يف بالد ال�شام‬ ‫اع�ترف يل �أب��و مالك �أن��ه �أح��د �أم���راء جبهة يكون الهدف هو ال�سيطرة على بع�ض املناطق‪ ،‬لإيجاد‬ ‫الن�صرة‪ ،‬يف بالد ال�شام‪ .‬كنت �شغوف ًا بالتعرف �إىل قاعدة لالنطالق و�أماكن للتدريب والتجنيد‪ ،‬كما هي‬ ‫ه ��ؤالء النا�س عن كثب‪ ،‬لكن يف الوقت نف�سه كان احلال يف �أفغان�ستان مع طالبان والقاعديني العرب‪.‬‬ ‫اجلميع ك ّفار؟‬ ‫ي�ساورين قلق ره��ي��ب‪ .‬طلبت منه مقابلة م�صورة‬ ‫ال��ي��ه��ود وال��ن�����ص��ارى وال��ب��وذي��ون والي�ساريون‬ ‫فرف�ض لأ���س��ب��اب �أم��ن��ي��ة‪ ،‬ق��ال نحن ال نظهر على‬ ‫الإع��ل�ام‪ ...‬فقلت‪ ،‬ال ب��أ���س‪ ،‬نتحاور �إذن‪� ،‬أري��د �أن والعلمانيون وال��ق��وم��ي��ون ه��م ك��اف��رون ب���ر�أي �أب��ي‬ ‫�أفهم كيف تفكرون‪� ،‬أري��د �أن �أناق�شك ب�شكل وا�ضح مالك وال نقا�ش يف ذلك‪� .‬أما بالن�سبة �إىل الطوائف‬ ‫و�صريح‪ ،‬لكن يجب �أن تعطيني الأم��ان فما �أنا �سوى الإ�سالمية فال�شيعة كفرة وكذا الدروز‪ ،‬ويف ما يتعلق‬

‫بال�سنة‪ ،‬ف�إن كل من ي�شارك يف العملية الدميوقراطية‬ ‫والت�شريعات املدنية هو كافر‪ ،‬وكل من ينتخب نواب‬ ‫الأمة هو كافر‪ ،‬وكل من ال يك ّفر من ينتخب هو كافر‪،‬‬ ‫ودليله على ذلك‪ :‬قول اهلل تعاىل‪ :‬ومن مل يحكم مبا‬ ‫�أنزل اهلل ف�أولئك هم الكافرون‪.‬‬ ‫فقلت له يا �أبا مالك‪� ،‬أمام هذه النظرية‪ ،‬ف�إن كل‬ ‫من هو خمالف لفكركم هو كافر‪ .‬وال يبقى �أحد م�ؤمن ًا‬ ‫على ظهر الأر���ض �سواكم والر�سول �صلى اهلل عليه‬ ‫و�سلم حدثنا �أنه �سيكاثر ب�أمته الأمم يوم القيامة‪،‬‬ ‫فقال �أبو مالك‪� :‬سي�أتي يوم يعود فيه كل النا�س �إىل‬ ‫الإ�سالم ال�صحيح‪ ،‬حني تعود اخلالفة �إىل الأر�ض‪.‬‬ ‫ا�ستطردت يف النقا�ش قلي ًال معه حول �ضوابط‬ ‫التكفري‪ ...‬وب�صراحة بد�أ القلق يت�سلل �إىل داخلي‬ ‫خ�شية �أن ي�����ص��در ع��ل��ي ح��ك��م بالتكفري يف نهاية‬ ‫املطاف‪ ...‬فبالطبع لن يتوافق كالمي مع كالمه‪...‬‬ ‫هنا عدت و�أخذت ميثاق ًا من �أبي مالك بـ «�أن يف�سح‬ ‫�صدره يل‪ ،‬حتى لو وقعت يف الكفر‪ ،‬فما �أنا �سوى طالب‬ ‫علم �أ�سعى �إىل معرفة املزيد عن حقائق ديني»‪.‬‬ ‫ف�ضحك �أب��و مالك‪ ،‬وق��ال ال حت��زن �أيها ال�صحايف‪،‬‬ ‫فديننا يدعو النا�س �إىل اهلل بالتي هي �أح�سن‪...‬‬ ‫فقلت بالتي هي �أح�سن! فماذا تقول عن �صور القتل‬ ‫ال�شنيعة التي ت�ضج بها مواقع التوا�صل االجتماعي‪،‬‬ ‫م��ن ق��ط��ع ل��ل��ر�ؤو���س و�أك����ل ل��ل��ق��ل��وب‪ ...‬ف��ق��ال ه��ذا‬ ‫ا�ستثناء وت�صرفات �شاذة وال يتفق عليها كل تيارات‬ ‫«القاعدة»‪ ،‬و�س�أف�صل لك احلديث يف ما بعد‪ .‬قلت له‬ ‫�سنناق�ش هده النقطة بالتف�صيل لكن بعد �أن �أنتهي‬ ‫من مو�ضوع التكفري‪ ،‬لأنه مو�ضوع خطري‪ ،‬وعليه تبنى‬ ‫الكثري من الأحكام وال�سلوكات الغريبة‪.‬‬ ‫قلت له لن�ضع �أو ًال بع�ض ال�ضوابط قبل اخلو�ض‬ ‫يف امل��و���ض��وع‪ ،‬ق��ال ال��ر���س��ول(���ص)‪ :‬م��ن ك ّفر م�ؤمنا‬ ‫فقد كفر‪ .‬ويف هذا حتذير كبري للرتيّث قبل تكفري‬ ‫�أي �إن�سان‪ .‬وقلت له �إن املعلومات التي ا�ستقيتها‬ ‫من درا�ستي لل�شريعة الإ�سالمية يف الأزه��ر تقول‬

‫�إن كلمة الكفر التي وردت يف ال��ق��ر�آن والأح��ادي��ث‬ ‫ال�شريفة ال تعني مبعظمها اخل���روج م��ن امل��ل��ة‪ ،‬بل‬ ‫هناك كفر دون كفر‪...‬فقد قال الر�سول(�ص)‪ :‬ال‬ ‫يزين الزاين حني يزين وهو م�ؤمن‪ ...‬فالزنا بالطبع‬ ‫لي�س خم��رج� ًا للإن�سان م��ن ال��دي��ن ب��ل ه��و مع�صية‬ ‫فاملق�صود لي�س مب�ؤمن �أي لي�س مكتمل الإمي���ان‪...‬‬ ‫وقال الر�سول(�ص)‪ :‬العهد بيننا وبينكم ال�صالة فمن‬ ‫تركها فقد كفر‪ ،‬وقال من حلف بغري اهلل فقد �أ�شرك‪،‬‬ ‫فهذا كله كما يقول علماء ال�شريعة الكبار كفر‬ ‫دون كفر وال يخرج من امللة‪ .‬فالبخاري عنون �أحد‬ ‫مباحث كتاب ال�صحيح‪ :‬باب كفر دون كفر‪ .‬وهذا‬ ‫الكفر ي�سمى كفر املع�صية ولي�س كفر العقيدة وال‬ ‫يخرج من امللة‪ ،‬بل �سمي كفر ًا لرتهيب الإن�سان امل�ؤمن‬ ‫وتخويفه حتى ال يتجاوز ويقع يف كفر العقيدة‪ ،‬لأن‬ ‫هذه املعا�صي �إن مل يتنبه �إليها الإن�سان فقد ت�صل به‬ ‫�إىل الكفر الأكرب‪.‬‬ ‫قلت له‪� :‬إن علماء التف�سري قالوا �إن الكفر الذي‬ ‫ورد يف الآية‪« :‬ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك‬ ‫هم الكافرون»‪ ،‬هو كفر دون كفر ولي�س كفر ًا خمرج ًا‬ ‫من امللة‪ .‬لأن اهلل قال ومن مل يحكم مبا �أن��زل اهلل‬ ‫ف�أولئك هم الفا�سقون‪ .‬فقاطعني �أب��و مالك‪ ،‬وقال‬ ‫يل‪ ،‬لكن �إن كان يعتقد �أن ال�شرع املدين هو �أف�ضل من‬ ‫�شرع اهلل فهذا كفر �صريح‪ ،‬قلت له �س�أ�سلم لك بهذا‪،‬‬ ‫ولكن كيف تعرف حقيقة اعتقاده‪ ،‬طاملا �أن االعتقاد‬ ‫هو قناعة موجودة يف العقل والقلب‪ ،‬كيف �ستك�شف‬ ‫عن قلبه‪ .‬وقلت له حتى لو كان الأمر كما تقول فهو‬ ‫مو�ضوع خاليف‪ ،‬وال يجوز �أن تكفر �إن�سان ًا �إال �إذا خالف‬ ‫�أم���ر ًا قطعي الثبوت وال��دالل��ة‪� .‬إ�ضافة �إىل ذلك‪،‬‬ ‫فالر�سول يقول «من قال ال �إله �إال اهلل دخل اجلنة»‬ ‫�أال تكفي كلمة التوحيد للع�صمة من الكفر‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫�أن الكثري من النا�س عوام ولي�سوا مطلعني على فكر‬ ‫ال�شريعة وتفا�صيلها‪ ..‬يتبع‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.