العدد 99
2014-1-5
للمرا�سلةinfoshrara@gmail.com :
العدد 2014/1/11 -1/5 99
ما يتوجب على املعار�ضة فعله يف جنيف
ــــــــــــــ فردريك �س .هوف ـــــــــــــــــــــ ترجمة� :أحفاد الكواكبي
�إذا قدمت املعار�ضة ال�سورية مل�ؤمتر جنيف الثاين املحدد عقده يف ٢٢يناير ٢٠١٤ اقرتاح ًا معقو ًال عن حكومة انتقالية بديلة عن نظام الأ�سد ،ميكن عندها �أن ي�ساهم امل�ؤمتر يف �إنهاء حكم العائلة الفا�شية الوح�شية ل�سورية.
�إذا قدمت املعار�ضة ال�سورية مل�ؤمتر جنيف الثاين املحدد عقده يف ٢٢يناير ٢٠١٤اقرتاح ًا معقو ًال عن حكومة انتقالية بديلة عن نظام الأ�سد ،ميكن عندها �أن ي�ساهم امل�ؤمتر يف �إنهاء حكم العائلة الفا�شية الوح�شية ل�سورية. و�إن تقدمت املعار�ضة بالئحة وح��دة وطنية تت�ضمن �أ�سماء ب��ارزه تت�ضمن علويني خدموا بكفاءة و�إخ�لا���ص يف مراتب مدنية وع�سكرية عالية ،لرمبا تطلق بذلك تفكيك ًا �سريع ًا لنظام د ّمر �سورية ومل يجلب �سوى امل�آ�سي والأحزان والآالم لكل ال�سوريني ،مبا فيهم املجموعة التي ينحدر منها. حالي ًا ميتطي نظام الأ�سد امليلي�شيات امل�شكلة واملدعومة من قبل �إيران �إىل �سل�سلة من االنت�صارات التكتيكية �شمايل دم�شق .فقد تكبدت القوات ال�سورية املوالية للنظام –والتي تتكون غالبيتها من العلوييني– خ�سائر فادحة خالل العامني املا�ضيني ،و�أنهكت بع�ض وحداتها. وحتتاج طهران �إىل ع�شرية الأ�سد-خملوف للحفاظ على خيار ردع ا�سرتاتيجي يف لبنان �ضد �إ�سرائيل (حزب اهلل). ولكن �ضمن �صفوف الطائفة العلوية هناك ت�سا�ؤالت مكروبة عن حجم الت�ضحيات التي قدمتها وعن املعاناة التي
حممد اخلطيب
ال تزال تطلب منها للحفاظ على العائلة احلاكمة وموظفيها. �إن ع��دم وج��ود بديل ج� ّ�ذاب وذي م�صداقية هو كل ما يربط هذا املجتمع (وبع�ض الأقليات الأخرى) بالنظام. ويف جنيف ميكن للمعار�ضة ال�سورية �أن تخفف وط�أة تلك القيود .فهل �ستفعل ذلك؟ لي�ست هناك �أر�ضية للتفا�ؤل .االئتالف الوطني ال�سوري ميتلك جذور ًا يف الداخل هي �ضحلة يف �أح�سن الأحول ،وقد ُ�س ّمي هذا االئتالف ممث ًال �شرعيا لل�شعب ال�سوري ،ويعترب من قبل �أولئك الذين يدعون �أنف�سهم �أ�صدقاء ال�شعب ال�سوري قائد ًا مركزي ًا للوفد ال�سوري �إىل جنيف ،دون �أن يتلقى الدعم الذي يحتاجه لإقامة بديل للحكومة داخل �سورية. و ميكن تفهم �أن االئتالف ،وبح�سا�سيته التهامات بعدم اجل��دوى والتق�صري واخللل وعدم احرتامه من قبل الغرب، غري راغب يف املخاطرة بطرح قائمة حكومة انتقالية قد تثري غ�ضب النا�شطني داخل �سورية والذين حتملوا العبء الأكرب من وح�شية النظام. التتمة �صفحة..2 ..
حلب :جي�ش املجاهدين ..موعد مع ال�صحوة
يف ظ� ّ�ل التحالفات الع�سكرية وتباينات امل��واق��ف التي ت�شهدها املعار�ضة امل�سلحة يف �سوريا� ،إ�ضافة �إىل التقهقر الذي ت�شهده جبهات حلب وحالة املد واجلزر بني الف�صائل امل�سلحة وقوات النظام� ،أعلنت كتائب وف�صائل ع�سكرية معار�ضة يف حلب م�ساء اخلمي�س عن ت�شكيل
حتالف ع�سكري جديد ،ي�ضم ع��دد ًا من �أب��رز الت�شكيالت املقاتلة يف حلب وريفها الغربي، وذلك حتت م�سمى "جي�ش املجاهدين". التحالف اجلديد ي�ضم ثمانية ف�صائل تعمل يف حمافظة حلب� ،أبرزها جتمع �ألوية "فا�ستقم كما �أمرت" وهي جمموعة من الكتائب تنت�شر
يف اجلزء الغربي من مدينة حلبً � ، إ�ضافة �إىل كتائب "نور الدين الزنكي الإ�سالمية" املتواجدة يف الريف الغربي حللب والتي كان لها دور بارز يف معركة خان الع�سل .كما ي�ضم ف�صائل �أخرى مثل حركة النور الإ�سالمية ول��واء الأن�صار ولواء �أجم��اد الإ���س�لام .وتغلب ال�صفة "الإ�سالمية املعتدلة" على معظم الف�صائل املن�ضوية حتت الت�شكيل اجلديد ،والذي �أ�صبح القوة الع�سكرية الأكرب يف حلب بعد "اجلبهة الإ�سالمية". ي����أت���ي الإع���ل��ان ع���ن ت�����ش��ك��ي��ل "جي�ش املجاهدين" ،ب��ع��د اح��ت��ق��ان ���ش��ه��دت��ه ب��ل��دة "الأتارب" يف ريف حلب الغربي ،بني الكتائب والف�صائل املعار�ضة يف البلدة من جهة و"الدولة الإ�سالمية يف العراق وال�شام" من جهة �أخرى، وك��ذل��ك ب��ع��د اخ��ت��ط��اف ق��ائ��د ل���واء "�شهداء الأتارب" ومعه قائد كتيبة "�أحرار الأتارب" والعثور على جثة (علي عبيد) قائد �أح��دى جمموعات اجلي�ش احلر ،بالقرب من البلدة. يف �صبيحة اليوم التايل لإع�لان ت�شكيل "جي�ش املجاهدين" ،انفجر الو�ضع متام ًا بعد ���ص�بر ط��وي��ل ل��ه��ذه الف�صائل ع��ل��ى مم��ار���س��ات "الدولة الإ�سالمية"� ،إذ متكنت من طرد مقاتلي
التنظيم من بلدة "الأتارب" و�أ�سرت 15عن�صر ًا منهم ،بينهم �أمري التنظيم يف الأت��ارب� ،إ�ضافة �إىل ال�سيطرة على مناطق عديدة يف ريف حلب الغربي ،بالتزامن مع اندالع ا�شتباكات يف مناطق �أخرى من حلب وريف �إدلب. الت�صعيد بدا وا�ضح ًا �أو على الأرج��ح كان هو الهدف بعد الإع�لان عن الت�شكيل� ،إذ اتهم "جي�ش املجاهدين" يف �أول بيان له "الدولة الإ�سالمية" با�ستغاللها "ان�شغال املجاهدين ال�����ص��ادق�ين ع��ل��ى ج��ب��ه��ات القتال" م��ن �أج��ل "الإف�ساد يف الأر�ض ون�شر الفنت وزعزعة الأمن واال�ستقرار يف املناطق املحررة". كما اتهمها ب�سرقة املعامل و�سيارات املدنيني و�أرزاق���ه���م بحجج "تافهة" وخ��ط��ف ال��ق��ادة الع�سكريني والإع�لام��ي�ين وقتلهم وتعذيبهم ورف�ضهم "االحتكام ل�شرع اهلل" ،معلن ًا البدء يف ق��ت��ال "الدولة" حتى تعلن ّ "حل نف�سها واالنخراط يف �صفوف الت�شكيالت الع�سكرية الأخرى" �أو" تركهم �أ�سلحتهم واخل���روج من �سوريا". التتمة يف ال�صفحة ...2 ..
العدد 99
حممد اخلطيب
2014-1-5
تتمة:جي�ش املجاهدين ..موعد مع ال�صحوة
ٌ القيادي يف "جي�ش املجاهدين" طلب يقول عدم الك�شف عن ا�سمه �أو الف�صيل الذي يتبع له، �إن الهدف من ت�شكيل جي�ش املجاهدين يف الوقت احلايل هو "و�ضع حد لتدهور الأو�ضاع الذي و�صل له احل��راك الع�سكري يف حلب" ،م�ضيف ًا �أن �أول عملية ع�سكرية له �ستكون "حترير حلب وباقي حمافظات �سوريا من تنظيم "الدولة الإ�سالمية" الذي اعتدى على احلرمات ،وقام بفتح معارك مع اجلي�ش احلر بد ًال عن حماربة النظام". لي�ست "الدولة" ه��ي وح��ده��ا ال�سبب يف تراجع العمل الع�سكري يف حلب� ،إذ �أن هناك العديد من الف�صائل امتهنت ما يطلق عليه يف حلب و�سوريا عموم ًا "الت�شويل"� ،أي ال�سطو امل�سلح ،ويف هذا اخل�صو�ص �أو�ضح القيادي قائ ًال �إن��ه "�ستتم حما�سبة جميع الف�صائل امل�سيئة للثوار". وعن م�س�ألة املحاكم ال�شرعية التي امتلأت بها ح��ل��ب ،ق��ال ال��ق��ي��ادي �إن���ه �سيجري العمل على تنظيم املحاكم من جديد ،باال�شرتاك مع الف�صائل الع�سكرية الأخرى. التوقعات عن تبعية "جي�ش املجاهدين" رجحت �أن تكون لهيئة �أرك��ان اجلي�ش ال�سوري احل��ر ،وال �س ّيما �أن��ه مل ين�ضم مث ًال لـ"اجلبهة
الإ�سالمية" .ينفي القيادي �أن تكون هناك عالقة بني "جي�ش املجاهدين" وهيئة الأركان يف الوقت احلايل ،ملمح ًا �إىل �أنه يجري العمل مع ف�صائل �أخرى ،لت�شكيل ج�سم ع�سكري موحد يف �سوريا وبقيادة واحدة. و�إ�ضافة �إىل التوقعات ب��رزت ت�سا�ؤالت عديدة� ،أكرثها �إحلاح ًا كان ما هو ال�سبب وراء عدم ان�ضمام الت�شكيل �إىل اجلبهة الإ�سالمية التي تعد قوة كربى يف حلب .ويف هذا اخل�صو�ص يذهب مراقبون للو�ضع يف حلب للقول �إن خالف ًا، على م��ا ي��ب��دو ،يف وج��ه��ات النظر ب�ين "جي�ش املجاهدين" و"اجلبهة الإ�سالمية" منع الف�صائل املن�ضوية حتت "جي�ش املجاهدين" من االن�ضمام �إىل "اجلبهة الإ�سالمية". وت��ذه��ب �آراء �أخ���رى �إىل �أن ع��دم قيام "اجلبهة الإ�سالمية" باحل�سم يف م��ا يخ�ص �اف مو�ضوع "الدولة الإ�سالمية" ه��و �سبب ك� ٍ لعدم ان�ضمام ف�صائل الت�شكيل اجل��دي��د �إىل "اجلبهة" التي ي�ؤخذ عليها ت�صرفها بحذر مع تلك اخلالفات "حقن ًا للدماء" كما كانت احلجة أحيان كثرية كانت حتاول التو�صل �إىل دوم ًا ويف � ٍ امل�صاحلة مع "الدولة الإ�سالمية". ويظهر ه��ذا اخل�لاف يف وجهات النظر من
خ�لال ب��ي��ان "جي�ش املوحدين" احل��ا���س��م وما حلقه من بيانات لت�شكيالت �أخ��رى �أبرزها كان "جبهة ثوار �سوريا" ،الذي قال املتحدث با�سمها يف ت�صريحات �إعالمية �إنهم تن�سق مع "جي�ش املجاهدين" ملحاربة "الدولة الإ�سالمية" التي و�صفها "باخلنجر يف خا�صرة الثورة ال�سورية".
�إذ ًا تبدو حلب على موعد مع �أحداث كثرية ه��ذا ال��ع��ام ،ل��ن يكون الت�صعيد �ضد "الدولة الإ�سالمية" ���س��وى �أوىل ب���وادره���ا ،فهناك جولة للنظام حتم ًا ،كما �أن احلادثة الأخرية وال�صحوة �ضد "الدولة" قد تعيد خلط الأوراق على ال�صعيد ال�سيا�سي.
تتمة:ما يتوجب على املعار�ضة فعله يف جنيف
و كمثله من الأح��زاب ال�سيا�سية يف كل مكان ،يجب �أن يهتم االئتالف بقاعدته ،ولكن للأ�سف ولأ�سباب لي�ست كلها من �صنع يديه ال يتمتع االئتالف الوطني ال�سوري ب�أية قاعدة �شعبية. وقد �أب��رزت الأح��داث الأخ�يرة مدى تهمي�ش التيار الوطني ال�سوري اجلدير ب��االح�ترام يف املعار�ضة ،وي�شهد بذلك قيام الواليات املتحدة بتعليق امل�ساعدات غري الف ّتاكة للجي�ش ال�سوري احل��ر ،فهناك مقاتلون تابعون جلبهة �إ�سالمية ،وه��ذه ت�شكلت م ��ؤخ��ر ًا من جمموعات �إ�سالمية معار�ضة لنظام الأ���س��د وغري مرتبطة بتنظيم القاعدة ،كانوا قد �سيطروا على بع�ض املعدّ ات غري الفتاكة التي زودت بها الواليات املتحدة اجلي�ش ال�سوري احل��ر ،وه��ذا يعني �أن �أف��راد اجلبهة الإ�سالمية يتناولون الآن وجبات طعام جاهزة ويتوا�صلون مع بع�ضهم البع�ض با�ستخدام معدات دفع ثمنها دافعو ال�ضرائب يف الواليات املتحدة. كما �أن اللواء القدير �سليم �إدري�س ،والذي �أرادت الواليات املتحدة �أن مير عربه كل الدعم من �أ�سلحة ومعدات للمعار�ضة ال�سورية امل�سلحة، �شهد القوات التي كان ي�أمل بقيادتها تغادر اجلي�ش احلر �إىل الت�شكيالت الإ�سالمية التي يغدق عليها داعموها الأ�سلحة والذخرية واملال والطعام واملعدات الطبية و�أجهزة الراديو وال�شاحنات ال�صغرية. لقد انتهى عملي ًا املجل�س الع�سكري التابع لالئتالف ،ومل يعد هناك دور فعلي للوحدات املختلفة من اجلي�ش ال�سوري احلر املرتبطة ب�شكل ف�ضفا�ض مع ذلك املجل�س. يف جوهره ،يعني هذا الو�ضع �أن �إدارة �أوباما قد متيل الآن للتخلي عن تظاهرها الأخرق بدعم املجل�س الع�سكري الأعلى ،هذا الدعم الذي مل ي� َ �رق �إىل �أي��ة درج��ة مهمة ،على الرغم من النوايا احل�سنة لوزير اخلارجية جون كريي ومن العمل ال�شاق لبع�ض عنا�صر الواليات املتحدة. وحتى �إن ر�أت الإدارة الأمريكية الآن �أن ا�ستمرار نظام الأ�سد و�صعود الإ�سالميني يف املعار�ضة امل�سلحة هي تطورات تهدد اال�ستقرار الإقليمي، وبالتايل م�صالح الواليات املتحدة ،ف�إن كيان ًا خ�ضع لتجويع تدريجي حتى املوت –ولكن مع جرعات دوري��ة �إنقاذية غري فعالة– �سيكون �إحيا�ؤه حتدي ًا عملياتي ًا من املرتبة الأوىل ،ورمبا يكون هذا جهد ًا جيد ًا ي�ستحق الأخذ به ولو كان ال�سبب الوحيد �ضعف الت�أييد ال�شعبي لأ�شكال الإ�سالم ال�سيا�سي الواقعة خارج نطاق الإخوان امل�سلمني. ولكن القيام مبا كان ينبغي القيام به عام � 2012أ�صعب بكثري الآن عام .2013وي�أتي كل ذلك على ح�ساب الفئات ال�ضعيفة من ال�سكان يف �سورية.
لن ت�أرق �إدارة �أوباما لتهمي�ش العنا�صر امل�سلحة التي دعمتها ،ب�شكل غري فعال على �أي حال .ولكن ما الذي يجب القيام به حيال جنيف؟ منذ �أيار ،2013كانت الواليات املتحدة هي القوة الدافعة لعقد جنيف2؛ وقد ت�سارع دفعها يف �أعقاب اتفاق الأ�سلحة الكيميائية ،الذي �أعطى نظام الأ�سد وم�ؤيديه اخلارجيني يد ًا حرة تفعل ما تريد باملدنيني ال�سوريني، طاملا �أنها لن ت�ستخدم ال�سالح الكيميائي .بالطبع تعرت�ض الإدارة الأمريكية على هذا التو�صيف. ولكن �أين �أختفى التهديد احلقيقي بالقوة الع�سكرية الذي وعدت الإدارة الأمريكية ب�إبقائه خالل عملية نزع ال�سالح الكيميائي؟ من وجهة النظر الأمريكية الر�سمية ،جنيف هو املكان ال��ذي �سيتم فيه تفعيل االنتقال ال�سيا�سي يف �سورية ،من حكم العائلة الفا�سدة الوح�شية �إىل �شيء �أف�ضل؛ ومبعنى �آخر ،جنيف هو املكان الذي �ستنت�صر فيه ورقة الكيمياء الدبلوما�سية على ما يحدث على �أر�ض الواقع. ويبدو �أن هناك �أمر ًا بارز ًا يعرقل بعناد تلك الكيمياء الديبلوما�سية: �إيران ورو�سيا تدعمان وبقوة ذلك النظام ،والذي حر�ضت ا�سرتاتيجيته الطائفية الفا�ضحة على النمو ال�سرطاين ملعار�ضة �إ�سالمية م�سلحة عنيفة. هذه املعار�ضة ،يف املقابل ،تدفع من �ساحة املعركة وت�سقط الأهمية ال�سيا�سية لأي �شيء تفوح منه رائحة االعتدال والوطنية الالطائفية وقيم املجتمع امل��دين ،وهي قيم يريد معظم ال�سوريني �أن تنعك�س يف حكمهم� .إذا كان الهدف يف جنيف تقوي�ض ال�سبب امل�سبّب لدمار �سورية – وهو نظام الأ�سد– من خالل تقدمي بديل يقبله الذين ي�صونون ويدعمون ذلك النظام ،فقط لأن الإ�سالم املتطرف يبدو �أنه البديل الآخر ،فمن هو الذي �سيقدم هذا البديل؟ هل هم ذوو امليول ال�سيا�سية املعتدلة ،الذين جعلهم ف�شلهم يف ح�شد الدعم الفعال من الغرب ويف التجذر داخل �سورية يهيمون للأ�سف على غري هدى ويفقدون امل�صداقية؟ �أم �أولئك الذين قرروا حماربة النظام با�سم الإ�سالم دون انتظار �إ�شارة من وا�شنطن؟ تلك هي املع�ضلة التي �أوقعت �إدارة �أوباما نف�سها فيها ،فهي ترى الآن �أنه كي يقوم م�ؤمتر جنيف ٢بوظيفة االنتقال ال�سيا�سي املطلوب ف�إن على الإ�سالميني غري املرتبطني بالقاعدة �إما �أن ي�أتوا ب�أنف�سهم �إىل �سوي�سرا �أو �أن يفوّ�ضوا الآخرين للقيام بذلك ولو�ضع الئحة ت�ضم �أ�سماء �أع�ضاء هيئة احلكم االنتقايل الذي دعا �إليه البيان اخلتامي جلنيف( ١حزيران )٢٠١٢على طاولة املفاو�ضات يف جنيف.
ــــــــــــــ فردريك �س .هوف ـــــــــــــــــــــ ترجمة� :أحفاد الكواكبي
وهذا يحتم على اجلبهة الإ�سالمية �أن توافق على �إقناع العلويني وامل�سيحيني وغ�يره��م (وخا�صة �أول�ئ��ك ال��ذي��ن تقاتلهم يف الأج�ه��زة الأمنية) ب�أن االنتقال ال�سيا�سي يف البالد لن يُقاد من قبل الإ�سالميني ،وال من قبل االئتالف الوطني ،وبالت�أكيد وال من قبل تنظيم القاعدة ،ولكن من قبل الذين جنحوا يف خدمة �سورية ب�شكل الئق دون �أن يلوّثوا �أنف�سهم بالدماء ،ودون �أن يرثوا �أنف�سهم بالف�ساد �أو يحطوا منها بالإجرام. بالن�سبة لإدارة �أوباما ،هذا تطور غري مريح للأمور ،وهي ترى �أن النهاية املثلى هي مغادرة العائلة اجل�شعة احلكم ،ثم ان�ضمام القوات امل�سلحة احلكومية واملعار�ضة مع ًا للق�ضاء على وجود تنظيم القاعدة يف �سورية. الإدارة الأمريكية ت��رى الو�ضع احل��ايل للنظام على درج��ة من اله�شا�شة مت ّكن من جلبه �إىل نقطة االنهيار ،ولكن فقط �إذا ك��ان من �ش�أن املعار�ضة �أن تتوحد يف جنيف حول اقرتاحات معقولة لالنتقال ال�سيا�سي .غري �أن على �إدارة �أوباما �أن تعتمد الآن على قيام حتالف الإ�سالميني بطرح� ،أو ب�إعطاء التفوي�ض لآخرين من �أجل طرح ،جدول للحكم االنتقايل من �ش�أنه �أن يطمئن �أل� ّد �أع��داء الإ�سالم ال�سيا�سي يف �سورية. لي�س هذا بالأمر الذي ت�ستطيع الإدارة الأمريكية متريره ب�سهولة. فالإدارة التي تخلت عن املعار�ضة الوطنية ال�سورية قد تكون قليلة �أو معدومة الرغبة بالتوا�صل والتحاور مع الإ�سالميني. وكالعادة ،يف ال�سياق ال�سوري ،لي�س هناك �إجابات �سهلة �أو حلول �سحرية :ال�سعي �إىل احل��وار مع الإ�سالميني غري املرتبطني بتنظيم القاعدة؟ ً تقبل ا�ستمرار حكم �سورية من قبل ع�صابة القتل الغارقة عميقا يف جرائم حرب وجرائم �ضد الإن�سانية؟ تهنئة الذات بتطهري �سورية من ال�سالح الكيماوي ،مع الوقوف جانب ًا بينما حترتق �سورية وي�صرخ �أبنا�ؤها رعب ًا؟ �إن بقاء النظام ي�ضمن ان�ع��دام �أي م�ستقبل متح�ضر ل�سورية. فالع�صابة احلاكمة لي�ست بدي ًال عن الإ�سالم ال�سيا�سي يف �سورية ،بل هي حمفز التمزق الطائفي و�سبب وجود تنظيم القاعدة مبا ي�ضمه من مقاتلني �أجانب .نهج الإدارة الأمريكية لتغيري هذا النظام عرب جنيف مقامرة �صعبة ،ومع ذلك فال يوجد لديها خيار �آخر �سوى اللعب بالأوراق التي قطعتها لنف�سها.
العدد 99
جاد الكرمي جباعي ال �ق��ادرون على ال��ر�ؤي��ة م��ن ال�سوريني ي��رون وطنهم يتال�شى ،مدنهم وبلداتهم وقراهم ومزارعهم تدمر ،بكل �صنوف الأ�سلحة املحللة «دولي ًا» واملحرمة «دول�ي� ًا» ،وال حول لهم وال ط��ول .كل �سورية ،ممن تبقني ،م�شروع قتيلة �أو معتقلة �أو نازحة �أو مهجرة �أو ...وكل �سوري ،ممن تبقوا ،م�شروع قتيل �أو معتقل �أو نازح �أو مهجر� ،أو ...الفراغ لي�س الذي ال يقال، ب��ل �سدمي وع�م��اء ،يبتلع ك��ل م��ا ه��و حم��دد ومعني، كل ما له معنى ،وكل ما له قيمة ،وكل ما هو حي. الفراغ موت املوت� ،أو حياة ت�شبه املوت .ما جريرة من ع َّرفوا �أنف�سهم ب�أنهم �سوريون غري �أنهم ثاروا على «نظام معمول للبهائم» ،وخمتوم بختم املن�ش�أ ،الذي �أنتجه؟! هذا النظام عزيز جد ًا على الرو�س والإيرانيني وباعة املقاومة ،وعلى دول ثورية بعيدة .وعزيز على الأمريكيني والأوروب�ي�ين و�إ�سرائيل خ�صو�ص ًا، وع�ل��ى ب��اع��ة احل��داث��ة وال��دمي��وق��راط�ي��ة وحقوق الإن�سان وحماية الأقليات .كلهم يعملون لإنقاذه. «�أ�صدقاء ال�شعب ال�سوري» ميدون «املعار�ضة» ببع�ض ال�سالح ،و�أ�صدقاء ال�سلطة ال�سورية ميدونها بكثري من ال�سالح .لقليل ال�سالح وك�ث�يره ،قدميه وحديثه ،النتيجة ذات�ه��ا :قتل �سوريني وتدمري م ��دن وب��ل��دات وق ��رى وم � ��زارع ،م��دار���س ومعاهد وم�شاف وم�ستو�صفات و�آث ��ار ومتاحف وجامعات ٍ ومتاجر وم�صانع وبنى حتتية وم�ؤ�س�سات ...كلها �سورية ،القليل يكمل الكثري وبالعك�س ،القليل مثل الكثري وظيفة�« .أ�صدقاء ال�شعب ال�سوري» ،من هذه ال��زاوي��ة ،ك��أع��دائ��ه .يف نظر ك�ثرة من ال�سوريني، االحتاد الرو�سي كالواليات املتحدة �أو بريطانيا �أو فرن�سا ،و�إيران ك�إ�سرائيل ،و «حزب اهلل» كـ «جبهة الن�صرة» ،ولواء �أبو الف�ضل العبا�س كلواء التوحيد، و «اجلي�ش احل��ر» كاجلي�ش النظامي ،واملعار�ضة (ال��دمي��وق��راط �ي��ة) كال�سلطة (اال��س�ت�ب��دادي��ة)، و�شبيحة املعار�ضة ك�شبيحة ال�سلطة ،والعرب كغري العرب وامل�سلمون كغري امل�سلمني ...كل �شيء مثل كل �شيء ،ما دام يقوم بالوظيفة ذاتها وي�ؤدي �إىل النتيجة ذاتها!
فواز طرابل�سي
2014-1-5
�سورية :حني تت�شابه الأ�شياء
الأ� �س �ل �ح��ة امل�ح�ل�ل��ة دول��ي�� ًا ف�ت��اك��ة وم��دم��رة، كالأ�سلحة املحــــرمة ،ووظيفتهــــا ال تتعــــني ب�شهادة املـــن�ش�أ .احلـــــالل واحلـــرام مت�شابهـــان، ودول املن�ش�أ مت�شابهة ،كلــــها ت�صدر �أدوات وو�سائل للقتل والتدمري ،وت�صدر خ�براء ومقاتلني ،وحتلل �صناعة ال�سالح وجتارة ال�سالح .والق�صف الع�شوائي، كالق�صف املركز ،هدفهما واحد ،وغايتهما واحدة، ونتائجهما مت�شابهة .كل �شيء ي�شبه كل �شيء! انت�صرت «قوى الثورة واملعار�ضة» على ال�سلطة يف بع�ض حم�ص وحماة وحلب و�إدلب والرقة ودرعا وريف دم�شـــق وغريها ،وانت�صرت ال�سلطة يف بع�ضها الآخر ،الن�صر كالهزمية �سواء ب�سواء ،واملنت�صر هو املهزوم ،والقـــاتل هـــــو القتيــــل ،والــــوطن علـــــى املحك ،واملجتمع على املحك ،والدولة على املحك .كل �شيء ي�شبه كل �شيء. اجلي�ش النظامي يق�صف من بعيد ثم يتوغل، وي�ع��دم م��ن يقعون يف قب�ضته �أو يعتقلهم ،ومعه �شبيحة من «جي�ش الدفاع الوطني» ينهبون البيوت واملخازن واملتاجر ثم يحرقونها ،و «اجلي�ش احلر» يفعل ال�شيء ذات��ه ،يق�صف من بعيد ثم يتوغل، ويعدم من يقعون يف قب�ضته �أو يعتقلهم ،والكتائب امل�سلحة بالإميان تعدم من يقع يف قب�ضتها �أو تخفيه وت�ساوم على حياته ،وتنهب وحترق .ه�ؤالء ك�أولئك و�أولئك كه�ؤالء ،وكل �شيء مثل كل �شيء. ح�ين تت�شابه الأ� �ش �ي��اء ،على ه��ذا النحو ،ال يكون �سوى ال�ع��دم ،ه��ذا النوع من الت�شابه �شاهد �صدق على وج��ود العدم .العدم القائم فينا وبني ظهرانينا هو دوم ًا عدم �شيء ما ،عدم �أ�شياء معينة وحمددة ومعروفة :عدم الأخالق ،عدم العقل وعدم ال�ضمري وعدم احلياة الإن�سانية ،عدم احلرية ،عدم امل�س�ؤولية ،وعدم امل�ساواة وعدم الكرامة الإن�سانية، عدم الوطن وعدم الدولة. �سورية يبتلعها العدم ،وال�سوريون يتعادمون. وال��دول «املعنية بال�ش�أن ال�سوري» تعاير م�صاحلها ونفوذها ب��ال��دم��اء .خم�سون �أل��ف قتيل الجتماع متهيدي يف جنيف ،مئة �ألف �أو يزيد مل�ؤمتر جنيف الثاين ،فالدميري بوتني قد ال يقبل ب�أقل من مليون،
للعودة �إىل املفاو�ضات بعد جنيف الثاين �أو الثالث �أو الرابع ع�شر ،و�سيد البيت الأبي�ض قد يزيد .الآالف وع�شرات الآالف ومئاتها ال تليق بالدول الكربى. اجلمهورية الإ�سالمية الإيرانية قد تتطلع �إىل تقلي�ص عدد ال�س ّنة يف �سورية ليعادل عدد ال�شيعة والعلويني� ،إذ ال ب��د م��ن وج��ود ال�س ّنة ،قليل من ال�س ّنة ،و�إال كيف يكمن �أن يوجد ال�شيعة �أو العلويون والإ�سماعيليون وال��دروز؟! الآخ��ر �ضروري لت�ش ُّكل ال��ذات ،واختالفه عنها ��ض��روري لت�شكيل هويتها ومتايزها وامتيازها ،لأنه الأ�سا�س املطمو�س للذات، وعليه �أن يظل مطمو�س ًا. حني تت�شابه الأ�شياء تت�شـــابه احلقيــــقة ـواملجاز ،لأن املعنى يكون قد مـــات ،وتبعته القيمة، وتكون اللغة جمــــرد �أ�صــــوات ،ويت�شــــابه اخلـــري وال�شر ،واحلق والباطل ،والظلم والعـــدل ،والعـقل والــجنون ،واحلكمة والطي�ش ،والر�شــــد والغي، واحلياة واملوت ...هكذا هي �سورية اليوم. ح�ين تقع احل ��رب� ،أي ح��رب على الإط�ل�اق، وتطرح ما يف جوفها من ويالت ،وتنجب ما يف رحمها من م�سوخ ،ال يعود مهم ًا من الذي بد�أها ،وما كانت �أ�سبابها .فمن ال�ضالل ال��زع��م ب ��أن ه��ذا �ضروري لإح �ق��اق احل��ق ،م��ا دام احل��ق ه��و ح��ق الأق���وى� ،أو ال�ستخال�ص العرب وتعلم الدرو�س ،ما دامت جتارب
الب�شر ال تتكرر ،واملجتمعات وال ��دول ال تطابق نف�سها يف كل ح�ين .فلي�س مهم ًا اليوم �أن نقرر �أن ال�سلطة هي من ب��د�أ هذه احل��رب القذرة ،وهي من ب��د�أه��ا بالفعل ،م��ا دام ميكن للمقاومة واملمانعة والت�صدي للم�ؤامرة الكونية �أن تعفيها من م�س�ؤوليتها ال�سيا�سية والأخالقية عن اجلرائم التي ارتكبتها وترتكبها�( ،إذا انت�صرت) ،وما دام ميكن ل�شعارات احلرية والكرامة ومزاعم «الدولة املدنية» �أن تعفي املعار�ضني من م�س�ؤوليتهم ال�سيا�سية والأخالقية عن جرائم مماثلة�( ،إذا انت�صروا). ما يجري يف �سورية ،على م�سمع وم��ر�أى عامل يفرت�ض �أنه متمدن ،ولي�س له من «ث��أر بايت» عند ال�سوريني ،هو نوع من �إدارة العدم و�سيا�سة املوت، هو �صيغة من �صيغ «�إدارة التوح�ش» ،منهاج ال�سلفية اجلهادية يف ب�لاد املغرب ،املرقون يف كتاب يحمل العنوان ذاته�« ،إدارة التوح�ش» من ت�أليف �أبو بكر ن��اج��ي ،وه��و ن�سخة حمدثة م��ن كتاب �سيد قطب «معامل يف الطريق» ،و�شبيه بكتاب لينني ال�شهري «ما العمل» .لكن �إدارة التوح�ش يف �سورية �إدارة حديثة ومركبة :دولية و�إقليمية وحملية .وثمة قاع معريف و�أخالقي م�شرتك بني هذه وتلك وهاتيك .فهنيئ ًا للمنت�صر ،لأنه الأقوى والأمهر يف �إدارة التوح�ش
«عندما يكون الدفاع عن امل�ستبدين م�أثرة !
«مل �أفاج�أ �شخ�صي ًا من انحياز تنظيمات ي�سارية ب�شكل �صريح �أو موارب للنظام الأ�سدي ،وال بدفاعها املعلن الر�سمي �أو �شبه الر�سمي عن النظام ،وال برفع ون�شر �صور ب�شار الأ�سد ،و�شعار ال��والء الأب��دي له، �إ�ضافة ل�صور ح�سن ن�صر اهلل..فاالنحياز لنظام الأ�سد االبن هو امتداد النحيازات �سابقة لنظام �صدام ح�سني ومعمر القذايف والأ�سد الأب وغريهم .لكنني ما �أزال م�صدوم ًا من غياب �أي نوع من احل�سا�سية والت�ضامن مع معاناة ال�شعب ال�سوري ،الذي تعر�ض لق�صف الطريان احلربي بال�صواريخ والرباميل املتفجرة ،وتعر�ض ل�صواريخ �سكود املدمرة ولل�سالح الكيماوي..الغريب كل الغرابة ال�صمت على حمنة املخيمات الفل�سطينية يف �سورية ،على ح�صار خميم الريموك الذي بد�أ �سكانه باملوت جوع ًا وب�أعداد مت�صاعدة .ال يوجد احتجاج على موت 105فل�سطينيني حتت التعذيب كان �آخرهم الفنان ال�شاب ح�سان ح�سان ،ال ���س��ؤال عن 2000 مفقود فل�سطيني ال يعرف م�صريهم ،وال �س�ؤال عن �إعادة ت�شريد �أكرث من %70من �سكان املخيمات داخل
�صنع الن�سبة العظمى من م�أ�ساة ال�سوريني والالجئني الفل�سطينيني ،وع���دم حت�س�سكم ملحنة �أب��ن��اء جلدتكم يف املخيمات ومعهم �أبناء ال�شعب ال�سوري ال�شركاء الأكرب يف الثورة ويف احت�ضان الالجئني؟ ..مل يحتمل الرفيق تي�سري الهجوم على النظام وحلفائه ،ما دفعه للرد ال�سريع .لكنه �صمت طول الوقت ومل يوجه نقد ًا للنظام الذي يقتل وي�شرد، ومل يت�ضامن مع ال�ضحايا..امل�شكلة يف املوقف �أن له �صلة بحقيقة الفكر والثقافة ال�سائدين يف معظم تنظيمات ونخب الي�سار .ثقافة �أدت �إىل التبا�س الهوية الي�سارية والثقافة التقدمية التنويرية، وقادت �إىل االختالط بالثقافة الرجعية ال�سائدة، وبالثقافة ال�شعبوية الرائجة .بفعل ذلك ال ميكن التفريق بني ي�ساري وبعثي و�إ�سالموي وفتحاوي .ال ت�ستطيع التمييز بني ه�ؤالء يف اخلطاب واملمار�سة ويف الق�ضايا االجتماعية .كان مربر الي�سار هو ربط التحرر الوطني بالتحرر االجتماعي والتحرر من وخ��ارج �سورية .كيف ميكن تف�سري ت�ضامنكم مع نظام اال�ستبداد.
العدد 99
2014-1-5
�سوريا ..ميدان الأ�صولية
ي�ستقبل ال�سوريون العام اجلديد وقد انتقلت ثورتهم من حال �إىل �آخ��ر .فالثورة ال�شعبية الدميقراطية املدنية التي اندلعت يف منت�صف مار�س 2011ال تبدو على ما ي��رام .ففي حني �أثقلها يف عامها الثاين اخلطاب الديني الأ�صويل ،تكاد التنظيمات الأ�صولية املح�سوبة على الثورة وعلى النظام ،جتهز عليها متام ًا يف عامها الثالث. ميكن ربط تط ّور اخلطاب الديني يف �صفوف قوى الثورة ال�سورية ،بتطور م�ستويات العنف الذي فجره النظام يف وجه املحتجني ال�سلميني� .إذ انتقل اخلطاب الديني التقليدي الذي يعبرّ عن ثقافة �إ�سالمية عامة وعن غياب احلياة ال�سيا�سية، �إىل خطاب �أيديولوجي �أ�صويل غريب عن ال�سوريني ،وذلك مع انتقال همجية النظام وعنفه �إىل حدود رهيبة ومفزعة ،حتى يكاد تاريخ ال�صراع بني الأنظمة وال�شعوب مل يعرف مثلها قط. يف ظل منو اخلطاب الأ�صويل يف �صفوف املقاتلني ،ويف ظل �أكاذيب النظام وجرعات اخل��وف والتحري�ض الطائفي التي يبثها يف �إعالمه ومنذ بداية الثورة ،كان �شعور اخلوف يزداد لدى الطائفة العلوية مع كل تقدم للثورة وتراجع للنظام. واحلديث يف هذا ال�سياق ال يخ�ص الفئات التي تورطت ب�أعمال القتل وتطوعت كـ”�شبيحة” ،و�إمنا ال�شرائح املدنية الوا�سعة التي مل تقاتل �إىل جانب النظام ،لكنها تهج�س مب�صريها وتتوقع �أن تدفع ثمن ًا باهظ ًا �إذا جنحت الثورة يف �إ�سقاط النظام.
مروان �أبو خالد
هكذا ،عجزت الثورة ،حتى يف طورها ال�سلمي وخطابها الوطني ،عن اجتذاب العلويني �إىل �صفوفها� .إذ �ساد اعتقاد را�سخ ب�أن الثورة ال�سورية ،ويف �أحد وجوهها� ،سوف جت ّردهم من كل “املكا�سب” التي حظوا بها يف عهد النظام .وحقيقة الأمر �أن ال مكا�سب حقيقية تخ�ص الطائفة العلوية ك�شريحة �سكانية خالل فرتة حكم الأ�سد� ،إذ اقت�صرت املكا�سب على دائرة �ض ّيقة ،خدمت النظام وكانت عون ًا له يف �سيا�ساته الإجرامية على كل امل�ستويات� .أما املناطق التي تقطنها الطائفة العلوية فهي مناطق مهم�شة وفقرية ،و�أبناء هذه الطائفة -كما �أبناء كل �سوريا -يعانون من الب�ؤ�س واحلرمان ،وال�شك يف �أن النظام ال�سوري تع ّمد الإبقاء على حالة الفقر واحلرمان تلك ،حتى يت�سنى له ا�ستغالل املعاناة و�إدخال الطائفة يف �سيا�سته الأمنية لإحكام قب�ضته على الدولة. النظام جنح �إىل حد كبري يف ذلك ،وهو يقاتل منذ عامني كميلي�شيا متالحمة �أك�ثر منه كجي�ش ،ويظن معظم �أف��راده املقاتلني يف العمق� ،أنهم يخو�ضون �صراع ًا من �أج��ل البقاء اجلماعي .ا�ستغل النظام حالة الذعر التي تعي�شها الطائفة العلوية ،و�أبرز يف خطابه الداخلي كل �أخطاء الثورة و�أخطاء املعار�ضة ،خ�صو�ص ًا تلك الأخطاء التي تعزز من رعب الأقليات، وتظهر الأ�صولية الدينية يف �أب�شع �صورها ،ومل يخل الأمر من الكذب والتلفيق واملبالغة يف كثري من الأحيان .ومع ت�صاعد
االن�شقاقات ال�سيا�سية والع�سكرية والأمنية عن النظام ،ازدادت الروابط الطائفية فيه ،والتي باتت ت�شكل �سالح الأم��ان والثقة يف بيئة عامة معادية للنظام ،وهو ما �أطال ال�صراع ورفع من اخل�سائر والت�ضحيات. كانت تلك اللوحة التي ت�صور الرتكيب الداخلي للنظام كفيلة مبنع احتماالت �أن تنهار ال�سلطة ب�شكل مفاجئ ودراماتيكي ،كما حدث يف م�صر وتون�س� .إذ جعلت الرابطة الأهلية من النظام ال�سوري �شديد التما�سك واملرونة ،هذا بالإ�ضافة �إىل الدعم الدويل والإقليمي والطائفي من دول خمتلفة ،وه��و ما جعل النظام يوا�صل احلرب ويت�أقلم معها. لقد عزز اخلطاب الأ�صويل الذي اجتذبه الدمار والقتل املجاين ال��وا���س��ع ال��ن��ط��اق ،م��ن ق��وة النظام ال�����س��وري و�أ���س��ب��غ عليه نوعا من “ال�شرعية” التي كان يبحث عنها� .إذ نقل هذا اخلطاب عامل االنق�سام الأهلي الذي وجد منذ اليوم الأول الندالع الثورة� ،إىل موقع �شديد الت�أثري يف جمريات الواقع .ف�أ�ضفى االنق�سام الأهلي على النظام ال�سوري قوة ومتا�سكا �أكرب ،ودعما دوليا و�إقليميا �شديد الإخال�ص حتى الرمق الأخ�ير .هكذا ،فمن جتاهل وجود هذا االنق�سام وغرق يف �أدجلة الوطنية ،توقع �سقوط النظام بعد �أ�شهر فقط من اندالع الثورة ،وتوقع انف�ضا�ض املوالني من حوله وهو ما مل يح�صل ،بل تعزز. ويبدو �أن االلتفاف “الأقلوي” حول النظام قد حتول هو الآخر، يف العام الفائت� ،إىل نوع من الأ�صولية القاتلة .فتقاطرت امللي�شيات الطائفية ،حزب اهلل وملي�شيات �إي��ران والعراق ،التي �شكلت الوجه الآخر لتنظيم القاعدة بفرعيه يف �سوريا ،داع�ش وجبهة الن�صرة. وقد نقل تف�شي الأ�صوليني يف �صفوف النظام ال�سوري ،ق�سما من املوالني له �إىل مركب الأ�صولية الذي مل يعد حكر ًا على الثوار الذين تعر�ضوا �إىل �أق�سى حمالت التنكيل والإجرام ،فبات كل ال�سوريني يف الأ�صولية �سواء. لقد ح��اف��ظ النظام ال�����س��وري على وج���وده ،بعد �أن زرع ب��ذور الأ�صولية يف املع�سكرين ،و�أ�شرف على رعايتها حتى �ش ّبت وتطاولت حتت ناظريه .وها هي �سوريا اليوم ،وقد باتت ميدان ًا وا�سع ًا للأ�صولية الدينية املد ّمرة ،التي ال ت�شبه �أي ًا من ال�سوريني .ال ت�شبه �إال النظام، بعقله الإق�صائي ،و�سلوكه الإجرامي املد ّمر.
ال�سوق ال�سوداء حتتكر الغاز ال�سوري
ّ ي�ستهل ال�سوريون عامهم اجلديد ب�أمنية واح��دة تتمثل بالقدرة على حت�صيل حد الكفاف للعي�ش لي�س �أكرث ،بعدما حولت حكومة احلرب ،ب�سيا�ساتها الفا�سدة ،حياة ال�سوريني �إىل �سل�سلة من الأزمات املعي�شية التي ال تنتهي ،كان �آخرها �أزمة الغاز التي ع��اودت الظهور جم��دد ًا يف دم�شق وريفها ،بعد انخفا�ض كميات ا�سطوانات الغاز يف مراكز التوزيع احلكومية .ما دفع املواطنني �إىل التوجه لل�سوق ال�سوداء التي ا�ستجابت حلاجات النا�س برفع �سعر �إ�سطوانة الغاز لأكرث من �ضعف �سعرها الر�سمي .فقد بلغ �سعر �إ�سطوانة الغاز يف ال�سوق ال�سوداء 2500لرية يف �أقل تقدير ،على الرغم من �أن �سعرها الر�سمي 1100لرية .وارتفع �سعر تعبئة الغاز ال�صغري املنزيل �إىل 1000لرية. وبح�سب الت�صريحات احلكومية ،ف�إن نق�ص املعرو�ض يعود لتوقف ا�ستجرار ال��غ��از م��ن م�ستودعات منطقة ع���درا ،نظر ًا لإ�شتعال العمليات الع�سكرية فيها ،والنق�ص امل�ؤقت الذي ح�صل من ا�ستجرار الغاز من وحدة جمرايا والذي ت�ضاربت الت�صريحات حول �أ�سبابه .فبينما �أ�شار مدير امل�ؤ�س�سة العامة للخزن والت�سويق �إىل �أن �سبب ذلك يعود خلالف حا�صل بني وزارة النفط وال�شركة امل�ستثمرة لوحدة غاز جمرايا ،ما انعك�س يف خف�ض كميات الإنتاج، نفت وزارة النفط هذا الكالم م�ؤكدة �أن �أي خالف �سيحل ب�شكل ودي و�أن ال�شركة كانت جتري �أغرا�ض ال�صيانة وعاودت من جديد
�سالم ال�سعدي
لإنتاجها الطبيعي .وبالطبع ف�إن هذا الت�ضارب يف الت�صريحات اعتاد عليه ال�سوريون من حكومة تفتقد لأدنى مقومات التخطيط والتن�سيق امل�ؤ�س�ساتي ،وقد يكون الهدف من هذا الت�ضارب هو ت�شوي�ش املواطنني عرب �أ�سباب وهمية لتغييب ال�سبب الرئي�سي الذي يقف وراء الأزمة .كذلك ر�أى بع�ض احلري�صني على تلميع �صورة احلكومة �أن �سبب الأزم��ة هو الإ�ستجرار الزائد من قبل املواطنني ،نظر ًا العتمادهم على الغاز للتدفئة. امل�ستغرب يف هذه الت�صريحات يتمثل بر ّد الأزمة �إىل نق�ص يف املعرو�ض ،فلو كان هناك نق�ص �أو توقف يف �إمداد بع�ض وحدات الإنتاج ي�ستدعي حق ًا ح�صول �أزمة ،فمن �أين ت�أتي الإ�سطوانات التي تباع يف ال�سوق ال�سوداء؟ وهذا ما يعيد اجلواب �إىل احللقة الأوىل املعروفة� ،أي ان امل�س�ؤولني عن نق�ص مادة الغاز يف املراكز احلكومية هم �أنف�سهم من ي�ؤمنونه لل�سوق ال�سوداء التي ّ يف�ضل ت�سميتها �سوق الف�ساد احلكومي .علم ًا �أن اال�سطوانات املباعة يف ال�سوق ال�سوداء مغ�شو�شة وغري خمتومة ر�سمي ًا� .إذ يالحظ امل�ستهلكون �أن �إ�سطوانة الغاز التي من املفرت�ض �أن تخدم قرابة ال�شهر ،ولكن تلك املباعة لهم يف ال�سوق ال�سوداء ال تكفي عملي ًا لأكرث من ع�شرة �أيام �أو �أ�سبوعني على الأك�ثر .وتتنوع �أ�ساليب الغ�ش ،حيث يجري تفريغ كميات ب�سيطة من جمموعة ا�سطوانات لإ�ستخدامها يف تعبئة اال�سطوانات ال�صغرية� ،أو تفريغ كميات
كبرية من الإ�سطوانة وتعبئتها باملاء ،حتى ال ي�شعر املواطن عند ال�شراء بفرق يف الوزن .هذا ف�ض ًال عن الكثري من �أ�ساليب االحتيال املبتكرة� .إىل ذلك ،يبدو عزو الأزمة �إىل ا�ستخدام الغاز للتدفئة غري مقنع .ذاك انه �إذا كان ال�سوريون عاجزين عن ت�أمني نفقات التدفئة الأرخ�ص من الغاز ،فكيف ميكنهم حتمل تكاليف التدفئة على الغاز املرتفعة ،ال�سيما �أن ارتفاع �أ�سعار مدافئ الغاز �إىل ما بني � 25-15ألف لرية ،حرمت ال�سوريني من جمرد التفكري يف اقتنائها. ويرى الكثري من ال�سوريني ان الأزمة احلالية مقدمة لفر�ض زيادة جديدة على �سعر �إ�سطوانة الغاز ،وعلى الرغم من نفي وزارة النفط لنيتها رفع الأ�سعار يف الفرتة املقبلة� ،إال �أن التجربة معها غري م�شجعة ،فالزيادات ال�سابقة كانت ت�سبقها �أزمات يف العر�ض مبراكز التوزيع احلكومية ،يعقبها ارتفاع جنوين يف �أ�سعار الغاز بال�سوق ال�سوداء ،ومن ثم �إنت�شار �شائعات حول رفع ال�سعر الر�سمي ي�صاحبه نفي حكومي ،وخالل ذلك يتم �إخ�ضاع املواطنني لأ�سعار ال�سوق ال�سوداء اجلنونية ،لتعلن احلكومة فج�أة بعدها �أنها رفعت ال�سعر الر�سمي ،ولكن بن�سبة �أقل من ال�سوق ال�سوداء ،فتوهم امل�ستهلكني ب�أنها حري�صة كل احلر�ص على توفري الغاز لهم وب�أف�ضل الأ�سعار!
العدد 99
2014-1-5
ح�سان وابراهيم ابو دية ح�سان ّ عن ّ
كتب زياد خدا�ش (رام اهلل):
ر�سالة حب �إىل بط َلي ليلتي ح�سان و�إبراهيم ح�سان ّ لي�س هناك من عالقة مبا�شرة بني ّ �أب��و دي��ة ،فهما من زمنني متباعدين ج��د ًا ،رمبا ق��ر�أ ح�سان �شيئ ًا عن بطوالت �إبراهيم ،لكن �إبراهيم بالطبع مل يعرف بطوالت ح�سان ،فحني مات �إبراهيم يف بريوت يف �أوائل اخلم�سينيات مل يكن والد ح�سان قد ولد بعد ،ال�شيء الوحيد الذي يربطهما بع�ضهما
( بابا نويل يلقي خطاب ًا جماهريي ًا بلهجة هادئة حزينة) يف ظ��ل ه��ذه ال��ظ��روف الع�صيبة التي منر بها والنك�سات والهزائم املتعددة التي حلقت بنا واملعاناة الكبرية؛ لقد اتخذت قرار ًا �أريدكم �أن ت�ساعدوين على تنفيذه: لقد ق��ررت �أن �أتنحى عن جميع منا�صبي النويلية و�أن �أعود �إىل �صفوف اجلماهري (اجلماهري منده�شة وم�ستغربة وم�صدرة لتعابري غري مفهومة من مثل :بئ تئ لئ حئ بئ ماع ماع). بابا نويل يقوم بحركة واحدة بيده تهد�أ من انفعال اجلماهري و يتابع خطابه لقد قررت التنحي لعدم قدرتي على تنفيذ طلبات و�أمنيات ال�شعب ال�سوري وذلك للأ�سباب التالية: (وه��ن��ا تتغري لهجة ب��اب��ا ن��وي��ل م��ن لهجة هادئة حزينة �إىل لهجة غا�ضبة متوترة) �أو ًال :بحب قول لل�شعب ال�سوري �أنا بابا نويل ماين عتال ،انك�سر �ضهري و�صار معي دي�سك و�أنا
ببع�ض هو كونهما فل�سطينيني ،عا�شا بطلني يحلمان باحلرية وماتا بطلني ،من �أجل احلرية ،ولكن ما الذي يجعلني �أجمع بني ح�سان و�إبراهيم يف ن�ص واح��د ،وعلى �أب��واب عام جديد؟ كانت حم�ض �صدفة� ،إذ بعد قراءتي ل�سرية �إبراهيم �أبو دية للمنا�ضلة نهيل عادل عوي�ضة وفيما �أنا (�أت�صفح الفي�س بوك) قر� ُأت نعي ًا حل�سان يف �صفحة ال�صديق الكاتب الفل�سطيني املغرتب هاين عبا�س ابن خميم الريموك ،و�صديق ال�شهيد ح�سان ،كتب هاين (مبا معناه)
كالم ًا م�ؤثر ًا ،حتت �صورة حل�سان وهو يبت�سم ب�سخرية( :حتما َ �سخرت منهم بهذه االبت�سامة وهم ي�أخذونك �إىل موتك يا ح�سان). ا�ست�شهد الفنان الفل�سطيني الكوميدي ال�شاب ح�سان ح�سان يف �سجون �سورية قبل �أقل من �شهر ،وكان �أمري الكفاح الفل�سطيني �إبراهيم �أبو دية قد ا�ست�شهد يف بريوت �أوائل اخلم�سينيات ،مت�أثر ًا بحزمة من اجلراحات �أ�صيب بها يف �أكرث من معركة يف فل�سطني. كانت ليلتي غريبة ،زاخ��رة ب�سري َتي بطلني ال يُحتمل �صفا�ؤُهما وال يُ�صدق كرمُهما ،وهذا ما مل �أ�ستطع حتمله ،وكنت �أعرف �أنني �س�أُجَ نّ لو بقيت يف البيت ،وطاملا �أ�صابني هذا ال�شعور حني يرحل �شخ�ص �شجاع ال يو�صف ُ ُ خرجت م�سرعً ا �أك��اد ال �ألتقط �صدقه، �أنفا�سيُ ، م�شيت كثري ًا ،و�أنا �أُفكر ،يف معنى وحقيقة وواقعية ال�شعار الذي نردده كثري ًا عند الأزم��ات :دمُهما لن يذهب هدر ًا ،هل حقاً �أن دم ح�سان و�إبراهيم لن يذهب هدر ًا؟ كم مرة قلنا هذا الكالم؟ وكم مرة �سنقوله؟ وكم مرة هُ درت دماء كثرية وذهبت يف الواقع ه��در ًا؟ .اكت�شايف املفاجئ خل��واء هذا ال�شعار �أط��ار �صواب قلبي، �شعرت بخطواتي ت�سرع ،ويتعرث ُ بع�ضها ببع�ض ،و�أنفا�سي تتالحق، ور�أي� ُ�ت قطار ال�شهداء الفل�سطينيني على مدى عقود طويلة من الغناء واحلب والفداء وهو يهوي يف حفرة عميقة جد ًا ،ذاهب ًا �إىل خ�سارته الكربى دون �أن يغني له �أحد ،و�سمعت �أ�صوا َتهم املحروقة وهي تنفجر انفجار َتها الأخرية :ليتنا مل نفعلها ،ليتنا مل نفعلها، لكن ورد ًا يانع ًا �أزرق ،ر�أيته فج�أ ًة ينت�صب من حمرقة ال�شهداء ،كان يغني � ً أغنية ناعمة وقوية بلغة غام�ضة� ،أما يدي املعتوهة فلم �أ�صدقها وهي تطرق باب �أول بيت يف حي (بطن الهوى)� :سيدي، ح�سان و�إبراهيم؟. هل تعرف �أين ي�سكن ّ
بابا نويل وخطاب التنحي
عم و�صل جرة غاز لهاد وبرميل مازوت لهداك. ثاني ًا � :أطفال �سورية �صايرين قليلني �أدب، تخيلوا و�أن��ا طاير بعز ال�برد ب�شوف الأطفال بال�شوارع بحن علني وبزتلن الهدايا ،ب��دل ما ي�شكروين بينبطحوا على الأر����ض وب�صريوا ي�صرخوا برميل برميل ،هو �أن��ا بعرف حايل �سمني ���ش��وي ب�����س م��و ع��ي��ب ي���ن���ادويل برميل برميل؟! .و ياريت ب�س هيك ،بينادوا برميل برميل تكبري اهلل �أك�بر ،وان��ظ��روا �أيها العرب انظروا �أيها امل�سلمون �شو �أنا فرجة للعرب وللم�سلمني. ثالث ًا� :أنا بحياتي ما فرقت بني امل�سيحيني و امل�سلمني ،مو عيب على داع�ش تخطف غزالين وت�أخذهم �إىل غابة الذئاب وتهدد بذبحن و�سلخ جلدن �إذا ما �سلمنت ر�أ�س ال�سنة م�شان يقطعوه؟! راب��ع � ًا :كلو ك��وم وق���دري جميل ك��وم اهلل وكيلكن �صار معي انف�صام بال�شخ�صية و�صرت عم هلو�س من حتت طلباتو ،بدو يكون بحكومة النظام وبنف�س الوقت بدو مني �أقنع ال�سوريني والعامل �أنو معار�ض.
واحلرية عن اخلوف ّ
فرج بريقدار
ولذلك ( يعود بابا نويل ليخاطب اجلماهري بلهجة هادئة وحزينة) ولأ�سباب �أخرى قررت التنحي. وبعد انتهاء بابا نويل من خطابه فج�أة ي��ن��د���س ف��ي��ه ال��ع��رق ال��ع��رب��ي وحت���دي���د ًا ع��رق الزعماء وامل�س�ؤولني العرب كون العرق د�سا�س،
راقبت وخ ُ �برت ،لعقود طويلة ،معنى اخل��وف مبعناه ال�شامل ّ لقد ُ املتف�شي� .أعني اخل��وف كمنظومة بيولوجية ،نف�سية� ،سيا�سية ،ثقافية ،اقت�صادية ،اجتماعية وحتى �أق�صى تفا�صيل احلياة يف القول والفعل. اخلوف هو البوَّابة ال�شيطانية للأَ�سْ ر وبالتايل العبودية الطوعية .اال�ستعباد الق�سري �أمر خمتلف .ال ميكن ملن يرف�ضه �أن يكون عبد ًا �أو �أ�سري ًا �إال باملعنى ال�شكلي َّ واملوقت� ،أي خارج منظومة اخلوف واال�ست�سالم. ي�صعب على َم ْن يتملَّكه اخلوف� ،أن ينتج معنى ً مهما� ،أو �أن يبدع يف جمال مهم .لي�س يف العبودية �أي قيم نبيلة �أو �إن�سانية راقية .الأكل وال�شراب من �أجل احلياة فقط ال عالقة له مبنظومة القيم بل بالغرائز .لقد حيا ً �أدرك نظام الطاغية الأب ذلك ،وحاول جاهد ًا فر�ضه من �أجل تخليده ً وميتا عرب التوريث ،ولهذا جرى تخويف ال�سوريني لزمن طويل ومرهق ،بل �إن الأ�سد الأب ق َّدم �أمثوالت رعب يف حماة وحي امل�شارقة يف حلب، كما يف �إدلب وج�سر ال�شغور و�سجن تدمر وغريه� ،إىل �أن ا�ست�سلمت ن�سبة كبرية من ال�سوريني للخوف كمنظومة. �أتذ َّكر كيف بد�أت �أخالق جمتمعنا تتغيرَّ يف �أواخر ال�سبعينيات من القرن الع�شرين .لقد تربَّيت يف الأ�سرة واملجال�س وامل�ساجد على �أخالق ومفاهيم و�أقوال من مثل«كلمة املرء هي �شرفه» �أو «�إن من �أف�ضل اجلهاد كلمة
ريزان حدو
ويكفهر وجهه غ�ضب ًا وخوف ًا و ندم ًا وي�ستدعي ابنه نويل وي�أمره ب�أن ي�صطحب مرافقة ويذهب للجماهري ليطلب منهم اخل���روج يف م�سريات عفوية تطالب بعودة بابا نويل �إىل منا�صبه والتخلي عن قراره بالتنحي . حتى �أنت يا بابا نويل
حق عند �سلطان جائر» �أو «�إذا كان الكذب يُنجي فال�صدق �أجنى» �أو «ال ي�ص ّح �إال ال�صحيح» �أو «حلم احل ّر مرّ» وغري ذلك من الأق��وال احلافظة لتوازن �أخالق املجتمع .كنت �أقر�أ من �أمثال هذه الأق��وال على �أوراق الروزنامات .بعد ذلك انح�سرت ثم تال�شت �أمثال تلك الأقوال والقيم. لذلك �أعترب �أن ك�سر حاجز اخلوف يف �آذار 2011هو �أ�شبه بالفاحتة يف قر�آن احلرّية. لقد بد�أ ال�شعب ال�سوري ي�ستعيد ح�ضوره وقيمه و�إبداعاته بالأقوال والأفعال� .إبداعات يف التظاهرات، يف التغطيات الإعالمية ،يف ال�شعارات والأغاين والأفالم واملجالت واملواقع االلكرتونية ،يف الإغاثة والت�ضامن الوطني رغم كل املحاوالت احلثيثة للطاغية الوريث يف تفتيت الوحدة الوطنية ،وبالطبع ال �أن�سى بطوالت الثوار وت�ضحياتهم رغم �ش ّح الدعم ،ورغم �إرباكاتهم مبا متثله «جبهة الن�صرة» و«الدولة الإ�سالمية يف العراق وال�شام» من �ألغام وطوابري خام�سة. رمبا لأول مرة �أعرف �سوريا على حقيقتها الأخالقية والثقافية وحتى اجلغرافية. ال �أ�شك �أبد ًا يف �أهمية �إبداعات الآداب والفنون على اختالفها ،ولكني �أعتقد �أن �إبداع احلرّية هو الإبداع الأق�صى يف تاريخ ال�شعوب ،وها هو �شعبنا يبدع الآن حرّيته.
العدد 99
العدد 83
2014-1-5
ن�صو�ص الغوطة� ..إىل ال�شهيد م�أمون نوفل
ال �أريد �أن �أحتفظ بعقلي ،خذوه م ّني ،مل يعد ينفعني ،ورغم �أين تعبت عليه� ،أقرتح عليكم �أن تبيعوه لأقرب خمترب ،وقولوا لهم ل�ستم بحاجة �أن ت�ضعوه يف قطرميز ّ وتغطوه ب�سوائل حافظة ،عقلي تف�سَّ خ وهو يف ر�أ�سي ،ولن ينفعه �أي �شيء... ال �أريد �أن �أحتفظ باللغةّ ،نخلوا كل كالمي ،ودعوه �أمام الريح، ّ ي�ستحق الإبقاء وما �سيبقى� ،أُطرقوه باحلجارة ،...ال �شيء مما قلته عليه� ..أريد �أن �أحتوّل �إىل كائن بال عقل وبال لغة ..حينها �أ�ستطيع علي �أن �أح��ذر من الكائنات التي ُت�سمَّى بالب�شر ،وبينما �سيحنو َّ علي النار ..ال الب�شريون منهم� ،سيُطلق ذوو الأ�صول البهيمية منهم َّ �أريد ...وفقط ...ال �أريد... قلت له :عليك �أن تغادر طاملا �أنهم يالحقون خطواتك ،ابت�سم �ساخر ًا من الفكرة ،وم�ضى ي�شرح يل الأ�سباب التي جتعله يرتوَّى قلي ًال قبل �أن ي�أخذ القرار� ،صديقي الذي تركك مل�شاريعه كي يعمل يف �إغاثة الالجئني ،كنت �أتهمه باملبالغة� ،إذ ال يُعقل �أن يعمل طيلة الليل والنهار دون �أن يرتاح قلي ًال ،و�أذكر �أن الجئة يف مدر�سة قريبة كانت تعاين من نوبة ع�صبية ،وحتتاج �إىل دواء منا�سب ،كيف قام يف ذلك الوقت املت� ّأخر بتو�صيل الدواء �إىل املدر�سة متخطي ًا احلاجز البغي�ض.
عي�سى ال�شيخ ح�سن
كان ب�إمكانه �أن ي�سافر ولكنه قرَّر البقاء متجاه ًال التحذيرات والتهديدات التي كانت ت�صله ،م�أمون نوفل ،ال�شهيد ابن ال�شهيد ،مل ت�ستمع �سوى لقلبك وروحك ،وها �أنا �أكتب عنك بعد �أن م�ضيت... يف حلظة مل � َّ أتوقع �أن �أ�صل �إليها... ماذا �س�أقول يا م�أمون� ...أعرف تكرهك لهذا الكالم ،و�أدري �أنك ت�ضحك الآن يف عليائك على �سجَّ انيك ،وتهم�س لأرواحنا ال�صاخبة �أن ا�صربوا قلي ًال ،فبعد قليل �سنزرع الأر���ض ب��أرواح من رحلوا كي تنبت م�ستقب ًال حر ًا ل�سوريا... م�أمون� ،أعتذر منك ،مل �أ�ستطع �أن �أبقى ،و�أنت تدري �أنها رحلة ال�سرب الطويلة ،يف هجرتنا املديدة نحو ال�سماء ..حمبَّتي لك... ماذا ترتكون لنا �سوى احلقد...؟ � 1600شجرة نبتت ،وا�ستطالت ثم برعمت و�أزهرت و�أثمرت... يف مثل هذا الوقت ،كنا من�ضي �شرق ًا� ،إىل الغوطة ،لنبا�شر �سريان اجلمعة ،واليوم ما زلنا على عادتنا ،من�ضي �شرق ًا لنبا�شر م�أمتنا الكبري ،يف ظالل هذه الأ�شجار... جمعة للأرواح امل�شجرة يف �سماء هذا العامل البغي�ض... الرثثرة حتا�صر ال�سوريني ،وحدها املقابر �صامتة... ف��راغ��ات ،ك��ل م��ن غ��ادر ت��رك ف��راغ��ه ،البع�ض ج��اء الغبار
2013-9-15
علي �سفر
والقاذورات لي�س ّدوا فراغه ،والبع�ض ما زال هنا كمن ّ ينظف فراغه� ،إذ ال ميكن للم�شهد �أن ي�ستقيم دونه... دم�شق مدينة تحُ َ ت�ضر... ما يتو ّفر يف الغوطة الآن� :آالف الأمتار من القما�ش الأبي�ض ...تكفي ملليون ون�صف مليون �سوري... قما�ش �أبي�ض �سيبقى � َ أبي�ض حتى و�إن غطاه الرتاب... وكنت �أعي�ش على مبعدة 1500مرت عن مكان ق�صفوه بالكيماوي... �أكتب لكم من عامل �آخر �أنا ميّت منذ �ساعات الفجر... �أنا ل�ست �شهيد ًا... �أنا جمرَّد كائن ...مات لأ�سباب �إن�سانية. حم�ض ج َّثة ت�شرق عليها ال�شم�س... �صور �أطفال الغوطة �س ُتزعج �إدارة الـ«في�س بوك» ،كما �س ُنزعج ُ نحن �أ�صدقاءنا العرب والأجانب ونحن نتح َّدث عن املذبحة... �سيتربَّمون ويهم�سون :ها هم ال�سوريون مرَّة ثانية!... نحن القطعة الوحيدة الباقية من العامل القدمي... �سن�سقط قريب ًا ...كلنا �سن�سقط ،ق�صف ًا حرق ًا اختناق ًا ذبح ًا قهر ًا وت�سرطناً وجت ُّلط ًا... قريب ًا �سرتتاحون م َّنا ،ولن تزعج �صور قتالنا �صفحاتكم البهيَّة الزرقاء هنا، ً نظيفة من الدم... و�ستعود �إليكم ن�شرات الأخبار و�إذا نظرمت �إىل اخلريطة �ستجدون بلدنا جمرَّد ثقب �أ�سود خامد ...ثقب �صغري ابتلع معه كل �صفات الب�شر... طيبوا عي�ش ًا ...وال تن�سوا �أن حتتفلوا باخلال�ص من امل�أزق... ويف ال�ساعة الثانية والربع من فجر هذا اليوم ،وبعدما نام اجلميع فرحني بانت�صاراتهم يف م�صر ويف �إ�سطنبول ،وبعدما غفا حرا�س العامل... تب َّدل الهواء يف غوطة دم�شق ...وحتوَّلت �أحالم ال�صغار النائمني من فرح عابر �إىل زرقة وبيا�ض دائمَني... الغوطة لي�ست جم ّرد خرب ،وهي لي�ست م�شروع تنديد جديد ،الغوطة �أرواحنا املغروزة بالأ�شجار... الرحمة لل�شهداء... ال يوجد قطع غيار للإن�سانية...
يا �أول ال�صفو ..هذا �آخر الكدر
مب��رور ال��ع��ام 2013يكون ال��ع��رب قد �أم�ضوا ثالثة �أعوام يف تقليب ربيعهم على ن��ار الأم��ل واالنتظار ،ومناو�شة عقابيله، وال��دف��ع ع��ن �شبهة ان��ح��راف��ه وانكفائه، وا�ستمطار ال��وع��ود والآم����ال والأم����اين، والتو�سم خري ًا مبا بعد تبعرث احلجر ،وتعثرّ ّ الب�شر. لي�ست متاهة بورخي�س ،وال متاهة الأعرابي ،فر ّد الفعل ال�شعبي امل� ّؤجل فاق ّ كل ت� ّصور ،وارتدادات الغ�ضب العربي طالت اجلميع ،مب��ن فيهم جنودها املجهولون، وحرا�س انت�صارها ،ولي�ست نبوءة و�سدنتهاّ ، نو�سرتادامو�س وال �أحاديث العرافني الذين ت�ست�ضيفهم الف�ضائيات التافهة ،فاهلل �سبحانه وتعاىل مل ي�شرك يف علمه �أحد ًا. يقف ال��ع��رب� ّ�ي على قمة تف�صل بني همة حتتاج ب�صرية، هاويتني ،ح�سري ًا �إ ّال من ٍ كلي ًال �إ ّال من �صرخات عب�س وذبيان تعا�ضده يف دفع التعب �إلىّ ن�شاط له م�ساراته ،علي ًال ٍ �إ ّال من عافية تدفع ب�ساقيه �إىل طلب الرزق، ويديه �إىل طلب الدعاء .يقف العربي بني ونتيجة �أ ّك��دت ي�أ�سه، حلم داع��ب ب� َؤ�سه، ٍ ٍ رائي ًا بعني واح��دة ،و�سامع ًا ب��أذن واح��دة،
و���ص��ارخ � ًا ب��ن�برة واح����دة .ي��ق��ف العربي �إىل املا�ضي واحل��ا���ض��ر ويقنع نف�سه �أن��ه دميقراطي (�سكر زيادة) وليربايل بدرجة امتياز ،و�أن فائ�ض حكمته وذكائه يجب �أن ي��وزّع على العامل بالق�سطا�س ،و�أن احلظ وامل�ؤامرة و�أحابيل �أعداء الداخل هي التي �أخذته �إىل موقع مل يكن ي�ستحقه. العربي وقد (فرمتَ ) حا�سوبه، يقف ّ ليجد �أن قدرات اجلهاز عاجزة عن ت�شغيل
برنامج حديث ،لأن بناه املتهالكة الحتتمل غ�ير ب��رن��اجم��ه ال��ق��دمي ال���ذي فقد عمره االف�ترا���ض��ي �أي�����ض � ًا ،يكت�شف ال��ع��رب� ّ�ي �أن حداثته كانت ق�شرة ّ ه�شة مز ّيفة ،مل تكن غري ب��دالت �أنيقة ،وربطات عنق فاخرة، وحفظ �أ�سماء العوا�صم الأوروبية ،يكت�شف �أن الدولة عميقة ،و�أن التنظيمات عميقة، و�أن الطوائف عميقة ،و�أنّ القبائل عميقة، و�أنّ عنا�صر جي�شنا الوطني لي�سوا غري
(جندرمة) القرن الثامن ع�شر ،و�أن جي�ش املوظفني الوطني لي�س غري كتيبة �أفندية ا�ستبدلوا بحديث املقهى �أحاديث الفي�سبوك والتويرت ،و�أن التليفزيون الوطني حماكاة للحكواتي يف مقهى احل���ارة ،ويكت�شف �أن ثمة نظام عمره قرون ال متحوه ف�ضيلة وال توقفه �إيديولوجيا ،نظام يقول� ":أطعم ت�ستح العني ،ور�شر�ش حبك يا جميل، الفم ِ ويجب �أن تطاطئ كي تعلو". يقف العربي على تخوم ال�سنني الثالث، �أم ًال يف انت�صار �إرادة ال�شعب ،و�أم ًال يف ّ توقف حمام الدم ،ففي بالدي عجزت كل القوى يف العامل �أن ت�سكت �صوت الر�صا�ص ولو ليوم رب العاملني مالذنا واح���د ،ومل يبق غ�ير ّ الأول والأخ��ي�ر ،ويف ب�ل�ادي ب��ات رغيف اخل��ب��ز حكاية ،فعلى ك� ّ�ل رغ��ي��ف يجتمع الطاغية وال�ضحية ،والقنّا�ص والهدف، والدم واجلوع. ولأن ال�شم�س ت�شرق ّ كل يوم ،والزهور تطلع ّ كل ربيع ،ف�إن لنا يف � 2014أم ًال ي�ستمدّ م�شروعيته من �إمياننا بقدرة اهلل على ّ كل �شيء.
العدد 99
ما�سة ب�شار املو�صلي
�أي حميط من اجلماد غارق يف �أعماقه عقلنا العربي؟
�إن كتبنا عن تاريخ الأنظمة يف م�ساحة من الوطن العربي جند �أن �أغلبها �أنظمة حكمها الع�سكر� ،أنظمة ديكتاتورية ذات �أيديولوجيات جامدة مل ت�سع لتطوير ذاتها ،بل �أكرث من ذلك عملت على و�ضع �سقف لعقل املواطن وتفكريه، فح�صرت �إب��داع��ه يف م��دح ال�سلطة و���ص��و ًال للك�سب ،وهذا على جميع ال�صعد� ،سواء الثقافية �أو االقت�صادية املهنية وطبع ًا ال�سيا�سية، وك��ذا الأم���ر جن��ده ب��ذات املنطق �إن حتدثنا عن الأحزاب �أو الأنظمة الدينية مع اختالف
فاطمة العي�ساوي
2014-1-5
الأيديولوجيا .لقد �أ�ضحى جن��اح �أي ف��رد يف هذه املجتمعات يعود يف �أ�سا�سه ل�سيادة ال�سلطة احلاكمة ،ال للعقل املبدع له ،وهذا ما يعول عليه الإعالم التابع للنظام يف جناحه. وباملقابل جند �أن كثري ًا من الطرق املو�صلة للنجاح ب�شكل عام قد ُح�صرت يف عقلية ال�شعوب عند طرق �أب��واب الف�ساد بتغطية من م�س�ؤول نافذ يف الدولة ،وما ذلك �إال لأن ف�ساد الأنظمة احلاكمة والقب�ضة الأمنية املخابراتية لها ارتفعت بقوتها احلاكمية على ق��وة �إعمال
القانون ،و�أ�صبح العدل ق�صة من�سية وكذا احلق والأمانة وال�شرف والكرامة الإن�سانية .يف ظل �أنظمة كهذه ال ميكن �أبدا �أن ن�ضع �أ�سباب تخلف املجتمع كام ًال على الأف��راد ،فنقول �إن الدولة الفالنية متخلفة لتخلف �أفرادها ،لأن النظام الذي ال يحرتم �شعبه وال ميده ب�أ�سباب النجاح، ال ب��د �أن جن��د �شعبه يعي�ش حت��ت خ��ط الفقر الفكري ..ومهما عمل الفرد على تطوير ذاته فكري ًا وثقافي ًا وحاول عرب وعيه امللتزم بحدود مقررات ال�سلطة احلاكمة ا�ستخدام حريته يف التعبري ،ف�إنه يبقى حم��دود ًا كثري ًا �ضمن هذا القدر امل�سموح له به. هذا ما هدفت له غالبية الأنظمة احلاكمة يف وطننا العربي ،عرب ن�صف ق��رن من الزمن، ت ��أط�ير �إب����داع امل��واط��ن وح�����ص��ره يف قوقعتها حفاظ ًا على موقعها يف احلكم ،حتت �شعارات ما ع��ادت جت��دي يف القرن ال��واح��د والع�شرين ع�صر التكنولوجيا واالت�����ص��االت ،ال���ذي فتح �أعني ال�شعوب لتطلعات �أكرب بكثري من تطلعات الأنظمة ،فكان �أن انتف�ضت مطالبة بحقوقها يف احلياة. ويف خ�ضم ما و�صلت له هذه الثورات اليوم من نتائج ميكننا �أن ن�ستقر�أ العقل العربي وكيفية تكوينه خالل املرحلة املا�ضية ،لنجده منق�سم ًا �ضمن خ��ي��اري��ن ال ث��ال��ث لهما ،الأول :التابع لل�سلطة واخليار الع�سكري� .أما الثاين فهو اخليار الديني حتت منظومة قيادة الإخوان امل�سلمني، علم ًا ب�أنه يف بع�ض البلدان التي تقدمت فيها الثورات عن مرحلة �إ�سقاط النظام ،كان الهدف خاللها م�شرتك ًا بني كال الطرفني.
وم��ا ه��ذا التخبط ال��ذي وقعت به �شعوبنا اليوم �إال �سيا�سة ممنهجة ال�ستبداد حاربته ع�ب�ر ث��ورات��ه��ا وحت���ارب���ه ب�����ش��ع��ارات امل���ن���اداة بالدميقراطية والتعددية ،ولكنها بنف�س الوقت ن�ش�أت عليه وما ا�ستطاعت فكري ًا جت��اوزه بعد، ا�ستبداد طرف بال�سلطة دون م�شاركة الطرف الآخ���ر ،بينما العقل احل � ّر و�أمنيات امل�ستقبل لفكر بعيدا كل املن�شود تتطلب خلق ًا ج��دي��د ًا ٍ البعد عن تلك الأفكار البالية التي ما عاد لها وجود يف املجتمعات املتح�ضرة واملتقدمة فكري ًا. ق��د ي��ق��ول ق��ائ��ل ان��ن��ي �أح���اج���ي الأوه����ام واخليال مبا �أدعو له من ال�سعي خللق فكر جديد يكون لنا قدوة مل�ستقبل ن�أمله ،و�أنه لي�س مبقدور ال�شعوب الوقوف مبواجهة هذين التيارين اللذين ميلكان كل �أ�سباب القوة و�أهمها امل��ال وال�سالح والت�أييد ال��دويل ..ولكنني �أرى �أن هذا �صوت الالعقل ،فمن �سعى حلريته ع�بر ث���ورات �ضد �أنظمة م�ستبدة ظاملة ،ودفع يف �سبيل ذلك �أثمانا باهظة ،ال بدّ �أن ي�سعى لي�صل �إليها كاملة ،فال ي�ستبدل م�ستبد ًا ب�آخر ،بل �إن اخليارات التي تفتح �أب��واب امل�ستقبل كثرية وال �شك �أنها �أنبل و�أرقى و�أ�سمى من خيارين عانت عقودنا املا�ضية من تخلفهما الفكري ،الكثري. فلنعلنها ال هذا وال ذاك ،ولنتبع نوافذ النور املنبثقة من العقل ولنمنحها الفر�صة لإب��داع �أفكا ٍر ت�صحح م�سارنا عرب تعا�ضد وطني م�شرتك من �أجل �إيجاد مفتاح امل�ستقبل لبالدنا. تعالوا لن�صنع خياراتنا ب�أنف�سنا فال نتناول البايل منها واجلاهز حد التخمة.
لن يعودوا �إىل عائالتهم يف العيد
�أف���ادت ر�سالة م��ن منظمة "هيومان رايت�س ووت�ش" احلقوقية ب���أن امل��را���س��ل الإ���س��ب��اين املخطوف يف �سوريا، خافيري �أ�سبينوزا ،لن يعود �إىل بيته ليم�ضي الأعياد مع عائلته .وكان ال�صحايف اخلبري يف ال�ش�ؤون ال�سورية ،ورفيقه امل�صور ال�صحايف ري��ك��اردو غار�سيا فيالنوفاُ ،فقدا وهما ينقالن �أحداث الثورة ال�سورية و ُيعتقد �أنهما معتقالن لدى اجلماعات الإ�سالمية املتطرفة. خافيري ورفيقه لي�سا وحيدين يف حمنة تغطية ال�ش�أن ال�سوري� ،إذ �سجلت جلنة حماية ال�صحافيني �إختفاء ثالثني �صحافي ًا على الأقل يف �سوريا ومقتل � 61آخرين منذ 1992 يف ظروف ال تزال يف بع�ض احلاالت غام�ضة .ه�ؤالء جميعا لن يعودوا �إىل بيوتهم مل�شاركة عائالتهم و�أحبائهم فرحة العيد. قائمة "�أبطال" تغطية ال�ش�أن ال�سوري الذي بات ميثل منطقة النزاع الأك�ثر دموية طويلة تت�صدرها مرا�سلة �صحيفة "�صنداي تاميز" ،م��اري كولفن ،التي قتلت العام 2012يف ق�صف لقوات النظام ال�سوري يف حم�ص وباتت رمز ًا لل�شغف ال�صحايف يف تغطية النزاعات وهي تغطية �أتقنتها من �سريالنكا �إىل ال�شي�شان. واذا ك��ان مرا�سلو الإع�لام العاملي يحظون بالتغطية الأك�بر لدى اختفائهم �أو مقتلهم �إال �أن العدد الأك�بر من ال�ضحايا هم من املرا�سلني بالقطعة الذين باتوا العمود الفقري لتغطية التطورات الدرامية لل�ش�أن ال�سوري ميدانيا بعدما بات �إر�سال طواقم �صحافية كاملة �أمرا فائق الكلفة واخلطر للم�ؤ�س�سات االعالمية ،وبات رواده قلة قليلة بني ال�صحافيني املحرتفني .ه�ؤالء ال�صحافيون ال�شبان ،الذين
ارمت��وا يف نريان احلدث ال�سوري من دون �أي حماية تذكر �أو حتى حقوق ،مقابل �شغف دخول مهنة املخاطر من بابها الوا�سع ،باتوا املزود الرئي�سي لنا بالأخبار يف هذا امل�شهد املعقد .لن تعود غالبية ه�ؤالء �إىل بيوتهم �أي�ضا هذا العام ولعل غيابهم لن يكون ملحوظا لبعدهم عن �أ�ضواء الإعالم. يف معظم دول ما ي�سمى بالربيع العربي ،حتول عمل
املرا�سلني امليدانيني �إىل خماطرة حقيقية .يف م�صر ما بعد الإنقالب ،بات ه�ؤالء املرا�سلون "�أعداء" الدولة والهدف امل�ستمر للإعتقاالت وامل�ضايقات .البع�ض منهم �سقط يف عملية ف�ض �إعت�صام "رابعة" لأن�صار "الأخوان" وما تالها من �أح��داث عنف متوا�صلة .يف ليبيا� ،سقط العديد منهم �ضحية الر�صا�ص املجهول وانكف�أ البع�ض االخر عن التغطية امليدانية بفعل التهديدات املجهولة من "الأ�شباح" الذين باتوا احلكام الفعليني لليبيا ما بعد القذايف ،كما قال يل �أحد ال�صحافيني يف طرابل�س يف و�صفه لغلو �سطوة امليلي�شيات. يف املنطق التب�سيطي للأنظمة و�أبواقها الإعالمية ،لي�س رواد التغطية امليدانية ملناطق ال��ن��زاع��ات �سوى عمالء لأجندات بالدهم �أو اجلماعات التي حتركهم .وقد باتت وقائع تغطيتهم امليدانية التحدي الأبرز للرواية الر�سمية للأحداث التي تروج لها �أبواق الدعاية االعالمية النافذة. يف زم��ن و�سائط الإع�ل�ام احلديث التي باتت م�صدرا رئي�سيا للأخبار و�ساهمت اىل حد كبري يف اخللط ما بني ال�شائعة واخلرب ،ي�شكل رواد التغطية امليدانية يف مناطق ال��ن��زاع��ات م��ن جم���ازيف ال��ول��ع باملهنة عيوننا احلقيقية على احلدث مبا يتجاوز بكثري �سطحية ما تقدمه و�سائط التوا�صل الألكرتونية .من دون هذه التغطية املعمقة التي يقدمها ه�ؤالء وثمنها يف بع�ض احلاالت �أرواحهم ،كنا اليوم نغرق يف ظلمة اجلهل �أو غباء �أبواق الدعاية الر�سمية. لن يعود على الأرجح عدد كبري من ه�ؤالء �إىل بيوتهم هذا العيد �أو الذي �سيليه� .إال �أن نتاجهم ال�صحايف �سيبقى �شاهدا على ظالمية الأنظمة وعلى �شغف �صحايف بات عملة نادرة.
العدد 99
2014-1-5
الثورة ّ تولد �أعداءها.. حوار مع النحات ال�سوري عا�صم البا�شا. �صرب دروي�ش مل ي�ت�ردد النحات ال���س��وري عا�صم البا�شا يف االن�ضمام �إىل ثورة �شعبه منت�صف �آذار مار�س ،2011 ودعمها بكل ال�سبل املمكنة ،بخالف الكثري من املثقفني والفنانني ال�سوريني الذين ما زال��وا يت�ساجلون حتى الآن حول تو�صيف ما يجري يف بلدهم. ً وقد يكون من الغريب �أن نخو�ض حوار ًا �سيا�سيا مع فنان ارتقى �إىل م�ستوى العاملية كحال البا�شا ،ونبتعد ٍ عن احلديث حول الفن والنحت� ،..إال �أن ما يحدث يف �سوريا اليوم يجعل من كل �شيء �سيا�سي بامتياز. مبكر ًا غادر البا�شا �سوريا ،واختار املنفى الطوعي، كان يحلم ب�سوريا الوطن عندما �أنهى درا�سته وعاد �إىل "البلد" ،ليفاجئ ب�سوريا الأ�سد ،حيث كانت متاثيل الأ�سد الأب جت�سم على كل خلية من روح ال�سوريني؛ يقول البا�شا " :جاءت مالحقة الق�صر اجلمهوري يل لإجن��از متاثيل "القائد �إىل الأبد"! تلك هي الكوة الوحيدة التي ُفتحت �أمامي كنحّ ات .كانت املالحقة ملحاحة (حملت التهديد ال�ضمني التقليدي يف نظام كهذا) وحملت ً عرو�ضا مالية مغرية للغاية .ق ّررت مع زوجي �ضرورة الرحيل .كان ذلك �سنة ..1987وما زلت حتى الآن يف املنفى االختياري". �أغلقت عقود حكم الأ��س��د كل �أف��ق ل�ل�إب��داع يف املجتمع ال�سوري ،فانحطت الثقافة ومعها الفنون، ودخل املجتمع يف مرحلة تخلف قد ال ت�شبهها �شيء �سوى �سنوات احلكم العثماين رمب��ا؛ الفرد ب�صفته ف��اع� ً لا اجتماعي ًا �سي�ضمحل حت��ت وق��ع الطغيان، و�سي�ضمحل معه القدرة على الإبداع واخللق ،و�سيحل عو�ض ًا عن ذلك دم��ار ثقايف و�أخالقي وحتى جمايل على �صعيد املجتمع ككل ،ومن رف�ض االن�صياع �إىل هذه املعادلة -اجلرمية ،ف�ضل الرحيل خارج حدود الوطن، يقول البا�شا " :رمبا حاول حزب البعث احلكم قبل �سنة ،1970فما جاء بعد هذا الت�أريخ كان حكم عائلة عاثت يف البالد ف�سادًا و�إف�سادًا ..وطغيا ًنا .انحدرت
نبيل �سليمان
�سورية وتراجعت ع ّما كانت عليه يف ال�ستينات درجات كثرية ولي�س يف النحت فقط ،بل يف ّ كل املجاالت .يُق ّدر عدد املغرتبني املرغمني للبحث عن لقمة العي�ش يف عهد �آل الوح�ش باملاليني .فهل تعترب بل ًدا يُجرب �أبناءه على الهجرة بح ًثا عن القوت بل ًدا قيد التطوّر؟ ثم �أن �أ�سباب االنهيار معروفة للجميع وميكن اخت�صارها بذكر الأجهزة الأمنية اخلادمة للنظام والع�صابة التي ا�ستولت على مق ّدرات البلد .ما من جمتمع �أو �شعب خال من املواهب ،فهي تلد مع جميع الأطفال .ال�شرط االجتماعي واالقت�صادي وال�سيا�سي هو الذي ي�سمح بتطوير هذه املوهبة �أو تلك .لكنّ النظام منع احللم! ف�ضمرت قدرات �أجيال بكاملها". على هذا الواقع املرير انتف�ض ال�سوريون ،وبا�شروا مرحلة التغيري خا�صتهم ،بحراك ثوري �سلمي ،ركز منذ اللحظة الأوىل على �شعارات الكرامة والوحدة الوطنية والدميوقراطية ،بيد �أنه ووجه بع�سف وقمع قل نظريه ،فانحرفت ثورة ال�سوريني� ،أو هذا ما بدى للكثريين ،وراحت ت�أخذ منح ًا �آخر خمتلف ًا لي�س �أوله العنف اجلاري على الأر�ض ولي�س �آخره �شبح احلرب الأهلية املخيم على املنطقة ،بيد �أن للبا�شا ت�صور �آخر، يقول" :هي مل تنحرف يف جذورها .ما زالت الغالبية تطمح حل ّقني ب�سيطني وم�شروعني يف ك� ّ�ل الد�ساتري الب�شرية :احلرية والكرامة! مواجهة هذا املطلب بالقتل واالعتقال والتعذيب حتى املوت (كما حدث لأخ��ي من�ير) هو ال��ذي جعل ال�شارع ي�ضيف �إ�سقاط النظام كمطلب �إ��ض��ايف يف �شعاراته ال�سلمية .قلت باكرًا ،رمبا منذ �سنتني �أن علينا �أ ّال ننتظر م�ساعدة من �أحد ،فاجلهات الأربع ال تريد جناح ثورة ت�سعى �إىل الدميقراطيةّ ، وكل جهة لأ�سبابها الذاتية وا�ستجابة ت�صب ،ب�شكل �أو ب�آخر ،يف مل�صاحلها .وكل تلك امل�صالح ّ خدمة �إ�سرائيل .ل�ست �سيا�سيًا حمرت ًفا (كل �إن�سان �سيا�سي بال�ضرورة) وال حم ّل ًال �سيا�سيًا. يحمل ر�أ ًي��ا ّ
�أعتمد على قدر من احلد�س وعلى ما �أمكنني من العقل .حتريف وت�شويه الثورة �صنيعة النظام وحلفائه مبباركة من الغرب واجلنوب .هي �أ�سهل ال�سبل لإحباط ال�ث��ورة .وم��ا �أك�ثر املرتزقة يف جمتمعات الفاقة واجلهالة!". بيد ان ث��ورة ال�سوريني مل تتوقف بعد وملا ت�صل �إىل نهايتها ،في�صعب التنب�ؤ و�إطالق الأحكام امل�سبقة ح��ول م�ستقبل ال�صراع ال��دائ��ر اليوم، فال�سوريون يقاتلون على عدة جبهات ،وي�سعون �إىل �شق �أف��ق يعيد املعنى �إىل حياة �أجيالهم املقبلة ،يقاتلون على جبهة نظام الأ�سد احلاكم، الذي و�ضع ال�سوريني �أمام خيارين� :إما بقائه و�إما فناء البلد! ،ويقاتلون على جبهة التطرف ومن يقف خلفه وي�سعى �إىل فر�ض ا�ستبداد بديل عن اال�ستبداد القائم ،ويقاتلون على جبهة الفا�سدين
الذين ت�سللوا �إىل �صفوف الثورة ..ويحلمون –رغم بغد خمتلف ،يقول البا�شاّ " : كل التجارب ذلكٍ - الثورية مت ّر مبراحل وحاالت كمون .الفرن�سية احتاجت لأكرث من � 70سنة حتى حت ّقق �شعارها الثالثي .والثورة البل�شفية �سرعان ما �أحبطتها ال�ستالينية ،فالثورة تو ّلد �أعداءها � ً أي�ضا! �أثمن ما يحدث بعد اندالع احلالة الثورية هو الإفراج عن القلق املطمور يف النفو�س� .شعب ي�ضط ّر �إىل العي�ش �ساك ًتا هو �شعب مقموع بطغيان م��ا .ما من ّ �شك ل��ديّ من �أن املجتمع ال�سوري مبكوّناته املتع ّددة التي تعني ثراءه ومتيّزه لن يقبل ّ قط ا�ستبدال ا�ستبداد ب�آخر ولو تق ّنع ب�شعارات دينية� .أجدين بني املت�أملني املتفائلني ،لأنني �أعي�ش مع الزمن ولأجله ،والزمن ال يعرف العودة".
"عائد �إىل حلب" رواية الأهوال
تنادي احلرب �أول ما تنادي املوت .ويف �سوريا ،كما يخاطب �أحدهم ال��راوي� ،صار املوت اعتيادي ًا بعد �آذار � ،2011صار املوت ي�أتي على عجل ومي�ضي على عجل. �إنها احلرب ،ت�ستنه�ض �أجمل و�أقبح ما فينا� .إنها احلرب حني يغدو الوطن جم ًال ت�صطف لتحكي ق�صة الوجع املكابر. بهذه العبارات ي�ص ّدر ال�سوري عبد اهلل مك�سور روايته (عائد �إىل حلب)� .أما احلرب التي يعنيها فهي هذه التي تدور يف �سوريا وعليها ،والتي كان الكاتب قد �أوقف عليها روايته الأوىل (�أيام يف بابا عمرو). تتقاذف احلرب ال��راوي �إىل �أن ترميه يف حي �سيف الدولة يف حلب حيث الهيمنة جلبهة الن�صرة .وهنا ،كما �سيلي يف غري مكان ،جت�أر الرواية �أن الوقت هو وقت احلرب العمياء التي ت�أكل ال�سوريني .ك�أنها حيوان بري يف �أدغال �إفريقيا� .إنها حرب دون جمتمع حرب ،دون خطوط �أمامية �أو خلفية لإ�سعاف اجلرحى ،حرب خمتلفة الأه��داف باختالف الأط��راف املتحاربة .وباخت�صار: :هي �سقوط �ضحايا �أبرياء وتدمري الوطن”. يف موقع �آخر تخرب الرواية �أنه ال ميكن لك يف زمن احلرب ال�سورية �أن مت�ضي يف رحلة دون �أن ت�ؤمن على حياتك من طرف ما من الأط��راف املتحاربة ،له ح�ضوره و�سطوته وارتباطاته على الأر�ض. وقد جت�سد ذلك يف رحلة الراوي مع ال�صحفي الفرن�سي من حلب �إىل اللطامنة ،حيث يقعان يف فخ ع�سكري ر�سمي� ،سرعان ما �سيهاجمه امل�سلحون
فتنقلب الآية ،ونقر�أ �أن كل �شيء ممكن يف احلرب على هذه الأر�ض ،حتى انقالب الأعداء �إىل �أ�صدقاء ،وتخ ّلي الأخ عن �أخيه ،و�إنقاذ ع�سكري ملعتقل تربطهما قرابة الدم ،وهذا ما �صادف الراوي حني ظهر ابن عمه الع�سكري يف اجلي�ش ،ف�أنقذه .وتتابع الرواية القول“ :يف هذه احلرب يعود ال�ضابط الذي كان قبل نومه ملك ًا ي�أمر وينهي �إىل معتقل مكان من كان يعذبهم ،ومن كان معتق ًال مي�سك مبفاتيح ال�سجن ،فتنقلب ،املرايا وتتغري الألب�سة فقط”. تنادي احلرب �أول ما تنادي املوت .ويف �سوريا ،كما يخاطب �أحدهم ال��راوي� ،صار املوت اعتيادي ًا بعد �آذار � ،2011صار املوت ي�أتي على عجل ومي�ضي على عجل ،ليرتك على عجل �أثر ًا يذهب على عجل �أي�ض ًا ،بعد �أن يحفر يف القلب مكان ًا .ولأن املوت قد فقد هيبته و�سطوته يف هذه احلرب، ويف ه��ذه البالد ،فلنم�ض �إىل ما دون��ه مما تناديه احل��رب ،وه��و النزوح والتهجري والهجرة واللجوء واملخيمات .فقبل �أن ي�صل الراوي �إىل حلب، حل يف (الريحانية) على احل��دود الرتكية ،حيث عاين املخيم ال��ذي ال مقومات للحياة فيه ،بل فيه انتظار املوت القادم ،وحالة من العدم ترتامى من خميم ال��زع�تري يف الأردن �إىل خميّم كل�س يف تركيا .ولأن املخيم والالجئني خزان من الق�ص�ص ،فقد اختار الكاتب من هذا اخلزان ما �أ�سنده لأ�صحابه ،مومئ ًا �إىل الوثائقية باكتفائه باحلرف الأول من ا�سم ال�شخ�صية التي تق�ص ق�صتها. ومن ذلك (�س .ك) الالجئة من دير الزور ،وكان زوجها قد ق�ضى يف
انهيار �سد زيزون عام ،2001كما ق�ضى ابنها الوحيد مع اجلي�ش احلر ،لكن �أح��د ًا ممن كانوا معه مل يهتموا بها وبابنتيها اللتني تعر�ضتا لالغت�صاب �أمامها .وتت�ضافر الق�ص�ص لتعزز ال�صور الإجمالية التي تقدمها رواية (عائد �إىل حلب) عن خميم اللجوء .وم��ن ذل��ك �أوالء ال�شباب الذين ينتظرون امل�ساعدات التي �سمعوا بقدومها ،وكذلك هم املراهقون الذين وقفوا يف منت�صف املخيم بانتظار فتاة تعرب “كي يف�صلوا ج�سدها ويقي�سوا طول �ساقيها وتدوير نهديها” .ويحكم الراوي ب�أن هذا الأمر مقرف ،و�أن �أوالء املراهقني عابثون .و�إذا كان املخيم ،بح�سب الراوي ،هو �أكرث كيلو مرت مربع على الكرة الأر�ضية ينعم باحلرية ،حيث بو�سعك �أن تقول ما تري دون اخلوف من �أحد “فاملوت قادم قادم” ،ففي ال�صورة الكربى لالجئني ما عاد �أحد يخ�شى �أحد ًا� ،إال �أن يكون حام ًال لل�سالح ،فحامل ال�سالح قد يخيف اجلميع .والالجئون الذين يت�شاجرون �أمام امل�ساعدات “املغمو�سة بامل�صالح” يقيّمون يف جل�ساتهم الت�سليح ،والعمليات ،وم�ؤمترات املعار�ضة ،والدعم الأجنبي ،وير�سلون لعنتهم على كل �شيء ،ويتذكرون كيف ا�ست�ضافوا العراقيني عام 2004واللبنانيني عام “ 2006يتذكرون ويف قلوبهم غ�صة من بالد العرب التي ترف�ض �أن تعطي �أبناءهم فيزا لزيارتها والعمل بها” (عائد �إىل حلب) رواي��ة مغم�سة بالدم والوجع والقلق ،وقبل ذلك وبعده هي رواية ال تخ�شى ً لومة يف نقد الذات وتعريتها ،مما بات ـ رمبا ـ هو ال�ضرورة الق�صوى لهذا الذي �سنطوي �سنته الثالثة يف �سوريا عما قريب.