1
األولويات :حبات من الجوز ،وحبوب من القمح ،وحبيبات من السمسم . فريد أبو سرايا الشارع الخالي يمتص امتالءك ؛ والشارع الممتلئ يمأل خالءك .
.
ميهمت ُمرات إلدان . أطلعت في اآلونة األخيرة على مقال بعنوان ( كرات غولف في مرطبان ) ،وهو مقال يناقش في األساس فكرة األولويات ،وقد أعجبتني هذه الفكرة أيما إعجاب ،واهتززت لها طربا ؛ بين الشمائل هزة المشتاق ،كما يقول أحمد شوقي ،وتساءلت :لماذا ال تحظى فكرة األولويات باالهتمام الجدير بها في المجتمعات التي ال توليها أدنى اهتمام ،والتي هي جديرة بأن تأخذ بها ؟ تفكرت مليا في مدى أخذنا بهذه الفكرة عند وضع الخطط وتنفيذ األعمال ،فتبين لي كم هي متأخرة قضية األولويات في سلم أولوياتنا . أشعر بأنني قد أكون مغاليا بعض الشيء في التنظير لفكرة األوليات ،ولكنني على الرغم من هذا الشعور ،ال أرى بأسا من الناحية الواقعية العملية بوجوب النظر إلى هذه الفكرة كمبدأ عام يضبط حركة السياسة واالقتصاد والمجتمع ،ويساعد على تقدمها وإزدهارها ،ولهذا السبب فإنني أرى أنها جديرة بكل اعتبار وتقدير واهتمام، وكتجسيد لهذا االعتبار والتقدير واالهتمام ،اقترح أن ينصب لها تمثاال ليُذكر الناس بقيمتها وأهميتها ،كما تنصب تماثيل للمحاربين وللكالب ولألسماك والخيول . في غمار التفكر بموضوع األولويات ،تذكرت قصة طريفة ذات مغزى سمعتها منذ زمن بعيد ،ولعل سبب تذكري إياها ،هو أن مغزاها Moralيقترب في مضمونه من فكرة األولويات .تقول هذه القصة :أن أحد مالك األراضي أراد ذات يوم أن يغرس بعض األشجار في مزرعته ،فأستأجر ثالثة عمال ،وقسم العمل بينهم ، فجعل أحدهم يحفر ،والثاني يغرس الفسيلة ،والثالث يردم .في اليوم األول ،بدأ العمال بغرس األشجار كما هو مخطط ،وفي اليوم الثاني تغيب العامل المكلف بغرس الفسائل في الحفر ،فصار العامالن األحمقان اآلخران يعمالن بأن يقوم المكلف بالحفر بالحفر ،ثم يقوم المكلف بالردم بالردم . تتضمن هذه الحكاية الطريفة ،فضاء عينة Sample Spaceيعلق بالذهن ،وال يمكن نسيانه بسهولة ،أال وهو ؛ يحفر ،يغرس ،يردم .وأحسب أن فضاء العينة هذا ،هو تجسيد زراعي لمبدأ األوليات . في علم االحتماالت ،هناك مبدأن رئيسان في عمليات االختيار ،وهما ؛ التباديل ، Permutations والتوافيق ، Combinationsوإذا كان علينا اختيار ثالثة عناصر من فضاء العينة ؛ يحفر ،يغرس ،يردم ، فسيكون لزاما علينا تحديد ما إذا كنا نرغب في اختيار تبديل من تباديل ،أو توفيق من توافيق ،فالتباديل تعني بالتفاصيل ،وللترتيب فيها أهمية قصوى ،بينما التوافيق ال تهتم بالتفاصيل ،وليس للترتيب في منظورها أي أهمية على االطالق . 2
من المعلوم أن التبديل (يحفر ،يغرس ،يردم) ،هو تبديل مختلف تمام االختالف عن التبديل (يحفر ،يردم ، يغرس) ،بينما في التوافيق ؛ (يحفر ،يغرس ،يردم) هو توفيق مماثل للتوفيق (يحفر ،يردم ،يغرس) ،وال فرق بينهما على االطالق . ال ُخالصة هي :إذا كانت أولوياتنا تحكمها التباديل فسيكون هناك اختالف بينها ،وسيكون لدينا خيارات ، ونكون حينها (نحفر ،ونغرس ،ونردم) .أما إذا كانت أولوياتنا تحكمها التوافيق ،فسنكون عندها ؛ (نحفر ، ونردم ،ونغرس) .هذا هو كل ما في األمر . يقول الفيلسوف الروماني سينيكا إن األسلوب هو ثوب الفكرة ،وإن ما أفعله أنا هنا هو ببساطة مجرد محاولة ألكسو فكرة جميلة ــ فكرة األولويات ــ ثوبا جميال قدر اإلمكان ،أو فلنقل إنني أنحت تمثاال يجسد هذه الفكرة العظيمة ،وأنصبه هنا على هذه الصفحات . ُمحفزا بإعجاب إلى حد التيه بما جاء في مقال ( كرات غولف في مرطبان ) ،قررت أن أطبق فكرة المقال عمليا ،مع إجراء بعض التحويرات ؛ وبالتالي قمت بتغيير محتويات المرطبان واحللت محلها أشياء مألوفة لنا و متوفرة لدينا ،فاستبدلت كرات الغولف بحبات من الجوز ،والرمل بحبوب من القمح ،وأضفت حبيبات السمسم إلى حبات الجوز وحبوب القمح .لقد اخترت حبات الجوز بدال من كرات الغولف ،بسبب شكلها الكروي ،وأيضا بسبب الشبه الغريب بين لب حبة الجوز والدماغ البشري . إذا كانت ثمرة الجوز تحمل شبها بالدماغ ،فلن يكون اختيارها إال تيمنا بما تتشبه به .
كان الغرض من التطبيق العملي هو مأل مرطبان زجاجي بثالثة أشياء ؛ وهي حبات من الجوز ،وحبوب من القمح ،وحبيبات من السمسم ،بحيث ال بد أن يكون في المرطبان مجتمعة فيه ؛ حبات وحبوب وحبيبات . يعتبر وجود حاوية فارغة يمكن استخدامها إلحتواء عدة أشياء ،شيء رائع ومنفعة مؤاتية ،ولكن لن تحصل المنفعة أبدا حتى ت ُمأل هذه الحاوية بأشياء مناسبة ،وبترتيب مناسب ،وهكذا يتم اإلحتواء األمثل ،وهذا هو األروع . 3
ال يهتم العقل التوافيقي بالترتيب ،فكل الخيارات في نظره سيان ،فقد يبدأ بمأل المرطبان بحبيبات السمسم حتى حافته ،وعندما يريد أن يجد مكانا لحبوب القمح يُسقط في يده ،ناهيك عن أن يجد مكانا لحبات الجوز ، أما العقل التباديلي فللترتيب أهمية قصوى لديه ،ومن بين الخيارات المتعددة المتاحة ليس هناك إال خيار واحد معقول ،وهو حبات الجوز ،فحبوب القمح ،ثم حبيبات السمسم ،وبالتالي يكون المرطبان مملؤا بحبات وحبوب وحبيبات ،وبصيغة عمال المزرعة ،نكون عندها (نحفر ،ونغرس ،ونردم) . أحضرت مرطبانا ،ووضعت فيه حبات من الجوز حتى لم يعد هناك متسعا إلضافة حبة واحدة ،وكان المرطبان مثبتا على آلة دوارة هزازة .بسبب الشكل الدائري لحبة الجوز ،نشأ عن ذلك فراغات بين حبات الجوز بعضها البعض .بعد ذلك سكبت قمحا فوق حبات الجوز ،ومع اهتزاز ودوران المرطبان تغلغلت حبوب القمح بين حبات الجوز ومألت الفراغات الناشئة بينها .يضمن كل من الدوران واإلهتزاز حدوث الرص التام ،فالحركة الدورانية تمسح مستويين ،والحركة اإلهتزازية تجري في مستوى عمودي على المستويين المذكورين، وبذلك يتحرك المرطبان في فضاء ثالثي األبعاد ،وكأنه رياضي يتزلج على الجليد وينط على حبل في نفس الوقت ! وبالتالي يخرج لنا قد يغري هذا التشبيه عالم لسانيات بأن ينحت كلمة جديدة للتعبير عن التزلج والنط اآلنيان ، ُ هذا العالم من جعبته كلمة ( التزلط ) للتعبير عن شطحة من شطحات الخيال ،ولكن إلى أن تجري رياضة (التزلط ) على أرض الواقع ،فإنني أعتقد أن هذه الكلمة ستظل حبيسة سراديب المعاجم ،وأقبية القواميس . على ذكر الدوران ،تزخر اللغة العربية بعدة مفردات تحمل معاني الدوران ،وإن كان بكيفيات مختلفة ،فهناك فرق بين الدوران واللف والبرم والغزل واإللتواء ،وبما أن اللغات عند أدنى مستوياتها low-level languegesتكون قريبات جدا من المعالج المركزي كما يقول مهندسو الحاسوب ،وتتشابه في تعبيراتها عن العمليات ،ألن اللغات في الواقع عند هذا المستوى ما هن إال أخوات غير شقيقات ،واللغة اإلنجليزية هي اآلخرى غنية أيضا بالمفردات التي تعبر عن حاالت الدوران ،ومنها على سبيل المثال turn , revolve , : .twist , whirl , spin إذا كان دوران الشئ حول مركزه يسمى غزال ،فإن دوران الشئ حول مركز يقع خارجه يسمى دورانا .من هذه الناحية ،يمكن اعتبار الوجودي Existentialistالدائر حول نفسه ،على أنه يغزل وال يدور ،أما كوكبنا العزيز األرض ،فهو يغزل ويدور في آن واحد ،فهو يغزل أو يبرم حول نفسه ،ويدور حول الشمس ، وعلى هذا األساس يمكننا القول أن كوكب األرض من هذا المنظور ،هو وجودي ،وال وجودي في آن واحد . تشغل األرض حيزا مكانيا في الفضاء ،وهذا يعني إنها ثالثية األبعاد ،ولكن هذا ال يمنعنا من القول أن حركتها الغزلية والدورانية تتم في مستويين اثنين فقط ،وهذا بدوره يجرنا إلى التساءل عن المصير الذي ستؤول إليه
4
األرض لو أنها أهتزت كما هي تغزل وتدور ،أي أنها أضحت تتزلج ،وتنط على حبل في نفس الوقت ،أو تسبح وتغطس في الفضاء ،كالدالفين التي نراها تسبح وتغطس تقريبا في آن واحد . ال ريب أن إضافة حبوب قمح يحل مشكلة ،ولكنه في نفس الوقت يخلق مشكلة آخرى من نفس النوع ،فحبوب القمح عندما تمأل الفراغات الحاصلة بين حبات الجوز ،تخلق فراغات أخرى بين بعضها البعض .قد يلغي القمح فراغات ولكنه يخلق فراغات آخرى جديدة ،فتنشأ بين حبوبه تجاويف ألن أشكالها الخارجية ال تحددها خطوط مستقيمة ،وإنما منحنيات ،وحيثما توجد منحنيات فالبد أن تنشأ تجاويف وفراغات . أدرك الشاعر األرجنتيني الكبير ،أنطونيو بورشيا هذه الحقيقة فقال معبرا عنها :
نكون مدركين للفراغ بينما نحن نمأله .
سكبت حبيبات السمسم في المرطبان الزجاجي الدوار الهزاز فوق حبات الجوز وحبوب القمح ،وبالدوران واإلهتزاز ،أخذت حبيبات السمسم تشق طريقها إلى التجاويف والفجوات الصغيرة ،فطردت منها الهواء وحلت محله .إن الناظر من جوانب المرطبان الزجاجي يبدو له المنظر ممتلئ حتى الحافة بالسمسم والقمح والجوز ، وتساءلت :أليس لحبيبات السمسم هي األخرى خطوطا خارجية منحنية ؟ بلى ،إن أشكالها يغلب عليها طابع اإلنحناء واإلستدارة . ومن يضمن في هذه الحالة أن ال تنشأ مغارات صغيرة بين حبيبات السمسم بعضها البعض ،وأن هذه المغارات الصغيرة ستحتلها حتما خفافيش الهواء ؟ إذا كان األمر كذلك ف إن الماء هو الفيصل في هذه الحالة ،أليس الماء هو ما يمأل الفراغات بين األجنة وأرحام أمهاتها ؟ هناك حاالت نادرة ال يستطيع الماء فيها أن يمأل فراغا ،وهو ما يحدث بين الجنادل الكبيرة وسط تيارات األنهار المتالطمة ،إذ تنشأ في بعض األحيان جيوبا من الهواء بين الصخور تكون في حصانة من غزو الماء 5
لها ،ولكن هذه الحصانة والمنعة ليست بسبب الصخور أو الهواء المحصور في تجاويفها وإنما ألن تيار الماء يجد في طريقه تيارا آخر يحول بينه وبين مأل الفراغ وطرد الهواء ،وكما يقول المثل العربي؛ صادف درء السيل درء يصدعه . صببت الماء في المرطبان ،فوق حبات الجوز وحبوب القمح وحبيبات السمسم ،فتدفقت جداول صغيرة منه إلى أسفل المرطبان مالئة في طريقها كل تجويف وفراغ ،وكأن الماء وهو يتغلغل بين حبيبات السمسم هو علي بابا الواقف أمام مغارات السمسم الصغيرة ،ويصيح فيها بملء فيه بالكلمة السحرية :أفتح يا سمسم . بإمكان األصغر أن يتغلغل بين الصغار ،وبإمكان الصغير أن يتغلغل بين الكبار ،وهذه هي الحالة المثلى .وبكل سهولة ،بإمكان األصغر أن يجد مكانا بين الكبار ،ولكن في هذه الحالة لن يكون هناك مكانا للصغار .يحدث أسوأ نموذج عند مأل المرطبان بحبيبات السمسم ،فعندئذ لن تجد حبوب القمح وحبات الجوز حيزا مالئما ألحجامها بين حبيبات السمسم ،ولن يكون هناك مجاال بين حبيبات السمسم إال للماء .، أما عند مأل المرطبان بحبوب القمح ،فبإمكان حبيبات السمسم أن تتغلغل وتجد لها مكانا في الفجوات المحصورة بين حبوب القمح ،ثم يأتي بعد ذلك يأتي دور الماء ليطرد الهواء ويمأل الفراغات ،وفي هذه الحالة لن تجد حبة واحدة من حبات الجوز مكانا لها بين هؤالء الصغار . إن األولوية في نظر الفيلسوف األلماني الكبير غوته منوطة باألهمية ،فاألهم أولى من المهم ،ولذا فالمهم يجب أن ال يتولى أمر األهم ،ويعبر عن فكرته بقوله : األشياء األكثر أهمية يجب أن ال تكون تحت رحمة األشياء األقل أهمية . جوهان وولفجانج غوته
6
في الواقع ،إن وجود ثغرات وفجوات ليس كافيا بحد ذاته بأن يتواجد فيها شئ ما ،ولكن يتعين على ذلك الشئ أن يكون له حجما حرجا محددا أو حجما أصغر منه ،ليلج ذلك الشئ إلى الفجوة ويشغل حيزها . بصيغة عمال الزرعة ،فإن سلم األوليات في مأل المرطبان يتحدد باختيار التبديل ( حبات جوز ،حبوب قمح ، حبيبات سمسم ،ثم أخيرا الماء ) . يبدو المرطبان إلى الناظر إليه أنه قد وصل إلى حالة اإلمتالء ،فالماء قد انتشر في كافة أنحاء المرطبان ولم يترك لفقاقيع الهواء متسعا من فجوة أو حفرة إال وطردها منها ،فكما يُقال ؛ ال يفل الحديد إال الحديد ،ولكن في هذه الحالة الخاصة ؛ ال يفل الهواء إالّ الهواء ،أو كما قال الشاعر :
لكل شئ آفة من جنسه .....حتى الحديد سطا عليه المبرد ليس ماء الحياة بأكسجينه وهيدروجينه إال شكال من اشكال الهواء ،وعلى هذا األساس يمكن القول أن الماء هو هواء سائل ،فنحن في الواقع نتنفس الهواء ونشربه كذلك ،ونسبح فيه ونتزلج عليه ،وعندما يقول قائل أن الماء قد طرد الهواء من المرطبان فإن مفهومه للهواء يكون مغلوطا ،فكيف للماء أن يطرد ما هو جزء منه ،أو ما هو كل أجزاءه ؟ كيف للماء أن يطرد نفسه ؟ ما يحدث في الحقيقة ،هو أن الماء يرى في الهواء صورته البدائية األولية ،ولذلك فهو يغار عليه ،وال يود أن يراه قابعا في الحفر والشقوق ،بل يسره أن يعتلي الهواء جميع األشياء حتى لو أدى ذلك إلى فراقهما ، ويعلم الماء جيدا بأن هذا الفراق سيكون مؤقتا ،فإذا أشتاق إلى الهواء يوما فسيتبخر ويتحول إلى هواء، ويصعد إلى األعالي حيث يكون الهواء في استقباله ،وبعد أن يمضي بعض الوقت ،تبرد حرارة الشوق فينهمر من الغمام في شكل مطر يحيي السهول . الماء هو أصل الحياة ،وحبات الجوز وحبوب القمح وحبيبات السمسم ،هي أشياء تكمن فيها الحياة ، والمرطبان في هذه الحالة هو حاوية للحياة . إن المرطبان الممتليء ،هو كالحياة الممتلئة ،جديرة بأن تُعاش ،شريطة أن تكون ممتلئة بالطريقة المناسبة، ومليئة بأألشياء المناسبة .
وما توفيقي إالّ باهلل فريد أبو سرايا .األربعاء 1 ،أغسطس 2018 7