1
شمع وعسل :مأثرة النحلة زينة السداسية . بقلم :فريد أبو سرايا .
. ما هو ليس جيدا ً لخلية النحل ،ال يمكن أن يكون جيدا ً للنحل. اإلمبراطور الروماني ،ماركوس أوريليوس في الصراعات والحروب ،عندما يموت أشخاصٌ مغمورون من أولئك الذين يعيشون على هامش الحياة ،دفاعاًعن قضية ما ،يقوم مؤيدو تلك القضية ببناء نصبا ً تذكاريا ً لتخليد تضحيات أولئك البسطاء المغمورون ،ويطلقون عليه اسم نصب الجندي المجهول .الجنود المجهولون إذن هم أموات يحاول األحياء أن يوفوهم حقهم من الحمد والعرفان بالجميل ،ولكن هناك جنو ٌد مجهولون من نوع آخر ،جنو ٌد مجهولون ولكن ليسوا أمواتاً ،بل أحياء يعملون بال كلل وال ملل في سبيل قضية الحياة ،وهناك أحياء فضالء يعترفون لهؤالء األحياء المجهولون بالفضل ،ويقرون لهم بالجميل ،ومن بين هؤالء األحياء ،النحل التي يخرج من بطونها شراب فيه دواء للناس ،ومن بين هؤالء الفضالء ،الخبير الدولي بافان سوخديف الذي يقول؛ أنه ال يجب تجاهل عطاء النحل لنا ألننا نتحصل عليه بالمجان. لقد بنى سوخديف نصبا ً جديداً للجندي المجهول ،ولكن هذه المرة لتذكر أحياء يعملون بصمتٍ؛ وبكفاءة وفعالية ،ولكن الكثيرون ينظرون إليهم بنظر يعوزه الكفاءة والفعالية .
لم يحدث قط أن أرسلت لك نحلة واحدة فاتورةً .وهذا هو جزء من المشكلة ،ألن معظم ما يأتينا من الطبيعة هو مجاني ،وألنه ليس ُمعد في فواتير ،وألنه ليس ُمسعر ،وال يتاجر به في األسواق ،فإننا نميل إلى تجاهله . بافان سوخديف ،تقرير األمم المتحدة ،اقتصاد المجاالت الحيوية ،والتنوع الحيوي 2
عندما قامت مملكة النحل أول مرة حدث كثير من اللغط حول الشكل الذي ينبغي للنحل بناء بيوته به، وانقسم النحل إلى شيع وطوائف؛ فكانت هناك طائفة ترى أن الخاليا الدائرية هي البيوت المثلى للنحل ،وطائفة مع فكرة بناء خاليا مربعة ،وأخرى أيدت الخاليا المثلثة ،ثم بعد برهة من الزمن ظهرت نحلة بفكرة جديدة تدعو من خاللها إلى بناء خاليا سداسية الشكل ،وقالت تلك النحلة بلغة الرقص أن الشكل السداسي هو الشكل الهندسي األمثل لبناء الخاليا .استجابةً لرقصة النحلة ،هب النحل من كل الطوائف بأداء رقصات للتعبير عن آرائها ،ولتوضيح أفكارها والدعاية لها ،ولتفنيد فكرة النحلة المبتدعة ،وأفكار النحل اآلخرين. وذات يوم من األيام ،وهو ذلك اليوم الذي تغيرت فيه مملكة النحل عسالً وشمعاً ،طارت النحلة التي كانت تدعو إلى بناء خاليا سداسية الشكل ،وألنسنة الموضوع ،والتقريب إلى األذهان؛ دعونا نطلق على هذه ا لنحلة اسم "زينة" لما لهذا االسم من ارتباط تاريخي بالنحل .لم تكن زينة هذه بملكة وال ذكراً ،وإنما كانت إحدى الشغاالت في مملكة النحل .رسمت زينة بطيرانها عدة دوائر في الهواء ،وهي في الواقع لم تكن تدعو إلى بناء بيوتا ً دائرية ،ولكن على النقيض من ذلك تماما ً ،فقد كانت تفند فكرة بناء الخاليا الدائرية ،وقالت زينة مخاطبةً الشغاالت على وجه الخصوص: ــ " أيتها الشغاالت الكادحات ،الثابت أنه لو كان لدينا كمية محددة من مادة البناء وأردنا أن نبني بها مخزنا ً بأقصى مساحة ،ليتسع ألكثر ما يمكن ،فلن يكون ذلك المخزن إال على شكل دائرة" . توقفت زينة قليالً لترتب أفكارها ،لكي تحافظ على تسلسلها وسالستها ،ثم أردفت راقصة: ــ " إن هدفنا الرئيسي هو االستفادة القصوى من الحيز المكاني ،لتخزين أكبر قدر من العسل بأقل قدر من الشمع .والثابت أيضاً ،أنه بامكاننا بناء خاليا دائرية من الشمع ،فهي تتسع ألكبر كمية من العسل من تلك التي تتسع لها خاليا سداسية لها نفس المحيط .ولكن المثلبة الكبرى يا أخواتي الشغاالت هي أن بناء خاليا 3
دائرية يخلق فراغات فيما بين بعضها البعض ،وهذه الفراغات هي مساحات غير مستغلة ،في قرص العسل Honeycombوبالتالي ال يمكن تخزين العسل فيها" . ثم أرادت زينة أن تؤكد على عدم جدوى فكرة بناء خاليا دائرية الشكل ،فتابعت حديثها الراقص قائلة: ــ " لو كنا نحن معشر النحل نبني خلية واحدة لما وجدنا أفضل من الدائرة شكالً نبني به تلك الخلية، ولكننا نبني خاليا متراصة تشكل في مجموعها قرص عسل" . ٌ طنين من النحل المستمعين ،فأصغت زينة إليه ،وكان الطنين في مجمله يدعو إلى التفاؤل ،ثم استطردت صدر في حديثها الراقص قائلةً: ــ " لقد واجه أسالفنا هذه المشكلة ولكنهم لم يتوصلوا إلى حل مقنع لها .إن مادة البناء التي نستعملها هي الشمع الذي هو من لدنا ،ومن المعلوم أنه لكي ننتج وحدة واحدة من الشمع ،علينا أن نأكل سبع وحدات من العسل ،ولذلك فالشمع بالنسبة لنا هو سبعة أعسال ،أو سبعة عسول .نحن في الواقع يا أخواتي الشغاالت، نبني مما نأكل ،ونأكل مما نبني .إن الشمع هو الحاوية التي تحوي عسلنا وبيوضنا ،وبدونه سيتبدد كل شيء، إنه الحاوية التي تحوي حياتنا نفسها ،واالقتصاد في استهالكه سيوفر لنا مزيدا ً من العسل ،ولكي أوضح أهمية الشمع ساضرب المثال التالي :لو افترضنا أننا معشر النحل أردنا في يوم من األيام أن نبني معرضا ً لتماثيل الشمع فلن يكون عسيراً علينا فعل ذلك ،لكننا سوف لن نجد في يوم افتتاح المعرض مشروب عسل لنقدمه إلى الضيوف الحاضرين ،ولو كانت مدام توسو Madame Tussaudsلنا ظهيرا ،ألننا ببساطة سنكون حينها قد التهمنا كل العسل في عملية انتاج الشمع الذي صنعنا منه تماثيل المشاهير" . توقفت زينة قليالً لتستطلع رأي النحل في كالمها ،فلمست من إصغاء النحل إلى حديثها وعدم مقاطعتهن إياها استحسانا ً لكالمها ،فتابعت حديثها الراقص قائلة: مخزن بأقل مادة ممكنة ،ليتسع ألكثر مادة ــ " أيتها الشغاالت الكادحات ،إن أولى أولوياتنا هي بناء ٍ ممكنة ،ومن البديهي أنه إذا كنا نخزن العسل في خاليا نبنيها من الشمع ،وننتج هذا الشمع بأكلنا مما نخزنه من العسل ،فنحن في الواقع نخزن العسل في خاليا مصنوعة من العسل! أال ترين معي ،أن مادة البناء في هذه الحالة هي في غاية األهمية ،وسيكون اإلفراط في استعمالها على حساب مادة الحياة نفسها؟ " حينذاك قامت إحدى الشغاالت ورقصت رقصة مفادها ،السؤال التالي : ت العبارة ،ولكن ماذا عن إمكانية صنع ت الحديث وأوجز ِ ت فأجد ِ ــ " أيتها الشغالة الحكيمة ،لقد تحدث ِ أقراص عسل ،ببناء خاليا مربعة الشكل ،أو على شكل مثلث متساوي األضالع ،ففي هذه الحالة ال تنشأ فراغات بين الخاليا ،ويكون البناء متراصاً ،أليس كذلك؟ " 4
أجابت زينة الحكيمة على هذا السؤال برقصة معبرة تقول حركاتها: ــ " هذا سؤال ذكي ،جدير حقا ً أن تسأله نحلة .يا سيدتي الفاضلة ،لقد اهتديت إلى حقيقة مدهشة ،أال وهي أن األشكال المختلفة ،متساوية المساحة ،تختلف محيطاتها في الطول .وهذا يعني؛ إن باالمكان ،بمحيط محدد أن يكون لنا أشكاالً مختلفة ،لها مساحات مختلفة" . أجالت زينة نظرها في سرب النحل أمامها ،فرأت منه ما يشجعها على المضي في كالمها ،فتابعت حديثها ً مخاطبة السرب قائلة: الراقص ــ " أيتها الشغاالت الكادحات ،نحن نتعامل باألشكال ،وال بد في هذه الحالة من األخذ في الحسبان أن مساحة الشكل هي العسل ،وأن محيطه في الظاهر هو من الشمع ،ولكن في جوهره هو من العسل .إن المساحة هي الهدف وتحقيقها هو ما يعرف بالكفاءة ،ولكن االقتصاد في المحيط هو الضابط الذي يحدد الفعالية" . ولكي تعزز زينة جدلها ،وتجعله أكثر منطقية ،وبالتالي أكثر قبوالً في عقول النحل ،رأت أن األرقام هي الكفيل بذلك ،فلجأت إلى حديث األرقام ،ورقصت هذه المرة رقصةً رقميةً تقول في مضمونها: ــ " دعوني أوضح لكن أيتها الكادحات ،ما أقصده بلغة األرقام ،ألنها في نظري أصدق لغة : لو افترضنا أننا نريد أن نرسم بمقدار من الشمع طوله 36وحدة طول ،عدة أشكال هندسية؛ ففي مرة نرسم به دائرة ،وفي مرة ثانية نرسم به مربعا ً ،وفي ثالثة نرسم به مثلث متساوي أضالع ،وفي رابعة نرسم به مسدساً ،فكم ستكون مساحة هذه األشكال؟ " لم تجب أي واحدة من النحل على الفور على سؤال زينة ،ألنه لم يكن أيا ً منها تحفظ قوانين مساحات األشكال عن ظهر قلب ،فتطوعت زينة باإلجابة على سؤالها ،وقالت: ــ " ستكون مساحة الدائرة 103وحدة مساحة ،وهذا يعني أنه بـمحيط من الشمع قدره ، 36تتسع الدائرة لكمية من العسل قدرها .103وسيتسع المسدس إلى ،93.5والمربع إلى ،81والمثلث إلى . 62 بالطبع إن الدائرة هي خارج حساباتنا بسبب مشكلة الفراغات ،فال يتبق لدينا سوى المربع ،والمثلث، والمسدس .ال شك أن األرقام اآلنفة الذكر توضح أنه عند بناء خلية سداسية الشكل سيكون باإلمكان بكمية من الشمع قدرها ،36تخزين كمية من العسل قدرها " 93.5 ثم ختمت زينة خطبتها بالعبارة التالية:
ــ " عندما تتكلم األرقام ينبغي أن تصمت الحروف" . 5
بهذا البرهان قطعت زينة قول كل خطيب ،واقتنع النحل بكالمها ( أو باألحرى برقصها ) ،ومنذ ذلك الحين اتخذ النحل الشكل السداسي نمطا ً لبناء خالياه ،وصار الشكل السداسي شعاراً له. هذه هي قصة النحلة زينة وما فعلته لتزيين حياة النحل والناس منذ أن رقصت رقصاتها المعبرة في زمن سحيق في القدم من تاريخ النحل ،ولسد أي ثغرة ،وإزالة أي إلتباس في أساسيات هذه القصة ،فإننا نفترض أنه قد يدور بخلد القارئ السؤال التالي :ماذا لو بنى النحل خالياه على شكل مربع أو على شكل مثلث متساوي األضالع؟ سئلت زينة هذا السؤال ،لرقصت رقصة معبرة مفادها: من المؤكد أنه لو ُ ــ " سنكون نحن معشر النحل حينها نفعل األشياء بطريقة صحيحة ،وهذا ما يسميه علماء اإلدارة بالكفاءة ،Efficiencyأما عندما نبني خاليا سداسية الشكل Hexagonalفنكون عندها نفعل األشياء الصحيحة ،وهذا ما يسمى بالفعالية .Effectivenessنحن معشر النحل نبني خاليا سداسية الشكل ألن الفعالية هي أولوية قصوى لدينا" . ومما ال شك فيه ،أنه لو أطلعت زينة على انجازات بيتر دراكر في علم إدارة الوقت ،لقالت: ــ " ما هو الجديد الذي قدمه هذا الغر عندما قال:
الكفاءة هي فعل األشياء بطريقة صحيحة ،والفعالية هي فعل األشياء الصحيحة" .
6
وال شك أيضاً ،أن زينة كانت ستردف قائلة: ــ " إذا كانت الكفاءة هي فعل األشياء بطريقة صحيحة ،والفعالية هي فعل األشياء الصحيحة ،فنحن معشر النحل دائما ً وبصمت نفعل األشياء الصحيحة ،وبطريقة صحيحة ،فيا ليت شعري ما هو المصطلح الذي يمكن أن يُطلق على عملنا هذا؟ "
فريد أبو سرايا وما توفيقي إالّ باهلل الجمعة 12 ،رمضان 1440هـ ،الموافق 17مايو 2019
7