1
حكاية الغالم شريف وطاحونة الهواء بقلم :فريد أبو سرايا
الشطرنج في األساس هو بحث عن الحقيقة ،أليس كذلك؟ إذن ،أنا أبحث عن الحقيقة. بوبي فيشر ،وهو في طريقه إلى إيسلندا بعد إطالق سراحه من سجن باليابان .الخميس 24 ،مارس 2005
قرب إحدى قرى إقليم المانتشا التي لم يرغب الراوي بتذكر أسمها ،سار الفارس النبيل دون كيخوته، وتابعه سانشوا بانزا على درب ريفي سهل منبسط ،وسط حقول مترامية األطراف تمتد إلى ما النهاية .كان الفارس يمتطي فرساً ،والتابع يركب حماراً .بعثت رتابة المنظر الملل في نفس دون كيخوته ،ولذا فعندما الحت له طواحين الهواء في األفق البعيد كان مرآها أمرأ بعث في نفسه التحفز إلى المغامرات .لم يكن دون كيخوته يرى في الطواحين واقعا ً متجسداً أمامه ،بل رأى فيها تجسيداً لما قرأه في كتب الفروسية والمغامرات ،وبالتالي بوحي مما قراءه رأى أما مه عمالقة أشداء متوثبين لقتاله ،ال طواحين هواء تطحن الذرة والقمح والشعير، وتعصر السمسم والزيتون. 2
تكمن مشكلة دون كيخوته الرئيسية في أنه بدالً من أن تكون قراءته رافدةً لعقله ومنشطة لتفكيره ،باتت مغذية ألوهامه ومشجعة لتخرصاته ومنبهة ألحالم يقظته ،وقد قيل في ذلك أن القراءة جعلت من دون كيخوته سيداً ماجداً ،وتصديق ما قراءه جعل منه مجنوناً. عندما اقترب الجواالن من إحدى الطواحين ،بدت أذرعها لدون كيخوته كما لو أنها رقعة شطرنج ضخمة ،تركزت مربعاتها على وتريها الطويلين ،أو أنها أربع رقع شطرنج استطالت أشكالها إلى حد كبير، وقال دون كيخوته في نفسه :سواء كان هذا العمالق يحارب بأربعة سيوف أو أربع رقع شطرنج ،فال بأس في ذلك .أليست رقعة الشطرنج هي األخرى ميدان لعراك االستراتيجيات ،وصدام التكتيكات ،ويكفيني شرفا ً أنني اآلن ال أحارب على رقعة واحد ،بل على أربع رقع وفي نفس الوقت.
الحظ دون كيخوته أنه في كل مرة تدور فيها أذرع الطاحونة دورة كاملة ،تدور أذرعها لمسافة قصيرة في اإلتجاه المعاكس ،ثم ال تلبث أن تعود إلى الدوران في اتجاهها المعتاد وهكذا دواليك .فتعجب مما رآه، وتساءل؛ هل باإلمكان اعتبار أن هذ الدوران المعاكس وإن قصر هو عبارة عن خطوة صغيرة إلى الوراء من أجل قفزة كبيرة إلى األمام؟ ثم استطرد في حديثه لنفسه قائالً: لو كانت هذه طاحونة هواء كالتي الفناها لكان دورانها كالدوران الذي آلفناه! ولكن أيما كان هذا الشيء فهو يتآخر خطوة ويتقدم خطوات بطريقة فيها من االستفزاز ما فيها ،ولذا في جدر بأي فارس يحترم قواعد الفروسية الرد على أي استفزاز سواء صدر عن طاحونة هواء أو حتى عن الهواء نفسه. 3
باءت جميع محاوالت سانشو بانزا القناع سيده بالعدول عن مهاجمة طاحونة الهواء بالفشل .في الواقع ،لم يكن سانشو بانزا مقنعا ً في نقاشه مع دون كيخوته ،إذ كانت حججه واهية واستدالالته ضعيفة ،ومن المرجح أن يكون ذلك راجعا ً لعدم إدراكه هو بنفسه خطورة أذرع طاحونة الهواء الدوارة. رد دون كيخوته على جدل سانشو بانزا قائال:
طالما أنك لست ضليعًا باألشياء التي تحدث في العالم ،فإن كل األشياء التي تكتنفها صعوبة . ما ،ستبدو لك مستحي لة. ميجيل دي ثربانتس سابدرا" ،مغامرات دون كيخوته دي المنتشا" .
أمسك دون كيخوته برمحه الطويل باحكام وضمه إلى جانبه بقوة ،ثم همز حصانه روزنانتي ،وكر على العمالق المنتصب أمامه والواقف وقفة يشوبها التحدي واإلستعالء .اصطدم دون كيخوته بأحد أذرع الطاحونة فوقع مجندالً على األرض من شدة الصدمة ،وقُتل روزنانتي في هذا الهجوم .استمرت أذرع الطاحونة بالدوران المستفز كأنها لم تكتف بما الحقته به من ضرر. تأمل دون كيخوته وضعه وهو منطرح على األرض ،وقال في نفسه فيما يشبه المواساة والتعزية:
سواء وقع الرامي على الحجر ،أو وقع الحجر على الرامي ،فليس األمر في صالح الرامي. ميجيل دي ثربانتس سابدرا" ،مغامرات دون كيخوته دي المنتشا" . 4
أراد دون كيخوته النهوض فاتكأ على حجر قريب منه ،وعندما تفرس في الحجر مليا ً تبين له أنه ما أستند عليه كان شاهد قبر .كان قبرا ً وحيداً ،كقبر حرب بن أمية الذي قالت فيه الجن:
وقبر حرب بمكان قفر ....وليس قرب قبر حرب قبر طفق دون كيخوته يقرأ الكلمات المنقوشة على شاهد القبر ،والتي كانت تقول:
"هنا يرقد أحد ضحايا الغالم شريف ،صاحب طاحونة الهواء القريبة من المكان الذي تقف عنده اآلن أيها القارئ ،وصاحب هذا القبر هو بطل مغوار ،شديد البأس ،بيد أن قوته وبأسه لم يجدياه فتيال في مواجهة طاحونة شريف .والحقيقة هي؛ أنه لم يشهد ق ٌ رن من الزمان معركة حامية الوطيس كتلك المعركة التي أسفرت عن مصرع صاحب هذا القبر .لقد طحنته الحرب ،ثم طحنته المنية ،ولكن قبل ذلك كله ،طحنته طاحونة الغالم شريف". غير بعيداً عن ذلك القبر المنعزل كانت هناك مقبرة تسمى مقبرة الستين الجديرين بالتذكر ،ولم يكن اسمها يتفق تماما ً مع عدد القبور التي تضمها بين جنباتها ،إذ أنها تحوي ثمانية وأربعين قبراً فقط وليس ستين كما يوحي بذلك أسمها. رأى سانشو بانزا ما حل بسيده ،وخشي عاقبة هذه المواجهة ،بيد أنه لم ينكص على عقبيه ،ويرتد على دبره مخافة أن يُعير بالجبن مدى الحياة ،فكر على الطاحونة على الرغم من أنه كان مدركا ً أن ما كان يكر عليه ليس أكثر من طاحونة هواء. 5
كر سانشو بانزا على طاحونة الهواء ولسان حاله يردد ما قاله دريد بن الصمة منذ زمن بعيد:
أمرتهم أمري بمنعرج اللــــــوى .....فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد وهل أنا إال من غزية ،إن غوت .....غويت ،وإن ترشد غزية أرشـــــد لم يكن مآل سانشو بانزا مختلفا ً عن المصير الذي آل إليه سيده دون كيخوته ،فعند اشتباكه مع طاحونة الهواء ،أطاح به أحد أذرعها وجندله على األرض ،وقُتل في هذه الدورة حماره دابل. قتلت الطاحونة في هذا الهجوم المتهور الطائش حصان وحمار ،وكانت ستفعل ما هو أسوأ من ذلك ،لو كان دون كيخوته ممتطيا ً صهوة فيل ،وكان سانشو بانزا متعلقا ً ببراثن رخ في أعالي السماء كما فعل ذلك السندباد ذات مرة. بعد أن وضح الوضوح وبانت اإلبانة واجتلى اإلجتالء ،أدرك دون كيخوته أنه أمام طاحونة هواء وليس عمالقا ً من عمالقة كتب الفروسية والمغامرات ،وأدرك أيضا ً أنه في كل دورة من دورات أذرعها الضخمة ستثخن فيه تلك األذرع الجراح .بيد أنه لم يدرك أن للطاحونة قي ٌم يشرف عليها ويدير العمل فيها ،ولم يكن ذلك القيم سوى غالم ناهز الثالثة عشر من العمر يُدعى شريف ..كان اسمه شريف ،وكان له من اسمه حظ كبير ،أو كما يقال هو اسم على مسمى. انجلى غبار المعركة ،وانقشع معه الوهم ،فانكشف الواقع وتجلت الحقيقة ،ولم يجد دون كيخوته وتابعه سانشو بانزا بدا ً من الفرار ،فاطلقا ساقيهما إلى الريح وهما ال يلويان على شيء. إزاء هذا المشهد ،وقف الغالم شريف أمام طاحونته وقد افترت شفتاه عن ابتسامة ترشح بالشفقة أكثر مما ترشح بالشماتة والتشفي أو بأي شيء آخر .وقال في نفسه: إذا لم يكن المرء مستعداً لمواجهة أنماطا ً عشوائية ،أو على األقل لمواجهة 960احتمال من االحتماالت ،فهو غير جدير بالتصدي ألي مواجهة حتى لو كان النصر حليفه في مواجهة واحدة منها أو اثنتين. ثم استطرد في حديثه لنفسه قائال: إن العشوائية Randomnessهي ا لمحك ،وهي المعيار الصحيح الذي يجدر أن تختبر به الجدارة، وليس التحضير واالستعداد ،فهي تمحص الجدارة وتمتحنها امتحانًا عسيرا ً يُزري تمام اإلزراء بإمتحانات كتب يُهتدى بهديها على اإلطالق ،وليس هناك الكتب المفتوحة ،ألنه في هذه الحالة ،وبكل بساطة ،ليس هناك ٌ أحكاما ً مسبقة وأفكارا ً معلبة ،بل العقل هو كل ما هنالك ،فالعقل أوالً ،والعقل أخيراً .وليس هناك من حل إزاء العشوائية ،إال العفوية واإلرتجال المستند على سرعة التفكير ،ودقة التحليل ،وتقدير الموقف تقديراً سليما ً صحيحا ً صائباً.
فريد أبو سرايا
وما توفيقي إال باهلل
الجمعة 13 ،ديسمبر 2019 6