قصة قصيرة للكاتب فريد أبوسرايا بعنوان ، سوق البراغيث : حيث تُباع الأشياء الرخيصة

Page 1

1


‫سوق البراغيث ‪ : Flea Market‬حيث تُباع االشياء الرخيصة‬ ‫فريد أبو سرايا‬

‫ولكن هل هناك كلب قام في يوم من األيام بالثناء على براغيثه ؟‬ ‫وليم بتلر ييتس ‪ ،‬شاعر إيرلندي‬

‫سيطرت البراغيث على سوق القرية سيطرة تامة ‪ ،‬فلم يعد يتم فيها بيع وال شراء أو مقايضة إال بموافقتها‬ ‫ورضاها‪ .‬ونظراً لهيمنة البراغيث على سوق القرية فقد التصق أسمها بالسوق ‪ ،‬ومنذ ذلك الحين بات سوق‬ ‫القرية يسمى سوق البراغيث ‪. Flea market‬‬ ‫كما أن لكل سوق مؤشر اقتصادي خاص به ‪ ،‬فإن لسوق البراغيث مؤشر يُسمى "أكلوني البراغيث"‪ ،‬ويجب‬ ‫التأكيد هنا على نقطة هامة ‪ ،‬وهي أن ليس لهذا المؤشر عالقة بلغة أزدشنوءة ‪ ،‬ولكن بالتأكيد له عالقة بأكل‬ ‫األموال بالباطل ‪ ،‬فإذا زاد عدد من أكلت البراغيث أموالهم بالباطل ‪ ،‬عال المؤشر والعكس صحيح ‪ ،‬وصار كل‬ ‫من أكلت براغيث السوق أمواله بالباطل يصيح غاضبا ً ويقول ‪ :‬أكلوني البراغيث ‪ ،‬ومن ثم كانت التسمية ‪.‬‬ ‫على الرغم من صغر حجمها ‪ ،‬تحكمت البراغيث في اقتصاد القرية وسياستها ‪ ،‬وقد جعلتها ضآلتها ‪ ،‬وقدرتها‬ ‫الهائلة على القفز تقريبا ً محجوبة عن األنظار ‪ .‬في بعض األحيان تكون ضآلة الحجم عامل قوة ‪ ،‬ال عامل‬ ‫ضعف ‪ ،‬وليس أدل على هذا من قوة البراغيث الكامنة في ضآلة حجمها ‪ ،‬هذه الضآلة التي تسهل عليها عملية‬ ‫التطفل على مخلوقات أكبر منها بكثير ‪.‬‬ ‫ال مشاحة في االصطالح أن البراغيث حشرات ضئيلة ‪ ،‬ولكن الضآلة في حد ذاتها واسعة ‪ ،‬فنجد البراغيث‬ ‫تتفاوت في ضآلتها ‪ ،‬فمنها الضئيل ‪ ،‬ومنها األكثر ضآلة ‪ ،‬ومنها ما هو في غاية الضآلة ‪ ،‬وبما أن الضآلة قد‬ ‫‪2‬‬


‫تكون عامل من عوامل القوة ‪ ،‬عندئذ قد يتسلط األكثر ضآلة على الضئيل ‪ ،‬وقد يقع األكثر ضآلة بدوره فريسةً‬ ‫لمن هو في غاية الضآلة ‪ ،‬وليس هناك مكانا ً في العالم يجسد هذه الفرضية تجسيدا ً حيا ً أفضل من سوق‬ ‫البراغيث ‪ ،‬إذ تجد فيه أن من هو في غاية الضآلة يقع في أعلى السلم ‪ ،‬ومن هو أدنى ضآلةً يأتي عند أول‬ ‫درجة من درجات السلم ‪ ،‬وبين هذا وذاك ضآالت فوق بعضها البعض ‪.‬‬ ‫لقد كان األديب اإلنجليزي الكبير جوناثان سويفت هو أول من تفطن إلى هذه الحقيقة ‪ ،‬وقد عبر عنها بقوله ‪:‬‬

‫بالتالي ‪ ،‬الحظ علماء التاريخ الطبيعي أن برغوثا ً تتسلط عليه براغيث أصغر حجما ً ‪،‬‬ ‫وهذه بدورها تعضها براغيث أصغر منها ‪ ،‬وهلم جرا إلى ما ال نهاية ‪ .‬وهكذا ‪ ،‬فإن كل‬ ‫شاعر في مجاله يعضه من يأتي خلفه ‪.‬‬

‫لم تحز جرذان القرية على مكانة مرموقة كتلك التي حازتها البراغيث ‪ ،‬فقد كانت تعيش على الفضالت المتخلفة‬ ‫في السوق ‪ ،‬وتجد ضالتها في الفواكه والخضروات المتعفنة هناك ‪ ،‬ولهذا لم يكن لها حضور كبير ‪ ،‬إذا‬ ‫أستثنينا جريها بمحاذاة الجدران في سعيها للحصول على ما تسد به رمقها ‪ ،‬وكانت كثيرا ً ما تصطدم بأرجل‬ ‫المارة الذين كانوا يتأففون منها‪ ،‬ويركلونها بأرجلهم بعيداً ‪ .‬يمكن القول أن الجرذان كانت من المنظور‬ ‫الماركسي ‪ ،‬هي طبقة البروليتاريا ‪ ،‬بينما البراغيث هي الطبقة األرستوقراطية التي تستأثر بكل شيء ‪.‬‬ ‫كانت القرية في الواقع عبارة عن جزيرة ُمحاطة ببحر من األشجار ‪ ،‬فقد أحاطت الغابة بالقرية كما يحيط‬ ‫السوار بالمعصم ‪ .‬في داخل القرية هناك البراغيث والجرذان ‪ ،‬وفي خارجها قرود البابون ‪ .‬اتخذت قرود‬ ‫البابون من الغابة موطنا ً لها‪ ،‬فأكلت من ثمارها ‪ ،‬وشربت من غدرانها ‪ ،‬ونامت على أغصان أشجارها ‪ ،‬ولكن‬ ‫عيونها كانت دائما ً على دور القرية وبيوتها وأزقتها ‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫في يوم من األيام ‪ ،‬وعند غبش الفجر ‪ ،‬غزت قرود البابون القرية ‪ .‬كان الهدف من الغزو واضحا ً من البداية‬ ‫وهو االحتالل ‪ ،‬فقد جاءت القرود لتبقى ‪ .‬لم تكن رؤية المشهد بحاجة إلى ضوء ‪ ،‬وال حتى لعينين ‪ ،‬لمن أراد‬ ‫أن يرى‪ ،‬وليس بصدره قلب أعمى ‪ ،‬ويصف الصادق النيهوم مثل هذه الحالة بقوله ‪:‬‬

‫كانت الرؤية إذ ذاك جيدة وكان كل شيء واضحا ً مثل الشمس رغم أن الشمس نفسها‬ ‫كانت غائبة‪.‬‬

‫إثر احتالل القرود للقرية ‪ ،‬حدث هرج ومرج ‪ ،‬وصار الجميع يركضون في الطرقات هربا ً من أنياب القرود‬ ‫وبراثنها ‪ .‬كان كل ما تتسم به قرود البابون قبيح ‪ ،‬ولكن أقبح ما فيها كان مؤخراتها الحمراء العارية ‪.‬‬ ‫خسرت البراغيث موقعها في السوق ‪ ،‬وأخذت تتقافز هنا وهناك على غير هدى ‪ ،‬ولكن نظراً لضآلة حجمها ‪،‬‬ ‫لم تأبه بها القرود ‪ ،‬ألن أنياب القرود كانت أكبر من أن تتعامل مع مخلوقات ال تكاد تُرى بالعين المجردة ‪.‬‬ ‫انشبت القرود أنيابها في كل من وقف في طريقها وتحداها ‪ ،‬ومن كانت البلية وسوء الحظ يوقعانه في قبضتها‬ ‫كانت تنهشه بأنيابها الرهيبة ‪ ، .‬ونتشر اإلرهاب في القرية ‪ ،‬وكان لسان حال الجميع يقول ‪ :‬أنج يا سعد فقد‬ ‫هلك سعيد ‪.‬‬ ‫كانت القرية آَ ِمنَةً ُم ْط َمئِنَّةً يَأْتِي َها ِر ْزقُ َها َر َ‬ ‫غداً ِم ْن ُك ِِّل َمكَان ‪ ،‬ولكن مجيء القرود إلى القرية أضر بالجميع ‪ ،‬فقد‬ ‫عها إلى‬ ‫ُحرمت الجرذان من كثير من الفواكه والخضروات العفنة التي كانت تقتات عليها ‪ ،‬بيد أن ذلك لم يد ُ‬ ‫شق عصا الطاعة ‪ ،‬والتمرد على حكم القردة ‪ .‬بمرور الزمن ‪ ،‬توطد حكم القرود للقرية وكل ما فيها ‪ ،‬ورضخ‬ ‫الجميع إلرادة قائد القرود وتوجيهاته ‪ ،‬واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قام فيه أحد‬ ‫القرود بعض درصا ً صغيرا ‪ ،‬ومزقه بأنيابه شر ممزق ‪ .‬إثر هذه الحادثة ‪ ،‬التئم شمل الجرذان وأعلنت تمردها‬ ‫على سلطة القرود ‪ ،‬وانفلتت من كل قيد ‪ ،‬وأخذت تقرض كل ما وجدته أمامها ‪ .‬ارتفع صرير الجرذان في‬ ‫مواجهة ضحك القرود وقهقهتها ‪.‬‬ ‫اندلعت االحتجاجات في القرية ‪ ،‬عقب تمرد الجرذان ‪ ،‬وعلى الفور قفزت البراغيث فوق موجة االحتجاجات‬ ‫واعتلتها وليس هذا بغريب عليها ‪ ،‬فإن شيمة البراغيث كلهم القفز‪ .‬في الواقع تعتبر القفزات التي تقوم بها‬ ‫‪4‬‬


‫البراغيث شيء استثنائي ؛ فهي تقفز إلى أعلى ‪ ،‬وإلى األمام مسافة تُعادل حوالي ‪ 100‬ضعف سمكها وطولها‪،‬‬ ‫وإذا أراد اإلنسان أن ينافس البراغيث في هذا المجال فعليه أن يقفز إلى علو يُقدر بحوالي ‪ 300‬متر لكي يُقال‬ ‫أنه يقفز مثل البراغيث‪.‬‬ ‫من موقعها فوق قمة الموجة ‪ ،‬اكتسبت البراغيث منظوراً واسعا ً مكنها من التحكم والسيطرة ‪ ،‬وامتطت الموجة‬ ‫بمهارة بينما سارت الجرذان في ظل الموجة وهي تواجه دائما ً خطر انهيارها على رؤوسها ‪ .‬لقد ركبت‬ ‫البراغيث الموجة أفضل ما يكون الركوب ‪ ،‬وامتطت ظهور الجرذان أفضل ما يكون اإلمتطاء ‪ ،‬فكان الناظر إلى‬ ‫المشهد ‪ ،‬يرى جرذاً يتقدم ‪ ،‬ولكنه ال يرى البرغوث الذي يمتطي ظهر ذلك الجرذ ‪ .‬وعندما يصيب الجرذ ضراً ‪،‬‬ ‫يقفز البرغوث ومعه الضر مبتعداً عن الجرذ الهالك ‪ ،‬ويثب ومعه الضر على جرذ آخر سليم ‪ .‬إن الجرذان هي‬ ‫السفن التي تركبها البراغيث ‪ ،‬وتقفز من واحد إلى آخر كلما اقتضت الضرورة ذلك ‪ ،‬تماما ً كما تفعل الجرذان‬ ‫عندما تتخلى عن السفينة التي تركبها إذا أوشكت على الغرق ‪.‬‬ ‫انتهزت البراغيث الفرصة واستغلت الظروف ‪ ،‬فاحتوت الجميع بأبسط ما تكون سياسة اإلحتواء‬ ‫‪ ، Containment‬ولم تكتف بالتطفل على الجرذان ‪ ،‬بل أخذت تعض الناس أيضا ً وتقتات على دمائهم ‪ .‬خلف‬ ‫عض البراغيث للناس عالمات صغيرة جدا ً على معاصمهم وكواحلهم ‪ ،‬وهي عالمة تجارية مميزة لعضات‬ ‫البراغيث ‪.‬‬ ‫بدأت الجرذان تسقط صريعة مرض غريب ‪ ،‬والدماء تسيل من أفواهها ‪ ،‬وعقب ذلك انتقل المرض إلى أهل‬ ‫القرية ‪ ،‬فكانت تظهر على جلودهم أوراما ً ‪ ،‬وبالتحديد في مناطق الرقبة والعانة واألبطين ‪ ،‬فتتحول حياتهم إلى‬ ‫حياة بطعم العذاب والموت ‪ ،‬وأخذوا يتساقطون وحدانا وزرافات ‪ .‬سجل الفيلسوف والروائي الفرنسي البير‬ ‫كامو أحداثا ً مشابهة وقعت في مدينة وهران الجزائرية في روايته الشهيرة "الطاعون" ‪ ،‬ويقول في وصف‬ ‫الجرذان التي أصيبت بالطاعون البابوني ‪:‬‬ ‫ممر البناية يأخذ مفاتيحه قبل أن يصعد إلى منزله ‪ ،‬فرأى جرذا ً كبيراً يطفر من جوف‬ ‫كان برنار ريو واقفا ً في ِّ‬ ‫الممر المظلم ‪ ،‬بمشية متردِّدة وشعر مبت ِّل ‪ .‬ثم توقف ‪ ،‬وبدا أنه يلتمس التوازن ‪ ،‬ثم مضى نحو الطبيب ‪،‬‬ ‫وتوقف مرة أخرى ‪ ،‬ثم استدار على نفسه بصيحة قصيرة وسقط أخيرا ً وهو يُرسل الدم من شفتيه المفتوحتين‪.‬‬ ‫وتأمله الطبيب هنيهة ثم صعد إلى منزله ‪.‬‬ ‫س ِِّمي الوباء بمرض الطاعون البابوني نسبةً إليها ‪ ،‬وفي الواقع‬ ‫في البداية الصقت التهمة بقرود البابون ‪ ،‬و ُ‬ ‫كانت هذه تسمية خاطئة نجمت عن قراءة بعض أهل القرية لرواية الطاعون ‪ ،‬التي يذكر فيها الكاتب الطاعون‬ ‫البابوني بدون أي تفاصيل علمية ‪ ،‬فظن هؤالء أن كلمة البابوني لها عالقة بقرود البابون ‪ .‬وعندما ظهرت‬ ‫القرود في قريتهم انقدح في أذهانهم أن قرود البابون هي وراء تلك النازلة التي حلت بساحتهم ‪ .‬لكن الحقيقة‬

‫‪5‬‬


‫العلمية هي أن صفة البابوني ليس لها عالقة بقرود البابون ‪ ،‬ولكنها صفة للبيوبو ‪ bubo‬التي هي ورم يُسمى‬ ‫ال َّدبْل ينشأ في عقدة لمفاوية ‪ ،‬ويظهر على جسم المصاب بمرض الطاعون ‪.‬‬ ‫بعد أن بُرئت ساحة قرود البابون ‪ ،‬تحولت أصابع اإلتهام واشارت إلى الجرذان والصقت بها وصمة المرض‪،‬‬ ‫ولكن ذلك لم يدم طويالً ‪ ،‬فكما بُرئت القرود من قبل ‪ ،‬فقد بُرئت الجرذان هي األخرى ‪ ،‬وتبين في النهاية أن‬ ‫البراغيث كانت هي المجرم الفعلي الذي نقل الوباء إلى أهل القرية وإلى الجرذان على حد سواء ‪ .‬لقد وجدت‬ ‫باسيالت الطاعون في البراغيث خير رسول لها لنشر دعوتها بين المخلوقات ‪ ،‬وعلى ظهور البراغيث انطلقت‬ ‫تنشر الموت االسود ‪ Black Death‬هنا وهناك ‪.‬‬ ‫إبان تلك األوقات العصيبة ‪ ،‬وفد على القرية ‪ ،‬طبيب فرنسي يدعى بول لويس سيموند ‪ ،‬والحظ ذلك الطبيب‬ ‫آثار عضات صغيرة جدا ً على معاصم المرضى وكواحلهم ‪ ،‬وبعد تحقيق وإستقصاء ‪ ،‬اكتشف أن انتشار بكتيريا‬ ‫الطاعون البابوني هو من فعل البراغيث ال غيرها ‪ .‬لبرهنة اكتشافه أخذ إناء زجاجي كبير وفرشه بالرمل ‪ ،‬ثم‬ ‫وضع به جرذ مصاب بالطاعون ‪ .‬بعد ذلك أدلى داخل اإلناء الزجاجي بقفص به جرذ سليم ‪ ،‬فكان القفص بمثابة‬ ‫سدادة لإلناء‪.‬‬ ‫بعد فترة قصيرة مات الجرذ المصاب بالطاعون ‪ ،‬وبعد ذلك بخمسة أيام ‪ ،‬وقع الجرذ السليم فريسةً للمرض‪،‬‬ ‫ولم يلبث أن صرعه الطاعون هو اآلخر ‪ .‬أدرك الطبيب سيموند أن البراغيث الحاملة لبكتيريا الطاعون قد‬ ‫قفزت بعد موت الجرذ الموجود في اإلناء الزجاجي إلى المضيف الجديد الموجود في القفص العلوي ‪ ،‬ونقلت‬ ‫إليه بكتيريا الطاعون التي سرعان ما تكفلت به والحقته بجاره السفلي ‪.‬‬ ‫ذكر أحد المؤرخين غير الثقات لتلك األحداث ؛ أن المرضى كانوا يهذون في فراشهم بكالم غير مفهوم‪ ،‬وكانوا‬ ‫بين الحين واآلخر يصرخون قائلين ‪ :‬أكلوني البراغيث ‪ ،‬أكلوني البراغيث ‪ .‬كانت لغتهم غريبة وكالمهم غير‬ ‫مفهوم ‪ ،‬بيد أنهم كانوا محقين وهم يشيرون بأصابع اإلتهام إلى البراغيث ‪ ،‬فسواء قالوا أكلوني البراغيث ‪ ،‬أم‬ ‫قالوا أكلني البراغيث ‪ ،‬فالبراغيث كانت هي المسؤول الحقيقي وراء نشر مرض الطاعون البابوني ‪ ،‬وليست‬ ‫الجرذان ‪ ،‬وال قرود البابون ‪.‬‬ ‫اندلعت اضطرابات رهيبة في القرية ‪ ،‬وسقط في ساحة القتال بعض أهل القرية والكثير من الجرذان ‪ ،‬وقليل‬ ‫من القرود ‪ ،‬ولكن لم يكن هناك برغوثا ً واحدا بين القتلى ‪ .‬راجت بعض األخبار في القرية حول دور مزدوج‬ ‫تقوم به البراغيث ‪ ،‬وفقد قيل أنها كانت تزمر مع الراعي وتأكل مع الذئب ‪ ،‬وتقول تلك األخبار أن البراغيث‬ ‫تمتطي ظهور الجرذان في النهار ‪ ،‬وفي الليل تهجع للنوم وسط أشعار (شعور) القرود‪.‬‬ ‫فقدت القرود الغطاء الذي كانت توفره أشجار الغابة ‪ ،‬وغدت مكشوفة لمرتادي األجواء ‪ .‬لفتت حركة القرود‬ ‫في القرية انتباه النسور ‪ ،‬وتولد عن هذا االنتباه اهتمام ‪ ،‬فانقضت النسور من عليائها على القرود ‪ ،‬وتمكنت‬ ‫من اقتناص قائدها وبعض القرود األخرى التي كانت ترافقه ‪ ،‬ثم طارت بما اصطادته إلى أعشاشها لتطعم به‬ ‫‪6‬‬


‫صغارها ‪ .‬أدركت القرود أنها إن ظلت في القرية فستكون مكشوفة الظهر للنسور ‪ ،‬وأدركت أيضا ً أن موئلها‬ ‫اآلمن هو الغابة ‪ ،‬فالذت بالفرار إلى حضنها األخضر اآلمن ‪.‬‬ ‫بالطبع لم يكن هدف النسور تخليص القرية من القرود ‪ ،‬من أجل سواد عيون جرذان القرية وبراغيثها‪ ،‬ولكن‬ ‫من أجل شيء أسود آخر ‪ ،‬فليس من المعقول أن تكون الخيرية واإلحسان هما الباعث الحقيقي ألي عمل تقوم‬ ‫به حيوانات تقتات على الرمم كالنسور ‪ .‬لم يكن في حسبان القرود أبداً أن تتخلى عن القرية ‪ ،‬لكن مناقير‬ ‫النسور كانت تنقر بما ال تشتهي ذيول القرود ‪.‬‬ ‫رجعت القرود إلى الغابة متحينة الفرصة للعودة إلى القرية مرة ثانية ‪ ،‬ولجأت الجرذان إلى جحورها ‪ ،‬وعادت‬ ‫البراغيث إلى سوق القرية مستأنفة سيطرتها عليه مجدداً ‪ ،‬رافضةً التخلي عنه بأي حال من األحوال ‪ .‬من‬ ‫الواضح والجلي أن بقاء البراغيث في السوق يتجه نحو األبدية ‪ ،‬ولن تتخلص القرية ( أو البيئة ) منها إال‬ ‫بفعل مخلوقات أخرى من قبيل القراد والعقارب وعناكب األرملة السوداء التي كانت تتأهب إلزاحة البراغيث‬ ‫عن مكانها لتحتله هي ‪.‬‬ ‫بالطبع إذا وسد األمر إلى العقارب والعناكب لن يكون اسم السوق حينها ( سوق البراغيث )‪ ،‬ولكنه سيكون‬ ‫( سوق النخاسة ‪ :‬سوق البراغيث سابقا ً ) ‪.‬‬

‫وما توفيقي إالِّ باهلل‬ ‫فريد أبو سرايا‬ ‫الجمعة ‪ ،‬التاسع من نوفمبر ‪2018‬‬ ‫‪7‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.