قصة قصيرة بعنوان كلب البحر للكاتب فريد أبوسرايا

Page 1

1


‫كلب البحر‬

‫في كثير من األحيان تسير األمور على عكس ما يتوقعه المرء ويرجوه ‪ ،‬فتراه يخطط لعمل شيء ما ويتخذ‬ ‫الوسائل والسبل الالزمة ‪ ،‬في نظره لتحقيقه ‪ ،‬وتكون النتائج خارج كل هذه الحسابات ‪ ،‬بل معاكسة للمنطق نفسه ‪.‬‬ ‫والحكاية اآلتية هي سرد لواقعة حقيقية متواترة النقل ‪ ،‬صحيحة المتن إذا ما أغفلنا المحسنات البديعية والمؤثرات‬ ‫اإلنشائية المستخدمة لغرض سبك هذه الحادثة في قالب أدبي قصصي ‪:‬‬ ‫أخذت السيارة في نزول المنحدر المطل على خليج صغير منزوي بمنطقة ( بست ) الواقعة بين قريتي الحمامة‬ ‫والحنية بالجبل األخضر ‪ ،‬وليست بست الواقعة في أفغانستان وإن تشابهت األسماء ‪.‬‬ ‫تناثرت بضعة قوارب صيد صغيرة فوق مياه الخليج ‪ ،‬وكان كل قارب منها قد ربط بحبلين ‪ ،‬أحدهما يشده إلى‬ ‫الشاطئ واآلخر إلى صخرة ثابتة في قاع البحر قبالة الشاطئ ‪ .‬تعمل حبال البر على تقييد القوارب بحيث ال‬ ‫يغريها التيار القوي ال ذي يلم بهذه البقعة عند اشتداد العواصف بالتخلي عن أصحابها ومصاحبته في نزهة إلى‬ ‫عرض البحر‪ ،‬بينما تحول حبال البحر دون تهشم القوارب على صخور الشاطئ عندما يهيج البحر وتتقافز‬ ‫األمواج وكأنها أعراف خيل جامحة ‪.‬‬ ‫إن سالمة القارب في مرفأه تستلزم ربطه بحبلين ‪ ،‬حبل مثبت في البر وآخر مثبت في البحر ‪ .‬وإذا فكرنا مليا ً في‬ ‫هذا الوضع ‪ ،‬وقمنا بإجراء مقارنة عملية بين القوارب في المرفأ والبشر في الحياة لوجدنا تماثالً واضحا ً بينهما‪،‬‬ ‫فاإلنسان في حياته ليس أكثر من قارب مشدود بحبلين ‪ ،‬حبل إلى دنياه ومعاشه وحبل إلى آخرته ومعاده فإذا‬ ‫انقطع أحدهما أو كالهما فإما أن يتحطم على صخور شهواته ونزواته أو يضل عن األمان والسالمة ضالالً مبينا ً‬ ‫‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫في الواقع تبدو هذه البقعة التي يطلق عليها السكان المحليون اسم " توعة الفاليك " آمنة من األنواء والتيارات‬ ‫القوية ‪ ،‬ولكن بسبب من هذه الحصانة الطبيعية نفسها فإن األمواج وهي تندفع نحو الشاطئ تميل يساراً وتدخل‬ ‫الخليج مكونةً تياراً جارفا ً يلف ويدور في أرجائه ويسحب معه كل ما هو حر وطليق ‪ ،‬وليس هذا بمستغرب ‪،‬‬ ‫فضريبة الحرية تدفع بأن يكون كل ما هو حر وطليق عرضة لألخطار والمحن ‪ ،‬ثم يخرج التيار الجارف‬ ‫متصادما ً مع األمواج بقوة وعنف محدثا ً دوامات ودرادير لو حدث أن كان في وسطها سباحا ً غراً خدعته منعة‬ ‫هذا الخليج الظاهرية ‪ ،‬فإنه يقينا ً سيفضل القمس إلى األعماق واالستقرار هناك بدالً من مقاومة هذا التيار‪.‬‬ ‫كانت السيارة يابانية الصنع من نوع داتسون ‪ ،‬ولم تكن تملك من صفات السيارات شيئا ً يذكر سوى أنها كانت ال‬ ‫تزال تمارس السير ‪ .‬لم تكن جوانبها األمامية محكمة التثبيت مما جعلها تخفق وترفرف كلما تحركت مثيرة النقع‬ ‫ومكونة هالة من الغبار تحيط بها ‪ .‬وعند اقترابها من الشاطئ دارت إلى اليسار نحو الغرب ومضت تشق طريقها‬ ‫وسط الغبار حتى وصلت إلى " توعة الطوير " وهو خليج صغير يطل عليه من ناحية الجنوب منزل فوق رابية‬ ‫لعائلة الطوير ‪ ،‬وهي إحدى العائالت المحلية ‪ ،‬وقد بسطت هذه العائلة الماجدة سيادتها على كافة األراضي‬ ‫الممتدة من الرابية إلى التوعة بل تجاوزتها إلى مياه الخليج الدافئة وكل ما تعج به من أحياء بحرية ‪.‬‬ ‫في كثير من األحيان يأُم هذه الناحية بعض األوغاد الذين لم يكن لديهم أدنى احترام للقانون أو مراعاة لسيادة أحد‪،‬‬ ‫ومعهم علب أطعمة محفوظة ‪ ،‬علبا ً مريبة ال تحتوي على أي مادة غذائية إال إذا صنفت المواد المتفجرة من‬ ‫ضمن البقوليات أو المنتجات الحيوانية ‪ .‬ويقف هؤالء على حافة الشاطئ يرصدون المياه حتى إذا الح لهم بارق‬ ‫فضي يدل على سرب من أسماك (الصاورو) المكتنز باللحم ‪ ،‬أو سمك المغزل ( الباراكودا ) الطويل المستدق‬ ‫الجسم ‪ ،‬قام أحدهم بتركيب الصاعق ( الكبسولة ) وفتيل اإلشعال ( الميشة ) في إحدى تلك العلب ثم أشعل الفتيل‬ ‫ورمى بالعلبة في البحر وسط سرب األسماك ‪ ،‬فتنفجر محدثةً صوتا ً مكتوما ً ‪ ،‬وينبجس من البحر عمود من الماء‬ ‫عاليا ً في السماء ‪ .‬ال تلبث أن تطفو بعض األسماك على سطح البحر بينما يغوص بعضها اآلخر ألسفل ويستقر‬ ‫على القاع وقد أُصيبت مثانات عومها وأعمدتها الفقارية بضرر فادح من جراء الضغط القوي الناشئ عن‬ ‫االنفجار ‪.‬‬ ‫وإذا شاءت الصدفة أن أحد سادة هذه العائلة الماجدة كان مستلقيا ً في بيته مستمتعا ً بقيلولة بعد وجبة دسمة من‬ ‫الكسكسو الشهي علّها بكوب من الشاي األخضر ‪ ،‬مستروحا ً نسمات البحر العليلة أن أستشعر الموجات الصوتية‬ ‫التي أحدثها االنفجار بواسطة حاسة سمعه المرهفة التي تماثل في قوتها إلى حد كبير حاسة استشعار أسماك‬ ‫القرش المتطورة للموجات الصوتية بواسطة خطوطها الجانبية ‪ ،‬فإنه ال يلبث أن يهب واقفا ً كأنه نابض قوي ‪،‬‬ ‫ويهرع إلى الشاطئ الستجالء األمر ومستنكراً هذا االعتداء الفاضح على سيادته لتلك النواحي ‪ .‬يجري هذا كله‬ ‫بتلقائية عجيبة لو أطلع عليها عالم النفس الكبير بافلوف لعدها سنداً قويا ً وحجة قاطعة على صحة نظريته حول‬ ‫االنبعاث الشرطي ‪ ،‬وبعد عملية طويلة معقدة من التحيات والتعارف والتهديد الخفي بإبالغ مركز الشرطة بقرية‬ ‫‪3‬‬


‫الحمامة أو الحنية ( اللذان يضمان بين أفرادهما أشد الناس ولعا ً بأسلوب الصيد هذا ‪ ،‬واللذين كان يزعجهم‬ ‫ويقض مضاجعهم السماع بحدوث مثل هذه التصرفات النزقة الطائشة ألنهم يعتبرونها منافسة ضارية لهم في‬ ‫عقر دارهم ) ‪ ،‬يتنازل هؤالء األغراب عن بعض السمك لهذا السيد الذي يتقبلها بنفس أشد ما تكون رقة وسماحة‬ ‫ال على أنها تعويض على هذا الخرق القانوني فحسب ‪ ،‬بل كضريبة جمركية يجب أن يؤديها كل من يستغل هذه‬ ‫المياه ‪.‬‬ ‫عند هذا المكان توقفت السيارة واختفت هالة الغبار المرافقة لها ‪ ،‬وترجل منها شخصان ‪ :‬األول يدعى علي‬ ‫صالح ‪ ،‬والثاني محمد الدالي ‪ ،‬وهما من هواة صيد السمك ‪ ،‬وشرعوا بإخراج قصبات الصيد من السيارة‬ ‫باإلضافة إلى أشياء أخرى كالخيوط والشصوص والمداور ‪ ،‬وأثقال من معدن الرصاص ‪ ،‬وعدة طهي الشاي ‪.‬‬ ‫بواسطة قصبة الصيد ذات الثمانية أمتار طوالً ‪ ،‬المعروفة باسم ( القصبة العربية ) وبشصوص صغيرة مطعمة‬ ‫بقطع من عجين القمح ‪ ،‬اصطادا بضعة سمكات صغيرات من النوع الذي يعرف بـ ( الكحلة ) ‪ ،‬ومن المعروف‬ ‫أن سمكة الكحلة هي نوع من أنواع سمك ( القراقوز ) ‪ ، Breams‬وتعرف بـ ( القراقوز المخطط ) بسبب الخط‬ ‫األسود الذي يزين منطقة التقاء الذيل بجسم السمك ‪ ،‬كما أن لها عينان سوداوان المعتان كأنهما قد زينتا بكحل‬ ‫شديد السواد ‪ ،‬وقد يكون هذا هو ما دعا العوام إلى تسميتها بـ ( الكحلة ) ‪.‬‬ ‫إن أسماك الصخور ( الفروج ) ‪ ، Grouper‬واألسماك األخرى التي تصنف بأنها أسماك حرة مثل الشوال ‪،‬‬ ‫والستريليا ‪ ،‬والتنتون ( الدندشي أو الحمرايا ) ال تستطيب أي طعام بقدر استطابتها لهذا النوع من األسماك ‪ ،‬فهي‬ ‫تعدها مفخرة الموائد ‪ .‬استناداً على هذه الحقائق قام صيادينا ‪ :‬علي صالح ‪ ،‬الملقب بالمكسيكي ألنه كثيراً ما يضع‬ ‫على رأسه طاقية مكسيكية عريضة الحواف ليقي بها جمجمته الصلبة القاسية الشبيهة برؤوس أسماك الصخور‬ ‫الصلبة القاسية ‪ ،‬ومحمد الدالي الشاحب الممتقع الذي يتمتع بسحنة تذكرك بسحنة شاحبة لسمكة قرش جائعة ‪،‬‬ ‫بتطعيم شصوصهما الكبيرة بأسماك الكحلة الطازجة المغرية ‪ ،‬ورمي الخيوط إلى أبعد مسافة ممكنة عن الشاطئ‬ ‫لتصل إلى أعمق لجة ‪ ،‬ثم غرسا القصبتين في حفر عند الشاطئ الصخري ‪ ،‬وثبتوهما بأحجار صغيرة ‪ .‬وبعد أن‬ ‫انتصبت قصبات الصيد ب قاماتها على الشاطئ كان البد من تزويدها بمنظومة إنذار مبكر ‪ ،‬فعلق برأس كل قصبة‬ ‫جرس صغير ليجلجل وينبه صيادينا إذا ما ناوشت سمكة ما الطعم الملقى على قاع البحر بإطالق جلجلة خليق أن‬ ‫يخفق لها قلب كل صياد بفرحة عارمة ‪ .‬بعد ذلك عدلت قوة مقاومة سحب الخيط لكل ماكينة صيد بحيث تكون‬ ‫مقاومة السحب متوسطة ‪ ،‬و ال تكون قوية فينقصف الخيط ‪ ،‬وال تكون ضعيفة فيسحب الخيط كله بدون أن تشعر‬ ‫السمكة بأدنى مقاومة ‪ .‬يسمح هذا التعديل بأن يسحب الخيط إذا ما علقت سمكة ما بالشص وفي نفس الوقت يكون‬ ‫هنا ك مقاومة تنال من السمكة وتنهكها وهي تحاول الفكاك من ذلك الصنيع المعدني المعقوف الذي يشبه عالمة‬ ‫االستفهام ‪ ،‬وال غرابة في هذا التشبيه لما تثيره صنارة الصيد من تساؤالت في رأس السمكة وهي تحاول‬ ‫الخالص منها ‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫بعد إتمام هذه الترتيبات الروتينية هبطت الشمس على سطح البحر في األفق البعيد وهي تجنح للغروب مريضة ‪،‬‬ ‫والمس قرصها صفحة الماء مؤذنة بغروب نهار ولى وحلول ليل أقبل بدياجير ظالمه ‪ ،‬وبينما كان صيادينا في‬ ‫االنتظار وكلهما أذانا ً صاغية ألي جرس قد يصدره الجرس ‪ ،‬أوقدا نارا من حطب أشجار البطم ‪ ،‬تصاعدت منها‬ ‫ألسنة لهب صف راء وبرتقالية تشق الظلمة بنورها وتبعث الدفء واألنس فيمن حولها ‪ .‬وبعد أن خمدت ألسنة‬ ‫اللهب أُفردت بضع جمرات متوهجة جانبا ً تمهيداً لتحضير الشاي ‪ ،‬وبينما هما كذلك تعالى صوت جرس وظل‬ ‫يجلجل لبرهة من الزمن ‪ .‬كان ذلك مفاجأة لهم ألن نغمة الجرس هذه المرة كانت نغمة غريبة ‪ ،‬غير مألوفة ‪ ،‬تدل‬ ‫داللة قاطعة على أنه أيما كان الشئ العالق بالشص فقد كان شيئا ً غريبا ً بالغ الغرابة ‪ .‬عندما يصيخ الصياد المحنك‬ ‫بسمعه لنغمات الجرس فهو ينشئ اتصاالً مع السمكة التي في الطرف اآلخر من الخيط ‪ ،‬وهو طرف اإلرسال ‪،‬‬ ‫فكل نغمة تنبئه بنوع السمكة العالقة الشص ‪ ،‬فإذا هس الجرس هسا ً خفيضا ً ‪ ،‬وكان البحر مضطربا ً ‪ ،‬عندها‬ ‫يدرك الصياد أن " ثعبان موراي " المعروف محليا ً بـ " الزمرينا " هو السبب في ذلك ‪ ،‬ويكون عندها يكافح‬ ‫بشراسة وجنون للتخلص من مأزقه الفا ً الخيط حول جسمه ورأسه ‪ ،‬وفي النهاية يخنق نفسه بخيط ناعم من‬ ‫النايلون ‪ ،‬وفي هذا عزاء كبير له إذا كان لجودة حبل المشنقة عزاء للمشنوق ألن كثير من األحرار والمجاهدين‬ ‫شنقوا بحبال خشنة من الجوت والقنب !‬ ‫أما إذا أصدر الجرس في البداية جلجلة قوية أعقبها بجلجالت قصيرة غير منتظمة ‪ ،‬ثم سكت مرة واحدة وانحنت‬ ‫القصبة في نوع من ا إلجالل واالحترام وكأن لها معرفة يقينية عن مدى قوة هذه السمكة وقدرتها على التحمل ‪،‬‬ ‫عندها تكون هذه كلها عالمات مميزة تدل على أن السمكة في هذه المرة هي من " أسماك الصخور " التي يطلق‬ ‫‪5‬‬


‫عليها الصيادون المحليون اسم أسماك " الفروج " ‪ ، Grouper‬ويهيئ الصياد نفسه لمعركة طويلة من الشد‬ ‫واإلرخاء للمحافظة على توتر الخيط دون درجة االنقصاف ‪ .‬قد ال تستطيع أسماك الفروج أن تدعي ألنفسها أي‬ ‫قدر من الجمال والرشاقة ‪ ،‬وال يمكنها التبجح بأي حال من األحوال بأن لها حظ من الوسامة ‪ ،‬فهي بسحناتها‬ ‫المنذرة بالشر تذكر المرء بمجرمي الحارات واألزقة ولكن لو ترك األمر لألطعمة وبخاصة لصحن " الكسكسو "‬ ‫‪ ،‬فإن هذا األخير لن يرضى أن يتربع فوق حباته الدقيقة رؤوس خال رؤوس أسماك الفروج ‪.‬‬ ‫إن ألسماك الفروج عادة متأصلة فيها وهي لجوءها إلى أقرب شق أو حفرة أو فجوة قريبة عند شعورها بأدنى‬ ‫خطر ‪ ،‬وبوسعك أن تتخيله ا قابعة تحت صخرة ‪ ،‬أو بداخل مدخنة سفينة غارقة ‪ ،‬نافشة أشواك زعنفتها الظهرية‬ ‫وفاتحةً غطائي خياشيمها ‪ ،‬رافضةً المساومات والتنازالت ‪ ،‬وضاربة بالشعارات القائلة " الصخرة مقابل السالم "‬ ‫عرض الحائط ‪ ،‬وبوسعك أيضا ً أن تتخيل مقدار القوة الالزمة إلقناع هذا الحيوان الحرون الذي ال يقبل بأنصاف‬ ‫الحلول ومتسلحا ً بزعنفته الظهرية وغطائي خياشيمه بالخروج من تحت صخرته ‪.‬‬ ‫ال شك أن هذا يولد انطباعا ً بأن أسماك الفروج البد أن تكون من أتباع الثائر اإليرلندي بوبي ساندز الذي رفض‬ ‫أنصاف الحلول وقبع في زنزانته ولم يخرج منها إالّ ميتا ً بعد ستة وستون يوما ً من اإلضراب عن الطعام ‪.‬‬ ‫أما إذا جلجل الجرس جلجلة عالية ورنين قوي متصل ‪ ،‬جلجلة تذكرك بزغرودة فرحة لصبية بدوية في أحد‬ ‫النجوع لكان ذلك خليقا ً بأي صياد أن يهتز من الطرب ويقع في نوبة تشبه نوبات الوجد التي تستولي على نفوس‬ ‫الصوفيين في حلقات الذكر ألنه يعلم جيداً أن السمكة التي التقمت الطعم هذه المرة هي من األنواع المعروفة‬ ‫محليا ً باألسماك الحرة ‪ ،‬أسماك ال تختبئ وال تتخفى ‪ ،‬بل تجري ما وسعها الجري في المدى الفسيح ألنها حرة ‪،‬‬ ‫أليست الحرية وضوح في المواقف ؟‬ ‫أسمحوا لي بالقول أن من يعتقد أن الحرية لي ست نضال وكفاح وجهاد وثبات على المبدأ ففي أعمق أعماق قلبه‬ ‫يقبع عبد مستمرئ للعبودية ‪.‬‬ ‫توقف الجرس عن الجلجلة وظل الخيط يسحب سحبا ً منتظما مما يدل على أن سحب الخيط كان منعدم التسارع ‪.‬‬ ‫إن قوانين نيوتن الخاصة بالحركة تؤيد هذه الظاهرة ‪ ،‬فالتسارع وليست السرعة هو الذي يحدث الضوضاء ‪ ،‬كما‬ ‫أن هناك مثالً يقول أن العربة الفارغة تحدث ضجة أكثر من العربة الممتلئة ‪ .‬أفاق صاحبينا من ذهولهما وهرعا‬ ‫إلى مكان القصبة وهما يتخبطان في الظالم ‪ ،‬وأمسك محمد الدالي بالقصبة ولكنه لم يستطع إخراجها من الحفرة‬ ‫المغروسة فيها إالّ بمشقة بالغة ‪ ،‬ثم أخذ يدور ذراع السحب فأدرك بأنه يواجه شيئا ً ثقيالً وغريبا ً ‪ ،‬ولم يتمكن من‬ ‫كسب إال بضعة أمتار من الخيط ولكنه أضطر إلعطائها للسمكة خشية أن تنكسر القصبة أو تتضرر الماكينة‬ ‫ضرراً بالغا ً ‪ .‬إزاء هذا الوضع ‪ ،‬نزل المكسيكي في المياه الضحلة ممسكا ً بالخيط ‪ ،‬وأخذ يسحب الخيط بقوة‬ ‫ساعديه ‪ ،‬وكان كلما كسب بضعة أمتار من الخيط قام الدالي بإدارة ذراع السحب ولفها بماكينة الصيد ‪ .‬بعد ألي‬

‫‪6‬‬


‫بدأ الحمل يخف وبدأ ذلك الشئ يقترب ‪ ،‬ثم تناهت إلى أسماعهما أصوات شئ يتخبط في الماء ‪ ،‬وتناثر لرذاذ‬ ‫الماء الناتج عن ضرب السمكة لسطح الماء بذيلها وهي تقاوم السحب ‪.‬‬ ‫أخيراً انتهت المعركة ‪ ،‬وسحب الخيط بكامله ‪ ،‬وكانت السمكة تتخبط في المياه الضحلة بعنف وشراسة ‪ ،‬وحتى‬ ‫هذه اللحظة لم يعرف بطال هذه المعركة من هو غريمهما ‪ ،‬ولما أضيئ مصباحا ً يدويا ً كان معهما اتضحت‬ ‫الصورة بكامل تفاصيلها فقد كان صيدهما سمكة قر ش من النوع المعروف " بكلب البحر " ‪ ،‬تزن حوالي ستة‬ ‫وعشرون كيلوجراما ‪.‬‬ ‫هذا األمر بحد ذاته غريب ونادر الحدوث ‪ ،‬أن تصطاد سمكة من هذا النوع وبهذا الحجم بمثل هذه الطريقة ‪،‬‬ ‫ولكن ما هو أغرب من ذلك وأعجب هو أن الشص لم يكن عالقا ً بالسمكة ‪.‬‬ ‫نعم ‪ ،‬لقد كان الشص عالقا ً بشريط بالستيكي من النوع المستخدم في تدعيم صناديق البضائع المصنوعة من‬ ‫الورق المقوى ‪ ،‬وكان ذاك الشريط عالقا ً بإحدى فتحات خياشيم السمكة ‪.‬‬ ‫إذن لم يكن الشص عالقا ً بسمكة !‬ ‫ولم يكن صاحبينا يسحبان في شئ سوى في شريط بالستيكي ال أكثر وال أقل ‪.‬‬

‫فريد أبوسرايا‬ ‫السبت ‪ 22 ،‬أبريل ‪ 71 ، 2222‬محرم ‪ 7227‬هـ‬

‫‪7‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.