1
مزرعة األسماك :صريح األقوال وصحيح األخبار فيما يتعلق بابن القائد والمستشار ،واسترزاقهما من مزرعة لألسماك والحبار بقلم :فريد أبو سرايا البحريين :فقال :البحر كثير العجائب ،وأهله أصحاب زوائد ، أعاجيب البحر وتز ُّيد الحكماء بعض ذك ََر ِ ُ َ ِ الصدق ،وأد َخلوا ما ال يكون في باب ما قد يكاد يكون .فجعلوا تصديق الناس لهم فأفسدوا بقليل الكذب كثير ِ " البيان والتبيين " ،أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ عاء المحال... في غرائب األحاديث سُلما إلى اد ِ كانت البالد كلها عبارة عن مزرعة حيوانات كتلك المزرعة التي حكى عنها جورج أورويل ،وفي وسط مزرعة الحيوانات تلك التي يملكها القائد ويربي فيها الثدييات ،كانت هناك مزرعة يملكها ابن القائد ،يربي فيها األسماك ،ويعتاش من إيراداتها .وبهذا االستحواذ يكون القائد وابنه قد امتلكا البر والبحر ،والثدييات واألسماك معا ً . عند االنحدار من قمم جبال رأس الهالل ،وتجاوز المنزل اإليطالي الواقع على يسار الطريق والمقابل لشالل "بالفو" ،تلوح هناك في األفق البعيد ،في عرض البحر قبالة الميناء األلماني القديم دائرتان كبيرتان ،ولم تكن تانك الدائرتان سوى مزرعة أسماك البن القائد .
لم تكن المزرعة في أعالي البحار بل كانت في المياه اإلقليمية ،محصورةً بين الساحل وخط عرض ، 32.5 الذي أطلق عليه القائد اسم " خط الموت " ،ذلك االسم الذي لم يكن نذيرشؤم بالموت إال على بحارة الزورق "الوميض" ،والخافرة "عين زقوط " ،الذين ضحى بهم القائد على مذبح مجده وعظمته . 2
تتشكل كل دائرة من ثالثة أطواق بالستيكية سوداء ضخمة ،وتشكل هذه األنابيب السوداء ممرا ً يستطيع المرء أن يمشي عليه ،وتنتصب على هذا الممر الحلقي أعمدة صفراء اللون ترتبط ببعضها البعض بواسطة حلقة صفراء ،وتشكل األعمدة والحلقة الصفراء سياجا ً يرمى منه العلف إلى األسماك المحتجزة داخل شبكة ضخمة تتدلى أسفل األطواق الحلقية السوداء. عندما يكون المرء مطلعا ً على كتابات الصادق النيهوم ،فيحلو له أن يعقد مقارنة بين دائرة من تانك الدائرتان، وبين الصحن الذي تحصل عليه "قط القوارشة" في عرض البحر بعد أن استجاب هللا لدعائه ولكن مع فارق بسيط ،وهو أن صحن "قط القوارشة" كان مليئا ً بالفئران ،وصحنا رأس الهالل كانا مليئان بأسماك القاروص. إن الحديث عن مزرعة أسماك ،ليس المقصود منه المعنى العلمي التصنيفي للمصطلح ،فالمزرعة لم تكن مقتصرة فقط على األسماك ،بل كانت تعج باإلضافة إلى األسماك بالعديد من األحياء البحرية االخرى التي منها على سبيل المثال ؛ السراطانات ،والرخويات بأنواعها المختلفة والقشريات والرأسقدميات والجوفمعويات ،وحتى الحيتان القاتلة ( األوركا ) . عاش أبناء القائد عيشة عصامية ،فقد ورث أحدهم عن جده قطيعا ً من األبل ،وكان يبيع بعض النوق والجمال ،وبأثمان هذه الجمال اعتاد على تنظيم مبارايات في كرة القدم يستضيف للعب فيها أشهر الفرق العالمية ،كما كان يستقدم أشهر رياضيي العالم لتدريبه وصقل موهبته الرياضية. بالفعل ،لقد كانت الحيوانات هي مصدر الرزق الذي اعتمد عليه القائد وأبنائه في عيشهم ،وسواء كانت تلك الحيوانات حية أو ميتة .على الرغم من غنى أوالده ،إال أن القائد كان يجد نفسه أحيانا ً عند حلول عيد األضحى عاجزاً عن توفير المال لشراء أضحية من السوق ،مما يضطره للقيام بسلخ جلود بعض الحيوانات النافقة وبيعها ألصحاب المدابغ على أنها جلود حيوانات مذكاة ذكاة شرعية بعد أن يملحها ليزيل عنها رائحة الرمم المتعفنة .كانت جلود الحيوانات النافقة هي الملجأ التي يلجأ إليه القائد عندما يكون يعاني من ضيق ذات اليد .وهلل در الشاعر القائل :
هل يقبل الشرع بالخنزير تضحية ....يا ليت ما نهبوا منا وال سلبوا في الواقع ،إن مثل هذا العمل كان يأنف من فعله حتى أراذل البشر وحثالتهم ،ولكن كما قال محمد بلقاسم الزوي ذات يوم أن الضرورات تبيح المحظورات ،وقال في يوم آخر أن بنغازي كانت قرية قبل مجيئهم . لقد أراد االبن أن يعمر البحر ،بعد أن أفسد أباه البر ،فمنذ زمن ليس بالبعيد ( في تسعينات القرن العشرين ) أحرق القائد غابات وأحراش رأس الهالل باسقاطه البراميل المتفجرة من الطائرات فوق المنطقة مما جعل الحيوانات البرية كالذئاب والضباع والثعالب تتجه جنوبا ً لتنفذ بجلدها من الجبل المحترق ،وقد تكون السرعة وسهولة التنقل قد أسعفت الذئاب والضباع ،إال أنها لسوء الحظ لم تسعف السالحف والحلزونات والحيوانات بطيئة الحركة فقد التهمتها ألسنة نار القائد . 3
اليوم تنمو شجيرات السلوف بأزهارها الصفراء على سفوح جبال رأس الهالل وكأن لسان حالها يقول إن أزهاري الصفراء هي العنقاء التي نهضت من رماد أشجار العرعار والبطوم والشماري التي أحرقتها ألسنة النار الصفراء على هذه الجبال التي تغنى بجمالها أحمد رفيق المهدوي
حباك هللا يا رأس الهـــــــــــال ِل .....يدا ً جعلتك عينا ً للجمـــــــــا ِل مناظــــــــــــر للطبيعة قد تجلت .....بآثار المصور ذي الجـــــال ِل تحس بروعـــــــة وخشوع قلب .....إذا قلبت طرفك في الجبــــا ِل تذكر في الجنان الحوض وانظر .....إلى صاف من العذب الـزال ِل فعالُ ،لقد فعل القائد بجبال رأس الهالل ما لم يفعله األستراليون واإليطاليون واإلنجليز واأللمان عندما اجتاحت جيوشهم المنطقة .لقد أراد القائد أن يستآصل شآفة مجموعة من الشباب خرجوا على حكمه بعد أن سأموا من التفاهة والسخافة ،فخرج هو على الطبيعة وأحرق األخضر واليابس . كما كان لنابليون في مزرعة الحيوانات مستشاراً يسمى سنوبول ،فقد كان البن القائد مستشاراً يكتب له الخطابات ،ويسامره ،ويتقاضى ثمن أتعابه واستشاراته من المال الذي يجنيه ولي نعمته من مزرعة األسماك .وبالتالي يكون من الواضح أن مزرعة األسماك لم تكن مصدراً لعيش ابن القائد فحسب ،بل لمستشاره أيضا ً . كان ،هذا له أصحاب ،كان لهم شركة اسمها شركة رأس هالل للصيد ،وكان لهم مزارع أسماك ،ومن هذه الشركة يصرف في رحالته . د .محمد عبد المطلب الهوني ،مستشار ثقافي خاص سابق لسيف اإلسالم القذافي .قناة العربية ،برنامج ( إضاءات ) .األحد 15 ،مايو 2011
4
عندما يروج المرء أقواالً يدعي فيها ما ال يمكن أن تدعيه المبالغة ، ،وما تأباه الموضوعية ،ويرفضه المنطق ،فال ريب أن يكون وهو يأكل أسماك القاروص المشوية ولحم األخطبوط المتبل ،يبتلع أيضا ً ما قيل عن طول قامة عوج بن عناق وقدرته على شواء السمك على سطح الشمس . واعلم أن تلك األفعال لألقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة األيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع وال تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام األقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل واآلثار ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا ً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس . عبد الرحمن بن خلدون " ،مقدمة كتاب العبر ،وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ،ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر " في مسامراتهما ،كثيرا ً ما حذر المستشار ابن القائد من مغبة المضي في الطريق الذي ساروا عليه ، واالصرار على السياسة التي انتهجوها ،ولكنهم وضعوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا .ويروي أحد أركان نظام القائد وثائ ٌر على نفس النظام فيما بعد ،في كتاب له ما جرى في مسامرة البن القائد مع نديمه المستشار ،وكيف أن تقييم ابن القائد لقومه لم يكن يختلف كثيرا ً عن تقييمه لمن 5
خرج على حكم والده ،فالمتمردون على حكمهم بعد أن سأموا من السخافة والتفاهة كانوا في نظره جرذان وقناطش ،والشعب كان في نظره نعاج وأبقار . الدكتور " الهوني " مثقف ليبي انضم منذ بداية السبعينات إلى األصوات المعارضة للقذافي ،أقام في إيطاليا ، وفي أواخر التسعين ات تعرف بسيف اإلسالم ،نشأت بين االثنين عالقة صداقة حميمة ،أصبح الهوني من جلساء سيف ،ثم تحول إلى نديمه الدائم ال يكاد يفارقه على مدى عشر سنوات ،أدمن سيف اإلسالم رفقة الهوني ،الذي كان يتحدث معه بكامل الصراحة ،وأحيانا ً إلى درجة البذاءة ،كان يشرح له األوضاع المحلية والدولية ،ينتقد كل ما يجري في ليبيا دون أدنى تحفظ ،ال يوفر التاريخ والفلسفة ليبين له خطورة األوضاع في ليبيا ،كان يتنبأ بانهيار النظام منذ سنوات ،مازجا ً الجد بالهزل . ذات مرة ،وبحضوري ،قال الهوني لسيف " :انتم تحقرون الشعب الليبي ،وتعتبرونه جبانا ً ،والتاريخ يقول ال يوجد شعب جبان ،ولكن يوجد شخص أو أشخاص جبناء " ،رد سيف " بأن الليبيين مجرد أبقار ونعاج ، كل همهم ـ العلفة ـ أي أن يعبئوا بطونهم ـ ،ويرقدون " ،قال له الهوني " :قد يكون هذا صحيحا ً ،لكن النعاج تولد الكباش ،والكباش تنطح ،وتكسر األذرع والصدور " ،كان الهوني يومئذ يتنبأ بـ 17فبراير . عبد الرحمن شلقم " ،نهاية القذافي " لقد حذر المستشار ولي نعمته من ميالد كباش نطاحة ،ولكنه لم ينتبه إلى حقيقة أن النعاج نفسها قادرة على النطاح إذا استلزم األمر ،وإال لما تساءلت نازك المالئكة ،قائلة : أما في ديار العروبة كلب فينبح؟ أما من نعاج فتنطح؟ قدر المستشار مزرعة األسماك حق قدرها ،ولذا فقد كان يأتي إليها بين الحين واآلخر ليتفقد األسماك وليتأكد من خلوها من األمراض ،وحصولها على قدر وافر من العلف ،ألن سالمة المزرعة وتطورها ينعكس بالضرورة على سالمته هو وسالمة ابن القائد معا ً .وفي كل مرة يأتي فيها المستشار تطفو أعداد كبيرة من الحب ار على سطح المزرعة وتأخذ بنفث سحابات سوداء حتى تصبح مياه المزرعة عبارة عن بركة سوداء وسط البحر .لعل تلك المادة السوداء هي الحبر الذي يستعمله الحبار في كتابة رسائله ،ولعل إحدى تلك الرسائل هي أن الحبار أراد أن يقول للمستشار : أنا السبيدج الذي يسمونني أيضا ً الحبار ،لي قريب اسمه الكالمار ،وليس بغريب عني أيضا ً صانع اللؤلؤ المسمى المحار ،فنحن ننتمي إلى الرخويات التي ليس لها فقار ،أحيانا ً يوقع بنا بالشباك ،وأحيانا ً أخرى بواسطة الصنار .إنني أعرف جيدا ً السمكة المسماة بالفروج والتي تعرف أيضا ً باسمي الهامور والوقار ،كما أعرف السمكة التي تسمى بسمكة المنشار .من المعلوم أن هناك حصان في البحر ،ولكن ليس فيه حمار ، س ِخن تحول إلى بُخار ،وغني عن الذكر أن ومن المعلوم أيضا ً أننا نعيش في وسط إذا بُ ِرد تحول إلى جليد وإذا ُ الريح إذا اشتدت تجلب األمطار وتتحول إلى إعصار ،ومن نافلة القول أن الضغط يؤدي إلى االنفجار. اعلم يا سيادة المستشار ،أنه من المستحيل أن تُربع الدائرة أو يضعف المكعب أو تُثلث الزاوية فقط باستعمال المسطرة والفرجار ،ومن المستحيل أن تزيف أفعال األشرار لتبدو كأنها إحسان صادر عن األخيار ،ومن 6
المستحيل أن يتحول الدمار إلى إعمار ،ومن المستحيل أن يتساوى فسق الفجار مع بر األبرار ،ومن المستحيل ،بل من رابع المستحيالت أن يُنظر إلى الخزعبالت على أنها كالم ذو اعتبار ،فهي ال تعدو أن تكون أكثر من مجموعة من األصفار . كانت السراطانات تراقب المستشار الواقف على الممر الدائري والمستند بيديه على الحاجز األصفر ،ويخيل إليها أنه بنظارته السميكة التي يضعها على عينيه أنه سرطان يسعى ،فتخرج من البحر ،ممدودة الكالليب ، وتمشي على الممر الدائري بإتجاه المستشار وكأنها تريد التأكد من أن ذلك المخلوق الواقف أمامها فوق الماء هو بالفعل سرطان من السرطانات . اعتادت السراطانات على افساد لحظات المتعة التي يقضيها المستشار في عرض البحر مستروحا ً نسائمه العليلة ،فتأخذ بقرص رجليه بكالليبها الحادة مما يدفعه إلى مغادرة المزرعة ،وركوب قارب مطاطي ليعود به إلى المرفأ األلماني القديم .وفي بعض األحيان عندما يكون المستشار يرتدي قميصا ً أبيض اللون كانت الحيتان القاتلة األوركا تقفز عاليا ً في الهواء وهي تصدر أصواتا ً غريبة وكأنها كانت تريد أن تتحقق من أن ما تراه واقفا ً أمامها هو بالفعل حوت قاتل (أوركا) بلونيه المميزين . لقد رأت السرطانات والحيتان القاتلة في المستشار ما لم يكن غيرها يراه فيه ،وكأن لسان حالها يردد ما قاله أحمد بن الحسين الجعفي من قبل :
ومن جهلتْ نفسه قدره ...يرى غيره منه ما ال يرى وقد رأى المستشار في الحقيقة ما لم يكن غيره يراه فيها . أما موضوع معمر القذافي أنه يمتلك أموال ،فأنا أعتقد أنه ال يمتلك أموال شخصية أو حسابات مصرفية ،وال حتى سيف اإلسالم ،يعني يجب أن نقول الحقيقة .قد نتخاصم مع القذافي ،ومع سيف اإلسالم ولكن يجب أن نقول الحقيقة ،وربما ال تكون الحقيقة ،ولكن حقيقتي أنا ،وهو أنه معمر القذافي وسيف اإلسالم ال يمتلكوا أموال خاصة . د .محمد عبد المطلب الهوني ،مستشار ثقافي خاص سابق لسيف اإلسالم القذافي .قناة العربية ،برنامج ( إضاءات ) .األحد 15 ،مايو 2011 عندما يستمع المرء إلى مثل هذا الكالم ال بد أن يتذكر قول الشاعر الذي كان كلما ذكره أبو العالء المعري كان يقول قال الشاعر :
كــــــاء ُم ْكت َ ِح ُل ع ْي ِن ِه َحقا ِئقُهُ ...كأنهُ بالذ ف في َ ِ ت ُ ْع َر ُ أخاف يَ ْ أُ ْ شت َ ِع ُل علَ ْي ِه ِمنها كرتِ ِه َ ... ش ِف ُ ُ ق ِعن َد اتقـا ِد فِ َ عرف المبالغة وللمفكر اللبناني الكبير جبران خليل جبران قول جميل فيما يتعلق بالمبالغة والحقيقة ،فهو يُ ِ بقوله : المبالغة هي حقيقة فقدت أعصابها . 7
بمعارضة العبقري جبران ،يمكننا القول أن الحقيقة هي مبالغة ثابت إلى رشدها ،وعادت إلى وعيها ،وإذا كانت المبالغة حسب رأي جبران هي حقيقة فقدت أعصابها ،فكالم المستشار ال ريب أنه حقيقة فقدت عقلها . الحظ الصيادون بخليج رأس الهالل ظهور حورية بحر في مياه الخليج الدافئة ،والحظوا أيضا ً أن ظهور الحورية يتزامن مع وجود ابن القائد في المنطقة وكأن االثنان كانا على موعد . rendezvousخالل زياراتها تلك ،تقوم الحورية باستعراضات بهلوانية رائعة فتقفز عاليا ً في الهواء ثم تدور بجسمها الفاتن عدة مرات قبل أن تهوي إلى البحر وتغطس في الماء .كانت تلك القفزات االستعراضية هي الرقص بالنسبة لحورية البحر ،وبدافع الغيرة أو التنافس يجذب رقص الحورية مجموعة من الدالفين الدوارة ( المدومة ) Spinner dolphinsالتي تخرج مندفعة من الماء وهي تبرم أو تغزل بأجسادها في الهواء ثم تخر مصطدمة بسطح البحر فيتطاير رذاذ الماء هنا وهناك .على الرغم من عرضها المبهر إال أن الدالفين لم يكن في وسعها مجاراة الحورية في رقصها اآلخاذ ،ولم يكن لها طلعة كطلعة الحورية الساحرة ،فال تجد بد من اإلنسحاب وترك مياه الخليج كلها تحت تصرف الحورية . يتسمر صيادو رأس الهالل في قواربهم وهم يشاهدون حورية البحر الفاتنة وهي ترقص في خليجهم الجميل. ي تجسد الجمال في كل شيء في رأس الهالل ،فالخليج بشواطئه ومياهه الزرقاء جميل ،والطبيعة التي تحفه بجبالها وعيونها وأشجارها وشجيراتها جميلة ،وال شك أن مجيء الحورية إلى خليج رأس الهالل يضيف جماال على جماله المعتاد . تضرب الحورية سطح البحر بذيلها الذهبي الجميل فتتناثر المياه وتقع بعض القطرات على جسد ابن القائد األسمر .أرادت الحورية برقصاتها تلك أن تلفت نظر ابن القائد إليها ،فلفتت بدالً من ذلك نظر المستشار. تفرس المستشار مليا ً في الحورية ،وأذهله الشبه الواضح بينها وبين فتاة روسية يعرفها من علية القوم ، وكانت تلك الفتاة تحترف الرقص البهلواني .قال المستشار في نفسه لو لم تكن هذه التي ترقص أمامهما ، وتحاول إغراء رفيقه حورية بحر ،لقال أنها هي الحسناء كاترينا تيخونوفا ذات الخدم والحشم ،بشحمها ولحمها . في أحد األيام قدم المقاول التركي المسؤول عن إنشاء مزرعة األسماك عرافة غجرية إلى ابن القائد ،وقال له أن لها نبؤات مدهشة ،وأقنعه بأن يسمح لها أن تقرأ له الطالع .وضعت العرافة صدفة كبيرة على أذنها ، وأخذت تنصت إلى األصداء التي تتردد بداخلها .وبعد أن أنصتت العرافة بما فيه الكفاية إلى ما يدور بداخل الصدفة ،أنبأت ابن القائد بنبؤتها ؛ فقالت له :لن يؤثر في حكمكم شيء من على األرض ،ولكن ما يؤثر في حكمكم سيأتي من السماء .تضايق ابن القائد بعض الشيء مما قالته العرافة ،ولكن الزمن بمروره الثابت أسقاه كأسا ً من السلوان ،فذهب كالم العرافة أدراج الرياح وطواه النسيان .
8
اعتادت النسور الصلعاء على التحليق في أجواء المنطقة ،مسترخيةً فوق تيارات الهواء الساخنة ،وعندما تلوح لها صدفة سلحفاة صغيرة فوق مياه الخليج الزرقاء تهوي إلى سطح البحر وتلتقط السلحفاة البحرية وتطير بها عاليا ً في الهواء .لم يكن العثور على السالحف يمثل مشكلة بالنسبة للنسور بقدر ما كان يمثله كسر صدفات السالحف التي تصطادها ،والتاريخ خير شاهد على ذلك ،فقديما حاول أحد النسور أن يكسر صدفة سلحفاة فألقاها من علو كبيرعلى ما كان يظنه صخرة ،ولكنه بدالً من أن يكسر صدفة السلحفاة ،كسر ما هو أهم منها بكثير فقد كسر رأس إيسخيليوس Aeschylusوأصاب المسرح اليوناني القديم في مقتل . في الواقع كانت تلك الحادثة مأساة لم يكن بوسع حتى إيسخيليوس نفسه قادرا ً على أن يؤلف مثلها .تنبأت له عرافة بأنه سيالقي حتفه جراء سقوط شيء على رأسه ،وخوفا ً من تحقق نبؤة العرافة ،هجر إيسخيليوس البيوت خشية سقوط سقف أحدها على رأسه ،وعاش في البرية حيث السماء هي سقف بيته . لقد كان إيسخيليوس حذرا ً ،ولكن ال ينفع حذر من قدر . إن المآسي كالتاريخ فهي تعيد نفسها على مسرح الحياة مراراً وتكرارا ً ،فذات مرة التقط نسر أصلع سلحفاة من مياه خليج رأس الهالل وطار بها إلى األعالي ،وطفق يبحث عن صخرة ليلقي عليها صيده ،وبينما هو في سعيه ذاك ،إذ لمح شيء يلمع على سطح البحر فطار إليه وألقى عليه السلحفاة .لم يكن ذلك الشيء اللماع سوى رأس ابن القائد الذي كان واقفا ً على ممر مزرعة أسماكه .لحسن الحظ لم تتكرر مأساة إيسخيليوس هذه المرة ،فبدالً من أن تسقط السلحفاة على رأس ابن القائد وتتكسر صدفتها عليه ،سقطت بجانبه في داخل القفص فالتهمها أحد الحيتان القاتلة .بسقوط السلحفاة من السماء ،األمر الذي كاد أن يكسر جمجمته ،تذكر ابن القائد نبؤة العرافة التي أخبرته أن الخطر سيأتي من السماء ،وظن أن ما حدث هو تحقق لنبؤة العرافة ، وأن الخطر قد زال فتنفس الصعداء ،وقرت عينه بهذه العاقبة . ذات يوم من األيام ،وبينما كان ابن القائد مستلقيا ً على األطواق البالستيكية السوداء ،مستمتعا ً بأشعة الشمس ومستروحا ً نسائم البحر العليلة ،كان هناك ثمة شيء خطير يجري تحت سطح البحر ،فقد جذبت األسماك المحتجزة في القفص سمكة قرش جائعة .دارت سمكة القرش حول القفص وهي تحاول النيل من األسماك التي بداخله ،ولكن عبثا ً كان ما تحاول فعله ،وبينما كانت في طوافها حول القفص مشرعةً زعنفتها الظهرية في الهواء ،لمحت رأس ابن القائد الصقيل اللماع فأرادت أن تنال من ذاك الشيء اللماع بعد أن فشلت مساعيها في أن تنال من األسماك المحتجزة داخل القفص .لقد رأت في ذاك الشيء المستلقي على األطواق السوداء ،شيء حسن ،فقذفت بجسدها الهائل في الهواء في محاولة منها للنيل منه بيد أن ابن القائد كان مسعودا ً ،وقد انقذه سعوده في اللحظة األخيرة ،فهب واقفا ً وابتعد عن الحافة متشبثا ً بالحاجز األصفر . بعد فشلها في النيل من ابن القائد ،كادت سمكة القرش أن تتميز من الغيظ ،وكان الشرر يتطاير من عينيها لدرجة أن ابن القائد لم يعد يرى فيها هيئة الحيوان البحري اللطيف ،ولكن حيوان بري أشبه ما يكون بالكالب 9
المسعورة أو الذئاب المتوحشة .إلى حد ما كان ابن القائد مصيبا ً في نظرته تلك فكما أن هناك عبد هللا البري ، هناك عبد هللا البحري ،وكما أن هناك رمال في البحر ،هناك رمال في البر ،وكذلك الملح فهو في البحر والبر، وينحو العالمة الكبير عمرو بن بحر الجاحظ هذا المنحى في اإلقرار بوجود ثنائية حيوانات البحر والبر، فيقول: َ غ والعظاء مث ُل والحرباء ،والحلكاء ،وشحمة األرض ، والورل الضب البر من ِ َ ِ ويزعُمون أن ما كان في ِ والوز ِ ضذذفدع ،ا س ذلَحفاة والذ اذرق ،والتمسذذاح ،وال ُ وأن تلذذك األجنذذاس البريذذة وإن اختلفَذذتُ فذذي الذذذي فذذي البحذذر مذذن ال ُّ األجناس البحرية من تلك ،ككلب الماء من كلب األرض . أُمورها ،فإنها قد تتشابه في أمور ،وأن هذه َ " الحيوان " ،أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 159هـ 255 -هـ ) ويقرر الكاتب األمريكي الكبير هيرمان ميلفل حقيقة أن هناك شبها ً بين سمكة القرش والكلب إال أنه يميل إلى شيطنة سمكة القرش ،وترجيح كفتها في مجال الشر ،فيقول : ثم أنك من بعض النواحي األخرى ال تستطيع أن تواجه أية مخلوقات بحرية بالمشاعر عينها التي تواجه بها مخلوقات البر .نعم ذهب بعض علماء التاريخ الطبيعي القدماء إلى أن لكل مخلوق على البر صنواً في البحر، والحق أيضا ً أنك إذا شملت بنظرك المخلوقات في العالمين البري والبحري وجدت هذا الرأي صحيحا ً في مجمله ،ولكنك إذا أخذت تتأمل التفصيالت ألفيت األمر مختلفاً .هل يستطيع البحر أن يدعي بأن لديه سمكة صنوا ً في وداعتها الواثقة للكلب ؟ إن القرش وحده هو الذي يشبه بالكلب في الخلقة ،ولكن أي شيطان مريد هو ! " موبي ديك " ،تأليف :هيرمان ميلفل ،ترجمة :د .إحسان عباس كان رأس ابن القائد هو رأس المتاعب بالنسبة إليه ،فمرة يظنه نسر أصلع صخرة صلداء فيلقي عليها سلحفاة ،ومرة أخرى تظنه سمكة قرش شيء حسن وتريد النيل منها لوال إنه كان مسعودا بعض الشيء . من ضمن المواهب التي حبا هللا بها ابن القائد ،كانت موهبة الرسم ،فقد كان رساما ً تكاد األلوان والظالل تمتزج في لوحاته بصورة يعجز عن فعلها أعظم الرسامين فالناظر إلى لوحاته ال يكاد يميز فيها بين اللون والظل ،وعندما يكون ابن القائد في مزاج فني ،يقوم بنصب حامل لوحات على األطواق الحلقية السوداء لمزرعة األسماك ويضع عليه قطعة قماش ،ويشرع برسم لوحة للساحل الطويل الجميل ،في تلك األثناء تطلع الحيتان القاتلة رؤوسها فوق الماء وتميلها قليال لترى ما يرسمه ابن القائد ،ثم تقوم بفعل عجيب ..إذ أنها تعب كميات كبيرة من ماء البحر قبل أن تغوص إلى قاع المزرعة . ليلى الشيخلي :لو طلبت منك أنك ترسم لوحة ،من واقع فنان موش من واقع سياسي ،من واقع مشاعر الفنان ،ترسم لوحة وتهديها إلى والدك ،ماذا ترسم فيها ؟ ..................................................................................................
سيف اإلسالم القذافي :آه ،وهللا ممكن نرسم الـ ،الـ ،الساحل الليبي الجميل ،هو ألفين كيلومتر ،ونقوله هذا الساحل ألفين كيلومتر ،أي واحي مي ..موش عاجبه معمر القذافي يختار أي بقعة في هذا الـ ،الساحل الجميل اللي نبي نرسمه ،ويشرب من مية البحر . سيف اإلسالم القذافي ،رئيس مؤسسة القذافي للتنمية .قناة الجزيرة ،برنامج ( بال حدود ) .األربعاء 8 ، أغسطس 2007 10
ال شك أن ابن عبدان السقاء كان متضايقا ً إلى حد القرف عندما قال :
َ َ كبر أحسن منظرا ً ... وإني رأيتُ الضر وأهون من مرأى صغير له ُ عاش ابن القائد ومستشاره في رغد من العيش فترة من الزمن يأكالن األسماك مسلوقةً ،ومشويةً ،ومقليةً ويستمتعان بهواء البحر العليل ،ويستروحان نسماته . في الواقع ،لم تكن أسماك القاروص تعجب المستشار كثيراً ،ولكنه كان مغرما ً بطعام شهي آخر ،أال وهو األخطبوط ،وبسبب كثرة أكله للحم األخطبوط فقد اكتسب المستشار إذا جاز القول " طبيعة أخطبوطية"، وليس في هذا الوصف شطط في القول أو تعديا ً على الحقيقة ؛ فمن المعروف أن لألخطبوط ثالثة قلوب ،ومن المعروف أيضا ً إنه ليس ألي أمرئ طبيعي سوي من قلبين في جوفه .هذا من ناحية القلوب ،أما من ناحية شكل بؤبؤ (إنسان) العين ،فمن الثابت أن لألخطبوط بؤبؤ مستطيل الشكل ،وال يمكن بأي حال من األحوال استبعاد أن يكون لعين المستشار الواقعة خلف عدسة سميكة كذلك بؤبؤ مستطيل الشكل. عند التفرس في وجه المستشار ،ال بد أن يالحظ المتفرس أن وجه المستشار وتحديدا ً جهة الفم واألنف تبدو بارزة قليالً عن مستوى الوجه ،ومدببة بعض الشيء .تضفي هذه السمة البارزة على الهيئة العامة للمستشار ملمح غير بشري ،فالناظر إليه يخيل له أنه يرى وجه بشري مزوداً بمنقار .بالطبع ليس المستشار في حفلة تنكرية حتى نقول أن ما نشاهده هو من لوازم تلك الحفلة ،ولكن ،من جديد ،ال بد أن هذه السمة المنقارية قد 11
اكتسبها المستشار من خالل أكله للحم األخطبوط ،وليس هذا بمستبعد إذا علمنا أن لألخطبوط منقار حاد هو اآلخر .وبسبب التصاقه بالحكام ،ال بد من تصنيف المستشار ضمن طبقة النبالء ،فتاريخيا ً كان النبالء في أوروبا العصور الوسطى يلقبون بذوي الدماء الزرقاء .إن االلتصاق الوثيق بالحاكم ال يتم إال إذا كان لك بثور ومحاجم ماصة كتلك التي لألخطبوط ،وأن يكون لك دما ً أزرق ال يتأتى إال إذا كنت أخطبوطا متجسداً في صورة توحي فقط بأن لك دما ً أحمر . استناداً على هذه المقدمات ،يمكننا االستنتاج أن المستشار أصبح بالفعل أخطبوطا خالصا ً ،وغدا كاألخطبوط األلماني بول الذي كانوا يستشيرونه في نتائج مبارايات كأس العالم ،وكان عنده فعالً الخبر اليقين .في الواقع هناك فرق وحيد بين المستشار واألخطبوط ،فللمستشار أطرافا ً أربعة ،بينما لألخطبوط ثمانية أطراف .وهذا يجعلنا نميل إلى االستنتاج مرة أخرى إلى أن المستشار هو في الواقع نصف أخطبوط ،وليس أخطبوطا ً كامالً . لقد حقق كثير من العلماء في هذه الظاهرة ،ومن هؤالء مؤسس علم االجتماع ،العالمة عبد الرحمن بن خلدون ،فهو يقول في مقدمته الشهيرة أن للمغتذى تأثير على الغاذي به واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار األغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على اإلقالل منها وإن له أثرا ً في األجسام وا لعقول في صفاتها وصالحها كما قلناه واعتبر ذلك بآثار األغذية التي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذون بألبان اإلبل ولحومها أيضا ً مع ما يؤثر في أخالقهم من الصبر واالحتمال والقدرة على حمل األثقال الموجود ذلك لإلبل وتنشأ أمعاؤهم أيضا ً على نسبة أمعاء اإلبل في الصحة والغلظ فال يطرقها الوهن وال ينالها من مدار األغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات الستطالق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه والدرياس والقربيون وال ينال أمعاءهم منها ضرر وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقة أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف األغذية لكان الهالك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية ومن تأثير األغذية في األبدان ما ذكره أهل ال فالحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر اإلبل واتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم ومثال ذلك كثيرة فإذا رأينا هذه اآلثار من األغذية في األبدان فال شك أن للجوع أيضا ً آثارا في األبدان ألن الضدين على نسبة واحدة في الـتأثير وعدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء األبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم وهللا محيط بعلمه. عبد الرحمن بن خلدون " ،مقدمة كتاب العبر ،وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ،ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر " كما أن البن القيم كالما ً يذهب فيه إلى ما يؤيد فكرة تحول المستشار إلى أخطبوط ،فالمستشار ليس استثنا ًء في تشبه اآلكل بالمأكول . وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه ،فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن الغاذي شبيه بالمغتذى. ابن قيم الجوزية " ،مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " 12
ولعل هذه الفكرة قد خامرت أيضا ً عقل أبي الطيب فاعتبر أن القهر هو غذاء للمقهورين ،الذين ليس لهم حيلة في تغيير واقعهم المر ،ومن الطبيعي ،من كان القهر غذاءه فال بد أن يُقهر جسده :
واحتما ُل األذى ورؤيةُ جانيه .....غذا ٌء تضوى به األجسا ُم في تأصيل لغوي السم األخطبوط ،تروى حكاية قد ال يكون لها أي أساس من الصحة ،فيقال والعهدة على الراوي أن األخطبوط في األصل كان يسمى طبوط ،ولكن األسماك دأبت من باب االحترام على منادته باألخ طبوط ،فكانت تقول على سبيل المثال نحن معشر األسماك لنا قلب وحيد بينما لألخ طبوط ثالثة قلوب ،أو ما أحد منقار األخ طبوط أو ما أشد زرقة دم األخ طبوط ،أو لقد أنقض األخ طبوط على سرطانا ً وألتهمه ،أو لقد نفث األخ طبوط سحابة سوداء من الحبر وأنزلق مبتعدا ً عن الخطر المحدق به ،أو يا للهول ،إن األخ طبوط يرى األشياء بعين ذات بؤبؤ ( إنسان ) مستطيل ، ..وهكذا ألتصق بطبوط اسم األخطبوط . عند الحديث عن األخطبوط ،ولكي يكون للحديث رونق وبهاء ،ال بد من ذكر شيء مما قاله األديب الفرنسي الكبير فكتور هوغو في هذا الخصوص ،وهو يصف الطريقة التي يفتك بها األخطبوط بفرائسه فيقول : ال يستطيع النمر إال أن يفترسك ،أما األخطبوط ،المرعب ! فهو يستنشقك .إنه يجتذبك نحوه وفي داخله ، فتشعر ،وأنت المقيد ،اللزج ،العاجز ،أنك ت ُ ْفر ُ غ في هذا الكيس الرهيب ،الذي هو الوحش . إن فيما وراء الحدث الرهيب ،الذي هو أن تُفترس حيا ً ،ما ال سبيل إلى التعبير عنه ،إنه أن ت ُش َْر َب حيا ً . فكتور هوغو " ،عمال البحر " أُغرم المستشار كذلك بأكل الجمبري ( الروبيان ) ، Shrimpوإن كان بدرجة أقل من غرامه بأكل لحم األخطبوط ،بيد أن ولي نعمته لم يشاركه استمتاعه بهذا الطبق ،والحق يقال ،فقد كان ابن القائد يكره الجمبري كراهية وراثية ،ولعل كراهيته للجمبري قد أكتسبها من والده القائد ،وليس هناك أي غضاضة في ذلك ،فمن شابه أباه فما ظلم .يحكي لنا محمد حسنين هيكل عن حادثة طريفة كان القائد يمثل فيها دور اإلنسان الصحراوي البسيط الذي ال يأكل الجراد ،ويستغرب إذا شاهد أحد يأكله ،كما أنه ال يأكل السمك ألنه ال يذبح على الطريقة اإلسالمية ،ورفض أكل الجمبري في وليمة دُعي إليها ،ألن الجمبري ميت ،وهو ال يأكل الميتة . في الواقع ،كانت البقرة تتظاهر ببساطة مغرقة في بساطتها إلى درجة الزندقة ،وكان حالبوها يتظاهرون باحترامها إلى درجة يصبح معها النفاق نوع من االحترام ،ويروي دجال العرب هذه الواقعة ،في كتاب له بعنوان (الطريق إلى رمضان) : وهذه حادثة صغيرة لكنها ذات مغزى : كان ال قذافي في إحدى المناسبات :ودعاه الرئيس عبد الناصر إلى تناول طعام العشاء معه ،وكانت أول مرة يرى فيها القذافي الجمبري .وبدأ الذعر على وجهه ينظر إلى طبقه ويسأل " :ما هذا ؟ ..جراد ؟ أتأكلون الجراد في مصر ؟ " .وضحك عبد الناصر وقال " :كال هذا ليس جراداً وإنما جمبري " .فسأل القذافي " : 13
وما هو الجمبري " .ورد عبد الناصر أنه نوع من السمك .لكن القذافي رفض أن يأكله وقال " :أنا ال أكل السمك ألنه ال يُذبح على الطريقة اإلسالمية ،حيث يقول من يتولى عملية الذبح قبل أن يبدأ الذبح :هللا أكبر . إن هذا الجمبري ميت ،وال يمكنني أكل الميتة " .وضحكنا جميعا ً بطبيعة الحال .لكن هذا الرجل نفسه أظهر فهما ً تاما ً لطريقة استخدام اإلذاعة في مد تأثيره خارج حدود ليبيا .وكانت دعايته مؤثرة في بعض األحيان ، وغير مؤثرة أحيانا ً أخرى ،لكن من المؤكد أنه استطاع أن ينشىء شبكة إذاعة على درحة عالية من الكفاءة . محمد حسنين هيكل " ،الطريق إلى رمضان " لم تكن العالقة بين زعيم القومية العربية ،وأمين القومية العربية تختلف كثيراً عن العالقة القائمة بين سمكة القوبيون Goby fishوجمبري المسدس ، Pistol Shrimpحيث يقوم الجمبري بحفر حفرة في قاع البحر الرملي ،ويسهر على رعايتها وصيانتها ،ويستضيف فيها سمكة القوبيون ،ومقابل هذا الكرم تقوم سمكة القوبيون بحراسة الجمبري وتنبيهه في حال اقتراب الخطر إذ أنه يكاد يكون أعمى . إن العالقة بين البقرة وحالبها كانت أيضا ً عالقة تكافلية ،إذ يقوم فيها حالب البقرة بما يتوجب عليه من واجب تجاه أي بقرة ،وتستمد البقرة من هذه االستحالب شرعيتها في كونها بقرة حلوب . ال ريب في أن ابن عبدان ،لو أطلع على هذه التمثيلية الهزلية لقال :
وكم ذا بمصر من المضحكــات ....ولكنه ضحك كالبكــــــــــــا عندما تهب الرياح الشمالية ،ويكون إتجاه تيار البحر من الشمال إلى الجنوب ،فيجلب كل من الهواء والماء رائحة السمك إلى الشاطئ ،عندها تتجمهر أعدادا ً ال حصر لها من القطط على رصيف مرفأ الصيد .ترمي األمواج باألسماك الميتة على الشاطئ ،ويعتبر مرفأ الصيد هو المكب الطبيعي الذي يلقي فيه البحر بنفايته . ولهذا السبب كان المرفأ مهوى أفئدة القطط .ليس بمستغرب أنه لو ُخير قط بين نار عامرة باألسماك ،وجنة تخلو من األسماك ،الختار النار على الجنة ،فهذه هي طبيعة القطط حيثما وجدت .بسبب وفرة األسماك ، ازدادت أوزان القطط حتى أصبحت في غاية السمنة ،ولم تعد قادرة على فعل أي شيء سوى األكل . كثيراً ما عبر ابن القائد ومستشاره عن استيائهما من هذه القطط السمان ،وأعربا عن ضيقهما من سمنتها المفرطة ،بيد أن ابن القائد نسى حقيقة ناصعة ،أال وهي أن هذه القطط ما كانت لتسمن ،لو لم تجد في مشاريعهم ما تقتات عليه ،ولو لم تجد في سياستهم ما تنسجم معه وتصبو إليه .فالقطط ال تسمن من عدم . أعال المستشار وابن القائد نفسيهما مما كانت تدره مزرعة األسماك من أموال ،فكانا خاليا البال ،مطمئنا النفس ،قريرا العين ،بيد أن صروف الدهر ال تثبت على منوال وتقلباتها ال يهدأ لها حال ،ففي ذات مرة اصطدم نيزك ضخم بالبحر ـ والبعض يقول حسبانا ً من السماء ـ فارتفع سطح البحر واندفعت مياهه في أمواج مدية هائلة نحو الساحل .دمر التسونامي كل ما وجده أمامه بما في ذلك مزرعة أسماك ابن القائد ،فقد تمزقت الشباك الضخمة وتسربت األسماك إلى البحر ،وعاد كل ما كان من البحر إلى البحر ،وما كان من البر تحطم على البر. 14
لم يكن ال القائد ،وال األسماك في االنتظار ،فقد الذ هو وهي بالفرار ،وآثرا السالمة على مواجهة قرار األقدار ،إذ ليس هناك أسهل على الرحى من الجعجعة ،وليس أسهل على العجل من الخوار. إذا نزلوا على األرض ،نحن في انتظارهم وكذلك األسماك .ستأكلهم األسماك ،وستأكلهم بنادقنا إذا نزلوا على األرض .نريد هذا .نحن نريد اللقاء بيننا وبينهم . مداخلة لألخ القائد بالهاتف – الجمعة 17 ،يونيو 2011 دارت الدوائر على تانك الدائرتان الضخمتان الطافيتان فوق بحر رأس الهالل ،ولم يكن البن القائد ومستشاره من مناص أمام غضب الطبيعة ،وجبروت التسونامي إال أن يتركا مزرعة األسماك التي كانت تعيلهما ،ويلجأا إلى البر ليتسلمهما السوقة والدهماء هناك .تكفل الرعاع بما نجى من دوائر القدر ؛ وقاموا بنهب كل ما يمكن نهبه من معدات المزرعة وآلياتها . وجد ابن القائد ومستشاره نفسيهما على قارعة الطريق يعضهما الجوع بنابه بعد أن كان فيهما ال يخلوان من أسماك البحر وفواكهه وأطايبه ،وهلل در المتنبي القائل :
ب اضي ِف َ راق َ ت َ َمل َك َها اآلتي ت َ َملُّكَ َ فارقَ َها ال َم ِ سلي ِ سا ِلب َ ....و َ وهكذا فقد ابن القائد جنتيه وأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها .وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . أُصيب ابن القائد في خضم تلك الجائحة إصابة بليغة وفقد جراء تلك اإلصابة ثالثة أصابع من أصابع يده اليمنى ،وهي تلك األصابع التي كان يرفعها في وجوه البؤساء ويهددهم بها ،ولعل تلك األصابع تكون تعويضا ً مناسبا ً ألسماك البحر عن أصابع السمك fish fingersالتي طالما تلذذ بأكلها هو ومستشاره النهم ،كما عب ابن القائد كثيراً من ماء البحر بعد تحطم قاربه على الصخور ،وفقد لوحته الشهيرة التي صور فيها ساحل طويل جميل .لقد شرب هو من نفس الكأس التي أراد أن يسقيها لغيره . ذهبت اللوحة ،وذهب صاحبها ،وبقى ذلك الساحل الطويل الجميل الذي أوجده الواجد ،الذي ال يغفل وال ينام . شعر المستشار بفداحة الخطب وهول المصيبة التي وقعت على رأس ابن القائد ،فنظر إليه نظرة تضامن وتآزر ،نظرة لو أفصحت عن نفسها بكلمات لرددت ما قاله الذي مأل الدنيا وشغل الناس :
ب ال يُحْ ِز ِن هللا األمير فإنني ....آل ُخذُ ِمن َحاالتِ ِه ِبنَ ِصي ِ َ يروى عن أحد المؤرخين حكاية قد ال يكون لها أي أساس من الصحة حول ما حدث البن القائد وفقدانه لثالثة أصابع ،فيقول ذلك المؤرخ والعهدة عليه :بعد أن أطلق محتجزوه سراحه ،اقترن ابن القائد بفتاة مصرية وعاش معها في حب ووئام ،إلى أن آتى يو ٌم اختلف فيه الزوج مع زوجته حول أمر ما ،ووقعا في الخصام. حصلت بينهما مشادة كالمية تنافرا على إثرها ،و استمر تنافر الزوجين عن بعضهما البعض لفترة من الزمن إلى أن قررت الزوجة وصل حبل المودة بينها وبين زوجها .هناك حقيقة سائدة ،وهي أنه ال يوجد في العالم 15
كله نساء يعرفن أن الطريق إلى قلب الرجل يمر عبر بطنه أكثر من النساء المصريات ،ولتطبيق هذا المبدأ ، قررت الزوجة إعداد وجبة من تلك الوجبات التي تخلب اللب وتسلب العقل ،ومن المقرر أنه ليس هناك وجبة تفعل هذا الفعل كما تفعله "الملوخية باألرانب" ،وال شك أن الحاكم بأمر هللا الفاطمي كان مصيبا ً عندما استثنى هذا الطعام من قائمة قرارته التعسفية .إلعالن نواياها الطيبة وعواطفها الجياشة اقتربت الزوجة من زوجها على خفر واستحياء وقالت له بلهجة ملؤُها المودة والحنان :إزيك اليوم يا بيضاء ؟ دا أنا عماللك أكلة إنما إيه .دا أنت حتاكل .. وتلعثمت الزوجة الطيبة ،وتوقفت عن الكالم إذ أنها أدركت أنه ليس هناك ثمة ما يُؤكل بعد " الملوخية باألرانب" .انتهى كالم المؤرخ . لم يختلف حال ابن القائد ومستشاره عن حال جرذ النيهوم الذي وجد نفسه طافيا على قطعة جبن في عرض البحر ؛ إن أكلها مات غرقا ً ،وإن لم يأكلها مات جوعا ً .فهما إن بقيا في البحر كان عليهما مواجهة التسونامي ،وإن ذهبا إلى البر كان عليهما مواجهة الذل والمهانة على أيدي الرعاع الذين يجوبون أرجاء المنطقة . إنه يحس بالخو ف مثل جرذ يعوم على قطعة جبن في وسط المحيط .إذا أكلها غرق ..وإذا لم يأكلها مات الصادق النيهوم "،تحية طيبة وبعد " بالجوع .
وما توفيقي إال باهلل فريد أبو سرايا
5رمضان 1439هـ ،الموافق 21مايو 2018 16