قصة قصيرة للكاتب فريد أبوسرايا بعنوان : السلسلة الغذائية food chain

Page 1

1


‫السلسلة الغذائية ‪Food Chain‬‬ ‫بقلم ‪ :‬فريد أبو سرايا‬

‫استرخت النسور على التيارات الهوائية الساخنة ولم تكلف نفسها عناء تحريك أجنحتها لتبقى معلقة في‬ ‫الهواء‪ ،‬وكانت أثناء ذلك تمسح ببصرها الثاقب األراضي الواقعة تحتها بحثا ُ عن ما تسد به رمقها ‪ ،‬وتقيم به‬ ‫أودها ‪.‬‬

‫تحت على األرض ‪ ،‬افترشت القُمامة شوارع المدينة وطرقاتها ‪ ،‬وتصاعدت منها روائح نتنة تزكم األنوف ‪،‬‬ ‫ويوم بعد يوم ‪ ،‬أخذت النفايات تتكدس فوق بعضها البعض ‪ ،‬فشكلت أكواما ً التحصى من األوساخ والمواد‬ ‫العضوية المتحللة التي تنبعث منها الروائح الكريهة ‪ .‬إن منظر القُمامة المؤذي للمشاعر والذوق ‪ ،‬يوحي‬ ‫‪2‬‬


‫للناظر بأن أهل المدينة يتفاخرون بقذوراتهم وأوساخهم ‪ ،‬وال شك أن اإلنسان السوي ‪ ،‬القويم ال يشعر فقط بأن‬ ‫هذه اآلفة تهدد صحته ‪ ،‬بل أنها تمس حتى كرامته ‪ ،‬ويُبتلى بهاجس يؤرقه على الدوام متمثالً في خشيته من‬ ‫أن يطلع األغراب على هذا الجانب القذر من حياته ‪ ،‬ويتساءل ‪ ،‬ما الذي سيقولونه لو أطلعوا على أكوام‬ ‫القُمامة النتنة المعروضة شُرعا ً على المأل ؟ أتراهم سيقولون ‪ ،‬يبدو أن هؤالء القوم ال يحلو لهم العيش إال‬ ‫وسط هذه المرارة ‪ ،‬وال تطيب لهم الحياة إالّ وسط هذا الخبث ؟‬ ‫مضى الق وم سادرين في عيشهم وكأن عيشهم هو في حد ذاته غي ‪ ،‬غير مبالين بشيء إال بإنتاج المزيد من‬ ‫األوساخ والقذورات ‪ ،‬وفي نفس الوقت كانوا يتساءلون عن سبب انتشار األمراض الجلدية ‪ ،‬ومرض السرطان‬ ‫بينهم ‪.‬‬ ‫تدفقت مياه المجاري ( الصرف الصحي ) في الوديان ‪ ،‬وكان لها خرير كخرير المياه العذبة ‪ ،‬ولكن ما أن يرى‬ ‫المرء لون تلك المياه ‪ ،‬ويشاهد الفقاقيع التي تعلو سطحها حتى تنقبض نفسه ‪ ،‬ويشعر بوحشة وكآبة وهم‬ ‫وغم ‪ .‬تشكلت برك كبيرة من المياه السوداء في مجرى سيل المجاري ‪ ،‬تواصل مياه المجاري تقدمها وزحفها‬ ‫عبر األودية حتى تصل إلى البحر ‪ .‬لم تكتف مياه المجاري بتلويث سطح األرض وما حواه باطنها من مياه‬ ‫جوفية‪ ،‬بل إن طموحها كمعظم أنهار الدنيا هو أن تصل إلى البحر وتتصل به ‪ .‬وكبقية األنهار ‪ ،‬كان لتلك‬ ‫األنهار السوداء منابع ‪ ،‬وكأغلب أنهار الدنيا كانت تصب في البحر ‪.‬‬ ‫بعد تسيد اللصوص ‪ ،‬وتصدر الفاسدون المفسدون ‪ ،‬كانت أكوام القُمامة ‪ ،‬وبرك مياه المجاري هما البالء‬ ‫الرئيسي الذي أُبتليت به المدينة ‪ .‬يا تُرى ماذا لو مر بها الشاعر الكبير عبد هللا البردوني ذات يوم ‪ ،‬ومنحه هللا‬ ‫نعمة البصر ‪ ،‬ورأى ما يسؤه رؤيته ‪ ،‬فهل كان حينها سيسميها ( ساء من رأى ) ‪ ،‬أو هل كان سيقول عنها‬ ‫مثلما قال عن مدينة صنعاء ذات مرة؟‬

‫من قبة السماء ‪ ،‬يلتبس األمر أحيانا ً على بعض النسور فترى أشياء طافية على برك المياه السوداء ‪ ،‬فتظن‬ ‫أنها فريسة سهلة المنال ‪ ،‬ومن حين آلخر يشاهد نسرا ً منقضا ً على إحدى هذه البرك ‪ ،‬ومخلبيه الحادين‬ ‫ممدودان أمامه ‪ ،‬غاطسا ً إياهما في المياه السوداء ليقطع الطريق أمام ما يظنه سمكة من األسماك ‪ ،‬بيد أن‬ ‫مخلبيه ال يقبضان إالّ على ما يقبضانه من الريح ‪ ،‬وكأن تلك المياه السوداء ترد على انقضاض النسر عليها‬ ‫س ْ‬ ‫سمكَ ‪.‬‬ ‫بالقول ‪ :‬هذا ليس َ‬ ‫مك ‪ ،‬بل هذا ُ‬ ‫في الطرف الجنوبي للمدينة حيث مقلب القُمامة الرئيسي ‪ ،‬تراكمت الكناسة فوق بعضها البعض‪ ،‬فتشكلت جبال‬ ‫من القمامة تخترقها شوارع وأزقة ‪ ،‬تنتشر فيها عصابات من الكالب الضالة التي تعتبر هذا المكان وطنا ً لها‬ ‫والتي هي بعيدة كل البعد عن معنى الضالل في هذا المكان‪ ،‬وبكل موضوعية يمكن تسمية هذا المكان بالضاحية‬ ‫‪3‬‬


‫القُمامية للمدينة ‪ .‬باتت أكوام القُمامة في شوارع المدينة مرتعا ً خصبا ً لصيران من البقر ‪ ،‬وقطعان الماشية‬ ‫والكالب الضالة ‪ ،‬وللقطط والجرذان ‪ ،‬والغربان ‪ ،‬وحتى طيور الدوري الصغيرة انضمت إلى نادي مرتادي‬ ‫أكوام القُمامة ‪ .‬إن مشهد نصف كوم قُمامة محترق ‪ ،‬ويتصاعد منه الدخان والروائح الخانقة ‪ ،‬وعلى نصفه‬ ‫اآلخر ترتع بقرة وزوج من القطط ‪ ،‬وزوج آخر من الكالب لهو مشهد يندر أن يصادفه المرء في حياته ‪ ،‬إلى‬ ‫حد ما يشبه هذا المشهد ‪ ،‬مشهد الهندوس األتقياء وهم يستحمون في مياه نهر الجانج الملوثة بالجراثيم‬ ‫القاتلة ‪ ،‬ويغطسون رؤوسهم فيها ‪ ،‬وبين الفينة والفينة تمر باحدهم جثة محترقة جزئيا ً طافية فوق مياه النهر‪،‬‬ ‫ومنسابة في إتجاه التيار‪.‬‬ ‫أصيبت عقول القوم بلوثة ‪ ،‬فلوثوا كل شيء ؛ أشعلوا النار في أكوام القُمامة ليتخلصوا من أسراب الباعوض‬ ‫والذباب والروائح النتنة ‪ ،‬فتصاعد منها الدخان والغازات القاتلة ‪ ،‬وكانوا بذلك كمن أراد أن يتخلص من‬ ‫الغولة‪ ،‬فوقع فريسة بين يدي سالل القلوب ‪ ،‬فال هو تخلص من الغولة ‪ ،‬وال نجا من سالل القلوب ‪ .‬لوثوا‬ ‫سطح األرض وباطنها ‪ ،‬ولوثوا الهواء ‪ ،‬ولوثوا البحار ‪ ،‬ولوثوا المياه الجوفية ‪ ..‬باختصار شديد غير ُمخل‬ ‫بالمعنى ‪ :‬لقد لوثوا كل شيء ‪ ،‬ولم يتبق أمامهم إال الفضاء ليلوثه ‪.‬‬ ‫ظلت النسور تحلق في السماء ‪ ،‬بانتظار فرصة سانحة تنقض فيها على أكوام القُمامة ‪ ،‬بيد أن تلك األكوام‬ ‫كانت مشغولة على الدوام ‪ ،‬فإذا لم يكن هناك بشر ‪ ،‬كان هناك بقر ‪ .‬وإذا لم تكن هناك أبقار ‪ ،‬كان هناك كالب ‪،‬‬ ‫وإذا لم يكن هناك كالب ‪ ،‬كان هناك قطط وجرذان وغربان ‪ ،‬ولكن على الدوام كانت هناك جراثيم وباعوض‬ ‫وذباب ‪.‬‬ ‫يُحكى أنه في زمن غابر ‪ ،‬تحقق العدل ‪ ،‬فشاهد الناس الذئب يرتع جنبا ً إلى جنب مع الحمل ‪ .‬لقد تحقق األمر‬ ‫ذاته في المدينة ولكن بصورة معكوسة ‪ ،‬ففي زمن يسود فيه الظلم ال بد أن يُرى الجرذ يرتع جنبا ً إلى جنب مع‬ ‫الهر ‪ ،‬وهذا ليس بغريب ‪ ،‬فطالما أن الجرذ والهر من ذوات الناب ‪ ،‬فال غرو أن يكون هذا هو زمن النوائب‬ ‫والنواب ‪.‬‬ ‫للمدينة صلة قديمة بالجرذان ‪ ،‬فقد غزتها الجرذان ذات مرة في زمن موغل في القدم ‪ ،‬وجاست خالل الديار ‪،‬‬ ‫وعاثت فيها فسادا ً ‪ .‬تغولت الجرذان إلى درجة أنها تجرأت وتجسرت على أكل رؤوس الحمالن الصغيرة ‪،‬‬ ‫وعض أقدام الحراس وهم يغطون في نومهم ‪ .‬لم يكن في المدينة أي زامر أرقط ليسحر الجرذان بأنغام مزماره‬ ‫ويقوده ا خارج المدينة كما حدث ذات مرة في بلدة هاملين ‪ .‬لم تنجح اإلجراءات التي طبقها حاكم المدينة‬ ‫للقضاء على الجرذان ‪ ،‬وعندما أعلن عن مكافأة قدرها ربع دينار لكل من يُحضر جرذا ً ميتا ً ‪ ،‬ازدحم مكتبه‬ ‫بالصبية الصغار ‪ ،‬وكل منهم يحمل جرذا ً ميتا ً أو اثنين ‪ ،‬أو أكثر من ذلك ‪ ،‬مطالبين إياه بالمكافأة الموعودة ‪.‬‬ ‫كان أولئك الصبية أكثر ضرر على جيب الحاكم من الجرذان ‪ ،‬ولذا فقد أ ُوقف هذا المشروع ‪ ،‬وأثر الحاكم أن‬

‫‪4‬‬


‫ينتظر قدوم زامر أرقط لكي يخدعه كما خدع أهل هاملين زامر أرقط كان قد خلصهم من الجرذان التي اجتاحت‬ ‫بلدتهم ذات يوم ‪.‬‬ ‫السلسلة الغذائية في المدينة هي من النوع الذي يمكن تسميته بالسلسلة المفرغة ‪، Vicious Food Chain‬‬ ‫فاإلنسان هناك يأكل ويشرب ‪ ،‬ويرمى بفضالته خارج البيت ‪ ،‬فتأتي األبقار واألغنام ‪ ،‬والطيور ‪ ،‬فتأكل من‬ ‫أكوام القُمامة ‪ ،‬وتشرب من برك مياه المجاري السوداء ‪ ،‬ثم يشرب أهل المدينة ألبان تلك األبقار ‪ ،‬ويأكلون‬ ‫لحومها ‪ ،‬فيخرجون فضالت صلبة وأخرى سائلة ‪ ،‬وتأخذ هذه الفضالت طريقها إلى جبال القُمامة ‪ ،‬وأنهار‬ ‫المجاري ‪ ،‬فتأتي األبقار لتؤدي رسالتها المعهودة باألكل من هذه الفضالت ‪ ،‬وهكذا دواليك ‪....‬‬ ‫هذه السلسلة الغذائية المفرغة كبيرة الشبه بما حدثنا عنه وليم شكسبير في مسرحية (هاملت ‪ ،‬أمير الدنمارك)‬ ‫‪ ،‬عندما سال كالوديوس هاملت عن مكان بولونيس ‪ ،‬فجرى بينهما الحوار التالي ‪:‬‬

‫للوهلة األولى يبدو أن اإلنسان هو المتربع على قمة السلسلة الغذائية ‪ ،‬فهو يقتات على األبقار واألغنام ‪،‬‬ ‫فيأكل لحومها ويشرب ألبانها ‪ ،‬ويلتحف بجلودها ‪ ،‬ولكن يجب أن ال ننسى الباعوض ‪ ،‬فهو أيضا ً أحد عناصر‬ ‫هذه السلسلة الغذائية ‪ ،‬ألنه يقتات على القُمامة ومياه المجاري ‪ ،‬ثم يقع على جلد اإلنسان ‪ ،‬ويمتص دمه ‪،‬‬ ‫وينقل إليه الجراثيم القاتلة‬

‫‪5‬‬


‫لم تعد مقالب القمامة حكرا ً على الحيوانات ‪ ،‬بل أن بعض المساكين من بني آدم صاروا يأمونها أحيانا ً للبحث‬ ‫عن لقمة طعام ‪ ،‬يقيمون بها أودهم ‪ ،‬أو خرقة يكسون بها عريهم ‪ ،‬كما أنها لم تكن حكرا ً على األحياء ‪ ،‬بل‬ ‫كان لألموات فيها أيضا ً موطئ قدم ‪ ،‬فباتت معرضا ً للجثث التي يُشاهد عليها أثار التعذيب ‪ .‬لقد كان الشاعر‬ ‫الكبير أحمد مطر يسشرف هذا المآل منذ زمن طويل ‪ ،‬وإال لما قال ‪:‬‬

‫شددت القُ َمامة خناقها على المدينة ‪ ،‬فحاصرت أكوامها أحياء المدينة ‪ ،‬وانبجست ينابيع المجاري من أرض‬ ‫شوارعها ‪ ،‬وطنت الحشرات في أجوائها ‪ .‬خسرت النسور الرهان بعد أن ملت من التحويم فوق المدينة‬ ‫وسئمت من ذلك ‪ ،‬فعلى الرغم من أنها طيور قَمامة إالّ أن الفرصة لم تسنح لها إلرتياد مكبات القُمامة التي‬ ‫كانت مزدحمة بالبقر والبشر ‪ ،‬وبالغربان والجرذان ‪ ،‬ولهذا فقد قررت النسور اإلقالع عن أكل الجيف والرمم ‪،‬‬ ‫والبحث عن مصدر آخر للعيش تسترزق منه ‪ .‬الحظ سكان المدينة أنه في الوقت الذي رحلت فيه النسور عن‬ ‫مدينتهم ‪ ،‬انتشرت في أوساطهم األمراض واألوبئة الفتاكة ‪ ،‬وبدأوا يتساقطون وحدانا وزرافات ‪.‬‬ ‫لقد حدث ما هو طبيعي في مثل هذه األوضاع ‪ ،‬فباتت القُمامة هي التي تقتات على البشر وتفتك بهم ‪ ،‬إذ يقوم‬ ‫صبيانها من الجراثيم والحشرات بأداء األعمال القذرة نيابة عنها بنشر األمراض واألوبئة في أوساط من كانوا‬ ‫سببا ً في وجودها ‪ .‬بهذه الصورة تتقمص القُمامة دور شجرة الموز الذي يلقب بقاتل أبيه ‪ ،‬فتقوم باإلجهاز على‬ ‫أبائها وأمهاتها ‪.‬‬ ‫زادت القُمامة عن حدها ‪ ،‬فانقلبت إلى ضدها ‪ ،‬وباتت الطيور القَمامة ترى في القُمامة مصدرا ً للتعاسة‬ ‫والندامة‪.‬‬ ‫وهكذا انقلبت السلسلة الغذائية ‪،‬‬ ‫فهجرت الطيور القَمامة مقالب القُ َمامة ‪،‬‬ ‫واقلعت عن ما كانت تفعله منذ بدء الخليقة ‪،‬‬ ‫وما كان يفترض بها أن تفعله إلى يوم القيامة ‪.‬‬ ‫‪6‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.