درا�سات ونقد �سرية و�إبداع مواجهـــــات نوافـــذ
منتدى الأمري عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية يف دورته ال�سابعة :اإلعالم اليوم ..عالم بال حواجز
ملف العدد:
أدب الرحالت
42
برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية ودعم البحوث والرسائل العلمية في مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية -1ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية
يهتم بالدرا�سات ،والإبداعات الأدبية ،ويهدف �إلى �إخراج �أعمال متميزة ،وت�شجيع حركة الإبداع الأدبي والإنتاج الفكري و�إثرائها بكل ما هو �أ�صيل ومميز. وي�شمل الن�شر �أعمال الت�أليف والترجمة والتحقيق والتحرير. مجاالت الن�شر: �أ -الدرا�سات التي تتناول منطقة الجوف في �أي مجال من المجاالت. ب -الإبداعات الأدبية ب�أجنا�سها المختلفة (وفق ًا لما هو مب ّين في البند « »٨من �شروط الن�شر). ج -الدرا�سات الأخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف (وفق ًا لما هو مب ّين في البند « »٨من �شروط الن�شر). �شروطه: � -١أن تت�سم الدرا�سات والبحوث بالمو�ضوعية والأ�صالة والعمق ،و�أن تكون موثقة طبق ًا للمنهجية العلمية. � -٢أن ُتكتب المادة بلغة �سليمة. � -٣أن ُيرفق �أ�صل العمل �إذا كان مترجم ًا ،و�أن يتم الح�صول على موافقة �صاحب الحق. � -٤أن ُتقدّم المادة مطبوعة با�ستخدام الحا�سوب على ورق ( )A4ويرفق بها قر�ص ممغنط. � -٥أن تكون ال�صور الفوتوغرافية واللوحات والأ�شكال التو�ضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومنا�سبة للن�شر. � -٦إذا كان العمل �إبداع ًا �أدبي ًا فيجب �أن ي ّت�سم بالتم ّيز الفني و�أن يكون مكتوب ًا بلغة عربية ف�صيحة. � -٧أن يكون حجم المادة -وفق ًا لل�شكل الذي �ست�صدر فيه -على النحو الآتي: الكتب :ال تقل عن مئة �صفحة بالمقا�س المذكور. البحوث التي تن�شر �ضمن مجالت محكمة ت�صدرها الم�ؤ�س�سة :تخ�ضع لقواعد الن�شر في تلكالمجالت. الكتيبات :ال تزيد على مئة �صفحة( .تحتوي ال�صفحة على « »250كلمة تقريب ًا). -٨فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت الن�شر ،في�شمل الأعمال المقدمة من �أبناء وبنات منطقة الجوف� ،إ�ضافة �إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام� ،أما ما يتعلق بالبند (ج) في�شترط �أن يكون الكاتب من �أبناء �أو بنات المنطقة فقط. -٩تمنح الم�ؤ�س�سة �صاحب العمل الفكري ن�سخ ًا مجانية من العمل بعد �إ�صداره� ،إ�ضافة �إلى مكاف�أة مالية منا�سبة. -١٠تخ�ضع المواد المقدمة للتحكيم.
-2دعم البحوث والر�سائل العلمية
يهتم بدعم م�شاريع البحوث والر�سائل العلمية والدرا�سات املتعلقة مبنطقة اجلوف ،ويهدف �إلى ت�شجيع الباحثني على طرق �أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها و�أفكارها. (�أ) ال�شروط العامة: -١ي�شمل الدعم املايل البحوث الأكادميية والر�سائل العلمية املقدمة �إلى اجلامعات واملراكز البحثية والعلمية ،كما ي�شمل البحوث الفردية ،وتلك املرتبطة مب�ؤ�س�سات غري �أكادميية. -٢يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة متعلق ًا مبنطقة اجلوف. -٣يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة جديد ًا يف فكرته ومعاجلته. � -٤أن ال يتقدم الباحث �أو الدار�س مب�شروع بحث قد فرغ منه. -٥يقدم الباحث طلب ًا للدعم مرفق ًا به خطة البحث. -٦تخ�ضع مقرتحات امل�شاريع �إلى تقومي علمي. -٧للم�ؤ�س�سة حق حتديد ال�سقف الأدنى والأعلى للتمويل. -٨ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل �إج��راء تعديالت جذرية ت��ؤدي �إلى تغيري وجهة املو�ضوع �إال بعد الرجوع للم�ؤ�س�سة. -٩يقدم الباحث ن�سخة من ال�سرية الذاتية. (ب) ال�شروط اخلا�صة بالبحوث: -١يلتزم الباحث بكل ما جاء يف ال�شروط العامة(البند «�أ»). -٢ي�شمل املقرتح ما يلي: تو�صيف م�شروع البحث ،وي�شمل مو�ضوع البحث و�أهدافه ،خطة العمل ومراحله ،واملدةاملطلوبة لإجناز العمل. ميزانية تف�صيلية متوافقة مع متطلبات امل�شروع ،ت�شمل الأجهزة وامل�ستلزمات املطلوبة،م�صاريف ال�سفر والتنقل وال�سكن والإعا�شة ،امل�شاركني يف البحث من طالب وم�ساعدين وفنيني ،م�صاريف �إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة. حتديد ما �إذا كان البحث مدعوم ًا كذلك من جهة �أخرى.(ج) ال�شروط اخلا�صة بالر�سائل العلمية: �إ�ضافة لكل ما ورد يف ال�شروط اخلا�صة بالبحوث (البند «بــ») يلتزم الباحث مبا يلي: � -١أن يكون مو�ضوع الر�سالة وخطتها قد �أق ّرا من اجلهة الأكادميية ،ويرفق ما يثبت ذلك. � -٢أن ُيق ّدم تو�صية من امل�شرف على الر�سالة عن مدى مالءمة خطة العمل. الجوف :هاتف - 014 626 3455فاك�س � - 014 624 7780ص .ب � 458سكاكا -الجوف الريا�ض :هاتف - 011 281 7094فاك�س � - 011 281 1357ص .ب 94781الريا�ض 11614 sudairy-nashr@alsudairy.org.sa
الـمحتويــــات
العدد 42 �شتاء 1435هـ 2014 -م
االفتتاحية 4 ..........................................................
6.........................
ملف ثقايف ربع �سنوي ي�صدر عن
منتدى الأمير عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية في دورته ال�سابعة
امل�شرف العام �إبراهيم احلميد �أ�سرة التحرير حممود الرحمي ،حممد �صوانة ،عماد املغربي الإخراج الفني خالد بن �أحمد الدعا�س املرا�سالت توجه با�سم امل�شرف العام ّ
هاتف)+966()4(6263455 : فاك�س)+966()4(6247780 : �ص .ب � 458سكاكا اجلـوف -اململكة العربية ال�سعودية www.aljoubah.org aljoubah@gmail.com ردمد ISSN 1319 - 2566
�سعر الن�سخة 8رياالت تطلب من ال�شركة الوطنية للتوزيع
قواعد الن�شر � - 1أن تكون املادة �أ�صيلة. - 2مل ي�سبق ن�شرها. - 3تراعي اجلدية واملو�ضوعية. - 4تخ�ضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل ن�شرها. - 5ترتيب املواد يف العدد يخ�ضع العتبارات فنية. - 6ترحب اجلوبة ب�إ�سهامات املبدعني والباحثني والك ّتاب، على �أن تكون املادة باللغة العربية. «اجلوبة» من الأ�سماء التي كانت ُتطلق على منطقة اجلوف �سابقاً.
املقاالت املن�شورة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي املجلة والنا�شر.
17....................... ملف العدد� :أدب الرحالت
2
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ملف العدد� :أدب الرحالت :د .محمود عبدالحافظ ،غازي خيران 17 الملحم ،د� .إبراهيم الدهون� ،صالح بن محمد المطيري� ،إبراهيم الحجري ،الزبير مهداد ،د .عو�ض البادي� ،سعيد بوكرامي ،محمد ال�شحري ،ر�ضوان ال�سائحي ،ف�ؤاد ح�سن كابلي ،مر�سي طاهر �أبو عوف ............................................................. درا�سات ونقد :من �أين �أب��د�أ!!؟ قراءة في ديوان ال�شاعرة نبيلة 93 الخطيب عتبات وعالمات لغوية -د .بالل كمال ر�شيد ........... �س�ؤال اليومي والكتابة في مجموعة «ا�ستثناء» للقا�ص �إبراهيم 96 الحجري -عبدالغني فوزي....................................... ق�ص�ص ق�صيرة :ق�صتان -نورة عبداهلل ال�سفر99 .................. ق�صة� :شارع الجزارين -طاهر الزهراني100 ....................... الظِّلُّ الهارِب � -إيمان مرزوق101 ....................................
106...................... حوار مع ال�شاعر عبداهلل ال�سفر
�شعر� :أمل -عبدالكريم محمد النملة 102 ............................. �أ�صداء الذكرى -علي العلوي103 .................................... خري ُر الحنين -الطاهر لكنيزي104 ................................. ن�صو�ص �شعرية -محمد خ�ضر105 ..................................
النا�شـــــــــر :م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية �أ�س�سها الأمري عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري (�أمري منطقة اجلوف من 1362/9/5هـ 1410/7/1 -هـ املوافق 1943/9/4م 1990/1/27 -م) بهدف �إدارة ومتويل املكتبة العامة التي �أن�ش�أها عام 1383هـ املعروفة با�سم دار اجلوف للعلوم .وتت�ضمن برامج امل�ؤ�س�سة ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية ،ودعم البحوث والر�سائل العلمية، و�إ�صدار جملة دورية ،وجائزة الأمري عبدالرحمن ال�سديري للتفوق العلمي ،كما �أن�ش�أت رو�ضة ومدار�س الرحمانية الأهلية للبنني والبنات ،وجامع الرحمانية .ويف عام 1424هـ (2003م) �أن�ش�أت امل�ؤ�س�سة فرع ًا لها يف حمافظة الغاط (مركز الرحمانية الثقايف) ،له الربامج والفعاليات نف�سها التي تقوم بها امل�ؤ�س�سة يف مركزها الرئي�س يف اجلوف ،بوقف م�ستقل ،من �أ�سرة امل�ؤ�س�س ،لل�صرف على هذا املركز -الفرع.
منتدى الأمير عبدالرحمن ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية6 : الإعالم ..اليوم عالم بال حواجز -محمد �صوانة.................
مواجهات :ال�شاعر عبداهلل ال�سفر -حاوره عمر بوقا�سم106 ......... �سيرة و�إبداع� :أ .د .عبدالرحمن بن حمود العناد القا�ضب 114 ......
114...................... �سيرة و�إبداع: �أ.د .عبدالرحمن العناد
نوافذ :ا�ستطالع عن �أزمة ال�شعر العربي � -سعيد بوكرامي 118 ....... ال الناهية ..وال المتلقي125 .......................................... قراءات 126 ........................................................... عين على الجوبة128 ................................................
الغالف :ت�صميم خالد دعا�س . اجلوبة � -شتاء 1435هـ
3
■ �إبراهيم احلميد
تعد الرحلة و�أدبها �إح��دى �أق��دم المعارف االن�سانية التي �أنجزها الإن�سان العربي ،فقد كانت الفتوحات الإ�سالمية وتو�سع الحدود الجغرافية للبالد الم�سلمة هدف �سامٍ حافزا للكثير من المغامرين على خو�ض غمار الرحلة ،منطلقين من ٍ لرحالتهم� ..أال وهو الو�صول �إلى مكة المكرمة ،مهما كلف الأمر ،لأداء فري�ضة الحج وزيارة الأماكن المقد�سة؛ وكان بع�ضهم يجعل من رحلته �إلى مكة المكرمة، منطلقا �إلى �أماكن بعيدة عن موطنه ،متحمال كل ال�صعاب والم�شاق التي يكابدها الظاعن في ذلك الزمان؛ ولم تقف الرحلة عند هذا الهدف ،بل تجاوزته �إلى ا�ستك�شاف العديد من الوجهات منذ بدايات القرن الثالث الهجري �أو التا�سع الميالدي ،ومن الكتب التي �سطرها الرحالة العرب في توثيق رحالتهم :كتاب البلدان لليعقوبي المتوفى �سنة 284هـ،ومروج الذهب للم�سعودي ،وكتاب �صورة الأر�ض البن حوقل ،وكتاب الم�سالك للبكري ،وكتاب «نزهة الم�شتاق في اختراق الآفاق» للإدري�سي الذي �أنجزه عام 548هـ1154/م في بالط ملك �صقلية روجر الثاني ،وكتاب اال�ستب�صار وم�سالك الأب�صار للعمري ،وكتاب رحلة ابن بطوطة (تُحفة ال ُنّظار في غرائب الأم�صار وعجائب الأ�سفار) ،وكتاب العبر البن خلدون. وقد �شهدت القرون المختلفة منذ ع�صر الإ�سالم �ألوانا و�أ�شكاال من الرحالت التي اختلفت طرقها ووجهاتها� ،إال �أن القا�سم الم�شترك بينها هو الرغبة الأكيدة لدى مقترفيها في طلب العلم ،واال�ستزادة في معرفة الب�شر وطبائع البلدان ،وكان العديد من الرحالة يمثل نافذ ًة ا�ست�شرفت �آفاق الم�ستقبل ،و�أو�صلت �صورا لم 4
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
اف����������������ت����������������ت����������������اح����������������ي����������������ة
افتتاحية ال����ع����دد
تكن لتبلغنا اليوم عن �أحوال النا�س وحياتهم قبل مئات �أو �آالف ال�سنين ،لوال هذا التوثيق الذي قام به �أولئك الرحالة ،مهما كان االختالف حول مقدار الم�صداقية والدقة في التدوين. لقد كان ابن بطوطة �أحد �أولئك الرحالة الذين واجهوا حمالت المعار�ضين، الذين لم ي�ستوعبوا حجم االختالف الذي وجدوه في طبائع النا�س ،و �صور الحياة التي يعي�شون عليها في �أماكن مختلفة من العالم؛ حتى �أن العالم العربي ال�شهير ابن خلدون الذي عا�صر حقبة ابن بطوطة ،لم ي�ستوعب ما كتبه ابن بطوطة.. وكان يرى �أنه من ن�سج الخيال ،لوال تدخل ال�سلطان �أبي عنان �سلطان فا�س، الذي �أن�صف ابن بطوطة ،و�شهد له من خالل ت�أكيده على �أن الو�صف الذي �أورده لم�صر ،يتطابق مع ال�صورة التي ر�آها في رحلته عبر م�صر �إلى مكة المكرمة. لقد كانت كتب الرحلة العربية ت�صور ح��ال البلدان التي عبر بها �أولئك الرحالون عبورا غير عابر ،فقد كان الرحالة ي�ساكن النا�س و يعي�ش معهم ، وكان ابن بطوطة قا�ضيا في كثير من الممالك بالهند و جاوة �أثناء م�سيره �إلى ال�صين ،فقد مكث في تلك البلدان �سنوات طويلة� ،سبر خاللها �أغوارها ،ووثقها في كتابه المعتبر قبل �أكثر من � 700سنة ،وكان ذلك قبل �سقوط الأندل�س ،وقبل بزوغ �شم�س الغرب ،وقبل و�صول الإن�سان الأوربي �إلى �آ�سيا م�ستعمرا ب�أكثر من � 400سنة ،وكان كتاب ابن بطوطة و�سيلة لمعرفة الكثير من نظم الحكم واالدارة والحياة في تلك الحقبة الزمنية الما�ضية ،ومنها اعتماد الت�صوير في ال�صين لزوار ملك ال�صين ،واال�ستعمال المبكر للعملة الورقية فيها ،و نظام الحكم في جاوة ،والفلبين ،وفيتنام ،و�أ�شكال الب�شر في تايالند والبنغال والهند و غيرها من الغرائب و العجائب. و�إذا كان �أدب الرحلة يوفر لنا نافذة نطل منها على التاريخ و�سيرة المكان والإن�سان في مواقع مختلفة من هذا العالم ،ف�إن هذا الأدب وفر لنا �أي�ضا مجاال تتداخل فيه الرواية التاريخية مع ال�سرد ،مقدم ًا مفهوم ًا متقدم ًا للح�ضارة التي عا�شتها �أمتنا في ما�ضيها الغابر ،حيث الريادة التي �سادت بها العالم في زمانها قرونا ،وتك�شف لنا مدى القاع الذي هوت �إليه الحقا حتى حا�ضرها اليوم..
5
منتدى الأمري عبدالرحمن ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية
رئي�س مجل�س الإدارة في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري يتو�سط د .عبدالرحمن ال�شبيلي وال�شيخ جميل الحجيالن
الغاط تحت�ضن المنتدى في دورته ال�سابعة بم�شاركة �إعالميين و�أكاديميين متخ�ص�صين ومثقفين ■ حممد �صوانة*
نظمت م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري الخيرية الدورة ال�سابعة لمنتدى الأمير عبدالرحمن ب��ن �أح��م��د ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية ،ف��ي مركز الرحمانية الثقافي بمحافظة الغاط، بعنوان« :الإعالم اليوم عالم بال حواجز» ،وذلك يوم ال�سبت 6محرم 1435هـ ( 9نوفمبر 2013م). و�شارك نخبة من العلماء والمتخ�ص�صين والمهتمين في مجال الإعالم من الجامعات ال�سعودية وبع�ض الدول العربية ال�شقيقة ،بح�ضور محافظ الغاط عبداهلل النا�صر ال�سديري وجمع من �أهالي الغاط ,وح�شد من الإعالميين والمهتمين ,ومجموعة من طالب ق�سم الإعالم بجامعة الملك �سعود .وقد ناق�ش المنتدى على مدار ثالث جل�سات عمل ثالثة محاور� ،شملت الإعالم الجديد عالم بال حواجز ،والإعالم العربي الأهلي(�إعالم القطاع الخا�ص) ،والإعالم الر�سمي: التحديات المعا�صرة.
6
وف ��ي ح �ف��ل ال �م �ن �ت��دى ت �ح��دث ف�ي���ص��ل بن عبدالرحمن ال�سديري رئي�س مجل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري الخيرية ،الذي �أ�شار �إل��ى �أن ه��ذا المنتدى هو �أح��د الأن�شطة الدورية التي تقيمها الم�ؤ�س�سة ،وتحر�ص من خاللها على تناول مو�ضوعات معا�صرة تهم الوطن ،جنبا �إل��ى جنب مع �أن�شطتها الأخ��رى التي ت�شمل مكتباتها العامة في كل من الجوف اجلوبة � -شتاء 1435هـ
وال���غ���اط ،وم��ا ي�ق��دم��ه ب��رن��ام��ج الن�شر ودع��م الأبحاث والدرا�سات الميدانية؛ وهي �أن�شطة نفخر ب�ه��ا ،ون�سهم م��ن خاللها ف��ي التنمية الثقافية والمعرفية في هذا الوطن الذي نعتز بانتمائنا �إليه وبقيادته الحكيمة .و�أ�شار �إلى �أن اختيار هيئة المنتدى لهذا العام علما �سعوديا ليكون �شخ�صية المنتدى المكرمة ف��ي هذه الدورة ،جاء لكونه مثا ًال في البذل والعطاء في
ما قدمه من خدمة لقطاع الإعالم ال�سعودي �إلى جانب عمله الدبلوما�سي. كما �أ�شار في كلمته �إل��ى المنتديات ال�ستة ال�سابقة التي نظمتها الم�ؤ�س�سة بالتناوب في كل من الجوف وال��غ��اط ،و�شملت مو�ضوعات: الهيئات الخيرية ال�سعودية ،والأزم��ة المالية العالمية ،وال�ن�ظ��ام الق�ضائي ف��ي المملكة، والنظام ال�صحي ،والإدارة المحلية والتنمية، و�آثار المملكة �إنقاذ ما يمكن �إنقاذه. وا�ستطرد ال�سديري قائال� :إن هذه الم�ؤ�س�سة ثمرة من ثمار م�ؤ�س�سها الأمير عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري ،يرحمه اهلل ،ال��ذي �أن�ش�أها لتكون م�ؤ�س�سة ثقافية غير ربحية ،ت�سعى �إلى خ��دم��ة الثقافة والمثقفين ،وتنظم البرامج والأن�شطة الثقافية ،وتدعم البحوث والدرا�سات العلمية الميدانية الخا�صة بق�ضايا تهم المجتمع المحلي� ،إ�ضافة �إلى برنامج الن�شر والإ�صدارات الذي �صدر عنه حتى الآن نحو (� )125إ�صدارا.. �شملت الكتب المحكّمة والدوريات التي ت�صدرها ال�م��ؤ��س���س��ة ،وت���ش��رف عليها هيئة �أك��ادي�م�ي��ة متخ�ص�صة ت�ضم في ع�ضويتها عدد ًا من �أبناء الجوف والغاط. وفي ختام كلمته �شكر رئي�س مجل�س الإدارة كل مَ ن �شارك في �إقامة هذا المنتدى ،كما �شكر رُعا َة المنتدى ،و�أع�ضاء هيئته على ما بذلوه من
جهد كبير في تنظيم المنتدى و�إنجاحه. كما �أل�ق��ى د .عبدالرحمن ال�شبيلي كلمة هيئة المنتدى،التي قدم من خاللها ال�شخ�صية المُكرّمة ،م�ستعر�ضا �سجل العطاء والإنجازات التي قدمها ال�شيخ جميل الحجيالن .و�أ�شار �إلى �أن فترة الحجيالن �شهدت تد�شين �إذاعة الريا�ض وافتتاح التلفزيون في �سبع محطات، وتحوّل ال�صحافة من ملكية فردية �إلى م�ؤ�س�سات �أهلية ،كما �شهد الإعالم الخارجي طفرة نوعية مكثفة ق��وام�ه��ا الأف �ل�ام وال�ك�ت��ب الإع�لام�ي��ة، و� �ص��ارت المملكة قبلة ل��زي��ارة �أب ��رز رج��االت ال�صحافة العربية والأجنبية ،وحظيت و�سائل الإعالم بفر�ص غير م�سبوقة من برامج التدريب التي و ّف��رت لل�شباب ال�سعودي فر�ص الت�أهيل الفني ليناف�س الكفاءات الوافدة. وا�ستطرد قائال �إنه على الرغم من �أن ال�شيخ الحجيالن �أم�ضى نحو �أربعين عاما في المجال الدبلوما�سي بينما لم يق�ض في المقابل في الإع�لام �سوى ثماني �سنوات 1970-1963م، لكن ا�سمه ارتبط ارتباطا وثيقا بالإعالم؛ �إذ مار�س العملية الإعالمية في فترة حرجة داخلي ًا وخارجياً ،و�أبدع في الزمن ال�صعب بما ي�ستلزم درا�سة �سيرته والإفادة منها. ثم �ألقى ال�شيخ جميل الحجيالن (ال�شخ�صية المكرمة) كلمة �أ�شار فيها �إلى �أن هذا المنتدى اجلوبة � -شتاء 1435هـ
7
8
يعد وجه ًا من وجوه الوفاء للأمير عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري (ال��ذي عرفه عن قرب)، والذي امتازت م�سيرته بالف�ضائل والقيم ،وكان بحق رجل دولة ،و�أحد بناة هذا الوطن. كما ُ ق�� ّد ْر ال�شيخ الحجيالن للمنتدى ،في ان�ع�ق��اده ال���س�ن��وي ،ح�سنُ اخ�ت�ي��اره لموا�ضيع ال �ح��وار ،القترابها م��ن اهتمامات المواطن، وهموم الوطن ،ومو�ضوع هذا العام« ،الإعالم اليوم عالم بال حواجز» ،هو واحد من موا�ضيع ال�ساعة .وال�ح�ك��وم��ات ت��رى ف��ي �إدارة �شئون البالد �أمر ًا وقف ًا عليها ،ال تك�شف من �سرّه �إال بالقدر الذي تراه ،وال و�صاية لأحد غيرها عليه، والمنادون بال�شفافية يرون في موقف ال�سلطة هذا م�صادرة لحق المواطن في �أن يعرف كيف تدار �شئونه. و�أ� �ش��ار الحجيالن �إل��ى �أن المعركة بين ال�سلطة والمطالبين بال�شفافية في الحكم في العالم الغربي ظلت معركة متوا�صلة ،عنيدة، �إل��ى �أن ان �ه��ارت تلك ال�ح��واج��ز عبر ع�شرات ال�سنين ،من المواجهة بين �إم�ساك ال�سلطة بمفهومها الأن��ان��ي بالحكم ،ودع��وة المفكرين �إلى ال�شفافية ،وانت�صار الإع�لام الوطني على مفاهيم الحكم المت�شدّد. ثم ت�ساءل في كلمته عن �إعالمنا العربي فقال :لقد جاءت الف�ضائيات ،و�إف��رازات ثورة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�شخ�صية المنتدى اختارت هيئة المنتدى لهذا العام معالي ال�شيخ جميل بن �إبراهيم الحجيالن �شخ�صية المنتدى في دورته ال�سابعة؛ نظر ًا لما قدمه خالل م�سيرته من �إ�سهامات عديدة ومتميزة للإعالم في المملكة. والحجيالن يعد بحق عميد الإع�لام في المملكة العربية ال�سعودية؛ �إذ كان �أول وزير يتبو�أ من�صب وزارة الإع�لام بالمملكة في مار�س عام 1963م. �أ��ش��رف الحجيالن على �إق��ام��ة �شبكات الإذاع��ة
منتدى الأمري عبدالرحمن ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية
الأ�ستاذ عقل ال�ضميري يلقي كلمة افتتاح الندوة
االت���ص��االت الحديثة م��ن التويتر واليوتيوب والفي�س بوك وما �إليها من �إبداعات تقنية مذهلة لتربك ما كان عليه الإعالم العربي من توا�ضع في التكوين والأداء ،وكذلك ،لتربك الحكومات، وهي ترى �أن و�سائلها التقليدية في الرقابة قد هزمتها و�سائل �أخرى ال حيلة في الرقابة عليها. و�أ� �ض��اف �أن م �ب��ادرات ال �ت �ح �وّل ف��ي بع�ض الإع�لام العربي ،وقبول بع�ض ال��دول لتقديم بع�ض التنازالت ،والتو�سّ ع في ما قد تمنحه من حرية لو�سائل الإع�لام ..لم ت��أت طواعية عن قناعة ،بل ا�ستجابة لحقائق جديدة ال تملك هذه الدول �إال االعتراف بها والتعامل معها؛ فقد تتح�صن بها وتلوذ ّ زال��ت الحواجز التي كانت خلفها دول كثيرة ،وجاء �إعالم �آخر موازٍ ،حر، طليق ،يتحدى الدول في ما قد تعلنه �أو تخفيه، ويذيع -في من�أى عن رقابتها -ما ي�شاء من �أخبار قد تك�شف ع��ورة من ع��ورات الدولة� ،أو �سوءة من �سوءاتها ،فتعجز الدولة عن احتواء تداعياتها! واختتم الحجيالن كلمته بال�شكر لل�شيخ ف�ي���ص��ل ب��ن ع �ب��دال��رح �م��ن ال �� �س��دي��ري راع��ي المنتدى ،ولإخوانه ،على ح�سن ظنهم ،واختياره لهذا التكريم ،وهو �سعيد بهذا التكريم معتز به، لأنه ي�أتي من م�ؤ�س�سة تحمل ا�سم الراحل الكبير الأمير عبدالرحمن ال�سديري ،وتعمل لتحقيق ما بنـى عليه حياته من عمل جليل و�أهداف نبيلة.
الأ�ستاذ �صالح القالب ود .عبدالرحمن العناد ود� .أ�سامة الن�صار ود .محمد �شومان في الجل�سة الأولى
والتلفزيون ،وعمل على تطوير العمل الإعالمي، محقق ًا �إنجازات كبيرة .ثم عُ ين وزير ًا لل�صحة ،ثم �سفير ًا للمملكة في �ألمانيا وفرن�سا .كما عمل �أمينا عام ًا لمجل�س التعاون الخليجي ،وكان عمله خالل تلك الـمُهمّة مو�ضع تقدير القادة والم�س�ؤولين، وقد ح�صل خاللها على �أو�سمة رفيعة .تقاعـد عـام 2002م.
ثالثين عاماً؛ هذه الم�س�ؤولية و�إن كانت بن�سب مختلفة ل��دى الم�ؤ�س�سات المماثلة الأخ��رى، �أ���ص��ب��ح��ت ع�لام��ة ع��ل��ى ارت���ب���اط الم�ؤ�س�سات بمجتمعها ،وا�ست�شعار همومه واهتماماته والإ�سهام بدور تنموي ملمو�س يفيد الجميع. الجل�سة الأولى تر�أ�س الجل�سة د .عبدالرحمن العناد �أ�ستاذ الإعالم بجامعة الملك �سعود
وفي بداية ندوة المنتدى� ،ألقى الأ�ستاذ عقل ال�ضميري مدير عام الم�ؤ�س�سة كلمة رحب فيها بالم�شاركين وال�ضيوف .وقال �إن اختيار مو�ضوع المنتدى جاء للأهمية التي يمثلها الإعالم في الحياة وت�أثيره المبا�شر على النا�س وال��دول وعالقاتها و�أمنها واقت�صادها وم�ستقبلها؛ �إذ لم يعد الإعالم كالم ًا عابراً ،بل هو قوة حقيقية يبني وي�س َوّق ويحفّز ويدافع ويو�ضح ،وهو �أي�ض ًا يهاجم وقد ي�شوّه ويدمر وي�ؤذي وي�ضر. و�أ�شار ال�ضميري �إلى �أن �أوراق العمل ت�سلط ال�ضوء على الإع�لام من ع��دة محاور يقدمها م�خ�ت���ص��ون ذوو خ �ب��رة ع��ال�ي��ة ف��ي الإع �ل�ام، ن�شكرهم ونقدر لهم م�شاركتهم في �أعمال هذا المنتدى الذي يمثل �إيمان الم�ؤ�س�سة الحا�ضنة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري ل��دوره��ا في تنمية المجتمع ،والتي تُ�سخر كُل وال �أقول بع�ض مواردها للم�س�ؤولية الثقافية منذ ن�ش�أتها قبل
الورقة الأولى
فعاليات ندوة المنتدى
«الإعالم والمتغيرات ال�سيا�سية والإقليمية»
قدمها د .محمد �شومان م��ن جامعة عين �شم�س ف��ي م�صر .وج��اء فيها� :إن��ه تبنّى عام 2000م فر�ضية وج��ود ن�ظ��ام �إع�لام��ي عربي مهدد بتحديات عولمة الإعالم وتطور تكنولوجيا االت�����ص��ال ،وان ��دم ��اج الإع �ل��ام ف��ي ال�ت��رف�ي��ه والمعلوماتية والثقافة ،مع التوجّ ه المت�سارع نحو ت�سليع الثقافة ,ونمو دور الإع�لام الخا�ص الم�ستقل ع��ن ال ��دول .وق�صد بذلك �أن تعدد النظم الإعالمية العربية وتنوّعها� ،سواء فيما يتعلق ب�أنماط ملكيتها والم�ضامين المقدمة ومدى تبعيتها للنظم ال�سيا�سية الحاكمة في كل قُطر ٍعربي ،ف�ض ًال عن مدى تطور كلٍ منها مهني ًا وتكنولوجياً ،ف�إنها ال تمنع من الت�سليم ب�أن النظم والممار�سات الإعالمية على الم�ستوى الوطني (القُطري) و(العربي القومي) ت�شكل فيما بينها اجلوبة � -شتاء 1435هـ
9
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 11
منتدى الأمري عبدالرحمن ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية
10
نظام ًا فرعي ًا �ضمن النظام الإقليمي العربي .و�سرعة ا�ستجابته للتحوالت في النظام الإقليمي ويت�سم النظام الإع�لام��ي العربي با�ستقالله العربي ،وربما �إ�سهامه في الأحداث ،والإ�سراع وتنامي قدراته المادية والمعنوية (الرمزية) ،بهذا التحوّل. وتو�سطه في الوقت ذاته دائرة الفعل ال�سيا�سي الورقة الثانية والفعل الثقافي للنظام الإقليمي العربي. «ال�صحافة وو�سائل الإعالم الحديثة» وق��ال :يمكن تحديد �ستة فاعلين رئي�سين قدّمها د� .أ�سامة الن�صار رئي�س ق�سم الإعالم ف��ي النظام الإع�لام��ي ال�ع��رب��ي ،ه��م :ال��دول��ة، وم�ؤ�س�سات القطاع الخا�ص ،ومنظمات العمل بجامعة الملك �سعود ،ا�ستعر�ض فيها �أب��رز العربي الم�شترك ،وفعاليات المجتمع المدني ،المراحل التي �شهدتها ال�صحافة ،منذ ع�صر وال�م��واط��ن الإع�لام��ي �أو ال�صحفي ،والإع�ل�ام الطباعة و�إل��ى وقتنا ال�ح��ال��ي ،ال��ذي �أ�سهمت الأجنبي الناطق بالعربية ،مع مالحظة �ضعف فيه التقنية والإنترنت ب�شكل خا�ص ،وو�سائل دور الفاعلَين الثالث والرابع ،وزيادة دور وت�أثير التوا�صل االجتماعي� ،سعي ًا منها للتعرف على ال�شركات متعددة الجن�سية وو�سائل الإع�لام �أب��رز المتغيرات والت�أثيرات التي طالت هذه الأجنبية الناطقة باللغة العربية في النظام المهنة و�أ�ساليب العمل فيها� ،سواء ك��ان على الإع�لام��ي العربي؛ نتيجة العولمة والتطورات �صعيد الم�ؤ�س�سة �أم ال�صحافي الممار�س لهذه الجيو�سيا�سية ،بعد اح�ت�لال ال �ع��راق وان��دالع المهنة. ثورات الربيع العربي. ك�م��ا ا��س�ت�ع��ر���ض ال�ن���ص��ار ف��ي ورق �ت��ه �أب��رز كما �أنَّ تطور تكنولوجيا االت�صال والإنترنت ال�ت��أث�ي��رات ال�ت��ي �أح��دث�ه��ا الإع�ل�ام الجديد �أو وانت�شار الإع�ل�ام الجديد و�شبكات التوا�صل المعا�صر على ال�صحافة ،وق ��راءة ت�أثيراتها االجتماعي قد تجاوزت قدرة الأنظمة العربية المحتملة على الواقع الإعالمي الحالي. والنظام الإع�لام��ي العربي على اح�ت��واء �آث��ار الورقة الثالثة ع��ول�م��ة الإع �ل��ام؛ وم ��ن ث ��م ،ت�ع��ر���ض ال�ن�ظ��ام «الإعالم في زمن الخ�صخ�صة» الإعالمي العربي لتحوّلين مهمين: قدمها وزير الإعالم الأردني الأ�سبق ,الأ�ستاذ الأول :نجاح ال�شباب العربي ف��ي الدعوة �صالح القالب ،وت�ساءل فيها :هل انتهى الإعالم للثورة ،والح�شد االفترا�ضي واالنتقال به �إلى الر�سمي بعد �أن ب��ات غير ق��ادر على القيام �أر���ض الواقع الفعلي .وبرز المواطن الإعالمي بوظيفته ،وبعد �أن �أ�صبح يغرّد في واد ،والنا�س ال�ع��رب��ي (ال �م��واط��ن ال�شبكي) كفاعل �ضمن المعنيون يتابعون همومهم ويواجهون �إ�شكاالتهم الفاعلين في النظام الإعالمي العربي ،يت�سم وم�شاكلهم ،ف��ي وادٍ �آخ ��ر؟ ال �أت �ح��دث ال عن بدرجة �أكبر من اال�ستقالل والقدرة على الدمج الو�سائل وال عن «التقنيات»� ،سواء القديمة �أم بين الفعل االت�صالي االفترا�ضي والواقعي. المتطورة ،وال عن الكفاءات الإعالمية الب�شرية، والثاني :تنامي ح�ضور وت�أثير الإعالم الناطق و�إن��م��ا ع��ن «ال �م �ح �ت��وى»� ..إن ال�م�ق���ص��ود هو بالعربية كفاعل جديد ،وهو ما يدعم التوجّ ه الر�سالة التي تبثها الو�سيلة الإعالمية الر�سمية نحو نهاية النظام الإعالمي العربي ،في �سياق الحكومية ،ومدى ت�أثيرها على «المُتلقي» ،هذا االتجاه �أي�ض ًا نحو �أُفول النظام الإقليمي العربي� .إنْ بقي هناك متلقون لما يبثه الإعالم الر�سمي وه �ن��ا ،تت�ضح ح�سا�سية الف�ضاء الإع�لام��ي ،الحكومي.
وق��ال ال�ق�لاب لعلنا نتفق على �أن الإع�لام الر�سمي (ال�ح�ك��وم��ي) ب�أ�ساليبه وبر�سالته القديمة المملّة والمكررة ،وبمحتواه ،عموماً، وطريقته التي �أ�صبحت خ��ارج �إط��ار الع�صر، لم يعد ق��ادر ًا على خدمة الذين يقفون خلفه من �أنظمة وحكومات ،في ظل كل هذا االنفجار الإل�ك�ت��رون��ي ،وف��ي ظ��ل ه��ذه ال�ث��ورة الإعالمية المعا�صرة؛ بل �إنه غدا قا�صر ًا عن �إي�صال وجهة نظر هذه الأنظمة والحكومات �إلى الم�ستهدفين، جانب من الح�ضور كما بات موئ ًال للبطالة المقنّعة ،وي�شكل عبئ ًا ثقي ًال على �أ�صحابه ،بعدما �أ�صبح «الروموت بال�ضرورة مع المقرّات الزاهية �أو بتحديث كونترول» و�سيلة �سهلة للهروب منه ،والبحث ال �م �ع��دات ،و�أن ت�ضخيم ال �ك��وادر ل��م يعد ب�سرعة عن البديل الموثوق والمحايد �أو �شبه المعادلة الأه��م في التفوّق ،بل لعله ي�صبح المحايد ،الذي يركز على الحقائق ،ويبتعد بقدر �أحيان ًا عبئ ًا على عمليّات التطوير. الإمكان عن الترويج المملّ. •�إن كثرة التلويح بخ�صو�صية المجتمع وثوابته، وخل�ص ال �ق�لاب ف��ي ورق �ت��ه �إل ��ى �أن ��ه ال بد والمبالغة في تقدير العنا�صر الإيجابية في للحكومات ب�ش�أن قطاع الإعالم من الخ�صخ�صة، المجتمع �أو في �إع�لام �أي دول��ة ،تٌ�شكّالن �أو �شبه الخ�صخ�صة على الأق���ل ،وال داع��ي �أحيان ًا �أع��ذار ًا للإبقاء على الحالة الراهنة لإ�ضاعة الوقت والأم��وال والجهود في «العزف و�أ�سباب ًا للإحجام ع��ن التغيير ،ولتخدير رباب لم تعد �ألحانه تطرب النا�س»! على ٍ العزائم عن التفكير في الإ�صالح. الجل�سة الثانية •لقد نجح القطاع الأه�ل��ي الخا�ص� ،أف��راد ًا وهي محا�ضرة للدكتور عبدالرحمن ال�شبيلي و�شركات ،وبمباركة من الدولة ودعمها ،في بعنوان� :أزمة الإعالم العربي الر�سمي ،نقتطف اقتحام عالم الإع�لام الإخباري والترفيهي منها: والريا�ضي والثقافي ف��ي ال �خ��ارج؛ و�أ�س�س •معظم الأج �ه��زة الر�سمية ت�م��ار���س عملها �إمبراطوريات عمالقة� ،أ�سهمت في تخفيف اليوم بعقلية الما�ضي مرتدي ًة ثوب الحا�ضر العبء على و�سائل الإعالم الر�سمية ،و�شارك وتقنيته ،ومن ثَمَّ ،ف�إن التطوّر الحقيقي لن بن�صيب واف���ر ف��ي دع ��م ج �ه��ود �إع�لام�ن��ا يتحقق �إال بتجديد الفكر وتغيير الأ�ساليب الخارجي ،لكن نجاحه هذا هو �شهادة �إثبات وتحريك مياهه الراكدة� ،إلى جانب تحديث على عدم فاعلية �إعالمنا الر�سمي ،ودليل الأجهزة و�إقامة المن�ش�آت؛ وعندما ي�ست�شعر على ق�صوره و�ضعفه؛ وكان الأحرى بنا� ،أن العنوان وجود �أزمة ف�إنه يعني الت�سليم بوجود نبحث ف��ي �أ�سباب ذل��ك ،و�أن ن�ستفيد من خلل وق�صور ،مع االعتراف بوجود �إيجابيّات. تجربة �إعالمنا المهاجر ،لتعزيز ق��درات •لقد �أثبتت نماذج مُعا�شة �أن الت�أثير ال يت�أتّى و�سائل الإعالم الوطنية ،بل الأحرى �أن ن�سعى
منتدى الأمري عبدالرحمن ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية
الأ�ستاذ �سمير عطا اهلل ود .محمد الحيزان ود .علي دبكل العنزي ود� .أحمد عبدالملك
12
لتوطينه و�إنهاء هجرته ،في وقت يعرف الجميع الجل�سة الثالثة انتماءه �إلى هذه البالد. �أدارها د .محمد الحيزان ،ع�ضو هيئة التدري�س •ما �أح��وج الإع�لام العربي اليوم في كل دولة ،بكلية الإع�ل�ام بجامعة الإم��ام محمد بن �سعود �إل��ى غ��رف نقاهة للتفكير ،مفتوحة النوافذ ،الإ�سالمية. للت�أمل ف��ي ا�ستراتيجية �شاملة ،ت��وزن فيها الورقة الأولى «الإعالم الورقي في مواجهة الإعالم الأمور ،وتقا�س فيها جرعات الحرية وهوام�ش الإلكتروني» النقد ،وتترجم فيها ال�سيا�سات الإعالمية �إلى تحدث فيها د .علي بن دبكل العنزي ،فقال ح��روف وكلمات و�صور ،وتدر�س فيها �أ�سباب تفوّق الناجحين ،وتراقب فيها النماذج وال�صيغ ال �شك �أن ال�صحافة الورقية تواجه �ضغط ًا قوي ًا المبتكرة ال�ت��ي تنا�سبنا ،بعيد ًا ع��ن الإث ��ارة م��ن ال�صحافة الإل�ك�ت��رون�ي��ة؛ ب��ل �إن��ه ت�ح�وّل �إل��ى وال�صخب والغوغائية ،وت�ؤخذ فيها المبادرات ،تهديد لوجود ال�صحافة الورقية وكينونتها ،ويتابع الجميع ع�شرات بل مئات ال�صحف الورقية وهي قبل �أن ي�أتي يوم نُ�ص َنّف فيه في عداد التخلّف تغلق �أبوابها وتوقف �صدورها؛ ما ي�ؤكد للمراقبين الإعالمي. �أن �أي��ام ال�صحف الورقية �أ�صبحت م�ع��دودة� ،أو • لقد بلغ الإعالم الر�سمي العربي بكل و�سائله بالأحرى محدودة جداً ،مع االختالف من مكان �إلى ووزارات � � ��ه ،وم �ن��ذ ن �� �ش ��أة م�ع�ظ�م�ه��ا ،مرحلة �آخر في دول العالم .وتناول د .العنزي في ورقته متقدمة من الن�ضج العمري بما يجعله يرتفع م�ستقبل ال�صحافة الورقية في ظل الو�ضع القائم، والمعطيات التي ت�ؤثر في م�ستقبل ال�صحافتين ع��ن ال�ت�ج��ارب وال �ت �ن��ازالت ،و�أال يرت�ضي من الورقية والإلكترونية ،وف��ق محاور �أرب�ع��ة ه��ي : االحتراف ب�أقل من الكمال. تاريخ ال�صحافة الإلكترونية وبداياتها ،ومفهومها واختتم محا�ضرته بدعوة مخل�صة لو�ضع نظام و�أنواعها؛ و�أ�سباب ازدهار ال�صحافة الإلكترونية؛ �إعالمي �سعودي جديد ،ي�أخذ في الح�سبان �أ�صالة وتراجع ال�صحافة الورقية؛ والعامل االقت�صادي الما�ضي وقيمه ،ولغة �إعالم الحا�ضر والم�ستقبل و�أهميته في بروز ال�صحافة الإلكترونية .كما قدم و�إبداع الآلة وابتكار العقل� ،أما ما لم يدركه الوقت في ورقته دالئ��ل و�أمثلة ،لها عالقة مبا�شرة في في هذا المقام ف�إن له مكان ًا �آخر ،ب�إذن اهلل. مو�ضوع م�ستقبل ال�صحافة الورقية في ظل بروز اجلوبة � -شتاء 1435هـ
رئي�س مجل�س الإدارة يكرّم �شخ�صية المنتدى ال�شيخ جميل الحجيالن
ال�صحافة الإلكترونية. الورقة الثانية
«الرقابة وع�صر التطورات التكنولوجية في الإعالم»
تحدث فيها د� .أحمد عبدالملك ،الأكاديمي بجامعة قطر والم�ست�شار بوزارة الإعالم القطرية، م�ؤكد ًا �أن الإنجازات العلمية في و�سائل الإعالم قد تالحقت في ع�صرنا الحا�ضر تقني ًا (،)Hardware وات�سعت م�ساحة انتقال المعلومة ()Software لتعبر الحدود الجغرافية؛ الأمر الذي �أ�سقط كل الحواجز الرقابية ،وحتّم تغيير ال��ر�ؤى الر�سمية ل ��دور و��س��ائ��ل الإع �ل�ام ،وات���س��اع م�ساحة حرية التعبير ،وت �ج��اوز ال ��ر�ؤى ال�ضيقة بالتعامل مع حالة تدفّق المعلومات في العالم .وا�ستعر�ض د. عبدالملك �شكل ومحددات هذه التطورات ،و�أثرها على الدور المهني لو�سائل الإعالم. الورقة الثالثة
«الرقابة في زمن العولمة»
تحدث فيها الكاتب وال�صحفي الم�شهور �سمير عطا اهلل ،فقال :لقد بد�أت عالقتي برمتها بالإعالم العربي من خالل ال�شيخ جميل الحجيالن ،وهو رجل في مقام الريادة ،في �أي من�صب تبو�أه ،وفي �أي م�س�ؤولية توالها؛ �إعالماً ،وديبلوما�سية ،و�إدارة
�إقليمية (كما في �أمانة مجل�س التعاون الخليجي). ك��ان��ت ف�ل���س�ف� ُة ج�م�ي��ل ال �ح �ج �ي�لان ،وظ � َّل��ت، في الإع�ل�ام وف��ي الديبلوما�سية وف��ي ال�سيا�سة، ب�سيطة ومبا�شرة :لماذا �أخو�ض حرب ًا محكومة بالم�صالحة ذات ي��وم؟ لماذا ال �أو ّف��ر على بلدي الخ�سائر التي �ستقع على الطريق؟ وعندما كانت ال�سعودية تمار�س الرقابة على �إع�لام�ه��ا ،كانت مت�شددة فيما يخ�ص �سواها. ل��م ت�ش�أ �أن ت�ك��ون ج ��زء ًا م��ن ع��ال��م ع��رب��ي تدب به ال�صحافة �إل��ى اال�ضطراب والفو�ضى .وكان الملك في�صل ،رحمه اهلل ،يتابع حروب ال�صحافة اللبنانية ويقلق ،وق��د ك��رر �أم��ام��ي ال�ق��ول ،م��اذا تفعلون ببلدكم؟ �أما منكم مَن يقدر �أنه �شرفة هذه الأمة؟ وا�ستطرد قائال :الرقابة �شيء غير مُ�ستحب. �إنها نقي�ض للرغبة في المعرفة .لكنها مث ُل كلِّ �شيء �آخر ،عادي ًا �أو عظيماً� ،إدارة �أوالً. وف��ي نهاية ك��ل جل�سة �شهدت ال �ن��دوة ح��وار ًا مثمر ًا بين الجمهور والم�شاركين ت�ن��اول��وا فيه مختلف الق�ضايا المطروحة في �أوراق العمل .ومن المنتظر �أن ي�صدر عن الجهة المنظمة ،م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري في وقت الحق كتاب ي�ضم جميع �أوراق العمل وال�م��داوالت التي �شارك بها الجمهور.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 13
التو�صيات
في نهاية فعاليات المنتدى خرج الم�شاركون بعدد من التو�صيات منها: •ت�شجيع الم�شاركة بين الإعالم الر�سمي و�إعالم القطاع الخا�ص ،ل�صياغة ر�سالة �إعالمية تحظى بم�صداقية وتلتزم بالم�س�ؤولية االجتماعية. •تطوير الإعالم الر�سمي وتعزيز حريته في العمل وفق المعايير المهنية االحترافية ،لي�ستعيد ثقة المتلقي ،بالنظر لتعدد قنوات الإعالم الخا�ص العابر للحدود وما يتوافر له من تقنيّة عالية و�سرعة وحرية. •ت�أهيل كفاءات �إعالمية في مجاالت ال�صحافة الإلكترونية والإعالم الجديد. •االرتقاء بالمهنة الإعالمية من خالل دعم كليات و�أق�سام الإعالم ،وتوفير الت�أهيل الذي يتوافق والم�ستجدات التكنولوجية المتطورة في مجاالت الإعالم وال�صحافة الورقية والإلكترونية. •تعزيز الم�س�ؤولية الإعالمية لدى القائمين على الإعالم ،بما يتوافق والم�صلحة العليا للمجتمع. وتفعيل دور المجل�س الأعلى للإعالم في متابعه �أداء و�سائل الإعالم ،ومدى التزامها بالمهنية ومواثيق ال�شرف الإعالمي. •القيام بدرا�سات بحثية لدرا�سة ت�أثير و�سائل الإعالم الجديد على الن�شء. •تطوير الت�شريعات المت�صلة بالإعالم ،مع الأخذ بعين االعتبار الم�ستجدات التقنية التي جعلت من الر�سالة الإعالمية والخبرية عابرة للحدود. •الت�أكيد على الم�ؤ�س�سات الإعالمية ب�ضرورة مواكبة التطورات التقنية في مجال الإعالم والتي تحظى باهتمام �شرائح الجمهور المختلفة. •توعية الجمهور -وبخا�صة �صغار ال�سن -على اال�ستخدام الواعي لو�سائل الإعالم والتوا�صل االجتماعي. •ت�شجيع خ�صخ�صة و�سائل الإعالم الر�سمية �ضمن معايير ل�ضمان حماية المتلقي والإعالميين من هيمنة المعلنين و�سطوة الإعالن. •�إعالء المعايير المهنية في الإعالم وااللتزام بمواثيق ال�شرف الإعالمي ،وي�شمل ذلك العمل في الإعالم الرقمي �أي�ضا. •تفعيل دور جمعيات الإعالم وال�صحافة في الدفاع عن الإعالميين وحريتهم. 14
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
منتدى الأمري عبدالرحمن ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية
فعاليات م�صاحبة ت�ضمنت فعاليات المنتدى� ،إق��ام��ة معر�ض لإ�صدارات �ضمن برنامج الن�شر ودعم الأبحاث الذي ترعاه م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري ،و�صدر من خالله حتى الآن نحو ( )125كتابا ودورية في مختلف المجاالت والدرا�سات العلمية والإن�سانية، ومنها نتائج بحوث ودرا�سات ميدانية وي�شار �إلى
�أن برنامج الن�شر في الم�ؤ�س�سة محكّم وفق الأ�س�س العلمية المتبعة في الن�شر .كما �أق��ام المنظمون معر�ض ًا لل�صور الفوتوغرافية بعنوان« :البيئة في الغاط في عيون الم�صورين»� ،شارك فيه عدد من الم�صورين ال�شباب في محافظة الغاط ،وعر�ضوا نحو خم�سين ��ص��ورة فوتوفرافية ع��ن العنا�صر والمفردات البيئية الجميلة في الغاط.
على هام�ش المنتدى
الورق ..طريق الإبل املفــرج ■ عبدالرحمن بن عبدالكرمي ّ
في اجتماع بم�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري الخيرية بتاريخ 2013/11 /08م وفي مركز الرحمانية الثقافي -بمحافظة الغاط� ،ألقى معالي الدكتور عبدالواحد الحميد ال�ضوء الكا�شف على ن�شاطات و�إنجازات هيئة الن�شر في الم�ؤ�س�سة ،و�أفا�ض و�صار �إلى �أن جميع الإ���ص��دارات الجديدة �أ�صبحت على موقع الم�ؤ�س�سة ،و�إن��ه يمكن متابعتها وقراءتها على ال�شا�شات المُ�ضاءة في الحوا�سيب والأجهزة المحمولة الذكية ،وبخا�صة �أن البث والن�شر الرقمي (الديجيتال) قد ت�سيّدا الموقف. ا��س�ت��أذن��ت طالب ًا الحديث ف � ُ�أُذن��ت، وق�ل��ت متبا�سطاً :و�أن ��ا الأم ��ي الرقمي �أرى �أن الن�شر ب��ال�ط��ري�ق��ة التقليدية �آف�لٌ ،و�أن ال��ورق في طريقه لالنقرا�ض؛ وت�ساءلت و�أن��ا �أدرك �ضخامة المهمة، ولماذا ال نحوّل جميع مقتنيات مكتبات الم�ؤ�س�سة في الغاط والجوف �إلى مكتبات �إلكترونية؟ التقط ال�ح��دي��ث الأم �ي��ر في�صل بن
عبدالرحمن ال�سديري رئي�س مجل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري، وق��ال ممازح ًا :لكنني �أن��ا �أح��ول الن�ص الرقمي �إل��ى من�شور ورق ��ي ..ف�أ�ضحك ب�م��زح�ت��ه ال �ح �� �ض��ور .ث��م ث � ّن��ى الع�ضو المنتدب الدكتور زي��اد بن عبدالرحمن ال�سديري وقال :للمهمة جوانب عديدة، منها م��ا يتعلق بحقوق الطبع والن�شر، و�أخ ��رى بحقوق مالية وقانونية لي�ست بال�سهلة ،ومَ َّر الأمر وا�ستمر الحديث.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 15
ما �أ�شبه الليلة بالبارحة ،ومَ ن �شابه �أباه فما ظلم!
فهاهم �أط �ف��ال ال�سبعينيات م��ن القرن الهجري الما�ضي وكهول اليوم ،ممن �أخذتهم المدنّية يخ�شون االق �ت��راب م��ن الإب ��ل حُ مر ال�ن�ع��م ..وه��ي التي كانت جنوبها و�أرق��اب�ه��ا الأح�ضان والمنامات الدافئة �شتا ًء لآبائهم و�أج���داده���م ،و�أي��ادي �ه��ا ال �م �خ��دات الطرية لنومهم �صيفاً ،وقد كانت الإبل تعمر �صحون منازلهم ..لكنها اليوم هي الق�صيّة ،وهي �أبعد ما يكون عن معا�شهم اليومي ،حتى ي�صعب ورده هذا �أعاد ذاكرتي �إلى طرح البارحة عليهم التمييز بين رُغائها وحنينها ،والمع�ضلة في لقاء الجمعية العامة بالم�ؤ�س�سة ،و�أذكى الكبرى معرفة �أ�سمائها طبق ًا لأعمارها �أو لدي تداعي المعاني ،وقد ت�صورت �أطفالنا �ألوانها. وهم يلعبون في الآيبادات ،و�أجهزة الهواتف وال غرابة لدي �إن �أق�صى الن�ش ُر الإلكتروني المحمولة الذكية ،والحوا�سيب ال�صغيرة ،الن�ش َر الورقيّ كما �أق�صت ال�سيار ُة والطيار ُة ويلهون بها ويمرونها بين �أي��دي�ه��م كما م ّر حم َر ال ِنعَم !!..و�أنَّ ال��ورق �سائ ٌر على طريق �أطفال امرئ القي�س خذاريفهم المثقبة0 الإبل �إلى الإق�صاء ،لكنه ..وللمفارقة قد تزداد
16
ور�أيتُ �أن ُه بعد عقد من الزمان �أو ما يزيد قلي ًال �ستكون �شا�شات الأجهزة الذكية الكاتبة المُ�ضاءة تلك ،قد ب��د�أت تُق�صي ال��ورقَ كما �أق�صى الورقُ �سابقاته من الرق و�ألواح الطين اجلوبة � -شتاء 1435هـ
قيمته بحكم م��ا ي�ج��ري م��ن م��زاي��دات على مزاين الإب��ل ،فاحفظوا �أوراق�ك��م ،فقد تكون كنوز ًا لأحفادكم .و�إن غد ًا لناظره قريب ،وتلك �سُ َّن ُة اهلل في خلقه.
�أدب الرحالت ■ �إعداد وتقدمي حممود عبداهلل الرحمي
هو ذلك الأدب الذي ي�صور فيه الكاتب ما جرى له من �أح��داث ،وما �صادفه من �أمور �أثناء رحل ٍة قام بها �إلى �إحدى البلدان .ويُع ُّد �أدب الرحالت من �أهم الم�صادر الجغرافية والتاريخية واالجتماعية؛ لأن الكاتب ي�ستقي المعلومات والحقائق من الم�شاهد الحيّة ،والت�صوير المبا�شر، ما يجعل قراءته مفيدة وماتعة وم�سليّة. والرحالت �أو�سع �أبواب المعرفة والثقافة الإن�سانية لك�شف المجهول والو�صول �إلى الغاية، ومعرفة الحقيقة واالطالع على الآثار ،واال�ستمتاع بم�شاهد التاريخ ومعالم الح�ضارات ،ومظاهر الحياة ،وما تزخر به من خيال ووهاد وبحار و�أنهار و�إن�سان ونبات. ا�ست�أثر �أدب الرحالت باهتمام كبير من مثقفي العالم قديم ًا وحديثاً ،وعني به �أع�لام ب��ارزون عبر �أط���وار ال�ث�ق��اف��ة ،على اخ �ت�لاف مناهج ال��رح��ل من �أجنا�س العالم .في قراءة �أدب الرحالت متعة وفائدة ومعرفة ،وفيها قدوة و�أ�سوة لمن يريد �أن يعتبر ويت�أمل. وربما لم تظهر الكتابة عن الرحلة �إال بعد الهجرة النبوية ،والفتوحات الإ�سالمية ،وازده��ار الح�ضارة العربية وثقافتها ،وظهرت كتابات عن رح�لات قام بها رحّ الة عرب؛ �إذ ،ظهر �أدب الرحالت لي�شكل �أحد �أهم تجليات الثقافة في ذلك الع�صر ،وليجوب بع�ض الرحالة العرب بالد ًا عربية تجاور بالدهم ،بل و�صل بع�ضهم �إلى بالد غير عربية وبعيدة؛ كال�صين والهند وبالد ما وراء النهر وتركيا وغيرها .وقد قيل �إن في ال�سفر �سبع ف��وائ��د :منها ال��رزق ،وتح�صيل العلم، واكت�ساب الخبرات ،والترفيه ،ور�ؤي��ة بالد جديدة.. وغيرها. وقد �أ�سهمت كتابات �أدب الرحالت في نقل كثير من ال�صور الجميلة لتلك البالد ،وظروفها المعي�شية.. و�ألقى الرحالة ال�ضوء على تاريخها و�أفكار �سكانها،
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
وف��ي �صبيحة اليوم التالي انعقد منتدى الأم �ي��ر ع�ب��دال��رح�م��ن ب��ن �أح �م��د ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية في دورته ال�سابعة – في الغاط بتاريخ 2013 /11/9م -الإع�ل�ام.. اليوم عالم بال حواجز .وكانت الورقة الأولى ف��ي الجل�سة ال�ث��ان�ي��ة :الإع�ل��ام ال��ورق��ي في مواجهة الإعالم الإلكتروني ،والمتحدث فيها الدكتور علي بن دبكل العنزي ،ولم يكن لي عل ٌم بم�ضمونها �إال بعد �أن بد�أ حديثه .فقال في معر�ض الحديث� :إن بع�ض ال�صحف تحوّلت �إلى الن�شر الإلكتروني كلياً ،و�إن الأخرى على الطريق .وذك��ر �أمثلة عالمية ومحلية ،و�أكد �أن الن�شر الورقي منتهٍ ال محالة ،فهي م�س�ألة وقت فقط .لكنه ،في رده على المحاورين ممن فهموا منه �أنه يق�صد انتهاء الن�شر الورقي، �أخذ خط رجعة وقال� :إن الن�شر في ال�صحف يجري بالو�سيلتين معاً.
والخ�شب ،و�سوف ي�صعب على �أطفال اليوم رج��ال الغد -التعامل مع ال��ورق وت�صفيفهوحفظه في الملفات والأ�ضابير كما نفعل به، بل قد يخ�شون م�سّ ـه رغم مال�سته كي ال يجرح �أناملهم الناعمة.
وعاداتهم وتقاليدهم التي قد تختلف وقد تتفق مع ع��ادات البالد التي ج��اءوا منها؛ ف�أ�سهموا بذلك في نقل بع�ض ثقافات ال�شعوب الأخرى ،و�إثارة االهتمام بها وت�شجيع المهتمين من العلماء وطلبة العلم على زيارة تلك البالد للنهل من معارفها وعلومها. �أم��ا الرحالة المعا�صرون ��س��واء ك��ان��وا عربا �أم غربيين ،فهم كتاب بالدرجة الأول��ى ..قد ت�سوقهم الظروف �إلى بالد معينة ،فيكتبون عنها ،و�إما ي�سافرون عن ق�صد �إلى �أماكن بعينها لدرا�ستها والكتابة عنها. ويتوقف م��دى نجاح الأدي��ب في كتابته في �أدب الرحلة ب�صفة خا�صة على مدى التعاي�ش الوجداني ال��ذي يخلقه في قلب ال�ق��ارئ و�ضميره ،فكلما ت�أثر القارئ �أكثر واندمج في �أح��داث الق�ص ،كان ذلك برهانا على قدرة الكاتب وتميزه في كتابته(.)1 وك�ع��ادة الجوبه في مختلف �أع��داده��ا ارت���أت �أن ت�صحب متلقيها عبر ملف يتناول �أدب الرحالت من خ�لال محاور �شارك فيها كتّاب من داخ��ل المملكة وخارجها ،علها تنقل له ال�صورة كاملة عن هذا الأدب و�أهميته قديما وحديثا..
(� )1سلوى حمام�صي -مغتربة في �سنغافورة. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
17
■ د .حممود عبداحلافظ – جامعة اجلوف
هي منبع المعرفة ل�شتيت من العلوم الإن�سانية� ،إذ يجد دار���س الآداب والم�ؤرخ والجغرافي وعالم االجتماع وعالم االقت�صاد وكثير غيرهم �ضالته فيها� ..إنها الرحلة، ذلك ال�سجل الحقيقي لمختلف مظاهر الحياة. هكذا كان حدها في المعاجم العربية :الترحيل واالرتحال؛ فيقال رحل الرجل �إذا �سار ،فالرحلة هنا بمعنى ال�سير وال�ضرب في الأر�ض .وجاءت الرحلة بمعنى االرتحال �أي االنتقال من مكان لآخ��ر ،وعليه ف��إن الترحل واالرت�ح��ال واالنتقال هو الرحلة، والرحلة ا�سم االرتحال.
18
و من ه��ذا المعنى ،يت�ضح �أن الرحلة قديمة قِدَ م الإن�سان ذاته ،وقد لعبت دورًا كبيرًا في االكت�شاف الجغرافي ،وبالأهمية نف�سها كانت ج�سرًا للتوا�صل بين ال�شعوب وتبادل المعرفة قبل التقعيد التاريخي؛ فقد �أحدثت التنا�سل بين اللغات والعادات والتقاليد ،وقد عدّها بع�ض العلماء – �أعني الرحلة – �أنها و�ضعت الجذور الأولى لمادة الإثنوجرافيا ،التي ت�شكل بدورها قاعدة مهمة للمقارنة بين النظم االجتماعية لدى الب�شر. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
لقد �أك��د الباحث الفرن�سي «م��ودوي» ع�لاق��ة ال��رح �ل��ة ب��الإث �ن��وج��راف �ي��ا عندما ذك��ر �أن ال��رح�ل��ة ال�ت��ي ق��ام بها القدماء الم�صريون عام 1493قبل الميالد ،تعد من �أقدم الرحالت التجارية والإثنوجرافية على الإط�لاق؛ ذلك حين �أبحر في النيل �ول م�ك��و ًن��ا من ت�ج��اه ج�ن��وب م�صر �أ� �س �ط� اً خم�سة مراكب ،وعلى متن كل مركب واحد وث�لاث��ون ف��ردًا ،بهدف ت�سويق ب�ضائعهم النفي�سة من العطور والبخور وغيرها .لقد نتج عن هذه الرحلة ات�صال الم�صريين
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
�أدب الرحالت (الن�ش�أة والتاريخ)
القدماء ب�أقزام �أفريقيا ،وقد �صورت النقو�ش الفرعونية في معبد الدير البحري تطور عالقة الم�صريين ب�أهل هذه البالد ،ف�أبرزت ا�ستقبال ملك وملكة ب�لاد «ب��ون��ت» (ال�صومال حاليًا) أي�ضا بع�ض لمبعوث م�صري ،و�أو�ضحت النقو�ش � ً تفا�صيل ال�صفات الج�سمية لتلك ال�شعوب من تراكم ال�سمنة ب�إفراط في موا�ضع بعينها من الج�سد. أي�ضا في وج��اءت المادة الو�صفية للرحلة � ً كتابات الإغ��ري��ق ،مثل كتابة ال�شاعر ال�شهير «هوميرو�س» �صاحب «الإلياذة والأودي�سة» الذي أي�ضا عا�ش في القرن التا�سع قبل الميالد ،و� ً كتابات «هيرودت�س» ال��ذي عا�ش خ�لال القرن الخام�س قبل ال�م�ي�لاد؛ فقد دوَّنَ ف��ي كتابه «التواريخ» كثيرًا من التاريخ الإن�ساني عن حوالي خم�سين �شعبًا ،من خالل رحالته وق��راءات��ه.. �إل��ى جانب و�صفه الدقيق للحرب التي دارت بين الفر�س والإغريق في القرن ال�ساد�س قبل الميالد ،فو�صف م�صر و�صفًا دقيقًا ،وق��دم أي�ضا لقبائل البدو في ليبيا� ...إلخ. و�صفًا دقيقًا � ً
النبوية ،فكانت �أولى الرحالت الثابتة لدينا في القران الكريم باللفظ والداللة هي رحلة قري�ش التجارية ال�سنوية (رحلة ال�شتاء وال�صيف)، انطالقًا من مكة �إل��ى ال�شام واليمن� .أم��ا في ال�سُ نَّة النبوية ،فقد روي عنه قوله – �صلى اهلل عليه و�سلم�« :إنما الأعمال بالنيات ،و�إنما لكل ام��رئ ما ن��وى ،فمن كان هجرته �إل��ى اهلل ور�سوله ،فهجرته �إل��ى اهلل ور�سوله ،ومن كان هجرته لدنيا ي�صيبها �أو امر�أة ينكحها ،فهجرته لما هاجر �إليه» (�أخرجه البخاري).
ورغم �أن هذه الكتابات بالطبع ال يمكن �أن تنعت ب��الأدب على �أي م�ستوى من الم�ستويات، �إال �أنها تعد ت�أ�صيلاً لقدم هذا النوع من الكتابة، وت�أكيدً ا لما جاء في �صدر حديثي عن �أن الرحلة قديمة قدم الإن�سان ،ولها ف�ضل وثير على ع�صبة وت�أتي في هذا ال�سياق هجرتا الم�سلمين �إلى العلوم الإن�سانية. الحب�شة ويثرب في ال�سنوات الأول��ى من بعثة الرحلة في التراث العربي وتطورها النبي� ،صلى اهلل عليه و�سلم. التاريخي ب ��د�أ ت ��أم��ل ال �ع��رب للعالم م��ن ح��ول�ه��م من وردت الرحلة ف��ي ال �ق��ر�آن الكريم وال�سنة خالل �أ�سفار التجارة والفتوحات الإ�سالمية؛
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
19
20
يتفق جمهور الباحثين في الرحلة على �أن ع�صر الن�ش�أة والتطور ا�ستمر �إلى حدود القرن الثالث للهجرة� ،إذ كانت مجهودات العرب فيه موجهة �إلى الآفاق عن طريق البحر ،بحكم �أن الفتوحات التي تمت �إبان هذا الع�صر قد جعلت ال��دول��ة محاطة ب��ه م��ن ث�لاث ج �ه��ات ،وكانت الرحالت ذات طبيعة تجارية اقت�صادية �أكثر مما ترمي �إل��ى التعرف على البلدان الأخ��رى، ويف�سر ذلك �أن هذه الفترة لم تخلف م�ؤلفات ت�ؤرخ لهذه الرحالت ،بحكم طبيعتها؛ غير �أنها فتحت �أبواب المغامرة والرحلة على م�صراعيها في وج��ه ال�ع��رب .وتجلّت خ�لال القرن الثالث للهجرة �أول��ى ال�شذرات المعرفية عن الرحلة انطالقًا من رحلة «�سالم الترجمان» �إلى بالد ال�صين ،لي�شاهد ال�سد الذي �شيّده الإ�سكندر الأك �ب��ر ف��ي ب�لاد ي ��أج��وج وم ��أج��وج ب ��إف��ادة من اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ون�شطت في القرن الرابع الهجري البعثات الدينية والدبلوما�سية �إلى الممالك المجاورة للإمبراطورية العربية الإ�سالمية ،مثل بعثة «اب��ن ف�ضالن» �إل��ى ملك البلغار ع��ام 309ه �ـ/ 921م .وظهر العديد من م�شاهير الرحالة في هذا الع�صر� ،أهمهم�( :أبو زيد البلخي ،قدامة اب��ن جعفر ،الم�سعودي ،اب��ن حوقل� ،أب��و دلف م�سعر بن مهلهل ،المقد�سي ،المهلبي ،يزرك بن �شهريار الناخداه) ولكل منهم نتاجه الم�ستقل في مجال الرحلة. �أم��ا في القرن الخام�س الهجري ف��إن رحلة البيروني تعد �أ�شهر رح�لات ه��ذا الع�صر� ،إذ رافق فيها ال�سلطان محمود الغزنوي في فتوحاته بالهند ،وا�ستقر فيها نحو �أربعين عامً ا يبحث، ويفح�ص ،وقد دوّن كل ما وقعت عليه عينه بكل دقة ،فكان نتاجه في هذا المجال هو « تحقيق ما
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
�إذ وف��ر ل�ه��م ذل��ك االح �ت �ك��اك ال�ح���ض��اري مع الخليفة الواثق ( 842م – 846م). غ �ي��ره��م م ��ن الأج� �ن ��ا� ��س الأخ� � ��رى ،وع�ن��دم��ا أي�ضا الرحالة «ابن وهب القر�شي» �إلى و قام � ً �سطع نجم ال��دول��ة الإ�سالمية انبرت مظاهر ال�صين� ،إذ التقى ب�سلطان البالد الذي عر�ض التالقح الح�ضاري تتوالى ،وكان �أهمها حركة عليه �صورًا لأنبياء و�ضمنهم �صورة للر�سول، ال�ت��رج�م��ة ،ف �ب��د�أ ال�م�ت��رج�م��ون ب�ت��رج�م��ة كتب ��ص�ل��ى اهلل ع�ل�ي��ه و� �س �ل��م .ك�م��ا ق ��ام «�سليمان «الأقاليم ال�سبعة» عن الفر�س ،و(المج�سطي) الب�صري»� ،أح��د تجار ال �ع��راق ب��رح�لات عبر �أو الجغرافيا عن بطليمو�س اليوناني ،كما �أولوا المحيط الهندي والمحيط ال�ه��ادي �إل��ى بالد االهتمام بالح�سابات الفلكية ،وانفتح الباب ال�صين والهند ،وق��د دوّن ه��ذا التاجر رحلته على م�صراعيه �أم��ام علوم الفر�س والهنود� .سنة 237ه�ـ 851/م في حجم كتاب ي�صف فيه و�أ�سهمت ه��ذه المجهودات – بال �شك -في طريقه �إلى ال�صين عبر البحار .ويعد ذلك �أقدم تطوير علم الرحلة عند العرب الم�سلمين ،عبر نتاج عربي في مجال الرحلة البحرية .وقد توالى مراحل متتابعة لعبت فيها الظروف ال�سيا�سية بعد ذل��ك رحالة �آخ��رون� ،أهمهم« :محمد بن واالقت�صادية واالجتماعية التي مرت بها الدولة مو�سى المنجم ،واليعقوبي ،وابن خرداذبة وابن العربية الإ�سالمية دورًا بارزًا. ر�ستة وابن الفقيه».
للهند من مقولة مقبولة في العقل �أو مرذولة». واقتفى هذه الرحلة العديد من الرحالة العرب الذين طافوا الأر�ض في هذه الحقبة ،و�أ�شهرهم ابن بطالن ،و�أبو عبيد البكري ،وغيرهما ،وقد خلّف ك��ل منهم كتابًا يحمل ا�سمه ف��ي مجال الرحلة. و م��ن �أ� �ش �ه��ر ال��رح��ال��ة ال �ع��رب ف��ي ال�ق��رن ال���س��اد���س ال�ه�ج��ري ،الإدري �� �س��ي ،ال ��ذي تنقّل بين الأندل�س والمغرب وم�صر وال�شام و�آ�سيا حط رحاله في �صقلية ،و�أ ّل��ف ال�صغرى ،حتى َّ كتابه الم�شهور (نزهة الم�شتاق في اختراق أي�ضا في �أدب الرحالت الآفاق) .وممن ا�شتهروا � ً في هذا الع�صر (�أبو بكر ابن العربي� ،أبو حامد الأندل�سي� ،أ�سامة بن منقذ ،اب��ن جبير) وما وكان ما تركه ابن خلدون في كتابه (التعريف ي��زال نتاج الأخ�ي��ر تحديدً ا م��وردًا �شهيرًا في بابن خلدون ورحلته �شرقًا وغربًا) هو نهاية ما جاد به القرن الثامن الهجري. ال�شرق والغرب على ال�سواء. �أما القرن ال�سابع الهجري ،فقد �أفرز الرحالة عبداللطيف ال �ب �غ��دادي ال��ذي خ� ّل��ف م�ؤلفات كثيرة في اللغة والفل�سفة والطب وعلوم الدين؛ �أم��ا كتابه في الرحلة فهو (الإف ��ادة واالعتبار ف��ي الأم ��ور والم�شاهدة وال �ح��وادث والمعاينة ب��أر���ض م�صر) .وق��د عا�صره رح��ال��ة �آخ��رون، �أ�شهرهم ياقوت الحموي ،وابن �سعيد الأندل�سي، والعبدري .و�أنتج القرن الثامن الهجري قمة ما خلّفه �أدب الرحالت عند العرب الم�سلمين من �أم�ث��ال اب��ن بطوطة المعروف برحالة العرب، وال��ذي خ�ص�ص من حياته ما يربو على ()26 ع��امً ��ا م��ن ال�ت��رح��ال ،نتج عنها كتابه ال�شهير (تحفة النُّظار في غرائب الأم�صار وعجائب الأ�سفار) ال��ذي �أم�لاه على الكاتب ابن جزي.
�أف��رزت القرون الع�شرة الأول��ى من الهجرة العديد من الم�صادر التي اعتمدت على الرحلة، انطلقت من كتب التعريف بالأقاليم ،ثم �أعقبتها كتب الم�سالك والممالك ،و�أخيرًا كتب الم�سالك وال�ب�ل��دان .ق��ام بتدوين ه��ذه الم�صادر علماء وه��واة ومبعوثون ومغامرون وم�ستك�شفون؛ ما �أث��ر لي�س فقط ف��ي �أ�سلوب كتابة الرحلة ،بل في تعدد مراميها و�أهدافها ،حتى �صارت على ر�أ�س الم�صادر التاريخية التي يتم اعتمادها في كتابة تاريخ الفترة الو�سيطة .وقد تجلى ذلك في بع�ض الدرا�سات التي قدمت العديد من ن�صو�ص ال��رح�لات ،ال�ت��ي تغطي ال�ف�ت��رة الممتدة من القرن الثالث الهجري/التا�سع الميالدي �إلى القرن الثامن الهجري/الرابع ع�شر الميالدي، اجلوبة � -شتاء 1435هـ
21
اهتمام الغرب ب�أدب الرحالت العربي �شكّل �أدب الرحلة العربي �إرث ًا معرفيًا تناقله الرواة والمهتمون العرب الم�سلمون بعد القرن ال��راب��ع ع�شر ال�م�ي�لادي �إل��ى �أن �أث ��ار اهتمام الأوربيين ،وبخا�صة مع فترة الحروب ال�صليبية التي كانت تتطلب منهم معرفة الإقليم الأو�سط لالمبراطورية الإ�سالمية ،ونتج عن ه��ذا �أن ح�ظ��ي �أدب ال��رح�ل��ة ال�ع��رب��ي بعناية ال�غ��رب، �سيما �أن ��ه �أخ ��ذ ي�ستفيق م��ن �سبات ال�ق��رون الو�سطى .وتبلورت بدايات هذا االهتمام بما قدّمه الجغرافي الإدري���س��ي من خدمة جليلة للغرب عبر و�ضع ما جمعه من علم ومعرفة بين �أيديهم؛ وجاءت مرحلة االكت�شافات الجغرافية، وما تطلبته من ر�صيد معرفي لمجموع الأقاليم،
22
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
وت�ضاعف هذا االهتمام مع ظهور اال�ست�شراق، �إذ عالج الم�ست�شرقون الأدب الجغرافي العربي بمنهج ت��اري �خ��ي ،يهتم ب��ال�م���ص��ادر وطبيعة المعلومات وترتيبات الفلك و��ص��ورة الأر���ض و�أق�سامها لدى اليونان والفر�س والهنود ،وما �أ�ضافه العرب في هذا المجال .ومن �أ�شهر مَ ن برزوا في هذا المجال « فين�ستنفلد» الذي ن�شر «معجم البلدان» لياقوت الحموي ،و«ديغويه» ال��ذي ن�شر المكتبة الجغرافية العربية ،التي �شملت ع�شرة ن�صو�ص جغرافية ،تنتمي جميعها �إل��ى القرنين الرابع والخام�س الهجريين ،ثم ج��اء «كرات�شكوف�سكي» لي�ستند �إل��ى ن�شرات ال�سابقين للن�صو�ص ومالحظاتهم ،فكتب كتابه: « تاريخ الأدب الجغرافي العربي». وب��ع��د ال� �ح ��رب ال �ع��ال �م �ي��ة ال �ث��ان �ي��ة ع ��اود الم�ست�شرقون االهتمام ب�أدب الرحالت العربي، ال �سيما �أن الجزيرة العربية �أ�ضحت محط اهتمام ال�غ��رب بعد ظهور ثرواتها النفطية؛ فانكبَّ الباحثون على درا�سة الرحالت العربية في البر والبحر ،وتحليل ن�صو�صها من حيث ر�ؤى الذات والآخر ،وكيفية تف�سير العرب للعالقات االج�ت�م��اع�ي��ة واالق�ت���ص��ادي��ة والإن���س��ان�ي��ة بين الممالك الإ�سالمية ،والممالك الأخرى الدانية والقا�صية ،وك��ان م��ن �أ�شهر ه��ذه ال��درا��س��ات كتاب (جغرافية دار الإ�سالم الب�شرية) للباحث الفرن�سي (�أندريه ميكيل).
ومع التدافع اال�ستعماري على العالم العربي، زادت الدرا�سات التي اهتمت ب ��أدب الرحالت العربي ،من خالل ن�شر المخطوطات العربية المتعلقة بهذا العالم وترجمتها للعديد من لغات العالم ،وتدافعت البعثات اال�ستعمارية التي تمكنت من تعميق الدرا�سات حول البالد العربية وفهمها فهمًا عميقًا ،فاطلعوا على كل ما كتبه الأولون عن هذه البالد و�أهلها؛ ومن �أ�شهر الكتب التي اعتمدوا عليها( :مروج الذهب للم�سعودي) عن �إفريقية و�أ�سيا ،واهتموا بما ورد عند ابن خ��رداذب��ة ف��ي كتابه (الم�سالك والممالك)، و�أي�� ً��ض��ا ك�ت��اب (ال�ب�ل��دان لليعقوبي) ،وم�ؤلفَي المراجع الإ��ص�ط�خ��ري واب��ن ح��وق��ل(ق 4ه �ـ /ق 10م) اللذين ظهرا في �سل�سلة الجغرافيين العرب التي � -إب��راه�ي��م م�ضواح الأل�م�ع��ي (2012م) :المدينة المنورة في كتابات ال�شيخ علي الطنطاوي ورحالته، ن�شرتها جامعة « ليدن». �أدب الرحلة الحديث
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
وهي في الغالب حزمة المذكرات التي �سجلها الرحالة يوميًا �أو بعد عودته من الرحلة� ،إذ دون فيها ما علق في ذهنه من ف�ضول المعرفة �أو متعة اال�ستك�شاف �أو حب التوا�صل مع الآخر المختلف داخل البالد الإ�سالمية �أو خارجها.
حتى يت�سنى لأوربا تحقيق م�شروعها التو�سعي؛ ف��وج��دت ف��ي كتب ال��رح�ل��ة ،وم��ا �أب��رزت��ه علوم الجغرافيا العربية م�صدرًا مهمًا لإغناء مواردها العلمية والمعرفية.
له ،وهو بناء فني له مالمحه و�سماته الخا�صة، وقد عدّه �شوقي �ضيف في كتابه «الرحالت» �أنه �أ�صل الق�صة العربية .ورغم اهتمام الدرا�سات الأدبية والنقدية الحديثة بهذا اللون الأدب��ي، �إال �أن البحث العلمي من وجهة نظر كثير من الأكاديميين ما يزال قليلاً في هذا المجال على م�ستوى الرحلة القديمة �أو الحديثة ،ال �سيما �أن كثيرا من النقاد قد �أ�ضاف للرحلة �أبعادًا جديدة �أدخلت كثيرًا من الكتابات تحت مظلة �أدب الرحالت ،بما فيها الكتابات عن التل�ص�ص �أو الجا�سو�سية الحديثة.
الأدب ،ال�سعودية ،عدد .75
ح�سين محمد فهيم (1989م)� :أدب الرحالت،في المنطقة العربية �سل�سلة علم المعرفة ،المجل�س الوطني للثقافة في منت�صف القرن الع�شرين ب��د�أت تظهر والفنون والآداب ،الكويت ،عدد ،138يونيو.
بع�ض الدرا�سات باللغة العربية ،اتخذت من
��س�ع�ي��د ال� �ب ��وزي ��دي (2012م)� :أدب ال��رح �ل��ةالرحلة العربية م�صدرًا لها ،فظهر ما يعرف الجغرافية العربية كم�صدر للمعرفة التاريخية في الدرا�سات الأكاديمية با�سم �أدب الرحالت. والأنثروبولوجية ،مجلة الآداب والعلوم الإن�سانية، والرحلة لأنها تحتوي على �شواهد حية لفترات جامعة بن طفيل ،القنيطرة ،المغرب ،عدد .10
غابرة ،اهتم علم االجتماع والجغرافيا والأدب بتراث الرحلة العربية بو�صفها طراز ًا حياً ،يقدم -ف�ق�ي�ق��ي م �ح �م��د ال� �ك� �ب� �ي ��ر(2012م) :التحقيق اال�ست�شراقي لرحلة ابن بطوطة ،دوري��ة كان كان م��ادة علمية متداخلة ح��ول المكان وال��زم��ان، التاريخية ،دار نا�شري للن�شر الإلكتروني ،الكويت، والعادات والتقاليد ،ونمط حياة ال�شعوب التي ع .17 احتك بها الرحالة في فترة معينة ،امتدت عند بع�ضهم �إلى ما يزيد عن ربع قرن. ن��زار نجار (2012م) :م��ن �أدب ال��رح�لات� :إل��ىال�صين عالمة فارقة في الزمن الثقافي ،الموقف و تناولت الدرا�سات الحديثة �أدب الرحالت الأدبي� ،سوريا ،عدد .498 بو�صفه نثرًا �أدبيًا يتخذ من الرحلة مو�ضوعً ا اجلوبة � -شتاء 1435هـ
23
ال�سمات الفنية في �أدب الرحلة ■ الباحث غازي خريان امللحم – من �سوريا
كانت الرحلة واقعا م�ألوفا لدى العربي ,وعادة متجذرة في حيثيات حياته اليومية التي تعتمد في كثير من ف�صولها على عملية الحل والترحال� ,أثناء بحثه عن الرزق والماء والكلأ� ,إلى جانب قيامه برحلة �إي�لاف ال�شتاء وال�صيف التجارية التي جاء القران الكريم على ذكرها ,وخ�صها ب�سورة م�ستقلة في كتابه العزيز. ولما كانت البحار والمحيطات تطوّق �أر���ض��ه من معظم جهاتها ،ك��ان يجهل ما يقع خلف الماء من طبيعة وموجودات ومخلوقات� ,سوى ما ينقله �إليه الرحالة من معلومات؛ فيروي م�شافهة �أو عبر الر�سائل والمخطوطات ,ما وقع عليه ب�صره من م�شاهدات ,وما �سمعت به �أذنه من �أخبار؛ ف�شكلت هذه المدونات جن�ساً �أدبياً خا�صا، ا�صطلح على ت�سميته فيما بعد بـ «�أدب الرحالت». وقد بلغ من ولع العربي بالرحلة حدًّا جعله ال يركن �إلى المكوث بمكان� ،أو الميل �إل��ى اال��س�ت�ق��رار ،ول���س��ان ح��ال��ه ي��ردد مع ال�شاعر:
والحديث عن الرحلة يقودنا بال�ضرورة �إلى الحديث عن الرحالة ،ذلك ال�شخ�ص الم�سكون بالحركة ,ال�شغوف بحب التنقل, يُرود �أفاق الكون في �أ�سفار متالحقة ,فال يكاد ينتهي من رحلة حتى يبد�أ بغيرها ,نقِّل ركابك عن رب��ع ظمئت به وك�أنَّ ال�شاعر كان يق�صده حين قال: �إلىالجانبالذييهويبهالمطر
ل���م ي�����س��ت��ق��ر ب���ه دار وال وط��ن فان رددت لي�س في الرد منق�صة وال ت����دف�����أ م���ن���ه ق����ط م��و���ض��ع��ه عليك ,قد رد قبلك البدو والح�ضر
24
ك�أنما �صنع من بع�ض ال�سحاب فما ومثل ذل��ك ما ُي��روى عن �أع��راب��ي كان ت� ��زال ري � � ُح ف��ي الأف � ��اق ت��دف�ع��ه يكثر من ال�سفر لفترات طويلة ،قد تمتد اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�أح���ص��ي ال�سنين لغيبتي وت�صبُّري •اب��ن بطوطة :ال��رح��ال��ة العربي ال�شهير, وع�������دي ال�������ش���ه���ور ف�����إن����ه����ن ق�����ص��ار هاجمه الهنود وه��و على ت�خ��وم بلدهم, وا�ستولوا على متاعه ,وم��زق��وا مذكراته ف�أجابته الزوجة بجواب مفحم: كلها ,لكنه عاد ليروي من الذاكرة الذي اذك�������ر ����ص���ب���اب���ت���ن���ا �إل�����ي�����ك و����ش���وق���ن���ا حدث ..كيف حدث. وارح������������م ب����ن����ات����ك �إن������ه������ن ����ص���غ���ار
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
ل�سنوات كثيرة ,فعاتبته زوجته بذلك ,فقال:
ر�آه في �أ�سفاره كان �أروع و�أعذب.
•الرحالة الأندل�سي ابن جبير ,عانى الكثير وم��ا ك��اد الأع��راب��ي ي�سمع ق��ول زوجته حتى في رحالته �إلى ال�شرق لكنه في النهاية كان اقتنع واك�ت�ف��ى بما ق��ام ب��ه م��ن �سفر ,ف�أطلق �سعيد ًا بما ر�أى وي�شكر اهلل على ذلك ,وفي راحلته ,وق��رر �أن ال يغادر �أ�سرته بعد اليوم، ختام �أ�سفاره ين�شد: والتفرغ لرعاية �أهله وبناته.
ه ��ذا ،وت�ح�ف��ل ك�ت��ب ال �ت��اري��خ ب��ال�ع��دي��د من �أل���ق���ى ع�����ص��اه وا���س��ت��ق��ر ب���ه ال��ن��وى ك���م���ا ق���رع���ي���ن���ا ب�����الإي�����اب ال��م�����س��اف��ر الأ�سماء الكبيرة التي جذبها بريق الرحلة من
�أمثال:
فوائد الرحلة
•هيرودوت الفيل�سوف اليوناني ،الذي جاء م�صر ف��ر�أى العجائب ،وع��اد �إل��ى ب�لاده من ف�ضائل الترحال وفوائده �أن �صاحبه يرى ليتغنى في مهرجانات �أثينا الكبرى بما من عجائب الأم�صار ,ومحا�سن الآثار ,ما يزيده ر�أى. علما بقدرة الخالق ,و�آث��اره الوا�ضحة في بديع •اال�سكندر المقدوني ال��ذي غ��زا الدنيا� ،صنعه. ا�ستجابة لهم�سة في �أذنه ،من قبل عرافة و�إلى جانب هذا وذاك يظل للترحال فوائد �أباحت له ب�سر الكون. �أخرى� ,أوجزها ال�شاعر بقوله: •ال�ق��ائ��د ه��ان�ي�ب��ال ال ��ذي �أق���س��م �أن يعبر ت��غ��رب ع��ن الأوط� ��ان تكت�سب العال البحر ويجعل م��ن �أم��واج��ه ب�ساطا �إل��ى و�سافر ففي الأ���س��ف��ار خم�س فوائد روما لت�أديبها ,لجناية ارتكبتها بحق بلده ت����ف����ري����ج ه�����م واك����ت���������س����اب م��ع��ي�����ش��ة قرطاجة. يقول الثعالبي:
وع�����ل�����م و�أدب و�����ص����ح����ب����ة م���اج���د
•الرحالة ماركو بولو الذي تقدم لفتاة رام ويقول الم�سعودي ,يحث النا�س على الرحلة: خطبتها ,وعندما رف�ضته رح��ل ,واق�سم �أن ال يعود �إال بطال ،تتعلق بركابه �أجمل يا مع�شر النا�س �سيحوا في الأر�ض تطيبوا ,ف�إن ال �ج �م �ي�لات ,ول �م��ا رج ��ع ل��م ي�ج��د �أح���د ًا الماء �إذا �ساح طاب ,و�إذا طال مقامه في موقع بانتظاره ,لكنه لم يغ�ضب �أو يحزن ,فالذي واحد ف�سد وتغير طعمه ,وان�شد:
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
25
والتبر ك��ال��ت��راب ملقى ف��ي مكامنه وال�ع��ود ف��ي �أر��ض��ه ن��وع م��ن الحطب ويذكر الرحالة العربي الحديث ح�سن العدل, في �سياق رحلة �إلى �أروبا عام 1889م :وبعد... «ف�أخبركم �سادتي ,وكلكم خبير بثمرات التجوال في الأقطار ,ومالزمة ع�صا الت�سيار ,هو ال�سفر طالما �أ�سفر عن العجائب ,وهو الترحال كثر ما �أعرب من غرائب ..يدرب الإن�سان وي�شحذ الأذهان.»..
26
وقد انتبهت لفوائده الأوربيون ف�ساحوا في الأق �ط��ار ,وج��ا��س��وا خ�لال ال�ب�لاد والأم���ص��ار, فالمُ�شرّق والمُغرّب ,يرتقون نجدا ,وينحدرون غ��ورا ,دائبين على ا�ستك�شاف البقاع ومعرفة �أح� � ��وال ال �� �ش �ع��وب ع �ل��ى اخ� �ت�ل�اف طبائعهم وعوائدهم؛ فح�صلوا من ذلك على ما �أك�سبهم المعرفة ,و�أزال عنهم الجهالة ،و�أو�سع من نطاق عِ لمَيّ الجغرافية والتاريخ اللذَ ين هما �أ�سا�س التمدّن ،ومركز دائ��رة المعارف .ولم ي ��ألُ كل �سائح منهم جهدا ف��ي ت��دوي��ن م��ا �شاهده من البلدان ,وا�ستك�شفه من �أح��وال �أهلها المادية والأدبية ,حتى �صارت م�ؤلفاتهم في ذلك عددا عديدا؛ فمنها ما هو في كتب م�ستقلة ,ومنها ما هو طي الجرائد اليومية ,ت�سهيال للمطالعين وتثقيفا لعقولهم؛ فل�ست ت��رى عائلة �أوروب�ي��ة �إال ولديها مجموع عظيم م��ن ذل��ك ,يجلبون بمطالعته �أُن���س�ه��م ،وي��و��س�ع��ون ب��ذك��ره دائ��رة �أفكارهم. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
لم يكن كل الرحالة على �سويّة واح��ده من االهتمام والتفكير ,ب��ل ك��ان لكل واح��د منهم هدف ي�ضعه ن�صب عينيه ويجهد في تحقيقه, فبع�ضهم ك ��ان ين�شغل ب�م���ش��اه��دة المعالم الح�ضارية ,م��ن �آث ��ار ومعابد ومتاحف ودور عبادة ,و�أواب��د تاريخية؛ في�صفها و�صفا دقيقا م�سهبا ,وي�ستطرد في ذكر كل ما يت�صل بها من تواريخ و�أع�لام ووقائع؛ بينما كان غيره ي�سعى ق��در طاقته لالت�صال بال�سلطان �أو الحاكم, فين�صرف �إل�ي��ه دون ��س��واه؛ وه�ن��اك م��ن يعمل للقاء العلماء ورج��ال ال��دي��ن ,واالنغما�س في مجال�س العلم ..وهذا الن�شاط ي�أخذ جُ ّل وقته, ويعطيه م�ساحة �أكبر داخل ن�ص الرحلة ,وموقفه من الطبقات الإن�سانية ونظرته �إليهم ,ودرا�سة �أحوالهم االقت�صادية واالجتماعية والثقافية, ومحاولة اقترابه من فهم �أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم الفلكلورية ,وال��وق��وف على و�سائل عي�شهم و�سبل حياتهم اليومية. �أنواع الرحلة مع تقدم الوعي وتجدد الحاجات ,تنوّعت الرحالت وتعددت م�شاربها ,لكنها عند التحقيق ال تخرج عن الإ��س��ار العام للرحلة ,بما تحمل من م�ضامين فكرية و�أدبية وو�صفية ,والتي من �أهمها: 1.1دي�ن�ي��ة :ك���أن يرتحل الإن ���س��ان �إل��ى الحج وزيارة الأماكن المقد�سة؛ تلبية لنداء ربه, ولطلب الأجر والمغفرة. 2.2علمية �أو تعليمية :وه ��ذه ت�ك��ون لغر�ض اال�ستزادة من العلم في ب�لاد �أخ��رى من
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
�إن����ي وج����دت وق����وف ال���م���اء يف�سده �إن �سال طاب و�إن لم يجر لم يطب
دواعي الرحلة
العالم ,ا�شتهرت بمجاالت علمية معينة كالطب والهند�سة وال��زراع��ة وال�ع�م��ارة وغيرها. �3.3سيا�سية :كالوفود الدبلوما�سية وال�سفارات التي يبعث بها الملوك والحكام �إل��ى دول �أخرى. �4.4سياحية :وهذه تكون عن رغبة �شخ�صية, وحب لل�سفر ,وهواية التنقل وتغيير الأجواء والمناظر الم�ألوفة ,لتجديد الدماء وتهذيب المزاج بالم�شاهدة والمغامرة ,واالطالع على ك��ل م��ا ه��و جديد ومفيد ,والتعرّف على المعالم ال�شهيرة كالآثار والمنارات والأب ��راج ،وحتى الكهوف والأودي ��ة وقمم الجبال وما تحويه من غرائب الخلق و�إبداع الخالق عز وجل. 5.5اقت�صادية :وهدفها الأول التجارة وتبادل ال�سلع� ,أو فتح �أ��س��واق جديدة لمنتجات محلية� ,أو جلب �سلع تتوافر في بالد �أخرى, يندر وجودها في بلد الم�سافر� ,أو فرار ًا من غالء� ,أو �سعي ًا وراء الوفرة �أو العمل. ويظل لكل واح��دة من ه��ذه الأن��م��اط �شكله الخا�ص ,لكنها جميعا تنتمي لخط واحد هو �أدب الرحلة. لغة الرحلة
التقليدية الثقيلة على الأ�سماع� ..إلى �آفاق بديلة �أرحب من �أ�ساليب الفنون الكتابية ,التي ت�ش ّد القارئ وت�شحذ ذهنه بالأ�صداء المر�سلة ,التي تقترب من لغة الأح��ادي��ث اليومية ,مع بع�ض النقالت اللفظية المحببة التي تغني الن�ص وتُجمِّ لُه. ومن هنا ,نجد هذه اللغة قد �سلكت اتجاهين متباينين ,هما: -1فَكِ هة :الق�صد منها �إ�ضفاء الحيوية وتلوين الن�ص بالإثارة والت�شويق التي تمتع القارئ وت�شده ,فخلط بع�ض كتاب ال��رح�لات بين الجد وال�ه��زل ,اللذين �أوردوه �م��ا بطريقة يك�سوها الظرف غالباً ,من �أم�ث��ال فار�س ال�شدياق ,ال��ذي طبع و�صفه للرحلة بروح ال�سخرية والتهكم ،ف�أ�ضفت على �أعماله نوع ًا من المرح الطبيعي ,ال ت َكل َُّف فيه وال ت�صنُّع ينبعث من قلمه ب�سال�سة و�شفافية, فجاءت ن�صو�صه م�شبعة بمزاج �صاحبها الفكه العابث ,حتى ال تدري �أحيانا �أجا ٌّد هو �أم هازل ،وكان ال�شدياق �شاعر ًا وناثر ًا وا�سع المدى ،يمتاز ب�أ�سلوبه العابث المتنافر.
في البداية ،غلب على لغة الرحلة التكلّف والت�أنّق من �سجع وبديع ,وقد �ساد هذا اللون في التعبير �أكثر في الأزمان ال�سابقة� ,إال �أن القلة من الأولين وبع�ض ًا من المت�أخرين� ,صاغوا و�صفهم -2ج ��ادة :وه �ن��اك م��ن ك�ت��ب م��وا��ض�ي��ع رحلته بطريقة جادة ر�صينة ,بعيدة عن الت�شرذم للرحلة بلغة واقعية بعيدا عن الح�شو بالمفردات
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
27
�أ -ال��رح�لات التي يكتبها العلماء للتزود «ولقد �أم�ضينا دهرا تتقاذفنا الأ�سفار بقطع من العلوم والمعارف ,التي تخ�ص�صوا ال �ق �ف��ار ..ت��ارة على متن ال�ب�ح��ر ..وط��ورا فيها ,مثل علماء الحديث ال�شريف, على ر�أ�س البر ..م�ستطلعين بدائع ال�شعوب والجغرافية والنبات وال�صيدلة ,وغيرها بالم�شاهدة ,والتعرف على خوا�ص الأقاليم من العلوم. بالمعاينة ,ف�أحيانا في �أق�صى خرا�سان, ومرة في �أوا�سط �أرمينيا و�أذربيجان ..وتارة ب -ال��رح�لات ال �ت��ي كتبها رج ��ال البريد في العراق �أو بالد ال�شام ,ن�سري في الآفاق والحكومة ,التي غالبا ما تكون لإبانة �سرى ال�شم�س في الإ�شراق ,ثم ين�شد: م �ع��ال��م ال��ط��رق وال �� �س �ك��ك ,وت��و��ض�ي��ح الم�سالك بين البالد المختلفة ..هداية ت�ي�م��م �أق� �ط ��ار ال �ب�ل�اد ف� �ت ��ارة ،ل��دى لمن ي�سير عليها� ,إ��ض��اف��ة �إل��ى بع�ض �شروقها الأق�صى وطورا �إلى الغرب اال�ستطرادات ال�شخ�صية. �سرى ال�شم�س ال ينفك يقذفه النوى
ت -الأجزاء التي و�صف فيها الرحالة الدور والق�صور وما ماثلها من معالم البنيان -2 ,ال�شعر :ولل�شعر في معظم الرحالت وجود و�صفا تقريريا جافا ,ال هدف منه �سوى ملحوظ ال يمكن اال�ستغناء عنه في ثنايا نقل المعرفة على �صورتها الواقعية. ن�ص الرحلة ,وقد �أكثر بع�ضهم من �إي��راد ث -التقارير التي تمثلت في رحالت البعثات ال�شعر في كتابتهم المختلفة ك�شواهد داعمة الدبلوما�سية وال�سفارات بعامة. لمو�ضوعاتهم النثرية المختلفة ,ف�أ�سهبوا بذلك ,حتى غدت مدوناتهم الكتابية �أقرب �أنواع �أدب الرحلة ما تكون بالمختارات ال�شعرية. تتجلى جماليات �أدب الرحلة ,فيما يعر�ضه ه��ذا الفن من تنوّع في التعبير ,ال��ذي ت��راوح وكان الرحالة «م�سعر بن مهلهل» �شاعر ًا كثير الملح والطرف ,متعدد الأ�سفار واالغتراب, موا�ضيعه بين ��ض��روب الأدب المعروفة ,من وق��د ط��اف الهند وال�صين ،وب�لاد الترك نثر و�شعر وو�صف ,وبين مذكرات الرحلة وما ال �ب��اردة ,وغيرها من الأق �ط��ار ,وف��ي ذلك تت�ضمنه م��ن �أ� �ص��داء �أدب �ي��ة ومرجعيات فنية يقول: ن�ستعر�ضها فيما ي�أتي:
�إل��������ى �أف��������ق ن�������اء ي���ق�������ص���ر ب���ال���رك���ب
28
-1ال�ن�ث��ر :وه��و ج��زء مهم ف��ي �أدب الرحلة ,م�������ن ك���������ان م�������ن الأح�������������رار ي�����������س�����ل�����و ��������س�������ل�������وه ال�����ح�����ر يتوا�صل مع القارئ عبر مقطوعات نثرية ال تقل روع��ة عن بقية فنون الآداب الأخ��رى .ال �����س����ي����م����ا ف��������ي ال�����غ�����رب�����ة �أودى �أك���������ث���������ر ال����ع����م����ر ومثال ذلك ,مقطوعة الم�سعودي التي يتحف
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
الكالمي والعبث اللفظي ,ومنها:
القارئ بها في مقدمة كتابه مروج الذهب:
و الرحالة المغربي�« :أبو الح�سن القرناطي» ����������ش���������اه���������دت �أع��������اج��������ي��������ب و�أل�������������وان�������������ا م���������ن ال������ده������ر يميل في �أخباره �إلى الأدب وال�شعر ,في تدوين رحالته ,فقد كان �شاعرا ناثرا طريف ال�شمائل, دج�����ن�����ا ال�����دن�����ي�����ا ب����م����ا ف��ي��ه��ا م�����ن ال�������س���ه���ل �إل��������ى ال����وع����ر اطلعت له على و�صية و�ضعها البنه الذي �سار على خُ طى وال��ده في تعلّقه بال�سفر وحب الترحال, ف����ن���������س����ط����اف ع�����ل�����ى ال���ث���ل���ج �أتى فيها بغرر الكالم وجواهر المعاني ،و�سرد ون�������������ش������ت������وا ب������ل������د ال����ت����م����ر فيها ق�صيدة مطربة مطولة �أولها: وه ��ذا ال���ش��اع��ر الأع �� �ش��ى ال ��ذي ت��دل �آث ��اره و�أ�شعاره على �أن��ه ك��ان كثير التنقل والأ�سفار �أودعتك الرحمن في غربتك م��رت��ق��ب��اً رح���م���اه ف���ي �أوب��ت��ك البعيدة ف��ي �أن �ح��اء ال�ج��زي��رة ي�م��دح �سادتها وما اختياري كان طوع الهوى و�أ�شرافها.
ل��ك��ن��ن��ي �أج�����ري ع��ل��ى بغيتك
وال يكتفي كما يدل عليه �شعره من الرحلة �إلى �أن قال بيتا �أنا �شغوف به ,لهوج ًا ب�إن�شاده �إلى الحيرة واليمن وديار كندة في ح�ضرموت ونجران وعكاظ ,بل يتعداها �إل��ى بالد فار�س وهو: وع �م��ان وال �� �ش��ام ,متغلغال فيها �إل ��ى حم�ص وك���ل م���ا ك��اب��دت��ه ف���ي ال��ن��وى وال�ق��د���س و�أح�ي��ان��ا يجتاز البحر �إل��ى نجا�شي �إي�����اك �أن ي��ك�����س��ر م���ن همتك الحب�شة. و�شهد الع�صر الحديث رح�لات عديدة قام ويجري على ل�سانه ال�شعر الذي يتحدث فيه بها �أف ��راد وجماعات م��ن ب�لاد ال�شام خا�صة, عن هذه الرحالت البعيدة ,فيقول: يرتادون مجاهل الأر���ض ,ويفت�شون عن الرزق وق � ��د ط �ف ��ت ل �ل �م ��ال �آف ��اق ��ه بين جنباتها ,وي�شقون في طريقها الوعر م�سالك ع���م���ان ف��ح��م�����ص ف��اور���ش��ل��م جديدة ..ركبوا في �سبيلها الأخطار وتج�شموا لأجلها ال�صعاب ,وك��ان م��ن بين ه���ؤالء �أدب��اء �أت���ي���ت ال��ن��ج��ا���ش��ي ف���ي �أر���ض��ه وموطن النبيط وبلد العجم و�شعراء ،من �أمثال �إيليا �أبو ما�ضي الذي يقول اجلوبة � -شتاء 1435هـ
29
ال يقنعون من العال بالدون
-3الق�صة :يرقى و�صف الرحلة �أحيانا �إل��ى م�ستوى الق�صة المتكاملة ,بما تحمل من م�ضامين و�أ�صداء �أدبية منوعة ,ا�ستح�ضر فيها �صاحبها م�شاهد الرحلة بكل ترجيعاتها, ال�ت��ي تتفاوت بين ال�ط��ول والق�صر وال�ق��وة وال�ضعف ,و�أحيانا من دون ترابط منطقي بين عنا�صرها المختلفة� ,سوى اللغة ال�سردية التي غالبا ما يملها القارئ ,وقد ين�صرف عن مطالعتها كليا ،ولكن هذا لم يمنع من وجود ق�ص�ص عالية الجودة وغاية في الت�شويق.
30
كما تحدث عن بع�ض المجتمعات في الهند وال�صين وغيرهما من مختلف البلدان ،من حيث طريقة عي�شهم ،وحاالت الزواج والموت والحرب, وكان يروي بع�ض التفا�صيل عنهم ب�أ�سلوب يغلب عليه الطابع الق�ص�صي البحت. ب -الق�صة الخيالية:
وقد قيل ,وجد الإن�سان راحال ,ف�إذا �أعجزته الرحلة المح�سو�سة رحل بخياله ,فاجتز�أ من عالم الأحالم ق�ص�صا ورحالت الحظ لها من الواقع, مثل رح�ل�ات ال�سندباد ال�ب�ح��ري ,ومغامراته التي تفوق الو�صف والت�صور ,ورح�لات جليفر �إال �أن��ه ف��ي الع�صر ال�ح��دي��ث� ,أخ ��ذت هذه َلي�س ل�سويفت ،ولقائه بالعمالقة والأقزام ,ورحلة �أ ْ الأعمال تن�أى بنف�سها عن ال�شكل التقليدي في بالد العجائب وولوجها عالم الأحالم. القديم ,لتقترب بدرجة ما من ال�شكل الروائي ومن ميزات الرحلة الخيالية �أنها ال تقت�صر المعروف؛ فيما يتعلق بالكثير من مقوماتها الفنية ,من مقدمة وحبكة و�شخو�ص وحدث ,على الما�ضي وح�سب ,بل تتعداه �إلى الحا�ضر المعا�صر ,وتنتقل بلمح الب�صر �إلى الم�ستقبل الخ.. عبر �آلة الزمان ,للق�صا�ص الإنجليزي ولز. وعلى �أي ح��ال ,ف��إن الرحلة الأدب�ي��ة� ,إن لم وهناك رح�لات م�شابهة لتلك ,مثل الرحلة تكن ق�صة �أو رواية بالمعنى الدقيق ,فهي من �إلى النف�س وما تحتويه من �أغوار و�ألغاز ,ت�ضاهي جن�سهما �أو الأخت ال�شقية لهما. والق�صة في الرحلة تنق�سم �إلى فرعين هما :الكون وما فيه من تعقيدات ,وفي هذه الحالة ال بد �أن ي�ستعين الإن�سان بغيره ليفهم ذاته �أوالً، �أ -الق�صة الواقعية: وي�سبر �أعماق كنهه ثانيا؛ فيلج�أ �إلى الكتب التي وه��ي التي يتحدث فيها الكاتب عن ح��وادث هي رحلة في عقول وتفكير الآخ��ري��ن ,وو�سيلة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
وقد تجاوز بع�ضهم الأنماط ال�سابقة� ,إلى غيرها من الفنون الأدبية الأخرى ,فمُلئت كتب رحالتهم بالأحاجي والمعميات والنوادر ,كما عمد بع�ضهم �إل��ى الآي ��ات القر�آنية الكريمة, والأحاديث النبوية ال�شريفة ،و�أدمجها في �سياق �أعماله �أو �أورده��ا -للحاجة �إليها -ك�شواهد لتو�ضيح ما ذه��ب �إليه من �آراء �أو تعليق على مواقف ح�صلت معه �أثناء تجواله في المعمورة �أو الفلوات. و�صف الرحلة احتل الو�صف مكانة جلية في �أدب الرحلة, وعُ َّد �إحدى �سماته الفنية البارزة ,لما يحتويه من عنا�صر متعة وت�شويق ,يطرب لها ال�سامع ويلذ بمطالعتها القارئ ,ال��ذي يجدها مبثوثة في حنايا كتب الرحالت قديمها وحديثها ,ومن ذل��ك م��ا تحدث ب��ه ال��رح��ال��ة الم�صري ح�سن
بارحتها في �أ�سرع قطار في الآفاق طار ,ولم يزل يزج بنا في �أودي��ة مونقة ,بين �أ�شجار مورقة، حتى حط بنا في قرية يقال لها تون ,ومنها بدون مو�سط نزلنا �سفينة بخارية على بحيرة كبيرة, وحينما �شقت تلك الجارية حباب الماء ,ذهبت بقالعها نحو ال�سماء ,عر�ضت علينا ال�شواطئ منظرها الرائق ,وح�سنها ال�شائق ,وقد انتثرت عليها �أخ�صا�ص �ساكنيها ,ومنازل نازليها ,ثم �أخذت تلك ال�شواطئ باالرتفاع تدريجيا ,حتى تو�سطنا بين جبال �سامقة و�أعالم �شاهقة ,حتى قربنا من م�صب نهر في تلك البحيرة الح لنا منظر بهيج ،ورونق يهيج ,ف�شاهدناه نهرا بين جبلين باذخين ,وطودين منيفين ,وقد مالت �إليه الغ�صون ,ك�أنما تميل لر�شف ر�ضابه العذب, �أو تحنو �شفقة على هذا العا�شق ال�صب ,كما قال ال�شاعر �إبراهيم القيرافي ,وهو من �أح�سن موزوناته:
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
مبررا ابتعاده عن الأهل والوطن: واقعية جرت معه ,كق�ص�ص �أحمد بن ف�ضالن, واب��ن بطوطة ولقائه بالعديد من الأق ��وام ,وما ل�ب�ن��ان ال ت�ع��ذل بنيك �إذ هم ركبوا �إل��ى العلياء كل �سفين �صادفه في طريقه من مفاج�آت �سارة ,و�أخرى تق�شعر لها الأبدان� ،أوردها في �سياق حديثه عن ل��م ي�ه�ج��روك م�لال��ة ,لكنهم جماعات تتغذى على لحوم الب�شر! وهذه حقيقة خلقوا ل�صيد الل�ؤل ؤ� المكنون موجودة في جزء من �أدغال �إفريقيا� ,أثبتها العلم ول��م��ا ول��دت��ه��م ن�����س��ورا حلقوا الحديث.
للرحيل �إلى عوالم كثيرة تغلفها الر�ؤى ويكتنفها العدل �أثناء رحلته �إلى مدينة بازل ال�سوي�سرية, الخيال؛ وفي ذلك متعة ال تُجارى ،تعقبها راحة قائال: نف�سية وهدوء بال ,قد ي�ستمران لفترة طويلة. «ولما نلت من م�شاهدة تلك المدينة ما نلت,
31
م������ال������ت �إل�����������ى ر������ش�����ف�����ه ال����غ���������ص����ون ه������ل������م ي��������ا ��������ص�������اح �إل�������������ى رو�������ض������ة ي���ج���ل���و ب����ه����ا ال����ع����ان����ي ������ص�����دا ه��م��ه �أو كما قيل وما �أطربه من قول:
ن�����������س�����ي�����م�����ه�����ا ي������ع������ث������ر ف����������ي ذي�����ل�����ه ت���ث���ن���ى ال���غ�������ص���ن �إع����را�����ض����ا وع��ج��ب��ا وزه���������ره���������ا ي���������ض����ح����ك ف��������ي ك���م���ه ع�����ل�����ى ن�����ه�����ر ي�����������ذوب �أ��������س�������ا ع���ل���ي���ه وبينما نحن في لهونا و�سمرنا� ،إذ باغتتنا ف�������ر َّق ل�����ه ال���ن�������س���ي���م وج�������اء ي�����س��ع��ى م� �ل� ��اط � � � �ف� � � ��ة وم � � � � �ي � �ل � ��ا �إل � � � �ي� � � ��ه ال�سماء ,ف�أبرقت و�أرع��دت ,و�أر�سلت �سحائبها
فيا له من منظر عجيب يه�ش �إليه الخاطر ,وهملت مقلها ,والريح تعبث بالأغ�صان ,وقد ويق ُر لرقة جماله الناظر ,فك�أنَّ ابن خفاجة كان انحدرت الغدران ،وهوى ما�ؤها فتك�سر ،وجرى �سائ ًال �إلى المنحدر: يرمقنا بطرفه ,حين �أن�شد �ضمن طرفه:
وت�ح��دث ال�م��اء م��ع الح�صى فجرى وال��ري��ح تعبث بالغ�صون وق��د جرى ال���ن�������س���ي���م ع���ل���ي���ه ي�����س��م��ع م����ا ج���رى ذه����ب الأ����ص���ي���ل ع��ل��ى ل��ج��ي��ن ال��م��اء �أو مجير الدين بن تميم قد حا�ضرنا ,وقد ف����ك�����أن ف�����وق ال����م����اء و����ش���ي���اً ظ���اه���راً وك�������أن ت��ح��ت ال���م���اء ����س���راً م�����ض��م��را و�صف ف�أن�شدنا: ون��ه�� ٌر �إذا م��ا ال�شم�س ح��ان غروبها وعند ذل��ك عمدت للمبيت حتى ال�صباح, والح � � ��ت ع �ل �ي��ه غ�ل�ائ �ل �ه��ا ال �� �ص �ف��ر حتى �إذا ابي�ض الجناح ,تجهزت للمغادرة وقد عقدت العزم على المغامرة». ر�أي���ن���ا ال����ذي �أب��ق��ت ب��ه م��ن �شعاعها ك����أن���ا �أرق���ن���ا ف��ي��ه ن����دف م���ن ال��ع��ط��ر
ول��م ن��زل نمتّع ال�ط��رف بمحا�سن م��ا على اليمين وال�شمال من ال�ضفاف ذوات الأ�شجار والأثمار ,وقد لب�ست ال�شم�س جلبابها الأ�صفر فرقا من فراقها لح�سن ذلك المنظر:
ما ا�صفر وجه ال�شم�س عند غروبها �إال ل���ف���رق���ة ح�������س���ن ذاك ال��م��ن��ظ��ر 32
ولم نزل جذلين مبتهجين ,حتى ر�ست بنا ال�سفينة على محطة ركبنا بها عربات بخارية, اجلوبة � -شتاء 1435هـ
و�صف رحلة الحج ف��ي ال�ع�ه��د الإ� �س�لام��ي ال �م �ي �م��ون ،ن�شطت الرحالت ب�شكل ملحوظ ,نظرا للحالة الأمنية الم�ستقرة التي بات المجتمع العربي ينعم بها, في ظل الدولة الإ�سالمية الفتية ,ف�أدى ذلك �إلى ظهور رحالت من نوع خا�ص ,ظاهرها الإ�سالم وباطنها الإي�م��ان ,واعتُبر �أدا�ؤه ��ا من رحالت العمر ,التي يجب على الم�ؤمن القيام بها ولو مرة في حياته على الأقل� ,أال وهي رحلة الحج.
نهج �أ�سالفهم القدماء ,الرحالة التركي الدكتور مقداد يلجن ,الذي يقول:
«كانت ر�ؤية هذه البالد �أُمنية و�أحالما منذ يَفاعتي ،وكنت �أقول ال يكفي الذهاب �إلى الحج وال�ع�م��رة ,ب��ل يجب �أن �أم�ك��ث ف��ي ه��ذه البالد المقد�سة فترة �أط��ول ,لأزور تلك البقاع التي �شهدها الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ,وم�شى على ث��راه��ا ,والحمد هلل قد تحققت �أمنيتي، وه �ي ��أت ل��ي الإق��ام��ة �أ��ض�ع��اف� ًا م�ضاعفة مما كنت �أتمناه ,فقد مكثت في ربوعها �أكثر من
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
قا�صدين بلدة يقال لها انترلكن ,وبعد �أويقات ورب ن�����������ه�����������ر ل����������������ه ع��������ي��������ون ت�������ح�������ار ف���������ي و�������ص������ف������ه ال�����ع�����ي�����ون زج بنا في واديها ،فالحت لنا عجائب مناظرها ونزلت بها ,وقد ناداني ل�سان حالها: ل�����م�����ا غ���������دا ال�������ري�������ق م�����ن�����ه ع����ذب����ا
و�إذا م��ا حقق ال�م��ؤم��ن حلمه ,يجد ل��زام� ًا ع�شر �سنوات ,فتكوّنت لدي بع�ض االنطباعات عليه �أن ينقل لأهله ولجيرانه و�إخوانه ممن لم والمالحظات ,منها: ت�ساعدهم الظروف لزيارة الأماكن المقد�سة, تلك التو�سعة الم�ستمرة للحرم المكي، م�شافهة �أو كتابة و�صفا لمعالم الحج ومنا�سكه, منذ بداية الإح��رام والتلبية حتى الوقوف في وت��زوي��ده بكل و�سائل ال��راح��ة خدمة ل�ضيوف عرفة �إلى يوم الإفا�ضة والتحلّل من المنا�سك ,الرحمن ,وكنت �سابقا �أت�صور �أن جميع �أر�ض وغالبا ما يتخلل ه��ذا الحديث ذك� ٌر لمحطات المملكة العربية ال�سعودية عبارة عن �صحراء �سيره التي اتبعها �أثناء رحلته� ,سواء كانت برا �أو ق��اح�ل��ة وغ �ب��ار وع �ف��ار ,وحَ � � ٍّر ال ي �ك��اد ي�ط��اق؛ بحرا ,معرّفا بالآثار التي خلفها ال�سلف ال�صالح ,ولكن عندما زرت هذه الربوع الطيبة ,وجدت ومعطيا نبذة عن المواقع الجغرافية والتاريخية ت�ضاري�سها منوعة ،ولي�ست �صحراء كلها ،بل التي مر بها ,بما تحتوي عليه من نعوت و�أو�صاف للكعبة الم�شرفة والحجر الأ�سود ,ومقام �إبراهيم هناك مناطق خ�ضراء تحفل ب�م��زارع النخيل عليه ال�سالم ,وجبل �أُحد وغيرها من الأماكن وال�غ��اب��ات الطبيعية ,كما ف��ي منطقة الخرج والمواقع التي تتمتع ب�صفة دينية �أو تاريخية �أو والهفوف ،والب�ساتين الوارفة في الباحة و�أبها. اجتماعية .وال ين�سى الحاج ذكر لقائه ب�إخوان ولي�ست كل المناطق �شديدة ال�ح��رارة ،بل �إن له من الم�سلمين الذين قدموا �إلى هذه الديار هناك مناطق معتدلة مثل الطائف ,وهناك المباركة من بالد متعددة بعيدة ,وكيف يتكلمون �أمطار غزيرة تهطل حتى في ال�صيف ،وتنبت بلغات مختلفة و�ألوان ب�شرتهم متباينة ,وما �إلى ذل��ك من �أح��ادي��ث وق�ص�ص م�شوّقة ا�ستقاها الزهور الطبيعية في بع�ض المناطق ,ووجدت في بلجر�شي مياه ًا جارية وجباال خ�ضراء مكت�سية الحاج من جو رحلته. ومن الرحالة المحدثين الذين �ساروا على بالأ�شجار ت�شبه تماما ما يوجد في تركيا. ومنها �سرعة التغيير في المظاهر العمرانية, ففي ع�شر �سنوات الحظت ت�ط��ورات عمرانية م �ه �م��ة ,م��ن ف �ت��ح ال �ط��رق وت�ج�م�ي��ل ج��وان�ب�ه��ا بالأ�شجار والأزه��ار التي تتنا�سب طبيعتها مع ك��ل بيئة ,وب�ن��اء الج�سور والأب���راج المعمارية ذات الأ�شكال الهند�سية المتطورة والأنماط المختلفة ,فما وجدت -والحق يقال -في �أي بلد �أقمت فيه هذه ال�سرعة العمرانية الفريدة وعلى مختلف الم�ستويات. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
33
واليوم ،تطورت الرحلة من حيث مفهومها و�أدوات �ه��ا ,وطريقة ال�سفر والترحال ,وارتبط ذل��ك كله بظروف تختلف عن ما ك��ان معتادا في الما�ضي� ,أب��رزه��ا و�سائل النقل الحديثة، التي تحوّلت من النقل ب��ال��دواب �إل��ى امتطاء �صهوة البوينج والإيربا�ص والكونكورد التي تفوق �سرعتها �سرعة ال�صوت. والآن ,وبهذا التطور اختلف الأمر ,ال �سيما في ظل و�سائل االت�صال الحديثة التي جاءت لت�شبع في الإن�سان رغبة �أكبر في المعرفة عن ق��رب ,فكانت الف�ضائيات من �أق�م��ار و�أطباق و�إلكترونيات كفيلة بنقل العالم �إلى منزلك.
هذه �إلمامة �سريعة عن هذا النوع من الأدب الزاهي ,ولمحة مكثفة حول �سماته الفنية التي تميزه عن غيره من �ضروب التعبير الأخ��رى, ال�ستناده ف��ي كثير م��ن مقوماته على ال��واق��ع المح�ض ,والتجربة الحيّة المُعا�شة ,التي زاولها ال��رح��ال��ة ع��ن ك �ث��ب ..وب�ك��ل تجلياتها؛ حلوها ومرها ،نجاحاتها و�إخفاقاتها حتى �أوبته �إلى الديار ,وتحلُّلَه من الأ�سفار ,ومكوثه قرير العين بين الأهل وتحت �سقف الدار ،فيهتف في �أعماقه م�ستريحا:
وع �ل��ى م��ا ي �ب��دو ل��ي -وال �ح��ال��ة ه��ذه � -أن زم��ن الرحّ الة العظام من �أم�ث��ال اب��ن بطوطة وم��اج�لان ق��د انتهى �أو ك��اد ,بالنظر لو�سائل االت�صال الفائقة الدقة التي لملمت �أط��راف الكون ,وخلقت من معظم الب�شر رحالة وهم في مو�ضعهم ال يبرحونه� ,أكثر اطالعا و�أ�سرع نقِّل ف����ؤادك حيث �شئت م��ن الهوى ت��رح��االً ,حتى الأق�م��ار ال�صناعية ترجلت من م � ��ا ال � �ح � ��بُ �إال ل �ل �ح �ب �ي��ب الأول عليائها و�أ�صبحت متاحة لمن يرغب بت�سخيرها .ك��م م�ن��زلٍ ف��ي الأر� ��ض ي�ألفه الفتى وح� �ن� �ي� � ُن ��ه �أب� � � � � ��داً لأوّلِ م �ن ��زل فبعد ظهور موقع جوجل �إيرث� ,صار بالإمكان الم�صادر:
34
-1ح�سني ح�سين � -أدب الرحلة -القاهرة -الهيئة الم�صرية للكتاب 1976م. -2ح�سين فوزي -حديث ال�سندباد القديم -القاهرة -لجنة الت�أليف والترجمة 1945م. -3جورج غريب � -أدب الرحلة ،تاريخه و�إعالمه -بيروت -دار الثقافة 1979م. -4نقوال زيادة -الرحالة العرب -القاهرة -دار الهالل – 1956م. � -5سويفت -رحالت جليفر -ت :نور �شريف -كتاب اقر�أ -القاهرة 1983م. � -6شوقي �ضيف -الرحالت -دار المعارف -القاهرة 1956م. -7د .مقداد يلجن -الرحالت العلمية -دار عالم الكتب -الريا�ض 1413هـ.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�أدب ال ّرحلة بين ال ّتراث والمعا�صرة
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
خاتمة
ت�صفح �أرك��ان الدنيا من الأعلى ،والرحيل �إلى �أي موقع يعتقد وجوده على الأر�ض ,بما في ذلك ال�شوارع والمباني والمدار�س ,و�أعماق البحار والمحيطات التي يتم م�سحها ب�أجهزة ال�سونار, وك�أن الكرة الأر�ضية تقل�صت لدرجة مكّنت من تفح�صها على �شا�شة الآيباد القزمة وهي قابعة بين يديك ..وهنا ال ي�سعني �إال القول� :سبحان اهلل الذي �أح�سن �صنع كل �شيء ،بقدرته و�سابق علمه ،وجعله للإن�سان م�سخرا.
■ د� .إبراهيم الدهون -جامعة اجلوف
تمثّل الرحلة نوعاً من الحركة والنّ�شاط للإن�سان ،وتك�شف النّا�س والأق��وام؛ وهنا تتجلّى قيمة الرحالت كم�صدر رئي�س لو�صف �أنماط الب�شر و�سلوكياتهم وثقافاتهم ،كما تعمل على ر�صد بع�ض جوانب حياة النّا�س اليوميّة في مجتمع معين خالل مدة زمنيّة محددة؛ لذلك نلم�س �أ َّن للرحالت قيمة تعليميّة وتثقيفيّة تطغى على ما يناله الفرد من المدار�س ،والم�ؤ�س�سات التّعليميّة. على �أنَّ ثمار الرّحلة ال تتوقف عند التّعارف �أو �صقل ال�شّ خ�صية �أو ك�شف المجهول من طبائع ال�شّ عوب ،لكنّها تجود بالمكا�سب العلميّة وبخا�صة �إذا ّ والأدبيّة ،التي قد يتعذر ح�صرها؛ كان الرّحالة متمتع ًا بقوة المالحظة ،وحنكة التّطلع ،ويقظة ال�ح��وا���س ،وح��بّ المحاورة والرغبة في التّح�صيل والحر�ص على التّدوين، والتّ�سجيل(.)1 ولع ّل �أبرز دور قامت به الرّحلة في العالم العربي هو الخدمة الكبرى ،التي قدّمتها لعلم الجغرافيا ،لأنّ ال��رح��ال��ة يكتب بقلم ال��ذي اتّ�صل بالظواهر الجغرافيّة والطبيعيّة اتّ�صا ًال مبا�شراً ،ف��ر�أى و�سمع ،كما �أ ّن��ه ك��ان ذا نفع للم�ؤرخ ولعالم االجتماع ،وللأديب ،والفلكي، والفيل�سوف ،وال�سّ يا�سي ،واالقت�صادي.
�أ ّم��ا القيمة الأدب� ّي��ة للرحالت فتتجلّى في م��ا تعر�ض فيه م��واده��ا م��ن �أ�ساليب ترتفع بها �إلى عالم الأدب ،وترقى بها �إلى م�ستوى الخيال الفني ،و�إذا ك��ان م��ن �أب��رز م��ا يميّز �أدب الرحالت تنو ٌع في الأ�سلوب من ال�سّ رد الق�ص�صي �إل��ى ال�ح��وار ث��مّ الو�صف وغيره؛ ف�إنَّ �أبرز ما يميّز �أ�سلوب الكتابة الق�ص�صي، المعتمد على ال�سّ رد الم�شوق ..ما يقدّمه من متعة ذهنيّة ك�ب��رى ،وق��د �أف��اد �أدب الرّحلة بغنى مو�ضوعاته في �صرف �أ�صحابه في غالب الأحيان عن اللّهو ،والعبث اللّفظي ،والتّكلف ف��ي ت��زوي��ق ال�ع�ب��ارة� ،إي �ث��ار ًا للتعبير ال�سّ هل الم�ؤدي للغر�ض لن�ضجه بغنى تجربة �صاحبه، ممّا يفتقده كثير من الأدباء في بع�ض ع�صورنا الأدبيّة(.)2 اجلوبة � -شتاء 1435هـ
35
ويلحظ �أنَّ هذا الفنّ من فنون الأدب العربي ال��ذي لم يظهر تحت م�سمّى �أدب الرحالت، و�إ ّن �م��ا ك��ان يظهر �أح�ي��ان� ًا تحت خ��ان��ة «كتب التّاريخ �أو الجغرافيا �أو ال�سّ يرة الذاتيّة� ،أو كتب االعتراف �أو �أدب االعتراف» .وهكذا ،ف�إنَّ هذه التّ�سمية�« :أدب الرحالت» ت�سمية وليدة هذا الع�صر ،وما �شهده من درا�سات وم�صطلحات وتق�سيمات لفنون و�ألوان المعرفة الأدبيّة. وعلى الرغم من ه��ذا ،ف ��إنَّ العرب طوّفوا قديم ًا في �سفرهم البالد ،ومار�سوا التّرحال في �شبه الجزيرة العربيّة والبلدان المجاورة، وال�صيف اللّتين ور َد وقاموا برحلتي ال�شّ تاء ّ ()3 ذكرهما في القر�آن الكريم . بيد �أنَّ ذروة ال��رح�لات بلغت خ�لال مدة الفتوحات الإ�سالميّة ،وم��ا تالها في ع�صر اال�ستقرار واالزده ��ار ،والمعرفة والح�ضارة حتّى م�شارف القرن الخام�س الهجري تقريباً.
36
ولعلّه من المفيد الإ�شارة �إلى �أنَّ الرحالت ال �ع��رب � ّي��ة الإ�� �س�ل�ام� � ّي ��ة م� ��رت ف ��ي ف�ت��رت�ي��ن متباعدتين ،اخت�صت ك � ّل منهما بظروف واهتمامات تختلف عن الأخ��رى؛ فقد ب��د�أت الفترة الأول��ى منذ ع�صر ما بعد الفتوحات الإ�سالميّة ،ون�شطت باتّ�ساع الرقعة الأر�ضيّة للعالم الإ�سالمي جنب ًا �إل��ى جنب مع ازده��ار الفكر ،وتنوّع منابع المعرفة� .أما الفترة الثّانية التي ازدهرت فيها الرّحلة ،وكان لها ت�أثيرها على الفكر العربي الإ�سالمي ،فقد ب��د�أت مع حركة النّه�ضة العربيّة الحديثة ف��ي القرن الثّالث ع�شر الهجري .وما بين الفترتين لم يَجُ ب الرحالة الم�سلمون البلدان ،بقدر ما فعلوا من قبل �إبان ع�صر الح�ضارة الإ�سالميّة، الع�صر الو�سيط الأوروبي؛ و�إن ا�ستثنينا عدد ًا قلي ًال من الرحالة ،وعلى ر�أ�سهم ابن بطوطة، وابن خلدون(.)5
وتجدر الإ�شارة هنا �إلى �أنَّ ابن خلدون قد الرحالة العرب �أ�شهر ّ �أعلن �صراحة �أهمية الرحالت ،ف�أورد ذكرها ف��ي مقدمته ال�شّ هيرة� ،إذ ق��ال :وال��رح�ل��ة ال اب��ن ف�ضالن� :صاحب ك�ت��اب ر��س��ال��ة ابن ب ّد منها في طلب العلم ،والكت�ساب الفوائد ،ف�ضالن ،ول��د في القرن العا�شر الميالدي، ()4 والكمال بلقاء الم�شايخ ومبا�شرة الرجال � .أر�سله الخليفة العبّا�سي المقتدر ب��اهلل من ه ��ذا ،ول��م تقت�صر دواف ��ع الرحلة بغداد �إجابة لملك ال�صقالبة -في رو�سيا - على ال�ت��زوّد بالعلم ومقابلة ال�شّ يوخ ،و�أداء لتعليمه الإ�سالم وبناء م�ساجد وح�صن له من اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
يُع ّد �أدب الرحالت نوع ًا من الآداب الذي ي�صور فيه الأدي��ب ما ج��رى من �أح��داث وما قابله م��ن �أم��ور �أث�ن��اء رحلة ق��ام بها لإح��دى البلدان؛ كما ت�شكّل الرحالت م�صدر ًا رئي�س ًا للجغرافيا والتّاريخ واالجتماعيات؛ لأنَّ الكاتب ينهل من نبعها المعلومات والحقائق المثيرة.
فري�ضة ال�ح��ج ،و�إ ّن �م��ا كانت ال� ّت�ج��ارة ع�لاوة على ذل��ك ،ومنذ قديم الزمان �أم��ر ًا اقت�ضى القيام بالرحلة ،وال�سّ فر البعيد .ول�ع� ّل من �أ�شهر الرحالت البحريّة التّجاريّة في المحيط ال�ه�ن��دي ال �ت��ي ت � ّم��ت خ�ل�ال ال� ّن���ص��ف الثاني من القرن الثّالث الهجري هي رحلة التّاجر �سليمان ال�سيرافي.
�أع��دائ��ه ،ف�أر�سل ابن ف�ضالن على ر�أ���س وفد �إدري�س� ،أحد كبار علماء الجغرافيا ،كما �أنه العلماء والفقهاء و�أم�ضى ث�لاث �سنوات من كتب في التاريخ ،والأدب ،وال�شّ عر ،والنبات (924 -921هـــ) في بالد الرو�سّ ، وال�صقالبة ،ودر�س الفل�سفة ،والطب ،والنجوم ،في قرطبة. والخرز ،واال�سكندنافية. ابن بطوطة :ولد في طنجة �سنة (703هـ) ابن جبري� :صاحب كتاب تذكرة الأخبار عن ف��ي ال�م�غ��رب لعائلة عُ ��رف عنها عملها في اتفاقات الأ�سفار ،عُ رف بـرحلة ابن جبير وهو الق�ضاء ،وفي فتوّته در�س ال�شريعة وقرر وهو من الأندل�س ،ا�سمه محمّد بن �أحمد بن جبير ابن ع�شرين عام ًا �أن يخرج حاجاً ،كما �أمل من الكناني ،المعروف بابن جبير ،ولد في بلن�سية �سفره �أن يتعلم المزيد عن ممار�سة ال�شّ ريعة ب�إ�سبانيا �سنة ( 540هــ) ،وتعلّم على يد �أبيه ف��ي �أن�ح��اء ب�لاد الإ� �س�لام .وخ��رج م��ن طنجة وغيره من العلماء في ع�صره ،ثمّ ا�ستخدمه �سنة( 725هـ) فطاف بالد المغرب ،وم�صر، �أمير غرناطة �أبو �سعيد بن عبدالم�ؤمن ملك وال�شّ ام ،والحجاز ،والعراق ،وفار�س ،واليمن، الموحدين في وظيفة كاتم ال�سّ ر ،فا�ستوطن والبحرين ،وترك�ستان ،وما وراء النّهر ،وبع�ض غرناطة. الهند ،وال�صين ،وجاوة ،وبالد التتار ،و�أوا�سط ال��ع�لام��ة الإدري�������س���ي� � :ص��اح��ب ك �ت��اب� :إفريقيا ،واتّ�صل بكثير من الملوك ،والأمراء، نزهة الم�شتاق ف��ي اخ�ت��راق الآف ��اق ،وا�سمه ف�م��دح�ه��م ،وك ��ان ينظم ال���ّ�ش�ع��ر ،وا��س�ت�ع��ان �أبو عبداهلل محمد بن محمد بن عبداهلل بن بهباتهم على �أ�سفاره. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
37
�أدب الرحالت في الع�صر الحديث برز �أدب الرحلة في الع�صر الحديث ك�شكل فني داخ��ل في الأدب ،ولي�س درا�سة تاريخيّة وجغرافيّة حيّة كما كان من قبل .ومن نماذجه: «تخلي�ص الإبريز في تلخي�ص باري�س» لرفاعة الطهطاوي ،ال��ذي راف��ق البعثة التي �أر�سلها محمّد علي للدرا�سة في فرن�سا ،ليكون واعظ ًا و�إماماً ،لهذا ،ت�صور رحلة الطهطاوي انبهاره بمظاهر النّه�ضة الأوروب � ّي��ة ،مع نقد لبع�ض عاداتهم في �أ�سلوب �أدبي.
رحالة الغرب قراءة في ّ
�إذا ت�أمّلنا �سيرة الرحالة الغربيين الأوائل �سنالحظ �أنّهم كانوا يقومون برحالتهم رغبة في الح�صول على المال ،والذهب ،والعطايا الملكية التي يمكن �أن تعود عليهم من وراء اكت�شاف ج�غ��راف��ي ج��دي��د؛ كما ك��ان يتمنّى كري�ستوفر كولومبو�س الإيطالي عندما كان �أ ّم��ا �أح�م��د ف��ار���س ال�شدياق ،فهو م�شهور ي�سعى للو�صول �إل��ى الهند طمع ًا في كنوزها، بكتابه «ال��وا��س�ط��ة ف��ي �أح ��وال م��ال�ط��ة» ،وقد فو�صل �إلى جزر الكاريبي في القرن الخام�س و�صف �صنوف ًا من العادات والتّقاليد ،وبخا�صة ع�شر ،وظنّ خط�أً �أنّها الهند. النّ�ساء المالطيات. وم �ث��ل ف��ا��س�ك��و داج��ام��ا ال�ب��رت�غ��ال��ي ال��ذي �أم��ا عي�سى بن ه�شام ،فكتب �أدب الرواية اكت�شف الهند فيما بعد عن طريق ر�أ�س الرجاء ال�صالح في �أواخر القرن الخام�س ع�شر؛ ولن ّ العربيّة الحديثة ،الذي يُع ّد من كتب الرحالت يق�ص رحلة قام بها البطل عي�سى نن�سى �أنّه لوال م�ساعدة الرحّ الة العربي �أحمد الخيالية� ،إذ ّ ابن ه�شام برفقة �أحد با�شوات م�صر ،بعد �أن بن ماجد لما و�صل �إلى الهند .ربما لم يكتب خرج هذا البا�شا من قبره ،وكان قد مات منذ الرحالة الغربيون ب�أنف�سهم عن هذه الرحالت، زمن بعيد ،ثمّ خرج يتج َوّل في �شوارع م�صر و�إنّما كتب عنهم من عا�صرهم وقتها.
38
ودوائرها الحكوميّة ،ومنها المحاكم ،وي�صف و�إذا قارنّا بين الدافع وراء رحالت الرحالة لنا ،ب�أ�سلوب �أدب��ي �ساخر ،مظاهر التّحول ال�ع��رب ،ف�سنجد �أ ّن�ه��م كانوا ي�سافرون طلب ًا اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�أمّا الرحّ الة المعا�صرون �سواء كانوا عرب ًا �أم غربيين ،فهم كتّاب بالدرجة الأول��ى ،قد ت�سوقهم الظروف �إل��ى بالد معينة ،فيكتبون عنها� ،أو ي�سافرون �إل��ى �أماكن بعينها بهدف درا�ستها والكتابة عنها.
ويمكن القول� :إنَّ �أدب الرحالت هو جن�س ف��ي الكتابة الأدب� � ّي ��ة ،ي�ك��اد ي�ك��ون ق��د اندثر وتال�شى ،ولكن �إذا �أعدنا النّظر في �أدب الرحلة في الع�صر الحديث نلحظ تراجعه عمّا كان عليه في الع�صور ال�سّ ابقة ،وحتّى �أوائل القرن الع�شرين ،وذل��ك على الرغم من �أنَّ الع�صر الحالي ُي َع ُّد بحق ع�صر الرحلة وال�سّ فر ،لتوافر الإمكانات ،والتّ�سهيالت العظيمة التي ت�شكّلت بحيث �أ�صبح ال�سّ فر جزء ًا من الحياة العاديّة للرجل العادي ،وال�سّ ياحة بمظهرها الحالي غدت نقي�ض ًا لما كانت عليه �سابقاً.
تكلف الرحالة ج�ه��داً ،وتعب ًا �شديداً ،ووقت ًا طويالً ،قد ي�صل �إلى �أ�سابيع و�شهور للو�صول �إل��ى غايته؛ في حين �أنَّ و�سائل الموا�صالت المتطورة اليوم �سهلت على الأدي��ب التّنقل، ووفرت عليه الوقت وبع�ض الجهد ،و�إن كانت التّكلفة ربما �أكثر بكثير منها في الما�ضي.
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
قام ابن بطوطة بثالث رحالت ،وقد ا�ستغرق في مجموعها نحو ت�سع وع�شرين عاماً ،وكان �أطولها الرحلة الأول��ى التي لم يترك �أثناءها ناحية من نواحي المغرب والم�شرق �إال زارها، وكانت �أطول �إقامة له في بالد الهند �إذ تولى الق�ضاء لمدة عامين ،ثم في ال�صين �إذ تولى الق�ضاء فيها عام ًا ون�صف العام.
ال�سّ لبي التي �أ�صابت الحياة .كما تلقانا رحلة �أمين الريحاني التي �أ�سماها الريحانيات، وقد �سجّ ل م�شاهداته في بلدان عربيّة وو�صف ع��ادات �أهلها ،كما زار بع�ض ملوك العرب، وم��ن بينهم المغفور ل��ه الملك عبدالعزيز، و�سجّ ل بع�ض �أحاديثه و�آرائ��ه .وهناك كتَّاب �آخرون قدّموا �أعما ًال كثيرة في �أدب الرحالت، �أمثال :زكى مبارك ،كاتب م�صري له ذكريات بغداد وذكريات باري�س؛ ويحيى المعلمي ،كاتب �سعودي له رحلة علميّة ورحالت �أخرى.
للحجّ �أو الرزق �أو العلم� ،إلى جانب الرغبة في م�شاهدته في ذاكرته� ،أمّا الآن فعادة الأديب المعرفة واال�ستك�شاف ويبقى ال�سّ بق في هذا هو ال�شّ خ�ص ال��ذي ي�سافر ،ويكتب �أو ًال ب�أول المجال للرحّ الة العرب ،ف�أوّل رحالة عربي كما م�شاهداته ب�أ�سلوب ب�سيط ،و�أقل تعقيداً. ذكرنا هو ابن جبير. الجهد والوقت :الرحلة في الما�ضي كانت
�سهولة الطباعة :من ال�سّ هل �أي�ض ًا اليوم، الكتابات الأدب� ّي��ة بوجه ع��ام بو�سائل طباعة حديثة و�أن �ي �ق��ة ،ف��ي حين ك��ان ال��رحّ ��ال��ة في ال�م��ا��ض��ي ي���ض�ط��رون ل�ت��دوي��ن كتاباتهم في م�خ�ط��وط��ات ك�ب�ي��رة ،وث�ق�ي�ل��ة ،وب��ال�ط�ب��ع ك��ان ي�صعب ن�سخها عدة مرات.
�سهولة االنت�شار :و�سائل االتّ�صال الحديثة ال�صحف والإنترنت� ،سهلت �إلى درجة ومنها ّ كبيرة انت�شار فنّ �أدب الرحالت� ،سواء كان في وت�أ�سي�س ًا على ما �سبق ،ن�صل �إل��ى نتيجة �صورة مقاالت مقروءة� ،أو كتب ًا �إلكترونيّة. فحواها �أن تمايز �أدب الرحلة بين الما�ضي وف��ي نهاية الأم��ر ،ال ب� ّد من الت�أكيد على والحا�ضر يمكن ح�صره فيما ي�أتي: الجهود المبذولة حالياً ،والأعمال المن�شورة منهجيّة الأ�سلوب :الرحّ الة العربي لم يكن هنا وهناك ،من �إقامة م�ؤ�س�سات تُعنى بخدمة بال�ضرورة �أديب ًا يجيد التّعبير ب�أ�ساليب �أدبيّة ،مثل هذا الفنّ ،كي يبقى موجود ًا يمار�سه �أهله، و�إ ّن�م��ا ك��ان يهوى ال�سّ فر وال� ّت��رح��ال ،ويحفظ وي�ؤطره �أدبا�ؤه.
(� )1أدب الرحلة في التّراث العربي ،ف�ؤاد قنديل ،مكتبة الدّار العربيّة� ،ص.23 (� )2أدب الرحلة عند العرب ،ح�سني محمود ح�سين ،المكتبة الثقافية� ،ص.10 ( )3انظر :رحلة ال�صيف �إلى اليمن ،ورحلة ال�شتاء �إلى بالد ال�شّ ام. ( )4مقدمة ابن خلدون ،عبدالرحمن بن خلدون ،دار الكتب العلمية2009 ،م� ،ص.403 (� )5أدب الرحالت عند العرب ،مرجع �سابق� ،ص .95 اجلوبة � -شتاء 1435هـ
39
لغة مالطة كما عاي�شها ال�شدياق ■ �صالح بن حممد املطريي -ال�سعودية
تنداح هذه العربية بكافة لهجاتها الإقليمية على رقعة وا�سعة من الأر�ض ،تمتد من �ساحل عُمان وغربي �إيران �شرقا� ،إلى �سواحل المغرب وموريتانيا في �أق�صى الغرب؛ ومن ال�شمال من تخوم الأنا�ضول و�سواحل المتو�سط� ،إل��ى الجنوب في بالد اليمن في جزيرة العرب وواح��ات ال�صحراء الكبرى في �إفريقيا ،وفي كل قطر عربي ثمة لهجة �سائدة على البلد بطبيعة الحال، وكذلك ربما وُجدت في البلد الواحد لهجات �إقليمية تختلف عن بع�ضها بع�ضاً ،كما هي الحال في البلدان الكبيرة ،كال�سعودية وم�صر وال�سودان.
40
ومن بين لهجات العربية المعا�صرة ،تبزغ �أمامنا تلك اللهجة �أو اللغة ال�سائدة في جزيرة مالطة؛ فهذه اللغة جديرة حقا ب�أن يطمح نحوها نظر الدار�س اللغوي ،وخليقة �أن تجذب اهتمامه على نحو خا�ص .ومن العجيب �أن كثيرا من العرب �سينده�ش �إذا ع��رف �أن جزير ًة في المتو�سط وهي دولة �أوروبية الآن -تتحدث لغة تُع ّد منلهجات العربية! فكيف و�صل ل�سان م�ضر �إلى تلك الجزيرة في قلب المتو�سط؟! ولكن هذا هو واقع الحال ،فاللغة المالطية كما يقول المخت�صون �إنْ هي �إال لهجة من لهجات العربية( ،)1ت�شترك مع بقية اللهجات العربية في المعجم ال�سائد (�أي المفردات الأ�سا�سية)( )2وفي كثير من الأ�صوات المفردة �أي�ضا ،كما �أن جُ ل الكلمات ال�ساميّة التي اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�إن ردت بها هذه اللهجة لها تخريج من �أ�صول العربية القديمة ،لكن تختلف هذه اللهجة عن بقية اللهجات العربية في �ضياع عدد من �أ�صوات العربية الأ�صيلة مثل ال�ح��اء وال �خ��اء والعين والغين وال�ق��اف ،كما تتميز باقترا�ض جمهرة من المفردات الأوروبية (�إيطالية و�إنجليزية)، و�إدراجها �ضمن البناء ال�صوتي للهجة ،وفيما عدا ذلك ف�إن جُ ّل المفردات الأ�سا�سية هي من العربية� ،إال �أن كتابتها تعتمد الحروف الالتينية مثل �سائر اللغات الأوروبية. ون� �ظ ��ر ًا الن �ق �ط��اع ال���ص�ل��ة ال�ث�ق��اف�ي��ة بين المالطية وب�ي��ن �أ ّم �ه��ا ال�ع��رب�ي��ة ،فقد عدّها المخت�صون لغة م�ستقلة بذاتها ولي�ست مجرد لهجة ،علما �أننا في هذا المقال قد ن�سميها
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
الرحلة واللغة
تجوّزا «لهجة» باعتبار �أ�صولها التاريخية فقط، و�إال فال م�شاحة في اعتبارها لغة م�ستقلة؛ لأنها حقا قد انبثقت عن �أ�صولها العربية ،وانف�صمت عن جذورها الثقافية ..ولي�ست كبقية اللهجات العربية التي ما تزال تعي�ش في كنف العربية، وتت�أثر بمحيطها الثقافي ،وت�ستمد عنا�صر بقائها منه. ولعل �أهم نواحي انف�صال المالطية وابتعادها عن �أ�صولها العربية كتابتها بالأحرف الالتينية منذ عام 1931م ،وهذه الكتابة الالتينية قد �ضيعت �صوتي ال�ح��اء وال �خ��اء ف��ي المالطية ف�أ�صبحا يرمز لهما في الخط الالتيني برمز واح��د ،وهكذا نجد مثال كلمتي خيط وحيط (�أي جدار) تكتبان في هجاء واحد ،وال يفرق بينهما المالطي �إال من �سياق الكالم ،والحال نف�سه في ال�سين وال�صاد في نحو �سيف و�صيف، والعين والغين في نحو عالي وغالي()3؛ وهذا يعني �أن الخط الالتيني قد �أفقد هذه اللهجة عددا من �أ�صواتها الأ�صيلة؛ ما �أ�سهم حقا في قطع ال�صلة بينها وبين �أمها العربية ،وفي هذا دليل وا�ضح على عدم كفاية الهجاء الالتيني في تمثيل �أ�صوات العربية وغيرها من اللغات ال�سامية ،التي يمثلها الخط العربي على نحو وا�ضح. ونظرا لغرابة هذه اللهجة/اللغة وتميزها عن بقية اللهجات العربية في نواح عدة ،فقد حظيت باهتمام خا�ص من الدار�سين ،وقد عدّها بع�ضهم من بقايا العربية التي �سادت في جزيرة �صقلية حينا من الدهر .وقد كَتب في علم المالطية و�صرفها و�أ�صواتها علماء لغويون مخت�صون من �أبنائها ومن غيرهم(،)4 لكني �س�أتوقف هنا عند �أول من كتب عنها من
العرب ،و�أول من ُقيّ�ض له �أن يعاي�شها بيا�ض يومه و�سواد ليله على مدى �سنين ،وينظرها بعين الخبير ،وهو �أحد ر�ؤو�س الكتاب في ع�صر النه�ضة العربية الحديثة� ،أال وهو اللغوي الأديب الرحالة �أحمد فار�س ال�شدياق. والمعروف �أن �أحمد فار�س ال�شدياق قد ولد في لبنان عام 1804م ،وكان ا�سمه �أول الأمر فار�س ،ق��ال عنه م��ارون عبود�« :أح��د �أقطاب الأدب العربي العظام ،نِ�ش�أ في لبنان ،و�شب في م�صر ومالطة ،واكتهل في باري�س ولندن وتون�س ،و�شيّخ في الق�سطنطينية ،فمات ابن ثالث وثمانين �سنة ،ما �أحوجته الثمانون �إلى ترجمان ،ول��م ت�أخذ من ذل��ك ال��ر�أ���س �شيئا، فبقي ع��وده غ�ضا ونف�سه خ�ضراء ،كما �شهد بذلك جرجي زيدان»(.)5 وال���ش��دي��اق ع�لام��ة ل�غ��وي جليل ت��دل عليه كتابته التي يولع فيها ب�إحياء �أواب��د العربية التي ال توجد �إال بين دفتي المعجم ،كما ي�شهد له طائفة من الكتب و�أهمها كتابه الذي تعقب فيه الفيروز�آبادي �صاحب القامو�س وعنوانه (الجا�سو�س على القامو�س) ،وك��ان قد ت��أدّب بالعربية وفنونها في لبنان �أوالً ،ثم ا�شتد عوده بها ،وثقِ ف كافة علومها في م�صر على يد جلّة من ال�شيوخ ،ثم ُقيّ�ض للرجل �أن ي�ضطرب في الأر���ض ويرحل �إل��ى عوا�صم الغرب وال�شرق؛ وف��ي حله وترحاله ك��ان الرجل يثاقف النا�س ويخالطهم؛ فهو حقا رج��ل ق��د خبر البالد والعباد. وكما تقلّب في ال�ب�لاد ..فقد تقلّب �أي�ضا في الأديان� ،إذ ن�ش�أ م�سيحيا �إنجيليا محافظا، وحاول نفر من الرهبان �أن يثنيه عن مذهبه ،ال �سيّما وقد �شهد ا�ضطهاد �أخيه �أ�سعد وتعذيبه
41
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
42
ثم موته ليتحوّل عن مذهبه ،ولكن محاوالتهم ف��ي اال�ستحواذ على الأخ الأ�صغر ف��ار���س قد ذهبت �أدراج الرياح ،فت�شبّث ال�شدياق بمذهبه، و�ش ّد رحاله �إلى م�صر في ريعان �شبابه ،وكان الرجل ع��ارف� ًا بمذاهب قومه وعالم ًا بتراثه الديني الم�سيحي كله ،ثم اختار له اهلل بعد �أن تنفّ�س به العمر �أن يعتنق الإ�سالم ،ويح�سن �إ�سالمه ،بل انعك�س ذلك على كتابته و�أ�سلوبه، فترى فيه مالمح و�أقوال وعبارات وك�أنها لواحد من �شيوخ الدر�س في الم�ساجد وحلق العلم، ف�سبحان مغيّر الأحوال. و�أثناء تقلب هذا اللغوي الرحالة في البلدان وبين النا�س ،كان كثيرا ما يرهف ال�سمع �إلى ك�لام العامة ولغطهم ..وي�صغي �إل��ى لغاتهم ولهجاتهم ،فا�ستوعب منها الكثير ،وقيّد في واعيته جملة �صالحة من الخ�صائ�ص الل�سانية وال�سمات اللغوية لكالم النا�س �أينما كان ،فال غ��رو �أن ر�أي�ن��اه يتوقف عند لغة مالطة-وقد لبث فيها م��ن عمره �سنين -في�صف لنا ما تتميز به ه��ذه اللغة �أو اللهجة ،وم��ا ي��راه من خ�صائ�صها ،وما يظهر له من الأ�شباه والنظائر لها في لهجات العربية� ..سواء القديمة منها �أو الحديثة. وب��داي��ة ،ال ب��د م��ن التو�ضيح �أن ال�شدياق الأدي��ب الكاتب المتر�سل -لم ي�شد الرحال�إلى مالطة مختارا من تلقاء نف�سه ،رغم ميله �إلى النقلة والتحوّل ،و�إنما ذهب هناك بتكليف من المر�سلين الأمريكان ،وهم بعثة تن�صيرية ا�ستقرت في لبنان منذ �أوائ��ل القرن التا�سع ع�شر؛ ذلك �أنهم ر�أوا ت�ضلّعه في علوم العربية وعل ّو كعبه في الكتابة ،ف�أوكلوا �إليه �أن يعاونهم في ت�صحيح مطبوعاتهم وفي ترجمة التوراة
�إلى العربية ،و�أن يقوم �أي�ضا بتعليم العربية في «المدر�سة الجامعة» في مالطة ،ف�أر�سلوه �إلى هناك ،فلبث الرجل في هذه الجزيرة �أربعة ع�شر عاما بين عامي 1834م و1848م .ورغم �أن ال�شدياق قد طال به المقام في مالطة� ،إال �أن��ه لم يحمد مقامه هناك ،فلطالما وجدناه ينعي مقامه في هذه «ال�صخرة الدرنة» �أو «هذه ال�صخرة ال�صماء» كما ي�سميها �أحيانا. وقد �شرح ال�شدياق �أحوال مقامه في مالطة في كتاب �أف��رده بالت�أليف ،عنوانه (الوا�سطة في معرفة �أحوال مالطة) �أتى فيه على و�صف البلد وجغرافيته ومناخه ،وتحدث عن النا�س وع��ادات �ه��م وط��ب��ائ��ع��ه��م و�أخ�لاق��ه��م و�أن��م��اط معي�شتهم وطعامهم و�شرابهم .والقارئ للكتاب يُخيّل �إليه �أن ال�شدياق لم يخرم من �أحوالهم �شيئا ر�آه �أو �سمعه ،فهو حقا يمثل �صورة متكاملة ت�صور الحالة االجتماعية لل�شعب المالطي الذي عاي�شه ال�شدياق �أربعة ع�شر عاما، ولعل �أدقّ ما في مالحظات ال�شدياق عن ال�ن��ا���س ه�ن��اك ه��و م��ا �سجله لنا ع��ن طريقة كالمهم باللهجة المالطية ،ال�سيما �أن الرجل قد اختلط بكل فئات النا�س فيها ،فقد اختلف �إل��ى الخا�صة ،وجال�س العامة ،وا�ستمع �إلى حديثهم ودخ��ل بيوتهم و�أك ��ل م��ن طعامهم، وح�ضر الأ�سواق ..فت�سمّع �إلى لغط الفالحين، وحفظ نداء الباعة ،و�أ�صغى �إلى �صخب �أهل المرف�أ ،وت�صايح رجال البحر ،وعرف لغاتهم ولهجاتهم بل نكاتهم و�أ�ضاحيكهم ،كما اختلط ال��رج��ل ب��الإن�ج�ل�ي��ز ف��ي م��ال �ط��ة-وه��م حكام الجزيرة وعلية القوم� -سواء من الع�سكر �أو من رجال الإدارة وقتها. يقول ال�شدياق عن لغة مالطة« :اعلم رعاك
اهلل و�صانك عن الزلل �أن اللغة المالطية فر ٌع عن دوح��ة العربية و�شي�ص ٌة من تمرها ،وهي يُتكلّم بها في جزيرتي مالطة وغود�ش (غوزو)، و�سوا ٌء في ذلك العامة والخا�صة؛ غير �أن ه�ؤالء يتعلمون �أي�ضا الطليانية والإنكليزية الحتياجهم �إل��ى الأول��ى في المعامالت والتجارات وكتب ال�شرع ،وغيرها ،ولتناف�سهم في الثانية لكونها لغة �أرب ��اب ال�ح�ك��م»( ،)6وب�ه��ذا ن��رى �أن اللغة المالطية كانت زمن ال�شدياق �أ�شبه ما تكون باللغة المحلية لل�سكان� ،أي لغة البيت وال�شارع وال�سوق� ،أي لغة المحادثة العر�ضية بين النا�س، و�أنها كانت لغة منطوقة فقط ولي�س لها كتابة، �أما لغة الإدارة والتجارة والق�ضاء فقد كانت الإيطالية �أو الإنكليزية. ولنا �أن نت�أمل و�صف ال�شدياق للمالطية ب�أنها «فرع من دوحة العربية و�شِ ي�صة من تمرها»، (والمعروف �أن ال�شي�صة هي التمرة التي لم يتم ن�ضجها لف�ساد �أو �سوء تدبير) ،وفي هذا ينظر ال�شدياق �إلى هذه اللهجة على �أنها لهجة قا�صرة قد لحقها ف�ساد وانحراف عن الأ�صل ال�صحيح ،و�أنها عبارة عن �ألفاظ يتداولونها (�أي لغة منطوقة فقط) «فيما هو من مقت�ضيات الأحوال ال�ساقطة» ،وبطبيعة الحال كانت هذه ه��ي النظرة القديمة (الكال�سيكية) لتطور اللغات واللهجات حتى بداية ع�صرنا الحديث، �إذ ك��ان اللغويون القدامى -ومنهم ال�شدياق بالتلمذة والتلقي -ينظرون �إلى التطور اللغوي و�إل��ى لهجات العامة على �أن�ه��ا �أل�سنة مليئة باللحن والخط�أ والف�ساد(.)7 كما ي��ذك��ر ال���ش��دي��اق �أن المالطية ت�أخذ من الإيطالية بع�ضا من المفردات وت�سبكها في قوالبها ال�صرفية يقول« :و�إذا �أخ��ذوا من
�أحمد فار�س ال�شدياق (1887-1804م)
الطليانية ما م�سّ ت الحاجة �إليه ملَطوه و�ألحقوه بتركيب لغتهم ،كقولهم مثال( :مايرن�شي�ش) �أي ما يوافق و(كون�شيته) �أي عرفته .ففي الأول ياء الم�ضارعة ،وفي الثاني �ضمير المتكلم و�ضمير ال�غ��ائ��ب ،و(ع �ن��دي بيا�شير) �أي � �س��رور»(،)8 وي��ورد ال�شدياق هناك �أي�ضا جمهرة من هذا الكلم الأيطالي الم�سبوك في قوالب المالطية، وفي هذا االقترا�ض وال�سبك و(الملْط) ين�شد ال�شدياق قائال في و�صف هذه الحال:
ت�������� ّب��������اً ل��������ه ل�������غ������� ًة ب�����غ�����ي�����ر ق�����������راءة وك � � �ت� � ��اب� � ��ة ع � � �ي � � ��نٌ ب � �ل ��ا �إن� � ��� � �س � ��ان ت���ت���ب���ل���ب���ل الأف�������ك�������ار ف�����ي ت��رك��ي��ب��ه��ا وي � � �ك � � � ّل ع� �ن� �ه ��ا ح� � � ��دُّ ك� � ��ل � �ِ�س � �ن ��ان �أذن�������اب�������ه�������ا ور�ؤو���������س��������ه��������ا ع���رب���ي���ة ف�سدتْ و�أو�سطها من الطلياني(.)9 وكان �أعيان النا�س في مالطة �أيام ال�شدياق يحبون االمتياز عن العامة -كما هي الحال دوما ،فتجدهم «يحاكون الإفرنج في �أطوارهم وهيئاتهم ،حتى اذا نطقوا بلغة �أنف�سهم (�أي اجلوبة � -شتاء 1435هـ
43
ك����ل ام������رئ راج�������� ٌع ي���وم���ا ل�����ش��ي��م��ت��ه و�إن ت���خ��� ّل���ق �أح � �ي� ��ان� ��ا �إل � � ��ى ح �ي��نِ
44
طبعا تغيّر ه��ذا الو�ضع ال�ي��وم ،ف�أ�صبحت المالطية منذ عقود اللغة الر�سمية للبلد يتحدث بها الكبير وال�صغير ،والخامل وال�شهير ،رغم مزاحمة الإنجليزية لها على نحو وا�سع وبخا�صة في التعليم الجامعي. وي�سجّ ل لنا ال�شدياق في �أيامه في مالطة بع�ضا من المفردات الم�ستعملة في المالطية ل�ي��دلّ على قربها وات�صالها بالعربية ،فمن ذل��ك قولهم« :وح � ْل��ت بمعنى وق�ع��تُ ف��ي �أم��ر �صعب ،و�أ�صله الوقوع في الوحل خا�صة ،وقولهم الطلاّ ب للمتكفّف �أي ال�سائل ،ومغلوب بمعنى نحيف ،وفْتيت ب�إ�سكان الفاء بمعنى قليل ،وهو من فتّ ال�شيء بمعنى ك�سّ ره و�صغّر جرمه»، قلت :نالحظ �إ�سكان الفاء هنا في فْتيت بمعنى بع�ض قليل ،وه��ذا الإ�سكان يحدث �أي�ضا في ِ اللهجات القريبة من المالطية كالتون�سية مثال، ففيها كلمات مثل :كبير ونحيف و�صغير كلها ب�إ�سكان الحرف الأول ،والحال نف�سه يحدث �أي�ضا في بع�ض لهجات بالد ال�شام. كما نقل ال�شدياق بع�ض �أ�سماء الفاكهة و�أ��س�م��اء ال�سلع ف��ي �سوق مالطة ،مثل ُتفّيح و ُرمّين� ،أي تفّاح ور ّم��ان لكنها تنطق بالإمالة نحو الياء� ،أي على طريقة قراءتنا للآية (ب�سم اجلوبة � -شتاء 1435هـ
بدتْ في الثياب ال�سود والوجه زاه ٌر وما�ست بق ٍّد يُخجل الغ�صن الغ�ضا ل��ه��ا م��ن��ط��قٌ ع����ذبٌ ع��ل��ى ق��ب��ح لحنه ()13 وفي ح�سن مَن تهواه عن لحنه �إغ�ضا كما ي�سجل ال�شدياق بع�ض الأفعال ال�شائعة التي �سمعها في المالطية مثل تال �أي طلع ،و�سما �أي �سمع ،وحرج بالحاء �أي خرج ،ويالحظ هنا طبعا بداية تفريط اللهجة المالطية بالأ�صوات الحلقية �أي منذ زمن ال�شدياق �سنة 1834م، ذل��ك التفريط ال��ذي اكتمل الح�ق��ا باعتماد
الأحرف الالتينية ،وهي كتابة –كما �ألمحت- ال يمكنها تمثيل �أ�صوات العربية على نحو وا�ضح كالحاء والخاء والعين والغين والقاف وال�صاد وال�ضاد ،ولك �أن تعد اعتماد الالتينية بمثابة الم�سمار الأخير في نع�ش العالقة بين المالطية و�أمها العربية ،وما الكلمات والأوزان العربية الباقية �إال �شاهد القبر على تلك العالقة التاريخية! ويروي ال�شدياق �شعرا لبع�ض �أهل مالطة في �أيامه ،يقول :ومن �سفهاء المالطيين من يدّعي ال�����م�����ح�����ب�����وب ت��������ا ق�����ل�����ب�����ي �����س����اف����ر النظم بلغتهم هذه الفا�سدة ،فمن ذلك قولهم: ل�������ي�������ل�������ي ون���������������ه���������������اري ن�����ب�����ك�����ي�����ح
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
المالطية) زال عنهم ذلك الرواء ،وانجلى ذلك الإبهام»؛ ما يعني �أن المالطية كانت يومها لغة عاميّة يترفع عنها �أو يتحرّج من ا�ستعمالها �أولئك الأعيان من الطبقة الأر�ستقراطية �أو عِ لية القوم ،و�أنهم متى ما تكلموا بها ف�إنهم ك��ال��ذي ينزل �إل��ى م�ستوى العامة وي�ع��ود �إل��ى الأ�صل ،وهنا يردد ال�شدياق قول ال�شاعر:
اهلل مجراها ومر�ساها) في القر�آن الكريم(،)10 وم��ن الفواكه الأخ ��رى يذكر ال�شدياقَ :بتّيح وح�ي��ار ولنجا�س (�إجّ ��ا���ص) ودل�ي��ع (د اُّلع �أي �شمّام) وحوح (خوخ) ،و�أما حُ ب�س فهو الخبز و ِل�ل�م��ا يعني م ��اء .وال���ش��دي��اق ينقل لنا هذه الطائفة من الكلم المالطي مت�أففا من هذا المنطق الفظيع في نظره ،يقول« :ومما يكره �أي�ضا عدا طنطنة �أجرا�س الكنائ�س المتتابعة �أ�صوات الباعة الذين يطوفون في الأ�سواق لبيع الفاكهة والبقول وال�سمك والحليب والماء ،ف�إن ومط �أ�صواتهم ،وفظاعة لحنهم فغْر �أفواههمّ ، على اختالف معنييه لمِ مّا يُ�ستعاذ منه .كيف ال وهم يقولون للتفاح تفّيح ،وللرمّان رمّين، وللبطيخ بتيح ..ال��خ»()11؛ وهو يعد ذلك لحنا �شنيعا ونُطقا فا�سدا رغ��م �أن��ه لهجتهم التي ول��دوا عليها فح�سب ،غير �أن��ه ،وه��و الأدي��ب المتر�سل المرهف ،ين�ضاف �إلى �سلك الأدباء الذين يت�أففون من اللحن ويمقتونه �إال �إذا �صدر من الغيد الح�سان والجواري ال�شواب كما هو معروف من مذهب الجاحظ( ،)12فيكون هنا م�ستح�سنا بل مرغوبا ،وهنا ين�شد ال�شدياق في مليحة مالطية:
في البيت التالي �أن يدعو له بالبقاء في محبته! ومهما يكن الأم��ر فقد �صدّرها ال�شدياق كما ر�أي�ن��ا بقوله (وم��ن بع�ض �سفهاء المالطيين من يدّعي النظم) ،و�إنما �أوردنا ذينك البيتين لمالحظة المفردات ال�شبيهة بالعربية فقط. لكننا ال ن�ع��دم بيتين �آخ��ري��ن م��ن المالطية يتراءى فيهما المعنى العام كما يتراءى لنا الآن ونحن نقر�أ ال�شعر العامي المعا�صر .يذكر ال�شدياق عن راويته المالطي قوله:
ي���������ن ح�����ن�����ي�����ن�����ا �������س������اي������ر ن���������س����اف����ر ج����ع����ل����ت����ل����و ب�������دم�������وع�������ي ال����ب����ح����ر ���س��اي��ر ن�����س��اف��ر م���ا ن��اح��دك�����ش ميعي وب��ال��ت��ن��ه��ي��دات ت���ا ق��ل��ب��ي ال����ري����ح ويعلّق ال�شدياق على البيتين« :وه��و معنى م�����������������ور وه � � � � �ي� � � � ��ا ب� � ��ال � � �� � � �س� �ل��ام� � ��ة ()14 ح�سن ،ولكنه مك�سور قبيح اللفظ وال�سبك»، اهلل ي�ضمك ف��ي ال��م��ح��ب��ة ت��ي��ع��ي
()15
وي�شرح لنا ال�شدياق �أو بالأحرى يترجم لنا ه��ذا النظم ،فـ (ي��ن) بمعنى �أن��ا ،و(حنينا) بمعنى ي��ا حبيبي ،و(� �س��اي��ر) بمعنى (راي��ح �أ�سافر) في ب�لاد ال�شام والحجاز� ،أو (داي��ر �أ�سافر) كما يقال في ال�سودان ،و(م��ور) فعل �أمر �أي اذهبْ ،و(هيّا) فعل �أمر �أي�ضا بمعنى �أقبل ،وال زلنا على �أي حال ن�ستعمل هذه الكلمة ف��ي قولنا (ه� ّي��ا ب�ن��ا) للح�ض على ال��ذه��اب. و�أم��ا قوله( :اهلل ي�ضمك في المحبة تيعي)، فهو دع��اء وت��و��س��ل ،و(ت�ي�ع��ي) مثل (بتاعي) الم�ستخدمة في لهجة م�صر للملكية والإ�ضافة. وقد يت�ضح لنا البيتان من المفردات القريبة من لهجاتنا العربية ،لكن المعنى العام طبعا تبدو عليه الركاكة بل التناق�ض ،فتارة يتهدد العا�شق محبوبه ب�أنه �سي�سافر ويتركه وحيدا يجتر �آالم الفراق من بعده ،ثم ال يلبث و�شيكا
و�أقول �إنه معنى وا�ضح و�شعر عامي مفهوم على �أي ح��ال ،وقد غاب عن ذهن ال�شدياق رحمه اهلل �أن النظم العامي ال يحفل �أحيانا �-أقول �أحيانا -بقوانين العرو�ض �أو بمراعاة ال�سبك واللفظ ،لأن كالم العامة -في عرف اللغويين القدامى -كالم ملحون يُعدّونه لحنا وف�سادا وانحرافا عن الأ�صل كما �أ�شرت �أعاله.
ويت�ساءل ال�شدياق بعد �أن ا�ستعر�ض جمهرة من الكلم المالطي هل المالطية لهجة م�شرقية �أم لهجة مغربية؟ وال���س��ؤال نف�سه قد طرحه المخت�صون ال��ذي��ن در� �س��وا ه��ذه ال�ل�ه�ج��ة(،)16 ويخل�ص ال�شدياق �إلى ترجيح �أن تكون المالطية تمتّ �إلى اللهجات المغربية �أكثر من الم�شرقية، يقول« :والحا�صل �أنه ال �شك في كون المالطية عربية ،ولكني ل�ستُ �أدري �أ��ص��ل ه��ذا الفرع �أ�شاميّ هو �أم مغربي؟ ف�إن فيها عبارات من كلتا اجلوبة � -شتاء 1435هـ
45
ويورد ال�شدياق في و�صفه للغة مالطة طرائق مما يعده �أ�ساليب م�ضحكة في كالمهم ،وهي في الحقيقة �أنماط لغوية� ،أو بالأحرى �أ�ساليب تخاطبية مما تنتهجه هذه الجماعة اللغوية �أو تلك؛ فمن ذلك يقول� :إذا ما �أرادو توكيد الخبر كرروا اللفظ خم�س مرات ،كقولهم :ما ريتو�ش قط قط قط قط قط ،وما ي�سوى �شي �شي �شي �شي �شي ،وما كان لي فلو�س خالف دا بز بز بز بز بز �أي ب�س ،وخ��اده كله كله كله كله كله �أي �أخذه(.)17
46
وفي نهاية �إبحاره في غمار اللغة المالطية ي�صل ال�شدياق �إلى نتيجة على جانب عظيم من الأهمية� ،أال وهي �إن بقاء العربية في مالطة ول��و في و�ضعها ذاك لدلي ٌل على ق��وة العربية وتمكنّها ،يقول« :ثم �إن بقاء اللغة العربية ولو محرّفة مع عدم تقييدها في الكتب دليل على ما لها من القوة والتمكن فيمن ت�صل �إليه من الأجيال� ،أال ترى �أن مالطة قد تعاقبت عليها دول ودّوا لو يحملون �أهلها على التكلّم بلغاتهم اجلوبة � -شتاء 1435هـ
()20 ?Meta trid ejja ghamel weekend hawn
وترجمته الحرفية :متى تريد �أن تم�ضي نهاية الأ�سبوع هنا؟ والمق�صود متى ت�ستطيع ق�ضاء العطلة هنا؟ وهكذا نالحظ خ�صو�صية اللغة المالطية وغرابة الخطاب بها على �أذن ال�سامع العربي، ما يجعل فهم الخطاب ع�سيرا على ابن العربية،
فهل يا ترى تحافظ هذه المالطية على البقية الباقية من �أ�صولها العربية القديمة� ،أم �أنها تطوي �شيئا ف�شيئا تلك ال�سمات اللغوية ال�ساميّة
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
الجهتين والغالب عليها الثانية ،غير �أن الألفاظ الدينية م��ن الأول� ��ى ،فيقولون مثال القدي�س والقدا�س ،والتقربن والأ�سقف وما �أ�شبه مما ال يفهمه �أهل المغرب»( ،)17وهكذا يرى ال�شدياق �أن �صلة المالطية باللهجات المغربية �أي لهجات ال�شمال الأفريقي �أق��رب من �صلتها بلهجات ال�شام والم�شرق� ،إال �أنه ي�ستثني الألفاظ الدينية الم�سيحية ،فهي في المالطية مثل ما هي في لهجات ال���ش��ام ،وه ��ذا طبيعي لأن اللهجات المغربية لي�س فيها �ألفاظ دينية م�سيحية؛ فلي�س فيهم ن�صارى مت�أ�صلون كما هي الحال في بالد ال�شام.
فلم يتهي�أ لهم ذلك ،وبقوا محافظين على ما عندهم منها خلفا بعد خلف»(.)18 وهكذا ورغ��م م��رور �أكثر من ق��رن ون�صف ال�ق��رن على معاي�شة ال�شدياق وو�صفه للغة م��ال�ط��ة� ..إال �أن�ه��ا م��ا ت��زال تحتفظ بطابعها ال�صرفي العربي ،وبمفرداتها ذات الأ�صول العربية ،وكذلك بعبارات قريبة من نظائرها ال�شائعة ف��ي اللهجات العربية ،لكنها الآن و�إن كانت كلماتها المجرّدة مفهومة للعربيّ ، �إال �أنها في �أ�سلوبها التخاطبي التلقائي غير مفهومة لأبناء العربية ،نظرا لإدغام الأدوات في الكلمات �أثناء الكالم ،وتغير �أبنية الكلمات، و�شيوع الإمالة في كثير من الكلمات ،ف�ضال عن ا�ستعمال مفردات �أوروبية و�صوغها في قوالبها ال�صرفية وغيرها .فمن �أمثلة ذلك هذه الجملة بالمالطيةKieku nirbah il-lotterija nikriha din : )19(id-darوترجمتها :متى ما ربحتُ اليان�صيب ف�سوف �أ�ؤج��ر (�أُك ��ري) ه��ذه ال��دار ،فنالحظ هنا قولهم (اللوتريا) وهو من الإنجليزية �أي اليان�صيب ،وقد �أدخلت عليها �أل التعريف وزيد عليها مد بالألف لتنا�سب القوالب ال�صرفية، و(نكري) مفردة عربية قديمة بمعنى ي�ؤجر، و(ال�� ��دار) ه��ي ال� ��دار .وف ��ي م �ث��ال �آخ ��ر من المالطية نجدهم يقولون:
بل ومتعذرا �إال بعد ُدرْبة ومِ ران ،كمن يتعلم لغة �أخرى تماما ،و�إن كانت الحال �أي�سر بالطبع، لت�شابه كثير من الأ�صول بين العربية والمالطية كما ذكرت.
وتنجذب �أكثر نحو ف�ضاء اللغات الأوروب�ي��ة؟ وبخا�صة تحت ظروف هذه العولمة التي لم تدع ركنا من العالم �إال طوته في خ�ضمّها ،وناهيك عن اختالف المحيط الثقافي للمالطية ،وبُعده عن ثقافة العربية ومحيطها ،ذل��ك المحيط ال�ث�ق��اف��ي ال ��ذي ي�ستم ّد ع�ن��ا��ص��ر ب�ق��ائ��ه من خ�صو�صية اللغة والدين واالجتماع. ( )11الوا�سطة� ،ص .61 ( )12يقول الجاحظ« :واللحن من الجواري الظراف، ومن الكواعب النواهد ،ومن ال�شواب المالح، ومن ذوات الخدور الغرائر �أي�سر ،وربما ا�ستملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية �صاحبة تكلف ،ولكن �إذا كان اللحن على �سجية �سكان البلد ،وكما ي�ستملحون اللثغاء �إذا كانت حديثة ال�سنّ ،ومقدودة مجدولة ،ف�إذا �أ�سنت واكتهلت تغير ذلك اال�ستمالح» .البيان والتبيين .146/1 ( )13الوا�سطة� ،ص .62 ( )14الوا�سطة� ،ص .105
(� )1أحمد طلعت �سليمان ،اللغة المالطية و�أ�صولها العربية ،جامعة الملك �سعود ،الريا�ض1410 ،هـ، المقدمة. ( )2المفردات الأ�سا�سية في �أي لغة ت�شمل كلمات مثل تلك التي تدل على �أع�ضاء الج�سم و�أح��وال الجو و�أيام الأ�سبوع والأعداد والألوان والأفعال ال�شائعة وغيرها). ( )3وهذه الأ�صوات الحلقية والمفخّ مة (ح ،خ ،ع ،غ، ق� ،ص� ،ض) التي ال يظهرها الهجاء الالتيني قد اختفت �أي�ضا تقريبا من نطق المالطيين اللهم �إال ح��االت قليلة مما ي�سجله الباحثون اللغويون عن بع�ض كبار ال�سن ،انظر Albert Borg, Lectal ( )15الوا�سطة� ،ص .107 Variation in Maltese, in: Caruana et al, Variation )16( and Change; the dynamics of Maltese in space,يخل�ص احمد طلعت �سليمان �إلى كون المالطية �أقرب �إلى لهجات ال�شمال الإفريقي ،انظر اللغة time and society, Academia Verlag, Berlin, المالطية و�أ�صولها العربية� ،ص .304 .2011, p 16-17 ( )4انظر مثال� :أحمد طلعت �سليمان ،اللغة المالطية ( )17الوا�سطة� ،ص .101 و�أ�صولها العربية ،جامعة الملك �سعود ،الريا�ض )18( ،الوا�سطة� ،ص .109 1410هـ. ( )19الوا�سطة� ،ص ،111ويرى �ألبرت بورغ �أن انح�سار (� )5أحمد فار�س ال�شدياق ،الوا�سطة في معرفة �أحوال الإ�سالم عن مالطة الذي حدث في القرن الثاني حررها مالطة وك�شف المخب�أ عن فنون �أوروب��ا، ع�شر الميالدي مع تن�صير ال�سكان الم�سلمين قا�سم وه��ب ،دار ال�سويدي والم�ؤ�س�سة العربية وطرد بع�ضهم قد �أفقد المالطيين اللغة العربية ل�ل��درا��س��ات والن�شر2004 ،م��� ،ص ( 11مقدمة الف�صحى ،وجعل اللهجة المحلية ت�سود وت�سيطر المحرر). �شيئا ف�شيئا حتى �أ�صبحت لغة م�ستقلة .انظر .98 �ص مالطة، أحوال � معرفة في ( )6الوا�سطة Albert Borg, Maltese as a National Language, in: Weninger et al, The Semitic Languages, De ( )7وفي هذا ال�صدد يُذكر �أن ال�شعبي م ّر بنفر من الموالي يتذاكرون النحو فقال :لئن �أ�صلحتموه .Gruyter Mouton, 2002, p 1035 �إنكم لأول من �أف�سده! (العقد الفريد .)307/2 (Antoinette Grima, Giving Compliments in )20 Maltese, in: Caruana et al, Variation and ( )8الوا�سطة في معرفة �أحوال مالطة� ،ص .98 Change, Academie Verlag, Berlin, 2011, p 48 ( )9الوا�سطة ،م�صدر �سابق� ،ص .99 (� )10سورة هود.41 : ( )21الم�صدر ال�سابق.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
47
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
�إ�سهام الن�ص الرحلي في ذلك؟
�أدب الرحلة وت�أثيره في الأجنا�س الأدبية الحديثة الح�ضور واالمتداد في ال�سردي والروائي ■ �إبراهيم احلجري -كاتب وباحث من املغرب
توطئة
ت�ؤكد �أغلب الأبحاث والدرا�سات في مجال الأدب �أن الأجنا�س الأدبية لم تولد من فراغ ،ولي�ست م�ستقلة عن بع�ضها ،بحكم �أن الإبداع الب�شري �سل�سلة متوا�صلة من الحلقات ي�ستحيل ف�صلها عن بع�ضها .وهذا ال ينطبق على مجال الإبداع الأدبي وحده ،بل هو خا�صية ترتبط بكل �أعمال الإن�سان؛ فدوما هنا �أر�ضية لتطوير المتو�صل �إليه ،ودوما هناك ركائز و�أعمدة ي�ؤ�س�س عليها المبدعون �إنتاجاتهم المتوا�صلة ،وي�شيدون عليها �أنماطهم الجديدة المتنا�سلة من الأنماط التي كانت �سائدة من قبل .وعليه ،ف�إن الأجنا�س الأدبية الحديثة ما تنا�سلت �إال من رحم �أجنا�س عرفتها الأجيال ال�سابقة ،ولم تعد بقوالبها و�أ�سئلتها ال�شكلية والم�ضمونية قادرة على ا�ستيعاب الهموم والمطامح الب�شرية في ن�سخها المتوالدة عبر الزمن؛ لذلك فالأنماط الأدبية تتبدل وتتغير قوالبها ومو�ضوعاتها تبعا للح�سا�سيات التي تنبثق عن الع�صر ،وعن اهتمامات النا�س في المرحلة الزمنية .وهذا ال يخ�ص �أمة دون �أمة وال �شعباً دون �شعب وال نوعا �أدبيا دون نوع �آخر.
48
ل�ق��د ب� ��د�أت الأج �ن��ا���س قليلة م��ع ال�ي��ون��ان مجموعة من الأ�سئلة والإ�شكاليات المتعلقة بهذا والإغريق ،كما ن�صت على ذلك كتابات �أر�سطو المو�ضوع؛ من قبيل: و�أفالطون ،وقبلهما م�شافهات وخطب �سقراط، •هل الرحلة جن�س �أدب��ي �أم نوع �أدب��ي �أم ثم �سرعان ما بد�أت تتوالد تدريجيا مع الزمن �أدب عام؟ �إل��ى �أن و�صلنا �إل��ى ما و�صلنا �إليه من �أجنا�س •هل يمكن ع ّد الأجنا�س ال�سردية العربية و�أنواع �أدبية في ع�صرنا الحديث .لذلك ،فقبل المعا�صرة ا�ستمرارا لن�صو�ص تراثية �أن نتناول مو�ضوع �أدب ال��رح�لات والأجنا�س قديمة ب�شكل م��ن الأ��ش�ك��ال ،وم��ا درج��ة الأدب��ي��ة ال�م�ع��ا��ص��رة ،ن��رى م��ن ال �ل�ازم ط��رح اجلوبة � -شتاء 1435هـ
•�ألي�ست �أغلب الروايات العربية والعالمية هي مجرد رحالت حقيقية �أو متخيلة؟ •�إذا ما �سلّمنا �أن الرحلة نوع �أدبي يندرج �ضمن جن�س كبير هو ال�سرد ،ف�إلى �أي الأن��واع تقترب الآن :ال�سيرة الذاتية �أم الرواية �أم االعترافات؟ �أم �أنها تظل رحلة فح�سب ،وال يحق ت�صنيفها في �أي نوع ،ما دامت هي الأ�سبق تاريخيا؟ •هل يمكن تناول المكوّنات ال�سردية في الن�ص ال�سردي الرحلي بالطريق نف�سه التي تتناول بها في الن�صو�ص الروائية والق�ص�صية والأ�سطورية والم�سرحية، �أم �أن بناها المختلفة ن�سبيا ت�ستوجب التفكير ف��ي ن�سق � �س��ردي منفتح يليق الرحلة وال�شعر في ديوان «دفتر العابر» ينطلق ع��دن��ان م��ن ت�صور للعالم ال�شعري بطبيعة الن�ص الرحلي �شكال وم�ضمونا؟؟ و�إذا كانت الرحلة نوعا �أدبيا متخلال تح�ضر يت�أ�س�س على رهانين :منح الأولوية للر�ؤية مقابل فيه �أن��م��اط م��ت��ع��ددة مثل ال�شعر ،الحكايات �إرج ��اء التفكير ف��ي الجن�س الأدب ��ي ،وتحيين القديمة ،الأ� �س �ط��ورة ،ال �خ��راف��ات ،الخطبة ،ال��ذاك��رة الإن�سانية م��ن خ�لال لعبة ال��ذه��اب ال�صوفي ،والإي��اب في التاريخ الذاتي والجمعي .وفي كال الأم�ث��ال ،الأح��اج��ي ،الحكم ،الخبر ّ الأن �� �س��اب ،ال � ّت��اري��خ ،ال��جُ �غ��راف�ي��ة ،ال� ّت��راج��م ،المنطلقين ،يجعل ال�شاعر الهوية محورا �أ�سا�سا، الإثنوغرافيا ..ويت�سع للمّ �شتات �أغلب الأن��واع يدور عليه فلك التجربة الإبداعية. والأن���م���اط ال��خ��ط��اب��ي��ة ،ف���إن��ه��ا �أي�����ض��ا ،بحكم خ�صي�صاتها النّوعية والأ�سلوبيّة ،تمتلك مقدرة عالية على انتهاك حرمة الن�صو�ص ،واقتحام الأنماط على اختالف تلويناتها التي حددتها نظرية الأج�ن��ا���س والأن� ��واع الأدب �ي��ة ،و�سنقف هنا ،على طبيعة ح�ضورها في ال�شعر والرواية بو�صفهما نوعين �أدبيين معا�صرين.
وال�ه��وي��ة هنا ه��وي�ت��ان؛ ه��وي��ة ال �ف��رد الآت��ي من الهام�ش؛ الباحث عن ال��ذات و�سط غابة من الخيبات؛ وع��ن وه��ج يت�شيّد من الأح�لام والكلمات ،وهوية �أمة تَراجع بريقها بعد �أن كانت ب�ؤرة ال�ضوء ،وخَ فُتَ �صوتها بعد �أن كانت �سيدة للعالم في ما م�ضى ..فما عاد هذا الوهج ،بين فو�ضى التقاطبات والتحالفات� ،سوى ذكريات اجلوبة � -شتاء 1435هـ
49
وتحكم ه��ذه ال��ر�ؤي��ة ن��زع��ة «الأن��وي��ة» التي تنت�صر للذات الحائرة المغبونة في ر�صيدها الح�ضاري ال��ذي �أ�سهمت في تر�صي�صه �أم��ام �إ�صرار الآخر على الإنكار ،م�ستمدة قوة حجاجها من خ�لال ا�ستح�ضار �آث��ار الح�ضارة العربية الإ�سالمية في الأندل�س و�أوروبا عامة ،مدعومة بما ي�صادفه ال�شاعر هناك من �آث��ار �شاهدة على الإ�سهام العربي الإ�سالمي في ت�شييد �صرح الح�ضارة الإن�سانية ..في وقت كانت فيه القارة العجوز تغط في نوم ثقيل وظالم دام�س.
وب��ذل��ك ،ل��م يكن العبور ف��ي المكان الآخ��ر ع �ب��ورا �سل�سا ،ب��ل ك��ان �صعبا تخلل ال��ذاك��رة والطفولة والأحالم والهوية ،عبورا ترك �أثره في اللغة والذات والعالم من حولهما ،يقول ال�شاعر: «هم�س الجار الجنب� ⁄:إنها قرطبة الآن� ⁄ساعة �أخ��رى من الرك�ض� ⁄أيها الفر�س ال�ه��ارب من ثيران مدريد� ⁄ساعة �أخ��رى ونترجل ⁄خفافا⁄ بباب الق�صر ⁄م�ساء الخير ا�شبيلية ⁄م�ساء الخير �أيها الوادي الكبير� ⁄أهال � »...Sevillaص .112
يتميز عالم «دفتر العابر» بكونه ينه�ض على �سفريات �شعرية ،وجوالت عابرة قام بها ال�شاعر لمجموعة من الآفاق والبلدان في �أزمنة مختلفة وم�ت�ب��اع��دة ،ت�ف��رق بينها الم�سافة واللحظة والغاية ،لكنها تتفق في معظمها حول الر�ؤية للعالم التي ت�صدر عن ال�شاعر ،وتلتف حول كتلة لغوية واحدة ين�سجها المتخيل ال�شعري.
50
يتنقل عدنان من الجنوب المغربي المهم�ش ال��ذي تكت�سحه الخيبات ،وتطوقه ال�صحراء �إل��ى عالم �أوروب��ا المده�ش بح�ضارته وعلومه وانفتاحه وتحرره ون�سائه الجميالت ،فيجوب، مثل �أي �شاعر ج��وال ،حانات مدريد ،و�شوارع باري�س ،ومقاهي فرانكفورت ،ومعار�ض لندن، وغيرها من الف�ضاءات التي ما كان لها �إال �أن تحرك ده�شة �شاعر قادم من عط�ش الأيام في منطقة ا�سمها «زاكورة» ،م�شبعا برغبات و�أحالم ال ح ��دود ل�ه��ا ،زاده اللغة وال��ذك��ري��ات ،وت��وق جوعاني للمعرفة واال�ستطالع. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
يزخر الديوان ال�شعري الذي ينوع بين ال�سرد وال�شعر تبعا للحمولة ال�شعورية وتدفقها؛ انفعاال بالم�شاهد ال�ت��ي يتلقاها ال�شاعر ف��ي رحلته العابرة للقارات؛ بالكثير من الم�ؤ�شرات التي تبدي �أ�سفه على تفريط ال�ع��رب والم�سلمين ف��ي ال�ف��ردو���س المفقود ،وتخليهم ع��ن م�شعل الح�ضارة ،وبخا�صة �أن��ه ي�صادف في �شوارع �أوروبا وكثير من ف�ضاءاتها �آثار الفترة الزاهرة للح�ضارة العربية الإ�سالمية ،فيكون ذلك مدعاة ال�ستعادة التاريخ المجيد ،بقاماته ال�شعرية التي ت�ؤثث ذاكرة ال�شاعر؛ فيتنا�ص مع مقولها ال�شعري الطافح بالداللة والمعنى ،وي�سترجع
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
مرة نتجرعها على م�ض�ض .وهذه هي الفل�سفة الإبداعية التي انبثق عنها «دفتر العابر».
وفي كل تلك الجوالت الماتعة والم�ؤلمة في �آن ،ما كان ال�شاعر يتحرك بج�سده فح�سب ،بل كانت تتحرك معه �أحالم �أمة وذكرياتها .كان ينتقل من مكان �إلى �آخ��ر ،في�سير معه التاريخ وال�ج�غ��راف�ي��ا ،وت�سير معه مكتبته المرجعية التي تكون الخلفية الثقافية التي ي�صدر عنها انتقاداته ور�ؤي �ت��ه للعالم البراني عنه ،وك��ذا تنا�صاته ومادته النووية الم�صوغ منها المتن ال�شعري.
ال �� �س �ي��ا� �س �ي �ي��ن وال� ��� �ش� �ع ��راء والفال�سفة ولحظاتهم الم�شعة والقاتمة ،مبين ًا �أث��ر التراجع العربي الإ�سالمي على نف�سيته بو�صفه زائ ��ر ًا ل�ب�لاد ال�غ��رب، ويقارن بين و�ضعه وو�ضع كثير م��ن ال��رح��ال��ة الأدب� ��اء العرب الذين جابوا العالم في عهد الإمبراطورية الإ�سالمية مثل ابن بطوطة ،وابن جبير ،وابن ف�ضالن ،واب��ن خ �ل��دون ...يقول عدنان« :في مطارات العبور ⁄نعلق �شخيرنا ⁄على �أول بوابة ⁄لكيال ي�صد�أ بين جفوننا ⁄النعا�س ( )...اخرج من غيبك� ⁄أيها الفار�س الجوال⁄ وترجل �إلى حين ( )...فهدنتك ال�صغيرة هنا⁄ في �صالة الترانزيت� ⁄أ�شبه ⁄ب�أغنية حزينة� ⁄أ�شبه بعزف على ن��اي �أعمى ⁄و�سط قبيلة طر�شان ( )...كنت غريب ًا كحكاية غريبة ،وحيد ًا كبطل خ��ارج م��ن الحبكة ⁄متعباً ⁄كما يليق برحالة الرحلي والروائي في «خريطة الحالم» قرو�سطي ⁄وكنت �أق��ر�أ ابن خلدون� »...ص �ص ي�ضعنا عنوان رواية «خريطة الحالم» للكاتب .61 -58 -57 -56 العُماني «محمود الرحبي» �أمام م�ساءلة كبرى ك��ان��ت رح�ل��ة ع��دن��ان ال�شعرية ،على غ��رار لهوية الملفوظ و�إمكانية ت�أمل مراميه وغاياته كل رحالة العالم ،مليئة بالت�أمل في تحوّالت الملتب�سة الداللة؛ فحتما هو عنوان �شاعري، الزمان والمكان ،وك�أنه �آخر �شاعر �أندل�سي يمر لكنه يملك �إمكانية كبرى على التزحلق خلف ظالل المعاني الم�شتبكة بالذات والكون الذي من هناك� ،آ�سفا على الذي جرى؛ يمر �سريعا تنتمي �إليه هذه الذات� .إنه يرتبط بنظرة الذات بالمكان الذي يجعله مثقال بالم�شاعر والعواطف �إل��ى العالم م��ن خ�لال ملفوظ الخريطة التي المفارقة؛ بقدر ما يهزه الفرح بالمكان ،يتملكه تقترح بديال لما هو كائن ،والخريطة هي فل�سفة حزن دفين ،بل �ألم كثوم؛ وهو يرى �آثار �أجداده �سيا�سية �أكبر منها �أنطولوجية ،لذلك فهذه �شاهدة على ال�ضعف ،وفا�ضحة ترهل الزمن المقولة هي �أقرب �إلى و�ضع ت�صور مغاير يحمل العربي .لذلك ك��ان ي َُ�ص ّعدُ ،حينا ،من �إيقاع ر�ؤي��ة نقدية مواربة .وله عالقة �أي�ضا بالذات
ال���ص��ورة ال�شعرية لي�صل بها درج� ��ة رف �ي �ع��ة م ��ن االم� �ت�ل�اء، ويهبط بها ،حينا �آخ��ر ،لت�صل م�ستوى التقرير؛ وهذا ين�سجم مع طبيعة تحول لحظة ال�شاعر م ��ن ال �م �ن �ف �ع��ل ب��ال �ح��دث �إل ��ى وا�صفه ،ومن الم�شاهد المحايد �إل ��ى ال�م�ت��أم��ل ال �م �ت ��أث��ر .يقول منفعال« :ك��م ك��ان��ت الأن��دل����س بعيدة؟� ⁄أم��ا �أن��ا فقد ق�صدت ال �ف �ن��دق عاريا ⁄ب�ل�ا �أجنحة⁄ فارغا من الحكايا ⁄وكانت ⁄ال�صور القديمة قد خثرت ⁄بين عيني ⁄ثم ⁄رحلنا �إل��ى جنة النار⁄ كنا نفلح دالية المو�شح ⁄فنتعثر بالدنان ⁄نتفقد طوق الحمامة فيغلبنا ⁄الهديل ⁄نبكي غرناطة فن�شتهي ⁄الرمان ⁄نرثي رندة ⁄ونترحم على �أبي البقاء ⁄ك�أنا لم نغادر قط ⁄ك�أننا ⁄ما زلنا هناك» �ص .38-37
51
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
تمثل «خريطة العالم» �أكثر من رواي��ة .هي اكت�شاف ه��ام للمختلف عنا ،و�إن�صات عميق للذات وهي تجابه الآخر وت�صاديه ،فلكي نفهم النيوزيلندي �أك�ث��ر ،يتوجب علينا �أن نتعرف على البنيات المعرفية التي يعي�ش في �إطارها النيوزيلنديون ،وطبيعة الم�ؤ�س�سات التي تقوم عليها الدولة ،فقوة ه�ؤالء مح�صلة من التجربة التاريخية المتميزة والجهد المتوا�صل لإعادة ت�أهيل الأ�س�س المتينة للدولة ،ب�شكل ي�ضع ن�صب الأعين طبيعة الع�صر ،والأزم��ة التي يواجهها، وهذا هو �سر نجاحهم وتميزهم عن الآخرين.
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
52
من خالل كلمة «حلم» ،فالحلم �أقرب المكونات و�ضبطه للمواعيد :الحافلة ت�صل في موعدها، �إل��ى التقاط �صور ال��ذات الهاربة والم�ستترة حياتهم خالية من ت�شنجات القلق ،الو�ضوح هو والمتداخلة .وهذه الرواية ..و�إن كانت �أقرب �إلى �أ�سا�س كل العالقات ،ا�ستيعاب الآخر بنقائ�صه. ال�سيرة الذاتية �أو المذكرات اليومية ،فهي �أي�ضا وهنا تلعب ال��ذاك��رة دور ًا حا�سما في حياة رواي��ة �سجالية تجابه �أ�سئلة ال��ذات ومكوناتها العامل الذات في الرواية� ،إذ ي�ستح�ضر متراكمه الفل�سفية بمنطق ال �ح��وار وال�ع�ق��ل وال�ح�ي��اد، وتالم�س فكرة العن�صرية والتطرف والأحكام ال�سابق عند كل منعطف ،لي�أخذ دور المر�آة الم�سبقة التي توقع الذات في الغالب في �أخطاء العاك�سة ل�صورة ما�ضية -حا�ضرة لفرد يتماهى ج�سيمة قد ت�ؤذي ب�صورة الثقافة والإن�سان ،وهي في جماعته الدينية -ذات الأ�صول الإ�سالمية هفوات في التفكير ي�ؤدي �إليها التع�صب الجاهلي الرا�سخة ،وما بين ح�ضارة هذا المجتمع الذي للفكرة والأنا ،لي�ضع ال�صورة العامة في ت�شوي�ش يتخذ من القانون ال��ذي ترعاه الدولة ،والذي خطير واهتزاز مرعب قد يكلف الح�ضارة قرونا يت�سم بالديمقراطية �أ�سا�س ًا لرقابة النف�س من الزمن لتداركهما. ومحفز ًا قويا لدى النا�س العاملين« :لذلك ،ف�إن يتمظهر العامل ال��ذات ،بطل ال��رواي��ة ،في الفرد يكون المحامي المبا�شر لنف�سه ولدولته، � �ص��ورة ��ش��اب ف��ي مقتبل ال�ع�م��ر يعمل م ��ؤذن � ًا فتكون بذلك الراحة ثمن ًا في حد ذاتها ،ولي�ست و�أ�ستاذ ًا لعلوم الدين بح�سب اخت�صا�صه في نتيجة لإر�ضاء �أحدٍ �أو م�س�ؤول». ال�شريعة الإ�سالمية ،وك��ان را�ضي ًا وم�ستكين ًا وت�شكل ال��ذاك��رة زاد ال�ه��وي��ة ال�شخ�صية �إل��ى ه��ذه الحياة الهادئة ال�ساكنة والروتينية للعامل الذات ،بحيث ،بات مهوو�سا بمقارنة ما في �آن معاً� ،إلى �أن ي�أتي يوم يتلقى فيه ر�سالة يعي�شه في بلده ،وما ي��راه مُ�سطرا �أمامه على من الموارد الب�شرية لدولته تطلب منه �أن يعد �أر���ض ال��واق��ع ،فعلم �أن كثيرا مما ي�صله عن نف�سه لل�سفر �إلى نيوزلندا ،فيخبره الم�س�ؤول في هذه المجتمعات هو مجرد �إ�شاعات مغر�ضة، ال��وزارة �أن لديهم برنامج ًا لت�أهيل بع�ض �أئمة فوجد �أن هذا المجتمع منظم ب�شكل جيد ،ومهي�أ الجوامع لدرا�سة اللغة ثالثة �أ�شهر وهم�س في بما فيه الكفاية المت�صا�ص نقط الت�شنج وب�ؤر �أذنه «�سافر تغنم». الت�صدع المحتملة. تبد�أ رحلة العامل الذات �إلى الف�ضاء الجديد، �إن النيوزيلندي ،كما �صورته ال��رواي��ة ،ال عندما ي�سافر ويتعرف �إلى هذا العالم المختلف يعي�ش على م��ا ال تر�سمه ال��ذاك��رة ،ب��ل يعي�ش من خالل تفاعله مع المحيطين به من المر�أة حا�ضره ،وهذه العملية ال تغطي الجزء الثقافي العجوز التي �سكن في دارها ،ثم المعهد الذي م��ن الما�ضي ،ب��ل �أي���ض� ًا الجانب االجتماعي يتعلم فيه اللغة ،وك��ذا الأ��ص��دق��اء المتحلقين وال�سيا�سي منه ،وهنا ي�صحح بطل ال��رواي��ة حول طاولة الع�شاء في الم�ساء ..فكان �أول �شيء �أفكار ًا خاطئة كان قد تلقاها في حياته ال�سابقة �أدركه هو دقة التخطيط لدى الآخر النيوزيلندي عن عقيدة النيوزلندي ،وتنجلي هذه الحقيقة
بو�ضوح عندما تخبره المر�أة العجوز التي يقيم في بيتها «ب�أنها تحترم ديننا وتعرف منذ زمن بعيد عبارة «ال�سالم عليكم» وكلمة «ال�ق��ر�آن» ( )...و�أخبرتني ب�أنها تق�ضي ن�صف نهار كل �أ�سبوع للتعبد في الكني�سة ،وهذه المدة تراها كافية للخلو والتقرب �إلى اهلل.»...
•وظيفة الفعل� ،إذ ي�شارك الراوي في بناء الأحداث بتفاعله مع الوقائع ،وتعالقه مع باقي ال�شخو�ص الروائية التي �أ�سهمت ف��ي تحريك العالم ال���س��ردي «العجوز، الأ��ص��دق��اء ،ال�خ��ال ،الم�ضيفات ،رجال �أم ��ن ال �ط��ائ��رة ،الأ� �ص��دق��اء ،ال�صديقة ال �ت��ي ت �ع��رف عليها و�أح �ب �ه��ا ه �ن��اك في نيوزيلندة.»...
ومن منظور �آخر� ،أعتبر �أن الن�ص عبارة عن رحلة ذاتية من البلد الأ�صلي للكاتب �إلى بلدة نيوزلندة التي لم يكن يعرف عنها �شيئا ،بل هم الآخرون ال يعرفون �شيئا عن بلده كما ي�صرح في �إحدى المقاطع ب�أنهم ال يعرفون �إال دبي وم�صر بحكم منظر الأهرامات .وعليه فالن�ص له ميزة �أدبية وقيمة �إثنوغرافية ال ي�ستهان بهما في هذا الزمن� ،إذ بالرغم من �سيطرة و�سائل الإعالم، فما زال الكثيرون ال يعرفون بلدانا برمتها وال على م�ستوى الخطاب ال�سردي ،تدخل الرواية حتى مواقعها على الخريطة. �ضمن م��ا يدعى بالمحكي ال��ذات��ي� ،إذ ي��روي حمل الن�ص -بو�صفه عمال �سخّ ر ج��زءا ال�سارد حكايته ب�ضمير المتكلم ،على �شاكلة كبيرا من محكيه للمقارنة بين البلدان وو�صف المذكرات �أو ال�سيرة الذاتية ،وفعال ،ت�صنف ع ��ادات ال�شعب الم�ضيف وت�ق��ال�ي��ده وثقافته ه��ذه المرويات ،ل��وال المقولة التجني�سية التي وجغرافيته -الكثير من المواد التي ت�سمح ب�أخذ ذ ّي��ل بها الكاتب م�ؤلفه� ،ضمن جن�س ال�سيرة ،فكرة ولو مب�سطة عن ثقافة ال�شعب النيوزيلندي، لكون ال��راوي يحكي يومياته في �شكل م�سرود ودياناته ،و�أخالقه ،وم�ستواه الح�ضاري ،وهذا �شخ�صي ب�شكل تعاقبي ،يحترم ال�صعود في ال��دور الذي لعبه الرحالون الم�سلمون والعرب الزمن والحركة في المكان .ال��راوي هنا يقوم ف��ي ال �ق��رون ال��و��س�ط��ى ،حيث ك��ان��وا م��ن جهة بوظيفتين: يعرفون بالإ�سالم والح�ضارة الإ�سالمية؛ ومن •وظ�ي�ف��ة ال�ح�ك��ي� ،إذ ي ��روي م�شاهداته جهة �أخ��رى ،ك��ان ينقل �إل��ى الم�سلمين �صورة وم ��ا � �ص��ادف��ه م��ن �أح � ��داث ف��ي ال�م�ق��ام عن ثقافة ال�شعوب التي رحل �إليها �أو �أقام فيها النيوزيلندي ب�ضمير المتكلم. م��ددا متفاوتة م��ن ال��زم��ن ،وك��ان اب��ن بطوطة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
53
لقد و�صف المجتمع النيوزيلندي من حيث ثقافته المت�شبعة ب��روح الع�صر والم�سايرة ل �ل��رك��ب ،ك �م��ا و� �ص��ف ال �ق��وم ب�ك��ون�ه��م �أن��ا� �س��ا يحترمون �أنف�سهم بقدر ما يحترمون الآخرين، وي ��أخ��ذون الأم��ور كلها بعين العقل ،وي�ضعون الأفكار وال�ق��رارات في م�صفاة المنطق الذي يحكمه الع�صر ،م��ن دون تع�صب �أو تطرف للذات والهوية والق�ضية. وم��ن ناحية �أنثروبولوجية ،وظ��ف الروائي منظور الأ�سرة الأبي�سية في التن�شئة االجتماعية والثقافية للفرد ،فالخال ،وه��و المهيمن على ابن الأخت حد التماهي ..من حيث ما تتداوله النظم والأع��راف ،لكن هنا الكاتب يك�سر هذا العرف بنظرته النقدية التي تحول المنظور الخالوي (ن�سبة �إلى الخال) �إلى منظور �ضيق ال يتوافر على �أدنى �شروط الحياد والمو�ضوعية والعلمية. لقد لعب محمود الرحبي في ه��ذه الرواية الق�صيرة على واجهتين :واجهة الرواية ك�شكل مهيمن الآن على ال�ساحة ،بالنظر �إلى م�ستوى التداول مقارنة مع باقي الأجنا�س الأدبية ،وفي 54
■ الزبري مهداد -من املغرب
خاتمة �إذا كان �أدب الرحالت قد حقق في القرون الو�سطى تراكما مهماً ،جعله ي�صبح ظاهرة �أدب �ي��ة وجن�سية ،ف��إن��ه م��ع م��رور ال��زم��ن ،ومع تطور نظرية الأجنا�س ،والتحوّالت التي عرفتها الأن��واع الأدب�ي��ة ،ا�ستطاع نوع الرحلة ،بو�صفه نوعا �سرديا� ،أن يجد له �آفاقا متعددة ،ويتنف�س �أهوية جديدة؛ �إذ� ،أ�صبح نوعا متخ ّلْال يجد له م�سربا في كل الأن��واع الأخ��رى� ..سواء منها ما يندرج �ضمن جن�س ال�شعر �أم ما يندرج منها �ضمن جن�س ال�سرد(.)1 لذلك� ،أ�صبحنا نجد �أثر الرحلة في الأ�شعار وال ��رواي ��ات والق�ص�ص الق�صيرة والم�سرح واليوميات وال�سيرة الذاتية وغيرها� ..إنها ت�صنع ح�ضورها المتميز عبر الأزمنة ،وتنحت حياتها في كل الخطابات ،ما يدل على �أن الإن�سان �سيظل رحالة في فكره و�سلوكه وكتاباته ،مهما تطورت ح�ضارته .فال�شاعر يخلد رحالته في ق�صائده؛ والقا�ص ي�سرد رحلة تحول حياة �شخو�صه من حالة �إلى �أخرى ،وكذلك يفعل الروائي ،والكاتب الم�سرحي .وك�أن خطاب الرحلة ركيزة الأنواع الأدبية كلها.
( )1تعد نظرية الأجنا�س �أن الأجنا�س الأدبية تتلخ�ص في �صنفين؛ ال�شعر وال�سرد؛ وما دونهما فهي �أنواع تندرج �ضمنهما.. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
الرحلة في طلب العلم: �شاقة و�شيقة
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
الرحالة المغربي ال�شهير �أول من طرق �أبواب هذه البلدان البعيدة ،وعا�شر �أقوامها ،وعرف فيها بالإ�سالم .ولعمري �إن هذا الن�ص ي�سعى �إل��ى القيام بالجهد نف�سه ،م��ن خ�لال هدمه لل�صورة النمطية التي نكوّنها خط�أ عن الإ�سالم، وكذا من خالل و�ضع الهوية الذاتية في ميزان المقارنة.
الوقت نف�سه يراهن على �أفق الرحلة الذي عاد الآن بقوة �إل��ى الواجهة بحكم ما يت�ضمنه من �أبعاد جمالية وداللية تحتاجها الأ�سئلة الب�شرية الآنية .الأمر الذي منح هذا الن�ص الروائي نكهة قرائية مميزة ،تراهن على المعنى ،من دون �أن تن�سى ن�صيبها من الجمال.
كانت الرحلة منذ عهد الر�سول� ،صلى اهلل عليه و�سلم� ،أداة م�شوّقة ومغامرة مثيرة لأجل ك�سب المعرفة .وبعد وف��اة الر�سول� ،صلى اهلل عليه و�سلم ،توا�صلت ال��رح�لات ،ف�شهدت بالد الحجاز طوفا هائال من جميع الأم�صار الإ�سالمية للحج� ،أو ل�سماع �أحاديث الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم ،وجمعها من �أفواه ال�صحابة. ظ��ل ال�ح�ج��از مق�صدا ل�ل��رح�لات ،وكانت عاطفة الم�ؤمنين الدينية تدفع بهم للرحلة �إلى البيت الحرام ،و�أداء الفري�ضة ،وهذه المنا�سبة لم تكن دينية فح�سب ،بل كانت فر�صة للتالقي والتبادل الثقافي بين �أجيال الأم��ة وطوائفها ونخبها العلمية. رحالت طلب العلم �أم��ا ال��رح�لات الخا�صة بطلب العلم ،فهي ال��رح�لات ال�ت��ي ي�ك��ون داف�ع�ه��ا ل�ق��اء الم�شايخ والأخذ عنهم ،والرجوع بالإجازات التي تخوّل طالب العلم ن�شر العلم ال��ذي تلقّاه ورواي�ت��ه. ف�ت��وجّ ��ه �أ��ص�ح��اب ال�ب�لاد المفتوحة ف��ي �آ�سيا و�إفريقيا و�أوروب��ا �إل��ى عا�صمة الخِ الفة ،و�إلى مكة وال�م��دي�ن��ة ،ب�صفتهما م��رك��زيّ ال��دع��وة، وم�ستقريّ ال�صحابة ،وموطنيّ فطاحل اللغة وحفظة ال�شعر ،والقراء ،والفقهاء ،وغيرهم.
وكان الر�أي ال�سائد �أن مَ ن رحل للدرا�سة خير ممن لم يرحل؛ لذلك اهتم الم�سلمون بالرحالت العلمية ،وعدوها من �أنفع الطرق في طلب العلم واكت�ساب ال�م�ع��ارف ،وو�سيلة مهمة للتحقيق العلمي ولالت�صال بالعلماء .وج�ع��ل العلماء «الرحلة» مناط الثقة بالعالم ،لذلك تناف�ست النخب الثقافية من �أهل المغرب والأندل�س على الرحلة في طلب العلم ،ت�ؤهلهم لنيل المكانة المهمة والتقدير في بالدهم �أثناء عودتهم؛ �إذ كانوا يدركون ب�أن الرحلة ،محنة وامتحان، تعود عليهم بالفائدة �سواء في الر�صيد المعرفي �أو بالحظوة لدى الملوك الخلفاء ،الذين كان الكثير منهم ي�ق��در ال�ع�ل�م��اء ،وي�ح�ت��اج �إليهم لدعم القدرات التدبيرية لم�ؤ�س�ساته الق�ضائية والإداري��ة والمالية وغيرها ،فيعين حملة العلم في هذه الوظائف المهمة. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
55
56
الرحالت من المغرب �إلى الم�شرق ا�شتهر علماء الغرب الإ�سالمي (المغرب والأن��دل����س) بولعهم الكبير بالرحلة ،وخا�ض الكثير منهم غمارها ،كانوا ي�شدون الرحال لأداء فري�ضة الحج ،والتملّي بزيارة الأماكن المقد�سة ،وكثيرا م��ا ك��ان��ت الرحلة الحجية تقترن بطلب العلم ،ولقاء العلماء والأخذ عنهم، وزيارة البقاع المقد�سة. ويعد �أبو الح�سن القاب�سي (ت403ه �ـ) ،من �أب��رز الذين رحلوا �إل��ى الم�شرق ،فحجّ و�سمع من طائفة من المحدثين والفقهاء ،وحين عاد اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
مراكز العلوم ك��ان الحجاج يتوافدون �إل��ى مكة والمدينة ال�م�ن��ورة لأداء منا�سك الحج واالج�ت�م��اع �إل��ى ال�صحابة والتابعين والعلماء ،وكانت المدينتان مركزيّ الإ�شعاع ومهوى �أفئدة الم�ؤمنين ،ثم تفرّق كثير من ال�صحابة عبر الأم�صار �ضمن الفاتحين� ،أو المبتعثين لن�شر العلم بين النا�س، فذهب عبداهلل بن م�سعود قا�ضي ًا �إلى الكوفة، وانتقل �أن�س بن مالك �إلى الب�صرة ليفقه النا�س، وفي دم�شق كان �أب��و ال��درداء ،وتوجه معاذ بن جبل �إلى فل�سطين ،وعبداهلل بن عمرو بن العا�ص �صحب �أب��اه �إل��ى م�صر ،فجعلوا من مقاماتهم مراكز �إ�شعاع علمي ،ف�سعى �إليهم النا�س ليتلقوا عنهم الرواية والعلم. وكانت الرحالت طلبا للعلم ،ت�سير غالبا من المغرب �إلى الم�شرق ،و�أحيانا من الم�شرق �إلى المغرب .كما كانت �إلى جانب هذه الرحالت بين الم�شرق والمغرب رح�لات داخلية بين �أقطار الغرب الإ�سالمي كله (بين المغرب والأندل�س وتون�س)� ،أو داخل القطر الواحد منها.
�إلى بلده القيروان� ،أ�صبح مجل�سه مركزا علميا ي�ستقطب طالبي العلم ،فرحل �إليه كثير من طلبة العلم من الأندل�س والمغرب. وال�ب��اج��ي (ت474ه�� �ـ) زار ال���ش��رق وتفقّه بعلماء كبار في دم�شق وبغداد والحرمين ،وعاد �إلى الأندل�س بعلم غزير ،فكان له دور بارز في النهو�ض بالحركة العلمية في الأندل�س ،وتفقّه عليه خلق كثير من العلماء. و�أبو بكر بن العربي المعافري (ت 543هـ) رحل بدوره �إلى الم�شرق مراهقا ب�صحبة والده ع��ام 485ه� �ـ ،ف��زار ع��ددا مهما م��ن المراكز العلمية ال�شرقية ،ولقي علماء �أمثال الغزالي وال�ت�ب��ري��زي وال���ش��ا��ش��ي ،واح �ت��ل مكانة علمية مرموقة في الأندل�س بعد عودته �إليها. كما رحل ابن جبير (ت614هـ) ثالث مرات، ف��زار م�صر والحجاز وال�شام ،ولقي ع��ددا من العلماء ،وعاين مظاهر الحياة العلمية والثقافية في الم�شرق ،ودون ذل��ك في مذكرات رحلته، التي ا�ستفاد منها ع��دد كبير م��ن المفكرين والباحثين �أمثال العبدري والبلوي والمقريزي والمقري وغيرهم. واب��ن رُ�شَ يْد الفهري (ت721ه �ـ) ال��ذي كان خ�لال رحلة حجه حري�صا على مالقاة علماء الم�شرق في كل بلد زاره ،كم�صر وال�شام والحجاز وتون�س ،لأجل تعميق تكوينه العلمي ،ورجع �إلى بالده ب�أ�سانيد عليا وثروة علمية �أهّ لته الحتالل منا�صب مهمة في الدولة المرينية بفا�س. والتجيبي (ت 730ه� �ـ) دوّن ف��ي برنامجه �أخبار رحلته ،ومَ ن لقيه من العلماء الذين ترجم لهم ب�إ�سهاب ،ول��م يخل م�صنفه م��ن حديث عن الحياة العلمية وم�ؤ�س�ساتها في الدول التي
زارها . واب��ن خ�ل��دون (ت 808ه� �ـ) �أي���ض��ا �صاحب رح�لات �شهيرة� ،سعى فيها لطلب العلم ،وما يمنحها �أه�م�ي��ة ه��و �أن �ه��ا تت�ضمن ك�ث�ي��را من المفاتيح المُعينة على فهم تاريخه ومقدمته ال�شهيرة ،وربطها بالظروف الزمانية لع�صره، والأ�صول الثقافية التي متّح منها �آراءه. الرحالت من الم�شرق �إلى المغرب كما �أن علماء م�شارقة كثيرين ،كانت لهم رح�ل��ة معاك�سة نحو ب�لاد ال�غ��رب الإ��س�لام��ي، كانت غايتهم قا�صرة على طلب رواية �أو �سند، �أو ن�شر علم ،ونذكر منهم :حن�ش بن عبداهلل ابن عمرو بن حنظلة ال�صنعاني ،تابعي ،دخل الأن��دل����س ف��ي جملة مَ ��ن دخلها خ�لال الفتح، بنى جامع �سرق�سطة وت��وف��ي �سنة 100ه� �ـ(.)1 وعبدالرحمن ب��ن ع�ب��داهلل ب��ن ب�شر الغافقي: تابعي ،دخل الأندل�س في جملة الفاتحين ،توفي �سنة 114ه �ـ( .)2و�أبو عبدالرحمن عبداهلل ابن تابعي دخل الأندل�س(.)3 يزيد المعافري الحُ ُبلِيّ ٌّ ،
وتعاقب بعدهم على الرحلة �إلى الأندل�س علماء �آخ��رون ،منهم معاوية بن �صالح الح�ضرمي، ال�شامي الحم�صي (ت 158هـ) ،كان من �أوعية العلم ،رحل �إلى الأندل�س و�شدت �إليه الرحال في مقامه الجديد� ،سافر زيد بن الحباب (ت 203هـ) من الكوفة �إلى قرطبة للقائه والرواية عنه( .)4وح�سين بن محمد القر�شي المرواني، من �أهل حرانَ ،وفَدَ على الأندل�س نحو 350هـ، ولي ق�ضاء بجانة()5؛ و�أبو الح�سن علي بن محمد بن �إ�سماعيل الأنطاكي (ت 377ه�ـ) ،قدم �إلى الأندل�س �سنة 352هـ ،و�أدخل علما جما ،ف�أكرمه الخليفة الم�ستن�صر باهلل()6؛ والمحدث �أبو الفتح ن�صر بن الح�سن التنكتي ال�شا�شي (ت )486 حلَّ بالأندل�س وروى فيها ال�صحيح( ،)7و�آخرون غيرهم جعلوا من الأندل�س مركزا علميا مهماً. وامتد توافد علماء الم�شرق على بالد الغرب الإ�سالمي �إل��ى عهود مت�أخرة ،فقد ورد على المغرب المحدث محمد �صالح ب��ن خير اهلل الح�سني الر�ضوي البخاري ال�سمرقندي الذي ق��دم �إل��ى فا�س خ�لال الأربعينيات من القرن اجلوبة � -شتاء 1435هـ
57
58
عوامل ازدهار الرحالت وكان للخلفاء الم�سلمين دَو ٌر كبير في ت�شجيع طالب العِلم على ال�سفر �إلى مراكز الح�ضارة والثقافة ،فرحبوا بهم ،وو�صلوهم بهباتهم، و�أن�ش�أوا لهم دورا لإيوائهم ،ومدار�س ومكتبات، فن�شطت ال��رح�لات �إل��ى ه��ذه ال�م��دن العلمية التي �أ�صبحت محط رح��ال ط�لاب العلم .فما جعل الأندل�س ،على حداثة عهدها بالإ�سالم وبالثقافة العربية� ،أر�ضا تعج بالعلماء من كل حدب و�صوب� ،إال �إك��رام الم�ستن�صر لهم� ،إذ �أ�صبح بالطه قبلة لعلماء الم�شرق والمغرب على ال�سواء. ك�م��ا ��س��اع��د ع�ل��ى �إق��ب��ال المتعلمين على الرحلة العلمية وك�سب جوار الجوامع ال�شهيرة والمدار�س وج��ود الأوق ��اف التي كانت ت�ضمن جرايات مهمة للطلبة ،ت�شجعهم على الإقبال على الدرا�سة وت�ستقدمهم من بالد بعيدة ،وهذه كانت غاية نور الدين الأيوبي حين عين للمغاربة خا�صة �أوقافا مهمة ،بغية ا�ستقدامهم �إلى م�صر لطلب العلم وتن�شيط الحركة الثقافية والعلمية والتبادل المعرفي والتالقح الثقافي ،وه��و ما �أثبته اب��ن جبير ف��ي كتاب رحلته ،معربا عن �إعجابه بهذه المبادرة الثقافية المهمة ،ووجه دعوته �إلى المغاربة ي�ستحثهم للرحلة �إلى هذه البالد وطلب العلم بها. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
الرحلة قطعة من العذاب �سلك المغاربة والأندل�سيون طرقا متعددة في رحالتهم �إلى الم�شرق ،فهناك من �سلك طريق البحر بالركوب �إل��ى م�صر ،فبالد ال�شام عبر �سيناء �أو بالد الحجاز عبر بحر القلزم؛ وكان هذا الطريق الأخير ي�سلكه غالبا الأغنياء� ..إال �أن��ه ك��ان محفوفا بالمخاطر� ،إذ غ��رق العديد من ال�سفن و�سقط العديد من الكتب في �أعماق ال�ب�ح��ار ،مثل ال�سفينة ال�ت��ي ك��ان على متنها �أفلح مولى النا�صر الذي غرقت جميع كتبه في البحر( ،)10وال�سفينة التي ركبها عبدالرحمن ابن مو�سى الهواري خالل عودته �إلى الأندل�س عطبت فغرقت كتبه( .)11وعبدالعزيز بن علي ال�شهرزوري ،قدم الأندل�س �سنة 426هـ ،ودخل (دان��ي��ة) ورك ��ب ال�ب�ح��ر من�صرفا منها �إل��ى الم�شرق ،فقتله الروم في البحر �سنة 427هـ وقد قارب المائة(.)12 وهناك العديد من العلماء توفوا �أثناء رحلتهم مثل عبداهلل بن محمد بن قا�سم المعروف بابن ملول من �أهل و�شقه الذي توفي في الم�شرق �سنة 350هـ( ،)13ومنهم مَ ن لم ي�ستطع العودة ب�سبب
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
الما�ضي ،وات�صل بعلماء القرويين( ،)8كما زار المغرب الأق�صى مرتين (1287ه �ـ و1297ه�ـ) م�سند المدينة المنورة علي بن ظاهر الوتري (ت1322ه �ـ) ،ف�أخذ الحديث عن قا�ضي فا�س محمد بن عبدالرحمن العلوي ،وقا�ضي مكنا�س المهدي بن الطالب بن �سودة وغيرهما(.)9
وكان ركب الحاج ي�ضمن فر�صة مهمة لطلبة العلم ي�سافرون خاللها �صحبة الركب متمتعين بفر�ص ال�سفر الآم��ن التي يوفرها طيلة مدة ال�سفر ،ذهابا و�إيابا ،وذلك ما �شجع على الإقبال على الرحلة في طلب العلم �صحبة الحُ جّ اج .كما �أن توافر الأمن واال�ستقرار ال�سيا�سي في المدن التي ت�شكل مراكز علمية� ،أ�سهم في ا�ستقطاب طلبة العلم �إليها ،ليتعلموا في ظ��روف �آمنة، ولي�شبعوا نهمهم العلمي ويحققوا طموحهم �إلى االرتقاء االجتماعي.
ال�ضعف والوهن والكبر في ال�سن ،وا�ستقر �أو ا�ستوطن ه�ن��اك ،مثل �أب��و ع�ب��داهلل محمد بن �صالح القحطاني ،ال��ذي ا�ستوطن بخارى �إلى �أن توفي بها �سنة 378هـ ( .)14وكذلك ابن جبير، فقد توفي ف��ي رحلته الثالثة ودف��ن ف��ي م�صر بعيدا عن موطنه و�أهله ،و�أب��و بكر ابن العربي الذي توفي والده في اال�سكندرية ،وكان الفقد �سببا كافيا البن العربي ليعود �إلى بلده. �أم��ا الطرق البرية فكانت بدورها محفوفة بالمخاطر من قبل الل�صو�ص وقطاع الطريق، من ذلك ما حدث لأحمد بن م�سرة (ت322هـ)، وك��ان معه ف��ي الرفقة ف��ي طريق م�صر عبيد اهلل ال�شيعي ،فتعر�ضا لل�سلب( ،)15والخوف من ال�سلب واالمتحان في الطريق ،هو ال��ذي جعل طلبة العلم ي��ؤث��رون ال�خ��روج مع رك��ب الحاج، ل�ضمان رحلة م�أمونة ،ويدل على هذا ما ورد في كثير من التراجم المغربية عن حجّ اج �صحبوا رك��ب ال�ح��اج ،وان�صرفوا �إل��ى م�لاق��اة العلماء ولم يحجوا ،و�آخرين قرنوا بين الحج ومالقاة العلماء وال�سماع منهم� ،أو حجوا وتخلفوا عن ركب العودة ،حر�صا على �إكمال م�سيرتهم نحو المراكز العلمية للقاء العلماء. ف �ق��د ك� ��ان ط �ل �ب��ة ال �ع �ل��م ي �ح��ر� �ص��ون على مالقاة �أكبر عدد من العلماء ل�سماع رواياتهم وا�ستجازتهم ،وكانوا يثابرون في �سبيل ذلك، حتى يعودوا مزودين بر�صيد معرفي ي�ضيفون به جديدا على الحياة العلمية لبلدانهم ،ويجعلهم محل تقدير ،جديرين بالمكانة والوظيفة التي تنتظرهم .فقد روى عبدالرحمن القنازعي (ت413هـ) عن �أزيد من 700عالم( ،)16وكذلك يحيى بن مالك بن عائد بن كي�سان؛ بينما روى اب��ن ال��زام��ر عبدالرحمن ب��ن عبيد اهلل (ت
369هـ) عن �أزيد من 400محدث()17؛ و�آخرون كثيرون تجاوز عدد من لقي من ال�شيوخ والرواة المائة والمائتين ،مثل بقى بن مخلد وخلف ابن قا�سم الدباغ ومحمد بن و�ضاح وغيرهم ،ي�ضيق المجال بعدهم. ولم تكن هناك مدة محددة للرحالت ،فهي �إم��ا �أن تطول �أو تق�صر ح�سب اكتفاء الطالب بالتح�صيل ،وعموما كانت �إقامة الرحالة ت�ستغرق �سنوات كثيرة ،ليح�صلوا خاللها على العلم الوفير« ،بقى بن مخلد» رحل مرتين� ،أق��ام في الأولى ع�شرة �أعوام ،وفي الثانية خم�س ًة وع�شرين عاما� ،أما «الباجي» فلم يمنعه فقره من موا�صلة رحلته التي دامت ثالثة ع�شر عاما؛ بينما يو�سف بن محمد بن �سليمان الهمذاني من �أهل �شذونة، �أقام في رحلته ع�شرة �أعوام يتردد على مجال�س العلم والعلماء( ،)18في حين اكتفى اب��ن ر�شيد الفهري بثالث �سنوات عاد بعدها �إلى بلده. كان طلبة العلم يالزمون حلقات العلماء في الم�ساجد� ،أو ينتظمون �ضمن طلبة المدار�س الكبرى �إذا وجدوا �إلى ذلك �سبيال ،ي�ستعينون على تحمل نفقات العي�ش بما ي�صلهم من ريع الوقف؛ يقيمون في المدار�س �أو الرباطات �أو الزوايا والخوانق التي قد توفر لهم قوت يومهم وتكفيهم عناء البحث عنه ،وكان الكثير منهم ي�ضطر �إلى امتهان �أي عمل للح�صول على مورد يتعي�ش منه وينفق منه على الدرا�سة ،فالباجي �أجّ ��ر نف�سه ببغداد لحرا�سة درب( ،)19وك��ان النا�س ي�ستهجنون عمل الطلبة وكانوا يرونه ال يليق بهم وبمكانتهم االجتماعية(.)20 نتائج الرحالت و�آثارها ت�صدَّر الرحالة المغاربة والأندل�سيون عند اجلوبة � -شتاء 1435هـ
59
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
الرحلة متوا�صلة �إن �شوق المتعلمين للرحالت نحو الم�شرق يبرز العاطفة الدينية لديهم ،وي�شهد على النهم العلمي الذي كانوا يتحلّون به ،مع متانة تكوينهم العلمي وحر�صهم على التعلم واال�ستفادة ،مهما كلفهم الأم��ر من م�شقة ،ما جعلهم جديرين ب��االح�ت��رام والتبجيل وال��دع��م وال�ق�ب��ول ال��ذي يقابلون به �أينما حلوا وارتحلوا ،هذا التعاطف
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
60
العودة �إلى موطنهم للإقراء والتدري�س وتولي الق�ضاء والإمامة �أو الكتابة لدى الأمراء ،فتهي�أوا ل�شغل هذه المنا�صب التعليمية والدينية بف�ضل تكوينهم العلمي الذي �أهَّ لهم الحتالل المكانة المهمة والحظوة لدى ال�سلطان. كما كانت الرحالت العلمية من �أهم الطرق التي دخلت منها كتب الحديث والتف�سير و�سائر العلوم والفنون بمختلف فنونه �إل��ى المغرب والأن��دل ����س؛ ل��ذل��ك اعتنى الم�صنفون خالل ترجمتهم للعلماء ،بذكر حر�صهم على جلب الكتب خالل رحالتهم� ،أو �أولويتهم في �إدخال حديث كتب معينة ،وكان كتاب الموط�أ �أول كتاب ٍ دخل �إل��ى المغرب الأق�صى� ،أدخله عامر ابن محمد �سعيد القي�سي القا�ضي ال��ذي �سمع من مالك وال �ث��وري وروى عنهما م�ؤلفاتهما ،كما �أدخل عمر بن الح�سن الهوزني �صحيح البخاري �إلى الأندل�س ،و�أدخل �أبو بكر بن الأحمر محمد بن معاوية بن مروان (ت365هـ) �سنن الن�سائي، �أما زكريا بن بكر بن �أحمد الغ�ساني المعروف بابن الأ�شبح( ،ت 393هـ) فرحل �إلى الم�شرق ولقي في م�صر �أب��ا الطيب المتنبي ال�شاعر، و�أخذ عنه ديوانه ،وحمله معه �إلى الأندل�س؛ بينما الفقيه الأندل�سي �أبو بكر بن العربي المعافري الإ�شبيلي المتوفى عام543هـ ،فقد كان له ف�ضل �إدخال كتاب الإحياء للغزالي ،في حين �أدخل �أبو بكر الكرماني (ت458ه�ـ) كتاب ر�سائل �إخوان ال�صفا ،و�أدخل بقى بن مخلد (ت276هـ) كتاب الفقه لل�شافعي ،وكتاب التاريخ لخليفة بن خياط وك�ت��اب �سيرة عمر ب��ن عبدالعزيز للدورقي، والقائمة طويلة. كما �أ�سهمت ال��رح�ل��ة �إل��ى طلب العلم في انت�شار الآراء والمذاهب على �أيدي طالب العِلم،
بع�ضها �أ�سهم في تكري�س ال��وح��دة المذهبية وتر�سيخ اال�ستقرار ال�سيا�سي واالجتماعي، بينما �أفكار �أخرى �ألهبت البالد و�أ�شعلت الفتن والقالقل. ف��ال �م��ذه��ب الأ���ش��ع��ري دخ ��ل �إل� ��ى ال �غ��رب الإ� �س�لام��ي ع�ل��ى ي��د �أب���ي ال�ح���س��ن القاب�سي (ت403هـ) الذي التقى خالل رحلته ب�أ�شاعرة �أث ��روا فيه ت��أث�ي��را قويا عك�سه ف��ي دف��اع��ه عن م�ؤ�س�س المذهب �أبي الح�سن الأ�شعري. �أم��ا اب��ن م�سرة الجبلي (ت883ه�� �ـ) فقد تحققت فيه نبوءة رفيقه في الرحلة ابن عي�سى الذي �أخبره ب�أنه �سيثير فتنة في الأندل�س تبقى �أبد الدهر ،فتحقق ذلك بالفعل ،وفتن ابن م�سرة النا�س بمذهبه ال��ذي م��زج فيه بين الت�صوف واالعتزال. و�إذا كان بع�ض الطلبة قد غنموا من رحالتهم علما وف �ي��را ،وع��اد �آخ���رون محملين بالكتب ال �ج��دي��دة ،و�أدخ� ��ل غيرهم �أف �ك��ارا وم��ذاه��ب م�ث�ي��رة ،ف� ��إن �آخ��ري��ن ،ع ��ادوا م��ن رح�لات�ه��م، يحملون ب��ذور ث��ورات وانتفا�ضات وانقالبات �سيا�سية ،فعبد اهلل بن يا�سين (ت451هـ) الذي رحل �إلى الأندل�س طالبا للعلم ،ومكث فيها �سبع �سنين ،ولما عاد �إلى وطنه المغرب� ،أعلن حركته وانقلب على ال��دول��ة الإدري���س�ي��ة و�أ��س����س دول��ة المرابطين اللمتونين .ورحل محمد بن تومرت (ت524ه�ـ) �إلى الأندل�س ثم �إلى الم�شرق ،في رحلة �شهيرة التقى خاللها الغزالي �أي�ضا ،وعاد �إلى المغرب م�شحونا ،ليت�سمى با�سم المهدي.. ويعلن انتفا�ضته ال�سيا�سية وانقالبه على ال�سلطة المرابطية وت�أ�سي�سه دولة الموحدين� .أما ابن �أبي محلي (ت1022هـ) فقد رحل �إلى الم�شرق
مرتين ،المرة الأولى زار الحجاز معتمرا ،وعانى الجوع والعط�ش في �صحراء برقة حتى كاد يهلك، ف�أنقذه �أحد الل�صو�ص من قطاع الطرق ،ثم عاد �إل��ى الحجاز حاجا ،ولقي كثيرا من العلماء، وحين عاد �إلى بالده �أ�س�س زاويته و�أعلن نف�سه المهدي المنتظر ،وقاد ثورة في مواجهة الدولة ال�سعدية ،حتى انتهت بمقتله.
الذي ك�سبوه كان خير معين لهم على التغلب على ال�صعاب وتجاوزها. وقد خلف ه�ؤالء العلماء كتبا ومذكرات دونوا فيها يوميات رحلتهم ،ومَ ن لقوا فيها من العلماء والأع �ي��ان ،وم��ا �شاهدوا ،وم��ا �سلكوا من �سبل عانوا خاللها �ألم الفراق وم�شاق ال�سفر و�أهوال الطريق ،مع �ضيق اليد وا�ستبداد النظم .هذه الم�صنفات ،تقف اليوم �شاهدة على تاريخ غني لهذه الأمة ،ال يخلو من �إثارة �أو غرابة �أحيانا، تحفظ لنا تراجم و�سيرا ومعلومات مهمة حول �أ�شخا�ص و�أحداث ووقائع ،ما كانت لت�صل �إلينا لوال ه�ؤالء العلماء الأعالم ،الذين �أبَوا �إال �أن يلقوا ب�أقالمهم ومدوناتهم �أ�ضوا ًء كا�شف ًة على مراحل مهمة ودقيقة من تاريخ ح�ضارتنا المجيدة، يمهّدون ال�سبل لتوا�صل �أمتهم م�سيرتها ورحلتها الح�ضارية �ضمن �أمم العالم اليوم.
( )1الحميدي :جدوة المقتب�س (الدار الم�صرية 1966م) �ص .201
( )2نف�سه� ،ص .274 ( )3المقري :نفح الطيب ،بيروت دار �صادر 1988م (تحقيق �إح�سان عبا�س) ج � 3ص .9 ( )4تاريخ ابن الفر�ضي ،القاهرة مطابع �سجل العرب ،الق�سم � 2ص .138 ( )5نف�سه ،الق�سم �1ص .115 ( )6محمد �سالم محي�سن :معجم حفاظ القر�آن عبر التاريخ ،دار الجيل� ،ص .172 ( )7الذهبي� :سير �أعالم النبالء جزء � 3ص 4017ترجمة رقم .6395 ( )8عبدالعزيز بنعبد اهلل مقال مجلة دعوة الحق (الرباط) العدد 240ذو الحجة � /1404شتنبر 1984م. ( )9المرجع نف�سه. ( )10ابن الفر�ضي :ق�سم �1ص .83 ( )11الزبيدي طبقات النحويين ،القاهرة دار المعارف (تحقيق محمد �أبو الف�ضل) �ص .253 ( )12ابن ب�شكوال :ال�صلة ،دار الكتاب الم�صري 1990م (تحقيق الأبياري) �ص .548 ( )13ابن الفر�ضي ،ق�سم � 1ص .230 ( )14المقري :ج � 2ص .142 ( )15الخ�شني� :أخبار الفقهاء والمحدثين ،مدريد 1992م (تحقيق ماريا لوي�سا �أبيال ولوي�س مولينا) �ص .17 ( )16ابن ب�شكوال :ال�صلة �ص .481 ( )17ابن الفر�ضي �ص .264 ( )18ابن الفر�ضي �ص .206 ( )19القا�ضي عيا�ض :ترتيب المدارك (بيروت ،دار الكتب العلمية 1998م) جزء � 2ص .349 ( )20ابن الحاج :المدخل (دار التراث) جزء � 2ص .127 اجلوبة � -شتاء 1435هـ
61
كان الرحالة الفنلندي «جورج �أوغ�ست والن» �أول رحالة �أوروب ��ي تط�أ قدمه منطقة الجوف ف��ي �سنة 1845م ،و�أق ��ام ف��ي عا�صمتها دوم��ة الجندل وبين ظهراني �أهلها نحو ثالثة �أ�شهر، منتح ًال �صفة رجل دين م�سلم من بخارى ،با�سم «عبدالولي» .در�س «والن» و�سجل ملحوظاته حول المكان والإن�سان ،لكن ما ن�شره حول رحلته - وهو في غاية الأهمية -غلب عليه الطابع العلمي، الذي كان هدفه المبا�شر من رحلته ،ولم ي�صل �إلينا كام ًال لوفاته المبكرة �سنة 1852م ..وقبل و�ضع روايته الكاملة لرحلته.
منطقة الجوف في �أدب الرحلة الأوروبي ■ د.عو�ض البادي
ُي َع ًّد �أدب الرحلة من �أقدم �أنواع الأدب و�أو�سعها ،وقد احتل مكانة مهمة في العلوم الإن�سانية واالجتماعية خالل القرون الثالثة الأخيرة ،لما �أ�سهم به في المجاالت الثقافية والتاريخية والدينية والجغرافية والبيئية ..وحتى ال�سيا�سية والفل�سفية؛ بتوفيره لمعرفة �أ�صيلة وقيّمة حول الإن�سان وجغرافيته وبيئته وظروفه عبر �أزم��ان طويلة ،وفي كل �أرج��اء المعمورة .وقد ا�ستحق ه��ذا الأدب �أن يكون مجا َال من مجاالت الدرا�سة الأكاديمية الم�ستقلة لثراء مادته وتنوّعها واختالفها .ومع ما �شهده هذا الأدب من تغيّرات مرتبطة بالتغيرات العالمية؛ من حيث �سهولة التنقل واالت�صال ،وات�ساع حركة الهجرة ،وتنوّع و�سائل المعرفة ،واكت�شاف المجهول. فقد حافظ هذا الأدب على �أهميته كو�سيلة من و�سائل معرفة الآخر ،ور�سم �صورته ،وفهمه في الحا�ضر كما في الما�ضي.
62
في ع�صر ازدهار هذا النوع من الأدب الذي بلغ �أوجه في القارة الأوربية خالل القرون ال�سابع ع�شر والثامن ع�شر والتا�سع ع�شر الميالدية، كانت الجزيرة العربية �أحد مو�ضوعاته؛ فكان اليمن وال�ح�ج��از و�شمالي ال�ج��زي��رة وو�سطها وعُ �م��ان والخليج محطات ل��رح��ال��ة �أوروب�ي�ي��ن كثيرين �أ�سهموا في �إثراء هذا الأدب بمعلومات تاريخية مهمة ال توفرها �أي م�صادر �آخ��رى، ور�سموا �صور ًا وم�شاهد بعيونهم الأجنبية لأر�ض
الجزيرة العربية و�إن�سانها بدوي ًا وح�ضرياً ،هي اليوم من الما�ضي؛ �إال �أنها ما تزال حا�ضرة في وجدان الآخر وت�صوراته حول �أر�ضنا و�إن�ساننا، �إيجاب ًا �أو �سلباً. �شغلت منطقة الجوف في �شمالي الجزيرة العربية حيز ًا مهم ًا في �أدب الرحلة الأوروبية خالل القرن التا�سع ع�شر؛ �إذ كانت معبر كثير منهم �إل��ى و�سط الجزيرة العربية ،وق��د �شمل هذا الأدب تفا�صيل ومعلومات تاريخية و�سيا�سية
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
جورج �أوغ�ست والن (لوحة زيتية)
واقت�صادية و�سكانية وجغرافية مهمة ودقيقة ح��ول �أو�ضاعها كافة .وه��ذه المقالة ال تهدف �إلى تناول ما كتبوه؛ �إذ �سبق للكاتب �أن قدم ما كتبوه حول �شمالي الجزيرة العربية وب�أل�سنتهم في عملين �شاملين()1؛ بل ت�سجيل انطباعاتهم ال�شخ�صية وم�شاعرهم نحوها.
توزعت ملحوظات «وال��ن» بين المحا�ضرات والر�سائل والمذكرات والمقاالت ،ولم ُيتَحْ لها �أن ُتقَدم كرواية واحدة وبلغة �أدبية متما�سكة لتحتل مكانتها الرائدة في �أدب الرحلة الأوروبية حول منطقة الجوف ،فخلت ملحوظاته من االنطباعية ولغة ال�سرد التي ت�سم ه��ذا النوع من الأدب. ورغ��م ذل��ك ،ولكونه الأول في �سل�سلة الرحالة الأوروبيين ،فقد �شكّل ما تركه من �إرث معلوماتي مو�ضوعي ف��ي ت��اري��خ المنطقة و�أو�ضاعها في تلك المرحلة التاريخية ،مرجعية لمن تبعه من الرحالة الآخرين .لقد �صوّر «والن» بلغته العلمية المكان ب�شكل دقيق ج��داً ،وعر�ض لجغرافيته وت�ضاري�سه م�ستح�ضر ًا مكانته التاريخية وتقلبات زمانه .و�صوّر �أي�ض ًا و�ضع �أهله الذي تعامل معه، فنجده يذكر �أن القراءة والكتابة منت�شرة بينهم �أكثر مما هي في البلدان العربية التركية .و�إنه اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ر�سم ق�صر خزام بدومة الجندل
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
منطقة الجوف في �أدب الرحلة الأوروبي
63
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
64
رغم �أن ال�سكان معروفون بنزاعاتهم وق�سوتهم ف��ي حروبهم فيما بينهم� ،إال �أن�ه��م معروفون ومعترف بهم من جميع النا�س ب�أنهم م�ضيافون ج��داً ،ولطفاء م��ع ال�غ��رب��اء .وي�ق��ول�« :إن��ه فيما يتعلق بي ،فعليَّ االعتراف �أنه حتى من القبائل العربية الم�ضيافة في ال�صحراء لم �أقابل �أي قبيلة تفوق �أه��ال��ي الجوف في ه��ذه الف�ضيلة. ولم يعاملني من قبل �أحد بمثل ما عاملوني به. وذكر �أي�ض ًا �أن �أهل الجوف معروفون بمواهبهم ال�شعرية والمو�سيقية »...وي��ؤك��د ذل��ك بقوله: «ن��ادر ًا ما ق�ضيت ليلة واح��دة دون رفقة بع�ض وليم غيفورد بلغريف ال�شباب الذين يغنون ب�صحبة الربابة ،هذه الآلة البدوية الرتيبة وال�ساحرة في الوقت نف�سه .وبما بين �أهل ال�صحراء الأحرار .و�أنا م�ستعد �أن �أدير �أن موهبة ال�شعر والمو�سيقى منت�شرة بين البدو، ف�إنه ال يمكنني القول �إن �أه��ل الجوف يبزون ظهري �إل��ى الغرب و�أتجه نحو ال�شرق ،و�سوف �أفعل ذلك عاج ًال �أم �آج�لاً» .لقد كان القدر له الآخرين في هذا الجانب». بالمر�صاد فحرم من هدفه ،وحرمنا من روايته بهذه الروح المو�ضوعية ر�أى «والن» ال�صحراء الكاملة. و�أهلها ،وتعلق بها وبهم ،وكان �سعيه متوا�ص ًال على خ�لاف «وال ��ن» بلغته العلمية� ،أتيحت للعودة �إليها ب ��أي ثمن؛ ودي��دن��ه ي�ق��ول« :كانت �صحراء �شبه الجزيرة العربية هي الهدف الأكبر للرحالة البريطاني «وليم غيفورد بلغريف»- في حياتي ،و�س�أحاول �أن �أنفذ خطتي للذهاب ال��ذي زار منطقة الجوف �سنة 1862م ،ومكث �إلى هناك ب�أ�سرع ما يمكن ...ويمكن �أن �أرجع فيها م��ا ي�ق��ارب الأ�سبوعين -الفر�صة ليكتب �إلى هناك كرحالة �أوروب��ي لأبحث �أر�ض العرب رواية رحلته �إلى الجزيرة العربية بحا�سة فنانٍ المجهولة ،و�سوف �أقدم نتائج �أبحاثي �إلى البالد ولغة �أدي��ب .ك��ان «بلغريف» منذ ب��دء م�سيرته الغربية الطالبة للعلم�..أو ربما �أذهب من �أجل من معان باتجاه الجوف التي منها ذه��ب �إلى �سعادتي ال�شخ�صية ..ف�سوف �أبعد عن حياة حائل والق�صيم والريا�ض والخليج يعبّر عن �أوروب ��ا ال�ضاغطة ،و�أتمتع بطبيعة ال�صحراء هواج�سه و�أحا�سي�سه حول مغامرته .وقد �صرح الغنية .و�سوف �أنعم بحياة البدو المليئة بالحرية بذلك منذ البدء ،بقوله« :للمرة الأخيرة دعونا وال��ن�����ش��اط ،و�أ���س��ت��ري��ح م��ن ح��ي��اة المظاهر في نحاول الح�صول على معرفة مو�ضوعية و�شاملة �أوروبا .ويمكن لي �أن �أحيا و�أموت كالبدوي الحر حول الجزيرة العربية� .إننا نعرف الكثير حول
مناطقها ال�ساحلية؛ ومعرفتنا بع�ضها حتى لو كانت قليلة فهي كافية؛ اليمن والحجاز ومكة والمدينة لم تعد ��س�رًّا ،ولدينا معلومات حول ح�ضرموت وعُ مان� .أما داخل الجزيرة العربية ب�سهوله وج�ب��ال��ه وقبائله وم��دن��ه وبحكوماته وم�ؤ�س�ساته ..وب�سكانه وع��ادات�ه��م و�أخالقهم و�أو�ضاعهم االجتماعية ،وم�ستوى مدنيتهم �أو بدائيتهم ،لي�س كذلك .هل ما نعرفه حتى الآن دقيقًا وكامالً؟ لقد حان الوقت ل�سد هذا الفراغ في خارطة �آ�سيا ،ومهما كانت الأخطار� ،سنقوم به؛ �إما �أن تكون هذه الأر�ض قبرًا لنا �أو نعبرها لم يبتعد «بلغريف» بلغته ال�شاعرية عن واقع من �أولها �إلى �آخرها .ال عودة عن ذلك» .بهذه هذه الواحة الوادعة و�سط �أر�ض مجدبة تحوط ال��روح و�صل «بلغريف» �إلى الجوف بعد م�سيرة بها ،وقد وجد بها ما ي�سره بعد دخولها. �أكثر من �أربعمائة كيلومترا من معان �إلى الجوف ك��ان «بلغريف» قد ب��د�أ رحلته �إل��ى الجزيرة في �صحراء مجدبة. العربية من بيروت� ،إذ تقمّ�ص �شخ�صية طبيب اختزل «بلغريف» و�صفه للجوف وم�شاعره �سوري ،واختار ا�سمًا عربيًّا له ،هو «�سليم �أبو عند و�صوله �إليها بقوله« :وادٍ عميق يميل �إلى محمود العي�س» ،وقد حمل معه ب�ضائع للمتاجرة االنخفا�ض ،مرحلة بعد �أخ��رى حتى ي�صل �إلى ب�ه��ا .وب�ع��د �أ�سبوعين م��ن الإق��ام��ة وممار�سة نهاية عميقة تحجبها عن النظر �سل�سلة جبلية، التجارة والطبابة في الجوف غادرها �إلى حائل. تتعرج ب�ألوانها المحمرة ،والمنظر عبر هذا و�صف «بلغريف» فترة �إقامته ف��ي الجوف ال ��وادي وحتى نهايته تظلله ب�ساتين النخيل، و�أ�شجار الفاكهة ،التي تحمل عناقيد ثمارها ،متناو ًال تفا�صيل الحياة اليومية و�أدقها ،وجاء كما يظللها لون �أ�سود �ضارب �إلى االخ�ضرار على في و�صفه لأهلها�« :إن العدد الإجمالي لل�سكان مدى تعرجات الوادي ،وي�شمخ بناء غير منتظم ،في كل المنطقة ،ال يتجاوز بحال اثنين و�أربعين يلوح ككتلة �سمراء على قمة جبل في المنطقة �ألف ن�سمة ،لكنها منطقة مو�صوفة بال�شجاعة؛ الو�سطى ،وه��ي قلعة عالية منفردة تطل على ف�أهلها تتوافر فيهم مواهب بدنية ق َّل �أن توجد الجانب الآخر من الوادي .و�إلى الأدنى قلي ًال تلوح عند غيرهم؛ فهم عادة يمتازون بطول القامة، �أبراج دائرية �أ�صغر ..ور�ؤو�س منازل م�سطحة ،وح�سن البنية؛ �ألوانهم فاتحة ،و�شعورهم �سوداء، تختفي وتظهر بين �أوراق �أ�شجار الب�ساتين ،ويت�صفون عمومًا بالذكاء ،ولهم مالمح دقيقة، وك�أن الوادي يغت�سل في تيار عمودي من ال�ضوء وفيهم كبرياء .والجوفيون م��ن عن�صر جيد، والحرارة .كان هذا هو �أول منظر لبلدة الجوف عند اقترابنا منها ،من جهة الغرب .لقد كان منظرًا خلاّ بًا ،بدا لنا بعد رحلة طويلة� ،شرعنا بها من غزة وفل�سطين� ،إلى م�شارف المواطن ال�م��أه��ول��ة ف��ي �شبه ال�ج��زي��رة ال�ع��رب�ي��ة .كانت رحلتنا عبر �صحراء موح�شة طويلة ،امتدت على وتيرة واحدة ،فكانت الجوف �أ�شبه بجنة الخلد ال يدخلها �أح��د �إال بعد عبور ���ص��راط جهنم، ح�سب و�صف �شاعر عربي ي�صور منطقة �شبيهة بالجزائر.
65
«�إن �صفاتهم البدنية المتميزة ،ومُحيّاهم المقبول يناق�ض ب�شدة �صفات ال �ب��دو .وهم بجانب ذلك قوم �أ�صحاء يحتفظون بن�شاطهم حتى حينما يتقدم بهم العمر .ويبدو �شيئًا م�ألوفًا لا ع�ج��وزًا في ال�سبعين من العمر �أن ت��رى رج� ً م�سلحً ا بكامل عدته �ضمن جماعة من ال�شبان، و�إن كانت ظاهرة ربيع العمر الدائم يمكن �أن تجدها في الأقاليم الو�سطى �إل��ى الجنوب من الجوف ،وق��د الحظت ذل��ك .الطق�س هنا جيد وج��اف ،وع��ادات الحياة خ��ارج ال�سكن ،يمكن �أن ت � ��ؤدي دوره� ��ا ف��ي ال�ح�ف��اظ ع�ل��ى ال�صحة والحيوية .وهم في �أخالقهم و�سط بين البدو والح�ضر� .إنهم يلتقون مع البدو في كراهيتهم للمهن ال�ي��دوي��ة ،وع��دم اهتمامهم بالح�صول على الثقافة ،وتقلب مزاجهم بال هدف محدد، حتى في �أ�ساليب الغدر والخيانة� .إال �أنهم عمومًا مت�أدبون ويحترمون �أنف�سهم �أكثر ...وبالدرجة نف�سها بعيدون ع��ن الت�شريفات والمجامالت اللطيفة التي تجدها عند �شمّر وفي نجد ،و�أقل بكثير من تلك التي تجدها في الإح�ساء وعُ مان».
66
«�أما فيما يتعلق بجوانب النظافة بالن�سبة لهم ولعاداتهم ،وفي المهارة في الزراعة ،وفي �ضبط الأع���ص��اب والإدراك ال�ع��ام ،وف��ي �إح�سا�سهم باالنتماء لإقليمهم ،وفي التعامل مع الغرباء، و�إدارة التجارة وقابليتهم للتطور ،هم �أقرب �إلى �سكان المدن والقرى الكبيرة في �شبه الجزيرة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
منظر للجزء الغربي من دومة الجندل (بتلر١٩٠٨ ،م)
ر�سم ق�صر مارد بدومة الجندل
قلعة مارد (هولت١٩٢٢ ،م)
في�صل بن حمود الر�شيد �أمير الجوف مع رجاله في ق�صر خزام بدومة الجندل (بتلر١٩٠٨ ،م)
كان الرحالة الإيطالي «كالوديو غوارماني» الرحالة الأوروبي الثالث الذي وط�أ �أر�ض الجوف البلدة(دومة الجندل) والجوف المنطقة في �سنة 1864م ب�صفته تاجر خيل عثماني ،وقد قدم روايته بلغته الإيطالية ،وقد و�صل �إلينا من خالل ترجمته �إلى اللغة الإنجليزية خالل الحرب العالمية الأول ��ى لأهمية تفا�صيله الجغرافية التي كانت تحتاج �إليها القوات البريطانية في المنطقة .وقد �شغلت المعلومات حول منطقة الجوف حيّز ًا مهم ًا من عمله الذي ابتعدت لغته بجفافها ومبا�شرتها عن لغة �أدب الرحالت. ب�ع��د ان �ق �ط��اع دام خم�سة ع�شر ع��ام � ًا في رحالت الأوروبيين �إلى و�سط الجزيرة العربية عبر منطقة الجوف ،قامت الرحالة البريطانية االر�ستقراطية «الليدي �آن بلنت» برفقة زوجها «ويلفريد بلنت» برحلة �إل��ى و��س��ط نجد عام 1879م .روت «الليدي �آن بلنت» رحلتها في كتاب ُيعّد من �أبرز كتب �أدب الرحالت الأوروبية في الجزيرة العربية ،وحظي باهتمام بالغ بو�صف الكاتبة ام��ر�أة تج�شمت عناء رحلة طويلة في �أر�ض مجهولة .حظيت منطقة الجوف بن�صيبها م��ن ال��و��ص��ف ف��ي ه��ذا ال �ك �ت��اب ،وع�ل��ى خ�لاف
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
يمكن �أن يكون العن�صر العربي الإ�سماعيلي ال�شمالي ال�صافي ،وهم الأ�صل الذي انبثق منه �سكان جبل �شمّر».
العربية .و�إذا حكمنا عليهم من خالل حكمنا على قبيلة طيئ التي تعود جذورهم لها ..فهم متح�ضرون ،ولهم ميل فطري ّ �إل��ى حد معقول �إيجابي ليكونوا كذلك .مرة �أخرى لقد �أخرتهم الحروب والنزاعات� ،إ�ضافة �إلى النفوذ المقلق للقبائل البدائية الذين هم �إلى حدٍّ ما معزولون عنهم ب�سبب موقعهم الجغرافي».
الرحالة ال��ذي��ن �سبقوها ،ك��ان ق��دوم «الليدي بلنت» عن طريق دم�شق ،فو�صفت كافة القرى الواقعة في �شمالي وادي ال�سرحان ..وهي قرى ك��اف و�إث ��رة قبل و�صولها �إل��ى ال�ج��وف(دوم��ة الجندل العا�صمة) ،وق��د �أتيحت لها الفر�صة ف��ي زي� ��ارة ب �ل��دة ��س�ك��اك��ا ،وك��ان��ت �أول رح��ال��ة �أوروبية ت�صل �إليها ،وت�صور الحياة االجتماعية فيها .كانت رواية «الليدي بلنت» مت�أثرة برواية «وليم بلغريف» الذي �سبقها ،والتي ت�أثر بها كل الرحالة ال��ذي��ن ج ��ا�ؤوا م��ن ب�ع��ده .لقد و�صفت و�صولها �إلى بلدة الجوف (دومة الجندل) بما ال يختلف كثير ًا عن «بلغريف» بقولها« :كانت م�سيرتنا �شاقّة وطويلة لم�سافة ع�شرين ميالً، وكنا نتوقع با�ستمرار �أن ن��رى الجوف� ،إ َّال �أن �آمالنا تخيب دائ�م�اً ،فقد تحولت الأر���ض �إلى تالل و�أودي��ة مذهلة ،لكن كان م�ستوى الأر���ض �أقل ارتفاعً ا مما كان عليه بالأم�س� ،إذ كنا في حقيقة الأمر ننحدر على طول اليوم .وكنا بين مدة و�أخرى نلحظ وادي ال�سرحان �إلى يميننا، على م�سافة بعيدة .من الجهة الأخرى مرتفعات زرقاء .بينما بدت الأر�ض �أمامنا �سل�سلة م�ستمرة من التالل ال�صخرية .و�أخ�ي�رًا ،ومن على قمة �أحدها ،ظهر خط �أ�سود ،ي�شمخ ب�سواده عاك�سً ا ب�صفاره خليط تالل ال�صخور الرملية ،والأودية الجرداء ،وعرفنا �أنها ال بد �أن تكون قلعة مارد. وبدت �شامخة في حقيقة الأمر ،و�إن بدت مرعبة و�سط هذا العراء المقفر .م�ضينا نحوها تحدونا الرغبة بم�شاهدتها عن ق��رب .ومن ثم و�صلنا �إلى معبر طبيعي من الحجر الأبي�ض ..و�سرنا على ه��ذا الطريق لب�ضعة �أميال حتى اختفى.
67
68
قدّمت «الليدي بلنت» و�صفها لإقامتها في بلدة الجوف ،ومن ثم انتقلت �إلى بلدة �سكاكة التي و�صفتها بقولها�« :إن �سكاكة ...بلدة �أكبر من الجوف� ،إذ فيها �سبع مئة بيت ،كما يقولون، وب�ساتين للنخيل على الأقل �ضعف ما في الأخرى. وم��رك��ز البلدتين ي�ك��اد ي�ك��ون واح���دً ا ،تجويف عري�ض محاط بحروف من ال�صخور الرملية، ولكن حو�ض �سكاكة �أقل انتظامًا ،وتنت�صب فيه تالل رملية وتالل نائية من ال�صخور .و�سكاكة مثل الجوف فيها قلعة قديمة (قلعة زعبل)، ت�شمخ �أعلى مرتفع ..علوه نحو مئة قدم ،يُ�شرف على البلدة المقامة بطريقة غير هند�سية ،وبال �سور مت�صل يحوط ب�ساتينها .وكان هناك عدد كبير من الب�ساتين والدور المنف�صلة عن بع�ضها، وك��ان��ت ع��ام��رة ولي�ست خربة كتلك الموجودة بالجوف �إثر الحروب الأخيرة .كل هذه الب�ساتين والدور ذات منظر مزدهر ،وال يوجد فدان واحد اجلوبة � -شتاء 1435هـ
يوليو�س �أويتنغ
ت�شارلز هوبر
يمكن ر ّي��ه ولم ُ ي��زرع .كل �شيء مرتب ونظيف، الأ� �س��وار جديدة ال�شرفات ،وك��ل منزل من�سق وك�أنه حديث البناء .والحقول المربعة ال�شكل المزروعة بال�شعير م�سيجة ب�أ�سيجة م�صنوعة من �أغ�صان النخيل المجدولة ،وال�شوارع والأزقة منظمة ب�شكل دقيق». لقد �شكّلت رواية «الليدي بلنت» لرحلتها �أول
بعد نحو �سنة ون�صف ال�سنة من زيارة «الليدي �آن بلنت» ،قام الرحالة الفرن�سي «ت�شارلز هوبر» �سنة 1880م بعبور منطقة الجوف في طريقه �إلى حائل .كان اهتمام هذا الرحالة جغرافيا، لكنه قدم روايته بلغته الفرن�سية ،مت�ضمنة كثيرا من المعلومات الجغرافية والتاريخية وال�سيا�سية وال�سكانية حول المنطقة .ويمكن القول �إن ما قدمه «هوبر» كان مهم ًا في �أدب الرحلة الفرن�سي الخا�ص بالجزيرة العربية� ،إال �أنه مثل الرحالة الفنلندي «والن» لم يتح له القدر �أن يكتب روايات رحالته بنف�سه؛ �إذ قتل خالل رحلته الثانية �إلى الجزيرة العربية ،وهو في طريق عودته �إلى حائل قلت�« :إنني �أ�سافر الآن في �أر�ض البدو ،ولي�س قادم ًا من جدة في نهاية �شهر مار�س 1884م .فيها هدوء وراحة ،وال �أحتاج امر�أة ،و�إال لكنتُ قد كان هذا الرحالة في و�صفه محايد ًا �إلى حد كبير �صحبت �إحداهن من بلدي». في يومياته ،ولم ي�سجل انطباعاته ال�شخ�صية قالت« :ن�سا�ؤكم ل�سن معتادات على ال�سفر، كمن �سبقوه ،بل حاول �أن يكون علمي ًا في ق�صته �أما �أنا فيمكنني ركوب الإب��ل لي ًال ونهارًا جيدً ا غير الكاملة. مثلي مثل الرجل». �أت�ي��ح للرحالة الأل�م��ان��ي «يوليو�س �أويتنغ»، قلت« :لكنني ال �أملك �إال ذل��و ًال واح��دة فقط وال ��ذي زار منطقة ال �ج��وف ب��رف�ق��ة «ت�شارلز كما تعلمين». ه��وب��ر» �سنة 1883م الفر�صة كاملة لتقديم قالت« :هذا ال يهمُ ؛ �سوف �أركب رديفًا لك روايته لرحلته في المنطقة ،وقد قدمها ب�صيغة اليوميات التي تحوي تفا�صيل ما كان يجري معه ،ب�شكل جيد؛ �إن�ن��ي ال �أح�ت��اج �إل��ى حبل وال �إل��ى �إ�ضافة �إل��ى �صراحته في التعبير عن م�شاعره رباط». قلت« :حقًّا ،ولكن يعلم اهلل �أنني �أق�ضي كل و�أحا�سي�سه وانطباعاته .كما كان «�أويتنغ» فنانا ور��س��ام��ا ،فر�سم بري�شته كثيرا م��ن الم�شاهد حياتي هائمًا في بالد موح�شة ،و�إنني يومًا ما حياتهم اليومية و�أو�ضاعهم االجتماعية .وهذا الحوار بين «�أويتنغ» و�إح��دى الن�ساء الزائرات للقرية التي عبرت عن رغبتها بالزواج منه عن هذا القرب .يقول �أويتنغ :ج��اءت ..فتاة جميلة ذات �سبعة ع�شر ربيعًا تقريبًا تدعى «لهود»، وبب�ساطة و�سذاجة كبيرتين عبرت هذه الفتاة عن �أمنيتها ب�أن �أتزوجها .كذلك كانت الأخريات ورائ ��ي ب�شكل دائ��ب ليقنعنني ب��ال��زواج .كيف يت�سنى لي �إذً ا �أن �أدافع م�ؤيدً ا حججي بالرف�ض؟ قد يتبين ذلك من هذا الحديث المثير للده�شة بيني وبين «لهود»:
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
وفج�أة و�صلنا �إلى حافة قاع ،وهنالك من تحتنا امتدت واحة كبيرة من النخيل ،يحيط بها �سور ذو �أب��راج متباعدة ،وقرية �صغيرة التفت حول القلعة ال���س��وداء .لقد و�صلنا ال�ج��وف ..لي�ست الجوف كما توقعنا �أبدً ا .لقد اعتقدنا �أنها بلدة وا�سعة ومعتنى بزراعتها ،وتبيّن �أنها مجرد بلدة �صغيرة .ال �شيء �إطالقًا خ��ارج الأ��س��وار� ،سوى ب�ضع ب�ساتين مربعة ال�شكل ،كل منها نحو ن�صف فدان ،مخ�ضرة بالحنطة حديثة الزرع .وت�سقى هذه من �آبار ،وتروى تمامًا مثل الب�ساتين داخل الأ�سوار ،بمجا ٍر �صغيرة خطت ب�أنماط مختلفة. وفي الواقع كل حو�ض الجوف بالكاد يبلغ ات�ساعه ثالثة �أميال في �أو�سع نقطة منه»...
رواية تغطي كافة �أو�ضاع بلدات وقرى المنطقة وال�شخ�صيات التي قابلها .وكانت ر�سوماته �أول الم�أهولة خ�لال فترة زيارتها ،وبذلك �أخ��ذت ر�سومات لم�شاهد و�آثار و�شخ�صيات المنطقة. المنطقة ب�أكملها و�ضعها ف��ي �أدب الرحالة �أق��ام «�أويتنغ» فترة طويلة في قرية ك��اف.. الأوروبي. فاختلط بال�سكان ،واقترب منهم ،وقدم تفا�صيل
69
�سوف �أعود �إلى موطني في بلد الم�سيحية ،و�إلى هناك ال يمكنك حًّ قا الذهاب معي». ق��ال��ت« :ل �م��اذا ال يمكن ذل��ك؟ ه��ل �سيقوم الم�سيحيون ب�ضربي حتى الموت و�أنا امر�أة؛ �أال يمكنك �أن تحمي �أنثاك؟ �إنه �سيكفيني للعي�ش اليومي حفنة برغل� ،أو حفنة �أرز وب�ضع تمرات؛ و�أن ت�شتري لي ثوبًا �إذا ما احتجت �إل��ى واحد منها». قلت�« :إن ه��ذا لهو �أق��ل �شيء ،لكنني �أعلم م�سبقًا �أنه �إذا ما جئتِ �إلى بالدنا فلن تفهمين اللغة ،و�سترين ب�شرًا غرباء ،وبعد ذلك �سوف تقلقينني ط��وال الوقت بالنواح والح�سرة على �أمك و�أبيك». قالت�« :أتح�سبني مغفلة �أو مخبولة .لماذا ال يمكنني �أن �أتعلم لغتكم؛ وكيف يتعلم �أطفالكم؟ خذني امر�أة لك ،و�سوف �أظل كذلك� .أما ب�ش�أن وال��ديّ و�أ�شقائي ف�سوف لن تنب�س �شفتي بكلمة �شكوى واحدة». ب�سال�سة وطالقة ل�سان لم تترك لي حجة. هكذا بد�أ مو�ضوع الزواج يتداول ويُطرق كل يوم ،وكانت الأحاديث البريئة وال�ساذجة حقًّا مثار ت�سلية كبيرة ،وال بد لي �أن �أُقر ب�أنني لم �أجد �أي فتاة ذات جر�أة ،وبالتالي �سهلة االنقياد».
70
علي الجارد ،وكيل �أمير الجوف في بلدة �سكاكة (بتلر١٩٠٨ ،م)
�آلن بلنت
�إلى حائل� -إلى بلدة الجوف(دومة الجندل)، فمكث فيها عدة �أيام� ،أتاحت له و�صفها وتقديم معلومات تاريخية جديدة عنها ،وج��اء و�صفه مختلفا عن غيره� .صادف وج��ود «�أويتنغ» في الجوف عيد الأ�ضحى لعام 1300ه� �ـ ،فو�صف االح�ت�ف��ال بالعيد« :ج ��رى نحر �أح ��د الجمال ا�ستعدادًا لهذه المنا�سبة ،وتمت عملية النحر ب�سيف قطعت به رقبة الجمل ،وفي �أثناء عملية ال��ذب��ح وقفت الجمال الأخ ��رى دون �أي حركة �أو انفعال ،و�أخ��ذت ال�ضحية وقتًا طوي ًال حتى �سقطت على الأر���ض ،وظل الجمل يُلقي بر�أ�سه هنا وهناك وهو يئن ويتوجع حتى فا�ضت روحه.
ب�ه��ذه الكيفية ك��ان «�أوي �ت �ن��غ» ي�ق��دم الكثير بالقلم والري�شة حول تفا�صيل �أو�ضاع المنطقة وقد الحظت النا�س جميعهم وقد دبت بينهم االجتماعية وال�سيا�سية والعمرانية والثقافية طفرة نظافة .و�أينما نظر الإن�سان في �أي ركن �أو والجغرافية والبيئية. زاوي��ة ..يرى من يغ�سل ر�أ�سه �أو يحلق ذقنه� ،أو بعد ك��اف ،رح��ل «�أويتنغ» -وه��و في طريقه ي�ستبدل لبا�سه .وك�أنها بلدة عامرة ظهرت مرة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
قلعة مارد ومحيطها (هولت١٩٢٢ ،م)
داخل ق�صر مارد بدومة الجندل (بتلر١٩٠٨ ،م)
ق�صر خزام بدومة الجندل (بتلر١٩٠٨ ،م)
بعد تناول طعام الع�شاء ،كان هناك اجتماع �آخ ��ر ،ومقابلة م��ع ال�ع��دي��د م��ن ال��رج��ال �أم��ام ال�ب��واب��ة ،وك��ان جوهر (ع��ام��ل ال�ج��وف) نف�سه يرتدي عباءة �سوداء جديدة ،وكوفية �صفراء بخطوط حمراء ،وقد �أعطاه هذا اللبا�س وقارًا في �أثناء زيارته .قبع هنا �أكثر من خم�سين رج ًال خلف �سور �صغير في حلقة حول النيران في �أثناء �إعداد القهوة ،وحتى الجنود الذين كانوا يقفون في البداية خلف جوهر ،ويبلغ تعدادهم نحو ع�شرين رجالً ،تلقوا �إ�شارة من جوهر بالجلو�س، وق��د و�ضع ك��ل منهم �سيفه م �غ��روز ًا �أم��ام��ه في الرمل .ت�ل�ألأت النيران ،وك��ان �ضو�ؤها �ساحرًا مع القمر ،لأن ال�ضوء وانعكا�سه يعطي انطباعً ا حيًّا وجماليًّا و�سط تلك المجموعة المظلمة. انتهت هذه المنا�سبة واالحتفال بعد �أداء �صالة طويلة ،وبعد �أحاديث طويلة» .وي�ضيف �أويتنغ �إن ��ه« :عند الظهر تقريبًا ع��ادت ركائبنا من المرعى ،وعند الع�صر قررنا �أن نركبها عبر ال��وادي �إلى �سور البلدة المائل في غربها .وفي طريق عودتنا وق��رب غ��روب ال�شم�س �شاهدنا منظرًا عجيبًا ر�سخ في ذاكرتي ،لم �أ�شاهد مثله ثانية ط��وال رحلتي .ففي �سهل وا�سع وف�سيح، جرت رق�صات رائعة� ،إذ وقف �صفان متقابالن، تف�صل بينهما ع�شرون خطوة ،في ال�صف الأول عدد من الفتيات ،وفي ال�صف الثاني عدد من الفتيان وف��ي الو�سط وقفت فتاتان ترق�صان بر�ؤو�س مك�شوفة و�شعر م�سدول �إلى الخلف .بد�أ الرق�ص على �شكل خطوات ق�صيرة للأقدام ،مع فرد الأذرع حيث تتقارب ال�صفوف وتتباعد ،ثم اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
واحدة على وجه الأر�ض.
71
غ��ادر «�أويتنغ» الجوف ولم ين�س �أن يودعها قائالً« :عند حافة المرتفع �ألقينا نظرة وداعية على تلك الواحة الوادعة خلفنا». تعاقب على منطقة ال �ج��وف بعد «�أوي�ت�ن��غ» رحالة �آخرون ،وكان من �أهمهم الرحالة الالتفي «البارون �إدوارد نولده» الذي عبر المنطقة �إلى حائل �سنة 1893م ،والرحالة الت�شيكي «الوي�س مو�سيل» في �سنتي 1909م ،و1915م .لم يقدم «نولده» في روايته الكثير عن المنطقة ،فقد كان في مهمة �سيا�سية �إلى و�سط الجزيرة العربية، ويعد ما كتبه مهم ًا في ال�سياق ال�سيا�سي ولي�س في �أدب الرحلة� .أما الرحالة والعالم الكبير «الوي�س مو�سيل» ،فقد قدم الكثير ،ويعّد كتابه «ال�صحراء العربية» من �أهم كتب �أدب الرحالت في �شمالي الجزيرة العربية ،وق��د �شكلت منطقة الجوف و�أو�ضاعها وقبائلها جوهر محتوى هذا الكتاب. ما بين هذين الرحالين كان هناك المب�شر «ارت�شيبالد ف��وردر» ال��ذي زار المنطقة مب�شر ًا بالم�سيحية في �سنة 1901م ،لكن و�صفه لرحلته
خاتمة حظيت منطقة ال�ج��وف بمكانة خا�صة في �أدب الرحلة الأوروب� ��ي �إل��ى ال�ج��زي��رة العربية لأهمية موقعها في �شمالي الجزيرة العربية؛ فكانت بوابتها �شما ًال وجنوباً� ،إذ عبرها عدد من الرحالة الأوروبيين المهمين ،الذين �أ�سهموا في �إثراء �أدب الرحلة الأوروبي للجزيرة العربية مثل :الرحالة الفنلندي «جورج �أوغ�ست والن»، والرحالة البريطاني «وليم غيفورد بلغريف»،، وال��رح��ال��ة الإي �ط��ال��ي «ك�ل�اودي��و غ��وارم��ان��ي»، والرحالة البريطانية «الليدي �آن بلنت» ،والرحالة الفرن�سي «ت�شارلز هوبر» ،والرحالة الألماني «يوليو�س �أويتنغ» ،والرحالة الالتفي «البارون �إدوارد ن��ول��ده» ،وال��رح��ال��ة الت�شيكي «الوي�س مو�سيل» .لم يقدم ه�ؤالء الرحالة معلومات ذات �أهمية بالغة لتاريخ منطقة ال�ج��وف ف��ي هذا النوع من الأدب وح�سب ،بل قدموها بفي�ض من الأحا�سي�س المتوهجة لما يت�أ�صل فيها من عبق التاريخ ،و�أريج الأر�ض و�سخائها ،وعمق االنتماء، وكرم الأهل.
( )1عو�ض البادي ،الرحالة الأوروبيون في �شمال الجزيرة العربية :منطقة الجوف (الجوف :نادي الجوف الأدبي الثقافي2011 ،م)؛ عو�ض البادي ،الرحالة الأوروبيون في �شمال و�سط الجزيرة العربية :منطقة حائل (حائل: نادي حائل الأدبي الثقافي2014 ،م).
72
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
نماذج من �أدب الرحالت
رحلة المرايا المه�شمة ال�صعود �إلى الجبل الأخ�ضر
()1
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
مرة واحدة �أدارت الفتاتان ظهريهما لبع�ضهما و�أمالتا ر�أ�سيهما �إلى الخلف ،وحركتاهما نحو بع�ضهما .وق��ام �صف الفتيات بالت�صفيق لهما و�أي��دي�ه��ن متعامدة ف��وق ��ص��دوره��ن .وف��ي هذه الأثناء كان الفتيان يترا�صون في الجهة المقابلة، وقد الت�صقت مناكبهم و�سيوفهم �أمامهم ،وكانوا يغنون معًا ب�صورة �سريعة ...لقد قيل لي �إن هذه الرق�صة ت�سمى الدّحة».
كان مرتبط ًا بهدفه ،ولم يعّد عمله مهم ًا في �أدب الرحلة .وتبعه ال�ضابط البريطاني «���س� .س. بتلر» �سنة 1908وقد قدم و�صف ًا مهم ًا ومعلومات مهمة حول و�ضع المنطقة ،قدمها في محا�ضرة عامة ،لكنها �أي�ض ًا ال ُتعَد �ضمن �أدب الرحلة ،وفي هذا ال�سياق �أي�ض ًا يمكن و�ضع رحلة «�سانت جون فيلبي» �سنة 1922م �إلى منطقة الجوف.
لل�شاعر العماني �سيف الرحبي. ■ �سعيد بوكرامي -املغرب
()1
�أ�صبح االبتعاد الم�ؤقت �أو الدائم عن الوطن �أحد المو�ضوعات الأكثر �إثارة في �أدب الحداثة وما بعد الحداثة .لأن المفهوم عموما ظهر ك�شرط وجودي ومعرفي للأديب العابر للف�ضاءات �أو المنفي في هذه الف�ضاءات ،التي تتحول جماليا �إلى �سياقات مجازية موغلة في تجربة ال�سفر, المف�ضية بال�ضرورة �إلى تغييرات في الهوية ال�شخ�صية والجغرافيات الرمزية الجديدة التي ي�شكك الأديب الرحالة في ثوابتها المعتادة؛ لأن الحالة االبداعية نف�سها غير م�ستقرة ،فهي ت�سعى دائما �إلى خلق ت�صادم خلاّ ق بين المركز والهام�ش ،بح�سا�سية م�ستك�شفة ونظرة ثاقبة. كان الإن�سان دائما مدفوعا وفي كل الع�صور بالرغبة في اكت�شاف بلدان وثقافات �أخ��رى، والتعرف �إلى �أ�شخا�ص �آخرين ،ثم تقديم �شهادة عن عبوره .وهذا ما جعل �أدب الرحلة يجترح لنف�سه ن��وع��ا �أدب �ي��ا مهما زاخ ��ر ًا بالمعطيات الثقافية واالجتماعية والأنتربولوجية.
و�أحمد محمد ح�سنين( :في �صحراء ليبيا)، وطاهر �أبو فا�شا (وراء تمثال الحرية)؛ و�أمين الريحاني( :المغرب الأق���ص��ى)؛ وم�صطفى محمود( :مغامرة في ال�صحراء – الغابة)؛ وعبدالفتاح رزق( :م�سافر على الموج -رحلة �إل��ى �شم�س المغرب)؛ وخيري �شلبي( :فالح م�صري في ب�لاد الفرنجة)؛ وتركي الدخيل: (�سعوديون ف��ي �أم��ري�ك��ا)؛ وغ��ازي الق�صيبي: (العودة �سائحا �إلى كاليفورنيا) .وعبدالرحمن بن زيدان( :رحلة �إلى اليابان) وغيرهم.
من بين ه ��ؤالء الأدب��اء العرب الرحالة في ع�صرنا الحالي ،الذين كتبوا �أدب رحلة معا�صر ًا ومغايراً ،نذكر :محمود تيمور�( :أبو الهول يطير �شم�س وليل)؛ و�أني�س من�صور( :حول العالملكن �سنوات الت�سعينيات �ستعرف بروز �أدباء في 200ي��وم -اليمن ذل��ك المجهول -بالد اهلل خلق اهلل � -أعجب الرحالت في التاريخ)؛ جدد قدموا لأدب الرحلة من ال�شعر والرواية اجلوبة � -شتاء 1435هـ
73
74
ه��ذا االه�ت�م��ام ب� ��أدب ال��رح�ل��ة ف��ي ع�صرنا ال�ح��ال��ي ت�ج��اوز ال��در���س الأك��ادي �م��ي النمطي، و�أ�صبح له ق��راء �شغوفون بهذا الأدب الزاخر بالده�شة ،وال���ش�ع��ر ،والأم �ك �ن��ة ،وال�ط��رق��ات، والأح�لام ،والخيبات ،دفق من اللغة الجديدة المحتفية بالواقع الواخز للر�ؤية تارة ،والمنع�ش المفتوحة ،ل�ش�ساعة تجاربه وت�شعبها ،وانفتاحه للحوا�س الم�ستنفرة ب�إيقاع الرحلة ال�سابرة على الح�سا�سيات الجديدة والمتجددة .ويمكننا القول كذلك �إن الرحلة الأدبية نافذة مفتوحة للعوالم المجهولة تارة �أخرى. على :النثر ،وال�شعر ،وال�سيرة الذاتية ،وال�سيرة ()2 الغيرية ،والأنتربولوجيا ،وال��دي��ن ،والتاريخ، من النافذة يبد�أ ال�شاعر �سيف الرحبي توقه، والجغرافية .تلتقط الرحلة من هذه الأبعاد ما الكت�شاف ما وراء الأمكنة المغلقة .ومنها �أي�ضا يوافق ثقافة الرحالة وا�ستراتيجيته لت�أليف رحلة يبد�أ الحلم برحلة نحو الواقع الحقيقي وم�سالكه بموا�صفات معينة. الفاتنة .هكذا يعقد ال�شاعر العماني الكبير �إن الرغبة في تقديم �شهادة لقراء محتملين �سيف الرحبي �أوا��ص��ر اللقاء بقرائه؛ م�ؤججا �أفق التلقّي ،ومحفّزا نوا�صي الت�أويل في رحلته �ستدفع الكاتب ال��رح��ال��ة �أو ال��رح��ال��ة الكاتب المو�سومة ب «ال�صعود �إلى الجبل الأخ�ضر»(� .)2أن يكون و�صفه للأماكن �شامال وبعيدا عن ت�ؤ�شر ه��ذه البداية على رغبة جامحة لك�سر التغريب ،معبرا عن م�شاعره ومخاوفه ،و�ساعيا زجاج اللغة والحياة واالنطالق في وهاد المكان لفهم الواقع ،المنزاح �أمامه كم�شاهد م�سرحية. الق�صي والوعر وال�سحري ،ق�صد ت�شييد كيان وهذا يجعل القارئ �أمام رحلة مزدوجة :الرحلة جديد ولغة جديدة بح�سا�سية جديدة. في المناطق النائية ،ورحلة داخلية يكت�شف من يحلو للنقد الفني �أن ي�سمي الفن بالنافذة خاللها الرحالة نف�سه؛ ومن ثمَّ ،فالقارئ ي�شارك اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�إن ع�لاق��ة �سيف ال��رح�ب��ي بالجبل �شبيهة بعالقة بول �سيزان بجبل بلدة «�سانت فيكتوار»، الذي ارتبط به هذا الفنان الثوري في عالم الفن، بحيث ر�سم عنه �أكثر من ثمانين لوحة ج�سّ د فيها مناظره الطبيعية و�إيحاءاته الرمزية� .شيء غريب ومده�ش �أن ي�صرف الفنان �سنوات طويلة لر�سم الجبل نف�سه ،ولفرط ع�شق �سيزان لهذا الجبل كان يرتقيه بوتيرة �شبه يومية ،را�صدا زواي��اه وانعكا�سات ال�ضوء وتحوّالته الف�صلية؛ ومن عجيب ال�صدف� ،أنه �سقط في حالة غيبوبة وهو ي�صعد الجبل نف�سه ،ومات بعدها ب�أيام. وال يمكن �أن ننكر كذلك الح�ضور الثريّ للجبل في الأدب �ي��ات العالمية �سواء الغربية/ الجبل ال�سحري لرائعة توما�س م��ان ،وعند �شاتوبريان والمارتين وريلكه وجان جيونو� ،أو العربية؛ وعلى �سبيل المثال ،نذكر ح�ضور جبل التوباد في ال�شعرية العربية القديمة� .إن الزخم الذي تمنحه الجبال في الثقافات العالمية دليل على ارتباط الإن�سان ثقافيا ووجدانيا وروحيا بالمرجعية الأ�سطورية والدينية للجبل.
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
والق�صة ،نذكر منهم :محمد الحارثي( :عين وج �ن��اح)؛ و�سعد ال�ق��ر���ش�( :سبع ��س�م��اوات)؛ ووارد بدر ال�سالم( :رحلة �إلى جبال الهماليا الهندية)؛ و�أح�م��د ه��ري��دي( :تون�س البهية)؛ ويو�سف رخ��ا( :بورقيبة على م�ض�ض)؛ وخليل النعيمي( :كتاب الهند :الحج �إلى هاري-دوار)، و�أمجد نا�صر( :في بالد ماركيز) �أو غيرها من الن�صو�ص.
في هذه المغامرة ،ك�أن هناك اتفاقا �ضمنيا بين الكاتب الرحالة والقارئ الذي يطالب بحكايات مثيرة عن جغرافيات ال يعرفها؛ وهكذا ي�صبح اكت�شافنا للجبل الأخ�ضر هو اال�ستك�شاف نف�سه الذي خا�ضه الرحالة �سيف الرحبي بين مدارج الجبل الق�صي والع�صي كق�صيدة م�ستحيلة.
دم�شق� ،أحاول الكتابة �شعرا ونثرا ..ذات �صباح معطر باليا�سمين الدم�شقي الأثير �إلى القلب الراحل نزار قباني ،و�أنا �أ�شرب القهوة الأكثر فتنة و�سحرا في ذلك الجو ال�صباحي المبكر، ظهر لي الجبل الأخ�ضر ،مجرة حنين و�أحداثا و�سالالت ..حاولت ت�سلقه كتابيا ،ب�أدوات وج�سد لم يتعودوا ت�سلق مثل هذه الوعورة والغمو�ض.. وعلى الرغم من ذلك م�ضيت في التجربة. وه��ك��ذا ول� ��دت ت �ل��ك ال �ق �� �ص �ي��دة ال�ط��وي�ل��ة ب��أ��ص��وات�ه��ا وع�ث��رات�ه��ا ،وال �ت��ي و�سمت الكتاب بكامله ،حاولت ت�سلق الجبل الأخ�ضر كتابيا، مثلما �أح��اول اللحظة ت�سلقه واقعا و�إقامة ،ولو ب�شكل عابر�...ص .)72/71ثم �أتيحت فر�صة الرحلة الأولى في مطلع الت�سعينيات خالل ف�صل ال�شتاء .الرحلة الأولى م�ستع�صية لظروفها غير المي�سّ رة ،فلم يكتب لها التدوين ب�صفة �شاملة، لكنها مع ذلك تحققت �شرارتها الأولى�( :أتذكر �أني دوّنت مالحظات �سريعة ،لم �أعد الحقا �إلى �صوغها في �سياق ..منها لقطات ن�سور م�سنة �أثقلها البرد وال��زم��ن ،تحلق ذات �صباح على منحدرات «الفيا�ضية»� ...ص .)23
�أم��ا ال��رح�ل��ة ال�ث��ان�ي��ة ،فكانت خ�لال ف�صل ال�صيف( :ف��ي ه��ذه الرحلة نحو الجبل ،كان ال�صيف على �أ�شده ،وكان الهرب �إلى واحة الجبل الأخ�ضر �أحد الحلول المطروحة ..على �سطح الجبل ،وتوائمه من الجبال بالغة العلوّ ،يمكنك تبد�أ رحلة �سيف الرحبي مع الجبل الأخ�ضر �أن تتبين الف�صول ومعالمها و�صفاتها ،على قبل ال�شروع في الرحلة فعليا ،قبل �سنوات خلت عك�س مدن ال�سهل وقراه ،التي من هيمنة الجو عندما ��ص��رح ق��ائ�لا( :ك�ن��ت ع��ام 1979م في الحار والغبار الكوكبي والأر�ضي� ..ص .)24في اجلوبة � -شتاء 1435هـ
75
()3
76
ي�شبه عرين �أ�سود تتجه بر�ؤو�سها الوبرية الغا�ضبة نحو البحر.. ويتبدى حين يكون الجو غائما ،على �شفا مطر� ،سفينة �أ�سطورية ت�����ش��ق ع���ب���اب ال� �ط ��وف ��ان وال� ��زم� ��ن وغ �ب��ار ال�����ص��ح��راء ،حاملة م��ن ك��ل زوج��ي��ن اثنين، يقودها ال��ر ّب��ان ال��ذي �سيتحول الحقا �إلى رم ��ز لإن �ق��اذ ال�ب���ش��ري��ة ال �ت��ي �أ� �ش��رف��ت على االنقرا�ض والمحاق) �ص .12
نعلم �أن ال��رح�ل��ه جن�س �أدب ��ي ت�ن�ع��دم فيه �ضوابط النوع ،لأنه �سرد متلون ،وعلى ا�ستعداد دائ��م ليكون مكتوبا في �أ�شكال �أخ��رى منفتحة على �أج�ن��ا���س �أخ���رى ،يتنا�ص معها ب�سخاء. ك��ذل��ك ال��رح�ل��ة الأدب �ي��ة عند �سيف الرحبي، فهي تزخر بمرجعيات عديدة تذوب في كتابته الرحلية على الن�سق التالي( :ال�سرد ،الو�صف، اال�ستطرادات) ،هذا الن�سق الأ�سلوبي في رحلة �سيف الرحبي تعقبه �إم��ا تعليقات �أو مقاطع يتقدم الرحالة ف��ي ه��ذا المكان الغام�ض �شعرية. والموغل في الأ�سطورة محتفي ًا باال�ستثناء الذي الرحله تقوم� ،إذاً ،على تقاطع هذه الثوابت يحظى به وهو بين مناظره الطبيعية الفريدة. الخطابية الثالثة؛ ي�ستعيرها الكاتب بالتناوب معبرا في ذات الوقت عن ا�ستحالة التوا�صل مع على �شكل وظائف بالغية؛ تميز �أ�سلوبه وتمنحه مكان يفوق اللغة ويتجاوزها بذاكرته وتاريخه حرية اللعب .ه��ذا المنهج ال�ع��ام ف��ي الكتابة و�أ��س��اط�ي��ره( :ال�ع�ن��اق ال��ذي ال يمكن �أن تعبر الرحلية ال نجده �إال عند ال�شعراء الرحالة� ،أو عنه الكلمات وال�صور� )...ص( ،12لكن عناق الرحالة ال�شعراء .وطبعا ما دام ال�شاعر رحالة ال�صخرة وجذور ال�شجرة ظل هو مركز الروح بطبعه ،وال�شعر رحلة في جوهره ،ف�إننا نطلق المت�شظية في هذا الف�ضاء المهيب؛ ظل الأكثر �صفة الرحالة على �سيف الرحبي بكل اطمئنان ،مهابة روحية وت�أمال؛ �أكثر انغرا�سا في الذاكرة بعدما راكم عددا من الن�صو�ص الرحلية التي التي لم يزدها هذا العناق المترامي �إال عذابا تحمل ب�صمة �شاعرية تذيب الطابع التوثيقي وتيها ،ك�أنما كل تلك الح�شود من ال�سنين ،كل التقريري الذي يطغى على بع�ض الرحالت التي تلك الحروب والبعاد ،لم تزده �إال ن�ضارة وخفاء لم يكتبها �شعراء .وبناء عليه ،يمكن القول �إن ي�ستحيل �سبر �أغ ��واره الدفينة المتراكمة).. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
()4 من بين الأ�شياء التي يبحث عنها الكاتب ف��ي الجبل الأخ���ض��ر ،نجد الطفولة البعيدة: (ف��ي طفولة بعيدة ،على رغ��م م��رور �سنواتها ال�سريعة ،ظلت ب�سكونها العميق ،م�شهد بهاء ف��ي ال ��ذاك ��رة ،وع�ل��ى ان��ف��راط ت��ل��ك ال�سنوات وتعاقبها؛ ظلت ك�أنما في ح�ضرة الأب��د وخارج �إع�صار الزمان .منذ عهود طفولتنا البعيدة، في الداخل الحجري لعمان ،والجبل الأخ�ضر، ي�سكن خ�ي��االت تلك الطفولة الغ�ضة وع�ش�ش فيها ،حكايات وخرافات ،جبا ًال وتال ًال تتنا�سل من مراب�ضه الغيبية ..طيورا كوا�سر ،وحروبا ال تهد�أ في رقعة التاريخ� ،إال وت�ستمر ويطول ا�ستمرارها في الوع��ي الجماعات وف��ي خيال الطفولة والمراهقة الملتهب� ..ص.)14 لكن الما�ضي بالن�سبة لل�شاعر الرحالة ،لي�س معينا جافا و�أطالال مهجورة ،بل معينا خ�صبا وا��س�ت�ع��ادة خ�لاق��ة ،تنبج�س لغة وا��س�ت�ع��ارات وت�ك��وي�ن��ا �إب��داع �ي��ا ج��دي��دا وم��راج �ع��ة للوعي وا�ستمرارية نحو الم�ستقبل. بهذا الوعي وهذه الح�سا�سية ي�صبح الجبل القا�سي وال���ش��اق وال�صلد ك�ن��زا م��ن التاريخ الجمعي ال�شفهي وال �م �ك �ت��وب :ح�ك��اي��ات عن
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
الجبل الأخ�ضر تبرز تدرّجات الف�صول ،ويمكن للرحالة �أن ينعم بهواء رطب بعيدا عن مكيفات ال�ه��واء ،يمكنه �أي�ضا �أن ينام بال �أرق .الجبل الأخ�ضر يتحول �إلى ح�ضن رحيم يف�سح المجال للذكريات و�صفاء الر�ؤية ودقة المالحظة وفي�ض الجبل الأخ�ضر وهو ي�سترخي في ظهيرة قائظة ال�صور ال�شعرية.
رحالت ال�شعر �أكثر �شاعرية� ،إذ يح�ضر الوعي ال�شعري لغة ون�سقا ودالالت بين طيات تفا�صيل الرحلة ووقائعها .ولكي نمثل لهذا االدع��اء، �إليكم مفتتح الرحلة:
���ص .13هل �أ�صبح الجبل الأخ�ضر عند �سيف ال��رح�ب��ي ذري �ع��ة ال��س�ت��رج��اع ذاك���رة �ضائعة؟ وهل فعل الرحالة نف�سه ج�سرا روحي ًا وفكري ًا و�إبداعي ًا لكتابة ن�ص �آخر مختلف ومفقود �أي�ضا. هل يق�ضي المبدع حياته جميعه ًا وهو يبحث عنه في الأمكنة والأزمنة والعالقات الوجودية؟
القبائل العمانية (بنو ري��ام ،بنو رواح��ة� ،أهل �سمائل ،و�سكان �صحار ،نزوى ،م�سقط� ،صور، ظفار� ،سرور ،وادي من�صح ،وادي الطائيين، وادي �سمائل ،)...وال�شعراء (�أبو م�سلم :نا�صر بن �سالم البهالني ال��رواح��ي) وق��ادة الحروب القديمة (محمد نور� ،أحمد ابن �سعيد ،الجلندي بن م�سعود ،ورد بن زياد ،حف�ص بن را�شد)...؛ وبهذا �أ�صبح الجبل م�صدرا للتاريخ العماني كما يقول الكاتب( :من هذه المنطقة الوعرة النائية ،ك��ان العمانيون ي�شاركون بح�سم في �أح��داث العالم و�ش�ؤونه التجارية وال�سيا�سية والثقافية والمختلفة� ..ص .)62 وال يخلو هذا التاريخ من الخلفية الأ�سطورية التي تطبع عادة الجبال العربية .ي�صرح الكاتب قائال( :لم يكن ذلك الجبل الواقعي الراب�ض على مقربة م��ن ق��رى طفولتنا� ،إال �أ�سطورة، ول��م يكن للواقع والتاريخ المتراكم �إال ظالل الأ��س�ط��ورة التي تغذيها رواف��د خ��راف��ات �شتى كثيرة المرايا وال�سحرة والأ�شباح ،كما �أنا�شيد البطولة والقتال في الذاكرة� ...ص .)17 بحث ال�شاعر الرحالة في الذاكرة والمكان ال يتوقف عن ارتقاء م��دارج الأ�سطورة .يقول ف��ي م�ك��ان �آخ ��ر( :ال��ذاك��رة وحكاياتها ،ترفع الواقع وكائناته وحوادثه �إلى م�ستوى الأ�سطورة وم���ص�ب��ات�ه��ا ،وب �خ��ا� �ص��ة ف��ي خ �ي��ال الأط �ف��ال الجبليين ،ذلك الخيال الذاهب في البدايات الأول ��ى �إل��ى تلم�س �أ��ش�ي��اء ال��وج��ود وال�ع��ال��م.. �ص.)18 ل��ذل��ك ،ك��ان ال�شاعر ط��وال الرحلة حائرا اجلوبة � -شتاء 1435هـ
77
�إن ت�أثير المرجعية ال�شعرية وا��ض��ح بكل نف�سه ،كانت الرحلة فر�صة للتعرف على الذات ت�أكيد .كما �أن دُرب��ة ال�شاعر على المزج بين وما يتغلغل داخلها. ال�شعري والنثري في ن�صو�صه التي �أ�صبحت الرحلة لي�ست في الواقع ،حيازة هوية بديلة، تحمل ب�صمة خا�صة ،يمكن التعرف عليها حتى و�إن �م��ا معرفة وترميم الهوية الأ��ص�ل�ي��ة .هذا و�إن حجبنا ا�سم كاتبها. التفاعل الكامل والحقيقي الذي حققه الرحالة ا�ستدعى وعيا جديدا ب�أهمية الما�ضي الذي لم ()5 يعد يبدو عالما بعيدا ،ولكن جزءا من المكان عم يبحث ال�شاعر الرحالة في رحلته �إلى الأ��ص�ل��ي و��ش�ج��رة الأ� �س�لاف ال�ت��ي منها يبد�أ الجبل الأخ�ضر؟ الم�ستقبل. ن�لاح��ظ منذ ب��داي��ة ال��رح�ل��ة �أن ال�شاعر/ ويمكن �أن نف�سر ول��ع الرحالة بالبحث عن الرحالة يبحث عن هويته ال�شخ�صية ،من خالل ال �ع��ادات والتقاليد وق��واع��د ح�ي��اة الأ� �س�لاف تاريخ الأ�سالف. بتاريخهم و�أ�ساطيرهم التي �ساعدته في تطوير
78
في الواقع الرحلة عند �سيف الرحبي لي�ست تجربته ك�شاعر ،وت�ح��دي��د �سماته ومظهره، ف�ق��ط ن �ت��اج ال �م��راج��ع الأخ�لاق �ي��ة والمعرفية برغبته الم�شروعة ف��ي ت�أ�سي�س خ�صو�صية المعقّدة التي حددها العالم الذي يعي�ش فيه� ،إبداعية وثقافية فردية ثرية والنهائية.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
■ حممد ال�شحري ُ -عمان
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
مترددا من الف�شل في تفكيك �شيفرة الجبل لغة ولي�ست فقط نتيجة مبا�شرة لل�سلف الذي ينحدر ورموز ًا ومعنى .ومنه �صفة الأخ�ضر الم�ستحيلة .منه. وب��ي��ن م �ع��ال��م ال �ح �ج��ر ال �غ��ام ����ض ب��ال��رم��وز �إن الهوية بالن�سبة �إليه ،هي نتيجة لم�سار واال�ستعارات .ي�صر ال�شاعر على الإق��ام��ة في ف��ردي طويل ،ورحلة غريبة و�شاقة اختار �أن قلب الخرافة والخيال ،م�صحوبا بذاكرة مبلبلة ي�ق��وم بها بعد التخلي ع��ن ج��زء م��ن طقو�سه وخطوات ت�صعد ال��ذروة ب�أحالم ال�شاعر وروح اليومية المعتادة ،التي تتحكم ،رغم كل �شيء، ال �ع��ارف ورغ�ب��ة ال�سابر .ه�ك��ذا ينتظم �إي�ق��اع في وجوده. الرحلة بين �أفعال�( :أنظر� /أتوقف� /أح�س�ست/ لقد ح��اول ال�شاعر �سيف ال��رح�ب��ي ،بهذا �أت� ��ذك� ��ر ،)...ال �ت��ي ت �ح��رك ال �� �س��رد وال��و��ص��ف المعنى ،اكت�ساب وعي جديد ،من خالل البحث والتعليق .ه��ل تحكمت جغرافية ال�م�ك��ان في ال�شاعري عن المجهول الذي يعني بالن�سبة �إليه طريقة الكتابة؟ ال منا�ص من االع�ت��راف ب�أن فقدان العادات ،والطقو�س المعتادة ،والرتابة، رحلة الجبل الأخ�ضر كتبت ب�أ�سلوب �شاعري الجتياز حدود اليقين ،وهذا ما مكنه من تحديد واقعي �أحيانا ،وحلمي �أحيانا �أخرى و�سوريالي خرائط جديدة للجبل الأخ�ضر وفهم جغرافيته في كثير من المقاطع. الجيولوجية والثقافية المنيعتين؛ وفي الوقت
من مقدمة «الطرف المرتحل» الترحال وال�سفر ،والهجرة ،والتنقل ،حاالت عرفها الإن�سان العربي قديما وحديثاً ،وقد �شهدت المنطقة العربية هجرات لأقوام وجماعات من مكان �إلى �آخر� ،سواء في البحث عن الكلأ والماء، �أو نتيجة لظروف مناخية؛ كما حدث عند انهيار �سد م�أرب ،وتفرقت القبائل العربية الجنوبية على �إثره نحو ال�شمال� ،أو العبور �إلى القرن الأفريقي .وقد يكون ال�سفر لدواعي التجارة؛ فقد كان العرب في الجزيرة العربية يقومون برحلتين في ال�سنة� ،إلى اليمن �شتاء و�إلى ال�شام �صيفا، وهذه الرحلة وردت في القر�آن الكريم في �سورة (قري�ش)} :رِحلَ َة ال�شِ تَا ِء وال�صَّ يفِ {. قال الأمام ال�شافعـي :
«����س���اف���ر ت��ج��د ع��و���ض��ا ع��م��ن ت�����ص��اح��ب��ه وان�صب ف���إن لذيذ العي�ش في الن�صب �إن��������ي ر�أي����������ت وق��������وف ال�����م�����اء ي��ف�����س��ده �إن ��س��ال ط��اب و�إن ل��م ي�ج� ِر ل��م يطب» بعد �إن�شاء الدولة الإ�سالمية ،زاد هذا الترحال والتنقل ف��ي الفتوحات الإ��س�لام�ي��ة ،لن�شر الدين الجديد ،والإقامة لدى �شعوب وقبائل �أخرى لتعليمهم �أ�صول الدين الإ�سالمي .ولكن قبل ذلك هاجر بع�ض الم�سلمين من مكة �إلى الحب�شة ،نتيجة للم�ضايقات التي تعر�ضوا لها على �أيدي قريـ�ش ،وقد عرفت تلك الهجرة ،بالهجرة الأولى والثانيـة. �أما في الع�صر الحديث وبالتحديد في منت�صف القرن التا�سع ع�شر ،فقد عرف عرب ال�شام الهجرة �إل��ى الأمريكيتين طلبا ل�ل��رزق وه��رب��ا م��ن الحكم العثماني ال��ذي حكم ب�لاد ال�شام ،وفر�ض �أت��اوات على الأه��ال��ي و�أل��زم ال�شباب بالخدمة الع�سكرية، وكانت المنطقة تتعر�ض �إلى موجات من المجاعة والأم��را���ض؛ الأم��ر ال��ذي دفع بالإن�سان �إل��ى البحث عن مكان �أف�ضل� .أم��ا عرب المغرب فقد هاجروا باتجاه �أوروبا ،وذلك لقرب الم�سافة بينهما ،ونتيجة
ال�ح�م�لات اال�ستعمارية ف��ي الحقب ال�ت��ي تو�صف بالكولونيالية ،وقد قدم المهاجرون العرب �إلى �أوروبا �إما للعمل �أو الدرا�سة �أو لاللتحاق بالجي�ش الفرن�سي �أو الإ�سباني؛ كما هاجر العرب الجنوبيون �إلى القرن الإفريقي و�إل��ى ال�سواحل ال�شرقية لإفريقيا التي �أ�صبحت في يومٍ ما تحت الحكم العُماني العربي ،كما رحل بع�ض العرب اليمنيين �إلى جنوب �شرقي �آ�سيا، و�إلى ال�سواحل الغربية للهند ،وهناك ن�شروا الإ�سالم وازدهرت تجارتهم. �أن��ا هنا ال �أروي هجرة وال اغترابا ،و�إن�م��ا عن ال�سفر � �س ��أح �ك��ي ..ع��ن ت �ب��دل الأم �ك �ن��ة والأج� ��واء والجغرافيا والثقافة والح�ضارة �س�أتحدث ..و�س�أنثر على ب�ساط الحكايات مغامرتنا في الترحال بين مدن وجزر ،عبر و�سائط النقل الحديثة في الجو والبحر وال�ب��ر ،بوا�سطة ال�ط��ائ��رات وال�ق�ط��ارات وال�سفن؛ �إذاً� ،س�أكتب عن تجربة خا�صة ع�شتها وعا�شتها معي ام��ر�أة هي زوج�ت��ي ،رفيقة ال�سفر والترحال، ن��ودع �أنف�سنا ون�ستقبل بع�ضنا بع�ضا في مطارات ومرافئ ومحطات ال نعرف فيها �أح��د ًا وال يعرفنا فيها �أح��د ،ا�ستغرقت الرحلة التي �أت�ح��دث عنها �شهرا كامال من �أواخر نوفمبر �إلى �أواخر دي�سمبر 2009م ،تنقلنا فيها بين ثالث قارات (�آ�سيا و�أوروبا اجلوبة � -شتاء 1435هـ
79
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
الرحلة في ظل الثورة الرقمية
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
80
و�إفريقيا) ،كنا ن��درك �أن الحياة ق�صيرة وال ي�ؤتمن جانبها؛ لذا كان علينا �أن ن�ستغل العمر في كتابة م�شوار م�ؤثث ببع�ض المغامرات والق�ص�ص .فما قيمة الحياة �إن لم تكن مليئة بالحكي والتجارب؟ وما قيمة العي�ش في �إط��ار محدد م��ن ق �ب��ل الآخ� ��ري� ��ن؟! �إذاً ،هل ي�سمى هذا المروق والخروج عن رتابة الجماعة خرقا لنوامي�سها؟ �إذا ك��ان الأم��ر ك��ذل��ك!! فليكن، فما ال�سمو والعبقرية والإب��داع �إال الإتيان بما ال يعهده الأوائل. بد�أت الرحلة من م�سقط �إلى مدريد ثم �إلى جزر الكناري ،ثم الرجوع مرة �أخرى �إلى مدريد ومنها �إلى قرطبة ،وبعدها غرناطة ومنها �إلى بر�شلونة ،ومن هناك �إلى باري�س ثم البندقية (فين�سيا) ،وبعدها �إل��ى جزيرة باليرمو ومنها بحرا �إل��ى تون�س ،ومن تون�س �إلى الجزائر ،وبعدها الرجوع �إلى م�سقط. كنا �شخ�صين ،ي�سافران معا من دون اللجوء �إلى �شركات الأ�سفار والحمالت ال�سياحية التي تنظم مثل هذه الرحالت ،ف�أنا ال �أحبذ مثل هذا النوع من ال�سفر الم�ؤطر� ،إذ تحدد وكاالت الأ�سفار للم�سافر مواعيد الذهاب والإي��اب وتتدخل حتى في تحديد �ساعات النوم وتوقيت الفطور والغداء والع�شاء ،بل �أحيانا يقوم المر�شد ال�سياحي ب�إف�ساد متعة البحث عن المعلومة ويقطع �أحبال الأفكار والتخيل ،لذلك �أح��ب ال�سفر وح �ي��دا ،واك�ت���ش��اف الأ� �ش �ي��اء وح��دي مع ن�صيبي من الحظ والتوفيق ،لكن ه��ذه المرة �س�أ�صطحب معي �شخ�صا �آخر ،و�ستكون هذه المرة الأولى التي ال �أ�سافر فيها وحيدا. �إن م��ا �سيجده ال�ق��ارئ ف��ي ه��ذا الكتاب لي�ست حكايات ع��ن هجرة وال منفى وال اغ�ت��راب��ا ،و�إنما �سرد لوقائع �سفر لزوجين في �شهر الع�سل� ،سافرا معا وتنقال في �أكثر من مكان ،و�سيطلع القارئ على مغامرات وثقافات ورحالت عدة توزعت على خم�س
دول وبين قارتين ،ولمدة �شهر من نهاية �شهر نوفمبر �إلى نهاية دي�سمبر من العام 2009م. ل��وال المتعة ال �ت��ي وجدتها في هذه الرحلة لما كتبت عنها �شيئا؛ ففي ال�سفر ما يُمكن �أن وق�ص�ص يجب �أن تُ�سرد، ٌ يُحكى نكتب ع��ن ال�سفر رب�م��ا لنقول �إن ��ا ك�ن��ا ه�ن��ا ف��ي ه��ذا المكان �أو ذاك ،على ر�صيف ال�شارع وداخل الغابة� ،أو على �شاطئ �أو فوق قمة جبل ،ومع مرور الأيام ي�صبح المكان الذي زرناه جزءا من الذاكرة ومن الحنين. ف��ي �أغ �ل��ب الأح� �ي ��ان نف�ضح � �س��رائ��رن��ا ون�ب��وح بالعواطف العابرة ونك�شفها للمتلقي ،وهذا ما يمكن �أن يُعد �سر الكتابة ف��ي �أدب الرحلة� ،إن�ه��ا كتابة الم�شاعر الم�ستدعاة من �أعماق الأمكنة ،ومن �أرواح الثقافات المتجذرة ،ومن �أطياف التخيل المارقة. قد يتفاج�أ القارئ بوجود رحالت كتبت في �سنوات �سابقة للعام 2009م ،ولكنها كتابات عن الأماكن التي �أُعيد زيارتها من جديد في �شتاء 2009م ،وهي تون�س والجزائر� ،إذ �سبق لي �أن زرت تون�س في �صيف 2003م ،وهي الزيارة الأولى ،ثم �أقمت فيها من �سنة 2005م �إل��ى 2008م لدرا�سة الماج�ستير ،وخالل فترة الإقامة تمكنت من التعمق �أكثر في المجتمع التون�سي ،و�سنحت لي الفر�صة لزيارة الجزائر عن طريق البحر في �أغ�سط�س 2007م؛ ومن هنا ،وجدت �أن �إدراج الكتابات ال�سابقة �إ�ضافة جمالية للكتاب، لأن ف��ي الكتابة الأول��ى م��ا ي�شبه المتعة �أو ده�شة التجربة الأول��ى والتي قد ال ت�سعف الكاتب فيما لو �أراد ا�ستعادة التدوين عن المكان الذي �سبق زيارته، لأن الكتابة عن الرحلة هي وجدانيات مقرونة ببكارة الأ�شياء ،تتدفق مرة واحدة ومن ثم تن�ضب �أو تقلل من مجيئها؛ لهذا كله �أردت �أن ي�شاركني القارئ متعة الزيارة الأولى ،واالكت�شاف الأول..
■ ر�ضوان ال�سائحي -املغرب
اعتدنا في �أدب الرحلة منذ القديم� ،أن يخو�ض الرحالة غمار �سفر طويل ال يعرف وجهته بالتحديد ،وال الزمن الذي �سيق�ضيه خالل م�سار رحلته المجهولة ،وال يعرف الم�سافة التي �سيقطعها ،وال حتى الوجهة التي �سيق�صدها؛ و�إن كان بع�ضهم خرج في مهمة معينة وفي زمن معين ،ف�أخذته مجريات الرحلة �إلى �أن يغير كل ح�ساباته� ،أو يحدثُ طارئ معين فيغير م�سار الرحلة وزمنها ،ويعود بعد �سنين طويلة ،وغيرها من الأم���ور .وك��ان الرحالة يهتم بتدوين التجارب والأحداث التي عا�شها خالل الرحلة بعد عودته. مع تطور و�سائل النقل واالت�صال عبر التاريخ �أخذ طابع الرحلة يتغير� ،إذ تقل�صت م�سافات المكان وال��زم��ان ،ول��م يعد الإن���س��ان يخو�ض تجربة �سفر طويل من دون �أن يعلم الوجهة التي �سيتجه �إليها؛ فتطور الخرائط وو�سائل النقل واالت�صال والتطور الرقمي �أثر كذلك على طريقة التدوين التي �أ�صبحت م�شفوعة بال�صوت وال�صورة ،ونقل الأح��داث ب�شكل مبا�شر و�أكثر واقعية .و�أ�صبحت و�سائل الإعالم تواكب م�سار الرحلة من بلد �إلى �آخر ،وتزود القراء بجميع حيثيات الرحلة وتطوراتها .وبخا�صة و�أن الرحالة في ظل الثورة الرقمية يقوم بدرا�سة وافية لم�ستلزمات الرحلة ،لي�ضع في الأخير مخططا ل�سفره م�ستغال جميع الو�سائل الرقمية لح�ساب الم�سافة ومعرفة البلدان التي �سيزورها ويحدد �أي�ضا تاريخ العودة. كما �أ�صبح بمقدور الإن�سان �أن ي�سافر �إلى عدد كبير من الدول من دون �أن ينقطع عن عمله� ،أو يفقد االت�صال ب�أقاربه وذويه .ف�إذا كانت و�سائل النقل قد اخت�صرت الزمن والم�سافات ،فالثورة الرقمية قد
�ألغت الزمن والمكان .ولعل رحلة الأ�سرة المغربية تو�ضح بجالء �أن��ه بمقدور ال�م��رء �أن يقوم برحلة مع �أف��راد �أ�سرته حول العالم من دون �أن ي�ؤثر على م�ستقبل �أبنائه الدرا�سي� ،أو ترابطه العائلي. ف�ف��ي ال���س��اد���س م��ن �شهر �أغ���س�ط����س 2013م، ب��د�أت عائلة مغربية رحلتها ح��ول العالم انطالقا من مدينة ال��دار البي�ضاء ،والرحلة تحمل عنوان «ب�لان�ي��ت خمي�سة» (� .)Planet Khmissaستجوب العائلة (المكونة من �أب «�أنور العثماني � 49سنة» ،و�أم «مليكة الديوري � 41سنة» ،وثالثة �أطفال – مي�ساء، مايا ،مهدي )-العالم في خم�س �سنوات (من � 6آب «�أوغ�ست» 2013م �إلى �سنة 2018م). وقبل انطالق الرحلة ناق�شت الأ�سرة مع م�س�ؤولي المدينة م�سار ال��رح�ل��ة ال�ت��ي �ستبد�أ م��ن �أمريكا الجنوبية ،م��رورا ب�آ�سيا و�أ�ستراليا ،ثم العودة �إلى �إفريقيا بوا�سطة كارفان ،اقتناها ،خالل �إقامته في مراك�ش ،من �شخ�ص كان ي�ست�أجرها لفرق ت�صوير الأفالم في جنوبي المغرب ،كمنزل لإقامة نجوم الفن اجلوبة � -شتاء 1435هـ
81
(�)1أعجب الرحالت في التاريخ-الجزء الأول� -أني�س من�صور -ط ،13مطابع الأهرام التجارية م�صر).
82
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
من تجاربي في ال�سفر: الطريق �إلى قرطبة
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
ال�سابع .و�أطلقت عليها الأ�سرة ا�سم (م�سك الليل) ي�صل طولها ت�سعة �أم�ت��ار ،ووزن�ه��ا �ستة �أط�ن��ان ،تم تطويعها لت�صبح م�سكنا وو�سيلة لخو�ض هذه المغامرة الفريدة في نوعها .و�سلم عمدة المدينة مجموعة من الهدايا التذكارية ور�سائل الدعم للعائلة ،من �أجل ت�سليمها لعمداء مدن البلدان التي �سيزورونها من �أجل تقديم الدعم المادي والمعنوي لها. ول��م ت�شكل فكرة ا�صطحاب الأب�ن��اء في الرحلة ت �� �س��ا�ؤال ح��ول متابعتهم ل��درا��س�ت�ه��م ،ح�ي��ث �سيتم متابعة الدرا�سة عبر المواقع الإلكترونية التابعة لوزارة التعليم الإ�سبانية التي تعترف بالدرا�سة عبر الإنترنت ،و�سيكون ب�إمكانهم اجتياز امتحانات كل ثالثة �أ�شهر في القن�صليات �أو المدار�س الإ�سبانية عبر العالم. لقد ت��م التخطيط ل�ه��ذه ال��رح�ل��ة منذ �سنتين، والتفكير خاللها بروية و�إم�ع��ان في و�سيلة النقل، وال�ت��أم�ي��ن ال�صحي وغ�ي��ره��ا ،وفيما يخ�ص تمويل الرحلة فقد تم توفيره من مدخرات الأب الخا�صة، والذي يتقن �أربع لغات ،وتقلَّب في العديد من المهام.. منها مدير عام �سابق في �إحدى ال�شركات في المغرب وا�شتغل في م�ؤ�س�سة بنكية. �ستتوجه العائلة ف��ي ب��داي��ة رحلتها �إل��ى مدينة طنجة ،ثم بع�ض البلدان الأوروبية قبل التوجه �إلى �أميركا الالتينية لقطع المحيط الأطل�سي في اتجاه قارة �أمريكا الجنوبية ،حيث �ستق�ضي العائلة هناك �سنة ون�صف ال�سنة ..ت�ج��وب خاللها العديد من البلدان وبخا�صة الأوروغواي ،والأرجنتين ،وال�شيلي، والبرازيل ،وبوليفيا ،بعدها �سيتوجهون �إلى القارة الآ�سيوية ،ثم �أ�ستراليا لتكون العودة �إلى �إفريقيا� .إذ خطط الزوجان لزيارة نحو ( )80بلدا. و�أو�ضح رب الأ�سرة �أن القيام بهذه الرحلة حول العالم بمعية عائلته ،ت�شكل �أح�سن و�سيلة لتحمل م�س�ؤولية تربية �أبنائه والتدبّر في القيم الإن�سانية، و�إعطائهم فر�صة اكت�شاف �أنماط �أخرى من العي�ش،
واالنفتاح على الآخرين وعلى ثقافات �أخرى .والرحلة ح�سب الأ�سرة هي محاولة لل�سير على خطى الرحالة المغربي ابن بطوطة بطريقة ع�صرية ومختلفة ،تتيح التعرف على ح�ضارات العالم و عادات �سكانه. ه��ذا نموذج لرحلة في ظل ال�ث��ورة الرقمية� ،إذ تم التفكير في �أدق التفا�صيل كاختيار البلدان التي �سيزورونها ،و�إع��داد التمويل ،وك��ذا تعليم الأبناء؛ هذا �إ�ضافة �إلى توفرهم على �آالت الت�صوير الرقمية التي ت�سهل توثيق الرحلة بجميع حيثياتها ،و�أجهزة كمبيوتر محمولة تمكنهم م��ن االت���ص��ال ال��دائ��م بالعالم ،بما فيها االطالع على معلومات �شاملة عبر الإنترنيت عن البلد ال��ذي �سيتم زي��ارت��ه ،وخرائط دقيقة ،ناهيك عن جهازGPS Global Positioning( )Systemال�ستقبال الإ�شارات والمعلومات من الأقمار ال�صناعية وتحليلها ،لإع�ط��ائ��ك الإح��داث �ي��ات لأي نقطة على الأر���ض ،كذلك خطوط الطول والعر�ض واالرتفاعات والزمن ،ويمكنه التعامل مع �أكثر من قمر �صناعي ،وغيرها من الو�سائل التقنية التي ت�سهل م�سار الرحلة. لقد كان ال�سفر قديما من م�ستلزمات و�ضروريات الحياة في المجتمعات ،دافعه الأ�سا�سي البحث عن �سبل �أف�ضل للعي�ش ،لكن هناك نوع من الأ�سفار كانت دوافعه �أعمق و�أقرب �إلى الجنون �أحيانا ،لأنها ارتبطت بحب االطالع على مجتمعات �أخرى ،واكت�شاف بلدان جديدة� ،أو البحث عن طرق مخت�صرة عبر البحر، ف � ُع��رف ه��ذا ال �ن��وع م��ن ال��رح�لات ب�صعوبته ،لأن��ه ارتبط ب�سفر طويل الأم��د ي��دوم ع�شرات ال�سنين؛ ولذلك كانت الرحلة تمثل م�سار ًا مجهو ًال �شائك ًا مليئ ًا بالم�صاعب والمخاطر ،قد ال يعود منها الم�سافر �سالما ،فالإن�سان «يف�ضل دائما �أن يعرف المجهول مهما كان الثمن ..وكثيرا ما دفع الم�سافرون �أرواحهم من �أجل �أن يعرفوا ..وماتوا وهم يعرفون �أكثر ..وال بد �أن تعا�ستهم الوحيدة هي �أن الموت حرمهم من �أن يقولوا ما الذي ر�أوه»(.)1
■ ف�ؤاد ح�سن كابلي -املدينة املنورة
ذات يوم� ،سافرت من مطار بورجيه في باري�س متجها �إلى قرطبة عن طريق مدريد .كان الجو يومها �شديد البرودة ،وال�سماء تمطر بغزارة على ر�ؤو�سنا� ،إلى �أن ركبنا الطائرة وكنت وحيداً ..جل�ست �إلى جانب النافذة� ..أت�أمل رذاذ المطر وهي تنعك�س عليه ..و�إذا ب�شاب عرفتُ من لهجته الباري�سية �أنه فرن�سي؛ لأنني �أتقن هذه اللغة ..فقد در�ست في فرن�سا. جل�س ه��ذا ال���ش��اب الو�سيم �إل��ى جانبي، وكان �أ�شقر اللون حلو ال�سمات ،في عينيه حَ َو ٌل خفيفٌ يزيده مالحة ،وكانت برفقته فتاة لعلها خطيبته� ،سمراء �سمرة لطيفة وا�سعة العينين، �أرخ ��ت على ��ص��دره��ا جديلتين �سوداويتين طويلتين ..ولفَّت نف�سها في ثوب عنابي داكن �أدارت م��ن حوله ح��زام� ًا � ُ��ش��دَّ على خ�صرها فجعلها علة نحو يوحي بقوة ال�شباب!! جل�ست �إلى جانب هذا ال�شاب ..وكنت �أعرف عن غزل الفرن�سيين ،و�أع��رف �أن لهم طقو�س ًا خا�صة ال ت�ستطيع معظم ال�شعوب تقليدها !..نظرت �إليهما ،وبدت مفا�صلي ترتجف ،وبد�أت عيوني تحدِّ ق في الفراغ ت�شرد وتذهل ..و�أحيان ًا ت�شدني نحوهما .وكنت �أتمنى ب�سبب هذا الحال �سرعة و�صولنا وهبوط الطائرة ب�أي حال من الأحوال، وغدوت �أحدق بعيني هنا وهناك� ،أت�أمل خلق
اهلل �سبحانه وتعالى ..وجوه ًا �شابة ووجوه ًا �أكل عليها الزمن و�شرب� ..أخير ًا اخترت النظر من خالل نافذة الطائرة �إل��ى الأر���ض الخ�ضراء، وال�سحاب المتقطع يظهرها ويخفيها ..وي�صعد الدخان من لفافة التبغ التي تدخنها هذه الفتاة التي ال يف�صل بيني وبينها �سوى هذا ال�شاب، ويدفع هواء مكيف الطائرة بالدخان الممزوج ب�أبخرة العطر نحوي !..كنت �أكره رائحته ومن يومها تبدل ال �ح��ال� ..ضغطت على زر ن��داء الم�ضيف ،فح�ضر فطلبت كوبا من ال�شاي �أو القهوة ..فهذا هو الوقت المنا�سب ،فقد تفتحت لدي منافذ الإح�سا�س على الرغم من �أنني ال �أتعاطى هذه المنبهات ..وهبطت الطائرة في مطار مدريد ،وحمدت اهلل ،وغادرت الطائرة �إل��ى �أخ ��رى ..متجها �إل��ى مدينة قرطبة ،وال �أع��رف �أي��ن كانت وجهتهما ،و�أقلعت الطائرة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
83
ين�سكب عليه� ،أبي�ض� ،أحمر� ،أخ�ضر ،ال يعرف له لون محدد ..تتعدد في �سقفه �صدفة �ضخمة من الرخام النا�صع ،تحمل خطوطها الممتدة ال�صوت فتذيعه في �أنحاء الم�سجد..
84
مرة �أخرى و�أنا �أ�شعر بالوح�شة التي كانت تملأ نف�سي ،ف�أح�س�ست وك�أني ماء محبو�س فتحت له فر�صة في الأر� ��ض ،فجرى ين�ساح في كل اتجاه ..م�شاعر مكبوتة �أرهفتها حدة الإح�سا�س بالوحدة وفورة الحياة في هذه ال�سن ،فقررت وقفت مذهو ًال �أتطلع على ما ال يرى الإن�سان من يومها �أن تكون �أم العيال في المقعد الذي مثله �إال حينما ت�سعفه الأق��دار ..وفج�أة غامت بجانبي قدر الم�ستطاع ..وهذا ما يحدث.. و�صلت قرطبة ،وب ��د�أت ب��زي��ارة الم�سجد عيناي ،وتخيل لي �أن �أع�م��دة الم�سجد تهتز فوجدته زاخر ًا بالنقو�ش وقد غامت فوقه الألوان �أمامي من خالل الدموع ،ونف�سي ت�س�ألني :ترى ال تحققها العين ..اجتزت الباب ووقفت �أمام لماذا بكيته؟! عن يوم ذلك الما�ضي ال�شامخ..؟ باب الم�سجد ..فدفعته في رهبة ،فطالعتني �أم الحا�ضر الذي نحن فيه؟؟ اهلل وحده �أعلم. عتمة خفيفة ما لبثت �أن �أ�شرقت فيها �أل��وان الرخام المجزع ..وحجرة العقود المتداخلة.. فلما �ألفت عيناي النور ،بدت لي غابة ر�شيقة م��ن �أع� ��واد ال��رخ��ام وع �ق��ود م�ل��ون��ة ��س��اح��رة اال�ستدارة ،وم�ستطيالت مزينة ب�آيات القر�آن الكريم ..على مدى ال تح�صره العين ..ف�سِ رت كالم�سحور بينهما حتى �أقبلت على المحراب.. وهناك ر�أيت الجمال الذي يعقد الل�سان ،ول�ست �أع��رف كيف يو�صف مثله ..والمحراب حجرة �صغيرة من الرخام الم�صقول ..يبين ك�أن الماء جامع قرطبة اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
م�شاهير الرحالة حول العالم ■ مر�سي طاهر �أبو عوف – دار اجلوف للعلوم
يزخر الإنتاج الفكري العربي بالحديث عن م�شاهير الرحالة حول العالم؛ وبا�ستعرا�ض هذا الإنتاج ،نجد �أن الحديث عن ه���ؤالء الم�شاهير با�ستفا�ضة يمثل الحديث عن قطاع كبير من التراث الفكري والأدبي ،لي�س العربي فقط ،بل العالمي كذلك .هذا التراث ..يبحر بنا �أحياناً تجاه �أدب الرحالت ،و�أحياناً �أخرى تجاه الجغرافيا والتاريخ ،ولذلك �أ�سباب معروفة منها �أن �سبب �شهرة ه�ؤالء الرحالة هو في الواقع يمثل ا�ستك�شافاً لمناطق جغرافية ،وكذلك تدوينهم للتاريخ العالمي المرتبط بوجود قوى عالمية �أو �إمبراطوريات في تلك الأزم��ان ،كذلك اهتم ه�ؤالء بتدوين الحوادث والواقعات التي مروا بها �أو اكت�شفوها .وفي رحاب تلك اال�ستك�شافات، ن�ش�أ نوع جديد من الكتابات� ،أُطلق عليه �أدب الرحالت؛ �أ�سهمت هذه الكتابات في نقل كثير من ال�صور الجميلة والم�شاهد المميزة لتلك البالد وطبيعتها الجغرافية ،وظروفها المعي�شية، و�ألقت ال�ضوء على تاريخها و�أفكار �سكانها ،وع��ادات وتقاليد قد تختلف وقد تتفق مع عادات البالد التي جاءوا منها؛ ما �ساعد على نقل بع�ض ثقافات ال�شعوب الأخرى ،و�إثارة االهتمام بها، وت�شجيع المهتمين من العلماء وطلبة العلم على زيارة تلك البالد. وعلى طريقة المالحين ،اكت�شفت الحدود المو�ضوعية لمقالي ع��ن م�شاهير الرحالة، حتى �أ�ستطيع �أن �أبحر معهم في �سياحة فكرية م��وج��زة ت�ح��اول التعريف بهم ق��در الإم�ك��ان، وتو�ضح للقارئ جانب ًا مهم ًا من التراث الإن�ساني الذي تركوه لنا ،وف�ضلهم الكبير على الإن�سانية العالمية. عرف الإن�سان الرحلة �أو الترحال والتنقل
بفطرته التي جبل عليها منذ بدء الخليقة؛ منذ �أن هبط �آدم وحواء �إلى الأر���ض ليعبدوا اهلل، وليعمرا ب�أوالدهما الأر�ض وينت�شروا فيها ،كما ذُ كرت الرحلة في القر�آن في �سورة الفيل ،ما يدل على معرفة الإن�سان بالرحلة. �أم��ا ت��دوي��ن تلك ال��رح�لات �أو ت�سجيلها، فقد قام به الإن�سان بعد قرون طويلة ،فبد�أوا ي�سجلون تلك الرحالت عن طريق الر�سم على اجلوبة � -شتاء 1435هـ
85
86
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ابن جبير �صاحب كتاب «تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأ�سفار» ،ع��رف ب�ـ :رحلة اب��ن جبير ،وه��و من الأن��دل ����س ،ا�سمه محمد ب��ن �أح �م��د ب��ن جبير الكناني ،المعروف بابن جبير ولد في بلن�سية ب�إ�سبانيا �سنة 540هـ (1145م) ،وتعلم على يد �أبيه وغيره من العلماء في ع�صره ،ثم ا�ستخدمه �أمير غرناطة �أب��و �سعيد بن عبدالم�ؤمن ملك الموحدين في وظيفة كاتم ال�سر ..فا�ستوطن غرناطة ،وك��ان الأمير �أب��و �سعيد قد ا�ستدعاه يوما ليكتب عنه كتابا وهو ي�شرب الخمر ،ف�أرغم ابن جبير على �شرب �سبعة ك�ؤو�س من الخمر و�أعطاه �سبعة �أق��داح دنانير ،لذلك �صمم ابن جبير على القيام برحلة الحج بتلك الدنانير تكفيرا عن خطيئته ،و�أق��ام في �سفره �سنتين، ودوَّن م�شاهداته ومالحظاته في يوميات ،وذلك نحو �سنة 582ه��ـ1186( /م) ،وت��داول كتابه ال�شرق وال�غ��رب ،حتى ق��ام ال�م��ؤرخ والمترجم الإنجليزى «ويليام رايت» بن�شره وطبعه في كتاب جمع عددا كبيرا من الرحالت لرحالة وحجاج عرب و�أجانب م�سلمين وم�سيحيين ويهود. العالمة الإدري�سي �صاحب كتاب (نزهة الم�شتاق في اختراق الآف��اق) ،وا�سمه �أبو عبداهلل محمد بن محمد ب��ن ع �ب��داهلل ب��ن �إدري� �� ��س� ،أح ��د ك �ب��ار علماء الجغرافيا ،كما �أنه كتب في التاريخ ،والأدب، وال�شعر ،والنبات ،ودر���س الفل�سفة ،والطب، وال�ن�ج��وم ف��ي ق��رط�ب��ة ،ول��د ف��ي مدينة �سبتة
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
جدران مبانيهم ،كما هو موجود على جدران معبد الدير البحري بم�صر العليا �صور رائعة ل�سفن الملكة حت�شب�سوت (من ملوك الأ�سرة الثامنة ع�شرة الفرعونية) ،عند عودتها لم�صر بعد رحلتها �إلى بالد «بنت» في الجنوب. �أم��ا الفينيقيون فلهم رح�لات عديدة من خالل المحيط الأطل�سي �إلى الجزر البريطانية، وا�ستطاعوا �أن يقيموا م�ستعمرات على طول بحر الروم (الأبي�ض المتو�سط) وفي �إ�سبانيا؛ وخَ لَفهم الإغريق ،ف�أقاموا م�ستعمرات في بحر الروم والبحر الأ�سود ،واختلفوا عن الفينيقيين ف��ي �أن�ه��م ت��رك��وا العديد م��ن المعلومات عن جغرافية العالم في زمانهم عن طريق التدوين والت�سجيل .ثم ج��اء العرب الذين ورث��وا عن جدودهم ال�سابقين حب ال��رح�لات ،وا�شتهر كثير م��ن ال��رح��ال��ة ال�ع��رب ال��ذي��ن �سجلوا كل م�شاهداتهم مع جغرافية البالد التي زاروها، وق ��د ب� ��دءوا ب��رح �ل��ة ال��ح��ج ،ث��م ا��س�ت�ه��واه��م الترحال ..فجابوا بقاع العالم الإ�سالمي كله؛ ثم ب��د�أ بعد ذلك ن�شر الإ��س�لام ،فجابوا بقاع العالم بر ًا وبحراً ،ومن تلك الرحالت ن�ش�أت �أقا�صي�ص ال�سندباد البحري وال�سندباد البري. وربما لم تذكر الكتابة عن الرحلة �إال بعد الهجرة النبوية والفتوحات الإ�سالمية؛ �إذ ظهرت كتابات عن رح�لات ق��ام بها الرحالة ال�ع��رب ج��اب��وا ال�ب�لاد حتى و�صلوا �إل��ى بالد �أ�شهر الرحالة العرب ال�صين والهند وب�لاد ما وراء النهر وتركيا وغيرها. ابن ف�ضالن و�أخ � ��ذت ج �ي��و���ش ال�م���س�ل�م�ي��ن ف��ي ع�صر �صاحب ك�ت��اب ر��س��ال��ة اب��ن ف���ض�لان ،ولد الفتوحات الإ�سالمية تغزو الأر�ض �شرق ًا وغرب ًا في القرن العا�شر الميالدي� ،أر�سله الخليفة و�شما ًال وجنوباً ،وكان �أكثر الخلفاء يطلب من العبا�سي المقتدر باهلل من بغداد �إجابة لملك ق��ادت��ه �أن ي�صفوا ل��ه ال�ب�لاد المفتوحة حتى ال�صقالبة -في رو�سيا -لتعليمه الإ��س�لام،
يعرفونها كمن ر�آها ..و�أول من فعل ذلك عمر بن الخطاب ر�ضي اهلل عنه ،حين طلب من عمرو بن العا�ص �أن ي�صف له م�صر ،فبعث �إليه بخطاب م�شهور ،ي�صف فيه جغرافية م�صر ونيلها ومدنها و�شعبها .ويذكر ابن الأثير �أنه عندما غزا قتيبة بن م�سلم مدينة بخارى �سنة 718ه�ـ ،طلب منه ر�سم خارطتها وما حولها، ث��م جمع الخليفة وزراءه ..ومنهم الحجاج بن يو�سف ال��ذي �أ�شار بخطة الفتح بناء على الر�سم ،وبذلك نجح قتيبة في فتحها .ومما يروى في ذلك �أن الخليفة الفاطمي المعز لدين اهلل(975-952م) ا�ستدعى فريق ًا من علماء الجغرافيا الم�سلمين ،و�أمرهم �أن ير�سموا له خريطة كبيرة للعالم ،لكي يُجَ مِّ ل بها جدران ق�صره في القاهرة ،وقد و�صف المقريزي تلك الخريطة فقال� :إنها تكلفت اثنين وع�شرين �أل��ف درهما ،وهي عبارة عن مقطع كبير من الحرير الأزرق ،غريب ال�صفة ،من�سوج بالذهب و�سائر �ألوان الحرير ،فيه �صورة �أقاليم الأر�ض، وجبالها ،وبحارها ،ومدنها ،وم�سالكها ،وفيه �صورة مكة والمدينة ،وقد ُكتِب ا�سم كل مدينة وجبل وبلد ونهر وطريق بالذهب �أو الف�ضة. ف��ي ال�سطور ال�ق��ادم��ة ن�ت�ن��اول ب�شيء من الإيجاز �أ�شهر الرحالة العرب والأجانب ،الذين تركوا لنا تراث ًا كبير ًا اقترن ب�أ�سمائهم ،و�صار منارة للعالم على مدار تاريخه.
وبناء م�ساجد وح�صن له من �أعدائه ،ف�أر�سل ابن ف�ضالن على ر�أ�س وفد العلماء والفقهاء، و�أم�ضى ثالث �سنوات من (924 -921م) في بالد الرو�س وال�صقالبة والخرز واال�سكندنافيه.
�شمالي المغرب عام 493هـ (1100م) ،ومات عام 560هـ (1166م) .زار الحجاز وم�صر، وو�صل �سواحل فرن�سا و�إنجلترا .و�سافر �إلى الق�سطنطينية و�سواحل �آ�سيا ال�صغرى. ا�ستُخْ دمت خرائطه في �سائر ا�ستك�شافات الرحالة الغربيين في ع�صر النه�ضة الأوربية، وق��د ح��دد ف��ي خ��رائ�ط��ه ال�ت��ي ن�شرت بكتابه اتجاهات الأن �ه��ار والمرتفعات والبحيرات، أي�ضا معلومات ومنابع نهر النيل ،و�ضمنها � ً عن المدن الرئي�سة� ،إ�ضافة �إلى حدود الدول. كما انتقل الإدري�سي �إل��ى �صقلية بعد �سقوط الحكومة الإ�سالمية ،لأن ملكها في ذلك الوقت «روج ��ر ال�ث��ان��ي» ك��ان محب ًا للمعرفة ،ف�شرح الإدري���س��ي لروجر موقع الأر���ض في الف�ضاء م�ستخدمً ا في ذل��ك البي�ضة لتمثيل الأر���ض، �شبه الإدري�سي الأر�ض ب�صفار البي�ضة المحاط ببيا�ضها تماما ،كما تهيم الأر���ض في ال�سماء محاطة بالمج َرّات. ابن بطوطة ولد في طنجة �سنة 703هـ (1304م) في المغرب ،وينت�سب �إلى عائلة عرف عنها عملها في الق�ضاء .وفي فتوته در�س ال�شريعة ،وقرر عام 1325م وهو ابن ع�شرين عاماً� ،أن يخرج ح��اج�اً ،كما �أ َّم��ل من �سفره �أن يتعلم المزيد عن ممار�سة ال�شريعة في �أنحاء بالد الإ�سالم. وخ��رج م��ن طنجة �سنة 725ه� �ـ ،فطاف بالد المغرب ،وم�صر ،وال�شام ،والحجاز ،والعراق، وفار�س ،واليمن ،والبحرين ،وترك�ستان ،وما وراء النهر ،وبع�ض الهند وال�صين و�أوا�سط �أفريقيا .وات�صل بكثير من الملوك والأم��راء فمدحهم ،وكان ينظم ال�شعر ،وا�ستعان بهباتهم على �أ�سفاره. اجلوبة � -شتاء 1435هـ
87
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ومن رحالة الع�صر الحديث حممد ح�سني هيكل� :صاحب كتابي:ع�شرة �أيام في ال�سودان ،ويوميات باري�س. �إب��راه��ي��م ع��ب��دال��ق��ادرامل��ازين� :صاحب كتاب رحلة الحجاز ،وواحد من جيل العمالقة، وهو كاتب روائي و�شاعر م�صري عبقري ،ولد في القاهرة في م�صر 1889/8/19م. زك��ى مبارك :كاتب م�صري ل��ه ذكريات بغداد ،وذكريات باري�س. يحيى املعلمي :ك��ات��ب ��س�ع��ودي ل��ه رحلة علمية ورحالت �أخرى. �أني�س من�صور :الكاتب الم�صري الكبير المعا�صر ،الذي كتب �أجمل كتب �أدب الرحالت مثل« :حول العالم في 200ي��وم» ،و«ب�لاد اهلل لخلق اهلل»« ،غريب في بالد غريبة»« ،اليمن ذلك المجهول»�« ،أنت في اليابان وبالد �أخرى»، «�أطيب تحياتي من مو�سكو»�« ،أعجب الرحالت في التاريخ». د .ع��زة ب��در :كاتبة م�صرية� ،صاحبة كتاب �أم الدنيا ،وكتاب «رحالت بنت قطقوطة
م � � � � � � � � �ل � � � � � � � ��ف ال � � � � � � � � �ع � � � � � � � ��دد
88
وع ��اد �إل ��ى ال�م�غ��رب الأق �� �ص��ى ،وذه ��ب �إل��ى ال�سلطان �أب��ي عنان (م��ن ملوك بني مرين) ف�أقام في بالده .و�أملى �أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي �أدي��ب ال�سلطان ،بمدينة فا�س �سنة 756هـ ،و�سماها(تحفة النُّظار في غرائب الأم�صار وعجائب الأ�سفار)، ت��رج�م��ت رح�ل�ت��ه �إل���ى ال �ل �غ��ات البرتغالية والفرن�سية والإنجليزية ،ون�شرت بها ،وترجمت ف�صول منها �إل��ى الألمانية ون�شرت �أي�ضا بها، وك��ان يُح�سن التركية والفار�سية .وا�ستغرقت رحلته «� »27سنة (1352-1325م) ،ومات في مراك�ش �سنة 779ه �ـ (1377م) .تلقبه جامعة كامبريدج في كتبها ومو�سوعاتها ب�أمير الرحالة الم�سلمين .و�أطلق علماء الع�صر ا�سم ابن بطوطة على �إحدى الفوهات البركانية على �سطح القمر. قام ابن بطوطة بثالث رحالت ،وقد ا�ستغرق في مجموعها نحو ت�سع وع�شرين �سنة ،وكان �أطولها الرحلة الأول��ى التي لم يترك خاللها ناحية من نواحي المغرب والم�شرق �إال زارها، وك��ان��ت �أط��ول �إق��ام��ة ل��ه ف��ي ب�لاد الهند ،حيث تولى الق�ضاء �سنتين ،ثم في ال�صين حيث تولى الق�ضاء �سنة ون�صف ال�سنة. وفي هذه الفترة و�صف كل ما �شاهده وعاينه فيهما ،وذكر كل مَ ن عرفه من �سالطين ورجال ون�ساء ،وو�صف مالب�سهم وعاداتهم و�أخالقهم و�ضيافتهم ،وما حدث في �أثناء �إقامته من حوادث وحروب وغزو وفتك بال�سالطين والأمراء ورجال الدين ،وكان ابن بطوطة خالل �إقامته هذه مندفعا بعاطفته الدينية �إلى لزوم الم�ساجد والزوايا ،فلم يدع زاوية �إال وزارها ونزل �ضيفا عليها. �أما رحلته الثانية فكانت �إلى �إ�سبانيا ،والثالثة �إلى ال�سودان.
ياقوت الحموي وهو رحالة جغرافي ،و�أديب و�شاعر وخطاط ول �غ��وي ،ول��د ف��ي مدينة ح�م��اة ع��ام 574ه��ـ/ 1178م ،ويلقب بالحموي ن�سبة �إل��ى مدينته حماة ،وا�سمه �شهاب الدين �أبو عبداهلل ياقوت بن عبداهلل الحموي ( 626 - 574هـ)� ،أديب وم�ؤلف مو�سوعات ،وخطّ اط ،من �أ�صل رومي.. ا�شتعل بالعلم ،و�أكثر من درا�سة الأدب ،وقد �سمّى نف�سه (عبد الرحمن) .و�أه��م م�ؤلفات ياقوت الحموي كتاب (معجم البلدان) الذي ترجم وطبع عدة مرات.
2007م» ..ت�صف فيه رحلتها �إل��ى اليونان �سلوق�س نيكاتورا� ،إلى الملك الهندي �ساندراكو�ش، و�إيطاليا وبالد �أخرى. وقد �سجل رحلته �إلى الهند في كتابهses indica : وهناك عميد الرحالين ..الرحالة ال�سعودي اعتمد عليه كمرجع الم�ؤرخ �سترابون. المعروف حممد بن نا�صر العبودي (1345هـ بلينى(23ـ79ق.م) 1930م) �أدي ��ب وم ��ؤل��ف ورح ��ال �سعودي،رحالة جغرافي التيني ،توفي �أث�ن��اء هيجان ولد في مدينة بريدة ،وي�شغل من�صب الأمين ال�ع��ام الم�ساعد لرابطة العالم الإ��س�لام��ي .ب��رك��ان ف �ي��زوف �سنة 798ق.م� ،أل ��ف ال�ت��اري��خ �أتاح له عمله في الرابطة زيارة معظم �أ�صقاع الطبيعي ،وهو مو�سوعة ودائرة معارف علمية في العالم ،فكان لم�شاهداته العديدة واطالعاته ( )37مجلدا ،وهو الذي �أ�شار �إلى وجود مخلوقات �أن تثمر �أكثر من مائة و�ستين كتاب ًا في �أدب غريبة -ي ��أج��وج وم ��أج��وج -و�أن �سدا حديديا الرحالت .منح ميدالية اال�ستحقاق في الأدب يح�صرهم ويعزلهم عن الب�شر.
ع��ام (1394ه� �ـ1974 -م) ،وعلى الرغم من �أن تعليم ال�شيخ محمد بن نا�صر العبودي كان تعليم ًا ديني ٌا في مجال ال�شريعة الإ�سالمية� .إال �أن معظم م�ؤلفاته كانت �أدبية ،وي�صب الجانب الأكبر منها في مجال �أدب الرحالت ،حيث يعد دمنغو باديا باي العبا�سي الإ�سباني من الرواد في هذا المجال ,والجزء الآخر من م�ؤلفاته في مجال اللغة ,وقد بلغ عدد م�ؤلفاته �أول رحالة �إ�سباني زار العالم الإ�سالمي ،زار المطبوعة نحو ( )128كتاباً ،ويوجد لديه نحو المغرب الأق�صى �سنة 1803م في عهد ال�سلطان ( )100كتاب �آخ��ر ما ت��زال مخطوطة تنتظر �سليمان ال�ع�ل��وي ،وال �ج��زائ��ر ،وليبيا ،وم�صر، الطبع. وال�شام ،والجزيرة العربية ،ودخل مكة والمدينة حاجا �سنة1807م ،وله رحلة مهمة في مجلد.. م�شاهير الرحالة الغربيين ن�شرت باللغة الإ�سبانية واق �ت��رح على مراكز هيرودوت ( )425 484ق .م الترجمة في ال�سعودية �أو في دول الخليج ترجمتها م��ؤرخ ورحالة كبير لقب ب�أبي التاريخ ،زار �إلى اللغة العربية وطبعها ون�شرها. م�صر و�آ�سيا ال�صغرى وبالد الإغريق و�صقلية هنري مونديل(665هـ1701-م) و�إيطاليا ،و�سجل في تاريخه حياة مائتين من رحالة له كتاب (رحلة من حلب �إلى القد�س ال�شعوب والقبائل المختلفة الأجنا�س ،وتاريخه �سنة 1697م) و�صف فيه رحلته �إلى بالد لبنان يعد من تراث الإن�سانية الخالد. والقد�س. ميغا�ستين (القرن الثالث قبل الميالد) ماركو بولو م�ؤرخ ورحالة يوناني قام ما بين �سنتى(302 كان البحار الإيطالي ماركو واحدا من بين ـ 207ق.م) بمهمة دبلوما�سية كلفه بها �أميره
بطليمو�س(القرن الثاني بعد الميالد) رح��ال��ة وجغرافي وفلكي ،وه��و م��ؤل��ف دائ��رة معارف فلكية (المج�سطى) نقل عنه جغرافيو العرب.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
89
كري�ستوفر كولمب�س مكت�شف �أم�ي��رك��ا ..الم�ستعمر ال�ق��ادم من �أورب��ا ،يعد كولمب�س �أول من وطد العالقة بين الأمريكيين الأ�صليين والأوربيين. فا�سكو دي جاما ويعد �أع�ظ��م بطل ف��ي ت��اري��خ اال�ستك�شاف الأوربي ،طاف هذا الرحالة حول ر�أ�س الرجاء ال�صالح ،و�أعلى ال�ساحل ال�شرقي لإفريقيا، واكت�شف بعد ذلك الطريق التجاري �إلى الهند، �أ�صبح زعيما للهند البرتغالية عام 1524م، وذل���ك ب�ع��د ح���ص��ول��ه ع�ل��ى ال�م��اج���س�ت�ي��ر في الريا�ضيات والمالحة.
90
فرديناند ماجالن م�ستك�شف برتغالي ،كان �أول من دار حول العالم واكت�شف م�ضيق ماجالن �أق�صى جنوب �أمريكا الجنوبية ،ولد في �سابوزا ،لكنه تبنى الجن�سية الإ�سبانية الح�ق��ا كجن�سية الملك (ت�شارلز الأول) ،لي�ستك�شف الطريق الم�ؤدي �إل��ى جزيرة الطيب ،ويعد �صاحب �أول رحلة بحرية حول العالم. و�إذا م��ا ت�أملنا �سيرة ال��رح��ال��ة الغربيين الأوائ � � ��ل�� ،س�ن�لاح��ظ �أن��ه��م ك��ان��وا ي�ق��وم��ون ب��رح�لات�ه��م رغ�ب��ة ف��ي ال�ح���ص��ول ع�ل��ى ال�م��ال والذهب والعطايا الملكية ،التي يمكن �أن تعود اجلوبة � -شتاء 1435هـ
و�إذا نظرنا �إلى الدافع وراء رحالت الرحالة العرب ،نجد �أنهم كانوا ي�سافرون طلبا للحج �أو الرزق �أو العلم� ،إلى جانب الرغبة في المعرفة واال�ستك�شاف ويبقى ال�سبق في هذا المجال للرحالة العرب. �أما الرحالة المعا�صرون �سواء كانوا عربا �أم غربيين ،فهم كتاب في الدرجة الأولى ،قد ت�سوقهم الظروف �إل��ى ب�لاد معينة ،فيكتبون عنها� ،أو ي�سافرون �إل��ى �أماكن بعينها بهدف درا�ستها والكتابة عنها. وتنطلق �سفينة الرحالة على مدار ال�سنين تجوب البحار والمحيطات والجبال والأنهار لتبحث لنا عن مكنون تراثنا الإن�ساني ،وتكت�شف المزيد من مخلوقات اهلل على �أر�ضه ،و�سبحان من قال «وما �أوتيتم من العلم �إال قليال» �صدق اهلل العظيم.
محمد العبودي رحالة �سعودي
م������������������ل������������������ف ال������������������ع������������������دد
�أوائ��ل الأوربيين الذين زاروا ال�صين والهند وال�م�ن��اط��ق ال�شرقية البعيدة الأخ� ��رى ،ولم يحظ �إخ �ب��اره ع��ن تلك الأم��اك��ن بالت�صديق، لكنه �شجع فكرة التجارة مع ال�شرق ،وكان �أبوه وعمه تاجرين ،ما �ساعده كثير ًا في التغلب على المفاهيم التقليدية للتثمين والتداول الأجنبي والتعامل مع �سفن ال�شحن.
عليهم من وراء ك�شف جغرافي جديد ،كما كان يتمنى كري�ستوفر كولومبو�س الإيطالي عندما كان ي�سعى للو�صول �إلى الهند طمعا في كنوزها، فو�صل �إلى جزر الكاريبي في القرن الخام�س ع�شر ،وظن خط�أً �أنها الهند ،ومثله فا�سكو دي جاما البرتغالي الذي اكت�شف الهند فيما بعد عن طريق ر�أ���س ال��رج��اء ال�صالح في �أواخ��ر القرن الخام�س ع�شر 1498م ،ولن نن�سى �أنه لوال م�ساعدة الرحالة العربي «�أحمد بن ماجد» لما و�صل �إل��ى الهند .ربما لم يكتب الرحالة الغربيون ب�أنف�سهم عن هذه الرحالت ،و�إنما كتب عنهم من عا�صرهم وقتها.
■ املحرر الثقايف
العالمة ال�شيخ محمد العبودي� -أمد اهلل في عمره – �شخ�صية ال توفيها الحروف �أو الكلمات والمقاالت ..وال حتى الم�ؤلفات� ..شخ�صية �أفنت عمرها في البحث والت�أليف والترحال لأكثر من خم�سين عاماً ،وهو الذي تم تكريمه من قبل النادي الأدبي بالريا�ض وبح�ضور نخبة من كبار الم�س�ؤولين والمفكرين وعلى ر�أ�سهم وزير الثقافة والإعالم ،د .عبدالعزيز خوجة؛ ح�صل على و�سام الملك عبدالعزيز (طيب اهلل ثراه) من الدرجة الممتازة .تحدث عنه المتحدثون وكتب عنه الكاتبون ..تعد كتبه مرجعا لكل من يبحث عن الإفادة واال�ستزادة في مجال الرحالت. ولد الرحالة العبودي في مدينة بريدة عام 1345ه� �ـ (1927/1926م) ف��ي بيئة م�شبعة بحب المعرفة ،وفي بيت ال يخلو فرد فيه من حب المعرفة .تقول ابنته الدكتورة فاطمة في حديث لها لإح��دى ال�صحف المحلية( :كان جدي نا�صر العبودي قا�صا من الدرجة الأولى، يحفظ الكثير من الق�ص�ص والروايات ،ويرويها بطريقة م�ب�ه��رة ،وق��د ت�ك��ون ط��ري�ق��ة وال��دي الم�شوقة وا�ستر�ساله ف��ي رواي��ة م�شاهداته وانطباعاته قد ورثها عن والده� .أما جد والدي عبدالرحمن العبودي فقد كان �شاعرا عاميا، �أورد له والدي �أبياتا عديدة ك�شواهد في كتابه «كلمات ق�ضت» وفي كتب �أخرى.
وم��ن ال �م ��ؤك��د �أن ح��ب االط�ل�اع وال�شغف بالمعرفة منذ ال�صغر كان له دور �أ�سا�سي في �إث��راء ثقافة والدي وتنوع اطالعه� ،إلى جانب ما حباه اهلل به من ق��وة في ال��ذاك��رة ،وق��درة عالية على اال�ستيعاب� ،ساعد عليها جلده على التدوين؛ فقد كان يدون كل ما يمر به في مذكراته اليومية من قبل �أن نولد(.)1 وعلى الرغم من عمق وكثافة �إنتاج العبودي في مختلف المجاالت ،ف�إن الإنتاج الأوفر له كان في مجال �أدب الرحالت الذي بد�أه بكتابه «في �إفريقية الخ�ضراء ..م�شاهدات وانطباعات و�أحاديث عن الإ�سالم والم�سلمين» ،والذي طبع عام 1388ه�ـ1968/م ،وقارب �إنتاجه في هذا اجلوبة � -شتاء 1435هـ
91
( )1تمت اال�ستعانة بالموقع الر�سمي لمعالي ال�شيخ محمد العبودي عميد الرحالين.
92
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
من �أين �أبد�أ!!؟
قراءة في ديوان ال�شاعرة نبيلة الخطيب عتبات وعالمات لغوية
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
الميدان ( )116كتابا مطبوعا �إ�ضافة �إلى نحو الأن�ساب ،ومرجع في الأ�سر والقبائل ،ورغم �أنه ( )100كتاب مخطوط تناولت رحالته التي عمل بها منذ �أكثر من ثالثين عام ًا �إال �أنه ما �شملت قارات العالم �أجمع. ي�ستوف ما ي�ؤمل منه. ِ يزال يعتقد �أنه لم يقول الدكتور الهويمل�( :إن العبودي اهتم في على �أي حال ،فال�شيخ محمد العبودي كتاب كتاباته تلك «بتدوين المعلومات والمالحظات ،مفتوح للجميع ..لقد روى �أيام طفولته وو�صف من دون تكلف �أ�سلوبي �أو معا�ضلة تعبيرية ،وما منزل العائلة الكبير ،ومجل�س الرجال والفتحات في كتبه من �صياغة �أدبية ف�صيحة ف�إنما هي ال�صغيرة في �أعلى الجدار من الجهات الأربع، قدرة ذاتية ك�سبية؛ فهو عالم بالتراث ،وم�ؤلف ومعرفة والدته بمواعيد دخول ف�صول ال�سنة. معرفي قبل �أن يفرغ لأدب الرحلة ،والمتابع فعندما ت��دخ��ل ال�شم�س م��ن ال�ف��رج��ة ه��ذه، لكتبه ال يقدر على ت�صنيفه ال جغرافيا ،وال فهذا معناه بداية تقديم الحنيني لأهل البيت اجتماعيا ،وال �سيا�سيا .وم��ن ث��م فهو �أق��رب �صباحاً� ،إذ �إن مربعانية ال�شتاء قد بد�أت .ومع �إلى المو�سوعيين؛ لتوافره على القيم العلمية دخول ال�شم�س من الفرجة الأخرى فقد دخلت ال�شبط ،فيبد�أ فك الريق بالمرا�صيع �أو العبيط والأدبية ،واللغة التي يعتمد عليها. وال�سمن ،لت�ساعد في رف��ع م�ستوى التدفئة، ويعد العبودي بهذا الإنتاج العري�ض الذي وهكذا.)... ط��اف ب��ه ف��ي �أرج ��اء عالم الم�سلمين «عميد ورغم �أن الرحالة العبودي قد قارب الثمانين الرحالين العرب» في ن�صف القرن الأخير ،كما �سماه الباحث «محمد بن عبداهلل الم�شوّح» في من عمره ف�إنه ما يزال عاكفا على الكتابة ال تنق�ضي م�شروعاته ،يقول في حديثه لمجلة كتابه «حول العبودي» ال�صادر عام 2004م. المنار :برنامجي اليومي في الوقت الحا�ضر ويقول محمد بن عبدالرازق الق�شعمي في: يختلف عما كان عليه في الما�ضي؛ لأنني �أعمل العبودي� ...أو العالم المو�سوعي كما ي�سميه.. ف��ي الت�أليف ،وق��د طبعت حتى الآن ()128 (ال���ش�ي��خ ال �ع �ب��ودي -ك �م��ا ع��رف �ت��ه -رج��ل كتابا ،ولدي الآن ما يزيد على مائة كتاب من متوا�ضع ب�سيط رقيق ،يعطي كل ذي حق حقه ..الكتب المخطوطة التي تنتظر الطبع ،بع�ضها يحب المعلومة ويبحث عنها ف��ي م�صادرها في مجلدات كبيرة .ومن �أجل هذا ال��د�أب في ويت�أكد من �صدق رواي��ات بع�ضهم لمقارنتها الكتابة والغزارة والتنوع في الإنتاج المعرفي بروايات غيرهم ..فلديه ذخيرة ممتازة من ف�ق��د ت��م ت�ك��ري��م ال �ع �ب��ودي ك�شخ�صية ال�ع��ام المخطوطات ،والكتب وق�سم خا�ص بم�سودات الثقافية في الدورة التا�سعة ع�شرة للمهرجان كتبه ال �ت��ي ل��م تن�شر ،وم��ن �أه �م �ه��ا :الأ� �س��ر الوطني ال�سعودي للتراث والثقافة ،وذلك عام المتح�ضرة في الق�صيم؛ فله �إلمام تام بعلم 1424هـ2004/م.
■ د .بالل كمال ر�شيد*
من �أين �أبد�أ؟! �س�ؤال عادي ال فنية فيه� ..س�ؤال متاح ..م�شاع تقترفه كل الأل�سنة ..وهو �س�ؤال مبتذل ..منهك �شاخ�ص على قارعة الطريق. فكيف يمكن لهذا ال�س�ؤال �أن يكون عنواناً لديوان �شعري؟! عتب ًة ن�صية �أولى تجمع وت�ؤالف بين المبدع والمتلقي! ن�ص يجمع الن�صو�ص ويختزلها! كيف يمكن لهذا ال�س�ؤال �أن يكون عنواناً؟ والعنوان بحد ذاته ٌ �إذ ًا هو �س�ؤال يف�ضي �إلى �أ�سئلة ..وال�س�ؤال يدل من �أين �أبد�أ؟! على ال�سائل ..فكيف �إذا ك��ان ال�سائل �شاعراً.. �س�ؤال يف�ضي �إلى ف�ضاء من �أ�سئلة �شتى: �ضمير الأمة ..الناطق ال�شعوري ب�آهاتها وويالتها، ت�ستفهم ..ت�ستغرب ..تتعجب ..ت�ستنكر: وحبها وغ�ضبها؟! الذي يختزل الأزمنة والأمكنة ه �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ل ي �� �ص �ـ �ـ �ـ �ل �ـ �ـ �ـ �ـ��ح ال �ـ �ـ �ـ �ـ �ق �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ �ـ��ولبقول تنب�ض به القلوب قبل �أن تنطق به ال�شفاه؟!!! ()1 �إن �ض ـ ــج ال��ـ��ـ��ـ��ـ��وج��ي��ـ��ـ��ـ��ـ��بُ ب��ـ��ـ��ـ��ه��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ا؟! من �أين �أبد�أ!!؟ م��اذا �أت��ى ب ��ك؟( ،)2وكيف ت�ق�ب��ل؟(� ،)3أقلتعتبة �أولى ..يحملها الغالف عالمة لغوية دالة، مات؟( ،)4من �أين مروا ومالي ال �أرى �أحدا(.)5 ت�ساندها عالمتا تعجب وعالمة ا�ستفهام ..فلماذا ك���ي���ف م���������ض����ى؟! وك������م م�����ن ال�����دم�سبقت عالمتا التعجب عالمة اال�ستفهام؟! ()6 ذال�������������ك ال��������ي��������وم ق��������د � ُ������س������ف������ك������ا؟ ولماذا كانت عالمتا التعجب اثنتين وعالمة اال�ستفهام واحدة؟! �أال تـ ــرى القلـ ــب مخ�ضـ ــراً ب ــه ط ـ ــربُ()7 حيرة ..توجع ..ت�أوه ...ا�ستفهام� ...س�ؤال. والنار فــي جنبـات ال�صــدر ت�شتـعلُ؟! من هنا ،بد�أ ال�س�ؤال يفارق العادية؛ ليدخل في توحــــدت قِبلــــ ُة الم�سلميــــن فهــــلبـ ــاتتتفرقهــــمعـــن�شرعهــــمنِحَ ــــلُ؟!( )8الف�ضاء الفني وال�شعري ..ولعل �صورة الغالف من خالل خطوطها المتعددة والمتعرجة والمتداخلة ه ـ ــو �إنم ــا وجـ ــع القل ــوب ون��اره��اوالمختلفة بالألوان واالتجاهات تطرح ال�س�ؤال من ()9 �إن �أُججـ ـ ــت �أن ــى لهـ ــا �أن تُخمـ ـ ــدا جديد ،بلغة جديدة ،و�إيقاع مختلف :من �أين �أبد�أ؟!
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 93
94
�أكانت ا�سم ًا �أم فعالً ،وتوظّ ف من �أين �أبد�أ!!؟ م��ن ح��روف��ه كلمات �أخ��ري��ات ��س��ؤال يخرج ع��ن العادية اتباع ًا �إلى جر�س مو�سيقي� ،أو �إلى الفنية من خالل ال�سائلة ح�س �شعوري� ،أو لفته جمالية؛ وم��ا � �س ��أل��ت ،وك�ي��ف ��س��أل��ت؟ لت�ؤكد المعنى؛ فتجعل «للعراق من خ�لال المو�ضوعات التي عروقاً» ،وت�أتي بالفعل «ي�سود» اختارتها ،والألفاظ التي �شادتها ،فخرجت من العتبة الأولى عنوان ًا �إلى عناوين ق�صائدها التي لل�سودان( ..)13ومن «الرزانة «ت�أزّرن: ج��اءت بعناوين( :من �أي��ن �أب��د�أ� ،أثقلت لوماً ،فلقـ ــد َت��ـ��ـ��ـ��ـ���أَ ّز ْر َن ال��ـ��ـ��ـ��ـ��رزان��ـ��ـ��ـ��ة ع ـف ـ ًة ()14 عا�شق الزنبق� ،أ�ضعت وجهي� ،أطلق جناحك.. �أُحْ ِ�صـــنَّ ،ال َيمْـــدُدن طــرفاً �أو يـ ــداً ينزفون الح�سا�سين) ،وكلها عناوين �شعرية وهذه العتبات تف�ضي �إلى عتبة اال�ستهالل: موحية دالة.. م ــاذا �أتى بك؟! قــــال :الوج ُد والو َلــــ ُه و�إذا كان ال�س�ؤال الأول (من �أين �أب��د�أ!!؟) ()15 فَطِ ـــرتُ زه ــواًوخلتُ الك ــو َنلـيول ــه ف�إن النهاية تنتهي بها وبنا �إلى «الباذان» قريتها الأولى ..حيث الجنة والنعيم والخلود. فتجد الثنائيات بين الوجد والوله ،والذات في هذا الديوان تت�آخى المدن والقرى؛ لأن والآخ ��ر ،تجد القافية تتغنى وحدها من�سابة القلب الناب�ض بها واح��د ..فتجد «ال�ب��اذان» مريحة وم�ستريحة ،وه��ي تماثل «ال��ول��ه» بــ ق��ري�ت�ه��ا وت �ج��د ال �ق��د���س وال� �ك ��رك وال��ع��راق العا�شق والمع�شوق بــ «ل��ي ول ��ه» ،بالحا�ضر والغائب ،ال يف�صل بينهما �إال الواو ،بل تجمعها واليمن:..
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
فع ــدت �أ�ســـ�أل ع ّلـــي ل�ســـتُ حالمــ ًة مـاذا �أتـى بك؟! قال :الوجـد والــولــه
()16
وتقول:
ال�صب ــا فتـ ــوردا ال�صبـ ــا خـ ـ َّد ِّ َـ�س َّ م َّ ()17 والقلـــب �أطـــربــه الجمــــال فغــــردا لم ــا ر�أت حَ ـ ـوَر العيـ ــون وحُ ــورَها ()18 هُ ـــرعت بـــال وعــي تــرود المــــوردا فتجمع �أل �ف��اظ (ال �ب��وح وال �ن��وح � ��ص،)89 و(ال � ��روح وال� � �رْوح �� ��ص ،)89و(ال �ظ��ل وال�ط��ل ���ص ،)88و(الح�س والح�سن ���ص ،)87و(حي وح��ري � ��ص ،)87و(ظ��ل وط��ل � ��ص ،)75و(هَ � ٌم وهِ م ٌم �ص ،)70و(�آيٌ و�أيُّ �ص.)18 وتظهر ف��ي ال��دي��وان �أب �ي��ات ت��ذه��ب مذهب المثل والحكمة �أو بيت الق�صيد:
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
وال معالم في الطريق؟! من �أي��ن �أب��د�أ وكل �صـــار العــراق عُروقـــاً كلهـــا ف ُِ�صـــدتْ �شيء متالطم ..متداخل.. وكلم ــا ق ــام فيه ــم عاق ــلٌ عَقلـ ــوا و�أنت ال تعرف المبتد�أ وال المنتهى؟! وال ال�سعي ــد �سعيـ ــداً ب ــات فــي يم ــنٍ ()11 �أطلق جناحكَوال ي�س ــود على ال�سـ ــودان م ــن وَكلوا ال �سِ ْل ٌم وال �سَ لَ ٌم و�إذا كان الزمان متغير ًا ف�إن المكان ومكانة حيث ال�سالم الذي نهفو له المكان ثابتة: �صب�أ القد�س تورق ُ كيف الذي كان.. والزمان يبابُ والدنيا تميد به وهي الح�ضو ُر ()12 من هوله ...خب ٌر �إذا الزمان غيابُ قد بات مبتد�أ تتفنن نبيلة الخطيب بلغتها وه��ي تقف �أم ��ام ال�م�ف��ردات؛ من ذا ير ُّد �إلى الأطفال ف�ت�ق��ارن وت �ق��ارب ب�ي��ن لفظة �صحوتَهم و�أخرى :جنا�س ًا وطباق ًا وتكون كيف ال�صباح انتهى �صور ًا �شعرية متعددة.. ()10 من حيثما ابتد�أَ؟!! تقف �أم��ام المفردة �سواء
الواو ات�صاالً ،ويتحقق الوجد والوله والطيران والأحالم ..ثم تنهي ق�صيدتها بما بد�أت:
�أبد�أ؟!» وهي ترى الدنيا �ضيقة مظلمة: }ما �أ�ضيق الدنيا و�أظلمها! ما �أبعد الحلم ()23 حتى لو نراه دنا!{ وهي تعدد الجراحات تلو الجراحات ..وهي تتعذب :عا�شقةً ،ومواطنةً ،وعربيةً ،و�إ�سالميةً، فحيثما يممت وجهك فثمة جرح ..بُعدٌ ..غُ ربة.. جراح ..احتالل ..ا�ستغالل ..كذب ...انقالب.. ربيع دامٍ ..وبكل �ألم تقول للحجيج :بيا�ض المحرمين دم(.)24 من �أين �أبد�أ!!؟ �إنه �س�ؤال ع��ادي ،في زمن غير ع��ادي ،وفي مكان يعدو عليه العوادي ..ولم يبق غير ال�شعر نبكيه ويبكينا ..وكما تقول نبيلة الخطيب:
هذا ه ــو ال�شع ــر ال ف ُّ�ض ــت مج ــال�ســه وال ا�ستح ــالــت �أهازيـ ـ ُج المن ــى نــوح ــا هذا هـ ــو ال�شع ــر �صه ــوات مُطَ َّهم ـ ـ ٌة ()25 مرح ــى لخ َّي ــالهــا �إن �أقبل ــت َمـ ـ ْرحـ ــى
فمـــن تبـــدّل داراً دون م ــوطن ــه()19 �أ ّن ــىيطي ــبل ــهف ــي َعيْ�شِ ـــه َبـــــدَلُ ؟! وكـــلُّ كـــرب �إذا ا�ستف ــرجتَه فـ ـ َ َر ٌج()20 وك ـ ــل ج ــدب �إذا ا�ست�سقيت ــه خَ ِ�ضـــــ ُل من �أين �أبد�أ!!؟ ..وكيف �أنهي؟� ..س�ؤال نبد�أ ال يلتق ــي الليــل والإ�شــراق ف ــي زمــنٍ ( )21به وننتهي �إليه ..دي��وان �شعر قال عنا ما كانمــن رام ذاك فـــال �أم�ســـى وال �أ�ضحــــى فينا ..و�إن ك��ان ال�ع��رب ق��ال��وا ي��وم �اً( :قطعت ال يجم ــع الأغ�ص ــان �إال �س ــاقهـ ــا()22 جهيزة قول كل خطيب) ..فنقول اليوم :قطعت هــــل ي�ستـــوي نبـــتُ بــــال �سيقـــان؟! من حق ال�شاعرة �أن ت�سمي ديوانها «من �أين نبيلة قول كل خطيب..
* جامعة البلقاء التطبيقية (� )6ص.36 (� )7ص .67 – عمان. (� )8ص.70 (� )1ص.11 (� )9ص.131 (� )2ص.15 (� )10ص.28 (� )3ص.15 (� )11ص.69 (� )4ص.31 (� )12ص.97 (� )5ص.35
(� )13ص.69 (� )14ص.139 (� )15ص.15 (� )16ص.19 (� )17ص.130 (� )18ص.131 (� )19ص.69
(� )20ص.74 (� )21ص.60 (� )22ص.47 (� )23ص.21 (� )24ص.30 (� )25ص .62
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 95
■ عبدالغني فوزي*
توطئة� :صدر م�ؤخرا �ضمن من�شورات مجلة «مقاربات» المغربية مجموعة ق�ص�صية بعنوان «ا�ستثناء» للقا�ص المغربي �إبراهيم الحجري .وتمتد على مدار �سبع و�سبعين �صفحة من الحجم المتو�سط ،احتوت على �سبعة ع�شر ن�صا ،منها :النظر من تحت، حوار الأعين ،مثل هذا الح�شر� ،أ�ضغاث �أح�لام ،مغارة الحقيقة .ومن المالحظ �أن القا�ص ق�سّ م م�ؤلَفه �إل��ى ج��ز�أي��ن دون الإ��ش��ارة لذلك ،الأول ي�ضم ق�ص�صا ق�صيرة، والثاني يحتوي على ق�ص�ص ق�صيرة جدا .وهي بمثابة �إقامة ق�ص�صية بغرف متنوعة، لكل منها ت�أثيثها الخا�ص بها .وغير خ��اف هنا� ،أن جمالية الق�صة الق�صيرة جدا تثير جداال وا�سعا في عالقتها بنف�سها ،وبالق�صة الق�صيرة .ذاك �أن الق�صة الق�صيرة جدا تبحث في ن�صها ونقدها عن خ�صو�صيتها و�أفقها الجمالي الم�ستقل والخا�ص. �س�أقارب هنا في هذه المجموعة الق�ص�ص الق�صيرة. متن الق�ص�ص
96
تلفحك ح��رارة المجموعة ،و�أن��ت تقر�أ متنها ق�صة ق���ص��ة .ق�ص�ص تلعب مع اليومي وكثافته الطاوية على تناق�ضات المعي�ش وال�ح�ي��اة .وه��ي ف��ي ه��ذا ،ت�سعى �إلى امت�صا�ص المفارقات الل�صيقة �أ�سا�سا ب�شخو�ص �إ�شكالية� ،ضمن يومها وتقطيعها المكاني� .شخو�ص تفرقها �سبل البحث عن ما ي�ؤمن وجودها ويبرر وجودها؛ ولكنها تتوحد في ذاك العمق الم�شدود للأ�صول اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ال�صامتة والمتجلية في عبو�سة المالمح والمكان ومالمح �أفق مو�صد .لكن �ضمن رق�ع��ة مكانية ُت � َع � ُّد ب�شكل م��ن الأ��ش�ك��ال ام �ت��دادا طبيعيا لفئة اج�ت�م��اع�ي��ة .وم��ن ثمَّ يح�صل التداخل �إل��ى حد ت�شكيل تلك الوحدة الدائرية التي ي�ؤدي فيها كل ملمح �إلى �آخر؛ �ضمن ن�سج دائري �شبيه بدوامة حياة ووج��ود .تقول المجموعة في ق�صة «النظر من تحت» �ص :5 «ان�ط�ف��أ وه�ي��ج ذل��ك ال �ن��ور ف��ي عينيه
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
�س�ؤال اليومي والكتابة في مجموعة «ا�ستثناء» للقا�ص �إبراهيم الحجري
فج�أة ،وانقلبت �أوه��ام الحما�س الطفولي �إلى عتمة ليل مفزع .ا�ستنجد مرات بالبحر ،ذلك الأف��ق الع�صيب لعله يبلغ غمار حزنه .يغو�ص كل م�ساء بعينيه الوا�سعتين في �صخبه ،ي�سائل مالمحه الفرحة الغ�ضوبة .يبت�سم يبكي قليال كثيرا .وحده البحر كان يعرف �سيرته وبمرارة ي�صفق بجناحيه في وجه العالم». تبقى ال�شخ�صية المركزية في المجموعة المت�شكلة م��ن م��داخ��ل تتمثل ف��ي ال��درا� �س��ة وال�شهادة وه��ي ب ��ؤرة ه��ذه الق�ص�ص ..مالمح تتقاطع مع �شخو�ص �أخ��رى ،لها الم�سار نف�سه والم�صير ذات��ه .هنا ،تبدو �أغ�ل��ب الن�صو�ص م�شدودة لأف��ق مو�صد ،وليومي �سالب� ،إال من ذاك النور المطارد لحقيقة حياة �أخ��رى ،في ال�سرد والمحتمل. كل �شيء :المنحة ،االنتقاء ،النتائج ،ال�شغل... و�أ� �ش �ي��اء من�سية .م � َّد ب�صره مخترقا زج��اج تقنيات �سردية النافذة ،الأ�شياء تجري الى الخلف كالأ�شباح ق�ص�ص مجموعة «ا�ستثناء» ت�سعى اعتمادا المتالحقة.».. على عين ال�سارد� ،إلى ت�شخي�ص حاالت ووقائع �أغ� �ل ��ب ال �ن �� �ص��و���ص ف ��ي ه���ذه ال�م�ج�م��وع��ة تحيا ت�شابكها في الظالل والخلجات والم�سالك االجتماعية .فكانت ع�صا ال�سرد تخرج الأحداث الق�ص�صية لها �صلة من قريب �أو بعيد بحياة المنفلتة من الكمون �أو ظ�لام النظر �إل��ى نور ال�سارد ،ك�شخ�صية عارفة تتقلب كحياة مكتظة الحكاية ،فت�صف الم�شاهد بين ما�ض محفور في بالم�شاهد والمفارقات بين المدينة والقرية. �أخاديد الذات المتكلمة وواقع محا�صر ومطارد .وب �ق��در م��ا يختلفان ف��ي هند�ستهما ،ف�إنهما فكان الأفق محموال في الأج�ساد التي تلتحم في يلتقيان في تلك الإط ��ارات الحا�ضنة لحاالت الج�سد الواحد المقهور والموجع بال�ضربات ،متوتّرة وم�ل� ّون��ة ،ت�ل�وّن ك��ل �شيء عبر م�صفاة وهو يخطو بين المفارقات الكبرى التي ال يد له الإح�سا�س والتخيل .ال�شيء الذي �أدى �إلى ح�ضور فيها ،لكنه هنا يحكي ليكون .تقول المجموعة ال�سير ذاتي ،الل�صيق �أ�سا�سا بال�سارد الذي يفرغ كوامنه وجيوب ذاكرته و�شحنة �إح�سا�سه في في ق�صة بعنوان «مثل الح�شر»� :ص :32 «ع�صب ر�أ�سه المهرو�س من �شدة ال�صداع .هذا المحمول الهام�شي الذي يخلق الر�ؤيا من لم تنفع الأ�سبرين وال الأ�سبرو مع هذا الغليان� .أ�سفل ،بمعنى ميخائيل باختين للحياة والوجود. ت�شخي�ص وت�صوير للم�شاهد المكتظة� ،أدى تعب يفي�ض من الج�سد النحيل ممزوجا بهلع وترقب .مل االنتظار من زمن �سحيق .انتظار �إلى تو�سّ ل ال�شكل الكثيف ،لبناء الق�صة�« .إن
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 97
* كاتب وناقد من المغرب. ( ) 1محمد رم�صي�ص�« ،أ�سئلة الق�صة الق�صيرة بالمغرب» ،مطبعة طوب بري�س ،الرباط ،دي�سمبر 2007م� ،ص .5 ( )2ح�سن بحراوي« ،بنية الن�ص الروائي» عن المركز الثقافي العربي� ،سنة 1990م� ،ص .26 ( )3محمد برادة« ،ف�ضاءات روائية» ،من�شورات وزارة الثقافة الرباط المغرب �سنة 2003م� ،ص .9
98
اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ق�صتان ■ نورة عبداهلل ال�سفر*
ق�����������������ص�����������������ص ق�����������������ص����ي���رة
ق�صر الق�صة الق�صيرة يقت�ضي اقت�صارها �ضمن حكايا مقعّرة ،بتو�صيف م�شهدي م�شدود على جانب واحد من الحياة �أو ال�شخ�صية من بخيط درامي ،يتنامى كما عنف الحالة. دون التفا�صيل ،مع مراعاة وحدة االنطباع وقوة �أم ��ا ال�ل�غ��ة ،ف�لا تخلو م��ن �سخرية و َن� َف��� ٍ�س الأث��ر؛ فقوتها تكمن بالأ�سا�س في جمعها بين �شعريّ .فهذا الأخير يخيط الم�شاهد ويعمقها الق�صر وق�ضايا الوجود العميقة ،مواكبة في ذلك طبيعة ع�صرنا ال�سريع»( ،)1ال�شيء الذي في االنزياح واللعب ال�سردي .و�سخرية �سارية يقت�ضي ح�ضور ثنائيات لها تجلياتها :ال�ضيق في التالفيف بتو�صيف موغل وده�شة طافحة االت�ساع ،الزرقة العبو�سة ،الجفاف اال�ستثناء ..تزحزح الثابت عبر اللغة والمخيلة وال��ر�ؤى. ولعل هذا اال�ستثناء ،هو تلك اللحظة المنفلتة ف�ـ«ف��ي غمرة الحداثة و�أ�سئلتها ،وف��ي خ�ضم عن طاحونة اليومي والزمن الموح�ش؛ لحظة التبدالت المتالحقة التي زعزعت اليقينيات تنذر بحياة �أخرى على �صلة بالآمال واالحتمال والأن�ساق المنغلقة على �أجوبتها ،لم يعد الكاتب �ضمن المكان الذي ي�ؤطر تلك الم�شاهد؛ وهو المبدع يكتب ليترجم م�شاعر �أو ي�ؤكد حقائق بذلك امتداد طبيعي لها� ،أي ب�إمكان المكان �أن �أو ي�سند �إيديولوجيا ..على العك�س ،يكتب من يعبّر عن المالمح العامة والخا�صة لل�شخو�ص منطقة االرتياب والت�سا�ؤل والبحث عن الحقيقة والأح � � ��داث .و«ال� �ح ��ال �أن ال �م �ك��ان ال يعي�ش المحفوفة بااللتبا�س والتعدد»(.)3 منعزال عن باقي عنا�صر ال�سرد ،و�إنما يدخل هنا تكون الكتابة بمثابة �س�ؤال حياة ووجود ف��ي ع�لاق��ات متعددة م��ع المكونات الحكائية الأخ � ��رى ل�ل���س��رد كال�شخ�صيات والأح � ��داث على الرغم من تخلقها الجمالي .وهو المتحقق وال��ر�ؤي��ات ال�سردية ..وع��دم النظر �إليه �ضمن مع القا�ص والمبدع �إبراهيم الحجري المتعدد ه��ذه العالقات وال�صالت التي يقيمها ،يجعل االهتمام بين الق�صة وال�شعر وال�ب�ح��ث ..كل من الع�سير فهم الدور الن�صيّ الذي ينه�ض به ذلك يخوّل له �أن يغذي �أي كتابة عنده ،بلم�سات الف�ضاء داخل ال�سرد»(.)2 في البناء المحيل بقوة الداللة �أو الإ��ش��ارة �أو ال�صياغة على ت�أمالت فل�سفية ون�صو�ص غائبة على �سبيل الختم �أدبية وفكرية و�شفوية.. مجموعة «ا�ستثناء» تركب بحر الحكاية في �ضمن هذا الن�سيج الحكائي ،يتتبع الكاتب الكتابة ال�سردية ،لكن لي�س بالمعنى التقليدي. فكانت الق�ص�ص هنا ،ذات مداخل تتمثل في ح��االت ال�شخو�ص؛ لبناء ذاك الكل ال�سردي اليومي للفئة المقهورة في المجتمع وزادها من ال��ذي يعد ف�صال لتالحم ملحمي في ال�ضيق ا�ستعماالت لغوية وت�صورات وثقافة �شعبية .وهو بمعناه الواقعي والوجودي �أي�ضا؛ نظرا لتعدد بذلك ي�شتغل على هذا المتن ،ليعيد بناءه �سرديا الأ�صوات الباحثة عن ا�ستثناء �أو �أفق �آخر.
للزمن فخ�سرتها ،التهبت النكات وتكومت. �إندو�سكوبي روم مري�ض �أ�سهم �أم�سكت بقلبي رجفة ه� ّزت��ه ،ج�رّدت��ه من ٍ في ال�خ��ارج ..حيث كل في الفراغ بعينين ت�ضطجعان على جدار كتفين م�ث�ق�ل�ي��ن ،واط� �م� ��أنّ ل�ف���ّ�ض غ��زل الترقب وال��وح��دة� .أم�سك بكتابي ال��ذي ال�سنين... ح�دّق بي طوي ًال ينتظرني .ت��ردّدتُ خوف ًا �إنه هنا على �سمعتي من التلوّث بجريمة االنغما�س نظرتُ �إليها بينما �أن��ا مم�سكة بيدها ف��ي ل � ّذ ٍة ذات� ّي��ة بعيدة ع��ن �أناجيل الطب �أفح�ص النب�ض ،ت�صوّرتها �أمامي ام��ر�أ ًة المقدّ�سة. الظلّ» تلقي بنكاتها يمنة وي�سرة، «خفيفة ِ ه �ن��ا ،ف��ي غ��رف��ة ال �م �ن��اظ �ي��ر ..حيث وت��دكّ الأر� َ��ض �شامخة عند دخولها كل التعذيب ال�ي��وم��ي ب ��إدخ��ال الأن��اب �ي��ب من مجل�س .ما هي الآن �سوى ظلٍّ ملقى على الأعلى والأ�سفل والتفرج عبر ال�شا�شات حافّة الحياة ،ج�س ٌد متق ّر ٌح وعق ٌل خَ رِ ف. على دواخ��ل الم�ستلقين �أمامنا .تُم�سَ ك تجل�س قبالتها عاملة �آ�سيوية �سمراء الأي��دي وتُث َبّت الأرج ��ل .في غرف ٍة ب��ارد ٍة يتعرى فيها المري�ض من كرامته و�أحيان ًا با�سمة على ال ��دوام ،تطعمها وترعاها، �أ� �ش �ي��اء �أخ� � ��رى ..ي��دخ �ل��ون وي �خ��رج��ون .وتترجم بلبالت تتدحرج على م�سامعنا نح�صيهم ك �ع��ددٍ ونفتخر ب��إن�ج��ازات�ن��ا .غير ذات معنى. لم نلتفت يوم ًا لنفك َر �أن هذا المبنى «ل��ن ي�ضيركم وعليكم �سال ٌم من اهلل».. تطمئنهم الكلمات ..و�أدوية الن�سيان تجري ال��ذي يتختّل الموت بين ممراته ،يقابل ف��ي عروقهم لتمّحي ُمقَلنا وكالمنا وما مبنانا ال��ذي ندر�س فيه وي�ضج بطاقات غ�ضة لم تم�س�سها حروق الفتوّة و�أغ�صان ّ اغت�صاب لفتحاتهم. ٍ مرّوا به من م�سن يُ�شكّ بت�سرطن العي�ش.. دخلَ �آخر مري�ضٌّ . قولونه .ومن بين �شفا ٍه قامرت بنداوتها
لم نعتذر لأنه م ّر ولم ننتبه �إليه..
* قا�صة من ال�سعودية.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 99
ق�����������������ص�����������������ص ق�����������������ص����ي���رة
ق�صة�:شارع الجزارين ■ طاهر الزهراين*
رجال ،ون�ساء ،و�أطفال.. قطط مت�سكعة ،وطيور في �أقفا�ص معلقة.. روائح �شهية لم�أكوالت �شعبية.. روائح نفاثة لمحالت العطارة.. دكاكين لبيع اللحوم الحمراء ،وعربيات لبيع الخ�ضار.. مطاعم للكبدة البلدي والكوارع.. معا�صر لق�صب ال�سكر.. مت�سولون ومت�سوالت.. �أطفال يلعبون (الفرفيرا).. ن�ساء �سيمنات يبعن الدفوف� ،إحداهن تقرع بحرفيّة ،و�أخرى في الطرف المقابل (تغطرف) وتتمايل.. عم (م�سعود) �أمامه قد ٌر كبير مليء بالر�ؤو�س المندية ،وعلى الطاولة يف�سخ ب�ساطورة اللحم، وير�ش عليه بع�ض الكمون ،ثم يقدم لزبائنه �ألذ (لحمة) ر�أ�س في البلد. الجزار (حنفي) يحاول �أن يعلق فخذ جملٍ عجوز ،ولكنه يف�شل في و�ضعه في الخطاف؛ لأن فتاة �سمراء تعر�ض مفاتنها على ال�شعب الـ(�صنيان)! ألفاظ ببغاء عم (برعي) يتلفظ على المارة ب� ٍ * قا�ص من ال�سعودية. 100اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�سوقية ،وهو (ي�شي�ش) وي�ضحك.. �شاب يطلق �آهات ويقول: �أح يا بلح!لأن فتاة بخارية مرت بجواره! بنغالي في �أحد الأزقة يبيع �أفالم ًا جن�سية! محالت التنباك بجوار محالت بيع ال�سمك المقلي! �إفريقي يبيع م�ستح�ضرات جن�سية في قوارير �صفراء ،وي�شير �إل��ى ال�م��ارة ب��إ��ش��ارات القوّة، وي�ضغط ب�أ�سنانه العليا على �شفته ال�سفلى! هندية تبيع الحناء والخالخل ،وبجوارها الن�ساء ال�سمينات الالتي يبعن الدفوف ،التي ك��ان��ت تتمايل �شعرت بحاجة للتبول ،ذهبت خلف �إحدى ال�سيارات القديمة ،الأطفال الذين كانوا يلعبون الـ (فيرفيرا) الحظوها و�أخ��ذوا ي�شاهدون المنظر من تحت ال�سيارة ،وي�شاركهم قطٌ (عرّي) يقبع تحت ال�شكمان! ب�شر يحت�شدون في كل مكان.. ج��زارون يقطعون اللحم ،و�آخ��رون ينظرون للحم! انتهت المر�أة ،ارتفعت عن الأر�ض.. �أخ��ذ الأط�ف��ال ي�ضحكون ،ي�ضحكووووون.. ويرفعون ر�ؤو�سهم �إلى ال�سماء.
ِّ الظ ُّل الها ِرب ■ �إميان مرزوق*
ف��ي �أول��ى ليالي �أي �ل��ولَ ال�م��اطِ ��رة ..في بمقدور النا�س �أن يدفعوا لِلغَفير ,لي�ستظلوا مدين ٍة ال قريب ٍة وال بعيدة؛ وكعادتهِ ..خرجَ ب�أيِّ ظلٍ كان!! الظِّ ل الهاربُ ليتعمَّدَ بما ِء ال�سَّ ماء. «�إذا �أردتَ �أن ت �ط ��أ �أيَّ ظ�ل�الٍ في عليك �أنْ تدفع! كان ينتقلُ ب�سرع ٍة بينَ ال�شوار ِع والأ ِزقَّة ،المدينةَ .. ي��راق�� ُ��ص �أ� �ض��وا َء ال���س�ي��اراتِ المُ�سرعة، و�إ َّال فال�شم�س �أولى ب�إ�شعال الجمر في و�أعمد ِة الإن��ارة ،وي�شربُ مُنت�شي ًا بذكرى جمجمتك!!». انت�صا ٍر عمره �ألف عام.. ومنذُ ذل� َ�ك اليوم ،لم َيعُد ب�إمكانِ �أيِّ في �أولى ليالي �أيلولَ الماطِ رة ,قبلَ � ِ ألف �إن�سانٍ �أن ي�ستظِ لَّ ب ��أيِّ �شيءٍ ك��ان ..حتى عام؛ طوى الظِّ ل ثوب ُه وهربَ من المدينة .الغفير! فبعدَ ق ��را ِر ت��أج�ي��رِ ال��ظِّ �لال ,ل��م َيعُد * كاتبة وقا�صة من الأردن.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 101
�أمل ■ عبدالكرمي حممد النملة*
بف�ؤادك �أورقت ذكرى بواكير ال�صباح ذكرى رغاب جائعات عانقت و�سن الم�ساء ذكرى دموع �شفها حزن لغوب �صامت.. ظامئ.. نحو ان�شقاق الغيم في كبد الم�ساء وم�ضيت تخطو بائ�سا في حلكة الليل القديم تم�ضي وفي عينيك طيف خياالت عذاب �أوم�ضت في غا�سق الروح ك ..ومي�ض برق في �شبح ال�سماء تم�ضي ويلهج قلبك بدعاء �صبح ناعم فيما م�ضى * �شاعر من ال�سعودية.
102اجلوبة � -شتاء 1435هـ
بدعاء �شم�س �أينعت في �شفة ال�صبح الو�ضيء ب�سمة عذبة فيها �شفاء الليل من �ض ّج المغيب تم�شي ويزجيك حنين نحو هطول ال�شم�س في الغ�سق البعيد في الفجر الجديد متو�سداً في دربك الآتي رغبات الأماني الفاتنات.. الجائعات.. الظامئات.. ل�شعاع نف�س �أوم�ض في قاحل الليل البهيم بين فجاج ال�صبح ينحدر الم�ساء خائبا من بين �أهدابك الم�سبلة
■ علي العلوي*
�أَخَ افُ َعلَي ِْك مِ ن ِْك مِ نَ ا ْل َمرَايَا �إِ ْذ ُتكَ�سِّ ُر وَجْ ه َِك ا ْلبَاكِي. �أَطِ ي ُر َكمَا ِ�صغَا ُر الطَّ ْي ِر �أُخْ فِي ُل ْق َم ًة فِي الْجَ يْبِ �أَحْ مِ ُلهَا �إِ َلي ِْك. �أَنَا ال ِّذ ْكرَى َو�أَنْتِ ِبدَا َي ُة ال ِّذ ْكرَى كِلاَ نَا ُنقْطَ ٌة َت ْدنُو َو َت ْعلُو فِي �سَ دِي ِم ا ْل ُفلْكِ ***
َي ْنتَحِ ُر ا ْلكَلاَ ُم �أَمَا َمنَا وَالدَّمْ ُع ُي ْل ِه ُمنِي ا ْل ُبكَا َء َعلَي ِْك َل ْم �أَغْ َ�ضبْ َو َل ْم �أَهْ رُبْ َو َلكِنَّ الْحَ نِينَ �أَمَا َتنِي َق ْهرَا َو ُب ْعدَكِ �شَ َّلنِي دَهْ رَا َو َهذَا ا ْلوَجْ ُد �أَ�سْ َك َرنِي بِ�شَ هْدِ َي َدي ِْك ***
ُم ْر َتبِكٌ �أَنَا َتتَ�سَ اق َُط َْالأ ْورَاقُ فِي جَ ْفنِي �أُ َفت ُِّ�ش فِي جَ بِينِي َعن ِْك لَ�سْ تِ هُ نَا َولَ�سْ تِ هُ نَاكَ ف َْالأَ ْبوَابُ م�ؤ�صدة ِيك. َوبَ�سْ َمت ُِك اخْ َتفَتْ كَا ْل َبرْقِ ف ِ ***
َت َب َّدلَتِ ال ِّديَا ُر ال�ص َو ُر ا ْلقَدِ ي َم ُة َوهَذِ ِه ُّ مَا َتزَالُ تَحِ نُّ فِي حَ زَنٍ �إِ َلي ِْك. تَجِ يئِينَ ا�شْ ِتيَاقَا * �شاعر من المغرب.
ُث َّم َتم ِْ�ضينَ احْ تِراقَا. َو�أ َْ�صدَا ُء ا ْل َمكَانِ تَظَ لُّ تَ�سْ �أَ ُلنِي طَ وَا َل ال َوقْتِ َعن ِْك.
���������������������������������ش��������������������������������ع��������������������������������ر
�أ�صداء الذكرى
ن�شيد �شريد
�أَنَا �أَعْ مَى َومَا ِبيَدِ ي عَ�صَ ايْ �أَ�سِ ي ُر ِب ُم ْف َردِي مَا لِي �سِ وَايْ �أُكَ�سِّ ُر مَا َت َبقَّى مِ نْ َمرَايَا ِ ألَ�سْ َك َر مِ لْ َء حُ ْزنِي فِي َهوَايْ َو�أَرْ�سُ ُم مَا تَجَ لَّى فِي ال َمرَايَا ِ أَلنْظُ َر فِيَّ فِي َمرْ�سَ ى �أَنَايْ �أَنَا �أَعْ مَى يُطَ ِّو ُقنِي �أَ�سَ ايْ َو َي�أْخُ ُذنِي ال�سُّ كُونُ �إِلَى َعمَايْ َف�أَمْ كُثُ ال فِي لَظَ ى َ�ص ْمتِي طَ وِي ً َو�أ َْ�صمُتُ ُك َّلمَا نَطَ قَتْ َيدَايْ َك�أَنِّي دَمْ َع ٌة فِي َق ْع ِر َك�أ ٍْ�س َك�أَنِّي َن ْغ َم ٌة فِي لَحْ نِ نَايْ اجلوبة � -شتاء 1435هـ 103
خرير الحنين ُ
■ حممد خ�ضر*
■ الطاهر لكنيزي*
اَ� �ْ�س� � ِب ��لْ ُذي � � ��و َل ال �ب ����سْ �م��ة ال � َوط �ف��اء ل� �م� �ل� � ْم ع� � �ن � ��ادَك �إنّ ق �ل �ب��ي ق � ��ارثٌ واف�سحْ ل�شم�س ال��و ّد تم�ش الخَ يْزلى ك��ي ي ��ر ُت� � َق الأف � � ��را َح خ �ي� ُ�ط غزيلها وي�����س��ي�� َل وج�����دُك ج����دوال م��ت��رق��رق��ا وي� �ن� �م� �ن� � َم ال� � �ب � ��و ُح ال� �ب� �ه ��يُّ ل� �ق ��ا َءن���ا ون���ع���ان��� َق ال�������ش���و َق ال���ق���دي���م ح��دي�� َث��ه ه�ل�اّ ه � � َددْت ح�����ص��و َن ال�����ص�� ّد جُ ملة و َب � �ن � �ي� ��تَ ل �ل ��أح �ل��ام ُع� �� �ّ�ش ��ا ب ��اذخ ��ا ج������ ّر ْد ظِ �ل��ال ال �� �ش��كّ م ��ن �أ ْف �ي��ائ �ه��ا �����س ���ص��ب��اب��ت��ي ملتاعة ك���م ���سُ ��ق��تُ ع��ي َ ف��ت��د ّل��ه��تْ وال���ه���ج��� ُر �أدم������ى ���ش��و َق��ه��ا وخبلتُ حين �شربتُ كا�سات النوى وت���رك���تَ ع��ق��ل��ي ب��ي��ن ك��ث��ب��ان الأ���س��ى وي�������س���ائ��� ُل ال���ق���ل���بَ ال���مُ���ع��� ّل���ق ن��ب�����ض��ه ���ش��اخ��تْ ح�سا�سينُ ال��ه��وى فينا وما ذرف���تْ على الما�ضي ل��ح��و َن مناحة �أل������ق������تْ ح���م���ائ���مُ���ن���ا ع����ل����ى �أق�����م�����اره َف� �� ِ��ص � ِ�ل ال� � �ف� � ��ؤا َد ب �ك �ل �م��ة م� �ط ��روزة ك����ي ت�������ور َق ال���ك���ل���م���اتُ م���ث���ل ف�����س��ي��ل��ة وي�����ص��وغ م��ن��ه ط��ن��ي�� َن��ه ن��ح�� ُل ال��ج��وى ف���ال��� ّن���ه��� ُر رغ����م ال �� �س � ّد ي��طْ �ف��ر م� ��دُّ ُه وال����������ور ُد ي���ط���رح ل��ل��ن�����س��ائ��م ع��ط��ره وال��ب��ح�� ُر ي��دف��ن ف��ي ال��رم��ال ه��دي�رَه ه� ��ذي ح� �ب ��الُ حُ �� �ش��ا� �ش �ت��ي م� �م ��دود ٌة * �شاعر من المغرب.
104اجلوبة � -شتاء 1435هـ
وال� �ج� � ْم خ �ي��و َل ال�غ��ْ��ض�ب��ة ال��ح��م��راء ي���� ْ���س���ت���فّ ت����رب���� َة ال����وح����دة ال��� ْده���م���اء ف�����ي ق���ل���ب���ك ال���م�������ش���ن���وق ب������الأن������واء وي�����غ�����و َر َروْقُ ال���ظ���ل���م���ة ال���ظ��� ْل���م���اء ي���ن�������س���اب ب����ي����ن م�������ش���ات���ل الأح�����ن�����اء ون���������ذوبَ ف����ي ه��م�����س��ات��ن��ا ال���ع��� ْي���ط���اء ف� �ت� �ن� � ّز وهْ � � � � َوه � � � � ٌة م � ��ن الأح � �� � �ش� ��اء وم����� َددْتَ ج�����سْ ��ر ال���ص��راح��ة النجالء ل����ت����غ���� ّر َد ال� �ن ��جْ ��وى ِب� ��دغْ � ��ل خ��وائ��ي ل��� َت���رى غَ�������ض���ارة روحِ � � ��يَ ال�ب�ي���ض��اء ل � �م � �ن� ��اب� ��ع الأح� � � �ل � � ��ام والأه����������������واء ل���م���ا ن���� َ���ص���ب���تَ ك����م����ائ����نَ ال�������ش���ح���ن���اء م���م���ذ وق������� ًة ب���� ِ���ض ��رام ��ك ال� ��زرق� ��اء ّ�������س الأ�����س����م����ا َء ف����ي الأ����ش���ي���اء ي���ت���ل���م ُ ف�����ي ح����ي����رة ع�����ن واح�����ت�����ي ال����غ���� ّن����اء �����ص��ب��وت��ي ال��ه��ي��م��اء ����ش���ا َخ ال��ح��ن��ي��ن ب َ ك����م����خ����ارم ال�����ن�����اي�����ات ب���ال�������ص���ح���راء �أ� �س �ج��ا َع � �س��حّ ��تْ م���ن غ��م��ي�����س ال����دّاء ب�����ال�����و ّد ال ب���ال���� ّ���ض���ح���ك���ة ال�����ش��ه��ب��اء �أو وردة ف�����ي روح��������ك ال������ج������رْداء وي�������ص��� ّب���ه ف�����ي روح��������ك ال���خ���ر����س���اء ل�����ي�����ب�����و َح ب������الأ�������س������رار ل���ل���ح���� ْ���ص���ب���اء ل����ت����د� ّ����س����ه����ا ف������ي خ�����اط�����ر ال������ع������ذراء ل��ي�����ص��ي��خ م����وجُ ����ه ل��ل��خ��ري��ر ال��ن��ائ��ي الخ�ضراء .. ْ فان�ش ْر غ�سي َل �شجونك
عن االعتقادات الخاطئة
وال القناديل الم�ضاءة على ت�شققات الألم، �أخ����اف �أن يت�سكع ال��ق��در ع��ل��ى م��ق��رب��ة من الق�صيدة، ويبني المجهول كوخا في كل ا�ست�شراف، وي�س�ألني عابر كيف حالك ب�صدق وحزم؟! �أخاف �أن يتواط�أ البرج مع اللغة، ويغرقان في �صميم البحر.. �أن تطارحني ال�صحراء �سرابها، ف�أف�شل في �صياغة عبارة عن الأمل
قالت �إنها تحبهُ.. قالت �إنها حاولت االنتحار لأجله مرتين قالت �إنها انتحلت �شخ�صية مو�صلة طلبات غداء من مطعم �شهير حتى يت�صادفا، لا و�أع ��اد لها ال�ب��اق��ي بين وتحقق ذل��ك ف�ع� ً يديها وهو يخمن�( :أين ر�أيت هذه الفتاة؟) قالت �إن الحنين ينثرها مثل ري��ح تجرف ق�ش �أ�سفل �شجرة.. بينما كان �شخ�ص ما �أمامها.. عراف لخطوتها.. ي��ف��ركُ يديه ف��ي كنايه ج��دي��دة ع��ن تحطم �أعرفها من غيمة في القرى البعيدة.. القلب.. من تنوي ٍه �صغي ٍر للعائدين من ال�سفر.. كف كالم�أوى.. ٌ من �أغنية ع�شوائية على الراديو المبرمج.. على الكتف ظلت �شامتها حائرة ل�سنوات ..من ذعر الحمامات في فتحة التكييف.. فكرت ذات م��رة ب�أنها قد تكون م�ضرّة مع ومن قبلة طويلة في فلم مملّ.. مرور الوقت.. �شا�شة قالت �شيئاً خافتاً ي�شبه كالم الكهنة حول كل ر�صيدي من القلق.. الأقدار ي�ستهلك في �شا�شة الرحالت التي �أقلعت.. وتذكرت �شامة مارلين مونرو ك���ي���ف ك���ان���ت ال���ح���ي���اة ���ص��ع��ب��ة م����ع ال��ري��ب��ة في ومي�ضها الفائت كغ�صة بين عا�شقين.. واالحتياط ون�صائح الأطباء تر�صد بعد مدة تح�سنت الأو�ضاع.. ق�صيدة فاتنة ملقا ُة في طريقي منذ �أيام.. كان ثمة كفّ حنونة تقدر الأ�شياء الثمينة! تتحرك على الأوراق مثل ورد في عا�صفة.. كلما حاولت �أن �أ�سلك طريقا �آخر.. بعد قراءة �أبراج ماغي فرح تح�ضنني جيداً ب�أدوات التعبير.. �أخاف يا ماغي فرح، تُطبق عليّ مع �سبق الإ�صرار.. �أال ي�ستدل الغريب على الم�أوى، وال قوافل الحنين على غير العتمة، ف�أدخل فيها مثل طيّة في كتاب �ضخم * �شاعر من ال�سعودية.
���������������������������������ش��������������������������������ع��������������������������������ر
ن�صو�ص �شعرية
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 105
عبداهلل ال�سفر ■ حاوره /عمر بوقا�سم*
ع��ب��داهلل ال�سفر� ..شاعر يعي بعالقته م��ع ذات��ه الإب��داع�ي��ة ،ال�ت��ي ترافقه ف��ي كل االتجاهات ،ومَن يجال�سه يتنبه لعمق ثقافته وحر�صه على اال�ستمرار والبحث عن الجديد ..وه��ذا ما نلم�سه من �إجابته على �س�ؤالي عن ح�ضوره كناقد م��رة ،و�شاعر مرة �أخ��رى؛ �إذ قال�« :أعتق ُد �أ ّن غالبَ ما �أقدّمه من ق��راءات في الأعمال الق�ص�صية والروائية وال�شعرية هو ا�ستمرار لـ «الذات الإبداعيّة» التي تكتبُ الن�صو�ص .ما يم�سّ ني في تلك الأعمال من جمراتٍ تحدِثُ �أثرها في روح��ي ،وت�ستق ُّر خال�ص ًة من الن�شوة «ن�ص» مرجع ّي ُت ُه والده�شة واالنبهار� ،أحاول التعبير عنها �أو �إعادة �إنتاجها في �صورة ٍّ ذلك العمل الإبداعي� .أ�سجّ ل ا�ستمتاعي ،ولكَ �أن ت�سمّيها �شهادة �إعجاب م�صحوبة بماء الن�ص المقروء ومتداخلة معه» ..هذه �إ�ضاءة لحوار قد يقرّب القارئ لعالم �شاعرنا.. «الأعمال الكاملة» فقدت �سحرها!..
● ●ع��ب��داهلل ال�سفر م��ن الأ���س��م��اء التي ت��ق��ودن��ا �إل����ى ح��رك��ة ق�����ص��ي��دة النثر ال�����س��ع��ودي��ة؛ ف��ق��د �أه�����دى ال�����س��اح��ة ال�شعرية العديد من الإ�صدارات بين مجموعات �شعرية وكتب نقد «يفتح
106اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ال��ن��اف��ذة وي��رح��ل 1995م»« ،ج��ن��ازة ال��غ��ري��ب 2007م»« ،ي�������ص���رون على البحر 2007م»« ،ا���ص��ط��ف��اء ال��ه��واء 2010م« ،»،حفرة ال�صحراء و�سياج المدينة 2010م»« ،يطي�ش بين يديه اال���س��م 2011م»« ،دل��ي��ل ال��ع��ائ��دي��ن �إل����ى ال��وح�����ش��ة 2012م»« ،ي��ذه��ب��ون
م��������������������������واج��������������������������ه��������������������������ات
ال�شاعر
والعودة �إل��ى تجربته ف�������ي ال���ج���ل���ط���ة ما �أقدّ مه من ق��راءات في الأعمال 2013م»« ،و���س��م الق�ص�صية والروائية وال�شعرية هو ي�ستن�سخها ،ك�أنما الأي�����ام 2013م» ،ا�ستمرار لـ «ال��ذات الإبداعيّة» التي ي �ق � ّل��د ن�ف���س��ه وي��رف��ع ه���������������ل ب��������ه��������ذه �إ�شارة الحياة والبقاء تكتب الن�صو�ص. ُ الإ������������ص�����������دارات على قيد الكتابة .ما ثمّة ع��وال��م م��ن الكتابة تنتظر من �أك��������������م��������������ل��������������ت ال��ك��ات��ب �أن ي��ذه��ب �إل��ي��ه��ا؛ م��ج��رّ ب�� ًا �أعنيه باالنفتاح؛ �أنّ م�������ش���روع���ك م��ع ومكت�شفاً ..يختبر الحذف والإ�ضافة ثمّة عوالم من الكتابة الكلمة؟ تنتظر من الكاتب �أن ويمتحن مناطق لم ي�سلكها مِن قبل. ρ ρال �أح� � � ��د ي��ق��ول ��س��ب �أن هناك «���س��اح��ة» واح��دة يذهب �إليها؛ مجرّب ًا �أح��� ُ باكتمال م�شروعه لل�شعر العربي بو�صفها ميدان ًا للجمال وم �ك �ت �� �ش �ف �اً .يختبر ال� �ك� �ت ��اب ��ي؛ لأن���ه ب�����ص��رف ال��ن��ظ��ر ع��ن ه��ويّ��ة ال�شاعر ال�ح��ذف والإ��ض��اف��ة، ويمتحن مناطق لم �أ� �ص��در مجموع ًة وانتمائه الجغرافي. من الأعمال خالل ي���س�ل�ك�ه��ا مِ ���ن ق�ب��ل. عقد �أو عقدين �أو وربما كانت كتابته في ثالثة عقود وحتّى �أكثر من ذلك ،لعلّك تذكر المرحلة الما�ضية اخ�ت�م��ار ًا للو�صول �إل��ى «الأع�م��ال الكاملة» التي حملتْ لواءها دار «ع��روق ال��ذه��ب»؛ خال�صة التجربة ورحيق العودة في �سبعينيّات القرن الما�ضي ،وقر�أنا يخ�ص الكاتب فقط� ..أما العمر .هذا فيما ّ تحت هذه المظلّة نجوم ال�ساحة ال�شعرية في يخ�ص ال�ق��ارئ؛ ف ��إن �سيرورة التلقّي فيما ّ لبنان والعراق وم�صر و�سوريا وال�سعودية؛ تظ ّل بال اكتمال �أب ��داً .كتابُ الرمل الذي لكنّ هذه الت�سمية «الأعمال الكاملة» فقدتْ ن�صه الم�شهور وال تنفد فتحه بورخي�س في ّ �سحرَها �أو فاعليّتها� ،أو بالأحرى مطابقتها �صفحاته .كذلك �أم��ر ال�ق��ارئ م��ع الكتاب لأ� �ص��ل غير م��وج��ود� ..أال وه��و «ال�ك�م��ال»، وكاتبه .في كل ع�صر من الع�صور تجد عود ًة ول��و في ح��دِّ ه الأدن��ى «الإب�ل�اغ» .وم��ع ظالل واجتراح ًا لآف��اق المكتوب و�سبر ًا مختلف ًا التو�صيف الكمّي لـ «الكاملة» ،يكاد ا�ستخدام ي�ستجيب ل�ك��ل ع�صر وت �ح �وّالت��ه .بمعنى هذا العنوان يختفي ليح ّل مكانه «الأعمال القابليّة للقراءة من جديد واكت�شاف بقعة لم ال�شعريّة» ،مثالً ،لتحيل على �إنجاز �إبداعي؛ ي�صلْها ال�ضوء وبقيتْ مكنونة ومكنوزة حتّى مح�صور ًا في فترة زمنيّة معيّنة بال ا�ستدعاء ويف�ض «ر�سالةً» و�صلتْ �إلى قارئها؛ يكت�شف ّ قفلٍ للتجربة يعلنُ تماميّتها .ذلك �أن م�شروع لم تبلَ رغم اختالف الأي��دي التي تبادلت �أيّ كاتب ب�صرف النظر عن هويّته الإبداعيّة هذه «الر�سالة» وثبات �سطورها .مع الكتابة، والفكريّة يظ ّل مفتوح ًا ب�أكثر من معنى ،دون �أن ن�ضع في الح�سبان مَ ن يقع في االجترارية رهانُ الكاتب دائم ًا الال اكتمال...
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 107
● ●من الوا�ضح توجّ ه الكثير من ال�شعراء في العالم العربي �إل���ى كتابة ال��رواي��ة ،والكتابة ال�سردية ف��ي ال�سنوات الأخ��ي��رة ،م��ا ال��م��ب��ررات خلف هذا التوجه ،وهل هي ظاهرة �صحية �أم..؟ ρ ρال ُب � ّد من الإق��رار �أنّ هناك اندفاع ًا محموم ًا نحو
108اجلوبة � -شتاء 1435هـ
الكتابة الروائية و�إنتاجها بغزارة ،بطريقة تثير االنتباه والت�سا�ؤل؛ �إذْ نجد �أنّ بع�ض المناطق التي عُ دت في وقت ما «مت�صحّ رة روائ ّياً» ح�ضرت بقوّة في الم�شهد ٍ ال��روائ��ي � -إنْ في جهة الإن�ت��اج �أو في جهة التقدّم من�صة الجوائز .ال يهمّ الآن ق��راءة �إل��ى اعتالء ّهذه الظاهرة تحت �أي الفتة نقديّة تحلّل بـ «ع�صر ال��رواي��ة»� ،أو التحوالت المجتمعية الهائلة ،ومعها ال�سيا�سية واالقت�صادية في العقديْن الأخيرين� ..أو ال�صدى المبا�شر النفتاح الف�ضاء الإن�ساني والمعرفي ب�شكلٍ غير م�سبوق� ،أحدثَ ت�صدّع ًا في هيمنة الرقيب في وجهه الخارجي الذي يمثّل ال�سلطة� ،أو في وجهه الداخلي الذي يج�سّ د االمتثال لما هو من الأعراف والتقاليد والم�سكوت عنه الذي يح�سن االبتعاد عنه، غي َر �أن ال�صوت الجديد بنداء الحريّة اكت�سحَ الرقيب بوجهيه ال��داخ�ل��ي وال�خ��ارج��ي ،و�شاهدنا الأع�م��ال الروائية تترى ،وتطغى على ما �سواها من منتج �إبداعي الح�س اال�ستهالكي والت�سويقي ُّ �أو غيره .هنا يتدخّ ل في ت�ضخيم الظاهرة و�إبالغها مدىً من المجانيّة والجر�أة دون رفّة جفن ،وقبلَ ذلك من دون �أدوات؛ فاختلط الحابل بالنابل ،حتّى قر�أنا �أعما ًال روائية؛ كل �صفحاتها عامر ًة بالأخطاء والخطايا؛ فن ّي ًة ولغويّة. وبالن�سبة �إل��ى انخراط بع�ض ال�شعراء في الكتابة أعر�ضنا عن ركوب الموجة والتقليد الروائية� ،إذا ما � ْ واال�ستجابة �إل��ى رغ��وة الت�سويق ،ف ��إن ذل��ك ي�صدر عن تاريخ في الكتابة ،وخبرة في �أ�ساليبها وطرقها،
م��������������������������واج��������������������������ه��������������������������ات
اندفاع ًا محموم ًا نحو الكتابة الروائية..
ب� � � ��ل ال� � � ��ري� � � ��ادة ف��ي ك��ل ع�صر م��ن ال��ع�����ص��ور تجد ف� ��ي ن� � ��وعٍ م �ن �ه��ا .ع��ود ًة واجتراح ًا لآف��اق المكتوب، و�أع� �ن ��ي ال ��ري ��ادة و�سبر ًا مختلف ًا ي�ستجيب لكل ع�صر ● ●ك��ت��اب «ي�صرون ب�م��ؤدّاه��ا الفني ..وتحوالته. ع��ل��ى ال��ب��ح��ر» ال�����ص��ادر م � �ث� ��ل ال� � ��رواي� � ��ة ال بُدّ من الإقرار �أنّ هناك اندفاع ًا عام 2007م ،في الجزائر ال�ف��ان�ت��ا��س�ت�ي�ك�ي��ة محموم ًا نحو الكتابة ال��روائ��ي��ة وال���ذي �شاركك كتابته ال� �ت ��ي ب�� ��ر َع ف�ي�ه��ا و�إن��ت��اج��ه��ا ب��غ��زارة بطريقة تثير ال�شاعر محمد الحرز، وهو بمثابة انطولوجيا ال���ش��اع��ر ال �ك��ردي االنتباه والت�سا�ؤل!! ال� ��� �س ��وري ��س�ل�ي��م ال��ن��ق��د والإب�����داع ف��ي ال�سعودية ،ل�����ش��ع��راء ال�����س��ع��ودي��ة.. ب��رك��ات؛ �إذ ارت��ا َد وفي �أيّ مكانٍ �آخ��ر ،لي�سا في حلبة واجه الكثير من النقد، م �� �س��اح� ٍ �ات ِب � ْك��را �صرا ٍع �أو م�ضما ٍر للجري ونحن نحمل وات����ه����م ب�����أن����ه ل����م ي��ك��ن ف��ي ه��ذا المجال، مو�ضوعيا ،م��اذا تقول «ال�صافرة»!... ت �ع �� ّ��ض��ده م�خ� ّي�ل��ة في هذا االتجاه؟ عامر ٌة تعك�س روحَ ρ ρيُن�سَ ب �إلى العماد المكان و�شخ�صيّا ِت ِه وحيواناتِه و�أ�شياءَه. الأ�صفهاني ق��و ُل� ُه «�إن��ي ر�أي��تُ �أن��ه ال يكتب وثمّة �شعراء �آخ��رون ذهبوا �إل��ى ال��رواي��ة؛ �إن�سا ٌن كتاب ًا في يومه� ،إال ق��ال في غ��ده لو لأن ن�صو�صهم ال�شعريّة اب�ت��دا ًء ال تخ�ضع للتو�صيف �أو القالبِ المعروف لل�شعر .ثمّة �إمكاناتٌ خارج الحقل ال�شعري ت�سرّبت �إلى تلك الن�صو�ص ق��ادم� ًة م��ن ح�ق��ولٍ �أخ��رى؛ الأمر الذي ال نتعجّ بُ معه �أن �أخذوا طريقهم �إل��ى الرواية مثل عبّا�س بي�ضون� ،أو �أمجد نا�صر� ،أو ح�سن نجمي� ،أو عبداهلل ثابت� ،أو عالء خالد .و�شخ�ص ّياً ،عندما �أطالع عم ًال روائيّا ال ت�شغلني هويّة الكاتب و«�صحيفة �سوابقه!!» الكتابيّة .ما يهمّني هو «المكتوب» نف�سه .هل يملك المقوّمات الفنيّة للمكوث والبقاء .هل يتوافر على �إمكانيّة ال�صوغ وتحويل الحدث الخام ومتن الحكاية �إلى مبنى روائ ��ي حقيقي .ه��ذا ال��ره��ان ال��ذي نحتكم �إليه. الم�ساحة فر�ضت نف�سها!!
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 109
● ●تناولت ع��ددا م��ن التجارب ال�شعرية ال�سعودية ب��ق��راءات نقدية ،وكذلك حظيت بع�ض التجارب ال�شعرية العربية بهذا االهتمام منك ،ما تقييمك لل�ساحة ال�شعرية ال�سعودية مقارنة بال�ساحات العربية؟
110اجلوبة � -شتاء 1435هـ
م��������������������������واج��������������������������ه��������������������������ات
غُ يّر هذا لكان �أح�سن ،ولو ُزيِّد كذا لكان �أف�ضل ،ولو تُرِ َك هذا لكان �أجمل» .فالثُّغرة تالحق �أي عمل من�شور �سواء من �صاحبه بحر�صه على مقاربة �أف�ضل ال�صور التي يريدها لعمله� ،أم من الآخرين الذين يالحظون النق�ص وي�سجلّونه على الكاتب .وهذا المنطق ال تخرج عنه �أنطولوجيّة «ي�صرّون على البحر» التي جمعتْ نحو �أربعين �شاعر ًا و�شاعرة من ال�سعوديّة في مجلّد م�ؤلّف من (� )350صفحة فقط .فالم�ساحة المحددة لهذه الأنطولوجية فر�ضتْ نف�سَ ها في العدد المحدود الذي ال يمكن تجاوزه تبع ًا لر�ؤية جهة الإ�شراف ،وزارة الثقافة في الجزائر الذين تف�ضلوا م�شكورين بتبني �إخ��راج �سل�سلة �أنطولوجيات عربيّة �ضمن احتفاليّة «الجزائر عا�صمة الثقافة العربية للعام 2007م» .وعليه كان الحرج ال�شديد في االختيار والفرز واالنتقاء ،ولم يكن من مخرج �سوى اللجوء لـ «الذائقة ال�شخ�صية» التي ت�شربّت حداثة الثمانينيات في �ساحتنا المحليّة وما بعدها ،التي �أحبّ �أن �أطلق عليها «الق�صيدة الجديدة»، م��ن دون �إغ �ف��ال ال��رم��وز الت�أ�سي�سية ل�ه��ذه الحركة ال�شعريّة .وب�شكلٍ ع��ام ،ف�إنني �أتفهّم و�أق� �دّر النقد ال��ذي واجهه الكتاب ،و�أعتذر عن ال�سهو ال��ذي طالَ بع�ض الأ�سماء ،وهي بالمنا�سبة قليلة ،وهذا ال يقلّل من حجم اع�ت��ذاري ،والتي وج��دتْ فر�صة الإن�صاف من �أنطولوجية «�أ�صوات �شعرية مختارات من ال�شعر ال�سعودي» ال�صادرة عن وزارة الثقافة والإعالم «قبل نحو عامين «1432ه�ـ» ،ب�إ�شراف وتن�سيق ال�صديقين العزيزين يو�سف المحيميد و�سعود ال�سويدا.
ρ ρبعد انهيار مقولة «المراكز والأطراف» ،ال يكون ثمّة مجا ٌل للحديث عن «�ساحات» في �صيغة جمعٍ تحمل تراتب ومنازل فيها الأعلى والأدنى؛ طبق ًا لجغرافيا وت��اري��خ� .أح�سبُ �أن هناك «�ساحة» واح��دة لل�شعر العربي ..بو�صفها ميدان ًا للجمال ،ب�صرف النظر عن هويّة ال�شاعر وانتمائه الجغرافي .ومن هذا المنطلق، �أنظ ُر �إلى ال�شعر المكتوب في ال�سعوديّة ،وال يح�ضر ح�س المقارنة �إنْ باالفتخار �أو «الت�شاوف»، في البال ُّ �أو من باب العقدة القديمة عن �أطراف تريد االلتحاق بمركزٍ من المراكز في بيروت �أو دم�شق �أو بغداد �أو القاهرة ،ب�إنتاج ن�سخة تحاول م�ضاهاة الأ�صل في العوا�صم المذكورة .لدينا �أ�سماء �شعرية حا�ضرة بقوّة في الكتابة ال�شعرية الجديدة ،حتّى لو كانت الأ�ضواء الموجّ هة �إلى تجربتها �شحيحة �أو معدومة، لكنها موجودة بثقلٍ ونفاذ في هواء ال�شعريّة العربية بما ال نحتاج معه �إل��ى مقارنة .هي �أ�سماء حا�ضرة ب��ذات�ه��ا ،ب ��أوراق �ه��ا المعتمدة م��ن �صناعة الجمال و�إتقانه ،مثل �إبراهيم الح�سين ،وحمد الفقيه ،وزياد ال�سالم ،و�أحمد المال ،وعلى العمري ،و�أحمد العلي، وعبدالعزيز الحميد ،وع�ب��داهلل ح�م��دان النا�صر، وماجد الثبيتي.. الإبداع �صدى وقتيّا للحدث ومبا�شر له!..
● ●في ظل التغيّرات ال�سيا�سية واالقت�صادية التي ي�شهدها العالم العربي ،ما الأثر الذي قد تتركه ه��ذه ال��ت��غ��ي��رات على �شكل وم�ضمون الخطاب الإبداعي؟ ρ ρالتغيرات العا�صفة بالعالم العربي الذي بد�أ مع ثورة
اليا�سمين التون�سية في �أواخر عام 1910م ،وما تزال هذه ال��دورة م�شتغلة ولم ت�صل �إل��ى نهايتها ،بل �إن بع�ض هذه الثورات تراجع نف�سها وت�صحّ ح م�سارها بعد �أن ركب موجته ف�صي ٌل �سيا�سي يبتغي احتكار
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 111
الذات الإبداعية
الأعمال الق�ص�صية والروائية وال�شعرية هو ا�ستمرار لـ «ال��ذات الإب��داع� ّي��ة» التي تكتبُ الن�صو�ص .ما يم�سّ ني في تلك الأعمال من �رات ت�ح��دِ ثُ �أث��ره��ا في روح��ي وت�ستق ُّر ج�م� ٍ خال�ص ًة م��ن الن�شوة والده�شة واالنبهار، �أح��اول التعبير عنها �أو �إع��ادة �إنتاجها في «ن�ص» مرجع ّي ُت ُه ذلك العمل الإبداعي. �صورة ٍّ ولك �أن ت�سمّيها �شهادة �أ�سجّ ل ا�ستمتاعيَ ، �إع �ج��اب م�صحوبة ب�م��اء الن�ص المقروء ومتداخلة معه .هو نو ٌع من التعالق الإبداعي �أطلقَ عليه ال�صديق �سعود ال�سويدا «النقد لا ع��ن � �س��وزان �سونتاج، الإي��روت �ي �ك��ي» ،ن�ق� ً بمعنى مجا�سدة الن�ص والتداخل معه لي�س على نح ٍو معرفي بقدر ما هو على نح ٍو جماليٍّ ِ�صرْف؛ يتلمّ�س المتعة ويعبّر عنها ،ما و�سعته المحاولة والكلمات ،وفي الوقت نف�سه ،يدعو القارئ �إلى م�شاركته واختبار تلك المتعة.
● ●في ح��وار لي مع محمد الحرز طرحت ع��ل��ي��ه ����س����ؤاال ع��ن ح�����ض��وره ك��ن��اق��د م��رة يبحثون في دفاتر التراث عن هذا الأب!!.. وكمبدع «�شاعر» م��رة �أخ��رى ،وه��ل ثمة ع�لاق��ة ج��دل�ي��ة ب�ي��ن ال�ن�ق��د والإب � ��داع«● ● ..ق�صيدة النثر ترتبط بالذائقة الأجنبية وال �ت��راث الأج �ن �ب��ي ،ولي�ست ن��اب�ع��ة من رف�ض فكرة وج��ود �أي تنافر �أو تناق�ض ال �ت��راث ال �ع��رب��ي» ،ه��ذه ال �ع �ب��ارة تحمل بين االتجاهين وق��ال «بكل ب�ساطة في ت�����ص��ور ال��ب��ع�����ض .ع���ب���داهلل ال�����س��ف��ر م���اذا حالتي ه��و ت�ن�وّع تعبير ال ��ذات ب�أ�شكال يقول؟ ك��ت��اب��ي��ة م��خ��ت��ل��ف��ة ل���م ي��ك��ن ي�ك�ف�ي�ه��ا ن��وع واح���د ت��دل��ف �إل��ي��ه ف��ي التعبير ,ب�سبب ρ ρال �أجد غراب ًة في هذا الت�صوّر الذي يعك�س
112اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ذهنيّة م�شغولة بالأ�صول (وهو �شاغ ٌل عربيٌّ بامتياز) ،وال تقنع �إال بما هو منت�سِ بٌ �إلى الجذور وملتح ٌم بها عنوان ًا للأ�صالة والتحدّر من «� ٍأب» معروف .هذا الهاج�س �أو االتهام جعلَ �آخرين يبحثون في دفاتر التراث عن هذا الأب ،وربما عثروا عليه عند التوحيدي وال � ّن �ف��ري ...ل�ع� ّل هاج�س االت �ه��ام يخفّف م��ن غ�ل��وائ��ه ،ويطمئن �أنّ ع�شبة ق�صيدة النثر لي�ست نبت ًا �شيطان ّي ًا وال طارئ ًا على خارطة الكتابة العربية ،وذلك بق�صد نيْل التقبّل واالع �ت��راف .لنتوا�ض ْع ونعترف �أنّ «نقاء ال� ِع��رق» وه � ٌم من الأوه ��ام .نجد من ي�شغ ُل ُه هذا الوهم �إل��ى درج��ة عدم االنتباه �إل��ى �أنّ «الإن���س��ان» قبل الإب��داع هو حا�صل تداخل ح�ضاري وتنافذ ب�شري عبر التاريخ بيتي الإبداعي هو الفي�سبوك.. والجغرافيا والذاكرة� .إنّه تالقح وامتزاج ال ● ●ما المواقع التي تزورها �أنت على ال�شبكة ي�سلم �أح� ٌد منه .ومن هذه الوجهة ،ال يهمّ العنكبوتية؟ ال�ضفة التي �أقبلَ منها هذا ال�شكل �أو ذاك بقدر �أهميّة البحث عن نجاح هذا اللون من ρ ρهناك مواقع �أزوره��ا بانتظام ،و�أخ��رى على الكتابة وتحقّقه فن ّياً. تباعد� .إ�ضافة �إل��ى مواقع بع�ض ال�صحف العربية التي تمنح الثقافة ف�ضا ًء عري�ض ًا من ل�ستُ حري�ص ًا الن�شر والمتابعة� ،إلى جانب بع�ض المدوّنات ● ●كيف ترى قراءة النقاد لتجربتك؟ المهتمة بالن�صو�ص المترجمة ،لكنّي ب�شكل إخال�ص ،ل�ستُ حري�ص ًا على الوقوف عند ρ ρب� ٍ رئي�س �أج��د «بيتي الإب��داع��ي» في المتابعة ه��ذه الم�سالة .يكفيني كما ق��ال ال�صديق هو الفي�سبوك الذي و ّف� َر لي ك ّم ًا هائ ًال من قا�سم حدّاد «ت�سعة �أ�صدقاء وحبيبة واحدة». ال �ت �ج��ارب المختلفة ف��ي م��روح��ة الإب���داع الفاتنة .هناك �أعثر على الأ�صدقاء وعلى ..لي�سا في حلبة �صراع الذخائر.
● ●«النقد في ال�سعودية تفوّق على الن�ص الإب���داع���ي» ه��ل تتفق م��ع ه���ذه ال��ع��ب��ارة ● ●وهل لنا �أن نتعرف على مكتبتك؟ �أم..؟ ρ ρمجموعة م��ن الكتب ال� ّن���ض��رة ،والب �ت��وب، ρ ρربما ال �أتفّق معك في هذا التو�صيف .النقد و�آيباد ،وعزلة �شا�سعة..
م��������������������������واج��������������������������ه��������������������������ات
الف�ضاء ال�سيا�سي واالجتماعي والثقافي؛ ما يعني �أن اال�ستقرار لم تبلغه تلك التغيرات. يخ�ص الإب��داع �أم��ا الجانب الآخ��ر فهو ما ّ الذي يحتاج م�سافة زمنية وم�ساحة لالختمار والإن�ضاج واال�ستواء� ،إذ �أنّ اعتبار الإبداع �صدى وقتيّا للحدث ومبا�شر له؛ لي�س �صحيح ًا ويبدو ��ض��ا ّر ًا ب��الإب��داع نف�سه .ولنا مثاالن. نجيب محفوظ ،مثالنا الأول ،كتب في جزء من ثالثيته عن مناخ ثورة الزعيم ال�سيا�سي �سعد زغلول «1919م» في خم�سينيّات القرن الما�ضي؛ فكانت هذه الثالثيّة �سج ًال «فن ّياً» لي�س للثورة نف�سها ..ولكن لمجتمعٍ بالكامل. وال�م�ث��ال الثاني ال��روائ��ي الليبي �إبراهيم الكوني ال��ذي تعجّ ل كتابة ال�ث��ورة في بلده ليبيا ليلحق الحدثَ ،لكنه لم يدرك الرواي َة وال فنيّتها وال نجاحها في كتابه «فر�سان الأح�لام القتيلة» (2012م) ،رغم الر�صيد الجمالي الذي يتكّئ عليه الكوني ،والتجربة المديدة في الكتابة الروائيّة .و�أخ�شى �أن ما يُكتَب الآن ي�أخذنا فقط �إل��ى «الحدث» وانفعاليّته ،وال ي�أخذنا �إلى «الرواية».
تعقّد الحياة م��ن ج��ه��ة ،وب�سبب حاجة الإن�����س��ان ف��ي التعبير ع��ن ه���ذا التعقد بطرق مختلفة» .عبداهلل ال�سفر �أي�ضا يح�ضر كناقد مرة وك�شاعر مرة �أخرى، هل تتفق مع الحرز �أم لك ر�أي �آخر؟ �ρ ρأعتق ُد �أنّ غالبَ ما �أقدّمه من ق��راءات في
والإبداع في ال�سعودية ،وفي �أيّ مكانٍ �آخر، لي�سا ف��ي حلبة � �ص��راعٍ �أو م�ضما ٍر للجري ونحن نحمل «ال�صفّارة» لنحدّد مَ ن �أح��ر َز ق�صب ال�سبق ،وح� ّق��قَ ج��دارة حمل «ك�أ�س ال �ت �ف �وّق» .ل�ك��ل ك��ات��ب م��ن ه � ��ؤالء؛ مبدع ًا وناقداً� ،شواغله المعرفيّة والجماليّة التي يعملُ عليها ،ويحفر ال�ستجالء المكامن وا�ستق�صاء الينابيع وا�ستكناه مواطن النظر يتما�س كل واح ٌد ّ ومواقع التجربة الإن�سانيّة، منهما بعدّته الخا�صة ،والناتج يتلقّاه القارئ ب�شكلٍ فردّي ،ويتعامل معه ،وي�سجّ ل ر�أيه �أو انطباعه ل�صالح العمل� ،أو �ضدّه� ،أو ينزلق من ذاكرته بحيادٍ �أو �إلى الن�سيان.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 113
����������������س�������ي�������رة و�إب�����������������������������������داع
أ.د .عبدالرحمن بن حمود العناد القاضب ا�سم ال�شهرة (عبدالرحمن العناد)
من مواليد �سكاكا – الجوف عام 1373هـ ،تخ�صَّ َ�ص في الإعالم والعالقات العامة.. ح�صل على بكالوريو�س �إع�لام وع�لاق��ات عامة 1979م من جامعة الملك �سعود في الريا�ض بتقدير ممتاز مع مرتبة ال�شرف الأولى ،ف ُعيِّن معيدا ،وابتعث ف�أكمل درا�ساته العليا في الواليات المتحدة الأمريكية ..فح�صل على ماج�ستير � /إع�لام /جامعة دنفر ،دنفر ،ك��ل��ورادو1982م ،ثم الدكتوراه /كلية الإع�لام /جامعة �أوه��اي��و� ،أثينز، �أوهايو (1986م). تميز في درا�ساته العلياَ ،فمُنح الع�ضوية في الأردن وفل�سطين وم�صر ودول الخليج ال�شرفية في جمعية المتفوقين من خريجي العربي� ،إ�ضافة �إلى الجامعات ال�سعودية.. ال�صحافة والإعالم في الجامعات الأمريكية خ�لال م�سيرة عمله الأك��ادي�م��ي� ،شغل (كابا تاو الفا ..)Kappa Tau Alphaع�شق منا�صب مهمة داخ��ل الجامعة ،فتر�أ�س الت�أليف والبحث والتدري�س .له عدد كبير ق�سم الإعالم بكلية الآداب بجامعة الملك من البحوث والدرا�سات والم�شاركات في �سعود ث�لاث ف �ت��رات ،وع�م��ل وك�ي�لا لكلية الم�ؤتمرات العلمية ..و�أ�صبح �أول �سعودي الآداب لل�ش�ؤون الأكاديمية ،فوكيال للكلية يح�صل على درجة الأ�ستاذية في العالقات نف�سها لل�ش�ؤون الإدارية ...ثم اختير ع�ضوا العامة والإع�ل�ام� ..أ ّل��ف كتابين� :أحدهما في مجل�س ال�شورى في دورت��ه الثالثة عام في العالقات العامة ،والآخر في الحمالت 1422هـ وا�ستمر فيه ثالث دورات متتالية، الإع�لان�ي��ة� ،أ�صبحا من �أه��م الكتب التي هي الحد الأعلى للع�ضوية. ق��دم خ�لال فترة ع�ضويته ف��ي مجل�س تدر�س في �أق�سام الإعالم في العالم العربي
114اجلوبة � -شتاء 1435هـ
متحدثا في احدى الندوات
ال�شورى التي ا�ستمرت اثني ع�شر عاما عددا كبيرا الإن�سانية وما يزال.. من التو�صيات الإ�ضافية وم�شروعات القرارات، �شارك مع �أربعين مواطنا ومواطنة في ت�أ�سي�س ومن �أه��م مبادراته والمو�ضوعات التي تبناها �أول جمعية تهتم بحقوق الإن�سان في المملكة، وحظيت بت�أييد في المجل�س وخارجه ،م�شاركة �إذ طلب ه��ؤالء المواطنون من المقام ال�سامي المر�أة في االنتخابات البلدية التي قدمها ودافع الإذن لهم بت�أ�سي�س الجمعية الوطنية لحقوق عنها �أكثر من م��رة خ�لال �أرب��ع �سنوات ،حتى الإن�سان ،وتمت الموافقة في محرم 1425ه�ـ.. نجحت التو�صية ب�أغلبية طفيفة؛ وج��اء ق��رار وك��ان �ضمن �أول دفعة من فريق جامعة الدول خادم الحرمين ال�شريفين بم�شاركة المر�أة في العربية للمراقبين العرب في �سوريا� ،إذ �شارك المجال�س البلدية ،وفي مجل�س ال�شورى ،لينهي في �أعمال المراقبة الميدانية حتى تقرر �سحب ج��دال ،ويثبت حقا �أ�سا�سيا من حقوق المر�أة .فرق المراقبة في �أواخر يناير 2012م. كما تبنّى وق��دم تو�صيات وم�شروعات ق��رارات يعمل حاليا م�ست�شارا وم�شرفا على البحوث لتطوير �صالحيات المجال�س البلدية ،وال�سماح والدرا�سات في مركز �أ�سبار للدرا�سات والبحوث ل�شركات الطيران الخليجية لت�سيير رح�لات والإع�لام ،و�شارك مع الباحثين والم�ست�شارين داخلية بالمملكة ،وتعديل نظام المرور بما في ف��ي ال�م��رك��ز ب ��إج��راء ع��دد كبير م��ن البحوث ذلك �إلغاء تطبيق الحد الأعلى للمخالفات� ،أو ما الوطنية المهمة ال�ت��ي ن�ف��ذت ل�صالح جهات يعرف بم�ضاعفة مخالفات �ساهر ،وغيرها.. حكومية؛ كرئا�سة ديوان مجل�س الوزراء ،ووزارة خ�ص�ص ل�ل�أع�م��ال التطوعية وق �ت��ا ،فكان ع�ضوا في اللجان الإعالمية لجمعية الأطفال المعاقين لعدد من ال�سنوات ،ثم �أ�صبح �أمينا عاما لجائزتها التي تمنح في مجاالت الخدمة
الداخلية ،ووزارة الثقافة والإع�ل�ام وغيرها، و�شملت مو�ضوعاتها كافة المجاالت الحيوية ف��ي المجتمع ال���س�ع��ودي م��ن ال�ت�ط��رف والغلو والإره��اب� ..إلى انهيار �سوق الأ�سهم وت�أثيراته،
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 115
����������������س�������ي�������رة و�إب�����������������������������������داع
فم�شكالت ال�شباب وتطلعاتهم ،وا�ستخدامات الإنترنت في المجتمع ال�سعودي ،وتقويم �أداء �أجهزة الإعالم ال�سعودية وغيرها. ير�أ�س هيئة تحرير المجلة العربية للإعالم واالت�صال ،وهي دورية علمية محكمة متخ�ص�صة في بحوث الإع�ل�ام والإت���ص��ال ،وه��و ع�ضو في الهيئة العلمية لكر�سي ال�شيخ عبدالرحمن الجري�سي ل��درا��س��ات حقوق الإن���س��ان بجامعة الإمام محمد بن �سعود الإ�سالمية. مقتطفات من محا�ضرة له في جامعة الملك �سعود عن دور ال�شباب في تعزيز الوحدة الوطنية.. بمنا�سبة اليوم الوطني: •من المهم �أن ي�شارك ال�شاب في تطوير وط �ن��ه وال�م�ح��اف�ظ��ة ع�ل��ى ا��س�ت�ق��راره و�إن�ج��ازات��ه ومحبته لأف��راده ولقيادته ولعلمائه. •تتجلى وطنية المواطن ال�سعودي من خالل حر�صه على �أمن وطنه الفكري واالق�ت���ص��ادي واالج�ت�م��اع��ي وقناعته ب ��دوره الكبير ف��ي ن�شر المحبة بين �أفراد وطنه. •ع��دم المبالغة ف��ي العي�ش ف��ي العالم االفترا�ضي وال�خ��روج منه �إل��ى مواقع التوا�صل الحقيقي والوطني. •ا���س��ت��غ�ل�ال ال� ��وق� ��ت ب��م��ا ه� ��و م�ف�ي��د ومنتج .والتعاون مع الآخرين �أف��رادا وم�ؤ�س�سات. •ال �م �� �ش��ارك��ة الإي �ج��اب �ي��ة ف��ي �صناعة القرار (االنتخابات البلدية نموذجا، التوا�صل مع �أع�ضاء المجال�س البلدية، وال�شورى ،والم�سئولين). 116اجلوبة � -شتاء 1435هـ
متحدثا في منا�سبة دولية
مقتطفات من مقابلة مع �إحدى ال�صحف المحلية حول الحوار الوطني
الحوار الوطني فل�سفة وهدفا وتطبيقا هو محاولة ج��ادة وجريئة لت�أ�صيل الحوار ال �ف �ك��ري وال �ث �ق��اف��ي وت�ط�ب�ي�ع��ه وت�شجيع ممار�سته في كافة الم�ستويات ال�شعبية منها والر�سمية في المجتمع ال�سعودي ،الذي تعود على النظرة الأح��ادي��ة والتفكير المحكوم بتوجهات ور�ؤى محددة و�أع��راف وتقاليد بيئية ال تتيح مجا ًال كثير ًا لالختالف والتنوّع والتعدد .وي�ؤمل �أن تتوافر للحوار المن�شود بيئة ثقافية وفكرية منا�سبة. والإ�� �ص�ل�اح االج�ت�م��اع��ي ال�سليم ال��ذي ترتكز عليه كافة الإ�صالحات يحتاج للحوار و�سيلة لتحقيقه؛ فالو�سيلة مهمة للو�صول للغاية الإ�صالحية التي نبتغيها ،ومن المهم �أن ي�ستند الإ� �ص�لاح على نتائج ح��وارات �شفافة مفتوحة وحرة.
في م�ؤتمر دولي
وفي م�شاركة حول دور النخبة في و�سائل الإعالم الجديد �ضمن فعاليات �سوق عكاظ في ذي القعدة 1434هـ يلحظ المتابع لم�ستخدمي و�سائل الإعالم الجديدة في المملكة �أن هناك �إفراطا في ا�ستخدامات ه��ذه الو�سائل ،لدرجة توحي �أحيانا �أن هناك انفالتا من نوع م��ا ..فال �ضوابط وال قيود وال خ��ط��وط ،و�أن هناك فراغا كبيرا لدى قطاع مهم منهم.. كما يلحظ المتابع �سطحية في كثير من الم�شاركات ،وتركيزا �شديدا على النقد والت�ضخيم �أح�ي��ان��ا للجوانب ال�سلبية في المجتمع ،وعلى الأخطاء و�أوج��ه الق�صور، وعلى ترويج ال�شائعات التي ال ي�ستند كثير منها �إلى معلومات �صحيحة. اجلوبة � -شتاء 1435هـ 117
■ �إعداد �سعيد بوكرامي*
نقر�أ االبداعات ال�شعرية العالمية بلغتها الأ�صلية �أو بلغات و�سيطة ،فنجد �أننا �أمام قارات �شعرية باهرة .تجارب حقيقية تحفر ا�سمها عميقا في ديوان الخالدين. في ع�صرنا العربي الحالي ،نكاد ال نجد �شعرا� .أين ال�شعر العربي المماثل؟ �أيها ال�شاعر هل �أنت را�ض عن لغتك التي تكتب بها؟ هل تحتاج �إلى مراجعة ذاتية وجمالية ،لتعيد ا�ستنبات �شتالت �شعرية جديدة في ب�ستان الإبداع الإن�ساني الخالد؟ من �أين ت�ستمد طاقتك للخلق والإبداع ال�شعري؟ �أمن التراث� ،أم من لغة الع�صر، �أم من طقو�س الحياة؟ �أال ترى �أن �أزمة ال�شعر العربي الحالي ،هي مع�ضلة تجديد لغوي وتثوير �شعري، وتفكير ر�ؤيوي؟ هذه �أ�سئلة ،من بين �أ�سئلة كثيرة ،تفتح �أفق الحوار وتحفز تداعياته. ما �أقل الن�صو�ص الرائعة!
فتحي عبدال�سميع�/شاعر من م�صر
ننظر للم�شهد ال�شعري العربي ،فنجد كمًّا هائال من ال�شعراء ،وال نجد م��ردودا �شعريا ي��وازي هذا الكم� ،أو يتجان�س معه، فما �أق��ل الن�صو�ص ال��رائ�ع��ة ال�ت��ي تحمل لم�سات �إبداعية تلفت انتباهنا ،وتجبرنا
118اجلوبة � -شتاء 1435هـ
على التوقّف �أمامها ،والإقبال عليها ببهجة؛ وما �أن��در ال�شعراء الذين يقنعونك ب�أنهم �شعراء بمعنى الكلمة .وتلك الندرة قيا�سا بكمِّ ال�شعراء تجعلنا نتحدث ب�شجاعة �أن العالم العربي ي��أوي �أكبر قدر من �أدعياء ال�شعر في العالم! �إن الأ� �س��ا���س ف��ي ح��رك��ة ال���ش��اع��ر هو
ن����������������������������������������������واف����������������������������������������������ذ
ا�ستطالع عن �أزمة ال�شعر العربي
ال�سعي لتقديم ن�صو�ص جديدة ،مده�شة وثرية، ن�صو�ص ت�ضيف وال ت�ك��رر ،ن�صو�ص تمتح من النبع الخالق الموجود في �أعماق الب�شر عموما، وال�شعراء ب�شكل خا�ص؛ لأن طبيعة عملهم تفر�ض عليهم االنفتاح على العالم :الداخلي والخارجي؛ واالن�شغال الدائم بالر�صد والإ�صغاء والت�أمّل، وامتالك المهارات التي تمكّنهم من ا�صطياد لحظات الفي�ض الباطني ،وال�سيطرة على اللغة بهدف ا�ستغالل طاقاتها وتروي�ض �إيحاءاتها، والتمكّن ف��ي النهاية م��ن تقديم عمل �إب��داع��ي يفاجئ المتلقي ويده�شه ،ويثري نظرته للعالم، و�إح�سا�سه بالوجود. �إن كل �شاعر جاد يمتلك القدرة على �إب��داع ن�صو�ص فاتنة ،ولها طعمها المميز ،وب�صمتها الخا�صة ،وت�ستحق الح�ضور في ذاكرة الفن ،فكما ي�شترك مع �سواه في �سمات كثيرة ،يت�سم �أي�ضا ب�سمات فريدة ،وحياة فريدة تمتلئ بالتفا�صيل، وال�صور ،والرموز� ،أو الأ�شياء التي ت�صلح لأن تكون رم��وزا خا�صة تفجر طاقاته ،وتتبلور من خاللها نظرته للعالم. وفي تقديري� ،إن �أهم ما يحتاج �إليه ال�شاعر هو اال�شتباك مع عالمه الذي يعي�شه بتفا�صيله، وم �ف��ردات��ه ،و�أن ي�ك��ون ه��ذا اال�شتباك مدخله الأ�سا�س ال�شتباك �آخ��ر مع اللغة ،وم��ع الكتابة بو�صفها ممار�سة خالقة في حد ذاتها ،ال مجال فيها للو�صفات ال�ج��اه��زة ،وال�ق��واع��د المقررة �سلفا ،ف�أمر ال�شعر لي�س مح�سوما ،ال�شعر �أكبر من كل تعريف به ،وبحاجة �إلى اكت�شاف دائم، تماما ك��الإن���س��ان ،و�إال ف�لا حاجة لنا ل�ل�إب��داع �أ�صال ،وال مجال النتظار الجديد ،والمفاجئ، والمده�ش ،والمثير. ال�شعر هو الرفيق الأكثر �إخال�صا للإن�سان.. ذلك الكائن العجيب والملغّز ،والذي لن يتوقف �أب��د ًا عن ق��راءة نف�سه ،وال�ح��وار مع مكنوناتها
فتحي عبدال�سميع
بمعلومها ومجهولها. �إنني ال �أ�ؤمن بوجود لغة ت�ساعد ال�شاعر و�أخرى تعرقله� ،أ�ؤمن بوجود �شاعر حقيقي ومجتهد ،يعي طبيعة ال�شعر والإبداع ،ويخل�ص للكتابة بطموح ال حدود له ،و�آخر زائف ،ال ي�ستوعب طبيعة ال�شعر بالقدر المنا�سب ،فيعرقل ال�شاعر ال��ذي بين جنبيه ،بوعيه القا�صر ،و�إخال�صه ال�ضعيف. والأم��ر نف�سه ينطبق على المكان ،فالعبرة ببناء ال�شاعر ،وم��ا �إذا ك��ان ال�شاعر يتحرك في م�سار حقيقي �أم زائ��ف ،وال�شاعر الحقيقي ي�ستطيع �أن يبدع ولو كان مقيما في قرية نائية� ،أو حتى زنزانة .وفي المقابل يعجز ال�شاعر الزائف عن الإب ��داع الحقيقي مهما ك��ان المكان الذي يقيم فيه. الم�شكلة ف��ي عالمنا ال�ع��رب��ي تتعلق ببناء ال�شاعر ،فال�صدفة وحدها ت�ضعه على الطريق ال�صحيح ،وغالبية ال�شعراء يق�ضون حياتهم في الم�سار الخط�أ ،يقلدون وال يبدعون ،ين�سخون وال يبتكرون ،يقمعون ال�شاعر الذي يمتلكونه ،بدال من تفجير طاقاته الخالقة. �إن المناخ العام في عالمنا العربي مناوئ لل�شاعر الحقيقي ،و�أغلب ال�شعراء يُقتلون قبل
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 119
120اجلوبة � -شتاء 1435هـ
مَن ي�سعى لقتل ال�شعر العربي!؟
ال�شاعر �أ.د /عبداهلل بن �أحمد ال َف ْيفي (�أ�ستاذ النقد الأدبي احلديث الريا�ض) بجامعة امللك �سعود يف ِّ
لي�س من ف��را ٍغ �أن ي�سعى ال�ساعون �إل��ى قتل ال�شِّ عر العربي ،وتحييد الفنّ العربي ،لكي ال يهيِّجا العواطف ،ف ُيق ِّ�ضا الم�ضاجع .و�إن لم يمكن قتل ال�شِّ عر ،با�سم الرواية على �سبيل المثال� ،أو تحييد الفنّ ،با�سم المو�ضوعيّة ،فليُ�صرفا �إلى التوافه من الأغ��را���ض ،و�إل��ى �سراديب العبث، والغمو�ض الفارغ ،والالمعقول والال�شيء ،با�سم الحداثة وتجلّياتها الماورائيّة .مثل ذل��ك كان ُي َع ّد من �أحاديث الجنون ،ولوثاته قديمًا .حتى �إن ما نُ�سب في ن��وادر الأع��راب لبع�ض الحمقى والمجانين ،ليبدو في غاية الطرافة وال�شِّ عريّة اليوم ،قيا�سً ا �إلى بع�ض ال�شِّ عر العربي الحديث. وذلك من قبيل ما نُ�سب �إلى ال�شاعر (�أبي حية النميري المجنون) ،الذي قال مرةً« :عَ نَّ لي ظب ٌي يومًا فرميته ،فراغ عن �سهمي ،فعار�ضه ال�سهم، ثم راغ ،فعار�ضه ال�سهم ،فما ي��زال واهلل يروغ ويعار�ضه حتى �صرعه ببع�ض الجبانات!» وقال يومًا« :رميت ،واهلل ،ظبية ،فلمّا نفذ �سهمي عن
�أ.د .عبداهلل بن �أحمد ال َفيْفي
القو�س ،ذكرتُ بالظبية حبيب ًة لي ،فعدوتُ خلف ال�سهم ،حتى قب�ضتُ على قذذه قبل �أن يدركها!» وهو الم�شهور ب�سيفه� ،شهرة (دونكي�شوت)� ،أو �أ�شهر! فهذا النمط من الجنون والكذب ال يخلو م��ن ف��نٍّ وط��راف��ة .وه�ك��ذا كانت فنون الجنون جميلة مده�شة. �أمّا بع�ض جنون ما يكتب اليوم با�سم الحداثة ال�شِّ عريّة ،فيتدنَّى عن ذلك كثيرًا ،ليبدو عَ َتهًا خال�صا ،ال �أقلَّ ،وربما �أكثر .فعن �أي �شِ عر عربيٍّ ً حديث م�ؤثّر نتحدّث؟! �صحيح �أن البالغة العربية القديمة كانت تبالغ في ال�شكالنيّة كثيرًا ..و�صحيح �أنها كانت تبالغ �أحيانًا في تطلّب الو�ضوح والتنا�سب ،وتبني مقايي�سها على نماذج م�ح��دودة زم��ا ًن��ا ومكانًا وثقافة وحتى عَ ��ددًا؛ غير �أنها تظل في ر�ؤيتها �إج�م� اً�ال تتطلّب الأث��ر الفاعل لل�شِّ عر في الفكر والنفو�س والحياة؛ لأن التعبير البالغي ،مهما ركب المجاز ،لي�س بخبط ع�شواء ،وال بهذيان مخبول ،و�إنْ با�سم المجاز وال�شِّ عر.
ن����������������������������������������������واف����������������������������������������������ذ
ميالدهم ،يُقتلون من قِبل الجهل بطبيعة ال�شعر ودوره ،وقيمته على الم�ستوى العام� ،أو من قِبل ربط ال�شعر بمفهومات بائ�سة ال تطمح �إلى ما هو �أكثر من ا�ستن�ساخ م�ش ّو ٍه لتجارب قديمة ،مفهومات ال تمنح لل�شاعر من الحرية ما منحته المجتمعات البدائية القديمة ل�شعرائها ،مفهومات حنطت ال�شعر في توابيت وراحت تقد�سها� ،أو تلوكها بال حوار �أو مُ�ساءلة ،مفهومات يت�شبث بها كهنة في المدار�س والجامعات� ،أو المنابر الثقافية� ،أو المحافل الأدبية ،كهنة يعملون بوعي ومن دون وعي على تثبيت ال�سائد ،والمعتاد ،والمكرور، ويجفلون من كل م�سار تثويري �أو تجديدي� ،أو مختلف .وه�ك��ذا ي�ستقبلون الأج �ي��ال الجديدة ب ��أرواح مقموعة وقامعة ،ال يمكن �أن تتفتح في ح�ضرتها موهبة ،وال تدبّ الخطى معها �إال في الم�سار الخط�أ. �إن ال�شعر بو�صفه رفيقا �أبديا للإن�سان في كل الثقافات قديمها وحديثها ،يت�أثر بح�سا�سية مفرطة ب��أح��وال ه��ذا الإن���س��ان ،وه��و يعطي بال ح��دود ..لكن العطاء يبقى مرهون ًا بحدود هذا الإن�سان و�إرادته ،فال�شعر ال يفر�ض نف�سه بالقوة �أب��داً ،ال بد من حميمية في التعامل مع ال�شعر، وهذا الرفيق الأب��دي يتجاوب معنا بلطف بالغ، ن��ري��ده رفيقا ب�سيطا يَقبل ،ن��ري��ده ق��وة خالقة ومبهرة يقبل ،نكتفي بق�شرته الخارجية يقبل، نطمح في جوهره الداخلي العميق يقبل .وتلك العالقة هي التي �أنتجت ذلك المخزون الهائل والمتنوع والمتفاوت م��ن الن�صو�ص ،فال�شعر يعطى للقروية الب�سيطة التي تبكي فقيدا ،كما يعطى للعامل ال��ذي يكد ط��وال ي��وم��ه ،وكذلك يعطى للمبدع المحترف ،والنفو�س التي تذهب �إليه ب�إرادة قوية ،وطموح ال حدود له. تلك العالقة التاريخية بين ال�شعر والإن�سان، ال تجعل ال�شاعر منف�صال ع��ن واق�ع��ه خا�صة في عالمنا العربي ،بما يحوي من قمع وف�ساد
وعبودية وكذب وتخلّف� ..إلى �آخره؛ ف�أمرا�ضنا الم�ستع�صية ت�سطع عبر مر�آته ،وتفر�ض علينا توجهات معينة .فال�شاعر الحقيقي في عالمنا العربي محكوم عليه بالمعاناة طول الوقت من م�شاكل كثيرة ،تهدر طاقته ،وتعرقل م�شروعه الإب��داع��ي ،وت ��أخ��ذه �إل��ى تفريعات جانبية لها م��ردوده��ا ال�سلبي والمميت �أح �ي��ان��ا ،كما �أن ال�شعر ف��ي ظ��ل ه��ذا ال�م�ن��اخ يتر�سخ بو�صفه و�سيلة لل�صراخ ،ال للك�شف ،م�صبا لل�شكوى ،ال رفيقا لرحلة عظيمة؛ مالذا للهرب من الموت، ال للإقبال على الحياة؛ ثغرة للتنفي�س ال ف�ضا ًء لالبتكار والتجديد.
وب�ض ّد ذل��ك ي�سعى �آخ��رون ليُ�سهم الو�ضوح والمبا�شرة ف��ي ت�ضليل ال��وع��ي ال�ع��ام وتخدير ال�ضمائر .وال�ن�� ّ��ص الأدب ��ي يَف�سد حين يغدو مح�ض مطيَّة �أيديولوجيّة ،يرفع �شعاراتها قبل �شِ عريّتها ،فيَ�سقط عندئذ تحت �سنابك الرك�ض م�ضرَّجً ا بالكلمات الميتة .ذلك �أن للن�ص روحه، كائنة ما كانت تلك ال��روح ،ف��إن كانت قد حلَّت حلول طبيعيًّا ،كان الن�ص اً روح الأيديولوجيا في ّ ن�صا �سويًّا ،و� اّإل قتلته ،محاولة الإحالل الن�ص ًّ ّ الن�ص كان ها هنا وال الق�سري �أو المدَّعَ ى ،فال ّ الأيديولوجيا. خال�صة ال �ق��ول� :إن ال�شِّ عر ال�ع��رب��ي -وعلى الرغم من �أمرا�ضه الم�شار �إليها -ما انفكّ زاهرًا ب�أ�صواته الأ�صيلة ،وال�م�ج��دِّ دة .غير �أن هناك �صوت كثيرة ،تعليميَّة، في الواقع العربي كواتم ٍ و�إعالميَّة ،و�سيا�سيَّة� .إن الأمر بكلّيته -وفي �أيّ زمان ومكان -متعلّق بـ(اللغة) و(الحريَّة) .و�ش�أن اللغة العربيّة في العالم العربي ال يحتاج �إلى ت�شريح؛ فهو �أعرى من �أن يو�صف .وحال الحريَّة معلوم كذلك ،فهي في �أحطّ َدر ٍْك ،منذ الع�صر الجاهلي �إلى اليوم. ومن ثَمّ َ ،ف�إن تراجع ال�صوت ال�شِّ عري العربي، الم�سموع وال �م ��ؤ ِّث��ر ،تح�صيل ح��ا��ص��ل لحالة ح�ضاريّة وثقافيّة عامّة. جهد التجربة وهويّتها المتحولة
(عبد اللطيف الوراري�/شاعر وناقد مغربي)
�أعتقد �أنّ �أجمل ما ُكتِبتْ به اللغة العربية، �ات من بقدر ما �أب��دع فيها وفتحها على �إم�ك��ان� ٍ الخلق ال تنتهي ،هو ال�شّ عر� .إ ّن�ن��ا ،ونحن نعود �إلى تراثنا ال�شعري ،نكت�شف مدى القيمة اللغوية والجمالية والثقافية التي �صارت للغتنا بف�ضل ال�شعر الذي يقدم �إلينا ،بطراوته وثرائه وعمقه، من مئات ال�سنين ،وال يزال.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 121
و�إذا ك��ان ال �ق��ر�آن ق��د حفظ اللغة العربية و�أواله ��ا بالمنزلة المحظيّة بين اللغات ،ف��إنّ ال�شعر كان ما يني يبتكرها وي�صلها بالمعيو�ش والعابر والدنيوي ال��ذي يعبره الإن�سان في ُك ّل حاالته .وعلى الرغم من الحمالت المغر�ضة التي ّ�ض لها لغتنا العربية ،فتتّهمها بالعجز كانت تتعر ُ والتق�صير عن مواكبة الع�صر الحديث ،ف��إنّ الأدباء من �أُمّتنا كانوا يواجهونها بما ببدعون بها من �شعر ونثر .وال يهمّ ،بعد ذلك� ،إن كان ال�شعر �أو الرواية ديوان العرب. في وقتنا الحا�ضر ،ومع غياب الدعم الذي يمكن �أن ت�سهم به الم�ؤ�سَّ �سة الثقافية العربية عن طريق ن�شره وتداوله وترجمته ،ف�إنّ ال�شعر العربي ال يزال يحظى باهتمام مُتنامٍ ،وال يزال يمار�س جاذبيّته على قطاع مُهمّ من ال ُقرّاء حتى من داخل مواقع التوا�صل االجتماعي� .إنّ �شعرنا والحداثة ال�ت��ي يختطُّ ها منذ ع�ق��ود يُ�ضاهي �شعر ُل�غ��اتٍ يخت�ص بينها بقيم وموا�ضعات ّ �أخرى ،بل نجده (مو�سيقية� ،شكلية ،جمالية )..لي�ست فيها .ومن
122اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ن����������������������������������������������واف����������������������������������������������ذ
عبداللطيف الوراري
نافل ال�ق��ول� ،أن ن�شير �إل��ى �أ ّن��ه في كل منعطف تاريخي �أو مرحلة يم ُّر بها ال�شعر �إلاّ عا�ش �أزمة على ُ�صعُدٍ ما ،لكنّه �سرعان ما يخرج منها مُعافى و�أكثر ق ّو ًة وتجديداً .و�إذا بدا �أنّ هناك �أزم ًة في �شعرنا المعا�صر فهي طبيعية ،و�إن وج ْدتُها – لطبيعة المرحلة �أو �إب�ستيمي الع�صر� -أزم ًة مُركّبة يتداخل فيها ما هو لغوي بما هو ثقافي ووجودي، وتحتاج منّا ،كمبدعين ودار�سين� ،إلى لحظة ت�أمّل لو�ضعها في �سياقها ال�شامل. بالن�سبة لي ،وقيا�س ًا �إلى تجربتي ال�شعرية، ف�إنّ التراث ال�شعري العربي بوجوهه وعالماته الم�ضيئة كان دائم ًا �أحد م�صادري الأ�سا�سية، �إذ تنوَّعت قراءاتي لل�شعر العربي بين القديم وال �ح��دي��ث ،ف �ت �ع � ّرف��تُ ع�ل��ى ��س�ح��ر الجاهلية، وح� ��داث� ��ات ال �م �ت �ن �ب��ي و�أب�� ��ي ت��م��ام وال �م �ع��ري العابرة للأزمنة ،ور ّق��ة �شعراء الغزل في ن�سج ر�ؤاه��م للحبّ ومعاناته ،و�سخاء الطبيعة عند الأندل�سيّين ،وفيما بعد -تحت �شعو ٍر بالعجب وال�صدمة -تعرّفتُ على حيويّة ال�شعر الحر في عبوره �إل��ى الع�صر وحداثته ونهو�ضه بمتخيّل �شعريٍّ جديد ،وعلى مفارقات محمد الماغوط، و�أم� ��ل دن �ق��ل ،وم�ظ�ف��ر ال� �ن ��واب ،و�أح �م��د مطر ال�ساخرة في نقد الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي، وعلى �شعريّات محمود دروي�ش و�سعدي يو�سف و�أدوني�س وعلي جعفر العالق وقا�سم حداد و�أن�سي الحاج و�سركون بول�ص ومحمد بنطلحة ،العابرة بال�شعر العربي �إلى الكونيّ . �إ ّن ��ي �أن�ت�م��ي �إل ��ى �شجرة ال�شعرية العربية الأعر�ض التي ت�ضرب ب�أطنابها في عمق التاريخ واللغة والثقافة ،وما طفقت تجدّد �آليات عملها الكتابي والتخييلي ،وت�أويلها الخ�صيب للذات وال �ع��ال��م� .أن�ت�م��ي �إل ��ى الن�صو�ص ال�ت��ي تحمي العمق ،وتتطور داخ��ل جماليات اللغة العربية. وترتيب ًا عليه� ،أزعم �أن ال�صفحة التي �أخط فيها �شعري هي� ،سلفا ،مُ�سودّة بحبر �أولئك ال�شعراء
الذين �أتقا�سم معهم ميراث ًا عظيم ًا من الحبّ والم�س�ؤولية .وداخ��ل ه��ذا االن�ت�م��اء الأع��ر���ض، �أتعلّم كيف �أن�صت �إل��ى ثقافتي المحلّية التي هي جزء �أ�سا�س ومختلف داخل الثقافة العربية الإ�سالمية .وم��ن ثقافتي المغربية ،بجذورها الأم��ازي�غ�ي��ة والإف��ري�ق�ي��ة والأندل�سية� ،أ�سترفد مُتخ ّي ًال مُ�صطخب ًا يَدلّني على التنوّع الذي يُلهمنا الحياة التي نتوجّ ه �إليها ،ويجعل الهويّة التي نتكلّمها �أو نحلم بالعبور �إليها دائمة التحوّل. من هنا ،يهمّني التعبير عن روح� ّي��ة ال�شعر المغربي وروائحه و�أمكنته ورم��وزه وهواج�سه. وال �أفهم �شاعر ًا مغرب ّي ًا ال يعبّر عن ذلك ،ويظ ّل مغترب ًا في الأ�شباح بحث ًا عن حداث ٍة مزعومة �أو خال�ص كاذب. ٍ و�إذاً ،فلع ّل الروافد التي �شكّلت تلك �أقانيم تجربتي ،فيما �أرى ،متنوّعة ومتجاذبة ،منها ما يعود �إل��ى التراث ال�شعري ،ومنها ما يمتّح من اتّجاهات ال�شعر الحديث والمعا�صر ،ومنها ما يرد عليّ من م�شاهدات للحياة اليومية وتجاربي فيها .لكن ال معنى �أن يظ ّل �شعرك بمعزل عن ال�شعر الآخر ،الفرن�سي �أو المترجم؛ فقد �أفادني ذلك ومنح قيم ًة مُ�ضافة جديدة ِللُّغة التي �أُبدع بها وعبرها؛ بل ك�شف لي معنى �أن ي�صير الآخر «مح ّكاً» ،فلمّا نترجم �أو نقر�أ الآخ��ر مترجَ ماً، فك�أنّنا نلقى بين اللغتين �أو بين ال�شعرين تفاهم ًا هو من العمق واالن�سجام؛ ما يجعل الفجوة تتعثّر بمعنى جديد ،و�أف��ق جديد .وعلى العموم ،ف�إنّ تجربتي ال�شعرية ال ت�ألو جهد ًا للتعلُّم والإ�صغاء كيما تبقى متيقّظة وحيّة ومنتمية �إل��ى زمنها، وتبقى هو ّيتُها متحوِّل ًة با�ستمرار.
جمال المو�ساوي�/شاعر و�إعالمي من المغرب
المواقع الإلكترونية في كل لحظة ،ك�أنها �أنهار متدفقة �أو بحار متالطمة. ح�سناً ،هل يتعلق الأم��ر ب�أزمة ق��راءة؟ ربما، بيد �أن ه��ذه الأزم ��ة ال تخ�ص ال�شعر تحديدا، و�إنما الكتاب الإبداعي ب�شكل عام .قليلون �أولئك الذين تمكنوا في العالم العربي من بيع «�آالف» الن�سخ من كتبهم� ..أو بالأحرى من بع�ض كتبهم الإبداعية .ثم �إن �أزمة القراءة ق�ضية تتداخل فيها �أ�سباب عدة �أدناها االهتمام ب�سفا�سف الأمور من قبل بع�ضنا ،و�أعالها غياب ما يحفز على فعل القراءة بدءا بمناهج التعليم التي ال تترك فر�صة للطفل كي يتنف�س ،فما بالك بالنظر في كتاب هو في النهاية ترف بعيد� ..أق�صد النظر. �آه نعم ،يتعلق الأمر قبل هذا وذاك بجودة ما يكتب وما ين�شر .لكن الجودة ن�سبية ،ف�أنا �أنظر جمال املو�ساوي�/شاعر و�إعالمي من املغرب �إليها من موقعي ،و�أحاكم الن�صو�ص انطالقا من �أت�ساءل �أين تتجلى عالمات الأزمة في ال�شعر قناعات ال يمكنها �أن ت�شكل «ر�أي� ًا عاماً» �شعري ًا المكتوب بالعربية؟ ال�ساحة تعجّ وت�ضج بال�شعراء� ،أم نقدياً� .إن هذا ال يقت�ضي االنتماء لمدر�سة �أو والمجالت تن�شر ق�صائدهم ،ناهيك عما تحمله تيار؛ فهو نابع من انطباعات و�أحكام �شخ�صية،
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 123
124اجلوبة � -شتاء 1435هـ
ن����������������������������������������������واف����������������������������������������������ذ
�أو كما نقول هو ق�ضية ذوق؛ طبعا مع احترام مبادئ الح ّد الفني الأدنى. �أم��ا عن م�س�ألة الر�ضى على ما �أكتب ،فلن �أدّعي �أن هذا لي�س من �ش�أني بل من �ش�أن القارئ والناقد .ف��إذا �سلمنا بوجود �أزم��ة ق��راءة و�أزمة نقد ،فمعناه �أن ال �أحد يمكن �أن يعبّر عن قيمة ما �أكتب ،ومن ثمَّ �س�أكون مجبرا بالت�أكيد على �أن الر�ضى م��وت .و�إن��ي �إذا �أردت الإب�ق��اء على ال�شاعر حيا في داخلي ،فعليّ �أن �أ�ضع ن�صب عيني �أن الن�ص «الكامل» لن �أكتبه يوما ما ،و�أن كل ق�صيدة جديدة �أكتبها ما هي �إال تمرين فقط! في هذا ال�سياق ،لي�س �ضروريا �أن �أعمد �إلى محو كل ما كتبته �أو قر�أته ،كي �أف�سح المجال ل�شيء جديد .ل��ديّ قناعة ب��أن كل ما ننتجه هو تنويعات على وج��ه الحياة .قد �أراه اليوم على غير ما ر�أيته �أم�س ..وهكذا .والكتابة هي دائما م�ستمدة؛ ما ر�سّ ب في الأعماق من قراءاتنا ومن تجاربنا في الحياة .ال �أرى كتابة من غير هذين النبعين؛ منهما ن�صنع ت�صوراتنا للواقع وللحلم؛ للحا�ضر والم�ستقبل .لهذا ال يبدو المحو فكرة جيدة ،وال قابلة للتحقيق. في المقابل ،ينبغي �أن يت�ضافر النبعان مع ان�شغال �شخ�صي �ضروري ،لكل �شاعر ،على كل حال .يتمثل هذا االن�شغال في البحث المتوا�صل عن موطئ لم تط�أه ق��دم .الإب ��داع في �صياغة المعنى من زاوي��ة لم يلج �إليها �أح��د بعد .وهذا �أمر قليلون من ي�صلون �إليه .لأنه يتطلب تكري�س الحياة لم�شروع وف��ق خطاطة ب��أه��داف و�آليات و�إم �ك��ان��ات ،وه��و �أم��ر غير م�ت��اح للأغلبية من ال�شعراء في المنطقة التي ننتمي �إليها ،بالنظر �إلى ظروف الحياة التاريخية واالجتماعية وحتى النف�سية .ل�ه��ذا ،ي�صير ال�شعر مكابد ًة وعناء متوا�صال في مجابهة اليومي البغي�ض ،بكل ما فيه من �صغائر الأمور.
ال�شعر بهذا ال�شكل ،مخا�ض لوالدة م�ستع�صية نتيجة المكونات «البيولوجية» المتعددة للمولود، �إذ تتمازج فيه بقايا تراثية (كل ما مر وا�ستقر في ثنايا الأم�س قريبا �أو بعيدا كان ،هو تراث) بلغة الع�صر ،ب�إكراهات الحياة وبال�ضرورات الوجودية ب�شكل عام و�شامل .ولعل بع�ض �أزمة ال�شعر موجود في ه��ذا الجانب تحديدا في ما يتعلق بالتلقي والقراءة .يدّعي ال�شاعر �أنه في حاجة �إل��ى ن��وع من ال�ق��ارئ العالم �أو المحيط بمكونات مولوده ،حتى يتمكن من التوا�صل معه. ب�صيغة ما «لماذا ال تفهمون ما �أقول»! عندما ت��رى ك�ث��رة ال���ش�ع��راء ،تت�ساءل �أي��ن ال�شعر؟ تفتح الإنترنت وتبحر ،تتقاذفك بحار ال متناهية من الق�صائد والخواطر والكتابات المتنوعة .تقول ه��ذا ج��واب �سريع على �س�ؤال يحتاج �إلى الكثير من الت�أمّل والتدبّر .لكن هل هذا هو ال�شعر فعال؟ قد يكون .ولكن مَ ن �أكون حتى �أطرح هذا ال�س�ؤال؟ �أتذكر عندما �شرعت في اقتراف الكلمات قبل ب�ضعة وع�شرين عاما .كان الإح�سا�س رائعا و�أنا �أقر�أ ما جادت به تلك البدايات من�شورا في هذه الجريدة �أو تلك المجلة .هذا الإح�سا�س ال �أري��د له �أن يموت .هو يجعلني �أ�شعر بما ي�شعر به كل ه�ؤالء الذين ي�ستهويهم �أن يروا �أ�سماءهم و�صورهم ف��ي ه��ذا الموقع �أو ذاك .فقد نابت ع��ن �صفحات ال�شباب ال�ت��ي احت�ضنت �شغبنا الأول ،وهي متنف�سهم كما كانت تلك ال�صفحات متنف�سنا .ه��ذا يقودني �إل��ى القول �إن ال�شاعر في بداية دائمة ،و�أن ما يمكن �أن نحكم عليه بالرداءة حاليا قد يحوّل �أ�صحابه مع الوقت �إلى �شعراء «م�س�ؤولين» يقدّرون معنى االكتواء بنار الحروف ...وما دامت هذه الفر�ضية موجودة، �أي البداية الدائمة ،ف�إني �أرى �أن �أزمة ال�شعر ،في ذاته ،لي�ست واردة ...لكنها ربما خارجه!
ال الناهية.. وال المتلقي ■ عقل بن مناور ال�ضمريي*
قا�س ،ال يبحث عن الإجادة في لن تقر�أ در�ساً في النحو� !..إنه في االمالء� ،إمال ٌء ٍ الكتابة ،بل �إجادة االتباع. ال ُء ال�شُّ رطي وال ُء المدر�س ،ال ُء البلدية ،والء المدير ،ال ُء الأب ،وال ُء الجار ..الءاتٌ بال نهاي ٍة �أبداً. الءاتٌ من كل الجهات وفي كل الأوقات ..ال ٌء كبيرة حا�ضر ٌة دوماً ،للحقوق والآمال، للأفعال والأقوال؛ بل تتوغل عمقاً وفجوراً لت�صفع حتى النيات. ال ت�سافر �إلى ..ال ت�ضحك مع ..ال تخالط ولأن ال �ج��زاء م��ن جن�س ال�ع�م��ل ،فما ه ��ؤالء ..ال تحب �أول�ئ��ك ..ال تقر أ� لهذا �أو يُحجّ م تلك الناهية غير الء المتلقي. ذاك ،ال تعمل كذا وك��ذا ...و�ستعرف بعد �أل��م يحن وق��ت رف��ع ال�صوت بها على ا�ستقاللك المالي �أن �أ�شد الالءات وح�شي ًة ك��ل �أ ّف���اك؟! على ك��ل معتدٍ على حقوقك ال تتكلم !..و�أكبرها خطر ًا ال ت�س�أل!.. و�ش�ؤونك وعالمك واهتماماتك؟! ه ��ذه ال �ل�ا ُء ال�ن��اه�ي��ة ب��واب � ُة ا�ستالب ال ُء المتلقي ه��ي �س ّر ال�غ��رب وال�شرق الحرية ،و� ُّأ�س الو�صاية لما بعد البلوغ وحتى الذي و�صل. المغيب. فما بين ال�لاءي��ن م�سافة تقا�س بها كم رُمِ يَت بوجه مُبادر؟! كم من �إبداع طَ مَ�ست؟! كم من عبودي ٍة لغير اهلل فر�ضت القدرة على مكافحة الف�ساد و�أ�شياء �أخرى يعرفها الباغي والمحروم.. هذه الالء اللعينة؟! * كاتب من ال�سعودية.
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 125
�صدر الكتاب في � 350صفحة من القطع المتو�سط، وحمل عنوان« :عابد خزندار ..مفكر ًا ومبدع ًا وكاتباً» والذي �أهداه الم�ؤلف الق�شعمي �إلى محبي عابد خزندار و�إلى من �أحب وطنه ..و�سار على دربه.
�صدرت م�ؤخرا لل�شاعر المغربي بو�شعيب عطران م�ج�م��وع��ة ��ش�ع��ري��ة ب �ع �ن��وان« :رع �� �ش��ات م��ن ر�صيف االنتظار» ،تقع المجموعة في (� )72صفحة من الحجم المتو�سط ،تت�صدر غالفها ل��وح��ة ت�شكيلية للفنان المغربي عبدالكريم الأزهر.
يحكي في مطلع مقدمته كيف تعرف بالناقد الخزندار منذ عام (1997م) ،ب�صحبة �أ�ستاذه ال�شيخ عبدالكريم ت�ضم المجموعة ال�شعرية ع�شر �شذرات بعنوان: الجهيمان ،ثم توالت اللقاءات بعد ذلك في جدة. «�صرخات ..من زمن الخيبة» و( )27ق�صيدة �شعرية انطوى الكتاب على ع��دة ف�صول ،ك��ان من �أبرزها منها« :ترانيم �أح�لام ..منفية»�« ،إ�شراقات �شاردة»، مقتطفات م��ن حياته ،ث��م ي�ع��رج الق�شعمي �إل��ى بع�ض «�أ�شواق مغتربة»« ،نزوة بعين حالمة»« ،ل�سعات الأيام»، اللقاءات ال�صحفية وال �ح��وارات الجريئة� ،إ�ضافة �إلى «�شظايا ذاك ��رة ت��أب��ى االن���ش�ط��ار»« ،عا�شقة الليل»، كتابات الخزندار عن وال��ده وع��ن بع�ض الأدب��اء الذين «على حافة االنف�صام»�« ،شطحات الغياب»« ،تعويذة انتقلوا �إل��ى ال��دار الآخ ��رة ك �ـ :عبدالكريم الجهيمان ،الق�صيدة».. وع�ب��دال�ع��زي��ز م���ش��ري ،وع �ب��داهلل ال �ج �ف��ري ،وع �ب��داهلل وق��د ج��اء ف��ي ظ�ه��ر ال �غ�لاف مقطع م��ن ق�صيدة عبدالجبار ،ونا�صر المنقور ،وح�سن ن�صيف� ..إلى جانب «تعويذة الق�صيدة»: طائفة من الكلمات الرقيقة التي دبجها عدد من الأدباء «ذات وهج والمثقفين عن الناقد عابد خزندار في �أكثر من محفل ق�ضمت حزمة �ضوء �أدب��ي ،كما يعقد الم�ؤلف ف�صالً عن م�شروعه التنويري؛ تفتقت �أكمام ال�شعر؛ فيورد ن�صو�ص ًا من كتاباته في زاويته «نثار» ليورد فيها حروفا دافئة الهبة �أبرز الأفكار التي طرحها عبر هذه الزاوية. الحت.. وف��ي خاتمة ال�ك�ت��اب ،يتحدث الق�شعمي ع��ن زوج��ة من منحدرات الحنين ال�خ��زن��دار ال�سيدة �شم�س الح�سيني – رحمها اهلل – ووخزات ال�سنين ودورها الأدبي وال�صحفي. تبدد ظل الفراغ و�ضباب العذاب».. كتاب قيّم ي�ستحق ال�ق��راءة ،وق��د �ضرب فيه م�ؤلفه مثال في الوفاء للرواد والمفكرين بالكتابة عنهم �أحياء، وتعتبر المجموعة ال�شعرية «رع�شات من ر�صيف وتقديمهم للأجيال التي ربما في �سرعة الحياة التي االنتظار» الإ� �ص��دار الأول للكاتب المغربي بو�شعيب نعي�شها قد ال يعرفون الكثير عن الرواد. عطران.
126اجلوبة � -شتاء 1435هـ
�صدرت حديث ًا رواي��ة «عتق» ،للأديب
يقع الكتاب في مائتي �صفحة ،تت�ضمن محتويات الندوة التي �أقيمت في م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري الخيرية ع� ��ام(2012م) ومو�ضوعها �أع�ل�اه ..وق��د هدفت الندوة �إلى ت�سليط ال�ضوء على �آث��ار المملكة العربية ال�سعودية، وبيان و�ضعها الحالي ،و�إبراز �أهمية العناية بها ،وحمايتها من مختلف �أنواع التعديات� ،سواء بالتخريب �أو النهب او التجارة �أو الإهمال؛ و�إبراز الدور الذي يمكن �أن ت�سهم فيه في تنمية ال�سياحة ،واقتراح ت�صور عام لإث��ارة االهتمام العام بالآثار الوطنية و�ضرورة المحافظة عليها ،كونها تمثل جزءا من التاريخ الإن�ساني والح�ضاري ،وتمثل �أبعادا اقت�صادية في الدولة ،والت�أكيد على ال��دور الإعالمي في هذا المجال .وقد قدمت في هذه الندوة اثنتي ع�شرة ورقة عمل �ضمن ا لمحاور الآتية: الو�ضع الحالي للمناطق الأثرية في المملكة. االه�ت�م��ام ب��الآث��ار؛ الأب �ع��اد االج�ت�م��اع�ي��ة ،والثقافية،والح�ضارية ،واالقت�صادية. جهود الهيئة العامة لل�سياحة والآثار. الر�ؤية الم�ستقبلية للعناية بالآثار. الخطوات الم�أمولة من الدولة والمجتمع والمواطن. نتائج ا�سترداد الآثار.وت�أمل هيئة الن�شر �أن ي�سهم هذا اال�صدار في خدمة الآث��ار في المملكة العربية ال�سعودية ،لما تمثله للمجتمع والوطن من بعد ح�ضاري و�إن�ساني وثقافي.
�إب��راه �ي��م م���ض��واح الأل �م �ع��ي ،وذل ��ك في طباعة ف��اخ��رة ،وع��دد �صفحات (،)72 بقيا�س (.)21×14 ق ��ال ال �م ��ؤل��ف ف��ي م�ق��دم�ت��ه :ه��ا هي لحظة ال�م��واج�ه��ة ق��د ح��ان��تْ ،وه��ا هي ك��ذب��ات��ي ُت�خ�ج�ل�ن��ي الآن ،ت�ح��ا��ص��رن��ي، ي�ؤنِّبني �ضميري ،ولكن ماذا كان عليَّ �أن �أف�ع��ل؟! لقد �ضحَّ يت بالكثير من حياتي وم��ن حرِّيتي .لماذا ت�ستكث ُر عليَّ الدنيا �أن �أعي�ش حياتي بمن�أىً عن هذه القيود التي ُت َك ِّبلُني ،تكاد تحب�س �أنفا�سي؟! كيف أرت�شف من رحيق الحياة و�أنا م�شدو ٌد �إلى � ُ هذا المكان؟! قيو ٌد و ِل��دَ تْ معي ،و�أخ��رى خلقتُها بنف�سي ،و�أخ ��رى يحيطني بها النا�س الذين يفر�ضون عليَّ كيف �أعي�ش!
ق��������������������������������������������������������������������������������������راءات
ب :عابد خزندار ..مفكر ًا ومبدع ًا وكاتب ًا الكتا ف :حممد الق�شعمي امل�ؤل النا�شر :دار االنت�شار العربي 2013 -م
ب :رع�شات من ر�صيف االنتظار»(�شعر) الكتا ف :بو�شعيب عطران امل�ؤل النا�شر :دار العاملية للن�شر -الدار البي�ضاء
ب :عتق – رواية. الكتا امل�ؤلف � :إبراهيم م�ضواح الأملعي. النا�شر :جداول للن�شر والتوزيع -لبنان
الكتاب � :آثار اململكة العربية ال�سعودية – انقاذ ما ميكن انقاذه(ندوة). حترير :هيئة الن�شر. النا�شر :م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية 2013م
اجلوبة � -شتاء 1435هـ 127
ع������ي������ن ع���������ل���������ى اجل���������وب���������ة
الجوبة ...خطوات �إلى الأمام ■ ر�شيد اخلديري*
ِب���ش�ك��لٍ م�غ��اي��ر وم�خ�ت�ل��ف ،تخطو مجلة الجوبة خطواتها الحثيثة نحو التميّز والتفرّد ،مازجة ب�ي��ن ال �ح��داث��ة والأ� �ص��ال��ة ف��ي ره ��ان �صعب، والم�ؤكد �أن تجربة مجلة الجوبة تبقى غنية بموادها وحرفيتها ،ب��دء ًا من الغالف الذي ي��أت��ي ك��ل م��رة محم ًال ب ��دالالت عميقة ،ثم التنوّع ف��ي عر�ض ال�م��واد المن�شورة ،والتي توازي طموحات العديد من الكتّاب والمبدعين العرب من المحيط �إلى الخليج. �إنَّ مجلة الجوبة ا�ستطاعت -من خالل ح�ضورها الم�ستمر في ال�ساحة الثقافية العربية والإن�سانية � -أن تلبّي حاجات كامنة في �أعماق المبدع العربي، و�أن تنال مكانة متميّزة بين باقي المجالت الأخرى .وفي اعتقادي� ،أنها المجلة الوحيدة التي واظبت على ال�صدور في الموعد المحدد ،على الرغم مما يكتنف �إ�صدار المجالت الثقافية من �صعوبات وعراقيل ،وهذا راجع بالت�أكيد �إلى ال�سمعة الطيبة التي تحظى بها من جهة ،ثم طبيعة المواد المن�شورة ،والتنوّع الذي ت�سترفد به من جهة �أخرى. وما �أتمناه �صادق ًا هو �أن توا�صل المجلة خطواتها بالتوهج نف�سه ،وبالخط التحريري ،الذي يزاوج بين الحداثة والأ�صالة ،في ت�صادٍ تام مع تحديات ال�ش�أن الثقافي والإن�ساني في البلدان العربية. * �شاعر وكاتب من المغرب.
128اجلوبة � -شتاء 1435هـ
من �إ�صدارات اجلوبة
�صدر حديثاً عن م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية