46 joba web الجوبة 46 aljoubah سكاكا الجوف

Page 1

‫درا�سات ونقد‬ ‫ن�صو�ص �شعرية و�سردية‬ ‫�سرية و�إبداع‬ ‫حمور خا�ص‪:‬‬ ‫ال�شاعر علي بافقيه‬

‫ملف العدد‪:‬‬ ‫الجوف تحتضن منتدى األمير عبدالرحمن بن أحمد‬ ‫السديري في دورته الثامنة بعنوان‬ ‫مدينة وعد الشمال ‪ ..‬والمسؤولية االجتماعية‬

‫‪46‬‬


‫برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية ودعم البحوث والرسائل العلمية‬ ‫في مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬ ‫‪ -1‬ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية‬

‫يهتم بالدرا�سات‪ ،‬والإبداعات الأدبية‪ ،‬ويهدف �إلى �إخراج �أعمال متميزة‪ ،‬وت�شجيع حركة الإبداع‬ ‫الأدبي والإنتاج الفكري و�إثرائها بكل ما هو �أ�صيل ومميز‪.‬‬ ‫وي�شمل الن�شر �أعمال الت�أليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬ ‫مجاالت الن�شر‪:‬‬ ‫�أ ‪ -‬الدرا�سات التي تتناول منطقة الجوف في �أي مجال من المجاالت‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الإبداعات الأدبية ب�أجنا�سها المختلفة (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدرا�سات الأخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫�شروطه‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن تت�سم الدرا�سات والبحوث بالمو�ضوعية والأ�صالة والعمق‪ ،‬و�أن تكون موثقة طبق ًا للمنهجية العلمية‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُتكتب المادة بلغة �سليمة‪.‬‬ ‫‪� -٣‬أن ُيرفق �أ�صل العمل �إذا كان مترجم ًا‪ ،‬و�أن يتم الح�صول على موافقة �صاحب الحق‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ُتقدّم المادة مطبوعة با�ستخدام الحا�سوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قر�ص ممغنط‪.‬‬ ‫‪� -٥‬أن تكون ال�صور الفوتوغرافية واللوحات والأ�شكال التو�ضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومنا�سبة للن�شر‪.‬‬ ‫‪� -٦‬إذا كان العمل �إبداع ًا �أدبي ًا فيجب �أن ي ّت�سم بالتم ّيز الفني و�أن يكون مكتوب ًا بلغة عربية ف�صيحة‪.‬‬ ‫‪� -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفق ًا لل�شكل الذي �ست�صدر فيه ‪ -‬على النحو الآتي‪:‬‬ ‫ الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة �صفحة بالمقا�س المذكور‪.‬‬‫ البحوث التي تن�شر �ضمن مجالت محكمة ي�صدرها المركز‪ :‬تخ�ضع لقواعد الن�شر في تلك‬‫المجالت‪.‬‬ ‫ الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة �صفحة‪( .‬تحتوي ال�صفحة على «‪ »250‬كلمة تقريب ًا)‪.‬‬‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت الن�شر‪ ،‬في�شمل الأعمال المقدمة من �أبناء وبنات منطقة‬ ‫الجوف‪� ،‬إ�ضافة �إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪� ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج) في�شترط �أن‬ ‫يكون الكاتب من �أبناء �أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يمنح المركز �صاحب العمل الفكري ن�سخ ًا مجانية من العمل بعد �إ�صداره‪� ،‬إ�ضافة �إلى مكاف�أة‬ ‫مالية منا�سبة‪.‬‬ ‫‪ -١٠‬تخ�ضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬


‫‪ -2‬دعم البحوث والر�سائل العلمية‬

‫يهتم بدعم م�شاريع البحوث والر�سائل العلمية والدرا�سات املتعلقة مبنطقة اجلوف‪ ،‬ويهدف‬ ‫�إلى ت�شجيع الباحثني على طرق �أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها و�أفكارها‪.‬‬ ‫(�أ) ال�شروط العامة‪:‬‬ ‫‪ -١‬ي�شمل الدعم املايل البحوث الأكادميية والر�سائل العلمية املقدمة �إلى اجلامعات واملراكز‬ ‫البحثية والعلمية‪ ،‬كما ي�شمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مب�ؤ�س�سات غري �أكادميية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة متعلق ًا مبنطقة اجلوف‪.‬‬ ‫‪ -٣‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة جديد ًا يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ال يتقدم الباحث �أو الدار�س مب�شروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬ ‫‪ -٥‬يقدم الباحث طلب ًا للدعم مرفق ًا به خطة البحث‪.‬‬ ‫‪ -٦‬تخ�ضع مقرتحات امل�شاريع �إلى تقومي علمي‪.‬‬ ‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد ال�سقف الأدنى والأعلى للتمويل‪.‬‬ ‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل �إج��راء تعديالت جذرية ت��ؤدي �إلى تغيري وجهة‬ ‫املو�ضوع �إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يقدم الباحث ن�سخة من ال�سرية الذاتية‪.‬‬ ‫(ب) ال�شروط اخلا�صة بالبحوث‪:‬‬ ‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف ال�شروط العامة(البند «�أ»)‪.‬‬ ‫‪ -٢‬ي�شمل املقرتح ما يلي‪:‬‬ ‫ تو�صيف م�شروع البحث‪ ،‬وي�شمل مو�ضوع البحث و�أهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪ ،‬واملدة‬‫املطلوبة لإجناز العمل‪.‬‬ ‫ ميزانية تف�صيلية متوافقة مع متطلبات امل�شروع‪ ،‬ت�شمل الأجهزة وامل�ستلزمات املطلوبة‪،‬‬‫م�صاريف ال�سفر والتنقل وال�سكن والإعا�شة‪ ،‬امل�شاركني يف البحث من طالب وم�ساعدين‬ ‫وفنيني‪ ،‬م�صاريف �إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬ ‫ حتديد ما �إذا كان البحث مدعوم ًا كذلك من جهة �أخرى‪.‬‬‫(ج) ال�شروط اخلا�صة بالر�سائل العلمية‪:‬‬ ‫�إ�ضافة لكل ما ورد يف ال�شروط اخلا�صة بالبحوث (البند «بــ») يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن يكون مو�ضوع الر�سالة وخطتها قد �أق ّرا من اجلهة الأكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُيق ّدم تو�صية من امل�شرف على الر�سالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬ ‫الجوف‪ :‬هاتف ‪ - 014 626 3455‬فاك�س ‪� - 014 624 7780‬ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا ‪ -‬الجوف‬ ‫الريا�ض‪ :‬هاتف ‪ - 011 281 7094‬فاك�س ‪� - 011 281 1357‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬الريا�ض ‪11614‬‬ ‫‪sudairy-nashr@alsudairy.org.sa‬‬


‫جمل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري‬

‫ملف ثقايف ربع �سنوي ي�صدر عن‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬

‫هيئة الن�شر ودعم ا ألبحاث‬

‫رئي�س ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬

‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫د‪ .‬خليل بن �إبراهيم المعيقل ‬ ‫د‪ .‬ميجان بن ح�سين الرويلي ‬ ‫محمد بن �أحمد الرا�شد ‬

‫امل�شرف العام ‪� :‬إبراهيم بن مو�سى احلميد‬ ‫�سكرترياً‬ ‫�أ�سرة التحرير‪ :‬حممود الرحمي ‬ ‫حمرراً‬ ‫حممد �صوانة ‬ ‫ ‬ ‫حمرراً‬ ‫عماد املغربي ‬ ‫ ‬ ‫�إخـــراج فني ‪ :‬خالد الدعا�س‬ ‫املرا�ســــــالت‪ :‬هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬ ‫فاك�س‪)+966()14(6247780 :‬‬ ‫ ‬ ‫�ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية‬ ‫‪www.aljoubah.org/ aljoubah@gmail.com‬‬

‫ردمد‬

‫‪ISSN 1319 - 2566‬‬

‫�سعر الن�سخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من ال�شركة الوطنية للتوزيع‬

‫رئي�س ًا‬ ‫في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫زياد بن عبدالرحمن ال�سديري الع�ضو المنتدب‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلمان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫الإدارة العامة ‪ -‬الجوف‬ ‫المدير العام‪ :‬عقل بن مناور ال�ضميري‬ ‫م�ساعد المدير العام‪� :‬سلطان بن في�صل ال�سديري‬ ‫قواعد الن�شر‬ ‫‪� -1‬أن تكون املادة �أ�صيلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬مل ي�سبق ن�شرها ورقياً �أو رقميا‪ً.‬‬ ‫‪ -3‬تراعي اجلدية واملو�ضوعية‪.‬‬ ‫‪ -4‬تخ�ضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل ن�شرها‪.‬‬ ‫‪ -5‬ترتيب املواد يف العدد يخ�ضع العتبارات فنية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -6‬ترحب اجلوبة ب�إ�سهامات املبدعني والباحثني والكتاب‪،‬‬ ‫على �أن تكون املادة باللغة العربية‪.‬‬ ‫«اجلوبة» من الأ�سماء التي كانت ُتطلق على منطقة اجلوف �سابقاً‪.‬‬

‫املقاالت املن�شورة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي املجلة والنا�شر‪.‬‬

‫ُيعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املنا�شط املنربية الثفافية‪،‬‬ ‫ويتب ّني برناجم ًا للن�شر ودع��م الأبحاث والدرا�سات‪ ،‬يخدم الباحثني وامل�ؤلفني‪ ،‬وت�صدر عنه جملة‬ ‫(�أدوماتو) املتخ�ص�صة ب�آثار الوطن العربي‪ ،‬وجملة (اجلوبة) الثقافية‪ ،‬وي�ضم املركز ك ًال من‪( :‬دار‬ ‫العلوم) مبدينة �سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما ق�سم للرجال و�آخر للن�ساء‪.‬‬ ‫وي�صرف على املركز م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية‪.‬‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪4‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫العدد ‪� - 46‬شتاء ‪1436‬هـ ‪2015 -‬م‬

‫الدورة الثامنة ‪ -‬الجوف‬ ‫‪ 22‬محرم ‪1436‬هـ (‪ 15‬نوفمبر ‪2014‬م)‬

‫مدينة وعد الشمال‪..‬‬ ‫‪6.........................‬‬ ‫والمسؤولية االجتماعية‬

‫اجلوف حتت�ضن منتدى الأمري‬ ‫عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري‬ ‫يف دورته الثامنة‬

‫‪72.......................‬‬ ‫محور خا�ص بال�شاعر علي بافقيه‬

‫‪101......................‬‬ ‫�سرية‪ ‬و�إبداع‪..‬‬ ‫د‪ .‬ميجان‪ ‬بن ح�سني الرويلي‬

‫الـمحتويــــات‬ ‫االفتتاحية ‪4 ............................................................‬‬ ‫ملف العدد‪ :‬الجوف تحت�ضن منتدى الأمير عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري‬ ‫في دورته الثامنة بعنوان مدينة وعد ال�شمال‪ ..‬والم�سئولية االجتماعية ‪6 ...‬‬ ‫ـ�ص مُلتقى الكـتابة والقراءة ‪ -‬د‪ .‬فريد �أمع�ضـ�شـو ‪22 ....‬‬ ‫درا�سات ونقد‪ :‬الن ُّ‬ ‫�شعرية الغياب في «مقهى ال�شباب ال�ضائع» لـ«باتريك موديانو» ‪-‬‬ ‫ه�شام بن�شاوي‪29 ....................................................‬‬ ‫الحجي في مجموعتــه الق�صـ�صـيـــة (�سيد واوي) بين النزعتين‬ ‫«الروحانية وال�ساخرة» ‪ -‬حمد حميد الر�شيدي‪32 ...................‬‬ ‫االحتدام الدرامي وت�شظي الداللة قراءة في ديوان «ي�سقط �شقياً» ‪-‬‬ ‫ر�شيد الخديري‪36 ...................................................‬‬ ‫ق�ضايا وهموم الحياة االجتماعية في فن الق�صة الخلـيـجـيــة ‪-‬‬ ‫م�صطفى محمد علي ال�صوفي ‪42 ...................................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة‪� :‬أوجاع علي �أمقا�سم ‪ -‬حمد �أحمد ع�سيري ‪45 .......‬‬ ‫الزهرة البرية ‪ -‬منيرة ح�سن الع�سيري ‪47 ............................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا ‪ -‬محمد �صوانه ‪49 ..............................‬‬ ‫�صالح و�أحالم �سوف ‪ - !!..‬فار�س الرو�ضان ‪50 ........................‬‬ ‫الأ�صدقاء الثالثة‪ -‬ق�صة للأطفال ‪ -‬فاطمة �أحمد ‪52 .................‬‬ ‫ديك النعناع ‪� -‬إبراهيم �شيخ ‪54 .......................................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة جدا ‪ -‬م�سعدة اليامي ‪56 .............................‬‬ ‫�شعر‪ :‬ابتهاالت �أمام الكعبة الم�شرفة ‪ -‬ن�سرين بنت ثاني الحميد ‪57 ...‬‬ ‫ن�صو�ص �شعرية ‪ -‬تركية العمري ‪58 ...................................‬‬ ‫محاكاة ‪� -‬أحمد قران الزهراني‪60 ....................................‬‬ ‫رحيق بطعم الحريق ‪ -‬علي العلوي ‪62 .................................‬‬ ‫�شجرة الليل‪ ..‬مغزول ب�إبر الفقد والهزيمة‪� - ..‬إبراهيم زولي ‪63 ......‬‬ ‫كن كما �أنتَ ‪� -‬سليمان عبدالعزيز العتيق‪65 ...........................‬‬ ‫خو�ص رِوا َيةٍ‪ - ..‬الطاهر لكنيزي ‪66 ...........................‬‬ ‫لَ�سْ نا �شُ َ‬ ‫منديل ‪� -‬شاهر النهاري ‪67 ............................................‬‬ ‫للبيت رب يحميه ‪� -‬أ�سامة الزقزوق ‪68 ................................‬‬ ‫�شهد الحب ‪ -‬نازك الخنيزي‪70 .......................................‬‬ ‫محور خا�ص‪ :‬ال�شاعر علي بافقيه ‪ -‬حاوره‪ :‬عمر بوقا�سم‪72 ..........‬‬ ‫مواجهات‪ :‬الروائي «حمّور زيادة» ‪ -‬حاوره‪ :‬مح�سن ح�سن ‪89 ..........‬‬ ‫بلقي�س الملحم ‪ -‬حاورتها‪� :‬شم�س علي‪96 ..............................‬‬ ‫�سيرة‪ ‬و�إبداع‪ :‬د‪ .‬ميجان‪ ‬بن ح�سين الرويلي ‪101 .......................‬‬ ‫نوافذ‪ :‬ر�ؤية للمنهــج االجتمــاعــي في النقد ‪ -‬د‪� .‬صبري حمادي‪103 ....‬‬ ‫�أدباء يحكون مدنهم ‪� -‬سعيد بوكرامي‪105 ..............................‬‬ ‫دائرة الإنجاز ‪� -‬صالح محمد اللحيد‪125 ...............................‬‬ ‫قراءات ‪126 .............................................................‬‬ ‫عين على الجوبة‪ :‬د‪�.‬أحمد الدمناتي ‪128 ............................‬‬

‫�صورة الغالف‪ :‬الجوف تكت�سي بالبيا�ض وتنت�شي بالغيوم الثلجية يوم الأحد ‪ 20‬ربيع الأول ‪1436‬هـ الموافق ‪ 11‬يناير ‪2015‬م‪.‬‬ ‫�صورة لهطول الثلوج بمنطقة الجوف‪ ،‬دومة الجندل ‪ -‬الأ�ضارع‪ ،‬ت�صوير‪ :‬جميل ال�شمري‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫‪5‬‬


‫اف �ت �ت��اح �ي��ة‬ ‫ال� � � � �ع � � � ��دد‬ ‫■ �إبراهيم احلميد‬

‫يقدم هذا العدد ملف منتدى الأمير عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري للدرا�سات‬ ‫ال�سعودية في دورته الثامنة‪ ،‬المنعقد في مدينة �سكاكا‪ ‬بتاريخ ‪ 22‬محرم ‪15 ( 1436‬‬ ‫نوفمبر ‪ 2014‬م)‪ ،‬بعنوان «مدينة وعد ال�شمال ‪ ..‬والم�سئولية االجتماعية»‪ ،‬ن�سج فيه‬ ‫م�شاركو المنتدى قراءاتهم لم�شروع المدينة وانعكا�سات �إن�شائها على واقع المنطقة‬ ‫ال�شمالية من مقر المدينة في طريف‪� ،‬إلى عرعر و�سكاكا و غيرها‪ ..‬في محاور منها‬ ‫مدينة وعد ال�شمال والآث��ار التنموية المتوقعة‪ ،‬وال�شركات والم�سئولية االجتماعية‬ ‫ومفهوم الم�سئولية االجتماعية؛ مقدمين تو�صياتهم التي ت�ؤكد �أهمية المدينة والآمال‬ ‫المعلقة على �إنجازها وتحقيق �أهدافها‪ .‬‬ ‫وتت�سع ف�ضاءات الجوبة لت�شمل درا�سات وقراءات في الإنتاج الإبداعي و�إبداعات‬ ‫�شعرية ونثرية‪ ،‬كما تقدم محورا خا�صا بال�شاعر علي بافقيه‪ ،‬الذي جمع الإب��داع‬ ‫ال�شعري بكافة �أ�شكاله؛ �إذ يقدم المحور �شهادات وقراءات‪ ،‬وحوار ًا خا�صا مع ال�شاعر‬ ‫بافقيه ال��ذي يع ّد من ال�شعراء المميزين في التجربة ال�شعرية الحداثية‪ .‬يتميز‬ ‫بلم�سته الفنية الراقية التي يلتقط بها لحظاته ال�شعرية‪ ،‬والأ�سلوب العذب والأنيق في‬ ‫مداعبة ال�صور والأحا�سي�س المتدفقة في زمن تحجّ رت فيه الم�آقي‪ ،‬وت�آكلت فيه القيم‬ ‫الإن�سانية الجميلة‪.‬‬ ‫كما يقدم العدد حوارا مع الروائي «حمور زيادة» الأديب ال�سوداني البارز م�ؤخرا‪،‬‬ ‫و هو �صاحب رواية «�شوق الدروي�ش»‪ ‬الذي ع َّد عديد من النقاد روايته فتح ًا في الأدب‬ ‫العربي عامة‪ ..‬وال�سودانى خا�صة‪ ،‬و�أنه يعيد كتابة تاريخ الكتابة ال�سودانية‪ ،‬وهو الذي‬ ‫ح�صل على جائزة نجيب محفوظ بعد �أيام قليلة من محاورة الجوبة له‪ ،‬كما دخلت‬ ‫‪6‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫اف�����������������ت�����������������ت�����������������اح�����������������ي�����������������ة‬ ‫روايته‪�« ‬شوق الدروي�ش»‪ ‬في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لأبرز منجزات‬ ‫الرواية العربية لعام ‪2015‬م‪.‬‬ ‫وفي مواجهة �أخرى‪ ،‬تلتقي الجوبة الأديبة بلقي�س الملحم التي تخ�ص�صت في �أدب‬ ‫العراق‪ ،‬وكتبت عنه في �أعمالها الأدبية كما لو كانت من �أهله‪.‬‬ ‫في �سيرة و�إبداع‪ ‬يطل‪ ‬الناقد الدكتور ميجان الرويلي‪ ،‬الم�ؤلف الم�شارك لكتاب‪ ‬‬ ‫«دليل الناقد الأدبي» من �شُ رُفات الجوبة‪ ،‬مقدما �سيرته العلمية والإبداعية الحافلة‬ ‫التي ب��د�أت من مدينة هديب م��رورا بمدينة �سكاكا الجوف‪ ،‬و�صوال �إل��ى الواليات‬ ‫المتحدة الأميركية والريا�ض ‪.‬‬ ‫وفي �شهادات مميزة‪ ..‬يكتب بع�ض الأدب��اء مدنهم مقدمين ولعهم وتجلياتهم‪،‬‬ ‫معبّرين عن المدن التي تجري دما�ؤها في ن�صو�صهم‪ ،‬وعن مدى ارتباطهم بها‬ ‫وتعلقّهم بذكرياتها؛ فمنهم مَن يرى عالقته عالقة ميثولوجية ت�شوبها حالة من‬ ‫القدا�سة والأ�سطورية �أكثر منها واقعية‪ ،‬ومنهم مَن يراها عالقة ملتب�سة‪ ،‬تكت�سي‬ ‫رداء الأمومة‪ ،‬و�أحيانا رداء الع�شق‪ ،‬و�أحيانا �أخرى رداء الألم والتيه؛ وبع�ضهم يرى‬ ‫�أن المدينة التي تح�ضر في كتاباته هي مدينة متخيلة‪ ،‬و�آخر يرى �أن المدينة �أعطته‬ ‫ماءها وروحها وهواءها‪ ،‬و�أن حنينه يعيده �إليها عبر دروب الكتابة؛ ومنهم مَن ي�ستلهم‬ ‫�أحداثا و �شخ�صيات و�أمكنة و�أزمنة؛ �إذ تمثل المدينة �أم الر�أ�س حا�ضرة بقوة في‬ ‫الذاكرة ؛ تت�سرب الروح ب�صحبة الج�سد في الأزقة ال�ضيّـقة م�ستعيدا زهر الرمان‬ ‫و�سعف النخيل و�سواقي الماء ‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫‪7‬‬


‫منتدى األمير‬ ‫عبد الرحمن بن أحمد السديري‬ ‫للدراسات السعودية‬ ‫في دورته الثامنة ‪ -‬الجوف‬

‫مدينة وعد الشمال‪..‬‬ ‫والمسئولية االجتماعية‬ ‫‪ 8‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫الجوف تحتضن منتدى األمير‬ ‫عبدالرحمن بن أحمد السديري‬ ‫يف دورته الثامنة‪:‬‬

‫مدينة وعد ال�شمال‪ ..‬وامل�سئولية االجتماعية‬ ‫‪22‬حمرم ‪1436‬هـ (‪ 15‬نوفمرب ‪2014‬م)‬

‫■ �إعداد‪ :‬حممود الرحمي – عماد املغربي‬

‫�ضمن البرنامج ال�سنوي لمنتدى الأمير عبدالرحمن بن �أحمد ال�سديري‬ ‫للدرا�سات ال�سعودية‪ ،‬ا�ست�ضاف مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي في‬ ‫مركزه الثقافي بدار العلوم في مدينة �سكاكا بمنطقة الجوف دورة المنتدى‬ ‫الثامنة‪ ،‬بعنوان (مدينة وعد ال�شمال‪ ..‬والم�سئولية االجتماعية)‪ ،‬ولمدة‬ ‫يوم واحد ‪2014/11/15‬م‪ ،‬بم�شاركة عدد من ذوي االخت�صا�ص في المملكة‪.‬‬ ‫اف ُتتِح المنتدى ال�ساعة التا�سعة من التنموية واالجتماعية في المملكة ب�شكل‬ ‫��ص�ب��اح ي ��وم ال���س�ب��ت ‪2014/11/15‬م‪ ،‬ع��ام‪ ،‬وتر�سيخها لممار�سة متميزة في‬ ‫وت���ض�م��ن ك �ل �م��ات رئ �ي ����س م�ج�ل����س �إدارة مجال الم�سئولية االجتماعية‪.‬‬ ‫م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري‪ ،‬في�صل‬ ‫ب ��د�أت جل�سة االف�ت�ت��اح بكلمة لرئي�س‬ ‫بن عبدالرحمن ال�سديري‪ ،‬فكلمة هيئة مجل�س �إدارة ال�م��ؤ��س���س��ة‪ ،‬في�صل بن‬ ‫ال�م�ن�ت��دى لمعالي ال��دك �ت��ور ع�ب��دال��واح��د عبدالرحمن ب��ن �أح�م��د ال�سديري‪ ،‬التي‬ ‫الحميد‪ ،‬فكلمة افتتاح الندوة لمدير عام �ألقاها نيابة عنه م�ساعد المدير العام‬ ‫الم�ؤ�س�سة الأ�ستاذ عقل ال�ضميري‪ ،،‬وقد الأ�ستاذ �سلطان بن في�صل بن عبدالرحمن‬ ‫�شملت فعاليات المنتدى تكريم �شركة ال�سديري‪ ،‬الذي رحب ب�ضيوف المنتدى‪،‬‬ ‫�أرامكو ال�سعودية‪ ،‬وذلك نظر ًا لإ�سهاماتها الذين جاءوا لي�س�شهدوا انطالقة فعاليات‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪9‬‬


‫المنتدى ف��ي دورت��ه الثامنة للعام ‪1436‬ه��ـ‪،‬‬ ‫وال��ذي يعد �أح��د المنا�شط المنبرية الدورية‬ ‫ال�ت��ي يقيمها م��رك��ز عبدالرحمن ال�سديري‬ ‫الثقافي‪ ،‬ويحر�ص من خاللها على تناول بع�ض‬ ‫المو�ضوعات المعا�صرة‪ ،‬الجديرة باالهتمام‬ ‫على م�ستوى الوطن‪.‬‬ ‫وذك��ر �أن المنتدى تناول على مدى دورات��ه‬ ‫ال�سبع الما�ضية‪ ،‬مو�ضوعات عدة في المجاالت‬ ‫الثقافية واالقت�صادية واالجتماعية وال�صحية‬ ‫والإدارة والإع�ل�ام‪� .‬أم��ا في ه��ذا ال�ع��ام‪ ،‬فقد‬ ‫اختارت هيئة المنتدى �أن يكون مو�ضوع الدورة‬ ‫ال�ث��ام�ن��ة‪« :‬م��دي�ن��ة وع��د ال�شمال والم�سئولية‬ ‫االجتماعية»‪ ،‬ا�ست�شعار ًا منها لما لهذا المو�ضوع‬ ‫من �أهمية‪ ،‬وبخا�صة مع �إطالق م�شروع الملك‬ ‫عبداهلل لتطوير مدينة «وعد ال�شمال»‪ ،‬بمباركة‬ ‫من خادم الحرمين ال�شريفين حفظه اهلل‪ ،‬وما‬ ‫�سيت�ضمنه الم�شروع من نقلة نوعية بم�ستوى‬ ‫التنمية االقت�صادية التي �ستنعك�س على المنطقة‬ ‫ال�شمالية في المملكة ‪-‬ب�إذن اهلل‪ -‬بالنفع والخير‬ ‫في مجاالت التنمية االقت�صادية واالجتماعية‪.‬‬ ‫�إذ ي�ؤ�س�س ه��ذا ال�م���ش��روع لمدينة �صناعية‬ ‫تعدينية‪ ،‬تعد الأكبر في نوعها في المملكة بعيدا‬ ‫عن �شاطىء البحر‪.‬‬ ‫وتابع قائال �إنه في ندوة المنتدى لهذا اليوم‪،‬‬ ‫�سيجرى تناول هذا المو�ضوع بالبحث من خالل‬ ‫�أوراق عمل‪ ،‬يقدمها نخبة م��ن الأكاديميين‬ ‫والخبراء من جامعات وم�ؤ�س�سات وطنية‪ ،‬وكلنا‬ ‫�أم��ل �أن يحقق ه��ذا الملتقى ون��دوت��ه الفائدة‬ ‫المرجوة‪.‬‬

‫�سلطان بن في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري‬ ‫م�ساعد المدير العام‬

‫�أرامكو ال�سعودية‪ ،‬ال�شركة التي لها تاريخ حافل‬ ‫في مجال الم�سئولية االجتماعية‪ ،‬والتي يتحدث‬ ‫عنها رئي�س هيئة الن�شر ودع��م الأب �ح��اث في‬ ‫مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي‪ ،‬وع�ضو‬ ‫هيئة المنتدى الدكتور عبدالواحد الحميد‪.‬‬ ‫وق��ال �إن�ن��ا ن�سعد ف��ي ه��ذا المركز ب�شرف‬ ‫الإ�سهام في خدمة الثقافة على م�ستوى الوطن‬ ‫العزيز‪ ،‬من خ�لال ما توفره مكتبات المركز‬ ‫العامّة في كل من الجوف والغاط‪ ،‬وما تقدمه‬ ‫برامجه لدعم الأبحاث‪ ،‬وما تُحييه منا�شِ طُ ُه‬ ‫المنبرية‪.‬‬ ‫وكل هذه المبادرات ما كانت لتثمر لوال اهلل‬ ‫عز وج��ل‪ ،‬ثم مظلة الأم��ن ال��وارف��ة في وطننا‬ ‫الغالي‪ ،‬التي نهن�أ بها والحمد اهلل‪ ،‬والتي ينبغي‬ ‫علينا جميع ًا �أن نحر�ص دوما على �صونها قو ًال‬ ‫وعمالً‪.‬‬

‫وتجدر الإ�شارة هنا �إلى �أن هذه الثمار هي‬ ‫وا�ستطرد قائال‪ ..‬ي�سرني �أن �أ�شير �إل��ى �أن من بنات فكر الم�ؤ�س�س – يرحمه اهلل – الذي‬ ‫�شخ�صية المنتدى المكرّمة هذا العام هي �شركة يحمل المركز ا�سمه‪ ،‬رج� ٌل انطلق من �صميم‬

‫‪ 10‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫وت �ح��دث ع��ن منتدى الأم �ي��ر عبدالرحمن‬ ‫ال�سديري للدرا�سات ال�سعودية الذي يقام ب�شكل‬ ‫�سنوي‪ ،‬بالتناوب بين الجوف وال��غ��اط‪ ،‬يختار‬ ‫الق�ضايا ذات الأهمية على ال�ساحة المحلية‬ ‫والوطنية‪ ،‬لتكون مو�ضوع ًا رئي�س ًا له‪ .‬وقد اختارت‬ ‫هيئة المنتدى مو�ضوع «مدينة وع��د ال�شمال‬ ‫والم�سئولية االجتماعية» لكي يكون مو�ضوع هذا‬ ‫ال�ع��ام‪ ،‬وذل��ك لما تحمله مدينة وع��د ال�شمال‬ ‫م��ن وع ��و ِد خ�ي��رٍ لالقت�صاد المحلي للمناطق‬ ‫معالي د‪ .‬عبدالواحد الحميد‬ ‫ال�شمالية‪ ،‬ولالقت�صاد الوطني؛ وبخا�صة في‬ ‫ثقافة هذا المجتمع‪ ،‬ومن منبعِه الأول الأ�صيل‪� .‬سياق الم�سئولية االجتماعية التي �سيتطرق �إليها‬ ‫العدي ُد من المتحدثين في هذا المنتدى‪.‬‬ ‫وف��ي ختام كلمته‪� ،‬شكر الجميع على تلبية‬ ‫ك�م��ا اخ �ت��ارت هيئة ال�م�ن�ت��دى ال�شخ�صية‬ ‫ال��دع��وة لح�ضور ه��ذا ال�م�ن�ت��دى‪ ،‬و�أث �ن��ى على‬ ‫ال�ج�ه��ات ال��راع �ي��ة ل��ه‪ ،‬وع�ل��ى �أع �� �ض��اء الهيئة المكرمة وفق قواعد تربط بين مو�ضوع المنتدى‬ ‫ال��م�����ش��رف��ة‪ ،‬وف��ري��ق ال��ع��م��ل ال���ذي ���ش��ارك في و�إن �ج��ازات ال�شخ�صية التي تُختار للتكريم؛‬ ‫�سواء كانت �شخ�صية معنوية �أم طبيعية‪ .‬وقد‬ ‫تنظيمه‪.‬‬ ‫وقع اختيار الهيئة هذا العام على �شركة �أرامكو‬ ‫وق��د �أ���ش��ار �سعادته �إل��ى معر�ض �إ��ص��دارات‬ ‫ال�سعودية‪ ،‬وذلك نظير �إ�سهامها التنموي البالغ‬ ‫برنامج الن�شر ف��ي المركز المقام ف��ي البهو‬ ‫للبيئة المحلية التي ت�أ�س�ست فيها‪ ،‬وللمملكة‬ ‫خارج القاعة‪ ،‬وذكر �أن �إ�صداراته زادت عن مئة‬ ‫ب�شكل ع��ام‪ ،‬وتر�سيخها لممار�سة متميزة في‬ ‫وثالثين �إ�صدار ًا ما بين كتاب ودورية‪.‬‬ ‫مجال الم�سئولية االجتماعية‪.‬‬ ‫كلمة هيئة المنتدى‬ ‫وذكر في معر�ض حديثه عن �شركة �أرامكو‬

‫ثم �ألقى معالي الدكتور عبدالواحد الحميد‬ ‫كلمة هيئة المنتدى‪ ،‬تحدث فيها ع��ن مركز‬ ‫عبدالرحمن ال�سديري الثقافي‪ ،‬الذي انطلق قبل‬ ‫نحو ن�صف قرن با�سم (مكتبة الثقافة العامة)‪،‬‬ ‫�أن�ش�أها معالي الأمير عبدالرحمن بن �أحمد‬ ‫ال�سديري‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬على نفقته الخا�صة‪ ،‬ثم‬ ‫تطورت على م َِر ال�سنين‪ ،‬حتى تحولت �إلى مركز‬ ‫ثقافي �شامل‪ ،‬ي�سهم ب�شكل فاعل في الحركة‬

‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫الثقافية الوطنية‪.‬‬

‫ال�سعودية التي كانت تعرف با�سم �شركة الزيت‬ ‫العربية الأمريكية (�أرامكو) �أنها ت�أ�س�ست عام‬ ‫‪1933‬م‪ ،‬عندما وقَّعت حكومة المملكة العربية‬ ‫ال�سعودية اتفاقية مع �شركة �ستاندارد �أويل �أوف‬ ‫كاليفورنيا (�سوكال‪� ،‬شيفرون حالياً)‪ ،‬منحت‬ ‫بموجبها ال�شرك َة امتياز ًا للتنقيب عن الزيت‬ ‫في المملكة‪ .‬وا�ستطاعت �أرامكو �أن تعثر على‬ ‫النفط ال�خ��ام بكميات تجارية ع��ام ‪1938‬م‪،‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪11‬‬


‫مدينة وعد الشمال‬ ‫�إن�شاء مدينة وعد ال�شمال لل�صناعات التعدينية �شمالي مدينة طريف‪ ،‬هو وفاء‬ ‫لوعد خادم الحرمين ال�شريفين لأهالي منطقة الحدود ال�شمالية‪�،‬إذ �ستتوفر فيها‬ ‫كافة مقومات ال�صناعة والتنمية الم�ستدامة لتوفير الفر�ص الوظيفية لل�شباب‬ ‫وتطوير المناطق النائية‪ ،‬و�ستكون هذه المدينة والم�شاريع عند اكتمالها �إنجازاً‬ ‫ال للإنجاز الذي تم ‪ -‬بف�ضل من اهلل ‪ -‬في مدينة ر�أ�س الخير‬ ‫�آخر للوطن‪ ..‬مماث ً‬ ‫لل�صناعات التعدينية‪ ،‬وقبلها في مدن الجبيل وينبع ورابغ ال�صناعية‪.‬‬ ‫يبلغ حجم اال���س��ت��ث��م��ارات المبدئية المتوقعة ف��ي ال��م�����ش��روع (‪ )26‬مليار ري��ال‬ ‫�سعودي‪ ،‬منها نحو (‪ )21‬مليار ريال في مدينة وعد ال�شمال في م�شروع �شركة معادن‬ ‫لل�صناعات الفو�سفاتية‪ ،‬فيما �سينفق في هذه المدينة مبلغ (‪ )4.5‬مليار ريال �إ�ضافية‬ ‫للم�شروع؛ لإقامة البنية التحتية وال�سكنية والخدمات‪ ،‬وكذلك الربط الكهربائي‬ ‫و�سكة الحديد لمدينة وعد ال�شمال‪� ،‬إ�ضافة �إلى ثالثة �أر�صفة بحرية في ميناء ر�أ�س‬ ‫الخير‪ ،‬مو�ضحاً �أن هذا الم�شروع �سي�ضيف نحو خم�سة ع�شر مليار ريالٍ �سنوياً �إلى‬ ‫الناتج المحلي‪.‬‬ ‫�سيكون م�شروع �شركة معادن لل�صناعات الفو�سفاتية محوراً �أ�سا�ساً لإن�شاء مدينة‬ ‫وعد ال�شمال لل�صناعات التعدينية التي خ�ص�صت لها الدولة �أر�ضاً بم�ساحة (‪)440‬‬ ‫كيلو متراً مربعاً‪ ،‬مو�ضحاً �أن وجود خام الفو�سفات جنباً �إلى جنب مع حقول الغاز‬ ‫المتوفرة في منطقة حزم الجالميد ومناطق �أخرى مجاورة تجري فيها عمليات‬ ‫تنقيب حثيثة؛ ما يعزز قيام مدينة وعد ال�شمال لل�صناعات التعدينية والم�شاريع‬ ‫الم�صاحبة‪.‬‬


‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫و�صدَّرت �أول �شحنة منه عام ‪1939‬م‪ .‬وفي عام وكانت فر�ص العمل محدودة للغاية في المنطقة‪،‬‬ ‫‪1980‬م ا�ستكملت الحكومة ال�سعودية تملُّك وتكاد تقت�صر على المجاالت الزراعية وبع�ض‬ ‫�شركة �أرامكو‪ ،‬بعد �أن كانت قد بد�أت في عقد الأن�شطة التقليدية‪.‬‬ ‫ال�سبعينيات من القرن الما�ضي في �شرائها‬ ‫إ�سهامات كبيرة على‬ ‫ٍ‬ ‫لقد ق� َّدم��ت �أرام �ك��و �‬ ‫ب�شكل تدريجي‪ .‬وفي عام ‪1988‬م تم ت�أ�سي�س �صعيد ال�م���س�ئ��ول�ي��ة االج �ت �م��اع �ي��ة‪ ،‬فا�ستفاد‬ ‫�شركة �أرامكو ال�سعودية بموجب مر�سوم ملكي‪ ،‬المجتمع المحلي كثير ًا من �أن�شطتها‪ ،‬وتجاوزت‬ ‫والتي حلّت محل �شركة الزيت العربية الأمريكية تلك الأن�شطة المجتمع المحلي ال�صغير لت�شمل‬ ‫(�أرامكو)‪.‬‬ ‫�أن�ح��اء كثيرة وبعيدة من المملكة‪ .‬وق��د كانت‬ ‫وا�ستطرد في حديثه عن �أرامكو قائال‪� :‬إن �إ�سهاماتُ �أرام�ك��و تتم بمبادرات ذاتية منها‬ ‫اختيارها لتكون ال�شخ�صية المكرمة لمنتدى �أح �ي��ان �اً‪ ،‬وبتوجيه ومتابعة م��ن الحكومة في‬ ‫هذا العام‪ ،‬جاء نابع ًا من تقدير المنتدى لوعي �أحايين �أخرى‪ .‬وقد ازدادت وتيرة �إ�سهام �أرامكو‬ ‫ال�شركة بمفهوم الم�سئولية االجتماعية في وقت في مجال الم�سئولية االجتماعية ب�شكل خا�ص‪،‬‬ ‫مبكّر‪ ،‬وحتى قبل �أن ي�صبح ه��ذا الم�صطلح منذ منت�صف الخم�سينيات الميالدية من القرن‬ ‫متداو ًال في الأدبيات الإدارية واالقت�صادية على الما�ضي‪.‬‬ ‫النحو الذي نراه اليوم‪.‬‬ ‫و�أ�شار في حديثه �إلى �أنه من ال�صعب ح�صر‬ ‫فعندما بد�أت ال�شركة �أعمالها في المنطقة وتتبّع �إ�سهامات �أرامكو التي ت�صب في �سياق‬ ‫ال�شرقية من المملكة‪ ،‬كانت المنطقة تفتقر الم�سئولية االجتماعية ب�شكل مبا�شر وغير‬ ‫�إلى الكثير مما ي�سمّى بالتجهيزات الأ�سا�سية مبا�شر‪ ،‬وف��ق التعريفات المختلفة للم�سئولية‬ ‫المادية واالجتماعية‪ ،‬وبخا�صة في قطاعات االجتماعية‪ .‬لكننا نجد‪ ،‬على �سبيل المثال‪� ،‬أن‬ ‫التعليم وال�صحة والموا�صالت وال�م�ق��اوالت؛ �أرامكو قد �أ�سهمت عبر تاريخها في ن�شر التعليم‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪13‬‬


‫افتتاح ندوة المنتدى‬ ‫وق��د افتتح ال �ن��دوة م��دي��ر ع��ام الم�ؤ�س�سة‬ ‫الأ�ستاذ عقل ال�ضميري‪ ،‬بكلمة رحب فيها با�سمه‬ ‫ونيابة عن زمالئه العاملين بمركز عبدالرحمن‬ ‫ال�سديري الثقافي بالح�ضور الكريم‪� ،‬شاكرا كل‬ ‫من �أ�سهم بالإعداد لهذا المنتدى من اللجان‬ ‫التح�ضيرية‪ ،‬ومقدمي �أوراق العمل‪ ،‬ومديري‬ ‫الجل�سات‪ ،‬و���ش��رك��اء الم�سئولية االجتماعية‬ ‫الذين �شاركوا في رعاية هذا المنتدى وهم‪:‬‬ ‫(الناقل الر�سمي ل�ضيوف المنتدى‪ -‬طيران‬ ‫الأ�ستاذ عقل ال�ضميري‬ ‫المدير العام‬ ‫نا�س‪� ،‬شركة االت�صاالت ال�سعودية ‪� ،STC‬شركة‬ ‫ومكافحة الأم �ي��ة ف��ي بيئتها المحلية‪� ،‬سواء بتيل ‪ ,‬المجموعة ال�سعودية للأبحاث والت�سويق‪،‬‬ ‫بين موظفيها �أو غيرهم‪ .‬ف�ض ًال عن �إ�سهامها البنك الأهلي)‪ ،‬وال�شركاء الإعالميين (�صحيفة‬ ‫ف��ي ق�ط��اع��ات ال�صحة وال�ن�ق��ل وال�م��وا��ص�لات الريا�ض‪ ،‬وال�شرق الأو�سط‪ ،‬واالقت�صادية)‪.‬‬ ‫والثقافة التي �أو�ضحها معاليه بالتف�صيل في‬ ‫كما رحب ب�شخ�صية المنتدى في هذه الدورة‬ ‫كلمته؛ ما جعل �أرامكو �أنموذج ًا لما يمكن �أن “�شركة �أرامكو ال�سعودية”‪ ،‬مقدما التهنئة لها‬ ‫تفعله الكيانات االقت�صادية‪ ،‬وبخا�صة الكبرى على هذا التكريم الم�ستحق عن �أعمال �شهدها‬ ‫تجاه مجتمعاتها المحلية‪ .‬على عك�س النموذج الجميع في دورها التنموي‪ ،‬في مختلف مناطق‬ ‫المقابل المتمثل في �شركات تنظر �إلى الممار�سة المملكة‪ ،‬وخالل مدة طويلة من الزمن‪.‬‬ ‫االقت�صادية وفق مفهوم �ضيق للربح؛ فتعي�ش في‬ ‫وذك��ر ف��ي �سياق كلمته �أن الجميع يتطلع‬ ‫ّ‬ ‫عزلة عن المجتمعات المحيطة بها‪،‬‬ ‫وتمت�ص ب�شغف لما �سيبحث في هذا المنتدى في دورته‬ ‫خيراتها من دون �أن ت�سهم في تقدُّم المجتمع الثامنة التي جاءت بعنوان‪« :‬مدينة وعد ال�شمال‬ ‫المحلي؛ �سواء ب�شراء عنا�صر الإنتاج الموجودة والم�سئولية االجتماعية»‪ ..‬على �أمل �أن يكون هذا‬ ‫فيه ‪-‬وفي مقدمتها عن�صر العمل الذي يتطلع اال�سم بما يحمله من رمزية جميلة وعد ًا منجز ًا‬ ‫�إلى التوظيف‪� -‬أم في �ضخِّ مخرجات من �إنتاجها في وقته و�أه��داف��ه‪ ،‬ومحقق ًا لآم��ال الآالف من‬ ‫داخل المجتمع المحلي‪ ،‬من �أجل خلق دورات �أبناء ال�شمال �شباب ًا ورجال �أعمال‪ ،‬مع �إخوانهم‬ ‫�أخ ��رى ج��دي��دة م��ن الإن �ت��اج ال��ذي ي�ف��رز قيمة ف��ي المملكة عموماً‪ ،‬وال�ت��زام� ًا ن�ق��دره ونثمنه‬ ‫م�ضافة لالقت�صاد المحلي ويُنع�شه؛ وبخا�صة لخادم الحرمين ال�شريفين الملك عبداهلل بن‬ ‫عندما يكون االقت�صاد المحليّ في � ِّ‬ ‫أم�س الحاجة عبدالعزيز (رحمه اهلل)اعتماده‪ ،‬والأمر ببدء‬ ‫تنفيذه‪.‬‬ ‫�إلى التطوير والتحديث‪.‬‬ ‫‪ 14‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬ ‫وا�ستطرد قائال‪� :‬أرى من واجبي ‪ -‬وقد جاءت الذي ي�ضطلع به هذا المركز �إ�سهاما في �أداء‬ ‫المنا�سبة مالئِمة ومن دون تكلّف‪ -‬الإ�شارة �إلى الم�سئولية االجتماعية في مجال عمله‪.‬‬ ‫دور هذا المركز الثقافي في ممار�سة الم�سئولية‬ ‫ورغ��م �أن في ه��ذا ع��ب ٌء على مركز ثقافي‬ ‫االجتماعية‪ ،‬تم�شيا مع تطلعات الم�ؤ�س�س يرحمه يعتمد بقدر كبير على �إمكانات فردية‪� ،‬إال �أنه‬ ‫اهلل‪ ،‬وقناعته ب�أهمية ه��ذا ال���دور‪ ،‬و���ض��رورة بف�ضل اهلل‪ ،‬ثم ما �سخر لهذا المركز من قبل‬ ‫ممار�سته من كل قادر على ذلك‪.‬‬ ‫الم�ؤ�س�س والقائمين عليه‪ ..‬تمكن من �إثبات‬ ‫و�أ���ش��ار �إل��ى عناية مركز الرحمانية بن�شر وج��وده‪ ،‬ت�أكيدا ب��أن العمل ال��د�ؤوب‪ ،‬والإ�صرار‬ ‫�إنتاج �أبناء المنطقة الإب��داع��ي في المجاالت على تحقيق الأهداف‪ ..‬هو الذي يوفر الإمكانات‬ ‫الثقافية‪ ،‬وم��ا ي�ؤلف عن المنطقة ومحافظة ب�إذن اهلل‪.‬‬ ‫الغاط من درا���س��ات‪ ،‬وتي�سير و�صوله للجميع‪،‬‬ ‫و�أ�شار ال�ضميري في نهاية كلمته �إلى �أن �إقامة‬ ‫وتخ�صي�ص االعتمادات المالية الكافية لذلك‪ ،‬المركز لمثل ه��ذا المنتدى ال�سنوي والعديد‬ ‫و�إ��ص��دار ال��دوري��ات الر�صينة با�سم المنطقة‪ ،‬من الندوات والمحا�ضرات التي تناق�ش بع�ض‬ ‫و�إبرازها على ال�ساحة الثقافية للوطن العربي‪ ،‬اهتمامات المجتمع‪ ..‬ما هو �إال دع��م لثقافة‬ ‫وتكليف الباحثين ب�إجراء الدرا�سات التطبيقية الحوار والتوا�صل ب�شكل ح�ضاري‪ ،‬و�إ�سهام في‬ ‫في مجاالت ال�صحة والبيئة والعمران وغيرها‪ ..‬تحقيق التفاهم والتناف�س العلني لخدمة هذه‬ ‫ما يعد تطبيق ًا لهذه القناعة‪ ،‬وممار�سة للدور البالد المباركة‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪15‬‬


‫الجل�سة الأولى‬ ‫�أدارها �أ‪ .‬عبداللطيف ال�ضويحي‬ ‫(م�ست�شار �إعالمي م�ؤ�س�س مركز الم�شرات الحديثة للدرا�سات)‬

‫المحور‪:‬مدينة وعد ال�شمال والآثار التنموية المتوقعة‬ ‫الورقة الأولى‬ ‫م�شروع مدينة وعد ال�شمال‬ ‫المهند�س �سعود بن محمد ال�سعدون‬ ‫(مدير برنامج تطوير المخطط العام لمدينة وعد ال�شمال بمنطقة الحدود) ال�شمالية‬ ‫ا�ستعر�ضت الورقة م�شروع الملك عبداهلل بقية الأعمال الإن�شائية‪.‬‬ ‫لتطوير مدينة وع��د ال���ش�م��ال‪ ،‬وت�ط��رق��ت �إل��ى‬ ‫و�أو� �ض��ح �أن مدينة وع��د ال�شمال اعتمدت‬ ‫المراحل التاريخية لبدء فكرة �إن�شاء المدينة معايير الترفيه في الم�ساكن �شبيهة بمعايير‬ ‫وما تبعها من مراحل التخطيط والإن�شاء المقرر الجبيل وال��ت��ي تمثل ال��ج��ودة الأع��ل��ى‪ ،‬كا�شف ًا‬ ‫عملها �ضمن الجدول الزمني المعتمد للم�شروع‪ .‬عن تحويل الم�سئولية االجتماعية لعمل يومي‬ ‫وتحدث الباحث عن مراحل �إعداد المخطط‬ ‫العام لمدينة وعد ال�شمال‪ ،‬و�أهم المعايير التي‬ ‫ت��م �أخ��ذه��ا باالعتبار �أث �ن��اء �إن �ج��از المخطط‬ ‫العام‪ ،‬ومن ثم �شرح مكوّنات المدينة بق�سميها‬ ‫ال�سكني وال�صناعي‪ ،‬و�أهم المعالم والتفا�صيل‬ ‫التخطيطية بالمنطقة ال�سكنية‪.‬‬

‫وق ��دم ال�ب��اح��ث م��وج��ز ًا لأه ��م الإن��ج��ازات‬ ‫على �أر���ض الم�شروع‪ ،‬ومدى تطور ن�سبة العمل‬ ‫الإن�شائي‪ ،‬وعدد من التواريخ المتوقعة لإنجاز‬

‫‪ 16‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫من �أ�شكاله خدمة المجتمع المحلي الموجود‬ ‫في المنطقة ال�شمالية‪� ،‬إذ �ألزمت مدينة وعد‬ ‫ال�شمال تحقيق �سعود ٍة في �أعمالها بما ن�سبته‬ ‫‪ %12‬من �أبناء المنطقة‪ ،‬والمدينة مركز للتنمية‬ ‫والتوطين ا�ستقبل حتى ال�ي��وم �أك�ث��ر م��ن �ستة‬ ‫�آالف �سيرة ذاتية يتم طرحها على المقاولين‬ ‫لال�ستقطاب‪� ،‬إ�ضافة لإلزام المقاولين ب�إنفاق‬ ‫‪ %10‬من قيمة العمل في ال�سوق المحلية في‬ ‫المنطقة ال�شمالية‪.‬‬


‫ي�ضع «وع�� ُد ال�شمال» ال�شمالَ وجه ًا لوجه‬ ‫�أم��ام �أف��ق اقت�صادي جديد؛ فعلى الرغم من‬ ‫�أن منطقة ال �ح��دود ال�شمالية لديها‪ ‬مزايا‬ ‫منها م��وارده��ا الب�شرية المتوائمة م��ع العمل‬ ‫ال�ج��اد‪� ،‬إال �أن��ه من الم�ؤمّل �أن ي���ؤدي «الوعد»‬ ‫�إلى تحقيق طفرة نوعية في االقت�صاد المحلي‬ ‫لعرعر والمنطقة ال�شمالية برمّتها؛ ال�سيما �أن‬ ‫اال�ستثمارات المتوقعة من قبل الحكومة الموقرة‬ ‫تتجاوز (‪ )26‬ملياراً‪ ،‬و�سينفق لإن�شاء المدينة‬ ‫نحو خم�سة مليارات ري��ال‪ ،‬ويتوقع �أن ت�ضيف‬ ‫«وعد ال�شمال» خم�سة ع�شر مليار ريال �سنوي ًا‬ ‫�إل��ى الناتج المحلي الإج�م��ال��ي‪ ،‬وف�ق� ًا للمعلن‬ ‫ر�سميا‪.‬‬ ‫وقد بد�أت ت�أثيرات هذا الإنفاق تفرز تغييرات‬ ‫ف��ي تنويع االق�ت���ص��اد المحلي‪ ،‬فا�ستثمارات‬ ‫وع ��د ال �� �ش �م��ال �سينتج ع �ن �ه��ا‪ :‬ب�ن�ي��ة تحتية‪،‬‬ ‫و�سعة اقت�صادية‪ ،‬و�آل��ة محورية لتوليد القيمة‬ ‫االقت�صادية وتوليد فر�ص ا�ستثمار متو�سطة‬ ‫و�صغيرة ومتناهية ال�صغرّ‪ ،‬وفر�ص توظيف بما‬ ‫ي�ؤدي �إلى تحقيق نقلة نوعية للمنطقة ونواحيها‪،‬‬ ‫وي�سهم في تعزيز االقت�صاد الوطني برمتهِ‪.‬‬

‫وعن الآفاق االقت�صادية الم�ستقبلية لمدينة‬ ‫وع��د ال�شمال �أو� �ض��ح د‪ .‬ب��و حليقة �أن الآف��اق‬ ‫االقت�صادية واع��دة بالفعل‪ ،‬ويعود ال�سبب �إلى‬ ‫حاجة ه��ذه المناطق �إل��ى التنوع االقت�صادي‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عن التنمية المتوازنة التي بيّنها خادم‬ ‫الحرمين ال�شريفين يحفظه اهلل قبل نحو �ست‬ ‫�سنوات‪ ،‬حين ق��ال‪ :‬ال بد من ت�سريع خطوات‬ ‫التنمية في المناطق ال�شمالية‪ ،‬ويكون من خالل‬ ‫توفير الخدمات الأ�سا�سية للمواطن من بنيه‬ ‫تحتية وتعليم و�صحة متكاملة‪� ،‬إ�ضافة �إلى �إيجاد‬ ‫من�ش�أة اقت�صادية توفر فر�ص العمل‪.‬‬

‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫الورقة الثانية‬ ‫وعد ال�شمال بين التنمية والنمو‬ ‫د‪� .‬إح�سان علي بوحليقة‪ -‬رئي�س مركز جواثا اال�ست�شاري لتطوير الأعمال‬

‫ووع��د ال�شمال منطلق‪ ،‬والآف ��اق كبيرة وال‬ ‫يتم تحقيقها �إال بالإ�صرار والإنجاز المتوا�صل‪،‬‬ ‫و�إنتاج الفو�سفات لن يكون كافي ًا �إذا لم نقف عند‬ ‫توفير فر�ص العمل ودعم ال�صادرات ال�سعودية‪.‬‬ ‫ول�ك��ن تحقيق التنمية والنمو ل�ه��ذه المناطق‬ ‫بحاجة �إلى ر�ؤيا مركزة على وعد ال�شمال وهيئة‬ ‫عليا لتطوير منطقة ال�شمال ل�ضمان م�ساهمة‬ ‫ال�شمال في االقت�صاد ال�سعودي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪17‬‬


‫الورقة الثالثة‬ ‫البعد التنموي المتوقع لمدينة وعد ال�شمال على منطقة الحدود ال�شمالية‬ ‫د‪ .‬محمد بن هذلول الهذلول‬ ‫ق�سم االقت�صاد جامعة الملك �سعود‬

‫ق��ال د محمد الهذلول �إن واح��دة م��ن ثمرات‬ ‫التوجيه الملكي الكريم‪ ،‬بالإِ�سراع في العمل على‬ ‫تحقيق تنمية متوازنة بين مناطق المملكة الإِدارية‪،‬‬ ‫تمثلت ف��ي ت�ب� ّن��ي ال�ح�ك��وم��ة ت��و��ص�ي��ات المجل�س‬ ‫االق�ت���ص��ادي الأع �ل��ى‪ ،‬الخا�صة ب�ـ��إِن���ش��اء مدينة‬ ‫�صناعية في منطقة الحدود ال�شمالية با�سم «مدينة‬ ‫وعد ال�شمال لل�صناعات التعدينية»‪ ،‬ت�شمل البنية‬ ‫التحتية الالزمة لل�صناعة‪ ،‬والمرافق االجتماعية‪،‬‬ ‫لتكون جاذبة لال�ستثمارات ال�صناعية التحويلية‬ ‫الأخرى‪ ،‬واعتماد المبالغ الالزمة لذلك‪.‬‬ ‫فالمدينة و�إِن ك��ان��ت ذات ق��اع��دة �صناعية‬ ‫تعدينية‪� ،‬إِال �أن البنية التحتية التي �ستنفذ (وقد بد�أ‬ ‫العمل على تنفيذها فعالً)‪ ،‬روعي �أن تكون جاذبة‬ ‫ال�ستثمارات �صناعية �أخرى‪ .‬ولأجل تحقيق ذلك‪..‬‬ ‫تبنّى مجل�س ال��وزراء التو�صيات الالزمة لإِي�صال‬ ‫�أه��م خدمتين الزمتين لتحقيق تلك الجاذبية‪:‬‬ ‫ال �ن �ق��ل‪ ،‬وذل ��ك بتكليف � �ص �ن��دوق اال��س�ت�ث�م��ارات‬ ‫العامة و�شركة �سار بربط مدينة (وعد ال�شمال)‬ ‫لل�صناعات التعدينية ب�سكة ح��دي��د ال�شمال –‬ ‫ال�ج�ن��وب‪ ،‬وت��زوي��ده��ا ب��ال�م�ق�ط��ورات المنا�سبة‪،‬؛‬ ‫واعتماد مبلغ لل�شركة ال�سعودية للكهرباء لتقوم‬

‫‪ 18‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫بربط مدينة (وعد ال�شمال) لل�صناعات التعدينية‬ ‫ب�شبكة ال�ضغط ال�ع��ال��ي بما ف��ي ذل��ك محطات‬ ‫التحويل‪.‬‬ ‫هذا االهتمام الملكي الكريم بتوازن التنمية‬ ‫ي�ستحق االهتمام م��ن الباحثين‪ ،‬وم��ن الجهات‬ ‫الم�ستفيدة‪ ،‬الت�ضافر والنظر ف��ي �سبل تحقيق‬ ‫وتفعيل هذا التوجيه الكريم‪ ،‬والذي كان وال �شك‬ ‫المحرك الأ�سا�س لإِع��داد هذه الندوة المباركة‪.‬‬ ‫وحيث قد �أتاح لي منظمو الندوة م�شكورين فر�صة‬ ‫ل�ق��راءة انعكا�سات ه��ذا الم�شروع المبارك على‬ ‫تنمية المنطقة‪ .‬ف�س�أحاول في ه��ذا الحديث �أن‬ ‫اطرح محاولة لقراءة الأثر المتوقع لم�شروع بهذا‬ ‫الحجم على م�ستقبل التنمية‪ ،‬وا�ستدامتها في‬ ‫منطقة الحدود ال�شمالية‪.‬‬ ‫هذه القراءة تتطلب الإِجابة على �س�ؤالين‪� ،‬أو‬ ‫النظر في بُعدين‪:‬‬ ‫الأول‪ :‬مدى جاهزية المنطقة لال�ستفادة من‬ ‫هذا الم�شروع‪ ،‬وعلى وجه الخ�صو�ص فيما يتعلق‬ ‫بتوظيف الموارد المحلية في المنطقة‪� ،‬إِما مبا�شرة‬ ‫�أو عن طريق التعاقدات التي �ستن�شئها حاجة م�شروع‬ ‫ال�صناعات المعدنية �أو ال�صناعات الأخرى‪.‬‬ ‫ام��ا البعد ال�ث��ان��ي‪ :‬فهو النظر �إِل���ى م��ا يتعلق‬ ‫با�ستعداد ال�شركات الم�شاركة في الم�شروع بمراعاة‬ ‫تعظيم البعد التنموي الم�ستدام لم�شاريعها في‬ ‫المنطقة‪.‬‬ ‫و�أو� �ض��ح ال�ب��اح��ث ال�ه��ذل��ول �أن اخ �ت�لاف وعد‬ ‫ال�شمال عن الجبيل ال�صناعية وينبع هو الوعد‬ ‫نف�سه‪ ،‬وتطلع خ��ادم الحرمين ال�شريفين حفظه‬ ‫اهلل لمعالجة تباط�ؤ التنمية في الأقاليم وتنويع‬ ‫االقت�صاد‪ ،‬داعي ًا �إلى ت�سويق المنطقة عبر هيئات‬ ‫تطوير المدن بالمناطق ال�شمالية والغرف التجارية‬ ‫ال�صناعية‪.‬‬


‫تُعرف الم�سئولية االجتماعية ب�أنها التزام‬ ‫م��ن الجهات الخا�صة بالقيام ب�أعمال داخ��ل‬ ‫البيئة ال�ت��ي تعمل فيها‪ ،‬لتح�سين الخدمات‬ ‫والأن�شطة االجتماعية‪ ،‬والإ�سهام مع الدولة في‬ ‫محاربة الم�شاكل التي تواجهها‪ ،‬مثل‪ :‬البطالة‪،‬‬ ‫والفقر‪ ،‬ونق�ص الخدمات‪ ،‬والإ�سكان‪ ،‬وتح�سين‬ ‫البيئة‪ .‬فمفهوم الم�سئولية االجتماعية يتجاوز‬ ‫الربح �إلى تقديم الخدمات للمجتمع‪.‬‬ ‫وق ��د اه�ت�م��ت دول ال �ع��ال��م ب �ه��ذا المفهوم‬ ‫فا�ستحثّت القطاع الخا�ص للقيام ب��دور فاعل‬ ‫تجاه المجتمع‪ .‬كما �أن هذا الن�شاط ينعك�س على‬ ‫القطاع الخا�ص بتح�سين ال�سمعة والثقة وك�سب‬ ‫احترام المجتمع للمن�ش�أة‪ .‬وقد خطت المملكة‬ ‫العربية ال�سعودية خطوات جادّة نحو الم�سئولية‬ ‫االجتماعية م��ن خ�لال الموافقة على �إن�شاء‬ ‫الم�ؤ�س�سات الخيرية‪ ،‬ودع��م م�ب��ادرات الهيئة‬ ‫العامة لال�ستثمار‪ ،‬و�إن�شاء جائزة �أف�ضل �شركة‬ ‫في ممار�سة الم�سئولية االجتماعية‪.‬‬

‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫الجل�سة الثانية‬ ‫مدير الجل�سة د‪ .‬محمد بن حمد القنيبط‬ ‫(ع�ضو هيئة تدريب بق�سم االقت�صاد الزراعي – جامعة الملك �سعود)‬ ‫المحور‪ :‬ال�شركات والم�سئولية االجتماعية‬ ‫الورقة الأولى‬ ‫مفهوم الم�سئولية االجتماعية‬ ‫د‪ .‬فالح بن فرج ال�سبيعي‬ ‫(ع�ضو هيئة التدري�س بجامعة الإمام محمد بن �سعود الإ�سالمية)‬

‫وقد تناول د‪ .‬فالح ال�سبيعي في ورقته �أبعاد‬ ‫الم�سئولية االجتماعية ولخ�صها في ثالث نقاط‬ ‫ه��ي‪ :‬البعد االقت�صادي؛ والبعد االجتماعي؛‬ ‫والبعد البيئي‪.‬‬ ‫وذك��ر �أن الم�سئولية االجتماعية تطورت‬ ‫ف�أ�صبحت منذ م��ا ي�ق��ارب ال�ق��رن م��ن الزمان‬ ‫ه ّم ًا رئي�س ًا لكثير من الدول بل �إن الإ�سالم �سبق‬ ‫وه��ذه �إ���ش��ارة ال بد من الحديث عنها‪ -‬هذه‬‫الأطروحات بمئات بل ب�آالف ال�سنين منذ البعثة‬ ‫النبوية‪� ،‬إذ حثّ ديننا الحنيف على الم�سئولية‬ ‫االجتماعية في كثير من المواقف؛ فهناك من‬ ‫الأحاديث ومن الآيات الكثير التي تحثّ على �أن‬ ‫يتحمل كل فرد وكل جهة من الجهات م�سئوليته‬ ‫نحو تقديم ما يمكنه في هذا ال�ش�أن‪.‬‬ ‫و في المملكة العربية ال�سعودية بد�أ االهتمام‬ ‫بمفهوم الم�سئولية االجتماعية بالترخي�ص‬ ‫للم�ؤ�س�سات الخيرية واالجتماعية‪ ،‬وب��د�أ �أي�ض ًا‬ ‫ح��ثّ ال�����ش��رك��ات الكبيرة مثل �شركة �أرام��ك��و‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪19‬‬


‫ال�سعودية وغ�ي��ره��ا م��ن ال���ش��رك��ات ال�ت��ي لها‬ ‫ب�صمات وا�ضحة في تقديم �أو تمثيل الخدمة �أو‬ ‫الم�سئولية االجتماعية‪.‬‬ ‫وفي حديثه عن عوامل النجاح‪ ...‬يرى �أن‬ ‫هناك عدة عوامل ت�سهم في نجاعة الم�سئولية‬ ‫االجتماعية‪� ..‬أولها اقتناع ال�شركة المطبقة‬ ‫لمفهوم الم�سئولية االجتماعية‪ ،‬هذا االقتناع‬ ‫ينعك�س على �إن�����ش��اء ج��ه��از �أو ن�شاط �ضمن‬ ‫الهيكل التنظيمي لل�شركة‪ ،‬لتدعيم هذا الموقف‬ ‫وتخ�صي�ص �إدارة في الهيكل التنظيمي‪ ،‬لتقوم‬ ‫تلك الإدارة بالدور المطلوب منها‪ ،‬واعتبار هذا‬ ‫البرنامج من الأن�شطة الرئي�سة لل�شركة‪.‬‬ ‫كما يرى �أن الم�سئولية االجتماعية تنعك�س‬ ‫�أي�ض ًا على المنظمة المطبقة لها‪ ،‬وهناك فوائد‬ ‫فكما �أنها فوائد للمجتمع فهي تنعك�س كذلك‬ ‫على ال�شركة نف�سها؛ م��ن ه��ذه ال�ف��وائ��د �أنها‬ ‫�شكل من �أ�شكال التعاون على البر‪ ،‬وهذا طبع ًا‬ ‫ينعك�س على �أداء ال�شركة واقتناعها ب�أنها �شكل‬ ‫من �أ�شكال التكافل االجتماعي بما يح�سن �سمعة‬ ‫المنظمة �أو ال�شركة في المجتمع‪.‬‬ ‫وخ �ت��م ال �ب��اح��ث ورق��ت��ه ب � ��أن الم�سئولية‬ ‫االجتماعية ال �ت��زا ٌم م��ن المنظمات الخا�صة‬ ‫بتقديم خدمات للمجتمع والإ�سهام مع الدولة‬ ‫في محاربة الم�شاكل التي تواجهها من بطالة‪،‬‬

‫‪ 20‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫وفقر‪ ،‬ونق�ص الخدمات‪ ،‬والإ�سكان‪ ،‬وتح�سين‬ ‫البيئة؛ فمفهوم الم�سئولية االجتماعية يتجاوز‬ ‫ال��رب��ح �إل ��ى ت�ق��دي��م ال �خ��دم��ات للمجتمع‪ .‬وال‬ ‫تقت�صر الم�سئولية االجتماعية للقطاع الخا�ص‬ ‫على تحقيق الأرب���اح‪ ،‬ب��ل تمتد لت�شمل البيئة‬ ‫والعاملين وفئات المجتمع؛ وه��ي كما ذكرت‬ ‫ب�أبعادها الثالثة‪ :‬االقت�صادية‪ ،‬واالجتماعية‪،‬‬ ‫والبيئية‪ ،‬وهي العوامل التي ت�سهم بنجاح في‬ ‫تطبيق م��دى الم�سئولية االجتماعية لل�شركة‪،‬‬ ‫وو�ضع ا�ستراتيجية و�آلية للتنفيذ‪ ،‬واعتمادها‬ ‫ن�شاط ًا مهم ًا من �ضمن �أن�شطة ال�شركة وهيكلها‬ ‫التنظيمي‪ ،‬كما للم�سئولية االجتماعية انعكا�سات‬ ‫�إيجابية على ال�شركة‪.‬‬


‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫الورقة الثانية‬ ‫عر�ض لتجارب ناجحة – التابالين �أنموذجا‬ ‫د‪� .‬صالح بن معاذ المعيوف‬ ‫نائب مدير عام معهد الإدارة العامة ل�ش�ؤون التدريب‬ ‫م���س�ئ��ول�ي��ة ال �� �ش��رك��ات ن �ح��و المجتمعات‬ ‫المحيطة بها لي�ست فكرة نظرية جديدة و�إن‬ ‫كانت بمفهومها الحديث تبلورت وتر�سخت‬ ‫و�أ�صبحت ممار�سات م�ؤ�س�ساتية ف��ي القرن‬ ‫الع�شرين في المجتمعات الغربية‪ ،‬وانت�شرت‬ ‫بعد ذلك في معظم بالد العالم‪.‬‬ ‫ومن الأمثلة الناجحة والمتميزة للم�سئولية‬ ‫االجتماعية لل�شركات ف��ي المملكة العربية‬ ‫ال�سعودية «�شركة التابالين»‪ ،‬التي �أم��ر بها‬ ‫الملك عبدالعزيز رحمه اهلل في �شهر يناير‬ ‫عام ‪1948‬م‪ .‬و�شركة التابالين عبارة عن تجمّع‬ ‫ل�شركات �أمريكية �أوك�ل��ت �إليها مهمة �إن�شاء‬ ‫خط �أنابيب لنقل البترول من الخليج العربي‬ ‫�إلى البحر المتو�سط بطول (‪ )1664‬كم وذلك‬ ‫الخت�صار م�سافة االلتفاف حول �شبة الجزيرة‬ ‫العربية والتي تقدر بحوالي (‪ )6000‬كم‪.‬‬ ‫لم تكن «التابالين» بكل المقايي�س م�شروع ًا‬ ‫نفطي ًا خال�صاً‪ ،‬بل يمكن القول �إنه كان م�شروع ًا‬ ‫ح�ضاري ًا بكل ما للكلمة من معنى‪ .‬لقد تجاوز‬ ‫الم�شروع وبمراحل هدفه المبا�شر (�إن�شاء خط‬ ‫�أنابيب بترول) بل �أ�سهم في �إن�شاء مدن ح�ضرية‬

‫�شيّدت فيها المدار�س والم�ست�شفيات الحديثة‪،‬‬ ‫و�أقيمت محطات للمياه والكهرباء‪ ،‬وعبّدت‬ ‫الطرق‪ ،‬ا�ستفاد منها معظم �سكان المناطق‬ ‫ال�شمالية‪« .‬التابالين» بحق ق�صة جميلة تحكي‬ ‫تجربة رائ��دة لل�شراكة االجتماعية لل�شركات‬ ‫ت�ستحق �أن ت�ك��ون �أن �م��وذج � ًا يحتذى م��ن قبل‬ ‫ال�شركات في وقتنا الراهن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪21‬‬


‫الورقة الثالثة‬ ‫تجارب غير ناجحة في مجال الم�سئولية االجتماعية‬ ‫د‪/‬علي خالد قطيــــ�شات‬ ‫�أ�ستاذ القانون التجاري الم�ساعد بجامعة الإمام محمد بن �سعود الإ�سالمية‬

‫ع��ر���ض ال�ب��اح��ث ف��ي ورق �ت��ه تجربتين غير‬ ‫ناجحتين في الم�سئولية االجتماعية‪ ..‬الأول��ى‪:‬‬ ‫محا�سبة الم�سئولية االجتماعية في الم�صارف‬ ‫الإ�سالمية لعام ‪2012‬م‪ ،‬ا�ستعر�ض فيها �أهمية‬ ‫محا�سبة الم�سئولية االجتماعية وم�شاكلها‪،‬‬ ‫مف�ص ًال تلك الم�شاكل على م�ستوى المنظمة‪،‬‬ ‫ومحا�سبة التكاليف وع��وائ��ده��ا االجتماعية‪،‬‬ ‫م�ستعر�ض ًا م�شكلة خلق المعايير المحا�سبية‬ ‫المالئمة للقيا�س المحا�سبي تو�صلت �إلى �أن �أحد‬ ‫البنوك يقوم بعملية قيا�س التكاليف ب�شكل كمي‪،‬‬ ‫مو�ضح ًا المبالغ المنفقه فعلياً‪ ،‬على �أن البنك‬ ‫الآخر قام بعملية القيا�س ب�شكل و�صفي لم�شاركته‬

‫‪ 22‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫في الم�سئولية االجتماعية بال تفا�صيل‪.‬‬ ‫وفي التجربة الثانية ‪ :‬محا�سبة الم�سئولية‬ ‫االجتماعية لأكبر ثالث �شركات ات�صاالت في‬ ‫مدينة دلهي الهندية‪.‬‬ ‫�إذ يتكون قطاع االت�صاالت في مدينة دلهي‬ ‫من ثماني �شركات تقدم خدمات االت�صاالت‬ ‫الخلوية‪ ،‬لكنه اختار ال�شركات ذات الح�ص�ص‬ ‫ال�سوقية الأك �ب��ر‪ .‬وق��د و�ضع ث�لاث فر�ضيات‬ ‫تتلخ�ص في عدم �إ�سهام �شركات االت�صاالت‬ ‫في دلهي في تنمية مجتمعاتها عن طريق دعم‬ ‫الأن�شطة الريا�ضية والثقافية واالجتماعية‪،‬‬ ‫وتوفير فر�ص العمل لأبناء المجتمع‪ ،‬وال ت�سهم‬ ‫ال�شركات في الحدِّ من التلوث الإ�شعاعي الناتج‬ ‫عن الأب��راج‪ ،‬متو�ص ًال لنتائج متباينة في دعم‬ ‫الأن�شطة الريا�ضية واالجتماعية والثقافية‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة لتوفير فر�ص العمل‪ ..‬ف�إن النتائج‬ ‫متقاربة ج��داً؛ كونها توفر تلك الفر�ص عند‬ ‫حاجتها ولي�س لغاية م�س�ؤوليتها االجتماعية‪�،‬أما‬ ‫بالن�سبة للتلوث الإ�شعاعي‪ ،‬فقد �أنكرت بع�ض‬ ‫ال�شركات �أن يكون للإ�شعاعات �أي ت�أثير م�ؤذٍ ‪،‬‬ ‫وعند �س�ؤالهم ع��ن ن�سب الإ�شعاعات رف�ضوا‬ ‫�إعطاء تلك الن�سب‪ ،‬وعدُّوها معلومات �سرية‪.‬‬


‫في ختام فعاليات المنتدى‪ ،‬خرج الم�شاركون‬ ‫في ندوته بعدد من التو�صيات المتعلقة ب�إ�شاعة‬ ‫م�ف�ه��وم ال�م���س�ئ��ول�ي��ة االج�ت�م��اع�ي��ة ف��ي مجال‬ ‫الم�شاريع الكبرى التي تنفذ في المملكة‪ ،‬وتفعيل‬ ‫توجهات تلك ال�شركات من �أجل �إيالء المجتمع‬ ‫المحلي ال��ذي تعمل وت�ستثمر فيه االهتمام‬ ‫الالزم من حيث خدمة المجتمع‪ ،‬و�إتاحة المجال‬ ‫�أم��ام �أبنائه من �أج��ل اال�ستفادة من الت�شغيل‬ ‫والخدمات التي تقام �ضمن هذه الم�شاريع‪ ،‬ومن‬ ‫�أهم هذه التو�صيات‪:‬‬

‫لت�سريع ال �ت �ن �وّع االق �ت �� �ص��ادي��ة ف��ي جميع‬ ‫�أنحاء المملكة‪ ،‬و�إي�ج��اد «م��و ّل��دات للقيمة»‬ ‫(م�شاريع �إنتاجية محورية) لتحقيق النمو‬ ‫االقت�صادي محلي ًا في القرى والبلدات في‬ ‫�أنحاء المملكة‪ ،‬والتطلّع ا�ستراتيجياً‪ ،‬لتكون‬ ‫تجمعاتنا الح�ضرية جاهزة للم�ستقبل بما‬ ‫يجلب معه م��ن تناف�س‪ .‬وتحقيق االرت�ق��اء‬ ‫الم�ستمر بم�ستوى ال��رف��اه وج��ودة الحياة‪،‬‬ ‫يقوم على تنوّع م�صادر الن�شاط االقت�صادي‬ ‫لتكون تنميتنا م�ستدامة‪.‬‬

‫م�������������������ل�������������������ف ال�������������������ع�������������������دد‬

‫التو�صيات‬

‫‪ -1‬اعتماد ت�شريع خا�ص بالم�سئولية االجتماعية‬ ‫‪� -3‬أن ت�ؤخذ التجارب ال�سابقة في مجال تطبيق‬ ‫ر�سمياً‪،‬‬ ‫الم�سئولية االجتماعية بعين االعتبار وذلك‬ ‫‪ -2‬تعزيز م�ب��د�أ الم�سئولية االجتماعية على‬ ‫بتعظيم الإيجابيات وتالفي ال�سلبيات‪.‬‬ ‫م�ستوى الدولة بتحفيز الجهات المطبقة لها‪،‬‬ ‫و�إدخ��ال مفهوم الم�سئولية االجتماعية في ‪� -4‬أن تقوم ال�شركات في مدينة وعد ال�شمال‬ ‫ب ��إي �ج��اد ف��ر���ص ع �م��ل ل���س�ك��ان ال�م�ن��اط��ق‬ ‫التعليم‪ ،‬ون�شر ثقافة الم�سئولية االجتماعية‬ ‫ال�شمالية‪ ،‬و�إث ��راء التنمية وحماية البيئة‬ ‫عبر و�سائل الإع�ل�ام‪ ،‬وج ��دوى المنهجية‬ ‫المحلية‪ ،‬و�إيجاد فر�ص ا�ستثمارية حقيقية‬ ‫الجديدة لإنجاز المدن االقت�صادية‪ ،‬ب�إتباع‬ ‫للم�ؤ�س�سات وال�شركات وخا�صة المن�ش�آت‬ ‫منهجية تنفيذ ابتداء ولي�س منهجية ت�سويق‪،‬‬ ‫وت �ط��وي��ر ح ��زام م��ن ال �م��دن االق�ت���ص��ادي��ة‬ ‫المتو�سطة وال�صغيرة في المناطق ال�شمالية‪.‬‬

‫جانب من الح�ضور‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪23‬‬


‫«الن�ص كتاب ٌة وقراء ٌة في الآن نف�سِ ه»‪!..‬‬ ‫هذه واحدة من الأفكار المتميِّزة التي تب ْل َورَت في‬ ‫النقد الحَ داثي الغربي‪ ،‬خال َل الرُّبع الأخير من القرن‬ ‫المن�صرم‪ ،‬قبل �أن تنتقل �إلى بِيئاتٍ نقدية �أخرى؛ منها‬ ‫بع�ض‬ ‫الم�شهد النقدي العربي المعا�صر‪ ،‬ال��ذي �أل َفيْنا َ‬ ‫ال‬ ‫رجاالته يتب ّنوْنها ويتعرَّ�ضون �إليها تو�ضيحاً وتحلي ً‬ ‫وتف�سيراً‪ ،‬وفي طليعتهم الأدي��ب الجزائري المرموق د‪.‬‬ ‫عبدالملك مرتا�ض‪� ،‬صاحبُ الت�آليف الكثيرة في م�ضمار‬ ‫النقد الأدبي‪ ،‬الذي طالما َع َّد الن�ص الأدبي ملتقى الكتابة‬ ‫والقراءة معاً‪ .‬تُرى كيف نظَ ر �إلى الن�ص هذه النظرة؟‬ ‫يطلق مرتا�ض «الن�ص»‪ ،‬في �أكثر تعريفاته اال�صطالحية‬ ‫ل��ه‪ ،‬على ما هو مكتوب م�ساير ًة لِما هو رائ�� ٌج بين جمهور‬ ‫النقاد المحدثين والمعا�صرين في الغرب وفي غيره‪� .‬إذ‬ ‫ح��دّده ب�أنه ن�سيج لغوي ت��ارة‪ ،‬وب�أنه كيان لغوي م�ؤلّف من‬ ‫دال ومدلول تارة �أخرى‪ ،‬وب�أنه ن�سَ ق كالمي ذو وجود مادّي‬ ‫على الورق تارة ثالثة‪ .‬وت�شترك هذه التحديدات جميعُها في‬ ‫�إلْحاحها على خا�صية الكتابة في �أي ن�ص �أدبي‪ .‬وتن�ضاف �إلى‬ ‫هذه التعريفات �أخرى �ألَحَّ ت على هذه الخ�صي�صة نف�سها‪،‬‬ ‫■ د‪ .‬فريد �أمع�ضـ�شـو*‬ ‫خوا�ص �أخرى �أحياناً؛ من ذلك قوله‪« :‬الن�ص‬ ‫ّ‬ ‫مُ�ضيف ًة �إليها‬ ‫الأدب��ي‪ ،‬كما هو متعارَف عليه‪ ،‬هو بال�ضرورة ابتكا ٌر لكتابة‬ ‫من خيال‪ ،‬تقوم على جمال‪� ،‬إل��ى درج��ة �أنها ت�سعى �إل��ى �أنْ‬ ‫تجعل النا�س يعتقدون ك�أنها من واقع الخيال‪ )1(».‬وقوله‪:‬‬ ‫«الن�ص كتابة‪ ،‬والكتابة ق���راءة‪ ،‬وال��ق��راءة ت�أويلية مه ّي�أة‬ ‫للتلقي المفتوح �إل��ى ي��وم القيامة‪ )2(».‬وق��ول��ه‪�« :‬أي �شيء‬ ‫نقر�أ في الحقيقة؟ الن�ص �أم �صاحب الن�ص؟ الكتابة �أم‬ ‫كاتبها؟»(‪)3‬؛ بحيث �إنه قابَل‪ ،‬في كالمه هذا‪ ،‬بين الن�ص‬ ‫ال �أراد به‬ ‫والكتابة (وبين �صاحبه وكاتبها �أي�ضاً) تقا ُب ً‬ ‫الترادُف ال التقابل بمعنى الت�ضا ّد والتعار�ض‪.‬‬

‫�������ص‬ ‫ال���ن���ـ ُّ‬ ‫ُم��ل��ت��ـ��ق��ى‬ ‫الكــتابـــــة‬ ‫والقــــراءة‬

‫‪24‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫و«الكتابة في ح ّد ذاتها‪� ،‬أ�صالً‪� ،‬إنما هي‪ ،‬في‬ ‫ت�صور المعا�صرين ومنهم ب��ول ريكور‪ ،‬تثبيتٌ‬ ‫لقولٍ ما كان ليكون لو لم تكن الكتابة»(‪)4‬؛ �أي �إنها‬ ‫مرحلة تالية للكالم المنطوق‪ .‬كما �أنها جها ٌز‬ ‫معقّد لإن�ت��اج الأف �ك��ار‪ ،‬والتعبير عن المعاني‪،‬‬ ‫وتبليغ الم�ضامين المختلفة �إلى المتلقين‪ ،‬ونقل‬ ‫الأ�شياء والوقائع ونحوها‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ف�إنها‪ ،‬كما يقول مرتا�ض‪« ،‬واج��بٌ‬ ‫محْ توم على الكاتب‪ :‬ي�ؤدّيه للمجتمع‪ ،‬وال ي�ستطيع‬ ‫الإفالت من فعله‪ ...‬ال ي�سَ عه‪� ،‬إذاً‪� ،‬إال �أن يكتب‪،‬‬ ‫�إال �أن يقول �شيئاً‪� ،‬إال �أن يدبّج ن�سوج ًا لغوية ينفُخ‬ ‫فيها من روحه وخياله وعقله مع ًا طاقات داللية‬ ‫جديدة ال توجد‪� ،‬أو ال تكاد توجد‪ ،‬في المعاجم؛‬ ‫ك�أنها لغته هو وَحْ ��دَ ه من دون العالمين؛ لغتُه‬ ‫هو وحده؛ لأنه يمنحها من دفء جَ نانه‪ ،‬و َدفْق‬ ‫حَ نانه‪ ،‬و�سخاء خياله‪ ،‬ما يجعلها تنطبع بطابعه‪،‬‬ ‫وتتّ�سم ب�شخ�صيته الأدبية‪ )5(»...‬و�إذا كان هذا‬ ‫الطاب ُع في الكتابات الأدبية الإبداعية ال يثير‬ ‫كبير نقا�ش‪ ،‬و�أكث ُر الدار�سين �سائرين في اتجاه‬ ‫الت�سليم ب��ه‪ ،‬ف���إن ن��ق��اد ًا كُ��ث��ر ًا ُي��ن��ادون بتحْ رير‬ ‫الكتابات التحليلية‪� ،‬أو النقود‪ ،‬من هذا الطابع‪،‬‬ ‫واالت�ج��اه بها نحو المو�ضوعية الم�ؤ�سَّ �سة على‬ ‫معطيات علمية ملمو�سة‪ ،‬و�إنْ كان هذا المطلبُ‬ ‫ع�سير التحقق عملياً‪ ،‬ل�صعوب ِة ‪� -‬أو‪ ،‬بالإحرى‪،‬‬ ‫ال�ستحال ِة ‪ -‬تملُّ�ص الناقد من ذاتيته خالل‬ ‫ممار�سته الفعل النقديّ ‪ ،‬وتخلُّ�صه من ذوقه‬ ‫ال�شخ�صي‪.‬‬ ‫والحق �أنه «ال يمكن �إق�صاء الذوق عن درا�سة‬ ‫الن�ص الأدبي؛ لأن ذلك مفتاح �أوّلي يمكن دخول‬ ‫عالم الن�ص من خالله‪ .‬ف ��إذا �صادف الناقد‬ ‫ه��وىً في نف�سه �أو م ْي ًال لدرا�سة ن�ص مّ��ا‪ ،‬ف�إن‬ ‫(‪)6‬‬ ‫ذلك ال يمكن �أن يكون غير معلَّل �أو مبرَّر‪».‬‬ ‫وعلى ال��رغ��م م��ن �إق ��رار مرتا�ض ب ��أن الن�ص‬ ‫الأدبي «�أثقلته التعليقات الذاتية‪ ،‬و�أجْ حفته حقه‬ ‫الأحْ كام التقليدية التي تجنح نحو المبدع‪ ،‬وتذر‬

‫الإب��داع وراءه��ا ظهرياً‪ ،‬تحت �أ�سماء ت�سمّيها‪،‬‬ ‫غايات َتبْغيها؛ وكلها يعني كل �شيء �إال‬ ‫ٍ‬ ‫وبهدف‬ ‫(‪)7‬‬ ‫نقد الن�ص الأدبي وت�شريحه» ‪- .‬على الرُّغم‬ ‫من ذلك‪ ،-‬نجده م ُِ�ص ّر ًا على ا�ستح�ضار ذلك‬ ‫البُعد الذاتي في الدرا�سة النقدية � ْإ�صراره على‬ ‫ح�ضوره في الإبداع ال�صرف تماماً‪ .‬يقول‪�« :‬إننا‬ ‫بقدر ما نلحّ على الطابع ال�شخ�صي في العمل‬ ‫الفني ال�صرف‪ ،‬ف�إننا نلحّ على توافر هذا المبد�أ‬ ‫ذات��ه في العمل النقدي �أي�ضاً‪ ،‬دون �أن نلحظ‬ ‫تناق�ض ًا في الحُ كم وال تعار�ض ًا في الر�أي»(‪.)8‬‬ ‫�إن الن�ص‪ ،‬حين نربطه بالكتابة‪ ،‬يرمي �إلى‬ ‫تحقيق �أه ��داف ج� ّم��ة‪ ،‬لعل �أهمها «�أن��ه يهيّئ‬ ‫�شروط ًا لحفظ الأف��ك��ار بالتقييد والت�سجيل‪،‬‬ ‫و�إزاح��ة ال��ذاك��رة من التفكير والتركيز‪ ،‬ونقل‬ ‫ال��م��ع��رف��ة ب��ي��ن ال��ن��ا���س‪ ،‬ث��م حفظها ل�ل�أج��ي��ال‬ ‫خلط بين‬ ‫التبا�س �أو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الالحقة»(‪ ،)9‬ودرْء ًا لكل‬ ‫مفهومي الن�ص والكتابة‪ ،‬ب��ادَر مرتا�ض �إل��ى‬ ‫التفريق بينهما‪ ،‬و�صرْف النا�س عن الوقوع في‬ ‫ذل��ك االلتبا�س؛ فقال‪...« :‬ع�ل��ى �أن��ه ال ينبغي‪،‬‬ ‫ولنقر ْر ذلك تارة �أخرى‪� -‬أن يلتب�س في الذهن‬‫مفهوم الكتابة بمفهوم الن�ص‪ .‬فالكتابة غايتُها‬ ‫ر�صف‬ ‫ميكانيكية عظلية تنه�ض حركتها على ْ‬ ‫الحروف والت�أليف فيما بينها داخل لفظ واحد‪،‬‬ ‫ر�ص الألفاظ بع�ضها �إزاء بع�ض‪. )10(»...‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫وم�م��ا ع� �رّف ب��ه م��رت��ا���ض ال�ن����ص‪ ،‬بو�صفه‬ ‫تنا�ص‪ ،‬مت�أثر ًا ببع�ض نقاد الغرب‬ ‫مكتوباً‪� ،‬أنه ّ‬ ‫تنا�صية؛‬ ‫المعا�صرين ال��ذي��ن عَ � �دّوا ال�ن����ص ّ‬ ‫ككري�ستيڤا‪ ،‬وب��ارط ال��ذي �أك��د �أن الن�ص لي�س‬ ‫«�سطر ًا من الكلمات‪ ،‬ينتج عنه معنى �أح��ادي‪،‬‬ ‫�أو ينتج عنه معنى الهوتي («الر�سالة» �أر�سلها‬ ‫اهلل)‪ ،‬ولكنها ف�ضا ٌء لأبعاد متعددة‪ ،‬تتزاوج فيها‬ ‫كتابات مختلفة وتتنازَع‪ ،‬دون �أن تكون �أي واحدة‬ ‫منها �أ�صلية؛ فالن�ص ن�سي ٌج لأق��وال ناتجة عن‬ ‫�ألف ب��ؤرة من ُب��ؤر الثقافة»(‪ .)11‬ومن ن�صو�صه‬ ‫في هذا الإط��ار قوله معرِّف ًا الن�ص ب�أنه «ثمرة‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪25‬‬


‫‪26‬‬

‫من ثمرات القراءة واال�ستماع والمُثاقفة»(‪،)12‬‬ ‫وب�أنه نَتاج «تفاعُ ل بينه وبين ن�صو�ص �أخْ ��رى‬ ‫مجهولة ومَ نْ�سية في الغالب؛ �أي ن�صو�ص �شاردة‬ ‫في جُ يوب ال��ذاك��رة التي تلفِظها �أث��ن��اء �إنجاز‬ ‫«تنا�صية»(‪ )14‬بتعبير وجيز‬ ‫ّ‬ ‫الكتابة»(‪ ،)13‬وب�أنه‬ ‫��ا���ص�� ّي��ة»(‪ .)15‬وي�ؤكد‬ ‫ومكثّف‪ ،‬وب���أن��ه «ن��ت��اج ال��ت��ن ّ‬ ‫مرتا�ض �أن التنا�ص قدَ ُر �أي ن�ص �أدبي؛ يالحِ قه‬ ‫كالظل‪ ،‬ويالزمه �أب����د ًا(‪ ،)16‬و�أن ه��ذا الن�ص ال‬ ‫يتنا�ص ‪ -‬بوعي �أو‬ ‫ّ‬ ‫يولد من ف��راغ‪ ،‬بل ال بد �أن‬ ‫بغيره‪ ،‬وبطريقة مبا�شرة �أو غير مبا�شرة ‪ -‬مع‬ ‫ن�ص �أو ن�صو�ص �أخ��رى �سابقة �أو مُجايِلة له‪،‬‬ ‫ب�أي �صيغة من �صيغ التنا�ص‪ .‬ويظل �أرقى هذه‬ ‫ُتنا�ص معه‬ ‫ال�صيغ التنا�صية ال َعمْد �إلى الن�ص الم ّ‬ ‫وتحويله لإدْماجه في كنَف الن�ص المُولَّد‪ .‬وي�شرح‬ ‫لنا �أحدُهم هذا التحويل بقوله‪�« :‬إن الن�ص حين‬ ‫يدخل في عالقة تنا�ص مع ن�صو�ص �أخرى �إنما‬ ‫يقوم بعملية تحويل؛ �أي جعْل الن�ص الآخر يدخل‬ ‫بو�صفه بنية من بُنى العمل نف�سه‪ ،‬حيث ال يقتطع‬ ‫الن�ص بمحموالته وت�أثيراته وو�ضعية �شكله كلها‪،‬‬ ‫و�إنما يكون ال�شكل ذا وظيفة تتركز في نم ّو العمل‬ ‫الجديد‪ ،‬وزي��ادة مقدرته على �إح��داث الت�أثير‪.‬‬ ‫�إن هذه العملية ربما تكون غير واعية‪ ،‬تك�شف‬ ‫عن التر�سُّ بات العميقة لأنماط الثقافة‪� .‬إنها‬ ‫رغبة الن�ص الجديد في تعْ�ضيد م�سْ عاه لتو�صيل‬ ‫المعنى و�إحداث الت�أثير‪ .)17(»...‬وجدي ٌر بالإ�شارة‬ ‫�إلى �أن التنا�ص لي�س حكْر ًا على مجال الأدب‪ ،‬بل‬ ‫�إنه �ش�أ ٌن يهُمّ الفكر الإن�ساني ُر َّمتَه‪ ،‬الذي يعد‬ ‫«فكر متواليات؛ بمعنى �أن��ه متكوِّن من �سل�سلة‬ ‫متوالية من الأف�ك��ار وال�م�ع��ارف؛ تلك الأفكار‬ ‫والمعارف لي�ست وليدة (الآن)‪ ،‬و�إنما هي وليدة‬ ‫لحظات متعددة ومتنوعة من القراءة‪ ،‬والتطلع‬ ‫في الن�شاط الغيْري على الأ�صعدة كافة»(‪.)18‬‬ ‫�إن الن�ص‪ ،‬بهذا المفهوم‪ ،‬ب�ؤرة تلتقي عندها‬ ‫ُب�ؤ ٌر �أخرى‪ ،‬وبُوتَقة تن�صهر فيها ن�صو�ص �أخرى؛‬ ‫الأمر الذي يجعله منفتح ًا على غيره من الكتابات‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫والآث���ار‪� ،‬سواء التي ت�سْ بقه �أو التي تعا�صره‪.‬‬ ‫و�إلى جانب انفتاحه هذا‪ ،‬نجده ينقتح انفتاح ًا‬ ‫�آخ��ر على ال �ق��راءات المتعددة ت �ع � ُّد َد �أنفا�س‬ ‫الخالئق(‪)19‬؛ على ح ّد تعبير محمد مفتاح‪ .‬ويدل‬ ‫هذا التعدّد القرائي على �أمر �أ�سا�س‪ ،‬هو عطائية‬ ‫الن�ص وتعدّده‪.‬‬ ‫لقد عرّف مرتا�ض الن�ص‪ ،‬مكتوباً‪ ،‬بعطائيته‬ ‫وبتجدُّده وبتعدّده في موا�ضع كثيرة‪ ،‬مت�أثر ًا‬ ‫بتعريفات بع�ض َنقَدَ ة الغرب المتميِّزين‪ ،‬وفي‬ ‫مقدمتهم ب��ارط وكري�ستيڤا‪ .‬يقول ناقدُنا �إن‬ ‫الن�ص «�شبكة من المعطيات الل�سانية والبنيوية‬ ‫والأي��دي��ول��وج �ي��ة‪ ،‬تت�ضافر فيما بينها لتكوّن‬ ‫خطاباً‪ .‬ف��إذا ا�ستوى مارَ�س ت�أثير ًا عجيب ًا من‬ ‫�أجل �إنتاج ن�صو�ص �أخ��رى‪ .‬فالن�ص قائم على‬ ‫التجدُّدية بحُ كم مقروئيته‪ ،‬وقائم على التعددية‬ ‫بحكم خ�صو�صية عطائيته تبع ًا لكل حالة يتعر�ض‬ ‫لها ف��ي مجْ هر ال���ق���راءة‪ .‬فالن�ص‪ ،‬م��ن حيث‬ ‫هو‪ ،‬ذو قابلية للعطاء المتجدِّ د بتعدد تعر�ضه‬ ‫للقراءة‪ .)20(»...‬ويقول كذلك‪�« :‬إن الن�ص الأدبي‬ ‫ال يبرح المجال الذي �إن ا�ضطربت فيه المَزابر‬ ‫�أفرز لها من المعاني الكبيرة‪ ،‬والقيم الكريمة‪،‬‬ ‫والنتائج الجديدة‪ ،‬والأف�ك��ار ال�سديدة‪ ،‬ما هو‬ ‫قمينٌ ب�إمتاع النفو�س‪ ،‬و�إينا�س القلوب‪ ،‬و�إذكاء‬ ‫الألباب‪ .‬فهو المتا ُع الذي ال ين�ضب‪ ،‬والجمال‬ ‫الذي ال يذبل‪ ،‬والمَعين الذي ال ينقطع‪ ،‬والمعدن‬ ‫ي�صد�أ‪ ،‬والقيمة التي ال تتغير وال تتبدّل‪.‬‬ ‫الذي ال ْ‬ ‫وهذا الن�ص بقدر ما تعمّقت البحث فيه‪ ،‬و�أطلْت‬ ‫النظر �إليه‪ُ ،‬مطْ لِق ًا العِنان عبر �أفقه البعيد‪،‬‬ ‫و�أك �ث��رت م��ن معاي�شته‪ ،‬وك�ل�ف��ت بمُخامرته‪،‬‬ ‫و�أولعت بمخالطته‪� ،‬أعْ طاك من القيم والجواهر‬ ‫ما لم تكن تتوقّع‪ ،‬ولفِظ لك من النتائج العجيبة‪،‬‬ ‫واللطائف البديعة‪ ،‬ما كان ليكون �إال به‪ ،‬وفيه‪،‬‬ ‫وح���ول���ه»(‪ .)21‬وي��ح��دد مرتا�ض «ع��ط��اء الن�ص»‬ ‫ب�أنه «م��ا يمكن �أن يعطيه �إ ّي��ان��ا ن�ص �أدب��ي ما‬ ‫من خالل البحث في مكامنه وزواي��اه‪ )22(».‬وهو‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫«متجدِّ د �أزلي ال ينفد �أبداً‪ :‬فكلما ا�سْ تعْطاه قارئ‬ ‫�أعْ طاه‪ )23(».‬وي�ؤكد ذلك‪ ،‬في مو�ضع �آخر‪ ،‬قائالً‪،‬‬ ‫�إنّ ‪« :‬عطاءات الن�ص غير محدودة‪ ،‬و�سخاءاته‬ ‫الثرّة غير مجدودة»(‪.)24‬‬ ‫وبنا ًء على ما ورد في هذه الن�صو�ص‪ ،‬نخلُ�ص‬ ‫�إلى �أن الن�ص‪ ،‬وال�سيما الأدبي‪ ،‬مِ عْطاء‪ ،‬وغنيّ ‪،‬‬ ‫ومتعدد الدالالت‪ ،‬ومنتِج‪ ،‬ومتجدد مع كل قراءة‬ ‫نقترئها‪ ،‬وكل كتابة ندبّجها من حوله‪ .‬وكان قد‬ ‫عنوانات‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫طرحُ بارط هذه الفكرة تحت عدة‬ ‫مثل «الن�ص المتعدد» (‪ .)Le texte pluriel‬ومن‬ ‫الأمور التي ال يختلف حولها النقاد المعا�صرون‬ ‫والحداثيون‪ ،‬و�سابِقوهم كذلك‪� ،‬أن عطائية‬ ‫الن�ص مرتهنة بالقارئ‪ ،‬وب�آلياته في القراءة‪،‬‬ ‫وبقدراته ال�شخ�صية في مجال القراءة والت�أويل‪.‬‬ ‫فقد �أثبتت التجربة �أن ن�ص ًا �أدبي ًا بعينه يقترئه‬ ‫اثنان �أو �أكثر‪ ،‬تختلف م�ؤهالتهم وطاقاتهم في‬ ‫ال�ق��راءة‪ ،‬فت�أتي النتيجة متباينة‪ ،‬وقراءاتهم‬ ‫مختلفة �سع ًة و�ضيقاً‪ ،‬وعمق ًا و�سطحاً‪ .‬يقول‬ ‫بع�ض الذي ذكرناه‪« :‬عطاء الن�ص‬ ‫مرتا�ض ُمثْبت ًا َ‬ ‫الأدبي مرهون بقدرة الدار�س على التناوُل؛ �أي‬ ‫�أنه خا�ضع للمنهج المتطلع القلق الراغب الذي‬ ‫ب��ه يعالجه‪ .‬ف��ك���أيِّ��نْ م��ن دار���س يمر بق�صيدة‬ ‫مَ � ّر ًا عَ جِ الً‪ ،‬فال تمكّنه من نف�سها‪ ،‬فيحْ �سبها‬ ‫�شحيحة وهي كريم؛ حتى �إذا جاء �إليها مترفِّق ًا‬ ‫بها‪ ،‬مت�أمِّ ًال �سطحها وعمقها‪ ،‬مت�سائ ًال بتلطُّ ف‬ ‫عن �أ�سرارها الخفيّة‪ ،‬ومكامنها الم�ستعْ�صية‪،‬‬ ‫�أ�سْ عفته طائعة ب�سخاءٍ »(‪.)25‬‬ ‫و َلمّا كان نقادنا المعا�صرون �شديدي االنبهار‬ ‫بمثل هذه الأفكار‪ ،‬زاعِ مينَها من نتائج جهود‬ ‫نقاد الغرب المحدثين بخا�صة‪ ،‬ومُر ِّددِينَها في‬ ‫كتاباتهم مَ ْعزُوة عزْ و ًا ُ�صراح ًا �إلى بارط وغيره‬ ‫�أو غير معزوّة‪ ،‬فقد �ألفيْنا مرتا�ضاً‪ ،‬و�إنْ كان‪ ،‬هو‬ ‫الآخر‪ ،‬من تلك الزمرة؛ كما بدا لنا من خالل‬ ‫كتاباته النقدية الحداثية‪ ،‬ينبّه �إلى �أن عطائية‬ ‫الن�ص متجذرة في تراث العرب النقدي‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫«العرب من الأمم التي تعاملت مع الن�ص الأدبي‬ ‫على �أ��س��ا�� ٍ�س م��ن انفتاحيته وعطائيته‪ ،‬منذ‬ ‫القدم‪ ،‬بحيث �ألفيْناهم َيكْلفون كلَف ًا �شديد ًا‬ ‫ببع�ض الن�صو�ص الأدب��ي��ة الكبرى؛ مثل �شعر‬ ‫المتنبي الذي و�صلنا من ال�شروح التراثية �أكثر‬ ‫من ثالثين �شرح ًا �أو قراء ًة عنه»(‪.)26‬‬ ‫�إن الكالم ال�سالف متمحِّ �ض للن�ص بو�صفه‬ ‫كتاب ًة في الأ�سا�س‪ .‬والآن �سنتحوَّل �إلى الحديث‬ ‫عنه بو�صفه ق��راء ًة في حد ذات��ه‪� ،‬أو مو�ضوع ًا‬ ‫للقراءة بمفهومها النقدي الحداثي‪ .‬فقد تقدَّم‬ ‫الإي �م��اء �إل��ى �أن الن�ص ‪ -‬الكتابة ق ��راءة؛ من‬ ‫النا�ص‪ ،‬حين يكتب‪� ،‬إنما يقر�أ فكره �أو‬ ‫منطلق �أن ّ‬ ‫�أ�شياء الوجود وغير ذلك‪ ،‬وهو ينتج (�أو يبدع)‬ ‫ق�صد �أو من دونه ‪ -‬مقروءَه‬ ‫مُ�ستحْ ِ�ضر ًا ‪ -‬عن ْ‬ ‫وما ترَاكَم في ذهنه من تجارب و�أفكار ونحوها؛‬ ‫هذا من وجهة‪.‬‬ ‫ومن وجهة �أخ��رى‪ ،‬ينطرح الن�ص‪ ،‬بو�صفه‬ ‫حق ًال للقراءة(‪ ،)27‬تعاقَب على تناوله النقاد‪،‬‬ ‫منذ ال �ق��دم‪ ،‬ف��ي جميع ال�ث�ق��اف��ات‪ ،‬متو�سِّ لين‬ ‫بمناهج قرائية مختلفة ومتفاوتة من حيث درجة‬ ‫فعّاليتها‪ ،‬وم�ستوياتُ الن�ص التي ت�ستهدفها‪.‬‬ ‫ويميّز فيها مرتا�ض بين مناهج تقليدية‪ ،‬و�أخرى‬ ‫حديثة �أو حداثية؛ مبيِّن ًا �أن الأول��ى «قُ�صاراها‬ ‫تناول الن�ص من حيث م�ضمونه‪ :‬وهل هو نبيل‬ ‫�أو غير نبيل؟ وتناول اللغة من حيث �شكلها‪ :‬وهل‬ ‫هي �سليمة �أم غير �سليمة؟ قبل �أن ت�صدِ ر �أحكام ًا‬ ‫ق�ضائية �صارمة على �صاحب الن�ص �أو له؛ وذلك‬ ‫كله م��ن م��وق��ف عَ ��لٍ ؛ �أي م��ن م��وق��ف القا�ضي‬ ‫المتغطر�س‪� ،‬أو الحَ كَم المتجبِّر ال��ذي ال م َر َّد‬ ‫لحُ كمه‪ .‬وكانت ‪-‬غاية‪ -‬هذه المناهج‪ ،‬في �أرقى‬ ‫�أط��واره��ا‪ ،‬محاولة ر ْب��ط �صاحب الن�ص ببيئته‬ ‫وزمانه وعرْقه‪)28(»...‬؛ في حين �أن الثانية �أنجع‬ ‫و�أل��زم لكل درا�سة تن�شد العلمية والمو�ضوعية‬ ‫والحَ يْدودة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪27‬‬


‫‪28‬‬

‫يقول مرتا�ض في مقدمة درا��س� ٍة ل��ه‪ ،‬طبّق‬ ‫فيها المنهج البنيوي‪« :‬مُحا ٌل �أن ندر�س ن�ص ًا‬ ‫�أدب�ي�اً‪� ،‬شعبي ًا ك��ان �أو ف�صيحاً‪ ،‬درا�سة علمية‬ ‫مو�ضوعية دون �أن نفزع �إلى مثل هذه المناهج‬ ‫الحديثة لتبنّيها فيه‪ .‬فلم يعد النقد �أحكام ًا‬ ‫اعتباطية انطباعية‪ ،‬وال دراي���ة لفظية تقوم‬ ‫على �سرْد م�صطلحات جاهزة‪ ،‬وتقليب جمل‬ ‫محفوظة؛ تُقال حول هذا الن�ص وذاك و�آخر‬ ‫دون تغيير فيها كبير‪ .‬ول��م يعد ال�ن�ق��د؛ نق ُد‬ ‫الن�ص الأدب��ي �شيئ ًا من ه��ذا �أو �شبْهه‪ ،‬و�إنما‬ ‫�أ�صبح علم ًا ذا �أ���ص��ول وق��واع��د لمحاولة فهْم‬ ‫الأدب وتقويمه بمو�ضوعية وح��ي��اد‪� .)29(»...‬إن‬ ‫عَ ْل َمنَة النقد هذه م�س�أل ٌة دعا �إليها مرتا�ض في‬ ‫بدايات عهده بالمناهج الحديثة‪ ،‬ولم ي�ستم ّر‬ ‫على الأخذ بها في نقوده التطبيقية‪ ،‬بل وجدْ ناه‪،‬‬ ‫في كتاباته النقدية الأخيرة‪ ،‬يتخلى عنها؛ �إذ‬ ‫ق�صد‪ ،‬مَ ْك َننَة التحليل لأي‬ ‫يقول‪« :‬نرف�ض‪ ،‬عن ْ‬ ‫ن�ص �أدبي‪ ...‬وهي �سيرة ما �أكثر ما يتورّط فيها‬ ‫زم�لاء لنا‪ ،‬في الم�شرق وف��ي المغرب‪ ،‬فتغدو‬ ‫كتاباتهم‪� ،‬أو بع�ض كتاباتهم على الأق�لّ‪ ،‬ال هي‬ ‫غربية خال�صة‪ ،‬وال هي عربية خال�صة؛ و�إنما‬ ‫ق�صداً) بين‬ ‫تراها تَظْ لَع (و�أ�صطنع لفظ «تظلع» ْ‬ ‫ذلك �سبيالً»(‪.)30‬‬ ‫�إن القراءة‪ ،‬بمختلف �ألوانها‪ ،‬وب�صورة �أقوى‬ ‫لمّا يركب ال�ق��ارئ‪ /‬الناقد مناهج حديثة �أو‬ ‫حداثية‪ ،‬عملية �صعبة‪ ،‬وغير منقادة لأيٍّ كان‪.‬‬ ‫ا�ست�شف مرتا�ض هكذا خال�صة بعد تجربة‬ ‫َّ‬ ‫وقد‬ ‫طويلة في م�ضمار النقد الأدب��ي‪ ،‬فقال‪« :‬لقد‬ ‫مار�سْ نا القراءة الأدبية زمن ًا متطاو ًال ف�ألفيْناها‬ ‫ع�سيرة �شاقة‪ ،‬ومَ هُولة ُمعْتا�صة‪ .‬وما ت��راه من‬ ‫جمال ن�سْ جها‪ ،‬وبهاء عرْ�ضها‪ ...‬ال يت�أتّى �إال‬ ‫ب�شيء يُ�ضارع الوالدة القي َْ�صرية»(‪.)31‬‬ ‫وعلى كثرة ما ُتنُووِل الن�ص الأدبي بمقاربات‬ ‫نقدية متعدّدة ومتنوّعة‪ ،‬فقد تر�سَّ خ لدى مرتا�ض‬ ‫�أنْ ال طريقة قرائية يمكنها تقديم قراءة حا�سمة‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ونهائية له؛ لأنه «ال يوجد منهج كامل مثالي ال‬ ‫ي�أتيه ال�ضعف وال النق�ص من بين يديه وال من‬ ‫خلفه‪ .)32(».‬يقول‪« :‬لي�ست القراءة؛ قراءة ن�ص‬ ‫من الن�صو�ص الأدبية مما ت�ستطيع نظرية من‬ ‫النظريات الحَ �سْ م في �أمره‪� .‬إن �إجراءات نظرية‬ ‫و�صفة لتح�ضير وجبة ت�ست�شيرها‬ ‫القراءة ال ت�شبه ْ‬ ‫�سيدة مُبتدئة حين ت��ري��د طَ ��هْ��ي ال��ط��ع��ام في‬ ‫مطبخها؛ �إن التزمت بمقاديرها و�أزمانها وكل‬ ‫موا�صفاتها ح�صل لها تح�ضير وجبة جيّدة �أو‬ ‫مقبولة»(‪.)33‬‬ ‫وت�ستهدف درا�سة ن�ص من الن�صو�ص‪ ،‬ب�أي‬ ‫منهج م��ن مناهجها‪ ،‬فهم ف��حْ ��واه‪ ،‬وال��وق��وف‬ ‫وخوا�ص جن�سه‬ ‫ّ‬ ‫خوا�صه‬ ‫على م�ضامينه‪ ،‬وتعرُّف ّ‬ ‫من خ�لال��ه(‪ ،)34‬والإف ��ادة من ر�سالته‪ ،‬وك�شف‬ ‫العالقات القائمة بين �أفكاره وعنا�صره(‪ .)35‬كما‬ ‫�أنها «تتيح لنا �أن نعرف كيف وقع ن�سْ ج الإبداع‪،‬‬ ‫وكيف ُركِّ����ب؟»‪� )36(.‬إن ه��ذه الأم��ور كلها مَ ��رامٍ‬ ‫رامَ الناقد تح�صيلها‪ ،‬و�سعى وراء تحقيقها في‬ ‫مجموع درا�ساته النقدية‪ ،‬و�إنْ كان الرجل يغلّب‬ ‫جانب ًا (�أو جوانب) على �آخ��ر (�أخ��رى) فيها؛‬ ‫لإدراكه �صعوب َة تحقيق تلك الغايات‪ ،‬مُجتمِ عةً‪،‬‬ ‫في درا�س ٍة بعيْنها‪.‬‬ ‫اِنطالق ًا مما �سبق‪ ،‬يت�ضح �أن الن�ص كتابة‪،‬‬ ‫كما �أنه قراءة ومجال قرائي في الإ ّب��ان نف�سه‪.‬‬ ‫وبين الكتابة وال��ق��راءة‪ ،‬بو�صفهما فعاليتيْن‬ ‫مرتبطتين ب��ال��ظ��اه��رة ال��ن�����ص��ي��ة‪ ،‬ان��ف�����ص��ا ٌل‬ ‫وات�صالٌ؛ فهما منف�صلتان لتمايُز طبيعتيْهما‪،‬‬ ‫ومت�صلتان لترابطهما �سببي ًا ومنطقياً‪ .‬ومن‬ ‫هنا‪ ،‬تغدو تلك الظاهرة ملتقى تلك الفعّاليتيْن‬ ‫معاً؛ كما �أك��د الناقد الفرن�سي جيرار جينيت‬ ‫ف��ي ق��ول��ه‪« :‬الن�ص الأدب ��ي ه��و م��ا تنقرئ فيه‬ ‫الكتابة‪ ،‬وتنكتب فيه القراءة با�ستمرار»(‪.)37‬‬ ‫ويقول الناقد ال�سوري منذر عيا�شي‪ ،‬في ال�سياق‬ ‫نف�سه‪� ،‬إن «هاتين الفعاليتين وجهان لفعل واحد‪.‬‬ ‫فالقراءة ال تنفكّ تدور في فلك الكتابة‪ ،‬بل هي‬


‫ * باحث مغربي – جامعة محمد الأول‪ /‬وجدة‪.‬‬ ‫(‪ )1‬عبد الملك مرتا�ض‪ :‬الدكتور عبداهلل الغذامي كما عرفته‪ ،‬مجلة «عالمات في النقد»‪ ،‬جُ دّة‪ ،‬ج‪ ،43.‬مج‪،11.‬‬ ‫مار�س ‪2002‬م‪� ،‬ص‪.148‬‬ ‫(‪ )2‬مرتا�ض‪ :‬نظرية الن�ص الأدبي‪ ،‬دار هومة للن�شر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪� ،2007 ،1.‬ص‪.11‬‬ ‫(‪ )3‬مرتا�ض‪ :‬القراءة بين القيود النظرية وحرية التلقي‪ ،‬مجلة «تجليات الحداثة»‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ع‪ ،4.‬يونيو ‪1996‬م‪،‬‬ ‫�ص‪.37‬‬ ‫(‪ )4‬مرتا�ض‪� :‬شعرية الق�صيدة‪ ،‬دار المنتخب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1994 ،1.‬م‪� ،‬ص‪.7‬‬ ‫(‪ )5‬المرجع ال�سابق نف�ســه‪� ،‬ص‪.94-89‬‬ ‫(‪ )6‬مو�سى ربابعة‪ :‬القيمة وقراءة الن�ص الأدبي‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،53.‬مج‪2004 ،14.‬م‪� ،‬ص‪.170‬‬ ‫(‪ )7‬مرتا�ض‪ :‬بنية الخطاب ال�شعري‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1986 ،1.‬م‪� ،‬ص‪.283‬‬ ‫(‪ )8‬مرتا�ض‪« :‬الن�ص الأدبي‪ :‬من �أين؟ و�إلى �أين؟»‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪1983 ،1.‬م‪� ،‬ص‪.51‬‬ ‫(‪ )9‬مرتا�ض‪ :‬في نظرية الن�ص الأدبي‪ ،‬مجلة «الموقف الأدبي»‪ ،‬دم�شق‪ ،‬ع‪1988 ،201.‬م‪� ،‬ص‪.89‬‬ ‫(‪ )10‬المرجع ال�سابق نف�ســه‪.‬‬ ‫(‪ )11‬روالن بارط‪ :‬نقد وحقيقة‪ ،‬تر‪ :‬منذر عيا�شي‪ ،‬مركز الإنماء الح�ضاري‪ ،‬حلب‪ ،‬ط‪1994‬م‪� ،‬ص‪.17‬‬ ‫(‪ )12‬مرتا�ض‪ :‬فكرة ال�سرقات الأدبية ونظرية التنا�ص‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،1.‬مج‪ ،1.‬مايو ‪1991‬م‪� ،‬ص‪.82‬‬ ‫(‪ )13‬المرجع ال�سابق نف�ســه‪.‬‬ ‫(‪ )14‬المرجع نف�ســه‪.‬‬ ‫(‪ )15‬المرجع نف�ســه‪� ،‬ص‪.83‬‬ ‫(‪ )16‬مرتا�ض‪ ،‬عبدالملك‪ :‬مدخل في قراءة ال ِبنَوية‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،29.‬مج‪� ،8.‬شتنبر ‪1998‬م‪� ،‬ص‪.94‬‬ ‫(‪ )17‬ناظم عودة‪ :‬تحوالت النظرية النقدية الحديثة‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،53.‬مج‪� ،14.‬ص �ص‪.241-240‬‬ ‫(‪ )18‬محمد �سالم �سعد اهلل‪« :،‬مملكة الن�ص‪ :‬التحليل ال�سيميائي للنقد البالغي – الجرجاني نموذج ًا –»‪ ،‬دار‬ ‫ج��دارا للكتاب العالمي (عَ مّان) وعالم الكتب الحديث (�إرب��د)‪� ،‬سل�سلة «النقد المعرفي»‪ ،‬رق��م‪ ،1‬ط‪،1.‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫كتابة ولكنْ بطريقة �أخ��رى‪ .‬والكتابة ال تنفكّ‬ ‫بدورها ت��دور في فلك ال�ق��راءة‪ ،‬بل هي ق��راءة‬ ‫ول��ك��نْ بطريقة �أخ�����رى(‪ .»)38‬وي��ق��ول �أح��د نقاد‬ ‫بحث له‪ ،‬كتبه لتحليل‬ ‫الجزائر المعا�صرين‪ ،‬في ٍ‬ ‫�إح��دى رواي��ات المرحوم الطاهر وطّ ��ار تحلي ًال‬ ‫�سو�سيولوجياً‪�« :‬إن الن�ص م�شهد للنّظر النقدي‬ ‫وال�ق��راءة والكتابة يحمل بين ثناياه م�ؤ�شِّ رات‬ ‫بالغية تجريبية و�سردية وداللية و�إيديولوجية‬ ‫توجِّ ه القارئ‪.)39( »...‬‬ ‫وي�ؤكد مرتا�ض‪ ،‬هو الآخر‪ ،‬ال�صلة الحميمة‬ ‫بين ن�شاطيِ الكتابة والقراءة‪ ،‬ويع ّد الن�ص كِ يان ًا‬ ‫يلتقي على م�ستواه ه��ذان الأم��ران‪� .‬إذ يت�صور‬ ‫الرجل �أن «الكاتب حين يكتب ن�ص ًا �أدبي ًا مّا‪،‬‬ ‫�إنما هو يقر�أ‪ ،‬من بع�ض ال� ُوج��وه‪ ،‬نف�سَ ه‪ ،‬قبل‬ ‫�أن يقذف بما يقر�أ �إلى قارئه �أو متلقيه‪ .‬فبدون‬ ‫ه��ذه ال��ق��راءة التي ُت��خْ ��رج ن�ص ًا م��ن ع��دم �إل��ى‬

‫وج��ود‪ ،‬ال يكون للن�ص الأدب��ي وج��و ٌد �أب���داً»(‪.)40‬‬ ‫ويقول‪ ،‬في الإطار نف�سِ ه‪� ،‬إن «الكتابة ال تكون �إال‬ ‫بف�ضل القراءة؛ فهذه �سابقة عليها‪ ،‬ورائدة لها‪،‬‬ ‫ومتقدِّ مة عليها‪ .‬ذلك ب�أني حين �أكتب‪ ،‬ف�إنما‪،‬‬ ‫�أنا في الحقيقة‪� ،‬أق��ر�أ ما في نف�سي؛ ف�أطْ رَحه‬ ‫ن�ص ًا من�صو�ص ًا على قرْطا�س‪ .‬و�إني ال �أ�ستطيع‬ ‫�أن �أكتب‪ ،‬من منظور �آخر‪� ،‬إال �إذا كنت قر�أت‪،‬‬ ‫وقر�أت‪ ،‬ثم قر�أتُ ‪ ...‬فك�أن القراءة �أمٌّ‪ ،‬والكتابة‬ ‫ابنتُها‪� .‬أو ك�أن القراءة �أ�صلٌ‪ ،‬والكتابة فر ٌع منها‪،‬‬ ‫�أو مظه ٌر لها»(‪ .)41‬ويبدو �أن مرتا�ضاً‪ ،‬وغيرَه من‬ ‫النقاد المعا�صرين‪ ،‬قد ت�أثروا‪ ،‬في هذا الربط‬ ‫الوطيد بين ال �ق��راءة والكتابة‪ ،‬بنقاد الغرب‬ ‫المُحدثين؛ كجينيت‪ ،‬وب��ارط الذي عَ ْنوَن �أحد‬ ‫ف�صول �إحدى درا�ساته حول اللغة‪ ،‬والتي نُقلت‬ ‫�إلى العربية تحت عنوان‪« :‬الكتابة والقراءة»‪،‬‬ ‫بعبارة «كتابة القراءة»(‪.)42‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪29‬‬


‫‪2007‬م‪� ،‬ص‪.123‬‬ ‫(‪ )19‬محمد مفتاح‪ :‬بع�ض خ�صائ�ص الخطاب‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،35.‬مج‪ ،9.‬مار�س ‪2000‬م‪� ،‬ص‪.36‬‬ ‫(‪ )20‬مرتا�ض‪�« :‬أ‪-‬ي‪ :‬درا�سة �سيميائية تفكيكية لق�صيدة «�أين ليْالي؟» لمحمد العيد»‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪،‬‬ ‫الجزائر‪ ،‬ط ‪1992‬م‪� ،‬ص‪.55‬‬ ‫(‪ )21‬مرتا�ض‪ :‬في الأمثال الزراعية‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط ‪1987‬م‪� ،‬ص �ص‪( .6-5‬من فاتحة‬ ‫الكتاب)‬ ‫(‪ )22‬مرتا�ض‪ :‬الن�ص الأدبي‪ ،...‬م‪�.‬س‪� ،‬ص‪.54‬‬ ‫(‪ )23‬المرجع ال�سابق نف�سـه‪� ،‬ص‪ ،55‬بت�صرف‪.‬‬ ‫(‪ )24‬مرتا�ض‪ :‬ممار�سة الع�شق بالقراءة‪ ،‬مجلة «نِزوى»‪ ،‬م�سقط‪ ،‬ع‪� ،8.‬أكتوبر ‪1996‬م‪� ،‬ص‪ ،59‬بت�صرف‪.‬‬ ‫(‪ )25‬مرتا�ض‪� :‬أ‪-‬ي‪� ،‬ص‪.18‬‬ ‫(‪ )26‬مرتا�ض‪ :‬التحليل ال�سيمائي للخطاب ال�شعري‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط ‪2001‬م‪� ،‬ص‪.16‬‬ ‫(‪ )27‬مرتا�ض‪ ،‬عبدالملك‪ :‬التحليل ال�سيميائي للخطاب ال�شعري‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،5.‬مج‪� ،2.‬شتنبر ‪1992‬م‪،‬‬ ‫�ص‪.143‬‬ ‫(‪ )28‬المرجع ال�سابق نف�ســه‪.‬‬ ‫(‪ )29‬مرتا�ض‪ :‬الألغاز ال�شعبية الجزائرية‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط ‪2007‬م‪� ،‬ص‪( .4‬من فاتحة‬ ‫الكتاب)‬ ‫(‪ )30‬مرتا�ض‪� :‬شعرية الق�صيدة‪ ،‬م‪�.‬س‪� ،‬ص‪.233‬‬ ‫(‪ )31‬مرتا�ض‪ :‬ممار�سة الع�شق بالقراءة‪ ،‬مجلة «نِزوى»‪ ،‬م�سقط‪ ،‬ع‪� ،8.‬أكتوبر ‪1996‬م‪� ،‬ص‪.58‬‬ ‫(‪ )32‬مرتا�ض‪ :‬التحليل ال�سيمائي للخطاب ال�شعري‪� ،‬ص‪.18‬‬ ‫(‪ )33‬مرتا�ض‪ :‬القراءة بين القيود النظرية وحرية التلقي‪� ،‬ص‪.13‬‬ ‫(‪ )34‬وي�سمّيها جيرار جينيت (‪« )G. Génette‬جامع الن�ص» (‪ ،)Architexte‬الذي يُعد‪ ،‬في نظره‪ ،‬مو�ضوع نظرية‬ ‫الأدب الداخلية‪ .‬يقول‪« :‬لي�س الن�ص هو مو�ضوع ال�شعرية‪ ،‬بل جامع الن�ص؛ �أي مجموع الخ�صائ�ص العامة �أو‬ ‫المُتعالية التي ينتمي �إليها كل ن�ص على حِ دَ ة‪«( ».‬مدخل لجامع الن�ص»‪ ،‬تر‪ :‬عبدالرحمن �أيوب‪ ،‬دار توبقال‬ ‫للن�شر‪ ،‬البي�ضاء‪ ،‬ط‪1985 ،1.‬م‪� ،‬ص‪)9‬‬ ‫(‪ )35‬يقول مرتا�ض �إن غاية الدرا�سة (�أو النقد)‪ ،‬في بعديْها النظري والتطبيقي‪« ،‬ت ْمثُل في االهتداء �إلى حقيقة‬ ‫الن�ص بتعبير فل�سفي‪� ،‬أو فهمه بتعبير الهرمينوطيقا الغادَميرية‪� ،‬أو تف�سيره بم�صطلح الدّينيين‪� ،‬أو عالقة‬ ‫الدال بالمدلول بح�سب البنيويين‪� ،‬أو الك�شف عن نظام الإ�شارة فيه بتعبير ال�سيميوتيكيين‪� ،‬أو تفكيكه وت�شْ ريحه‬ ‫على طريقة التفكيكيين‪«( ».‬الن�ص‪ :‬نقده‪ ،‬نقاده والحقيقة الفعلية»‪ ،‬مجلة «كتابات معا�صرة»‪ ،‬بيروت‪ ،‬ع‪،3.‬‬ ‫مج‪1989 ،1.‬م‪� ،‬ص‪)19‬‬ ‫(‪ )36‬مرتا�ض‪ :‬في نظرية الرواية‪� ،‬سل�سلة «عالم المعرفة»‪ ،‬الكويت‪ ،‬ع‪1998 ،240.‬م‪� ،‬ص‪.40‬‬ ‫(‪.G. Génette: Figures II, Seuil, Paris, 1977, P18 )37‬‬ ‫(‪ )38‬منذر عيا�شي‪ :‬الكتابة الثانية وفاتحة المتعة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1998 ،1.‬م‪� ،‬ص‪.5‬‬ ‫الق�ص والإيديولوجية في رواية «الزلزال»‪ ،‬مجلة «التبيين»‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ع‪،7.‬‬ ‫(‪ )39‬عمار بلح�سن‪� :‬صراع الخطابات‪ّ :‬‬ ‫‪1993‬م‪� ،‬ص‪.114‬‬ ‫(‪« )40‬كيف يمكن جذب �سواد القراء �إلى القراءة الأدبية؟» (حوا ٌر �أجرتْه ميرزا الخويلدي مع مرتا�ض‪ ،‬عقب �صدور‬ ‫كتابه «نظرية القراءة‪ :‬ت�أ�سي�س للنظرية العامة للقراءة الأدبية»‪ ،‬وذلك على هام�ش مهرجان الجنادرية ‪ 19‬في‬ ‫الريا�ض)‪ ،‬جريدة «ال�شرق الأو�سط»‪ ،‬ع‪ ،9690.‬بتاريخ ‪� ،2005/06/09‬ص‪.12‬‬ ‫(‪ )41‬مرتا�ض‪ :‬القراءة وقراءة القراءة‪ ،‬عالمات في النقد‪ ،‬ج‪ ،15.‬مج‪ ،4.‬مار�س ‪1995‬م‪� ،‬ص‪ .202‬انظر‪� ،‬أي�ضاً‪،‬‬ ‫كتابه «نظرية الن�ص الأدبي»‪ ،‬دار هومة للن�شر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪� ،2007 ،1.‬ص‪ – 12‬مقاله «القراءة بين القيود‬ ‫النظرية وحرية التلقي»‪� ،‬ص‪� + 17‬ص‪.25‬‬ ‫(‪ )42‬روالن بارط‪ :‬الكتابة والقراءة‪ ،‬تر‪ :‬عبدالرحيم حزل‪ ،‬مطبعة تان�سيفت‪ ،‬مراك�ش‪ ،‬ط ‪1993‬م‪� ،‬ص‪.103-95‬‬

‫‪30‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ف���ي رواي�����ة «م��ق��ه��ى ال�����ش��ب��اب ال�����ض��ائ��ع» (ت��رج��م��ة‬ ‫المغربي محمد المزديوي‪ ،‬مقاليد‪ ،‬الملحقيّة الثقافيّة‬ ‫ال�سعوديّة في فرن�سا‪2012 ،‬م)‪ ،‬ي�سعى الكاتب الفرن�سي‪،‬‬ ‫ال��ح��ائ��ز ع��ل��ى ج��ائ��زة ن��وب��ل ل��ل���آداب ‪2014‬م �إل����ى تقديم‬ ‫لوحة بانورامية لباري�س الأخرى‪� ،‬أو كما ي�سميها ال�سارد‬ ‫«المناطق المحايدة»‪ ،‬من خالل مقهى «كوندي»‪ ،‬التي تعد‬ ‫قبلة للكتاب والفنانين ال�ضائعين‪ ،‬و�سيرهم المتقاطعة مع‬ ‫�سيرة بطلة ال��رواي��ة «ل��وك��ي»‪ ،‬ه��ذه ال�سيرة المت�ضافرة مع‬ ‫محكي تحريات «كيزلي»‪ ،‬ال��ذي كلفه زوج��ه��ا‪ ،‬الأك��ب��ر منها‬ ‫�سنّا‪ ،‬بالبحث عنها‪ ،‬لمعرفة �سبب هجرها له‪ ،‬في�ضطر �إلى �أن‬ ‫ي�ضلل زوجها‪ ،‬بعد �أن وجد نف�سه كباقي رواد المقهى م�شدودا‬ ‫�إليها ب�شكل غام�ض‪.‬‬ ‫احتفظ «ك��ي��زل��ي» ب���أ���س��رار حياتها ال�شقية لنف�سه‪ ،‬والتي‬ ‫كانت بمثابة �ألغاز بالن�سبة �إلى �أ�صدقاء المقهى‪ ،‬ولكي يمنحها‬ ‫ال��وق��ت لكي ت��ك��ون‪ ،‬ب�صفة نهائية‪ ،‬بعيد ًة ع��ن المتناول‪ .‬وقد‬ ‫بد�أت رحلة «لوكي» للتخل�ص من �ضياعها وت�شتتها الوجودي‬ ‫من خالل ولوجها عالم القراءة‪ ،‬عبر �صديق زوجها «غي دي‬ ‫فير»‪ ،‬التي ح�ضرت بع�ض محا�ضراته‪ ،‬ون�صحها بقراءة كتاب‬ ‫«�آفاق �ضائعة»‪ ،‬حتى �أنها في يوم ك�آبة‪ ،‬ا�ستبدلت‪ ،‬بقلم‪ ،‬اال�سم‬ ‫ال�شخ�صي في غالف كتاب «لويز العدم» با�سم «جاكلين العدم»‬ ‫(جاكلين ا�سمها الحقيقي)‪ .‬ولم تن�س «لوكي» جملة �صاحب‬ ‫المكتبة‪ ،‬ال��ت��ي ك��ان��ت ت�ستعير منها ال��ك��ت��ب ‪« :‬ل���م ت��ك��ن ه��ذه‬ ‫المكتبة فقط م�لاذا بل كانت �أي�ضا محطة في حياتي‪ .‬كنت‬ ‫�أظ��ل فيها‪ ،‬ف��ي كثير م��ن الأح��ي��ان‪� ،‬إل��ى �ساعة الإغ�ل�اق‪ .‬كان‬ ‫ثمة مقعد بالقرب من الرفوف‪� ،‬أو كان بالأحرى «�إ�سْ كملة»‬ ‫كبيرة‪ ،‬كنت �أجل�س عليها من �أجل ت�صفح الكتب والألبومات‬ ‫الم�صورة‪ .‬كنت �أت�ساءل �إن كان على علم بوجودي‪ .‬بعد ب�ضعة‬ ‫■ ه�شام بن�شاوي*‬ ‫�أي��ام‪ ،‬ومن دون �أن يتوقف عن قراءته‪ ،‬ينطلق بجملة‪ ،‬وهي‬ ‫دائ��م��ا نف�س الجملة‪�« :‬إذاً‪ ،‬ه��ل تجدين �سعادتك؟» الحقا‪،‬‬ ‫قال لي �أحد الأ�شخا�ص‪ ،‬وبكثير من الثقة في النف�س‪ ،‬ب�أن‬ ‫ال�شيء الوحيد الذي ال يمكننا تذكُّره هو رنة الأ�صوات‪.‬‬ ‫�إال �أنني‪ ،‬ال �أزال اليوم‪ ،‬وخالل ليالي الأرق التي �أعي�شها‪،‬‬ ‫�أ�سمع كثيرا ال�صوت ذا النبرة الباري�سية ‪� -‬صوت ال�شوارع‬ ‫المنحدرة‪ -‬وهو يقول لي‪� « :‬إذاً‪ ،‬هل تجدين �سعادتك؟»‬ ‫هذه الجملة لم تفقد �شيئا من لطافتها ومن لغزها»!‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪31‬‬

‫���ش��ع��ري��ة‬ ‫ال���غ���ي���اب‬ ‫ف��ي «مقهى‬ ‫ال�������ش���ب���اب‬ ‫ال�����ض��ائ��ع»‬ ‫لـ«باتريك‬ ‫م��ودي��ان��و»‬


‫اقتحمت «ل��وك��ي» عالم المقهى‪ ،‬وتعرّفت‬ ‫ب�سرعة على معظم روّاده وطباعهم الغريبة‪،‬‬ ‫وب�شكل خا�ص‪ ،‬على الكاتبين‪ :‬موري�س رافائيل‬ ‫و�أرثير �أدام��وف‪ .‬هذا الأخير كان يتم�شى من‬ ‫دون ج���وارب‪ .‬ك��ان يطلب منها‪� ،‬أح �ي��ان��ا‪� ،‬أن‬ ‫ترافقه من المقهى �إلى فندقه‪ ،‬لأنه كان يخ�شى‬ ‫الم�شي وحده‪ ،‬في الليل‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫�أثناء �إقامته مع «لوكي» في �شارع �أرجنتين‪،‬‬ ‫حيث ا�ست�أجرا غرفة في فندق يقع في «منطقة‬ ‫م���ح���اي���دة»‪ ،‬وح���ي���ث ال �أح ��د‬ ‫يمكن �أن يتعرف عليه هناك‪،‬‬ ‫فالأ�شخا�ص القالئل الذين‬ ‫ك� ��ان ي�ل�ت�ق�ي�ه��م ه� �ن ��اك من‬ ‫الممكن �أنهم �أ�صبحوا �أمواتا‬ ‫بالن�سبة �إلى الحالة المدنية‪:‬‬ ‫«ذات ي� ��وم و�أن�� ��ا �أت���ص�ف��ح‬ ‫��ص�ح�ي�ف��ة ق � ��ر�أت ف��ي زاوي ��ة‬ ‫«�إع�ل�ان���ات ق�ضائية» مقالة‬ ‫��ص�غ�ي��رة ع �ن��وان �ه��ا‪�« :‬إع�ل�ان‬ ‫غ����ي����اب»‪��� .‬ش��خ�����ص يُ���دع���ى‬ ‫«ت��اري��د» لم يظهر في �سكنه‬ ‫وال �سُ معت �أخبا ُر ُه منذ ثالثين‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫�سنة‪ ،‬وق��ررت المحكمة االبتدائية الكبرى �أن‬ ‫تعلن �أنه «غائب»‪� .‬أريتُ هذا الإعالن للوكي‪ .‬كنّا‬ ‫في غرفتي‪� ،‬شارع �أرجنتين‪ .‬قلت لها �إني مت�أك ٌد‬ ‫من �أن هذا ال�شخ�ص كان يقطن في ال�شارع مع‬ ‫نحو ع�شرة �أ�شخا�ص تمّ �إعالنهم «غائبين»‪ ،‬هم‬ ‫�أي�ضا‪ .‬على كل ف��إن جميع البنايات المجاورة‬ ‫لفندقي تحمل كلها كتابة‪« :‬بنايات م�ؤثثة»‪.‬‬ ‫�أمكنة عبور ال يُطلب فيها هوية �أحد وحيث يمكن‬ ‫للمرء �أن يختبئ بها‪.‬‬ ‫(‪)...‬‬ ‫في �شهر فبراير‪ ،‬الذي‬ ‫توقفت فيه عن العودة �إلى‬ ‫بيت زوجها‪ ،‬ت�ساقطت ثلوج‬ ‫كثيرة‪ ،‬وخيّل �إلينا‪ ،‬ونحن‬ ‫ف��ي ���ش��ارع �أرج��ن��ت��ي��ن‪� ،‬أن��ن��ا‬ ‫�ضائعان في فندق في جبل‬ ‫���ش��اه��ق‪ .‬الح���ظ���تُ �أن����ه من‬ ‫ال�صعب العي�ش في منطقة‬ ‫م �ح��اي��دة‪ .‬وم ��ن الأف �� �ض��ل‪،‬‬ ‫ح �ق �ي �ق��ة‪ ،‬االق� � �ت � ��راب م��ن‬ ‫الو�سط‪ .‬ال�شيء الأكثر �إثارة‬ ‫للده�شة في �شارع �أرجنتين‪،‬‬


‫***‬

‫وفي بداية ال�صيف‪ ،‬قررا ال�سفر �إلى وجهة‬ ‫غير محدّدة‪ ،‬فالأمكنة لم تعُد لها �أي �أهمية‪،‬‬ ‫ويُ�شبه بع�ضها بع�ضا‪« :‬هدفنا الوحيد من ال�سفر‬ ‫هو التوجّ ه �إلى قلب ال�صيف‪ ،‬حيث يتوقف الزمن‬ ‫وحيث عقربا ال�ساعة ي�شيران دائما �إلى ال�ساعة‬ ‫نف�سها‪ :‬الظهيرة»‪.‬‬ ‫وعند لقاء «كيزلي» ب ـ «غي دي فير» تحدث‬ ‫ع��ن م�لام��ح ب��اري ����س ال �ت��ي ت �غ � ّي��رت ك�ث�ي��را في‬ ‫ال�سنوات الأخ��ي��رة‪ ،‬فت�أمله «غ��ي» وه��و يقطب‬ ‫حاجبيه‪ ،‬و�س�أله ‪« :‬ه��ل ما ت��زال ت�شتغل حول‬ ‫المناطق المحايدة؟»‪ .‬ت�ساقط ال�س�ؤال بطريقة‬ ‫فجّ ة �إلى درجة �أنه لم يفهم مغزى تلميحه‪ ،‬ثم‬ ‫�أعطاه عنوانه في المك�سيك‪ ،‬وطلب منه زيارته‬ ‫هناك‪ ،‬وتخلى «غي» عن وق��اره المعهود‪ ،‬وقال‬ ‫ك�أنما يناجي نف�سه‪« :‬قل لي‪� ...‬أفكر كثيرا في‬ ‫لوكي‪ ...‬ال �أزال �أجهل ال�سبب‪.»...‬‬

‫«�إن� �ه ��ا ب�ل�اه��ة م ��ا �أق���ول‬ ‫لك‪ ...‬ال �شيء يمكن فهمه‪...‬‬ ‫حين نحبّ �شخ�صا ما‪ ،‬ب�شكل‬ ‫حقيقي‪ ،‬يجب �أن نقبل جزءه‬ ‫ال�غ��ام����ض‪ ...‬ول �ه��ذا ال�سبب‬ ‫ن �ح �ب��ه‪� ...‬أل �ي ����س ك��ذل��ك‪ ،‬يا‬ ‫روالند؟‪.»..‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫عِ لما �أنني �أح�صيتُ العديد‬ ‫من ال�شوارع الباري�سية التي‬ ‫ت�شبهه‪ ،‬هو �أنه ال يتالءم مع‬ ‫المقاطعة ال�ت��ي يعد ج��زءا‬ ‫منها‪ .‬لم يكن ي�شبه �شيئا‪،‬‬ ‫ك ��ان منف�صال ع��ن ال �ك��ل‪.‬‬ ‫بهذه الطبقة من الثلوج ينفذ‬ ‫ال �� �ش��ارع م��ن ج��ان�ب�ي��ه على‬ ‫ال �ف��راغ‪ .‬ع�ل��يّ �أن �أع�ث��ر من‬ ‫جديد على قائمة ال�شوارع‬ ‫التي هي لي�ست فقط �شوارع‬ ‫محايدة ولكنها ثقوبٌ �سوداء‬ ‫في باري�س»‪.‬‬

‫عن كلماته‪.‬‬

‫***‬

‫وف���ي ���ش��ه��ر ن��وف��م��ب��ر‪ .‬في‬ ‫ي��وم �سبت‪� .‬صباحا وم��ا بعد‬ ‫الظهيرة‪ ،‬في �شارع �أرجنتين‪ ،‬وهو ي�شتغل على‬ ‫مو�ضوع المناطق المحايدة‪ .‬وكان على موعد مع‬ ‫لوكي في ال�ساعة الخام�سة‪ .‬قرر مغادرة �شارع‬ ‫�أرجنتين في الأي��ام القادمة‪ .‬بدا له �أ ّن��ه �شُ في‬ ‫تماما من جراحات الطفولة والمراهقة‪« ،‬و�أنه‬ ‫من الآن ف�صاعدا لي�س ل��ديّ �أيّ �سبب للبقاء‬ ‫مختبئا في منطقة محايدة»‪ .‬لكن الجرح الأكبر‬ ‫وال�لا ين�سى ف��ي حياته �سي�صير ه��و «ل��وك��ي»‪:‬‬ ‫«ان��ط�لاق��ا م��ن ه��ذه اللحظة ح��دث غ��ي��ابٌ في‬ ‫حياتي‪ ،‬ف��راغٌ‪ ،‬لم يُ�سبّب لي �إح�سا�سا بالفراغ‬ ‫فقط ولكني لم �أكن �أ�ستطيع تحمل النظر‪ .‬كل‬ ‫هذا الفراغ يبهرني ب�ضوء حا ّد ومتوهّ ج‪ .‬وهذه‬ ‫الحالة �ستظل على هذا الأمر‪ ،‬حتى النهاية»‪.‬‬

‫كانت «لوكي» موجودة في الغرفة مع �صديقتها‬ ‫«جانيت» الملقبة ب��ر�أ���س الميت‪ ،‬خرجت �إلى‬ ‫ال�شرفة‪ .‬و�ضعت �ساقا م��ن ف��وق ال��دراب��زي��ن‪.‬‬ ‫حاولت �صديقتها �أن تم�سك بها‪ ،‬لكن بعد فوات‬ ‫الأوان‪ .‬كان لديها الوقت للتلفّظ ببع�ض الكلمات‪،‬‬ ‫كان مت�أثرا‪ ،‬وهو الذي كان يتحدث دائما من كما لو �أنها كانت تكلّم نف�سها‪ ،‬كي تمنح لنف�سها‬ ‫دون تردد‪ ،‬وبطريقة وا�ضحة جدا‪� ،‬أ�صبح يبحث ال�شجاعة‪« :‬انتهى الأمر‪ .‬ا�ست�سلمي للتراخي»‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪33‬‬


‫الحجي في‬ ‫مجمو عتــه‬ ‫ا لق�صـ�صـيـــة‬ ‫(�سيد واوي)‬ ‫بين النزعتين‬ ‫«الروحانية‬ ‫وال�ساخرة»‬ ‫■ حمد حميد الر�شيدي*‬

‫‪34‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫(�سيد واوي)‪ ،‬مجموعة ق�ص�صية �صادرة حديثاً عن‬ ‫دار (بي�سان) للن�شر والتوزيع والإع�لام في بيروت‪ ،‬عام‬ ‫‪2013‬م‪ ،‬للكاتب والإعالمي ال�سعودي هاني الحجي‪.‬‬ ‫ت��ت��ك��ون ه���ذه المجموعة م��ن ن��ح��و خم�سة ع�شر ن�صاً‬ ‫ق�ص�صياً جعلت من البيئة (الإح�سائية) بعمقها التاريخي‬ ‫والح�ضاري‪ ,‬وبجوانبها االجتماعية والمعرفية والدينية‬ ‫المحور الرئي�س‪ ،‬الذي تتحدث عنه هذه الق�ص�ص ب�أ�سلوب‬ ‫م��ت��م��ي��ز؛ ي��ن��ب��ئ ع��ن اع��ت��م��اد ك��ات��ب��ه ع��ل��ى م��خ��زون ت��اري��خ��ي‬ ‫وح�ضاري وثقافي ومعرفي كبير‪ ,‬وعن امتالكه مهارة فائقة‬ ‫ف��ي التعبير ع��ن عنا�صر ه��ذا المخزون وطرحها بال�شكل‬ ‫المنا�سب‪ ،‬ال��ذي ال يت�صادم مع التاريخ ومادته وحقائقه؛‬ ‫وال يقحم القارئ في المتاهات المعقدة لفل�سفة الما�ضي‬ ‫بوقائعه و�أح��داث��ه‪ ،‬ومجرياتها مهما كانت نتائجها‪ ,‬بقدر‬ ‫ما كان يحاول من خالل طرحه هذا �أن يت�صالح مع واقعه‬ ‫المعا�ش‪ ,‬و�أن يوجد عنا�صر التوافق التكاملي العام بين‬ ‫ما�ضي المجتمع وحا�ضره؛ مبتعداً – في الوقت ذات��ه –‬ ‫عن النزعات الأحادية ذات الميول النا�شزة‪ ,‬وعن اللهجات‬ ‫الخطابية المتقعرّة المكرورة والمملّة في �آن واحد‪ ,‬والتي‬ ‫ال ترتقي الن�سيج االجتماعي لأي مجتمع ف��ي �أي زم��ان‬ ‫ومكان‪ ،‬بقدر ما تنب�ش خيوط هذا الن�سيج‪ ،‬وتوقع التنافر‬ ‫الحاد فيما بينها‪.‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ك�م��ا تنبئ �أي �� �ض � ًا ع��ن دراي���ة ال�ك��ات��ب دراي��ة‬ ‫وا�سعة‪ ,‬ومعرفته الدقيقة بمظاهر الحياة العامة‬ ‫للمجتمع (الإح�سائي) من نواحٍ متعددة‪ :‬اجتماعية‬ ‫وتاريخية واقت�صادية ودينية وح�ضارية‪� ...‬إلخ‪.‬‬ ‫وال �شك �أن معرفة الكاتب معرفة كافية لمجتمع‬ ‫تغريه الكتابة عنه‪ ،‬مهما كانت مادتها ومو�ضوعها‬ ‫هو �أمر في غاية الأهمية‪ ,‬ومن الأ�س�س التي يقوم‬ ‫عليها نجاح هذا الكاتب �أو ذاك في �أي عمل يقدمه‬ ‫للقارئ‪ ،‬وفي �أي زمان ومكان‪.‬‬ ‫ف��ال�ك��ات��ب – �إذ ًا – ك�م��ا ي �ق��ال‪ :‬ه��و (م ��ر�آة‬ ‫ع�صره)‪ ،‬وكلما كان �أكثر قرب ًا من بيئته‪ ،‬و�أكثر ط�ق��و��س��ه‪ ,‬و�أه �م �ي��ة ال �ج��ان��ب ال��دي �ن��ي بالن�سبة‬ ‫الت�صاق ًا ب�أهلها‪ ..‬كانت كتابته عنها �أكثر �صدق ًا للمجتمع‪ ,‬وكيف �أنه هو العامل الرئي�س في بناء‬ ‫حياة �أفراده‪.‬‬ ‫وواقعية وو�ضوحاً‪.‬‬ ‫هذا كله من حيث الطرح وم�ضمونه‪� ,‬أما من‬ ‫حيث ال�شكل‪ ،‬فقد تنوّعت ن�صو�ص هذه المجموعة‬ ‫بين (الق�ص�ص الق�صيرة) و(الق�ص�ص الق�صيرة‬ ‫جداً)‪.‬‬ ‫وف��ي كال ال�شكلين حر�ص الكاتب على تنوّع‬ ‫الخطاب ال�سردي‪ ,‬وتعدد �أ�ساليب التعبير بين‬ ‫ال�شخ�صيات ح�سب �أدواره � ��ا‪ ,‬وع��ن الأح ��داث‬ ‫ووقائعها في جميع ن�صو�ص المجموعة‪ ،‬التي تُراوح‬ ‫بين المبا�شرة‪ ،‬حيناً‪ ،‬وبين الأ�سلوبين الو�صفي‬ ‫والحواري‪ ،‬حين ًا �آخر‪.‬‬

‫وه��و ‪�-‬إ��ض��اف��ة �إل��ى ذل��ك‪ -‬المعيار الأ�سا�س‬ ‫لتقييم �سلوكياتهم و�أقوالهم و�أعمالهم في جميع‬ ‫ما يتعلق ب�ش�ؤون حياتهم الدنيوية والأخ��روي��ة؛‬ ‫ث��م �إن��ه كذلك �سمو بالنف�س ع��ن رذائ��ل الأم��ور‬ ‫و�سفا�سفها في الحياة الدنيا‪ ,‬والموجب ل�صبرها‬ ‫تجاه كل ما يحزنها �أو ي�ضيرها في هذه الحياة‪،‬‬ ‫وا�ست�شعار لما �سوف تجده هذه النف�س ال�سامية‬ ‫ال�صابرة في مقابل ذل��ك كله من نعيم الآخ��رة‬ ‫و�سعادتها الأبدية‪.‬‬

‫لي�س ه��ذا فح�سب‪ ,‬ب��ل �إن الكاتب – وعلى‬ ‫العك�س من ذلك – قد �أورد �أي�ض ًا من خالل بع�ض‬ ‫�إنَّ م��ن يت�صفح ن�صو�ص ه��ذه المجموعة ال�شخو�ص الق�ص�صية ونماذجها في مجموعته‪،‬‬ ‫الق�ص�صية‪ ،‬يجد �أنها جميعها حافلة بنزعتين كيفية ا�ستغالل بع�ض عنا�صر المجتمع للجانب‬ ‫وا�ضحتين تخيّمان على الجو العام لهذه الن�صو�ص ال��دي�ن��ي‪ ,‬و�أهميته ف��ي ح�ي��اة �أف� ��راده‪ ,‬رغ�ب��ة في‬ ‫هما‪:‬‬ ‫ك�سب تعاطف المجتمع مع مثل ه��ذه النماذج‪،‬‬ ‫�أو م�ساندته تجاه �أي غاية يريد تحقيقها �أو �أي‬ ‫‪-1‬النزعة الروحانية‬ ‫�إ�شكالية تواجهه‪.‬‬ ‫وهذه النزعة وا�ضحة تماماً‪� ,‬إذ ا�صطبغت لغة‬ ‫ومثل ه��ذا النموذج يتمثل لنا ف��ي �شخ�صية‬ ‫الكاتب ب�صبغة دينية �أظهر من خاللها تديّنه‪,‬‬ ‫وا��س�ت�غ��راق��ه ف��ي التفكير ال��روح��ان��ي وممار�سة (�سيد واوي)‪ ,‬وهي الق�صة التي حملت ا�سمها‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪35‬‬


‫المجموعة ككل‪� ,‬إذ �إن هذه ال�شخ�صية العجيبة‬ ‫(البوهيمية)‪ ،‬هي نموذج وا�ضح يجمع بين الدين‬ ‫وقيمه و�شعائره وطقو�سه‪ ،‬من جهة‪ ,‬وبين ا�ستغالله‬ ‫في الوقت ذاته للجوانب الدينية في حياة المجتمع‬ ‫وت�أثيرها عليه‪ ،‬لك�سب وده وتعاطفه تجاه �أي مبد�أ‬ ‫ي�ؤمن به �أو غاية ين�شدها‪ ،‬من جهة �أخرى‪:‬‬ ‫(�سيد واوي ظاهرة غريبة في مجتمع الأح�ساء‬ ‫الذي اعتاد على الحياة الرتيبة‪ .‬كان يدخل في‬ ‫نقا�شات مع الجميع‪ ,‬ويختلف معهم‪� ،‬إال �أنهم كانوا‬ ‫يحبونه رغ��م اختالفاتهم‪ ,‬فهو �سيد من �ساللة‬ ‫الر�سول‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ول��ه احترامه‪,‬‬

‫عندما ع��اد �إل��ى الأح���س��اء ل��م يجد مهنة �سوى‬ ‫الخطابة يقتات منها ويحفظ م��اء وجهه بها‪,‬‬ ‫لأن �صوته كان �شج ّياً‪ ،‬لكنه بد�أ ينتقد �سلوكيات‬ ‫المجتمع في خطبه‪ ،‬والمجتمع الإح�سائي لم يتقبل‬ ‫هذا النقد ال�صريح‪.‬‬ ‫فهم كانوا يعقدون �أ�شبه ما يكون بال�صفقات‬ ‫م��ع الماللي ‪ ،...‬و�أن المجتمع ه��و النقي‪ ،‬فلم‬ ‫يحتملوا �صراحة �سيد واوي؛ فرف�ض �أ�صحاب‬ ‫الم�آتم قراءته‪ ,‬وانتقل للعمل عند حجي عبا�س‬ ‫في بيع الخ�ضار‪ ،‬بعد �أن عطف عليه ب�سبب جوعه‬ ‫وفقره‪.)1()...‬‬ ‫�إن �شخ�صية متعددة الجوانب‪ ،‬وغنية برموز‬ ‫كثيرة ك�شخ�صية (�سيد واوي)‪ ،‬ال يمكن �أن نقول‬ ‫عنها �إنها �شخ�صية متناق�ضة مع نف�سها‪ ،‬ال من‬ ‫حيث �أق��وال�ه��ا‪ ،‬وال من حيث �أفعالها‪ ،‬بقدر ما‬ ‫يمكن �أن نقول �إنها �شخ�صية �صنعتها الظروف‬ ‫المحيطة‪ :‬اجتماعية وت��اري�خ�ي��ة واقت�صادية‬ ‫ودينية‪ ,‬و�إن الجانب الديني‪ ،‬تحديداً‪ ،‬هو العامل‬ ‫الرئي�س في بنائها وبروزها‪ ,‬حتى و�إن جعلت من‬ ‫هذا الدين �أحيان ًا و�سيلة مو�صلة لغايات دنيوية‬ ‫تعد – �أ�سا�س ًا – من الحقوق المباحة لها‪.‬‬ ‫وهذا بدليل �أنه (لم يجد مهنة �سوى الخطابة‬ ‫يقتات منها ويحفظ م��اء وجهه ب�ه��ا)!! وبدليل‬ ‫�آخر هو �أنه (انتقل للعمل عند حجي عبا�س في‬ ‫بيع الخ�ضار‪ ،‬بعد �أن عطف عليه ب�سبب جوعه‬ ‫وفقره‪� ..‬إلخ)‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫وربما كان لهذه ال�شخ�صية ن�صيب من ا�سمها‬ ‫كما تقوله الحكمة الم�أثورة في ثقافتنا العربية‪:‬‬ ‫(كل له من ا�سمه ن�صيب)‪ ،‬بحيث �إننا لو �أمعنا‬ ‫النظر في ا�سم �سيد (واوي) لوجدنا �أن ن�سبة‬ ‫ا�سمه لهذه (ال��واو) يعني لنا �أ�شياء كثيرة ذات‬ ‫�صلة وثيقة ب�شخ�صيته‪ ,‬ومعطوفة على بع�ضها‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫في (واو) العطف‪ :‬فهو رج��ل الدين‪ ,‬والخطيب �سحيلة‪ ,‬وفي يوم دخولي المدر�سة �سقط االتحاد‬ ‫الم�صقع‪ ,‬وهو المكافح �أو المثابر من �أجل اكت�ساب ال�سوفيتي‪ ..‬وبعدها �أ�صبحوا ي�سمونني ويعلقون‬ ‫(لقمة العي�ش)‪ ،‬وهو المنتقد ل�سلوكيات مجتمعه‪ .‬علي «منحا�ش بن المنحا�ش»‪.‬‬ ‫كما �أن��ه كذلك ال�سيا�سي �أو الخبير بال�ش�ؤون‬ ‫ال �أُط �ي��ل عليكم‪...‬ا�ستطعت �أن �أ� �ص��ل �إل��ى‬ ‫ال�سيا�سية‪� ...‬إلخ‪.‬‬ ‫الجامعة بعد جهد كبير لتخرجي من الثانوية‪,‬‬ ‫وفي اليوم الذي قبلت فيه بالجامعة‪ ،‬بد�أت حرب‬ ‫‪-2‬النزعة ال�ساخرة‬ ‫الخليج الثانية‪ ،‬قد تعتقدون �أني طالب مهمل حتى‬ ‫وهي �أي�ض ًا وا�ضحة تمام الو�ضوح في ن�صو�ص ت�ستمر فترة درا�ستي االبتدائية وحتى دخولي‬ ‫المجموعة‪ ,‬وهي – في الوقت ذاته – ت�سير في الجامعة‪ ،‬بطول فترة هزيمة االتحاد ال�سوفيتي‬ ‫خ� ٍ�ط م��واز للنزعة (ال��روح��ان�ي��ة) التي تلبد بها ب�أفغان�ستان‪ ،‬ول�ك��ن ت ��أخّ ��ري ال��درا� �س��ي ب�سبب‬ ‫الجو العام لهذه الن�صو�ص‪ ,‬وقد �أك�سبت الم�شهد م�ؤامرات مدر�سيّ الدين �ضدي‪ ,‬كانوا يقولون عني‬ ‫ال�سردي العام برمته �أبعاد ًا جديدة‪� ,‬أكثر عمق ًا �إمبريالي‪ ،‬وتخرّجي خطر على الأمتين العربية‬ ‫و�أو�سع ِ�آفاقاً!!‬ ‫والإ�سالمية‪!)2()...‬‬ ‫ول��وال ه��ذه النزعة – ب�صراحة – الت�سمت‬ ‫وع �ل��ى ه ��ذا ال�ن�ح��و ي�ج��د ال��ق��ارئ لن�صو�ص‬ ‫الن�صو�ص جميعها بطابع روحاني وديني بحت‪ ,‬مجموعة (�سيد واوي) خلوها من النبرة المتعالية‪,‬‬ ‫والنغلقت على نف�سها ف��ي �إط ��ار �ضيّق ي�ح�دّده والخطابية المتكلفة‪ ،‬واالنفعاالت الم�صطنعة‪،‬‬ ‫الدين وروحانيته المت�سامية‪ ,‬وطقو�سه المغرقة وانعتاقها من �أر�شيفية التاريخ القاتمة و�صراعاته‬ ‫في ت�أمالتها‪ ,‬بعيد ًا عن الواقع الح�سيّ ؛ ما يعني وجدلياته الم�ستهلكة‪ ,‬وفل�سفة الما�ضي ب��ر�ؤى‬ ‫انهماكها و���ش��روده��ا و(��س��رح��ان�ه��ا) فيما وراء مفتعلة قد ال تمتّ للحا�ضر ب�صلة‪.‬‬ ‫الطبيعة �أو الالوعي‪ ,‬وهذا ما ي�ؤدي في نهاية الأمر‬ ‫و�إن�م��ا ك��ل م��ا يجده ال �ق��ارئ‪ ،‬ه��و قيام الكاتب‬ ‫�إلى �سلخها عن واقعها الفعلي المعا�ش والمحيط‬ ‫ب�إف�ساح المجال ل�شخو�صه للتعبير ع��ن نف�سها‬ ‫بها‪ ,‬وك�أنه ال يعنيها في �شيء‪.‬‬ ‫بنف�سها‪ ،‬وع��ن مواقفها وم�شاعرها تجاه ك��ل ما‬ ‫وتت�ضح لنا هذه (النزعة ال�ساخرة) في كثير يحيط بها‪ ,‬وع��دم تدخّ له المبا�شر في ان�سيابية‬ ‫من ن�صو�ص المجموعة‪� ،‬أهمها �شخ�صية الدكتور الأح��داث وترا�سلها وت�سل�سلها‪ ،‬بحيث يحاول من‬ ‫(مقحا�ش بن منحا�ش) كما �أطلق عليه الكاتب وراء هذا كله عدم �إقحام نف�سه ور�أيه وعاطفته على‬ ‫ه��ذا اال� �س��م ال�م��رك��ب بطريقة (ك��اري�ك��ات��وري��ة) ال�شخ�صيات و�أدواره��ا الطبيعية‪ ،‬كي ال ي�ؤثر على‬ ‫�ساخرة‪�( :‬أعرفكم بنف�سي‪� :‬أنا الدكتور مقحا�ش حرية كل من هذه ال�شخ�صيات على حدة‪ ،‬ومرونتها‪،‬‬ ‫بن منحا�ش‪ ...‬ول��دت في الفريج ال�شمالي‪ .‬في والدور المخ�ص�ص لكل منها و�أهميته ال�ضرورية في‬ ‫يوم والدتي توفي عمدة القرية‪ ،‬و�أجه�ضت بقرة �أم بناء م�شهد �سردي متكامل في نهاية المطاف‪.‬‬ ‫ * كاتب من ال�سعودية‪.‬‬ ‫(‪ )1‬المجموعة‪� ,‬ص ‪� ,8‬ص ‪.9‬‬ ‫(‪ )2‬المجموعة‪� ,‬ص ‪� ,19‬ص‪..20‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪37‬‬


‫االحتدام‬ ‫ال����درام����ي‬ ‫وت�������ش���ظ���ي‬ ‫ال�����دالل�����ة‬ ‫ق��������������راءة‬ ‫ف���ي دي���وان‬ ‫«ي�����س��ق��ط‬ ‫����ش���ق���ي��� ًا»‬ ‫■ ر�شيد اخلديري*‬

‫‪38‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ن�ص‬ ‫«تتّفق �أغ��ل��ب ال��درا���س��ات النقدية على ع�� ِّد ك��لِ ٍ‬ ‫�شعريٍّ جيِّدٍ ف�ضا ًء ال متناهياً من ال��ر�ؤى‪ ،‬والإيحاءات‪،‬‬ ‫وال�صور الت�أويلية الغزيرة التي ي�صب معظمها في ب�ؤرة‬ ‫ال�����ص��راع ال��درام��ي‪ ،‬والت�شظي النف�سي‪ ،‬والت�صدع ال��ذي‬ ‫كثيراً ما تن�ش ّق بموجبه الق�صيدة �إلى �صوتين يحاور كل‬ ‫منهما الآخر»(‪)1‬؛ وهذه الأبعاد الثالثة نلم�سها في تجربة‬ ‫محمد اللغافي ال�شعرية‪ ،‬و�صلت ح�� ّد ال��ت���أزّم واالحتبا�س‬ ‫في منجزه ال�شعري الأخ��ي��ر «ي�سقط �شقيا»(‪ .)2‬ويبدو �أن‬ ‫ن�صو�ص هذه التجربة من�شغلة �أكثر بالجنوح نحو التمثل‬ ‫الدرامي‪ ،‬منفتحة على الأف��ق العدمي المعتم‪ ،‬وك�أننا �إزاء‬ ‫رحلة تراجيدية نحو كل ما هو ���س��وداوي؛ والواقع �أن ذات‬ ‫ال�شاعر مثقلة بالتفا�صيل والتوحّ د مع زمن طحلبي‪ ،‬ال ين ّم‬ ‫عن قرب االنعتاق من ب�ؤر االحتدام الدرامي‪� .‬إننا �أمام تجربة‬ ‫تنطبع ب��ر�ؤي��ا تراجيدية‪ ،‬وت��ت��رك ف��ي ذه��ن المتلقّي حالة‬ ‫من ال�شرود والإح�سا�س بالتفجع واالنك�سار‪ ،‬بدءًا بالعنوان‬ ‫«ي�سقطُ �شقياً»‪ ،‬الذي يحيل �إلى الوجه التراجيدي لل�شاعر‪،‬‬ ‫وه��و يتج�سد ف��ي التجربة ال�شعرية ككل‪ ،‬ف�ضا ًء مجازيا‬ ‫مُعتما‪ ،‬يَ�شُ ُل حركة المعنى ال�شعري‪ ،‬ويدفعه لل�سقوط في‬ ‫ال�سلبية والفو�ضى‪ ،‬وهذه التجربة ال يمكنها التجلّي خارج‬ ‫الر�ؤيا‪� ،‬أو بمعزل عن نظرة محمد اللغافي للأ�شياء‪ ،‬بل‬ ‫ت���أت��ي عاك�سة لإ���ش��ارات جنائزية‪ ،‬ف�ضال ع��ن م�صاحبتها‬ ‫لكينونة ه�شة‪ ،‬ال تقوى على التخل�ص من �سطوة الزمن‪.‬‬


‫‪ .1‬البناء الدرامي‬ ‫يمتلك ال�شاعر ب�صيرة تمكّنه من النفاذ‬ ‫�إل��ى الأ�شياء‪ ،‬ور�ؤيتها ب�شكل مغاير ومختلف؛‬ ‫«فلم يعد ذلك الملهم الذي يهبط عليه الإلهام‬ ‫ال�شعري‪ ،‬وهو في حالة �أ�شبه بالغيبوبة‪ ،‬و�إنما‬ ‫�أ�صبح عليه �أن يبذل �أخل�ص الجهد و�أ�ضناه في‬ ‫�سبيل ا�ستغالل تلك الموهبة الفذّة التي منحه‬ ‫اهلل �إياها‪ ،‬والتي تمكّنه من النفاذ �إلى �صميم‬ ‫الوجود‪ ،‬ور�ؤي��ة ما ال ي��راه ���س��واه»(‪ ،)5‬فالموهبة‬ ‫وحدها ال تفيد �شيئا‪ ،‬بل المكابدة والإح�سا�س‬ ‫بنب�ض ال��وج��ود‪ ،‬هما ال�ل��ذان يمنحان المعنى‬ ‫ال�شعري قوة في الإيحاء والتعبير ال�صادق‪ ،‬وهذا‬ ‫يخ�ص �شاعر ًا دون �آخ��ر‪ ،‬فهو ينطبق‬ ‫القول ال ّ‬ ‫على كل ال�شعراء‪� ،‬سيما �أن الق�صيدة العربية‬ ‫الآن تمر من م�آزق ومنعرجات كثيرة‪ ،‬ومحمد‬ ‫اللغافي ‪-‬كما �أ�شرنا‪ -‬تت�أ�سّ �س تجربته ال�شعرية‬ ‫على االحتدام الدرامي وت�شظّ ي الداللة‪ ،‬بُغية‬ ‫لملمة الداخل وحفظه من االنهيار‪� ،‬ضمن حركة‬ ‫ت�ستوعب كل مفارقات الذات وقلقها الوجودي‪،‬‬ ‫�أو ب�شكل �أدق «�إنها تلغي ما ي�سميه الم�صطلح‬ ‫النقدي القديم بالغر�ض‪ ،‬وت�صبح الحياة بجميع‬

‫�أبي‬ ‫يا �أبي‬ ‫ال�سماء‬ ‫تُمطر بالكاد‬ ‫وجعاً‬ ‫وعيون الكادحين‬ ‫بائ�سة‬ ‫كما‬ ‫ورقة الخريف‬ ‫ي�سقط القلب‬ ‫على عتبة الريح‬ ‫والأنباء هذا الم�ساء‬ ‫كاذبة‬ ‫لغة الحب كاذبة‬ ‫الأيام‬ ‫ومدينتي حين تبت�سم‬ ‫كاذبة‬ ‫حتى �أمي‬ ‫حين تطمئنني عن وطني‬ ‫كاذبة‬ ‫ق�صائد الأمل‬ ‫والأحالم‬ ‫والر�ؤى‬ ‫و�أنا�شيد الأطفال‬ ‫والفتات ال�سالم‬ ‫والوعود‬ ‫ومواثيق ال�سالم‬ ‫كاذبة‬ ‫يا �أبي‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫بهذا ال�سقوط في جوهر الأ�سئلة‪ ،‬تت�ضاعف‬ ‫ح��االت القلق ال��وج��ودي‪ ،‬ما ي�ستدعي «التوغّ ل‬ ‫ف��ي �أع �م��اق الن�ص‪ ،‬وا�ستبطانه وال�غ��و���ص في‬ ‫عالمه‪ ،‬من �أجل الوقوف على �أ�سراره التي لم‬ ‫يقلها المبدع �صراحة ‪-‬الم�سكوت عنه‪ -‬و�سماته‬ ‫الجمالية ال�ت��ي ق��د ال يتو�صل �إل�ي�ه��ا ال�ق��ارئ‬ ‫العابر»(‪)3‬؛ �صحيح‪� ،‬أن هذه التجربة ال�شعرية لم‬ ‫تتجاوب ب�شكل مطلق مع العالم‪ ،‬لكنها «تنطوي‬ ‫ع�ل��ى م �ب��د�أ ال�ت�ج��ري��ب ال�لام �ح��دود ف��ي اللغة‬ ‫والأ�شكال»(‪ ،)4‬وتقدم نف�سها للمتلقي في �صورة‬ ‫الح�ضور والثبات في مدونة ال�شعر الإن�ساني‪.‬‬

‫مفارقاتها مو�ضوعها ال��رئ��ي�����س»(‪ .)6‬م��ن هنا‪،‬‬ ‫تتمركز الق�صيدة ح��ول ال��ذات‪ ،‬تنطبع بنبرة‬ ‫تفجعية درامية‪ ،‬وتحاول �أن ت�ستوعب كل دالالتها‬ ‫وف��ق ر�ؤى ال���ش��اع��ر وح��رك��ة ال�ن����ص ال�شعري‬ ‫المدفوع بفعل االن�شطار الذاتي‪ ،‬يقول ال�شاعر‬ ‫في ق�صيدة «كلها‪ ..‬كاذبة يا �أبي»(‪:)7‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪39‬‬


‫يا جُ رحي الغائر‬ ‫يا عُمقي الدفين‬ ‫ما عالقة ال�صمت بن�شاز الأمكنة‪...‬؟‬ ‫نلم�س ت�صعيد ًا دراميا في كل مفا�صل هذه‬ ‫الق�صيدة‪ /‬البكائية‪ .‬البداية تت�سربل في النهاية‪،‬‬ ‫وتر�سي بنيتها �ضمن �سيرورة كبرى من الحركات‬ ‫ال�صاعدة �إلى ذروة الر�ؤيا ال�شعرية؛ ال �شيء يوحي‬ ‫ب��االن�ف��راج‪ ،‬وح��ده �صوت ال�شاعر يعلو‪ ،‬ي�صرخ‬ ‫ملء الحياة‪� :‬إن كل �شيء باطل وزائف‪ ،‬ويك�شف‬ ‫على الكثير من المفارقات التي «تحنط» ال�شعور‬ ‫ب��الأم��ل‪ ..‬ف��ي المقابل‪ ،‬تتنامى �سطوة الزمن‬ ‫وهي تع�صف بكل الأماني والأحالم والر�ؤى التي‬ ‫يحملها قلب ال�شاعر‪ ،‬وعلى ما يبدو �أن «الأب»‬ ‫برمزيته وداللته‪ ،‬يحيل على ال�صدق والمثالية‪،‬‬ ‫ف��ي مواجهة تقلبات الحياة وزي�ف�ه��ا‪ ،‬محاولة‬ ‫ر�سم �صورة قاتمة‪ ،‬و�سوداوية للوجود‪ ،‬عن طريق‬ ‫�شحذ الذاكرة ال�شعرية بتوجهات درامية على‬ ‫�شكل �صراع بين الذوات‪� ،‬إنها ق�صيدة تروم بناء‬ ‫الطباقات عبر ا�ستدعاء َنف ٍَ�س �شعري ت�سل�سلي‪،‬‬ ‫ينتقل بالمعنى ال�شعري من �ضدٍ �إلى �آخ��ر‪ ،‬من‬ ‫دون �شعور بالرتابة‪ ،‬بل يتحرك وفق �إيقاع منتظم‬ ‫ومنظم لكل ال�صور والجمل وال� ُب�ن��ى الن�صية‬ ‫والجمالية‪ ،‬داخل ت�صعيد درامي يعلو ويتقدم �إلى‬ ‫الأمام‪ ،‬حتى يتك�سر على عتبات ال�صمت كو�سيلة‬ ‫احتجاج وتمرّد على تناق�ضات الحياة‪.‬‬ ‫«لقد ح��اول ال�شاعر �أن يجعل م��ن تجديد‬ ‫التجربة وعنا�صرها الإبداعية طريقا لكل كتابة‬ ‫�شعرية‪ ،‬وه��ذا يعني �أن��ه ح��اول �أن يفتح كتابته‬ ‫تلك على مجاالت هام�شية بالن�سبة للمو�ضوعات‬ ‫التي باتت م�ستهلكة بكثرة من طرف العديد من‬ ‫ال�شعراء»(‪.)8‬‬ ‫‪40‬‬

‫وال�ق��ول بذلك يحيل �إل��ى �سياقات الكتابة‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ال�شعرية عند محمد ال�ل�غ��اف��ي‪ ،‬فهي ت�ستمد‬ ‫طاقاتها التعبيرية من هواج�س القلق الوجودي؛‬ ‫وك�أي تجربة‪ ،‬ال بد لها من جذور �إبداعية ت�ستند‬ ‫عليها في عملية الوالدة والتوالد‪ ،‬فهي الموجّ ه‬ ‫والم�ؤ�س�س للحياة والكتابة‪ .‬من هذه الت�صورات‬ ‫يعجن ال�شاعر معاني الق�صيدة ب�ع�ي��د ًا عن‬ ‫ال�سقوط في �سلبية االجترار والمحاكاة‪ ،‬بل عن‬ ‫وعي متجذر بقيمة الوالدة ال�شعرية‪« ،‬فال�شاعر‬ ‫هو حار�س الأ�شياء المفقودة»(‪ ،)9‬ومن ثم‪ ،‬ف�إنه‬ ‫مطالب بتجاوز الخطابات التقليدية‪ ،‬والبحث‬ ‫ع��ن تجديد ال�صلة ب��ال��ذات‪ ،‬وت�ح��ري��ره��ا من‬ ‫الجمود والعتمة‪.‬‬ ‫لكن هذه الأبعاد الجديدة التي ي�صر محمد‬ ‫اللغافي على ا�ستنباتها في ف�ضاءاته ال�شعرية‪ ،‬ال‬ ‫ينبغي لها التقوقع والتمركز في تيمة واحدة‪ ،‬بل‬ ‫هو معنيٌّ في البحث لها عن �آفاق خارج الذات‪،‬‬ ‫و�إن بدا الأمر �صعبا‪ ،‬نظر ًا لأن التجربة ال�شعرية‬ ‫ال�شخ�صية لها ارتباط وثيق بهواج�س ال��ذات‬ ‫وت�صدعاتها؛ و�إذاً‪« ،‬فالوعي بهذا ال�شرط هو‬ ‫وعي باالنقالبات الكبرى التي حدثت في الن�ص‬ ‫ال�شعري‪ ،‬والقلب المعرفي �أو ال�شعري الكبير‬ ‫الذي حدث في الكتابة ال�شعرية المعا�صرة»(‪،)10‬‬ ‫فقد كان لهذا ال�سقوط في بنية تفجعية درامية‬ ‫�أث��ر ف��ي ال ��والدات الأول ��ى؛ �صحيح �أن�ه��ا كانت‬ ‫خافتة مقارنة مع الديوان الأخير‪� ،‬إال �أنها تنبئ‬ ‫المتلقي بح�ضور ال�سقوط في وعي ال�شاعر‪ ،‬لكنه‬ ‫يحمل �صورة للمبدع الإن�ساني والتراجيدي؛ ففي‬ ‫ت�صوري‪ ،‬ال يمكن للمعنى ال�شعري �أن يكتمل من‬ ‫دون �إح��داث ارت�ج��اج في بنية ال��ذات‪ ،‬ورف�ض‬ ‫م�سلماتها ونظرتها للعالم والأ�شياء‪ .‬وال��ر�ؤى‪،‬‬ ‫وال ريب �أن الق�صيدة عند محمد اللغافي تعي�ش‬ ‫داخل بنية من التفتّت والتال�شي‪ ،‬وبموجب ذلك‬


‫يتعلق الداخل ‪�-‬ضمنيا‪ -‬بالت�شكل الدرامي‬ ‫للق�صيدة‪ ،‬بتعبير �آخر يمكن القول �إنها المدار‬ ‫ال��ذي تتحرك فيه �أغ�ل��ب ن�صو�ص المجموعة‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬فهذه المكت�سبات لم تكن وليدة اليوم‪،‬‬ ‫ب��ل لها �إره��ا��ص��ات �أول��ى ف��ي المتون ال�شعرية‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬وال�ت��ي ‪ -‬كما قلنا‪ -‬يت�أ�س�س عليها‬ ‫التحوّل وال�ت��درج في البناء ال��درام��ي‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�إل��ى ذل��ك‪ ،‬فال�شاعر يجهر بهذا التفتت الذي‬ ‫ي�صاحبه على م��دار تجربته ال�شعرية‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«فلتجهر كل ال��وح��دات‪ ..‬كل القيا�سات‪ ..‬كل‬ ‫العوالم المنك�سرة‪ ..‬المن�شطرة‪ ..‬كل الأفواه التي‬ ‫ال لجام لها‪ ..‬لتجهر‪ ..‬بانتكا�سة �أول حلم‪،)12(»...‬‬ ‫وال��واق��ع‪�« ،‬أن ال�شعر ال يمكن �أن ين�ش�أ في ظل‬ ‫راحة البال والطم�أنينة»(‪ ،)13‬و�إنما من عذابات‬ ‫تختزل بكاء الروح و�أنين ال�صدر‪.‬‬

‫هنا كل حركة لها قيمتها الداللية والبنائية‬ ‫والجمالية‪ ،‬منذ البدء حتى النهاية‪ :‬الهدم ثم‬ ‫البناء‪ ،‬وهذه ال�صور تتنا�سل معلنة تلك العذابات‬ ‫التي يعي�شها ال�شاعر وهو يقتفي �أثر امر�أة عبر‬ ‫ممرات الحلم‪ ،‬وا�ضح �أن «ال�شاعر ال يرى المر�أة‬ ‫مخلوقة من لحم ودم و�أع�صاب‪ ،‬و�إنما يراها‬ ‫�سبيكة نورانية �صاغتها المقادير وفقا للجوامح‬ ‫من �أهوائه ال�ساميات»(‪ ،)15‬لكن لماذا هذا العزف‬ ‫على وتر التفجّ ع والحزن‪ ،‬حتى في �أكثر اللحظات‬ ‫انفراجا؟ �سبب ه��ذه الظاهرة ‪-‬ف��ي ت�صوري‪-‬‬ ‫راج��ع لبنية داخلية ه�شة‪ ،‬م�صابة ب�شرخ كلي‬ ‫وب�أعطاب التف�سخ والتفتت‪ ،‬ودوما هناك فراغات‬ ‫في الذات ال يقدر على ملئها لأنها وُلدت مملوءة‬ ‫بالعذابات والفواجع‪ ،‬يقول ال�شاعر(‪:)16‬‬

‫‪ .2‬ت�صدع الداخل‬

‫�إن�ن��ا �أم��ام منطق تنطلق منه ك��ل الدفقات‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬يمد ال�شاعر بالتوتّر والتوهّ ج‪ ،‬حتى‬ ‫تتحول الطاقة التي تنمو في الداخل �إلى مدارات‬ ‫تتحرك فيها ال���ص��ور والكلمات والأ� �ص��وات‪،‬‬ ‫وي�ع�ن�ي�ن��ا ه�ن��ا ف��ي ه ��ذا ال �� �س �ي��اق‪� ،‬أن يرتبط‬ ‫المعنى ال�شعري عند محمد اللغافي بحاالت‬ ‫من التال�شي واالغتراب والهدم‪ ،‬ثم بناء على‬ ‫الأن�ق��ا���ض‪ ،‬لكنه بناء م��دف��وع بجدلية الكائن‬ ‫والممكن‪ ،‬بالواقع والحلم‪ ،‬بو�صايا نا�سك في‬ ‫هيكل الق�صيدة‪ ،‬يقول ال�شاعر في ق�صيدة»‬ ‫�أقتفي �أثرا ما‪:)14(»....‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫تر�سم لنف�سها م�سارا من الحلم واالغ�ت��راب‪،‬‬ ‫وتظل خا�ضعة لبناء درامي يحدد ا�شتراطاتها‬ ‫وم�صيرها؛ فهي «ما فتئت تن�سف هذا ال�صرح‬ ‫ال�شامخ من الداخل‪ ،‬م�ؤ�س�سة قيمها ومنظوراتها‬ ‫في محاولة الإجابة عن �أ�سئلة جديدة»(‪.)11‬‬

‫«تهدمين ما بداخلي من معابد»‬ ‫و�أنا‬ ‫�أ�شيد فيك معبدي‬ ‫�أقتفي �أثراً‬ ‫ترك و�شمه على ج�سد م�ضرج‬ ‫في دمه»‬

‫فاتنة �أنت‬ ‫مقبلة على كل تفا�صيل الحب‬ ‫و�أنا كهل‬ ‫يعد ج�سدي تفا�صيل خيباته‬ ‫فاتنة �أنت‬ ‫و�أنا �أ�سكن ج�سداً �أثريا‬ ‫يمتد الطين يائ�سا‬ ‫بيني وبينك‬ ‫يتف�صد حزني‬ ‫يمتد ع�شقي الجنوني‪.‬‬ ‫‪ .3‬اللغة والمق�صدية‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪41‬‬


‫تعامل محمد اللغافي مع‬ ‫اللغة في ق�صائده بمنطق‬ ‫يتالءم مع الأبعاد الداللية‬ ‫والبنائية‪ ،‬فهو قد اختارها‬ ‫وفق ر�ؤيته وتجربته؛ فاللغة‬ ‫كما يقول �أدوني�س «لي�ست‬ ‫ملك ال�شاعر‪ ،‬لي�ست لغته‬ ‫�إال ب �ق��در م��ا يغ�سلها من‬ ‫�آث ��ار غ �ي��ره‪ ،‬وي�ف��رغ�ه��ا من‬ ‫ملك ال��ذي��ن امتلكوها في‬ ‫الما�ضي‪ ،‬وبما �أن المبدع‬ ‫يتحدد بالر�ؤيا واال�ستباق‪،‬‬ ‫ف� ��إن ال�ل�غ��ة ال�شعرية التي‬ ‫ي�ستخدمها ال تكون لغته �إال بقدر ما يفرغها‬ ‫من ما�ضيها‪ ،‬وي�شحنها بالم�ستقبل‪ ،)17(».‬ومن‬ ‫هذا المنطلق‪ ،‬ن�ستطيع القول �إن محمد اللغافي‬ ‫يمتلك �أ�سلوبا �شعريا يمتح لغته م��ن معجم‬ ‫خ��ا���ص ب��ه‪ ،‬فهو عك�س ‪ -‬ع�ب��دال�ه��ادي رو�ضي‬ ‫مثال‪ -‬ال يبحث عن الف�سيف�ساء اللغوي‪ ،‬بقدر‬ ‫ما ي�ستخدم لغة ب�سيطة‪ ،‬لكنه ي�شحنها لحظة‬ ‫�إبداعه ب�سمات �أ�سلوبية‪ -‬تفجرية‪ ،‬انطالقا من‬ ‫ثقافته ومقروئيته ومناخه؛ وهذا ال يعني تردد‬ ‫معجم �شعري بعينه‪ ،‬بل راهن على تعدد الروافد‬ ‫اللغوية‪ ،‬بما يخدم داللة المعنى ال�شعري‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫وب���ال���رج���وع �إل����ى دي�����وان «ي�����س��ق��ط ���ش��ق��ي��ا»‪،‬‬ ‫�سنلحظ هيمنة م��ف��ردات ال�ق�ل��ق وال�ت���ص��دع‬ ‫واالغ����ت����راب‪�( :‬أت�����ش��ظ��ى‪ -‬ي��ت��ف��ت��ت‪ -‬تمت�ص‪-‬‬ ‫تتفتق‪ -‬ينق�شع‪ ،)...-‬وه��ي �أف�ع��ال ت�شير �إل��ى‬ ‫هذا االحتدام الدرامي الذي ي�شكل ب�ؤرة المعنى‬ ‫ال�شعري‪ ،‬مع �أن بنية الأفعال هنا تتخلى نهائيا‬ ‫عن وظائفها الم�ألوفة‪ ،‬لتقوم بالربط بين الذات‬ ‫ودالالت الن�ص ال�شعري؛ �إنها تت�صاعد‪ ،‬وتتناغم‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫مع ا�شتراطات الق�صيدة‪،‬‬ ‫فت�صبح م�سرحا لحركات‬ ‫ت��وال��د م�ستمر‪ ،‬ف�ضال عن‬ ‫انخراطها في حركة الإيقاع‬ ‫ال��داخ��ل��ي؛ وت �ب �ع��ا ل��ذل��ك‪،‬‬ ‫ت�صير اللغة ال�شعرية نظاما‬ ‫ناقال لالنفعال والتجربة‬ ‫والر�ؤيا‪� .‬صحيح �أن ال�شعرية‬ ‫الجديدة‪ ،‬الذت بالفراغات‬ ‫ون� �ق ��ط ال � �ح� ��ذف‪� ،‬أو م��ا‬ ‫ي�صطلح عليه ب��ـ «�شعرية‬ ‫البيا�ض»‪� ،‬إال �أن ذل��ك‪ ،‬ال‬ ‫يعني التخلّي عن اللغة‪ ،‬ففي‬ ‫«كل ق�صيدة عظيمة ق�صيدة ثانية هي اللغة»(‪،)18‬‬ ‫ومحمد اللغافي راهن على «بالغة البيا�ض» كلغة‬ ‫ثانية‪ ،‬ف�أكثر من نقط الحذف‪ ،‬كو�سيلة ل�ضبط‬ ‫ال��داخ��ل‪ ،‬و�أخ ��ذ نف�س تجديد اللغة ال�شعرية‪،‬‬ ‫�سيما �أن توالي الم�شاهد الدرامية تفر�ض نوعا‬ ‫م��ن ال�ه��دن��ة م��ع ال� ��ذات‪ ..‬ح�ت��ى ت�ن��دف��ع دالالت‬ ‫الن�ص نحو الأم��ام بتدفق ومق�صدية‪ ،‬ذلك «�أن‬ ‫لكل كتابة ق�صد ترمي �إليه‪ ،‬ولكل ق�صد و�سائل‬ ‫و�أ�ساليب توظف لإظهاره‪ ،‬و�إذا كان الق�صد غير‬ ‫معطى‪ ،‬و�إن�م��ا يحتاج �إل��ى بناء وت��أوي��ل و�إع��ادة‬ ‫ترتيب من قبل القارئ‪ ،‬ف�إنه يحتاج دائم ًا �إلى‬ ‫معنى �أولي على قدر من الو�ضوح لتكون عمليات‬ ‫القارئ‪ -‬البناء والت�أويل‪ -‬منتجة وفعالة‪ ،‬و�إال ف�إن‬ ‫الكتابة حين تجافي الو�ضوح تقترب من العدم‪،‬‬ ‫بل ت�صير مرادفة ل���ه»(‪ ،)19‬وعلى هذا الأ�سا�س‬ ‫ت�صير اللغة منفى‪ ،‬وال وج��ود لها ف��ي الحدود‬ ‫الأدائية والجمالية‪ ،‬ومحمد اللغافي يحر�ص ‪-‬‬ ‫كل الحر�ص‪ -‬على �إلبا�س المعنى بما يقت�ضيه‬ ‫ال�سياق‪ ،‬حتى يتمر�أى في التجربة الذاتية‪ ،‬ف�ضال‬ ‫عن هذا كله‪ ،‬فال�شاعر ال ينجرف مع اللغة كمكوّن‬


‫ال ت�ستطيع الق�صيدة عند محمد اللغافي �أن‬ ‫تجيب عن هواج�س الكتابة والقلق الوجودي‪،‬‬ ‫بعيد ًا ع��ن ه��ذه اللغة ال�ت��ي تمتح م��ن اليومي‬ ‫والنب�ش في التفا�صيل‪ ،‬فهو يجد نف�سه مرغما‬ ‫على رك��وب ه��ذه اللغة لأنها تك�شف عن خبايا‬ ‫ال���روح‪ ،‬وت�سهم ف��ي بناء �إي��ق��اع �شعري يتتالي‬ ‫وي�ت�ج��اوب م��ع ال ��ر�ؤى وح ��االت ال�صخب ت��ارة‪،‬‬ ‫وال�سكون ت��ارة �أخ��رى‪ ،‬رغ��م �أن ال�شاعر يبدو‬ ‫م��دف��وع��ا بفعل الت�شظي وال��ت�����ص��دّع وال�سفر‬

‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )1‬بهاء بن نوار‪ ،‬الكتابة وهاج�س التجاوز‪� ،‬ص ‪.217‬‬ ‫(‪ )2‬محمد اللغافي‪ ،‬ي�سقط �شقيا‪ ،‬مطبعة انفو برانت‪ -‬فا�س‪ -‬ط ‪2012.2 ،1‬م‪.‬‬ ‫(‪� )3‬صبري م�سلم‪ ،‬النبرة ال�شعرية في الق�صيدة العربية المطلقة ‪-‬ق�صيدة النثر في تناول جديد‪ -‬مجلة‬ ‫الرافد‪ ،‬عدد فبراير ‪2014‬م‪� ،198 ،‬ص ‪.62‬‬ ‫(‪� )4‬سلمان قا�صد‪ ،‬ق�صيدة النثر‪� ،‬ص ‪.45‬‬ ‫(‪ )5‬علي ع�شري زايد‪ ،‬عن بناء الق�صيدة العربية الحديثة‪� ،‬ص ‪.12‬‬ ‫(‪ )6‬محمد لطفي اليو�سفي‪ ،‬في بنية ال�شعر العربي المعا�صر‪� ،‬ص ‪.44‬‬ ‫(‪ )7‬ديوان ي�سقط �شقيا‪� ،‬ص ‪.78 -77‬‬ ‫(‪ )8‬من�صف عبدالحق‪ ،‬بع�ض رموز الوالدة ال�شعرية عند �إدري�س عي�سى‪ ،‬العلم الثقافي‪ ،‬عدد ‪ 17 ،929‬يونيو‬ ‫‪1989‬م‪.‬‬ ‫(‪ )9‬خالد النجار‪� ،‬سراج الرعاة‪ -‬حوارات مع كتاب عالميين‪� ،-‬ص ‪.81‬‬ ‫(‪� )10‬صالح بو�سريف‪ ،‬ملف حول» ال�شعر المغربي الحديث غزارة الإنتاج وهزالة التلقي‪� ،‬إعداد دالل ال�صديقي‪،‬‬ ‫جريدة ال�صباح‪ ،‬عدد ‪.1123‬‬ ‫(‪ )11‬قراءة في الخطاب الميتا لغوي عند �أدوني�س‪ -،‬ر�سالة جامعية‪� -‬إعداد‪ :‬عالل الحجام‪ ،‬الملحق الثقافي‪-‬‬ ‫جريدة الإتحاد اال�شتراكي‪ ،-‬العدد ‪.289‬‬ ‫(‪ )12‬توطئة «لم يكن بيدي»‪ ،‬الديوان نف�سه‪� ،‬ص ‪.05‬‬ ‫(‪� )13‬أحمد ملحم‪ ،‬التجني�س في ال�شعر‪ ،‬مجلة الرافد‪ ،‬عدد مار�س ‪2014‬م‪� ،‬ص ‪.64‬‬ ‫(‪ )14‬الديوان نف�سه‪� ،‬ص ‪.07‬‬ ‫(‪ )15‬زكي مبارك‪ ،‬الع�شاق الثالثة‪ ،‬من�شورات المجلة العربية‪ ،‬العدد ‪� ،442‬شتنبر ‪� .2013‬ص ‪.18‬‬ ‫(‪ )16‬الديوان نف�سه‪ ،‬نف�س الق�صيدة‪� ،‬ص ‪.09 -08‬‬ ‫(‪� )17‬أدوني�س‪ ،‬زمن ال�شعر‪� ،‬ص ‪.78‬‬ ‫(‪ )18‬نقال عن ظواهر ن�صية‪ ،‬نجيب العوفي‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬البي�ضاء‪ ،‬ط ‪1992 ،1‬م‪� ،‬ص ‪.23‬‬ ‫(‪ )19‬محمد عدناني‪ ،‬بنية اللغة في الم�شهد ال�شعر المغربي الجديد‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬المجلد ‪ ،34‬عدد يناير‪-‬‬ ‫مار�س‪� ،‬ص ‪.119‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫جمالي‪ ،‬و�إنما تظل محكومة بدرجة الأداء داخل‬ ‫�سياقات �إنزياحية وت�أويلية‪.‬‬

‫التراجيدي �إلى عوالم الكتابة‪ ،‬ووا�ضح‪� ،‬أن هذه‬ ‫التجربة يتداخل فيها ال�شخ�صي بال�شعري في‬ ‫توحّ د مطلق مع ال��ذات‪ ،‬وتوحي بنزر قليل من‬ ‫الأم��ل‪ ،‬مقابل ح�ضور مفارقات حياتية‪ ،‬ترخي‬ ‫بظاللها على نف�سية ال�شاعر‪ .‬ومهما يكن‪ ،‬ف�إن‬ ‫ال�شاعر محمد اللغافي تجربة �شعرية ال يمكن‬ ‫التقافز عليها في الم�شهد ال�شعري المغربي‪،‬‬ ‫لأنها ولدت من الجوهر الوجودي للذات‪ ،‬فكان‬ ‫«ي�سقط �شقيا» ديوانا �شعريا مليئا بالطاقات‬ ‫والأح�لام وال��ر�ؤى‪ ،‬وي�ستح�ضر بع�ضا من جنون‬ ‫ال�شاعر وطقو�سه ف��ي مواجهة �سطوة الزمن‬ ‫وتقلّبات الحياة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪43‬‬


‫ق�������ض���اي���ا‬ ‫وه������م������وم‬ ‫ال�����ح�����ي�����اة‬ ‫االجتماعية‬ ‫في فن الق�صة‬ ‫الخلـيـجـيــة‬ ‫■ م�صطفى حممد علي ال�صويف*‬

‫‪44‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫تميّز ف��ن ال��ق��� ّ��ص ف��ي دول الخليج ع��م��وم��اً بالتنوّع‬ ‫والتطور من حيث الأ�شكال الفنية وتقنيات الق�ص �أو‬ ‫الم�ضامين الإن�سانية واالجتماعية‪ ،‬وقد ت�أثّر هذا الفن‬ ‫الأدبي �إلى ح ٍّد كبير بالمتغيرات والتطورات االجتماعية‪،‬‬ ‫واالقت�صادية‪ ،‬وال�سيا�سية‪ ،‬في دول الخليج التي ت�سارعت‬ ‫وتيرتها ب�شكل كبير‪ ..‬وبخا�صة بعد اكت�شاف النفط‪.‬‬ ‫وهذه المتغيّرات �أخ�ضعت الآداب والفنون والثقافة �إلى‬ ‫م���ؤث��رات ق�سرية دفعها �إل��ى محاولة اللحاق بالمتغيرات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ومواكبتها في الأ�شكال الفنية‪� ،‬أو الم�ضامين‬ ‫االجتماعية‪ ،‬حتى ت�ستطيع �أن ت�ضيّق الهوة التي حدثت بين‬ ‫المتغيرات المادية ال�سطحية في المجتمع وبين الحالة‬ ‫الثقافية والعلمية ال�سائدة‪...‬‬ ‫يمتلك الفن الق�ص�صي وظيفة فنيّة �إبداعية واجتماعية‬ ‫ه��ادف��ة‪ ،‬بحيث ي�ستطيع م��ن خ�لال تقنيات فنية‪ ،‬ون�سيج‬ ‫����س���ردي م��ح��ك��م‪ ..‬ت��ق��دي��م �أخ���ط���ر ال��ق�����ض��اي��ا ال��ح��ي��ات��ي��ة في‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫والم�ضامين االجتماعية للق�ص الق�صير في الخليج‬ ‫ارت��ب��ط��ت ب�شكل وث��ي��ق بالمتغيرات وال��ت��ط��ورات ال��م��ادي��ة‬ ‫الحديثة للمجتمع؛ فعبرت ه��ذه الم�ضامين عن هموم‬ ‫�أف��راده ومعاناتهم‪ ،‬وطموحاتهم الم�شروعة ب�شكل مركّز‬ ‫ومعبر بو�ضوح‪ ،‬وذلك من خالل ال�سمات التي ات�صف بها‬ ‫هذا الفن والتي يمكن �إيجازها بالحاالت الآتية‪:‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ارتباط الفن الق�ص�صي �أ�سا�س ًا بالواقع الحياتي‬ ‫والمعاي�شة اليومية للإن�سان الخليجي‪ ،‬زادت من ارتباط‬ ‫المتلقي بهذا الفن‪ ،‬وجعلته يتابعه باهتمام بالغ‪ ،‬ور�سخّ ت‬ ‫لديه قناعة قوية وثيقة بهذا الفن‪.‬‬ ‫رواب��ط الفن الق�ص�صي الوثيقة والع�ضوية بالبيئة‬ ‫المحلية مكّنت القا�ص �أن يعبّر بو�ضوح وفعالية عن‬ ‫معاناته وانفعاالته بم�ؤثرات و�صور بيئة الحياة المحلية‪.‬‬ ‫ا�ستخدام الق�صا�ص للغة ال�سرد الق�ص�صي الب�سيطة‬ ‫ومفرداتها‪ ،‬وم�صطلحاتها من البيئة المحلية جعلها‬ ‫�أق��در على تو�صيل ر�ؤي��ة القا�ص الفكرية والإب��داع�ي��ة‬ ‫للمتلقي‪ ،‬وكانت �أدق في التعبير عن تف�صيالت مواقفه‬ ‫االجتماعية‪.‬‬ ‫واللغة ال�سردية الق�ص�صية يمكنها �أن ت�شمل �أيَّ‬ ‫مو�ضوع اجتماعي في الحياة‪ ،‬فال�شخ�صيات الق�ص�صية‬ ‫ين�سجها الكاتب من الواقع كنماذج �إن�سانية‪ ،‬مهمومة‬ ‫دائما بق�ضايا الحياة االجتماعية و�صراعاتها اليومية‬ ‫و�إرها�صاتها‪.‬‬ ‫ورغم غلبة ال�سرد الق�ص�صي التقليدي على معظم‬ ‫التجارب الق�ص�صية والخطاب التقريري المبا�شر‪,‬‬ ‫فما ت��زال التجربة الإب��داع�ي��ة المحلية قيد الإن�ج��از‪،‬‬ ‫وتحتاج �إلى الوقت لتن�ضج معالمها‪ ,‬وتت�ضح اتجاهاتها‪,‬‬ ‫وتتطور م�ضامينها‪ ,‬وترتقي ب�أ�شكالها و�أ�ساليبها الفنية‬ ‫المتطورة‪.‬‬ ‫وق��د ظ�ه��رت م ��ؤخ��ر ًا ف��ي ال�ساحة الأدب �ي��ة تجارب‬ ‫ق�ص�صية مبدعة‪ ،‬قطعت مراحل بعيدة في هذا المجال‪,‬‬ ‫وت �ج��اوزت الأط ��ر المحليّة �إل��ى م�ضامين اجتماعية‬ ‫و�إن�سانية ذات ت�شكيالت فنية ق�ص�صية حديثة‪ ،‬نذكر‬ ‫منها تجربة الأدباء‪ :‬محمد ح�سن الحربي‪ ،‬محمد المر‪،‬‬ ‫عبدالرحمن ال�سجواني‪ ،‬ليلى �أحمد‪...‬‬ ‫وقد تعر�ضت الن�صو�ص الإبداعية الق�ص�صية للكتاب‬ ‫في الخليج �إلى �أهم مو�ضوعات الهموم االجتماعية التي‬ ‫يعي�شها ويعاني منها المجتمع الخليجي ومنها‪:‬‬ ‫�أوالً‪ :‬ق�ضية ال�سحر وال�شعوذة‪ :‬هذه الظاهرة التي‬ ‫ارتبطت عموم ًا بالجهل وقلة الوعي‪ ،‬وغياب العلم الذي‬

‫�أعطى م�ساحة مهمة لهذه الم�ؤثرات الغيبية �أن تلعب دور ًا‬ ‫مهم ًا في الحياة االجتماعية‪ ،‬وت�شكل ظاهرة متخلفة عن‬ ‫ركب التطور الح�ضاري‪ ،‬مع ما تخلفه من م�ؤثرات �سلبية‬ ‫على عالقة الأف��راد في المجتمع‪ ،‬لذلك نلحظ �أن هذه‬ ‫الظاهرة تحتل م�ساحة مهمة في الن�صو�ص الق�ص�صية‬ ‫للمبدعين عند غالبية الق�صا�صين الخليجيين بم�ستويات‬ ‫متعددة منها‪:‬‬ ‫القا�صة با�سمة يون�س في ق�صة «ا�ستغاثة» تمزج بين‬ ‫واقع وم�شكالت الحياة الزوجية‪ ،‬وق�ضية عدم الإنجاب‪،‬‬ ‫وممار�سة ال�سحر وال�شعوذة التي ت�ؤدي �إلى تفكك الأ�سرة‪،‬‬ ‫وتوتر العالقات الزوجية وتزيد عذابات الزوجين‪.‬‬ ‫وال��ق��ا���ص محمد ال��م��ر ي��م��زج كثير ًا بين الظواهر‬ ‫ال�سحرية غير المعقولة وبين الواقعية الفنية‪ ،‬في�ستخدم‬ ‫الرمز في التعبير عن اله ّم االجتماعي كما في ق�صة‬ ‫«ال���دب المو�سيقي»‪ .‬والقا�صة �سلمى مطر �سيف في‬ ‫ق�صتها «هاجر»‪ ،‬ت�ستخدم عوالم الجن ال�سحرية في خلق‬ ‫�أج��واء الفرح‪ ،‬وال�سعادة في حياة الأ��س��رة‪ ..‬من خالل‬ ‫ت�أثيرها على الزوج الذي يت�سم بعدم االتزان النف�سي‪...‬‬ ‫ثانياً‪ :‬العالقات االجتماعية والزوجية في الأ�سرة‬ ‫التي �أ�صبحت ت�شكل هاج�س ًا كبير ًا عند الق�صا�ص‪،‬‬ ‫خا�صة بعد التطورات المادية الهائلة‪ ،‬وارتفاع م�ستوى‬ ‫المعي�شة للأ�سرة‪ ،‬وبعد ات�ساع الهوة الثقافية والعلمية‬ ‫بين الرجل والمر�أة‪ ،‬وبروز طموحات جديدة للرجل في‬ ‫تعدّد الزوجات‪.‬‬ ‫و�أ��ص�ب��ح كثير م��ن ال �ع��ادات والتقاليد والمفاهيم‬ ‫التقليدية ال�سائدة يخلّف معاناة م��ري��رة للمر�أة في‬ ‫العالقة الزوجية �ضمن الأ�سرة‪ ،‬ومع الرجل تحديداً‪ .‬وقد‬ ‫عبّرت عن هذه المعاناة ب�شكل وا�ضح مث ًال القا�صة �سلمى‬ ‫مطر �سيف ف��ي ق�ص�صها خا�صة «ه��اج��ر وال�صندوق‬ ‫الأ�سود»‪ .‬والقا�صة �شيخة الناخي ت�صور في ق�ص�صها‬ ‫الرجل �إيقاع ًا درامي ًا تعي�ش تحت وط�أته المر�أة‪ ،‬وتعاني‬ ‫من �ضجيجه‪ ،‬والعالقة بين الرجل والمر�أة عندها دائما‬ ‫�ضحيتها المر�أة‪.‬‬ ‫�أما القا�صة �أميمة الخمي�س فق�ص�صها تزخر ب�صور‬ ‫و�شكيات من �ضياع ومعاناة المر�أة‪ ،‬ومن النظرة الدونية‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪45‬‬


‫للرجل الذي يمثل �سلطة المجتمع‪.‬‬ ‫والقا�صة بدرية الب�شر ت�صور �أي�ض ًا في ق�ص�صها‬ ‫� �ص��ورة ال �م��ر�أة الم�سحوقة دائ �م � ًا نتيجة ال�ت�ح�وّالت‬ ‫االجتماعية التي يقودها الرجل المت�سلط والمتربع على‬ ‫عر�ش ال�سلطة منذ القِدم‪.‬‬ ‫والقا�صة �شريفة ال�شمالن تبرز قي ن�صو�صها معاناة‬ ‫المر�أة من المتغيرات ال�سطحية التي حدثت في المجتمع‬ ‫التي ت�ستهلك المر�أة وت�سحقها �شيئ ًا ف�شيئاً‪.‬‬ ‫�أما القا�صة فاطمة يو�سف العلي في «تاء مربوطة»‪،‬‬ ‫فهي ت�صور العالقة الت�صادمية والمتوتّرة دائم ًا بين‬ ‫ال��رج��ل وال� �م ��ر�أة؛ ف��ال��م��ر�أة م��ن وج��ه��ة نظرها تعاني‬ ‫با�ستمرار من قهر ال��رج��ل‪ ،‬وه��ي ت��رى فيه الم�ضطهد‬ ‫الأبدي للمر�أة‪ ،‬وفي ق�صة «وجهها وطن» تعالج الكاتبة‬ ‫ت�سلط ال��رج��ل‪ ،‬وم�شكلة ت�ع��دد ال��زوج��ات‪ .‬وف��ي ق�صة‬ ‫«ال��ب��وم��ة»‪ ،‬تعر�ض لهموم ال �م��ر�أة م��ن خ�لال ظاهرة‬ ‫العنو�سة‪ ،‬لكن بحوارات هزلية ولغة دارجة‪.‬‬ ‫�أما العالقات االجتماعية عموم ًا بين الرجل والمر�أة‪،‬‬ ‫فقد ب��د�أت ت�أخذ مكانتها‪ ،‬لكن ببطء �شديد كنتيجة‬ ‫للتطور االجتماعي‪ ،‬وق�ضية التحرر من تبعية الرجل‬ ‫والمر�أة للتقاليد‪ ،‬والأعراف ال�سائدة‪ ،‬بقي يتردد �صداه‬ ‫على ا�ستحياء‪ ،‬خا�صة ل��دى ال�ق��ا��ص��ات‪ ،‬فقد تميزن‬ ‫بالمواربة وعدم الت�صريح عند الحديث عن العالقات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬با�ستثناء القا�صة ظبية الخمي�س التي تميز‬ ‫طرحها بالجر�أة وال�شجاعة والمواجهة‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬وق�ضية الموت تحتل م�ساحة مهمة في ن�صو�ص‬ ‫الكتاب‪ ،‬فهو القدر ال��ذي يالحق الجميع دون ا�ستثناء‬ ‫ودون ا�ستئذان‪ ،‬والذي يخلف الآالم والأح��زان المريرة‬ ‫من الفراق والفقد‪ ،‬لكن عموم ًا يتم طرحه �ضمن ر�ؤية‬ ‫فل�سفية للحياة والإي�م��ان والقدر كما نرى في ق�ص�ص‬ ‫محمد المر «�أم�سيات على ر�صيف ه��ادئ»‪ ،‬وق�ص�ص‬ ‫�سلمى مطر �سيف في «اليقظة الأخ��ي��رة»‪ ،‬التي تختار‬ ‫بط ًال لق�صتها رج ًال يعاني ال�ضياع والخوف والكوابي�س‬ ‫و�إرها�صات الموت‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫* كاتب من �سوريا مقيم في الأردن‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫وع �م��وم��ا ك��ان��ت ال �ه �م��وم وال �م �ع��ان��اة االج�ت�م��اع�ي��ة‬ ‫ومو�ضوعاتها واحدة وم�شتركة بين غالبية الق�صا�صين‬ ‫والمبدعين في الخليج؛ فهم يعي�شون ذات البيئة والواقع‬ ‫والمعطيات والنتائج‪ ..‬غير �أن المعالجات والأ�ساليب‬ ‫الفنية في العر�ض كانت متعدّدة‪ ،‬ومختلفة ومتنوّعة‬ ‫من قا�ص �إل��ى �آخ��ر‪ ،‬كما تنوّعت ال��ر�ؤي��ة والم�ضامين‬ ‫والم�ستويات بين العمق وال�سطحية والوعي‪ ،‬والمبا�شرة‬ ‫كما نرى في النماذج الإبداعية االتية‪:‬‬ ‫فاطمة محمد في مجموعتها «�آث��ار على النافذة»‪،‬‬ ‫ي�سيطر عليها هاج�س ال�ه��مِّ االجتماعي والإن�ساني‪،‬‬ ‫كما في ق�صة «حكاية �صباحية» التي تعالج فيها بوعي‬ ‫وجر�أة متميزة �صور معاناة الإن�سان من ق�ضايا الت�سلط‬ ‫والطغيان‪ ،‬والظلم والم�شكالت االجتماعية‪ ،‬والعالقات‬ ‫الزوجية واالنحراف والف�ساد‪.‬‬ ‫�أم��ا القا�صة ليلى �أح��م��د ف��ي ق�صة «رائ��ح��ة»‪ ،‬فهي‬ ‫تظهر غيرتها القوية وخوفها على وطنها ومجتمعها من‬ ‫الجهل‪ ،‬والتقاليد المتخلفة التي تجعله عر�ضة للتحديات‬ ‫والم�ؤامرات والمتغيرات العالمية‪ ،‬التي تحاول غزونا‬ ‫ثقافياً‪ ،‬وت�شويه هوية الوطن‪ ،‬و�إ�ضعاف انتماء الإن�سان‬ ‫العربي لوطنه وتراثه و�أ�صالته‪.‬‬ ‫والقا�ص نا�صر الظاهري في مجموعته «عندما ندفن‬ ‫النخيل»‪ ،‬نرى الهمَّ الإن�ساني االجتماعي ي�سيطر على‬ ‫ق�ص�صه التي ي�صور فيها م�شاهد �إن�سانية متميزة بر�ؤية‬ ‫عميقة‪ ،‬ويبرز �أثر الغربة وال�شقاء والحنين �إلى الوطن‪،‬‬ ‫ف��ي رحلة الكفاح الطويلة‪ ،‬التي يعود منها المغترب‬ ‫محمو ًال على نع�شه ج�سد ًا بال روح‪ .‬ق�صة «اتهاد‪ .‬كليج‪.‬‬ ‫بيان»‪.‬‬ ‫ه �ك��ذا ن ��رى ت �ج��ارب ق�ص�صية م�ت�ن� ّوع��ة م�ت�ع�دّدة‬ ‫الم�ستويات الفنية‪ ،‬لكنها على نحو عام تجارب ت�ضرب‬ ‫ج��ذوره��ا العميقة ف��ي البيئة الخليجية‪ ,‬ومكوناتها‬ ‫الطبيعية واالجتماعية‪ ،‬و�أي�ضا لها نكهة خا�صة ومميزة‪.‬‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫�أوجاع علي �أمقا�سم‬

‫*‬

‫■ حمد �أحمد ع�سريي*‬

‫لم يُحدِّثني يوما عن وطنه‪ ..‬كنت �أ�سمعه يقول‪ :‬الأوط��ان التي نهرب منها نهارا‬ ‫ونعود �إليها خل�سة مع العتمة ال ن�ستحقها‪� .‬إال �أنها تغفر‪ ..‬ال تحمل بين تربتها �أحقادا‬ ‫كما نفعل مع بع�ضنا‪!..‬‬ ‫لم يكن يحمل �أوراقا تثبت �أنه على قيد الحياة‪ ..‬مجرد �صورة قديمة كانت ترافقه‬ ‫با�ستمرار ل�شاب نحيل يقف على �صخرة كبيرة‪ ،‬ومن خلفه �أ�شجار كثيفة‪.‬‬

‫لم يُخبرني عن ذلك ال�شاب‪..‬‬ ‫وال عن المكان‪..‬‬

‫وعليها تناولت �سنيني‪ ،‬وه��ا �أن��ا اليوم‬ ‫�أ�ستقبل نهارا قد يكون الأخير‪.‬‬

‫ما �أ�صعب �أن تودع كل الأ�صوات التي‬ ‫وال عن �سر ال�صورة التي ال تفارقه‪..‬‬ ‫كانت ت�سامرك‪ ،‬وتغني معك‪ ،‬وتناديك‬ ‫م��ع ال �ف �ج��ر‪ ،‬ي �خ��رج �إل ��ى م��زرع�ت��ه‪،‬‬ ‫عندما تبتعد لتعود من غيابك‪.‬‬ ‫كري�شة ط��ائ��ر‪ ..‬ي�ف��رك وج��ه ال�صبح‬ ‫بلحيته وخ�شونة قدميه‪ .‬يدو�س التراب تدفنهم بيديك‪ ،‬ومن ثم تدير ظهرك‬ ‫البارد برفق وك�أنه يخ�شى عليه االختناق‪ .‬عنهم وك�أنهم ال يعنون لك �شيئا‪� ..‬إنها‬ ‫حياتنا ن�شمّ فيها اق�ت��راب الموت كما‬ ‫يقول‪ :‬فوق هذه الأر�ض وقفت �صغيرا‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪47‬‬


‫ليجل�س في ظل جدار بال مالمح‪ .‬ظ ُّل عجوز‬ ‫ن�شمّ المطر‪..‬‬ ‫يجل�س في ظل ج��دار �أو�شك على الفناء‪ .‬ال‬ ‫علي �أمقا�سم‬ ‫يتذكر الوجوه كثيرا‪ ،‬ومع ذلك هو يبت�سم لها‬ ‫�شبح ب�سيط م��ن زم��ن المطحونين في‬ ‫وك�أنه ي�أذن لها بعناق �أخير ينهي عط�شها بعد‬ ‫الأر�ض‪ .‬عندما يحكي عن زوجته التي �سرقها‬ ‫م�شوار طويل من الجفاف‪.‬‬ ‫ال�ط��اع��ون‪ ،‬ف��إن��ه ي�م��وت �آالف ال �م��رات‪ ..‬ال‬ ‫يتوقف عن فرك عينيه ب�شموخ الذين ي�ؤمنون يقولون �إنه اختفى‪ ،‬بحثوا عنه ولم يجدوه‪.‬‬ ‫ب�أن البكاء على الأحبة ال يجلب العار‪ .‬ما زال يروي نا�صر الأع��رج �إنه �آخر من �شاهده‬ ‫يتذكر �شجرة الريحان التي غر�ستها �إلى يم�شي نحو ال �غ��روب كعادته قاطعا طريق‬ ‫جوار باب الدار الذي تكون حولهما من �ألواح الوادي نحو الإ�سفلت‪ ،‬ولم يعد بعدها‪.‬‬ ‫و�أعمدة خ�شبية وبع�ض الحبال البالية‪.‬‬ ‫ربما �أنه عندما �شاهد ال�صباح توك�أ على‬ ‫ك��ان دائ �م��ا م��ا ي ��ردد �أن ��ه ع�ل��ى م�شارف �أول �ضوء عابر‪ ،‬وم�ضى دون �أن يلتفت �إلى‬ ‫الموت‪ ،‬لم يعد لديه مت�سع من العمر ليحلم‪� ..‬أوراق��ه التي بعثرتها الريح‪ ،‬والآن ال �شيء‪،‬‬ ‫و�أن��ه لو كان با�ستطاعته �أن يحلم لتمنى �أن‬ ‫مجرد ظل واختفى‪.‬‬ ‫يلحق ب�شريكته ليهديها ريحانتها التي كبرت‪،‬‬ ‫لتغر�سها �إلى جوار ريحانة الجنة التي �أهداها وفي الم�ساء‪ ،‬كانوا يتحدثون عنه‪ ،‬يقولون‬ ‫�إنهم �شاهدوه خلف الظالم كطيف �أبي�ض‪..‬‬ ‫اهلل‪.‬‬ ‫كركام الورق المنثور‪.‬‬ ‫قبل الغروب‪ ،‬يم�شي طويال‪ ..‬وك�أنه يعيد‬ ‫ح�ساب خطواته التي ن�سي �أن يح�سبها؛ لأنه كان مجرد ظل يجل�س في ظل‪ ..‬والظالل‬ ‫فقدها من �شدة العط�ش والجوع والخوف‪ ..‬ال تبقى ك�ث�ي��را‪ ،‬ت��رح��ل دائ �م��ا م��ع ال�شم�س‬ ‫وال�ضياء‪ .‬حتى الريحانة التي كانت تغازله‬ ‫وربما لحزنه على من �سقطوا خلفه‪.‬‬ ‫ع�ن��دم��ا خ��رج��تُ م��ن ق��ري�ت��ي �أق�ت�ف��ي �أث��ر برائحتها و�أغ�صانها‪ ،‬كلما مر �إلى جوارها‬ ‫المدينة كان اليزال ظ ًال يقترب من �ساعات نف�ضت �أوراقها وانحنت حزنا عليه‪..‬‬ ‫ال�غ��روب الأخ �ي��رة‪ .‬يجل�س طويال �إل��ى جوار ال �أحد يعرف �إلى �أين ذهب علي �أمقا�سم‬ ‫�شجرة الريحان‪ ،‬وعندما ت�شتد ال�شم�س ينتقل والإ�سفلت الذي �أغواه ال يجيب!‬ ‫‪48‬‬

‫* من المجموعة الق�ص�صية‪ /‬رق�صة الغجر‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫الزهر ُة البر َّي ُة‬ ‫■ منرية ح�سن الع�سريي*‬

‫كانت عيناه ت�شعّان �سعادة‪ ،‬ترق�صان فرحا‪ ،‬تكادان من ات�ساعهما تطويان الأر�ض؛‬ ‫�أن تالهما ذلك الكيان المت�سق زهوا‪ ،‬وهو مذهول‪ ،‬م�أخوذ‪ ،‬ال يكاد ي�صدق �أنه التقاها‪.‬‬ ‫لقد كانت ذات يوم حلما تغزله الم�شاعر‪ ،‬تتلب�سه؛ فيباهي بها مر�آته ال�صغيرة‪.‬‬ ‫كانت �أمنية تتغنى بها �أهدابه حين يطبقها؛ فت�سري بها دنيا الخيال ليالٍ طويلة‪،‬‬ ‫ال تنتهي من ال�سهاد‪.‬‬ ‫ك��ان��ت‪ ..‬وك��ان��ت‪ ..‬وك��ان��ت‪ ..‬ثم ها هي‬ ‫الآن تقف �أم��ام عينيه ك�أنها بلقي�س على‬ ‫عر�شها المن�ضود‪.‬‬

‫بادرها بت�سا�ؤالت لم تكن على ل�سانه‪� ،‬إذ‬ ‫�إن قلبه كان قد �سبقه �إليها‪ ،‬وهو يرمقها‬ ‫في فرح وزه��و معا‪ ،‬ي�س�ألها متلعثما‪ :‬مَ ن‬ ‫�أنت �أيتها البهية؟ �أين كنت‪ ،‬ولم لم يكن‬ ‫قبل الآن‪ ،‬ولم الآن بالذات؟!!‬

‫ت�ت�ن�ف����س! ف �ي��دث��ره ع �ط��ره��ا‪ ..‬تتلفت‬ ‫ف�ي��وم����ض ف��ي ��س�ح��ر ع �ي �ن �ي �ه��ا‪ ..‬وتتكلم‬ ‫قالت له‪ ،‬وهي تر�سم ب�أهدابها خارطة‬ ‫فتن�سكب من �شرايينه قطرات مرتعدة في‬ ‫وجهه على وجهها‪ :‬حنانيك‪ ،‬فقد �أكثرت‬ ‫رخيم �صوتها‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪49‬‬


‫عليَّ ال�س�ؤال‪.‬‬

‫قالت‪� :‬أو لم تعرفه بعد!‬

‫قال لها‪ :‬ف�إني قبلك لم �أكن �شيئا‪.‬‬ ‫ثم �إنه وقبل �أن ينب�س ببنت �شفه‪ ،‬بادرته وهي‬ ‫ترمق الجواب في عينيه �أن «ال»‪ ،‬بل هو �أجمل‬ ‫فقالت‪ :‬و�أي �شيء هو �أنت الآن!‬ ‫منه و�أكمل‪ ،‬هو �أحلى منه و�أبهى‪ ،‬هو �أقوى منه‪،‬‬ ‫بك‬ ‫قال لها‪ :‬كل �شيء‪� ..‬أن��ا هو الآن �أن��ت‪ِ ..‬‬ ‫هو طاهر ونقيّ ‪ ،‬لكنه هنا �أطهر و�أنقى‪ ،‬ال �أجد‬ ‫لك �أنتِ ‪.‬‬ ‫�أنتِ ‪ ،‬منك �أنتِ ‪ِ ،‬‬ ‫له م�سمى وا�ضحا‪ ،‬فقد تلب�س القلوب‪ ،‬واتّحد مع‬ ‫قالت وعيناها غارقتان في بقعة عميقة في ذرات الهواء‪ ،‬ونترات الماء‪.‬‬ ‫بحر عينيه‪ ،‬وال تكادان ت�ستقران‪ ،‬وال تدري �أهو‬ ‫�إذا!! لم يعد لل�س�ؤال مكان‪ ،‬بل لم يعد له‬ ‫الخجل! �أم الخوف! �أم الفرح! �أم �شيء �آخر ال‬ ‫معنى‪.‬‬ ‫تدري كنهه‪ :‬حملتني ما ال يطيق ل�ساني �أن ينطق‬ ‫‪.....‬‬ ‫به‪ ،‬فماذا �أقول؟!‬ ‫ا�ستدارت بهدوء وهي تودّع المكان‪ ،‬وفيما هي‬ ‫ق��ال‪� :‬أو تظنين �أن ه��ذه المتاهة النجالء‬ ‫الحالمة التي ما ملَّت تعبث بكياني‪ ،‬وت�ؤرجح تخطو‪ ..‬تمتم ب�صوت يكاد من هدوئه �أن يمزق‬ ‫�شاف من تحنان �سكون الكون‪ ،‬وكانت عيناه متعلقتين ب�ش�آبيب‬ ‫لفتاتها �أوردتي ال�ضامئة لترياق ٍ‬ ‫ظلها‪ ،‬كان كل حرف ي�ستعطف وتين نب�ضها‪..‬‬ ‫هم�سها لم تقل �شيئا؟!‬ ‫ت��رى! ه��ل �ستمنحنا الأي ��ام لقاء �آخ��ر! هل‬ ‫رفعت عينيها مت�سلقة قوامه الن�صف ممتلئ‪،‬‬ ‫في ت�سلل موح�ش ينبئ باحتالل‪ ،‬وكان ال�صمت �سيكون بروعة هذا اللقاء!‬ ‫�أ�شبه بترنيمة ممو�سقة ي�شق �صدى �صوتها �أفق‬ ‫كان كمن يحدث نف�سه‪ ،‬وكانت ت�سمع تمتماته‬ ‫الغيم المن�سدل على الجبال‪ ،‬فيحيلها �أغنية من وهي مطبقة عينيها على حلم‪ ،‬و�شفتيها على �ألم‪،‬‬ ‫مطر‪ ،‬لكنها لم تقل �شيئا‪.‬‬ ‫ولم تجب‪ ،‬بل ظلت تم�شي حتى غيّبها الظالم‪.‬‬ ‫كان لقاء خاطفا بال موعد‪ ،‬وك��ان �أهزوجة‬ ‫هكذا جاءت‪ ،‬وهكذا رحلت‪.‬‬ ‫غناها الحظ ليلة واح��دة فقط‪ ،‬لكنه وقبل �أن‬ ‫ع��اد �أدراجَ �����ه وح��ي��دا‪� ،‬إال مما ي�شبه �شدو‬ ‫تتركه مغادرة‪� ،‬س�ألها في هدوء ممزوج بحيرة‪،‬‬ ‫وك�أنه يهذي‪� :‬أي �شيء ذل��ك ال��ذي �أرّق جفني البالبل يملأ �سمعه‪ ،‬ووهج م�ضيء يملأ ب�صره‪،‬‬ ‫لف ج�سدها وان�سل‬ ‫و�أحاله �صفيحة من ن��ار‪..‬؟! ذلك ال��ذي ما �أن وعبق من �أريج معتق كان قد َّ‬ ‫يبتل ريقي بعذب ح��روف ا�سمك حتى تتهاوى من �أنفا�سها يعطر كل كيانه‪.‬‬ ‫ُي��حَ ��دِّ ثُ نف�سه‪ ،‬ويُمنّيها‪ ..‬يودّعها على �أمل‬ ‫منه رقائق جلدي قطعة قطعة! ي�سري برع�شة‬ ‫في كياني كحفيف الخريف بالأ�شجار‪ !..‬هال اللقاء‪ .‬ثم تمتم‪� :‬إلى اللقاء �أيتها الزهرة البريّة‬ ‫النقيّة‪.‬‬ ‫تف�ضلت برد!‬ ‫‪50‬‬

‫ * قا�صة من ال�سعودية‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا‬ ‫■ حممد �صوانه*‬

‫(‪)1‬حلم‬ ‫تفتحُ الطفل ُة عينيها‪..‬‬ ‫تدو ُر بهما في �أرجا ِء “الخيمة»‪..‬‬ ‫ثم تُغمِ ُ�ض من جديد؛‬ ‫عائد ًة �إلى حُ لمِ ها‪..‬‬ ‫(‪� )2‬أمنية‬ ‫غروب حتميٍّ ‪،‬‬ ‫ال�شم�س حثيث ًا نحو ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تَم�ضي‬ ‫أنفا�س‪،‬‬ ‫تت�سار ُع ال ُ‬ ‫يُمنِّي َنفْ�سَ هُ‪،‬‬ ‫�أنْ ‪،‬‬ ‫لي�س َبعْد‪..‬‬ ‫َ‬

‫(‪ )5‬ا�ست�سقاء‬ ‫�ات ووح��دان� ًا‬ ‫ي�ست�سقون‪ ..‬ثم يذهبون زراف� ٍ‬ ‫�صوب البحر القريب‪،‬‬ ‫للتنزه‪ ،‬والفرف�شة‪،‬‬ ‫وي�صمون �آذان �ه��م ع��ن ��ص��وت ال �م ��ؤذن في‬ ‫الم�سجد القريب!‬ ‫(‪ )6‬محاولة‬ ‫توغّ ل الموت وهو يطرق �أبواب مدينتي‪..‬‬ ‫فتركت بابي مُ�شرعاً!‬

‫(‪)7‬الكنزة الجديدة‬ ‫يراقبها ب�شغف وه��ي تدير �إب��رة المغزل‪..‬‬ ‫مت�أم ًال الخيوط الملونة وهي تتحول ن�سج ًا يتمدد‬ ‫(‪�َ )َ 3‬صدَ فَةٌ‬ ‫ببطء �شديد‪ ،‬ولكن بجمال الفت‪..‬‬ ‫ظل �صمتها ي�شكل واجهة �أمام ت�سا�ؤالتهم‪..‬‬ ‫مع كل م�ساحة جديدة من كنزة ابن الجيران‪،‬‬ ‫كل م�ساء تطفىء �شمعة �أخرى‪ ،‬ثم تطلق نهر كنت �أح�سب كم من القرو�ش �ستكون ح�صتي‪،‬‬ ‫من �أجرها‪.‬‬ ‫الدموع من عقاله‪..‬‬ ‫بد�أت �ألهو بالقِطَ ع المعدنية متباهياً‪�..‬أتفنن‬ ‫في �صباح غير مرتقب‪ ،‬تظلل نافذتها غيمة‬ ‫برميها على الأر� ��ض‪ ..‬ف�ت��دور وت ��دور‪ ،‬قبل �أن‬ ‫حبلى‪..‬‬ ‫ت�ستقرَّ؛ محدثة رنين ًا ماتعاً‪� ،‬أُ�سابق �أخي الأ�صغر‬ ‫(‪� )4‬شظايا‬ ‫للحاق بها‪..‬‬ ‫يتلوّى �أمامَ ه في �صورتين!‬ ‫بعد �أ�سبوعين‪ ،‬ج��اءت الجارة ومعها ابنها‬ ‫ب�أق�صى ما يملكُ من قوة‪ ،‬ه َّز الع�صا التي ال ��ذي لب�س كنزته ال �ج��دي��دة‪ ،‬و�أخ ��ذ يرق�ص‬ ‫متباهياً‪..‬‬ ‫في يده؛‬ ‫�أما �أنا فاختفيت وراء ظهر �أمي‪!..‬‬ ‫تطايرت �شظاياهُ‪ ،‬مُك ِّو َن ًة �صور ًة �أخرى‪!..‬‬ ‫ * قا�ص من الأردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪51‬‬


‫�صالح و�أحالم �سوف ‪!!..‬‬ ‫■ فار�س الرو�ضان*‬

‫ال كبيراً لوزير ي�شغل وزارة خدمية‬ ‫في ليلة ال تتكرّر كثيراً‪� ..‬أقامت المدينة حف ً‬ ‫مهمة كان يزورهم زيارة تفقدية‪ ،‬وكان �أهم �أهدافه هو �أن يبيع على الب�سطاء بع�ضاً‬ ‫من الكالم وكثيراً من الأحالم الرومان�سية التي تمنح ال�سعادة بال مقابل كما يفعل‬ ‫الوزراء من قبله‪!!..‬‬ ‫هبَّ الأهالي «فزعة» و «نخوة» مع الم�سئولين‪ ،‬متبرعين بما ي�ستطيعون من جهد‬ ‫ال في‬ ‫ومال‪ ،‬لي�صبح حفلهم على �أعلى الم�ستويات‪ ..‬احتفاء بال�ضيف ومرافقيه‪ ،‬و�أم ً‬ ‫�أ َّن ما يقدمونه �سينعك�س �إيجابا عليهم تطبيقاً لمبد�أ «�أطعم الفم ت�ستحي العين»‪� ،‬أو‬ ‫«مَن قدّم ال�سبت يلقى الأحد»‪ ،‬طبعاً هذا عدا حق ال�ضيافة وا�ستعرا�ض «الكرم»‪!!..‬‬ ‫لهذا‪� ،‬أقام �أمير المدينة «�صيواناً» كبيراً زين بما يليق بالوزير‪ ،‬و�أع��دت الوالئم‪،‬‬ ‫ونظم على �شرفه برنامج مميز‪..‬‬ ‫ب�ع��د � �ص�لاة ال �ع �� �ش��اء‪ ،‬ح���ض��ر ال�ضيف‬ ‫بموكب مهيب‪ ،‬بح�ضور كل �أهالي المدينة‪،‬‬ ‫حتى امتلأت �ساحات الحفل بالكامل‪!!..‬‬ ‫في رك��ن م��ن��زوٍ‪ ..‬وبالقرب من «وج��ار»‬ ‫النار و«المعاميل»‪ ،‬ت�سلّل «�صالح»‪ ..‬ذلك‬ ‫الم�سن الهادئ‪ ،‬بخطى مح�سوبة‪ ،‬ثم جل�س‬ ‫دون �أن ي�شعر به �أحد‪ ،‬وتناول «مركى» عتيق ًا‬ ‫رمى يده الي�سرى عليه بكل ر�شاقة‪..‬‬ ‫ك��ان �صوت �إذاع��ة الحفل قوي ًا للدرجة‬ ‫التي ي�ستطيع معها �صالح �سماع كل ما يدور‬ ‫في ال�ساحة‪..‬‬ ‫مذيع الحفل ‪ :‬الآن مع كلمة الوزير‪..‬‬ ‫���ض��جَّ ال �م �ك��ان ب��ال�ت���ص�ف�ي��ق وت �ع��ال��ت‬ ‫الهتافات‪..‬‬ ‫‪52‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ا�ستغرقت كلمة الوزير ربع �ساعة تقريباً‪،‬‬ ‫وف» ‪� ..‬سوف‬ ‫وكان كل ما فيها يعود �إلى «�سَ َ‬ ‫نقوم بعمل ‪� ..‬سوف نقدم لكم ‪� ..‬سوف نبني‬ ‫لكم ‪ ..‬حتى غرق الم�ساء ب�أحالم «�سوف»‪،‬‬ ‫وتحوّل الحفل �إل��ى �سهرة رومان�سية مليئة‬ ‫ب��الأح�لام وال�ك�لام المع�سول ال��ذي يغيّب‬ ‫العقول‪!!..‬‬ ‫ف��اح��ت رائ �ح��ة ح�ط��ب ي��وق��د م��ن �صدر‬ ‫�صالح بعد �سماع كلمات الوزير التخديرية‬ ‫الممّلة والمكررة‪!!..‬‬ ‫فقد ك��ان �صالح ي��درك �أن م��ا �سيجده‬ ‫المواطن في مثل هذه الزيارات والحفالت‬ ‫ل��ن ي�ك��ون �أك�ث��ر م��ن «� �س��وف» و�أخ��وات��ه��ا ‪..‬‬ ‫هذه الكلمة التي ع�صفت ب�أحالم الب�سطاء‬ ‫في المدن المن�سية كحال مدينته ‪ ..‬ولكنه‬


‫* روائي وقا�ص من ال�سعودية‪.‬‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫وف�ضل �أن يتمهل في‬ ‫ظن ظن ًا ح�سن ًا هذه المرة‪ّ ،‬‬ ‫الحكم‪ ،‬ولهذا قرر الح�ضور كم�ستمع من بعيد‪..‬‬ ‫م َّر الوقت المتبقي من الحفل و�صالح يغلي‬ ‫من «�سوف»‪ ،‬حتى نبتت في ذهنه ع�شرات الأفكار‬ ‫المجنونة التي ال يمكن �أن تخرج من رجل بعمره‪،‬‬ ‫وكان في كل مرة ي�صارعها‪..‬‬ ‫انتهت الحفلة‪ .‬وه��مَّ الوزير بالذهاب و�سط‬ ‫حفاوة بالغة‪ ،‬وقبل �أن يركب �سيارته الفاخرة‪،‬‬ ‫فوجئ بيد �صالح الخ�شنة تم�سك به من كتفه‪!!..‬‬ ‫ت�سلّل �صالح من بين كل الح�ضور والت�شديد‬ ‫الأمني حتى و�صل �إلى �سيارة الوزير وقد تطاير‬ ‫من بحر عينيه ال�شرر‪!!..‬‬ ‫التفت �إليه الوزير با�ستغراب ثم قال ‪� :‬آمر يا‬ ‫عم‪..‬‬ ‫قال �صالح‪�« :‬س�أل �سائل بعذاب واقع»‪!!..‬‬ ‫ا�ستغرب الوزير والأمير وكل مَ ن �سمع ما قاله‬ ‫�صالح‪!!..‬‬ ‫قال الوزير ‪ :‬ما فهمت يا عم‪..‬؟!!‬ ‫ق��ال �صالح‪ :‬ف��ي ي��وم م��ن الأي ��ام �أح��� ّ�س رجل‬ ‫من �أهالي الجوف بظلم في عهد الملك في�صل‪،‬‬ ‫وبعث للملك ببرقية لم يكتب فيها �سوى هذه الآية‬ ‫« �س�أل �سائل بعذاب واقع»‪ ،‬ولم يمر �أ�سبوع حتى‬ ‫و�صلت لجنة كاملة من الملك في�صل‪ ،‬ولم ت�سافر‬ ‫حتى �أزالت عنه الظلم‪!!..‬‬ ‫قال الوزير‪� :‬أب�شر يا عم وما هو طلبك‪..‬؟!!‬ ‫�سكت �صالح ثم قال ‪� :‬أن تنقذنا من «�سوف»‪� ،‬أو‬ ‫تنقذ النا�س من عبثك �أنت والم�سئولين الم�ؤتمنين‬ ‫على م�صالح النا�س من بيع الأحالم‪!!..‬‬ ‫ال��وط��ن بخير ووالة الأم ��ر ل��م يق�صروا في‬ ‫تحقيق �أحالم النا�س‪ ،‬ولكنكم تتفرغون للكالم‬

‫والوعود �أكثر من التنفيذ‪ ..‬فقد �شابَ �شعري و�أنا‬ ‫وكل �أهالي المدينة المن�سية نعي�ش تحت رحمة‬ ‫«�سوف»‪!!..‬‬ ‫� �ص��دم ال ��وزي ��ر م ��ن ك�ل�ام ال �م �� �س��ن ��ص��ال��ح‬ ‫و�صراحته القوية‪ ،‬ولم يعرف �أن يجيب �إال بكلمة‬ ‫«ي�صير خير»‪ !!..‬ثم ركب �سيارته من�سحب ًا من‬ ‫مواجهة رجل قال كلمة حق لأجل النا�س ولأجل‬ ‫الوطن ولي�س لأجله �شخ�صياً‪..‬‬ ‫تحركت �سيارة ال��وزي��ر‪ ،‬بينما �أ�صبح �صالح‬ ‫في قب�ضة الأم��ن يواجه م�صير ًا مجهوال‪ ..‬لكنه‬ ‫�شعر ب��أن ال�سماء ب��د�أت تمطر في �أح�شائه بعد‬ ‫�أن قال �أهم كلمة �سمعها الوزير في هذا الحفل‬ ‫الرومان�سي الحالم‪!!..‬‬ ‫ت��ذ ّك��ر �صالح‪� ‬أنه ع � ّب��ر ع��ن ذل��ك ‪ ‬ال�صوت‬ ‫المو�ؤد في �صدورنا منذ زمن بعيد‪ ،‬بعد �أن طغت‬ ‫المجامالت والمكا�سب ال�شخ�صية على كلمة‬ ‫الحق التي تقيم وتقوم مَ ن �أوكلت لهم م�سئوليات‬ ‫مهمة لبناء الوطن‪ ،‬فغاب العمل وكثر الكالم وزاد‬ ‫الف�ساد‪!!..‬‬ ‫وعادت به الذاكرة �إلى ‪� ‬أن‪ ‬النقد �أو الن�صح‬ ‫للحاكم في عهد ال��ف��اروق والخلفاء الرا�شدين‬ ‫مفتو ٌح على م�صراعيه‪ ،‬فقد قام الفاروق ‪ -‬ر�ضي‬ ‫اهلل عنه ‪ -‬يخطب فقال‪�« :‬أيها النا�س من ر�أى‬ ‫منكم فيّ اعوجاج ًا فليقومه»‪ ،‬فقام له رجل وقال‪:‬‬ ‫واهلل لو ر�أينا فيك اعوجاج ًا لقومناه ب�سيوفنا‪،‬‬ ‫فقال عمر‪« :‬الحمد هلل الذي جعل في هذه الأمة‬ ‫مَ ن يقوم اعوجاج عمر ب�سيفه»‪.‬‬ ‫وجاءه يوم ًا رجل فقال له على ر�ؤو�س الأ�شهاد‪:‬‬ ‫اتق اهلل يا عمر‪ :‬فغ�ضب بع�ض الحا�ضرين من‬ ‫قوله و�أرادوا �أن ي�سكتوه عن الكالم‪ ،‬فقال لهم‬ ‫عمر‪« :‬ال خير فيكم �إذا لم تقولوها وال خير فينا‬ ‫�إذا لم ن�سمعها»‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪53‬‬


‫ق�صة للأطفال‬

‫الأ�صدقاء الثالثة‬

‫■ فاطمة �أحمد*‬

‫وليد‪ ،‬ما يزال يغم�ض عينيه حتى وقت مت�أخر من هذا النهار‪ ،‬رغم مناداة �صديقته‬ ‫ال�شم�س له‪...‬‬ ‫ال�شم�س‪ ،‬عندما لم ي�ستجب وليد لها‪ ..‬و�أ�ضمرت في نف�سها �أمرًا‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫غ�ضبتْ‬ ‫ال�شم�س خلف غيمة‪ ،‬بعد �أن تو�سّ دت �سحابة بي�ضاء‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫في �صباح اليوم التالي‪ ،‬غفتْ‬ ‫ال�شم�س لت�أذن عن مقدم يوم جديد‪� ،‬أخذ‬ ‫ُ‬ ‫�صحا وليد من نومه‪ ،‬وترقّب �أن ت�شر َق‬ ‫ال�شم�س هذا ال�صباح؟‬ ‫ُ‬ ‫يتململ ويتقلّب في فرا�شه‪ ،‬ت�ساءل‪ ،‬هل ت�أخّ رت‬ ‫لم يكن من عادة ال�شم�س �أن تت�أخّ ر عن �صافية‪ ،‬كانت قاتمة كئيبة‪ ،‬وف��ي الأف��ق‬ ‫موعدها‪� ..‬إنها ت�أتي كل يوم لتر�سل �أ�شعتها غيوم كثيفة‪ ..‬لم تظهر ال�شم�س وال زرقة‬ ‫منذ �أول الفجر‪� ،‬صحيح �أنه كان ينزعج من ال�سماء‪!..‬‬ ‫قدومها باكرًا‪ ..‬فتطرق ب�أ�شعتها الذهبية‬ ‫�أخرج ولي ٌد ر�أ�سه من النافذة ونادى‪:‬‬ ‫زجاج نافذته‪ ..‬وتدخل مت�سللة �إلى عينيه‪،‬‬ ‫ال�شم�س؟‬ ‫ُ‬ ‫�أين �أنتِ �أيتها‬ ‫ثم تقول‪ :‬هيه‪ ،‬وليد انه�ض! ه��ذا �صبا ٌح‬ ‫لماذا ت�أخرتِ هذا ال�صباح؟‬ ‫جديد‪..‬‬ ‫ال�شم�س من نعا�سها في ذلك‬ ‫ُ‬ ‫�أف��اق��ت‬ ‫كان يرجوها �أن تذهب بعيدا عنه؛ في�ش ُّد‬ ‫لحافه ب�ضجر‪ ..‬ويختبئ تحته‪ ،‬ويحاول �أن ال�صباح البارد لتر�سل �شعاعً ا �ضعيفًا‪..‬‬ ‫يطرد �أي �شعاع �أتى ليوبخه لنومه الثقيل‪.‬‬ ‫ «�أيها الفتى‪ ،‬ماذا تريد؟ ابتعد‪ ،‬دعني‬‫ولكن في هذا ال�صباح ال �أثر لأ�شعتها‪� !..‬أنام!»‬

‫ق��ال وليد‪ :‬ولكن‪ ،‬لم يكن من عادتك‬ ‫ال�شم�س التي‬ ‫َ‬ ‫نه�ض متثاقال ليتفقد‬ ‫ت����أخّ ���رت‪ ،‬ون��ظ��ر �إل ��ى ال���س�م��اء‪ ..‬ل��م تكن الت�أخير قبل اليوم‪..‬‬ ‫‪54‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫ال�شم�س لأج��ل الغذاء الذي‬ ‫ِ‬ ‫�أجابت ال�شم�س بتثا�ؤب‪ :‬لكنني �أريد �أن �أُجرّب كنت انتظر �ضوء‬ ‫الك�سل قليلاً ‪..‬‬ ‫يتغذى به النبات‪.‬‬ ‫تعجّ ب وليد؛ �إذ اعتاد �أن يرى ال�شم�س في‬ ‫«النباتات �صديقة الأر�ض‪ ...‬تخزّن الجليكوز‪،‬‬ ‫كامل ن�شاطها كل ي��وم‪ ،‬و�أن يو�صد في وجهها وتر�سل الأك�سجين للخارج ليتنف�سه الإن�سان»‪...‬‬ ‫نافذته حين توبّخه وت�سخر منه ب�شعاع �ساطع‪.‬‬ ‫هكذا ق��ال وليد وه��و ي�شكر النباتات �صديقته‬ ‫نظر وليد �إلى غرفته المظلمة‪ ..‬كانت كئيبة و�صديقة الفالح‪.‬‬ ‫هذا ال�صباح‪ ..‬فكّر �أن ي�شعل م�صباحً ا‪...‬‬ ‫فرحت ال�سنابلُ ومدّت �أوراقًا طويلة خ�ضراء‬ ‫�إنه يرغب الآن في الخروج‪ ،‬وال �أثر لل�ضوء‪..‬‬ ‫و�سيقانًا‪..‬‬ ‫ربما ينير �شمعة عند خروجه من البيت! �إنه‬ ‫�صار وليد ي�ستيقظ باكر ًا بن�شاط؛ فهو على‬ ‫يحتاج ل�ل��ذه��اب �إل��ى ال�ح�ق��ل؛ ليرعى ال�ب��ذور‬ ‫ال�صغيرة التي خب�أها في الأر�ض م�ؤخرًا‪..‬‬ ‫ال�شم�س ليترافقا معا �إلى الحقول‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫موعد مع‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫ُ‬ ‫قالت‬ ‫ال�شم�س‪ :‬ولكني قررت هذا ال�صباح �أن باللون الأح�م��ر من ال�ضوء‪ ..‬ووق��ف��تْ ال�سنابلُ‬ ‫ال�شم�س‬ ‫ِ‬ ‫�أنام و�أت�أخر مثلك؛ فكلما �أتيتك وجدتك نائمًا ال�صغيرة الجائعة ف��ي ���ش��وقٍ ل�ضو ِء‬ ‫وبقيت وحدي‪..‬‬ ‫الدافئ‪.‬‬ ‫ لكنني �أريدك الآن‪!..‬‬‫تنف َّ�س اليخ�ضو ُر ال�صعداء‪ :‬مرحبًا وليد‪،‬‬

‫ال �شك �أن �أ�صدقاءه في الحقل ينتظرونه‪،‬‬ ‫وفي �صباحٍ جميلٍ ‪ ،‬وجد وليد حبات القمح‬ ‫وينتظرون ال�شم�س التي ت�أخّ رت هذا ال�صباح‪ .‬يك�سوها اللون الذهبي الأ�صفر ال��ذي انعك�س‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫ال�شم�س الوفيّة في هذا الوقت تراقبه عليها من لون الأ�شعة المر�سلة من ال�شم�س في‬ ‫ُ‬ ‫ب�صمت‪� ..‬ضحكت‬ ‫ال�شم�س‪ ..‬فهي تعرف �أنه لن ال�سماء‪.‬‬ ‫يكفيه �شمعه‪..‬‬ ‫قال وليد بفرح‪ :‬جا َء الربيعُ‪..‬‬ ‫تنحنحت وتململت‪ ،‬و�أطلت من خلف ال�سحابة‬ ‫� �ص��ارت ال �ح �ق��ولُ �أج� �م ��لَ م �ن��ذ �أن تعاهد‬ ‫ال�سوداء التي انهمرت بقطرات المطر‪ ...‬وعادت‬ ‫ال�شم�س والفتى وال�سنابلُ �أن‬ ‫ُ‬ ‫لت�شقَّ �أ�شعتُها طريقَها �إلى الأر�ض وب�ساطها‪ ،‬بعد الأ�صدقا ُء الثالثةُ‪:‬‬ ‫يتعاونوا معًا‪..‬‬ ‫�أن ا�ستيقظت من جديد‪.‬‬ ‫ال�شم�س وي�سير‬ ‫ِ‬ ‫فرح ولي ٌد وهو يت�أبط �ضو َء‬ ‫ال�شم�س وال�سنابلِ وق��ال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ن��ظ�� َر ول��ي��د �إل���ى‬ ‫م�سرورًا نحو الحقول‪ ..‬كان ينتظرهما الع�شبُ �أُحبّكم يا �أ�صدقائي‪ .‬وعا�ش الأ�صدقا ُء الثالثة‬ ‫والخراف‪ ،‬والفرا�شاتُ ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫الأخ�ضر‪ ،‬والزرعُ‪،‬‬ ‫ب�سعادة منذ ذل��ك ال��وق��ت‪ ،‬و�صار الحقلُ جن ًة‬ ‫تب�سّ متْ ال��زه��رةُ‪ ..‬فهي �ست�صب ُغ بتالتها خ�ضراء‪ .‬‬ ‫ * قا�صة من ليبيا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪55‬‬


‫ُ‬ ‫ديك النعناع‬ ‫■ �إبراهيم �شيخ*‬

‫تعال يا عمي الديك‪� ،‬أنت كبير في ال�سنِّ ‪ ..‬ال تتحمّل الوقوف الطويل كال�شباب من الدجاج‪.‬‬ ‫دمعت عينيّ الديك‪ ..‬كفكف دموعه بجناحه الأيمن‪ ،‬قال وهو ينتحب‪�:‬صدق ال�شاعر �إذ يقول‪:‬‬

‫ف�أخبره بما فعل �شباب اليوم فينا‬

‫�أال ليت الزمان يعود يوما‬ ‫�ضحكت الدجاجة ال�صغيرة‪ ،‬وقالت‪:‬‬ ‫يقول البيت يا عم ديك‪ :‬ف�أخبره بما فعل الم�شيبُ ‪.‬‬ ‫ �أعرف يا ابنتي‪ ،‬لكن �شباب اليوم فعل بي‬‫�أ�سو�أ مما فعل بي الم�شيب‪!..‬‬ ‫ هل تحكي لي ياعم ديك حكايتك؟‬‫ حكايتي‪ ..‬حكاية ي�شيب لها الوليد‪..‬‬‫ لقد �شوقتني يا عم ديك ل�سماعها‪.‬‬‫ �أنا �أُع �ر َُف بـ «ديك النعناع»‪ ،‬ما عرفت‬‫نف�سي �إال وكل من حولي يدعونني بهذا اال�سم‪.‬‬ ‫ ولماذا �أطلقوا عليك هذا اال�سم؟‬‫ خ�ص�ص �صاحب المزرعة الذي يملكني‬‫وب��اق��ي ال��دج��اج‪ ،‬قطعة �صغيرة منها ل��زرع‬ ‫النعناع‪ ،‬كنت في البي�ضة تحت ح�ضن �أمي‬ ‫�أمن‪ ،‬وحين خرجت من البي�ضة‪ ،‬خطوتُ �أولى‬ ‫خطواتي مع �أم��ي و�إخوتي‪ .‬ومع م��رور الوقت‬ ‫تعلّمت من �أمي كل �شيء‪.‬‬ ‫وفي يوم من الأي��ام‪ ،‬ت�سلل قطٌ ماك ٌر �إلى‬ ‫المزرعة‪ ،‬م�ستغال غياب الكلب عنها‪ ..‬طاردني‬ ‫�أنا و�أمي و�إخوتي‪ ،‬تفرقنا في المزرعة‪ ،‬تبعني‪،‬‬ ‫‪56‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫خفت منه كثيرا‪ ..‬كنت �أجري و�أتذكر تحذير‬ ‫�أم��ي م��ن القطط وال�ث�ع��ال��ب‪� ..‬أ�صابني فزع‬ ‫���ش��دي��د‪ ..‬ك���ادت �أن��ف��ا���س��ي تنقطع‪� ،‬شاهدت‬ ‫�شجيرات النعناع‪ ،‬جريت �إليها‪،‬اختب�أت بينها‪،‬‬ ‫فغطى عليَّ لونها القريب من لوني‪ ،‬فلم يعد‬ ‫القط يراني‪ ..‬تركني وذهب‪..‬‬ ‫ثم عاد الكلب وطرد القط‪..‬‬ ‫تفقّدت �أمي �صغارها‪ ،‬فلم تجدني معهم‪..‬‬ ‫ظنَّتْ �أن القط �أكلني‪ ،‬فحزنت حزنا �شديدا‪،‬‬ ‫و�أجه�شت في البكاء على فراقي‪ ،‬لكنها لم‬ ‫تي�أ�س‪ ..‬فجدَّت في البحث عني في كل مكان‪..‬‬ ‫ولم تي�أ�س‪ ..‬وا�ستمرت في بحثها عني حتى‬ ‫عثرت عليَّ بين �شجيرات النعناع‪ ،‬ففرحت‬ ‫فرحا �شديدا‪ ،‬وقالت وه��ي ت�ضحك �ضحكة‬ ‫ممزوجة بدموع الفرح‪:‬‬ ‫الحمد هلل‪ ،‬ظننت ال��ق��ط �أك��ل��ك ي��ا ديك‬ ‫النعناع‪.‬‬ ‫منذ ذل��ك ال��وق��ت‪ ،‬غلب عليَّ ه��ذا اال�سم‬


‫ * قا�ص من ال�سعودية‪.‬‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫(دي��ك النعناع)‪ ،‬و�أ�صبحت �أُعْ ����ر َُف ب��ه منذ تلك‬ ‫اللحظة‪.‬‬ ‫ لكني �أود معرفة حياتكم القديمة في المزرعة‬‫يا ديك النعناع!!‬ ‫ �صاحبي يملك مزرعة كبيرة‪ ،‬يزرع فيها كل‬‫�أنواع الحبوب والثمار‪ .‬كنا ‪ -‬مع�شر الدجاج‪ -‬ن�أكل‬ ‫ما ل َّذ وطاب‪ ،‬نلعب ونمرح‪ ،‬فنملأ المزرعة ب�أ�صواتنا‬ ‫الجميلة في كل وقت من �أوقات وجودنا فيها‪.‬‬ ‫ متى ت�صحون من النوم؟‬‫ �إذا طلع الفجر‪ ،‬قمنا نحن الديكة‪ ،‬بتوزيع‬‫�أنف�سنا في �أرجاء المزرعة‪ ،‬لن�صدح بالأذان في كل‬ ‫ناحية منها‪ ،‬فنوقظ مَن فيها‪..‬‬ ‫نناديهم �إل��ى الفالح والنجاح وعبادة الواحد‬ ‫الأحد‪ ..‬و�إذا طلعت ال�شم�س كان الجميع في �شغله‪،‬‬ ‫كل لما خُ لق له‪..‬‬ ‫ هل تقيلون وقت القيلولة؟‬‫ نعم‬‫ و�أين تنامون؟ هل تنامون في قف�ص حديدي‬‫مثل هذا؟!‬ ‫ قف�ص حديدي!! واهلل ال �أعرفه من قبل حتى‬‫وجدته هنا‪.‬‬ ‫ و�أين تنامون �إذاً؟‬‫ فوق المنامة‪.‬‬‫ وما المنامة؟‬‫ خ�شبتان كبيرتان تثبتان على الأر���ض‪ ،‬تو�ضع‬‫خ�شبة من فوقهما‪ ،‬وتثبت عليهما‪� ..‬صناديق خ�شبية‬ ‫�أو عُ لباً‪ ،‬ننام مع�شر الدجاج داخلها‪.‬‬ ‫ هكذا في العراء تنامون؟‬‫‪ -‬نعم‪.‬‬

‫ �أال تخافون الأع ��داء‪ ،‬خا�صة الأوالد الذين‬‫ي�سرقون الدجاج بالليل؟‬ ‫ الأع��داء من الثعالب والقطط تكفينا كالب‬‫المزرعة �شرهم‪� ،‬أما �أوالد ذلك الزمان ف�إنهم ال‬ ‫ي�سرقون‪.‬‬ ‫ وما الذي جاء بك �إلى هنا يا ديك النعناع؟‬‫وهنا‪ ..‬بكى ديك النعناع‪ ..‬ثم جثا على الأر�ض‪..‬‬ ‫لكنه كفكف دموعه‪ ،‬وارت��اح قليال‪ ،‬ثم وق��ف على‬ ‫رجليه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ تحمّل �صاحب المزرعة َديْنا كثيرا‪ ،‬فا�ضطر‬‫لبيع مزرعته‪ ،‬فا�شتراها �شاب بما فيها‪ ..‬كره وجود‬ ‫الدجاج فيها‪ ،‬فجمعنا في قف�ص كبير‪ ،‬وباعنا في‬ ‫ال�سوق‪.‬‬ ‫ وماذا تنوي فعله؟‬‫ �إذا ح َّل الأجل‪ ،‬هل للمخلوق ر�أي!!‬‫ لماذا �أنت مت�شائم يا ديك النعناع؟‬‫ وه��ل ي�ت�ف��اءل َم��ن ُي�غ� َل��ق عليه ه��ذا القف�ص‬‫الحديدي!!‬ ‫قالت الدجاجة ال�صغيرة وهي ت�ضحك‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫اهلل موجود‪ ،‬والأمر بيده‪ ،‬ع�سى �أن يجعل لنا فرجا‬ ‫ومخرجا‪.‬‬ ‫ابت�سم ديك النعناع للدجاجة ال�صغيرة وقال‪:‬‬ ‫ ما �أجمل نظرتك للحياة‪ ،‬ليتني مثلك‪.‬‬‫ مَن يتوكل على اهلل ال ي�أتيه الي�أ�س‪ ،‬وال ي�صيبه‬‫القنوط من رحمته‪.‬‬ ‫ اهلل �أكبر‪ ،‬اللهم اعف عني‪ ،‬واجعل لي ولمن‬‫معي مخرجا يا �أرحم الراحمين‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪57‬‬


‫ق�ص�ص ق�صيرة جدا‬ ‫■ م�سعدة اليامي*‬

‫كُ تاب‬ ‫اج�ت��ر قلم ُه م��ن جيب معطف ِه ال�صغير‪..‬‬ ‫�سَ حبت قلمها من محفظتها ال�صغيرة‪ ..‬التقيا‬ ‫في بداية ال�سطر‪ ..‬ثم انتهى بهم الأم��ر على‬ ‫مفترق طرق؟!‬ ‫وفد‬ ‫ت�ن�ق� ّل��ت ع �ل��ى ه� ��ودج م�ج�ه��ز ل �ه��ا‪ ،‬تمايلت‬ ‫خ�صالت �شعرها ال�شقراء‪ ,‬مع حركات الجمل‬ ‫المح�سود من قبل الجمال! التي �أرخت �شفاها‪,‬‬ ‫وهي ترى وفد ال�سياحة القادم من الغرب تقود ُه‬ ‫امر�أة!‬ ‫�ضعف‬ ‫تجمّدت داخ��ل معطفه ف��ي ف�صل ال�شتاء‪,‬‬ ‫الذي نثر البيا�ض فوق �سواد الأر�ض‪.‬‬ ‫ماتت غرق ًا مع �شروق ال�شم�س ال�ساخطة على‬ ‫عالقتهم‪ ,‬التي قوبلت بالرف�ض‪.‬‬ ‫ع��ا���ش��ت م��ا ت��ب��قّ��ى م��ن حياتها ع��ل��ى �أوراق‬ ‫الخريف‪ ,‬بينما هو عا�ش في �أح�ضان الربيع‬ ‫متنا�سي ًا ال��دفء‪ ,‬ال��ذي �أغدقه قلبها علي ِه في‬ ‫لحظة �ضعف!‬ ‫فراغ‬ ‫�رف‪ ,‬ثم انتزعته من ح�ضن ِه‬ ‫و�ضعت ُه فوق ال� ّ‬ ‫الدافئ‪ ,‬لت�ضعه فوق حِ جرها‪ ,‬ثم َ�صدرها‪ ،‬ثم‬ ‫وَجهها‪ ..‬حتى داع��ب النعا�س عينيها‪� ,‬سقط‬ ‫بجوارها‪ ،‬لتداعب �أوراقهُ‪� ,‬أنامل الهواء ال�صادرة‬ ‫عن التكييف‪ ,‬المُبدّد لوحدتها‪.‬‬ ‫ل�صو�ص‬ ‫ع��رجُ الل�صو�ص على �صدر �شموعه‪ ,‬التي‬ ‫‪58‬‬

‫* قا�صة من ال�سعودية ‪ -‬نجران‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫�أطف�أها بماء العن�صرية ال�ضحلة َِ!‬ ‫فو�ضى‬ ‫افتر�شوا المكان‪�،‬أحدثُوا �ضجة‪ ,‬ثم رحلوا‬ ‫مخلفين‪ ,‬خلفهم فو�ضى كبيرة!‬ ‫ظم�أ‬ ‫تَ�صاعدت نظرات ُه المتعط�شة‪ ,‬تتابع خَ طوات‬ ‫تف�صد العرق عن جبينهِ‪ ،‬ر�شف‬ ‫جَ �سدها المائل‪ّ ,‬‬ ‫ما ًء بارد ًا من خلف ال�شا�شة‪ ,‬لم ير ِو ظم�أهُ!‬ ‫ت�سوّل‬ ‫�صعدوا على كتفيهِ‪ ,‬حينما علموا �أن� ُه يتيم‪,‬‬ ‫ت�سولوا ب��وج�ع� َه خ��زائ��ن ال�سالطين ففا�ضت‬ ‫خزائنهم ذهباً‪ ،‬بينما فا�ض ج�سد ُه �سقماً!‬ ‫�أمل‬ ‫قالت ل ُه ب�ألمٍ منك�سر‪� ،‬أدفئني ف�إن خ�صالت‬ ‫�شعري البي�ضاء‪ ,‬ال تزال تتناثر فوق كتفك اله�ش!‬ ‫كفاح‬ ‫عَ قدت ثوبها حول خ�صرها النحيل‪ ،‬م�شت‬ ‫تحت ال�شم�س ت�شوى وجه ًا �أثبت نف�سها و�سط‬ ‫الحقول العجاف‪ ,‬ف�أنبت حولها ف�سائل‪� ،‬سرعان‬ ‫ما �أثمرت‪.‬‬ ‫ذكرى‬ ‫رطّ ���ب �شفتي ِه ب��ذك��ره��ا‪� ,‬سَ معت ذل��ك من‬ ‫قريب‪ ,‬ف�شبت نار الغيرة في فوائدها من ج�سدٍ‬ ‫تحت الثرى!‬ ‫�أخرى‬ ‫ن��ام بين ذراعيها �إل��ى �أن ف��ارق��ت الحياة‪,‬‬ ‫فم�سح ذاكرت ُه بالنوم بين �أح�ضان �أخرى‪.‬‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫ابتهاالت �أمام الكعبة الم�شرفة‬ ‫■ ن�سرين بنت ثاين احلميد*‬

‫م���ن ث��ن��اي��ا ح��ج�� ٍر ال���� ِّرك����نِ انت�شـ ـ ــى‬ ‫خ�����ـ�����ل�����و ٌة ف������ي خ����ي����ر دا ٍر ل���ل���ـ���ـ���ورى‬ ‫‪ ‬ونرج�س‬ ‫ْ‬ ‫م�سك‬ ‫�أ ِر َج الأط���ي���ابِ م��ن ٍ‬ ‫�����س‬ ‫وم�����ن�����اج�����ا ٌة ‪ ‬ب���ف���ج���رٍ ق�����د ت��ن��ـ��ـ�� ّف��ـ ْ‬ ‫�����ص����ل����واتٌ راح����ـ����ـ���� ُة ال�����ـ�����ـ����� ُرّوح ب��ه��ـ��ـ��ـ��ـ��ا‬ ‫ه�����ال�����كٌ ح��������� َّل ب����������وا ٍد م��ـُ��ـ��ـ��ـ��ع�����ش��ـ��ـ��ـ��بٍ‬ ‫�����س‬ ‫وات���������ص����الٌ ب���ح���ب���الِ اهلل ُم�������ؤ ِن��ـ��ـ��ـ ْ‬ ‫�����س‬ ‫ك������ ُّل م����ا ف���ي���ه ُي����غ����ذّي م����ا َت��ـ��ي��ـ��ب��ـ َّ ْ‬ ‫وت����ران����ي���� ُم ال���� َّت����رات����ي����ل ال��ت��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ي‬ ‫������ي ي��رت��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��وي‬ ‫م�����ن غ�����دي�����رٍ زم������زم ٍّ‬ ‫����ص���د َح ال��� ّت���ال���ون ف��ي��ه��ا ب��ال��مُ��ق�� َدّ���س‬ ‫����رو�����ض ل����م ُي��دن�����س‬ ‫ظ���امِ ���ئ���اً ح������� َّل ب ٍ‬ ‫ولآي ال���ذك��� ِر ف���ي ال���� ِّرك����ن �صـ ــدى‬ ‫‪ ‬وارف‬ ‫ٍ‬ ‫غ�����ائ�����ب ٌ ح����ـ����ـ����ـ����نّ ‪ ‬ل����ب����ي����تٍ‬ ‫ي�ستثير ال�سّ مع فيها حين ُي��در���س‬ ‫ك����ل م����ا ف���ي���ه ي�������داوي م����ا ت��وجّ ��ـ��ـ�����س‬ ‫َق��� َم���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ر ُِّي ل���ي��� ُل���ه���ا ف����ي ن���اظ���ري‬ ‫ت�����ائ�����بٌ م�����ن ق���������س����و ِة الإث���������م ‪ ‬وم ــا‬ ‫�����س‬ ‫ي��قِ��ظ ٌب���ال��� ّذك���ر ال ي��غ��فُ��و و َي�� ْن�� َع��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ ْ‬ ‫��و���س‬ ‫����س���او َر ال�� َّن��ف�����س ب��ظ��ل��مٍ ث���م َو���س ْ‬ ‫ت�������س���ت���ر ُي���ح ال���������� ُرّوح ف���ي���ه���ا ك��ـ��ـ��ـ��ـُ��ـ��ـ��ل��م��ا‬ ‫ل�����ي�����واري ������س�����وء َة ال������ َّذن������بِ ال��ـ��ـ��ـ��ذي‬ ‫�����س‬ ‫ذئِ������ب ال����ذن����بُ ب���خ���ب���ثٍ وت��ع�����س��ع��ـ ْ‬ ‫�����س‬ ‫���س��ت��ر ال���رح���م���نُ م���ا �أخ���ف���ى و�أغ��ل ْ‬ ‫ي���ا ل���ه���ذا ال���� َّ���ص���ف���و ي��ج��ل��و ‪ ‬بَذخ ـ َـ ـاً‬ ‫�أودع ال�����داع�����و َن غ����اي����اتِ ال��مُ��ن��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ى‬ ‫َ�����س‬ ‫�����س ف��م��ا �أغْ ���ل���ى َو�أ ْن��ـ��ـ��ف ْ‬ ‫ك����د َر ال�� َّن��ف ِ‬ ‫لحفيظ لي�س م��ن ي��رج��وه ُيفـل ِْ�س‬ ‫ٍ‬ ‫وت����ه����اوت ك������ ُّل ه����ام����اتِ ال��غ��ـ��ـ��ـِ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��وى‬ ‫وا����س���ت���ك���ا َن ال���ع���ب��� ُد ل���ل���م���ول���ى كَ��م��ن‬ ‫ي��ب��ذر ال��ت��وب��ة ف��ي ال���َّ��ص��ح��نَ ويغر�س‬

‫�����س‬ ‫وا���س��ت��ق��ام��تْ ب��ع��م��ا ِد ال ِّ���دي���ن �أن�� ُف��ـ��ـ ْ‬

‫* �أكاديمية و�شاعرة �سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪59‬‬


‫ن�صو�ص �شعرية‬ ‫■ تركية العمري*‬

‫طفلتي‬ ‫طفلتي ‪،‬‬ ‫مخب�أ ُة في غرفة وردية ‪،‬‬ ‫يالعبها �أطفال النجوم ‪،‬‬ ‫ويحر�سها القمر ‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫طفلتي‬ ‫ال�شم�س ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندما تنثر‬ ‫م�سكَ �ضفائرها‪،‬‬ ‫ت�صحو كالن�سيم ‪،‬‬ ‫ف�أح�ضنها ‪،‬‬ ‫و�أزرع في �شعرها‪،‬‬ ‫من الورد وردتين ‪،‬‬ ‫واقبلها قبلتين ‪،‬‬ ‫في�ضحك الزهر ‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫طفلتي ‪،‬‬ ‫كل �صباح ‪،‬‬ ‫تنتعل خُ َّفيْها ال�صغيرين ‪،‬‬ ‫الع�شبيين‪،‬‬ ‫‪60‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫وتعبر الطريق ‪،‬‬ ‫ويعبر المطر ‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫طفلتي ‪،‬‬ ‫ت�شغلها دموع‬ ‫�أ�صدقائها ال�صغار ‪،‬‬ ‫وت�س�ألني دائما ‪،‬‬ ‫عن ا�سم �أم الع�صافير‪،‬‬ ‫و�أين تذهب لـوحدها‬ ‫طوال النهار؟‬ ‫ومن يحني‬ ‫كفوف ال�شجر ؟!‬ ‫‪..‬‬ ‫طفلتي ‪ ،‬مـالك ‪.‬‬ ‫�شد ٌو با�سم هـناك ‪،‬‬ ‫لو وط�أت بقدميها‬ ‫�أديم الكون ‪،‬‬ ‫لغمر البيا�ض‬ ‫قلوب الب�شر ‪.‬‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫غن لي �سامرية‬ ‫غن لي �سامريه ‪،‬‬ ‫�سامرية عا�شق قديم ‪،‬‬ ‫ترك لمحبوبته �سيفـه‪،‬‬ ‫وق�صائد غواية ندية ‪،‬‬ ‫( وما ا�ستراح ) ‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫غـن لي �سامـرية ‪،‬‬ ‫ودع عيوني تمازح‬ ‫ت�أرجح كتفيك ‪،‬‬ ‫ونعا�س يديك ‪،‬‬ ‫وهو يالم�س وجنة الطار ‪،‬‬ ‫فتثور غيرة ريحاً فريه ‪.‬‬

‫‪..‬‬ ‫غن لي �سامرية ‪،‬‬ ‫لنرق�ص ‪،‬‬ ‫وتهتز الأر�ض ‪،‬‬ ‫وتنبت من ج�سدينا ‪،‬‬ ‫و�صوتينا ‪،‬‬ ‫حبا فالنتينيا �أحمر ‪،‬‬ ‫تخلد م�ساءاته �سامرية ‪.‬‬ ‫حبيبي ‪،‬‬ ‫هيا ‪،‬‬ ‫‪..‬‬ ‫غن لي �سامرية ‪.‬‬

‫�صديقتي‬ ‫ل�صدق �صديقتي ظبية ‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫�صديقتي ‪،‬‬ ‫التي عرفتها منذ زمن ‪،‬‬ ‫هناك في بلدة الكذب ‪،‬‬ ‫وكانت تراني ‪،‬‬ ‫و�أنا �أرك�ض ‪،‬‬

‫خلف كلماتي ال�صغيرة ‪،‬‬ ‫وتبت�سم ‪.‬‬ ‫ما تزال تحمل في جيوب معطفها ‪،‬‬ ‫�أ�شياءها الأثيرة ‪،‬‬ ‫ال�صدق ‪ ،‬و�صبح �سريرتها ‪،‬‬ ‫و�أ�سئلتها الحائرة الـمثيرة ‪.‬‬

‫* قا�صة و�شاعرة من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪61‬‬


‫محاكاة‬

‫■ �أحمد قران الزهراين*‬

‫تعاندُ‪،‬‬ ‫لكنها �سوف تبعثُ فيك الحياة‪.‬‬

‫ربما الآن يحلو الحديثُ عن الحبِّ ‪،‬‬ ‫عنها بكاملِ زينتها‪،‬‬ ‫وتفا�صيل �أ�شيائها المرتجاة‪،‬‬ ‫***‬ ‫عن الطرح ِة ال��ـ و�ضعتها على �شعرها‬ ‫قلت‪ :‬هلل ما �أجملك‪.‬‬ ‫الك�ستنائي‪،‬‬ ‫بو ُح قلبك �أندى من الور ِد حال اختاللِ‬ ‫والكحلِ ي�سكن عينين من الزورد‪.‬‬ ‫الف�صولِ ‪،‬‬ ‫ح��دي��ث��ك ع�����ص��ف��ور ٌة ت���رق���بُ ال��� ّن���و َر في‬ ‫***‬ ‫رجف ِة العا�شقين الغالة‪،‬‬ ‫قلت‪ :‬هلل ما �أجملك‪.‬‬ ‫طعم «عينيك �أ�شهى قليال» من الحبِّ ‪ ،‬و�ضحكتُك الماءُ‪،‬‬ ‫�ضحكتك الغ�ض ِة‬ ‫ِ‬ ‫ال طع َم للما ِء من دون‬ ‫و«الروح من �أمر ربي»‬ ‫الم�شتهاة‪،‬‬ ‫وال �صوتَ للعطر �إال على �شفتيك‪،‬‬ ‫وال ث���� ّم م���ا ي�����س��ت��ح��ي��ل ال����ى ج���ن��� ٍة غير وال �شيء ي�شبهك الآن‪،‬‬ ‫ال �شيء‪،‬‬ ‫قولك‪� :‬إني �أحبك‪،‬‬ ‫في البد ِء وال�صد‪.‬‬ ‫ال �شيء ي�شبهك الآن‪،‬‬ ‫�إ ْذ ك ّل ما فيك يغني عن الأ�سئلة‪.‬‬ ‫***‬

‫‪62‬‬

‫رب��م��ا الآن بين يديها ت�صبُّ حروفك‬ ‫***‬ ‫ربما الآن توقظ فيك الحيا َة التي لم ع�شقا‪،‬‬ ‫تنلْ من تفا�صيلها غي َر حلم الطفولةِ‪ ،‬وتوحي لها بالذي لن يكون على غير‬ ‫تحتل فيك م�ساح َة �ضو ٍء من الوجدِ ‪ ،‬رغبتها الأنثوية‪،‬‬ ‫تقر�أ‪،‬‬ ‫تمكرُ‪،‬‬ ‫ترمز‪،‬‬ ‫تغمرُ‪،‬‬ ‫ترق�ص‪،‬‬ ‫تحتدُّ ‪،‬‬ ‫تختال‪،‬‬ ‫ت�سرفُ ‪،‬‬ ‫تغنج‪،‬‬ ‫تبكي‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫تفتن‪،‬‬ ‫وه�� َم الحكايات ت�سر ُح فيها بال �شجنٍ‬ ‫ت�شهق‪،‬‬ ‫واهنٍ م�ستبدٍ ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ترتد عن غيّها المرِّ‪ ،‬كي‬ ‫توقظ الظ َّل ووه َم المكان الذي �سكنته على غير ما‬ ‫من ترب ٍة خلّقتها يداك‪.‬‬ ‫رغبة فيه‪،‬‬ ‫وه��� َم ال��غ��ري��بِ ال���ذي ظ�� ّل ي�شكو ت�ضاد‬ ‫***‬ ‫الم�شاعر‪،‬‬ ‫قلت‪ :‬هلل ما �أجملك‪.‬‬ ‫ح��ي��ن تم�شين ي��رق�����ص ن��ب�����ض ال��ت��راب وه َم الم�سافر حال ارتباك المواقيت‪،‬‬ ‫ال تبتئ�س بالذي قد تراه‪،‬‬ ‫انفعاال‪،‬‬ ‫وخذ من عيونك ما قد ي�شف‪،‬‬ ‫يحاكيك في خفة الم�شي‪،‬‬ ‫وظل على روحك المرت�ضاة‪.‬‬ ‫يخلق من نف�سه �شبها فيك‪،‬‬ ‫لكنّ ‪ :‬ال �شيء ي�شبهك الآن‪،‬‬ ‫***‬ ‫�إذ كل ما فيك يخلو من الأمثلة‪.‬‬ ‫قلت‪ :‬هلل ما �أجملك‪.‬‬ ‫�إنّ رائ��ح��ة ال��ق��م��ح ف��ي راح��ت��ي��ك ع��ب��و ُر‬ ‫***‬ ‫الم�ساكين‪،‬‬ ‫ربما الآن ت�أتي بوزر الطفولة‪،‬‬ ‫�أردي ُة الفقراء الك�سالى‪،‬‬ ‫غير موهومة بالحكايا القديمة‪،‬‬ ‫وم�سرى ر�سولٍ الى قومه باليقين‪،‬‬ ‫ت�صبو‪،‬‬ ‫وموال مغترب ظن في �أو ِّل الأم ِر �أن له‬ ‫تخاطر‪،‬‬ ‫حظو ًة في الوجود‪،‬‬ ‫ت�سمو‪،‬‬ ‫ودف��ت�� ُر �أن��ث��ى ت���ؤن��ب ت�أريخها �إذ م�ضى‬ ‫ت�شاك�س‪،‬‬ ‫الحظ‪،‬‬ ‫دون �أن تقر�أ َّ‬ ‫تمعن‪،‬‬ ‫�أو دونما تقر�أ الحبَّ ‪،‬‬ ‫تن�أى‪،‬‬ ‫قد قلت‪ :‬ال �شيء ي�شبهك الآن‪،‬‬ ‫تماري‪،‬‬ ‫فال تنت�شي دون �أن تعبر الج�سر نحو ال �شيء‪،‬‬ ‫حتى مالمح روحك‬ ‫انفعاالتها‪،‬‬ ‫�ضدّ‪ ..‬و�ضد‪.‬‬ ‫وا�ستعد ما توهمته في الطفولة‪،‬‬

‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪63‬‬


‫رحيق بطعم الحريق‬ ‫(‪)1‬‬

‫ِ�صرْتُ �أُب ِْ�ص ُر �أَنِّي �ضَ رِي ٌر‬ ‫َو�أَنِّي َي ٌد �سُ جِ نَتْ فِي �سَ رِي ْر‬ ‫فِي الطَّ رِيقِ تُطَ ِّو ُقنِي ُنقْطَ ٌة‬ ‫َويُطَ ِّو ُقنِي فِي ا ْلق َِ�صيدِ‬ ‫م َِ�صي ٌر �أَ�سِ ي ْر‬

‫ْ�ض جُ ْدرَانٍ‬ ‫وَحَ ْولِي َبع ُ‬ ‫َتزِي ُد ا ْل ُب ْع َد ُب ْعدَا‬ ‫�أَ َتمَاهَى َم َع ظِ لِّي‬ ‫ال�صمْتَ َمرَّاتٍ َو َمرَّاتٍ‬ ‫َو�أُعِ ي ُد َّ‬ ‫�إِلَى �أَنْ أَ�خْ َتفِي فِي َك ِلمَاتِي‬ ‫َو�أَ ُع َّد ا ْل َوقْتَ َعدَّا‬

‫َل ْم �أَكُنْ �أَعْ لَ ُم �شَ يْئاً عَنْ ب اَِلدِي‬ ‫�إِ َّنمَا ُكنْتُ ا ْل َغرِيبَ ا ْل ِغ َّر‬ ‫�أَعْ يَانِي ا ْلمَ�سِ ي ْر‬ ‫َي ْن َتهِي بِي ا ْل َب ْد ُء فِي ا ْل ُبعْدِ‬ ‫َوفِي ا ْل ُقرْبِ‬ ‫َف�أُ ْنهِي لَحْ ظَ َة ا ْل َب ْد ِء بِ�صَ مْتٍ َ�صائِتٍ‬ ‫�أَ ْو ِبك اَ​َل ٍم ُي ْتعِبُ ا ْل ُع ْم َر ا ْلق َِ�صيرْ‪.‬‬

‫�صَ دِ يقِي َل ْم َي ُع ْد �أَبَداً َ�صدِ يقِي‬ ‫تَجَ ا َهلَنِي مِ ـرَاراً فِي الطَّ رِيقِ‬ ‫�أُ َهــا ِت ُف ُه عَـلَى َر ْقــمٍ جَ ــدِ يدٍ‬ ‫َت ـ ُر ُّد َع ـلَيَّ �أَ ْلــ�سِ َن ُة الْـحَ رِيقِ‬ ‫و َ​َ�ص ـوْتٌ مُـ ْتعَبٌ مِ ـ ْث َل ا ْل َمرَايَا‬ ‫ُي ـ ـ َر ِّد ُد َمـ ـ ــا �أُ َر ِّد ُد َكــا ْل َغرِيقِ‬

‫***‬

‫(‪)2‬‬

‫�أَعُو ُد بِخُ فَّيْ حُ َنيْنٍ‬ ‫النِينْ‬ ‫َوتَ�سْ ِب ُقنِي طُ ُرقَاتُ َْ أ‬ ‫�أَعُودُ‪َ ،‬ووَحْ دِ ي‬ ‫�أَجُ ُّر جِ دَا َر الْحَ نِينْ‬ ‫ف اَ​َل ال�شِّ ْع ُر يَ�شْ فِي‬ ‫وَلاَ الدَّمْ ُع َي ْكفِي‬ ‫َوفِي قَ�سَ مَاتِ الْجَ بِينِ‬ ‫�سِ نِينٌ َتعُدُّ ال�سِّ نِينْ ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫�أُ ِريـ ُد ِكتَا َب َة ذَاتِي الْجَ رِيحَ ْه‬ ‫َو َلكِنْ تَجِ فُّ ُدمُو ُع ا ْل َقرِيحَ ْه‬ ‫َتـ ِف ُّر ا ْلقَ�صَ ا ِئ ُد مِ ـ ْنهَا وَمِ ـنِّي‬ ‫َف�أَ ْبدُو َك َ�أنِّي حُ رُوفٌ َذبِيحَ ْه‬ ‫(‪)4‬‬

‫�إِ َّننِي ُم ْر َتبِكٌ جِ ّداً‬ ‫‪64‬‬

‫■ علي العلوي*‬

‫ * �شاعر من المغرب‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫(‪)5‬‬

‫(‪)6‬‬

‫كُلُّ �شَ يْ ٍء‬ ‫َعلَى مَا ُيرَا ْم‬ ‫َه َكذَا كَا َن َ�صاحِ ُبنَا‬ ‫َيرْ�شُ فُ ا ْل َك ِلمَاتِ‬ ‫َو ُي ْنهِي ا ْلك اَ​َل ْم‬

‫(‪)7‬‬

‫ي�ص‬ ‫‪ ...‬وَجَ ا�ؤُوا �أَبِي ِبقَمِ ٍ‬ ‫َو َق ْد َب َّللُو ُه َعلَى عَجَ لٍ‬ ‫بِنَبِيذٍ رَخِي�صْ‬ ‫َو�أَمَّا �أَنَا‬ ‫فَ�سَ ِكرْتُ ِبدَمْ عِي‬ ‫َوكَا َن لِيَ الدَّمْ ُع َورْداً‬ ‫َووَجْ داً‬ ‫ِي�ص‬ ‫َودَائِي ا ْل َعو ْ‬


‫■ �إبراهيم زويل*‬

‫ف��ي ال��ل��ي��ل‪ ,‬ف��ي ال��ل��ي��ل ف��ق��ط؛ الجنون‬ ‫حكمة‪ ،‬والذكريات حيّة ت�سعى!‏‬ ‫عندما تح�ضرين في البال‪� ،‬أ�سراب من‬ ‫تحط على نا�صيتي‪.‬‬ ‫الطيور ّ‬ ‫كانت ال�شم�س ت�شتبك مع العتمة‪ ،‬حين‬ ‫تهجيت على يديك كلمة «ح ر ي ة»‪ ،‬في‬ ‫الفناء الخلفي للبيت‪ ،‬دون خ��وف من‬ ‫القتلة‪.‬‏‬ ‫ك��ع��ا���ش��ق (ع��ل��ى ا�ﻷ ق�����ل) �أق�����دّر ل��ك ه��ذا‬ ‫ال���دور ال��ت��اري��خ��ي‪ ،‬ال���ذي جعلني �أح��بّ‬ ‫العذاب فج�أة‪.‬‬ ‫ال�سمرة المفرطة في وجوه الجنوبيين‪،‬‬ ‫لي�ست ب�سبب ال�شم�س الم�سعورة في‬ ‫�سماواتهم‪� ،‬إنها ح��زن �شر�س‪ ،‬يفتر�س‬ ‫قاماتهم منذ �ساعات والدتهم ا�ﻷ ولى‪.‬‬ ‫ل��ي��ل��ك �أ����ش���ع���ث �أغ����ب����ر‪ ،‬و�أن�������ت م���دجّ ���ج‬ ‫بمراهقتك الأولى‪ .‬يا للف�ضيحة!‬ ‫‏ا�ﻷ بجدية تفتح ���ص��دره��ا‪ ،‬وت��ق��ول لك‬ ‫دون حياء‪ :‬هيت لك‪.‬‬ ‫منذ �سنوات‪ ،‬و�أنت تحتكرين الق�صيدة‪.‬‬ ‫لم �أعرف‪� ،‬أنك بهذا الغمو�ض المقد�س‬ ‫يومئذ‪.‬‬ ‫عندما تكونين قريبة‪ ،‬ال �أج���ر�ؤ على‬ ‫�إطفاء الم�صابيح‪ .‬ج�سدك معبد بوذي‪،‬‬

‫له طقو�سه المقد�سة‪.‬‬ ‫‏على �شرف الليل‪ ،‬تقيمين حفال �أمميّا‬ ‫في ج�سدي‪.‬‬ ‫النهار‪� :‬ساللة معدّلة من الليل‪ ,‬منزوع‬ ‫عنه الوح�شة‪.‬‬ ‫����س����أغ���ام���ر ب��ال��ي��ق��ي��ن‪ ,‬ح��ت��ى ال ت��ت��ك��رّر‬ ‫المذبحة‪.‬‬ ‫في الليل‪ ،‬ما ال ي�شبه الليل!‏‬ ‫الخرائط �شاخ�صة في ح�ضرة العط�ش‪,‬‬ ‫ عط�ش ال مجاز به ‪ -‬وال��م��اء اليهت ّز‬‫له جفن‪.‬‬ ‫في �ساعات ال�ضحى‪ ,‬تتجمهر الق�صائد‬ ‫ح�صتها‪.‬‬ ‫حول ظاللك‪ ,‬في انتظار ّ‬ ‫�أيتها الأيام‪ ..‬ال �أحب مزاحك ال�سخيف‪.‬‬ ‫ج�سدك �سيدتي‪ ,‬ت��ح��وّل �إل���ى مرافعة‬ ‫تاريخية‪ ,‬للدفاع عن الجمال المطلق‪.‬‬ ‫�أريد ظالماً‪ ,‬يكفل لي عريي‪.‬‏‬ ‫ال ي��زال �أم��ام��ن��ا وق��ت لن�شتري و�سائد‬ ‫ل��ل��ذك��ري��ات‪ ,‬ون��ح��ث��وا ال��رم��ل ف��ي وج��وه‬ ‫النائمين‪.‬‬ ‫ف��ي ال��ط��رق المكتظة ب��ال��م��ارة‪ ,‬يعانق‬ ‫ظلّي ج�سدك بوح�شيّة‪ ,‬دون �أن ن�شعر‬ ‫بت�أنيب ال�ضمير‪.‬‬ ‫تغم�ض عينيها‪ ,‬ثم تهم�س‪� :‬إياك �إياك‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫�شجرة الليل‪ ..‬مغزول ب�إبر الفقد‬ ‫والهزيمة‪� ..‬شذرات‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪65‬‬


‫�أن تقرب ال�شجرة ‏‪.‬‬ ‫ها نب�صر نيرانهم تت�صاعد من كل الجهات‪،‬‬ ‫ي�ؤججون عداواتهم‪ ،‬ال�ضوء لهم �إال م�شعل‬ ‫الفتنة‪ ،‬و�أ�شباحهم التي ي�صطحبونها منذ ‬ ‫ا�ﻷ زل‪.‬‬ ‫كيف ت��م�� ّري��ن ف��ي ال��ب��ال‪ ,‬ول��م تطرقي باب‬ ‫الق�صيدة!‏‬ ‫ال تكتب �شيئاً‪ ,‬حين ال تكون ال�سماء قريبة‬ ‫منك‪.‬‬ ‫لم �أعد �أكترث للثقوب الكثيرة في قمي�ص‬ ‫الليل‪.‬‬ ‫‏الق�صائد ال�ضالّة التي كتبها ال�شعراء في‬ ‫ال�صيف الما�ضي‪ ,‬تجل�س الآن هادئة �أم��ام‬ ‫�صورتك‪ ,‬وتفوح منها رائحة غريبة‪.‬‏‬ ‫ه��ذا ال�سلّم العالي من الحنين‪ ,‬ول��م �أ�صل‬ ‫�إليك بعد!‬ ‫‏قدماك غارقتان في ماء حيائي‪.‬‏‬ ‫تحت نافذة الغواية‪ ,‬تهزمني �سنابلك دائماً‪.‬‬ ‫قل لنا �أيها ال�شاعر‪ :‬كيف انتخبتك الكوارث‪,‬‬ ‫وقلّدتْك تيجانها؟‬ ‫من �أي��ن لي بعيون تب�صر ب�ساتين ج�سدك‬ ‫الالنهائية‪ ..‬عينان ال تكفيان!‬ ‫ي�صطاده المطر‪ ..‬مَن لي�س له مظلة‪.‬‬ ‫هذا الج�سد الذي �أ�سكنه‪ ,‬لم يعد يكترث بي‬ ‫كثيرا‪.‬‬ ‫قلب ال�شاعر مغزول ب�إبر الفقد والهزيمة‪..‬‬ ‫تعالوا لتروا الدم المبجّ ل‪.‬‬ ‫وحيدان‪� ,‬أنا والتبغ‪ ,‬ن�صطاد فرا�شات الليل‪.‬‬ ‫البرد يقطع الم�سافة بين ج�سدين في قبلة‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫الفجر محبرة ا�ﻷ مل‪ ،‬وغناء يمجّ د الحياة‪.‬‬ ‫في الثلث الأخير من الليل‪ ,‬ق�صف مكثف‬ ‫من الوجع على قلوب العا�شقين‪.‬‬ ‫ال م��ع��ن��ى ل���ل���ج���دران‪ ،‬دون ك��ت��اب��ة ال��ع�����ش��اق‬ ‫المهم�شين‪ ،‬ورموزهم ال�سرية!‪.‬‬ ‫لي�س هناك داع للخجل‪ ..‬ال �أحد بينكم يليق‬ ‫بالموت‪.‬‬ ‫ف��ي �ساعات الفجر ا�ﻷ ول����ى‪ ،‬ي�ستعيد الليل‬ ‫�ضوء عينيه‪.‬‬ ‫ر�أ�سي نافذة مفتوحة‪ ,‬هذا �صحيح‪ ,‬لكنها ال‬ ‫تط ّل على �أحد‪.‬‬ ‫«���ض��م��د» م��دي��ن��ة ت��ره��ق ال��م��ع��ن��ى‪ ،‬وتحتفي‬ ‫ب�آخر ع�شاقها‪ ،‬المبلل بالغواية‪.‬‬ ‫ت��ث��اءب ف��ي ه���د�أة ال��ف��ج��ر‪ ،‬ث��م �أل��ق��ى ع�صاه‪،‬‬ ‫وخلفها رائحة التبغ الثمل‪.‬‬ ‫�سئمت من مهادنة ا�ﻷ رق‪ ،‬وهو يحرث حقول‬ ‫ال��روح بمخلب قا�س‪..‬بالت�أكيد له مبرراته‬ ‫ال�سرية!!‬ ‫يرغب في ابت�سامة‪ ,‬لكن مالئكة الفرح لم‬ ‫ت�أت بعد!‬ ‫ه��ا �أن����ت م�����ص��ل��وب ف��ي ح��ق��ل ال���ك�ل�ام‪ ,‬ترفع‬ ‫يمينك مهدّدا بالق�صيدة‪ ,‬وطعم اللهب في‬ ‫فمك‪.‬‬


‫قال �أه ُل الوجدِ ‪..‬‬ ‫والوج ُد تباريح ارتحالْ‬ ‫وتراجي ُع �شجنْ‬ ‫وانثياالتٌ من البوح المعنـ ّى‪ ..‬والخيال‪:‬‬ ‫كن وجوداً‪� ،‬أيُها الإن�سانُ في هذا الوجو ْد‬ ‫كن ح�ضوراً‪ ،‬في �سجالت الخلو ْد‬ ‫كن كما �أنتَ و�أعلنْ‬ ‫ع�����ش��ق��ـَ��ك ال���ب���اه���ي ان����ح����ي����ازاً‪ ..‬الج����ت��ل�اءاتِ‬ ‫الجمالْ‬ ‫للريا�ض الخُ �ضرِ‪ ..‬لغرابيبِ الجبالْ‬ ‫للنجوم ال ُزهـ ْر‪ ..‬ال�ستداراتِ الهاللْ‬ ‫لرحاب الطُ هر‪ ،‬في كل ال�صداقاتِ الجميالتِ‬ ‫اللقاءاتِ الحميماتِ ‪،‬‬ ‫لأخالقِ الرجالْ‬

‫■ �سليمان عبدالعزيز العتيق*‬

‫لغدير المـ ُنحنى‪ ،‬وِرداً‪ ..‬على الماء الزُاللْ‬ ‫ال�شتعال الموقدِ الليـ ّليِّ ‪ ..‬قد لفَّ حواليه‪،‬‬ ‫الحكاياتِ الخلياتِ ‪ ،‬و�أ�شوا َق ال�سَ هارى‪..‬‬ ‫واختالجاتِ الندامى‬ ‫وادكا َر االرتحالْ‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫كن كما � َ‬ ‫أنت‬

‫�أيُها العا�شقُ ‪:‬‬ ‫ف���ي ل��ي��ل ال��م��ح��ب��ي��ن م�������داراتٌ ‪ ،‬م���ن ال��وج��د‬ ‫المعنـ ّى‪..‬‬ ‫ومن ال�شوقِ‬ ‫وفي�ض من تباريح الخيالْ‬ ‫ٌ‬ ‫لفيا�ض ِال�شيح ِوالقي�صوم ِع�شقاً‪ ..‬للخـ ُزامى و�سرا ٌج كلما تطفئ ُه الريحُ‪،‬‬ ‫ولهباتِ ال�صَ با حين تهادتْ ‪..‬‬ ‫يعي ُد البو ُح نا َر اال�شتعالْ‬ ‫ا�شتياقاً وداللْ‬

‫لغ�صون ال�شجر ِالواقفِ ‪ ..‬في واجهة الريح‪،‬‬ ‫بهاءاً واخْ ـتِـيالْ‬ ‫�آهٍ‪ ،‬ما �أعذبَ دمعاً‬ ‫�سال فو َق الخدِ ع�شقاً‪ ..‬وتنزّى‪،‬‬ ‫لع�صافير ِالع�شيات‪ ،‬التي �ضَ جتْ بت�سبيح ٍ‪،‬‬ ‫من �شغاف الروح ِ‬ ‫وحمدٍ ‪ ..‬وابتهالْ‬ ‫من ذكرى بو�سط القلبِ‬ ‫وتغنت في ال�صباحاتِ احتفاءاً‬ ‫بانتثار ِالنور ِمن قارور ِة الليلِ‬ ‫�أغ�ضى ثم �سال‬ ‫واختباء ال�شم�س ِخلف الغيمِ ‪،‬‬ ‫وا�ستدارت حول ُه �أطيافُ عمر ٍ‬ ‫حين ا ْنبَج�ستْ من ُه ا�شتهاءاتُ ال�صحارى‪،‬‬ ‫تق�ضى بنعيم القربِ ‪ ..‬واللقيا‬ ‫قد ّ‬ ‫وابتهاجاتُ التاللْ‬ ‫وب�ستان ِالو�صالْ ‪.‬‬ ‫للظبا ِء العفر لمّا وردتْ‬ ‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪67‬‬


‫خو�ص ِروا َي ٍة‪..‬‬ ‫َل ْ�سنا ُ�ش َ‬ ‫■ الطاهر لكنيزي*‬

‫َعا�صف ٍة تُ�شَ ّيعُها الرُّعو ْد‬ ‫ج��اءَتْ عَلى عَجَ لٍ ك ِ‬

‫نَ�سَ فَتْ مَ���زاراتِ الهُيا ِم و�أقْ�� َب��رَتْ ُك�� َّل ال�� ُوع��و ْد‬

‫ِتلْكَ الّتي كانَتْ تَحوكُ لِحُ ْلمِنا �أزْهى البُرو ْد‬

‫ْفا�س ال���وُرو ْد‬ ‫و ُت�� َد ِّب�� ُج النّجْ وى مُ�ضَ مّخَ ًة ب�أن ِ‬

‫قالَتْ ‪� :‬أُعِ ��زُّكَ َب ْي َد �أ ّن��ي زَهْ �� َر ٌة تَخْ �شى الذُّبولْ‬

‫والْحُ بُّ في َزمَنيعَدي ُمال�صّ ْب ِركالطّ فْلِ المَلولْ‬

‫�إ ّن الهوى ف َْ�ص ٌل و�أ ّي���ا ُم الهوى َق�� ْد ال تَطولْ‬

‫م���ا �أ ْن������تَ �إ ّال واهِ ������ ٌم ي���ا ���سَ �� ّي��دي ف��ي��م��ا َت��ق��ولْ‬

‫خو�ص رِوا َي ٍة َتكْبو َف ُي ْنه ُِ�ضها ال�سُّ �ؤالْ‬ ‫لَ�سْ نا �شُ َ‬

‫جَ �سَ ٌد ورو ُح في ا ْعتِقادي �صَ ْف َو ُة الحُ بّ المِثالْ‬

‫َعي�ش على فُتاتِ الوَهْ ِم في َْدنْيا المُحالْ‬ ‫َفلِما ن ُ‬

‫ْقا�ض َبيْنَ رُكا ِمالخيالْ‬ ‫َق ْدنَ�سْ تَفي ُقغَداًعَلىالأن ِ‬

‫ال��حُ �� ْل�� ُم ِل�� ْل�� ُع�����شّ ��اقِ زا ٌد ط��ا َل��م��ا �أ ْوف����ى العَ�شيقْ‬

‫ل ِكنّني �أنْ�ضو ال�صّ با َب َة مِ ثْلما �أ�سْ لو الرّفيقْ‬

‫َل�� ْو َل�� ْم �أَجْ ��� ْد في روحِ ��� ِه �إ ّال َرم���اداً م��نْ حَ ريقْ‬

‫�أ ْو �شَ بَّ حُ ْل ٌم و�شا َخ ونَحْ نُ في َغ ْي ِر الطّ ري َْق‪..‬‬

‫طارَتْ فَخَ َّلفَتِ الح�شا َكهْفاً لأ�صدا ِء النَّحيبْ‬

‫وَتوا�شَجَ تْ في خاطِ ري الْح�سراتُ والْي�أْ�سُ ا ْلمُذيبْ‬

‫َو َتبَخّ َر الْحُ ْل ُم الغري ُر و�ضَ مّني �صَ مْتٌ رَهيبْ‬

‫�صمتٌ مهيبٌ موغِ ٌل في حكمة ال�شيخ الأريبْ ‪:‬‬

‫ال َتبْكِ مِ ْث َل حَ ما َم ٍة َل�� ْو �سَ ّربَتْ م��ا َء ا ْلهَدي ْل‬

‫لَنْ يحْ َز َن ال�صّ ف�صافُ في الوادي و َي ْك َتئِبَ الأ�صي ْل‬

‫َر ِّم ْم �شُ رو َخ الرّو ِح بال�سُّ لْوانِ وال�صَّ ْب ِر الأثي ْل‬

‫َو ْل َتنْ�سَ �إِلْفاً كا َن وهْ ماً البِ�ساً ُعرْيَ الفُ�صولْ ‪..‬‬

‫ * �شاعر من المغرب‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫احتاج اليوم لمنديل‬ ‫منديل من جوف الأر�ض‬ ‫من ذرات رفات الجد‬ ‫من درع لجنود المجد‬ ‫�أبكي فيخفّف عبراتي‬ ‫�أ�ضحك فيجفّف دمعاتي‬ ‫�أحتاج لمنديل �أخ�ضر‬ ‫يزهر في كفّي باللوز‬ ‫بالخوخ الأ�صفر والتين‬ ‫بجبيني ير�سم �ألوان‬ ‫وبحزني يم�سح �ألوان‬ ‫�أحتاج لمنديل زا ٍه‬ ‫منديل ناعم �أعطاف‬ ‫تجريه الن�سمة بال�شوق‬ ‫من �أعلى ولفوق الفوق‬ ‫لحبيب قد غاب �سالمه‬ ‫وتلفلف وجدا بكالمه‬ ‫ويناظر من بعد البعد‬ ‫فلعل ال�صيف يناديني‬ ‫ولعل الخوف �إلى بعد‬ ‫احتاج لمنديل حاني‬ ‫يبعد عني حر ال�شم�س‪ ‬‬ ‫حر ال�شوق وحر القهر‬ ‫ي�ستر وجهي حين �أذوب‬ ‫بين الرقة والمحبوب‬ ‫ويالم�س كفا ويذوب‬ ‫ينثرني للبعد ال�سابع‬ ‫يدنيني من قلب عطارد‬

‫■ �شاهر النهاري*‬

‫�أحتاج لمنديل يدمع‬ ‫�إن الم�س نب�ضات الحزن‬ ‫في قلب م�صنوع النب�ض‬ ‫يطويني مثل الأحالم‬ ‫يم�سح ت�شويق الأ�سطورة‬ ‫يربطني بغ�صون الورد‬ ‫�أحتاج لمنديل ثائر‬ ‫ي�شطح بي بين الأزهار‬ ‫يعلق في �شوك الأهوال‬ ‫ويغالب كل الأحوال‬ ‫�أحتاج لمنديل �أ�صفر‬ ‫معقود في جرح �سياج‬ ‫والحار�س غ�ضب وفحيح‬ ‫والباكي قلب مذبوح‬ ‫�أحتاج لمنديل طائر‬ ‫يحملني فوق الأعناق‬ ‫وي�شد النحر بترنيمة‬ ‫ي�سمعها طير الوروار‬ ‫�أحتاج لمنديل العمر‬ ‫حر في قول �أو فعل‬ ‫�صدق يرفعني لل�شم�س‬ ‫بحبال من غزل العزم‬ ‫غ�صن يحملني للبدر‬ ‫�أحتاج لمنديل �سحري‬ ‫يكفيني من لوعة عمري‬ ‫ي�صحبني في غمة �صبري‬ ‫وينادي من حفرة قبري‬ ‫ما �أحلى ذاك المنديل‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫منديل‬

‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪69‬‬


‫رب يحميه‬ ‫ِ‬ ‫للبيت ٌ‬ ‫■ �أ�سامة الزقزوق*‬

‫�صهيب‬ ‫منذ خم�سين عاما �أو تزيد‬ ‫جلّد �سميه‬ ‫ونحن نبكيك يا قد�س‬ ‫�سواري �سراقه‪/‬‬ ‫ننثر فوق جراحك‬ ‫بقايا �أطالل ك�سري‬ ‫هيكلك المغت�صب‬ ‫و�شجاعة القعقاع‬ ‫مقد�ساتك‬ ‫وحكمة �أبو عبيدة‬ ‫م�صلى �أنبيائك‬ ‫منذ خم�سين عاما �أو تزيد‬ ‫دماء‬ ‫ون��ح��ن ن����ؤرق ج��دن��ا ���ص�لاح ال��دي��ن في‬ ‫ودموع‬ ‫مثواه‬ ‫القري�ض‬ ‫نلوذ بحمي ر�سول اهلل‬ ‫الق�صيد‬ ‫وندعو بقلوب خا�شعة‬ ‫الم�سيح‬ ‫و�أكف مل�ؤها‬ ‫نلوذ بالذي كان‬ ‫من �صفحات تاريخك المجيد جراحات الأرامل‬ ‫ونجتر �أريج �س�ؤددك التليد و�أنّات الثكالي‬ ‫وزفرات المبقورين من الأطفال‬ ‫منذ خم�سين عاما �أو تزيد‬ ‫ندعو عقب كل �صاله‬ ‫ونحن ن�ستجير بالعمائم‬ ‫يا اهلل‬ ‫البي�ضاء ال�سوداء‬ ‫ك�أننا ن�سترجي ما �أُوعدنا به‬ ‫ن�ستنطق �سيف خالد الم�سلول‬ ‫وك�أننا قد تنا�سينا ب�أنا ل�سنا �أهال‬ ‫�أ�صداء �أذان بالل‬ ‫لهذا الوعد‬ ‫�صبر �أيوب‬ ‫ن�سترجي طيراً �أبابيال‬ ‫ب�شري عمار‬ ‫‪70‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫ع�صفاً‬ ‫�أو ق�صفاً‬ ‫�أو حتي ريحاً �سموما‬ ‫�أو نفثه من ملكة المقرب‬ ‫جبريال‬ ‫�أو حتى عذاب كعذاب هود‬ ‫�أو ثمود‬ ‫يحل بالقوم الظالمين‬ ‫اليهود‬ ‫الزناة‬ ‫الطغاة‬ ‫ويريحنا نحن المتعبين‬ ‫بينما نحن لم نزل على حالنا‬ ‫قاعدين‬ ‫وماكثين‬ ‫نعد حبات الأرز في ب�ؤب�ؤ المها‬ ‫ونغزل خ�صالت ال�شعر‬ ‫على ومي�ض نهود العذارى‬ ‫نبارك �شعر �أبي نوا�س الماجن‬ ‫نربت علي كتف المجنون‬ ‫ون�ستلهم فحولة عنترة في الفرا�ش‬ ‫تاركين لأقدامنا‬ ‫ولر�ؤ�ؤ�سنا‬ ‫حرية الغو�ص في دوامات الرمل‬ ‫وفوق ري�ش النعام‬ ‫بينما �أنت يا قد�س‬

‫على حالك تبقين‬ ‫عارية �أمام الجميع‬ ‫جائعة‬ ‫ظم�آنة‬ ‫محا�صرة‬ ‫مرتعدة �أمام الجميع‬ ‫�سوءاتك مباحة‬ ‫عوراتك متاحة‬ ‫مقد�ساتك منتهكة‬ ‫والكل من �أمامك‬ ‫ومن خلفك‬ ‫وعند �أعتابك‬ ‫وعند حدودك‬ ‫وما وراء حدودك‪...‬‬ ‫وجوم مح�ض �أطياف‬ ‫مح�ض �أ�صداء‬ ‫ومح�ض �أ�شباح‬ ‫ال تملك من �أمرها �شيئا‬ ‫ال تملك �سوي التنديد‬ ‫وال�شجب‬ ‫والخطب الع�صماء‬ ‫الجوفاء‬ ‫وا�ستلهام التراث‬ ‫للبيت رب يحميه‬ ‫للبيت رب يحميه‬

‫ * �شاعر من م�صر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪71‬‬


‫�شهد الحب‬ ‫■ نازك اخلنيزي*‬

‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك‬ ‫ر�سمتكَ‪ ‬كرذاذ‪ ‬المطر‪ ‬‬ ‫و�سكون‪ ‬الم�ساء‬ ‫دثرتك‪ ‬بين‪� ‬أ�ضلعي‪ ‬‬ ‫كر�ؤي‪ ‬الحياة‬ ‫ر�سمتك‪ ‬‬ ‫كلوحة‪ ‬ع�شق‪� ‬سيريالية‬ ‫كمرا�سم‪� ‬صلوات‪ ‬فتية‬ ‫***‬

‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك‬ ‫تغنجت‪ ‬كعرو�س‪� ‬شرقية‬ ‫ر�سمتُ ‪ ‬ب�أحمر‪ ‬ال�شفاه‬ ‫�آالف‪ ‬الورود‬ ‫لأتنف�سك‪ ‬ربيعاً‪ ‬مخملياً‬ ‫راق�صتُ ‪ ‬حنايا‪ ‬اللحن‪ ‬‬ ‫كطفلة‪� ‬شقية‬ ‫على‪ ‬ج�سد‪ ‬البحر‬ ‫نثرتُ ‪ ‬جدائل‪ ‬الأبجدية‪ ‬‬ ‫***‬

‫‪72‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك‬ ‫راجعت‪ ‬حوارنا‪ ‬‬ ‫مرات‪ ‬ومرات‬ ‫من‪ ‬الم�سافات‪ ‬‬ ‫ن�سجتُ ‪ ‬لظى‪ ‬الطريق‬ ‫طبعتُ‪ ‬ابت�سامتي‬ ‫‪ ‬على‪� ‬شفاهي‪ ‬الخجلى‬ ‫لترق�ص‪ ‬النوار�س‬ ‫حتى‪ ‬مطلع‪ ‬الفجر‬ ‫***‬

‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك‬ ‫طويتُ ‪ ‬البعد‪ ‬‬ ‫امتطيتُ‪ ‬الحرف‬ ‫رفعتُ ‪ ‬راية‪ ‬اال�ست�سالم‬ ‫تمردتْ‪ ‬مدن‪ ‬الغ�ضب‬ ‫على‪ ‬حائط‪ ‬المطر‬ ‫ر�سمت‪ ‬مالمحك‪ ‬بالأرجوان‬ ‫***‬


‫***‬

‫لم‪� ‬أفرق‪ ‬‬ ‫بين‪ ‬العقل‪ ‬والجنون‬ ‫لم‪ ‬ي�ستوعب‬ ‫‪ ‬النب�ض‪ ‬م�شاعري‬ ‫لم‪� ‬أبرر‪ ‬لجدائل‪ ‬العمر‪ ‬‬ ‫�سر‪ ‬ق�صائدي‬ ‫عانقت‪� ‬سهام‪ ‬الحنين‬ ‫وغ�سق‪ ‬ال�شمو�س‬ ‫غفوت‪ ‬على‪ ‬حلم‪ ‬‬ ‫ب�شائره‪ ‬ميالد‪ ‬فجر‬ ‫***‬

‫تحت‪ ‬جنح‪ ‬الظالم‪ ‬‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫ابتهلت‪ ‬في‪ ‬محرابي‬ ‫توجتك‪ ‬بكرم‪ ‬عربي‬ ‫تباهيت‪ ‬بين‪ ‬الن�ساء‬ ‫بثورة‪ ‬الحنين‬ ‫خبزتُ ‪ ‬الطيب‪ ‬‬ ‫ا�ستبحتُ‪ ‬النخيل‬ ‫اغت�سلت‪ ‬بماء‪ ‬الورد‬

‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك �سال‪ ‬حرفي‪ ‬عبير‪ ‬من‪ ‬نور‬ ‫رميتُ ‪ ‬تقاويم‪ ‬الزمن‬ ‫هرولتُ ‪� ‬إلى‪ ‬المجهول‬ ‫عارية‪ ‬القدمين‬ ‫ابتكرت‪ ‬طرقاً‪� ‬أخرى‬ ‫ت�سقط‪ ‬في‪ ‬البعد‪ ‬الأخير‬ ‫من‪ ‬تراكم‪ ‬ال�سنين‬ ‫قبل‪ ‬نزوح‪ ‬القمر‪ ‬‬ ‫وقبل‪� ‬أن‬ ‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك ‪ ‬تغادر الأحالم‪ ‬ذاكرتي‬ ‫�شهد الحب‬ ‫***‬

‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك‬ ‫تمردت‪� ‬أنوثة‪ ‬الحرف‬ ‫على‪ ‬حافة‪ ‬القمر‪ ‬‬ ‫جمعت‪ ‬النجوم‪� ‬ضوءها‬ ‫انبثقت‪ ‬خيوط‪ ‬الر�ؤي‬ ‫مطرت‪ ‬ال�سماء‪ ‬ظم�أ‬ ‫�سجدت‪ ‬مالئكة‪ ‬التقوى‬ ‫على‪� ‬أهازيج‪ ‬الرياح‬ ‫احتفاءً‪ ‬باكتمال‪ ‬‬ ‫في‪ ‬طريقي‪� ‬إليك ملحمة‪ ‬الحنين‬ ‫‪ ‬في‪ ‬فردو�س‪ ‬عينيك‬

‫ * �شاعرة من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪73‬‬


‫ال�شاعر‬ ‫ع�����ل�����ي‬ ‫بافقيه‬ ‫■ حاوره‪ /‬عمر بوقا�سم*‬

‫‪74‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫�سعدت كثيرا ب�إنجاز هذا الحوار مع �شاعر كبير‪ ،‬له ح�ضوره‬ ‫المتميز ف��ي الم�شهد ال�شعري ال�سعودي منذ �سبعينيات‬ ‫ال��ق��رن ال��م��ا���ض��ي‪ ..‬ال�شاعر علي بافقيه‪ ،‬وال���ذي يده�شك‬ ‫بق�صيدته التي يحا�صرها بذاته ال�شاعرة‪ ،‬والتي تن�صهر‬ ‫بدفء الذاكرة‪ ،‬وتجربته الحياتية‪ ،‬وعمق ثقافته‪« ،..‬جالل‬ ‫الأ�شجار ‪1993‬م»‪« ،‬رقيات ‪2007‬م»‪� ،‬إ���ص��داران حتما يقوداك‬ ‫لهذا ال�شاعر الكبير‪ ،‬والمُقل ج��دا‪ ،‬ولأ�سباب‪ !..‬باح بها في‬ ‫ثنايا هذا الحوار‪..‬‬ ‫لنقر�أ هذا المقطع من ن�ص لل�شاعر‪ ،‬والمعنون بـ‪« ..‬م�شت‬ ‫امر�أة»‪،‬‬ ‫(مَ�شَ ت امر�أة خارج الباب ْ‬ ‫مَ�شَ ت ِامر�أة في الطريق �إلى بيتها‬ ‫مَ�شَ ت امر�أة في الطريق لبقـ َّالة الحيِّ‬ ‫مَ�شَ ت امر�أة ٌ‬ ‫مَن يُعيـ ُد لمدفونـ َة وجهها‬ ‫من يُعيـ ُد يَديها‬ ‫من يُعي ُد الحقو َل التي ذهبت في الغيابْ‬ ‫مَ�شَ ت امر�أة خار َج البابْ )‪..،‬‬ ‫هذا المقطع بمثابة �إ�ضاءة تقودنا للحوار‪ ،‬ولف�ضاء ال�شاعر‬ ‫علي بافقيه‪..‬‬


‫ال�شاعر العربي �أغالله موجودة في داخله‪ ،‬وفي الوعيه‪ ،‬والوع��ي المحيط‬ ‫االجتماعي‪!..‬‬ ‫ق�صيدة النثر تختلف من ق�صيدة �إلى �أخرى‪ ،‬ومن �شاعر �إلى �آخر‪ ،‬ومن �شظيّة �إلى‬ ‫�شظيّة‪ ،‬بع�ضها �شعر وبع�ضها لون �أدبي‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫ال�ساحة ال�شعرية ال�سعودية من �أه��م ميزاتها �أن البالد �شا�سعة مترامية‬ ‫الأطراف والثقافات‪ ،‬وهذا ي�ضفي تنوّعا وتعدّ دا يثري العملية الإبداعية‪ ،‬وربما‬ ‫يجعلها قابلة لإحداث نقلة في اللوحة ال�شعرية‪!..‬‬

‫كانت �أمي تقول‪� :‬أنت تعي�ش على الورق‪ ..‬وعندما جاءتني البعثة �أخذوا كتبي‬ ‫من مكانها وو�ضعوها في م�ستودع كان في الأ�صل مطبخا‪ ..‬وتركوها للعثة!!‬ ‫ظهور ق�صيدة التفعيلة بلغتها المختلفة‪..‬‬ ‫● ●«جالل الأ�شجار ‪1993‬م‪« ،‬رقيات ‪2007‬م»‪ ،‬هذه‬ ‫الإ�صدارات حتما تقودنا لل�شاعر علي بافقيه‪،‬‬ ‫�أح��د �أب��رز الأ�سماء ال�شعرية ال�سعودية منذ‬ ‫�سبعينيات ال��ق��رن ال��م��ا���ض��ي‪ ،‬وال��ت��ي ك��ان لها‬ ‫دور ف��ي ت�شكيل م�لام��ح التجربة ال�شعرية‬ ‫الحديثة ال�سعودية‪� ،‬شاعرنا الكبير والمتميز‪،‬‬ ‫هل نحظى ببوح خا�ص منك في اتجاه تلك‬ ‫المرحلة؟‬ ‫‪ρ ρ‬المرحلة �أو المراحل التي ع�شتها وعاي�شتها‬ ‫فعليا في الحركة ال�شعرية في المملكة‪ ،‬تبد�أ‬ ‫من �أوائ��ل ال�سبعينيات الميالدية‪ ،‬ال �أع��رف‬ ‫�أي بوح تريد بخ�صو�ص تلك المرحلة‪ ،‬ولكنها‬ ‫بحق مرحلة ثرية وت�أ�سي�سية وخا�صة من زاوية‬ ‫اللغة ال�شعرية والقيم الجمالية الجديدة في‬ ‫ق�صيدتنا المحلية‪� ،‬أي ظهور ق�صيدة التفعيلة‬ ‫بلغتها المختلفة تماما‪ ،‬وجمالياتها الجديدة‪،‬‬ ‫وتجاوزها للغة ال�شعرية ال�سائدة والمبا�شرة‪.‬‬ ‫علينا �أن نتذكر �أن ه��ذه الق�صيدة �أو هذه‬ ‫النقلة العميقة في ق�صيدتنا المحلية ن�ضجت‬ ‫في الظهران‪ ،‬في حرم كلية البترول والمعادن‪،‬‬ ‫ب �ي��ن ي ��دي ال �� �ش��اع��ر ع �ل��ي ال��دم �ي �ن��ي �أواخ� ��ر‬

‫ال�ستينيات وبدايات ال�سبعينيات الميالدية‪،‬‬ ‫وق��د ك�ن��ت م��ح��ظ��وظ�� ًا ب�سبب �إ����ص���راري على‬ ‫العائلة بالت�سجيل في كلية البترول والمعادن‬ ‫�أواخ���ر ع��ام ‪1972‬م‪ ،‬فهناك تفتحت �آف��اق‬ ‫كثيرة �أمامي‪� ،‬آف��اق القراءة والكتابة‪ ،‬و�آف��اق‬ ‫ال�سفر والكتب وال�صداقات‪ ،‬وهناك عرفت‬ ‫اللغة ال�شعرية‪ ،‬وكذلك لغة الفنون الت�شكيلية‬ ‫م��ع �صديقي خالد النزهة رحمة اهلل عليه‪.‬‬ ‫وقد كنا نزور معار�ض الفنون الت�شكيلية‪ ،‬وال‬ ‫�أزال �أتذكر اندها�شي �أمام لوحات البق�شي في‬ ‫�أحد المعار�ض‪ ،‬وبداية تعلمي للغة الت�شكيلية‬ ‫المذهلة التي دلني على دروبها خالد‪.‬‬ ‫ب ��د�أت الن�شر نحو ع��ام ‪1974‬م ف��ي �أدب�ي��ات‬ ‫الكلية‪ ،‬وملحق جريدة اليوم بالدمام‪ .‬هناك‬ ‫اكت�شفت الق�صيدة الجديدة‪ ،‬وب��د�أت �أتجاوز‬ ‫مرحلتي ال�سابقة �شيئا ف�شيئاً‪� .‬أذك��ر �أنني‬ ‫جئت الظهران مغرما ب�أبي القا�سم ال�شابي‪،‬‬ ‫وجبران خليل جبران‪ ،‬وبع�ض ال�شعراء الجدد‬ ‫الم�شهورين الذين ي�صعب عليّ الح�صول على‬ ‫كتبهم‪ ..‬مثل ال�سياب ودروي ����ش والفيتوري‬ ‫وال��م��اغ��وط‪ ..‬قبل ه��ذه المرحلة كنت �أي��ام‬ ‫ال��درا� �س��ة المتو�سطة وال �ث��ان��وي��ة غ��ارق��ا في‬ ‫ال�شعر العربي الكال�سيكي �أو العمودي‪ ،‬قديمه‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪75‬‬


‫وحديثه‪ ،‬وكنت �أعتقد �أن الم�س�ألة لي�ست �أكثر‬ ‫من خروج على �شكل البيت‪ ،‬فقد كنت مغرما‬ ‫ب�شكل ال�شطرين والقافية‪ ،‬ولم �أتخل�ص من‬ ‫هذه الحالة �إال بعد المرحلة الثانوية‪ ،‬عندما‬ ‫اكت�شفت اللغة ال�شعرية الجديدة في التفعيلة‬ ‫وبع�ض ق�صائد النثر‪� .‬أي بعد قراءات وتجارب‬ ‫كثيرة في الحياة والفكر‪ ،‬وكان من بين �أهم‬ ‫تجاربي في ال�شعر والحياة‪ ،‬زياراتي للكويت‪..‬‬ ‫وجلب الكتب ال�شعرية والفكرية التي كنت‬ ‫�أق��ر�أ �أو �أ�سمع عنها وال �أراه��ا‪ .‬حدث هذا بعد‬ ‫مغادرتي للبيت والعائلة في مكة‪ .‬فقد ن�ش�أت‬ ‫في عائلة محافظة جدا‪ ،‬وت�شكلت ذائقتي على‬ ‫الق�صيدة العمودية‪ ،‬وكتبتها كثيرا‪ ،‬ون�شرت‬ ‫بع�ضها‪.‬‬ ‫كتبت كثير ًا وب�شغف في �أواخ��ر ال�سبعينيات‬ ‫الميالدية‪ ،‬وربما تكون هي المرحلة التي كنت‬ ‫غزير الإنتاج فيها‪ ،‬ولكنني للأ�سف لم �أ�ضع‬ ‫ق�صائدي تلك ف��ي ك�ت��اب‪ ،‬ول��م �أحتفظ بها؛‬ ‫ربما ب�سبب و�ضعي الأك��ادي�م��ي الم�ضطرب‪،‬‬ ‫و�شخ�صيتي النافرة‪ .‬يقول بع�ض الأ�صدقاء‬ ‫ممن تعرّف على تلك التجربة‪� :‬إن هذا خط�أ‬ ‫كبير‪ ،‬ومنهم �صديقي و�أ�ستاذي عبدالعزيز‬

‫م�شري‪ ،‬الذي عندما قر�أ مجموعتي الأول��ى‪..‬‬ ‫ات�صل بي �صارخا وم�ؤنباً‪ ،‬لأن��ه لم يجد من‬ ‫ق�صائدي ��س��وى واح ��دة ف�ق��ط‪ ،‬ه��ي ق�صيدة‬ ‫عروة بن الورد التي �أنقذها هو رحمه اهلل‪ ،‬فقد‬ ‫كانت خارج المجموعة‪ .‬ولكن هذا ما ح�صل‪،‬‬ ‫ولم �أعد �أكترث الآن‪ .‬ولأنني ال �أومن بالكميات‬ ‫ف��ي الأع �م��ال الإب��داع �ي��ة‪ ،‬فقد ن�شرت �صفوة‬ ‫ق�صائدي في المجموعتين اللتين ذكرتهما في‬ ‫�س�ؤالك‪.‬‬ ‫الم�س�ألة �شخ�صية‪!..‬‬

‫● ●�أن يكتب �شاعر «م��ا» رواي���ة �أو عمل �سردي‪،‬‬ ‫لم يعد �شيء غريب‪ ،‬فهذه الحالة �أ�صبحت‬ ‫منت�شرة ف��ي ال�����س��اح��ات ال��ث��ق��اف��ي��ة ال��ع��رب��ي��ة‪،‬‬ ‫فمن الكتّاب مَن يرف�ض و�صف هذه الحالة‬ ‫ب��ال��ت��ح��وّل‪ ،‬ب���ل ي��ع��ده ت��وا���ص�لا طبيعيا بين‬ ‫ف�ضاءات الكتابة‪ ،‬ومن حق ال�شاعر �أن يح�ضر‬ ‫في �أي ف�ضاء �إبداعي؛ و�إن هذه الحالة لي�ست‬ ‫بالجديدة على ال�����ش��اع��ر‪ ..‬ومنهم مَ��ن يرى‬ ‫�أن��ه��ا ع��ق��دة الت�صنيف‪ ،‬ول��ه��ا �سلبياتها التي‬ ‫تعاني منها ال�ساحة الثقافية‪ ،‬ال�شاعر علي‬ ‫بافقيه‪ ،‬ماذا يقول؟‬

‫�أ�ستطيع فقط �أن �أقول �إن ال�ساحة الأدبية مبعثرة �إلى حدٍّ كبير‪ ،‬وتطغى عليها‬ ‫المزاجية‪ ،‬وال�شطارة االجتماعية‪ ،‬والعالقات العامة‪ ،‬والعالقات ال�صحافية‪..‬‬ ‫كتبت كثير ًا وب�شغف في �أواخر ال�سبعينيات‪ ،‬ولكنني لم �أ�ضع ق�صائدي تلك في‬ ‫كتاب‪ ،‬ولم �أحتفظ بها؛ ب�سبب و�ضعي الأكاديمي الم�ضطرب‪ ،‬و�شخ�صيتي النافرة‪..‬‬ ‫اكت�شفت اللغة ال�شعرية الجديدة في التفعيلة وبع�ض ق�صائد النثر‪ ..‬بعد‬ ‫ق��راءات وتجارب كثيرة في الحياة والفكر‪ ،‬ومن بين �أه��م تجاربي زياراتي‬ ‫للكويت‪ ،‬وجلب الكتب ال�شعرية والفكرية التي كنت �أقر�أ �أو �أ�سمع عنها وال �أراها‬ ‫‪76‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫ال�شاعر محمد الماغوط‬

‫بدر �شاكر ال�سياب‬

‫والق�ص بطبيعته‬ ‫ّ‬ ‫‪ρ ρ‬هناك مَن يميل �إلى ال�سرد‬ ‫ال�شخ�صية‪ ،‬وهذا ما يجعله ميا ًال �إلى الأعمال‬ ‫ال��روائ�ي��ة رب�م��ا‪ ،‬ول�ه��ذا يبدو ل��ي �أن الم�س�ألة‬ ‫�شخ�صية ب��ح��ت��ة‪ ،‬ف�لا غ��راب��ة ف��ي �أن يكتب‬ ‫�أي �إن�سان بالطريقة التي ي��راه��ا‪ ،‬والأدوات‬ ‫الإب��داع�ي��ة التي يجدها مالئمة للتعبير عن‬ ‫تجاربه ومكنوناته‪.‬‬

‫ال��ح��ال��ي‪ ،‬و���ش��ع��ر الأم����م الأخ�����رى‪ ،‬ل��ن تجعل‬ ‫ك��ف��ة ال��م��ي��زان تميل �إل���ى ���ص��ال��ح��ن��ا‪ .‬ن��ح��ن ال‬ ‫ن��زال مكبّلين ب�أغاللنا»‪ ،‬فكان رد المقالح‪:‬‬ ‫«‪ ...‬لكنني ال �أتردد عن القول ب�أن في �شعرنا‬ ‫المعا�صر ن��م��اذج ت�����س��اوي �إن ل��م تتفوق على‬ ‫بع�ض ن��م��اذج مما ق��ر�أن��اه م��ن �شعر عالمي‪،‬‬ ‫و�أرى �أن الأحداث التي م َّر بها ال�شعراء العرب‬ ‫الحقيقيون قد �صهرت �أرواح��ه��م‪ ،‬وجعلتهم‬ ‫ي���ق���ت���رب���ون ك���ث���ي���راً م����ن ال��م��ع��ن��ى ال��ح��ق��ي��ق��ي‬ ‫لل�شعر»‪ ..‬ما ر�أيك؟‬ ‫‪ρ ρ‬ح���س��ب � �س ��ؤال��ك‪ ،‬ف� ��إن ��س�ع��دي ي��و��س��ف ي��رى‬ ‫�أننا مكبّلين ب�أغاللنا‪ ،‬لهذا لن تميل الكفة‬ ‫ل�صالحنا بالمقارنة مع �شعر الأم��م الأخ��رى‪.‬‬ ‫و�أعتقد �أن مع�ضلة الأغ�لال لها عمق ودالالت‬ ‫كثيرة‪ ،‬ف�أغاللنا‪ ،‬نحن العرب‪ ،‬كثيرة ج��داً‪،‬‬ ‫بل �إنها متنوّعة‪ ،‬وذات مخابىء �سحيقة تنهمر‬ ‫على ال�شاعر من كل ناحية لكي تغلّه‪ .‬وهذه‬ ‫ناحية منطقية‪� ،‬إلى درجة �أن معظم ال�شعراء‬ ‫العرب �أغالله موجودة في داخله‪ ،‬وفي الوعيه‪،‬‬

‫عمل كتابي ال �أعرف ت�صنيفه‪!..‬‬

‫● ●هل لك تجربة مع كتابة الرواية؟‬ ‫‪�ρ ρ‬أتمنى ذلك‪ ،..‬و�إن ح�صل �شيء من هذا القبيل‬ ‫لا كتابيا ال �أع ��رف ت�صنيفه‪،‬‬ ‫ف�سيكون ع�م� ً‬ ‫ولكنني �أ�ستبعد �أن يكون رواية‪.‬‬ ‫● ●في حوار لي مع ال�شاعر عبدالعزيز المقالح‪،‬‬ ‫�س�ألته ع��ن م��ا قاله ال�شاعر �سعدي يو�سف‪،‬‬ ‫�أي�����ض��ا ���ض��م��ن ح����وار ل���ي ك���ان م��ع��ه‪� ،‬إذ ق���ال‪:‬‬ ‫«�إنني متحم�س للعربية و�شعرائها‪ ،‬و�أعتقد‬ ‫�أن ال�شعر‪ ،‬فن ي�ؤخذ بالجد ال�لازم من لدن‬ ‫ال�شعراء ال��ع��رب‪ ،‬لكن المقارنة بين �شعرنا‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪77‬‬


‫وف��ي الوع��ي المحيط االجتماعي �أو الثقافة‬ ‫االجتماعية ال�سائدة‪.‬‬ ‫بع�ضها �شعر وبع�ضها لون �أدبي‬

‫● ●«ق�صيدة النثر ل��ون �أدب����ي‪ ..‬ولي�ست �شعرا»‪،‬‬ ‫هذه مقولة «�أحياها» الأ�ستاذ الأدي��ب محمد‬ ‫العلي في �إحدى مقاالته‪ ،‬ما ر�أيك؟‬ ‫‪ρ ρ‬ق�صيدة النثر تختلف من ق�صيدة �إلى �أخرى‪،‬‬ ‫ومن �شاعر �إلى �آخر‪ ،‬ومن �شظيّة �إلى �شظيّة؛‬ ‫بع�ضها �شعر وبع�ضها ل��ون �أدب����ي‪ ،‬وال تن�س‬ ‫الأغ�لال التي ذكرناها في �س�ؤال �سابق‪ِ .‬قلّة‬ ‫فقط م��ن ال�شعراء والمثقفين ال �ع��رب‪ ..‬هم‬ ‫اال في‬ ‫ال��ذي��ن ك�شفوا وواج �ه��وا ب �ج��ر�أة �أغ �ل� ً‬ ‫داخلهم وخارجهم‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫لنف�سها‪ ،‬وبخا�صة في هذه الأيام ال�صعبة‪� ،‬إذ‬ ‫الدمار والتخلف ماثالن �أمام �أعيننا في البلدان‬ ‫العربية‪ .‬ال�ساحة ال�شعرية ال�سعودية من �أهم‬ ‫ميزاتها �أن البالد �شا�سعة مترامية الأط��راف‬ ‫والثقافات‪ ،‬وه��ذا ي�ضفي تنوّعا وتعدّدا يُثري‬ ‫العملية الإبداعية‪ ،‬وربما يجعلها قابلة لإحداث‬ ‫نقلة في اللوحة ال�شعرية‪ ..‬مثلما حدثت نقلة‬ ‫مباغتة لم تكن متوقعة في الرواية المحلية‪.‬‬ ‫لم يحن الوقت‬

‫● ●ل��ي�����س ه��ن��اك �أث����ر وا����ض���ح ع��ل��ى م�����ض��م��ون �أو‬ ‫�شكل الخطاب الإب��داع��ي‪ ،‬ف��ي ظ��ل التغيرات‬ ‫ال�سيا�سية واالقت�صادية التي ي�شهدها العالم‬ ‫العربي في ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬بر�أيك ما �سبب‬ ‫غياب الأثر؟‬ ‫ال�ساحة الأدبية مبعثرة �إلى حدٍّ كبير‬ ‫‪ρ ρ‬ربما ل��م يحن ال��وق��ت لظهور ولمالحظة �أث��ر‬ ‫● ●تطفو ع��ل��ى ال�سطح االت��ه��ام��ات ب��ي��ن الناقد‬ ‫الأحداث واال�ضطرابات القائمة الآن في العالم‬ ‫والمبدع‪« ،‬النقد ال يواكب الحركة الإبداعية»‪،‬‬ ‫العربي على الأعمال الإبداعية‪.‬‬ ‫«غياب الن�ص الإبداعي الجاد الذي ي�ستحق‬ ‫�أن يقر�أ»‪ ..‬هل تن�صف طرفاً على الآخر؟‬ ‫لم يفاجئني �س�ؤالك‬ ‫‪ρ ρ‬ال‪ .‬ال �أ�ستطيع �أن �أن�صف طرف ًا على الآخ��ر‪● ● ،‬ال�����ص��ح��اف��ة ج���ذب���ت ال��ك��ث��ي��ر م����ن الأ����س���م���اء‬ ‫وذل��ك لأن �أدوات الإن���ص��اف غير م��وج��ودة‪.‬‬ ‫الإبداعية‪� ..‬ألم تكن مغرية لك؟! ولماذا؟‬ ‫�أ�ستطيع فقط �أن �أق��ول �إن ال�ساحة الأدب�ي��ة ‪ρ ρ‬العمل في ال�صحافة من التجارب التي ندمت‬ ‫مبعثرة �إلى ح ٍّد كبير‪ ،‬وتطغى عليها المزاجية‪،‬‬ ‫�أنني لم �أخ�ضها‪ ،‬ولهذا لم يفاجئني �س�ؤالك‪.‬‬ ‫وال���ش�ط��ارة االجتماعية‪ ،‬وال�ع�لاق��ات العامة‬ ‫جاءتني فر�صة في الدمام �أيام الجامعة‪ ،‬و�أكثر‬ ‫والعالقات ال�صحافية‪ ..‬وما �إلى ذلك‪ .‬وهنا‬ ‫من فر�صة في الريا�ض بعد التخرج‪� .‬أذك��ر‬ ‫ال �أقول جديداً‪ ،‬فهذا �أمر ال ينكره �أحد‪ ..‬فقط‬ ‫�أن الزمالء اقترحوا عليّ زاوية في الجزيرة‪،‬‬ ‫بالنوع‬ ‫�أتمنى من الأ�ساتذة والزمالء �أن يكترثوا‬ ‫وعندما دخلت مكتب الدكتور �إبراهيم التركي‪،‬‬ ‫بعيداً عن الأ�سماء وال�صفات‪.‬‬ ‫تناول �أوراقي من يدي‪ ،‬و�أخذني �إلى مكان خلف‬ ‫المكتب‪ ،‬به طاولة �صغيرة م�ستديرة‪ ،‬و�ضع عليها‬ ‫الدمار والتخلّف ماثالن �أمام �أعيننا‪!..‬‬ ‫كومة من الورق‪ ،‬و�أ�شار �إليّ كمن يقول‪ :‬عليك‬ ‫● ●هناك ت�صنيف يقيّم ال�ساحات ال�شعرية من‬ ‫بها‪ ،‬لم نتكلم‪ ،‬كان الرجل لطيفا معي‪� ،‬سوف‬ ‫بلد �إلى �آخر‪ ...‬فمثال‪ ،‬هناك �شعراء ي�صنفون‬ ‫ي�ساعدني لو قلت له �إنني �صفر في ال�صحافة‬ ‫�ساحاتهم ب�أنها الأك��ث��ر ت�ألقا وج��د ِّي��ة‪ ،‬كيف‬ ‫والعالقات العامة‪ ،‬لكنني خ�سرت التجربة‪،‬‬ ‫تقيّم ال�ساحة ال�شعرية ال�سعودية؟‬ ‫وخ�سرت الرجل النبيل‪ .‬قلت في نف�سي‪ :‬يبدو‬ ‫الرجل �إداري ًا ناجح ًا و�أنا �أبدو �صعلوك ًا نافراً‪،‬‬ ‫‪ρ ρ‬لي�س م��ن �صالح �أي �ساحة �أن تكيل المديح‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫وع ��دت �إل ��ى طريقتي نف�سها‪� ..‬أر� �س��ل ن�ص‬ ‫الزاوية بالفاك�س‪ ،‬وال �أزور ال�صحف‪ ،‬وال �أعرف‬ ‫ل�م��اذا‪ .‬م��رة‪ ،‬قبلها ب�سنوات كثيرة‪ ،‬لم يكن‬ ‫ال�صديق ال�شاعر محمد جبر الحربي وا�ضح ًا‬ ‫عندما قال لي في مكتبه في اليمامة‪ :‬هم �سبعة‬ ‫و�أنا �أ�شتغل لوحدي‪ .‬كان يق�صد ثقافة جريدة‬ ‫الريا�ض‪� ،‬إذ كانت لي زاوية �أ�سبوعية �أيامها‪،‬‬ ‫عام ‪1986‬م‪ .‬ولكن لو عر�ضت عليه الم�شاركة‪،‬‬ ‫لجربت نف�سي‪ ،‬وتعلمت �شيئا منه ومن الزمالء‬ ‫هناك‪ ،‬وال �أن�سى �أن محمد الحربي وخديجة‬ ‫العمري كانا �أول من زارن��ي عندما تخرجت‬ ‫وعدت من البعثة‪ ،‬وكانا يرا�سالنني وين�شران‬ ‫ق�صائدي بين عامي ‪1980‬م و‪1986‬م‪ ،‬هذه من‬ ‫�أخطائي الكثيرة ف�أنا من كبار الخطّ ائين كما‬ ‫هو معروف‪.‬‬ ‫الروابط والأخبار والمواقع‬

‫● ●ما المواقع التي تحر�ص على زيارتها على‬ ‫ال�شبكة العنكبوتية؟‬ ‫‪ρ ρ‬ل��دي مجموعتان على ب��ري��دي الإل�ك�ت��رون��ي‪،‬‬ ‫ت�صلني من خاللهما الكثير من المعلومات‬ ‫والكتابات والروابط والأخبار والمواقع‪.‬‬ ‫في م�ستودع كان في الأ�صل مطبخا!‬

‫● ●‪ ..‬هل لنا �أن نتعرف على محتوى مكتبتك؟‬ ‫‪ρ ρ‬كانت �أمي‪ -‬اهلل يرحمها‪ -‬تقول �أنت تعي�ش على‬ ‫الورق‪ ..‬عندما جاءتني البعثة �أخذوا كتبي من‬ ‫مكانها وو�ضعوها في م�ستودع كان في الأ�صل‬ ‫مطبخا‪ ،‬ثم انتقلوا بعد فترة �إلى جدة وتركوها‬ ‫للعثة! معظم كتبي ف��ي الأدب وال�ف�ك��ر‪ .‬في‬ ‫ال�سابق‪ ،‬كان ال�سفر يعني الكتب‪ ،‬وكانت العودة‬ ‫بالكتب مغنم ًا عندما تتخطى المداخل‪ ،‬وعيد ًا‬ ‫عندما ت�صل البيت‪ ،‬وتتكئ �إلى الجدار‪ .‬الآن‬ ‫لم �أع��د �أهتم بت�صفيف الكتب والتحديق في‬ ‫وجوهها الحميمة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪79‬‬


‫�شاعر ي�صعب و�صفه‪!..‬‬ ‫«من �أين جئتِ �إلى البال؟‬ ‫ِ�شا�ش‬ ‫كيف �أقامتْ طيورُك هذي الع َ‬ ‫ب�أ�شجاريَ النائية؟»‬ ‫■ م�سفر الغامدي‬

‫ال يتو�سل علي بافقيه‪ ،‬في تجربته‬ ‫الفريدة‪ ،‬اللغة �أو الق�ضايا الكبيرة‪،‬‬ ‫كما حدث مع معظم �أبناء جيله‪ ،‬بل‬ ‫يحاول‪ -‬كما في المقطع ال�سابق‪-‬‬ ‫�أن يالم�س الق�صيدة الحقيقية‪،‬‬ ‫مجردة من كل الر�شاوي اللغوية �أو‬ ‫الأيدلوجية‪ .‬كثيرا ما يكتب ق�صيدة‬ ‫تتكئ على ذاتها فح�سب‪ ..‬يكتبها‬ ‫أجو�س في‬ ‫ب��روح الخزاف القلق‪ُ � « :‬‬ ‫الطين �أغ ��دو خالق ًا قلقاً‪ /‬ك�أنما‬ ‫الطينُ من خالق ِه انفطرا»‪ .‬يكتبها‬ ‫بطموح المبدع الذي يحاول �أن ي�صل �إلى درجة ي�صعب فيها و�صفه‪� « :‬أ�صفو‪ /‬و�أ�صفو‪ /‬في�صعب‬ ‫و�صفي»‪ .‬لي�ست الم�س�ألة هنا حذلقة لغوية مجانية‪ ،‬بل هي تعبير عن هاج�س يراوده على الدوام‪:‬‬ ‫درجة الكمال في الكتابة‪.‬‬ ‫بافقيه الذي (ي�صعب و�صفه) �شاعر (يمتلئ بالغرفة) التي يراقب منها العالم‪ ،‬لم تعد الغرفة‬ ‫غرفة بل �أ�صبحت العالم ب�أ�سره‪ .‬يحاور التبغ ويدّعي �أن حرفه �صغير في موازاة الدخان الذي يبكي‪.‬‬ ‫هو لي�س �صغيرا كما يقول‪ ،‬لكن طبيعة النحّ ات الذي ي�سكنه‪ ،‬تريده دقيقا وال يفي�ض عن الحاجة‬ ‫�أبدا‪ .‬النحّ ات الذي خلق ليزيح الركام‪ ،‬وليبحث عن جوهر الأ�شياء‪ ،‬ال يريد لكلماته �أن تكون عالة‬ ‫على الحياة‪ ،‬بل �سببا من �أ�سبابها‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫حين ال يكون فينا‪� ،‬شاعرا يوا�صل نحته‪�« ،‬سيره و�أ�سئلته»‪ ،‬زهده في الثرثرة واال�ستعرا�ض‪« ،‬ف�أي‬ ‫هواءٍ يكون هواءً؟‪ /‬و�أي حياة‪ /‬تكون الحياة»‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫«�شاعر غابر في جزيرة العرب‬ ‫يغاوي الجن وي�ساهرهم‬ ‫ثم ينام جنب ناقته غاط�سا في الأوهام‪»...‬‬ ‫والمفارقة الكبرى‪� ،‬أن هذا ال�شاعر يعي�ش‪ ،‬وحيدا‪ ،‬في الم�ستقبل!‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫ال�شاعر الذي عا�ش وحيدا في الم�ستقبل‬

‫■ عبدالعزيز اخلزام‬

‫هذا ال�شاعر الكبير‪ ،‬ال��ذي يعي�ش وحيدا‬ ‫ومحت�شدا وخارجا عن الم�ألوف‪� ،‬سيتذكره‬ ‫التاريخ الثقافي في البالد‪ ،‬بو�صفه كذلك‪،‬‬ ‫واح��دا م��ن �أه��م الكتاب ال��ذي��ن عملوا على‬ ‫ت�صحيح الم�شهد وتخلي�صه م��ن الأوه ��ام‬ ‫وجعله �أك�ث��ر و��ض��وح��ا‪� .‬إن�ن��ا �أم ��ام ك��ات��ب «ال‬ ‫يكفُّ عن ت�أمل ذاته وت�أمل العالم من حوله»‪.‬‬ ‫وطوال معرفتي بهذا الفنان الكبير‪ ،‬ف�إنني لم‬ ‫�أجد من هو �أكثر منه اهتماما بتردّي ال�سلوك العام وت�شوّهه لدى المجتمع‪ .‬و�أنا �شخ�صيا قمت‬ ‫بتحرير العديد من الملفات ال�صحافية عن «ال�سلوك العام» في «البالد» و«عكاظ» بعد �إلحاح‬ ‫كبير ومتكرر منه؛ �إذ كان يمنح هذا المو�ضوع النقطة العليا من االهتمام‪ ،‬وكانت لديه �صرخة‬ ‫عظيمة يريد �أن ت�صل �إلى الجميع‪� .‬إنه كاتب �صادق‪ ،‬ويحمل همّا حقيقيا‪ .‬وحين يرى كثيرون‬ ‫�أن ال�شاعر علي بافقيه هو من �أهم ال�شعراء الذين كتبوا �شعرا حديثا في المملكة‪ ،‬ف�إنني‪ ،‬من‬ ‫زاويتي ال�صحافية‪� ،‬أعتقد �أن بافقيه هو �أي�ضا واح ٌد من �أهم الذين كتبوا المقالة ال�صحافية في‬ ‫المالحق الثقافية‪ ،‬لكن هذه التجربة‪ ،‬للح�سرة‪ ،‬لم ي�ش�أ لها اال�ستمرار‪ ،‬ربما ب�سبب عدم �إتقانه‬ ‫للعالقات العامة‪ ،‬لتخ�سر ال�ساحة المحلية واحدا من �أقدر الكتاب و�أكثرهم وعيا في مناق�شة‬ ‫«الرقع» المظلمة التي تحيط بنا من كل �صوب‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪81‬‬


‫علي بافقيه منذ الخام�سة ع�شرة‪!..‬‬ ‫■ علي بافقيه‬

‫و�إيابا‪ .‬مدار�س الفالح ال�شهيرة‪ ..‬حيث النظام‬ ‫ال�صارم وح�صة المكتبة‪ ،‬وا�ستعارة الكتب‪،‬‬ ‫وكذلك ال�شيخ محمد ن��ور �سيف ال��ذي يجعل‬ ‫ح�صة المواد الدينية ممتعة؛ لغرامه بال�شعر‬ ‫وفنون اللغة العربية‪.‬‬

‫ال�شاعر علي بافقيه في المرحلة الثانوية‬

‫‪82‬‬

‫�أذكر دائما �أنَّ �أمي تحب ال�شعر والغناء و�أبي‬ ‫رحمهما اهلل‪ -‬كان قليل الكالم كثير الت�أمل‬‫ربما لميوله الت�صوفية؛ هذه نقاط م�ؤثرة‪ .‬ولكن‬ ‫م��دار���س ال�ف�لاح بمكة المكرمة‪ ،‬والمكتبات‬ ‫ال�صغيرة التي كانت متناثرة �إلى جانب الحرم‬ ‫ال�م�ك��ي ع�ن��د ال�م���س�ع��ى‪ ،‬عملت ع�ل��ى ت�شكيلي‬ ‫ودخولي �إلى عالم القراءة في وقت مبكر جداً‪.‬‬ ‫لماذا هذه المدار�س رغم بُعدها عن البيت !؟‬ ‫ك��ان الوالد طالبا في مدار�س الفالح وزميال‬ ‫لل�سيد علوي مالكي رحمه اهلل‪ ،‬ول��ه��ذا �أ�صر‬ ‫على ت�سجيلي هناك رغم وجود مدر�سة بالقرب‬ ‫من البيت في الحجون‪ ،‬فكنت �أرك��ب البا�ص‬ ‫�إلى باب �أجياد‪ ،‬ثم �أم�شي �إلى ال�شبيكة ذهابا‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫بعد �ساعة مراجعة مع �أحد المدر�سين في‬ ‫ال�ح��رم نخرج للعب‪ .‬هناك اكت�شفت الكتب‬ ‫والمكتبات ال�صغيرة منذ (راب�ع��ة ابتدائي)‬ ‫هكذا كنا ن�سميها‪ .‬بد�أت كقرء�آت ع�شوائية‪..‬‬ ‫�أذكر منها �أحد مجلدات عنترة بن �شداد‪.‬‬ ‫في المرحلة المتو�سطة اكت�شفت غرامي‬ ‫ب��ال�����ش��ع��ر‪ ،‬و���ش��ارك��ت ف��ي الإل���ق���اء ف��ي �إح���دى‬ ‫المنا�سبات بالمدر�سة‪� .‬صادفت ف��ي جريدة‬ ‫الندوة حوارا من �ضمنه اقتراح لل�شعراء ال�شبان‬ ‫ب��ق��راءة المعلّقات وال�شعر العبا�سي و�شعراء‬ ‫المهجر‪ ،‬وذكر عددا من الكتب منها‪ :‬جواهر‬ ‫الأدب‪ ،‬ودي��وان �أبو القا�سم ال�شابي‪ ،‬وعمر �أبو‬ ‫ري�شة‪ ،‬و�إي�ل�ي��ا اب��و ما�ضي‪ ،‬وغ�ي��ره��ا‪ .‬ف��ي هذه‬ ‫اللحظة عرفت مكتبة الثقافة �أ�شهر مكتبات‬ ‫م�ك��ة ال�م�ك��رم��ة‪ ،‬ث��م ع��رف��ت مكتبة ف��ي القبة‬ ‫(منطقة جنوب حارة الباب) تبيع كتبا رخي�صة‬ ‫وم�ستعملة‪� ،‬أذكر كتاب �أمراء ال�شعر العربي في‬ ‫الع�صر العبا�سي لأني�س المقد�سي‪ ،‬وهو كتاب‬ ‫ر�صين‪ ..‬به درا��س��ات ومختارات لثمانية من‬


‫كنت في الخام�سة ع�شرة وفي ال�سنة الأولى‬ ‫الثانوية ‪ -‬لم يكن نظام الف�صلين الدرا�سيين‬ ‫معموال به حينها ‪ -‬عندما طلبت من المدر�س‬ ‫ا�ستعارة رباعيات الخيام من المكتبة‪ .‬اعتذر‪..‬‬ ‫ولكنه جاءني فيما بعد بدفتر كتبه بيده وقال‪:‬‬ ‫(رجّ عه بكرة)‪� ،‬أفرغت الدفتر كله بيدي على‬ ‫دفتر جديد لكي �أعيده في اليوم الثاني‪ .‬في تلك‬ ‫المرحلة كنت �أكتب و�أقر�أ‪ ،‬عمر �أبو ري�شة‪� ،‬إيليا‬ ‫�أب��و ما�ضي‪ ،‬ن��زار قباني‪ ،‬والملحق الأدب��ي في‬ ‫الندوة وعكاظ‪ ،‬و�أ�ضع ع�شرة رياالت في البريد‬ ‫�أر�سلها �إل��ى بيروت لكتاب �أو كتابين‪ .‬جاءني‬ ‫منها مجموعة (�أزهار و�أ�ساطير) لل�سياب على‬ ‫عنوان مدار�س الفالح‪ ،‬مكة‪ .‬بعدها جاء م�سئول‬ ‫الإعالم ال�شاعر محمد عبدالقادر فقيه ‪ -‬والد‬ ‫وزي��ر العمل المهند�س ع��ادل فقيه‪� -‬إل��ى �أب��ي‬ ‫وق��ال‪ :‬كنا نظنه مدر�س ًا في الثانوية‪ ،‬و�أعارني‬ ‫بع�ض الكتب القيمة‪-‬رحمه اهلل‪ -‬ولكنني توقفت‬ ‫عن الطلب بالبريد خجال منه‪.‬‬ ‫في الثاني الثانوي وجدت نف�سي في الف�صل‬ ‫الدرا�سي للق�سم العلمي‪� .‬أح��د الزمالء قالها‬ ‫مبا�شرة ‪�( :‬أنا ما �أبغى الق�سم العلمي)‪� ،‬أجابه‬ ‫المدر�س ب�أن المدير اختاركم للعلمي‪ ،‬ومن �أراد‬ ‫الق�سم الأدب��ي فليذهب �إلى المدير لت�سجيله‪..‬‬ ‫�أنتم مخيرون‪� .‬أُ�سقط في يدي‪ .‬كنت منده�شا‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫�شعراء تلك المرحلة‪ .‬هذا الكتاب �أو�صلني �إلى‬ ‫المتنبي و�أبي العالء المعري و�أبي نوا�س‪ ،‬وبقيت‬ ‫مغرم ًا ب��أب��ي القا�سم ال�شابي وج �ب��ران خليل‬ ‫جبران الذي كنت �أدور حارات مكة للبحث عن‬ ‫كتبه التي �أراها على الغالف‪.‬‬

‫ومحتارا هل �أذهب للأدبي!!؟ وبقيت منده�ش ًا‬ ‫�إلى اليوم‪ .‬ال �أن�سى ف�ضل ال�سيد محمد ر�ضوان‪،‬‬ ‫مدير مدار�س الفالح عليّ ‪ ،‬فهو ال��ذي دفع بي‬ ‫للق�سم العلمي‪ ،‬فبعد ث�لاث �سنوات �أ�صبحت‬ ‫طالبا في كلية البترول والمعادن في الظهران‬ ‫ال �ت��ي ه��ي الآن ج��ام�ع��ة ال�م�ل��ك ف�ه��د للبترول‬ ‫والمعادن‪.‬‬ ‫في الظهران ول��دت من جديد‪ .‬ذهبت �إلى‬ ‫الكويت با�ستمرار من �أج��ل الكتب‪ .‬في بداية‬ ‫الأمر‪ ..‬كانت هناك كتب بالبال‪ ،‬و�أ�سماء �شعرية‪،‬‬ ‫بحثت عنها وقر�أتها مثل‪ :‬ال�سياب‪� ،‬أدوني�س‪،‬‬ ‫محمود دروي ����ش‪� ،‬أم��ل دن�ق��ل‪� ،‬سعدي يو�سف‪.‬‬ ‫�أع ��دت كثيرا ق ��راءة �أغ��ان��ي مهيار الدم�شقي‬ ‫لأدوني�س‪ ..‬ثم في حفلة لطالب الجامعة وقف‬ ‫ال�شاعر علي الدميني على المن�صة وقر�أ ن�ص ًا‬ ‫عنوانه (ق�صيدة حب �إلى فتاة غامدية)‪ ..‬كانت‬ ‫ق�صيدة مذهلة‪ ،‬لغة �شعرية ج��دي��دة طازجة‬ ‫ومتدفقة‪ ،‬بعدها عرفت علي الدميني ال�شاعر‬ ‫والإن�سان‪.‬‬ ‫ك��ان��ت م��رح�ل��ة ث��ر َّي��ة ب �ح��ق‪ ،‬ق� ��راءة وكتابة‬ ‫و�صداقات‪ ،‬فقد عرفت خاللها مجموعة من‬ ‫كتّاب المنطقة ال�شرقية‪ ..‬منهم عبدالعزيز‬ ‫م�شري‪ ،‬وجبير المليحان‪ ،‬ومحمد الدميني‪،‬‬ ‫ومحمد عبيد ال�ح��رب��ي ال��ذي ك��ان زميلي في‬ ‫الجامعة؛ وتعرفت �إلى زمالء الن�شاط الثقافي‬ ‫الجامعي‪ ،‬وب��د�أت الن�شر في مجالت الجامعة‪،‬‬ ‫وملحق جريدة اليوم الأدب��ي نحو عام ‪1974‬م‪.‬‬ ‫ربما ارتكبت خط ًا �أنني لم �أخ�ض تجربة العمل‬ ‫في ال�صحافة‪ ،‬رغم �أن الفر�ص كانت �سانحة في‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪83‬‬


‫الدمام وفيما بعد في الريا�ض‪.‬‬ ‫تدهور �سجلي الأكاديمي‪ .‬فكنت �أم��ام �أحد‬ ‫خيارين‪� :‬إما �أن �أحوّل �إلى كلية الآداب بجامعة‬ ‫الملك �سعود‪� ،‬أو �أن �أترك هذه الفو�ضى الجميلة‬ ‫الغائرة في طبعي التي كنت غارقا فيها و�أنكب‬ ‫على الهند�سة‪ ،‬فذهبت �إل��ى الخفجي للعمل‬ ‫والقرب من المكتبات في الكويت وعلى �أ�سا�س‬ ‫ابتعاث �إل��ى ال�ي��اب��ان‪ ،‬ث��م ع��دت �إل��ى الجامعة‬ ‫و�أقفلت �سجلي الأكاديمي‪ ،‬و�أ�صبحت موظفا في‬ ‫الم�ؤ�س�سة العامة للكهرباء في الريا�ض‪ .‬على‬ ‫وعد ببعثة لإكمال درا�ستي الجامعية والح�صول‬ ‫على تخ�ص�ص في الهند�سة المدنية‪ ..‬وهذا ما‬ ‫ح�صل‪.‬‬ ‫بعد �سنتين في بو�ستن ب�أمريكا‪ ،‬وقع اجتياح‬ ‫بيروت‪ ،‬فخرجت من عزلتي‪ ..‬و�شاركت الطالب‬ ‫العرب في فعالياتهم وتظاهراتهم‪ ،‬كانت تجربة‬ ‫ف��ري��دة وث��ر َّي��ة‪ ،‬بعدها ح�ضرت ع��دة جل�سات‬ ‫التحاد الطالب الفل�سطينيين بمعية �صديقي‬ ‫و�أ�ستاذي �أحمد الربعي ال��ذي كان يعد ر�سالة‬ ‫الدكتوراه في جامعة هارفارد �أيامها‪ ،‬ولكنني‬ ‫بعد ح�ضور اجتماعين �أو ثالثة‪ ..‬الحظت العداء‬ ‫ال�سافر بين �شباب منظمة فتح و�شباب الجبهة‬ ‫ال�شعبية فتركتهم لتناحرهم وع��دت لعزلتي‪.‬‬ ‫كتبت عدة ق�صائد في بو�ستن منها (الخزاف)‪،‬‬ ‫و(الم�سافة)‪ ،‬و(�أ�شجار ‪� :‬أوراق الحالج‪ ،‬بيروت‬ ‫‪1982‬م)‪ ،‬الأخيرتان ن�شرتا في مجلة اليمامة‬ ‫التي كنت م�شتركا بها وت�صلني با�ستمرار‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫ال�صيخان �إل���ى الأ���س��ت��اذ ع��ب��داهلل ن���ور ال��ذي‬ ‫عانقني ك�أنه يعرفني منذ �سنين‪ ،‬وقال‪ :‬يجب �أن‬ ‫تجمع ق�صائدك في كتاب‪ ،‬ومن خالل ال�صيخان‬ ‫تعرفت �إلى بقية المجموعة الرائعة في الريا�ض‪،‬‬ ‫الذين جميعهم دفعوا بي �إلى الن�شر في ال�صحف‪.‬‬ ‫عر�ض علي �صالح ال�شهوان و�صالح الأ�شقر كتابة‬ ‫زاوية للملحق الأدبي بجريدة الريا�ض‪ ،‬وخطر‬ ‫ببالي ا�سم (لوجه العا�شقة) ولكنهم اقترحوا‬ ‫“ال�ضفة الثالثة” فحذفت التعريف ون�شرت‬ ‫ال��زاوي��ة الأ�سبوعية (�ضفة ث��ال�ث��ة) ‪1986‬م‪،‬‬ ‫واتخذت ا�سم “لوجه العا�شقة” عندما عر�ض‬ ‫علي �صديقي وعديلي فهد العتيق الكتابة لمجلة‬ ‫الجيل‪ ،‬وفي عام ‪ 2000‬م و‪2001‬م‪ ،‬كتبت زاوية‬ ‫(منازل) ن�صف �شهرية لملحق جريدة الجزيرة‬ ‫الثقافي‪.‬‬

‫�صدرت مجموعتي الأولى “جالل الأ�شجار”‬ ‫�أواخر ‪1993‬م‪ ،‬وكنت قد تخل�صت من ق�صائدي‬ ‫القديمة التي كتبتها قبل االبتعاث عام ‪1980‬م‪،‬‬ ‫ن�شرت بع�ضا منها في ال�صحف‪ ..‬ولكنني لم‬ ‫�أحفظها‪ ،‬ال �أعرف �سببا لعدم اكتراثي بالن�شر‬ ‫في تلك المرحلة‪ ،‬في عام ‪2007‬م‪ ،‬كانت لديَّ‬ ‫مخطوطة مجموعة �شعرية‪ ،‬وفي لقاء ب�إذاعة‬ ‫الريا�ض �أتيت على ذكرها مع ال�صديق ال�شاعر‬ ‫عبداهلل الو�شمي فاقترح طباعتها‪ .‬وتم االتفاق‬ ‫ع�ل��ى ط�ب��اع��ة ال�م�ج��وع�ي�ت��ن الأول� ��ى وال�ث��ان�ي��ة‪،‬‬ ‫و�صدرت المجموعتان في كتاب واح��د بعنوان‬ ‫(رقيات يليه جالل الأ�شجار)عن طريق النادي‬ ‫عندما عدت من �أمريكا زرت مجلة اليمامة‪ ،‬الأدبي بالريا�ض والمركز الثقافي العربي بيروت‬ ‫ومن هناك انطلق بي ال�صديق ال�شاعر عبداهلل عام ‪ 2007‬م‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫محاولة لر�صد مداخل الكتابة‬

‫■ �إبراهيم احلجري ‪ -‬ناقد من املغرب*‬

‫ي �ع � ّد ال���ش��اع��ر ع�ل��ي ب��اف�ق�ي��ه م��ن ال���ش�ع��راء‬ ‫المميزين ف��ي التجربة ال�شعرية الحداثية‪،‬‬ ‫بالرغم من قلة المنجزات التي �أ�صدرها؛ نظرا‬ ‫للم�سته الفنية الراقية التي يلتقط بها لحظاته‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬والأ�سلوب العذب والأنيق في مداعبة‬ ‫ال�صور والأحا�سي�س المتدفقة في زمن تحجّ رت‬ ‫فيه ال �م ��آق��ي‪ ،‬وت��آك�ل��ت فيه القيم الإن�سانية‬ ‫الجميلة‪ ،‬مقابل التّهافت على تلبية الغرائز‬ ‫والماديّات اال�ستهالكية المفرطة‪.‬‬ ‫ظ� ّل علي بافقيه متم�سكا بجمالية الكتابة‬ ‫ال�شعرية الأ�صيلة‪ ،‬وخ�صو�صيات الق�صيدة‬ ‫العربية المتناغمة مع �أهدافه وغاياته الإن�سانية‬ ‫والتوا�صلية من الكتابة‪� .‬إذ لم تجرفه الحداثة‬ ‫الهدّامة لمورفولوجية الأجنا�س الأدبية ومنها‬ ‫ال�شعر‪ ،‬ول��م ترقه اال�ستكانة �إل��ى المرجعيات‬ ‫الثابتة والهيروغليفيات الم�سكوكة التي تحنط‬ ‫الكتابة‪ ،‬وتربطها بحبال متما�سكة من الوهم‪.‬‬ ‫وبات ينتقي لب�صمته الأدبية ما بين هذا وذاك‪،‬‬ ‫منقبا عن الجمال حيث كان‪ ،‬من دون خلفيات‬ ‫م�سبقة وال �إي��دي��ول��وج�ي��ا م��وجِّ �ه��ة‪ ،‬وال �أح�ك��ام‬ ‫�سابقة لأوان �ه��ا؛ فهو ت��ارة يعود �إل��ى الق�صائد‬ ‫العربية القديمة التراثية‪ ،‬م�ستعينا ب�أدبياتها‬ ‫الخ�صبة‪ ،‬وم�ضيفا �إليها م��ن معين �إن�صاته‬ ‫للحداثة ال�شعرية العربية والعالمية‪ ،‬وم�ضمّنا‬ ‫لها �أحا�سي�سه ك�إن�سان ينتمي �إلى جوهر الع�صر‪،‬‬ ‫وك�شاعر مت�شبّع بروح الإن�سان الرّاهن‪ ،‬ملتهب‬ ‫تق�ض م�ضجع الب�شر‬ ‫بنار الأ�سئلة الحارقة التي ّ‬ ‫في زم��ن عولميّ ال يهادن وال يجارى ب�سرعته‬ ‫ومخترعاته التي تفاجئ العالم‪ ،‬وتغزو الب�شرية‬ ‫من دون ا�ستئذان‪ ،‬جارفة معها معطيات‪ ،‬ومبدّلة‬

‫لأخرى‪ ،‬ومزعزعة لثوابت‪ ،‬ونا�صبة لقيم جديدة‬ ‫ت�سايرها وتناغم ن�سقها‪ .‬لكن ما يميز �صوت‬ ‫هذا ال�شاعر؛ هو �أنه بات متم�سكا بالأ�صيل في‬ ‫التجربة‪ ،‬وبالراقي في الأحا�سي�س‪ ،‬وبالجميل‬ ‫من الأ�شكال الإ�ستطيقية‪.‬‬ ‫‪ -1‬المرجعية ال�شعرية‬ ‫ينهل ال�شاعر ال�سعودي علي بافقيه من‬ ‫معين مرجعيات متنوّعة‪ ،‬فهو ي�سعى �إلى �إعطاء‬ ‫زخم مرجعيّ لمحكياته ال�شعرية‪ ،‬ويرفدها بكل‬ ‫ما يغذّيها من تجارب �شعرية عربية تخترق‬ ‫الأزمنة‪� ،‬سواء على م�ستوى ال�شكل الذي يتدفق‬ ‫فيه المعنى‪� ،‬أو على م�ستوى المعاني والثيمات‬ ‫نف�سيهما‪ ،‬فنحن ال نلفي ال�شاعر يقد�س نموذجا‬ ‫واح��دا‪ ،‬وال يحر�ص �أب��دا على الوفاء لمرجعية‬ ‫معينة‪� ،‬إذ يجعل الإبداع الإن�ساني برمته جنانا‬ ‫ف�سيحا لخيله التي ال تهادن التجربة‪ .‬وبذلك‬ ‫ا�ستحقّت تجربته ال�شعرية هذا التنوّع واالنفتاح‬ ‫واالنتهاك ال��ذي يجعلها ال تخل�ص �سوى لقيم‬ ‫الجمال والإن�سان‪ ،‬وتتجاوز ما دون ذلك‪ .‬فلي�س‬ ‫ال�شكل هو المهم بالن�سبة �إليه‪ ،‬وال حتى الكتابة‬ ‫نف�سها �إذا ما لم تحترم قيم الب�شرية وت�سمو‬ ‫بها‪ ،‬وتنافح عنها‪ ،‬وتحوطها بالعناية‪ .‬لذلك‬ ‫نلحظ ب�أنه حتى في حالة توزيع ال�سواد والبيا�ض‬ ‫على ال�صفحة له ما يبرره في قوانين الق�صيدة‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬ذلك �أن اكت�ساح ال�سواد يبرز الموقف‬ ‫االنفتاحي‪ ،‬والحاجة �إلى ملء الزمان والمكان‬ ‫ب�أ�شياء خارج الذات‪ ،‬كما يبرز فراغا داخليا يتم‬ ‫التعبير عنه؛ وعلى العك�س من ذلك‪ ،‬يعد اكت�ساح‬ ‫البيا�ضات لل�صفحة ت�أكيدا للموقف االنطوائي‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫التجربة ال�شعرية لدى ال�شّ اعر ال�سعودي عليّ بافقيه‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪85‬‬


‫‪86‬‬

‫والحاجة �إلى الوحدة و�إلى زمان ثابتين تملأهما‬ ‫�أ�شياء نابعة من الذات(‪.)1‬‬ ‫فعلى م�ستوى المرجعيات الخا�صة بال�شكل‬ ‫ال�ف�ن��ي �أو ال�ق��ال��ب ال ��ذي ي���ص��بّ ف�ي��ه �سيولته‬ ‫الم�ضمونية ال�شعرية؛ فقد اختار التنويع بين‬ ‫النموذج ال�شعري القديم متمثال في الق�صيدة‬ ‫الهيكلية العربية المنبثقة ع��ن معيار عمود‬ ‫ال�شعر ‪-‬كما حدده المروزقي على هام�ش �شرحه‬ ‫للمعلقات ال�شعرية العربية‪ -‬فكتب ق�صائد‬ ‫ع��م��ودي��ة ت��ق��وم ع��ل��ى ن��ظ��ام ال��ب��ح��ر ال���ش�ع��ري‪،‬‬ ‫وال���ش�ط��ري��ن‪ ،‬وال� � ��راوي‪ ،‬وال �ق��اف �ي��ة‪ ،‬وال�ع�ل��ل‪،‬‬ ‫والزحافات‪ ،‬ونظام الم�شابهة الموزِّع للعالقة‬ ‫بين الدّال والمدلول والم�شبّه والم�شبه به؛ لكنه‬ ‫ا�ستدمج في ه��ذا الهيكل ال�شكلي مقت�ضيات‬ ‫الحداثة‪ ،‬ومقوّمات ال�سياق؛ بمعنى �أن��ه كيّف‬ ‫ال�شكل مع ال�سيّاق التداولي ال�شعري‪ ،‬وجعله‬ ‫قادرا على م�ساءلة معانٍ محايثة ومعاي�شة؛ ولع ّل‬ ‫الغاية من ذلك‪ ،‬هي مخالفة الأ�صوات ال�شعرية‬ ‫العربية المتمردة التي فهمت الحداثة ال�شعرية‬ ‫على �أنها قفز على عمود ال�شعر وال�شكل ال�شعري‬ ‫القديم‪ ،‬مدّعية �أنّ النّموذج التقليديّ الأ�صيل‬ ‫م��ا ع��اد ق ��ادرا على �أداء ر�سالته ف��ي الع�صر‬ ‫الحديث‪ ،‬وما عاد ق��ادرا على ا�ستيعاب �أ�سئلة‬ ‫ال�شعراء والنا�س في الزمن الحالي‪ .‬ولكي يبيّن‬ ‫�أنّ هذه النظرة هي نظرة قدحيّة ال �أ�سا�س لها‬ ‫ال�صحة‪ ،‬بل هي مجرد انتهاك للأ�صول‬ ‫من ّ‬ ‫و�أقانيم الهويّة ال�شعرية العربية‪ ،‬اقتدا ًء �أعمى‬ ‫ْ��ر���ض ق�صائده‬ ‫ب��ال��ن��م��وذج ال��غ��رب��يّ ‪ ،‬ف���راح ي��ق ُ‬ ‫وفق معيار العمود ال�شعريّ ‪ ،‬م�ضمّنا �إياها كل‬ ‫مقومات الع�صر؛ فك�أنك �أمام �شاعر من الع�صر‬ ‫الأمويّ �أو العبا�سيّ �أو ع�صر النه�ضة يعي�ش في‬ ‫الزمن الحالي‪ ،‬فكانت ق�صائده الجميلة تجمع‬ ‫بين �أ�صالة القديم وحداثة الق�ضايا والأ�سْ يقة‪.‬‬ ‫�أم��ا على م�ستوى الثيمات الم�ست�ضمرة في‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫الق�صيدة ال�شعرية‪ ،‬والتي تلمح �إلى المرجعية‬ ‫ال�شعرية العربية القديمة‪ ،‬ف�إنه ي�سهل علينا‬ ‫ال��ع��ث��ور ع��ل��ى ب��ع�����ض ال��م���ؤ���ش��رات ف��ي مجموع‬ ‫�شعره‪ ،‬فعلى �سبيل المثال‪ ،‬ي�ستح�ضر ال�شاعر‬ ‫م�س�ألة الإلهام ال�شعري التي كانت �سائدة لدى‬ ‫القدامى‪ ،‬خا�صة ما كان ي�صطلح عليه بـ «وادي‬ ‫عبقر» الذي كانت ت�سكنه توابع ال�شعراء العرب‬ ‫من الجنيين‪ .‬يقول علي بافقيه‪:‬‬

‫«كما يت�ضور العا�شق‬ ‫زكما بت�ضور المطعون‬ ‫�أهلكني الت�أمل‬ ‫ك�شاعر غابر في جزيرة العرب‬ ‫يغاوي الجنّ وي�سايرهم‬ ‫ث ّم ينام جنب ناقته غاط�سا في الأوهام»‬ ‫وف�ضال ع��ن ت��ردد �أ� �ص��داء وع��وال��م البيئة‬ ‫العربية القديمة بطقو�سها البدوية‪ ،‬وقيمها‬ ‫ال�شامخة‪ ،‬وب�ساطة العي�ش‪ ،‬وت�شبعها بفنون‬ ‫الأدب والقول‪ ،‬نجد �أن التجربة ال�شعرية لعلي‬ ‫بافقيه‪ ،‬تو�سّ ع �أفقها م��ا �أم �ك��ن‪ ،‬وت�ستح�ضر‬ ‫�أ�سماء وم��راج��ع �شعرية بعينها‪ ،‬للتدليل على‬ ‫هذه العوالم والق�ضايا ال�شعرية العربية القديمة‬ ‫الأ�صيلة‪ ،‬مثل ال�شنفرى وامرئ القي�س‪ ،‬وعنترة‬ ‫العب�سي‪ ...‬وه��ذا اال�ستح�ضار لي�س م��ن باب‬ ‫الهدر ال�شعري �أو الح�شو ال��دالل��ي‪ ،‬بل ليذكّر‬ ‫�أجيال الحداثة المعطوبة‪� ،‬أنّ الق�صيدة العربية‬ ‫القديمة ب�شكلها المخترق للأزمنة‪ ،‬ما تزال‬ ‫تحتفظ براهنيتها‪ ،‬وقيمها الجمالية التي تفوق‪،‬‬ ‫في كثير من الأحيان‪ ،‬ما تزخر به ال�ساحة من‬ ‫ك�لام ع��ادٍ ال عالقة له بال�شعر‪ ،‬وال يمتلك �أي‬ ‫مقوّم من مقوّمات ال�شّ عرية‪.‬‬ ‫وم��ن جهة �أخ ��رى‪ ،‬نجد �أنّ ال�شاعر يكتب‬ ‫ق�صائد التفعيلة بروح �سل�سة‪ ،‬وباحترام كبير‬ ‫لتقاليد الق�صيدة الحداثية الحرة‪ ،‬كما نظر �إليها‬ ‫وقعّد لها الأوائل‪ ،‬بعيدا عن االنتهاكات النثرية‬


‫‪ -2‬الأنوية الم�ستبطنة‬ ‫يجد المت�أمل لأ�شعار علي بافقيه ح�ضورا‬ ‫م�ستبطنا لروح فردانية عالية‪ ،‬ذلك �أن الذات‬ ‫تنكتب‪ ،‬مع مكتوبها على الورق‪ ،‬ويخرج الكالم‬ ‫الرفيع �شعرا ممزوجا بالم�شاعر والأحا�سي�س‪.‬‬ ‫�إذ ت�شكل ال� �ذّات منطلقا ف��ي الكتابة‪ ،‬وب ��ؤرة‬ ‫التوتر التي تحدِ ث عالم النّ�ص‪ ،‬متحفزة بعوامل‬ ‫خارجية‪ ،‬ذل��ك �أن ما يقع في العالم البرانيّ‬ ‫عن ال��ذات؛ ال يكون بمن�أى عن الت�أثير فيها‪،‬‬ ‫بال�ضرورة‪ ،‬يتفاعل مع‬ ‫فال�شاعر ابن بيئته‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ال�سيّاق المحيط به‪ ،‬يت�أثر وي�ؤثر‪ ،‬يفعل وينفعل‪.‬‬ ‫�إنه ي�سعى �إلى خلق عالم فنيّ قادر على الإيحاء‬ ‫ب�صراعية العالم الخارجي الحا�ضر فيه‪ ،‬بل‬ ‫اتجاه عالم فني ي�شعرنا بانك�ساره(‪.)2‬‬ ‫ويع ُّد القول ال�شعريّ هنا �أحيانا‪ ،‬مالذا لدى‬ ‫ال�شّ اعر‪ ،‬ي�سكب فيه عالمه الجوانيّ ‪ ،‬ي�شكو له‪،‬‬ ‫ويم�سح به جراحه الدّاخلية‪ ،‬فف�ضال عن تيمة‬ ‫الع�شق التي تذوّتُ الخطاب ال�شعريّ ‪ ،‬ف�إن هناك‬ ‫�إ�شارات �أخرى للمعاناة الداخلية لل�شاعر‪ .‬وهذا‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫الج�سيمة التي تطول بنية الق�صيدة العربية‬ ‫الحداثية التي تفتقد في كثير من جوانبها‪� ،‬إلى‬ ‫مقت�ضيات ال�شعرية بقيمها الجمالية والداللية‪،‬‬ ‫كما تخلو من كل ما يجعلها رهينة باالرتباط‬ ‫بروح الع�صر و�أ�سئلته‪ .‬وكذا ي�ستح�ضر ال�شاعر‬ ‫تجارب ومراجع �شعرية حداثية قوية مثل تجربة‬ ‫ال�شاعر الأندل�سي الإ�سباني لوركا‪ ،‬الذي بات‬ ‫�صوته المُدمى يترنّح في المنجزات الن�صية‬ ‫العربية �شعرا ونثرا‪ ...‬كما �أنّ ال�شاعر قال �شعره‬ ‫�أي�ضا في �شكل �صيغ ق�صيدة النثر‪ ،‬ليبرهن لمن‬ ‫يتهمه بالتقليدانية �أنه قادر على الكتابة بو�ساطة‬ ‫كل القوالب والنماذج ال�شعرية المعروفة‪ ،‬خالقا‬ ‫نوعا من الت�صالح بين ال�صياغة والتيمة‪ ،‬وبين‬ ‫المتن والمبنى‪.‬‬

‫الأمر لي�س مق�صورا على ال�شاعر بافقيه؛ بل هو‬ ‫مرتبط �أ�صال بالتجربة ال�شعرية ككل‪ ،‬التي تعد‬ ‫خطابا جوانيا‪ ،‬وقوال هجا�سيّا ينبثق عن الفرد‪-‬‬ ‫ال�شاعر �أوال؛ قبل �أن ي�ستعير الوجوه‪ ،‬ويعالج‬ ‫خيبات الآخ��ري��ن‪ ،‬فهو �أق ��رب الأج�ن��ا���س �إل��ى‬ ‫خطاب ال��ذات‪ ،‬والبوح ديدنه الأ�صيل‪ ،‬و�شدوه‬ ‫الجريح‪.‬‬ ‫يقول ال�شاعر في هذا ال�صدد‪:‬‬

‫عرّ�ش الفرح الم ُّر فيّ‬ ‫و�شارف الع ُج‬ ‫ع�شقي م�شارفكم‬ ‫حط طير على القلب‬ ‫ّ‬ ‫حطت نداة‬ ‫وحطت ح�صاة‬ ‫ها �أنا الآن‬ ‫�أ�شعل ناري ال�صغيرة‬ ‫زرقاء‬ ‫زرقاء‬ ‫تبغي �أنا تبغكم‬ ‫والم�سافة �أقرب من مدة‬ ‫في ال�ضلوع»‪.‬‬ ‫‪ -3‬التفكير المحايث للتجربة‬ ‫تدخل الكتابة ال�شعرية لدى علي بافقيه في‬ ‫�إطار ما ي�سمّى بالكتابة الواعية التي تجعل من‬ ‫ال�صوغ‪ ،‬واالنفتاح‬ ‫المعرفة بالخطاب و�أ�ساليب ّ‬ ‫على ال�ع��ال��م وال�م�ع��رف��ة‪ ،‬وتمحي�ص المواقف‬ ‫وال ّر�ؤى من العالم‪� ،‬أ�سّ ًا من �أ�س�س ا�ستراتيجيات‬ ‫الكتابة ال�شعرية‪ .‬وهذا ين�سجم مع حدود وعيه‬ ‫بطرائق ا�شتغاله الإب��داع��يّ ‪ ،‬فهو يجرّب كافة‬ ‫�أن ��واع ال�خ�ط��اب ال�شعري؛ ع�م��ودي��ا وتفعيليا‪،‬‬ ‫ومنثورا‪� ...‬ضابطا الم�سافة بين الأنواع‪ ،‬وواعيا‬ ‫بخ�صو�صيّاتها الم�شتركة وال�ف��ارق��ة‪ ،‬فحينما‬ ‫يكتب بالتفعيلة تجد �أنه �شاعر حداثيّ مجيد‪،‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪87‬‬


‫وك�أنه من رواد هذا النوع؛ ولما يكتب بالعمود‬ ‫ال�شعري‪ ،‬تجد �أنه �شاعر ت�أخّ ر عن زمنه‪ ،‬ولما‬ ‫يكتب بالنثر تلفي �أن��ه خبير في ه��ذا المجال‪،‬‬ ‫وع��ارف بحدود تجليه‪ ،‬ناهيك عن كونه‪� ،‬سواء‬ ‫كتب بهذا الأ�سلوب �أو ذاك‪� ،‬أو �صبّ مادة في هذا‬ ‫القالب �أو ذاك‪ ،‬ف�إنّ روح الع�صر و�س�ؤال الإن�سان‬ ‫تظالن عامال م�شتركا بين �آفاق الكتابة لديه‪.‬‬ ‫‪ -4‬الأنوثة المجازية‬

‫‪88‬‬

‫ي�صنّف المتتبعون تجربة بافقيه ال�شعرية‪،‬‬ ‫�ضمن خ��ان��ة ال�شعر العاطفي �أو ال��وج��دان��ي‪،‬‬ ‫لإ�سرافه في اتخاذ ال�م��ر�أة مو�ضوعة �أ�سا�سية‬ ‫في الكتابة‪ ،‬وجنوحه �إلى اختيار الع�شق ن�سيجا‬ ‫مو�ضوعيا م�شتركا بين �أغلب ق�صائده؛ والأمر‬ ‫هنا ال يخلو من تمويه اال�شتغال‪� ،‬إذ ال يجب مقاربة‬ ‫الخطاب من هذه الزاوية ال�ضيقة‪ ،‬فال�شاعر ال‬ ‫يعتمد القول بالت�صريح‪ ،‬بل بالتلميح‪ ،‬كما �أنه ال‬ ‫يورد ملفوظا �أو مقولة �إال وفق المقا�س الم َفكّر فيه‬ ‫وبه‪� ،‬إذ �إنّ خطابه يرتهن �إلى اال�ستعارة والإحالة‬ ‫والتلميح بدل التقرير والتّ�صريح‪ .‬وهنا‪ ،‬ال بد من‬ ‫ت�أويل الخطاب‪� ،‬إذ عادة ما تكون «المر�أة» مقولة‬ ‫ا�ستعارية تحت�ضن عالمات وخطابات قيميّة‬ ‫متعددة تُ�ستبطن في تلك المفردة الدالة البراقة‬ ‫خا�صة في ال�شّ عر العالميّ ‪ .‬ناهيك‬ ‫التي لها �إثارة ّ‬ ‫عن مو�ضوعة الع�شق ال�ع��ذريّ ال��ذي ي�ستوحيه‬ ‫ال�شاعر هنا للتدليل على بالغة �صوفية رقراقة‪،‬‬ ‫الهدف منها التحفيز على ال�ع��ودة �إل��ى القيم‬ ‫الإن�سانية الرفيعة التي جبل عليها الإن�سان‪،‬‬ ‫وتُختَزل هذه القيم كلّها في قيمة «الع�شق» بمعناه‬ ‫ال�سّ امي‪ ،‬ال بمعناه القدحيّ الذي ي�ستعمل الآن‪،‬‬ ‫ف��ي زم��ن ال�م��ادي��ات للتغرير واال� �س �ت��دراج نحو‬ ‫حاجات بيولوجية غريزية‪� ،‬إذ �إنّ انهيار القيم‬ ‫كلها؛ يبتدئ من انهيار قيمة المحبة والع�شق في‬ ‫تجلياتهما المختلفة والمتداخلة‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ويذهب الناقد محمد جميل المذهب نف�سه؛‬ ‫حينما ي�ؤكد على �أن ال�شاعر بافقيه يقنّع مفهوم‬ ‫«الأن��وث��ة» ويو�سّ عه ما �أم��ك��ن؛ لي�ستعيد مخيال‬ ‫البداوة بكل تجلياته‪ ،‬ويرمّم ذاكرة قديمة‪ ،‬من‬ ‫رماد ن�صو�ص تظل تقرع الإن�سانية المفرطة التي‬ ‫تزخر بها �آذان بني الإن�سان‪ ،‬ويعتقد �أنّ تجني�س‬ ‫النّ�ص ال�شعري لدى بافقيه‪ ،‬وت�أنيث ن�صو�صه‬ ‫ينطوي على تعالق حميم بين ت�أنيث الن�ص‪ ،‬وما‬ ‫يقابله من تعبير يحرّ�ض على �شعريّة من�سجمة‬ ‫مع هويّتها؛ حيث الرّقة‪ ،‬والرّهافة‪ ،‬وال�شفافية‪،‬‬ ‫واللمعان‪ .‬فال�شاعر ال ير�سم معنى «الأن��وث��ة»‬ ‫كعالقة �إن�سانية �ضمن مفهوم الغزل القريب‬ ‫فح�سب‪ ،‬ب��ل ي�خ�ت��رق الأن��وث��ة ك�م�ج��از جمالي‬ ‫للحياة‪ ،‬معبّرا عن �إح�سا�سه ذاك عبر العديد‬ ‫من �أطيافها‪ ،‬ومعانيها‪ ،‬و�أ�شيائها في ت�أويل يدمج‬ ‫المعنى المجازي مع معناه الحقيقيّ (‪.)3‬‬ ‫وب�صفة عامة‪ ،‬يمكن القول �إن ال�شاعر يكثّف‬ ‫مقولة الأنوثة‪ ،‬ويقتفي �آثار الدالالت المتفجرة‬ ‫من المعاني المتجاورة‪ ،‬لتكون‪ ،‬بذلك‪ ،‬مقولة‬ ‫حاملة لقيم مختزلة موحية‪ ،‬موظفا ال� ّرم��وز‬ ‫ال��ق��ادرة على �شحن ال���ذاك���رة‪ ،‬ودع��وت��ه��ا �إل��ى‬ ‫الإف�صاح عن التفا�صيل ال�شّ اردة الم�ستبطنة‪،‬‬ ‫وهكذا تكون الق�صيدة �أكثر قدرة على تو�صيل‬ ‫ال �دّالالت المحايثة لمعنى الأن��وث��ة بقناع واحد‬ ‫وتمظهر فريد‪ ،‬يكثفهما التّرميز‪ ،‬ويجعل منهما‬ ‫غطاء �سميكا للفتنة(‪.)4‬‬ ‫يقول ال�شاعر‪:‬‬

‫«�آن لهذا القلب �أن يغني‬ ‫�أو �أن يعود عودا‬ ‫�آن له �أن ير�شق الطريق‬ ‫�أن ير�شق الممر والزميل‬ ‫والبيت والإ�سفلت وال�صديق‬ ‫�آن لهذا القلب �أن يعودا»‬


‫‪ -5‬المتناظرات الخطابية‬ ‫تتناظر الخطابات ف��ي كتابة علي بافقيه‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬فهو يكتب ال�شعر بكل ال�صيغ التي‬ ‫عرفها ال�شعر العربي طيلة مراحل تاريخية‪:‬‬ ‫الق�صيدة العمودية‪ ،‬المرتبطة بعمود ال�شعر‪،‬‬ ‫والمطورة له‪ ،‬ق�صيدة التفعيلة المرتبطة بال�شعر‬ ‫الحر وخ�صو�صياته المعروفة‪ ،‬ثم ق�صيدة النثر‬ ‫وانتهاكاتها التي قوّ�ضت المعايير ال�سالفة التي‬ ‫�سطّ رها النموذجان ال�سابقان‪.‬‬ ‫ويتمظهر �أ�سلوب التناظر �أي�ضا‪ ،‬بخ�صو�ص‬ ‫الخطابات ال�شعرية‪ ،‬من خالل التّقابل داخل‬ ‫الديوان نف�سه‪ ،‬بين الأ�شكال والقوالب‪� ،‬إذ ي�صبح‬ ‫العمل ال��واح��د‪ ،‬مت�ضمنا لأك�ث��ر م��ن �صيغتين‪،‬‬ ‫فتتعاي�ش الأ�شكال والنماذج‪ ،‬وتتجاور‪ .‬وفي ذلك‬ ‫ر�سالة مغزاها �أن الإ�شكال ال يكمن في النوع �أو‬ ‫�أ�سلوب الخطاب‪ ،‬بل يكمن في الداللة الم�سكوبة‬ ‫فيه‪ ،‬وك�أنه ال يعير �أهمية للقوالب وال�صياغات‪،‬‬ ‫علما ب���أن الأ�شكال هي الأخ��رى �أ�صبحت دالة‬ ‫في ال�شعرية الحديثة؛ لذلك‪ ،‬تفنن ال�شعراء‬ ‫في ر�سم لوحات بق�صائدهم طافحة بالتنوع‬ ‫والغنى والمعاني‪ .‬يقول ال�شاعر ح��ول تجربته‬ ‫في التعدّد الخطابي‪« :‬كانت ق�صائدي الأول��ى‬ ‫�أو بواكيري‪� -‬إن �شئت‪ -‬على ال�شكل العمودي‪.‬‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫بع�ض ح ��وارات ال�شاعر ف��ي و�سائل‬ ‫و ُت�ب� ّي��ن ُ‬ ‫الإعالم �أنه واع بطبيعة هذا التوظيف المجازيّ‬ ‫للأنوثة‪� ،‬إذ يقول‪« :‬ت�أخذ ال�م��ر�أة وتداخالتها‬ ‫وتجلياتها الإن�سانية والأنثوية الجزء الأوفر في‬ ‫مجموعتي ال�شعرية «رق���ي���ات»(‪ ،)5‬وبخ�صو�ص‬ ‫م �ف��ردات (ال��رق��ة وال��ه��ي��ام واال���ش��ت��ي��اق)‪ ،‬فهي‬ ‫مفردات الحياة الإن�سانية ال�سويّة‪ ،‬و�سوف �أبقى‬ ‫و�أم��وت م�شتاقا وهائما‪ .‬لي�س الأم��ر عذريا‪...‬‬ ‫فالمر�أة ام��ر�أة‪ ،‬والرجل رجل‪ ،‬كل ما في الأمر‬ ‫�أنني �أتعامل مع ال�م��ر�أة ب�شرا �سويّا‪ ،‬ح ّب ًا في‬ ‫المر�أة والدفاع عن �إن�سانيّتها(‪.)6‬‬

‫ن�شرت منها قليال في ال�سّ بعينيات‪ ،‬ثم اكت�شفت‬ ‫ج��وه��ر ق���ص�ي��دة ال�ت�ف�ع�ي�ل��ة‪ ،‬وذه �ل��ت بغياهب‬ ‫النّ�ص و�شوارده وتجلياته في ق�صيدة التفعيلة‪.‬‬ ‫مجموعتي الأخ �ي��رة ق�صائد تفعيلية �أحيانا‪،‬‬ ‫تت�سرّب بينها �أبيات تناظرية (عمودية)‪ .‬وفي‬ ‫المجموعة الأول��ى(‪ )7‬توجد ق�صائد نثر»(‪� .)8‬إن‬ ‫تناظر الأ�صوات وتراكمها‪ ،‬واللعب بالكلمات‪،‬‬ ‫وت�شاكل التركيب‪ ،‬ودورية المعنى وكثافته‪ ،‬وخرق‬ ‫ال��واق��ع‪ ،‬على �أن ه��ذه الخ�صو�صيات احتمالية‬ ‫تتحقق بح�سب المق�صديّة االجتماعية(‪.)9‬‬ ‫ول��م يقت�صر التناظر ف��ي تجربة ال�شاعر‬ ‫على الخطاب و�أ�ساليب ال�صياغة‪ ،‬بل يتجاوز‬ ‫هذا الم�ستوى‪ ،‬ليعرّج على م�ستوى االتجاهات‬ ‫ال�شعرية‪� ،‬إذ ي�ق��ول «ك��ان ت ��أث��ري ف��ي البداية‬ ‫وخا�صة‬ ‫ّ‬ ‫بال�شعر العربي القديم والمهجري‪،‬‬ ‫�شعر جبران خليل جبران‪ ،‬ثم �أي��ام الجامعة‪،‬‬ ‫بد�أ اهتمامي بال�شعر المعا�صر العالمي والعربي‪.‬‬ ‫لم �أحدّد مدر�سة معينة‪ ،‬غير �أنني كنت معجبا‬ ‫بال�سُّ رياليين في فترة معينة‪ ...‬هذا �أكثر تدفقا‬ ‫وعفوية عامرة»(‪.)10‬‬ ‫وال بد من الإ���ش��ارة �إل��ى �أنّ التناظر يطول‬ ‫م�ستوى �آخ��ر هو م�ستوى التفاعالت الن�صية‪،‬‬ ‫�إذ يتفاعل ال�شاعر مع الحداثة ال�شعرية بقدر‬ ‫ما يعود �إلى المرجعيات التراثية والفلكلورية‪،‬‬ ‫فالحداثة تفر�ض نف�سها عليه بحكم �أنه يعي�ش‬ ‫متغيراتها‪ ،‬و�أما التراث والفلكلور فيقول عنهما‪:‬‬ ‫«الفلكلور ب�شكل عام‪� ،‬سواء في القرية �أو البادية‬ ‫�أو المدينة في البر �أو البحر به ث��راء التجربة‬ ‫الإن�سانية والإب��داع�ي��ة‪� .‬إن الت�شرّب بالفلكلور‬ ‫والتّراث قد ي�ضيف �إلى الن�ص الأ�ساطير التي‬ ‫ب�إمكانها �إث��راء النّ�ص الإبداعيّ �أ ّي� ًا كان نوعه‪،‬‬ ‫�إذا كانت مت�سرّبة في خاليا الن�ص‪ ،‬وفي خاليا‬ ‫المبدع‪ ،‬ولي�س على �شكل نتوءات‪ .‬وهكذا‪ ،‬يمكن‬ ‫ا�ستخدام مفردات البداوة في �أهازيج المدينة‪.‬‬ ‫وال نن�سى �أنّ كل المجتمعات الب�شرية كانت في‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪89‬‬


‫يوم من الأيام مجتمعات بدوية»(‪.)11‬‬ ‫�إن ه��ذا ال�ت�ن��اظ��ر ال �ح �ي��ويّ المفعم ب��وع��يٍّ‬ ‫بخرائط الكتابة‪ ،‬يجعل النّ�ص �أفقا مفتوحا‬ ‫على العالم وعلى �أجنا�س الخطاب‪ ،‬قادرا على‬ ‫ا�ستيعاب الأ�سئلة الآن�ي��ة المتجددة للإن�سان‬ ‫العربي ال��ذي يتفاعل‪ ،‬ب�شكل من الأ�شكال‪ ،‬مع‬ ‫الم�ستجدات التي ت�سكبها الحداثة والعولمة‪.‬‬ ‫�إن المعار�ضة التي يقيمها ال�شاعر هنا؛ لي�ست‬ ‫معار�ضة �ساذجة تحاول �أن تتفوّق في ال�شعر‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل هي معار�ضة ا�ستعارتْ �إطارا قديما‬ ‫ما�ض وحا�ضرٍ ‪،‬‬ ‫لتبثّ ‪ ،‬من خالله‪� ،‬أحكاما على ٍ‬ ‫وتوحي‪� ،‬أثناءه‪ ،‬بتوجيهات‪ .‬تتحوّل المعار�ضة‪،‬‬ ‫بالمعنى الم�ؤ�سّ �س لها هنا‪� ،‬إل��ى مختبر فنيّ ‪،‬‬ ‫تتالقح فيه التّجارب الفنيّة المختلفة‪ ،‬وتتبادل‬ ‫خالله ال ّت�أثيرات‪ ،‬المبا�شرة وغير المبا�شرة‪،‬‬ ‫للداللة على العالقة التفاعلية(‪.)12‬‬

‫خاتمة‬ ‫تتميز تجربة ال�شاعر علي بافقيه بالثراء‬ ‫والتعدّد‪ ،‬واالنفتاح‪ ،‬خالقا بذلك‪� ،‬صوته الممتد‬ ‫الجذور �إل��ى الما�ضي العتيق‪ ،‬بقيمه ال�شعرية‬ ‫وف�ضاءاته المتجددة عبر ال��ذاك��رة الن�صية‪،‬‬ ‫والم�ست�شرف لآف��اق �أ�سئلة ال�ف��رد والجماعة‬ ‫المتنا�سلتين من رحم التغيير الذي يطول العالم‬ ‫بف�ضل مبتكرات الع�صر‪ ،‬وت�ب��دل الفل�سفات‬ ‫والإي��دي��ول��وج �ي��ات‪ ،‬وال�ق�ي��م ال�ت��ي تنتجها هذه‬ ‫العقليات الجديدة‪.‬‬ ‫�إن ق�صيدة علي بافقيه بقدر ما ت�ست�ضمر‬ ‫تجربة �إن�سانية فردية وجماعية‪ ،‬فهي �أي�ضا تُع ّد‬ ‫مخزونا ثقافيا‪ ،‬لما تزخر به من معطيات تراثية‬ ‫وفلكلورية‪ ،‬ولما تحمله بين طياتها من ن�صو�ص‬ ‫غائبة‪ ،‬لتنطبق عليها ت�سمية التّحف الفنية‬ ‫المكتملة‪ ،‬التي يلتحم فيها الإن���س��ان بعالمه‬ ‫الجواني والبراني‪ ،‬وبمجاله الجغرافي المتعدد‪،‬‬ ‫مبرزا �أثره الفاعل والمنفعل‪.‬‬

‫(‪.Tajan, A. et G. Delage: écriture et structure, Payot, paris, France, 1968. P. 127 )1‬‬ ‫(‪ )2‬يمنى العيد‪ :‬في القول ال�شعري‪ ،‬دار توبقال للن�شر‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة الأولى‪1987 ،‬م‪� ،‬ص‪.‬‬ ‫‪.166‬‬ ‫(‪ )3‬محمد جميل �أحمد‪ :‬علي بافقيه‪ ،‬مجاز ال�شعر والأنوثة‪ ،‬الحياة اللندنية‪ ،‬عدد ‪ 7‬غ�شت ‪2007‬م‪.‬‬ ‫(‪ )4‬المرجع نف�سه‪.‬‬ ‫(‪ )5‬علي بافقيه‪ :‬رقيات‪ ،‬مجموعة �شعرية‪ ،‬الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الأولى‪،‬‬ ‫‪1993‬م‪.‬‬ ‫(‪ )6‬حوار �أج��راه مع ال�شاعر علي بافقيه ال�صحفي فتح الرحمن يو�سف‪ ،‬في جريدة ال�شرق الأو�سط‪ ،‬العدد‬ ‫‪ ،11034‬بتاريخ ‪ 12‬فبراير ‪2007‬م‪.‬‬ ‫(‪ )7‬علي بافقيه‪ :‬جالل الأ�شجار‪ ،‬مجموعة �شعرية‪ ،‬النادي الأدبي بالريا�ض والمركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫لبنان‪2007 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )8‬حوار مع ال�شاعر علي بافقيه‪� ،‬سابق الذكر‪.‬‬ ‫(‪ )9‬محمد مفتاح‪ :‬تحليل الخطاب ال�شعري (ا�ستراتيجية التنا�ص)‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البي�ضاء‪،‬‬ ‫المغرب‪ ،‬الطبعة الرابعة‪2005 ،‬م‪� ،‬ص‪.16 .‬‬ ‫(‪ )10‬حوار مع ال�شاعر علي بافقيه‪� ،‬سابق الذكر‪.‬‬ ‫(‪ )11‬حوار مع ال�شاعر علي بافقيه‪� ،‬سابق الذكر‪.‬‬ ‫(‪� )12‬أحمد زنيبر‪ :‬المعار�ضة ال�شعرية‪ ،‬دار ابي رقراق للطباعة والن�شر‪� ،‬سال‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة الأولى‪2008 ،‬م‪،‬‬ ‫�ص‪.52 .‬‬

‫‪90‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫المركزية العربية �أ�سهمت في تهمي�ش الأدب‬ ‫ال�سوداني‪ ،‬وفي جيل الغربة �أمل كبير في خلخلة‬ ‫ال�سلبيات وا�ستعادة الح�ضور‬

‫ال����������روائ����������ي‬ ‫ال�������س���ـ���ـ���ودان���ي‬ ‫«ح��� ّم���ور زي�����ادة»‬ ‫ل�����ل�����ج�����ـ�����وب�����ـ�����ة‬ ‫ال���ث���ق���اف���ي���ـ���ـ���ة‪:‬‬ ‫�شوق الدروي�ش نتـاج‬ ‫ان�شــغـــالي ب�أ�سـئــلة‬ ‫ال��ي��ق��ي��ن ال��م��ط��ل��ق‬ ‫وال�����ق�����ف�����ز ع��ل��ى‬ ‫النموذج الإن�ساني‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫الرواية ال�شفاهية �أقرب للذهنية ال�سودانية‪،‬‬ ‫وروايتي لي�ست تاريخ ًا للمهدية‬

‫الت�صوّف ال�سوداني ثقافة �شعبية �أكثر منه توجه ًا‬ ‫دينياً‪ ،‬وحراكه ال�سيا�سي مهدد بالزوال‬ ‫تد�شين «نوبل عربية» يحتاج لمو�ضوعية ثقافية‬ ‫مفتقدة لدينا كعرب‪ ،‬والجوائز الحالية تكفي‬ ‫الق�صة الق�صيرة جن�س مختلف وم�ستقل عن جن�س‬ ‫الرواية‪ ،‬والخلط بينهما خط�أ �شائع‬ ‫الحركات الدينية واقعها مت�شابه في اعتقادها‬ ‫ملكية اليقين المطلق‪ ،‬وفهم ر�سالة اهلل في محاكمة‬ ‫النا�س وحكم الأر�ض‬

‫رغم �آالم الغربة وهموم االغتراب‪ ،‬يظل م�شغو ًال بم�شروعه‬ ‫ال على عاتقه‬ ‫الأدب��ي وتطلعاته الروائية والق�ص�صية‪ ،‬حام ً‬ ‫�ضمن قافلة المهاجرين ال����رواد‪ ،‬ع��بء تحقيق الح�ضور‬ ‫الالئق ل�ل�أدب ال�سوداني في الثقافة العربية المعا�صرة‪،‬‬ ‫والمحافل المحلية والعالمية الم�شرعة‪ ،‬خا�صة في القاهرة‬ ‫محل �إقامته وغربته‪� ..‬إنه الروائي ال�سوداني ال�شاب «حمّور‬ ‫زيادة» م�ؤلف «�شوق الدروي�ش» �أحدث الروايات ال�سودانية‬ ‫في الم�شهد الثقافي الم�صري والعربي هذه الأيام‪ ،‬والتي‬ ‫يطرح من خاللها نتاج ان�شغاالته بالعديد من �أ�سئلة الذات‬ ‫الثائرة‪ ،‬والآخر الإن�سان‪ ،‬عبر خلفية تاريخية رومان�سية‪،‬‬ ‫■ حاوره‪ :‬حم�سن ح�سن*‬ ‫وب��ن��اء ���س��ردي ج��ام��ع بين ارت��ج��ال الحكاية و�شفاهتها‪،‬‬ ‫وثبوت الوثيقة ودقتها‪...‬‬ ‫الجوبة التقت ال��روائ��ي ال�سوداني بالقاهرة‪ ،‬فكان‬ ‫لها معه هذا الحوار‪:‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪91‬‬


‫الدروي�ش والمهدية‬

‫‪92‬‬

‫● ●روايتك «�شوق الدروي�ش» ا�ستلهمت الثورة‬ ‫ال���م���ه���دي���ة‪ ..‬ل����م����اذا؟ وف�����ي ه�����ذا ال��ت��وق��ي��ت‬ ‫تحديداً؟‬ ‫‪ρ ρ‬ف��ي ه��ذه ال��رواي��ة ل�ست معني ًا ب ��أي ق�صدية‬ ‫لمحاكاة الواقع المعا�صر‪� ،‬أو انتقاد �أحداث‬ ‫حا�ضرة؛ ف ــ«�شوق الدروي�ش» لي�ست «الزيني‬ ‫بركات» التي �أراد بها م�ؤلفها جمال الغيطاني‬ ‫انتقاد وزير الداخلية‪ ،‬فهرب من نقد الواقع‬ ‫ال�ستح�ضار مثال تاريخي رم��زي يقدم به‬ ‫نقده‪ .‬ولكنها رواي��ة‪ ،‬منتهى غايتها تقديم‬ ‫حكاية ممتعة للقاريء‪ ،‬يجد فيها لذة الحكي‬ ‫وا� �س �ت �ع��ذاب ال �� �س��رد‪ ،‬وه ��ذا ه��و الأدب من‬ ‫وجهة نظري‪� .‬إ�ضافة �إل��ى اعتبارات �أخرى‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫منها �إث��ارة �أ�سئلة اليقين المطلق‪ ،‬وانك�سار‬ ‫«النموذج» بالن�سبة للم�ؤمنين به‪ ،‬ولم يكن‬ ‫�أبد ًا �ضمن غاياتها‪ ،‬محاكمة الربيع العربي‪،‬‬ ‫�أو ال�ج�م��اع��ات ال��دي�ن�ي��ة‪� ،‬أو ح�ت��ى ال�ت��اري��خ‬ ‫ال�سوداني‪.‬‬ ‫● ●وه���ل ك��ان��ت ل���ذة ال��ح��ك��ي ���س��ب��ب��اً ف��ي ترجيح‬ ‫تفا�صيل ق�ص�صية وت���رك �أخ���رى بالن�سبة‬ ‫للثورة المهدية؟‬ ‫‪ρ ρ‬نعم‪ ،‬فقد انحزت (مثالً) للرواية الم�صرية‬ ‫الإنجليزية التي تقول �إن الجي�ش الغازي‬ ‫عندما دخل في ‪1898‬م‪� ،‬أخرج جثمان الإمام‬ ‫المهدي من تحت القبة و�أح��رق��ه‪ ،‬ثم رمى‬ ‫بالرماد في النيل‪ ،‬وه��ي ال��رواي��ة التي �أرى‬ ‫�أنها تتفق والتاريخ ال�صحيح‪ ،‬كما �أنها تواكب‬


‫لذة الحكي الروائي وتُثريه �أكثر‪ ،‬بينما تركت‬ ‫الرواية التي تقول ب�أن «كت�شنر» �سردار الجي�ش‬ ‫الم�صري �أخذ جمجمة الإمام المهدي‪ ،‬و�أراد‬ ‫�أن ي�ستعملها �سقالة للورق على مكتبه‪ ،‬لوال �أن‬ ‫لندن احتجت على هذا العمل البربري‪ ،‬فقام‬ ‫بالطبع ال‪ ،‬ف�أنا على الم�ستوى الوطني فخور جد ًا‬ ‫كت�شنر بدفن الجمجمة‪ ،‬فقد اكتفيت بذكر‬ ‫بالثورة المهدية‪ ،‬ولي�س لديَّ �أية اعترا�ضات‬ ‫ق�صة نب�ش الجثمان لقناعتي التاريخية بها‪،‬‬ ‫رغم �أن �أ�سرة الإم��ام المهدي تنكرها جملة‬ ‫على الأح �ك��ام الكلية الوطنية فيما يتعلق‬ ‫وتف�صيالً‪.‬‬ ‫بتلك الثورة‪ .‬وه��ذا محور مختلف تمام ًا عن‬ ‫محور التناول الأدب��ي والكتابة الروائية؛ ففي‬ ‫● ●بع�ض ال�سودانيين يتهمونك بت�شويه الثورة‬ ‫غو�ص في �أعماق الإن�سانية‬ ‫«�شوق الدروي�ش» ٌ‬ ‫المهدية من خالل هذه الرواية‪ ،‬فما ردك؟‬ ‫المهم�شة‪ ،‬وا�ستخراج لمالمحها الغائبة بفعل‬ ‫‪ρ ρ‬هذا �أمر ال يزعجني كثيراً‪ ،‬لأنني �أو ًال م�ؤمن‬ ‫االحتفاء الثوري والنفاق ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ب �ج��دوى االخ �ت�لاف ف��ي ال� ��ر�أي‪ ،‬وث��ان�ي� ًا لأن‬ ‫�أ�صوات االتهام لي�ست كثيرة‪ ،‬على الأقل حتى ● ●لك بع�ض التحفظات على الرواية ال�سودانية‬ ‫الآن؛ ولعله من الجيد �أن ي�صادف الروائي‬ ‫في تناولها للثورة المهدية‪ ..‬ما هي؟‬ ‫بع�ض الأ�صوات المعار�ضة‪ .‬وعموم ًا ‪� -‬شئنا‬ ‫�أم �أب �ي �ن��ا‪ -‬ال�م�ه��دي��ة ب����د�أت ث���ورة عظيمة‪ρ ρ ،‬التحفظات على ال�ت�ن��اول ال���س��ودان��ي وعلى‬ ‫غير ال�سوداني �أي�ضاً؛ فقد ج��اءت الكتابات‬ ‫وانتهت كنظام حكم له ما له وعليه ما عليه‬ ‫ال���س��ودان�ي��ة ال��روائ �ي��ة والق�ص�صية وحتى‬ ‫من الأخطاء‪ ،‬مثلها مثل الثورة الفرن�سية في‬ ‫ال�شعرية �أحادية التناول بالغية الأ�سلوب‪،‬‬ ‫فرن�سا‪ ،‬والبل�شفية في رو�سيا‪ ،‬بداية حالمة‪،‬‬ ‫محتفية بالثورة المهدية؛ فلم تبرز �إال �أوجه‬ ‫التبجيل والتمجيد والبطولة‪ ،‬متجاهلة عن‬ ‫ق�صد �أو غير ق�صد تقديم الإن�سانيات بما‬ ‫فيها �أخطاء وهنات ترتكب‪ ،‬و�شرور تحدث‬ ‫في حق الإن�سان ال�سوداني‪ .‬بينما جاء التناول‬ ‫غير ال�سوداني �ضعيفاً؛ حيث جاء المهديون‬ ‫ف��ي رواي���ة «�أ���س��ي��رة المتمهدي» ل��ـ «جورجي‬ ‫زيدان» متعط�شين للدماء‪� ،‬شهوانيين للن�ساء‪،‬‬ ‫�أ�شرار ًا �أغبياء‪ ،‬في مقابل الأ�سيرة الح�سناء‬ ‫الطيبة التي �أ�سرها المهدي‪ ،‬والتي قتلته في‬ ‫النهاية‪ ،‬وج��اءت الرواية في مجملها عبارة‬ ‫عن عدة �صفحات من ال�سب وال�شتم والقذف‪،‬‬ ‫ما �أخرجها عن نطاق العمل الأدبي‪.‬‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫ونهاية �شريرة تناق�ضها‪ .‬وه��ذا ما طرحته‬ ‫الرواية‪.‬‬ ‫● ●هل يعني ذل��ك �أن��ك تقف موقفاً �سلبياً من‬ ‫الثورة المهدية؟‬

‫بين الما�ضي والحا�ضر‬

‫● ●هل ترى في �سيرة «بخيت منديل» نموذجاً‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪93‬‬


‫‪94‬‬

‫متكرراً في الم�شهد العربي حالياً؟‬ ‫‪ρ ρ‬لي�س في الم�شهد العربي فح�سب‪� ،‬إنما هو‬ ‫ن�م��وذج متكرر ف��ي التاريخ الإن�ساني ككل؛‬ ‫فالإن�سان الم�ست�ضعف الذي ال حيلة له‪ ،‬والذي‬ ‫كلما بدت له بارقة �أمل‪� ..‬أعيد من جديد �إلى‬ ‫المربع الأول‪ ،‬بل ربما �إلى ما هو �أ�سو�أ منه‪،‬‬ ‫وال ��ذي يحلم بالكثير خ��ارج ن�ط��اق ثقافته‬ ‫وبيئته‪ ،‬لكنه ال ي�ستطيع تحقيق الأمل والحلم‪.‬‬ ‫هذا نموذج جَ �سَّ ده «بخيت منديل» في رمزية‬ ‫روائية‪ ،‬ال �أزع��م مطلق ًا �أنني ق�صدت �إليها‬ ‫ق�صداً‪ ،‬لكنها حا�ضرة ف��ي رواي �ت��ي‪ ،‬وربما‬ ‫تما�سّ ت مع الكثير من مالمح الإن�سان العربي‬ ‫في �أزمنة كثيرة‪.‬‬ ‫● ●بع�ض النقاد رب��ط بين ما ج��اء في روايتك‬ ‫ع���ن ج��ي�����ش ال��م��ه��دي وب��ي��ن داع�������ش ال��ع��راق‬ ‫الآن‪ ..‬ما تعليقك؟‬ ‫حاجة ملحة للرواية التاريخية؟‬ ‫‪ρ ρ‬منطقية الربط هنا قد تكون مقبولة من حيث‬ ‫تاريخية الأحداث وت�شابهها بين جنود المهدي ‪�ρ ρ‬أت� ��ردد ك�ث�ي��ر ًا ف��ي ت�صنيف رواي �ت��ي �ضمن‬ ‫وجنود داع�ش الآن‪ ،‬ومن حيث كون الحركات‬ ‫ال ��رواي ��ات ال�ت��اري�خ�ي��ة‪ ،‬ف�ه��ي لي�ست �سيرة‬ ‫الدينية بنتُ واقعٍ واحدٍ فتت�شابه‪� ،‬سواء مالت‬ ‫تاريخية للإمام المهدي‪ ،‬وال هي ر�صد كامل‬ ‫�إلى الجانب ال�صوفي مثل الثورة المهدية‪� ،‬أو‬ ‫لم�سيرة ثورته‪ ،‬وهي في م�ضمونها بعيدة عن‬ ‫مالت �إل��ى الجانب الفقهي الن�صو�صي مثل‬ ‫المعنى الكال�سيكي للرواية التاريخية‪ ،‬لكنني‬ ‫داع�ش‪ ...‬في النهاية ي�شتركون في اعتقادهم‬ ‫رغم ذلك ل�ست عاتب ًا على مَ ن ي�ضعها في هذا‬ ‫ملكية اليقين المطلق‪ ،‬وف��ه��م ر���س��ال��ة اهلل‬ ‫الت�صنيف‪.‬‬ ‫ف��ي محاكمة النا�س وح�ك��م الأر�� ��ض‪ ،‬وه��ذا ● ●ه��ل ت��ع��د ه���ذه ال���رواي���ة وث��ائ��ق��ي��ة بالمفهوم‬ ‫لا ف��ي ال�ث��ورة المهدية‪ ،‬حيث كان‬ ‫ك��ان م��اث� ً‬ ‫الأكاديمي؟ وما الأكثر ح�ضوراً في الذهنية‬ ‫ؤمن‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫�ن‬ ‫�‬ ‫مَ‬ ‫كفرية‬ ‫في‬ ‫يعتقدون‬ ‫المهديون‬ ‫ال�سودانية‪ ..‬الرواية ال�شفاهية �أم الوثيقة‬ ‫بالمهدي؛ لكن الربط ال�سابق ذاته لم يكن‬ ‫المكتوبة؟‬ ‫حا�ضر ًا حال ال�شروع في كتابة الرواية خالل‬ ‫مار�س ‪2011‬م حين كان الم�ستقبل واع��داً‪���ρ ρ ،‬ش��وق ال��دروي�����ش ه��ي رواي ��ة دق�ي�ق��ة علمياً‪،‬‬ ‫لكنها لي�ست وثائقية بالمفهوم الكال�سيكي‪،‬‬ ‫ول��م تكن داع�ش بادية في الأف��ق‪ ،‬ال هي وال‬ ‫والرواية ال�شفاهية هي الأ�شهر والأقوى تاثير ًا‬ ‫تعقيدات الجماعات الأخ��رى‪ ،‬وال ما و�صلت‬ ‫بين ال�سودانيين‪ ،‬بل �إنها عند كثير منهم‬ ‫�إليه الأحداث في تون�س وم�صر وليبيا‪.‬‬ ‫هي الأكثر وثوقية وم�صداقية من المكتوبة‪.‬‬ ‫بين الرواية والتاريخ‬ ‫ومن جهتي حاولت �أن �أوازن بين ال�شفاهي‬ ‫والمكتوب‪ ،‬حتى ال �أُح��دِ ث �شرخ ًا ما بينهما‪،‬‬ ‫● ●ت�صنّف رواي��ت��ك على �أن��ه��ا الأق���رب للرواية‬ ‫وه��ذا يالحظه ق��ارىء ال��رواي��ة فيما يخ�ص‬ ‫التاريخية فما ر�أي����ك؟ وه��ل ت��رى �أن��ن��ا في‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫ال��روائ��ي‪ ،‬ول��و ق�صم ال��روائ��ي ظهر التاريخ‬ ‫تمام ًا فال ت�ستطيع �أن تلومه؛ لأن الرواية في‬ ‫الأ�سا�س تمثل واقع ًا موازي ًا ال كتاب ًا علمياً‪.‬‬ ‫لكن ه��ذا ال يمنع م��ن �أن��ه كلما زادت دقة‬ ‫الأديب معلوماتي ًا داخل بنائه الروائي‪ ،‬كلما‬ ‫قدم �أدب ًا جيداً‪ .‬وفي النهاية لي�س مقبو ًال مث ًال‬ ‫�أن �أ�ستقي التاريخ العراقي من رواية «�أر�ض‬ ‫ال�����س��واد» ل��ـ «عبدالرحمن منيف»‪� ،‬أو ث��ورة‬ ‫‪1919‬م من ثالثية «نجيب محفوظ»؛ لأنه من‬ ‫الخط�أ اال�ستعا�ضة عن الم�صادر التاريخية‬ ‫المح�ضة بالرواية‪� ،‬أو بال�سينما ومحركات‬ ‫ال��ب��ح��ث‪ ،‬ورغ���م �أن���ي ف��ي «���ش��وق ال��دروي�����ش»‬ ‫انحزت �إلى الدقة التاريخية بقدر كبير‪� ،‬إال‬ ‫�أنني �أح��ذر من اعتمادها مرجع ًا تاريخي ًا‬ ‫للثورة المهدية‪ ،‬وهنا تتجلى م�سئولية القارىء‬ ‫ولي�س م�سئولية الكاتب‪.‬‬ ‫بين تجربتين‬

‫ر�سائل الخليفة «عبداهلل التعاي�شي» للملوك‬ ‫والأمراء يدعوهم للدخول في الإ�سالم‪ ،‬ومن‬ ‫بينهم الملكة فيكتوريا‪.‬‬ ‫● ●الجيل الحالي ي�ستعي�ض غالباً بالرواية عن‬ ‫التاريخ‪ ..‬ما ر�أيك؟‬ ‫‪ρ ρ‬هذه م�شكلة ثقافية عوي�صة بالت�أكيد‪ ،‬فرغم‬ ‫�أننا في ع�صر المعلومات‪� ،‬إال �أن الواقع ينبيء‬ ‫بالكثير من الجهل والتجهيل؛ لأن محركات‬ ‫البحث عوّدت النا�س على الخال�صات‪ ،‬وهي‬ ‫خال�صات غير م�ضمونة وال موثوقة‪ ،‬وي�أتي‬ ‫اعتماد النا�س على ال�سينما والرواية كم�صادر‬ ‫للمعرفة التاريخية‪ ،‬لي�ضيف هم ًا جديد ًا �إلى‬ ‫الهموم ال�سابقة‪.‬‬ ‫● ●وماذا عن م�سئولية الكاتب الروائي في هذا‬ ‫الإطار؟‬ ‫‪ρ ρ‬الكاتب ال��روائ��ي لي�س ملزم ًا بالوقوف عند‬ ‫الحدث من منظوره التاريخي المح�ض‪ ،‬لأن‬ ‫هذا يتنافى وطبيعة التناول الأدبي والخيال‬

‫● ●م��اذا �أ�ضافت ل��ك «���ش��وق ال��دروي�����ش» ككاتب‬ ‫روائ����ي م��ن ح��ي��ث تقنيات ال��ح��ك��ي وتطوير‬ ‫الأداء ال�سردي؟‬ ‫‪�ρ ρ‬أعتقد �أن��ي تطورت في �شوق الدروي�ش من‬ ‫حيث تقنيات ال�سرد والحكي‪ ،‬عني في روايتي‬ ‫الأول ��ى «ال��ك��ون��ج»‪ ،‬وال��ت��ي ه��ي رواي���ة �صغيرة‬ ‫م�ضغوطة‪ ،‬عك�س «���ش��وق ال��دروي�����ش» التي‬ ‫�أخذت براح ًا �أكبر و�أو�سع‪ ،‬من حيث الحكي‬ ‫وتموّجات ال�سرد في عوالم ممتدة‪ ،‬ومثّلت لي‬ ‫تجربة مخيفة مقلقة تجاوزتها و�أ�ضافت ليَ‬ ‫الكثير‪.‬‬ ‫● ●رغ���م ان�����ش��غ��ال «����ش���وق ال���دروي�������ش» ب��ال��ث��ورة‬ ‫ال���م���ه���دي���ة‪� ،‬إال �أن����ه����ا ات���ه���م���ت ب���االن���ح���ي���از‬ ‫لرومان�سية مفرطة‪ ..‬ما ردك؟‬ ‫‪ρ ρ‬نعم‪ ،‬هذا �صحيح‪ ،‬فجانب الرواية الرومان�سي‬ ‫ر�أى البع�ض فيه ط��و ًال و�إف��راط �اً‪ ،‬وه��ذا حق‬ ‫للقارئ وللناقد على ال�سواء‪ ،‬ولي�س لى حق‬ ‫الت�سويغ �أو �إل�ق��اء المعاذير‪ ،‬فهكذا جاءت‬ ‫الرواية‪ ،‬وهكذا كتبتها‪ ،‬وللجميع حق النقد‪،‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪95‬‬


‫في ال��رواي��ة‪ ،‬بالن�سبة لي ككاتب‪ ،‬وبالن�سبة‬ ‫للمتلقي كقارئ‪ ،‬ولكنهما في النهاية محركان‬ ‫�أ�سا�سان نحو الكتابة في وقتهما وزمانهما‬ ‫المراوغ‪.‬‬ ‫ال�صوفية ال�سيا�سية والم�ستقبل‬

‫‪96‬‬

‫ولي حق الر�ضا عما كتبت‪.‬‬ ‫● ●لك تجربتان روائيتان‪ ،‬وتجربتان في كتابة‬ ‫الق�صة الق�صيرة‪ ،‬هل هناك مالمح مختلفة‬ ‫بينهما؟‬ ‫‪ρ ρ‬قناعتي �أن الق�صة ف��ي طرائقها ال�سردية‬ ‫و�أ�ساليبها الق�ص�صية‪ ،‬جن�س �أدب��ي مختلف‬ ‫عن ال��رواي��ة‪ ،‬ولي�س كما ي��روّج بع�ضهم �أنها‬ ‫تدريب على كتابة الرواية‪� ،‬أو ا�ستراحة من‬ ‫كتابة ال��رواي��ة الطويلة‪ ،‬و�أن��ا عندما �أكتب‬ ‫الق�صة قد �أ�صل بها �إلى �ستين �صفحة‪ ،‬بفعل‬ ‫مقت�ضياتها واعتباراتها الق�ص�صية الخا�صة‪،‬‬ ‫وهذا موجود في «النوم عند قدمى الجبل»‪،‬‬ ‫وقليل مَ ��ن يقت�صر على كتابة الق�صة مثل‬ ‫«�ألي�س مونرو» التي ح�صلت على نوبل‪ ،‬بينما‬ ‫الغالبية العظمى من الكتاب يجمعون بين‬ ‫الق�صة والرواية‪.‬‬ ‫● ●ل��ك��ن م��ا الأق����رب �إل���ي وج��دان��ك ال�����س��ردي‪..‬‬ ‫الق�صة �أم الرواية؟‬ ‫‪ρ ρ‬ك �م��ا ق �ل��ت � �س��اب �ق �اً‪ ،‬ال �م �ح��ك الأ� �س��ا���س في‬ ‫اختياراتي بهذا الخ�صو�ص هو لذة الحكي‪،‬‬ ‫وا�ست�شعار الإمتاع بالن�سبة للقاريء‪ ،‬ومقيا�س‬ ‫اللذة والإمتاع كالهما مختلف في الق�صة عنه‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫● ●ال��م�����س��ح��ة ال�����ص��وف��ي��ة ح��ا���ض��رة ف���ي �أح����دث‬ ‫رواي����ات����ك‪ ،‬ل��ك��ن م���ن خ��ل�ال ا���س��ت��ق��راءات��ك‬ ‫ال��وا���س��ع��ة ل��ت��اري��خ ال���������س����ودان‪ ..‬ك��ي��ف ت��رى‬ ‫تفاوت الت�أثير ال�صوفي في حكام ال�سلطة‬ ‫ال�سودانية؟‬ ‫‪ρ ρ‬بداية ال يمكن الحديث عن ال�سودان بمعزل‬ ‫عن الت�صوف‪ ،‬فب�شكل غريب ج��د ًا انح�سر‬ ‫الت�صوف م��ن ال�ع��ال��م ال�ع��رب��ي وا�ستقر في‬ ‫ال�سودان‪ ،‬والأح��زاب ال�سيا�سية الكبيرة في‬ ‫ال�سودان هي �أبناء طرق �صوفية‪ ،‬ومن ثم‪..‬‬ ‫فالت�أثير ال�صوفي على حكام ال�سودان ي�أتي‬ ‫من كونهم �أبناء بيئتهم «ال�صوفية»؛ فجعفر‬ ‫نميري حينما �أعلن نف�سه �أم�ي��ر ًا للم�ؤمنين‬ ‫ب��دع��م م��ن ج�م��اع��ة الإخ � ��وان الم�سلمين‪،‬‬ ‫التي ترى في نف�سها فكرة �سنية �أكثر منها‬ ‫�صوفية‪ ،‬كان يلب�س المرقعة‪ ،‬ويرتدي مالب�س‬ ‫المت�صوفة‪ ،‬وينزل حلقات الذكر ال�صوفي‪.‬‬ ‫والفكرة ال�صوفية �أ�شمل و�أع��مّ في ال�سودان‬ ‫من كل ال��والءات الأخ��رى المغايرة‪ ،‬حتى �إن‬ ‫ال�شيوعيين والمالحدة في ال�سودان يحبون‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬فهي ثقافة �شعبية �أكثر منها توجّ ه ًا‬ ‫دينياً!‬ ‫● ●ه��ل معنى ه��ذا ال��ك�لام �أن ه��ن��اك قابلية ما‬ ‫ل��ت��ح��ول ال��ح��رك��ات ال�����ص��وف��ي��ة �إل����ى ح��رك��ات‬ ‫�سيا�سية حاكمة في ال�سودان؟‬ ‫‪ρ ρ‬هناك محاوالت �سابقة من رم��وز ال�صوفية‬ ‫ِل� َل�ع��ب دور �سيا�سي‪� � ،‬س��واء م��ع ال�ح��رك��ات‬ ‫ال�م���س�ل�ح��ة ف��ي دارف� � ��ور‪� ،‬أو ف��ي خ�لاف��ات‬ ‫الإ�سالميين فيما بينهم‪ ،‬وعلى الم�ستوى‬ ‫ال�شخ�صي �أت�م�ن��ى �أن ينح�سر ه��ذا ال��دور‬ ‫ال�سيا�سي لل�صوفية‪ ،‬و�أال ينمو �أكبر من ذلك‪،‬‬


‫الأدب ال�سوداني والعالم‬

‫● ●ف��ي ت��ق��ي�� ّي��م ال��م��وق��ف ال��ث��ق��اف��ي ال��ع��رب��ي من‬ ‫الرواية ال�سودانية ت�شعر بالر�ضا �أم بعك�سه؟‬ ‫‪ρ ρ‬ب�صرف النظر عن الر�ضا وعك�سه‪ :‬الح�ضور ● ●كيف تقيّم الجوائز العربية في الأدب قيا�ساً‬ ‫الثقافي ال�سوداني في الو�سط الثقافي العربي‬ ‫بجائزة نوبل؟‬ ‫عموم ًا �ضعيف‪ ،‬والمعرفة العربية بالثقافة‬ ‫ال�سودانية قليلة؛ فهي معرفة نوعية؛ ففي ‪ρ ρ‬نوبل جائزة تعطى لمن �أ�سهم في التغيير‬ ‫والت�أثير في وجدان العالم‪ ،‬وهي في الأغلب‬ ‫منطقة الخليج يعرفون «ع��ب��داهلل الطيب»‬ ‫ال تقا�س بغيرها من الجوائز العربية‪� ،‬أو حتى‬ ‫كقامة لغوية و�شعرية‪ ،‬بينما هو غير معروف‬ ‫ف��ي م�صر �أو ال�م�غ��رب ال�ع��رب��ي‪ .‬وبالن�سبة‬ ‫الغربية نف�سها‪ ،‬فنوبل حالة قد تفوق كل هذه‬ ‫ل �ل��رواي��ة‪� ..‬ستجد ال��وط��ن ال �ع��رب��ي يعرف‬ ‫الجوائز‪ ،‬وقد تكون في بع�ض الأحيان دونها‬ ‫«الطيب �صالح»‪ ،‬وال يعرفون غيره في الغالب‬ ‫في المنزلة‪ ،‬وه��ذا �أم��ر تابع حتى لنظرتنا‬ ‫الأعم‪ ،‬وحالي ًا قد تجد بع�ضهم يعرف الروائي‬ ‫لمن يح�صلون عليها كل عام‪ ،‬فقد نجد في‬ ‫«�أمير تاج ال�سر»‪ ،‬بينما ال يهتمون بالتعرف‬ ‫ح�صول كاتب عليها ظلم ًا لكاتب �آخر‪ ،‬وهكذا‪،‬‬ ‫على غيره‪ ،‬وه��ذا الح�ضور ال�ضيق للثقافة‬ ‫والعتبارات كثيرة مت�شابكة ما بين الثقافي‬ ‫ال�سودانية نتحمله نحن �أهل ال�سودان �أوالً‪،‬‬ ‫وال�سيا�سي واالقت�صادي‪ ،‬نحن كعرب ل�سنا‬ ‫ويتحمله القاريء العربي الذي وقفت معارفه‬ ‫ا‬ ‫عند «الطيب �صالح» وك��ف��ى‪ ،‬وه��ن��اك طبع ً‬ ‫م�ؤهلين لتد�شين جائزة بحجم نوبل من حيث‬ ‫ظ ��روف مو�ضوعية �أخ ��رى منها الإع�ل�ام‪،‬‬ ‫المو�ضوعية‪..‬الم�ضمون‪ ،‬والرمز والقيمة‪.‬‬ ‫وال�م��رك��زي��ة‪ ،‬وك��ون ال���س��ودان يمثل هام�ش ًا‬ ‫واعتقادي �أن جوائز مثل «البوكر»‪ ،‬وبع�ض‬ ‫ثقافي ًا و�سيا�سي ًا واجتماعي ًا مجهو ًال لكثيرين‪.‬‬ ‫الجوائز ال�سعودية الأخ��رى كافية للتجربة‬ ‫● ●ف��ي ر�أي����ك‪ ..‬ه��ل نجح الأدب����اء ال�سودانيون‬ ‫الروائية العربية التي لم تتجاوز ال�سبعين‬ ‫ال���م���ه���اج���رون ف���ي خ��ل��خ��ل��ة ه����ذا ال��ح�����ض��ور‬ ‫عام ًا من الن�ضج والعطاء‪.‬‬ ‫ال�ضيق للأدب ال�سوداني؟‬ ‫‪ρ ρ‬نعم بالت�أكيد‪ ،‬فالدكتور «�أمير تاج ال�سر» في ● ●ف����ي ال����خ����ت����ام‪� ،‬إال َم ي��ط��م��ح ح���م���ور زي�����ادة‬ ‫م�ستقبالً؟‬ ‫قطر‪ ،‬ا�ستطاع االنفتاح بالأدب ال�سوداني عبر‬ ‫رواياته على الداخل العربي والخارج �أي�ضاً‪�ρ ρ ،‬أن �أ�ستطيع تقديم حكايات ممتعة للقاريء‬ ‫وو�صل �إلى قوائم «البوكر»‪� .‬أي�ض ًا الأديب «عبد‬ ‫العربي‪ ،‬تعك�س مكوناتي التراثية‪ ،‬و�أن �أ�ستطيع‬ ‫العزيز بركة �ساكن» كان يكتب داخل ال�سودان‪،‬‬ ‫تج�سيد حكايا ال�سودان ال�شفاهية من خالل‬ ‫والآن يحلق بالأدب ال�سوداني والترجمة نحو‬ ‫ال�سرد المكتوب‪ ،‬و�أكبر تقييم �أح�صل عليه‬ ‫العالمية عبر وج��وده في النم�سا‪ ،‬و�أن��ا �أزعم‬ ‫في حياتي هو اعتراف القاريء بمتعة الحكي‬ ‫�أن��ي �شكلت ح�ضور ًا �سوداني ًا ال ب�أ�س به في‬ ‫ولذته‪ ،‬فيما �أكتبه �أنا ويقر�أه هو‪.‬‬ ‫الم�شهد الروائي الم�صري‪ ،‬والذي ا�ستقبلني‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫وفي اعتقادي �أن في المرحلة القادمة �ستتغير‬ ‫�أمور كثيرة‪ ،‬وقد ال تجد ال�صوفية ذلك الحيز‬ ‫الكبير الذي تتحرك فيه‪.‬‬

‫ا�ستقبا ًال حميماً‪ ،‬ودعمني ب�شكل كبير‪ .‬لكن‬ ‫رغ��م كل ه��ذا‪ ،‬ما ي��زال خلفنا في ال�سودان‬ ‫عدد من الأ�سماء الكبيرة من بينهم مَ ن ينتمي‬ ‫لجيل «الطيب �صالح»‪ ،‬ومنهم مَ ن ينتمي �إلى‬ ‫جيلي‪ ،‬وهم للأ�سف مجهولون لكثيرين في‬ ‫منطقتنا العربية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪97‬‬


‫ب��ل��ق��ي�����س‬ ‫ال���م���ل���ح���م‬ ‫ل��ل��ج��وب��ه‪:‬‬

‫ال�����ش��ل��ل��ي��ة‬ ‫ال��ث��ق��اف��ي��ة‬ ‫ت���ت���ح��� ّك���م‬ ‫ب��ال��و���س��ط‬ ‫الأدب������ي‬ ‫■ حاورتها‪� :‬شم�س علي‬

‫‪98‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ل���ن ت��ج��د �أدي���ب���ة ���س��ع��ودي��ة م��ث��ي��رة ل��ل��ج��دل‪ ،‬ت��ط��ارده��ا‬ ‫ال�شائعات �أينما حلت كظلها‪ ،‬مثل الأديبة والكاتبة ال�سعودية‬ ‫بلقي�س الملحم‪ ،‬التي لن ي�صدقك بع�ضهم حينما تخبره‬ ‫�أنك التقيت بها؛ فهي في نظر ه�ؤالء بح�سب ال�شائعات �إما‬ ‫مقتولة �أو �شخ�صية وهمية‪ ،‬لكن لي�س هذا جانب الده�شة‬ ‫ال��وح��ي��د ف��ي ح��ي��اة الأدي���ب���ة ال��م��ع��ج��ون��ة ب��ح��ب ال���ع���راق ح�� َّد‬ ‫الذهول‪ ..‬رغم �أنها لم تزره قط‪ ،‬فثمة جوانب ده�شة �أخرى‪،‬‬ ‫لي�س �أول��ه��ا اخ��ت��ف��اء �أخ��ي��ه��ا ال�����ش��اب ال���ذي ذه��ب للجهاد في‬ ‫العراق عام ‪2004‬م‪ ،‬وال �آخرها �شائعة قتلها من قبل ذويها‪،‬‬ ‫ف�إلى ن�ص الحوار‪..‬‬


‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫● ●ت��ع��ك��ف��ي��ن ع��ل��ى ك��ت��اب��ة رواي������ة ح����ول م���أ���س��اة‬ ‫ال��ب��و���س��ن��ة وال���ه���ر����س���ك‪ ..‬ل����م����اذا ال��ب��و���س��ن��ة‬ ‫تحديدا؟‬ ‫‪ρ ρ‬ه��ذا ال���س��ؤال ي�شبه �إل��ى ح��د َّم��ا‪ ،‬م��ا ي�س�أله‬ ‫الكثير من قرائي‪ :‬لِمَ تكتب بلقي�س الملحم‬ ‫عن العراق‪ ،‬وتذهب �إلى مناطق لم تُعاي�شها‬ ‫�أو تم�شي على �أر�ضها وتختلط بنا�سها‪..‬‬ ‫الكاتب الحقيقي لي�س بنجار موبيليا‪ ،‬يُطلب‬ ‫منه كتابة ن�ص بمقا�سات محددة‪ ،‬وفق ت�أطير‬ ‫يخدم م�صالح المتلقي‪ .‬الكاتب �أكبر من �أن‬ ‫يكون مُوجَّ ها‪ .‬لذا‪ ،‬ف�إن طبيعة كتاباتي تنطوي‬ ‫تحت �أ�سئلة الوجود ال�صعبة‪ ،‬والتي تحتاج �إلى‬ ‫تمعُّن وتمحُّ �ص في كيفية الولوج �إلى عوالم‬ ‫غريبة عن تجربتي‪� ..‬سواء كانت العراق �أم‬ ‫غيرها من الم�شاهد التي تل�سع القلم!‬

‫ي�ستحق �أن يُقر�أ!‬

‫● ●مَ���ن ي���ق���ر�أ ل��ب��ل��ق��ي�����س‪ ..‬ل���ن ي��خ��ام��ره ال�شك‬ ‫لعلي هنا �أُذكِّر نف�سي بالكاتب والناقد «علي‬ ‫ب���أن��ه��ا ع��راق��ي��ة‪ ،‬ب�سبب تماهيها ال��ك��ل��ي في‬ ‫�سعيد» ال���ذي و�صفني بكاتبة م��� ٍآ���س! و�أن��ا‬ ‫كتابتها مع البيئة العراقية‪ ..‬ما �سبب ذلك‬ ‫�أوافقه �إلى حد كبير في ذلك‪ ،‬لي�س من باب‬ ‫التماهي؟‬ ‫التخ�ص�ص‪ ،‬ولكن من باب واقعية الن�صو�ص‬ ‫‪ρ ρ‬حين �أُ�س�أَل هذا ال�س�ؤال فك�أني �أُ�س�أَل‪ :‬مَ ن �أنت‬ ‫ومتناوليها الذين و�صفوها بذلك �أي�ضا‪.‬‬ ‫يا بلقي�س؟!‬ ‫الإن�سانية المُدمَّاة هي ما تهبط على فكري‬ ‫و�أن��ا �أُ�صدقكم ال�ق��ول ب ��أن ال �ع��راق ه��و قدر‬ ‫وتلتب�س به! فال تنفط عني حالة القلق �إال حين‬ ‫�صعب‪ ،‬و�س ٌّر �أ�صعب و�إجاب ٌة �أ�صعب و�أ�صعب!‬ ‫�أ�سكب دموعي على ال��ورق‪ ،‬وه��ذا ما حدث‬ ‫التماهي ربما يكون �ضربٌ من التخيُّل �أمام ما‬ ‫تماما و�أنا �أ�شاهد ذكرى مذبحة �سربيرنت�شيا‬ ‫يمثله العراق لدي‪.‬‬ ‫على �إح��دى محطات التلفزيون‪ ,‬ما ا�ستف َّز‬ ‫نعم من الغريب �أن تكتب عن العراق ب�شكل‬ ‫ابنتي ذات الثمانية ع�شر عاما لت�س�ألني‪:‬‬ ‫دقيق دون �أن تعي�ش فيه‪ .‬لكن بلقي�س حدَّقت‬ ‫ومن هي البو�سنة؟ لأجيبها عبر هذه الرواية‬ ‫ف��ي ل��وح��ة زيتية لبيوت الق�صب وال �ب��ردي‬ ‫التي �أع��ده��ا م�شروع حياتي؛ لأن�ه��ا �أخ��ذت‬ ‫والم�شاحيف‪ ..‬فوجدت قدرها بين الأه��وار‬ ‫من وقتي الجهد الكبير في �سبيل الح�صول‬ ‫وهي تخو�ض مياهه ب�ساقيها‪ ،‬لتدخل �صرح‬ ‫على المعلومة ال�صحيحة‪ ،‬وحبكها في �سرد‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪99‬‬


‫هل �أ�شفيت �س�ؤالك؟ �أرجو ذلك‪ ..‬مع التذكير‬ ‫ب�أن المعنى يبقى في قلب ال�شاعر يا �شم�س!‬

‫البالد التي كان يحكمها جلجام�ش‪ .‬الباحث‬ ‫ع��ن �سر الحياة‪ ,‬و�أن��ا �أم��ار���س القلق نف�سه‬ ‫البحث الوجودي‪ :-‬لم �أ�ؤمن بالماء العراقي ● ●ه���ل يمكننا ال���ق���ول �إن اخ��ت��ف��اء �أخ���ي���ك في‬‫دون غيره من الأنهار؟ والنخيل العراقي الذي‬ ‫العراق هي �شرارة التَّما�س العاطفي الأولى‬ ‫كلما ه��ززت جذعا منه ت�ساقط العراق في‬ ‫بينك وب��ي��ن ال���ع���راق‪ ،‬وه���ل لغيابه ه���ذا �أي‬ ‫قلبي؟ والحب العراقي الذي ابتكر مر�ض ليلى‬ ‫انعكا�سات على روح �سردك الحزين؟‬ ‫ولم ي�شفها منه؟ والح�ضارة العراقية التي‬ ‫�أق�سم الغزاة على تدميرها؟ والفن العراقي ‪�ρ ρ‬أجل‪ ..‬انطلقت نحو ذلك بالتزامن مع ق�ضية‬ ‫�أخي‪� ،‬أو لنقل ب�أن هذه الق�ضية قربتني �أكثر‬ ‫الذي يُدمي من حيث ال يعلم؟ والأدب العراقي‬ ‫م��ن الثقافة والأدب ال�ع��راق��ي‪ .‬ح��دث ذلك‬ ‫ال��ذي تربع عر�ش هرم الإب��داع بال منازع‪!.‬‬ ‫عام ‪2004‬م‪،‬عندما اتجه �أخي عبدالرحيم‬ ‫وقبل هذا كله لم ي�سيطر عليَّ هاج�س النواح‬ ‫«‪�22‬سنة» �إل��ى ال��ع��راق‪ ،‬مع مجموعة �شبان‬ ‫وال�م��وت العراقي ال��ذي ال ي�شبهه �أح��د‪ .‬هل‬ ‫��س�ع��ودي�ي��ن‪ ،‬ان���ص�ي��اع� ًا ل�ف�ت��وى وخ �ط��اب ال�ـ‬ ‫يوجد دم �أزرق �صالح للكتابة؟!‬ ‫«الثالثة وع�شرين �شيخاً» الذين دع��وا فيها‬ ‫كيف ال تريدوني �أن �أكتب عنه هذا الكم الهائل‬ ‫ال�شباب ال�سعودي‪ ،‬للذهاب للعراق من �أجل‬ ‫من الق�صائد‪ ،‬والق�ص�ص‪ ،‬و�أخيرا الرواية‬ ‫ال�ج�ه��اد‪ ،‬فيما �أ��ص�ح��اب ال�ف�ت��وى‪ ،‬وغيرهم‬ ‫ال �� �ص��ادرة ع��ام ‪2012‬م «ح��ري��ق الممالك‬ ‫متنعمين برغد العي�ش والأمان‪ ،‬بينما ما تزال‬ ‫المُ�شتهاة»‪ ..‬دعوني هنا �أقتب�س لكم �سطورا‬ ‫قلوب الأمهات ال�سعوديات تكتوي بنار فراق‬ ‫كتبتها من مفكرتي الخا�صة قبل �أن �أجيبكم‪:‬‬ ‫�أبنائهن الذين ذهبوا نحو الم�صير المجهول‪.‬‬ ‫لن �أخ��ذل �س�ؤالك و�س�أقول لك ب ��أن الحياة‬ ‫ثمة وجع �أداويه وثمة فقد �أبحث عنه و�أتعمَّد‬ ‫الحقيقية والإن�سانية ال�ت��ي ب�شَّ رت بالنور‬ ‫ف��ي ت�ضييع فر�صة وج ��وده؛ لأن��ي �أخ�شى لو‬ ‫وال�ع�ق��ل تكمن ف��ي ال��ع��راق‪ .‬ال �ع��راق ال��ذي‬ ‫يجف قلمي ويبرد قلبي‪.‬‬ ‫انتهى الحزن �أن َّ‬ ‫لك في هذين الن�صين الق�صيرين‪:‬‬ ‫�أخت�صره ِ‬ ‫● ●ل����م����اذا خ��ل��اف ك����ل ال���ك���ت���اب ال�����س��ع��ودي��ي��ن‬ ‫«لبلقي�س قلب ل��و تع�صره ي��ا ع��راق لجرف‬ ‫والكاتبات تُطاردك ال�شائعات؟‬ ‫�شواهد القبور‬ ‫‪ρ ρ‬الكتابة ب�شكل ا�ستثنائي من �ش�أنها �أن تجر‬ ‫دعني �ألم�سك ولو بالنظر �إليك»‪.‬‬ ‫لنف�سها الأخبار المُغر�ضة‪ .‬و�أنا ال �أعني بذلك‬ ‫تجريد اللغة اال�ستثنائية عن بع�ض الكتاب‬ ‫«حين تمرين يا بغداد على �شريط الأخبار‪:‬‬ ‫ال�سعوديين‪ .‬هذا �إذا اعتبرنا ال�شائعة نوع ًا من‬ ‫تهدر في ج�سدي الأنهار‪ ،‬وتُ�ضرب �أجرا�س‬ ‫العداء والتهمي�ش والغيرة من الآخر! ولن�أخذ‬ ‫ال��روح‪ ..‬جميعهم ينظرون �إليك كفتاة اغب َّر‬ ‫مثاال على ما كتب حول بع�ض كتابنا ال�سعوديين‬ ‫وجهها‪� .‬إ َّال �أنا ف�أراك ملكة تم�شين على ب�ساط‬ ‫�أحمر‪.»!..‬‬ ‫من ا�ستنقا�ص �أو تكفير �أو تخوين �أو تف�سيق‬

‫‪ 100‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫● ●ل���م���اذا ح�����ض��ورك ع��ل��ى ال��م�����س��ت��وى ال��ك��ت��اب��ي‬ ‫والم�شاركة في الم�شهد المحلي ال�سعودي‬ ‫م������ح������دود‪ ..‬خ��ل�اف����ا ل���ح�������ض���ورك ال���ع���رب���ي‬ ‫والدولي؟‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫بع�ضهم ب�سبب بع�ض كتبهم �أو مقاالتهم‪ .‬نعم‬ ‫ك��ان هناك ثمن لكلمتي ال�ح��رة‪ .‬وثمنها هو‬ ‫اال�ستمرار ال التوقف‪ .‬وحكاية الإ�شاعة التي‬ ‫تناولتها مئات المواقع العربية والأجنبية من‬ ‫�صحف ووكاالت �أنباء ومدونات �شخ�صية‪ ,‬هي‬ ‫ال تتعدى كونها �إ�شاعة مغر�ضة تطال �أي قلم‬ ‫يك�شف الحقيقة ويتكلم بمو�ضوعية؛ و�شخ�صيا‬ ‫قمت بتكذيبها ر�سميا ف��ي ال�صحافة عدة‬ ‫مرات‪� ،‬إال �أنها تعود مرة �أخرى وعلى التوالي‬ ‫منذ ‪2009‬م حتى عامنا ه��ذا!! وال �أدري �إن‬ ‫ك�ن��ت م�ث�ي��رة ل�ل�ج��دل ح�ت��ى ت �ع��اد ط ��وال ه��ذه‬ ‫ال�سنوات‪ .‬بالرغم �أنني لم �أتلق يوما ما في‬ ‫حياتي ر�سالة تهديد �أو ما �شابه‪ ,‬فبريدي مليء‬ ‫بر�سائل ال�سالم والمحبة ال غير‪ ,‬وبالطبع هذه‬ ‫الإ�شاعة لم ت�ؤثر نهائيا على م�سيرتي وهلل‬ ‫الحمد‪ .‬وال �أعرف كاتبها بطبيعة الحال‪ ،‬لأنه‬ ‫جبان وال يقوى �أن يف�صح عن ا�سمه!‬

‫ول�ب�ن��ان ورو� �س �ي��ا‪ ..‬وين�شر ف��ي ال�صحافة‬ ‫الأجنبية‪ ،‬ويُترجم وي�ق��ر�أه مئات الآالف‪..‬‬ ‫فهذا يعني نجاح الأدي ��ب ال�سعودي ولي�س‬ ‫بلقي�س الملحم فقط‪ .‬لأننا اليوم في حاجة‬ ‫�إلى �أن يفهمنا العالم كما نحن‪ ،‬ال كما يُريد‬ ‫لنا الإعالم غير المن�صف �أحيانا‪.‬‬ ‫وم��ن الإن�صاف �أن �أق��ول �إنني ل�ست مُغيبة‬ ‫بال�شكل الذي قد يفهمه القارئ‪ ,‬فم�شاركاتي‬ ‫و�إن كانت محدودة‪� ،‬إال �أنها كانت حا�ضرة في‬ ‫مهرجانات و�أم�سيات ثقافية محلية‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬من الم�ؤ�سف �أن �أقول بان «ال�شُّ للية» الثقافية‬ ‫هي من تتحكم في الو�سط الأدب��ي‪ .‬وهذا ما‬ ‫يُكر�س مفهوم الواحد �أو الأنا الذي من �ش�أنه ● ●من خالل تجربتك في كتابة الرواية‪ .‬كيف‬ ‫وج��دت ال��رواي��ة؟ وما هو ر�أي��ك في المُنجز‬ ‫يُكرر الوجوه والتجارب‪ ،‬ويعتمد على التلميع‬ ‫الروائي ال�سعودي؟‬ ‫دون البناء والبحث الحقيقي عن الأديب الذي‬ ‫ي�ستحق‪.‬‬ ‫‪ρ ρ‬الجميل في ال�شعر �أن��ه يتكلم عن التفا�صيل‬ ‫التي تداوي �شغف الإن�سان لتعرّي ذاته! وهو‬ ‫ولعل م��ا ذك��رت��ه م��ن الح�ضور المحدود هو‬ ‫ي�شكّل ل��دي م�ساحة �شا�سعة للتعبير رغم‬ ‫عالمة نجاح �أعدّها في حقّي‪ ,‬فحين ي�صل‬ ‫التكثيف ال�صوري الذي تتميز به ن�صو�صي‪.‬‬ ‫ن�صي ومقاالتي وكتابي لفنزويال وال�سويد‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪101‬‬


‫وتبقى الرواية جن�س ًا �أدبي ًا ي�صلح لمن �أراد �أن‬ ‫ي�سرد الأحداث ويُخرجها من قالب �شخ�صنة‬ ‫الم�شاعر‪� ،‬إلى االنفعال الذهني المت�أمل لما‬ ‫حوله‪.‬‬ ‫التجربة ال�شخ�صية بالن�سبة لي �أعدّها في‬ ‫بدايتها‪ ,‬باعتبار �صدور رواية واحدة والأخرى‬ ‫بين يدي الكتابة‪ .‬وال �أخفيك ب�أنني �أ�ستمتع‬ ‫كثيرا في كتابة ال��رواي��ة؛ لأنني �أ�شتغل على‬ ‫البحث الم�ضني للتاريخ‪ ،‬وكل ما يتعلق بالبقعة‬ ‫الجغرافية التي �أك�ت��ب عنها بكل جوانبها؛‬ ‫خ�صو�صا في الرواية الأخيرة‪ ،‬الرواية التي‬ ‫�أت��وق��ع لها مزيدا من جهد البحث والكتابة‬ ‫والدموع‪!..‬‬ ‫�أم ��ا المنجز ال���س�ع��ودي ال���روائ���ي؟ فرفوف‬ ‫المكتبة وحدها ال ت�ستطيع �إجابتك عن �س�ؤالك‪.‬‬ ‫وال حتى �أع ��داد الطبعات وح�ف�لات التوقيع‬ ‫الرائجة! فما دامت الم�ؤ�س�سات الثقافية باقية‬ ‫على حالها من الجمود‪ ,‬من دون االعتراف بما‬

‫‪ 102‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫عندنا وما ينق�صنا‪ .‬لدينا الإن�سان ولكن لي�س‬ ‫لدينا ما يدعم تقديمه وب��روزه‪ .‬لدينا فطرة‬ ‫�إبداعية وعقول تتطلع �إلى االنفتاح‪ ،‬ولكن لي�س‬ ‫لدينا قنوات تفتح �أمامه المجال‪ .‬كل ما لدينا‬ ‫هو ال�صعوبات‪ ،‬والعقبات‪ ،‬والفتاوى الم�ضادة‪،‬‬ ‫والمنع‪ ،‬والإق�صاء‪ ،‬والأعراف‪.‬‬ ‫ينق�صنا بناء الثقافة بمخرجاتها‪ ,‬ينق�صنا‬ ‫الم�سرح ومعاهد الفنون الجميلة‪ ،‬والنقابات‬ ‫الفنية‪ ،‬والق�صور الثقافية‪ ،‬والمهرجانات‬ ‫المحلية والدولية ذات الطابع المتميز الذي‬ ‫يلفت االن �ت �ب��اه‪ .‬ال�م���س��اي��رة لعجلة الثقافة‬ ‫العالمية والمحاكية لكل عمل مبهر ين ُّم عن‬ ‫ن�ضوج توعوي ب�أهمية الثقافة‪ :‬تربية وممار�سة‬ ‫وذوقا‪..‬‬ ‫ولعل الرواية ال�سعودية هي من �أهم الأجنا�س‬ ‫الأدبية التي القت غيابا لعملية النقد البناء ولو‬ ‫ب�شكل مقبول‪ .‬هذا �سي�ضعنا �أمام م�شهد مُخزٍ‬ ‫للرواية ال�سعودية التي �أثبتت جدارتها لت�صل‬ ‫�إلى البوكر مرتين على التوالي! وما �أعنيه من‬ ‫غياب نقدي وتحجيم ثقافي و�شللية‪� ،‬سيفرز‬ ‫المزيد م��ن ال��رواي��ات المح�شوَّة بالدراما‬ ‫المت�شابهة والمكررة؛ و�سيدخل �إلى عالمها‬ ‫دخالء يف�سدون ذائقة المتلقي‪ ،‬حتى ال يكاد‬ ‫يفرق ما بين ما هو جيد وغير جيد‪.‬‬ ‫الم�شهد ال��روائ��ي ال���س�ع��ودي يتفجَّ ر �أم��ام‬ ‫جمهور يتفرج‪ ,‬و�سريعا ما يذهب �إلى فرا�شه‪،‬‬ ‫وين�سى ما �شاهده من عرو�ض بع�ضها يدفع‬ ‫لل�سخرية وال�ضحك! لأن الرواية الحقيقية‬ ‫هي مَ ن �ستقول للأجيال القادمة «هكذا ر�أيتُ‬ ‫مَ ن حولي» ال «هكذا ر�أوني‪.»!..‬‬


‫����������������س�������ي�������رة و�إب����������������������������������داع‬

‫ال��دك��ت��ور‬ ‫ميجان‪ ‬بن‬ ‫ح�������س���ي���ن‬ ‫ال���روي���ل���ي‬

‫ولد الدكتور‪ ‬ميجان‪ ‬بن ح�سين الرويلي‪ ‬في ‪1951/1/17‬م في‬ ‫منطقة الجوف ‪ -‬المملكة العربية ال�سعودية‪.‬‬ ‫ن�ش�أ وترعر بين واحات النخيل البا�سقة‪ ،‬حيث الخ�ضرة والماء‬ ‫و�صفاء ال�سماء‪ ،‬وال�صحراء مترامية الأطراف في كل اتجاه‪.‬‬ ‫جمع الدكتور ميجان بن ح�سين الرويلي بين النقد والعمل‬ ‫الأك��ادي��م��ي والثقافي فبرع فيها جميعا‪ .‬وت��ب��رز اهتماماته‬ ‫الأكاديمية بالنقد الأدبي ونظرية الدراما والنظرية الأدبية‬ ‫و نظرية م��ا بعد الحداثة و التقوي�ض وفكر ج��اك دري��دا‪،‬‬ ‫وم��دى تعلّقه بالفكر الأك��ادي��م��ي والثقافي ال��ذي �سخّ ر له‬ ‫حياته ك�أ�ستاذ بارز للنقد والنظريات الأدبية المعا�صرة لما‬ ‫بعد الحداثة‪.‬‬ ‫له �أعمال ثقافية بارزة انت�شرت بين المهتمين والمثقفين‪،‬‬ ‫لعل �أبرزها كتابه المرجعي الهام «دليل الناقد الأدب��ي»‬ ‫بالم�شاركة مع زميله الدكتور �سعد البازعي‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪103‬‬


‫الت�أهيل الأكاديمي‬ ‫‪ -1‬بكالوري�س في اللغة الإنجليزية ‪ -‬كلية الآداب‬ ‫ جامعة الريا�ض (الملك �سعود حاليا)‪ ،‬عام‬‫‪1977‬م‪.‬‬ ‫‪ -2‬ماج�ستير في اللغة الإنجليزية‪ ،‬جامعة �أيوا‪� -‬أيوا‬ ‫�سيتي‪ -‬الواليات المتحدة‪ ،‬مايو ‪1982‬م‪.‬‬ ‫‪ -3‬دك �ت��وراه ف��ي الأدب الإن�ج�ل�ي��زي ع��ام ‪1986‬م‪،‬‬ ‫جامعة نيومك�سيكو‪ ،‬مدينة الباكيركي ‪ -‬الواليات‬ ‫المتحدة‪.‬‬ ‫التخ�ص�ص‪ :‬النقد الأدب���ي وال��درام��ا (تخ�ص�ص‬ ‫مزدوج)‪.‬‬ ‫منا�صب �أكاديمية‬ ‫‪ -1‬رئي�س ق�سم اللغة الإنجليزية‪ -‬كلية الآداب‪-‬‬ ‫جامعة الملك �سعود‪ -‬الريا�ض ‪2001-1997‬م‪.‬‬ ‫‪� -2‬أ�ستاذ م�شارك ‪1996‬م‪.‬‬ ‫‪� -3‬أ�ستاذ م�ساعد ‪1995-1986‬م‪.‬‬ ‫‪ -4‬ع�ضو مجل�س كلية الآداب‪1998-1996 :‬م‬

‫‪ 104‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫‪ -5‬ع �� �ض��و م �ج �ل ����س م��رك��ز ب��ح��وث ك �ل �ي��ة الآداب‬ ‫‪1994‬م‪1996-‬م‪.‬‬ ‫‪ -6‬ع�ضو مجل�س مركز جامعة الملك �سعود للترجمة‬ ‫‪2004-2002‬م‪.‬‬ ‫‪ -7‬ع�ضو ف��ي هيئة ال�ن���ش��ر ب�م��رك��ز عبدالرحمن‬ ‫ال�سديري الثقافي‪.‬‬ ‫االهتمامات الأدبية‬ ‫‪ -1‬النقد الأدبي ونظرية الدراما‪.‬‬ ‫‪ -2‬النظرية الأدبية‬ ‫‪ -3‬نظرية ما بعد الحداثة‬ ‫‪ -4‬التقوي�ض وفكر جاك دريدا‪.‬‬ ‫الن�شر والبحوث‬ ‫‪ -1‬الحيوان بين ال�م��ر�أة والبيان‪ :‬ق��راءة في كتاب‬ ‫البيان والتبيين‪ ،‬مجلة ف�صول‪( 12:3 ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫خريف ‪1993‬م)‪� ،‬ص �ص‪.107-79 :‬‬ ‫‪ -2‬ق�صة الق�صة ف��ي الأدب ال���س�ع��ودي الحديث‪:‬‬ ‫ق��راءة في المقدمة التاريخية‪ ،‬مجلة (قوافل)‪،‬‬ ‫(‪1992‬م)‪� ،‬ص �ص ‪.96-84‬‬ ‫‪� -3‬أ�سرار البالغة بين ال�شم�س والآذريونة‪ :‬قراءة في‬ ‫كتاب الجرجاني‪ ،‬عالمات في النقد الأدبي‪1:4 ،‬‬ ‫(‪1992‬م)‪� ،‬ص �ص‪.119-67 :‬‬ ‫‪ -4‬التقوي�ضية‪ ،Deconstruction /‬الن�ص الجديد‪،‬‬ ‫(‪1996‬م)‪.230- 191 ،‬‬ ‫‪ -5‬دليل الناقد الأدب��ي‪ ،‬الريا�ض‪ ،‬المملكة العربية‬ ‫ال�سعودية (‪1995‬م)‪ ،‬بالم�شاركة مع الدكتور �سعد‬ ‫البازعي‪.‬‬ ‫‪ -6‬ق�ضايا نقدية ما بعد بنيوية‪� :‬سيادة الكتابة‪/‬‬ ‫ال�ن����ص‪ ،‬ون�ه��اي��ة ال �ك �ت��اب‪ ،‬م��وت ال�ل�ف��ظ‪ ،‬م��وت‬ ‫الم�ؤلف‪ ،‬نادي الريا�ض الثقافي ‪1996‬م‪.‬‬ ‫�إلى جانب مقاالت و�أبحاث �أخرى عديدة باللغتين‬ ‫العربية والإنجليزية‪.‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ي�ستند المنهج االجتماعي �إل��ى فر�ضية �صحيحة‬ ‫هي �أن ثمة �صلة م�ؤكدة بين الظاهرة الأدبية والظاهرة‬ ‫االجتماعية؛ بمعنى �أن المجتمع ال بد �أن يعك�س ت�أثيره‬ ‫على بنية الظاهرة الفنية وم�ضمونها‪ ،‬بيد �أن طبيعة‬ ‫هذه ال�صلة خ�ضعت الجتهادات النقّاد‪ ،‬ول�سياقات �أبرزت‬ ‫مزالق هذا المنهج النقدي‪ ،‬ومنها �أن تطغى �أحكام علم‬ ‫االجتماع ور�ؤاه على التحليل الأدبي ذي الطابع الجمالي‪،‬‬ ‫ال �سيما �إذا م��ا ح����اول ال��ن��اق��د ف��ي ظ��ل ه���ذا ال��م��ن��ه��ج �أن‬ ‫يف�سر الن�صو�ص الإبداعية‪ ،‬بحيث تبدو مجرد ظ ٍّل باهتٍ‬ ‫للظواهر االجتماعية‪ ،‬وب�أ�سلوب يتجاهل جوهر الن�ص‬ ‫الفني‪ ،‬ويخرج �إلينا با�ستنتاجات جافة ال روح فيها‪.‬‬ ‫وي�ضع «ويلبري�س ���س��ك��وت» المنهج االج��ت��م��اع��ي تحت‬ ‫عنوان (الأدب والمثل االجتماعية)‪ ،‬وي��ح��اول �أن يبرهن‬ ‫على �أن الفن ال يتخلّق في فراغ‪ ،‬و�أ َّن الفنان ‪ -‬وينطبق هذا‬ ‫على كل فنون القول ‪ -‬محدَّد بزمان ومكان‪ ،‬وهو ي�ستجيب‬ ‫لمجتمع هو جزءُه المعبّر الناطق‪ .‬وما دام الفن يحتفظ‬ ‫■ د‪� .‬صربي م�سلم حمادي*‬ ‫بروابطه مع المجتمع‪ ،‬وهذا ال يمكن �إال �أن يكون قائماً؛‬ ‫ف���إن النقد االجتماعي �سواء �أك��ان يتبع نظرية معينة �أم‬ ‫ال فعا ًال في النقد‪ .‬ومن الوا�ضح �أن‬ ‫لم يكن‪� ،‬سيبقى عام ً‬ ‫«ويلبري�س �سكوت» ق�صد النقد المارك�سي حين تحدث‬ ‫عن النقد الذي ير�ضى ب�أن يكون ظال لنظرية معيّنة‬ ‫وتابعا ذليال لها‪.‬‬

‫ر�ؤية للمنهــج‬ ‫االجتمــاعــي‬ ‫ف�����ي ال���ن���ق���د‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪105‬‬


‫ومن المعروف‪� ،‬أن المدر�سة المارك�سية ا�ستطاعت‬ ‫�أن تق�ضي على المدر�سة ال�شكالنية ف��ي رو�سيا عام‬ ‫‪1930‬م‪ ،‬والتي يعود �أ�صلها �إل��ى ع��ام ‪1916 -1915‬م‪،‬‬ ‫وبلغت �أوجها بعد عام ‪1920‬م‪ .‬والمدر�سة ال�شكالنية هي‬ ‫�إرها�ص بالمناهج النقدية التي ظهرت فيما بعد‪ ،‬وان�صبَّ‬ ‫اهتمامها على البنية الفنية للن�ص‪ ،‬ومنها المنهج البنيوي‬ ‫ذائع ال�صيت‪.‬‬ ‫وي�شير «�إنريك �أندر�سون �إمبرت» �إلى غزارة نماذج‬ ‫النقد المارك�سي ذات الطابع الم�ضموني بال�ضرورة؛ �إذ‬ ‫و�صفها ب�أنها �أكوام من النماذج على المنهج االجتماعي‬ ‫الذي طبّقه النقاد المارك�سيون‪ .‬فك�أن النقد االجتماعي‬ ‫يبحث عن مقام الك�سر الم�شترك بين الكاتب و�أف��راد‬ ‫طبقته االجتماعية والتجربة التي يعبر عنها‪ ،‬ي�شاركه‬ ‫فيها �أفراد �آخرون ومنهم المتلقي �أو القارئ‪ ،‬ف�ض ًال عن‬ ‫�أن محتوى العمل الإبداعي غالب ًا ما ينه�ض على مالحظة‬ ‫الت�صرف الإن�ساني؛ �إذاً‪ ،‬فمقام الك�سر الم�شترك ‪ -‬كما‬ ‫و�صفه �إمبرت ‪ -‬ي�شمل المبدع والن�ص والمتلقي على حد‬ ‫�سواء‪ ،‬وبناء على ر�ؤية النقد االجتماعي‪.‬‬ ‫وينفتح النقد االجتماعي على المتلقّي �أو الجمهور –‬ ‫كما عبّر «ليفين ل‪� .‬شوكينج» في درا�سة له تحت عنوان‪:‬‬ ‫الذوق الأدبي – بحيث يكون الجمهور وعلى مر الأجيال‬ ‫هو معيار ج��ودة الن�ص؛ �إذ‪ ،‬عندما يفوز عمل ما في‬ ‫االحتفاظ ب�شهرته على امتداد �أجيال كثيرة‪ ،‬ال بد �أن‬ ‫يكون قد انتقل من طراز اجتماعي �إلى �آخر‪ ،‬ولأنه ا�ستطاع‬ ‫�أن يقدم �شيئ ًا �إل��ى جماعات تختلف كثير ًا في مزاجها‬ ‫النف�سي‪ ،‬ف�إنه يبرهن على �أنه يمتلك قيم ًا فنية وم�ضمونية‬ ‫متفردة قادرة على تجاوز ع�صر محدد‪� .‬ألي�س في بقاء‬ ‫رونقه على مر الع�صور دليل على جودته و�أ�صالته؟ ولنا‬ ‫في ال�شعر العربي الجاهلي ‪-‬ك�شعر المعلقات على �سبيل‬ ‫اال�ستدالل‪ -‬والع�صور التي تلته نماذج �شعرية رائعة‪ ،‬ما‬ ‫تزال تن�سجم مع ذائقتنا ال�شعرية‪ ،‬ونحلّق معها في �أجواء‬ ‫�شعرية مده�شة‪ ،‬بل �إن ملحمة جلجام�ش – وينطبق هذا‬ ‫على الإل�ي��اذة والأودي�سة ‪ -‬تنفذ �إل��ى �أفكارنا وقلوبنا‪،‬‬ ‫فنح�س بعبقرية الفن ال��ذي ت�ضمنته‪ ،‬على الرغم من‬ ‫ّ‬ ‫مرور نحو خم�سة قرون على كتابة ال�صيغة الأولى لها زمن‬ ‫ال�سومريين‪ ،‬وكما تثبت ذلك الأرقام الطينية‪.‬‬

‫وف ��ي ال�ن�ق��د ال �ع��رب��ي ال �ق��دي��م‪ ،‬ن�ج��د ج ��ذور النقد‬ ‫االجتماعي في كتاب «عيار ال�شعر» لمحمد بن طباطبا‬ ‫العلوي‪� ،‬إذ ي�شير �صاحب «عيار ال�شعر» ‪ -‬وعلى �سبيل‬ ‫اال�ستدالل ‪� -‬إ���ش��ارة وا�ضحة �إل��ى �أن بع�ض الت�شبيهات‬ ‫– وينطبق هذا على ظواهر �شعرية �أخ��رى – ال يمكن‬ ‫فهمها �إال من خالل التقليد االجتماعي الذي قامت عليه‬ ‫�أو �أ�شارت �إليه‪ .‬ت�أمل ما �أورده ابن طباطبا ن�ص ًا «ف�إذا‬ ‫اتفق لك في �أ�شعار العرب التي يحتج بها ت�شبيه ال تتلقاه‬ ‫بالقبول‪� ،‬أو حكاية ت�ستغربها‪ ،‬فابحث عنهما ونقِّر عن‬ ‫معناهما‪ ،‬ف�إنك ال تعدم �أن تجد تحتهما خبيئة �إذا �أثرتها‬ ‫عرفت ف�ضل القوم بها‪ ،‬وعلمت �أنهم �أدق طبع ًا من �أن‬ ‫يلفظوا بكالم ال معنى تحته»‪ .‬ويو�ضح ابن طباطبا هذه‬ ‫الم�س�ألة‪ ،‬بل ويبرهن عليها ب�أ�سلوب مقنع‪ ،‬ومن خالل‬ ‫ع�شرات النماذج ال�شعرية المرتبطة بظروف اجتماعية‬ ‫ومعتقدية خا�صة؛ نذكر منها �أنهم يعالجون اللديغ بالحلي‬ ‫التي يعلقونها عليه‪� ،‬أو �أنهم يفق�أون عين الجمل الفحل‬ ‫حين يبلغ عدد الجمال �ألفا!‬ ‫وفي ع�صرنا هذا نجد ع�شرات الأعمال الإبداعية‪،‬‬ ‫�سواء �أكانت في مجال الفن ال�شعري �أم ال�سردي‪ ..‬يبدو‬ ‫النقد االجتماعي فيها هو المدخل الأمثل للنفاذ �إلى‬ ‫الم�سكوت عنه‪ ،‬والو�صول �إلى ب�ؤرة الن�ص الإبداعي؛ وعلى‬ ‫�سبيل المثال نذكر ثالثية نجيب محفوظ‪« :‬بين الق�صرين‪،‬‬ ‫وق�صر ال�شوق‪ ،‬وال�سكرية»‪ ،‬التي ر�صد فيها محفوظ تطور‬ ‫المجتمع الم�صري وعبر ثالثة �أجيال‪ ،‬مثل هذا العمل‬ ‫ال��روائ��ي ال�ضخم‪ ،‬ال يمكن تجاهل المحور االجتماعي‬ ‫الذي قامت عليه هذه الثالثية‪ .‬ومثل ذلك يقال عن كثير‬ ‫من الأعمال الروائية العالمية لـ«بلزاك» و«�ستاندال» و«ليو‬ ‫تول�ستوي» و«دي�ستويف�سكي» و«جبريل غار�سيا ماركيز»‪،‬‬ ‫وينطبق هذا تماما على ع�شرات الأعمال الأدبية الأخرى‬ ‫التي يبدو فيها النقد االجتماعي منا�سباً‪ ،‬بل و�ضروري ًا‬ ‫من �أجل الدخول من خالل �آلياته �إلى مثل هذه الأعمال‬ ‫الفنية‪ .‬وال نجد �ضرورة هنا من تكرار زخم من الأعمال‬ ‫الأدبية التي ي�صلح النقد االجتماعي مدخ ًال لها‪� ،‬سواء‬ ‫�أكانت هذه الأعمال الأدبية م�صوغة باللغة العربية �أم‬ ‫بلغات عالمية �أخرى‪.‬‬

‫* �أ�ستاذ اللغة العربية في ق�سم اللغات الأجنبية بكلية و�شتناو – �أن �آربر ‪ -‬ميت�شغن – الواليات المتحدة الأمريكية‪.‬‬ ‫‪ 106‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫�أُ‬ ‫دب�����اء‬ ‫ٌ‬ ‫َيحكو نَ‬ ‫م��د َن��ه��م‬ ‫■ �إعداد �سعيد بوكرامي*‬

‫ارتبط الكتاب ارتباطا وثيقا بمدن بعينها؛ الزمتهم‬ ‫والزموها؛ منحتهم �شخو�صها و�أمكنتها‪ ،‬ومنحوها المجد‬ ‫الأدبي �شعرا ورواية وق�صة‪� ..‬صعدوا بها من الواقع �إلى‬ ‫الخيال‪ .‬نقلوا واقعها بمنظور وح�سا�سية منتمية تارة‪..‬‬ ‫ومتمردة تارة �أخرى‪ .‬جيم�س جوي�س مع دبلن‪ ،‬بول �أو�ستر‬ ‫مع نيويورك‪ ،‬نجيب محفوظ مع القاهرة‪� ،‬أورهان باموق‬ ‫مع ا�سطنبول‪ ،‬وفرناندو بي�سوا مع ل�شبونة‪ ،‬و�سيلين مع‬ ‫باري�س‪..‬‬ ‫م��ا ه��ي المدينة ال��ت��ي ت�سري دم��ا�ؤه��ا ف��ي ن�صو�صك؟‬ ‫ول��م��اذا ارت��ب��ط��تَ �أ�سا�سا ب��ه��ذه المدينة؟ م��ا ه��ي ال��ظ��روف‬ ‫التي �ساقتك �إليها؟ وما هي تجلياتها في كتابتك؟ ولماذا‬ ‫كتبت عنها دون �سواها؟ هذه �أ�سئلة �ضمن �أخ��رى‪ ،‬نحاول‬ ‫ا�ستق�صاءها ع��ن ع�لاق��ة الكاتب بمدينته ال��ت��ي اختارها‬ ‫ف�ضاء لت�شييد عوالمه الأدبية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪107‬‬


‫القا�ص والروائي �إ�سماعيل غزالي ‪ -‬هاو ّية ديدالو�س‬

‫المدينة كتاب؛ ثقب �أ�سود في رئة الوجود؛ هاوية‬ ‫ثمّة مدينة �سديميّة ت�سكن الخلفيّة ال�شبحيّة‬ ‫لتخييل ق�ص�صي ورواياتي‪ ،‬مدينة لي�ست �أحادية‬ ‫ال�شكل والمعنى‪ .‬لي�ست واقعيّة تماما‪ ،‬و�إن كان‬ ‫ح�ضورها الفعلي له وجود حقيقي‪� .‬أجل متخيّلة‬ ‫هي المدينة التي تنت�صب كم�صدر عجائبي‬ ‫هائل لكتابتي ال�سردية‪.‬‬

‫مدينة �أطل�سية متخيّلة‪ ،‬ذات هند�سة منفلتة‪،‬‬ ‫ال ترتهن �إليها عالقتي الطفولية ب «مريرت»‬ ‫وحدها‪ .‬بل مجمل المدن التي عبرتها‪ ..‬وكان‬ ‫ال�صطدامي بها حكاية مريبة‪ ،‬عزّزتْ حكايتي‬ ‫ال�ضخمة الأ�صل الموجودة في خيالي‬ ‫بالمدينة ّ‬ ‫فقط‪.‬‬

‫بالت�أكيد �أنحدر من مدينة �صغيرة �أ�شبه ما‬ ‫تكون بقرية جبليّة ذات ا�سم غريب «مْ رِ يرْتْ »‪،‬‬ ‫وعالقتي الأنطولوجية بها هي عالقة ميثولوجية‬ ‫�أكثر منها عالقة واقعية‪ .‬لي�س هناك و�شائج‬ ‫�أموميّة تربطني بالمكان و�أزليّته‪ .‬بل مح�ض‬ ‫و�شائج رم��ز ّي��ة يغذّيها الخيال والحلم بقدر‬ ‫المحدود من الغرابة‪ .‬ال‪ ..‬لي�ست غرابة الحلم‬ ‫والخيال‪ ،‬بل غرابة الحياة اليومية نف�سها‪ .‬ثمة‬

‫و�إن كانت خلقتي الغجرية ال يروق مزاجها‬ ‫�إال للمدن النّهرية‪ ،‬والغابوية �أو المدن المنت�صبة‬ ‫على ح��اف��ات ال �خ�لاءات ال�ضارية‪ ..‬بما فيها‬ ‫القرى الطاعنة في الن�سيان‪ ،‬فثمة مدن ملعونة‬ ‫لم �أق��م فيها طويال‪ ،‬كان لحظوة عبوري فيها‬ ‫الظفر بموجز تاريخها‪ ،‬مغربيّة‪،‬عربيّة‪� ،‬إفريقية‬ ‫و�أوروبيّة‪.‬‬

‫‪ 108‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫�إنها برغم االختالف الدامغ بين �أ�شكالها‪،‬‬


‫ثمة مدن لم �أزرها فعليّا‪� ..‬أي�ضا تجمعني بها‬ ‫عالقة قويّة وغريبة �أكثر من مدن عرفتها ولم‬ ‫ت�ستطع �أن تدمغ ذاكرتي ب�أثر جليل‪ ..‬مدن �سافر‬ ‫�إليها خيالي‪� ،‬أعرف خارطاتها ال�سرية‪� ،‬شارعا‬ ‫�شارعا‪ ،‬زقاقا زقاقا‪ ،‬بيتا بيتا‪ ،‬غرفة غرفة‪،‬‬ ‫هناك م��دن ال وج��ود لها �أ��ص�لا‪ ،‬ربما غير‬ ‫�شرفة �شرفة‪ ،‬وحديقة حديقة‪...‬‬ ‫مرئية على طريقة �إيطالو كالفينو‪ ،‬منذورة‬ ‫مثل ه��ذه ال�م��دن العجيبة التي ل��م تط�أها لل�سفر المتاهي‪ .‬تتنا�سل فيها ال��ر�ؤى الدوّامة‬ ‫قدمي واق�ع��ا‪ ،‬ع�شت فيها تجارب على �سبيل كلعبة كابو�سيّة ال �شاطئ لتداغل مويجاتها‬ ‫التخييل‪ ،‬وك��ان��ت ه��ذه التجارب بمثابة واق��ع ال�صاخبة‪.‬‬ ‫م�ضاعف‪.‬‬ ‫مدن �أ�شبه بن�ساء خرافيّات‪ ،‬غائرة و�شومهن‬ ‫ال مدينة �إذاً‪ ،‬ر�سميّة ووا�ضحة‪ ،‬ذات مرجع في ذاكرة اللحظة المارقة‪ ،‬يلمعن كنجوم في‬ ‫وثيق‪ .‬بل مكان متعدد ومت�شعّب الهويّة‪ ،‬ي�شمل غ�سق الفراغ الأبدي‪.‬‬ ‫كل الجغرافيا ال�سّ حرية (بالمعنى العجائبي)‬ ‫م���دن ت �� �ض��اع��ف م ��ن ال��ر� �ص �ي��د ال �م �ت �ع �دّد‬ ‫للأطل�س المتو�سط غير المرئي‪ ،‬وال يقت�صر والالنهائي للمدينة الواحدة التي ت�سكن هاوية‬ ‫الأمر على حدود الأطل�س المتو�سّ ط‪ ..‬بل ي�شمل الخيال الخا�ص‪.‬‬ ‫ف�ضاءات مدن و�أمكنة مغربية �أخ��رى‪ ،‬وعربية‬ ‫ه��ذا التعدد الالنهائي المريب‪ ،‬يذكّرني‬ ‫و�إفريقية وعالمية‪ .‬فحين يتعلق الأمر بالأطل�س‬ ‫بق�صة للأرجنتيني بورخي�س‪ ،‬حول رجل انهمك‬ ‫ّ‬ ‫المتو�سط واق �ع��ا واخ �ت�لاق��ا‪ ،‬فالكتابة ك�أنها‬ ‫ت�ؤطل�س العالم‪ .‬وحين يتعلق الأم��ر بالأمكنة وقتا طويال بر�سم خارطة للعالم‪ ،‬واكت�شف قبل‬ ‫الأخرى‪ ،‬واقعا �أي�ضا واختالقا‪ ،‬فالكتابة لي�ست موته �أنه ر�سم وجهه في الأخير‪.‬‬ ‫فكيفما كانت العالقة بالمدينة �أو المكان‪،‬‬ ‫مح�ض نزهة‪� ،‬أو يحكمها منطق �سياحي بليد‪،‬‬ ‫ب��ل مغامرة تمحو ال��وج��ود الفعلي لأطل�سيتي ديدالو�سية‪ ،‬ا�ستغوارية‪ ،‬اختالقية‪ ،‬اختراقية‪،‬‬ ‫ومغربيتي و�إف��ري��ق��ي��ت��ي‪ ،‬بلى ه��ي ان��خ��راط ال ا� �س �ت �ع��ادي��ة‪ ،‬ت �ك��راري��ة‪� ،‬أي �ق��ون �ي��ة‪ ،‬طقو�سية‪،‬‬ ‫م�شروط‪ ،‬بمجازفة حرة داخل تجربة ان�سانية ان�شطارية‪ ،‬عمودية‪ ،‬وافترا�ضية‪...‬الخ‪ ،‬يبقى‬ ‫وجمالية مغايرة‪ ،‬نقي�ضة ومفتوحة‪ .‬وفي كلتا عمل الكاتب �إزاء مدينته المبتكرة منطويا على‬ ‫ال�صور‪،‬‬ ‫التجربتين محليا وكونيّا‪ ،‬تنت�صب مدينة واحدة خطورة مزدوجة‪ ،‬ي�شبه في �صورة من ّ‬ ‫ق�صة بورخي�س الملمح �إليها �أعاله‪.‬‬ ‫عمل بطل ّ‬ ‫هائلة ت�ستمزج كل هذا التعدّد الالنهائي‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫بين روائ�ح�ه��ا‪ ،‬بين عنف تجاربها وغ��واي��ات‬ ‫الحياة ال�سرية الكامنة في �شوارعها الخلفية‪.‬‬ ‫ه��ي ف��ي المح�صلة ت �ق �وّي بتعددها ال�شر�س‬ ‫العالقة المفتوحة والمبهمة بالمدينة الرّمزية‬ ‫الأ�صل‪ ..‬المدينة المتغوّلة في خيالي وخيالي ال‬ ‫غير‪.‬‬

‫هناك مدن �أي�ضا ال وجود لها �إال في حكايات‬ ‫ُكتّاب مالعين‪ .‬مدن مجنونة و�سريالية �صنعها‬ ‫ُكتّاب �أ�شاو�س تبدو �أ�ش ّد واقعيّة من التي ت�شبهها‬ ‫�أو تحيل عليها‪ .‬دخول هذه المدن المختلقة في‬ ‫تجارب ه ��ؤالء الكتاب‪ ،‬ال يفتر�ض �سهولة في‬ ‫الخروج منها‪ .‬فنحن نعي�ش فيها �إلى الأبد حتى‬ ‫و�إن ُكنّا ال نعي ذلك‪ .‬مدن ال يمكن الخال�ص من‬ ‫بالغة هند�ستها ال�شاهقة‪ ،‬ومتاهة عالماتها‬ ‫الداغلة‪ ،‬وغواية رموزها المت�ضاربة‪ ..‬مهما‬ ‫كانت مدمرة وب�شعة ومفزعة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪109‬‬


‫القا�ص‬ ‫محمد عزيز الم�صباحي‬

‫مراك�ش‬ ‫المدينة الأم‬

‫عالقة الإن�سان بالمكان ملتب�سة‪� ،‬أحيانا والخيال الواقع‪ ،‬والعبث‪...‬‬ ‫تكت�سي رداء الأمومة‪ ،‬و�أحيانا رداء الع�شق‪،‬‬ ‫�أع�ت�ق��د ج��ازم��ا �أن �ن��ي �أرت �ب��ط ف��ي كتابتي‬ ‫و�أحيانا رداء الألم والتيه‪ ...‬الن�شاز الملفت في بمراك�ش‪� ،‬أ�شعر بدمائها الحمراء ت�سري في‬ ‫هذه العالقة تج�سده عالقة الكاتب بالمدينة عروق كل ن�ص �أكتبه‪ ،‬وب�صفة جلية في ن�صي‬ ‫الأم‪� ،‬أو الحبيبة‪� ،‬أو الع�شيقة الخائنة‪ ...‬المعنون ب «م��راك�����ش»‪ ...‬مراك�ش البهجة‬ ‫المالذ �أو المنفى‪ ...‬بو�صفها الوعاء الالزم‬ ‫والحزن ال�صامت‪ ...‬المذابة من ثلوج الأطل�س‬ ‫الحت�ضان ما �سيرويه من �أحداث‪...‬‬ ‫الكبير‪ ،‬والنازحة من حرارة «تافياللت» بوابة‬ ‫�إذا ك��ان م��ن ال �ل�ازم �أن ن�ت��ذك��ر نجيب ال�صحراء‪ ،‬والمنفلتة م��ن �سهول و�سهوب‬ ‫محفوظ ف��ي عالقته ب��ال�ق��اه��رة‪ ،‬ف�سيكون الحوز‪ ...‬وقبل ذل��ك‪ ..‬وبعد ذل��ك‪ ..‬مراك�ش‬ ‫م��ن الأ� �ص��وب �أن نتذكر �أن نجيب محفوظ هي فكرة ون�ص خفي‪� � ،‬س��رِّ ي‪ ...‬كل الذين‬ ‫ب��الإ� �ص��رار وال�ت�ك��رار ت�ح��ول �إل��ى معلَمة من حاولوا �سرده انهارت قواهم اللغوية‪...‬‬ ‫معالم القاهرة‪ ...‬كان جزءا منها �أكثر مما‬ ‫ارت� �ب� �ط ��تُ ب �ه��ا ب �ف �ع��ل ح �ل �ي��ب �أم �ه��ات��ي‬ ‫كانت هي خلفية لأعماله‪ ،‬كتب عن �أماكنها‬ ‫ومر�ضعاتي المراك�شيات المتعددات(‪ ،)1‬ومع‬ ‫و�أزقتها و�أرواحها ونفو�سها وقلوبها‪ ...‬كتب‬ ‫حليبهن ر�ضعت مراك�ش ممزوجة بحب �أهلها‪،‬‬ ‫عن نف�سه فيها‪ .‬ال همّ له �سوى �أن يتكلم من‬ ‫�أهلي‪ ،‬الذين لقنوني �أ�صول المغربة واللغة‬ ‫داخلها �أو تتكلم م��ن داخ �ل��ه‪ ...‬على عك�س‬ ‫كاتب �آخر من طينة فرانز كافكا‪ ،‬الذي رغم والتخييل‪ ...‬كما تفعل كل الأمهات‪...‬‬ ‫لي�ست م��راك ����ش بالن�سبة ل��ي دروب �ه��ا‪،‬‬ ‫ق�ضاء ك��ل حياته ب�ب��راغ عا�صمة الت�شيك‪،‬‬ ‫ف�إنه ظل يطاردها وظلت ت�ط��ارده‪ ،‬يكرهها وحوماتها‪ ،‬و�شخو�صها‪ ،‬ولغاتها‪ ،‬و�أ�صواتها‪،‬‬ ‫وتكرهه‪ ،‬خ�ص�ص روايته «المحاكمة» لير�سم وروائحها فح�سب‪ ...‬بل هي كتلة العالقات‬ ‫وجهها التجريدي المحكوم بثنائية الحقيقة‪ ،‬والروابط والو�شائج التي تربطني بها‪ ،‬والتي‬

‫‪ 110‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬ ‫وعندما �أكتب م�ستح�ضرا «�أن��اي»‪� ،‬أك��ون قد‬ ‫ا�ستح�ضرت مراك�ش �أو ا�ستح�ضرتني‪ ...‬حتى‬ ‫َر�ضتْ عليَّ الحياة النفيَ من مراك�ش‬ ‫عندما ف َ‬ ‫�إلى مدن وف�ضاءات �أخرى‪ ،‬ظللت منتميا �إليها‬ ‫وجدانا ولغة ور�ؤيا‪...‬‬

‫تنبج�س مت�سللة داخ��ل ن�صو�صي من خالل‬ ‫اللغة وال�سخرية وحكايات النا�س‪ ،‬ومن خالل‬ ‫المُثل المرتبطة برجالها المئات(‪� .)2‬أ�ستطيع‬ ‫�أن �أق��ول �إن وج��دان��ي طبع ب�إيقاع ق��راءات‬ ‫الجماعة «الجزولية» ل «دل��ي��ل الخيرات»‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬قبل �أن �أكتب عنها �أو بها كانت قد‬ ‫اقر�ؤوا ق�صتي «مراك�ش» وقولوا لي (كيف‬ ‫كتبتني‪ ،‬في ن�سختي الأ�صلية غير المنقّحة‪ .‬جاءتكم؟)‪.‬‬ ‫(‪ )1‬كان من عادة الأمهات في الخم�سينيات وال�ستينيات من القرن الما�ضي‪� ،‬أن ي�سمحن ل�صديقاتهن وجاراتهن‬ ‫ب�إر�ضاع �أوالدهن حديثي الوالدة‪ ،‬ليحققن لهم �إخوة �إ�ضافيين‪ ،‬و�أمهات ثانيات‪ ،‬وو�شائج قرابة مقد�سة‪.‬‬ ‫(‪ )2‬ولي�س ال�سبعة رجال التي ظلت عالقتي بهم م�شوبة بال�شك والتوتر‪ ..‬با�ستثناء ال�شيخ محمد بن �سليمان‬ ‫الجزولي‪ ،‬الذي ولدت عند عتبة �ضريحه‪ ...‬حيث ظلت القراءات الجماعية لكتابه‪« ،‬دليل الخيرات» كل ليلة‬ ‫خمي�س‪ ،‬ت�صدح بترتيل ا�سم محمد‪ ...‬وكان ا�سمي محمد‪ ...‬تطربني تلك الأمداح‪ ،‬ف�أند�س بين القراء مم�سكا‬ ‫ن�شوانا بكتاب يمجّ دني‪!..‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪111‬‬


‫ال�شاعر الم�صري‬ ‫ع�صام خليل‬

‫مدينتي هي مقهاي‬ ‫(مدينتي هي مقهاي‪ ،‬والمقهى هو وقت الكتابة ومكانها)‬ ‫�أقيم حالي ًا في الخبر بال�سعودية وكتبت عن‬ ‫�أن��ا اب��ن مدينة بمعنى المقومات ال�لازم��ة لهذه‬ ‫ال�صفة‪ ،‬وابن قرية ل�ضياع المقومات في جيوب �آخرين‪ .‬مدينتي التى �أراها لأيامٍ في ال�سنة‪:‬‬ ‫(ب �ي��ت ث�ق��اف��ة دك��رن ����س)‪ ،‬ال�م�ب�ن��ى الفخم تركنا البلد‬ ‫يحوي مكتبة للكبار والأطفال‪ ،‬وغرفا للأن�شطة ليبقى مت�س ٌع في ال�شارع‪،‬‬ ‫والموظفين‪ ،‬وهو المكان الأول لك ّل مجتهد في لن�أكل‪ ،‬‬ ‫الأدب‪ .‬وهناك �سمعتُ �أول نقد ‪ -‬مفيد �أو غير ليكون الخب ُز �صاحياً‬ ‫مفيد ‪ -‬لكنّه يظل الثمن الذى يدفعه الفرد داخل قفا ُه كوجهه‪ /‬تا ُم الحمرة والدقيق‬ ‫لي�س ليَ ن�صيبٌ‬ ‫َ‬ ‫�أول عتبات الثقافة في م�صر‪.‬‬ ‫أ�شخا�ص عرفتُ معدنهم حتى من ر�صيف البلدية‬ ‫ٍ‬ ‫بركة اهلل كانت في �‬ ‫العينُ كانت تُفرغ حمولتها من �ألمِ ال�شوارع‪،‬‬ ‫من �أول تنازل عن فارق العمر ل�صالح كبد وعيون‬ ‫الكتابة وتطويرها‪ ،‬وكان المقهى المكان المقد�س م�شاهد فرحٍ وحزنٍ ‪ ،‬حنينٌ �صعب الو�صف للأهل‬ ‫�وات م��ن غربة تبدو ال‬ ‫الذي تُقبَل منه �صالح �أعمالنا من �شعر ونقا�شات والأخ���وة بعد ث�م��انِ ��س�ن� ٍ‬ ‫تنتهي‪ ..‬ك ّل الم�ؤونة �أ�ضعها �أمامي‪ ،‬ونتحاور‪.‬‬ ‫حول �أحالم و�أحالم كالحرية لنا وللبلد‪.‬‬ ‫مدينتي (دكرن�س) من �إقليم المن�صورة‪ ،‬كلُّ حلَم ٍة في (دكرن�س)‬ ‫ومقهانا المعتمد ك��ان �أيًّ من �أرب�ع� ٍة على فر ِع حنانٌ �ضاربٌ في البطن‬ ‫للنيل‪ ،‬المهمّ �أن �أجل�س برفق ِة �أحد وثالثنا النيل‪� ،‬أكتبُ و�أخبئُ الحب َر مع الأُرز‬ ‫كنّا نحوم حوله كك ّل الحيوات الأخرى‪� :‬أهل البلد‪ ،‬تحت �شقف ٍة مترّبة‪،‬‬ ‫وق��وتُ البلد من ال��زرع والخُ �ضرة‪ ،‬المدار�س‪ ،‬جعّدها ق ّل ُة الحيلة‪ ،‬‬ ‫والبيوت �سعيدة الحظّ بط ّل ٍة تربط الجذور باليوم و�أفط ُر على «كوبري» الم�صرف‪.‬‬ ‫التالي من الحياة‪.‬‬ ‫ال �شئ ممي ٌز في مدينتي غير ذكرياتي‪ ،‬وجو ُد‬ ‫يمكن �أن �أق ��ول‪ :‬ف��ي ال�ب��دء ك��ان النيل‪ ..‬ثم �أهلي فيها‪ ،‬ويكفيني واح ٌد منهم كي �أخلّدها في‬ ‫دماغي‪.‬‬ ‫م�شينا حوله‪.‬‬

‫‪ 112‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫لي�س ه�ن��اك مدينة م�ح��ددة ت�سري دم��ا�ؤه��ا في‬ ‫ن�صو�صي‪ .‬المدينة التي تح�ضر في كتاباتي‪� ،‬أحيانا‪،‬‬ ‫هي مدينة متخيلة‪� ،‬أتخيل في كل م��رة‪ ،‬مدينة تكون‬ ‫م�سرحا لحدث ق�ص�صي‪ ،‬و�إذا �أردت �أن �أك��ون دقيقا‬ ‫�أكثر في جوابي‪ ،‬ف�س�أقول �إن��ي ال �أتخيلها بالمفهوم‬ ‫ال�صحيح للتخييل‪ ،‬بل هي وحدها تح�ضر‪ ،‬و�أنا �أ�سرد‬ ‫ن�صا ق�ص�صيا ج��دي��دا‪ .‬ه��ي مدينة ب�لا ا��س��م‪ ،‬وبال‬ ‫مالمح‪ ،‬ي�ستطيع من خاللها المتلقي التعرف عليها‪.‬‬ ‫هي ف�ضاء غريب كل الغرابة عن المدينة التي �أعي�ش‬ ‫فيها‪ ،‬وع��ن �أي مدينة �أخ��رى من المدن التي زرتها‬ ‫و�أع��رف�ه��ا‪ ،‬ال��دار البي�ضاء التي ول��دت ون�ش�أت فيها‬ ‫و�أعي�ش فيها الآن‪ ،‬يمكن �أن �أ�شبهها ب « ف�ضاء» مركز‪،‬‬ ‫�أو م�صنع كبير لإنتاج الأف�لام‪ .‬بداخله الع�شرات من‬ ‫«الأمكنة» الأ�ستوديوهات التي ت�ضم مناظر تتفاوت في‬ ‫طريقة ت�شكيلها‪ ،‬بنائها وكيفية ت�صورها‪ .‬في داخل‬ ‫هذا الم�صنع «الف�ضاء» الكبير‪� ،‬أبني «�أمكنة»‪ ،‬مدنا‬ ‫بِحاراتها و�شوارعها و�أزقتها‪ ،‬فالدار البي�ضاء كف�ضاء ال‬ ‫تعنيني بالأ�سا�س‪ ،‬بالقدر الذي يعنيني كيفية ت�صوري‬ ‫للمدينة «الأخ���رى» التي تح�ضر في مخيلتي بكل ما‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫عبد الحميد‬ ‫الغرباوي قا�ص‬ ‫وروائي مغربي‬ ‫ي�ؤثثها‪� .‬أنا ال �أكتب عن مدينة الدار البي�ضاء‪ ،‬و�أكتب‬ ‫عن الأخرى التي �أتخيل‪� ،‬أو تح�ضرني لحظة الكتابة‪.‬‬ ‫�أما �إذا �أردت �أن �أعك�س مدينة الدار البي�ضاء في‬ ‫ن�ص ما‪ ،‬وبعبارة �أ�صح �أن �أ�ستح�ضرها في كتابة ما‪،‬‬ ‫فلن �أكتب بالت�أكيد �إبداعا‪ ..‬بل �س�أكتب مقالة تتحدث‪،‬‬ ‫مثال‪ ،‬عن و�سخها وانعدام الأمن فيها‪ .‬وعليه‪ ،‬فلي�س‬ ‫لي ارتباط �أدبي وثيق بمدينة بعينها‪ .‬فحيثما وجدت‬ ‫�أكتب‪ .‬ال �أكتب �إال عن المدينة التي في ر�أ��س��ي‪ ،‬في‬ ‫مخيلتي‪ ..‬ولي�س التي �أك��ون حا�ضرا فيها‪ .‬ال�شخو�ص‬ ‫والأمكنة هي خليط من هنا وهناك‪ .‬قد �أ�ستعير مكانا‬ ‫عتيقا من مدينة �أوروب��ي��ة �شاهدته مثال في �شريط‬ ‫�سينمائي‪ ،‬و�أ�ضيفه �إلى مكان ر�سخ في ذهني من مدينة‬ ‫عتيقة في �أق�صى المغرب‪ ،‬و�أ�شكل منهما ف�ضاء يخدم‬ ‫عملي الق�ص�صي‪ .‬وقد �أكتب عن موظف في مواجهة‬ ‫مدير عمل متعنت و�أنا �أ�ستح�ضر مكانا في قلب باري�س‪.‬‬ ‫ال حدود جغرافية للكاتب �أثناء الكتابة‪ ،‬العالم ب�أ�سره‬ ‫في متناوله بقاراته‪ ،‬ببلدانه‪ ،‬بمدنه وقراه و�شخو�صه‪،‬‬ ‫ف�ضاءات لكتابته‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪113‬‬


‫القا�ص الم�صري‬ ‫�شريف �صبري‬

‫مدينتي ق�ص�صي‬ ‫يحتمي الروائي بالمدينة‪ ،‬ي�ضبط �إيقاع عالمه‬ ‫على عالمها‪ ،‬يعيد بكلماته بناءها‪ ،‬ب�شوارعها‬ ‫ونا�سها وروائحها‪ .‬يت�أملها طويالً‪ :‬كيف ت�شكلت‪..‬‬ ‫كيف تحوّلت؟ �أما كاتب الق�صة الق�صيرة‪ ،‬مثلي‪،‬‬ ‫فهو يحتمي بالهام�شي‪ ،‬والعابر‪ .‬يدخل المدينة‬ ‫خائف ًا يترقب‪ ،‬ومهما عا�ش فيها تظل عالقته بها‬ ‫متوترة‪ ،‬وعدائية‪ ،‬ولو كان عداء م�ضمراً‪ .‬ال ير�سم‬ ‫لها �صورة كلية‪ ..‬بل دائم ًا يراها مجز�أة مت�شظية‪.‬‬ ‫عالقة الروائي بمدينته‪ ،‬قائمة على الألفة التي‬ ‫تدفعه ال�ستثمارها كم�شروع �سردي ممتد‪ ،‬بينما‬ ‫كاتب الق�صة ال يعرف �أي ف�ضاء �سردي �سوف‬ ‫يخو�ض م�ستقالً‪ .‬ربما يكتفي بمقهى‪� ،‬أو قطار‪،‬‬ ‫�أو �شجرة ك��اف��ور على �شاطئ نهر‪� .‬أذك���ر �أنني‬ ‫ر�أيت ذات مرة �سيدة �أنيقة تدلف �إلى كني�سة في‬ ‫الكويت‪ ،‬فكتبت ق�صة «خطيئة الكعب»‪ ،‬ولو كنتُ‬ ‫روائي ًا لكتبت عن الكني�سة ذاتها‪ ،‬عن معمارها‬ ‫وتاريخها في الخليج المحافظ‪.‬‬ ‫وعندما هبت عا�صفة رملية ال مثيل لها‪ ،‬كتبت‬ ‫عن ت�أثير العا�صفة وتعرية الب�شر وال�شوارع تحت‬ ‫وط�أتها‪ .‬كانت «العا�صفة» كفعل تدميري مباغت‪..‬‬ ‫هي ما ي�شغلني في ق�صة «�شعر غجري تتطاير منه‬ ‫الحجارة»‪ ،‬ولي�س ر�سم مالمح مدينة الكويت‪.‬‬ ‫لي�س معنى ذلك �أن الق�صة الق�صيرة هي �سرد‬

‫‪ 114‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫ال ف�ضاء له‪ ،‬لكنها متجذرة في «زمكانية» عابرة‪،‬‬ ‫وم�ؤقتة‪ ،‬تت�أرجح في المفارقة بين زمكانيتين‬ ‫متباعدتين‪ ،‬كما ح��دث معي كثير ًا عندما �أجد‬ ‫ن�صي معلق ًا بين «القاهرة الكويت»‪ ،‬م�ستثمراً‪،‬‬ ‫�أو م�ستك�شف ًا تجربتي ال�شخ�صية والحياتية طيلة‬ ‫ع�شرين عام ًا ق�ضيتهما بينهما بالت�ساوي‪ ،‬من‬ ‫دون �أن �أن�سى لحظة �أنني غريب عنهما‪ .‬جئتهما‬ ‫من �شمال الدلتا‪ ،‬من قرية ب�سيطة ال تبعد كثير ًا‬ ‫عن �صخب البحر المتو�سط‪ ..‬في القرية تع�ش�ش‬ ‫ذكرياتي الأولى وطفولتي‪ ..‬و�أي�ض ًا يراودني البحر‬ ‫كثير ًا في �أحالمي‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬ت�شكل ف�ضاء ن�صي‪ ،‬ما بين المدينة‬ ‫«القاهرة الكويت» كم�صادفة قدرية‪� ،‬أو �إكراهية‪..‬‬ ‫ب�م��ؤازرة «القرية البحر» كمالذ‪ ،‬حلم‪ ،‬طفولة‪،‬‬ ‫فردو�س مفقود‪� ،‬أول الرحلة والوعي‪ .‬عبر �أربع‬ ‫مجموعات ق�ص�صية نُ�شرت لي‪ ،‬ي�صعب �أن يت�شكل‬ ‫ن�صي خارج هذا الف�ضاء الرباعي‪.‬‬ ‫وك ��أن ن�ص الكاتب‪ ،‬ه��و بطريقة م��ا‪� ،‬صورة‬ ‫لوجوده ال��ذات��ي‪ .‬فعندما �أكتب عن «القاهرة»‪،‬‬ ‫ف�أنا �أكتب «قاهرتي» الخا�صة‪ ،‬كما ِ���س��رْتُ في‬ ‫�شوارعها ور�أيتها‪ ،‬وت�ألمت فيها‪ ،‬وال عالقة لها‬ ‫ب��ـ«ق��اه��رة» نجيب محفوظ‪ ،‬المعبرة �أي�ض ًا عن‬ ‫ذاته‪ .‬وال �أدري �إلى �أي مدى انتبه النقاد �إلى �أن‬ ‫محفوظ يكتب عن �شرقي القاهرة فقط‪ ..‬ولي�س‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫غربيها‪ ،‬وعن القاهرة الإ�سالمية �أكثر مما يكتب‬ ‫عن القاهرة الخديوية‪ ..‬في الأخير‪ ،‬لم يكن يكتب‬ ‫عن تعقيدات المدينة الكبيرة بقدر ما كان يكتب‬ ‫عن حي الح�سين‪ ..‬حيث ولد ور�أى الوجود هناك‪.‬‬ ‫ولأنني لم �أولد مثله فيها‪ ،‬ف�إن م�سافة اغترابي‬ ‫كانت �أق��وى‪ ،‬فقد كتبت عن عين �شم�س �شرق ًا‬ ‫و�شارع الهرم غرباً‪ ،‬دون �أن ي�شغلني المكان قدر‬ ‫ان�شغالي بالعابرين‪ ،‬والنازحين من الريف مثلي‪.‬‬ ‫في �آخر مجموعة لي «بي�ضة على ال�شاطئ»‪،‬‬ ‫كنت م�شغو ًال بفعل «الخروج»‪ ،‬النزوح بين المدن‬ ‫وال��ب�لاد‪ ،‬ب��دء ًا من قرية �شمالية بعيدة‪ ،‬م��رور ًا‬ ‫بالقاهرة والكويت‪ ..‬بحث ًا عن حياة �أف�ضل‪� ،‬أو‬ ‫لالرتقاء �إلى طبقة اجتماعية �أعلى‪.‬‬ ‫الخروج هو فعلنا الإن�ساني‪ ،‬الحميم‪ ،‬والعميق‪،‬‬ ‫ن�ب��د�أه م��ن رح��م الأم‪ ..‬ث��م نوا�صله ب�لا ه��وادة‪،‬‬ ‫لت�صبح المدن‪ ،‬كل المدن‪ ،‬مجرد نقاط انف�صال‪،‬‬ ‫ننف�صل عنها �إلى ما ال نهاية‪ ،‬فيما تظل تراودنا‬ ‫�صورها الغائمة وذكرياتنا فيها‪.‬‬ ‫ودائم ًا �أ�شعر بالمدينة وهي تنكم�ش وتتال�شى‬ ‫في روحي‪ ،‬وفي ن�صي‪ ،‬كجغرافيا‪ ،‬فيما يكبر فعل‬

‫الإن�سان واغترابه و�ألمه وهام�شيته‪ .‬هل يحدث‬ ‫ذلك مع الروائي؟ ال �أدري!‬ ‫في الرواية‪ ،‬تبدو لي المدينة متزنة‪ ،‬وم�ستقرة‪:‬‬ ‫متاجر‪ ،‬وب�ن��اي��ات‪ ،‬و��س�ي��ارات �أج ��رة‪ ،‬والف�ت��ات‪.‬‬ ‫�أما المدينة في الق�صة الق�صيرة‪ ،‬فهي �شاحبة‬ ‫ومهتزة‪ ،‬و�إن ظلت تمار�س وط�أتها على فعلنا‬ ‫الإن�ساني‪ ،‬وم�صائرنا‪.‬‬ ‫هل �أزعم �أن الروائي يلتقط �صورة فوتوغرافية‬ ‫بانورامية للمدينة؛ �أما كاتب الق�صة الق�صيرة‬ ‫فيكتفي بكتابة جملة بذيئة على �سورها المتهدم؟!‬ ‫ال �أملك قدرة �إ�صدار �أحكام قاطعة‪ ،‬ومريحة‪،‬‬ ‫لكن م��ن واق ��ع تجربتي ال�خ��ا��ص��ة‪ ،‬ف� ��إن ق��راءة‬ ‫«القاهرة» �أو «الكويت» في ق�ص�صي‪� ،‬سوف تتطلب‬ ‫وقت ًا و�صبر ًا ِل َل ْملَمِ ة �شظايا و�شذرات‪ .‬وقد يكت�شف‬ ‫مَ ن يفعل ذلك �أن ما قلته عنهما ال ي�ستحق العناء‪،‬‬ ‫لأنه ال يختلف كثير ًا عما يمكن قوله عن طهران �أو‬ ‫الريا�ض‪ ..‬وربما هو قدري ككاتب ق�صة ق�صيرة‬ ‫يكتب عن مدن يكرهها‪� ،‬أو على الأقل يعجز عن‬ ‫ر�ؤيتها ب�سبب ولعه بالتفا�صيل الهام�شية‪ .‬تلك‬ ‫التفا�صيل التي تدو�سها المدن بال رحمة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪115‬‬


‫ال�شاعر جمال �أما�ش‬

‫ال�س ُ‬ ‫نابل تنبتُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫حيث ال تدري‬ ‫مراك�ش مدينة قريبة مني ج��دا‪ ،‬كظل ال‬ ‫يفارقني ف��ي ح�ي��ات��ي‪ ،‬ف��ي الم�سكن والملب�س‬ ‫وال�ك�لام‪ ،‬في الحب والأل��م‪ ،‬في ال�شتاء �أو في‬ ‫ال�صيف‪ ،‬في الطريق �إلى بيتي‪� ،‬أو في قطار منها‬ ‫�أو �إليها‪ ،‬الأح�ي��اء‪ ،‬والأب ��واب الت�سعة تعرفني‪،‬‬ ‫من خطواتي‪ ،‬من لم�ساتي‪ ،‬ومن نا�سها الذين‬ ‫يحدقون ف��يَّ ‪ ،‬ب��اح�ت��رام وبمحبة فائقة‪ ,‬كلما‬ ‫�أح�س�ست بقلق ما‪� ،‬أو باكتئاب ج��راء توتر ما‪،‬‬ ‫ب�سب �إحراج ما‪� .‬أبحث في مراك�ش‪ ،‬عن مو�سيقى‬ ‫تخفّف ع��ن �أ�ضلعي ثقل ال��زم��ن‪ .‬كلما دخلت‬ ‫أح�س بهناء‬ ‫أح�س بروحي‪ ،‬في بيتها � ُّ‬ ‫المدينة � ُّ‬ ‫كبير‪ ..‬تزول الحدود‪ ،‬تح�ضر العاطفة وذاكرة‬ ‫الطفولة؛ قد �أبحث عن عثراتي‪� ،‬شغبي الجميل‪،‬‬ ‫وتلقائيتي العاقلة‪ .‬لل�صدفة قدرها و�إكراهاتها‬ ‫التي ن�ستقبلها ب�صدر رحب‪ .‬وكلما خرجت من‬ ‫مراك�ش‪ ،‬تتبدل اللغة والم�سكن وهوية الكلمات‪..‬‬ ‫تكبر الحدود بين ال�شخ�صية وم�آلها‪.‬‬ ‫مراك�ش �أعطتني ماءها‪ ،‬روحها‪ ،‬هواءها‪،‬‬ ‫و�أع�ط�ي�ت�ه��ا دم��ي ال ��ذي ين�ساب ف��ي ع��روق��ي‪،‬‬ ‫الجنائن التي ت�سكعتُ في جنباتها‪ ،‬تعرفني من‬ ‫�أقدامي الم�شققة ب�أحجارها‪� .‬أعرف �أنني تعلمت‬ ‫فيها �أنواع الطيور‪ ،‬والأزهار والأ�شجار‪ .‬و�أعرف‬

‫‪ 116‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫�أنني �ضيعتُ فيها وقتا كبيرا في تعلم الحياة‪.‬‬ ‫الجنائن والمقابر م�ساحات �أخ��رى الكت�شاف‬ ‫ال ��ذات‪ ،‬حيث الف�ضاء المطلق ن�� ٌّ��ص يتنف�س‬ ‫�أرواحنا التي ن�سقيها بماء ال�س�ؤال‪.‬‬ ‫ال يمكن �أن �أن�ك��ر ف�ضاء جامع الفنا‪ ،‬فيه‬ ‫ت�شبعت ب��أ��ص��وات �سردية وروائ �ي��ة‪ ،‬بحركات‬ ‫الحكواتيين‪ ..‬وبن�صو�صهم ال�شفوية‪ ،‬الغنية‬ ‫بالرموز والمالحم والحوارات‪ ،‬التي ال تنتهي؛‬ ‫م�سرح متحرك يمتد على طول اليوم من الفجر‬ ‫�إل��ى ال�ف�ج��ر؛ ال��زم��ن ف��ي الحكاية‪ ،‬ولي�س في‬ ‫دوران الأر�ض وال�شم�س‪� ،‬أو زوالها‪ ،‬حيث الليل‬ ‫زمن مكثف بن�صو�ص �أخرى‪ ،‬تنفتح على حيوات‬ ‫�أخرى‪ ،‬للزائر والقادم وابن الدار‪.‬‬ ‫مراك�ش لي�ست تاريخا‪� ،‬أو عمارة مرابطية‪-‬‬ ‫القبة المرابطية‪� -‬أو موحدية‪-‬الكتبية‪ -‬او‬ ‫تاريخ ًا �آخر‪ ،‬حديثا �أو معا�صرا‪ ,‬قبور ال�سعديين‪،‬‬ ‫ق�صر البديع الخ‪ .‬ولكنها عمران ب�شري كما قال‬ ‫ابن خلدون‪ .‬لها هيبتها المعمارية التي ت�ؤرخ‬ ‫لأزمنة و�أ�سر و�أ�سالف مروا منها‪� ،‬أو ا�ستقروا‬ ‫بها‪� ،‬أذك��ر الرجاالت ال�سبعة‪ ،‬وكل مَ ن �أتت به‬ ‫محبة الهواء والنخيل والكالم المر�صع والحرف‬ ‫البراق؛ ولكنني �أح�سها في عالقاتي ال�صغيرة‪،‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬ ‫في �أ�سرتي‪ ..‬في �صورة �أب��ي معلقة في بيتنا‪ ،‬مراك�ش‪ ،‬و�أخجل من �أ�سوارها‪ ،‬التي علمتني �أن‬ ‫تذكرني بالخوف م��ن الآت ��ي‪ ،‬بما راكمتُه من �أقول ال لالنغالق والركون �إلى الداخل‪.‬‬ ‫عثرات‪ ،‬في حرارة �أمي التي �أ�صبحتْ ال تعرفني‬ ‫ما �أكتبه من ن�صو�ص �شعرية جديدة‪ ،‬تمتح‬ ‫بعيونها‪ ،‬ولكن بلم�سة دمها في يدي‪.‬‬ ‫من زياراتي المتعددة للحيِّ ال��ذي ول��دت فيه‪،‬‬ ‫م��راك ����ش ال �ي��وم تبتعد ع �ن��ي‪ ،‬وت�ب�ت�ع� ُد عن حَ يُّ باب دكالة‪ ،‬كتابة للمحكي المكاني ومحكي‬ ‫جلدها؛ االكت�ساح المعماري والعمراني والب�شري الطفولة وال�شباب؛ مدر�سة الطفولة‪ ،‬خ��ارج‬ ‫الداخلي والأجنبي‪.‬اليوم �أدخل �إلى منزلنا‪ ،‬في ال�سور‪ ،‬كنت �ألعب الكرة مع �أق��ران��ي‪ ،‬نت�سكع‬ ‫في الجنائن‪ ،‬وفي المقبرة‪ .‬نلعب لعبة الحرب‪،‬‬ ‫دربنا بالمدينة القديمة‪ -‬التي �أ�صبحت تبتعد‬ ‫ن�ستعد بما تملكناه م��ن ذك��اء وم�ك��ر وده��اء‪،‬‬ ‫�أي�ضا‪ -‬وال �أعرف نا�سه‪� ،‬أ�صادف �أجانب في كل‬ ‫نحتاط من كل قذيفة‪� ،‬أق�صد حَ جَ رة‪ ،‬ونحتفل‬ ‫مكان‪� ،‬أ�صبحوا جيرانا لأمي!‬ ‫بانت�صاراتنا على الخ�صوم‪ ،‬نحت�سي قليال من‬ ‫لم �أعد �أمر كما �سبق‪ ،‬ال يعرفني النا�س كما البي�صارة(فول مدقوق وم��اء)‪ .‬نمتهن المهن‬ ‫أح�س بغربة م�ضاعفة‪� ،‬أفقد حمرة ال�ت��ي ت��وج��د ب��ال�ح��يّ ‪ ،‬بيع الخ�ضار وال�سجائر‬ ‫من قبل‪ُّ � ،‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪117‬‬


‫بالتق�سيط‪ ،‬وفاكهة ال�شوك‪� ،‬أق�صد ال�صبار‪،‬‬ ‫وغيرها‪ ،‬حيث نق�ضي النهار في ال �شيء‪ ،‬خا�صة‬ ‫ّاب‪،‬‬ ‫في ال�صيف‪ .‬نتعلم ما تي�سر من القر�آن بال ُكت ِ‬ ‫نت�شاجر كل يوم تقريبا‪ .‬كبرنا قبل الوقت‪،‬ا�شتغلنا‬ ‫كثيرا قبل �سن المراهقة‪ .‬ا�شتغلت في عدة مهن‬ ‫ل�شراء كتب الدرا�سة‪� ،‬أو ال�سفر مع �أ�سرتي في‬ ‫العطلة ال�صيفية‪ .‬وبالمنا�سبة كانت م�صدر رزق‬ ‫لي ولأ�سرتي �أحيانا‪ ،‬خالل غياب �أب��ي‪ ،‬وكانت‬ ‫م�صدر علم ودرا�سة �أي�ضا‪ ،‬لوالها لكنت من بين‬ ‫منتخب �أطفال الحي الم�شردين‪ ،‬الذين ينامون‬ ‫على جنبات الطريق‪ .‬ربما ال�صدف ت�أخذنا �إلى‬ ‫حقول �أخ��رى‪ ،‬لأن ال�سنابل قد تنبت حيث ال‬ ‫تدري‪.‬‬ ‫الن�صو�ص الأول ��ى كتبتُها‪ ،‬و�أن��ا �أم�شي في‬ ‫طرقاتها‪ ،‬بين جنائنها‪ ،‬ربما �أبحث عني في غيم‬ ‫الم�سافات؛ كتبت ن�صو�صي الأولى في حاناتها‪،‬‬ ‫وهوام�شها‪ ،‬عن الحب والألم والوطن‪ ،‬في «تاركة‬ ‫بول»‪ ،‬في «توفليحت» في الطريق �إلى ورزازات‪،‬‬ ‫�صهريج المنارة‪ ،‬وحدائق �أك��دال‪ ،‬وفي غيرها‬ ‫من الأمكنة التي تحت�ضنني كغريب العائلة‪.‬‬ ‫�أكتب‪� ،‬أحاول و�أم��زق‪ ،‬وال �أحد يعرف �شغبي‬ ‫الجميل‪ ،‬ال��ذي وجدته ربما في لقاء مجهول‪،‬‬ ‫و�أن ��ا �أخ �ط��ط لأف��ك��اري‪� ،‬أل �ع��ب بالكلمات كما‬ ‫ح��واة الأف��اع��ي‪ ،‬ونا�سجي الخيوط في �ساحات‬ ‫المدينة‪ .‬حين طُ لِب مني �أن �أكتب �أول مرة عن‬ ‫مراك�ش‪ ،‬من طرف مجلة «�آفاق مغاربية»‪ ،‬بداية‬ ‫الت�سعينيات‪ ،‬لم �أتردد‪ ،‬كتبت ن�صا �شعريا بدون‬ ‫توقف‪« ،‬عن مراك�ش �أبكي وتنزف مني �أطالل‬ ‫ح��ب»‪ ،‬كما كتبت في مجلة �أخ��رى عن الفنان‬ ‫المراك�شي الراحل عبا�س �صالدي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫‪ 118‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫الن�صو�ص التي �أكتبها اليوم ت�شبهني‪ ،‬تعك�س‬ ‫ثقافتي‪ ،‬وطريقتي في الحياة بمراك�ش‪ ،‬تلم�س‬ ‫فيها عالقتي بالكلمات والأ�شياء التي تلقيتها في‬ ‫مختلف �أمكنة المدينة و�أحيائها و�أ�صواتها‪.‬‬ ‫المدينة تختفي‪ ،‬الجنائن تختفي‪ ،‬ليختفي‬ ‫الهواء في جيوب الم�ستثمرين في الأر���ض وفي‬ ‫الهواء‪ .‬الثقافة لي�ست نقطة �أولى في برامجهم‪،‬‬ ‫لأنها في نظرهم ترفيه‪،‬ال يحتاج �إلى �إمكانات‬ ‫�أو اعتبار‪ ،‬والنتيجة خ��راب العقول وال�ضمائر‬ ‫والقيم‪ .‬الكتابة ال ي�ؤمنون بها �إال في مكاتب‬ ‫الموثقين والعقاريين‪ ،‬هم يبحثون عن ن�صو�ص‬ ‫ثقيلة ب�أر�صدتها في الأ�سواق والبنوك‪� ،‬أما �أنا‬ ‫ف�أبحث ع��ن ن�ص جديد ينع�ش عزلتي‪� ،‬آخ��ذ‬ ‫جرعة من عاطفة الأم‪ ،‬و�أتفقد �أ�صابعي في‬ ‫حيطان بيت الطفولة‪ .‬ال �أملك �إال بع�ض كلمات‬ ‫وحروف‪ ،‬ت�شدني من ر�أ�سي وتقذف بي في بئر‬ ‫�أفكار دمرتني ورمت معاطفها‪ ،‬وبقيتُ وحدي‬ ‫عاريا �إال من ا�شتعال ثلج في ي��دي‪� .‬أخطو وال‬ ‫أحر�س نب�ضا يكرر عثراتي‪ ،‬كلما هوتْ‬ ‫�ألتفتُ ‪ ،‬و� ُ‬ ‫ب��ي المنخف�ضات‪� ،‬أن�ب�ع��ثُ م��ن رم��اد الكلمات‬ ‫كطائر الفينيق‪.‬‬ ‫ونا�س يتبادلون‬ ‫ن�صو�ص‪ ،‬كلماتٌ ‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مراك�ش‬ ‫الأدوار ف��ي ال ��زم ��ان‪ ،‬وف ��ي ل�ع��ب دور البطل‬ ‫الأ�سطوري كما �أري��د لها‪� .‬أم��ا �أن��ا ف�أبحث في‬ ‫دروبها‪ ،‬طرقها‪ ،‬مائها وتاريخها عن دمي‪ ،‬الذي‬ ‫ينب�ض في ر�أ�سي‪ .‬المدينة بد�أت تفقد هواءها‪،‬‬ ‫طقو�سها‪ ،‬بما حلَّ بها من حداثة الزمن‪ ،‬ال �أطلب‬ ‫منها تعوي�ضا عما �أخذته مني من �أ�شالء‪ ،‬فقط‬ ‫�آخ��ذ ج��زءا من كياني‪ ،‬و�أعطيها توابل لغذاء‬ ‫�أرواحنا‪ ،‬التي تحيا بماء الكلمات‪.‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫الروائي �أحمد الكبيري‪:‬‬

‫و َّزان تلك المدينة ‪...‬‬ ‫في بداية الثمانينيات من القرن الما�ضي‪،‬‬ ‫لما ح�صلت على �شهادة البكالوريا‪� ،‬أح�س�ستني‬ ‫�شبيها بع�صفور كبرت له فج�أة �أجنحة‪ ،‬و�أ�صبح‬ ‫ب�إمكانه �أن يترك الع�ش ويحلق بعيدا‪ ..‬لم تكن‬ ‫لي وقتها خيارات كثيرة‪� ،‬إم��ا مغادرة مدينتي‬ ‫ال�صغيرة «وزان» لمتابعة درا�ستي الجامعية‬ ‫بكلية الحقوق بمدينة فا�س‪� ،‬أو الجلو�س بقاع‬ ‫ال��درب في انتظار اجتياز �إح��دى المباريات‪..‬‬ ‫لولوج �سلك التعليم �أو الجي�ش‪ .‬هذا النوع من‬ ‫الوظائف‪ ،‬هو كل ما كانت �شهادة البكالوريا‬ ‫وقتئذ تفتحه من �آفاق‪.‬‬

‫وكلي عزم على موا�صلة التحليق في ف�ضاءات‬ ‫التح�صيل والمعرفة‪� ،‬شعرت‪ ،‬ولأول م��رة في‬ ‫حياتي‪ ،‬على الرغم من �سفريات �سابقة‪ ،‬بوقع‬ ‫الفراق‪ ،‬فراق المكان‪ ،‬عليَّ �شديد ًا تهاوت من‬ ‫ثقله بنياني‪ ،‬وت�صدعت بداخلي كل الجبال‪.‬‬ ‫واكت�شفت كم �أحب هذه المدينة‪.‬‬

‫تلك الليلة التي كنت �س�أغادر في �صبحها‬ ‫المدينة‪ ،‬لم �أن��م‪ِ .‬ب��تُّ �أناجي المدينة كفقيدة‬ ‫عزيزة �أ�شيعها �إل��ى مثواها الأخير‪ ،‬وت�شيعني‬ ‫هي �إلى تيهي‪ .‬لم يكن ينق�صني �إال النائحات‬ ‫لتكتمل �أن�شودة ال ��وداع‪� .‬أفرغتني بحرقة من‬ ‫ولأني اخترت مغادرة الع�ش‪ /‬وزان �إلى فا�س‪ ،‬كل الخواطر والكلمات‪ ،‬وبللت �أوراق��ا عديدة‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪119‬‬


‫كنوع من الخال�ص‪ .‬وكل ما كتبته تلك الليلة في‬ ‫مخيلتي ممزوجا بملح العين ومائها‪ ،‬كان عن‬ ‫«وزان» المدينة‪ ،‬ولي�س عن �أي �شيء �آخر‪ ..‬وزان‬ ‫عبق التاريخ ودروب الذكريات‪ .‬وزان المدينة‬ ‫والمدا�شر والقرى التي تبدو من ر�أ�س جبل �أبي‬ ‫هالل‪ ،‬تلمع و�سط خ�ضرتها كما تتلألأ في الزرع‬ ‫�شقائق النعمان‪ .‬وزان الزقاق والم�سجد والحمام‬ ‫وال�صوامع و�أجرا�س الكنائ�س‪ .‬وزان الأ�ضرحة‬ ‫والمقابر و�أولياء اهلل‪ .‬وزان الواقع والأ�سطورة‪.‬‬ ‫وزان الم�سلمة التي ر�سمت و�شما يهوديا و�سط‬ ‫دقنها ك�سيالة تجملها‪ ،‬ا�سمه المالح‪ .‬وزان محج‬ ‫�أهل الورع والبركات والدراوي�ش والباحثين فيها‬ ‫عن ال�ضمانة وال�سلم والأمان كدار �أبي �سفيان‪.‬‬ ‫وزان الأ�صالة والمو�سيقى والت�صوف والرق�ص‬ ‫على �سكاكين الح�ضرة والزهد‪ .‬وزان ال�صهد‬ ‫والجفاف ورب�ي��ع بكل الأل���وان‪ .‬وزان الأ��س��واق‬ ‫والحلقة وال�م��زاب��ل وال ��دواب وف�ن��ادق البهائم‬ ‫والتائهين‪ .‬وزان العامة من النا�س وال�شرفاء‪.‬‬ ‫ق�صور وب�ي��وت واط �ئ��ة‪ .‬وزان الأزق ��ة ال�ضيقة‬ ‫والأفران الملتهبة و�ساعة �شاهقة ت�شهد ال�سماء‬ ‫على �أعيادنا وموا�سمنا ورم�ضان‪ .‬وزان اللهجة‬ ‫والخ�صو�صية و�شجر التين وال��زي�ت��ون وعبق‬ ‫الرياحين‪.‬‬ ‫هذا الحب الذي �أُكنّه لهذه المدينة الجميلة‬ ‫ف��ي ع�ي��ون��ي وع �ي��ون �أب �ن��ائ �ه��ا‪ ،‬ه��و ال ��ذي جعل‬ ‫حنيني يعيدني �إليها عبر دروب الكتابة‪ ،‬بعدما‬ ‫ت�ع��ذرت عليَّ ال�ع��ودة �إليها واال��س�ت�ق��رار فيها‪.‬‬ ‫ف�سمفونية الحنين ت�ستعمل فيها كل �آالت الطرب‬ ‫الإن�ساني‪ ..‬من ناي الحزن‪ ،‬وقيثار الألم‪ ،‬وعود‬ ‫اللوعة‪ ،‬وك�م��ان ال ��روح‪ ،‬و�إي �ق��اع القهر‪ ،‬وبيانو‬ ‫ال�ع�ن��اق‪ ،‬وم��واوي��ل النحيب‪� ..‬سمفونية عذبة‬

‫‪ 120‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫وموح�شة وقاهرة َلمّا يكون المغني هو الفقدان‪..‬‬ ‫ويكون الم�ستمع الوحيد في الحفل هو الكاتب‪.‬‬ ‫لقد ظلت المدينة ت�سكنني و�أ�سكنها‪ ،‬لذلك‬ ‫جعلت م��ن الحكاية ��س��واء ف��ي رواي �ت��ي الأول��ى‬ ‫«م�صابيح مطف�أة»‪� ،‬أو الثانية «مقابر م�شتعلة»‪،‬‬ ‫�أو «�أر�صفة دافئة»‪ ..‬مطية للعودة �إل��ى المكان‬ ‫ال��ذي افتقدته منذ �سنين لإع��ادة ا�ستك�شافه‪،‬‬ ‫وتمثله بنية رد االعتبار �إليه‪ ،‬واالنت�صار �إلى‬ ‫�أهله‪ ،‬و�إ�سماع �صوتهم للعالمين‪ ...‬تقول الناقدة‬ ‫زه��ور ك��رام في قراءتها لـ«م�صابيح مطفاة»‪:‬‬ ‫«عودة ال�سارد مجرد ذريعة فنية‪ ،‬لال�ستر�سال‬ ‫في الحكي عن المكان و�أنا�سه و�أ�سئلته‪ .‬عن‬ ‫الزمن الما�ضي الذي كان مفتوحا على الأحالم‬ ‫والآم ��ال‪ ،‬عن الحا�ضر بو�صفه زمنا رتيبا لم‬ ‫يعرف التحوّالت االقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬مما‬ ‫�أدى �إل��ى العبث واالنتحار والجنون والجريمة‬ ‫والموت البطيء‪.»...‬‬ ‫طبعا ال يدخل ما كتبته في �سياق ال�سيرة‬ ‫الذاتية‪ ،‬و�إن ك��ان ال بد من االع�ت��راف ب ��أن ما‬ ‫هو ذاتي حا�ضر بقوة �ضمن العنا�صر الأ�سا�س‪،‬‬ ‫والمكونات المتعددة والمتداخلة فيما بينها‬ ‫لكتابة ك��ل عمل تخييلي‪ .‬وك�م��ا ي�ق��ول الناقد‬ ‫محمد معت�صم في درا�سة تناول فيها �أعمالي‬ ‫الروائية‪« :‬ف�إذا كان ال�سفر محركا فعليا لل�سرد‬ ‫في «م�صابيح مطف�أة»‪ ،‬ف���إن المكان‪ /‬الإقامة‬ ‫محرك فعلي لل�سرد في «مقابر م�شتعلة»‪ ،‬وبين‬ ‫مفهومَ يّ الزمان والمكان يتغير ال�سرد ويت�شكل‪.‬‬ ‫ففي الزمان يجد ال�سرد حقيقته‪ .‬لأنه ا�ستمرار‬ ‫وت �ح �وّل وح��رك��ة‪ .‬بينما المكان يجعل ال�سرد‬ ‫عاجزا عن التحوّل دون الح�ضور القوي للو�صف‬ ‫بم�ستوياته ال�م�ت�ن��وع��ة‪ ..‬وخ�صو�صا الو�صف‬


‫وهنا ال بد �أن �أ�شير ب�أن المكان بكل دالالته‬ ‫وحموالته كان حا�ضرا بقوة في وعيي والوعيي‪،‬‬ ‫على اعتبار �أن ما حاولت تمريره من خطابات هو‬ ‫محاولة مني لت�سليط ال�ضوء كنوع من العرفان‬ ‫ورد لالعتبار لهذه المدينة‪ ،‬التي لم ي�شفع لها‬ ‫تاريخها وال موقعها وال زاويتها وال ن�ضاليتها‪ ..‬من‬ ‫�أن تحظى باالهتمام الالزم لتنميتها اقت�صاديا‬ ‫واجتماعيا وثقافيا؛ بل على العك�س من ذلك‪،‬‬ ‫تُركت كالعديد من المدن المغربية العتيقة‪،‬‬ ‫لحالها‪ ،‬تقا�سي عزلتها وت���داري ه�شا�شتها‪،‬‬ ‫عر�ضة لمخالب الفقر والجهل والب�ؤ�س والبدونة‪،‬‬ ‫وما ي�ستتبع ذلك من مظاهر االنحراف‪ ،‬وتدنّي‬ ‫م�ستوى التعليم‪ ،‬وارتفاع ن�سبة الجريمة‪ ،‬وتبدّل‬ ‫القيم‪ .‬يقول ال�شاعر جمال المو�ساوي في قراءة‬ ‫لـ «مقابر م�شتعلة»‪�« :‬إنه من ال�صعب �إنجاز قراءة‬ ‫واف�ي��ة ل�ه��ذا العمل ال��روائ��ي المنتقد ال�ساخر‬ ‫الهادف �إل��ى و�ضع الإ�صبع على ق�ضايا عديدة‬ ‫في الوقت نف�سه‪ ،‬لكنها ق�ضايا تلتقي في �ضرورة‬ ‫�إعادة االعتبار للإن�سان‪ ،‬الإن�سان المغربي‪ ،‬ورفع‬ ‫التهمي�ش عنه وعن الطاقات الكامنة فيه‪ ،‬بما‬ ‫يعيد �إليه حريته في التفكير واالنطالق‪ ،‬وتمكينه‬ ‫من اعتناق �أحالمه بال�شكل الذي يريد‪ ،‬بعيدا‬ ‫عن الت�أثيرات الخارجية والو�صاية التي تحوّله‬ ‫�إلى كائن هجين ومدجّ ن‪.»..‬‬

‫يقول الناقد محمد بوعزة عن «م�صابيح‬ ‫مطف�أة»‪« :‬تركز على ع��ودة ال��ذات من ال�شمال‬ ‫�إل ��ى ال �ج �ن��وب‪ ،‬ح�ي��ث ي�ت��ول��د ن�سق ج��دي��د ك��ان‬ ‫مهم�شا ومغيبا في الرواية الح�ضارية‪ ،‬يد�شن‬ ‫منه ال�سارد م�سارا جديد هو ا�ستعادة المكان‬ ‫المحلي بوعي ال����ذات‪ .»..‬وبالفعل و�أن���ا �أكتب‬ ‫ال��رواي�ت�ي��ن‪ ،‬ح��اول��ت �أن ي�ك��ون و�صفي للمكان‬ ‫ا�ستك�شافيا‪ ،‬انتقائيا ودقيقا ومركزا وبعيدا عن‬ ‫�أي غلو تكون الغاية منه‪ ،‬كما في بع�ض الكتابات‪،‬‬ ‫هي ت�ضخيم العمل‪ ،‬وت�سويد �أكبر عدد ممكن من‬ ‫ال�صفحات‪ ،‬بل جعلت من المكان‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫كونه الوعاء الذي تدور على ركحه الأح��داث‪..‬‬ ‫وتت�شابك فيه الم�صائر‪ ،‬هو �أي�ضا محور �أ�سا�س‬ ‫في بناء الروايتين‪ ،‬وي�ساعد على تطور الحكاية‬ ‫وترابط الأحداث ب�صفته منتجا للثقافة والوعي‬ ‫والقيم والمواقف‪ .‬وهو‪ ،‬ربما ال�شيء الذي يوهم‬ ‫ال�ق��ارئ‪ ،‬بحقيقة الأمكنة وواقعيتها؛ مع �أنها‬ ‫مجرد حالة وجدانية تعي�شها �شخو�ص الروايات‪..‬‬ ‫كل من زاوية نظره‪ ،‬وذائقته الجمالية‪ ،‬ومكانته‬ ‫االجتماعية داخل الف�ضاء العام لتلك الأمكنة‪.‬‬ ‫والدليل على ذلك‪� ،‬أن العديد من قرّائي‪ ،‬الذين‬ ‫زاروا المدينة بعد قراءتهم لرواياتي‪ ،‬لم يجدوا‬ ‫�إال �أني ككاتب‪ ،‬ال �أرى �أنه من الممكن �إعادة في الواقع تلك المدينة التي كتبت عنها‪ .‬تلك‬ ‫االعتبار للإن�سان وحفظ حريته و�صيانة كرامته‪ ،‬المدينة‪ ،‬كانت في خيالي وذاكرتي ووجداني‬ ‫ما لم يكن هنالك اهتمام بمجاله وبيئته وذاكرته ولغتي فقط!‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫الم�سرود‪ »..‬وي�ضيف‪ ،‬في نف�س الدرا�سة في‬ ‫فقرة �أخرى‪�« :‬إن �سيرة المحجوب ال تروي فقط‬ ‫حكاية حياة �شخ�صية‪� ،‬إنها تروي حكاية مدينة‬ ‫وحكاية وطن‪.»...‬‬

‫وثقافته وقيمه‪ .‬و�أعتقد �أن ف�ضاءاتنا كيفما كان‬ ‫نوعها‪ ،‬هي الكفيلة ب�صيانة هذه القيم والحفاظ‬ ‫على الهوية‪ ،‬بل هي الكتاب الحقيقي الذي �سيقر�أ‬ ‫فيه حفدتنا تاريخ �أج��داده��م‪ .‬ولذلك‪ .‬عندما‬ ‫و�صفت الأمكنة في رواياتي ابتعدت بوعي‪ ،‬قدر‬ ‫الإمكان‪ ،‬على �أن يكون و�صفي تقليديا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪121‬‬


‫�إبراهيم الحجري‪ -‬ناقد وروائي من المغرب‬

‫مازكان‪ :‬مدينة ا�ستعادة الأحالم‬ ‫والت�صالح مع الذاكرة‬ ‫لكل كاتب مرجعياته الواقعية التي ي�ستمد‬ ‫منها مادته ومعطياته خا�صة على م�ستوى ال�سرد‪.‬‬ ‫فغالبا ما ي�ؤثر فيه عالمها الواقعي ويومياته التي‬ ‫�ست�ؤثث ذاكرته‪ ،‬منذ �أيام ال�صبا �إلى �أن ي�شيخ؛‬ ‫وحتى لو غيّر المكان‪ ،‬تظل المدينة �أم الر�أ�س‬ ‫حا�ضرة بقوة في الذاكرة‪ ،‬وحا�ضرة في �إبداعه‬ ‫ال�سردي في كل الأعمال‪ ،‬ب�شكل من الأ�شكال‪� .‬إن‬ ‫الحياة الأولى‪ ،‬وال�صرخة الأولى‪ ،‬والطعم الأول‪،‬‬ ‫والقبلة الأول��ى‪ ،‬واالحتكاك الأول مع العالم لن‬ ‫يمحى �أبدا بتغيير المكان والزمان‪ ،‬وك�أن المدينة‬ ‫التي نولد فيها تب�صمنا بطابعها الخا�ص‪.‬‬

‫يتحوّل‪ ،‬بفعل ميكانيزم الإبداع‪� ،‬إلى وجود �إن�ساني‬ ‫كلي‪ .‬فعادة ما يكون الم�شترك الذي ن�ست�شعره‪،‬‬ ‫ب�شكل ج�م�ع��ي‪ ،‬م��ن خ�ل�ال مالم�ستنا ل�ل��واق��ع‬ ‫المعي�ش‪ ،‬متواجدا في االعتيادي والب�سيط الذي‬ ‫ينفرط من بين �أيدينا دون �أن نعيه بحكم تكرره‬ ‫�أمام �أعيننا و�إح�سا�سنا المفرط بتداخلنا المزمن‬ ‫معه‪ ،‬حتى �إنه يملأ علينا كل الفجوات‪ ،‬وي�سكننا‬ ‫مثل الهو�س‪ ..‬من دون �أن يترك لنا فر�صة للتفكير‬ ‫بعيدا عنه‪ ،‬وتخيل عوالم �أخرى غريبة عنه كليا �أو‬ ‫جزئيا من غير �أن تكون له من خاللها تمثيال ما‬ ‫ل�سماته وخ�صو�صياته‪.‬‬

‫ن�ستلهم م��ن مدينتنا الأث �ي��رة على م�ستوى‬ ‫ُول��دتُ في قرية خ�صبة تدعى «�أوالد �أف��رج»‪،‬‬ ‫الوجدان‪� ،‬أحداثا و�شخ�صيات و�أمكنة و�أزمنة‪ ...‬ترب�ض ب��وداع��ة في �سهل دك��ال��ة‪ ..‬حافلة بغطاء‬ ‫نراها مف�صلية في ت�شكيل الوجود الذاتي الذي نباتي وفير‪ ،‬خا�صة الكروم و�أ�شجار الكاليتو�س‬

‫‪ 122‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬


‫ب�ع��د ال�ع���ش��ري��ن‪ ،‬ج�ل��ت ال �م��دن مثلما جلت‬ ‫الأ���س��واق‪ ،‬وات�ج�ه��ت غ��رب��ا نحو عا�صمة دكالة‬ ‫«م���ازك���ان»‪ ،‬المدينة ال��ت��ي زاح��م��ت ال�ق��ري��ة �أم‬ ‫الر�أ�س في الح�ضور والع�شق‪ .‬ت�سللت �إلى الدماء‬ ‫والخاليا مثل رذاذ ناعم‪ ،‬خفيف‪ .‬و�سكنت القلب‪.‬‬ ‫لم �أرها يوما بعيدة عن قريتي المع�شوقة الأولى‪،‬‬ ‫كانت �صورة �أخرى للخ�صب الذي ترعرعت فيه‪،‬‬ ‫الخ�صب الذي �أجَّ جَ ُه ح�ضور بحري باذخ‪ .‬المحيط‬ ‫الأطل�سي ال�شهير في الواجهة المديدة‪ ،‬وغابة‬ ‫ق��د ي �ك��ون ه ��ذا االف �ت �ق��اد ل�ل�م�ك��ان وال��زم��ان الحوزية التي تظلل الذكريات والخطوات الأولى‬ ‫الخ�صبين دافعا قويا �أي�ضا للكتابة ال�سردية‪ ،‬نحو الكتابة‪ ،‬والرمال التي طاردت فيها رفقة �شلة‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال��ت��ي تظلل ك��ل جنباتها وباحاتها و�أ���س��واق��ه��ا‪.‬‬ ‫وترعرعت فيها ذاك��رت��ي‪ ،‬وت�شكلت �شخ�صيتي‬ ‫�شيئا ف�شيئا‪ ،‬من دون �أن تكون لي فر�صة لل�سفر‬ ‫بعيدا عنها الكت�شاف مناطق غيرها �أو مختلفة‬ ‫عنها‪ .‬فغالبا ما كانت زياراتي العائلية ال تتجاوز‬ ‫تخوم دكالة‪ ،‬وهي في الغالب ت�شترك ال�سمات‬ ‫الجغرافية والثقافية نف�سها‪ .‬لم �أكت�شف‪ ،‬قبل‬ ‫الع�شرين‪ ،‬عوالم غير هذه التفا�صيل التي ر�ضعتها‬ ‫مع الحليب‪ .‬لذلك ظلت هذه العوالم ت�سكنني لما‬ ‫ابتعدت عنها في مرحلة ال�شباب‪� .‬أح�س�ست �أنني‬ ‫افتقدت جزءا مهما من كينونتي‪ :‬ذلك الخ�صب‬ ‫المترف‪ ،‬والعالقة التي تربطني بالتراب والماء‬ ‫والطبيعة‪ ،‬وفي هذا البعد‪ ،‬كان يج�سد هذا الع�شق‬ ‫ح�����ض��وره ف��ي �شكل ا�ستيهامات و�أح��ل�ام ور�ؤى‬ ‫و�سرود‪.‬‬

‫�إذ �أ�شعر ب�أنني‪ ،‬من خ�لال الكتابة والتو�صيف‬ ‫ل��ل��ع��وال��م ال��ت��ي �أ�شتهيها وت�ح���ض��رن��ي ب �ق��وة في‬ ‫الغياب‪ ،‬بل وتحا�صرني ب�شخو�صها وف�ضاءاتها‪،‬‬ ‫�أ�ستطيع القب�ض على تفا�صيل من ذاكرة من�سية‪،‬‬ ‫وا�سترجاع ج��زء من هويتي التي ت�شكّلت خالل‬ ‫الع�شرين �سنة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪123‬‬


‫من الغاوين للكتابة‪� ..‬سرب الكلمات المحلّق في‬ ‫ال�ضباب‪ ،‬قريبا من النوار�س و�أ�شعة ال�شم�س‪...‬‬ ‫والق�صور العتيقة التي تحتفظ بذاكرة من الوقائع‬ ‫والحروب والح�ضارات واالنت�صارات‪ ...‬والطق�س‬ ‫ال �ب �ه��يّ ال ��ذي ينطق ب��اع �ت��دال��ه ال �ج �م��ادات‪...‬‬ ‫والفرا�شات المحلّقة في المما�شي وال��رده��ات‬ ‫وال�شوارع الكبرى الم�ؤدية �إل��ى �سندباد و�شارع‬ ‫النخيل‪ ...‬وال��ورود التي تتفتح كل يوم عن ع�شق‬ ‫جديد‪ ...‬كل ذلك حر�ض فيّ الع�شق القديم الذي‬ ‫احت�ضنته ذاكرتي في الزمن الطفولي الأول‪ ،‬وتوج‬ ‫فيّ عطر الأما�سي لوعة تجديد الحلول في هذه‬ ‫التفا�صيل المورقة التي لن يت�أتى القب�ض عليها �إال‬ ‫بالكتابة‪.‬‬ ‫�أحتفظ لـ«مازكان»‪ ،‬بمحبة البدايات في نحت‬ ‫الأبجديات الأولى‪ ،‬والع�شق الأول للحياة والجمال‪.‬‬ ‫و�أحتفظ لمرا�سيها و�أ�ضرحتها وثغورها بب�صمة‬ ‫عميقة في تهييج ال�سرد ال�صوفي في وجداني‬ ‫ال�شخ�صي‪ .‬كلما ر�أي��ت ��ص��ورة �ضريح ال�سيدة‬ ‫عائ�شة البحرية ح��ار��س��ة ال� ��وادي‪ ،‬ور��س��وم��ات‬ ‫الع�شيقات والع�شاق و�أحالمهم الوردية في الظفر‬ ‫بالعري�س‪ ،‬و�ضريح ال�سيد �أبي �شعيب ال�سارية مانح‬ ‫العذارى‪ ،‬و�ضريح الأمغاري الفتى العا�شق القادم‬ ‫من �سو�س العالمة‪� ...‬أتذكر �صورة �سيدي م�سعود‬ ‫ابن الح�سين الذي ت�أتيه «فرائ�س وتعود عرائ�س»‪،‬‬ ‫و�أتذكر ال�صورة الماثلة في وجداني‪ :‬تلك ال�صبية‬ ‫الجميلة التي كبلها الحفظان‪ ،‬وتركوها في ليل‬ ‫الخوف بخلوة مظلمة عر�ضة للكوابي�س والمتاه‬ ‫�أم�لا في �شفاء ق��ادم‪� .‬أتذكر ب�سمتها ال�ساخرة‬ ‫م��ن ال �ق �ي��ود‪ ،‬و��ص��راخ�ه��ا ال�م�ج�ن��ون � �ض��دا على‬ ‫تهافت الحفظان‪ ..‬ظلت تلك ال�صورة الرهيبة‬ ‫الم�صحوبة ب��روائ��ح البخور وال �ج��اوي مخزونة‬ ‫في الذاكرة‪ ،‬تجيّ�ش في مخيلتي عذابات و�آالما‪،‬‬ ‫ويوقظ فيّ مخاوف وهالو�س و�أ�سئلة مقلقة‪ ،‬ظلت‬ ‫تكبر معي‪ .‬لذلك‪ ،‬تكاد ال تخلو كتاباتي من هذه‬

‫‪ 124‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫الطقو�س تو�صيفا وتقوي�ضا ونقدا‪...‬‬ ‫لقد ا�ستلهمت �أحداث روايتي الأولى «�صابون‬ ‫تازة»‪ ،‬من تفا�صيل ذاكرة م�شحونة بوقائع فظيعة‬ ‫�شهدتها في الطفولة‪ ،‬بينما كنا يوميا نعبر درب‬ ‫�سيدي م�سعود بن الح�سين ذهاب ًا و�إيابا من البيت‬ ‫�إلى المدر�سة‪ ،‬وكنا نق�ضي قيلوالت م�أ�ساوية‪ ،‬ونحن‬ ‫ن�ستريح في الح�صة البينية‪ ،‬تحت ظل �أ�شجار‬ ‫الكاليتو�س ق��دام ال�ضريح‪ ...‬حيث ك��ان بع�ض‬ ‫المجانين ينغ�صون علينا هدوءنا‪ ،‬ويهاجموننا‬ ‫بعد ما يفلتون من �إ�سار الحفظان‪ ،‬ويتخل�صون‬ ‫من �سجن الخلوات القديمة والعميقة‪ ...‬وكثيرا‬ ‫ما اعتدوا على كل من يجدونه في طريقهم‪ .‬بل‬ ‫و�أحدثوا عاهات م�ستديمة لدى بع�ضهم‪ .‬وغالبا‬ ‫ما كان ينقطع التالميذ عن الدرا�سة تحت �ضغط‬ ‫ال�خ��وف م��ن ع��دوان المجانين و�ضيوف �سيدي‬ ‫م�سعود الأغراب‪ ،‬الذين يبيتون في العراء ويمل�ؤون‬ ‫�شوارع القرية كلها‪ .‬لقد �أح�س�ست و�أن��ا �أج�سد‬ ‫هذه ال�صور المنقو�شة في الذاكرة �سردا‪� ،‬أنني‬ ‫�أتخل�ص من ب�شاعة هذا العالم الذي ي�سكنني‪،‬‬ ‫و�أعو�ضه بال�صفاء‪.‬‬ ‫�أما روايتي الثالثة «العفاريت»‪ ،‬فتمثل امتدادا‬ ‫للرواية ال�سابقة‪ ،‬من حيث احتفائها بالأجواء‬ ‫نف�سها‪ :‬طقو�س الح�ضرة‪ ،‬اال�ست�شفاء من الحمق‬ ‫بالتعذيب الج�سدي‪ ،‬و�إحيائها لتاريخ �صوفي ال‬ ‫يتردد �إال على م�ستوى الم�شافهة‪ ،‬ويتعلق الأمر‬ ‫بكرامات و�أ�ساطير ترتبط بقدوم ال�سيد م�سعود‬ ‫�إلى البلدة «�أوالد �أفرج»‪ ،‬و�صراعه مع الخ�صوم‪،‬‬ ‫وتوا�صله مع �صالح دكالة الآخرين الذين تخرجوا‬ ‫من مدر�سة م�شتراية القريبة‪ .‬وت�شترك الروايتان‬ ‫معا في انتقاد الو�ضع الخرافي الذي يهيمن على‬ ‫البالد والعباد‪ ،‬وا�ستلهام �أج��واء الخ�صب التي‬ ‫تحفل بها منطقة دك��ال��ة‪ ،‬واال�شتغال ال�سردي‬ ‫على تاريخ المنطقة المن�سي‪ ،‬وتفا�صيل الذاكرة‬ ‫ال�شخ�صية‪.‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال�شاعر ب�سام حمد ال�سالمة‬

‫�سكاكا ‪ ..‬زهرة الجوف‬ ‫وب�ستان ال�شمال‬ ‫في الحارات المتال�صقة بحميمية‪ ،‬تت�سرّب‬ ‫الروح ب�صحبة الج�سد في الأزقـّـة ال�ضيّقة‪ ،‬حيث‬ ‫تثب الخطى ل��م�لاق��ا ِة خيوط ال�شم�س م��ن بين‬ ‫�سعف النخيل الوارف‪ ..‬والذي يمت ّد على البيوت‬ ‫الطيني ِة المتال�صقة‪ .‬هنا‪ ،‬ك��ان قلبي ي�ستقبل‬ ‫الحياة بداياتِ يومه الممتد في �صخب الجمال‪،‬‬ ‫�أول كل نهار تتفتـ ّح فيه عيناي‪� ،‬أت�سلّل وحـدي فوق‬ ‫منزلقات الطين الأحمر‪� ،‬أخذ ًا بالح�سبانِ �سالمة‬ ‫نبتات الجوانب الرقيقة؛ فهي التي �ستزهر يوم ًا‬ ‫لتمنحني البهجة المن�شودة‪.‬‬ ‫وكمن ي��زي��حُ ب�ساتين الجيران ع��ن الطريقِ‬ ‫بب�صرة‪� ،‬أغدو �إلى ب�ستانِ جـدّي الغربي المط ّل‬ ‫على البئر الم�شتركة ‪-‬والتي نتناوب فيها مواعيد‬ ‫ال�سقاية‪ -‬ين�ساب الماء رقراق ًا في ال�سواقي‪..‬‬ ‫وال��ذي ما تزال برودتة في ج�سدي‪ ،‬ونقا�ؤه في‬‫�شغافي‪ -‬كي ي�سقي �شجرة الرمّان الق�صيّة‪ ،‬والتي‬ ‫�أ�ستريح متكئ ًا على جذعها كي �أ�شاهد �أوراقها بين‬ ‫�شعاعٍ يتماوج‪ ،‬فيطب ُع �صورة الزهر في ذاكرتي‪.‬‬ ‫وال �أجمل من زهر الرمّان حين يتفتّح!‬ ‫م�ث� ُل ه��ذا ال�ج�م��ال ك��ان ه��و الح�صن ليومي‬ ‫من �شرور الحادثات! في الظهير ِة �أعو ُد لب�ستان‬ ‫�سعف‬ ‫النخيل ال�شرقي لأعتني بما �أزر ُع تحت ِ‬ ‫النخيل المتدلّي‪.‬‬ ‫هنا ثنائية الما ِء وال�شجر في مدين ٍة تحت�ضنُ‬ ‫الماء في جوفها لتن�شر منه الحياة!‬ ‫الحارة التي ن�ش�أت فيها كان ا�سمها الجفر‪،‬‬

‫غ��رب�ي�ه��ا ي�ق��ع ح��ي ال �ب �ح��ر‪ ،‬وج�ن��وب�ي�ه��ا المطر‪،‬‬ ‫و�شماليها ال�شعيب‪ ،‬و�شرقيها ال�صبخاء؟!‬ ‫الماء هنا يحيط بكل الجهات وبكل م�سمّياته!؟‬ ‫وم��ن ه�ن��ا‪ ،‬ك��ان م�ك��ان وزم��ن الت�أ�سي�س ومرتع‬ ‫الأح�لام؛ فال عجب �أن يك�سو هذا الزمن خليط‬ ‫الرهافة وطريق الرومان�سية المن�شود‪ ،‬م�صادف ًة‬ ‫ربما!‬ ‫وح �ي��ن تنت�شلني الأي� ��ام ل���ش��ؤون�ه��ا الأخ ��رى‬ ‫كالدرا�سة والمنا�سبات االجتماعية‪ ،‬تنقلب هذه‬ ‫لمتحف يجمع التاريخ من كل جوانبه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫المدينة‬ ‫ف�أتنقل بين قالعها‪ ،‬وك�أني رج ٌل من تلك الع�صور!‬ ‫تلب�س ح ُـلـّـتهـا في المنا�سبات‬ ‫كانت �سكاكا ُ‬ ‫االجتماعية ب�شكلٍ مختلف‪ ،‬وهي تجمع الأ�ضداد‬ ‫ف��ي بوتق ٍة واح ��دة‪ ،‬فكما ال �أن�سى �صوت �إيقاع‬ ‫العر�ضة في الأفراح‪ ،‬و�أ�صوات ال�شعراء المجلجلة‬ ‫وهي تقود ال�صفوف بدق ّـ ٍة ملحوظة‪ ،‬ال �أن�سى �أي�ض ًا‬ ‫هيجنة راكبي المطايا في �سباق الهجن ال�سنوي‬ ‫الكبير‪ ،‬في حين تقفز بي الذاكرة لحقول البابونج‬ ‫الطبيعية في براري هذه المدينة العري�ضة‪ ،‬حين‬ ‫أنوف ت�سكن البيوت!‬ ‫تهـّـب الن�سائمُ حامل ًة �أريجها ل ٍ‬ ‫ولعطايا البراري هذه موا�سمها التي ينتظرها‬ ‫ب�شغف بهيج‪ ،‬حين �أق��ف و�سط زحام‬ ‫ٍ‬ ‫المولعون‬ ‫م��زاد الكم�أ وال�سمح و�شيء من ثمار الربحالء‬ ‫الطبيعي في �سوق العرب ال�شعبي في حي المطر‪..‬‬ ‫�أنظر �إلى حكايا النا�س �أكثر مما �أ�ستمع‪ ،‬و�أعود‬ ‫بده�ش ٍة ال تبرح!‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪125‬‬


‫ا�ستطيع ت�سمية هذا الزمن بزمن العذري ّـ ِة لها‬ ‫قبل �أن تنفجر الدنيا مع �سنوات الطفرة واالنفتاح‬ ‫في منت�صف �سبعينيات القرن الع�شرين‪ ،‬حين‬ ‫أ�سي�س �آخـر‪ ،‬جمع نواتج الحياة‬ ‫اتجهت بنا �إلى ت� ٍ‬ ‫من �شتى �أ�صقاع الأر�ض‪ ،‬فبد�أنا معها في مرحلة‬ ‫أ�سي�س جديد ازدحمت فيه المعرفة من‬ ‫لهاث لت� ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫نواتج بيروت والقاهرة الأدبية والفنية‪ ،‬ونواتج‬ ‫اليابان التقنية‪ ،‬فكانت ال�سينما والم�سرح والأندية‬ ‫الريا�ضية والعمل التطوعي والمهرجانات ومناخ‬ ‫المناف�سات والبناء هو ال�سمة التي باتت تغمر‬ ‫مدينتي عو�ض ًا عن الماء‪ ،‬وك�أني لم �أدرك �أن الماء‬ ‫ين�ضب!‬ ‫وفيما كنت �أن�ع��م ب ��داللٍ مختلف م��ن رعاية‬ ‫م��دي��ر ال�ت�ع�ل�ي��م‪� ،‬آن � ��ذاك‪ ،‬ال��دك �ت��ور ع ��ارف بن‬ ‫مف�ضي الم�سعر‪ ،‬و�سعادة ممدوح بن عبدالحميد‬ ‫ال�سلطان مدير رعاية ال�شباب‪ ،‬ا�ستوقفني �أن‬ ‫ال�شارة الخ�شبية للأ�ستاذ ممدوح كان قد ح�صل‬ ‫عليها من القد�س عام ‪1947‬م! �أدركت حينها �أن‬ ‫�سكاكا هي المح�ضن والحقل الذي يزرع بتاريخه‬ ‫وح�ضارته نبت المبدعين‪ ،‬ثم يعيد �ضخـّـهم �إلى‬ ‫الحياة مر ًة �أخرى‪.‬‬

‫‪ 126‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫بعد درا�ستي‪ ‬للمرحلة الثانوية‪ ،‬غادرت ل�ش�ؤون‬ ‫الحياة‪ ،‬غير �أن��ي ا�ستح�ضر روح المكان �أينما‬ ‫ذهبت‪ ،‬و�أجــد ريح كينونتها كل حين‪ ،‬ف�أ�ستمع‬ ‫ما �أزال لحكايا الجدّات تحت عري�ش النخيل في‬ ‫الليالي ال�صيفية الباردة والمقمرة‪ ،‬و�صوت �إيقاع‬ ‫العر�ضة ممتزج ًا ب�صوت �شاعرها المهيب والذي‬ ‫ال يزال يدقّ في �سمعي كما البارحة!‬ ‫اختلفت الحياة ولم يختلف وجه حبيبتي وال‬ ‫جوفها‪ ،‬فهي لم تزل رحبة وغنيّة ومده�شة تع�شق‬ ‫التعاي�ش‪ ،‬وت�ست�سقي‪ ،‬و�إن كان وجهها قد خل ّلـته‬ ‫الريح‪ ،‬و�إن كـُـن حبيباتي بها قد قـَـ�ضـين؟ �إال‬ ‫�أنها لم تزل كريم ًة كما عرفتها‪ ،‬تح�سنُ ت�أ�سي�س‬ ‫النفو�س التي ت�ستطي ُع فهمها‪ ،‬وال تنب ُذ من يجهلها!‬ ‫أطاريف مزرع ٍة غرب �سكاكا‬ ‫أ�سراب في � ِ‬ ‫وبين � ٍ‬ ‫�أختلي بنف�سي في كل عودة‪ ،‬باحث ًا عن ح�ضن هذه‬ ‫المدينة العميقة‪ ..‬و�أحمد اهلل �أنني ولدت هنا‪..‬‬ ‫هنا كانت �أيام الت�أ�سي�س لروحي‪ ،‬وال عجب �أن‬ ‫هذه ال��روح تحطُّ هنا كلما كان لها �ش�أ ٌن �أرادت‬ ‫�أن تبوح به‪ ،‬ها هنا بين الروابي‪ ،‬في ذرى �سحر‬ ‫التالل‪ ،‬في �سكاكا‪ ،‬زهرة الجوف وب�ستان ال�شمال‪.‬‬


‫■ �صالح حممد اللحيد*‬

‫لتحقيق �أهداف الإن�سان وتطلّعاته في هذه الحياة رغما عن الم�ؤثرات الخارجية‪ ،‬ال بد من‬ ‫المرور بما ي�سمى دائرة الإنجاز‪ ،‬فهي عملية م�ستمرة ن�شطة ال تقف عند هدف معين‪ ،‬فكلٌّ منا‬ ‫له تطلّعاته وطموحاته التي ي�سعى �إلى تحقيقها‪ .‬لذا‪ ،‬فهي تبد�أ بالرغبة الحقيقية للإنجاز‬ ‫مروراً بالإرادة‪ ،‬ثم اتخاذ القرار‪ ،‬ثم تتوالى مراحل عملية التنفيذ حتى يتحقق الهدف المن�شود‪.‬‬ ‫�إذا‪ ً،‬هي باخت�صار فكرة يعقبها عمل‪ ،‬يعقبه �إنجاز‪.‬‬ ‫المهارات والمعارف الالزمة في دائرة الإنجاز‪:‬‬ ‫‪1.1‬مهارات قيادية و�إدارية‪.‬‬ ‫‪2.2‬مهارات �شخ�صية و�إن�سانية‪.‬‬ ‫‪3.3‬مهارات تكنولوجية‪.‬‬ ‫�إن اال�ستخدام الأمثل لمثل هذه المهارات‬ ‫وتعلّمها‪ ،‬يعني الح�صول على النتائج المطلوبة‬ ‫في الوقت المتاح‪ ،‬وفي حدود الإمكان‪.‬‬ ‫المهارات القيادية والإدارية‬ ‫هي مهارات الزم��ة للعمل‪ ،‬وم��ن دونها تق ُّل‬ ‫الكفاءة المن�شودة‪ .‬وميزتها �أنها تعتمد على‬ ‫ا�ستخدام الموارد اال�ستخدام الأمثل‪ .‬كما هي‬ ‫تركز على التفكير ف��ي �إع ��ادة �إي �ج��اد الطرق‬ ‫والحلول في حالة حدوث خط�أ‪� ،‬أو وجود م�شكلة‪،‬‬ ‫وه��و ما ي�سمى بعلم الإدارة (ال�ه�ن��دراة)؛ �أي‬ ‫�إع��ادة هند�سة الإدارة‪ ،‬فهي دائما تعمل على‬ ‫تدوير الأف�ك��ار داخ��ل العقل الب�شري في حالة‬ ‫وج ��ود خ�ط��أ م��ا لإي �ج��اد ح �ل��ول‪ ..‬ول�ك��ن ب�شكل‬ ‫مب�سط‪ ،‬ومنها على �سبيل المثال‪:‬‬ ‫‪1.1‬مهارات �إدارة الأزمات‪.‬‬ ‫‪2.2‬مهارة حل الم�شكالت‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫دائرة الإنجاز‬

‫‪3.3‬مهارة �صيغة الخطط واتخاذ القرارات‪.‬‬ ‫المهارات الإن�سانية وال�شخ�صية‬ ‫وهذه المهارات نمار�سها في حياتنا اليومية‪،‬‬ ‫وه���ي ال��ت��ي ت��م�� ّي��ز الأ���ش��خ��ا���ص ب��ع�����ض��ه��م عن‬ ‫بع�ض‪ ،‬وت�ك��ون مبنية على قيم تنبع م��ن ذات‬ ‫ال�شخ�ص‪ ،‬مثل التفا�ؤل‪ ..‬وهو النظرة االيجابية‪،‬‬ ‫وم�صدرها الثقة باهلل عز وجل‪ ،‬وهذه المهارات‬ ‫دائ�م��ا م��ا ي�ح��اول الإن���س��ان اكت�سابها م��ن دون‬ ‫�أن ي�شعر‪ ..‬لي�صل �إل��ى مرحلة الن�ضج‪ ،‬مثل‬ ‫مهارات التفاو�ض‪ ،‬فهي مهارة مهمة للمحافظة‬ ‫على العالقات‪ ،‬وتحقيق الم�صالح الم�شتركة‬ ‫والأهداف بطريقة ودّية‪.‬‬ ‫المهارات التكنولوجية‬ ‫وه��ذه المهارات تتطلب االط�لاع والتدريب‬ ‫الم�ستمر‪ ،‬وع��دم ال��رك��ون �إل��ى ال��راح��ة‪ ،‬نتيجة‬ ‫القفزات ال�سريعة ف��ي عالم التقنية‪ ،‬وتكمن‬ ‫�صعوبتها في التغيّر الم�ستمر الذي يطر�أ عليها‬ ‫دائ �م��ا‪ ،‬وم�ن�ه��ا م �ه��ارات ا��س�ت�خ��دام الأج �ه��زة‬ ‫الحديثة‪ ،‬والتقنيات التي ت�ساعد على �سهولة‬ ‫الإنجاز والتوا�صل مع الآخرين‪.‬‬

‫ * الجوف ‪ -‬ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪127‬‬


‫الكتاب ‪ :‬االلتفاف الب�صري من الن�ص �إلى اخلطاب‬

‫الكتاب ‪ :‬لولوه يف باري�س ( رواية)‬

‫امل�ؤلف ‪ :‬د‪ ,‬عبدالنا�صر هالل‬

‫امل�ؤلف ‪ :‬فار�س الرو�ضان‬

‫النا�شر ‪ :‬نادي اجلوف الأدبي ‪2014 -‬م‬

‫النا�شر ‪ :‬دار مدارك للن�شر ‪2014‬م‬

‫ح��اول ه��ذا الكتاب تحويل م�صطلح (االلتفات) من‬ ‫المفهوم البالغي الذي يتحقق عبر حركة اللغة‪ ،‬وتغيّر‬ ‫م�ساراتها البنائية من حالة �إلى �أخ��رى‪ ،‬ومن ن�سق �إلى‬ ‫�آخر‪ ،‬وتبنّي مفهوم االلتفات الب�صري الذي يتحقق عبر‬ ‫حركة ا لمرئي الذي تخلقه اللغة و�آليات تعبيرية �أخرى‪.‬‬ ‫وكيفية ت�شكّلها‪ ،‬و�إخراجها على ال�صفحة‪� /‬شعرية المكان‪،‬‬ ‫�إذ يتنقل المبدع‪ /‬ال�شاعر م��ن �شكل كتابي �إل���ى �آخ��ر‬ ‫مختلف في بنيته الب�صرية‪ ،‬ما يجعل من الن�ص مفتوحا‬ ‫متحركا متعدّد القراءة‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الحركة الب�صرية التي تتحقق عبر تجاوز‬ ‫ن�صو�ص ب�صرية متحولة‪ ،‬وامتزاجها‪ ،‬تخلق �أبعادا داللية‪،‬‬ ‫ف�إنها تخلق التفاتا ب�صريا‪ ،‬وهذا ا�شتغال يت�شكل عبر البعد‬ ‫الب�صري في ظل وعي عميق‪ .‬وهو الذي يطرح بموجبه الن�ص‬ ‫مكوناته اللغوية في « ف�ضاء �صوري» عن طريق ا�ستخدام‬ ‫ال�شعراء للغتهم بطريقة خا�صة‪ .‬وعن طريق �إدماج بنيات‬ ‫�سيموطقية �أو �أيقونات غير لغوية في الخطاب‪.‬‬ ‫وااللتفاف في اتجاهيه ‪ :‬اللغوي والب�صري ي�ؤدي �إلى‬ ‫الت�أمّل‪ ،‬وك�سر النمط والرتابة‪ ،‬ويحقق الإدها�ش‪ ،‬وال يعني‬ ‫االن�صراف فقط من – �إل��ى‪ ،‬و�إنما ي ��ؤدي �إل��ى االزدواج‬ ‫والتماهي في �آن‪ ،‬بين المن�صرف عنه والمن�صرف �إليه‪.‬‬ ‫االلتفات اللغوي �أو الب�صري هو نتاج الإبداع الجديد‬ ‫الذي يعتمد على الحركة‪ ،‬والت�شعب‪ ،‬واالمتداد‪ ،‬واالزدحام‪،‬‬ ‫والقدرة على الت�آلف بين المتناق�ضات‪.‬‬

‫�صدر �أخيرا عن دار مدارك للن�شر رواية‬ ‫«لولوه في باري�س» للروائي فار�س الرو�ضان‪.‬‬ ‫وقد جاءت الرواية في (‪� )212‬صفحة من‬ ‫القطع المتو�سط نقتطف منها‪:‬‬

‫‪ 128‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫(ك��ان��ت ال �� �س��اع��ة ت���ش�ي��ر �إل� ��ى ال�ث��ام�ن��ة‬ ‫والن�صف بتوقيت فرن�سا حينما خرج خالد‬ ‫من بوابة �صاالت مطار �شارل ديغول الدولي‪،‬‬ ‫وحينما ات�ج��ه �إل��ى جهة م��واق��ف �سيارات‬ ‫الأج��رة‪� ،‬سرت ق�شعريرة لذيذة في ج�سده‬ ‫من �أث��ر �أنفا�س ال�صباح المحمّلة بن�سمات‬ ‫الخريف الباردة‪..‬‬ ‫كان في حالة غياب تام‪ ،‬لم يدرك �أنه مر‬ ‫بكاونتر الجوازات‪ ،‬وال في �صالة العف�ش‪ ،‬وال‬ ‫الجمارك‪ ،‬وال يدري هل تم ختم ج��وازه �أم‬ ‫ال‪ ،‬ولكن ما يعلمه الآن ‪ -‬وهو مت�أكد منه ‪-‬‬ ‫�أنه فوق تراب باري�س‪ ،‬باري�س التي ظن �أن‬ ‫الع�شق بها يبد�أ على الأر���ض‪ ،‬كما قالت له‬ ‫ال��رواي��ات وق�ص�ص الحالمين‪ ،‬ولكن يبدو‬ ‫�أنهم لم يخبروه يوما �أن الع�شق قد يولد‬ ‫في الطريق �إليها‪ ،‬هناك حيث ي�سكن القمر‬ ‫وت�سبح النجوم)‪.‬‬


‫امل�ؤلف ‪ :‬بدر العلي البدر وحممد عبدالرزاق الق�شعمي‬

‫امل�ؤلف ‪ :‬حممد النجيمي‬

‫النا�شر ‪ :‬دار املفردات للن�شر والتوزيع ‪2014 -‬م‬

‫النا�شر ‪ :‬الدار الوطنية اجلديدة للن�شر والتوزيع‬

‫ج��اء الكتاب ف��ي (‪� )432‬صفحة‪ ،‬ويتناول‬ ‫�إ�شادات و�شهادات في حمود بن عبدالعزيز البدر‬ ‫ال��ذي يعد قامة من قامات هذا الوطن‪ ،‬وعلما‬ ‫من �أعالمه الذين عملوا ب�صمت‪ ،‬وتحمّلوا �أعباء‬ ‫الم�سئولية بكل كفاءة واقتدار‪.‬‬

‫يمثل هذا الكتاب المجموعة الق�ص�صية الرابعة‬ ‫للقا�ص محمد النجيمي‪� .‬صدر عن نادي المنطقة‬ ‫ال�شرقية الأدب ��ي‪ ،‬ف��ي ‪� 109‬صفحات م��ن القطع‬ ‫المتو�سط‪ ،..‬تحتوي ‪ 29‬ن�صاً‪ ،‬احتلت فيه الق�صة‬ ‫الق�صيرة جد ًا غالبية الن�صو�ص‪ .‬التي تنوع فيها‬ ‫الخطاب والحدث‪ ،‬نقتطف منها‪:‬‬ ‫(كنا ثالثة �أ�صدقاء يقفون في ح�ضرة الطبيب‪.‬‬ ‫قال بو�ضوح تام «ثالثتكم �ستموتون بعد ثمان‬ ‫و�أربعين �ساعة‪� ،‬أحدهم �سمم �شرابكم»‪.‬‬ ‫�صديقي الأول �أق�سم �أنه لن يتوقف عن البحث‬ ‫عن ترياق مهما تطلب ذلك من جهد �أو مال‪..‬‬ ‫�صديقي الثاني وعدنا ب�أنه �سي�ستمتع بكل لحظة‬ ‫باقية من حياته‪� .‬أخبرنا �أنه �سيزور كل الأماكن التي‬ ‫بو�سعه زيارتها في اليومين المتبقيين له‪� .‬سيقابل‬ ‫كل الن�ساء اللواتي �سيقبلن المواعيد التي �سي�ضربها‬ ‫لهن‪ ،‬ثم قال بابت�سامة ذابلة ب�أنه �سي�ستغل ال�ست‬ ‫�ساعات الأخيرة من حياته في التوبة‪..‬‬ ‫�أم��ا �أن��ا فقد غادرتهم بهدوء‪ ،‬جل�ست ب�سكينة‬ ‫�إلى جوار مكتبي‪ ،‬و�شرعت في كتابة هذه الق�صة‬ ‫الق�صيرة)‪.‬‬

‫يت�ضمن الكتاب �سيرة البدر وم�سيرته منذ‬ ‫الطفولة والتعليم‪ ،‬وم�شواره الطويل في ال�صحافة‪،‬‬ ‫كما عر�ض �إنجازاته العلمية والخيرية‪ ،‬وتجربته‬ ‫في االبتعاث الدرا�سي‪ ،‬و�صور الوفاء المتبادل‬ ‫بينه وبين �أ�صدقائه‪ ،‬كما احتوى على �شهادات‬ ‫الأوالد والأحفاد و�أمهم‪ ،‬والأ�صدقاء البررة من‬ ‫�أمثال‪ :‬د‪� .‬إبراهيم بن عبدالرحمن التركي‪ ،‬و د‪.‬‬ ‫�إبراهيم العواجي‪ ،‬والأ�ستاذ حمد القا�ضي‪ ،‬و�سعد‬ ‫البواردي‪ ،‬و�سعود الم�صيبيح‪ ،‬وعابد خزندار‪،‬‬ ‫ود‪ .‬عبدالرحمن ال�شبيلي‪ ،‬وعمران العمران‪،‬‬ ‫ومحمد الطيار‪ ،‬ومحمد الق�شعمي‪ ،‬وها�شم عبده‬ ‫ها�شم‪ ،‬و�آخرين‪...‬‬ ‫ك �م��ا اح �ت��وى ع �ل��ى م�لاح��ق و� �ص��ور ووث��ائ��ق‬ ‫وق�صا�صات طريفة ومفيدة‪ ،‬ور�سائل و�أخبار‪،‬‬ ‫وخفايا و�أ�سرار من �أر�شيف البدر‪،‬‬

‫ق�����������������������������������������������������������������������������������راءات‬

‫الكتاب ‪ :‬حمود البدر – الرب الكرمي‬

‫الكتاب ‪ :‬قبل �أن ي�صعد جلهنم‬

‫اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ ‪129‬‬


‫ع������ي������ن ع���������ل���������ى اجل���������وب���������ة‬

‫الجو َبة‬ ‫مجلة ُ‬ ‫ِغ َوا َي ٌة َع َّم َر ْت ِب�أَ َل ِق َد ْه َ�ش ِت َها‬ ‫■ د‪�.‬أحمد الدمناتي*‬

‫تكبر الغواية في رح��م الده�شة كلما م�سّ ها قب�س من‬ ‫جنون باذخ ي�ضيء العتبات المنهكة ب�صمت العزلة الفظيع‪،‬‬ ‫كان �ضروريا �أن تولد مجلة الجوبة بطريقة عادية‪ ،‬ولي�س‬ ‫بعملية قي�صرية �أو م�شرط جراح محترف خبير في و�ضع‬ ‫الخرائط على الج�سد كلما تعبت اليد من ت�شخي�ص الحل‪.‬‬ ‫ولدت الجوبة ب�صحة جيدة وعافية مطمئنة‪ ..‬على يد قابلة‬ ‫تقليدية خبيرة في توليد المجانين الأنيقين الذين يحدثون‬ ‫منعطفات حقيقية في الإن�سان والواقع والن�ص والكون واللغة‪.‬‬ ‫كان بالإمكان دفع تكاليف عيادة خا�صة مجهزة بمكيفات‬ ‫هوائية راقية لتولد الجوبة في عز الرفاهية‪ .‬ولأنها �أعلنت‬ ‫انت�سابها منذ البدء ل�ساللة ال�شعراء ال�صعاليك‪ ،‬اختارت‬ ‫والدتها المريحة قرب �شط ه��ادئ‪� ،‬أو نخلة فاتنة‪� ،‬أو نهر‬ ‫يمر بين غيمتين تكتبان و�صية التورط في بيا�ض قا�س‪ .‬الآن‪،‬‬ ‫تُح�س منذ والدتها �أنها مبتهجة بح�ضور مكثف‪ ،‬راق‪ ،‬نوعي‪،‬‬ ‫مغاير‪ ،‬م�شاغب‪ ،‬مختلف‪ ،‬م�شاك�س‪ ،‬متمرد‪ .‬قدمت كتيبة‬ ‫محترفة من ال�شعراء‪ ،‬وقبيلة متنوعة من الكتّاب‪ ،‬و�ساللة‬ ‫ال تنقر�ض من النقاد‪ ،‬منحازة دائما للجديد والجيد‪ ،‬ذاك‬ ‫�شرطها الوجودي‪ ،‬وخيارها المعقلن ال��ذي �آمنت به منذ‬ ‫والدتها الأولى‪ .‬راكمت �إرثًا جماليا و�إبداعيا خالقا جعلها‬ ‫من المجالت الثقافية الأكثر غِ نى‪ ،‬والأكثر ح�ضورا ومتابعة‬ ‫وقراءة في الم�شهد الثقافي العربي‪ ،‬تر�سم خطواتها ب�إتقان‬ ‫وحذر �شديد‪ ،‬وك�أن الإ�سفلت مهي�أ لالنزالق‪ ،‬والمنعرجات‬ ‫م�شتعلة بكمائنها و�ألغازها و�أ�سرارها‪.‬‬ ‫بِجر�أة نادرة تقدم مجلة الجوبة با�ستمرار الن�صو�ص‬ ‫التي تنع�ش ذاكرة المتلقي وتحدث في كينونة تلقيه الجمالي‬ ‫رج��ات متتالية وزل ��زال عنيفة ت�صل قوتها �سبع درج��ات‬ ‫على �سُ لّم الغواية والمتعة‪ ،‬وك�أنها تُحارب ه�شا�شة العالم‬ ‫وخ��واءه‪ ،‬غير معنية بال�شهرة والألقاب والنيا�شين‪ ،‬تحفر‬ ‫ب�صمت طريقها بين المنعرجات الوعرة‪ ،‬وت�ؤ�س�س تاريخها‬ ‫الطفولي في فلوات الربع الخالي‪ ،‬متيمة بروح الأ�ساطير‬ ‫* �شاعر وناقد وباحث �أكاديمي من المغرب‪.‬‬

‫‪ 130‬اجلوبة ‪� -‬شتاء ‪1436‬هـ‬

‫وقوة الخرافات؛‬ ‫لت�ستعير �إك�سير الخلود من ثقافات الميثولوجيا‪.‬‬ ‫مجلة الجوبة في حُ �ضورها الدائم والمنتظم ُت�ؤ�س�س‬ ‫لم�شروعية حُ لم ثقافي و�إبداعي ال ي�شيخ �أب��دا؛ بل يتجدد‬ ‫با�ستمرار بطفولة �أن�ي�ق��ة‪ ،‬بهية‪ ،‬غنية‪� ،‬شيقة‪� ،‬شقية‪،‬‬ ‫�شاقة‪ .‬وبِعناد يكبر مع الوقت لتحافظ على ا�ستقالليتها‬ ‫وخ�صوبتها وخ�صو�صيتها المميزة‪ .‬دائما تنت�صر للجميل‬ ‫في تجربة الكتابة‪ ،‬وهي تفتح مغارات المتخيل على ما هو‬ ‫كوني و�إن�ساني‪ ،‬حيث الرحابة تظفر بنقاء الإبداع وديمومته‬ ‫و�أبديته في قلب الكائن المبدع‪.‬‬ ‫ا�ستوعبت مجلة الجوبة بمتعة نادرة عنف غزو الرغبة‬ ‫الم�شتهاة التي يعزفها القلب في الن�ص‪ ،‬من منفى �إلى‬ ‫مقهى‪ ،‬كانت اللغة تكت�سح الأرخبيالت الق�صية‪ ،‬والجزر‬ ‫النائية ف��ي �أق���ص��ى المخيلة‪ ،‬منقبة على ق��وة البيا�ض‬ ‫ب�أخاديده الماكرة ك�شرك العنكبوت للإيقاع بعناد الفري�سة‪.‬‬ ‫ال فر�صة لإيقاف توهج الحبر الذي �أ�سهم في تربية الجوبة‬ ‫على المغايرة في اقتنا�ص �شهوة الر�ؤية والر�ؤيا‪� .‬إنه التنا�سل‬ ‫الفظيع لعظمة المعنى حين تترك البيت والوطن‪ ،‬وتُ�صر‬ ‫على الت�سكع برغبة في المقاهي والحدائق والمنافي‪ .‬في‬ ‫الت�سكع الهادف خ��روج ال��ذات من �سجنها لرحابة �آ�سرة‬ ‫تع�شق المغامرة واالختالف‪.‬‬ ‫مجلة �أ�صبحت مرجعا عميقا مهم ًا لكل ذَاتٍ قارئة تعرف‬ ‫جيدا �أن ال�شرب من الينابيع الأ�صلية �أف�ضل من الك�ؤو�س‬ ‫البلورية و�إن كانت في غاية الجمال والأناقة‪ .‬في الينابيع‬ ‫دائما تبني الخطاطيف �أع�شا�شها‪ ،‬وتكتب الفرا�شات تواريخ‬ ‫انتحارها الإرادي‪ .‬الينبوع �أ�صل ومركز للخ�صوبة المتفردة‪.‬‬ ‫�ستبقى الجوبة دائما احتفالية لحوا�س دَر َب��ت القلب‬ ‫ليعي�ش مجده بفائ�ض الغبطة والمتعة والغواية والده�شة‪.‬‬


‫من �إ�صدارات اجلوبة‬


‫�صدر حديثاً عن برنامج الن�شر في‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.