47 joba web مجلة الجوبة 47 Aljoubah

Page 1

‫درا�سات ونقد‬ ‫ن�صو�ص �شعرية و�سردية‬ ‫مواجهات‬ ‫قراءات‬

‫‪47‬‬


‫برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية ودعم البحوث والرسائل العلمية‬ ‫في مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬ ‫‪ -1‬ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية‬

‫يهتم بالدرا�سات‪ ،‬والإبداعات الأدبية‪ ،‬ويهدف �إلى �إخراج �أعمال متميزة‪ ،‬وت�شجيع حركة الإبداع‬ ‫الأدبي والإنتاج الفكري و�إثرائها بكل ما هو �أ�صيل ومميز‪.‬‬ ‫وي�شمل الن�شر �أعمال الت�أليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬ ‫مجاالت الن�شر‪:‬‬ ‫�أ ‪ -‬الدرا�سات التي تتناول منطقة الجوف في �أي مجال من المجاالت‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الإبداعات الأدبية ب�أجنا�سها المختلفة (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدرا�سات الأخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫�شروطه‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن تت�سم الدرا�سات والبحوث بالمو�ضوعية والأ�صالة والعمق‪ ،‬و�أن تكون موثقة طبق ًا للمنهجية العلمية‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُتكتب المادة بلغة �سليمة‪.‬‬ ‫‪� -٣‬أن ُيرفق �أ�صل العمل �إذا كان مترجم ًا‪ ،‬و�أن يتم الح�صول على موافقة �صاحب الحق‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ُتقدّم المادة مطبوعة با�ستخدام الحا�سوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قر�ص ممغنط‪.‬‬ ‫‪� -٥‬أن تكون ال�صور الفوتوغرافية واللوحات والأ�شكال التو�ضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومنا�سبة للن�شر‪.‬‬ ‫‪� -٦‬إذا كان العمل �إبداع ًا �أدبي ًا فيجب �أن ي ّت�سم بالتم ّيز الفني و�أن يكون مكتوب ًا بلغة عربية ف�صيحة‪.‬‬ ‫‪� -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفق ًا لل�شكل الذي �ست�صدر فيه ‪ -‬على النحو الآتي‪:‬‬ ‫ الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة �صفحة بالمقا�س المذكور‪.‬‬‫ البحوث التي تن�شر �ضمن مجالت محكمة ي�صدرها المركز‪ :‬تخ�ضع لقواعد الن�شر في تلك‬‫المجالت‪.‬‬ ‫ الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة �صفحة‪( .‬تحتوي ال�صفحة على «‪ »250‬كلمة تقريب ًا)‪.‬‬‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت الن�شر‪ ،‬في�شمل الأعمال المقدمة من �أبناء وبنات منطقة‬ ‫الجوف‪� ،‬إ�ضافة �إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪� ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج) في�شترط �أن‬ ‫يكون الكاتب من �أبناء �أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يمنح المركز �صاحب العمل الفكري ن�سخ ًا مجانية من العمل بعد �إ�صداره‪� ،‬إ�ضافة �إلى مكاف�أة‬ ‫مالية منا�سبة‪.‬‬ ‫‪ -١٠‬تخ�ضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬


‫‪ -2‬دعم البحوث والر�سائل العلمية‬

‫يهتم بدعم م�شاريع البحوث والر�سائل العلمية والدرا�سات املتعلقة مبنطقة اجلوف‪ ،‬ويهدف‬ ‫�إلى ت�شجيع الباحثني على طرق �أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها و�أفكارها‪.‬‬ ‫(�أ) ال�شروط العامة‪:‬‬ ‫‪ -١‬ي�شمل الدعم املايل البحوث الأكادميية والر�سائل العلمية املقدمة �إلى اجلامعات واملراكز‬ ‫البحثية والعلمية‪ ،‬كما ي�شمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مب�ؤ�س�سات غري �أكادميية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة متعلق ًا مبنطقة اجلوف‪.‬‬ ‫‪ -٣‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة جديد ًا يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ال يتقدم الباحث �أو الدار�س مب�شروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬ ‫‪ -٥‬يقدم الباحث طلب ًا للدعم مرفق ًا به خطة البحث‪.‬‬ ‫‪ -٦‬تخ�ضع مقرتحات امل�شاريع �إلى تقومي علمي‪.‬‬ ‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد ال�سقف الأدنى والأعلى للتمويل‪.‬‬ ‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل �إج��راء تعديالت جذرية ت��ؤدي �إلى تغيري وجهة‬ ‫املو�ضوع �إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يقدم الباحث ن�سخة من ال�سرية الذاتية‪.‬‬ ‫(ب) ال�شروط اخلا�صة بالبحوث‪:‬‬ ‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف ال�شروط العامة(البند «�أ»)‪.‬‬ ‫‪ -٢‬ي�شمل املقرتح ما يلي‪:‬‬ ‫ تو�صيف م�شروع البحث‪ ،‬وي�شمل مو�ضوع البحث و�أهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪ ،‬واملدة‬‫املطلوبة لإجناز العمل‪.‬‬ ‫ ميزانية تف�صيلية متوافقة مع متطلبات امل�شروع‪ ،‬ت�شمل الأجهزة وامل�ستلزمات املطلوبة‪،‬‬‫م�صاريف ال�سفر والتنقل وال�سكن والإعا�شة‪ ،‬امل�شاركني يف البحث من طالب وم�ساعدين‬ ‫وفنيني‪ ،‬م�صاريف �إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬ ‫ حتديد ما �إذا كان البحث مدعوم ًا كذلك من جهة �أخرى‪.‬‬‫(ج) ال�شروط اخلا�صة بالر�سائل العلمية‪:‬‬ ‫�إ�ضافة لكل ما ورد يف ال�شروط اخلا�صة بالبحوث(البند «بــ») يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن يكون مو�ضوع الر�سالة وخطتها قد �أق ّرا من اجلهة الأكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُيق ّدم تو�صية من امل�شرف على الر�سالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬ ‫الجوف‪ :‬هاتف ‪ - 014 626 3455‬فاك�س ‪� - 014 624 7780‬ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا ‪ -‬الجوف‬ ‫الريا�ض‪ :‬هاتف ‪ - 011 281 7094‬فاك�س ‪� - 011 281 1357‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬الريا�ض ‪11614‬‬ ‫‪sudairy-nashr@alsudairy.org.sa‬‬


‫جمل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري‬

‫ملف ثقايف ربع �سنوي ي�صدر عن‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬

‫هيئة الن�شر ودعم ا ألبحاث‬

‫رئي�س ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬

‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫د‪ .‬خليل بن �إبراهيم المعيقل ‬ ‫د‪ .‬ميجان بن ح�سين الرويلي ‬ ‫محمد بن �أحمد الرا�شد ‬

‫امل�شرف العام ‪� :‬إبراهيم بن مو�سى احلميد‬ ‫�سكرترياً‬ ‫�أ�سرة التحرير‪ :‬حممود الرحمي ‬ ‫حمرراً‬ ‫حممد �صوانة ‬ ‫ ‬ ‫حمرراً‬ ‫عماد املغربي ‬ ‫ ‬ ‫�إخـــراج فني ‪ :‬خالد الدعا�س‬ ‫املرا�ســــــالت‪ :‬هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬ ‫فاك�س‪)+966()14(6247780 :‬‬ ‫ ‬ ‫�ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية‬

‫‪www.aljoubah.org | aljoubah@gmail.com‬‬

‫ردمد‬

‫‪ISSN 1319 - 2566‬‬

‫�سعر الن�سخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من ال�شركة الوطنية للتوزيع‬

‫رئي�س ًا‬ ‫في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫زياد بن عبدالرحمن ال�سديري الع�ضو المنتدب‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلمان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫د‪ .‬عبدالرحمن بن �صالح ال�شبيلي ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫�سلمان بن عبدالمح�سن بن محمد ال�سدير ي ع�ضو ًا‬ ‫طارق بن زياد بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا‬ ‫�شيخة بنت �سلمان بن عبدالرحمن ال�سدير ي ع�ضو ًا‬ ‫الإدارة العامة ‪ -‬الجوف‬ ‫المدير العام‪ :‬عقل بن مناور ال�ضميري‬ ‫م�ساعد المدير العام‪� :‬سلطان بن في�صل ال�سديري‬ ‫قواعد الن�شر‬ ‫‪� -1‬أن تكون املادة �أ�صيلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬مل ي�سبق ن�شرها ورقياً �أو رقميا‪ً.‬‬ ‫‪ -3‬تراعي اجلدية واملو�ضوعية‪.‬‬ ‫‪ -4‬تخ�ضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل ن�شرها‪.‬‬ ‫‪ -5‬ترتيب املواد يف العدد يخ�ضع العتبارات فنية‪.‬‬ ‫‪ -6‬ترحب اجلوبة ب�إ�سهامات املبدعني والباحثني‬ ‫والك ّتاب‪ ،‬على �أن تكون املادة باللغة العربية‪.‬‬ ‫«اجلوبة» من الأ�سماء التي كانت ُتطلق على منطقة اجلوف �سابقاً‪.‬‬

‫املقاالت املن�شورة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي املجلة والنا�شر‪.‬‬

‫ُيعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املنا�شط املنربية الثفافية‪ ،‬ويتب ّني‬ ‫برناجم ًا للن�شر ودعم الأبحاث والدرا�سات‪ ،‬يخدم الباحثني وامل�ؤلفني‪ ،‬وت�صدر عنه جملة(�أدوماتو)‬ ‫املتخ�ص�صة ب�آثار الوطن العربي‪ ،‬وجملة(اجلوبة) الثقافية‪ ،‬وي�ضم املركز ك ًال من‪(:‬دار العلوم) مبدينة‬ ‫�سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما ق�سم للرجال و�آخر للن�ساء‪ .‬وي�صرف على‬ ‫املركز م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية‪.‬‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪2‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫العدد ‪ - 47‬ربيع ‪1436‬هـ ‪2015 -‬م‬

‫‪6.........................‬‬ ‫يوميات نائب يف الأرياف‪:‬‬ ‫َمن قتل َمن؟‬

‫‪11.......................‬‬ ‫غازي الق�صيبي‬ ‫الذات وجدل الزمن‬

‫‪99.......................‬‬ ‫حوار مع ال�شاعر �أحمد الزهراني‬

‫الـمحتويــــات‬ ‫االفتتاحية‪4 ................................................................‬‬ ‫درا�سات ونقد‪ :‬يوميات نائب في الأرياف ‪� -‬صالح المطيري ‪6 ...........‬‬ ‫غازي الق�صيبي الذات وجدل الزمن ‪ -‬د‪ .‬بهيجة �إدلبي ‪11 ...............‬‬ ‫الكتابة و�أ�سئلة الخطاب في تجربة �سعدية مفرح ال�شعرية ‪� -‬إبراهيم‬ ‫الحجري ‪18 .............................................................‬‬ ‫التجريب في الق�صة الق�صيرة جدا ‪ -‬محمد يوب‪23 ......................‬‬ ‫قراءة في رواية لولوة في باري�س ‪ -‬محمود عبدالحافظ ‪37 ...............‬‬ ‫مواقع التّوا�صل بين االجتماعيّة والإبداعيّة الأدبيّة ‪� -‬إبراهيم الدّهون‪41 ...‬‬ ‫�شعريّة الذاكرة في ديوان «قوت الحمام» ‪ -‬ثامر الم�صاروة‪48 ............‬‬ ‫قراء ٌة في ديوان (ورد ٌة ثاني ٌة مِ نْ دَمِ المـتـنـبِّـي) ‪� -‬أ‪ .‬د‪ .‬خالد َفهْمي‪51 ....‬‬ ‫بنيات االنـك�سـار في ديواني «لأميرة الغبار �شهوتها» و«مقبرة الحبيبات»‬ ‫لل�شاعر المغربي محمد الإمام ماء العينين ‪ -‬عبدالهادي رو�ضي ‪57 ....‬‬ ‫وداد بنمو�سى‪ ..‬الق�صيدة المع�شبة بين �أه��داب الإن�سانية ‪ -‬نجاة‬ ‫الزباير‪65 ...............................................................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة‪ :‬رنينُ الوم�ض ِة على تقطّ ٍع جارف ‪ -‬عبداهلل ال�سفر‪69 ....‬‬ ‫الخروف الذي �شاهد الرجل على حقيقته ‪ -‬محمد النجيمي ‪71 ..........‬‬ ‫�أزرق ‪ -‬بثينة محمد ‪72 ....................................................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة جدا ‪� -‬شيمة ال�شمري‪74 .................................‬‬ ‫حقول الذرة ‪ -‬عبداهلل �ساعد ‪75 ..........................................‬‬ ‫المعرا�ض الأخير ‪ -‬نا�صر بن محمد العُمري ‪77 ..........................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة جدا‪ - ..‬محمد المبارك ‪80 ..............................‬‬ ‫�شعر‪ :‬ن�سوة في المدينة ‪� -‬أحمد قران الزهراني ‪81 ........................‬‬ ‫باب الحبيبٍ �صلى اهلل عليه و�سلم ‪ -‬عالء الدين رم�ضان ‪85 ..............‬‬ ‫الطائ ُر المهاج ُر ‪ -‬محمود الرمحي ‪86 ....................................‬‬ ‫انثياالتُ الغـُربة ‪� -‬سليمان عبدالعزيز العتيق‪88 ...........................‬‬ ‫�شاعر كان �صديقي ‪� -‬أمين الع�صري‪90 ...................................‬‬ ‫�أعترف ‪� -‬أنو �سرحان ‪91 ..................................................‬‬ ‫رحمة اهلل ‪ -‬عبدالهادي �صالح‪92 .........................................‬‬ ‫الكرديّات �شاعرات �أي�ض ًا ‪ -‬عماد الدين مو�سى ‪93 ........................‬‬ ‫مواجهات‪ :‬ال�شاعر �أح�م��د ق��ران ال��زه��ران��ي للجوبه ‪ -‬ح ��اوره‪� :‬سعيد‬ ‫بوكرامي ومحمود الرمحي ‪99 .............................................‬‬ ‫محمد عز الدين التازي ‪ -‬حاوره‪ :‬ه�شام بن�شاوي ‪105 ......................‬‬ ‫نوافذ‪� :‬شعر البديهة‪ ..‬و�سحر االرتجال ‪ -‬غازي خيران الملحم ‪115 ........‬‬ ‫اليوم ولد محفوظ رحمه اهلل حكاية م�سروقة ‪ -‬فهد الم�صبّح‪120 ..........‬‬ ‫علي محمود طـه ال�شاعر المهند�س ‪� -‬صالح بن ظاهر الع�شي�ش ‪124 ........‬‬ ‫�إرها�صات ق�صيدة النثر والوقوف على المُهاد ‪� -‬سعيد نوح‪127 .............‬‬ ‫معر�ض الريا�ض الدولي للكتاب في ن�سخة ‪ 2015‬وم�شاركة مركز عبدالرحمن‬

‫ال�سديري الثقافي ‪ -‬محمد �صوانه‪130 ..........................................‬‬ ‫قراءات ‪ -‬المحرر الثقافي ‪132 ............................................‬‬ ‫�أن�شطة ثقافية ‪136 ........................................................‬‬

‫�صورة الغالف‪ :‬لقطة للربيع في منطقة الجوف ‪ -‬ت�صوير‪ :‬جميل ال�شمري‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫‪3‬‬


‫اف �ت �ت��اح �ي��ة‬ ‫ال� � � � �ع � � � ��دد‬ ‫■ �إبراهيم احلميد‬

‫يجيء هذا العدد من مجلة الجوبة مميزا بمنجزات نخبة من الأدب��اء والكتاب‬ ‫المبدعين‪ ،‬الذين �أرت�أينا �أن نخ�ص�ص �أكبر م�ساحة ممكنة لهم بدْا من هذا العدد‬ ‫والأعداد القادمة‪ ،‬عدا عن حاالت قد ت�ستجد‪ ،‬وتتطلب تخ�صي�ص ملفات بعينها‪ ،‬بناء‬ ‫على ر�ؤية هيئة الن�شر التي كانت �سباقة �إلى ا�ستكناه تف�ضيالت القراء‪ ،‬وتنحو �إلى‬ ‫عدم االنجرار �إلى الملفات الثقافية التي قد تبعد بع�ض القراء ممن تقع مو�ضوعات‬ ‫الملفات خارج اهتماماتهم‪.‬‬ ‫�إن تنوّع مو�ضوعات المجلة و�إثراء �أبوابها بالن�صو�ص الإبداعية والمقاالت الثقافية‬ ‫والدرا�سات الأدبية‪ ،‬يمكن �أن يمنح المتابع �أجمل فكرة عن حالة الإب��داع المحلي‬ ‫والعربي‪ ،‬من خالل هذه المنتخبات التي تن�شر في مختلف الأبواب وال�صفحات؛ فنونا‬ ‫و�إبداعات وتراكيب و�صياغة؛ خا�صة عندما ت�أتي متنوعة حاملة معظم �أ�شكال الإبداع‬ ‫المتداولة اليوم‪.‬‬ ‫�إن كون العمل الثقافي متجددًا غير قابل للتوقّف وال�سكون‪ ،‬هو �أجمل ما يواجهه‬ ‫العاملون في الحقل الثقافي‪ ،‬فالقراءة فعل متجدّد‪ ..‬والكتابة كذلك؛ لذا‪ ،‬فمهما عمل‬ ‫فريق الجوبة من جهد‪ ،‬فالمعيار الحقيقي للر�ضا‪ ،‬هو ما نجده من ت�شجيع ور�ضا‬ ‫من قراءنا ومبدعينا الكرام‪ ،‬ب�أنهم هم الدافع الأول لموا�صلة التطوير والتغيير‪.‬‬ ‫لذا فقد حر�صت الجوبة على �أن ت�صل بقرائها �إلى مدارج الإبداع والغواية الحالل‪،‬‬ ‫وتوفير ن�سخها لهم بكل الو�سائل التقنية والورقية‪ ،‬محاولين تطوير عملنا قدر ما‬ ‫ن�ستطيع‪ ..‬ووفقا لإمكانات المجلة التي وفرها مركز الأمير عبدالرحمن ال�سديري‬ ‫الثقافي‪ ،‬الذي يقوم بجهد متوا�صل وكبير في خدمة الثقافة المحلية والعربية‪ ،‬من‬ ‫‪4‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫اف����������������ت����������������ت����������������اح����������������ي����������������ة‬

‫خالل �أفرع المركز ون�شاطاته‪ ،‬ب�إبدا ٍع وتفانٍ و�صبر‪ ،‬لم تقم به جامعات وم�ؤ�س�سات‬ ‫ثقافية ب�إمكاناتها الالمتناهية‪.‬‬ ‫�إن اهتمام المجلة بكافة المو�ضوعات الإبداعية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬نابع من �أهمية �إثراء‬ ‫المحتوى العربي وترجمة الحالة الفكرية والأدبية التي تعجّ بها ال�ساحة العربية من‬ ‫المحيط �إلى الخليج؛ لذا‪ ،‬يجيء الحر�ص على �أن ت�أت الجوبة بكل ما هو مفيد ومتجدد‬ ‫ومتناغم مع روح الع�صر ومتطلباته‪.‬‬ ‫وي�شرفنا في هذا العدد �أن نقدم موا�ضيع متنوعة‪ ،‬بمحتوياتها‪ ،‬وموا�ضيعها‪،‬‬ ‫عاك�سة �أ�شكاال من التحوّالت والر�ؤى لمبدعيها في ن�صو�صهم المن�شورة هنا‪� ،‬سردا‬ ‫و�شعرا‪ ،‬ومن ذلك ن�ص ال�شاعر الدكتور �أحمد قران «ن�سوة في المدينة» التي ت�أتي‬ ‫كا�شفة عن م�ستوى التحوّالت في ال�شكل واللغة ال�شعرية في تجربته الإبداعية؛ ما‬ ‫يُمكّن من �إعادة النظر والت�أمل في مجمل التجربة‪ ،‬والإم�ساك باللحظة ال�شعرية‬ ‫التي تميز هذا الن�ص الباذخ‪ ،‬الذي تجاوز فيه ال�شاعر الأ�شكال التقدليدية‪ ،‬محمّال‬ ‫ب ـ «التجاوز» بكل ما تحمله الكلمة من معنى في العملية الإبداعية‪ ،‬مد�شّ نًا م�شروعً ا‬ ‫�شعريًا تعبر عنه «ن�سوة في المدينة»‪ .‬وتوا�صال مع هذا الن�ص ي�أتي حوار الدكتور قران‬ ‫الذي يعتبر �أن «الكتابة تعبير عن حالة الوجود بكل انفعاالته وتناق�ضاته»‪ ،‬وي�ؤكد في‬ ‫جانب �آخر من م�سئوليته الوظيفية «�أن هناك مَن يتجنى على الأندية الأدبية‪ ..‬ويدّعي‬ ‫�أنها بددت الدعم ال�سابق؛ م�ؤكدا �أن «جميع الأندية الأدبية بالمملكة لها مقرات‪..‬‬ ‫عدا ناد واحد»‪ .‬و�أن «الجزء الكبير من المبلغ «‪ 10‬مليون ريال» موجود في ح�سابات‬ ‫الأندية‪.» ...‬‬ ‫ال تت�سع الم�ساحة للكتابة‪ ،‬و�إال كان الحديث �أي�ضا عن ا�ست�ضافة الكاتب والناقد‬ ‫محمد عز الدين التازي �صاحب الح�ضور الالفت في الم�شهد الثقافي العربي‪ ،‬وعن‬ ‫محمد ماء العينين «ال�شاعر الذي �شرب حليب الق�صيدة من �شرفة العيون» �أو عن‬ ‫تحقيق الكرديات �شاعرات �أي�ضا‪ ،‬وعن درا�سات جادة ومقاالت متنوعة ون�صو�ص‬ ‫�إبداعية و�سردية ت�ستحق الإ�شادة والتقدير في معظمها‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫يوميات نائب في الأرياف‪:‬‬

‫َمــن قتــل َمــن؟‬

‫■ �صالح بن حممد املطريي*‬

‫ال �أظن �أن قارئا قر�أ �أعمال رواد النه�ضة الأدبية في م�صر يجهل (يوميات نائب‬ ‫في الأري���اف) لتوفيق الحكيم‪ ،‬فهذا العمل ال��روائ��ي العظيم قد حفر وج��وده بقوة‬ ‫وعمق في ذاكرة الأدب الروائي العربي منذ ظهر �أول مرة عام ‪1937‬م‪ ،‬ولي�س �أد ّل على‬ ‫االحتفاء بهذه الرواية من توالي طبعاتها العربية‪ ،‬وتكرر ترجماتها الأجنبية على م ِّر‬ ‫ال�سنين‪ ،‬ناهيك عن الأعمال الدرامية وال�سينمائية التي ا�ستلهمت من العمل‪ ،‬فقد‬ ‫�أُنتج م�سرحي ًة �إذاعية‪ ،‬وفيلماً �سينمائيا‪ ،‬و�أخيراً ولي�س �آخراً �أعيد �إنتاجه �صوتيا في‬ ‫المجمع الثقافي في «�أبوظبي»‪.‬‬ ‫ي�صوّر هذا العمل الروائي بطريقة �شائقة ماتعة الحياة في الريف الم�صري في‬ ‫ثالثينيات القرن المن�صرم‪ ،‬وما فيها من عناء و�شقاء وفقر وجهل ومر�ض وجريمة‪،‬‬ ‫وي�صور كيف يتعامل الفالحون م��ع رج��ال الإدارة ف��ي كثير م��ن التهيب وال�صغار‪.‬‬ ‫كما يُ�صوِّر حياة موظفي الإدارة ه��ن��اك‪ ،‬وتالعبهم بم�صير الأه��ال��ي‪ ،‬وا�ستغاللهم‬ ‫لم�صالحهم ال�شخ�صية‪ .‬وفي الكتاب كذلك ت�صوير مبدع لم�شكالت الق�ضاء والنيابة‬ ‫والتحقيق‪ ،‬كما يُ�سلِّط ال�ضوء على طبيعة عمل �أولئك الرجال المنوط بهم تحقيق‬ ‫العدالة‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫وي ��دور م��و��ض��وع توفيق الحكيم ف��ي رواي�ت��ه‬ ‫هذه على �شيئين‪ :‬فكرة رئي�سة‪ ،‬وحدث رئي�س؛‬ ‫فالفكرة بمثابة روح العمل‪ ،‬وال�ح��دث بمثابة‬ ‫الج�سد‪.‬‬ ‫ف�أما الفكرة الرئي�سة هنا‪ ،‬فهي كيف لنا �أن‬ ‫ف�صلت بنوده وم��وادّه في فرن�سا‬ ‫نطبق قانونا ّ‬ ‫�أو �إنجلترا على الفلاّ ح الم�سكين‪ ،‬الغارق في‬ ‫وَحْ ل الريف؟ من دون مراعاة اختالف النا�س‬ ‫والمكان‪� ،‬أي من دون النظر في اختالف البيئة؛‬ ‫فهذا القانون كان يعاقب الفلاّ ح الذي يع�صف به‬ ‫الجوع على �أخذ كوز ذرة وهو يم�شي بجانب �أحد‬ ‫الغيطان‪ ،‬ويعاقبه �إذا غ�سل ثيابه في الترعة‪-‬‬ ‫وهو �أ�صال يعي�ش في بيوت طينية لي�س بها ماء‬ ‫�أو حنفية‪ -‬ويعاقبه �أي�ضا �إذا لم ي�سجّ ل كلبه عند‬ ‫الحكومة‪ ،‬مع �أن الفلاّ ح نف�سه قد ال يكون م�سجال‬ ‫في ديوان الحكومة! وللقانون �أن يقب�ض على �أي‬ ‫�شخ�ص لي�س له عمل �أو �صنعة بتهمة(الت�شرّد)‪،‬‬ ‫�إلى �آخر تلك الأحكام التي ي�سخر منها الحكيم‪،‬‬ ‫ويعجب كيف يراد لها �أن تطبق على فلاّ ح م�سكين‬ ‫يعي�ش على الفطرة ويفتك ب��ه ثالثي الب�ؤ�س‪:‬‬ ‫الجهل والجوع والمر�ض!‬ ‫كما يُ�صوّر الحكيم في روايته كيف يت�ساهل‬ ‫بع�ض ال�ق���ض��اة ف��ي تطبيق ال �ع��دال��ة م��ن غير‬ ‫تح ٍّر وتثبّت من حيثيات الحكم ال��ذي ي�صدره؛‬ ‫فبع�ضهم ‪ -‬لغر�ض ال�سرعة ‪ -‬كان ينطق بالحكم‬ ‫في الق�ضية‪ ،‬ثم – ويا للعجب ‪ -‬يُ�شرع في جمع‬ ‫الحيثيات التي تبرر هذا الحكم ويدوّنها‪ ،‬مع �أن‬ ‫الحيثيات هي الأ�سا�س‪ ،‬وهي القاعدة التي يرتكز‬ ‫عليها الحكم متى ما �صدر‪.‬‬ ‫و�أما الحدث الرئي�س �أو المحوري في الرواية‪،‬‬ ‫والذي هو جذع الرواية وعمودها‪ ،‬فهو التحقيق‬ ‫في مقتل(قمر الدولة علوان)‪ ،‬وهذا هو مربط‬ ‫الفر�س وقطب الأحداث؛ �إذ‪ ،‬ينتظم هذا التحقيق‬ ‫الرواية منذ بدايتها‪ .‬و�أما الأحداث الأخرى التي‬

‫يذكرها الحكيم هنا �أو هناك‪ ..‬فما هي �إال بمثابة‬ ‫الح�صى الذي يملأ الفجوات بين �أجزاء الحدث‬ ‫الرئي�س‪ ،‬و�إن كانت الأحداث ال�صغيرة بمجموعها‬ ‫تخدم الفكرة الرئي�سة المذكورة �أعاله‪.‬‬ ‫والذين ق��ر�أوا ال��رواي��ة‪� ..‬سيجدون بال ريب‬ ‫�أن التحقيق في تلك الق�ضية المع�ضلة(ق�ضية‬ ‫القتل المذكورة) قد و�صل �إلى طريق م�سدود‪،‬‬ ‫وذلك بموت البنت ريم‪ ،‬وموت الم�صاب نف�سه‬ ‫قمر الدولة علوان قبلها بقليل؛ وكانت البنت هي‬ ‫ال�شاهد الوحيد الذي في حوزة العدالة للو�صول‬ ‫�إل��ى قاتل قمر ال��دول��ة‪ ،‬لكن م��ا �إن و�صل بالغ‬ ‫موت البنت غرقا‪ ،‬حتى �أخذ وكيل النيابة ملف‬ ‫الق�ضية وكتب عليه‪(:‬تحفظ الق�ضية لعدم معرفة‬ ‫القاتل)‪ ،‬معلنا بذلك �إقفال التحقيق في تلك‬ ‫الق�ضية المع�ضلة‪ .‬وهذه النهاية غير المر�ضية‬ ‫للعدالة قد ت�شعر القارئ باالمتعا�ض؛ لأن الكاتب‬ ‫الحكيم نف�سه لم يبخل علينا بتفا�صيل ت�ساعد في‬ ‫و�ضع اليد على الفاعل الحقيقي للجريمة‪ ،‬فكيف‬ ‫ذلك؟‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫‪7‬‬


‫ي�ق��ف ق �ط��ار الأح � ��داث ف��ي ال ��رواي ��ة ‪ -‬كما‬ ‫�ألمحنا‪ -‬عند موت البنت ريم غرقاً‪ .‬وفي الحقيقة‬ ‫�إن القارئ ي�شعر بهذا �أن الرواية غير مكتملة‪،‬‬ ‫�أو �أنها ذات نهاية مفتوحة لم تتم؛ لأن التحقيق‬ ‫وقف عند موت البنت ريم‪ ،‬ولم يك�شف �إالمَ تنتهي‬ ‫خيوط الق�ضية‪ ،‬و�إلى مَ ن ت�صل يد العدالة‪ ،‬ومن‬ ‫هو قاتل الرجل(قمر الدولة)؟ �إن القارئ يتوقع‬ ‫حقا نهاية مقنعة لهذه الق�صة البولي�سية‪ ،‬مثل ما‬ ‫يجد في ما �شابهها من ق�ص�ص التحرّي والعدالة‪.‬‬ ‫وق��د ي�ق��ول ق��ائ��ل �إن الحكيم ق��د كتب عمله‬ ‫الق�ص�صي ه��ذا في �شكل يوميات‪ ،‬واليوميات‬ ‫لي�س من المفتر�ض منها �أن تعامل الحدث معاملة‬ ‫ال��رواي��ة فت�صل به �إل��ى نهاية‪ .‬ونقول لمن يرى‬ ‫هذا‪� :‬إن اليوميات ما هي في الحقيقة �إال قالب‬ ‫�شكلي كتب الحكيم فيه روايته‪ ،‬وقد يكتب الروائي‬ ‫ق�صته في �شكل يوميات‪ ،‬وقد يكتبها في �شكل‬ ‫ر�سائل متبادلة �أو في مذكرات �شخ�صية �أو في‬ ‫حوار بين �شخ�صين؛ المهم قد تختلف القوالب‪،‬‬ ‫ويظل العمل رواي���ة؛ فال�شكل �إذ ًا ال ينفي عن‬ ‫الكتاب �صفة الرواية ما دام �أن الحدث الرئي�س‬ ‫فيها تتابع حلقاته في انتظام‪ ،‬كما هي الحال في‬ ‫حادثة م�صرع(قمر الدولة علوان)‪.‬‬ ‫ف ��ي ت �ل��ك ال��ح��ادث��ة ال��رئ �ي �� �س��ة‪ ،‬ك���ان ذل��ك‬ ‫الرجل(قمر الدولة علوان) ي�سير في الليل �إلى‬ ‫ج��ان��ب �إح ��دى ال �م��زارع (ال�غ�ي�ط��ان)‪ ،‬ف�ك��ان �أن‬ ‫�سددت �إليه بندقية من مزرعة ق�صب مجاورة‬ ‫ت�صيبه ف��ي الكتف �إ��ص��اب� ًة بالغة‪ ،‬يختفي على‬ ‫�إثرها القاتل تحت جنح الظالم‪ ،‬بينما يظ ّل الرجل‬ ‫الم�صاب ينزف �إل��ى �أن ت�أتي النيابة وتبد�أ في‬ ‫فح�ص الرجل ومكان الحادثة‪ ،‬وي�ؤخذ الم�صاب‬ ‫�إلى الم�ست�شفى وبه رمق يتردد‪ .‬وت�ستدعي النيابة‬ ‫ال�شهود من الأ��س��رة‪ ،‬فال تجد ال زوج � ًة وال �أخ ًا‬ ‫وال �أختاً‪ ،‬اللهم �إال بنت ًا في ربيع العمر هي �أخت‬ ‫زوجة الم�صاب المتوفاة‪ .‬وكانت بنا ًء على و�صف‬ ‫الحكيم فتاة فائقة الجمال‪� ،‬آ�سرة المالمح‪ ،‬كانت‬ ‫‪8‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫هذه البنت الح�سناء تعي�ش مع الم�صاب وزوجته‬ ‫�أختها‪ ،‬وقد توفيت �أختها منذ �أ�شهر وتركت لها‬ ‫طفال من زوجها تقوم هذه البنت على رعايته بعد‬ ‫موت �أمه‪.‬‬ ‫حققت النيابة مع تلك البنت‪ ،‬وظهر �أنها‪،‬‬ ‫�أي البنت‪ ،‬لم تعرف بمقتل زوج �أختها �إال من‬ ‫التحقيق‪� ،‬س�ألها النائب �إن كانت مخطوبة �أم‬ ‫ال‪ ،‬فقالت‪� :‬إنه قد تقدم لخطبتها فتىً من قرية‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬لكن زوج �أختها ال��ذي هو بمقام وليّها‬ ‫الوحيد لم يقبل به ورف�ضه‪ ،‬ويظهر من التحقيق‬ ‫�أن البنت والفتى كانت تربطهما و�شائج الحب‪،‬‬ ‫غير �أن ذلك الم�صاب حال بينهما وما يريدان‪.‬‬ ‫ويفيق الم�صاب من �إ�صابته �إفاقة �أق�صر من‬ ‫ح�سو الطير للماء‪ ،‬فيهرع النائب وم�ساعده �إلى‬ ‫الم�ست�شفى فيزورا الم�صاب علّه يجود عليهما‬ ‫بما يك�شف عن خيوط الق�ضية‪ ،‬في�س�أالنه‪ :‬من‬ ‫تعتقد �أنه �أ�صابك يا قمر الدولة علوان؟ فال يرد‬ ‫عليهما‪ ،‬بل يغمغم في كالم بين النوم واليقظة‪،‬‬ ‫وال ي�سمعان منه �إال(ري� ��م‪ ...‬ري ��م‪ ،)..‬في�س�أله‬ ‫النائب‪ :‬هل تتهم ريم ب�إ�صابتك؟ فال يرد بنعم‬ ‫�أو ال‪ ،‬وي�سكت ويعود �إلى غيبوبته التي دامت �إلى‬ ‫موته بعد �أيام قليلة‪.‬‬ ‫يرجع النائب وم�ساعده من الم�ست�شفى‪ ،‬وهما‬ ‫�أ�شد حيرة من ذي قبل‪ ،‬فكيف لذلك الجمال‬ ‫الآ�سر‪ ،‬وكيف لتلك المالمح التي تحوطها هالة‬ ‫من الطهر وال�صفاء �أن ترتكب جريمة قتل؟ هل‬ ‫كانت البنت تتظاهر �أو(تمثل) عليهم عندما‬ ‫�شهقت في �أول التحقيق ومعرفة الم�صاب!‬ ‫الق�ضية تبدو �أم��ام النائب وم�ساعده �شائكة‬ ‫ومعقدة‪ ،‬وت�صبح �أمام القارئ كالمعادلة الجبرية‬ ‫ذات المجهوالت المتعددة‪ ،‬حتى ذلك الخطيب‬ ‫الذي تقدم للبنية الح�سناء وحال ذلك الـ(قمر‬ ‫ال��دول��ة)دون��ه‪ ..‬ه��ذا ال�شاهد المهم ق��د ف�شل‬ ‫النائب في التعرف �إليه‪ ،‬رغم �أنه قد طلب �إح�ضار‬


‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫كل من ا�سمه ح�سين في كل القرى المجاورة!‬ ‫ويتخذ التحقيق منعطفا خطيرا �أي�ضا‪ ،‬بل‬ ‫ت�صبح الق�ضية ق�ضي ًة مركبة‪ ،‬وذلك عندما يرِ د‬ ‫خطابٌ �سري �إلى النائب يك�شف النقاب عن �أن‬ ‫زوجة الم�صاب قمر الدولة المتوفاة منذ �أ�شهر‪،‬‬ ‫كانت في حقيقة الأمر قد ماتت خنقا‪ ،‬ولي�س ميت ًة‬ ‫طبيعية‪� ،‬أي �أنها قتلت جنائيا!‬ ‫هنا يتثبت النائب من ه��ذه التهمة‪ ،‬ويت�أكد‬ ‫من منطوق هذا الخطاب‪ ،‬في�أمر بالتعرف على‬ ‫مقبرة تلك الزوجة المتوفاة من جارة لها حيث‬ ‫تدلهم عليها‪ ،‬ويتم ا�ستخراج جثمان المتوفاة‬ ‫من المقبرة‪ ،‬ويقوم الطبيب ال�شرعي بت�شريحها‪،‬‬ ‫فيتبين حقا �أن المتوفاة قد ماتت خنقا! هنا �أ�صبح‬ ‫�أمام النائب وم�ساعده ق�ضيتا قتل‪ ،‬كالهما �أعقد‬ ‫من الأخ��رى‪ ،‬وكالهما ق�ضية يعوزها ال�شهود‪،‬‬ ‫وتعوزها الدالئل‪� ،‬إذ يموت الم�صاب الحالي قمر‬ ‫الدولة في الم�ست�شفى مت�أثرا ب�إ�صابته‪ ،‬وتموت‬ ‫البنت ريم ال�شاهد الوحيد غرقا في �إحدى الترع‬ ‫الكبيرة‪ ،‬وذلك بعد �أن هربت من النيابة ب�صحبة‬ ‫مجذوب القرية (ال�شيخ ع�صفور) الذي طار بها‬ ‫�إلى مكان غير معلوم‪.‬‬ ‫وه�ن��ا يقع ال �ق��ارئ ه��و الآخ ��ر ف��ي ح�ي��رة من‬ ‫الق�ضية‪ ،‬ويظل ي�ضرب �أخما�سا في �أ�سدا�س‪ ،‬فمَن‬ ‫قتل مَ ن يا ترى؟ من قتل قمر الدولة الآن؟ ومن‬ ‫قتل زوجته من قبل؟ هذه الحيرة هي التي تجعل‬ ‫الرواية تبدو �أمام القارئ رواية غير مكتملة‪� ،‬أو‬ ‫ذات نهاية مفتوحة‪ ،‬فالقارئ يريد �أن ي�صل �إلى‬ ‫نهاية الخط‪ ،‬والتحقيق لم ي�صل �إل��ى نتيجة‪،‬‬ ‫فلم ي�صل �إلى التعرّف �إلى القاتل ال في الق�ضية‬ ‫الرئي�سة‪ ،‬وال في ق�ضية الزوجة التي ق�ضت خنقا‬ ‫من قبل‪ .‬والغريب �أن الحكيم لم يُثر �أي �أ�سئلة‬ ‫�أو �أي احتمال حول مَ ن يمكن �أن يكون قاتل تلكم‬ ‫الزوجة؟‬ ‫ول�ع��ل الحكيم ك��ات��ب ال��رواي��ة �آث��ر �أن تبقى‬

‫النهاية مفتوحة هكذا‪ ،‬ولعله ر�أى بحنكته الروائية‬ ‫�أن يجتهد القارئ ويعمل ذهنه في لملمة خيوط‬ ‫الق�ضية وح��لِّ مع�ضلة ال��رواي��ة‪ .‬وقديما الحظ‬ ‫النقاد �أن الحكيم كان ي�ؤثر النهايات المفتوحة‪،‬‬ ‫يقول �سيد قطب‪� :‬إن الحكيم «ير�سم لمحات‬ ‫ولم�سات للموقعة‪ ..‬ولكنه ال ير�سم مرة واحدة‬ ‫نتيجة لل�صراع‪� ...‬إنه يدع الخط غير منتهٍ‪ ،‬ويدع‬ ‫الم�شكلة قائمة‪ ،‬يدعها قائمة حلها في �ضمير‬ ‫الغيب‪ ،‬وحينما ينتهي هو من عر�ض الق�صة‪ ،‬تبد�أ‬ ‫الم�شكلة في ذهن القارئ!»(‪.)1‬‬ ‫وك�أني ب�سيّد قطب يح�س حقا الم�شكلة التي‬ ‫تثيرها ه��ذه ال��رواي��ة‪ ،‬رغ��م �أن��ه ل��م يكن يتكلم‬ ‫عنها‪ ،‬بل عن عمل �آخر للحكيم هو (بجماليون)‪،‬‬ ‫وقد ذكر �سيّد �أن العقاد كتب مرة نقدا لـ(عهد‬ ‫ال�شيطان) للحكيم‪ ،‬واق�ت��رح فيه تكملة معينة‬ ‫للعمل‪ ،‬وك��ذل��ك اق �ت��رح ال �ع �ق��اد تكملة �أخ��رى‬ ‫لـ(الأميرة الغ�ضبى) �أي�ضا(‪ ،)2‬ما يعني �أن النقاد‬ ‫ولي�س القراء فح�سب‪ ،‬قد ال حظوا �أن بع�ض �أعمال‬ ‫الحكيم ال ت�صل �إلى نهاية مقنِعة‪� ،‬أو تبدو وك�أنها‬ ‫تقف قبل النهاية‪� ،‬أي تبدو غير مكتملة‪.‬‬ ‫و�إزاء هذه الحال‪ ،‬يمكننا هنا �أن ن�ضع نهاية‬ ‫افترا�ضية للرواية‪� ،‬أقول افترا�ضية‪ ..‬لأن الرواية‬ ‫قد كتبت ون�شرت على الملأ هكذا منذ عقود من‬ ‫الزمن‪� ،‬إذ ًا فلن�شرع الآن في �صياغة نهاية تبدو‬ ‫لنا معقولة وممكنة‪ ،‬وت�ضع �أيدينا على الفاعل‬ ‫الحقيقي في الق�ضية �ضمن �أ�شخا�ص الرواية‪،‬‬ ‫وبناء على المتوفر من خيوط الق�ضية يمكننا‬ ‫�أن نقدم بين �أيدينا جملة من المعطيات‪ ،‬وحقا‬ ‫ف�إن الكاتب لم يبخل علينا بـ(المعطيات) التي‬ ‫ت�ساعد في فكّ لغز الجريمة الرئي�سة‪ ،‬خا�صة‬ ‫بعد تك�شّ ف موت زوجة الم�صاب خنقا من قبل‪.‬‬ ‫والمعروف �أن المعطيات هي الحيثيات التي يبنى‬ ‫عليها التفكير المنطقي في حل �أي ق�ضية �أو �أي‬ ‫م�س�ألة ريا�ضية كانت �أو منطقية‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫من هذا المنطلق‪ ،‬يمكن للقارئ �أن يفتر�ض الق�ضية قد و�صلت �إلى نهاية مقنعة‪ ،‬ولعلها تكون‬ ‫�أن القاتل الحقيقي لقمر الدولة هو خطيب البنت الحلقة الأخيرة المفقودة من هذا العمل العظيم‬ ‫الفتى الذي لم يعثر عليه التحقيق‪ ،‬كيف يت�أتى لنا لتوفيق الحكيم‪.‬‬ ‫ذلك االفترا�ض؟ �إليكم التف�صيل‪:‬‬ ‫وبعد‪ ،‬هل ر�أيتم �أُ�س ال�صراع الذي �أحدث كال‬ ‫من معطيات الرواية نعرف �أن خطيب البنت الجريمتين؟ طبعا �إنه ال�صراع على اال�ستحواذ‬ ‫الم�سمى(ح�سين)‪ ،‬بعد �أن وقع في �إ�سار حبها قد على ال �م��ر�أة‪ ،‬وه��ي تلك البنت الح�سناء ري��م‪،‬‬ ‫تقدم لخطبتها ليقترن بها‪ ،‬فرف�ضه زوج �أختها فالزوج قتل زوجته ليُخلي البيت منها‪ ..‬في�ستحوذ‬ ‫(قمر الدولة)‪ ،‬لماذا رف�ضه يا ترى؟ ولماذا حال على �أختها‪ ،‬تلك الدرة اليتيمة التي ال �أب وال �أم‬ ‫هذا الحمو بينهما؟ بالطبع كانت البنت جميلة وال �سند وال ظهر لها‪ ،‬و�آية ذلك رف�ضه المتكرر‬ ‫وذات مالمح �آ��س��رة‪ ،‬فال ي�ستبعد �أن الرجل‪ -‬لأي خاطب‪ ،‬ولكل الأي��دي التي تلتم�س االقتران‬ ‫�أعني قمر الدولة‪ -‬قد طمع فيها ليتخذها زوجا‪ ،‬بهذه ال�صبية‪ .‬و�أما الخاطب القاتل فدفعه الدافع‬ ‫ونظرا لأنه ال ي�ستطيع الجمع بينها وبين �أختها‬ ‫نف�سه للث�أر لحبّه ولآماله التي تحطمت على تلك‬ ‫(زوجته)‪ ،‬ف�إنه قد يكون ‪�-‬أي قمر الدولة نف�سه‪-‬‬ ‫هو الذي خنق زوجته ليخلو له الجو فيتزوج �أختها ال�صخرة‪� ،‬أعني زوج �أختها المتعنت؛ �إذ ًا تبين لنا‬ ‫ال�صغيرة‪ ،‬تلك ال�صبية الح�سناء اليتيمة التي ال �أن ب�ؤرة ال�صراع في الحدث هي المر�أة‪ ،‬وقديما‬ ‫تملك من �أمرها �شيئا‪ ،‬وال تعرف �إال �أن �أختها قال الإنجليز‪ :‬فت�ش عن المر�أة!‬ ‫قد ماتت ميتة طبيعية (موتة رب�ن��ا)‪ ،‬وال ريب‬ ‫بقيت ف��ي الجعبة مالحظة نقدية �أرى �أن‬ ‫�أن قمر الدولة هو الم�ستفيد الوحيد من موت �أختم هذا المقال بها‪ ،‬فقد الحظ الناقد محمد‬ ‫زوجته �إذا كان يميل �إل��ى �أختها ويتطلع �إليها‪ ،‬البوهي �أن ا�سم (ريم) الذي �أطلقه الحكيم على‬ ‫ولما كانت و�شائج الحب بين ال�صبية الح�سناء البنت التي ال تزال في ميعة ال�صبا‪ ،‬والتي فتنت‬ ‫والفتى الخاطب را�سخة متينة‪ ،‬وتيار العاطفة المحقق ورج��ال الإدارة ال ين�سجم م��ع �أ�سماء‬ ‫بينهما مندفعا قويا‪ ،‬ف�إنه ما كان له �أن ي�صطدم ال��ري��ف‪ ،‬والناقد محقّ في نقده ه��ذا‪ ،‬ف�أ�سماء‬ ‫بمعار�ضة زوج الأخ��ت من غير �أن يحدثا دويا‪ ،‬الن�ساء الأخ��ري��ات في ال��رواي��ة تنتمي حقا �إلى‬ ‫حيث حقد الخاطب على ه��ذا المتعنت ال��ذي عالم الريف‪ ،‬مثل نبوية وفوقية و�ستّ �أبوها‪� ،‬أما‬ ‫يريد في حقيقة الأمر �أن ي�ستحوذ على ال�صبية (ريم) فهو ا�سم مختلف بال ريب‪ ،‬ولعل الحكيم‬ ‫لنف�سه‪ ،‬ف�أ�س ّر الخاطب في نف�سه �أمرا خطيرا‪ ،‬لم اختاره ليتنا�سب مع هالة الحُ �سن والجمال التي‬ ‫يلبث �أن تك�شّ ف عن رغبة جامحة في قتل الرجل‬ ‫�أ�ضفاها على بطلته ه��ذه‪� ،‬أل��م يقل ال�شاعر في‬ ‫(قمر الدولة) و�إنهاء حياته ب�أي و�سيلة‪ ،‬وهكذا‬ ‫�شعر م�شهور‪:‬‬ ‫يبيّت الفتى النية‪ ،‬ويتر�صد للرجل وهو ي�سير ليال‬ ‫في�سدد �إليه بندقية �أ�صابته في مقتل‪.‬‬ ‫ري���� ٌم ع��ل��ى ال���ق���ا ِع ب��ي��ن ال���ب���انِ وال��ع��ل��مِ‬ ‫بهذه الحبكة �أو الحلقة الختامية تكون �أحداث‬ ‫�أح��� َّل �سفكَ دم��ي ف��ي الأ���ش��ه�� ِر الحر ِم‬ ‫ * كاتب من ال�سعودية‪.‬‬ ‫(‪� )1‬سيد قطب‪ ،‬كتب و�شخ�صيات‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‪1403 ،‬هـ‪� ،‬ص ‪124‬‬ ‫(‪)2‬المرجع ال�سابق نف�سه‪� ،‬ص ‪125‬‬

‫‪10‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫غازي الق�صيبي‬ ‫الذات وجدل الزمن‬ ‫■ د‪ .‬بهيجة م�صري �إدلبي*‬

‫ال�شاعر قارّة مجهولة ال يكتمل ك�شفها �إال عبر الإ�شارات التي يتركها والخرائط‬ ‫التي يوحي بها عبر ن�صو�صه ال�شعرية؛ ومن َثمَّ‪� ،‬إذا كانت تلك الإ�شارات الظاهرة �أو‬ ‫الباطنة‪ ،‬المدركة �أو المغيبة في غيابات الن�ص �إ�شارات غير منتهية‪� ،‬سواء با�ستقرائها‬ ‫�أو بتحرك �أ�سرارها‪ ،‬فال�شاعر ال يمكن اكت�شافه عبرها‪ ،‬ليب َق ال�شاعر ذلك المجهول‪،‬‬ ‫الذي غالبا ما يهتدي ب�ضالله في غيابات ذاته‪ ،‬التي ت�ضل هي الأخ��رى في غيابات‬ ‫الوجود والعالم‪ ،‬وال�ضالل‪ ،‬بمعنى الرحلة عبر الغواية ال�شعرية‪ ،‬التي ت�ستدرج ال�شاعر‬ ‫�إلى مظان المجهول‪ ،‬والعتمة في لحظات االنخطاف ال�شعري‪.‬‬ ‫ومن َث��مَّ‪ ،‬ت�ضعنا القراءة �أم��ام بوابتين للمجهول؛ بوابة ال�شاعر‪ ،‬وبوابة الن�ص‪.‬‬ ‫ف�إذا �أعيانا الدليل �إلى �أي منهما ا�ست�أثر بنا القلق‪ ،‬وا�ستبدّت بنا الحيرة‪ ،‬وبين القلق‬ ‫والحيرة ال بد من المغامرة للدخول عبر بوابة الن�ص بدليل ال�شاعر وعبر بوابة‬ ‫ال�شاعر بدليل الن�ص‪ ،‬ذلك لأن كل من المجهولين عالمة على الآخ��ر‪� ،‬إذا اعتبرنا‬ ‫الن�ص عالمة كلية بالمعنى ال�سيميائي‪ ،‬يمكن اختبارها قبل القيام بعملية التفكيك؛‬ ‫ف���إن ه��ذه العالمة الن�صية‪ ،‬ق��ادرة على ت�أويل الكثير من العالمات المجهولة التي‬ ‫تت�صل بال�شاعر ذاته‪.‬‬ ‫المر�آ ة وتعرية الذات‬ ‫الدكتور ال�شاعر غ��ازي الق�صيبي‪ ،‬ممن‬ ‫ي�شغلهم الزمن حد الهاج�س ويقلق وجودهم‪،‬‬ ‫وي��رب��ك �أح�لام�ه��م‪ ،‬ولعل ه��ذا م��ا دع��اه �إل��ى‬ ‫التوقف �أمام مر�آة الذات بين مرحلة و�أخرى‪،‬‬ ‫وك�أنه يحاول �أن يطمئن على وج��وده كي ال‬ ‫يفاجئه الزمن‪ ،‬في لحظة غفلة‪ ،‬من دون �أن‬

‫يكون م�ستعدا لهذه التحوّالت التي تطر�أ على‬ ‫الذات‪ ،‬وعلى الحياة‪� .‬إنه في حالة ا�ستك�شاف‬ ‫دائمة لكائنه المادي عبر تعالقه مع كائنه‬ ‫الزمني؛ يدخل في حالة من االعتراف الذاتي‬ ‫�أم��ام م��ر�آة ال��ذات‪� ،‬أو م��ر�آة الآخ��ر‪ ،‬ليك�شف‬ ‫ع��ن �أ� �س��رار ال��ذات وتحوّالتها‪ ،‬كما �سنرى‬ ‫في ا�ستقرائنا لق�صائد (حديقة الغروب)‪،‬‬ ‫وق�صيدة (خم�سون)‪ ،‬وق�صيدة (�صدى من‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪11‬‬


‫الأطالل)‪.‬‬ ‫فالق�صائد ال� �ث�ل�اث(‪ )1‬ت���أخ��ذ �شكل خطاب‬ ‫م�ت�ق��ارب ف��ي الت�شكيل ال���ش�ع��ري‪ ،‬خ�لا ق�صيدة‬ ‫«�صدى الأط�لال» التي كتبت على �شكل رباعيات‬ ‫تتنا�ص مع ق�صيدة الأطالل لإبراهيم ناجي‪� ،‬أما‬ ‫ق�صيدتا (خم�سون) و(حديقة ال �غ��روب)‪ ،‬فقد‬ ‫خط دراميٍّ متقارب في بنائه‬ ‫كانتا ت�سيران عبر ٍ‬ ‫وحواره‪ ،‬وتخطيبه للزمن عبر البوح الذاتي‪.‬‬ ‫ال �شك �أن لحظة المكا�شفة الزمنية هي لحظة‬ ‫�أ�شبه بالتوقف �أم��ام ع��راء الظل‪ ،‬ع��راء اللحظة‬ ‫التي ينتبه فيها ال�شاعر �إل��ى �سريان الزمن في‬ ‫كائنه الإن�ساني وكينونته الب�شرية؛ هذا االنتباه هو‬ ‫ال��ذي يخلق لحظة الده�شة والمواجهة‪ ،‬ومن ثَمَّ‬ ‫يولّد ال�س�ؤال بم�ستوياته المعرفية المتفاوتة‪ ،‬الذي‬ ‫�سيبني عليه ال�شاعر ن�صه ال�شعري‪.‬‬ ‫ولعل التوقف المتكرر �أمام مر�آة الذات وعبر‬ ‫مراحل مختلفة من عمر الكائن‪ ،‬ينبئ عن عمق‬ ‫القلق الوجودي الذي يتحرك في تلك الذات‪ ،‬وك�أن‬ ‫الكائن حار�س على ظالله و�أحالمه‪.‬‬ ‫وب��ا��س�ت�ق��رائ�ن��ا ل�ل�خ�ط��اب ال���ش�ع��ري ف��ي ه��ذه‬ ‫الق�صائد‪ ،‬تنه�ض ر�ؤى ال�شاعر الإب��داع�ي��ة في‬ ‫تخطيب ال��زم��ن ال��ذي ي�شتغل عليه عبر الن�ص‬ ‫وعبر الذات؛ �إذ كانت االفتتاحية المتمثلة بالأبيات‬ ‫الأول��ى من كل ق�صيدة هي العتبة التي يعبر من‬ ‫خاللها القارئ �إلى قراءة الن�ص كامال‪.‬‬ ‫ففي الن�ص الأول (خم�سون)‪ ،‬يتخذ ال�شاعر من‬ ‫الإ�شارة �أو العالمة الزمنية التي ت�شير �إلى مرحلته‬ ‫العمرية منا�صا وعنوانا للن�ص؛ ما يوجه قراءة‬ ‫الن�ص منذ ال�ب��داي��ة‪ ،‬ويك�شف طبيعة المو�ضوع‬ ‫الذي ي�سعى ال�شاعر �إلى ا�ستدراجه �شعريا‪� ،‬إال �أن‬ ‫هذا الك�شف عبر العنوان لم يكن كامال‪ ،‬ولم يكن‬ ‫م�ستغرقا كل اال�ستغراق لمعاني الن�ص؛ �أي لم يكن‬ ‫�إ�شارة مبا�شرة ت�صادر متعة التلقي‪ ،‬رغم �إحاطته‬ ‫‪12‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫بدائرة الن�ص الم�ضمونية التي تدور حول مرحلة‬ ‫الخم�سين من عمر ال�شاعر‪.‬‬ ‫ولن ينتظر القارئ طويال حتى يكت�شف �أهمية‬ ‫هذا العنوان‪ ،‬بل �سيدرك �أهميته من الكلمة الأولى‬ ‫في الق�صيدة التي يفتتح بها ال�شاعر البيت الأول‪،‬‬ ‫ليكررها مرتين في المقطع االفتتاحي‪ ،‬وع�شر‬ ‫م��رات في الن�ص كامال؛ وم��ن هنا‪ ،‬ن��درك مدى‬ ‫ال�ضغط الزمني الذي تمار�سه هذه الكلمة وهذه‬ ‫المرحلة من الزمن على ذات ال�شاعر‪ ،‬و�إنها تمثل‬ ‫لي�س مفتاحا لقراءة الن�ص فح�سب‪ ،‬بل مفتاحا‬ ‫لقراءة الذات ال�شاعرة �أي�ضا‪:‬‬

‫خم�سون‪ ..‬تدفعك ال��ر�ؤي��ا‪ ..‬فتندف ُع‬ ‫رف����ق����ا ب��ق��ل��ب��ك ك������اد ال���ق���ل���ب ي��ن��خ��ل�� ُع‬ ‫ولعل دافع هذه المواجهة هي حالة الالجدوى‬ ‫التي يك�شفها البيت الرابع من الق�صيدة‪ ،‬والذي‬ ‫يوجز النتيجة التي و�صل �إليها ال�شاعر بعد كل تلك‬ ‫المغامرات والرحالت‪ ،‬خلف الطموح والأحالم‪:‬‬

‫خم�سون‪ ..‬ما بلغ ال�ساري �ضحى غده‬ ‫وال ال���غ���ي���وم ال���ت���ي ت��خ��ف��ي��ه ت��ن��ق�����ش�� ُع‬ ‫فالق�صيدة مكا�شفة ال �ك��ائ��ن �أم� ��ام حياته‬ ‫وتجاربه كلها‪ ،‬فالتجربة ال�شعرية لدى ال�شاعر‬ ‫منفتحة على التجربة الحياتية‪ ،‬ما يجعل المواقف‬ ‫متداخلة عبر التجربتين‪ ،‬ذلك لأن ال�شعر ما هو �إال‬ ‫يتق�صى �أ�سرار الحياة‪.‬‬ ‫ت�أويل لوجود الكائن‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ليختم ال�شاعر االفتتاحية �أو اال�ستهالل ال�شعري‬ ‫ببيتين �شكال دعوة للإقرار ب�أثر الزمن‪ ،‬وبالتحول‬ ‫الذاتي‪ ،‬وبالتالي دعوة للرجوع �ش�أن الذين رجعوا‪،‬‬ ‫ودعوة للراحة بعد كل هذا التعب الذي نهب الذات‬ ‫من ذاتها‪.‬‬ ‫ليكون ال�س�ؤال هو النافذة التي يطل من خاللها‬ ‫ال�شاعر على ذاته وفاتحة لالعتراف‪:‬‬

‫�أم���ا ت��ع��ب��ت‪..‬؟! ف����إن ال��ق��وم ق��د تعبوا‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫�أال رج��ع��ت‪..‬؟! ف����إن ال��ق��وم ق��د رجعوا‬ ‫ه ّال ا�سترحت؟! ف�أقران ال�صبا هد�أوا‬ ‫ه ّال غفوت؟! ف�أن�ضاء ال�سُ رى هجعوا‬ ‫�أما افتتاحية ق�صيدة (�صدى الأط�لال)‪ ،‬فقد‬ ‫كانت مختلفة عن افتتاحية ق�صيدة(خم�سون)‬ ‫�سواء ب�ضمير الخطاب �أو بطبيعة الطرح الذي‬ ‫يقدمه ال�شاعر عبرها‪ ،‬فالخطاب فيها عبر �ضمير‬ ‫ال�غ��ائ��ب‪ ،‬على غير م��ا ك��ان عليه ف��ي الق�صيدة‬ ‫ال�سابقة وه��و �ضمير المخاطب‪� ،‬أي �أن ال��ذات‬ ‫حا�ضرة في الغياب‪ ،‬تقف على حافة ال�ستين‪ ،‬بينما‬ ‫ما يزال �صدى الخم�سين حا�ضرا في غيابها‪:‬‬

‫ك�������ت�������م ال�����������������ش��������وق ول�������������و ب�������������اح ب����ه‬ ‫ق�����ه�����ق�����ه ال�����������ش�����ي�����ب ع�����ل�����ى م�����ف�����رق����� ِه‬ ‫������ش�����ب�����ح ال�����������س�����ت�����ي�����ن ف���������ي خ������اط������ره‬ ‫و������ص�����دى ال���خ���م�������س���ي���ن ف�����ي م��ن��ط��ق�� ِه‬ ‫وفي هذه «اللحظة يكون فيها الوعي بفاعلية‬ ‫الزمن في �أق�صى درج��ات توهّ جه‪ ،‬عند ال��ذات‬ ‫المنك�سرة �أم��ام المر�آة وهي في حالة ا�ستجداء‬

‫يائ�سة‪ ،‬وبهذه ال�صورة الر�ؤيوية لطرفي الحالة‬ ‫(ال��ذات و ال�م��ر�آة) في مطلع الق�صيدة تتج�سد‬ ‫العالقات الجدالية بين �صدق المر�آة مع نف�سها‪،‬‬ ‫وم��ع غيرها‪ ،‬ومخادعة الآخ��ر لها ولنف�سه»(‪،)2‬‬ ‫وم��ن هنا‪ ،‬ك��ان اختالف الموقف عن الق�صيدة‬ ‫الح�س من االنك�سار‬ ‫ال�سابقة التي لم يكن فيها هذا ّ‬ ‫واال��س�ت�ج��داء م��ن ال��زم��ن‪ ،‬وذل��ك لأن ال ��ذات في‬ ‫هذه المرحلة �أ�صبحت مدركة لقيمة الزمن الذي‬ ‫ه��رب منها‪ ،‬فهي تحاول �أن ت�ستجديه كما كان‬ ‫يفعله «كزنتزاكي» في ا�ستجداء بع�ض الدقائق من‬ ‫الزمن‪.‬‬ ‫وهذه الالجدوى من الزمن‪ ،‬هي ما �سنراها في‬ ‫ق�صيدة (حديقة الغروب)‪ ،‬والتي ت�شي منذ العنوان‬ ‫ما �ست�ؤول �إليه الق�صيدة؛ فالذات ال�شاعرة �صارت‬ ‫�أكثر ا�ست�سالما‪ ،‬و�أكثر تقبّال لأثر الزمن‪� ،‬سواء على‬ ‫الحالة النف�سية �أو الج�سدية؛ فالق�صيدة ت�ستك�شف‬ ‫ال��زم��ن وت �ح��اور ال ��ذات على م�شارف الخام�سة‬ ‫وال�ستين‪ ،‬ولهذه المرحلة �أ�سرارها‪ ،‬ومواقفها �أي�ضا‬ ‫�سواء الفكرية والفل�سفية �أو الإن�سانية‪ ،‬والتي تبرز‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪13‬‬


‫طبيعة عالقة الكائن مع الآخر‪ ،‬وطبيعة مواقفه من ل��ل��ذات �أم � ��ام ان��دف��اع��ات �ه��ا ف��ي رح �ل��ة ال�ح�ي��اة‬ ‫الحياة وق�ضاياها المختلفة‪:‬‬ ‫وم�غ��ام��رات�ه��ا‪ ،‬حيث ي��أت��ي االع �ت��راف ع��ن طريق‬ ‫الأفعال وردود الأفعال‪ ،‬من الظواهر والعالقات‪،‬‬ ‫خ��م ٌ�����س و���س�� ُت��ونَ‪ ..‬ف��ي �أج��ف��ان �إع�����ص��ا ِر‬ ‫�أم ��ا ��س�ئ�م��تَ ارت �ح ��ا ًال �أ ّي���ه���ا ال�����س��اري؟ والأ�شياء والأفكار‪ ،‬والآخرين‪ ،‬كل ذلك عبر �صوت‬ ‫ال��ذات ال��ذي يقدم التحوّالت على م�ستوى الذات‬ ‫�أم����ا م��ل��ل��تَ م��ن الأ����س���ف���ارِ‪ ..‬م��ا ه���د�أت‬ ‫والعالم‪ ،‬ب�صوت الذات‪� ،‬أمام المر�آة االفترا�ضية‪:‬‬

‫�إال و�أل����ق����ت����ك ف����ي وع�����ث�����ا ِء �أ����س���ف���ار؟‬ ‫خم�سون‪� ..‬صبت لك الأق���داح مترعة‬ ‫فال�شاعر في هذه االفتتاحية يتخذ من ال�س�ؤال‬ ‫ون����ادم����ت����ك‪ ..‬ف�����أن����ت ال������ري وال�����ش��ب�� ُع‬ ‫الإنكاري �سبيال لمكا�شفة الذات‪ ،‬فقد �أ�صبح �أكثر‬ ‫وعيا لحركة الزمن‪ ،‬و�أكثر ا�ستجابة للتغيرات التي �أعطتك م��ا ام��ت�ل�أت عين الطموح به‬ ‫وم������ا ت���م��� ّن���اه ف����ي �أوه������ام������ه ال��ج�����ش�� ُع‬ ‫طر�أت على الذات‪:‬‬

‫لينتقل بنا �إلى تحوّالت الذات عبر مر�آة الآخر‬ ‫بلى! اكتفيتُ ‪ ..‬و�أ�ضناني ال�سرى! و�شكا‬ ‫ق��ل��ب��ي ال���ع���ن���اءَ‪ !..‬ول��ك��ن ت��ل��ك �أق����داري ومر�آة العالم‪ ،‬وك�أن المكا�شفة هنا تك�شف عن عمق‬ ‫العالقة الزمنية مع الكائن عبر هذه التحوّالت‪،‬‬ ‫االعترافات والمكا�شفة‬ ‫وعبر هذه العالقات التي تظهر �آثارها في ذات‬ ‫ب��إدراك ال��ذات لحركة الزمن وانتباهها لأثره الكائن‪ ،‬فتتحوّل �إلى هذا البوح مع الظل في المر�آة‪:‬‬ ‫البيولوجي وال�سيكولوجي عليها‪ ،‬ت�ستوي في مقام خم�سون‪ ..‬في و�صلها �ص ُّد �إذا �سمحت‬ ‫ال�س�ؤال والحيرة والقلق‪ ،‬لأنها ال ت�ستطيع �أن توقف‬ ‫وف����ي ال�������ص���دود و����ص���ال ح��ي��ن ت��م��ت��ن�� ُع‬ ‫هذه الحركة و�سيرورتها داخل الذات‪ ،‬وخارجها‪،‬‬ ‫ومعها‪ ،‬وال ت�ستطيع �أن تتخل�ص من �آثارها‪ ،‬وال من و�أن�����������ت غ�������� ٌّر ب����������ريء ف������ي ح���ب���ائ���ل���ه���ا‬ ‫م��ا زل���ت ب��ال�����ص��د �أو ب��ال��و���ص��ل تنخد ُع‬ ‫ظاللها‪.‬‬ ‫وتلتفت الذات �إلى جانب �آخر‪ ،‬وهو الغربة عن‬ ‫وعبر هذه الحالة من العجز‪ ،‬تجد الذات نف�سها‬ ‫الآخ��ر رغم االت�صال معه‪ ،‬فهو ال يعرف �إن كان‬ ‫�أمام مر�آة االعتراف والمكا�شفة‪ ،‬لت�صل �إلى حالة‬ ‫�سيذكره ه�ؤالء الذين حمل جراحهم �أم ال‪ ،‬بعدما‬ ‫الإقرار بالعجز من �أي فعل �أو تحرك عك�س اتجاه‬ ‫�ألقى عليه الزمن عباءة العتم لي�شرف على النهاية‬ ‫الزمن‪� ،‬أو الخال�ص من �آثاره‪ ،‬التي تتك�شف وتت�ضح‬ ‫من �شرفة الوهم‪:‬‬ ‫�أكثر ف�أكثر كلما تقدم العمر بالكائن‪.‬‬ ‫وف��ي الق�صائد ال�ث�لاث��ة ال�ت��ي ت�شتغل عليها خم�سون‪ ..‬تحمل جرح النا�س يا رجال‬ ‫ج���راح���ه م���ن ع�����ذاب ال���ك���ون ت��رت�����ض�� ُع‬ ‫الدرا�سة‪ ،‬ينتبه ال�شاعر �إلى هذا التغيير‪ ،‬كما ينتبه‬ ‫�إلى العجز في مقاومة الزمن‪ ،‬مدركا �أن االنتقال �أعطيتهم من ك��روم ال��روح ما عجزت‬ ‫عنه الكرام‪ ..‬فهل �ساغوا الذي كرعوا‬ ‫من مرحلة �إلى مرحلة‪� ،‬إنما هو تحوّل ال يملك �إال‬ ‫االعتراف به‪.‬‬ ‫وهنا‪ ،‬يك�شف عن حالة ال�صراع الم�ستمرة التي‬ ‫ف �ف��ي ق���ص�ي��دة (خ �م �� �س��ون) ي �ب��د�أ ال���ش��اع��ر لم تكن لتهد�أ في ذات ال�شاعر وهو يواجه الحياة‬ ‫بالمكا�شفة الم�شوبة باللوم والعتب‪ ،‬والمحا�سبة والعالم والوجود‪ ،‬فالخم�سون �أورثته ال�صراع بين‬ ‫‪14‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫خم�سون م��ا م�� َّر ي���و ٌم دون ج��رح هوى‬ ‫�أل�����م ي���م���زق ح�����ش��اك ال���وج���د وال���ول��� ُع‬ ‫خ��م�����س��ون‪ ..‬م���ا م���� َّر ي����وم دون �أغ��ن��ي��ة‬ ‫�أم ��ا ��س�ئ�م��ت ال �ق��واف��ي وه ��ي ت���ص�ط��ر ُع‬ ‫***‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الذات والحلم بين الذات والطموح‪ ،‬ليكون الحب‬ ‫�أحد هذه ال�صراعات التي تركت �أثرا وا�ضحا في‬ ‫نف�س ال�شاعر‪ ،‬لأنها �أكثر التجارب ت�أثرا بحركة‬ ‫الزمن‪:‬‬

‫وبالتالي يت�أجج ال�صراع بين ال��ذات والزمن‪،‬‬ ‫الذي ي�ضعها �أمام حقائقه و�أمام واقعها‪ ،‬لتدخل‬ ‫الذات بعدها في حالة تك�سر حدة هذا ال�صراع‪،‬‬ ‫م��ن خ�لال انتقال ال�ح��وار م��ن الطرفين(الذات‬ ‫المر�آة) �إلى (الذات المر�أة)‪ ،‬فيدخل الكائن في‬ ‫هذه اللحظة حالة من االنفالت من قيد الزمن‪،‬‬ ‫وبالتالي يتخل�ص من كل �آث��اره التي تركها عليه‪،‬‬ ‫وك ��أن فعل ال �م��ر�أة التي الح��ت ل��ه ك��ان �أق��وى من‬ ‫فعل الزمن‪� ..‬إذ غيرت الحقائق وطبيعة الأ�شياء‬ ‫بانبثاقها ال�سحري �أمام ال�شاعر‪:‬‬

‫ل����ك����ل �����ش����ق����راء �أو �����س����م����راء م��ت�����س��ع‬ ‫وت�������ل�������وح�������ي�������ن‪ ..‬ف�������أن�������������س������ى �أن������ن������ي‬ ‫ف���ي���ا ل��ق��ل��ب��ك م����ا ي����ح����وي وم������ا ي�����س�� ُع‬ ‫خ������ب������ر �أ��������ص�������ب�������ح ف���������ي ذم������������ة ك������ان‬ ‫لذلك‪ ،‬و�ضمن هذا التجاذب والجدل والتناق�ض وي�������ع�������ود ال�����ع�����م�����ر ط�����ف��ل��ا ج����ام����ح����ا‬ ‫وال�ت�ح�وّالت الذاتية والمو�ضوعية‪ ،‬واالنفتاحات‬ ‫ل����ي���������س ي����ل����وي����ه ع������ن ال����ل����ه����و ع���ن���ان‬

‫المختلفة على ال�ع��ال��م‪ .‬ك��ل ذل��ك ك��ان ي�ستوجب‬ ‫هذا االعتراف وهذا التوقّف والت�أمل من �أجل �أن‬ ‫ي�ستدرج ال�شاعر ذاته عبر مر�آة اعترافاتها‪ ،‬لتقف‬ ‫بعد ذلك على حافة الوعي المختلف‪ ،‬الذي نه�ض‬ ‫من طبيعة التجربة وطبيعة التحوّل الزمني في‬ ‫الذات‪.‬‬ ‫�أم��ا الخطاب االعترافي في ق�صيدة «�صدى‬ ‫من الأط�ل�ال»‪ ،‬في�أتي من�سجما مع الإيقاع العام‬ ‫للق�صيدة‪� ،‬سواء على م�ستوى فكرة الزمن‪� ،‬أو على‬ ‫م�ستوى بُنية الخطاب ال�شعري‪ ،‬فالق�صيدة مبنية‬ ‫على خلفية درامية بين الذات والمر�آة بعد تحوّل‬ ‫�ضمير ال��راوي من �ضمير الغائب في االفتتاحية‬ ‫�إلى �ضمير المتكلم الأكثر الت�صاقا بالذات‪ ،‬ليكون‬ ‫االعتراف محاولة للإجابة على �س�ؤال اال�ستجداء‬ ‫ال��ذي جاء في نهاية المفتتح‪ ،‬ب�س�ؤاله للمر�آة �أن‬ ‫تمنحه بع�ض ما يغرب عنه‪ ،‬وهذا ما يحدث حالة‬ ‫من التوتر بين الذات والمر�آة‪ ،‬وبين الذات وذاتها‪:‬‬

‫�إال �أن ه��ذا االنبثاق ما يلبث �أن ينطفئ حال‬ ‫غياب المر�أة الذي يربك الذات والعالم والوجود‬ ‫م��ن ح��ول ال� ��ذات‪ ،‬فغيابها ال ي�ق��ل م �ف��اج ��أة من‬ ‫ح�ضورها‪ ،‬وبين الح�ضور والغياب تنك�سر الذات‬ ‫مرة �أخ��رى‪ ،‬عندما تلتفت �إل��ى الحقيقة التي لم‬ ‫ت�ستطع االلتفاف عليها حتى عبر الحلم �أو التوهّ م‪:‬‬

‫وت������غ������ي������ب������ي������ن‪ ..‬ف���������ت���������دوي �����س����اع����ة‬ ‫ج���ل���ج���ل���ت دق�����ات�����ه�����ا‪ ..‬م������لء ال���م���ك���ان‬ ‫وبالتالي تقف الذات ال�شاعرة بعد �صدمة غياب‬ ‫المر�أة الحلم �أمام الحقيقة‪ ،‬بعدما انجلى الوهم‪،‬‬ ‫وك��أن ال�شاعر ما يزال يحاور ظل المر�أة الغائبة‬ ‫التي ينقل لنا جانبا من حوارها معه‪ ،‬حيث عراء‬ ‫الذات �أمام حقيقة الفعل الزمني‪:‬‬

‫ق����ل����ت �أه����������������واكَ ‪ ..‬ف�����م�����اذا ت��ع�����ش��ق��ي��ن‬ ‫�أ����س���ن���يَّ ال����ي�����أ�����س‪� ..‬أم ب����أ����س ال�����س��ن��ي��ن‬ ‫�أم ه�����م�����وم�����ا ل��������م ت����������زل ت���ت���ع���ب���ن���ي‬ ‫ت���ه���م�������س ال������م������ر�آة ال �أع�����ط�����ي ����س���وى‬ ‫م�������ا �أراه‪ ..‬ب����ت����ف����ا�����ص����ي����ل دق���ي���ق���ه‬ ‫ف������ك�������أن������ي م���������س����ت���������ش����ار ال���ب���ائ�������س���ي���ن‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪15‬‬


‫�أي����ا رف��ي��ق�� َة درب�������ي‪ !..‬ل���و ل����ديّ ���س��وى‬ ‫�أم م���������ع���������ان���������اة �إذا ودع������ت������ه������ا‬ ‫رج � � �ع� � ��ت م� � �ث � ��ل ل � � �ئ� � ��ام ال� ��دائ � �ن � �ي� ��ن‬ ‫عمري‪ ..‬لقلتُ ‪ :‬فدى عينيكِ �أعماري‬ ‫�أم دم��������وع��������ا رق�����������ص�����ت �����ض����اح����ك����ة‬ ‫�أح���ب���ب���ت���ن���ي‪ ..‬و����ش���ب���اب���ي ف����ي ف���ت��� ّوت��� ِه‬ ‫ف������ي ع����ي����ون����ي ل���ت���غ�������ش ال����ن����اظ����ري����ن‬ ‫وم�����ا ت����غ����ي����رت‪ ..‬والأوج�����������اع ���س��م��اري‬ ‫وب�إق�صاء ال �م��ر�أة ع��ن الحركة ال��درام�ي��ة في‬ ‫ال �ح��وار‪ ،‬واالك�ت�ف��اء بنقل جملتها ال�ت��ي تخاطب �إنْ ���س��اءل��وكِ ف��ق��ول��ي‪ :‬ك���ان يع�شقني‬ ‫بها ال�شاعر(قلتِ �أه��واكَ )‪ ،‬وك�أن الذات في هذه‬ ‫ب���ك��� ِّل م���ا ف���ي��� ِه م���ن عُ����ن����فٍ ‪ ..‬و�إ�����ص����رار‬ ‫المرحلة توقن بالنهاية التي تلوّح لها من خالل‬ ‫انك�سار الإح�سا�س بالعالم المحيط‪ ،‬وانك�سار وك������ان ي��������أوي �إل������ى ق���ل���ب���ي‪ ..‬وي�����س��ك��ن��ه‬ ‫وك�������ان ي���ح���م���ل ف����ي �أ�����ض��ل�اع���� ِه داري‬ ‫الإح���س��ا���س ت�ج��اه ال �م��ر�أة وال �م��ر�آة بعدما خابت‬ ‫محاوالت االلتفاف على الحقيقة‪:‬‬ ‫ال‬ ‫و�إنْ م�ضيتُ ‪ ..‬فقولي‪ :‬لم يكنْ بَطَ ً‬ ‫***‬

‫ل����ك����ن����ه ل�������م ي�����ق����� ّب�����ل ج�����ب�����ه����� َة ال������ع������ا ِر‬

‫ق����ل����ت‪� ..‬أه�����������واكَ ف���ي���ا ط������ول ع���ذاب���ي‬ ‫م�����ا ال���������ذي ي���ج���م���ع ����ش���ي���ب���ا ب�������ش���ب���ابِ‬ ‫ليتابع ال�شاعر هذا التنقل من مر�آة �إلى مر�آة‪،‬‬ ‫وك�أنه يبحث عن حالة من الم�صالحة بينه وبين‬ ‫م�����ا ال��������ذي ي���ج���م���ع ل�����ي��ل��ا‪ ..‬ب�����ض��ح��ى‬ ‫م ��ا ال � ��ذي ي �ج �م��ع ع ��ر� �س ��ا‪ ..‬ب��اك �ت �ئ��ابِ الآخ��ر قبل �أن يغادر ال��وج��ود‪ ،‬وقبل �أن ي�ست�سلم‬

‫للنهاية‪ ،‬وقد يكون الأمر حالة من حاالت التخل�ص‬ ‫من ق�سوة الفراق والنهاية ليتوقف في المر�آة الثانية‬ ‫�أمام الأنثى التي ي�سميها(بنت فجر في تنف�سه)‪،‬‬ ‫تلك الأنثى التي ت�ستعيد ب�صورتها تلك المر�أة التي‬ ‫الحت له في ق�صيدة(�صدى من الأط�لال) التي‬ ‫�سبق و�أن �أ�شرنا �إليها‪ ،‬ليخاطبها بالخطاب ذاته‬ ‫الذي خاطب به تلك المر�أة‪ ،‬حيث يك�شف عن حدة‬ ‫التناق�ض بينه وبينها‪:‬‬

‫�أم ��ا ف��ي ق�صيدة (ح��دي�ق��ة ال��غ��روب)‪ ،‬تتجه‬ ‫الق�صيدة �إلى الإح�سا�س بالنهاية المحتومة‪ ،‬ب�شكل‬ ‫�أكثر حدة عما كان عليه الإح�سا�س في الق�صيدتين‬ ‫ال�سابقتين‪ ،‬ففي «خم�سون» كان اللوم على �أ�شده‬ ‫للذات‪ ،‬وهي تواجه �آث��ار الزمن وفي (�صدى من‬ ‫الأطالل)‪ ،‬كانت الخيبة على �أ�شدها‪ ،‬وهو يواجه‬ ‫الحقيقة‪ ،‬ويف�شل في مراوغة المر�أة والمر�آة في‬ ‫التخلّ�ص من �آثار الزمن‪� ،‬أو من قيده الذي يقوده‬ ‫و�أن����������تِ !‪ .‬ي����ا ب���ن���ت ف���ج��� ٍر ف����ي ت��ن�� ّف�����س��ه‬ ‫�إلى النهاية‪ ..‬فيقر بذلك‪.‬‬

‫م��ا ف��ي الأن���وث���ة‪ ..‬م��ن ���س��ح�� ٍر و�أ����س���را ِر‬ ‫م�����اذا ت���ري���دي���ن م���ن���ي؟! �إ َّن����ن����ي ���شَ �� َب�� ٌح‬ ‫ي���ه���ي��� ُم م����ا ب���ي���ن �أغ�����ل�����الٍ ‪ ..‬و�أ������س�����وا ِر‬ ‫هذي حديقة عمري في الغروب‪ ..‬كما‬ ‫ر�أي�������تِ ‪ ...‬م��رع��ى خ��ري��فٍ ج��ائ�� ٍع ���ض��ا ِر‬

‫�أم��ا في حديقة الغروب‪ ،‬فنجد ال�شاعر الذي‬ ‫�أق��ر ف��ي �آخ��ر بيت م��ن المقطع االفتتاحي ب�أنه‬ ‫متعب و�أ�ضناه ال�سرى‪ ،‬وقلبه ي�شكو من العناء و�أنه‬ ‫م�ست�سلم لأقداره‪ ،‬يبد�أ المقطع الأول من اعترافاته‬ ‫وبوحه الذاتي بوقوف �أم��ام م��ر�آة الآخ��ر (رفيقة‬ ‫الدرب)‪ ،‬لي�سر لها ويك�شف عن طبيعة العالقة مع‬ ‫***‬ ‫هذا الآخر‪ ،‬حيث يطفح الوجد من ذاته التي �أيقنت‬ ‫ال تتبعيني! دع��ي��ن��ي!‪ .‬واق��رئ��ي كتبي‬ ‫بالنهاية وحتمية الفراق‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫لي�صل �إلى الو�صية الأخيرة �أمام مر�آة البالد؛‬ ‫وك���أنَّ ال�شاعر ينتقل بمراياه بالتدرج ب��دء ًا من‬ ‫خ�صو�صية ال��ذات ال�شاعرة من �أق��رب ما يكون رب���������ا ُه ف�����ي ن�������ص���ف ق������رن م�����ا ي������رد ب��ه‬ ‫�إليها‪ ،‬وهي رفيقة الدرب‪ ،‬ومن ثم الأنثى التي كان‬ ‫ر���ش��د ال��غ��وي‪ ..‬وم��ا ي��ه��دي‪ ..‬وم��ا ي��ز ُع‬ ‫يحبها‪ ،‬لي�صل �إلى البالد التي يعي�ش فيها ويع�شقها‬ ‫هي الأخرى؛ وفي انتقاله هذا لم ينتقل فقط من �أت��خ��م��ت م��ن زه����رة ال��دن��ي��ا وزخ��رف��ه��ا‬ ‫الفرد �إلى الكل بل من الإن�سان �إلى المكان‪:‬‬ ‫ول��م يعد ف��ي ���س��وى �أخ����راك ل��ي طم ُع‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ف���ب���ي���ن �أوراقِ��������ه��������ا ت����ل����ق����اكِ �أخ�����ب�����اري‬ ‫ال‬ ‫و�إنْ م�ضيتُ ‪ ..‬فقولي‪ :‬لم يكن بط ً‬ ‫وك����������ان ي������م������ز ُج �أط�����������������واراً ب��������أط�������وا ِر‬

‫المواجهة الأخ�ي��رة مع ال��ذات واالع �ت��راف و�إق��رار‬ ‫بما فعلته‪ ،‬ومرحلة الخام�سة وال�ستين‪ ،‬ففي الأولى‬ ‫ن�شهد الخوف من النهاية المفاجئة‪ ،‬لذلك كان طمع‬ ‫ال�شاعر بالخال�ص من الزمن عبر الو�صول �إلى ما‬ ‫وراء الزمن‪:‬‬

‫وي�����ا ب���ل���اداً ن������ذرت ال���ع���م���ر‪َ ..‬زه����ر َت����ه‬ ‫�أما في الثانية فقد كان فيها الإح�سا�س بدنو‬ ‫ل��ع�� ّزه��ا!‪ُ ..‬دم����تِ !‪� ..‬إن���ي ح��ان �إب��ح��اري‬ ‫النهاية‪� ،‬إح�سا�سا مختلفا عن مرحلة الخم�سين‪،‬‬ ‫ت����رك����تُ ب���ي���ن رم�������ال ال���ب���ي���د �أغ��ن��ي��ت��ي‬ ‫لذلك كانت الق�صيدة و�صايا ال�شاعر للعالم من‬ ‫وع�ن��د �شاطئكِ الم�سحورِ‪� ..‬أ�سماري‬ ‫بعده‪ ،‬بعد �أن يم�ضي‪ ،‬على خلفية من بكائية الذات‬ ‫�إن ���س��اءل��وكِ ف��ق��ول��ي‪ :‬ل��م �أب���� ْع قلمي‬ ‫على ذاتها‪:‬‬

‫ول����م �أد ّن���������س ب�����س��وق ال���زي���ف �أف���ك���اري‬ ‫ي���ا ع���ال��� َم ال��غ��ي��بِ ! ذن��ب��ي �أن�����تَ ت��ع��ر ُف��ه‬ ‫ال‬ ‫و�إن م�ضيتُ ‪ ..‬فقولي‪ :‬لم يكن بَطَ ً‬ ‫و�أن�������ت ت���ع���ل��� ُم �إع���ل��ان������ي‪ ..‬و�إ������س�����راري‬ ‫وك���ان ط��ف��ل��ي‪ ..‬وم��ح��ب��وب��ي‪ ..‬وقيثاري‬ ‫�أحببتُ لقياكَ ‪ ..‬ح�سن الظن ي�شفع لي‬ ‫ابتهال الذات والخال�ص الأخير‬ ‫�أي����ر ُت����جَ ����ى ال���ع���ف���و �إ ّال ع���ن���د غ����فَّ����ارِ؟‬ ‫ف��ي ه��ذا الموقف ال��ذي يمثل الموقف الأخير‬

‫لل�شاعر �أمام المرايا‪ ،‬ليكون هذا االعتراف الأخير‬ ‫�أمام الذات الإلهية بابتهال ونجوى؛ يحاول ال�شاعر‬ ‫�أن يتخلّ�ص من �آثامه �أو �أن يطلب العفو والغفران‬ ‫عما ارتكبه عبر م�سيرة الحياة‪ ،‬بكلمات يتقرب فيها‬ ‫من خالقه‪ ،‬ع�سى يكون فيها القبول والغفران‪ ،‬وقد‬ ‫وجدنا ه��ذا الموقف يتكرر في مرحلتين‪ :‬مرحلة‬ ‫الخم�سين التي كانت الق�صيدة ت�سير في حالة لوم‬ ‫وتقريع للذات‪ ،‬حتى و�صلت الق�صيدة �إل��ى لحظة‬

‫وفي النهاية‪ ،‬ال بد من القول �إن موقف ال�شاعر‬ ‫م��ن ال��زم��ن ك��ان محموال على موقفين‪ ..‬موقف‬ ‫ذاتي من الذات �إلى الذات‪ ،‬وموقف من الذات �إلى‬ ‫العالم‪� ،‬سواء كان متوحّ دا مع العالم �أو منف�صال‬ ‫عنه‪ ،‬متناق�ضا معه‪� ،‬أم متفقا‪ ،‬مت�صارعا‪� ،‬أم‬ ‫مت�صالحا؛ و�سواء كان الخطاب في لبو�س رومان�سي‬ ‫�أو في لبو�س درامي جدليّ فل�سفيّ ‪.‬‬

‫* كاتبة من �سوريا مقيمة في الأمارات‪.‬‬ ‫(‪ )1‬الق�صائد من�شورة في كتاب وقائع مهرجان ربيع ال�شعر‪ ،‬م �س‪� ،‬ص ‪ 167 119 118‬حتى ‪.172‬‬ ‫(‪ )2‬ورقة الدكتور عبداهلل المهمنا‪ ،‬م �س �ص ‪.120‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪17‬‬


‫الكتابة و�أ�سئلة الخطاب‬ ‫في تجربة �سعدية مفرح ال�شعرية‬ ‫■ �إبراهيم احلجري*‬

‫تنفتح تجربة ال�شاعرة الكويتية �سعدية مفرح على �صنوف الكتابة كلها‪ ،‬من �أجل‬ ‫�أن تخلّ�ص الق�صيدة من االنغالق الذي تفر�ضه دائرة اللغة ال�شعرية �أو حلزونيتها؛‬ ‫لذلك ي�صعب تلقّي ق�صائدها‪ ،‬وفق المرجعيات الثابتة‪� .‬إنها‪ ،‬بانفتاحها على �أ�شكال‬ ‫التعبير الكتابي‪ ،‬ترهّن �س�ؤالي الخطاب ال�شعري و�أفق داللته‪ ،‬بما يجعل من التجربة‬ ‫ال�شعرية �أفقا ممتدا ال تحجبه الحدود الجن�سية و�أنماط الكتابة‪ ،‬و�سندا توا�صليا‬ ‫مفتوحا على عوالم الإن�سان الم�شبعة‪.‬‬ ‫�إن الكتابة ال�شعرية‪ ،‬بقدر ما تقترب من اليومي‪ ،‬وتن�شغل باال�ستعارات التي نحيا‬ ‫بها‪ ،‬ت�سارع كذلك‪ ،‬وبوعي مفرط الح�سا�سية‪� ،‬إلى البحث عن �أفق للتميز واالختالف‪،‬‬ ‫وب��ق��در م��ا تجعل الب�ساطة التي تميز الق�صيدة‪ .‬ثم ُة مَ��ن يعتقد �أن ال�شعر افتقد‬ ‫البالغة التي كانت تن�أى به عن لغة الخطاب‪ ،‬وال�سحر ال��ذي كان يجذب �إليه حتى‬ ‫جمهور العامة؛ ف�إن ال�شاعرة انتهجت لها‪ ،‬في غفلة المتلقّي الك�سول‪ ،‬م�سالك �أخرى‬ ‫متجددة ل�صناعة بالغة مختلفة للق�صيدة‪ ،‬تت�أ�س�س على مقوالت مغايرة لما كانت‬ ‫عليه معمارية الق�صيدة‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫وت�أ�سي�س ًا على هذا الت�صور‪� ،‬سوف �أ�سائل‬ ‫الكتابة ال�شعرية لدى ال�شاعرة �سعدية مفرّح في‬ ‫ارتهان �إلى �أ�ساليب ال�صوغ من جهة‪ ،‬وارتباطا‬ ‫بما تقترحه التجربة ال�شعرية‪ ،‬في �ضوء‪� ،‬شكل‬ ‫الخطاب ال��ذي اخ�ت��ارت��ه ال�شاعرة ع��ن وع��ي‪،‬‬ ‫من �أبعاد داللية‪ ،‬وما توحي به البنيات الل�سنية‬ ‫والإي �ق��اع �ي��ة‪ ،‬ف��ي ت�ن��اغ��م م��ع ت �ح��والت الحالة‬ ‫ال�شعورية وال�سياق الناظم لن�سق الن�صو�ص من‬ ‫جهة �أخ��رى‪ ..‬ك ّل ذلك‪ ،‬باعتماد �أدوات تتيحها‬ ‫الأدب�ي��ات الجديدة في تحليل الن�سق الثقافي‬ ‫ب�شكل عام‪ ،‬والذي ال ت�شكل الق�صيدة ال�شعرية‬ ‫�سوى واحد من دعاماته التي ال ح�صر لها‪.‬‬ ‫‪ .1‬تخطيب الق�صيدة‬ ‫تعتمد �سعدية من خالل ديوانيها ال�شعريين‪:‬‬ ‫«تغيب‪ ..‬ف�أ�سرج خيل ظنوني» و«قبر بنافذة‬ ‫واح�����دة»(‪� ،)1‬إل��ى التفكير ال��واع��ي ف��ي تقنيات‬ ‫الكتابة‪ ،‬بحثا ع��ن جغرافيات �أ�سلوبية ت�ؤثث‬ ‫ف�ضاء ال�ن����ص‪ ،‬وت��دع��م �آف ��اق ت�ج��دد دالالت ��ه‪،‬‬ ‫ان�سجاما مع طبيعة وعيها بالكتابة‪ ،‬وب�شعرية‬ ‫اللغة ومتحوالت الع�صر التي ال يمكن �أن يتخلف‬ ‫الإبداع في غيابها‪.‬‬ ‫�إن داللة الن�ص ال�شعري ال يمكن في تجربة‬ ‫مفرح‪� ،‬أن تت�شيد‪ ،‬في غياب النظر �إل��ى ج�سد‬ ‫الن�ص �أو هيكله �أو ال�شكل المعماري الذي �صمم‬ ‫وفقه؛ بمعنى �أن ال�سند الب�صري في الق�صيدة‬ ‫دالٌّ‪ ،‬وم�سهم في ت�شكيل المعنى ال��ذي ترومه‬ ‫الذات من وراء بناء هذا الخطاب‪ ،‬لكن هذا لن‬ ‫يت�أتّ لمتلقٍ يظل متم�سكا بمرجعياته التقليدية؛‬ ‫فالوعي الب�صري والت�شكيلي لدى المتلقي‪ ،‬يعد‬ ‫ركنا �أ�سا�سا من �أجل ح�صول التفاعل الإيجابي‬

‫بين قطبي التوا�صل ال�شعري [الباث (ال�شاعر)‪،‬‬ ‫والمتلقي (قارئ الق�صيدة)]‪.‬‬ ‫ت�سلك ال�شاعرة �سعدية مفرح في الكتابة‪،‬‬ ‫من خالل هذين الديوانين‪ ،‬م�سلك الت�شكيلي في‬ ‫التعامل مع الف�ضاء الورقي وت�أثيثه‪ ،‬م�ستفيدة‬ ‫م��ن تجربة الكاليغراف ف��ي تنويع الخطوط‪،‬‬ ‫وتنظيم الفراغ‪ ،‬ور�سم ج�سد الكتابة‪ ،‬وت�شكيل‬ ‫ت�ضاري�سها انطالقا من الوعي بتالحم الن�سق‬ ‫الإ�شاري مع الدالالت الن�صية المن�شودة‪ ،‬ويبد�أ‬ ‫هذا من الغالف‪ ،‬حيث تتعدد الأل��وان‪ ،‬وتنتظم‬ ‫الآث� ��ار الل�سنية م��ع ف���ض��اء ال �غ�لاف‪ ،‬متخذة‬ ‫�صورة معينة ت�ؤطّ رها‪ ،‬وترتيبا يبد�أ من اليمين‬ ‫�إلى الي�سار‪ ،‬مع الحر�ص على �أن يكون العنوان‬ ‫بالأحمر‪ ،‬والمقوالت التي دون��ه بالأ�سود‪ ،‬و�أن‬ ‫يكون الحيّز الذي يهيمن عليه �أكبر �سعة؛ مقارن ًة‬ ‫مع باقي مكوّنات �صفحة الغالف الأول��ى‪ ،‬فيما‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪19‬‬


‫ال تنال لوحة الغالف �سوى �إطار م�ساحي �ضئيل‬ ‫�إذا ما ق��ار ّن��اه بما يخ�ص�ص لها في منجزات‬ ‫�أخ��رى‪ .‬في حين �أن �صفحة ظهر الغالف تبئّر‬ ‫البيا�ض �أو الفراغ‪ ،‬وتدفع بال�سواد‪/‬الأثر الل�سني‬ ‫�إلى النحت‪/‬جنوب ال�صفحة داللة على غياب‬ ‫االم�ت�لاء النف�سي في ال��ذات‪ ،‬وهيمنة الخواء‬ ‫والنكو�ص ال��ذي توحي به الف�ضاءات الجامدة‬ ‫التي ال حركة في �إيقاعها المحايد تماما‪.‬‬ ‫و�إذا م��ا ت��وغّ �ل�ن��ا ف��ي ت�ضاعيف المتنين‪،‬‬ ‫لت�أمل جغرافية انب�صام �شكل الكتابة‪ ،‬نجد‬ ‫�أن الإي �ق��اع��ات ال�ت��ي يتدفق بها ال �م��داد على‬ ‫ال�صفحات‪ ،‬يتفاوت ح�سب الق�صائد؛ فهو يرتفع‬ ‫حينا‪ ،‬ويتراجع �أحيانا �أخرى‪ ،‬في داللة على تلوّن‬ ‫الم�شاعر‪ ،‬وعدم ثباتها الذي ال يتحقق �إال في‬ ‫‪20‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫لحظات �شعرية ق�صيرة ومتباعدة‪.‬‬ ‫�إن ال �م � َّد ال���ش�ع��وري ه�ن��ا‪ ،‬ي�شبه ف��ي �سمة‬ ‫ت��دف�ق��ه ع�ل��ى ال �ب �ي��ا���ض‪ ،‬ال �م��د ال �ب �ح��ري ال��ذي‬ ‫يتفاوت تبعا للف�صول؛ يندفع حينا‪ ،‬ثم يتراجع‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬و�أحيانا‪ ،‬ت�شتد العا�صفة فيغمر �سواد‬ ‫المداد ال�صفحة برمتها‪ ،‬ثم �سرعان ما يعود‬ ‫�إلى م�ستواها‪ ،‬وك�أن ال�شاعرة تجرب �إيقاعات‬ ‫الف�صول وت �ح��والت م � ّده��ا ال�ب�ح��ري كلها في‬ ‫ق�صيدة واحدة‪ ،‬مُحدثة �أحيانا «ت�سونامي» من‬ ‫الأحا�سي�س الفيا�ضة التي ال تكاد ال�صفحة �أن‬ ‫تحدها‪ ،‬وال اللغة تقدر على احتوائها‪ ،‬وهي في‬ ‫لحظة هيجان جارف ال عهد للذات به‪.‬‬ ‫يدل التنويع على م�ستوى التنظيم الب�صري‬ ‫لل�صفحة على تعدد الدالالت المطروقة‪ ،‬ولي�س‬ ‫�أمرا روتينيا‪� ،‬أو مو�ضة ترف‪� ،‬أو �أداة زخرف؛‬ ‫بل هو �أمر مدرو�س ومفكر فيه م�سبقا من لدن‬ ‫ال�شاعرة‪ ،‬تبعا للدفقات ال�شعورية‪ ،‬وطبيعة‬ ‫المعاني التي ت�شكل ر�سائل كل ق�صيدة على‬ ‫حدة‪ .‬فلي�س من �شكل ب�صري �أو احتمال تنظيمي‬ ‫للف�ضاء الكتابي �إال وجربته ال�شاعرة‪ ،‬بغية‬ ‫�إ�ضفاء مغزى جديد على ا�شتغالها ال�شعري‬ ‫بوا�سطة ا�ستنفار كل مكونات ال�شعرية لديها‪،‬‬ ‫وتطعيم البعد ال��دالل��ي با�ستنبات واج�ه��ات‬ ‫�أ�سلوبية �أخ��رى ب�إمكانها فتح عالم الق�صيدة‬ ‫على كوّات ت�ستم ّد منها هواء متجددا‪ ،‬من دون‬ ‫�أن يكون هناك فارق مميز بين المكوّن ال�شكلي‪،‬‬ ‫والمكوّن الب�صري فيه‪.‬‬ ‫ك��ل الق�صائد‪ ،‬ف�ضال ع��ن بعدها البالغي‬ ‫والأ�سلوبي والداللي‪ ،‬هي لوحات ت�شكيلية تتطلب‬ ‫ق��راءة �سيميولوجية خا�صة في ارتباط بباقي‬ ‫عنا�صر ال�شعرية‪ .‬وقد الحظنا كيف �أن ت�أثيث‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ف�ضاءات ال�صفحات‪/‬اللوحات يكون �أفقيا �أو‬ ‫عموديا‪� ،‬شما ًال �أو يمينا‪ ،‬متوازيا �أو مبعثرا‪،‬‬ ‫كما �أن الن�ص ال�شعري يكون طويال �أو ق�صيرا‪،‬‬ ‫متالحما �أو مت�شظيا‪ ،‬وه��و‪ ،‬في كل الحاالت‪،‬‬ ‫تعبير عن لحظة نف�سية ت�صادف ميالده‪ ،‬وت�ؤطر‬ ‫منا�سبة انبثاق التجربة‪ ،‬عقب مخا�ض ع�سير‬ ‫عانته ال�شاعرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬بالغة مختلفة‬ ‫تالعب �سعدية اللغة‪ ،‬وت�سعى �إل��ى �أن يكون‬ ‫عبورها المجازي– اال��س�ت�ع��اري خفيفا على‬ ‫ال�ق��ارئ مثل الأث��ر ال��ذي يحدثه الحفيف على‬ ‫الأ���ش��ج��ار‪ ،‬حتى يكون لها وق��ع الدغدغة التي‬ ‫تن�شط معها الم�شاعر والجوارح‪ ،‬بق�صد �إحراز‬ ‫التفاعل‪ ،‬و�إن في موا�سم الجذب اللغوي‪ ،‬وتكلّ�س‬ ‫الأحا�سي�س وتحجّ ر الأبعاد الإن�سانية‪.‬‬ ‫تنتقي ال�شاعرة ال�م�ف��ردات بعناية بالغة‪،‬‬ ‫وت�شتغل على تقنية «الحقول المعجمية والداللية»‬ ‫من �أجل تو�سيع رواف��د ت�أ�سي�س الداللة‪ ،‬ف�ضال‬ ‫عن اال�شتغال الت�شكيلي على الف�ضاء الن�صي كما‬ ‫�سبقت الإ�شارة �إلى ذلك‪ ،‬و�إذا كان ديوان «قبر‬ ‫بنافذة واحدة» ال ي�سعنا في تبين هذه الم�س�ألة‪،‬‬ ‫ف�إن مجموعة «تغيب‪ ...‬ف�أ�سرج خيل ظنوني» تتيح‬ ‫لنا تلم�س هذا الإ�شغال‪� ،‬إذ �إن ال�شاعرة ا�شتغلت‬ ‫على تيمة معينة‪ ،‬وهي تيمة(الحزن)‪ ،‬و�سعت �إلى‬ ‫تعزيز هذه الداللة عبر تقنيات التكرار‪ ،‬والتردد‬ ‫المفهوميّ ‪ ،‬والت�ضادّ‪ ،‬واال�شتقاق وال��ت��رادف‬ ‫والتجاور الداللي‪ ...‬وغير ذلك من �آليات بالغة‬ ‫المعجم ال�شعري‪.‬‬ ‫و�إذا ك��ان��ت م �ق��ول��ة(ال �ح��زن) ق��د ت�ك��ررت‬ ‫ح�شو ًا �أكثر من ع�شر م��رات في ه��ذا المنجز‬

‫ال�شعري‪ ،‬ف��إن الداللة تتقوّى من خالل تراكم‬ ‫معجم [الخيبة‪ -‬الي�أ�س‪ -‬ال�م��وت‪ -‬ال�صمت‪-‬‬ ‫ن�صيا‪ ،‬كما �أن التقابل بين‬ ‫الغياب]‪ ،‬وهيمنته ّ‬ ‫المعنى ونقي�ضه يرجّ ح كفة م�ستوى داللي على‬ ‫ح�ساب �آخر‪ ،‬ت�أ�سي�سا على بنية ال�صراع‪ ،‬ودرجة‬ ‫الح�ضور والغياب‪.‬‬ ‫وال بد من التلميح �إل��ى عن�صر جمالي �آخر‬ ‫اعتمدته ال���ش��اع��رة �سعدية م�ف��رح ف��ي �إث ��راء‬ ‫عملها التجريبي االنتهاكي على الن�صو�ص‪،‬‬ ‫وهو العالقة بين الكلمات‪ .‬ف�إذا كانت ال�صميمة‬ ‫الداللية �أحكمت مجموعتها الف�سيف�سائية «قبر‬ ‫بنافذة واحدة»‪ ،‬فجعلت الكالم ال�شعري خفيف‬ ‫الوقع ل�سرعة التقاط معنى الجملة‪/‬الوحدة‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬ف�إن مجموعتها «تغيب‪ ...‬ف�أ�سرج خيل‬ ‫ظنوني» تنتهج �أ�سلوب خلخلة القرين الداللي بين‬ ‫المفردات‪ ،‬ما جعل المقوالت ال�شعرية تنزاح‬ ‫عن م�ضمونها القامو�سي‪ ،‬لت�أخذ من معناها‬ ‫م��ن �صميم انتمائها للجملة ال�شعرية؛ ولأول‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪21‬‬


‫وهلة‪ ،‬يت�شكل‪ ،‬ل��دى ال�ق��ارئ‪ ،‬انطباع ع��ام‪ ،‬هو‬ ‫كون العالقة الأ�سا�س التي ترتبط بين مكونات‬ ‫الجملة ال�شعرية هي عالقة تنافر وت�صادم؛‬ ‫لكن الدخول في عوالم الن�ص الجوانية‪ ،‬تجعله‬ ‫يطمئن تدريجيا‪� ،‬إلى الن�سيج الكلي للق�صيدة‪،‬‬ ‫وين�سجم �شيئا ف�شيئا‪ ،‬م��ع البنية الل�سانية‬ ‫الجديدة التي تنحت لها‪ ،‬في �أفق الن�ص‪ ،‬معنى‬ ‫�ضمنيا تنهله من فعل االنتماء لن�سيج هذا الن�ص‬ ‫�أو ذاك‪ ،‬في ارتباط مع الن�سق العام للداللة‪.‬‬ ‫�إن ال�شاعرة مفرّح ت�سعى �إلى جعل كل مكونات‬ ‫الخطاب ال�شعري في خدمة المعنى؛ لذلك فهي‬ ‫ت�ستنفر حتى الفراغات ونقط الحذف من �أجل‬ ‫الإي�ح��اء والتدليل على المكنونات ال�شعورية‪،‬‬ ‫وهي‪ ،‬هنا تعوّل على وعيها التجريبي من جهة‪،‬‬ ‫وعلى ح��ذق القارئ وذكائه الت�أويلي من جهة‬ ‫ثانية‪ ،‬ونمثل لذلك بالمقطع التالي‪:‬‬ ‫فل�سطين التي‪...‬‬ ‫والتي‪...‬‬ ‫والتي‪...‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(ترى‪ ..‬هل تعود؟َ)‬ ‫ُي �ط��ا َل��بُ ال�م�ت�ل�ق��ي‪ ،‬وه ��و ي �ج��وب تفا�صيل‬ ‫المكتوب‪� ،‬أن يكون متيقظ الحوا�س‪ ،‬م�صغي ًا‬ ‫ال�سمع لكل مكوّنات العالم ال�شعري‪ ،‬وك�أنه يحيى‬ ‫مع ال�شاعرة لحظة �إن��ب��ات المعنى ور�سوخه‪،‬‬ ‫وتحوّله من حالة الكينونة ال�شخ�صية �إلى حالة‬ ‫الملكية الم�شاعة‪ .‬وا�ستنادا �إلى ذلك‪ ،‬فا�ستنبات‬ ‫بالغة جديدة لكتابة الن�ص ال�شعري‪ ،‬يقابله‬

‫لزوما‪ ،‬حدوث تحول جذري على م�ستوى التلقي؛‬ ‫ذاك �أن القارئ �أ�صبح مطالبا بتحريك كافة‬ ‫مناحي الوعي والإح�سا�س والثقافة‪ ،‬بغية القب�ض‬ ‫على التجربة ال�شعرية في تما�سّ ها الجوهريّ مع‬ ‫العمق الروحي؛ فالن�ص‪ ،‬وفق ح�سا�سية مفرّح‪،‬‬ ‫ما ع��اد وجهة لغوية فح�سب‪ ،‬بل �صار خطابا‬ ‫�شامال من الدّوالّ والإ�شارات والعالمات‪ ،‬التي‬ ‫ت�شكل كل متجان�سا‪ ،‬وال تدلّ � اّإل بو�صفها جزء ًا‬ ‫من ن�سق عام‪.‬‬ ‫وعموما نجد‪ ،‬هنا‪ ،‬عبر تجربة �سعدية مفرح‪،‬‬ ‫نبرة حزينة مخاتلة ومتلوّنة تطفح �أحيانا‪،‬‬ ‫لتتمظهر بجالء‪ ،‬وفي تعبير مك�شوف‪ ،‬وتتفتح‬ ‫حينا �آخ��ر‪ ،‬في �شكل خلفيات لغوية و�إ�شارية‬ ‫م��وح �ي��ة‪ ..‬وذل ��ك ان�سجاما م��ع ت �ل��ون الإي �ق��اع‬ ‫ال�شعري وال�شعوري المحكوم باللحظة الفارقة‬ ‫ف��ي الإح �� �س��ا���س ب��ال��وج��ود‪ ،‬وم���س��وغ��ات ال�ق��ول‬ ‫َما�س مع �س�ؤال الكينونة‪ ،‬وتفاعلٍ‬ ‫ال�شعريّ في ت ٍّ‬ ‫مع الوعي الجمعيّ ‪.‬‬ ‫�إنّ الذّات‪ ،‬وهي تنكتب �شعريّا‪ ،‬تظ ّل حا�ضرة‬ ‫الوعي بالعالم الذي تنتمي �إليه‪ ،‬مو�صولة الذهن‬ ‫ب�ب��ؤرة التوتر فيه‪ ،‬ووا�ضعة ن�صب العينيين‪،‬‬ ‫حاالت انتفاء القيم الإن�سانية‪ ،‬في عالم �ضاج‬ ‫بالتهافت على ال�م��ادي��ات‪ ،‬عالم ت�ضيق فيه‪،‬‬ ‫بالتدريج‪� ،‬آفاق الحلم‪ ،‬وت�سود فيه نواعير اغتيال‬ ‫ما راكمه الب�ش ُر من روح الح�ضارة‪.‬‬

‫* ناقد وباحث من المغرب‪.‬‬ ‫(‪� )1‬سعدية مفرح‪ :‬تغيب‪ ...‬ف�أ�سرج خيل ظنوني‪ ،‬دار الجديد‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة ‪1994 ،1‬م‪.‬‬ ‫(‪� )2‬سعدية مفرح‪ :‬قبر بنافذة واحدة‪ ،‬الهيئة العامة لق�صور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م�صر العربية‪ ،‬ط ‪2008 ،1‬م‪� ،‬ص ‪.86‬‬

‫‪22‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫التجريب في‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا‬

‫■ حممد يوب*‬

‫من طبيعة الق�صة الق�صيرة ج��داً �أنها ال تنتمي �إل��ى مجال فني و�إب��داع��ي يكرّ�س‬ ‫الم�ألوف‪ ،‬وي�ستكين للجاهز في عالم الإب��داع ال�سردي؛ بل �إنها ا�ستندت على فل�سفة‬ ‫�إبداعية ت�ؤطرها مقولة «المغايرة الخلاّ قة» التي تخلخل الجاهز وتتمرّد عليه؛ �إنها‬ ‫تُحطّ م ال�شكل الجاهز؛ غير قادر على حمل الأفكار؛ �إنها ممار�سة قائمة على الهدم‬ ‫والبناء لفتح �أفق جديد قادر على تتبع طموحات الق�صا�صين‪.‬‬ ‫وقد �أجمع الدار�سون على �أن الق�صة الق�صيرة جدا امتدت في �سيرورة تنموية قوامها‬ ‫التحوّل الدائم؛ �سواء �أكان تحوال �أ�سهمت فيه عوامل ثقافية و�إبداعية فنية‪� ،‬أم تحوال‬ ‫�أفرزته عدة م�ستجدات اجتماعية و�سيا�سية واقت�صادية؛ فهي رهان �إبداعي مفتوح‪ ،‬ال‬ ‫حدود له‪ ،‬وال تخ�ضع لو�صفة عامة �أو �إطار جاهز؛ ولي�ست لها قواعد ثابتة‪ ،‬ورا�سخة؛‬ ‫�إنها تتمظهر على �أ�صعدة وم�ستويات م�سّ ها الخرق كبنيات تَه ّم اللغة‪ ،‬والتقنية‪ ،‬والبناء‬ ‫المعماري‪ ،‬والمرجعية‪ ،‬ودينامية االنفتاح على فنون ومعارف موازية‪.‬‬ ‫ف��ال�ت�ج��ري��ب‪� ،‬إذً ا‪ ،‬ر�ؤي� ��ة فنية ذات�ي��ة‬ ‫و���ص��ي��رورة ف��ك��ري��ة �شخ�صية؛ ي�صوغها‬ ‫القا�ص في مختبره �أو م�شغله الق�ص�صي‬ ‫الق�صير ج��دا‪ ،‬ال��ذي يخ�ضع با�ستمرار‬ ‫للتبديل والإزاحة والتحوير وتقليب القوالب‬ ‫ال �ج��اه��زة؛ وم��راج �ع��ة م�ع�ن��ى ال�ت�ج��ري��ب‬

‫وج ��دواه؛ �إن��ه قرين الإب� ��داع‪ ،‬لأن��ه يتمثل‬ ‫ف��ي اب �ت �ك��اره ط��رائ��ق و�أ� �س��ال �ي��ب ج��دي��دة‬ ‫لأنماط التعبير الفني المختلفة‪ .‬وهو بهذا‬ ‫المعنى يع ُّد ممار�سة فنية م��ؤط��رة ب�أفق‬ ‫�إب�ستيمولوجي غايته نق�ض التّكرار المملّ‪،‬‬ ‫وخ��رق ال �م �ت��داولِ وال �م ��أل��وف ف��ي الكتابة‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪23‬‬


‫الق�ص�صية الق�صيرة جدا؛ �إنه تعبير عن خرق‬ ‫للم�ألوف وال �م �ت��داول ف��ي المنجز الق�ص�صي‬ ‫الق�صير ج��دا‪ ،‬يك�سر نظرة االنبهار بالقديم‪،‬‬ ‫لأنه يقوم على �سل�سلة من التراكيب؛ ومن فنون‬ ‫الخداع؛ والهياكل غير الدائمة؛ ويعبر عن رغبة‬ ‫قوية ت�شترك فيها ثالث �أي��ادٍ ‪ :‬يد القا�ص‪ ،‬ويد‬ ‫الن�ص‪ ،‬ويد القارئ الذي يُفعل عَ ملية التجريب‬ ‫ويترجم �أبعادها ودالالتها؛ كما �أنه ين�شط بعملية‬ ‫تقوي�ض ال�شكل التقليدي القديم‪ ،‬ينمو وينه�ض‬ ‫على عملية البناء والهدم الآن��ي؛ وق��د اتخذت‬ ‫لنف�سها �شكال وب��ن��ا ًء فنيا تمخ�ض عن ف��رادة‬ ‫�أ�سلوبية قد ال تتحقق في �أيّ طراز �إبداعي �آخر؛‬ ‫فبالرغم من �أنها ت�أخذ حيز ًا �ضيق ًا من بيا�ض‬ ‫الورقة؛ ف�إنها تنفتح على م�ساحة قراءة ال حدود‬ ‫لها في بيا�ض الت�أويل؛ ويمكن تتبع التجريب في‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا من خالل مكوناتها‪.‬‬

‫�أوج��ه ال �ق��راءات وال�ت��أوي�لات‪ ،‬وم��ن َث��مَّ ي�صبح‬ ‫للجملة الق�ص�صية الواحدة عددا ال متناهيا من‬ ‫المعاني وال��دالالت‪ .‬وهو ما �سماه ال�شكالنيون‬ ‫ال���رو����س «ق���ان���ون اق��ت�����ص��اد ال���ق���وات ال��ح��ي��ة» ‪l‬‬ ‫‪ Economie des forces vives‬حيث الأ�سلوب‬ ‫الفني يقدم �أق�صى ق��در من الأف�ك��ار بوا�سطة‬ ‫كلمات قليلة؛ لأن الغر�ض من الكتابة الأدبية‬ ‫لي�س هو الكم‪ ,‬و�إنما الغر�ض منها هو الأدبية‬ ‫‪ La litterarite‬كما قال رومان جاكب�سون؛ �أي ما‬ ‫يجعل من عمل ما عمال �أدبيا(‪.)1‬‬

‫فعند تتبع ال��ح��دث اللحظي ال��واح��د‪ ،‬وهو‬ ‫ينقل للمتلقي حالة معينة‪ ،‬يمكن لهذا الأخير‬ ‫�أن يت�صور ويبني ع��ددا كبيرا م��ن الأح ��داث‬ ‫المنت�شرة والمت�شظية؛ التي تتداعى حرة من‬ ‫خالل ما ت�ضمره الكلمات من �أفعال مت�ضمنة‬ ‫دال��ة على ال��ح��دث؛ وه��ذا االنت�شار والت�شظي‬ ‫�أ‪ :‬الحدث في الق�صة الق�صيرة جدا يف�ضيان �إلى �أن ي�صبح الن�ص �أكثر تعددية في‬ ‫كل ق�صة ق�صيرة جدا ال بد لها من مكونات �إيحاءاته‪ ،‬و�أكثر رحابة في ت�أويله‪.‬‬ ‫فالق�صة الق�صيرة جدا تجعل من الكلمات‬ ‫ثالثة‪ :‬قا�ص‪�-‬سامع‪ -‬ما يق�صه القا�ص؛ و«ما»‬ ‫هي الحدث اللحظي الخاطف؛ الذي يعبّر عن القليلة ومن الجمل المكثفة بناء �سرديا جديدا‪،‬‬ ‫موقف طارئ �أو جزئية حياتية‪ ،‬ك�أن يكون �سوء تكون فيه الألفاظ م�ستفزة للمتلقي‪ ،‬وتدفعه �إلى‬ ‫الحظ �أو الإخفاق �أو الموت‪ ،‬ويكون داخليا �أو �أن يعي�ش هذه اللحظة ويتفاعل معها‪� ،‬شريطة �أن‬ ‫خارجيا؛ عميقا عمق نف�سية الإن���س��ان؛ يرقى يكون القا�ص ماهرا في اختيار الكلمات والجمل‬ ‫بالمتلقي �إل��ى درج��ة مجاورة العالم الواقعي؛ المنا�سبة لهذا النوع من ال�سرد‪.‬‬ ‫ت�سهم ف��ي �إنتاجه ال�ع�ب��ارات الق�صيرة ج��دا‪،‬‬ ‫وت�سمى هذه الجمل؛ بالجمل القالبية؛ وهي‬ ‫حيث الم�شهد الق�ص�صي الق�صير جدا يحتوي الجمل التي تطمر جمال ثانوية �أقل �أهمية‪ ،‬لكنها‬ ‫الن�ص من‬ ‫على عبارات مكثفة‪ ،‬تق�ص زوائد اللغة؛ وتكتفي جمل بليغة؛ موجزة‪ ،‬ت�ضيء �أرج��اء ّ‬ ‫ب��ال�لازم منها وم��ا تحمله من دالالت م�ضمرة الداخل؛ وتقلل فر�ص تنامي الحدث‪ ،‬والجمل‬ ‫في ثنايا الكلمات القليلة ال�ضرورية؛ المنتجة القالبية تعتمد على الإي�ح��اء‪ ،‬وعلى العبارات‬ ‫للمعنى والجمال في الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫الموجزة‪ ،‬وربما على الإ���ش��ارات البليغة التي‬ ‫وه��ذه العبارات تت�سع معانيها كلما تعددت تفاجئ القارئ بنهايات مفاجئة تخالف توقع‬

‫‪24‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫وال ينبغي النظر �إل��ى الكلمات في معناها‬ ‫المعجمي؛ بل ينبغي النظر �إليها كعالمات دالة؛‬ ‫ذات م�ضمون �ضبابي وعائم؛ تحيل المتلقي على‬ ‫معطى في العالم الخارجي؛ وت�سمى بالعالمات‬ ‫المرجعية التي تحيل �إلى �شيء ملمو�س ومُدرَك‪.‬‬ ‫وال �ح��دث ف��ي ال�ق���ص��ة ال�ق���ص�ي��رة ج ��دا له‬ ‫م�صدران‪:‬‬ ‫‪ -1‬م���ن ال��ح��ي��اة م��ب��ا���ش��رة؛ وم����ن ال��ت��ج��ارب‬ ‫ال�شخ�صية؛ ومن تجارب الآخرين‪.‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫القارئ‪ ،‬فينتهي بما لم يخطر له ببال‪ ،‬ويخلق‬ ‫لديه ما ي�سمى بالمفارقة المده�شة‪ .‬فيعر�ضها‬ ‫مبا�شرة �أمام عمل ماكينة القراءة و�آلة الت�أويل‪.‬‬ ‫لتنتج دالالت ال حدود لها لن�ص واحد متما�سك‬ ‫من الناحية الفنية والجمالية‪.‬‬

‫للحكي دور في بناء الم�شهد الق�ص�صي الق�صير‬ ‫ج��دا‪ ،‬ب��ل ا�ستبدله ب�سرد ج��دي��د‪ ،‬ه��و «ال�سرد‬ ‫االلتحامي»‪ ،‬ونق�صد به الكيفية التي تترابط‬ ‫بها الكلمات لتكوين البنية التركيبية ال�سطحية‬ ‫للمنجز الق�ص�صي الق�صير جدا؛ حيث ي�صبح‬ ‫للفعل ال�ق��درة على اخ�ت��زال زم��ن الحكاية من‬ ‫خ�ل�ال وج� ��وده ال��ذات��ي؛ وم �ن��ه ت�ت��وال��د الجمل‬ ‫المختزلة والمكثفة‪ ،‬والفاعلة التي تنقل الم�شهد‬ ‫الق�ص�صي الق�صير ج��دا بقليل من الكلمات‪،‬‬ ‫التي يختارها القا�ص بعناية فائقة؛ وك�أنه يبنيها‬ ‫بناء معماريا‪ ،‬ال تغلب فيه كلمة على �أخرى وال‬ ‫جملة على جملة؛ وذل��ك بغر�ض الإيجاز الذي‬ ‫يعرفه ابن الأثير بقوله «هو دالل��ة اللفظ على‬ ‫المعنى‪ ،‬من غير �أن يزيد عليه»(‪.)2‬‬

‫وي��ق��وم «ال�����س��رد االل��ت��ح��ام��ي» وينه�ض على‬ ‫‪ -2‬من الخيال الذي يُبدع �أحداثا على �شاكلة ما مجموعة م��ن الآل �ي��ات المتحكمة ف��ي �إنتاجه‪،‬‬ ‫يحدث في الواقع‪.‬‬ ‫منها‪:‬‬ ‫ويعتمد القا�ص على موهبته في الق�ص وذلك ‪ .1‬االنتقال من تركيب لغوي �إل��ى �آخ��ر ب�إقامة‬ ‫بالمزج بين الخيال والواقع؛ من دون ال�سقوط‬ ‫التجاور بينهما من دون عالمة ترقيم‪.‬‬ ‫في الحرفية والآلية واال�ستن�ساخ الأمين للواقع؛‬ ‫‪ .2‬االلتحام المقطعي‪ ..‬وذل��ك ب��إدم��اج حدث‬ ‫و�إنما يحاول القا�ص النظر �إلى الواقع من خالل‬ ‫فرعي تف�سيري داخل الحدث الأ�سا�س‪.‬‬ ‫ر�ؤية تعيد �إنتاج الواقع من جديد بغنىً �أكثر‪..‬‬ ‫وبنظرة عميقة و�شاملة؛ وهو ما ن�سميه باالنزياح ‪ .3‬توزيع �سواد الكتابة على بيا�ض الورقة‪.‬‬ ‫عن المعنى الحقيقي المعجمي �إلى معانٍ �أخرى ‪ .4‬تفكيك الكلمات �أفقيا �أو عموديا ب�شكل‬ ‫تُفهم من خ�لال ال�سياق؛ وم��ن خ�لال الإحالة‬ ‫ح ��رك ��ي؛ م ��ع االح��ت��ف��اظ ع �ل��ى ال�ت�ح��ام�ه��ا‬ ‫والإ�شارة؛ حيث اللغة في الق�صة الق�صيرة جدا‬ ‫وان���س�ج��ام��ا م��ع ان���س�ي��اب ال��ح��وار اللفظي‬ ‫تحيل على ما هو غير اللغة؛ لأن الذهن عندما‬ ‫والتركيبي‪.‬‬ ‫يتلقى الن�ص الق�ص�صي الق�صير جدا‪ ،‬يترجمه‬ ‫‪ .5‬التعاقب وال�ت��زام��ن الخطّ ي ال��ذي تعتريه‬ ‫ح�سب ما يوحي �إليه من دالالت في الواقع‪.‬‬ ‫فراغات زمنية ناتجة عن تقنية الحذف‪.‬‬ ‫ب‪ :‬ال�سرد في الق�صة الق�صيرة جدا ‪ .6‬التوازي بين حدثين ب�شكل تناوبي تحكمه‬ ‫في عُ ��رف الق�صة الق�صيرة ج��دا؛ لم يعد‬

‫عالقة زمنية تزامنية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪25‬‬


‫‪ .7‬تقنية ال�ع��ود على ب ��دء‪�،‬أو الأف�ع��وان��ي ال��ذي‬ ‫ويمكن تتبع نماذج من «ال�سرد الق�ص�صي‬ ‫االلتحامي» م��ن خ�لال تجربتين ق�ص�صيتين‬ ‫ي�سمى بالأفعى التي ت�أكل ذيلها‪.‬‬ ‫�إنه �سرد ما بعد حداثي قائم على تراكيب الأولى للقا�صة نعيمة الق�ضيوي والثانية للقا�ص‬ ‫لغوية ق�صيرة ج��دا؛ تن�ش�أ �ضمن �شبكة من على بن�ساعود‪.‬‬ ‫فالقا�صة نعيمة الق�ضيوي في ق�صة الجاذبية‪:‬‬ ‫الثنائيات المتقابلة‪ ،‬والمت�ضادة والمختلفة التي‬ ‫ت�شكل لغة مبنية على مفارقة تراوغ �أفق انتظار‬ ‫ت�أمل التفاحة؛‬ ‫المتلقي‪� ،‬إذ �إن الثنائيات ال�ضدية ال تقت�صر‬ ‫كم هي مغرية وفاتحة لل�شهية‪..‬‬ ‫على البنية اللغوية‪ ،‬و�إنما تن�سحب �إلى مفاهيم‬ ‫تذكر تفاحة نيوتن وتفاحة �آدم‪..‬‬ ‫مركزية في ذهن الإن�سان‪ ،‬وت�شغل لديه الذاكرة‬ ‫(‪)3‬‬ ‫الق�صيرة جدا؛ لأنه على الم�ستوى الب�سيكولوجي‬ ‫وحار في فهم معنى الجاذبية!‬ ‫قد ميز �أطباء الأع�صاب وال�سيكو ‪ -‬فزيولوجيون‬ ‫فالقا�صة ربطت بين فعلين؛ هما فعل الت�أمل‬ ‫عند درا�ستهم للبنية الدماغية للإن�سان؛ بين وفعل التذكر اللذان وقعا في لحظة زمنية واحدة؛‬ ‫ال��ذاك��رة الطويلة وال��ذاك��رة الق�صيرة التي لكنهما �ساعدا على تداعي مجموعة من الأحداث‬ ‫ال تتعدى الدقيقة‪ ،‬وال��ذاك��رة الق�صيرة جدا الغابرة في الزمن؛ �أح��داث تفاحة �آدم والتاريخ‬ ‫التي تح�سب باللحظة؛ واالخ��ت�لاف لي�س كمي ًا الطويل المرتبط بهذه الحكاية‪ ،‬وتفاحة نيوتن‬ ‫فح�سب‪ ،‬فالذاكرة الطويلة هي من نمط ال�سرد التي ت�سببت في اكت�شاف قانون الجاذبية التي‬ ‫الطويل‪ ،‬في حين �أن الذاكرة الق�صيرة هي من كانت هي محور الق�صة‪ .‬فالجاذبية هنا حققت‬ ‫نمط ال�سرد الق�صير؛ والذاكرة الق�صيرة جدا المفارقة الق�ص�صية؛ هل المق�صود بها‪ :‬جاذبية‬ ‫هي من نمط الق�صة الق�صيرة ج��دا؛ كما �أن ح��واء تجاه التفاحة؛ جاذبية ح��واء تجاه الفعل‬ ‫ا�ستمرار الذات الإن�سانية وتمدّدها لي�س �سوى المحرم؛ جاذبية حواء تجاه ال�شيطان؛ جاذبية‬ ‫�أ�سطورة‪ ،‬والحقيقة �إن الإن�سان ذر ٌة تن�شطر �آدم تجاه ح��واء؛ جاذبية نيوتن تجاه التفاحة؛‬ ‫دائما وتت�شكل من جديد كما قال «بريخت» في جاذبية نيوتن تجاه نظرية قانون الجاذبية‪ .‬كلها‬ ‫م�سرحية «ماكبت»‪.‬‬ ‫�أ�سئلة ت�سهم في ت�أويل الن�ص الق�ص�صي الق�صير‬ ‫ك �م��ا �أن ال �ق �� �ص��ة ال �ق �� �ص �ي��رة ج���دا تنمو جدا وتجعله �أكثر حيوية دينامية‪.‬‬ ‫وتنه�ض على قاعدة اللعب بالكلمات‪ ،‬وبكيفية‬ ‫تعد تجربة الأدي��ب المغربي علي بن�ساعود‬ ‫�صياغتها‪� ،‬سواء من حيث التقديم والت�أخير‪ ،‬المو�سومة بظالل ذابلة نقلة نوعية في احترام‬ ‫والإيجاز والحذف واعتماد الثنائيات ال�ضدية؛ تقنيات ال�سرد الق�ص�صي الق�صير ج��دا؛ �إذ‬ ‫والغمو�ض والإبهام؛ واعتماد �أ�ساليب الت�شبيه؛ ت�ضمنت نماذج ق�ص�صية ق�صيرة جدا احترمت‬ ‫م�شكّلة بذلك مجموعة من الوحدات المتعالقة الخط المنطقي لل�سرد االلتحامي‪ ،‬الذي ينقل‬ ‫والمت�شاكلة التي من �ش�أنها �أن ت�سهم في �إنتاج ال �م��ادة الق�ص�صية م��ن واقعها ال��واق�ع��ي �إل��ى‬ ‫المفارقة في الم�شهد الق�ص�صي الق�صير جدا‪ .‬ال��واق��ع المتخيل؛ وم��ن ه�ن��اك‪ ،‬ي�ستمد مادته‬ ‫‪26‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الق�ص�صية المتخيلة وفق �آليات ا�شتغال منطقية‬ ‫ومنظمة‪� ،‬إذ �إننا نالحظ �أن القا�ص في مجمل‬ ‫هذه المجموعة الق�ص�صية قد انفعل مع ق�ضايا‬ ‫كونية �إن�سانية خارج الذات‪ ،‬ونقلها �إلى العالم‬ ‫الإن�ساني داخل الذات‪ ،‬ومنه �أخذ مادته الأدبية‬ ‫المتخيلة‪ ،‬و�أ��ص�ب��ح عالما ج��دي��دا مترابطا‪،‬‬ ‫يختلف في ات�ساقه وانتظامه وتركيزه وحراريته‬ ‫الوجدانية عما ك��ان عليه في الطبيعة؛ فبعد‬ ‫ما كان العالم مت�شظيا مت�شرذما تحكمه نقمة‬ ‫التمزيق والتفريق‪� ،‬أ�صبح عالما منتظما جميال‬ ‫رتقته ي��د القا�ص و�أغ�ن�ت��ه بالجمل المختزلة‬ ‫والمركزة الم�شحونة بالمعاني والدالالت‪.‬‬

‫وت��دخ��ل ه��ذه التقطيعات الم�شهدية تحت‬ ‫ع �ن��وان مُ�شكل ومُ��ل��غ��ز‪« ،‬غ��اب��ة»‪ ،‬يمثل عالمة‬ ‫�سيميوطيقية تقوم بوظيفة االح�ت��واء لمدلول‬ ‫الن�ص‪� ،‬إذ �إن م�ضمون الق�صة «غابة» ين�سجم‬ ‫منطقيا مع داللة العنوان‪ ،‬التي توحي مبا�شرة‬ ‫�إل ��ى ق� ��راءات م�ت�ع��ددة‪ ،‬تتعدد بتعدد ال�ق��راء‬ ‫وبنوعية مقروئياتهم؛ فمنهم مَ ن يقر�أها ب�شكلها‬ ‫ال�سطحي وي�ستمتع بما فيها من معنى �سطحي؛‬ ‫ومنهم مَ ��ن يقر�أها ق��راءة على م�ستوى البنية‬ ‫العميقة‪ ،‬في�ؤولها �إل��ى ت�أويالت ع��دة‪ ،‬تتما�شى‬ ‫وحموالتها الفكرية والأيديولوجية؛ وقد يقر�أها‬ ‫�أحد القراء ب�أن «غابة» هي هذا العالم المليء‬ ‫بال�صراعات والمتناق�ضات وت�ع��دد الجرائم‬ ‫وال� �ع���دوان‪ ..‬وب�ه�ك��ذا ق� ��راءة ت�صبح الق�صة‬ ‫الق�صيرة جدا ‪ -‬بالرغم من محدودية كلماتها‬ ‫على م�ستوى الملفوظ‪ -‬منطقية وغنية ومنفتحة‬ ‫على العديد من الإمكانات الت�أويلية المحتملة‪.‬‬

‫فق�صة «غابة» ب�صيغة التنكير وبمفرداتها‬ ‫المختزلة‪ ،‬تحمل ف��ي طياتها كمًّا هائال من‬ ‫ال��م��ع��ان��ي ال��م��ت��داع��ي��ة والمت�شظية؛ فبمجرد‬ ‫قراءتها وارتطامها بمتخيل القارئ يترجمها �إلى‬ ‫دالالت ال متناهية محكومة برابط خطي منطقي‬ ‫يحميها من االنفالت واالنفراط‪.‬‬ ‫ج‪ :‬ال�شخ�صيات في الق�صة الق�صيرة جدا‬ ‫فالق�صة ابتد�أت بفعل ما�ض ناق�ص قادم‬ ‫�أما فيما يخ�ص ال�شخ�صيات الم�ؤثثة لف�ضاء‬ ‫من الزمن الما�ضي‪ ،‬ومر على الحا�ضر ثم توغّ ل‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا‪ ،‬فلم تعد �شخ�صيات من‬ ‫في عمق الم�ستقبل‪ ،‬من دون �أن تكتمل حركية‬ ‫دم ولحم «‪ »en chaire et en os‬ت�سير مع ال�سير‬ ‫فعل «كان» الناق�ص الدال على ا�ستمرار القبح‬ ‫التعاقبي والتزامني للم�شاهد الق�ص�صية‪ ،‬و�إنما‬ ‫والتدمير والترويع الذي يوجهه الب�شر في حق‬ ‫�أ�صبحت عبارة عن عالمات مركبة (ممثلون)‪،‬‬ ‫الكون والطبيعة والإن�سانية ككل‪ ،‬في عالم من‬ ‫تقوم بدور العامل في الجملة الق�ص�صية‪ ،‬ت�ؤدي‬ ‫المفتر�ض �أن يكون هادئا و�آمنا‪.‬‬ ‫مجموعة من الوظائف اللحظية (الموتيفات)‬ ‫لقد وزع القا�ص ال�سرد في هذه الق�صي�صة التي يحددها ال�ق��ا���ص‪ ،‬وتتحدد �صفاتها من‬ ‫�إل��ى ثالثة �أج��زاء يمثل كل ج��زء منها م�شهدا خالل عالقاتها بباقي العالمات الأخرى‪ ،‬وتنعت‬ ‫م�ستقال بذاته‪:‬‬ ‫هذه ال�شخ�صيات ب�أنها ورقية «‪en papier et‬‬ ‫‪ ،»en encre‬انفالتية‪ ،‬زئبقية‪ ،‬غير مُعدّة �سلفا‬ ‫�أ‪ -‬كان الأطفال ير�سمون الربيع‬ ‫و�إنما يتم بنا�ؤها مع بناء الم�شهد الق�ص�صي‬ ‫ب‪ -‬ت�سللت بندقية‬ ‫ت‪ -‬رعت الطيور والفرا�شات‬ ‫الق�صير ج ��دا‪ ،‬وه ��و م��ا ي�سميه ال�ب�لاغ�ي��ون‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪27‬‬


‫الزمان كذلك؛ فقد �أ�صبحت العالقة بينهما‬ ‫ت�شكل وح��دة مترابطة ف��ي العمل الق�ص�صي‬ ‫الق�صير ج��دا‪ ،‬ت�ق��وم على ال�ت��أث�ي��ر المتبادل‬ ‫بين طرفيها؛ ف��ال��زم��ان يتك�شف ف��ي المكان‬ ‫بو�صفه البعد الرابع له‪ ،‬والمكان يدرك ويقا�س‬ ‫بالزمان(‪.)5‬‬

‫ببالغة ال�شخ�صيات(‪ .)4‬لأن القا�ص يقدمها‬ ‫ب�شكل «ناب�ضحي» تقدم لنا الأح��داث والأدوار‬ ‫دون و�صاية من �أح��د‪ ،‬مما يدفع ال�ق��ارئ �إلى‬ ‫ت��وه��م حقيقتها في�صبح ج ��زء ًا ال يتجز�أ من‬ ‫الن�سيج العام للق�صة الق�صيرة ج��دا‪ .‬وتكون‬ ‫ال�شخ�صيات �إما مرجعية تاريخية‪� ،‬أ�سطورية‪...‬‬ ‫�أو �شخ�صيات �إ�شارية‪ ،‬تنوب عن القا�ص وتتكلم‬ ‫وم��ن جهة �أخ ��رى �أ�صبح المكان وال��زم��ان‬ ‫با�سمه‪� ،‬أو �شخ�صيات ا�ستذكارية‪ ،‬تن�سج �شبكة معادلين لل�شخ�صية‪ ،‬ي�شكالن ما ي�سمى بالف�ضاء‬ ‫من التداعيات والتذكرات‪ .‬وغالبا ما يختبئ الق�ص�صي ال �م �ح��دود‪ ،‬ح�ي��ث ال�شخ�صيات‬ ‫القا�ص وراء �شخ�صياته‪ ،‬ويوزع عليها الأدوار‪ .‬والزمكان كائنات حيّة فاعلة‪ ،‬ت�سهم في تنامي‬ ‫ولكي تتم عملية القراءة ب�شكل متكامل‪ ،‬يجب ال�سرد الق�ص�صي الق�صير جدا؛ لأنها تقوم بدور‬ ‫على القارئ �أوال مالم�سة الن�ص من الداخل الممثل في الق�صة الق�صيرة جدا؛ فبدل البحث‬ ‫لمعرفة الخارج‪� ،‬أي معرفة انفعال ال�شخ�صيات عن الزمان الموجود‪ ،‬بد�أ القا�ص يتحدث عن‬ ‫ولي�س معرفة �أفعالها‪ ،‬معرفة وظيفة ال�شخ�صيات الزمن المن�شود‪ .‬فعندما تحدث عبدالرحيم‬ ‫ولي�س �أفعالها‪ ،‬حيث الوظائف في الق�ص�ص التدالوي عن النهر‪ ،‬عدّه �سريرا ينام عليه الماء‬ ‫الق�صيرة جدا تبدو للقارئ مترابطة فيما بينها‪ ،‬وي�ستريح‪ ،‬وما دام كذلك فهو ماء نقي طهور‪،‬‬ ‫وال�شخ�صيات تبدو مترابطة ومتالحمة ت�ؤدي ف�إذا خرج عن �سريره �أ�صبح غير طاهر‪ ،‬ففي هذه‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا عدة معان يمكن للقارئ‬ ‫وظائفها ب�شكل منطقي‪.‬‬ ‫تتبعها وا�ستخال�صها من هذا الج�سم الق�ص�صي‬ ‫والقا�ص يلج�أ عند اختياره لل�شخ�صيات �إلى‬ ‫الق�صير جدا‪� ،‬إنها تلخ�ص تجربة حياة ونظرة‬ ‫تقنية االختزال‪ ،‬بتركيزه على جوانب محددة في‬ ‫عميقة �إلى الزمن القادم الطاهر البعيد عن كل‬ ‫ال�شخ�صيات و�إهمال جوانب �أخرى؛ فهو ال يعب�أ‬ ‫منغ�صات الحياة‪ ...‬فالعبارة كما نرى �ضيقة‪..‬‬ ‫بذكر الأ�سماء‪ ،‬والعمر‪ ،‬ومالمح الوجوه‪ ،‬والهي�أة‬ ‫لكن مت�سعها المعرفي والداللي �شا�سع‪ ،‬ي�أخذ‬ ‫الخارجية الظاهرة‪ .‬وكثيرا ما نجد القا�ص‬ ‫ذهن المتلقي ويجعله يتخيل ويت�صور كيف يكون‬ ‫ي�ستعمل ال�ضمائر التي تعوّ�ض ال�شخ�صيات؛‬ ‫النهر �سريرا ينام عليه الماء‪ ،‬فتنتقل ال�صورة‬ ‫لأن �ه��ا ت �ق��وم ب ��دور ال�ق�ن��اع ال ��ذي يغطي وج��وه‬ ‫�إلى ذهنه‪ ،‬وكلما زاد �أعاد القراءة كلما تعددت‬ ‫ال�شخ�صيات الم�ؤثثة لف�ضاء الق�صة الق�صيرة‬ ‫�أوجه الت�أويل في ذهن المتلقي «�سئل النهر‪ :‬لم‬ ‫جدا‪� ،‬إذ ي��ؤدي �ضمير المتكلم ال��دور الرئي�س‪،‬‬ ‫ال يخرج م��ا�ؤك عن �سريره؟ رد‪ :‬لكي يحافظ‬ ‫و�ضمير المخاطب يقدم دور الم�ستمع‪ .‬وت�ستعمل‬ ‫على طهارته‪ »...‬ماء(‪.)6‬‬ ‫ال�ضمائر للداللة على ما ت�ضمره من دالالت‪.‬‬ ‫بمعنى �أﻥ ﺍﻟﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟ�ﺸﻜﻠﻲ ﻟﻠﻘ�ﺼﺔ ﺍﻟﻘ�ﺼﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ‬ ‫د‪ :‬الف�ضاء الق�ص�صي الق�صير جدا‬ ‫ﻻ يقترن فقط بالمدى الذي ت�أخذه ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻠﻐﺔ‬ ‫لم يعد المكان عن�صرا م�ستقال بذاته‪ ..‬وال بالطول �أﻭ ﺍﻟﻘُ�ﺼﺮ‪ ،‬و�إنما يعتمد على مرتكزات‬ ‫‪28‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫فعلى الرغم من المحاوالت النقدية التي‬ ‫تحاول التفريق بين الأجنا�س الأدبية المكانية‬ ‫كالنحت والفنون الت�شكيلية‪ ،‬وبين الأجنا�س‬ ‫الأدبية الزمانية كالمو�سيقى وال�شعر والنثر؛‬ ‫ف��إن�ن��ا ن�لاح��ظ �أن الق�صة الق�صيرة ج��دا ال‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫رئي�سة مهمة ت�م�ي��زه ع��ن الق�صة الق�صيرة‬ ‫التقليدية‪ ،‬وذل��ك ه��و االخ �ت��زال والتكثيف في‬ ‫الحدث ال�سردي واالكتفاء ب�أقل ال�شخ�صيات‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إل��ى زمكانية مقننة؛ فالتكثيف(يحدد‬ ‫بنية الق�صة الق�صيرة جدا ومتانتها ال بمعنى‬ ‫االقت�صاد اللغوي فح�سب‪ ،‬و�إن�م��ا في فاعليته‬ ‫الم�ؤثرة في اختزال المو�ضوع وطريقة تداوله‪،‬‬ ‫و�إي�ج��از الحدث والقب�ض على وح��دت��ه)(‪� ،)7‬إذ‬ ‫�إنها تقفز مبا�شرة �إل��ى الحدث المركزي من‬ ‫دون مقدمات‪ ،‬مكتفية بالإطار الذي يوفرها لها‬ ‫ذلك المركز لخلق �أجواء الق�صة الق�صيرة جدا‪،‬‬ ‫فهي تعتمد على حبكة ب�سيطة في ف�ضاء زمكاني‬ ‫مختزل‪ .‬ﻭﻟﻠﺨﺮﻭﺝ ﻣﻦ الإط��ار ﺍﻟل�غ��وي المقنن‬ ‫‪ -2‬الف�ضاء الق�ص�صي الق�صير جدا‬ ‫ت�ح��اول ﺍﻟﻘ�ﺼﺔ ﺍﻟﻘ�ﺼﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻓﺘﺢ ﻓ�ﻀﺎءﺍﺕ‬ ‫والبعد الب�صري‬ ‫ﺩﻻﻟﻴﺔ ﻣﻦ خ�لال اللعب بالف�ضاء االفترا�ضي‬ ‫عند تتبع المجاميع الق�ص�صية الق�صيرة‬ ‫الذي توفره اللغة‪ ،‬وكذا الإحاالت التنا�صية التي‬ ‫ج��دا‪ ،‬نجد �أن ال�ق��ا���ص يعاني م��ن قلق البعد‬ ‫تفتح م�سارب وا�سعة الت�أويل‪.‬‬ ‫الب�صري في الق�صة الق�صيرة ج��دا‪ ،‬وتحدوه‬ ‫‪ -1‬الف�ضاء الق�ص�صي الق�صير جدا‬ ‫رغبة في تحطيم بناء ال�سرد الق�ص�صي وتغيير‬ ‫وفائ�ض المعنى‬ ‫�شكله من ال�شكل التقليدي المعهود �إلى �أ�شكال‬ ‫لقد حظيت الق�صة الق�صيرة جدا باهتمام ب�صرية مختلفة تختلف باختالف طبيعة الق�صة‬ ‫النقاد والباحثين‪ ،‬وتناولوها من زوايا متعددة الق�صيرة جدا وتنوع موا�ضيعها‪� ،‬إنه يريد خلخلة‬ ‫كالحبكة وال�شخ�صيات وال �� �ص��راع وال��ر�ؤي��ة ال�ب�ن��اء المعماري ل�ه��ا‪ ،‬لكي تعبر ع��ن طبيعة‬ ‫ال�سردية والبناء الفني‪ .‬ونحن في هذا المبحث هذا الجن�س الأدب��ي الذي يعتمد على التكثيف‬ ‫النقدي �سنهتم بتيمة الف�ضاء الق�ص�صي باعتبار والإ�ضمار والإقالل‪.‬‬ ‫�أن الق�صة الق�صيرة ج��دا ه��ي ف��ن التف�ضيئ‬ ‫و�أول ما ي�صدم القارئ على م�ستوى تلقي‬ ‫الزمكاني بامتياز‪.‬‬ ‫ال�ع�ي��ن‪ ،‬ه��و ال�شكل الكاليغرافي ال ��ذي يميز‬ ‫ت�ستطيع التخل�ص من هذين المحورين في بناء‬ ‫عمل ق�ص�صي ق�صير ج��دا‪ .‬وعندما نميز بين‬ ‫مكونات هذا الفن �أو ذاك‪ ،‬ف�إننا نفعل ذلك من‬ ‫�أجل الدرا�سة فقط؛ لأن الفنون الأدبية متداخلة‪،‬‬ ‫�إذ �إن كل فن ي�ستعير خ�صائ�ص ومميزات فن‬ ‫�آخر‪ ،‬فالقا�ص ي�ستعير و�صف الم�شهد الق�ص�صي‬ ‫الق�صير جدا من ال�شعر ومن الر�سم‪ ،‬ويتتبع‬ ‫تفا�صيل المكان من النحت‪ ،‬فنجده ير�صد �أبعاد‬ ‫المكان و�أحجامه و�أ�شكاله بوا�سطة الكلمات‬ ‫المقلة؛ وهنا تدخل براعة القا�ص في الق�صة‬ ‫الق�صيرة جدا‪ ،‬لأنه ال يقدم تفا�صيل المكان وال‬ ‫يقدمها دفعة واحدة‪.‬‬

‫الكتابة الق�ص�صية الق�صيرة جدا‪ ،‬والذي يركز‬ ‫فيه القا�ص على ت��وزي��ع الم�شاهد والمقاطع‬ ‫الق�ص�صية داخل ال�صفحة الواحدة‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫توزيع ال�سواد على البيا�ض وعالمات الترقيم‬ ‫وتناثر الحروف من �أعلى �إلى �أ�سفل‪� ،‬أو عك�س‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪29‬‬


‫ذلك‪ ،‬وفق نظام جميل يزيد من جمالية الق�صة تكون الف�ضاءات فيها مغلقة �أو معزولة‪ ،‬و�إن‬ ‫الق�صيرة ج��دا‪ ،‬وي�ساعد على ف��ك مغاليقها كانت في �أحايين مفتوحة‪ ..‬ف�إنها تكون مفتوحة‬ ‫و�إ� �ض��اءة عتماتها‪ .‬لأن ال �ق��ارئ وه��و يت�صفح في �إطار �ضيق ال يتعدى مر�أى الب�صر‪.‬‬ ‫المجموعة الق�ص�صية‪ ،‬ي��درك من خ�لال هذا‬ ‫�إن القا�ص عندما يقدم ال�صورة الف�ضائية‬ ‫التوزيع قدرة القا�ص على فهم دواليب الف�ضاء ب�شكل جمالي متنا�سق يحترم �أب�ع��اد الف�ضاء‬ ‫الق�ص�صي و�أ�� �س ��راره‪ ،‬وع�ن��دم��ا يك�شف ه��ذه المتخيل‪� ،‬إنه ي�سهم في خلق متعة القراءة لدى‬ ‫المغاليق تنك�شف لديه مغاليق العالم وخباياه‪ .‬القارئ من خالل تتبعه لو�صف ف�ضاءات الق�صة‬ ‫وتنجلي ر�ؤي��ة القا�ص �إل��ى العالم وما توحي به‬ ‫الق�صيرة جدا عبر بوابة الكلمات؛ ما ي�ساعد‬ ‫هذه الأ�شكال وهذا التوزيع للألفاظ من معان‬ ‫على تعميق ال�صلة بين الق�صة الق�صيرة جدا‬ ‫قابعة في ال�شعور الملقي والمتلقي‪.‬‬ ‫والقارئ‪ ،‬وما يورطه ويدخله كعن�صر م�شارك في‬ ‫فالقا�ص الحقيقي‪ ،‬هو الذي يعي�ش قلق بيا�ض ت�شكيل ر�ؤية م�شابهة لر�ؤية القا�ص‪ ،‬على اعتبار‬ ‫ال�صفحة كما يعي�ش قلق �سوادها؛ لأنه محكوم �أن القا�ص يقدم الف�ضاء الق�ص�صي الق�صير‬ ‫بعدد قليل من الكلمات التي ينبغي عليه توزيعها ج��دا كمكون م��ن مكونات ال�سرد الق�ص�صي‬ ‫التوزيع المنا�سب؛ �إن��ه يعي�ش قلقا في الحيز وعن�صرا مهما في عملية الق�ص‪ ،‬كما �أنه يقوم‬ ‫الزمكاني‪ ..‬ما يدفعه �إلى ال�صمت الهنيهي لكي ب��إي�ه��ام ال �ق��ارئ بحقيقة الف�ضاء الق�ص�صي‬ ‫يترك المجال وا�سعا لهذه الكلمات القليلة لكي الق�صير جدا بوا�سطة تداخل المكاني بالزماني‬ ‫تحكي عن نف�سها‪ ،‬وعن امتدادها وا�ستمرارها بنف�سية القا�ص‪ ،‬ويجعله ي�شعر ب�أنه يعي�ش في‬ ‫في الوجود‪ ،‬وتفتح المجال للقارئ لي�شارك في العالم الحقيقي ولي�س في عالم الخيال‪ ،‬وكلما‬ ‫كتابة الق�صة الق�صيرة ج��دا‪ ،‬وهكذا يتداخل ك��ان تكثيف الحديث واخ�ت��زال��ه ع��ن الف�ضاء‬ ‫ف�ضاء الوقائع مع ف�ضاء الق�ص الق�صير جدا الق�ص�صي الق�صير ج ��دا‪ ..‬كلما ك��ان العمل‬ ‫وتتداخل معهما نف�سيتا القا�ص والقارئ وروح الق�ص�صي الق�صير جدا �أقرب �إلى الحقيقة‪.‬‬ ‫الن�ص الق�ص�صي الق�صير جدا‪.‬‬ ‫وكلما ك��ان الف�ضاء الق�ص�صي قريبا من‬ ‫‪- 3‬الق�صة الق�صيرة جدا و�شجون‬ ‫ال�شريحة االجتماعية للقراء‪ ،‬كلما كانت الق�صة‬ ‫الف�ضاء الق�ص�صي الق�صير جدا‬ ‫الق�صيرة ج��دا قريبة من حياة ال�ق��ارئ‪ ،‬ومن‬ ‫فالف�ضاء الق�ص�صي الق�صير جدا يثير في َث��مَّ ت�ساعده على التفاعل م��ع �أح ��داث العمل‬ ‫المتلقي الإح�سا�س بالكينونة في الزمان والمكان الق�ص�صي‪ ،‬ومع حميمية الف�ضاء ودفء �أركانه‬ ‫بمفهوم هايدجر‪ ،‬لأن��ه ال يمكن ل�ل�أح��داث �أن وزواي ��اه‪ .‬كما �أن الف�ضاء ال يقدم في الق�صة‬ ‫تنه�ض وتنمو من دون ف�ضاء يحت�ضنها‪ ،‬غير �أن الق�صيرة م��ن �أج��ل ال��زي�ن��ة‪� ،‬أو لأداء وظيفة‬ ‫ما يميز الف�ضاء في الق�صة الق�صيرة جدا هو تجميلية‪� ،‬أو زخ��رف�ي��ة‪ ،‬و�إن �م��ا ي�ق��دم كعن�صر‬ ‫ميزة التكثيف واالختزال المف�ضيان �إلى حميمة من �أه��م العنا�صر الم�شكلة للعمل الق�ص�صي‬ ‫الف�ضاء واالن�سجام والتناغم معه؛ فغالبا ما الق�صير جدا‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫وم��ن هنا‪ ،‬ت�أتي مهمة الف�ضاء الق�ص�صي‬ ‫الق�صير جدا في �إيهام القارئ و�إقناعه بحقيقة‬ ‫ما يقر�أ‪ ،‬لأنه يمزج الواقعي بالخيالي‪ ،‬ويتدخل‬ ‫عميقا في تف�سير وو�صف الف�ضاءات التي تجري‬ ‫فيها الأح� ��داث ال�ت��ي ه��ي ج��زء ال ي�ت�ج��ز�أ من‬ ‫فالقا�ص �إ�سماعيل البويحياوي ا�ستطاع‬ ‫�شخ�صيات الق�صة الق�صيرة جدا‪.‬‬ ‫�أن ينقل القارئ من ف�ضاء المدينة �إلى ف�ضاء‬ ‫وتعد الأر�ض بمحيطها االجتماعي والنف�سي القرية التي �شبَّ وترعرع فيها القا�ص‪ ،‬وجعلنا‬ ‫من �أهم الف�ضاءات التي تناولها كتاب الق�صة نتلم�س ونتح�س�س الف�ضاءات التي كان يتحرك‬ ‫الق�صيرة ج��دا؛ فهي م�صدر ه��وي��ة الإن�سان فيها‪ ،‬وك��أن��ه يقدمها في �شكل لوحة فنية لها‬ ‫ووجوده‪ ،‬وبينها وبينه عالقة حميمية ا�ستطاعت �أب �ع��اد ث�لاث��ة‪ ،‬وو�سيلته ف��ي ذل��ك تحكمه في‬ ‫ا�ستيعاب �أعماله الق�ص�صية‪ ،‬كما نجد عند عز الأ�سلوب واختيار الكلمات المنا�سبة لذلك‪ ،‬وفق‬ ‫الدين الماعزي في «حب على طريقة الكبار»‪ ،‬تنا�سق وترتيب يخدم المعنى الوا�صف للف�ضاء؛‬ ‫وعند �إ�سماعيل البويحياوي في «ندف الروح‪ ».‬وو�سيلته في ذلك �أنه يقدم ف�ضاءات من واقع‬ ‫القارئ‪ ،‬ولي�ست ف�ضاءات مجردة لكي يح�س�سه‬ ‫لقد ربطت الق�صة الق�صيرة ج��دا عالقة‬ ‫بحقيقة هذا الواقع‪.‬‬ ‫وطيدة بين الأر�ض والإن�سان‪ ،‬وبينت قيمتها في‬ ‫يعتمد البويحياوي على �أ��س�ل��وب الو�صف‬ ‫�أعماقه وكيانه ما لها من داللة في كيانه‪ ،‬وما‬ ‫تخزنه من مخزون ثقافي وح�ضاري و�إن�ساني التعبيري الذي يهتم ب�أثر الف�ضاء على المتلقي‬ ‫له ج��ذور �ضاربة في �أعماق النف�س والذاكرة �أكثر من اهتمامه بالف�ضاء نف�سه‪ ،‬بمعنى �أنه‬ ‫الإن�سانية‪ .‬معبرا عن التغيرات التي عرفتها ال يقدم الف�ضاءات مجردة بعيدة عن الإن�سان‪،‬‬ ‫الأر���ض‪ ،‬واكت�ساح الإ�سمنت الم�سلح للخ�ضرة‪ ،‬و�إنما يقدمها في حركيتها‪ ،‬وفي عالقتها بروح‬ ‫وم��وت ال�غ��ر���س‪ ،‬وق��ط��ع الأ���ش��ج��ار‪ ،‬وتغيّر بنية الإن�سان‪ ،‬وك�أننا عندما نقر�أ الق�صة‪ ..‬ن�شعر‬ ‫ال�ح�ي��اة االجتماعية واالق�ت���ص��ادي��ة‪ ،‬وطبيعة ب ��روح ال�ق��ا���ص تتخلل التف�ضيئ الق�ص�صي‬ ‫المنتوج الغذائي للمواطن في البادية‪ ،‬ومغادرة وتحرك الأحداث‪ ،‬معتمدا في ذلك قدرته على‬ ‫الطيور لأوكارها‪ ،‬كل هذه المعطيات عك�ستها التخيل الذي يعطي للمادة الق�ص�صية المختزلة‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا في بنائها وت�شكيل بنيتها والق�صيرة جدا روحا وحيوية‪.‬‬ ‫ال�سردية‪ ،‬لأنه ال يمكن ف�صل الف�ضاء الق�ص�صي‬ ‫فعندما ي�صف الأر���ض‪ ،‬ي�صفها وهي تعانق‬ ‫عن مكونات ال�سرد الق�ص�صي الق�صير جدا‪ ،‬المطر‪ ،‬لكي يلدا معا البذور‪ ..‬وهي حية تنمو‬ ‫و�أي ف�صل بين هذه المكونات هو من �أجل ت�سهيل وتحيا كل يوم‪ ،‬وهكذا ت�صبح الأر�ض كائنا حيا‬ ‫الدرا�سة فقط‪.‬‬ ‫يفرح بحلول ف�صل الربيع‪ ،‬وتنتع�ش بقطرات‬ ‫ون�شير ب�أن جمالية الف�ضاء الق�ص�صي تكمن المطر‪ ،‬وهذه الحيوية تمتزج بم�شاعر القارئ‪.‬‬ ‫في قدرة القا�ص على نقل القارئ من الف�ضاء‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ال��ذي يحيط به �إل��ى ف�ضاء الق�صة الق�صيرة‬ ‫جدا‪ ،‬وهذه الطاقة الخالقة هي التي ت�ستطيع‬ ‫�أن تمحو المحيط الخارجي الحقيقي‪ ،‬وتجعل‬ ‫محيط الق�صة الق�صيرة جدا بديال متخيال‪.‬‬

‫فالأر�ض في ق�ص�ص البويحياوي هي ذلك‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪31‬‬


‫الف�ضاء المنفتح‪ ،‬الممتد الوا�سع الذي ي�ؤلف بين‬ ‫م�شاعر النا�س الب�سيطة‪ ،‬عك�س تناوله للمدينة‬ ‫التي ي��راه��ا ذل��ك الف�ضاء المغلق ال��ذي يعكر‬ ‫�صفاء الحياة‪ ،‬ويُعبّر عن �سخط النا�س ورف�ضهم‬ ‫لتعقيدات الحياة‪.‬‬ ‫كما �أننا ونحن نقر�أ المجموعة الق�ص�صية‬ ‫«ن��دف ال��روح»‪ ،‬ن�شعر ك��أن الف�ضاء �إن�سان حي‬ ‫ا�ستطاع القا�ص �أن�سنته وبثَّ الروح فيه‪ ،‬جاعال‬ ‫منه �شخ�صية ممثلة تقدم �أدواره���ا في ف�ضاء‬ ‫الق�صة الق�صيرة ج��دا؛ فالنافذة ف��ي لوحة‬ ‫الغالف وف�ضاء البيت القديم بكل مكوناته‪،‬‬ ‫تدخل في عالقة حميمة مع المتلقي‪ ،‬تعانقه‬ ‫وتداعبه في جو حميمي مليء بالحيوية والحركة‬ ‫والدينامية‪.‬‬ ‫وع�ن��د ع��ز ال��دي��ن ال�م��اع��زي نجد الف�ضاء‬ ‫الق�ص�صي جزء ًا ال يتجز�أ من الق�صة الق�صيرة‬ ‫جدا‪ ،‬بل قد نقول ب�أن التف�ضئ الق�ص�صي هو‬ ‫الق�صة نف�سها‪ ،‬لأن �أغ�ل��ب ق�ص�صه اعتمدت‬ ‫التف�ضية الق�ص�صية كمنطلق لتفريغ المحتوى‬ ‫الق�ص�صي‪ ،‬وم��ن خالله تفهم �أب�ع��اد الق�صة‬ ‫الق�صيرة جدا وا�ستراتيجيتها (ر�سم الطفل‬ ‫م�ستطيال‪ ،‬مثلثا‪ ،‬مدخنة‪� ،‬سلكا هوائيا عاليا‬ ‫ف��ي �آخ����ره ���ش��ب��ك��ة‪ ..‬و���ض��ع ال��ن��واف��ذ الزجاجية‬ ‫وال����ب����اب ال��خ�����ش��ب��ي ودرج ال�������س�ل�ال���م‪ ،‬م��رب��ع��ا‬ ‫للحديقة و�شجرة با�سقة‪ ..‬ر�سم نف�سه طفال‬ ‫يحمل محفظة متجها �إلى المدر�سة‪ ،‬مفتونا‬ ‫بالر�سم‪ ،‬كان الطفل يمعن بعينيه في الأعلى‬ ‫(‪)8‬‬ ‫�سحابة ���س��وداء �أم��ط��رت‪ ..‬فمحت الر�سم‪).‬‬ ‫موت �سامورائي‪.‬‬

‫وتلخ�ص �سيرة كائن �إن�ساني حي له طموح في‬ ‫الحياة‪ ،‬ير�سم ويخطط م�ستقبال غام�ضا وغارقا‬ ‫في التعتيم والظالم؛ ق�صة تحكي �سيرة حياة‬ ‫�أجيال كثيرة ومتعددة عا�شت الويل وعانت من‬ ‫�شظف العي�ش؛ حياة فئة كثيرة من �شباب المغرب‬ ‫الذين لم ي�ستطيعوا التعبير عن معاناتهم‪ ،‬لكن‬ ‫القا�ص عز الدين الماعزي ا�ستطاع ب�أدبيته‬ ‫الوقوف على هذه المعاناة والتعبير عنها �أدبا‪.‬‬ ‫فالق�صة تجمع الأيادي الثالث‪ ..‬يد القا�ص‬ ‫وي��د الق�صة وي��د ال�ق��ارئ‪ ،‬ت�شعر وك�أنها كتبت‬ ‫بنف�سية وهوى واحد‪ ،‬فيها حميمة ودفء الف�ضاء‬ ‫الذي �شبَّ وترعرع فيه كل من القا�ص والقارئ؛‬ ‫لأن الق�صة تعني كل �شاب عا�ش هذه الحياة‪،‬‬ ‫ولأن الق�صة ف��ي حقيقتها ه��ي ق�صة �أج�ي��ال‬ ‫تتكرر‪ ،‬لكن مَ ��ن ا�ستطاع تقديمها بين يدي‬ ‫القارئ هو القا�ص بحرفية عالية وبلغة قريبة‬ ‫من ح�س المتلقي بمختلف م�ستوياته‪ ،‬حيث كل‬ ‫واحد يقر�ؤها بح�سب ر�ؤيته �إلى العالم وبح�سب‬ ‫زاوية الر�ؤية عنده‪.‬‬ ‫‪ -4‬حركية ال�صورة في الق�صة الق�صيرة جدا‬

‫ومن هذا المدخل الب�سيط لمعنى الف�ضاء‬ ‫ووظيفته في الق�صة الق�صيرة جدا ندخل �إلى‬ ‫بوابة �أعمق‪ ،‬وهي‪� :‬أيهما �أ�سبق الكلمة �أم ال�صورة‬ ‫في بناء هذا الف�ضاء؟ لأننا ونحن نقر�أ الق�صة‬ ‫الق�صيرة ج��دا‪ ،‬ال ت�ؤثر فينا الكلمات بقدر ما‬ ‫ت�ؤديه فينا ال�صور التي تحدثها هذه الكلمات في‬ ‫نفو�سنا‪ ،‬كقراء متتبعين للفظة وهي تتحرك في‬ ‫ف�ضاء الق�صة الق�صيرة جدا؛ لأن الكلمات ت�ؤدي‬ ‫وظيفة �أولية تليها وظيفة �أق��وى و�أهمية‪ ،‬وهي‬ ‫فعند ق ��راءة ه��ذه الق�صة الق�صيرة جدا وظيفة ال�صورة التي تقع قوية في نف�سية القارئ‪،‬‬ ‫بالرغم من ب�ساطتها ف�إنها تحمل معانٍ كثيرة‪ ،‬فنحن عندما نعود �إلى ق�صة «موت �سامورائي»‪،‬‬

‫‪32‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫فمن خ�لال ال�ك�ل�م��ات‪ ،‬وم��ن خ�لال دالالت‬ ‫الأل � ��وان‪ ،‬ت�ت��داع��ى مجموعة م��ن ال���ص��ور في‬ ‫ذه��ن المتلقي‪ ،‬بل تت�شكل لديه معانٍ متعددة‬ ‫و�سيناريوهات مختلفة ع��ن �سبب ه��ذا الفعل‬ ‫ال��ذي ت�سبب في قتله‪ ،‬وهكذا تحكي الكلمات‬ ‫ما لم ت�ستطعه ال�صورة ال�سينمائية‪ .‬فقد تمكن‬ ‫الهدار من خالل الكلمة �أن يخلق لوحة يت�صارع‬ ‫في تفكيك �أ�سرارها القراء‪.‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ن�شعر ب�أن ال�صورة كانت تتوالد وحدها متتابعة‬ ‫في خط واحد قادمة من الخارج‪ ،‬متخذة �شكال‬ ‫معينا في ذه��ن المتلقي‪ ،‬وق��د اعتمد القا�ص‬ ‫في ذلك على تقنية الو�صف الذي ي�ساعد على‬ ‫التيقن والإيمان بحقيقة ما نقر�أ‪ ،‬ويترك المجال‬ ‫وال�م��دى مفتوحا وقابال للكثير من ال�ق��راءات‬ ‫والت�أويالت‪.‬‬

‫يقدم لنا عبداللطيف الهدار م�شهدا �سينمائيا‬ ‫اعتمد فيه على تقنية ب�صرية‪� ،‬سرد فيها حالة‬ ‫الجندي الب�سيط الذي يرتدي الزي الع�سكري‬ ‫المعروف باللون الأخ�ضر‪ ،‬ولكن في ي��وم من‬ ‫الأي��ام رج��ع جثة هامدة م�ضرجة في دمائها‪،‬‬ ‫وك�أنها كتبت تاريخ هذا الجندي و�سيرته‪.‬‬

‫ونالحظ �أن عز الدين الماعزي ك��ان ب�سيطا‬ ‫في اختيار الكلمات‪ ،‬لم يعتمد �أ�ساليب ا�ستعارية‪،‬‬ ‫والق�صة خالية من الت�شبيهات واالنزياحات اللغوية‪،‬‬ ‫وق��د ت��رك للفظة ال��ح��ري��ة ف��ي تتبع ك��ل الأ���ش��ك��ال‬ ‫الهند�سية والمعمارية‪ ،‬م��ن دون �إدخ ��ال ال��ذات‬ ‫ال�ساردة‪ ،‬و�إنما ترك الق�صة تعبر عن ف�ضاءاتها‬ ‫بنف�سها ب�ضمير الغائبة ال��ذي يدفع ال�ق��ارئ �إلى‬ ‫محوه‪ ،‬و�إ�ضافة ا�سمه كذات �ساردة؛ وهكذا تتنوع‬ ‫ف��ال���ص��ورة وح��ده��ا ال �ت��ي خلقت الكلمات‬ ‫�أ�شكال ال�صورة بتنوع وتعدد الذوات القارئة‪.‬‬ ‫و�أعطتها معنى (يرتدي‪ -‬ي��ودع ‪ -‬لم يعد �إلى‬ ‫وف��ي «ال��و���ش��م ���ص��وت��ا» للقا�ص عبداللطيف بيته خرقة خ�ضراء‪ -‬ر�صعتها ثقوب �سوداء‪-‬‬ ‫الهدار تنبعث رائحة ال�صورة وتنجلي ق�سماتها كتابة ح �م��راء)(‪ ،)10‬فال�صورة هي التي تختار‬ ‫م��ن خ�لال عتبة ال�ع�ن��وان حيث ه�ن��اك �سمي�أة الكلمة وت�ستدعيها لكي تقدم المعنى المطلوب؛‬ ‫في العنوان‪ ،‬الغر�ض منها تقديم المجموعة فنحن كقراء ت�صلنا ال�صورة قبل �أن ت�صلنا‬ ‫الق�ص�صية على �أنها منمنمات متحركة داخل الكلمة‪� ،‬إننا نفكر بال�صورة وال نفكر بالكلمات‪،‬‬ ‫ف�ضاء المجموعة الق�ص�صية‪ ،‬تكون ال�صورة لأن الكلمات اختراع ي�أتي بعد ال�صورة‪ ،‬وهي �أداة‬ ‫اللفظية بطلتها‪ ،‬حيث الكلمات تتحرك فيها ت�أتي لكي تقدم معنى ال�صورة‪ ،‬بل �أكثر من هذا‬ ‫محدثة رجة في ذهن المتلقي‪ ،‬وت�ساعده على تقدم فائ�ض المعنى الذي يبحث عنه القارئ‪.‬‬ ‫خلق عوالم متخيلة يلتقي فيها القا�ص والقارئ‬ ‫والن�ص الق�ص�صي لأداء اللوحة الق�ص�صية ه‪ :‬المفارقة في الق�صة الق�صيرة جدا‬ ‫‪ -1‬المفارقة لغة وا�صطالحا‬ ‫المقروءة ب�صيغ و�صور مختلفة؛ ففي ق�صة خرج‬ ‫الق�صة الق�صيرة ج��دا من حيث هي مادة‬ ‫ولم يعد «الرجل العادي الذي اعتاد �أن يرتدي‬ ‫وزرت��ه الخ�ضراء‪ ،‬وي��ودع �أهله كل �صباح‪ ،‬قبل لغوية‪ ،‬ال تطابق الواقع المادي وال تحاكيه‪ ،‬بل‬ ‫�أن يخرج لال�سترزاق على غير العادة‪ ،‬لم يعد تفارقه؛ وحركة المفارقة هي حركة نمو وتطور‬ ‫�إل��ى بيته ذاك الم�ساء‪ .‬ك��ل م��ا ع��اد منه خرقة ال ت���وازي ال��واق��ع فتحلق ف��وق��ه كالظل يواكب‬ ‫خ�ضراء‪ ،‬ر�صعتها ثقوب �سود وكتابة حمراء»(‪� .)9‬صاحبه‪ ،‬بل تنمو وتنه�ض على حدٍّ �صراعي هو‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪33‬‬


‫ح ُّد التناق�ضات‪.‬‬

‫الذي قيل من معنى لم يدل عليه القول(‪.)12‬‬ ‫�إنها ت�ؤدي المعنى الدقيق‪ ،‬وتحدث �أبلغ الأثر‬ ‫ب�أقل الو�سائل تبديرا‪ ،‬وذل��ك بخلق بنيات �أو‬ ‫م�سارات يحكمها التناق�ض واالختالف‪� ،‬إذ يحيل‬ ‫ال�ضد على �ضده في�ضيئه دالليا‪ ،‬ك ��أن ي�ضيء‬ ‫الموت الحياة والمر الحالوة‪ ،‬وال�سواد البيا�ض‪..‬‬

‫وال يتحقق البناء ال�سردي في تجربة الق�صة‬ ‫الق�صيرة ج��دا �إال عبر ك �وّة المفارقة‪ ،‬وقبل‬ ‫الخو�ض في المو�ضوع‪ ،‬البد من تعريف مفهوم‬ ‫المفارقة «‪ ،»L’ironie‬فهي ا�سم مفعول من‬ ‫«فارق» ويقال‪ :‬فارق ال�شئ مفارقة وافتراقا �أي‬ ‫باينه‪ ،‬وف��ارق الرجل ام��ر�أت��ه مفارقة وفراقا‪:‬‬ ‫�أي �أنها تتمثل في �أوج��ه التناق�ض والت�ضاد‬ ‫بَاينها وافترق عنها‪ .‬والفرقان بمعنى القر�آن في عالقات و�أط��راف يجب �أن تكون متوافقة‪،‬‬ ‫وهو كل ما فرق بين الحق والباطل‪.‬‬ ‫وكذلك فيما يظهر لنا عك�س حقيقته‪� ،‬إذ نرى‬ ‫وف���ي اال� �س �ت �ع �م��ال اال� �ص �ط�لاح��ي ل ��م ت��رد العبث في الجد‪ ،‬والزيف في الحقيقة‪ ،‬ولهذا‬ ‫باللفظ نف�سه‪ ،‬و�إنما وردت بمعان �أخ��رى منها تت�صل المفارقة في كثير من �صورها بالتهكم‬ ‫«ال�ت�ع��ري����ض»‪ ،‬و«ال��ت�����ش��ك��ك»‪ ،‬و«المت�شابهات» وال�سخرية والده�شة والألم والإح�سا�س بالفجيعة‬ ‫و«تجاهل ال��ع��ارف»‪ ،‬و«ت�أكيد المدح بما ي�شبه والم�أ�ساة‪ ،‬والمفارقة ت�سير عك�س �أفق انتظار‬ ‫المتلقي‪ ،‬فت�صدمه بقفلتها المده�شة‪� ،‬إن القا�ص‬ ‫الذم»‪ ،‬و«ت�أكيد الذم بما ي�شبه المدح»‪.‬‬ ‫ينتقي كلماته وعباراته في اتجاه تقابلي‪ ،‬يقوم‬ ‫�أم��ا في ال��درا��س��ات الغربية‪ ،‬فقد ج��اء في‬ ‫وينه�ض على الدينامية والحياة في ن�سيج الجملة‬ ‫«معجم �أك�سفورد المخت�صر»‪� ،‬أن «المفارقة هي‬ ‫الق�ص�صية‪.‬‬ ‫�أن يعبر المرء عن معناه بلغة توحي بما يتناق�ض‬ ‫‪�-2‬أنواع المفارقة‬ ‫هذا المعنى �أو يخالفه‪ ،‬وال �سيما ب�أن يتظاهر‬ ‫ال�م��رء بتبني وجهة نظر الآخ���ر‪� ،‬إذ ي�ستخدم‬ ‫ق�سم ميويك المفارقة �إلى ق�سمين(‪:)13‬‬ ‫لهجة تدل على المدح‪ ،‬ولكن بق�صد ال�سخرية‬ ‫‪ -1‬المفارقة اللفظية‬ ‫�أو التهكم‪ ،‬و�إم ��ا ه��ي ح��دوث ح��دث �أو ظرف‬ ‫‪ -2‬مفارقة الموقف‬ ‫مرغوب فيه‪ ،‬ولكن في وقت غير منا�سب البتة‪،‬‬ ‫�أم��ا المفارقة اللفظية فهي نمط كالمي‪،‬‬ ‫كما لو كان في حدوثه في ذلك الوقت �سخرية‬ ‫من فكرة مالءَمة الأ�شياء‪ ،‬و�إم��ا هي ا�ستعمال �أو طريقة م��ن ط��رائ��ق التعبير ي�ك��ون المعنى‬ ‫اللغة بطريقة تحمل معنى باطنا موجها لجمهور المق�صود فيها مناق�ضا �أو مخالفا للمعنى‬ ‫خ��ا���ص م�م�ي��ز‪ ،‬وم�ع�ن��ى �آخ���ر ظ��اه��ر ًا موجها الظاهر‪ ،‬وهي نمطان‪� ،‬أطلق على الأول �أ�سلوب‬ ‫للأ�شخا�ص المخاطبين �أو المعنيين بالقول»(‪« .)11‬الإبراز» وعلى الثاني �أ�سلوب «النق�ش الغائر»‪.‬‬ ‫�أما مفارقة الموقف‪ ،‬فقد ق�سمها �إلى خم�سة‬ ‫فالمفارقة بهذا المعنى‪ ،‬هي فن قول �شيء‬ ‫م��ن دون قوله حقيقة‪� ،‬أي �أن�ن��ا ف��ي المفارقة �أق�سام هي‪:‬‬ ‫نتو�صل �إلى فهم المعنى المق�صود‪ ،‬ولي�س من‬ ‫خالل ما يدل عليه لفظا‪ ،‬بل بما يكمن في اللفظ‬

‫‪34‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫�أ‪ -‬مفارقة التنافر الب�سيط‪.‬‬ ‫ب‪ -‬مفارقة الأحداث‪.‬‬


‫تبليغ ر�سالة معينة‪ ،‬فيها حمولة معرفية ور�ؤية‬ ‫�إلى العالم‪ ،‬حيث الخطاب الق�ص�صي الق�صير‬ ‫ج��دا بقدر ما ي�ستح�ضر رون��ق الكلمة البليغة‬ ‫وجمالها‪ ،‬بقدر ما يغو�ص في باطن ال�شخ�صية‬ ‫كا�شفا عن �أغوارها‪ ،‬مقربا �صورتها من القارئ‪.‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫حول جثمان الوالد‪« .‬اجتمع الأب��ن��اء بالمنزل‬ ‫ت‪ -‬مفارقة الدرامية‪.‬‬ ‫لالحتفاء بقرب خ��روج �أبيهم من الم�شفى‪..‬‬ ‫ث‪ -‬مفارقة خجاع النف�س‪.‬‬ ‫هي�أوا كعكة لإكمال الفرحة‪ ..‬رن الهاتف‪ :‬لقد‬ ‫ج‪ -‬مفارقة الورطة‪.‬‬ ‫وقد ق�سم المفارقة من ناحية درجاتها �إلى غادر الحياة‪� ..‬سارعوا �إلى التهام التركة‪.)14(»..‬‬ ‫ثالث درجات‪:‬‬ ‫فالق�صة الق�صيرة جدا اعتمدت هنا على‬ ‫ما ي�سمى بالمتوازيات‪ ،‬وه��ي تقنية اقتب�ستها‬ ‫�أ‪ -‬المفارقة ال�صريحة‪.‬‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا من مجال الريا�ضيات‪،‬‬ ‫ب‪ -‬المفارقة الخفية‪.‬‬ ‫وه��ي طريقة تعتمد على ال�سرد المتوازي في‬ ‫ت‪ -‬المفارقة الخا�صة‪.‬‬ ‫الق�صة ال��واح��دة‪ ،‬فنرى ه��ذا الن�ص الق�صير‬ ‫كما ق�سمها من ناحية طرائقها و�أ�ساليبها جدا قد احتوى ق�صتين نقر�ؤهما في وقت واحد‪،‬‬ ‫�إلى �أربعة �أق�سام هي‪:‬‬ ‫ق�صة االحتفال ب�شفاء ال��وال��د‪ ،‬وق�صة تق�سيم‬ ‫�أ‪ -‬المفارقة الال�شخ�صية‪.‬‬ ‫التركة‪ ،‬وهي مفارقة اعتمد فيها القا�ص ال�سرد‬ ‫ب‪ -‬مفارقة اال�ستخفاف بالذات‪.‬‬ ‫المتوازي‪ ،‬على اعتبار �أن الق�صة الق�صيرة جدا‬ ‫ت‪ -‬المفارقة ال�ساذجة‪.‬‬ ‫بمثابة متوالية �سردية فيها نقطة االنطالق‬ ‫ث‪ -‬المفارقة المم�سرحة‪.‬‬ ‫ونقطة االنزياح‪ ،‬حيث تتعقد الق�صة الق�صيرة‬ ‫والقا�ص ال يكتب الق�صة الق�صيرة جدا من ج��دا‪ ..‬وت�ب��د�أ تبحث عن حل منا�سب لها‪ ،‬ثم‬ ‫�أجل التفنن في اختيار الكلمات‪ ،‬وما تحدثه من تنتهي بعد ذلك بنهاية‪ ،‬وغالبا ما تكون القفلة‬ ‫جمالية و�شعرية �آ�سرة‪ ،‬و�إنما يكتبها من �أجل عك�س ما يتوقعه القارئ‪ ،‬وهنا تكمن المفارقة‪.‬‬ ‫�إن��ه ال �ت��وازي المح�سو�س ال��ذي يلج�أ �إليه‬ ‫عبدالرحيم ال�ت��دالوي في ق�ص�صه الق�صيرة‬ ‫ج��دا‪ ،‬لكنه ت��وازٍ يتكامل فنيا لخدمة الق�صة‬ ‫ال�ق���ص�ي��رة ج ��دا ل��دي��ه‪ ،‬وم ��ن ث��م يمكننا �أن‬ ‫ن�صف هذا التوازي بالتوازي المت�صل‪ ،‬ولي�س‬ ‫المنف�صل‪ ،‬لأنه ات�صال ينبع من ارتباط وثيق‬ ‫ب�ج��و الق�صة ال�ق���ص�ي��رة ج��دا و�شخ�صياتها‬ ‫المفتر�ضة الم�ضمرة في الكلمات‪� ،‬إنه تواز ي�صل‬ ‫�إلى حد االمتزاج والت�آلف‪ ،‬ليقدم وحدة واحدة‬ ‫هي الق�صة الق�صيرة جدا كما تقدمها طاقة‬ ‫التدالوي الفنية‪.‬‬

‫ف��ف��ي ق�صة «ك��ع��ك��ة» للقا�ص عبدالرحيم‬ ‫ال��ت��دالوي‪ ،‬ن��رى الكلمات تترحك ف��ي ف�ضاء‬ ‫الق�صة الق�صيرة جدا‪ ،‬لتر�سم م�شهدا مفارقا‬ ‫ا�ستهله القا�ص باالحتفاء العائلي بمنا�سبة‬ ‫خ��روج الأب من الم�شفى‪ ،‬لكن النهاية كانت‬ ‫حزينة �ضد ما كان يتوقعه القارئ‪ ،‬حيث لم تعد‬ ‫كعكة الفرح هي مو�ضوع الق�سمة‪ ،‬و�إنما كعكة‬ ‫والتوازي لدى التدالوي يتكامل بو�ضوح حين‬ ‫التركة هي محل الق�سمة بين الإخوة المجتمعين نراه ي�أخذ بتعميق م�ستويين �أو عدة م�ستويات‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪35‬‬


‫�أخ��رى في ق�ص�صه الق�صيرة ج��دا ف�ضال عن‬ ‫ال �ت��وازي المح�سو�س‪� ..‬إن�ن��ا ن�شعر بالم�ستوى‬ ‫النف�سي يتوازى مع الم�ستوى االجتماعي‪ ،‬والمثال‬ ‫على ذلك وا�ضح في ق�صة «ف�ضيحة» التي تك�شف‬ ‫ع��ن نف�سية العري�س ليلة ال��دخ�ل��ة‪ ،‬وف�ضيحة‬ ‫العرو�س عندما وجدها قد فقدت بكارتها‪..‬‬ ‫ال�شئ الذي ترف�ضه المجتمعات العربية‪.‬‬ ‫«هو العب ماهر‪ ..‬رائع الت�سديد‪ ..‬ق�ضى ليلة‬ ‫دخلته يراوغ بحثا عن ثغرة لت�سديدة االنت�صار‪..‬‬ ‫ف��ي ال�صباح‪ ،‬و�أم ��ام ال�صحافيين‪� ،‬أع�ل��ن �أن‬ ‫الكرة مفرغة الهواء» ف�ضيحة(‪ )15‬وغيرهما من‬ ‫الق�ص�ص‪ ،‬ون��رى ال�ت��وازي قائما في الت�صوير‬ ‫�أي�ضا حين ي�صور الأحداث العادية متوازية مع‬ ‫ت�صوير الخلفية االجتماعية والخلفية النف�سية‪.‬‬ ‫�إن التوازي لدى التدالوي ينبئ عن دقة فنية‪،‬‬ ‫�أو حرفة مقننة في مجال الق�صة الق�صيرة جدا‪،‬‬ ‫فال يكتبها كهاو يريد �أن يملأ م�ساحات من‬ ‫الورق‪ ،‬وال ين�سجها من باب الترف الذي يمار�سه‬ ‫بع�ض الكتاب حين يرون في الق�صة الق�صيرة‬ ‫ *‬

‫(‪) 1‬‬ ‫(‪ )2‬‬ ‫(‪ )3‬‬ ‫(‪ )4‬‬ ‫(‪ )5‬‬ ‫(‪ )6‬‬ ‫(‪ )7‬‬ ‫(‪ )8‬‬ ‫(‪ )9‬‬ ‫(‪ )10‬‬ ‫(‪ )11‬‬ ‫(‪ )12‬‬ ‫(‪ )13‬‬ ‫(‪ )14‬‬ ‫(‪ )15‬‬

‫‪36‬‬

‫جدا نوعا من الكتابة ال�سهلة‪� ،‬إنه يعدها نوعا‬ ‫من الفن القائم على العلم والدرا�سة‪ ،‬ف�ضال عن‬ ‫الموهبة والخبرة التي اكت�سبها بحكم درا�سته‬ ‫لتقنيات كتابة الق�صة الق�صيرة جدا الحداثية‪،‬‬ ‫فجملة واحِ دة «�سارعوا �إلى التهام التركة» تعبّر‬ ‫عن الفكرة‪ ،‬وتنقل لنا المعنى نقال ال يخلو من‬ ‫ت�صوير‪ ،‬وه��ذه هي بالغة التكثيف؛ ففي هذه‬ ‫الجملة �سيل م��ن المعاني التي تتداعى حرة‬ ‫في ذهن المتلقي‪ ،‬يتخيلها في مخيله الذهني‪،‬‬ ‫ويترجمها �إل��ى مجموعة من ال��دالالت‪ ،‬تختلف‬ ‫باختالف م�ستويات التلقي والت�أويل‪ .‬ففي هذه‬ ‫الجملة الق�ص�صية �سل�سلة م��ن المحموالت‬ ‫المتباعدة‪� ،‬أ ْو المُتمحْ ورَة ح��ول �شيءٍ واح��د‪،‬‬ ‫لك َنّها بالرغم من تباعدها‪ ،‬ف�إنها تلقي ال�ضوء‬ ‫على مغزى تلك المحموالت‪� .‬إنها تكتنز فيها‬ ‫ال��دوال اكتناز ًا خ�صباً‪ ،‬وتلتئم على �شبكة من‬ ‫القيم والمعاني والإ�شارات والعالمات والرموز‪..‬‬ ‫تتداخل فيما بينها على نحو حيوي متوالد‪.‬‬

‫ناقد �أدبي من المغرب‪.‬‬ ‫رومان جاكب�سون‪ ،‬محاولة في علم اللغة العام �ص ‪.210‬‬ ‫ابن الأثير ‪ -‬المثل ال�سائر ‪ -‬تحقيق‪ :‬د‪� .‬أحمدالحوفي ‪ -‬بدوي طبانة‪� -‬ص ‪.307‬‬ ‫نعيمة الق�ضيوي االدري�سي‪ -‬رق�ص المرايا – �ص‪.40‬‬ ‫فيليب هامون‪� -‬سيميولوجية ال�شخ�صيات الروائية – �ص ‪.79‬‬ ‫ميخائيل باختين – �أ�شكال الزمان والمكان في الرواية –�ص‪.6‬‬ ‫الطيور ال تنظرخلفها حين تحلق‪ -‬عبدالرحيم التدالوي ‪�-‬ص ‪.37‬‬ ‫�ﺷﻌﺮﻳﺔ ﺍﻟﻘ�ﺼﺔ ﺍﻟﻘ�ﺼﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ – ﺟﺎ�ﺳﻢ ﺧﻠﻒ ﺍﻟﻴﺎ�ﺱ – ﺩﺍﺭﻧﻴﻨﻮﻯ – ﺩﻣ�ﺸﻖ ‪2010‬م �ﺹ‪.1‬‬ ‫عزالدين الماعزي – حب على طريقة الكبار – �ص ‪.32‬‬ ‫عبداللطيف الهدار ‪ -‬الو�شم �صوتا ‪� -‬ص ‪.38‬‬ ‫نف�س المرجع‪.‬‬ ‫معجم �أك�سفورد المخت�صر– �ص ‪.5‬‬ ‫خالد �سليمان‪ -‬المفارقة والأدب – �ص‪.15‬‬ ‫د‪�.‬س ميويك – المفارقة و�صفاتها‪� -‬ص‪.37‬‬ ‫عبدالرحيم التدالوي – الطيور ال تنظر خلفها حين تحلق‪� -‬ص‪.29‬‬ ‫عبدالرحيم التدالوي – الطيور ال تنظر خلفها حين تحلق – �ص‪.61‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫قراءة في رواية‬

‫لولوة في باري�س‬ ‫لـ «فار�س الرو�ضان»‬

‫■ حممود عبداحلافظ خلف اهلل*‬

‫نحت جديد في �أدب الرحالت‪� ،‬أبجدياته تجليات المكان‪ ،‬وعبقرية الن�سج وتفرّد‬ ‫الخ�صو�صية‪ ..‬نبتت منه وفيه(لولوة في باري�س) للأديب فار�س الرو�ضان‪.‬‬ ‫�إن��ه العمل الروائي الأول للأديب من حيث الإنتاج الفعلي‪� ،‬إال �أن��ه يبدو قد �أتى‬ ‫ترجمة لمخا�ض فكري طويل بعمر �صاحبه‪ ،‬وعمق تجاربه‪ ،‬وث��راء اطالعه‪ ،‬وذكاء‬ ‫�شعوره‪.‬‬ ‫يقول الأ���س��ت��اذ العقاد �إن الأدي���ب الحق لي�س بكثرة �إنتاجه �أو ذي��ع �شهرته‪ ،‬لكن‬ ‫بمروءته الأدبية‪ ،‬التي تدل القارئ عليه وتنحت هويته لديه؛فالأديب �صاحب المروءة‬ ‫ال ي�سقط ا�سمه بفعل الزمن �أو ال�سهو �أو الن�سيان‪ ،‬وال تناله قلة �إنتاجه نيل الزخم من‬ ‫مترنح الموهبة‪.‬‬ ‫وهنا‪ ،‬ي�شير العقاد – يرحمه اهلل ‪� -‬إلى �أن الأديب الحاذق يخلّد ا�س َم ُه �إنتاجُ ه و�إن‬ ‫قلَّ‪ ،‬والأديب مترنّح الموهبة ال تنفعه كثرة الإنتاج بل قد يكون مزيدًا ينال من �ضئيل‬ ‫مكانته وير�سّ خ �أدلة معايبه‪.‬‬ ‫و يذكي – للأ�سف ‪ -‬وهج المواهب الزائفة كثرة الهرج والمرج‪ ،‬وطغيان ال�شكل‬ ‫على الم�ضمون وزيغ الذوق الأدبي العام كغيره في قوائم ثقافة الكيف التي طمرتها‬ ‫في�ضانات الكم غير الم�سئول‪ ،‬حيث �أ�ضحت البيئة مواتية لذوي المواهب ال�ضامرة �أن‬ ‫يطاولوا بكثرة ما �أخرجوا من الترّهات التي لم تف�سد الذوق العام فح�سب‪ ،‬بل جعلت‬ ‫من ال�سفه معيارًا للحكم على الجودة‪ ،‬ومن الكم حكمًا على الكيف‪ ،‬و لن يتوقف هذا‬ ‫الزخم‪ ،‬مادامت قرائح ذوي المروءة الأدبية �أ�ضحت حا�سرة‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪37‬‬


‫ولأنني �أح�سب �صاحب رواي��ة (لولوة في‬ ‫باري�س) من ذوي المروءة الأدبية التي �أيدتها‬ ‫�أدل��ة نقدية و�إح��االت علمية‪ ،‬وذائقة قرائية‪...‬‬ ‫�آثرت �أن �أتناول الرواية من عدة �أبعاد في قراءة‬ ‫نقدية هادئة تبرر‪ -‬على الأق��ل ‪ -‬قناعات من‬ ‫كتبها و ت�شير لوجهة نظره فيما خالف ذلك‪.‬‬ ‫المتن الحكائي في الرواية‬ ‫يتمدد بين مطار الملك خالد الدولي بالمملكة‬ ‫العربية ال�سعودية مرورًا بمطار (�شارل ديجول)‬ ‫ال��دول��ي بفرن�سا‪ ،‬و�صول �إل��ى (ال�شانزليزيه)‬ ‫�أيقونة ال�سحر والجمال ورمز الخال�ص للم�شاعر‬ ‫ال�سجينة بفعل المكان وال��زم��ان‪ ،‬هكذا ي��راه‬ ‫خالد – بطل الرواية‪ -‬عا�شق لولوة بحرارة‪..‬‬ ‫فتى ال�شرق ورومان�سية ن�سمات �صبح باري�س‬ ‫ال�ساحرة‪.‬‬ ‫داللة العنوان‬ ‫�إن اختيار الرو�ضان لروايته عنوان (لولوة‬ ‫في باري�س) يحمل دالالت متعددة تجمعها �أ�شياء‬ ‫وتفرقها �أ�شياء �أخرى‪ ،‬فهناك م�شاكلة بين ا�سم‬ ‫لولوة بطلة الرواية‪ ،‬وباري�س من حيث القيمة؛‬ ‫فقيمة الل�ؤل�ؤ ال تحتاج �إلى دليل‪ ،‬و قيمة باري�س‬ ‫م�ب��ررة ف��ي ال��رواي��ة‪ ،‬تعبر عنها قناعات خالد‬ ‫(بطل الرواية) وغيره من ال�شخو�ص؛ وقد دلّل‬ ‫الأدي ��ب على ذل��ك ف��ي موا�ضع كثيرة؛ كما �أن‬ ‫ا�سم لولوة ي�شي بقيمة مَ ن ت�سمى به‪ ،‬و الجمع‬ ‫بين لفظي (لولوة‪ ،‬باري�س) �أظهر براعة الأديب‬ ‫وذوقه الرفيع في عدة �أ�شياء‪� ،‬أهمها‪ :‬المواءمة‬ ‫بين قيمة اللفظ في ذاته وداللته‪ ،‬والموازنة بين‬ ‫جمال الإن�سان و�سحر المكان‪ ،‬ف�ضلاً عن مراعاة‬ ‫ثوابت الثقافة المحلية في المجتمع ال�سعودي‪.‬‬

‫الخ�صو�صية‪� ،‬إال �أنه قد ينال من قيمة الرواية‬ ‫خارج المجتمع الخليجي ب�سبب فرط الإغراق في‬ ‫هذه الخ�صو�صية‪.‬‬ ‫و ح��ريٌّ بالقارئ �أن يعلم �أن الأدي ��ب ال��ذي‬ ‫ي�ستغرق في الخ�صو�صية مهما كانت �إبداعيته‬ ‫وتمكّنه من �أدواته يظل ت�أثيره محدودًا‪ ،‬مقارنة‬ ‫بالأديب الذي يتجاوزها �إلى ق�ضايا عامة تعبر‬ ‫عن الفكر والم�شاعر الإن�سانية بوجه عام‪ ،‬و�أكبر‬ ‫دليل على ذل��ك‪� ،‬شعر المتنبي ال��ذي ال يختلف‬ ‫عليه اثنان من حيث �شاعريته و�إبداعيته‪� ،‬إال‬ ‫�أنه ب�سبب �إغراقه في الخ�صو�صية ذاع �صيت �أبي‬ ‫العالء المعرى �أكثر منه‪ ،‬نظرًا الهتمام الثاني‬ ‫في �شعره بالق�ضايا والقيم والم�شاعر الإن�سانية‬ ‫بوجه عام‪.‬‬

‫ال�شخو�ص في الرواية‬ ‫وهنا‪ ،‬تجدر الإ���ش��ارة �إل��ى �أن ه��ذا العنوان‪،‬‬ ‫اعتمد الرو�ضان في اختيار �شخو�صه وبناء‬ ‫وال ��رواي ��ة ك�ك��ل ي�ع�ب��ر ع��ن ال �ب��راع��ة ف��ي ب�ل��ورة �شخ�صياتهم على‪:‬‬ ‫‪38‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫بالملل �أحيانًا‪ .‬الأديب ‪� -‬أدرك ذلك �أم‬ ‫‪ -1‬م� ��راع� ��اة الأب� � �ع � ��اد االج �ت �م��اع �ي��ة‬ ‫لم يدرك – فقد عالج ذلك الفتور‬ ‫واالق �ت �� �ص��ادي��ة وال �ث �ق��اف �ي��ة في‬ ‫ال��ذي قد ي�صيب ال�ق��ارئ بوهج‬ ‫المجتمع ال���س�ع��ودي‪ :‬ات�ضح‬ ‫و��ص�ف��ه ل�سحر ال�م�ك��ان ال��ذي‬ ‫ذل� ��ك م ��ن خ �ل�ال اخ �ت �ي��ار‬ ‫كان بط ًال رئي�سً ا في الرواية؛‬ ‫الأ�سماء‪ ،‬ولغة الحوار مع‬ ‫ف �ل��م ي �ك��ن ال �ب �ي �ئ��ة ال �ح��اوي��ة‬ ‫االخر �أو مع النف�س‪ ،‬وحتى‬ ‫ل�شخو�صه فح�سب ب��ل ك��ان‬ ‫لغة الج�سد‪ ،‬وكذلك داللة‬ ‫بمثابة الماي�سترو الذي يوجه‬ ‫المكان‪.‬‬ ‫ال�ح��ال��ة ال�شعورية لل�شخو�ص‬ ‫‪ -2‬م��راع��اة عن�صري ال��زم��ان‬ ‫و ب�ن��اء ال�ح��دث وال���س��رد ‪ ،‬و قد‬ ‫والمكان‪ :‬وات�ضح ذلك من خالل‬ ‫فار�س الرو�ضان‬ ‫ب��رع الرو�ضان في ر�سم البورتريه‬ ‫تحديد ال�سن للبطل والبطلة‪ ،‬ومن‬ ‫المكاني‪ ،‬و تجلى ذلك في ت�صويره لمعالم‬ ‫أي�ضا‬ ‫ثَمَّ اختيار اللغة المنا�سبة لهذه ال�سن‪ ،‬و� ً‬ ‫ال�شانزليزيه بتقنية �شعورية تجعل القارئ مكونًا‬ ‫اللغة المنا�سبة لل�شخو�ص الثانوية الأخرى في‬ ‫�أ�صيلاً من مكوناته‪.‬‬ ‫الرواية التي تغايرهم‪ ،‬كما راعى اختيار لغة‬ ‫الأبعاد النف�سية في الرواية‬ ‫الحوار بعناية بما يتنا�سب وطبيعة المكان‬ ‫وال��زم��ان‪ ،‬فلغة ال �ح��وار ف��ي ال�ط��ائ��رة مث ًال‬ ‫لم يعتمد الرو�ضان على التعمية الفنية �أو‬ ‫اختلفت عنها في المطار‪ ،‬عنها في باري�س الرمزية و التجريد الذي يحرم القارئ �أحيانًا‬ ‫رغم �أنها تمثل �شخو�صها في كل الأحوال‪ ،‬وال م��ن ق ��راءة الخلجات النف�سية لل�شخو�ص مع‬ ‫�أق�صد هنا بلغة الحوار الألفاظ‪ ،‬لكن م�ستوى ت�صاعد الحدث‪ ،‬بل اعتمد على �إب��راز الأبعاد‬ ‫الحوار وداللته و مدى �صدقه‪.‬‬ ‫النف�سية لل�شخ�صيات بو�ضوح‪ ،‬فلم يكتف بالتعبير‬ ‫وقد برع الرو�ضان في بناء �شخو�صه فكريًا عنها باللغة المبا�شرة �أو بلغة الج�سد بل تجاوزه‬ ‫وعاطفيًا‪ ،‬و ب��دا ذل��ك جليًا في بناء �شخ�صية �إلى تفعيل لغة الزمان والمكان من خالل انعكا�س‬ ‫البطلة (لولوة)؛ فلم تمنعه ثقافته الرجولية من مفردات المكان والزمان على م�شاعر �شخو�صه‪.‬‬ ‫الغو�ص في �شخ�صية الفتاة ال�سعودية والتعبير‬ ‫و بالطبع �سيكون لذلك بالغ الأثر على نف�س‬ ‫عنها ببراعة‪ ،‬من حيث ال�شكل والم�ضمون؛ بدءًا ال��ق��ارئ ال���ذي �أ���ش��ع��ره �أن���ه ج��زء م��ن الأح���داث‬ ‫من اختيار الملب�س‪ ،‬مرورًا بلغة الج�سد‪ ،‬وقراءة بل ج��زء من ثقافة المكان‪ ،‬من خ�لال تطوافة‬ ‫الأح��ادي��ث الداخلية‪ ،‬وبلورة ال�صراع الداخلي ر�شيقة؛ ب��داي��ة م��ن و���ص��ول البطل �إل��ى المطار‬ ‫لل�شخ�صية‪.‬‬ ‫م��رورًا بولوجه الطائرة‪ ،‬ثم ا�ست�سالمه ل�سحر‬ ‫و ي�ؤخذ على الأديب في بناء �شخو�صه التمحور مدينة الجن والمالئكة (باري�س)‪ ،‬كما و�صفها‬ ‫حول ال�شخ�صيات الرئي�سة‪ ،‬ولم ي�ستطع تج�سير عميد الأدب العربي طه ح�سين‪.‬‬ ‫العالقات بين ال�شخو�ص الثانوية والرئي�سة بما‬ ‫ع�ن��دم��ا ي�خ��رج الأدي� ��ب ع��ن ذات ��ه ف��ي عمله‬ ‫يخدم بناء الحدث و خلق جبهات �أكثر رحابة الأدبي ويتقم�ص ذوات الآخرين‪ ،‬ف�إن ذلك يكون‬ ‫في ال�صراع داخل الرواية؛ ما قد ي�صيب القارئ له بالغ الأثر‪ ،‬لي�س في تماهي القارئ مع الن�ص‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪39‬‬


‫فح�سب‪ ،‬بل في الم�شاركة في �صناعة الحدث‬ ‫نف�سه‪ ،‬وقدرته على تجاوز ما �صاغه الأديب �إلى‬ ‫نحت ر�ؤى جديد ت�شاكل قراءته النف�سية للحدث‬ ‫الرئي�س‪ .‬وه��ذا م��ا ا�ستطاع ال��رو��ض��ان ن�سجه‬ ‫بو�شائج مل�ساء ت�سحب ال��ق��ارئ �إل��ى م�ساحات‬ ‫ف�سيحة من الت�أمل‪.‬‬ ‫ال�سرد في الرواية‬ ‫تنوع ال�سرد في الرواية بين �ضمير المتكلم‬ ‫والغائب وحكي الأديب‪ ،‬ثم الإحاالت �إلى الما�ضي‬ ‫�أو الم�ستقبل‪ ،‬معتمدًا على الت�أثير ال�شعوري‬ ‫الإيحائي‪ ،‬م�ستخدمًا في ذلك التكثيف اللفظي‬ ‫وال��دالل��ي‪ .‬ورغ ��م �سال�سة ال���س��رد وخ �ل �وّه من‬ ‫النتوءات والتعاريج‪� ،‬إال �أنه ي�ؤخذ عليه اال�ستر�سال‬ ‫غير المبرر كثيرًا في حوا�شي ال�شخ�صية‪ ،‬فهو‬ ‫ح�صار لذهن ال�ق��ارئ وك��أن��ه ن��وع من الو�صاية‬ ‫عليه‪� ،‬سواء �أق�صد الم�ؤلف ذلك �أم ال‪.‬‬ ‫�إن اال�ستطراد في تو�صيف �أبعاد ال�شخ�صية‬ ‫ب�شكل مبا�شر ي�ضع ال��ق��ارئ ف��ي �إط ��ار بعينه‬ ‫ق�صده الم�ؤلف‪ ،‬وبالتالي يت�سبب ذلك في الملل‬ ‫�أحيانًا لديه؛ وهذه ال ِهنَة دائما ما يقع فيها بع�ض‬ ‫الروائيين‪ ،‬ممن �سبق لهم االنخراط في كتابة‬ ‫التحقيقات ال�صحفية التي تركز على مهارة‬ ‫اال�ستق�صاء‪ ،‬وذلك ما ال ي�صلح مع الرواية التي‬ ‫يكتفي الأديب في �سرده بو�ضع الخطوط العري�ضة‬ ‫لأبعاد �شخو�صه ويترك القارئ يراها كيفما �شاء‪.‬‬ ‫�إن الن�ص الأدب ��ي بعد �أن يخرج م��ن تحت‬ ‫يد �صاحبه؛ ي�صبح ملكًا لجميع من ي�ق��ر�أه‪...‬‬ ‫فالروائي البد �أن ي�ؤمن ب�أن �إبداعه يتجاوز ر�ؤيته‬ ‫بكثير ريثما مازجه القارئ �شعوره وفكره‪.‬‬ ‫أي�ضا في رواية (لولوة‬ ‫كما ي�ؤخذ على ال�سرد � ً‬ ‫ف��ي ب��اري����س) ال�ت��ذب��ذب بين ال�ق��وة وال�ت��راخ��ي‬ ‫* �أ�ستاذ م�شارك بجامعة الجوف‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫مع ت�صاعد الأح��داث‪ ،‬وكذلك المزاحمة بين‬ ‫بع�ضا‬ ‫الأفكار؛ �إذ كانت تعتر�ض الأفكار بع�ضها ً‬ ‫�أحيانًا‪ ،‬فتقفز على الحدث الحا�ضر فكرة من‬ ‫الما�ضي‪ ،‬كان يمكن ت�أجيلها �أو اختزالها في‬ ‫جملة معتمدً ا على التكثيف اللفظي وا�ضح‬ ‫الداللة؛ ومثال ذلك عندما تم �إقحام الحديث‬ ‫عن درا�سة خالد وهو �أم��ام موظف الجوازات‪،‬‬ ‫وا�ستمر حوار خالد الداخلي ما عبر عنه الأديب‬ ‫بقرابة �صفحة ون�صف �أثناء وقوفه �أمام موظف‬ ‫ال �ج��وازات‪ ،‬وه��ذا الوقت كبير ج��دً ا �إذا ما تم‬ ‫تخيله واقعيًا‪ ،‬فكيف ي�ستطيع �أن يقف م�سافر‬ ‫�أمام موظف الجوازات �شاردًا كل هذه المدة‪ ،‬ثم‬ ‫يعاود الحديث مرة �أخرى دون تعليق الموظف‬ ‫وك�أن الموظف لم يكن له وجود؟!‬ ‫و قد ت�سبب ذلك النوع من تزاحم الأفكار‬ ‫لدى الأديب من ا�ضطراب ال�سرد �أحيانًا و لغة‬ ‫أي�ضا‬ ‫ال �ح��وار‪ ،‬ورب�م��ا يرجع ه��ذا اال��ض�ط��راب � ً‬ ‫�إلى �أحادية ال�صراع في الرواية‪ ،‬الذي اختزله‬ ‫الأدي� ��ب ف��ي ال �� �ص��راع ال��داخ �ل��ي ف�ق��ط داخ��ل‬ ‫�شخ�صية البطل‪ ،‬و بالتالي تذبذب ال�سرد بح�سب‬ ‫الحالة ال�شعورية له مع ت�صاعد الأحداث‪ ،‬ولأن‬ ‫لغة ال�سرد اعتمدت كثيرًا على الو�صف للحدث‬ ‫ككل بما فيه الزمان والمكان وال�صراع ‪ ،‬فكانت‬ ‫تبدو �أحيانًا قوية و�أحيانًا �أخرى مترهلة‪.‬‬ ‫و �أخ�ي�رًا ف�إنه على ق��در ث��راء العمل الأدب��ي‬ ‫ت�أتي �أهمية نقده و�ضرورته؛ وبناء عليه‪ ،‬ف�إن‬ ‫رواية (لولوة في باري�س) للأديب الفار�س‪ ،‬حوت‬ ‫من الثراء الفكري والأدبي وال�شعوري ما ي�ستحق‬ ‫ا�ستهدافها بالعديد م��ن ال��درا��س��ات النقدية‬ ‫ل�سبرها‪ ،‬و�إبراز مفا�صل �إبداعيتها‪.‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫مواقع ال ّتوا�صل بين االجتماع ّية‬ ‫والإبداع ّية الأدب ّية‬ ‫■ د‪� .‬إبراهيم م�صطفى الدّ هون*‬

‫�شَ ِه َد العال ُم العربي في الفترة الأخيرة تحوالتٍ مت�سارعة‪ ،‬وثورة توا�صل اجتماعيّة‬ ‫ال من ال�شّ باب الواعد‪ ،‬والأدب��اء‬ ‫هائلة على �صفحات ال�شّ بكة العنكبوتيّة‪� ،‬أف��رزت جي ً‬ ‫المعا�صرين ال��ذي��ن يمّموا وجوههم �شطر ه��ذه ال�صّ فحات الإلكترونيّة‪ ،‬طارحين‬ ‫�أفكارهم‪ ،‬ور�ؤاهم‪ ،‬و�إبداعاتهم الأدبيّة‪.‬‬ ‫وم��ن ه��ن��ا‪� ،‬أ�صبحنا ن��ق��ر�أ ن�صّ اً �أدب�� ّي��اً متمايزاً ع��مّ��ا عهدناه �سابقاً ف��ي التّواليفِ‬ ‫الورقية‪ ،‬والمجلاّ ت الأدبيّة المتخ�ص�صة؛ ولع ّل هذا يقودنا �إلى القول بفكرة تطور‬ ‫ال عن جمالية �أدوات��ه‪ ،‬وتكيفه مع و�سائل االتّ�صال‬ ‫الأدب العربي‪ ،‬ومرونة لغته‪ ،‬ف�ض ً‬ ‫المعا�صرة‪ ،‬كالحا�سوب‪ ،‬والأجهزة الخلوية الذكيّة‪ ،‬وقنوات الإعالم الحديثة‪.‬‬ ‫وت�أ�سي�ساً على ما �سبق‪ ،‬ت�سعى هذه الدرا�سة �إلى الك�شف عن �أدب المواقع االجتماعيّة‬ ‫الإلكترونيّة من خالل مماحكة القرّاء للأدب المبثوث عبر هذه القنوات التّوا�صليّة‪،‬‬ ‫و�إبداع م�ؤلفيها‪ ،‬و�أطروحاتهم الفنيّة الجديدة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪41‬‬


‫مفتتح‬ ‫�إنَّ تطور الفكر الإن�سانيّ اليوم‪ ،‬وتباين �أدواته‪،‬‬ ‫وان�ت�ق��ال ال�ح���ض��ارات وال���ّ�ش�ع��وب م��ن م�ستوى‬ ‫توا�صلي �إلى �آخر‪ ،‬يدعونا �إلى النّظر في �أ�شكال‬ ‫التّعبير‪ ،‬ومنجزات العقل الب�شري‪ ،‬وحموالته‬ ‫المعرفيّة‪.‬‬ ‫وي�����ش��ه��د ال��ع��ال��م ال��ح��ال��ي م��ظ��ه��ر ًا ج��دي��د ًا‬ ‫م��ن الإب � ��داع ال� ّت��وا��ص�ل��ي‪ ،‬بف�ضل الإن��ج��ازات‬ ‫التّكنولوجيّة‪ ،‬والإ�سهامات العالميّة في مجال‬ ‫التّقانة الحديثة‪ ،‬والبرمجيات الحا�سوبيّة التي‬ ‫ا�ستطاعت �أنْ تغيّر من �إيقاع التّعامالت الفرديّة‬ ‫والجماعيّة‪ .‬كما تمكّنت من �إي�صال ما يكتب في‬ ‫هذه الو�سائل �إلى مدى �أرحب قد يغطي م�ساحة‬ ‫العالم ب�أكمله‪ .‬فلم َيعُدْ بالإمكان ت�صوّر ن�سق‬ ‫ثقافي �أو �إبداعي �أو علمي قادر ًا على حماية نف�سه‬ ‫في اال�شتغال و�إنتاج الدّالالت من دون النّ�صو�ص‬ ‫الأخرى‪� ،‬أو �أيدي العابثين‪� ،‬أو المتطفلين‪ ،‬نتيجة‬ ‫مرونة التّقانة الحديثة‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الآل � ُة و�سيل ًة للتوا�صل العالمي‪،‬‬ ‫وك�سرت عقبات كثيرة‪ ،‬فهذا يعني �أنَّ ظهور‬ ‫الإنترنت �شكّل حدث ًا عالمي ًا لفت انتباه العديد‬ ‫من الأ�شخا�ص من مختلف الأجنا�س‪ ،‬والأعمار‪،‬‬ ‫والم�ستويات االجتماعيّة‪ ،‬والعلميّة‪ ،‬والثّقافيّة‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عن �أ ّن��ه غ��دا ج��زء ًا ال يتجز�أ من حياة‬ ‫المجتمعات الع�صريّة‪ ،‬و�أخ��ذ يغزو ك� ّل مرفق‬ ‫من مرافق الحياة‪ ،‬ممّا �أ�سهم في تف�سير �أوجه‬ ‫الحياة المختلفة في زمن قيا�سي؛ �إذ �شهدت‬ ‫�شبكات الإنترنت تطور ًا متالحق ًا خ�لال عدّة‬ ‫�سنوات‪ ،‬و�أخذت طوفان ًا معلوماتياً‪ ،‬و�سرعة في‬ ‫‪42‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫نقل الأح��داث التي تجري حول العالم ب�أكمله؛‬ ‫ف�أ�صبحت الم�سافة بين المعلومة والإن�سان‬ ‫تقترب من الم�سافة التي تف�صله عن مفتاح‬ ‫جهاز الحا�سوب �شيئ ًا ف�شيئاً‪ ،‬وزم��ن الو�صول‬ ‫�إليها ال يتعدى عدة ثوان(‪.)1‬‬ ‫ولع ّل تقنية‪( :‬الفي�س بوك) ‪-‬التي �سادت في‬ ‫وقتنا الحا�ضر‪ -‬تبدو من �أهم مواقع التّوا�صل‬ ‫االجتماعي؛ لأ ّن�ه��ا فتحت ال�ب��اب �أم��ام الجيل‬ ‫ال��نّ��ا���ش��ئ‪ ،‬و�أق�لام��ه��م ال��راق��ن��ة‪ ،‬ال��ت��ي واجهت‬ ‫�صعوبات‪ ،‬وعثرات في ن�شر كتيّب �أو مطبوعة‬ ‫ورقيّة‪ ،‬تعك�س منجزاتهم الثّقافيّة‪ ،‬و�إبداعاتهم‬ ‫الأدبيّة‪.‬‬ ‫ووا�� �ض ��ح �أنَّ ه ��ذه ال � ّت �ق �ن � ّي��ة �أ� �س �ه �م��ت في‬ ‫ا�ستقطاب �أق�ل�ام ال�ج�ي��ل ال ���ّ�ش �ب��اب‪� ،‬إ��ض��اف��ة‬ ‫�إل��ى �أ َّن�ه��ا ح� ّف��زت كثير ًا م��ن ال�ك� ّت��اب والأدب ��اء‬ ‫والنّقاد �إلى ن�شر �إ�صداراتهم الأدبيّة في عالم‬ ‫التّوا�صل االجتماعي؛ لأنَّ تكنولوجيا المعلومات‬ ‫واال ّت �� �ص��االت �أك �ث��ر �إغ���راء ون �ف��اذ ًا �إل��ى قلوب‬ ‫المتلقين؛ �إذ لم�سوا في مواقع الفي�س بوك –‬ ‫على �سبيل المثال‪ -‬ف�ضا ًء جديداً‪ ،‬ومزايا تفرّدت‬ ‫في خ�صائ�صه عن الو�سائل القديمة‪(:‬الورقيّة)‬ ‫من حيث ك�سب القرّاء‪ ،‬والمثقفين‪ ،‬والو�صول‬ ‫بن�صو�صهم الإب��داع� ّي��ة �إل��ى م�ستويات عالميّة‬ ‫تعدّت المحليّة‪ ،‬والإقليميّة‪.‬‬ ‫�إِنَّ النّاظر �إل��ى ال �دّور الجديد ال��ذي قامت‬ ‫به مواقع التّوا�صل االجتماعي في خدمة اللّغة‬ ‫والأدب‪ ،‬وال� ّث�ق��اف��ة لَيلحظ �أنَّ اللّغة العربيّة‬ ‫ا�ستطاعت –بما �أوتيت من �سمات‪� -‬أن ت�ؤكد‬ ‫ح�ضورها العلمي‪ ،‬والتّفاعلي على م ّر الع�صور‪،‬‬


‫ّ�ص الإلكتروني‪:‬‬ ‫‪ -1‬مفهوم الن ّ‬ ‫(العنكبوتي)‬ ‫�أحدثت التّطورات التّكنولوجيّة الحديثة في‬ ‫التّ�سعينيات من القرن المن�صرم‪ ،‬نقلة نوعيّة‪،‬‬ ‫وث ��ورة حقيقيّة ف��ي ع��ال��م ال� ّت��وا��ص��ل‪ ،‬والإن �ت��اج‬ ‫الفكري والثّقافيّ ‪ ،‬والإبداع الأدبيّ ؛ �إذ انت�شرت‬ ‫�شبكة الإنترنت في �أرج��اء العالم‪ ،‬وجرى ربط‬ ‫�أج���زاء ال �ك��رة الأر� �ض �ي��ة بع�ضها بع�ض ًا بهذه‬ ‫ال�شّ بكة‪.‬‬

‫ي�شير �إلى العالقة التي تحدث بين النّا�س داخل‬ ‫ن�سق اجتماعي معين‪� ،‬أو بين مجموعة �أن�ساق‪،‬‬ ‫وقد يتم ب�شكل مبا�شر مع الم�ؤلف �أو المن�شىء‬ ‫م��ن خ�لال اللقاء الإل�ك�ت��رون��يّ ‪� ،‬أو ب�شكل غير‬ ‫مبا�شر بو�ساطة الكلمة الم�سموعة‪� ،‬أو المطبوعة‪،‬‬ ‫ال�صور‬ ‫�أو المرئيّة‪� ،‬أو الإلكترونيّة‪� ،‬أو عن طريق ّ‬ ‫�أو غيرها من الو�سائط الأخ��رى‪� ،‬أمّا من حيث‬ ‫التّوا�صل‪ ..‬فقد يحدث بين �شخ�صين‪� ،‬أو بين‬ ‫�شخ�ص �أو جماعة وجماعة �أخ���رى محليّة �أو‬ ‫�إقليميّة �أو دوليّة(‪.)2‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫وقدرتها على مواكبة التّطورات في تقانات العلم‪ ،‬المت�سع ال ��ذي تُ�سكب ف�ي��ه خ �ب��رات الأدب� ��اء‪،‬‬ ‫و�آالته الحديثة؛ وخير مثال على ذلك الحا�سوب وال ُكتّاب‪.‬‬ ‫الذي �أ�صبحت جزء ًا من برامجه و�أنظمته‪.‬‬ ‫َّ�ص الإلكترونيّ‬ ‫وت�أ�سي�س ًا على ما �سبق‪ ،‬ف�إِنَّ الن َّ‬

‫وتهي�أت ال�سّ بل للب�شرية بالتقارب والتّعارف‬ ‫وتبادل الآراء‪ ،‬والرغبات‪ ،‬و�أفاد ك ّل متلقٍّ لهذه‬ ‫التّقانة من الو�سائط والإمكانات‪ ،‬المتاحة فيها‪،‬‬ ‫و�أ�صبحت �أف�ضل و�سيلة لتحقيق التّوا�صل بين‬ ‫الأف��راد والجماعات؛ فتولّد عن تلك المواقع‬ ‫الإلكترونيّة‪ ،‬المدونات ال�شّ خ�صيّة‪ ،‬و�شبكات‬ ‫ّ�ص الأدبيّ‬ ‫المحادثة‪ ،‬التي �أ�سهمت في تحوّل الن ّ‬ ‫من ورقي �إلى �إلكتروني مرئي‪� ،‬إ�ضافة �إلى �أنّها‬ ‫وذلك يعني �أنّه متى كان الو�سيط ورقي ًا كان‬ ‫خلقت نوع ًا من التّوا�صل ال�سّ ريع والمبا�شر بين‬ ‫ّ�ص‪ ،‬والمتلقي ذوي طبيعة ورقية‪،‬‬ ‫المبدع‪ ،‬والن ّ‬ ‫ّ�ص وجمهور المتلقين‪.‬‬ ‫الن ّ‬ ‫وتُع ّد مواقع الإنترنت (االجتماعيّة) تقنيّة و�إذا ك��ان �إل�ك�ت��رون� ّي� ًا ُ�صبغت تلك الأط ��راف‬ ‫بال�صبغة الإلكترونيّة(‪.)3‬‬ ‫ّ‬ ‫�إجرائيّة �أ�سا�سيّة في فهم التّفاعالت الب�شريّة‪،‬‬

‫وب��ول��وج الأل��ف��ي��ة الثّالثة �شهد العالم نقلة‬ ‫نوعية في تكنولوجيا الو�سائط‪ ،‬واالتّ�صاالت‬ ‫�أ�شبه بتلك التي عاي�شها الع�صر الحديث مع‬ ‫ّ�ص الإلكتروني‬ ‫اختراع الطباعة؛ فقد ه ّز الن ّ‬ ‫ّ�ص الورقي المطبوع‪ ،‬وانتزعت الثّقافة‬ ‫عر�ش الن ّ‬ ‫ال�صدارة من ثقافة المطبوع‬ ‫الإلكترونيّة مكان ّ‬ ‫لتكون بدي ًال كلي ًا عن الو�سائل التّقليديّة‪.‬‬

‫وتف�سير النّ�صو�ص؛ وب��ال�ت��ال��ي يمكن الجزم‬ ‫َّ�ص الإلكتروني المنبثق من هذه‬ ‫بالقول‪� :‬إنَّ الن َّ‬ ‫التّقنيّة �أ�صبح علم ًا قائم ًا بذاته‪ ،‬له تقنياته‪،‬‬ ‫الخا�صة‪ ،‬و�أ�ساليبه‪ ،‬و�أ�شكاله المحددة‬ ‫ّ‬ ‫ومقوماته‬ ‫له؛ وهو في الوقت نف�سه بمثابة البوتقة‪ ،‬والوعاء‬

‫وهذا ي�ؤكد ما ذهبت �إليه الباحثة‪( :‬فاطمة‬ ‫البريكي) عندما �أ�شارت �إلى �أنَّ طبيعة المبدع‬ ‫هي مَ ن تحدّد طبيعة باقي العنا�صر في العمليّة‬ ‫الإبداعيّة قائلة‪« :‬تبدو المقارنة بين المبدع في‬ ‫حالته الورقيّة‪ ،‬والإلكترونيّة �ضرورية في �سياق‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪43‬‬


‫الحديث عن التّطور ال��ذي ط��ر�أ على العمليّة‬ ‫ّ�ص‪،‬‬ ‫الإبداعيّة؛ لأنَّ المبدع هو الم�صدر الأوّل للن ّ‬ ‫قبل انتقال ملكيته �إل��ى المتلقي‪� ،‬أو جمهور‬ ‫المتلقين؛ فال ب ّد �أنْ ي�ؤدي اختالف طبيعته �إلى‬ ‫اختالف ي�شمل العمليّة بجميع عنا�صرها»(‪.)4‬‬ ‫ّ�ص الأدب ��يّ داخ��ل‬ ‫وبالنّظر �إل��ى طبيعة الن ّ‬ ‫ال�شّ بكة العنكبوتية يتّ�ضح �أنَّ للتقدم العلميّ ‪،‬‬ ‫وتو�سيع مجال الر�ؤية‪ ،‬واختالف موقعها �أث��ر ًا‬ ‫ملحوظ ًا على تطوير المنهج‪ ،‬والرقي بالعقل؛ مّا‬ ‫يتطلب �إع��ادة تن�سيق من �أجل التال�ؤم مع هذا‬ ‫التّراث‪ ،‬كما �أنَّ الو�سيط الإلكتروني الطيّع له‬ ‫قدرة جليّة في التّعامل مع الواقع‪ ،‬والتّخل�ص من‬ ‫التّفكير القاطع اليقيني(‪.)5‬‬ ‫وعليه؛ �إذا كان النّاقد‪(:‬القارئ) من متابعي‬ ‫ال�شّ بكة العنكبوتيّة‪ ..‬فحتم ًا �سوف يُنظر �إلى‬ ‫ّ�ص على �ضوء معارفه‪ ،‬وحموالته الثّقافيّة‪،‬‬ ‫الن ّ‬ ‫وخبراته النّقديّة؛ لأنَّ نظرية التّلقّي تربط فهم‬ ‫ّ�ص وتحليله بثقافة المتلقي‪ ،‬وم�ستواه العقلي‪،‬‬ ‫الن ّ‬ ‫ومواهبه الذوقيّة المتراكمة‪.‬‬

‫التّكنولوجيّة �أن تختلف الموا�صفات المميزة‬ ‫لنتاج ع�صر الحداثة‪« :‬الإنفوميديا» الذي تكون‬ ‫حا�ضنته الو�سائط التّفاعليّة التّكنولوجيّة‪،‬‬ ‫والتّقنيات الحا�سوبيّة(‪.)6‬‬ ‫ومن البدهي �أن نتعاطى مع تلك المنتجات؛‬ ‫لأنَّ م��ا حولنا ينبئ بدخولنا ذل��ك الع�صر‪،‬‬ ‫فممار�ساتنا اليوميّة �أ�صبحت تت�سم بالحا�سوبيّة‬ ‫والتّكنولوجيّة ب�شكل الفت لالنتباه؛ وال نن�سى �أننا‬ ‫اليوم نحيا في ع�صر المعلوماتيّة والتّكنولوجيا‪،‬‬ ‫بحيث تغلغلت معطيات ه��ذا الع�صر ف��ي ك ّل‬ ‫ج��زئ�ي��ة م��ن ج��زئ �ي��ات ال �ح �ي��اة اال��س�ت�ه�لاك� ّي��ة‬ ‫والإنتاجيّة‪ ،‬من الموبايل‪ ،‬والكاميرات‪ ،‬والبريد‬ ‫الإلكتروني‪ ،‬والمواقع التّوا�صليّة(‪.)7‬‬ ‫والمت�أمّل في �إنتاجات و�إفرازات التّكنولوجيا‬ ‫ال�ح��ا��س��وب� ّي��ة‪ ،‬وال�م�ن��اف��ذ ال� ّت��وا��ص�ل� ّي��ة‪ ،‬يلحظ‬ ‫والدة جن�س �أدب ��ي ج��دي��د ي ��زاوج ب�ي��ن الأدب‬ ‫والتّكنولوجيا‪ ،‬وهو‪( :‬الأدب التّكنولوجي)‪� ،‬أو‬ ‫ما ي�سمّى ب�أدب المواقع االجتماعيّة‪ ،‬الذي تت�سع‬ ‫دائرته لت�شمل �أنواع الأدب المختلفة من �شعر‪،‬‬ ‫وق�صة‪ ،‬ومقالة؛ وذلك من‬ ‫وم�سرحية‪ ،‬ورواي��ة‪ّ ،‬‬ ‫خالل ا�ستعانة هذا الجن�س الجديد بالإمكانات‬ ‫التّقنيّة التي توفرها التّكنولوجيا لتقديم ن�ص‬ ‫مختلف ال��و��س�ي��ط‪ ،‬ي�ق��وم على �أ��س��ا���س تفاعل‬ ‫المتلقي وم�شاركته‪ ،‬ليكون �شاعر ًا مع الق�صيدة‬ ‫الق�صة الفي�س بوكية‪،‬‬ ‫العنكبوتيّة‪ ،‬وقا�ص ًا مع ّ‬ ‫و�سارد ًا لأحداث الرواية الإلكترونيّة‪.‬‬

‫فالتغيير �سنة طبيعية في الأدب‪ ،‬ول��و عاد‬ ‫ّ�ص المنتج في ع�صر‬ ‫المتلقي لموا�صفات الن ّ‬ ‫ّ�ص‬ ‫ال�شّ فاهية‪ ،‬لن يجدها م�شابهة لموا�صفات الن ّ‬ ‫المنتج في ع�صر الكتابيّة‪ ،‬ومن الم�ستحيل �أن‬ ‫يكون ذلك التّ�شابه قائم ًا على �أ�سا�س التّطابق؛‬ ‫ف �ل �ك � ّل ن ����ص م��وا� �ص �ف��ات تقت�ضيها ال�� ّل��ح��ظ��ة‬ ‫التّاريخيّة –بك ّل حموالتها المعرفيّة‪ ،‬والثّقافيّة‪،‬‬ ‫ول ��و ت�ل� ّم���س�ن��ا دور ال�م�ت�ل�ق��ي ف��ي ال�ع�م�ل� ّي��ة‬ ‫والف ّنيّة‪ ،‬والجماليّة‪ -‬التي �أط��اح��ت ب��ه‪ .‬فمن‬ ‫الطبيعي والم�ؤكد �إذاً‪ ،‬ونحن نعي�ش اليوم ع�صر ًا الإلكترونيّة‪ ،‬ف�سوف نجده تجاوز الحدود في‬ ‫ّ�ص التّكنولوجي؛ ليكون‬ ‫جديد ًا بك ّل حموالته المعقدة‪ ،‬ع�صر التّقنيات �إط��ار التّفاعل مع الن ّ‬ ‫‪44‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫وم�ست�صفى ال �ق��ول‪� :‬إنَّ دخ��ول الحا�سوب‬ ‫ونماذجه التّطبيقيّة عالم الإبداع الأدبي‪ ،‬و�سّ ع‬ ‫ّ�ص الأدب��ي‪ ،‬فلم يعد تلك الحروف‬ ‫مفهوم الن ّ‬ ‫المر�صو�صة �أو المرقونة على �صفحات الكتب‬ ‫الورقيّة‪ ،‬بل �أ�ضحى يتمر�أى في �صورة ك ّل مركب‬ ‫من عالمات ب�صريّة‪ ،‬عر�ضيّة مر�صو�صة �أو‬ ‫مرتبة فوق �سطح ذي بعدين‪� ،‬صفحة في كتاب‪،‬‬ ‫�أو ملخ�ص على حائط‪� ،‬أو �شا�شة حا�سب �آلي(‪.)9‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ّ�ص المت�شعب‪،‬‬ ‫ّ�ص العنكبوتي‪ ،‬والن ّ‬ ‫مبدع ًا في�ضفي مالمح جماليّة‪ ،‬وقيمة جديدة التّكويني‪ ،‬والن ّ‬ ‫ّ�ص التّ�شعبي‬ ‫ّ�ص المرجعي الفائق‪ ،‬والن ّ‬ ‫على المنتج الفنّي لم تكن فيه‪ ،‬ول��م يَكن في والن ّ‬ ‫ّ�ص المترابط‪�...‬إلخ‪.‬‬ ‫ذهن المبدع»؛ وبهذا‪ ،‬ال ُي َع ّد ال�شّ اعر �أو القا�ص التّخيلي‪ ،‬والن ّ‬ ‫ّ�ص‪ ،‬قيّم ًا عليه‪ ،‬بل �إننا‬ ‫�أو الروائي حاكم ًا للن ّ‬ ‫وع�ل��ى ه��ذا النحو‪ ،‬يمكننا ال�ق��ول �إل��ى حد‬ ‫ب�صدد طغيان التّفاعل الفنّي للمتلقي مع الن ّ‬ ‫ّ�ص الإلكتروني �أو الأدب (التّفاعلي‬ ‫ّ�ص ما‪� :‬إِنَّ الن َّ‬ ‫�أو المدونة‪ ،‬التي ت�شمل الن ّ‬ ‫ّ�ص وم��ا حوله من التّوا�صلي)‪ :‬هو الأدب ال��ذي يوطن معطيات‬ ‫مدخوالت تقنية حديثة‪ ،‬وال يغيب عن الأذهان التّكنولوجيا الحديثة‪ ،‬خ�صو�ص ًا المعطيات‬ ‫�أنَّ مثل ه��ذا التّفاعل يمنح الن َّ‬ ‫ّ�ص المتفرّع‪Hyper( :‬‬ ‫َّ�ص‪ ،‬والمدونة التي ينتجها نظام الن ّ‬ ‫الأدبيّة هوي ًة جديد ًة مع ك ّل ت�صفح‪ ،‬وتنمو هذه ‪ )text‬في تقديم جن�س �أدبي جديد‪ ،‬يجمع بين‬ ‫الهوية‪ ،‬وترتقي كلما ارتقت القدرات الإدراك‬ ‫(‪)8‬يّة الأدبيّة والإلكترونيّة‪ .‬وال يمكن لهذا النّوع في‬ ‫العقليّة والإمكانات التّقنية للآلة وبرامجها» ‪ .‬الكتابة الأدبيّة �أن يت�أتى لمتلقيه �إال عبر الو�سيط‬ ‫الإلكتروني‪� ،‬أي من خ�لال ال�شّ ا�شة ال��زرق��اء‪،‬‬ ‫ويك�سبها هذا النوع من الكتابة �صفة التّفاعليّة‬ ‫بناء على الم�ساحة التي يمنحها المتلقي‪ ،‬والتي‬ ‫يجب �أن تعادل‪ ،‬وربّما تزيد عن م�ساحة المبدع‬ ‫ّ�ص‪ّ ،‬م��ا يعني ق��درة المتلقي على‬ ‫الأ�صلي للن ّ‬ ‫ّ�ص ب�أي �صورة من �صور التّفاعل‬ ‫التّفاعل مع الن ّ‬ ‫الممكنة(‪.)10‬‬ ‫‪ -2‬المبدع الإلكتروني‬

‫ّ�ص من ذلك النّوع‪ ،‬ف�إنّه تمّ �إلحاق‬ ‫ولطبيعة الن ّ‬ ‫كلمة �إلكتروني في ت�سمية مثل هذه التّجارب‪ ،‬ال‬ ‫�سيما عندما نطلق م�صطلح الأدب الإلكتروني؛‬ ‫ّ�ص هنا ‪�-‬إن�شا ًء وتل ّق ّي ًا‬ ‫ذلك لأنَّ التّعامل في الن ّ‬ ‫– هو مع التّقنية الإلكترونيّة؛ فكلمة �إلكترونيّة‬ ‫�ضرورية لإ�شارتها �إلى التّقنية الو�سطيّة التي من‬ ‫ّ�ص‪ ،‬ونحن ن�ستعمل اليوم‪،‬‬ ‫دونها ال قيام لهذا الن ّ‬ ‫ال�صفحة الإلكترونيّة‪ ،‬والموقع الإلكتروني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتغيّر الو�سيط من �صورته الورقيّة �إلى �صورته‬ ‫ّ�ص‬ ‫ّ�ص الحا�سوبي‪ ،‬والنّ�شر الإلكتروني‪ ،‬والن ّ‬ ‫والن ّ‬ ‫ّ�ص الإلكترونيّة هو الذي قاد في المح�صلة النّهائيّة‬ ‫ّ�ص الإلكتروني ال�شّ امل‪ ،‬والن ّ‬ ‫المفرّع‪ ،‬والن ّ‬ ‫م�س �أطراف العمليّة الإبداعيّة‬ ‫ّ�ص �إلى تغيّر �شامل ّ‬ ‫ّ�ص المتعالق‪ ،‬والن ّ‬ ‫التّ�شعبي الإلكتروني‪ ،‬والن ّ‬

‫ظهر مفهوم المبدع الإلكتروني ك��رد فعل‬ ‫لولوج الحا�سوب عالم الإب��داع الأدب ��يّ ‪ ،‬وذلك‬ ‫يعني �أنَّ مفهوم الكاتب �أو المن�شئ �أخذ يتغيّر‬ ‫جذرياً‪ ،‬ففي الما�ضي �أخذ يرتبط مفهوم الكاتب‬ ‫بالكتاب الورقي‪� ،‬أمّا اليوم ف�أ�صبحنا ن�ست�شف‬ ‫دالالت �أرحب‪ ،‬وم�ساحات �أو�سع لمفهوم المبدع‬ ‫الإلكترونيّ ‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪45‬‬


‫ومكوناتها‪ ،‬مكّن المبدع الإلكترونيّ من التّعديل والقارئ قد �أ�صبح �أكثر �ضبابيّة(‪.)13‬‬ ‫لن�صه الإبداعيّ ‪ ،‬والإ�ضافة الجديدة‬ ‫الم�ستمر ّ‬ ‫‪-3‬القارئ الإلكتروني‪:‬‬ ‫لت�شكيلته‪.‬‬ ‫(المتلقي التّفاعلي)‬ ‫وفي �سياق الحديث عن المبدع الإلكترونيّ ‪،‬‬ ‫�إِنَّ ت ��داخ ��ل ال �ف �ع��ل ال �ك �ت��اب��ي ب��ال�م�ع�ط��ى‬ ‫يعرّفه ال�سّ يد نجم فيقول‪« :‬هو الممار�س لفعل التّكنولوجي‪� ،‬أنتج قارئ ًا تفاعل ّياً‪ ،‬و�أ�سهم �إلى‬ ‫الكتابة‪ ،‬وق��د ال تعني الكاتب بالمعنى الأدب��يّ ح��دٍ كبير في تن�شيط الفعل القرائي‪ ،‬و�إب��راز‬ ‫المتعارف عليه‪ ،‬و�إ ّن �م��ا تميل �أك�ث��ر �إل��ى معنى فعالية الذائقة النّقديّة للعمل الفنّي الجديد‪.‬‬ ‫الممار�س للعمليات الإلكترونيّة �أو الباحث في �إذ ُي َع ُّد القارئ ركيزة ثابتة‪ ،‬ومهمّة في العمليّة‬ ‫م��واق��ع ال�ب�ح��ث‪� ،‬أو الم�شارك ف��ي المنتديات التّكنولوجية؛ فهو المحرّك المعتمد �أ�سا�س ًا في‬ ‫والمواقع المختلفة‪ ،‬و�أخير ًا القادر على تحرير الفعل الإنتاجي‪ ،‬فمن خالل توا�صله‪ ،‬وم�شاركته‬ ‫عمل �إبداعي ب�شروط ّ‬ ‫خا�صة»(‪.)11‬‬ ‫تنتظم المنظومة الإب��داع�� ّي��ة‪ ،‬وت�صل الر�سالة‬ ‫فالمبدع في الأدب الإلكترونيّ لم يعد مبدع ًا المراد تبليغها‪.‬‬ ‫خال�صاً‪(:‬قا�صاً‪ ،‬وروائياً‪ ،‬و�شاعراً‪ ،‬فقط) بل‬ ‫لقد بات على المتلقي �أن يفيد من ممار�سات‬ ‫�أ�صبح م��ن ال���ض��روري بمكان �أن تتوافر لديه الع�صر؛ ليدخل منعطف ًا جديد ًا في التّلقي وتتم‬ ‫مهارات ومواهب �أخ��رى؛ كتقنيات الحا�سوب‪ ،‬زحزحة – ولو قليالً‪ -‬فكرة المتلقي التّقليدي‪،‬‬ ‫و�أنظمة التّوا�صل االجتماعي‪ ،‬و�أدوات الإخراج الفكرة ال�سّ ائدة ب�أنَّ المتلقي هو القارئ فقط‪،‬‬ ‫الفنّي‪ .‬وهذا ما �أ�شار �إليه �أمجد حميد‪ ،‬حين و�إذا كان المفهوم منا�سب ًا لع�صر القراءة‪ ،‬ف�إنّه‬ ‫ق��ال‪ « :‬بما �أنَّ الحا�سوب هو الو�سيلة الوحيدة ال يتنا�سب تمام ًا مع ع�صر مغاير يعتمد �آليات‬ ‫لتلقي الأدب التّفاعلي‪ ،‬مّا يتطلب خبرة عمليّة جديدة مفارقة �إلى حد كبير للآليات القديمة؛‬ ‫في مجال البرمجيات‪ ،‬وتنوع ًا في �أ�ساليب عر�ض ل��ذا ف ��إنَّ مجال الكمبيوتر وتطبيقاته‪ ،‬و�شبكة‬ ‫الواجهات‪ ،‬وطرق ت�سل�سل الإيقونات‪ ،‬ف�ض ًال عن الإنترنت تخلق متلقي ًا جديداً‪ ،‬تنتمي فيه �أ�شكال‬ ‫دقة االختيار بما يتعلق بالألوان والأ�شكال»(‪ .)12‬جديدة للتلقي خارج نطاق الفكرة ال�سّ ائدة‪� :‬أنَّ‬ ‫وتجدر الإ���ش��ارة ههنا �إل��ى تال�شي الحدود التلقي= القراءة»(‪.)14‬‬ ‫ّ�ص‪ ،‬وب�ي��ن جمهور‬ ‫بين المبدع الحقيقي للن ّ‬ ‫ّ�ص‪ ،‬فالتّعاون مع المبرمج‬ ‫القرّاء المتلقين للن ّ‬ ‫قد يعني م�شاركته في العمليّة الإبداعيّة‪ ،‬وهو‬ ‫ما يطرح العديد من الق�ضايا؛ كحقوق ال ّت�أليف‪،‬‬ ‫وحرية التّعبير‪ ،‬وم�س�ألة التّلقي وغيرها‪ .‬وما هو‬ ‫م�ؤكد بالفعل‪ ،‬هو �أنَّ الحد الفا�صل بين الكاتب‬ ‫‪46‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫ّ�ص الأدب ��يّ م��ن التّوا�صل‬ ‫وه�ك��ذا‪� ،‬سار الن ّ‬ ‫الكتابي �إلى التّوا�صل الإلكتروني‪ ،‬وهو في م�ساره‬ ‫هذا يبحث عن متلقٍّ �إلكتروني متفاعل‪ ،‬يملك‬ ‫�آل�ي��ات الثّقافة الإلكترونيّة‪ ،‬تجعله ينظر في‬ ‫خا�صة‪ ،‬ويتجاوب معه‪� ،‬ش�أنه في‬ ‫َّ�ص بعناية ّ‬ ‫الن ِّ‬ ‫ذلك �ش�أن المبدع الإلكتروني‪.‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫وفي هذا ال�سّ ياق‪ ،‬بد�أ المنظّ رون يتحدثون للحا�سب(‪.)15‬‬ ‫عن قارئ الم�ستقبل الجديد‪ ،‬وعن الموا�صفات‬ ‫وبهذه التّحوالت‪ ،‬ن�صل �إلى نتيجة م�ؤداها �أنَّ‬ ‫�أو ال�شّ روط التي ينبغي توافرها فيه‪ ،‬مثل‪� :‬إجادة �أدب المواقع االجتماعيّة جن�س �أدب��ي انبثق في‬ ‫التّعامل مع الحا�سب الإلكتروني‪ ،‬ومعرفة لغته‪ ،‬رحم التّقانة الحا�سوبيّة‪ ،‬قوامه التّفاعل والتّوا�صل‬ ‫وامتالك مهارات التّ�صفح‪ ،‬والبحث‪ ،‬والقدرة الذي تخطّ ى الحدود‪ ،‬والبلدان‪ ،‬و�أ�س�س لآليات‬ ‫على الإب�ح��ار في الإن�ت��رن��ت‪ ،‬والإل �م��ام ببرامج جديدة‪ ،‬حوت الأدبيّة الإلكترونيّة‪ ،‬وكوّن مجتمعه‬ ‫الحا�سب الأ�سا�سيّة‪ ،‬وب�م�ه��ارات بناء البريد �ضمن ال�شّ بكة العنكبوتيّة‪ ،‬و�أن�ش�أ مبدعيه‪ ،‬ونقاده‪،‬‬ ‫الإلكترونيّ ‪ ،‬وامتالك عقلية تحليليّة تركيبيّة ومتلقيه‪ .‬كما ر�سّ خ �أعرافه‪ ،‬وتقاليده‪ ،‬و�أ�صبح له‬ ‫الخا�صة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تكون ق��ادرة على م�ج��اراة المنطق الريا�ضي عالمه‪ ،‬و�إ�ستراتيجيته‬ ‫ * كاتب وناقد و�أكاديمي من الأردن – جامعة الجوف‪.‬‬ ‫(‪ )1‬دور �شبكات التّوا�صل االجتماعي في تعبئة الر�أي العام الفل�سطيني نحو التّعبير االجتماعي وال�سّ يا�سي؛ درا�سة‬ ‫و�صفية تحليلية‪ ،‬زهير عابد‪ ،‬مجلّة جامعة النّجاح للأبحاث‪(:‬العلوم الإن�سانيّة) مجلد ‪ ،26‬عدد ‪2012 ،6‬م‪،‬‬ ‫�ص ‪.1388‬‬ ‫(‪ )2‬التّوا�صل االجتماعي؛ �أنواعه‪� ،‬ضوابطه‪� ،‬آثاره‪ ،‬معوقاته؛ درا�سة قر�آنيّة مو�ضوعيّة‪ ،‬ماجد رجب �سكر‪ ،‬ر�سالة‬ ‫ماج�ستير‪ ،‬الجامعة الإ�سالميّة‪ ،‬غزّة‪2011 ،‬م‪� ،‬ص ‪.5‬‬ ‫(‪ )3‬الكتابة الزرقاء؛ مدخل �إلى الأدب التّفاعلي‪ ،‬عمر زرفاوي‪ ،‬دائرة الثّقافة والإعالم‪ ،‬ال�شّ ارقة‪ ،‬الإمارات‪،‬‬ ‫‪2013‬م‪� ،،‬ص‪.142‬‬ ‫(‪ )4‬مدخل �إلى الأدب التّفاعلي‪ :‬فاطمة البريكي‪ ،‬المركز الثّقافي العربي‪ ،‬الدّار البي�ضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪2006 ،1‬م‪،‬‬ ‫�ص ‪.136‬‬ ‫ّ�ص العنكبوتي‪ :‬عز الدّين المنا�صرة‪ ،‬مجلّة ف�صول‪ ،‬العدد ‪� 79‬شتاء‪ ،‬ربيع ‪2011‬م‪� ،‬ص ‪.106‬‬ ‫(‪� )5‬شعريّة الن ّ‬ ‫(‪ )6‬الحداثة التّكنو�أدبيّة‪ ،‬عالء جبر محمّد‪ ،‬الأديب الثّقافيّة‪ ،‬العدد ‪2011 ،183‬م‪� ،‬ص ‪.5‬‬ ‫(‪ )7‬النّ�شر الإلكتروني والإبداع الرقمي‪ ،‬ال�سّ يد نجم‪ ،‬طبعة الهيئة العامّة لق�صور الثّقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪2010 ،1‬م‪،‬‬ ‫�ص‪.10‬‬ ‫(‪ )8‬الق�صيدة التّفاعليّة الرقميّة و�إ�شكالية التّجديد في ال�شّ عر العربي‪� ،‬سل�سلة تباريح‪ ،‬اتّحاد الأدباء في كربالء‪،‬‬ ‫مطبعة الزوراء‪ ،‬العراق‪ ،‬ط ‪2009 ،1‬م‪� ،‬ص ‪.88‬‬ ‫ّ�ص‪ ،‬بابي�س دير ميتز اك�س‪ ،‬م�ؤتمر النّقد الأدب��يّ على م�شارف القرن‬ ‫ّ�ص التّ�شعبي؛ ما وراء حدود الن ّ‬ ‫(‪ )9‬الن ّ‬ ‫الواحد والع�شرين؛ العولمة والنّظريّة الأدبيّة‪� ،‬أعمال الم�ؤتمر الدّولي الثّاني للنقد الأدبيّ ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬نوفمبر‪،‬‬ ‫‪2000‬م‪� ،‬ص ‪.375‬‬ ‫(‪ )10‬الأدب الإلكتروني و�سجاالت النّقد المعا�صر‪ ،‬فايزة يخلف‪ ،‬مجلّة المخبر لأبحاث اللّغة والأدب‪ ،‬جامعة‬ ‫ب�سكرة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬عدد ‪2013 ،9‬م‪� ،‬ص ‪.102+101‬‬ ‫(‪ )11‬النّ�شر الإلكتروني والإبداع الرقمي‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.41‬‬ ‫(‪ )12‬مقدّمة في النّقد الثّقافي التّفاعلي‪� ،‬أمجد حميد‪ ،‬مطبعة الزوراء‪ ،‬العراق‪ ،‬ط ‪2009 ،1‬م‪� ،‬ص ‪.115‬‬ ‫(‪ )13‬الكتابة الزرقاء‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.145‬‬ ‫(‪ )14‬ن�ص جديد ومتلقٍّ مغاير‪ ،‬قراءة في المالمح الجديدة‪ ،‬للكتابة والتّلقي‪ ،‬م�صطفى ال�ضبع‪ ،‬الثقافة ال�سّ ائدة‬ ‫واالختالف‪ ،‬كتاب الأبحاث لم�ؤتمر �أدباء م�صر‪ ،‬الدورة الع�شرون‪ ،‬بور �سعيد‪2005 ،‬م‪� ،‬ص ‪.373‬‬ ‫(‪ )15‬الأدب التّفاعلي والنّظريّة النّقديّة على الموقع‪.)al-watan.com(:‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪47‬‬


‫�شعر ّية الذاكرة في‬

‫ديوان «قوت الحمام»‬ ‫لل�شاعرة كرامة �شعبان‬

‫■ ثامر �إبراهيم امل�صاروة*‬

‫تحتلُّ ال��ذاك��رة مكانًا مهماً وب���ارزا في العملية الإب��داع��ي��ة؛ فمن خاللها تتك�شف‬ ‫خيوط العقل الباطني‪ ،‬وتطفو �أح��داث غائبة في الالوعي على الن�سيج المتما�سك‬ ‫للن�ص ال�شعريّ ‪ ،‬وم��ن خاللها ن�ستطيع ‪-‬وب��اق��ت��دار‪ -‬ال��وق��وف على م�ضمون ال��ذات‬ ‫وو�شائجها المتعمقة في هويّة ال�شاعر‪.‬‬ ‫وم��ن نافلة ال��ق��ول‪� ،‬إن الن�ص المنتج م��ن ال��ذاك��رة يتمخ�ض ع��ن ���ص��و ٍر ودالالت‪،‬‬ ‫و�أ�شكال �شعريّة فيها قدر كبير من الت�ضامن والم�ألوفية واالن�سجام؛ �إنه فعل �أمين‪،‬‬ ‫ال يمنح مفرداته كثيرًا للتعدد االحتمالي والت�أويلي‪ ،‬بل يتمحور داخل ف�ضاء داللي‬ ‫ينطوي على ن�سبة عالية من التجان�س والتمظهر والمبا�شرة‪.‬‬ ‫ولهذا‪ ،‬يمكن القول‪� :‬إن ال�سمة البارزة ل�شعريّة الذاكرة تنطلق من ب���ؤ ٍر ملتهبة‬ ‫في �صميم ذات ال�شاعر؛ فهي منتجة للعواطف بطريقة الرجوع �إلى نقطة البداية‪� ،‬أو‬ ‫لنقل نقطة االرتكاز حول الخبرة المنفردة التي تت�سم باالن�سجام والتوافق الداللي‬ ‫التام‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ويع ُّد ديوان «قوت الحمام» لل�شاعرة كرامة‬ ‫�شعبان �أن��م��وذجً ��ا وا���ض��حً ��ا ل�شعريّة ال��ذاك��رة‬ ‫المنطلقة م��ن بنيتها ال�ف�ك��ري��ة المت�أججة‬ ‫للم�شاعر‪ ،‬والمنتجة للعواطف‪ .‬وم��ا تميّز به‬ ‫الن�ص ال�شعريّ ل��دى ال�شاعرة ه��و ارت ��داده‬ ‫للما�ضي‪ ،‬ال��ذي يعك�س للقارئ �أه�م� ّي��ة زمن‬ ‫الذاكرة في ت�شكّل الن�ص؛ كما نجد الذاكرة‬ ‫تدفع عنا�صر الغياب �إلى الح�ضور واال�ستجالء‬ ‫الن�ص ال�شعريّ يخرج من‬ ‫من جديد‪ ،‬ما يجعل ّ‬ ‫بوتقة ال��زم��ن الما�ضي المحدد �إل��ى الزمن‬ ‫الم�ستقبل غير المعلن‪.‬‬ ‫ففي ق�صيدة «على �سمع الغريبة»‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫م�����روا خ���ف���ا ًء ف����وق روح�����ي م���ا درت‬ ‫ب���ه���م ال�������س���ح���ائ���بُ ع���ن���دم���ا ه��ط��ل��وا‬ ‫م�����روا ك����رامً����ا ف����وق روح�����ي زا ُده�����م‬ ‫ح����������رْثُ ال�������ي�������را ِع وم�������ا�ؤه�������م �أم������� ُل‬ ‫م�����روا ع��ل��ى خ����وف ال�����س��ف��ي��ن��ة ه�����د�أ ًة‬ ‫ف����ب����دتْ ل���ه���م م����ن خ���وف���ه���ا ال�����س��ب�� ُل‬ ‫ب��ع��ث��وا ع��ل��ى درب ال��ن��وار���س لحنهم‬ ‫ف������ن������وتْ م�����ك�����و ًث�����ا ري����ث����م����ا ي�������ص���ل���وا‬ ‫ه����م �أف�������قُ ح���ل���م���ي‪ ،‬ج������ر ُح خ��ارط��ت��ي‬ ‫وه���م وه��� ُج ال��ت��ي��اع��ي ورديَ ال��خَ ��جِ �� ُل‬ ‫وه����م ال���ه���وى وف����ي ن���ق���اوة ع�شقهم‬ ‫دم�����ع�����ي ت������ب������اركَ �إذ ب�����ه اك���ت���م���ل���وا‬

‫�سطوتها في مزج الدالالت من �أجل ا�ستح�ضار‬ ‫الم�شهد الكامن في الالوعي‪ ،‬وعالقته بالزمن‬ ‫خا�صا‬ ‫وال�م�ك��ان وال�ج�م��اع��ة؛ منتج ًة ن�سيجً ا ً‬ ‫متوهّ جً ا من ذاكرة الزمن الما�ضي‪.‬‬

‫وتبرز مالمح �شعريّة ال��ذاك��رة الم�ستباحة‬ ‫في �سردها لت�ؤ�س�س عالقة توا�صل وت�ضاد معًا‬ ‫بين الما�ضي والحا�ضر‪ ،‬كما تدفع ال��ذاك��رة‬ ‫في ارت��داه��ا للما�ضي �إل��ى الت�أمل وا�ستح�ضار‬ ‫الم�ستقبل الموعود‪ ،‬وك ��أن ال��ذاك��رة �أ�صبحت‬ ‫حينئذ كالدمى التي ت�ؤجج عواطفنا‪ ،‬وتجعلنا‬ ‫ن�صبو خلف م�شاهد مليئة بالي�أ�س والإحباط �إلى‬ ‫�إن ال�شعرية في ر�أي��ي تتجاوز الم�ألوف �إلى جوانب �أخرى ت�أمل بالم�ستقبل‪ ،‬تقول‪:‬‬ ‫ال�لام��أل��وف‪ ،‬وم��ن الن�صية �إل��ى الالن�صية في‬ ‫ق��د ج��اءن��ا ال��ع��ي�� ُد م��ك�����س��ورًا ب�لا ف��ر ٍح‬ ‫الم�شاهد؛ لتثريه بالمعاني وال���دالالت‪ ،‬التي‬ ‫م��غ��م��و���س��ة ب���دم���اء ال��ق��ت��ل��ى ه���داي���ا ُه‬ ‫تعتمد فيه ال�شاعرة على ال��ذاك��رة المرتبطة‬ ‫بالتجربة الجماعيّة‪ ،‬وطبيعة الزمن الما�ضي‪ ،‬ي���ا ع���ي��� ُد ي���ا ن���ور����سً ���ا مُ���ه���جّ ���را ق�����س��را‬ ‫الن�ص ال�سابق؛ فتمار�س الذاكرة‬ ‫كما نلحظ في ّ‬ ‫وف���ي �سما ال��ب��ي��ن ق��د رفّ����تْ ج��ن��اح��ا ُه‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪49‬‬


‫الم�شاهد المنتقاة �أكثر التحامً ا من خالل ب�ؤر‬ ‫خذني لمينا على ح��دود بحرٍ �صفا‬ ‫في هجعة ال��روح �إذ �ضجت خطايا ُه مرئيّة وم�سموعة في �آن معًا‪ ،‬فتقول‪:‬‬

‫خ��ذن��ي ل��ذك��رى �أن���ا م��ا زل���ت �أذرف��ه��ا‬ ‫م�����رت ب���ب���ال���ي وق�����د م����ال����ت زواي��������ا ُه‬ ‫وت�ستدعي الذاكرة في �شعر كرامة �شعبان‬ ‫عالم الروح‪ ،‬وهو �صنو الف�ضائل والقيم العليا؛‬ ‫ف�ي�ب��رز ال�ن�� ّ��ص ال���ش�ع��ريّ ح��ال��ة م��ن ال���ص��راع‬ ‫المت�أجج في روح��ه ودم��ه طلبًا له�ؤالء الأبطال‬ ‫الذي يتربعون على �أعتاب ذاكرة الالوعي‪ .‬ففي‬ ‫ق�صيدة «على �أ�شالء �أحبابي» تقول‪:‬‬

‫ع������ل������ى �أ�������������ش������ل�����ا ِء م���������ن ُذب��������ح��������وا‬ ‫ع��������ل��������ى �أ�����������������ش��������ل�������ا ِء �أح��������ب��������اب��������ي‬ ‫ع��������ل��������ى �أن������������ق������������ا� ِ������������ض �أروا ٍح‬ ‫ت����������ع����������ات����������بُ ����������ش���������ل��������� َو غ����������� ّي�����������ابِ‬ ‫ع�����������ل�����������ى �أن������������������������������������اتِ م���������ف���������ت���������ا ٍح‬ ‫ي��������������������ودع «ظ��������������رف��������������ة» ال����������ب����������ابِ‬ ‫ع��������ل��������ى �أ����������ش����ل����ائ���������ه���������م �أح��������ب��������و‬ ‫�������������س روح����������ه����������ا ال������دن������ي������ا‬ ‫�أالم�������������� ُ‬ ‫ع��������ل��������ى �أ����������ش����ل����ائ���������ه���������م ج�����������س�����را‬ ‫م�����������������������ددتُ ب����������ك����������لِ �أع���������������ص�������اب�������ي‬

‫و�أذكرها‬ ‫تحدثني‬ ‫عن الأعياد والأفراح والبيدر‬ ‫وعن خيبر‬ ‫على م�صباحها الخابي‬ ‫و�أذكرها ت�ؤلمني‬ ‫بيوم رجوع غيّابي‬ ‫تناديني‪:‬‬ ‫ح‪...‬ب‪...‬ي‪...‬ب‪...‬ي‬ ‫امتط �صدري‪� .‬ص‪130‬‬ ‫ِ‬

‫الن�ص ال�سابق ي�ضعنا‬ ‫�إن �إنعام النظر في ّ‬ ‫�أم��ام بوتقة من الأ�سئلة الحقيقية التي تواجه‬ ‫المتلقي‪ ،‬بدءًا بالذاكرة وما تختزله من ذكريات‬ ‫حنين وح��زن وي��أ���س و�أل��م‪ ،‬وانتها ًء ب��الإح��االت‬ ‫الن�ص وتلقيه‪� ،‬إذ‬ ‫التي تلب�س المتلقي في فهم ّ‬ ‫ي�ضعك �أم��ام تعمية تجعلك غير مطمئن �إلى‬ ‫العالقات القائمة‪ ،‬فمثالً‪ ..‬عالم يعود ال�ضمير‬ ‫ف��ي ك�ل�م��ة(اذك��ره��ا) ه��ل ه��ي الأم �أم ال�ج�دّة‪،‬‬ ‫وكذلك(تناديني‪ ،‬تحدثني)‪ ،‬كلّها �إ�شكاالت‬ ‫تجعل المتلقي في اندفاع نحو الن�ص‪ ،‬ومعرفة‬ ‫الن�ص ال�شعريّ الم�ستدعى من عالقاته ومدلوالته العامة‪.‬‬ ‫وتتعمق ذروة ّ‬ ‫ال��ذاك��رة عندما تتجاوز �أبعاد الزمن المعلن‪،‬‬ ‫ونخل�ص �إل ��ى ال �ق��ول �إن ال���ص��ور ال�شعريّة‬ ‫ومحطاته ال�سلبية‪ ،‬حيث يجد القارئ نف�سه �أمام ل��دى ال�شاعرة كرامة �شعبان تبقى على وتيرة‬ ‫ح�ضور غائب دائم‪ ،‬تدفعه �إلى الت�أمل و�إعالن محا�صرة بالذاكرة وزمنها المنقطع المت�صل‬ ‫بحثه الم�ستمر عن ذلك الما�ضي في تلك الذاكرة بالزمن الحا�ضر‪ .‬وتتعمق ال�شعريّة في �صورها‬ ‫المختزلة الكثير الكثير من الم�شاهد وال�صور المت�صلة بالذاكرة عندما تكون ذات �صلة متينة‬ ‫والعبر‪ .‬وتفاجئنا ال�شاعرة ب�أ�سلوبيّة الحوار التي بزمن الطفولة الذي ير�سم للقارئ م�شاهد انبثاق‬ ‫تحمله تلك الذاكرة؛ فجاء �ضمن ف�ضاءات �أكثر الألم الجمعي‪ ،‬وتت�صاعد ذروتها بمجيء الفعل‬ ‫ات�ساعً ا لت�شمل المح�سو�س والمعنويّ ‪ ،‬فبدت الم�ضارع دفعًا بالزمن نحو الديمومة واال�ستمرار‪.‬‬ ‫* �أ�ستاذ الأدب والنقد الحديث الم�ساعد‪ /‬جامعة الجوف‪ /‬كلية العلوم والآداب بالقريات‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ٌ‬ ‫قراءة في ديوان‬ ‫العربي!‬ ‫المج ِد‬ ‫ِخن َْج ٌر في ِ‬ ‫خا�ص َـرة ْ‬ ‫ِّ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ثانية ِم ْن َد ِم المـتـنـ ِّبـي)‬ ‫(وردة‬ ‫لل�شاعر‪ /‬محمد المع�صراني‬

‫■ �أ‪.‬د‪ .‬خالد َف ْهمي*‬

‫ما�ض نبيلٌ ‪ /‬حا�ضـرٌ َمهِين!‬ ‫(‪ )1‬مدخل‪ٍ :‬‬

‫تو�شِ كُ عبقري ُة �أب��ي الطيِّب المتنبِّي �أن تتلخَّ َ�ص في‬ ‫�أن �شاعريته المتدفقة �شاعري ٌة تمتلك ق��در َة التجاوُز؛‬ ‫تجاوُز الزمان‪ ،‬وتجاوُز الأماكن والأقاليم‪ .‬وهي �شاعري ٌة‬ ‫ا�ستطاعت �أن تنفُذ �إل��ى ُعمْق الإن�سان العربي‪ ،‬وتن�سـَرِبَ‬ ‫من منافذ الأيام‪ ،‬ومَ�سَ ا ِّم ال�سنين لتُع ِّبـر عن نف�سية العربيِّ‬ ‫على الدوام‪.‬‬ ‫بع�ضا مما يف�سِّ ـر مُعاودة ا�ستدعائه في‬ ‫ولع َّل في ذلك ً‬ ‫بع�ضا مما ي�شْ ـرَح ال ُورُو َد الدائ َم ماءَه‪،‬‬ ‫أي�ضا ً‬ ‫ال�شعرية العربية المعا�صرة‪ ،‬ولع َّل في ذلك � ً‬ ‫والعكوفَ الطوي َل على ُمنْجَ زِه ال�شعريِّ من كثيرين من �شعراء العربية المعا�صرين‪.‬‬ ‫كان (م�صطفى نا�صف) العظي ُم ي�شـرح كيف نفذتْ عبقري ُة �أبي الطيِّب المتنبِّي �إلى‬ ‫ال عريقًا ونبيلاً في ما�ضيه‪ ،‬ولكنه َمهِينٌ في‬ ‫�أبع َد من زمانه قائلاً ‪ :‬كان �أبو الطيِّب رج ً‬ ‫بع�ض مالمحِ م�أ�ساة المتنبِّي!‬ ‫حا�ضره‪ ،‬وكانتْ هذه َ‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪51‬‬


‫ك��ان يقولُ ‪ :‬لقد وج��د العربيُّ في �شعر �أبي‬ ‫الطيِّب م��ا ل��م ي��ج��ده ف��ي غ��ي��ره‪ .‬ف��ي �شعر �أب��ي‬ ‫الطيِّب �صور ُة رجُ لٍ تو�شكُ الدُّنيا �أن تغلبه ولكنه‬ ‫يتعالَى‪ ،‬ويت�شبَّثُ بحُ لْمٍ قديمٍ ‪� ،‬صور ُة رجُ لٍ يعلم‬ ‫وال يقدر‪� ،‬أ ُِ�صيبَ في ُق َّوتِه‪ ،‬ولكنَّ القوة ما تزال‬ ‫عالق ًة بذهنه‪.‬‬ ‫كان الرجُ ُل يقولُ ‪ :‬كان �شع ُر �أبي الطيِّب قادرًا‬ ‫على البقاء؛ لأنه قاد ٌر على �إحياء جُ رْحٍ قديم‪.‬‬ ‫لقد ر�أى المعا�صرون م��ن �شعراء العربية‬ ‫في �شعر �أبي الطيِّب �شجر ًة كريم ًة ق��ادر ًة عند‬ ‫بع�ضا من ثمارها‬ ‫االق�ت��راب منها �أن تمنحهم ً‬ ‫والنهو�ض من جديد!‬ ‫َ‬ ‫االنتعا�ش‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ليُعا ِودُوا‬ ‫ر�أوا في �شعره مجت َمعًا من العزة والمجد‪،‬‬ ‫والبالغ ِة والفنِّ الحزين‪ ،‬فا�ستعانوا به على ما‬ ‫فاجَ �أَهُ مْ ‪ ،‬و�أرهقهم‪ ،‬وهَ جَ مَ عليهم‪ ،‬ودوَّخَ هم من‬ ‫حادثات ال�سنين!‬ ‫لقدْ الذَ ب�شعر �أبي الطيِّب الآب��ا ُء ال � ُّروَّا ُد في‬ ‫الثقافة العربية المعا�صرة‪ ،‬ثمَّ الذَ به الأبنا ُء‬ ‫ال�شعرا ُء في هذه الحقبة الراهنة الواهنة‪.‬‬ ‫(‪ )2‬وردةٌ ثانيةٌ من دم المتنبِّي‬ ‫قراء ٌة في �أ�سلوبيَّة المحنة‪.‬‬ ‫ه��ذه الق�صيدةُ‪/‬الدِّ يوانُ تبعثُ �أب��ا الطيِّب‬ ‫المتنبِّي م��ن ج��دي��دٍ ُم �ع��اد اًِل مو�ضوعيًّا للنف�س‬ ‫يف بها من هزائم‬ ‫العربية المعا�صرة بكلِّ ما يُطِ ُ‬ ‫الرُّوح‪ ،‬وانك�ساراتِها‪.‬‬ ‫ومن المهمِّ جدًّا �أنْ نتتبَّع الأد َّل َة على هذا الذي‬ ‫ندَّعيه‪ ،‬ولع َّل �أظه َر هذه الأد َّل � ِة ماث ٌل في حركة‬ ‫الظروف الزمانية المعبِّـرة عن اللحظة الراهنة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫�إنَّ خريطة ال��ظ��روف الزمانية المتمركِ زة‬ ‫حول(الآن‪ /‬واليوم) تقو ُد خُ طى القارئ �إلى هذا‬ ‫الكَ�شْ ف والبيان‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫يقول محمد المع�صـراني‪:‬‬

‫�أَرَّجَ �������������������انٌ قَ��������� ْد َت������������أَرَّجَ �����������تِ ا ْل������ َي������ ْو‬ ‫َم ِب���� ِ���ش���عْ��� ٍر َي���ـ���حْ ���طِ ��� ُم ا ْل����عِ����يَّ حَ ��طْ �� َم��ـ��ا‬ ‫ويقول‪:‬‬

‫ال������ ُّث������غُ������و ُر الْ�������� َي�������� ْو َم � َ�����ش�����اكِ����� َي����� ٌة َت���� ْب����ـ‬ ‫حَ ������ثُ عَ�����مَّ�����نْ فَ������ َّذ حَ ����� ْر ًب�����ا َو����سَ ��� ْل��� َم���ـ���ا‬ ‫ولع َّل الجز َء الذي يحمِ ُل عُ نوان‪( :‬ال�شِّ عْر الآن)‬ ‫م��ن الق�صيدة ي� ُب��وحُ بهذا ال��ذي ُن �ق �رِّره‪ ،‬يقولُ‬ ‫ال�شاعر‪:‬‬

‫حَ ����لَ����بُ ال�������شَّ ���هْ��� َب���ا ُء َت���� ْرثِ����ي ُ���ض��حَ ��اهَ��ا‬ ‫ُت���� ْ���ش��� ِب��� ُه ا ْل����� َي����� ْو َم جَ ���دِ ي�������سً ���ا وَطَ �����سْ �� َم��ـ��ا‬ ‫وي �ق��ولُ ب�ع��د ذل��ك ف��ي ال �ج��زء ال ��ذي يحم ُل‬ ‫عُ نوان(حال العرب)‪:‬‬

‫قُ��������� ِّورَتْ عَ���� ْي����نُ ا ْل��� َي��� َم���ـ���امَ��� ِة َف����هْ����يَ ا ْل���ـ‬ ‫مُ���� ْن���� ُذ َ�أ ْل�����فَ����� ْي�����نِ �إِ َل��������ى ْالآ َن َت���عْ���مَ���ى‬ ‫َك��� ْي���فَ ُت���فْ��� ِن���ـ���ي( َد ْو َل��� َة ا ْل���ـ���خَ ���ـ��� َدمِ) ْ آ‬ ‫ال‬ ‫نَ؛ فَ��� َك��� ْم دَا� ُ����س����وا ����شُ ��� ُي���وخً ���ا َو�أَيْ����مَ����ى‬ ‫وَجْ ������������ ُه كَ��������افُ��������و َر �أَ� َ��������ش��������دُّ َب���� َي����ا� ً����ض����ا‬ ‫�����ص��ا ِة ا ْل���� َي���� ْومِ‪�َ ..‬أكْ��� َث��� ُر حَ �سْ مَـا‬ ‫مِ ���نْ خُ َ‬ ‫الظروف الزماني ِة المعبِّـرة‬ ‫ِ‬ ‫وتت�صاعَ ُد حرك ُة‬ ‫َ‬ ‫عن اللحظة الراهنة في الجزء الذي يحم ُل عُ نوان‬ ‫(مَ ْقتَل المتنبِّي)‪ ،‬فيقول محمد المع�صـراني‪:‬‬

‫ال�����������دُّ رُوبُ ا ْل������ َي������ ْو َم مُ���وحِ ���� َ���ش��� ٌة وَال���� َّل����ـ‬ ‫يْ�������� ُل مُ������قْ������عٍ وَال������� َّ������س������حَ ������ابُ �أَغَ����� َّم�����ـ�����ا‬ ‫(فَ����ال����طَّ ���� ِري����قُ ْالآ َن � َ����ص����ا َر هَ��َل�ااَ كً����ا‬ ‫َو�أَذًى لِ����� ْل����� َع�����ابِ����� ِري����� ِه َت���ـ��� َك���ـ��� َّم���ـ���ى)‬ ‫���������س َن�����جَ �����اةً)‬ ‫(ال�����طَّ ����� ِري�����قُ ْالآ َن َل���� ْي َ‬ ‫� َ�����ص�����ا َر َل����� ْي����� ُل ال����� َّ����س����ا ِل����كِ����ي���� ِه مُ��� َغ���مَّ���ى‬


‫وت��ت�����ض��اف�� ُر م��ع ح��رك��ة ال���ظ���روف ال��زم��ان��ي��ة‬ ‫المعبِّرة عن اللحظة الراهنة مجموع ٌة �أخرى من‬ ‫القرائن الأ�سلوبية الزمنية‪ ،‬لتك�شِ َف عنْ �أنَّ َبعْثَ‬ ‫المتنبِّي من جديدٍ كان لت�صويرِ محن ِة ال َّنف ِْ�س‬ ‫العربي ِة المعا�صـرة‪ ،‬وكان لت�صوير غُ رْبة الرُّوح‬ ‫العربية المعا�صـرة‪ .‬وتتم َّث ُل هذه القرائنُ الزمني ُة‬ ‫الأ�سلوبي ُة في ما ي�أتي‪:‬‬ ‫�أو اًَّل‪�َ :‬ضمِيمة الفعل الناق�ص‪:‬‬ ‫(لم يزل‪ /‬وما زال)‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫���وف غَ���� ِ���س���ي���لٌ )‬ ‫(كُ�������لُّ َدرْبٍ ِب���ال���� ُّ���س��� ُي ِ‬ ‫وَال���� ُّ���س��� ُي���وفُ الْ���� َي���� ْو َم ِب����ال���� َّد ِم ُت��ـ��حْ ��مَ��ى‬ ‫ُر َّب����� َم�����ـ�����ا هَ���������ذِ ي ال������� ِّت���َل���اَ لُ ُت���� َن����اجِ ����ي‬ ‫قَ�����بْ�����رَكَ ْالآ َن ِب����� ِ����ش����عْ����رِكَ ‪ُ ..‬ر ْب��� َم���ـ���ا‬

‫(وَاقِ�����فً�����ا ‪ -‬مَ����ا ِزلْ������تَ ‪َ -‬ب��� ْي���نَ َن��عِ��ي��مٍ‬ ‫َوعَ�����������������ذَابٍ ) َزمَّ�����������كَ ا ْل�������� َويْ�������� ُل َزمَّ�������ا‬ ‫غَ��ا ِر���سً ��ا ‪ -‬مَ���ا ِز ْل�����تَ ‪ -‬رَا َي��� َت���كَ ال�����سَّ �� ْو‬ ‫دَا َء � َ�����ش����� َّم�����ـ�����ا َء َدلِ��������ي����ًل���ااً �أَ� َ�����ش����� َّم�����ـ�����ا‬ ‫َل��ـ�� ْم َي�����زَلْ � َ���ص��� ْو ُت���كَ � َ���ص��� ْو ِت���ي‪َ ،‬ومَ����ا زَا‬ ‫َل � َ����ص����دَا ُه ال����دَّهْ ���� َر � َ���ص��� ْو ًت���ا مُ���ِ��ص�� َّم��ـ��ا‬ ‫َي�����ا �أَ َب��������ا ال����طَّ ���� ِّي����بِ مَ�����ا ِز ْل��������تُ �أَ ْرعَ��������ى‬ ‫حُ ���� ْز َن����كَ ال�������سَّ ���اجِ ���ي فَ��� َك��� ْي���فَ ُي�� َع��مَّ��ى؟‬ ‫َي������ا �أَ َب����������ا ال�����طَّ ����� ِّي�����بِ مَ������ا زَا َل������������تِ ْ آ‬ ‫ال‬ ‫مَ�����الُ ���سَ ��جْ �� َن��ى فِ����ي عَ�����زَائِ����� َم ���سَ �� ْدمَ��ى‬ ‫َي������ا �أَ َب���������ا ال�����طَّ ����� ِّي�����بِ ‪ ،‬خَ ������ ْو َل������ ُة مَ������ا زَا‬ ‫َل������تْ ِب������أَ� ْ�����ش����� َع�����ارِكَ َب������لْ ِب������كَ هَ��� ْي���مَ���ى‬ ‫العَ���اجِ ���ي���ـ‬ ‫�����ض حُ ���كْ��� َم ْ أَ‬ ‫َل���ـ��� ْم َت������زَلْ َت�� ْب�� َغ ُ‬ ‫مِ‪َ ،‬ت����رَاهُ���� ْم �أَحْ ����قَ���� َر ا ْل��ـ��خَ ��ـ�� ْل��قِ جِ ��� ْذمَ���ا‬ ‫العَ�����اجِ ����� َم هَ���جْ ���وًا‬ ‫َل���ـ��� ْم َت������زَلْ َت��هْ��جُ ��و ْ أَ‬ ‫ُه������� َو �أَ ْوفَ�������������ى ُه������� َو َ�أقْ������ َ�����س�����ى مَ����� َذمَّ�����ا‬

‫�إن داللة الفعل الناق�ص (ما زال ومجتمعه)‬ ‫بما هي‪ ،‬دائر ٌة حول اال�ستمرار واالت�صال والبقاء‪،‬‬ ‫تك�شف ف��ي كثير ج� �دًّا م��ن مقاطع ق�صيدة‪/‬‬ ‫دي��وان (وردة ثانية من دم المتنبِّي)‪ ،‬عن �أنها‬ ‫في ه��ذه الأب�ي��ات جميعًا يُطِ ُّل المتنبِّي من‬ ‫�سير ٌة تحكي محن َة ال َّنفْ�س العربية المعا�صرة‪� ،‬شُ ـرْفة الق�صيدة‪/‬الديوان ليعي�ش بيننا محن َة‬ ‫يف بها من خيانات الخائنين‪ ،‬اليوم‪ ،‬وانك�سا َر ال َّنفْ�س‪ ،‬وغُ رْب َة الرُّوح‪ ،‬وم�أ�سا َة‬ ‫وعذاباتِها‪ ،‬وما يُطِ ُ‬ ‫الع�صـر‪ ،‬وق�سو َة الزَّمان‪ ،‬وذِ َّل َة الأيام‪.‬‬ ‫يقول محمد المع�صـراني‪:‬‬ ‫ثانيًا‪�َ :‬ضمِيمة الفعل(�آنَ )‬ ‫وَا ْب����نُ جِ �� ِّن��ي َل��ـ�� ْم َي����زَلْ َي�� ْن�����سَ ��خُ(ا ْل�� َف�����سْ ��ـ‬ ‫رَ) وَمِ ��������نْ حَ ���� ْو َل���� ْي���� ِه خَ ���� ْل����قٌ َت��ـ��جَ ��مَّ��ى‬ ‫وي � ُل��وحُ م��ن حينٍ لآخَ � �رَ‪ ،‬و�إنْ ب��درج� ٍة �أ َق��لَّ‪،‬‬ ‫ا�ستثما ُر ال �ف �ع��لِ (�آنَ )‪� ،‬صانعًا ذل��ك الح�ضو َر‬ ‫وَا ْل����ـ���� َم����ـ���� َع����ـ����رِّيُّ ُي���فَ���� ِّ���س���ـ��� ُر ‪ -‬مَ�����ا زَا َل‬ ‫المعا�صـر‪ ،‬قاطعًا اللحظ َة التاريخي َة القديمة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َو ُي�����مْ����� ِل�����ي � َ�����ش�����رْحَ ����� ُه ا ْل���ـ���مُ���� ْ���س��� َت��� َت��� َّم���ـ���ا‬ ‫مُوغِ لاً في االنتقال �إلى اللحظة الراهنة‪ ،‬يقولُ‬ ‫ويقول‪:‬‬ ‫محمد المع�صـراني‪:‬‬

‫(فِ���ي ظَ ��َل�اَ ِم ا ْل�� ِب��ي��دِ وَحْ �����دَكَ َت�����سْ ��ـ��رِي‬ ‫ْ��َل�� ا ْل����� َك����� ْو َن َن�� ْب��� ً��ض��ا‬ ‫ذَاكَ قَ���� ْل����بٌ َي�����م َ أُ‬ ‫َت���غْ��� َت���ذِ ي َت������� ْروَى‪َ ،‬ت��ـ��جُ ��ـ��و ُع َو َت��ظْ �� َم��ـ��ا)‬ ‫���������������ض ِب����ال����� ِّ����ش����عْ���� ِر َدمَّ������ا‬ ‫َو َي������������ ُد ُّم ْالأَ ْر� َ‬ ‫( َل����ـ���� ْم َت�������زَلْ ُت����ـ����حْ ����دِ ثُ فِ���ي��� َه���ا َد ِو ًّي�������ا)‬ ‫ِ��ْل��إِعْ ������ َ�����ص�����ا ِر �أَنْ َي���� ْ���س��� َت���جِ ��� َّم���ـ���ا‬ ‫�آ َن ل ْ إ‬ ‫ْ��َل�� ال���� َّل���� ْي���� َل � ُ����س���� ُي����وفً����ا َو� ُ���ص��� َّم���ـ���ا‬ ‫َت�����ـ�����م َ أُ‬ ‫�آ َن لِ����ل����� َّ����ش����اعِ ���� ِر �أَنْ َي���� ْ���س��� َت���جِ ��� َّم���ـ���ا‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪53‬‬


‫ثالثًا‪�َ :‬ضمِيمة الكِنايات‬ ‫وتتبدَّى من حينٍ لآخَ � َر كذلك قرين ٌة مهمَّة‬ ‫جدًّا تتم َّث ُل في الكنايات التي تك�شِ ُف عن الأمَّة‬ ‫ال�ضمِ يم ُة البالغي ُة‬ ‫في محنتها الراهنة‪ .‬وهذه َّ‬ ‫الأ�سلوبي ُة تلُوحُ في عددٍ من الأبيات‪ ،‬ثم يزيدُها‬ ‫ببع�ض ما يبثُّه في الهوام�ش‬ ‫ال�شاع ُر ت�صـريـحً ا ِ‬ ‫من تعليقاتِ المعاني‪ ،‬يقولُ ‪:‬‬

‫كَ������ ْم َي���ـ���حُ ���ـ���جُّ ���ـ���و َن �إِ َل��������ى َر َّب�������� ِة ال���ظُّ ��� ْل���ـ‬ ‫ِم � ُ�����س����� َك�����ارَى لاَ ُي������ َب������ا ُل������و َن َل����� ْومَ�����ا‬ ‫ثم يقول في الهام�ش‪َ « :‬ر َّب ُة الظُّ لْم‪ :‬الواليات‬ ‫المتحدة الأم��ري��ك��ي��ة»! �إن ه��ذه الكناية التي‬ ‫تتخا َي ُل خَ ل َْف التركيبِ الإ�ضافيِّ « َربَّ��ة الظُّ لْم»‬ ‫ب�صدَ دِه من‬ ‫تتبدَّى قرين ًة قوي ًة على ما نحنُ َ‬ ‫�أجوا ِء المحنة‪.‬‬

‫كا�شف ًة عن �سَ فَر �أبي الطيِّب في الزَّمان ليَحِ َّل في‬ ‫رابعًا‪�َ :‬ضمِيمةُ الجغرافيا!‬ ‫عالَـمِ ـنا ولحظتِنا الراهنة مُعاد اًِل للنف�س العربية‬ ‫لقد بلغ ب�سطو ِة المحنة �أن حملتِ ال�شاع َر المنهزِ مة‪ ،‬ومُعاد اًِل ل ُغرْبة الرُّوحِ العربي ِة الممتدَّة!‬ ‫على م�ستوًى من ال َبوْح ُربَّما � َأ�ضـ َّر ببنية الق�صيدة‬ ‫َّ�ص الداخلية‬ ‫في بع�ض �أبياتها‪ ،‬فتورَّطَ تْ في َن�وْعٍ من و�ضوحٍ خام�سً ا‪�َ :‬ضمِيمة عَ تَبات الن ِّ‬ ‫خلف حرك ِة عددٍ من‬ ‫غيرِ �شعريٍّ ‪ ،‬وهو ما يتراءى َ‬ ‫لقدْ ق�سَّ مَ محمَّد المع�صـراني ق�صيدته‪/‬‬ ‫الأ�سماء الأعالم المكانية‪ ،‬وما في م�ستواها من الدِّ يوان ُربَّما �شُ عُورًا منه بطُ ولها‪ ،‬و ُربَّما َل ِعبًا منه‬ ‫عالمات الجغرافيا‪ ،‬يقولُ محمد المع�صـراني‪ :‬على َوتَر الإيهام للقارئ ومُرا َو َدتِه عن ا�ستقبالها‬ ‫من َبوَّابة الق�صيدة وحَ ـ ْملِه له على �أن ي�ستقبلها‬ ‫كُ������� ُّل�������هُ������� ْم َي�������قْ������� َت������� ِت������� ُل�������و َن ِن������ َي������امً������ا‬ ‫َي�����شْ ��حَ ��ذُو َن ا ْل���قُ���وتَ ِم ا ْل��� َغ���رْبِ دَعْ �� َم��ـ��ا من َبوَّابة الديوان = ع�شـر َة �أق�سامٍ ‪ ،‬بدليلٍ ظاهرٍ‬ ‫ْوانات افتتحَ بها ك َّل قِ�سْ مٍ مع‬ ‫ماديٍّ ماثلٍ في عُ ن ٍ‬ ‫ال ْر� ُ����������ض فَ������جَ ������ا َورَتِ ال��� ِّ��ص��ي��ـ‬ ‫مَ�������ادَتِ ْ َأ‬ ‫نُ ِدمَ�����شْ �� ًق��ا‪ ..‬جَ ����ا َورَتْ مِ ْ�صـ ُر ُب��و ْرمَ��ا! ات�صالِ عَ دِّ �أبياتِ الق�صيدة؛ في الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫بع�ض هذه العتبات‪ ،‬وتحمِ ل َُك‬ ‫وق��دْ يُو ِقف َُك ُ‬ ‫ذَا ا ْل����فُ����رَاتُ ا ْل���� َع����ذْبُ � َ���ص���ا َر جَ ��حِ ��ي��مً��ا‬ ‫تعي�ش المحن َة المعا�صرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َب���������� َردَى �أَمْ ����� َ����س����ى ِل���ـ���حُ ���ـ��� ْزنِ���يَ حَ ��ـ�� َّم��ـ��ا عُ نْواناتُها على �أنْ‬ ‫وال � ُغ � ْرب � َة ال��راه�ن��ة‪ ،‬وه��ي ال� ُع� ْن��وان��اتُ الجانبي ُة‬ ‫ففي ه��ذه الأب�ي��ات تظه ُر القرائنُ ال��دائ��ر ُة‬ ‫في َفلَك (ال َغرْب)‪ ،‬ومحن ِة الم�سلمينَ الراهن ِة التالية‪:‬‬ ‫ ال�شِّ ْع ُر الآن!‬‫في(بُورْمَ ا)‪ ،‬والتحوُّلِ الدراميِّ الدامي في �سوريا‬

‫‪54‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫َل��ـ�� ْم َي�����زَلْ � َ���ص��� ْو ُت���كَ � َ���ص��� ْو ِت���ي‪َ ،‬ومَ����ا زَا‬ ‫ حديثٌ على ل�ساني!‬‫َل � َ����ص����دَا ُه ال����دَّهْ ���� َر � َ���ص��� ْو ًت���ا مُ���ِ��ص�� َّم��ـ��ا‬ ‫الن�صي ُة ‪ -‬مُ�ضافًا �إليها العتب ُة‬ ‫فهذه العتباتُ ِّ‬

‫ول َعلَّه مفي ٌد جدًّا �أن نُذكِّر ب�أن خبر(لم يزل)‬ ‫المت َمثِّل ُة في �إهداء الق�صيدة‪/‬الدِّ يوان في بع�ض‬ ‫ما يظ َه ُر منها �إلى ال�شاعر(عبد اهلل البردُّوني‪ :‬في هذا البيت بالن�سبة ال�سْ مِ ها ‪ -‬ا�سْ ٌم هُ َو هُ وَ‪،‬‬ ‫ت ‪1999‬م)‪ ،‬عندما قال ال�شاعر‪�« :‬إلى رُوح‪ ...‬وهو ما يعني الذي ق َّررْناه من حُ لُولِه فيه!‬ ‫البردُّوني» ‪ -‬كا�شف ٌة عن تجاوُز التاريخ وال�سَّ كَن‬ ‫ويقولُ ‪:‬‬ ‫في رَحِ م الع َْ�صـر!‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫‪ -‬حالُ العرب!‬

‫م�سافرًا على امتداد الزَّمان‪ ،‬فيقولُ ‪:‬‬

‫َت���� َت����جَ ���� َّل����ى رُوحُ ������������ ُه فِ������ي قَ���� ِ���ص���ي���دِ ي‬ ‫ال�ضمائِم‬ ‫لقدْ �أطلتُ قليلاً في َت َلمُّ�س وُجُ ��و ِه َّ‬ ‫� ُ������س������ ْن������ ُب���َل��اَ تٍ َو َن������خِ ������ي���ًل��اً َو َد ْومَ���������������ا‬

‫والقرائنِ الأ�سلوبية الكا�شفة عن محن ٍة قا�سي ٍة‬ ‫م�ؤلـمـ ٍة مُزلزل ٍة تُحيط بالنف�س العربية الم�سلمة‬ ‫المعا�صرة‪ ،‬وهي المحن ُة التي ا�ستدعتْ ح�ضو َر هُ�������� َو فِ������ي كُ�������� ِّل ا ْل�����عُ������ ُ�����ص�����و ِر مُ���قِ���ي��� ٌم‬ ‫فَ����� ِل����� َم�����ـ�����اذَا قَ������� ْب������� ُر ُه َل�����ـ����� ْم ُي�������سَ ��� َّم���ـ���ا؟‬ ‫�أب��ي الطيِّب‪ ،‬وه��ي المحن ُة التي كَـتَـبَتْ ل�شعره‬ ‫البقا َء وال ُعبُو َر واالرتحالَ في الزَّمان‪.‬‬ ‫لقدْ تجلَّتْ جَ دَّة �أبي الطيِّب في ق�صيدته التي‬ ‫رثاها بها‪ ،‬لتكون مُعاد اًِل للأمَّة الجليلة الماجدة‬ ‫(‪ )3‬غُ رْ بة الرُّ وح‪/‬غُ رْ بة الأمَّة!‬ ‫التي يُو�شِ كُ الزَّمانُ �أن يتن َّك َر لها‪ ،‬و َي ْغ ُمرَها حُ ْزنًا‪،‬‬ ‫ه��ذه الق�صيدةُ‪/‬الدِّ يوانُ ت َْ�صلُحُ �أنْ تكُونَ ويُعا ِو ُد ال�شاع ُر ا�ستدعا َء جَ دَّة �أبي الطيِّب مرَّة‬ ‫�سير ًة للرُّوحِ العربي ِة المعا�صـرةِ‪ ،‬تحكي �آالمَ ها �أخرى رمزًا للأمَّة الثكلَى‪ ،‬فيقولُ ‪:‬‬ ‫إم�ساك‬ ‫ُو�ص بعيدً ا في ال ِ‬ ‫وتر ُْ�ص ُد عذاباتِها‪ ،‬وتغ ُ‬ ‫ب�عَ�لام��اتِ خ�ي��ان��اتِ الخائنين‪ ،‬وت � ْر��ُ�س��مُ وج��و َه جَ ���� َّد ِت����ـ����ي َك����فَّ���� َن����هَ����ا ا ْل����� َف�����جْ ����� ُر َي���� ْومً����ا‬ ‫َب���عْ��� َد �أَنْ �أَخْ ����فَ����ى ���سَ �� َن��اهَ��ا َو�أَ� ْ���ص���مَ���ى‬ ‫الغا ِدرِين‪ ،‬وت ْر َف ُع ب َ​َ�صماتِ اللِّئامِ الذِ ين اجتمعوا‬ ‫عليها َي ْبغُونَ محوَها واقتالعَ ها انتقامًا‪ ،‬وحَ �سَ دً ا! َك����� ْي�����فَ مَ�����ا َت�����تْ جَ ��������� َّد ٌة كُ����� ْن�����تُ َب�������� ْردًا‬ ‫ويقول‪:‬‬

‫ِل���ـ��� ُم���ـ��� َن���ـ���اهَ���ا وَخُ ������طَ ������اهَ������ا َو� ِ���س��� ْل��� َم���ـ���ا‬ ‫مِ ��نْ ب��داي��ات ال�ق���ص�ي��دة‪/‬ال��دِّ ي��وان َيتَخا َي ُل‬ ‫التماهي بين ٍ‬ ‫ما�ض يلُوحُ كبيرًا ماجِ دً ا‪ ،‬وحا�ضـرٍ َك����� ْي�����فَ مَ������ا َت������تْ جَ ������ َّد ِت������ي َو�أَ َن������������ا كُ����لُّ‬ ‫َي ْرزَحُ تحتَ وَطْ �أَة االنك�سار‪ ،‬يقولُ المع�صـراني‪:‬‬ ‫حَ ������� َي�������اتِ�������ي فِ���������ي ُر َب����������اهَ����������ا َت����� َن�����مَّ�����ى‬ ‫�أَيْ����������نَ مِ ���� ِّن����ي كِ������� ْب������� ِر َي�������ا�ؤُكَ ذَا؟ َب����لْ‬ ‫(حِ ���ي���نَ مَ����ا َت����تْ جَ ���� َّد ِت����ي مِ �����تُّ غَ�� ًّم��ـ��ا)‬ ‫�أَ ْي�������نَ مِ ��� ِّن���ي �أَ ْن�������تَ َي����ا ذَا ا ْل��ـ�� ُم��ـ�� َدمَّ��ى؟‬ ‫َو َك�������������أَنْ َل����ـ���� ْم �أَ َر مِ ������نْ قَ����� ْب����� ُل غُ ���مَّ���ى‬ ‫َت����غْ���� َت���� ِل����ي كُ��������لُّ الْ���������قُ���������رُونِ ِب���� َك����فَّ���� ْي����ـ‬ ‫في هذا المقطع تتبدَّى الج َّد ُة �شيئًا عظيمًا‬ ‫كَ َو َت�����غْ����� ِل�����ي كُ���� َّل����مَ����ا ُزرْتَ قَ����� ْومَ�����ا َيفُوقُ الجدَّة‪ ،‬تتبدَّى وطنًا هَ �وَى‪ ،‬ومَ ـجْ دً ا ذَ وَى‪،‬‬

‫ويب ُل ُغ االتحا ُد بين ال�شاعرِ و�أبي الطيِّب مَ دَ اهُ‪ ،‬وتاريخً ا وعِ زًّا ت َعرَّى‪.‬‬ ‫ف ��ي ه���ذا ال �م �ق �ط��ع َف� � ��زَ ٌع وجَ � � ��زَ ٌع َي ���ْ�س � ُك��نُ‬ ‫حا�ضـرًا‪،‬‬ ‫فيغيبُ فيه‪ ،‬وينمحي ذائبًا في ذات��ه ِ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪55‬‬


‫َ‬ ‫ال�سُّ �‬ ‫ؤاالت‪(:‬كيف ماتَتْ ؟)‪ ،‬ويَ�سْ َت ْعلِنُ مُ�ستنكِ رًا المتنبِّي)‪.‬‬ ‫غَ ��دْ َر الغادرين الذين َف َعلُوا َف ْع َلتَهم فاغتالُوا‬ ‫لقد كانتْ طبيع ُة الق�صيدة‪/‬الدِّ يوان‪ ،‬وطبيع ُة‬ ‫حِ ْك َم َة ال�سِّ نين‪ ،‬وجَ اللَ الأيام!‬ ‫النافذ ِة التي �أطَ لَّتْ منها على الم�ستوى النقديِّ ‪،‬‬

‫وطبيع ُة الغاي ِة الم�ستتر ِة والم ْعلَن ِة معًا مِ نْ ورا ِء‬ ‫(‪ )4‬وردةٌ ثانيةٌ مِنْ َد ِم المتنبِّي‪:‬‬ ‫�إبداعِ ها ‪ -‬تفرِ ُ�ض حُ ُ�ضورًا مائزًا للتاريخ نَجَ حَ تْ‬ ‫ال�شِّ عْرُ عندَ ما ُيفَجِّ رُ التاريخ!‬ ‫في توظيفِه‪ ،‬وا�ستنطاقِه‪ ،‬وا�ستثمارِه‪ ،‬وتحميلِه‬ ‫ِطاقات دالل َّي ٍة َث َّرةٍ‪ ،‬ومُتفَجِّ رة‪.‬‬ ‫لقدْ كان مُ�شْ كِ ُل العَالق ِة بين التاريخِ وال�شعرِ ب ٍ‬ ‫�راءات كثيرةٍ‪ ،‬حاولتْ �أنْ تتدخَّ ل‪ ،‬و�أنْ‬ ‫مَ �شْ َغ َل َة ِق� ٍ‬ ‫لقدْ بدا التاريخُ العربيُّ وَحْ دَ ًة مت َِّ�صلةً‪ ،‬وبدَ ا‬ ‫تُحيطه بنوعٍ من الم�ساءالتِ في البرامج النقدية‬ ‫الغربية وال�شـرقية على ال�سَّ واء‪ ،‬ولكنَّ الق�صيدة الجُ رْحُ العرب ُّي الم�سلمُ نا ِزفًا من بعيد‪ ،‬وبدَ ا ال َع ُد ُّو‬ ‫تَتجا َو ُز ه��ذا الإط���ا َر التنظيريَّ لهذا الم�شكل‪ُ ،‬متَم ِّردًا‪ ،‬وب��دَ ا الخائنُ مُتل ِّونًا‪ ،‬فتَراكَمَ الألـمُ ‪،‬‬ ‫وت َكوَّمَ تِ الجراحُ !‬ ‫وتقف ُز عليه‪.‬‬ ‫(‪ )5‬وردةٌ ثانيةٌ مِنْ َد ِم المتنبِّي‪:‬‬ ‫لقد ا�ستحالَ المتنبِّي َر ْمزًا‪ ،‬وا�ستحالَ ك ُّل مَ نْ‬ ‫عالمات َتدُو ُر في َفل َِك هذا الرَّمْز!‬ ‫ٍ‬ ‫دا َر في َفلَكِ ه‬ ‫رحلةٌ غيرُ �أخيرةٍ في الوَجَ ع العربيِّ‬ ‫تجلَّى تاريخُ المتنبِّي ‪ -‬مُذْ تف َّتقَتْ عبقر َّيتُه‬ ‫و�شاعر َّيتُه ‪ -‬مَ ْتنًا‪ ،‬وتجلَّى ك ُّل مَ نْ كانَ حوله ‪ -‬مِ نْ‬ ‫هوام�ش‬ ‫َ‬ ‫�ات‪ ،‬و�أ�سفارٍ‪ ،‬و�أوج��اعٍ ‪-‬‬ ‫رج��الٍ ‪ ،‬وح��ادث� ٍ‬ ‫على هذا المتن!‬ ‫وقدْ كان ال�شاع ُر واعِ يًا بالح�ضور الطاغي‬ ‫للمالمح ال��ت��اري��خ��ي��ة ال��ت��ي ات��خ��ذتْ الأ���ش��ك��الَ‬ ‫والتجلياتِ التالية‪:‬‬

‫�إنَّ ق�صيدة‪/‬ديوان محمَّد المع�صـراني مثا ٌل‬ ‫غي ُر �أخيرٍ لرحل ٍة مُتجدِّ د ٍة �أب��دً ا‪ُ ،‬ت َعرِّي الوَهَ نَ‬ ‫العربيَّ ‪ُ ،‬ربَّما ظهرتْ في �صورة(ورقة في بريد‬ ‫المتنبِّي) كما فعل يا�سر �أن ��ور‪ ،‬و ُر َّب �م��ا تجلَّتْ‬ ‫ف ��ي(وردة من دم المتنبِّي) للبردُّوني‪ ،‬و ُربَّما‬ ‫تك َّثفَتْ في(زمان العرب) لمحمد الحربي‪.‬‬

‫ول �ك��نَّ اليقينَ ق��ائ � ٌم ف��ي �أن �ه��ا رِحْ �� َل�� ٌة غي ُر‬ ‫ٌ‬ ‫‬‫ب�سبب من تمدُّد الوجع العربيِّ ‪ ،‬و�سيبقَى‬ ‫ن�صو�ص م��ن �أب�ي��ات �أب��ي الطيِّب‪ُ ،‬م� ِّي��زَ تْ �أخيرةٍ؛ ٍ‬ ‫طباعيًّا بين هاللينِ ‪.‬‬ ‫المتنبِّي بجالله‪ ،‬ومجدِ ه‪ ،‬وعبقريتِه‪ ،‬و�شاعريتِه‬ ‫ل�شخ�صيات ت��راث�ي��ة(ك��ا ُف��ور‪ ،‬الفَذَّ ِة حُ ْلمًا يُداعِ بُ المحزونين والمهمومين‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ ا��س�ت��دع��ا ٌء‬‫و َنقْفور‪ ،‬و�سَ يْف الدولة وغيرهم)‪ .‬وا�ستدعا ُء والمقهورين والمقموعين‪ ،‬والحالمين!‬ ‫الأماكن(حلب‪ ،‬وبغداد وغيرهما)‪.‬‬ ‫و�سيبقى المج ُد القديمُ ‪ ،‬وال ُّن ْب ُل الذي كان‬ ‫ وتوظيفٌ للحادثات‪ ،‬والمواقع‪ ،‬والمواقف‪ .‬ح��اف�زًا نح َو اغتيالِ ال��واق � ِع المهين‪ ،‬والو�ض ِع‬‫ثُمَّ كانتْ ِق َّم ُة هذا التجلِّي في مُعار�ضة ميميَّة الراهنِ الأَ�سْ يان!‬ ‫عبداهلل البردُّوني المعروفة ب ُعنْوان (وردة من دم‬

‫* �أ�ستاذ العُلوم اللُّغوية في كلية الآداب ‪ -‬جامعة المنوفية‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫�سَ َي ْبقَى‪.‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫بنيات االنـك�سـار في ديواني‬

‫«لأميرة الغبار �شهوتها»‬ ‫و«مقبرة الحبيبات»‬ ‫لل�شاعر المغربي محمد الإمام ماء العينين‬ ‫■ عبدالهادي رو�ضي*‬

‫قراءة نـقدية‬

‫باتجاه مجاهل ق�صيدة النثر‬

‫كانت ال�صحراء م�لاذا لإق��ام��ة ال�شعر ون�شوئه‪ ،‬وم��ن خيامها خرجت الق�صيدة‬ ‫مُدجَّ جة بحلم القبيلة وع�شائرها‪ ،‬لذلك غالبا ما ارتبط قول ال�شعر لدى مرتاديه‬ ‫بالحفاظ على الن�سق الهند�سي للق�صيدة العربية‪ ،‬بناء وم�ضمونا؛ حتى خلتني لن‬ ‫�أعثر على �شاعر مغربي ينتمي جغرافيا �إلى رمال ال�صحراء‪ ،‬خارجا عن �سرب الخليل‬ ‫بن �أحمد الفراهيدي‪.‬‬ ‫تلك �ضريبة االحتمال التي تملكتني‪ ،‬غير �أن غواية ال�شعر وتقفي فر�سان الق�صيدة‪،‬‬ ‫�أخذتني خل�سة �إلى �صوت �شعري �آثـر االنفالت مـن مقا�سات ال�شعرية القديمة‪ ،‬وفتح‬ ‫محرابه لق�صيدة النثر؛ لعلها تهرب هواج�سه و�أحالمه �إلى حيث يحلم‪ ،‬باحثا عن‬ ‫فتوحات جديدة عبر بوابة النثر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪57‬‬


‫«محمد الإم��ام ماء العينين» �شاعر �شرب‬ ‫حليب الق�صيدة من �شُ رفة العيون‪ ،‬المدينة‬ ‫التي تخلد ب��داوة ال�صحراويين‪ ،‬وحلم �أجيال‬ ‫م��ن ال�شعراء ات�خ��ذوا م��ن مكوناتها العقدية‬ ‫واالجتماعية والإن�سانية والفكرية مادة لكتابة‬ ‫�شعر يخلّد ع�ب��وره��م‪ .‬غير �أن م��ا يميز هذا‬ ‫ال�شاعر ه��و �إي�م��ان��ه بق�صيدة ال�ن�ث��ر‪ ،‬وولعه‬ ‫ال�شديد بميراث روادها على امتداد الأ�صوات‬ ‫ال�شعرية التي �أ�س�ست تجربتها من المحيط �إلى‬ ‫الخليج‪ ،‬ومن النهر �إل��ى البحر‪ ،‬ويج�سد هذا‬ ‫الإيمان �إ��ص��داراه ال�شعريان‪( :‬لأميرة الغبار‬ ‫�شهوتها‪ ،‬من�شورات وزارة الثقافة) و(مقبرة‬ ‫الحبيبات‪ ،‬مطبعة الأف ��ق)‪ ،‬وهما �إ��ص��داران‬ ‫يمنحان ق��ارءه�م��ا فر�صة االل�ت�ق��اء بال�شعر‪،‬‬ ‫والتقرب من تجربة �شعرية تنت�صر لل�صمت‪،‬‬ ‫بعيدا عن ترهات الأ�ضواء‪.‬‬

‫المجموعة ال�شعرية – محور المقاربة ‪ ،-‬وعلى‬ ‫هذا الأ�سا�س تنطلق مقاربتنا من جملة �أ�سئلة‬ ‫توجهها‪� ،‬أي المقاربة‪ ،‬وت�ضبط م�ساراتها وهي‪:‬‬ ‫ما هو مفهوم االنك�سار؟ وما هي دواله وبنياته؟‬ ‫‪ -1‬في مفهوم االنك�سار‬

‫ي�ستوقف ك��ل م�ت��وغ��ل ل �م �ح��راب ال�شاعر‬ ‫محمد الإم���ام م��اء العينين ف��ي �أ�ضمومتيه‬ ‫ال�شع ــريتيـ ــن الثانية «لأميرة الغبار �شهوتها»‬ ‫و«مقبرة الحبيبات»‪ ،‬طـغيان دال االنك�سار‪،‬‬ ‫مج�سدا مو�ضوعة محورية‪ ،‬وغاية فعل الكتابة‬ ‫ل��دى ال�شاعر‪ ،‬وتوظيفه ال يخ�ضع لمق�صدية‬ ‫وح�ي��دة وا��ض�ح��ة‪� ،‬إ��ض��اف��ة �إل��ى ذل��ك فهو دال‬ ‫يتكىء على اللغة لتمرير مو�ضوعاته الداللية‪،‬‬ ‫وال ي�ت��أت ا�ستنباطه �إال بعد مجاهدة كبيرة‬ ‫لممرات الديوانين؛ وبما �أنه كذلك‪ ..‬فهو يقدم‬ ‫نف�سه ب�صيغ ويافطات اهتدت هذه المقاربة‬ ‫منهجية المقاربة النقدية‬ ‫�إلى ح�صرها في ثالثة �أنماط‪ :‬االنك�سار بو�صفه‬ ‫و�أ�سئلتها الموجهة‬ ‫خيبة‪ ،‬واالنك�سار بو�صفه وهماً‪ ،‬ثم االنك�سار‬ ‫تج�سيدا لقناعة ذات�ي��ة بالمنجز الن�صي بو�صفه حلماً‪.‬‬ ‫لهذا ال�شاعر‪ ،‬وبموازاة الم�شروع النقدي الذي‬ ‫‪ :1-1‬االنك�سار بو�صفه خيبة‬ ‫ي�شغل �أفقنا بخ�صو�ص ق�صيدة النثر المغربية‬ ‫ظ��ل��ت ال��ك��ت��اب��ة ل���دى غ��ال��ب��ي��ة ع��ظ��م��ى من‬ ‫الت�سعينية‪ ،‬نقدم ه��ذه المقاربة النقدية في‬ ‫تجربة ال�شاعر محمد الإم ��ام م��اء العينين‪ ،‬مدمنيها ا�ستعادة للخيبة بمختلف فتوحاتها‪،‬‬ ‫عبر اقتفاء ديوانيه «لأم��ي��رة الغبار �شهوتها» وم�ل�اذا لنف�ض رياحها القا�سية؛ فال�شعراء‬ ‫و«مقبرة الحبيبات»‪ ،‬وهي مقاربة تنطلق من تحديدا‪ ،‬غالبا ما يف�شلون في �أول��ى خطوات‬ ‫مفهوم االنك�سار بو�صفه داال م�ؤثثا لتمف�صالت الحب‪ ،‬فيفتحون جبهات تتخذ تجليات كثيرة‬ ‫ن�صو�ص الديوانين معا‪ ،‬و�آليات البناء الن�صي‪ ،‬في محاوالت لردم م�ساحات الجرح‪ ،‬و�إظهار‬ ‫م�ستفيدة على م�ستوى المنهج من تراكمات التنا�سي‪ ،‬واجتراح الخيبات‪ ،‬ومقاومة االنك�سار‬ ‫البنيوية ال�شعرية وتحليل الخطاب‪� ،‬إيمانا النف�سي والروحي‪:‬‬ ‫منا ب�أنهما الأق �ـ��رب �إل��ى معطيات ن�صو�ص �س�أقيم الليلة‬

‫‪58‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫الآن يا �سيدة الوهم‬ ‫�أجردني منك‬ ‫فلتكتبي ا�سمك‬ ‫على حواف القلب و�أم�ضي‬ ‫واتركي الباب م�شرعا‬ ‫(‪)2‬‬ ‫تتخذ ال��ذات ال�شاعرة من الزمن المفتوح لقافلة من جرح بعيد ‪.‬‬

‫على الم�ستقبل(�س�أقيم) ظرفا لحظيا‪ ،‬تتوقف‬ ‫فيه م�ستح�ضرة �شقوق االنك�سار‪ ،‬كدال يق�ض‬ ‫م�ضجع تلك الذات‪ ،‬ويحركها ويوجهها؛ منفتحة‬ ‫على ذوات �أخريات �شربت من معين الك�أ�س‬ ‫ذاته‪ ،‬ك�أ�س االنك�سار واالندحار العاطفي‪ ،‬لذلك‬ ‫ال تكتفي بلحظة ا�ستعادة عابرة‪ ،‬بل تدعو جل‬ ‫ال�شعراء المنك�سرين ب�سهام الف�شل في تجربة‬ ‫الع�شق لالحتفاء بتحقق الخيبة‪/‬الخيبات‪ ،‬هي‬ ‫لحظة تحدٍّ يقيمها ال�شاعر‪ ،‬وهو ي�ستعيد �شريط‬ ‫ُ�ض من قُبلٍ ‪ ،‬غير عابئ بالنكايات‪،‬‬ ‫ذكريات ق َّ‬ ‫متخذا من الرق�ص �أداة للن�سيان‪ ،‬والتحرر من‬ ‫�إ�سار مرارة الف�شل‪.‬‬ ‫‪ :2-1‬االنك�سار بو�صفه رحيال‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫حلما‬ ‫�أدعو �إليه‬ ‫كل ال�شعراء‬ ‫لنحتفي بخيباتنا‬ ‫راق�صين على نغمات‬ ‫قلوبنا(‪.)1‬‬

‫مثل (اجرديني – فلتكتبي – حواف القلب)‪:‬‬

‫لكن هل تملك الذات ال�شاعرة القدرة على‬ ‫الن�سيان‪ ،‬و�إغالق الباب �أمام الآتي؟ وب�صيغة‬ ‫مُعدَّ لة‪ ،‬وهل تدرك خباياه المحملة عبر �سُ حب‬ ‫ال�ق�ل��ب؟ �أك ��اد �أج ��زم �أن �ه��ا ال ت�ستطيع ذل��ك‪،‬‬ ‫فغالبية ال�شعراء يدركون حتما �أن الف�شل هو‬ ‫م ��آل �أي عالقة تجمع روح�ه��م ب��روح الأن�ث��ى‪،‬‬ ‫لكنهم ال يتهيبون خو�ض مغامرة الع�شق‪ ،‬وال‬ ‫يكترثون للنتائج والخ�سائر‪ ،‬وتر�صد الملفوظ‬ ‫الداللي لكثير من ن�صو�ص ال�شعر العربي قديما‬ ‫وحديثا‪ ،‬تجعلنا مقتنعين بهذا اليقين الجازم‬ ‫ونجاعته‪.‬‬ ‫ولعل ما ي�ؤكده هنا دالل��ة �ألفاظ من قبيل‬ ‫(اتركي – م�شرعا‪ -‬قافلة)‪� ،‬إذ بقدرما تخبو‬ ‫ال��ذات ال�شاعرة‪ ،‬تلمح �ضمنيا عبر الداللة‬ ‫التخيلية �أنها م�سلحة بكل م�ضادات االنك�سار‪،‬‬ ‫وعليه يظل ب��اب القلب مفتوحا على تروي�ض‬ ‫ج��راح��ات��ه‪ ،‬والتكيف م��ع �أن�م��اط�ه��ا‪ ،‬وخلخلة‬ ‫قوانينها بغية تكري�س فعل الممانعة‪ ،‬والت�شظي‪،‬‬ ‫وعدم الإقرار بالهزيمة‪.‬‬

‫وتبدو رغبة الذات ال�شاعرة في التحرر من‬ ‫�إ�سار الف�شل وا�ضحة‪ ،‬وهي تتخذ م�سافات من‬ ‫الأل��م‪� ،‬أل��م الإح�سا�س باالنك�سار الوجداني‪،‬‬ ‫متحا�شية ا�ستح�ضار مخلّفات الخيبة كفعل‬ ‫�سالب‪� ،‬إل��ى بلورة �أف��ق �إج��رائ��ي يحرر ال��ذات‬ ‫ال�شاعرة من تراكمات الما�ضي‪ ،‬وهو ما يجعل‬ ‫القلب المنك�سر مرغما على تجديد قنوات ‪ :3-1‬االنك�سار بو�صفه حلما‬ ‫التفاعل الروحي �إيجابا‪ ،‬وبناء ر�ؤى جديدة ال‬ ‫عدم الإق��رار بالهزيمة‪ /‬االنك�سار هو ردة‬ ‫نهائية‪ ،‬وذلك بتوظيف �أفعال دالة على الطلب‪ ،‬فعل تتبناها الذات ال�شاعرة المنك�سرة‪ ،‬وبها‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪59‬‬


‫تجتهد بانية حلمها‪ ،‬متوجهة نحو االحتماء‬ ‫بال�شعراء‪ ،‬بو�صفهم �أكثر النا�س ف�شال في‬ ‫ر�سم ت�ضاري�س وا�ضحة للحب‪� ،‬إذ غالبا ما‬ ‫ت�سكن ال�شعراء �أوهام هي من ن�سج مخيالهم‬ ‫ال �م �ج��ازي‪ ،‬ل��ذل��ك غ��ال�ب��ا م��ا ينك�سرون في‬ ‫تجربة الع�شق؛ بل يف�شلون على حد تعبير �أحد‬ ‫الأ�صوات ال�شعرية العربية الحديثة‪.‬‬

‫�أيها ال�شعراء‪� ..‬أناااام‬ ‫ت�ستيقظ الأحالم‬ ‫ف�أراني طائرا‬ ‫عا�شقا‬ ‫(‪)3‬‬ ‫يهم�س بالوعد ‪.‬‬ ‫ترى �أي وعد هذا الذي ي�أخذ ال�شاعر وهو‬ ‫يحلّق بعيدا عبر متحقق الأحالم؟ و�إلى �أي حد‬ ‫يمكن �أن نعد ا�ستعارة ال�شاعر لمتخيل الطائر‬ ‫دليال على اال�ستمرارية ف��ي مقارعة عنف‬ ‫ال�م��ر�أة الحبيبة رغ��م تمدد حبال الخ�سارة؟‬ ‫�سيما و�أن قلب ال�شاعر �شبيه �إلى حد ما بمنزل‬ ‫يحتوي �أ� �س��رار ح�ي��وات ممتدة والن�ه��ائ�ي��ة‪ ،‬ال‬ ‫تعترف �سوى بالحلم مقاما في خ�ضم هيمنة‬ ‫ما هو مادي‪ ،‬وتال�شي الإيمان بنداءات الروح‬ ‫الخفية‪ ،‬وتلك هي �ضريبة ال�شاعر ومغامراته‬ ‫الوجدانية‪ ،‬و�إن كانت توا�صل اندفاعاتها نحو‬ ‫�إيمان م�ضاعف بالقلب وخزائنه‪.‬‬

‫ورمزيته في احتواء هوة االنك�سار‪ ،‬لذلك تظل‬ ‫م�شدودة �إلى الم�ستقبل؛ فالفعل‪ ،‬ن�ؤثث‪ ،‬يج�سد‬ ‫ه��ذه ال��رغ�ب��ة ال�ث��اوي��ة خلف ذاك ��رة ووج ��دان‬ ‫ال�شاعر المنك�سرة‪ ،‬وهي �إذ تحتمي بالحا�ضر‪،‬‬ ‫تك�شف تطلعها �إلى فتح نوافذ الم�ستقبل الحلم‪،‬‬ ‫و�إن كانت ال تتخلى عن ارتدادها النو�ستالجي‬ ‫الممتد‪ ،‬لأن�ه��ا ال تتعلم م��ن ال�ح�ي��اة‪ ،‬بتعبير‬ ‫الروائية �أحالم م�ستغانمي‪ ،‬من الآخرين‪ ،‬بل‬ ‫من الخدو�ش بعد ال�سقوط والوقوف معا‪:‬‬

‫ن�ؤثث �أحالمنا‬ ‫لحبيبتي لون المحار‬ ‫على مهل ونعلقها‬ ‫يكتبني على �صفحة الماء‬ ‫�شرائط تطير‬ ‫ق�صيدة �أنا ده�شتها‬ ‫(‪)4‬‬ ‫مع جدائل ال�صغيرات ‪.‬‬ ‫وهي الحرف‬ ‫�إن ال��ذات ال�شاعرة ال تعترف �إال بالحلم �شرارة قلبين‬ ‫‪60‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫في �أعلى المدينة‬ ‫يعد خطوي كل يوم‬ ‫�أن�شده بع�ض الأ�شعار‬ ‫و�أخبره ب�أدق التفا�صيل‬ ‫عن حب ع�شته وغاب‬ ‫(‪)6‬‬ ‫كما يغيب ندى ال�صباح ‪.‬‬

‫‪2‬ـ‪ :3‬ب��ن��ي��ة امل�����وت‪ :‬ال� �م ��وت‪ ،‬وح��ي��دا‪،‬‬ ‫االن�ط�ف��اء‪ ،‬ج�ن��ازت��ان‪ ،‬ج�ن��ازة‪ ،‬ال �ف��راغ‪ ،‬تموت‬ ‫العالقات‪ ،‬تموت الفرا�شات‪ ،‬ال يعزي‪ ،‬موتها‪،‬‬ ‫موتنا البطيء‪�...‬إلخ‪.‬‬

‫وال��وا� �ض��ح �أن م���س��ار ال���ش��اع��ر م��ع الأن �ث��ى‬ ‫الق�صيدة م�سار حابل‪ ،‬رغم تم�سكه بالم�ستقبل‬ ‫وب��الآت��ي‪ ،‬بالنكو�ص والفجيعة؛ لذلك تتم�سك‬ ‫الذات المنك�سرة بعبق الذكرى لعلها تبدد بع�ض‬ ‫ال��ذي انك�سر‪ ،‬وتعيد للذكرى ن�شيد ملحمتها‬ ‫‪2‬ـ‪ :2‬بنية احللم‪ :‬محتاج‪ ،‬ن��ور‪� ،‬أحبك‪،‬‬ ‫وجنائزيتها‪:‬‬ ‫الورد‪ ،‬ابت�سامة‪ ،‬مطرا‪� ،‬أع�شق‪ ،‬حبيبتي‪ ،‬حب‬ ‫لي عبق الذكرى‬ ‫قديم‪� ،‬سحر الكالم‪� ،‬س�أظل‪ ،‬ابت�سامة الطفل‪،‬‬ ‫يخطفني ببرق الهال‬ ‫العيون �شفاه‪ ،‬جراح الخليقة‪ ،‬الجرح‪ ،‬جراح‪،‬‬ ‫كي �أحلم مرتين‬ ‫نبيذ الذكريات‪ ،‬الحب المملح‪ ،‬ذكراك‪� ،‬أ�سلمت‬ ‫ولي �شارع‬ ‫للحلم‪ ،‬للأحالم‪� ...‬إلخ‪.‬‬

‫‪ -2‬بنيات االنك�سار‬ ‫ا��س�ت�ن��ادا �إل ��ى ق��راءت �ن��ا للمنجز الن�صي‬ ‫للديوانين‪ ،‬محور مقاربتنا النقدية‪ ،‬وتتبع‬ ‫منعرجاته الن�صية‪ ،‬نجد ذوات�ن��ا �أم��ام دوال‬ ‫ت ـ�ؤ�س�س متخيــل ق�صيدة النثر‪ ،‬التي يظ ــل‬ ‫محمد مـــاء العينين م�ن��ذورا �إل��ى �أقانيمها‪،‬‬ ‫وتبني معجم ال�شاعر؛ وهي دوال بقدرما تتعدد‬ ‫تلتقي ب��دال �أكبر هو االنك�سار‪ ،‬ال��ذي ترتبط‬ ‫به دوال �أخرى معجمية‪ ،‬ح�صرناها في ثالث‬ ‫دوال‪ ،‬هي‪ :‬دال الت�شظي‪ ،‬ودال الحلم‪ ،‬ودال‬ ‫الحنين‪.‬‬ ‫‪2‬ـ‪ :1‬بنية الت�شظي‪ :‬وتج�سده مفردات‪:‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ت�ضيء الم�سار(‪.)5‬‬

‫دموعي‪ ،‬ال�صمت‪� ،‬أكابد‪ ،‬احترقت‪ ،‬ال�صدى‪،‬‬ ‫�صد�أ الوقت‪ ،‬مت�سع للحزن‪ ،‬الليل �أ�ضيق‪� ،‬سيدة‬ ‫الوهم‪ ،‬القلب �س�ؤال‪� ،‬أرق‪ ،‬يتقد القلق‪ ،‬انتابتني‬ ‫ال�م�خ��اوف‪ ،‬يعتريني ال�سهاد‪ ،‬دم�ع��ا معتقا‪،‬‬ ‫�صداقة…�إلخ‪.‬‬

‫والجلي �أن هذه ال��دوال ال ت�أتي منعزلة بل‬ ‫�ضمن �سياقات �شعرية مي�سمها الت�شظي كحالة‬ ‫نف�سية تعي�شها ال���ذات ال�شاعرة‪ ،‬التي تظل‬ ‫م�شدودة �إلى متاهات الع�شق‪ ،‬وم�ؤمنة بجبهاته‪،‬‬ ‫م�ستفيدة في ذلك من �إمكانات ق�صيدة النثر‬ ‫بو�صفها ن�صا متحررا من �ضوابط البالغة‬ ‫القديمة؛ فغالبا ما يحيد ال�شاعر وه��و يبني‬ ‫دواله �إلى هدم معيارية الجملة ال�شعرية‪ ،‬عبر‬ ‫االنتقال من الم�شابهة �إلى االنزياح‪ ،‬م�ستفيدا‬ ‫من �إمكانات اللغة التي يحققها االنزياح عبر‬ ‫�إل �غ��اء �أق��ان�ي��م ال���ص��ورة ال�شعرية المعيارية‪،‬‬ ‫ومقت�ضياتها؛ �إذ التخطىء العين الفاح�صة‬ ‫�سعي ال�شاعر �إلى جعل �صوره ال�شعرية في خدمة‬ ‫ال��دوال التي تبني ن�سيج ن�صو�صه المتحررة‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪61‬‬


‫من الوزن العرو�ضي‪ ،‬والمراهنة على اجتراح‬ ‫�أ�سئلة الكينونة الوجودية‪ ،‬عبر و�سيط اللغة‬ ‫ال�شعرية المن�شودة �إلى الإ�شارة والإيحاء‪:‬‬

‫الثامنة‬ ‫�صباحا‬ ‫تفتحين النافذة‬ ‫كما هي عادتك‬ ‫�صباحا‬ ‫يطل جمالك‬ ‫العفوي‬ ‫على العالم‬ ‫ك�أنك خارجة‬ ‫للتو من حلم(‪.)7‬‬ ‫�إن الجملة ال�شعرية داخل الديوانين معا‪،‬‬ ‫ت�أتي مختزلة ومكثفة وايحائية‪ ،‬ومنحازة �إلى‬ ‫بلورة نف�سية ذات �صاحبها ال�شاعرة‪ ،‬وبموجب‬ ‫ذلك‪ ،‬تن�أى عن الإغراق المجاني في الو�صف‪،‬‬ ‫الذي يغتال دوما �شعرية الن�ص والق�صيدة معا‪،‬‬ ‫مثلما تحيد عن �شَ رَك التعميم‪� ،‬أي �أنها تر�صد‬ ‫كوامن نف�س واحدة هي نف�س ال�شاعر المكلومة‪،‬‬ ‫والتي تجتهد لمقاومة �شريعة التنكر للحب‬ ‫كقيمة �إن�سانية غدت بف�ضل المهيمن المادي‪،‬‬ ‫لغة خ�شبية جافة ومملة‪:‬‬

‫لأنك على‬ ‫حدود الخيال‬ ‫واقفة‬ ‫يمنحك ال�شعر‬ ‫(‪)8‬‬ ‫ت�أ�شيرة الدخول ‪.‬‬

‫وح�صانه الجموح‪ ،‬به يبني عوالمه المتخيلة‬ ‫وي�ضمد نزيف ذات��ه المجترحة والمحبطة‪،‬‬ ‫م�ستعيدا تجارب �شعراء كبار تو�سلوا الخيال‬ ‫وراه �ن��وا عليه ف��ي االنتقال م��ن عالم مختل‪،‬‬ ‫قوامه ال�شر وانهيار القيم ال�شعرية والإن�سانية‬ ‫الكبرى؛ ك�أبي القا�سم ال�شابي وعبد الكريم‬ ‫بن ثابت و�إدري�س الجاي و�آخرين‪� ،‬إلى عوالم‬ ‫�أخرى �أكثر �إيمانا بالحب والإن�ساني‪.‬‬ ‫‪3‬ـ البناء الن�صي و�أولياته‬

‫راه��ن ال�شاعر محمد الإم ��ام محمد ماء‬ ‫ال�ع�ن�ي��ن ف��ي ب �ن��اء م�ع�م��ار ن���ص��و���ص دي��وان�ي��ه‬ ‫ال�شعريين على عدة �آليات �إجرائية‪ ،‬امتاحت‬ ‫م��ن خلفيات معرفية م �ت �ع��ددة‪ ،‬وه��ي �آل�ي��ات‬ ‫فالخيال ه��و �أف��ق ال�شاعر محمد الإم��ام ترتبط بطرق البناء الن�صي‪ ،‬ي�صعب ر�صـــدها‬

‫‪62‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫موجّ هة اهتمامها �إلى الم�ؤ�شرات التي تبني دال‬

‫‪3‬ـ‪ :2‬الف�ضاء الن�صي و�إلغاء النمط الأولي‬ ‫االنك�سار‪ ،‬ويمكننا في ال�سياق ذاته �إجمال �أبرز‬ ‫للبيت‬

‫تلك الآليات في ماي�أتي‪:‬‬

‫‪3‬ـ‪ :1‬ا�ستبعاد الدال العرو�ضي واالحتماء‬ ‫باللغة ال�شعرية‬

‫بما �أن دي��وان��يَّ «لأم��ي��رة الغبار �شهوتها»‪،‬‬ ‫و«مقبرة الحبيبات»‪ ،‬يندرجان �أجنا�سيا �ضمن‬ ‫ق�صيدة النثر‪ ،‬يتمر�أى للقارئ عموما حر�ص‬ ‫ال�شاعر على ا�ستبعاد ال��دال العرو�ضي‪� ،‬إذ ال‬ ‫تمتثل ن�صو�ص الديوانين معا لأي بحر من بحور‬ ‫الخليل بن �أحمد الفراهيدي‪،‬‬ ‫ولهذا اال�ستبعاد مبرراته‪� ،‬إذ ينخرط ال�شاعر‬ ‫في تحوّالت ال�شعرية الراهنة كونياً‪ ،‬وينحاز‬ ‫�إلى خيار اللغة ال�شعرية بو�صفها مر�آة تك�شف‬ ‫المنفلت والال مفكر فيه‪ ،‬والع�صيّ على الترتيب‬ ‫والنمذجة والقيا�س؛ فتغدو اللغة ال�شعرية‬ ‫بموجب ذلك هُ وّية ال�شاعر‪ ،‬ودليل ت�سللنا �إلى‬ ‫ما يفكر فيه‪ ،‬ومراهنة على ر�ؤى ذاتية متجهة‬ ‫من المعلوم �إلى المجهول‪ ،‬ق�صد تحقيق البعد‬ ‫الإ�شراقي؛ ومن ثَمَّ فاللغة ال�شعرية‪� ،‬إذ تلغي‬ ‫الدال العرو�ضي «ال تبتكر ال�شيء وحده‪ ،‬و�إنما‬ ‫تبتكر ذاتها فيما تبتكره»(‪ .)9‬وه��ي ت�ستدعي‬ ‫عنا�صر �أخرى‪ ،‬كاالقت�ضاب اللغوي الذي يلغي‬ ‫�إلزامية الحفاظ على امتداد البنية التركيبية‬ ‫للجملة‪ ،‬لتحقيق مبد�أ االن�سجام‪ .‬ومن �أمثلة‬ ‫ذلك قول ال�شاعر‪:‬‬

‫هو الجرح‬ ‫حقيقة الحب‬

‫نق�صد بالف�ضاء الن�صي‪ ،‬الحيّز الذي ت�شغله‬ ‫الن�صو�ص داخل الديوان‪ ،‬حيث يتبدى حر�ص‬ ‫ال�شاعر على ا�ستغالل ف�ضاءات ال�صفحات‪،‬‬ ‫م�ستفيدا م��ن البيا�ض ال ��ذي يهيمن ب�شكل‬ ‫كبير‪ ،‬نظرا للمنحى التكثيفي الطاغي على‬ ‫عملية البناء الن�صي‪ ،‬وهو عن�صر بانٍ للدالالت‬ ‫الكبرى ل�شعرية ال��دي��وان�ي��ن‪ ،‬وتوظيفه لي�س‬ ‫مجانيا‪ ،‬وغالبا ما يخرق ال�شاعر معيارية البيت‬ ‫ال�شعري المتعارف عليه في ال�شعرية العربية‬ ‫القديمة‪ ،‬ذي النمط الأولي للبيت‪ ،‬ويمكننا �أن‬ ‫ن�ستدل على ذلك بالعيّنة الآتية‪:‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫مجتمعة‪ ،‬وهـــو مـــــا تن�أى عنه هذه المقاربة‪ ،‬ووهم ما �سواه(‪.)10‬‬

‫في ما ي�شبه‬ ‫الحلم‪..‬‬ ‫ق�ضيت‬ ‫وحده ال�شاعر‬ ‫ظل يقاوم‬ ‫في عهدته‬ ‫ب�ضع ق�صائد‬ ‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫(‪)11‬‬ ‫وتمتمات �أخيرة ‪.‬‬ ‫فال�شاعر يوزع مكونات جمله ال�شعرية وفق‬ ‫وع��يٍّ خا�ص ب�إمكاناتها‪ ،‬في م�سعى ح��ا ّد �إلى‬ ‫تكري�س ر�ؤي��ة ذاتية تملك �أ�سرار لعبة الكتابة‬ ‫ال�شعرية الحديثة‪ ،‬الم�سكونة با�ستبدال كل ما‬ ‫هو معياري‪ ،‬والخ�ضوع لإمالءات الحوا�س وهي‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪63‬‬


‫المتعددة‪ ،‬ويتو�سّ ل التكثيف في الديوانين معا‬ ‫تعطيل الو�صل‪ ،‬وا�ستدعاء الف�صل‪ ،‬و�إذا الأول‬ ‫يعني (العطف بين جملتين ب ��إح��دى �أدوات��ه‬ ‫كالواو والفاء وبل وثم‪� ....‬إلخ‪ ،‬ف�إن الف�صل هو‬ ‫�إلغاء للعطف بوا�سطة �أداة)(‪،)12‬‬

‫تمار�س حقها في اختيار م�سكنها ال�شعري‪ ،‬وال‬ ‫�شك �أن تفكيك الجملة و�إع��ادة توزيعها داخل‬ ‫ال�صفحة‪ ،‬هو ت�أكيد على حرية الذات ال�شاعرة‬ ‫في �صوغ تحققها ال�شعري‪ ،‬وترجمة ت�شظي‬ ‫العالم‪ ،‬وخفوت الكتابة النموذج؛ �إنه وعي حاد‬ ‫ب�أزمة الممار�سة ال�شعرية التقليدية‪ ،‬وق��درة‬ ‫هذه هي �أه��م مالمح بنيات االنك�سار كما‬ ‫على موا�صلة اختراق الجاهز والمغلق‪ ،‬و�إعادة‬ ‫االعتبار �إلى الإيقاع والبعد الب�صري كمكونين تتمظهر م��ن خ�لال دي��وان��ي‪« ،‬لأم��ي��رة الغبار‬ ‫�شهوتها»‪ ،‬و«مقبرة الحبيبات» لل�شاعر محمد‬ ‫دالين في بناء المعنى ال�شعري‪.‬‬ ‫الإم��ام م��اء العينين‪ ،‬و�إن ك��ان �أم��ر ح�صرها‬ ‫‪4‬ـ‪ :2‬تبنّي الف�صل بدل الو�صل‬ ‫ف��ي م�ن�ت�ه��ى اال� �س �ت �ح��ال��ة؛ ل��ذل��ك‪ ،‬ن �ع � ّد ه��ذه‬ ‫ي�شكل تبنّي الف�صل عن�صرا بانيا للمعنى‬ ‫القراءة �إ�ضاءة �أولى في الأر�ض ال�شعرية لهذا‬ ‫ال�شعري في الديوانين معا‪ ،‬وا�ستدعا�ؤه من‬ ‫ال�شاعر المفتون بق�صيدة النثر وفتوحاتها‪،‬‬ ‫ط��رف ال�شاعر ه��و تعبير ع��ن االن��خ��راط في‬ ‫ت�ح��والت ال�شعرية العربية الحديثة عموما‪ ،‬والمحمل ب�صور االنك�سار والمحنة وجوديا‪ ،‬هي‬ ‫وق�صيدة النثر تخ�صي�صا‪� ،‬إذ االنحياز الكلي �ضريبة الحياة‪ ،‬التي هي في النهاية تمنحك‪،‬‬ ‫�إلى التكثيف الداللي في بناء المعنى‪ ،‬واالنت�صار بال�ضرورة‪ ،‬وت�أخذ منك‪ ،‬ليظل ال�صراع ملح‬ ‫لاليحاء‪ ،‬وتحا�شي ال�شرح والتف�سير والترابط ال�ح�ي��اة ال�ت��ي ن�ت��وق �إل ��ى ت�ط��وي��ق ج��راح��ات�ه��ا‪،‬‬ ‫المنطقي في ت�شكيل المعنى ال�شعري في دالالته وانزياحاتها عبر اللغة‪.‬‬ ‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬ ‫‪1‬ـ محمد ماء العينين‪ ،‬مقبرة الحبيبات‪ ،‬مطبعة الأفق‪ ،‬ط‪ ،1‬د‪ .‬ت‪ ،‬ن�ص �شرنقة ال�ضعفاء‪� ،‬ص‪.8 :‬‬ ‫‪2‬ـ المرجع نف�سه‪ ،‬ن�ص‪� :‬سيدة الوهم‪� ،‬ص‪.17 :‬‬ ‫‪3‬ـ المرجع نف�سه‪ ،‬ن�ص‪� :‬شرنقة ال�ضعفاء‪� ،‬ص‪.10 :‬‬ ‫‪4‬ـ محمد الإمام ماء العينين‪ ،‬لأميرة الغبار �شهوتها‪ ،‬من�شورات وزارة الثقافة‪ ،‬الكتاب الأول‪ ،‬رقم ال�سل�سلة ‪ ،32‬ن�ص‬ ‫لأميرة الغبار �شهوتها‪� ،‬ص‪.23 22 :‬‬ ‫‪5‬ـ المرجع نف�سه‪ ،‬ن�ص قمر بين عا�شقين‪� ،‬ص‪.13 :‬‬ ‫‪6‬ـ المرجع نف�سه‪ ،‬ن�ص‪ :‬من عبق الذكرى ‪� /‬ص‪.16 :‬‬ ‫‪7‬ـ محمد الإمام ماء العينين‪ ،‬مقبرة الحبيبات‪ ،‬ال�صاحبان‪� ،‬ص‪.24 :‬‬ ‫‪8‬ـ المرجع نف�سه‪ ،‬لأميرة الغبار �شهوتها‪ ،‬ن�ص‪ :‬ت�أ�شيرة‪� ،‬ص‪.60 :‬‬ ‫‪9‬ـ �أدوني�س‪ ،‬ال�شعرية العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الآداب‪� ،‬شركة الن�شر والتوزيع المدار�س‪� ،‬ص‪.83 :‬‬ ‫‪10‬ـ محمد الإمام ماء العينين‪ ،‬لأميرة الغبار �شهوتها‪ ،‬ن�ص‪ :‬حا�شية على توقيع الغرام‪� ،‬ص‪.26 :‬‬ ‫‪11‬ـ المرجع نف�سه‪ ،‬ن�ص‪ :‬ر�ؤيا‪� ،‬ص‪.7 :‬‬ ‫‪12‬ـ �إميل بديع ومي�شال عا�صي‪ ،‬المعجم المف�صل في اللغة والأدب‪ ،‬مج‪ ،2‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫‪� ،1987‬ص‪.1308 :‬‬

‫‪64‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫وداد بنمو�سى‪..‬‬ ‫الق�صيدة المع�شبة بين �أهداب الإن�سانية‬ ‫■ جناة الزباير*‬

‫أحا�سي�س قوية ن�ستجمعها وقت ال�سكون»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫«ال�شعر �‬

‫وليم وردزورث‬

‫كبوة فوق �أر�ض البداية‬

‫ه���ذه ال�����ش��اع��رة ال��م��غ��رب��ي��ة ال��ت��ي تلعب �أم����واج ال��ح��رف‬ ‫بين كفيها‪ ،‬فيغدو الكون ناياً يحاول ردم فو�ضانا ب�أعذب‬ ‫�ألحانه‪.‬‬ ‫ف��ه��ل ه��ي ت��ل��ك الأب��ج��دي��ة ال��ت��ي تت�سلق ���س��ل��م ال�شعر‪،‬‬ ‫وترمينا بيا�سمينة كي نحتفي معها ب�ألق الق�صيدة؟‬ ‫�أم ت��راه��ا ج��ن��اح حلم يجتاحنا كلما فتح قلق ال��وج��ود‬ ‫حوا�سّ ه‪ ،‬لنعبر من خالله نحو �ألم الإن�سان؟‬ ‫كل ما نعرفه �أنها وطن راك�ض في كل الم�سافات‪ ،‬تتدثر برداء الجمال‪ ،‬وتهاجر في‬ ‫كل الأبعاد لت�صغي للذات الممزقة ب�سياط المدى‪.‬‬ ‫نعم؛ ه��ذه ال�شاعرة التي تح�ضن ج�سد الليل‪ ،‬وترفع �أق���داح نورها كي ن��رى من‬ ‫خالله �سُ رَّة الق�صيدة تتهادى غواياتها‪� ،‬أ�س�ست لتجربة عميقة خاطتها ب�إبر الأحا�سي�س‬ ‫المهوو�سة بالقب�ض على الم�ستحيل‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪65‬‬


‫فهل رغبة ال�شاعرة في الإ�شارة �إلى العنا�صر‬ ‫انك�سارات الذات بين �أمواج المعنى‬ ‫الأرب� �ع ��ة‪� ،‬إح��ال��ة م�ن�ه��ا �إل��ى‬ ‫�إن ال���س�ف��ر ف��ي ال �ط��رق��ات‬ ‫خيالها الوقاد‪ ،‬الذي ي�ؤ�س�س‬ ‫ال�شعرية المت�شعبة الخا�صة‬ ‫ل �ح �ل��م ت� �ح ��اول م ��ن خ�لال��ه‬ ‫ب��ال �� �ش��اع��رة وداد ب�ن�م��و��س��ى‬ ‫الت�أ�سي�س لكينونة �شعرية‬ ‫محفوفة بالمغامرة‪ ،‬نلم�سها‬ ‫ت�ت�ك�ل��م االخ � �ت �ل�اف‪ ،‬وت�ن�ث��ر‬ ‫كلما وقفنا على عتبات �سكونها‪،‬‬ ‫هواج�سها للو�صول لجوهر‬ ‫فهل هي حاالت م�شبعة بالحرية‪،‬‬ ‫جوهر الوجود؟‬ ‫وال�ت�م��دد ف��ي زم��ن مفتوح على‬ ‫ل �ق��د ح��اول��ت ال���ش��اع��رة‬ ‫النهائي‪ ،‬حيث ال�صور المتخيلة‬ ‫ب�شكل مجازي مالم�سة وعيها‬ ‫ت�ن�م��و ع�ن��ا��ص��ره��ا التركيبية‪،‬‬ ‫المنفتح ع�ل��ى ع�م��ق اللغة‪،‬‬ ‫لتعطينا م�ف��ارق��ة فنية �أق��رب‬ ‫وداد بنمو�سى‬ ‫للإ�شارة �إلى حالة نف�سية غير‬ ‫للح�س الفل�سفيِّ في طرحها؟‬ ‫ِّ‬ ‫م�ستقرة‪ ،‬تدفقت معانيها لتحدد بنية تركيبية‬ ‫تقول‪:‬‬ ‫�شكلت ب�ؤرة فنية‪ ،‬مزجت بين مقارنات مختلفة‬ ‫�إنَّني مثل النَّار‬ ‫ترف�ض االن�صياع لها‪ .‬لي�صير �صوتها ممزوجا‬ ‫ال �أختا ُر الريح تهيِّجني‬ ‫بالمعاني ال�شاملة التي خلقت ت�سل�سال رمزيا‪،‬‬ ‫مثل المطر‬ ‫داخل هذا الن�ص المفعم بالحياة‪.‬‬ ‫ال �أختار الأر�ض تت�شَ َّربُني‬ ‫فهي راق�صة بارعة في حلبة الق�صيدة التي‬ ‫مثْل هوام اللَّيل‬ ‫ت�ست�ضيء زواياها ب�شغبها ال�ضوئي‪ ،‬حيث خطاب‬ ‫ال�ضوء تلَ ِّمعُني‬ ‫ال �أختار حبَّة َّ‬ ‫الذات يفتح لنا مجاهيل دواخلها‪.‬‬

‫مثْل الفراغ‬ ‫ال �أخْ تار مَن يمْل�ؤني‬ ‫غي َر �أنِّي‬ ‫�أ�صعد �إلى زهوي كل ليلة‬ ‫كي �أراني هكذا‪:‬‬ ‫مثل المدى‬ ‫ال �أختار حدا يحُ دُّ ني‪...‬‬

‫عباءة طرّ زتها يدُ الخيال‬ ‫�إن هم�سات ال�شاعرة وداد بنمو�سى تفتح‬ ‫بح�س مرهف‬ ‫�أه��داب الق�صيدة‪ ،‬لتطل علينا ٍّ‬ ‫كما حوريات الأ�ساطير‪� ،‬أو �أميرات الق�ص�ص‬ ‫الخيالية‪ ،‬التي غذت وجداننا ذات ثقافة �سكنتنا‬ ‫وتنقلنا بنعالها‪.‬‬ ‫فبعد �أن كانت تتحرك ب�إيقاعات ممزوجة‬ ‫بالخجل واالعتذار �أمام مرايا نف�سية تمثل الذي‬ ‫كان‪ ،‬ن�سمع �صوتها قويا ينت�صر لذبذبات الحياة‬ ‫التي تتبعها كما الكمان‪.‬‬ ‫تقول‪:‬‬

‫لقد التقت عنا�صر مختلفة (النار‪ ،‬الماء‪،‬‬ ‫المطر)‪ ،‬الهواء( الريح)‪ ،‬التراب (الأر���ض)‪،‬‬ ‫لتت�سع ر�ؤي �ت �ه��ا وت�خ�ل��ق ح��دث��ا جماليا مفعما‬ ‫بالده�شة‪ ،‬ك��ي تن�صهر ف��ي طقو�سها الذاتية‬ ‫معلنة اختالفها‪ .‬كما اختارت النار البروميثية‬ ‫للتحرك بين المعاني ال�سردية العميقة رغم‬ ‫ب�ساطتها‪ ،‬لتحكي لنا عن تمردها وهي تتنقل ُكنْتُ َر�أَ ْي ُتنِي َه َكذَا‪:‬‬ ‫بهذه المواد الأرب�ع��ة‪ ،‬في رحلة وجودية تميط َريْحَ ا َن ًة خَ جُ ولَة‬ ‫اللثام عن بع�ض هواج�سها‪.‬‬ ‫فِي يَدٍ َتعْتذِ رُ‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫�أحِ ُّ�س‪.‬‬

‫هذا الإح�سا�س البريء الذي‬ ‫راف���ق ال �� �ش��اع��رة ف��ي م���ش��واره��ا‬ ‫ال �ط��وي��ل م��ع ال�ق���ص�ي��دة‪ ،‬جعلنا‬ ‫نقف بخ�شوع على ب��اب ملحمتها‬ ‫الذاتية‪ ،‬التي تدق م�سامير تميزها‬ ‫على حائط الوجود‪.‬‬ ‫�شغب البوح الم�سافر‬ ‫تغو�ص ال�شاعرة وداد بنمو�سى‬ ‫في ذاك��رة الوقت وتر�سل �صوتها‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الجميل ليغني مواويلها الذاتية‪ ،‬التي تتمايل من‬ ‫�إلى �أنْ �أيْـ َن َع جُ ُنوِني فغ َّنيْتُ ‪:‬‬ ‫خاللها �أ�شجار العمر‪.‬‬ ‫�ألاَ �أ َّيتُها الحياة‪،‬‬ ‫ات َبعِيني‪.‬‬ ‫فهل هي تلك الم�ست�سلمة لينابيعه �أنى مالت‬ ‫�أو لي�ست هذه مالمح تنت�صر للتغيير؟ �أم هو كفته نراها تميل؟ �أم هو مجرد خداع ب�صري‬ ‫جنون ال يخ�ضع لأي �سلطة غير �سلطة ال�شعر؟ لكلمات تر�صد ت�شظياته في منافي البوح؟‬ ‫ومثل رع�شة الم�ساء‪ ،‬نجد ال�شاعرة ت�سمح‬ ‫تقول‪:‬‬ ‫لنا بلم�س بع�ض من طقو�سها ال�سرية‪ ،‬لنرى َرفِي َق ُة ال َوقْتِ �أَنَا‬ ‫من خاللها عالما �سرديا تملك بقوة خيوطه‪ُ ،‬ك َّلمَا هَا َم هِ مْتُ‬ ‫وتعيدنا م��ن خالله نحو ال�شهقة الأول ��ى التي‬ ‫ف�أن نتحدث عن الوقت معناه‪� ،‬أن ن�ضع رحالنا‬ ‫منحتنا الحياة‪.‬‬ ‫على حافة الزمن ما�ضيا وحا�ضرا وم�ستقبال‪،‬‬ ‫ف�أي خيال هذا الذي �صنع من المكان حالة فهل ارتداء قمي�ص الوقت كان فر�صة لل�سياحة‬ ‫�إن�سانية نعانق انزياحاتها الآ�سرة؟‬ ‫ف��ي ال��زم��ن ال�شعري‪ ،‬ال��ذي نخاله ينفلت من‬ ‫تقول في ن�ص يحمل عنوان «غرفة للوالدة»‪ :‬بين �أيدينا دون ر�صده ب�شكل دقيق كما تفعل‬ ‫ال�شاعرة؟‬ ‫فيما �أتيتُ‬ ‫�إليها جئتُ‬ ‫ل�ق��د ن���ش��أت ذائ�ق�ت�ن��ا ال�شعرية ع�ل��ى لهفة‬ ‫وحْ دي‬ ‫ال���ش�ع��راء ال �ق��دام��ى ف��ي ت �ن��اول ت�ل��ك ال�ح��االت‬ ‫ملْ ء رئتيَ �صرخْ تُ‬ ‫النف�سية التي قيدتهم بوثائق متعددة‪ ،‬ولعل‬ ‫بكيتُ‬ ‫�أبرزها الوقوف على الأط�لال‪ .‬وجاء ال�شعراء‬ ‫ركلتُ ما في الغرفة من هَواء‬ ‫عبر التاريخ لير�صدوا كيفية تعاملهم مع الوقت‪،‬‬ ‫و�صرختُ‬ ‫من زوايا حياتهم اليومية وعالقاتهم بالآخر‪.‬‬ ‫ك�أني �أنزلُ من َعتْمة �إلى عتَمات‬ ‫ولعل ال�شعر العربي الحديث نال ق�سطا وافرا‬ ‫كثيف ح َّد العَماء‬ ‫�أو �إلى �ضو ٍء ٍ‬ ‫من هذا ال�سفر الزمني‪ ،‬فهذا �أدوني�س يقول في‬ ‫ال �أ�سمَع ال �أرى‬ ‫ق�صيدته العمالقة «الوقت»‪:‬‬

‫يا هذا الجنونْ‬ ‫مَنْ �أنا يا �أ�صدقائي؟ �أيّها‬ ‫الرّا�ؤون والمُ�سْ ت َْ�ضعَفونْ‬ ‫ل��ي�� َت��ن��ي �أق������دِ ُر �أن �أخ����� ُر َج‬ ‫من جلديَ ال �أع��رفُ مَنْ‬ ‫كنتُ ؟‬ ‫وال مَن �س�أكونْ ؟‬ ‫�إنّني �أبحثُ عن ا�سم وعن‬ ‫�شي ٍء �أ�سمّي ِه‬ ‫ف�إذا كان ال�شاعر الكبير‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪67‬‬


‫ير�صد �ضياعا حقيقيا و�سط �أ�سطورته الذاتية‬ ‫المليئة بالت�سا�ؤالت‪ ،‬ف�إن ال�شاعرة وداد بنمو�سى‬ ‫تر�سم بمداد ال��روح الج�سور القوية المحملة‬ ‫بدالالت الر�ضى‪ ،‬فال تكتفي بهذه الميوالت التي‬ ‫تزيل اللثام عن طبع جميل تت�صف به‪ ،‬بل تتعدى‬ ‫ذلك �إل��ى و�صف يمطر بهاء مكتنزا من �سحر‬ ‫الداللة وبهاء المعنى‪ .‬تقول‪:‬‬ ‫ُك َّلمَا َتقَطَّ رَ‪ ،‬ف ِْ�ضتُ‬ ‫فكلما بالغ الزمن في رواف��د خيراته‪ ،‬نجد‬ ‫ال�شاعرة ت�ط��وف ب ��أق��داح ع�ط��اءات��ه‪ ،‬راق�صة‬ ‫في خيامه‪ ،‬وك�أنها غجرية تدق خالخيلها فوق‬ ‫رماله‪.‬‬ ‫�إن��ه ن��وع من االمتالء ال��روح��ي‪ ،‬ال��ذي ُي ْغنِي‬ ‫�أفق بوحها ال�شعري الممعن في عناق فرادتها‪،‬‬ ‫لي�شعر المتلقي بلم�سة �سحرية تتدفق بين كل‬ ‫العوالم‪.‬‬

‫�إل��ى الت�سا�ؤل ع��ن ال�ح��االت ال�ق��دري��ة‪ .‬فالحب‬ ‫قدر‪ ،‬والقلب بين يدي الرحمان يقلبه كما ي�شاء‬ ‫كما جاء في حديث قد�سي‪ ،‬وهذا التماهي مع‬ ‫الم�سطرة الإلهية ي�سلط ال�ضوء على الجانب‬ ‫ال�صوفي لل�شاعرة وداد بنمو�سى‪.‬‬

‫ا ْز َرقَّ‪� ،‬شَ ا َغبْتُ‬ ‫والأزرق لون ال�سماء ولون الفن الآ�سر‪..‬‬ ‫�أما الأخ�ضر فلون الأر�ض وهو لون الحياة‪..‬‬ ‫اخْ َ�ضرَّ‪� ،‬أَ ْي َنعْتُ‬

‫فبين هذه الألوان تر�سم ال�شاعرة ق�صيدتها‬ ‫الم�شاغبة‪ ،‬وتتنقل من حال �إلى حال‪ ،‬لت�شاركنا‬ ‫حالة مزاجية يم ُّر منها �أغلب ال�شعراء‪� ،‬إنه ذلك‬ ‫القلق الوجودي الذي ي�ستوطن ب�ساط حياتهم‪،‬‬ ‫فيعبون من ريح تغيراتهم ك�ؤو�س الق�صائد التي‬ ‫�ألوان تفتح �أزرارها‬ ‫�إذا كانت الق�صيدة كما ال�م��اء ب��دون لون ي�ضعونها بين يدي القراء‪.‬‬ ‫بالمعنى المجازي‪ ،‬ف�إن ال�شاعرة تر�سم بحبر‬ ‫تقول‪:‬‬ ‫قزحي زمنها المتدفق باللغة ال�شعرية التي‬ ‫تخترق وعينا ب��ر�ؤاه��ا الممتدة ف��ي المتخيل‪َ ،‬ال ي�سْ توي َعلَى حَ الٍ َهذَا ال َوقْتُ‬ ‫لت�ؤ�س�س لغة لها مفاهيم خا�صة‪ ،‬تخلق حياة‬ ‫َك َذلِكَ �أَنَا‬ ‫ج��دي��دة‪ ،‬وت�ع�ي��د ت��رك�ي��ب ��ص��وره��ا ال �ت��ي ت��أخ��ذ‬ ‫ال �أ�سْ َتوِي َعلَى حَ يَاة‪.‬‬ ‫مالمحها �إيقاعا ذاتيا ذو وعي جمالي يخترق‬ ‫من ديوان «�ألهو بهذا العمر»‬ ‫المعنى‪.‬‬ ‫فا�ستعمال اللون ما هو �سوى ترجمة نف�سية ب�سمة فوق �شفة النهاية‬ ‫لحاالت تعي�شها ال�شاعرة‪ ،‬تقول‪:‬‬ ‫وتبقى ال�شاعرة المتميزة وداد بنمو�سى‪ ،‬من‬ ‫�أنا‬ ‫الأ�سماء التي ت�ؤثث بهم�سها م�شهدنا الثقافي‬ ‫�شَ بِي َه ُتهُ‪،‬‬ ‫بحبر الت�ألق واالختالف‪ ،‬فقد بنت عالما تتنقل‬ ‫ُك َّلمَا احْ َمرَّ‪� ،‬أَحْ َببْتُ‬ ‫ف��الأح�م��ر ل��ون ال�ح��رب وال �ح��ب‪ ،‬وال�شاعرة فيه فرا�شة بين حقول ال�شعر‪ ،‬لتر�سل �أنغاما‬ ‫وداد ترى �أن هذا االن�صهار مع الوقت يدفعنا �شعرية ال ي�ضاهيها �أحد في جمالها‪..‬‬ ‫ * كاتبة من المغرب‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫ن�صو�ص ق�صيرة‬ ‫الوم�ضة على ّ‬ ‫تقط ٍع جارف‬ ‫رنينُ‬ ‫ِ‬ ‫■ عبداهلل ال�سفر*‬

‫والمق�ص؛ ندب ُت ُه التي ي�صقلُها ل�سانُ النار‬ ‫ّ‬ ‫خ ّب�أَ �س َّر ُه عند ذاتِ ال�ضفيرة‪ .‬المنحنَى والعتبة‬ ‫مقاب�ض الأبواب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كلّما تح�سّ �ستْه‬ ‫***‬

‫الفمُ لم يطلب الحِ داد لكنّها ال�صور ُة تعتمُ في العين‪.‬‬ ‫***‬

‫يف�ض نومَ ُه �أزرقُ الحلم‪ .‬دوائ ُر ال نهائيّة‪ ،‬وحمائمُ ت�ضطربُ �أجنحتُها في خفقٍ مُلحٍّ وبعيد‬ ‫ُّ‬ ‫بعيد‪.‬‬ ‫تف�سّ خَ جل ُدهُ‪ ،‬ولم ت�صدر عن ُه حتّى الت�أت�أة‪.‬‬ ‫***‬

‫حتّى العينُ جمُدَ تْ في �شهقتِها‪.‬‬ ‫تكلّمَ رنينُ الوم�ض ِة على تقطّ ٍع جارف عن تف�صيلٍ لم ي َر ُه �أحد؛ لم ي َر ذرو َت ُه غيرُه‪.‬‬ ‫هِ ب ُت ُه القليلة ب ّددَها الدخان‪.‬‬ ‫المق�ص كما لو �أ ّن ُه يرثي الليل‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫تهدّجَ‬

‫***‬ ‫***‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪69‬‬


‫المق�ص ي�أك ُل ُه حلمُه‪ ،‬فيما النا ُر تلهث والوجهُ‪ ،‬جامداً‪ ،‬يمرّ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النائمُ في طقطق ِة‬ ‫***‬

‫كلّما ح َّك ُه االنتظار �أخرجَ �سمك َت ُه الدائخةَ‪ ،‬بينَ ق�ضبانِ الملح‪ ،‬يف�سّ حُ ها في بحرٍ يَج َه ُر‬ ‫ب�شباكِه‪.‬‬ ‫�أيُّها ال�صيّاد‪ ،‬الخاتَمُ ال ي�ضحك مرّتيْن!‬ ‫***‬

‫الفمُ المطبِق تز ُّم ُه ر ّق ُة الظلِّ البعيدة‪ .‬الورق ُة حائم ٌة في فو�ضى الري�ش لكنّ ال�سرابَ يكيد‪.‬‬ ‫�أ ّيتُها الولهَى ما طعمُ الرمل؟‬ ‫***‬

‫�شرار ٌة تقولُ االختناقَ كلَّه‪ .‬تن�ضحُ ُه ال�شهق ُة ويت�آمر علي ِه الزفير‪ .‬وظه ُر ُه المك�شوف �سيّل ْت ُه‬ ‫النظر ُة التي طالت وطالت‪ ،‬ولم تقترب‪.‬‬ ‫***‬

‫ال�شم�س تذيب!‬ ‫ُ‬ ‫ال�شم�س ال تنحت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ ...‬لم تتوقّف الريحُ لتكملَ حديثَ �أ�سنانِها على ج�سدِ ه‪.‬‬ ‫***‬

‫جُ نَّ �صو ُم ُه الطويل‪ .‬ب�أطيافِهم‪ ،‬مرّوا �صوبَ �آذانٍ لم يبلغْه‪ .‬حرّكَ العتم َة بحجرٍ طائ�ش‬ ‫واند�س يع�ص ُر ثو َب ُه في الن�سيان‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫***‬

‫غري ٌق ال يدّعي وال تهمّه �ش�ؤونُ الجنازة‪� .‬أوثقَ قدم ْي ِه و�أثقلَهما بالحجارة‪ ،‬ثمّ ذهب �إلى‬ ‫تاريخِ الماء �سطر ًا من اللمعان وقهقه ًة ممتدّة‪.‬‬ ‫***‬

‫في النعا�س‪ ،‬كان الفمُ مثمر ًا ند ّياً‪ .‬يطعِمُ عمر ًا كامالً‪.‬‬ ‫***‬

‫الرع�ش ُة المخبوءة تحتَ الجلد‪ .‬ترقبُها ناعم ًة تقطُ ُر بالعرق‪ .‬اللم�س ُة في انتظارِها الحنون‪.‬‬ ‫***‬

‫يدندن وخريط ُت ُه تتفتّحُ في القدمين‪ .‬اللحنُ يت�صاعد‪ .‬يم�شي لي َلهُ‪ ،‬يم�شيه‬ ‫* قا�ص و�شاعر وناقد من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫■ حممد النجيمي*‬

‫الخروف الأبي�ض لم ينقطع وعيه عندما ذبحوه‪ .‬لم يكن ال�ضحية الوحيدة في‬ ‫ذل��ك اليوم‪ :‬ال�سكين ذاتها ج��زت عنق �أخويه الأ�سودين‪� .‬أمهم وبقية القطيع كانوا‬ ‫يرقبون دخ��ول الكائن العظيم ال��ذي ك��ان يطعمهم وي��داوي��ه��م‪ ،‬وف��ي �أح��ي��ان �أخ��رى‬ ‫يحملهم للموت‪ .‬ت�شتتوا هربا حين باغتهم موالهم‪ ،‬ووقفوا بعد وقوع الق�ضاء يرقبون‬ ‫ثغاء الإخوة الثالثة في حالة عجز تام‪ ،‬وا�ست�سالم للواقع الذي ال يعرفون غيره‪.‬‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫الخروف الذي �شاهد الرجل‬ ‫على حقيقته‬

‫لم يميزوا يوما م�شاعرهم ناحية هذا‬ ‫ال��م��خ��ل��وق ال��ع��ظ��ي��م‪ ،‬ك��ان��ت ت��ت��ذب��ذب من‬ ‫�إح�سا�س غامر بال�سكينة حينما يح�ضر وفي‬ ‫يده العلف‪ ،‬ورعب خانق حينما ي�ستل �سكينه‬ ‫وي�ستل من بين جماعة الغنم مَ ن ي�شاء دون‬ ‫�إرادة منهم �أو اختيار‪ .‬كانت تعود لحياتها‬ ‫اليومية ب�شكل �آلي غير عابئة بغير الطعام‬ ‫ك��ان ف��ي و�سط ال�صحن �شاهدا على‬ ‫�أو التنا�سل‪ .‬ك��ان��وا يعلمون �صغارهم ما الحقيقة التي كان �أول مَ ن اكت�شفها‪ :‬ال�سيد‬ ‫تعلموه من كبارهم‪ :‬ال تعتر�ضوا على القدر لم يكن �أكثر من خ��ادم يقف على ر�ؤو���س‬ ‫�أ�سياده ويحر�ص على �إنفاذ م�شيئتهم‪ .‬هو‬ ‫وتعلموا الت�سليم وال�صبر‪.‬‬ ‫ال �خ��روف الأب�ي����ض ك��ان مختلفا‪ ،‬تعود خ��روف مثله يملك �صورة مغايرة فقط‪،‬‬ ‫على الت�أمل و�آمن �أن بو�سعه �أن يكون كائنا ي�سيّره قدر ي�ؤمن به ويتبع لقطيع ال يختلف‬ ‫كثيرا عن القطيع الذي �أتى منه‪.‬‬ ‫عظيما‪ ،‬تماما مثل �سيدهم‪ .‬حلم �أنه ي�صعد‬ ‫�ضحك الأبي�ض في �سره و�أغم�ض عينيه‬ ‫�سلما‪ ،‬و�أنه كان يتخفف من �صوفه بالتدريج‬ ‫كلما �صعد درجة‪ ،‬ر�أي بب�صيرة ثاقبة كيف لينام‪ .‬كان عازما هذه المرة على �أن ي�ستمر‬ ‫�أنه ي�ستبدل حوافره ب�أ�صابع‪� ،‬شعر بج�سده بالحلم بال�صعود على ال�سلم للأبد‪.‬‬ ‫ينت�صب وهامته تعلو‪� .‬أوغ ��ل ف��ي الت�أمل‬ ‫«يوما ما �س�أعرف»‪ .‬تلك كانت فكرته‬ ‫الأخيرة‪.‬‬ ‫و�أ�شرقت فيه الر�ؤى‪.‬‬

‫ف��ي ال�ي��وم ال��ذي هجم عليه ال�سيد لم‬ ‫يجفل‪ ،‬ظل ثابتا وارت�سمت �أول ابت�سامة‬ ‫لخروف على وجهه‪ .‬م�ضى لل�سكين محتفظا‬ ‫بالنور الذي �صبغ مالمحه‪ .‬عندما ف�صلوا‬ ‫ر�أ� �س��ه اكت�شف �أن��ه ل��م ي �غ��ادر‪ ،‬ظ��ل يتابع‬ ‫التفا�صيل وا�ستمرت ابت�سامته في ال�سطوع‪.‬‬

‫ * قا�ص من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪71‬‬


‫�أزرق‬ ‫■ بثينة حممد*‬

‫الكلمات �صعبة‬

‫تفاجئك الق�صيدة بواقعيتها‪� ،‬ش ٌّر مُحِ ّ�ض‪ ،‬جريمة قتل‪..‬‬ ‫في المبنى الكبير الأنيق‪ ،‬حيث ال يجد �أحد وقتا لق�صيدة‪ ،‬وجوههم �أغنية‪� .‬أعينهم تفلَ ُح‬ ‫الحياة‪ ،‬خطواتهم هارمونيكا قديمة مرميّة في حقل‪ .‬وم�شاكلهم اليومية غربان وفزّاعة‪.‬‬ ‫في المبنى الكبير الأنيق‪ ،‬ترك�ض الفتاة‪ ،‬ويهرول الفتى‪ ،‬وينظف العامل المجتهد كل‬ ‫الزوايا يوميا حتى ليكاد يم�سك ب�أنفك وينظفه ‪ -‬ظنا منه �أنك �شيء ‪ -‬لو ق�ضيت �أكثر من‬ ‫دقيقة دون حركة‪ .‬كل فعل يتم ب�أق�صى قدر من الدقة كل يوم؛ يجري خلف ال�ساعة كعقرب‬ ‫مجنون‪ .‬ما �إن تنتهي الدقيقة الأخيرة في �آخر �ساعةعمل من دورتها اليومية حتى يدب نوع‬ ‫�آخر من الحياة‪ .‬تندفع الكلمات والألحان �إلى الخارج‪ ،‬يظلم المبنى‪ ،‬تبد�أ ق�صيدة �أخرى‪،‬‬ ‫معزوفة �أخ���رى‪ ..‬و�سالل المهمالت ر�سّ ام حزين يطوّق الأوراق التي �ألقاها الموظفون‬ ‫وقرروا عدم الحاجة �إليها‪.‬‬ ‫هذه هي الحياة كل يوم‬

‫يدخل العامل‪ ،‬يم�شي برتابة‪ ،‬وبالرغم‬ ‫من ذلك ي�ؤدي عمله دون ت�أخير‪ .‬ي�ستغرق‬ ‫المدة نف�سها يوميا في تنظيف مخلفات‬ ‫ال�ح�ي��اة ف��ي الأم ����س‪ .‬يجمع ب�ب��راع��ة بين‬ ‫التكرار والنظام‪.‬‬

‫ف��ي الغرفة رق��م خم�سة‪ ،‬ف��ي الطابق‬ ‫الخام�س‪ ،‬على المكتب الثالث من الي�سار‪،‬‬ ‫مر�آة �صغيرة بجانب جهاز الحا�سب‪ ،‬قطعة‬ ‫حلوى‪ ،‬وكتاب‪ .‬في �سلة المهمالت بقايا‬ ‫تت�أمله كل �صباح‪ .‬يحرك ظهره خلف‬ ‫م�شروب مع الكثير من ق�صا�صات الأوراق‬ ‫الممزقة والتي تحتوي مالحظات تذكيرية المم�سحة‪ ،‬ينحني �أمامها فت�شعر بالحرج‬ ‫بمهام مختلفة‪� ،‬أو �أ�سماء المراجعين الذين وتتجنب النظر �إليه‪ .‬تتمنى لو �أنها توقفه‬ ‫انتهى �صاحب المكتب من خدمتهم‪.‬‬ ‫وتنظف المكان بنف�سها‪ .‬يت�سلل �إلى عينيها‬ ‫‪72‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ * قا�صة من ال�سعودية‪.‬‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫ال�شعور بالذنب وتتخيل نف�سها مكانه‪ ،‬م�ضطرة ال يراها‪ ،‬ال يرى �إال �شيئا‪ ،‬جزءا �آخر من هذا‬ ‫لالنحناء كل يوم لإزالة عوالق الآخرين‪ ،‬ما تبقى الحقل الكبير الذي يفلحونه كل نهار‪ .‬زميالتها‬ ‫من �أعمالهم الجيدة‪ .‬غير مدركة �أنها ت��ؤدي �أي�ضا يالحظن الظل فقط‪ ..‬ظل فزاعة‪ ،‬تقف‬ ‫الوظيفة نف�سها كل يوم في �صورة �أخرى‪.‬‬ ‫بال حراك‪ ..‬ت�ؤدي عملها الذي �صنعت لأجله‪.‬‬ ‫لكنّ الجميع �سيمتع�ض‪ ،‬قد يتهمونها حتى‬ ‫�أن ت�صير �شيئا‪ ،‬تتحول �إل��ى قطعة �أث��اث‪،‬‬ ‫ب��أن�ه��ا تعتر�ض �سيا�سة ال�شركة ال�ت��ي تهدف طائر‪ ،‬بحر‪ ،‬غراب‪ ،‬زهرة‪ ،‬مهما كانت �صفات‬ ‫لزيادةالإنتاج‪ .‬فكّرت‪« :‬ماذا عنه يا ترى؟ ماذا ال�شيء ال��ذي تتحول له فهو يجردك من جزء‬ ‫يُنتِج؟!»‪.‬‬ ‫مهم من �إن�سانيتك؛ �أنت‪ ..‬مختلف‪.‬‬ ‫الحل هو �أن ت�شيح بوجهها‪ ،‬تحاول تركيز‬ ‫قبل �أن تنتهي �ساعات العمل‪� ،‬أخبرت مديرة‬ ‫نظرها على �أي �أمر باهت معتاد تقوم به �إحدى الق�سم �أنها جلبت هدايا رمزية لكل الموظفين‬ ‫ال��زم�ي�لات‪ .‬تت�أمل �أح��د ال��زم�لاء ال��ذي يدخل‬ ‫بالق�سم‪ .‬ل��مْ تخبرها �أن الهدية فقدت جزءا‬ ‫المكتب غير مبالٍ ب�أحد‪ .‬ال لأنه متعالٍ ‪ ،‬بل لأنه‬ ‫من قيمتها االن�سانية بعد �أن توقعها الجميع‪.‬‬ ‫منهمك جدا ‪ -‬كالقند�س – في جمع الأخ�شاب‪.‬‬ ‫تكاد تتو�سل نظرة منه �إليها حتى تحيك مخيلتها تظاهرت ‪ -‬والكل منفتح لتقبل هذا التظاهر‬ ‫دراما تبعد عن �ضميرها العامل الذي يمزقه عن ‪ -‬ب�أن الهدية عفوية جدا‪ ..‬ومختلفة عن كونها‬ ‫غير عمد‪ .‬لكن االثنين منهمكان في العمل‪ .‬يا طق�س اجتماعي هو في الحقيقة بند �ضمني في‬ ‫عقد العمل‪.‬‬ ‫لها من ق�صيدة متواترة‪ ،‬حزينة كال�ساعة‪.‬‬ ‫في اليوم التالي‪ ،‬تعمدت �أن ت�أتي مبكرة‪،‬‬ ‫ت�ست�سلم �أخ�ي��را للترهات اليومية‪ :‬المدير‬ ‫الذي تزوج �سرا بم�ساعدته (تتوقف عند هذه وتعطي ال�ع��ام��ل ذا ال�ب��دل��ة ال��زرق��اء الباهتة‪،‬‬ ‫الفكرة لتتذكر عر�ض المدير لترقيتها وتحلل الفر�صة الختيار هديته قبل جميع ال��زم�لاء‬ ‫دوافعه ثم تهز ر�أ�سها بغير اقتناع‪ :‬ال تخلطي والمديرة والمدير‪.‬‬ ‫الق�ص�ص ببع�ضها)‪ ،‬الموظف الذي طرد لتهمة‬ ‫جزء منها �أراد الراحة والر�ضا‪ ،‬وجزء �آخر‬ ‫�أخالقية‪ ،‬الزوجة التي ت�ستميت ل�صنع واجهة �أخفى عن وعيها �سر اللون الأزرق لعلب الهدايا‪.‬‬ ‫منطقية لخياالت زوجها عن الزوجة المثالية‪،‬‬ ‫قبل �أن تنام �شعرت �أن هديتها كانت مختلفة‪.‬‬ ‫و�أخ��رى متذمرة توحي �أن الحياة تنتهي عند‬ ‫االلتقاء ب�شريك �أحمق ب�شكل هائل‪ ..‬وتتوالى ما فقدت الجزء المهم كما خَ �شَ ت‪ ،‬لكنها لمْ‬ ‫الترّهات كمخدِّ ر �سا ّم ي�شل عقلها عن التفكير تدرك ال�سبب �إال حين نظرت في ال�صباح �إلى‬ ‫بالعامل الذي يعبر دون �أن يلحظه �أحد‪ ،‬ينحني العلبة الزرقاء الإ�ضافية التي ابتاعتها لنف�سها‪،‬‬ ‫دون �أن ُيقِيمه �أح��د‪ ،‬لو انهمرت ال��دم��وع على وقفز �إلى عينيها في المر�آة وجه مليء بالبقع‬ ‫وجهه الأ�سمر ال ُم َبقّع‪ ،‬فلن يراها �أح��د‪ ..‬هي ظهرت فيه بقعة جديدة‪ ،‬زهرية مزينة ب�أ�سنان‬ ‫�أي�ضا غير مرئية ب�شكل �أو �آخر‪ .‬زميلها ال�شاب ب�أ�شكال مختلفة وخطوط من�سابة حولها‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪73‬‬


‫ق�ص�ص ق�صيرة جدا‬ ‫■ �شيمة ال�شمري*‬

‫لوعة‬

‫�ألم‬

‫ا���ش��ت��ق��ت �إل���ي���ك ف��ه��رع��ت �أن���ظ���ر �إل��ى‬ ‫ف��ي م�ف�ت��رق ط��رق ت �ق��اب�لا‪ ..‬ك��ان��ا من‬ ‫ال�سماء‪ ..‬و�أتو�سل غيمة �أن ت�أخذني �إليك‪ ..‬اتجاهين متعاك�سين‪..‬‬ ‫ابتلعتني الغيمة وطارت بي بعيداً‪ ،‬وعندما‬ ‫هي ت�شعر به وعلى عك�س ما يظهر!‬ ‫ر�أيتك تو�سلتها �أن تمطرني عليك‪ ..‬قذفتني‬ ‫كقطرة ماء‪ ..‬علقت هناك‪� ..‬أنعم بك‪..‬‬ ‫هما مت�شابهان ويختلفان كثيرا‪..‬‬ ‫�أرى ما ترى‪ !..‬ويا لهول ما ر�أيت!‬ ‫في م�ساء حزين و�أن��ت تبكي لوعتك‪..‬‬ ‫خ��رج��ت م��ن عينك دم�ع��ة ح��ارق��ة‪ ..‬ول��م‬ ‫�أتو�سل الغيم مرة �أخرى‪..‬‬ ‫لكنني ما زلت �أ�شتاق �إليك‪!..‬‬

‫عقدا هدنة وزرعا ال�شوك‪..‬‬ ‫�س و �ص‬ ‫يت�صيد ال���س�ق�ي�م��ات ب �م��وال ح��زن��ه‪..‬‬ ‫ويت�صيدن الكالم الملون من �أعماقه‪..‬‬

‫رعب‬

‫كالهما �صياد‪ ..‬وفي ركن ال�شبكة!‬

‫القادمون من الموت يتراق�صون على‬ ‫�أوجاعي‪ ..‬ويغنون الهالك!‬

‫مدٌّ وجزر‬

‫منحتك م��ن ال��وق��ت م��ا يَكفي لتحبني‬ ‫َ‬ ‫هياكل �ساخرة و�أعين بلون الدم‪...‬‬ ‫لكنك في كلِ مرة تُ�صر على‬ ‫كما يليق بي‪َ ،‬‬ ‫وح��دي و(ه��م) ورم��اد الأجنحة ننتظر متابعة غ ��رورك‪ ..‬و�أب�ق��ى غارقة في لجة‬ ‫الخال�ص!‬ ‫مالحة وطوق النجاة مثقوب!‬ ‫* قا�صة و�أكاديمية من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫■ عبداهلل �ساعد*‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫حقول الذرة‬

‫قطرات ال�شاهي ال�ساخنة تت�ساقط على �أقدامي‪ ،‬و�أطراف الثوب من البراد ال�صيني الأحمر‬ ‫ال��ذي �أُم�سك عروته بحر�ص بيدي اليمنى‪ ،‬ويكاد قاعه �أن يالم�س العتبات ال�ضيّقة للطريق‬ ‫المتعرجة كالحية نزوال‪ ،‬بينما �أحت�ضن بيدي الأخرى �صينية نحا�سية بي�ضاء بها فتة من خبز‬ ‫القمح‪ ،‬و�أعلّق على كتفي �صرة قما�شية من بقايا عمامة تحوي (تلقيمة) مخلوطة من م�سحوق‬ ‫ال�سكر و�أوراق ال�شاهي‪ ،‬تكفي لإعداد براد �إ�ضافي‪ ،‬بالإ�ضافة �إلى ثالثة فناجيل زجاجية فارغة‬ ‫ما�ض �أواز ُن خطواتي ب�صعوبة من �أعلى الجبل‬ ‫تحتك ببع�ضها وتكاد �أن تتحطم كلما ترنّحت؛ ٍ‬ ‫�إلى حيث (يقيّل) �أبي تحت الع�شّ ة‪ ،‬يحمي الحقل ال�شا�سع الذي يموج بحقول الذرة البي�ضاء ذات‬ ‫العناقيد الطويلة الواعدة بالح�صاد‪.‬‬ ‫يذود عنها �أفواج الطيور الغازية بالمرجمة �أطرافه‪ ،‬و�إلى �أقدامي التي عالها �سائل ال�شاهي‬ ‫ال �ت��ي ت �ح��دث � �ص��وت ف��رق�ع��ة م��د ّوي��ة ك�صوت الأح�م��ر الممزوج بال�سكر‪ ،‬والتي �شرع النمل‬ ‫البندقية‪ ،‬ويتبع كل رجمة ب�صيحة عالية محاوال يت�سابق عليها عندما �سكنت �أمامه عن الحركة‪.‬‬ ‫�إفزاع الع�صافير الغبراء ال�صغيرة الحجم التي‬ ‫على الأر�ضية الترابية للع�شة؛ �أ�ضع البراد‬ ‫تنق�ض �أ�سرابا وب�سرعة خاطفة‪ ،‬كلما غفل عنها ال ��ذي ان�سكب ن�صفه تقريبا ف��ي منعطفات‬ ‫�أو �سكت �صوت الزير الذي ي�ضعه �أمامه وينقره الطريق‪ ،‬و�إلى جواره �أ�ضع بتمهل ال�صينية ثم‬ ‫كلما بح �صوته و�أَعيا ُه الوقوف؛ فتنفرد بالزوايا‬ ‫ال�صرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والأط�� ��راف‪ ،‬وتلتهم ال�ح�ب��وب ب�ن�ه��م‪ ،‬فتحيل‬ ‫يتناول ال�صينية برفق‪ ،‬يرفع عنها الغطاء‪،‬‬ ‫العناقيد البي�ضاء �إل��ى ج��رداء �شبه خالية من ويذكر ا�سم اهلل كثيرا‪ ،‬ثم يدفع �إليَّ بلقمة‪ ،‬يحل‬ ‫الحبوب بعد �أن كانت مكتنزة بها‪.‬‬ ‫عقدة ال�صرة التي �أحكمت �أم��ي وثاقها لكيال‬

‫عندما �أ�صل �إليه بعد جهد‪ ،‬ينظر م�شفقا �إلى تندلق محتوياتها �إذا ما وقعت مني �أثناء ال�سير‪،‬‬ ‫وجهي الذي يتف�صد عرقا‪ ،‬و�إل��ى ثوبي المبللة ي�ستخرج الفناجيل‪ ،‬ويتناول البراد‪ ،‬وي�سكب لي‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪75‬‬


‫�أوال‪ ،‬ثم ي�سكب لنف�سه من ال�شاهي الذي بدا يفتر‬ ‫وتذهب حرارته‪ ،‬ثم ي�شرع في تناول لقيمات من‬ ‫الفتة يلوكها على مهل‪ ،‬وهو يجيل نظره بتعب في‬ ‫�أرجاء الحقل الأخ�ضر الممتد ب�سخاء في �أ�سفل‬ ‫الجبل بين حقول �أخرى مجاورة‪.‬‬ ‫فج�أة‪ ،‬ينتف�ض وينه�ض م�سرعا‪ ،‬وقد ر�صد‬ ‫�سربا غازيا يلتهم ب�صمت في زاوي��ة تقع في‬ ‫الطرف الأق�صى من الحقل‪ ،‬يتناول المرجمة‬ ‫ذات ال�سيور الطويلة المقدودة من جلد البقر‪،‬‬ ‫وي���ض��ع ف��ي و�سطها ال ��ذي ي�شبه ك � ًّف��ا خ�شنة‬ ‫ح�صوات بحجم بي�ضة حمامة‪ ،‬ثم يم�سكها من‬ ‫�أطرافها ويلوي بها فوق ر�أ�سه م��رارا‪ ،‬مبتعدا‬ ‫م�سافة كي ال تعلق المرجمة ب�أطراف الع�شة‪ ،‬ثم‬ ‫يفلت �أحد ال�سيور فت�صل الحجارة �إلى حيث ما‬ ‫�أراد تماما‪.‬‬ ‫ * قا�ص من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫تنف�ض الع�صافير وت � َو ّل��ي ه��ارب��ة دون �أن‬ ‫يم�سها �أذىً ‪ ،‬وتختبئ بذكاء في فروع الأ�شجار‬ ‫المجاورة‪ ،‬وتلوذ بال�صمت‪ ،‬وتكف عن الزقزقة‪..‬‬ ‫تنتظر ب�صبر غفلة �أخ��رى �سانحة‪ ،‬بينما يعود‬ ‫مجددا كي يكمل طعامه‪ ،‬ويطلب مني برفق �أن‬ ‫�أتولى م�ؤقتا �أداء مهمته‪�.‬أحمل المرجمة التي‬ ‫تفوق قامتي ط��وال‪� ،‬أتح�س�س �أطرافها الناعمة‬ ‫ج��راء لم�س ي��ده‪ ،‬و�أج��ول بها بفرح في �أط��راف‬ ‫الحقل الذي ك�ساها البيا�ض‪.‬‬ ‫فج�أة �أر�صد من بعيد فوجا من الع�صافير‬ ‫ال�صغيرة‪ ،‬وهي تعيد الك َّرةَ‪ ،‬وتنق�ض مجددا على‬ ‫الحقل الف�سيح؛ ف�ألوذ بال�صمت و�أرقبها بهدوء‪،‬‬ ‫وه��ي منهمكة تملأ حوا�صلها بنهم قبل حلول‬ ‫الم�ساء من حبوب الذرة‪.‬‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫المعرا�ض الأخير‬ ‫■ نا�صر بن حممد ال ُعمري*‬

‫�أبي يقف �أمام (الزافر) (‪.)1‬‬ ‫م��ن ال��ك�ًّل�ًّاّ ب الحديدي المتدلي على جانبيه ينزل ثوبه الذهبي ال�لام��ع‪ ،‬ومن‬ ‫(ال�سحّ ارة الخ�شبية)(‪ )2‬تخرج �أمي غترته البي�ضاء‪.‬‬ ‫تخرج من ال�سحارة رائحة زكية ت�ضوع المكان‪،‬‬ ‫�أخاتل �أمي للنظر في ال�سحارة‪ ،‬لكن �أمي تمنعني ب�إغالقها �سريعاً‪.‬‬ ‫�أختي الكبرى(زهراء) المتزوجة حديثاً من (محمد القحم) تقطف له من فوق‬ ‫�سطح بيتنا غرزة من الريحان وال�شيح والبرك والوزاب‪ ..‬تعطيها له‪ ،‬ي�شم تلك الباقة‬ ‫ب�شغف ظاهر‪ ،‬يدعو لزهراء بالتوفيق‪،‬‬ ‫ي�صرخ على �أمي‪� :‬أين ال�شاي يا �شريفة؟‬ ‫تعاجل �أم��ي بتقديم البراد الأ�صفر �أهل الخليفة قبل ما يق�ضون عليه �صبيان‬ ‫ل��ه‪ ،‬رائحة النعناع تفوح لتخترق �أنفي �شاويّة)‪.‬‬ ‫الغ�ض‪(،‬ابو ال�شعاري) ب�سيارته الجيب‬ ‫ن�سير �أنا و�أحمد خلف �أب��ي‪ ،‬يبهرني‬ ‫ق��ادم � ًا م��ن �أط� ��راف ال � ��وادي‪ ،‬يتعالى طوله وو�سامته وعنفوانه‪ ،‬نقطع الطريق‬ ‫�صوت(البوري)‪.‬‬ ‫المليء بالح�شائ�ش الخ�ضراء اللدنة التي‬ ‫��س�ع�ي��د ب ��ن �إب ��راه� �ي ��م ي���ص�ي��ح في تغطيها‪ ،‬نعبر (�أبو قحطة)‪ ...‬المزرعة‬ ‫�أبي‪(:‬هيا يا محمد)‪ ،‬ك�سروا رجولك التي تعود ملكيتها �إلى محمد ال�شراحي‪.‬‬ ‫�أب��ي ب��دا زاه�ي�اً‪ ،‬وط��وي�لاً‪ ،‬وف��ي غاية‬ ‫يا نطالن‪� ،‬أفزع ليتنا(خلنا نلحق فطور‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪77‬‬


‫الأناقة‪.‬‬ ‫�صوته كان كافي ًا ليهزهم جميعاً‪� ،‬صوت الزير‬ ‫ن�سوة في �أطراف الرهوة‪ ،‬وبالد العالية‪ ،‬يجعلهم ي ��زدادون ط��رب�اً‪ ،‬ي ��رددون عبارات‬ ‫و�سفوح الجبهة‪ ،‬يرقبن م�سيرتنا نحن الثالثة‪ .‬الإعجاب‪.‬‬ ‫ال�شراحي‪:‬‬ ‫�أ� �ص��وات الجماعة تنطلق م��ن جيب �أب��و‬ ‫ال���ش�ع��اري‪ ،‬يمتليء ح��و���ض الجيب الخلفي‬ ‫بالركاب‪�،‬أحمد بن �صبحي‪ ،‬فاران بن �صنيق‪،‬‬ ‫�سعود بن عطيه ي�صيح منت�شياً(اهلل يلعن‬ ‫�سعيد بن غ�صاب‪ ،‬ح�سن بن عطية و�أخ��وه مَ ن يكون عنده حفلة وما يجيبك)‪.‬‬ ‫عبداهلل‪ ..‬ه�ؤالء بع�ض من �أعرفهم‪ ..‬معهم‬ ‫نتوقف عند �سد ال���ص�ق��رة‪ .‬على �صوت‬ ‫كثيرون ممن تظهر �سحناتهم في �صندوق‬ ‫العر�ضه المنبعث من الم�سجل‪.‬‬ ‫الجيب‪ ..‬ل�صغر �سني لم �أتبين من هم؟!‬ ‫يطلب (خنفر) �أن ي�أخذوا لهم مهز‪.‬‬ ‫الفقية �أحمد بن حمدان هو الوحيد الذي‬ ‫(المهز) هنا جولة عر�ضة‪..‬‬ ‫ي�شارك ح�سن �أب��و ال�شعاري قمرة القيادة‪،‬‬ ‫(ي�سمونها ال �غ �م��ارة)‪ ،‬يف�سح الفقيه لأب��ي‬ ‫الجميع يتمنطقون بالم�سابت وال�ف��رود‬ ‫المكان ليركب �إلى جانبه‪ ،‬لكنه يحمل �أحمد (الم�سد�سات)‪ ،‬يتمايلون ط��ري� ًا م��ع �صوت‬ ‫ليركبه ال�صندوق‪� ،‬أما ان�أ ف�س�أكون في ح�ضنه‪ ،‬الزير‪.‬‬ ‫�س�أركب معه في مقدمة ال�سيارة (الغمارة)‪،‬‬ ‫�سعود بن عطيه و�أخوه �أبو غازي يقدمان‬ ‫للمرة الأولى في حياتي‪�..‬أطلق �أبو ال�شعاري‬ ‫فا�ص ًال من الرق�ص الأخاذ‪.‬‬ ‫�صوت الم�سجل‪ ،‬ابن م�صلح والغويد �شاعرا‬ ‫تنطلق الرحلة مجدد ًا نحو الخليفة‪.‬‬ ‫العر�ضة‪ ،‬يلونان �صباحنا بحفلة م�سجلة على‬ ‫بعد نهاية ذلك المه ّز ي�صلون الخليفة‪،‬‬ ‫�شريط كا�سيت �أحمر ال�ل��ون‪ ،‬ي�سير بنا �أبو‬ ‫ال�شعاري عبر ال��وادي على �أنغام العر�ضة‪ ،‬يدخلون بعر�ضة جماعية‪ ،‬مرددين �أهازيج‬ ‫ان�شغلت بمراقبة قدميه‪� ..‬أت�ساءل هل هي فرح لم �أعد �أحفظها‪.‬‬ ‫ك�أقدامنا؟ هل يديه ك�أيدينا؟ �أم �أن لل�سائق‬ ‫ينعقد المعرا�ض مجدداً‪ ..‬ال �صوت يعلو في‬ ‫موا�صفات �أخرى؟!‬ ‫الأفق فوق �صوت الفرح‪.‬‬ ‫(طيب يا بن م�صلح طيب)‪..‬‬

‫ما قبح البدو ال �صاحوا وال غنوا‬ ‫�أحمد بن علي‪ ،‬خيران بن �أحمد‪ ،‬وعو�ض‬ ‫ع��ي�����ش��ة ال����ب����دو وح����ي����اة ���ش��ق��اوي��ة بن بعجان‪ ،‬وعطيه بن عي�شان‪ ..‬رباعي الفرح‬ ‫ب�صوت طروب ينتهبني من لجّ ة التفكير‪ ،‬في وادينا‪ ،‬يطلقون العنان لحناجرهم لت�شدو‬ ‫‪78‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫نحو الأعلى‪ ..‬فيما وابل الر�صا�ص ينهال من‬ ‫ب�شعر العر�ضة‪.‬‬ ‫يتمنى �أح �م��د ب��ن علي بعروبية ظاهرة كل اتجاه‪.‬‬ ‫�أن تعود فل�سطين‪ ،‬و�أن يُ�صلي في القد�س‬ ‫ر�صا�صة غدر �أولى وجهت نحوه كما يقول‬ ‫ال�شريف‪.‬‬ ‫(عقال) مرافقه في التحميل واال�ستعرا�ض‬ ‫خيران بن �أحمد يمتدح القبيلة ممثلة في بين ال�صفوف‪ ..‬ر�صا�صة غدر ثانية ال تنجح‬ ‫�شيوخها‪�( :‬أنتم حكومة قبل حكم المدينة)‪ .‬في ا�صطياده‪( .‬عقال) ين�صح �أبي بالتوقف‬ ‫ي�ع�ق��د ع�ط�ي��ه ب��ن ع�ي���ش��ان م �ق��ارن��ة بين والخروج من المعرا�ض‪ ،‬يحلف �إني �شعرت �أن‬ ‫ال�سيارة الجيب و�أختها الهايلوك�س (ي�سمونها �أح��د ًا يريد ت�صفيته غ��دراً‪ ..‬ر�صا�صة ثالثة‪.‬‬ ‫تخترق جمجمته وهو طائر في الهواء‪ ،‬ي�سقط‬ ‫العراوي)‪ .‬يختمها بتحذيراته‪..‬‬ ‫(�أحذر من �أبو �شنب والوايت والوايت)‪ .‬ب�آهة مدوية‪ ،‬لم نتبين ما قاله‪.‬‬ ‫زفير �أبي‪� ،‬صيحات النا�س‪ ،‬هول الفجيعة‪،‬‬ ‫�أ�صوات الن�ساء تت�سيد الم�شهد‪ ،‬خوف مريع‬ ‫ي�سكننا جميعاً‪ ..‬رج��ال كثيرون يتوجهون‬ ‫لدفن م�سد�ساتهم في كل مكان‪.‬‬

‫يتفنن(علي بن كجم و�سعيد انقز) اللذان‬ ‫يقومان بدور الماي�سترو‪ ..‬كانا ينجحان دوم ًا‬ ‫في تلوين المعرا�ض ب�أ�صوات متناغمة ت�صدر‬ ‫من الزير والزلفة‪� ..‬أ�صوات الأعيرة النارية‬ ‫من كل حدب و�صوب تلهب الف�ضاءات‪ ،‬وتزيد‬ ‫البكاء والعويل‪ ،‬الذهول وال�صدمة‪( ..‬مات‬ ‫من ن�شوة الفرح‪.‬‬ ‫محمد)‪.‬‬ ‫�أبي يمار�س هوايته (التحميل)‪ ،‬هو محمّل‬ ‫�سرى الخبر في كل مكان‪ ،‬رغم �أن �أبي كان‬ ‫معروف‪ ،‬ومتميز في ا�ستعرا�ض مهاراته في‬ ‫قد غامر مرار ًا بحياته لأجلهم في منازعات‬ ‫العر�ضة‪ ،‬يرق�ص بفرح ظاهر‪ ،‬يقولون �إنه‬ ‫عديدة‪ ،‬وتجا�سر ليخدمهم‪� ،‬إال �أنهم قابلوه‬ ‫رق�ص كما لم يرق�ص من قبل‪ ..‬بدا طويالً‪ ،‬بل‬ ‫بجحود مريب‪ ،‬ف�أختلقوا ق�صة مكذوبة لوفاته‬ ‫فارع الطول‪ ،‬تجلى في يومه ذاك بثوبه الزاهي‬ ‫�أوهموا بها المحققين‪.‬‬ ‫ورائحة البخور‪ ..‬كان الوحيد ال��ذي يرتدي‬ ‫�أبحث عن تف�سير لما حدث عند جدي‪..‬‬ ‫ثوب ًا زاهياً‪ .‬بد�أ على قرع الطبول ي�ستعر�ض‬ ‫مهاراته في الرق�ص بال�سيف‪ ،‬ينطلق ك�سهم لكنه في كل مرة يلوذ بال�صمت‪.‬‬ ‫* قا�ص وكاتب من ال�سعودية‪.‬‬ ‫‪ -1‬الزافر (عمود خ�شبي يتو�سط المنزل قديم ًا يتم طال�ؤه بالزفت والقار ويمتلىء بالكثير من النقو�ش)‪.‬‬ ‫‪ -2‬ال�سحّ ارة (حقيبة كبيرة ت�صنع من الخ�شب)‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪79‬‬


‫ن�صو�ص ق�صيرة‪..‬‬ ‫■ حممد املبارك*‬

‫�إذابــــــــــــــة‬ ‫حب من طرف واحد‬ ‫بالغ في حبها‪ ،‬كان قلبه خالٍ �إال منها‪..‬‬ ‫�سافر ل�ي��راه��ا فلم ي�ج��ده��ا‪ ..‬ف� ��أذاب‬ ‫ال�سكر في البحر‪.‬‬ ‫راقبها ذات يوم‪..‬‬ ‫فر�آها تم�شي في طريق طويل‪..‬‬ ‫تقــــــــــــــــو�س‬ ‫ال�ت�ف��ت‪ ..‬و�إذا الطريق معنون با�سم‬ ‫مد يده ليهديها وردة‪ ..‬تقو�س ظهرها‪..‬‬ ‫�صاحبه‪..‬‬ ‫ف�أغم�ض عينيه ورحل!!‬ ‫من�صة الزفاف‬ ‫حـــــــــــــــــــــذاء‬ ‫ج �ل ����س ب �ج��ان �ب �ه��ا ف ��ي م �ن �� �ص��ة حفل‬ ‫يجري وراءه ��ا‪ ،‬فلما يئ�س منها‪ ،‬عاد زفافهما‪..‬‬ ‫�إل��ى بيته؛ فلما ط��رق ال �ب��اب‪ ،‬فتحت له‬ ‫نظر �إليها ط��وي�لا‪� ،‬سقطت دمعة من‬ ‫بنف�س الحـــــــــــذاء الذي لمحه في بداية عينه‪..‬‬ ‫الطريق‪!!..‬‬ ‫�س�ألته‪ :‬لماذا‪..‬‬ ‫فِـــــــــــــراق‬ ‫قال‪ :‬تذكرت حبيبتي‪..‬‬ ‫ت�صادفا ف��ي ال �ط��ري��ق‪ ..‬ب ��د�أ يخـــفق‬ ‫عندها‪� ،‬سمعوا ال�صراخ والعويل في‬ ‫قلبـــها‪ ..‬ف�سمعت خ�ط��وات��ه ف��ي االت�ج��اه الجهة المظلمة من المن�صة‪..‬‬ ‫المعاك�س‪..‬‬ ‫�سجـــدة‬ ‫عقد قِ ران‬ ‫عقد قرانه و�أطف�أ ال�ضوء‪..‬‬ ‫فلما �أ�شعله لم يرها‪ ،‬ور�أى �صورتها‬ ‫معلقة على الحائط‪..‬‬ ‫ * كاتب من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫رمت معطفها‪..‬‬ ‫تخيـــــــــل الثعابين تتناثر منه!‬ ‫فر هاربا و�سجد على �أر�ض رطبة‪..‬‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫ن�سوة في المدينة‬ ‫■ �أحمد قران الزهراين*‬

‫ه�����ذي ي���م���ي��� ُن���ك ب���ي�������ض���ا ُء ت����ق����ر ُع ب����ابَ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ك����أن���ي �أراكِ ت����ؤوب���ي���ن م���ن وط�����نٍ في الو�شاياتِ ‪،‬‬ ‫�س ْر بي �إلى �شج ٍر حا�س ِر الر� ِأ�س يحمي‬ ‫المجازِ‪،‬‬ ‫القيظ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ت�ؤوبين محموم ًة بالحنينِ �إلى يرقاتٍ من‬ ‫�سر بي �إلى وطن م�شتهى ونديم‪.‬‬ ‫من الوجدِ ‪،‬‬ ‫ت�أتين كالوحي ي�ستقرئُ الغيبَ ‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫حين تقولين‪:‬‬ ‫هي القري ُة الأم‪،‬‬ ‫هذا كتابٌ �صفيٌ يقد ُ‬ ‫ّ�س �س َّر الخ�صوبةِ‪ ،‬نمكثُ في ح�ضنها ما ن�شاءُ‪،‬‬ ‫خ ْذ ما تبقى من الوعدِ ‪،‬‬ ‫ونرح ُل عنها بال رغب ٍة في الرحيلِ ‪،‬‬ ‫وات��ركْ �سريرتَك الحل َم للعابرين �إلى وتوحي ب�أن ال�سما َء البعيد َة تدنو �إلى‬ ‫مقت�ضى الحالِ ‪،‬‬ ‫فلكِ القري ِة الم�ستكين ِة للبوحِ‪،‬‬ ‫توج�س �أبنائها المارقين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ال تبتئ�س ب��ان �ق �ط��ا ِع ال �م �� �س��اف��اتِ بين نقر�أ فيها‬ ‫الهوى والجوى‪،‬‬ ‫ن�ضارتَها‬ ‫عقو َق ال�صبايا اللواتي �أذب��نَ َ‬ ‫ع�� ّل بع�ضاً م��ن الن�سو ِة الم�ستفي�ضاتِ في المدين ِة حتى ن�سينَ الوجوهَ‪،‬‬ ‫في عتباتِ المدين ِة‬ ‫و�أ�سما َء �أجدادِهنَّ ‪،‬‬ ‫يمنحن وقتَك ما ي�شبه ال�سرّ‪،‬‬ ‫ومَ���ن ك���ان ف��ي خ��ل��و ٍة ي�ستبقنَ ه��ج��و َع‬ ‫هذي �شمالك ال لون فيها‪،‬‬ ‫الم�سا ِء �إليه‪،‬‬ ‫الغ�ض‪،‬‬ ‫فخ ْذ ما تي�سر من وقتِك ِّ‬ ‫نرقُّ لأقراننا العابثين‪،‬‬ ‫�س ْر بي قليال �إلى ظُ ّل ٍة ن�ستكنُّ بها حيث نعاتبُ مَن ي�ستلذ العتابَ ‪،‬‬ ‫ونرخي زما َم الحديثِ مع المتعبين‪،‬‬ ‫ال ن�ست�ضام من البعدِ ‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪81‬‬


‫ونلم ُح فيها �شقاوتَنا في الطفولةِ‪،‬‬ ‫ن�سترج ُع الرغباتِ الحرام‪،‬‬ ‫ومن كنَّ راودننا خفيةً‪،‬‬ ‫وا�ستملنَ عواطفَنا النرج�سيةَ‪،‬‬ ‫نُ�شر ُع �أحالمَنا للأخالءِ‪،‬‬ ‫نف�ضي ب�أ�سرارنا كبرياءً‪،‬‬ ‫ون�سترقُ ال�سم َع من �أجلِ �أن ت�سكنَ فينا و�إنْ‬ ‫�شردتنا الحياة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫�أرى ق���روي���ا ت�����ش��هّ��ى ال��م��دي��ن�� َة م��� ْذ عابثته‬ ‫ب�أ�ضوائها‪،‬‬ ‫فـ�أحالته �سب َع �سنابلَ‪،‬‬ ‫في ك ِّل �سنبل ٍة وج ُه �أنثى‪،‬‬ ‫كثي ٌر ن�سا ُء المدينة‪،‬‬ ‫يمكر َن �أكث َر من غيرهن‪،‬‬ ‫يعاتبن �أكث َر من غيرهن‪،‬‬ ‫ويع�شقن �أكث َر �أكثرَ‪،‬‬ ‫ي�سرقن معنى الق�صيد ِة من �شاع ِر لم يج ْد‬ ‫وطنا ماثال في كال ِم الن�سا ِء‬ ‫اللواتي �شققن �أكفَّ ال�ضراع ِة عن مبتغاهن‪،‬‬ ‫ال يحتكمن �إلى ال�شكِّ ‪،‬‬ ‫هن الأنيقات‪،‬‬ ‫ي�شبهن ما �شف من حكمة القروي النبيل‪.‬‬

‫يثرثر َن عن ليل ِة العيدِ ‪،‬‬ ‫والغربا ِء الذين �أتوا من قرىً �أهلها يلب�سون‬ ‫التمائم‪،‬‬ ‫والعابرين الأزق��ة بحثا عن الف�ضالت من‬ ‫الزعفران‪،‬‬ ‫وعن ن�سو ٍة لم يجدن ك�سا َء ال�شتاء‪،‬‬ ‫وع��ن ب��ائ��ع��اتِ الخ�ضا ِر ال��ل��وات��ي قدمن من‬ ‫الريف ال يكترثن بنوع الرداء‪،‬‬ ‫وال لون وجه العميل‪،‬‬ ‫وال رتبة الع�سكري‪،‬‬ ‫وال ما �سين�شر في �صحف اليوم‪،‬‬ ‫عن عان�ساتِ المدينةِ‪..‬‬ ‫الجن�س‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫�إذ كيف ي�صبر َن عن لذ ِة‬ ‫هنّ كثي ٌر ن�ساء المدينة‪،‬‬ ‫يمكرن �أكث َر من غيرهن‪،‬‬ ‫يعاتبن �أكث َر من غيرهن‪،‬‬ ‫ويع�شقن �أكث َر �أكثرَ‪،‬‬ ‫يقر�أن �شعرا على ملأ لي�س عاداتُهم �أن يروا‬ ‫ؤو�س‪..‬‬ ‫ن�سو ًة حا�سراتِ الر� ِ‬ ‫يغنين ما ي�ستبيح العواطف منه‪،‬‬ ‫ويرق�صن في �ساح ِة الزارِ‪،‬‬ ‫ال يعتنين ب���ع���اداتِ �أه���ل ال��ق��رى والمدينة‬ ‫مادمن في �شهواتِ الفرحْ‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫(‪)4‬‬ ‫هي القرية الآن‪� ..‬صنو المدينة‪،‬‬ ‫�أرى ق��روي��ا ت�شهى المدين َة حتى �أفا�ضت ت�أخذ منا مفاتيح ا�سمائنا م ْذ تعبنا نرددُها‬ ‫ب�أ�سرارها البكر‪،‬‬ ‫�أبجديا‪،‬‬ ‫�أغوته لما ت�شبثَ بالن�سو ِة ال ـ يحتكمن �إلى ووهنَ الحكاية تُروى لنا كي ننا َم جياعا‪،‬‬ ‫الغي‪،‬‬ ‫الطيف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وال ن�ستغيثُ ب�أحالمنا‬ ‫كنَّ ن�سا ُء المدين ِة يحملنَ خبز ال�صبا ِح �إلى ت���أخ��ذ م��ن��ا ر���س��و َم ال��ط��ف��ول��ة م��ن غ��ي��ر وع��ي‬ ‫بع�ضهن‪،‬‬ ‫ال�ضمي ِر الم�شاك�س‪،‬‬ ‫‪82‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫�أ���ش��واق��ن��ا ال��م�����س��ت��ع��ار َة م��ن وردت���ي���ن �إذْا ما‬ ‫تناق�ض الوانَها ما نرى في الطبيعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ت�أخ ُذ من حكم ِة المر�أ ِة ال�سرَّ‪،‬‬ ‫ُت��وق�� ُد ف��ي حلمنا �شبقا ال نُعبّر عنه �سوى‬ ‫بالتخيّل‪،‬‬ ‫ال فرق بين النوافذ‪،‬‬ ‫�����ض ال‬ ‫ك��ل ال��ن��واف��ذ تف�ضي ال���ى ���ش��ف��قٍ غ��ام ٍ‬ ‫�سبي َل الى فكِّ �شفرته‪،‬‬ ‫ال �شوار َع تحم ُل �أ�سما َء �آبائنا‪،‬‬ ‫عر�ضها‬ ‫ال الطريقُ ال�سويُّ ي���ؤدي الى جن ٍة ُ‬ ‫عينُ �أنثى‬ ‫ت����ؤل���بُ بع�ضا ع��ل��ى ب��ع�����ض��ه‪ ،‬ث��م ت��م��ز ُج بين‬ ‫التناق�ض عمدا‪،‬‬ ‫وت�سكنُ في عينِ من ال تراه جديرا‪،‬‬ ‫�����ض‬ ‫���ر����ض ع���ن ج������ذو ِة ال���ح���بِّ ك���ي ي��ن��ه َ‬ ‫وت���ع ُ‬ ‫الهاج�س المبتغى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال تقل �إنها النا ُر في و�سنِ الوقتِ ‪،‬‬ ‫ال الما ُء في ذرو ِة الموتِ ‪،‬‬ ‫ال كائنا في المكانين‪،‬‬ ‫ك ْم لي �أعدُّ النجو َم هنا �أو هناك‪،‬‬ ‫تعبنا‪،‬‬ ‫تعبنا‪،‬‬ ‫ح�ساباتُنا ال تطابقُ �أحكامَنا عادةً‪،‬‬ ‫بع�ض الق�صائدِ‬ ‫هل نعي ُد تراكيبَ َ‬ ‫حتى نقرّبُ رقمين �صعبين من منتهى ما‬ ‫نريد‪.‬‬

‫الخبثِ في ال�سردِ‪،‬‬ ‫نم�ضي الى حالِنا ال نخافُ �إذا ما �أردنا لهذي‬ ‫الكتاب ِة �أن تدخل ال�سجنَ دون فتاها‬ ‫لكي يقر�أ الواقفون على الجم ِر �أ�سرارَها‪،‬‬ ‫قد تكون �سالما على من تعل َل بال�صمت‪،‬‬ ‫نم�ضي ثقاال الى قبل ِة ال خيارات فيها �سوى‬ ‫ال�صحو من غفوة الموتِ ‪،‬‬ ‫الخطوط العري�ض ِة‬ ‫ِ‬ ‫�إنا �سئمنا التواز َن بين‬ ‫حين �أفقنا‪،‬‬ ‫��س�ئ�م�ن��ا ال �ح��دي��ثَ ع��ن ال ��وق ��تِ ي���ذه���بُ في‬ ‫مفرداتِ الت�شابهِ‪،‬‬ ‫وجهان‪،‬‬ ‫وج ٌه يراك كما �أنت في الظلِّ‪،‬‬ ‫م�ستوعبا حال َة الال خلو ِد هنا �أو هناك‪،‬‬ ‫نقي�ضك‪،‬‬ ‫ووج ٌه يراك َ‬ ‫ال فرق بين ال�شبيهين‪،‬‬ ‫ملتب�س و�شفيف‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫(‪)7‬‬

‫ك�أني �أ�ساور بع�ض ن�ساء المدينة مذ جئتهن‬ ‫�صبيا لكي نر�سم الحب‪،‬‬ ‫ال �أنا من يعبر البحر دون ارتباك النوار�س‪،‬‬ ‫ال ه��ن م��ن ي�ستملن ال��ري��اح �إل���ى وج��ه��ة ال‬ ‫ف�ضاءات للعي�ش فيها‪،‬‬ ‫�ست�أخذنا الريح‪،‬‬ ‫�أين �ست�أخذنا الريح؟‬ ‫ال علم لي �أين وجهتها في المدينة‪،‬‬ ‫(‪)6‬‬ ‫�إنا بد�أنا الكالم ولم ننهه‪،‬‬ ‫هنا �أو هناك‪..‬‬ ‫�سوف نم�ضي بال رجعة في البكاء‪،‬‬ ‫ن���رى ع��ل�� ًة ف���ي ال��ك��ت��اب�� ِة ن��م��ح��و ب��ه��ا م�شه َد ك�أنا جدار يئن على جاره الم�ستكين‪،‬‬ ‫الرف�ض‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ك�أنا عبرنا الظالم �إلى نقطة البدء‪،‬‬ ‫�أفعالنا ال ت�شاب ُه َّ‬ ‫ن�ص الرواي ِة �إال قليال من نع�شق لون البدايات‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪83‬‬


‫ي�سكن فينا كو�شم على الكف‪،‬‬ ‫ن�شقى ويرتاح مَن لم يكن في ال�شتات‪،‬‬ ‫لنا وجع في المدينة‪،‬‬ ‫نقب�ض كالجمر �أوجاعنا‪،‬‬ ‫ثم نلج�أ في غفلة للجدار لنر�سم �أ�شكالنا‬ ‫كالرموز‪،‬‬ ‫يئن الجدار لبعد الم�سافات بين الأخالء‪،‬‬ ‫ي�سجد من رهبة البعد‪،‬‬ ‫ال �سر بين الحروف التي كتبت في الجدار‬ ‫القديم‪،‬‬ ‫وال �سر يف�ضي لفعل الكتابة‪،‬‬ ‫ه��ذي تفا�صيل ال ينبغي �أن تعيد الحديث‬ ‫�إلى بدئه‪،‬‬ ‫ربما الريح جاءت لتقر�أ �سر الجدار القديم‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫ك�أني �أنا‪..‬‬ ‫�أو ك�أنكِ �أنتِ مثا َر ال�س�ؤالِ عن الال وجود‪،‬‬ ‫�إذاً �أين حدُّ الأقاويل‪،‬‬ ‫�أين م�سار الحديث الذي لم يد ْر بيننا‪..‬‬ ‫حيث ال قو َل يحكمُنا في التفا�صيل‪،‬‬ ‫ال �أن���ا مَ���ن ي�ستكينُ �إل���ى ���ص��ور ٍة ف��ي خ��ي��الِ‬ ‫الق�صيدة‪،‬‬ ‫ال �أنتِ مَن يتغ�شى الكال َم على غير ما علة‬ ‫في الحديث‪،‬‬ ‫ك�أنّا بد�أنا تع�شقنا‪،‬‬ ‫�أو ك�أنّا بد�أنا ت�ألهنا‪،‬‬ ‫�أو ك�أنّا بد�أنا التوحد في الج�س َد الم�ستحيل‪.‬‬ ‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪84‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫(‪)9‬‬

‫�أرى‪...‬‬ ‫ال �أرى في المدين ِة �إال خطا القروي النبيل‪،‬‬ ‫ن�سا ًء يراق�صن ع�شاقَهن‪،‬‬ ‫���ش��ي��وخ��ا ت��م��اه��وا م���ع ال���وق���ت ي�����س��ت��رج��ع��ون‬ ‫الحكايا عن الحب‪،‬‬ ‫بائ َع خب ٍز يداري ندوبا على وجنتيه‪،‬‬ ‫وناد َل مقه ًى يبا�ش ُر م�ست�شرقا ال يبالي بمن حوله‪،‬‬ ‫�صبيا يرتبُّ م�ستودعا للقما�ش الدم�شقي‪،‬‬ ‫�أ ّماً تداعبُ مولودَها بانت�شا ٍء وت�ضحكُ ‪،‬‬ ‫فرط ن�شوتها‪،‬‬ ‫ت�ضحكُ من ِ‬ ‫�سالل َم تف�ضي �إلى هجر ٍة للمكانِ ‪،‬‬ ‫م�آذ َن تلج�أُ لل�صمتِ ‪،‬‬ ‫�أر�صف ًة ال مالم َح للحبّ فيها‪،‬‬ ‫ميادينَ تخلو من الع�شبِ ‪،‬‬ ‫�صورتَها في الجدا ِر الموازي لدا ِر الم�سنين‪،‬‬ ‫نق�شاً يحاكي امتثا َل الرقيقِ لأ�سيادهِ‪،‬‬ ‫وقو َل حكيمٍ يخالطه الهزلُ ‪,‬‬ ‫نافذة ال ترى العابرين الحفاة‪.‬‬ ‫(‪)10‬‬

‫�أرى‪..‬‬ ‫ال �أرى في المدين ِة �إال مالم َح �أمي‪،‬‬ ‫وظ َّل �أبي‪،‬‬ ‫وروحي التي �سكنتها الن�ساءُ‪،‬‬ ‫فتىً �آبقا عن عيونِ الجوا�سي�س‪،‬‬ ‫الحظ مثلَك‪،‬‬ ‫وج َه غريبٍ يعانده ُّ‬ ‫ؤو�س‪،‬‬ ‫بع�ضا من الن�سو ِة الحا�سراتِ الر� ِ‬ ‫و�ضو َء قناديل من ف�ض ٍة ال تفا�صي َل فيها‪،‬‬ ‫وقو�س قزحْ‪.‬‬ ‫َ‬


‫■ عالء الدين رم�ضان*‬

‫وَطَ ��� َرقْ���تُ َب���ا َب���كَ ‪ ،..‬وَا ْن�� َت��ظَ ��رْتُ مُجِ يـبِي‬ ‫َورَجَ ����عْ����تُ َي���قْ��� َر ُع فِ���ي ال���� ُف�����ؤَا ِد وَجِ ��ي��ـ�� ِب��ي‬ ‫َف�����أَ َن����ا ال���مُ���حِ ���بُّ َومَ������ا ِب���مَ��� ْل���كِ���يَ رَجْ ���� َع���� ٌة‬ ‫َو�أَ َن�����ا ال��مُ��حِ ��بُّ َومَ���ا ال��طَ �� ِري��قُ �ضَ ِريـبِي‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫الحبيب �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫باب‬ ‫ٍ‬

‫َوقَ�����رَعْ �����تُ َب����ا َب����كَ وَال����� ُد ُم�����و ُع َت���رُوقُ��� ِن���ي‬ ‫َو َت���������������ز ُُّف فِ���������يَّ َت������ َرقُّ������ب������اً لِ���حَ ���بِ���ي���ـِ���ب���ي‬ ‫ال��������رُّو ُح َت���طْ ���فُ��� ُر َك���ال���� َّ���س���حَ ���ا َب��� ِة فَ���� ْوقَ���� ُه‬ ‫وَال��� َق��� ْل���بُ َي�� ْرقُ��� ُ��ص َك��ال�� َق��طَ ��ا ال��مَ��كْ��رُوبِ‬ ‫َو�أَ َن����ا �أُ�ؤَمِّ�������لُ‪ ،..‬هَ���لْ َي��خِ ��ي��بُ َت�� َرقُّ�� ِب��ي؟!!‬ ‫مَ�������نْ ذَا ُي��������� َر ُّد بِ����� َب�����ابِ خَ ����� ْي����� ِر حَ ���بِ���ي���بِ‬ ‫�أَقْ���� َب���� ْل����تُ َي���غْ���مُ��� ُر ِن���ي جَ ������وَىً َو َي��حُ �� ُّث��ـ��نِ��ي‬ ‫وَجْ ����������دِ ي َب������دَمْ ������عٍ � َ����س����اجِ ����مٍ َو� َ����س����كُ����وبِ‬ ‫ِي�ض بِي‬ ‫�أَقْ�� َب�� ْل��تُ ‪� ،..‬إِنْ ُذكِ��� َر ال��فِ��رَاقُ َيغ ُ‬ ‫مَ���������ا ُء ال��������������� ُّروَا ِء �إِل����������يَّ غَ����� ْي����� ُر قَ����� ِري�����بِ‬ ‫َو�أُجِ �����ي�����بُ حِ ��� ْرمَ���انِ���ي ِب���كِ��� ْت���مَ���انِ ال��� َه���وَى‬ ‫فَ������� َي�������رِقُّ لِ������ي فِ������ي َزفْ�������������� َر ٍة َو َن����حِ ����ي����بِ‬ ‫َو�أَقُ�����ولُ جِ ـ ْئـتُكَ طَ ��امِ �ع�اً َت �رَك ال��ذُّ ُن��وبَ‬ ‫�أَ َت�������������ى ِب������قَ������ ْل������بٍ خَ ������ا� ِ������ش������عٍ َومُ�����نِ�����ي�����بِ‬ ‫َو�أَ َن��������ا �أُ�ؤَمِّ�����������لُ‪ ،..‬هَ����لْ َي���خِ ���ي���بُ َت��� َرقُّ��� ِب���ي‬ ‫مَ�������نْ ذَا ُي��������� َر ُّد بِ����� َب�����ابِ خَ ����� ْي����� ِر حَ ��� ِب���ي���بِ‬ ‫* �أ�ستاذ م�ساعد بق�سم اللغة العربية و�آدابها ‪ -‬كلية العلوم والدرا�سات الإن�سانية بال�سليل‪ -‬جامعة‬ ‫�سلمان بن عبدالعزيز‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪85‬‬


‫الطائر ُ المهاجر ُ‬ ‫■ حممود الرحمي*‬

‫ي��������ا �������ص������ح������بُ �إ ّن����������������ي ق��������د ف����ق���� ْد‬ ‫مِ ������������نْ ب�����ع�����د م�������ا م�������لَ�������كَ ال������ف�������ؤا‬ ‫جُ ������������������ ِر َح ال������������ف�������������ؤا ُد ول����������م ي����ك����نْ‬ ‫�أ َو ه������لْ ي�����ع�����و ُد ال����ط����ي���� ُر ���ص��ح��ب��ي‬

‫تُ وذات ي��������������������و ٍم ط��������ائ��������را‬ ‫دَ‪ ..‬وق����������د غ��������������دوتُ ال�����ح�����ائ�����را‬ ‫ل�������ل�������ط�������ي�������ر ي�������������وم�������������اً ج���������ائ���������را‬ ‫ل����������ي���������� َت���������� ُه ل�������������و زائ���������������������������������را‪! ..‬‬

‫***‬ ‫ي��������ا ط�������ي������� ُر ع���������� ْد ل��������ي ك����������يْ ي���ع���و َد ال������ل������ي������ ُل ‪-‬ل�������ي�������ل�������يَ ‪ -‬م����ق����م����را‬ ‫ع���������������������ودي ح�������������زي�������������نٌ ل�������ح������� ُن������� ُه م����������ا ع����������������ا َد ي����������ع����������زفُ �������س������ام������را‬ ‫م�������ا ع����������اد ي�����������ش�����دو ل������ح������نَ حُ �������بٍّ م�����������ث�����������ل م����������������ا ك���������������������ان ُي����������������رى‬ ‫ي� � ��� � �ش� � �ك � ��و‪ ..‬ي � � � � �ئ � � � ��نُّ ‪ ..‬وط� � � �ي � � ��ر ُه ع����������ن���������� ُه ب���������ع���������ي���������داً م������������ا دَرى‬ ‫ي�������ب�������ك�������ي�������كَ ي�����������ا ط���������ي���������ري �إذا ه���������بَّ ال�����ن�����������س�����ي�����مُ‪� ..‬إذا � َ�����س�����رى‬ ‫ي�������ب�������ك�������ي�������كَ ط���������ي���������ري ط�����ال�����م�����ا م����������ا زل�����������������تَ ع���������ن��������� ُه م������ه������اج������را‬ ‫ف������������ي �������ص������ب������ح������ه وم���������������س�������ائ������� ِه ي��������رث��������ي وي�����������ن�����������دبُ م����������ا ج�������رى‬ ‫***‬ ‫�أ َو ه��������لْ �����س����ت����ذك����ر‪ -‬ل������و ن�����س��ي��ـ��ـ تَ م�������ع ال�������رح�������ي�������لِ ‪ -‬ول������ل������ورى‬ ‫�أن�����������������ي عَ�����������������ش��������قْ�������� ُت��������كَ دائ���������م���������اً وال����ج���������س���� ُم مِ ��������نْ ع�������ش���ق���ي ان���ب���رى‬ ‫وغ�������������������� َدوْتَ روح����������������ي‪ ..‬ه�������ل ب�����دو نِ ال�������������روح �أح�������ي�������ا �أو �أرى؟!‬ ‫م��������ا ق��������د ظ�����ن�����ن�����ت�����كَ ق��������د ن�������س���ي���ـ���ـ ـ����������تَ ف�����م�����ا عَ����������هِ���������� ْد ُت����������كَ ن�����اك�����را‬ ‫***‬ ‫‪86‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫ي��������ا ط�������ي������� ُر عُ������������� ْد ل��������ي ك��������ي ت���ع���و‬ ‫وي��������������ع��������������و ُد ع��������������������ودي ع����������ازفً����������ا‬ ‫ي��������ا ط������ي������ ُر عُ������������ ْد ل��������ي ق��������د ك���ف���ى‬ ‫ي����������ا ط�������ي�������ر عُ����������������� ْد ل����������ي �إن�������ن�������ي‬ ‫ُل���������قْ���������ي���������اكَ ي���������ومً���������ا م���������ا ح���ي���ي���ـ���ـ‬

‫َد ل���������ي ال��������ح��������ي��������ا ُة ال������م������زه������ره‬ ‫ل����������ح����������نَ ال��������م��������ح��������ب�������� ِة ن��������اث��������را‬ ‫م����ن����ك ال������ب������ع������اد‪ ..‬ف����م����ا َت���������رى؟!‬ ‫�أُمْ �����������������س��������ي و�أُ����������ص���������ب��������� ُح ن������اط������را‬ ‫تُ ‪�����َ � ..‬س�����لِ ال�����ن�����ج�����و َم ال�������س���اه���ره‬

‫***‬ ‫ي��������ا ط�������ي������� ُر عُ������������� ْد ل��������ي ال ت����غ����بْ عَ���������� ّن����������ي ف��������لَ��������� ْ��������س��������تُ ال����������ق����������ادرا‬ ‫خَ ����������لَ����������ت ال�������ل�������ي�������ال�������ي ف�����رح�����ت�����ي وال�������ل�������ي�������ل ي�����������ش�����ك�����و ال������� ُّ������س������مَّ������را‬ ‫�������������س ن��ح��ي��ي��ه��ا وق���������������������د خ����������������لَ����������������تِ ال�����������ك�����������رى‬ ‫ك������م ل����ي����ل���� ٍة ب������الأن ِ‬ ‫و�أن�����������������������ا و�أن���������������������������تَ ن����ع����ي���������ش����ه����ا ت���ح���ت ال�������س���م���اءِ‪ ..‬ع���ل���ى ال����ث����رى‪..‬‬ ‫ال ع�������ي�������� َ�������ش ل����������ي ي����������ومً����������ا �إذا ط�������ي�������ري غ�����������دا ل��������ي ه��������اج��������را‪..‬‬

‫* �شاعر من الأردن مقيم في ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪87‬‬


‫ُ‬ ‫انثياالت الغـُربة‬ ‫■ �سليمان عبدالعزيز العتيق*‬

‫بمنديل عطر ٍ‬ ‫طوبى للغرباء‬ ‫وباقة زهر ٍ‬ ‫‪1‬‬ ‫وم�سح ِة حُ ـزن ٍ‬ ‫�أي�سف ُح وجدَك يا مغتربَ الروح ِـ ـ بقايا جدا ْر‬ ‫تـ ُري ُد تباريحَ ها �أو ال تري ْد‬ ‫و�أعجا ُز نخل ٍتنا ُم بدا ْر‬ ‫‪2‬‬ ‫وتنهيدة ٌ �أطلقتْها‬ ‫يباغتكَ الحزنُ في خِ ـد ِر ليلى‬ ‫تراجي ُع ذكرى وبو ُح ادكار‬ ‫و�أنتَ تناد ُم هذا الم�ساء‬ ‫***‬ ‫�أي�شجيك ما�ض ٍتلفع في غاربات ال�سنين و�أنتَ تغازلُ هذا ال�صبا ْح‬ ‫تنا ُم على فر�ش الراح ِة واالرتياح‬ ‫وت�أخذك الذكرى �إلى ب�ستان �أهلكْ‬ ‫ولكن حزنـ َك ال يرعوي‬ ‫و�أهلكَ يلقون عليك التحايا‬ ‫ي�صبُ ق�صاراه بين ال�ضلو ْع‬ ‫يرجّ ون فيك الزما َن �إذا ما ا�ستدا ْر‬ ‫و�أنتَ تالحقُ �سربَ الفرا�شات ِعند الأ�صيلْ يُحِ ـي ُل فـ ِرا�شكَ �صخراً‪ ،‬و�ش ْب َعـك جو ْع‬ ‫وت�ح�ف� ُر ب �ئ��راً وت �غ��ر�� ُ�س م��ن ح��ول��ه �سعفات‬ ‫‪3‬‬ ‫ِالنخيلْ‬ ‫وت�صطفُ بين المعزين وهناً‬ ‫يذكرك الغائبين �شذى البرتقالْ‬ ‫لتذرفَ بو َح الأ�سى‬ ‫ورج ُع الأغاني‬ ‫وهج�س الوفا ِة‬ ‫َ‬ ‫ونو ُح ال�سواني‬ ‫تتمتم بالدعواتِ وبالخطراتِ‬ ‫وعبقُ الكوافرِ‪ ..‬ذكرى تـ ُدا ْر‬ ‫�سيطرق بابك هذا المباغتُ‬ ‫ولن ي�ست�شيرك عند الرحيلْ‬ ‫***‬ ‫ت�ساف ُر نحو مزار ِالزمان البعي ْد‬ ‫طويل غيابـ ُك كالم�ستحيلْ‬ ‫�إذا ما التقيتم ب�أفراح عي ْد‬ ‫وبيتـ ُك كن ٌز يواري البقايا‬ ‫وبابٌ �سيف�ضي لدار الخبايا‬ ‫الحنين‬ ‫ُِ‬ ‫ويلقي �إليك‬ ‫‪88‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫***‬

‫الهاج�س الم�ستب ُد‬ ‫ُ‬ ‫وي�أخذُك‬ ‫ويثقلك الحل ُم الم�ؤجلْ‬ ‫فلو �أن من يقر�ؤون‬ ‫ومن يطربون‬ ‫ومن تعتريهم ريا ُح النوى‬ ‫ومن يقرع الوج ُد �أ�سمارهم‬ ‫ويتلو �صحائفَ �أ�شعارِهم‬ ‫وك َل الخليين والغربا ْء‬ ‫وك َل المقاماتِ وال�شرفاء‬ ‫�أ�صاخوا لقولكَ وا�ستح�سنوه‬ ‫و�ضجوا لبوحكَ وا�ستعذبوه‬ ‫و�أمعنوا في �أحجياتِ الثنا ْء‬ ‫فهل يطربُ القلبُ هل ينت�شي؟‬ ‫وبُعدُك ن�أيٌ �صفيقُ المدى‬ ‫غريبُ التوح�ش والمبتدى‬ ‫وتي ٌه من ال�صمت يبكي �سُ ـدى‬ ‫‪4‬‬

‫وللروح دربٌ وللدرب بابٌ‬ ‫وي�صع ُد هذا الرو ُح نحو ال�سما‬ ‫ليجتاز ك َل النجوم ِوك َل ال�سدوم ِ‬ ‫وك َل مجراتِ رحبِ الف�ضا‬ ‫وك َل الم�سافاتِ ك َل المفازاتِ‬ ‫ك َل المتاهاتِ ك َل العـ َنى‬ ‫يغادرك َل المواجع‪ ،‬ك َل الفواجع‬

‫***‬

‫وللروح دربٌ‬ ‫وبابُ انعتاق ٍووع ُد ا�شتياق ٍ‬ ‫وفي�ض من النور يـ ُروي الظما‬ ‫ٌ‬ ‫ي�ؤوب �إلى حيثُ‬ ‫كان الخروج وكان العروج‬ ‫وكان ال�صعود �إلى المنتهى‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫وغيهبُ بُعدٍ طويلٌ طويلْ‬ ‫ترابٌ يعود لهذا الترابْ‬ ‫و�أيُ اعتبار ٍ لهذا الغيابْ‬

‫ك َل الغرائز‪ ،‬ك َل ال�ضغائن‬ ‫ك َل المجاعاتِ والم�شتهى‬

‫‪5‬‬

‫الهاج�س الم�ستب ُد‬ ‫ُ‬ ‫وي�أخذك‬ ‫ل�صبٍ يرى في النهايات ماذا يرى؟!‬ ‫بقاياه خفقة َ طين ٍ‬ ‫وقب�ضة َ تـ ُربٍ‬ ‫تبعثرها الري ُح فوق الثرى‬ ‫ورنة َحزنٍ على ما جرى‬ ‫ور�سماً �أنيقاً ب�إن�شوط ٍة‬ ‫يعلقها الأهل كيما يُرى‬ ‫‪6‬‬

‫�سرا ُج حنينك ال ينطفي‬ ‫و�أن�شودة ُالتوق ال تنق�ضي‬ ‫و�أ�شواق ُروحك م�سكونة ٌ‬ ‫بروح الجمال ِوبرد الو�صال ِ‬ ‫وتوق ِالليالي‬ ‫لك�شف الحجاب وللملتقى‬ ‫وللمرتقى‬ ‫وللمنتهى‪.‬‬

‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪89‬‬


‫�شاعر كان �صديقي‬ ‫■ �أمني الع�صري*‬

‫عَنِ الحُ زْنِ ا َّل��ذِ ي َي ْغت َِ�صبُكَ حِ ينَ َتنَا ُم‬ ‫َف ْو َق �سَ رِي ِر خَ يَالُكَ ال َّنقِيُّ‬ ‫َو َفي َ​َ�ضانُ خَ و ٍْف َيتَ�سَ َّل ُل �إِلَى مُ�سْ َت ْن َقعِكَ‬ ‫الرَّاكِدِ ‪،‬‬ ‫ْ�ص فِي خِ يَا َن ٍة َت ْغتَالُ ظِّ لاَ ًال‬ ‫َو�أَ ْوهَا ُم ال َغو ِ‬ ‫َّا�ش‬ ‫���سِّ �� ِّر َّي�� َة بَائِ�سَ َة اخْ �� َت�� َب أْ���تَ فِيهَا كخَ ف ٍ‬ ‫�أَعْ مَى‬ ‫َوعَ��ا�ِ��ص�� َف�� ُة ال�� َه��جَ ��مَ��اتِ ال��هَ��ا ِد َئ�� ِة لِ��رَغْ �� َو ِة‬ ‫�سَ رِيرِكَ َومَ��دُّ هَ��ا الُمخْ َتل ُِط بِالحَ مَا َق ِة‬ ‫وَالعَاطِ َف ِة‬ ‫ال�صمْتِ‬ ‫وَالحَ دِ يثُ �إِلَى َّ‬ ‫ُوط القَ�صَ ائِدِ الُمخْ تَا َر ِة‬ ‫عَنْ �سُ ق ِ‬ ‫فِ���ي هَ���ا ِو َي��� ِة ال���ظَّ �َل�اَ ِم ال�����سَّ ��حِ ��ي�� َق�� ِة َل��لَ�� ْي��لٍ‬ ‫�شَ احِ بٍ َك َغ ْيبُو َب ٍة‬ ‫وَ�سْ طَ غَا َب ِة �أَرْجُ ِلهِ‪..‬‬ ‫�����ص��ا ِب��كَ‬ ‫ُو����س َن�����سِ ��ي�� َم َب���حْ ��� ِر �أَعْ َ‬ ‫ا َّل��� ِت���ي َت���د ُ‬ ‫الَه�شَّ ةِ‪،‬‬ ‫وَالَم�شْ يُ ِب َ�أ ْقدَا ٍم حَ ا ِف َيةٍ‪..‬‬ ‫َبيْنَ �أَ�شْ وَاكِ ا ْر ِتيَابِ الَم ْوقِفِ‬ ‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫َوقُ���� َ���ص���ا� َ���ص���اتِ �أَغْ ����� َ����ص����انِ ال���� ِّذكْ���� َر َي����اتِ‬ ‫بِا�سْ ِتعْلاَ ِء الجَ ْب َه ِة العَا ِر َيةِ‪..‬‬ ‫�أَمَا َم فَجْ َو ِة ال ِّريَا ِح ال�سَّ حِ ي َق ِة‬ ‫‪.....‬‬ ‫ون ِْ�صفُ َقلْبٍ َك ِفنْجَ انِ َق��هْ�� َوةٍ‪َ ..‬م ْقلُوبًا‬ ‫َعلَى طَ ا ِو َل ٍة‬ ‫ِب�أَلَمٍ يَطْ فُو َك�أَغْ �صَ انٍ َم ْي َت ٍة َف ْو َق َك ِلمَاتٍ‬ ‫َت�� ْن��مُ��و ِب�����سُ �� ْرعَ�� ٍة فِ��ي مَ���ا ٍء غَ�� ْي�� ِر مُ�سْ َت ِق ِّر‬ ‫العَاطِ َف ِة‬ ‫عَنْ �أُمْ �سِ يَاتٍ بَا ِر َد ٍة كَحِ ذَا ٍء َعلَى �شُ ْر َف ٍة‬ ‫َوعَ������نْ �أَمْ ���������وَا ٍج مَ����� ْزرُوعَ����� ٍة ف���ي � َ��ص��هِ��ي��لِ‬ ‫ُوف‬ ‫الحُ ر ِ‬ ‫�أَمَا َم َع ْقرَبِ ال َّدقَائِقِ ال�سَّ ْودَاءِ‪.‬‬ ‫َعنْكَ ‪..‬‬ ‫َو َعنِّي‪..‬‬ ‫َوعَنْ �شَ اعِ ٍر كَا َن َ�صدِ يقِي‪.‬‬


‫اعترف‪،‬‬ ‫و�أنا بكل قواي العاطفية‪،‬‬ ‫�أ َّن الق�صا�ص‪،‬‬ ‫قربان الحاقدين‪..‬‬ ‫�أ�ستودع العابرين‪،‬‬ ‫�سري‪،‬‬ ‫وال �أملك البرهان وال الدليل‪،‬‬ ‫لكنني‪،‬‬ ‫�أعرف نهاية الطريق‪..‬‬ ‫الأقدار‪،‬‬ ‫رحمة‪،‬‬ ‫تكفينا وزر الب�شر‪،‬‬ ‫والرهانات الغبية‪.،‬‬ ‫اللعنة‪،‬‬ ‫كما العدوى‪،‬‬ ‫كما الوراثة‪،‬‬ ‫كاالبن البكر‪،‬‬ ‫هروب نحو التجربة‪..‬‬ ‫ال�س�ؤاالت ذات الأجوبة الجاهزة‪،‬‬ ‫قاتلة‪،‬‬ ‫كحب الأربعين‪،‬‬ ‫مفعمة بالي�أ�س والغد‪..‬‬ ‫يفزعني‪،‬‬ ‫الغريب الذي ي�شبهني‪،‬‬ ‫من فرط يقيني به‪،‬‬ ‫�أر�سمه و�شما على قلبي‪،‬‬ ‫و�أ�سير نحو الغواية‪،‬‬ ‫وال �أ�صل‪..‬‬ ‫حينما يتحطم القارب‪،‬‬ ‫ت�ستمر الرحلة‪،‬‬ ‫ * �شاعرة من الأردن‪.‬‬

‫■ �أنو �سرحان*‬

‫فال�شط�آن تنتظر �إرادة الناجين‪..‬‬ ‫لغة البهتان‪،‬‬ ‫ال ت�شبه الميالد الثاني‪،‬‬ ‫الكاذبون‪،‬‬ ‫يتلقفون الخدعات‪،‬‬ ‫واليدركون‪،‬‬ ‫�أن اللعبة‪،‬‬ ‫في التفا�صيل التافهة‪..‬‬ ‫فتح الأبواب‪،‬‬ ‫م�ؤلم‪،‬‬ ‫كالمطاردة‪،‬‬ ‫بال جدوى‪..‬‬ ‫للحكايات لذة‪،‬‬ ‫في المواربة‪،‬‬ ‫في الخوف‪ ،‬والمجهول‪،‬‬ ‫للحكايات �ضوء‪،‬‬ ‫عندما يداهمها الوقت وال�سقوط‪..‬‬ ‫الدائرة‪،‬‬ ‫تلك الحيرة‪،‬‬ ‫والمحب الجبان‪،‬‬ ‫رفات الأمل‪،‬‬ ‫والغائب بال عودة‪..‬‬ ‫ذلك العا�شق الخجول‪،‬‬ ‫لروحه‪،‬‬ ‫�أوتار جيتار‪،‬‬ ‫و�أ�صابع عازفة بيانو‪،‬‬ ‫ما �أقربه‪،‬‬ ‫ما �أبعده‪،‬‬ ‫ما �أ�شبهه بنافذة‪،‬‬ ‫مطلة عليّ ‪...‬‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫�أعترف‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪91‬‬


‫رحمة اهلل‬ ‫■ عبدالهادي �صالح*‬

‫هلل‬ ‫�سَ ُتمْطرُني رَحم ُة ا ِ‬ ‫حِ ينَ �أرَى الحُ بَّ‬ ‫يَقف ُز مِ ن وَجْ نتَيكِ ‪،‬‬ ‫َويَحتلُّ َ�صدْري‪..‬‬ ‫هلل‬ ‫و ُتمْطرُني رَحم ُة ا ِ‬ ‫م�س‬ ‫حينَ �أرَى ال�شَّ َ‬ ‫تُ�شرقُ مِ ن نَاظِ ريكِ ‪،‬‬ ‫تُ�ضي ُء طَ ريْقي وتَ�سْ ط ُع بالل َز َو ْردِ‪..‬‬ ‫هلل‬ ‫�سَ ُتمْطرُني رَحم ُة ا ِ‬ ‫حِ ينَ �أرَاكِ تُعدِّينَ َليْلي‪،‬‬ ‫ت َُ�ضمينَ �أ�شْ ال َء رُوحِ ي‪،‬‬ ‫تَجوبينَ �أع�شَ ابَ قَلبيْ ‪،‬‬ ‫وترْوينَها بالأُنو َث ِة‬ ‫حَ تى َتفِي َء ال�سَّ ما ُء عَلى تَختِ �أحْ الَمِ نَا‪،‬‬ ‫وَتنْمو الزُهو ُر عَلى جَ �سَ د ْينَا‪،‬‬ ‫و َي�أتي الرَّبي ُع �سَ ريْعاً �إلينَا‬ ‫َو ُتمْطِ ُرنَا رَح َم ُة اهلل‪.‬‬ ‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫الكرد ّيات �شاعرات �أي�ض ًا‪..‬‬ ‫�سالم ًا �أ ّيتها النافذة الغريبة‬ ‫■ عماد الدين مو�سى*‬

‫ت�أتي �أهميّة التجربة ال�شِ عريّة الجديدة لل�شاعرات الكرديّات في �سوريّة من كونهنّ‬ ‫ينفرد َن بخ�صو�ص ّي ٍة ثر ّي ٍة في لغتهنّ وخطابهنّ ال�شعريين‪ ،‬من جهة؛ والعتبارهنّ‬ ‫امتداداً حقيقياً لتجارب �شاعراتٍ �سوريّات من مثل‪ :‬دعد ح��دّاد‪� ،‬سنيّة �صالح‪ ،‬مرام‬ ‫الم�صري‪ ،‬عائ�شة �أرنا�ؤوط‪ ،‬روال ح�سن‪ ،‬هاال محمد‪� ،‬سو�سن ال�سباعي الجابي‪ ،‬هنادي‬ ‫زرقة‪ ،‬ندى منزلجي‪ ،‬و�إيمان �إبراهيم‪ ،‬من جه ٍة ثانية‪.‬‬ ‫ه��ذه التجارب‪ -‬ال�سوريّة بعمومها والكرديّة منها خ�صو�صاً‪ -‬بنبراتها الخافتة‪،‬‬ ‫تركتْ ندب ًة جل ّي ًة في ال�شعريّة ال�سوريّة؛ لما فيها من دف ٍء في العالق ِة والمحاور ِة مع‬ ‫نقي�ض لهُ‪ /‬الل ّذةُ‪ ،‬في �أُلف ٍة‬ ‫الأ�شياء والموجودات من حولها‪ ،‬وتدوير الألم ك�أثر �إلى ٍ‬ ‫غير معهودة على خارطة هذا ال�شعر‪� ،‬آخذ ًة زمام المبادر ِة من �سطوة الآخر الذكوريّ‬ ‫وهيمنته على الم�شهد‪ ،‬طالما الإبداع �صوت الأعماق الإن�سانيّة و�صدى معاناة وجوديّة‬ ‫ت�شترك بها الكائنات جميعاً‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪93‬‬


‫ت�ف�ت��رق الأ� �س �م��اء ال�ت��ي اخ�ت��رن��اه��ا ه�ن��ا‪ ،‬في‬ ‫�أ�سلوبها و�أدوات �ه��ا ال�شعريّة اختالف ًا جوهر ّياً‪،‬‬ ‫بقدر ما تت�شابه في مو�ضوعاتها وزاوية االهتمام‬ ‫واالرتكاز‪« ،‬كونها جميع ًا �شربتْ من النب ِع ذاته»‪،‬‬ ‫فق�صيدة خالت �أحمد رغم غنائيّتها العالية‪،‬‬ ‫تعتمد التكثيف وتكاد ت�ؤ�س�س لهايكو �شعري خا�ص‬ ‫بها‪ ،‬بينما يطغى ال�سرد على �أج ��واء ق�صائد‬ ‫وجيهة عبدالرحمن من دون �أن تفقدها ال�شعريّة‬ ‫المرجوّة‪� .‬أما ق�صيدة �شيرين كيلو فنجد فيها‬ ‫تداخل الأجنا�س الأدبيّة الأخرى‪ ..‬وتكاد مالمح‬ ‫ال�شعريّة تختفي؛ وت�شتغل دي�لان �شوقي على‬ ‫الق�صيدة‪ -‬الوم�ضة في �سبك جملٍ �شعريّة مكثّفة؛‬ ‫فيما تلتقط ق�صيدة فدوى كيالني �شِ عريّتها من‬ ‫اللغة اليوميّة المعي�شة‪ ،‬وب��د ًال من العمل على‬ ‫ال�صورة ال�شعريّة تن�شغل �آ�سيا خليل بالق�صيدة‬ ‫كن�ص‪ ..‬فت�أتي �شبيهة باللوحة الت�شكيليّة �أو الفيلم‬ ‫ال�سينمائي في تكوّنها و�صيرورتها؛ �أما وداد نبي‬ ‫فتذهب �إلى المفارقة وتكثر منها في ق�صائدها‪،‬‬ ‫كما نالحظ اقترابها من نمط �شِ عري جديد –‬ ‫يُ�سم ّي ِه ال�شاعر العراقي �أ�سعد الجبوري بالنانو‪-‬‬ ‫له نكهة الر�سائل الن�صية الق�صيرة الـ(‪.)SMS‬‬ ‫وتتوغّ ل ق�صيدة �أفين �شكاكي في المنطقة‬ ‫الأك �ث��ر وع ��ور ًة ف��ي ال� َن� ْف��� ِ�س‪ ،‬حيث ال�ح��زن على‬ ‫�أ�شدّه‪ ،‬وكذلك الحبّ ؛ وت�ص ّر �شهناز �شيخة في‬ ‫ق�صيدتها على �شعريّة الواقع والنهو�ض بها رغم‬ ‫وقوعها في ف��خّ التقريريّة في بع�ض الأح�ي��ان‪.‬‬ ‫�أم��ا ق�صيدة �آخين والت فتُ�سْ كِ ر القارئ بنبيذِ‬ ‫�شِ عريّتها ال�صرف‪ ،‬وما الحنين �إال ثل ٌج �أخي ٌر في‬ ‫ف�ضاءات ال�صعود‪ ،‬وباعتباره ‪ -‬بح�سب �إليوت‬ ‫ المكان الذي نبد�أ منه‪ ،‬تتغنّى ق�صيدة دل�شا‬‫يو�سف بالوطن المفقود وقمر ِه الغائب؛ بينما‬ ‫الحميميّة في التعبير عن مكنونات الذات �أبرز‬ ‫مالمح ق�صيدة مها بكر‪.‬‬ ‫‪94‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫�آخين والت‬ ‫طفل‬

‫ال‬ ‫�سي�شغلني طوي ً‬ ‫هذا الطفلُ‪.‬‬ ‫ال ينتبه لوجودي‪،‬‬ ‫وال ل�����رغ�����ب�����ت�����ي‬ ‫العارمة‬ ‫في �ضمّه �إليّ ‪.‬‬ ‫��ل�ا ع���ن���ي‬ ‫م����ن���������ش����غ ً‬ ‫ب�أ�شياءَ‪،‬‬ ‫حتماً‪،‬‬ ‫تعنيه �أكثر من‬ ‫قبل ٍة على خدّ‪.‬‬ ‫يكت�شف �أ�صابعه‪،‬‬ ‫وج�سداُ‬ ‫يقيناً‪،‬‬ ‫يعرف �أنّه‪،‬‬ ‫ملكه‬ ‫هو فقط‪.‬‬ ‫(�صورة)‬ ‫لم �أمتلك �شجاعة‬ ‫التّهرُّب‪،‬‬ ‫�أو �أن المفاج�أة‬ ‫كانت �أكث َر مبا َغ َت ًة ً‪.‬‬ ‫مغم�ض َة العينينِ ‪.‬‬ ‫الفال�ش قوياً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كان‬ ‫لم يمكننّي ر�ؤي َة وجهكَ ‪:‬‬ ‫ر�ؤوفاً كانَ؟‬ ‫�أم �ضليعاً في الخداع؟‬

‫�أخين والت‬


‫ال ��������ش�������ي َء ي����دع����و‬ ‫للده�شةِ‪.‬‬ ‫�أن���������ا �أي�����������ض�����اً ك��ن��ت‬ ‫�شجر ًة‬ ‫لكنّ دوم��وزي ن�سيَ‬ ‫الف� َأ�س‬ ‫�آ�سيا خليل‬ ‫في يدِ الكهن ِة‬ ‫قبل رحيل ِه الأخيرِ‪.‬‬ ‫دوموزي وعدني‬ ‫ولم يعدْ‪.‬‬ ‫والأ�شجا ُر ما عادت تعرفني‪.‬‬ ‫لو �ألقي بالبح ِر خلف ظهري‬ ‫لو �أعث ُر على ل�ؤل�ؤتي ث ّم‬ ‫�أعيدُها �إلى البحرِ‪.‬‬ ‫يحقُّ لي �إذاً �أن �أبحثَ عن جذري‬ ‫في «جذر ال�سّ و�سن»‪.‬‬ ‫في �شرود الزعت ِر البرّيِّ ‪.‬‬ ‫في �سه ِو �شجرة البطم عن خريفها‪.‬‬ ‫�أو نعيقِ غرابٍ‬ ‫نائحاً يتم ُه على كتفِ الليلِ ‪.‬‬ ‫�أو نهرٍ �صغيرٍ تو�سّ َد كفّي‬ ‫ف�شطّ رني‪.‬‬ ‫�أ �أعو ُد كما كنتُ ما ًء‬ ‫بع�ض �سماءٍ‪� ،‬أت�أرج ُح منها‬ ‫�أو َ‬ ‫بخيوط الرّنينِ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫رنينِ ال�ضحك ِة الأولى؟‬ ‫�أ تعو ُد دوموزيَ‬ ‫في المو�سمِ المعهودِ؟‬ ‫والميّتو َن بتروا �أن�سا َغ الغيمِ‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫�آ�سيا خليل‬ ‫ال �شيء يدعو للده�شةِ‬

‫مطمئنّينَ‬ ‫خلف �سنابكِ الوقتِ ‪ ،‬ناموا؟‬ ‫ال ال���غ���اب���ةُ‪ ،‬ال ال����م����دنُ ‪ ،‬ال ق���ل���بُ دوم������وزيَ‬ ‫الم�شطو ُر‬ ‫بلوع ِة الغزاالتِ‬ ‫ال�ضو ِء‬ ‫�أرخى لغزال ِة ّ‬ ‫�أكثر من �سَ َفرٍ‪.‬‬ ‫ّ�ص الفرا�شاتِ‬ ‫�أكان عليَّ �أنْ �أتقم َ‬ ‫و�أملأ الك� َأ�س من عينِ النّو ِر‬ ‫ث ّم �أحتر َق‬ ‫قبل �أن �أد ُل َق ك�أ�سيَ في عينِ الحقيقةِ؟‬ ‫ها ا�ستيقظتْ ع�صافيرنا‪:‬‬ ‫ �سالماً يا ع�صفورة العزلة‪.‬‬‫ �سالماً �أيتها النافذة الغريبة‪.‬‬‫�أفين �شكاكي‬ ‫على قيد الخريف‬

‫كنت على قيد الخريف‬ ‫غائمة �أم�ضي‬ ‫ال عزف لي‬ ‫ال ارتباك لظلي‬ ‫�أتو�ض�أ‬ ‫بحفنة حب‬ ‫التقيتك‬ ‫في‬ ‫�ساحة البوح‬ ‫تعبر وجعي‬ ‫ك�صالة �صبح‬ ‫مندى‬ ‫بين طيات �صمتك‬ ‫ت�ضمني‬ ‫ك�أوراق النرج�س‬

‫�آفين �شكاكي‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪95‬‬


‫(البارحة)‬

‫هناك‪..‬‬ ‫على بعد حرف‬ ‫كان حبي‬ ‫بال معطف‬ ‫مع�صوب العينين‬ ‫يتجوّل‬ ‫في �أروقة ت�أمالتك‬ ‫يئنُّ حنيناً‬ ‫م�ضيت غائماً جزئياً‬ ‫بعد �أن �أهديتني‬ ‫بع�ضاً‬ ‫من �أنفا�س اليا�سمين‪.‬‬

‫م�سا ًء‬ ‫جال�ساً �إلى وحدتي‬ ‫ك�أنما �شممتكِ في الغرفة‬ ‫و�ضحكت عيناكِ في المر�آة‪.‬‬ ‫م�سا ًء‬ ‫ك�أنما تماوجت �أنفا�سكِ ل�شمعتي‬ ‫تذكر عطركِ في البعيد غرفتي‬ ‫و�أزهرت عيناي في المر�آة‪.‬‬ ‫دل�شا يو�سف‬ ‫ُطب الآخر‬ ‫الق ُ‬

‫خالت �أحمد‬ ‫�شجرة الرمّان النحيلة‬ ‫(بما يكفي)‬

‫قاني ًة‬ ‫كانت �أزهاري هذا العام‬ ‫مو�سمي زاخر‬ ‫�أفال تمر من هنا؟‬ ‫لأبذل لك حباتي‬ ‫حلمةً‪ ,‬حلم ًة‬ ‫ك���م ذراع�������اً ت����ود لو‬ ‫يكون لي؟‬ ‫لأ�ضمكَ بما يكفي‬ ‫�أنا‬ ‫�����ش����ج����رة ال�����رم�����ان‬ ‫النحيلة‪.‬‬

‫خالت �آحمد‬

‫(�سفرجلة)‬

‫كاد القلق يفلق قلبي‬ ‫هل �أنزلق �إلى �أعماقه ليَخْ َب َر قطري‬ ‫�أم �أبقى في فمه لأخْ َب َر لذته؟‬ ‫كالنا �صعب‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫حينَ كُنتُ كنَه ٍر‬ ‫البو�صلة‬ ‫َ‬ ‫عك�س‬ ‫�أ�سي ُر َ‬ ‫كُنتَ �أنتْ ‪..‬‬ ‫ُت����� َ����ش���� ِّي���� ُد ل��ن��ف��� ِ��س��كَ‬ ‫قِبلَةً!‬ ‫م�س‬ ‫حينَ كانتِ ال�شَّ ُ‬ ‫ترت ِف ُع مِ ن مَ�شْ رِقي‬ ‫ك����ن����تَ �أن������������تْ ‪ ..‬ف��ي‬ ‫الغَرب‬ ‫تن�صبُ الفِخا َخ‬ ‫دل�شا يو�سف‬ ‫�أما َم الأماني!‬ ‫�ألَم تكُن �أنتْ‬ ‫حينَ ت�صادَفنا‬ ‫عن َد نجمِ �سُ هَيل؟‬ ‫وعلى مُف َترَقِ‬ ‫َدرْبِ ال َتبّان ِة‬ ‫كُنتَ ُتلَم ِل ُم النُجو َم المت�ساقطة!‬ ‫متى �ستبل ُغ الفِطا َم‬ ‫وتدَع �شَ م�شَ َم َة تَالبيبي؟‬ ‫لَن نَنهَمِ َر معاً‪،‬‬


‫ديالن �شوقي‬ ‫�أغاني الح�صاد‬

‫لو كنتُ �أعل ُم �أ َّن �سماءَكَ دو َن ريحٍ‬ ‫ما �أطلقتُ �صرخاتي‪.‬‬ ‫***‬

‫�إنْ لم يتحرّر قلبي‬ ‫من هيامكَ ‪،‬‬ ‫هيهات لثورة الحنين �أنْ تهد�أ‪.‬‬ ‫***‬

‫تُرى‬ ‫ما الحلّ؟‬ ‫ال�سناب ُل امتلأتْ‬ ‫و�أغاني الح�صاد‬ ‫ذهبتْ في �أدراج الن�سيان‪.‬‬ ‫(ترجمة عن الكرديّة‪:‬ع‪.‬م)‬

‫�أُ�سلي بك غربتي‬ ‫�أُزرك�����������ش �أح�ل�ام���ي‬ ‫المذبوحة‬ ‫بوجهك الجميل‬ ‫ال����������ذي ���س��ي�����ص��ب��ح‬ ‫جرحاً �آخر‬ ‫�شيرين كيلو‬ ‫ف�����ي م���ل���ف ع���م���ري‬ ‫ال�ضائع‬ ‫و�أرحل عنك بحقيبة فارغة‬ ‫�إال من انك�سار‬ ‫لماذا �أنت بالذات‬ ‫ا�ستطعت اقتحام �أ�سوار عزلتي‬ ‫وكيف ا�ستطعت �إعادة ترتيب فو�ضى �أوراقي‬ ‫التي بعثرها �آخرون‬ ‫احتمي بك من غدرهم‪،‬‬ ‫ويبقى ال�س�ؤال‪ :‬بمَن احتمي منك‪..‬؟‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫ما لَم تَ�ستَحِ ل �أنتَ ‪...‬قُطباً �آخَ ر!‬ ‫(القلب)‬ ‫جَ َّر ٌة مِ ن م�شاعِ ر‬ ‫تُ�شوى في ُفرْنِ الحياة!‬ ‫با ُب ُه‬ ‫مفتو ٌح على مِ �صراعَيهِ‪.‬‬ ‫حار�سُ ُه‬ ‫مِ نهُ‪ ..‬وفي ِه‬ ‫لك َّنهُ‪..‬‬ ‫ال يُ�ص ِب ُح مَفرَ�شاً‬ ‫لأيِّ �ضَ يف!‬ ‫(ترجمة عن الكرديّة‪ :‬د‪.‬ي)‬

‫�شيرين كيلو‬ ‫�أ�سرار العزلة‬

‫�شهناز �شيخة‬ ‫رحيل‬

‫�أيتها المدينة‬ ‫العاريـة من النور‬ ‫وداعـاً‬ ‫�أيتها المدين ُة المزدحم ُة بحـزني‬ ‫وداعـاً‬ ‫قطا ُر الم�ساء‬ ‫المحمَّل بالـرحيـل‬ ‫ي�شقُّ الغبا َر وي�أتي‬ ‫تماماً كموتي‬ ‫ليعلنَ �أنّي‬ ‫�س�أهج ُر بيتي‬ ‫�شهناز �شيخة‬ ‫و�أهج ُر بيتي‬ ‫لأتـركَ قلباً‬ ‫و�أتـركَ �صمتي!!‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪97‬‬


‫فدوى كيالني‬ ‫ثالث ق�صائد‬ ‫(عجز)‬

‫�سورك عالٍ كيف �أطال عنبه؟‬ ‫(البيا�ض)‬

‫لم �أجد �ضرورة‪ ،‬لأ�شر َح التفا�صيل‪.‬‬ ‫العنوان هو نف�سه‬ ‫لم يتغير‪.‬‬ ‫ول�ست بحاجة‬ ‫�إل���ى مغلف وط��اب��ع‬ ‫و�ساعي بريد‬ ‫لأن����ي ����س����أح���اول �أن‬ ‫�أقر�أ البيا�ض‬ ‫كما يليق بك‪.‬‬ ‫(ذكرى)‬

‫فدوى كيالني‬

‫ال����������������������وردة ال�����ت�����ي‬ ‫قدمتها �إلي‬ ‫قبل تلك القبلة ال تزال في ق�صيدتي‪.‬‬ ‫وداد نبي‬

‫ق�صائد النانو‬

‫‪1‬‬

‫لن �أ�صادقك ِ‬ ‫�أيتها الحرب‬ ‫حتى لو ق�ضيتِ مئة عام في بالدي‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫الذاكرة‬ ‫كتفٌ مائلٌ‬ ‫م�سافة ‪ 1500‬كم جنوب عينيك‪.‬‬ ‫ * كاتب من �سوريا‪.‬‬

‫‪98‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫‪3‬‬

‫ما �أ�شقاك‬ ‫حتى �شجيرة الكرز‬ ‫ن�������س���ي���ت �أزه������اره������ا‬ ‫معلقة على كتفك‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وداد نبي‬

‫لعينيك‬ ‫لون غابة مطعونة‬ ‫بخا�صرة ِغزالنها‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫�أحبها تلك البالد‬ ‫حتى في خرابها الأخير‪.‬‬ ‫اال�شتياق‬ ‫�صهي ُل �أح�صنة برية‬ ‫ال يفرق‬ ‫بين القاتل والقتيل‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫‪7‬‬

‫الق�صائد كلها‬ ‫تعرفُ الطريق لبيتك‬ ‫حتى‬ ‫تلك‬ ‫التي لم تكتبها‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫متى ت�ستيقظ‬ ‫يكون ُ ال�صباح ُ في المدينة‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫الأزهار التي تنمو على قبور القتلى‬ ‫هي ذاتها التي تتجمع ُ باقات كبيرة‬ ‫على طاولة القاتل‪.‬‬


‫الكتابة تعبير عن حالة الوجود‬ ‫بكل انفعاالته وتناق�ضاته‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫ال�شاعر �أحمد قران الزهراني للجوبه‪:‬‬

‫■ حاوره‪� :‬سعيد بوكرامي‬ ‫وحممود الرحمي‬

‫�أح���م���د ق����ران ال���زه���ران���ي ب��اح��ث و���ش��اع��ر م��رم��وق‪،‬‬ ‫وهو �أحد الأ�سماء الأدبية ال�سعودية التي ي�شار �إليها‬ ‫ب��ال��ب��ن��ان ف��ي ال��م�����ش��ه��د ال��ث��ق��اف��ي ال�����س��ع��ودي ال��ح��ال��ي‪،‬‬ ‫وتجربته تجربة فريدة في نوعها؛ فهو يمتلك لغة‬ ‫م�صقولة �أنيقة واف��رة‪ ،‬ت�شبه ال�صحراء في ات�ساعها‬ ‫وب�����س��اط��ت��ه��ا‪��� ..‬ش��ارك ف��ي ال��ع��دي��د م��ن ال��م��ه��رج��ان��ات‬ ‫ال�شعرية والم�ؤتمرات الثقافية العربية‪� ،‬صدر له حتى‬ ‫الآن‪:‬‬ ‫دماء الثلج – دي��وان �شعري عن نادي جدة الأدبي‬ ‫الثقافي عام ‪1998‬م‪.‬‬ ‫امر�أة من حلم – كتاب نثري عام ‪2000‬م‪.‬‬ ‫بي�ضا – ديوان �شعري – المركز الثقافي العربي ببيروت ‪2003‬م‪.‬‬ ‫ال تجرح الماء – دي��وان �شعري – عن دار ريا�ض الري�س ببيروت ع��ام ‪2009‬م –‬ ‫و�أعيد �إ�صداره عن الهيئة العامة لق�صور الثقافة بم�صر‪� ،‬ضمن �سل�سلة �آفاق عربية عام‬ ‫‪2013‬م‪ .‬ثم تمت طباعته عن دار �ضفاف ببيروت عام ‪2014‬م‪.‬‬ ‫كتاب فكري بعنوان « ال�سلطة ال�سيا�سية والإعالم في الوطن العربي «‪.‬‬ ‫معه‪ ،‬كان لنا هذا الحوار‪..‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪99‬‬


‫● ●ما هو ن�صك الأول المن�شور؟ وكيف تنظر ● ●ما هو الكتاب الذي حفزك على الكتابة؟‬ ‫�إليه الآن؟‬ ‫‪ρ ρ‬الكتب كثيرة‪ ،‬ولعل دواوين ال�شعر العربي هي‬

‫‪ρ ρ‬الن�ص ال ��ذي �أع� �دّه م��ن ن�صو�صي الأول ��ى‬ ‫المهمة‪ ،‬والذي ما يزال في الذاكرة‪ ،‬ومازلت‬ ‫�أردده �إلى الآن هو ن�ص «دماء الثلج»‪..‬‬

‫التي كانت راف��د ًا لي ومحفزا على الكتابة‪،‬‬ ‫لأنني تتلمذت على ق�صائد ال�شعراء العرب‪.‬‬ ‫● ●ما هو الكتاب الذي تمنيت كتابته؟‬

‫�أما نظرتي �إليه‪ ،‬فهي نظرة اعتزاز؛ لأن هذا ‪�ρ ρ‬أغلب كتب المفكر الكبير محمد الجابري‪،‬‬ ‫الن�ص دُر�س كثيرا وتناولته درا�سات علمية‬ ‫وخا�صة الكتب التي تتناول حقوق الإن�سان‬ ‫ونقدية كثيرة‪ ،‬الأمر الوحيد الذي لو قدر لي‬ ‫والديمقراطية‪.‬‬ ‫�أن �أعيد التفكير فيه هو ا�سم هذا الن�ص‪.‬‬ ‫● ●م��ن ه��و ال��ك��ات��ب ال����ذي ي��ت��ج��ول ف��ي ع��روق‬ ‫كتابتك؟‬

‫● ●ما هو المنبر الأول الذي ن�شرت به وكيف‬ ‫كان �إح�سا�سك؟‬ ‫‪ρ ρ‬بالن�سبة لل�شعر‪ ..‬ف�إنني �أعتقد �أن كل ال�شعراء‬ ‫القدامى منذ الع�صر الجاهلي و�صوال �إلى‬ ‫‪ρ ρ‬ت�شرفت ب�أن يكون نادي جدة الأدبي الثقافي‬ ‫الع�صر الحديث �أثّروا في تجربتي ال�شعرية‬ ‫ وهو �صرح ثقافي عربي مهم على خارطة‬‫ب�شكل مبا�شر �أو غير مبا�شر‪.‬‬ ‫الثقافة العربية‪ -‬ب�أن يكون �أول �إ�صداراتي‬ ‫من خالله‪ ،‬وقد كان له دور كبير في انت�شاري‬ ‫�أما ال ُكتّاب في المجال الفكري ف�أعتقد �أن‬ ‫ال�شعري‪.‬‬ ‫«ابن خلدون» و«محمد الجابري» و«مونت�سكيو»‬ ‫‪ 100‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫● ●ما جديدك؟‬ ‫‪ρ ρ‬ل��ديَّ كتاب فكري �سيا�سي �إعالمي بعنوان‬ ‫«عالقة ال�سلطة ال�سيا�سية بالإعالم»‪� ،‬أعمل‬ ‫على �إع��داده ومن ثم ن�شره‪ ،‬وهو بالمنا�سبة‬ ‫ر�سالة الدكتوراه التي ح�صلت عليها‪.‬‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫الأ�ستاذ الدكتور عبدالمح�سن القحطاني‪،‬‬ ‫وتم ن�شره وتوزيعه‪ ،‬ووجد قبوال متميزا في‬ ‫الأو�ساط الثقافية‪.‬‬

‫الفيل�سوف الفرن�سي‪� ،‬صاحب نظرية ف�صل ● ●هل تفر�ض عليك الكتابة طقو�سا معينة؟‬ ‫ال�سلطات ال ��ذي تعتمده غالبية الأنظمة‬ ‫‪ρ ρ‬لي�ست ل��دي طقو�س �إال ال�ه��دوء ال�ت��ام‪� ،‬إل��ى‬ ‫حاليا‪ ،‬و«�إدوارد �سعيد» و«نعوم ت�شوم�سكي»‬ ‫جانب كوب ال�شاي‪ .‬وغرفة نومي هي المكان‬ ‫من �أهم الأ�سماء التي قر�أت لها في حياتي‪.‬‬ ‫الذي ا�ستمتع بالقراءة والكتابة فيه‪ ،‬و�أحيانا‬ ‫�أم��ا ال��رواي��ة‪« ..‬فماركيز» من الذين �أث��روا‬ ‫في مكتبي‪.‬‬ ‫خ�ي��ال��ي و�أدم� �ن ��ت ق� ��راءة رواي� �ت ��ه‪ ،‬وه�ن��اك‬ ‫● ●ما تعريفك للكتابة؟‬ ‫�أ�سماء كبيرة ف��ي ه��ذا الجانب‪ ،‬وال��روائ��ي‬ ‫الإنجليزي «جيم�س جوي�س»‪ ،‬وبخا�صة روايته ‪ρ ρ‬الكتابة حالة �شعورية تعبر ع��ن مكنونات‬ ‫النف�س الإن�سانية ور�ؤية العقل للعالم‪ ،‬وتعبير‬ ‫«يولي�سي�س»‪ ..‬و«�إرن�ست همنغواي» خا�صة‬ ‫عن حالة الوجود بكل انفعاالته وتناق�ضاته‬ ‫ف��ي روايتيه «ال�شيخ والبحر» و«ل�م��ن تقرع‬ ‫واختالفاته‪.‬‬ ‫الأجرا�س»‪.‬‬ ‫● ●ما هو الكتاب الأول الذي ن�شرته؟‬ ‫‪ρ ρ‬ديواني «دم��اء الثلج» عن ن��ادي جدة الأدب��ي‬ ‫الثقافي عام ‪1998‬م‪.‬‬ ‫● ●ما هي ظروف الن�شر التي رافقته؟‬ ‫‪ρ ρ‬تقدمت به لإدارة نادي جدة وب�شكل مبا�شر‬ ‫لرئي�س النادي �آن��ذاك الأ�ستاذ عبدالفتاح‬ ‫�أبو مدين‪ ،‬والذي وجدت منه تجاوبا �سريعا‬ ‫لن�شر الديوان‪ ،‬بعد �أن تم تحكيمه من قبل‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪101‬‬


‫● ●وهل جدواها الآن؟‬ ‫‪ρ ρ‬الكتابة فعل �إن�ساني منذ الأزل‪ ،‬وحتى في‬ ‫�أ�صعب ظروف الحياة التي م َّر بها الإن�سان‬ ‫القديم‪ ،‬حاول �أن يجد �أدوات للكتابة‪ ،‬ولوال‬ ‫جدواها لما و�صلتنا كتابات الأوائ��ل ونهلنا‬ ‫منها‪ ،‬ولما �أث��رى الأوائ��ل التراث الإن�ساني‪.‬‬ ‫وفي اعتقادي �أن �أي عطاء كتابي هو �إ�سهام‬ ‫في بناء الح�ضارة الإن�سانية وعمارة الأر�ض؛‬ ‫وبالتالي �ستظل الكتابة ما بقيت الحياة‪.‬‬ ‫● ●هل حقا الأدب في خطر؟‬ ‫‪ρ ρ‬ال �أ���ش��ع��ر �أن الأدب ف��ي خ��ط��ر‪ ،‬لأن الجيد‬ ‫�سيفر�ض ح�ضوره ووج ��وده وا�ستمراريته‪،‬‬ ‫وال�ضعيف �سينتهي ويتال�شى‪ ،‬وبالتالي ال‬ ‫خوف على الأدب حتى من الدخالء عليه‪.‬‬

‫● ●ماذا علينا �أن نفعل من �أجله؟‬ ‫‪ρ ρ‬ع�ل�ي�ن��ا �أن ن�ح�ت�ف��ي ب���الأدب���اء الحقيقيين‬ ‫وتكريمهم‪ ،‬وت�شجيع الأج �ي��ال المتميزة‪،‬‬ ‫وتقديم الأ�سماء الجديدة وتناول طروحاتهم‬ ‫و�إنتاجهم بعقالنية ووعي‪ ،‬و�أن نحاول �إي�صال‬ ‫الأدب العربي �إلى العالمية‪.‬‬ ‫● ●ه����ل ه���ن���اك ���ش��خ�����ص م��ع��ي��ن ����س���اع���دك ف��ي‬ ‫م�شوارك الأدبي تو ُّد �شكره؟‬ ‫‪ρ ρ‬الحقيقة �أن الذين �ساعدوني في م�شواري‬ ‫الأدبي كثيرون‪ ،‬لكن لي�س لهم اليد الطولى في‬ ‫م�ساعدتي‪ ،‬و�إنما كان دورهم ا�ست�شاريا لي�س‬ ‫�إال؛ ومع ذلك ف�أنا �أ�شكر كل الذين �أ�سهموا‬ ‫في تجربتي ولو كان ذلك بر�أيٍ ب�سيط‪� ،‬أو نقد‬

‫‪ 102‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫● ●هل لديك �أمنية �أدبية تحلم بتحقيقها؟‬ ‫‪�ρ ρ‬أهم طموحاتي الأدبية هي �أن ي�صل الأدب‬ ‫العربي �إلى العالمية‪ ،‬وت�صل طباعة الكتاب‬ ‫ال�ع��رب��ي �إل��ى �أك �ث��ر م��ن مليون ن�سخة حول‬ ‫العالم‪ ،‬و�أنْ تترجم الأعمال الأدبية العربية‬ ‫�إلى لغات العالم‪.‬‬ ‫�أما �أمنيتي الأدبية ال�شخ�صية فهي �أن تترجم‬ ‫تجربتي ال�شعرية �إلى لغات عالمية من خالل‬ ‫م�ؤ�س�سات ودور ن�شر كبيرة‪.‬‬ ‫● ●ه���ل ���س��ت��ح��ل ال�لائ��ح��ة ال��ج��دي��دة ل�ل�أن��دي��ة‬ ‫م�����ش��ك�لات االن��ت��خ��اب والإت����ي����ان ب��ال��دخ�لاء‬ ‫لمجال�س الأندية؟‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫هادف‪� ،‬أو ت�شجيع محفز‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬عدد من الأندية الأدبية ب��د�أ في هذا الفعل‬ ‫الثقافي م��ن خ�لال �إق��ام��ة �أ��س��اب�ي��ع ثقافية‬ ‫م�شتركة‪ ،‬وال�ف�ك��رة مطروحة على الأن��دي��ة‬ ‫الأدبية‪ ،‬و�سيكون هناك تفعيل لهذه الفكرة في‬ ‫المراحل القادمة‪ ،‬علما ب�أن الأندية الأدبية لها‬ ‫ا�ستقاللية في �إقامة الأن�شطة التي تراها تتفق‬ ‫مع ر�ؤية مجل�س الإدارة والجمعية العمومية‪.‬‬ ‫● ●رغ��م تعهد جميع الأن��دي��ة الأدب��ي��ة لوزير‬ ‫الثقافة ال�سابق الدكتور خوجة بتخ�صي�ص‬ ‫منحة ال��ـ ‪ 10‬ماليين ري���ال‪ ،‬ال��ت��ي �أم���ر بها‬ ‫الملك الراحل عبداهلل بن عبدالعزيز رحمه‬ ‫اهلل عام ‪1432‬هـ لبناء مقرات للأندية التي‬ ‫ال تملك مقرات‪� ،‬إال �أن المالحظ هو تبديد‬ ‫المبلغ من بع�ض الأن��دي��ة بعد م��رور �أرب��ع‬ ‫�سنوات تقريبا؟ �أين دور الوزارة في متابعة‬ ‫�صرف المبلغ ال�سابق وال�لاح��ق؟ وتحقيق‬ ‫تطلعات مثقفي المناطق؟‬

‫‪�ρ ρ‬ستكون الالئحة الجديدة نقطة تحوّل في‬ ‫الأن��دي��ة الأدب �ي��ة؛ ذل��ك لأنها تالفت الكثير‬ ‫من ال�سلبيات‪ ،‬وقد عمل عليها عدد كبير من‬ ‫المثقفين‪ ..‬وا�ستمر العمل لأكثر من �سنتين ‪ρ ρ‬هناك مَ ن يتجنى على الأندية الأدبية في هذا‬ ‫حتى تكون متكاملة‪ ،‬وبطبيعة الحال‪ ..‬وك�أي‬ ‫عمل �إن�ساني �سيكون هناك تطوير وتحديث‬ ‫ل�ه��ا ب�ي��ن ك��ل ف �ت��رة وف �ت��رة ح�سب مقت�ضى‬ ‫الحال‪ ،‬وح�سب المالحظات التي قد تطر�أ‬ ‫�أو يكت�شفها المثقفون؛ لكن في المجمل‪..‬‬ ‫الالئحة متميزة‪ ،‬و�ستلبّي طموحات المثقفين‬ ‫في المرحلة القادمة‪.‬‬ ‫● ●هل هناك نية لعمل برامج موحدة تقوم بها‬ ‫الأندية على م�ستوى المملكة‪ ،‬على الأقل‬ ‫كم�شترك ت��ق��وم ب��ه �إدارة الأن��دي��ة لخدمة‬ ‫الثقافة في البالد؟‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪103‬‬


‫الجانب‪ ،‬ويدّعي �أن الأن��دي��ة الأدب�ي��ة بددت‬ ‫الدعم ال�سابق في غير محله‪ ،‬وه��ذا مناف‬ ‫للحقيقة‪ ،‬حيث �أن الأندية التي لها مقرات‬ ‫�سابقة ا�ستغل الدعم في اال�ستثمار العائد‬ ‫بفوائد على ال �ن��ادي‪� ،‬أو �أن ال�ج��زء الكبير‬ ‫من المبلغ ما يزال في ح�سابات الأندية‪� /‬أو‬ ‫الأندية التي لي�س لها مقار ا�ستغلت المبلغ‬ ‫لبناء مقار لها‪ ،‬والآن كل الأندية لها مقارات‬ ‫ذات ملكية خا�صة‪ ،‬ع��دا ن��اد واح��د مازلنا‬ ‫نبحث عن الكيفية التي يمكن من خاللها‬ ‫بناء مقر له‪.‬‬ ‫‪�ρ ρ‬أما الدعم الجديد فهو من م�س�ؤولية معالي‬ ‫وزي��ر الثقافة والإع �ل�ام‪ ،‬وه��و مَ ��ن �سيوجه‬ ‫ب�صرفه وفق ر�ؤيته للمرحلة القادمة‪.‬‬ ‫● ●متى يتم �إح�لال المجال�س الحالية؟ وما‬ ‫هي �أهم مالمح خطط االنتخابات المقبلة‬ ‫للأندية؟‬ ‫‪�ρ ρ‬سيتم �إحالل المجال�س الحالية فور اعتماد‬ ‫ال�لائ�ح��ة ال �ج��دي��دة م��ن ق�ب��ل م�ع��ال��ي وزي��ر‬ ‫الثقافة والإعالم‪ ،‬والتوجيه بالبدء في ت�شكيل‬ ‫لجنة الع�ضويات‪ ،‬ثم التوجيه بت�شكيل لجنة‬ ‫االنتخابات‪.‬‬

‫�أت��وق��ف ع��ن ال��درا� �س��ة طيلة ح�ي��ات��ي‪ ،‬وق��د‬ ‫ح�صلت على �شهاداتي و�أنا على ر�أ�س العمل‬ ‫في �أغلب مراحل حياتي التعليمية‪ .‬وحقيقة‬ ‫ال�شهادة العلمية تفتح �آفاقا علمية جديدة‬ ‫للباحث‪ ،‬وتدفعه �إلى القراءة بعمق وتمحي�ص‬ ‫وتحليل‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى �أن �شهادة الدكتوراه‬ ‫�أتاحت ليَ التدري�س في الجامعة‪ ،‬وهو مك�سب‬ ‫علمي كبير بالن�سبة لي‪.‬‬

‫● ●ع���رف���ت ���ش��اع��را و�إع�ل�ام���ي���ا‪� ،‬أك���ث���ر م���ن �أي‬ ‫من�صب �إداري توليته �سابقا‪ ..‬هل تعتقد �أن‬ ‫المن�صب تكبيل للمبدع؟‬ ‫● ●ب��ع��ي��دا ع��ن الأن���دي���ة وه��م��وم��ه��ا‪� ..‬أ�صبحتَ‬ ‫م�ؤخرا تحمل درجة الدكتوراه‪ ..‬ما هي �أبرز ‪�ρ ρ‬أي من�صب �إداري يعد عائقا �أم��ام المبدع‪،‬‬ ‫مالمح ر�سالتكم العلمية‪ ،‬وما هي الإ�ضافة‬ ‫و�إن بن�سب متفاوتة‪ ،‬وق��د الحظت ذل��ك في‬ ‫التي �أ�ضافتها لتجربتكم الإبداعية؟‬ ‫الفترة الأخيرة‪ ،‬فهموم الإدارة والعمل �أخذت‬

‫‪ρ ρ‬اله ُّم العلمي �صاحبني منذ ال�صغر‪ ،‬وكانت‬ ‫طموحاتي العلمية ال ح��دود ل�ه��ا‪ ،‬ل�ه��ذا لم‬ ‫‪ 104‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫حيّزا كبيرا من وقتي وجهدي‪ ،‬وبالتالي �أثر‬ ‫على عطائي الإبداعي والبحثي‪.‬‬


‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫محمد عز الدين التازي‪:‬‬

‫القارىء الناقد هو الذي‬ ‫يمتلك البو�صلة التي تجعله‬ ‫يفرق بين التقليد والتجديد‬ ‫ِّ‬ ‫■ حاوره‪ :‬ه�شام بن�شاوي‬

‫يعد ال��ك��ات��ب وال��ن��اق��د المغربي د‪ .‬محمد ع��ز الدين‬ ‫ال��ت��ازي م��ن الأ���س��م��اء ذات الح�ضور ال�لاف��ت ف��ي الم�شهد‬ ‫الأدبي العربي؛ فهو مواظب على الكتابة والن�شر منذ �أربعة‬ ‫عقود‪ ،‬وتفوق كتبه المن�شورة الخم�سين كتابا‪ .‬ترجمت‬ ‫بع�ض ق�ص�صه ال��ق�����ص��ي��رة �إل���ى الفرن�سية والإن��ج��ل��ي��زي��ة‬ ‫والإ�سبانية والألمانية وال�سلوفانية‪ ،‬كما ترجمت روايته‪:‬‬ ‫«مغارات» �إلى الفرن�سية‪ ،‬واختيرت روايته‪�« :‬أي��ام الرماد»‬ ‫من بين �أف�ضل (‪ )105‬روايات عربية ن�شرت في القرن الما�ضي‪� ،‬ضمن ا�ستقراء ن�شرته‬ ‫جريدة الأهرام القاهرية‪.‬‬ ‫حا�صل على عدة جوائز �أهمها جائزة فا�س للثقافة والإعالم ل�سنة ‪1976‬م‪ ،‬جائزة‬ ‫المغرب للكتاب مرتين �سنة ‪1977‬م‪ ،‬و‪2008‬م عن روايته الأخيرة‪�« :‬أبنية الفراغ»‪ .‬كما‬ ‫حاز على و�سام العر�ش من درجة فار�س‪ ،‬جائزة الطيب �صالح في دورتها الثالثة (‪2013‬‬ ‫م)عن روايته «يوم �آخر فوق هذه الأر�ض»‪ ،‬وفي العام نف�سه ح�صل على جائزة العوي�س‬ ‫الثقافية في حقل الق�صة والرواية‪.‬‬ ‫للحديث عن �شجون الكتابة‪ ،‬كان لنا معه هذا الحوار‪:‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪105‬‬


‫● ●من هو محمد عز الدين التازي؟‬ ‫‪ρ ρ‬هو محمد عز الدين التازي‪� ،‬إن�سان عادي‬ ‫ج��دا‪ ،‬ب�سيط‪� ،‬سريع ردود الأف �ع��ال‪ ،‬لكنه‬ ‫ي��واج��ه ال �ن��ا���س ب�ق�ل��ب �أب �ي ����ض‪ ،‬وم ��ن دون‬ ‫ح�سابات م�سبقة‪ ،‬يعي�ش على الن�سيان لكي‬ ‫ال يتذكر جروح الما�ضي‪ ،‬وهو ينت�صر عليها‪،‬‬ ‫لأنه كاتب‪ ،‬ال ُي َعر ُِّف نف�سه‪ ،‬وال ُي َعرَّف‪� ،‬إال من‬ ‫خالل كونه كاتبا‪.‬‬ ‫● ●تعتبر ال��ك��ات��ب ال��م��غ��رب��ي الأغ�����زر �إن��ت��اج��ا‪،‬‬ ‫ف�ضال ع��ن التجريب الم�ستمر لمختلف‬ ‫طرائق ال�سرد وموا�ضيعه وفي لغة الرواية‬ ‫وبنائها‪ ..‬ترى من �أين ي�ستوحي محمد عز‬ ‫الدين التازي �إبداعه؟‬

‫من م�ستويات العالم الروائي‪ ،‬وكل ما ينتمي‬ ‫�إل��ى �صنعة ال��رواي��ة و�أدوات �ه��ا في خلق كتابة‬ ‫‪ρ ρ‬الكم في حد ذاته ال قيمة له‪ ،‬وهو ال ي�ستمد‬ ‫جديدة‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬فلي�س ثمة م�صدر واحد‬ ‫قيمته �إال م��ن حيث ه��و الو�سيلة التي تكفل‬ ‫من م�صادر اال�ستيحاء‪،‬‬ ‫ت�ح�ق�ي��ق ال �ت �ح��والت‬ ‫محمد عز الدين التازي‪:‬‬ ‫ولي�س ثمة اعتماد على‬ ‫ال� � �ن � ��وع� � �ي � ��ة ف ��ي‬ ‫ال � �م � �� � �ض� ��ام � �ي� ��ن �أدب بلدان الخليج والمملكة العربية مرجعية معينة‪ ،‬ولي�س‬ ‫ثمة �أي�ضا‪ ،‬ا�شتغال على‬ ‫ال�سعودية �أ�صبح مثيرا لالهتمام‬ ‫والأ���ش��ك��ال‪ .‬عندما‬ ‫تقنية روائية واحدة‪ ،‬بل‬ ‫ي� ��راه� ��ن ال��ك��ات��ب في العالم العربي‪ ،‬ال يمكننا الحديث‬ ‫�إن كتابة ال��رواي��ة هي‬ ‫على الكتابة‪ ،‬ف�إنه‬ ‫�إال عن الكتاب الأقل مبيعا‬ ‫مغامرة متعددة الأوجه‪،‬‬ ‫يجد نف�سه ملتزما‬ ‫ولأنها لي�ست �سباحة في‬ ‫ب� � � ��أن ي��ه��ب��ه��ا ك��ل‬ ‫الفراغ‪ ،‬فهي ت�ستوحي الواقع وتفا�صيل الحياة‬ ‫ا�ستعداداته وطاقاته‪ ،‬بما تتطلبه من فناء‬ ‫اليومية‪ ،‬كما ت�ستوحي ال�ت��اري��خ‪ ،‬وال��ذاك��رة‬ ‫�صوفي‪ ،‬وعندما ي�شتغل الروائي على التنويع‬ ‫ال�شعبية‪ ،‬وعوالم الحلم‪ ،‬والأ�ساطير القديمة‬ ‫كقيمة جمالية‪ ،‬ف�إنه ي�ضطر �إلى التعامل مع‬ ‫والجديدة‪ ،‬وك��ل ما يمدها بالدينامية التي‬ ‫الكتابة على �أنها مو�ضوع للبحث في تطوير‬ ‫تجعل منها ت�شكيال �أدبيا ال ي�ستن�سخ الواقع‬ ‫مناحي التعبير عن الواقع بتعدد مرجعياته‬ ‫و�إنما يعيد �صياغته روائيا‪.‬‬ ‫ومظاهره وتجلياته‪� .‬أعني بالتنويع كل ما ُيوَ�سِّ ُع‬ ‫‪ 106‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫● ●ل���م���اذا ه����ذا ال��ق��ل��ق الإب����داع����ي وال�لاي��ق��ي��ن‬ ‫الروائي �شكال وم�ضمونا منذ �أربعة عقود؟‬ ‫‪ρ ρ‬القلق طبيعة مرتبطة ب��الإب��داع‪ ،‬لأن نظرته‬ ‫للواقع لي�ست كنظرة المحلل االقت�صادي �أو‬ ‫نظرة الم�ؤرخ �أو نظرة الباحث ال�سو�سيولوجي‪،‬‬ ‫�أو نظرة الباحث الل�ساني‪ ،‬فهي نظرة تجمع‬ ‫بين ال��واق��ع كمعطى وبين ط��رائ��ق ت�صويغه‬ ‫�أدبيا‪ ،‬ومن �أهمها تحويله �إلى متخيل‪.‬‬

‫المغرب‪ ،‬فمرحلة ال�سبعينيات م��ن القرن‬ ‫الما�ضي‪ ،‬كانت ق��د �شكلت رجّ ��ة كبرى في‬ ‫ال��وع��ي االجتماعي وال��وع��ي الجمالي‪ ،‬وهي‬ ‫الرجّ ة التي حذت بكثير من المبدعين لأن‬ ‫يغامروا بكتابة ق�ص�ص وروايات تمثلت الواقع‬ ‫ال�سيا�سي واالجتماعي م��ن خ�لال نظرتها‬ ‫الإب��داع�ي��ة الخا�صة‪ .‬قلق ل��م يكن مفتعال‪،‬‬ ‫وال �أحد ي�ستطيع �أن يفتعله‪ ،‬لأنه ي�شكل ر�ؤية‬ ‫للواقع ور�ؤية للكتابة‪ ،‬ال يف�صل بينهما فا�صل‪.‬‬

‫هو قلق مرتبط بالكتابة وبالكاتب‪ ،‬وحيث ال‬ ‫يمكن التجزيء بينهما‪ .‬قلق الكتابة يتجلى ● ●ه��ن��اك ك��ت��اب ك��ث��ي��رون ك��ت��ب��وا ع��م�لا واح���دا‬ ‫م��ت��م��ي��زا ح��ق��ق��وا م���ن خ�ل�ال���ه ف��ت��ح��ا �أدب���ي���ا‬ ‫في بحثها عن الأ�شكال‪ ،‬وقلق الكاتب يتجلى‬ ‫جديدا‪.‬‬ ‫في الكتابة والمحو‪ ،‬بحثا عن �صوغ جمالي‬ ‫ممكن لعالم روائي ممكن‪� .‬إ�شارتك �إلى �أربعة ‪ρ ρ‬هذا �صحيح‪ ،‬وهو يتحقق في تجارب قليلة‪،‬‬ ‫عقود من القلق الإبداعي تعني تاريخا لتجربة‬ ‫ب��ل ن ��ادرة‪ .‬لكنه م��ع ذل��ك يبقى الفتح غير‬ ‫في الكتابة الروائية الجديدة‪ ،‬ت�شاركت فيها‬ ‫ُم َت َمل ِ​ِّك لما �أعنيه بتو�سع العالم الروائي بكل‬ ‫مع كتاب روائيين مغاربة �آخ��ري��ن‪ ،‬ال يمكن‬ ‫الممكنات التي يزخر بها الواقع بكل تجلياته‬ ‫التغا�ضي ع��ن كونها كانت م�ؤ�س�سة لمعنى‬ ‫وم�ستويات ح�ضوره‪ .‬قليلون هم الكتاب الذين‬ ‫الحداثة الق�ص�صية والروائية والنقدية في‬ ‫كتبوا ن�صو�صا مفردة تحققت فيها �سمات‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪107‬‬


‫َت َمل ُِّك واقعها و�سمات ال�صوغ الجمالي‪ ،‬بما‬ ‫يعني تحوال كبيرا في مفهوم الكتابة وطرائقها‬ ‫في التعبير‪ .‬مع هذه القلة القليلة من الكتاب‪،‬‬ ‫ال بد �أن يوجد كتاب راه�ن��وا على الم�س�ألة‬ ‫نف�سها‪ ،‬فلم ي�صل بهم الرهان �إال �إلى كتابة‬ ‫�أعمال متعددة ومتنوعة من خاللها يمار�سون‬ ‫البحث في �أ�سئلة الواقع والمتخيل وفي �أ�سئلة‬ ‫الكتابة بو�صفها مختبرا لتجريب العديد‬ ‫من طرائق التعبير واالق�ت��راب من تجليات‬ ‫ال��واق��ع المتعددة والمتنوعة وب��ن��اء �أ�شكال‬ ‫تعبيرية بعيدة عن القوالب الجاهزة‪� .‬إ�ضافة‬ ‫�إل��ى ذل��ك‪ ،‬ف��إن الروائي ال��ذي يكتب رواي��ات‬ ‫متعددة‪ ،‬ال يناف�س �أحدا‪ ،‬وال يقيم تحديا مع‬ ‫�أحد‪ ،‬ولكن ما يتيحه له عمله من خالل كتابة‬ ‫رواي ��ات متعددة هو متابعة التحوالت التي‬ ‫يعرفها المجتمع‪ ،‬من خالل الر�صد الروائي‬ ‫للظواهر الجديدة‪.‬‬

‫● ●ما ر�أيك في المغاالة في التجريب؟‬

‫هل كان ب�إمكان نجيب محفوظ �أن يكتب رواية‬ ‫واح ��دة ليتحدى بها ال��روائ�ي�ي��ن الآخ��ري��ن؟‬ ‫نجيب محفوظ م � َّر بتجربة كتابة ال��رواي��ة‬ ‫التاريخية‪ ،‬ثم انتقل �إلى المرحلة الواقعية‪،‬‬ ‫ثم جاءت المراحل الأخرى‪ ،‬وما كان ب�إمكانه‬ ‫�أن يكتب م�سيرته الروائية من خ�لال عمل‬ ‫روائ��ي واح��د‪ .‬عبدالرحمن منيف ل��م ُتغَطّ‬ ‫خما�سيته «م��دن الملح» ع��ن باقي رواي��ات��ه‬ ‫الكثيرة الأخرى‪ ،‬والتي تندرج كلها في التنويع‬ ‫الأدب��ي‪ ،‬لأن من يقر�أ «ق�صة حب مجو�سية»‬ ‫و«���ش��رق ال��م��ت��و���س��ط»‪ ،‬و«���س��ب��اق الم�سافات‬ ‫الطويلة» و«النهايات» �سوف يجد نف�سه �أمام‬

‫‪ρ ρ‬التجريب لي�ست له مقايي�س للمغاالة �أو عدم‬ ‫المغاالة‪ ،‬لأنه نابع من وعي حداثي �أ�سا�سه‬ ‫ت �ج��اوز ال�ب�ن��اء التقليدي للكتابة ال��روائ�ي��ة‬ ‫ب��دون خطط بديلة ج��اه��زة‪ ،‬وب��دون �أي��ة نية‬ ‫في ا�ستبدال تلك الأ�شكال التقليدية ب�أ�شكال‬ ‫�أخ��رى لها �سمات معروفة‪ ،‬ذلك �أن مغامرة‬ ‫الكتابة‪ ،‬هي التي تقود �إلى �صياغة الأ�شكال‬ ‫المنا�سبة لما ت��روم الكتابة �أن تعبر عنه‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬فلي�س ثمة ما يمكن �أن يعد تقليال �أو‬ ‫مغاالة في التجريب‪ ،‬لأن الكتابة التي تتحرر‬ ‫من الأ�شكال الجاهزة يكون عليها �أن تبتدع‬ ‫�أفقها المتحرر الباحث عن �أق�صى درجات‬

‫‪ 108‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫روائ��ي ي�شتغل على التنويع ف��ي الم�ضامين‬ ‫والأ�شكال‪� ،‬إلى درجة �أن القارئ قد ال ي�صدق‬ ‫�أن كاتب «ق�صة حب مجو�سية» هو نف�سه كاتب‬ ‫«�شرق المتو�سط»‪ ،‬ربما لأن القارئ الب�سيط ال‬ ‫ي�ستوعب �آفاق وممكنات هذه المغامرة التي‬ ‫ت�سمى الكتابة‪ .‬الرواية العربية اليوم‪ ،‬ت�شهد‬ ‫ح�ضور كتّاب روائيين ينتمون �إلى ال�سبعينيات‬ ‫م��ن ال�ق��رن الما�ضي‪ ،‬م��ع ا�ستمرارهم في‬ ‫الكتابة والن�شر‪ ،‬وكلهم ا�شتغلوا على الكم‬ ‫الذي يفرز النوع‪ .‬يمكن �أن �أذك��ر هنا بع�ض‬ ‫الأ�سماء‪� :‬إبراهيم عبدالمجيد من م�صر‪،‬‬ ‫�إليا�س خ��وري من لبنان‪ ،‬نبيل �سليمان من‬ ‫� �س��وري��ة‪ ،‬وا��س�ي�ن��ي الأع� ��رج م��ن ال �ج��زائ��ر‪،‬‬ ‫وغيرهم ممن لفتوا االنتباه �إلى �أن كل واحد‬ ‫منهم قد تجاوز عدد الروايات التي ن�شرها‬ ‫ع�شر روايات‪.‬‬


‫● ●ما ت�سميه �أدب��ا ج��دي��دا‪� ،‬أال ي�سهم في نفور‬ ‫القارئ؟‬ ‫‪ρ ρ‬عن �أي ق��ارئ تتحدث؟ �أت�صور �أن القارئ‬ ‫الذي يَمثُل �أمام الروائي وهو يكتب روايته هو‬ ‫القاري ال�ضمني‪� ،‬أو القارئ المحتمل‪ ،‬وهو‬ ‫قارئ غير مبا�شر‪ ،‬لي�س له ح�ضور فعلي؛ �أما‬ ‫القارئ الناقد‪ ،‬فال�شك �أنه يمتلك البو�صلة‬ ‫التي تجعله ُي�ف��رق بين التقليد والتجديد‪،‬‬ ‫وهو نف�سه‪ ،‬و�إن كان ناقدا تقليديا ف�ستن�شب‬ ‫العداوة بينه وبين الن�صو�ص الجديدة‪ ،‬لأنه ال‬ ‫يمتلك �أدوات قراءتها‪ ،‬والذنب هنا لي�س ذنب‬ ‫تلك الن�صو�ص‪ ،‬و�إنما هو �سياق و�ضعية ثقافية‬ ‫يت�صارع فيها الجديد والقديم‪.‬‬ ‫�أما القارئ العادي‪ ،‬الم�ستهلك‪ ،‬فال ندري �أية‬ ‫ن�صو�ص تثير رغبته �أو نفوره‪ ،‬لأننا ال نتوفر‬ ‫على درا� �س��ات ت�ن��درج �ضمن �سو�سيولوجية‬ ‫ال �ق��راءة‪ ،‬تحدد لنا طبيعة ال �ق��راء‪ ،‬وم��اذا‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫التعبير المالئمة لما يعتبر �أدبا جديدا‪.‬‬

‫يقر�أون‪ ،‬وما هي الكتب التي تثير �إقبالهم �أو‬ ‫نفورهم‪ .‬ك�أني بك و�أنت تطرح هذا ال�س�ؤال‪،‬‬ ‫تتهم الأدب الجديد ب�أنه ُي َن ِّف ُر القارئ منه؛‬ ‫بينما كل �أدب‪� ،‬سواء �أكان قديما �أم حديثا‪،‬‬ ‫يحتاج �إلى �أدوات قراءته‪ ،‬وهي �أدوات ال توجد‬ ‫جاهزة‪ ،‬و�إنما يكت�سبها القارئ من �إقباله‬ ‫على القراءة وا�ستيعاب الن�صو�ص ومناحيها‬ ‫التركيبية وال��دالل�ي��ة‪ ،‬وق��د تكون اال�ستعانة‬ ‫بالنقد مفيدة في هذا المجال ولكنها غير‬ ‫كافية؛ لأن ا�ستعدادات القارئ هي الأ�سا�س‬ ‫الأول لخلق عالقته مع الن�ص‪ ،‬وهذه الو�ضعية‬ ‫تنطبق بكل ت�أكيد على الن�صو�ص القديمة‬ ‫وال �ج��دي��دة ع�ل��ى ال �� �س��واء‪ .‬وم ��ن ي�ست�سهل‬ ‫ن�صو�ص الأدب القديم‪ ،‬هو من غير �شك ال‬ ‫يعرف عنها �شيئا‪� .‬إن التمر�س بالقراءة هو ما‬ ‫يُجَ لِّي للقارئ المدركات العقلية والح�سية التي‬ ‫يقدمها الأدب‪ ،‬وعلى ر�أ�سها ما ي�سمى بالذوق‬ ‫الأدبي‪� ،‬أو ما ي�سمى بالح�سا�سية الأدبية‪.‬‬ ‫● ●ب��ع��د م�����س��ارك ال���روائ���ي ال����ذي �أن���ج���زت فيه‬ ‫�أع����م����اال ع����دي����دة‪ ،‬ه���ل ت��ج��د �أن ال��ن��ق��د قد‬ ‫�أن�صفك؟‬ ‫‪ρ ρ‬يجب �أن نبتعد عن تلك النظرة التقليدية‬ ‫ال�ت��ي ظلت تنظر �إل���ى النقد على �أن���ه تابع‬ ‫ل�ل�إب��داع‪ .‬علينا �أن نفكر اليوم‪ ،‬ب��أن الناقد‬ ‫هو مبدع �آخر‪ ،‬يبدع قراءته للن�ص الروائي‪،‬‬ ‫وه��و ال ي�سعى �إل ��ى �إن �� �ص��اف �أح ��د �أو ظلم‬ ‫�أحد‪ ،‬بل ي�سعى �إلى ت�أ�سي�س مفاهيم جديدة‬ ‫وم �ت �ج��ددة ت�سعف ف��ي ال�ك���ش��ف ع��ن �أبنية‬ ‫الن�صو�ص الروائية وجمالياتها وفرادتها في‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪109‬‬


‫التعبير عن مو�ضوعها‪� .‬شخ�صيا‪ ،‬لم �أفكر‬ ‫في يوم من الأي��ام في م�س�ألة ظلم النقد �أو‬ ‫�إن�صافه لأعمالي‪ ،‬لأنني عندما �أن�شر العمل‬ ‫الروائي �أن�شغل بعمل �آخر‪ ،‬وذلك لأن �شغلي‬ ‫الحقيقي هو �أن �أكتب‪ ،‬ال �أن �أتطلع �إلى تقييم‬ ‫ردود الفعل التي خلفتها �أعمالي المن�شورة‬ ‫�سابقا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فقد كتبت درا�سات نقدية‬ ‫يفوق عدد �صفحاتها ع�شرات المرات عدد‬ ‫ال�صفحات التي كتبتها‪ ،‬من مقاالت نقدية‬ ‫وبحوث جامعية �أنجزت في مختلف الأ�سالك‬ ‫وفي العديد من الجامعات المغربية والعربية‬ ‫والأجنبية‪� .‬أ�سمي ذلك اهتماما‪ ،‬و�أنا �أ�شكر‬ ‫كل المهتمين ب�أعمالي الروائية والق�ص�صية‪،‬‬ ‫وال �أ�سميه �إن�صافا‪ .‬هذا االهتمام‪ ،‬هو م�صدر‬ ‫�سعادة لي‪ ،‬يُ�شعرني ب�أنني �أحيا مع الآخرين‪،‬‬ ‫و�أن ن�صو�صي الروائية تحيا عبر القراءة‪،‬‬ ‫و�أنها ت�شكل جزءًا من وجدان و�ضمير العديد‬ ‫من القراء‪.‬‬ ‫● ●ت���واظ���ب ع��ل��ى ك��ت��اب��ة ال��ق�����ص��ة ال��ق�����ص��ي��رة‪،‬‬ ‫وال��رواي��ة‪ ،‬في حين تراجعت الق�صة عربيا‬ ‫ل�����ص��ال��ح ال�����رواي�����ة‪� ،‬إل�����ى م�����اذا ي���ع���زى ه��ذا‬ ‫التراجع؟‬ ‫‪ρ ρ‬لعل العامل الأول في هذا التراجع‪ ،‬يعود �إلى‬ ‫كون المجتمعات العربية قد �أخذت التو�سع‪،‬‬ ‫بظهور مظاهر ج��دي��دة للعي�ش‪ ،‬وال��رواي��ة‬ ‫بطبيعتها هي الجن�س الأدبي الذي ي�ستطيع �أن‬ ‫ي�ستوعب تعدد مظاهر العي�ش وتعدد المواقف‬ ‫منه‪� .‬أما الق�صة الق�صيرة‪ ،‬فهي جن�س �أدبي‬ ‫يقوم على اللحظة المكثفة‪ ،‬القائمة على‬ ‫‪ 110‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫و�ضع �صغير يدل داللة بالغة على ما هو �أعم‬ ‫منه و�أ�شمل‪ ،‬وه��ي بارقة �أدب��ي��ة تعتمد على‬ ‫االقت�صاد ال�ل�غ��وي‪ ،‬بينما ال��رواي��ة ه��ي فن‬ ‫التفا�صيل‪.‬‬ ‫ولعل المجتمع العربي‪ ،‬والكاتب العربي اليوم‪،‬‬ ‫قد �أ�صبحا في حاجة �إلى هذه التفا�صيل التي‬ ‫تبني عالما روائ�ي��ا ي�ضاهي العالم الماثل‬ ‫�أو ال ي�ضاهيه‪ ،‬بح�سب ن��زوع��ات ال�ك� ّت��اب‬ ‫واتجاهاتهم في الكتابة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ف�إن الق�صة‬ ‫الق�صيرة لم تفقد الحاجة �إليها‪ ،‬لأنها جن�س‬ ‫�أدب��ي له جمالياته الخا�صة في التعبير عن‬ ‫اللحظة والموقف‪ .‬وال يمكن للقارئ العربي‬ ‫�أن ين�سى �أو يتنا�سى الإبداعات الق�ص�صية‬ ‫التي �أبدعها كتاب عرب‪ ،‬حققوا لهذا الجن�س‬ ‫الأدبي الجميل ح�ضوره الخا�ص والمتميز في‬ ‫الم�شهد الإبداعي العربي‪.‬‬


‫‪ρ ρ‬ي�صعب �أن �أغامر بتقديم انطباعات �سريعة‬ ‫تقود �إلى �أحكام مرتجلة حول مو�ضوع دقيق‬ ‫يحتاج �إلى درا�سات مطوّلة وتمحي�ص دقيق‪.‬‬ ‫وه��ذا الكالم لي�س تهرّبا من ال�ج��واب على‬ ‫�س�ؤالك‪ ،‬بل هو حر�ص مني على �أال �أتورط في‬ ‫�أحكام القيمة والتعميم‪ ،‬و�إ�سقاط تجربة بلد‬ ‫عربي على بلد عربي �آخر؛ �سيما و�أن ال�س�ؤال‬ ‫يتعلق بالم�شهد الأدب��ي العربي؛ وهو م�شهد‬ ‫تح�ضر فيه كل الأجنا�س الأدبية‪ ،‬من رواية‬ ‫و�شعر وق�صة ق�صيرة وكتابة م�سرحية وكتابة‬ ‫للأطفال وكل ما ينتمي �إلى التعبير الأدبي‪.‬‬ ‫لعل ت�أمُّل هذا الم�شهد‪ ،‬يدعو �إلى ا�ستح�ضار‬ ‫ر�ؤي���ة �شمولية ت��ق��ر�أ تحوالته الكبرى‪ ،‬التي‬ ‫ترتبط من دون �شك بتحوالت �أخرى عرفها ● ●م���ا ت��ع��ل��ي��ق��ك ع��ل��ى ت��ل��م��ي��ع ال���ن���ق���اد لبع�ض‬ ‫ال��ن�����ص��و���ص ال��رك��ي��ك��ة ع��ل��ى ح�����س��اب ك��ت��اب��ات‬ ‫ويعرفها المجتمع العربي من المحيط �إلى‬ ‫متميزة؟‬ ‫الخليج‪� .‬أي �أن كل �أدب‪ ،‬وه��و يتحول‪� ،‬إنما‬ ‫يتحول لأنه ي�ؤ�س�س لح�سا�سية جمالية جديدة ‪ρ ρ‬للنقاد هفواتهم‪ ،‬كما للمبدعين هفواتهم‪ .‬مع‬ ‫ت�أتي نتيجة لمتغيرات في المجتمع نف�سه‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬ف�أنا ال �أت�سامح مع نقاد كثيرين ر�أيتهم‬ ‫وبهذه الآلية في التفكير النقدي يمكن �أن‬ ‫يبدون �شيئا من الملق لن�صو�ص �ضعيفة‪ ،‬لأن‬ ‫نقر�أ الكثير من الظواهر الأدبية‪ ،‬في عالقتها‬ ‫ذلك ُي َو ِّل ُد عقد الغرور والأنانية‪ ،‬من قبل كتاب‬ ‫بمجتمعها‪ ،‬وم��ن بينها م��ا �سمّي بالموجة‬ ‫�صغار يتطاولون على كتاب كبار بنرج�سيتهم‬ ‫الجديدة في م�صر‪ ،‬والتي ظهرت بعيد نك�سة‬ ‫وهم يقولون‪« :‬الناقد الفالني قال عني كذا‪،‬‬ ‫‪1967‬م‪ ،‬وما �أنتجته الحرب الأهلية في لبنان‬ ‫والناقد الفالني قال عن روايتي كذا وكذا»‪.‬‬ ‫من �أعمال روائية‪ ،‬وما كان من �أثر الكت�شاف‬ ‫الأم��ر ي�شبه فقاعات ال�صابون‪ ،‬وال�شك �أنه‬ ‫النفط في دول الخليج العربي على الكتابات‬ ‫يدل على قيم �أخالقية غير �سويّة لدى بع�ض‬ ‫الروائية الخليجية‪.‬‬ ‫النقاد‪ ،‬وعن انتهازية بالغة‪.‬‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫● ●ما تقييمك للم�شهد الأدبي العربي الراهن؟‬

‫ال�سعودية لم تعد مناطق عربية مهم�شة‪ ،‬بحكم‬ ‫الح�ضور الأدبي المكثف لم�صر وبالد ال�شام‪،‬‬ ‫بل �إن الأدب الذي �أنتجته هذه المناطق قد‬ ‫�أ�صبح مثيرا لالنتباه‪ .‬كما �أن المنا�سبات‬ ‫الثقافية التي تعقد في بع�ض بلدان الخليج‪،‬‬ ‫والجوائز الإبداعية والثقافية التي ا�شتهرت‬ ‫بها بع�ض هذه البلدان‪ ،‬هي عالمة بارزة على‬ ‫تغيّر في الخريطة الأدب�ي��ة العربية‪ ،‬و�أعني‬ ‫�أن ه��ذا التغير ق��د فعل ف��ي ن��وع م��ن انتقال‬ ‫ثقافة المركز �إلى ما كان هام�شا ثم �أ�صبح‬ ‫هو المركز‪ .‬ولعل الباحثين في �سو�سيولوجيا‬ ‫الثقافة‪ ،‬يعرفون كيف يقدمون‪� ،‬أف�ضل مني‪،‬‬ ‫تو�صيفا دقيقا لهذه التحوالت التي تقع بين‬ ‫محيط الثقافة العربية ومركزها‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬ن�لاح��ظ ال �ي��وم �أن ب �ل��دان ال�م�غ��رب العربي ● ●���س��ب��ق ل��ك �أن ق��ل��ت‪« :‬ال���دارج���ة ه��ي �إح���دى‬ ‫وبلدان الخليج العربي ومنها المملكة العربية‬ ‫الإح������االت الإب���داع���ي���ة ال��ت��ي ي��ت��م اال���س��ت��ن��اد‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪111‬‬


‫�إليها لإب���راز هويتنا وت��راث��ن��ا»‪� .‬أال ت��رى �أن‬ ‫بع�ض المتع�صبين للغة العربية الف�صيحة‬ ‫يعار�ضون هذا الر�أي؟‬ ‫‪�ρ ρ‬أن��ا م��ن �أن���ص��ار اللغة العربية ف��ي التعليم‬ ‫والإدارة‪ ،‬ول�ست خارجا عن حب المغاربة‬ ‫للغة العربية التي ت�شكل ج��زءًا من هويتهم‬ ‫الثقافية‪� ،‬إل��ى جانب الأم��ازي�غ�ي��ة‪ .‬ه��ذا من‬ ‫جانب‪ ،‬ومن جانب �آخر‪ ،‬ف�إن م�س�ألة الكتابة‬ ‫الأدبية‪ ،‬هي م�س�ألة لها �ش�أنها الخا�ص‪ ،‬هو ما‬ ‫ينتمي �إلى ال�سياق الأدبي و�إلى لغات الن�ص‬ ‫الروائي‪ ،‬التي تتعدد‪ ،‬وفي تعددها واال�شتغال‬ ‫عليها ما ي�ضفي كثيرا من الأدبية على الن�ص‬ ‫الأدبي‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬فال�سياق الذي تحدثت فيه عن ح�ضور‬ ‫الدارجة هو �سياق �إب��داع��ي‪ ،‬يتعلق بالكتابة‬ ‫ال��روائ�ي��ة‪ ،‬وه��و �أي�ضا �سياق خا�ص لأنني ال‬ ‫�أتحدث عن لغة الحوار‪ ،‬بل �أتحدث عن لغة‬ ‫ال�سرد‪ .‬يمكن للغة ال�سرد �أن ت�ستعمل الدارجة‬ ‫ال�م�ح�ل�ي��ة‪ ،‬لأن ب�ه��ا في�ضا م��ن الأم��ث��والت‬ ‫وال �ع �ب��ارات ال�م���س�ك��وك��ة‪ ،‬وب�لاغ��ة الت�شبيه‬ ‫والت�صوير‪ ،‬وفي هذا الو�ضع ما ال يناف�س اللغة‬ ‫العربية الف�صحى‪ ،‬وال يم�س من مكانتها‪ ،‬بل‬ ‫فيه ما ُيوَ�سِّ ُع من طاقات الكتابة وتجذيرها‬ ‫ف��ي ال �ح �ي��اة ال�ي��وم�ي��ة م��ن خ�ل�ال خ�ط��اب��ات‬ ‫ال�شخ�صيات التي تزخر بالأبعاد المحلية‪ .‬كل‬ ‫جهة �أو مدينة لها لهجتها المحلية التي تزخر‬ ‫بثقافتها الخا�صة‪ ،‬بكل ما ي�سعى الل�سان �إلى‬ ‫التعبير عنها‪ ،‬تعبيرا له بالغته‪.‬‬ ‫المتع�صبون للغة العربية الف�صحى‪ ،‬و�أنا من‬ ‫‪ 112‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫بينهم‪ ،‬يجب �أن يتوجه تفكيرهم �إلى تعريب‬ ‫التعليم والإدارة‪� ،‬إن لم تكن هذه الدعوة تلقى‬ ‫معار�ضة من الجانب الأمازيغي‪ ،‬الذي يجب‬ ‫اح�ت��رام �صوته ووج��وده في لغته‪ .‬كما يجب‬ ‫على ه�ؤالء المتع�صبين للعربية الف�صحى �أن‬ ‫يحترموا خ�صو�صية الدارجة كلغة محلية‪،‬‬ ‫لأنها ‪�-‬شا�ؤوا �أم �أب��وا‪ -‬هي اللغة الم�ستعملة‬ ‫في الحياة اليومية‪ ،‬و�إن لم يحترموا التراث‬ ‫ال�شعبي ال��ذي يقوم وج ��وده على اللهجات‬ ‫المحلية‪ ،‬ف��إن الأم��ر �سوف ي ��ؤدي �إل��ى �إب��ادة‬ ‫لكل ق�صائد الملحون‪ ،‬وك��ل ق�صائد ال�شعر‬ ‫ال�ح���س��ان��ي‪ ،‬ع�ل��ى ق ��وة ب�لاغ�ت�ه��ا ومتخيلها‬ ‫وجماليتها في العبارة وال�صورة‪� .‬إن ق�ضية‬ ‫اللغة‪ ،‬هي ق�ضية ثقافية وال ينبغي لها �أن‬ ‫ت�صبح محل مزايدات �سيا�سية �أو خطابات‬ ‫�إيديولوجية‪ ،‬كما كان الحال في زمن ارتفع فيه‬ ‫�صوت القوميين العرب‪ ،‬وهم ينادون يقيمون‬ ‫خطابهم على �أن وحدة اللغة العربية هي جزء‬ ‫من التعبير عن وحدة ال�شعب العربي‪ ،‬والآن‬ ‫ها نحن نرى �أن لل�شعوب العربية لهجاتها‪ ،‬بل‬ ‫لل�شعب الواحد لهجاته �أي�ضا؛ فما الذي فعلته‬ ‫تلك الخطابات الإيديولوجية بتغيير الواقع‬ ‫اللغوي العربي‪ ،‬وما ينت�شر فيه من لهجات‬ ‫ل�صالح انت�شار حقيقي للغة العربية؟‬ ‫�أعود للقول �إن لغة الإبداع هي التي يمكن �أن‬ ‫تجمع بين اللغات في ن�ص واحد‪ ،‬ولي�س من‬ ‫قبيل الم�شابهة‪ ،‬فالقر�آن الكريم نزل بلغة‬ ‫قري�ش‪ ،‬ومع ذلك فقد ا�ستعمل كلمات �أجنبية‬ ‫عن هذه اللغة‪ ،‬من دون �أن ُيفْ�سِ دَ ذلك من‬


‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫جماليته وبالغته‪ .‬مع هذا ف�إن م�شكلة �أخرى‬ ‫تبرز ل��دى مَ ��ن يكتبون بالعربية �أو ينطقون‬ ‫بها‪ ،‬وهي التي تتجلى في ا�ستباحتهم لقواعد‬ ‫اللغة‪ ،‬حتى �أ�صبح الو�ضع مقلقا‪ ،‬وحيث ترد‬ ‫على �أل�سنة مقدِّ مي الأخبار والبرامج باللغة‬ ‫العربية‪ ،‬وعلى �أقالم بع�ض الكتاب ال�شباب‪،‬‬ ‫عبارات ال تحترم فيها �أب�سط قواعد اللغة‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬ويمكن مالحظة ه��ذه الو�ضعية‬ ‫الم�شينة ف��ي خطب ال� ��وزراء ال �ع��رب‪ ،‬وهي‬ ‫مع�ضلة يجب على المتع�صبين للغة العربية‬ ‫�أن ينظروا فيها‪ ،‬و�أن يتركوا للن�ص الإبداعي‬ ‫حريته في ذلك التعدد اللغوي‪ ،‬بين الف�صحى‬ ‫وال��دارج��ة‪ .‬وحتى في حالة الإب��داع ال�شعري‬ ‫باللغة العربية‪ ،‬ال��ذي يكتبه بع�ض ال�شبان‬ ‫● ●ما ر�أيك في ظاهرة الكتب الأكثر مبيعًا؟‬ ‫ال��ع��رب‪ ،‬فيمكن مالحظة انت�شار الأخ��ط��اء‬ ‫اللغوية‪ .‬وم��ن الطرائف �أن��ي وج��دت ناقدا ‪ρ ρ‬ظاهرة نادرة الوقوع في العالم العربي‪ ،‬وهي‬ ‫في المغرب‪ ،‬لم ترتبط �إال بكتب قليلة كان من‬ ‫�أدبيا يف�سر الأخطاء اللغوية ب�أنها تحقق نوعا‬ ‫بينها كتاب �صديقي محمد �شكري‪« :‬الخبز‬ ‫من االنزياح اللغوي‪ ،‬وبالرجوع �إلى النظرية‬ ‫الحافي»‪ ،‬الذي باع في طبعاته الأولى �أزيد من‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬ونظرية االن��زي��اح خا�صة‪ ،‬ف�إنها‬ ‫ع�شرين �ألف ن�سخة‪ ،‬وهو العدد الذي يفوق‬ ‫تنبني على �إ�ضفاء معنى جديد على الكلمة‬ ‫بكثير ما تبيعه الكتب الإبداعية المقررة في‬ ‫�أو التركيب اللغوي‪ ،‬وهو المعنى الجديد يقوم‬ ‫الثانوي‪ ،‬نظرا الت�ساع قاعدة التالميذ القراء‬ ‫على معنى �سابق‪ ،‬هو المعنى الأ�صلي‪� ،‬أي �أن‬ ‫والأ�ساتذة المقرئين لهذه الن�صو�ص‪ .‬غير‬ ‫تحويرا �أدبيا قد مار�س نوعا من الخرق على‬ ‫�أن ظاهرة الكتب الأكثر مبيعًا‪ ،‬في �سياقها‬ ‫المعنى اللغوي الأول فقاده �إلى معنى �آخر‪ .‬قد‬ ‫العالمي‪ ،‬يرتبط بالكتب التي تثير مو�ضوعاتها‬ ‫ت�ؤدي بع�ض الأخطاء المطبعية‪ ،‬التي تحذف‬ ‫�ضجة من ال�ضجات الإعالمية‪� ،‬أو تحيل على‬ ‫النقطة من حرف في كلمة فيتغير معناها‪،‬‬ ‫تجارب اجتماعية تقع في الهام�ش االجتماعي‬ ‫وق��د ي�ت��م ن�ح��ت الكلمة ل �ت ��ؤدي معنى غير‬ ‫كتلك ال�سير الذاتية التي كتبها مهم�شون عن‬ ‫معناها الأ�صلي‪ ،‬وقد ينحو المبدع نحو كثير‬ ‫�أو�ضاعهم في الهام�ش االجتماعي‪ .‬مع �أن‬ ‫من الخروقات اللغوية‪ ،‬كان من بين �أ�شهرها‬ ‫الأدب الف�ضائحي يحظى في �سوق الكتاب‬ ‫�إدخال «ال» التعريفية على الفعل‪ ،‬في حين‪،‬‬

‫وعلى الم�شهور بين النحاة �أنها ال تدخل �إال‬ ‫على اال�سم‪� ،‬أو ا�ستعمال «ال��ل��ذون» بدال من‬ ‫اللذين قيا�سا على قول القائل‪ :‬نحن اللذون‬ ‫َ�صبَّحُ وا ال�صباحا‪ .‬المفردة �أو التركيب يتم‬ ‫خرق طبيعتهما الأ�صلية في اتجاه بناء طبيعة‬ ‫جديدة‪ ،‬وه��و ما يفارق بين ما ك��ان �سيكون‬ ‫عليه المعنى الأول وب�ي��ن م��ا ي�صبح عليه‬ ‫المعنى الثاني‪ .‬فما معنى الت�سيب‪ ،‬وعدم‬ ‫اح �ت��رام ق��واع��د اللغة العربية ف��ي الإع�لام‬ ‫وال �م �ج��االت الر�سمية؟ ه��ذه ه��ي المعركة‬ ‫التي على المتع�صبين للغة العربية‪ ،‬و�أنا من‬ ‫بينهم‪� ،‬أن يخو�ضوها‪� ،‬أما �ش�أن الإبداع فيجب‬ ‫�أن يبقى متروكا للإبداع‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪113‬‬


‫الأوربية ب�أف�ضل المبيعات‪ .‬في �أوربا‪ ،‬الكتب‬ ‫التي تح�صل على ال�ج��وائ��ز‪ ،‬تحقق �أف�ضل‬ ‫المبيعات‪� .‬أما في العالم العربي‪ ،‬ف�إن الكتب‬ ‫التي تح�صل على الجوائز‪ ،‬ال يلتفت �إليها‬ ‫النا�شرون �أو القراء‪� ،‬أما الكتب التي تحقق‬ ‫رواجا محدودا‪ ،‬فهي التي تتعر�ض للمنع من‬ ‫قبل ال�سلطات ال�سيا�سية‪ ،‬وم��ا دام��ت تلك‬ ‫ال�سلطات نف�سها قد اكت�شفت �أن منع الكتاب‬ ‫ي�سعى لترويجه في ال�سوق ال�سوداء‪ ،‬فقد لج�أت‬ ‫�إلى �أ�ساليب �أخرى لمنع طبعه وانت�شاره‪.‬‬ ‫عموماً‪ ،‬فهذه الو�ضعية‪ ،‬و�ضعية الكتب الأكثر‬ ‫مبيعًا‪ ،‬هي ظاهرة �أورب �ي��ة‪ ،‬ترتبط بثقافة‬ ‫ال �ق��راءة ف��ي مجتمع ق��ارئ‪� ،‬أم��ا ف��ي العالم‬ ‫العربي‪ ،‬ونظرا لمحدودية عدد القراء‪ ،‬وتوزع‬ ‫اهتماماتهم في ال�ق��راءة‪ ،‬ف�إننا ال ن�ستطيع‬ ‫�أن نتحدث �إال عن الكتاب الأقل مبيعًا‪ ،‬وهو‬ ‫حديث �شائع بين الكتّاب والنا�شرين‪.‬‬ ‫● ●الرواية وال�سينما‪� ،‬أي عالقة؟‬ ‫‪ρ ρ‬هي عالقة �إ�شكالية بالت�أكيد‪ .‬يرجع الإ�شكال‬ ‫�إلى مجموعة من العوامل‪ ،‬من بينها النظرة‬ ‫التي يملكها المخرج عن العمل الروائي‪ ،‬وهي‬ ‫نظرة ترتبط بطريقة عمله ف��ي الإخ ��راج‪،‬‬ ‫وه ��ذه ال��و��ض�ع�ي��ة‪ ،‬ت� ��ؤدي �أح �ي��ان��ا ف��ي تغيير‬ ‫ج��وه��ري ف��ي �أب�ع��اد العمل ال��روائ��ي‪ .‬يتجلى‬ ‫هذا الو�ضع في الأعمال الروائية التي حظيت‬ ‫ب�أكثر من تجربة في الإخ��راج‪ ،‬والمثال من‬ ‫الرواية الرائعة‪« :‬الحرب وال�سلم» لتول�ستوي‪،‬‬ ‫ف��ي طبعتها الرو�سية وطبعتها الأمريكية‪.‬‬ ‫وت�ؤدي هذه النظرة �أي�ضا‪� ،‬إلى ت�سطيح العمل‬ ‫‪ 114‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫الروائي في �أحيان �أخرى‪� ،‬إلى درجة �أنه يفقد‬ ‫عمقه االجتماعي والإن�ساني‪ ،‬كما حدث مع‬ ‫رواية �أرن�ست همنغواي‪« :‬ال�شيخ والبحر»‪ .‬وفي‬ ‫�أحيان نجد �أن القيمة الجمالية للرواية‪ُ ،‬ت ْف َت َق ُد‬ ‫تماما‪ ،‬كما حدث مع رواي��ة نجيب محفوظ‪:‬‬ ‫«ميرامار»‪ ،‬القائمة على وجهة النظر‪ ،‬التي‬ ‫لم يتمكن المخرج من �إنجازها على ال�شا�شة‪،‬‬ ‫فحوّل ال�سرد �إلى خطية �أفقدت ال�شخ�صيات‬ ‫وظ��ائ�ف�ه��ا ال �� �س��ردي��ة‪ ،‬وم��ن ث��مَّ ف�ق��د فقدت‬ ‫الرواية وهي تتحول �إلى �شريط �سينمائي �أهم‬ ‫خا�صية �سردية جمالية اخت�صت بها حتى من‬ ‫بين رواي��ات نجيب محفوظ نف�سه‪ .‬و�أنا مرة‬ ‫�أخرى �أ�ؤك��د على نظرة المخرجين لعملهم‪،‬‬ ‫لأن م�س�ألة نقل ال�سرد الذي يعتمد على اللغة‬ ‫المكتوبة �إلى ال�سرد الذي يعتمد على ال�صورة‬ ‫لي�ست هي العامل الحا�سم في �ضعف الأفالم‬ ‫الم�أخوذة عن �أعمال روائية‪ ،‬ففي كثير من‬ ‫الأمثلة‪ ،‬نجد المخرجين يكتبون �شريطهم‬ ‫بوا�سطة ال�صورة‪ ،‬ب�صرف النظر عن الحمولة‬ ‫االجتماعية والجمالية التي تزخر بها الرواية‬ ‫التي ما تحولت �إال لمو�ضوع للفيلم‪ .‬لقد نجح‬ ‫الكثير من الأف�لام التي لج�أت �إل��ى رواي��ات‬ ‫واقعية فا�ستغلت موادها الحكائية وف�ضاءاتها‬ ‫ب�شكل جيد‪ ،‬ولكن هذا النجاح ال يغطي على‬ ‫كثير من الف�شل في �إيجاد عالقة متوازنة بين‬ ‫الرواية وال�سينما‪.‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫�شعر البديهة‪..‬‬ ‫و�سحر االرتجال‬ ‫■ غازي خريان امللحم*‬

‫�شعر البديهة واالرتجال �أحد الأفنان التي ازدهرت في دوحة ال�شعر العربي‪ ،‬الذي‬ ‫ولد وترعرع في حجر الحقبة الجاهلية‪ ،‬ثم انطلق محلقاً في الآف��اق في ظل المد‬ ‫الإ�سالمي المجيد‪ ،‬ف�شذبت عبارته‪ ..‬والنت مفرداته‪ ،‬وتخل�ص من �شوائب اللفظ‪،‬‬ ‫ووح�شي الكالم‪ ،‬وقد و�صفه ال�شاعر بقوله‪:‬‬ ‫وهبَّ هبوبُ الريحِ في الب ِّر والبحر‬ ‫ال�شم�س في ك ِّل بلدة‬ ‫ِ‬ ‫و�سا َر م�سرى‬ ‫والبديهة ر ُّد فعلٍ غام�ض عمره من عمر الآداب والفنون والعلوم المختلفة للعالقة‬ ‫الجدلية التي تربط هذه المجاالت بمزاج المبدع وتقلّباته‪ ،‬وما ال�شعر �إال �أحد هذه‬ ‫الفروع ولربما �أهمها؛ لقول الم�سعودي في كتابه القيم» مروج الذهب»‪:‬‬ ‫ال �أم امر�أة‪� ،‬صغيرا‬ ‫« نظم ال�شعر �سليقة مت�أ�صِّ لة في جذر كل عربي‪� ،‬سواء كان رج ً‬ ‫�أم كبيرا‪� ،‬إذ كان العربي يقف الموقف فينطق بال�شعر‪ ،‬وك�أن �صورة معلقة على طرف‬ ‫ل�سانه»‪.‬‬ ‫وفي كتابه الرائع «ترا�سل الفنون» يرد الفيل�سوف الفرن�سي «ايتان �سوريو» حالة‬ ‫البديهة �إلى ما ي�سميه �ضغط اللحظة‪ ،‬ف�إن اال�ستجابة لهذا ال�ضغط تو ِّل ُد لدى ال�شاعر‬ ‫ر�ؤىً وخياالتٍ ينتج عنها �إبداعات �شعرية غاية في الكيا�سة والجمال‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪115‬‬


‫ف�أجابت الزوجة على البديهة‪:‬‬

‫وكان �سقراط �أول من رد الف�ضل في نظم ال�شعر‬ ‫�إلى البديهة عندما قال‪:‬‬ ‫�أذك�����������ر ����ص���ب���اب���ت���ن���ا �إل������ي������ك و����ش���وق���ن���ا‬ ‫«�أدرك ��ت �أن ال�شعراء ال يكتبون ال�شعر لأنهم‬ ‫وارح���������������م ب�����ن�����ات�����ك �إن��������ه��������ن �����ص����غ����ار‬ ‫حكماء‪ ،‬بل لأن لديهم طبيعة وهمة قادرة على �أن‬ ‫ف�أ�شفق الزوج على �أ�سرته‪ ،‬و�آثر البقاء في بيته‪،‬‬ ‫تبعث فيهم حما�سة الإن�شاد‪ ،‬وت�شرّع في قرائحهم و�أبطل عادته تلك‪.‬‬ ‫نوافذ الإبداع»‪ .‬ومعنى ذلك �أن ال�شعراء يلهمون ما‬ ‫ال�صغار و�شعر البديهة‬ ‫يقولون من نظم على البديهة‪.‬‬ ‫ولم يكن �شعر البديهة وقفا على الكبار وحدهم‪ ،‬بل‬ ‫و�أتبع �أفالطون الحقا المذهب نف�سه‪ ،‬عندما‬ ‫ر�أى‪�« :‬إن الكالم الجميل ال��ذي ينثال على �شفاه نجده عند ال�صغار �أي�ضا‪ ,‬وقد ُروِيَ عن معن بن زائدة‪،‬‬ ‫ال�شعراء‪ ،‬نتيجة لموقف ما‪ ،‬لي�س من �صنعهم‪ ،‬وال لدى خروجه �إلى ال�صحراء مع ثلة من خا�صته‪ ،‬و�أثناء‬ ‫�سيرهم و�سط مفازة قفر‪ ،‬ا�ستنفدوا كل ما لديهم من‬ ‫لديهم دخل فيه‪� ،‬إنما هي البديهة يلهمونها»‪.‬‬ ‫ماء‪ ،‬فانتابهم عط�ش �شديد‪ ،‬وبينما هم كذلك‪ ،‬و�إذ‬ ‫�أم��ا ال��ع��رب فقد ن�سبوا معظم �شعرهم ال��ذي بثالث فتيات �صغيرات برزن من جوف واحة قريبة‪،‬‬ ‫حاكوه على البديهة‪� ،‬إل��ى وادي عبقر‪ ،‬الم�سكون وهن يحملن ِق�رَبَ الماء على متونهن‪ ،‬فا�ست�سقاهن‬ ‫بعمالقة الجن‪ ،‬ومنهم ي�أتي م�صدر الإلهام‪ ،‬وتم�شيا معن‪ ،‬فلبين طلبه عن طيب خاطر‪ ،‬و�شرب هو و�صحبه‬ ‫مع هذا االعتقاد‪ ،‬يظن �أكثر ال�شعراء �أن لهم قرناء حتى اكتفوا‪ ..‬فقال لأحد �أعوانه‪:‬‬ ‫ي�سمون ب�شياطين ال�شعر‪ ،‬وك��ان ال�شاعر منهم‬ ‫« هل بقي معك �شيء من نفقتنا؟‬ ‫يتباهى بمنزلة قرينه الذي يلهمه القري�ض‪ ،‬فيذكر‬ ‫فرد الرجل‪« :‬ال واهلل يا �أمير‪ ،‬لقد وهبت كل ما‬ ‫�أحد الرُّجاز‪ ،‬ب�أن رئي�س الجن نف�سه يزوده ب�أنواع‬ ‫لديك لأبناء ال�سبيل وطرّاق الفيافي»‪.‬‬ ‫القول وفرائد الكلم‪ ،‬وين�شد مفتخرا‪:‬‬ ‫فما كان من معن �إال �أن دفع لكل واحدة منهن‬ ‫وان����������ي و�إن ك����ن����ت ����ص���غ���ي���ر ال�������س���ن‬ ‫وك���������������ان ف���������ي ال������ع������ي������ن ن������ب������و ع���ن���ي ع�شرة �أ�سهم �صنعت ن�صالها من الذهب الخال�ص‪،‬‬ ‫ف��أن���ش��دت الأول� ��ى ع�ل��ى وح��ي ال �خ��اط��ر‪ ،‬مدفوعة‬ ‫ف����������ان �����ش����ي����ط����ان����ي رئ�����ي�����������س ال����ج����ن‬ ‫ببديهتها الحا�ضرة‪:‬‬

‫ي�������ذه�������ب ب���������ي ب�����ال�����������ش�����ع�����ر ك���������ل ف���ن‬

‫وم ��ن ال �� �ش��واه��د ال�ط��ري�ف��ة ال �ت��ي تتعلق بهذا‬ ‫المو�ضوع‪ ،‬ما روي عن �أح��د الأع��راب‪ ،‬وك��ان يكثر‬ ‫من ال�سفر والغياب‪ ،‬وفي يوم هي�أَ ال��زاد والراحلة‬ ‫ا�ستعدادا للم�سير‪ ،‬ف�شق الأمر على زوجته‪ ،‬فعاتبته‬ ‫بذلك‪ ،‬فقال مرتجال‪:‬‬

‫ي�����رك�����ب ف������ي ال���������س����ه����ام ن���������ص����ال ت��ب��ر‬ ‫وي����رم����ي����ه����ا ل����ل����ع����دى ك�����رم�����ا وج�������ودا‬ ‫ف�������ل�������ل�������م�������ري���������������ض ع��������ل��������اج ج�������������راح‬ ‫و�أك���������ف���������ان ل�����م�����ن �����س����ك����ن ال�����ل�����ح�����ودا‬ ‫وقالت الثانية‪:‬‬

‫اح�����ص��ي ال�����س��ن��ي��ن ل��غ��ي��ب��ت��ي وت�����ص��ب��ري‬ ‫وم � � �ح� � ��ارب م � ��ن ف � � ��رط ج � � ��ود ب �ن��ان��ه‬ ‫ع����م����ت م����ك����ارم����ه الأق��������������ارب وال�����ع�����دا‬ ‫وع����������دي ال���������ش����ه����ور ف������إن�����ه�����ن ق�������ص���ار‬ ‫‪ 116‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫وقالت الثالثة‪:‬‬ ‫ف�سكتوا عنهم‪ ،‬واكتفوا بحجزهم‪ ,‬وبالغوا في‬ ‫�إكرامهم ظنا منهم �أن �آباءهم من خوا�ص النا�س‬ ‫م������ن ج����������وده ي�����رم�����ي ال������ع������دا ب�����س��ه��م‬ ‫م���ن ذه����ب الأب����ري����ز ���ص��ن��ع��ت ن��وا���ص��ل��ه��ا وعليّة القوم‪.‬‬ ‫وف��ي ال�صباح‪ ،‬عر�ضوهم على الحجاج‪ ,‬ولما‬ ‫ل���ي���ن���ف���ق���ه���ا م����ج����روح����ه����ا ف������ي دوائ��������ه‬ ‫وي�������ش���ت���ري الأك������ف������ان م���ن���ه���ا ق��ت��ي��ل��ه��ا ك�شفوا عن �أنف�سهم‪ ،‬ف�إذا بالأول ابن حجّ ام‪ ،‬والثاني‬ ‫ابن طبّاخ‪ ،‬والثالث ابن ن�سّ اج‪.‬‬ ‫ف�ضحك معن م��ن ظ��ري��ف �شعرهن‪ ،‬و�سرعة‬ ‫وك��ان الحجاج ك�سائر العرب يعجب بالكلمات‬ ‫بديهتهن‪ ،‬وح�سن بالغتهن‪ ،‬وق��ال‪ « :‬لم �أر �أعجب‬ ‫من ه��ذا اليوم ق��ط‪� ،‬إنها بديهة ال�ب��داوة و�سرعة البليغة‪ ,‬والتي ت��دل على ح�ضور البديهة و�سرعة‬ ‫الخاطر‪ ,‬ورجاحة العقل ‪ ,‬فنظر �إلى مَن حوله‪،‬‬ ‫خواطر الأعراب»‪.‬‬ ‫و�أن�شد‪:‬‬ ‫وق��ري�ب��ا م��ن ذل��ك م��ا ُي���روى ع��ن ال�ح�ج��اج بن‬ ‫يو�سف الثقفي‪ ،‬عندما �أمر بمنع التجوال ليال في ت���ع���ل���م ف���ل���ي�������س ال�����م�����رء ي����ول����د ع��ال��م��ا‬ ‫�شوارع بغداد‪ ،‬وبينما رج��ال ال�شرطة يع�سون في‬ ‫ول���ي�������س �أخ������و ع���ل���مٍ ك���مَ���ن ه����و ج���اه��� ُل‬ ‫بع�ض الأحياء‪ ،‬و�إذ بثالثة من الفتيان يت�سكعون في ف�����������إ َّن ك���ب���ي���ر ال�����ق�����وم ال ع����ل����م ع���ن���ده‬ ‫الطرقات‪ ،‬ف�س�ألوهم عن حالهم‪ ،‬وماذا يعملون في‬ ‫���ص��غ��ي�� ٌر ول����و ال��ت��ف��ت ع��ل��ي��ه ال��م��ح��اف�� ُل‬ ‫هذا الليل البهيم‪ ،‬على الرغم من حظر التجوال‪،‬‬ ‫الكبار ‪ ,‬و�شعر البديهة‬ ‫فقال الأول على البديهة‪:‬‬ ‫هذا وقد يَ�سْ مو �شعر البديهة �إلى مرتبة عالية من‬ ‫�أن����������ا اب��������ن مَ��������ن دان����������ت ال�������رق�������اب ل��ه‬ ‫م�������ن ب�����ي�����ن م�����خ�����دوم�����ه�����ا وخ�����ادم�����ه�����ا البالغة‪ ,‬قلّما ي�صل �إليها �شعر الرواية وال�صنعة‪,‬‬ ‫وقد تنتهي �إلى م�ستوى الكمال ال�شعري التام‪ ,‬كما‬ ‫ت������أت�����ي�����ه ب�����ال�����رغ�����م وه���������ي �����ص����اغ����رة‬ ‫ف��������ي���������أخ��������ذ م����������ن م�������ال�������ه�������ا ودم�������ه�������ا نلم�س من هذا الحوار الذي جرى على البديهة بين‬ ‫�شاعرين جاهلين‪ ,‬هما ام��ر�ؤ القي�س‪ ,‬وعبيد بن‬ ‫و�أن�شد الثاني‪:‬‬ ‫الأبر�ص ‪ ,‬ومو�ضوعه �أ�شياء �ألغزا بها �شعرا ‪ ,‬وجاءت‬ ‫ه��ذه الأح��اج��ي على ال��وزن نف�سه والقافية ذاتها‪,‬‬ ‫�أن����ا اب���ن ال����ذي ال ي��ن��زل ال���ده���ر ق���دره‬ ‫و�إن ن���������زل ي������وم������ا ف�����������س�����وف ي����ع����ود وكانت البادرة من قبيل عبيد الذي بد�أه مت�سائال‪:‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫���ص��ي��غ��ت ن�������ص���ال ���س��ه��م��ه م����ن ع�����س��ج��د‬ ‫رك����ب����اه ال ت��ن��ف��ك رج��ل��ا �أب�������دا م��ن��ه��م��ا‬ ‫ك�����ي ال ي���ع���ي���ق���ه ال����ق����ت����ال ع���ن���د ال���ن���دا‬ ‫�إذ ال����خ����ي����ل ي�������وم ال����ك����ري����ه����ة ج���ال���ت‬

‫م�����اح�����ي�����ة م����ي����ت����ة �أح�������ي�������ت ب���م���ي���ت���ت���ه���ا‬ ‫ت������رى ال����ن����ا�����س �أف������واج������ا ح������ول ن�����اره‬ ‫درداء م����ا �أن���ب���ت���ت ن���اب���ا وال ���ض��ر���س��ا؟‬ ‫ق������ي������ام ل������ه������ا‪ ،‬وم���������ن ح�����ول�����ه�����ا ق����ع����ود‬ ‫وقال الثالث‪:‬‬

‫ف�أجاب امر�ؤ القي�س‪:‬‬

‫ت��ل��ك ال�����ش��ع��ي��رة ت�����س��ق��ى ف���ي ���س��ن��اب��ل��ه��ا‬ ‫�أن��ا اب��ن ال��ذي خا�ض ال�صفوف بعزمه‬ ‫ف���أخ��رج��ت ب��ع��د ط���ول ال��م��ك��ث �أك��دا���س��ا‬ ‫ف��ق��وم��ه��ا ب��ال�����س��ي��ف ح���ت���ى ا���س��ت��ق��ام��ت‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪117‬‬


‫فقال عبيد‪:‬‬

‫ف�أجاب الوزير‪:‬‬

‫م��������ن اج����������ل ذل����������ة ذا‪ ,‬وع������������زة ه�����ذا‬ ‫م��ا ال�����س��ود والبي�ض والأ���س��م��اء واح��دة‬ ‫ي���ب���ك���ي ال����غ����م����ام وت�������ض���ح���ك الإزه���������ار‬ ‫�إال ي�ستطيع ل��ه��ن ال��ن��ا���س تم�سا�سا؟‬ ‫فرد امر�ؤ القي�س‪:‬‬

‫ت��ل��ك ال�����س��ح��ائ��ب �إذا ال��رح��م��ن �أن�����ش���أه��ا‬ ‫روى ب��ه��ا م��ن م��ح��ول الأر������ض �إي��ب��ا���س��ا‬ ‫وهكذا‪ ،‬م�ضى ال�شاعران في م�ساجلتهما على‬ ‫البديهة‪ ,‬حتى انتهت �إلى �ستة ع�شر بيتا‪� ,‬أخرها قول‬ ‫عبيد في ت�سا�ؤالته‪:‬‬

‫م����ا ال���ح���اك���م���ون ب��ل�ا ���س��م��ع وال ب�����ص��ر‬ ‫وال ل�������س���ان ف�����ص��ي��ح ي��ع��ج��ب ال���ن���ا����س؟‬ ‫ف�أجاب امر�ؤ �ألقي�س عن هذا ال�س�ؤال المحبوك ‪,‬‬ ‫بجواب بلي ٍغ ح�سن ال�سبك‪:‬‬

‫�شعر البديهة حديث ًا‬ ‫هذا قي�ض من في�ض‪ ,‬ما و�صل �إلينا من �شعر‬ ‫البديهة في القديم‪ ,‬لكن ما ت�أثير هذا اللون من‬ ‫الأدب الزاهي على �شعراء الع�صر الحديث؟‬ ‫تفيد الكثير من الدرا�سات �أن ه��ؤالء لم يكونوا‬ ‫�أق��ل نباهة وح�ضور بديهة من �أ�سالفهم القدماء‪,‬‬ ‫والأمثلة على ذلك �أكثر من �أن تعد �أو تح�صى في‬ ‫وم�ضة كهذه‪ ,‬كان �أهم ما يميز بع�ضها احتوا�ؤها على‬ ‫قدر من الطرافة والحكمة معا‪ ,‬ومثال ذلك ما يروى‬ ‫عن ال�شاعرين الزهاوي والر�صافي‪ ,‬عندما جل�سا‬ ‫ي�أكالن ثريدا فوقه دجاجه محمّرة‪ ,‬وبعد قليل مالت‬ ‫الدجاجة ناحية الزهاوي الذي قال على البديهة‪:‬‬

‫ت���ل���ك ال����م����وازي����ن وال���رح���م���ن �أن���زل���ه���ا‬ ‫رب ال����ب����ري����ة ب���ي���ن ال����ن����ا�����س م��ق��ي��ا���س��ا عرف الخي ُر �أهله فتقدمَ‪.‬‬ ‫وهذه حكاية �أخرى‪ ,‬تجر ورائها �أربعة �أبيات من‬ ‫�شعر البديهة‪ ,‬رائعة المخبر جميلة المظهر‪ ,‬جرت‬ ‫على ل�سان كل من الوزير الأندل�سي ابن القيطرنة‪,‬‬ ‫وال�شاعر اب��ن �سارة في ي��وم مطير‪� ,‬ضحكت فيه‬ ‫الأر�ض عندما عب�ست ال�سماء‪ ,‬واهتزت وربت عند‬ ‫نزول الماء‪ ,‬فتراقدا(�أي تعاونا) في �صفة الأر�ض ‪,‬‬ ‫فقال‪ :‬ابن �سارة‪:‬‬

‫فرد الزهاوي على الفور‪:‬‬

‫كثر النب�ش تحته فتهد َم‬ ‫ويحكى �أي���ض��ا‪� ,‬إن مجل�س �أن ����س و�سمر �ضم‬ ‫�أمير ال�شعراء �أحمد �شوقي‪ ,‬ومجموعة من الأدباء‬ ‫وال���ش�ع��راء وه��م‪� :‬إ�سماعيل ��ص�ب��ري‪ ,‬ول��ي الدين‬ ‫يكن‪ ,‬ون�سيب �أر��س�لان‪� ,‬إ�ضافة للمطرب‪ :‬محمد‬ ‫ع�ب��دال��وه��اب ال��ذي �أن�شدهم ق�صيدة الح�صري‬ ‫القيرواني والتي مطلعها‪:‬‬

‫ه�������ذه ال���ب�������س���ي���ط���ة ك�����اع�����ب �أب������راده������ا‬ ‫ح����ل����ل ال�����رب�����ي�����ع ‪ ,‬وح����ل����ي����ه����ا ال�����ن�����وار ي��������ال��������ي��������ل ال�����������������ص��������ب م��������ت��������ى غ��������ده‬ ‫�أق������������ي������������ام ال���������������س�������اع�������ة م������وع������ـ������ـ������ده‬ ‫ف�أجابه الوزير‪:‬‬ ‫رق��������������د ال���������������س�������م�������ار وارق�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ�����ه‬ ‫وك��������������أن ه���������ذا ال������ج������و ف����ي����ه����ا ع���ا����ش���ق‬ ‫�أ������������س�����������ف ل�����ل�����ب�����ي�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ�����ن ي���������������ردده‬ ‫ق������د �����ش����ف����ه ال����ت����ع����ذي����ب والإ���������ض��������رار‬ ‫ف������ب������ك������ـ������اه ال������ن������ـ������ج������ـ������م ورق ل����ـ����ه‬ ‫فرد ابن �سارة‪:‬‬ ‫م���������م���������ا ي�������������رع�������������اه وي�������ر��������ص�������ـ�������ـ�������ده‬ ‫ف�����������إذا �����ش����ع����اف ال�����ب�����رق ق����ل����ب خ���اف���ق‬ ‫ن�����������ص�����ب�����ت ع�������ي�������ن�������اي ل����������ه � َ�������ش������� َرك�������ا‬ ‫ف���������ي ال���������ن���������وم ‪ ,‬ف��������ع�������� ّز ت�����������ص����� ّي�����ده‬ ‫و�إذا ب�����ك�����ى ف������دم������وع������ه الإم�������ط�������ار‬ ‫‪ 118‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫وختمها الأمير ن�سيب ار�سالن‪ ،‬بقوله‪:‬‬

‫م���������������ض�������ن�������اك ع�����������������ص��������اه ت������ج������ل������ده‬ ‫م���������������ض�������ن�������اك ج����������ف����������اه م��������رق��������ده‬ ‫ه����������ل �أن�����������������ت ب�����ع�����ط�����ف�����ك م�����ن�����ج�����ده‬ ‫وب�����������������ك�����������������اه ورح�����������������������������م ع�����������������وده‬ ‫م�������ن�������ه�������وك ال�������ج���������������س�������م ب�����������ه ك����م����د‬ ‫ح�������������ي�������������ران ال���������ق���������ل���������ب م������ع������ذب������ه‬ ‫�أح�������������ن�������������اء الأ�����������ض����������ل����������ع م��������رق��������ده‬ ‫م�����������ق�����������روح ال�������ج�������ف�������ن م�����������س�����ه�����ده‬ ‫ت���������رج���������ي���������ع ال��������������������������ورق ي������ه������ ّي������ج������ه‬ ‫ي�������������س������ت������ه������وي ال��������������������ورق ت����������أوه���������ه‬ ‫وم���������ي�������������������ض ال�������������ب�������������رق ي�������������س������ه������ده‬ ‫وي�����������ذي�����������ب ال���������������ص�������خ�������ر ت�����ن�����ه�����ده‬ ‫وال���������������ش�������ع�������ر ������������ص�����������داح ف�����������ي ول�������ه‬ ‫وي��������ن��������اج��������ي ال�������ن�������ج�������م وي�����ت�����ب�����ع�����ه‬ ‫ي���������ه���������وى الأغ�����������������������ص�����������ان م��������غ��������رده‬ ‫وي��������ق��������ي��������م ال��������ل��������ي��������ل وي�������ق�������ع�������ده‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫فطرب لها الحا�ضرون و�صفقوا‪ ,‬ثم �س�ألوا‬ ‫�شوقي �أن يعار�ضها‪ ,‬في التو واللحظة على البديهة‬ ‫وم��ن دون تح�ضير‪ ,‬قبل االق��ت��راح �شريطة �أن‬ ‫يحتذي حذوه كل من ح�ضر من ال�شعراء‪ ,‬فقبلوا‬ ‫هم �أي�ضا‪ ,‬على �أن تكون البداية مع �شوقي‪ ,‬الذي‬ ‫�أن�شد‪:‬‬

‫ل�����ل�����������ص�����ب�����ح ���������س��������ن��������ا�ؤك �أب�����ي�����������ض�����ه‬ ‫ال���������ل���������ي���������ل غ�������������رام�������������ي �أ��������������س�������������وده‬ ‫��������ش�������وق�������ي �إن ب�������ن�������ت ي���������ض����اع����ف����ه‬ ‫��������ص�������ب�������ري �إن ج��������������زت ي����������ؤك���������ده‬

‫وتظل البديهة في الإن�سان �صورة م�ستح�سنة �سواء‬ ‫وقال �صبري‪:‬‬ ‫كانت �إبداعا �أدبيا �أم فنيا‪� ,‬أم اختراعا علميا‪� ,‬أم‬ ‫اق��������������������������رب م����������������ن دن���������������������ف غ�����������ده‬ ‫تغيرا ايجابيا في ال�سلوك الخاطىء �أو غير ال�سوي‪.‬‬ ‫ف��������ال��������ل��������ي��������ل ت�����������م�����������رد �أ��������������س�������������وده‬ ‫وف��ي ثقافتنا الإ��س�لام�ي��ة غ��ال�ب��ا م��ا ن��رد فعل‬ ‫البديهة �إلى الخالق تعالى‪ ,‬فهي تح ُّل بالمرء على‬ ‫وال����������ت����������ف����������ت ت���������ح���������ت ع�������ب�������اءت�������ه‬ ‫ب������ي�������������ض ف�����������ي ال���������ح���������ي ت����������ؤي���������ده هيئة الإلهام‪ ,‬في�صدر عنه �أفعال �أو �أقوال تتنا�سب‬ ‫والموقف وت�ساير مقت�ضى الحال‪ ,‬ت�صل �أحيانا �إلى‬ ‫ف���������ي ال������ق�������������ص������ر غ���������������زال ت����ك����ب����ره‬ ‫م�ستوى رفيع من االبتكار والإبداع‪.‬‬

‫غ��������������������زالن ال������������رم������������ل ت�����ح�����������س�����ده‬ ‫الم�صادر‬ ‫��������ش�������وق�������ي ج����������������واد ف����������ي ال���������ش����ع����ر‬ ‫‪1‬ـ مجموعة مترجمين‪ ،‬الأدب والأنواع الأدبية‪ ،‬دار طال�س‪،‬‬ ‫�آم��������������ن��������������ت ب���������������أن��������������ك �أوح�����������������������ده‬ ‫دم�شق‪1985 ،‬م‪.‬‬ ‫فقال ولي الدين يكن‪:‬‬

‫ال�������ح���������������س�������ن م��������ك��������ان��������ك م�����ع�����ب�����ده‬ ‫وال��������ل��������ح��������ظ ف�����������������������ؤادي م�����غ�����م�����ده‬ ‫ال���������ل���������ي���������ل وط���������ي���������ف���������ك ي������ع������رف������ه‬ ‫�إن ك�������������ان ف�����������������������ؤادك ي�����ج�����ح�����ده‬

‫‪2‬ـ الأ�صفهاني‪ ،‬الأغاني‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪1959 ،‬م‪.‬‬ ‫‪3‬ـ عمر ف��روخ‪ ،‬تاريخ الأدب العربي‪ ،‬دار العلم للماليين‪،‬‬ ‫بيروت‪1965 ،‬م‪.‬‬ ‫‪4‬ـ محمد الجابري التراث والحداثة مركز الوحدة العربية‬ ‫بيروت ‪1991‬م‪.‬‬ ‫‪5‬ـ اح��م��د الها�شمي ج��واه��ر الأدب دار ال��ك��ت��ب العلمية‬ ‫بيروت‪1990‬م‪.‬‬

‫* كاتب من �سوريا مقيم في ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪119‬‬


‫اليوم ولد محفوظ رحمه اهلل‬

‫حكـايـــة م�ســـروقــة‬

‫■ فهد امل�ص ّبح*‬

‫كتمت حكايتي مع نجيب محفوظ حتى رحل‪ ,‬مكتفيًا بقراءة نتاجه‪ ,‬والتعلم منه‬ ‫عن بعد؛ و�أبرز ميزة وجدتها في كتاباته الغزيرة �أنها تخلو مما ال ي�ستحق القراءة‪,‬‬ ‫لذلك �سعيت �إليه‪ ,‬وح�ضرت ندوته في مطعم كازينو ق�صر النيل بالقاهرة ع�صر كل‬ ‫يوم جمعة‪ ,‬فازددت �إعجابا به‪ ,‬فهو مع ت�ألقه الإبداعي‪ ،‬ب�سيط ومتوا�ضع �إلى حد يعجز‬ ‫عنه الو�صف‪ ,‬وهذا ما �شدني �إليه �أكثر‪.‬‬ ‫�أنا هنا ال �أرثيه وال �أنعيه وال �أمدحه فهو غنيّ عن كل ذلك‪ ,‬تعلمت منه قبل الق�ص‬ ‫ال�صبر والتوا�ضع وعدم التوقف عند عمل �أحاطته المالب�سات �أو الم�صادرة‪.‬‬ ‫وحين التقيته في عام ‪1989‬م جد لي �أمر قلل من حديثي معه‪� ,‬إذ ال بد �أن تقرب‬ ‫وجهك من وجهه عندما تريد محادثته‪ ,‬وتعلي �صوتك حتى ي�سمعك‪ ,‬فهو يرف�ض �أن‬ ‫يعطي ر�أيا قبل �أن يفهم المو�ضوع برمته‪.‬‬

‫‪ 120‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ي�سمع �أكثر مما يتحدث‪ ,‬ويكتب �أكثر منهما‪,‬‬ ‫دقيق في مواعيده حتى ال�صغيرة‪ ,‬قال لي �أحد‬ ‫الجال�سين �إلى جانبي في ندوته‪« :‬الآن �سيطلب‬ ‫قهوته»‪.‬‬

‫ملخ�ص فكرتها �أنها دعوة لقتل الإل��ه‪� ,‬أي‬ ‫�أننا خططنا ودب��رن��ا لقتل كل �شيء في هذه‬ ‫الحياة �إال الإله لم نفكر مجرد تفكير في قتله‪,‬‬ ‫لذلك تدعو فكرة الرواية �إلى طرق هذا الأمر‬ ‫الجلل والموغل غرابة‪ ,‬فتبا�شر با�ستعرا�ضهم‬ ‫الآل �ه��ة واح ��دا بعد الآخ ��ر الجن�س‪ ،‬الفتوة‪،‬‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬المال‪ ،‬الأنبياء‪ ،‬المالئكة‪ ،‬الجن‪،‬‬ ‫الجبابرة‪ ،‬النار‪ ,‬فيت�ضح في النهاية �أنها كلها‬ ‫تفنى �إال �إله واحد �أحد لم ولن ن�ستطيع قتله‬ ‫مهما اجتمعنا وتواط�أنا عليه‪ ,‬عندها ي�ستحق‬ ‫هذا الإله �أن ن�ضع جباهنا له �سجودا وت�سليما‪.‬‬

‫لو قدر له �أن يعي�ش حياته مرة �أخ��رى لما‬ ‫اختارها بغير ما تمت‪ .‬احترم فنه و�أخل�ص له‪,‬‬ ‫واهتم بعامل الوقت‪ ,‬فب ّز معا�صريه في الق�ص‪,‬‬ ‫وكان من الأفذاذ الذين ا�ستطاعوا الجمع بين‬ ‫النقي�ضين الكم والكيف‪.‬‬

‫وبالفعل طلب النادل الذي كان م�ستعدا‪ ,‬قد‬ ‫حفظ وقت قهوته‪ ,‬و�ضع �أمامه فنجان القهوة‪,‬‬ ‫ورغم �أن ال�سيجارة كانت في يده يقلبها بين‬ ‫�أ�صابعه م��ن م��دة‪ ,‬ل��م ي�شعلها حتى ارت�شف‬ ‫ر�شفة �أو �أكثر ثم نظر �إلى �ساعته و�أ�شعلها‪.‬‬ ‫لقد اعتنى بترتيب وقته قبل الكتابة‪ ,‬وهو‬ ‫در���س ل��و نعيه ج�ي��دا لأن�ج��زن��ا �أع �م��اال طالها‬ ‫الركود‪ ,‬فهناك مَ ن ي�شقى بالوقت‪ ,‬وهناك مَ ن‬ ‫ي�شقى الوقت به‪� ,‬أم��ا نجيب فقد ت�ضامن مع‬ ‫الوقت ذلك الر�صيد الذي وهبنا �إياه الإله منذ‬ ‫البدء نت�صرف فيه كيفما �شئنا‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫و�ضع �أدبنا ال�سردي على �سكة العالمية‪,‬‬ ‫لي�س له مدر�سة تخ�صه‪ ,‬بل يرف�ض ذلك رغم‬ ‫ت�شدق بع�ض ال�ن�ق��اد المحدثين بالمدر�سة‬ ‫المحفوظية‪ ,‬ال يمكن تكراره �ش�أنه �ش�أن الرموز‬ ‫والقامات ال�سامقة‪ ,‬لذلك ال ينبغي �أن نن�شغل‬ ‫بمن �سيخلفه‪.‬‬

‫ت�سويف‪ ,‬لم يرتحل من بلده‪ ,‬لم يعتقل‪ ,‬لم‬ ‫يت�صادم مع جهة ما‪ ,‬لم يفتح نقا�شا �إعالميا‬ ‫مع �أح��د‪ ,‬ن�أى بنف�سه عن جدليات الخ�صومة‬ ‫وتهوراتها‪ ,‬وال �أدلَّ على ذل��ك من �أن روايته‬ ‫«�أوالد حارتنا» �صدرت ع��ام ‪1965‬م ومنعت‬ ‫منذ ذلك الوقت حتى �أفرج عنها بعد ‪� 30‬سنة‬ ‫�أي عام ‪1995‬م‪ ,‬وهو يوالي خاللها العطاء من‬ ‫دون تبرم محبط‪ ,‬والحديث عن هذه الرواية‬ ‫�شائك وكثير‪ ,‬وح�سب قراءتي للرواية �أراه��ا‬ ‫ت�شتمل على �أج��ر�أ و�أجل فكرة روائية عرفتها‬ ‫الإن�سانية قاطبة‪.‬‬

‫ت�ع�ل�م��ت م��ن ن�ج�ي��ب م �ح �ف��وظ �أن العمل‬ ‫الإبداعي �إن لم يتحدث هو عن نف�سه‪ ,‬ويفر�ض‬ ‫وج ��وده ال ج��دوى م�ن��ه‪ ,‬ل��ذل��ك عندما تطالع‬ ‫�أغلفة كتبه تجدها تبد�أ دائما بالعنوان بارزا‪,‬‬ ‫ثم جن�س العمل رواية �أو ق�ص�ص ًا ق�صيرة‪ ,‬ثم‬ ‫لم يدع الفكرة ولغتها تفلت منه بك�سل �أو ا�سمه �صغيرا في الأ�سفل‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪121‬‬


‫ال يقدم لعمله‪ ,‬وال ير�ضى لأحد �أن يقدم له‪,‬‬ ‫وال يعترف ب�شيء ا�سمه �إهداء‪� ,‬أ�سلوبه معروف‬ ‫بب�صمته الخا�صة‪ ,‬ال تجد فيه محاولة للتميز‬ ‫على الآخرين‪ ,‬يجال�س كل النا�س في المقاهي‬ ‫والتجمّعات‪ ,‬متيحا للحياة �أن تف�صح عن‬ ‫نف�سها في �شخو�صه الب�سيطة والملتقطة من‬ ‫�أر�صفة الطرقات �أو من عمق الحارة؛ �إ ّال هو‬ ‫في حقيقة الأمر قا�ص وروائي كبقية القا�صين‬ ‫وال��روائ�ي�ي��ن‪ ,‬فهو ف��ي م�ستوى الكثيرين من‬ ‫معا�صريه ك�إدري�س وعبد القدو�س وحقّي‪ ,‬ال‬ ‫يختلف عنهم �إ ّال في �شيء واحد جليّ ‪ ،‬حين عدَّ‬ ‫نف�سه منذ لحظة الكتابة �أنه في ميدان �سباق‬ ‫ال يجدي فيه التوقف‪ ,‬دوما ينظر �إلى الأمام‬ ‫ويعدو بكل طاقته‪ ,‬متخذا الكتابة م�شروع عمل‬ ‫ال ب ّد له من تنظيم وعزم‪ ,‬من دون �أن ينظر �إلى‬ ‫مَ ن حوله بح�سد �أو تحدٍّ ؛ لذلك‪ ،‬تفوق على كل‬ ‫القا�صين والروائيين‪ ,‬مع �أن فيهم من ي�ضاهيه‬ ‫في الموهبة وامتالك الأدوات‪.‬‬ ‫ولئن م� ّر ح�ضوري الأول لندوته بان�شداه‬ ‫الده�شة‪ ,‬لم يكن ح�ضوري الثاني �إال ب�إعداد‬ ‫م�سبق لما ��س��أق��ول��ه‪ ,‬فح�ضرت مبكرا ولم‬ ‫�أ�سبقه‪ ,‬ويجمع رواد ندوته �أنهم لم ي�سبقوه‬ ‫يوما في الح�ضور‪ ,‬كنت �أع��ددت كالما قلته‬ ‫بارتباك‪ ,‬والح�ضور يطالبوني برفع �صوتي‬ ‫حتى ي�سمع ما �أقول‪ ,‬كانت مداخلتي بعد ر�ؤية‬ ‫للدكتور فرج فودة حول معاملة الكاتب من قبل‬ ‫المجتمع والجهات الر�سمية‪ ,‬ثم تلتها ق�صيدة‬ ‫لنزار قباني �ألقاها الكاتب والم�سرحي الكبير‬ ‫‪ 122‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫علي �سالم‪ ،‬كانت بمثابة ال�شرارة التي انطلقتُ‬ ‫منها عندما وقف غالبية الح�ضور في الجانب‬ ‫ال�ضدي للق�صيدة و�صاحبها‪ ,‬حتى �سمعت‬ ‫همهمات باتهامه «بـالقب�ض»؛ �أي �أن��ه ا�ستلم‬ ‫�أجرا عليها‪ ,‬فقلت لهم‪�« :‬إننا نقف منه نف�س‬ ‫الموقف وق��د �سبقناكم �إل��ي��ه»‪ ,‬ف��رد �أحدهم‬ ‫وهو مَ ن كان يجل�س �إلى جانب نجيب محفوظ‬ ‫لي�سمعه الكالم الذي ال ي�صل �إليه‪ ,‬و�أظن �أن‬ ‫ا�سمه �أبو الن�صر فقال‪« :‬ومَ ن �أعطاكم الحق‬ ‫في الحكم عليه»‪ ,‬فقلت ل��ه‪« :‬ال��ذي �أعطاكم‬ ‫�أن��ت��م»‪ ,‬وهنا ب�سطت لهم �سبب �سعيي �إليهم‬ ‫لأق��ف على الحقيقة؛ ف�أنا تائه وه��م �شاطئي‬ ‫الم�أمول‪ ,‬غير �أن اختالفهم حول نزار زادني‬ ‫�ضياعاً‪ ,‬و�ضربت لهم مثال ب�أن كتاب «واقعنا‬ ‫المعا�صر» لمحمد قطب لم �أج��ده في م�صر‬ ‫بينما وجدته عندنا‪ ،‬وفيه ما يحزن وي�شو�ش‬ ‫يم�س رموزا كالإمام محمد عبده‪.‬‬ ‫عندما ّ‬ ‫قلت كالما منفعال �أدركه محفوظ وتركني‬ ‫حتى �أكملته‪ ,‬ثم قال لي عبارة لن �أن�ساها �أبدا‪:‬‬ ‫«�إن كنت �ضائع ًا قيراطا واحد ًا فنحن �ضائعين‬ ‫�أربعة وع�شرين قيراطا‪ ,‬والحقيقة ما �ست�صل‬ ‫�إليها بنف�سك دون �أن يو�صلك �أحد»‪.‬‬ ‫بعد ذل��ك ك �رّت المداخالت‪ ,‬ب��د�أت بفتاة‬ ‫محجبة‪ ،‬ت�ضع ما ي�شبه العقال المطرز على‬ ‫ر�أ�سها‪ ،‬زادت الجل�سة جد ًال واختالفا عندما‬ ‫اتهمتهم بال�سلبية والتقوقع تجاه ما يحدث‬ ‫للفتيات من م�ضايقات في الجامعة على �أيدي‬ ‫�شباب طائ�ش‪ ,‬فكان جواب محفوظ الهادي لها‬


‫نجيب محفوظ قارئ جيد للتاريخ‪ ,‬وقارئ‬ ‫�أكثر حذقا لواقعه المعا�ش‪� ,‬صمته وتوا�ضعه‬ ‫�أت��اح��ا ل��ه فر�صا كثيرة للتعلم‪ ,‬وف�ه��م لعبة‬ ‫�أظن �أن من ي�صل �إلى �أعلى الجوائز مثل‬ ‫الق�ص جيدا من البداية؛ لذلك‪ ،‬ال تجد عنده ج��ائ��زة نوبل ال يكون ف��ي حاجة �إل��ى م��دح �أو‬ ‫م�سودات متراكمة كما هو الغالب عند الكتاب‪� .‬إ�شادة من �أح��د‪ ,‬بل �سيكون الو�ضع معكو�سا‬ ‫الم�سودات وت�أخر �إنتاج العمل له معنى واحد تماما‪ ,‬فمن �سيكتب مثلي عن قامة كنجيب‬ ‫عنده �أن العمل لم يتم �أو ال يراد له ذلك‪.‬‬ ‫محفوظ ي�أمل من ذل��ك �إب��راز نف�سه‪ ,‬لذلك‬ ‫في نهاية ال�ن��دوة‪ ،‬دعوته للت�صوير معه‪� ,‬س�أجعل حديثي ه��ذا �سطورا تحتفي بمولده‬ ‫ف���أج��اب��ن��ي بامتنان وك���أن��ه المحظوظ بتلك رغ��م مفارقته الحياة‪� ,‬إن�صافا لجهده الفذ‬ ‫ال�صورة‪� ,‬أهديته مجموعتي الأول��ى «�صاحب الذي جعلنا في م�صاف الأمم المتح�ضرة ولو‬ ‫ال�سيارة البرتقالية»‪ ,‬ت�صفحها وتقبلها و�أراد في جانب وحيد‪.‬‬ ‫مناق�شتها في �أتليه القاهرة بتو�صية منه �إلى‬ ‫هناك م��ن �سيخلده‪ ,‬وه�ن��اك م��ن �سيقتله‬ ‫الكاتبة فتحية الع�سال رئي�سة الأتليه �آن ذاك‪,‬‬ ‫ذما‪ ,‬وهناك من �سيقيم له تمثاال‪ ,‬وهناك من‬ ‫لكنني رف�ضت‪ ,‬وربما خفت‪.‬‬ ‫�سيتحفظ في الترحم عليه‪ ,‬وهذين الطرفين ال‬ ‫في وجهه �شامة كبيرة‪ ,‬وغاللة �سوداء في‬ ‫يمتان للإبداع ب�صلة‪.‬‬ ‫جبينه تبهتك‪ ,‬يو�صي ب�أن الكتابة تحتاج �إلى‬ ‫�أح��د الأ�شخا�ص تقدم �إل��ي��ه‪ ,‬ف�أقبل عليه‬ ‫تركيز كبير وجلو�س م�ستقيم‪ ,‬وال يحبذ التلفت‬ ‫�أو االن�شغال ب�شيء �أثناء الكتابة‪ ,‬و�إذا تعثر محييا بب�شا�شة‪ ,‬لكنه رد تحيته بطعنة غدر‬ ‫القلم وجمدت الفكرة ين�صح بال�سير قليال قدر اهلل �أن زادته بقاء‪ ,‬فهو محفوظ ومحظوظ‬ ‫مع تقليب الفكرة في الر�أ�س �أو تركها مدة‪ ،‬ثم �أي�ضا‪� ،‬إذ كتب له دخول الألفية الثالثة ب�شموخ‪..‬‬ ‫معاودة كتابتها من جديد‪ ,‬وي�شدد على ترك في حين رحل �آخرون �أ�صغر منه بكثير‪ .‬الكتابة‬ ‫كل ما يتوقف عن النمو وراء الظهر وااللتفات والدة والوفاة كتابة‪� ,‬أتمنى �أن �أكون وفقت في‬ ‫لغيره‪ ,‬ولئن كان عامل الوقت هو الم�ؤثر في الحديث عنه‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ب�أنهم لي�سوا نقابة وال حزبا‪ ،‬بل هم �أ�صدقاء‬ ‫يطلق عليهم الحرافي�ش‪ ،‬يجتمعون لم�ضغ‬ ‫الهموم وتقا�سم االحباطات‪.‬‬

‫�إنتاجه‪ ,‬فهناك عامل �آخر يقع فيه الكثيرون‬ ‫�أال وه��و كتابة �سيرة الحياة ك��رواي��ة ي�صعب‬ ‫تجاوزها‪ ,‬فكل رواي��ات محفوظ ال تمثله و�إن‬ ‫كانت رواية «ح�ضرة المحترم» هي الأقرب �إلى‬ ‫�شخ�صيته‪.‬‬

‫* كاتب وقا�ص من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪123‬‬


‫علي محمود طـه‬ ‫ال�شاعر المهند�س‬ ‫■ �صالح بن ظاهر الع�شي�ش*‬

‫علي محمود طـه‪� ،‬شاعر معا�صر‪ ،‬م�صري المولد‪ ،‬وع��روب��ي الوجهة‪ ،‬ورومن�سي‬ ‫ال (‪1949 –1901‬م)‪ ،‬من مواليد مدينة المن�صورة في م�صر‪ ،‬وهو‬ ‫الهوى‪ ،‬لم يُعمٌر طوي ً‬ ‫من �أعالم �شعراء الرومان�سية‪ ،‬ومن �أعمدة جماعة �أبولو ال�شعرية المعروفة‪ ،‬ويُعد من‬ ‫طليعة �شعراء الأربعينيات من القرن الميالدي الفارط‪� .‬صدر له عدة دواوين �شعرية‪،‬‬ ‫ت�ضمنت ق�صائده التي تناولت معظم �أغرا�ض ال�شعر‪.‬‬ ‫تناول حياته و�شعره عدد من الدرا�سات والكتب والتي �أجمعت على تغنيه بالجمال‬ ‫وو�صف الطبيعة ب�أ�سلوب عذب وكلمات رقراقة‪.‬‬ ‫در�س الهند�سة المعمارية في مدر�سة الفنون التطبيقية‪ ،‬حيث تخرج منها مهند�ساً‬ ‫معمارياً في ع��ام ‪1924‬م‪ ،‬وق��د عمل ل�سنوات طويلة مهند�س مبانٍ في القطاع العام‬ ‫(الحكومي)‪.‬‬ ‫لجمال الطبيعة �أثرها البيّن في �شعره‪ ،‬فت�أثر بها و�أثرت به‪ ،‬فكان التغنّي بالجمال‬ ‫وا�ضحاً في �شعره‪ ،‬والنغم المو�سيقي ظاهراً في ق�صائده‪ ،‬وهذا ما �أكده النقاد الذين‬ ‫ت��ن��اول��وا �شعره ب��ال��درا���س��ة والتحليل‪ .‬ه��ذه الغنائية والمو�سيقى ف��ي �شعره �أغريتا‬ ‫كبار الملحنين والمطربين في ع�صـره �إل��ى تلحيـن بـعـ�ض ق�صائـده وغنائها‪ ،‬فغنى‬ ‫لـه المو�سيقـار محمد عبدالوهـاب (ق�صيدة الجندول‪ ،‬ق�صيدة فل�سطين‪ ،‬ق�صيدة‬ ‫كيليوباتره)‪.‬‬ ‫‪ 124‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫يبقى ال�س�ؤال لدي‪ ،‬لماذا در�س على محمود‬ ‫طه الهند�سة المعمارية؟! ول��م يدر�س الأدب‬ ‫مثالً! خ�صو�ص ًا و�أن موهبة ال�شعر تبزغ باكر ًا‬ ‫ف��ي ال �ع��ادة‪� ،‬أي قبل ال��درا��س��ة التخ�ص�صية‪،‬‬ ‫كذلك لم يكن في �شظف من العي�ش كي يتجه‬ ‫�إل��ى التخ�ص�ص ف��ي مهنة عملية �أو تطبيقية‬ ‫كالهند�سة ال�م�ع�م��اري��ة‪ ،‬ث��م �إن ه�ن��اك ��س��ؤاال‬ ‫مكم ًال لل�س�ؤال الأول‪ ،‬لماذا الهند�سة المعمارية‬ ‫بالذات؟!‬ ‫فهل يا ت��رى تكوينه النف�سي المفطور على‬ ‫حب الجمال قاده �إلى درا�سة الهند�سة المعمارية‬ ‫وجذبه �إليها! �أم �أنَّ درا�سته للهند�سة المعمارية‬ ‫فجٌ رت فيه كوامن الإح�سا�س فباح بالجمال‬ ‫لفظ ًا ومعنى‪� ،‬أم �إن هناك حال ًة من التماهي بين‬ ‫الحالتين لدرجة االندماج واالن�صهار‪ ،‬ما �أدى‬ ‫�إلى تلك النتائج من المخرجات ال�شعرية التي‬ ‫تمتاز بالألفاظ الخالٌبة وجمال ال�صور الح�سية‪.‬‬ ‫ال جواب قاطع لديَّ على تلك الت�سا�ؤالت؛ لأن‬ ‫الدرا�سات التي تناولت ال�شاعر المهند�س علي‬ ‫محمود طـه و�إنتاجه‪ ،‬تناولته من منظور كونه‬ ‫�شاعراً‪ ،‬ول��م تتناوله من منظور �أن��ه مهند�س‬ ‫معماري �إ�ضافة �إلى كونه �شاعراً‪ ،‬وهذا متوقع؛‬ ‫لأن تلك الدرا�سات والتحليالت قام بها وعليها‬ ‫�أدباء ونقاد للأدب‪.‬‬ ‫الهند�سة المعمارية معنية بالخيال بمفهومه‬ ‫الوا�سع‪ ،‬والجمال ب��أدوات��ه المتعددة المعبرة‬ ‫عنه‪ ،‬من �شكل وحجم الكتل المعمارية والحيز‬ ‫الفراغي �إلى مواد التك�سية بخ�صائ�صها الح�سية‬ ‫والمرئية و�ألوانها المتعددة‪.‬‬ ‫يبد�أ المهند�س المعماري م�شروعه بفكرة‬ ‫ت�صميمية منبثقة م��ن تخيٌل لماهية ال�شكل‬ ‫والحجم والم�ساحة التي �سيكون عليها المبنى‪،‬‬ ‫ف� ��إذا ا�ستقر ال�خ�ي��ال على ف�ك��رة معينة لدى‬ ‫المهند�س المعماري‪ ،‬يبد�أ بترجمتها �إلى ت�صميم‬

‫�أولي مر�سوم ومح�سو�س‪ ،‬ذي بُعدين وذي ثالثة‬ ‫�أب �ع��اد؛ وه��ذه الفكرة تخ�ضع ب��دوره��ا للتطور‬ ‫الطبيعي من خ�لال المالحظات والتمحي�ص‬ ‫�إ�ضاف ًة للمحاولة والتجريب‪ ،‬وورود مزيد من‬ ‫المعلومات ذات العالقة وب��زوغ م�ستجدات‪..‬‬ ‫�إلخ‪ ،‬وهذا الت�صميم الأولي بعد مروره بالتطور‬ ‫الطبيعي نف�سه يتحول �إل��ى ت�صميم ابتدائي‪،‬‬ ‫وال��ذي ب��دوره يتحول �إل��ى ت�صميم نهائي بعد‬ ‫�إدخال وتطبيق كافة المالحظات التي ترد من‬ ‫ذوي العالقة �أثناء التكوين والتبلور‪.‬‬ ‫�أنظر ال�شاعر المهند�س وهو يقول‪:‬‬

‫�آه م�����ا �أروع������ه������ا م�����ن ل���ي���ل���ة ف���ا����ض‬ ‫ف�����ي �أرج�����ائ�����ه�����ا ال����� ّ����س����ح����ر و����ش���اع���ا‬ ‫ن��ف��خ ال���ح���بّ ب��ه��ا م���ن روح�����ه ورم���ى‬ ‫ع������ن ������س����� ّره�����ا ال�����خ�����اف�����ي ال���ق���ن���اع���ا‬ ‫و ج��ل��ا م�����ن �����ص����ور ال���ح�������س���ن ل��ن��ا‬ ‫ع����ب����ق����ر ّي����ا ل����ب����ق ال������ف������نّ ����ص���ن���اع���ا‬ ‫(من ق�صيدة المالح التائه)‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪125‬‬


‫مما تقدم‪ ،‬نالحظ �أن المهند�س المعماري‬ ‫معنيٌّ بالجمال مبنىً ومعنى ً‪ ،‬وح�س ًا و�صورة‪،‬‬ ‫وهذا ما كان من ال�شاعر المهند�س المعماري‬ ‫على محمود طـه‪� ،‬إذ نجد �أنه �أ�ستطاع المزاوجة‬ ‫بتناغم بين جمال الكلمة وخالبة المعنى ودقة‬ ‫المدلول‪ ،‬ب�أ�سلوب �سل�س ين�ساب منه مو�سيقى‬ ‫خفية تت�سلل بين ثنايا الكلمات‪ ،‬كما �أن في‬ ‫�شعره تج�سيد ًا ل�صور �شعرية هي محاكاة لل�صور‬ ‫الح�سية التي يُبدعها المهند�س المعماري كما‬ ‫في ق�صائده الو�صفية‪.‬‬

‫�أي������ن م��� ّن���ي الآن �أح���ل���ام ال��ب��ح��ي��رة‬ ‫و ����س���م���اء ك�����س��ت ال���� ّ���ش���ط����آن ن�����ض��رة‬ ‫م���ن���زل���ي م��ن��ه��ا ع���ل���ى ق���مّ���ة ���ص��خ��ره‬ ‫ذات ع��ي��ن م���ن م��ع��ي��ن ال���م���اء ث���رّه‬ ‫بعد ذلك يبد�أ المهند�س المعماري رحلته مع‬ ‫اختيار مواد التك�سية والنهو وفق محددات عديدة‬ ‫يفر�ضها �شكل الت�صميم وهيئته‪ ،‬وطبيعة الأداء‬ ‫المطلوب‪ ..‬مت�أثر ًا بالزمان والمكان‪ ،‬والمتكئة‬ ‫على ال�شكل المطلوب المن�سجم مع الت�صميم‪،‬‬ ‫وك��ذل��ك ح�سب الملم�س المت�سق م��ع الوظيفة‬ ‫المحددة وفق ًا لم�ستوى الجودة المطلوبة‪ ،‬يلي‬ ‫ذلك تحديد الأل��وان المعبرة عن ما هو مطلوب‬ ‫من الت�صميم‪ ،‬وتن�سيقها على �ضوء معايير منها‪:‬‬ ‫التعار�ض‪ ،‬والتكامل‪ ،‬والتجان�س‪ ،‬واالت�ساق‪�..‬إلخ‪.‬‬

‫و�أي�ض ًا‬

‫�أي����ه����ا ال����م��ل�اح ق����ف ب���ي���ن ال��ج�����س��ور‬ ‫ف���ت���ن���ة ال����دن����ي����ا و�أح�����ل�����ام ال����ده����ور‬ ‫�����ص����ف����ق ال������م������وج ل�������ول�������دان وح������ور‬ ‫ي����غ����رق����ون ال���ل���ي���ل ف�����ي ي���ن���ب���وع ن���ور‬

‫(من ق�صيدة الجندول)‬ ‫�إن عمل المهند�س المعماري بطبيعته عمل‬ ‫فردي حر‪ ،‬والذي يبد�أ بخيال يتحول �إلى فكرة‬ ‫بعد مروره ب�أطواره الطبيعية‪� ..‬إلى �آخر ما قيل‬ ‫ن������ف������ح������ات رق���������������ص ال������ب������ح������ر ل���ه���ا‬ ‫�أنفاً‪ ،‬وهذا ما كان يتمتع به �شعره‪ ،‬حيث «ينحو‬ ‫وه����ف����اَ ال��� ٌن���ج���م خ���ف���وق���اً وال���ت���م���اع���ا �إلى فكرة الفردية الرومان�سية والحرية»‪ ،‬ح�سب‬ ‫قول الناقد د‪� .‬سمير �سرحان‪ ،‬كما �أن د‪ .‬محمد‬ ‫و����س���رى م���ن ج��ان��ب الأر������ض ���ص��دى‬ ‫ح�������رّك ال���ع�������ش���ب ح���ن���ان���ا وال���ي���راع���ا ح�سين هيكل و�صف في كتابه ثورة الأدب �شعر‬ ‫ال�شاعر على محمود طـه بقوله‪« :‬فكرة �أو �صورة‬ ‫ب������ع������ث الأح���������ل���������ام م��������ن ه���ج���ت���ه���ا‬ ‫عاطفية يفي�ض بها القلب في �صيغة مت�سقة من‬ ‫ك�������س���راي���ا ال���طّ ���ي���ر ن����فّ����رن ارت���ي���اع���ا اللفظ‪ ،‬تخاطب النف�س وت�صل �أعماقها من غير‬ ‫حاجة �إلى كلفة وم�شقة»‪.‬‬ ‫(من ق�صيدة المالح التائه)‬

‫* مهند�س ا�ست�شاري‪ :‬متخ�ص�ص في هند�سة القيمة و�إدارة الم�شاريع‪.‬‬ ‫‪ 126‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫�إرها�صات ق�صيدة النثر‬ ‫المهاد‬ ‫والوقوف على ُ‬ ‫■ �سعيد نوح*‬

‫يُقال �إن هذا ما حدث منذ �آالف ال�سنوات‪ ،‬كان هناك‬ ‫رج��ل ح���ا ّد ال��م��زاج‪ ،‬عنيف ال��ط��ب��ع؛ م��ا �أ���ض��اع عليه كثيرا‬ ‫من الوقت‪ ،‬و�أفقده كثيرا من الأ�صدقاء المخل�صين في‬ ‫ح��ي��ات��ه‪ .‬ذه��ب ال��رج��ل �إل���ى حكيم ع��ج��وز يلب�س الأ���س��م��ال‬ ‫البالية‪ ،‬و�س�أله‪ :‬كيف يمكنني باهلل عليك �أن �أ�سيطر على‬ ‫�شيطان الغ�ضب؟ �أمره العجوز �أن يرحل �إلى واحة قاحلة‬ ‫ب��ع��ي��دة ف��ي ال�����ص��ح��راء‪ ،‬و�أن يجل�س ه��ن��اك ب��ي��ن الأ���ش��ج��ار‬ ‫الذابلة‪ ،‬و�أن ي�سحب الماء �شبه المالح‪ ،‬ويقدمه �إلى �أي م�سافر �أو عابر �سبيل يمكن‬ ‫�أن يغامر بالمرور هناك‪ ،‬وهو يقر�ضه ال�شعر الذي ال بد يقر�أه طوال الوقت‪ .‬ولما‬ ‫كان الرجل يريد قهر الغ�ضب فقد فعل‪ .‬مرت الأيام وال�شهور دون مرور عابر واحد‬ ‫للطريق‪ ،‬كان خاللها الرجل ال��ذي ت�سربل ب��رداء يقيه رم��ال ال�صحراء الطائرة قد‬ ‫تعوّد على �سحب المياه الحم�ضية الرطبة من باطن الأر�ض‪ ،‬وكتابة ما ي�شبه ال�شعر‪.‬‬ ‫مر عليه رجل �أ�سود يركب جَ َمالً‪ ،‬فم َّد يده للمرة الأولى ب�إناء الماء فرده الأ�سود وهو‬ ‫متكبر‪ ،‬وم�ضى ينه�ض بجمله‪ ،‬ف�أن�شده �شعرا جميال مما في الكتاب‪ ،‬ف��راح الرجل‬ ‫الأ�سود ي�ضحك‪ ،‬ورف�سه بقدمه‪.‬‬ ‫ا�ستبد الغ�ضب ب�صاحبنا مرة �أخرى‪ ،‬ف�أم�سك بالرجل الأ�سود‪ ،‬وقتله في الحال‪ .‬وما‬ ‫�أن مات الأ�سود حتى ا�ستبد الحزن بالرجل‪ ،‬وظل يبكي �ضياع عمره‪ ،‬حتى وجد نف�سه‬ ‫يكتب ق�صيدته الأولى الحقيقية التي ال تنتمي �إال له‪ .‬لحظة ذاك تحوّلت مياه الواحة‬ ‫العكرة الحم�ضية �إلى مياه عذبة �صافية‪ ،‬و�أينعت �أ�شجارها الذابلة‪ ،‬وتفجرت ثمارها‬ ‫بالنماء‪ .‬هكذا �أخبرنا القدماء عن ال�شعر الحقيقي‪ ،‬ال�شعر في كل تجلياته‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪127‬‬


‫هكذا ان�شغل الباحث عبداهلل ال�سمطي بفكرة‬ ‫ال�شعرية‪� ،‬سواء و�سمت بها ق�صائد موزونة‪� ،‬أو‬ ‫ق�صائد التفعيلة‪� ،‬أو حتى الق�صائد المنثورة‪،‬‬ ‫فالفرق بين �شكل �شعري و�آخر هو مدى �شعريته‪.‬‬ ‫ل��ذا‪� ،‬أم�ضى ع�ب��داهلل ال�سمطي م��ن عمره ع�شر‬ ‫�سنوات ليبحث ويكر�س وينظر لما �سمي بق�صيدة‬ ‫النثر‪ ،‬فخرج لنا بمو�سوعة‪« :‬المو�سوعة لق�صيدة‬ ‫النثر العربية»‪ ،‬تتكون من عدة �أجزا ٍء تناول فيها‬ ‫التحوالت الجمالية لق�صيدة النثر العربية منذ‬ ‫الإرها�صات الأولى لظهورها عبر ال�شعر المنثور‪،‬‬ ‫حتى �إط�لاق ت�سميتها بق�صيدة النثر منت�صف‬ ‫ال�ق��رن الع�شرين ال�م�ي�لادي‪ ،‬را� �ص �دًا �أب��رز هذه‬ ‫التحوالت التي �أثرت في م�سيرتها وانت�شارها‪.‬‬ ‫يت�ضمن المجلد الأول �سبعة �أج� ��زاء‪ ،‬وقد‬ ‫حملت العناوين التالية‪ :‬ق�صيدة النثر الم�صطلح‬ ‫و�إ�شكاالته‪� ،‬إرها�صات ق�صيدة النثر‪ ،‬تجارب �أولية‬ ‫في ق�صيدة النثر‪ ،‬مجلة �شعر و�أ�صوات الت�أ�سي�س‪،‬‬ ‫الق�ضايا الجمالية ف��ي ق�صيدة ال�ن�ث��ر‪ ،‬ال��ذات‬ ‫ال�شاعرة في ق�صيدة النثر‪ ،‬انبثاق ق�صيدة النثر‬ ‫الن�سوية‪.‬‬ ‫في الجزء الثاني‪ ،‬ي�أخذنا الباحث عبداهلل‬ ‫ال�سمطي �إلى الإرها�صات الأولى لق�صيدة النثر‪،‬‬ ‫�إذ حاول �أن يكرّ�س وينظر لتلك المختلف عليها‪.‬‬ ‫ت��روم درا��س�ت��ه �إل��ى ا�ستيفاء الأب �ع��اد الجمالية‬ ‫للتجربة ب�شكل منظّ م ومركّز‪ ،‬يعمد خاللها �إلى‬ ‫�إيالء الطاقة التعبيرية وال�شعرية والوقوف على‬ ‫�أجلِّ خ�صائ�صها‪.‬‬ ‫لكن ق�صيدة النثر طرحت �إ�شكالية كبرى‪،‬‬ ‫فاختيار الكتابة خارج ال��وزن العرو�ضي كان من‬ ‫الأ�س�س الرا�سخة لهذه التجربة ال�شعرية‪ ،‬والكتابة‬ ‫ع��ب��ر الإي��ق��اع��ات ال��م��ف��ت��وح��ة م��ن اال���ش��ت��راط��ات‬ ‫اال�صطالحية لهذه الق�صيدة‪� ،‬إذ تنطوي تلك‬ ‫الق�صيدة على مبد�أ فو�ضوي وه �دّام‪� ،‬إذ ن�ش�أت‬ ‫�أ�سا�سا من التمرد على قوانين الوزن والعرو�ض‪،‬‬ ‫‪ 128‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫و�أحيانا على القوانين العادية للغة‪ .‬ومنذ البداية‪،‬‬ ‫يطرح ال�سمطي المفهوم الخاطئ لل�شعر الذي‬ ‫�ألزمنا به المحدثون والمنظرون‪ ،‬لفترة الإحياء‬ ‫ال�شعري(زمن النه�ضة الأدبية منذ �أواخر القرن‬ ‫التا�سع ع�شر وبدايات القرن الع�شرين)‪ ..‬حين‬ ‫وَ�سَ موه بالكالم ال�م��وزون المقفّى ذي المعنى‪.‬‬ ‫وخالل الف�صل الأول يقف على جملة من �أ�سماء‬ ‫ال�شعراء والنقاد الذين �أرّخوا ونظَّ روا لتلك الحقبة‪،‬‬ ‫مثل ال�ب��ارودي‪ ،‬وزك��ي مبارك‪ ،‬وميخائيل نعيمة‪،‬‬ ‫و�أحمد �شوقي‪ ،‬وحافظ �إبراهيم‪ ،‬والمر�صفي‪ ،‬وطه‬ ‫ح�سين‪ ،‬والعقاد‪ ،‬ورزق اهلل ح�سونة‪ ،‬و�إبراهيم‬ ‫اليازجي‪ ،‬والرافعي‪ ،‬والمنفلوطي‪ ،‬وخليل مطران‪،‬‬ ‫وجبران؛ ليخرج لنا من وقوفه ذاك وت�أمله العميق‬ ‫ب�أربع �أمور جوهرية‪ ،‬ر�سخت للتحوّل عن الن�سق‬ ‫ال�شعري الموروث والمهيمن‪.‬‬ ‫�أولها‪ :‬التوجّ ه لال�ستغناء عن القافية‪.‬‬ ‫ثانيها‪ :‬رف�ض �أن يكون الوزن وحده هو المعيار‪.‬‬ ‫ثالثها‪ :‬المطالبة بع�صرية ال�شعر‪.‬‬ ‫رابعها و�أخرها‪ :‬التقريب بين المنظوم والمنثور‪.‬‬ ‫ث��م ي��ق��ف ع��ل��ى الأ���ش��ك��ال ال�ن�ث��ري��ة ال�شعرية‪،‬‬ ‫ليفرق بينها في دُربة وحِ نكة‪ ،‬لي�ستق�صي لنا من‬ ‫الكتب الموروثة‪ ،‬كالمقامات والخطب والر�سائل‬ ‫و«المواقف والمخاطبات» للنفري‪ ،‬و«الطوا�سين»‬ ‫للحالج‪ ،‬حتى ي�صل �إل��ى المحدثين‪ .‬ويقف على‬ ‫�أ�سماء ثالثة يجب التفريق بينهم‪ :‬ويبد�أ بالنثر‬ ‫الفنيّ ال��ذي تتمثل ق َي ُم ُه في جملة من ال�سمات‪،‬‬ ‫تتلخ�ص في التزام ال�سجع واال�ستطراد والتجني�س‬ ‫والجزالة؛ ويتجلى ذلك في ما �سُ مي بالنثر الفني‪،‬‬ ‫من خالل «�صهاريج الل�ؤل�ؤ» للبكري‪ ،‬و«النظرات‬ ‫والعبرات» للمنفلوطي‪ ،‬ونقف قليال لن�ستنتج ما‬ ‫قام به ذلك الباحث من خالل منهج �شوقي الذي‬ ‫تق�ص النظر‪ ,‬وق��� ّ��ص الأث��ر‪,‬‬ ‫ق��ال‪« :‬ق��م لل�سماء ّ‬ ‫واجمع الخُ بر والخَ بر‪ .‬وكيف ترى الطير تح�سبه‬ ‫ُت���رك‪ ,‬وه��و ف��ي ���ش��رَكَ ‪ ,‬ا�ستهدف فما نجا حتى‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫هلك!!» تعالى اهلل دلّ ‪.‬‬ ‫واال� �س��م ال �ث��ان��ي ه��و ال�ن�ث��ر ال�ف�ن��ي المتطور‬ ‫ال��ذي ا�ستقاه الباحث من خ�لال تجربة �صادق‬ ‫الرافعي‪ ،‬الذي خ�ص�ص جُ َّل �أعماله في مو�ضوع‬ ‫واحد هو الحب‪ ..‬وب�سط ذلك في كتبه‪« :‬ر�سائل‬ ‫الأحزان»‪ ،‬و«ال�سحاب الأحمر في فل�سفة الحب»‪،‬‬ ‫و«�أوراق ال��ورد»‪ ،‬و«حديث القمر»‪ .‬يقف عبداهلل‬ ‫ال�سمطي بالدرا�سة والبحث العميق على تجربة‬ ‫الرافعي الذي خ�ص�ص له ف�صال كامال‪ ،‬ليك�شف‬ ‫ما و�صل �إليه ال�شعر المنثور من تطور على يديه‪.‬‬ ‫ولقد كان الرافعي مدركا لما يقدمه‪ ،‬واعيا بدقة‬ ‫الفرق بين ال�شعر والنثر‪ ،‬حتى �أنه قال‪ :‬ن�ش�أ في‬ ‫�أيامنا ما ي�سمونه ال�شعر المنثور‪ ،‬وهي ت�سمية تدل‬ ‫على جهل وا�ضعيها ومن ير�ضاها لنف�سه‪ ،‬فلي�س‬ ‫ي�ضيق النثر بالمعاني ال�شعرية‪ ،‬وال هو قد خال‬ ‫منها في تاريخ الأدب‪ ،‬ولكن �سر هذه الت�سمية �أن‬ ‫ال�شعر العربي �صناعة مو�سيقية دقيقة يظهر فيها‬ ‫االخ�ت�لال لأوه��ى علة‪ ،‬ولأي�سر �سبب‪ ،‬وال يوافق‬ ‫�إال �سبك المعاني فيها‪� ..‬إال من �أمده اهلل ب�أ�صلح‬ ‫طبع و�أ�سلم ذوق و�أف�صح بيان‪ ،‬فمن �أجل ذلك ال‬ ‫يحتمل �شيئا من �سخف اللفظ �أو ف�ساد العبارة �أو‬ ‫�ضعف الت�أليف‪ .‬غير �أن النثر يحتمل كل �أ�سلوب‪،‬‬ ‫وما من �صورة فيه �إال ودونها �صورة‪� ،‬إلى �أن ينتهي‬ ‫�إلى العامي ال�ساقط وال�سوقي البارد‪ ،‬ومن �ش�أنه‬ ‫�أن ينب�سط وينقب�ض على ما �شئت منه‪ ،‬وما يتفق‬ ‫فيه من الح�سن ال�شعري ف�إنما هو كالذي يتفق في‬ ‫�صوت المطرب حين يتكلم ال حين يغني‪ .‬فمن قال‬ ‫ال�شعر المنثور فاعلم �أن معناه عجز الكاتب عن‬ ‫ال�شعر من ناحية وادعائه من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫لقد خرج بر�ؤية دقيقة لما �سماه بالنثر الفني‬ ‫المتطور‪ .‬ولقد بزغ م�صطلح ال�شعر المنثور من‬ ‫وجهته الفنية مع كتابات �أمين الريحاني‪� ،‬إذ يعود‬ ‫تاريخ �أول ق�صيدة كتبها في ال�شعر المنثور كما‬

‫يجزم الريحاني �إلى اليوم الثاني من �شهر ت�شرين‬ ‫الأول عام ‪1905‬م‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يت�ضح لنا �أن مفهوم‬ ‫ال�شعر المنثور �أو الق�صيدة المنثورة كان معروفا‬ ‫لدى الكتاب والأدب��اء في �أوائ��ل القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫وت ��رى ال �ن��اق��دة يمنى ال�ع�ي��د ح�سبما ي ��ورد لنا‬ ‫ال�سمطي �أن �أهمية �أمين الريحاني كانت في و�ضعه‬ ‫ق�ضية الكتابة والإبداع �أمام �س�ؤالها الأول‪�،‬أي �أمام‬ ‫م�س�ألة نقلها من دائرة اللفظ والتكرار والقوالب‬ ‫الجاهزة التي ظل الكثير من الكتابات الأدبية‬ ‫�أ�سيرها �إلى دائرة البحث عن لغة �أدبية �إبداعية‬ ‫تنه�ض بم�ضمون حي لها‪.‬‬ ‫ويك�شف لنا ال�سمطي من خالل بحثه الدقيق‬ ‫�أن الدرا�سات الكثيرة التي تناولت كتابات جبران‬ ‫ودوره في ال�شعر المنثور‪ ،‬جاءت من خالل كونه‬ ‫مهاجرا يحمل الجن�سية الأمريكية‪ ،‬فلقد �أثبت‬ ‫الباحث �أن جُ ل ما كتبه جبران كان �أربعة ع�شر‬ ‫ن�صا‪ ،‬في حين �أن �أمين الريحاني كان له الف�ضل‬ ‫الأكبر والإنجاز الأعظم في تلك الت�سمية‪ .‬ومن‬ ‫يو�ضح الباحث المرجع‬ ‫خ�لال ق ��راءة محايدة ِّ‬ ‫الأ� �س��ا���س لكتابات ج �ب��ران ال ��ذي ا�ستفاد �أيما‬ ‫ا�ستفادة من لغة التوراة‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬تفرد وتميز‪،‬‬ ‫كما يك�شف لنا ال�سمطي �أن التراكيب الجبرانية‬ ‫خ�صبة بالمتناق�ضات‪ :‬النعيم والجحيم‪ ،‬ال�سم‬ ‫والد�سم‪ ،‬الليل والفجر‪ ،‬مالئكة ال�سعادة‪ ،‬و�أبال�سة‬ ‫ال�شر‪ .‬ولقد ا�ستطاع جبران عبر تلك المتناق�ضات‬ ‫�أن يقدم النموذج الأمثل لل�شاعر الإن�سان‪.‬‬ ‫وقد �أنهى الباحث كتابه الثاني من مو�سوعته‬ ‫التي �أخ��ذت من عمره ما يربو عن ع�شر �سنوات‬ ‫ببع�ض النتائج الم�ستخل�صة من درا�سته لنماذج‬ ‫ب��د�أه��ا بالنفري و�أن �ه��اه��ا بكتابات الريحاني‪،‬‬ ‫وجبران‪ ،‬ومفرج‪ ،‬ونعيمة‪ ،‬وم��يّ زي��ادة‪ ،‬ويو�سف‬ ‫ال�ح��داد‪ ،‬وح�سين عفيف‪� ،‬إل��ى �أنها ق�صائد نثر‬ ‫�أولية‪.‬‬

‫ * كاتب من م�صر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪129‬‬


‫معر�ض الريا�ض الدولي للكتاب‬ ‫في ن�سخة ‪2015‬‬ ‫وم�شاركة مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي‬ ‫■ حممد �صوانه‬

‫معار�ض الكتب‪ ،‬ظاهرة ح�ضارية‪ ،‬تمثل محركاً محرِّ�ضاً على اقتناء الكتب‪ ،‬وتحفيز‬ ‫الزائر على ت�شكيل مكتبة �صغيرة في بيته‪ ،‬يزودها بباقة متنوعة من الكتب التي‬ ‫يختارها من المعر�ض ومن غيره‪ ،‬على �أمل قراءتها في �أوقات الحقة‪..‬‬ ‫فاقتناء الكتب فن‪ ،‬ولكل متعلق بالقراءة �أو ها ٍو لها ذوق مختلف عن غيره‪ ،‬باختالف‬ ‫الخبرات والتوجّ هات القرائية والمعرفية‪ ..‬لكنها تظل هواية و�صنعة لها ما بعدها‪،‬‬ ‫قد ت�أخذ �صاحبها في رحلة ماتعة في نتاج عقول المفكرين والم�ؤلفين من الأدباء‬ ‫والعلماء �شيوخا و�شبابا‪ ،‬رجاال ون�ساء‪ ..‬فيقطف من منتجهم ما يروق له من قطوف‬ ‫دانية‪ ،‬ال تحتاج منه �أكثر من فتح �أغلفة الكتب واال�ستمتاع بقراءة ما �سطّ ره غيره‪..‬‬ ‫وبذلوا لإنجازه الأوقات الطويلة‪ ،‬وهو يقطف منتجهم في دقائق �أو �ساعات معدودة!‬ ‫في كل عام يعود معر�ض الريا�ض الدولي‬ ‫للكتاب‪ ،‬في�شكل تظاهرة ثقافية وقرائية‬ ‫الفتة في مركز المعار�ض على طريق الملك‬ ‫ع �ب��داهلل‪ ،‬ف�ت��رى ال ��زوار زراف ��ات ووح��دان��ا‬ ‫وجماعات و�أ��س��ر ب�أكملها ت��زور المعر�ض‬ ‫خِ ما�صاً‪ ،‬ليعودوا في ختام جولتهم بِطاناً‪،‬‬ ‫م�ح�م�ل�ي��ن ب �م��ا ط ��اب ل �ه��م م��ن ث �م��ار دور‬ ‫الن�شر الوطنية والعربية والعالمية‪ ..‬وقد‬ ‫تجد بع�ضهم يجر عربة ام�ت�ل�أت بالكتب‪،‬‬ ‫و�آخرين يختارون كتبا مخ�صو�صة؛ يعودون‬ ‫والفرح بادٍ على وجوههم‪ ،‬ك�أنهم يتجولون‬ ‫‪ 130‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫ف��ي ب�ساتين م��زه��رة‪ ،‬وه��ي حقا ب�ساتين‬ ‫لكنها ب�ساتين العقول والأف�ك��ار والخبرات‬ ‫المتنوعة‪ ،‬يقطفون منها ما من �ش�أنه �أن‬ ‫ي��زي��د م��ن م �خ��زون ال�م�ع��رف��ة وال �ع �ل��م وم��ا‬ ‫يمنحهم ما يبحثون عنه من متعة القراءة‬ ‫التي تغذي العقل والذائقة على حد �سواء‪.‬‬ ‫وقد �شهد معر�ض الريا�ض الدولي للكتاب‬ ‫هذا العام (‪ 14-4‬مار�س ‪2015‬م) م�شاركة‬ ‫عدد كبير من دور الن�شر الوطنية والعربية‬ ‫والعالمية‪ ،‬و�صار المعر�ض تظاهرة �سنوية‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬ ‫ينتظرها ع�شاق الكتب والنا�شرون على حد �سواء‪ .‬مكة المكرمة خالل الع�صر العثماني»‪ ،‬وكتاب �آثار‬ ‫جاء المعر�ض مُطلق ًا (الكتاب‪ ..‬تعاي�ش) �شعار ًا المملكة‪� :‬إنقاذ ما يمكن �إنقاذه‪.‬‬ ‫لهذه الدورة ليعك�س الر�سالة التي يُراد �إي�صالها‬ ‫كما �شمل جناح الم�ؤ�س�سة كتاب ف�صل من‬ ‫�إلى الأجيال النا�شئة‪.‬‬ ‫ت��اري��خ وط��ن و��س�ي��رة رج� ��ال‪ :‬ع�ب��دال��رح�م��ن بن‬ ‫وق��د ���ش��ارك م��رك��ز عبدالرحمن ال�سديري �أحمد ال�سديري �أمير منطقة الجوف‪ ،‬وهو عن‬ ‫الثقافي في معر�ض الريا�ض الدولي للكتاب في �سيرة الأمير عبدالرحمن ال�سديري الذي عمل‬ ‫دورت��ه لهذا ال�ع��ام‪ .‬و�ضم جناح المركز خالل �أميرا لمنطقة الجوف لنحو ن�صف قرن‪� ،‬شارك‬ ‫المعر�ض نحو (‪� )140‬إ� �ص��دار ًا علميا و�أدب�ي��ا ف�ي��ه مجموعة م��ن الباحثين وح���رره ال��دك�ت��ور‬ ‫متنوّعاً‪ ،‬منها ‪ 65‬كتابا و‪ 75‬ع��ددا من دوريتي عبدالرحمن ال�شبيلي‪.‬‬ ‫مجلة �أدوم���ات���و ومجلة ال��ج��وب��ة‪� .‬شملت الكتب‬ ‫ومَ ن يت�صفح عناوين الإ�صدارات التي �ضمها‬ ‫الدرا�سات التاريخية وال�سيرة والآث��ار والتراث‬ ‫والعمارة والعلوم الإن�سانية والطبيعية‪ ،‬و�إ�صدارات الجناح‪ ،‬يتبين �أنها م�ؤلفات علمية واجتماعية‬ ‫و�أدب��ي��ة‪ ،‬ويلحظ �أن �ه��ا ت��ر ّك��ز على ق�ضايا تهم‬ ‫�أدبية في ال�شعر والق�صة و�أدب الأطفال‪.‬‬ ‫المجتمع ال�سعودي‪ ،‬وبع�ضها يتناول ق�ضايا تخ�ص‬ ‫ومن الإ��ص��دارات الحديثة التي عر�ضت هذا‬ ‫منطقة الجوف مقر �إدارة مركز عبدالرحمن‬ ‫العام في جناح الم�ؤ�س�سة‪ :‬الطبعة الثانية المنقحة‬ ‫ال�سديري الثقافي (النا�شر)‪.‬‬ ‫والمعاد ترجمتها لكتاب �صحراء �شمالي الجزيرة‬ ‫يحر�ص المركز من خالل م�شاركته في معر�ض‬ ‫العربية‪ :‬حدودها و�سكانها وم�ستوطناتها‪ ،‬لم�ؤلفه‬ ‫الوي�س مو�سيل‪ ،‬وترجمة د‪ .‬زي��دون ال�شرع‪ .‬وقد الكتاب �إلى الإ�سهام في هذه التظاهرة الثقافية‬ ‫حظي الكتاب باهتمام زوار الجناح في المعر�ض‪ .‬التي تعد دعم ًا لحركة الن�شر والبحث العلمي في‬ ‫�إ�ضافة �إل��ى كتابي «النوازل والفتن و�آثارها في المملكة‪ ،‬و�إ�سهاما في توفير �إ�صداراته المدعومه‬ ‫بالد الحجاز»‪ ،‬و»عوامل الهجرات ال�سكانية �إلى لتكون في متناول الباحثين والقراء والمهتمين‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪131‬‬


‫�سامر والكتاكيت‬ ‫امل�ؤلف ‪ :‬حممد �صوانه‬ ‫النا�شر ‪ :‬مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقايف‬

‫�صدر حديث ًا عن م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سّ ديري �أق�صو�صة بعنوان‪�( :‬سامر‬ ‫والكتاكيت) لم�ؤلفها محمّد �صوانه‪ ،‬ج��اءت في �سبع وع�شرين �صفحة من‬ ‫ال�صورة‬ ‫القطع المتو�سط‪ ،‬ولعلّها تنبئ بعمل فني جديد‪ ،‬يتج�سّ د في توظيف ّ‬ ‫والر�سومات لنقل المعنى والدّاللة لمرحلة عمرية لها دور في بناء ال�شّ خ�صية‬ ‫الإن�سانيّة‪( :‬عالم الطفولة)‪.‬‬ ‫المت�أمّل في هذا العمل الأدبي يجد طرح ًا مغاير ًا لما عهدناه في الأعمال‬ ‫الأدبية والكال�سيكية في تركيزها على اللفظ والجملة‪ ،‬وتقدم فكرتها للنا�شئة‬ ‫ب�أ�سلوب الفت ومحبب‪ ،‬ومثيرة للتفكير في الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫ومن هنا‪ ،‬ن�ستطيع �أن نقول‪� :‬إنّ �أق�صو�صة‪�( :‬سامر والكتاكيت) لون �أدبي‬ ‫جميل‪ ،‬موجه لعالم الطفولة‪ ،‬تمكّن من خاللها الم�ؤلف من بثِّ �أفكاره ور�ؤاه‬ ‫ب�أ�سلوب فنيٍّ و�أدبي رائعين‪ ،‬وظّ ف فيها �أدوات الق�ص وري�شة الر�سام في ت�شكيل‬ ‫ق�صة تقوم على لفت انتباه الطفل ب�أ�سلوب حكائي مب�سط‪ ،‬وفي الوقت نف�سه‬ ‫�إثارة تفكيره‪.‬‬ ‫�إن مثل هذا العمل الأدبي‪ ،‬الموجّ ه نحو النا�شئة يتطلب مزيد ًا من الدّعم‬ ‫والم�ساندة لإيجاد منظومة متكاملة في مجال �أدب الطفل‪.‬‬ ‫‪ 132‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫ق�����������������������������������������������������������������������������������راءات‬

‫قالت حامدة‪:‬‬ ‫�أ�ساطري حجازية»‬ ‫امل�ؤلف ‪ :‬عبده خال‬ ‫النا�شر ‪ :‬دار ال�ساقي‬

‫بعد زمن طويل من الجمع والتوثيق للأ�ساطير الحجازية‪� ،‬أ�صدر الروائي‬ ‫عبده خال كتاب «قالت حامدة‪�-‬أ�ساطير حجازية» جمع فيها و�أع��اد �صياغة‬ ‫مجموعة كبيرة من الحكايات ال�شعبية في منطقة الحجاز‪� ،‬ضمت �أكثر من‬ ‫(‪ )100‬حكاية �أو �أ�سطورة‪ ،‬جاءت في (‪� )576‬صفحة من القطع المتو�سط‪،‬‬ ‫مهديا الكتاب �إلى �إحدى �أبرز م�صادر الكتاب ال�سيدة حامدة حمدان الحربي‬ ‫والدة زوجته حنان‪.‬‬ ‫ي�ضم هذا الكتاب وفرة من الحكايات ال�شعبية الحجازية جمعها الكاتب من‬ ‫�أفواه الرواة و«الحكّاءات» مبا�شرةً‪ .‬وعلى الرغم من �أنّ الحكايات ال�شعبية قد‬ ‫تتماثل من حيث مو�ضوعاتها و�سردياتها‪� ،‬إال �أن كل منطقة ت�ضفي عليها نكه ًة‬ ‫تخ�صها دون غيرها‪ ،‬وهو ما فعلته الحجاز �أي�ضاً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وجاء في تعريف الكتاب «�إنّ عادة الحكي في الحجاز حميمة جداً‪� ،‬إذ تكون‬ ‫الحكاية خا�صة بالأبناء ولي�ست عامة‪ ،‬ومَ ن تقوم بال�سرد هي �أم �أو جدّة تحكي‬ ‫لأبنائها �أو �أحفادها‪ ،‬وتتم الحكاية قبل النوم‪ ،‬ولهذا �شاع تعبير «حكاية قبل‬ ‫النوم»‪ ،‬وهي حكايات تدور في محيط الواقع مخف ّف ًة من عوالم الجنّ وال�سحرة»‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪133‬‬


‫الأعمال ال�شعرية‬ ‫امل�ؤلف ‪ :‬الدكتورة فوزية �أبو خالد‬ ‫النا�شر ‪ :‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر بريوت‬ ‫�ضمن �سل�سلة وع��د‪� ،‬صدر عن الم�ؤ�س�سة العربية‬ ‫ل�ل��درا��س��ات والن�شر – ب�ي��روت – مجموعة الأع�م��ال‬ ‫ال�شعرية لل�شاعرة الدكتورة فوزية �أب��و خالد‪� ،‬إح��دى‬ ‫�أبرز ال�شاعرات العربيات‪ ،‬والأديبة والكاتبة ال�سعودية‬ ‫المعروفة‪ ،‬ف��ي مفاج�أة ��س��ارة لقرائها ومحبيها؛ �إذ‬ ‫�ضمّنت مجموعة «الأعمال ال�شعرية» جميع دواوينها التي‬ ‫�أ�صدرتها في م�سيرتها الإبداعية‪ ،‬ومنها مجموعة �شعرية‬ ‫جديدة لم تن�شر من قبل عنوانها «ملم�س الرائحة»‪.‬‬ ‫�ضمت مجموعة الأعمال ال�شعرية دواوين‪� :‬إلى متى‬ ‫يختطفونك ليلة العر�س ‪� -‬أ�شهد الوطن قراءة في ال�سر‬ ‫لتاريخ ال�صمت العربي ‪ -‬ماء ال�سراب ‪ -‬مرثية الماء ‪-‬‬ ‫�شجن الجماد ‪ -‬تمرد عذري ‪ -‬ملم�س الرائحة‪.‬‬ ‫وبمنا�سبة تد�شين المجموعة في معر�ض الريا�ض‬ ‫ال��دول��ي للكتاب ‪2015‬م ف��ي م��ار���س ‪2015‬م‪ ،‬وقّعت‬ ‫ال�شاعرة كتابها الجديد لقرائها ومعجبيها في رواق‬ ‫التوقيع بالمعر�ض بح�ضور عدد من ال�شعراء والأدب��اء‬ ‫والإعالميين‪.‬‬ ‫وق��د كتبت ال���ش��اع��رة الكبيرة �سلمى الخ�ضراء‬ ‫ال�ج�ي��و��س��ي م�ق��دم��ة ب��اذخ��ة للمجموعة‪ ،‬م�ع�ب��رة عن‬ ‫مفاج�أتها ب�شعر فوزية �أبو خالد بات�ساع رقعة اهتماماتها‬ ‫التي تجمع بين ال�شخ�صي والحميم وبين هموم العالم‬ ‫الوا�سع‪ ،‬م�شيرة �إلى �أنها عالمة الأ�صالة الأولى‪ ،‬قائلة‬ ‫�إنها ام��ر�أة عظيمة ال�شجاعة ال تت�صالح لحظة واحدة‬ ‫مع اعوجاج المارقين‪ ..‬بل تظل قاب�ضة على الجمر‪،‬‬ ‫م�ؤكدة �أن ق�صائدها عامرة بحب الوطن العربي والقلق‬ ‫عليه وخا�صة فل�سطين‪ ،‬و�أنها من �أوائل ثائرات الجزيرة‬ ‫ولعلها �أ�صبرهن على الظلم‪ ،‬عالقتها مع ال�شعر عالقة‬ ‫‪ 134‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬

‫عميقة را�سخة‪ ،‬حيث الن�ص ال�شعري عندها ال يغبط‬ ‫حق المعنى في �سبيل تنويع ال�صورة المبتكرة‪ ،‬م�ؤكدة‬ ‫�أن �إم�ساكها باللغة ال�شعرية مده�ش منذ �أول مجموعة‪،‬‬ ‫م�شيرة �إلى �أن �شعر الدكتورة فوزية �أبو خالد ال ي�شكو‬ ‫من الغمو�ض المعقد ال��ذي �أره��ق كثيرا من التجارب‬ ‫ال�شعرية و�أط�ف��أ بريقها؛ لأنها �شاعرة تهتم بالمعنى‬ ‫وت�ؤديه بو�ضوح‪.‬‬ ‫كما �ضمت المجموعة تقديما لل�شاعر علي الدميني‬ ‫بعنوان‪ :‬فوزية �أب��و خالد‪ :‬كيف �أفلتت الفرا�شات من‬ ‫حرائق ال�ضوء‪.‬‬ ‫ول��م ت�ت��رك ال���ش��اع��رة ق ��راء مجموعتها ال�شعرية‬ ‫الجديدة دون �أن تكتب لهم «م�شكاة الكتابة» م�ضمنة‬ ‫�سيرتها الإبداعية بدء ًا من طفولة �أولى ومراحل تجريبية‬ ‫�أولى وثانية وثالثة‪ ،‬و�صوال الى محطات لي�ست عابرة‪،‬‬ ‫وتحوالت مفتوحة عن الكتابة بين الهوية والهواية‪.‬‬ ‫والكتابة بين برزخ الماء وبرزخ النار وري�ش الكتابة‬ ‫في رياح التحديات وعن �شركائي في فتيل الم�شكاة‪.‬‬ ‫من ق�صائد المجموعة ال�شعرية‪:‬‬ ‫�أغفو‬ ‫فتت�سلق الق�صيدة نوافذي‬ ‫على حبال �أع�صابي التي تمتد �إليها‬ ‫خل�سة عني‬ ‫تر�ش زيتها على �أ�صابعي‬ ‫وترمي �شمعداناتها الم�شتعلة‬ ‫على الفرا�ش‪.‬‬


‫ق�����������������������������������������������������������������������������������راءات‬

‫الرحالة الأوربيون‬ ‫ّ‬ ‫يف �شمال و�سط اجلزيرة العربية‪:‬‬ ‫منطقة حائل ‪1921-1845‬م‬ ‫امل�ؤلف ‪ :‬د‪ .‬عو�ض البادي‬ ‫النا�شر ‪ :‬النادي الأدبي مبنطقة حائل‬ ‫يتحدث ال��دك�ت��ور ع��و���ض ال �ب��ادي ع��ن ت��واف��د ع��دد من‬ ‫الرّحالة والم�ست�شرقين على الجزيرة العربية من مختلف‬ ‫الم�شارب واالتجاهات خالل القرون الثالثة الأخيرة‪ .‬وكان‬ ‫الدكتور البادي قد �أ�صدر �ضمن م�شروعه الثقافي كتاب‬ ‫«الرحالة الأوربيون في �شمال الجزيرة العربية – منطقة‬ ‫ال�ج��وف – ‪1922-1845‬م» ع��ن ال�ن��ادي الأدب ��ي بمنطقة‬ ‫الجوف �إ�ضافة �إلى كتابه هذا‪.‬‬ ‫يقول الباحث‪ :‬دخل ه ��ؤالء المغامرون والرحالة �إلى‬ ‫المنطقة‪ ،‬التي كانت تموج بالأحداث والتطورات ال�سيا�سية‬ ‫المختلفة‪ ،‬ب�صفات و�أه� ��داف م�ت�ع��ددة‪ :‬فمنهم الباحث‬ ‫وع��ال��م الآث ��ار‪ ,‬ومنهم ال�سائح وال�ت��اج��ر‪ ,‬ومنهم الطبيب‬ ‫والمب�شّ ر‪ ,‬ومنهم المبعوث ال�سيا�سي والدبلوما�سي‪ ,‬ومنهم‬ ‫الجا�سو�س وك ٌل على ح�سب هدفه‪ ...‬وقد قام ه�ؤالء الرّحالة‬ ‫بدرا�سة �أو�ضاع البالد والتعرف على �أحوالها وكتابة تقارير‬ ‫عنها‪ .‬وكما ما اختلفت �أهدافهم‪ ،‬فقد اختلفت كتاباتهم‬ ‫عنها؛ فمنهم من كان من�صف ًا ومحايد ًا وامتازت كتاباته‬ ‫التع�صب‬ ‫بالمو�ضوعية‪ ,‬ومنهم من �سيطرت على كتاباته روح ّ‬ ‫الديني �أو العن�صري القومي‪ ,‬والأحكام الم�سبقة‪ ,‬وعـدم‬ ‫المـو�ضوعية فـي �إ�صـدار الأحـكام وتـعميمها ب�شكل اعتباطي‬ ‫دون النظر �إلى خ�صو�صية المنطقة‪.‬‬ ‫ومن خالل كتاباتهم وتقاريرهم عن رحالتهم‪� ,‬أ�سهم‬ ‫ه ��ؤالء الرحالة في كتابة ت�أريخ فترة من فترات تاريخنا‬ ‫المحلي لم تحظ باالهتمام الكافي من م�ؤرخينا المحليين‪,‬‬ ‫وقد اكت�سبت كتاباتهم عن الجزيرة العربية �أهمية بالغة لما‬ ‫تحويه من معلومات وافية و ُممَنهجة ب�صورة علمية �سليمة‪،‬‬ ‫ونقلت لنا حقائق كانت غائبة لوال كتاباتهم‪� .‬أم��ا منطقة‬ ‫حائل‪ ،‬مو�ضوع كتابنا‪ ،‬ف�إحدى �أه��م مناطق �شمالي �شبه‬ ‫الجزيرة العربية وو�سطها التي اتجهت �إليها �أنظار الرحالة‬ ‫الأوروب�ي�ي��ن‪ ،‬وخ�صوها بعناية كبيرة في كتاباتهم نظر ًا‬ ‫لأهمية ال�سيا�سة التي كانت تحظى بها زمن قدومهم �إليها‪،‬‬ ‫ب�سبب �أهميتها الجغرافية وموقعها ال��ذي تو�سّ ط مناطق‬

‫عدة‪ ،‬وعلى �ضوء تلك الأهمية زارها خالل الفترة الواقعة ما‬ ‫بين ‪1845‬م‪1261/‬ه �ـ‪ ،‬و‪1921‬م‪1340/‬ه �ـ اثنا ع�شر رحالة‬ ‫�أوروبي ًا خ�صوها باهتمام كبير في كتاباتهم‪.‬‬ ‫وي�ضيف ال �م ��ؤل��ف‪ :‬ق��دم ه� ��ؤالء ال��رح��ال��ة ع��ن منطقة‬ ‫حائل الكثير من المعلومات الجغرافية وت�أريخها ال�سيا�سي‬ ‫واالقت�صادي واالجتماعي والثقافي وتركيبتها ال�سكانية‬ ‫حا�ضرة وبادية‪.‬‬ ‫كما ي�شير �إلى �أن ما كتبه الرحالة لم يكن لنا‪ ،‬بل كتبوا‬ ‫بلغاتهم ل�شعوبهم لتتعرف �إل��ى ال�شعوب الأخ��رى‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫يالحظ �أنهم يركزون على ما يرونه غريب ًا و�شاذ ًا بالن�سبة‬ ‫�إليهم‪ ،‬ويقيّمونه من خالل مرجعياتهم الدينية والح�ضارية‪.‬‬ ‫ويدعو الباحث القارئ با�ستك�شاف الن�صو�ص ليحكم‬ ‫بنف�سه على ما قدمه ه�ؤالء الرحالة‪ ،‬وتقدير مدى �أهميته‬ ‫العلمية والثقافية‪� ،‬إذ تجلت نزعة الباحث الحيادية ومنهجه‬ ‫العلمي بعيد ًا عن الهوى �أو التمحور حول الذات؛ كا�شف ًا عن‬ ‫تاريخ منطقة حائل الديني وال�سيا�سي واالقت�صادي والثقافي؛‬ ‫م�سلط ًا ال�ضوء على الرحالة الذين زاروها من خالل معرفة‬ ‫دوافعهم ومناهجهم في التحليل وم�شاهداتهم‪ ..‬مع الوقوف‬ ‫على القيمة العلمية لمحتوى تلك الرحالت‪ ،‬م�سهم ًا في بناء‬ ‫قاعدة معلومات موثقة و�شاملة عن المنطقة‪.‬‬ ‫الكتاب الذي جاء بجزئه الأول في(‪� )528‬صفحة والثاني‬ ‫في (‪� )990‬صفحة‪ ،‬وكالهما من القطع الكبير‪� ،‬سِ فر مهم‬ ‫عن منطقة حائل‪ ،‬ي َمكِّن القارئ والباحث من التعرف على‬ ‫فترة تاريخية مهمة‪ ،‬ت�ستلهم منها الأجيال العبر‪ ،‬وتحمد‬ ‫اهلل على تغير الحال وتبدل الأو�ضاع التي كانت تعاني فيها‬ ‫بالدنا من تف�شي الجهل والأمية وتداعياتهما‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ ‪135‬‬


‫الأن�شـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ــة الثقـ ـ ـ ــافيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬ ‫الأ�ستاذ عبدالرحمن المفرج والأ�ستاذ عبده قا�سم ال�شريف‬

‫■ كتب‪ :‬عماد املغربي‬

‫�ضمن خطة الن�شاط الثقافي للعام ‪1436/35‬ه��ـ �أقيمت م�ساء يوم الأربعاء ‪2015/1/28‬م‬ ‫محا�ضرة بعنوان‪« :‬حماية البيئة ودور المجتمع»‪� ,‬ألقاها الأ�ستاذ عبده قا�سم ال�شريف الع�سيري‪،‬‬ ‫الم�ست�شار بوزارة الزراعة‪ ،‬و�أدارها ع�ضو المجل�س الثقافي‪ ،‬الأ�ستاذ عبدالرحمن بن عبدالكريم‬ ‫المفرج‪.‬‬ ‫ق��دم المحا�ضر عر�ض (بوربوينت) عن مو�ضوع المحا�ضرة ت�ضمن‪( :‬االتفاقيات البيئية‬ ‫الدولية الرئي�سة ‪ -‬الأهداف اال�ستراتيجية وبرامج العمل الوطنية لمكافحـة الت�صحر ‪ -‬الم�شاريع‬ ‫الإ�ستراتيجية والخطة الوطنية للغابات ‪ -‬رفع الوعي البيئي ‪� -‬إ�صدار نظام المراعي والغابات‬ ‫والئحته و�إجراءات �ضبط المخالفات ‪ -‬برامج تثبيت الكثبان الرملية في مختلف مناطق المملكة ‪-‬‬ ‫حماية و�إعادة ت�أهيل مواقع الغطاء النباتي الطبيعي ‪ -‬الغطاء النباتي الطبيعي‪ ...‬حالته وال�ضغوط‬ ‫التي يتعر�ض لها ‪ -‬جهود المملكة من خالل �إع��داد ال�سيا�سات واال�ستراتيجيات وخطط العمل‬ ‫والنظم والت�شريعات للحد من �أ�سباب تدهور البيئة و�إعادة ت�أهيل البيئات المتدهورة‪.‬‬ ‫كما تناول المحا�ضر �أه��م التحديات وع��وام��ل التدهور البيئية مثل‪ :‬الم�ساحة ‪ -‬الموقع ‪-‬‬ ‫الطبوغرافية ‪ -‬الظاهرة المناخية المتطرفة كالجفاف والفي�ضانات وما ينتج عنهما من ال�ضحايا‬ ‫ تلوث الهواء وما ينتج عنه من �أ�ضرار �صحية‪� ،‬إ�ضافة �إلى التغير المناخي ونتائجه ‪� -‬أ�سباب تدهور‬‫البيئة والغطاء النباتي على وجه الخ�صو�ص متعددة ومتنوعة‪ ،‬وهي في معظمها من �صنع الإن�سان‬ ‫ �أنواع البيئات الطبيعية)‪.‬‬‫وقد �أ�شاد الأ�ستاذ الع�سيري بمركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي على ما يقدمه من ن�شاطات‬ ‫ثقافية وندوات ومحا�ضرات‪ ،‬ت�سهم في �إثراء ال�ساحة الثقافية‪.‬‬ ‫ح�ضر المحا�ضرة جمع من الأهالي و�أع�ضاء المجل�س الثقافي‪ .‬ونُقلت عبر الدائرة التليفزيونية‬ ‫المغلقة �إلى الق�سم الن�سائي‪.‬‬ ‫‪ 136‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1436‬هـ‬


‫من �إ�صدارات اجلوبة‬


‫�صدر حديثاً عن برنامج الن�شر في‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.