درا�سات ونقد ن�صو�ص �شعرية و�سردية مواجهات �سرية و�إبداع حمور خا�ص: ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي
48
برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية ودعم البحوث والرسائل العلمية في مركز عبدالرحمن السديري الثقافي -1ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية
يهتم بالدرا�سات ،والإبداعات الأدبية ،ويهدف �إلى �إخراج �أعمال متميزة ،وت�شجيع حركة الإبداع الأدبي والإنتاج الفكري و�إثرائها بكل ما هو �أ�صيل ومميز. وي�شمل الن�شر �أعمال الت�أليف والترجمة والتحقيق والتحرير. مجاالت الن�شر: �أ -الدرا�سات التي تتناول منطقة الجوف في �أي مجال من المجاالت. ب -الإبداعات الأدبية ب�أجنا�سها المختلفة (وفق ًا لما هو مب ّين في البند « »٨من �شروط الن�شر). ج -الدرا�سات الأخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف (وفق ًا لما هو مب ّين في البند « »٨من �شروط الن�شر). �شروطه: � -١أن تت�سم الدرا�سات والبحوث بالمو�ضوعية والأ�صالة والعمق ،و�أن تكون موثقة طبق ًا للمنهجية العلمية. � -٢أن ُتكتب المادة بلغة �سليمة. � -٣أن ُيرفق �أ�صل العمل �إذا كان مترجم ًا ،و�أن يتم الح�صول على موافقة �صاحب الحق. � -٤أن ُتقدّم المادة مطبوعة با�ستخدام الحا�سوب على ورق ( )A4ويرفق بها قر�ص ممغنط. � -٥أن تكون ال�صور الفوتوغرافية واللوحات والأ�شكال التو�ضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومنا�سبة للن�شر. � -٦إذا كان العمل �إبداع ًا �أدبي ًا فيجب �أن ي ّت�سم بالتم ّيز الفني و�أن يكون مكتوب ًا بلغة عربية ف�صيحة. � -٧أن يكون حجم المادة -وفق ًا لل�شكل الذي �ست�صدر فيه -على النحو الآتي: الكتب :ال تقل عن مئة �صفحة بالمقا�س المذكور. البحوث التي تن�شر �ضمن مجالت محكمة ي�صدرها المركز :تخ�ضع لقواعد الن�شر في تلكالمجالت. الكتيبات :ال تزيد على مئة �صفحة( .تحتوي ال�صفحة على « »250كلمة تقريب ًا). -٨فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت الن�شر ،في�شمل الأعمال المقدمة من �أبناء وبنات منطقة الجوف� ،إ�ضافة �إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام� ،أما ما يتعلق بالبند (ج) في�شترط �أن يكون الكاتب من �أبناء �أو بنات المنطقة فقط. -٩يمنح المركز �صاحب العمل الفكري ن�سخ ًا مجانية من العمل بعد �إ�صداره� ،إ�ضافة �إلى مكاف�أة مالية منا�سبة. -١٠تخ�ضع المواد المقدمة للتحكيم.
-2دعم البحوث والر�سائل العلمية
يهتم بدعم م�شاريع البحوث والر�سائل العلمية والدرا�سات املتعلقة مبنطقة اجلوف ،ويهدف �إلى ت�شجيع الباحثني على طرق �أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها و�أفكارها. (�أ) ال�شروط العامة: -١ي�شمل الدعم املايل البحوث الأكادميية والر�سائل العلمية املقدمة �إلى اجلامعات واملراكز البحثية والعلمية ،كما ي�شمل البحوث الفردية ،وتلك املرتبطة مب�ؤ�س�سات غري �أكادميية. -٢يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة متعلق ًا مبنطقة اجلوف. -٣يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة جديد ًا يف فكرته ومعاجلته. � -٤أن ال يتقدم الباحث �أو الدار�س مب�شروع بحث قد فرغ منه. -٥يقدم الباحث طلب ًا للدعم مرفق ًا به خطة البحث. -٦تخ�ضع مقرتحات امل�شاريع �إلى تقومي علمي. -٧للمركز حق حتديد ال�سقف الأدنى والأعلى للتمويل. -٨ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل �إج��راء تعديالت جذرية ت��ؤدي �إلى تغيري وجهة املو�ضوع �إال بعد الرجوع للمركز. -٩يقدم الباحث ن�سخة من ال�سرية الذاتية. (ب) ال�شروط اخلا�صة بالبحوث: -١يلتزم الباحث بكل ما جاء يف ال�شروط العامة(البند «�أ»). -٢ي�شمل املقرتح ما يلي: تو�صيف م�شروع البحث ،وي�شمل مو�ضوع البحث و�أهدافه ،خطة العمل ومراحله ،واملدةاملطلوبة لإجناز العمل. ميزانية تف�صيلية متوافقة مع متطلبات امل�شروع ،ت�شمل الأجهزة وامل�ستلزمات املطلوبة،م�صاريف ال�سفر والتنقل وال�سكن والإعا�شة ،امل�شاركني يف البحث من طالب وم�ساعدين وفنيني ،م�صاريف �إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة. حتديد ما �إذا كان البحث مدعوم ًا كذلك من جهة �أخرى.(ج) ال�شروط اخلا�صة بالر�سائل العلمية: �إ�ضافة لكل ما ورد يف ال�شروط اخلا�صة بالبحوث(البند «بــ») يلتزم الباحث مبا يلي: � -١أن يكون مو�ضوع الر�سالة وخطتها قد �أق ّرا من اجلهة الأكادميية ،ويرفق ما يثبت ذلك. � -٢أن ُيق ّدم تو�صية من امل�شرف على الر�سالة عن مدى مالءمة خطة العمل. الجوف :هاتف - 014 626 3455فاك�س � - 014 624 7780ص .ب � 458سكاكا -الجوف الريا�ض :هاتف - 011 281 7094فاك�س � - 011 281 1357ص .ب 94781الريا�ض 11614 sudairy-nashr@alsudairy.org.sa
جمل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري
ملف ثقايف ربع �سنوي ي�صدر عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي
هيئة الن�شر ودعم ا ألبحاث
رئي�س ًا ع�ضو ًا ع�ضو ًا ع�ضو ًا
د .عبدالواحد بن خالد الحميد د .خليل بن �إبراهيم المعيقل د .ميجان بن ح�سين الرويلي محمد بن �أحمد الرا�شد
امل�شرف العام � :إبراهيم بن مو�سى احلميد �سكرترياً �أ�سرة التحرير :حممود الرحمي حمرراً حممد �صوانة حمرراً عماد املغربي �إخـــراج فني :خالد الدعا�س املرا�ســــــالت :هاتف)+966()14(6263455 : فاك�س)+966()14(6247780 : �ص .ب � 458سكاكا اجلـوف -اململكة العربية ال�سعودية
www.aljoubah.org / aljoubah@alsudairy.org.sa
ردمد
ISSN 1319 - 2566
�سعر الن�سخة 8رياالت -تطلب من ال�شركة الوطنية للتوزيع
رئي�س ًا في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا �سلطان بن عبدالرحمن ال�سديري زياد بن عبدالرحمن ال�سديري الع�ضو المنتدب ع�ضو ًا عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا �سلمان بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا د .عبدالرحمن بن �صالح ال�شبيلي ع�ضو ًا د .عبدالواحد بن خالد الحميد �سلمان بن عبدالمح�سن بن محمد ال�سدير ي ع�ضو ًا طارق بن زياد بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا �سلطان بن في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا �شيخة بنت �سلمان بن عبدالرحمن ال�سدير ي ع�ضو ًا الإدارة العامة -الجوف المدير العام :عقل بن مناور ال�ضميري م�ساعد المدير العام� :سلطان بن في�صل ال�سديري قواعد الن�شر � -1أن تكون املادة �أ�صيلة. -2مل ي�سبق ن�شرها ورقياً �أو رقمياً. -3تراعي اجلدية واملو�ضوعية. -4تخ�ضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل ن�شرها. -5ترتيب املواد يف العدد يخ�ضع العتبارات فنية. -6ترحب اجلوبة ب�إ�سهامات املبدعني والباحثني والك ّتاب، على �أن تكون املادة باللغة العربية. «اجلوبة» من الأ�سماء التي كانت ُتطلق على منطقة اجلوف �سابقاً.
املقاالت املن�شورة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي املجلة والنا�شر.
ُيعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط ،ويقيم املنا�شط املنربية الثفافية، ويتب ّني برناجم ًا للن�شر ودع��م الأبحاث والدرا�سات ،يخدم الباحثني وامل�ؤلفني ،وت�صدر عنه جملة (�أدوماتو) املتخ�ص�صة ب�آثار الوطن العربي ،وجملة (اجلوبة) الثقافية ،وي�ضم املركز ك ًال من( :دار العلوم) مبدينة �سكاكا ،و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط ،ويف كل منهما ق�سم للرجال و�آخر للن�ساء. وي�صرف على املركز م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية. www.alsudairy.org.sa 2
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
العدد � - 48صيف 1436هـ 2015 -م
62....................... حمور خا�ص بال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي يرحمه اهلل
80....................... حوار مع ال�شاعر والروائي فار�س الرو�ضان
88....................... �سيرة و�إبداع معا�شي ذوقان العطية
الـمحتويــــات االفتتاحية4 ................................................................ درا���س��ات ونقد :تقنيات ال�سرد وجمالياته ف��ي رواي��ة �سيرة العتق- د .هويدا �صالح 6 ....................................................... حفلة الجن مقاربة نقدية -د .يو�سف ح�سن العارف 10 ............... الداللة والبنية ال�سردية في رواي��ة «�إنها باري�س يا عزيزتي» لنور الدين محقق -عبدالغني فوزي 13 .................................. ال�شعر حالة وجدانية -مع�صوم محمد خلف 15 ....................... دي��وانُ «الطائر المهاجر» �صدى الحلم ورج��ع اللّغة -د�.إِبراهيم الدّهون19 ........................................................... جدلية العنوان في ق�صة «�صقيع يلتهب» لمريم الح�سن -ال�سيد التهامي 25 .......................................................... الحب في عرف المجنون الأخ�ضر -عمران عز الدين 30 ............. «غيمة للتوازن» لل�شاعرة اللبنانيّة زينة ع��ازار :ت��أمّ�لات الغيمة ال�شِ عريّة -عماد الدين مو�سى34 .................................... ق�ص�ص ق�صيرة :ق�صة ق�صيرة ..زفاف ملكي -عمار الجنيدي 36 ....... خفايا �صوت -نهلة ال�شقران 37 ....................................... �صقيع يلتهب -مريم الح�سن40 ....................................... طمرير والإبل (ق�صة للأطفال) � -إبراهيم �شيخ مغفوري41 .......... امر�أة بال ج�سد -د .محمد نادي فرغلي محمد43 .................... ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا -ح�سن علي البطران 45 ........................ انت�صار -ح�سام الدين فكري 46 ..................................... �شعر :قراءة في �أ�ضابير العالم � -سليمان عبدالعزيز العتيق47 ............ نب�ضات -مالك الخالدي 50 .......................................... هم�سات الفحة -بو �شعيب عطران 52 ................................. �أنت البعيد -مليكة معطاوي 54 ....................................... تراتيله المبهمة -هندة محمد 55 ..................................... كتاب الحب -نازك الخنيزي 56 ...................................... �أبي�ض ال ي�شيخ -هدى الدغفق 58 ..................................... محور خا�ص :ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي -عبدال�سالم الحميد59 ...... مواجهات :ال�شاعر والروائي فار�س الرو�ضان -حاوره محمود الرمحي80 . ال�شاعر والناقد محمد �سمحان ناقد ير�صد الحراك ال�شعري في الأردن -حاوره عمار الجنيدي 84 ................................... �سيرة و�إبداع :معا�شي ذوقان العطية -محمود الرمحي88 ............... ن��واف��ذ :ال�شاعر ال��ذي تفزعه ��ص�ي��رورة الق�صيدة وت�ح�وّالت�ه��ا - عبدالرحمن الدرعان90 ............................................... �أُدبا ٌء يَحكونَ مدنَهم /الجزء الثاني � -سعيد بوكرامي92 .............. ر�ؤية للمنهج التاريخــي في النقد � -أ.د� .صبري م�سلم حمادي113 ...... الماء في ال�شعر العربي � -صالح عبدال�ستار ال�شهاوي115 ............................ قرا�صنة الفن -ه�شام بن�شاوي120 ................................................... قراءات126 .............................................................. الأن�شطة الثقافية �إعداد :عماد المغربي 128 ..........................
�صورة الغالف :عقد مدخل �سوق دومة الجندل التاريخي ،وتظهر قلعة مارد بمحافظة دومة الجندل بمنطقة الجوف. اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
3
اف�����������������ت�����������������ت�����������������اح�����������������ي�����������������ة
اف��ت��ت��اح��ي��ة ال���������ع���������دد ■ �إبراهيم احلميد
ثمة �شاعر فارقنا للتو ،عبر ف�ضائنا الإبداعي ،كطيف � أو َك َه َّب ِة ن�سيمٍ باردة ،لم وقا�صا �أي�ضا ..وكان في الوقت يكن الراحل �شاعرا فح�سب ،بل كان �شاعرًا ومفكرًا ً نف�سه �صديق ًا حميم ًا للجميع؛ ت�سكنه الب�ساطة والتديُّن والطبيعة والبيوت التي �ألفها ، والمجال�س التي تفتقد ح�شرجات �صوته الالمع .ترك ب�صمته في كل الأماكن ،وكانت «رتو�ش» ن�صو�صه ق�صائد ومقاالت وكتب ،خلّف لنا �سما ًء عالية زرقاء وبي�ضاء ،ال نملك �إال �أن ن�شهق حيالها حين ن�ستذكره �صديقا ومبدعا وقريبا.. يُعد ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي الذي فارق عالمنا م�ؤخرًا � أحد �أبرز ال�شعراء الذين �أخل�صوا لهويتهم الثقافية والإبداعية ،متجاوزا كل �أ�شكال الت�صنيف والتحييد.. بقي على �صلة حميمية بالجميع ،تجده في جازان والريا�ض والجوف ..مثلما تجده متجليا في تون�س �أو غيرها من بالدنا العربية ،ذلك ال�ضيف ال�شفيف الخفيف كطائر �أبي�ضَ ،ي ْعبُر بالمكان من دون �أن يترك خلفه �سوى الن�سيم والطيف الملون بالألق، والغناء بق�صائده الجميلة ،والذكريات الحلوة. يتذكر �أ�صدقاء الراحل بع�ضا من تجلياته في رحالته ،كتلك التي � أوردها ال�شاعر والكاتب التون�سي مراد بن من�صور� ،إذ يكون غرم اهلل هو درة الكالم ومطر الغيم، فهاهو يقول «ك��م ك��ان مبهرا وه��و يلقي ن�صه الترحيبي ،ثم يراق�ص على �أنغام المو�سيقى فتىً �سنطاويًا بزيه التقليدي ،ويم�سك تلك الع�صا ويدور بها في ر�شاقة منقطعة النظير..كان �شاعرًا رائعًا وفار�سً ا مقدامًا.».. و يقول الأديب عبدالرحمن الدرعان بعد وفاة ال�صقاعي :من �سيغني للجبال التي ثكلت �أنا�شيدك؟! ومن ي�ضع الرنين في �أقراط الزهور �أيها الطائر الجنوبي؟!». 4
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
و يقول الناقد الدكتور محمد الجزار« :غرم اهلل �شخ�صا ون�صا� ،شرك عاطفي ال يكاد يفلت منه �أولو العزم من النقاد». وي�شرح الجزار ما يميز تجربة ال�شاعر ال�صقاعي الثرية بين ال�شعر والفكر والإن�سانية؛ ما «جعل للمعنى مركزيته في ن�صيه ال�شعري والفكري ،فال هو ا�ستلبته �شكالنية تفقر ن�صه ال�شعري من وظيفته ،وال هو �أغواه تنظي ٌر يفقد ن�صه الفكري ا�شتباكاته بواقع �سواء منه االجتماعي �أو الثقافي»؛ وي�ستطرد قائال «لقد كان غرم اهلل بانهمامه الفكري ،ي�صنع �سياقات تلقي ن�صه ال�شعري ،في الوقت نف�سه الذي كان يحيل من خالل ن�صه ال�شعري �إلى هذه ال�سياقات ،لنكت�شف النبع الواحد الذي يميز ن�ص غرم اهلل الإن�سان الفكري وال�شعري ،و�إن لم يمهله القدر ليكمل �أيا منهما ،ال خ�صائ�ص ن�صه ال�شعري ،وال ر�ؤيته الفكرية للعالم». �أبدع ال�شاعر ال�صقاعي عددًا كبيرًا من الن�صو�ص ال�شعرية والق�صائد المتميزة.. حتى عده الناقد الجزار �شاعرًا لأنه �إن�سان بمطلق معنى الكلمة ،عا ّد ًا ق�صيدة غرم وقا�صا .كذلك اهلل قراره الحا�سم باالنحياز لفرط �إن�سانيته� ،شاعرًا وناقدًا ومفكرًا ً �أنجز ال�صقاعي عددًا من الم�ؤلفات قبل وفاته يرحمه اهلل ،منها :ديوان «لغوايتهن �أق�صد» ،وديوان «ال �إكراه في الحب» ،وكتاب «�شهوة الكالم» ،وكتاب «البهو وليال ع�شر :حيرة المكان بين المتن والهام�ش». ومع �أن ال�شاعر غاب ليبقى في وجدان وقلوب محبيه ،وعلى �صفحات كتبه وكتب نقاده� ،إال �أن المطلوب من جهاتنا الثقافية االلتفات لإرث ال�شاعر غرم اهلل حمدان ال�صقاعي وتجربته الثرية على ق�صرها ،مع غيره من مبدعينا ،وعدم دخوله خانة ن�سيانهم ،تكريما له ولو بعد حين ،ما المانع من �إدخال ن�صو�ص �شعرية �أو نثرية له في مناهج طالبنا في بع�ض مراحلهم؟ اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
5
ρρد .هويدا �صالح*
كثير من الكتاب حاولوا التجريب و�إزاح��ة الحدود ن�ص ال يمكن ت�صنيفه؛ لكن بين الأنواع الأدبية ،و�إنتاج ٍ تبقى ال�سيرة الذاتية هي من �أكثر الأنواع الأدبية �إثارة للنقا�شات ،لأنها ال تريد �أن ت�ستقر ،فهي ،جن�س �أدبي م��راوغ وغير محدد المالمح؛ وذلك لأنها ت�شتبك مع �أجنا�س �أدبية �أخرى؛ كاليوميات والمذكرات والر�سائل وق�صائد ال�سيرة ،وال�شهادات ،وال��ح��وارات ال�شخ�صية، كما �أنها ت�شتبك مع ه��ذه الأن���واع حين ت�ستعير �آليات عملها ومنطقها الفني .وعلى ال��رغ��م م��ن �أن الكثير من النقاد الفرن�سيين حاولوا التنظير لها ،و�ضبط مجال الم�صطلح وا�شتغال؛ �إال �أن��ه يظل م�صطلحا ملتب�سا وغام�ضا ،وذل��ك لقربها من �أجنا�س و�أن���واع .لكن لو �إننا اعتبرناها نوعا من الخطاب الر�ؤيوي للعالم ،ف�إن هذا يدفعنا �إلى الت�سا�ؤل عن تجني�س ال�سرد الروائي وتقاطعه مع مفهوم ال�سيرة الذاتية وعدّها جن�سا �أدبيا؛ ف�إن اختالفها الجوهري عن التخييل -كما يرى فيليب لوجون -يمر «عبر الإحالة على �ضمير متكلم ملمو�س ولي�س على �شخ�صية متخيلة»؛ ما يفر�ض اعتبارات حا�سمة في تلقّي الأدب . هكذا فعل الروائي ال�سعودي �إبراهيم عبر ف�ضاء ال�سرد ،كما �س�أتي الحقا. م�ضواح الألمعي في رواي�ت��ه «ع�ت��ق» ،التي �إن العتق الذي ي�سعى �إليه ال�سارد ،ومن فازت بجائزة نادي «�أدبي حائل» للرواية ،ورائ��ه ال�م��ؤل��ف ،لي�س عتقا ل�سعد الرجل والتي �صدرت عن دار «ج��دائ��ل» ببيروت .فقط ،بل هو عتق للمر�أة �أي�ضا ..لزاهية حاول الألمعي �أن ي�سرب طرفا من �سيرته البطلة الأن�ث��وي��ة التي ت�سعى ه��ي الأخ��رى الذاتية في ف�ضائه ال�سردي؛ فبطله «�سعد» للتحرر ،التحرر واالن��ع��ت��اق م��ن منظومة هو كاتب للق�صة والرواية ،ويناق�ش ن�صو�صه اجتماعية تقيّد �شخو�صها ،وتخ�ضعهم 6
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
ُ تقنيات ال�سرد وجماليا ُته في رواية �سيرة العتق
لقيودها المت�شددة« :لماذا ت�ستكثر عليَّ الدنيا �أن �أعي�ش حياتي بمن�أى عن هذه القيود التي ُت َك ِّبلُني أرت�شف من رحيق وتكاد تحب�س �أنفا�سي؟! كيف � ُ الحياة و�أنا م�شدود �إلى هذا المكان؟! قيود ولِدَ تْ معي ،و�أخرى �صنعتها بنف�سي ،و�أخرى يحيطني بها النا�س الذين يفر�ضون عليَّ كيف �أعي�ش! وكيف �أتكلم! وكيف �آكل! وكيف �أن��ام! يفر�ضون عليَّ نمط ًا محدَّد ًا ومحدود ًا من التفكير؛ الأموات هنا هم الأحرار الوحيدون الذين ال يطالبهم �أحد ب�أن يفعلوا ما يحلو للنا�س ،تب ًا لهذه القيود ،فقد وجِ دْ تُ في الزمن الخط�أ ،والمكان غير المنا�سب لعي�ش مَ ن يتوقُ �إلى التحرر من القيود». �إن ال��زم��ن ف��ي ال��رواي��ة ال�م�ع��ا��ص��رة ثالثي ما�ض م�ستعاد يفيد فيه ال��روائ��ي من الأب�ع��ادٍ : تقنية الفال�ش ب��اك وال��رج��وع للما�ضي لكتابة تاريخ ال�شخ�صية؛ �أو حا�ضر ،وهو زمن ال�سرد الآن��ي؛ �أو م�ستقبلي ا�ست�شرافي ،ك ��أن يخبرنا ال �� �س��ارد �أو ال � ��راوي ب� ��أح ��داث � �س��وف تحدث لل�شخ�صية؛ وي�ضاف �إلى هذا الزمن زمن �آخر غير متعين يدركه القارئ وحده عبر وعيه �أثناء عملية القراءة.
النحل دون �أن ت�غ��رق« ..كنت �أرق��بُ ع�صفور ًا يالحق ق�ط��راتِ الماء في قعر ال�صحفة ،كان الوقت ظهيرة ،والمكانُ هادئاً ،في الجهة المقابلة ك��ان��ت ق�ط��ة ج��دي الأث��ي��رة ت��رق��ب الع�صفور، اقتربتْ بهدوء من ال�صحفة ،تمد ج�سدها ،يكاد بطنها يالم�س الأر���ض ،م�دَّتْ عنقها نحو حافة ال�صحفة ،ببطء �شديد ،فج�أة طار الع�صفور، ول��م يكلفها الأم��ر �إال �أن تقفز من جهتها �إلى الجهة الأخرى مرور ًا بال�صحفة ،فاتح ًة فمها في الوقت المنا�سب ،لي�ستقر الع�صفور بين فكيها، لم يعد يظهر من الع�صفور �سوى ر�أ�سه وقدميه، وج��ز ٍء ي�سير من بطنه الأبي�ض ،حدث ك ُّل هذا في لحظة ت�ستع�صي على الإدراك ،م�شتْ بهدوء مبتعدة عن المكان».
الزمن في رواية «�سيرة العتق» ق�سمان :الزمن الآني ،الذي ي�سرد عبره ال�سارد والراوي العليم تفا�صيل حياة �سعد ،موظف البريد ،الذي يعي�ش راهنا كابيا ال تنعتق فيه ذاته من قيود الوظيفة ومن قيود الزواج الذي يُعطّ ل طموحه؛ ثم يفيد كذلك الكاتب من الزمن الما�ضي �أو الفال�ش باك ،الذي يعود فيه ال�سارد �إلى طفولته و�شبابه، يكتب �سيرته مع هذا المجتمع وتفا�صيل بيئته، كما �أن الألمعي يفيد في روايته من تقنية تعدد وعالقاته مع �أهله وحبيباته ال�سابقات وزوجته (زاه �ي��ة)« :ف��ي بيت ج��دي حيث ي�ض ُع �صحف ًة الأ�صوات �أو الكرنفالية ،كما و�صفها ميخائيل للماء ،ويجعل فوق الماء بع�ض الق�ش لكي ت�شرب باختين� ،إذ تنه�ض لغة الكتابة ف��ي ال��رواي��ة
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
7
نرى في الرواية ثالثة �أ�صوات �سردية� ،صوت الذات ال�ساردة ب�ضمير الأنا� ،أنا �سعد ال�ساعي للتحرر« :بال اتجاه ت�سير بي �سيارتي ،توقفني الإ� �ش��ارة ،ف�ت��زداد حيرتي! �أيُّ ال�ط��رق �أمامي �أ�سلك؟! �أخذني الطريق الم�ؤدي �إلى الم�ست�شفى، لم يطل انتظاري على بوابته ..فالحرا�س يرفعون الحاجز لمجرد ر�ؤي�ت��ي ،كعادتهم عندما كنت
8
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ب�آخرين و�أخريات ،فزميلتي التي جاءت بعدي في الترتيب بمراحل ،عادتْ للجامعة في ال�سنة التالية لتَخَ رُّجِ نا ،و ُمنِحتْ بعثة درا�سية؛ �أغتاظ كلما م��ررتُ بالفتة عيادتها تتو�سَّ ط المركز التجاري ال�ضخم ال��ذي يملكه �أبوها ،المزعج �أنني م�ضطر ٌة للمرور بجواره كلما غ��دوتُ �إلى المدر�سة �أو رحتُ منها».
ثم ت�أتي الق�ضية الأهم -في تقديري -والتي تعبّر ع��ن الخطاب الثقافي ال�ث��اوي وراء هذا الن�ص ..ق�ضية تحرر ال�م��ر�أة التي ال تقيّدها قيود الزواج فقط ،بل تقيّدها الثقافة الذكورية التي تجعلها تابعة للزوج ،ال تتحرك �إال ب�إذنه، بو�صفها الحلقة الأ�ضعف في المجتمع ،وت�أتي �أهمية هذا الق�ضية من ناحيتين� ،أوال �أن كاتبها
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
الجديدة على التنوّع ،وتعدّد م�ستويات اللغة، فاللغة في ال��رواي��ات لغات والأ�سلوب �أ�ساليب. وللتعدّد في الفن الروائي �أوج��ه �شتى؛ منه �أن ال��روائ��ي ي�ستقبل داخ��ل عمله الأدب��ي التعددية الل�سانية وال�صوتية للغة الأدبية وغير الأدبية، من دون �أن ي�ضعف عمله جرّاء ذلك ،بل ي�صير ثم ي�أتي �صوت ال��راوي العليم المطّ لع على �أكثر عمقا. كل الأح��داث في الن�ص« :عندما التحق �سعد تر�سم هذه الكرنفالية للغات المنحدرة من بالعمل ف��ي مكتب البريد منذ ع�شرين �سنة، انتماءات ثقافية مختلفة ومن طبقات اجتماعية كانت الر�سائل مفعمة بالم�شاعر ،كانت لبع�ضها متعددة �صورة الرواية النموذجية ،وِفق الت�صور رائحة تدل على محتواها ،كانت البلدة ملأى الباختيني؛ ل��ذل��ك ،ال ي�ت��ردد بع�ض النقاد في بالمُتعاقدين ،معلمين و�أطباء ومهند�سين ،من �إطالق �صفة الديمقراطية عليها ،وهم يق�صدون بلدان �شتى ،كانت ر�سائلُهم وجب ًة �شهي ًة ل�سعد بذلك ال�ح��واري��ة التي يمنحها العمل ال��روائ��ي ورفاقه ،يقر�ؤون فيها حكايات الغرام ،ولوعة لل�شخ�صيات حتى تعبّر ب�أ�صواتها عن همومها .الفراق ،و�شكوى الهموم والآالم؛ يت�سلَّون باختيار والكرنفالية �أو تعدد الأ�صوات -في تقديري -لي�س بع�ض ال��ر��س��ائ��ل ال� ��واردة ،ث��م ي�ت��راه�ن��ون على مجرد تعدد في اللغات الم�ستخدمة� ،أو في الرواة محتواها ،في�صيبون ويخطئون»! داخل الن�ص الواحد ،بقدر ما هي عر�ض لوجهات كذلك �صوت الأن��ا الأنثوية الأخ��رى� ،صوت النظر المتنوعة؛ �سواء كان العمل الروائي فيها زاه �ي��ة �شريكة �سعد ف��ي ال��رغ�ب��ة ف��ي التحرر مبنيا على �شكل ف�صول متفرقة ،يروي ك َّل ف�صل واالنعتاق« :كان حلمي �أن �أ�صبح طبيب ًة نف�سية، فيها �أح ُد ال�شخ�صيات ،وبذلك يقع تقويمه من �أمتلك ع�ي��ادة ،فدر�ستُ علمَ النف�س ،وبرغم خالل وجهة نظر مفردة؛ �أو تُقدَّم وجهات النظر اج�ت�ه��ادي وانقطاعي للدرا�سة ،ل��م تر�شحني المتنوعة ف��ي ه��ذه ال�صورة بو�صفها �أ��ص� ٍ �وات الجامعة لإت �م��ام درا� �س �ت��ي ،فمعدلي �أق ��ل من �أيديولوجي ًة مت�ساوي ًة في الأ�سا�س ،وهي ال�صورة المطلوب ،و�إن كنت �أعلم �أن الأمر يمكن تجاوزه التي �أطلق عليها ميخائيل باختين (البولوفونية) لو �أرادوا ،ولكنه النظام الذي خُ لقَ ليطبَّق عليَّ �أي الرواية ذات الأ�صوات المتعددة. وعلى �أمثالي ،وال يلتفتون �إليه عندما يتعلق الأمر
�أت��ردد عليهم في كل الأوق ��ات ،ف�أق�ضي داخل �ساعات �أرك�ض خلف الأمل ٍ �أ�سوار الم�ست�شفى الذي يتراءى لي ،ثم يرك�ض �أمامي في الدهاليز أم�سك به �أفلتَ والردهات ،حتى �إذا �أو�شكتُ �أن � َ مني ،ف�أرك�ض من جديد وال �أعثر له على �أثر».
ك��ذل��ك يفيد الأل�م�ع��ي ف��ي ن�صه م��ن تقنية الميتا�سرد �أو الكتابة عن الكتابه؛ ف�سارده الذي �أ��ش��رت قبال �أن��ه يحمل بع�ض �سمات الم�ؤلف بع�ض من �سيرته الحقيقي في محاولة لت�سريب ٍ الذاتية ف��ي الن�ص ه��و كاتب يكتب الق�ص�ص وال��رواي��ات ،ب��ل وين�شرها ف��ي بع�ض الجرائد؛ فنجد الكاتب في الن�ص يناق�ش الكتابة ،وهمومها و�أ�سئلتها حين يناق�ش ن�صو�ص �سارده« :عَ دَ لَ عن فكرة الكتابة على ال��ورق ،وق � َّر َر �أن يُخ�ص�ص ملف ًا في جهازه المحمول لهذا الغر�ض؟! ارتاح للفكرة ،وعلى الفور و�ضع الدفتر جانباً ،قرَّر �أن ت�ك��ون �أول ��ى مو�ضوعاته م��ن المخبوء في ذاكرته .قرَّر �أن تكون �سيرته محور ًا لكتابه ،فهو يعتقد �أن عليه �أن يجل�س على كر�سي االعتراف �أمام (الكي بورد) ويفرغ من ر�أ�سه ك َّل ما علق بذاكرته من هذه البلدة ،فذكرياته ال تختلف عن الذنوب التي يعتقد مقترفوها �أن البراءة منها ال تكون �إال باالعتراف بها ،ثم يذهب بعيد ًا عن كلِّ الأقبية ،كما نفذَ قبل ذلك من زنزانة زاهية الوثيرة .يتذكر ق�سوة اللحظات التي عبَّرت عنها هذه الق�صة ،ويتذكر البهجة التي �شعر بها وهو يرى ق�صت ُه تُن�شر في الجريدة بعد تلك الليلة ب�سنتين ،يتمنى �أن تكون ليلى قد قر�أتْها ،فهي الوحيدة التي �ستفك �شفرتها ،ولكنَّه غير مت�أكد من ذلك».
رجل ،والناحية الثانية �أنه رجل في مجتمع مثل مجتمعها ال يعترف كثير ًا بحقوق ال �م��ر�أة في التحرر .نجد �صوت زاهية قوي ًا وا�ضح ًا وهي تتحدث عن حياتها وا�ستقاللها« :ال ت�ستطيع تخيّل حياتها بدون ما حققته من ا�ستقالل ،وحرية، واعتماد على ال��ذات؛ هي ال تحقد على �سعد؛ كل ما في الأمر �أنها ت�شعر �أنها �أ�صبحتْ كائن ًا مختلف ًا ي�ستطيع التفكير فيما حدث بالأم�س ،وما �سيحدث غ��داً ،دون �أن يكون هناك مَ ن يقتحم �سياج تفكيرها .لي�س بو�سعها �أن تتنازل عن هذه المكت�سبات مهما كان الثمن؛ فال�شعور بالحرية ال يمكن تكذيبه ،مهما كانت تلك الحرية موهومة، �أو ناق�صة المالمح». هنا ،تقع ال��ذات ال�ساردة الأنثوية في حيرة وجودية ،فهي تت�ساءل عن حريتها ،وهل تختلف حريتها عن حرية �سعد /الرجل؟ وهل المجتمع قادر على تقبّل تحررها� ،إنها ك�أنثى تعي تماما المعركة التي �ستخو�ضها« :عاودتها ت�سا�ؤالتها ح��ول ال�ف��رق بين الحرية التي ين�شدها �سعد، والحرية التي �أحرزتها ،ت�شعر �أن طريقها نحو الحرية� ،سيكون �أ�شد وع��وره من طريق �سعد، فكثي ٌر من المباحات ل�سعد هي محرمات عليها؛ فقط لأنها �أنثى ،فلتقنع باال�ستقالل ال�شخ�صي، فلي�س من المعقول �أن تذهب �إلى �أبعد من ذلك، و�إال �صارت تحتَ طائلة محا�سبة المجتمع الذي يُ�صدر �أحكامه وين�صبُ الم�شانق قبل �أن يقيم المحكمة� ،أو ي�ستجوب المتهم .مهما �أُعجِ بت بمريم وتمنت �أن تمتلك �شخ�صيتها القوية� ،إال �أنها ال ترغب �أن تن�ساق �إلى المدى الذي بلغته مريم ،فتقيم �صداقات غير م�شروعة ،مع �أن مريم قد لمَّحت لذلك ..ولكنها لم تجد القبول لدى زاهية». اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
9
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
()2
حفلة الجن مقاربة نقدية ■ د.يو�سف ح�سن العارف*
()1
بين التربية والتعليم ..وال�صحافة والإع�ل�ام ..تتبلور �شخ�صية الكاتب والأدي��ب القا�ص بخيت طالع ال��زه��ران��ي ,فمنهما يمتح ثقافة نوعية ،ت���ؤط��ر ك��ل طروحاته و�إبداعاته. «بخيت طالع» ابن القرية وعاداتها وتقاليدها ,ابن ذلك المجتمع القروي الذي تبلورت حياته على قيم ال�شجاعة ومكارم الأخالق والحكمة ،والحكايات على �أل�سنة ن�سائها ورجالها ,وعجائزها و�أ�شياخها وكهولها؛ فا�ستقى منهم -بح�سه الأدب��ي – ال�شيء الكثير ,وتربى عقله الباطن على تلك الحكايا ..فراح يعيدها – بلغته الأدبية – التي اكت�سبها من تمدر�سه الجامعي وثقافته القرائية ,وعمق تكوينه الأدبي. وهو ابن المدينة ب ِرتْمها المت�سارع ,وحالتها اال�ستهالكية ,وف�ضاءاتها المتجددة بالنا�س والحياة .فا�ستفتى منها مادته الحكائية الأدب��ي��ة في بُعدها المعلوماتي / الخبري. وهو مع ذلك كله ،ال�صحفي /الإعالمي� ،صاحب الب�صر والب�صيرة ،الذي يلتقط الأخبار والأحداث اليومية ,يبحث عنها ,يُعرِّف النا�س بها ..وين�شرها بينهم في �صور �إعالمية /خبرية! ومن ذلك كله تكونت لديه مجموعة من الحكايات /مادة �أولية /معلوماتية خام.. �أعم َل فيها �أ�سلوبه الأدب��ي ,بعيداً عن الخيال الفني والإب��داع��ي ،ليخرج لنا في عام 2011م مجموعة ق�ص�صية بعنوان(حفلة الجن)� ..صدرت عن نادي الباحة الأدبي. 10
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
م��ن��ذ ال � �ع � �ن� ��وان ..و�إح � ��االت � ��ه ال�ن���ص�ي��ة والم�ضمونية ،تتنامى ال�ق��ري��ة ف��ي ج��زء من ف�ضاءات المجموعة الق�ص�صية ,وه��ذه مادة جديدة تن�ضاف �إلى عملي المو�سّ ع عن «الن�ص القروي في ال�سرديات ال�سعودية» �إن �شاء اهلل!! وفي الوقت نف�سه تتنامى المدينة وم�ضامينها الحديثة ,وف�ضاءاتها التراجيدية /الم�أ�ساوية, وا�ستبدادها المعي�شي اليومي في الجزء الآخر من المجموعة. وعلى هذا ،ف�إن(حفلة الجن) ق�ص�ص حياتيه -المزارعون حملوا متاعهم ف��وق حميرهم تمزج بين القروية والمدنية ،في ثنائية ن�صو�صية �ص.32 يرويها لنا كاتب عليم ،يعي�ش �صراع ًا داخلي ًا بين �أطراف القرية الجبلية �ص .48كينونته القروية ,وامتداده في المدينة ,فجاءت عندما كان م�ؤذن القرية �ص.60المجموعة تعبير ًا عن هذا وذاك. وادي بيده �ص.70()3 جبال عي�سان �ص .71تظهر القروية في ثمان ق�ص�ص من كامل ثانياً :كما تتجلى المدينة من خالل الدالالت المجموعة التي تحتوي على �أربع ع�شرة ق�صة ,والإحاالت الن�صية مثل: بينما ت�شكل المدينة باقي المجموعة وهي �ست ج�سد المدينة المنهك �ص.18ق�ص�ص ,وهذا يعني – داللي ًا – تغلب الن�ص في ذلك المكان الق�صي من المدينة �ص.23القروي والرموز القروية في الذات الحكائية، في تلك المدينة ال�ساحلية ال�صاخبة �ص .27وت�شبّع ال��راوي العليم/الكاتب/الم�ؤلف لتلك ر�أي ��ت �أ� �ص��دق��اء اللغو�ص ورف �ق��اء ال�صيدالأح��داث .ويمكن التدليل على هذا الم�ضمون �ص.44 النقدي من خالل الف�ضاءات الن�صية الآتية: �سكان الحي الطرفي المتوا�ضع من مدينة�أوالً :تتجلى ال�صور والرموز القروية ح�سب جدة �ص,82 العبارات الدالة ،مثل: يو�سف �صحفي ن��اج��ح ,رئي�س التحرير..�ص.87 -البيوت العتيقة المبنية من الحجر �ص.12
اجلوبة � -صيف 1436هـ (11 )2015
ومن خالل هذه المعالم الوا�ضحة �صراحة و�ضمن ًا على ما تحتويه المجموعة من ن�صو�ص قروية و�أخ��رى مدنية ,ن�ستطيع الحكم النقدي على �أنها مجموعة ق�ص�صية مخاتلة ،ال ترتهن �إلى �أحد الف�ضاءات الم�ضمونية �إال على الم�ستوى الخارجي ال�شكلي.
وه��ذا الملمح النقدي ينطبق على كثير من ولغلبة الن�ص القروي� ,سنقف – نقدي ًا – مع الن�صو�ص في هذه المجموعة. ق�صة(حفلة الجن) واختيارها �أنموذج ًا ممثالً؛ ()5 لأن القا�ص اختارها عنوان ًا لكامل المجموعة, لعلنا ن�ستبين منها الجماليات ون��رف��ع عنها بقي �أن �أق��ول -لأخ��ي بخيت – ولكل قا�ص ال�سلبيات. جديد تت�شكل �آفاقه ال�سردية :ال يكفي �أن نمتلك (حفلة الجن) �ص �ص , 36-31حكاية �شعبية قروية تتداولها كثير من المجتمعات القروية, مع فوارق في المعطيات والنهايات ,لكن القا�ص بخيت طالع ,وهو ابن قرية الأطاولة في زهران, ينقلها من الذاكرة ال�شعبية �إلى ف�ضاء الن�ص الأدبي ،م�ستخدم ًا في ذلك تقنيات كتابية �أولية في الفن الق�ص�صي ,ينقل فيها ر�ؤاه وت�صوراته القروية �ضمن لغة �أدبية �ساحرة ,فيها كثير من ال�شاعرية ,والبالغة الو�صفية مثل: النهار يلملم �أطرافه. الرتدائه عباءة الليل. -بنظرة خاطفة يخالجها الوجل.
مادة الحكي ,وال يكفي �أن نمتلك الأدوات اللغوية والأ�سلوبية ،ولكن بقدر ذل��ك االم�ت�لاك وه��ذه الملكية ،وبقدر تلك اللغة الأ�سلوبية والأدائية ،البد �أن يت�أ�س�س القا�ص وال�سارد على تقنيات الكتابة في �أفقها الإبداعي ،من حيث فهم قيمة الزمن والمكان والن�ص اال�ستذكاري اال�سترجاعي/ الفال�ش باك ,والحوار الداخلي والتوازن النف�سي وال �م �ع �ن��وي ,وال�شخ�صيات ال �� �س��اردة الأول �ي��ة والثانوية ,وغير ذلك من التقنيات.
وه��ذا يحتاج �إل��ى ال �ق��راءات المعمقة في مجال النقد الق�ص�صي/ال�سردي� ,إ�ضافة �إلى ولكن ه��ذه اللغة الباذخة لم ت�ساعده على المجاميع الق�ص�صية المعا�صرة ,حتى ت�ستوي نقل(حفلة الجن) من حكائيتها �إل��ى مبتغاها ل��دى �صاحب التجربة الكثير م��ن المفاتيح الفني /الق�ص�صي/ال�سردي وفق قيم الكتابة والآليات الإبداعية. * �شاعر وكاتب من ال�سعودية.
12
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
()4
ال�سردية المتعارف عليها ح��دي�ث�اً ,وال ترقى �إل��ى ما و�صلت �إليه ميكنة الن�صو�ص ال�سردية الحديثة .فما تزال الق�صة مادة حكائية ينقلها ال�سلف �إل��ى الخلف ،ولم تتحول �إل��ى عمل فني ق�ص�صي يحتفي ب��ال��زم��ان وال�م�ك��ان والحدث وال�شخو�ص والبطولة.
الداللة والبنية ال�سردية في رواية: «�إنها باري�س يا عزيزتي» لنور الدين محقق
■ عبدالغني فوزي*
جميل �أن تتعدد طرائق ال�سرد في متون الروايات ،فذاك ينم عن �إح�سا�س و�إحاطة ب�أ�صول الحكي؛ ولكن طريقة توظيفها واللعب في مربع الحكاية يختلف من كاتب �إلى �آخر. �أح�س�ست بقوة هذه الفكرة ،و�أنا �أ�ضع اليد على رواية الكاتب المغربي نور الدين محقق المعنونة�« :إنها باري�س يا عزيزتي» ،رواية ت�صور �أو ت�ستجمع ذكريات من حياة الكاتب ،انتدب لها ا�سم يو�سف ليقوم بت�أديتها ،بو�صفه كينونة؛ خلق لها الم�ؤلف محتمال حكائيا ،لتبدو م�ست�ساغة. تنطرح في الرواية قيد النظر حكاية يو�سف بين ال��دار البي�ضاء وباري�س؛ ففي المدينة الأول����ى ي��م��ار���س ال�����س��ارد حياته ب�شكل اع��ت��ي��ادي .لكن ي��ب��دو ���س��ردا �أن هذه ال�شخ�صية مغايرة للم�ألوف ف��ي اختياراتها وقناعاتها ،ف��ي واقعها وحلمها؛ �إنها محبة للفنون والجماليات التعبيرية والب�صرية ،من� :أدب و�سينما وم�سرح وت�شكيل.. وي�ستح�ضر يو�سف ذل��ك ف��ي ت�أمالته لأ�شكال معي�شية ت�لازم��ه ،م��ن :بحر ومقهى وتدري�س ولهو ...بهذا الخليط ال�سحري ،فالحكاية تطرح التفاعالت والجدليات بين الأفكار وامتداداتها في الواقع والمتخيل .ويمكن القول �إن الأمر يتعلق بحكايتين، حكاية يو�سف �أو حياته الحا�ضنة لحكاية ثانية ،تتمثل �أ�سا�سا في عالقة حب مركبة بينه وبين ن�ساء معدودات .فكان ف�ضاء الإنترنت ،وبخا�صة الفي�سبوك نافذة وا�صلة بين ال�سارد وجميالت باري�س ،من خالل عالقة �أولى بين الأيقونات(ال�صور) ،ليتطور الأمر �إلى لقاءات مبا�شرة بعد �سفر يو�سف �إلى باري�س ،فتم الت�صالح مع الذات هناك من خالل ا�ستح�ضار فترات الدرا�سة ،والتجوّل في ال�ساحات والمكتبات في �صحبة �صديقات حبيبات ..ليعود يو�سف بعد ذلك �إلى الدار البي�ضاء.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (13 )2015
* كاتب من المغرب.
14
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن�سجل لهذه الرواية جر�أتها في التعبير عن عالقة الرجل بالمر�أة .ويغلب ظني �أن هذا العمل ال يتغيا الإث��ارة الفجة وال�سطحية ،بل يبني من خالل ذلك �سيرة وحياة �شخ�صية يو�سف .ولهذا الأخير تفا�صيل وحميميات ينبغي �أن تعبر لل�سرد دون �أن تفقد اللغة لغتها �أو ال�سرد جماليته. بعد ه��ذا الر�صد ل�ل��دالل��ة ،وبع�ض مفا�صل البنية ال���س��ردي��ة ف��ي رواي���ة «�إن �ه��ا ب��اري����س يا عزيزتي» ،ال بد من التن�صي�ص على فكرة تتعلق بالطريقة ال�شيقة والر�شيقة للغة في هذا العمل، لغة بدت عفوية ومن�سابة من دون ت�صنّع؛ فغدت م�ج��رىً جميال ي�سوق الحالة والم�شهد بهذا ال�صنيع؛ فالكاتب نور الدين محقق المتمر�س بالكتابة � �س��ردا و��ش�ع��را ،ب��ل ر� �ص��دا وتحليال، يح�ضر بكله هذا� ،أينما وُجد في الحياة و�أنواع الكتابة .فانتبهوا حفظكم اهلل للأعمال الجميلة التي تعبّر عن مهارة اليد والفكرة.
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
في توا�صل حثيث مع نور الدين محقق الذي �ألف تلك ال��رواي��ة .يقول ال�سارد� ،ص « :123وما �أن انتهت الأغنية الفيروزية الرائعة ،حتى كان الكاتب المغربي ن��ور الدين محقق ق��د ا��س�ت�غ��رق ب�شكل ع�ج�ي��ب ف��ي �أع� �م ��اق ذات ��ه، م�ستح�ضرا كل ما قد حكاه له �صديقه يو�سف من عالقته الغريبة م��ع ك��ل م��ن نادية/ نجوى ،وجميلة ،وناطالي ،وعن �أج��واء باري�س التي عا�شها بكل ما يحمله قلبه من حب و�شوق وحنين» .هكذا بد�أ الكاتب المغربي نور الدين محقق في كتابة هذه الرواية ،رواية «�إنها باري�س يا عزيزتي». �اف� ،أن ال��رواي��ة ه��ذه ،تزخر بتعدد غير خ� ٍ حكائي وتقنيات .منها رافد الذاكرة� ،إلى حد �أن الذكريات تعاد من جديد لتمار�س وجودها؛ فتبدو الكثير من مظاهر الحا�ضر تعالت ،فقط ما�ض �سا ٍر في العمق كمعنى وجود وحنين لإبراز ٍ مالزم .وبالتالي ،فنغمة االنك�سار والحنين �سارية بين تالفيف الحكي .ه��ذا ف�ضال ع��ن ح�ضور حوا�ش معرفية متعددة الأفكار لها �صلة بالجمال ٍ والحب .فتعمقت الكثير من النظرات والمواقف؛ بل �أحيانا تنطرح تك الحوا�شي كمرايا تمظهر الم�شاعر وت�أمالت ال�سارد ك�أنه بطل �سينمائي �أو روائي ...ال�شيء الذي �أدى �إلى تداخل بين الأدب والحياة� .إنه تالزم حثيث في تحركات ال�سارد ال��ذي يخيط الم�شاهد ف��ي ترا�سل للحوا�س. فكانت الحكاية زاخرة �أكثر بالجوانب النف�سية والت�أمالت الفكرية .تقول الرواية في �ص :37 « �أغلق باب الفي�سبوك الخا�ص به ،ثم ما لبث
�أن ع��اد م��ن عالم الإنترنت كما يعود الغريب �إل��ى وطنه الأ� �ص �ل��ي .و��ض��ع الكمبيوتر ب��ال�ق��رب م�ن��ه ،وع ��اد يت�أمل �أم� � � ��واج ال� �ب� �ح ��ر .خ �ط��رت ب �ب��ال��ه ال �ك��ات �ب��ة ال�ع��ال�م�ي��ة فرجينيا وول ��ف ،وه��و ي��رى ه��ذه الأم � ��واج ،وا�ستح�ضر بطبيعة الحال روايتها التي تحمل ا�سم «الأم��واج» ..هذه الرواية الفاتنة التي اعتمدت فيها الكاتبة على تقنية التداعي الحر ،الذي يتوافق مع حركات الأمواج في امتداداتها ،وفي انك�ساراتها على ال�صخور».
ٌ ٌ وجدانية حالة ال�شعر ُ ■ مع�صوم حممد خلف*
لل�شعر نفحات روحانية ت�ستقطب ال��وج��دان ،في �أعلى حاالتها التفاعلية ،وهي تعطي مرادفات و�صيغاً عديدة لحالة نموذجيّة متفرّدة ،وهي حالة تعبّر عن الخلجات التي يعجز الل�سان عن �شرحها والبوح بها؛ لذلك ،فهي تتداخل في هواج�س النف�س الب�شرية في الك�شف والت�أويل عن خفايا غير ظاهرة للعيان. يروى �أن النبي عليه ال�صالة وال�سالم قال لل�صحابي ال�شاعر عبداهلل بن رواحة ر�ضي اهلل عنه ،ما ال�شعر يا عبداهلل؟ وكان الرد�(:شيء يختلج في �صدري فينطق به ل�ساني). فال�شعر هو قلب الإن�سانية الناب�ض في �شرايين الوجود بانتظامية عجيبة؛ �إذ ي�شحن الطاقات ويجدد �إح�سا�سنا بلذة الحياة؛ ويزلزل فينا كل ركود. �إنه الأيقونة التي يمتلكها ال�شاعر طوال حياته ،وهذه الأيقونة بمثابة �أغنية يترنّم بها كلما ا�ستطاع بوْحُ ُه ال�شفّاف �أن يالم�س ما يرتبط به بمنتهى ال�صدق والح�سا�سية والوجدان؛ وال�شاعر يرى الأ�شياء بعين مختلفة وبر�ؤية عالية ،ربما يختلف عن �سائر الب�شر ،كونه ير�صد تفا�صيل �أكثر ،ودالالت �أعمق ،ومكنونات �أدق من غيره! ال�شاعر منظومة كبيرة ،و�أحيان ًا يجعل لنف�سه مدر�سة كونية تجمع كل تفا�صيله في قالب واح��د ،لأنَّ ر�ؤي��ة ال�شاعر ت�شبه الماء في نقائه ،و�أعني ال�شاعر الحقيقي الذي يبني لنف�سه مدر�سة خا�صة ب��ه ..تجمع كل تفا�صيله في قالب واحد ،وذلك لتكوين حقبة �أدبية لال�ستفادة منها في ت�صنيف �أدبيات الكتابة. ويحق لل�شاعر ما ال يحق لغيره ،وتظهر
ه��ذه المقولة ف��ي تنويعات الكتابة لديه؛ �إذ ي�ستطيع �أن ي�ط�وّع �أبجدية الكتابة في ن�صو�صه ومقاالته ،وحتى في كتابة ر�سائله الإن�سانية. وال���ش�ع��ر ه��و ل�غ��ة ل�ل�إي �ح��اء بالم�شاعر وال�خ�ي��ال؛ ف�م�ث�لاً� ،إذا �أردن ��ا �أن نعبر في ك�لام �ن��ا ع���ن وق���ت ال��ظ��ه��ي��رة ،ف��ل��و قلنا: «انت�صف النهار» ،فهذا كالم عادي؛ �أما �إذا قلنا «انتعلت الأ�شجار ظلها» لندل على وقت اجلوبة � -صيف 1436هـ (15 )2015
16
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
-1ال�شعر في ماهيته الحقيقية تعبير �إن�ساني ف��ردي ،يتمدّد ظلّه ال ��وارف ف��ي االتجاهات الأرب �ع��ة ،لي�شمل الإن�سانية بعموميتها(.د. �إح�سان عبّا�س). -2لي�س ال�شعر �إال وليد ال�شعور ,وال�شعور ت�أثر وانفعال ر�ؤى ،و�أحا�سي�س عاطفة ،ووج��دان �صور ،وتعبيرات �ألفاظ تك�سو التعبير رونق ًا خا�ص ًا ونغم ًا مو�سيقي ًا مالئماً� ,إ ّن��ه �سطور المعة في غياهب العقل الباطن ،تمدّها بذلك اللمعان وم�ضات الذهن و�إدراك العقل الواعي. (عبد اهلل �إدري�س). -3ال�شعر لغة الخيال والعواطف ،له �صلة وثقى بك ّل ما ي�سعد ويمنح البهجة والمتعة ال�سريعة �أو الأل��م العميق للعقل الب�شري� ،إ ّن��ه اللغة العالية الّتي يتم�سك بها القلب طبيعيًا مع ما يملكه من �إح�سا�س عميق. وال�شعر لي�س تاريخ ًا للواقع كما يقوله ال�شاعر محمد �إب��راه�ي��م �أب��و �سنة ،لكنه تج�سيد لر�ؤية ال�شاعر لهذا الواقع ،وتعتمد هذه الر�ؤية على وعي ال�شاعر وثقافته ،وكلما ات�سع وعيه وثقافته جاءت ق�صيدته مكتنـزة ومعبّرة. ومن خالل حركة ال�شعر على م�سرح الإلقاء يتم �سرد �إي�ح��اءات على منابت الق�صيدة التي تت�ألق عبر ال�صورة ال�شعرية والوزن الممتع والنبرة
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
الظهيرة ،فهذا هو ال�شعر. وديناميكياً :ال�شعر هو �أن تَ�شعر ،ثم تُ�شعِر الآخرين بما �شعرت به؛ ف�أنت �إذا فعلت هذا.. فقد �أنجزت �شعراً؛ ولكنك لن ت�صبح �شاعراً ،لأن ال�شّ اعر هو ال��ذي يُلهم الآخرين �أكثر مما يُلهمُ نف�سه. وال�شعر عامة يتكوّن من ج��ز�أي��ن �أ�سا�سيين وتيارين متعانقين هما: التيار الداللي :وهو لغة الخيال والم�شاعروالفكر. التيار المو�سيقي :وه��و الجر�س اللفظي،�سواء �أكان وزن ًا �أم قافية. وق��دي�م��ا ك��ان م��ن الممكن �أن ي �ك��ون التيار المو�سيقي كافي ًا ل�صنع ق�صيدة تُعجبُ النّقاد والقرّاء على حدٍ �سواء؛ �أمّا في وقتنا هذا ،فيكفي التيار الداللي ل�صنع الق�صيدة ،وهذا هو المعروف الآن بال�شعر المنثور ،وهو غريب حقا؛ فقد اختلفت الأفكار ،وانقلبت الم�سلّمات ر�أ�س ًا على عقب؛ فبعد �أن كان ال�شعر هو الكالم الموزون المقفّى� ،أ�صبح هو كل كالمٍ يوحي ب�شعور وي�ؤثر في النف�س. وال�شعر موهبة ذات �ي��ة ،تعبّر ع��ن الكينونة الإن�سانيّة لل�شّ اعر روح ًا وقلب ًا و�إح�سا�ساً ،وينطلقُ كمنتجٍ �إبداعي ليعبّر عن الحياة والإن�سان بكل ما يعتمل في نف�س ال�شاعر من م�شاعر ،وكونه المر�آة الأنقى التي تعك�س الواقع المعي�شي ،فهو تعبير عن نب�ض المواطن كما ي�صوغه الوطن ،لأن��ه يحمل َ ال�شاعر. لقد احتار المتخ�ص�صون في تف�سير ظاهرة ال�شعر تف�سير ًا حا�سماً ،وتحديد تعريف جامع لو�صفها ي�صطلح عليه الجميع ،ويركنون �إليه كتعريف حا�سم لماهية ال�شعر وحقيقته ،حتّى ال�شعراء �أنف�سهم ف�شلوا في ذلك؛ لأنّ ال�شعر وليد
النف�س الإن�سانية ذاتها ..لذا ف�إنّ ك ّل التعريفات والفل�سفات الّتي قيلت عنه ،ما هي �أ ّال مفاهيم فردية ت�صوّر وجهة نظر �شخ�صية ل�صاحبها ،وهي في مجملها -رغم تباينها -ال تتعدّى في الواقع ال�سطح لحقيقة ال�شعر وماهيته� ،أمّا باطنه وكنهه فال يزال في مجاهل الغيب. من التعريفات لل�شعر ما ي�أتي:
المتزنة؛ �إ�ضافة �إلى �أنها �إفراغ النف�س المتعط�شة من ال�شحنات التي رافقت ت�ألقها ،فرفعت من معنوياتها لتدرك ذلك الأثر من خالل الدالالت التي تبوح بمعالم يرتقي �إليها النف�س والوجدان في الو�سط االجتماعي. وال� ��� �ش� �ع ��ر ال� �ع ��رب ��ي ح ��اف ��ل ب��ال �م��و� �س �ي �ق��ى والإي�ق��اع��ات الغنية ج��داً؛ ما يو�سّ ع مجا ًال رحب ًا لتكثيف الم�ضامين .وه ��ذا م��ا يقوله ال�شاعر الألماني(ريلكه) ،الذي ي�صف الق�صيدة العربية ب�أنها الأكثر غنى لتلك العالقة الوطيدة ما بين العين وال�سمع .وعندما قر�أ ق�صيدة �أمام ال�شاعر (��س�ن�ج��ور) ق ��ال�( :إن ن�صف المعنى و�صلني عبر مو�سيقى ال�شعر و�إن كان لم ي��درك حرفية المعاني)! فكثيرة ه��ي الأ��ش�ك��ال والم�ضامين واللغات وال�ل�ه�ج��ات والأ� �س��ال �ي��ب ال�ت��ي ر�أت وظ�ن��ت �أن�ه��ا تحمل معنى من معاني ال�شعر؛ وكثيرة هي الآراء وال��ن��ظ��ري��ات وال�م�ن��اه��ج والأف� �ك ��ار ال�ت��ي ت�ح��اول الإم�ساك ب�سراب المعنى المعرفي العلمي النف�سي المنطقي الذي يُحدِّ د �أو يُف�سِّ ر �أو يُ�شخِّ �ص �أو ي�صف ماهية ال�شعر من حيث هو معنى مرئي� ،أو مدرك في ذات ال�شعر وعنه وله وعليه وبه ،غير �أن ذلك لم ي�صح؛ فقد اختلفت الم�سارب والتو�صيفات، وتاه الإدالء في ت�شعبات الحجج وعالمات الو�صول المختلفة نيا�شينها ،والمت�ضادة غاياتها في ر�سم الهيئة التي يمكن �أن تكون مكمن ًا لل�شعر الخال�ص، حتى لك�أن المرء ي�ؤمن ب�أن لهذا الخطاب الإن�ساني معنىً رباني ًا واحد ًا يمليه على مَن يختار ليقوله، وعلى مَ ��ن يختار ليعيه وي��درك خوا�صه ويتملّى ب�أ�سراره و�أطياف جماله ،من دون �أن ي�أخذ هذا المعنى �شكال �أو حامال يحيطه الإح��اط��ة التي تكفيه ،وتكفّه عن الظهور والتجلّي هنا وهناك في
�أ�شكال خطابية �أخرى وتعابيرها وطرقها. وكلما ك��ان ال�شعر �صادق ًا ك��ان �أكثر جماالً، لأن ال�صدق ي�ضيف لل�شعر قيمة عُ ليا تتر�سّ خ في مكنونات الكلمة من خ�لال لغة الأحا�سي�س الم�شتركة م��ا بين ال�شاعر والمتلقي ،كذلك فال�شعر هو الأداة التي من خاللها ن�ستطيع البوح بها عن المعاناة التي تلفنا دوامتها منذ زمن بعيد. فال�شعر هو فن الكالم المنمّق ال��ذي يحمل معه و�شاح ًا هادئ ًا من النبرة المتزنة ،كي يدخل البهجة �إلى النفو�س الظامئة للحقيقة ،فهو القامة التي تت�شبث بها هموم المجتمع ور�ؤى المتطلعين �إل��ى غد م�شرق جميل ،كونه ي�ستوفي العنا�صر الفنيّة �إلى م�ستوى يرفعه �إلى دائرة الأدب ،وتقوم �صياغته ويم�ضي �أُ�سلوبه على نح ٍو متميز ب�سبب ال��وزن والقافية ،على النحو الذي ا�ستقرت عليه قواعد اللغة العربية في تاريخها الطويل ،ويمكن �أن ينمو العمل الفني ويتطور في �أ�شكال متعددة، و�أ�ساليب متنوعة مع الزمن ،دون �أن يخرج التطوير عن قواعد ثابتة م�ستقرة في اللغة ،ودون �أن يهدم بنا ًء �أو يقطع جذور ًا و�أ�صوالً .فيمكن للقافية �أن تتنوع بعد عدد من الأب�ي��ات ،على قاعدة تحفظ لل�شعر جماله وميزته .و�أما الوزن فال بد من �أن ي�ستقر مع الوحدة ال�شعرية والبحر ال�شعري. ل�ق��د �شغلت ال�خ���ص��ائ����ص ال�ن��وع�ي��ة لل�شعر الدار�سين قديم ًا وحديث ًا من �أج��ل الك�شف عن قيمة ال�شعر ووظيفته ،وتتداخل لدى النقاد �أبعاد وظيفية مختلفة ،منها م��ا يت�صل بلغة ال�شعر بو�صفها مميز ًا لماهية ال�شعر ،و�أنها تمثل �أحد المكونات النوعية ال�ت��ي ت�ح��دد ماهية ال�شعر، ومنها ما يت�صل بخ�صائ�ص خارجية تعنى بمجرد الترا�ص للوحدات ال�صوتية �إحداها جنب الأخرى، ومنها ما يتجاوز ذلك �إل��ى خ�صائ�ص تن�أى عن
اجلوبة � -صيف 1436هـ (17 )2015
* كاتب من �سوريا.
18
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
مراجع البحث: وظ �ي �ف��ة ال�ق���ص�ي��دة ال �ع �م��ودي��ة ال�م�ع��ا��ص��رة،عبداللطيف محرز -الموقف الأدبي -العدد 410ح��زي��ران 2005م اتحاد كتّاب العرب. دم�شق .الجمهورية العربية ال�سورية. �صحيفة دنيا الوطن .الكترونية ت�صدر من غزة.ماهية ال�شعر ف��ي ال�ت��راث النقدي د .كريم الوائلي. �إ�سالم كريم علي ،ماهية ال�شعر .نادي الأدببكلية ال�ط��ب – �أ���س��ي��وط ،ج��م��ه��وري��ة م�صر العربية. من ذاكرة الإنترنت .دنيا ال�شهوان – قراءة فيمكنونات ال�شعراء.
ديوانُ «الطائر المهاجر» �صدى الحلم ورجع ال ّلغة
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
الأب�ع��اد المعيارية العرو�ضية� ،إل��ى الك�شف عن جوهر ال�شعر� ،أو محاولة االقتراب منه ،ويتحدد التمايز من خالل التماثل واالختالف بين جن�سي ال�شعر والنثر ،فهما على الرغم من التقائهما في مادة الكالم الأ�سا�س� ،أي الألفاظ والمعاني، وكيفية توليفهما في كالم ،ف�إنهما مختلفان من حيث الخ�صائ�ص ال�شكلية من ناحية ،ومكونات الإب��داع الداخلي للتجربة ال�شعورية لل�شاعر من ناحية �أخرى. وقد �أدرك النقاد العرب �أن هناك تمايزا بين ال�شعر والنثر من حيث الماهيات والوظائف؛ �إذ يتحدد ال�شعر بو�صفه فنا �أو �صناعة ت�ستقل بذاتها عن النثر ،ويتميز ال�شعر بخ�صائ�ص يمثل الإيقاع الذي يت�أ�س�س عليه الغناء �أبرزها .ولما كان الغناء يت�أ�س�س على ال�شعر ،ف�إن قيمة ال�شعر تبدو وا�ضحة فيما يتركه من �أثر في المتلقي؛ لأنه يجمع بين المتعة والفائدة ،وتتبدى المتعة في «تنبيه النف�س واجتالب الطرب»؛ في حين تتبدى الفائدة في «تفريج الكرب ،و�إثارة الهزة ،و�إعادة العزة». فبال�شعر تتحول النفو�س القاحلة �إل��ى بيادر للخير وال �ع �ط��اء ،وعليهم ت��رت�ك��ز المرجعيات والح�س الإن�ساني ِّ الجميلة من الأدب والو�صف العذب. وي��ظ��ل ال�شعر �شك ًال م��ن �أ���ش��ك��ال ال�صياغة والتعبير ،ن�ش�أ م��ع اللغة ونما وت�ط��ور ،واكت�سب خ�صائ�ص و�صفات في تاريخ طويل� ،ش�أنه في ذلك �ش�أن �سائر قواعد اللغة .ولم يكن ال�شعر ثمرة قرار فرد� ،أو �سلطان� ،أو هيئة� ،أو لجان� .إنه نمو تاريخ طويل اكت�سب فيه خ�صائ�ص ثابتة تعرّفه وتحدد طبيعته .وم��ن �أه��م ه��ذه الخ�صائ�ص التي تميز طبيعته وتعرفه وتحدده خَ �صي�صتان هما :الوزن
والقافية. فالوزن والقافية لي�سا هبّة رجل �أو هيئة� .إنهما �أل�صق خ�صائ�ص ال�شعر ،وال ت�ستعمل كلمة ال�شعر في اللغة العربية �إال لت�شير �إلى ذلك ال�شكل الملتزم بالوزن والقافية. و�إن ما قدّمه الخليل بن �أحمد الفراهيدي، وما قدمه جميع رجال الأدب في تاريخ اللغة ،لم يكن اختراع ًا �أ�ضافوه �إلى اللغة ،ولكنهم اكت�شفوا �أو حاولوا �أن يكت�شفوا خ�صائ�ص موجودة وقواعد ثابتة� ،أ�شاروا �إليها �أو عر�ضوها. ولم تعرف اللغة العربية في تاريخها جر�أة في عداوتها كما وجدته في ع�صرها الحالي.
ρρد�.إبراهيم الدّ هون*
�إ َّن قراءة واعية ومت�أملة لديوان( :الطائر المهاجر) لل�شاعر محمود ال��رم��ح��ي ،تقودنا �إل���ى ثنائيّة التّحليل والبحث في �أعماق هذا المنجز ال�شّ عري؛ فالأولى ،ت�أخذنا �إل���ى ال��وق��وف ع��ن��د ح��ل��م ال��ط��ف��ول��ة وال��ب��ح��ث ع��ن ال���ذات؛ وال��ث��ان��ي��ة ،تُف�صح ع��ن جمالية اللّغة والمعجم ال�شّ عري العميق الذي نهل منه ال�شاعر؛ لير�سم لوحة ف�سيف�سائيّة تطفح بالمعاني والدّالالت. و�إذا م��ا انتقلنا �إل ��ى دي���وان �شاعرنا ع��ام 1948م ،ال��ت��ي �أل��ق��ت بظاللها على (الطائر المهاجر) ف�إننا ن��رى �أ ّن��ه ينحو ال�شّ عب والمكان معاً ،وبدّدت �أحالم الآالف من �أبناء فل�سطين ،ودفعت بهم �إلى خيام منحيين اثنين ،هما: بائ�سة ،وك �ه��وف مظلمة ،ام��ت�ل�أت بالذل -1حلم الطفولة والقهر والمهانة؛ ليواجهوا م�صير ًا �صعباً، (البحث عن الذات) وحياة قا�سية في ظل واقع �أكثر مرارة. لم تفلت ق�صيدة واحدة من �أثر المنحنى ويتكرّر الم�شهد في ع��ام 1967م ،وما الذاتي� ،سواء �أكان ذلك �صراحة �أم �إ�شارة �أعقبها من ت�شريد لبقية ال�شّ عب الفل�سطيني، �أم �إي� �م ��اءً؛ ف��ال��رم�ح��ي ،م�سكون بهاج�س ويتم توزيعه خ��ارج الوطن وداخ�ل��ه ،يُفرق الطفولة (فل�سطين) الأم ال��ر�ؤوم ،البيت ،النّا�س في ك ّل مكان ،و�أ�صبح م�أواهم العراء، ال�شّ جر ،الأهل ،الهدوء ،ال�سّ عادة. وغطا�ؤهم ال�سّ ماء .وتمر ال�سنون ،وتلتها فال يختلف اثنان في �أث��ر كارثة النكبة الأع���وام ،والوطن ينتظر الغياب ،ولكن ال اجلوبة � -صيف 1436هـ (19 )2015
م��ن ه�ن��ا ،ا�ستولت ظ��اه��رة ال��وط��ن والغربة على ال�شاعر الرمحي ،على الرغم من حديثه ع��ن ال�غ��زل وال�ح��بّ والع�شق ال�م�م��زوج ،والملبّد ب�آهات الب�ؤ�س والحنين �إلى وطن ،تركه طفالً.. وطنٌ قُدِّ ر له �أن ي�شهد م�أ�ساة ف�صوله ،ومراحل �أو ه���ل ن�����س��ي��تِ ال���ح���بّ ي���وم���اً ب��ع��دم��ا ن�ضاله ،فيقدّم �أنموذج ًا فريد ًا لوطنه ،وبلده ،من ك�����ن�����ا �������س������وي������اً ن�������ك�������ر ُه ال���� ّن���������س����ي����ان����ا خالل االتكاء على �صورة المر�أة الح�سناء -كاملة م���ن���ذ ال���ط���ف���ول���ة و ال������ف�������ؤاد م����لَ����و ٌع وال�صفات -فيقول في ق�صيدة بعنوان: الجمال ّ ط��������ال ال�����ب�����ع�����اد وزادن�������������ي ح����رم����ان����ا (الفتاة العربيّة):
ي����ا م����ن ع�������ش���ق���تُ ه����واك����م ي����وم����ا �أن����ا ع�������ش���ق���اً �أذاب ب���ق���ل���ب��� َي الأح������زان������ا
م������ن ت����ك����ون����ي����نَ وه��������ل �أن����������ت ب�����ش��ر �أم م��������ل�������اكٌ ول�������ع�������ي�������ن�������يَّ ظ����ه����ر وينهي ق�صيدته بقوله.. ط����ف����ف ف�����ي ال����دن����ي����ا ول����ك����ن ل�����م �أ َر م��ث��ل ه����ذا ال��ح�����س��ن م���ا ب��ي��ن ال��ب�����ش��ر �إن ع�����ز ي����وم����ا ي�����ا ح���ب���ي���ب ل���ق���ا�ؤك���م �أرج������������و ب����ح����ل����م �أن ي�����ك�����ون ل���ق���ان���ا
.... ّ�ص ال�شّ عري ال�سّ ابق �أنَّ يلحظ المتلقي للن ّ .... الرمحي طافح ب��دالالت الأ��س��ى وال�ح��رم��ان� ،إذ �إلى �أن يقول: ج�سّ د معاناة الإن�سان الفل�سطيني النّازح ،بعدما وال�ضحك وال�ب��راءة في ك��ان يعي�ش حالة الفرح ّ ك�����مُ����� َل ال����ج���������س���� ُم ف�������س���ب���ح���ا َن ال�����ذي وه����بَ ال��ح�����س��نَ ب��ه��ا ال��حُ �����س��نُ ا�ستقر وطنه.
تنب�ض هذه الأبيات ال�شّ عريّة بم�شاعر الزهو واالفتخار والإعجاب� ،إذ �شبّه ال�شّ اعر فل�سطين بفتاة جميلة ،لب�ست ثوب الجمال ،وطافت به �أمام الآخرين ،ف�أده�شتهم ،و�أذكت نار ال�شّ وق فيهم، وق��د ج��اء ذل��ك ف��ي ل��وح��ات �شعريّة متوالية من الو�صف الدقيق لمظهرها الأنثوي ال�سّ احر.
فالرمحي يج�سّ د ت�شظي ًا وعراك ًا ملحوظين بين حالتي الطفولة ال�سّ عيدة ،وحالة الحا�ضر القاتمة؛ لأنها تخت�صر النكبة ،وفقدان الوطن ،وهي رفد الذل والإهانة ،وهول الم�أ�ساة التي يعاي�شها تحت �سمع العالم وال�ضمير الإن�ساني.
ويعود الرمحي �إلى تياره الرومان�سي( :قلبه) ويرتبط الحنين ارت�ب��اط� ًا وثيق ًا ف��ي ال�شِّ عر فيحاكيه ،ويناجيه ،كما يالم�س نف�سه في�شاركها الفل�سطيني ،فعندما يعبّر الإن���س��ان ع��ن مكان �أل�م�ه��ا و��ش��وق�ه��ا ،ف�ي�ق��ول ف��ي ق���ص�ي��دة( :ط��ائ��ر طفولته ،ومرتع �سمره ،ي�شتاق لك ّل ما فيه من الزيتون): 20
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
جدوى ،ف�أ�صبحوا ذكرى يعيدها �شريط الذاكرة كلّما ن�أى الإن�سان وحيداً.
��ش�ج��ر وح��ج��ر ..ي�ن���ض��ج ،يمتلئ ق�ل�ب��ه ب��ال�ح��بّ والحنين ،وت�أخذ اللوعة في قلبه م�أخذ ًا كبيراً، فها ه��و الرمحي ي�خ��رج زف ��رات ال�ح��بّ ال��ذات��ي بع�شقه ل��وط�ن��ه ،ف�ي�ت��ذك��ره ،فتتمثل ل��ه �ساعات ال�صفاء والنقاء ،وتنت�شر �أجواء الحبور وال�سّ رور، ّ ويمرح في �سعادة عظيمة ،فيقول:
ي�����������ا ���������ص��������ح��������بُ ُدل�������������ون�������������ي ع����ل����ى ط�����������ي�����������ري وه�����������������ل �أح���������������������د ر�آه ال�������ب�������ع�������د �أ���������ض��������ن��������ان��������ي وك�����ي�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ فَ ل�������ع�������ا��������ش�������قٍ ي�����������س�����ل�����و ه����������واه ال�����ق�����ل�����ب م��������ج��������روح ب���ب���ع���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ د ال������ط������ي������ر ق���������د ن���������زف���������تْ دم�����������ا ْه ف��ي ه��ذا الم�شهد ا�ستغل ال�شّ اعر الطبيعة، ومظاهرها من �شجر وطائر؛ ليعبّر عن �أوجاعه وغربته وحنينه من خالل ا�ستنطاقها ،والحديث معها ،فاللّغة ال�شّ عريّة ت��زداد جما ًال وبهاء� ،إذا تجاوزت حدودها المعجميّة لت�شكل ن�سيج ًا داللي ًا مبدع ًا تتوافر فيه العنا�صر الف ّنيّة الثّالثة :المحتوى وال�صوت الخال�ص. العقلي ،والإيحاء الجماليّ ، ّ�ص ال�شّ عري ،نحو: �إنَّ المتب�صر لمفردات الن ّ (البعد �أ�ضناني ،تحيا على �أم��ل اللقاء ،رغم وال�صعاب )...,تهدي �إلى �أنَّ الحنين �إلى الأ�سىّ ، مدن فل�سطين ،وال�شّ وق العارم �إلى �أهلها ال يفارق الفل�سطيني في حياة الغربة �أو التّ�شرد �أو النّفي، يعبّر الرمحي ع��ن غربته النّف�سيّة وحنينه فال يمكن �أن تغيب عن ناظريه م�شاهد �أغ�صان ال�صدق وال� ّ���ص��راح��ة ،بكلمات تدغدغ بمنتهى ّ الزيتون الوارفة ،وينابيع المياه العذبة ،و�سهول الوجدان وتالم�س �شغاف القلب� ،سهلة اللّغة ال القمح ال��وف�ي��رة ،ال��ذي اع�ت��اد �أن يلعب ،ويمرح تحتاج �إلى عناء الفهم �أو التّحليل .كما �أنّه يك�شف الطفل فيها. عن التّحوالت التي �أ�صابته نتيجة خروجه من وف��ي ق�صيدة بعنوان�( :أيها ال�سّ ائل) حاول بالده ،فبات يكتوي بنار ال�ضياع لقوله: ال�شّ اعر �أن يقدّم �أنموذج ًا واقعي ًا للإن�سان البعيد م������ن������ذ �أن �أو����������ش���������ك���������تُ خ����م���������س����اً عن وطنه ،فقال: � ُ���������س���������ل���������ب���������تْ �أر�������������������ض������������������ َي م�����ن�����ي
ك��������ن��������تُ ف����������ي الأم�������������������������س ف�������ق�������دتُ ل�����������ي �أب�������������������������اً ،م�����������ن ب��������ع��������د ع����م����ي و�أخ����������������������������������ا ك�����������������������ان ر��������ض�������ي�������ع�������ا ي��������رت��������م��������ي ف�����������ي ح�������������ض������ن �أم�����������ي
�أي����������������ه����������������ا ال�����������������������س�����������ائ�����������ل ع������ن������ي فير�صد ال�شّ اعر عنا�صر الطفولة البريئة التي ه�������������ل ُت���������������������رى ت���������ح���������م��������� ُل ه�����م�����ي فقدت بك ّل معانيها :البراءة ،والجمال ،والطهر، �أن��������������������ت ف������������ي ال������������ف������������رح ب������ع������ي������ ٌد ّ�ص مفردات اللجوء والنزوح( :خيمات، ليحمل الن ّ و�أن����������������������������������ا ق�����������������د زاد غ������م������ي منقع لل�شم�س ،فر�ش� ،سريري هو ظلي� ،سماء،
اجلوبة � -صيف 1436هـ (21 )2015
وقد اختتم الق�صيدة بقوله
ال�صورة ال�شّ عريّة الم�ستقاة يتكئ ال�شّ اعر على ّ م��ن الطبيعة� ،إذ يحيلنا �إل��ى ��ص��ورة الالجىء ن�����اظ�����رت ح����ال����ي وال������دي������ار ���س��ل��ي��ب��ة الم�شرّد الذي نام في العراء ،فلم يجد �إ ّال ال�سّ ماء ف���وج���دت ح���ال���ي ن�����س��خ��ة م���ن ح��ال��ه��ا غ�ط��اء ل��ه ،فالمقطع ال���ّ�ش�ع��ري م�ت��رع بالحزن �أي ت�صوير هذا ,و�أي مقارنة هذه..؟! فالحال والأ� �س��ى لفقدان ال��دفء والملج�أ .وه�ن��ا ،نلمح هو الحال ،والألم هو الألم.. غزارة الوجدان والعاطفة عند ال�شّ اعر من خالل ه��ذا وط��ن �شاعرنا ،وط��ن موغل بالح�صار ترديده ياء المتكلم( :غطائي ،يغطيني ،يداويني، والنّك�سات؛ ولكن الحلم يبرق ،والأمل طافح ،رغم �صبري.)...، تكالب الأعداء ،وتزاحم الأهواء .كما �أنَّ التّجربة وتعلو وتيرة الغربة وال�شّ وق والحنين والتّفجع المريرة القا�سية ل��م تك�سر الإرادة والتّحفز؛ عند حديثه عن الحمامة الم�شرّدة .ولع ّل من فا�ستبدل ال�شّ اعر ث��وب الحمامة ال�سّ واد بثوب طبيعة االت �ج��اه الرومان�سي ينعك�س �أي �شيء الأمل والإ�شراق ،وير�سم من خاللها طريق الخير يراه ال�شّ اعر على نف�سه ،ف�إذا ر�أى جب ًال �ضخم ًا للوطن ،وكلمة الإ�صرار على البقاء. خاطبه ،و�إذا م ّر بنهر يتدفق ،ظنّ نف�سه نهر ًا وبهذا ،ن�ستطيع القول ب�أنَّ الرمحي تميّز في يتدفق بالحنين وال�شّ وق ،وهكذا الطبيعة بك ّل �أ�شكالها ال�سّ اكنة ،والمتحركة ،تنعك�س �سلب ًا اتخاذه الحبّ والع�شق متك�أ للحديث عن ع�شقه و�إي�ج��اب� ًا على نف�س ال�شّ اعر؛ ل��ذا �أخ��ذت وتيرة لوطنه وحنينه له. الغربة والحنين والتفجع ترتفع عند حديثه عن -2جمالية اللّغة ال�شّ عريّة الحمامة الم�شردة ،فيقول: تحت ّل اللّغة ال�شّ عريّة في المنجز الإب��داع��ي ف����ي رك���ن���ه���ا ال�������ش���رق���يّ ت��ب��ن��ي ع�����ش��ه��ا مكان ًا مرموقاً؛ لأنّها ركيزة �أ�سا�سيّة من ركائز الخا�صة التي ّ وع���ل���ى ال���ن���واف���ذ ك���ي ُت���ح���قّ��� َق �أم��ن��ه��ا العمل الأدب ��يّ ،ولك ّل �شاعر لغته ت�شكّل ن�سيجه الن ّّ�صي .فالق�صيدة ال�شّ عريّة عند وب������ع������ي������دةٌ ،ظ������ ّن������ت ،وذل����������ك ظ��ن��ه��ا ل����ك�����أ ّن����ه����ا ف�����ي م�������أم������نٍ م�����ن غ��ي��ره��ا الرمحي لي�ست مجموعة من الألفاظ والتّراكيب 22
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
يعتمد ال�شّ اعر في ق�صيدته هذه على الرمز �صبري). و�إذا كان لتلك الألفاظ �أثر في �إبراز جماليات الأ�سطوري المنبثق من �صورة الحمامة في التّراث ال�صورة ال�شّ عريّة و�أثرها العربي القديم ،تحمل الحزن والفقد واللوعة. ّ�ص ال�شّ عري؛ فكذلك ّ الن ّ الكبير ف��ي م��ا يمكن �أن يتولّد م��ن خاللها من فالمدقق للمقطع ال�شّ عري ال�سّ ابق يجد �أنَّ معانٍ ودالالت موحية ،وتُع ّد ّ ونح�س ال�صورة ال�شّ عريّة من الرمحي يحمل �ألم ًا دفيناً ،وحزن ًا رقيقاًّ ، عالمات الإبداع ال�شّ عري ،ويتجلّى �أثر ذلك بقوله� :أنّه يهدهد اللّغة ،وي�شكلها جم ًال �شعريّة �أو يمنحها �أنفا�سه الملتهبة؛ لتعبّر عن مواقفه ال�شّ عوريّة، وغ������������ط������������ائ������������ي م���������������ن ����������س���������م���������ا ٍء م��������ن ي�����غ�����ط�����ي�����ن�����ي ..وم����������ن ل��������ي؟! ور�ؤاه النّف�سيّة.
تن�سج ،وي�ت��مّ ح�شوها ب��الأف�ك��ار و�إي�صالها �إل��ى ذه��ن ال �ق��ارئ ،ب��ل �إنَّ معجمه ال�ل�غ��وي م � ّر في ذهنه ع�شرات المرّات ،وبالتالي ي�ضع التوليفة في مكانها المنا�سب .وهكذا ،تتوا�شج تراكيب وعنا�صر الق�صيدة؛ لت�شكّل ن�سيج ًا متوافق ًا متوثب ًا في اللّفظ والدّاللة. �إنَّ �إدراك الرمحي �أثر اللّفظة المنا�سبة في نف�سية المتلقي قادته �إل��ى التنوّع في توظيفها. والدّار�س المتفح�ص ل�شعره ير�صد تطور ًا وا�ضح ًا في ر�ؤيته ال�شّ عريّة ،وانتقائه اللّفظي والأ�سلوبي� ،أو في طرائق بناء اال�ستهالل وح�سن المفتتح ،وهذا ما نلحظه في �أ�سلوبيّة اال�ستفهام في ق�صيدته: (الفتاة العربيّة) بقوله:
الق�صائد والأثر الفنّي الذي يعطيه داخل المفتتح مَ�������ن ت����ك����ون����ي����نَ و ه������ل �أن���������ت ب�����ش��ر للمتلقي؛ لأنّه �أوّل ما يُقرع ال�سّ مع به ،وي�ستدلّ على �أم م��������ل�������اكٌ ول�������ع�������ي�������ن�������يَّ ظ����ه����ر ما عند ال�شّ اعر من �أوّل وهلة ،فيريد الرمحي باال�ستفهام �أن ي�صل �إلى ذات المتلقي ،و�إخباره وق�صيدته( :البعد والحرمان) بقوله: بالت�شظي والقلق الم�أزومين اللذين يعي�شهما �أو ه���ل ن�����س��ي��تِ ال���ح���بّ ي���وم���اً ب��ع��دم��ا ك�����ن�����ا �������س������وي������اً ن�������ك�������ر ُه ال���� ّن���������س����ي����ان����ا جراء بُعده عن وطنه ،ف�ض ًال عن حالة االغتراب ال��وج��ودي ،وم�صير الإن���س��ان البعيد ع��ن مكان وق�صيدة( :ليت �أنا) بقوله: طفولته.
�أيُّ ن�������������������������و ٍع م���������������ن ح����������ي����������ا ٍة م�����������ا ن�������ع�������ي�������� ُ�������ش ال�������������ي�������������و َم ف������ي������ ِه
�إنَّ الناظر �إل��ى �أ�سلوب اال�ستفهام المتبدّل ف��ي الق�صائد �سيجد م��دى ا�ستيعاب ال�شّ اعر للغة ال�شّ عر العربي القديم من جهة -الهذليون مثاالً -كقول �أبي ذ�ؤيب الهذلي في مطلع ق�صيدته العينيّة:
ن�ص الرمحي ي�أخذ وال�لاف��ت لالنتباه� ،أنَّ ّ غر�ض ًا واحداً ،ي�سعى ال�شّ اعر �سعي ًا حثيث ًا المتالكه والتّعبير عنه بطرائق مختلفة ،بيد �أنَّ ال�شّ اعر ينظم ق�صائده بلغة ع�شقيّة؛ فت�شعر الأر�ض بلهفة وا�شتياق �إل��ى حبيبها المفقود ال��ذي رح��ل عنها منذ �سنوات طويلة ،ولكنها تلب�س ثوب الكبرياء والتعالي.
�أَمِ �����ـ�����نَ ال���ـ���مَ���ن���ونِ وَري���ـ���بِ���ه���ا َت���� َت����وَجَّ ���� ُع امتاح الرمحي �صوره ال�شّ عري ّة من ذاكرته وَال���ـ��� َده��� ُر َل��ي َ �����س ِب��مُ��ع�� ِت��بٍ مَ���ن َي��ج�� َز ُع ال � ّت��اري �خ � ّي��ة ،ف �ج��اءت � �ص��ورة ناب�ضة بالحركة وال�صوت والإيحاء ،كذلك هي تراكيبه اللّفظيّة، ّ وتنبّه ال�شّ اعر �إل��ى دور اال�ستفهام في مطلع اجلوبة � -صيف 1436هـ (23 )2015
فلغته غنية ب�سماتها� ،إ�ضافة �إلى �أنَّ لغة ال�شّ عر �أع�������������ش������ق ال�����ح�����������س�����نَ و�أن����������������تِ ك���� ُّل����ه عنده طافحة بدالالتها و�إيحاءاتها ،وم��ن �أب��رز و�أرى ال����غ����ي����ر م�����ن ال���ح�������س���ن خ�لا هذه ال�سّ مات التكرار ،نحو قوله في ق�صيدة( :ال م����ذ ر�أت����������كِ ال���ع���ي���ن وال����ق����ل����ب ه���وى تقوليها وداعا):
ال ت����ق����ول����ي����ه����ا (وداع�������������������اً) ط���ال���م���ا دقّ ق�����ل�����ب�����ي وب������ع������ي������ن������يّ �����ض����ي����اء ال ت����ق����ول����ي����ه����ا (ب�������ع�������دن�������ا) ف������أن�����ا �أك���������ره ال���ب���ع���د ف���ف���ي ال���ب���ع���د جِ ���ف���اء ال ت�����ق�����ول�����ي�����ه�����ا ..ف��������إن�������ي �أ�����س����ت����ق����ي ذك������ري������ات������ي ح����ي����ن����م����ا ع��������� َّز ال����ل����ق����اء ال ت����ق����ول����ي����ه����ا ول��������ك��������ن ..اذك����������ري ي�������وم ك����� ّن�����ا ن����ل����ع����بُ ال�����ح�����ب����� َل �����س����واء ال ت�����ق�����ول�����ي�����ه�����ا ..ك�����ف�����ان�����ي �إن�����ن�����ي �أحت�سي ال��ذك��رى وف��ي ال��ذك��رى عزاء
ع���ن���د ذاك ال����ب����ئ����ر ،ي�����ا ري������م ال���ف�ل�ا عِ ���������ش����تُ ف�����ي ال�����ح�����بِّ و�أح�������ي�������اه �أن�����ا ال ي�����ه����� ُّم ال�����ق�����ل�����بَ ل������و ال َم ال���م�ل�ا اذك�������������ري ال�������ي�������وم ال�����������ذي ك������ ّن������ا ب���ه وع�������ل�������ى ال������ب������ئ������ر ،ودل��������������� ٍو ُي����م����ت��ل�ا
ح�ي��ث ت���ض��اف��ر ال��ف��ع��ل ع��ل��ى ن��ح��و( :ن��ظ��رت، �أع�شق ،و�أرى ،ر�أت � ِ�ك ،عِ �شتُ ،اذك���ري )...،مع �أفكار ال�شّ اعر و�أحا�سي�سه؛ لتجذب المتلقي �إلى تعبير الأمل المن�شود ،فتزاحم الفعل و�صف للقوة ظهر التّكرار جل ّي ًا عند الرمحي؛ لي�ؤكد تم�سكه وحثّ �إلى الحركة والتّجديد ،والتّم�سك بالأ�صول، بوطنه ،و�صموده �أم��ام الطوفان ،ولعلّه في ك ّل �إ�ضافة �إل��ى �أ ّن�ه��ا توحي بالعالقة بين الحا�ضر مو�ضع احتفى فيه بالتكرار كان يرمي �إلى تكثيف الطريف ،والما�ضي التليد. ال�صورة الف ّنيّة ذات الأبعاد الجماليّة ،وت�سليط ّ لعلّنا نرى كيف تزاحمت التّراكيب اللّفظيّة، ال�ضوء على ب�ؤر مركزيّة ذات معانٍ و�آفاق وا�سعة. والبنى الدّاللية في النّ�صو�ص الرمحيّة ،حيث وظّ ف الرمحي ك ّل ما تحمله اللّغة من طاقات �أحدثت توافق ًا فكرياً ،و�صالبة نظمية ،فبرغم من �إيحائيّة ،و�إمكانات دالليّة؛ ليثري المعنى وتعميقه الأ�سى وا�شتداد الألم ،وتزايد الهموم والمحن ،لم في ذهن المتلقي ،فنجح ال�شّ اعر في المواءمة بين توظيف الدّاللة الحركيّة للفعل مع ال�سّ ياق القائم يي�أ�س ،ولم ي�سيطر عليه الحزن والك�آبة� ،إنّه لم على بع�ض الواقع المرير� ،إذ يقول في ق�صيدة :يفقد الأمل في العودة �إلى الوطن ،فغده م�شرق، بارق بالأمل والنماء. (�صدق القول): * �أكاديمي وناقد �أردني بجامعة الجوف.
24
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
جدل َّية العنوان في ق�صة «�صقيع يلتهب» لمريم الح�سن
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
حملت �سمات المو�ضوع الذي عالجه في ا�ستخدام ل����و ن����ظ����رتِ ال���ع���ي���ن �أع����ط����ت����كِ ال��ن��ب��ا موفّق للتعبيرات الموحية. �أ َّن م��������ن ي��������ه��������واك ل�����ل�����ك����� ِّل ����س�ل�ا
ρρال�سيد التهامي*
للوهلة الأولى ,ومن قبل القراءة ,ف�إن العنوان -عنوان الق�صة -يفتح الباب للخيال خيال القارىء -لينطلق في عملية �إبداعية موازية لإبداع الكاتبة�« ..صقيع يلتهب».ترى ما هو ال�صقيع؟ وما الذي جعله يلتهب؟ لي�س بحثاً في مفردات اللغة ولكن في المعني الكامن خلف تلك المفردات! �صقيع ,و ..يلتهب! �ألي�س ثمة تناق�ض؟ �أو لي�س ثمة «قوة» طبيعية �أو �إجهادية ا�ستحال بها ال�صقيع �إلى لهب؟! كعادتها «مريم الح�سن» ت�ضع القارئ الكاتبة �إال �أن يكون �شريك ًا لها ،من دون �أن �أمام نهايات مفتوحة �شريك ًا لها في الإبداع .تفر�ض عليه اتجاهاً. لكنها ه ��ذه ال �م��رة ت�ضعه �أم� ��ام ب��داي��ات بعيد ًا ع��ن الأيديولوجيا والإ�سقاطات مفتوحة ..وهذا هو الجديد في الأمر. ال �� �س �ي��ا� �س �ي��ة .و�إذا ج� �رّدن���ا «ال �م��ذه��ب ول��و اكتفت «م��ري��م الح�سن» بالعنوان ال��دي��ال�ك�ت�ي�ك��ي» ل �ـ «ه �ي �ج��ل» م��ن ت ��أوي�لات��ه (�صقيع يلتهب) لأُجيز كـ «ق�صة ق�صيرة ال�سيا�سية والأيديولوجية ..و�أ�صبغناه �صبغ ًة �أدب��ي��ة ،و�أ��س�ق�ط�ن��اه ع�ل��ى ال�ن����ص «�صقيع جداً!». يلتهب» ..فقد بد�أ الن�ص بالتناق�ض من قبل نعم (�صقيع يلتهب) ..جدلية ثنائية حتى �أن يبد�أ� ،أق�صد �أن التناق�ض قد �أطل تحمل تناق�ض ًا غير متكلّف يفتح الباب وا�سع ًا بوجهه من العنوان ،وهو لي�س تناق�ض ًا مربك ًا ومحير ًا وخ�صب ًا لخيال القارئ ،الذي ت�أبى يُخ ّل بالفكرة �أو ي�ضعفها ،لكنه التناق�ض اجلوبة � -صيف 1436هـ (25 )2015
الحالة المزاجية لـ «مريم الح�سن» هُ نا تنحى منحىً ت�صاعدياً ،فلقد ظنت بداءةً ،ثم اقتربت فبلّلت فا�ستطعمت فغا�صت فانتع�شت ..ثم «عزفت» مقطوعة �أثملتها! لقد لفت نظري كقارئ قبل �أن �أكون ناقد ًا لفظة «مقطوعة» على عك�س ما جاء بق�صة «احتراق»، «�سيمفونية» ..فهل النهر المرجو الم�أمول هو نه ٌر عربي؟! هل حلم الكاتبة حلم عربي؟! وهل جفاف �شفتيها لأنها عربية؟ هل كانت «مريم الح�سن» واعية لمفرداتها.. 26
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
رب�م��ا ه��و «م��ا قبل ال�ن����ص» -البيئة -تلك التي جعلت «مريم الح�سن» تمتطي �أحالمها.. تتحكم فيها ،مهما تكن وردية ،ومهما يك حجم الحلم ،فهي -وبحكم «ما قبل الن�ص» -مرتبطة ب�ج��ذوره��ا وخطوطها ال�ح�م��راء والم�سموح به والممنوع .ولقد جاءت «بنية الن�ص» معبر ًة عن «ما قبل الن�ص» -امتطت -وك�أن �أحالمها مهرة جامحة يجب كبح جماحها� ..أو هي موغلة في القدم ،فتبدو وك�أنها تلك الدابة التي تنقلها من مكان �إل��ى مكان ،فيتغير المكان دون �أن تتغير التقاليد المكبلة .فلما امتطت �أحالمها الوردية، ��ص��ارت��ا -ه��ي و�أح�لام �ه��ا -وك��أن�ه�م��ا �صديقتان
هل هو الإح�سا�س بالتفوّق الح�ضاري للغرب ف�لا ال�ح�ل��م ف���اق ..فخطفها وح �ل��ق ب�ه��ا في ال�سماوات حتى منطقة ان�ع��دام الجاذبية ،وال والذي يرمز �إليه بـ«قرع الأجرا�س»؟ الواقع طغى ،فقتل في �أعماقها الحلم والقدرة ه��ل ك��ان��ت ال �ك��ات �ب��ة ت �ح��ت ت ��أث �ي��ر «�إرن �� �س��ت عليه! همنجواي» ورواي�ت��ه ذائعة ال�شهرة «لمن تقرع
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
الذي ي�ضاعف من وجوه الفكرة ،ويثري جوانب دقيقة في اختيارها حين كتبت «�ست�صافح» تلك الن�ص ،ومن ثم خياالت القارئ الم�شارك. القطرات التي تم�ضي بعيد ًا عنها؟ وك�أننا نلمح ثم ت�أتي مفردات الكاتبة لت�ؤكد على ه��ذا ..مابين ال�سطور ،وبقراءة متمعنة مجتمع ًا ذكوري ًا (ظنته ن �ه��را ..اقتربت م�ن��ه ..بلّلت �شفتيها ..له الغلبة؟! ح�سبت �أنها ...)...كلها ال تحمل معنى اليقين.. �أم �أنها قناعة الأنثى بالقليل؟! ظنته ولم تقل �أيقنته ..اقتربت ولم تقل الت�صقت.. لكن تلك الأن�ث��ى المنت�شية حتى الثمالة قد بلّلت ولم تكتب ارتوت ..ح�سبت ولم تكتب ت�أكدت. امتطت �أحالمها الورديةّ! كلها ت�ؤكد �أن «الحقيقة» لم تت�أكد بعد ..فقد يا اهلل!! «ظنته» نهر ًا -قد يكون وقد ال يكون« ..اقتربت» مرة �أخرى التناق�ض! م �ن��ه ..ق��د يبين وق��د ال ي�ستبين« ..ب�ل�ل��ت» قد ت�ستعذب فترتوي وقد ت�شمئز فتلفظ« ..ح�سبت» ف��ال�ث�م��ال��ة ،ال �ت��ي ه��ي ح��ال�ت�ه��ا ال��راه �ن��ة من قد ت�صدق وقد ال ت�صدق.. المفتر�ض والمنطقي �أن تن�سيها نف�سها ،و�أن ت�سهو ثم تنتهي الكاتبة من «الظن» -ال��ذي يحمل عن ذاتها ..من المفتر�ض �أنها فاقدة للوعي� ..إال معنى «ال�شك» � -أو عدم اليقين � -إلى اليقين� ..أنها «امتطت �أحالمها الوردية»! وك��أن الأحالم ف�ق��د «ا��س�ت�ط�ع�م�ت�ه��ا»« ..غ��ا��ص��ت ف �ي �ه��ا» ..كلها مهما تكن ممتدة ورحبة يجب �أن ال يفلت زمامها! مفردات تقطع باليقين ..ولكن �إ�سقاط ًا جدلي ًا ربما هي التقاليد المكبّلة؟ دياليكتيكي ًا مجرد ًا من الإيحاءات ال�سيا�سية على ربما هو العقل الذي يجب �أن يتحكم؟ الن�ص -هل يبرز ذلك الإ�سقاط وجود «نقي�ض»! حيث ال طعم وال انتعا�ش؟ هل «الحقيقة» توجد في ربما هي القوة التي تجعل «الراوية» فاع ًال ال مركب يجمع ما بين ال�شيء ونقي�ضه؟ مفعوال به!
لماذا -على �سبيل المثال -لم تقل« :نادت ودودت ��ان��« ..س��ارت»« ،معها» ..نف�س التناق�ض! «الحلم الواقعي» �أو «الواقع الحلمي» �إن جازت فيهم»� ،أو حتى «�صرخت فيهم»� ،أو «�أذّنت»؛ ف�أتوا الت�سمية ،من دون �أن يطغى �أحدهما على الآخر! �إليها من كل حدب و�صوب؟
ام��ر�أة من عقل وقلب ..فال يطغى العقل وال الأج��را���س»؟ ��س��واء بالوعي �أو «ال�لاوع��ي» عند ي�سيطر القلب� ..أن�م��وذج لالعتدال ..االعتدال الكاتبة. نف�سه ال��ذي ي�سكن تعبيراتها التالية« :قرعت ثم الأر���ض التي ي�ستقبل �أنا�سها هذا التفوق الأجرا�س» و«من كل فج عميق». الح�ضاري والذي يرمز �إليه بـ «من كل فج عميق»؟
وك�أنها وب�سالمها النف�سي نف�سه الذي عك�سته وهو «تنا�ص» ال يخفى على �أح��د يرمز لجمع ق�صتها «اح �ت��راق» ت��ري��د للعالم �أن يعي�ش في غفير في �شعيرة من �أهم �شعائر ذلك الجمع. �سالم« ،»..قرعت الأجرا�س» و«من كل فج عميق».. لكننا على الفور نجد �إجابة -لكنها �إجابة ال�سالم الذي ي�سود «الذات» كما «المو�ضوع» .محتملة وغير م��ؤك��دة -مجرد رج��م بالغيب - مرة �أخرى «ما قبل الن�ص»« ،بنية الن�ص»« ،ما فو�صف الكاتبة لأولئك النا�س الذين �أت��وا �إليها بعد الن�ص» ..فهي �شخ�صية «كوزموبوليتانية» ..من كل فج عميق« :احتوتها قلوب نقية ،بي�ضاء ن�ش�أت� ،سافرت ،ع��ادت ..لها جذور ت�شدها �إلى كالثلج» ..هي �إذ ًا لي�ست نظرة ا�ستعالء كما بدا، �أ�صولها دونما تع�صب ..كما �أن حيوات �أخرى لي�ست نرج�سية ..بل هي نظرة حب وعرفان .لكن يالحظ �أي�ضا �أن الكاتبة لم تتحدث عن عقل! عقل تحلّق بها من دون �أن تقتلعها من جذورها. �أولئك الذين تخطب فيهم ..فهل �أر�ضتها طيبتهم عندما نطالع كلمات مريم الح�سن: و�صفاء قلوبهم ،بينما ظلت عقولهم التي هي «اعتلت بحبرها قمما ذات قيمة ،وقرعت موطن �أفكارهم محل نظر؟ الأجرا�س� ..أقبلوا �إليها من كل فج عميق» ..ف�إن �إن ه��ذا «ال�ت��داخ��ل الن�صي» ي�ب��دو جليا في ثمة �س�ؤا ًال يطرح نف�سه: ق�صتيّ مريم الح�سن «احتراق» ،التي كتبنا حولها هل هو الإح�سا�س ب��ال��ذات؟ ب��الأن��ا؟ هل هي في عدد �سابق من مجلة «عكاظ» بتاريخ ال�سبت النرج�سية التي �صورت ل�صاحبتها -الكاتبة 14 -فبراير 2015م -و«�صقيع يلتهب» التي نحن مكانا عليا و�آخرين يهرولون �إليها؟ ب�صددها الآن! ثم ثمة �س�ؤال �آخر: فالكاتبة تبدو وك�أنها تت�أرجح ما بين قبول لماذا اختارت الكاتبة مفردات «قرع الأجرا�س» ورف�ض ..ر�ضا وا�ستهجان للبيئة التي تحتويها.. و�« ..أقبلوا �إليها من كل فج عميق»؟ فهي ترف�ضها� ،إال �أنها م�ست�سلمة لها غير متمردة اجلوبة � -صيف 1436هـ (27 )2015
ربما ..فقد جاءت موعظتها الالحقة مبهمة وغير وا�ضحة �أو م�ح�دّدة! فهي لم تقل �شيئا.. لم تحدد منهجا ،فقط �أطلقت �ألفاظا ومفردات عائمة م�ث��ل�« ..إن ��ه ال�ط��وف��ان ق ��ادم»« ،ر�سالتي �إليكم». هل اكتفت بدور النذير؟ ذلك الذي يحذر من قدوم الخطر دون تحديد ماهيته؟
لكن تلك الديمقراطية التي ا�ستخدمت لها الكاتبة «قرع الأجرا�س» جاء بها من �أذن فيمن ي�أتون من كل فج عميق � -صلى اهلل عليه و�سلم - �ألم يُنزِّ ل عليه ربه قر�آنا يُتلى « :فمن �شاء فلي�ؤمن ومن �شاء فليكفر»؟ �ألم يعلمنا:
«�إن �أريد �إال الإ�صالح ما ا�ستطعت وما توفيقي �أم �أن��ه التداخل الن�صي نف�سه للكاتبة التي �إال باهلل»؟ «�إن عليك �إال البالغ». تتركنا �أمام نهايات مفتوحة دونما و�صاية منها �أو خطابة؟ «ف ��ذ ّك ��ر �إن� �م ��ا �أن� ��ت م ��ذ ّك ��ر ،ل���س��ت عليهم
لكنني عند هذه الكلمات تحديدا -ول�ست �أرى بم�سيطر».. لذلك تف�سيرا -تذكرت «جبران خليل جبران» وكثير... ال�سيما عند قولها« :ط��وت �صفحتها ورحلت».. ل�ه��ذا� ،أرى الكاتبة غير موفّقة ف��ي اختيار والغرو ،فالإبداع عملية تراكمية يبني المبدع على بناء غيره بعلم �أو من دون علم بما ي�صنع ،وك�أنه تعبيرها «وقرعت الأجرا�س»� ،أقولها دونما تع�صب بلغة العلم « -قانون بقاء الطاقة» الذي ين�ص لدين �أو �ضد دين ..على كل ،هل وجدت الكاتبةعلى �أن الطاقة ال تفنى وال ت�ستحدث ،لكنها تتحول �أثرا فيمن تخطب فيهم؟ هيهات! من �صورة �إلى �أخرى! فقد تردد �صدى �صوتها يا اهلل!
فهكذا هي «طاقة الأدب»�إن جازت الت�سمية.. ال تفنى وال ت��أت��ي م��ن ال�ع��دم ،لكنها تتحول من �أ�صحيح ما يُقال عنا نحن العرب من �أننا � �ص��ورة �إل��ى �أخ� ��رى ..رب�م��ا ك��ان��ت ف�ك��رة واح��دة «ظاهرة �صوتية»؟ �صيغت بمفردات �شتى من كاتب لكاتب� ..أو ربما ارتطم في جدار �صلب! كانت فكرة واحدة و�ضع �أحدهم «نواتها» ثم طفق هل هي �صالبة العقول وعدم مرونتها؟! الآخرون يبنون عليها! و�سبحان الذي بد�أ خلق الإن�سان من طين! 28
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
جدار!
ف�إذا كانت ق�صتها «احتراق» قد بد�أت وانتهت
لكن ،عندما حدث هذا عادت «مريم الح�سن» �إل��ى م�لاذه��ا� ..إل��ى �أحالمها� ..إل��ى «�شرنقتها» بالت�ضحية ،فهاهي ق�صتها «�صقيع يلتهب « تبد�أ التي ت�ساعدها على اال�ستمرار وعدم االنهيار ..وتنتهى بال�صقيع! ذلك الحلم الذي تُبرهن عليه كلماتها� :شق�شقة ه��ل ي �ج��وز ل�ن��ا ع�ل��ى ال�ن���س��ق ال �ن �ق��دي نف�سه الع�صافير ..زهور� ..أريجا مع الن�سيم.. هل هو «العالم البديل» ال��ذي ت�صنعه مريم لق�ص�صها �أن نعنون لها« :دورة متكاملة تبد�أ الح�سن لنف�سها ب��دي�لا ع��ن ع��دم التكيف مع وتنتهي بال�صقيع»؟ مجتمعها؟ لعله قانون غير مرئي يحكم حيواتنا! فال هى قادرة على تغيير عالمها لي�صبح كما تريد! وال هي ق��ادرة على تغيير نف�سها؛ فتتواءم �ألي�ست حياتنا � -أو حيواتنا -تبد�أ بال�ضعف �أو تتماهى� ..أو حتى تتعاي�ش معه ،دونما رف�ض وتنتهي �إليه؟ داخلي لهذا العالم الذي تعي�شه «بين بين»! « اهلل الذي خلقكم من �ضعف ثم جعل من بعد فهي ترف�ضه بحكم ال��واق��ع -ف��ي ق�صتيها «احتراق» ،و«�صقيع يلتهب»؛ مايبرهن على ذلك� ..ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة �ضعفا و�شيبة». لكن «ما قبل الن�ص» -البيئة -وح�سن تربيتها �أو لي�ست كذلك قانون بقاء الطاقة ال�سحاب يقف بينها وبين �أي نزعة للتمرد! لقد ان�سحبت «مريم الح�سن» �إلى ذاتها� ..إنها الذي ينزل مطر ًا ثم ي�صعد بخار ًا فيعود مطراً؟ �شخ�صية انطوائية ( )Introverted Personalityالزفير -ثاني �أك�سيد الكربون -ال��ذي يتمثله كما يعرّفها علم النف�س! النبات ثم يخرجه �أوك�سجين ًا ي�ستن�شقه الإن�سان ذهبت لتحترق داخل نف�سها� ..إنه االحتراق.. فيعود زفيراً ،وهكذا ..هل ال Closed C cycled �إنه الـ�صقيع الذي يلتهب! �إنه «الأديب» المبدع الذي ال يملك نظرية وال هذه تحكم حياتنا؟ �إني لأطمح ال�ستحداث علم
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
ههنا جاء دور «قرع الأجرا�س» وت�أثيره البيّن عليها� ..أو هي تقبلها� ..إال �أنها تتحفظ عليها! لكن الكاتبة ما تزال �أ�سيرة الما�ضي ..ت�شي الجليّ في �شخ�صية الكاتبة من قولها: «�إن �أخذتم بها نجوتم ،و�إن تجاهلتموها رددتم مفرداتها بذلك« ..ق�صة وفاء» «حكاية الإن�سان» على �أعقابكم نادمين» ..هي �إذ ًا الديمقراطية �ضربة �ألم .كلها مفردات ال تكون �إال للما�ضي! فهل وقعت الكاتبة في «ف��خ الما�ضي» الذي التي ال تفر�ض ر�أي��ا ،وال تحدد فكرا ،وال ت�ؤطر نظرة! تعيبه على من تخاطبهم وتعظهم؟!
ج�م��اد ال ح�ي��اة ف�ي��ه ،ال م��رون��ة ،ال ح ��وار ،ال �إجابة ..ال �أخذ ورد!
فتبد�أ بال�صقيع ثم تنتهي �إليه مرورا باللهيب؟
يدّعيها لنف�سه ..هو فقط «يقول كلمته ثم يرجع» ..يربط ما بين العلوم! الريا�ضيات والدين والفل�سفة
�أم��ا المفكر �أو الفيل�سوف �أو ال�سيا�سي ..والفيزيقا و... فالمنوط به التغيير � -أق�صد التغيير الظاهر هل يحدث هذا يوما؟ �أتمنى! ولن�سمه عندئذ: وال��م��ع��ل��ن وال��ق��اط��ع -ب��ن��ظ��ري��ة ،وبتطبيق لتلك النظرية ،اختلف النا�س حولها �أم اتفقوا.. «الدورة المتكاملة» . * ناقد من م�صر.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (29 )2015
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
�شعبه نحو الكمال! ا�ستهالل
المجنون الأخ�ضر رف ِ الح ُّب في ُع ِ ُ ρρعمران عز الدين*
مدخل �إلى :ال�شعور ،ال�شعر ،وال�شاعر:
�إذا كانت الموهبة هبة من اهلل ،وهي كذلك؛ فالموهوب يقيناً هو الذي يفلح كتاب ًة ف��ي ترجمة ال��م���أل��وف م��ن الم�شاعر ب�صورة ال م���أل��وف��ة .الموهوب هنا ه��و ال�شّ اعر، والالم�ألوف الكتابيّ هو ال�شّ عر �أو �أي جن�س من �أجنا�س الأدب المتعارف على ت�صنيفها، بينما تق�صدنا كتابة الم�شاعر ب�شكلٍ كتابيٍّ وح��رف��يٍّ ؛ لأ َّن الم�شاعر �صفة جامعة وموحدة في عموم عباد اهلل .وبح�سب معجم الم�صطلحات العربية في اللغة والآداب لـ مجدي وهبه وكامل المهند�س ،فال�شعور « »consciousnessعند علماء النف�س: يُطلق على العلم بما في النف�س �أو بما في البيئة وعلى ما ي�شتمل عليه العقل من �إدراك ووجدان و ُنزُوع� .أما ال�شعر ،فهو :فـن من فنون الكالم ،يوحي عن طريق الإيقاع ال�صوتي وا�ستعمال المجاز ب�إدراك الحياة والأ�شياء� ،إدراكاً ال يُوحي به النثر الإخباري. بينما كلمة ال�شاعر في اللغة العربية م�شتقة من �شَ َع َر بمعنى �أح�سنَ و َع ِلمَ ،و�إنما �سُ ِم َي كذلك ل�شدة فطنته ودقة معرفته و ِرقَّة �شعوره. وي �ك �ف��ي �أن ن �ع �ل��مَ �أن ال �� �ش��اع��ر عند العمل الفني عن طريق الكالم المنظوم. الأوربيين كان يطلق على من يُبدع عم ًال بينما ذهب فيكتور هوجو 1885م �إلى �أنَّ فنياً ،ثم تح ّد َد المعنى ليدلَ على من يبدع ال�شّ اعر يعد بمثابة نبي يُطلب منه �أن يقو َد 30
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
يوا�صلُ ال�شّ اعر الم�صريّ ع�صام �أب��و زيد ا�ستغواره ال�شّ عريّ ،ال ُمغَامِ ر والمائز ،فيحتفي بالحبّ ف��ي دي��وان��ه الجديد «ال�ح�ي��اة ال�سرية للمجنون الأخ�ضر» احتفا ًء �شعر ّي ًا باذخاًُ ،ي ُولِمُ له ،يجوّد وي�صطفي ،ي�ضيف ويجدّد ،ويُكرّ�س له العمل برّمته ،وقد �سبق لنا �أن دبّجنا مقالين عن عمليه ال�شّ عريّين ال�سابقين« :كيف ت�صنع كتاب ًا يحقق �أعلى مبيعات؟» و«�أك�ل��ت ث�لاث �سمكات وغلبني النوم» ،وقد كان �أبو زيد موفّق ًا فيهما �إلى حدٍّ كبيرٍ في تدبيجِ �شعرٍ تجلت قوته في ب�ساطته المنثالة ،وفي �شعريته ال�سرديّة وال�سحريّة على حدٍّ �سواء .و�ستكون مقاربتنا حول هذا الديوان بمثاب ِة مقارب ٍة نط ُّل فيها على منهج �أو م�سلك �أبو زيد ال�شّ عريّ ،و�أ�سلوبه عبر مجاميعه ال�شّ عريّة ال�سابقة ب�شكلٍ عامٍ و«مجنونه الأخ�ضر» ب�شكلٍ خا�ص. ٍّ مغامرة المجنون الأخ�ضر ب ��دءاً ..ينبغي الإ� �ش��ارة �إل��ى �أم��رٍ ف��ي غاية الأهميّة ،وهو �أن ع�صام �أبو زيد يتمتع بخ�صي�صة مهمة �سبق �أن تطرقنا لذكرها في ديوانه ال�سابق، والمو�سوم بـ «�أكلت ثالث �سمكات وغلبني النوم»، �إذ يُع ُّد من ال�شّ عراء المغامرين ،وال يمنع ها هنا �أن نتطرقَ مرة �أخ��رى لهذه الخ�صي�صة ،لأ ّن� ُه يتوافر عليها بجدار ٍة وا�ستحقاقٍ في ديوانه هذا،
مو�ضوع مقالنا. فمن النادر ج��د ًا �أن نتعثر و�سط هذا الكم الكبير م��ن ال�شعراء �شعراء ال �غ��رام وال��رث��اء والطال�سم والأح��اج��ي والمنا�سبات والأع�ي��اد الوطنية ب�شاعر دي��دن��ه ال�م�غ��ام��رة� .أن��ا مث ًال تروق لي قراءة ال�شاعر المغامر ،المتمرد على القوالب ،وغير المُر�ضي لنفرٍ من النقاد ،ممن ال يتوانون ع��ن نعتِ �شعرِ ك��ل م��ن انقلب على الخليل بن �أحمد الفراهيدي و�أوزان��ه بالزندقة والهرطقة .ال�شاعر الذي يروق لي �شاع ٌر يكتب ويم�ضي ،يكتب لأن��ه بحاجة لأن يفرغ �شحنة م��ا ،ي ��دوّن حالة يعي�شها ،وال يكترث بالتالي لما �سيخل�ص له القارئ من انطباع �أو حكم. الم�صري ع�صام �أب��و زي��د من ه ��ؤالء ال�شعراء المغامرين ،تلم�ستُ ذل��ك ف��ي عمله ال�شعري اجلوبة � -صيف 1436هـ (31 )2015
32
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
الحب في عرف المجنون الأخ�ضر على الرغم من �أن المجنون الأخ�ضر يعي �أنّ �صان َع ق�ص�ص الحبّ هو �أول �ضحاياها ،فهو يرفع من �ش�أنه؛ لأ ّن ُه يرى �أنّ الحبّ هو الأبقى، و�أنّ الجوا�سي�س وال�خ��ون��ة وال�سكارى وك�لاب الحرا�سة والوغد الكبير الذي يحكم المدينة ال محل لهم من الإعراب في معادلة الحوار والبناء والحرية والعي�ش الكريم ،وبح�سبه ..فالحبّ هو
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
ال�سابق الذي و�سمه بعنوان غريب« :كيف ت�صنع عينيها /قلتُ :من هي؟ /قال :حبيبتك /قلتُ : كتاب ًا يحقق �أعلى مبيعات؟» ،وتبدى لي ذلك ما لي حبيبة يا مالك /قال :بل هي هنا /.و�أ�شار جلي ًا في عمله الجديد�« :أكلت ث�لاث �سمكات �إلى �ضلوعي /فت�ألمتُ /وبكيتُ »� .ص 63 وغلبني النوم» ،وفيه يحلق �أب��و زيد في فيافي كما �أنه ثمّة ق�صائ ُد عبارة عن مقاطع غنائيّة ال�شعر و�أم��دائ��ه بكلمات ع��ادي��ة ،ومغرقة في �صغيرة ،ومثالنا هنا ق�صيدة «الذي» التي يقول المبا�شرة �أحياناً ،ال يتكبد عناء الحر�ص على فيها: ال�شعرية في تدبيج �صورة ،وال يلهث كذلك وراء «المطر الذي يتجدّد مع الذكريات /العزف مفردة م�شذبة كما كانت عليه الحال في ديوانه ال�سابق ،ال�شعرية في ديوانه الجديد تكمن في ف��ي الليل على الكمنجات /رحلة ال�صيد في القطعة ككل ،في فكرتها �أي�ضاً ،وفي حكايتها ال�ق��وارب ال�صغيرة /وال�صخور في البدايات والنهايات»� .ص 71 كذلك. وتبلغ ال�شعرية ذروتها في ق�صائد «ميوزك م�سلك �أبو زيد ال�شّ عريّ /تطبيق وذكرياتي و�سا�سو»� ،إذ �إنها تقترب من ال�شعرية �إجرائيّ على «المجنون الأخ�ضر»: ال�سحرية ..حيث الإدها�ش والتخييل والف�ضاء �أ�شعار �أبو زيد عبارة عن فال�شات ومقاطع المفتوح على الت�أويالت. ول��وح��ات وب��رق �ي��ات ،وف�ي�ه��ا م��ا فيها م��ن روح ي�ن��در �أن يتعث َر ال �ق��ارئ ف��ي �شعر �أب��و زيد الوم�ضة؛ حيث المفارقة الإ�شعاعيّة �أو القفلة ال�صادمة ،ومثالنا هنا ق�صيدة «عربات» التي «ال�شذري» على �صورة �شعريّة �صرفة؛ لأ ّن ُه يعول على الحكاية ال�شّ عريّة� ،أو ال�شّ عريّة ال�ساردة كما يقول فيها: قا�صاً .ويعول بالمقدار ذاته على القطعة لو كان ّ «اليوم ع��ادت ك ّل العربات محطمة /وعاد ككل؛ �إذ ،ت�شكل الحكاية بالن�سبة له ال�شرارة ح�صانها الوحيد يلهث»� .ص 53 الأولى� ،أو المخطّ ط البنائيّ والعمرانيّ ..لتوجيه وث � ّم��ة ق���ص��ائ� ُد ت �ن��درج ف��ي ح�ق��ل الق�صة بو�صلته �صوب ق�صيدة �أو قطعة فنيّة ،تتوافر الق�صيرة ج ّد ًا �أو الق�صيدة الحكائيّة ،ومثالنا على جُ ّل مقومات الق�صيدة ال�شّ عريّة وال�شّ عوريّة هنا ق�صيدة «حديقة» التي يقول فيها: على حدٍّ �سواء ،بو�صفها �-أي الحكاية -جوهر ق�صةً ،م�سرح ًا «في حديقة الم�شاعر الرقيقة هبط المالك العمليّة الإبداعيّة� ،شعر ًا كان �أم ّ قبل �ساعتين /وجدني نائم ًا قرب غ�صن النعناع كان �أم روايةً ،وعليه ..فهو يدبّج ق�صائدَ تر�شح المائل المك�سور� /س�ألني هل تريد �شيئ ًا من �شعرية فور االنتهاء من قراءتها؛ وه��ذا الأمر
لي�س �سه ًال كما قد يت�صور بع�ضهم ،بل لي�س في متناول الجميع ،نق�صد �أترابه من ال�شعراء؛ لأ ّن � ُه في الوقت ال��ذي ين�صرف فيه �إل��ى �إ�سباغ ال�شعريّة على الوحدة الع�ضويّة والهيكيلية لعموم ق�صيدته ومفا�صلها ،ينهمّ نف ٌر من ال�شّ عراء بالتورية واال�ستعارة والرمز والإب�ه��ام؛ فتكون ث� ّم��ة � �ص��ورة �شعريّة ح �ل��وة ،لكن ف��ي ق�صيدة مالحة ..مت�صحرة .فهو ،والحال ه��ذه ،يقوم بوظيفة على غاية من الجودة والحذف وال�سبك والإ�ضافة والتجويد والإتقان� ،إ ّن ُه �صياد القفلة واللحظة ال�شعرية الحالمة والم�ستفزة والرقيقة وال�صادمة؛ �إذ يعي تمام ًا كيف تُك�سى الم�شاعر، وكيف ت�ؤثث ،يخلط ككيميائي الألوان والت�أثيرات وال �م ��ؤث��رات والمتفاعالت والمن�صهرات من �أن�صاف و�أثالث و�أرب��اع ال�صور والمفردات في مختبره ال�شّ عريّ ،ليجدَ القارئ نف�سه �أمام �صو ٍر وجُ مَلِ قو�س قزحية ناطقة ومبهجة.
الحل الوحيد والأمثل الجتثاث ال ُكرْه والبغ�ض والأح�ق��اد .الحبّ في عرف المجنون الأخ�ضر لونه �أخ�ضر ،حتّى في الخريف لونه �أخ�ضر، فال ترقى له �أن�صاف الحلول في المحبّة ،فهو �إما �أن يكونَ عا�شقا بك ّل جوارحه ،و�إما �أن يكونَ مع�شوقاً .الحبّ قِبلة المجنون الأخ�ضر� ،أوجاع الحب عنده تظهر حتّى في يديه ،دمه ونب�ضه، بال حبٍّ ال ت�ستقيم �أحواله ،تراه محموم ًا وما هو بمحموم ،م�سافر ًا وما هو بم�سافر ،مخا�صم ًا وما هو بمخا�صم ،مطارد ًا وما هو بمطارد ،مجنون ًا وما هو بمجنون ..و َقلِق ًا ك�أنّ الريحَ تحته .يحلّق المجنون الأخ�ضر في فيافي الحبّ و�أمدائه، يجوب المحيطات ويركب البحار؛ لأنّه ال ي�ستطيع يتنف�س من دون �أن يُحِ بَّ �أو يُحَ بَّ . يعي�ش �أو �أن َ �أن َ يكتب المجنون الأخ�ضر ر�سائل الغرام ،ي�سعى كتاب عن القُبلة ،يعي�ش بن�صف عقل أليف ٍ لت� ِ بعد �أن �سلبه الحبّ الن�صف الآخر ،يرق�ص على �أنغام الغيرة واللوعة والفراق الهادر العنيف، يحبُّ الحياة وي�ستمتع بجنونه ،يم�شي وال يكبد نف�سه عناء �إلقاء نظرة خلفه ،يم�ضي قدماً ،بل ال يتورع حفيد ابن عربي ومعا�صر نزار قباني عن االعتراف بالحبِّ مذهب ًا وم�سلك ًا والدعوة من ثمّ أ�سي�س جمهور ّي ٍة �شعارها الأوحد هو الحبّ قو ًال لت� ِ وفعالً� ،إنّه يغني ويمو�سق ويدبج ،يعيد �صياغة الجَ مال.
* كاتب من �سوريا.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (33 )2015
ال�شعر ّية ت�أ ّمالت الغيمة ِ
ρρعماد الدين مو�سى*
ث ّم َة زاوي��ة مُ�ضيئة ت�أخذنا �إليها ال�شاعرة اللبنانيّة زينة ع����ازار ف��ي مجموعتها ال�����شِ ��ع��ر ّي��ة الأول����ى «غ��ي��م�� ٌة ل��ل��ت��وازن»، ال�صادرة عن دار مخطوطات (هولندا) ،من خاللها ت�سلِّط المزيد من الأ�ضواء على جماليّات ال ُب ْعدِ ،عبر حركة العد�س ِة «الزوم» ،ببعديها القريب والبعيد .لتك�شف عن جانبٍ غاي ًة في يخ�ص ر�ؤية الأ�شياء البعيدة المتع ِة بالن�سبة للمتلقّي ،فيما ّ �أو ما يُ�سمّى بال�سراب في ال�صحارى مثاالً ،لكنها هنا �أكثر ال�شاعرة اللبنانيّة زينة عازار متع ًة وجمال ّي ًة للقارئ -الناظر� ،إذ �أنها �أقرب �إلى قو�س قزح من كونها �سراباً فح�سب« ،يجب �أن تكون الأ�شياء هكذا /مجهولة /كي تبقى جميلة وبعيدة عن المُتناوَل ،طالما «الأمكنة هي هي /وحتى الأجوبة». ولع ّل الغيم ُة في عنوان المجموعة من �أكث َر الأ�شياء بُعد ًا و�إث��ار ًة للمُتلقّي؛ نظر ًا لتح ّولِها من �شيءٍ غير مح�سو�س �أو قابلٍ للّم�س �إل��ى ممكنٍ وملمو�س ،وم��ن كونِها غيم ًة �إل��ى مطرٍ وف��ي متناول اليد �أي�ضاً، والعتبارها رمز الخ�صب ،ورغبة الأر�ض الدائمة وم��ن عليها م��ن الكائنات للقاء وال�ه�ط��ول� .أو حتى ببقائها ف��ي ال�سماء لمجرّد النظر �إليها ،والتمتّع بجماليّات ت�أملها �أث�ن��اء تبدّلها الم�ستمر من �شكلٍ جماليّ لآخر �أكث َر �إدها�شاً. والغيمة هنا لي�ستْ �أ ّي��ة غيم ٍة ال على التعيين ،ب��ل المق�صود غيم ُة ال�شِ عر ّي ِة 34
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
بعينها .وهي �إ�ضاف ًة لكل ذلك ،ال من �أجل التوازن وح��ده -كما تدّعي ال�شاعرة -بل لقلبِ موازين الطبيع ِة جميعاً ،ر�أ�س ًا على عقب .فتحوّل ال�صحارى �إلى �أنهار وجداول ماء ،والبوادي �إلى واحات خ�ضراء وغنيّة، وك�أنّها تلك ال�شرار ُة التي في قول ماوت�سي تونغ (رُبَّ ��ش��رار ٍة �أ�شعلت ال�سهل كّله). �إذ تقول ال�شاعرة في �أحد المقاطع« :لم �أخطط يوم ًا لال�ستمرار في التواجد /ج ّل ما �أفعله مراقبة الأ�شياء وه��ي تبدّدني/ و�أحيان ًا �أ�شاركها الح�صاد ،يُغريني �سربٌ مهاجر �إل��ى الجنوب� /إل��ى حيث الع�صف وموا�سم الغرق� /أحتاجُ غيم ًة للتوازن».
درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د
«غيمة للتوازن» لل�شاعرة اللبنان ّية زينة عازار:
ألي�س ال�شِ ع ُر ثورة حقيقيّة توجد هنا ن�س�ألَ � ، داخل حقل اللغ ِة الخ�صب� ،إال �أنّ ت�أثيرها يتجاوز الحدود المر�سومة لها ،مهما كانت الم�ساحة �شا�سعةً. لك�أ ّن ُه انفجا ٌر هائلٌ ،يهدم في طوفان ِه ك ّل �شيء ،ومن ثم يعيد بنا َء ُه من جديدٍ وبح�سب خ�صو�صيّة ور�ؤي��ة المبدع لكل ما يحيط به من الأ�شياء والموجودات ،المرئيّة منها والالمرئيّة �أي�ضاً؛ «لم يكن يعنيني ِ�ضيقُ الأماكن المُغلقة/ وال وِ�س ُع العتمة /وال تف�سّ خ الجدران /كنتُ �أفكّر رف العالم/ في ه��ذه ال��زاوي��ة /حيث يكتمل ذَ ُ ومرور العديد من الغرباءِ /في مكان قَ�صيّ من الأثر /في نقطة ت�شبه الألم». ن�صو�ص في الهواء الطلقالكتاب ُة ل��دى زينة ع��ازار تعني المزيد من التداعيات واالعترافات� ،أو الرغبة الجامحة في البوح عن كل ما يجول في خاطرها� ،إذ «ثمة �أ�صابع تكتب دائماً /غير �آبهة بالعالم /رغبتك الدائمة ف��ي االخ�ت�ف��اء»؛ وه��ي المنفذ الوحيد للمناداة من خالله ،والتخفّف من ثِقل الحياة و�أعبائها؛ كذلك للتوا�صل مع الآخر «�شخ�ص ما» من دون تحديد ل�صفته� ،أي �أنّ الكتابة -بالن�سب ِة �إليها على الأق ��ل -تعني ك � ّل ��ش��يء ،م��ن �آم��الٍ و�أحالمٍ ،ح�سّ يٍّ �أو ب�صري وقيمي� ،أو كما تقول: «�أكتب دائم ًا ل�شخ�ص ما� /أكتب لغر�ض ما/. في امّحائي تدور الأر�ض ب�شكل �أف�ضل /ي�صير االنتظار �أق�� ّل ب��رداً /تتحجّ ر �أ�صابعي في هذا ال�صباح /من الملح الذي /ال يحتاجه �أحد». م��ن ح �ي��ثُ الأ� �س �ل��وب ،يمكننا عَ � � َّد ق�صائد المجموعة بمجملها على �أنها «ن�صو�ص في الهواء الطلق» ،بح�سب و�صف الناقد العراقي عبد الكريم ك��اظ��م ف��ي ق��راءت��ه للمجموعة« ،ن�صو�ص تقيم
عالقة �شبه متكاملة بين الوجود الإن�ساني والعالم، �إال �أن ت�شكيلة هذه العالقة ت�ضعها في محيطها الجمالي ،كتتويج للمعنى وك�صلة ال نهائيّة مع اللغة ،جامع ٌة بين الأنا الفرديّة والأن��ا الجمعيّة، بناء على معرف ٍة ب�سيكولوجيّة الخطاب ال�شِ عري». الو�سط يعني االنتحارمجموعة «غيم ٌة للتوازن» بق�صائدها الثالث والخم�سين ،خطو ٌة هادئ ٌة وجريئة باتجاه الكتابة الجديدة ،القريبة من فل�سفة �شِ عريّة التفا�صيل اليوميّة المعي�شة ،بت�أمّلِ الأثر المتبادل بين الكائن والعالم من حوله ،ومن ثم �شَ ْعرَنة هذه الت�أمالت. ق�صائ ٌد تغتني بالتناق�ضات ال��وج��ود ّي��ة، بتحديدها وتف�سيرها لمفهوم ال�شيء ونقي�ضه؛ م ��ؤ ّك��دة وم�ستنتج ًة �أنّ الو�سط ال يعني �سوى االن�ت�ح��ار« ،ال يمكنك �أن تعود وال يمكنك �أن ترحل /تبقى عالق ًا هناك /في الو�سط /حيث ال �شيء ي�ؤلمك فعالً� /أكثر من هذا الموت».
* كاتب من �سوريا مقيم في تركيا.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (35 )2015
ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة
ق�صة ق�صيرة ..زفاف ملكي ρρعمار اجلنيدي*
ثمة ظواهر لفتت انتباهها في الحياة ،ب�سبب غرابتها وطرافة مقوالتها بيولوجياً ،وغرائزياً. �أبهرها ما في عالم النحل من غرائب ونوادر ا�ستحقت منها الت�أمل والمتابعة ،وفي �أحايين �أخذ العبرة. راودها حلم منذ زمن الطفولة ب�أن ت�صير ملكة ،لكنها اكتفت بالحلم لمّا عرفت �أن الم�ستحيل �أقرب �إليها من الحقيقة. �أحبّت �أن تكون ملكة ،حتى ولو في مملكة النحل .راقبت خلية النحل �صباح م�ساء ،حتى تتعرف على عالمها ،وكي ال ت�شعر بالغربة والإحراج عندما ت�صير ملكة. في مو�سم التلقيح طارت الملكة بعيد ًا عن الخلية ،فلحقتها الذكور البالغة بغية الفوز بتلقيحها ،وكادت الخلية تخلو من الذكور البالغين .راقبت با�ستغراب و�شغف واهتمام بما يحدث ،فالملكة لم يلقّحها �إال ذكر واحد من بين جي�ش الذكور الالحقين بها ،هو �أ�سرعهم �إلى الو�صول �إليها. �أ�شياء كثيرة كانت تعرفها ،و�أ�شياء �أكثر لم تكن تعرفها؛ هي تعرف �أن الملكة ال يمكن �أن تعود �إلى الخلية بدون تلقيح ،لكنها لم تعرف �أن الذي ل ّقّحها ذكر بائ�س من خلية �أخرى ،ت�صادف وجوده في الف�ضاء ،فلحق بالركب ،بغية تلقيح الملكة ،ولم تعرف �أي�ض ًا �أنه ذكر بائ�س ،لأنه ُبُعيد �أن لقّحها :مات ،رغم احتفاظها بـ (زُبانته) معلّقة في م�ؤخّ رتها ،ربما لتتفاخر �أمام الجميع �أنها قد ُلقّحَ تْ . اقتربت من الخلية ف�أبهرها الحفاوة التي ا�س ُت ْقبِلتْ بها الملكة عندما عادت ،فقد �أُقيم لها عر�س وزفاف ملكي ،حظيت بموجبه بالغذاء الملكي الذي تفرزه النحالت ال�شغاالت خ�صي�ص ًا للملكة. وفغرت فاها ده�شة وذهو ًال وهي ترى ال�صراع والتناف�س داخل الخلية الواحدة لال�ستئثار بها ،عندما انتهى الزفاف الملكي ،فقد عرفت الآن �أن الخلية بها �أكثر من ملكة. بد�أت الملكات بقتل بع�ضها بع�ضاً ،فخلية النحل ال تقبل �إال بملكة واحدة ،لينتهي ال�صراع بملكة واحدة، تفوز بالخلية وبالغذاء الملكي. ت�أكدت �أن خلية النحل عالم من الغرابة والطرافة ،يمكن للإن�سان �أن ي�أخذ منها عبرة ،ر�أت كل ذلك ب�أم عينيها ،هزّت ر�أ�سها �أ�سف ًا ورثت لحال الملكات ،وفي لحظة �شموخ مفاجئ؛ ق ّر قرارها البائن بالثالثة؛ ب�أنها لن تقبل �أن ت�صير ملكة ،حتى لو تزوجها ملك. * قا�ص وكاتب من الأردن.
36
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
خفايا �صوت ρρنهلة ال�شقران*
�صوتُ هدو ٍء يخنقها ،وال يكاد يبين ،يتح�شرج في حلقها كقطعة قطْ ن ،ي�س ّد ما بينها وبينهم .وجوههم ترمقها بتح�سّ ر ،عيونهم ت�ست�صرخ ما بداخلها� ،أيديهم تربّت على يديها ..ويتركونها لت�سير درباً بمفردها. حفيفٌ يرت ّد في �أذني وال �أكاد �أ�سمع� ،أظنّ �أنها تنطق ،وتبتلع الحروف دون وعي منها، تغ�ص في جوفها ،تتلعثم ،يت�صبّب عرقها ،ت�ستنجد ،ثم تحْ َم ّر وجنتاها ،وتذبل �أنفا�سها، ّ وتهد�أ من جديد. في ركن بعيد كانت تجل�س ،تحدّق بي وتنتظر �أن �أقول لها كالعادة عندما �أقر�أ �أ�سماء الطلبة: كنت �أتمنى �أن �أ�سمع �صوتها ب�أيّ و�سيلة هدوء� ،أين �صوتك يا هدوء؟ قولي نعمكانت� ،شعرتُ �أنها تحادث زميالتها ،وتُخرج ب�صوت عالٍ . تتجاهلني ب��ن��ظ��رات ح���اذق���ة ،وتهم�س ك�لام� ًا ب�لا ح�شرجة ،ف�ع��رف��تُ حينها �أنها لي�ست �صمّاء. ف��ي �سرّها دون �أن �أ�سمع �شيئاً ،وتم�ضي كتبتُ �إع�لان�اً ،وعلّقت ُه على ب��اب مكتبي المحا�ضرة دون �أن تنب�س ببنت �شفة ،ربما كانت مزاجية الهوى �أو غريبة الأط��وار �أو يقول: تكره التاريخ ،ال �أدري ،لكنها من �أغرب من «�أبحثُ عن �صوت هدوء ،ولمن يجده ع�ش ُر درَجات». درّ�ست. اجلوبة � -صيف 1436هـ (37 )2015
وجهُها عمالق �ضخم ،يملأ زواي��ا المكان، يبتلع الجدران ،ويب�صق �أوراق ًا من كتبي� ..أوراق ًا �أراه��ا و�أعرفها جيد ًا وال �أ�ستطيع قراءتها.. تتطاير الأوراق وتلت�صق ب�سقف الغرفة ،ف�أجد نف�سي وج�ه� ًا لوجه �أم��ام الحائط ،وك� ��أنّ ي��د ًا خفيّة �سحبتني ،وجعلت �صفحات التاريخ كلها في متناول يدي ،وعندما �أدقق النظر فيها َل َعلِّي �أعرف ما بها �أو �أ�ستك�شف �سرّها ،تتبخّ ر بلمح الب�صر وتقطر مطر ًا على �سريري يبلل ج�سدي الذي �أُلقي به دفعة واحدة �إلى الأر�ض. �أنظر �إلى فمها ،ف�أجدها كمن �أ�صيب بتخمة منقطعة النظير ،تفتحه ببطء �شديد كتم�ساح مثقَل يحمل �أ�سرار البحار� ،أخ�شاه ويق�صدني.. �أرك�ض� ..ألهث ..ينقطع �صوتي ..ف�أ�صحو.
دخ �ل��تُ غ��رف��ة ال�م�ك�ت��ب ،ل��م �أع �ت��د ترتيب �أوراق��ي ..كتبي ..ر�سائلي ..وال حتى كتاباتي.. كل �شيء مكدّ�س على رقعة خ�شبية �صغيرة ال تقوى على االحتمال ،جل�ست متخلّ�صة من بقايا �أنفا�س في �صدري بزفير طويل ،م��ددتُ يدي �إلى طاولة المكتب معلن ًة بداية الحرب؛ عملية البحث ،دقّقتُ النظر في كومة �أمامي ،و�أخرى بجانبها ،حاولتُ �أن �أ�ستذكر الأحالم ال�سابقة/ الكوابي�س ،لون الأوراق ،حجم الخط ،الحروف، النقاط� ،أيّ �شيء يجعلني �أجد بداية المواجهة.. ولكن دون جدوى. لن تهزمي تاريخي يا هدوء� ..أ�ستاذة التاريخ تُهزَ م من طالبة ال �صوت لها! �إنه هراء� ،س�أبد�أ.. �س�أفت�ش التاريخ� ،س�أفكك الطال�سم� ،س�أرى من ينت�صر؛ �أنا �أم �أنت؟! �أعتقد �أنها فر�صة منا�سبة لترتيب �أوراقي من جديد .منذ زمن لم �أ�ستمتع ب�صوت تمزيق الأوراق.
ِب��تُّ �أخ�شى النوم� ،أخ�شى التاريخ� ،أخ�شى ه���دوء ..ال يعقل �أن �أب �ق��ى على ه��ذه ال�ح��ال، غريبة �أنتِ يا �صديقتي� ..أت�ستمتعين ب�إراقة�أ�ستاذة التاريخ �أنا و�أخاف من حلم؟! �أخاف من دم الأوراق؟ هدوءٍ ال �صوت فيه! �أتذكّر الآن ما دار بيني وبين انت�صار �صديقة ق��ررتُ �أن �أواجهها؛ �س�أبحث عنها� ،س�أقول لها �إنني ال �أخافها� ،س�أواجه فمها و�أنهي هذه الدرا�سة القديمة ،لِمَ لَمْ �أعد �أمار�س هوايتي؟! الم�س�ألة ح��ال ر�ؤيتها! �سخافة� ..إنها �سخافة لِمَ تكدّ�ست الأوراق والملفّات والكتب ال�صفراء 38
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
كتاب «تاريخ العرب قبل الإ��س�لام» هنا في �أ�سفل كومتي ،لكنّ عيني التقطته �سريعاً ،ثم بد�أت بال�صعود معه ..تاريخ الخلفاء الرا�شدين.. �أم� ��ويّ ،ع� ّب��ا��س��يّ ،ف��اط�م��يّ ،م�م�ل��وك��يّ ..تاريخ الأندل�س ..وهنا �أ�سفل الكتاب م�سرحية «غروب غرناطة»� ،أذك��ر �أن انت�صار �أهدتني �إياها في عيد ميالدي الثالثين قبل ثالث �سنوات! فع ًال �إنني فو�ضوية كما كانت دائم ًا ت�صفني� ،س�ألتُها يومها« :لماذا هذه الم�سرحية دون غيرها؟»، ف�أجابت بابت�سامة« :كي ال تهزمك الثالثون.. كي يبد�أ الإ�شراقُ ال الغروب» .قلت لها مرار ًا �إني ال �أحبّ الفل�سفة.
��ش�ع��رتُ ب���س�ع��ادة ل��م �أت��ذوق �ه��ا م�ن��ذ زم��ن، ابت�سمت ..تابعت العملية ..علَتْ �ضحكاتي.. انت�شيتُ ..طربتُ ...غنّيتُ ..امتدّت يدي �إلى الكومة الأخ��رى ..اتخذتُ ق��رار ًا حا�سم ًا بعدم القراءة والفرز ,لم يعد �شي ٌء ي�ستحق الت�أني، ل��م �أع��د مهتمّة بالعناوين ك��ذي قبل� ،س�أبد�أ المعركة� ..س�أقاتل يا انت�صار بال م�سرحية �أو قلم! �س�أرمي جثثي �ضحايا �أمامي بقب�ضة يد.. لن يفلتوا مني� ..أنا البطلة الوحيدة هنا ،ال �أحد غيري� ،س�أهزمك يا هدوء� ..أ�ستاذة التاريخ �أنا، فمَن �سيهزمني؟
ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة
كنت مت�أكدة �أنها �ستنطق وقتَها ،بيد �أنها لم تفعل ،لم ت�أتِ هدوء ،ولم ي�ستطع �أحد �أن ي�أتي بها .انتهى الف�صل ،ولم �أ�سمع �صوت ًا لهدوء ،بِتُّ �أحلم �أحالم ًا مزعجة ..كابو�س ي�أتيني كل يوم، يطاردني ،يحملق في وجهي� ..أ�صرخ و�أ�صرخ، ف�أ�صحو والعرَق يت�صبّب مني الهثةً.
بخوف ٍ حقا ..ماذا �س�أقول لها؟ وكيف �ستراني �أفالطوني يقفز من عيني .ال ،لن �أراها� ،س�أبحث ع��ن ح��ل �آخ ��ر�� ..س��أق��اوم �صخب ًا ف��ي �أوراق �ه��ا المبعثرة على �سقفي� ،س�أتحدى ..نعم ..ولكنَّ تحديَّ لن يكون لهدوء ،بل لتاريخي.
هنا في مكتبي؟! �أتتغير الهوايات بمرور الزمن ،حياة فيها� ،أخرجت زفير ًا �أطول من �سابقه هذه �أم �إنني لم �أجد ما ي�ستحقّ الإتالف؟ المرة.
مرت �ساعات ،كل ما كنتُ �أعيه �أني انت�صرت، كنتُ الحاكمَ والقاتلَ في الوقت نف�سه ،كنتُ عر�ش من ورق� ..أوراق �صفراء �أمير ًة �أ�سير على ٍ هنا من تاريخ قديم ،و�أخرى ملوّنة ال فائدة منها الآن ،وق�صا�صات لمحاوالت كتابة فا�شلة.
وهذه م�سرحية كتبتُها يوماً ،كنتُ �أبحث عنها من �أجل م�سابقة في منتدى الأدب العربي ،ليتني وجدتُها حينها ،يبدو �أنّ التهام هذا الكتاب لها منعَها من الظهور ،ال فائدة للمالمة الآن... الم�سابقة انتهت ،و�أُعلنت النتائج ،وما �أ�ضحكني في تلك الليلة نمتُ نوم ًا طويالً ..نوما �صافيا �أن فرع الم�سرح حُ جب من الم�سابقة ب�سبب عدم من الأحالم والتما�سيح ..نوما خاليا من الأوراق وجود م�شتركين. ومن هدوء. �أوراق كثيرة تحجب متابعة عناوين الكتب، ف��ي ف �� �ص��لٍ �آخ� ��ر ر�أي � ��تُ وج ��وه� � ًا ج��دي��دة، المف�ضلة� ،أرب��اع ّ عَ لَيّ �إذ ًا �أن �أب��د�أ بمو�سيقاي �سقطت� ..أث�ل�اث� ..أخ �م��ا���س ..فر�شت �أر���ض تفحّ ْ�صتُها بت�أنٍّ ،حاو ْرتُها بتدبُّر ،ربما لم تعلُ المكتب ببيا�ض وح��روف تتقطع ،حا�صرتني الأ�صوات كما �أري��د ،بيْدَ �أ ّن��ي حمدتُ اهلل �أنْ ال الأوراق ،لم تخِ فْني �أبداً ،ارتمت جث ًة هامدة ال هدوء بينها! * قا�صة من الأردن.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (39 )2015
(ق�صة للأطفال) ■ �إبراهيم �شيخ مغفوري*
�صقيع يلتهب ρρمرمي احل�سن*
ظنتْه نهرا ي�سري ..اقتربتْ منه ..بلّلت �شفتيها الجافتين ،ح�سبت �أنها �ست�صافح تلك القطرات التي تم�ضي بعيدا عنها .لقد ا�ستطعمتها ،غا�صت فيها وانتع�شت ..عزفت مقطوعة �أثملتها� ..شدتها ذات عبور خاطف بومي�ض برق و�أفل مخلفا نورا �ساطعا �أغ�شى ب�صرها.. امتطت �أحالمها الوردية� ،سارت معها� إلى حيث تلك الجزيرة النائية التي �شيّدتها ذات غفوة ..اعتلت بحبرها قمما ذات قيمة ،قرعت الأجرا�س� ..أقبلوا �إليها من كل فج عميق، احتوتها قلوب نقية ،بي�ضاء كالثلج؛ قر�أت عليهم ق�صة وفاء ،وحكاية �إن�سان ،و�ضربة �ألم في ال�صميم.. خانتها قريحتها ..تجاهلتها الروح ..تحدثت ،نادت� ،صرخت في الأعالي� :أيها ال�سادة.. ا�سمعوا وع��وا�..إن��ه الطوفان ق��ادم ..وه��ذه ر�سالتي �إليكم� ..إن �أخذتم بها نجوتم ..و�إن تجاهلتموها رددتم على �أعقابكم نادمين. تردّد �صدى �صوتها ،ارتطم بجدار �صلب وعاد �إليها حامال معه �شق�شقة ع�صافير ،و�أريج الزهور يحمله الن�سيم ..و�صمت مهيب ..طوت �صفحتها ،رحلت ،تركت خلفها كنوز ًا ك�أنها جبال ،تجاهلت الح�شد الزاخر الذي تلقّاها بالطبول والمزامير والأهازيج في حبور ..كلما نادتها الذكرى للعودة لتحمي الثروة من ال�ضياع ،وتخرج ما نحت في ال�صخر ،وخبىء تحت الحجارة ..ت�ضع �أ�صابعها في �أذنيها م�ستنكرة ..يتلب�سها غرور وا�ستكبار ..وت�ص ُّد مدْ بِرة.. تغفو ..تطوي بها ال�سنين ،حين غفلة تتهدم ال�صروح! تتحلل في قوقعتها ..ويحترق ال�صقيع.. * قا�صة من ال�سعودية.
40
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة
طمرير والإبل ما يزال في ريعان �شبابه -في الع�شرين من عمره -ترك التعليم مبكرا ،نال �شهادة المتو�سطة ،الإبل هي �شغله ال�شاغل؛ فوالده يملك قطيعا منها. كبر �سن والده ،فعجز عن مالحقة الإبل ،باعها جميعها ،حزن طمرير عليها ،جل�س في البيت ال يخرج� .سمع �أن هناك منطقة في العالم تعي�ش فيها الإب��ل كحيوانات متوح�شة ،وفي م�ساحات �شا�سعة غير م�أهولة بال�سكان ،مطرها دائم طول العام ،وتنبت فيها �شتى �أن��واع النباتات ،ا�ستوطنتها الإب��ل ،ترعى وت�شرب من دون ح�ساب ،تكاثرت حتى غدت بالآالف ،تخلّ�صت الحكومة من �أعداد كثيرة منها ،وبقي الكثير الكثير. تمنّى لو �أنه ي�صل �إلى تلك المنطقة ،و�أن يكون قرب تلك الإبل ،كان تفكيره فيها ي�سيطر على مخيلته ،ف�س�أل عن تلك المنطقة ،وعرف عنها كل �شيء .جل�س ذات م�ساء على كنبة في �صالة البيت قبل �أن يخلد �إلى نومه� ،شرد ذهنه �إلى تلك المنطقة و�إبلها التي تنتظر من يروّ�ضها ويملكها..
على نف�سه من الحيوانات المفتر�سة ،بحث عن م�أوى �آمن ،غربت ال�شم�س ،تنادت الإبل ب�أ�صواتها المحببة له ،تجمعت في مباركها المعتادة� ،آوى بقربها� ،أك��ل مما يحمله من طعام ،و�شرب مما معه من ماء ،نف�سه تتوق لحليب ال��خَ �ل�ف��ات ،ق��ال ف��ي نف�سه� :سيكون ذلك ..عندما �أقترب منها �أكثر.
�صحا مبكرا ،اقترب من بكرة ير�ضع منها داهمه النوم ،تخيل نف�سه �أن��ه و�صل �إلى هناك ،ف��ر�أى المكان موح�شا ،لي�س فيه �إال ابنها ال�صغير ،فطردته �ش َّر طردة. الإبل ،ف�أح�س بخوف ي�سري في ج�سده ،راودته تنقّل بين �أكثر من ناقة ،لم ترحب به �إال نف�سه العودة ،م�شى قليال� ،سمع �أ�صوات �صغار ناقة كبيرة في ال�سن ،م َّد يده �إل��ى �ضرعها الإب��ل تنادي �أمهاتها ،والأمهات ترد عليها ،وحلب منها ،كم كانت فرحته عظيمة،عندما �ضجَّ المكان ب�أ�صواتها� ،أعجبه ذلك ..وقف �شعر ب�أُن�سها و�أُلفتها ..عقد �صداقة معها، في مكانه ،دنت ال�شم�س من المغيب ،خاف يبيت بجوارها وي�سرح معها ،ي�أن�س بقربها،
اجلوبة � -صيف 1436هـ (41 )2015
42
* قا�ص من ال�سعودية. اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
امر�أة بال ج�سد ■ د .حممد نادي فرغلي حممد*
ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة
ي�شاطر ر�ضيعها الحليب؛ �أم��ا بقية الإب��ل فكانت حوله ،وك�أنها تحر�سه� ،أ�صبح واحدا من مجتمعها؛ تطرده �إذا �شاهدته ،وك��ان يتوارى عن �أنظارها ،ي�شرب من حليبها ويتداوى به مع �أبوالها. ويحتمي بالناقة الكبيرة ت��ارة �أو خلف الأ�شجار مرت عليه ع�شر �سنوات ،حنَّ �إلى �أهله ،فكر في الكثيفة تارة �أخ��رى ..كان يقترب من الناقة التي طريقة يحمل معها ما ي�ستطيع من الإبل ،يعود بها ت�صاحب ناقته� ،إذا �سمحت له مرة بحلبها ،وما �إليهم ،مكث مدة يفكر ،لم يجد طريقة لنقلها �إال يزال بها حتى تتعود عليه ،اعتمد على هذا الأ�سلوب �شحنها في �سفينة .وقف المال دون تحقيق م�أربه، حتى تجمع حوله الكثير من الإب��ل الحالبة ،هدد ففكر م��رة �أخ��رى ،اهتدى �إل��ى بيع بع�ضها ،لكنه حياته بالخطر بع�ض فحول الإبل المتوح�شة ،فكان يحبها جميعها وال ي�ستطيع اال�ستغناء عن �أيٍّ منها، يحتمي منها بارتقاء الأ�شجار� ،أو االحتماء بناقته فكر م��رة �أخ��رى..خ��اط��ب حكومة البلد ،در�ست الكبيرة �أو بع�ض النياق الأليفة ،عرف �أن هناك الحكومة طلبه ،علمت �أنه ا�ست�أن�س الإبل المتوح�شة مجموعة من ال�ضباع والثعالب وبنات �آوى ت�شارك فقررت ال�سماح له بالإقامة على �أرا�ضيها� ،صرفت الإبل عي�شها على هذه الأر�ض ،ر�آها بنف�سه ت�سرح له مكاف�أة ،فهو رجل �شجاع �أراحهم من خطر كان في المكان� ،أخذ حيطته وحذره من ال�ضباع� ،أ�صبح يهدد دولتهم من الإبل المتوح�شة ،زاره ال�صحفي له مجموعة طيبة من الإبل ،ي�صاحبها ويخالطها الذي كتب عنه ،قابله في قناة ف�ضائية ،ر�آه �أقاربه، ليل نهار .ن�سي الأكل �إال �شُ رْب حليب الإبل� ،أ�صبح عرفوا مكانه ،زارت��ه مجموعة منهم ،ن�سق معهم م��ع م��رور ال��وق��ت يملك الع�شرات م��ن الإب��ل التي وحمل بع�ض الإبل �إلى بالده ،و�صلت �أول دفعة منها، تجمّعت حوله وتعوّدت عليه� .أ�صبح ك�أنه مالكها منذ وتتابعت الدفعات حتى و�صل عدد �إبله مع �أقاربه في ب�لاده �أكثر من مائة ناقة ،ما ي��زال هو في مكانه زمن بعيد. يجمع الإب��ل حوله وي�ست�أن�سها ،تتزايد �أعدادها، �شاهده �أح��د ال�صحافيين ،تتّبعه حتى عرف �سمع عنه النا�س؛ فت�سابقوا لل�شراء منه؛ �أ�صبح ذا خبره ،كتب عنه عناوين بارزة ،رجل من ال�صحراء مال ،نقل ما بقي معه �إلى بالده ،لم يبق من الإبل فعل الذي لم تفعله حكومة ،غامر بحياته ،اقترب المتوح�شة في تلك البالد �إال �أعدادا قليلة متناثرة من الإبل المتوح�شة ،عا�ش معها ،ا�ست�أن�سها� ،أحبها هنا وهناك ،ال تمثل خطرا على الدولة كما كانت. و�أحبته� ،أ�صبح ال ي�ستغني عنها و�أ�صبحت ال ت�ستغني وعلى �صوت �أذان الفجر� ،صحا من نومه ،ووجد عنه ،جاءها فقير معدم ال يملك �شيئا ،و�أ�صبح من الأغنياء ،يملك الكثير من الإبل دون ثمن ،تطيعه نف�سه وحيدا ال نا�س حوله وال �إبل.. ب�إخال�ص كالملك العادل في رعيته ،بنى بيتا �صغيرا حزن حزنا �شديدا� ،أين تلك الأعداد الهائلة من من الخ�شب ،و�أ�صبحت الإبل تبيت بجواره ،تخرج الإبل� ،أين ملكه الكبير الذي اختفى في طرفة عين، في ال�صباح �إلى مرعاها ،وتعود في الم�ساء تتحلق ليته ظل نائما كي ال يخ�سر الإبل و�صحبتها.
لم �أك��ره �شيئًا مثلما كرهت ج�سدي ،قريباتي و�صديقاتي ينلن ا�ستح�سان الأه��ل والأق��ارب؛ �أما �أنا ف�شكلي مرفو�ض ،و�صوتي منبوذ ،و�ضحكتي م�ستهجنة؛ �أما ج�سدي فكان مثار �سخرية كل من ر�آني ،فقد كان �صغيرًا جدا مقارنة ب�صاحباتي. اقترب ي��و ُم العيد� ،أجل�س مع البنات ُن َمنّي النف�س ،وتحكي كل واح��دة ما يراودها من �أح�لام .جاء دوري في الحديث� ،سكت الجميع لي�سمعوا حلمي ،الذي كان �ضئيال كج�سدي؛ فقد كنت �أحلم ب�أن ي�صطحبني �أهلي �صبيحة يوم العيد في رحلة الجبل. يجتمع �أهالي القرى عند الجبل ،ي��ب��د�أون بقراءة الفاتحة على الموتى ،ثم يبد أ� االحتفال.حُ ليٌّ ولُعب وب�ضائع؛ المكان يت�سع للجميع .يبد�أ النا�س في ركوب ال�سيارات وال��دواب فجر يوم العيد؛ �أما �أنا و�صويحباتي فقد تجهزنا من م�ساء ليلة العيد ،لم يغم�ض جفني ،وظل قلبي يرتجف طوال الليل ،وكلما غم�ضت عيناي ر�أيت �أنهم ذهبوا وتركوني وحدي؛ ف�أفيق ب�سرعة لأجد الجميع ينامون حولي ...و�أخيرا �صوت الأذان، والتكبيرات في كل مكان ،قمت منتف�ضة ،ارتديت ثوبي ،ووقفت في و�سط البنات؛ لأ�شعر بوجودي ومكاني بينهن ،خرجنا من البيت؛ لت�ستقلنا ال�سيارات من �أمام جامع القرية، ركبت البنات الالئي كنَّ �أمامي ،وما �إن و�صلتُ �إل��ى ال�سيارة ،ورفعت رجلي �إل��ى بابها حتى �صرخ �أحدهم :حتى �أنتِ يا عقلة الأ�صبع ،ارجعي وابقِ في البيت ،دفعني مَن كان بجوار الباب ب�شدة ،ت�شبثت بالباب بكل عزيمة و�أمل في �أن يختفي ج�سدي ال�صغير داخل ال�سيارة� ،إال �أن ق��واي خ��ارت �أم��ام دفعته ،فلم �أ�شعر ب�شيء ،وغبت عن الدنيا ،ولم �أفق من غيبوبتي �إال ب�صوت �ضحكات �صاحباتي ،وهن ينظرن من �شبابيك ال�سيارة بعد �أن تحركت بهن ،نزلت دموعي بغزارة ..يقف �أبي �أمامي ،انتظرت منه �شيئًا ال �أعرفه ،لكنه لم يفعله� ،أخرج جنيها من جيبه ،وو�ضعه في يدي ،نظر �إليَّ ب�إ�شفاق ،انتظرت منه كلمة، لكنها لم تخرج �أب��دًا� ،شعرت �أن جبال يجثم فوق �صدري ال�صغير ،رغم جفاف حلقي.. �إال �أن دموعي بللت خدّيَّ ،عُدت �إلى البيت والكلمات ت�أبى �أن تخرج ،قررت �أن تبقى معي. اجلوبة � -صيف 1436هـ (43 )2015
ما �إن علمت زوج��ة �أخ��ي و�أوالده��ا بجنيهي حتى اتهمتني بالبخل والحر�ص ،وكالت على �أوالده��ا اللعنات؛ لأنهم �صرفوا كل مليم على الحلوى واللعب ،لم تكن اللعبة حلمي ،بل كنت �أحلم بالذهاب �إلى الجبل.
دارت بي الدنيا ،لأجد نف�سي في ركن بعيد بالبيت ،خ��ي��وط ال�شم�س تن�سدل ثقيلة على �أطراف ثوبي ،تل�سعني وتوخزني ب�شدة� ،إال �إنني غير قادرة على الحراك؛ لم يكن ذلك �أثقل علي من نظرات عتاب �أمي ،والتي لم ي�صمد ج�سدي �أمامها؛ فاخترقته و�سكنت قلبه� ،أ�سمع دقات قلبي ،بينما �شفتاي مغلقتان ب�إحكام؛ ليبقى ل�ساني م�سجونا بين فكيّ .ينب�ض قلبي ب�سرعة، ثم يعود ل�صمت قاتل� ،أ�ضع يدي فوق �صدري، �أبحث عن دقة تعيدني �إلى الحياة ،ولكنها تغيب طويال؛ لتعود فيقفز قلبي محاوال �أن يتحرر من ج�سد حب�سه عمرا طويال.
فرحة كبيرة تملكتني ،كاد ج�سدي ال�ضئيل �أال يتحملها يوم �سمعتُ �أمي وجاراتها يت�سامرن: قريبا �ستكبر عقلة الأ�صبع ،ويفور ج�سدها؛ فقد و�صلت �إلى �سن الرابعة ع�شرة ،لم �أدرك معنى ذلك� ،إال �أنني ع�شت �سعادة ظلت معي وحدي في انتظار حلم ربما ي�أتي قريبا. جاء يوم لم �أتخيل لحظة �أن��ه �سي�أتي ،فقد هم�ست زوجة �أخي في �أذني� :سي�أتي �أهل العري�س قريبا لر�ؤيتك .اخترقت الكلمات قلبي ،يا اهلل، ما هذا الذي تقولين؟! تغمرني فرحة وتملأ كياني ،وانطلقت من �ساعتها �أعد نف�سي لهذا اليوم ،و�شعرت �أنني لم �أكره زوجة �أخي من قبل ،بل �أحبها من كل قلبي. يوم الخمي�س هو اليوم المرتقب الذي �سي�أتي فيه قريبات العري�س لر�ؤيتي ،مرت خم�س دقائق وانتهى كل �شيء ،خرجت ال�ضيفات بتعليق واحد لم �أ�سمعه ،وعدة غمزات� ،أردت �أال �أعرف ماذا ج��رى ،ب��ل �أردت �أن �أعي�ش ول��و خم�س دقائق * قا�ص من م�صر.
44
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ما ذنب روحي لتبقى في ج�سد �ضئيل ،كرهها كل من حولها لأج�ل��ه� .أغم�ضت عينيَّ لتهرب روحي دون �أن �أراها� ،إال �أنني ر�أيت �شريطا من المواقف وال�صور التي �أخفيتها في �أبعد ركن في ذاكرتي .توقفت ال�صور فج�أة لأجد نف�سي في ليلة العيد� ،صرخت ب�شدة ،فقد �أردت �أن �أذهب �إل��ى الجبل وح ��دي ،لتقف البنات متفرجات من بعيد ،يح�سدنني ،بينما �أنفخ �صدري فخرًا بانت�صاري الأول�� ،س��أذه��ب وح ��دي دون �أن يمنعني �أحد ،فمقابر �أ�سرتي هناك عند الجبل، �سبقتني روحي� ،أما ج�سدي الذي احتقره النا�س فقد حملوه على الأعناق؛ ليلحق بروحي هناك...
ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة
م َّر النهار ،وعاد النا�س من رحلتهم ،تحمل �صاحباتي اللعب والحلوى� ،أم��ا �أن��ا فلم �أحمل في يدي �إال جنيه �أبي ،جنيه ربما ي�شتري �أكثر من لعبة� ،إال �أنني لم �أرد اللعبة ،فقد فقدت كل �شهي ٍة للعب.
�أخرى ،دون �أن يوقظني �أحد من حلمي� ،إال �أن زوج��ة �أخ��ي ع��ادت لتمار�س هوايتها القديمة، وتحرمني م��ن �شيء تمنيته ،ح��اول��ت �إم�ساك حلمي� ،إال �أنه هرب من �صوتها ،والذي اهتزت له حيطان البيت :ال�شبر ون�ص باقية معنا للأبد!!
ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا ■ ح�سن علي البطران*
( )1تلّون رداء
(� )3إق�صاء
�أث� ��ار ب�ف���ض��ول��ه ال� �م ��ارة ف��ي ال�ط��ري��ق رق�صت ف ��أج��ادت ..وُزع ��ت الجوائز، الدائري ..غ�ضب منه النا�س ..اختب أ� تحت فحرموها من الو�سام ،بحجة حجابها! عباءته وابتعد عن الأماكن الم�شم�سة.. ( )4قراءة قبيل الفجر ي�صلي في الم�سجد البعيد قر�أت القر�آن ،وقالت :ربي اهلل. عن منزله! �سار خلفها الكثيرون ممن ال يجدون ( )2بخور قوت يومهم.. �أ�صابه(دوار).. كثرت ال�صالة ،وبد�أت الوجوه تبي�ض!.. ح��رق��وا البخور ظ�ن� ًا منهم �أن��ه يطرد ( )5جزء من حياة ال�شياطين. البرد قار�س� ..أطرافها ترتجف. بعد �أن حرقوا البخور وطار في الهواء ج�سمه م�صدر الدفء لها ..تفقده في ي �ع �ط��ره ت �ج � ّم��ع ال �ج��ن ،ف��ي ح��ال��ة ط��رب تلك الليلة ..تتذكر �أنه نام جائعاً. ومجون!.. * قا�ص من ال�سعودية.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (45 )2015
■ ح�سام الدين فكري*
كان هو في الطريق ال�صاعد ،وكانت هي في طريق الهبوط..
قراءة في �أ�ضابير العالم
كان نجمه �ساطعاً ،وكان نجمها ي�أفل. قبل ع�شرين عاماً عرفها .يومها لم يكن �شيئاً مذكوراً .لعبت بف�ؤاده ومنحته �أمل الحياة .ثم ارتمت في �أح�ضان �أول دفتر بنكنوت! ل��م يجد �شيئ ًا ي�ق��ال .نازعته رغ�ب��ة �سادية في ودارت الأي ��ام دورت �ه��ا .ث�لاث م��رات تخفق في الإن�ج��اب .زهدها الثري ف�ألقاها وراء ظهره .راح االنتقام� .سيقول لها �إن��ه �صار «ف��وق» وهي «تحت». يجدد �شبابه مع ال�صغيرات! ولكنها تعلم بالطبع� .صوره تملأ ال�صحف والمجالت، �أما هو فانت�شلته معجزة من القاع .ارتقت به �إلى ووجهه معروف على الف�ضائيات! عنان ال�سماء� .صار علم ًا في مجاله ي�شار له بالبنان. تذَّكر بيت ًا رائع ًا للعبقري «طاغور» « :ما كان حزن ًا حق ًا حفرت التجاعيد ب�صمتها على وجهه ،ولكن ذات يوم� ...أ�صبح اليوم �سالماً» .فلم يزد على قوله: التجاعيد �أك�ل��ت وجهها ه��ي! خطوط ال��زم��ن تزيد �إذاً�..أراكِ على خيرالرجال وقاراً ،لكنها تقتل الن�ساء! �أوم�أت بر�أ�سها وهي تغمغم مثله .ذهب في طريقه التقيا في منت�صف الطريق .وجد قلبه يخفق رغم ًا وراحت في طريقها� .سار بخطوات بطيئة تع�صف به عنه.لم تكن كخفقات قلبه الأخ�ضر القديم .كانت الذكريات ..فج�أة احتلت ر�أ�سه فكرة واح��دة« .هذه دفقة مفاجئة من ذاكرة ا�ستعادت ن�شاطها. المر�أة �صنعتني..لوال �أنها تركتني ما كنت �شيئاً». حيَّته بابت�سامة واهنة: انطلق يعدو �إليها بنب�ضات الهثة .ق�دَّم لها الكارت الخا�ص به: كيف حالك؟ لو �أردت �شيئاً ,التترددي ..ات�صلي بي! الحمد هلل ..في �أح�سن حال� -أنا� ..أنا �أي�ضاً� ..أعي�ش جيد ًا
�شكرته بكلمات مقت�ضبة وهي تتعثر في خجلها.
عاد بخطى وا�سعة �إلى �سيارته .لم تكن ابت�سامته ك��ان��ت ت�ك��ذب ب�لاري��ب� ..أو ب��الأح��رى «تتجمل»! وجهها ال�شاحب ينبئ بحالها� .أناقتها الغائبة ت�شي �أقل ات�ساعاً .كان انفعا ًال غريب ًا يحركه .هبطت �سحابة بالحقيقة. لطيفة على قلبه .لقد انت�صر على نف�سه من جديد! * قا�ص من م�صر.
46
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�ρρسليمان عبدالعزيز العتيق*
1 مر طف ٌل من هنا ،ي�ضحكُ لل�شم�س.. وناغا ُه القم ْر بين جنبيه ابت�ساماتُ الر�ضا.. أكدا�س زه ْر وعلى الكفَّينُ � ، يحملُ الآمالَ للأطفال والأجيال.. وعلى جبهته ،رفتْ برو ٌق ومط ْر مر ال يثقله الهمُ .. وال تبكيه �أ�شتاتُ العَـنا فر�أى الطفلُ �سياجاً ،من ورودٍ وثمر وطيور ًا �شربت حباً ،و�أ�شجاها الغِـنا وتـُناجيها ابتهاجاتُ ال�صباحاتِ .. ب�أح�ضان ال�شج ْر مر ثم اجتاز �أبواب الر�ضا فبكى ،عند جراحات الب�ش ْر انك�سارات ٍ �شهد الطفلُ ك�أ�ضرا�س الحجر وبكا ًء وارتهاناتِ كد ْر كلما �أثقل ُه الهمُ و�أ�ضنا ُه ال�ضج ْر وتماها كي يريقَ الحزنَ من �أ�شجان ِه
�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر
انت�صار
�أ�سْ ـرَجتْ �إدالجَ ها عينُ ال�سه ْر طاف هذا الطفلُ في كل المدائنْ يحمل الآمال ..ي�ستجدي مقاماتِ العُـال النا�س ب�أ�صفاد ال�صراعات فر�أى َ رهائنْ ور�أى في ال�ساحة الحمرا و�ضغائنْ دما ًء وبكا ًء وهِ ـياج َا َ كان (لينينُ ) الم�سجى.. واقف َا في ال�ساحة الحمرا ِء مكلومَ الف�ؤا ْد النا�س وفي العينين دم ٌع و�سُ ها ْد َ يخطبُ يحملُ المطرقة َالحمرا وفي يُـ�سرا ُه ك� ٌأ�س من رما ْد ك��م ��ش��رب��تِ م��ن دم��اء ال�ن��ا���س ،ي��ا �أيـتـُها أر�ض البوارْ؟! ال ُ �أي��ن ذاك ال��دم ُ ..ذاك الحلمُ ،يا �أق�سى الديار؟! كان ُبـ�ؤ�س َا كان وهماَ ،كان كفر َا وعنا ْد ك��ان جُ ��رح �اَ� ،أف��رزت�� ُه حُ �ق��بُ الطغيان ِ ، والأحقا ِد والأ�صفا ْد اجلوبة � -صيف 1436هـ (47 )2015
3 �أين (لي بو)� ..شاع ُر الحب الذي كان يُغني.. ع�ش َر �آالف ق�صيد ْة يملأ ال�صينَ ،ابتهاج ًا وطربْ في ال�سُ هوب الخ�ضر في ظالل الخوخ وال�صف�صاف والما ُء جرى مثل اليـَ�شـَبْ يتلوى بين زهرٍ وعُ ـ�شـُب ويغني لمروج الأقحوان وعناقيد العـِنب: �أيتها الريحُ التي مرتْ على �أحبابنا 48
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
4 ر�صيف العابرين َ قرع الطفلُ بخفيه، وم�شى ثم م�شى ،نحو مغيب ال�شم�س قاده تي ُه المفازات ،لعـُتـْمـَات الأنين يحملُ الدَ هْ ـ�شة والرَعْ ـ�شةَ..في لحن الجنوب ويُغني لم�سارات ال�شعوب فاج�أته ،ريحة ُالبارو ِد �سودا َء و�ضجاتُ الجنو ْد وبـُكائياتُ �أطفال ِالهنو ْد حينها باغته ،دم ٌع على الخد انـْحد ْر ربطوا الخيلَ ب�أذناب البق ْر وم�ضوا ..ت�سفعهم ريحُ التعالي والرعونة ْ يزرعون ال�شجر المر ،ويقتاتـُون بغي ًا وعُ ـفـُونة ْ �أوقدوا النا َر ب�أكواخ الهنو ِد الحمر �شعب يقـتلونه رق�صوا في ظلمة الليل ،على �آالم ٍ طبخوا الأج�سا َد في نهرٍ جرى في هِ يْـرُو�شِ ـيما وا�ستباحوا حرمة َالإن�سان ،في كل ال�صو ْر ي�ستحمُ (الفوهرر) ،بنهر ال�سين... وال�سينُ لهيبٌ ودمو ٌع وبكا ْء ثم ي�ستلقي يغني ،ب�سرير الكبريا ْء باري�س ..رجي ُع الغثيانْ عندما يجتاح َ عندما ينتظر الموتُ ..مُريبا وغريب ًا كان(كامو) ،في الجزائر يلعقُ الطاعونَ ،في �أ�سواق قِـ�سْ طِ ـيْن َووهرانْ
�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر
2 �سمع الطفلُ هياج َا في �سماء ال�صينْ (ماوت�سي تنقْ )... يرتدي بدلتـَه الزرقا ينادي بالمريدين يلعبُ النر َد مع ال�صبية ،في مقهى �شِ ـنـْغـَهاي الحر�س الأحم َر في �ساحات بكين َ ويقو ُد وال�شبابُ الحمر.. يلقون تعاليمَ كونـْفـُو�شـْيـُ�س ،في مياه البحر �سيف المق�صلة ْ وي�سوقون الوت�سُ و ،نحو ِ ويرون حكمة َال�صين ،ومجد َا قد بنـَتـْ ُه عب َر �آالف ال�سنين عفنَ الما�ضي ،وجذ َر المع�ضلة ْ يعقدون حِ لق الرق�ص ،على �أ�شالء تـِنـ ّين ال�شم�س حمرا َء تـَبـَدَ تْ ل�شعوب ِالأر�ض َ ويرون من مفرق ماو و�سِ اللَ الخُ �صبِ ،نهر ًا في اليدينْ
املئي الوجدان ...ع�شق َا وغنا ْء وخـُذيني ،من ك�آبات الليالي.. ومقا�ساة العنا ْء وام�سحي عن جبهتي ..هذا التعبْ
ال�سيف الذي َ كان فرناندو يحملُ قمرٌ ..هدْ هـَدَ ُه الوج ُد على وديان �سينا يقط ُر كُـفر ًا ودماء تكت�ض ب�أ�شواق الحنين والرمالُ العفرُُ ، قط َع الحبلَ الذي يو�صلُ مابين �شهو ِد الأر�ض ...وبتذكار التـَجلي أبواب ال�سما ْء و� ِ وبنار الم�صطلينْ �سيرة ٌ�أورثها الأبا ُء للأبناء وحما ٌم طار من �أروق ِة القد�س ..مَ هـِي�ض ًا �إنهم فيها �سواء ب�سوا ْء بين جاكرتا وطنجة ْ غاية ُ ال�ل��ذات في محْ ـفـَلِهم� ،أن ي�شربوا نخبَ ي�س�ألُ النهرينَ ،عن �أر�ض ال�سوا ْد التعالي وعن الفجر الذي يحجـُبُه الليلُ �أن يديروا �شهوة َالمكر ،و�أن ي�ستعبدوا كلَ الب�شر وتق�صيه ارتهاناتُ البال ْد �شرحُ وا ،واجْ ـتـَرَحُ وا ،وب�أ�شالء ال�ضحايا فـَرِ حُ وا والفراتُ العذبُ ،يجري قاني ًا و�أداروا بينهم� ،أنخابَ ليلٍ ُمعْـتـَكِ ـ ْر بعبيط الدم �آه (لوركا)...كم تـَغنيتَ لمجد ال�ضعفا ْء والع�صافي ُر �أبـَتْ �أن تتغـنـ ّى ولخبز الفقرا ْء ونخي ٌل وقفتْ مثلَ �شيوخ ولآالم الغج ْر �صدعتهم حادثاتُ الدهرِ حتف الأنف ،في غرناطا مُتَ َ والإع�صارُ ،نخـ ٌل يتـثـنـ ّى وينعاك القم ْر �أيها الليلُ الذي ..قد �أُ�سْ رِ جتْ ترك�ض بالتيه ،وتقتاتُ غبا َر العا�صفة ْ خي ُلهُُ ، 5 وتنادي ال�شامَ ،وال�شامُ جـِرا ٌح راعفة ْ كان لي ًال حالكاً ...يثقـِ ُل ُه النومُ ال�شم�س َ �أطفـَئوا وكان الليلُ ..غو ًال يتـَعَ�سْ ع َْ�س ولكنْ بيقيني ..وب�إ�شراقات �صبري ،ون�ضالي �أ�شرقتْ في الغار اقر�أ.. والأماني الواقفة ْ فتـدلى الروحُ � ،إلى قلب محمد عانقَ الطفلُ خيوط الفجر... قاب قو�سين و�أدنى �صلى ركعتين َف�س) فـ (�إذا ال�صبحُ تـَنـ ْ ف�إذا الآفاق نورٌ ،فُتحتْ ..مابين �أر�ض ٍو�سما ْء ثم نادى :يا �شعوبَ الأر�ض ..يا كلَ ال�شعوب �إنه الفج ُر الذي البدَ �أن ي�أتي ..و�إن طالَ ال�سف ْر و�إذا الطفلُ تملـ ّى� ،سورة َالإخال�ص فوق غيمٍ � ،سحَّ مجداً� ،سحَّ نوراً ،وانعتاق ًا ومطرْ. وعهدَ الأنبيا ْء * �شاعر من ال�سعودية.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (49 )2015
�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر
نب�ضات
�أمي ρρمالك اخلالدي*
ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه و�سلم)
�أمّ ���������������������������ي ..وي���������ؤل��������م��������ن��������ي اب���������ت���������ع���������ادي وال�������������س������ف������ ْر و دم��������������������و ُع ع������ي������ن������ي �أغ������������رق������������ت ن������ب�������������ض ال������م������ط������ ْر ل�����������ك�����������ن ع����������������زائ����������������ي �أن ط�����������ي�����������ف�����������كِ ه�������اه�������ن�������ا � َ��������س�������� َك��������نَ ال�������������ف��������������ؤا َد وع����������ا� َ����������ش ف���������ي ك���������ل ال�������������ص������و ْر
م������������ا زل�������������������تَ ف������������ي الآف���������������������������اق ���������������ض��������������وءاً خ��������ال��������دا ي���������ب���������ق���������ى وي�������������ك�������������ب������������� ُر ������������س�����������ي�����������دي م���������ت���������ج���������ددا
�أنا
�أن�����������������������تَ ال�������������������ذي �أ���������س��������ق��������ي��������ت ن��������ب��������� َ��������ض ق�����ل�����وب�����ن�����ا وزرع���������������������������������تَ ف��������ي��������ن��������ا ن�����������������������������وركَ ال����������م����������ت����������وقِ����������دا
�أن�������������ا ��������ض�������وء ه����������ذي ال������ب������ي������د ،ب�����ع�����������ض ه�����ج�����ي�����ره�����ا.. م����������ن����������ه����������ا وف������������ي������������ه������������ا ب�����������������س��������م��������ت��������ي ت����������ت����������ج����������د ُد
طفلي
ع���������رب���������ي��������� ُة الأط���������������ي���������������اف م�����������ن ل��������ف��������ح ال�����������م�����������دى.. و�أظ������������������������ل �أن����������������ظِ ���������������� ُم حُ ���������������س�������ن�������ه�������ا و�أع�����������������س��������ج�������� ُد
�أح������������������������ب������������������������ك رغ��������������������������������م ب����������������ك����������������ائ����������������ك ه����������������ذا ورغ���������������������������������م ع�������������ي�������������ون�������������ي ال�����������������ت�����������������ي الت�����������������ن�����������������ا ْم
�ضوء
ف���������ف���������ي���������ك ت�����������ج����������� ّل�����������ي�����������تُ �أُم�������������������������������������اً و���������������ص��������������ارت �أغ�����������������������اري�����������������������د ق����������ل����������ب����������ي ك��������������م��������������اء ال������������غ������������م������������ا ْم
ي�������ا ������ص�����ب����� ُح ك�������ن ل�����ل�����م�����دى ن����ب���������ض����اً ي�����������ض�����و ُع ر�������ض������ا.. ي��������������ل��������������وّن ال��������������������������������رو َح والأرج�����������������������������������������اء والآت�����������������������ي
�أح������������������ب������������������ك ط������������ف������������ل������������ي� ،أح������������������ب������������������ك ه��������ا���������ش��������م وحُ ����������������������� ّب�����������������������ك ف��������������������������وق ح��������������������������������دود ال����������������ك��������ل�������ا ْم
�������ص������افِ������ح ت����ف����ا�����ص����ي����ل ه����������ذا ال��������ك��������ون ك��������ل ������ض�����ح�����ى.. وام�����������ل�����������أ ت�������رات�������ي�������ل�������ن�������ا طُ ���������ه���������ر ال�����������������س��������ح��������اب��������اتِ . * �شاعرة وقا�صة من الجوف.
50
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
اجلوبة � -صيف 1436هـ (51 )2015
هم�سات الفحة ρρبو �شعيب عطران*
«وحدها الكلمات ..تهم�س لأرواحنا ..لت�سافر بها ..من تيه اللحظات».. طفولة
�أحالم و�أماني، محفورة في الذاكرة لوحتها الريح، هم�سات الفحة.. المدينة
المنار الوحيد، يداعب واجهة المدينة هم�ست له ثائرة: لوّح بعيدا عن �صخبي العنيد.. الحكاية
ت�سرقه الحكاية من هفوة الم�سافات، تلب�س كل الوجوه تهم�س له: مزق الخرائط، بعثر الحدود.. حظ
كلما تعثر في دربه 52
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
هم�س لنف�سه: رهاني الوحيد، حظ جديد.. المجنون
�صرخة ..مزقت ال�سكون هم�س المجنون: ع�شقي، �أتلف الكون.. التئام
حروف تتناثر كلمات تت�شابك، هم�ست للبيا�ض: لنرقى معا بالوجود.. �شاعر
لفهم �صمت القبور هم�س �أحدهم: احذروا، �شبح �شاعر يفتت ما في ال�صدور...
النهار �صخب و�ضجيج الليل �سكينة وهدوء، كالهما �أرجوحة الزمان تتمايل فيها الأحالم والأعمار، وهم�سات تتناثر هنا وهناك.. قبلة
تدمر وا�ستياء لقبلة احت�ضنت ال�سماء، اختطفتها خفافي�ش الظالم تناو�ش بها ر�سالة ال�سالم.. ذكرى
للأم�س حنين على �أطراف اليوم، يراود �شرود الغد مترنحا خلف الأيام.. حرية
ما يروج في الحياة ي�سلب بهاء العقل، وحده الخيال يترنّح في دروب الحرية مترنما ب�أغنية كونية.. انعكا�س
المرايا تعك�س قبحا الحكايا تنز جرحا،
ومي�ض
كل ليلة تلمع النجوم في ال�سماء، العمر يرق�ص حائرا على �ضفاف الحياة..
�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر
الزمان
وحدهم الع�شاق يجددون �سيمفونية الأحا�سي�س..
�ضوء
دائرة �ضوء تغمر المكان ظالل ن�صبتها الجدران، متاهة لكل العابرين.. انجذاب
هنا وهناك، تتناثر الأب�صار ال�شيء يجذب االنتباه، �أنغام �شجية تت�سلل دون ا�ستئذان.. ر�ؤية
�صور تتزاحم تتعارك ت�ضيع مالمحي بين ركام الكالم و�سطوة الأحداث ح�ضارات �صنعتها يد �إن�سان دمرها �شجع �إن�سان قربانا لل�سالم..
* �شاعر من المغرب.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (53 )2015
ρρمليكة معطاوي*
ها �أنت وحدك راحلٌ دون اختيار دام�س ٍ نحو ليلٍ يغفو على �سعف الظال ْم و�أنا �أ�سير �إلى غيابك في الخريفْ يجتاحني �سحر الأقاحي كلّما فا�ضت ك�ؤو�س ال�شوق في ح�ضن ال�سّ رابْ تنمو الجراح ق�صيدة في �ساحها ي�سمو الكال ْم لمّا يغو�ص ال�شعر في �إغفاءة النجوى تدثر روحه الأحالم يتلو التيه من �سفر الو�صالْ �آيات ع�شق ت�ستر ّد الأم�سياتْ من �أم�سها النائي �إلى �صبح ي�صوغ هديل حلم غيمة تروي تخوم االلتياع �أنت البعيد� ..صداك يحملني �إلى ج�سدي على �شغف العناقْ ذاك الّذي لمّا تنا�سل في دمي غابت يدايْ لم يبق غير �أنامل الأحزان تنه�ش بانهما ْر * �شاعرة من المغرب.
54
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
وخطى تعربد في �أقا�صي الروح تلثم باندحا ْر �ضاع الطريق ت�آكلت �أطرافه جفّت مياهه في براري االنك�سا ْر �أنت البعيد ..ر�ؤاك كالليل الطويلْ يغتالها الوقت الم�ضمّخ بالرّحيل وفي مداك الغيم يجثو تحت جنح االنهيا ْر تت�ساقط العبرات من مقل تهاوت في فراغ في �ضياع في يبابْ ال ب ّد من �سفر �أخير �شط ال يدثّره �سحابْ نحو ّ ال ب ّد من ماء ي�سيل على ت�ضاري�س المدى دون انح�سا ْر ال بد من ريح تهبّ على غبار الوقت تنثره هبا ًء في هبا ْء قد ن�ستطيع ركوب خيل خلف �أ�سراب الحياةْ..
تراتيله المبهمة ρρهندة حممد*
والزّمان الذي �سال بين الدقائق عطرا 1 تهاوت تفا�صيل �صمته بين الدروب على الغيم قلب يريد الهطول وق��ب��ل ال��غ��ي��اب �سيهم�س ك��� ّل ت��رات��ي��ل��ه على الغيم كانت تراتيل حبلى بليل العيون المبهمة تهدهد فو�ضى ال�سّ ماوات فيها و�أ�سماءها وتنثر في الرّوح ريحا �أخيرة ليعتنق المحو حرفا جديدا ويكتب بالماء نارا تهاطل جمرها ح ّد على غير عاداتها ،الرّيح تحاول ل ّم الأ�صابع بين الح�صى الغرق لتقب�ض ماء الم�شاوير �سي�صلب ك ّل م�ساءاتها ويبزغ في القلب نهرا جديدا ويلعن ك ّل البحار التّي حمّلته �إليها وتلعنه احتراقاتها 3 ال�صباح ال���ذّي ك��ان ي��ب��د�أ حين تفي�ض ّ لقد كنت �أ�شفق حين يحين الهطول الأ�صابع وردا من الموج وهو يم ّر �إليها �شقيا �سي�شتاقها يعاتب لعناتها الم�ساء الذّي تاه نجمه بين ال�ضلوع ويدفن ر�أ�سه في رملها �سترهقه الأمنيات الدّفينة فتلك الدّواخل نقطة �ضوء الرّبيع ...ال�شّ تاء ...الخريف وتلك معابر �أخرى لجيناتها تفا�صيلها وتلك الأزقّة تورق تيهاً كذا كان يكبر توت الكالم غريبا وطفل المدينة يتلو على الغيم �أ�سرارها يمرّمع الجائعين ... قبل ك ّل هطول. لوقت بال لعنات فيكبر عند �سواحلها 2 وذاك ال�س�ؤال ي�شيخ ك�أنفا�سها الر�صيف القديم لع�شب يديها ت�����ش�� ّق��ق م��ن ف ��رط م��ا ك ��ان م��ن في�ض وط��ف��ل ال��غ��ي��اب ي�����ض��ي��ع ب��ط��وف��ان ب��وح �أحجاره جديد.
�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر
�أنت البعيد..
* �شاعرة من تون�س.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (55 )2015
�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر
الح ِّب ُ كتاب ُ ρρنازك اخلنيزي*
لعمري� أنت كن�سائم الربيع تهزني على �أ�صابع الناي تغرد لوقت قادم � إلى مدن ال�سالم تعود �سفينتي لعمري �أنت �سهلك� صعبٌ كالماء كالأ�شواق نب�ضك كعمق م�شاعري تنثر� سحراً يَ�ض ُم عبير الفجر في درب ال�سنين كالم�ستحيل تزرع في طين ال�شم�س ورداً وتهجرني الحروف
56
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
وحبرك ي�سري ي�صب الم�شاعر ي�أتي بعطر والبحر حائر يغ�سل بال�ضوء ظلأً يهدي لعيني مرور ال�صور ولذة مغامر ودفقة قلبك تعيد �إلى الوقت �شيئاً مما ت�سرب تعيد �إلى الفل ظله وللفجر �صحوه وت�سرق ما في يدي من �أنامل وت�سحب حدود الكالم ونم�شي طريقاً ال … طويال طوي ً نن�سى حزن البنف�سج
ونم�سح �سكون الدموع ونرق�ص لرع�ش القلوب نُغني وبين ال�ضفاف نتيه ن�سكر ب�شهد وثغرك ك�أ�س كالمزن عذباً ي�سكب �شيئاً وفي كل نقطة نغ�سل خرير ال�س�ؤال وي�شرق كفّ ال�صباح بهم�س يغرد كعر�س ي�سقي ال�سكون ي�شد الوتر يعيد الأمل تذوب الجداول
وبين الغيوم ال نغيب طوي ً بين ف�ضائك وعر�ش ال�سماء بين ال�صور وانهمار المطر ت�سكب عيناك �ضوءًا ويقطر وجهك حباً في�شدو الحمام بغ�صن الهيام ونك�شف ن�سيم ال�صبا ال ون�صمت طوي ً ون�سمع ون�سمع كثيراً وتحت المطر نُعيد �إلى الورد �سره ونتلو حروف تهل ببوح
* �شاعرة من ال�سعودية.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (57 )2015
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
�أبي�ض ال ي�شيخ ρρهدى الدغفق*
يا �أنت يا �أبهى الحكايا.. ح��ي��ن �أق���ر�ؤه���ا تفتح ك��ل راي����ات النهار الفا ّر من قلبي. م���ا ك����ان ذاك ال��ع��م��ر م�����ص��ق��وال كحلم راح��ل ال تلتقيه الطير �إال ف��ي ال�سير �سراب النوم منهوب الجناح. ك��ي��ف ا�ستلبت ال��ح��ل��م ..ذاك ال�ضائع ما�ض تمادى في الغياب.. الأهداب من ٍ حتى فقدت الرق�ص في حرفي فجئت لدى نهاه ي��ا �سعد ..ي��ا �أن��ه��ار �أل���وان �ستر�سم لي الجهات.. �إن قلت �شرقا يافعا ،قالت :فذاك �أو قلت للغرب ال��ن��دي ،البحر يلقاني مداه ال لم تقلها ..حين �أحلم بال�سما. تتفتق ال��ن��ج��م��ات� ..أح�سبني ب�لا ليل ف�أعلم �أنك الطاوو�س �أ�شرقت ال�شمو�س على رباه.. كم �أنت متّقد الحنايا تلتاع بالنوء الذي ي�شكوك وتورق بال�شقاء * �شاعرة من ال�سعودية.
58
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
تلك ال�صداقات التي تنبي عن الغايات كادت ال تنام �سماء هذا الكون �أنت �أزرق في ف�ضاء البحر �أحمر في �شعاع الدم �أبي�ض في �شتاء اللوز �أخ�ضر في ربيع الحب عنابا يقطف قبلتي وت�شرخ ليلهم لأنت نور نافذ ال ي�صبحون �شذاك مهما حاولوا �إن ج���ام���ل���وا ���ش��ك��ل ال��ح��ق��ي��ق��ة ب���ادع���اء �سواعد �شاخت عن الأغ�لال �أو عجزت عن التحديق في ق�ضبانها ..فل�سوف تخ�سرهم لأنك ال ت�شيخ! وتظل في الأغالل تن�صهر النهاية في لظاك.. �س�أهز قلبك كي �أزيح اله َّم عن �شغف.. ف�أنت �أح��ق �أن تحيا دون خلق قد لهو بنور اهلل.. و�أريد �أن تحيا.. �أريد..
ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي ρρعبدال�سالم احلميد*
رحمك اهلل يا �سيد ال�سروات �أوجعتني مرتين ..الأولى حين رحلت وتركتنا بال وداع.. والثانية حين ُ�صدمت بتجاهل ومماطلة من كنت �أظنهم �أ�صدقاءك خالل �إعدادي لهذا الملف. ا�ستكثروا �أن ي�� ْرث��وك ول��و بكلمة ..و�أن��ت ال��ذي ما بخلت على �أح��د في حياتك ال بقلمك وال بمالك! وما دروا �أنك باقٍ فينا ال تموت؛ لأن �سيرتك العطرة هي مَن �ستخلد ذكراك لدى كل المن�صفين.. ومن باب الإن�صاف ،وجب عليَّ �أن �أ�شكر الجوبة ورئي�س تحريرها وكذلك تون�س و�أهلها ..فهم مَن عرفوا قيمتك حياً ..وكرَّموك في حياتك وبعد مماتك. طبت حياً وميتاً يا �سيد ال�سروات ..وع�سى �أن نجتمع معك في جنات النعيم. * رئي�س النادي الأدبي في منطقة حائل �سابقاً.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (59 )2015
60
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ومن محا�سن ال�صدف �أن بد�أنا الن�شر في ال�صحف دون �أن نعرف بع�ضنا برغم �أننا ن�سكن منطقة واح ��دة ،كنت �أق ��ر�أ ل��ه وي�ق��ر�أ ل��ي ربما ب�إعجاب �أو بتحفظ ،ومن خالل ملحق الأربعاء زمن رئي�س تحريره النبيل محمد عبدال�ستار ،ثم �أتاح لنا الأ�ستاذ ال�صديق عبدالمح�سن يو�سف فر�صة الر�سم بالكلمات من خالل �صفحة �أقالم
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
رح��ل غ��رم اهلل ال�صقاعي ,ك��ان رحيله مربكا لذوات كثيرة ,حتى �أني فقدت طعم الكتابة ل�شهرين �أو �أكثر ,كانت تلك طريقتي في الحزن ,حتى �إني لم �أكتب �شيئا عن موته ,لم �أغرد ولم �أ�ضع تعليقا, كنت حزينا ومنده�شا� ,شيء من الحياة م��ات في داخ�ل��ي� .أم��ا وق��د رح��ل ..ف ��إن رحيله ك��ان �أكبر من الكلمات� ,أعلى من الحزن ,التقيته في القاهرة مطلع 2010م ,كنت قادما لتوي من تون�س برا ،وكان �آتيا من ال�سعودية رفقة �صديقه علي الرباعي ,كان همنا م�شتركا ،وكانت غايتنا واحدة. «الن�ص الجديد» ملتقى تقيمه م�ؤ�س�سه �أروق��ة للدرا�سات والترجمة والنثر ,لن �أدخل في الحيثيات والتفا�صيل الدقيقة ،فهي تبقى للقلب ،لكن ما يعلق في الذاكرة حقا �أن غرم اهلل ال يتوقف عن ال�ضحك واالبت�سام وح��ب الحياة ,ك��ان ي�ق��ر�أ ال�شعر ف��ي كل وق��ت ,حتى عندما يكون الجميع متعبا يبعث فينا �صديقنا ال�سعودي الحياة ,ثم ج��اءت تلك الرحلة الغريبة لمدينة �سنطا من محافظة الغربية ,كانت الحافلة تت�سع للجميع ،لكنها لم تت�سع لقهقهات غرم اهلل ,ل�شعر غرم ،لقف�شاته ومماحكاته الطريفة مع �صديقتنا الكاتبة الم�صرية مرفت فايد .وكنت ممن يتبعه ,ممن يتبع الحياة والحب والبهجة ,ممن يم�سك بنا�صية الجمال في روحه ,تلك الروح الخفيفة التي �صعدت باكرا وتركتنا ننوء بحزن عميق وطاغ. �أع��ود لـ «�سنطا» ..كان في انتظارنا عند و�صول الحافلة احتفال كبير بال�شعراء العرب ,حتى �أن خيمة ما �أع��زي نف�سي به دائما ,ذكرياتنا الرائعة في �ضخمة قد ن�صبت ,كنا خجلين ومرتبكين ,ال �أحد يعرف المكان ..لكن غرم اهلل كان �سباقا ,كم كان القاهرة ,كتبه المحببة �إلى قلبي ,روحه التي ما تزال مبهرا وهو يلقي ن�صه الترحيبي ،ثم يراق�ص على تحلّق هنا وهناك ،على �إيقاع المودة وال�شعر والحياة.
�أنغام المو�سيقي ال�شعبية الم�صرية فتىً �سنطاوي ًا بزيه التقليدي ,غرم اهلل يم�سك تلك الع�صا ويدور بها في ر�شاقة منقطعة النظير ،ثم يلتف حول نف�سه كما يفعل الممثلون في الأف�لام البي�ضاء وال�سوداء, يغر�سها في الأر���ض ..ثم يعود للرق�ص حتى �أرهق ال �ف �ت��ى ,ث��م ي�ج��ذب�ن��ي ل�ل�ح�ل�ب��ة ..ك�ن��ت ع��اج��زا عن م�سايرته ،وكان حينها يرو�ض ح�صانا عربيا �أ�صيال جيء به لالحتفاء .كان �شاعرا رائعا وفار�سا مقداما. حين عدنا كانت �أحاديثنا تتمحور حول الواقع الأدبي في تون�س وال�سعودية ,عن واقع النوادي الأدبية في المملكة ..تكلم ب�صراحة وو�ضوح ,لم �أكن �أعلم �أنه يعد كتابا حول ال�ساحة الأدبية ال�سعودية ,كتابا اختار له عنوانا �أنيقا« :البهو وليال ع�شر» ،حين �أهداني �إي��اه �صديقنا هاني ال�صلوي �شاعر اليمن الجميل, تذكرت ذلك الحديث العميق الذي دار بيننا ،بل تلك الأحاديث المميزة التي جمعتنا في القاهرة �أين كنت �أقيم فيما بعد ,كان مدركا لواقع الأدب في ال�سعودية, ينظر لل�ساحة نظرة عميقة ومتفائلة ,ال يخلو حديثه من نقد خفيف مرده غيرة حقيقية على واقع الأدب ف��ي ال�سعودية ,قبل �أي��ام م��ن وف��ات��ه ..هاتفني من تون�س ,ل��م يت�سنَّ ل��ي ل �ق��ا�ؤه لأع �ب��اء حياتية كثيرة �شغلتني عن كل �شيء ,لكني نادم الآن ,كانت تلك ربما �ستكون �آخر حلقة في عالقتنا ال�صافية ,رحل غرم اهلل ال�صقاعي ,الرجل الذي �أبهج الكثيرين و�أبكى الكثيرين ..وعلى قدر البهجة �أتى الحزن.
ق��د ي��ؤل��ف بين اثنين وعيهما مثلما ي�ؤلف بينهما حزنهما �أو اهتماماتهما ،فال�صداقة ال ت�أت من فراغ وال تن�ش�أ �صدفة .هناك تفاعل كيميائي ،وهناك �أقدار ت�سوق النا�س �أو تقودهم �أو تدفعهم لاللتفات لبع�ضهم .تتقاطع بين �صديقي الراحل المقيم غ��رم اهلل ال�صقاعي وبيني يوميات وظروف حياة؛ فكالنا �أبناء طبقة كادحة ..و�إن كان هو �أق��رب للرعي و�أن��ا فالح ورعوي �أي�ضا؛ والم�صطلحات هنا عفوية وعلى بكارتها الأول��ى ،في زمن لم يكن الكتاب �شغل ال�شباب ال�شاغل ،كان ال�صقاعي خريج التربية البدنية من جامعة �أم القرى ،ي�سعى ويحفد في �سبيل الو�صول �إلى عباقرة الم�شهد ،فقر�أ بتمويل �أخيه عبداهلل ال�صقاعي -ال��ذي عرف م�صر منذ ال�ستينيات الميالدية -توفيق الحكيم وطه ح�سين والعقاد ،في حين كنت -بحكم الدرا�سة في المعهد العلمي -على عالقة وطيدة بالتراث من خالل جواهر الأدب والأغاني والعقد الفريد.
واعدة في عكاظ ،ثم ن�صو�ص ،ثم �إبداع ،وكنا نلتقي ن�صا فقط حتى ج��اءت فر�صة اللقاء عند تكريم جمعية الثقافة وال�ف�ن��ون المبدع عبدالعزيز م�شري ،بمبادرة كريمة من الأ�ستاذ عبدالنا�صر الكرت ،مدير فرع جمعية الثقافة ف��ي الباحة ،ع��ام 1419ه� �ـ ..حينها ك��ان لقاء ر�سميا؛ وتوالت فعاليات الجمعية ،فزاد االت�صال بيننا والتوا�صل ،وبد�أت ال�سمات الرئي�سة تظهر لكل منا ،وتتجلى معارف ال�صاحب في عين �صاحبه ،فهو قارئ حداثي بل�سان �شعبي �أنيق، في حين قدمت �أنا من المنبر بحموالت اللغة والتجويد مع خوف من االنفتاح على الحداثة �إال قليال كما طفل يتهجّ ى الأ��ش�ي��اء .ذك��ر لي ا�سم ريا�ض الري�س ،فذكرت له مجلة الناقد، وا�ستعاد ال���ص��ادق النيهوم ،فا�ستعدت معه �صادق جالل العظم ،وربما ..بل �أثق �أننا ل�سنا وحدنا المفتونين بهذه الأ�سماء �أو القارئين لها، �إال �أن ف�ضاء القرية زمن ما قبل الف�ضائيات قلَّ ما تجد فيه من يخو�ض تجارب كبيرة وي�صادم ب�أفكاره الواقع .ت�ضافرت الأفكار في خلق مودة من نوع خا�ص ..فيها مناف�سة �شريفة ،وتالقح �أف�ك��ار ،وم�صادمة م�شاعر ،وقطيعة وو�صال، وك�أنما نحن ن�سخة واحدة ان�شطرت على نف�سها، ينظر لي كابن له و�أعامله �أخا �أكبر .وفي خم�سة ع�شر عام ًا كان بيننا من االفتتان بالإبداع ،مثل
اجلوبة � -صيف 1436هـ (61 )2015
(ف����ل����م����ا ت���ف���رق���ن���ا ك������أن�����ي وم���ال���ك���ا ل��ط��ول اج��ت��م��اع ل���م ن��ب��ت ل��ي��ل��ة معا وك����ن����ا ك���ن���دم���ان���ي ج���ذي���م���ة ح��ق��ب��ة من الدهر حتى قيل لن يت�صدعا) ع�شقنا ن�ص ال�شاعر الفاتن محمد الثبيتي، ثم الحقناه �شخ�صا ون�صا �سويا في �أبها ومكة وج��ازان ،واقت�سمنا مودة عبدال�سالم الحميد، وعبدالرحمن موكلي ،فنحن �شركاء حتى في �أنقى الأ�صدقاء من زياد ال�سالم ،وعبدالرحمن الدرعان ،ومحمد الرطيان ،ومحمد ال�سحيمي، وعلي الدميني ،والدكتور �سعيد ال�سريحي ،وفهد الخليوي ،وها�شم الجحدلي ،و�آخرين ال ت�سعفني ال��ذاك��رة ال�ستح�ضارهم ،برغم مودتنا لهم. ناهيكم عن تبادل الأف�ك��ار وم�شاركة الهموم، مما لو �أردت اال�ستطراد لما ا�ستوعبته مئات ال�صفحات ،كان �شريكا في كل ن�ص ومقالة، 62
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�إن �أ���س��ئ��ل��ة م��ن ه��ذا المنوال كثيرة، وم� �خ���اوف���ي �أك� �ث ��ر، وق� ��د ي�ط�م�ئ�ن�ن��ي �أن
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
ما بين ندماني جذيمة ،كما قال متم بن نويرة في رثاء �أخيه مالك:
وكانت م�شورته غنيمة ،و�أ�صدقكم �أن��ي كنت �أه��اب ذائقته ..فالرجل فنان حقيقي ،وقارئ نهم ،وقنا�ص �أفكار ،ولم ي�ستنكف يوما من �أخذ ر�أيي المتوا�ضع في ن�ص �أو مقالة ،ويعدل �أحيانا مع احتفاظه بكبرياء المبدعين ،وكما ع�شقت تون�س في الت�سعينيات الميالدية وات�صلت بها جامعة و�إن�ساناً ،و�أ�سهمت في انفتاح �آفاقي المعرفية والإن�سانية� ،شاء اهلل �أن يختتم �صديقي وتو�أم الروح غرم اهلل ال�صقاعي حياته في ذلك الف�ضاء الأخ�ضر النقي بين محبين ومعجبين، �شكرا لك �أبا حمدان على هذه الرحلة ال�شيقة والم�شقية بك ومعك� ..شكرا هلل على �أن جمعنا على ح��ب المعرفة والثقافة وال�ف�ك��ر� ..شكرا للجوبة ولأ�ستاذنا �إبراهيم الحميد �أول الداعين لك ولي لإقامة �أم�سيتنا الأولى في �أدبي الجوف، وللقيمين على دورية الجوبة ،ولأبي نورة وهو من بادر بطرح الفكرة وتقبلك اهلل في ال�صالحين يا نغم الباحة الخالد.
هل يمكن �أن يكون الحبُّ نقدا؟ هذا ال�س�ؤال �ضروري في هذه الفاتحة ،فل�ست �أب��رئ نف�سي من حب غرم اهلل ال�صقاعي �شخ�صا ون�صا ،وال يجوز لمحترف مثلي بعد كل هذا الزمن �أن يخلط بين عاطفته ودرا�سته .ولكن ما �أفعل وغرم اهلل، �شخ�صا ون�صا� ،شَ رَك عاطفي ال يكاد يفلت منه �أولو العزم من النقاد .وقد كان االلتزام بالمنهج قمينا �أن يخفف من ذاتية المحب لو التزمت منهجية معينة ،ول��م �أتجاوزها باتجاه ف�ضاء غير �سابق التحديد �أو التجهيز� ،أطلقوا عليه «العبرمناهجية» ،حيث الر�ؤية الناظمة لتعدد المناهج في �سلك يوحدها نظريا و�إجرائيا. فهل ي�صبح ذلك الف�ضاء م�سارب الذاتية �إلى تلك الر�ؤية؟ و�إذا �أ�ضفت �إلى هذا �أنني لم �أكن �أن��وي درا��س��ة �شعر غ��رم اهلل ال�صقاعي الآن، ناظرا �إلى �أكثر من ديوانيه المطبوعين وكتابيه الفكريين ،ومترقبا بغرور الناقد �أعترف كيف تتحول ال�شعرية بالتقدم ف��ي الإب� ��داع .ولكن الموت و�ضع حدا النتظاري وترقبي .فهل يمكن �أن تخلو درا�سة لإبداع �صديق تحت ت�أثير فراقه الأخير من الذاتية؟
�أية درا�سة تحتاج �إلى قدر ما من التعاطف مع مو�ضوعها ،و�إن كان من بين عنا�صر مو�ضوعها �صاحب المو�ضوع نف�سه/الم�ؤلف� .إذ ًا فالكاتب يعترف -وربما للمرة الأولى -ب�أن ذلك القدر من التعاطف موجود وغير هين ،وهو في الحقيقة لي�س تعاطفا بل هو �إلى المحبة �أقرب .ورجائي �أال يق�سو عليّ القراء حين تطل المحبة حيث ال ينبغي لها ،ويكفيهم مني �أني معترف بدءا ،ومن ثم فقد راقبت لغتي ور�ؤيتي قدر الإم�ك��ان ،لم �أ�ألُ في هذا جهدا .رحم اهلل الإن�سان وال�شاعر والمفكر والناقد غرم اهلل ال�صقاعي ،ورحمنا من ق�سوة فراقه بجميل ال�صبر وح�سن العزاء.
ال�س�ؤال االفتتاحي عن «غرم اهلل ال�صقاعي» الإن�سان ،هل ك��ان �شاعرا لأن��ه �إن�سان بمطلق معنى الكلمة؟ �أعتقد هذا ،فال منا�ص من ال�شعر يح�سم التناق�ض بين مطلق الإن�سانية ون�سبية الب�شرية .كانت ق�صيدة غرم اهلل قراره الحا�سم باالنحياز لفرط �إن�سانيته ،وكان النقد �ضرورة لهذه الق�صيدة فمار�سَ ه ،ولم يكن بد من الفكر ي�ؤطر ه��ذا وذاك؛ فقد ك��ان غ��رم اهلل �شاعر ًا وناقد ًا ومفكر ًا وقا�ص ًا كذلك ،وهو في كل هذا يبدو �صاحب ق�ضية �إلى «غرم اهلل ال�صقاعي» من طراز خا�ص جدا �سيدا وحقيقيا ويدرك تبعات كونه كذلك ال ي�شبه �أح��داً ،تماما �إليه ...وفاء لما يعرف ولما ال يعرف. كما ال ي�شبهه �أح��د. اجلوبة � -صيف 1436هـ (63 )2015
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
وكان �إ�ضافة �إلى كل هذا رجل موقف مهما كلفه ذلك ،ولهذا حديث في غير هذا المكان. ترك غرم اهلل ديوانين« :ال �إكراه في الحب» أق�صد» وكتابان�« :شهوة الكالم» و«لغوايتهن � ّ ()1 و«البهو وليال ع�شر» . قليل ما هم ال�شعراء الذين ال تفتنهم اللغة ع��ن مقا�صدهم ف�ت��ذه��ب ب�ه��م ف��ي اح�ت�م��االت �شكالنيتها كل مذهب ،وقد كان غرم اهلل من هذا القليل ،فظلت مقا�صده تنو�س من خالل ال�شكل ال�شعري ،وظ��ل ال�شكل ال�شعري يتكئ على مقا�صده ،فاختطت ق�صيدته طريقا و�سطا �أعانتها في هذا �شاعرية مقتدرة ال تكاد تلمح ف��ي نتاجها تع�سف كلمة م��ن �أج��ل قافية ،وال تعقيد تركيب من �أج��ل وزن؛ وك�أنه ،وهو يقف ب ��إزاء �أغلب الآخ��ري��ن ،ي�ستحيي معركة الطبع والتكلف� ،شعريا ولي�س نقديا� ،إذ يقف ن�صه عالمة على �شخ�صه ،كما كان �شخ�صه منبئا بطبيعة ن�صه .ل��ذا �أعتقد �أن ج��دال خفيا بين ال�شاعر والإن�سان على م�ساحة كتابات غرم اهلل تمثل مفتاح خ�صو�صيته ال�شعرية والفكرية ،لي�س لما ت�شير �إليه من جوهر يعبّر عن غ��رم اهلل ال�صقاعي ال�شاعر والإن�سان في تكاملهما ،و�إنما لكونها العالقة الحيوية بين ال�شعر والوجود التي ج�سدها ن�ص غرم اهلل و�شخ�صه ،وك�أنهما ينطلقان من جمالية واحدة� ،أو �أن فل�سفة للحياة �أنتجتهما وجهين لعملة واحدة� ،أو �أن ن�ص غرم اهلل كان �شخ�صه اللغوي ،و�شخ�ص غرم اهلل كان ن�صه الوجودي. لقد درجنا نحن نقاد الأدب على �أن نح�صر همنا بالن�ص الأدبي ،وكان �أق�صى ما فعلناه �أن 64
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
اعترفنا بال�سياقات الخارجية التي ا�ستدمجها الن�ص على حوافه ،تحت ا�سم «عتبات الن�ص». ولم يكن هذا من �أثر المناهج الحديثة فح�سب، بل من �أث��ر ر�ؤيتنا الكال�سيكية للن�ص الأدب��ي بو�صفه �إنتاجية جمالية خال�صة ،ال ت��راد �إال لذاتها ،والتي �أكدتها المناهج النقد �أدبية .حتى دعوة «جاكوب�سون» بح�ضور كل الوظائف اللغوية في الن�ص الأدب��ي ،و�إن تحت هيمنة الوظيفة ال�شعرية ،حتى هذه الر�ؤية لم تلق عقال واعيا في اندفاعنا خلف الوظيفة ال�شعرية وح�سب، مهملين �أن هيمنتها على م��ا �سواها تفتر�ض والبد �شبكة عالقات بينها وبين ما �سواها .وكان من نواتج هذا �أن دعا الداعي �إلى ت�شييع النقد الأدب��ي �إل��ى مثواه ال��ذي يليق ب��ه ،واللجوء �إلى النقد الثقافي عو�ضا عنه.
الت�أ�سي�سية التي ا�ستبطنت تلك الأن�ساق بالرغم من المباينة الماهوية بين الأدب��ي والثقافي/ الفكري بناء على الت�صور الجمالي الخال�ص لما هو �أدبي. والفر�ضية ال�ت��ي ننطلق منها هنا �أن ما ه��و ج�م��ال��ي�/أدب��ي لي�س �أك�ث��ر م��ن تجل نوعي لما ه��و ث�ق��اف��ي/ف�ك��ري .وه��ذه فر�ضية كفيلة ببناء «عبرمناهجية» مالئمة لن�ص غرم اهلل ال�صقاعي العام� ،أعني ما هو �شعري وم��ا هو فكري على ال�سواء. هل ال�شعر فكر ينزاح عن �شروط لغته،ليرتدي ال�شكل ال�شعري ويمرر مقوالته؟ هل هو ال�شكل ال�شعري يتوك�أ على �شيء منالفكر ليغني به جمالياته؟
هل هي وحدة بين الفكر وال�شعر م�ؤ�س�سة�إن عالقة الفكر بال�شعر لم تثر �أحدا منا نحن النقاد ،وحتى دع��اة النقد الثقافي يح�صرون على نظرية في الكتابة خا�صة بذات الأديب؟ �أن��ف�����س��ه��م ف��ي ا���س��ت��ظ��ه��ار الأن �� �س��اق الثقافية �إن اع�ت�ب��ار ال ��ذات ي�سقط ك��ل ت�صنيفاتنا الباطنة في الن�ص الأدبي ،دون معاناة العالقة لممار�ساتها ،فوحده التجريد هو الذي اخترع اجلوبة � -صيف 1436هـ (65 )2015
66
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�إننا �إزاء مفكر حقيقي ،مفكر مهموم بالواقع �أكثر من انهمامه الفكر في ذاته� ،أو �إن�سان كان يفت�ش عن �إن�سانيته في واقعه ف�أ�صابه تناق�ض الواقع بداء الفكر .وهكذا كان طبيعي جدا �أن يعي�ش في مكان ..و�أن يطبع �أعماله في �آخر ،و�أن يموت في ثالث .وكان طبيعي جدا �أي�ضا ،والحال هذه� ،أن تكون م�ساحة ال�شعر هي وطنه ال�سري �أو
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
ه��ذه الت�صنيفات ،وم��ن ث��م ك��ان م�سئوال عن ال �ح��دود الم�صطنعة بين ال�ع�ل��وم الإن�سانية وال �ح �ق��ول ال�م�ع��رف�ي��ة ال �ت��ي ل�ي���س��ت م��ن ه��ذه العلوم ،فا�ستوردت مناهجها ت�ستعين بها على ظاهراتها .وبناء على ذلك الجدل بين ال�شعر والفكر على قاعدة الذات ونظريتها ،قد �أعتقد �أن و�ضع الجامع الفل�سفي ،والوجودي تحديدا، بين ال�شخ�ص والن�ص يمكن �أن يكون معيارا لالختيار من بين المناهج النقد �أدبية ف�ضال عن النقد الثقافي ،وحتى نظرية الأدب ..نظرية الكتابة .لقد �آن الأوان ال�ستبدال نظرية الكتابة الفردية بنظرية الأدب العامة ،الأم��ر الكفيل با�ستدماج نظرية الأدب في مناهجية النقد، وهو ما �سنحاول �شيئا منه مع كتابة «غرم اهلل ال�صقاعي» ،ف��ي محاولة للك�شف ع��ن الأبنية الحاكمة لكتاباته بكل �أجنا�سها ،فالكتابة جن�س �أحد ع�شر ديوانا �شعريا .وكتب الرافعي ال�شعر، الأجنا�س و�إليها ،في النهاية ،ي�ؤول الن�ص من �أي كما كتب �أجمل ما كتب بالعربية على الإطالق جن�س. في النثر الأدبي .و�إذاً ،فثمة جامع م�شترك بين وجدلية الأول �ي��ة والم�آلية م��ن الكتابة �إل��ى ما هو �أدبي وما هو فكري ،بل بين ما هو �أدبي الن�ص ومن الن�ص �إلى الكتابة تمثل �أ�سا�س ما من جن�س ما وبين ما هو �أدبي من جن�س �آخر. نريد �أن ن�ؤ�س�سه في مدخلنا لقراءة ن�صو�ص ول�ست �أعرف جامعا داخليا� ،أي ن�صيا ،بين هذه الدرا�سة ،من كون الكتابة منظومة من الأ�ساليب الأ�صناف الثالثة �سوى الكتابة ،ومنها يجب �أن العليا يتجاور بع�ضها في ن�ص وينفرد بع�ضها في تكون بداية كل بداية ،بداية القراءة كما هي �آخ��ر ،على �ضوء الت�صورات النظرية للكاتب/ بداية الن�ص. الأدي ��ب واالن�ح�ي��ازات الجمالية ال�سابقة على �إن ت���ص��ورا ك �ه��ذا ..يعيد االع�ت�ب��ار للذات الكتابة/الأ�ساليب العليا .على �سبيل المثال ،كان العقاد وطه ح�سين والرافعي مفكرين و�أدب��اء ،الكاتبة في عالقتها بن�صها من جهة ..و�سياقات فكتبوا م��ا كتبوا ف��ي الفكر والفل�سفة والدين �إن��ت��اج ه��ذا الن�ص و���ش��روط ت��داول��ه م��ن جهة والتاريخ .وف��ي الوقت نف�سه ،كتب طه ح�سين �أخ��رى� .أم��ا عن هذا ال�سياق ،فيكفينا منه �أن ق�ص�صا لها مكانتها الأدبية في عالم «ال�سرد» .يكتب �شاعرنا في ال�سروات بالعربية ال�سعودية، وكتب العقاد روايته الرائدة «�سارة» ،ف�ضال عن ويطبع له يمني ،في دار مقرها القاهرة ،ويكمل
�شاعرنا رحلة ن�صه بموته في تون�س .ويجيبنا ع �ن��وان �أح��د كتبه��« :ش�ه��وة ال �ك�لام ،الذهنية البدوية والت�صحر الثقافي» ..وفي داخله حديث عن ال�صراعات التي تحكمنا بين طبيعة لحظتنا ومواريث �أعرافنا من اال�ستبداد العاطفي �إلى ق�شرة الحداثة التي تغلف كل ما�ضينا الذي فينا ،مرورا بغياب النظام ال�ضابط لالختالفات والتعددية وقبيلة المثقفين ،بحيث ي�صبّ هذا وذاك ف��ي م�صلحة المجتمع (راج���ع �شهوة الكالم).
هي منفاه المن�شور ..هو قال في �سياق�« :أ�شتاق ل�ل�إن �� �س��ان»( )2وف��ي �سياق �آخ ��ر مختلف ق��ال: «وتحرك الإن�سان داخلها»(� .)3إن هذه الكلمة: الإن���س��ان ،مفتاح كل �شيء في �شعر غ��رم اهلل وفكره .ولأن��ه «�إن�سان» فقد كان مثقفا ع�ضويا (بالمفهوم الجرام�شي) م�شتبك بق�ضايا واقعه ومجتمعه� ،إال �أن ه��ذا ال ينفي ح�ضور مالمح اغتراب هنا وهناك ،برغم مقاومة «غرم اهلل» له ما و�سعته المقاومة:
«يا الئمي ظلما بغير عتابِ دع ما �سمعتَ ، �إليك ف�صل خطابي زمني بال وجه و�أقبح ما به ()4 �أن ال�سرابَ موكّلٌ ب�سراب» لي�ست ه��ذه الظاهرة البالغية �أو تلك هي
اجلوبة � -صيف 1436هـ (67 )2015
الم�سئولة عن هذه الحالة التي نتلقى بها النموذج ال�سابق ،فالت�أويل البالغي غالبا ما ي�أخذ ال�شعرية من االحتماالت الالمتناهية ليقل�صها/يكل�سها في م�ستويين :المعنى ومعنى المعنى� .إنما النموذج ال�سابق يدخلنا �إل��ى حيث «الإي �ج��از» ال��ذي لم ي�ستطع علم المعاني �أن ي�ضبط ات�ساعه� ..إيجاز في قوله «م��ا �سمعت» يقابله �إيجاز في «ف�صل خطابي» ،والتقابالن يقعان تحت تقابلين �آخرين �سبقهما هما «اللوم» و«العتاب» .من مجموعتي التقابل هاتين تن�ش�أ �سل�سلة م��ؤوالت ال متناهية ت�صنع في طريقها ترادفا �شعريا داال بين كلمتي: الزمان وال�سراب ،م�ؤ�س�سة على مفردة «الإن�سان» و�آخذة كل �شيء في طريقها� ،أكان �شعرا �أم فكرا، جاعلة �إياه �أبعادا �سيميائية لها. �إن لكلمة «ال�سراب» هناك �أهميتها ،فهي دال يخلط في ثنايا �إحالته بين الوجود والالوجود، الوجود المتوهَّ م والالوجود المتحقق والرحلة الم�أ�ساوية ،من الأول �إلى الآخر ،هي رحلة الك�شف عن الال�شيء ..رحلة �أن تعرف ال �أن تحيا ،هذا 68
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
التقابل/التناق�ض بين فعلي المعرفة والحياة.. والذي يع ُّد الواحد منهما �شرطا للآخر ،والعك�س يمثل �سيمياء نوعية عند غرم اهلل� ،شعرا وفكرا؛ ي��وج��زه��ا فكريا غ��رم اهلل ال�صقاعي بقوله: «المجتمع الذي يعي�ش بين تقليدين في الواقع هو مجتمع م�شوّ�ش ومتذبذب ،وال يمكن �أن تحكم عليه باتجاه ما ،وهذا هو واقعنا الثقافي»(..)5 وفي مو�ضع �آخر يك�شف العلة ،فيقول�« :أزعم �أن كل مواطن �سعودي ي�سير وفي �صدره �شيخان، �شيخ دين و�شيخ قبيلة يتقا�سمان �إدارة �سلوكه ومعارفه واهتماماته وتناق�ضاته �أي�ضا ،ال يختلف ذلك بين مثقف وغيره ،وربما من�ش�أ ال�صراع هو مع ال�شيخين ولي�س مع المجتمع ..)6(»..من هذا وذاك يكون الخوف من الحياة ،و�إن ت�ستّر بثياب الع�شق ليليق بال�شعر:
«ه ّي�أت نف�سي القتحام طقو�س ليلتها ف�صكّت وجهها.. انتبذت مكانا ال يطال
والإجابة ب�سيطة جدا ،فال�صدق الإن�ساني ال يخرج الفكر من دائرة �أية ممار�سة ،و�إن كانت ممار�سة �إب��داع�ي��ة .وحين ت�صدق ف��ي مجتمع مزدوج متذبذب ال ي�ستطيع تحديد توجهه ،فال بد من الن�ص ال�شارح لل�شعري �أو الن�ص ال�شاعر ه��ذه العالقة التي ت�ستحيل �إال ف��ي ف�ضاء بالفكري ،بل �إن «تحليل الكلمة ال�شعرية ،بجميع المحال تتخطى مو�ضوعها وت�سم م��ن خالل ظاللها ومظاهرها� ،أداة لفهم ن�شاط الأفكار الجملة «الخوف يمنعها الحياة» كل �شيء حتى وتكوين الآراء»( )8وربما العك�س كذلك. موقف المخاطِ ب نف�سه ،فكل ه��ذا اال�ستعداد يقول «غرم اهلل»« :تح�ضر قبيلة المثقفين في (المبالغ ف�ي��ه) للموعد ينم ع��ن �شعور خفي �صورة رحالت متنقلة تحمل زادها من ال�صراع با�ستحالة تحققه ،ويع�ضد هذا مفردة «االقتحام» ومحاربة الآخ��ر بحثا عن �أر���ض خ�صبة تعي�ش التي �أفلتت من رقابة المعجم الرومان�سي الذي فيها لتمرر بع�ض �أفكارها .يت�ساوى في هذا من التزمه ال�شاعر ،فلم يكن لتلك الكلمة �أن تقتحم كانت ثقافته �سلفية� ،أو �أولئك الذين ينتمون هذا المعجم لوال يقين ال�شاعر ب�سرابية موعده /لأ�سماء حديثة في البحث عن الأماكن ال�صالحة ا�ستحالته ،وهو يقين ال يعود �إلى التجربة الن�صية لبث طموحات وجهاالت قبائلهم ،لي�س لهم من
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
مددت حبال من عبير م�شاعري.. �أججت نار ال�شوق بين غيوم موعدها لين�سكب اعتذار.. الخوف يمنعها الحياة.. على محيا ليلنا المو�شوم بالآهات فا�ضت نف�س موعدنا ف�صلّينا لرحلتنا الحزينة ()7 فوق �أجنحة المحال»
فح�سب ،و�إنما �إلى حقائق ال�سياق الخارجي لها، فهل �صنعت هذه التجربة/التجارب المبت�سرة من غ��رم اهلل المفكر �شاعراً؟ �أم �صنعت من غرم اهلل ال�شاعر مفكراً؟
من اليمين عبدال�سالم الحميد و �إبراهيم الحميد و الراحل غرم اهلل ال�صقاعي وعلي الرباعي في �أم�سية احت�ضنها نادي الجوف الأدبي عام 2008م
اجلوبة � -صيف 1436هـ (69 )2015
70
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
«�أنا والحياة نجاهد ال�شو َق المدى
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
و�سائل �إال الكالم والخطابة والمنابر الكتابية �ساقية وطن» ،يقول ال�شاعر: واللفظية .وعندما تعر�ض �أقوالهم وكتاباتهم �أي�������ا وط���ن���ـ���ي ي����ا ���ش��ف��ي��ـ��ـ��ف ال����ـ����ر�ؤى ع�ل��ى �سلوكهم ت�ج��د ال�ت�ب��اي��ن الكبير ب�ي��ن ما �أع����ي����ـ����ذك م�����ن ج���اه���ـ���ـ���ـ���ل ي��ه��ـ��ـ��ـ��ـ��رفُ يقولون وما يفعلون .ولعل الملتقيات التي تعدها الم�ؤ�س�سات الثقافية وكذلك برامج المخيمات ب����أ����ض���ـ���ـ���داده���ـ���ا ت�����س��ـ��ـ��ت��م��ر ال��ح��ي��ـ��ـ��اة وت���زه���ـ���ـ���ـ���ر ب���ال���ح���ب �إن �أن�������ص���ـ���ـ���ف���وا هما وجهان لعملة واحدة هي خدمة القبيلة فقط، ()9 ولي�س لم�شروع �إن�ساني يهتم ببناء الإن�سان» ..وي���ع�������ش���ب ب���ال�������ص���دق وج���ـ���ه ال��ن��ه��ار لو قال «غرم اهلل» (م�شروع وطني)� ،أو (بناء و���ش��م��ـ��ـ�����س ال��ح��ق��ي��ـ��ـ��ق��ة ال ت��ك�����س��ـ��فُ المواطن) لجاز قوله ،بل لكان �أول��ى لمقاربته �إننا �إزاء ن�صين مختلفين ن��وع�اً ،ولكنهما الواقع ال�سعودي ب�أ�سمائه ،ولكن معجم الرجل فكريا هو هو معجمه �شعريا ،وربما ك��ان يرى يمتحان من ماء واحد ،ماء الإن�سانية التي بها �أن �أعلى �صورة المواطنة حين يحقق المواطن يتقوم ك��ل �شيء ف��ي ال��واق��ع ظ��واه��ر و�أن�ساقا. �إن�سانيته من خاللها ،ال �أن تعوق خ�صو�صيته لقد كان غرم اهلل ،بانهمامه الفكري ،ي�صنع نمو هذه الإن�سانية ،وهذه ر�ؤية �شاعرة �أكثر منها �سياقات تلقي ن�صه ال�شعري ،في الوقت نف�سه اجتماعية �أو �سيا�سية .والوطن يرتفع عند «غرم الذي كان يحيل من خالل ن�صه ال�شعري �إلى هذه اهلل» عن ر�سوم �أر�ض �إلى منظومة قيم ،وال كفاء ال�سياقات ،لنكت�شف النبع الواحد ال��ذي يميز لهذه القيم �إال الإن�سان المفرط في �إن�سانيته ،ن�ص «غرم اهلل» الإن�سان الفكري وال�شعري ،و�إن ولي�س كالتعدد والتعاي�ش بين االختالفات وقبول لم يمهله القدر ليكمل �أيا منهما ،ال خ�صائ�ص الآخ��ر �إن�سانية ،كما في ق�صيدته «ع��زف على ن�صه ال�شعري وال ر�ؤيته الفكرية للعالم.
ونظرا ل�شاعرية فكر «غرم اهلل» نجد مفردتي «الإن�سان» و«الإن�سانية» تطل علينا من �صفحات كتابه في النقد االجتماعي�« :شهوة الكالم».. وتلت�صق بهاتين الكلمتين ثالثة هي الحياة ،وقد ك��اد حديثه عن «الليبرالية المغ�ضوب عليها» �أن ي�ؤ�س�س لليبرالية �إ�سالمية نحن �أح��وج ما نكون �إليها ،بدال من ه�ؤالء الذين يطلقونها من قيد ال�صفة التي تمثل هويتنا� ،أو �أولئك الذين يكتفون بال�صفة عن مو�صوفها ليدفعوا بالدين �إلى تبرير اال�ستبداد ،وهو ما تناوله «غرم اهلل» تحت عنوان قريب من العنوان ال�سابق« :الإ�سالم المظلوم» ،وربما كان الجمع بين الغ�ضب على الليبرالية ومظلومية الإ�سالم بين �أهله هو الذي اقترح على �صديقنا فكرة «الليبرالية الإ�سالمية» و�إن لم ي�صرح بها« :و�أعتقد �أن الليبرالية طريقة لممار�سة الحياة والتفكير تقوم على الحرية كمكوّن �أ��س��ا���س ل�ه��ا ،ولكنها ح��ري��ة من�ضبطة تحت قوانين عقائدية �أو قوانين و�ضعية وقيم �أخالقية يتفق عليها الجميع ،تنظم حياة النا�س وتحقق للإن�سان �إن�سانيته ،وتحقق الم�ساواة والعدالة للجميع من خالل االختيار ولي�س القمع والو�صاية»(� .)10إن «غرم اهلل» كاد ي�صرح لوال... فترك كلمته/كلماته لمن �أراد �أن ي�ستنطقها، فكل كلمة لها خطابها الكامل والوا�ضح لمن �أراد �أن ين�صت �إليها :الحياة ،الحرية ،العدالة، الم�ساواة� ،إن�سانية الإن���س��ان� .إن «غ��رم اهلل» يتركها وال يتركها ،يتركها فكريا ،لي�أخذها �إلى ن�صه الآخ��ر حيث حريته و�إن�سانيته نقية من القمع الذي ذكر .يقول في الق�صيدة التي جعلها أق�صد»: عنوان ديوانه« :لغوايتهن � ّ
ونمد �أرواحا من النجوى وتكتبنا الق�صيدة فوق �أ�شرعة الهدى متبتالنِ وللغواية �أن تعيد �صياغة الإن�سانِ لل�شعراء جنتهم ولي عرف الجمال ()11 ور�سمه مطرا على كل الجهات» ح�ي��ث وج �ه��ت ن��ظ��رك ف��ي ك��ت��اب��ة «غ���رم اهلل ال�صقاعي» ثمة ��ش��وق �شبقي للحياة ،الحياة بال�شرط الإن�ساني الوحيد :الحرية ،الحرية هذه الغواية القادرة على �إعادة �صياغة الإن�سان .اقر�أ نقده االجتماعي تلتقها؛ اقر�أ �شعره ،حتى مفرط العاطفية منه ترها .ولعل هذا ما جعل للمعنى مركزيته في ن�صيه ال�شعري والفكري ،فال هو ا�ستلبته �شكالنية تفقر ن�صه ال�شعري من وظيفته، وال هو �أغواه تنظير يفقد ن�صه الفكري ا�شتباكاته بواقعه �سواء االجتماعي �أو الثقافي منه. كان «غ��رم اهلل» ي�ؤمن �أن الكتابة م�سئولية تجاه الحياة والإن�سان ،ووظيفة تجاه الثقافة والمجتمع ،وم��ن ث��م ك��ان كاتبا ملتزما ،لي�س بالمفهوم المارك�سي ال�ضيق ،و�إنما بالمفهوم الإن�ساني ال�ع��ام .فلي�س �أم��ر �إي�ق��اع �أن يعطف «غرم اهلل» «المعاني» (ال�شعرية) على الأماني (الفكرية) ف��ي خطاب «الحبيبة الأح�ل�ام».. �أع��ل��م �أن��ي �أف���رط ت���أوي�لا ،ولكن ال�شواهد من كتابات الرجل ت�ؤكد على �إفراط ت�أويلي ،يقول:
«يا ليت �أنك تعلمين وتدركين ب�أنك الأنثى التي كانت لأحالمي اجلوبة � -صيف 1436هـ (71 )2015
�أزع�� ��م �أن� ��ه ال � �ش �ع��ري �إال وه� ��و م�ح�م��ول على الفكري ب�شكل مبا�شر �أو غير مبا�شر، واال�ستحالة التي يحملها حرف التمني «ليت» يخرج كلمة «�أن�ث��ى» من دالل��ة خطابها� ،أعني ح�ضورها ،ليلحقها بالما�ضي� ،إذ (دائما) كانت �سر امتالء الأحالم/الن�صو�ص� ..أماني �أبداها الفكر ومعاني جالها ال�شعر..
�أخيراً ،وبعد ما �سبق ،ن�أتي للأن�ساق الثقافية الباطنة في ن�ص «غرم اهلل» ..وقد ن�سلم للدكتور الغذامي فيما ذهب �إليه �إال في تعميم �أحكامه، وخ�����ص��و���ص��ا ف���ي خ�����ض��وع ال��م��ج��ازي ل��ل�����ش��روط رحم اهلل غرم اهلل ال�صقاعي �سيدا وحقيقيا الثقافية()13؛ فبع�ض الن�صو�ص تبد�أ من تناق�ضها ويدرك تبعات �أن يكون �سيدا وحقيقيا في �أزمنة مع هذه الأن�ساق ،فال تح�ضر في بنيتها العميقة الزيف. * ناقد �أدبي وكاتب م�صري. ( ) 1للأ�سف ،لم ي�صلني كتاب «غرم اهلل ال�صقاعي»« :البهو وليال ع�شر» ،ولذا �سوف نعتمد م�ضطرين على الديوانين وكتاب «�شهوة الكالم» فقط. ( ) 2غرم اهلل ال�صقاعي دي��وان :ال �إك��راه في الحب ق�صيدة :هم�س دار كليم للن�شر والتوزيع القاهرة ط،1 : 2012م� ،ص13 : ( )3املرجع السابق قصيدة :غناء ص.12 :
أق�صد ق�صيدة :ف�صل من منادمة الأ�سى م�ؤ�س�سة �أروقة للدرا�سات ( )4غرم اهلل ال�صقاعي ديوان :لغوايتهن � ِّ والترجمة والن�شر القاهرة ط2014 ،1 :م. ( )5غرم اهلل ال�صقاعي �شهوة الكالم ،الذهنية البدوية والت�صحر الثقافي دار �أروقة القاهرة ط 2014 ،1 :مــ �ص.44 : ( )6المرجع ال�سابق� ،ص.51 : أق�صد ق�صيدة� :سبات �ص.22 ،21 : ( )7ديوان :لغوايتهن � ّ ( )8ف .ت�شيت�شرين الأفكار والأ�سلوب ت :د.حياة �شرارة ال�شئون الثقافية بغداد د.ت �ص.19 : (� )9شهوة الكالم �ص.53 : ( )10المرجع ال�سابق� ،ص.78 : (� )11ص.32 : ( )12ديوان :ال �إكراه في الحب ق�صيدة� :أنت الوحيدة �ص.138 ،137 : ( )13د .عبداهلل الغذامي النقد الثقافي ،قراءة في الأن�ساق الثقافية العربية المركز الثقافي العربي بيروت/الدار البي�ضاء ط2005 ،3 :م �ص.67 :
72
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
� �ش��اع��ري��ة غ ��رم اهلل ال���ص�ق��اع��ي، ل�ست في وارد عر�ضها ،وو�ضعها على المحك ل�ق��راءة التجربة، ف �ت �ل��ك م �ه �م��ة ال��ن��ق��اد ،وم��ن ت���ذوق غ �ي��ري ع��ذوب��ة �شعره وجزالة مفردته ،لكني حتما �س�ألت�صق ب ��دفء �إن�سانيته ال� �ت ��ي ع��رف �ت �ه��ا ع �ب��ر ع �ق��ود، وتنوّعت في مناحيها لدرجة �أني ال �أ�ستطيع ترتيب �أفكاري ،وال التقاط �سمة مميزة واح��دة ل�شخ�صيته .فالتنوّع والثراء والتدفق المبهج يربكني ،فقد عرفت غرم اهلل في �سن مبكرة ج��دا ،ربما تقترب من �أربعين عاماً، فقد ع��دت م��ن ال��ري��ا���ض ف��ي �إج ��ازة �صيفية �إل��ى منطقة الباحة ،و�صادف وج��ود حفلة زف��اف بنت من قبيلة (الرهوة) �إلى �شاب في قبيلته المجاوره لنا (بني كبير) ،والقبيلتان ت�شكالن خم�س قبائل غامد ..وتتجاوران في المكان ،وتتقا�سمان في�ض الماء ومواطن المراعي ،وكما ترتبطان بعالقات م�صاهرة ،ف ��إن هناك �صراعات وح��روب بينهما قديمة ومتوارثة ،ما تزال حينها تخبئ ن��ار ًا تحت رم��اده��ا ،وتفر�ض التقاليد المجتمعية مرافقة العرو�س ،وتقديم التهنئة والمباركة وح�ضور حفل العر�ضة (اللعب ال�شعبي) ،وب��ادر عقالء كل من القبيلتين لتفادي �أي �إ�شكالية ،قد تُحوّل الفرح في مجتمع م�سلح حينها �إل��ى ما ال يحمد عقباه، فنادر ًا ما تجد رج ًال بال حزام (جنبيه)� ،أو ب�سالح ناري على كتفه ،لئال يلحق به عيب ح�سب التقاليد القبلية؛ فانتدبوا �شاعر ًا كبير ًا (�أب��و جعيدي)، ومعروف ًا من خارج القبيلتين لإحياء الفرح ،وحينما
تواجهت ال�صفوف ودق الزير وارتفع �صوت ال�شاعر ،كان هناك طف ٌل لم يبلغ الحادية ع�شر من عمره، يقف ف��ي م��واج�ه��ة ال�صفوف يلقي �شعره ،وي�ستخرج جمر ال�سنين الخامدة بين رمادها، لي�ستثير �أف��راد قبيلتي الذين � �ش��رع��وا ف ��ي االن �ح �ي��از خ ��ارج ال �م �ي��دان ،وال يعلم �إال اهلل كيف �ستكون نهاية هذا الفرز المجتمعي ،ولكن لأن لل�شعر الرفيع حكمته ،ب��ادر ال�شاعر الكبير ليخمد ثورة منتظرة ببيت ق�صيدة ،ي�صف ال�شاعر ال�صغير بعود �أخ�ضر ،ال بد �أن يدخن �إذا و�ضع في النار ،ولم يكن هذا ال�شاعر ال�صغير الذي تجر�أ في هذا الموقف على الظهور وبموهبة مبكرة غير غرم اهلل ال�صقاعي. معرفة بعيدة جمعتني بغرم اهلل ال�صقاعي، لم تكن مبا�شرة و�شخ�صية ..لكنها �سمحت لي، �أن �أطلق عليه بعد ه��ذه الأم�سية م�سمى ال�شاعر (الفتنة) ،فنغرق في حكايات مت�شعبة لكنه �أب��د ًا ل��م يتنازل ع��ن موقفه ذل��ك ،ول��م نلتق بعد تلك الحادثة لعقود �أي�ضاً ،فكنت �أعي�ش و�أمار�س حياتي في الريا�ض ،وبقي غرم اهلل في قريته وبين �أبناء قبيلته� ،شاعر ًا ومعلم ًا ومدير ًا لمدر�ستها و(عريفة) من�صب اجتماعي ق�ي��ادي لقريته ،وي�ق��وم ببع�ض الن�شاطات الإن�سانية عبر جمعية خيرية ير�أ�سها، فكان ن�صير الفقراء والمعدمين واليتامى .ولن تكفي ول��ن تفي �سطوري المتوا�ضعة هنا ،لإيفاء حقه و�سرد ما �أع��رف من حكايات �شهدتها له في
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
الأماني والمعاني!!»
()12
�إال مو�سومة بهذا الموقف ،معلم عليها بكونها �أن�ساقا �ضدا ،وموظفة لح�ساب مقا�صد الكاتب. ومركزية المعنى عند «غرم اهلل» �أدت �إلى هذه الحالة الفريدة لباطن ن�صي مراقب بظاهره بدال من �أن يتحكم به ،وهذا ما حاولناه في هذه القراءة� .إن كتابة الراحل الكريم ،لم تبد�أ من كونها كذلك ،ولكنها بد�أت من حيث يجب ،بد�أ من وعي حاد بتخلف تلك الأن�ساق الثقافية التي تحكم حركة الفكر والأدب في المجتمع ال�سعودي؛ فكان ن�صاه الفكري وال�شعري نتاج ذلك الوعي وردا على تلك الأن�ساق ،فنجا من حاكميتها ،ولقد كان هذا ب�شير حركة �أدبية وفكرية واعية وفاعلة وقادرة على �صناعة واقع مغاير لوال ق�ضاء اهلل.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (73 )2015
74
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
(الإهداء للروائي �أحمد الدويحي)
ه�����ذا ج�������زا ُء ال������ذي �أ����ص���غ���ى ل��ع��ا���ش��ق�� ٍة ع���ب���ر ال����ه����وات����ف ف����ي ب����واب����ة ال�����س��ح��ر �أف���ن���ى ال��ر���ص��ي��د ول����م ي��ظ��ف��ر بحاجته ك��ج��ال��ب ال��ت��م��ر م���ن ���ص��ب��ي��ا �إل����ى هجر �أودى ب����خَ ����اف����ق����ه ف�����ي ك����فِ����ه����ا ول����ه����اً ف���خ���ل���ف���ت���ه ق����ت����ي���� َل ال���������ش����كِ وال�������س���ه���ر ي���غ���ن���ي ال����ل����ي���� َل ل���ح���ن���اً م�����ن م�����ص��ي��ب��ت��ه ���ش��ت��ا َن م���ا ب��ي��ن ل��ح��ن ال���م���وتِ وال��ظ��ف��ر ري����ان����ة ال�����ع�����و ِد ك�������ادت م����ن م�لاحَ ��ت��ه��ا ف���ي ع��ي��ن��ه �أن ت�����ض��اه��ي ����ص���ورة ال��ق��م��ر ت����ع����ل����ق����ت����ه ع�����ل�����ى م�����ك�����ر وك������������ان ل���ه���ا �����ًّل���� وف�����ي�����ا وم��������ا زارت ول��������م ي����زر خِ اًّ �أراده����������������������ا ل��������ه��������واه غ�����ي�����م�����ة وغ��������دا �������س ب������الآم������ال وال���م���ط���ر ي���ع���ل��� ُل ال���ن���ف َ و�أن�����������ش�����د ال�����ده�����ر ل���ل���ع�������ش���اق ت����ذك����ر ًة ال�����ح�����بُ ي�����ا ده������ر ل�����م ي���ب���ق ول������م ي���ذر ن���������ض����ارة ال���ع���م���ر ي����وم����ا ف�����ي م��ع��ي��ت��ه��ا و�آخ��������� ُر ال���ع���م���ر ي������وم ال���ب���ع��� ِد وال����ك����در واج�����دب ال��ع��م�� ُر والأ������ش�����واق م���ا فتئت ت���غ���از ُل ال�����ش��ي��بَ م���ا خ��اف��ت م���ن ال��ك��ب��ر
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
ه��ذا الجانب الإن�ساني الخيري ،و�س�أكتفي ب�أخر ما �شهدته وح�ضرت تفا�صيله ،فقد كنت في العام الما�ضي ف��ي زي ��ارة الباحة �أوائ ��ل �أي ��ام رم�ضان المبارك ،فعرف القطب الثالث لنا الدكتور علي الرباعي بوجودي ،و�أ�صر �أن ي�ضمنا مجل�س �إفطار، نحن بع�ض م��ن مثقفي منطقة الباحة و�أ�ساتذة الجامعة في منزله ،وبطبيعة الحال يفتر�ض �أن يكون غرم اهلل ال�صقاعي في مقدمة الح�ضور ،وقد كلفه الدكتور الرباعي ليكون رفيقي بحكم قربنا المكاني ،ات�صلت به قبل �أذان المغرب بدقائق لعله يمر عليَّ ،فقد ت�أخرنا ولأني بال �سيارة ..ففوجئت به بال مقدمات ،يقول: ل�ست �سائق ًا لديك �أنت وعلي الرباعي!ك��ان الدكتور الرباعي �أق��ل مني غ�ضباً ،فهما رو ٌح واحدة في ج�سدين متفرقين ،ومنعني غ�ضبي �أن �أرد على هاتفه المتوالي �أربعة �أيام ،ففوجئت به يقف في و�سط بيتي ،وينهرني بطريقة ال يفعلها �إال غرم اهلل ال�صقاعي ،قائال: قم نخرج يا رخمه! لم يكن بيدي رف�ض طلبه ،وقد �أ�صر ..و�إذا فعل فال منا�ص من تنفيذ رغبته ،وبادر ب�إبالغ عائلتي بغيابي معه ،وهم يعرفون مكانته الرفيعة عندي، ويثقون ب�أني معه �س�أ�صبح في �أف�ضل حاالتي ،ولما ا�ستجبت لدعوته على م�ض�ض ،فما زال في النف�س �شيء من بقايا الأم�س ،قال معاتب ًا لينبهني دون �أن يعتذر مبا�شرة: ي��ا رخ��م��ه (!) ه��ل ت��ظ��ن �أن����ي �أح��ب��ك �أن��توالرباعي �أكثر من زوجتي ،لأفطر معكما في �أول يومٍ في رم�ضان ،و�أَتركها وحيدة!؟ في طريقنا �إل��ى بيته عبر قريته �إل��ى ا�ستراحة ��ش�ه�ي��رة ل��ه ،ي�ستقبل فيها ��ض�ي��وف��ه م��ن المنطقة وخ��ارج�ه��ا ،ويفي�ض منها كرمه ال��ذي يع ُد م�ضرب ًا للمثل ،وف��ي بيته حيث يطيب لي ال�سهر كل �صيف،
عرفت وجوه ًا كثيرة بدا لي �أنها ال تقل عني ارتباط ًا ب��ه ،وجدنا في طريقنا رج� ًلا ع�ج��وزاً ،ربما يتجاوز الثمانين من عمره ،يعبر الطريق متكئ ًا على ع�صاه، فتوقف غرم ..ولم يكن مفاج�أة لي ،فح�سبت �أنه ربما ينقله �إلى مكان �أخر� ،أو يق�ضي له حاجة كالعادة ،لكن ما حدث بينهما كان المفاج�أة بكل ف�صولها ،فبمجرد ما �شاهده الرجل انهال عليه بدعاء �سيء ،جعل �شعر ر�أ�سي ينت�صب ،و�أ�صرخ في وجهه لنم�ضي ،لكنه وا�صل الحوار مع الرجل العجوز بال فائدة.. كان الرجل يقب�ض ثالثة �أالف ريال من جمعية خيرية �أخرى ،وكان المبلغ �أكبر مما تقدم الجمعية الخيرية التي ير�أ�سها غرم اهلل ،وي�سقط حق الرجل �إذا قب�ض من جمعيتين في �آن واحد ،فكان غرم اهلل ي�سمح له ا�ستالم المبلغ الأكبر من الجمعية الأخرى، ويدفع له من حر ماله مبلغ ًا �أخ��ر ،بدون �أن ي�سجل ا�سمه في ك�شوف جمعيته؛ لئال ي�سقط بفعل النظام، لكن الرجل العجوز لم يكن يدري! ارتبطت بغرم مبا�شرة وقبل عقدين تقريباً ،فال يمر يوم بدون توا�صل وات�صاالت ،نتناول فيها �أوجه الحياة الثقافية والمجتمعية ،ول��م �أق��م �أم�سية في كل مدن الجنوب والمنطقة الغربية ،ب��دء ًا من �أبها وجيزان والباحة وجدة وال يكون غرم اهلل في مقدمة الح�ضور ،وال بد لي من �أم�سية �أدبية في كل �صيف في الباحة ،حتم ًا �ستكون ترتيبها و�إدارتها خا�ضعة لغرم، وكل الأم�سيات الأدبية في الباحة �إذا لم يكن يديرها، فالم�ؤكد �أنه �سيكون من �أبرز المداخلين فيها. �شهدت والدة ك��ل ن�صو�صه ال�شعرية ،ووقفت على محطات تعديالت عليها ،وبالذات الق�صيدة الجميلة ل��ه ف��ي م�ه��رج��ان ال �ج �ن��ادري��ة ،ق�صيدة واحدة فلتت من هذه الو�صاية ،ت�شكل نزعة التمرد الإيجابي الخفي في �شخ�صيته ،فقد ق�ضيت �أيام ًا مري�ض ًا في الم�ست�شفى في �أح��د الموا�سم ،فجاء هو والدكتور علي الرباعي لزيارتي ،و�أ�صرا على خروجي على م�س�ؤوليتهما من الم�ست�شفى ،و�سخرا
من رف�ض الطبيب وتحذيراته ،وفوق هذا حجز لي تذكرة طائرة درج��ة �أول��ى في اليوم نف�سه لألحق ب�أهلي في الريا�ض ..وقد ك��ان .لكني فوجئت بعد �أي��ام بق�صيدة من�شورة ومهداة �إل��يَّ ،تحكي بع�ض التفا�صيل وتك�شف عن مخبئها وو�سمها بالعا�شقة:
من جانب الحب لم يُخلق من الب�شر فاع�شق وع���ف وان�����س ال��ج��رح مبت�سما �إن ال�����س��ح��اب��ة ال تخ�شى م��ن ال�ضجر وا���س��ت��ق��ب��ل ال��ع��م�� َر ب���الأح�ل�ام �أن�سجها حرفا م��ن ال��وج��د �أو �صوتا م��ن الوتر ال زل�����ت ي����ا ����س���ي���دي ل��ل��ع�����ش��ق ���س��اق��ي��ة ���ا����س م���ا م���ل���وا م���ن ال�����س��ف��ر ي���ؤم��ه��ا ال���ن ُ ل�ست �أع ��رف ل��م �أر��س�ل��ت ل��ه وح ��ده ،البروفة النهائية لروايتي القادمة (منابت الع�شق) دون � �س��واه؟ كنت �أع ��رف �أن��ه ل��ن يجد ال��وق��ت الكافي لقراءتها في رحلته الأخيرة ،وقد احت�ضنته تون�س الخ�ضراء بقدر ع�شقه لها ،وتنقل مع رفاقه من المثقفين بين مدنها وريفها ،رحل من جنوبها الذي عو�ضه عن جنوبه الأثير �إل��ى �شمالها .المثقفون يلتفون حوله بمودة ،ظهرت في حجم وكثافة رثائهم له ،وك�أنما اكت�شفوا �أن لدينا �شيئ ًا نباهي به غير النفط ،فبادلهم حب ًا بحب وهو القائل لهم:
ي��ا ت��ون�����س ال��خ�����ض��راء ج��ئ��ت وف���ي دم��ي ع���������ش����ق����اً لأر��������ض�������ك وال��������غ��������رام م���ب���اح ف���ي���ك اب����ت����دا ح���ل���م ال���رب���ي���ع و�أزه�������رت ف�����ي ك�����ل �أر�����������ض ب����ال���������ش����ذى �أرواح!
�أر�سلت له رواي�ت��ي ،و�أن��ا �أع��رف ب�أني �س�أتلقى �شتائم ومالحظات ،انتظرت ولم يقل لي �شيئاً ،ولم ي�شعرني �أن��ه قر�أها ،ولكنه فاج�أني بتقديم ورقة عن (محلية) الرواية ،جاء ذلك في ملتقى روائي في تون�س ،فوجدتها فر�صة لمناكفته ومطالبته ب�إر�سال ورقته ،ولكنه كالعادة ي�ضحك حينما يريد �أن ي�ستفزني ،قائال: هل تريد �أن تم�سك عليَّ �أنت و�أمثالك �شيئاً..*** لقد كانت مداخلتي �شفوية ،وم�سحت بكم البالط! ي����ا ����س���ي���د ال���ع�������ش���ق ال ت���ب���خ���ل ب��ق��اف��ي�� ٍة لقد اكت�شفت �أنه قر�أها ،ودوَّنَ لي بع�ض العتب.. ت�����س��ط�� ُر ال�������ش���و َق �أو ت��غ��ن��ي ع���ن ال��خ��ب��ر في القلب كثير يا غرم ،وفي الذاكرة �شيء من بع�ضك ،ولكن نمْ يا �صديقي قرير العين.. ي���ا ���س��ي��د ال��ع�����ش��ق �إن ال���ح���ب م��در���س��ة اجلوبة � -صيف 1436هـ (75 )2015
قربا الحبر والورق هل كان يعلم �أن الحوار الذي �أجريته معه الأ�سبوع الفارط على �صفحات هذه الجريدة� ،سيكون �آخر لقاء له ..ليغادر بعده فقط بيومين ظاهر الأر�ض �إلى باطنها را�ضيا مر�ضيا ،ب�ضحكته المجلجلة كطفل ،وبنكتته الحا�ضرة فيه بداهة والتي عودنا عليها نحن �أ�صدقاءه وبال �ضجيج؟! هل كان يعلم وهو في النزل يع ّد حقائبه للعودة �إلى وطنه �أ َّن تون�س التي �أحبها وع�شقها بادلته حبا بحب وع�شقا بع�شق �إلى درحة �أن قررت االحتفاظ بروحه التي �ستظل كحمامة تحلّق فوق ر�ؤو�سنا كل م�ساء تنثر الحب وتتمرغ في تراب هذه الأر�ض؟! ال لغة ترتّق وجعي �أيّها الرّاحل ,ال �صوت ي�ضمّخني و�أنا �أجت ّر ما بقي من ذاكرة جمعتنا ,كنت معي نطارد ثراء النّب�ض في وطني ,كنت رفيقا رافقني ونحن نداعب رق�ص المدن، نفتّ�ش عن نبع جديد . ودا ٌد ك�سانا ف��ي رب��وع مدننا ف��ي �أم��ا��س� ّي ج��ادت برحيق اللّغة ،فعزفنا �شهوة الحرف وارتواء الن�شيد ..الزمتني �أيّها ال�صديق ،وتبادلنا ع�شق الألفاظ وجنون المعنى في مواكب ّ تق�صد محبّتنا ت�ستنطق �أما�سينا وليالينا .وكانت �شوارعنا ّ همّك ال�شعريّ ..فتطرب الحوانيت وتن�ساب الأغنيات ,كنت ال�صاخبة نحيب كان ترتّق �شتات الكلمات ليهطل من روحك ّ زادن��ا في رحلتنا الجامحة �إل��ى ال�ن��ور .كنت �صديقا ودودا, �إن�سانا حالما� ,شاعرا قادما من �شموخ عروبتنا ,وكنت تحلم في �صمتك ,تختلج في لفظك ،تم ّر من �صوت �إلى �صوت ..من توق �إلى �شدو� .أخذك الموت منّي ومنّا .عقيم هذا ال�شّ تاء وقد خِ لْته ف�صال ممطرا يب�شّ ر بخ�صوبة �أر�ض هدّا ال�شوق والوجع, عزف الموت ما تر�سّ ب فيك من �ألحان �أرهقتك. ال�صور المحفورة في ذاكرتي ،لأنّك كنت و�أنا هنا �أخاطب ّ تطاعن الرّتابة وتدحر جمود العادة ,مختلف �أنت في هم�سك, 76
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
منت�سب �إل��ى ال�شّ عر� ،أع��اد �صياغة الق�صيد و�أه��دى عزفه لنا ..ن�سجت تفا�صيل اللّحظات العابرة ,جعلتها ر�سما ,عزفا ووطنا. �إليك ترحل �أ�شرعة الق�صيد مطرا ناعما �ضاجّ ا ,ومنك ف��اح يا�سمين قرطاج عطاء منثورا ونثرا منظوما ك�أنّك ت�أبى ال�سّ كون� .أتيت �إلى تون�س ال�صباحات التّي �أن��ارت عتمة لتودّع ّ ال��طّ ��ري��ق� ,أت�ي��ت لتنعم ب�ن��ور �سمائنا, ب�سحر فجرنا ال� �ذّي داع�ب��ك فانت�شيت, نزيف �أن��ت ��س��أروّي الأر���ض بخلجاتك النّازفة, رافقتني� ,آن�ستني ,الزمتني ونحن نملأ الفراغات ,نعيد ت�شكيل الرّوايات في الرّذاذ الذّي عانقنا ,في مالب�سنا التّي بلّلها عطر الأنغام ,كنت معي في موكب اللّغة وهو يجوب البالد ,يحبّ العباد. ال�صقاعي �صوت �أحرق جمود الأوتاد وثقل �أنت يا غرم اللهّ ّ الأرائك .كتبت عن �شعرك والآن �أكتبك .قلت �إن �شعرك ثائر.. والآن �أق��ول �إ ّن رحيلك ترك في ال �رّوح �سواقي ف�صل حزين، وخطّ في الق�صيد قوافي دمع مدرار. نم يا �صديقي هناك في مثواك الأخير ،واترك لنا مطرا ي�أتي من خليج المحار والرّدى كما يقول ال�سيّاب .كنت تكتب �ألمك وت�صوّر ده�شتك وتطرح �أ�سئلتك دون �أن تطلب جوابا؛ لأنّك تنت�سب �إلى حيرة ..نحتّ ا�سمك في م�شهد �إبداع ّي ثقافي في وطنك ،المملكة العربيّة ال�سعوديّة ،ورمت �أن تمنح الآخرين من �أبناء عروبتك كالما مختلفا و�شعرا م�ستطرفا ..فال �أحد ي�شبهك في كتابتك؛ لأنّك ت�شبه الجميع! ف�أنت �أخذت من ك ّل لون باقة جمّلت ب�ساتين اللّغة ،و�أنت نهلت من ن�صو�ص ال�شّ عراء م��ا ط��اب ل��ك ،ف�ج�دّدت و�أع��دت �صياغة ال�ق�لائ��د ..ف�صارت طريفة تبهر النّاظر وتطرب ال�سّ امع. لن تكون طلال من�سيّا وال �صوتا مرويّا؛ لأنّك �ستبقى ّن�صا يق�صد رغم موتك ،وحلما يالطف الجمال رغم رحيلك. ّ
ق�����������������رب�����������������ا ال��������������ح��������������ب��������������ر وال����������������������������������ورق ا������������ش�����������ت�����������ك�����������ي ال������������ل������������ي������������ل والأرق ف���������������������������س�������������ك�������������وت�������������ي �أ������������������������ض�����������������������ر ب��������ي ك������������������������دت ب����������ال���������������������ص����������م����������ت �أخ����������ت����������ن����������ق �إن���������������������م���������������������ا ال���������������������ح���������������������رف ب�������ل���������������س�������م ل�������������������������ج�������������������������روح ل�����������������ه�����������������ا ال�����������ع�����������ب�����������ق ل�������������������������������ج�������������������������������روح ك�����������������������س�����������ب�����������ت�����������ه�����������ا ب���������������ج���������������ن���������������ون���������������ي ول���������������������������������م �أف�������������������������ق �أق���������������������ط���������������������ع ال��������������ل��������������ي��������������ل ه����������ائ����������م����������ا �أن�����������������������������ش��������������د ال������������ف������������ج������������ر والأل�����������������������������ق ون�������������������������������ه�������������������������������اري ل�����������������������ص�����������ب�����������وت�����������ي ط�����������������������������������ار م������������������ن������������������ي واح����������������������ت����������������������رق �أط�����������������ل�����������������ب ال���������������������������ص�������������دق م�����������ؤم����������ن����������ا �إن������������������م������������������ا ال������������������م������������������رء م������������������ا ����������ص���������دق �أ�������������������������س�������������������������أل ال������������������وق������������������ت ح��������ال��������م��������ا ع���������������ن �����������ص����������دي����������ق ��������������س�������������وى ال��������������������ورق وزم�������������������������������ان�������������������������������ي ي����������������������ق����������������������ول ل���������ي ك�����������������������ل م���������������ج���������������د ل���������������م���������������ن �������������س������������رق وال��������������������م��������������������ن��������������������ادي ي���������������������ص����������ي����������ح ب�������ي ارك��������������������������������ب ال��������������������زي��������������������ف وال�����������م�����������ل�����������ق �أي�����������������������ه�����������������������ا ال�����������������������ح�����������������������رف دل������������ن������������ي ك������������ي������������ف �أن������������������ج������������������و م������������������ن ال������������غ������������رق ل��������������ي�����������������������������س ع����������������������������������دال وح������������ك������������م������������ة �أن �أغ��������������������ن��������������������ي ل�������������م�������������ن ��������س�������ب�������ق وال���������������������������ع���������������������������ذاب���������������������������ات ت�����������������رت�����������������وي م�����������������������ن دم�����������������������ائ�����������������������ي وت����������ن����������ط����������ل����������ق ي�����������������������ا ج����������������ن����������������ون����������������ي ووح�������������������دت�������������������ي ���������������ص��������������رت ب��������������ح��������������را م�����������������ن ال��������ق��������ل��������ق ط��������������ال��������������م��������������ا ال��������������������ح��������������������رف ج�������ن�������ت�������ي ق�����������������رب�����������������ا ال��������������ح��������������ب��������������ر وال����������������������������������ورق
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
مقتطفات من �شعر الراحل غرم اهلل حمدان ال�صقاعي
اجلوبة � -صيف 1436هـ (77 )2015
�سنابل ،تبعت �سنابل ،والحنين هو الحنين .من غيث ال�سحابة و�صوت رغبتنا، فالأر�ض ممحلة، ورهبتنا ،يزيد.. وهذا الزرع يو�شك �أن يغادر من جذوره وال جديد، ظم�أ وم�سغبة.. وال جديد.. ومن حولي �سماء.. الأر�ض تب�سط كفها، بالغيوم تلبدت عط�شى والوقت يجري ،وال�سحابة في رحيل. وما بين الف�ؤاد ونب�ض كفي والجبين. و�أنا ب�صوت الخوف حمم التراب تطايرت في الليل �صوت الأر�ض تذروها الرياح من جيل �أنادي: في الفجر تذروها الرياح.. كيف نحرث �أر�ضنا؟! ريح على ريح ،وريح.. كيف ن�سقي زرعنا؟! الآن هبت من قريب بل كيف نك�سر خبزنا بالماء، من بعيد.. �أين الماء؟ و�سنابل تبعت �سنابل.. بالدمع؟ وجحافل �سرقت جحافل.. �أو بدم الوريد؟! والوقت يجري، ..و�سنابل لحقت �سنابل والجذور تموت عط�شى، وجحافل الآمال في قلبي وال�سحابة ال تمل من الرحيل! يغذيها انتظار ال�صدق
78
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص
�سنابلُ االنتظار
ن�صف الق�صيدة الفارغ ُ في �صباح تدثّر بالغيم والريح ي�شعلها ال�صمت والنا�س ت�س�أل �أين الم�آل..؟؟ تجيئين �سنبلة من �ضياء و�أن�شودة للم�ساء المتوّج من زمهرير الغياب تجيئين، كالطهر للحلم في مقلتيك ات�ساع وللفقد في راحتيك ا�شتعال.. تمدين كفك نحوي تنداح كل الحروف ال�شقاء (نبني كما كانت �أوائلنا تبني) ونعود يا �أطالل برقة والدخول قلق
ي�ؤرق �شاحبات البيد ونحن �أ�سرى للبكاء ولل�سبات و�أنت تبتكرين تكتحلين بالعبق الم�ضيء بنور ذاكرتي ولون النور�س المتجدد الرق�صات ينق�شها الخلود.. تت�أملين، ت�ساقط الأحالم حولك والأماني الوهم يجرحك البقاء. تتراجعين وترجعين وفي خ�شوع تهم�سين �إن المنى ذنب وان النور من غ�سق ال�س�ؤال
اجلوبة � -صيف 1436هـ (79 )2015
ال�شاعر والروائي فار�س رزق الرو�ضان
البداياتُ ال تن�سى ،ومذاقها ي�شبه طعم الر�شفة الأولى للقهوة.. (�شاعر وروائي و�إعالمي من مواليد منطقة الجوف ..بد�أ م�شواره العملي في �سلك التعليم ،ثم تفرّغ لل�صجافة ..يعمل مديرا لمكتب �صحيفة الريا�ض في الجوف .دفعه مجال العمل ال�صحفي �إلى الكتابة والت�أليف ،تجاوز في �إنتاجه الأدبي حدود البالد فكان له ح�ضوره الثقافي في الخارج ،ف�شارك في عدد من اللقاءات والأم�سيات� ..صدر له حتى الآن ثالث م�ؤلفات: «موعدي ال�ساعة ثمان» و« �أذكريني كلما فاز الهالل» ثم فاج�أنا بروايته «لولوة في باري�س» ..والقادم �أحلى �إن �شاء اهلل.
ρρحاوره حممود الرحمي*
● ●ف���ار����س ال����رو�����ض����ان ..ع���رف���ن���اه ���ش��اع��را و����ص���ح���ف���ي���ا وك�����ات�����ب م����ق����ال ب���ج���ري���دة الريا�ض ..ثم يفاجئنا بروايته الأولى.. كيف �أتت هذه التحوّالت؟ وما هي �أبرز مفا�صل تجربتك الإبداعية؟ ρ ρهي لي�ست تحوّالت بقدر ما هي ت�سل�سل جاء ليوا�صل رغبتي في التطور والقفز من مرحلة �إلى �أخرى ..فال�صحافة مهنة 80
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
رك�ض وتعلم وبناء فكر ،وه��ي بعد اهلل الخطوة الأهم في حياتي؛ لأنها منحتني خا�صية الت�أمل واحترام الوقت ،وال�شعر �شجون لي�س له عمر ،وحين ظننت �أن مرحلة البناء الفكري قد بد�أت بالتكون.. جاءت «لولوة في باري�س» الرواية الأولى كمولود ولد في وقته.. ● ●«م��وع��دي ال�ساعة ث��م��ان» ث��م «�أذك��ري��ن��ي
م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات
الكلمة فار�س ِ ُ
كلما فاز الهالل» ..الإ�صداران الأوالن لك.. م��اذا يعنيان بالن�سبة لك خا�صة وق��د �صدرا في وقت واحد ،وبالتحديد في يناير 2013م؟ ρ ρلم �أخطط لهما �أب��دا ،ولكن لم �أدرك جمال الخطوة �إال بعد ال�صدور ..كانا ب�شائر فرح في حياتي ..ولهما معزة خا�صة ،فالبدايات ال تن�سى ،ومذاقها ي�شبه طعم الر�شفة الأولى للقهوة.. ● ●(م��وع��دي ال�ساعة ث��م��ان) يبتكر فيه فار�س الرو�ضان �أ�سلوبا �شعريا جديدا يخلط فيه بين الف�صحى وال��ع��ام��ي��ة ..ل��م��اذا ه��ذا اللون بالذات؟ وهل هي ال�سهولة �أم التميز �أم ماذا؟ ρ ρم�ن��ذ �أن ك�ت�ب��ت ال �م �ق��االت وح �ت��ى ال�ت�ق��اري��ر ال�صحفية ،وجدتني �أك�ت��ب بهذه الطريقة، ففيها �سهولة وب�ساطة ،وقريبة جد ًا من قلب ال�ق��ارئ ،كما �أن اللغة الم�ستخدمة فيها هي قد ع�شت طفولتي في الجوف ،فقد �أ�سهمت لغة بي�ضاء ت�صل �إلى كل العالم ..و�أجزم �أنها الطبيعة وب�ساطة الحياة في تحري�ضي على فر�صة لن�شر اللهجة ال�سعودية ب�شكل جيد ،فـ التفكر والتدبر ،وكذلك م�شاركاتي الفاعلة في «نجيب محفوظ» على �سبيل المثال� ..أ�سهم �أن�شطة المدر�سة والإذاعة المدر�سية �أ�سهمت في تعزيز اللهجة الم�صرية في رواياته ب�شكل كلها في ك�سر قيودي واالنطالق بثقة.. رائع.. ● ●هل من �شخ�صية معينة �أو �شخ�صيات ت�أثرت ● ●في مجال الق�صيدة المغنّاة لديك تجارب مع بها ..وكان لها دورها الفاعل في حياتك؟ عمالقة التلحين ،كالدكتور عبدالرب �إدري�س، والأ�ستاذ يو�سف المهنا وغيرهم ..ف�إلى �أين �ρ ρشخ�صية وال� ��دي و�شقيقي ال��دك �ت��ور نايف حفظهما اهلل. و�صلت هذه الخطوة؟ ρ ρالأغنيات جاهزة ،و�أراهن على م�ستوى طرحها ● ●يقولون� :إن وراء كل رجل ناجح امر�أة ..و�أنت م��اذا تقول؟ خا�صة و�أن عناوين �إ�صداراتك ال�����ش��ع��ري وال��ل��ح��ن��ي ،وت��ظ��ل م�شكلة الإن��ت��اج كلها ت�شير �إلى المر�أة؟ �أكبر العوائق ،غير �أنها ما ت��زال في الطريق ال�صحيح. ρ ρفي رواية لولوة كان الإهداء لمن علمتني الحب، وهي والدتي رعاها اهلل ،فهي كل الن�ساء في ● ●ك��ث��ي��را م��ا ي��ك��ون ل��ل��ط��ف��ول��ة �أث���ره���ا ف��ي حياة حياتي. ال���م���رء..ف���ه���ل ك�����ان ل��ط��ف��ول��ت��ك دوره�������ا ف��ي حياتك؟ ● ●رواي�����ة (ل���ول���وة ف���ي ب���اري�������س) ..م����اذا تعني للرو�ضان؟ ρ ρطفولة ال��ري��ف ت�ساعد على ال�ت��أم��ل ،وكوني
اجلوبة � -صيف 1436هـ (81 )2015
ρ ρقد ال ت�صدق �أن ال��رواي��ة كانت م�ؤهلة لتكون المولود الأول لي في عالم الت�أليف ،ولكن ،لأن الرواية تحتاج �إلى عمر �أطول ،فقد مكثتُ في كتابتها ثالثة �أع��وام؛ لأنها تعني لي الكثير، و�أهم ما تعنيه �أنني انت�صرت بها على نف�سي في �سباقات ال َنفَ�س الطويل. ● ●ق��ي��ل� :إن رواي����ة (ل���ول���وة ف��ي ب��اري�����س) نحت جديد في �أدب الرحالت ..فما قولك؟ ρ ρبع�ض النقاد ر�أوا هذا الأمر ،و�أفرحتني الآراء التي تنوّعت في ت�صنيف ال��رواي��ة ،وبالت�أكيد فيها الكثير م��ن �أدب ال��رح�لات ،وق��د ق��ر�أت �أن كثير ًا ممن ق��ر�أوا الرواية تحم�سوا لزيارة باري�س.. ● ●يبدو �أن رواي���ة (ل��ول��وة ف��ي باري�س) ترجمة لمخا�ض فكري طويل بعمر �صاحبه وعمق تجاربه وث���راء اط�لاع��ه وذك���اء ���ش��ع��وره ..هل يمكن �أن يكون للق�صة بقية؟ ρ ρال �أعتقد �أن ق�صة الرواية تحتاج �إلى تكملة.. فالنهاية التي انتهت �إليها ج��اءت منطقية لمنح القارئ فر�صة لتخيل ما بعدها ..ولكن حدثني بع�ض المهتمين في الإنتاج ال�سينمائي والتلفزيوني لأج��ل تحويلها �إل��ى فلم� ،أو ربما م�سل�سل ،وف��ي ح��ال اقتناعي بالفكرة ،وتم االتفاق على م�سل�سل بالتحديد ..فربما يكون ذلك �سبب ًا في العودة للق�صة لكتابة جزء ثانٍ .. ● ●(لولوة في باري�س) هي الرواية الأولى لك.. فهل تكون الخطوة الأول���ى لم�سار ال��روائ��ي 82
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
الرو�ضان� ..أم مجرد تنوع �أدبي في كتاباته؟ ρ ρبعد �أن فرغت من الرواية ..كنت كالمت�سابق المنهك ،وق��ررت �أن ال �أع��ود لكتابة الرواية م�ج��دد ًا ب�سبب حجم الجهد ال��ذي تحتاجه، ولكن بعد م��رور الوقت وجدتني �أح��ن للكتابة من جديد ،غير �أن التنوع هو هدفي الأ�سا�س.. ● ●ل��دي��ك ت��ج��رب��ة مهمة ف��ي ال��ك��ت��اب��ة ال��درام��ي��ة من خالل كتابة حلقات للم�سل�سل ال�سعودي ال�����ش��ه��ي��ر «ط����ا�����ش م����ا ط����ا�����ش» ،ك���ي���ف ت��ق��ي��م التجربة؟ وهل لديك نية في تكرارها ب�شكل مو�سع؟ ρ ρتجربة ث��ري��ة ،وك��ان��ت الخطوة الأول ��ى ل��ي في مجال الت�أليف .وللعلم ،فقد كتبت لها بنف�سي ال�سيناريو والحوار ،وقد منحتني ثقة كبيرة، وقدمتني للنا�س ب�شكل جيد ،و�إن �شاء اهلل �س�أعود لكتابة الدراما متى ما وجدت المنتج المنا�سب للعمل.. ● ●�أنت �شاعر وقا�ص وروائي وكاتب مقال ،كيف تختار ال�شكل الإب���داع���ي ال���ذي تعبر ب��ه عن فكرتك؟ ρ ρح�سب المو�ضوع ..هناك �أفكار ال يمكن لها �إال �أن تكون ق�صيدة مثالً ،وهي ال تحتمل �أن تتحول �إلى رواية �أو ق�صة ،وال ي�شبعها المقال، وهكذا.. ● ●ه��ل ع��ب��رت الأ���ش��ك��ال الإب��داع��ي��ة ال��ت��ي �شكلت تجاربك خالل م�سيرتك عن نف�سك بال�شكل
م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات
�أهم ما تعنيه رواية لولوة في باري�س �أنني انت�صرت بها على نف�سي في �سباقات ال َنفَ�س الطويل. الكتابة الدرامية منحتني ثقة كبيرة ،وقدمتني للنا�س ب�شكل جيد، حققت جزء ًا من �أحالمي وما يزال الجزء الأكبر في ال�سماء
الذي ترغبه؟ �إلى حد كبير ..فال يمكن ف�صل تجارب الكاتب عن كتاباته مهما حاول الهروب.. ● ●ل��ك��ل م��ن��ا �أح�ل�ام���ه ال��ت��ي يتمنى تحقيقها.. ف��ه��ل ح��ق��ق ال��رو���ض��ان �أح�ل�ام���ه ف��ي الكتابة الإبداعية؟ ρ ρحققت جزء ًا منها وما يزال الجزء الأكبر في ال�سماء. ● ●ي��ح��ت��ف��ي ال��ن��ق��اد والإع���ل��ام ال��ع��رب��ي ب�����ش��ع��راء العامية ف��ي ب�لاده��م ،ك��الأب��ن��ودي ف��ي م�صر ● ●يعرف عن الكثير من المبدعين فو�ضويتهم وم��ظ��ف��ر ال���ن���واب ف��ي ال���ع���راقِ ،ل���� َم َل���� ْم يحظ وع���دم ان��ت��ظ��ام��ه��م ف��ي ال��ت���أ���س��ي�����س لأع��م��ال��ه��م �شعراء الق�صيدة العامية �أو المحكية بنف�س الإبداعية ،و�أنت معروف عنك دقة مواعيدك هذا الح�ضور الذي يجده ال�شعراء مماثلوهم وانتظامك في الكتابة الإبداعية ،و�أن لديك من العرب؟ ال��ك��ث��ي��ر م��ن ال��ن�����ص��و���ص االب��داع��ي��ة ال��ت��ي لم تن�شر ،كيف خرجت من تلك الدائرة؟ ρ ρالإعالم ال�سعودي اهتم كثير ًا بال�شعر النبطي بدافع لي�س له عالقة بال�شعر ،تجلى ذلك في ρ ρب�سبب ال�صحافة التي علمتني كيفية احترام قنوات القبائل والأب ��ل؛ لكن ال�شعر الب�سيط الوقت و�أهمية االنجاز ،وعلمتني �أي�ض ًا -وهو والجميل الم�شابه لتجارب الأب��ن��ودي ومظفر الأه� ��م� -أن ان �ج��از ال �ي��وم ال يكفي للغد �إال ظل �ضائع ًا ب�سبب التهمي�ش الإعالمي ،ويح�سب للذكرى.. لل�شاعر الأمير بدر بن عبدالمح�سن نجاحه ف��ي حفظ بع�ض حقوق ه��ذا الفن ال�شعري● ● ،ماهي اللحظة التي �أح�س�ست فيها �أن��ه يجب عليك �أن ت��ب��د�أ ف��ي ك��ت��اب��ة رواي��ت��ك الأول����ى؟ ولكن من خالل الأغنية فقط ..وبر�أيي يتحمل ومتى ت�شكلت مفا�صل الرواية؟ الإعالم كامل الم�سئولية تجاه ذلك.. ● ●ك��ي��ف ت���رى الإع��ل��ام ال��ج��دي��د و�أن�����ت تحظى �ρ ρأنا قارئ جيد للروايات ،وكنت �أبني مقدرتي من خالل التعلم من الروائيين على م�ستوى بن�سبة متابعة عالية في موقعك على تويتر العالم ،وكلما ق��ر�أت� ..شعرت برغبة للكتابة، بلغت حوالي � 60ألف متابع؟ في ك َّل الدوافع ،ف�أحببت وع�شقي لباري�س حرَّك َِّ ρ ρرائ���ع رغ ��م ال �ف��و� �ض��ى ،وق ��د ك���ش��ف م�ستوى �أن �أولد روائي ًا في مدينة المطر والعطر.. الفكر لكل �شخ�ص ،و�أ�صبح �سلطة �أول��ى في مجتمعاتنا ..وتويتر رحم الكاتب من مق�ص ● ●هل من جديد ننتظره من فار�س الرو�ضان؟ الرقيب ال��ذي ال ي�ؤمن �إال بفكره ،ومن خالل �ρ ρآمل ذلك ..ولدي الكثير من الأعمال التي لم تكتمل� ،أو التي لم يحن وقتها ..كما �أنني ما تويتر ب��رزت �أ�سماء ل��م تكن معروفة؛ لأنها �أزال �أعي�ش ن�شوة روايتي الأولى.. وجدت الفر�صة الحقيقية للتعبير عن فكرها..
اجلوبة � -صيف 1436هـ (83 )2015
ال�شاعر والناقد محمد �سمحان ناقد ير�صد الحراك ال�شعري في الأردن..
ي�ستجلي ال�شاعر والناقد محمد �سمحان واقع الحركة ال�شعرية في الأردن ،وير�صد مُقيِّماً وم��راه��ن��اً على بع�ض الأ���س��م��اء ال�شعرية ال�شبابية فيما عُ���رِفَ بجيل الألفية الثانية ،وهو الحا�صل على الماج�ستير فى اللغة العربية .له في النقد :مقاالت في الأدب الأردن��ي المعا�صر ،ودرا�سات متخ�ص�صة في ال�شعر الأردن��ي ،وله ع��دّة دواوي��ن �شعرية منها :معزوفتان على وتر مقطوع ،و�أنا�شيد الفار�س الكنعاني ،و�أنت �أو الموت, قال النبي الطريد ،وهوع�ضو رابطة الكتاب الأردنيين ،وع�ضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين .كان للجوبة معه الحوار الآتي: ■ حاوره عمار اجلنيدي -الأردن
● ●بداية ن�س�أل عن التطور التاريخي للحركة ال�شعرية في الأردن.. ρ ρتقترب الم�سيرة ال�شعرية في الأردن م��ن نحو ال �ق��رن؛ �أي منذ ت�أ�سي�س الإم��ارة ،بو�صول الأمير عبداهلل بن 84
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
الح�سين ومَ ن معه� ،أو التحق به من ��ش�ع��راء الأم���ة� ،أو ح�ضر مجال�سه الأدب �ي��ة ،وحتى ع��ام 2013م؛ وهي م�سيرة حافلة ،مرت ب�أطوار و�أدوار، وع� ّب��دت م�سيرتها ،ول� ّون��ت لوحتها،
م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات
�أ�صوات �شعرية كثيرة ،حتى و�صلت �إلى ما و�صلت �إليه الآن ،في الم�شهد ال�شعري ال��ذي نحن ف�ي��ه ،وال ��ذي رف��دت��ه �أ�سماء �أعالم �أثرته و�أثّرت فيه ،وتركت ب�صمات في م�سيرته ،بدرجات متفاوتة� ،إل��ى �أن و�صلنا �إلى ما نحن فيه الآن.
ف��ي ال�صحف وال �م �ج�لات ،والإذاع� ��ات الم�سموعة والمرئية� ،أو مواقع التوا�صل االجتماعي ،وهي الأكثر انت�شارا؛ فاختلط ال�ح��اب��ل ب��ال�ن��اب��ل ،وب ��ات تتبع الأ��س�م��اء ال�شعرية ،ومتابعة نتاجها نقديا ،من الأمور المرهقة.
● ●كيف تُقيِّم واق��ع الحركة ال�شعرية في ● ●على مَن تراهن؟ الأردن في الع�شر �سنوات الأخيرة؟ �ρ ρإن م�ع��رف�ت��ي ال���ش�خ���ص�ي��ة ،ل�ك�ث�ي��ر من �ρ ρأ�ستطيع القول� ،إن الحركة ال�شعرية في المجموعات والأ�سماء ،وتوا�صلي معها، الأردن في ما بعد الألفية الثانية؛ هي ومتابعتي وح�ضوري لأن�شطتها ،مكّنني ا�ستمرار ل��دف��ق النهر ال�شعري ،ال��ذي �إلى حد ما ،من ر�صد حراكهم ال�شعري، ابتد�أ في بداية الع�شرينيات من القرن واتجاهاتهم و�أنماط كتاباتهم؛ كما كان الما�ضي ،ونما وتطور حتى و�صل �إلى ما لي متعة تقديم بع�ضهم� ،أو دواوينهم� ،أو و�صل اليه في هذه االيام. �إجراء قراءات نقدية لتجاربهم. لكنه في هذه الفترة التي نحن ب�صددها (2013-2000م) ،تميز بوجود تكتالت وتجمعات ،مثل تجمع النوار�س ،و�شعراء ال �ح��ري��ة ،و� �ش �ع��راء ال �م �ج��از ،وال �ح��دث، ونا�شرون؛ كما انت�شر فيه وب�سرعة وقوة واندفاع� ،شعراء ق�صيدة النثر ،و�شعراء التوا�صل االج�ت�م��اع��ي( ،الفي�س ب��وك) كما برزت دور ن�شر ،تتبنى نتاج �شعراء معينين ،و�أن �م��اط��ا معينة م��ن ال�شعر؛ ونمت ظاهرة توقيع ال��دواوي��ن ال�شعرية ال�صادرة ،واحتفاليات ال�صدور ،وتبنّي الم�ؤ�س�سات الر�سمية وغير الر�سمية لتلك االحتفاليات .وتلك �أمور لم تكن متوافرة �أو مي�سّ رة لمن �سبقوهم؛ كما �أتيحت لهم فر�ص ن�شر نتاجهم ،في المالحق الثقافية
وقد ا�ستطعت �أن �أر�صد من خالل ذلك، ب��ع�����ض ال��ظ��واه��ر وال��م��وا���ص��ف��ات ،التي مكنتني �إل��ى حد ما ،من �إ�صدار �أحكام ذوقية وتعميمية ،كما �أ�ستطيع �أن �أ�ستنجد بذاكرتي ،ال�ستح�ضار هذا العدد الكبير من الأ�سماء ،التي من ال�صعب الإحاطة بها ،لكنني �أ�ستطيع �أن �أتذكر و�أذكر منها: مجموعة �شعراء النوار�س وهم� :إ�سماعيل من�صور م�ؤ�س�س الجماعة ،وعماد ن�صار، وبا�سل الكيالني ،وفار�س �شيحان ،وفادي عمران ،و�إي��اد �شما�سنة ،ون��وح الق�ضاة؛ و�أي�ضاً :ثالثي �شعراء الحرية وهم :ح�سن مريم ،و�سلطان القي�سي ،وعلي الزهيري؛ ث��م :تجمع �شعراء ال�شمال وه��م :تركي اجلوبة � -صيف 1436هـ (85 )2015
86
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
● ●على ماذا تعتمد في ا�ستثناءاتك؟
م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات
عبدالغني ،ومحمد تركي حجازي ،و�أمين الربيع ،و�صفوان قدي�سات؛ ومجموعة االن��دف��اع ل��دى بع�ضهم ،وال�سرعةم�ج��از ال�شعرية وم�ن�ه��م :مهند �سبتي، في ن�شر نتاجهم ،من دون تدقيق �أو وبريهان ال�ت��رك ،وف��وزي باكير ،وتقوى تمحي�ص. الخطيب؛ وهناك �شعراء متفرِّ قون منهم: ال �ت ��أث��ر ال���ش��دي��د بمحمود دروي ����ش،محمد ع��ري �ق��ات ،وم�ح�م��د المعايطة، و�إلى حد ما ب�أدوني�س ،ونزار قباني، و�إ� �س�لام �سمحان ،ون��دى �ضمرة ،ول ��ؤي وب �� �ش �ع��راء ال �ت �� �ص��وف اال� �س�لام��ي، احمد ،وهاني عبدالجواد ،و�أن�س ال�شوبكي، والنفّري منهم بخا�صة. وغيث القر�شي ،وعلي �شنينات ،وجالل عدم االهتمام والإهمال في م�سائلبرج�س ،ومحمد يا�سين ،و�أنمار محا�سنة، اللغة ،والنحو وال�صرف ،لدى �شعراء وم�ح�م��د ال �ع �م��ري ،وع �� �ص��ام ال�سعدي، ق�صيدة النثر ،وك��ذل��ك ل��دى بع�ض وتي�سير النجار ،ونزار ال�سرطاوي ،وربيخة �شعراء التفعيلة والبيت� ،إ�ضافة �إلى الرفاعي ،وعمر عيا�ش ،ومروان البطو�ش، عدم مراعاة الأوزان والقوافي ،لدى وم��و��س��ى ح��وام��ده ،وع �م��ر �أب ��و الهيجا، بع�ض �شعراء التفعيلة والبيت. ون�ضال ب��رق��ان ،وبا�سل رفايعه ،وم�ؤيد ال�سباهي ،و�إبراهيم ال�صرايرة ،ورنا �أبو غلبة النف�س الرومان�سي ،والغنائيةخالد ،و�آن��و �سرحان ،و�سيف محا�سنة، والهم الذاتي ،والقلق الوجودي لدى و�سند�س �أبو دعمو�س ،و�سناء الجريري، غالبيتهم. والن��ا �سويدات ،ون��ور تركماني ،وه�شام ● ●هل مِ ن ا�ستثناءات؟ الأخ��ر���س ،و�شادن �صالح ،ورن��ا ب�سي�سو، ρ ρهناك �أ�سماء من هذ الجمع الغفير من وريا�ض غباري ،وبا�سم ال�صروان ،وق�صي بلغوا في تجربتهم ال�شعرية �ش�أوا متقدما، الن�سور ،ومهند العزب ،ونا�صر قوا�سمي، ا�ستثني منهم� :شعراء النوار�س وبع�ض والنا المجالي ،ومناهل الع�ساف ،وعائ�شة الأ� �س �م��اء االخ� ��رى ،وج�م��اع��ة ال�ن��وار���س الحطاب ،و�إيمان عبدالهادي ،وم�صطفى ال�شعرية وهم� :إ�سماعيل من�صور م�ؤ�س�س القرنه؛ وغيرهم؛ مع تقديم اعتذاري لمن الجماعة ،وعماد ن�صار ،وبا�سل الكيالني، لم ت�سعفني ذاكرتي لذكر ا�سمه. وفار�س ال�شيحان ،وفادي عمران ،و�إياد ● ●وما هي موا�صفات جيل هذه المرحلة؟ �شما�سنة ،ون��وح الق�ضاة؛ ثم من خارج ρ ρيمكنني ح�صر موا�صفات هذا العدد من الجماعة ،ل�ؤي �أحمد ،وهاني عبدالجواد، �أبناء هذه المرحلة بـ:
وتركي عبدالغني ،ومحمد تركي حجازي، وم�ح�م��د ع��ري �ق��ات ،و��س�ل�ط��ان القي�سي، وح�سن مريم ،وعلي الزهيري ،وع�صام ال �� �س �ع��دي ،و� �ص �ف��وان ق��دي �� �س��ات ،والن��ا �سويدات ،و�إي�م��ان عبدالهادي ،وم��روان ال�ب�ط��و���ش ،ون���ض��ال ب��رق��ان ،و�إب��راه �ي��م ال�صرايرة ،وغيرهم.
الأردن ،ي�ساوقون� ،إن لم يتقدموا على �أقرانهم في الوطن العربي ،كما �أ�ستطيع �أن �أُ�أَكِّدَ �أن �شعراء النوار�س ،وهم الأكثر التزاما بموا�صفات ق�صيدة البيت� ،إلى درج��ة التزمت ،ف�إنهم �إذا م��ا انطلقوا من عقال ت�شدد �شروطهم لق�صائدهم، ف��إن�ه��م ��س�ي�ف��وزون بق�صب ال�سبق على �صعيد الوطن العربي ،و�سي�شكلون نقلة نوعية في ق�صيدة البيت العربية.
ρ ρلقد و�صل تركي عبدالغني مثال �إلى ال�شوط الأخير ،في م�سابقة �شاعر المليون ،التي ● ●وماذا عن �إ�شكالية ق�صيدة النثر؟ ترعاها دول��ة االم��ارات العربية المتحدةρ ρ ،لقد �أ�صبحت ق�صيدة النثر واقعا تجاوز على م�ستوى العالم ال�ع��رب��ي ،كما ح�صل مرحلة محاربتها واالع �ت��را���ض عليها، ال�شاعر محمد تركي حجازي،على المرتبة وع��دم االع �ت��راف بها ،وم��ا ت��زال تعاني الأولى في م�سابقة ف�ضائية الم�ستقلة ،على م��ن ���س��وء ف��ه��م ،م���ن قِ ���بَ���لِ م��ع��ظ��م من م�ستوى الوطن العربي �أي�ضا ،كما ح�صل ل�ؤي يكتبونها ،و�إلى ما ي�شبه الجهل ب�شروطها �أحمد على مرتبة متقدمة في �شاعر الأردن، وموا�صفاتها؛ وهي بحاجة ما�سة �إلى نقاد ع�ل��ى م�ستوى الأردن ،وك��ذل��ك ال�شاعرة و�أكاديميين يتحدثون عنها ،ويمار�سون الن��ا �سويدات ،التي ح�صلت على الجائزة ع�ل��ى �شعرائها ن �ق��دا م��و��ض��وع�ي��ا ،غير الأولى في �إذاعة مونت كارلو ،وه�ؤالء الذين جاهل �أو مجامل ،رغم ما يحاول بع�ض ذكرتهم على �صعيد ق�صيدة البيت. �شعرائها م��ن �إح��اط��ة �أنف�سهم ب��ه من �أم��ا على �صعيد ق�صيدة التفعيلة ،فقد هاالت متوهجة ،من الجوائز وال�شهادات ح�صل ال���ش��اع��ر محمد ع��ري �ق��ات على غير المو�ضوعية ،بحكم مواقعهم التي جائزة من وزارة الثقافة الفل�سطينية، ي�شغلونها في الو�سط الأدب��ي والثقافي؛ كما ح�صل �سلطان القي�سي على جائزة وتلك �إح��دى �آف��ات النقد في �أو�ساطنا من بيروت في ق�صيدة البيت والتفعيلة. الأدبية والثقافية ،وهم ما يزالون بحاجة ● ●وماذا تقول عن وللمتميزين منهم؟ لمن يوجههم ،وي�أخذ بيدهم� ،ش�أنهم في ذل��ك �ش�أن غيرهم من �شعراء ق�صيدة �ρ ρأ�ستطيع �أن �أق ��ول ،وبكل ثقة واع�ت��زاز، النثر في الوطن العربي. �إن �شعراء ق�صيدة البيت والتفعيلة في اجلوبة � -صيف 1436هـ (87 )2015
����������������س�������ي�������رة و�إب����������������������������������داع
م�ؤهالته: ح�صل على الماج�ستير في العلوم الع�سكرية من كلية الأركان الأردنية. ثماني ع�شرة دورة في العلوم الع�سكرية في الأردن وبريطانيا.حا�صل على العديد من الأو�سمة والميداليات الملكية منها: - -
و�سام الإقدام الع�سكري الأردني. و�سام الن�صر البريطاني. و�سام النه�ضة الأردني ميدالية الراية ،وميدالية اال�ستقالل الأردني.
م�ؤلفاته:
معا�شي ذوقان العطية �ρρإعداد :حممود عبداهلل الرحمي
ولد في مدينة �سكاكا بالجوف في العام 1350هـ (1930م) ،وتتلمذ على يد ال�شيخ �سمير الدرعان� ،أحد �شيوخ الكتاتيب بمدينة �سكاكا ،ثم �سافر �إلى الأردن في �سن مبكرة والتحق بالجي�ش العربي ،كعادة �أبناء منطقة الجوف في ذلك الوقت ،وت��درّج حتى و�صل �إلى رتبة مقدم ركن.
�أ ّل��ف ع��دد ًا من الكتب تناولت التراث ال�شعبي والتاريخي في منطقة الجوف� ،إ�ضافة �إلى كتب �أخرى في ال�ش�أن العربي العام.. وه��و ع�ضو في المجل�س الثقافي لمركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي .من م�ؤلفاته: �أوراق جوفية. ع�صاميون. حدائق الجوف. الغزو الأمريكي للوطن العربي. خطوات على الطريق. -كيف نخرج من النفق.
بعد عودته ،عمل في الحر�س الوطني ال�سعودي ،وتدرج في رتبه الع�سكرية حتى تقاعد برتبة لواء ركن .وهو باحث في ال�شئون العربية والإ�سالمية ،و�أبرزها ق�ضية فل�سطين التي �شارك في حروبها مع الجي�ش العربي. حاليا رج��ل �أع��م��ال وباحث وك��ات��ب .ي��زدان مكتبه باللوحات التراثية للمنطقة.. تتو�سطها خارطة فل�سطين؛ بمدنها وقراها� ..سهولها وجبالها ..بحارها و�أنهارها ووديانها ..ربما يعي�ش معها ذكرياته في الأربعينيات من القرن الع�شرين. بع�ض م�ؤلفاته
88
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
اجلوبة � -صيف 1436هـ (89 )2015
فزعه َ�صيرور ُة ال�شاعر الذي ُت ِ ُ الق�صيد ِة وتح ّوال ُتها
ρρعبدالرحمن الدرعان*
ع��ل��يَّ �أن �أ�ؤك����د ب����دءاً �أن ال��ت��ق��دي��م بالن�سبة لل�شعر عملية ت�شبه �إ���ض��اف��ة �أجنحة �صناعية لطائر .غالبا ما تُف�سد المقدمات ال�شعرَ ،وت�صبح عبئا عليه ،ف�ضال عن �أنها تعمل كم�صدّة ،تحول بينه وبين القارئ ،وت�شوّه مخيلته العذراء؛ �أي �أنها تحذف من الن�ص �أكثر مما ت�ضيف �إليه . و�أعترف �أنني نجوت غير مرة من التورّط في مثل هذا ال�شَّ رَك ،لكنني لم �أ�ستطع �أن �أتفادى دعوة الأ�ستاذ محمود الرمحي على الرغم من يقيني بال جدوى المهمة التي يتعين عليَّ القيام بها ،ذلك �أنني ال �أحتمل تكاليف االعتذار من هذا المعلم العتيق، الذي قدم �إلى منطقة الجوف مع طالئع المعلمين الفل�سطينيين منذ ما يزيد عن ن�صف قرن ،ي�سرد الأ�ستاذ محمود تفا�صيلها كما لو �أنها حكاية حبٍّ طويلة لم تحدث �إال في الأ�ساطير . بقي �أن �أقول �إن القارئ �سيكون محظوظ ًا (ال �ط��ائ��ر ال �م �ه��اج��ر) ،و َم� ��ن ي �ت��وغ��ل في وهو يمرق كالطيف العابر على هذه ال�صفحة ،المو�ضوع المركزي الذي ي�ستحوذ على معظم من دون �أن يفتتح بها المجموعة ،فكل دقيقة الن�صو�ص ال�شعرية ،ف�سوف يكت�شف �أنه في ي�ستغرقها هنا �ستكون على ح�ساب ال�شعر .غنى عن الوقوف من �أج��ل تفكيكه بو�صفه عتبة المجموعة . **** لم يفاجئني عنوان المجموعة ال�شعرية 90
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ح��ال�م��ا ف��رغ��تُ م��ن ق� ��راءة الق�صائد،
يم�ض تمام ًا ما�ض لم ِ �أو هو بمثابة �صراع بين ٍ وم�ستقبلٍ لم يجيء . يتماهى هذا ال�س�ؤال م��ع ال���س��ؤال ال�شعري: لماذا ي�صر ال�شاعر على االلتزام بكتابة الق�صيدة ب�شكلها التقليدي ..ف��ي ال��وق��ت ال��ذي بلغت فيه الق�صيدة الجديدة �أوجها؟!
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
وهي قراءة غير منف�صلة عن ال�سيرة ال�شخ�صية لل�شاعر ..خطر لي �أكثر من ��س��ؤال :ت��رى �أيهما المهاجر ،هل هو الفل�سطيني النازح عن �أر�ضه مكرها والهائم على وجهه ،لي�س في جيبه �سوى مفاتيح ال� ��دار ،وح�ل��م ال �ع��ودة ال �ط��ري كالو�شم الأخ�ضر في وج��وه الفالحين؛ �أم هو الم�ستعمر الذي نهب الأر�ض عنوة ،وظل يتدرب على ن�شيده الوطني تحت حرا�سة ال�سالح؟!!
حد �أنه يبالغ في والئه لح�ساب ال�شكل في الق�صيدة الخليلية ،م�ضحيا ب�شروط ال�شعر وعنا�صره التي ال منا�ص عنها؛ � إذ ي�ضرب �صفحا عن الألعاب البالغية وال�صور الجمالية التي تعد �أحد �أركان ال�شعر ،بل تدفعه حالة الح�صر �إذا ما خذله الوزن والقافية �أو وح��دة البيت مثال في توليف �صوته الداخلي مع �صوته الم�سموع �إلى التمرد عليها في ت��واط��ؤ مك�شوف م��ع �صرخة الطفل ف��ي داخ�ل��ه.. وهو ما يتيح فر�صة للقارئ الحاذق �أن ي�ستمع �إلى ت�أت�أة تقول وال تف�صح ،ويرى تلك الإيماءات التي �شكلت خلفية للن�ص في عدد من الن�صو�ص ،يمكن مالحظة �أثر ال�شعر التعليمي في بع�ض مقطوعاته ف�ضال عن الطابع الحكائي الذي يغلب على بع�ض الق�صائد ما يحيلنا �إلى الق�صيدة /الق�صة . ****
و�إذا ما اقتربت من �شخ�صية ال�شاعر ف�سوف وهو بعد ذلك ،يدرك في الوعيه �أن �صرخته �أقل تعثر على الإج��اب��ة؛ ثمة م�شهد مركب من �شاعر يراهن على ق�صيدة تبدو له متما�سكة ومحكمة ،من �أن تواكب حجم الم�أ�ساة ،ولذلك جاء غنا�ؤه ترف�ض االن�سالخ م��ن وحدتها ،و�شخ�ص يحدق عذريا على هيئة مقطوعات من �أنا�شيد الطفولة، فما ال تقوله الق�صيدة ،ال يوازي ما توحي به . تحديقة طويلة وثابتة �إلى خارطة منهوبة؟! �أق���ول (م�ح�م��ود ال��رم �ح��ي) ب�ي��د �إن �ن��ي �أع�ن��ي �إن��ه طفل لم يتجاوز �سنواته الخم�س ،يرف�ض منذ �ستين عاما ك��ل م��ا ح��دث بعد النكبة ،وما �شخ�صا �آخر ،هو (�أبو ن�ضال) الذي يلوذ بكنيته يزال ي�صعد به العمر �صعودا لولبيا ،يكرر �صورة كعادة الفل�سطيني ،الذي يولد وعلى كتفيه �صبي ذلك الطفل المذعور مت�شبثا ب�أر�ض تالحقه �أينما منذور للحلم! ارتحل! ه��ذا هو ال�شاعر ،ال��ذي يكتب ب��ذراع م�صابة �إن فل�سطين �أ�صبحت في كل مكان خارجها ،بتراب فل�سطين؛ ف�أين ال�شعر؟! كما �أن حياته منذ ذلك الحين لي�ست �سوى مجاز �إن �أنقا�ض البيت ال��ذي ه�دّه الزلزال ال تعيد حياة وح�سب.. ت�شييد البيت ،كلما توهّ منا �أننا وجدنا الق�صيدة، وه��و نف�سه ال���ش��اع��ر ال ��ذي ت�ف��زع��ه ��ص�ي��رورة �شَ َر َد من بين �أيدينا لنعثر عليه في الكلمات التي الق�صيدة وتحوّالتها ،متكئ ًا على ذاكرة تراثية �إلى كانت على و�شك �أن تُقال.. * تقديم «ديوان الطائر المهاجر» ال�صادر عن مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي ،عام 2015م.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (91 )2015
ٌ مدن مرئية وغير مرئية.. ال مدينة واحدة
�أُ دب�����اء ٌ َيحكو نَ م��د َن��ه��م ■ �إعداد �سعيد بوكرامي*
ارت��ب��ط ال��كُ�� َّت��اب ارت��ب��اط��ا وث��ي��ق��ا ب��ف�����ض��اءات بعينها؛ الزمتهم والزموها. م��ن��ح��ت��ه��م ���ش��خ��و���ص��ه��ا و�أم��ك��ن��ت��ه��ا ،وم��ن��ح��وه��ا ال��م��ج��د الأدبي؛ �شعراً ونثراً ورواية وق�صة� ..صعدوا بها من الواقع �إلى الخيال .نقلوا واقعها بمنظور وح�سا�سية؛ منتمية تارة ومتمرّدة تارة �أخرى .جيم�س جوي�س مع دبلن بول �أو�ستر مع نيويورك ،نجيب محفوظ مع القاهرة� ،أوره��ان باموق مع ا�سطنبول ،وفرناندو بي�سوا مع ل�شبونة ،و�سيلين مع باري�س.. ما هو المكان الذي ت�سري دما�ؤه في ن�صو�صك؟ ولماذا ارتبطت �أ�سا�سا بهذا الف�ضاء؟ ما هي الظروف التي �ساقتك �إليه؟ وما هي تجلياته في كتابتك؟ ولماذا كتبت عنه دون �سواه؟ ه��ذه �أ�سئلة� ،ضمن �أخ���رى ،ن��ح��اول ا�ستق�صاءها عن ع�لاق��ة الكاتب بمدينته ال��ت��ي اخ��ت��اره��ا ف�ضاء لت�شييد عوالمه الأدبية.
الجزء الثاني
�أود القول في البداية �إني اغبط الروائيين الأول هو الحاجة العميقة لتحرر موطني الأ�صلي الذين ارتبطوا بمدينة بعينها ،و�أ�ضيف �إلى فل�سطين ،بما يمكّن �أبناء هذه الوطن من العودة �إل��ى �أر���ض الأج ��داد والأح�ف��اد، الأ��س�م��اء ال���واردة ف��ي مقدمة و�أن ي�ن�ع�م��وا ب��ال �ح��ري��ة �أ� �س��وة ه��ذا اال��س�ت�ط�لاع ،ه�ن��اك بين ب�شعوب المعمورة ،والثاني هو العرب �إميل حبيبي الذي ارتبط الرغبة العميقة �أي�ضا بال�سفر بحيفا ،ومحمد خ�ضير الذي والطواف في الأر���ض والتعرف ارت �ب��ط ب��ال�ب���ص��رة� .أغبطهم على البلدان وال�شعوب. لأن ع��اط �ف �ت �ه��م و�أف� �ك ��اره ��م وه��واج �� �س �ه��م وان �� �ش �غ��االت �ه��م والحا�صل� ،أن االحتالل يمنع تتمحور ح��ول مدينة بذاتها.. �ضحاياه م��ن �أن يعي�شوا حياة يرون العالم مُج�سّ دا بها ومن طبيعية و�أن���ا م�ن�ه��م .فال�سفر خاللها ،وين�صرفون لقراءة متعة هائلة ،وكذلك ف�إن العودة ج��وان��ب المدينة والنفاد �إل��ى من ال�سفر الى الوطن هي �أي�ضا ق�ل�ب�ه��ا .غ �ي��ر �أن ك��ات��ب ه��ذه متعة هائلة .و�أنا �أ�سافر ..لكني ال �� �س �ط��ور ال ي��رت �ب��ط مثلهم ال �أعود الى موطني الأ�صلي من بمدينة منفردة ،والمق�صود ال�سفر .وال يتوقف الأم��ر عند االرت��ب��اط ال��وج��ودي الكامل، ذل��ك بالن�سبة ل��ي ،فجن�سيتي ولي�س مجرد االرتباط الوطني الأردنية التي اكت�سبتها منذ �أكثر مثال ،والأخير ارتباط طبيعي من �ستين عاما ،جعلت الأردن وبديهي. موطنا �آخر لي ولأ�سرتي. بالن�سبة ل��ي ف ��إن��ي �أعي�ش تحت وط�أة قطبين متنافرين.
92
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
محمود الريماوي: �أديب �أردني /فل�سطيني
دعني �أق ��ول �إن الم�ضي في ال �ت �ج��رب��ة ال�ح�ي��ات�ي��ة ال�ث�ق��اف�ي��ة اجلوبة � -صيف 1436هـ (93 )2015
� ُ َ توطيد أحاول عالقتي بالمكان جعلتني �أنظر للق�ضية الفل�سطينية من منظور العالم التي ن�ش�أتُ فيها ،وتفتح وعيي الأول تحت �إن�ساني �شامل� ،إ�ضافة �إلى المنظور ال�سيا�سي؛ �سمائها. بحيث ال �أف�صل بين معاناة الفل�سطينين الوطنية، «مدينتي» ه��ي م��زي��ج م��ن ال�ق��د���س و�أري �ح��ا وبين معاناة ال�شعوب وعموم الب�شر من العن�صرية وع� ّم��ان وب�ي��روت والقاهرة والكويت ومراك�ش والتمييز والوح�شية والعِوز .وحتى ال نذهب بعيداً ،وتون�س وا�ستانبول ،وهي مدن زرتها �أو �أقمت فال�شعب ال�سوري عانى م��ن �صنوف البربرية فيها ،وم��دن �أخ��رى ق�صيّة غير مرئية ،هادئة واالق�ت�لاع الوح�شي خ�لال �أرب��ع �سنوات ،مثلما �أو �صاخبة ،ومحلوم بها مثل «دك ��ا» عا�صمة عانى الفل�سطينيون على م ّر تاريخهم و�أكثر. بنغالد�ش التي كتبت حولها رواية «حلم حقيقي»! هذا الأفق الإن�ساني ينعك�س على ما �أكتبه من ومثل «حلب» التي تعود جذور عائلتي �إليها ،ولم �إبداع؛ بما يجعلني في دخيلتي �أ�ؤمن �أن العالم �أزره��ا ..وها هي هذه المدينة العظيمة تتدمّر ب�أ�سره وطني� ،إ�ضافة �إل��ى فل�سطين والأردن .تدمير ًا منهجيا. و�أن الب�شر في �أي بقعة على الأر�ض هم �أ�شقائي لقد ج��رى العرف على و�صف العالم تحت ونظرائي و�شركائي. ت��أث��ي ال�ت�ح��والت التكنولوجية ،وت �ب��ادل ال�سلع
ل �ي �� �س��ت ه� �ن ��اك ب��ال �ت��ال��ي م��دي �ن��ة واح� ��دة ت�ستحوذ على كياني كله ،مع �أن مدينة عظيمة كالقد�س ت�ستحق ان تكون .لكنها على عظمتها وخ�صو�صيتها �أراها جزء ًا من فل�سطين ،و�أرى فل�سطين جزء ًا من العالم العربي ومن �آ�سيا ومن المتو�سط ،و�أرى العالم العربي و�آ�سيا والمتو�سط ج ��زء ًا م��ن ال�ع��ال��م ،وال�ع��ال��م ج��ز ٌء م��ن ال�ك��ون! كذلك الحال مع مدينة �أريحا �أقدم مدينة في 94
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
وال�خ��دم��ات ،و�شيوع ثقافة ال�سفر ..على �أن��ه �أ�صبح قرية واح ��دة .لنقل �إن��ه �أ�صبح مدينة واح ��دة .مدينة �شا�سعة هائلة تحت�ضن تحت جناحيها مئات المدن .و�أجدني مُلبي ًا نداء خفيا وعميقا� ،أج��دن��ي �أط��وف هائما ب��روح��ي وعلى قدميّ بين تلك ال�م��دن ،وبين �سحنات ولغات مئات ال�شعوب فيها .وذلك كله له انعكا�س في ما كتبت حتى الآن.
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
ال�شاعر ال�سعودي محمد خ�ضر
..حين كتبت رواي ��ة «ال���س�م��اء لي�ست في ك��ل م �ك��ان» ،ك��ان ال�م�ك��ان ه��و �أع �م��ق الأب �ط��ال و�أكثرهم ح�ضوراً؛ المكان بو�صفه ق��ادرا على الأ�سئلة ومفتاح ًا للكثير من خلفيات الأح��داث وال�شخو�ص؛ بل كان محرك ًا وفاع ًال في تطورات ال ��رواي ��ة ،رب �م��ا لأن �ن��ي ع�شته زم �ن �اً ،وفهمته واقتربت منه كثيراً .المكان � /إربة ..كان م�شبع ًا بالأ�سئلة والغرابة -بالن�سبة لي على الأقل -في ال�شعر �أرى ح�ضور المكان �أقل ل�صالح مجموعة االنفعاالت والأف �ك��ار واللغة؛ لكنني كتبت عن �أمكنة كثيرة م�ث��ل :قريتي ،والبيت القديم، وبع�ض المقاهي .وكثيرا ما ح�ضر المكان في دالالت مختلفة في ق�صائد عن مدن الإ�سمنت، والم�صانع ،والأنابيب ال�شاهقة ذات الأدخنة، مقابل :القرية ،والب�ستان ،والحقل؛ ربما كنت �أح ��اول توطيد عالقتي بها ،وت��رك �أث��رٍ ي�شبه �صورة فوتوغرافية من زاوية خا�صة بي..
�أرى الأمكنة من خاللي ولي�س العك�س ..وبرغم �أهمية المكان الذي يرتبط بالذاكرة والمواقف الحياتية وم�شاعر �أخرى ،كالحنين �أو الكراهية �أو الغربة �أو الذكريات� ،إال �أنه بقي تلك ال�صورة التي �ألتقطها و�أراه��ا من خاللي ..ويمكن �أن تكون من خالل مجموعة ما تكوّن في داخلي من تراكمات ومدخالت تنتظر �أن توظف في ن�ص ما� ..أحيانا �أرغب في �أن �أترك ذاكرة تخ�صني لمكان م��ا ..و�أج��د �أن الكتابة هي طريقة �أكثر خ�صو�صية من ال�صورة الفوتوغرافية� ..إذ يمكن �أن ت��ودع مكانا ما �أث�ن��اء �سفر �أو عبور بكتابة حق ًا ال تخلو مجموعة �شعرية لي من مكان ت�ستودع فيها �شعورا مختزال ل�شعور ال يجمع ما ،لكنه لي�س محدد ًا ولي�س دائماً ..وربما لأنني �أجزاءه �سوى الكتابة. اجلوبة � -صيف 1436هـ (95 )2015
جغرافيا الروح!! ونترب�ص به ،المكانُ �أفق ُ يترب�ص المكان بنا ُ المبدع الأول؛ ربما لأن عالقة الإن�سان بما حوله، عالق ٌة محمومة تنمو فيها التفا�صيل بطريقة عجيبة ،وتتطور معه بتطور وت �ع �دّد محطات حياته والأماكن التي ي�ستوطنها.
و(� �ص �ح��راء �إب��راه �ي��م ال �ك��ون��ي) ،و(ب �ح��ر حنا مينا) ،و(جيكور ،بدر �شاكر ال�سياب) ،وتوا�صل المتلقي مع هذه الأمكنة و�شخو�صها وثقافاتها من خالل ن�صو�ص المبدع.
في ظل الوعي النقدي العام الذي تلمّ�س هذه ربما لهذا ظلت �أغلب الدرا�سات النقدية العالقة بين المبدع و�أمكنته ،ب��د�أت الكتابات تولي هذا الجانب عناية خا�صة ،مُتلم�س ًة نطاق الحديثة ،وبخا�صة (�شعرياً) ..تحاول �أن ت�صوغ هذا العالقة ،محاول ًة تر�صد المكان و�شخو�صه خ�صو�صيتها من خالل المكان. من خالل ن�صو�ص المبدع. وب ��د�أ ه�ن��اك –�إن �صح التعبير– تجارب ل�ه��ذا ،ب��رزت �أم��اك��ن لها خ�صو�صيتها في �شعرية تتفاعل مع المكان تفاع ًال خا�ص ًا من الثقافة الإن�سانية منها :خالل �إعادة �صهره عنا�صره في بوتقة �شعرية، (حارة نجيب محفوظ) ،مم�سك ًة بوعي كامل على عنا�صر هذه المعادلة. ال�م�ك��ان ع�ن��دي م�سكون بالقلق ،رب�م��ا لأن هاج�س اال�ستقرار ظ��ل ُي�ل��حّ دون �أن احتويه، وظلت الحياة تُمار�س الجريان دون �أن �أُ�أَ�س�س للمكان الت�أ�سي�س ال�شعري الذي يليقُ به.
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
عبدالبا�سط �أبو بكر محمد �شاعر وكاتب من ليبيا
لا من الأول الذي يتذكره كل لحظ ٍة بوقعٍ مختلف ،وظل ظلت (ح�ك��اي��ا ج��دت��ي) ج ��زء ًا �أ��ص�ي� ً حنيني للمكان الأول ،الذي �شهد الطفولة ونزقها ال�شعراء منغم�سين في حالة من الوجد ال�شعري و�أل�ع��اب�ه��ا ،وظلت خرافاتها التي ت�سكبها في تجاه الأمكنة التي تفاعلوا معها. ذهني من خالل ق�ص�صها و�أحاجيها و�أ�شعارها الخيال �أي�ض ًا مكان افترا�ضي ..تبر ُز الحاجة كل ليل ٍة وما تزال جزءًا �أ�صي ًال من مكوّن لمكان �إليه عندما ي�ضيقُ المكان الحقيقي ،الذي في لم �أعرفه ،لكنني ت�شربتُ تفا�صيله من خاللها ،الغالب ما يك�س ُر �أجنحة الخيال ويجف ُّف الحاالت وظل هذا المكان يلوحُ مر ًة تلو المرة من دون �أن ال�شعرية. احتويه بالكامل ،بل تفتت في ق�صائدي وكتاباتي ما تفرزه ثورة البرمجيات واالت�صاالت �أي�ض ًا النثرية ،من دون �أن �أر�سم معالمه الكاملة. ُف�صل ُه يمكن ت�صنيفه كـ (مكان افترا�ضي) ي ّ �أح��اول هذه الأي��ام �أن ا�ستدعي المكان من ال�شاعر على مقا�سه ،وتظلُ كل جزئيات هذا خالل ا�ستدعاء ثقافته ،و�أ�شعاره و�أ�ساطيره ،المكان االفترا�ضي بما تحتويه م��ن تفا�صيل محاو ًال و�ضع يدي على مفتاح الخ�صو�صية (�إن جزء ًا من �إحاطة ال�شاعر ب�أمكنته الحقيقية. ج��از لي التعبير) في تجربتي ،محاو ًال �إع��ادة بع�ض ه��ذه ال�صفحات ،وبخا�صة �صفحات ُ �إنتاج بع�ض التعابير والأمثال والأ�شعار ال�شعبية ال���ش�ع��راء وال�م�ب��دع�ي��ن ع�ل��ى م��واق��ع التوا�صل تتنف�س عبق ُ في كتابة ق�صائد تنتمي للمكان ب�صف ٍة خا�صة ،االجتماعي ،هي (�أماكن) ما تزال من خالل تفاعلها مع عنا�صره. الإبداع وروح الذكرى ،وتحتوي �صورة �شخ�صية نقطة �أخ� ��رى( ..ال �م �ك��ان ال���ش�ع��ري) غير متكاملة الجوانب حتى بعد وفاة المبدع. (ال �م �ك��ان ال���روائ���ي) ..ال��رواي��ة �أك �ث��ر عناية يمكن �أن َت�ب�ع��ثَ ال�ح�ي��اة فيها م �ج��دد ًا من تفاعلك الجديد معها (من خالل نقرة َ بال�شخو�ص والتفا�صيل الدقيقة ،لتما�سها التام خالل والمبا�شر مع المكان. �إعجاب �أو تعليق �أو م�شاركة) ،بل �إن بع�ض هذه بينما يظل المكان في ال�شعر ..محاط ًا بروح الن�صو�ص المن�شورة على هذه المواقع ،تتجاوز ال�شاعر وتفا�صيله الحميمية ،وحنينه وقلقه عمر ال�شاعر �أو المبدع وتم�ضي بعيداً!!
وظ�ل��ت الأم �ك �ن��ة ال�ت��ي تحتوي ال�شاعر في اهتماماته اليومية ورك�ضه وراء لقمة العي�ش، جزءًا �أ�صيال من التجربة؛ قد يبر ُز ب�شكل مبا�شر ولحظي في كتاباته المعا�صرة� ،أو يُ�ستدعى في لحظ ٍة من لحظات الحياة والكتابة. 96
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
اجلوبة � -صيف 1436هـ (97 )2015
الحلم �سعي ًا نحو المدينة ُ لكل منا مدينته الحُ لم التي يكتب عنها ،و�إن كان يح�سب نف�سه يكتب عن مدينة الواقع ،ما دام��ت «�أجمل مدينة في العالم هي تلك التي ي�شعر فيها ال�م��رء بال�سعادة» ،كما كتب �أح��د الأدب���اء ..حلُمتُ في �إح��دى ق�ص�صي بمدينة غير خا�ضعة لقوانين الجاذبية ،وف��ي ق�صة �أخرى كتبتُ عن مدينة كبيرة كفجيعة ،طاعنة في المباالتها بالغرباء ،وقلتُ �إن المرء ال يمكن �أن يحبها؛ لأنها مدينة تكتب على مداخلها: ممنوع دخول ال�سنونو ،و�أزقتها تذكر �أن الأر�ض قبعة �صغيرة ال تليق حتى ب��ر�أ���س طفل �صغير لما ي�صبه القمل بعد؛ ورغم �أنني كنتُ �أم�شي و�أهر�ش ر�أ�سي� ،إال �أن تلك المدينة لم ترني قط لأن نظرها �ضعيف ..وخ��رج بطل تلك الق�صة بتعميم مخيف هو «�أن المدن ليالٍ من الغربة حين يفقد الم�سافر البو�صلة؟!» .وف��ي �سعيي للمدينة الحُ لم ..كتبتُ مرة عن مدينة م�شتعلة بالحرب ،م��ات فيها جندي ك��ان كل �أمله بعد موته �أن تعود جثته بعد الحرب الى ما �أ�سماها 98
اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
القا�ص �سليمان المعمري �سلطنة عمان
ن�ص بعنوان كتبتُها عنها و�أحمل لها حب ًا خا�ص ًا ٌّ «رم ��اد � �ش��وزي��ت» ،ال��ذي و�إن ك��ان ف��ي ظاهره رث��اء لحالق بنغالي مات في ال��ردة بعد ()27 �سنة ق�ضاها فيها� .إال �أنه في العُمق �إيغال في �سكك الردة ودروبها ،ودكاكينها ،و�صالوناتها، وم�صنع ثلجها الذي ه�شّ مه ذات �صباح �سائق �سيارة ن�صف �سكران ،و�أهلها ال��ذي��ن يهوون
فل�سفة الأحداث على طريقة محللي الف�ضائيات الإخ �ب��اري��ة ،وح�ل��م ال �ح�لاق �أن يقب�ض –كما الكاتب ربما -على ل��ؤل��ؤة ال��ردة الع�صيّة ،ثم رحيله المفاجىء عنها مكتفي ًا ب�شرف المحاولة، تارك ًا �شيئا من روحه ،ي�ضمّخ المكان ،في حين �أُحرِ ق ج�سده الفاني في بنجالدي�ش وتناثر رماد ذكراه في الردة.
«مدينته الوادعة» لتنام فيها ب�سالم ..وهناك، في «المدينة الوادعة» فر�ش �أهلها مالءة �ضخمة و�ضعوا عليها التابوت ،وحمل كل منهم بطرف: الجنرال ،وال�شرطي ،والمقاول ،وتاجر الذهب، والم�شعوذ ،وال�شاعر ،والممثل ،وال�صيرفي، وال�شحاذ ،والعب الكرة ،وال�صيدالني ،والل�ص، والمطرب ال�شبابي ،وما�سح الأحذية ،والقاتل المحترف ،ونافخ الكير.. كلهم اتفقوا على المالءة ،ولكنهم اختلفوا على �أيهم �أج��در ب�إمامة الم�صلين في �صالة الجنازة .ظلوا طوال الليل ي�ستعر�ضون مزاياهم، وال�سنتمترات القليلة ج��دا التي تف�صلهم عن ال�سماء .وحين طلع الفجر فتح ال�شهيد التابوت وم�ضى وهو يقول مغالبا النعا�س« :من الأف�ضل ل�صحة الميت �أن ينام في مكان هادىء». تبقى «الردة» قريتي الهادئة التي تحوّلت في غ�ضون �سنوات قليلة ،وبقدرة قادر� ،إلى مدينة كبيرة هي مكاني الأثير .ومن الن�صو�ص التي اجلوبة � -صيف 1436هـ (99 )2015
الر�ستاق هي المكان الأول بكل تجلياته وامتعا�ضاته وفرائحه الهاربة �أ�شجار النخيل ،ولها تفا�صيل جميلة ملت�صقة في روحي ،وهي �شاهقة تاريخي ًا وت�ضطجع على جبل �شاهق؛ يعانق ال�سماء .ووديعة في الوقت نف�سه؛ م��ا خلق ف��ي دواخ �ل��ي الإب ��اء والطموح الم�ستمر في الحياة.
الإن���س��ان اب��ن بيئته بالطبع .والبيئة التي ن�ش�أتُ فيها بالت�أكيد لها دور ب��ارز ف��ي ر�سم �أفكاري وطرق تفكيري .وقد يكون الت�أثير عك�سي ًا مختلفا تماماً؛ �أي في الجانب المناق�ض بع�ض الأح�ي��ان! على الم�ستوى الجغرافي ،ف�أنا ابن مدينة(الر�ستاق) ،ا�سم له وق��ع في الذاكرة رغم �أن المدينة التي ولدتُ وتربيت و�أعي�ش الجمعية ،مدينة تزنّرها الجبال ،وت�ؤثّث م�سالكها فيها؛ مدينة الر�ستاق ،لم �آتِ على ذكرها ب�شكل مبا�شر في ق�ص�صي� ،إال �أنها تظل هي التي �أحملها وتحملني من �ضياع كل الأمكنة التي حملتني ،وحملتُ ذاكرتها الموغلة في التاريخ وال�ح�ن�ي��ن .ال��ر��س�ت��اق ه��ي ال�م�ك��ان الأول بكل تجلياته وامتعا�ضاته وفرائحه الهاربة ،ح�ضر المكان/الطفولة لي�ؤثّث الن�ص الق�ص�صي؛ لأن الق�صة الق�صيرة هي �سيرة ذاتية غير ر�سمية وغير معلنة ،ن�ؤثثها بتجربتنا اليومية واللغوية والإن�سانية؛ و�إال لن نكتب ما نعانيه حتى ولو كان ب�شكل فانتازي .لن تتكرر البيئة وال�شخو�ص في الق�صة؛ لأننا بب�ساطة نتحرك زمني ًا ويتحرك المكان باختالف وج��وه��ه .ه��ل مكاني الأول الر�ستاق قبل ثالثين �سنة هي الر�ستاق الآن؟!
والبيئة التي تحيط بنا بالت�أكيد لها دور بارز في ر�سم �أفكارنا وطرق تفكير الإن�سان..وقد يكون الت�أثير عك�سيا مختلفا تماماً� ،أي في الجانب المناق�ض بع�ض الأحيان! كردة فعل راف�ضة لما يحدث� ،أي بالطرق المتفق عليها م�سبق ًا في المعي�شة ال�ساذجة اليومية الروتينية؛ وهذا ما قد يحفّزني لطرح �أ�سئلة في داخلي وفي ق�ص�صي عن المكان؛ وقد نمت بمرور ال�سنين ،وحكايا خرافية قذفتها �أل�سنة ف��ي �أدمغتنا الغ�ضة.. ولأننا �أمة (مل�سونة) وظاهرة �صوتية كما قال الق�صيمي ..فكان البد من �إعادة تخيّل�/صياغة الحكاية/الحياة ،ول��و ب�شكل مفتعل وفنتازي، وم�ؤذٍ بع�ض الأحيان ،على م�ستوى الذاكرة.
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
الكاتب العماني ّ الخطاب المزروعي:
واقت�صادي ًا و�إن�سانياً؛ ال �أجد �سلوى �سوى اجترار المراتع الأول ��ى بالكتابة ،والعي�ش على �سقم الذاكرة الجميل.
ل �ق��د ت �غ � ّي��رت دي �م��وغ��راف �ي � ًا وج �غ��راف �ي � ًا 100اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
اجلوبة � -صيف 1436هـ (101 )2015
فاطمة بن محمود:
ُ المدينة و�صور ُتها ال �أع�ت�ق��د �أن ��ه ثمة مدينة واح ��دة ت�أ�سرني ب ُكتّاب الن�صف الجنوبي من الكرة الأر�ضية.. وتت�سرّب �إل��ى ن�صو�صي وت��راب����ض خلف بنات ال� ُك� ّت��اب هنا يعي�شون واق�ع��ا ُم��رب�ك� ًا ي�ضجّ �أفكاري� ..أعتقد �أن كتّاب العالم المتقدم ت�سكنهم بالفو�ضى ،تمثّله مدينة م��ا ،ويحلمون بواقع مدينة واح� ��دة ،مدينة تت�صالح م��ع واقعهم� ،آخر بديال ،يحققون فيه الم�صالحة مع ذواتهم وتقترب من �أحالمهم؛ لذلك يمكن للكاتب منهم القلقة وتمثّله مدينة �أخرى. �أن يكتفي بمدينة تكون العالم كله بالن�سبة له. لذلك� ،أعتقد ان الكتّاب الغربيين يتحدثون لكن �أظن �أن الم�س�ألة تختلف ،عندما يتلعق الأمر دائما عن مدينة واحدة هي نف�سها ،يعي�شون فيها ويكتبون فيها ،يتجولون في �شوارعها وتتجول في �أوراق �ه��م� .أم��ا الكتّاب ال�ع��رب ..فالمدينة لي�ست هي نف�سها ،حتى و�إن بدت كذلك� ..إنهم يعي�شون في مدينة ،ويكتبون ب�صورة �أخرى عن تلك المدينة� ..إنهم يعي�شون فيها ولكن يحلمون النف�س بها وف��ق مالمح �أخ��رى� ،إنها المدينة نف�سها في الظاهر ،ولكنها في الحقيقة تختلف بين الموجود والمن�شود ،تتباين بين �أن تكون مدينة بالفعل و�أن تت�شكل كمدينة بالقوة.
ل �ه��ذا ،ال �أج��د مدينة واح ��دة تقتحم حقول ال���س��رد ف��ي ك�ت��اب��ات��ي ،ب��ل ت��وج��د م ��د ٌن ع��دي��دة.. كتبتُ عن تون�س كما كتبتُ عن مدن مغربية مثل ال��دار البي�ضاء ،و�شف�شاون ،وم�رّاك����ش ،و�أي�ضا كتبت عن مدينة الكويت ،والمنامة ،وحلبجة في كرد�ستان؛ وفي كل هذه المدن كنت �أجد نف�سي دائما �أتحدث عن مدينة واح��دة جميلة ومثيرة وفو�ضوية ،ب�إمكانها �أن تقتحم عزلتي ،وتت�سرّب �إلى ن�صو�صي ،وت�أخذ �شكل ق�صيدة مثال ..ولكن في الحقيقة كنتُ في اللحظة نف�سها �أي�ضا �أتحدث
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
ال�شاعرة التون�سية
ي�سمّى بالرّبيع العربي ،ولكن عندما �أكتبها.. ف�إني ال �أق�صد نقل الواقع المربك ،بل �أق�صد �أن �أح�ل��م ب��واق��ع �أج�م��ل ت�ك��ون فيه تون�س بالد القيم الإن�سانية الحقيقية ،والفر�ص المت�ساوية، والحريات الفعلية والديمقراطية التي نحلم بها.
عن مدينة �أحلم بها و�أتوق �إليها؛ تتحقق فيها كل ال�شروط الإن�سانية لحياة كريمة ،فيها حرّيات فعلية ،وجمال ال يُدنّ�سه جهل الإن�سان ،وال يعكّر �صفوه التطرّف الديني ،وال تف�سده الدكتاتورية.. فكل مدينة لي�ست مناخ ًا وال مبانٍ جميل ٍة وال �شوارع نظيفة ،و�إن�م��ا �أي�ضا كل مدينة هي نمط تفكير وقواعد �سلوكية ،وثقافة ت�ؤمن بالجمال وتحترم المبدع؛ لذلك يحدث للمبدع �أن يكتب عن المدينة و�سكاّنها وم�شاغلهم و�أزماتهم ،ولكنه يق�صد �أن يكتب عن تلك المدينة ليرى النا�س تت�صالح مع واقعهم ،ويحققون �إن�سانيتهم؛ وه��ذا يعني �أن المبدع يتحدث عن المدينة وظلها� ،أو عن المدينة و�صورتها ،وال�شيء و�صورته لي�س لهما المعنى نف�سه!..
بالن�سبة ل��ي� ،أعي�ش ف��ي تون�س العا�صمة، و�أكتب فيها ق�صائد ون�صو�ص �سردية كثيرة، ولكن لي�ست هي نف�سها التي �أكتبها� ،أنا �أعي�ش فو�ضاها وارت�ب��اك�ه��ا ،خا�صة بعد �أح ��داث ما 102اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
اجلوبة � -صيف 1436هـ (103 )2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
الروائي المغربي ح�سن اليمالحي:
تطوان مدينة فاتنة في الحقيقة ال �أجدني �أنجذب �إلى مدينة دون �أخرى ..كل المدن التي مررت منها ذات مرات �أو �سنوات� ،أجد لها مكانة خا�صة داخل نف�سي. لي�س لأني مررت منها ،ولكن لأنني توحّ دت بها �إلى حد الت�شكّل من خالل ف�ضاءاتها و�أ�سوارها و�أزقتها و�شوارعها ،وقيمها التي ت�سودها بين ال�صداقات العابرة والتابثة .ولكن بالرغم من كل ه��ذا ،فبع�ض المدن تمار�س �سحرها على المبدع �إلى درجة اال�ستيالب .وفي هذا الإطار يمكن �أن �أت �ح��دث ع��ن «ب��ر��ش�ل��ون��ة» و«طنجة» و«تطوان» و «الق�صر الكبير». كلما تذكرت هذه المدن� ،أو عدت �إليها ل�سبب من الأ�سباب� ،أو قر�أت عنها قليال في �سياقات مختلفة� ،أ�شعر �أنني �أتماهى بها �إلى حد الجنون. �إن التماهي م��ردّه في نظري �إل��ى تلك الدماء التي ت�سري داخل �شرياني. وب� �ه ��ذا ال �م �ع �ن��ى ،فكلما ازدادت �سرعة �سريان هذه ال��دم��اء ب��داخ �ل��ي� ،أختلي بنف�سي ..وقد ال �أختلي لنقل هذه الدماء �إلى الورق من خالل كتابة ق�صة ق�صيرة، �أو ق�صة ق�صيرة جدا. �إن القارىء لن�صو�صي الق�ص�صية ،يالحظ مدى ال �ح �� �ض��ور ال� �ق ��وي ل �ه��ذه ال�م��دن -خا�صة ت�ط��وان- وهو يتفاوت ح�سب �سياقات 104اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
الكتابة النف�سية واالجتماعية. ال �أخفي �سرًا �إن قلت �إن��ه لم تكن لدي �أية ميوالت تجاه «ت �ط��وان» .ربما ك��ان ه��ذا ب�سبب �إقامتي ال�سريعة والعابرة في المدينة .لكنني بعد مدة بد�أت �أ�شعر �أن هذه المدينة الجميلة بف�ضاءاتها و�سكانها ،وكذا موقعها الجيوثقافي قد نفذت �إلى دواخلي ،و�أعادت ت�شكيل �شعوري و�إح�سا�سي من جديد ،بعد ما كاد �أن ي�ضيع مني. �إن تطوان تمثل بالن�سبة لي ف�ضاء اال�ستقرار العائلي والنف�سي ،هو الف�ضاء ال��ذي �ساعدني كثيرا على ا�ستعادة ثقتي في �أفكاري ونجاحي في عملي ،وكذا م�شاريعي الإبداعية والثقافية. �إنها ملهمة وفاتنة؛ فقد كانت م�صدر �إلهام الكثير م��ن الفنانين والمبدعين .و�إذا اطلع القارئ على جانب من ق�ص�صي ،يجد �أني �أُخلِّد هذه المدينة في الكثير منها. ف � ��ي ال� �ح� �ق� �ي� �ق ��ة ت �ت �ع��دد ال��ظ��روف ال��ت��ي �ساقتني �إل��ى مدينة «تطوان» ،مثل الظروف ن�ف���س�ه��ا ال �ت��ي ق��ادت �ن��ي �إل ��ى ب��اق��ي ال �م��دن الأخ � ��رى التي ذكرتها ،مع اختالف ب�سيط. وبحكم �أنني من �أبناء �شمالي المغرب ،ف�أنا كثير التردد على طنجة وت�ط��وان ،بحكم بع�ض االلتزامات الإدارية �أو الثقافية �أو االجتماعية .وربما كان هذا
الأم��ر من الأ�سباب التي قادتني �إل��ى االرتباط ب �ت �ط��وان ،خ��ا��ص��ة م��رت�ي��ل ح�ي��ث «ك�ل�ي��ة الآداب والعلوم الإن�سانية» ،وهي الكلية التي احت�ضنتني لمدة خالل �إنجاز ر�سالة الدكتوراه في بالغة وتحليل الخطاب .والعجيب �أنني �أ�صبحت �أقيم في هذه المدينة ب�صفة نهائية ،بعد �أن �أطبقت �سيطرتها عليَّ بالكامل. �أن��ا �أر��س��م ه��ذه المدينة وغيرها من باقي المدن الأخ��رى ،كما �أتمثلها وتتمثلني .وبهذا المعنى ،فهي تتجلى في ن�صو�صي الق�ص�صية من خالل �شوارعها ومقاهيها و�أ�سوارها العجيبة، وكذا �سكانها� .إن هذه الر�سومات تعك�س في كثير من الأحيان عالقتي بهذا الف�ضاء الذي �أحببته، من خالل حاالت وو�ضعيات مختلفة .وما ينطبق عليَّ ،ينطبق على �سير �أبطال و�أمكنة ن�صو�صي و�أن �أحتفي بهما. �إن ه��ذه التجليات لي�ست نهائية وال تعك�س الوجه الحقيقي والجمالي لها ،بقدر ما تعك�س �أحد �أوجه هذا الجمال الذي يجذبني. �إن تطوان مدينة فاتنة و�ساحرة ،بطابعها الأندل�سي الذي يغطي جميع ف�ضاءاتها ،وتجد له الكثير من االمتدادات على مالمح �سكانها و�أنماط �سلوكاتهم وعي�شهم. الق�صة الحقيقية ال تحتفي بالف�ضاء الواحد، �إنها تتحرك في الزمان والمكان ،تعي�ش وت�ساير وتلتقط ،وتج�سد وتدقق في كل التفا�صيل بجميع
�أنواعها ،والف�ضاءات التي تنتظم بداخلها ،وهذا �سر من �أ�سراراها .وبهذا المعنى ،ف�أنا احتفيت في ن�صو�صي بالكثير من الف�ضاءات المختلفة والمتنوّعة ،بيد �أن هذا االحتفاء لم يكن دوما متكافئا ،لأن الأم ��ر يتعلق �أ��س��ا��س��ا بالدفقة ال�شعورية ،ونوع ودرجات الإح�سا�س بتلك اللحظة التي تندغم فيها م�شاعري بذلك الف�ضاء. فمثال ف��ي مجموعتي الق�ص�صية الأخ�ي��رة التي تحمل عنوان «مرايا �صغيرة» ،يجد القارئ ت��وزع��ي داخ��ل ف�ضاءات «بر�شلونة» ،المدينة الكطاالنية التي ق�ضيت فيها جانبا مهما من ح�ي��ات��ي .وخ�ل�ال ه��ذه الإق��ام��ة ع�شقتني هذه المدينة مثلما ع�شقتها ،فخلَّدْ تها في م�ساحة مهمة م��ن ه��ذا ال�ع�م��ل ،م��ن خ�لال �صداقاتي ب��أ��س��واره��ا ومقاهيها و�ساحاتها و�شوارعها العمومية وعالقاتي المتنوعة ب�سكانها. �إن ه��ذه اللحظات ال��ت��ي يجد لها ال��ق��ارئ �صدى داخل هذه الن�صو�ص� ،إنما تج�سّ د �أوا�صر �صداقة كاتب ببع�ض الف�ضاءات التي تعبره ،بعد �أن عبرها ذات م��رة .والحال عليه ،ما ينطبق على «بر�شلونة» ينطبق على باقي المدن التي �أحتفظ بكيميائها داخل نف�سي .وهي الكيمياء التي ال تعرف التوقف �أبدا من خالل انطباعها في وعيي وال وعيي. اجلوبة � -صيف 1436هـ (105 )2015
أقيم في بيت �شعر � ُ ق�ب��ل ال �م��دن ��س��أح��دث�ك��م ع��ن ال �ب �ي��وت ،لأن المدن هي �أمهات البيوت .هناك بيوت �أ�صدقاء لنا ،وبيوت �أغ��راب ،وهناك بيوت مغلقة تنتظر �أ���ص��ح��اب��ه��ا ،وه��ن��اك ب��ي��وت مفتوحة ال تنتظر �أحدا ..بيوت الغربة والمنافي..
التراب ويرويه ،له مفعول �سحري على الن�سيج الإبداعي ،لكن كل �أماكن اهلل الوا�سعة تُخت�صر في ال�شام� ،أنىّ اتجهت �أفتح قف�صي ال�صدري و�أُدخلها ،وعندما �أعود �أُحررها من علٍ قبل �أن تهبط طائرتي؛ لأ�ستمتع بر�ؤيتها من الف�ضاء وهي تهدل بعباءتها المطرّزة بق�صب الزمان..
البيت يعني �أب��ي و�أم ��ي و�إخ��وت��ي و�أوالدي، فال�شام ي��ا ليت ال��ذي م��ا زاره���ا �أو �ش ّم من والحبق وال��ورد والأ�شجار والذكريات والحنين وكتبي و�أوراق��ي ور�ؤاي� .أح��ب كل �شيء فيه �إال �شرفاتها ازهارها.. المطبخ؛ لأنه يعتقل وقتي ،و�أنا �أت�آمر عليه مرار ًا ويلم�س كيف �أ َّن نهارها يمتد من فوق ُ يدري وت�ك��راراً ،فيعتقلني تمام ًا ككل الديكتاتوريات التمنّي عنده.. التي تعتقل المبدع وت�ضعه تحت خط الخبز ليذوق في �أ�سماعه طعم الوطن.. خوف ًا من عقله؛ علم ًا ب�أنني �أعي�ش في بيت من ي�ق��ول��ون عندما تفقد ح��ا��س� ًة م��ن حوا�سك ال�شعر٠ تتحفز حا�سّ ة �أخرى وتقوى .اللم�س مث ًال يقوى ال يعرف قيمة البيت � اّإل مَ ن ي�سافر �أو يُهجّ ر عند فاقد الب�صر ،لكن عندما تفقد حا�سّ ة تخف بقية ح��وا��س��ك� .إن�ه��ا الحا�سّ ة ق�سر ًا فيفقد بيته ووط �ن��ه .فالبيت ه��و نقطة «ال���ش��ام» ّ الجاذبية المتفرّدة التي تُعيدك �إليها �أنّى رحلت .العجيبة التى ال تقوى بدونها الأ�شياء .فال تعد كل زاوية من بيتي لي فيها لم�سة من روحي ..و�أنا ترى اليا�سمين يا�سميناً ،وال ت�شمّه في مكان ال �أكتب ب�سواها� ،أنا �أ�ستمتع بزواياه كما �أ�ستمتع �آخر ،وال تتذوق العذوبة وال ت�سمع العطر. ب�شحنات ق�صائدي وكلماتها ..الذكريات هي نعم ،العطر يُ�سمع ف��ي ال�شام قبل ال�شمّ ؛ المنطقة ال�شاعرية الخ�صبة ،ال توجد ذكريات لأنه ثالثي الأبعاد ،يحجز الأماكن و�أ�صداءها، ب�غ�ي��ر �أم �ك �ن��ة ،ل��ذل��ك ه��ي م��ن ين�صب خيمة فتلم�س المو�سيقى بيديك ،وي�أخذك الغرور.. الق�صيدة ب�أوتاد المكان. فت�صير متدم�شق ًا �أ ِن�ف�اً ،جميل ال��روح خفيف
الأماكن والعطر يحجزان في نف�س المبدع ال�ب��دن .ه��ل عرفتم الآن ل�م��اذا �صار ال�سوريّ ال�سال�سل الف�ضية لمطر الأما�سي ال��ذي يفوّح م�شكلة الم�شاكل؟! 106اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�أنا فيَّ �أوجا ٌع و�أحال ٌم وع�شقُ ال تقول وال تُ�صرّح؛ لأن �صوتها لمّا ٌح عنيد� ..أنا يا طبيبُ في ال�شام تموت الحروف واقفة ،ال كالأ�شجار لي�س ت�ؤلمني �ضلوعي وح�سب� ..إنما ك�إناث المها. ما خلفَ �أي�سرِها في ال�شام تلب�س الأح��زان قبعتها البي�ضاء لتوجِ عُني دم�شقُ .
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
ال�شاعرة ال�سورية ابت�سام ال�صمدي
لأن :الذوق وال�شمّ عالمه /الهم�س واللم�س /وخُ فّها ال�صيفي ،ت�صعد قا�سيون لتكون على حوا�س م�ستوى جبل يليق بارتفاعها وكبرها ،تحت�ضن العين والحد�س /ال خم�سة ،ال �ست ٌة /فينا ٌ المدينة وتحتفظ بدمعة عزيزة غالية كدمعة �سبعةٌ /تدعى الكرامة. في ال�شام ال يكون للنارنج لونان وال للزعتر الأبطال .هل عرفتموها الآن؟ دم�شق ي��ا م��ن �أعطيتني �أ� �س��رار المفاتيح نكهتان، والأ�سئلة ،و�أهديتني ثالثية علي بابا ،و�شيفرا ال يكون �سوى لليا�سمين فوح مختلف. الدخول �إلى كهوف االبداع ،يا م�صغّر الكون ويا �س ّر �أطلعكم عليه لتكونوا تحت تغطية كاملة جنتي�،أهلوك جزء من ن�ضجي اليومي ورائحة مهي�أوون ال�ستقبال ر�سائل بالدي الفواحه. البهار والهيل ،تيه ال�صبايا و�صخب ال�شباب، ف��ي ال���ش��ام تطفئ �صمتك ،وتغلق منطقة ف��وح ال���دراق وال �خ��وخ ،وذوب ال�ت��وت وفو�ضى انت�شارك ،وتفتح روحك ،حيث للن�سمة بُع ٌد �آخر ،اليا�سمين ،كيف ال �أ�شتاقك و�أنا بعيدة؟ كيف ال وللأفق �أبعاد ثالثة تر�سو على انت�شار واحد من �أحنّ �إليك و�أنا قريبه؟ �س�أُ�سامح من �أجلك من البهاء ،ال يعلوها طير في ال�سماء � اّإل وله على �أ�ساء ،و�أحب من �أجلك مَ ن �أحب بكل ما �أُتيت، و�أح��ب �شوارعك و�أبنيتك المهدمة ،م�شافيك �أر�ضها عُ ٌ�ش وثير. الغارقة ،ون�سمات قا�سيون الم�ؤلمه ،العمال في ال�شام ترى من الأ�سماء �أجودها ،تعلمك وكنا�سي ال���ش��وارع ،وحتى الل�صو�ص ،وك��ل ما �شيئ ًا وتُخفي عنك �أ�شياء. يُ�شكّل حلقه ولو �صغيرة في م�آذنك وكنائ�سك في ال�شام تنت�صر الأزه��ار لربيعها ،وتحتج ون��وم��ك و��ص�ح��وك ،ب��دءا م��ن �أع�ل��ى ن�سمة في الأ�شجار على خريفها حتى ت�سقط �أوراقها في �سمائك حتى �أ�صغر حبة ف�سيف�ساء في تاريخك. الخرافة وعربات اال�صفرار..
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
ال�شاعر المغربي كمال �أخالقي
�أ�سفي مدينة �أبوابها القديمة مفتوحة �أ�سفي ،مدينة �أبوابها القديمة مفتوحة على الأط�ل���س��ي ،ه��ي مدينة بحر ون��وار���س وغ��روب �شم�س ف��ي ال�م�ح�ي��ط ،ل�ك��ن ع�لاق�ت��ي ك�شاعر بمدينته (�إن كانت فعال مدينتي؟) هي عالقة متوترة وغير طبيعية ،فلن يعثر قارئ ق�صائدي �أو دواويني ال�شعرية على ما يدل �أو ي�شير �إلى مدينة �أ�سفي كمكان �أقيم فيه ،واكتب من داخل ف�ضاءاته المتعددة؛ ربما هذا يرجع لأ�سباب ترتبط بي وبالمدينة ،فطفولتي ق�ضيتها متنقال ف��ي �أ�سفي تمنيت حينها �أن ي�ستبدل �أب��ي عبر �أماكن متفرقة وبعيدة ،فلم يكن �أبي (الذي بندقيته ب�صنارة وق�صبة وي�صطحبني �إل��ى ك ��ان ي���ش�غ��ل م�م��ر��ض��ا قبل البحر ،هذا الكائن ال�ضخم �إحالته على المعا�ش) يحب وال � �م � �ه� ��ول ال�� � ��ذي ي �ب �ت �ل��ع اال�ستقرار في مكان معين، الأط� � �ف � ��ال ..ه� �ك ��ذا ك��ان��ت فمن �سيدي رح��ال ب�إقليم ت�صوره لي �أم��ي الأمازيغية، م��راك ����ش �إل� ��ى ام �ن �ت��ان��وت ونحن ف��ي الأط�ل����س� ،إن��ه ما ب��ال �ح��وز م� ��رورا ع�ل��ى اب��ن ي� ��زال ي��رع�ب�ن��ي �إل� ��ى الآن، ج��ري��ر وال�ع�ط��اوي��ة و�صخر كلما حاولت �أن �أتنف�س هوا ًء الرحامنة وجمعة �سحيم بحريا �أو رذاذا مالحا �أتذوقه و�أخ �ي��را �إل ��ى �أ��س�ف��ي حيث ف��ي كلمات ق�صائدي ،و�أن �سنحط ال��رح��ال بها �سنة �أ�ستمتع بذلك قبل القارئ. رب �م��ا ف��ي ن�صو�ص ق��ادم��ة، 1982م ،وكان عمري حينها (� )12سنة ،ر�أيت البحر لأول مرة في حياتي، و�أن��ا ال�ق��ادم من الحقول ،والعا�شق للأ�شجار والأنهار وال�سهول الدافئة ،حيث كنا نحن الإخوة الأربعة في رح�لات �صيد برية يتقدمنا الوالد �سي عمر القنا�ص الماهر ببندقيته (الجويجة)، وبدلته �شبه الع�سكرية ،لنعود كل م�ساء محملين بطرائد متنوعة من حجل و�سمان و�أرانب وحمام بري.)..
108اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�س�أخطو باتجاه بحر �أ�سفي رغ��م �أن المهمة �ستكون �صعبة؛ لأن �أحوال هذه المدينة وما �آلت �إليه جعلتها مدينة تعي�سة وخائبة� ،إنها لوحة «موناليزا» ..ال تقول �شيئا وال تومئ ب�شيء ،ولكنها تحفر في كيانِ �شاعرٍ �إح�سا�سي بالألم والح�سرة؛ وهذا هو الإح�سا�س الذي يطبع تجربتي ال�شعرية كامال ،و�أ�سفي م�صدره بكل ت�أكيد .وهناك بع�ض الق�صائد التي كتبتها في ميناء المدينة متجوال قرب مراكب ال�صيد ،ولعل هذا المقطع ال�شعري هو واحد من هذه الق�صائد: «رح���ل الأ�� �ص ��دق ��اء ،والأح��ل��ام ال�صغيرة ت�ساقطت خلفنا ك�ضباب هزيل ،وحدها �سفن الميناء الرا�سية ال تزال تنتظر الأبد ،ترى هل حملوا بع�ض ال�صور ل�صناعة الذكرى؟ وحدي �أرع��ى ه��دا ال �غ��روب الأب�ي����ض� ،أو� �ص��ي الجبال ببعثرة ال��ل��ي��ل وب��دح��رج��ة ال��ظ�لال ،ك��ل رع��اة ال�صمت الأعمى �أ�صدقائي .يا �أ�صدقائي لن
يجف هذا الوادي والأ�شجار التي ت�ألمنا لأجلها كثيرا �سوف تظل هناك وارف��ة مثل الحياة.. الحياة ،هتاف الخائفين في �أر�ض التاريخ في الأبي�ض الحزين على ال�ضفاف البعيدة وفي ثلوج الغياب ،رحل الجميع ولم يكن كافيا �أن �أحرث �أثر هدا الغياب �أن �أقتفي �سمائي النحيلة عند المنحدرات على عتبات بيتنا العتيق في طريق الندم قاحال ك�صحراء» .رغم الم�ساحيق الكثيرة التي و�ضعت على وجهها فحالها ما يزال يبعث على الأ�سف ،ولهذا� ،أف�ضل �أن �أت�سكع في �شوارعها ليالً ،جنب الكورني�ش البائد وق�صر البحر المهدم� ،أ�سمع �أنين تلك المر�أة التي كان الجميع ي�شهد لها بالجمال والرقة قبل �أن تغزوا ج�سمها طفيليات جلدية �أ�شبه بال�سرطانات التي ال ت��رى بالعين ال�م�ج��ردة� ..أ�سفي �شديد على مدينتي� ،أ�سفي :هل �أنت مدينة �شعر وح�ضارة؟ �أم مدينة تلوث و�ضياع؟؟ اجلوبة � -صيف 1436هـ (109 )2015
بين تـالل قرية �أمـي وهــديل حـمـام مكة المدن بالن�سبة لي ب�ش ٌر يحبون ويكرهون� ..أمكنة مقد�سة تحت�شد بالبيا�ض ،ودموع الب�شر.. ي�شعرون ويظلمون .هكذا �آمـنتُ كما �آمنت �أمي و�أ�سئلتي ال�صغيرة المتدفقة على �أمي :لماذا ال بذلك .هناك مدن رقراقة ،ومدن �صلدة ،مدن ي�سكن هذه الأماكن �أحد؟ طاردة للغرباء و�أخرى ودوده ،مدن تورق �ضياء �أترك مكة و�أنا طفلة العا�شرة ،وي�أخذني القدر وغيرها ي�شتهي العتمة. �إلى بلدة في الجنوب حيث حوانيتها ال�صغيرة، قدري� ،أن ال �أكون ابنة مدينة واحدة! وك�أن كل مدينة مررت بها تريد �أن تحفر لها وجودا في ذاكرتي ،وتريدني �أن �أخبر العالم عن �أهلها عبر م�شاك�سة كتاباتي.
و�أراد ال �ق��در �أن ت �ك��ون م��دي�ن��ة ال�ث�ق��اف��ات ال �م �ت �ع��ددة ،و� �ص��اح �ب��ة ال �ل �ه �ج��ات وال �م�لام��ح المتعددة �أي�ضا «مكة المكرمة» ،م�سقط �صرختي الأول��ى التي ه َّد َ�أتْها قبلة �أمي الحانية لوجنتيَّ ال�صغيرتين في يوم �صيفي. تقف �أم ��ام عيني مكة بنقو�ش روا�شينها، بمالمح ج��ارن��ا ع��م �شريقي ،وه��دي��ل حمامها الذي �أت�أمل وداعته الباذخة في �ساحة الحرم، مطرزات م�ساند مجال�س بيوتها الفاتنة ،وطعم �شْ ريكْها الحلو .تـعب ُر بي �أغ�صان �أ�شجار اللوز المتدلية من �سور بيت جيراننا الكبير ،والتي تنادي �شقاوتنا لنقطفه� ،صـالة (الم�شهد)، و� �ش��ذى ال �ع��ود الأزرق ال ��ذي يلف ال�ط��رق��ات، الحلوى التي تتلقفها َي��دِ يَ ال�صغيرة و�أي��ادي �أقراني ال�صغار� ،أ�صوات التلبية القادمة من 110اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
تركية العمري كاتبة ومترجمة �سعودية
متدثّرة ب��ال�م��روج ،وب�صباحات �أغنيات �أم��ي العنيدة ،فتجد كبرياء كلماتي. ورفيقاتها الجميالت ،هي رفيقة المطر ،ت�شبه �أالعب تلك المدن التي �أعرفها ،وتالعبني، قرية «�أفونليا» التي احتوت اليتيمة «�آن» .ت�سكنني تظهر وت��ت��وارى ،تبتعد وت��ق��ت��رب ،تت�سع ت��ارة، قرية �أمي ،تمد يدَ يْها �إليَّ ،لت�أخذني �إلى تاللها، ومراعيها ،و�صوت طائر القُهبي ،وثغاء �صغار وت�ضيق ت��ارة �أخ� ��رى ..ف�لا ت�صبح �إال مدينة ال�شياه ،تلك القرية التي �أُحبها ،فكل �صباح واحدة ،ال بل مـدن ًا تتنا�سل تحمل �أ�صوات �أهلها، كانت ت�سكب �أمي لي منها رحيق حكاياتها ،قبل وق�سمات وجوههم؛ ولكن تبقى هناك مدن �أخرى �أن �أ�سير بخطاي �إلى مدر�ستي ،وتُطِ ل بر�أ�سها بعيدة تدَّعي �أنها تعرفني ،وتحبني ف�أ�صدقها، عليَّ ،وتن�ساب بين ن�صو�صي تحمل معها جبالها و�أمتلىء برغبة ر�ؤيتها.
وطرقاتها ال�ضيقة ،وحياتها الب�سيطة ،تقاوم هوية القادمين �إليها ،بلدة ت�ستند على �أث��ل وادٍ عريق� ،إنها «بي�شة» ،وكنتُ أُ�لحق بها ا�سم الفيحاء� ،أردت �أن تكون فيحاء ،وب��د�أ يتفتح فيَّ برعم حرف عذب ،ليكون ُ�صدفة قدرية �أن �ألتقي ب�أمنياتي بقرية تحمل ا�سم «الحرف»، في�ستف ُّز فيَّ �ألف حرف وحرف و�أنا �أمر بواديها كل �صباح ،وتبد�أ م�شاك�ستي لها ،و�شغب فكري، و�أ�سئلتي الكبيرة التي تجاوزت �أ�سطح منازلها ال�صغيرة.
�أي �ن �ع��تُ ..وبي�شة ك�م��ا ه��ي ت�ل�ت� ّ�ف ب��أغ�لال رك ��ود ،فـتركتها ميمّمة نحو ال �م��اء والحياة وال��رق ����ص وال �ح �ل��م ،ن�ح��و ح �ك��اي��ات ال�سفن، و�أغ��ان��ي ال�صيادين ،و�ضحكات ال�ح��وري��ات... �إلى المنطقة ال�شرقية .وهناك �أورق��ت كلماتي �أزهارًا ملونة ،و�أ�صبحت لي حروف كثيرة ،و�أكثر من لغة .ا�ستطالت قامة فكري ،وا�ستوت �أمامي المرافىء. هناك �أي�ضا قرية �أمي المختبئة في الجنوب اجلوبة � -صيف 1436هـ (111 )2015
الكتابة في المدن �سر من الأ�سرار وهو محفوف بالمخاطر عندما �أهجع �إلى النوم �أفكر طويال في المدن التي ع�شت فيها� ،أو مررت بها ؛ المدن التي �سبتني و�أثرت في وجداني وقريحتي .جعلتني �أكون �إن�سانا قبل �أن �أك��ون كاتبا يالحق تحوّالتها ،وتفا�صيلها من حين لآخ��ر .هي مدن مبنية بالآجر والإ�سمنت والحديد. تكون مبانيها �إم��ا متعالية ك�أ�شجار ال�صف�صاف �أو منخف�ضة كالقبور المن�سية .ما يفتنني فيها هو فكرة واح��دة ال �أقل وال �أكثر :هناك �أنا�س يبنون و�آخ��رون ي�صفون .ثمة عالقة متناق�ضة بين الأمكنة والخيال. فكثير من المدن قذرة ولكن القا�ص �أو الروائي زينها و�أزال ق��ذارت�ه��ا .ع��ادة تروقني الأمكنة التي تهتم بمقاهيها� .إن كتبت ق�ص�صا فيها �أحببتها ،و�إن وجدت م�شقة �أعر�ضت عنها .هناك بحث دائم في المخيلة عن المدن التي تبادلك ال�شعور عينه ،ولكنها قليلة. الآن �إذا �أردت االختالء بنف�سي فررت �إلى المحمدية. تبدو الفكرة غريبة �إلى حد ما. هناك �أنا�س يبنون ،ن�سميهم عادة برجال الأعمال �أو المقاولين الذين ي�سهمون في التنمية والتطور والعمران .فالمدن �أو الدول تزدهر بالعمران ح�سب تعبير ابن خلدون ،وثمة �أنا�س ال يهمهم �إال الو�صف واللعب بالأمكنة على �أ�سا�س �أنها مقرات تعي�ش فيها ال�شخ�صيات .ن�سعى �إلى �أن تعي�ش �آمنة مطمئنة حتى تنجب كالما نتذوقه ب�أل�سنتنا� .إذا جاعت لم تنجب �إال الثرثرة وال�سذاجة. في ال��واق��ع ،ال �أح��د يعرف الآخ��ر عن ق��رب حتى نعاين ح��وارا قد يف�ضي �إل��ى نتيجة ،مثل �أن ي�سهم الكتاب في بناء مدنهم ،على الأقل ي�سهمون ب�أفكار 112اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ترتبط بالهند�سة والت�صميم .ت�صميم مدن بح�سب هواهم؛ حتى ال تزِ لَّ �أقدام ال�شخ�صيات في عتباتها؛ لأن�ه��ا مرتفعة ب� ��أدراج تالئم تطور الع�صر .ع��ادة بم�س من جنون العي�ش في ال�شخ�صيات تكون م�صابة ّ العهد الجميل� .أن تعي�ش في �أمان من غدر الزمان. ما نعاينه من ق�ص�ص وروايات ي�شي ب�أن �شخ�صياتها من ذوي االحتياجات الخا�صة .تتحدث وال تبين عن �أي معنى حتى ن�شخِّ �ص �أمرا�ضها .ف�إذا كانت م�صابة بعاهة من عاهات الكالم فقل على ق َِّ�صنا ال�سالم. الفكرة وا�ضحة �إن لم �أخطئ. ثمة ت�ح�وّل ي�ط��ر�أ الآن ف��ي ال�م��دن التي ي�سكنها الكتاب. وه�ؤالء عادة ال ي�شار �إليهم بالبنان �إذا جل�سوا في مقاه �أو مطاعم� ،أو مروا بحوا ٍر و�أزق ٍة و�شوارع�.إنهم جنود الخفاء� ،أو المر�ضى بوهم من الأوهام .عقالء في عالم مجنون ،يُ�سدون الن�صيحة ..ولكن ال �أحد ي�صغي �إليهم. فالع�صر ال يبدو �أنه ع�صر كتابة �أو قراءة ق�ص�ص همها �أن تنكر على رجال الأعمال ح�سن �صنيعهم. فالكتابة ال تهادن وال ت�صادق البورجوازية .لها �أحبتها من العامة ورعاع الأمة. يت�صور الكاتب دوم��ا �أن��ه �إذا نه�ض من فرا�شه وا�ستعد للخروج �إل��ى متاهات مدينته «وه��ي لي�ست مدينته ب�أي حال من الأحوال»� ،أن ثمة جمهور ًا ينتظر خروجه للعراء حتى ي�س�أله عن �أحواله� ،أو يطلب منه �أن يوقع له كتابا من كتبه.
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
القا�ص المغربي الح�سن بنمونة:
ر� ٌ ؤية للمنهج التاريخــي في النقد
■ �أ.د� .صربي م�سلم حمادي*
يبدو �أن هناك اتجاهين في النقد التاريخي؛ يدخل الأول في النقد الأدبي من دون �شك «لأن �صاحبه يقابل الما�ضي كما يقابل الحا�ضر ،محتفظاً بتحليله ور�أيه وذوقه و�شخ�صيته ،والتاريخ لديه و�سيلة للفهم والتفهم ..والثاني ال يدخل في النقد� ،إذ يبقى تاريخاً؛ لأن �صاحبه يظل مدفوناً في الع�صر الذي يدر�سه تحت �أكدا�س من الم�صادر( ،)1وقد مكث باحثونا الرواد ممن �سلكوا درب النقد التاريخي يترددون بين هذين الطرفين ،و�أعني بهما النقد والتاريخ؛ �إذ ،قد تطغى المعالجة التاريخية �أحياناً ،وربما غلب الجانب النقدي التحليلي في �أحيان �أخرى. �إن جهلنا بالتاريخ يجعل قراءتنا الأدبية غير دقيقة؛ لأن ق��راءة ملحمة جلجام�ش �أو ملحمتي الإلياذة والأودي�سة على �سبيل اال�ستدالل بعيد ًا عن ال�سياق التاريخي ،يجعل القراءة ناق�صة ب�شكل �أو ب�آخر ،وت�ستمد كثير من الأعمال الأدبية �أهميتها من طبيعة المرحلة التي ظهرت فيها كالمقامة العربية التي ازده��رت في ع�صر معين وفي �سياق تاريخي محدد ،ول�سنا ب�صدد التوغّ ل في �أ�سباب ظهورها في تلك المرحلة على وجه التحدي .بيد �أن عزل الظاهرة الأدبية �أو الجن�س الأدبي �أو الأديب عن ع�صره ،يمكن �أن يحدث خل ًال بيّن ًا في الأحكام النقدية .وما نزال ن�ؤرخ لمرحلة الإحياء في ال�شعر العربي عامة ..وفي م�صر خا�صة بال�شاعر محمود �سامي ال �ب��ارودي ،ول��و عا�ش ال �ب��ارودي في ع�صر الحق �إذ ًا لما ا�ست�أثر بكل هذا االهتمام ،وينطبق هذا على ال�شاعر الر�صافي وال�شاعر الزهاوي في العراق وهما يمثالن مدر�سة الإحياء العراقية .ينقل �إمبرت قو ًال لأحد �أ�ساتذة النقد المعا�صر وهو من �أن�صار المنهج التاريخي في النقد� ،إذ يورد «الحياة مندمجة في التاريخ ،والحياة �إبداع التاريخ»(.)2
�إن ق�صيدة مثل ق�صيدة الكوليرا التي كتبتها ن��ازك المالئكة ع��ام 1947م ال يمكن عزلها عن تاريخ �صدورها واكت�سابها الأهمية الخا�صة ب�سبب تاريخ ن�شرها� ،إذ �أره�صت بزخم من الق�صائد التي اختارت تقنية التفعيلة ،بحيث �أ�صبحت ظاهرة �شعرية اعترف بها الحقا(.)3 �إذ ًا فالمنهج التاريخي ي��راه��ن على ال�سياق التاريخي ،بيد �أن��ه يخ�سر مكانته بين المناهج النقدية حين تميل الكفة باتجاه التاريخ المح�ض، ويتحول الن�ص الإبداعي �إلى مجرد وثيقة تاريخية، م�شيح ًا بوجهه عن الت�شكيل الفني للن�ص ،وهذا االن���ص��راف للتاريخ م��ن م��زال��ق النقد التاريخي وعيوبه؛ بيد �أن المنهج التاريخي في النقد حين يوازن بين العن�صر الفني والعن�صر التاريخي فال يغلب �أحدهما على الآخ��ر؛ ف ��إن النقد التاريخي يبدو منا�سب ًا تماماً ،و�إال كيف يمكننا �أن نقر�أ معلّقة عمرو بن كلثوم التغلبي من دون �أن نعرف حدث مقتل عمرو بن هند على يد عمرو بن كلثوم؟! ومثل ذلك يقال عن ح�شد من الق�صائد ..كاالعتذارية البائية للنابغة الذبياني ،ومعلقة زهير بن �أبي اجلوبة � -صيف 1436هـ (113 )2015
* �أ�ستاذ اللغة العربية في ق�سم اللغات الأجنبية بكلية و�شتناو � -أن �أربر -ميت�شجن -الواليات المتحدة الأمريكية. ( )1د .علي جواد الطاهر ،مقدمة في النقد الأدبي ،الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،بيروت 1979م �ص-403 .404 (� )2إنريك �أندر�سون �إمبرت ،مناهج النقد الأدبي ،ترجمة :د .الطاهر �أحمد مكي ،دار المعارف ،ط ،2القاهرة 1992م� ،ص.116 ( )3د .وجدان ال�صائغ ،قيثارة �سومر ،مركز عبادي للدرا�سات والن�شر� ،صنعاء 2007م� ،ص.19 (� )4أو�ستن وارين ورينيه ويليك ،نظرية الأدب ،ترجمة محيي الدين �صبحي ،ومراجعة الدكتور ح�سام الخطيب، مطبعة خالد الطرابي�شي ،دم�شق 1972م� ،ص.179 ( )5ينظر �إمبرت ،مناهج النقد الأدبي �ص.117 114اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
�سلمى و�أبياته التي خ�ص�صها لحرب الب�سو�س، ورثاء مالك بن الريب لنف�سه في حملة �إ�سالمية من �أجل تحرير فار�س ،واعتذارية كعب بن زهير بن �أبي �سلمى ،و�سواها كثير. لقد ثبت لدينا �أن التاريخ حين يدخل في ن�سيج العمل الفني ،ف ��إن النقد التاريخي ه��و الأن�سب والأقرب �إلى روح الن�ص ،وينطبق هذا على �سبيل اال�ستدالل على رواي��ة الحرب وال�سالم للروائي ال��رو��س��ي «ليو تول�ستوي» والثالثية التاريخية لـ «نجيب محفوظ» وهي تتحدث عن التاريخ الم�صري القديم (الفرعوني تحديداً) ،ومثل ذلك يقال عن الروايات التاريخية التي كتبها جرجي زي��دان �أو تلك التي كتبها علي �أحمد باكثير .وتطول القائمة وهي ت�صب في توكيد �أثر التاريخ وتوثيق دوره في بع�ض الأعمال الإبداعية. ويقترب المنهج التاريخي في النقد مما و�صفه �أو�ستن واري��ن ورينيه ويليك في كتابهما نظرية الأدب ب��درا��س��ة الأدب م��ن ال �خ��ارج ،ف��الأع�م��ال الأدب �ي��ة ذات�ه��ا ه��ي التي ت�سوغ ك��ل اهتمام نبديه بحياة الأديب ،والع�صر الذي عا�ش فيه ،والظروف ال�سيا�سية واالجتماعية التي رافقت نتاجه الأدبي؛ لكننا ومن الغرابة بمكان �أن نذكر �أن تاريخ الأدب كان �شديد االنهماك ب�إطار العمل الأدب��ي ،بحيث كانت محاوالت تحليل الأعمال الأدبية ذاتها �ضئيلة �إذا م��ا ق��ورن��ت بالمجهودات الهائلة التي بذلت لدرا�سة �أطرها التاريخية واالجتماعية( .)4يرد هذا في �سياق غلبة الطرف التاريخي على تحليل الن�ص
الفني في ركام من الدرا�سات النقدية التي يمكن ت�صنيفها على �أنها درا�سات تاريخية �أكثر منها درا�سات نقدية. ويختم �إمبرت مو�ضوعه عن النقد التاريخي ب� ��أن ي�شكر ال �ت��اري��خ؛ لأن ��ه �أت ��اح لنا �أن ن�ستمتع ب��آداب ع�صور مختلفة وح�ضارات ولّت كما لو كنا نوا�صل ا�ستمتاعنا بالتراث الأدب���ي العظيم في ع�صرنا والع�صور التي �سبقته �أي�ضا( ،)5وي�ضرب �إمبرت مث ًال برواية دون كيخوته ل�سرفانت�س التي �أره�صت بالفن الروائي بتقنيته المعا�صرة ،وكان بزوغها �آنذاك له داللته التي ال يمكن ف�صلها عن طبيعتها الكوميدية االنتقادية التي مهدت لغروب طبقة اجتماعية كانت مهيمنة �آنذاك هي الطبقة الأر�ستقراطية والتي �أفرزت �أبطا ًال فر�ساناً ،ولكن فار�س �سرفانت�س الهز�أة كان من نمط �آخر مختلف تماماً. وخال�صة م��ا ذك��ر ع��ن المنهج التاريخي في النقد �أن��ه يفيد من الظاهرة التاريخية من �أجل �إ�ضاءة الظاهرة الفنية ،وال �سيما في تلك الأعمال الفنية التي جعلت من التاريخ مهادا لها� ،سواء �أك��ان��ت تلك الأع �م��ال الفنية م��ن ال �ت��راث الأدب��ي العالمي كملحمة جلجام�ش� ،أو ملحمتي الإلياذة والأودي�سة� ،أوالأنيادة و�سواها من �شواهد ع�صرية قاومت �سطوة الزمن وو�صلت �إلينا� ،أو من النتاج الفني المعا�صر الذي عاد �إلى التاريخ القريب �أو البعيد ..من �أجل �أن ي�صوغ تجربة �شعرية �أو �سردية �أو م�سرحية مختلفة عن ال�سائد والم�ألوف والمكرر.
الماء في ال�شعر العربي ُ ■ �صالح عبدال�ستار ال�شهاوي*
الماء كما َع ّر َف ُه العرب «�أعز مفقود و�أهون موجود»� ،سائل عجيب جميل ال حياة من دونه ،حا�ضر دوما حيثما عا�ش �إن�سان �أو حيوان �أو نبات. والعرب منذ تاريخهم القديم �أدركوا �أهمية الماء في الحياة ،فكتبوا عنه وقالوا؛ فكان في تراثهم الأدبي والديني ال�شيء الكثير عنه .فالعرب �إذا �أرادوا �أن يطلقوا ا�سما على امر�أة ذات جمال وبركة وح�سن و�صفاء وبيا�ض �أطلقوا عليها -ماء ال�سماء– يقول الجاحظ« :وحين اجتهدوا في ت�سمية ام��ر�أة بالجمال والبركة والح�سن وال�صفاء والبيا�ض قالوا« :م��اء ال�سماء» .والعرب �إذا و�صفت الماء وال�شراب بال�صفاء قالوا: ك�أنه الدمع ،وك�أنه ماء قطر ،وك�أنه ماء مف�صل ،وك�أنه لعاب الجندوب ،وك�أنه عين الديك ،ومن �أمثالهم« :يا ماء لو بغيرك غ�ص�صت» ،ي�ضرب عن دهى من حيث ينتظر الخال�ص والمعونة. ولقد �أعطى العرب –�سكان البادية– الماء مكانة مهمة ،وخا�صة م��اء ال�سماء، فتتبعوا �أخباره وترقبوا قدومه ،ولهذا �سمي العرب ب�أبناء ال�سماء .وماء ال�سماء هو لقب «عامر بن حارثة الأزدي» ،الذي خرج من اليمن لما �أيقن �أن �سيل العرم �سيدمر �أكبر من�ش�أة مائية �آنذاك –�سد م�أرب– �سمي بذلك لأنه كان �إذا �أجدب قومه عافهم حتى ي�أتي الخ�صب ،فقالوا هو ماء ال�سماء – لأنه خلق منه ،وقيل لولده «بنو ماء ال�سماء» ،وهم ملوك ال�شام – قال �أحدهم: اجلوبة � -صيف 1436هـ (115 )2015
وج���ف���ن���ة م���ن���ا وال������ق������روم ال�����ن�����وازع ف��م��ا ال����ف����رات �إذا ج��ا���ش��ت غ���وارب���ه ل �ق��د ل �ع��ب ال� �م ��اء دورا م �ه �م��ا ف ��ي ق �ي��ام ت���رم���ى �أو زاي�����ه ال��ع��ب��ري��ن ب��ال��زب��د
الح�ضارات القديمة ون�ش�أتها ،ووجود نظم بيئية
ي�������م�������ده ك��������ل واد م�������ت�������رع ل���ج���ب وحياة م�ستقرة متوازنة منذ القدم ،و�شاهِ ُد ذلك ف��ي��ه رك����ام م���ن ال��ي��ن��ب��وت وال��خ�����ض��ر
�سعي �أُمِّ نا هاجر بين ال�صفا والمروة بحث ًا عنه، وانبثاق ماء زمزم تحت قدمي �إ�سماعيل.
و�إل ��ى ��س��د م� ��أرب ال ��ذي ك��ان يحجز خلفه المياه في �أحوا�ض وا�سعة ،تعود ح�ضارة م�أرب وب�ساتينها التي دمرها �سيل ال�ع��رم ،و�أبدلت ب�ساتينها ب�سدر و�أثل ،فهذا �شاعرهم بعد زوال ه��ذا ال �م��اء ،يذكر �أح��وا���ض م� ��أرب وم�شاربها ويتمنى ��ش��رب��ة م��اء واح ��دة رق��راق��ة م��ن تلك الأحوا�ض:
ي��ط��ل م��ن خ��وف��ه ال��م�لاح معت�صما ب���ال���خ���ي���زران���ة ب��ي��ن الأي������ن وال��ن��ج��د ول�م��ا ك��ان ال �ع��رب �أه ��ل ��ص�ح��راء مترامية الأط��راف يع ُّز فيها الماء ،ف�إن فترات الجفاف كانت تترك ب�صماتها على حياتهم و�أرزاقهم وموا�شيهم؛ لذا ،نراهم يبثون في �أ�شعارهم �أنّات حزينة م�ستر�سلة من �أعماقهم ،تروى عط�شهم للماء ،ومن ذلك قول �أعرابية:
�أل�����������������م ت���������رن���������ا غ������ب������ن������ا م���������ا�ؤن���������ا فيا لهف نف�سي كلما التحت لوحة زم�������ان�������ا ف����ظ����ل����ن����ا ب�����ك�����د ال�����ب�����ي�����ارا على �شربة من بع�ض �أحوا�ض م�أرب ف�����ل�����م�����ا ع�����������دا ال��������م��������اء �أوط��������ان��������ه ب��ق��اي��ا ن��ط��اف �أودع النعيم �صفوها وج�������ف ال����ث����م����ار ف���������ص����ارت ح�������رارا و���ص��ق��ل��ه الأرج��������اء زرق ال��م�����ش��ارب وف�����ت�����ح�����ت الأر�������������������ض �أف������واه������ه������ا ت��رق��رق م���اء ال��م��زن ف��ي��ه��ن وال��ت��ق��ت ع���ج���ي���ج ال����ج����م����ال وردن ال���ج���ف���ارا ع��ل��ي��ه��ن �أن���ف���ا����س ال����ري����اح ال��غ��رائ��ب و����ض���ج���ت �إل�������ى رب����ه����ا ف����ي ال�����س��م��اء ولي�س بعيدا من مياه النيل قامت �أهرامات ر�ؤو��������س ال��ع�����ض��اه ت��ن��اج��ي ال�������س���رارا م�صر وح�ضارتها� .أما ح�ضارة تدمر وغيرها من الواحات العربية في بادية ال�شام و�شبه الجزيرة وق�����ل�����ن�����ا �أع���������ي���������دوا ال�������ن�������دى ح���ق���ه وع���ي�������ش���وا ك����رام����ا وم�����وت�����وا ح�����رارا العربية ،فقد �ساعدت المياه على قيامها ،حيث تنت�شر الآبار والم�شارب ،لندرة الماء لدى العرب وفى الجدب وقلة الماء يرد�أ الم�شرب وتتلوث
116اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
وم�������اء ح������رى ع������اف ال���ث���ن���اي���ا ك����أن���ه �أما عروة بن الورد ال�شاعر ال�صعلوك فيروي من الأجن �أبوال المخا�ض ال�ضوارب لنا بالماء كيف �أن��ه يكون من�شغال بعدد من الأعمال في وقت واحد� ..إذ يقول: ح�شوت القال�ص الليل حتى وردن��ه
بنا قبل �أن تخفى �صغار الكواكب �أق�������س���م ج�����س��م��ي ف���ي ج�����س��وم ك��ث��ي��رة و�أح�����س��و ق����راح ال���م���اء ،وال���م���اء ب���ار ُد لقد جعل الجفاف للماء مكانة في نفو�س
العرب بلغت حد التبجيل ،جاء ذلك في مظاهر كثيرة من حياة �أوائلهم ،فاتخذوا ِل � ِو ْر ِد الماء �أ�صوال وقوانين و�أعرافا يحترمونها �أيّما احترام؛ فمن له ث�أر عند �إن�سان �آخر ،و�أدركه يم�سك قربة الماء �أو مكبا على الغدير يرتوي� ،أمهله حتى �أتم �شربه ،وي�سقون الذبيحة الماء حتى ترتوي.. ومن ثم تذبح ،ولوال احترام ورد الماء لما �أمهل �شاعرهم قطيع حمار الوح�ش حتى ترتوي ثم ترجع ع��ن الغدير ،وبعدها �أط�ل��ق �سهمه وهو ب�أم�س الحاجة �إلى واحدة منها ،فلي�س لديه قرىً ل�ضيفه ..حيث يقول:
عطا�شا تريد الماء فان�ساب نحوها ع���ل���ى �أن������ه م��ن��ه��ا �إل������ى دم���ه���ا �أظ���م���ا
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
في �صحاريهم الوا�سعة ،فكان يراعهم ما يرونه �أن��������ا اب������ن اف���ري���ق���ي���ا ع����م����رو ج���دي و�أب�����������������وه ع������ام������ر م����������اء ال���������س����م����اء من مياه كثيرة في �أنهار ال�شام وال�ع��راق ،من ذلك ما يروى عن النابغة الذبياني عندما وقف كذلك قال عبيد بن ال�سالمي: �أم��ام نهر الفرات ،راع��ه في�ضان نهر الفرات، وم����ن����ا ب���ن���و م������اء ال�������س���م���اء وم���ن���ذر و�أثارت �أمواجه المتالطمة �شاعريته ،فقال:
مياه الآبار ،ومع ذلك لي�س هناك من بديل لتلك ف�����س��اف��ت وم���ا ع��اف��ت وم���ا رد �شربها المياه ي�شربها الإن�سان ودوابه ،يقول ذو الرمة: ع��ن ال���ري م��ط��روق م��ن ال��م��اء �أك��در
(القراح :الماء ال�صافي)
وه���ذان ال�ب�ي�ت��ان -م�ج�ه��وال ال �ق��ائ��ل -غاية الحكمة للتعبير عمن ال ي�ستطيع �أن يقول ما في نف�سه ل�سبب ما:
ق������������ال������������ت ال�������������������ض���������ف���������دع ق���������وال رددت������������������������������������ه ال������������ح������������ك������������م������������اء ُ ف������������������ي ف������������م������������ي م�����������������������اء وه������������ل ي�����ن�����ط�����ق م��������ن ف��������ي ف������ي������ه م�����������اءُ؟ كذلك البيت ال�شهير:
�إل���ى ال��م��اء ي�سعي مَ��ن يغ�ص بلقمة �إل���ي �أي���ن ي�سعي مَ��ن يغ�ص بالماء؟ وهذا التهكم ال�شعري المائي:
ف����أم���ه���ل���ه���ا ح���ت���ى ت������روى ع��ط��ا���ش��ه��ا ك�������أن������ن������ا وال���������م���������اء م��������ن ح����ول����ن����ا ف����أر����س���ل ف��ي��ه��ا م����ن ك��ن��ان��ت��ه ���س��ه��م��ا ق������������وم ج������ل������و�������س ح������ول������ه������م م������اء ولم يزجر عمر بن ربيعة ناقته التي ارتوت والمعنى� :أي ال جديد في التعبير �أو العمل �أو ال�صورة .ومثله قول ال�شاعر: على المياه تعب منها:
�أق�����������ام ي���ج���ه���د �أي�����ام�����ن�����ا ق���ري���ح���ت���ه تنازعني حر�صا على ال��م��اء ر�أ�سها وف�سر ال��م��اء بعد ال��ج��ه��د ..بالماء! وم����ن دون م���ا ت���ه���وي ق��ل��ي��ب م��ع��ور �أما �أحمد بن عبدربه الأندل�سي �صاحب العقد م����ح����اول����ة ل����ل����م����اء ل�������وال زم���ام���ه���ا وج����ذب����ي ل���ه���ا ك������ادت م��������راراً ت��ك�����س�� ُر الفريد ،فله بيت مائي غاية في الجمال والعمق اجلوبة � -صيف 1436هـ (117 )2015
�أدب ك���م���ث���ل ال�����م�����اء ل�����و �أف����رغ����ت����ه ي����وم����ا ل�������س���ال ك���م���ا ي�������س���ي���ل ال���م���اء ف��ه��ن ي��ن��ب��ذن م���ن ق����ول ي�����ص��ب��ن به مواقع الماء من ذي الغِلة ال�صادى والبيت يحمل معنيين.
وهذا �آخر يرى �أن حديث محبوبته في نف�سه الأول� :أن الممدوح بهذا البيت له �أدب �سيال كالماء ال ي�صعب عليه قلم ،وال تعيقه عبارة ،موقع �صوت غيث هاطل من نف�س راعي �إبل طال وال يتوقف عند معنى عوي�ص ،فهو كثير الإنتاج عهده به فيقول: غزير الأدب والمعرفة والثقافة ،وف��ي الوقت وح�����دي�����ث�����ه�����ا ك����ال����غ����ي����ث ي�������س���م���ع���ه نف�سه� ،أدبه نافع وحيوي للنا�س كالماء. راع�����������ي �����س����ن����ي����ن ت����ت����اب����ع����ت ج����دب����ا
والمعنى الثاني عك�سه تماما� :أي �أن الأدب ف�������������أ�������������ص������������اخ م�������������س������ت������م������ع������ا ل�����ه ال�سائر والمنت�شر بين النا�س ،لي�س له ذلك العمق وي���������ق���������ول م���������ن ف������������رح ه������ي������ا رب������ا
�أو الطعم �أو الرائحة ،فهو من �سهولة تناوله وال �م��اء ف�ضة رق��راق��ة كما ي�ق��ول �إي�ل�ي��ا �أب��و كالماء المبذول لكل النا�س ،فيما الأدب الحقيقي ما�ضي: الإبداعي يجب �أن يكون عزيزا غير مبتذل.
وال������م������اء ح����ول����ك ف�������ض���ة رق����راق����ة وال عجب �إذا ر�أينا �شعراء العربية ي�سهبون في وال�����ش��م�����س ف��وق��ك ع�����س��ج��د يت�ضرم
ذكر الماء ويقرنونه برجع �أحاديث محبوباتهم، وال �م��اء ف��ي ال��وج��ه رفيق الحياء كما يقول فهذا �أب��و ذ�ؤي��ب الهزلي ي�شبه حديث محبوبته بع�سل ال�ن�ح��ل ال �م �م��زوج ب ��أل �ب��ان �أب �ك��ار الإب��ل ال�شاعر �صالح بن عبدالقدو�س: الحديثة النتاج ،والم�شوب بماء �صاف مثل ماء �إذا ق����� َّل م�����اء ال����وج����ه ق����� َّل ح����ي����ا�ؤه المفا�صل – ماء المفا�صل هو ماء بين الجبلين، وال خ����ي����ر ف������ي وج��������ه ق�������� َّل م��������ا�ؤه �ص بالذكر ل�صفائه ب�سبب انحداره عن و�إنما خُ َّ وللماء في ديوان العرب كُنى ،منها: الجبال ..ال يمر بطين �أو تراب – �إذ يقول: • بنات الماء :كل ما ي�ألف الماء كال�سمك و�إن ح���دي���ث���ا م���ن���ك ل�����و ت��ع��ل��م��ي��ن��ه وال�ضفادع وبع�ض الأنواع من الطيور� ،سمي جنى النحل في �أل��ب��ان ع��وذ مطافل الواحد منها ابن الماء ،والجمع بنات الماء قال ال�شاعر: م���ط���اف���ي���ل �أب�����ك�����ار ح����دي����ث ن��ت��اج��ه��ا
ت�����ش��اب ب���م���اء م��ث��ل م����اء ال��م��ف��ا���ص��ل ك�����������أن ج�����وان�����ح�����ي �����ش����وق����ا �إل����ي����ه����ا وه��ذا �شاعر �آخ��ر ي��رى �أن م��ا ي�صدر عن ب����ن����ات ال����م����اء ت���رق�������ص ف����ي ج��ف��اف 118اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
• بنات العيون :هي جداول الماء التي تنبثق قال ال�شاعر: من عيون الأر�ض ،والعين هنا ينبوع الماء و�أ���ض��ح��ت ب��ن��ات ال��مُ��زن زرق���ا ك�أنها ال��ذي يخرج من الأر���ض .ق��ال تعالى}: ���س��ل��وق��ي��ة الأب�������دان ���ش��ف��ق ���س��روره��ا وف��جَّ ��رن��ا الأر�����ض ع��ي��ون��ا فالتقى ال��م��اء يعني �أنها �صافية كالدروع� ،صافية الخلق على �أم��ر قد قُدِ ر{(القمر ،)12 :وقال حين جرت عليها الريح فاطردت. تعالى�« :إن المتقين في جنات وعيون» ابن الماء :كنية كل طائر ي�ألف الماء فهو (الذاريات.)15 : ابن الماء.. قال ال�شاعر: قال ذو الرمّة:
وردت �إع���ت�������س���اف���ا وال���ث���ري���ا ك���أن��ه��ا ع��ل��ى ق��م��ة ال���ر�أ����س اب���ن م���اء محلق وقال �آخر:
وي�������ن�������ذرن�������ي ب���������س����ط����وت����ه و�أن����������ى ي����خ����اف ب���������رودة ال�����م�����اء اب������ن م���اء
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
والمعنى وهو:
الن�ساء من قول ي�صادف من نف�س محدثهن ما ي�صادفه من الماء البارد ظم�آن برح من الظم�أ:
• بنات المُزن :هي غ��دران الماء ،و�سميت بذلك لأن م�صدرها المزن (جمع مزنة وهي ال�سحابة عامة) وقيل :ال�سحاب ذو الماء – الغيم– قال تعالى�} :أ�أنتم �أنزلتموه من المُزن �أم نحن المُنزلون{(الواقعة.)69 :
والمعنى �أن هذه الإبل لما لم يكن لها مرعى تتع�شى به �أخرجت الجرة�(..أي قامت بعملية االجترار وهي �إعادة ه�ضم الطعام) ،فالكتها و�صار غدا�ؤها ع�شاءها.
ط����وال ال�����ذرى ق��ام��ت ب���ري نباتها ب�����ن�����ات ع�����ي�����ون م������ا ل����ه����ن ه���ج���وع
وال�شاعر هنا ي�صف نخيال ط��واال حولها نخالت ق�صار ,هي لها كالبنات ت�سقيها جداول تخرج من عيون.
وب� �ع ��د� ،إنّ ح��ر���ص ال� �ع ��رب ع �ل��ى ال�م�ي��اه • بنت ال �ج��داول :كناية ع��ن م��اء الأن �ه��ار وتقديرهم لها كان وال يزال في محله. ال�صغار (الجداول).. ورحم اهلل المتنبي �إذ قال: قال ال�شاعر:
وم������ا ����ش���رق���ي ب����ال����م����اء �إال ت���ذك���را ع�شيتها م��ا ت��غ��دت بعدما اغتبقت ل����م����اء ب�����ه �أه��������ل ال���ح���ب���ي���ب ن�����زول ب��ن��ت ال���ج���داول م��ن م���رت ومجلوح المرت :الأر�ض القفر ،والمجلوح :الذي قد ي����ح����رم����ه ل����م����ع الأ�������س������ن������ة ف���وق���ه رُعِ يَ نباته كله. ف���ل���ي�������س ل�����ظ�����م������آن �إل������ي������ه ���س��ب��ي��ل * كاتب من م�صر.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (119 )2015
■ ه�شام بن�شاوي*
لفت انتباهي كتاب «�آفاق الفن الت�شكيلي على م�شارف القرن الحادي والع�شرين»، ال�صادر عن دار ال�شروق عام 2000م ،ال�سيما ف�صله الأخير ،الذي يف�ضح قرا�صنة الفن ول�صو�صه الذين ي�سرقون تراث الأمم؛ فقد كتب الناقد والفنان الت�شكيلي الم�صري مختار العطار تحت عنوان «الفنون الجميلة والجريمة المنظمة» عما يجري على ال�ساحة الدولية في ال�سنوات الأخيرة ،بمنا�سبة ما �أثير ويثار حول المتاحف الم�صرية وم��ا ت�ضم م��ن ك��ن��وز ،بعد االرت��ف��اع ال��م��ذه��ل لأ���س��ع��ار الأع��م��ال الفنية ،وب��ع��د التغير االجتماعي ال�سريع ال��ذي اقتلع �أم��ن الب�شر من الجذور ،واجتاح الهدوء وال�سكينة اللذين تمتع بهما الإن�سان خالل القرن التا�سع ع�شر قبل الحربين العالميتين. وي�سوق الباحث بع�ض البيانات والإح�صاءات الر�سمية ،والأحداث التي وقعت م�ؤخرا في بلدان �أكثر تقدما ثقافيا واقت�صاديا؛ لأننا في العالم الثالث ما نزال نفكر بروح القرن الما�ضي ،ونعتقد �أن ب�ضعة ع�شر مليونا من الجنيهات تكفي لإع��داد متحفي «الجزيرة» و«محمد محمود خليل وح��رم��ه» بالترميمات ال�ضرورية والتح�صينات الالزمة لت�أمين محتوياتهما من التحف الأوربية ،التي يرجع تاريخها �إلى القرون الأرب��ع��ة الما�ضية؛ ونظن �أن ت�شكيل لجنة م��ن الموظفين وال��ه��واة ،ت�صلح لإق��رار م�صداقية تلك الروائع ،التي ال تقدر بثمن من الناحية الإن�سانية ،وتقدر بمليارات الدوالرات من ناحية ال�سوق؛ �إال �أن اللجان الر�سمية ال تجدي في مثل هذه الحاالت، وال تعوّ�ض الملفات المطوّلة لكل عمل فني على حدة ،وفواتير البيع وال�شراء المعتمدة من �شخ�صيات وبيوت فنية معروفة ،و�شهادة م�ؤ�س�سات عالمية كبرى متخ�ص�صة مثل «�سوذبي» و«كري�ستي» اللندنيتين ،بما لديهما من «خبرات تحت الطلب» ،ومتخ�ص�صين ذوي �شهرة دولية وكتالوجات موثقة. 120اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�أما الحادث الثاني المعلن عنه ،فهو �سرقة لوحة «زه��رة الخ�شخا�ش» لـ «فان ج��وخ» ،الذي احتفلت هولندا �سنة 1990م ب��ذك��رى وفاته المائة .ومن المعروف �أنه �أغلى فنان في العالم ف��ي ال��وق��ت ال�ح��ال��ي��ُ � .س��رِ ق��ت التحفة ف��ي ليلة عا�صفة من �شتاء 1979م ،حين توقفت �سيارة الل�ص �أم��ام مبنى المتحف ال�م��ؤق��ت ،وهبط منها «هجام» من نزلة ال�سمان ،ت�سلق الموا�سير �إل��ى النافذة التي ت�ستقر اللوحة بجوارها من الداخل ،وفي دقائق كانت ال�سيارة تنهب الأر�ض
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
ُ الفن قرا�صنة ِّ
و�أكد الباحث الم�صري �أن ال�سرقات الفنية في م�صر ،حتى عهد قريب ،كانت تتركز على الآثار القديمة ،خا�صة الفرعونية� ،إ�ضافة �إلى الآثار القبطية والإ�سالمية� ،أما �سرقة اللوحات الثمينة والتماثيل ،ف�أمر م�ستحدث قد يكون مت�أثرا باالرتفاع الجنوني لأثمان روائع م�شاهير الر�سامين والمثالين الأورب �ي �ي��ن ال�ت��ي توجد منها المئات في المتحفين المذكورين �أعاله، وعدم توفر حرا�س تذكر بالمقارنة بالمتاري�س الإلكترونية في متاحف العالم .وو�ضح �أن �أولى ال�سرقات التي �أعلن عنها في متحف الجزيرة وقعت في فبراير 1967م ،حين قام طالبان بنزع لوحة «ذات الوجهين» للر�سام الملون «بيتربول روبنز» من بروازها ،وخرجا بها لمجرد البرهنة على تفاهة �إج��راءات الأم��ن ،ثم �أع��اداه��ا بعد �شهرين ب ��أن �ألقياها تحت �شجرة ف��ي �شارع الهرم ،و�أخبرا ال�شرطة هاتفيا بمكانها .ولم تذكر ال�صحف �إن ك��ان قد تم فح�ص اللوحة العائدة ،للتثبت من �أ�صالتها وعدم ا�ستبدالها بن�سخة مزيفة.
بالغنيمة ،ال�ت��ي ي��زي��د ثمنها على 50مليون دوالر �أمريكي ،ويقال �إن ال�سارق �أحرق البرواز قبل �إعادتها بعد ثالثة ع�شر �شهرا في مقابل حفظ التحقيق� ،إال �أن مجلة «الم�صور» تلقت خطابا من �إيطاليا ن�شرته في حينه ،ي�ؤكد �أن اللوحة تم تزييفها في روما(عا�صمة الجرائم الفنية) ،وبيعت الأ�صلية لأحد الأمريكيين ،و�أن اللوحة العائدة ن�سخة مزورة ،ون�شرت ال�صحف ق�صة �ساذجة لكيفية �إع��ادة اللوحة ،تقول �إن عربة م�سرعة �ألقت بها تحت قدمي مدير �أمن القاهرة �أث�ن��اء وقوفه �أم��ام محل ويمبي بحي المهند�سين .ولم يحاول الم�س�ؤولون الت�أكد من م�صداقية التحفة العائدة ،حتى �أث��ار الق�ضية الدكتور يو�سف �إدري����س بمنا�سبة �إقامة مزاد عالمي في لندن لبيع لوحة لنف�س الر�سام بمبلغ ( )54مليون دوالر ،ف�شكلت وزارة الثقافة لجنة من الموظفين وغير المخت�صين� ،أقرت �صحة اللوحة و�سالمتها ،وظنت ال��وزارة �أنها �أقنعت �أح��دا غيرها بم�صداقية الكنز العائد .وقد ت�سلمت مباحث المتحف �أ�صل الخطاب الذي و�صل مجلة «الم�صور» من روما. وح���س��ب ال �ب��اح��ث ،ف� ��إن الأم���ر يختلف في الثقافات المتقدمة في �أوربا و�أمريكا؛ �إذ تر�صد ه�ن��اك م�لاي�ي��ن ال � ��دوالرات ف��ي التح�صينات الحديثة للمتاحف �ضد ال�سرقة ،كما �أن عر�ض اللوحات والتماثيل المتحفية بعيدا عن مكانها �أمر يتم تحت غطاء كثيف من التعتيم وال�سرية؛ ففي المعر�ض الذي �أقيم لبع�ض لوحات «فان جوخ» في مدينة «�أرل�س» بجنوبي فرن�سا ،التي ر�سم فيها الفنان العبقري كثيرا من روائعه
اجلوبة � -صيف 1436هـ (121 )2015
122اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
ال�شهيرة ،ت��م نقلها ف ��رادى بالطريق البري قد تعر�ضت �أربع مرات لل�سرقة خالل ال�سنوات �أحيانا ،وبالقطار �أحيانا �أخ��رى ب ��أوراق �سرية الخم�س ال�سابقة ،مع �أنها تقع على الطرف الآخر م��ن الميدان ال��ذي توجد فيه ق�ي��ادة ال�شرطة م�ضللة. وبيّن الناقد الم�صري �أنه في كل من �إيطاليا الفنية! وبالن�سبة �إل��ى الم�س�ؤولين ف��ي القطارات وفرن�سا توجد �شرطة متخ�ص�صة في مكافحة ال�سرقات الفنية ،ول��و �أن زائ��را دخ��ل مكاتب وال��م��وان��ىء وم �ن��اف��ذ ال��خ��روج ف��ي ال�ث�ق��اف��ات قادة هذه ال�شرطة في روما �أو باري�س ،ل�شاهد ال �م �ت �ق��دم��ة ،ف �ه��م ال ي���س�م�ح��ون للم�سافرين على الأر�ض وبجوار الجدران لوحات دينية من با�صطحاب التحف الفنية من دون �إثبات ملكيتهم ال�ق��رن ال��راب��ع ع�شر ،ومنا�ضد �صغيرة ط��راز ال�شخ�صية لها� ،إال �أن المجتمعات المتخلفة ال لوي�س الخام�س ع�شر ،وتماثيل ن�صفية رومانية ،تعنى �إال بالبحث عن المخدرات والعملة ال�صعبة وم �ن��اظ��ر طبيعية م��ن ال �ق��رن ال �ث��ام��ن ع�شر المهربة والأجهزة الإلكترونية ،وربما التماثيل ا�ستعادتها ال�شرطة من مغت�صبيها ،وتنتظر الأثرية المعروفة ،وال ي�أبهون بال�صور الزيتية رده��ا �إل��ى �أ�صحابها� ،أو يحتفظون بها ك�أدلة خا�صة لو كانت منزوعة من البرواز وقابعة في قاع الحقيبة� ،أو محمولة كلفائف في الأي��دي، اتهام في الق�ضايا المرفوعة. ولل�شرطة الإيطالية �أ�سلوب خا�ص في معالجة وهكذا انت�شرت التحف والآث��ار الإفريقية في ق�ضايا ال�سطو ال�ف�ن��ي ،ف�ه��ي تهتم ب��ال��درج��ة متاحف العالم المتقدم ،وت�سربت المخطوطات الأولى با�ستعادة الم�سروقات ولي�س القب�ض على الإ�سالمية النادرة و�أوراق البردي الفرعونية؛ الل�صو�ص ،خ�شية �أن ت�ضيع الروائع الم�سروقة وهكذا �أي�ض ًا �أخرجت «�أزه��ار الخ�شخا�ش» من �إل��ى الأب��د� ،أو يعمد المجرمون �إل��ى تدميرها ،مطار القاهرة في العام 1967م ،وعادت هي �أو ويت�أ�سف الكاتب لأن ل�صو�ص اللوحات يمزقونها �شبيهتها بعد عامين ،ويجزم الباحث �أن الجهل �أحيانا ويبيعونها مجز�أة؛ فيق�سمون �صورة الرجل وع��دم الوعي وخ��واء الجيوب في المجتمعات �أو ال�سيدة ويبيعون اليد لم�شتر ،والوجه لآخر ،المتخلفة ،يمنح الل�صو�ص والع�صابات المنظمة والأزه��ار والمن�ضدة لثالث ،وقد يكملون ر�سم مزيدا من حرية الحركة ،لكن البلدان المتقدمة كل قطعة حتى تبدو ك�أنها لوحة منف�صلة لنف�س تزيد م��ن �إح�ك��ام الرقابة و�إ��ش�ه��ار موا�صفات الفنان ،فيلونون الخلفيات �أو ي�ضيفون مزيدا ال ��روائ ��ع وال �ت �ح��ف ال �م �ف �ق��ودة ،وذل ��ك بو�ضع من العنا�صر والتفا�صيل ..وي�ضعون التوقيعات البيانات الكافية للتحف المفقودة ،حتى تكون المزورة؛ والمثير �أنه رغم كون ال�شرطة الفنية في متناول قاعات العر�ض والمتاحف وو�سطاء في روما ،بقوتها التي تزيد على المائة �شرطي الفن والخبراء في �أنحاء العالم ،مع مراعاة مخت�ص ،ت�سجل ما بين(20و )30حادث �سرقة قواعد الأمان في برامج الحا�سوب ،وذلك بترك يوميا ،و�أن كني�سة «�سان �إيجاناثيو�س» في روما بع�ض البيانات مجهولة عن عمد ،وت�شمل عددا
من التحف الأث��ري��ة ،وتعد ال�شرطة الإيطالية الآثار المفقودة من المقابر التاريخية في عداد الم�سروقات ،وناب�شي المدافن من ل�صو�ص الأعمال الفنية في الع�صر الحديث ،على الرغم �أنها لم تظهر من قبل في �سوق الفن ،ولم تكن �ضمن مقتنيات جامعي التحف المعروفين؛ لذلك ال يعنى و�سطاء الفن بهذه التحف خارج �إيطاليا وينظرون �إليها بارتياب. ومن الأح��داث المثيرة وال�شهيرة في هذا ال �� �س �ي��اق ،م��ا ج ��رى م��ع م�ت�ح��ف «ج �ي �ت��ي» في كاليفورنيا ب�أمريكا ،حين ا�شترى بع�ض الأقنعة الإغريقية الرومانية(جريكو رومان) ،وتمثاال عمالقا لأف��رودي��ت ،م��ن و�سيط م�ع��روف في لندن ،ا�شتراها بدوره من �شخ�صية غام�ضة في �سوي�سرا ،وو�صل مبلغ الت�أمين على التمثال فقط �إلى ع�شرين مليون دوالر ،وحين علمت ال�شرطة الإيطالية بالأمر تتبعت كل �أط��راف ال�صفقة، حتى و�صلت �إلى الفاعلين الذين حفروا المقبرة التاريخية و�أخ��رج��وا التمثال ال�ن��ادر ،والذين اعترفوا ب�أن حفر المقابر الأثرية يتم بانتظام ب��إ��ش��راف ع�صابات «ال�ك��ام��ورا» و«ندراجيتا» مندوبي المافيا في جنوبي �إيطاليا ،وما تزال الأقنعة والتمثال معلقة رهن التحقيق! وال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه ب�إلحاح ،هو مدى �إمكانية ا�ستعادة الروائع المفقودة النادرة التي تعد معالم تاريخ الفن و�أ�سا�س فل�سفته ونظرياته، والتي كانت من قبل غير قابلة للبيع وال�شراء، لأنها معروفة بكل دقة ،وكانت ت�ستعاد ب�سرعة، �إذا �ضعف �أمامها �أحد الهواة ف�سرق �إحداها، �أو �سطت عليها ع�صابة لي�ست من المحترفين،
وي�ست�شهد الناقد بحادثة القب�ض على الل�صو�ص الذين �سطوا على عدة لوحات في متحف الدولة ب�أم�ستردام في هولندا في العام 1988م ،عند محاولتهم بيع الغنيمة لأح��د المر�شدين من رج��ال ال�شرطة .وذك��ر الكاتب �أن الل�صو�ص في بع�ض الأحيان يعر�ضون �إعادة الم�سروقات مقابل فدية� ،إال �أن معظم المتاحف والكثير من المقتنين يرف�ضون هذا الأ�سلوب ،تاركين الأمر ل�شركات الت�أمين تتعامل بنف�سها مع الل�صو�ص، والت�أمين على التحف الفنية �إجراء غير معتاد في م�صر والمجتمعات المتخلفة لعدم تقدير �أه�م�ي��ة ال �ف��ن وخ �ط��ورة ال�ت�ق��دم التكنولوجي للجريمة الحديثة ،وفداحة المبالغ المطلوبة ل�شركات الت�أمين .والإهمال في الت�أمين يطال حتى المجتمعات الثقافية كهولندا ،التي تملك كنوزا فنية ال ت�ضاهى تاريخيا وماديا ،و�سرقت في دي�سمبر 1988م ثالث لوحات لـ «فان جوخ»، اجلوبة � -صيف 1436هـ (123 )2015
وف ��ي م���ص��ر ،ل��م ي�ط�ل��ب ال�ل���ص��و���ص فدية لإع��ادة اللوحتين الم�سروقتين ..و�إن�م��ا حفظ التحقيق فقط ،لكن ال�شك ما ي��زال قائما في م�صداقيتهما ،بعد اختفاء الأول ��ى لأك�ث��ر من �شهرين ،وغياب الثانية لأكثر من ع��ام ،وهي ف �ت��رات ك��اف�ي��ة للتزييف ال�م�ت�ق��ن ،وا�ست�شهد العطار بقولٍ لأح��د ال�ضباط الفرن�سيين الذي �أك��د فيه �أن «المافيا والع�صابات الم�شابهة، قد ت�سرق اللوحات وتدفنها لمدد طويلة ت�صل �إلى مائة عام ،لأنها لي�ست في حاجة مبا�شرة للح�صول على ال�م��ال .ف�ضال عن �أن العقوبة القانونية ت�سقط في بلدان مثل �إيطاليا ،بعد مهلة ال تتجاوز الع�شر ال�سنوات ،والنا�س �سريعة الن�سيان .ومن المفارقات الالفتة للنظر� ،أن اللوحات التي �سرقت منذ(� 20أو )30عاما، تباع حاليا في �أ�سواق جنوبي �أمريكا» ،و�أ�شار هذا ال�ضابط �إلى �أن بع�ض الع�صابات ت�ستخدم الأع �م��ال الفنية ف��ي المقاي�ضة على �شحنات المخدرات؛ وبيّن الباحث الم�صري �أن جاذبية الأعمال الفنية ت��زداد وت�صبح �أكثر �إث��ارة لدى الع�صابات المنظمة ،حين تكون المخاطرة �شيئا عاديا ،والتح�صينات بدائية ،والحرا�سة هينة. وتحت عنوان «مافيا الفن والجمال» ،خ�ص�ص الناقد الت�شكيلي الم�صري هذا المبحث للمافيا 124اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ
من متحف «كرولر مولر» ،وا�ستعاد القائمون على المتحف �إحدى اللوحات في �أبريل 1989م ،بعد �أن لحقتها �أ�ضرار خفيفة ،وطلب الل�صو�ص فدية لل�صورتين الباقيتين ،قدرها مليونان ون�صف مليون دوالر� ،إال �أن البرلمان الهولندي رف�ض ال�صفقة ،وما يزال م�صير التحفتين مجهوال!
ال��ت��ي ح�� ّول��ت معظم �أن�شطتها ف��ي العقدين الأخ�ي��ري��ن م��ن ت�ج��ارة ال�ه��روي��ن وال�م�خ��درات، والرقيق الأبي�ض والأط�ف��ال �إل��ى نهب اللوحات الفنية من متاحف العالم الكبرى ،مع التركيز على الآثار التاريخية ،حيث بلغ الأمر �إلى �أن تتلقى المافيا طلبات المليارديرات الذوّاقة العا�شقة للفن والجمال ،الذين يحددون موا�صفات ما يرغبون في اقتنائه من محتويات المتاحف �أو التحف الأثرية و�أماكن وجودها ،فتقوم المافيا بالمعاينات الالزمة والمراقبات ال�ضرورية، وو�ضع الخطط الدقيقة ،ثم التنفيذ في لحظات معدودة وتختفي التحف ،وال�سبب الرئي�س في ات�ساع ن�شاط المافيا ف��ي دول العالم الثالث ونهب �آثارها ب�شكل منظم على مدار ال�سنين، هو تف�شّ ي الفقر والجهل ،و�ضعف الوعي القومي و�ض�آلة الأج��ور ،ما يفتح الباب على م�صراعيه �أمام الر�شوة والإذعان للتهديد واالبتزاز؛ �أما في الثقافات الأوربية والأمريكية فيقت�صر اهتمام المافيا على روائ��ع ل��وح��ات الر�سم والتلوين. ففي المعر�ض ال�شامل الذي �أقامته هولندا عام 1990م ِللَوحاتِ «ف��ان ج��وخ» التي ال يقل ثمن �إحداها عن خم�سة وثمانين مليون دوالر� ،أقيمت الحرا�سة على �أعلى م�ستوى من التكنولوجيا الحديثة ،كما و�ضعت المعرو�ضات خلف �ألواح زج��اج�ي��ة ت �ق��اوم ال�م�ت�ف�ج��رات ،و�إط � ��ارات من ال�صلب محكمة الإغالق ،وا�شتركت في �ضمان �سالمة العر�ض �أكثر من �شركة ت�أمين عالمية كبرى ،ومع ذلك اختفت �إحدى الروائع في ثوان، �أثناء تغيير وردية الحرا�سة ،بالرغم من وجود �سياج حديدي يمنع الزوار من االقتراب.
و�أورد الناقد الم�صري حادثة �أخرى ،جاءت في �صفحة الأركيولوجي في مجلة نيوزويك ،والتي روت ما وقع في نقطة التفتي�ش الجمركي على حدود هونغ كونغ� ،إذ كانت تقل �إحدى ال�شاحنات المحملة ب�شحنة من الأدوات الكهربائية وقطع الغيار ،وعندما فتح مفت�ش الجمرك باب الحاوية فوجئ بع�شرين لوحة حجرية �أثرية من النحت البارز ،ت�صور بمنتهى الدقة والجمال معارك حربية بين فر�سان على �صهوة الجياد وكتيبة من المحاربين في عربات تجرها الخيول ،وعند عر�ض الم�ضبوطات على الأخ�صائيين� ،أقروا ب�أنها �أج��زاء من حوائط مقابر �أ��س��رة «ه��ان» ال�صينية ،و�أن تاريخها يرجع �إل��ى �ألفي عام، وقدر الخبراء ثمن اللوحة الواحدة ب�أنه ال يقل عن �سبعين �أل��ف دوالر �أمريكي ،وال يوجد لها نظائر في �ألبومات التثمين ،التي ت�صدر �سنويا عن �شركتي ال�م��زادات الدولية البريطانيتين «�سوذبي» و«كري�ستي».
من ت�سريب �آثار ال�صين وعدم تجريم امتالكها خ��ارج ال �ح��دود ،ت�غ��ري العمالء بالمخاطرة، منتهزين فر�صة انت�شارها في م�ساحات �شا�سعة تنق�صها الحرا�سة الجيدة؛ ما يغري بعر�ض التحف ال�صينية علنا في واجهات محالت الآثار في هونج كونج وتايوان واليابان ،ومختلف دول �أوربا و�أمريكا ،حيث تلقى رواجا لدى الهواة من �أثرياء تلك ال�شعوب.
وف��ي ال�سنوات الأخ �ي��رة ،ن�شط القرا�صنة والل�صو�ص في نهب منطقة �أثرية تمتد منطقتها �إل ��ى ث�لاث�م��ائ��ة كيلومتر م��رب��ع ف��ي كمبوديا، م�ستخدمين ال�ب�ن��ادق الآل �ي��ة وال �م��داف��ع ،وفي ال�سنوات الما�ضية ،تم �إفراغ مخزنين كبيرين يقعان بجوار معبد �أنجيكور من الكنوز الأثرية التي بداخلهما ،وتنتمي �إلى قبائل الخمير ،وقد �سرقت محتويات ثانيهما في مطلع العام 1993م وبالنظر �إل��ى اللوحات الم�ضبوطة ،تت�أكد خالل حادث دموي عنيف� ،أطلق فيه الر�صا�ص �أن الجريمة وقعت بتكليف وتخطيط ،فالتحف على الحار�س ،وت��م تدمير البوابة الح�صينة لي�ست مما يطمع في اقتنائها ال�سياح العاديون ،ب�صاروخ. �أما هونغ كونغ نف�سها ،فهي ميدان دولي رئي�س وختم الناقد الت�شكيلي الناقد والفنان مختار لتداول وت�سويق الآثار والتحف الفنية ،والغريب العطار كتابه المائز بالقول« :ه�ك��ذا يتعامل �أن الحكومة ال�صينية ،لم تعلن عن فقد هذه اللوحات من �أرا�ضيها ،وقد ازده��رت التجارة قرا�صنة ال�ف��ن م��ع ال�ك�ن��وز الأث��ري��ة ف��ي �آ�سيا الدولية للم�سروقات من الآثار ال�صينية ،و�أ�صبح و�إفريقيا» .الطريف في الأمر �أنه بعد �سنوات من نهب المقابر �صناعة �أ�سا�سية في �سوق ال�صين �صدور هذا الكتاب �سرقت لوحة «فان جوخ» مرة ال�سوداء .والأرباح الطائلة التي تجنيها المافيا �أخرى ،ما يجعل عدة �أ�سئلة تقفز �إلى الأذهان! * كاتب من المغرب.
اجلوبة � -صيف 1436هـ (125 )2015
امل�ؤلف � :أ.د.ب�شري حممود جرار ود .نايف بن �صالح املعيقل النا�شر :مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقايف ال�سنة 1436 :هـ 2015 /م
يمثل الغبار م�شكلة كبيرة ،وب�شكل خا�ص ل�سكان المناطق ال�صحراوية الجافة و�سكان المناطق ال�صناعية؛ نظرا لت�أثيره ال�سلبي الكبير على �صحة الإن�سان وممتلكاته االقت�صادية .لقد �أ�صبح هواء كثير من المدن العالمية والعربية ملوث ًا بالعوالق الغبارية نتيجة لتو�سع ه��ذه المدن وازدحامها بو�سائل النقل ،وكذلك لزخم الأن�شطة الب�شرية المتنوعة فيها. ت�ؤكد الدوائر الطبية على عالقة وطيدة بين تلوث الهواء بالج�سيمات الغبارية وانت�شار بع�ض الأمرا�ض؛ كالتهاب الرئة ،والتحجر الرئوي، والربو ،و�أمرا�ض القلب ،وحتى الأمرا�ض ال�سرطانية ..وبالتالي �إلى ارتفاع م�ستويات الوفيات نتيجة التعر�ض المتكرر والمزمن للعوالق الغبارية .وال يخفى على �أحد �أن االرتفاع الم�ضطرد لم�ستويات الج�سيمات الغبارية في �أجواء المدن ي�ؤدي �إلى مخاطر كبيرة على �صحة قاطنيها. وتفيد الدرا�سات البيئية �أن �أكثر من %25من �سكان المدن على م�ستوى العالم يتنف�سون هواء تجاوزت معه م�ستويات تركيز الج�سيمات الغبارية �ضوابط منظمة ال�صحة العالمية.. جاء هذا الكتاب في (� )240صفحة ،وهو ثمرة لدرا�سة علمية ميدانية قام بها باحثان متخ�ص�صان ،على مدينة �سكاكا ،وذل��ك بتمويل من مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي ..الكتاب مرجع مهم للمهتمني والمتخ�ص�صين بالدرا�سات البيئية. 126اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
ق�����������������������������������������������������������������������������������راءات
الغبار املرتاكم والعالق يف مدينة �سكاكا
كيف نخرج من النفق؟ امل�ؤلف :معا�شي ذوقان العطية النا�شر :من�شورات الذوقان ال�سنة 2014 :م
�ضمن �سل�سلته التي بد�أها قبل �سنوات قليلة� ،ضعف بالقدرات الع�سكرية والت�سلح والتدريب �أ�صدر اللواء المتقاعد /والخبير المخ�ضرم وال�ت�ن���س�ي��ق ،وم ��ا ن�ت��ج ع��ن ت�ل��ك ال �ح��رب من معا�شي ذوقان العطية ،كتابه الجديد« :كيف احتالل فل�سطين وفو�ضى واتهامات عروبية نخرج من النفق؟» ،والذي يمثل الكتاب ال�سابع، بعد�« :أوراق جوفية» و«ع�صاميون» و«الغزو بين العرب ،و�أح��داث مقتل النقرا�شي با�شا الأمريكي للوطن العربي» و«حدائق الجوف» رئي�س وزراء م�صر ،وال�م�ل��ك ع�ب��داهلل ملك و«�شاهد عيان» و«خطوات على الطريق». الأردن ،وريا�ض ال�صلح رئي�س وزراء لبنان، يعد الكتاب ح�سب ر�ؤي��ة الم�ؤلف «مدونة كما يتحدث ع��ن فترة تجربته ف��ي االبتعاث �أعددتها على نمط ق�ص�صي عن واق��ع حالة �إل��ى بريطانيا ع��ام 1951م ،وتجرع الحنظل العرب في الخم�سينيات ،ورجعت فيها للواقع من كثرة االنقالبات الع�سكرية التي ع�صفت ال�ع��رب��ي ال�م��ري��ر ،ور��س�م��ت فيها �أحا�سي�سي بالبالد العربية ،وذكريات عدوان 1956م على عن المعاناة التي �أحاطت بالم�شرق العربي، و�ضمنتها �أحداث تاريخية عا�صرتها من تاريخ م�صر و�صوال �إلى �أحداث الربيع العربي ،وكل ذل��ك ي�أتي في �سياق �سردي ق�ص�صي يحوي هذه الأمة وما فيها من مرارة وح�سرة». جاءت فكرة الكتاب من ذكريات الأحداث �شخ�صيات وحوادث حقيقية تروى بعين الكاتب التي عاي�شها ،منذ ح��رب فل�سطين 1948م ،الذي عاي�ش جميع الأحداث التي يرويها. وت��أث�ي��ر الإ� �ش��اع��ات وال �ح��روب النف�سية التي ج ��اء ال �ك �ت��اب ف��ي (�� )407ص�ف�ح��ات من �شنها العدو ،وحالة العرب المحزنة ،انطالقا م��ن ك��ون��ه ج�ن��دي��ا ف��ي م�ع��رك��ة ال �ق��د���س ع��ام القطع المتو�سط ،ون�شر في الريا�ض عن طريق 1948م ،وح��ال��ة ال�ع��رب وم��ا ك��ان��وا عليه من من�شورات الذوقان. اجلوبة � -صيف 1436هـ (127 )2015
الأن�شـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ــة الثقـ ـ ـ ــافيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة
من �إ�صدارات اجلوبة الأن�شطة الثقافية لمركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي �ρρإعداد :عماد املغربي
الأ�ستاذ عبدالرحمن المفرج والأ�ستاذ خالد ال�شراري
من مداخالت الح�ضور
�ضمن خطة الن�شاط الثقافي لمركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي للعام 1436/35هـ، �أقيمت محا�ضرة بعنوان« :الأمن الفكري»� ،ألقاها ع�ضو المجل�س الثقافي بالمركز الأ�ستاذ خالد بن جوي�س الدويرج ال�شراري وذلك في قاعة دار الجوف للعلوم م�ساء يوم االثنين 2015/05/18م� ،أداره��ا ع�ضو المجل�س الثقافي الأ�ستاذ عبدالرحمن بن عبد الكريم المفرج. تحدث الأ�ستاذ خالد ال�شرار ي عن «الأمن الفكري» و�أهمية الحوار وركز على الحاجة لت�أهيل المعلمين لمراعاة ذلك الجانب المهم في تكوين ال�شخ�صية ال�صحيحة لل�شباب، وكما ركز على الجوانب ال�شرعية في فهم معنى الأمن الفكري و�أهمية العناية به. فقد جاء الإ�سالم ليحفظ على النا�س مقا�صد ال�شريعة الخم�س وهي :حرمة الدين والنف�س والعقل والعر�ض والمال ،و�أول هذه المقا�صد و�أهمها الدين؛ فكل اعتداء على الدين قو ًال �أو فع ًال ف�إن ال�شريعة الإ�سالمية تحرّمه ،وتمنع ذلك االعتداء على عقائد النا�س ومحاولة تغييرها والإخالل ب�أمنهم الفكري ،وال�سعي في انحرافهم؛ لذلك جُ عل م�صدر التلقي في العقائد والعبادات والق�ضايا الكبرى في حياة الم�سلمين موحداً. تال ذلك مداخالت مع الجمهور ،و�أجاب المحا�ضر على ا�ستف�سارات الح�ضور.
128اجلوبة � -صيف 1436هـ ()2015
�صدر حديثاً عن برنامج الن�شر في