48 joba web مجلة الجوبة

Page 1

‫درا�سات ونقد‬ ‫ن�صو�ص �شعرية و�سردية‬ ‫مواجهات‬ ‫�سرية و�إبداع‬ ‫حمور خا�ص‪:‬‬ ‫ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي‬

‫‪48‬‬


‫برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية ودعم البحوث والرسائل العلمية‬ ‫في مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬ ‫‪ -1‬ن�شر الدرا�سات والإبداعات الأدبية‬

‫يهتم بالدرا�سات‪ ،‬والإبداعات الأدبية‪ ،‬ويهدف �إلى �إخراج �أعمال متميزة‪ ،‬وت�شجيع حركة الإبداع‬ ‫الأدبي والإنتاج الفكري و�إثرائها بكل ما هو �أ�صيل ومميز‪.‬‬ ‫وي�شمل الن�شر �أعمال الت�أليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬ ‫مجاالت الن�شر‪:‬‬ ‫�أ ‪ -‬الدرا�سات التي تتناول منطقة الجوف في �أي مجال من المجاالت‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الإبداعات الأدبية ب�أجنا�سها المختلفة (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدرا�سات الأخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف (وفق ًا لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من �شروط الن�شر)‪.‬‬ ‫�شروطه‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن تت�سم الدرا�سات والبحوث بالمو�ضوعية والأ�صالة والعمق‪ ،‬و�أن تكون موثقة طبق ًا للمنهجية العلمية‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُتكتب المادة بلغة �سليمة‪.‬‬ ‫‪� -٣‬أن ُيرفق �أ�صل العمل �إذا كان مترجم ًا‪ ،‬و�أن يتم الح�صول على موافقة �صاحب الحق‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ُتقدّم المادة مطبوعة با�ستخدام الحا�سوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قر�ص ممغنط‪.‬‬ ‫‪� -٥‬أن تكون ال�صور الفوتوغرافية واللوحات والأ�شكال التو�ضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومنا�سبة للن�شر‪.‬‬ ‫‪� -٦‬إذا كان العمل �إبداع ًا �أدبي ًا فيجب �أن ي ّت�سم بالتم ّيز الفني و�أن يكون مكتوب ًا بلغة عربية ف�صيحة‪.‬‬ ‫‪� -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفق ًا لل�شكل الذي �ست�صدر فيه ‪ -‬على النحو الآتي‪:‬‬ ‫ الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة �صفحة بالمقا�س المذكور‪.‬‬‫ البحوث التي تن�شر �ضمن مجالت محكمة ي�صدرها المركز‪ :‬تخ�ضع لقواعد الن�شر في تلك‬‫المجالت‪.‬‬ ‫ الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة �صفحة‪( .‬تحتوي ال�صفحة على «‪ »250‬كلمة تقريب ًا)‪.‬‬‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت الن�شر‪ ،‬في�شمل الأعمال المقدمة من �أبناء وبنات منطقة‬ ‫الجوف‪� ،‬إ�ضافة �إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪� ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج) في�شترط �أن‬ ‫يكون الكاتب من �أبناء �أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يمنح المركز �صاحب العمل الفكري ن�سخ ًا مجانية من العمل بعد �إ�صداره‪� ،‬إ�ضافة �إلى مكاف�أة‬ ‫مالية منا�سبة‪.‬‬ ‫‪ -١٠‬تخ�ضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬

‫‪ -2‬دعم البحوث والر�سائل العلمية‬

‫يهتم بدعم م�شاريع البحوث والر�سائل العلمية والدرا�سات املتعلقة مبنطقة اجلوف‪ ،‬ويهدف‬ ‫�إلى ت�شجيع الباحثني على طرق �أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها و�أفكارها‪.‬‬ ‫(�أ) ال�شروط العامة‪:‬‬ ‫‪ -١‬ي�شمل الدعم املايل البحوث الأكادميية والر�سائل العلمية املقدمة �إلى اجلامعات واملراكز‬ ‫البحثية والعلمية‪ ،‬كما ي�شمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مب�ؤ�س�سات غري �أكادميية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة متعلق ًا مبنطقة اجلوف‪.‬‬ ‫‪ -٣‬يجب �أن يكون مو�ضوع البحث �أو الر�سالة جديد ًا يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬ ‫‪� -٤‬أن ال يتقدم الباحث �أو الدار�س مب�شروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬ ‫‪ -٥‬يقدم الباحث طلب ًا للدعم مرفق ًا به خطة البحث‪.‬‬ ‫‪ -٦‬تخ�ضع مقرتحات امل�شاريع �إلى تقومي علمي‪.‬‬ ‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد ال�سقف الأدنى والأعلى للتمويل‪.‬‬ ‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل �إج��راء تعديالت جذرية ت��ؤدي �إلى تغيري وجهة‬ ‫املو�ضوع �إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يقدم الباحث ن�سخة من ال�سرية الذاتية‪.‬‬ ‫(ب) ال�شروط اخلا�صة بالبحوث‪:‬‬ ‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف ال�شروط العامة(البند «�أ»)‪.‬‬ ‫‪ -٢‬ي�شمل املقرتح ما يلي‪:‬‬ ‫ تو�صيف م�شروع البحث‪ ،‬وي�شمل مو�ضوع البحث و�أهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪ ،‬واملدة‬‫املطلوبة لإجناز العمل‪.‬‬ ‫ ميزانية تف�صيلية متوافقة مع متطلبات امل�شروع‪ ،‬ت�شمل الأجهزة وامل�ستلزمات املطلوبة‪،‬‬‫م�صاريف ال�سفر والتنقل وال�سكن والإعا�شة‪ ،‬امل�شاركني يف البحث من طالب وم�ساعدين‬ ‫وفنيني‪ ،‬م�صاريف �إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬ ‫ حتديد ما �إذا كان البحث مدعوم ًا كذلك من جهة �أخرى‪.‬‬‫(ج) ال�شروط اخلا�صة بالر�سائل العلمية‪:‬‬ ‫�إ�ضافة لكل ما ورد يف ال�شروط اخلا�صة بالبحوث(البند «بــ») يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬ ‫‪� -١‬أن يكون مو�ضوع الر�سالة وخطتها قد �أق ّرا من اجلهة الأكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬ ‫‪� -٢‬أن ُيق ّدم تو�صية من امل�شرف على الر�سالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬ ‫الجوف‪ :‬هاتف ‪ - 014 626 3455‬فاك�س ‪� - 014 624 7780‬ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا ‪ -‬الجوف‬ ‫الريا�ض‪ :‬هاتف ‪ - 011 281 7094‬فاك�س ‪� - 011 281 1357‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬الريا�ض ‪11614‬‬ ‫‪sudairy-nashr@alsudairy.org.sa‬‬


‫جمل�س �إدارة م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري‬

‫ملف ثقايف ربع �سنوي ي�صدر عن‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬

‫هيئة الن�شر ودعم ا ألبحاث‬

‫رئي�س ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫ع�ضو ًا‬

‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫د‪ .‬خليل بن �إبراهيم المعيقل ‬ ‫د‪ .‬ميجان بن ح�سين الرويلي ‬ ‫محمد بن �أحمد الرا�شد ‬

‫امل�شرف العام ‪� :‬إبراهيم بن مو�سى احلميد‬ ‫�سكرترياً‬ ‫�أ�سرة التحرير‪ :‬حممود الرحمي ‬ ‫حمرراً‬ ‫حممد �صوانة ‬ ‫ ‬ ‫حمرراً‬ ‫عماد املغربي ‬ ‫ ‬ ‫�إخـــراج فني ‪ :‬خالد الدعا�س‬ ‫املرا�ســــــالت‪ :‬هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬ ‫فاك�س‪)+966()14(6247780 :‬‬ ‫ ‬ ‫�ص‪ .‬ب ‪� 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية ال�سعودية‬

‫‪www.aljoubah.org / aljoubah@alsudairy.org.sa‬‬

‫ردمد‬

‫‪ISSN 1319 - 2566‬‬

‫�سعر الن�سخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من ال�شركة الوطنية للتوزيع‬

‫رئي�س ًا‬ ‫في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫زياد بن عبدالرحمن ال�سديري الع�ضو المنتدب‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫�سلمان بن عبدالرحمن ال�سديري ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫د‪ .‬عبدالرحمن بن �صالح ال�شبيلي ‬ ‫ع�ضو ًا‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫�سلمان بن عبدالمح�سن بن محمد ال�سدير ي ع�ضو ًا‬ ‫طارق بن زياد بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا‬ ‫�سلطان بن في�صل بن عبدالرحمن ال�سديري ع�ضو ًا‬ ‫�شيخة بنت �سلمان بن عبدالرحمن ال�سدير ي ع�ضو ًا‬ ‫الإدارة العامة ‪ -‬الجوف‬ ‫المدير العام‪ :‬عقل بن مناور ال�ضميري‬ ‫م�ساعد المدير العام‪� :‬سلطان بن في�صل ال�سديري‬ ‫قواعد الن�شر‬ ‫‪� -1‬أن تكون املادة �أ�صيلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬مل ي�سبق ن�شرها ورقياً �أو رقمياً‪.‬‬ ‫‪ -3‬تراعي اجلدية واملو�ضوعية‪.‬‬ ‫‪ -4‬تخ�ضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل ن�شرها‪.‬‬ ‫‪ -5‬ترتيب املواد يف العدد يخ�ضع العتبارات فنية‪.‬‬ ‫‪ -6‬ترحب اجلوبة ب�إ�سهامات املبدعني والباحثني والك ّتاب‪،‬‬ ‫على �أن تكون املادة باللغة العربية‪.‬‬ ‫«اجلوبة» من الأ�سماء التي كانت ُتطلق على منطقة اجلوف �سابقاً‪.‬‬

‫املقاالت املن�شورة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي املجلة والنا�شر‪.‬‬

‫ُيعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املنا�شط املنربية الثفافية‪،‬‬ ‫ويتب ّني برناجم ًا للن�شر ودع��م الأبحاث والدرا�سات‪ ،‬يخدم الباحثني وامل�ؤلفني‪ ،‬وت�صدر عنه جملة‬ ‫(�أدوماتو) املتخ�ص�صة ب�آثار الوطن العربي‪ ،‬وجملة (اجلوبة) الثقافية‪ ،‬وي�ضم املركز ك ًال من‪( :‬دار‬ ‫العلوم) مبدينة �سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما ق�سم للرجال و�آخر للن�ساء‪.‬‬ ‫وي�صرف على املركز م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية‪.‬‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪2‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫العدد ‪� - 48‬صيف ‪1436‬هـ ‪2015 -‬م‬

‫‪62.......................‬‬ ‫حمور خا�ص بال�شاعر‬ ‫غرم اهلل ال�صقاعي يرحمه اهلل‬

‫‪80.......................‬‬ ‫حوار مع ال�شاعر والروائي‬ ‫فار�س الرو�ضان‬

‫‪88.......................‬‬ ‫�سيرة و�إبداع‬ ‫معا�شي ذوقان العطية‬

‫الـمحتويــــات‬ ‫االفتتاحية‪4 ................................................................‬‬ ‫درا���س��ات ونقد‪ :‬تقنيات ال�سرد وجمالياته ف��ي رواي��ة �سيرة العتق‪-‬‬ ‫د‪ .‬هويدا �صالح ‪6 .......................................................‬‬ ‫حفلة الجن مقاربة نقدية ‪ -‬د‪ .‬يو�سف ح�سن العارف ‪10 ...............‬‬ ‫الداللة والبنية ال�سردية في رواي��ة «�إنها باري�س يا عزيزتي» لنور‬ ‫الدين محقق ‪ -‬عبدالغني فوزي ‪13 ..................................‬‬ ‫ال�شعر حالة وجدانية ‪ -‬مع�صوم محمد خلف ‪15 .......................‬‬ ‫دي��وانُ «الطائر المهاجر» �صدى الحلم ورج��ع اللّغة ‪ -‬د‪�.‬إِبراهيم‬ ‫الدّهون‪19 ...........................................................‬‬ ‫جدلية العنوان في ق�صة «�صقيع يلتهب» لمريم الح�سن ‪ -‬ال�سيد‬ ‫التهامي ‪25 ..........................................................‬‬ ‫الحب في عرف المجنون الأخ�ضر ‪ -‬عمران عز الدين ‪30 .............‬‬ ‫«غيمة للتوازن» لل�شاعرة اللبنانيّة زينة ع��ازار‪ :‬ت��أمّ�لات الغيمة‬ ‫ال�شِ عريّة ‪ -‬عماد الدين مو�سى‪34 ....................................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة‪ :‬ق�صة ق�صيرة‪ ..‬زفاف ملكي ‪ -‬عمار الجنيدي ‪36 .......‬‬ ‫خفايا �صوت ‪ -‬نهلة ال�شقران ‪37 .......................................‬‬ ‫�صقيع يلتهب ‪ -‬مريم الح�سن‪40 .......................................‬‬ ‫طمرير والإبل (ق�صة للأطفال) ‪� -‬إبراهيم �شيخ مغفوري‪41 ..........‬‬ ‫امر�أة بال ج�سد ‪ -‬د‪ .‬محمد نادي فرغلي محمد‪43 ....................‬‬ ‫ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا ‪ -‬ح�سن علي البطران ‪45 ........................‬‬ ‫انت�صار ‪ -‬ح�سام الدين فكري ‪46 .....................................‬‬ ‫�شعر‪ :‬قراءة في �أ�ضابير العالم ‪� -‬سليمان عبدالعزيز العتيق‪47 ............‬‬ ‫نب�ضات ‪ -‬مالك الخالدي ‪50 ..........................................‬‬ ‫هم�سات الفحة ‪ -‬بو �شعيب عطران ‪52 .................................‬‬ ‫�أنت البعيد ‪ -‬مليكة معطاوي ‪54 .......................................‬‬ ‫تراتيله المبهمة ‪ -‬هندة محمد ‪55 .....................................‬‬ ‫كتاب الحب ‪ -‬نازك الخنيزي ‪56 ......................................‬‬ ‫�أبي�ض ال ي�شيخ ‪ -‬هدى الدغفق ‪58 .....................................‬‬ ‫محور خا�ص‪ :‬ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي ‪ -‬عبدال�سالم الحميد‪59 ......‬‬ ‫مواجهات‪ :‬ال�شاعر والروائي فار�س الرو�ضان ‪ -‬حاوره محمود الرمحي‪80 .‬‬ ‫ال�شاعر والناقد محمد �سمحان ناقد ير�صد الحراك ال�شعري في‬ ‫الأردن ‪ -‬حاوره عمار الجنيدي ‪84 ...................................‬‬ ‫�سيرة و�إبداع‪ :‬معا�شي ذوقان العطية ‪ -‬محمود الرمحي‪88 ...............‬‬ ‫ن��واف��ذ‪ :‬ال�شاعر ال��ذي تفزعه ��ص�ي��رورة الق�صيدة وت�ح�وّالت�ه��ا ‪-‬‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‪90 ...............................................‬‬ ‫�أُدبا ٌء يَحكونَ مدنَهم‪ /‬الجزء الثاني ‪� -‬سعيد بوكرامي‪92 ..............‬‬ ‫ر�ؤية للمنهج التاريخــي في النقد ‪� -‬أ‪.‬د‪� .‬صبري م�سلم حمادي‪113 ......‬‬ ‫الماء في ال�شعر العربي ‪� -‬صالح عبدال�ستار ال�شهاوي‪115 ............................‬‬ ‫قرا�صنة الفن ‪ -‬ه�شام بن�شاوي‪120 ...................................................‬‬ ‫قراءات‪126 ..............................................................‬‬ ‫الأن�شطة الثقافية �إعداد‪ :‬عماد المغربي ‪128 ..........................‬‬

‫�صورة الغالف‪ :‬عقد مدخل �سوق دومة الجندل التاريخي‪ ،‬وتظهر قلعة مارد بمحافظة دومة الجندل بمنطقة الجوف‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪3‬‬


‫اف�����������������ت�����������������ت�����������������اح�����������������ي�����������������ة‬

‫اف��ت��ت��اح��ي��ة‬ ‫ال���������ع���������دد‬ ‫■ �إبراهيم احلميد‬

‫ثمة �شاعر فارقنا للتو‪ ،‬عبر ف�ضائنا الإبداعي‪ ،‬كطيف ‪� ‬أو َك َه َّب ِة ن�سيمٍ باردة‪ ،‬لم‬ ‫وقا�صا �أي�ضا‪ ..‬وكان في الوقت‬ ‫يكن الراحل �شاعرا فح�سب‪ ،‬بل كان �شاعرًا ومفكرًا ً‬ ‫نف�سه �صديق ًا حميم ًا للجميع؛ ت�سكنه الب�ساطة والتديُّن والطبيعة والبيوت التي �ألفها‪ ،‬‬ ‫والمجال�س التي تفتقد ح�شرجات �صوته الالمع‪ .‬ترك ب�صمته في كل الأماكن‪ ،‬وكانت‬ ‫«رتو�ش» ن�صو�صه ق�صائد ومقاالت وكتب‪ ،‬خلّف لنا �سما ًء عالية زرقاء وبي�ضاء‪ ،‬ال‬ ‫نملك �إال �أن ن�شهق حيالها حين ن�ستذكره �صديقا ومبدعا وقريبا‪..‬‬ ‫يُعد ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي الذي فارق عالمنا م�ؤخرًا ‪� ‬أحد �أبرز ال�شعراء‬ ‫الذين �أخل�صوا لهويتهم الثقافية والإبداعية‪ ،‬متجاوزا كل �أ�شكال الت�صنيف والتحييد‪..‬‬ ‫بقي على �صلة حميمية بالجميع‪ ،‬تجده في جازان والريا�ض والجوف‪ ..‬مثلما تجده‬ ‫متجليا في تون�س �أو غيرها من بالدنا العربية‪ ،‬ذلك ال�ضيف ال�شفيف الخفيف كطائر‬ ‫�أبي�ض‪َ ،‬ي ْعبُر بالمكان من دون �أن يترك خلفه �سوى الن�سيم والطيف الملون بالألق‪،‬‬ ‫والغناء بق�صائده الجميلة‪ ،‬والذكريات الحلوة‪.‬‬ ‫يتذكر �أ�صدقاء الراحل بع�ضا من تجلياته في رحالته‪ ،‬كتلك التي ‪� ‬أوردها ال�شاعر‬ ‫والكاتب التون�سي مراد بن من�صور‪� ،‬إذ يكون غرم اهلل هو درة الكالم ومطر الغيم‪،‬‬ ‫فهاهو يقول «ك��م ك��ان مبهرا وه��و يلقي ن�صه الترحيبي‪ ،‬ثم يراق�ص على �أنغام‬ ‫المو�سيقى فتىً �سنطاويًا بزيه التقليدي‪ ،‬ويم�سك تلك الع�صا ويدور بها في ر�شاقة‬ ‫منقطعة النظير‪..‬كان �شاعرًا رائعًا وفار�سً ا مقدامًا‪.»..‬‬ ‫و يقول الأديب عبدالرحمن الدرعان بعد وفاة ال�صقاعي‪ :‬من �سيغني للجبال التي‬ ‫ثكلت �أنا�شيدك؟! ومن ي�ضع الرنين في �أقراط الزهور �أيها الطائر الجنوبي؟!»‪. ‬‬ ‫‪4‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫و يقول الناقد الدكتور محمد الجزار‪« :‬غرم اهلل �شخ�صا ون�صا‪� ،‬شرك عاطفي ال‬ ‫يكاد يفلت منه �أولو العزم من النقاد»‪.‬‬ ‫‪ ‬وي�شرح الجزار ما يميز تجربة ال�شاعر ال�صقاعي ‪ ‬الثرية بين ال�شعر والفكر‬ ‫والإن�سانية؛ ما «جعل للمعنى مركزيته في ن�صيه ال�شعري والفكري‪ ،‬فال هو ا�ستلبته‬ ‫�شكالنية تفقر ن�صه ال�شعري من وظيفته‪ ،‬وال هو �أغواه تنظي ٌر يفقد ن�صه الفكري‬ ‫ا�شتباكاته بواقع �سواء منه االجتماعي �أو الثقافي»؛ وي�ستطرد قائال «لقد كان غرم‬ ‫اهلل بانهمامه الفكري‪ ،‬ي�صنع �سياقات تلقي ن�صه ال�شعري‪ ،‬في الوقت نف�سه الذي كان‬ ‫يحيل من خالل ن�صه ال�شعري �إلى هذه ال�سياقات‪ ،‬لنكت�شف النبع الواحد الذي يميز‬ ‫ن�ص غرم اهلل الإن�سان الفكري وال�شعري‪ ،‬و�إن لم يمهله القدر ليكمل �أيا منهما‪ ،‬ال‬ ‫خ�صائ�ص ن�صه ال�شعري‪ ،‬وال ر�ؤيته الفكرية للعالم»‪.‬‬ ‫�أبدع ال�شاعر ال�صقاعي عددًا كبيرًا من الن�صو�ص ال�شعرية والق�صائد المتميزة‪..‬‬ ‫حتى عده الناقد الجزار �شاعرًا لأنه �إن�سان بمطلق معنى الكلمة‪ ،‬عا ّد ًا ق�صيدة غرم‬ ‫وقا�صا‪ .‬كذلك‬ ‫اهلل قراره الحا�سم باالنحياز لفرط �إن�سانيته‪� ،‬شاعرًا وناقدًا ومفكرًا ً‬ ‫�أنجز ال�صقاعي عددًا من الم�ؤلفات قبل وفاته يرحمه اهلل‪ ،‬منها‪ :‬ديوان «لغوايتهن‬ ‫�أق�صد»‪ ،‬وديوان «ال �إكراه في الحب»‪ ،‬وكتاب «�شهوة الكالم»‪ ،‬وكتاب «البهو وليال‬ ‫ع�شر‪ :‬حيرة المكان بين المتن والهام�ش»‪.‬‬ ‫ومع �أن ال�شاعر غاب ‪ ‬ليبقى في وجدان وقلوب محبيه‪ ،‬وعلى �صفحات كتبه وكتب‬ ‫نقاده‪� ،‬إال �أن المطلوب من جهاتنا الثقافية االلتفات لإرث ال�شاعر غرم اهلل حمدان‬ ‫ال�صقاعي وتجربته الثرية على ق�صرها‪ ،‬مع غيره من مبدعينا‪ ،‬وعدم دخوله خانة‬ ‫ن�سيانهم‪ ،‬تكريما له ولو بعد حين‪ ،‬ما المانع من �إدخال ن�صو�ص �شعرية �أو نثرية له في‬ ‫مناهج طالبنا في بع�ض مراحلهم؟‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪5‬‬


‫‪ρρ‬د‪ .‬هويدا �صالح*‬

‫كثير من الكتاب حاولوا التجريب و�إزاح��ة الحدود‬ ‫ن�ص ال يمكن ت�صنيفه؛ لكن‬ ‫بين الأنواع الأدبية‪ ،‬و�إنتاج ٍ‬ ‫تبقى ال�سيرة الذاتية هي من �أكثر الأنواع الأدبية �إثارة‬ ‫للنقا�شات‪ ،‬لأنها ال تريد �أن ت�ستقر‪ ،‬فهي‪ ،‬جن�س �أدبي‬ ‫م��راوغ وغير محدد المالمح؛ وذلك لأنها ت�شتبك مع‬ ‫�أجنا�س �أدبية �أخرى؛ كاليوميات والمذكرات والر�سائل‬ ‫وق�صائد ال�سيرة‪ ،‬وال�شهادات‪ ،‬وال��ح��وارات ال�شخ�صية‪،‬‬ ‫كما �أنها ت�شتبك مع ه��ذه الأن���واع حين ت�ستعير �آليات‬ ‫عملها ومنطقها الفني‪ .‬وعلى ال��رغ��م م��ن �أن الكثير‬ ‫من النقاد الفرن�سيين حاولوا التنظير لها‪ ،‬و�ضبط مجال الم�صطلح وا�شتغال؛ �إال‬ ‫�أن��ه يظل م�صطلحا ملتب�سا وغام�ضا‪ ،‬وذل��ك لقربها من �أجنا�س و�أن���واع‪ .‬لكن لو �إننا‬ ‫اعتبرناها نوعا من الخطاب الر�ؤيوي للعالم‪ ،‬ف�إن هذا يدفعنا �إلى الت�سا�ؤل عن تجني�س‬ ‫ال�سرد الروائي وتقاطعه مع مفهوم ال�سيرة الذاتية وعدّها جن�سا �أدبيا؛ ف�إن اختالفها‬ ‫الجوهري عن التخييل ‪-‬كما يرى فيليب لوجون‪ -‬يمر «عبر الإحالة على �ضمير متكلم‬ ‫ملمو�س ولي�س على �شخ�صية متخيلة»؛ ما يفر�ض اعتبارات حا�سمة في تلقّي الأدب‪ .‬‬ ‫هكذا فعل الروائي ال�سعودي �إبراهيم عبر ف�ضاء ال�سرد‪ ،‬كما �س�أتي الحقا‪.‬‬ ‫م�ضواح الألمعي في رواي�ت��ه «ع�ت��ق»‪ ،‬التي‬ ‫�إن العتق الذي ي�سعى �إليه ال�سارد‪ ،‬ومن‬ ‫فازت بجائزة نادي «�أدبي حائل» للرواية‪ ،‬ورائ��ه ال�م��ؤل��ف‪ ،‬لي�س عتقا ل�سعد الرجل‬ ‫والتي �صدرت عن دار «ج��دائ��ل» ببيروت‪ .‬فقط‪ ،‬بل هو عتق للمر�أة �أي�ضا‪ ..‬لزاهية‬ ‫حاول الألمعي �أن ي�سرب طرفا من �سيرته البطلة الأن�ث��وي��ة التي ت�سعى ه��ي الأخ��رى‬ ‫الذاتية في ف�ضائه ال�سردي؛ فبطله «�سعد» للتحرر‪ ،‬التحرر واالن��ع��ت��اق م��ن منظومة‬ ‫هو كاتب للق�صة والرواية‪ ،‬ويناق�ش ن�صو�صه اجتماعية تقيّد �شخو�صها‪ ،‬وتخ�ضعهم‬ ‫‪6‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ُ‬ ‫تقنيات ال�سرد وجماليا ُته‬ ‫في رواية �سيرة العتق‬

‫لقيودها المت�شددة‪« :‬لماذا ت�ستكثر عليَّ الدنيا �أن‬ ‫�أعي�ش حياتي بمن�أى عن هذه القيود التي ُت َك ِّبلُني‬ ‫أرت�شف من رحيق‬ ‫وتكاد تحب�س �أنفا�سي؟! كيف � ُ‬ ‫الحياة و�أنا م�شدود �إلى هذا المكان؟! قيود ولِدَ تْ‬ ‫معي‪ ،‬و�أخرى �صنعتها بنف�سي‪ ،‬و�أخرى يحيطني‬ ‫بها النا�س الذين يفر�ضون عليَّ كيف �أعي�ش!‬ ‫وكيف �أتكلم! وكيف �آكل! وكيف �أن��ام! يفر�ضون‬ ‫عليَّ نمط ًا محدَّد ًا ومحدود ًا من التفكير؛ الأموات‬ ‫هنا هم الأحرار الوحيدون الذين ال يطالبهم �أحد‬ ‫ب�أن يفعلوا ما يحلو للنا�س‪ ،‬تب ًا لهذه القيود‪ ،‬فقد‬ ‫وجِ دْ تُ في الزمن الخط�أ‪ ،‬والمكان غير المنا�سب‬ ‫لعي�ش مَ ن يتوقُ �إلى التحرر من القيود»‪.‬‬ ‫�إن ال��زم��ن ف��ي ال��رواي��ة ال�م�ع��ا��ص��رة ثالثي‬ ‫ما�ض م�ستعاد يفيد فيه ال��روائ��ي من‬ ‫الأب�ع��اد‪ٍ :‬‬ ‫تقنية الفال�ش ب��اك وال��رج��وع للما�ضي لكتابة‬ ‫تاريخ ال�شخ�صية؛ �أو حا�ضر‪ ،‬وهو زمن ال�سرد‬ ‫الآن��ي؛ �أو م�ستقبلي ا�ست�شرافي‪ ،‬ك ��أن يخبرنا‬ ‫ال �� �س��ارد �أو ال � ��راوي ب� ��أح ��داث � �س��وف تحدث‬ ‫لل�شخ�صية؛ وي�ضاف �إلى هذا الزمن زمن �آخر‬ ‫غير متعين يدركه القارئ وحده عبر وعيه �أثناء‬ ‫عملية القراءة‪.‬‬

‫النحل دون �أن ت�غ��رق‪« ..‬كنت �أرق��بُ ع�صفور ًا‬ ‫يالحق ق�ط��راتِ الماء في قعر ال�صحفة‪ ،‬كان‬ ‫الوقت ظهيرة‪ ،‬والمكانُ هادئاً‪ ،‬في الجهة المقابلة‬ ‫ك��ان��ت ق�ط��ة ج��دي الأث��ي��رة ت��رق��ب الع�صفور‪،‬‬ ‫اقتربتْ بهدوء من ال�صحفة‪ ،‬تمد ج�سدها‪ ،‬يكاد‬ ‫بطنها يالم�س الأر���ض‪ ،‬م�دَّتْ عنقها نحو حافة‬ ‫ال�صحفة‪ ،‬ببطء �شديد‪ ،‬فج�أة طار الع�صفور‪،‬‬ ‫ول��م يكلفها الأم��ر �إال �أن تقفز من جهتها �إلى‬ ‫الجهة الأخرى مرور ًا بال�صحفة‪ ،‬فاتح ًة فمها في‬ ‫الوقت المنا�سب‪ ،‬لي�ستقر الع�صفور بين فكيها‪،‬‬ ‫لم يعد يظهر من الع�صفور �سوى ر�أ�سه وقدميه‪،‬‬ ‫وج��ز ٍء ي�سير من بطنه الأبي�ض‪ ،‬حدث ك ُّل هذا‬ ‫في لحظة ت�ستع�صي على الإدراك‪ ،‬م�شتْ بهدوء‬ ‫مبتعدة عن المكان»‪.‬‬

‫الزمن في رواية «�سيرة العتق» ق�سمان‪ :‬الزمن‬ ‫الآني‪ ،‬الذي ي�سرد عبره ال�سارد والراوي العليم‬ ‫تفا�صيل حياة �سعد‪ ،‬موظف البريد‪ ،‬الذي يعي�ش‬ ‫راهنا كابيا ال تنعتق فيه ذاته من قيود الوظيفة‬ ‫ومن قيود الزواج الذي يُعطّ ل طموحه؛ ثم يفيد‬ ‫كذلك الكاتب من الزمن الما�ضي �أو الفال�ش‬ ‫باك‪ ،‬الذي يعود فيه ال�سارد �إلى طفولته و�شبابه‪،‬‬ ‫يكتب �سيرته مع هذا المجتمع وتفا�صيل بيئته‪،‬‬ ‫كما �أن الألمعي يفيد في روايته من تقنية تعدد‬ ‫وعالقاته مع �أهله وحبيباته ال�سابقات وزوجته‬ ‫(زاه �ي��ة)‪« :‬ف��ي بيت ج��دي حيث ي�ض ُع �صحف ًة الأ�صوات �أو الكرنفالية‪ ،‬كما و�صفها ميخائيل‬ ‫للماء‪ ،‬ويجعل فوق الماء بع�ض الق�ش لكي ت�شرب باختين‪� ،‬إذ تنه�ض لغة الكتابة ف��ي ال��رواي��ة‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪7‬‬


‫نرى في الرواية ثالثة �أ�صوات �سردية‪� ،‬صوت‬ ‫الذات ال�ساردة ب�ضمير الأنا‪� ،‬أنا �سعد ال�ساعي‬ ‫للتحرر‪« :‬بال اتجاه ت�سير بي �سيارتي‪ ،‬توقفني‬ ‫الإ� �ش��ارة‪ ،‬ف�ت��زداد حيرتي! �أيُّ ال�ط��رق �أمامي‬ ‫�أ�سلك؟! �أخذني الطريق الم�ؤدي �إلى الم�ست�شفى‪،‬‬ ‫لم يطل انتظاري على بوابته‪ ..‬فالحرا�س يرفعون‬ ‫الحاجز لمجرد ر�ؤي�ت��ي‪ ،‬كعادتهم عندما كنت‬

‫‪8‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ب�آخرين و�أخريات‪ ،‬فزميلتي التي جاءت بعدي‬ ‫في الترتيب بمراحل‪ ،‬عادتْ للجامعة في ال�سنة‬ ‫التالية لتَخَ رُّجِ نا‪ ،‬و ُمنِحتْ بعثة درا�سية؛ �أغتاظ‬ ‫كلما م��ررتُ بالفتة عيادتها تتو�سَّ ط المركز‬ ‫التجاري ال�ضخم ال��ذي يملكه �أبوها‪ ،‬المزعج‬ ‫�أنني م�ضطر ٌة للمرور بجواره كلما غ��دوتُ �إلى‬ ‫المدر�سة �أو رحتُ منها»‪.‬‬

‫ثم ت�أتي الق�ضية الأهم‪ -‬في تقديري ‪ -‬والتي‬ ‫تعبّر ع��ن الخطاب الثقافي ال�ث��اوي وراء هذا‬ ‫الن�ص‪ ..‬ق�ضية تحرر ال�م��ر�أة التي ال تقيّدها‬ ‫قيود الزواج فقط‪ ،‬بل تقيّدها الثقافة الذكورية‬ ‫التي تجعلها تابعة للزوج‪ ،‬ال تتحرك �إال ب�إذنه‪،‬‬ ‫بو�صفها الحلقة الأ�ضعف في المجتمع‪ ،‬وت�أتي‬ ‫�أهمية هذا الق�ضية من ناحيتين‪� ،‬أوال �أن كاتبها‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الجديدة على التنوّع‪ ،‬وتعدّد م�ستويات اللغة‪،‬‬ ‫فاللغة في ال��رواي��ات لغات والأ�سلوب �أ�ساليب‪.‬‬ ‫وللتعدّد في الفن الروائي �أوج��ه �شتى؛ منه �أن‬ ‫ال��روائ��ي ي�ستقبل داخ��ل عمله الأدب��ي التعددية‬ ‫الل�سانية وال�صوتية للغة الأدبية وغير الأدبية‪،‬‬ ‫من دون �أن ي�ضعف عمله جرّاء ذلك‪ ،‬بل ي�صير‬ ‫ثم ي�أتي �صوت ال��راوي العليم المطّ لع على‬ ‫�أكثر عمقا‪.‬‬ ‫كل الأح��داث في الن�ص‪« :‬عندما التحق �سعد‬ ‫تر�سم هذه الكرنفالية للغات المنحدرة من بالعمل ف��ي مكتب البريد منذ ع�شرين �سنة‪،‬‬ ‫انتماءات ثقافية مختلفة ومن طبقات اجتماعية كانت الر�سائل مفعمة بالم�شاعر‪ ،‬كانت لبع�ضها‬ ‫متعددة �صورة الرواية النموذجية‪ ،‬وِفق الت�صور رائحة تدل على محتواها‪ ،‬كانت البلدة ملأى‬ ‫الباختيني؛ ل��ذل��ك‪ ،‬ال ي�ت��ردد بع�ض النقاد في بالمُتعاقدين‪ ،‬معلمين و�أطباء ومهند�سين‪ ،‬من‬ ‫�إطالق �صفة الديمقراطية عليها‪ ،‬وهم يق�صدون بلدان �شتى‪ ،‬كانت ر�سائلُهم وجب ًة �شهي ًة ل�سعد‬ ‫بذلك ال�ح��واري��ة التي يمنحها العمل ال��روائ��ي ورفاقه‪ ،‬يقر�ؤون فيها حكايات الغرام‪ ،‬ولوعة‬ ‫لل�شخ�صيات حتى تعبّر ب�أ�صواتها عن همومها‪ .‬الفراق‪ ،‬و�شكوى الهموم والآالم؛ يت�سلَّون باختيار‬ ‫والكرنفالية �أو تعدد الأ�صوات ‪-‬في تقديري‪ -‬لي�س بع�ض ال��ر��س��ائ��ل ال� ��واردة‪ ،‬ث��م ي�ت��راه�ن��ون على‬ ‫مجرد تعدد في اللغات الم�ستخدمة‪� ،‬أو في الرواة محتواها‪ ،‬في�صيبون ويخطئون»!‬ ‫داخل الن�ص الواحد‪ ،‬بقدر ما هي عر�ض لوجهات‬ ‫كذلك �صوت الأن��ا الأنثوية الأخ��رى‪� ،‬صوت‬ ‫النظر المتنوعة؛ �سواء كان العمل الروائي فيها زاه �ي��ة �شريكة �سعد ف��ي ال��رغ�ب��ة ف��ي التحرر‬ ‫مبنيا على �شكل ف�صول متفرقة‪ ،‬يروي ك َّل ف�صل واالنعتاق‪« :‬كان حلمي �أن �أ�صبح طبيب ًة نف�سية‪،‬‬ ‫فيها �أح ُد ال�شخ�صيات‪ ،‬وبذلك يقع تقويمه من �أمتلك ع�ي��ادة‪ ،‬فدر�ستُ علمَ النف�س‪ ،‬وبرغم‬ ‫خالل وجهة نظر مفردة؛ �أو تُقدَّم وجهات النظر اج�ت�ه��ادي وانقطاعي للدرا�سة‪ ،‬ل��م تر�شحني‬ ‫المتنوعة ف��ي ه��ذه ال�صورة بو�صفها �أ��ص� ٍ‬ ‫�وات الجامعة لإت �م��ام درا� �س �ت��ي‪ ،‬فمعدلي �أق ��ل من‬ ‫�أيديولوجي ًة مت�ساوي ًة في الأ�سا�س‪ ،‬وهي ال�صورة المطلوب‪ ،‬و�إن كنت �أعلم �أن الأمر يمكن تجاوزه‬ ‫التي �أطلق عليها ميخائيل باختين (البولوفونية) لو �أرادوا‪ ،‬ولكنه النظام الذي خُ لقَ ليطبَّق عليَّ‬ ‫�أي الرواية ذات الأ�صوات المتعددة‪.‬‬ ‫وعلى �أمثالي‪ ،‬وال يلتفتون �إليه عندما يتعلق الأمر‬

‫�أت��ردد عليهم في كل الأوق ��ات‪ ،‬ف�أق�ضي داخل‬ ‫�ساعات �أرك�ض خلف الأمل‬ ‫ٍ‬ ‫�أ�سوار الم�ست�شفى‬ ‫الذي يتراءى لي‪ ،‬ثم يرك�ض �أمامي في الدهاليز‬ ‫أم�سك به �أفلتَ‬ ‫والردهات‪ ،‬حتى �إذا �أو�شكتُ �أن � َ‬ ‫مني‪ ،‬ف�أرك�ض من جديد وال �أعثر له على �أثر»‪.‬‬

‫ك��ذل��ك يفيد الأل�م�ع��ي ف��ي ن�صه م��ن تقنية‬ ‫الميتا�سرد �أو الكتابة عن الكتابه؛ ف�سارده الذي‬ ‫�أ��ش��رت قبال �أن��ه يحمل بع�ض �سمات الم�ؤلف‬ ‫بع�ض من �سيرته‬ ‫الحقيقي في محاولة لت�سريب ٍ‬ ‫الذاتية ف��ي الن�ص ه��و كاتب يكتب الق�ص�ص‬ ‫وال��رواي��ات‪ ،‬ب��ل وين�شرها ف��ي بع�ض الجرائد؛‬ ‫فنجد الكاتب في الن�ص يناق�ش الكتابة‪ ،‬وهمومها‬ ‫و�أ�سئلتها حين يناق�ش ن�صو�ص �سارده‪« :‬عَ دَ لَ عن‬ ‫فكرة الكتابة على ال��ورق‪ ،‬وق � َّر َر �أن يُخ�ص�ص‬ ‫ملف ًا في جهازه المحمول لهذا الغر�ض؟! ارتاح‬ ‫للفكرة‪ ،‬وعلى الفور و�ضع الدفتر جانباً‪ ،‬قرَّر‬ ‫�أن ت�ك��ون �أول ��ى مو�ضوعاته م��ن المخبوء في‬ ‫ذاكرته‪ .‬قرَّر �أن تكون �سيرته محور ًا لكتابه‪ ،‬فهو‬ ‫يعتقد �أن عليه �أن يجل�س على كر�سي االعتراف‬ ‫�أمام (الكي بورد) ويفرغ من ر�أ�سه ك َّل ما علق‬ ‫بذاكرته من هذه البلدة‪ ،‬فذكرياته ال تختلف عن‬ ‫الذنوب التي يعتقد مقترفوها �أن البراءة منها‬ ‫ال تكون �إال باالعتراف بها‪ ،‬ثم يذهب بعيد ًا عن‬ ‫كلِّ الأقبية‪ ،‬كما نفذَ قبل ذلك من زنزانة زاهية‬ ‫الوثيرة‪ .‬يتذكر ق�سوة اللحظات التي عبَّرت عنها‬ ‫هذه الق�صة‪ ،‬ويتذكر البهجة التي �شعر بها وهو‬ ‫يرى ق�صت ُه تُن�شر في الجريدة بعد تلك الليلة‬ ‫ب�سنتين‪ ،‬يتمنى �أن تكون ليلى قد قر�أتْها‪ ،‬فهي‬ ‫الوحيدة التي �ستفك �شفرتها‪ ،‬ولكنَّه غير مت�أكد‬ ‫من ذلك»‪.‬‬

‫رجل‪ ،‬والناحية الثانية �أنه رجل في مجتمع مثل‬ ‫مجتمعها ال يعترف كثير ًا بحقوق ال �م��ر�أة في‬ ‫التحرر‪ .‬نجد �صوت زاهية قوي ًا وا�ضح ًا وهي‬ ‫تتحدث عن حياتها وا�ستقاللها‪« :‬ال ت�ستطيع تخيّل‬ ‫حياتها بدون ما حققته من ا�ستقالل‪ ،‬وحرية‪،‬‬ ‫واعتماد على ال��ذات؛ هي ال تحقد على �سعد؛‬ ‫كل ما في الأمر �أنها ت�شعر �أنها �أ�صبحتْ كائن ًا‬ ‫مختلف ًا ي�ستطيع التفكير فيما حدث بالأم�س‪ ،‬وما‬ ‫�سيحدث غ��داً‪ ،‬دون �أن يكون هناك مَ ن يقتحم‬ ‫�سياج تفكيرها‪ .‬لي�س بو�سعها �أن تتنازل عن هذه‬ ‫المكت�سبات مهما كان الثمن؛ فال�شعور بالحرية ال‬ ‫يمكن تكذيبه‪ ،‬مهما كانت تلك الحرية موهومة‪،‬‬ ‫�أو ناق�صة المالمح»‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬تقع ال��ذات ال�ساردة الأنثوية في حيرة‬ ‫وجودية‪ ،‬فهي تت�ساءل عن حريتها‪ ،‬وهل تختلف‬ ‫حريتها عن حرية �سعد‪ /‬الرجل؟ وهل المجتمع‬ ‫قادر على تقبّل تحررها‪� ،‬إنها ك�أنثى تعي تماما‬ ‫المعركة التي �ستخو�ضها‪« :‬عاودتها ت�سا�ؤالتها‬ ‫ح��ول ال�ف��رق بين الحرية التي ين�شدها �سعد‪،‬‬ ‫والحرية التي �أحرزتها‪ ،‬ت�شعر �أن طريقها نحو‬ ‫الحرية‪� ،‬سيكون �أ�شد وع��وره من طريق �سعد‪،‬‬ ‫فكثي ٌر من المباحات ل�سعد هي محرمات عليها؛‬ ‫فقط لأنها �أنثى‪ ،‬فلتقنع باال�ستقالل ال�شخ�صي‪،‬‬ ‫فلي�س من المعقول �أن تذهب �إلى �أبعد من ذلك‪،‬‬ ‫و�إال �صارت تحتَ طائلة محا�سبة المجتمع الذي‬ ‫يُ�صدر �أحكامه وين�صبُ الم�شانق قبل �أن يقيم‬ ‫المحكمة‪� ،‬أو ي�ستجوب المتهم‪ .‬مهما �أُعجِ بت‬ ‫بمريم وتمنت �أن تمتلك �شخ�صيتها القوية‪� ،‬إال‬ ‫�أنها ال ترغب �أن تن�ساق �إلى المدى الذي بلغته‬ ‫مريم‪ ،‬فتقيم �صداقات غير م�شروعة‪ ،‬مع �أن‬ ‫مريم قد لمَّحت لذلك‪ ..‬ولكنها لم تجد القبول‬ ‫لدى زاهية»‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪9‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫(‪)2‬‬

‫حفلة الجن‬ ‫مقاربة نقدية‬ ‫■ د‪.‬يو�سف ح�سن العارف*‬

‫(‪)1‬‬

‫بين التربية والتعليم‪ ..‬وال�صحافة والإع�ل�ام‪ ..‬تتبلور �شخ�صية الكاتب والأدي��ب‬ ‫القا�ص بخيت طالع ال��زه��ران��ي‪ ,‬فمنهما يمتح ثقافة نوعية‪ ،‬ت���ؤط��ر ك��ل طروحاته‬ ‫و�إبداعاته‪.‬‬ ‫«بخيت طالع» ابن القرية وعاداتها وتقاليدها‪ ,‬ابن ذلك المجتمع القروي الذي‬ ‫تبلورت حياته على قيم ال�شجاعة ومكارم الأخالق والحكمة‪ ،‬والحكايات على �أل�سنة‬ ‫ن�سائها ورجالها‪ ,‬وعجائزها و�أ�شياخها وكهولها؛ فا�ستقى منهم ‪ -‬بح�سه الأدب��ي –‬ ‫ال�شيء الكثير‪ ,‬وتربى عقله الباطن على تلك الحكايا‪ ..‬فراح يعيدها – بلغته الأدبية‬ ‫– التي اكت�سبها من تمدر�سه الجامعي وثقافته القرائية‪ ,‬وعمق تكوينه الأدبي‪.‬‬ ‫وهو ابن المدينة ب ِرتْمها المت�سارع‪ ,‬وحالتها اال�ستهالكية‪ ,‬وف�ضاءاتها المتجددة‬ ‫بالنا�س والحياة‪ .‬فا�ستفتى منها مادته الحكائية الأدب��ي��ة في بُعدها المعلوماتي ‪/‬‬ ‫الخبري‪.‬‬ ‫وهو مع ذلك كله‪ ،‬ال�صحفي ‪/‬الإعالمي‪� ،‬صاحب الب�صر والب�صيرة‪ ،‬الذي يلتقط‬ ‫الأخبار والأحداث اليومية‪ ,‬يبحث عنها‪ ,‬يُعرِّف النا�س بها‪ ..‬وين�شرها بينهم في �صور‬ ‫�إعالمية ‪/‬خبرية!‬ ‫ومن ذلك كله تكونت لديه مجموعة من الحكايات ‪/‬مادة �أولية ‪/‬معلوماتية خام‪..‬‬ ‫�أعم َل فيها �أ�سلوبه الأدب��ي‪ ,‬بعيداً عن الخيال الفني والإب��داع��ي‪ ،‬ليخرج لنا في عام‬ ‫‪2011‬م مجموعة ق�ص�صية بعنوان(حفلة الجن)‪� ..‬صدرت عن نادي الباحة الأدبي‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫م��ن��ذ ال � �ع � �ن� ��وان‪ ..‬و�إح � ��االت � ��ه ال�ن���ص�ي��ة‬ ‫والم�ضمونية‪ ،‬تتنامى ال�ق��ري��ة ف��ي ج��زء من‬ ‫ف�ضاءات المجموعة الق�ص�صية‪ ,‬وه��ذه مادة‬ ‫جديدة تن�ضاف �إلى عملي المو�سّ ع عن «الن�ص‬ ‫القروي في ال�سرديات ال�سعودية» �إن �شاء اهلل!!‬ ‫وفي الوقت نف�سه تتنامى المدينة وم�ضامينها‬ ‫الحديثة‪ ,‬وف�ضاءاتها التراجيدية‪ /‬الم�أ�ساوية‪,‬‬ ‫وا�ستبدادها المعي�شي اليومي في الجزء الآخر‬ ‫من المجموعة‪.‬‬ ‫وعلى هذا‪ ،‬ف�إن(حفلة الجن) ق�ص�ص حياتيه ‪ -‬المزارعون حملوا متاعهم ف��وق حميرهم‬ ‫تمزج بين القروية والمدنية‪ ،‬في ثنائية ن�صو�صية‬ ‫�ص‪.32‬‬ ‫يرويها لنا كاتب عليم‪ ،‬يعي�ش �صراع ًا داخلي ًا بين‬ ‫ �أطراف القرية الجبلية �ص ‪.48‬‬‫كينونته القروية‪ ,‬وامتداده في المدينة‪ ,‬فجاءت‬ ‫ عندما كان م�ؤذن القرية �ص‪.60‬‬‫المجموعة تعبير ًا عن هذا وذاك‪.‬‬ ‫ وادي بيده �ص‪.70‬‬‫(‪)3‬‬ ‫ جبال عي�سان �ص ‪.71‬‬‫تظهر القروية في ثمان ق�ص�ص من كامل‬ ‫ثانياً‪ :‬كما تتجلى المدينة من خالل الدالالت‬ ‫المجموعة التي تحتوي على �أربع ع�شرة ق�صة‪ ,‬والإحاالت الن�صية مثل‪:‬‬ ‫بينما ت�شكل المدينة باقي المجموعة وهي �ست‬ ‫ ج�سد المدينة المنهك �ص‪.18‬‬‫ق�ص�ص ‪ ,‬وهذا يعني – داللي ًا – تغلب الن�ص‬ ‫ في ذلك المكان الق�صي من المدينة �ص‪.23‬‬‫القروي والرموز القروية في الذات الحكائية‪،‬‬ ‫ في تلك المدينة ال�ساحلية ال�صاخبة �ص ‪.27‬‬‫وت�شبّع ال��راوي العليم‪/‬الكاتب‪/‬الم�ؤلف لتلك‬ ‫ ر�أي ��ت �أ� �ص��دق��اء اللغو�ص ورف �ق��اء ال�صيد‬‫الأح��داث‪ .‬ويمكن التدليل على هذا الم�ضمون‬ ‫�ص‪.44‬‬ ‫النقدي من خالل الف�ضاءات الن�صية الآتية‪:‬‬ ‫ �سكان الحي الطرفي المتوا�ضع من مدينة‬‫�أوالً‪ :‬تتجلى ال�صور والرموز القروية ح�سب‬ ‫جدة �ص‪,82‬‬ ‫العبارات الدالة‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫ يو�سف �صحفي ن��اج��ح‪ ,‬رئي�س التحرير‪..‬‬‫�ص‪.87‬‬ ‫‪ -‬البيوت العتيقة المبنية من الحجر �ص‪.12‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪11 )2015‬‬


‫ومن خالل هذه المعالم الوا�ضحة �صراحة‬ ‫و�ضمن ًا على ما تحتويه المجموعة من ن�صو�ص‬ ‫قروية و�أخ��رى مدنية‪ ,‬ن�ستطيع الحكم النقدي‬ ‫على �أنها مجموعة ق�ص�صية مخاتلة‪ ،‬ال ترتهن‬ ‫�إلى �أحد الف�ضاءات الم�ضمونية �إال على الم�ستوى‬ ‫الخارجي ال�شكلي‪.‬‬

‫وه��ذا الملمح النقدي ينطبق على كثير من‬ ‫ولغلبة الن�ص القروي‪� ,‬سنقف – نقدي ًا – مع الن�صو�ص في هذه المجموعة‪.‬‬ ‫ق�صة(حفلة الجن) واختيارها �أنموذج ًا ممثالً؛‬ ‫(‪)5‬‬ ‫لأن القا�ص اختارها عنوان ًا لكامل المجموعة‪,‬‬ ‫لعلنا ن�ستبين منها الجماليات ون��رف��ع عنها‬ ‫بقي �أن �أق��ول ‪ -‬لأخ��ي بخيت – ولكل قا�ص‬ ‫ال�سلبيات‪.‬‬ ‫جديد تت�شكل �آفاقه ال�سردية‪ :‬ال يكفي �أن نمتلك‬ ‫(حفلة الجن) �ص �ص ‪ , 36-31‬حكاية �شعبية‬ ‫قروية تتداولها كثير من المجتمعات القروية‪,‬‬ ‫مع فوارق في المعطيات والنهايات‪ ,‬لكن القا�ص‬ ‫بخيت طالع‪ ,‬وهو ابن قرية الأطاولة في زهران‪,‬‬ ‫ينقلها من الذاكرة ال�شعبية �إلى ف�ضاء الن�ص‬ ‫الأدبي‪ ،‬م�ستخدم ًا في ذلك تقنيات كتابية �أولية‬ ‫في الفن الق�ص�صي‪ ,‬ينقل فيها ر�ؤاه وت�صوراته‬ ‫القروية �ضمن لغة �أدبية �ساحرة‪ ,‬فيها كثير من‬ ‫ال�شاعرية‪ ,‬والبالغة الو�صفية مثل‪:‬‬ ‫ النهار يلملم �أطرافه‪.‬‬‫ الرتدائه عباءة الليل‪.‬‬‫‪ -‬بنظرة خاطفة يخالجها الوجل‪.‬‬

‫مادة الحكي‪ ,‬وال يكفي �أن نمتلك الأدوات اللغوية‬ ‫والأ�سلوبية‪ ،‬ولكن بقدر ذل��ك االم�ت�لاك وه��ذه‬ ‫الملكية‪ ،‬وبقدر تلك اللغة الأ�سلوبية والأدائية‪ ،‬البد‬ ‫�أن يت�أ�س�س القا�ص وال�سارد على تقنيات الكتابة‬ ‫في �أفقها الإبداعي‪ ،‬من حيث فهم قيمة الزمن‬ ‫والمكان والن�ص اال�ستذكاري اال�سترجاعي‪/‬‬ ‫الفال�ش باك‪ ,‬والحوار الداخلي والتوازن النف�سي‬ ‫وال �م �ع �ن��وي‪ ,‬وال�شخ�صيات ال �� �س��اردة الأول �ي��ة‬ ‫والثانوية‪ ,‬وغير ذلك من التقنيات‪.‬‬

‫وه��ذا يحتاج �إل��ى ال �ق��راءات المعمقة في‬ ‫مجال النقد الق�ص�صي‪/‬ال�سردي‪� ,‬إ�ضافة �إلى‬ ‫ولكن ه��ذه اللغة الباذخة لم ت�ساعده على المجاميع الق�ص�صية المعا�صرة‪ ,‬حتى ت�ستوي‬ ‫نقل(حفلة الجن) من حكائيتها �إل��ى مبتغاها ل��دى �صاحب التجربة الكثير م��ن المفاتيح‬ ‫الفني ‪/‬الق�ص�صي‪/‬ال�سردي وفق قيم الكتابة والآليات الإبداعية‪.‬‬ ‫ * �شاعر وكاتب من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫(‪)4‬‬

‫ال�سردية المتعارف عليها ح��دي�ث�اً‪ ,‬وال ترقى‬ ‫�إل��ى ما و�صلت �إليه ميكنة الن�صو�ص ال�سردية‬ ‫الحديثة‪ .‬فما تزال الق�صة مادة حكائية ينقلها‬ ‫ال�سلف �إل��ى الخلف‪ ،‬ولم تتحول �إل��ى عمل فني‬ ‫ق�ص�صي يحتفي ب��ال��زم��ان وال�م�ك��ان والحدث‬ ‫وال�شخو�ص والبطولة‪.‬‬

‫الداللة والبنية ال�سردية‬ ‫في رواية‪:‬‬ ‫«�إنها باري�س يا عزيزتي»‬ ‫لنور الدين محقق‬

‫■ عبدالغني فوزي*‬

‫جميل �أن تتعدد طرائق ال�سرد في متون الروايات‪ ،‬فذاك ينم عن �إح�سا�س و�إحاطة‬ ‫ب�أ�صول الحكي؛ ولكن طريقة توظيفها واللعب في مربع الحكاية يختلف من كاتب‬ ‫�إلى �آخر‪.‬‬ ‫�أح�س�ست بقوة هذه الفكرة‪ ،‬و�أنا �أ�ضع اليد على رواية الكاتب المغربي نور الدين‬ ‫محقق المعنونة‪�« :‬إنها باري�س يا عزيزتي»‪ ،‬رواية ت�صور �أو ت�ستجمع ذكريات من حياة‬ ‫الكاتب‪ ،‬انتدب لها ا�سم يو�سف ليقوم بت�أديتها‪ ،‬بو�صفه كينونة؛ خلق لها الم�ؤلف‬ ‫محتمال حكائيا‪ ،‬لتبدو م�ست�ساغة‪.‬‬ ‫تنطرح في الرواية قيد النظر حكاية يو�سف بين ال��دار البي�ضاء وباري�س؛ ففي‬ ‫المدينة الأول����ى ي��م��ار���س ال�����س��ارد حياته ب�شكل اع��ت��ي��ادي‪ .‬لكن ي��ب��دو ���س��ردا �أن هذه‬ ‫ال�شخ�صية مغايرة للم�ألوف ف��ي اختياراتها وقناعاتها‪ ،‬ف��ي واقعها وحلمها؛ �إنها‬ ‫محبة للفنون والجماليات التعبيرية والب�صرية‪ ،‬من‪� :‬أدب و�سينما وم�سرح وت�شكيل‪..‬‬ ‫وي�ستح�ضر يو�سف ذل��ك ف��ي ت�أمالته لأ�شكال معي�شية ت�لازم��ه‪ ،‬م��ن‪ :‬بحر ومقهى‬ ‫وتدري�س ولهو‪ ...‬بهذا الخليط ال�سحري‪ ،‬فالحكاية تطرح التفاعالت والجدليات بين‬ ‫الأفكار وامتداداتها في الواقع والمتخيل‪ .‬ويمكن القول �إن الأمر يتعلق بحكايتين‪،‬‬ ‫حكاية يو�سف �أو حياته الحا�ضنة لحكاية ثانية‪ ،‬تتمثل �أ�سا�سا في عالقة حب مركبة‬ ‫بينه وبين ن�ساء معدودات‪ .‬فكان ف�ضاء الإنترنت‪ ،‬وبخا�صة الفي�سبوك نافذة وا�صلة‬ ‫بين ال�سارد وجميالت باري�س‪ ،‬من خالل عالقة �أولى بين الأيقونات(ال�صور)‪ ،‬ليتطور‬ ‫الأمر �إلى لقاءات مبا�شرة بعد �سفر يو�سف �إلى باري�س‪ ،‬فتم الت�صالح مع الذات هناك‬ ‫من خالل ا�ستح�ضار فترات الدرا�سة‪ ،‬والتجوّل في ال�ساحات والمكتبات في �صحبة‬ ‫�صديقات حبيبات‪ ..‬ليعود يو�سف بعد ذلك �إلى الدار البي�ضاء‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪13 )2015‬‬


‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن�سجل لهذه الرواية جر�أتها في التعبير عن‬ ‫عالقة الرجل بالمر�أة‪ .‬ويغلب ظني �أن هذا العمل‬ ‫ال يتغيا الإث��ارة الفجة وال�سطحية‪ ،‬بل يبني من‬ ‫خالل ذلك �سيرة وحياة �شخ�صية يو�سف‪ .‬ولهذا‬ ‫الأخير تفا�صيل وحميميات ينبغي �أن تعبر لل�سرد‬ ‫دون �أن تفقد اللغة لغتها �أو ال�سرد جماليته‪.‬‬ ‫بعد ه��ذا الر�صد ل�ل��دالل��ة‪ ،‬وبع�ض مفا�صل‬ ‫البنية ال���س��ردي��ة ف��ي رواي���ة «�إن �ه��ا ب��اري����س يا‬ ‫عزيزتي»‪ ،‬ال بد من التن�صي�ص على فكرة تتعلق‬ ‫بالطريقة ال�شيقة والر�شيقة للغة في هذا العمل‪،‬‬ ‫لغة بدت عفوية ومن�سابة من دون ت�صنّع؛ فغدت‬ ‫م�ج��رىً جميال ي�سوق الحالة والم�شهد بهذا‬ ‫ال�صنيع؛ فالكاتب نور الدين محقق المتمر�س‬ ‫بالكتابة � �س��ردا و��ش�ع��را‪ ،‬ب��ل ر� �ص��دا وتحليال‪،‬‬ ‫يح�ضر بكله هذا‪� ،‬أينما وُجد في الحياة و�أنواع‬ ‫الكتابة‪ .‬فانتبهوا حفظكم اهلل للأعمال الجميلة‬ ‫التي تعبّر عن مهارة اليد والفكرة‪.‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫في توا�صل حثيث مع نور‬ ‫الدين محقق الذي �ألف تلك‬ ‫ال��رواي��ة‪ .‬يقول ال�سارد‪� ،‬ص‬ ‫‪« :123‬وما �أن انتهت الأغنية‬ ‫الفيروزية الرائعة‪ ،‬حتى كان‬ ‫الكاتب المغربي ن��ور الدين‬ ‫محقق ق��د ا��س�ت�غ��رق ب�شكل‬ ‫ع�ج�ي��ب ف��ي �أع� �م ��اق ذات ��ه‪،‬‬ ‫م�ستح�ضرا كل ما قد حكاه‬ ‫له �صديقه يو�سف من عالقته‬ ‫الغريبة م��ع ك��ل م��ن نادية‪/‬‬ ‫نجوى‪ ،‬وجميلة‪ ،‬وناطالي‪ ،‬وعن �أج��واء باري�س‬ ‫التي عا�شها بكل ما يحمله قلبه من حب و�شوق‬ ‫وحنين»‪ .‬هكذا بد�أ الكاتب المغربي نور الدين‬ ‫محقق في كتابة هذه الرواية‪ ،‬رواية «�إنها باري�س‬ ‫يا عزيزتي»‪.‬‬ ‫�اف‪� ،‬أن ال��رواي��ة ه��ذه‪ ،‬تزخر بتعدد‬ ‫غير خ� ٍ‬ ‫حكائي وتقنيات‪ .‬منها رافد الذاكرة‪� ،‬إلى حد‬ ‫�أن الذكريات تعاد من جديد لتمار�س وجودها؛‬ ‫فتبدو الكثير من مظاهر الحا�ضر تعالت‪ ،‬فقط‬ ‫ما�ض �سا ٍر في العمق كمعنى وجود وحنين‬ ‫لإبراز ٍ‬ ‫مالزم‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فنغمة االنك�سار والحنين �سارية‬ ‫بين تالفيف الحكي‪ .‬ه��ذا ف�ضال ع��ن ح�ضور‬ ‫حوا�ش معرفية متعددة الأفكار لها �صلة بالجمال‬ ‫ٍ‬ ‫والحب‪ .‬فتعمقت الكثير من النظرات والمواقف؛‬ ‫بل �أحيانا تنطرح تك الحوا�شي كمرايا تمظهر‬ ‫الم�شاعر وت�أمالت ال�سارد ك�أنه بطل �سينمائي �أو‬ ‫روائي‪ ...‬ال�شيء الذي �أدى �إلى تداخل بين الأدب‬ ‫والحياة‪� .‬إنه تالزم حثيث في تحركات ال�سارد‬ ‫ال��ذي يخيط الم�شاهد ف��ي ترا�سل للحوا�س‪.‬‬ ‫فكانت الحكاية زاخرة �أكثر بالجوانب النف�سية‬ ‫والت�أمالت الفكرية‪ .‬تقول الرواية في �ص ‪:37‬‬ ‫« �أغلق باب الفي�سبوك الخا�ص به‪ ،‬ثم ما لبث‬

‫�أن ع��اد م��ن عالم الإنترنت‬ ‫كما يعود الغريب �إل��ى وطنه‬ ‫الأ� �ص �ل��ي‪ .‬و��ض��ع الكمبيوتر‬ ‫ب��ال�ق��رب م�ن��ه‪ ،‬وع ��اد يت�أمل‬ ‫�أم� � � ��واج ال� �ب� �ح ��ر‪ .‬خ �ط��رت‬ ‫ب �ب��ال��ه ال �ك��ات �ب��ة ال�ع��ال�م�ي��ة‬ ‫فرجينيا وول ��ف‪ ،‬وه��و ي��رى‬ ‫ه��ذه الأم � ��واج‪ ،‬وا�ستح�ضر‬ ‫بطبيعة الحال روايتها التي‬ ‫تحمل ا�سم «الأم��واج»‪ ..‬هذه‬ ‫الرواية الفاتنة التي اعتمدت‬ ‫فيها الكاتبة على تقنية التداعي الحر‪ ،‬الذي‬ ‫يتوافق مع حركات الأمواج في امتداداتها‪ ،‬وفي‬ ‫انك�ساراتها على ال�صخور»‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وجدانية‬ ‫حالة‬ ‫ال�شعر‬ ‫ُ‬ ‫■ مع�صوم حممد خلف*‬

‫لل�شعر نفحات روحانية ت�ستقطب ال��وج��دان‪ ،‬في �أعلى حاالتها التفاعلية‪ ،‬وهي‬ ‫تعطي مرادفات و�صيغاً عديدة لحالة نموذجيّة متفرّدة‪ ،‬وهي حالة تعبّر عن الخلجات‬ ‫التي يعجز الل�سان عن �شرحها والبوح بها؛ لذلك‪ ،‬فهي تتداخل في هواج�س النف�س‬ ‫الب�شرية في الك�شف والت�أويل عن خفايا غير ظاهرة للعيان‪.‬‬ ‫يروى �أن النبي عليه ال�صالة وال�سالم قال لل�صحابي ال�شاعر عبداهلل بن رواحة‬ ‫ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬ما ال�شعر يا عبداهلل؟ وكان الرد‪�(:‬شيء يختلج في �صدري فينطق به‬ ‫ل�ساني)‪.‬‬ ‫فال�شعر هو قلب الإن�سانية الناب�ض في �شرايين الوجود بانتظامية عجيبة؛ �إذ‬ ‫ي�شحن الطاقات ويجدد �إح�سا�سنا بلذة الحياة؛ ويزلزل فينا كل ركود‪.‬‬ ‫�إنه الأيقونة التي يمتلكها ال�شاعر طوال حياته‪ ،‬وهذه الأيقونة بمثابة �أغنية يترنّم‬ ‫بها كلما ا�ستطاع بوْحُ ُه ال�شفّاف �أن يالم�س ما يرتبط به بمنتهى ال�صدق والح�سا�سية‬ ‫والوجدان؛ وال�شاعر يرى الأ�شياء بعين مختلفة وبر�ؤية عالية‪ ،‬ربما يختلف عن �سائر‬ ‫الب�شر‪ ،‬كونه ير�صد تفا�صيل �أكثر‪ ،‬ودالالت �أعمق‪ ،‬ومكنونات �أدق من غيره!‬ ‫ال�شاعر منظومة كبيرة‪ ،‬و�أحيان ًا يجعل‬ ‫لنف�سه مدر�سة كونية تجمع كل تفا�صيله في‬ ‫قالب واح��د‪ ،‬لأنَّ ر�ؤي��ة ال�شاعر ت�شبه الماء‬ ‫في نقائه‪ ،‬و�أعني ال�شاعر الحقيقي الذي‬ ‫يبني لنف�سه مدر�سة خا�صة ب��ه‪ ..‬تجمع كل‬ ‫تفا�صيله في قالب واحد‪ ،‬وذلك لتكوين حقبة‬ ‫�أدبية لال�ستفادة منها في ت�صنيف �أدبيات‬ ‫الكتابة‪.‬‬ ‫ويحق لل�شاعر ما ال يحق لغيره‪ ،‬وتظهر‬

‫ه��ذه المقولة ف��ي تنويعات الكتابة لديه؛‬ ‫�إذ ي�ستطيع �أن ي�ط�وّع �أبجدية الكتابة في‬ ‫ن�صو�صه ومقاالته‪ ،‬وحتى في كتابة ر�سائله‬ ‫الإن�سانية‪.‬‬ ‫وال���ش�ع��ر ه��و ل�غ��ة ل�ل�إي �ح��اء بالم�شاعر‬ ‫وال�خ�ي��ال؛ ف�م�ث�لاً‪� ،‬إذا �أردن ��ا �أن نعبر في‬ ‫ك�لام �ن��ا ع���ن وق���ت ال��ظ��ه��ي��رة‪ ،‬ف��ل��و قلنا‪:‬‬ ‫«انت�صف النهار»‪ ،‬فهذا كالم عادي؛ �أما �إذا‬ ‫قلنا «انتعلت الأ�شجار ظلها» لندل على وقت‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪15 )2015‬‬


‫‪16‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪ -1‬ال�شعر في ماهيته الحقيقية تعبير �إن�ساني‬ ‫ف��ردي‪ ،‬يتمدّد ظلّه ال ��وارف ف��ي االتجاهات‬ ‫الأرب �ع��ة‪ ،‬لي�شمل الإن�سانية بعموميتها‪(.‬د‪.‬‬ ‫�إح�سان عبّا�س)‪.‬‬ ‫‪ -2‬لي�س ال�شعر �إال وليد ال�شعور‪ ,‬وال�شعور ت�أثر‬ ‫وانفعال ر�ؤى‪ ،‬و�أحا�سي�س عاطفة‪ ،‬ووج��دان‬ ‫�صور‪ ،‬وتعبيرات �ألفاظ تك�سو التعبير رونق ًا‬ ‫خا�ص ًا ونغم ًا مو�سيقي ًا مالئماً‪� ,‬إ ّن��ه �سطور‬ ‫المعة في غياهب العقل الباطن‪ ،‬تمدّها بذلك‬ ‫اللمعان وم�ضات الذهن و�إدراك العقل الواعي‪.‬‬ ‫(عبد اهلل �إدري�س)‪.‬‬ ‫‪ -3‬ال�شعر لغة الخيال والعواطف‪ ،‬له �صلة وثقى‬ ‫بك ّل ما ي�سعد ويمنح البهجة والمتعة ال�سريعة‬ ‫�أو الأل��م العميق للعقل الب�شري‪� ،‬إ ّن��ه اللغة‬ ‫العالية الّتي يتم�سك بها القلب طبيعيًا مع ما‬ ‫يملكه من �إح�سا�س عميق‪.‬‬ ‫وال�شعر لي�س تاريخ ًا للواقع كما يقوله ال�شاعر‬ ‫محمد �إب��راه�ي��م �أب��و �سنة‪ ،‬لكنه تج�سيد لر�ؤية‬ ‫ال�شاعر لهذا الواقع‪ ،‬وتعتمد هذه الر�ؤية على وعي‬ ‫ال�شاعر وثقافته‪ ،‬وكلما ات�سع وعيه وثقافته جاءت‬ ‫ق�صيدته مكتنـزة ومعبّرة‪.‬‬ ‫ومن خالل حركة ال�شعر على م�سرح الإلقاء‬ ‫يتم �سرد �إي�ح��اءات على منابت الق�صيدة التي‬ ‫تت�ألق عبر ال�صورة ال�شعرية والوزن الممتع والنبرة‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الظهيرة‪ ،‬فهذا هو ال�شعر‪.‬‬ ‫وديناميكياً‪ :‬ال�شعر هو �أن تَ�شعر‪ ،‬ثم تُ�شعِر‬ ‫الآخرين بما �شعرت به؛ ف�أنت �إذا فعلت هذا‪..‬‬ ‫فقد �أنجزت �شعراً؛ ولكنك لن ت�صبح �شاعراً‪ ،‬لأن‬ ‫ال�شّ اعر هو ال��ذي يُلهم الآخرين �أكثر مما يُلهمُ‬ ‫نف�سه‪.‬‬ ‫وال�شعر عامة يتكوّن من ج��ز�أي��ن �أ�سا�سيين‬ ‫وتيارين متعانقين هما‪:‬‬ ‫ التيار الداللي‪ :‬وهو لغة الخيال والم�شاعر‬‫والفكر‪.‬‬ ‫ التيار المو�سيقي‪ :‬وه��و الجر�س اللفظي‪،‬‬‫�سواء �أكان وزن ًا �أم قافية‪.‬‬ ‫وق��دي�م��ا ك��ان م��ن الممكن �أن ي �ك��ون التيار‬ ‫المو�سيقي كافي ًا ل�صنع ق�صيدة تُعجبُ النّقاد‬ ‫والقرّاء على حدٍ �سواء؛ �أمّا في وقتنا هذا‪ ،‬فيكفي‬ ‫التيار الداللي ل�صنع الق�صيدة‪ ،‬وهذا هو المعروف‬ ‫الآن بال�شعر المنثور‪ ،‬وهو غريب حقا؛ فقد اختلفت‬ ‫الأفكار‪ ،‬وانقلبت الم�سلّمات ر�أ�س ًا على عقب؛ فبعد‬ ‫�أن كان ال�شعر هو الكالم الموزون المقفّى‪� ،‬أ�صبح‬ ‫هو كل كالمٍ يوحي ب�شعور وي�ؤثر في النف�س‪.‬‬ ‫وال�شعر موهبة ذات �ي��ة‪ ،‬تعبّر ع��ن الكينونة‬ ‫الإن�سانيّة لل�شّ اعر روح ًا وقلب ًا و�إح�سا�ساً‪ ،‬وينطلقُ‬ ‫كمنتجٍ �إبداعي ليعبّر عن الحياة والإن�سان بكل ما‬ ‫يعتمل في نف�س ال�شاعر من م�شاعر‪ ،‬وكونه المر�آة‬ ‫الأنقى التي تعك�س الواقع المعي�شي‪ ،‬فهو تعبير عن‬ ‫نب�ض المواطن كما ي�صوغه‬ ‫الوطن‪ ،‬لأن��ه يحمل َ‬ ‫ال�شاعر‪.‬‬ ‫لقد احتار المتخ�ص�صون في تف�سير ظاهرة‬ ‫ال�شعر تف�سير ًا حا�سماً‪ ،‬وتحديد تعريف جامع‬ ‫لو�صفها ي�صطلح عليه الجميع‪ ،‬ويركنون �إليه‬ ‫كتعريف حا�سم لماهية ال�شعر وحقيقته‪ ،‬حتّى‬ ‫ال�شعراء �أنف�سهم ف�شلوا في ذلك؛ لأنّ ال�شعر وليد‬

‫النف�س الإن�سانية ذاتها‪ ..‬لذا ف�إنّ ك ّل التعريفات‬ ‫والفل�سفات الّتي قيلت عنه‪ ،‬ما هي �أ ّال مفاهيم‬ ‫فردية ت�صوّر وجهة نظر �شخ�صية ل�صاحبها‪ ،‬وهي‬ ‫في مجملها ‪-‬رغم تباينها‪ -‬ال تتعدّى في الواقع‬ ‫ال�سطح لحقيقة ال�شعر وماهيته‪� ،‬أمّا باطنه وكنهه‬ ‫فال يزال في مجاهل الغيب‪.‬‬ ‫من التعريفات لل�شعر ما ي�أتي‪:‬‬

‫المتزنة؛ �إ�ضافة �إلى �أنها �إفراغ النف�س المتعط�شة‬ ‫من ال�شحنات التي رافقت ت�ألقها‪ ،‬فرفعت من‬ ‫معنوياتها لتدرك ذلك الأثر من خالل الدالالت‬ ‫التي تبوح بمعالم يرتقي �إليها النف�س والوجدان‬ ‫في الو�سط االجتماعي‪.‬‬ ‫وال� ��� �ش� �ع ��ر ال� �ع ��رب ��ي ح ��اف ��ل ب��ال �م��و� �س �ي �ق��ى‬ ‫والإي�ق��اع��ات الغنية ج��داً؛ ما يو�سّ ع مجا ًال رحب ًا‬ ‫لتكثيف الم�ضامين‪ .‬وه ��ذا م��ا يقوله ال�شاعر‬ ‫الألماني(ريلكه)‪ ،‬الذي ي�صف الق�صيدة العربية‬ ‫ب�أنها الأكثر غنى لتلك العالقة الوطيدة ما بين‬ ‫العين وال�سمع‪ .‬وعندما قر�أ ق�صيدة �أمام ال�شاعر‬ ‫(��س�ن�ج��ور) ق ��ال‪�( :‬إن ن�صف المعنى و�صلني‬ ‫عبر مو�سيقى ال�شعر و�إن كان لم ي��درك حرفية‬ ‫المعاني)!‬ ‫فكثيرة ه��ي الأ��ش�ك��ال والم�ضامين واللغات‬ ‫وال�ل�ه�ج��ات والأ� �س��ال �ي��ب ال�ت��ي ر�أت وظ�ن��ت �أن�ه��ا‬ ‫تحمل معنى من معاني ال�شعر؛ وكثيرة هي الآراء‬ ‫وال��ن��ظ��ري��ات وال�م�ن��اه��ج والأف� �ك ��ار ال�ت��ي ت�ح��اول‬ ‫الإم�ساك ب�سراب المعنى المعرفي العلمي النف�سي‬ ‫المنطقي الذي يُحدِّ د �أو يُف�سِّ ر �أو يُ�شخِّ �ص �أو ي�صف‬ ‫ماهية ال�شعر من حيث هو معنى مرئي‪� ،‬أو مدرك‬ ‫في ذات ال�شعر وعنه وله وعليه وبه‪ ،‬غير �أن ذلك‬ ‫لم ي�صح؛ فقد اختلفت الم�سارب والتو�صيفات‪،‬‬ ‫وتاه الإدالء في ت�شعبات الحجج وعالمات الو�صول‬ ‫المختلفة نيا�شينها‪ ،‬والمت�ضادة غاياتها في ر�سم‬ ‫الهيئة التي يمكن �أن تكون مكمن ًا لل�شعر الخال�ص‪،‬‬ ‫حتى لك�أن المرء ي�ؤمن ب�أن لهذا الخطاب الإن�ساني‬ ‫معنىً رباني ًا واحد ًا يمليه على مَن يختار ليقوله‪،‬‬ ‫وعلى مَ ��ن يختار ليعيه وي��درك خوا�صه ويتملّى‬ ‫ب�أ�سراره و�أطياف جماله‪ ،‬من دون �أن ي�أخذ هذا‬ ‫المعنى �شكال �أو حامال يحيطه الإح��اط��ة التي‬ ‫تكفيه‪ ،‬وتكفّه عن الظهور والتجلّي هنا وهناك في‬

‫�أ�شكال خطابية �أخرى وتعابيرها وطرقها‪.‬‬ ‫وكلما ك��ان ال�شعر �صادق ًا ك��ان �أكثر جماالً‪،‬‬ ‫لأن ال�صدق ي�ضيف لل�شعر قيمة عُ ليا تتر�سّ خ‬ ‫في مكنونات الكلمة من خ�لال لغة الأحا�سي�س‬ ‫الم�شتركة م��ا بين ال�شاعر والمتلقي‪ ،‬كذلك‬ ‫فال�شعر هو الأداة التي من خاللها ن�ستطيع البوح‬ ‫بها عن المعاناة التي تلفنا دوامتها منذ زمن بعيد‪.‬‬ ‫فال�شعر هو فن الكالم المنمّق ال��ذي يحمل‬ ‫معه و�شاح ًا هادئ ًا من النبرة المتزنة‪ ،‬كي يدخل‬ ‫البهجة �إلى النفو�س الظامئة للحقيقة‪ ،‬فهو القامة‬ ‫التي تت�شبث بها هموم المجتمع ور�ؤى المتطلعين‬ ‫�إل��ى غد م�شرق جميل‪ ،‬كونه ي�ستوفي العنا�صر‬ ‫الفنيّة �إلى م�ستوى يرفعه �إلى دائرة الأدب‪ ،‬وتقوم‬ ‫�صياغته ويم�ضي �أُ�سلوبه على نح ٍو متميز ب�سبب‬ ‫ال��وزن والقافية‪ ،‬على النحو الذي ا�ستقرت عليه‬ ‫قواعد اللغة العربية في تاريخها الطويل‪ ،‬ويمكن‬ ‫�أن ينمو العمل الفني ويتطور في �أ�شكال متعددة‪،‬‬ ‫و�أ�ساليب متنوعة مع الزمن‪ ،‬دون �أن يخرج التطوير‬ ‫عن قواعد ثابتة م�ستقرة في اللغة‪ ،‬ودون �أن يهدم‬ ‫بنا ًء �أو يقطع جذور ًا و�أ�صوالً‪ .‬فيمكن للقافية �أن‬ ‫تتنوع بعد عدد من الأب�ي��ات‪ ،‬على قاعدة تحفظ‬ ‫لل�شعر جماله وميزته‪ .‬و�أما الوزن فال بد من �أن‬ ‫ي�ستقر مع الوحدة ال�شعرية والبحر ال�شعري‪.‬‬ ‫ل�ق��د �شغلت ال�خ���ص��ائ����ص ال�ن��وع�ي��ة لل�شعر‬ ‫الدار�سين قديم ًا وحديث ًا من �أج��ل الك�شف عن‬ ‫قيمة ال�شعر ووظيفته‪ ،‬وتتداخل لدى النقاد �أبعاد‬ ‫وظيفية مختلفة‪ ،‬منها م��ا يت�صل بلغة ال�شعر‬ ‫بو�صفها مميز ًا لماهية ال�شعر‪ ،‬و�أنها تمثل �أحد‬ ‫المكونات النوعية ال�ت��ي ت�ح��دد ماهية ال�شعر‪،‬‬ ‫ومنها ما يت�صل بخ�صائ�ص خارجية تعنى بمجرد‬ ‫الترا�ص للوحدات ال�صوتية �إحداها جنب الأخرى‪،‬‬ ‫ومنها ما يتجاوز ذلك �إل��ى خ�صائ�ص تن�أى عن‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪17 )2015‬‬


‫ * كاتب من �سوريا‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫مراجع البحث‪:‬‬ ‫ وظ �ي �ف��ة ال�ق���ص�ي��دة ال �ع �م��ودي��ة ال�م�ع��ا��ص��رة‪،‬‬‫عبداللطيف محرز ‪ -‬الموقف الأدبي ‪ -‬العدد‬ ‫‪ 410‬ح��زي��ران ‪2005‬م اتحاد كتّاب العرب‪.‬‬ ‫دم�شق‪ .‬الجمهورية العربية ال�سورية‪.‬‬ ‫ �صحيفة دنيا الوطن‪ .‬الكترونية ت�صدر من غزة‪.‬‬‫ماهية ال�شعر ف��ي ال�ت��راث النقدي د‪ .‬كريم‬ ‫الوائلي‪.‬‬ ‫ �إ�سالم كريم علي‪ ،‬ماهية ال�شعر‪ .‬نادي الأدب‬‫بكلية ال�ط��ب – �أ���س��ي��وط‪ ،‬ج��م��ه��وري��ة م�صر‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫ من ذاكرة الإنترنت‪ .‬دنيا ال�شهوان – قراءة في‬‫مكنونات ال�شعراء‪.‬‬

‫ديوانُ «الطائر المهاجر»‬ ‫�صدى الحلم ورجع ال ّلغة‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الأب�ع��اد المعيارية العرو�ضية‪� ،‬إل��ى الك�شف عن‬ ‫جوهر ال�شعر‪� ،‬أو محاولة االقتراب منه‪ ،‬ويتحدد‬ ‫التمايز من خالل التماثل واالختالف بين جن�سي‬ ‫ال�شعر والنثر‪ ،‬فهما على الرغم من التقائهما‬ ‫في مادة الكالم الأ�سا�س‪� ،‬أي الألفاظ والمعاني‪،‬‬ ‫وكيفية توليفهما في كالم‪ ،‬ف�إنهما مختلفان من‬ ‫حيث الخ�صائ�ص ال�شكلية من ناحية‪ ،‬ومكونات‬ ‫الإب��داع الداخلي للتجربة ال�شعورية لل�شاعر من‬ ‫ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫وقد �أدرك النقاد العرب �أن هناك تمايزا بين‬ ‫ال�شعر والنثر من حيث الماهيات والوظائف؛ �إذ‬ ‫يتحدد ال�شعر بو�صفه فنا �أو �صناعة ت�ستقل بذاتها‬ ‫عن النثر‪ ،‬ويتميز ال�شعر بخ�صائ�ص يمثل الإيقاع‬ ‫الذي يت�أ�س�س عليه الغناء �أبرزها‪ .‬ولما كان الغناء‬ ‫يت�أ�س�س على ال�شعر‪ ،‬ف�إن قيمة ال�شعر تبدو وا�ضحة‬ ‫فيما يتركه من �أثر في المتلقي؛ لأنه يجمع بين‬ ‫المتعة والفائدة‪ ،‬وتتبدى المتعة في «تنبيه النف�س‬ ‫واجتالب الطرب»؛ في حين تتبدى الفائدة في‬ ‫«تفريج الكرب‪ ،‬و�إثارة الهزة‪ ،‬و�إعادة العزة»‪.‬‬ ‫فبال�شعر تتحول النفو�س القاحلة �إل��ى بيادر‬ ‫للخير وال �ع �ط��اء‪ ،‬وعليهم ت��رت�ك��ز المرجعيات‬ ‫والح�س الإن�ساني‬ ‫ِّ‬ ‫الجميلة من الأدب والو�صف‬ ‫العذب‪.‬‬ ‫وي��ظ��ل ال�شعر �شك ًال م��ن �أ���ش��ك��ال ال�صياغة‬ ‫والتعبير‪ ،‬ن�ش�أ م��ع اللغة ونما وت�ط��ور‪ ،‬واكت�سب‬ ‫خ�صائ�ص و�صفات في تاريخ طويل‪� ،‬ش�أنه في ذلك‬ ‫�ش�أن �سائر قواعد اللغة‪ .‬ولم يكن ال�شعر ثمرة قرار‬ ‫فرد‪� ،‬أو �سلطان‪� ،‬أو هيئة‪� ،‬أو لجان‪� .‬إنه نمو تاريخ‬ ‫طويل اكت�سب فيه خ�صائ�ص ثابتة تعرّفه وتحدد‬ ‫طبيعته‪ .‬وم��ن �أه��م ه��ذه الخ�صائ�ص التي تميز‬ ‫طبيعته وتعرفه وتحدده خَ �صي�صتان هما‪ :‬الوزن‬

‫والقافية‪.‬‬ ‫فالوزن والقافية لي�سا هبّة رجل �أو هيئة‪� .‬إنهما‬ ‫�أل�صق خ�صائ�ص ال�شعر‪ ،‬وال ت�ستعمل كلمة ال�شعر‬ ‫في اللغة العربية �إال لت�شير �إلى ذلك ال�شكل الملتزم‬ ‫بالوزن والقافية‪.‬‬ ‫و�إن ما قدّمه الخليل بن �أحمد الفراهيدي‪،‬‬ ‫وما قدمه جميع رجال الأدب في تاريخ اللغة‪ ،‬لم‬ ‫يكن اختراع ًا �أ�ضافوه �إلى اللغة‪ ،‬ولكنهم اكت�شفوا‬ ‫�أو حاولوا �أن يكت�شفوا خ�صائ�ص موجودة وقواعد‬ ‫ثابتة‪� ،‬أ�شاروا �إليها �أو عر�ضوها‪.‬‬ ‫ولم تعرف اللغة العربية في تاريخها جر�أة في‬ ‫عداوتها كما وجدته في ع�صرها الحالي‪.‬‬

‫‪ρρ‬د‪�.‬إبراهيم الدّ هون*‬

‫�إ َّن قراءة واعية ومت�أملة لديوان‪( :‬الطائر المهاجر)‬ ‫لل�شاعر محمود ال��رم��ح��ي‪ ،‬تقودنا �إل���ى ثنائيّة التّحليل‬ ‫والبحث في �أعماق هذا المنجز ال�شّ عري؛ فالأولى‪ ،‬ت�أخذنا‬ ‫�إل���ى ال��وق��وف ع��ن��د ح��ل��م ال��ط��ف��ول��ة وال��ب��ح��ث ع��ن ال���ذات؛‬ ‫وال��ث��ان��ي��ة‪ ،‬تُف�صح ع��ن جمالية اللّغة والمعجم ال�شّ عري‬ ‫العميق الذي نهل منه ال�شاعر؛ لير�سم لوحة ف�سيف�سائيّة‬ ‫تطفح بالمعاني والدّالالت‪.‬‬ ‫و�إذا م��ا انتقلنا �إل ��ى دي���وان �شاعرنا ع��ام ‪1948‬م‪ ،‬ال��ت��ي �أل��ق��ت بظاللها على‬ ‫(الطائر المهاجر) ف�إننا ن��رى �أ ّن��ه ينحو ال�شّ عب والمكان معاً‪ ،‬وبدّدت �أحالم الآالف‬ ‫من �أبناء فل�سطين‪ ،‬ودفعت بهم �إلى خيام‬ ‫منحيين اثنين‪ ،‬هما‪:‬‬ ‫بائ�سة‪ ،‬وك �ه��وف مظلمة‪ ،‬ام��ت�ل�أت بالذل‬ ‫‪ -1‬حلم الطفولة‬ ‫والقهر والمهانة؛ ليواجهوا م�صير ًا �صعباً‪،‬‬ ‫(البحث عن الذات)‬ ‫وحياة قا�سية في ظل واقع �أكثر مرارة‪.‬‬ ‫لم تفلت ق�صيدة واحدة من �أثر المنحنى‬ ‫ويتكرّر الم�شهد في ع��ام ‪1967‬م‪ ،‬وما‬ ‫الذاتي‪� ،‬سواء �أكان ذلك �صراحة �أم �إ�شارة �أعقبها من ت�شريد لبقية ال�شّ عب الفل�سطيني‪،‬‬ ‫�أم �إي� �م ��اءً؛ ف��ال��رم�ح��ي‪ ،‬م�سكون بهاج�س ويتم توزيعه خ��ارج الوطن وداخ�ل��ه‪ ،‬يُفرق‬ ‫الطفولة (فل�سطين) الأم ال��ر�ؤوم‪ ،‬البيت‪ ،‬النّا�س في ك ّل مكان‪ ،‬و�أ�صبح م�أواهم العراء‪،‬‬ ‫ال�شّ جر‪ ،‬الأهل‪ ،‬الهدوء‪ ،‬ال�سّ عادة‪.‬‬ ‫وغطا�ؤهم ال�سّ ماء‪ .‬وتمر ال�سنون‪ ،‬وتلتها‬ ‫فال يختلف اثنان في �أث��ر كارثة النكبة الأع���وام‪ ،‬والوطن ينتظر الغياب‪ ،‬ولكن ال‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪19 )2015‬‬


‫م��ن ه�ن��ا‪ ،‬ا�ستولت ظ��اه��رة ال��وط��ن والغربة‬ ‫على ال�شاعر الرمحي‪ ،‬على الرغم من حديثه‬ ‫ع��ن ال�غ��زل وال�ح��بّ والع�شق ال�م�م��زوج‪ ،‬والملبّد‬ ‫ب�آهات الب�ؤ�س والحنين �إلى وطن‪ ،‬تركه طفالً‪..‬‬ ‫وطنٌ قُدِّ ر له �أن ي�شهد م�أ�ساة ف�صوله‪ ،‬ومراحل �أو ه���ل ن�����س��ي��تِ ال���ح���بّ ي���وم���اً ب��ع��دم��ا‬ ‫ن�ضاله‪ ،‬فيقدّم �أنموذج ًا فريد ًا لوطنه‪ ،‬وبلده‪ ،‬من‬ ‫ك�����ن�����ا �������س������وي������اً ن�������ك�������ر ُه ال���� ّن���������س����ي����ان����ا‬ ‫خالل االتكاء على �صورة المر�أة الح�سناء ‪-‬كاملة م���ن���ذ ال���ط���ف���ول���ة و ال������ف�������ؤاد م����لَ����و ٌع‬ ‫وال�صفات‪ -‬فيقول في ق�صيدة بعنوان‪:‬‬ ‫الجمال ّ‬ ‫ط��������ال ال�����ب�����ع�����اد وزادن�������������ي ح����رم����ان����ا‬ ‫(الفتاة العربيّة)‪:‬‬

‫ي����ا م����ن ع�������ش���ق���تُ ه����واك����م ي����وم����ا �أن����ا‬ ‫ع�������ش���ق���اً �أذاب ب���ق���ل���ب��� َي الأح������زان������ا‬

‫م������ن ت����ك����ون����ي����نَ وه��������ل �أن����������ت ب�����ش��ر‬ ‫�أم م��������ل�������اكٌ ول�������ع�������ي�������ن�������يَّ ظ����ه����ر‬ ‫وينهي ق�صيدته بقوله‪..‬‬ ‫ط����ف����ف ف�����ي ال����دن����ي����ا ول����ك����ن ل�����م �أ َر‬ ‫م��ث��ل ه����ذا ال��ح�����س��ن م���ا ب��ي��ن ال��ب�����ش��ر �إن ع�����ز ي����وم����ا ي�����ا ح���ب���ي���ب ل���ق���ا�ؤك���م‬ ‫�أرج������������و ب����ح����ل����م �أن ي�����ك�����ون ل���ق���ان���ا‬

‫‪....‬‬ ‫ّ�ص ال�شّ عري ال�سّ ابق �أنَّ‬ ‫يلحظ المتلقي للن ّ‬ ‫‪....‬‬ ‫الرمحي طافح ب��دالالت الأ��س��ى وال�ح��رم��ان‪� ،‬إذ‬ ‫�إلى �أن يقول‪:‬‬ ‫ج�سّ د معاناة الإن�سان الفل�سطيني النّازح‪ ،‬بعدما‬ ‫وال�ضحك وال�ب��راءة في‬ ‫ك��ان يعي�ش حالة الفرح ّ‬ ‫ك�����مُ����� َل ال����ج���������س���� ُم ف�������س���ب���ح���ا َن ال�����ذي‬ ‫وه����بَ ال��ح�����س��نَ ب��ه��ا ال��حُ �����س��نُ ا�ستقر وطنه‪.‬‬

‫تنب�ض هذه الأبيات ال�شّ عريّة بم�شاعر الزهو‬ ‫واالفتخار والإعجاب‪� ،‬إذ �شبّه ال�شّ اعر فل�سطين‬ ‫بفتاة جميلة‪ ،‬لب�ست ثوب الجمال‪ ،‬وطافت به �أمام‬ ‫الآخرين‪ ،‬ف�أده�شتهم‪ ،‬و�أذكت نار ال�شّ وق فيهم‪،‬‬ ‫وق��د ج��اء ذل��ك ف��ي ل��وح��ات �شعريّة متوالية من‬ ‫الو�صف الدقيق لمظهرها الأنثوي ال�سّ احر‪.‬‬

‫فالرمحي يج�سّ د ت�شظي ًا وعراك ًا ملحوظين بين‬ ‫حالتي الطفولة ال�سّ عيدة‪ ،‬وحالة الحا�ضر القاتمة؛‬ ‫لأنها تخت�صر النكبة‪ ،‬وفقدان الوطن‪ ،‬وهي رفد‬ ‫الذل والإهانة‪ ،‬وهول الم�أ�ساة التي يعاي�شها تحت‬ ‫�سمع العالم وال�ضمير الإن�ساني‪.‬‬

‫ويعود الرمحي �إلى تياره الرومان�سي‪( :‬قلبه)‬ ‫ويرتبط الحنين ارت�ب��اط� ًا وثيق ًا ف��ي ال�شِّ عر فيحاكيه‪ ،‬ويناجيه‪ ،‬كما يالم�س نف�سه في�شاركها‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬فعندما يعبّر الإن���س��ان ع��ن مكان �أل�م�ه��ا و��ش��وق�ه��ا‪ ،‬ف�ي�ق��ول ف��ي ق���ص�ي��دة‪( :‬ط��ائ��ر‬ ‫طفولته‪ ،‬ومرتع �سمره‪ ،‬ي�شتاق لك ّل ما فيه من الزيتون)‪:‬‬ ‫‪20‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫جدوى‪ ،‬ف�أ�صبحوا ذكرى يعيدها �شريط الذاكرة‬ ‫كلّما ن�أى الإن�سان وحيداً‪.‬‬

‫��ش�ج��ر وح��ج��ر‪ ..‬ي�ن���ض��ج‪ ،‬يمتلئ ق�ل�ب��ه ب��ال�ح��بّ‬ ‫والحنين‪ ،‬وت�أخذ اللوعة في قلبه م�أخذ ًا كبيراً‪،‬‬ ‫فها ه��و الرمحي ي�خ��رج زف ��رات ال�ح��بّ ال��ذات��ي‬ ‫بع�شقه ل��وط�ن��ه‪ ،‬ف�ي�ت��ذك��ره‪ ،‬فتتمثل ل��ه �ساعات‬ ‫ال�صفاء والنقاء‪ ،‬وتنت�شر �أجواء الحبور وال�سّ رور‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويمرح في �سعادة عظيمة‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫ي�����������ا ���������ص��������ح��������بُ ُدل�������������ون�������������ي ع����ل����ى‬ ‫ط�����������ي�����������ري وه�����������������ل �أح���������������������د ر�آه‬ ‫ال�������ب�������ع�������د �أ���������ض��������ن��������ان��������ي وك�����ي�����ـ�����ـ�����ـ�����ـ‬ ‫فَ ل�������ع�������ا��������ش�������قٍ ي�����������س�����ل�����و ه����������واه‬ ‫ال�����ق�����ل�����ب م��������ج��������روح ب���ب���ع���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ���ـ‬ ‫د ال������ط������ي������ر ق���������د ن���������زف���������تْ دم�����������ا ْه‬ ‫ف��ي ه��ذا الم�شهد ا�ستغل ال�شّ اعر الطبيعة‪،‬‬ ‫ومظاهرها من �شجر وطائر؛ ليعبّر عن �أوجاعه‬ ‫وغربته وحنينه من خالل ا�ستنطاقها‪ ،‬والحديث‬ ‫معها‪ ،‬فاللّغة ال�شّ عريّة ت��زداد جما ًال وبهاء‪� ،‬إذا‬ ‫تجاوزت حدودها المعجميّة لت�شكل ن�سيج ًا داللي ًا‬ ‫مبدع ًا تتوافر فيه العنا�صر الف ّنيّة الثّالثة‪ :‬المحتوى‬ ‫وال�صوت الخال�ص‪.‬‬ ‫العقلي‪ ،‬والإيحاء الجمالي‪ّ ،‬‬ ‫ّ�ص ال�شّ عري‪ ،‬نحو‪:‬‬ ‫�إنَّ المتب�صر لمفردات الن ّ‬ ‫(البعد �أ�ضناني‪ ،‬تحيا على �أم��ل اللقاء‪ ،‬رغم‬ ‫وال�صعاب‪ )...,‬تهدي �إلى �أنَّ الحنين �إلى‬ ‫الأ�سى‪ّ ،‬‬ ‫مدن فل�سطين‪ ،‬وال�شّ وق العارم �إلى �أهلها ال يفارق‬ ‫الفل�سطيني في حياة الغربة �أو التّ�شرد �أو النّفي‪،‬‬ ‫يعبّر الرمحي ع��ن غربته النّف�سيّة وحنينه‬ ‫فال يمكن �أن تغيب عن ناظريه م�شاهد �أغ�صان‬ ‫ال�صدق وال� ّ���ص��راح��ة‪ ،‬بكلمات تدغدغ‬ ‫بمنتهى ّ‬ ‫الزيتون الوارفة‪ ،‬وينابيع المياه العذبة‪ ،‬و�سهول‬ ‫الوجدان وتالم�س �شغاف القلب‪� ،‬سهلة اللّغة ال‬ ‫القمح ال��وف�ي��رة‪ ،‬ال��ذي اع�ت��اد �أن يلعب‪ ،‬ويمرح‬ ‫تحتاج �إلى عناء الفهم �أو التّحليل‪ .‬كما �أنّه يك�شف‬ ‫الطفل فيها‪.‬‬ ‫عن التّحوالت التي �أ�صابته نتيجة خروجه من‬ ‫وف��ي ق�صيدة بعنوان‪�( :‬أيها ال�سّ ائل) حاول بالده‪ ،‬فبات يكتوي بنار ال�ضياع لقوله‪:‬‬ ‫ال�شّ اعر �أن يقدّم �أنموذج ًا واقعي ًا للإن�سان البعيد م������ن������ذ �أن �أو����������ش���������ك���������تُ خ����م���������س����اً‬ ‫عن وطنه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫� ُ���������س���������ل���������ب���������تْ �أر�������������������ض������������������ َي م�����ن�����ي‬

‫ك��������ن��������تُ ف����������ي الأم�������������������������س ف�������ق�������دتُ‬ ‫ل�����������ي �أب�������������������������اً‪ ،‬م�����������ن ب��������ع��������د ع����م����ي‬ ‫و�أخ����������������������������������ا ك�����������������������ان ر��������ض�������ي�������ع�������ا‬ ‫ي��������رت��������م��������ي ف�����������ي ح�������������ض������ن �أم�����������ي‬

‫�أي����������������ه����������������ا ال�����������������������س�����������ائ�����������ل ع������ن������ي‬ ‫فير�صد ال�شّ اعر عنا�صر الطفولة البريئة التي‬ ‫ه�������������ل ُت���������������������رى ت���������ح���������م��������� ُل ه�����م�����ي فقدت بك ّل معانيها‪ :‬البراءة‪ ،‬والجمال‪ ،‬والطهر‪،‬‬ ‫�أن��������������������ت ف������������ي ال������������ف������������رح ب������ع������ي������ ٌد‬ ‫ّ�ص مفردات اللجوء والنزوح‪( :‬خيمات‪،‬‬ ‫ليحمل الن ّ‬ ‫و�أن����������������������������������ا ق�����������������د زاد غ������م������ي منقع لل�شم�س‪ ،‬فر�ش‪� ،‬سريري هو ظلي‪� ،‬سماء‪،‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪21 )2015‬‬


‫وقد اختتم الق�صيدة بقوله‬

‫ال�صورة ال�شّ عريّة الم�ستقاة‬ ‫يتكئ ال�شّ اعر على ّ‬ ‫م��ن الطبيعة‪� ،‬إذ يحيلنا �إل��ى ��ص��ورة الالجىء ن�����اظ�����رت ح����ال����ي وال������دي������ار ���س��ل��ي��ب��ة‬ ‫الم�شرّد الذي نام في العراء‪ ،‬فلم يجد �إ ّال ال�سّ ماء‬ ‫ف���وج���دت ح���ال���ي ن�����س��خ��ة م���ن ح��ال��ه��ا‬ ‫غ�ط��اء ل��ه‪ ،‬فالمقطع ال���ّ�ش�ع��ري م�ت��رع بالحزن‬ ‫�أي ت�صوير هذا‪ ,‬و�أي مقارنة هذه‪..‬؟! فالحال‬ ‫والأ� �س��ى لفقدان ال��دفء والملج�أ‪ .‬وه�ن��ا‪ ،‬نلمح هو الحال‪ ،‬والألم هو الألم‪..‬‬ ‫غزارة الوجدان والعاطفة عند ال�شّ اعر من خالل‬ ‫ه��ذا وط��ن �شاعرنا‪ ،‬وط��ن موغل بالح�صار‬ ‫ترديده ياء المتكلم‪( :‬غطائي‪ ،‬يغطيني‪ ،‬يداويني‪،‬‬ ‫والنّك�سات؛ ولكن الحلم يبرق‪ ،‬والأمل طافح‪ ،‬رغم‬ ‫�صبري‪.)...،‬‬ ‫تكالب الأعداء‪ ،‬وتزاحم الأهواء‪ .‬كما �أنَّ التّجربة‬ ‫وتعلو وتيرة الغربة وال�شّ وق والحنين والتّفجع‬ ‫المريرة القا�سية ل��م تك�سر الإرادة والتّحفز؛‬ ‫عند حديثه عن الحمامة الم�شرّدة‪ .‬ولع ّل من‬ ‫فا�ستبدل ال�شّ اعر ث��وب الحمامة ال�سّ واد بثوب‬ ‫طبيعة االت �ج��اه الرومان�سي ينعك�س �أي �شيء‬ ‫الأمل والإ�شراق‪ ،‬وير�سم من خاللها طريق الخير‬ ‫يراه ال�شّ اعر على نف�سه‪ ،‬ف�إذا ر�أى جب ًال �ضخم ًا‬ ‫للوطن‪ ،‬وكلمة الإ�صرار على البقاء‪.‬‬ ‫خاطبه‪ ،‬و�إذا م ّر بنهر يتدفق‪ ،‬ظنّ نف�سه نهر ًا‬ ‫وبهذا‪ ،‬ن�ستطيع القول ب�أنَّ الرمحي تميّز في‬ ‫يتدفق بالحنين وال�شّ وق‪ ،‬وهكذا الطبيعة بك ّل‬ ‫�أ�شكالها ال�سّ اكنة‪ ،‬والمتحركة‪ ،‬تنعك�س �سلب ًا اتخاذه الحبّ والع�شق متك�أ للحديث عن ع�شقه‬ ‫و�إي�ج��اب� ًا على نف�س ال�شّ اعر؛ ل��ذا �أخ��ذت وتيرة لوطنه وحنينه له‪.‬‬ ‫الغربة والحنين والتفجع ترتفع عند حديثه عن‬ ‫‪ -2‬جمالية اللّغة ال�شّ عريّة‬ ‫الحمامة الم�شردة‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫تحت ّل اللّغة ال�شّ عريّة في المنجز الإب��داع��ي‬ ‫ف����ي رك���ن���ه���ا ال�������ش���رق���يّ ت��ب��ن��ي ع�����ش��ه��ا‬ ‫مكان ًا مرموقاً؛ لأنّها ركيزة �أ�سا�سيّة من ركائز‬ ‫الخا�صة التي‬ ‫ّ‬ ‫وع���ل���ى ال���ن���واف���ذ ك���ي ُت���ح���قّ��� َق �أم��ن��ه��ا العمل الأدب ��يّ ‪ ،‬ولك ّل �شاعر لغته‬ ‫ت�شكّل ن�سيجه الن ّ​ّ�صي‪ .‬فالق�صيدة ال�شّ عريّة عند‬ ‫وب������ع������ي������دةٌ‪ ،‬ظ������ ّن������ت‪ ،‬وذل����������ك ظ��ن��ه��ا‬ ‫ل����ك�����أ ّن����ه����ا ف�����ي م�������أم������نٍ م�����ن غ��ي��ره��ا الرمحي لي�ست مجموعة من الألفاظ والتّراكيب‬ ‫‪22‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫يعتمد ال�شّ اعر في ق�صيدته هذه على الرمز‬ ‫�صبري)‪.‬‬ ‫و�إذا كان لتلك الألفاظ �أثر في �إبراز جماليات الأ�سطوري المنبثق من �صورة الحمامة في التّراث‬ ‫ال�صورة ال�شّ عريّة و�أثرها العربي القديم‪ ،‬تحمل الحزن والفقد واللوعة‪.‬‬ ‫ّ�ص ال�شّ عري؛ فكذلك ّ‬ ‫الن ّ‬ ‫الكبير ف��ي م��ا يمكن �أن يتولّد م��ن خاللها من‬ ‫فالمدقق للمقطع ال�شّ عري ال�سّ ابق يجد �أنَّ‬ ‫معانٍ ودالالت موحية‪ ،‬وتُع ّد ّ‬ ‫ونح�س‬ ‫ال�صورة ال�شّ عريّة من الرمحي يحمل �ألم ًا دفيناً‪ ،‬وحزن ًا رقيقاً‪ّ ،‬‬ ‫عالمات الإبداع ال�شّ عري‪ ،‬ويتجلّى �أثر ذلك بقوله‪� :‬أنّه يهدهد اللّغة‪ ،‬وي�شكلها جم ًال �شعريّة �أو يمنحها‬ ‫�أنفا�سه الملتهبة؛ لتعبّر عن مواقفه ال�شّ عوريّة‪،‬‬ ‫وغ������������ط������������ائ������������ي م���������������ن ����������س���������م���������ا ٍء‬ ‫م��������ن ي�����غ�����ط�����ي�����ن�����ي‪ ..‬وم����������ن ل��������ي؟! ور�ؤاه النّف�سيّة‪.‬‬

‫تن�سج‪ ،‬وي�ت��مّ ح�شوها ب��الأف�ك��ار و�إي�صالها �إل��ى‬ ‫ذه��ن ال �ق��ارئ‪ ،‬ب��ل �إنَّ معجمه ال�ل�غ��وي م � ّر في‬ ‫ذهنه ع�شرات المرّات‪ ،‬وبالتالي ي�ضع التوليفة‬ ‫في مكانها المنا�سب‪ .‬وهكذا‪ ،‬تتوا�شج تراكيب‬ ‫وعنا�صر الق�صيدة؛ لت�شكّل ن�سيج ًا متوافق ًا متوثب ًا‬ ‫في اللّفظ والدّاللة‪.‬‬ ‫�إنَّ �إدراك الرمحي �أثر اللّفظة المنا�سبة في‬ ‫نف�سية المتلقي قادته �إل��ى التنوّع في توظيفها‪.‬‬ ‫والدّار�س المتفح�ص ل�شعره ير�صد تطور ًا وا�ضح ًا‬ ‫في ر�ؤيته ال�شّ عريّة‪ ،‬وانتقائه اللّفظي والأ�سلوبي‪� ،‬أو‬ ‫في طرائق بناء اال�ستهالل وح�سن المفتتح‪ ،‬وهذا‬ ‫ما نلحظه في �أ�سلوبيّة اال�ستفهام في ق�صيدته‪:‬‬ ‫(الفتاة العربيّة) بقوله‪:‬‬

‫الق�صائد والأثر الفنّي الذي يعطيه داخل المفتتح‬ ‫مَ�������ن ت����ك����ون����ي����نَ و ه������ل �أن���������ت ب�����ش��ر‬ ‫للمتلقي؛ لأنّه �أوّل ما يُقرع ال�سّ مع به‪ ،‬وي�ستدلّ على‬ ‫�أم م��������ل�������اكٌ ول�������ع�������ي�������ن�������يَّ ظ����ه����ر ما عند ال�شّ اعر من �أوّل وهلة‪ ،‬فيريد الرمحي‬ ‫باال�ستفهام �أن ي�صل �إلى ذات المتلقي‪ ،‬و�إخباره‬ ‫وق�صيدته‪( :‬البعد والحرمان) بقوله‪:‬‬ ‫بالت�شظي والقلق الم�أزومين اللذين يعي�شهما‬ ‫�أو ه���ل ن�����س��ي��تِ ال���ح���بّ ي���وم���اً ب��ع��دم��ا‬ ‫ك�����ن�����ا �������س������وي������اً ن�������ك�������ر ُه ال���� ّن���������س����ي����ان����ا جراء بُعده عن وطنه‪ ،‬ف�ض ًال عن حالة االغتراب‬ ‫ال��وج��ودي‪ ،‬وم�صير الإن���س��ان البعيد ع��ن مكان‬ ‫وق�صيدة‪( :‬ليت �أنا) بقوله‪:‬‬ ‫طفولته‪.‬‬

‫�أيُّ ن�������������������������و ٍع م���������������ن ح����������ي����������ا ٍة‬ ‫م�����������ا ن�������ع�������ي�������� ُ�������ش ال�������������ي�������������و َم ف������ي������ ِه‬

‫�إنَّ الناظر �إل��ى �أ�سلوب اال�ستفهام المتبدّل‬ ‫ف��ي الق�صائد �سيجد م��دى ا�ستيعاب ال�شّ اعر‬ ‫للغة ال�شّ عر العربي القديم من جهة ‪-‬الهذليون‬ ‫مثاالً‪ -‬كقول �أبي ذ�ؤيب الهذلي في مطلع ق�صيدته‬ ‫العينيّة‪:‬‬

‫ن�ص الرمحي ي�أخذ‬ ‫وال�لاف��ت لالنتباه‪� ،‬أنَّ ّ‬ ‫غر�ض ًا واحداً‪ ،‬ي�سعى ال�شّ اعر �سعي ًا حثيث ًا المتالكه‬ ‫والتّعبير عنه بطرائق مختلفة‪ ،‬بيد �أنَّ ال�شّ اعر‬ ‫ينظم ق�صائده بلغة ع�شقيّة؛ فت�شعر الأر�ض بلهفة‬ ‫وا�شتياق �إل��ى حبيبها المفقود ال��ذي رح��ل عنها‬ ‫منذ �سنوات طويلة‪ ،‬ولكنها تلب�س ثوب الكبرياء‬ ‫والتعالي‪.‬‬

‫�أَمِ �����ـ�����نَ ال���ـ���مَ���ن���ونِ وَري���ـ���بِ���ه���ا َت���� َت����وَجَّ ���� ُع‬ ‫امتاح الرمحي �صوره ال�شّ عري ّة من ذاكرته‬ ‫وَال���ـ��� َده��� ُر َل��ي َ‬ ‫�����س ِب��مُ��ع�� ِت��بٍ مَ���ن َي��ج�� َز ُع ال � ّت��اري �خ � ّي��ة‪ ،‬ف �ج��اءت � �ص��ورة ناب�ضة بالحركة‬ ‫وال�صوت والإيحاء‪ ،‬كذلك هي تراكيبه اللّفظيّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتنبّه ال�شّ اعر �إل��ى دور اال�ستفهام في مطلع‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪23 )2015‬‬


‫فلغته غنية ب�سماتها‪� ،‬إ�ضافة �إلى �أنَّ لغة ال�شّ عر �أع�������������ش������ق ال�����ح�����������س�����نَ و�أن����������������تِ ك���� ُّل����ه‬ ‫عنده طافحة بدالالتها و�إيحاءاتها‪ ،‬وم��ن �أب��رز‬ ‫و�أرى ال����غ����ي����ر م�����ن ال���ح�������س���ن خ�لا‬ ‫هذه ال�سّ مات التكرار‪ ،‬نحو قوله في ق�صيدة‪( :‬ال‬ ‫م����ذ ر�أت����������كِ ال���ع���ي���ن وال����ق����ل����ب ه���وى‬ ‫تقوليها وداعا)‪:‬‬

‫ال ت����ق����ول����ي����ه����ا (وداع�������������������اً) ط���ال���م���ا‬ ‫دقّ ق�����ل�����ب�����ي وب������ع������ي������ن������يّ �����ض����ي����اء‬ ‫ال ت����ق����ول����ي����ه����ا (ب�������ع�������دن�������ا) ف������أن�����ا‬ ‫�أك���������ره ال���ب���ع���د ف���ف���ي ال���ب���ع���د جِ ���ف���اء‬ ‫ال ت�����ق�����ول�����ي�����ه�����ا‪ ..‬ف��������إن�������ي �أ�����س����ت����ق����ي‬ ‫ذك������ري������ات������ي ح����ي����ن����م����ا ع��������� َّز ال����ل����ق����اء‬ ‫ال ت����ق����ول����ي����ه����ا ول��������ك��������ن‪ ..‬اذك����������ري‬ ‫ي�������وم ك����� ّن�����ا ن����ل����ع����بُ ال�����ح�����ب����� َل �����س����واء‬ ‫ال ت�����ق�����ول�����ي�����ه�����ا‪ ..‬ك�����ف�����ان�����ي �إن�����ن�����ي‬ ‫�أحت�سي ال��ذك��رى وف��ي ال��ذك��رى عزاء‬

‫ع���ن���د ذاك ال����ب����ئ����ر‪ ،‬ي�����ا ري������م ال���ف�ل�ا‬ ‫عِ ���������ش����تُ ف�����ي ال�����ح�����بِّ و�أح�������ي�������اه �أن�����ا‬ ‫ال ي�����ه����� ُّم ال�����ق�����ل�����بَ ل������و ال َم ال���م�ل�ا‬ ‫اذك�������������ري ال�������ي�������وم ال�����������ذي ك������ ّن������ا ب���ه‬ ‫وع�������ل�������ى ال������ب������ئ������ر‪ ،‬ودل��������������� ٍو ُي����م����ت��ل�ا‬

‫ح�ي��ث ت���ض��اف��ر ال��ف��ع��ل ع��ل��ى ن��ح��و‪( :‬ن��ظ��رت‪،‬‬ ‫�أع�شق‪ ،‬و�أرى‪ ،‬ر�أت � ِ�ك‪ ،‬عِ �شتُ ‪ ،‬اذك���ري‪ )...،‬مع‬ ‫�أفكار ال�شّ اعر و�أحا�سي�سه؛ لتجذب المتلقي �إلى‬ ‫تعبير الأمل المن�شود‪ ،‬فتزاحم الفعل و�صف للقوة‬ ‫ظهر التّكرار جل ّي ًا عند الرمحي؛ لي�ؤكد تم�سكه وحثّ �إلى الحركة والتّجديد‪ ،‬والتّم�سك بالأ�صول‪،‬‬ ‫بوطنه‪ ،‬و�صموده �أم��ام الطوفان‪ ،‬ولعلّه في ك ّل �إ�ضافة �إل��ى �أ ّن�ه��ا توحي بالعالقة بين الحا�ضر‬ ‫مو�ضع احتفى فيه بالتكرار كان يرمي �إلى تكثيف الطريف‪ ،‬والما�ضي التليد‪.‬‬ ‫ال�صورة الف ّنيّة ذات الأبعاد الجماليّة‪ ،‬وت�سليط‬ ‫ّ‬ ‫لعلّنا نرى كيف تزاحمت التّراكيب اللّفظيّة‪،‬‬ ‫ال�ضوء على ب�ؤر مركزيّة ذات معانٍ و�آفاق وا�سعة‪.‬‬ ‫والبنى الدّاللية في النّ�صو�ص الرمحيّة‪ ،‬حيث‬ ‫وظّ ف الرمحي ك ّل ما تحمله اللّغة من طاقات �أحدثت توافق ًا فكرياً‪ ،‬و�صالبة نظمية‪ ،‬فبرغم من‬ ‫�إيحائيّة‪ ،‬و�إمكانات دالليّة؛ ليثري المعنى وتعميقه‬ ‫الأ�سى وا�شتداد الألم‪ ،‬وتزايد الهموم والمحن‪ ،‬لم‬ ‫في ذهن المتلقي‪ ،‬فنجح ال�شّ اعر في المواءمة بين‬ ‫توظيف الدّاللة الحركيّة للفعل مع ال�سّ ياق القائم يي�أ�س‪ ،‬ولم ي�سيطر عليه الحزن والك�آبة‪� ،‬إنّه لم‬ ‫على بع�ض الواقع المرير‪� ،‬إذ يقول في ق�صيدة‪ :‬يفقد الأمل في العودة �إلى الوطن‪ ،‬فغده م�شرق‪،‬‬ ‫بارق بالأمل والنماء‪.‬‬ ‫(�صدق القول)‪:‬‬ ‫* �أكاديمي وناقد �أردني بجامعة الجوف‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫جدل َّية العنوان في ق�صة‬ ‫«�صقيع يلتهب» لمريم الح�سن‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫حملت �سمات المو�ضوع الذي عالجه في ا�ستخدام ل����و ن����ظ����رتِ ال���ع���ي���ن �أع����ط����ت����كِ ال��ن��ب��ا‬ ‫موفّق للتعبيرات الموحية‪.‬‬ ‫�أ َّن م��������ن ي��������ه��������واك ل�����ل�����ك����� ِّل ����س�ل�ا‬

‫‪ρρ‬ال�سيد التهامي*‬

‫للوهلة الأولى‪ ,‬ومن قبل القراءة‪ ,‬ف�إن العنوان ‪ -‬عنوان الق�صة ‪ -‬يفتح الباب للخيال‬ ‫ خيال القارىء ‪ -‬لينطلق في عملية �إبداعية موازية لإبداع الكاتبة‪�« ..‬صقيع يلتهب»‪.‬‬‫ترى ما هو ال�صقيع؟ وما الذي جعله يلتهب؟‬ ‫لي�س بحثاً في مفردات اللغة ولكن في المعني الكامن خلف تلك المفردات!‬ ‫�صقيع‪ ,‬و‪ ..‬يلتهب!‬ ‫�ألي�س ثمة تناق�ض؟ �أو لي�س ثمة «قوة» طبيعية �أو �إجهادية ا�ستحال بها ال�صقيع‬ ‫�إلى لهب؟!‬ ‫كعادتها «مريم الح�سن» ت�ضع القارئ الكاتبة �إال �أن يكون �شريك ًا لها‪ ،‬من دون �أن‬ ‫�أمام نهايات مفتوحة �شريك ًا لها في الإبداع‪ .‬تفر�ض عليه اتجاهاً‪.‬‬ ‫لكنها ه ��ذه ال �م��رة ت�ضعه �أم� ��ام ب��داي��ات‬ ‫بعيد ًا ع��ن الأيديولوجيا والإ�سقاطات‬ ‫مفتوحة‪ ..‬وهذا هو الجديد في الأمر‪.‬‬ ‫ال �� �س �ي��ا� �س �ي��ة‪ .‬و�إذا ج� �رّدن���ا «ال �م��ذه��ب‬ ‫ول��و اكتفت «م��ري��م الح�سن» بالعنوان ال��دي��ال�ك�ت�ي�ك��ي» ل �ـ «ه �ي �ج��ل» م��ن ت ��أوي�لات��ه‬ ‫(�صقيع يلتهب) لأُجيز كـ «ق�صة ق�صيرة ال�سيا�سية والأيديولوجية‪ ..‬و�أ�صبغناه �صبغ ًة‬ ‫�أدب��ي��ة‪ ،‬و�أ��س�ق�ط�ن��اه ع�ل��ى ال�ن����ص «�صقيع‬ ‫جداً!»‪.‬‬ ‫يلتهب»‪ ..‬فقد بد�أ الن�ص بالتناق�ض من قبل‬ ‫نعم (�صقيع يلتهب)‪ ..‬جدلية ثنائية حتى �أن يبد�أ‪� ،‬أق�صد �أن التناق�ض قد �أطل‬ ‫تحمل تناق�ض ًا غير متكلّف يفتح الباب وا�سع ًا بوجهه من العنوان‪ ،‬وهو لي�س تناق�ض ًا مربك ًا‬ ‫ومحير ًا وخ�صب ًا لخيال القارئ‪ ،‬الذي ت�أبى يُخ ّل بالفكرة �أو ي�ضعفها‪ ،‬لكنه التناق�ض‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪25 )2015‬‬


‫الحالة المزاجية لـ «مريم الح�سن» هُ نا تنحى‬ ‫منحىً ت�صاعدياً‪ ،‬فلقد ظنت بداءةً‪ ،‬ثم اقتربت‬ ‫فبلّلت فا�ستطعمت فغا�صت فانتع�شت‪ ..‬ثم‬ ‫«عزفت» مقطوعة �أثملتها!‬ ‫لقد لفت نظري كقارئ قبل �أن �أكون ناقد ًا لفظة‬ ‫«مقطوعة» على عك�س ما جاء بق�صة «احتراق»‪،‬‬ ‫«�سيمفونية»‪ ..‬فهل النهر المرجو الم�أمول هو نه ٌر‬ ‫عربي؟!‬ ‫هل حلم الكاتبة حلم عربي؟!‪ ‬‬ ‫وهل جفاف �شفتيها لأنها عربية؟‬ ‫هل كانت «مريم الح�سن» واعية لمفرداتها‪..‬‬ ‫‪26‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫رب�م��ا ه��و «م��ا قبل ال�ن����ص» ‪ -‬البيئة ‪ -‬تلك‬ ‫التي جعلت «مريم الح�سن» تمتطي �أحالمها‪..‬‬ ‫تتحكم فيها‪ ،‬مهما تكن وردية‪ ،‬ومهما يك حجم‬ ‫الحلم‪ ،‬فهي ‪ -‬وبحكم «ما قبل الن�ص» ‪ -‬مرتبطة‬ ‫ب�ج��ذوره��ا وخطوطها ال�ح�م��راء والم�سموح به‬ ‫والممنوع‪ .‬ولقد جاءت «بنية الن�ص» معبر ًة عن‬ ‫«ما قبل الن�ص» ‪ -‬امتطت ‪ -‬وك�أن �أحالمها مهرة‬ ‫جامحة يجب كبح جماحها‪� ..‬أو هي موغلة في‬ ‫القدم‪ ،‬فتبدو وك�أنها تلك الدابة التي تنقلها من‬ ‫مكان �إل��ى مكان‪ ،‬فيتغير المكان دون �أن تتغير‬ ‫التقاليد المكبلة‪ .‬فلما امتطت �أحالمها الوردية‪،‬‬ ‫��ص��ارت��ا ‪-‬ه��ي و�أح�لام �ه��ا‪ -‬وك��أن�ه�م��ا �صديقتان‬

‫هل هو الإح�سا�س بالتفوّق الح�ضاري للغرب‬ ‫ف�لا ال�ح�ل��م ف���اق‪ ..‬فخطفها وح �ل��ق ب�ه��ا في‬ ‫ال�سماوات حتى منطقة ان�ع��دام الجاذبية‪ ،‬وال والذي يرمز �إليه بـ«قرع الأجرا�س»؟‬ ‫الواقع طغى‪ ،‬فقتل في �أعماقها الحلم والقدرة‬ ‫ه��ل ك��ان��ت ال �ك��ات �ب��ة ت �ح��ت ت ��أث �ي��ر «�إرن �� �س��ت‬ ‫عليه!‬ ‫همنجواي» ورواي�ت��ه ذائعة ال�شهرة «لمن تقرع‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫الذي ي�ضاعف من وجوه الفكرة‪ ،‬ويثري جوانب دقيقة في اختيارها حين كتبت «�ست�صافح» تلك‬ ‫الن�ص‪ ،‬ومن ثم خياالت القارئ الم�شارك‪.‬‬ ‫القطرات التي تم�ضي بعيد ًا عنها؟ وك�أننا نلمح‬ ‫ثم ت�أتي مفردات الكاتبة لت�ؤكد على ه��ذا‪ ..‬مابين ال�سطور‪ ،‬وبقراءة متمعنة مجتمع ًا ذكوري ًا‬ ‫(ظنته ن �ه��را‪ ..‬اقتربت م�ن��ه‪ ..‬بلّلت �شفتيها‪ ..‬له الغلبة؟!‬ ‫ح�سبت �أنها‪ ...)...‬كلها ال تحمل معنى اليقين‪..‬‬ ‫�أم �أنها قناعة الأنثى بالقليل؟!‬ ‫ظنته ولم تقل �أيقنته‪ ..‬اقتربت ولم تقل الت�صقت‪..‬‬ ‫لكن تلك الأن�ث��ى المنت�شية حتى الثمالة قد‬ ‫بلّلت ولم تكتب ارتوت‪ ..‬ح�سبت ولم تكتب ت�أكدت‪.‬‬ ‫امتطت �أحالمها الورديةّ!‬ ‫كلها ت�ؤكد �أن «الحقيقة» لم تت�أكد بعد‪ ..‬فقد‬ ‫يا اهلل!!‬ ‫«ظنته» نهر ًا ‪ -‬قد يكون وقد ال يكون‪« ..‬اقتربت»‬ ‫مرة �أخرى التناق�ض!‬ ‫م �ن��ه‪ ..‬ق��د يبين وق��د ال ي�ستبين‪« ..‬ب�ل�ل��ت» قد‬ ‫ت�ستعذب فترتوي وقد ت�شمئز فتلفظ‪« ..‬ح�سبت»‬ ‫ف��ال�ث�م��ال��ة‪ ،‬ال �ت��ي ه��ي ح��ال�ت�ه��ا ال��راه �ن��ة من‬ ‫قد ت�صدق وقد ال ت�صدق‪..‬‬ ‫المفتر�ض والمنطقي �أن تن�سيها نف�سها‪ ،‬و�أن ت�سهو‬ ‫ثم تنتهي الكاتبة من «الظن» ‪ -‬ال��ذي يحمل عن ذاتها‪ ..‬من المفتر�ض �أنها فاقدة للوعي‪� ..‬إال‬ ‫معنى «ال�شك» ‪� -‬أو عدم اليقين ‪� -‬إلى اليقين‪� ..‬أنها «امتطت �أحالمها الوردية»! وك��أن الأحالم‬ ‫ف�ق��د «ا��س�ت�ط�ع�م�ت�ه��ا»‪« ..‬غ��ا��ص��ت ف �ي �ه��ا»‪ ..‬كلها مهما تكن ممتدة ورحبة يجب �أن ال يفلت زمامها!‬ ‫مفردات تقطع باليقين‪ ..‬ولكن �إ�سقاط ًا جدلي ًا‬ ‫ربما هي التقاليد المكبّلة؟‬ ‫دياليكتيكي ًا مجرد ًا من الإيحاءات ال�سيا�سية على‬ ‫ربما هو العقل الذي يجب �أن يتحكم؟‬ ‫الن�ص ‪ -‬هل يبرز ذلك الإ�سقاط وجود «نقي�ض»!‬ ‫حيث ال طعم وال انتعا�ش؟ هل «الحقيقة» توجد في‬ ‫ربما هي القوة التي تجعل «الراوية» فاع ًال ال‬ ‫مركب يجمع ما بين ال�شيء ونقي�ضه؟‬ ‫مفعوال به!‬

‫لماذا ‪ -‬على �سبيل المثال ‪ -‬لم تقل‪« :‬نادت‬ ‫ودودت ��ان‪��« ..‬س��ارت»‪« ،‬معها»‪ ..‬نف�س التناق�ض!‬ ‫«الحلم الواقعي» �أو «الواقع الحلمي» �إن جازت فيهم»‪� ،‬أو حتى «�صرخت فيهم»‪� ،‬أو «�أذّنت»؛ ف�أتوا‬ ‫الت�سمية‪ ،‬من دون �أن يطغى �أحدهما على الآخر! �إليها من كل حدب و�صوب؟‬

‫ام��ر�أة من عقل وقلب‪ ..‬فال يطغى العقل وال الأج��را���س»؟ ��س��واء بالوعي �أو «ال�لاوع��ي» عند‬ ‫ي�سيطر القلب‪� ..‬أن�م��وذج لالعتدال‪ ..‬االعتدال الكاتبة‪.‬‬ ‫نف�سه ال��ذي ي�سكن تعبيراتها التالية‪« :‬قرعت‬ ‫ثم الأر���ض التي ي�ستقبل �أنا�سها هذا التفوق‬ ‫الأجرا�س» و«من كل فج عميق»‪.‬‬ ‫الح�ضاري والذي يرمز �إليه بـ «من كل فج عميق»؟‬

‫وك�أنها وب�سالمها النف�سي نف�سه الذي عك�سته‬ ‫وهو «تنا�ص» ال يخفى على �أح��د يرمز لجمع‬ ‫ق�صتها «اح �ت��راق» ت��ري��د للعالم �أن يعي�ش في غفير في �شعيرة من �أهم �شعائر ذلك الجمع‪.‬‬ ‫�سالم‪« ،»..‬قرعت الأجرا�س» و«من كل فج عميق‪»..‬‬ ‫لكننا على الفور نجد �إجابة ‪ -‬لكنها �إجابة‬ ‫ال�سالم الذي ي�سود «الذات» كما «المو�ضوع»‪ .‬محتملة وغير م��ؤك��دة ‪ -‬مجرد رج��م بالغيب ‪-‬‬ ‫مرة �أخرى «ما قبل الن�ص»‪« ،‬بنية الن�ص»‪« ،‬ما فو�صف الكاتبة لأولئك النا�س الذين �أت��وا �إليها‬ ‫بعد الن�ص»‪ ..‬فهي �شخ�صية «كوزموبوليتانية»‪ ..‬من كل فج عميق‪« :‬احتوتها قلوب نقية‪ ،‬بي�ضاء‬ ‫ن�ش�أت‪� ،‬سافرت‪ ،‬ع��ادت‪ ..‬لها جذور ت�شدها �إلى كالثلج»‪ ..‬هي �إذ ًا لي�ست نظرة ا�ستعالء كما بدا‪،‬‬ ‫�أ�صولها دونما تع�صب‪ ..‬كما �أن‪ ‬حيوات �أخرى لي�ست نرج�سية‪ ..‬بل هي نظرة حب وعرفان‪ .‬لكن‬ ‫يالحظ �أي�ضا �أن الكاتبة لم تتحدث عن عقل! عقل‬ ‫تحلّق بها من دون �أن تقتلعها من جذورها‪.‬‬ ‫�أولئك الذين تخطب فيهم‪ ..‬فهل �أر�ضتها طيبتهم‬ ‫عندما نطالع كلمات مريم الح�سن‪:‬‬ ‫و�صفاء قلوبهم‪ ،‬بينما ظلت عقولهم التي هي‬ ‫«اعتلت بحبرها قمما ذات قيمة‪ ،‬وقرعت موطن �أفكارهم محل نظر؟‬ ‫الأجرا�س‪� ..‬أقبلوا �إليها من كل فج عميق»‪ ..‬ف�إن‬ ‫�إن ه��ذا «ال�ت��داخ��ل الن�صي» ي�ب��دو جليا في‬ ‫ثمة �س�ؤا ًال يطرح نف�سه‪:‬‬ ‫ق�صتيّ مريم الح�سن «احتراق»‪ ،‬التي كتبنا حولها‬ ‫هل هو الإح�سا�س ب��ال��ذات؟ ب��الأن��ا؟ هل هي في عدد �سابق من مجلة «عكاظ» بتاريخ ال�سبت‬ ‫النرج�سية التي �صورت ل�صاحبتها ‪ -‬الكاتبة ‪ 14 -‬فبراير ‪2015‬م ‪ -‬و«�صقيع يلتهب» التي نحن‬ ‫مكانا عليا و�آخرين يهرولون �إليها؟‬ ‫ب�صددها الآن!‬ ‫ثم ثمة �س�ؤال �آخر‪:‬‬ ‫فالكاتبة تبدو وك�أنها تت�أرجح ما بين قبول‬ ‫لماذا اختارت الكاتبة مفردات «قرع الأجرا�س» ورف�ض‪ ..‬ر�ضا وا�ستهجان للبيئة التي تحتويها‪..‬‬ ‫و‪�« ..‬أقبلوا �إليها من كل فج عميق»؟‬ ‫فهي ترف�ضها‪� ،‬إال �أنها م�ست�سلمة لها غير متمردة‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪27 )2015‬‬


‫ربما‪ ..‬فقد جاءت موعظتها الالحقة مبهمة‬ ‫وغير وا�ضحة �أو م�ح�دّدة! فهي لم تقل �شيئا‪..‬‬ ‫لم تحدد منهجا‪ ،‬فقط �أطلقت �ألفاظا ومفردات‬ ‫عائمة م�ث��ل‪�« ..‬إن ��ه ال�ط��وف��ان ق ��ادم»‪« ،‬ر�سالتي‬ ‫�إليكم»‪.‬‬ ‫هل اكتفت بدور النذير؟ ذلك الذي يحذر من‬ ‫قدوم الخطر دون تحديد ماهيته؟‬

‫لكن تلك الديمقراطية التي ا�ستخدمت لها‬ ‫الكاتبة «قرع الأجرا�س» جاء بها من �أذن فيمن‬ ‫ي�أتون من كل فج عميق ‪� -‬صلى اهلل عليه و�سلم ‪-‬‬ ‫�ألم يُنزِّ ل عليه ربه قر�آنا يُتلى‪ « :‬فمن �شاء فلي�ؤمن‬ ‫ومن �شاء فليكفر»؟‬ ‫�ألم يعلمنا‪:‬‬

‫«�إن �أريد �إال الإ�صالح ما ا�ستطعت وما توفيقي‬ ‫�أم �أن��ه التداخل الن�صي نف�سه للكاتبة التي �إال باهلل»؟‬ ‫«�إن عليك �إال البالغ»‪.‬‬ ‫تتركنا �أمام نهايات مفتوحة دونما و�صاية منها �أو‬ ‫خطابة؟‬ ‫«ف ��ذ ّك ��ر �إن� �م ��ا �أن� ��ت م ��ذ ّك ��ر‪ ،‬ل���س��ت عليهم‬

‫لكنني عند هذه الكلمات تحديدا ‪ -‬ول�ست �أرى بم�سيطر»‪..‬‬ ‫لذلك تف�سيرا ‪ -‬تذكرت «جبران خليل جبران»‬ ‫وكثير‪...‬‬ ‫ال�سيما عند قولها‪« :‬ط��وت �صفحتها ورحلت»‪..‬‬ ‫ل�ه��ذا‪� ،‬أرى الكاتبة غير موفّقة ف��ي اختيار‬ ‫والغرو‪ ،‬فالإبداع عملية تراكمية يبني المبدع على‬ ‫بناء غيره بعلم �أو من دون علم بما ي�صنع‪ ،‬وك�أنه تعبيرها «وقرعت الأجرا�س»‪� ،‬أقولها دونما تع�صب‬ ‫ بلغة العلم ‪« -‬قانون بقاء الطاقة» الذي ين�ص لدين �أو �ضد دين‪ ..‬على كل‪ ،‬هل وجدت الكاتبة‬‫على �أن الطاقة ال تفنى وال ت�ستحدث‪ ،‬لكنها تتحول �أثرا فيمن تخطب فيهم؟‬ ‫هيهات!‬ ‫من �صورة �إلى �أخرى!‬ ‫فقد تردد �صدى �صوتها يا اهلل!‬

‫فهكذا هي «طاقة الأدب»�إن جازت الت�سمية‪..‬‬ ‫ال تفنى وال ت��أت��ي م��ن ال�ع��دم‪ ،‬لكنها تتحول من‬ ‫�أ�صحيح ما يُقال عنا نحن العرب من �أننا‬ ‫� �ص��ورة �إل��ى �أخ� ��رى‪ ..‬رب�م��ا ك��ان��ت ف�ك��رة واح��دة «ظاهرة �صوتية»؟‬ ‫�صيغت بمفردات �شتى من كاتب لكاتب‪� ..‬أو ربما‬ ‫ارتطم في جدار �صلب!‬ ‫كانت فكرة واحدة و�ضع �أحدهم «نواتها» ثم طفق‬ ‫هل هي �صالبة العقول وعدم مرونتها؟!‬ ‫الآخرون يبنون عليها!‬ ‫و�سبحان الذي بد�أ خلق الإن�سان من طين!‬ ‫‪28‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫جدار!‬

‫ف�إذا كانت ق�صتها «احتراق» قد بد�أت وانتهت‬

‫لكن‪ ،‬عندما حدث هذا عادت «مريم الح�سن»‬ ‫�إل��ى م�لاذه��ا‪� ..‬إل��ى �أحالمها‪� ..‬إل��ى «�شرنقتها» بالت�ضحية‪ ،‬فهاهي ق�صتها «�صقيع يلتهب « تبد�أ‬ ‫التي ت�ساعدها على اال�ستمرار وعدم االنهيار‪ ..‬وتنتهى بال�صقيع!‬ ‫ذلك الحلم الذي تُبرهن عليه كلماتها‪� :‬شق�شقة‬ ‫ه��ل ي �ج��وز ل�ن��ا ع�ل��ى ال�ن���س��ق ال �ن �ق��دي نف�سه‬ ‫الع�صافير‪ ..‬زهور‪� ..‬أريجا مع الن�سيم‪..‬‬ ‫هل هو «العالم البديل» ال��ذي ت�صنعه مريم لق�ص�صها �أن نعنون لها‪« :‬دورة متكاملة تبد�أ‬ ‫الح�سن لنف�سها ب��دي�لا ع��ن ع��دم التكيف مع وتنتهي بال�صقيع»؟‬ ‫مجتمعها؟‬ ‫لعله قانون غير مرئي يحكم حيواتنا!‬ ‫فال هى قادرة على تغيير عالمها لي�صبح كما‬ ‫تريد! وال هي ق��ادرة على تغيير نف�سها؛ فتتواءم‬ ‫�ألي�ست‪ ‬حياتنا ‪� -‬أو حيواتنا ‪ -‬تبد�أ بال�ضعف‬ ‫�أو تتماهى‪� ..‬أو حتى تتعاي�ش معه‪ ،‬دونما رف�ض‬ ‫وتنتهي �إليه؟‬ ‫داخلي لهذا العالم الذي تعي�شه «بين بين»!‬ ‫‪« ‬اهلل الذي خلقكم من �ضعف ثم جعل من بعد‬ ‫فهي ترف�ضه بحكم ال��واق��ع ‪ -‬ف��ي ق�صتيها‬ ‫«احتراق»‪ ،‬و«�صقيع يلتهب»؛ مايبرهن على ذلك‪� ..‬ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة �ضعفا و�شيبة»‪.‬‬ ‫لكن «ما قبل الن�ص» ‪ -‬البيئة ‪ -‬وح�سن تربيتها‬ ‫�أو لي�ست كذلك قانون بقاء الطاقة ال�سحاب‬ ‫يقف بينها وبين �أي نزعة للتمرد!‬ ‫لقد ان�سحبت «مريم الح�سن» �إلى ذاتها‪� ..‬إنها الذي ينزل مطر ًا ثم ي�صعد بخار ًا فيعود مطراً؟‬ ‫�شخ�صية انطوائية (‪ )Introverted Personality‬الزفير ‪ -‬ثاني �أك�سيد الكربون ‪ -‬ال��ذي يتمثله‬ ‫كما يعرّفها علم النف�س!‬ ‫النبات ثم يخرجه �أوك�سجين ًا ي�ستن�شقه الإن�سان‬ ‫ذهبت لتحترق داخل نف�سها‪� ..‬إنه االحتراق‪..‬‬ ‫فيعود زفيراً‪ ،‬وهكذا‪ ..‬هل ال ‪Closed C cycled‬‬ ‫�إنه الـ�صقيع الذي يلتهب!‬ ‫�إنه «الأديب» المبدع الذي ال يملك نظرية وال هذه تحكم حياتنا؟ �إني لأطمح ال�ستحداث علم‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ههنا جاء دور «قرع الأجرا�س» وت�أثيره البيّن‬ ‫عليها‪� ..‬أو هي تقبلها‪� ..‬إال �أنها تتحفظ عليها!‬ ‫لكن الكاتبة ما تزال �أ�سيرة الما�ضي‪ ..‬ت�شي الجليّ في �شخ�صية الكاتبة من قولها‪:‬‬ ‫«�إن �أخذتم بها نجوتم‪ ،‬و�إن تجاهلتموها رددتم‬ ‫مفرداتها بذلك‪« ..‬ق�صة وفاء» «حكاية الإن�سان»‬ ‫على �أعقابكم نادمين»‪ ..‬هي �إذ ًا الديمقراطية‬ ‫�ضربة �ألم‪ .‬كلها مفردات ال تكون �إال للما�ضي!‬ ‫فهل وقعت‪ ‬الكاتبة في «ف��خ الما�ضي» الذي التي ال تفر�ض ر�أي��ا‪ ،‬وال تحدد فكرا‪ ،‬وال ت�ؤطر‬ ‫نظرة!‬ ‫تعيبه على من تخاطبهم وتعظهم؟!‬

‫ج�م��اد ال ح�ي��اة ف�ي��ه‪ ،‬ال م��رون��ة‪ ،‬ال ح ��وار‪ ،‬ال‬ ‫�إجابة‪ ..‬ال �أخذ ورد!‬

‫فتبد�أ بال�صقيع ثم تنتهي �إليه مرورا باللهيب؟‬

‫يدّعيها لنف�سه‪ ..‬هو فقط «يقول كلمته ثم يرجع»‪ ..‬يربط ما بين العلوم! الريا�ضيات والدين والفل�سفة‬

‫�أم��ا المفكر �أو الفيل�سوف �أو ال�سيا�سي‪ ..‬والفيزيقا و‪...‬‬ ‫فالمنوط به التغيير ‪� -‬أق�صد التغيير الظاهر‬ ‫هل يحدث هذا يوما؟ �أتمنى! ولن�سمه عندئذ‪:‬‬ ‫وال��م��ع��ل��ن وال��ق��اط��ع‪ -‬ب��ن��ظ��ري��ة‪ ،‬وبتطبيق لتلك‬ ‫النظرية‪ ،‬اختلف النا�س حولها �أم اتفقوا‪..‬‬ ‫«الدورة المتكاملة» ‪.‬‬ ‫ * ناقد من م�صر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪29 )2015‬‬


‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫�شعبه نحو الكمال!‬ ‫ا�ستهالل‬

‫المجنون الأخ�ضر‬ ‫رف‬ ‫ِ‬ ‫الح ُّب في ُع ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪ρρ‬عمران عز الدين*‬

‫مدخل �إلى‪ :‬ال�شعور‪ ،‬ال�شعر‪ ،‬وال�شاعر‪:‬‬

‫�إذا كانت الموهبة هبة من اهلل‪ ،‬وهي كذلك؛ فالموهوب يقيناً هو الذي يفلح كتاب ًة‬ ‫ف��ي ترجمة ال��م���أل��وف م��ن الم�شاعر ب�صورة ال م���أل��وف��ة‪ .‬الموهوب هنا ه��و ال�شّ اعر‪،‬‬ ‫والالم�ألوف الكتابيّ هو ال�شّ عر �أو �أي جن�س من �أجنا�س الأدب المتعارف على ت�صنيفها‪،‬‬ ‫بينما تق�صدنا كتابة الم�شاعر ب�شكلٍ كتابيٍّ وح��رف��يٍّ ؛ لأ َّن الم�شاعر �صفة جامعة‬ ‫وموحدة في عموم عباد اهلل‪ .‬وبح�سب معجم الم�صطلحات العربية في اللغة والآداب‬ ‫لـ مجدي وهبه وكامل المهند�س‪ ،‬فال�شعور «‪ »consciousness‬عند علماء النف�س‪:‬‬ ‫يُطلق على العلم بما في النف�س �أو بما في البيئة وعلى ما ي�شتمل عليه العقل من‬ ‫�إدراك ووجدان و ُنزُوع‪� .‬أما ال�شعر‪ ،‬فهو‪ :‬فـن من فنون الكالم‪ ،‬يوحي عن طريق الإيقاع‬ ‫ال�صوتي وا�ستعمال المجاز ب�إدراك الحياة والأ�شياء‪� ،‬إدراكاً ال يُوحي به النثر الإخباري‪.‬‬ ‫بينما كلمة ال�شاعر في اللغة العربية م�شتقة من �شَ َع َر بمعنى �أح�سنَ و َع ِلمَ‪ ،‬و�إنما �سُ ِم َي‬ ‫كذلك ل�شدة فطنته ودقة معرفته و ِرقَّة �شعوره‪.‬‬ ‫وي �ك �ف��ي �أن ن �ع �ل��مَ �أن ال �� �ش��اع��ر عند العمل الفني عن طريق الكالم المنظوم‪.‬‬ ‫الأوربيين كان يطلق على من يُبدع عم ًال بينما ذهب فيكتور هوجو ‪1885‬م �إلى �أنَّ‬ ‫فنياً‪ ،‬ثم تح ّد َد المعنى ليدلَ على من يبدع ال�شّ اعر يعد بمثابة نبي يُطلب منه �أن يقو َد‬ ‫‪30‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫يوا�صلُ ال�شّ اعر الم�صريّ ع�صام �أب��و زيد‬ ‫ا�ستغواره ال�شّ عريّ ‪ ،‬ال ُمغَامِ ر والمائز‪ ،‬فيحتفي‬ ‫بالحبّ ف��ي دي��وان��ه الجديد «ال�ح�ي��اة ال�سرية‬ ‫للمجنون الأخ�ضر» احتفا ًء �شعر ّي ًا باذخاً‪ُ ،‬ي ُولِمُ‬ ‫له‪ ،‬يجوّد وي�صطفي‪ ،‬ي�ضيف ويجدّد‪ ،‬ويُكرّ�س له‬ ‫العمل برّمته‪ ،‬وقد �سبق لنا �أن دبّجنا مقالين عن‬ ‫عمليه ال�شّ عريّين ال�سابقين‪« :‬كيف ت�صنع كتاب ًا‬ ‫يحقق �أعلى مبيعات؟» و«�أك�ل��ت ث�لاث �سمكات‬ ‫وغلبني النوم»‪ ،‬وقد كان �أبو زيد موفّق ًا فيهما �إلى‬ ‫حدٍّ كبيرٍ في تدبيجِ �شعرٍ تجلت قوته في ب�ساطته‬ ‫المنثالة‪ ،‬وفي �شعريته ال�سرديّة وال�سحريّة على‬ ‫حدٍّ �سواء‪ .‬و�ستكون مقاربتنا حول هذا الديوان‬ ‫بمثاب ِة مقارب ٍة نط ُّل فيها على منهج �أو م�سلك �أبو‬ ‫زيد ال�شّ عريّ ‪ ،‬و�أ�سلوبه عبر مجاميعه ال�شّ عريّة‬ ‫ال�سابقة ب�شكلٍ عامٍ و«مجنونه الأخ�ضر» ب�شكلٍ‬ ‫خا�ص‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫مغامرة المجنون الأخ�ضر‬ ‫ب ��دءاً‪ ..‬ينبغي الإ� �ش��ارة �إل��ى �أم��رٍ ف��ي غاية‬ ‫الأهميّة‪ ،‬وهو �أن ع�صام �أبو زيد يتمتع بخ�صي�صة‬ ‫مهمة �سبق �أن تطرقنا لذكرها في ديوانه ال�سابق‪،‬‬ ‫والمو�سوم بـ «�أكلت ثالث �سمكات وغلبني النوم»‪،‬‬ ‫�إذ يُع ُّد من ال�شّ عراء المغامرين‪ ،‬وال يمنع ها هنا‬ ‫�أن نتطرقَ مرة �أخ��رى لهذه الخ�صي�صة‪ ،‬لأ ّن� ُه‬ ‫يتوافر عليها بجدار ٍة وا�ستحقاقٍ في ديوانه هذا‪،‬‬

‫مو�ضوع مقالنا‪.‬‬ ‫فمن النادر ج��د ًا �أن نتعثر و�سط هذا الكم‬ ‫الكبير م��ن ال�شعراء �شعراء ال �غ��رام وال��رث��اء‬ ‫والطال�سم والأح��اج��ي والمنا�سبات والأع�ي��اد‬ ‫الوطنية ب�شاعر دي��دن��ه ال�م�غ��ام��رة‪� .‬أن��ا مث ًال‬ ‫تروق لي قراءة ال�شاعر المغامر‪ ،‬المتمرد على‬ ‫القوالب‪ ،‬وغير المُر�ضي لنفرٍ من النقاد‪ ،‬ممن‬ ‫ال يتوانون ع��ن نعتِ �شعرِ ك��ل م��ن انقلب على‬ ‫الخليل بن �أحمد الفراهيدي و�أوزان��ه بالزندقة‬ ‫والهرطقة‪ .‬ال�شاعر الذي يروق لي �شاع ٌر يكتب‬ ‫ويم�ضي‪ ،‬يكتب لأن��ه بحاجة لأن يفرغ �شحنة‬ ‫م��ا‪ ،‬ي ��دوّن حالة يعي�شها‪ ،‬وال يكترث بالتالي‬ ‫لما �سيخل�ص له القارئ من انطباع �أو حكم‪.‬‬ ‫الم�صري ع�صام �أب��و زي��د من ه ��ؤالء ال�شعراء‬ ‫المغامرين‪ ،‬تلم�ستُ ذل��ك ف��ي عمله ال�شعري‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪31 )2015‬‬


‫‪32‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫الحب في عرف المجنون الأخ�ضر‬ ‫على الرغم من �أن المجنون الأخ�ضر يعي‬ ‫�أنّ �صان َع ق�ص�ص الحبّ هو �أول �ضحاياها‪ ،‬فهو‬ ‫يرفع من �ش�أنه؛ لأ ّن ُه يرى �أنّ الحبّ هو الأبقى‪،‬‬ ‫و�أنّ الجوا�سي�س وال�خ��ون��ة وال�سكارى وك�لاب‬ ‫الحرا�سة والوغد الكبير الذي يحكم المدينة ال‬ ‫محل لهم من الإعراب في معادلة الحوار والبناء‬ ‫والحرية والعي�ش الكريم‪ ،‬وبح�سبه ‪ ..‬فالحبّ هو‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫ال�سابق الذي و�سمه بعنوان غريب‪« :‬كيف ت�صنع عينيها‪ /‬قلتُ ‪ :‬من هي؟‪ /‬قال‪ :‬حبيبتك‪ /‬قلتُ ‪:‬‬ ‫كتاب ًا يحقق �أعلى مبيعات؟»‪ ،‬وتبدى لي ذلك ما لي حبيبة يا مالك‪ /‬قال‪ :‬بل هي هنا‪ /.‬و�أ�شار‬ ‫جلي ًا في عمله الجديد‪�« :‬أكلت ث�لاث �سمكات �إلى �ضلوعي‪ /‬فت�ألمتُ ‪ /‬وبكيتُ »‪� .‬ص ‪63‬‬ ‫وغلبني النوم»‪ ،‬وفيه يحلق �أب��و زيد في فيافي‬ ‫كما �أنه ثمّة ق�صائ ُد عبارة عن مقاطع غنائيّة‬ ‫ال�شعر و�أم��دائ��ه بكلمات ع��ادي��ة‪ ،‬ومغرقة في �صغيرة‪ ،‬ومثالنا هنا ق�صيدة «الذي» التي يقول‬ ‫المبا�شرة �أحياناً‪ ،‬ال يتكبد عناء الحر�ص على فيها‪:‬‬ ‫ال�شعرية في تدبيج �صورة‪ ،‬وال يلهث كذلك وراء‬ ‫«المطر الذي يتجدّد مع الذكريات‪ /‬العزف‬ ‫مفردة م�شذبة كما كانت عليه الحال في ديوانه‬ ‫ال�سابق‪ ،‬ال�شعرية في ديوانه الجديد تكمن في ف��ي الليل على الكمنجات‪ /‬رحلة ال�صيد في‬ ‫القطعة ككل‪ ،‬في فكرتها �أي�ضاً‪ ،‬وفي حكايتها ال�ق��وارب ال�صغيرة‪ /‬وال�صخور في البدايات‬ ‫والنهايات»‪� .‬ص ‪71‬‬ ‫كذلك‪.‬‬ ‫وتبلغ ال�شعرية ذروتها في ق�صائد «ميوزك‬ ‫م�سلك �أبو زيد ال�شّ عريّ ‪ /‬تطبيق‬ ‫وذكرياتي و�سا�سو»‪� ،‬إذ �إنها تقترب من ال�شعرية‬ ‫�إجرائيّ على «المجنون الأخ�ضر»‪:‬‬ ‫ال�سحرية‪ ..‬حيث الإدها�ش والتخييل والف�ضاء‬ ‫�أ�شعار �أبو زيد عبارة عن فال�شات ومقاطع المفتوح على الت�أويالت‪.‬‬ ‫ول��وح��ات وب��رق �ي��ات‪ ،‬وف�ي�ه��ا م��ا فيها م��ن روح‬ ‫ي�ن��در �أن يتعث َر ال �ق��ارئ ف��ي �شعر �أب��و زيد‬ ‫الوم�ضة؛ حيث المفارقة الإ�شعاعيّة �أو القفلة‬ ‫ال�صادمة‪ ،‬ومثالنا هنا ق�صيدة «عربات» التي «ال�شذري» على �صورة �شعريّة �صرفة؛ لأ ّن ُه يعول‬ ‫على الحكاية ال�شّ عريّة‪� ،‬أو ال�شّ عريّة ال�ساردة كما‬ ‫يقول فيها‪:‬‬ ‫قا�صاً‪ .‬ويعول بالمقدار ذاته على القطعة‬ ‫لو كان ّ‬ ‫«اليوم ع��ادت ك ّل العربات محطمة ‪ /‬وعاد‬ ‫ككل؛ �إذ‪ ،‬ت�شكل الحكاية بالن�سبة له ال�شرارة‬ ‫ح�صانها الوحيد يلهث»‪� .‬ص ‪53‬‬ ‫الأولى‪� ،‬أو المخطّ ط البنائيّ والعمرانيّ ‪ ..‬لتوجيه‬ ‫وث � ّم��ة ق���ص��ائ� ُد ت �ن��درج ف��ي ح�ق��ل الق�صة بو�صلته �صوب ق�صيدة �أو قطعة فنيّة‪ ،‬تتوافر‬ ‫الق�صيرة ج ّد ًا �أو الق�صيدة الحكائيّة‪ ،‬ومثالنا على جُ ّل مقومات الق�صيدة ال�شّ عريّة وال�شّ عوريّة‬ ‫هنا ق�صيدة «حديقة» التي يقول فيها‪:‬‬ ‫على حدٍّ �سواء‪ ،‬بو�صفها ‪�-‬أي الحكاية‪ -‬جوهر‬ ‫ق�صةً‪ ،‬م�سرح ًا‬ ‫«في حديقة الم�شاعر الرقيقة هبط المالك العمليّة الإبداعيّة‪� ،‬شعر ًا كان �أم ّ‬ ‫قبل �ساعتين‪ /‬وجدني نائم ًا قرب غ�صن النعناع كان �أم روايةً‪ ،‬وعليه‪ ..‬فهو يدبّج ق�صائدَ تر�شح‬ ‫المائل المك�سور‪� /‬س�ألني هل تريد �شيئ ًا من �شعرية فور االنتهاء من قراءتها؛ وه��ذا الأمر‬

‫لي�س �سه ًال كما قد يت�صور بع�ضهم‪ ،‬بل لي�س‬ ‫في متناول الجميع‪ ،‬نق�صد �أترابه من ال�شعراء؛‬ ‫لأ ّن � ُه في الوقت ال��ذي ين�صرف فيه �إل��ى �إ�سباغ‬ ‫ال�شعريّة على الوحدة الع�ضويّة والهيكيلية لعموم‬ ‫ق�صيدته ومفا�صلها‪ ،‬ينهمّ نف ٌر من ال�شّ عراء‬ ‫بالتورية واال�ستعارة والرمز والإب�ه��ام؛ فتكون‬ ‫ث� ّم��ة � �ص��ورة �شعريّة ح �ل��وة‪ ،‬لكن ف��ي ق�صيدة‬ ‫مالحة ‪ ..‬مت�صحرة‪ .‬فهو‪ ،‬والحال ه��ذه‪ ،‬يقوم‬ ‫بوظيفة على غاية من الجودة والحذف وال�سبك‬ ‫والإ�ضافة والتجويد والإتقان‪� ،‬إ ّن ُه �صياد القفلة‬ ‫واللحظة ال�شعرية الحالمة والم�ستفزة والرقيقة‬ ‫وال�صادمة؛ �إذ يعي تمام ًا كيف تُك�سى الم�شاعر‪،‬‬ ‫وكيف ت�ؤثث‪ ،‬يخلط ككيميائي الألوان والت�أثيرات‬ ‫وال �م ��ؤث��رات والمتفاعالت والمن�صهرات من‬ ‫�أن�صاف و�أثالث و�أرب��اع ال�صور والمفردات في‬ ‫مختبره ال�شّ عريّ ‪ ،‬ليجدَ القارئ نف�سه �أمام �صو ٍر‬ ‫وجُ مَلِ قو�س قزحية ناطقة ومبهجة‪.‬‬

‫الحل الوحيد والأمثل الجتثاث ال ُكرْه والبغ�ض‬ ‫والأح�ق��اد‪ .‬الحبّ في عرف المجنون الأخ�ضر‬ ‫لونه �أخ�ضر‪ ،‬حتّى في الخريف لونه �أخ�ضر‪،‬‬ ‫فال ترقى له �أن�صاف الحلول في المحبّة‪ ،‬فهو‬ ‫�إما �أن يكونَ عا�شقا بك ّل جوارحه‪ ،‬و�إما �أن يكونَ‬ ‫مع�شوقاً‪ .‬الحبّ قِبلة المجنون الأخ�ضر‪� ،‬أوجاع‬ ‫الحب عنده تظهر حتّى في يديه‪ ،‬دمه ونب�ضه‪،‬‬ ‫بال حبٍّ ال ت�ستقيم �أحواله‪ ،‬تراه محموم ًا وما هو‬ ‫بمحموم‪ ،‬م�سافر ًا وما هو بم�سافر‪ ،‬مخا�صم ًا وما‬ ‫هو بمخا�صم‪ ،‬مطارد ًا وما هو بمطارد‪ ،‬مجنون ًا‬ ‫وما هو بمجنون‪ ..‬و َقلِق ًا ك�أنّ الريحَ تحته‪ .‬يحلّق‬ ‫المجنون الأخ�ضر في فيافي الحبّ و�أمدائه‪،‬‬ ‫يجوب المحيطات ويركب البحار؛ لأنّه ال ي�ستطيع‬ ‫يتنف�س من دون �أن يُحِ بَّ �أو يُحَ بَّ ‪.‬‬ ‫يعي�ش �أو �أن َ‬ ‫�أن َ‬ ‫يكتب المجنون الأخ�ضر ر�سائل الغرام‪ ،‬ي�سعى‬ ‫كتاب عن القُبلة‪ ،‬يعي�ش بن�صف عقل‬ ‫أليف ٍ‬ ‫لت� ِ‬ ‫بعد �أن �سلبه الحبّ الن�صف الآخر‪ ،‬يرق�ص على‬ ‫�أنغام الغيرة واللوعة والفراق الهادر العنيف‪،‬‬ ‫يحبُّ الحياة وي�ستمتع بجنونه‪ ،‬يم�شي وال يكبد‬ ‫نف�سه عناء �إلقاء نظرة خلفه‪ ،‬يم�ضي قدماً‪ ،‬بل ال‬ ‫يتورع حفيد ابن عربي ومعا�صر نزار قباني عن‬ ‫االعتراف بالحبِّ مذهب ًا وم�سلك ًا والدعوة من ثمّ‬ ‫أ�سي�س جمهور ّي ٍة �شعارها الأوحد هو الحبّ قو ًال‬ ‫لت� ِ‬ ‫وفعالً‪� ،‬إنّه يغني ويمو�سق ويدبج‪ ،‬يعيد �صياغة‬ ‫الجَ مال‪.‬‬

‫ * كاتب من �سوريا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪33 )2015‬‬


‫ال�شعر ّية‬ ‫ت�أ ّمالت الغيمة ِ‬

‫‪ρρ‬عماد الدين مو�سى*‬

‫ث ّم َة زاوي��ة مُ�ضيئة ت�أخذنا �إليها ال�شاعرة اللبنانيّة زينة‬ ‫ع����ازار ف��ي مجموعتها ال�����شِ ��ع��ر ّي��ة الأول����ى «غ��ي��م�� ٌة ل��ل��ت��وازن»‪،‬‬ ‫ال�صادرة عن دار مخطوطات (هولندا)‪ ،‬من خاللها ت�سلِّط‬ ‫المزيد من الأ�ضواء على جماليّات ال ُب ْعدِ‪ ،‬عبر حركة العد�س ِة‬ ‫«الزوم»‪ ،‬ببعديها القريب والبعيد‪ .‬لتك�شف عن جانبٍ غاي ًة في‬ ‫يخ�ص ر�ؤية الأ�شياء البعيدة‬ ‫المتع ِة بالن�سبة للمتلقّي‪ ،‬فيما ّ‬ ‫�أو ما يُ�سمّى بال�سراب في ال�صحارى مثاالً‪ ،‬لكنها هنا �أكثر‬ ‫ال�شاعرة اللبنانيّة زينة عازار‬ ‫متع ًة وجمال ّي ًة للقارئ‪ -‬الناظر‪� ،‬إذ �أنها �أقرب �إلى قو�س قزح من‬ ‫كونها �سراباً فح�سب‪« ،‬يجب �أن تكون الأ�شياء هكذا‪ /‬مجهولة‪ /‬كي تبقى جميلة وبعيدة‬ ‫عن المُتناوَل‪ ،‬طالما «الأمكنة هي هي‪ /‬وحتى الأجوبة»‪.‬‬ ‫ولع ّل الغيم ُة في عنوان المجموعة من‬ ‫�أكث َر الأ�شياء بُعد ًا و�إث��ار ًة للمُتلقّي؛ نظر ًا‬ ‫لتح ّولِها من �شيءٍ غير مح�سو�س �أو قابلٍ‬ ‫للّم�س �إل��ى ممكنٍ وملمو�س‪ ،‬وم��ن كونِها‬ ‫غيم ًة �إل��ى مطرٍ وف��ي متناول اليد �أي�ضاً‪،‬‬ ‫والعتبارها رمز الخ�صب‪ ،‬ورغبة الأر�ض‬ ‫الدائمة وم��ن عليها م��ن الكائنات للقاء‬ ‫وال�ه�ط��ول‪� .‬أو حتى ببقائها ف��ي ال�سماء‬ ‫لمجرّد النظر �إليها‪ ،‬والتمتّع بجماليّات‬ ‫ت�أملها �أث�ن��اء تبدّلها الم�ستمر من �شكلٍ‬ ‫جماليّ لآخر �أكث َر �إدها�شاً‪.‬‬ ‫والغيمة هنا لي�ستْ �أ ّي��ة غيم ٍة ال على‬ ‫التعيين‪ ،‬ب��ل المق�صود غيم ُة ال�شِ عر ّي ِة‬ ‫‪34‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫بعينها‪ .‬وهي �إ�ضاف ًة لكل ذلك‪ ،‬ال من �أجل‬ ‫التوازن وح��ده‪ -‬كما تدّعي ال�شاعرة‪ -‬بل‬ ‫لقلبِ موازين الطبيع ِة جميعاً‪ ،‬ر�أ�س ًا على‬ ‫عقب‪ .‬فتحوّل ال�صحارى �إلى �أنهار وجداول‬ ‫ماء‪ ،‬والبوادي �إلى واحات خ�ضراء وغنيّة‪،‬‬ ‫وك�أنّها تلك ال�شرار ُة التي في قول ماوت�سي‬ ‫تونغ (رُبَّ ��ش��رار ٍة �أ�شعلت ال�سهل كّله)‪.‬‬ ‫�إذ تقول ال�شاعرة في �أحد المقاطع‪« :‬لم‬ ‫�أخطط يوم ًا لال�ستمرار في التواجد‪ /‬ج ّل‬ ‫ما �أفعله مراقبة الأ�شياء وه��ي تبدّدني‪/‬‬ ‫و�أحيان ًا �أ�شاركها الح�صاد‪ ،‬يُغريني �سربٌ‬ ‫مهاجر �إل��ى الجنوب‪� /‬إل��ى حيث الع�صف‬ ‫وموا�سم الغرق‪� /‬أحتاجُ غيم ًة للتوازن»‪.‬‬

‫درا���س��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ات ون��ق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��د‬

‫«غيمة للتوازن» لل�شاعرة اللبنان ّية زينة عازار‪:‬‬

‫ألي�س ال�شِ ع ُر ثورة حقيقيّة توجد‬ ‫هنا ن�س�أل‪َ � ،‬‬ ‫داخل حقل اللغ ِة الخ�صب‪� ،‬إال �أنّ ت�أثيرها يتجاوز‬ ‫الحدود المر�سومة لها‪ ،‬مهما كانت الم�ساحة‬ ‫�شا�سعةً‪.‬‬ ‫لك�أ ّن ُه انفجا ٌر هائلٌ‪ ،‬يهدم في طوفان ِه ك ّل‬ ‫�شيء‪ ،‬ومن ثم يعيد بنا َء ُه من جديدٍ وبح�سب‬ ‫خ�صو�صيّة ور�ؤي��ة المبدع لكل ما يحيط به من‬ ‫الأ�شياء والموجودات‪ ،‬المرئيّة منها والالمرئيّة‬ ‫�أي�ضاً؛ «لم يكن يعنيني ِ�ضيقُ الأماكن المُغلقة‪/‬‬ ‫وال وِ�س ُع العتمة‪ /‬وال تف�سّ خ الجدران‪ /‬كنتُ �أفكّر‬ ‫رف العالم‪/‬‬ ‫في ه��ذه ال��زاوي��ة‪ /‬حيث يكتمل ذَ ُ‬ ‫ومرور العديد من الغرباءِ‪ /‬في مكان قَ�صيّ من‬ ‫الأثر‪ /‬في نقطة ت�شبه الألم»‪.‬‬ ‫ ن�صو�ص في الهواء الطلق‬‫الكتاب ُة ل��دى زينة ع��ازار تعني المزيد من‬ ‫التداعيات واالعترافات‪� ،‬أو الرغبة الجامحة‬ ‫في البوح عن كل ما يجول في خاطرها‪� ،‬إذ «ثمة‬ ‫�أ�صابع تكتب دائماً‪ /‬غير �آبهة بالعالم‪ /‬رغبتك‬ ‫الدائمة ف��ي االخ�ت�ف��اء»؛ وه��ي المنفذ الوحيد‬ ‫للمناداة من خالله‪ ،‬والتخفّف من ثِقل الحياة‬ ‫و�أعبائها؛ كذلك للتوا�صل مع الآخر «�شخ�ص ما»‬ ‫من دون تحديد ل�صفته‪� ،‬أي �أنّ الكتابة‪ -‬بالن�سب ِة‬ ‫�إليها على الأق ��ل‪ -‬تعني ك � ّل ��ش��يء‪ ،‬م��ن �آم��الٍ‬ ‫و�أحالمٍ ‪ ،‬ح�سّ يٍّ �أو ب�صري وقيمي‪� ،‬أو كما تقول‪:‬‬ ‫«�أكتب دائم ًا ل�شخ�ص ما‪� /‬أكتب لغر�ض ما‪/.‬‬ ‫في امّحائي تدور الأر�ض ب�شكل �أف�ضل‪ /‬ي�صير‬ ‫االنتظار �أق�� ّل ب��رداً‪ /‬تتحجّ ر �أ�صابعي في هذا‬ ‫ال�صباح‪ /‬من الملح الذي‪ /‬ال يحتاجه �أحد»‪.‬‬ ‫م��ن ح �ي��ثُ الأ� �س �ل��وب‪ ،‬يمكننا عَ � � َّد ق�صائد‬ ‫المجموعة بمجملها على �أنها «ن�صو�ص في الهواء‬ ‫الطلق»‪ ،‬بح�سب و�صف الناقد العراقي عبد الكريم‬ ‫ك��اظ��م ف��ي ق��راءت��ه للمجموعة‪« ،‬ن�صو�ص تقيم‬

‫عالقة �شبه متكاملة بين الوجود الإن�ساني والعالم‪،‬‬ ‫�إال �أن ت�شكيلة هذه العالقة ت�ضعها في محيطها‬ ‫الجمالي‪ ،‬كتتويج للمعنى وك�صلة ال نهائيّة مع‬ ‫اللغة‪ ،‬جامع ٌة بين الأنا الفرديّة والأن��ا الجمعيّة‪،‬‬ ‫بناء على معرف ٍة ب�سيكولوجيّة الخطاب ال�شِ عري»‪.‬‬ ‫ الو�سط يعني االنتحار‬‫مجموعة «غيم ٌة للتوازن» بق�صائدها الثالث‬ ‫والخم�سين‪ ،‬خطو ٌة هادئ ٌة وجريئة باتجاه الكتابة‬ ‫الجديدة‪ ،‬القريبة من فل�سفة �شِ عريّة التفا�صيل‬ ‫اليوميّة المعي�شة‪ ،‬بت�أمّلِ الأثر المتبادل بين الكائن‬ ‫والعالم من حوله‪ ،‬ومن ثم �شَ ْعرَنة هذه الت�أمالت‪.‬‬ ‫ق�صائ ٌد تغتني بالتناق�ضات ال��وج��ود ّي��ة‪،‬‬ ‫بتحديدها وتف�سيرها لمفهوم ال�شيء ونقي�ضه؛‬ ‫م ��ؤ ّك��دة وم�ستنتج ًة �أنّ الو�سط ال يعني �سوى‬ ‫االن�ت�ح��ار‪« ،‬ال يمكنك �أن تعود وال يمكنك �أن‬ ‫ترحل‪ /‬تبقى عالق ًا هناك‪ /‬في الو�سط‪ /‬حيث ال‬ ‫�شيء ي�ؤلمك فعالً‪� /‬أكثر من هذا الموت»‪.‬‬

‫* كاتب من �سوريا مقيم في تركيا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪35 )2015‬‬


‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫ق�صة ق�صيرة‪ ..‬زفاف ملكي‬ ‫‪ρρ‬عمار اجلنيدي*‬

‫ثمة ظواهر لفتت انتباهها في الحياة‪ ،‬ب�سبب غرابتها وطرافة مقوالتها بيولوجياً‪ ،‬وغرائزياً‪.‬‬ ‫�أبهرها ما في عالم النحل من غرائب ونوادر ا�ستحقت منها الت�أمل والمتابعة‪ ،‬وفي �أحايين �أخذ العبرة‪.‬‬ ‫راودها حلم منذ زمن الطفولة ب�أن ت�صير ملكة‪ ،‬لكنها اكتفت بالحلم لمّا عرفت �أن الم�ستحيل �أقرب‬ ‫�إليها من الحقيقة‪.‬‬ ‫�أحبّت �أن تكون ملكة‪ ،‬حتى ولو في مملكة النحل‪ .‬راقبت خلية النحل �صباح م�ساء‪ ،‬حتى تتعرف على‬ ‫عالمها‪ ،‬وكي ال ت�شعر بالغربة والإحراج عندما ت�صير ملكة‪.‬‬ ‫في مو�سم التلقيح طارت الملكة بعيد ًا عن الخلية‪ ،‬فلحقتها الذكور البالغة بغية الفوز بتلقيحها‪ ،‬وكادت‬ ‫الخلية تخلو من الذكور البالغين‪ .‬راقبت با�ستغراب و�شغف واهتمام بما يحدث‪ ،‬فالملكة لم يلقّحها �إال ذكر‬ ‫واحد من بين جي�ش الذكور الالحقين بها‪ ،‬هو �أ�سرعهم �إلى الو�صول �إليها‪.‬‬ ‫�أ�شياء كثيرة كانت تعرفها‪ ،‬و�أ�شياء �أكثر لم تكن تعرفها؛ هي تعرف �أن الملكة ال يمكن �أن تعود �إلى الخلية‬ ‫بدون تلقيح‪ ،‬لكنها لم تعرف �أن الذي ل ّقّحها ذكر بائ�س من خلية �أخرى‪ ،‬ت�صادف وجوده في الف�ضاء‪ ،‬فلحق‬ ‫بالركب‪ ،‬بغية تلقيح الملكة‪ ،‬ولم تعرف �أي�ض ًا �أنه ذكر بائ�س‪ ،‬لأنه ُبُعيد �أن لقّحها‪ :‬مات‪ ،‬رغم احتفاظها بـ‬ ‫(زُبانته) معلّقة في م�ؤخّ رتها‪ ،‬ربما لتتفاخر �أمام الجميع �أنها قد ُلقّحَ تْ ‪.‬‬ ‫اقتربت من الخلية ف�أبهرها الحفاوة التي ا�س ُت ْقبِلتْ بها الملكة عندما عادت‪ ،‬فقد �أُقيم لها عر�س‬ ‫وزفاف ملكي‪ ،‬حظيت بموجبه بالغذاء الملكي الذي تفرزه النحالت ال�شغاالت خ�صي�ص ًا للملكة‪.‬‬ ‫وفغرت فاها ده�شة وذهو ًال وهي ترى ال�صراع والتناف�س داخل الخلية الواحدة لال�ستئثار بها‪ ،‬عندما‬ ‫انتهى الزفاف الملكي‪ ،‬فقد عرفت الآن �أن الخلية بها �أكثر من ملكة‪.‬‬ ‫بد�أت الملكات بقتل بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬فخلية النحل ال تقبل �إال بملكة واحدة‪ ،‬لينتهي ال�صراع بملكة واحدة‪،‬‬ ‫تفوز بالخلية وبالغذاء الملكي‪.‬‬ ‫ت�أكدت �أن خلية النحل عالم من الغرابة والطرافة‪ ،‬يمكن للإن�سان �أن ي�أخذ منها عبرة‪ ،‬ر�أت كل ذلك‬ ‫ب�أم عينيها‪ ،‬هزّت ر�أ�سها �أ�سف ًا ورثت لحال الملكات‪ ،‬وفي لحظة �شموخ مفاجئ؛ ق ّر قرارها البائن بالثالثة؛‬ ‫ب�أنها لن تقبل �أن ت�صير ملكة‪ ،‬حتى لو تزوجها ملك‪.‬‬ ‫ * قا�ص وكاتب من الأردن‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫خفايا �صوت‬ ‫‪ρρ‬نهلة ال�شقران*‬

‫�صوتُ هدو ٍء يخنقها‪ ،‬وال يكاد يبين‪ ،‬يتح�شرج في حلقها كقطعة قطْ ن‪ ،‬ي�س ّد ما بينها‬ ‫وبينهم‪ .‬وجوههم ترمقها بتح�سّ ر‪ ،‬عيونهم ت�ست�صرخ ما بداخلها‪� ،‬أيديهم تربّت على‬ ‫يديها‪ ..‬ويتركونها لت�سير درباً بمفردها‪.‬‬ ‫حفيفٌ يرت ّد في �أذني وال �أكاد �أ�سمع‪� ،‬أظنّ �أنها تنطق‪ ،‬وتبتلع الحروف دون وعي منها‪،‬‬ ‫تغ�ص في جوفها‪ ،‬تتلعثم‪ ،‬يت�صبّب عرقها‪ ،‬ت�ستنجد‪ ،‬ثم تحْ َم ّر وجنتاها‪ ،‬وتذبل �أنفا�سها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتهد�أ من جديد‪.‬‬ ‫في ركن بعيد كانت تجل�س‪ ،‬تحدّق بي وتنتظر �أن �أقول لها كالعادة عندما �أقر�أ �أ�سماء‬ ‫الطلبة‪:‬‬ ‫كنت �أتمنى �أن �أ�سمع �صوتها ب�أيّ و�سيلة‬ ‫ هدوء‪� ،‬أين �صوتك يا هدوء؟ قولي نعم‬‫كانت‪� ،‬شعرتُ �أنها تحادث زميالتها‪ ،‬وتُخرج‬ ‫ب�صوت عالٍ ‪.‬‬ ‫تتجاهلني ب��ن��ظ��رات ح���اذق���ة‪ ،‬وتهم�س ك�لام� ًا ب�لا ح�شرجة‪ ،‬ف�ع��رف��تُ حينها �أنها‬ ‫لي�ست �صمّاء‪.‬‬ ‫ف��ي �سرّها دون �أن �أ�سمع �شيئاً‪ ،‬وتم�ضي‬ ‫كتبتُ �إع�لان�اً‪ ،‬وعلّقت ُه على ب��اب مكتبي‬ ‫المحا�ضرة دون �أن تنب�س ببنت �شفة‪ ،‬ربما‬ ‫كانت مزاجية الهوى �أو غريبة الأط��وار �أو يقول‪:‬‬ ‫تكره التاريخ‪ ،‬ال �أدري‪ ،‬لكنها من �أغرب من‬ ‫«�أبحثُ عن �صوت هدوء‪ ،‬ولمن يجده ع�ش ُر‬ ‫درَجات»‪.‬‬ ‫درّ�ست‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪37 )2015‬‬


‫وجهُها عمالق �ضخم‪ ،‬يملأ زواي��ا المكان‪،‬‬ ‫يبتلع الجدران‪ ،‬ويب�صق �أوراق ًا من كتبي‪� ..‬أوراق ًا‬ ‫�أراه��ا و�أعرفها جيد ًا وال �أ�ستطيع قراءتها‪..‬‬ ‫تتطاير الأوراق وتلت�صق ب�سقف الغرفة‪ ،‬ف�أجد‬ ‫نف�سي وج�ه� ًا لوجه �أم��ام الحائط‪ ،‬وك� ��أنّ ي��د ًا‬ ‫خفيّة �سحبتني‪ ،‬وجعلت �صفحات التاريخ كلها‬ ‫في متناول يدي‪ ،‬وعندما �أدقق النظر فيها َل َعلِّي‬ ‫�أعرف ما بها �أو �أ�ستك�شف �سرّها‪ ،‬تتبخّ ر بلمح‬ ‫الب�صر وتقطر مطر ًا على �سريري يبلل ج�سدي‬ ‫الذي �أُلقي به دفعة واحدة �إلى الأر�ض‪.‬‬ ‫�أنظر �إلى فمها‪ ،‬ف�أجدها كمن �أ�صيب بتخمة‬ ‫منقطعة النظير‪ ،‬تفتحه ببطء �شديد كتم�ساح‬ ‫مثقَل يحمل �أ�سرار البحار‪� ،‬أخ�شاه ويق�صدني‪..‬‬ ‫�أرك�ض‪� ..‬ألهث‪ ..‬ينقطع �صوتي‪ ..‬ف�أ�صحو‪.‬‬

‫دخ �ل��تُ غ��رف��ة ال�م�ك�ت��ب‪ ،‬ل��م �أع �ت��د ترتيب‬ ‫�أوراق��ي‪ ..‬كتبي‪ ..‬ر�سائلي‪ ..‬وال حتى كتاباتي‪..‬‬ ‫كل �شيء مكدّ�س على رقعة خ�شبية �صغيرة ال‬ ‫تقوى على االحتمال‪ ،‬جل�ست متخلّ�صة من بقايا‬ ‫�أنفا�س في �صدري بزفير طويل‪ ،‬م��ددتُ يدي‬ ‫�إلى طاولة المكتب معلن ًة بداية الحرب؛ عملية‬ ‫البحث‪ ،‬دقّقتُ النظر في كومة �أمامي‪ ،‬و�أخرى‬ ‫بجانبها‪ ،‬حاولتُ �أن �أ�ستذكر الأحالم ال�سابقة‪/‬‬ ‫الكوابي�س‪ ،‬لون الأوراق‪ ،‬حجم الخط‪ ،‬الحروف‪،‬‬ ‫النقاط‪� ،‬أيّ �شيء يجعلني �أجد بداية المواجهة‪..‬‬ ‫ولكن دون جدوى‪.‬‬ ‫لن تهزمي تاريخي يا هدوء‪� ..‬أ�ستاذة التاريخ‬ ‫تُهزَ م من طالبة ال �صوت لها! �إنه هراء‪� ،‬س�أبد�أ‪..‬‬ ‫�س�أفت�ش التاريخ‪� ،‬س�أفكك الطال�سم‪� ،‬س�أرى من‬ ‫ينت�صر؛ �أنا �أم �أنت؟! �أعتقد �أنها فر�صة منا�سبة‬ ‫لترتيب �أوراقي من جديد‪ .‬منذ زمن لم �أ�ستمتع‬ ‫ب�صوت تمزيق الأوراق‪.‬‬

‫ِب��تُّ �أخ�شى النوم‪� ،‬أخ�شى التاريخ‪� ،‬أخ�شى‬ ‫ه���دوء‪ ..‬ال يعقل �أن �أب �ق��ى على ه��ذه ال�ح��ال‪،‬‬ ‫ غريبة �أنتِ يا �صديقتي‪� ..‬أت�ستمتعين ب�إراقة‬‫�أ�ستاذة التاريخ �أنا و�أخاف من حلم؟! �أخاف من‬ ‫دم الأوراق؟‬ ‫هدوءٍ ال �صوت فيه!‬ ‫�أتذكّر الآن ما دار بيني وبين انت�صار �صديقة‬ ‫ق��ررتُ �أن �أواجهها؛ �س�أبحث عنها‪� ،‬س�أقول‬ ‫لها �إنني ال �أخافها‪� ،‬س�أواجه فمها و�أنهي هذه الدرا�سة القديمة‪ ،‬لِمَ لَمْ �أعد �أمار�س هوايتي؟!‬ ‫الم�س�ألة ح��ال ر�ؤيتها! �سخافة‪� ..‬إنها �سخافة لِمَ تكدّ�ست الأوراق والملفّات والكتب ال�صفراء‬ ‫‪38‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫كتاب «تاريخ العرب قبل الإ��س�لام» هنا في‬ ‫�أ�سفل كومتي‪ ،‬لكنّ عيني التقطته �سريعاً‪ ،‬ثم‬ ‫بد�أت بال�صعود معه‪ ..‬تاريخ الخلفاء الرا�شدين‪..‬‬ ‫�أم� ��ويّ ‪ ،‬ع� ّب��ا��س��يّ ‪ ،‬ف��اط�م��يّ ‪ ،‬م�م�ل��وك��يّ ‪ ..‬تاريخ‬ ‫الأندل�س‪ ..‬وهنا �أ�سفل الكتاب م�سرحية «غروب‬ ‫غرناطة»‪� ،‬أذك��ر �أن انت�صار �أهدتني �إياها في‬ ‫عيد ميالدي الثالثين قبل ثالث �سنوات! فع ًال‬ ‫�إنني فو�ضوية كما كانت دائم ًا ت�صفني‪� ،‬س�ألتُها‬ ‫يومها‪« :‬لماذا هذه الم�سرحية دون غيرها؟»‪،‬‬ ‫ف�أجابت بابت�سامة‪« :‬كي ال تهزمك الثالثون‪..‬‬ ‫كي يبد�أ الإ�شراقُ ال الغروب»‪ .‬قلت لها مرار ًا �إني‬ ‫ال �أحبّ الفل�سفة‪.‬‬

‫��ش�ع��رتُ ب���س�ع��ادة ل��م �أت��ذوق �ه��ا م�ن��ذ زم��ن‪،‬‬ ‫ابت�سمت‪ ..‬تابعت العملية‪ ..‬علَتْ �ضحكاتي‪..‬‬ ‫انت�شيتُ ‪ ..‬طربتُ ‪ ...‬غنّيتُ ‪ ..‬امتدّت يدي �إلى‬ ‫الكومة الأخ��رى‪ ..‬اتخذتُ ق��رار ًا حا�سم ًا بعدم‬ ‫القراءة والفرز‪ ,‬لم يعد �شي ٌء ي�ستحق الت�أني‪،‬‬ ‫ل��م �أع��د مهتمّة بالعناوين ك��ذي قبل‪� ،‬س�أبد�أ‬ ‫المعركة‪� ..‬س�أقاتل يا انت�صار بال م�سرحية �أو‬ ‫قلم! �س�أرمي جثثي �ضحايا �أمامي بقب�ضة يد‪..‬‬ ‫لن يفلتوا مني‪� ..‬أنا البطلة الوحيدة هنا‪ ،‬ال �أحد‬ ‫غيري‪� ،‬س�أهزمك يا هدوء‪� ..‬أ�ستاذة التاريخ �أنا‪،‬‬ ‫فمَن �سيهزمني؟‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫كنت مت�أكدة �أنها �ستنطق وقتَها‪ ،‬بيد �أنها لم‬ ‫تفعل‪ ،‬لم ت�أتِ هدوء‪ ،‬ولم ي�ستطع �أحد �أن ي�أتي‬ ‫بها‪ .‬انتهى الف�صل‪ ،‬ولم �أ�سمع �صوت ًا لهدوء‪ ،‬بِتُّ‬ ‫�أحلم �أحالم ًا مزعجة‪ ..‬كابو�س ي�أتيني كل يوم‪،‬‬ ‫يطاردني‪ ،‬يحملق في وجهي‪� ..‬أ�صرخ و�أ�صرخ‪،‬‬ ‫ف�أ�صحو والعرَق يت�صبّب مني الهثةً‪.‬‬

‫بخوف‬ ‫ٍ‬ ‫حقا‪ ..‬ماذا �س�أقول لها؟ وكيف �ستراني‬ ‫�أفالطوني يقفز من عيني‪ .‬ال‪ ،‬لن �أراها‪� ،‬س�أبحث‬ ‫ع��ن ح��ل �آخ ��ر‪�� ..‬س��أق��اوم �صخب ًا ف��ي �أوراق �ه��ا‬ ‫المبعثرة على �سقفي‪� ،‬س�أتحدى‪ ..‬نعم‪ ..‬ولكنَّ‬ ‫تحديَّ لن يكون لهدوء‪ ،‬بل لتاريخي‪.‬‬

‫هنا في مكتبي؟! �أتتغير الهوايات بمرور الزمن‪ ،‬حياة فيها‪� ،‬أخرجت زفير ًا �أطول من �سابقه هذه‬ ‫�أم �إنني لم �أجد ما ي�ستحقّ الإتالف؟‬ ‫المرة‪.‬‬

‫مرت �ساعات‪ ،‬كل ما كنتُ �أعيه �أني انت�صرت‪،‬‬ ‫كنتُ الحاكمَ والقاتلَ في الوقت نف�سه‪ ،‬كنتُ‬ ‫عر�ش من ورق‪� ..‬أوراق �صفراء‬ ‫�أمير ًة �أ�سير على ٍ‬ ‫هنا من تاريخ قديم‪ ،‬و�أخرى ملوّنة ال فائدة منها‬ ‫الآن‪ ،‬وق�صا�صات لمحاوالت كتابة فا�شلة‪.‬‬

‫وهذه م�سرحية كتبتُها يوماً‪ ،‬كنتُ �أبحث عنها‬ ‫من �أجل م�سابقة في منتدى الأدب العربي‪ ،‬ليتني‬ ‫وجدتُها حينها‪ ،‬يبدو �أنّ التهام هذا الكتاب لها‬ ‫منعَها من الظهور‪ ،‬ال فائدة للمالمة الآن‪...‬‬ ‫الم�سابقة انتهت‪ ،‬و�أُعلنت النتائج‪ ،‬وما �أ�ضحكني‬ ‫في تلك الليلة نمتُ نوم ًا طويالً‪ ..‬نوما �صافيا‬ ‫�أن فرع الم�سرح حُ جب من الم�سابقة ب�سبب عدم‬ ‫من الأحالم والتما�سيح‪ ..‬نوما خاليا من الأوراق‬ ‫وجود م�شتركين‪.‬‬ ‫ومن هدوء‪.‬‬ ‫�أوراق كثيرة تحجب متابعة عناوين الكتب‪،‬‬ ‫ف��ي ف �� �ص��لٍ �آخ� ��ر ر�أي � ��تُ وج ��وه� � ًا ج��دي��دة‪،‬‬ ‫المف�ضلة‪� ،‬أرب��اع‬ ‫ّ‬ ‫عَ لَيّ �إذ ًا �أن �أب��د�أ بمو�سيقاي‬ ‫�سقطت‪� ..‬أث�ل�اث‪� ..‬أخ �م��ا���س‪ ..‬فر�شت �أر���ض تفحّ ْ�صتُها بت�أنٍّ ‪ ،‬حاو ْرتُها بتدبُّر‪ ،‬ربما لم تعلُ‬ ‫المكتب ببيا�ض وح��روف تتقطع‪ ،‬حا�صرتني الأ�صوات كما �أري��د‪ ،‬بيْدَ �أ ّن��ي حمدتُ اهلل �أنْ ال‬ ‫الأوراق‪ ،‬لم تخِ فْني �أبداً‪ ،‬ارتمت جث ًة هامدة ال هدوء بينها!‬ ‫ * قا�صة من الأردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪39 )2015‬‬


‫(ق�صة للأطفال)‬ ‫■ �إبراهيم �شيخ مغفوري*‬

‫�صقيع يلتهب‬ ‫‪ρρ‬مرمي احل�سن*‬

‫ظنتْه نهرا ي�سري‪ ..‬اقتربتْ منه‪ ..‬بلّلت �شفتيها الجافتين‪ ،‬ح�سبت �أنها �ست�صافح تلك‬ ‫القطرات التي تم�ضي بعيدا عنها‪ .‬لقد ا�ستطعمتها‪ ،‬غا�صت فيها‪ ‬وانتع�شت‪ ..‬عزفت مقطوعة‬ ‫�أثملتها‪� ..‬شدتها ذات عبور خاطف بومي�ض برق و�أفل مخلفا نورا �ساطعا �أغ�شى ب�صرها‪..‬‬ ‫امتطت �أحالمها الوردية‪� ،‬سارت معها‪� ‬إلى حيث تلك الجزيرة النائية التي �شيّدتها ذات‬ ‫غفوة‪ ..‬اعتلت بحبرها قمما ذات قيمة‪ ،‬قرعت الأجرا�س‪� ..‬أقبلوا �إليها من كل فج عميق‪،‬‬ ‫احتوتها قلوب نقية‪ ،‬بي�ضاء كالثلج؛ قر�أت عليهم ق�صة وفاء‪ ،‬وحكاية �إن�سان‪ ،‬و�ضربة �ألم في‬ ‫ال�صميم‪..‬‬ ‫خانتها قريحتها‪ ..‬تجاهلتها الروح‪ ..‬تحدثت‪ ،‬نادت‪� ،‬صرخت في الأعالي‪� :‬أيها ال�سادة‪..‬‬ ‫ا�سمعوا وع��وا‪�..‬إن��ه الطوفان ق��ادم‪ ..‬وه��ذه ر�سالتي �إليكم‪� ..‬إن �أخذتم بها نجوتم‪ ..‬و�إن‬ ‫تجاهلتموها رددتم على �أعقابكم نادمين‪.‬‬ ‫تردّد �صدى �صوتها‪ ،‬ارتطم بجدار �صلب وعاد �إليها حامال معه �شق�شقة ع�صافير‪ ،‬و�أريج‬ ‫الزهور يحمله الن�سيم‪ ..‬و�صمت مهيب‪ ..‬طوت �صفحتها‪ ،‬رحلت‪ ،‬تركت خلفها كنوز ًا ك�أنها‬ ‫جبال‪ ،‬تجاهلت الح�شد الزاخر الذي تلقّاها بالطبول والمزامير والأهازيج في حبور‪ ..‬كلما‬ ‫نادتها الذكرى للعودة‪ ‬لتحمي الثروة من ال�ضياع‪ ،‬وتخرج ما نحت في ال�صخر‪ ،‬وخبىء تحت‬ ‫الحجارة‪ ..‬ت�ضع �أ�صابعها في �أذنيها م�ستنكرة‪ ..‬يتلب�سها غرور وا�ستكبار‪ ..‬وت�ص ُّد مدْ بِرة‪..‬‬ ‫تغفو‪ ..‬تطوي بها ال�سنين‪ ،‬حين غفلة تتهدم ال�صروح!‬ ‫‪ ‬تتحلل في قوقعتها‪ ..‬ويحترق ال�صقيع‪..‬‬ ‫ * قا�صة من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫طمرير والإبل‬ ‫ما يزال في ريعان �شبابه ‪ -‬في الع�شرين من عمره‪ -‬ترك التعليم مبكرا‪ ،‬نال �شهادة‬ ‫المتو�سطة‪ ،‬الإبل هي �شغله ال�شاغل؛ فوالده يملك قطيعا منها‪.‬‬ ‫كبر �سن والده‪ ،‬فعجز عن مالحقة الإبل‪ ،‬باعها جميعها‪ ،‬حزن طمرير عليها‪ ،‬جل�س‬ ‫في البيت ال يخرج‪� .‬سمع �أن هناك منطقة في العالم تعي�ش فيها الإب��ل كحيوانات‬ ‫متوح�شة‪ ،‬وفي م�ساحات �شا�سعة غير م�أهولة بال�سكان‪ ،‬مطرها دائم طول العام‪ ،‬وتنبت‬ ‫فيها �شتى �أن��واع النباتات‪ ،‬ا�ستوطنتها الإب��ل‪ ،‬ترعى وت�شرب من دون ح�ساب‪ ،‬تكاثرت‬ ‫حتى غدت بالآالف‪ ،‬تخلّ�صت الحكومة من �أعداد كثيرة منها‪ ،‬وبقي الكثير الكثير‪.‬‬ ‫تمنّى لو �أنه ي�صل �إلى تلك المنطقة‪ ،‬و�أن‬ ‫يكون قرب تلك الإبل‪ ،‬كان تفكيره فيها ي�سيطر‬ ‫على مخيلته‪ ،‬ف�س�أل عن تلك المنطقة‪ ،‬وعرف‬ ‫عنها كل �شيء‪ .‬جل�س ذات م�ساء على كنبة‬ ‫في �صالة البيت قبل �أن يخلد �إلى نومه‪� ،‬شرد‬ ‫ذهنه �إلى تلك المنطقة و�إبلها التي تنتظر من‬ ‫يروّ�ضها ويملكها‪..‬‬

‫على نف�سه من الحيوانات المفتر�سة‪ ،‬بحث‬ ‫عن م�أوى �آمن‪ ،‬غربت ال�شم�س‪ ،‬تنادت الإبل‬ ‫ب�أ�صواتها المحببة له‪ ،‬تجمعت في مباركها‬ ‫المعتادة‪� ،‬آوى بقربها‪� ،‬أك��ل مما يحمله من‬ ‫طعام‪ ،‬و�شرب مما معه من ماء‪ ،‬نف�سه تتوق‬ ‫لحليب ال��خَ �ل�ف��ات‪ ،‬ق��ال ف��ي نف�سه‪� :‬سيكون‬ ‫ذلك‪ ..‬عندما �أقترب منها �أكثر‪.‬‬

‫�صحا مبكرا‪ ،‬اقترب من بكرة ير�ضع منها‬ ‫داهمه النوم‪ ،‬تخيل نف�سه �أن��ه و�صل �إلى‬ ‫هناك‪ ،‬ف��ر�أى المكان موح�شا‪ ،‬لي�س فيه �إال ابنها ال�صغير‪ ،‬فطردته �ش َّر طردة‪.‬‬ ‫الإبل‪ ،‬ف�أح�س بخوف ي�سري في ج�سده‪ ،‬راودته‬ ‫تنقّل بين �أكثر من ناقة‪ ،‬لم ترحب به �إال‬ ‫نف�سه العودة‪ ،‬م�شى قليال‪� ،‬سمع �أ�صوات �صغار ناقة كبيرة في ال�سن‪ ،‬م َّد يده �إل��ى �ضرعها‬ ‫الإب��ل تنادي �أمهاتها‪ ،‬والأمهات ترد عليها‪ ،‬وحلب منها‪ ،‬كم كانت فرحته عظيمة‪،‬عندما‬ ‫�ضجَّ المكان ب�أ�صواتها‪� ،‬أعجبه ذلك‪ ..‬وقف �شعر ب�أُن�سها و�أُلفتها‪ ..‬عقد �صداقة معها‪،‬‬ ‫في مكانه‪ ،‬دنت ال�شم�س من المغيب‪ ،‬خاف يبيت بجوارها وي�سرح معها‪ ،‬ي�أن�س بقربها‪،‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪41 )2015‬‬


‫‪42‬‬

‫ * قا�ص من ال�سعودية‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫امر�أة بال ج�سد‬ ‫■ د‪ .‬حممد نادي فرغلي حممد*‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫ي�شاطر ر�ضيعها الحليب؛ �أم��ا بقية الإب��ل فكانت حوله‪ ،‬وك�أنها تحر�سه‪� ،‬أ�صبح واحدا من مجتمعها؛‬ ‫تطرده �إذا �شاهدته‪ ،‬وك��ان يتوارى عن �أنظارها‪ ،‬ي�شرب من حليبها ويتداوى به مع �أبوالها‪.‬‬ ‫ويحتمي بالناقة الكبيرة ت��ارة �أو خلف الأ�شجار‬ ‫مرت عليه ع�شر �سنوات‪ ،‬حنَّ �إلى �أهله‪ ،‬فكر في‬ ‫الكثيفة تارة �أخ��رى‪ ..‬كان يقترب من الناقة التي طريقة يحمل معها ما ي�ستطيع من الإبل‪ ،‬يعود بها‬ ‫ت�صاحب ناقته‪� ،‬إذا �سمحت له مرة بحلبها‪ ،‬وما �إليهم‪ ،‬مكث مدة يفكر‪ ،‬لم يجد طريقة لنقلها �إال‬ ‫يزال بها حتى تتعود عليه‪ ،‬اعتمد على هذا الأ�سلوب �شحنها في �سفينة‪ .‬وقف المال دون تحقيق م�أربه‪،‬‬ ‫حتى تجمع حوله الكثير من الإب��ل الحالبة‪ ،‬هدد ففكر م��رة �أخ��رى‪ ،‬اهتدى �إل��ى بيع بع�ضها‪ ،‬لكنه‬ ‫حياته بالخطر بع�ض فحول الإبل المتوح�شة‪ ،‬فكان يحبها جميعها وال ي�ستطيع اال�ستغناء عن �أيٍّ منها‪،‬‬ ‫يحتمي منها بارتقاء الأ�شجار‪� ،‬أو االحتماء بناقته فكر م��رة �أخ��رى‪..‬خ��اط��ب حكومة البلد‪ ،‬در�ست‬ ‫الكبيرة �أو بع�ض النياق الأليفة‪ ،‬عرف �أن هناك الحكومة طلبه‪ ،‬علمت �أنه ا�ست�أن�س الإبل المتوح�شة‬ ‫مجموعة من ال�ضباع والثعالب وبنات �آوى ت�شارك فقررت ال�سماح له بالإقامة على �أرا�ضيها‪� ،‬صرفت‬ ‫الإبل عي�شها على هذه الأر�ض‪ ،‬ر�آها بنف�سه ت�سرح له مكاف�أة‪ ،‬فهو رجل �شجاع �أراحهم من خطر كان‬ ‫في المكان‪� ،‬أخذ حيطته وحذره من ال�ضباع‪� ،‬أ�صبح يهدد دولتهم من الإبل المتوح�شة‪ ،‬زاره ال�صحفي‬ ‫له مجموعة طيبة من الإبل‪ ،‬ي�صاحبها ويخالطها الذي كتب عنه‪ ،‬قابله في قناة ف�ضائية‪ ،‬ر�آه �أقاربه‪،‬‬ ‫ليل نهار‪ .‬ن�سي الأكل �إال �شُ رْب حليب الإبل‪� ،‬أ�صبح عرفوا مكانه‪ ،‬زارت��ه مجموعة منهم‪ ،‬ن�سق معهم‬ ‫م��ع م��رور ال��وق��ت يملك الع�شرات م��ن الإب��ل التي وحمل بع�ض الإبل �إلى بالده‪ ،‬و�صلت �أول دفعة منها‪،‬‬ ‫تجمّعت حوله وتعوّدت عليه‪� .‬أ�صبح ك�أنه مالكها منذ وتتابعت الدفعات حتى و�صل عدد �إبله مع �أقاربه في‬ ‫ب�لاده �أكثر من مائة ناقة‪ ،‬ما ي��زال هو في مكانه‬ ‫زمن بعيد‪.‬‬ ‫يجمع الإب��ل حوله وي�ست�أن�سها‪ ،‬تتزايد �أعدادها‪،‬‬ ‫�شاهده �أح��د ال�صحافيين‪ ،‬تتّبعه حتى عرف‬ ‫�سمع عنه النا�س؛ فت�سابقوا لل�شراء منه؛ �أ�صبح ذا‬ ‫خبره‪ ،‬كتب عنه عناوين بارزة‪ ،‬رجل من ال�صحراء‬ ‫مال‪ ،‬نقل ما بقي معه �إلى بالده‪ ،‬لم يبق من الإبل‬ ‫فعل الذي لم تفعله حكومة‪ ،‬غامر بحياته‪ ،‬اقترب‬ ‫المتوح�شة في تلك البالد �إال �أعدادا قليلة متناثرة‬ ‫من الإبل المتوح�شة‪ ،‬عا�ش معها‪ ،‬ا�ست�أن�سها‪� ،‬أحبها‬ ‫هنا وهناك‪ ،‬ال تمثل خطرا على الدولة كما كانت‪.‬‬ ‫و�أحبته‪� ،‬أ�صبح ال ي�ستغني عنها و�أ�صبحت ال ت�ستغني‬ ‫وعلى �صوت �أذان الفجر‪� ،‬صحا من نومه‪ ،‬ووجد‬ ‫عنه‪ ،‬جاءها فقير معدم ال يملك �شيئا‪ ،‬و�أ�صبح من‬ ‫الأغنياء‪ ،‬يملك الكثير من الإبل دون ثمن‪ ،‬تطيعه نف�سه وحيدا ال نا�س حوله وال �إبل‪..‬‬ ‫ب�إخال�ص كالملك العادل في رعيته‪ ،‬بنى بيتا �صغيرا‬ ‫حزن حزنا �شديدا‪� ،‬أين تلك الأعداد الهائلة من‬ ‫من الخ�شب‪ ،‬و�أ�صبحت الإبل تبيت بجواره‪ ،‬تخرج الإبل‪� ،‬أين ملكه الكبير الذي اختفى في طرفة عين‪،‬‬ ‫في ال�صباح �إلى مرعاها‪ ،‬وتعود في الم�ساء تتحلق ليته ظل نائما كي ال يخ�سر الإبل و�صحبتها‪.‬‬

‫لم �أك��ره �شيئًا مثلما كرهت ج�سدي‪ ،‬قريباتي و�صديقاتي ينلن ا�ستح�سان الأه��ل‬ ‫والأق��ارب؛ �أما �أنا ف�شكلي مرفو�ض‪ ،‬و�صوتي منبوذ‪ ،‬و�ضحكتي م�ستهجنة؛ �أما ج�سدي‬ ‫فكان مثار �سخرية كل من ر�آني‪ ،‬فقد كان �صغيرًا جدا مقارنة ب�صاحباتي‪.‬‬ ‫اقترب ي��و ُم العيد‪� ،‬أجل�س مع البنات ُن َمنّي النف�س‪ ،‬وتحكي كل واح��دة ما يراودها‬ ‫من �أح�لام‪ .‬جاء دوري في الحديث‪� ،‬سكت الجميع لي�سمعوا حلمي‪ ،‬الذي كان �ضئيال‬ ‫كج�سدي؛ فقد كنت �أحلم ب�أن ي�صطحبني �أهلي �صبيحة يوم العيد في رحلة الجبل‪.‬‬ ‫يجتمع �أهالي القرى عند الجبل‪ ،‬ي��ب��د�أون بقراءة الفاتحة على الموتى‪ ،‬ثم يبد أ�‬ ‫االحتفال‪.‬حُ ليٌّ ولُعب وب�ضائع؛ المكان يت�سع للجميع‪ .‬يبد�أ النا�س في ركوب ال�سيارات‬ ‫وال��دواب فجر يوم العيد؛ �أما �أنا و�صويحباتي فقد تجهزنا من م�ساء ليلة العيد‪ ،‬لم‬ ‫يغم�ض جفني‪ ،‬وظل قلبي يرتجف طوال الليل‪ ،‬وكلما غم�ضت عيناي ر�أيت �أنهم ذهبوا‬ ‫وتركوني وحدي؛ ف�أفيق ب�سرعة لأجد الجميع ينامون حولي‪ ...‬و�أخيرا �صوت الأذان‪،‬‬ ‫والتكبيرات في كل مكان‪ ،‬قمت منتف�ضة‪ ،‬ارتديت ثوبي‪ ،‬ووقفت في و�سط البنات؛ لأ�شعر‬ ‫بوجودي ومكاني بينهن‪ ،‬خرجنا من البيت؛ لت�ستقلنا ال�سيارات من �أمام جامع القرية‪،‬‬ ‫ركبت البنات الالئي كنَّ �أمامي‪ ،‬وما �إن و�صلتُ �إل��ى ال�سيارة‪ ،‬ورفعت رجلي �إل��ى بابها‬ ‫حتى �صرخ �أحدهم‪ :‬حتى �أنتِ يا عقلة الأ�صبع‪ ،‬ارجعي وابقِ في البيت‪ ،‬دفعني مَن كان‬ ‫بجوار الباب ب�شدة‪ ،‬ت�شبثت بالباب بكل عزيمة و�أمل في �أن يختفي ج�سدي ال�صغير داخل‬ ‫ال�سيارة‪� ،‬إال �أن ق��واي خ��ارت �أم��ام دفعته‪ ،‬فلم �أ�شعر ب�شيء‪ ،‬وغبت عن الدنيا‪ ،‬ولم �أفق‬ ‫من غيبوبتي �إال ب�صوت �ضحكات �صاحباتي‪ ،‬وهن ينظرن من �شبابيك ال�سيارة بعد �أن‬ ‫تحركت بهن‪ ،‬نزلت دموعي بغزارة‪ ..‬يقف �أبي �أمامي‪ ،‬انتظرت منه �شيئًا ال �أعرفه‪ ،‬لكنه‬ ‫لم يفعله‪� ،‬أخرج جنيها من جيبه‪ ،‬وو�ضعه في يدي‪ ،‬نظر �إليَّ ب�إ�شفاق‪ ،‬انتظرت منه كلمة‪،‬‬ ‫لكنها لم تخرج �أب��دًا‪� ،‬شعرت �أن جبال يجثم فوق �صدري ال�صغير‪ ،‬رغم جفاف حلقي‪..‬‬ ‫�إال �أن دموعي بللت خدّيَّ ‪ ،‬عُدت �إلى البيت والكلمات ت�أبى �أن تخرج‪ ،‬قررت �أن تبقى معي‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪43 )2015‬‬


‫ما �إن علمت زوج��ة �أخ��ي و�أوالده��ا بجنيهي‬ ‫حتى اتهمتني بالبخل والحر�ص‪ ،‬وكالت على‬ ‫�أوالده��ا اللعنات؛ لأنهم �صرفوا كل مليم على‬ ‫الحلوى واللعب‪ ،‬لم تكن اللعبة حلمي‪ ،‬بل كنت‬ ‫�أحلم بالذهاب �إلى الجبل‪.‬‬

‫دارت بي الدنيا‪ ،‬لأجد نف�سي في ركن بعيد‬ ‫بالبيت‪ ،‬خ��ي��وط ال�شم�س تن�سدل ثقيلة على‬ ‫�أطراف ثوبي‪ ،‬تل�سعني وتوخزني ب�شدة‪� ،‬إال �إنني‬ ‫غير قادرة على الحراك؛ لم يكن ذلك �أثقل علي‬ ‫من نظرات عتاب �أمي‪ ،‬والتي لم ي�صمد ج�سدي‬ ‫�أمامها؛ فاخترقته و�سكنت قلبه‪� ،‬أ�سمع دقات‬ ‫قلبي‪ ،‬بينما �شفتاي مغلقتان ب�إحكام؛ ليبقى‬ ‫ل�ساني م�سجونا بين فكيّ ‪ .‬ينب�ض قلبي ب�سرعة‪،‬‬ ‫ثم يعود ل�صمت قاتل‪� ،‬أ�ضع يدي فوق �صدري‪،‬‬ ‫�أبحث عن دقة تعيدني �إلى الحياة‪ ،‬ولكنها تغيب‬ ‫طويال؛ لتعود فيقفز قلبي محاوال �أن يتحرر من‬ ‫ج�سد حب�سه عمرا طويال‪.‬‬

‫فرحة كبيرة تملكتني‪ ،‬كاد ج�سدي ال�ضئيل‬ ‫�أال يتحملها يوم �سمعتُ �أمي وجاراتها يت�سامرن‪:‬‬ ‫قريبا �ستكبر عقلة الأ�صبع‪ ،‬ويفور ج�سدها؛ فقد‬ ‫و�صلت �إلى �سن الرابعة ع�شرة‪ ،‬لم �أدرك معنى‬ ‫ذلك‪� ،‬إال �أنني ع�شت �سعادة ظلت معي وحدي في‬ ‫انتظار حلم ربما ي�أتي قريبا‪.‬‬ ‫جاء يوم لم �أتخيل لحظة �أن��ه �سي�أتي‪ ،‬فقد‬ ‫هم�ست زوجة �أخي في �أذني‪� :‬سي�أتي �أهل العري�س‬ ‫قريبا لر�ؤيتك‪ .‬اخترقت الكلمات قلبي‪ ،‬يا اهلل‪،‬‬ ‫ما هذا الذي تقولين؟!‬ ‫تغمرني فرحة وتملأ كياني‪ ،‬وانطلقت من‬ ‫�ساعتها �أعد نف�سي لهذا اليوم‪ ،‬و�شعرت �أنني لم‬ ‫�أكره زوجة �أخي من قبل‪ ،‬بل �أحبها من كل قلبي‪.‬‬ ‫يوم الخمي�س هو اليوم المرتقب الذي �سي�أتي‬ ‫فيه قريبات العري�س لر�ؤيتي‪ ،‬مرت خم�س دقائق‬ ‫وانتهى كل �شيء‪ ،‬خرجت ال�ضيفات بتعليق واحد‬ ‫لم �أ�سمعه‪ ،‬وعدة غمزات‪� ،‬أردت �أال �أعرف ماذا‬ ‫ج��رى‪ ،‬ب��ل �أردت �أن �أعي�ش ول��و خم�س دقائق‬ ‫ * قا�ص من م�صر‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ما ذنب روحي لتبقى في ج�سد �ضئيل‪ ،‬كرهها‬ ‫كل من حولها لأج�ل��ه‪� .‬أغم�ضت عينيَّ لتهرب‬ ‫روحي دون �أن �أراها‪� ،‬إال �أنني ر�أيت �شريطا من‬ ‫المواقف وال�صور التي �أخفيتها في �أبعد ركن في‬ ‫ذاكرتي‪ .‬توقفت ال�صور فج�أة لأجد نف�سي في‬ ‫ليلة العيد‪� ،‬صرخت ب�شدة‪ ،‬فقد �أردت �أن �أذهب‬ ‫�إل��ى الجبل وح ��دي‪ ،‬لتقف البنات متفرجات‬ ‫من بعيد‪ ،‬يح�سدنني‪ ،‬بينما �أنفخ �صدري فخرًا‬ ‫بانت�صاري الأول‪�� ،‬س��أذه��ب وح ��دي دون �أن‬ ‫يمنعني �أحد‪ ،‬فمقابر �أ�سرتي هناك عند الجبل‪،‬‬ ‫�سبقتني روحي‪� ،‬أما ج�سدي الذي احتقره النا�س‬ ‫فقد حملوه على الأعناق؛ ليلحق بروحي هناك‪...‬‬

‫ق�������������������ص�������������������ص ق�����������������ص����ي���رة‬

‫م َّر النهار‪ ،‬وعاد النا�س من رحلتهم‪ ،‬تحمل‬ ‫�صاحباتي اللعب والحلوى‪� ،‬أم��ا �أن��ا فلم �أحمل‬ ‫في يدي �إال جنيه �أبي‪ ،‬جنيه ربما ي�شتري �أكثر‬ ‫من لعبة‪� ،‬إال �أنني لم �أرد اللعبة‪ ،‬فقد فقدت كل‬ ‫�شهي ٍة للعب‪.‬‬

‫�أخرى‪ ،‬دون �أن يوقظني �أحد من حلمي‪� ،‬إال �أن‬ ‫زوج��ة �أخ��ي ع��ادت لتمار�س هوايتها القديمة‪،‬‬ ‫وتحرمني م��ن �شيء تمنيته‪ ،‬ح��اول��ت �إم�ساك‬ ‫حلمي‪� ،‬إال �أنه هرب من �صوتها‪ ،‬والذي اهتزت له‬ ‫حيطان البيت‪ :‬ال�شبر ون�ص باقية معنا للأبد!!‬

‫ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا‬ ‫■ ح�سن علي البطران*‬

‫(‪ )1‬تلّون رداء‬

‫(‪� )3‬إق�صاء‬

‫�أث� ��ار ب�ف���ض��ول��ه ال� �م ��ارة ف��ي ال�ط��ري��ق‬ ‫رق�صت ف ��أج��ادت‪ ..‬وُزع ��ت الجوائز‪،‬‬ ‫الدائري‪ ..‬غ�ضب منه النا�س‪ ..‬اختب أ� تحت فحرموها من الو�سام‪ ،‬بحجة حجابها!‬ ‫عباءته وابتعد عن الأماكن الم�شم�سة‪..‬‬ ‫(‪ )4‬قراءة‬ ‫قبيل الفجر ي�صلي في الم�سجد البعيد‬ ‫قر�أت القر�آن‪ ،‬وقالت‪ :‬ربي اهلل‪.‬‬ ‫عن منزله!‬ ‫�سار خلفها الكثيرون ممن ال يجدون‬ ‫(‪ )2‬بخور‬ ‫قوت يومهم‪..‬‬ ‫�أ�صابه(دوار)‪..‬‬ ‫كثرت ال�صالة‪ ،‬وبد�أت الوجوه تبي�ض‪!..‬‬ ‫ح��رق��وا البخور ظ�ن� ًا منهم �أن��ه يطرد‬ ‫(‪ )5‬جزء من حياة‬ ‫ال�شياطين‪.‬‬ ‫البرد قار�س‪� ..‬أطرافها ترتجف‪.‬‬ ‫بعد �أن حرقوا البخور وطار في الهواء‬ ‫ج�سمه م�صدر الدفء لها‪ ..‬تفقده في‬ ‫ي �ع �ط��ره ت �ج � ّم��ع ال �ج��ن‪ ،‬ف��ي ح��ال��ة ط��رب‬ ‫تلك الليلة‪ ..‬تتذكر �أنه نام جائعاً‪.‬‬ ‫ومجون‪!..‬‬ ‫ * قا�ص من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪45 )2015‬‬


‫■ ح�سام الدين فكري*‬

‫كان هو في الطريق ال�صاعد‪ ،‬وكانت هي في طريق الهبوط‪..‬‬

‫قراءة في �أ�ضابير العالم‬

‫كان نجمه �ساطعاً‪ ،‬وكان نجمها ي�أفل‪.‬‬ ‫قبل ع�شرين عاماً عرفها‪ .‬يومها لم يكن �شيئاً مذكوراً‪ .‬لعبت بف�ؤاده ومنحته �أمل الحياة‪ .‬ثم‬ ‫ارتمت في �أح�ضان �أول دفتر بنكنوت!‬ ‫ل��م يجد �شيئ ًا ي�ق��ال‪ .‬نازعته رغ�ب��ة �سادية في‬ ‫ودارت الأي ��ام دورت �ه��ا‪ .‬ث�لاث م��رات تخفق في‬ ‫الإن�ج��اب‪ .‬زهدها الثري ف�ألقاها وراء ظهره‪ .‬راح االنتقام‪� .‬سيقول لها �إن��ه �صار «ف��وق» وهي «تحت»‪.‬‬ ‫يجدد �شبابه مع ال�صغيرات!‬ ‫ولكنها تعلم بالطبع‪� .‬صوره تملأ ال�صحف والمجالت‪،‬‬ ‫�أما هو فانت�شلته معجزة من القاع‪ .‬ارتقت به �إلى ووجهه معروف على الف�ضائيات!‬ ‫عنان ال�سماء‪� .‬صار علم ًا في مجاله ي�شار له بالبنان‪.‬‬ ‫تذَّكر بيت ًا رائع ًا للعبقري «طاغور»‪ « :‬ما كان حزن ًا‬ ‫حق ًا حفرت التجاعيد ب�صمتها على وجهه‪ ،‬ولكن ذات يوم‪� ...‬أ�صبح اليوم �سالماً»‪ .‬فلم يزد على قوله‪:‬‬ ‫التجاعيد �أك�ل��ت وجهها ه��ي! خطوط ال��زم��ن تزيد‬ ‫ �إذاً‪�..‬أراكِ على خير‬‫الرجال وقاراً‪ ،‬لكنها تقتل الن�ساء!‬ ‫�أوم�أت بر�أ�سها وهي تغمغم مثله‪ .‬ذهب في طريقه‬ ‫التقيا في منت�صف الطريق‪ .‬وجد قلبه يخفق رغم ًا وراحت في طريقها‪� .‬سار بخطوات بطيئة تع�صف به‬ ‫عنه‪.‬لم تكن كخفقات قلبه الأخ�ضر القديم‪ .‬كانت الذكريات‪ ..‬فج�أة احتلت ر�أ�سه فكرة واح��دة‪« .‬هذه‬ ‫دفقة مفاجئة من ذاكرة ا�ستعادت ن�شاطها‪.‬‬ ‫المر�أة �صنعتني‪..‬لوال �أنها تركتني ما كنت �شيئاً»‪.‬‬ ‫حيَّته بابت�سامة واهنة‪:‬‬ ‫انطلق يعدو �إليها بنب�ضات الهثة‪ .‬ق�دَّم لها الكارت‬ ‫الخا�ص به‪:‬‬ ‫ كيف حالك؟‬‫ لو �أردت �شيئاً‪ ,‬التترددي‪ ..‬ات�صلي بي!‬‫ الحمد هلل‪ ..‬في �أح�سن حال‬‫‪� -‬أنا‪� ..‬أنا �أي�ضاً‪� ..‬أعي�ش جيد ًا‬

‫�شكرته بكلمات مقت�ضبة وهي تتعثر في خجلها‪.‬‬

‫عاد بخطى وا�سعة �إلى �سيارته‪ .‬لم تكن ابت�سامته‬ ‫ك��ان��ت ت�ك��ذب ب�لاري��ب‪� ..‬أو ب��الأح��رى «تتجمل»!‬ ‫وجهها ال�شاحب ينبئ بحالها‪� .‬أناقتها الغائبة ت�شي �أقل ات�ساعاً‪ .‬كان انفعا ًال غريب ًا يحركه‪ .‬هبطت �سحابة‬ ‫بالحقيقة‪.‬‬ ‫لطيفة على قلبه‪ .‬لقد انت�صر على نف�سه من جديد!‬ ‫ * قا�ص من م�صر‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪�ρρ‬سليمان عبدالعزيز العتيق*‬

‫‪1‬‬ ‫مر طف ٌل من هنا‪ ،‬ي�ضحكُ لل�شم�س‪..‬‬ ‫وناغا ُه القم ْر‬ ‫بين جنبيه ابت�ساماتُ الر�ضا‪..‬‬ ‫أكدا�س زه ْر‬ ‫وعلى الكفَّين‪ُ � ،‬‬ ‫يحملُ الآمالَ للأطفال والأجيال‪..‬‬ ‫وعلى جبهته‪ ،‬رفتْ برو ٌق ومط ْر‬ ‫مر ال يثقله الهمُ ‪..‬‬ ‫وال تبكيه �أ�شتاتُ العَـنا‬ ‫فر�أى الطفلُ �سياجاً‪ ،‬من ورودٍ وثمر‬ ‫وطيور ًا �شربت حباً‪ ،‬و�أ�شجاها الغِـنا‬ ‫وتـُناجيها ابتهاجاتُ ال�صباحاتِ ‪..‬‬ ‫ب�أح�ضان ال�شج ْر‬ ‫مر ثم اجتاز �أبواب الر�ضا‬ ‫فبكى‪ ،‬عند جراحات الب�ش ْر‬ ‫انك�سارات‬ ‫ٍ‬ ‫�شهد الطفلُ‬ ‫ك�أ�ضرا�س الحجر‬ ‫وبكا ًء وارتهاناتِ كد ْر‬ ‫كلما �أثقل ُه الهمُ و�أ�ضنا ُه ال�ضج ْر‬ ‫وتماها كي يريقَ الحزنَ من �أ�شجان ِه‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫انت�صار‬

‫�أ�سْ ـرَجتْ �إدالجَ ها عينُ ال�سه ْر‬ ‫طاف هذا الطفلُ في كل المدائنْ‬ ‫يحمل الآمال‪ ..‬ي�ستجدي‬ ‫مقاماتِ العُـال‬ ‫النا�س ب�أ�صفاد ال�صراعات‬ ‫فر�أى َ‬ ‫رهائنْ‬ ‫ور�أى في ال�ساحة الحمرا‬ ‫و�ضغائنْ‬ ‫دما ًء وبكا ًء وهِ ـياج َا َ‬ ‫كان (لينينُ ) الم�سجى‪..‬‬ ‫واقف َا في ال�ساحة الحمرا ِء مكلومَ الف�ؤا ْد‬ ‫النا�س وفي العينين دم ٌع و�سُ ها ْد‬ ‫َ‬ ‫يخطبُ‬ ‫يحملُ المطرقة َالحمرا وفي يُـ�سرا ُه ك� ٌأ�س‬ ‫من رما ْد‬ ‫ك��م ��ش��رب��تِ م��ن دم��اء ال�ن��ا���س‪ ،‬ي��ا �أيـتـُها‬ ‫أر�ض البوارْ؟!‬ ‫ال ُ‬ ‫�أي��ن ذاك ال��دم ُ‪ ..‬ذاك الحلمُ ‪ ،‬يا �أق�سى‬ ‫الديار؟!‬ ‫كان ُبـ�ؤ�س َا كان وهماَ‪ ،‬كان كفر َا وعنا ْد‬ ‫ك��ان جُ ��رح �اَ‪� ،‬أف��رزت�� ُه حُ �ق��بُ الطغيان ِ ‪،‬‬ ‫والأحقا ِد والأ�صفا ْد‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪47 )2015‬‬


‫‪3‬‬ ‫�أين (لي بو)‪� ..‬شاع ُر الحب الذي كان يُغني‪..‬‬ ‫ع�ش َر �آالف ق�صيد ْة‬ ‫يملأ ال�صينَ ‪ ،‬ابتهاج ًا وطربْ‬ ‫في ال�سُ هوب الخ�ضر‬ ‫في ظالل الخوخ وال�صف�صاف‬ ‫والما ُء جرى مثل اليـَ�شـَبْ‬ ‫يتلوى بين زهرٍ وعُ ـ�شـُب‬ ‫ويغني لمروج الأقحوان‬ ‫وعناقيد العـِنب‪:‬‬ ‫�أيتها الريحُ التي مرتْ على �أحبابنا‬ ‫‪48‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫‪4‬‬ ‫ر�صيف العابرين‬ ‫َ‬ ‫قرع الطفلُ بخفيه‪،‬‬ ‫وم�شى ثم م�شى‪ ،‬نحو مغيب ال�شم�س‬ ‫قاده تي ُه المفازات‪ ،‬لعـُتـْمـَات الأنين‬ ‫يحملُ الدَ هْ ـ�شة والرَعْ ـ�شة‪َ..‬في لحن الجنوب‬ ‫ويُغني لم�سارات ال�شعوب‬ ‫فاج�أته‪ ،‬ريحة ُالبارو ِد �سودا َء‬ ‫و�ضجاتُ الجنو ْد‬ ‫وبـُكائياتُ �أطفال ِالهنو ْد‬ ‫حينها باغته‪ ،‬دم ٌع على الخد انـْحد ْر‬ ‫ربطوا الخيلَ ب�أذناب البق ْر‬ ‫وم�ضوا‪ ..‬ت�سفعهم ريحُ التعالي والرعونة ْ‬ ‫يزرعون ال�شجر المر‪ ،‬ويقتاتـُون بغي ًا وعُ ـفـُونة ْ‬ ‫�أوقدوا النا َر ب�أكواخ الهنو ِد الحمر‬ ‫�شعب يقـتلونه‬ ‫رق�صوا في ظلمة الليل‪ ،‬على �آالم ٍ‬ ‫طبخوا الأج�سا َد في نهرٍ جرى في هِ يْـرُو�شِ ـيما‬ ‫وا�ستباحوا حرمة َالإن�سان‪ ،‬في كل ال�صو ْر‬ ‫ي�ستحمُ (الفوهرر)‪ ،‬بنهر ال�سين‪...‬‬ ‫وال�سينُ لهيبٌ ودمو ٌع وبكا ْء‬ ‫ثم ي�ستلقي يغني‪ ،‬ب�سرير الكبريا ْء‬ ‫باري�س‪ ..‬رجي ُع الغثيانْ‬ ‫عندما يجتاح َ‬ ‫عندما ينتظر الموتُ ‪ ..‬مُريبا وغريب ًا‬ ‫كان(كامو)‪ ،‬في الجزائر‬ ‫يلعقُ الطاعونَ ‪ ،‬في �أ�سواق قِـ�سْ طِ ـيْن َووهرانْ‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫‪2‬‬ ‫�سمع الطفلُ هياج َا في �سماء ال�صينْ‬ ‫(ماوت�سي تنقْ )‪...‬‬ ‫يرتدي بدلتـَه الزرقا‬ ‫ينادي بالمريدين‬ ‫يلعبُ النر َد مع ال�صبية‪ ،‬في مقهى �شِ ـنـْغـَهاي‬ ‫الحر�س الأحم َر في �ساحات بكين‬ ‫َ‬ ‫ويقو ُد‬ ‫وال�شبابُ الحمر‪..‬‬ ‫يلقون تعاليمَ كونـْفـُو�شـْيـُ�س‪ ،‬في مياه البحر‬ ‫�سيف المق�صلة ْ‬ ‫وي�سوقون الوت�سُ و‪ ،‬نحو ِ‬ ‫ويرون حكمة َال�صين‪ ،‬ومجد َا قد بنـَتـْ ُه‬ ‫عب َر �آالف ال�سنين‬ ‫عفنَ الما�ضي‪ ،‬وجذ َر المع�ضلة ْ‬ ‫يعقدون حِ لق الرق�ص‪ ،‬على �أ�شالء تـِنـ ّين‬ ‫ال�شم�س حمرا َء تـَبـَدَ تْ ل�شعوب ِالأر�ض‬ ‫َ‬ ‫ويرون‬ ‫من مفرق ماو‬ ‫و�سِ اللَ الخُ �صبِ ‪ ،‬نهر ًا في اليدينْ‬

‫املئي الوجدان‪ ...‬ع�شق َا وغنا ْء‬ ‫وخـُذيني‪ ،‬من ك�آبات الليالي‪..‬‬ ‫ومقا�ساة العنا ْء‬ ‫وام�سحي عن جبهتي‪ ..‬هذا التعبْ‬

‫ال�سيف الذي‬ ‫َ‬ ‫كان فرناندو يحملُ‬ ‫قمرٌ‪ ..‬هدْ هـَدَ ُه الوج ُد على وديان �سينا‬ ‫يقط ُر كُـفر ًا ودماء‬ ‫تكت�ض ب�أ�شواق الحنين‬ ‫والرمالُ العفرُ‪ُ ،‬‬ ‫قط َع الحبلَ الذي يو�صلُ مابين �شهو ِد الأر�ض‪ ...‬وبتذكار التـَجلي‬ ‫أبواب ال�سما ْء‬ ‫و� ِ‬ ‫وبنار الم�صطلينْ‬ ‫�سيرة ٌ�أورثها الأبا ُء للأبناء‬ ‫وحما ٌم طار من �أروق ِة القد�س‪ ..‬مَ هـِي�ض ًا‬ ‫�إنهم فيها �سواء ب�سوا ْء‬ ‫بين جاكرتا وطنجة ْ‬ ‫غاية ُ ال�ل��ذات في محْ ـفـَلِهم‪� ،‬أن ي�شربوا نخبَ ي�س�ألُ النهرينَ ‪ ،‬عن �أر�ض ال�سوا ْد‬ ‫التعالي‬ ‫وعن الفجر الذي يحجـُبُه الليلُ‬ ‫�أن يديروا �شهوة َالمكر‪ ،‬و�أن ي�ستعبدوا كلَ الب�شر وتق�صيه ارتهاناتُ البال ْد‬ ‫�شرحُ وا‪ ،‬واجْ ـتـَرَحُ وا‪ ،‬وب�أ�شالء ال�ضحايا فـَرِ حُ وا والفراتُ العذبُ ‪ ،‬يجري قاني ًا‬ ‫و�أداروا بينهم‪� ،‬أنخابَ ليلٍ ُمعْـتـَكِ ـ ْر‬ ‫بعبيط الدم‬ ‫�آه (لوركا)‪...‬كم تـَغنيتَ لمجد ال�ضعفا ْء‬ ‫والع�صافي ُر �أبـَتْ �أن تتغـنـ ّى‬ ‫ولخبز الفقرا ْء‬ ‫ونخي ٌل وقفتْ مثلَ �شيوخ‬ ‫ولآالم الغج ْر‬ ‫�صدعتهم حادثاتُ الدهرِ‬ ‫حتف الأنف‪ ،‬في غرناطا‬ ‫مُتَ َ‬ ‫والإع�صارُ‪ ،‬نخـ ٌل يتـثـنـ ّى‬ ‫وينعاك القم ْر‬ ‫�أيها الليلُ الذي‪ ..‬قد �أُ�سْ رِ جتْ‬ ‫ترك�ض بالتيه‪ ،‬وتقتاتُ غبا َر العا�صفة ْ‬ ‫خي ُلهُ‪ُ ،‬‬ ‫‪5‬‬ ‫وتنادي ال�شامَ ‪ ،‬وال�شامُ جـِرا ٌح راعفة ْ‬ ‫كان لي ًال حالكاً‪ ...‬يثقـِ ُل ُه النومُ‬ ‫ال�شم�س‬ ‫َ‬ ‫�أطفـَئوا‬ ‫وكان الليلُ‪ ..‬غو ًال يتـَعَ�سْ ع َْ�س‬ ‫ولكنْ بيقيني‪ ..‬وب�إ�شراقات �صبري‪ ،‬ون�ضالي‬ ‫�أ�شرقتْ في الغار اقر�أ‪..‬‬ ‫والأماني الواقفة ْ‬ ‫فتـدلى الروحُ ‪� ،‬إلى قلب محمد‬ ‫عانقَ الطفلُ خيوط الفجر‪...‬‬ ‫قاب قو�سين و�أدنى‬ ‫�صلى ركعتين‬ ‫َف�س)‬ ‫فـ (�إذا ال�صبحُ تـَنـ ْ‬ ‫ف�إذا الآفاق نورٌ‪ ،‬فُتحتْ ‪ ..‬مابين �أر�ض ٍو�سما ْء ثم نادى‪ :‬يا �شعوبَ الأر�ض‪ ..‬يا كلَ ال�شعوب‬ ‫�إنه الفج ُر الذي البدَ �أن ي�أتي‪ ..‬و�إن طالَ ال�سف ْر‬ ‫و�إذا الطفلُ تملـ ّى‪� ،‬سورة َالإخال�ص‬ ‫فوق غيمٍ ‪� ،‬سحَّ مجداً‪� ،‬سحَّ نوراً‪ ،‬وانعتاق ًا ومطرْ‪.‬‬ ‫وعهدَ الأنبيا ْء‬ ‫ * �شاعر من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪49 )2015‬‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫نب�ضات‬

‫�أمي‬ ‫‪ρρ‬مالك اخلالدي*‬

‫ر�سول اهلل (�صلى اهلل عليه و�سلم)‬

‫�أمّ ���������������������������ي‪ ..‬وي���������ؤل��������م��������ن��������ي اب���������ت���������ع���������ادي وال�������������س������ف������ ْر‬ ‫و دم��������������������و ُع ع������ي������ن������ي �أغ������������رق������������ت ن������ب�������������ض ال������م������ط������ ْر‬ ‫ل�����������ك�����������ن ع����������������زائ����������������ي �أن ط�����������ي�����������ف�����������كِ ه�������اه�������ن�������ا‬ ‫� َ��������س�������� َك��������نَ ال�������������ف��������������ؤا َد وع����������ا� َ����������ش ف���������ي ك���������ل ال�������������ص������و ْر‬

‫م������������ا زل�������������������تَ ف������������ي الآف���������������������������اق ���������������ض��������������وءاً خ��������ال��������دا‬ ‫ي���������ب���������ق���������ى وي�������������ك�������������ب������������� ُر ������������س�����������ي�����������دي م���������ت���������ج���������ددا‬

‫�أنا‬

‫�أن�����������������������تَ ال�������������������ذي �أ���������س��������ق��������ي��������ت ن��������ب��������� َ��������ض ق�����ل�����وب�����ن�����ا‬ ‫وزرع���������������������������������تَ ف��������ي��������ن��������ا ن�����������������������������وركَ ال����������م����������ت����������وقِ����������دا‬

‫�أن�������������ا ��������ض�������وء ه����������ذي ال������ب������ي������د‪ ،‬ب�����ع�����������ض ه�����ج�����ي�����ره�����ا‪..‬‬ ‫م����������ن����������ه����������ا وف������������ي������������ه������������ا ب�����������������س��������م��������ت��������ي ت����������ت����������ج����������د ُد‬

‫طفلي‬

‫ع���������رب���������ي��������� ُة الأط���������������ي���������������اف م�����������ن ل��������ف��������ح ال�����������م�����������دى‪..‬‬ ‫و�أظ������������������������ل �أن����������������ظِ ���������������� ُم حُ ���������������س�������ن�������ه�������ا و�أع�����������������س��������ج�������� ُد‬

‫�أح������������������������ب������������������������ك رغ��������������������������������م ب����������������ك����������������ائ����������������ك ه����������������ذا‬ ‫ورغ���������������������������������م ع�������������ي�������������ون�������������ي ال�����������������ت�����������������ي الت�����������������ن�����������������ا ْم‬

‫�ضوء‬

‫ف���������ف���������ي���������ك ت�����������ج����������� ّل�����������ي�����������تُ �أُم�������������������������������������اً و���������������ص��������������ارت‬ ‫�أغ�����������������������اري�����������������������د ق����������ل����������ب����������ي ك��������������م��������������اء ال������������غ������������م������������ا ْم‬

‫ي�������ا ������ص�����ب����� ُح ك�������ن ل�����ل�����م�����دى ن����ب���������ض����اً ي�����������ض�����و ُع ر�������ض������ا‪..‬‬ ‫ي��������������ل��������������وّن ال��������������������������������رو َح والأرج�����������������������������������������اء والآت�����������������������ي‬

‫�أح������������������ب������������������ك ط������������ف������������ل������������ي‪� ،‬أح������������������ب������������������ك ه��������ا���������ش��������م‬ ‫وحُ ����������������������� ّب�����������������������ك ف��������������������������وق ح��������������������������������دود ال����������������ك��������ل�������ا ْم‬

‫�������ص������افِ������ح ت����ف����ا�����ص����ي����ل ه����������ذا ال��������ك��������ون ك��������ل ������ض�����ح�����ى‪..‬‬ ‫وام�����������ل�����������أ ت�������رات�������ي�������ل�������ن�������ا طُ ���������ه���������ر ال�����������������س��������ح��������اب��������اتِ ‪.‬‬ ‫ * �شاعرة وقا�صة من الجوف‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪51 )2015‬‬


‫هم�سات الفحة‬ ‫‪ρρ‬بو �شعيب عطران*‬

‫«وحدها الكلمات‪ ..‬تهم�س لأرواحنا‪ ..‬لت�سافر بها‪ ..‬من تيه اللحظات‪»..‬‬ ‫طفولة‬

‫�أحالم و�أماني‪،‬‬ ‫محفورة في الذاكرة‬ ‫لوحتها الريح‪،‬‬ ‫هم�سات الفحة‪..‬‬ ‫المدينة‬

‫المنار الوحيد‪،‬‬ ‫يداعب واجهة المدينة‬ ‫هم�ست له ثائرة‪:‬‬ ‫لوّح بعيدا‬ ‫عن �صخبي العنيد‪..‬‬ ‫الحكاية‬

‫ت�سرقه الحكاية‬ ‫من هفوة الم�سافات‪،‬‬ ‫تلب�س كل الوجوه‬ ‫تهم�س له‪:‬‬ ‫مزق الخرائط‪،‬‬ ‫بعثر الحدود‪..‬‬ ‫حظ‬

‫كلما تعثر في دربه‬ ‫‪52‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫هم�س لنف�سه‪:‬‬ ‫رهاني الوحيد‪،‬‬ ‫حظ جديد‪..‬‬ ‫المجنون‬

‫�صرخة‪ ..‬مزقت ال�سكون‬ ‫هم�س المجنون‪:‬‬ ‫ع�شقي‪،‬‬ ‫�أتلف الكون‪..‬‬ ‫التئام‬

‫حروف تتناثر‬ ‫كلمات تت�شابك‪،‬‬ ‫هم�ست للبيا�ض‪:‬‬ ‫لنرقى معا بالوجود‪..‬‬ ‫�شاعر‬

‫لفهم �صمت القبور‬ ‫هم�س �أحدهم‪:‬‬ ‫احذروا‪،‬‬ ‫�شبح �شاعر‬ ‫يفتت ما في ال�صدور‪...‬‬

‫النهار �صخب و�ضجيج‬ ‫الليل �سكينة وهدوء‪،‬‬ ‫كالهما �أرجوحة الزمان‬ ‫تتمايل فيها الأحالم والأعمار‪،‬‬ ‫وهم�سات تتناثر هنا وهناك‪..‬‬ ‫قبلة‬

‫تدمر وا�ستياء‬ ‫لقبلة احت�ضنت ال�سماء‪،‬‬ ‫اختطفتها خفافي�ش الظالم‬ ‫تناو�ش بها ر�سالة ال�سالم‪..‬‬ ‫ذكرى‬

‫للأم�س حنين‬ ‫على �أطراف اليوم‪،‬‬ ‫يراود �شرود الغد‬ ‫مترنحا خلف الأيام‪..‬‬ ‫حرية‬

‫ما يروج في الحياة‬ ‫ي�سلب بهاء العقل‪،‬‬ ‫وحده الخيال‬ ‫يترنّح في دروب الحرية‬ ‫مترنما ب�أغنية كونية‪..‬‬ ‫انعكا�س‬

‫المرايا تعك�س قبحا‬ ‫الحكايا تنز جرحا‪،‬‬

‫ومي�ض‬

‫كل ليلة تلمع النجوم‬ ‫في ال�سماء‪،‬‬ ‫العمر يرق�ص حائرا‬ ‫على �ضفاف الحياة‪..‬‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫الزمان‬

‫وحدهم الع�شاق‬ ‫يجددون �سيمفونية الأحا�سي�س‪..‬‬

‫�ضوء‬

‫دائرة �ضوء تغمر المكان‬ ‫ظالل ن�صبتها الجدران‪،‬‬ ‫متاهة لكل العابرين‪..‬‬ ‫انجذاب‬

‫هنا وهناك‪،‬‬ ‫تتناثر الأب�صار‬ ‫ال�شيء يجذب االنتباه‪،‬‬ ‫�أنغام �شجية‬ ‫تت�سلل دون ا�ستئذان‪..‬‬ ‫ر�ؤية‬

‫�صور تتزاحم تتعارك‬ ‫ت�ضيع مالمحي‬ ‫بين ركام الكالم‬ ‫و�سطوة الأحداث‬ ‫ح�ضارات �صنعتها يد �إن�سان‬ ‫دمرها �شجع �إن�سان‬ ‫قربانا لل�سالم‪..‬‬

‫ * �شاعر من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪53 )2015‬‬


‫‪ρρ‬مليكة معطاوي*‬

‫ها �أنت وحدك‬ ‫راحلٌ دون اختيار‬ ‫دام�س‬ ‫ٍ‬ ‫نحو ليلٍ‬ ‫يغفو على �سعف الظال ْم‬ ‫و�أنا �أ�سير �إلى غيابك‬ ‫في الخريفْ‬ ‫يجتاحني �سحر الأقاحي‬ ‫كلّما فا�ضت ك�ؤو�س ال�شوق‬ ‫في ح�ضن ال�سّ رابْ‬ ‫تنمو الجراح ق�صيدة‬ ‫في �ساحها ي�سمو الكال ْم‬ ‫لمّا يغو�ص ال�شعر‬ ‫في �إغفاءة النجوى‬ ‫تدثر روحه الأحالم‬ ‫يتلو التيه من �سفر الو�صالْ‬ ‫�آيات ع�شق‬ ‫ت�ستر ّد الأم�سياتْ‬ ‫من �أم�سها النائي‬ ‫�إلى �صبح ي�صوغ‬ ‫هديل حلم غيمة‬ ‫تروي تخوم االلتياع‬ ‫�أنت البعيد‪� ..‬صداك‬ ‫يحملني �إلى ج�سدي‬ ‫على �شغف العناقْ‬ ‫ذاك الّذي لمّا‬ ‫تنا�سل في دمي‬ ‫غابت يدايْ‬ ‫لم يبق غير �أنامل الأحزان‬ ‫تنه�ش بانهما ْر‬ ‫ * �شاعرة من المغرب‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫وخطى تعربد في �أقا�صي الروح‬ ‫تلثم باندحا ْر‬ ‫�ضاع الطريق‬ ‫ت�آكلت �أطرافه‬ ‫جفّت مياهه‬ ‫في براري االنك�سا ْر‬ ‫�أنت البعيد‪ ..‬ر�ؤاك‬ ‫كالليل الطويلْ‬ ‫يغتالها الوقت‬ ‫الم�ضمّخ بالرّحيل‬ ‫وفي مداك الغيم‬ ‫يجثو تحت جنح‬ ‫االنهيا ْر‬ ‫تت�ساقط العبرات‬ ‫من مقل تهاوت‬ ‫في فراغ‬ ‫في �ضياع‬ ‫في يبابْ‬ ‫ال ب ّد من �سفر �أخير‬ ‫�شط ال يدثّره �سحابْ‬ ‫نحو ّ‬ ‫ال ب ّد من ماء ي�سيل‬ ‫على ت�ضاري�س المدى‬ ‫دون انح�سا ْر‬ ‫ال بد من ريح تهبّ‬ ‫على غبار الوقت‬ ‫تنثره هبا ًء في هبا ْء‬ ‫قد ن�ستطيع ركوب خيل‬ ‫خلف �أ�سراب الحياةْ‪..‬‬

‫تراتيله المبهمة‬ ‫‪ρρ‬هندة حممد*‬

‫والزّمان الذي �سال بين الدقائق عطرا‬ ‫‪1‬‬ ‫تهاوت تفا�صيل �صمته بين الدروب‬ ‫على الغيم قلب يريد الهطول‬ ‫وق��ب��ل ال��غ��ي��اب �سيهم�س ك��� ّل ت��رات��ي��ل��ه على الغيم‬ ‫كانت تراتيل حبلى بليل العيون‬ ‫المبهمة‬ ‫تهدهد فو�ضى ال�سّ ماوات فيها‬ ‫و�أ�سماءها‬ ‫وتنثر في الرّوح ريحا �أخيرة‬ ‫ليعتنق المحو حرفا جديدا‬ ‫ويكتب بالماء نارا تهاطل جمرها ح ّد على غير عاداتها‪ ،‬الرّيح‬ ‫تحاول ل ّم الأ�صابع بين الح�صى‬ ‫الغرق‬ ‫لتقب�ض ماء الم�شاوير‬ ‫�سي�صلب ك ّل م�ساءاتها‬ ‫ويبزغ في القلب نهرا جديدا‬ ‫ويلعن ك ّل البحار التّي حمّلته �إليها‬ ‫وتلعنه احتراقاتها‬ ‫‪3‬‬ ‫ال�صباح ال���ذّي ك��ان ي��ب��د�أ حين تفي�ض‬ ‫ّ‬ ‫لقد كنت �أ�شفق حين يحين الهطول‬ ‫الأ�صابع وردا‬ ‫من الموج وهو يم ّر �إليها �شقيا‬ ‫�سي�شتاقها‬ ‫يعاتب لعناتها‬ ‫الم�ساء الذّي تاه نجمه بين ال�ضلوع‬ ‫ويدفن ر�أ�سه في رملها‬ ‫�سترهقه الأمنيات الدّفينة‬ ‫فتلك الدّواخل نقطة �ضوء‬ ‫الرّبيع‪ ...‬ال�شّ تاء ‪ ...‬الخريف‬ ‫وتلك معابر �أخرى لجيناتها‬ ‫تفا�صيلها‬ ‫وتلك الأزقّة تورق تيهاً‬ ‫كذا كان يكبر توت الكالم غريبا‬ ‫وطفل المدينة يتلو على الغيم �أ�سرارها‬ ‫يمرّمع الجائعين ‪...‬‬ ‫قبل ك ّل هطول‪.‬‬ ‫لوقت بال لعنات‬ ‫فيكبر عند �سواحلها‬ ‫‪2‬‬ ‫وذاك ال�س�ؤال ي�شيخ ك�أنفا�سها‬ ‫الر�صيف القديم لع�شب يديها‬ ‫ت�����ش�� ّق��ق م��ن ف ��رط م��ا ك ��ان م��ن في�ض وط��ف��ل ال��غ��ي��اب ي�����ض��ي��ع ب��ط��وف��ان ب��وح‬ ‫�أحجاره‬ ‫جديد‪.‬‬

‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫�أنت البعيد‪..‬‬

‫ * �شاعرة من تون�س‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪55 )2015‬‬


‫�����������������������������������ش����������������������������������ع����������������������������������ر‬

‫الح ِّب‬ ‫ُ‬ ‫كتاب ُ‬ ‫‪ρρ‬نازك اخلنيزي*‬

‫لعمري‪� ‬أنت‬ ‫كن�سائم الربيع تهزني‬ ‫على �أ�صابع الناي‬ ‫تغرد لوقت قادم‬ ‫‪� ‬إلى مدن ال�سالم تعود‬ ‫�سفينتي‬ ‫لعمري �أنت‬ ‫�سهلك‪� ‬صعبٌ ‪ ‬‬ ‫كالماء‬ ‫كالأ�شواق‬ ‫‪ ‬نب�ضك كعمق م�شاعري‬ ‫تنثر‪� ‬سحراً‬ ‫يَ�ض ُم عبير الفجر‬ ‫في درب ال�سنين‬ ‫كالم�ستحيل‬ ‫تزرع في طين ال�شم�س‬ ‫ورداً‬ ‫وتهجرني الحروف‬

‫‪56‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫وحبرك‪ ‬ي�سري‬ ‫ي�صب الم�شاعر‬ ‫ي�أتي بعطر‬ ‫والبحر حائر‪ ‬‬ ‫يغ�سل بال�ضوء ظلأً‬ ‫يهدي لعيني ‪ ‬‬ ‫مرور ال�صور‬ ‫ولذة مغامر‬ ‫ودفقة قلبك‬ ‫تعيد �إلى الوقت �شيئاً‬ ‫مما ت�سرب‬ ‫تعيد �إلى الفل ظله‬ ‫وللفجر �صحوه‬ ‫وت�سرق ما في يدي من �أنامل‬ ‫وت�سحب حدود الكالم‬ ‫ونم�شي طريقاً‪ ‬‬ ‫ال … طويال‬ ‫طوي ً‬ ‫نن�سى حزن البنف�سج‬

‫ونم�سح �سكون الدموع‬ ‫ونرق�ص‬ ‫‪ ‬لرع�ش القلوب نُغني‬ ‫وبين ال�ضفاف نتيه‬ ‫ن�سكر ب�شهد‬ ‫وثغرك ك�أ�س‬ ‫كالمزن عذباً‬ ‫ي�سكب �شيئاً‬ ‫وفي كل نقطة‬ ‫نغ�سل خرير ال�س�ؤال‬ ‫وي�شرق كفّ ال�صباح‬ ‫بهم�س يغرد‬ ‫كعر�س‬ ‫ي�سقي ال�سكون‬ ‫ي�شد الوتر‬ ‫يعيد الأمل‬ ‫تذوب الجداول‬

‫وبين الغيوم‬ ‫ال‬ ‫نغيب طوي ً‬ ‫بين ف�ضائك ‪ ‬‬ ‫وعر�ش ال�سماء‬ ‫بين ال�صور‬ ‫وانهمار المطر‬ ‫ت�سكب عيناك �ضوءًا‬ ‫ويقطر وجهك حباً‬ ‫في�شدو الحمام‬ ‫بغ�صن الهيام‬ ‫ونك�شف ن�سيم ال�صبا‬ ‫ال‬ ‫ون�صمت طوي ً‬ ‫ون�سمع ون�سمع كثيراً‬ ‫وتحت المطر‬ ‫نُعيد �إلى الورد �سره‬ ‫ونتلو حروف‬ ‫تهل ببوح‬

‫ * �شاعرة من ال�سعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪57 )2015‬‬


‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫�أبي�ض ال ي�شيخ‬ ‫‪ρρ‬هدى الدغفق*‬

‫يا �أنت يا �أبهى الحكايا‪..‬‬ ‫ح��ي��ن �أق���ر�ؤه���ا تفتح ك��ل راي����ات النهار‬ ‫الفا ّر من قلبي‪.‬‬ ‫م���ا ك����ان ذاك ال��ع��م��ر م�����ص��ق��وال كحلم‬ ‫راح��ل ال تلتقيه الطير �إال ف��ي ال�سير‬ ‫�سراب النوم منهوب الجناح‪.‬‬ ‫ك��ي��ف ا�ستلبت ال��ح��ل��م‪ ..‬ذاك ال�ضائع‬ ‫ما�ض تمادى في الغياب‪..‬‬ ‫الأهداب من ٍ‬ ‫حتى فقدت الرق�ص في حرفي فجئت‬ ‫لدى نهاه‬ ‫ي��ا �سعد‪ ..‬ي��ا �أن��ه��ار �أل���وان �ستر�سم لي‬ ‫الجهات‪..‬‬ ‫�إن قلت �شرقا يافعا‪ ،‬قالت‪ :‬فذاك‬ ‫�أو قلت للغرب ال��ن��دي‪ ،‬البحر يلقاني‬ ‫مداه‬ ‫ال لم تقلها‪ ..‬حين �أحلم بال�سما‪.‬‬ ‫تتفتق ال��ن��ج��م��ات‪� ..‬أح�سبني ب�لا ليل‬ ‫ف�أعلم �أنك الطاوو�س �أ�شرقت ال�شمو�س‬ ‫على رباه‪..‬‬ ‫كم �أنت متّقد الحنايا‬ ‫تلتاع بالنوء الذي ي�شكوك‬ ‫وتورق بال�شقاء‬ ‫ * �شاعرة من ال�سعودية‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫تلك ال�صداقات التي تنبي عن الغايات‬ ‫كادت ال تنام‬ ‫�سماء هذا الكون �أنت‬ ‫�أزرق في ف�ضاء البحر‬ ‫�أحمر في �شعاع الدم‬ ‫�أبي�ض في �شتاء اللوز‬ ‫�أخ�ضر في ربيع الحب‬ ‫عنابا يقطف قبلتي‬ ‫وت�شرخ ليلهم‬ ‫لأنت نور نافذ‬ ‫ال ي�صبحون �شذاك مهما حاولوا‬ ‫�إن ج���ام���ل���وا ���ش��ك��ل ال��ح��ق��ي��ق��ة ب���ادع���اء‬ ‫�سواعد �شاخت عن الأغ�لال �أو عجزت‬ ‫عن التحديق في ق�ضبانها‪ ..‬فل�سوف‬ ‫تخ�سرهم لأنك ال ت�شيخ!‬ ‫وتظل في الأغالل تن�صهر النهاية في‬ ‫لظاك‪..‬‬ ‫�س�أهز قلبك كي �أزيح اله َّم عن �شغف‪..‬‬ ‫ف�أنت �أح��ق �أن تحيا دون خلق قد لهو‬ ‫بنور اهلل‪..‬‬ ‫و�أريد �أن تحيا‪..‬‬ ‫�أريد‪..‬‬

‫ال�شاعر غرم اهلل ال�صقاعي‬ ‫‪ρρ‬عبدال�سالم احلميد*‬

‫رحمك اهلل يا �سيد ال�سروات‬ ‫�أوجعتني مرتين‪ ..‬الأولى حين رحلت وتركتنا بال وداع‪..‬‬ ‫والثانية حين ُ�صدمت بتجاهل ومماطلة من كنت �أظنهم �أ�صدقاءك خالل �إعدادي‬ ‫لهذا الملف‪.‬‬ ‫ا�ستكثروا �أن ي�� ْرث��وك ول��و بكلمة‪ ..‬و�أن��ت ال��ذي ما بخلت على �أح��د في حياتك ال‬ ‫بقلمك وال بمالك!‬ ‫وما دروا �أنك باقٍ فينا ال تموت؛ لأن �سيرتك العطرة هي مَن �ستخلد ذكراك لدى‬ ‫كل المن�صفين‪..‬‬ ‫ومن باب الإن�صاف‪ ،‬وجب عليَّ �أن �أ�شكر الجوبة ورئي�س تحريرها وكذلك تون�س‬ ‫و�أهلها‪ ..‬فهم مَن عرفوا قيمتك حياً‪ ..‬وكرَّموك في حياتك وبعد مماتك‪.‬‬ ‫طبت حياً وميتاً يا �سيد ال�سروات‪ ..‬وع�سى �أن نجتمع معك في جنات النعيم‪.‬‬ ‫* رئي�س النادي الأدبي في منطقة حائل �سابقاً‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪59 )2015‬‬


‫‪60‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ومن محا�سن ال�صدف �أن بد�أنا الن�شر في‬ ‫ال�صحف دون �أن نعرف بع�ضنا برغم �أننا ن�سكن‬ ‫منطقة واح ��دة‪ ،‬كنت �أق ��ر�أ ل��ه وي�ق��ر�أ ل��ي ربما‬ ‫ب�إعجاب �أو بتحفظ‪ ،‬ومن خالل ملحق الأربعاء‬ ‫زمن رئي�س تحريره النبيل محمد عبدال�ستار‪ ،‬ثم‬ ‫�أتاح لنا الأ�ستاذ ال�صديق عبدالمح�سن يو�سف‬ ‫فر�صة الر�سم بالكلمات من خالل �صفحة �أقالم‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫رح��ل غ��رم اهلل ال�صقاعي‪ ,‬ك��ان رحيله مربكا‬ ‫لذوات كثيرة‪ ,‬حتى �أني فقدت طعم الكتابة ل�شهرين‬ ‫�أو �أكثر‪ ,‬كانت تلك طريقتي في الحزن‪ ,‬حتى �إني‬ ‫لم �أكتب �شيئا عن موته‪ ,‬لم �أغرد ولم �أ�ضع تعليقا‪,‬‬ ‫كنت حزينا ومنده�شا‪� ,‬شيء من الحياة م��ات في‬ ‫داخ�ل��ي‪� .‬أم��ا وق��د رح��ل‪ ..‬ف ��إن رحيله ك��ان �أكبر من‬ ‫الكلمات‪� ,‬أعلى من الحزن‪ ,‬التقيته في القاهرة مطلع‬ ‫‪2010‬م‪ ,‬كنت قادما لتوي من تون�س برا‪ ،‬وكان �آتيا‬ ‫من ال�سعودية رفقة �صديقه علي الرباعي‪ ,‬كان همنا‬ ‫م�شتركا‪ ،‬وكانت غايتنا واحدة‪.‬‬ ‫«الن�ص الجديد» ملتقى تقيمه م�ؤ�س�سه �أروق��ة‬ ‫للدرا�سات والترجمة والنثر‪ ,‬لن �أدخل في الحيثيات‬ ‫والتفا�صيل الدقيقة‪ ،‬فهي تبقى للقلب‪ ،‬لكن ما يعلق‬ ‫في الذاكرة حقا �أن غرم اهلل ال يتوقف عن ال�ضحك‬ ‫واالبت�سام وح��ب الحياة‪ ,‬ك��ان ي�ق��ر�أ ال�شعر ف��ي كل‬ ‫وق��ت‪ ,‬حتى عندما يكون الجميع متعبا يبعث فينا‬ ‫�صديقنا ال�سعودي الحياة‪ ,‬ثم ج��اءت تلك الرحلة‬ ‫الغريبة لمدينة �سنطا من محافظة الغربية‪ ,‬كانت‬ ‫الحافلة تت�سع للجميع‪ ،‬لكنها لم تت�سع لقهقهات غرم‬ ‫اهلل‪ ,‬ل�شعر غرم‪ ،‬لقف�شاته ومماحكاته الطريفة مع‬ ‫�صديقتنا الكاتبة الم�صرية مرفت فايد‪ .‬وكنت ممن‬ ‫يتبعه‪ ,‬ممن يتبع الحياة والحب والبهجة‪ ,‬ممن يم�سك‬ ‫بنا�صية الجمال في روحه‪ ,‬تلك الروح الخفيفة التي‬ ‫�صعدت باكرا وتركتنا ننوء بحزن عميق وطاغ‪.‬‬ ‫�أع��ود لـ «�سنطا»‪ ..‬كان في انتظارنا عند و�صول‬ ‫الحافلة احتفال كبير بال�شعراء العرب‪ ,‬حتى �أن خيمة‬ ‫ما �أع��زي نف�سي به دائما‪ ,‬ذكرياتنا الرائعة في‬ ‫�ضخمة قد ن�صبت‪ ,‬كنا خجلين ومرتبكين‪ ,‬ال �أحد‬ ‫يعرف المكان‪ ..‬لكن غرم اهلل كان �سباقا‪ ,‬كم كان القاهرة‪ ,‬كتبه المحببة �إلى قلبي‪ ,‬روحه التي ما تزال‬ ‫مبهرا وهو يلقي ن�صه الترحيبي‪ ،‬ثم يراق�ص على تحلّق هنا وهناك‪ ،‬على �إيقاع المودة وال�شعر والحياة‪.‬‬

‫�أنغام المو�سيقي ال�شعبية الم�صرية فتىً �سنطاوي ًا‬ ‫بزيه التقليدي‪ ,‬غرم اهلل يم�سك تلك الع�صا ويدور‬ ‫بها في ر�شاقة منقطعة النظير‪ ،‬ثم يلتف حول نف�سه‬ ‫كما يفعل الممثلون في الأف�لام البي�ضاء وال�سوداء‪,‬‬ ‫يغر�سها في الأر���ض‪ ..‬ثم يعود للرق�ص حتى �أرهق‬ ‫ال �ف �ت��ى‪ ,‬ث��م ي�ج��ذب�ن��ي ل�ل�ح�ل�ب��ة‪ ..‬ك�ن��ت ع��اج��زا عن‬ ‫م�سايرته‪ ،‬وكان حينها يرو�ض ح�صانا عربيا �أ�صيال‬ ‫جيء به لالحتفاء‪ .‬كان �شاعرا رائعا وفار�سا مقداما‪.‬‬ ‫حين عدنا كانت �أحاديثنا تتمحور حول الواقع الأدبي‬ ‫في تون�س وال�سعودية‪ ,‬عن واقع النوادي الأدبية في‬ ‫المملكة‪ ..‬تكلم ب�صراحة وو�ضوح‪ ,‬لم �أكن �أعلم �أنه‬ ‫يعد كتابا حول ال�ساحة الأدبية ال�سعودية‪ ,‬كتابا اختار‬ ‫له عنوانا �أنيقا‪« :‬البهو وليال ع�شر»‪ ،‬حين �أهداني‬ ‫�إي��اه �صديقنا هاني ال�صلوي �شاعر اليمن الجميل‪,‬‬ ‫تذكرت ذلك الحديث العميق الذي دار بيننا‪ ،‬بل تلك‬ ‫الأحاديث المميزة التي جمعتنا في القاهرة �أين كنت‬ ‫�أقيم فيما بعد‪ ,‬كان مدركا لواقع الأدب في ال�سعودية‪,‬‬ ‫ينظر لل�ساحة نظرة عميقة ومتفائلة‪ ,‬ال يخلو حديثه‬ ‫من نقد خفيف مرده غيرة حقيقية على واقع الأدب‬ ‫ف��ي ال�سعودية‪ ,‬قبل �أي��ام م��ن وف��ات��ه‪ ..‬هاتفني من‬ ‫تون�س‪ ,‬ل��م يت�سنَّ ل��ي ل �ق��ا�ؤه لأع �ب��اء حياتية كثيرة‬ ‫�شغلتني عن كل �شيء‪ ,‬لكني نادم الآن‪ ,‬كانت تلك ربما‬ ‫�ستكون �آخر حلقة في عالقتنا ال�صافية‪ ,‬رحل غرم‬ ‫اهلل ال�صقاعي‪ ,‬الرجل الذي �أبهج الكثيرين و�أبكى‬ ‫الكثيرين‪ ..‬وعلى قدر البهجة �أتى الحزن‪.‬‬

‫ق��د ي��ؤل��ف بين اثنين وعيهما مثلما ي�ؤلف‬ ‫بينهما حزنهما �أو اهتماماتهما‪ ،‬فال�صداقة‬ ‫ال ت�أت من فراغ وال تن�ش�أ �صدفة‪ .‬هناك تفاعل‬ ‫كيميائي‪ ،‬وهناك �أقدار ت�سوق النا�س �أو تقودهم‬ ‫�أو تدفعهم لاللتفات لبع�ضهم‪ .‬تتقاطع بين‬ ‫�صديقي الراحل المقيم غ��رم اهلل ال�صقاعي‬ ‫وبيني يوميات وظروف حياة؛ فكالنا �أبناء طبقة‬ ‫كادحة‪ ..‬و�إن كان هو �أق��رب للرعي و�أن��ا فالح‬ ‫ورعوي �أي�ضا؛ والم�صطلحات هنا عفوية وعلى‬ ‫بكارتها الأول��ى‪ ،‬في زمن لم يكن الكتاب �شغل‬ ‫ال�شباب ال�شاغل‪ ،‬كان ال�صقاعي خريج التربية‬ ‫البدنية من جامعة �أم القرى‪ ،‬ي�سعى ويحفد في‬ ‫�سبيل الو�صول �إلى عباقرة الم�شهد‪ ،‬فقر�أ بتمويل‬ ‫�أخيه عبداهلل ال�صقاعي ‪ -‬ال��ذي عرف م�صر‬ ‫منذ ال�ستينيات الميالدية ‪ -‬توفيق الحكيم وطه‬ ‫ح�سين والعقاد‪ ،‬في حين كنت ‪ -‬بحكم الدرا�سة‬ ‫في المعهد العلمي‪ -‬على عالقة وطيدة بالتراث‬ ‫من خالل جواهر الأدب والأغاني والعقد الفريد‪.‬‬

‫واعدة في عكاظ‪ ،‬ثم ن�صو�ص‪ ،‬ثم �إبداع‪ ،‬وكنا‬ ‫نلتقي ن�صا فقط حتى ج��اءت فر�صة اللقاء‬ ‫عند تكريم جمعية الثقافة وال�ف�ن��ون المبدع‬ ‫عبدالعزيز م�شري‪ ،‬بمبادرة كريمة من الأ�ستاذ‬ ‫عبدالنا�صر الكرت‪ ،‬مدير فرع جمعية الثقافة‬ ‫ف��ي الباحة‪ ،‬ع��ام ‪1419‬ه� �ـ‪ ..‬حينها ك��ان لقاء‬ ‫ر�سميا؛ وتوالت فعاليات الجمعية‪ ،‬فزاد االت�صال‬ ‫بيننا والتوا�صل‪ ،‬وبد�أت ال�سمات الرئي�سة تظهر‬ ‫لكل منا‪ ،‬وتتجلى معارف ال�صاحب في عين‬ ‫�صاحبه‪ ،‬فهو قارئ حداثي بل�سان �شعبي �أنيق‪،‬‬ ‫في حين قدمت �أنا من المنبر بحموالت اللغة‬ ‫والتجويد مع خوف من االنفتاح على الحداثة‬ ‫�إال قليال كما طفل يتهجّ ى الأ��ش�ي��اء‪ .‬ذك��ر لي‬ ‫ا�سم ريا�ض الري�س‪ ،‬فذكرت له مجلة الناقد‪،‬‬ ‫وا�ستعاد ال���ص��ادق النيهوم‪ ،‬فا�ستعدت معه‬ ‫�صادق جالل العظم‪ ،‬وربما‪ ..‬بل �أثق �أننا ل�سنا‬ ‫وحدنا المفتونين بهذه الأ�سماء �أو القارئين لها‪،‬‬ ‫�إال �أن ف�ضاء القرية زمن ما قبل الف�ضائيات قلَّ‬ ‫ما تجد فيه من يخو�ض تجارب كبيرة وي�صادم‬ ‫ب�أفكاره الواقع‪ .‬ت�ضافرت الأفكار في خلق مودة‬ ‫من نوع خا�ص‪ ..‬فيها مناف�سة �شريفة‪ ،‬وتالقح‬ ‫�أف�ك��ار‪ ،‬وم�صادمة م�شاعر‪ ،‬وقطيعة وو�صال‪،‬‬ ‫وك�أنما نحن ن�سخة واحدة ان�شطرت على نف�سها‪،‬‬ ‫ينظر لي كابن له و�أعامله �أخا �أكبر‪ .‬وفي خم�سة‬ ‫ع�شر عام ًا كان بيننا من االفتتان بالإبداع‪ ،‬مثل‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪61 )2015‬‬


‫(ف����ل����م����ا ت���ف���رق���ن���ا ك������أن�����ي وم���ال���ك���ا‬ ‫ل��ط��ول اج��ت��م��اع ل���م ن��ب��ت ل��ي��ل��ة معا‬ ‫وك����ن����ا ك���ن���دم���ان���ي ج���ذي���م���ة ح��ق��ب��ة‬ ‫من الدهر حتى قيل لن يت�صدعا)‬ ‫ع�شقنا ن�ص ال�شاعر الفاتن محمد الثبيتي‪،‬‬ ‫ثم الحقناه �شخ�صا ون�صا �سويا في �أبها ومكة‬ ‫وج��ازان‪ ،‬واقت�سمنا مودة عبدال�سالم الحميد‪،‬‬ ‫وعبدالرحمن موكلي‪ ،‬فنحن �شركاء حتى في‬ ‫�أنقى الأ�صدقاء من زياد ال�سالم‪ ،‬وعبدالرحمن‬ ‫الدرعان‪ ،‬ومحمد الرطيان‪ ،‬ومحمد ال�سحيمي‪،‬‬ ‫وعلي الدميني‪ ،‬والدكتور �سعيد ال�سريحي‪ ،‬وفهد‬ ‫الخليوي‪ ،‬وها�شم الجحدلي‪ ،‬و�آخرين ال ت�سعفني‬ ‫ال��ذاك��رة ال�ستح�ضارهم‪ ،‬برغم مودتنا لهم‪.‬‬ ‫ناهيكم عن تبادل الأف�ك��ار وم�شاركة الهموم‪،‬‬ ‫مما لو �أردت اال�ستطراد لما ا�ستوعبته مئات‬ ‫ال�صفحات‪ ،‬كان �شريكا في كل ن�ص ومقالة‪،‬‬ ‫‪62‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫�إن �أ���س��ئ��ل��ة م��ن‬ ‫ه��ذا المنوال كثيرة‪،‬‬ ‫وم� �خ���اوف���ي �أك� �ث ��ر‪،‬‬ ‫وق� ��د ي�ط�م�ئ�ن�ن��ي �أن‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫ما بين ندماني جذيمة‪ ،‬كما قال متم بن نويرة‬ ‫في رثاء �أخيه مالك‪:‬‬

‫وكانت م�شورته غنيمة‪ ،‬و�أ�صدقكم �أن��ي كنت‬ ‫�أه��اب ذائقته‪ ..‬فالرجل فنان حقيقي‪ ،‬وقارئ‬ ‫نهم‪ ،‬وقنا�ص �أفكار‪ ،‬ولم ي�ستنكف يوما من �أخذ‬ ‫ر�أيي المتوا�ضع في ن�ص �أو مقالة‪ ،‬ويعدل �أحيانا‬ ‫مع احتفاظه بكبرياء المبدعين‪ ،‬وكما ع�شقت‬ ‫تون�س في الت�سعينيات الميالدية وات�صلت بها‬ ‫جامعة و�إن�ساناً‪ ،‬و�أ�سهمت في انفتاح �آفاقي‬ ‫المعرفية والإن�سانية‪� ،‬شاء اهلل �أن يختتم �صديقي‬ ‫وتو�أم الروح غرم اهلل ال�صقاعي حياته في ذلك‬ ‫الف�ضاء الأخ�ضر النقي بين محبين ومعجبين‪،‬‬ ‫�شكرا لك �أبا حمدان على هذه الرحلة ال�شيقة‬ ‫والم�شقية بك ومعك‪� ..‬شكرا هلل على �أن جمعنا‬ ‫على ح��ب المعرفة والثقافة وال�ف�ك��ر‪� ..‬شكرا‬ ‫للجوبة ولأ�ستاذنا �إبراهيم الحميد �أول الداعين‬ ‫لك ولي لإقامة �أم�سيتنا الأولى في �أدبي الجوف‪،‬‬ ‫وللقيمين على دورية الجوبة‪ ،‬ولأبي نورة وهو من‬ ‫بادر بطرح الفكرة وتقبلك اهلل في ال�صالحين يا‬ ‫نغم الباحة الخالد‪.‬‬

‫هل يمكن �أن يكون الحبُّ نقدا؟ هذا ال�س�ؤال‬ ‫�ضروري في هذه الفاتحة‪ ،‬فل�ست �أب��رئ نف�سي‬ ‫من حب غرم اهلل ال�صقاعي �شخ�صا ون�صا‪ ،‬وال‬ ‫يجوز لمحترف مثلي بعد كل هذا الزمن �أن يخلط‬ ‫بين عاطفته ودرا�سته‪ .‬ولكن ما �أفعل وغرم اهلل‪،‬‬ ‫�شخ�صا ون�صا‪� ،‬شَ رَك عاطفي ال يكاد يفلت منه‬ ‫�أولو العزم من النقاد‪ .‬وقد كان االلتزام بالمنهج‬ ‫قمينا �أن يخفف من ذاتية المحب لو التزمت‬ ‫منهجية معينة‪ ،‬ول��م �أتجاوزها باتجاه ف�ضاء‬ ‫غير �سابق التحديد �أو التجهيز‪� ،‬أطلقوا عليه‬ ‫«العبرمناهجية»‪ ،‬حيث الر�ؤية الناظمة لتعدد‬ ‫المناهج في �سلك يوحدها نظريا و�إجرائيا‪.‬‬ ‫فهل ي�صبح ذلك الف�ضاء م�سارب الذاتية �إلى‬ ‫تلك الر�ؤية؟ و�إذا �أ�ضفت �إلى هذا �أنني لم �أكن‬ ‫�أن��وي درا��س��ة �شعر غ��رم اهلل ال�صقاعي الآن‪،‬‬ ‫ناظرا �إلى �أكثر من ديوانيه المطبوعين وكتابيه‬ ‫الفكريين‪ ،‬ومترقبا بغرور الناقد �أعترف كيف‬ ‫تتحول ال�شعرية بالتقدم ف��ي الإب� ��داع‪ .‬ولكن‬ ‫الموت و�ضع حدا النتظاري وترقبي‪ .‬فهل يمكن‬ ‫�أن تخلو درا�سة لإبداع �صديق تحت ت�أثير فراقه‬ ‫الأخير من الذاتية؟‬

‫�أية درا�سة تحتاج �إلى قدر ما من التعاطف مع‬ ‫مو�ضوعها‪ ،‬و�إن كان من بين عنا�صر مو�ضوعها‬ ‫�صاحب المو�ضوع نف�سه‪/‬الم�ؤلف‪� .‬إذ ًا فالكاتب‬ ‫يعترف ‪-‬وربما للمرة الأولى‪ -‬ب�أن ذلك القدر من‬ ‫التعاطف موجود وغير هين‪ ،‬وهو في الحقيقة‬ ‫لي�س تعاطفا بل هو �إلى المحبة �أقرب‪ .‬ورجائي‬ ‫�أال يق�سو عليّ القراء حين تطل المحبة حيث ال‬ ‫ينبغي لها‪ ،‬ويكفيهم مني �أني معترف بدءا‪ ،‬ومن‬ ‫ثم فقد راقبت لغتي ور�ؤيتي قدر الإم�ك��ان‪ ،‬لم‬ ‫�أ�ألُ في هذا جهدا‪ .‬رحم اهلل الإن�سان وال�شاعر‬ ‫والمفكر والناقد غرم اهلل ال�صقاعي‪ ،‬ورحمنا‬ ‫من ق�سوة فراقه بجميل ال�صبر وح�سن العزاء‪.‬‬

‫ال�س�ؤال االفتتاحي عن «غرم اهلل ال�صقاعي»‬ ‫الإن�سان‪ ،‬هل ك��ان �شاعرا لأن��ه �إن�سان بمطلق‬ ‫معنى الكلمة؟ �أعتقد هذا‪ ،‬فال منا�ص من ال�شعر‬ ‫يح�سم التناق�ض بين مطلق الإن�سانية ون�سبية‬ ‫الب�شرية‪ .‬كانت ق�صيدة غرم اهلل قراره الحا�سم‬ ‫باالنحياز لفرط �إن�سانيته‪ ،‬وكان النقد �ضرورة‬ ‫لهذه الق�صيدة فمار�سَ ه‪ ،‬ولم يكن بد من الفكر‬ ‫ي�ؤطر ه��ذا وذاك؛ فقد ك��ان غ��رم اهلل �شاعر ًا‬ ‫وناقد ًا ومفكر ًا وقا�ص ًا كذلك‪ ،‬وهو في كل هذا‬ ‫يبدو �صاحب ق�ضية‬ ‫�إلى «غرم اهلل ال�صقاعي»‬ ‫من طراز خا�ص جدا‬ ‫�سيدا وحقيقيا ويدرك تبعات كونه كذلك‬ ‫ال ي�شبه �أح��داً‪ ،‬تماما‬ ‫�إليه‪ ...‬وفاء لما يعرف ولما ال يعرف‪.‬‬ ‫كما ال ي�شبهه �أح��د‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪63 )2015‬‬


‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫وكان �إ�ضافة �إلى كل هذا رجل موقف مهما كلفه‬ ‫ذلك‪ ،‬ولهذا حديث في غير هذا المكان‪.‬‬ ‫ترك غرم اهلل ديوانين‪« :‬ال �إكراه في الحب»‬ ‫أق�صد» وكتابان‪�« :‬شهوة الكالم»‬ ‫و«لغوايتهن � ّ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫و«البهو وليال ع�شر» ‪.‬‬ ‫قليل ما هم ال�شعراء الذين ال تفتنهم اللغة‬ ‫ع��ن مقا�صدهم ف�ت��ذه��ب ب�ه��م ف��ي اح�ت�م��االت‬ ‫�شكالنيتها كل مذهب‪ ،‬وقد كان غرم اهلل من‬ ‫هذا القليل‪ ،‬فظلت مقا�صده تنو�س من خالل‬ ‫ال�شكل ال�شعري‪ ،‬وظ��ل ال�شكل ال�شعري يتكئ‬ ‫على مقا�صده‪ ،‬فاختطت ق�صيدته طريقا و�سطا‬ ‫�أعانتها في هذا �شاعرية مقتدرة ال تكاد تلمح‬ ‫ف��ي نتاجها تع�سف كلمة م��ن �أج��ل قافية‪ ،‬وال‬ ‫تعقيد تركيب من �أج��ل وزن؛ وك�أنه‪ ،‬وهو يقف‬ ‫ب ��إزاء �أغلب الآخ��ري��ن‪ ،‬ي�ستحيي معركة الطبع‬ ‫والتكلف‪� ،‬شعريا ولي�س نقديا‪� ،‬إذ يقف ن�صه‬ ‫عالمة على �شخ�صه‪ ،‬كما كان �شخ�صه منبئا‬ ‫بطبيعة ن�صه‪ .‬ل��ذا �أعتقد �أن ج��دال خفيا بين‬ ‫ال�شاعر والإن�سان على م�ساحة كتابات غرم اهلل‬ ‫تمثل مفتاح خ�صو�صيته ال�شعرية والفكرية‪ ،‬لي�س‬ ‫لما ت�شير �إليه من جوهر يعبّر عن غ��رم اهلل‬ ‫ال�صقاعي ال�شاعر والإن�سان في تكاملهما‪ ،‬و�إنما‬ ‫لكونها العالقة الحيوية بين ال�شعر والوجود‬ ‫التي ج�سدها ن�ص غرم اهلل و�شخ�صه‪ ،‬وك�أنهما‬ ‫ينطلقان من جمالية واحدة‪� ،‬أو �أن فل�سفة للحياة‬ ‫�أنتجتهما وجهين لعملة واحدة‪� ،‬أو �أن ن�ص غرم‬ ‫اهلل كان �شخ�صه اللغوي‪ ،‬و�شخ�ص غرم اهلل كان‬ ‫ن�صه الوجودي‪.‬‬ ‫لقد درجنا نحن نقاد الأدب على �أن نح�صر‬ ‫همنا بالن�ص الأدبي‪ ،‬وكان �أق�صى ما فعلناه �أن‬ ‫‪64‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫اعترفنا بال�سياقات الخارجية التي ا�ستدمجها‬ ‫الن�ص على حوافه‪ ،‬تحت ا�سم «عتبات الن�ص»‪.‬‬ ‫ولم يكن هذا من �أثر المناهج الحديثة فح�سب‪،‬‬ ‫بل من �أث��ر ر�ؤيتنا الكال�سيكية للن�ص الأدب��ي‬ ‫بو�صفه �إنتاجية جمالية خال�صة‪ ،‬ال ت��راد �إال‬ ‫لذاتها‪ ،‬والتي �أكدتها المناهج النقد �أدبية‪ .‬حتى‬ ‫دعوة «جاكوب�سون» بح�ضور كل الوظائف اللغوية‬ ‫في الن�ص الأدب��ي‪ ،‬و�إن تحت هيمنة الوظيفة‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬حتى هذه الر�ؤية لم تلق عقال واعيا‬ ‫في اندفاعنا خلف الوظيفة ال�شعرية وح�سب‪،‬‬ ‫مهملين �أن هيمنتها على م��ا �سواها تفتر�ض‬ ‫والبد �شبكة عالقات بينها وبين ما �سواها‪ .‬وكان‬ ‫من نواتج هذا �أن دعا الداعي �إلى ت�شييع النقد‬ ‫الأدب��ي �إل��ى مثواه ال��ذي يليق ب��ه‪ ،‬واللجوء �إلى‬ ‫النقد الثقافي عو�ضا عنه‪.‬‬

‫الت�أ�سي�سية التي ا�ستبطنت تلك الأن�ساق بالرغم‬ ‫من المباينة الماهوية بين الأدب��ي والثقافي‪/‬‬ ‫الفكري بناء على الت�صور الجمالي الخال�ص لما‬ ‫هو �أدبي‪.‬‬ ‫والفر�ضية ال�ت��ي ننطلق منها هنا �أن ما‬ ‫ه��و ج�م��ال��ي‪�/‬أدب��ي لي�س �أك�ث��ر م��ن تجل نوعي‬ ‫لما ه��و ث�ق��اف��ي‪/‬ف�ك��ري‪ .‬وه��ذه فر�ضية كفيلة‬ ‫ببناء «عبرمناهجية» مالئمة لن�ص غرم اهلل‬ ‫ال�صقاعي العام‪� ،‬أعني ما هو �شعري وم��ا هو‬ ‫فكري على ال�سواء‪.‬‬ ‫ هل ال�شعر فكر ينزاح عن �شروط لغته‪،‬‬‫ليرتدي ال�شكل ال�شعري ويمرر مقوالته؟‪ ‬‬ ‫ هل هو ال�شكل ال�شعري يتوك�أ على �شيء من‬‫الفكر ليغني به جمالياته؟‬

‫ هل هي وحدة بين الفكر وال�شعر م�ؤ�س�سة‬‫�إن عالقة الفكر بال�شعر لم تثر �أحدا منا نحن‬ ‫النقاد‪ ،‬وحتى دع��اة النقد الثقافي يح�صرون على نظرية في الكتابة خا�صة بذات الأديب؟‬ ‫�أن��ف�����س��ه��م ف��ي ا���س��ت��ظ��ه��ار الأن �� �س��اق الثقافية‬ ‫�إن اع�ت�ب��ار ال ��ذات ي�سقط ك��ل ت�صنيفاتنا‬ ‫الباطنة في الن�ص الأدبي‪ ،‬دون معاناة العالقة لممار�ساتها‪ ،‬فوحده التجريد هو الذي اخترع‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪65 )2015‬‬


‫‪66‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫�إننا �إزاء مفكر حقيقي‪ ،‬مفكر مهموم بالواقع‬ ‫�أكثر من انهمامه الفكر في ذاته‪� ،‬أو �إن�سان كان‬ ‫يفت�ش عن �إن�سانيته في واقعه ف�أ�صابه تناق�ض‬ ‫الواقع بداء الفكر‪ .‬وهكذا كان طبيعي جدا �أن‬ ‫يعي�ش في مكان‪ ..‬و�أن يطبع �أعماله في �آخر‪ ،‬و�أن‬ ‫يموت في ثالث‪ .‬وكان طبيعي جدا �أي�ضا‪ ،‬والحال‬ ‫هذه‪� ،‬أن تكون م�ساحة ال�شعر هي وطنه ال�سري �أو‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫ه��ذه الت�صنيفات‪ ،‬وم��ن ث��م ك��ان م�سئوال عن‬ ‫ال �ح��دود الم�صطنعة بين ال�ع�ل��وم الإن�سانية‬ ‫وال �ح �ق��ول ال�م�ع��رف�ي��ة ال �ت��ي ل�ي���س��ت م��ن ه��ذه‬ ‫العلوم‪ ،‬فا�ستوردت مناهجها ت�ستعين بها على‬ ‫ظاهراتها‪ .‬وبناء على ذلك الجدل بين ال�شعر‬ ‫والفكر على قاعدة الذات ونظريتها‪ ،‬قد �أعتقد‬ ‫�أن و�ضع الجامع الفل�سفي‪ ،‬والوجودي تحديدا‪،‬‬ ‫بين ال�شخ�ص والن�ص يمكن �أن يكون معيارا‬ ‫لالختيار من بين المناهج النقد �أدبية ف�ضال‬ ‫عن النقد الثقافي‪ ،‬وحتى نظرية الأدب‪ ..‬نظرية‬ ‫الكتابة‪ .‬لقد �آن الأوان ال�ستبدال نظرية الكتابة‬ ‫الفردية بنظرية الأدب العامة‪ ،‬الأم��ر الكفيل‬ ‫با�ستدماج نظرية الأدب في مناهجية النقد‪،‬‬ ‫وهو ما �سنحاول �شيئا منه مع كتابة «غرم اهلل‬ ‫ال�صقاعي»‪ ،‬ف��ي محاولة للك�شف ع��ن الأبنية‬ ‫الحاكمة لكتاباته بكل �أجنا�سها‪ ،‬فالكتابة جن�س‬ ‫�أحد ع�شر ديوانا �شعريا‪ .‬وكتب الرافعي ال�شعر‪،‬‬ ‫الأجنا�س و�إليها‪ ،‬في النهاية‪ ،‬ي�ؤول الن�ص من �أي‬ ‫كما كتب �أجمل ما كتب بالعربية على الإطالق‬ ‫جن�س‪.‬‬ ‫في النثر الأدبي‪ .‬و�إذاً‪ ،‬فثمة جامع م�شترك بين‬ ‫وجدلية الأول �ي��ة والم�آلية م��ن الكتابة �إل��ى ما هو �أدبي وما هو فكري‪ ،‬بل بين ما هو �أدبي‬ ‫الن�ص ومن الن�ص �إلى الكتابة تمثل �أ�سا�س ما من جن�س ما وبين ما هو �أدبي من جن�س �آخر‪.‬‬ ‫نريد �أن ن�ؤ�س�سه في مدخلنا لقراءة ن�صو�ص‬ ‫ول�ست �أعرف جامعا داخليا‪� ،‬أي ن�صيا‪ ،‬بين هذه‬ ‫الدرا�سة‪ ،‬من كون الكتابة منظومة من الأ�ساليب‬ ‫الأ�صناف الثالثة �سوى الكتابة‪ ،‬ومنها يجب �أن‬ ‫العليا يتجاور بع�ضها في ن�ص وينفرد بع�ضها في‬ ‫تكون بداية كل بداية‪ ،‬بداية القراءة كما هي‬ ‫�آخ��ر‪ ،‬على �ضوء الت�صورات النظرية للكاتب‪/‬‬ ‫بداية الن�ص‪.‬‬ ‫الأدي ��ب واالن�ح�ي��ازات الجمالية ال�سابقة على‬ ‫�إن ت���ص��ورا ك �ه��ذا‪ ..‬يعيد االع�ت�ب��ار للذات‬ ‫الكتابة‪/‬الأ�ساليب العليا‪ .‬على �سبيل المثال‪ ،‬كان‬ ‫العقاد وطه ح�سين والرافعي مفكرين و�أدب��اء‪ ،‬الكاتبة في عالقتها بن�صها من جهة‪ ..‬و�سياقات‬ ‫فكتبوا م��ا كتبوا ف��ي الفكر والفل�سفة والدين �إن��ت��اج ه��ذا الن�ص و���ش��روط ت��داول��ه م��ن جهة‬ ‫والتاريخ‪ .‬وف��ي الوقت نف�سه‪ ،‬كتب طه ح�سين �أخ��رى‪� .‬أم��ا عن هذا ال�سياق‪ ،‬فيكفينا منه �أن‬ ‫ق�ص�صا لها مكانتها الأدبية في عالم «ال�سرد»‪ .‬يكتب �شاعرنا في ال�سروات بالعربية ال�سعودية‪،‬‬ ‫وكتب العقاد روايته الرائدة «�سارة»‪ ،‬ف�ضال عن ويطبع له يمني‪ ،‬في دار مقرها القاهرة‪ ،‬ويكمل‬

‫�شاعرنا رحلة ن�صه بموته في تون�س‪ .‬ويجيبنا‬ ‫ع �ن��وان �أح��د كتبه‪��« :‬ش�ه��وة ال �ك�لام‪ ،‬الذهنية‬ ‫البدوية والت�صحر الثقافي»‪ ..‬وفي داخله حديث‬ ‫عن ال�صراعات التي تحكمنا بين طبيعة لحظتنا‬ ‫ومواريث �أعرافنا من اال�ستبداد العاطفي �إلى‬ ‫ق�شرة الحداثة التي تغلف كل ما�ضينا الذي‬ ‫فينا‪ ،‬مرورا بغياب النظام ال�ضابط لالختالفات‬ ‫والتعددية وقبيلة المثقفين‪ ،‬بحيث ي�صبّ هذا‬ ‫وذاك ف��ي م�صلحة المجتمع (راج���ع �شهوة‬ ‫الكالم)‪.‬‬

‫هي منفاه المن�شور‪ ..‬هو قال في �سياق‪�« :‬أ�شتاق‬ ‫ل�ل�إن �� �س��ان»(‪ )2‬وف��ي �سياق �آخ ��ر مختلف ق��ال‪:‬‬ ‫«وتحرك الإن�سان داخلها»(‪� .)3‬إن هذه الكلمة‪:‬‬ ‫الإن���س��ان‪ ،‬مفتاح كل �شيء في �شعر غ��رم اهلل‬ ‫وفكره‪ .‬ولأن��ه «�إن�سان» فقد كان مثقفا ع�ضويا‬ ‫(بالمفهوم الجرام�شي) م�شتبك بق�ضايا واقعه‬ ‫ومجتمعه‪� ،‬إال �أن ه��ذا ال ينفي ح�ضور مالمح‬ ‫اغتراب هنا وهناك‪ ،‬برغم مقاومة «غرم اهلل»‬ ‫له ما و�سعته المقاومة‪:‬‬

‫«يا الئمي ظلما بغير عتابِ‬ ‫دع ما �سمعتَ ‪،‬‬ ‫�إليك ف�صل خطابي‬ ‫زمني بال وجه‬ ‫و�أقبح ما به‬ ‫(‪)4‬‬ ‫�أن ال�سرابَ موكّلٌ ب�سراب»‬ ‫لي�ست ه��ذه الظاهرة البالغية �أو تلك هي‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪67 )2015‬‬


‫الم�سئولة عن هذه الحالة التي نتلقى بها النموذج‬ ‫ال�سابق‪ ،‬فالت�أويل البالغي غالبا ما ي�أخذ ال�شعرية‬ ‫من االحتماالت الالمتناهية ليقل�صها‪/‬يكل�سها في‬ ‫م�ستويين‪ :‬المعنى ومعنى المعنى‪� .‬إنما النموذج‬ ‫ال�سابق يدخلنا �إل��ى حيث «الإي �ج��از» ال��ذي لم‬ ‫ي�ستطع علم المعاني �أن ي�ضبط ات�ساعه‪� ..‬إيجاز‬ ‫في قوله «م��ا �سمعت» يقابله �إيجاز في «ف�صل‬ ‫خطابي»‪ ،‬والتقابالن يقعان تحت تقابلين �آخرين‬ ‫�سبقهما هما «اللوم» و«العتاب»‪ .‬من مجموعتي‬ ‫التقابل هاتين تن�ش�أ �سل�سلة م��ؤوالت ال متناهية‬ ‫ت�صنع في طريقها ترادفا �شعريا داال بين كلمتي‪:‬‬ ‫الزمان وال�سراب‪ ،‬م�ؤ�س�سة على مفردة «الإن�سان»‬ ‫و�آخذة كل �شيء في طريقها‪� ،‬أكان �شعرا �أم فكرا‪،‬‬ ‫جاعلة �إياه �أبعادا �سيميائية لها‪.‬‬ ‫�إن لكلمة «ال�سراب» هناك �أهميتها‪ ،‬فهي دال‬ ‫يخلط في ثنايا �إحالته بين الوجود والالوجود‪،‬‬ ‫الوجود المتوهَّ م والالوجود المتحقق والرحلة‬ ‫الم�أ�ساوية‪ ،‬من الأول �إلى الآخر‪ ،‬هي رحلة الك�شف‬ ‫عن الال�شيء‪ ..‬رحلة �أن تعرف ال �أن تحيا‪ ،‬هذا‬ ‫‪68‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫التقابل‪/‬التناق�ض بين فعلي المعرفة والحياة‪..‬‬ ‫والذي يع ُّد الواحد منهما �شرطا للآخر‪ ،‬والعك�س‬ ‫يمثل �سيمياء نوعية عند غرم اهلل‪� ،‬شعرا وفكرا؛‬ ‫ي��وج��زه��ا فكريا غ��رم اهلل ال�صقاعي بقوله‪:‬‬ ‫«المجتمع الذي يعي�ش بين تقليدين في الواقع‬ ‫هو مجتمع م�شوّ�ش ومتذبذب‪ ،‬وال يمكن �أن تحكم‬ ‫عليه باتجاه ما‪ ،‬وهذا هو واقعنا الثقافي»(‪..)5‬‬ ‫وفي مو�ضع �آخر يك�شف العلة‪ ،‬فيقول‪�« :‬أزعم �أن‬ ‫كل مواطن �سعودي ي�سير وفي �صدره �شيخان‪،‬‬ ‫�شيخ دين و�شيخ قبيلة يتقا�سمان �إدارة �سلوكه‬ ‫ومعارفه واهتماماته وتناق�ضاته �أي�ضا‪ ،‬ال يختلف‬ ‫ذلك بين مثقف وغيره‪ ،‬وربما من�ش�أ ال�صراع هو‬ ‫مع ال�شيخين ولي�س مع المجتمع‪ ..)6(»..‬من هذا‬ ‫وذاك يكون الخوف من الحياة‪ ،‬و�إن ت�ستّر بثياب‬ ‫الع�شق ليليق بال�شعر‪:‬‬

‫«ه ّي�أت نف�سي‬ ‫القتحام طقو�س ليلتها‬ ‫ف�صكّت وجهها‪..‬‬ ‫انتبذت مكانا ال يطال‬

‫والإجابة ب�سيطة جدا‪ ،‬فال�صدق الإن�ساني ال‬ ‫يخرج الفكر من دائرة �أية ممار�سة‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫ممار�سة �إب��داع�ي��ة‪ .‬وحين ت�صدق ف��ي مجتمع‬ ‫مزدوج متذبذب ال ي�ستطيع تحديد توجهه‪ ،‬فال‬ ‫بد من الن�ص ال�شارح لل�شعري �أو الن�ص ال�شاعر‬ ‫ه��ذه العالقة التي ت�ستحيل �إال ف��ي ف�ضاء بالفكري‪ ،‬بل �إن «تحليل الكلمة ال�شعرية‪ ،‬بجميع‬ ‫المحال تتخطى مو�ضوعها وت�سم م��ن خالل ظاللها ومظاهرها‪� ،‬أداة لفهم ن�شاط الأفكار‬ ‫الجملة «الخوف يمنعها الحياة» كل �شيء حتى وتكوين الآراء»(‪ )8‬وربما العك�س كذلك‪.‬‬ ‫موقف المخاطِ ب نف�سه‪ ،‬فكل ه��ذا اال�ستعداد‬ ‫يقول «غرم اهلل»‪« :‬تح�ضر قبيلة المثقفين في‬ ‫(المبالغ ف�ي��ه) للموعد ينم ع��ن �شعور خفي �صورة رحالت متنقلة تحمل زادها من ال�صراع‬ ‫با�ستحالة تحققه‪ ،‬ويع�ضد هذا مفردة «االقتحام» ومحاربة الآخ��ر بحثا عن �أر���ض خ�صبة تعي�ش‬ ‫التي �أفلتت من رقابة المعجم الرومان�سي الذي فيها لتمرر بع�ض �أفكارها‪ .‬يت�ساوى في هذا من‬ ‫التزمه ال�شاعر‪ ،‬فلم يكن لتلك الكلمة �أن تقتحم كانت ثقافته �سلفية‪� ،‬أو �أولئك الذين ينتمون‬ ‫هذا المعجم لوال يقين ال�شاعر ب�سرابية موعده‪ /‬لأ�سماء حديثة في البحث عن الأماكن ال�صالحة‬ ‫ا�ستحالته‪ ،‬وهو يقين ال يعود �إلى التجربة الن�صية لبث طموحات وجهاالت قبائلهم‪ ،‬لي�س لهم من‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫مددت حبال من عبير م�شاعري‪..‬‬ ‫�أججت نار ال�شوق بين غيوم موعدها‬ ‫لين�سكب اعتذار‪..‬‬ ‫الخوف يمنعها الحياة‪..‬‬ ‫على محيا ليلنا المو�شوم‬ ‫بالآهات‬ ‫فا�ضت نف�س موعدنا‬ ‫ف�صلّينا لرحلتنا الحزينة‬ ‫(‪)7‬‬ ‫فوق �أجنحة المحال»‬

‫فح�سب‪ ،‬و�إنما �إلى حقائق ال�سياق الخارجي لها‪،‬‬ ‫فهل �صنعت هذه التجربة‪/‬التجارب المبت�سرة‬ ‫من غ��رم اهلل المفكر �شاعراً؟ �أم �صنعت من‬ ‫غرم اهلل ال�شاعر مفكراً؟‬

‫من اليمين عبدال�سالم الحميد و �إبراهيم الحميد و الراحل غرم اهلل ال�صقاعي وعلي الرباعي في �أم�سية احت�ضنها نادي‬ ‫الجوف الأدبي عام ‪ 2008‬م‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪69 )2015‬‬


‫‪70‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫«�أنا والحياة‬ ‫نجاهد ال�شو َق المدى‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫و�سائل �إال الكالم والخطابة والمنابر الكتابية �ساقية وطن»‪ ،‬يقول ال�شاعر‪:‬‬ ‫واللفظية‪ .‬وعندما تعر�ض �أقوالهم وكتاباتهم �أي�������ا وط���ن���ـ���ي ي����ا ���ش��ف��ي��ـ��ـ��ف ال����ـ����ر�ؤى‬ ‫ع�ل��ى �سلوكهم ت�ج��د ال�ت�ب��اي��ن الكبير ب�ي��ن ما‬ ‫�أع����ي����ـ����ذك م�����ن ج���اه���ـ���ـ���ـ���ل ي��ه��ـ��ـ��ـ��ـ��رفُ‬ ‫يقولون وما يفعلون‪ .‬ولعل الملتقيات التي تعدها‬ ‫الم�ؤ�س�سات الثقافية وكذلك برامج المخيمات ب����أ����ض���ـ���ـ���داده���ـ���ا ت�����س��ـ��ـ��ت��م��ر ال��ح��ي��ـ��ـ��اة‬ ‫وت���زه���ـ���ـ���ـ���ر ب���ال���ح���ب �إن �أن�������ص���ـ���ـ���ف���وا‬ ‫هما وجهان لعملة واحدة هي خدمة القبيلة فقط‪،‬‬ ‫(‪)9‬‬ ‫ولي�س لم�شروع �إن�ساني يهتم ببناء الإن�سان» ‪ ..‬وي���ع�������ش���ب ب���ال�������ص���دق وج���ـ���ه ال��ن��ه��ار‬ ‫لو قال «غرم اهلل» (م�شروع وطني)‪� ،‬أو (بناء‬ ‫و���ش��م��ـ��ـ�����س ال��ح��ق��ي��ـ��ـ��ق��ة ال ت��ك�����س��ـ��فُ‬ ‫المواطن) لجاز قوله‪ ،‬بل لكان �أول��ى لمقاربته‬ ‫�إننا �إزاء ن�صين مختلفين ن��وع�اً‪ ،‬ولكنهما‬ ‫الواقع ال�سعودي ب�أ�سمائه‪ ،‬ولكن معجم الرجل‬ ‫فكريا هو هو معجمه �شعريا‪ ،‬وربما ك��ان يرى يمتحان من ماء واحد‪ ،‬ماء الإن�سانية التي بها‬ ‫�أن �أعلى �صورة المواطنة حين يحقق المواطن يتقوم ك��ل �شيء ف��ي ال��واق��ع ظ��واه��ر و�أن�ساقا‪.‬‬ ‫�إن�سانيته من خاللها‪ ،‬ال �أن تعوق خ�صو�صيته لقد كان غرم اهلل‪ ،‬بانهمامه الفكري‪ ،‬ي�صنع‬ ‫نمو هذه الإن�سانية‪ ،‬وهذه ر�ؤية �شاعرة �أكثر منها �سياقات تلقي ن�صه ال�شعري‪ ،‬في الوقت نف�سه‬ ‫اجتماعية �أو �سيا�سية‪ .‬والوطن يرتفع عند «غرم الذي كان يحيل من خالل ن�صه ال�شعري �إلى هذه‬ ‫اهلل» عن ر�سوم �أر�ض �إلى منظومة قيم‪ ،‬وال كفاء ال�سياقات‪ ،‬لنكت�شف النبع الواحد ال��ذي يميز‬ ‫لهذه القيم �إال الإن�سان المفرط في �إن�سانيته‪ ،‬ن�ص «غرم اهلل» الإن�سان الفكري وال�شعري‪ ،‬و�إن‬ ‫ولي�س كالتعدد والتعاي�ش بين االختالفات وقبول لم يمهله القدر ليكمل �أيا منهما‪ ،‬ال خ�صائ�ص‬ ‫الآخ��ر �إن�سانية‪ ،‬كما في ق�صيدته «ع��زف على ن�صه ال�شعري وال ر�ؤيته الفكرية للعالم‪.‬‬

‫ونظرا ل�شاعرية فكر «غرم اهلل» نجد مفردتي‬ ‫«الإن�سان» و«الإن�سانية» تطل علينا من �صفحات‬ ‫كتابه في النقد االجتماعي‪�« :‬شهوة الكالم»‪..‬‬ ‫وتلت�صق بهاتين الكلمتين ثالثة هي الحياة‪ ،‬وقد‬ ‫ك��اد حديثه عن «الليبرالية المغ�ضوب عليها»‬ ‫�أن ي�ؤ�س�س لليبرالية �إ�سالمية نحن �أح��وج ما‬ ‫نكون �إليها‪ ،‬بدال من ه�ؤالء الذين يطلقونها من‬ ‫قيد ال�صفة التي تمثل هويتنا‪� ،‬أو �أولئك الذين‬ ‫يكتفون بال�صفة عن مو�صوفها ليدفعوا بالدين‬ ‫�إلى تبرير اال�ستبداد‪ ،‬وهو ما تناوله «غرم اهلل»‬ ‫تحت عنوان قريب من العنوان ال�سابق‪« :‬الإ�سالم‬ ‫المظلوم»‪ ،‬وربما كان الجمع بين الغ�ضب على‬ ‫الليبرالية ومظلومية الإ�سالم بين �أهله هو الذي‬ ‫اقترح على �صديقنا فكرة «الليبرالية الإ�سالمية»‬ ‫و�إن لم ي�صرح بها‪« :‬و�أعتقد �أن الليبرالية طريقة‬ ‫لممار�سة الحياة والتفكير تقوم على الحرية‬ ‫كمكوّن �أ��س��ا���س ل�ه��ا‪ ،‬ولكنها ح��ري��ة من�ضبطة‬ ‫تحت قوانين عقائدية �أو قوانين و�ضعية وقيم‬ ‫�أخالقية يتفق عليها الجميع‪ ،‬تنظم حياة النا�س‬ ‫وتحقق للإن�سان �إن�سانيته‪ ،‬وتحقق الم�ساواة‬ ‫والعدالة للجميع من خالل االختيار ولي�س القمع‬ ‫والو�صاية»(‪� .)10‬إن «غرم اهلل» كاد ي�صرح لوال‪...‬‬ ‫فترك كلمته‪/‬كلماته لمن �أراد �أن ي�ستنطقها‪،‬‬ ‫فكل كلمة لها خطابها الكامل والوا�ضح لمن‬ ‫�أراد �أن ين�صت �إليها‪ :‬الحياة‪ ،‬الحرية‪ ،‬العدالة‪،‬‬ ‫الم�ساواة‪� ،‬إن�سانية الإن���س��ان‪� .‬إن «غ��رم اهلل»‬ ‫يتركها وال يتركها‪ ،‬يتركها فكريا‪ ،‬لي�أخذها �إلى‬ ‫ن�صه الآخ��ر حيث حريته و�إن�سانيته نقية من‬ ‫القمع الذي ذكر‪ .‬يقول في الق�صيدة التي جعلها‬ ‫أق�صد»‪:‬‬ ‫عنوان ديوانه‪« :‬لغوايتهن � ّ‬

‫ونمد �أرواحا من النجوى‬ ‫وتكتبنا الق�صيدة فوق �أ�شرعة الهدى‬ ‫متبتالنِ‬ ‫وللغواية �أن تعيد �صياغة الإن�سانِ‬ ‫لل�شعراء جنتهم‬ ‫ولي عرف الجمال‬ ‫(‪)11‬‬ ‫ور�سمه مطرا على كل الجهات»‬ ‫ح�ي��ث وج �ه��ت ن��ظ��رك ف��ي ك��ت��اب��ة «غ���رم اهلل‬ ‫ال�صقاعي» ثمة ��ش��وق �شبقي للحياة‪ ،‬الحياة‬ ‫بال�شرط الإن�ساني الوحيد‪ :‬الحرية‪ ،‬الحرية هذه‬ ‫الغواية القادرة على �إعادة �صياغة الإن�سان‪ .‬اقر�أ‬ ‫نقده االجتماعي تلتقها؛ اقر�أ �شعره‪ ،‬حتى مفرط‬ ‫العاطفية منه ترها‪ .‬ولعل هذا ما جعل للمعنى‬ ‫مركزيته في ن�صيه ال�شعري والفكري‪ ،‬فال هو‬ ‫ا�ستلبته �شكالنية تفقر ن�صه ال�شعري من وظيفته‪،‬‬ ‫وال هو �أغواه تنظير يفقد ن�صه الفكري ا�شتباكاته‬ ‫بواقعه �سواء االجتماعي �أو الثقافي منه‪.‬‬ ‫كان «غ��رم اهلل» ي�ؤمن �أن الكتابة م�سئولية‬ ‫تجاه الحياة والإن�سان‪ ،‬ووظيفة تجاه الثقافة‬ ‫والمجتمع‪ ،‬وم��ن ث��م ك��ان كاتبا ملتزما‪ ،‬لي�س‬ ‫بالمفهوم المارك�سي ال�ضيق‪ ،‬و�إنما بالمفهوم‬ ‫الإن�ساني ال�ع��ام‪ .‬فلي�س �أم��ر �إي�ق��اع �أن يعطف‬ ‫«غرم اهلل» «المعاني» (ال�شعرية) على الأماني‬ ‫(الفكرية) ف��ي خطاب «الحبيبة الأح�ل�ام»‪..‬‬ ‫�أع��ل��م �أن��ي �أف���رط ت���أوي�لا‪ ،‬ولكن ال�شواهد من‬ ‫كتابات الرجل ت�ؤكد على �إفراط ت�أويلي‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫«يا ليت �أنك تعلمين‬ ‫وتدركين‬ ‫ب�أنك الأنثى التي‬ ‫كانت‬ ‫لأحالمي‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪71 )2015‬‬


‫�أزع�� ��م �أن� ��ه ال � �ش �ع��ري �إال وه� ��و م�ح�م��ول‬ ‫على الفكري ب�شكل مبا�شر �أو غير مبا�شر‪،‬‬ ‫واال�ستحالة التي يحملها حرف التمني «ليت»‬ ‫يخرج كلمة «�أن�ث��ى» من دالل��ة خطابها‪� ،‬أعني‬ ‫ح�ضورها‪ ،‬ليلحقها بالما�ضي‪� ،‬إذ (دائما) كانت‬ ‫�سر امتالء الأحالم‪/‬الن�صو�ص‪� ..‬أماني �أبداها‬ ‫الفكر ومعاني جالها ال�شعر‪..‬‬

‫�أخيراً‪ ،‬وبعد ما �سبق‪ ،‬ن�أتي للأن�ساق الثقافية‬ ‫الباطنة في ن�ص «غرم اهلل»‪ ..‬وقد ن�سلم للدكتور‬ ‫الغذامي فيما ذهب �إليه �إال في تعميم �أحكامه‪،‬‬ ‫وخ�����ص��و���ص��ا ف���ي خ�����ض��وع ال��م��ج��ازي ل��ل�����ش��روط‬ ‫رحم اهلل غرم اهلل ال�صقاعي �سيدا وحقيقيا‬ ‫الثقافية(‪)13‬؛ فبع�ض الن�صو�ص تبد�أ من تناق�ضها ويدرك تبعات �أن يكون �سيدا وحقيقيا في �أزمنة‬ ‫مع هذه الأن�ساق‪ ،‬فال تح�ضر في بنيتها العميقة الزيف‪.‬‬ ‫ * ناقد �أدبي وكاتب م�صري‪.‬‬ ‫(‪ ) 1‬للأ�سف‪ ،‬لم ي�صلني كتاب «غرم اهلل ال�صقاعي»‪« :‬البهو وليال ع�شر»‪ ،‬ولذا �سوف نعتمد م�ضطرين على‬ ‫الديوانين وكتاب «�شهوة الكالم» فقط‪.‬‬ ‫(‪ ) 2‬غرم اهلل ال�صقاعي دي��وان‪ :‬ال �إك��راه في الحب ق�صيدة‪ :‬هم�س دار كليم للن�شر والتوزيع القاهرة ط‪،1 :‬‬ ‫‪2012‬م‪� ،‬ص‪13 :‬‬ ‫(‪ )3‬املرجع السابق قصيدة‪ :‬غناء ص‪.12 :‬‬

‫أق�صد ق�صيدة‪ :‬ف�صل من منادمة الأ�سى م�ؤ�س�سة �أروقة للدرا�سات‬ ‫(‪ )4‬غرم اهلل ال�صقاعي ديوان‪ :‬لغوايتهن � ِّ‬ ‫والترجمة والن�شر القاهرة ط‪2014 ،1 :‬م‪.‬‬ ‫(‪ )5‬غرم اهلل ال�صقاعي �شهوة الكالم‪ ،‬الذهنية البدوية والت�صحر الثقافي دار �أروقة القاهرة ط‪ 2014 ،1 :‬مــ‬ ‫�ص‪.44 :‬‬ ‫(‪ )6‬المرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.51 :‬‬ ‫أق�صد ق�صيدة‪� :‬سبات �ص‪.22 ،21 :‬‬ ‫(‪ )7‬ديوان‪ :‬لغوايتهن � ّ‬ ‫(‪ )8‬ف‪ .‬ت�شيت�شرين الأفكار والأ�سلوب ت‪ :‬د‪.‬حياة �شرارة ال�شئون الثقافية بغداد د‪.‬ت �ص‪.19 :‬‬ ‫(‪� )9‬شهوة الكالم �ص‪.53 :‬‬ ‫(‪ )10‬المرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.78 :‬‬ ‫(‪� )11‬ص‪.32 :‬‬ ‫(‪ )12‬ديوان‪ :‬ال �إكراه في الحب ق�صيدة‪� :‬أنت الوحيدة �ص‪.138 ،137 :‬‬ ‫(‪ )13‬د‪ .‬عبداهلل الغذامي النقد الثقافي‪ ،‬قراءة في الأن�ساق الثقافية العربية المركز الثقافي العربي بيروت‪/‬الدار‬ ‫البي�ضاء ط‪2005 ،3 :‬م �ص‪.67 :‬‬

‫‪72‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫� �ش��اع��ري��ة غ ��رم اهلل ال���ص�ق��اع��ي‪،‬‬ ‫ل�ست في وارد عر�ضها‪ ،‬وو�ضعها‬ ‫على المحك ل�ق��راءة التجربة‪،‬‬ ‫ف �ت �ل��ك م �ه �م��ة ال��ن��ق��اد‪ ،‬وم��ن‬ ‫ت���ذوق غ �ي��ري ع��ذوب��ة �شعره‬ ‫وجزالة مفردته‪ ،‬لكني حتما‬ ‫�س�ألت�صق ب ��دفء �إن�سانيته‬ ‫ال� �ت ��ي ع��رف �ت �ه��ا ع �ب��ر ع �ق��ود‪،‬‬ ‫وتنوّعت في مناحيها لدرجة �أني‬ ‫ال �أ�ستطيع ترتيب �أفكاري‪ ،‬وال التقاط‬ ‫�سمة مميزة واح��دة ل�شخ�صيته‪ .‬فالتنوّع والثراء‬ ‫والتدفق المبهج يربكني‪ ،‬فقد عرفت غرم اهلل في‬ ‫�سن مبكرة ج��دا‪ ،‬ربما تقترب من �أربعين عاماً‪،‬‬ ‫فقد ع��دت م��ن ال��ري��ا���ض ف��ي �إج ��ازة �صيفية �إل��ى‬ ‫منطقة الباحة‪ ،‬و�صادف وج��ود حفلة زف��اف بنت‬ ‫من قبيلة (الرهوة) �إلى �شاب في قبيلته المجاوره‬ ‫لنا (بني كبير)‪ ،‬والقبيلتان ت�شكالن خم�س قبائل‬ ‫غامد‪ ..‬وتتجاوران في المكان‪ ،‬وتتقا�سمان في�ض‬ ‫الماء ومواطن المراعي‪ ،‬وكما ترتبطان بعالقات‬ ‫م�صاهرة‪ ،‬ف ��إن هناك �صراعات وح��روب بينهما‬ ‫قديمة ومتوارثة‪ ،‬ما تزال حينها تخبئ ن��ار ًا تحت‬ ‫رم��اده��ا‪ ،‬وتفر�ض التقاليد المجتمعية مرافقة‬ ‫العرو�س‪ ،‬وتقديم التهنئة والمباركة وح�ضور حفل‬ ‫العر�ضة (اللعب ال�شعبي)‪ ،‬وب��ادر عقالء كل من‬ ‫القبيلتين لتفادي �أي �إ�شكالية‪ ،‬قد تُحوّل الفرح‬ ‫في مجتمع م�سلح حينها �إل��ى ما ال يحمد عقباه‪،‬‬ ‫فنادر ًا ما تجد رج ًال بال حزام (جنبيه)‪� ،‬أو ب�سالح‬ ‫ناري على كتفه‪ ،‬لئال يلحق به عيب ح�سب التقاليد‬ ‫القبلية؛ فانتدبوا �شاعر ًا كبير ًا (�أب��و جعيدي)‪،‬‬ ‫ومعروف ًا من خارج القبيلتين لإحياء الفرح‪ ،‬وحينما‬

‫تواجهت ال�صفوف ودق الزير وارتفع‬ ‫�صوت ال�شاعر‪ ،‬كان هناك طف ٌل لم‬ ‫يبلغ الحادية ع�شر من عمره‪،‬‬ ‫يقف ف��ي م��واج�ه��ة ال�صفوف‬ ‫يلقي �شعره‪ ،‬وي�ستخرج جمر‬ ‫ال�سنين الخامدة بين رمادها‪،‬‬ ‫لي�ستثير �أف��راد قبيلتي الذين‬ ‫� �ش��رع��وا ف ��ي االن �ح �ي��از خ ��ارج‬ ‫ال �م �ي��دان‪ ،‬وال يعلم �إال اهلل كيف‬ ‫�ستكون نهاية هذا الفرز المجتمعي‪ ،‬ولكن‬ ‫لأن لل�شعر الرفيع حكمته‪ ،‬ب��ادر ال�شاعر الكبير‬ ‫ليخمد ثورة منتظرة ببيت ق�صيدة‪ ،‬ي�صف ال�شاعر‬ ‫ال�صغير بعود �أخ�ضر‪ ،‬ال بد �أن يدخن �إذا و�ضع في‬ ‫النار‪ ،‬ولم يكن هذا ال�شاعر ال�صغير الذي تجر�أ في‬ ‫هذا الموقف على الظهور وبموهبة مبكرة غير غرم‬ ‫اهلل ال�صقاعي‪.‬‬ ‫معرفة بعيدة جمعتني بغرم اهلل ال�صقاعي‪،‬‬ ‫لم تكن مبا�شرة و�شخ�صية‪ ..‬لكنها �سمحت لي‪،‬‬ ‫�أن �أطلق عليه بعد ه��ذه الأم�سية م�سمى ال�شاعر‬ ‫(الفتنة)‪ ،‬فنغرق في حكايات مت�شعبة لكنه �أب��د ًا‬ ‫ل��م يتنازل ع��ن موقفه ذل��ك‪ ،‬ول��م نلتق بعد تلك‬ ‫الحادثة لعقود �أي�ضاً‪ ،‬فكنت �أعي�ش و�أمار�س حياتي‬ ‫في الريا�ض‪ ،‬وبقي غرم اهلل في قريته وبين �أبناء‬ ‫قبيلته‪� ،‬شاعر ًا ومعلم ًا ومدير ًا لمدر�ستها و(عريفة)‬ ‫من�صب اجتماعي ق�ي��ادي لقريته‪ ،‬وي�ق��وم ببع�ض‬ ‫الن�شاطات الإن�سانية عبر جمعية خيرية ير�أ�سها‪،‬‬ ‫فكان ن�صير الفقراء والمعدمين واليتامى‪ .‬ولن‬ ‫تكفي ول��ن تفي �سطوري المتوا�ضعة هنا‪ ،‬لإيفاء‬ ‫حقه و�سرد ما �أع��رف من حكايات �شهدتها له في‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫الأماني‬ ‫والمعاني!!»‬

‫(‪)12‬‬

‫�إال مو�سومة بهذا الموقف‪ ،‬معلم عليها بكونها‬ ‫�أن�ساقا �ضدا‪ ،‬وموظفة لح�ساب مقا�صد الكاتب‪.‬‬ ‫ومركزية المعنى عند «غرم اهلل» �أدت �إلى هذه‬ ‫الحالة الفريدة لباطن ن�صي مراقب بظاهره‬ ‫بدال من �أن يتحكم به‪ ،‬وهذا ما حاولناه في هذه‬ ‫القراءة‪� .‬إن كتابة الراحل الكريم‪ ،‬لم تبد�أ من‬ ‫كونها كذلك‪ ،‬ولكنها بد�أت من حيث يجب‪ ،‬بد�أ‬ ‫من وعي حاد بتخلف تلك الأن�ساق الثقافية التي‬ ‫تحكم حركة الفكر والأدب في المجتمع ال�سعودي؛‬ ‫فكان ن�صاه الفكري وال�شعري نتاج ذلك الوعي‬ ‫وردا على تلك الأن�ساق‪ ،‬فنجا من حاكميتها‪ ،‬ولقد‬ ‫كان هذا ب�شير حركة �أدبية وفكرية واعية وفاعلة‬ ‫وقادرة على �صناعة واقع مغاير لوال ق�ضاء اهلل‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪73 )2015‬‬


‫‪74‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫(الإهداء للروائي �أحمد الدويحي)‬

‫ه�����ذا ج�������زا ُء ال������ذي �أ����ص���غ���ى ل��ع��ا���ش��ق�� ٍة‬ ‫ع���ب���ر ال����ه����وات����ف ف����ي ب����واب����ة ال�����س��ح��ر‬ ‫�أف���ن���ى ال��ر���ص��ي��د ول����م ي��ظ��ف��ر بحاجته‬ ‫ك��ج��ال��ب ال��ت��م��ر م���ن ���ص��ب��ي��ا �إل����ى هجر‬ ‫�أودى ب����خَ ����اف����ق����ه ف�����ي ك����فِ����ه����ا ول����ه����اً‬ ‫ف���خ���ل���ف���ت���ه ق����ت����ي���� َل ال���������ش����كِ وال�������س���ه���ر‬ ‫ي���غ���ن���ي ال����ل����ي���� َل ل���ح���ن���اً م�����ن م�����ص��ي��ب��ت��ه‬ ‫���ش��ت��ا َن م���ا ب��ي��ن ل��ح��ن ال���م���وتِ وال��ظ��ف��ر‬ ‫ري����ان����ة ال�����ع�����و ِد ك�������ادت م����ن م�لاحَ ��ت��ه��ا‬ ‫ف���ي ع��ي��ن��ه �أن ت�����ض��اه��ي ����ص���ورة ال��ق��م��ر‬ ‫ت����ع����ل����ق����ت����ه ع�����ل�����ى م�����ك�����ر وك������������ان ل���ه���ا‬ ‫�����ًّل���� وف�����ي�����ا وم��������ا زارت ول��������م ي����زر‬ ‫خِ اًّ‬ ‫�أراده����������������������ا ل��������ه��������واه غ�����ي�����م�����ة وغ��������دا‬ ‫�������س ب������الآم������ال وال���م���ط���ر‬ ‫ي���ع���ل��� ُل ال���ن���ف َ‬ ‫و�أن�����������ش�����د ال�����ده�����ر ل���ل���ع�������ش���اق ت����ذك����ر ًة‬ ‫ال�����ح�����بُ ي�����ا ده������ر ل�����م ي���ب���ق ول������م ي���ذر‬ ‫ن���������ض����ارة ال���ع���م���ر ي����وم����ا ف�����ي م��ع��ي��ت��ه��ا‬ ‫و�آخ��������� ُر ال���ع���م���ر ي������وم ال���ب���ع��� ِد وال����ك����در‬ ‫واج�����دب ال��ع��م�� ُر والأ������ش�����واق م���ا فتئت‬ ‫ت���غ���از ُل ال�����ش��ي��بَ م���ا خ��اف��ت م���ن ال��ك��ب��ر‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫ه��ذا الجانب الإن�ساني الخيري‪ ،‬و�س�أكتفي ب�أخر‬ ‫ما �شهدته وح�ضرت تفا�صيله‪ ،‬فقد كنت في العام‬ ‫الما�ضي ف��ي زي ��ارة الباحة �أوائ ��ل �أي ��ام رم�ضان‬ ‫المبارك‪ ،‬فعرف القطب الثالث لنا الدكتور علي‬ ‫الرباعي بوجودي‪ ،‬و�أ�صر �أن ي�ضمنا مجل�س �إفطار‪،‬‬ ‫نحن بع�ض م��ن مثقفي منطقة الباحة و�أ�ساتذة‬ ‫الجامعة في منزله‪ ،‬وبطبيعة الحال يفتر�ض �أن‬ ‫يكون غرم اهلل ال�صقاعي في مقدمة الح�ضور‪ ،‬وقد‬ ‫كلفه الدكتور الرباعي ليكون رفيقي بحكم قربنا‬ ‫المكاني‪ ،‬ات�صلت به قبل �أذان المغرب بدقائق لعله‬ ‫يمر عليَّ ‪ ،‬فقد ت�أخرنا ولأني بال �سيارة‪ ..‬ففوجئت به‬ ‫بال مقدمات‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ ل�ست �سائق ًا لديك �أنت وعلي الرباعي!‬‫ك��ان الدكتور الرباعي �أق��ل مني غ�ضباً‪ ،‬فهما‬ ‫رو ٌح واحدة في ج�سدين متفرقين‪ ،‬ومنعني غ�ضبي‬ ‫�أن �أرد على هاتفه المتوالي �أربعة �أيام‪ ،‬ففوجئت به‬ ‫يقف في و�سط بيتي‪ ،‬وينهرني بطريقة ال يفعلها �إال‬ ‫غرم اهلل ال�صقاعي‪ ،‬قائال‪:‬‬ ‫قم نخرج يا رخمه!‬ ‫لم يكن بيدي رف�ض طلبه‪ ،‬وقد �أ�صر‪ ..‬و�إذا فعل‬ ‫فال منا�ص من تنفيذ رغبته‪ ،‬وبادر ب�إبالغ عائلتي‬ ‫بغيابي معه‪ ،‬وهم يعرفون مكانته الرفيعة عندي‪،‬‬ ‫ويثقون ب�أني معه �س�أ�صبح في �أف�ضل حاالتي‪ ،‬ولما‬ ‫ا�ستجبت لدعوته على م�ض�ض‪ ،‬فما زال في النف�س‬ ‫�شيء من بقايا الأم�س‪ ،‬قال معاتب ًا لينبهني دون �أن‬ ‫يعتذر مبا�شرة‪:‬‬ ‫ ي��ا رخ��م��ه (!) ه��ل ت��ظ��ن �أن����ي �أح��ب��ك �أن��ت‬‫والرباعي �أكثر من زوجتي‪ ،‬لأفطر معكما في �أول‬ ‫يومٍ في رم�ضان‪ ،‬و�أَتركها وحيدة!؟‬ ‫في طريقنا �إل��ى بيته عبر قريته �إل��ى ا�ستراحة‬ ‫��ش�ه�ي��رة ل��ه‪ ،‬ي�ستقبل فيها ��ض�ي��وف��ه م��ن المنطقة‬ ‫وخ��ارج�ه��ا‪ ،‬ويفي�ض منها كرمه ال��ذي يع ُد م�ضرب ًا‬ ‫للمثل‪ ،‬وف��ي بيته حيث يطيب لي ال�سهر كل �صيف‪،‬‬

‫عرفت وجوه ًا كثيرة بدا لي �أنها ال تقل عني ارتباط ًا‬ ‫ب��ه‪ ،‬وجدنا في طريقنا رج� ًلا ع�ج��وزاً‪ ،‬ربما يتجاوز‬ ‫الثمانين من عمره‪ ،‬يعبر الطريق متكئ ًا على ع�صاه‪،‬‬ ‫فتوقف غرم‪ ..‬ولم يكن مفاج�أة لي‪ ،‬فح�سبت �أنه ربما‬ ‫ينقله �إلى مكان �أخر‪� ،‬أو يق�ضي له حاجة كالعادة‪ ،‬لكن‬ ‫ما حدث بينهما كان المفاج�أة بكل ف�صولها‪ ،‬فبمجرد‬ ‫ما �شاهده الرجل انهال عليه بدعاء �سيء‪ ،‬جعل �شعر‬ ‫ر�أ�سي ينت�صب‪ ،‬و�أ�صرخ في وجهه لنم�ضي‪ ،‬لكنه وا�صل‬ ‫الحوار مع الرجل العجوز بال فائدة‪..‬‬ ‫كان الرجل يقب�ض ثالثة �أالف ريال من جمعية‬ ‫خيرية �أخرى‪ ،‬وكان المبلغ �أكبر مما تقدم الجمعية‬ ‫الخيرية التي ير�أ�سها غرم اهلل‪ ،‬وي�سقط حق الرجل‬ ‫�إذا قب�ض من جمعيتين في �آن واحد‪ ،‬فكان غرم اهلل‬ ‫ي�سمح له ا�ستالم المبلغ الأكبر من الجمعية الأخرى‪،‬‬ ‫ويدفع له من حر ماله مبلغ ًا �أخ��ر‪ ،‬بدون �أن ي�سجل‬ ‫ا�سمه في ك�شوف جمعيته؛ لئال ي�سقط بفعل النظام‪،‬‬ ‫لكن الرجل العجوز لم يكن يدري!‬ ‫ارتبطت بغرم مبا�شرة وقبل عقدين تقريباً‪ ،‬فال‬ ‫يمر يوم بدون توا�صل وات�صاالت‪ ،‬نتناول فيها �أوجه‬ ‫الحياة الثقافية والمجتمعية‪ ،‬ول��م �أق��م �أم�سية في‬ ‫كل مدن الجنوب والمنطقة الغربية‪ ،‬ب��دء ًا من �أبها‬ ‫وجيزان والباحة وجدة وال يكون غرم اهلل في مقدمة‬ ‫الح�ضور‪ ،‬وال بد لي من �أم�سية �أدبية في كل �صيف في‬ ‫الباحة‪ ،‬حتم ًا �ستكون ترتيبها و�إدارتها خا�ضعة لغرم‪،‬‬ ‫وكل الأم�سيات الأدبية في الباحة �إذا لم يكن يديرها‪،‬‬ ‫فالم�ؤكد �أنه �سيكون من �أبرز المداخلين فيها‪.‬‬ ‫�شهدت والدة ك��ل ن�صو�صه ال�شعرية‪ ،‬ووقفت‬ ‫على محطات تعديالت عليها‪ ،‬وبالذات الق�صيدة‬ ‫الجميلة ل��ه ف��ي م�ه��رج��ان ال �ج �ن��ادري��ة‪ ،‬ق�صيدة‬ ‫واحدة فلتت من هذه الو�صاية‪ ،‬ت�شكل نزعة التمرد‬ ‫الإيجابي الخفي في �شخ�صيته‪ ،‬فقد ق�ضيت �أيام ًا‬ ‫مري�ض ًا في الم�ست�شفى في �أح��د الموا�سم‪ ،‬فجاء‬ ‫هو والدكتور علي الرباعي لزيارتي‪ ،‬و�أ�صرا على‬ ‫خروجي على م�س�ؤوليتهما من الم�ست�شفى‪ ،‬و�سخرا‬

‫من رف�ض الطبيب وتحذيراته‪ ،‬وفوق هذا حجز لي‬ ‫تذكرة طائرة درج��ة �أول��ى في اليوم نف�سه لألحق‬ ‫ب�أهلي في الريا�ض‪ ..‬وقد ك��ان‪ .‬لكني فوجئت بعد‬ ‫�أي��ام بق�صيدة من�شورة ومهداة �إل��يَّ ‪ ،‬تحكي بع�ض‬ ‫التفا�صيل وتك�شف عن مخبئها وو�سمها بالعا�شقة‪:‬‬

‫من جانب الحب لم يُخلق من الب�شر‬ ‫فاع�شق وع���ف وان�����س ال��ج��رح مبت�سما‬ ‫�إن ال�����س��ح��اب��ة ال تخ�شى م��ن ال�ضجر‬ ‫وا���س��ت��ق��ب��ل ال��ع��م�� َر ب���الأح�ل�ام �أن�سجها‬ ‫حرفا م��ن ال��وج��د �أو �صوتا م��ن الوتر‬ ‫ال زل�����ت ي����ا ����س���ي���دي ل��ل��ع�����ش��ق ���س��اق��ي��ة‬ ‫���ا����س م���ا م���ل���وا م���ن ال�����س��ف��ر‬ ‫ي���ؤم��ه��ا ال���ن ُ‬ ‫ل�ست �أع ��رف ل��م �أر��س�ل��ت ل��ه وح ��ده‪ ،‬البروفة‬ ‫النهائية لروايتي القادمة (منابت الع�شق) دون‬ ‫� �س��واه؟ كنت �أع ��رف �أن��ه ل��ن يجد ال��وق��ت الكافي‬ ‫لقراءتها في رحلته الأخيرة‪ ،‬وقد احت�ضنته تون�س‬ ‫الخ�ضراء بقدر ع�شقه لها‪ ،‬وتنقل مع رفاقه من‬ ‫المثقفين بين مدنها وريفها‪ ،‬رحل من جنوبها الذي‬ ‫عو�ضه عن جنوبه الأثير �إل��ى �شمالها‪ .‬المثقفون‬ ‫يلتفون حوله بمودة‪ ،‬ظهرت في حجم وكثافة رثائهم‬ ‫له‪ ،‬وك�أنما اكت�شفوا �أن لدينا �شيئ ًا نباهي به غير‬ ‫النفط‪ ،‬فبادلهم حب ًا بحب وهو القائل لهم‪:‬‬

‫ي��ا ت��ون�����س ال��خ�����ض��راء ج��ئ��ت وف���ي دم��ي‬ ‫ع���������ش����ق����اً لأر��������ض�������ك وال��������غ��������رام م���ب���اح‬ ‫ف���ي���ك اب����ت����دا ح���ل���م ال���رب���ي���ع و�أزه�������رت‬ ‫ف�����ي ك�����ل �أر�����������ض ب����ال���������ش����ذى �أرواح!‬

‫�أر�سلت له رواي�ت��ي‪ ،‬و�أن��ا �أع��رف ب�أني �س�أتلقى‬ ‫�شتائم ومالحظات‪ ،‬انتظرت ولم يقل لي �شيئاً‪ ،‬ولم‬ ‫ي�شعرني �أن��ه قر�أها‪ ،‬ولكنه فاج�أني بتقديم ورقة‬ ‫عن (محلية) الرواية‪ ،‬جاء ذلك في ملتقى روائي‬ ‫في تون�س‪ ،‬فوجدتها فر�صة لمناكفته ومطالبته‬ ‫ب�إر�سال ورقته‪ ،‬ولكنه كالعادة ي�ضحك حينما يريد‬ ‫�أن ي�ستفزني‪ ،‬قائال‪:‬‬ ‫ هل تريد �أن تم�سك عليَّ �أنت و�أمثالك �شيئاً‪..‬‬‫***‬ ‫لقد كانت مداخلتي �شفوية‪ ،‬وم�سحت بكم البالط!‬ ‫ي����ا ����س���ي���د ال���ع�������ش���ق ال ت���ب���خ���ل ب��ق��اف��ي�� ٍة‬ ‫لقد اكت�شفت �أنه قر�أها‪ ،‬ودوَّنَ لي بع�ض العتب‪..‬‬ ‫ت�����س��ط�� ُر ال�������ش���و َق �أو ت��غ��ن��ي ع���ن ال��خ��ب��ر‬ ‫في القلب كثير يا غرم‪ ،‬وفي الذاكرة �شيء من‬ ‫بع�ضك‪ ،‬ولكن نمْ يا �صديقي قرير العين‪..‬‬ ‫ي���ا ���س��ي��د ال��ع�����ش��ق �إن ال���ح���ب م��در���س��ة‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪75 )2015‬‬


‫قربا الحبر والورق‬ ‫هل كان يعلم �أن الحوار الذي �أجريته معه الأ�سبوع الفارط‬ ‫على �صفحات هذه الجريدة‪� ،‬سيكون �آخر ‪ ‬لقاء‬ ‫له‪ ..‬ليغادر بعده فقط بيومين ظاهر الأر�ض‬ ‫�إلى باطنها را�ضيا مر�ضيا‪ ،‬ب�ضحكته‬ ‫المجلجلة كطفل‪ ،‬وبنكتته الحا�ضرة‬ ‫فيه بداهة ‪ ‬والتي عودنا عليها نحن‬ ‫�أ�صدقاءه وبال �ضجيج؟!‪ ‬‬ ‫هل كان يعلم وهو في النزل يع ّد‬ ‫حقائبه للعودة �إلى وطنه �أ َّن تون�س التي‬ ‫�أحبها وع�شقها بادلته حبا بحب وع�شقا‬ ‫بع�شق �إلى درحة �أن قررت االحتفاظ بروحه التي‬ ‫�ستظل كحمامة تحلّق فوق ر�ؤو�سنا كل م�ساء تنثر الحب وتتمرغ‬ ‫في تراب هذه الأر�ض؟!‪ ‬‬ ‫ال لغة ترتّق وجعي �أيّها الرّاحل‪ ,‬ال �صوت ي�ضمّخني و�أنا‬ ‫�أجت ّر ما بقي من ذاكرة جمعتنا‪ ,‬كنت معي نطارد ثراء النّب�ض‬ ‫في وطني‪ ,‬كنت رفيقا رافقني ونحن نداعب رق�ص المدن‪،‬‬ ‫نفتّ�ش عن نبع جديد‪ .‬‬ ‫ودا ٌد ك�سانا ف��ي رب��وع مدننا ف��ي �أم��ا��س� ّي ج��ادت برحيق‬ ‫اللّغة‪ ،‬فعزفنا �شهوة الحرف وارتواء‪ ‬الن�شيد‪ ..‬الزمتني �أيّها‬ ‫ال�صديق‪ ،‬وتبادلنا ع�شق الألفاظ وجنون المعنى في مواكب‬ ‫ّ‬ ‫تق�صد محبّتنا ت�ستنطق‬ ‫�أما�سينا وليالينا‪ .‬وكانت �شوارعنا ّ‬ ‫همّك ال�شعريّ ‪ ..‬فتطرب الحوانيت وتن�ساب الأغنيات‪ ,‬كنت‬ ‫ال�صاخبة نحيب كان‬ ‫ترتّق �شتات الكلمات ليهطل من روحك ّ‬ ‫زادن��ا في رحلتنا الجامحة �إل��ى ال�ن��ور‪ .‬كنت �صديقا ودودا‪,‬‬ ‫�إن�سانا حالما‪� ,‬شاعرا قادما من �شموخ عروبتنا‪ ,‬وكنت تحلم‬ ‫في �صمتك‪ ,‬تختلج في لفظك‪ ،‬تم ّر من �صوت �إلى �صوت‪ ..‬من‬ ‫توق �إلى �شدو‪� .‬أخذك الموت منّي ومنّا‪ .‬عقيم هذا ال�شّ تاء وقد‬ ‫خِ لْته ف�صال ممطرا يب�شّ ر بخ�صوبة �أر�ض هدّا ال�شوق والوجع‪,‬‬ ‫عزف الموت ما تر�سّ ب فيك من �ألحان �أرهقتك‪.‬‬ ‫ال�صور المحفورة في ذاكرتي‪ ،‬لأنّك كنت‬ ‫‪ ‬و�أنا هنا �أخاطب ّ‬ ‫تطاعن الرّتابة وتدحر جمود العادة‪ ,‬مختلف �أنت في هم�سك‪,‬‬ ‫‪76‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫منت�سب �إل��ى ال�شّ عر‪� ،‬أع��اد �صياغة الق�صيد و�أه��دى عزفه‬ ‫لنا‪ ..‬ن�سجت تفا�صيل اللّحظات العابرة‪ ,‬جعلتها‬ ‫ر�سما‪ ,‬عزفا ووطنا‪.‬‬ ‫�إليك ترحل �أ�شرعة الق�صيد مطرا‬ ‫ناعما �ضاجّ ا‪ ,‬ومنك ف��اح يا�سمين‬ ‫قرطاج عطاء منثورا ونثرا منظوما‬ ‫ك�أنّك ت�أبى ال�سّ كون‪� .‬أتيت �إلى تون�س‬ ‫ال�صباحات التّي �أن��ارت عتمة‬ ‫لتودّع ّ‬ ‫ال��طّ ��ري��ق‪� ,‬أت�ي��ت لتنعم ب�ن��ور �سمائنا‪,‬‬ ‫ب�سحر فجرنا ال� �ذّي داع�ب��ك فانت�شيت‪,‬‬ ‫نزيف �أن��ت ��س��أروّي الأر���ض بخلجاتك النّازفة‪,‬‬ ‫رافقتني‪� ,‬آن�ستني‪ ,‬الزمتني ونحن نملأ الفراغات‪ ,‬نعيد ت�شكيل‬ ‫الرّوايات في الرّذاذ الذّي عانقنا‪ ,‬في مالب�سنا التّي بلّلها عطر‬ ‫الأنغام‪ ,‬كنت معي في موكب اللّغة وهو يجوب البالد‪ ,‬يحبّ‬ ‫العباد‪.‬‬ ‫ال�صقاعي �صوت �أحرق جمود الأوتاد وثقل‬ ‫�أنت يا غرم اللهّ ّ‬ ‫الأرائك‪ .‬كتبت عن �شعرك والآن �أكتبك‪ .‬قلت �إن �شعرك ثائر‪..‬‬ ‫والآن �أق��ول �إ ّن رحيلك ترك في ال �رّوح �سواقي ف�صل حزين‪،‬‬ ‫وخطّ في الق�صيد قوافي دمع مدرار‪.‬‬ ‫نم يا �صديقي هناك في مثواك الأخير‪ ،‬واترك لنا مطرا‬ ‫ي�أتي من خليج المحار والرّدى كما يقول ال�سيّاب‪ .‬كنت تكتب‬ ‫�ألمك وت�صوّر ده�شتك وتطرح �أ�سئلتك دون �أن تطلب جوابا؛‬ ‫لأنّك تنت�سب �إلى حيرة‪ ..‬نحتّ ا�سمك في م�شهد �إبداع ّي ثقافي‬ ‫في وطنك‪ ،‬المملكة العربيّة ال�سعوديّة‪ ،‬ورمت �أن تمنح الآخرين‬ ‫من �أبناء عروبتك كالما مختلفا و�شعرا م�ستطرفا‪ ..‬فال �أحد‬ ‫ي�شبهك في كتابتك؛ لأنّك ت�شبه الجميع! ف�أنت �أخذت من ك ّل‬ ‫لون باقة جمّلت ب�ساتين اللّغة‪ ،‬و�أنت نهلت من ن�صو�ص ال�شّ عراء‬ ‫م��ا ط��اب ل��ك‪ ،‬ف�ج�دّدت و�أع��دت �صياغة ال�ق�لائ��د‪ ..‬ف�صارت‬ ‫طريفة تبهر النّاظر وتطرب ال�سّ امع‪.‬‬ ‫لن تكون طلال من�سيّا وال �صوتا مرويّا؛ لأنّك �ستبقى ّن�صا‬ ‫يق�صد رغم موتك‪ ،‬وحلما يالطف الجمال رغم رحيلك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ق�����������������رب�����������������ا ال��������������ح��������������ب��������������ر وال����������������������������������ورق‬ ‫ا������������ش�����������ت�����������ك�����������ي ال������������ل������������ي������������ل والأرق‬ ‫ف���������������������������س�������������ك�������������وت�������������ي �أ������������������������ض�����������������������ر ب��������ي‬ ‫ك������������������������دت ب����������ال���������������������ص����������م����������ت �أخ����������ت����������ن����������ق‬ ‫�إن���������������������م���������������������ا ال���������������������ح���������������������رف ب�������ل���������������س�������م‬ ‫ل�������������������������ج�������������������������روح ل�����������������ه�����������������ا ال�����������ع�����������ب�����������ق‬ ‫ل�������������������������������ج�������������������������������روح ك�����������������������س�����������ب�����������ت�����������ه�����������ا‬ ‫ب���������������ج���������������ن���������������ون���������������ي ول���������������������������������م �أف�������������������������ق‬ ‫�أق���������������������ط���������������������ع ال��������������ل��������������ي��������������ل ه����������ائ����������م����������ا‬ ‫�أن�����������������������������ش��������������د ال������������ف������������ج������������ر والأل�����������������������������ق‬ ‫ون�������������������������������ه�������������������������������اري ل�����������������������ص�����������ب�����������وت�����������ي‬ ‫ط�����������������������������������ار م������������������ن������������������ي واح����������������������ت����������������������رق‬ ‫�أط�����������������ل�����������������ب ال���������������������������ص�������������دق م�����������ؤم����������ن����������ا‬ ‫�إن������������������م������������������ا ال������������������م������������������رء م������������������ا ����������ص���������دق‬ ‫�أ�������������������������س�������������������������أل ال������������������وق������������������ت ح��������ال��������م��������ا‬ ‫ع���������������ن �����������ص����������دي����������ق ��������������س�������������وى ال��������������������ورق‬ ‫وزم�������������������������������ان�������������������������������ي ي����������������������ق����������������������ول ل���������ي‬ ‫ك�����������������������ل م���������������ج���������������د ل���������������م���������������ن �������������س������������رق‬ ‫وال��������������������م��������������������ن��������������������ادي ي���������������������ص����������ي����������ح ب�������ي‬ ‫ارك��������������������������������ب ال��������������������زي��������������������ف وال�����������م�����������ل�����������ق‬ ‫�أي�����������������������ه�����������������������ا ال�����������������������ح�����������������������رف دل������������ن������������ي‬ ‫ك������������ي������������ف �أن������������������ج������������������و م������������������ن ال������������غ������������رق‬ ‫ل��������������ي�����������������������������س ع����������������������������������دال وح������������ك������������م������������ة‬ ‫�أن �أغ��������������������ن��������������������ي ل�������������م�������������ن ��������س�������ب�������ق‬ ‫وال���������������������������ع���������������������������ذاب���������������������������ات ت�����������������رت�����������������وي‬ ‫م�����������������������ن دم�����������������������ائ�����������������������ي وت����������ن����������ط����������ل����������ق‬ ‫ي�����������������������ا ج����������������ن����������������ون����������������ي ووح�������������������دت�������������������ي‬ ‫���������������ص��������������رت ب��������������ح��������������را م�����������������ن ال��������ق��������ل��������ق‬ ‫ط��������������ال��������������م��������������ا ال��������������������ح��������������������رف ج�������ن�������ت�������ي‬ ‫ق�����������������رب�����������������ا ال��������������ح��������������ب��������������ر وال����������������������������������ورق‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫مقتطفات‬ ‫من �شعر الراحل غرم اهلل حمدان ال�صقاعي‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪77 )2015‬‬


‫�سنابل‪ ،‬تبعت �سنابل‪ ،‬والحنين هو الحنين‪ .‬من غيث ال�سحابة‬ ‫و�صوت رغبتنا‪،‬‬ ‫فالأر�ض ممحلة‪،‬‬ ‫ورهبتنا‪ ،‬يزيد‪..‬‬ ‫وهذا الزرع يو�شك �أن يغادر من جذوره‬ ‫وال جديد‪،‬‬ ‫ظم�أ وم�سغبة‪..‬‬ ‫وال جديد‪..‬‬ ‫ومن حولي �سماء‪..‬‬ ‫الأر�ض تب�سط كفها‪،‬‬ ‫بالغيوم تلبدت عط�شى‬ ‫والوقت يجري‪ ،‬وال�سحابة في رحيل‪.‬‬ ‫وما بين الف�ؤاد ونب�ض كفي والجبين‪.‬‬ ‫و�أنا ب�صوت الخوف‬ ‫حمم التراب تطايرت في الليل‬ ‫�صوت الأر�ض‬ ‫تذروها الرياح‬ ‫من جيل �أنادي‪:‬‬ ‫في الفجر تذروها الرياح‪..‬‬ ‫كيف نحرث �أر�ضنا؟!‬ ‫ريح على ريح‪ ،‬وريح‪..‬‬ ‫كيف ن�سقي زرعنا؟!‬ ‫الآن هبت من قريب‬ ‫بل كيف نك�سر خبزنا بالماء‪،‬‬ ‫من بعيد‪..‬‬ ‫�أين الماء؟‬ ‫و�سنابل تبعت �سنابل‪..‬‬ ‫بالدمع؟‬ ‫وجحافل �سرقت جحافل‪..‬‬ ‫�أو بدم الوريد؟!‬ ‫والوقت يجري‪،‬‬ ‫‪ ..‬و�سنابل لحقت �سنابل‬ ‫والجذور تموت عط�شى‪،‬‬ ‫وجحافل الآمال في قلبي‬ ‫وال�سحابة ال تمل من الرحيل!‬ ‫يغذيها انتظار ال�صدق‬

‫‪78‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫حم�����������������������������������ور خ��������������ا���������������ص‬

‫�سنابلُ االنتظار‬

‫ن�صف الق�صيدة الفارغ‬ ‫ُ‬ ‫في �صباح تدثّر بالغيم‬ ‫والريح ي�شعلها ال�صمت‬ ‫والنا�س ت�س�أل �أين الم�آل‪..‬؟؟‬ ‫تجيئين‬ ‫�سنبلة من �ضياء‬ ‫و�أن�شودة للم�ساء المتوّج‬ ‫من زمهرير الغياب‬ ‫تجيئين‪،‬‬ ‫كالطهر للحلم في مقلتيك‬ ‫ات�ساع‬ ‫وللفقد في راحتيك‬ ‫ا�شتعال‪..‬‬ ‫تمدين كفك نحوي‬ ‫تنداح‬ ‫كل الحروف ال�شقاء‬ ‫(نبني كما كانت �أوائلنا تبني)‬ ‫ونعود يا �أطالل برقة‬ ‫والدخول‬ ‫قلق‬

‫ي�ؤرق �شاحبات البيد‬ ‫ونحن �أ�سرى للبكاء‬ ‫ولل�سبات‬ ‫و�أنت تبتكرين‬ ‫تكتحلين بالعبق الم�ضيء‬ ‫بنور ذاكرتي‬ ‫ولون النور�س‬ ‫المتجدد الرق�صات‬ ‫ينق�شها الخلود‪..‬‬ ‫تت�أملين‪،‬‬ ‫ت�ساقط الأحالم‬ ‫حولك‬ ‫والأماني الوهم‬ ‫يجرحك‬ ‫البقاء‪.‬‬ ‫تتراجعين وترجعين‬ ‫وفي خ�شوع تهم�سين‬ ‫�إن المنى ذنب‬ ‫وان النور من غ�سق ال�س�ؤال‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪79 )2015‬‬


‫ال�شاعر والروائي‬ ‫فار�س رزق الرو�ضان‬

‫البداياتُ ال تن�سى‪ ،‬ومذاقها ي�شبه طعم‬ ‫الر�شفة الأولى للقهوة‪..‬‬ ‫(�شاعر وروائي و�إعالمي من مواليد منطقة الجوف‪ ..‬بد�أ م�شواره العملي في �سلك‬ ‫التعليم‪ ،‬ثم تفرّغ لل�صجافة‪ ..‬يعمل مديرا لمكتب �صحيفة الريا�ض في الجوف‪ .‬دفعه‬ ‫مجال العمل ال�صحفي �إلى الكتابة والت�أليف‪ ،‬تجاوز في �إنتاجه الأدبي حدود البالد‬ ‫فكان له ح�ضوره الثقافي في الخارج‪ ،‬ف�شارك في عدد من اللقاءات والأم�سيات‪� ..‬صدر‬ ‫له حتى الآن ثالث م�ؤلفات‪:‬‬ ‫«موعدي ال�ساعة ثمان» و« �أذكريني كلما فاز الهالل» ثم فاج�أنا بروايته «لولوة في‬ ‫باري�س»‪ ..‬والقادم �أحلى �إن �شاء اهلل‪.‬‬

‫‪ρρ‬حاوره حممود الرحمي*‬

‫● ●ف���ار����س ال����رو�����ض����ان‪ ..‬ع���رف���ن���اه ���ش��اع��را‬ ‫و����ص���ح���ف���ي���ا وك�����ات�����ب م����ق����ال ب���ج���ري���دة‬ ‫الريا�ض‪ ..‬ثم يفاجئنا بروايته الأولى‪..‬‬ ‫كيف �أتت هذه التحوّالت؟ وما هي �أبرز‬ ‫مفا�صل تجربتك الإبداعية؟‬ ‫‪ρ ρ‬هي لي�ست تحوّالت بقدر ما هي ت�سل�سل‬ ‫جاء ليوا�صل رغبتي في التطور والقفز‬ ‫من مرحلة �إلى �أخرى‪ ..‬فال�صحافة مهنة‬ ‫‪80‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫رك�ض وتعلم وبناء فكر‪ ،‬وه��ي بعد اهلل‬ ‫الخطوة الأهم في حياتي؛ لأنها منحتني‬ ‫خا�صية الت�أمل واحترام الوقت‪ ،‬وال�شعر‬ ‫�شجون لي�س له عمر‪ ،‬وحين ظننت �أن‬ ‫مرحلة البناء الفكري قد بد�أت بالتكون‪..‬‬ ‫جاءت «لولوة في باري�س» الرواية الأولى‬ ‫كمولود ولد في وقته‪..‬‬ ‫● ●«م��وع��دي ال�ساعة ث��م��ان» ث��م «�أذك��ري��ن��ي‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫الكلمة‬ ‫فار�س‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬

‫كلما فاز الهالل»‪ ..‬الإ�صداران الأوالن لك‪..‬‬ ‫م��اذا يعنيان بالن�سبة لك خا�صة وق��د �صدرا‬ ‫في وقت واحد‪ ،‬وبالتحديد في يناير ‪2013‬م؟‬ ‫‪ρ ρ‬لم �أخطط لهما �أب��دا‪ ،‬ولكن لم �أدرك جمال‬ ‫الخطوة �إال بعد ال�صدور‪ ..‬كانا ب�شائر فرح‬ ‫في حياتي‪ ..‬ولهما معزة خا�صة‪ ،‬فالبدايات‬ ‫ال تن�سى‪ ،‬ومذاقها ي�شبه طعم الر�شفة الأولى‬ ‫للقهوة‪..‬‬ ‫● ●(م��وع��دي ال�ساعة ث��م��ان) يبتكر فيه فار�س‬ ‫الرو�ضان �أ�سلوبا �شعريا جديدا يخلط فيه‬ ‫بين الف�صحى وال��ع��ام��ي��ة‪ ..‬ل��م��اذا ه��ذا اللون‬ ‫بالذات؟ وهل هي ال�سهولة �أم التميز �أم ماذا؟‬ ‫‪ρ ρ‬م�ن��ذ �أن ك�ت�ب��ت ال �م �ق��االت وح �ت��ى ال�ت�ق��اري��ر‬ ‫ال�صحفية‪ ،‬وجدتني �أك�ت��ب بهذه الطريقة‪،‬‬ ‫ففيها �سهولة وب�ساطة‪ ،‬وقريبة جد ًا من قلب‬ ‫ال�ق��ارئ‪ ،‬كما �أن اللغة الم�ستخدمة فيها هي‬ ‫قد ع�شت طفولتي في الجوف‪ ،‬فقد �أ�سهمت‬ ‫لغة بي�ضاء ت�صل �إلى كل العالم‪ ..‬و�أجزم �أنها‬ ‫الطبيعة وب�ساطة الحياة في تحري�ضي على‬ ‫فر�صة لن�شر اللهجة ال�سعودية ب�شكل جيد‪ ،‬فـ‬ ‫التفكر والتدبر‪ ،‬وكذلك م�شاركاتي الفاعلة في‬ ‫«نجيب محفوظ» على �سبيل المثال‪� ..‬أ�سهم‬ ‫�أن�شطة المدر�سة والإذاعة المدر�سية �أ�سهمت‬ ‫في تعزيز اللهجة الم�صرية في رواياته ب�شكل‬ ‫كلها في ك�سر قيودي واالنطالق بثقة‪..‬‬ ‫رائع‪..‬‬ ‫● ●هل من �شخ�صية معينة �أو �شخ�صيات ت�أثرت‬ ‫● ●في مجال الق�صيدة المغنّاة لديك تجارب مع‬ ‫بها‪ ..‬وكان لها دورها الفاعل في حياتك؟‬ ‫عمالقة التلحين‪ ،‬كالدكتور عبدالرب �إدري�س‪،‬‬ ‫والأ�ستاذ يو�سف المهنا وغيرهم‪ ..‬ف�إلى �أين ‪�ρ ρ‬شخ�صية وال� ��دي و�شقيقي ال��دك �ت��ور نايف‬ ‫حفظهما اهلل‪.‬‬ ‫و�صلت هذه الخطوة؟‬ ‫‪ρ ρ‬الأغنيات جاهزة‪ ،‬و�أراهن على م�ستوى طرحها ● ●يقولون‪� :‬إن وراء كل رجل ناجح امر�أة‪ ..‬و�أنت‬ ‫م��اذا تقول؟ خا�صة و�أن عناوين �إ�صداراتك‬ ‫ال�����ش��ع��ري وال��ل��ح��ن��ي‪ ،‬وت��ظ��ل م�شكلة الإن��ت��اج‬ ‫كلها ت�شير �إلى المر�أة؟‬ ‫�أكبر العوائق‪ ،‬غير �أنها ما ت��زال في الطريق‬ ‫ال�صحيح‪.‬‬ ‫‪ρ ρ‬في رواية لولوة كان الإهداء لمن علمتني الحب‪،‬‬ ‫وهي والدتي رعاها اهلل‪ ،‬فهي كل الن�ساء في‬ ‫● ●ك��ث��ي��را م��ا ي��ك��ون ل��ل��ط��ف��ول��ة �أث���ره���ا ف��ي حياة‬ ‫حياتي‪.‬‬ ‫ال���م���رء‪..‬ف���ه���ل ك�����ان ل��ط��ف��ول��ت��ك دوره�������ا ف��ي‬ ‫حياتك؟‬ ‫● ●رواي�����ة (ل���ول���وة ف���ي ب���اري�������س) ‪ ..‬م����اذا تعني‬ ‫للرو�ضان؟‬ ‫‪ρ ρ‬طفولة ال��ري��ف ت�ساعد على ال�ت��أم��ل‪ ،‬وكوني‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪81 )2015‬‬


‫‪ρ ρ‬قد ال ت�صدق �أن ال��رواي��ة كانت م�ؤهلة لتكون‬ ‫المولود الأول لي في عالم الت�أليف‪ ،‬ولكن‪ ،‬لأن‬ ‫الرواية تحتاج �إلى عمر �أطول‪ ،‬فقد مكثتُ في‬ ‫كتابتها ثالثة �أع��وام؛ لأنها تعني لي الكثير‪،‬‬ ‫و�أهم ما تعنيه �أنني انت�صرت بها على نف�سي‬ ‫في �سباقات ال َنفَ�س الطويل‪.‬‬ ‫● ●ق��ي��ل‪� :‬إن رواي����ة (ل���ول���وة ف��ي ب��اري�����س) نحت‬ ‫جديد في �أدب الرحالت‪ ..‬فما قولك؟‬ ‫‪ρ ρ‬بع�ض النقاد ر�أوا هذا الأمر‪ ،‬و�أفرحتني الآراء‬ ‫التي تنوّعت في ت�صنيف ال��رواي��ة‪ ،‬وبالت�أكيد‬ ‫فيها الكثير م��ن �أدب ال��رح�لات‪ ،‬وق��د ق��ر�أت‬ ‫�أن كثير ًا ممن ق��ر�أوا الرواية تحم�سوا لزيارة‬ ‫باري�س‪..‬‬ ‫● ●يبدو �أن رواي���ة (ل��ول��وة ف��ي باري�س) ترجمة‬ ‫لمخا�ض فكري طويل بعمر �صاحبه وعمق‬ ‫تجاربه وث���راء اط�لاع��ه وذك���اء ���ش��ع��وره‪ ..‬هل‬ ‫يمكن �أن يكون للق�صة بقية؟‬ ‫‪ρ ρ‬ال �أعتقد �أن ق�صة الرواية تحتاج �إلى تكملة‪..‬‬ ‫فالنهاية التي انتهت �إليها ج��اءت منطقية‬ ‫لمنح القارئ فر�صة لتخيل ما بعدها‪ ..‬ولكن‬ ‫حدثني بع�ض المهتمين في الإنتاج ال�سينمائي‬ ‫والتلفزيوني لأج��ل تحويلها �إل��ى فلم‪� ،‬أو ربما‬ ‫م�سل�سل‪ ،‬وف��ي ح��ال اقتناعي بالفكرة‪ ،‬وتم‬ ‫االتفاق على م�سل�سل بالتحديد‪ ..‬فربما يكون‬ ‫ذلك �سبب ًا في العودة للق�صة لكتابة جزء ثانٍ ‪..‬‬ ‫● ●(لولوة في باري�س) هي الرواية الأولى لك‪..‬‬ ‫فهل تكون الخطوة الأول���ى لم�سار ال��روائ��ي‬ ‫‪82‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫الرو�ضان‪� ..‬أم مجرد تنوع �أدبي في كتاباته؟‬ ‫‪ρ ρ‬بعد �أن فرغت من الرواية‪ ..‬كنت كالمت�سابق‬ ‫المنهك‪ ،‬وق��ررت �أن ال �أع��ود لكتابة الرواية‬ ‫م�ج��دد ًا ب�سبب حجم الجهد ال��ذي تحتاجه‪،‬‬ ‫ولكن بعد م��رور الوقت وجدتني �أح��ن للكتابة‬ ‫من جديد‪ ،‬غير �أن التنوع هو هدفي الأ�سا�س‪..‬‬ ‫● ●ل��دي��ك ت��ج��رب��ة مهمة ف��ي ال��ك��ت��اب��ة ال��درام��ي��ة‬ ‫من خالل كتابة حلقات للم�سل�سل ال�سعودي‬ ‫ال�����ش��ه��ي��ر «ط����ا�����ش م����ا ط����ا�����ش»‪ ،‬ك���ي���ف ت��ق��ي��م‬ ‫التجربة؟ وهل لديك نية في تكرارها ب�شكل‬ ‫مو�سع؟‬ ‫‪ρ ρ‬تجربة ث��ري��ة‪ ،‬وك��ان��ت الخطوة الأول ��ى ل��ي في‬ ‫مجال الت�أليف‪ .‬وللعلم‪ ،‬فقد كتبت لها بنف�سي‬ ‫ال�سيناريو والحوار‪ ،‬وقد منحتني ثقة كبيرة‪،‬‬ ‫وقدمتني للنا�س ب�شكل جيد‪ ،‬و�إن �شاء اهلل‬ ‫�س�أعود لكتابة الدراما متى ما وجدت المنتج‬ ‫المنا�سب للعمل‪..‬‬ ‫● ●�أنت �شاعر وقا�ص وروائي وكاتب مقال‪ ،‬كيف‬ ‫تختار ال�شكل الإب���داع���ي ال���ذي تعبر ب��ه عن‬ ‫فكرتك؟‬ ‫‪ρ ρ‬ح�سب المو�ضوع‪ ..‬هناك �أفكار ال يمكن لها‬ ‫�إال �أن تكون ق�صيدة مثالً‪ ،‬وهي ال تحتمل �أن‬ ‫تتحول �إلى رواية �أو ق�صة‪ ،‬وال ي�شبعها المقال‪،‬‬ ‫وهكذا‪..‬‬ ‫● ●ه��ل ع��ب��رت الأ���ش��ك��ال الإب��داع��ي��ة ال��ت��ي �شكلت‬ ‫تجاربك خالل م�سيرتك عن نف�سك بال�شكل‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫�أهم ما تعنيه رواية لولوة في باري�س �أنني انت�صرت بها على نف�سي في‬ ‫�سباقات ال َنفَ�س الطويل‪.‬‬ ‫الكتابة الدرامية منحتني ثقة كبيرة‪ ،‬وقدمتني للنا�س ب�شكل جيد‪،‬‬ ‫حققت جزء ًا من �أحالمي وما يزال الجزء الأكبر في ال�سماء‬

‫الذي ترغبه؟‬ ‫�إلى حد كبير‪ ..‬فال يمكن ف�صل تجارب الكاتب‬ ‫عن كتاباته مهما حاول الهروب‪..‬‬ ‫● ●ل��ك��ل م��ن��ا �أح�ل�ام���ه ال��ت��ي يتمنى تحقيقها‪..‬‬ ‫ف��ه��ل ح��ق��ق ال��رو���ض��ان �أح�ل�ام���ه ف��ي الكتابة‬ ‫الإبداعية؟‬ ‫‪ρ ρ‬حققت جزء ًا منها وما يزال الجزء الأكبر في‬ ‫ال�سماء‪.‬‬ ‫● ●ي��ح��ت��ف��ي ال��ن��ق��اد والإع���ل��ام ال��ع��رب��ي ب�����ش��ع��راء‬ ‫العامية ف��ي ب�لاده��م‪ ،‬ك��الأب��ن��ودي ف��ي م�صر ● ●يعرف عن الكثير من المبدعين فو�ضويتهم‬ ‫وم��ظ��ف��ر ال���ن���واب ف��ي ال���ع���راق‪ِ ،‬ل���� َم َل���� ْم يحظ‬ ‫وع���دم ان��ت��ظ��ام��ه��م ف��ي ال��ت���أ���س��ي�����س لأع��م��ال��ه��م‬ ‫�شعراء الق�صيدة العامية �أو المحكية بنف�س‬ ‫الإبداعية‪ ،‬و�أنت معروف عنك دقة مواعيدك‬ ‫هذا الح�ضور الذي يجده ال�شعراء مماثلوهم‬ ‫وانتظامك في الكتابة الإبداعية‪ ،‬و�أن لديك‬ ‫من العرب؟‬ ‫ال��ك��ث��ي��ر م��ن ال��ن�����ص��و���ص االب��داع��ي��ة ال��ت��ي لم‬ ‫تن�شر‪ ،‬كيف خرجت من تلك الدائرة؟‬ ‫‪ρ ρ‬الإعالم ال�سعودي اهتم كثير ًا بال�شعر النبطي‬ ‫بدافع لي�س له عالقة بال�شعر‪ ،‬تجلى ذلك في ‪ρ ρ‬ب�سبب ال�صحافة التي علمتني كيفية احترام‬ ‫قنوات القبائل والأب ��ل؛ لكن ال�شعر الب�سيط‬ ‫الوقت و�أهمية االنجاز‪ ،‬وعلمتني �أي�ض ًا ‪-‬وهو‬ ‫والجميل الم�شابه لتجارب الأب��ن��ودي ومظفر‬ ‫الأه� ��م‪� -‬أن ان �ج��از ال �ي��وم ال يكفي للغد �إال‬ ‫ظل �ضائع ًا ب�سبب التهمي�ش الإعالمي‪ ،‬ويح�سب‬ ‫للذكرى‪..‬‬ ‫لل�شاعر الأمير بدر بن عبدالمح�سن نجاحه‬ ‫ف��ي حفظ بع�ض حقوق ه��ذا الفن ال�شعري‪● ● ،‬ماهي اللحظة التي �أح�س�ست فيها �أن��ه يجب‬ ‫عليك �أن ت��ب��د�أ ف��ي ك��ت��اب��ة رواي��ت��ك الأول����ى؟‬ ‫ولكن من خالل الأغنية فقط‪ ..‬وبر�أيي يتحمل‬ ‫ومتى ت�شكلت مفا�صل الرواية؟‬ ‫الإعالم كامل الم�سئولية تجاه ذلك‪..‬‬ ‫● ●ك��ي��ف ت���رى الإع��ل��ام ال��ج��دي��د و�أن�����ت تحظى ‪�ρ ρ‬أنا قارئ جيد للروايات‪ ،‬وكنت �أبني مقدرتي‬ ‫من خالل التعلم من الروائيين على م�ستوى‬ ‫بن�سبة متابعة عالية في موقعك على تويتر‬ ‫العالم‪ ،‬وكلما ق��ر�أت‪� ..‬شعرت برغبة للكتابة‪،‬‬ ‫بلغت حوالي ‪� 60‬ألف متابع؟‬ ‫في ك َّل الدوافع‪ ،‬ف�أحببت‬ ‫وع�شقي لباري�س حرَّك َِّ‬ ‫‪ρ ρ‬رائ���ع رغ ��م ال �ف��و� �ض��ى‪ ،‬وق ��د ك���ش��ف م�ستوى‬ ‫�أن �أولد روائي ًا في مدينة المطر والعطر‪..‬‬ ‫الفكر لكل �شخ�ص‪ ،‬و�أ�صبح �سلطة �أول��ى في‬ ‫مجتمعاتنا‪ ..‬وتويتر رحم الكاتب من مق�ص ● ●هل من جديد ننتظره من فار�س الرو�ضان؟‬ ‫الرقيب ال��ذي ال ي�ؤمن �إال بفكره‪ ،‬ومن خالل ‪�ρ ρ‬آمل ذلك‪ ..‬ولدي الكثير من الأعمال التي لم‬ ‫تكتمل‪� ،‬أو التي لم يحن وقتها‪ ..‬كما �أنني ما‬ ‫تويتر ب��رزت �أ�سماء ل��م تكن معروفة؛ لأنها‬ ‫�أزال �أعي�ش ن�شوة روايتي الأولى‪..‬‬ ‫وجدت الفر�صة الحقيقية للتعبير عن فكرها‪..‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪83 )2015‬‬


‫ال�شاعر والناقد محمد �سمحان‬ ‫ناقد ير�صد الحراك ال�شعري في الأردن‪..‬‬

‫ي�ستجلي ال�شاعر والناقد محمد �سمحان واقع الحركة ال�شعرية في الأردن‪ ،‬وير�صد‬ ‫مُقيِّماً وم��راه��ن��اً على بع�ض الأ���س��م��اء ال�شعرية ال�شبابية فيما عُ���رِفَ بجيل الألفية‬ ‫الثانية‪ ،‬وهو الحا�صل على الماج�ستير فى اللغة العربية‪ .‬له في النقد‪ :‬مقاالت في‬ ‫الأدب الأردن��ي المعا�صر‪ ،‬ودرا�سات متخ�ص�صة في ال�شعر الأردن��ي‪ ،‬وله ع��دّة دواوي��ن‬ ‫�شعرية منها‪ :‬معزوفتان على وتر مقطوع‪ ،‬و�أنا�شيد الفار�س الكنعاني‪ ،‬و�أنت �أو الموت‪,‬‬ ‫قال النبي الطريد‪ ،‬وهوع�ضو رابطة الكتاب الأردنيين‪ ،‬وع�ضو اتحاد الكتاب والأدباء‬ ‫الأردنيين‪ .‬كان للجوبة معه الحوار الآتي‪:‬‬ ‫■ حاوره عمار اجلنيدي ‪ -‬الأردن‬

‫● ●بداية ن�س�أل عن التطور التاريخي‬ ‫للحركة ال�شعرية في الأردن‪..‬‬ ‫‪ρ ρ‬تقترب الم�سيرة ال�شعرية في الأردن‬ ‫م��ن نحو ال �ق��رن؛ �أي منذ ت�أ�سي�س‬ ‫الإم��ارة‪ ،‬بو�صول الأمير عبداهلل بن‬ ‫‪84‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫الح�سين ومَ ن معه‪� ،‬أو التحق به من‬ ‫��ش�ع��راء الأم���ة‪� ،‬أو ح�ضر مجال�سه‬ ‫الأدب �ي��ة‪ ،‬وحتى ع��ام ‪2013‬م؛ وهي‬ ‫م�سيرة حافلة‪ ،‬مرت ب�أطوار و�أدوار‪،‬‬ ‫وع� ّب��دت م�سيرتها‪ ،‬ول� ّون��ت لوحتها‪،‬‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫�أ�صوات �شعرية كثيرة‪ ،‬حتى و�صلت �إلى‬ ‫ما و�صلت �إليه الآن‪ ،‬في الم�شهد ال�شعري‬ ‫ال��ذي نحن ف�ي��ه‪ ،‬وال ��ذي رف��دت��ه �أ�سماء‬ ‫�أعالم �أثرته و�أثّرت فيه‪ ،‬وتركت ب�صمات‬ ‫في م�سيرته‪ ،‬بدرجات متفاوتة‪� ،‬إل��ى �أن‬ ‫و�صلنا �إلى ما نحن فيه الآن‪.‬‬

‫ف��ي ال�صحف وال �م �ج�لات‪ ،‬والإذاع� ��ات‬ ‫الم�سموعة والمرئية‪� ،‬أو مواقع التوا�صل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وهي الأكثر انت�شارا؛ فاختلط‬ ‫ال�ح��اب��ل ب��ال�ن��اب��ل‪ ،‬وب ��ات تتبع الأ��س�م��اء‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬ومتابعة نتاجها نقديا‪ ،‬من‬ ‫الأمور المرهقة‪.‬‬

‫● ●كيف تُقيِّم واق��ع الحركة ال�شعرية في ● ●على مَن تراهن؟‬ ‫الأردن في الع�شر �سنوات الأخيرة؟‬ ‫‪�ρ ρ‬إن م�ع��رف�ت��ي ال���ش�خ���ص�ي��ة‪ ،‬ل�ك�ث�ي��ر من‬ ‫‪�ρ ρ‬أ�ستطيع القول‪� ،‬إن الحركة ال�شعرية في‬ ‫المجموعات والأ�سماء‪ ،‬وتوا�صلي معها‪،‬‬ ‫الأردن في ما بعد الألفية الثانية؛ هي‬ ‫ومتابعتي وح�ضوري لأن�شطتها‪ ،‬مكّنني‬ ‫ا�ستمرار ل��دف��ق النهر ال�شعري‪ ،‬ال��ذي‬ ‫�إلى حد ما‪ ،‬من ر�صد حراكهم ال�شعري‪،‬‬ ‫ابتد�أ في بداية الع�شرينيات من القرن‬ ‫واتجاهاتهم و�أنماط كتاباتهم؛ كما كان‬ ‫الما�ضي‪ ،‬ونما وتطور حتى و�صل �إلى ما‬ ‫لي متعة تقديم بع�ضهم‪� ،‬أو دواوينهم‪� ،‬أو‬ ‫و�صل اليه في هذه االيام‪.‬‬ ‫�إجراء قراءات نقدية لتجاربهم‪.‬‬ ‫لكنه في هذه الفترة التي نحن ب�صددها‬ ‫(‪2013-2000‬م)‪ ،‬تميز بوجود تكتالت‬ ‫وتجمعات‪ ،‬مثل تجمع النوار�س‪ ،‬و�شعراء‬ ‫ال �ح��ري��ة‪ ،‬و� �ش �ع��راء ال �م �ج��از‪ ،‬وال �ح��دث‪،‬‬ ‫ونا�شرون؛ كما انت�شر فيه وب�سرعة وقوة‬ ‫واندفاع‪� ،‬شعراء ق�صيدة النثر‪ ،‬و�شعراء‬ ‫التوا�صل االج�ت�م��اع��ي‪( ،‬الفي�س ب��وك)‬ ‫كما برزت دور ن�شر‪ ،‬تتبنى نتاج �شعراء‬ ‫معينين‪ ،‬و�أن �م��اط��ا معينة م��ن ال�شعر؛‬ ‫ونمت ظاهرة توقيع ال��دواوي��ن ال�شعرية‬ ‫ال�صادرة‪ ،‬واحتفاليات ال�صدور‪ ،‬وتبنّي‬ ‫الم�ؤ�س�سات الر�سمية وغير الر�سمية لتلك‬ ‫االحتفاليات‪ .‬وتلك �أمور لم تكن متوافرة‬ ‫�أو مي�سّ رة لمن �سبقوهم؛ كما �أتيحت لهم‬ ‫فر�ص ن�شر نتاجهم‪ ،‬في المالحق الثقافية‬

‫وقد ا�ستطعت �أن �أر�صد من خالل ذلك‪،‬‬ ‫ب��ع�����ض ال��ظ��واه��ر وال��م��وا���ص��ف��ات‪ ،‬التي‬ ‫مكنتني �إل��ى حد ما‪ ،‬من �إ�صدار �أحكام‬ ‫ذوقية وتعميمية‪ ،‬كما �أ�ستطيع �أن �أ�ستنجد‬ ‫بذاكرتي‪ ،‬ال�ستح�ضار هذا العدد الكبير‬ ‫من الأ�سماء‪ ،‬التي من ال�صعب الإحاطة‬ ‫بها‪ ،‬لكنني �أ�ستطيع �أن �أتذكر و�أذكر منها‪:‬‬ ‫مجموعة �شعراء النوار�س وهم‪� :‬إ�سماعيل‬ ‫من�صور م�ؤ�س�س الجماعة‪ ،‬وعماد ن�صار‪،‬‬ ‫وبا�سل الكيالني‪ ،‬وفار�س �شيحان‪ ،‬وفادي‬ ‫عمران‪ ،‬و�إي��اد �شما�سنة‪ ،‬ون��وح الق�ضاة؛‬ ‫و�أي�ضاً‪ :‬ثالثي �شعراء الحرية وهم‪ :‬ح�سن‬ ‫مريم‪ ،‬و�سلطان القي�سي‪ ،‬وعلي الزهيري؛‬ ‫ث��م‪ :‬تجمع �شعراء ال�شمال وه��م‪ :‬تركي‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪85 )2015‬‬


‫‪86‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫● ●على ماذا تعتمد في ا�ستثناءاتك؟‬

‫م�������������������������واج�������������������������ه�������������������������ات‬

‫عبدالغني‪ ،‬ومحمد تركي حجازي‪ ،‬و�أمين‬ ‫الربيع‪ ،‬و�صفوان قدي�سات؛ ومجموعة‬ ‫ االن��دف��اع ل��دى بع�ضهم‪ ،‬وال�سرعة‬‫م�ج��از ال�شعرية وم�ن�ه��م‪ :‬مهند �سبتي‪،‬‬ ‫في ن�شر نتاجهم‪ ،‬من دون تدقيق �أو‬ ‫وبريهان ال�ت��رك‪ ،‬وف��وزي باكير‪ ،‬وتقوى‬ ‫تمحي�ص‪.‬‬ ‫الخطيب؛ وهناك �شعراء متفرِّ قون منهم‪:‬‬ ‫ ال �ت ��أث��ر ال���ش��دي��د بمحمود دروي ����ش‪،‬‬‫محمد ع��ري �ق��ات‪ ،‬وم�ح�م��د المعايطة‪،‬‬ ‫و�إلى حد ما ب�أدوني�س‪ ،‬ونزار قباني‪،‬‬ ‫و�إ� �س�لام �سمحان‪ ،‬ون��دى �ضمرة‪ ،‬ول ��ؤي‬ ‫وب �� �ش �ع��راء ال �ت �� �ص��وف اال� �س�لام��ي‪،‬‬ ‫احمد‪ ،‬وهاني عبدالجواد‪ ،‬و�أن�س ال�شوبكي‪،‬‬ ‫والنفّري منهم بخا�صة‪.‬‬ ‫وغيث القر�شي‪ ،‬وعلي �شنينات‪ ،‬وجالل‬ ‫ عدم االهتمام والإهمال في م�سائل‬‫برج�س‪ ،‬ومحمد يا�سين‪ ،‬و�أنمار محا�سنة‪،‬‬ ‫اللغة‪ ،‬والنحو وال�صرف‪ ،‬لدى �شعراء‬ ‫وم�ح�م��د ال �ع �م��ري‪ ،‬وع �� �ص��ام ال�سعدي‪،‬‬ ‫ق�صيدة النثر‪ ،‬وك��ذل��ك ل��دى بع�ض‬ ‫وتي�سير النجار‪ ،‬ونزار ال�سرطاوي‪ ،‬وربيخة‬ ‫�شعراء التفعيلة والبيت‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫الرفاعي‪ ،‬وعمر عيا�ش‪ ،‬ومروان البطو�ش‪،‬‬ ‫عدم مراعاة الأوزان والقوافي‪ ،‬لدى‬ ‫وم��و��س��ى ح��وام��ده‪ ،‬وع �م��ر �أب ��و الهيجا‪،‬‬ ‫بع�ض �شعراء التفعيلة والبيت‪.‬‬ ‫ون�ضال ب��رق��ان‪ ،‬وبا�سل رفايعه‪ ،‬وم�ؤيد‬ ‫ال�سباهي‪ ،‬و�إبراهيم ال�صرايرة‪ ،‬ورنا �أبو‬ ‫ غلبة النف�س الرومان�سي‪ ،‬والغنائية‬‫خالد‪ ،‬و�آن��و �سرحان‪ ،‬و�سيف محا�سنة‪،‬‬ ‫والهم الذاتي‪ ،‬والقلق الوجودي لدى‬ ‫و�سند�س �أبو دعمو�س‪ ،‬و�سناء الجريري‪،‬‬ ‫غالبيتهم‪.‬‬ ‫والن��ا �سويدات‪ ،‬ون��ور تركماني‪ ،‬وه�شام ● ●هل مِ ن ا�ستثناءات؟‬ ‫الأخ��ر���س‪ ،‬و�شادن �صالح‪ ،‬ورن��ا ب�سي�سو‪،‬‬ ‫‪ρ ρ‬هناك �أ�سماء من هذ الجمع الغفير من‬ ‫وريا�ض غباري‪ ،‬وبا�سم ال�صروان‪ ،‬وق�صي‬ ‫بلغوا في تجربتهم ال�شعرية �ش�أوا متقدما‪،‬‬ ‫الن�سور‪ ،‬ومهند العزب‪ ،‬ونا�صر قوا�سمي‪،‬‬ ‫ا�ستثني منهم‪� :‬شعراء النوار�س وبع�ض‬ ‫والنا المجالي‪ ،‬ومناهل الع�ساف‪ ،‬وعائ�شة‬ ‫الأ� �س �م��اء االخ� ��رى‪ ،‬وج�م��اع��ة ال�ن��وار���س‬ ‫الحطاب‪ ،‬و�إيمان عبدالهادي‪ ،‬وم�صطفى‬ ‫ال�شعرية وهم‪� :‬إ�سماعيل من�صور م�ؤ�س�س‬ ‫القرنه؛ وغيرهم؛ مع تقديم اعتذاري لمن‬ ‫الجماعة‪ ،‬وعماد ن�صار‪ ،‬وبا�سل الكيالني‪،‬‬ ‫لم ت�سعفني ذاكرتي لذكر ا�سمه‪.‬‬ ‫وفار�س ال�شيحان‪ ،‬وفادي عمران‪ ،‬و�إياد‬ ‫● ●وما هي موا�صفات جيل هذه المرحلة؟‬ ‫�شما�سنة‪ ،‬ون��وح الق�ضاة؛ ثم من خارج‬ ‫‪ρ ρ‬يمكنني ح�صر موا�صفات هذا العدد من‬ ‫الجماعة‪ ،‬ل�ؤي �أحمد‪ ،‬وهاني عبدالجواد‪،‬‬ ‫�أبناء هذه المرحلة بـ‪:‬‬

‫وتركي عبدالغني‪ ،‬ومحمد تركي حجازي‪،‬‬ ‫وم�ح�م��د ع��ري �ق��ات‪ ،‬و��س�ل�ط��ان القي�سي‪،‬‬ ‫وح�سن مريم‪ ،‬وعلي الزهيري‪ ،‬وع�صام‬ ‫ال �� �س �ع��دي‪ ،‬و� �ص �ف��وان ق��دي �� �س��ات‪ ،‬والن��ا‬ ‫�سويدات‪ ،‬و�إي�م��ان عبدالهادي‪ ،‬وم��روان‬ ‫ال�ب�ط��و���ش‪ ،‬ون���ض��ال ب��رق��ان‪ ،‬و�إب��راه �ي��م‬ ‫ال�صرايرة‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫الأردن‪ ،‬ي�ساوقون‪� ،‬إن لم يتقدموا على‬ ‫�أقرانهم في الوطن العربي‪ ،‬كما �أ�ستطيع‬ ‫�أن �أُ�أَكِّدَ �أن �شعراء النوار�س‪ ،‬وهم الأكثر‬ ‫التزاما بموا�صفات ق�صيدة البيت‪� ،‬إلى‬ ‫درج��ة التزمت‪ ،‬ف�إنهم �إذا م��ا انطلقوا‬ ‫من عقال ت�شدد �شروطهم لق�صائدهم‪،‬‬ ‫ف��إن�ه��م ��س�ي�ف��وزون بق�صب ال�سبق على‬ ‫�صعيد الوطن العربي‪ ،‬و�سي�شكلون نقلة‬ ‫نوعية في ق�صيدة البيت العربية‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬لقد و�صل تركي عبدالغني مثال �إلى ال�شوط‬ ‫الأخير‪ ،‬في م�سابقة �شاعر المليون‪ ،‬التي ● ●وماذا عن �إ�شكالية ق�صيدة النثر؟‬ ‫ترعاها دول��ة االم��ارات العربية المتحدة‪ρ ρ ،‬لقد �أ�صبحت ق�صيدة النثر واقعا تجاوز‬ ‫على م�ستوى العالم ال�ع��رب��ي‪ ،‬كما ح�صل‬ ‫مرحلة محاربتها واالع �ت��را���ض عليها‪،‬‬ ‫ال�شاعر محمد تركي حجازي‪،‬على المرتبة‬ ‫وع��دم االع �ت��راف بها‪ ،‬وم��ا ت��زال تعاني‬ ‫الأولى في م�سابقة ف�ضائية الم�ستقلة‪ ،‬على‬ ‫م��ن ���س��وء ف��ه��م‪ ،‬م���ن قِ ���بَ���لِ م��ع��ظ��م من‬ ‫م�ستوى الوطن العربي �أي�ضا‪ ،‬كما ح�صل ل�ؤي‬ ‫يكتبونها‪ ،‬و�إلى ما ي�شبه الجهل ب�شروطها‬ ‫�أحمد على مرتبة متقدمة في �شاعر الأردن‪،‬‬ ‫وموا�صفاتها؛ وهي بحاجة ما�سة �إلى نقاد‬ ‫ع�ل��ى م�ستوى الأردن‪ ،‬وك��ذل��ك ال�شاعرة‬ ‫و�أكاديميين يتحدثون عنها‪ ،‬ويمار�سون‬ ‫الن��ا �سويدات‪ ،‬التي ح�صلت على الجائزة‬ ‫ع�ل��ى �شعرائها ن �ق��دا م��و��ض��وع�ي��ا‪ ،‬غير‬ ‫الأولى في �إذاعة مونت كارلو‪ ،‬وه�ؤالء الذين‬ ‫جاهل �أو مجامل‪ ،‬رغم ما يحاول بع�ض‬ ‫ذكرتهم على �صعيد ق�صيدة البيت‪.‬‬ ‫�شعرائها م��ن �إح��اط��ة �أنف�سهم ب��ه من‬ ‫�أم��ا على �صعيد ق�صيدة التفعيلة‪ ،‬فقد‬ ‫هاالت متوهجة‪ ،‬من الجوائز وال�شهادات‬ ‫ح�صل ال���ش��اع��ر محمد ع��ري �ق��ات على‬ ‫غير المو�ضوعية‪ ،‬بحكم مواقعهم التي‬ ‫جائزة من وزارة الثقافة الفل�سطينية‪،‬‬ ‫ي�شغلونها في الو�سط الأدب��ي والثقافي؛‬ ‫كما ح�صل �سلطان القي�سي على جائزة‬ ‫وتلك �إح��دى �آف��ات النقد في �أو�ساطنا‬ ‫من بيروت في ق�صيدة البيت والتفعيلة‪.‬‬ ‫الأدبية والثقافية‪ ،‬وهم ما يزالون بحاجة‬ ‫● ●وماذا تقول عن وللمتميزين منهم؟‬ ‫لمن يوجههم‪ ،‬وي�أخذ بيدهم‪� ،‬ش�أنهم في‬ ‫ذل��ك �ش�أن غيرهم من �شعراء ق�صيدة‬ ‫‪�ρ ρ‬أ�ستطيع �أن �أق ��ول‪ ،‬وبكل ثقة واع�ت��زاز‪،‬‬ ‫النثر في الوطن العربي‪.‬‬ ‫�إن �شعراء ق�صيدة البيت والتفعيلة في‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪87 )2015‬‬


‫����������������س�������ي�������رة و�إب����������������������������������داع‬

‫م�ؤهالته‪:‬‬ ‫ ح�صل على الماج�ستير في العلوم الع�سكرية من كلية الأركان الأردنية‪.‬‬‫ ثماني ع�شرة دورة في العلوم الع�سكرية في الأردن وبريطانيا‪.‬‬‫حا�صل على العديد من الأو�سمة والميداليات الملكية منها‪:‬‬ ‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‪-‬‬

‫و�سام الإقدام الع�سكري الأردني‪.‬‬ ‫و�سام الن�صر البريطاني‪.‬‬ ‫و�سام النه�ضة الأردني‬ ‫ميدالية الراية‪ ،‬وميدالية اال�ستقالل الأردني‪.‬‬

‫م�ؤلفاته‪:‬‬

‫معا�شي ذوقان العطية‬ ‫‪�ρρ‬إعداد‪ :‬حممود عبداهلل الرحمي‬

‫ولد في مدينة �سكاكا بالجوف في العام ‪1350‬هـ (‪1930‬م)‪ ،‬وتتلمذ على يد ال�شيخ‬ ‫�سمير الدرعان‪� ،‬أحد �شيوخ الكتاتيب بمدينة �سكاكا‪ ،‬ثم �سافر �إلى الأردن في �سن مبكرة‬ ‫والتحق بالجي�ش العربي‪ ،‬كعادة �أبناء منطقة الجوف في ذلك الوقت‪ ،‬وت��درّج حتى‬ ‫و�صل �إلى رتبة مقدم ركن‪.‬‬

‫�أ ّل��ف ع��دد ًا من الكتب تناولت التراث ال�شعبي والتاريخي في‬ ‫منطقة الجوف‪� ،‬إ�ضافة �إلى كتب �أخرى في ال�ش�أن العربي العام‪..‬‬ ‫وه��و ع�ضو في المجل�س الثقافي لمركز عبدالرحمن ال�سديري‬ ‫الثقافي‪ .‬من م�ؤلفاته‪:‬‬ ‫ �أوراق جوفية‪.‬‬‫ ع�صاميون‪.‬‬‫ حدائق الجوف‪.‬‬‫ الغزو الأمريكي للوطن العربي‪.‬‬‫ خطوات على الطريق‪.‬‬‫‪ -‬كيف نخرج من النفق‪.‬‬

‫بعد عودته‪ ،‬عمل في الحر�س الوطني ال�سعودي‪ ،‬وتدرج في رتبه الع�سكرية حتى‬ ‫تقاعد برتبة لواء ركن‪ .‬وهو باحث في ال�شئون العربية والإ�سالمية‪ ،‬و�أبرزها ق�ضية‬ ‫فل�سطين التي �شارك في حروبها مع الجي�ش العربي‪.‬‬ ‫حاليا رج��ل �أع��م��ال وباحث وك��ات��ب‪ .‬ي��زدان مكتبه باللوحات التراثية للمنطقة‪..‬‬ ‫تتو�سطها خارطة فل�سطين؛ بمدنها وقراها‪� ..‬سهولها وجبالها‪ ..‬بحارها و�أنهارها‬ ‫ووديانها‪ ..‬ربما يعي�ش معها ذكرياته في الأربعينيات من القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫بع�ض‬ ‫م�ؤلفاته‬

‫‪88‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪89 )2015‬‬


‫فزعه َ�صيرور ُة‬ ‫ال�شاعر الذي ُت ِ‬ ‫ُ‬ ‫الق�صيد ِة وتح ّوال ُتها‬

‫‪ρρ‬عبدالرحمن الدرعان*‬

‫ع��ل��يَّ �أن �أ�ؤك����د ب����دءاً �أن ال��ت��ق��دي��م بالن�سبة لل�شعر عملية ت�شبه �إ���ض��اف��ة �أجنحة‬ ‫�صناعية ‪ ‬لطائر‪ .‬غالبا ما تُف�سد المقدمات ال�شعرَ‪ ،‬وت�صبح عبئا عليه‪ ،‬ف�ضال عن �أنها‬ ‫تعمل كم�صدّة‪ ،‬تحول بينه وبين القارئ‪ ،‬وت�شوّه مخيلته العذراء؛ �أي �أنها تحذف من‬ ‫الن�ص �أكثر مما ت�ضيف �إليه‪ .‬‬ ‫و�أعترف �أنني نجوت غير مرة من التورّط في مثل هذا ال�شَّ رَك‪ ،‬لكنني لم �أ�ستطع �أن‬ ‫�أتفادى دعوة الأ�ستاذ محمود الرمحي على الرغم من يقيني بال جدوى المهمة التي‬ ‫يتعين عليَّ القيام بها‪ ،‬ذلك �أنني ال �أحتمل تكاليف االعتذار من هذا المعلم العتيق‪،‬‬ ‫الذي قدم �إلى منطقة الجوف مع طالئع المعلمين الفل�سطينيين منذ ما يزيد عن‬ ‫ن�صف قرن‪ ،‬ي�سرد الأ�ستاذ محمود تفا�صيلها كما لو �أنها حكاية حبٍّ طويلة لم تحدث‬ ‫�إال في الأ�ساطير‪ .‬‬ ‫بقي �أن �أقول �إن القارئ �سيكون محظوظ ًا (ال �ط��ائ��ر ال �م �ه��اج��ر)‪ ،‬و َم� ��ن ي �ت��وغ��ل في‬ ‫وهو يمرق كالطيف العابر على هذه ال�صفحة‪ ،‬المو�ضوع المركزي الذي ي�ستحوذ على معظم‬ ‫من دون �أن يفتتح بها المجموعة‪ ،‬فكل دقيقة الن�صو�ص ال�شعرية‪ ،‬ف�سوف يكت�شف �أنه في‬ ‫ي�ستغرقها هنا �ستكون على ح�ساب ال�شعر‪ .‬غنى عن الوقوف من �أج��ل تفكيكه بو�صفه‬ ‫عتبة المجموعة‪ .‬‬ ‫****‬ ‫لم يفاجئني عنوان المجموعة ال�شعرية‬ ‫‪90‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ح��ال�م��ا ف��رغ��تُ م��ن ق� ��راءة الق�صائد‪،‬‬

‫يم�ض تمام ًا‬ ‫ما�ض لم ِ‬ ‫�أو هو بمثابة �صراع بين ٍ‬ ‫وم�ستقبلٍ لم يجيء‪ .‬‬ ‫يتماهى هذا‪ ‬ال�س�ؤال م��ع ال���س��ؤال ال�شعري‪:‬‬ ‫لماذا ي�صر ال�شاعر على االلتزام بكتابة الق�صيدة‬ ‫ب�شكلها التقليدي‪ ..‬ف��ي ال��وق��ت ال��ذي بلغت فيه‬ ‫الق�صيدة الجديدة �أوجها؟!‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫وهي قراءة غير منف�صلة عن ال�سيرة ال�شخ�صية‬ ‫لل�شاعر‪ ..‬خطر لي �أكثر من ��س��ؤال‪ :‬ت��رى �أيهما‬ ‫المهاجر‪ ،‬هل هو الفل�سطيني النازح عن �أر�ضه‬ ‫مكرها والهائم على وجهه‪ ،‬لي�س في جيبه �سوى‬ ‫مفاتيح ال� ��دار‪ ،‬وح�ل��م ال �ع��ودة ال �ط��ري كالو�شم‬ ‫الأخ�ضر في وج��وه الفالحين؛ �أم هو الم�ستعمر‬ ‫الذي نهب الأر�ض عنوة‪ ،‬وظل يتدرب على ن�شيده‬ ‫الوطني تحت حرا�سة ال�سالح؟!!‪ ‬‬

‫حد �أنه يبالغ في والئه لح�ساب ال�شكل في الق�صيدة‬ ‫الخليلية‪ ،‬م�ضحيا ب�شروط ال�شعر وعنا�صره التي‬ ‫ال منا�ص عنها؛ ‪� ‬إذ ي�ضرب �صفحا عن الألعاب‬ ‫البالغية وال�صور الجمالية التي تعد �أحد �أركان‬ ‫ال�شعر‪ ،‬بل تدفعه حالة الح�صر �إذا ما خذله الوزن‬ ‫والقافية �أو وح��دة البيت مثال‪ ‬في توليف �صوته‬ ‫الداخلي مع �صوته الم�سموع �إلى التمرد عليها في‬ ‫ت��واط��ؤ مك�شوف م��ع �صرخة الطفل ف��ي داخ�ل��ه‪..‬‬ ‫وهو ما يتيح فر�صة للقارئ الحاذق �أن ي�ستمع �إلى‬ ‫ت�أت�أة تقول وال تف�صح‪ ،‬ويرى تلك الإيماءات التي‬ ‫�شكلت خلفية للن�ص في عدد من الن�صو�ص‪ ،‬يمكن‬ ‫مالحظة �أثر ال�شعر التعليمي في بع�ض مقطوعاته‬ ‫ف�ضال عن الطابع الحكائي الذي يغلب على بع�ض‬ ‫الق�صائد ما يحيلنا �إلى الق�صيدة‪ /‬الق�صة‪ .‬‬ ‫****‬

‫و�إذا ما اقتربت من �شخ�صية ال�شاعر ف�سوف‬ ‫وهو بعد ذلك‪ ،‬يدرك في الوعيه �أن �صرخته �أقل‬ ‫تعثر على الإج��اب��ة؛ ثمة‪ ‬م�شهد مركب من �شاعر‬ ‫يراهن على ق�صيدة تبدو له متما�سكة ومحكمة‪ ،‬من �أن تواكب حجم الم�أ�ساة‪ ،‬ولذلك جاء ‪ ‬غنا�ؤه‬ ‫ترف�ض االن�سالخ م��ن وحدتها‪ ،‬و�شخ�ص يحدق عذريا على هيئة مقطوعات من �أنا�شيد الطفولة‪،‬‬ ‫فما ال تقوله الق�صيدة‪ ،‬ال يوازي ما توحي به‪ .‬‬ ‫تحديقة طويلة وثابتة �إلى خارطة منهوبة؟!‬ ‫�أق���ول (م�ح�م��ود ال��رم �ح��ي) ب�ي��د �إن �ن��ي �أع�ن��ي‬ ‫�إن��ه طفل لم يتجاوز �سنواته الخم�س‪ ،‬يرف�ض‬ ‫منذ �ستين عاما ك��ل م��ا ح��دث بعد النكبة‪ ،‬وما �شخ�صا �آخر‪ ،‬هو (�أبو ن�ضال) الذي يلوذ بكنيته‬ ‫يزال ي�صعد به العمر �صعودا لولبيا‪ ،‬يكرر �صورة كعادة الفل�سطيني‪ ،‬الذي يولد وعلى كتفيه �صبي‬ ‫ذلك الطفل المذعور مت�شبثا ب�أر�ض تالحقه �أينما منذور للحلم!‬ ‫ارتحل!‪ ‬‬ ‫ه��ذا هو ال�شاعر‪ ،‬ال��ذي يكتب ب��ذراع م�صابة‬ ‫�إن فل�سطين �أ�صبحت في كل مكان خارجها‪ ،‬بتراب فل�سطين؛ ف�أين ال�شعر؟!‬ ‫كما �أن حياته منذ ذلك الحين لي�ست �سوى مجاز‬ ‫�إن �أنقا�ض البيت ال��ذي ه�دّه الزلزال ال تعيد‬ ‫حياة وح�سب‪..‬‬ ‫ت�شييد البيت‪ ،‬كلما توهّ منا �أننا وجدنا الق�صيدة‪،‬‬ ‫وه��و نف�سه ال���ش��اع��ر ال ��ذي ت�ف��زع��ه ��ص�ي��رورة �شَ َر َد من بين �أيدينا لنعثر عليه في الكلمات التي‬ ‫الق�صيدة ‪ ‬وتحوّالتها‪ ،‬متكئ ًا على ذاكرة تراثية �إلى كانت على و�شك �أن تُقال‪..‬‬ ‫ * تقديم «ديوان الطائر المهاجر» ال�صادر عن مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي‪ ،‬عام ‪2015‬م‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪91 )2015‬‬


‫ٌ‬ ‫مدن مرئية وغير مرئية‪..‬‬ ‫ال مدينة واحدة‬

‫�أُ‬ ‫دب�����اء‬ ‫ٌ‬ ‫َيحكو نَ‬ ‫م��د َن��ه��م‬ ‫■ �إعداد �سعيد بوكرامي*‬

‫ارت��ب��ط ال��كُ�� َّت��اب ارت��ب��اط��ا وث��ي��ق��ا ب��ف�����ض��اءات بعينها؛‬ ‫الزمتهم والزموها‪.‬‬ ‫م��ن��ح��ت��ه��م ���ش��خ��و���ص��ه��ا و�أم��ك��ن��ت��ه��ا‪ ،‬وم��ن��ح��وه��ا ال��م��ج��د‬ ‫الأدبي؛ �شعراً ونثراً ورواية وق�صة‪� ..‬صعدوا بها من الواقع‬ ‫�إلى الخيال‪ .‬نقلوا واقعها بمنظور وح�سا�سية؛ منتمية تارة‬ ‫ومتمرّدة تارة �أخرى‪ .‬جيم�س جوي�س مع دبلن بول �أو�ستر‬ ‫مع نيويورك‪ ،‬نجيب محفوظ مع القاهرة‪� ،‬أوره��ان باموق‬ ‫مع ا�سطنبول‪ ،‬وفرناندو بي�سوا مع ل�شبونة‪ ،‬و�سيلين مع‬ ‫باري�س‪..‬‬ ‫ما هو المكان الذي ت�سري دما�ؤه في ن�صو�صك؟ ولماذا‬ ‫ارتبطت �أ�سا�سا بهذا الف�ضاء؟ ما هي الظروف التي �ساقتك‬ ‫�إليه؟ وما هي تجلياته في كتابتك؟ ولماذا كتبت عنه دون‬ ‫�سواه؟‬ ‫ه��ذه �أ�سئلة‪� ،‬ضمن �أخ���رى‪ ،‬ن��ح��اول ا�ستق�صاءها عن‬ ‫ع�لاق��ة الكاتب بمدينته ال��ت��ي اخ��ت��اره��ا ف�ضاء لت�شييد‬ ‫عوالمه الأدبية‪.‬‬

‫الجزء الثاني‬

‫�أود القول في البداية �إني اغبط الروائيين الأول هو الحاجة العميقة لتحرر موطني الأ�صلي‬ ‫الذين ارتبطوا بمدينة بعينها‪ ،‬و�أ�ضيف �إلى فل�سطين‪ ،‬بما يمكّن �أبناء هذه الوطن من العودة‬ ‫�إل��ى �أر���ض الأج ��داد والأح�ف��اد‪،‬‬ ‫الأ��س�م��اء ال���واردة ف��ي مقدمة‬ ‫و�أن ي�ن�ع�م��وا ب��ال �ح��ري��ة �أ� �س��وة‬ ‫ه��ذا اال��س�ت�ط�لاع‪ ،‬ه�ن��اك بين‬ ‫ب�شعوب المعمورة‪ ،‬والثاني هو‬ ‫العرب �إميل حبيبي الذي ارتبط‬ ‫الرغبة العميقة �أي�ضا بال�سفر‬ ‫بحيفا‪ ،‬ومحمد خ�ضير الذي‬ ‫والطواف في الأر���ض والتعرف‬ ‫ارت �ب��ط ب��ال�ب���ص��رة‪� .‬أغبطهم‬ ‫على البلدان وال�شعوب‪.‬‬ ‫لأن ع��اط �ف �ت �ه��م و�أف� �ك ��اره ��م‬ ‫وه��واج �� �س �ه��م وان �� �ش �غ��االت �ه��م‬ ‫والحا�صل‪� ،‬أن االحتالل يمنع‬ ‫تتمحور ح��ول مدينة بذاتها‪..‬‬ ‫�ضحاياه م��ن �أن يعي�شوا حياة‬ ‫يرون العالم مُج�سّ دا بها ومن‬ ‫طبيعية و�أن���ا م�ن�ه��م‪ .‬فال�سفر‬ ‫خاللها‪ ،‬وين�صرفون لقراءة‬ ‫متعة هائلة‪ ،‬وكذلك ف�إن العودة‬ ‫ج��وان��ب المدينة والنفاد �إل��ى‬ ‫من ال�سفر الى الوطن هي �أي�ضا‬ ‫ق�ل�ب�ه��ا‪ .‬غ �ي��ر �أن ك��ات��ب ه��ذه‬ ‫متعة هائلة‪ .‬و�أنا �أ�سافر‪ ..‬لكني‬ ‫ال �� �س �ط��ور ال ي��رت �ب��ط مثلهم‬ ‫ال �أعود الى موطني الأ�صلي من‬ ‫بمدينة منفردة‪ ،‬والمق�صود‬ ‫ال�سفر‪ .‬وال يتوقف الأم��ر عند‬ ‫االرت��ب��اط ال��وج��ودي الكامل‪،‬‬ ‫ذل��ك بالن�سبة ل��ي‪ ،‬فجن�سيتي‬ ‫ولي�س مجرد االرتباط الوطني‬ ‫الأردنية التي اكت�سبتها منذ �أكثر‬ ‫مثال‪ ،‬والأخير ارتباط طبيعي‬ ‫من �ستين عاما‪ ،‬جعلت الأردن‬ ‫وبديهي‪.‬‬ ‫موطنا �آخر لي ولأ�سرتي‪.‬‬ ‫بالن�سبة ل��ي ف ��إن��ي �أعي�ش‬ ‫تحت وط�أة قطبين متنافرين‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫محمود الريماوي‪:‬‬ ‫�أديب �أردني‪ /‬فل�سطيني‬

‫دعني �أق ��ول �إن الم�ضي في‬ ‫ال �ت �ج��رب��ة ال�ح�ي��ات�ي��ة ال�ث�ق��اف�ي��ة‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪93 )2015‬‬


‫� ُ‬ ‫َ‬ ‫توطيد‬ ‫أحاول‬ ‫عالقتي بالمكان‬ ‫جعلتني �أنظر للق�ضية الفل�سطينية من منظور العالم التي ن�ش�أتُ فيها‪ ،‬وتفتح وعيي الأول تحت‬ ‫�إن�ساني �شامل‪� ،‬إ�ضافة �إلى المنظور ال�سيا�سي؛ �سمائها‪.‬‬ ‫بحيث ال �أف�صل بين معاناة الفل�سطينين الوطنية‪،‬‬ ‫«مدينتي» ه��ي م��زي��ج م��ن ال�ق��د���س و�أري �ح��ا‬ ‫وبين معاناة ال�شعوب وعموم الب�شر من العن�صرية وع� ّم��ان وب�ي��روت والقاهرة والكويت ومراك�ش‬ ‫والتمييز والوح�شية والعِوز‪ .‬وحتى ال نذهب بعيداً‪ ،‬وتون�س وا�ستانبول‪ ،‬وهي مدن زرتها �أو �أقمت‬ ‫فال�شعب ال�سوري عانى م��ن �صنوف البربرية فيها‪ ،‬وم��دن �أخ��رى ق�صيّة غير مرئية‪ ،‬هادئة‬ ‫واالق�ت�لاع الوح�شي خ�لال �أرب��ع �سنوات‪ ،‬مثلما �أو �صاخبة‪ ،‬ومحلوم بها مثل «دك ��ا» عا�صمة‬ ‫عانى الفل�سطينيون على م ّر تاريخهم و�أكثر‪.‬‬ ‫بنغالد�ش التي كتبت حولها رواية «حلم حقيقي»!‬ ‫هذا الأفق الإن�ساني ينعك�س على ما �أكتبه من ومثل «حلب» التي تعود جذور عائلتي �إليها‪ ،‬ولم‬ ‫�إبداع؛ بما يجعلني في دخيلتي �أ�ؤمن �أن العالم �أزره��ا‪ ..‬وها هي هذه المدينة العظيمة تتدمّر‬ ‫ب�أ�سره وطني‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى فل�سطين والأردن‪ .‬تدمير ًا منهجيا‪.‬‬ ‫و�أن الب�شر في �أي بقعة على الأر�ض هم �أ�شقائي‬ ‫لقد ج��رى العرف على و�صف العالم تحت‬ ‫ونظرائي و�شركائي‪.‬‬ ‫ت��أث��ي ال�ت�ح��والت التكنولوجية‪ ،‬وت �ب��ادل ال�سلع‬

‫ل �ي �� �س��ت ه� �ن ��اك ب��ال �ت��ال��ي م��دي �ن��ة واح� ��دة‬ ‫ت�ستحوذ على كياني كله‪ ،‬مع �أن مدينة عظيمة‬ ‫كالقد�س ت�ستحق ان تكون‪ .‬لكنها على عظمتها‬ ‫وخ�صو�صيتها �أراها جزء ًا من فل�سطين‪ ،‬و�أرى‬ ‫فل�سطين جزء ًا من العالم العربي ومن �آ�سيا ومن‬ ‫المتو�سط‪ ،‬و�أرى العالم العربي و�آ�سيا والمتو�سط‬ ‫ج ��زء ًا م��ن ال�ع��ال��م‪ ،‬وال�ع��ال��م ج��ز ٌء م��ن ال�ك��ون!‬ ‫كذلك الحال مع مدينة �أريحا �أقدم مدينة في‬ ‫‪94‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫وال�خ��دم��ات‪ ،‬و�شيوع ثقافة ال�سفر‪ ..‬على �أن��ه‬ ‫�أ�صبح قرية واح ��دة‪ .‬لنقل �إن��ه �أ�صبح مدينة‬ ‫واح ��دة‪ .‬مدينة �شا�سعة هائلة تحت�ضن تحت‬ ‫جناحيها مئات المدن‪ .‬و�أجدني مُلبي ًا نداء خفيا‬ ‫وعميقا‪� ،‬أج��دن��ي �أط��وف هائما ب��روح��ي وعلى‬ ‫قدميّ بين تلك ال�م��دن‪ ،‬وبين �سحنات ولغات‬ ‫مئات ال�شعوب فيها‪ .‬وذلك كله له انعكا�س في ما‬ ‫كتبت حتى الآن‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال�شاعر ال�سعودي‬ ‫محمد خ�ضر‬

‫‪ ..‬حين كتبت رواي ��ة «ال���س�م��اء لي�ست في‬ ‫ك��ل م �ك��ان»‪ ،‬ك��ان ال�م�ك��ان ه��و �أع �م��ق الأب �ط��ال‬ ‫و�أكثرهم ح�ضوراً؛ المكان بو�صفه ق��ادرا على‬ ‫الأ�سئلة ومفتاح ًا للكثير من خلفيات الأح��داث‬ ‫وال�شخو�ص؛ بل كان محرك ًا وفاع ًال في تطورات‬ ‫ال ��رواي ��ة‪ ،‬رب �م��ا لأن �ن��ي ع�شته زم �ن �اً‪ ،‬وفهمته‬ ‫واقتربت منه كثيراً‪ .‬المكان ‪� /‬إربة‪ ..‬كان م�شبع ًا‬ ‫بالأ�سئلة والغرابة ‪-‬بالن�سبة لي على الأقل‪ -‬في‬ ‫ال�شعر �أرى ح�ضور المكان �أقل ل�صالح مجموعة‬ ‫االنفعاالت والأف �ك��ار واللغة؛ لكنني كتبت عن‬ ‫�أمكنة كثيرة م�ث��ل‪ :‬قريتي‪ ،‬والبيت القديم‪،‬‬ ‫وبع�ض المقاهي‪ .‬وكثيرا ما ح�ضر المكان في‬ ‫دالالت مختلفة في ق�صائد عن مدن الإ�سمنت‪،‬‬ ‫والم�صانع‪ ،‬والأنابيب ال�شاهقة ذات الأدخنة‪،‬‬ ‫مقابل‪ :‬القرية‪ ،‬والب�ستان‪ ،‬والحقل؛ ربما كنت‬ ‫�أح ��اول توطيد عالقتي بها‪ ،‬وت��رك �أث��رٍ ي�شبه‬ ‫�صورة فوتوغرافية من زاوية خا�صة بي‪..‬‬

‫�أرى الأمكنة من خاللي ولي�س العك�س‪ ..‬وبرغم‬ ‫�أهمية المكان الذي يرتبط بالذاكرة والمواقف‬ ‫الحياتية وم�شاعر �أخرى‪ ،‬كالحنين �أو الكراهية‬ ‫�أو الغربة �أو الذكريات‪� ،‬إال �أنه بقي تلك ال�صورة‬ ‫التي �ألتقطها و�أراه��ا من خاللي‪ ..‬ويمكن �أن‬ ‫تكون من خالل مجموعة ما تكوّن في داخلي من‬ ‫تراكمات ومدخالت تنتظر �أن توظف في ن�ص‬ ‫ما‪� ..‬أحيانا �أرغب في �أن �أترك ذاكرة تخ�صني‬ ‫لمكان م��ا‪ ..‬و�أج��د �أن الكتابة هي طريقة �أكثر‬ ‫خ�صو�صية من ال�صورة الفوتوغرافية‪� ..‬إذ يمكن‬ ‫�أن ت��ودع مكانا ما �أث�ن��اء �سفر �أو عبور بكتابة‬ ‫حق ًا ال تخلو مجموعة �شعرية لي من مكان ت�ستودع فيها �شعورا مختزال ل�شعور ال يجمع‬ ‫ما‪ ،‬لكنه لي�س محدد ًا ولي�س دائماً‪ ..‬وربما لأنني �أجزاءه �سوى الكتابة‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪95 )2015‬‬


‫جغرافيا الروح!!‬ ‫ونترب�ص به‪ ،‬المكانُ �أفق‬ ‫ُ‬ ‫يترب�ص المكان بنا‬ ‫ُ‬ ‫المبدع الأول؛ ربما لأن عالقة الإن�سان بما حوله‪،‬‬ ‫عالق ٌة محمومة تنمو فيها التفا�صيل بطريقة‬ ‫عجيبة‪ ،‬وتتطور معه بتطور وت �ع �دّد محطات‬ ‫حياته والأماكن التي ي�ستوطنها‪.‬‬

‫و(� �ص �ح��راء �إب��راه �ي��م ال �ك��ون��ي)‪ ،‬و(ب �ح��ر حنا‬ ‫مينا)‪ ،‬و(جيكور‪ ،‬بدر �شاكر ال�سياب)‪ ،‬وتوا�صل‬ ‫المتلقي مع هذه الأمكنة و�شخو�صها وثقافاتها‬ ‫من خالل ن�صو�ص المبدع‪.‬‬

‫في ظل الوعي النقدي العام الذي تلمّ�س هذه‬ ‫ربما لهذا ظلت �أغلب الدرا�سات النقدية العالقة بين المبدع و�أمكنته‪ ،‬ب��د�أت الكتابات‬ ‫تولي هذا الجانب عناية خا�صة‪ ،‬مُتلم�س ًة نطاق الحديثة‪ ،‬وبخا�صة (�شعرياً)‪ ..‬تحاول �أن ت�صوغ‬ ‫هذا العالقة‪ ،‬محاول ًة تر�صد المكان و�شخو�صه خ�صو�صيتها من خالل المكان‪.‬‬ ‫من خالل ن�صو�ص المبدع‪.‬‬ ‫وب ��د�أ ه�ن��اك –�إن �صح التعبير– تجارب‬ ‫ل�ه��ذا‪ ،‬ب��رزت �أم��اك��ن لها خ�صو�صيتها في �شعرية تتفاعل مع المكان تفاع ًال خا�ص ًا من‬ ‫الثقافة الإن�سانية منها‪ :‬خالل �إعادة �صهره عنا�صره في بوتقة �شعرية‪،‬‬ ‫(حارة نجيب محفوظ)‪ ،‬مم�سك ًة بوعي كامل على عنا�صر هذه المعادلة‪.‬‬ ‫ال�م�ك��ان ع�ن��دي م�سكون بالقلق‪ ،‬رب�م��ا لأن‬ ‫هاج�س اال�ستقرار ظ��ل ُي�ل��حّ دون �أن احتويه‪،‬‬ ‫وظلت الحياة تُمار�س الجريان دون �أن �أُ�أَ�س�س‬ ‫للمكان الت�أ�سي�س ال�شعري الذي يليقُ به‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫عبدالبا�سط �أبو بكر محمد‬ ‫�شاعر وكاتب من ليبيا‬

‫لا من الأول الذي يتذكره كل لحظ ٍة بوقعٍ مختلف‪ ،‬وظل‬ ‫ظلت (ح�ك��اي��ا ج��دت��ي) ج ��زء ًا �أ��ص�ي� ً‬ ‫حنيني للمكان الأول‪ ،‬الذي �شهد الطفولة ونزقها ال�شعراء منغم�سين في حالة من الوجد ال�شعري‬ ‫و�أل�ع��اب�ه��ا‪ ،‬وظلت خرافاتها التي ت�سكبها في تجاه الأمكنة التي تفاعلوا معها‪.‬‬ ‫ذهني من خالل ق�ص�صها و�أحاجيها و�أ�شعارها‬ ‫الخيال �أي�ض ًا مكان افترا�ضي‪ ..‬تبر ُز الحاجة‬ ‫كل ليل ٍة وما تزال جزءًا �أ�صي ًال من مكوّن لمكان �إليه عندما ي�ضيقُ المكان الحقيقي‪ ،‬الذي في‬ ‫لم �أعرفه‪ ،‬لكنني ت�شربتُ تفا�صيله من خاللها‪ ،‬الغالب ما يك�س ُر �أجنحة الخيال ويجف ُّف الحاالت‬ ‫وظل هذا المكان يلوحُ مر ًة تلو المرة من دون �أن ال�شعرية‪.‬‬ ‫احتويه بالكامل‪ ،‬بل تفتت في ق�صائدي وكتاباتي‬ ‫ما تفرزه ثورة البرمجيات واالت�صاالت �أي�ض ًا‬ ‫النثرية‪ ،‬من دون �أن �أر�سم معالمه الكاملة‪.‬‬ ‫ُف�صل ُه‬ ‫يمكن ت�صنيفه كـ (مكان افترا�ضي) ي ّ‬ ‫�أح��اول هذه الأي��ام �أن ا�ستدعي المكان من ال�شاعر على مقا�سه‪ ،‬وتظلُ كل جزئيات هذا‬ ‫خالل ا�ستدعاء ثقافته‪ ،‬و�أ�شعاره و�أ�ساطيره‪ ،‬المكان االفترا�ضي بما تحتويه م��ن تفا�صيل‬ ‫محاو ًال و�ضع يدي على مفتاح الخ�صو�صية (�إن جزء ًا من �إحاطة ال�شاعر ب�أمكنته الحقيقية‪.‬‬ ‫ج��از لي التعبير) في تجربتي‪ ،‬محاو ًال �إع��ادة‬ ‫بع�ض ه��ذه ال�صفحات‪ ،‬وبخا�صة �صفحات‬ ‫ُ‬ ‫�إنتاج بع�ض التعابير والأمثال والأ�شعار ال�شعبية‬ ‫ال���ش�ع��راء وال�م�ب��دع�ي��ن ع�ل��ى م��واق��ع التوا�صل‬ ‫تتنف�س عبق‬ ‫ُ‬ ‫في كتابة ق�صائد تنتمي للمكان ب�صف ٍة خا�صة‪ ،‬االجتماعي‪ ،‬هي (�أماكن) ما تزال‬ ‫من خالل تفاعلها مع عنا�صره‪.‬‬ ‫الإبداع وروح الذكرى‪ ،‬وتحتوي �صورة �شخ�صية‬ ‫نقطة �أخ� ��رى‪( ..‬ال �م �ك��ان ال���ش�ع��ري) غير متكاملة الجوانب حتى بعد وفاة المبدع‪.‬‬ ‫(ال �م �ك��ان ال���روائ���ي)‪ ..‬ال��رواي��ة �أك �ث��ر عناية‬ ‫يمكن �أن َت�ب�ع��ثَ ال�ح�ي��اة فيها م �ج��دد ًا من‬ ‫تفاعلك الجديد معها (من خالل نقرة‬ ‫َ‬ ‫بال�شخو�ص والتفا�صيل الدقيقة‪ ،‬لتما�سها التام خالل‬ ‫والمبا�شر مع المكان‪.‬‬ ‫�إعجاب �أو تعليق �أو م�شاركة)‪ ،‬بل �إن بع�ض هذه‬ ‫بينما يظل المكان في ال�شعر‪ ..‬محاط ًا بروح الن�صو�ص المن�شورة على هذه المواقع‪ ،‬تتجاوز‬ ‫ال�شاعر وتفا�صيله الحميمية‪ ،‬وحنينه وقلقه عمر ال�شاعر �أو المبدع وتم�ضي بعيداً!!‬

‫وظ�ل��ت الأم �ك �ن��ة ال�ت��ي تحتوي ال�شاعر في‬ ‫اهتماماته اليومية ورك�ضه وراء لقمة العي�ش‪،‬‬ ‫جزءًا �أ�صيال من التجربة؛ قد يبر ُز ب�شكل مبا�شر‬ ‫ولحظي في كتاباته المعا�صرة‪� ،‬أو يُ�ستدعى في‬ ‫لحظ ٍة من لحظات الحياة والكتابة‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪97 )2015‬‬


‫الحلم‬ ‫�سعي ًا نحو المدينة ُ‬ ‫لكل منا مدينته الحُ لم التي يكتب عنها‪ ،‬و�إن‬ ‫كان يح�سب نف�سه يكتب عن مدينة الواقع‪ ،‬ما‬ ‫دام��ت «�أجمل مدينة في العالم هي تلك التي‬ ‫ي�شعر فيها ال�م��رء بال�سعادة»‪ ،‬كما كتب �أح��د‬ ‫الأدب���اء‪ ..‬حلُمتُ في �إح��دى ق�ص�صي بمدينة‬ ‫غير خا�ضعة لقوانين الجاذبية‪ ،‬وف��ي ق�صة‬ ‫�أخرى كتبتُ عن مدينة كبيرة كفجيعة‪ ،‬طاعنة‬ ‫في المباالتها بالغرباء‪ ،‬وقلتُ �إن المرء ال يمكن‬ ‫�أن يحبها؛ لأنها مدينة تكتب على مداخلها‪:‬‬ ‫ممنوع دخول ال�سنونو‪ ،‬و�أزقتها تذكر �أن الأر�ض‬ ‫قبعة �صغيرة ال تليق حتى ب��ر�أ���س طفل �صغير‬ ‫لما ي�صبه القمل بعد؛ ورغم �أنني كنتُ �أم�شي‬ ‫و�أهر�ش ر�أ�سي‪� ،‬إال �أن تلك المدينة لم ترني قط‬ ‫لأن نظرها �ضعيف‪ ..‬وخ��رج بطل تلك الق�صة‬ ‫بتعميم مخيف هو «�أن المدن ليالٍ من الغربة‬ ‫حين يفقد الم�سافر البو�صلة؟!»‪ .‬وف��ي �سعيي‬ ‫للمدينة الحُ لم‪ ..‬كتبتُ مرة عن مدينة م�شتعلة‬ ‫بالحرب‪ ،‬م��ات فيها جندي ك��ان كل �أمله بعد‬ ‫موته �أن تعود جثته بعد الحرب الى ما �أ�سماها‬ ‫‪98‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫القا�ص �سليمان المعمري‬ ‫�سلطنة عمان‬

‫ن�ص بعنوان‬ ‫كتبتُها عنها و�أحمل لها حب ًا خا�ص ًا ٌّ‬ ‫«رم ��اد � �ش��وزي��ت»‪ ،‬ال��ذي و�إن ك��ان ف��ي ظاهره‬ ‫رث��اء لحالق بنغالي مات في ال��ردة بعد (‪)27‬‬ ‫�سنة ق�ضاها فيها‪� .‬إال �أنه في العُمق �إيغال في‬ ‫�سكك الردة ودروبها‪ ،‬ودكاكينها‪ ،‬و�صالوناتها‪،‬‬ ‫وم�صنع ثلجها الذي ه�شّ مه ذات �صباح �سائق‬ ‫�سيارة ن�صف �سكران‪ ،‬و�أهلها ال��ذي��ن يهوون‬

‫فل�سفة الأحداث على طريقة محللي الف�ضائيات‬ ‫الإخ �ب��اري��ة‪ ،‬وح�ل��م ال �ح�لاق �أن يقب�ض –كما‬ ‫الكاتب ربما‪ -‬على ل��ؤل��ؤة ال��ردة الع�صيّة‪ ،‬ثم‬ ‫رحيله المفاجىء عنها مكتفي ًا ب�شرف المحاولة‪،‬‬ ‫تارك ًا �شيئا من روحه‪ ،‬ي�ضمّخ المكان‪ ،‬في حين‬ ‫�أُحرِ ق ج�سده الفاني في بنجالدي�ش وتناثر رماد‬ ‫ذكراه في الردة‪.‬‬

‫«مدينته الوادعة» لتنام فيها ب�سالم‪ ..‬وهناك‪،‬‬ ‫في «المدينة الوادعة» فر�ش �أهلها مالءة �ضخمة‬ ‫و�ضعوا عليها التابوت‪ ،‬وحمل كل منهم بطرف‪:‬‬ ‫الجنرال‪ ،‬وال�شرطي‪ ،‬والمقاول‪ ،‬وتاجر الذهب‪،‬‬ ‫والم�شعوذ‪ ،‬وال�شاعر‪ ،‬والممثل‪ ،‬وال�صيرفي‪،‬‬ ‫وال�شحاذ‪ ،‬والعب الكرة‪ ،‬وال�صيدالني‪ ،‬والل�ص‪،‬‬ ‫والمطرب ال�شبابي‪ ،‬وما�سح الأحذية‪ ،‬والقاتل‬ ‫المحترف‪ ،‬ونافخ الكير‪..‬‬ ‫كلهم اتفقوا على المالءة‪ ،‬ولكنهم اختلفوا‬ ‫على �أيهم �أج��در ب�إمامة الم�صلين في �صالة‬ ‫الجنازة‪ .‬ظلوا طوال الليل ي�ستعر�ضون مزاياهم‪،‬‬ ‫وال�سنتمترات القليلة ج��دا التي تف�صلهم عن‬ ‫ال�سماء‪ .‬وحين طلع الفجر فتح ال�شهيد التابوت‬ ‫وم�ضى وهو يقول مغالبا النعا�س‪« :‬من الأف�ضل‬ ‫ل�صحة الميت �أن ينام في مكان هادىء»‪.‬‬ ‫تبقى «الردة» قريتي الهادئة التي تحوّلت في‬ ‫غ�ضون �سنوات قليلة‪ ،‬وبقدرة قادر‪� ،‬إلى مدينة‬ ‫كبيرة هي مكاني الأثير‪ .‬ومن الن�صو�ص التي‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪99 )2015‬‬


‫الر�ستاق هي المكان الأول‬ ‫بكل تجلياته وامتعا�ضاته‬ ‫وفرائحه الهاربة‬ ‫�أ�شجار النخيل‪ ،‬ولها تفا�صيل جميلة ملت�صقة‬ ‫في روحي‪ ،‬وهي �شاهقة تاريخي ًا وت�ضطجع على‬ ‫جبل �شاهق؛ يعانق ال�سماء‪ .‬ووديعة في الوقت‬ ‫نف�سه؛ م��ا خلق ف��ي دواخ �ل��ي الإب ��اء والطموح‬ ‫الم�ستمر في الحياة‪.‬‬

‫الإن���س��ان اب��ن بيئته بالطبع‪ .‬والبيئة التي‬ ‫ن�ش�أتُ فيها بالت�أكيد لها دور ب��ارز ف��ي ر�سم‬ ‫�أفكاري وطرق تفكيري‪ .‬وقد يكون الت�أثير عك�سي ًا‬ ‫مختلفا تماماً؛ �أي في الجانب المناق�ض بع�ض‬ ‫الأح�ي��ان! على الم�ستوى الجغرافي‪ ،‬ف�أنا ابن‬ ‫مدينة(الر�ستاق)‪ ،‬ا�سم له وق��ع في الذاكرة‬ ‫رغم �أن المدينة التي ولدتُ وتربيت و�أعي�ش‬ ‫الجمعية‪ ،‬مدينة تزنّرها الجبال‪ ،‬وت�ؤثّث م�سالكها فيها؛ مدينة الر�ستاق‪ ،‬لم �آتِ على ذكرها ب�شكل‬ ‫مبا�شر في ق�ص�صي‪� ،‬إال �أنها تظل هي التي‬ ‫�أحملها وتحملني من �ضياع كل الأمكنة التي‬ ‫حملتني‪ ،‬وحملتُ ذاكرتها الموغلة في التاريخ‬ ‫وال�ح�ن�ي��ن‪ .‬ال��ر��س�ت��اق ه��ي ال�م�ك��ان الأول بكل‬ ‫تجلياته وامتعا�ضاته وفرائحه الهاربة‪ ،‬ح�ضر‬ ‫المكان‪/‬الطفولة لي�ؤثّث الن�ص الق�ص�صي؛ ‪ ‬لأن‬ ‫الق�صة الق�صيرة هي �سيرة ذاتية غير ر�سمية‬ ‫وغير معلنة‪ ،‬ن�ؤثثها بتجربتنا اليومية واللغوية‬ ‫والإن�سانية؛ و�إال لن نكتب ما نعانيه حتى ولو كان‬ ‫ب�شكل فانتازي‪ .‬لن تتكرر البيئة وال�شخو�ص في‬ ‫الق�صة؛ لأننا بب�ساطة نتحرك زمني ًا ويتحرك‬ ‫المكان باختالف وج��وه��ه‪ .‬ه��ل مكاني الأول‬ ‫الر�ستاق قبل ثالثين �سنة هي الر�ستاق الآن؟!‬

‫والبيئة التي تحيط بنا بالت�أكيد لها دور بارز‬ ‫في ر�سم �أفكارنا وطرق تفكير الإن�سان‪..‬وقد يكون‬ ‫الت�أثير عك�سيا مختلفا تماماً‪� ،‬أي في الجانب‬ ‫المناق�ض بع�ض الأحيان! كردة فعل راف�ضة لما‬ ‫يحدث‪� ،‬أي بالطرق المتفق عليها م�سبق ًا في‬ ‫المعي�شة ال�ساذجة اليومية الروتينية؛ وهذا ما قد‬ ‫يحفّزني لطرح �أ�سئلة في داخلي وفي ق�ص�صي‬ ‫عن المكان؛ وقد نمت بمرور ال�سنين‪ ،‬وحكايا‬ ‫خرافية قذفتها �أل�سنة ف��ي �أدمغتنا الغ�ضة‪..‬‬ ‫ولأننا �أمة (مل�سونة) وظاهرة �صوتية كما قال‬ ‫الق�صيمي‪ ..‬فكان البد من �إعادة تخيّل‪�/‬صياغة‬ ‫الحكاية‪/‬الحياة‪ ،‬ول��و ب�شكل مفتعل وفنتازي‪،‬‬ ‫وم�ؤذٍ بع�ض الأحيان‪ ،‬على م�ستوى الذاكرة‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫الكاتب العماني ّ‬ ‫الخطاب المزروعي‪:‬‬

‫واقت�صادي ًا و�إن�سانياً؛ ال �أجد �سلوى �سوى اجترار‬ ‫المراتع الأول ��ى بالكتابة‪ ،‬والعي�ش على �سقم‬ ‫الذاكرة الجميل‪.‬‬

‫ل �ق��د ت �غ � ّي��رت دي �م��وغ��راف �ي � ًا وج �غ��راف �ي � ًا‬ ‫‪ 100‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪101 )2015‬‬


‫فاطمة بن محمود‪:‬‬

‫ُ‬ ‫المدينة و�صور ُتها‬ ‫ال �أع�ت�ق��د �أن ��ه ثمة مدينة واح ��دة ت�أ�سرني ب ُكتّاب الن�صف الجنوبي من الكرة الأر�ضية‪..‬‬ ‫وتت�سرّب �إل��ى ن�صو�صي وت��راب����ض خلف بنات‬ ‫ال� ُك� ّت��اب هنا يعي�شون واق�ع��ا ُم��رب�ك� ًا ي�ضجّ‬ ‫�أفكاري‪� ..‬أعتقد �أن كتّاب العالم المتقدم ت�سكنهم بالفو�ضى‪ ،‬تمثّله مدينة م��ا‪ ،‬ويحلمون بواقع‬ ‫مدينة واح� ��دة‪ ،‬مدينة تت�صالح م��ع واقعهم‪� ،‬آخر بديال‪ ،‬يحققون فيه الم�صالحة مع ذواتهم‬ ‫وتقترب من �أحالمهم؛ لذلك يمكن للكاتب منهم القلقة وتمثّله مدينة �أخرى‪.‬‬ ‫�أن يكتفي بمدينة تكون العالم كله بالن�سبة له‪.‬‬ ‫لذلك‪� ،‬أعتقد ان الكتّاب الغربيين يتحدثون‬ ‫لكن �أظن �أن الم�س�ألة تختلف‪ ،‬عندما يتلعق الأمر دائما عن مدينة واحدة هي نف�سها‪ ،‬يعي�شون فيها‬ ‫ويكتبون فيها‪ ،‬يتجولون في �شوارعها وتتجول‬ ‫في �أوراق �ه��م‪� .‬أم��ا الكتّاب ال�ع��رب‪ ..‬فالمدينة‬ ‫لي�ست هي نف�سها‪ ،‬حتى و�إن بدت كذلك‪� ..‬إنهم‬ ‫يعي�شون في مدينة‪ ،‬ويكتبون ب�صورة �أخرى عن‬ ‫تلك المدينة‪� ..‬إنهم يعي�شون فيها ولكن يحلمون‬ ‫النف�س بها وف��ق مالمح �أخ��رى‪� ،‬إنها المدينة‬ ‫نف�سها في الظاهر‪ ،‬ولكنها في الحقيقة تختلف‬ ‫بين الموجود والمن�شود‪ ،‬تتباين بين �أن تكون‬ ‫مدينة بالفعل و�أن تت�شكل كمدينة بالقوة‪.‬‬

‫ل �ه��ذا‪ ،‬ال �أج��د مدينة واح ��دة تقتحم حقول‬ ‫ال���س��رد ف��ي ك�ت��اب��ات��ي‪ ،‬ب��ل ت��وج��د م ��د ٌن ع��دي��دة‪..‬‬ ‫كتبتُ عن تون�س كما كتبتُ عن مدن مغربية مثل‬ ‫ال��دار البي�ضاء‪ ،‬و�شف�شاون‪ ،‬وم�رّاك����ش‪ ،‬و�أي�ضا‬ ‫كتبت عن مدينة الكويت‪ ،‬والمنامة‪ ،‬وحلبجة في‬ ‫كرد�ستان؛ وفي كل هذه المدن كنت �أجد نف�سي‬ ‫دائما �أتحدث عن مدينة واح��دة جميلة ومثيرة‬ ‫وفو�ضوية‪ ،‬ب�إمكانها �أن تقتحم عزلتي‪ ،‬وتت�سرّب‬ ‫�إلى ن�صو�صي‪ ،‬وت�أخذ �شكل ق�صيدة مثال‪ ..‬ولكن‬ ‫في الحقيقة كنتُ في اللحظة نف�سها �أي�ضا �أتحدث‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال�شاعرة التون�سية‬

‫ي�سمّى بالرّبيع العربي‪ ،‬ولكن عندما �أكتبها‪..‬‬ ‫ف�إني ال �أق�صد نقل الواقع المربك‪ ،‬بل �أق�صد‬ ‫�أن �أح�ل��م ب��واق��ع �أج�م��ل ت�ك��ون فيه تون�س بالد‬ ‫القيم الإن�سانية الحقيقية‪ ،‬والفر�ص المت�ساوية‪،‬‬ ‫والحريات الفعلية والديمقراطية التي نحلم بها‪.‬‬

‫عن مدينة �أحلم بها و�أتوق �إليها؛ تتحقق فيها كل‬ ‫ال�شروط الإن�سانية لحياة كريمة‪ ،‬فيها حرّيات‬ ‫فعلية‪ ،‬وجمال ال يُدنّ�سه جهل الإن�سان‪ ،‬وال يعكّر‬ ‫�صفوه التطرّف الديني‪ ،‬وال تف�سده الدكتاتورية‪..‬‬ ‫فكل مدينة لي�ست مناخ ًا وال مبانٍ جميل ٍة وال �شوارع‬ ‫نظيفة‪ ،‬و�إن�م��ا �أي�ضا كل مدينة هي نمط تفكير‬ ‫وقواعد �سلوكية‪ ،‬وثقافة ت�ؤمن بالجمال وتحترم‬ ‫المبدع؛ لذلك يحدث للمبدع �أن يكتب عن المدينة‬ ‫و�سكاّنها وم�شاغلهم و�أزماتهم‪ ،‬ولكنه يق�صد �أن‬ ‫يكتب عن تلك المدينة ليرى النا�س تت�صالح مع‬ ‫واقعهم‪ ،‬ويحققون �إن�سانيتهم؛ وه��ذا يعني �أن‬ ‫المبدع يتحدث عن المدينة وظلها‪� ،‬أو عن المدينة‬ ‫و�صورتها‪ ،‬وال�شيء و�صورته لي�س لهما المعنى‬ ‫نف�سه‪!..‬‬

‫بالن�سبة ل��ي‪� ،‬أعي�ش ف��ي تون�س العا�صمة‪،‬‬ ‫و�أكتب فيها ق�صائد ون�صو�ص �سردية كثيرة‪،‬‬ ‫ولكن لي�ست هي نف�سها التي �أكتبها‪� ،‬أنا �أعي�ش‬ ‫فو�ضاها وارت�ب��اك�ه��ا‪ ،‬خا�صة بعد �أح ��داث ما‬ ‫‪ 102‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪103 )2015‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫الروائي المغربي‬ ‫ح�سن اليمالحي‪:‬‬

‫تطوان مدينة فاتنة‬ ‫في الحقيقة ال �أجدني �أنجذب �إلى مدينة دون‬ ‫�أخرى‪ ..‬كل المدن التي مررت منها ذات مرات‬ ‫�أو �سنوات‪� ،‬أجد لها مكانة خا�صة داخل نف�سي‪.‬‬ ‫لي�س لأني مررت منها‪ ،‬ولكن لأنني توحّ دت بها‬ ‫�إلى حد الت�شكّل من خالل ف�ضاءاتها و�أ�سوارها‬ ‫و�أزقتها و�شوارعها‪ ،‬وقيمها التي ت�سودها بين‬ ‫ال�صداقات العابرة والتابثة‪ .‬ولكن بالرغم من‬ ‫كل ه��ذا‪ ،‬فبع�ض المدن تمار�س �سحرها على‬ ‫المبدع �إلى درجة اال�ستيالب‪ .‬وفي هذا الإطار‬ ‫يمكن �أن �أت �ح��دث ع��ن «ب��ر��ش�ل��ون��ة» و«طنجة»‬ ‫و«تطوان» و «الق�صر الكبير»‪.‬‬ ‫كلما تذكرت هذه المدن‪� ،‬أو عدت �إليها ل�سبب‬ ‫من الأ�سباب‪� ،‬أو قر�أت عنها قليال في �سياقات‬ ‫مختلفة‪� ،‬أ�شعر �أنني �أتماهى بها �إلى حد الجنون‪.‬‬ ‫�إن التماهي م��ردّه في نظري �إل��ى تلك الدماء‬ ‫التي ت�سري داخل �شرياني‪.‬‬ ‫وب� �ه ��ذا ال �م �ع �ن��ى‪ ،‬فكلما‬ ‫ازدادت �سرعة �سريان هذه‬ ‫ال��دم��اء ب��داخ �ل��ي‪� ،‬أختلي‬ ‫بنف�سي‪ ..‬وقد ال �أختلي لنقل‬ ‫هذه الدماء �إلى الورق من‬ ‫خالل كتابة ق�صة ق�صيرة‪،‬‬ ‫�أو ق�صة ق�صيرة جدا‪.‬‬ ‫�إن القارىء لن�صو�صي‬ ‫الق�ص�صية‪ ،‬يالحظ مدى‬ ‫ال �ح �� �ض��ور ال� �ق ��وي ل �ه��ذه‬ ‫ال�م��دن ‪-‬خا�صة ت�ط��وان‪-‬‬ ‫وهو يتفاوت ح�سب �سياقات‬ ‫‪ 104‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫الكتابة النف�سية واالجتماعية‪.‬‬ ‫ال �أخفي �سرًا �إن قلت �إن��ه لم تكن لدي �أية‬ ‫ميوالت تجاه «ت �ط��وان»‪ .‬ربما ك��ان ه��ذا ب�سبب‬ ‫�إقامتي ال�سريعة والعابرة في المدينة‪ .‬لكنني‬ ‫بعد مدة بد�أت �أ�شعر �أن هذه المدينة الجميلة‬ ‫بف�ضاءاتها و�سكانها‪ ،‬وكذا موقعها الجيوثقافي‬ ‫قد نفذت �إلى دواخلي‪ ،‬و�أعادت ت�شكيل �شعوري‬ ‫و�إح�سا�سي من جديد‪ ،‬بعد ما كاد �أن ي�ضيع مني‪.‬‬ ‫�إن تطوان تمثل بالن�سبة لي ف�ضاء اال�ستقرار‬ ‫العائلي والنف�سي‪ ،‬هو الف�ضاء ال��ذي �ساعدني‬ ‫كثيرا على ا�ستعادة ثقتي في �أفكاري ونجاحي‬ ‫في عملي‪ ،‬وكذا م�شاريعي الإبداعية والثقافية‪.‬‬ ‫�إنها ملهمة وفاتنة؛ فقد كانت م�صدر �إلهام‬ ‫الكثير م��ن الفنانين والمبدعين‪ .‬و�إذا اطلع‬ ‫القارئ على جانب من ق�ص�صي‪ ،‬يجد �أني �أُخلِّد‬ ‫هذه المدينة في الكثير منها‪.‬‬ ‫ف � ��ي ال� �ح� �ق� �ي� �ق ��ة ت �ت �ع��دد‬ ‫ال��ظ��روف ال��ت��ي �ساقتني �إل��ى‬ ‫مدينة «تطوان»‪ ،‬مثل الظروف‬ ‫ن�ف���س�ه��ا ال �ت��ي ق��ادت �ن��ي �إل ��ى‬ ‫ب��اق��ي ال �م��دن الأخ � ��رى التي‬ ‫ذكرتها‪ ،‬مع اختالف ب�سيط‪.‬‬ ‫وبحكم �أنني من �أبناء �شمالي‬ ‫المغرب‪ ،‬ف�أنا كثير التردد على‬ ‫طنجة وت�ط��وان‪ ،‬بحكم بع�ض‬ ‫االلتزامات الإدارية �أو الثقافية‬ ‫�أو االجتماعية‪ .‬وربما كان هذا‬

‫الأم��ر من الأ�سباب التي قادتني �إل��ى االرتباط‬ ‫ب �ت �ط��وان‪ ،‬خ��ا��ص��ة م��رت�ي��ل ح�ي��ث «ك�ل�ي��ة الآداب‬ ‫والعلوم الإن�سانية»‪ ،‬وهي الكلية التي احت�ضنتني‬ ‫لمدة خالل �إنجاز ر�سالة الدكتوراه في بالغة‬ ‫وتحليل الخطاب‪ .‬والعجيب �أنني �أ�صبحت �أقيم‬ ‫في هذه المدينة ب�صفة نهائية‪ ،‬بعد �أن �أطبقت‬ ‫�سيطرتها عليَّ بالكامل‪.‬‬ ‫�أن��ا �أر��س��م ه��ذه المدينة وغيرها من باقي‬ ‫المدن الأخ��رى‪ ،‬كما �أتمثلها وتتمثلني‪ .‬وبهذا‬ ‫المعنى‪ ،‬فهي تتجلى في ن�صو�صي الق�ص�صية من‬ ‫خالل �شوارعها ومقاهيها و�أ�سوارها العجيبة‪،‬‬ ‫وكذا �سكانها‪� .‬إن هذه الر�سومات تعك�س في كثير‬ ‫من الأحيان عالقتي بهذا الف�ضاء الذي �أحببته‪،‬‬ ‫من خالل حاالت وو�ضعيات مختلفة‪ .‬وما ينطبق‬ ‫عليَّ ‪ ،‬ينطبق على �سير �أبطال و�أمكنة ن�صو�صي‬ ‫و�أن �أحتفي بهما‪.‬‬ ‫�إن ه��ذه التجليات لي�ست نهائية وال تعك�س‬ ‫الوجه الحقيقي والجمالي لها‪ ،‬بقدر ما تعك�س‬ ‫�أحد �أوجه هذا الجمال الذي يجذبني‪.‬‬ ‫�إن تطوان مدينة فاتنة و�ساحرة‪ ،‬بطابعها‬ ‫الأندل�سي الذي يغطي جميع ف�ضاءاتها‪ ،‬وتجد‬ ‫له الكثير من االمتدادات على مالمح �سكانها‬ ‫و�أنماط �سلوكاتهم وعي�شهم‪.‬‬ ‫الق�صة الحقيقية ال تحتفي بالف�ضاء الواحد‪،‬‬ ‫�إنها تتحرك في الزمان والمكان‪ ،‬تعي�ش وت�ساير‬ ‫وتلتقط‪ ،‬وتج�سد وتدقق في كل التفا�صيل بجميع‬

‫�أنواعها‪ ،‬والف�ضاءات التي تنتظم بداخلها‪ ،‬وهذا‬ ‫�سر من �أ�سراراها‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬ف�أنا احتفيت‬ ‫في ن�صو�صي بالكثير من الف�ضاءات المختلفة‬ ‫والمتنوّعة‪ ،‬بيد �أن هذا االحتفاء لم يكن دوما‬ ‫متكافئا‪ ،‬لأن الأم ��ر يتعلق �أ��س��ا��س��ا بالدفقة‬ ‫ال�شعورية‪ ،‬ونوع ودرجات الإح�سا�س بتلك اللحظة‬ ‫التي تندغم فيها م�شاعري بذلك الف�ضاء‪.‬‬ ‫فمثال ف��ي مجموعتي الق�ص�صية الأخ�ي��رة‬ ‫التي تحمل عنوان «مرايا �صغيرة»‪ ،‬يجد القارئ‬ ‫ت��وزع��ي داخ��ل ف�ضاءات «بر�شلونة»‪ ،‬المدينة‬ ‫الكطاالنية التي ق�ضيت فيها جانبا مهما من‬ ‫ح�ي��ات��ي‪ .‬وخ�ل�ال ه��ذه الإق��ام��ة ع�شقتني هذه‬ ‫المدينة مثلما ع�شقتها‪ ،‬فخلَّدْ تها في م�ساحة‬ ‫مهمة م��ن ه��ذا ال�ع�م��ل‪ ،‬م��ن خ�لال �صداقاتي‬ ‫ب��أ��س��واره��ا ومقاهيها و�ساحاتها و�شوارعها‬ ‫العمومية وعالقاتي المتنوعة ب�سكانها‪.‬‬ ‫�إن ه��ذه اللحظات ال��ت��ي يجد لها ال��ق��ارئ‬ ‫�صدى داخل هذه الن�صو�ص‪� ،‬إنما تج�سّ د �أوا�صر‬ ‫�صداقة كاتب ببع�ض الف�ضاءات التي تعبره‪ ،‬بعد‬ ‫�أن عبرها ذات م��رة‪ .‬والحال عليه‪ ،‬ما ينطبق‬ ‫على «بر�شلونة» ينطبق على باقي المدن التي‬ ‫�أحتفظ بكيميائها داخل نف�سي‪ .‬وهي الكيمياء‬ ‫التي ال تعرف التوقف �أبدا من خالل انطباعها‬ ‫في وعيي وال وعيي‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪105 )2015‬‬


‫أقيم في بيت �شعر‬ ‫� ُ‬ ‫ق�ب��ل ال �م��دن ��س��أح��دث�ك��م ع��ن ال �ب �ي��وت‪ ،‬لأن‬ ‫المدن هي �أمهات البيوت‪ .‬هناك بيوت �أ�صدقاء‬ ‫لنا‪ ،‬وبيوت �أغ��راب‪ ،‬وهناك بيوت مغلقة تنتظر‬ ‫�أ���ص��ح��اب��ه��ا‪ ،‬وه��ن��اك ب��ي��وت مفتوحة ال تنتظر‬ ‫�أحدا‪ ..‬بيوت الغربة والمنافي‪..‬‬

‫التراب ويرويه‪ ،‬له مفعول �سحري على الن�سيج‬ ‫الإبداعي‪ ،‬لكن كل �أماكن اهلل الوا�سعة تُخت�صر‬ ‫في ال�شام‪� ،‬أنىّ اتجهت �أفتح قف�صي ال�صدري‬ ‫و�أُدخلها‪ ،‬وعندما �أعود �أُحررها من علٍ قبل �أن‬ ‫تهبط طائرتي؛ لأ�ستمتع بر�ؤيتها من الف�ضاء‬ ‫وهي تهدل بعباءتها المطرّزة بق�صب الزمان‪..‬‬

‫البيت يعني �أب��ي و�أم ��ي و�إخ��وت��ي و�أوالدي‪،‬‬ ‫فال�شام ي��ا ليت ال��ذي م��ا زاره���ا �أو �ش ّم من‬ ‫والحبق وال��ورد والأ�شجار والذكريات والحنين‬ ‫وكتبي و�أوراق��ي ور�ؤاي‪� .‬أح��ب كل �شيء فيه �إال �شرفاتها ازهارها‪..‬‬ ‫المطبخ؛ لأنه يعتقل وقتي‪ ،‬و�أنا �أت�آمر عليه مرار ًا‬ ‫ويلم�س كيف �أ َّن نهارها يمتد من فوق‬ ‫ُ‬ ‫يدري‬ ‫وت�ك��راراً‪ ،‬فيعتقلني تمام ًا ككل الديكتاتوريات التمنّي عنده‪..‬‬ ‫التي تعتقل المبدع وت�ضعه تحت خط الخبز‬ ‫ليذوق في �أ�سماعه طعم الوطن‪..‬‬ ‫خوف ًا من عقله؛ علم ًا ب�أنني �أعي�ش في بيت من‬ ‫ي�ق��ول��ون عندما تفقد ح��ا��س� ًة م��ن حوا�سك‬ ‫ال�شعر‪٠‬‬ ‫تتحفز حا�سّ ة �أخرى وتقوى‪ .‬اللم�س مث ًال يقوى‬ ‫ال يعرف قيمة البيت � اّإل مَ ن ي�سافر �أو يُهجّ ر عند فاقد الب�صر‪ ،‬لكن عندما تفقد حا�سّ ة‬ ‫تخف بقية ح��وا��س��ك‪� .‬إن�ه��ا الحا�سّ ة‬ ‫ق�سر ًا فيفقد بيته ووط �ن��ه‪ .‬فالبيت ه��و نقطة «ال���ش��ام» ّ‬ ‫الجاذبية المتفرّدة التي تُعيدك �إليها �أنّى رحلت‪ .‬العجيبة التى ال تقوى بدونها الأ�شياء‪ .‬فال تعد‬ ‫كل زاوية من بيتي لي فيها لم�سة من روحي‪ ..‬و�أنا ترى اليا�سمين يا�سميناً‪ ،‬وال ت�شمّه في مكان‬ ‫ال �أكتب ب�سواها‪� ،‬أنا �أ�ستمتع بزواياه كما �أ�ستمتع �آخر‪ ،‬وال تتذوق العذوبة وال ت�سمع العطر‪.‬‬ ‫ب�شحنات ق�صائدي وكلماتها‪ ..‬الذكريات هي‬ ‫نعم‪ ،‬العطر يُ�سمع ف��ي ال�شام قبل ال�شمّ ؛‬ ‫المنطقة ال�شاعرية الخ�صبة‪ ،‬ال توجد ذكريات‬ ‫لأنه ثالثي الأبعاد‪ ،‬يحجز الأماكن و�أ�صداءها‪،‬‬ ‫ب�غ�ي��ر �أم �ك �ن��ة‪ ،‬ل��ذل��ك ه��ي م��ن ين�صب خيمة فتلم�س المو�سيقى بيديك‪ ،‬وي�أخذك الغرور‪..‬‬ ‫الق�صيدة ب�أوتاد المكان‪.‬‬ ‫فت�صير متدم�شق ًا �أ ِن�ف�اً‪ ،‬جميل ال��روح ‪ ‬خفيف‬

‫الأماكن والعطر يحجزان في نف�س المبدع ال�ب��دن‪ .‬ه��ل عرفتم الآن ل�م��اذا �صار ال�سوريّ‬ ‫ال�سال�سل الف�ضية لمطر الأما�سي ال��ذي يفوّح م�شكلة الم�شاكل؟!‬ ‫‪ 106‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫�أنا فيَّ �أوجا ٌع و�أحال ٌم وع�شقُ‬ ‫ال تقول وال تُ�صرّح؛ لأن �صوتها لمّا ٌح عنيد‪� ..‬أنا يا طبيبُ‬ ‫في ال�شام تموت الحروف واقفة‪ ،‬ال كالأ�شجار لي�س ت�ؤلمني �ضلوعي‬ ‫وح�سب‪� ..‬إنما ك�إناث المها‪.‬‬ ‫ما خلفَ �أي�سرِها‬ ‫في ال�شام تلب�س الأح��زان قبعتها البي�ضاء لتوجِ عُني دم�شقُ ‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال�شاعرة ال�سورية‬ ‫ابت�سام ال�صمدي‬

‫لأن‪ :‬الذوق وال�شمّ عالمه ‪ /‬الهم�س واللم�س‪ /‬وخُ فّها ال�صيفي‪ ،‬ت�صعد قا�سيون لتكون على‬ ‫حوا�س م�ستوى جبل يليق بارتفاعها وكبرها‪ ،‬تحت�ضن‬ ‫العين والحد�س‪ /‬ال خم�سة‪ ،‬ال �ست ٌة ‪ /‬فينا ٌ‬ ‫المدينة وتحتفظ بدمعة عزيزة غالية كدمعة‬ ‫�سبعةٌ‪ /‬تدعى الكرامة‪.‬‬ ‫في ال�شام ‪ ‬ال يكون للنارنج لونان وال للزعتر الأبطال‪ .‬هل عرفتموها الآن؟‬ ‫دم�شق ي��ا م��ن �أعطيتني �أ� �س��رار المفاتيح‬ ‫نكهتان‪،‬‬ ‫والأ�سئلة‪ ،‬و�أهديتني ثالثية علي بابا‪ ،‬و�شيفرا‬ ‫ال يكون �سوى لليا�سمين فوح مختلف‪.‬‬ ‫الدخول �إلى كهوف االبداع‪ ،‬يا م�صغّر الكون ويا‬ ‫�س ّر �أطلعكم عليه لتكونوا تحت تغطية كاملة جنتي‪�،‬أهلوك جزء من ن�ضجي اليومي ورائحة‬ ‫مهي�أوون ال�ستقبال ر�سائل بالدي ‪ ‬الفواحه‪.‬‬ ‫البهار والهيل‪ ،‬تيه ال�صبايا و�صخب ال�شباب‪،‬‬ ‫ف��ي ال���ش��ام تطفئ �صمتك‪ ،‬وتغلق منطقة ف��وح ال���دراق وال �خ��وخ‪ ،‬وذوب ال�ت��وت وفو�ضى‬ ‫انت�شارك‪ ،‬وتفتح روحك‪ ،‬حيث للن�سمة بُع ٌد �آخر‪ ،‬اليا�سمين‪ ،‬كيف ال �أ�شتاقك و�أنا بعيدة؟ كيف ال‬ ‫وللأفق �أبعاد ثالثة تر�سو على انت�شار واحد من �أحنّ �إليك و�أنا قريبه؟ �س�أُ�سامح من �أجلك من‬ ‫البهاء‪ ،‬ال يعلوها طير في ال�سماء � اّإل وله على �أ�ساء‪ ،‬و�أحب من �أجلك مَ ن �أحب بكل ما �أُتيت‪،‬‬ ‫و�أح��ب �شوارعك و�أبنيتك المهدمة‪ ،‬م�شافيك‬ ‫�أر�ضها عُ ٌ�ش ‪ ‬وثير‪.‬‬ ‫الغارقة‪ ،‬ون�سمات ‪ ‬قا�سيون الم�ؤلمه‪ ،‬العمال‬ ‫في ال�شام ‪ ‬ترى من الأ�سماء �أجودها‪ ،‬تعلمك‬ ‫وكنا�سي ال���ش��وارع‪ ،‬وحتى الل�صو�ص‪ ،‬وك��ل ما‬ ‫�شيئ ًا وتُخفي عنك �أ�شياء‪.‬‬ ‫يُ�شكّل حلقه ولو �صغيرة في م�آذنك وكنائ�سك‬ ‫في ال�شام ‪ ‬تنت�صر الأزه��ار لربيعها‪ ،‬وتحتج ون��وم��ك و��ص�ح��وك‪ ،‬ب��دءا م��ن �أع�ل��ى ن�سمة في‬ ‫الأ�شجار على خريفها حتى ت�سقط �أوراقها في �سمائك حتى �أ�صغر حبة ف�سيف�ساء في تاريخك‪.‬‬ ‫الخرافة وعربات اال�صفرار‪..‬‬


‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال�شاعر المغربي كمال �أخالقي‬

‫�أ�سفي مدينة �أبوابها‬ ‫القديمة مفتوحة‬ ‫�أ�سفي‪ ،‬مدينة �أبوابها القديمة مفتوحة على‬ ‫الأط�ل���س��ي‪ ،‬ه��ي مدينة بحر ون��وار���س وغ��روب‬ ‫�شم�س ف��ي ال�م�ح�ي��ط‪ ،‬ل�ك��ن ع�لاق�ت��ي ك�شاعر‬ ‫بمدينته (�إن كانت فعال مدينتي؟) هي عالقة‬ ‫متوترة وغير طبيعية‪ ،‬فلن يعثر قارئ ق�صائدي‬ ‫�أو دواويني ال�شعرية على ما يدل �أو ي�شير �إلى‬ ‫مدينة �أ�سفي كمكان �أقيم فيه‪ ،‬واكتب من داخل‬ ‫ف�ضاءاته المتعددة؛ ربما هذا يرجع لأ�سباب‬ ‫ترتبط بي وبالمدينة‪ ،‬فطفولتي ق�ضيتها متنقال‬ ‫ف��ي �أ�سفي تمنيت حينها �أن ي�ستبدل �أب��ي‬ ‫عبر �أماكن متفرقة وبعيدة‪ ،‬فلم يكن �أبي (الذي بندقيته ب�صنارة وق�صبة وي�صطحبني �إل��ى‬ ‫ك ��ان ي���ش�غ��ل م�م��ر��ض��ا قبل‬ ‫البحر‪ ،‬هذا الكائن ال�ضخم‬ ‫�إحالته على المعا�ش) يحب‬ ‫وال � �م � �ه� ��ول ال�� � ��ذي ي �ب �ت �ل��ع‬ ‫اال�ستقرار في مكان معين‪،‬‬ ‫الأط� � �ف � ��ال‪ ..‬ه� �ك ��ذا ك��ان��ت‬ ‫فمن �سيدي رح��ال ب�إقليم‬ ‫ت�صوره لي �أم��ي الأمازيغية‪،‬‬ ‫م��راك ����ش �إل� ��ى ام �ن �ت��ان��وت‬ ‫ونحن ف��ي الأط�ل����س‪� ،‬إن��ه ما‬ ‫ب��ال �ح��وز م� ��رورا ع�ل��ى اب��ن‬ ‫ي� ��زال ي��رع�ب�ن��ي �إل� ��ى الآن‪،‬‬ ‫ج��ري��ر وال�ع�ط��اوي��ة و�صخر‬ ‫كلما حاولت �أن �أتنف�س هوا ًء‬ ‫الرحامنة وجمعة �سحيم‬ ‫بحريا �أو رذاذا مالحا �أتذوقه‬ ‫و�أخ �ي��را �إل ��ى �أ��س�ف��ي حيث‬ ‫ف��ي كلمات ق�صائدي‪ ،‬و�أن‬ ‫�سنحط ال��رح��ال بها �سنة‬ ‫�أ�ستمتع بذلك قبل القارئ‪.‬‬ ‫رب �م��ا ف��ي ن�صو�ص ق��ادم��ة‪،‬‬ ‫‪1982‬م‪ ،‬وكان عمري حينها‬ ‫(‪� )12‬سنة‪ ،‬ر�أيت البحر لأول مرة في حياتي‪،‬‬ ‫و�أن��ا ال�ق��ادم من الحقول‪ ،‬والعا�شق للأ�شجار‬ ‫والأنهار وال�سهول الدافئة‪ ،‬حيث كنا نحن الإخوة‬ ‫الأربعة في رح�لات �صيد برية يتقدمنا الوالد‬ ‫�سي عمر القنا�ص الماهر ببندقيته (الجويجة)‪،‬‬ ‫وبدلته �شبه الع�سكرية‪ ،‬لنعود كل م�ساء محملين‬ ‫بطرائد متنوعة من حجل و�سمان و�أرانب وحمام‬ ‫بري‪.)..‬‬

‫‪ 108‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫�س�أخطو باتجاه بحر �أ�سفي رغ��م �أن المهمة‬ ‫�ستكون �صعبة؛ لأن �أحوال هذه المدينة وما �آلت‬ ‫�إليه جعلتها مدينة تعي�سة وخائبة‪� ،‬إنها لوحة‬ ‫«موناليزا»‪ ..‬ال تقول �شيئا وال تومئ ب�شيء‪ ،‬ولكنها‬ ‫تحفر في كيانِ �شاعرٍ �إح�سا�سي بالألم والح�سرة؛‬ ‫وهذا هو الإح�سا�س الذي يطبع تجربتي ال�شعرية‬ ‫كامال‪ ،‬و�أ�سفي م�صدره بكل ت�أكيد‪ .‬وهناك بع�ض‬ ‫الق�صائد التي كتبتها في ميناء المدينة متجوال‬ ‫قرب مراكب ال�صيد‪ ،‬ولعل هذا المقطع ال�شعري‬ ‫هو واحد من هذه الق�صائد‪:‬‬ ‫«رح���ل الأ�� �ص ��دق ��اء‪ ،‬والأح��ل��ام ال�صغيرة‬ ‫ت�ساقطت خلفنا ك�ضباب هزيل‪ ،‬وحدها �سفن‬ ‫الميناء الرا�سية ال تزال تنتظر الأبد‪ ،‬ترى هل‬ ‫حملوا بع�ض ال�صور ل�صناعة الذكرى؟ وحدي‬ ‫�أرع��ى ه��دا ال �غ��روب الأب�ي����ض‪� ،‬أو� �ص��ي الجبال‬ ‫ببعثرة ال��ل��ي��ل وب��دح��رج��ة ال��ظ�لال‪ ،‬ك��ل رع��اة‬ ‫ال�صمت الأعمى �أ�صدقائي‪ .‬يا �أ�صدقائي لن‬

‫يجف هذا الوادي والأ�شجار التي ت�ألمنا لأجلها‬ ‫كثيرا �سوف تظل هناك وارف��ة مثل الحياة‪..‬‬ ‫الحياة‪ ،‬هتاف الخائفين في �أر�ض التاريخ في‬ ‫الأبي�ض الحزين على ال�ضفاف البعيدة وفي‬ ‫ثلوج الغياب‪ ،‬رحل الجميع ولم يكن كافيا �أن‬ ‫�أحرث �أثر هدا الغياب �أن �أقتفي �سمائي النحيلة‬ ‫عند المنحدرات على عتبات بيتنا العتيق في‬ ‫طريق الندم قاحال ك�صحراء»‪ .‬رغم الم�ساحيق‬ ‫الكثيرة التي و�ضعت على وجهها فحالها ما يزال‬ ‫يبعث على الأ�سف‪ ،‬ولهذا‪� ،‬أف�ضل �أن �أت�سكع في‬ ‫�شوارعها ليالً‪ ،‬جنب الكورني�ش البائد وق�صر‬ ‫البحر المهدم‪� ،‬أ�سمع �أنين تلك المر�أة التي كان‬ ‫الجميع ي�شهد لها بالجمال والرقة قبل �أن تغزوا‬ ‫ج�سمها طفيليات جلدية �أ�شبه بال�سرطانات التي‬ ‫ال ت��رى بالعين ال�م�ج��ردة‪� ..‬أ�سفي �شديد على‬ ‫مدينتي‪� ،‬أ�سفي‪ :‬هل �أنت مدينة �شعر وح�ضارة؟‬ ‫�أم مدينة تلوث و�ضياع؟؟‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪109 )2015‬‬


‫بين تـالل قرية �أمـي وهــديل حـمـام مكة‬ ‫المدن بالن�سبة لي ب�ش ٌر يحبون ويكرهون‪� ..‬أمكنة مقد�سة تحت�شد بالبيا�ض‪ ،‬ودموع الب�شر‪..‬‬ ‫ي�شعرون ويظلمون‪ .‬هكذا �آمـنتُ كما �آمنت �أمي و�أ�سئلتي ال�صغيرة المتدفقة على �أمي‪ :‬لماذا ال‬ ‫بذلك‪ .‬هناك مدن رقراقة‪ ،‬ومدن �صلدة‪ ،‬مدن ي�سكن هذه الأماكن �أحد؟‬ ‫طاردة للغرباء و�أخرى ودوده‪ ،‬مدن تورق �ضياء‬ ‫�أترك مكة و�أنا طفلة العا�شرة‪ ،‬وي�أخذني القدر‬ ‫وغيرها ي�شتهي العتمة‪.‬‬ ‫�إلى بلدة في الجنوب حيث حوانيتها ال�صغيرة‪،‬‬ ‫قدري‪� ،‬أن ال �أكون ابنة مدينة واحدة! وك�أن‬ ‫كل مدينة مررت بها تريد �أن تحفر لها وجودا‬ ‫في ذاكرتي‪ ،‬وتريدني �أن �أخبر العالم عن �أهلها‬ ‫عبر م�شاك�سة كتاباتي‪.‬‬

‫و�أراد ال �ق��در �أن ت �ك��ون م��دي�ن��ة ال�ث�ق��اف��ات‬ ‫ال �م �ت �ع��ددة‪ ،‬و� �ص��اح �ب��ة ال �ل �ه �ج��ات وال �م�لام��ح‬ ‫المتعددة �أي�ضا «مكة المكرمة»‪ ،‬م�سقط �صرختي‬ ‫الأول��ى التي ه َّد َ�أتْها قبلة �أمي الحانية لوجنتيَّ‬ ‫ال�صغيرتين في يوم �صيفي‪.‬‬ ‫تقف �أم ��ام عيني مكة بنقو�ش روا�شينها‪،‬‬ ‫بمالمح ج��ارن��ا ع��م �شريقي‪ ،‬وه��دي��ل حمامها‬ ‫الذي �أت�أمل وداعته الباذخة في �ساحة الحرم‪،‬‬ ‫مطرزات م�ساند مجال�س بيوتها الفاتنة‪ ،‬وطعم‬ ‫�شْ ريكْها الحلو‪ .‬تـعب ُر بي �أغ�صان �أ�شجار اللوز‬ ‫المتدلية من �سور بيت جيراننا الكبير‪ ،‬والتي‬ ‫تنادي �شقاوتنا لنقطفه‪� ،‬صـالة (الم�شهد)‪،‬‬ ‫و� �ش��ذى ال �ع��ود الأزرق ال ��ذي يلف ال�ط��رق��ات‪،‬‬ ‫الحلوى التي تتلقفها َي��دِ يَ ال�صغيرة و�أي��ادي‬ ‫�أقراني ال�صغار‪� ،‬أ�صوات التلبية القادمة من‬ ‫‪ 110‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫تركية العمري كاتبة ومترجمة �سعودية‬

‫متدثّرة ب��ال�م��روج‪ ،‬وب�صباحات �أغنيات �أم��ي العنيدة‪ ،‬فتجد كبرياء كلماتي‪.‬‬ ‫ورفيقاتها الجميالت‪ ،‬هي رفيقة المطر‪ ،‬ت�شبه‬ ‫�أالعب تلك المدن التي �أعرفها‪ ،‬وتالعبني‪،‬‬ ‫قرية «�أفونليا» التي احتوت اليتيمة «�آن»‪ .‬ت�سكنني‬ ‫تظهر وت��ت��وارى‪ ،‬تبتعد وت��ق��ت��رب‪ ،‬تت�سع ت��ارة‪،‬‬ ‫قرية �أمي‪ ،‬تمد يدَ يْها �إليَّ ‪ ،‬لت�أخذني �إلى تاللها‪،‬‬ ‫ومراعيها‪ ،‬و�صوت طائر القُهبي‪ ،‬وثغاء �صغار وت�ضيق ت��ارة �أخ� ��رى‪ ..‬ف�لا ت�صبح �إال مدينة‬ ‫ال�شياه‪ ،‬تلك القرية التي �أُحبها‪ ،‬فكل �صباح واحدة‪ ،‬ال بل مـدن ًا تتنا�سل تحمل �أ�صوات �أهلها‪،‬‬ ‫كانت ت�سكب �أمي لي منها رحيق حكاياتها‪ ،‬قبل وق�سمات وجوههم؛ ولكن تبقى هناك مدن �أخرى‬ ‫�أن �أ�سير بخطاي �إلى مدر�ستي‪ ،‬وتُطِ ل بر�أ�سها بعيدة تدَّعي �أنها تعرفني‪ ،‬وتحبني ف�أ�صدقها‪،‬‬ ‫عليَّ ‪ ،‬وتن�ساب بين ن�صو�صي تحمل معها جبالها و�أمتلىء برغبة ر�ؤيتها‪.‬‬

‫وطرقاتها ال�ضيقة‪ ،‬وحياتها الب�سيطة‪ ،‬تقاوم‬ ‫هوية القادمين �إليها‪ ،‬بلدة ت�ستند على �أث��ل‬ ‫وادٍ عريق‪� ،‬إنها «بي�شة»‪ ،‬وكنتُ أُ�لحق بها ا�سم‬ ‫الفيحاء‪� ،‬أردت �أن تكون فيحاء‪ ،‬وب��د�أ يتفتح‬ ‫فيَّ برعم حرف عذب‪ ،‬ليكون ُ�صدفة قدرية �أن‬ ‫�ألتقي ب�أمنياتي بقرية تحمل ا�سم «الحرف»‪،‬‬ ‫في�ستف ُّز فيَّ �ألف حرف وحرف و�أنا �أمر بواديها‬ ‫كل �صباح‪ ،‬وتبد�أ م�شاك�ستي لها‪ ،‬و�شغب فكري‪،‬‬ ‫و�أ�سئلتي الكبيرة التي تجاوزت �أ�سطح منازلها‬ ‫ال�صغيرة‪.‬‬

‫�أي �ن �ع��تُ ‪ ..‬وبي�شة ك�م��ا ه��ي ت�ل�ت� ّ�ف ب��أغ�لال‬ ‫رك ��ود‪ ،‬فـتركتها ميمّمة نحو ال �م��اء والحياة‬ ‫وال��رق ����ص وال �ح �ل��م‪ ،‬ن�ح��و ح �ك��اي��ات ال�سفن‪،‬‬ ‫و�أغ��ان��ي ال�صيادين‪ ،‬و�ضحكات ال�ح��وري��ات‪...‬‬ ‫�إلى المنطقة ال�شرقية‪ .‬وهناك �أورق��ت كلماتي‬ ‫�أزهارًا ملونة‪ ،‬و�أ�صبحت لي حروف كثيرة‪ ،‬و�أكثر‬ ‫من لغة‪ .‬ا�ستطالت قامة فكري‪ ،‬وا�ستوت �أمامي‬ ‫المرافىء‪.‬‬ ‫هناك �أي�ضا قرية �أمي المختبئة في الجنوب‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪111 )2015‬‬


‫الكتابة في المدن �سر من الأ�سرار‬ ‫وهو محفوف بالمخاطر‬ ‫عندما �أهجع �إلى النوم �أفكر طويال في المدن التي‬ ‫ع�شت فيها‪� ،‬أو مررت بها ؛ المدن التي �سبتني و�أثرت‬ ‫في وجداني وقريحتي‪ .‬جعلتني �أكون �إن�سانا قبل �أن‬ ‫�أك��ون كاتبا يالحق تحوّالتها‪ ،‬وتفا�صيلها من حين‬ ‫لآخ��ر‪ .‬هي مدن مبنية بالآجر والإ�سمنت والحديد‪.‬‬ ‫تكون مبانيها �إم��ا متعالية ك�أ�شجار ال�صف�صاف �أو‬ ‫منخف�ضة كالقبور المن�سية‪ .‬ما يفتنني فيها هو فكرة‬ ‫واح��دة ال �أقل وال �أكثر‪ :‬هناك �أنا�س يبنون و�آخ��رون‬ ‫ي�صفون‪ .‬ثمة عالقة متناق�ضة بين الأمكنة والخيال‪.‬‬ ‫فكثير من المدن قذرة ولكن القا�ص �أو الروائي زينها‬ ‫و�أزال ق��ذارت�ه��ا‪ .‬ع��ادة تروقني الأمكنة التي تهتم‬ ‫بمقاهيها‪� .‬إن كتبت ق�ص�صا فيها �أحببتها‪ ،‬و�إن وجدت‬ ‫م�شقة �أعر�ضت عنها‪ .‬هناك بحث دائم في المخيلة‬ ‫عن المدن التي تبادلك ال�شعور عينه‪ ،‬ولكنها قليلة‪.‬‬ ‫الآن �إذا �أردت االختالء بنف�سي فررت �إلى المحمدية‪.‬‬ ‫تبدو الفكرة غريبة �إلى حد ما‪.‬‬ ‫هناك �أنا�س يبنون‪ ،‬ن�سميهم عادة برجال الأعمال‬ ‫�أو المقاولين الذين ي�سهمون في التنمية والتطور‬ ‫والعمران‪ .‬فالمدن �أو الدول تزدهر بالعمران ح�سب‬ ‫تعبير ابن خلدون‪ ،‬وثمة �أنا�س ال يهمهم �إال الو�صف‬ ‫واللعب بالأمكنة على �أ�سا�س �أنها مقرات تعي�ش فيها‬ ‫ال�شخ�صيات‪ .‬ن�سعى �إلى �أن تعي�ش �آمنة مطمئنة حتى‬ ‫تنجب كالما نتذوقه ب�أل�سنتنا‪� .‬إذا جاعت لم تنجب �إال‬ ‫الثرثرة وال�سذاجة‪.‬‬ ‫في ال��واق��ع‪ ،‬ال �أح��د يعرف الآخ��ر عن ق��رب حتى‬ ‫نعاين ح��وارا قد يف�ضي �إل��ى نتيجة‪ ،‬مثل �أن ي�سهم‬ ‫الكتاب في بناء مدنهم‪ ،‬على الأقل ي�سهمون ب�أفكار‬ ‫‪ 112‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ترتبط بالهند�سة والت�صميم‪ .‬ت�صميم مدن بح�سب‬ ‫هواهم؛ حتى ال تزِ لَّ �أقدام ال�شخ�صيات في عتباتها؛‬ ‫لأن�ه��ا مرتفعة ب� ��أدراج تالئم تطور الع�صر‪ .‬ع��ادة‬ ‫بم�س من جنون العي�ش في‬ ‫ال�شخ�صيات تكون م�صابة ّ‬ ‫العهد الجميل‪� .‬أن تعي�ش في �أمان من غدر الزمان‪.‬‬ ‫ما نعاينه من ق�ص�ص وروايات ي�شي ب�أن �شخ�صياتها‬ ‫من ذوي االحتياجات الخا�صة‪ .‬تتحدث وال تبين عن‬ ‫�أي معنى حتى ن�شخِّ �ص �أمرا�ضها‪ .‬ف�إذا كانت م�صابة‬ ‫بعاهة من عاهات الكالم فقل على ق َِّ�صنا ال�سالم‪.‬‬ ‫الفكرة وا�ضحة �إن لم �أخطئ‪.‬‬ ‫ثمة ت�ح�وّل ي�ط��ر�أ الآن ف��ي ال�م��دن التي ي�سكنها‬ ‫الكتاب‪.‬‬ ‫وه�ؤالء عادة ال ي�شار �إليهم بالبنان �إذا جل�سوا في‬ ‫مقاه �أو مطاعم‪� ،‬أو مروا بحوا ٍر و�أزق ٍة و�شوارع‪�.‬إنهم‬ ‫جنود الخفاء‪� ،‬أو المر�ضى بوهم من الأوهام‪ .‬عقالء‬ ‫في عالم مجنون‪ ،‬يُ�سدون الن�صيحة‪ ..‬ولكن ال �أحد‬ ‫ي�صغي �إليهم‪.‬‬ ‫فالع�صر ال يبدو �أنه ع�صر كتابة �أو قراءة ق�ص�ص‬ ‫همها �أن تنكر على رجال الأعمال ح�سن �صنيعهم‪.‬‬ ‫فالكتابة ال تهادن وال ت�صادق البورجوازية‪ .‬لها �أحبتها‬ ‫من العامة ورعاع الأمة‪.‬‬ ‫يت�صور الكاتب دوم��ا �أن��ه �إذا نه�ض من فرا�شه‬ ‫وا�ستعد للخروج �إل��ى متاهات مدينته «وه��ي لي�ست‬ ‫مدينته ب�أي حال من الأحوال»‪� ،‬أن ثمة جمهور ًا ينتظر‬ ‫خروجه للعراء حتى ي�س�أله عن �أحواله‪� ،‬أو يطلب منه‬ ‫�أن يوقع له كتابا من كتبه‪.‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫القا�ص المغربي‬ ‫الح�سن بنمونة‪:‬‬

‫ر� ٌ‬ ‫ؤية للمنهج التاريخــي‬ ‫في النقد‬

‫■ �أ‪.‬د‪� .‬صربي م�سلم حمادي*‬

‫يبدو �أن هناك اتجاهين في النقد التاريخي؛ يدخل الأول في النقد الأدبي من دون �شك «لأن‬ ‫�صاحبه يقابل الما�ضي كما يقابل الحا�ضر‪ ،‬محتفظاً بتحليله ور�أيه وذوقه و�شخ�صيته‪ ،‬والتاريخ‬ ‫لديه و�سيلة للفهم والتفهم‪ ..‬والثاني ال يدخل في النقد‪� ،‬إذ يبقى تاريخاً؛ لأن �صاحبه يظل‬ ‫مدفوناً في الع�صر الذي يدر�سه تحت �أكدا�س من الم�صادر(‪ ،)1‬وقد مكث باحثونا الرواد ممن‬ ‫�سلكوا درب النقد التاريخي يترددون بين هذين الطرفين‪ ،‬و�أعني بهما النقد والتاريخ؛ �إذ‪ ،‬قد‬ ‫تطغى المعالجة التاريخية �أحياناً‪ ،‬وربما غلب الجانب النقدي التحليلي في �أحيان �أخرى‪.‬‬ ‫�إن جهلنا بالتاريخ يجعل قراءتنا الأدبية غير‬ ‫دقيقة؛ لأن ق��راءة ملحمة جلجام�ش �أو ملحمتي‬ ‫الإلياذة والأودي�سة على �سبيل اال�ستدالل بعيد ًا عن‬ ‫ال�سياق التاريخي‪ ،‬يجعل القراءة ناق�صة ب�شكل �أو‬ ‫ب�آخر‪ ،‬وت�ستمد كثير من الأعمال الأدبية �أهميتها‬ ‫من طبيعة المرحلة التي ظهرت فيها كالمقامة‬ ‫العربية التي ازده��رت في ع�صر معين وفي �سياق‬ ‫تاريخي محدد‪ ،‬ول�سنا ب�صدد التوغّ ل في �أ�سباب‬ ‫ظهورها في تلك المرحلة على وجه التحدي‪ .‬بيد �أن‬ ‫عزل الظاهرة الأدبية �أو الجن�س الأدبي �أو الأديب‬ ‫عن ع�صره‪ ،‬يمكن �أن يحدث خل ًال بيّن ًا في الأحكام‬ ‫النقدية‪ .‬وما نزال ن�ؤرخ لمرحلة الإحياء في ال�شعر‬ ‫العربي عامة‪ ..‬وفي م�صر خا�صة بال�شاعر محمود‬ ‫�سامي ال �ب��ارودي‪ ،‬ول��و عا�ش ال �ب��ارودي في ع�صر‬ ‫الحق �إذ ًا لما ا�ست�أثر بكل هذا االهتمام‪ ،‬وينطبق‬ ‫هذا على ال�شاعر الر�صافي وال�شاعر الزهاوي في‬ ‫العراق وهما يمثالن مدر�سة الإحياء العراقية‪ .‬ينقل‬ ‫�إمبرت قو ًال لأحد �أ�ساتذة النقد المعا�صر وهو من‬ ‫�أن�صار المنهج التاريخي في النقد‪� ،‬إذ يورد «الحياة‬ ‫مندمجة في التاريخ‪ ،‬والحياة �إبداع التاريخ»(‪.)2‬‬

‫�إن ق�صيدة مثل ق�صيدة الكوليرا التي كتبتها‬ ‫ن��ازك المالئكة ع��ام ‪1947‬م ال يمكن عزلها عن‬ ‫تاريخ �صدورها واكت�سابها الأهمية الخا�صة ب�سبب‬ ‫تاريخ ن�شرها‪� ،‬إذ �أره�صت بزخم من الق�صائد‬ ‫التي اختارت تقنية التفعيلة‪ ،‬بحيث �أ�صبحت ظاهرة‬ ‫�شعرية اعترف بها الحقا(‪.)3‬‬ ‫�إذ ًا فالمنهج التاريخي ي��راه��ن على ال�سياق‬ ‫التاريخي‪ ،‬بيد �أن��ه يخ�سر مكانته بين المناهج‬ ‫النقدية حين تميل الكفة باتجاه التاريخ المح�ض‪،‬‬ ‫ويتحول الن�ص الإبداعي �إلى مجرد وثيقة تاريخية‪،‬‬ ‫م�شيح ًا بوجهه عن الت�شكيل الفني للن�ص‪ ،‬وهذا‬ ‫االن���ص��راف للتاريخ م��ن م��زال��ق النقد التاريخي‬ ‫وعيوبه؛ بيد �أن المنهج التاريخي في النقد حين‬ ‫يوازن بين العن�صر الفني والعن�صر التاريخي فال‬ ‫يغلب �أحدهما على الآخ��ر؛ ف ��إن النقد التاريخي‬ ‫يبدو منا�سب ًا تماماً‪ ،‬و�إال كيف يمكننا �أن نقر�أ معلّقة‬ ‫عمرو بن كلثوم التغلبي من دون �أن نعرف حدث‬ ‫مقتل عمرو بن هند على يد عمرو بن كلثوم؟! ومثل‬ ‫ذلك يقال عن ح�شد من الق�صائد‪ ..‬كاالعتذارية‬ ‫البائية للنابغة الذبياني‪ ،‬ومعلقة زهير بن �أبي‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪113 )2015‬‬


‫* �أ�ستاذ اللغة العربية في ق�سم اللغات الأجنبية بكلية و�شتناو ‪� -‬أن �أربر ‪ -‬ميت�شجن ‪ -‬الواليات المتحدة الأمريكية‪.‬‬ ‫(‪ )1‬د‪ .‬علي جواد الطاهر‪ ،‬مقدمة في النقد الأدبي‪ ،‬الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،‬بيروت ‪1979‬م �ص‪-403‬‬ ‫‪.404‬‬ ‫(‪� )2‬إنريك �أندر�سون �إمبرت‪ ،‬مناهج النقد الأدبي‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬الطاهر �أحمد مكي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‬ ‫‪1992‬م‪� ،‬ص‪.116‬‬ ‫(‪ )3‬د‪ .‬وجدان ال�صائغ‪ ،‬قيثارة �سومر‪ ،‬مركز عبادي للدرا�سات والن�شر‪� ،‬صنعاء ‪2007‬م‪� ،‬ص‪.19‬‬ ‫(‪� )4‬أو�ستن وارين ورينيه ويليك‪ ،‬نظرية الأدب‪ ،‬ترجمة محيي الدين �صبحي‪ ،‬ومراجعة الدكتور ح�سام الخطيب‪،‬‬ ‫مطبعة خالد الطرابي�شي‪ ،‬دم�شق ‪1972‬م‪� ،‬ص‪.179‬‬ ‫(‪ )5‬ينظر �إمبرت‪ ،‬مناهج النقد الأدبي �ص‪.117‬‬ ‫‪ 114‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫�سلمى و�أبياته التي خ�ص�صها لحرب الب�سو�س‪،‬‬ ‫ورثاء مالك بن الريب لنف�سه في حملة �إ�سالمية من‬ ‫�أجل تحرير فار�س‪ ،‬واعتذارية كعب بن زهير بن‬ ‫�أبي �سلمى‪ ،‬و�سواها كثير‪.‬‬ ‫لقد ثبت لدينا �أن التاريخ حين يدخل في ن�سيج‬ ‫العمل الفني‪ ،‬ف ��إن النقد التاريخي ه��و الأن�سب‬ ‫والأقرب �إلى روح الن�ص‪ ،‬وينطبق هذا على �سبيل‬ ‫اال�ستدالل على رواي��ة الحرب وال�سالم للروائي‬ ‫ال��رو��س��ي «ليو تول�ستوي» والثالثية التاريخية لـ‬ ‫«نجيب محفوظ» وهي تتحدث عن التاريخ الم�صري‬ ‫القديم (الفرعوني تحديداً)‪ ،‬ومثل ذلك يقال عن‬ ‫الروايات التاريخية التي كتبها جرجي زي��دان �أو‬ ‫تلك التي كتبها علي �أحمد باكثير‪ .‬وتطول القائمة‬ ‫وهي ت�صب في توكيد �أثر التاريخ وتوثيق دوره في‬ ‫بع�ض الأعمال الإبداعية‪.‬‬ ‫ويقترب المنهج التاريخي في النقد مما و�صفه‬ ‫�أو�ستن واري��ن ورينيه ويليك في كتابهما نظرية‬ ‫الأدب ب��درا��س��ة الأدب م��ن ال �خ��ارج‪ ،‬ف��الأع�م��ال‬ ‫الأدب �ي��ة ذات�ه��ا ه��ي التي ت�سوغ ك��ل اهتمام نبديه‬ ‫بحياة الأديب‪ ،‬والع�صر الذي عا�ش فيه‪ ،‬والظروف‬ ‫ال�سيا�سية واالجتماعية التي رافقت نتاجه الأدبي؛‬ ‫لكننا ومن الغرابة بمكان �أن نذكر �أن تاريخ الأدب‬ ‫كان �شديد االنهماك ب�إطار العمل الأدب��ي‪ ،‬بحيث‬ ‫كانت محاوالت تحليل الأعمال الأدبية ذاتها �ضئيلة‬ ‫�إذا م��ا ق��ورن��ت بالمجهودات الهائلة التي بذلت‬ ‫لدرا�سة �أطرها التاريخية واالجتماعية(‪ .)4‬يرد هذا‬ ‫في �سياق غلبة الطرف التاريخي على تحليل الن�ص‬

‫الفني في ركام من الدرا�سات النقدية التي يمكن‬ ‫ت�صنيفها على �أنها درا�سات تاريخية �أكثر منها‬ ‫درا�سات نقدية‪.‬‬ ‫ويختم �إمبرت مو�ضوعه عن النقد التاريخي‬ ‫ب� ��أن ي�شكر ال �ت��اري��خ؛ لأن ��ه �أت ��اح لنا �أن ن�ستمتع‬ ‫ب��آداب ع�صور مختلفة وح�ضارات ولّت كما لو كنا‬ ‫نوا�صل ا�ستمتاعنا بالتراث الأدب���ي العظيم في‬ ‫ع�صرنا والع�صور التي �سبقته �أي�ضا(‪ ،)5‬وي�ضرب‬ ‫�إمبرت مث ًال برواية دون كيخوته ل�سرفانت�س التي‬ ‫�أره�صت بالفن الروائي بتقنيته المعا�صرة‪ ،‬وكان‬ ‫بزوغها �آنذاك له داللته التي ال يمكن ف�صلها عن‬ ‫طبيعتها الكوميدية االنتقادية التي مهدت لغروب‬ ‫طبقة اجتماعية كانت مهيمنة �آنذاك هي الطبقة‬ ‫الأر�ستقراطية والتي �أفرزت �أبطا ًال فر�ساناً‪ ،‬ولكن‬ ‫فار�س �سرفانت�س الهز�أة كان من نمط �آخر مختلف‬ ‫تماماً‪.‬‬ ‫وخال�صة م��ا ذك��ر ع��ن المنهج التاريخي في‬ ‫النقد �أن��ه يفيد من الظاهرة التاريخية من �أجل‬ ‫�إ�ضاءة الظاهرة الفنية‪ ،‬وال �سيما في تلك الأعمال‬ ‫الفنية التي جعلت من التاريخ مهادا لها‪� ،‬سواء‬ ‫�أك��ان��ت تلك الأع �م��ال الفنية م��ن ال �ت��راث الأدب��ي‬ ‫العالمي كملحمة جلجام�ش‪� ،‬أو ملحمتي الإلياذة‬ ‫والأودي�سة‪� ،‬أوالأنيادة و�سواها من �شواهد ع�صرية‬ ‫قاومت �سطوة الزمن وو�صلت �إلينا‪� ،‬أو من النتاج‬ ‫الفني المعا�صر الذي عاد �إلى التاريخ القريب �أو‬ ‫البعيد‪ ..‬من �أجل �أن ي�صوغ تجربة �شعرية �أو �سردية‬ ‫�أو م�سرحية مختلفة عن ال�سائد والم�ألوف والمكرر‪.‬‬

‫الماء في ال�شعر العربي‬ ‫ُ‬ ‫■ �صالح عبدال�ستار ال�شهاوي*‬

‫الماء كما َع ّر َف ُه العرب «�أعز مفقود و�أهون موجود»‪� ،‬سائل‬ ‫عجيب جميل ال حياة من دونه‪ ،‬حا�ضر دوما حيثما عا�ش �إن�سان �أو حيوان �أو نبات‪.‬‬ ‫والعرب منذ تاريخهم القديم �أدركوا �أهمية الماء في الحياة‪ ،‬فكتبوا عنه وقالوا؛‬ ‫فكان في تراثهم الأدبي والديني ال�شيء الكثير عنه‪ .‬فالعرب �إذا �أرادوا �أن يطلقوا ا�سما‬ ‫على امر�أة ذات جمال وبركة وح�سن و�صفاء وبيا�ض �أطلقوا عليها ‪-‬ماء ال�سماء– يقول‬ ‫الجاحظ‪« :‬وحين اجتهدوا في ت�سمية ام��ر�أة بالجمال والبركة والح�سن وال�صفاء‬ ‫والبيا�ض قالوا‪« :‬م��اء ال�سماء»‪ .‬والعرب �إذا و�صفت الماء وال�شراب بال�صفاء قالوا‪:‬‬ ‫ك�أنه الدمع‪ ،‬وك�أنه ماء قطر‪ ،‬وك�أنه ماء مف�صل‪ ،‬وك�أنه لعاب الجندوب‪ ،‬وك�أنه عين‬ ‫الديك‪ ،‬ومن �أمثالهم‪« :‬يا ماء لو بغيرك غ�ص�صت»‪ ،‬ي�ضرب عن دهى من حيث ينتظر‬ ‫الخال�ص والمعونة‪.‬‬ ‫ولقد �أعطى العرب –�سكان البادية– الماء مكانة مهمة‪ ،‬وخا�صة م��اء ال�سماء‪،‬‬ ‫فتتبعوا �أخباره وترقبوا قدومه‪ ،‬ولهذا �سمي العرب ب�أبناء ال�سماء‪ .‬وماء ال�سماء هو‬ ‫لقب «عامر بن حارثة الأزدي»‪ ،‬الذي خرج من اليمن لما �أيقن �أن �سيل العرم �سيدمر‬ ‫�أكبر من�ش�أة مائية �آنذاك –�سد م�أرب– �سمي بذلك لأنه كان �إذا �أجدب قومه عافهم‬ ‫حتى ي�أتي الخ�صب‪ ،‬فقالوا هو ماء ال�سماء – لأنه خلق منه‪ ،‬وقيل لولده «بنو ماء‬ ‫ال�سماء»‪ ،‬وهم ملوك ال�شام – قال �أحدهم‪:‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪115 )2015‬‬


‫وج���ف���ن���ة م���ن���ا وال������ق������روم ال�����ن�����وازع‬ ‫ف��م��ا ال����ف����رات �إذا ج��ا���ش��ت غ���وارب���ه‬ ‫ل �ق��د ل �ع��ب ال� �م ��اء دورا م �ه �م��ا ف ��ي ق �ي��ام‬ ‫ت���رم���ى �أو زاي�����ه ال��ع��ب��ري��ن ب��ال��زب��د‬

‫الح�ضارات القديمة ون�ش�أتها‪ ،‬ووجود نظم بيئية‬

‫ي�������م�������ده ك��������ل واد م�������ت�������رع ل���ج���ب‬ ‫وحياة م�ستقرة متوازنة منذ القدم‪ ،‬و�شاهِ ُد ذلك‬ ‫ف��ي��ه رك����ام م���ن ال��ي��ن��ب��وت وال��خ�����ض��ر‬

‫�سعي �أُمِّ نا هاجر بين ال�صفا والمروة بحث ًا عنه‪،‬‬ ‫وانبثاق ماء زمزم تحت قدمي �إ�سماعيل‪.‬‬

‫و�إل ��ى ��س��د م� ��أرب ال ��ذي ك��ان يحجز خلفه‬ ‫المياه في �أحوا�ض وا�سعة‪ ،‬تعود ح�ضارة م�أرب‬ ‫وب�ساتينها التي دمرها �سيل ال�ع��رم‪ ،‬و�أبدلت‬ ‫ب�ساتينها ب�سدر و�أثل‪ ،‬فهذا �شاعرهم بعد زوال‬ ‫ه��ذا ال �م��اء‪ ،‬يذكر �أح��وا���ض م� ��أرب وم�شاربها‬ ‫ويتمنى ��ش��رب��ة م��اء واح ��دة رق��راق��ة م��ن تلك‬ ‫الأحوا�ض‪:‬‬

‫ي��ط��ل م��ن خ��وف��ه ال��م�لاح معت�صما‬ ‫ب���ال���خ���ي���زران���ة ب��ي��ن الأي������ن وال��ن��ج��د‬ ‫ول�م��ا ك��ان ال �ع��رب �أه ��ل ��ص�ح��راء مترامية‬ ‫الأط��راف يع ُّز فيها الماء‪ ،‬ف�إن فترات الجفاف‬ ‫كانت تترك ب�صماتها على حياتهم و�أرزاقهم‬ ‫وموا�شيهم؛ لذا‪ ،‬نراهم يبثون في �أ�شعارهم �أنّات‬ ‫حزينة م�ستر�سلة من �أعماقهم‪ ،‬تروى عط�شهم‬ ‫للماء‪ ،‬ومن ذلك قول �أعرابية‪:‬‬

‫�أل�����������������م ت���������رن���������ا غ������ب������ن������ا م���������ا�ؤن���������ا‬ ‫فيا لهف نف�سي كلما التحت لوحة‬ ‫زم�������ان�������ا ف����ظ����ل����ن����ا ب�����ك�����د ال�����ب�����ي�����ارا‬ ‫على �شربة من بع�ض �أحوا�ض م�أرب‬ ‫ف�����ل�����م�����ا ع�����������دا ال��������م��������اء �أوط��������ان��������ه‬ ‫ب��ق��اي��ا ن��ط��اف �أودع النعيم �صفوها‬ ‫وج�������ف ال����ث����م����ار ف���������ص����ارت ح�������رارا‬ ‫و���ص��ق��ل��ه الأرج��������اء زرق ال��م�����ش��ارب‬ ‫وف�����ت�����ح�����ت الأر�������������������ض �أف������واه������ه������ا‬ ‫ت��رق��رق م���اء ال��م��زن ف��ي��ه��ن وال��ت��ق��ت‬ ‫ع���ج���ي���ج ال����ج����م����ال وردن ال���ج���ف���ارا‬ ‫ع��ل��ي��ه��ن �أن���ف���ا����س ال����ري����اح ال��غ��رائ��ب‬ ‫و����ض���ج���ت �إل�������ى رب����ه����ا ف����ي ال�����س��م��اء‬ ‫ولي�س بعيدا من مياه النيل قامت �أهرامات‬ ‫ر�ؤو��������س ال��ع�����ض��اه ت��ن��اج��ي ال�������س���رارا‬ ‫م�صر وح�ضارتها‪� .‬أما ح�ضارة تدمر وغيرها من‬ ‫الواحات العربية في بادية ال�شام و�شبه الجزيرة وق�����ل�����ن�����ا �أع���������ي���������دوا ال�������ن�������دى ح���ق���ه‬ ‫وع���ي�������ش���وا ك����رام����ا وم�����وت�����وا ح�����رارا‬ ‫العربية‪ ،‬فقد �ساعدت المياه على قيامها‪ ،‬حيث‬ ‫تنت�شر الآبار والم�شارب‪ ،‬لندرة الماء لدى العرب‬ ‫وفى الجدب وقلة الماء يرد�أ الم�شرب وتتلوث‬

‫‪ 116‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫وم�������اء ح������رى ع������اف ال���ث���ن���اي���ا ك����أن���ه‬ ‫�أما عروة بن الورد ال�شاعر ال�صعلوك فيروي‬ ‫من الأجن �أبوال المخا�ض ال�ضوارب لنا بالماء كيف �أن��ه يكون من�شغال بعدد من‬ ‫الأعمال في وقت واحد‪� ..‬إذ يقول‪:‬‬ ‫ح�شوت القال�ص الليل حتى وردن��ه‬

‫بنا قبل �أن تخفى �صغار الكواكب �أق�������س���م ج�����س��م��ي ف���ي ج�����س��وم ك��ث��ي��رة‬ ‫و�أح�����س��و ق����راح ال���م���اء‪ ،‬وال���م���اء ب���ار ُد‬ ‫لقد جعل الجفاف للماء مكانة في نفو�س‬

‫العرب بلغت حد التبجيل‪ ،‬جاء ذلك في مظاهر‬ ‫كثيرة من حياة �أوائلهم‪ ،‬فاتخذوا ِل � ِو ْر ِد الماء‬ ‫�أ�صوال وقوانين و�أعرافا يحترمونها �أيّما احترام؛‬ ‫فمن له ث�أر عند �إن�سان �آخر‪ ،‬و�أدركه يم�سك قربة‬ ‫الماء �أو مكبا على الغدير يرتوي‪� ،‬أمهله حتى �أتم‬ ‫�شربه‪ ،‬وي�سقون الذبيحة الماء حتى ترتوي‪..‬‬ ‫ومن ثم تذبح‪ ،‬ولوال احترام ورد الماء لما �أمهل‬ ‫�شاعرهم قطيع حمار الوح�ش حتى ترتوي ثم‬ ‫ترجع ع��ن الغدير‪ ،‬وبعدها �أط�ل��ق �سهمه وهو‬ ‫ب�أم�س الحاجة �إلى واحدة منها‪ ،‬فلي�س لديه قرىً‬ ‫ل�ضيفه‪ ..‬حيث يقول‪:‬‬

‫عطا�شا تريد الماء فان�ساب نحوها‬ ‫ع���ل���ى �أن������ه م��ن��ه��ا �إل������ى دم���ه���ا �أظ���م���ا‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫في �صحاريهم الوا�سعة‪ ،‬فكان يراعهم ما يرونه‬ ‫�أن��������ا اب������ن اف���ري���ق���ي���ا ع����م����رو ج���دي‬ ‫و�أب�����������������وه ع������ام������ر م����������اء ال���������س����م����اء من مياه كثيرة في �أنهار ال�شام وال�ع��راق‪ ،‬من‬ ‫ذلك ما يروى عن النابغة الذبياني عندما وقف‬ ‫كذلك قال عبيد بن ال�سالمي‪:‬‬ ‫�أم��ام نهر الفرات‪ ،‬راع��ه في�ضان نهر الفرات‪،‬‬ ‫وم����ن����ا ب���ن���و م������اء ال�������س���م���اء وم���ن���ذر‬ ‫و�أثارت �أمواجه المتالطمة �شاعريته‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫مياه الآبار‪ ،‬ومع ذلك لي�س هناك من بديل لتلك ف�����س��اف��ت وم���ا ع��اف��ت وم���ا رد �شربها‬ ‫المياه ي�شربها الإن�سان ودوابه‪ ،‬يقول ذو الرمة‪:‬‬ ‫ع��ن ال���ري م��ط��روق م��ن ال��م��اء �أك��در‬

‫(القراح‪ :‬الماء ال�صافي)‬

‫وه���ذان ال�ب�ي�ت��ان ‪-‬م�ج�ه��وال ال �ق��ائ��ل‪ -‬غاية‬ ‫الحكمة للتعبير عمن ال ي�ستطيع �أن يقول ما في‬ ‫نف�سه ل�سبب ما‪:‬‬

‫ق������������ال������������ت ال�������������������ض���������ف���������دع ق���������وال‬ ‫رددت������������������������������������ه ال������������ح������������ك������������م������������اء ُ‬ ‫ف������������������ي ف������������م������������ي م�����������������������اء وه������������ل‬ ‫ي�����ن�����ط�����ق م��������ن ف��������ي ف������ي������ه م�����������اءُ؟‬ ‫كذلك البيت ال�شهير‪:‬‬

‫�إل���ى ال��م��اء ي�سعي مَ��ن يغ�ص بلقمة‬ ‫�إل���ي �أي���ن ي�سعي مَ��ن يغ�ص بالماء؟‬ ‫وهذا التهكم ال�شعري المائي‪:‬‬

‫ف����أم���ه���ل���ه���ا ح���ت���ى ت������روى ع��ط��ا���ش��ه��ا‬ ‫ك�������أن������ن������ا وال���������م���������اء م��������ن ح����ول����ن����ا‬ ‫ف����أر����س���ل ف��ي��ه��ا م����ن ك��ن��ان��ت��ه ���س��ه��م��ا‬ ‫ق������������وم ج������ل������و�������س ح������ول������ه������م م������اء‬ ‫ولم يزجر عمر بن ربيعة ناقته التي ارتوت‬ ‫والمعنى‪� :‬أي ال جديد في التعبير �أو العمل �أو‬ ‫ال�صورة‪ .‬ومثله قول ال�شاعر‪:‬‬ ‫على المياه تعب منها‪:‬‬

‫�أق�����������ام ي���ج���ه���د �أي�����ام�����ن�����ا ق���ري���ح���ت���ه‬ ‫تنازعني حر�صا على ال��م��اء ر�أ�سها‬ ‫وف�سر ال��م��اء بعد ال��ج��ه��د‪ ..‬بالماء!‬ ‫وم����ن دون م���ا ت���ه���وي ق��ل��ي��ب م��ع��ور‬ ‫�أما �أحمد بن عبدربه الأندل�سي �صاحب العقد‬ ‫م����ح����اول����ة ل����ل����م����اء ل�������وال زم���ام���ه���ا‬ ‫وج����ذب����ي ل���ه���ا ك������ادت م��������راراً ت��ك�����س�� ُر الفريد‪ ،‬فله بيت مائي غاية في الجمال والعمق‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪117 )2015‬‬


‫�أدب ك���م���ث���ل ال�����م�����اء ل�����و �أف����رغ����ت����ه‬ ‫ي����وم����ا ل�������س���ال ك���م���ا ي�������س���ي���ل ال���م���اء ف��ه��ن ي��ن��ب��ذن م���ن ق����ول ي�����ص��ب��ن به‬ ‫مواقع الماء من ذي الغِلة ال�صادى‬ ‫والبيت يحمل معنيين‪.‬‬

‫وهذا �آخر يرى �أن حديث محبوبته في نف�سه‬ ‫الأول‪� :‬أن الممدوح بهذا البيت له �أدب �سيال‬ ‫كالماء ال ي�صعب عليه قلم‪ ،‬وال تعيقه عبارة‪ ،‬موقع �صوت غيث هاطل من نف�س راعي �إبل طال‬ ‫وال يتوقف عند معنى عوي�ص‪ ،‬فهو كثير الإنتاج عهده به فيقول‪:‬‬ ‫غزير الأدب والمعرفة والثقافة‪ ،‬وف��ي الوقت وح�����دي�����ث�����ه�����ا ك����ال����غ����ي����ث ي�������س���م���ع���ه‬ ‫نف�سه‪� ،‬أدبه نافع وحيوي للنا�س كالماء‪.‬‬ ‫راع�����������ي �����س����ن����ي����ن ت����ت����اب����ع����ت ج����دب����ا‬

‫والمعنى الثاني عك�سه تماما‪� :‬أي �أن الأدب ف�������������أ�������������ص������������اخ م�������������س������ت������م������ع������ا ل�����ه‬ ‫ال�سائر والمنت�شر بين النا�س‪ ،‬لي�س له ذلك العمق‬ ‫وي���������ق���������ول م���������ن ف������������رح ه������ي������ا رب������ا‬

‫�أو الطعم �أو الرائحة‪ ،‬فهو من �سهولة تناوله‬ ‫وال �م��اء ف�ضة رق��راق��ة كما ي�ق��ول �إي�ل�ي��ا �أب��و‬ ‫كالماء المبذول لكل النا�س‪ ،‬فيما الأدب الحقيقي‬ ‫ما�ضي‪:‬‬ ‫الإبداعي يجب �أن يكون عزيزا غير مبتذل‪.‬‬

‫وال������م������اء ح����ول����ك ف�������ض���ة رق����راق����ة‬ ‫وال عجب �إذا ر�أينا �شعراء العربية ي�سهبون في‬ ‫وال�����ش��م�����س ف��وق��ك ع�����س��ج��د يت�ضرم‬

‫ذكر الماء ويقرنونه برجع �أحاديث محبوباتهم‪،‬‬ ‫وال �م��اء ف��ي ال��وج��ه رفيق الحياء كما يقول‬ ‫فهذا �أب��و ذ�ؤي��ب الهزلي ي�شبه حديث محبوبته‬ ‫بع�سل ال�ن�ح��ل ال �م �م��زوج ب ��أل �ب��ان �أب �ك��ار الإب��ل ال�شاعر �صالح بن عبدالقدو�س‪:‬‬ ‫الحديثة النتاج‪ ،‬والم�شوب بماء �صاف مثل ماء �إذا ق����� َّل م�����اء ال����وج����ه ق����� َّل ح����ي����ا�ؤه‬ ‫المفا�صل – ماء المفا�صل هو ماء بين الجبلين‪،‬‬ ‫وال خ����ي����ر ف������ي وج��������ه ق�������� َّل م��������ا�ؤه‬ ‫�ص بالذكر ل�صفائه ب�سبب انحداره عن‬ ‫و�إنما خُ َّ‬ ‫وللماء في ديوان العرب كُنى‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫الجبال‪ ..‬ال يمر بطين �أو تراب – �إذ يقول‪:‬‬ ‫• بنات الماء‪ :‬كل ما ي�ألف الماء كال�سمك‬ ‫و�إن ح���دي���ث���ا م���ن���ك ل�����و ت��ع��ل��م��ي��ن��ه‬ ‫وال�ضفادع وبع�ض الأنواع من الطيور‪� ،‬سمي‬ ‫جنى النحل في �أل��ب��ان ع��وذ مطافل‬ ‫الواحد منها ابن الماء‪ ،‬والجمع بنات الماء‬ ‫قال ال�شاعر‪:‬‬ ‫م���ط���اف���ي���ل �أب�����ك�����ار ح����دي����ث ن��ت��اج��ه��ا‬

‫ت�����ش��اب ب���م���اء م��ث��ل م����اء ال��م��ف��ا���ص��ل ك�����������أن ج�����وان�����ح�����ي �����ش����وق����ا �إل����ي����ه����ا‬ ‫وه��ذا �شاعر �آخ��ر ي��رى �أن م��ا ي�صدر عن‬ ‫ب����ن����ات ال����م����اء ت���رق�������ص ف����ي ج��ف��اف‬ ‫‪ 118‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ • بنات العيون‪ :‬هي جداول الماء التي تنبثق‬ ‫قال ال�شاعر‪:‬‬ ‫من عيون الأر�ض‪ ،‬والعين هنا ينبوع الماء‬ ‫و�أ���ض��ح��ت ب��ن��ات ال��مُ��زن زرق���ا ك�أنها‬ ‫ال��ذي يخرج من الأر���ض‪ .‬ق��ال تعالى‪}:‬‬ ‫���س��ل��وق��ي��ة الأب�������دان ���ش��ف��ق ���س��روره��ا‬ ‫وف��جَّ ��رن��ا الأر�����ض ع��ي��ون��ا فالتقى ال��م��اء‬ ‫يعني �أنها �صافية كالدروع‪� ،‬صافية الخلق‬ ‫على �أم��ر قد قُدِ ر{(القمر‪ ،)12 :‬وقال‬ ‫حين جرت عليها الريح فاطردت‪.‬‬ ‫تعالى‪�« :‬إن المتقين في جنات وعيون»‬ ‫ابن الماء‪ :‬كنية كل طائر ي�ألف الماء فهو‬ ‫(الذاريات‪.)15 :‬‬ ‫ابن الماء‪..‬‬ ‫قال ال�شاعر‪:‬‬ ‫قال ذو الرمّة‪:‬‬

‫وردت �إع���ت�������س���اف���ا وال���ث���ري���ا ك���أن��ه��ا‬ ‫ع��ل��ى ق��م��ة ال���ر�أ����س اب���ن م���اء محلق‬ ‫وقال �آخر‪:‬‬

‫وي�������ن�������ذرن�������ي ب���������س����ط����وت����ه و�أن����������ى‬ ‫ي����خ����اف ب���������رودة ال�����م�����اء اب������ن م���اء‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫والمعنى وهو‪:‬‬

‫الن�ساء من قول ي�صادف من نف�س محدثهن ما‬ ‫ي�صادفه من الماء البارد ظم�آن برح من الظم�أ‪:‬‬

‫• بنات المُزن‪ :‬هي غ��دران الماء‪ ،‬و�سميت‬ ‫بذلك لأن م�صدرها المزن (جمع مزنة وهي‬ ‫ال�سحابة عامة) وقيل‪ :‬ال�سحاب ذو الماء –‬ ‫الغيم– قال تعالى‪�} :‬أ�أنتم �أنزلتموه من‬ ‫المُزن �أم نحن المُنزلون{(الواقعة‪.)69 :‬‬

‫والمعنى �أن هذه الإبل لما لم يكن لها مرعى‬ ‫تتع�شى به �أخرجت الجرة‪�(..‬أي قامت بعملية‬ ‫االجترار وهي �إعادة ه�ضم الطعام)‪ ،‬فالكتها‬ ‫و�صار غدا�ؤها ع�شاءها‪.‬‬

‫ط����وال ال�����ذرى ق��ام��ت ب���ري نباتها‬ ‫ب�����ن�����ات ع�����ي�����ون م������ا ل����ه����ن ه���ج���وع‬

‫وال�شاعر هنا ي�صف نخيال ط��واال حولها‬ ‫نخالت ق�صار‪ ,‬هي لها كالبنات ت�سقيها جداول‬ ‫تخرج من عيون‪.‬‬

‫وب� �ع ��د‪� ،‬إنّ ح��ر���ص ال� �ع ��رب ع �ل��ى ال�م�ي��اه‬ ‫• بنت ال �ج��داول‪ :‬كناية ع��ن م��اء الأن �ه��ار‬ ‫وتقديرهم لها كان وال يزال في محله‪.‬‬ ‫ال�صغار (الجداول)‪..‬‬ ‫ورحم اهلل المتنبي �إذ قال‪:‬‬ ‫قال ال�شاعر‪:‬‬

‫وم������ا ����ش���رق���ي ب����ال����م����اء �إال ت���ذك���را‬ ‫ع�شيتها م��ا ت��غ��دت بعدما اغتبقت‬ ‫ل����م����اء ب�����ه �أه��������ل ال���ح���ب���ي���ب ن�����زول‬ ‫ب��ن��ت ال���ج���داول م��ن م���رت ومجلوح‬ ‫المرت‪ :‬الأر�ض القفر‪ ،‬والمجلوح‪ :‬الذي قد ي����ح����رم����ه ل����م����ع الأ�������س������ن������ة ف���وق���ه‬ ‫رُعِ يَ نباته كله‪.‬‬ ‫ف���ل���ي�������س ل�����ظ�����م������آن �إل������ي������ه ���س��ب��ي��ل‬ ‫ * كاتب من م�صر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪119 )2015‬‬


‫■ ه�شام بن�شاوي*‬

‫لفت انتباهي كتاب «�آفاق الفن الت�شكيلي على م�شارف القرن الحادي والع�شرين»‪،‬‬ ‫ال�صادر عن دار ال�شروق عام ‪2000‬م‪ ،‬ال�سيما ف�صله الأخير‪ ،‬الذي يف�ضح قرا�صنة الفن‬ ‫ول�صو�صه الذين ي�سرقون تراث الأمم؛ فقد كتب الناقد والفنان الت�شكيلي الم�صري‬ ‫مختار العطار تحت عنوان «الفنون الجميلة والجريمة المنظمة» عما يجري على‬ ‫ال�ساحة الدولية في ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬بمنا�سبة ما �أثير ويثار حول المتاحف الم�صرية‬ ‫وم��ا ت�ضم م��ن ك��ن��وز‪ ،‬بعد االرت��ف��اع ال��م��ذه��ل لأ���س��ع��ار الأع��م��ال الفنية‪ ،‬وب��ع��د التغير‬ ‫االجتماعي ال�سريع ال��ذي اقتلع �أم��ن الب�شر من الجذور‪ ،‬واجتاح الهدوء وال�سكينة‬ ‫اللذين تمتع بهما الإن�سان خالل القرن التا�سع ع�شر قبل الحربين العالميتين‪.‬‬ ‫وي�سوق الباحث بع�ض البيانات والإح�صاءات الر�سمية‪ ،‬والأحداث التي وقعت م�ؤخرا‬ ‫في بلدان �أكثر تقدما ثقافيا واقت�صاديا؛ لأننا في العالم الثالث ما نزال نفكر بروح‬ ‫القرن الما�ضي‪ ،‬ونعتقد �أن ب�ضعة ع�شر مليونا من الجنيهات تكفي لإع��داد متحفي‬ ‫«الجزيرة» و«محمد محمود خليل وح��رم��ه» بالترميمات ال�ضرورية والتح�صينات‬ ‫الالزمة لت�أمين محتوياتهما من التحف الأوربية‪ ،‬التي يرجع تاريخها �إلى القرون‬ ‫الأرب��ع��ة الما�ضية؛ ونظن �أن ت�شكيل لجنة م��ن الموظفين وال��ه��واة‪ ،‬ت�صلح لإق��رار‬ ‫م�صداقية تلك الروائع‪ ،‬التي ال تقدر بثمن من الناحية الإن�سانية‪ ،‬وتقدر بمليارات‬ ‫الدوالرات من ناحية ال�سوق؛ �إال �أن اللجان الر�سمية ال تجدي في مثل هذه الحاالت‪،‬‬ ‫وال تعوّ�ض الملفات المطوّلة لكل عمل فني على حدة‪ ،‬وفواتير البيع وال�شراء المعتمدة‬ ‫من �شخ�صيات وبيوت فنية معروفة‪ ،‬و�شهادة م�ؤ�س�سات عالمية كبرى متخ�ص�صة مثل‬ ‫«�سوذبي» و«كري�ستي» اللندنيتين‪ ،‬بما لديهما من «خبرات تحت الطلب»‪ ،‬ومتخ�ص�صين‬ ‫ذوي �شهرة دولية وكتالوجات موثقة‪.‬‬ ‫‪ 120‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫�أما الحادث الثاني المعلن عنه‪ ،‬فهو �سرقة‬ ‫لوحة «زه��رة الخ�شخا�ش» لـ «فان ج��وخ»‪ ،‬الذي‬ ‫احتفلت هولندا �سنة ‪1990‬م ب��ذك��رى وفاته‬ ‫المائة‪ .‬ومن المعروف �أنه �أغلى فنان في العالم‬ ‫ف��ي ال��وق��ت ال�ح��ال��ي‪��ُ � .‬س��رِ ق��ت التحفة ف��ي ليلة‬ ‫عا�صفة من �شتاء ‪1979‬م‪ ،‬حين توقفت �سيارة‬ ‫الل�ص �أم��ام مبنى المتحف ال�م��ؤق��ت‪ ،‬وهبط‬ ‫منها «هجام» من نزلة ال�سمان‪ ،‬ت�سلق الموا�سير‬ ‫�إل��ى النافذة التي ت�ستقر اللوحة بجوارها من‬ ‫الداخل‪ ،‬وفي دقائق كانت ال�سيارة تنهب الأر�ض‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ُ‬ ‫الفن‬ ‫قرا�صنة ِّ‬

‫و�أكد الباحث الم�صري �أن ال�سرقات الفنية‬ ‫في م�صر‪ ،‬حتى عهد قريب‪ ،‬كانت تتركز على‬ ‫الآثار القديمة‪ ،‬خا�صة الفرعونية‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫الآثار القبطية والإ�سالمية‪� ،‬أما �سرقة اللوحات‬ ‫الثمينة والتماثيل‪ ،‬ف�أمر م�ستحدث قد يكون‬ ‫مت�أثرا باالرتفاع الجنوني لأثمان روائع م�شاهير‬ ‫الر�سامين والمثالين الأورب �ي �ي��ن ال�ت��ي توجد‬ ‫منها المئات في المتحفين المذكورين �أعاله‪،‬‬ ‫وعدم توفر حرا�س تذكر بالمقارنة بالمتاري�س‬ ‫الإلكترونية في متاحف العالم‪ .‬وو�ضح �أن �أولى‬ ‫ال�سرقات التي �أعلن عنها في متحف الجزيرة‬ ‫وقعت في فبراير ‪1967‬م‪ ،‬حين قام طالبان بنزع‬ ‫لوحة «ذات الوجهين» للر�سام الملون «بيتربول‬ ‫روبنز» من بروازها‪ ،‬وخرجا بها لمجرد البرهنة‬ ‫على تفاهة �إج��راءات الأم��ن‪ ،‬ثم �أع��اداه��ا بعد‬ ‫�شهرين ب ��أن �ألقياها تحت �شجرة ف��ي �شارع‬ ‫الهرم‪ ،‬و�أخبرا ال�شرطة هاتفيا بمكانها‪ .‬ولم‬ ‫تذكر ال�صحف �إن ك��ان قد تم فح�ص اللوحة‬ ‫العائدة‪ ،‬للتثبت من �أ�صالتها وعدم ا�ستبدالها‬ ‫بن�سخة مزيفة‪.‬‬

‫بالغنيمة‪ ،‬ال�ت��ي ي��زي��د ثمنها على ‪ 50‬مليون‬ ‫دوالر �أمريكي‪ ،‬ويقال �إن ال�سارق �أحرق البرواز‬ ‫قبل �إعادتها بعد ثالثة ع�شر �شهرا في مقابل‬ ‫حفظ التحقيق‪� ،‬إال �أن مجلة «الم�صور» تلقت‬ ‫خطابا من �إيطاليا ن�شرته في حينه‪ ،‬ي�ؤكد �أن‬ ‫اللوحة تم تزييفها في روما(عا�صمة الجرائم‬ ‫الفنية)‪ ،‬وبيعت الأ�صلية لأحد الأمريكيين‪ ،‬و�أن‬ ‫اللوحة العائدة ن�سخة مزورة‪ ،‬ون�شرت ال�صحف‬ ‫ق�صة �ساذجة لكيفية �إع��ادة اللوحة‪ ،‬تقول �إن‬ ‫عربة م�سرعة �ألقت بها تحت قدمي مدير �أمن‬ ‫القاهرة �أث�ن��اء وقوفه �أم��ام محل ويمبي بحي‬ ‫المهند�سين‪ .‬ولم يحاول الم�س�ؤولون الت�أكد من‬ ‫م�صداقية التحفة العائدة‪ ،‬حتى �أث��ار الق�ضية‬ ‫الدكتور يو�سف �إدري����س بمنا�سبة �إقامة مزاد‬ ‫عالمي في لندن لبيع لوحة لنف�س الر�سام بمبلغ‬ ‫(‪ )54‬مليون دوالر‪ ،‬ف�شكلت وزارة الثقافة لجنة‬ ‫من الموظفين وغير المخت�صين‪� ،‬أقرت �صحة‬ ‫اللوحة و�سالمتها‪ ،‬وظنت ال��وزارة �أنها �أقنعت‬ ‫�أح��دا غيرها بم�صداقية الكنز العائد‪ .‬وقد‬ ‫ت�سلمت مباحث المتحف �أ�صل الخطاب الذي‬ ‫و�صل مجلة «الم�صور» من روما‪.‬‬ ‫وح���س��ب ال �ب��اح��ث‪ ،‬ف� ��إن الأم���ر يختلف في‬ ‫الثقافات المتقدمة في �أوربا و�أمريكا؛ �إذ تر�صد‬ ‫ه�ن��اك م�لاي�ي��ن ال � ��دوالرات ف��ي التح�صينات‬ ‫الحديثة للمتاحف �ضد ال�سرقة‪ ،‬كما �أن عر�ض‬ ‫اللوحات والتماثيل المتحفية بعيدا عن مكانها‬ ‫�أمر يتم تحت غطاء كثيف من التعتيم وال�سرية؛‬ ‫ففي المعر�ض الذي �أقيم لبع�ض لوحات «فان‬ ‫جوخ» في مدينة «�أرل�س» بجنوبي فرن�سا‪ ،‬التي‬ ‫ر�سم فيها الفنان العبقري كثيرا من روائعه‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪121 )2015‬‬


‫‪ 122‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫ال�شهيرة‪ ،‬ت��م نقلها ف ��رادى بالطريق البري قد تعر�ضت �أربع مرات لل�سرقة خالل ال�سنوات‬ ‫�أحيانا‪ ،‬وبالقطار �أحيانا �أخ��رى ب ��أوراق �سرية الخم�س ال�سابقة‪ ،‬مع �أنها تقع على الطرف الآخر‬ ‫م��ن الميدان ال��ذي توجد فيه ق�ي��ادة ال�شرطة‬ ‫م�ضللة‪.‬‬ ‫وبيّن الناقد الم�صري �أنه في كل من �إيطاليا الفنية!‬ ‫وبالن�سبة �إل��ى الم�س�ؤولين ف��ي القطارات‬ ‫وفرن�سا توجد �شرطة متخ�ص�صة في مكافحة‬ ‫ال�سرقات الفنية‪ ،‬ول��و �أن زائ��را دخ��ل مكاتب وال��م��وان��ىء وم �ن��اف��ذ ال��خ��روج ف��ي ال�ث�ق��اف��ات‬ ‫قادة هذه ال�شرطة في روما �أو باري�س‪ ،‬ل�شاهد ال �م �ت �ق��دم��ة‪ ،‬ف �ه��م ال ي���س�م�ح��ون للم�سافرين‬ ‫على الأر�ض وبجوار الجدران لوحات دينية من با�صطحاب التحف الفنية من دون �إثبات ملكيتهم‬ ‫ال�ق��رن ال��راب��ع ع�شر‪ ،‬ومنا�ضد �صغيرة ط��راز ال�شخ�صية لها‪� ،‬إال �أن المجتمعات المتخلفة ال‬ ‫لوي�س الخام�س ع�شر‪ ،‬وتماثيل ن�صفية رومانية‪ ،‬تعنى �إال بالبحث عن المخدرات والعملة ال�صعبة‬ ‫وم �ن��اظ��ر طبيعية م��ن ال �ق��رن ال �ث��ام��ن ع�شر المهربة والأجهزة الإلكترونية‪ ،‬وربما التماثيل‬ ‫ا�ستعادتها ال�شرطة من مغت�صبيها‪ ،‬وتنتظر الأثرية المعروفة‪ ،‬وال ي�أبهون بال�صور الزيتية‬ ‫رده��ا �إل��ى �أ�صحابها‪� ،‬أو يحتفظون بها ك�أدلة خا�صة لو كانت منزوعة من البرواز وقابعة في‬ ‫قاع الحقيبة‪� ،‬أو محمولة كلفائف في الأي��دي‪،‬‬ ‫اتهام في الق�ضايا المرفوعة‪.‬‬ ‫ولل�شرطة الإيطالية �أ�سلوب خا�ص في معالجة وهكذا انت�شرت التحف والآث��ار الإفريقية في‬ ‫ق�ضايا ال�سطو ال�ف�ن��ي‪ ،‬ف�ه��ي تهتم ب��ال��درج��ة متاحف العالم المتقدم‪ ،‬وت�سربت المخطوطات‬ ‫الأولى با�ستعادة الم�سروقات ولي�س القب�ض على الإ�سالمية النادرة و�أوراق البردي الفرعونية؛‬ ‫الل�صو�ص‪ ،‬خ�شية �أن ت�ضيع الروائع الم�سروقة وهكذا �أي�ض ًا �أخرجت «�أزه��ار الخ�شخا�ش» من‬ ‫�إل��ى الأب��د‪� ،‬أو يعمد المجرمون �إل��ى تدميرها‪ ،‬مطار القاهرة في العام ‪1967‬م‪ ،‬وعادت هي �أو‬ ‫ويت�أ�سف الكاتب لأن ل�صو�ص اللوحات يمزقونها �شبيهتها بعد عامين‪ ،‬ويجزم الباحث �أن الجهل‬ ‫�أحيانا ويبيعونها مجز�أة؛ فيق�سمون �صورة الرجل وع��دم الوعي وخ��واء الجيوب في المجتمعات‬ ‫�أو ال�سيدة ويبيعون اليد لم�شتر‪ ،‬والوجه لآخر‪ ،‬المتخلفة‪ ،‬يمنح الل�صو�ص والع�صابات المنظمة‬ ‫والأزه��ار والمن�ضدة لثالث‪ ،‬وقد يكملون ر�سم مزيدا من حرية الحركة‪ ،‬لكن البلدان المتقدمة‬ ‫كل قطعة حتى تبدو ك�أنها لوحة منف�صلة لنف�س تزيد م��ن �إح�ك��ام الرقابة و�إ��ش�ه��ار موا�صفات‬ ‫الفنان‪ ،‬فيلونون الخلفيات �أو ي�ضيفون مزيدا ال ��روائ ��ع وال �ت �ح��ف ال �م �ف �ق��ودة‪ ،‬وذل ��ك بو�ضع‬ ‫من العنا�صر والتفا�صيل‪ ..‬وي�ضعون التوقيعات البيانات الكافية للتحف المفقودة‪ ،‬حتى تكون‬ ‫المزورة؛ والمثير �أنه رغم كون ال�شرطة الفنية في متناول قاعات العر�ض والمتاحف وو�سطاء‬ ‫في روما‪ ،‬بقوتها التي تزيد على المائة �شرطي الفن والخبراء في �أنحاء العالم‪ ،‬مع مراعاة‬ ‫مخت�ص‪ ،‬ت�سجل ما بين(‪20‬و‪ )30‬حادث �سرقة قواعد الأمان في برامج الحا�سوب‪ ،‬وذلك بترك‬ ‫يوميا‪ ،‬و�أن كني�سة «�سان �إيجاناثيو�س» في روما بع�ض البيانات مجهولة عن عمد‪ ،‬وت�شمل عددا‬

‫من التحف الأث��ري��ة‪ ،‬وتعد ال�شرطة الإيطالية‬ ‫الآثار المفقودة من المقابر التاريخية في عداد‬ ‫الم�سروقات‪ ،‬وناب�شي المدافن من ل�صو�ص‬ ‫الأعمال الفنية في الع�صر الحديث‪ ،‬على الرغم‬ ‫�أنها لم تظهر من قبل في �سوق الفن‪ ،‬ولم تكن‬ ‫�ضمن مقتنيات جامعي التحف المعروفين؛‬ ‫لذلك ال يعنى و�سطاء الفن بهذه التحف خارج‬ ‫�إيطاليا وينظرون �إليها بارتياب‪.‬‬ ‫ومن الأح��داث المثيرة وال�شهيرة في هذا‬ ‫ال �� �س �ي��اق‪ ،‬م��ا ج ��رى م��ع م�ت�ح��ف «ج �ي �ت��ي» في‬ ‫كاليفورنيا ب�أمريكا‪ ،‬حين ا�شترى بع�ض الأقنعة‬ ‫الإغريقية الرومانية(جريكو رومان)‪ ،‬وتمثاال‬ ‫عمالقا لأف��رودي��ت‪ ،‬م��ن و�سيط م�ع��روف في‬ ‫لندن‪ ،‬ا�شتراها بدوره من �شخ�صية غام�ضة في‬ ‫�سوي�سرا‪ ،‬وو�صل مبلغ الت�أمين على التمثال فقط‬ ‫�إلى ع�شرين مليون دوالر‪ ،‬وحين علمت ال�شرطة‬ ‫الإيطالية بالأمر تتبعت كل �أط��راف ال�صفقة‪،‬‬ ‫حتى و�صلت �إلى الفاعلين الذين حفروا المقبرة‬ ‫التاريخية و�أخ��رج��وا التمثال ال�ن��ادر‪ ،‬والذين‬ ‫اعترفوا ب�أن حفر المقابر الأثرية يتم بانتظام‬ ‫ب��إ��ش��راف ع�صابات «ال�ك��ام��ورا» و«ندراجيتا»‬ ‫مندوبي المافيا في جنوبي �إيطاليا‪ ،‬وما تزال‬ ‫الأقنعة والتمثال معلقة رهن التحقيق!‬ ‫وال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه ب�إلحاح‪ ،‬هو مدى‬ ‫�إمكانية ا�ستعادة الروائع المفقودة النادرة التي‬ ‫تعد معالم تاريخ الفن و�أ�سا�س فل�سفته ونظرياته‪،‬‬ ‫والتي كانت من قبل غير قابلة للبيع وال�شراء‪،‬‬ ‫لأنها معروفة بكل دقة‪ ،‬وكانت ت�ستعاد ب�سرعة‪،‬‬ ‫�إذا �ضعف �أمامها �أحد الهواة ف�سرق �إحداها‪،‬‬ ‫�أو �سطت عليها ع�صابة لي�ست من المحترفين‪،‬‬

‫وي�ست�شهد الناقد بحادثة القب�ض على الل�صو�ص‬ ‫الذين �سطوا على عدة لوحات في متحف الدولة‬ ‫ب�أم�ستردام في هولندا في العام ‪1988‬م‪ ،‬عند‬ ‫محاولتهم بيع الغنيمة لأح��د المر�شدين من‬ ‫رج��ال ال�شرطة‪ .‬وذك��ر الكاتب �أن الل�صو�ص‬ ‫في بع�ض الأحيان يعر�ضون �إعادة الم�سروقات‬ ‫مقابل فدية‪� ،‬إال �أن معظم المتاحف والكثير من‬ ‫المقتنين يرف�ضون هذا الأ�سلوب‪ ،‬تاركين الأمر‬ ‫ل�شركات الت�أمين تتعامل بنف�سها مع الل�صو�ص‪،‬‬ ‫والت�أمين على التحف الفنية �إجراء غير معتاد‬ ‫في م�صر والمجتمعات المتخلفة لعدم تقدير‬ ‫�أه�م�ي��ة ال �ف��ن وخ �ط��ورة ال�ت�ق��دم التكنولوجي‬ ‫للجريمة الحديثة‪ ،‬وفداحة المبالغ المطلوبة‬ ‫ل�شركات الت�أمين‪ .‬والإهمال في الت�أمين يطال‬ ‫حتى المجتمعات الثقافية كهولندا‪ ،‬التي تملك‬ ‫كنوزا فنية ال ت�ضاهى تاريخيا وماديا‪ ،‬و�سرقت‬ ‫في دي�سمبر ‪1988‬م ثالث لوحات لـ «فان جوخ»‪،‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪123 )2015‬‬


‫وف ��ي م���ص��ر‪ ،‬ل��م ي�ط�ل��ب ال�ل���ص��و���ص فدية‬ ‫لإع��ادة اللوحتين الم�سروقتين‪ ..‬و�إن�م��ا حفظ‬ ‫التحقيق فقط‪ ،‬لكن ال�شك ما ي��زال قائما في‬ ‫م�صداقيتهما‪ ،‬بعد اختفاء الأول ��ى لأك�ث��ر من‬ ‫�شهرين‪ ،‬وغياب الثانية لأكثر من ع��ام‪ ،‬وهي‬ ‫ف �ت��رات ك��اف�ي��ة للتزييف ال�م�ت�ق��ن‪ ،‬وا�ست�شهد‬ ‫العطار بقولٍ لأح��د ال�ضباط الفرن�سيين الذي‬ ‫�أك��د فيه �أن «المافيا والع�صابات الم�شابهة‪،‬‬ ‫قد ت�سرق اللوحات وتدفنها لمدد طويلة ت�صل‬ ‫�إلى مائة عام‪ ،‬لأنها لي�ست في حاجة مبا�شرة‬ ‫للح�صول على ال�م��ال‪ .‬ف�ضال عن �أن العقوبة‬ ‫القانونية ت�سقط في بلدان مثل �إيطاليا‪ ،‬بعد‬ ‫مهلة ال تتجاوز الع�شر ال�سنوات‪ ،‬والنا�س �سريعة‬ ‫الن�سيان‪ .‬ومن المفارقات الالفتة للنظر‪� ،‬أن‬ ‫اللوحات التي �سرقت منذ(‪� 20‬أو ‪ )30‬عاما‪،‬‬ ‫تباع حاليا في �أ�سواق جنوبي �أمريكا»‪ ،‬و�أ�شار‬ ‫هذا ال�ضابط �إلى �أن بع�ض الع�صابات ت�ستخدم‬ ‫الأع �م��ال الفنية ف��ي المقاي�ضة على �شحنات‬ ‫المخدرات؛ وبيّن الباحث الم�صري �أن جاذبية‬ ‫الأعمال الفنية ت��زداد وت�صبح �أكثر �إث��ارة لدى‬ ‫الع�صابات المنظمة‪ ،‬حين تكون المخاطرة �شيئا‬ ‫عاديا‪ ،‬والتح�صينات بدائية‪ ،‬والحرا�سة هينة‪.‬‬ ‫وتحت عنوان «مافيا الفن والجمال»‪ ،‬خ�ص�ص‬ ‫الناقد الت�شكيلي الم�صري هذا المبحث للمافيا‬ ‫‪ 124‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ن���������������������������������������������واف���������������������������������������������ذ‬

‫من متحف «كرولر مولر»‪ ،‬وا�ستعاد القائمون على‬ ‫المتحف �إحدى اللوحات في �أبريل ‪1989‬م‪ ،‬بعد‬ ‫�أن لحقتها �أ�ضرار خفيفة‪ ،‬وطلب الل�صو�ص فدية‬ ‫لل�صورتين الباقيتين‪ ،‬قدرها مليونان ون�صف‬ ‫مليون دوالر‪� ،‬إال �أن البرلمان الهولندي رف�ض‬ ‫ال�صفقة‪ ،‬وما يزال م�صير التحفتين مجهوال!‬

‫ال��ت��ي ح�� ّول��ت معظم �أن�شطتها ف��ي العقدين‬ ‫الأخ�ي��ري��ن م��ن ت�ج��ارة ال�ه��روي��ن وال�م�خ��درات‪،‬‬ ‫والرقيق الأبي�ض والأط�ف��ال �إل��ى نهب اللوحات‬ ‫الفنية من متاحف العالم الكبرى‪ ،‬مع التركيز‬ ‫على الآثار التاريخية‪ ،‬حيث بلغ الأمر �إلى �أن تتلقى‬ ‫المافيا طلبات المليارديرات الذوّاقة العا�شقة‬ ‫للفن والجمال‪ ،‬الذين يحددون موا�صفات ما‬ ‫يرغبون في اقتنائه من محتويات المتاحف �أو‬ ‫التحف الأثرية و�أماكن وجودها‪ ،‬فتقوم المافيا‬ ‫بالمعاينات الالزمة والمراقبات ال�ضرورية‪،‬‬ ‫وو�ضع الخطط الدقيقة‪ ،‬ثم التنفيذ في لحظات‬ ‫معدودة وتختفي التحف‪ ،‬وال�سبب الرئي�س في‬ ‫ات�ساع ن�شاط المافيا ف��ي دول العالم الثالث‬ ‫ونهب �آثارها ب�شكل منظم على مدار ال�سنين‪،‬‬ ‫هو تف�شّ ي الفقر والجهل‪ ،‬و�ضعف الوعي القومي‬ ‫و�ض�آلة الأج��ور‪ ،‬ما يفتح الباب على م�صراعيه‬ ‫�أمام الر�شوة والإذعان للتهديد واالبتزاز؛ �أما في‬ ‫الثقافات الأوربية والأمريكية فيقت�صر اهتمام‬ ‫المافيا على روائ��ع ل��وح��ات الر�سم والتلوين‪.‬‬ ‫ففي المعر�ض ال�شامل الذي �أقامته هولندا عام‬ ‫‪1990‬م ِللَوحاتِ «ف��ان ج��وخ» التي ال يقل ثمن‬ ‫�إحداها عن خم�سة وثمانين مليون دوالر‪� ،‬أقيمت‬ ‫الحرا�سة على �أعلى م�ستوى من التكنولوجيا‬ ‫الحديثة‪ ،‬كما و�ضعت المعرو�ضات خلف �ألواح‬ ‫زج��اج�ي��ة ت �ق��اوم ال�م�ت�ف�ج��رات‪ ،‬و�إط � ��ارات من‬ ‫ال�صلب محكمة الإغالق‪ ،‬وا�شتركت في �ضمان‬ ‫�سالمة العر�ض �أكثر من �شركة ت�أمين عالمية‬ ‫كبرى‪ ،‬ومع ذلك اختفت �إحدى الروائع في ثوان‪،‬‬ ‫�أثناء تغيير وردية الحرا�سة‪ ،‬بالرغم من وجود‬ ‫�سياج حديدي يمنع الزوار من االقتراب‪.‬‬

‫و�أورد الناقد الم�صري حادثة �أخرى‪ ،‬جاءت‬ ‫في �صفحة الأركيولوجي في مجلة نيوزويك‪ ،‬والتي‬ ‫روت ما وقع في نقطة التفتي�ش الجمركي على‬ ‫حدود هونغ كونغ‪� ،‬إذ كانت تقل �إحدى ال�شاحنات‬ ‫المحملة ب�شحنة من الأدوات الكهربائية وقطع‬ ‫الغيار‪ ،‬وعندما فتح مفت�ش الجمرك باب الحاوية‬ ‫فوجئ بع�شرين لوحة حجرية �أثرية من النحت‬ ‫البارز‪ ،‬ت�صور بمنتهى الدقة والجمال معارك‬ ‫حربية بين فر�سان على �صهوة الجياد وكتيبة‬ ‫من المحاربين في عربات تجرها الخيول‪ ،‬وعند‬ ‫عر�ض الم�ضبوطات على الأخ�صائيين‪� ،‬أقروا‬ ‫ب�أنها �أج��زاء من حوائط مقابر �أ��س��رة «ه��ان»‬ ‫ال�صينية‪ ،‬و�أن تاريخها يرجع �إل��ى �ألفي عام‪،‬‬ ‫وقدر الخبراء ثمن اللوحة الواحدة ب�أنه ال يقل‬ ‫عن �سبعين �أل��ف دوالر �أمريكي‪ ،‬وال يوجد لها‬ ‫نظائر في �ألبومات التثمين‪ ،‬التي ت�صدر �سنويا‬ ‫عن �شركتي ال�م��زادات الدولية البريطانيتين‬ ‫«�سوذبي» و«كري�ستي»‪.‬‬

‫من ت�سريب �آثار ال�صين وعدم تجريم امتالكها‬ ‫خ��ارج ال �ح��دود‪ ،‬ت�غ��ري العمالء بالمخاطرة‪،‬‬ ‫منتهزين فر�صة انت�شارها في م�ساحات �شا�سعة‬ ‫تنق�صها الحرا�سة الجيدة؛ ما يغري بعر�ض‬ ‫التحف ال�صينية علنا في واجهات محالت الآثار‬ ‫في هونج كونج وتايوان واليابان‪ ،‬ومختلف دول‬ ‫�أوربا و�أمريكا‪ ،‬حيث تلقى رواجا لدى الهواة من‬ ‫�أثرياء تلك ال�شعوب‪.‬‬

‫وف��ي ال�سنوات الأخ �ي��رة‪ ،‬ن�شط القرا�صنة‬ ‫والل�صو�ص في نهب منطقة �أثرية تمتد منطقتها‬ ‫�إل ��ى ث�لاث�م��ائ��ة كيلومتر م��رب��ع ف��ي كمبوديا‪،‬‬ ‫م�ستخدمين ال�ب�ن��ادق الآل �ي��ة وال �م��داف��ع‪ ،‬وفي‬ ‫ال�سنوات الما�ضية‪ ،‬تم �إفراغ مخزنين كبيرين‬ ‫يقعان بجوار معبد �أنجيكور من الكنوز الأثرية‬ ‫التي بداخلهما‪ ،‬وتنتمي �إلى قبائل الخمير‪ ،‬وقد‬ ‫�سرقت محتويات ثانيهما في مطلع العام ‪1993‬م‬ ‫وبالنظر �إل��ى اللوحات الم�ضبوطة‪ ،‬تت�أكد خالل حادث دموي عنيف‪� ،‬أطلق فيه الر�صا�ص‬ ‫�أن الجريمة وقعت بتكليف وتخطيط‪ ،‬فالتحف على الحار�س‪ ،‬وت��م تدمير البوابة الح�صينة‬ ‫لي�ست مما يطمع في اقتنائها ال�سياح العاديون‪ ،‬ب�صاروخ‪.‬‬ ‫�أما هونغ كونغ نف�سها‪ ،‬فهي ميدان دولي رئي�س‬ ‫وختم الناقد الت�شكيلي الناقد والفنان مختار‬ ‫لتداول وت�سويق الآثار والتحف الفنية‪ ،‬والغريب‬ ‫العطار كتابه المائز بالقول‪« :‬ه�ك��ذا يتعامل‬ ‫�أن الحكومة ال�صينية‪ ،‬لم تعلن عن فقد هذه‬ ‫اللوحات من �أرا�ضيها‪ ،‬وقد ازده��رت التجارة قرا�صنة ال�ف��ن م��ع ال�ك�ن��وز الأث��ري��ة ف��ي �آ�سيا‬ ‫الدولية للم�سروقات من الآثار ال�صينية‪ ،‬و�أ�صبح و�إفريقيا»‪ .‬الطريف في الأمر �أنه بعد �سنوات من‬ ‫نهب المقابر �صناعة �أ�سا�سية في �سوق ال�صين �صدور هذا الكتاب �سرقت لوحة «فان جوخ» مرة‬ ‫ال�سوداء‪ .‬والأرباح الطائلة التي تجنيها المافيا �أخرى‪ ،‬ما يجعل عدة �أ�سئلة تقفز �إلى الأذهان!‬ ‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪125 )2015‬‬


‫امل�ؤلف ‪� :‬أ‪.‬د‪.‬ب�شري حممود جرار‬ ‫ ود‪ .‬نايف بن �صالح املعيقل‬ ‫النا�شر ‪ :‬مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقايف‬ ‫ال�سنة ‪1436 :‬هـ ‪2015 /‬م‬

‫يمثل الغبار م�شكلة كبيرة‪ ،‬وب�شكل خا�ص ل�سكان المناطق ال�صحراوية‬ ‫الجافة و�سكان المناطق ال�صناعية؛ نظرا لت�أثيره ال�سلبي الكبير على‬ ‫�صحة الإن�سان وممتلكاته االقت�صادية‪ .‬لقد �أ�صبح هواء كثير من المدن‬ ‫العالمية والعربية ملوث ًا بالعوالق الغبارية نتيجة لتو�سع ه��ذه المدن‬ ‫وازدحامها بو�سائل النقل‪ ،‬وكذلك لزخم الأن�شطة الب�شرية المتنوعة فيها‪.‬‬ ‫ت�ؤكد الدوائر الطبية على عالقة وطيدة بين تلوث الهواء بالج�سيمات‬ ‫الغبارية وانت�شار بع�ض الأمرا�ض؛ كالتهاب الرئة‪ ،‬والتحجر الرئوي‪،‬‬ ‫والربو‪ ،‬و�أمرا�ض القلب‪ ،‬وحتى الأمرا�ض ال�سرطانية‪ ..‬وبالتالي �إلى ارتفاع‬ ‫م�ستويات الوفيات نتيجة التعر�ض المتكرر والمزمن للعوالق الغبارية‪ .‬وال‬ ‫يخفى على �أحد �أن االرتفاع الم�ضطرد لم�ستويات الج�سيمات الغبارية في‬ ‫�أجواء المدن ي�ؤدي �إلى مخاطر كبيرة على �صحة قاطنيها‪.‬‬ ‫وتفيد الدرا�سات البيئية �أن �أكثر من ‪ %25‬من �سكان المدن على‬ ‫م�ستوى العالم يتنف�سون هواء تجاوزت معه م�ستويات تركيز الج�سيمات‬ ‫الغبارية �ضوابط منظمة ال�صحة العالمية‪..‬‬ ‫جاء هذا الكتاب في (‪� )240‬صفحة‪ ،‬وهو ثمرة لدرا�سة علمية ميدانية‬ ‫قام بها باحثان متخ�ص�صان‪ ،‬على مدينة �سكاكا‪ ،‬وذل��ك بتمويل من‬ ‫مركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي‪ ..‬الكتاب مرجع مهم للمهتمني‬ ‫والمتخ�ص�صين بالدرا�سات البيئية‪.‬‬ ‫‪ 126‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬

‫ق�����������������������������������������������������������������������������������راءات‬

‫الغبار املرتاكم‬ ‫والعالق يف مدينة �سكاكا‬

‫كيف نخرج من النفق؟‬ ‫امل�ؤلف ‪ :‬معا�شي ذوقان العطية‬ ‫النا�شر ‪ :‬من�شورات الذوقان‬ ‫ال�سنة ‪2014 :‬م‬

‫�ضمن �سل�سلته التي بد�أها قبل �سنوات قليلة‪� ،‬ضعف بالقدرات الع�سكرية والت�سلح والتدريب‬ ‫�أ�صدر اللواء المتقاعد‪ /‬والخبير المخ�ضرم وال�ت�ن���س�ي��ق‪ ،‬وم ��ا ن�ت��ج ع��ن ت�ل��ك ال �ح��رب من‬ ‫معا�شي ذوقان العطية‪ ،‬كتابه الجديد‪« :‬كيف‬ ‫احتالل فل�سطين وفو�ضى واتهامات عروبية‬ ‫نخرج من النفق؟» ‪ ،‬والذي يمثل الكتاب ال�سابع‪،‬‬ ‫بعد‪�« :‬أوراق جوفية» و«ع�صاميون» و«الغزو بين العرب‪ ،‬و�أح��داث مقتل النقرا�شي با�شا‬ ‫الأمريكي للوطن العربي» و«حدائق الجوف» رئي�س وزراء م�صر‪ ،‬وال�م�ل��ك ع�ب��داهلل ملك‬ ‫و«�شاهد عيان» و«خطوات على الطريق»‪.‬‬ ‫الأردن‪ ،‬وريا�ض ال�صلح رئي�س وزراء لبنان‪،‬‬ ‫يعد الكتاب ح�سب ر�ؤي��ة الم�ؤلف «مدونة كما يتحدث ع��ن فترة تجربته ف��ي االبتعاث‬ ‫�أعددتها على نمط ق�ص�صي عن واق��ع حالة �إل��ى بريطانيا ع��ام ‪1951‬م‪ ،‬وتجرع الحنظل‬ ‫العرب في الخم�سينيات‪ ،‬ورجعت فيها للواقع من كثرة االنقالبات الع�سكرية التي ع�صفت‬ ‫ال�ع��رب��ي ال�م��ري��ر‪ ،‬ور��س�م��ت فيها �أحا�سي�سي‬ ‫بالبالد العربية‪ ،‬وذكريات عدوان ‪1956‬م على‬ ‫عن المعاناة التي �أحاطت بالم�شرق العربي‪،‬‬ ‫و�ضمنتها �أحداث تاريخية عا�صرتها من تاريخ م�صر و�صوال �إلى �أحداث الربيع العربي‪ ،‬وكل‬ ‫ذل��ك ي�أتي في �سياق �سردي ق�ص�صي يحوي‬ ‫هذه الأمة وما فيها من مرارة وح�سرة»‪.‬‬ ‫جاءت فكرة الكتاب من ذكريات الأحداث �شخ�صيات وحوادث حقيقية تروى بعين الكاتب‬ ‫التي عاي�شها‪ ،‬منذ ح��رب فل�سطين ‪1948‬م‪ ،‬الذي عاي�ش جميع الأحداث التي يرويها‪.‬‬ ‫وت��أث�ي��ر الإ� �ش��اع��ات وال �ح��روب النف�سية التي‬ ‫ج ��اء ال �ك �ت��اب ف��ي (‪�� )407‬ص�ف�ح��ات من‬ ‫�شنها العدو‪ ،‬وحالة العرب المحزنة‪ ،‬انطالقا‬ ‫م��ن ك��ون��ه ج�ن��دي��ا ف��ي م�ع��رك��ة ال �ق��د���س ع��ام القطع المتو�سط‪ ،‬ون�شر في الريا�ض عن طريق‬ ‫‪1948‬م‪ ،‬وح��ال��ة ال�ع��رب وم��ا ك��ان��وا عليه من من�شورات الذوقان‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪127 )2015‬‬


‫الأن�شـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ــة الثقـ ـ ـ ــافيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫من �إ�صدارات اجلوبة‬ ‫الأن�شطة الثقافية لمركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي‬ ‫‪�ρρ‬إعداد‪ :‬عماد املغربي‬

‫الأ�ستاذ عبدالرحمن المفرج والأ�ستاذ خالد ال�شراري‬

‫من مداخالت الح�ضور‬

‫�ضمن خطة الن�شاط الثقافي لمركز عبدالرحمن ال�سديري الثقافي للعام ‪1436/35‬هـ‪،‬‬ ‫�أقيمت محا�ضرة بعنوان‪« :‬الأمن الفكري»‪� ،‬ألقاها ع�ضو المجل�س الثقافي بالمركز الأ�ستاذ‬ ‫خالد بن جوي�س الدويرج ال�شراري وذلك في قاعة دار الجوف للعلوم م�ساء يوم االثنين‬ ‫‪2015/05/18‬م‪� ،‬أداره��ا ع�ضو المجل�س الثقافي الأ�ستاذ عبدالرحمن بن عبد الكريم‬ ‫المفرج‪.‬‬ ‫تحدث الأ�ستاذ خالد ال�شرار ي عن «الأمن الفكري» و�أهمية الحوار وركز على الحاجة‬ ‫لت�أهيل المعلمين لمراعاة ذلك الجانب المهم في تكوين ال�شخ�صية ال�صحيحة لل�شباب‪،‬‬ ‫وكما ركز على الجوانب ال�شرعية في فهم معنى الأمن الفكري و�أهمية العناية به‪.‬‬ ‫فقد جاء الإ�سالم ليحفظ على النا�س مقا�صد ال�شريعة الخم�س وهي‪ :‬حرمة الدين‬ ‫والنف�س والعقل والعر�ض والمال‪ ،‬و�أول هذه المقا�صد و�أهمها الدين؛ فكل اعتداء على‬ ‫الدين قو ًال �أو فع ًال ف�إن ال�شريعة الإ�سالمية تحرّمه‪ ،‬وتمنع ذلك االعتداء على عقائد النا�س‬ ‫ومحاولة تغييرها والإخالل ب�أمنهم الفكري‪ ،‬وال�سعي في انحرافهم؛ لذلك جُ عل م�صدر‬ ‫التلقي في العقائد والعبادات والق�ضايا الكبرى في حياة الم�سلمين موحداً‪.‬‬ ‫تال ذلك مداخالت مع الجمهور‪ ،‬و�أجاب المحا�ضر على ا�ستف�سارات الح�ضور‪.‬‬

‫‪ 128‬اجلوبة ‪� -‬صيف ‪1436‬هـ (‪)2015‬‬


‫�صدر حديثاً عن برنامج الن�شر في‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.