63_مجلة_الجوبة_Aljoubah_magazine

Page 1

‫ُ‬ ‫وغنائيات اإليقاع‪.‬‬ ‫ ¦شتيوي الغيثي‬ ‫ُ‬ ‫أصوات اللغة ودال التها‪.‬‬ ‫ ¦‬

‫النشر اإللكتروني بين الرقمي والصوتي‪.‬‬ ‫ ¦‬ ‫ُ‬

‫ ¦مواجهــــــات‪ :‬طارق الطيب؛ مازن‬ ‫اليحيا؛ ومحمود فضيل التل؛ ونوربرت‬ ‫جشتراين‪.‬‬

‫أميمة الخميس‪:‬‬

‫كاتب ُة ال َوجد والرؤى الحالمة‬

‫‪63‬‬


‫برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم البحوث والرسائل‬ ‫العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‬ ‫‪ 1-‬نشر الدراسات واإلبداعات األدبية والفكرية‬

‫يهتم بالدراسات‪ ،‬واإلبداعات األدبية‪ ،‬ويهدف إلى إخراج أعمال متميزة‪ ،‬وتشجيع حركة‬ ‫اإلبداع األدبي واإلنتاج الفكري وإثرائها بكل ما هو أصيل ومميز‪.‬‬ ‫ويشمل النشر أعمال التأليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬ ‫مجاالت النشر‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬الدراسات التي تتناول منطقة الجوف ومحافظة الغاط في أي مجال من المجاالت‪.‬‬ ‫ب‪ -‬اإلبداعات األدبية والفكرية بأجناسها المختلفة (وفقاً لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من شروط النشر)‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدراسات األخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف ومحافظة الغاط (وفقاً لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من‬ ‫شروط النشر)‪.‬‬ ‫شروطه‪:‬‬ ‫‪ -١‬أن تتسم الدراسات والبحوث بالموضوعية واألصالة والعمق‪ ،‬وأن تكون موثقة طبقاً للمنهجية العلمية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬أن تُكتب المادة بلغة سليمة‪.‬‬ ‫‪ -٣‬أن يُرفق أصل العمل إذا كان مترجماً‪ ،‬وأن يتم الحصول على موافقة صاحب الحق‪.‬‬ ‫‪ -٤‬أن تُق ّدم المادة مطبوعة باستخدام الحاسوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قرص ممغنط‪.‬‬ ‫‪ -٥‬أن تكون الصور الفوتوغرافية واللوحات واألشكال التوضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومناسبة‬ ‫للنشر‪.‬‬ ‫‪ -٦‬إذا كان العمل إبداعاً أدبياً فيجب أن يتّسم بالتم ّيز الفني وأن يكون مكتوباً بلغة عربية‬ ‫فصيحة‪.‬‬ ‫‪ -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفقاً للشكل الذي ستصدر فيه ‪ -‬على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫ الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة صفحة بالمقاس المذكور‪.‬‬‫ البحوث التي تنشر ضمن مجالت محكمة يصدرها المركز‪ :‬تخضع لقواعد النشر في‬‫تلك المجالت‪.‬‬ ‫ الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة صفحة‪( .‬تحتوي الصفحة على «‪ »250‬كلمة تقريباً)‪.‬‬‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت النشر‪ ،‬فيشمل األعمال المقدمة من أبناء وبنات‬ ‫منطقة الجوف‪ ،‬إضافة إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪ ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج)‬ ‫فيشترط أن يكون الكاتب من أبناء أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يمنح المركز صاحب العمل الفكري نسخاً مجانية من العمل بعد إصداره‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫مكافأة مالية مناسبة‪.‬‬ ‫‪ -١٠‬تخضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬


‫‪ -2‬دعم البحوث والرسائل العلمية‬

‫يهتم بدعم مشاريع البحوث والرسائل العلمية والدراسات املتعلقة مبنطقة اجلوف‬ ‫ومحافظة الغاط‪ ،‬ويهدف إلى تشجيع الباحثني على طرق أبواب علمية بحثية جديدة يف‬ ‫معاجلاتها وأفكارها‪.‬‬ ‫(أ) الشروط العامة‪:‬‬ ‫‪ -١‬يشمل الدعم املالي البحوث األكادميية والرسائل العلمية املقدمة إلى اجلامعات‬ ‫واملراكز البحثية والعلمية‪ ،‬كما يشمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مبؤسسات غير‬ ‫أكادميية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة متعلقاً مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط‪.‬‬ ‫‪ -٣‬يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة جديداً يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬ ‫‪ -٤‬أن ال يتقدم الباحث أو الدارس مبشروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬ ‫‪ -٥‬يقدم الباحث طلباً للدعم مرفقاً به خطة البحث‪.‬‬ ‫‪ -٦‬تخضع مقترحات املشاريع إلى تقومي علمي‪.‬‬ ‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد السقف األدنى واألعلى للتمويل‪.‬‬ ‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل إجراء تعديالت جذرية تؤدي إلى تغيير‬ ‫وجهة املوضوع إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يقدم الباحث نسخة من السيرة الذاتية‪.‬‬ ‫(ب) الشروط اخلاصة بالبحوث‪:‬‬ ‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف الشروط العامة(البند «أ»)‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يشمل املقترح ما يلي‪:‬‬ ‫ توصيف مشروع البحث‪ ،‬ويشمل موضوع البحث وأهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪،‬‬‫واملدة املطلوبة إلجناز العمل‪.‬‬ ‫ ميزانية تفصيلية متوافقة مع متطلبات املشروع‪ ،‬تشمل األجهزة واملستلزمات‬‫املطلوبة‪ ،‬مصاريف السفر والتنقل والسكن واإلعاشة‪ ،‬املشاركني يف البحث من‬ ‫طالب ومساعدين وفنيني‪ ،‬مصاريف إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬ ‫ حتديد ما إذا كان البحث مدعوماً كذلك من جهة أخرى‪.‬‬‫(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية‪:‬‬ ‫إضافة لكل ما ورد يف الشروط اخلاصة بالبحوث (البند «ب») يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬ ‫‪ -١‬أن يكون موضوع الرسالة وخطتها قد أق ّرا من اجلهة األكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬ ‫‪ -٢‬أن يُق ّدم توصية من املشرف على الرسالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬ ‫هاتف‪ 014 6245992 :‬فاكس‪014 6247780 :‬‬ ‫الجـوف ‪ 42421‬ص‪ .‬ب ‪ 458‬‬ ‫هاتف‪ 016 4422497 :‬فاكس‪016 4421307 :‬‬ ‫الغ ـ ـ ــاط ‪ 11914‬ص‪.‬ب ‪ 63‬‬ ‫الرياض ‪ 11614‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬هاتف‪ 011 2015494 :‬فاكس‪011 2015498 :‬‬

‫‪info@alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬


‫مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري‬

‫ملف ثقايف ربع سنوي يصدر عن‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬ ‫هيئة النشر ودعم األبحاث‬

‫رئيساً‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬خليل بن إبراهيم المعيقل ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬ميجان بن حسين الرويلي ‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضواً‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬علي دبكل العنزي ‬ ‫عضواً‬ ‫محمد بن أحمد الراشد ‬ ‫أسرة التحرير‬

‫إبراهيم بن موسى احلميد‬ ‫محرر ًا‬ ‫ ‬ ‫محمود الرمحي‬ ‫محرر ًا‬ ‫ ‬ ‫محمد صوانة‬ ‫اإلخراج الفني ‪ :‬خالد الدعاس‬

‫املشرف العام‬

‫هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬ ‫املراســــــالت‪ :‬‬ ‫فاكس‪)+966()14(6247780 :‬‬ ‫ ‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية السعودية‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪aljoubahmag@alsudairy.org.sa‬‬

‫ردمد ‪ISSN 1319 - 2566‬‬ ‫سعر النسخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع‬ ‫االشتراك السنوي لألفراد ‪ 50‬ريا ًال واملؤسسات ‪ 60‬ريا ًال‬

‫رئيساً‬ ‫فيصل بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫عضواً‬ ‫سلطان بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫د‪ .‬زياد بن عبدالرحمن السديري العضو المنتدب‬ ‫عضواً‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬سلمان بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬عبدالرحمن بن صالح الشبيلي ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫سلمان بن عبدالمحسن بن محمد السديري عضواً‬ ‫طارق بن زياد بن عبدالرحمن السديري عضواً‬ ‫سلطان بن فيصل بن عبدالرحمن السديري عضواً‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضواً‬ ‫قواعد النشر‬

‫‬‪ -1‭‬أن‬ ‪‭‬تكون‬ ‪‭‬املادة‬ ‪‭‬أصيلة‬ ‪.‭‬‬ ‫‪ ‭‬-2‬لم‬ ‪‭‬يسبق‬ ‪‭‬نشرها‬ ‪‭‬ورقيا‬ً ‪‭‬أو‬ ‪‭‬رقميا‬ً‪‭.‬‬ ‫‪ ‭‬-3‬تراعي‬ ‪‭‬اجلدية‬ ‪‭‬واملوضوعية‬‪‭.‬‬ ‫‬‪ -4‭‬تخضع‬ ‪‭‬املواد‬ ‪‭‬للمراجعة‬ ‪‭‬والتحكيم‬ ‪‭‬قبل‬ ‪‭‬نشرها‬‪‭.‬‬ ‫‬‪ -5‭‬ترتيب‬ ‪‭‬املواد‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬العدد‬ ‪‭‬يخضع‬ ‪‭‬العتبارات‬ ‪‭‬فنية‬‪‭.‬‬ ‫‬‪ -6‭‬ترحب‬ ‪‭‬اجلوبة‬ ‪‭‬بإسهامات‬ ‪‭‬املبدعني‬ ‪‭‬والباحثني‪‭‬‬ ‫‬والكتّاب‪‭ ‬،‬على‬ ‪‭‬أن‬ ‪‭‬تكون‬ ‪‭‬املادة‬ ‪‭‬باللغة‬ ‪‭‬العربية‬‪‭.‬‬ ‫‮«‬اجلوبة‬‪‭‬‮»‬ من‬‪‭‬األسماء‬‪‭‬التي‬‪‭‬كانت‬‪‭‬تُطلق‬‪‭‬على‬‪‭‬منطقة‬‪‭‬اجلوف‬‪‭‬سابق‬اً‪‭.‬‬

‫املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر‪.‬‬

‫يُعنى بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املناشط املنبرية الثفافية‪،‬‬ ‫ويتبنّي برنامجاً للنشر ودعم األبحاث والدراسات‪ ،‬ويخدم الباحثني واملؤلفني‪ ،‬وتصدر عنه مجلة‬ ‫(أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي‪ ،‬ومجلة (اجلوبة) الثقافية‪ ،‬ويضم املركز ك ً‬ ‫ال من‪( :‬دار‬ ‫العلوم) مبدينة سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما قسم للرجال وآخر‬ ‫للنساء‪ .‬وتصرف على املركز مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‪.‬‬

‫‪0553308853‬‬

‫‪Alsudairy1385‬‬

‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬


‫العدد ‪ - ٦٣‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫الـمحتويــــات‬ ‫االفتتاحية‪ :‬إبراهيم بن موسى الحميد ‪..........................‬‬ ‫دراسات ونقد‪ :‬أميمة الخميس‪ ..‬كاتبة الوجد والرؤى الحالمة ‪...‬‬ ‫الوارفة‪ ..‬ظالل المرأة تعشق الحياة ‪ -‬د‪ .‬هناء البواب‪...........‬‬ ‫أميمة الخميس وهج الفكر ودهشة السرد ‪ -‬د‪ .‬نورة القحطاني‪....‬‬ ‫يداك حين «مسرى العقيق»؟؟ ‪ -‬انتصار الرجبي ‪....‬‬ ‫ِ‬ ‫ألم ترتجف‬ ‫عتبات النص وصرخاته األنثوية المجروحة ‪ -‬محمد العامري‪...‬‬ ‫شعرية عتبات النص «البحريات» ‪ -‬إيمان المخيلد‪...............‬‬ ‫أميمة الخميس وحكايات األطفال ‪ -‬مصطفى خالد مطيّر ‪......‬‬ ‫أميمة الخميس‪ ..‬وهج الكتابة ورذاذ الجمالي ‪ -‬تركية العمري ‪..‬‬

‫‪6..........................‬‬ ‫أميمة الخميس‬ ‫وهج الفكر ودهشة السرد‬

‫‪92.............................‬‬

‫األديب والروائي‬ ‫د‪ .‬طارق الطيب‬

‫‪114............................‬‬

‫الشاعر‬ ‫مـــــازن اليحيا‬

‫‪٤‬‬ ‫‪٦‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪55‬‬

‫عودة غاليليو‪ - ...‬عبداهلل بيال‪...................................‬‬ ‫الريادة واالستجابة ‪ -‬د‪ .‬سعيد بن حمد الهاجري‪................‬‬ ‫شتيوي الغيثي‪ - ..‬محمد صالح الشنطي ‪........................‬‬ ‫ديوان «حين النوافذ امرأة» ألحمد اللهيب ‪ -‬هشام بنشاوي ‪.....‬‬ ‫للقاص ساعد الخميسي والبحث عن كثافةٍ‬ ‫ُّ‬ ‫مجموعة "نقوش"‬ ‫مستحيلةٍ ‪ -‬إبراهيم الحجري‪59 ...................................‬‬ ‫نصوص‪ :‬المتوجسة ‪ -‬نوره العبيري‪64 ................................‬‬ ‫ذاكرة الموتى ‪ -‬حليم الفرجي ‪66 ....................................‬‬ ‫أزهــــــــــار ‪ -‬محمد الرياني‪68 ..................................‬‬ ‫وجهها كله مطر ‪ -‬ناصر سالم الجاسم ‪69 .....................‬‬ ‫ومضات سريعة‪ -‬محمد صوانة ‪71 ............................‬‬ ‫نصوص زياد السالم ‪72 .........................................‬‬ ‫كبر الورد ! ‪ -‬جواد الحطاب‪74 ......................................‬‬ ‫ذهبتْ سُ دى ‪ -‬حامد أبوطلعة‪75 .....................................‬‬ ‫على الطريق ‪ -‬أحمد النعمي ‪76 ................................‬‬ ‫هوية ‪ -‬شتيوي الغيثي ‪78 .......................................‬‬ ‫شموخ ‪ -‬حسين صميلي ‪٨٠ .....................................‬‬ ‫تابوت آخر ‪ -‬عبداهلل األسمري ‪٨١ .............................‬‬ ‫حبيبتي أَنا ل ْن أقو َل ‪ -‬شاهر ذيب ‪٨٢ ..........................‬‬ ‫عطش األكف ‪ -‬خالد أبو حمدية‪٨٤ ............................‬‬ ‫لست أدري ‪ -‬محمد عسيري ‪٨٦ ...............................‬‬ ‫رؤى ‪ -‬حسين جومان السويدي‪87 ...................................‬‬ ‫ترجمة‪ :‬قطاع النشر اإللكتروني ‪ -‬ترجمة‪ :‬خديجة حلفاوي‪٨٨ ......‬‬ ‫مواجهات‪ :‬الروائي د‪« ،‬طارق الطيب» ‪ -‬حاوره‪ :‬محسن حسن ‪92 ....‬‬ ‫الشاعر محمود فضيل التل ‪ -‬حاوره نضال القاسم ‪104 ..............‬‬ ‫الشاعر مازن اليحيا ‪ -‬حاوره ‪ :‬عمر بوقاسم‪114 .....................‬‬ ‫الكاتب النمساوي نوربرت جشتراين ‪ -‬حاوره ‪ :‬نسرين البخشونجي‪123 ....‬‬ ‫نوافذ‪ :‬سينما نجيب محفوظ ‪ -‬السمّاح عبداهلل ‪127 .............‬‬ ‫أصوات اللغة ودالالتها ‪ -‬أ‪ .‬د‪ .‬عبداهلل الفَيفي ‪131 .............‬‬ ‫شخصيات روائية في مشاهدات حيّة ‪ -‬ليلى عبداهلل‪135 ............‬‬ ‫مواطن األسد في شبه الجزيرة العربية ‪ -‬أحمد البوق ‪139 .....‬‬ ‫قراءات ‪143 ........................................................‬‬ ‫الصفحة األخيرة‪ :‬القصة ‪ ..‬اليوميات‪ ..‬الرواية‪ ..‬السيرة‬ ‫الذاتية ‪ -‬صالح القرشي ‪١٤٤ ....................................‬‬


‫■ إبراهيم بن موسى احلميد‬

‫يؤكد الباحث األستاذ محمد القشعمي أن الرواية في المملكة العربية‬ ‫السعودية سبقت أقطارًا عربية مختلفة؛ منها‪ :‬تونس‪ ،‬وسورية‪ ،‬ولبنان‪ ،‬واليمن‪،‬‬ ‫والجزائر‪ .‬لقد صــدرت أول روايــة سعودية في العام ‪1930‬م لعبدالقدوس‬ ‫األنصاري‪ ،‬ثم ‪1935‬م لمحمد نور جوهري؛ بينما صدرت أول رواية في تونس‬ ‫في العام ‪1935‬م‪ ،‬وفي سورية عام ‪1937‬م؛ فيما تأخر صدور أول رواية في‬ ‫لبنان واليمن إلى العام ‪1939‬م؛ أما الجزائر فأول رواية عربية فيها صدرت‬ ‫في العام ‪1947‬م(‪.)١‬‬ ‫وقد بدأ عصر جديد للرواية السعودية في الصعود في العام ‪1994‬م‪،‬‬ ‫بعد صدور رواية «شقة الحرية» للدكتور غازي القصيبي‪ ،‬يرحمه اهلل‪ ،‬وكان‬ ‫بسيل من الروايات ل ُكتّاب وشعراء وقاصين‪ ،‬لم تشهد له‬ ‫ٍ‬ ‫خروجها إيذانًا‬ ‫ال من قبل‪ ..‬حتى أصبحت الرواية ديوا َن العرب الجديد؛‬ ‫الحركة الثقافية مثي ً‬ ‫ال صدر في العام ‪2000‬م‪ )22( ،‬رواية‪ ،‬ليتصاعد الرقم ويصل إلى (‪)100‬‬ ‫فمث ً‬ ‫رواية عام ‪2011‬م‪ ،‬و(‪ )120‬رواية عام ‪2016‬م‪ ،‬وِ فق ببليوغرافيا خالد اليوسف‪.‬‬ ‫وقد نتج عن الطفرة الروائية الجديدة في المملكة تتويج عدد من الروائيين‬ ‫بالفوز بأهم الجوائز األدبية في العالم العربي‪ ،‬منهم‪ :‬عبده خال‪ ،‬ورجاء عالم‪،‬‬ ‫وآخرها تتويج الروائية أ ُميمة الخميس بجائزة نجيب محفوظ للرواية عام (‬ ‫‪ 2018‬م)‪ ،‬الجائزة التي ترعاها الجامعة األميركية بالقاهرة‪ .‬والجائزة تتوّج‬ ‫مسيرة أميمة الخميس الروائية والسردية‪ ،‬في تجربة مميزة‪ ،‬شهد لها فيها‬

‫‪4‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫تــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــج‬


‫حـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدـة‬ ‫س ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫دراـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫اف ـ‬ ‫ـاتـاون‬ ‫عدد كبير من النُقّاد وال ُقرّاء ‪ ،‬إذ انتشرت أعمالها الروائية في المملكة والعالم العربي‪،‬‬ ‫وكانت من أبرز الروائيين الذين يُشار إلى تميّز تجاربهم وقدرتهم اإلبداعية‪ ،‬وسط العديد‬ ‫المتزايد من األعمال الروائية المحلية والعربية‪.‬‬ ‫برعت أميمة الخميس في أعمالها مجترحة اختراقات وتجديدات‪ ،‬بدءاً من أعمالها‬ ‫السردية األولى في «الضلع حين استوى»‪ ،‬و«مجلس الرجال الكبير»‪ ،‬وحتى في كتاباتها‬ ‫لألطفال‪ ،‬وصوال إلى رواياتها المهمة‪ ،‬والتي وثّقت الحياة االجتماعية والثقافية في المملكة؛‬ ‫إذ تنقلت بنا أميمة برواياتها من «البحريات»‪ ،‬حيث تتفاعل مع مجتمعها وتسرد حياة النساء‬ ‫المهاجرات والقادمات من وراء البحار‪ ،‬للعمل أو مرافقات ألزواجهن أثناء عملهم في المملكة‪،‬‬ ‫ومحاوالت االندماج والتهميش الذي يعانينه‪ ،‬وقصصهن وحياتهن اليومية في غربتهن‪ .‬وفي‬ ‫«الوارفة» نجد أنها تب َر ُع في وصف حال المرأة السعودية واألسرة السعودية‪ ،‬وموقفها من‬ ‫المرأة‪ ،‬من خالل نماذج متنوعة من مناطق المملكة‪ ،‬وتأثير الدراسة في الخارج؛ مؤكِّدة‬ ‫ال وار ًفًا وعطا ًء لكل‬ ‫مضامين يشي بها عنوان الرواية‪ ،‬إذ تُ َع ُّد بطل َة الرواية؛ فتظل المرأة ظ ً‬ ‫مَن حولها‪ ،‬كما تسرد الرواية مشهدًا لطبيعة عمل المرأة في بيئة جديدة عليها من خالل‬ ‫عملها‪ ،‬ومن خالل قضية الزواج والعالقات اإلنسانية داخل األسرة الواحدة‪.‬‬ ‫في روايتها «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» الفائزة بجائزة نجيب محفوظ‪ ،‬تبرز أميمة‬ ‫إمكاناتها الروائية السردية‪ ،‬المعتمدة على البحث والتاريخ والقوافل‪ ،‬وتفتح األبواب لخزائن‬ ‫ال لكاتبة تكتب عن أماكن‬ ‫بقيت مغلقة قرونًا طويلة‪ ،‬في عمل بحثي ال يمكن أن يكون سه ً‬ ‫وحياة لم تعشها إال مجازًا ربما‪ ،‬فهي تستحضر شخصية روايتها الرئيسة وأماكنها التي‬ ‫ال وحياةً؛ لتُشكِّل المشهد‬ ‫تسافر إليها‪ ،‬وتتقاطع مع شذرات من شخصية الرواية فكرًا وتعام ً‬ ‫الكليَّ للرواية‪ ،‬وكأنها تسير على خُ طى محفوظ نفسه في «ابن فطومة»‪ ،‬أو تتذكر كتاب‬ ‫المدن‪ ..‬تلك الجداريات الغنائية من زمن العشق والسفر لعبدالعزيز المقالح‪.‬‬ ‫(‪ )١‬الرواية العربية وبداياتها في المملكة‪ :‬الجوبة العدد ‪.35‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪5‬‬

‫جــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر‬


‫أُميمة‬ ‫الخميس‬ ‫كاتبــة الوجــد والــرؤى الحالمة‬ ‫ال بدّ من اإلشارة إلى أن الخطاب الروائي المعاصر في السعودية والذي يمتلك إمكانات‬ ‫الغنى والتنوّع؛ مّ ا يعني إمكانية تأويله بشكل يُبطل فكرة تمنّعه على المتلقي‪ ،‬أو انغالقه على‬ ‫عملية التلقي التي ال تلبث أن تضع يدها على مدخل تأويلي مناسب‪ ،‬يخترق آفــاق النص‬ ‫اإلبــداعــي‪ ،‬ويصيغ فحوى أفكاره الخصبة في انبعاثات نصيّة واضحة‪ ،‬تُخرجه من مكنونه‬ ‫اإلبداعي وصيغته الوجدانيّة إلى صيغة فكرية قادرة على إيقاد شعلة التلقي عند اآلخرين‪.‬‬ ‫عندما نتحدث عن النثر وعذاباته المحببة للنفس؛ فإننا ننهل من فيض معينه الخصب‪،‬‬ ‫ومن التصاقه الوجداني بالنفس اإلنسانية؛ ليمنحها ما تسمو معه‪ ،‬وتنهض به‪ ،‬فنقول ما‬ ‫قاله البحتري ‪:‬‬

‫إذا الـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـج ـ ـ ــومُ ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءتْ ف ـ ـ ــي جـ ــوان ـ ـب ـ ـهـ ــا‬ ‫لـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ًـا ح ـ ـس ـ ـبـ ــت س ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــاءً ُر ِّك ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ْـت ف ـي ـه ــا‬ ‫هكذا وجد نتاج أميمة الخميس‪ ،‬وإذا بها تُزهر وجداً‪ ،‬وتشيب بهاءً وألقاً‪.‬‬ ‫إذ‪ ،‬ال يمكن بحال من األحوال دراسة كاتب‪ ،‬دون التوقف على الرؤيا التي يحملها‪ .‬فلم تتعب‬ ‫الحب والمحبة الصافية‪ ،‬كتبت ذاتها‪ ،‬وبحثت‬ ‫ّ‬ ‫الروائية الخميس من وجع الكتابة‪ ،‬ولم يُتعبها‬ ‫في جوانية عالمها‪ ،‬ومجتمعها المنغلق على ذاته‪ ..‬في وقت تقتحم فيه كفارسة كل الحدود‬ ‫وتجتاز الدنيا‪ ،‬فصاغت األسئلة المعمّ دة بأبعاد الزمن‪ ،‬والمشيّدة بعمارة اآلتي‪ ،‬تتطهر بنار‬ ‫الحب كينونة كبرى‪ ،‬ومعنى‬ ‫ّ‬ ‫أحب‪ ،‬ويحب‪ ،‬بعدما وجدت في‬ ‫الكتابة‪ ،‬وتبعث رماده فينيق ًا لمن ّ‬ ‫أثير ًا من التجدد‪ ،‬واالنعتاق‪.‬‬ ‫ال أرى وسيلة للدخول إلى عالم الخميس الروائي إال من خالل غوايتها اإلبداعية وروحها‬ ‫األثيرة وأحوالها ومقاماتها‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫هــذا الثراء في المعنى يستدعي طاقة لغوية وقــوة تعبيرية تستفز وجداننا‪ ،‬ننتشي من‬ ‫فيضها وفيوضها ٌحلمية المعنى وكينونة السؤال‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الحياة‬ ‫تعشق‬ ‫المرأة‬ ‫ظالل‬ ‫ٍ‬ ‫■ د‪ .‬هناء بنت علي البواب*‬

‫ـص روايــة‬ ‫ال بد من اإلش ــارة منذ البدء إلــى أنّ جمالي َة نـ ِّ‬ ‫«ال ــوارف ــة» لـلــروائـيــة الـسـعــوديــة أمـيـمــة الـخـمـيــس‪ ،‬وأهميتَه‬ ‫المعرفية ال يمكن أن يعكسها ُّأي ّ نــص نـقــديٍّ محتمَل‪ .‬إذ‬ ‫ال تروي قصة وال أحداثا متسلسلة يمكن اختزالها في نص‬ ‫يكتب على هامشها‪ ،‬على غرار ما ترويه الرواية الكالسيكية‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫الوارفة‪..‬‬

‫فـهــي تسمح لبطلة ال ــرواي ــة أن تـكــون الـعــالــم المختلف‬ ‫للسيطرة على السرد الروائي بشكل يدهش القارىء‪ ،‬فتلك‬ ‫البطلة التي تعمل طبيبة في مستشفى في الرياض‪ ،‬حيث‬ ‫تتعرّف على «أدريان» زميلتها األوروبّية التي تفتح لها عالمً ا‬ ‫جــديــد ًا بقصصها‪ .‬كأنّها ال تستطيع العيش إال مــن خالل‬ ‫حياة «اآلخر»‪ ،‬ولو كان هذا اآلخر طبيبًا التقت به في تورونتو‪.‬‬ ‫إن مــا يشد الــقــارئ إلــى متابعة الــروايــة‬ ‫هــو جــاذبــيــة إب ــداع أسلوبها‪ ،‬ودق ــة معانيها‬ ‫وسموها‪ .‬إذ عمدت الكاتبة إلى آلية اختزال‬ ‫األفكار وتكثيفها لتصب في عمقها الداللي‪.‬‬ ‫وترَكت للقارئ فسح ًة واسعة للتخيّل والتحليل‬ ‫واالستيعاب؛ وذلك ضمن قالب أدبي فني بديع‪،‬‬ ‫جمعت فيه جمالية األسلوب وعمق المعنى‪،‬‬ ‫بين جاذبية األدب الروائي وأركيولوجيا الفكر‬ ‫الفلسفي؛ فتسرد الرواية نسيجاً بين حياتها‬ ‫الشخصية مثل عالقتها بالعائلة في البيت‬ ‫وبيئة العمل المختلفة تمامًا‪ ،‬وأهمّها أحالم‬ ‫اليقظة التي تعيش خاللها «جــوهــرة» حياة‬ ‫مزدوجة‪.‬‬ ‫فتقدم الخميس مشهداً روائياً ناجزاً في‬ ‫تتبع ح ــراك المجتمع الــســعــودي وانتقاله‪،‬‬

‫ال في أســرة «عثمان» وانتقاله من حياة‬ ‫ممث ً‬ ‫القرية إلــى حياة المدينة‪ ،‬وتكتب بتفاصيل‬ ‫دقيقة حول ما تراه هي بعينها من تصورات‬ ‫لمرحلة الستينيات وحتى لحظة كتابة المشهد‬ ‫الروائي‪ ،‬وتتخذ من المرأة في بيئتها معادالً‬ ‫موضوعياً للوأد الذكوري للمرأة‪ ،‬المرأة التي‬ ‫تبقى مــحــاصــرة بسلوكيات ذكــوريــة ال ترى‬ ‫فيها إال كائناً ناقصاً‪ ،‬ووسيلة إلمتاع الرجل‪،‬‬ ‫وتتمركز فكرة القتل البشعة حين تصور لنا‬ ‫صورة والدة الدكتورة «الجوهرة»‪ ،‬وهي تذهب‬ ‫إلى المستوصف القريب من نهاية شارع بيتها‪،‬‬ ‫لتقف أمــام كاتب المركز الصحي متلعثمة‬ ‫عاجزة عن نطق اسمها‪ ،‬فكيف تبوح باسمها‬ ‫لرجل غريب؟ وكيف يمكنها أن تواجه نفسها‪،‬‬ ‫وتفسر األمر لزوجها لو اكتشف فعلتها؟‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪7‬‬


‫من خالل ذلك المشهد تحديدًا‪ ،‬تدرك أن‬ ‫الكاتبة كانت ترفض تلك الحياة المتقوقعة في‬ ‫بؤرة األلم المعيشي؛ عندها فقط ال يسَ ع قارئَ‬ ‫الرواية إ ّال أ ْن يجزم ‪ -‬في أولى مالحظاته‬ ‫ بأن في قراءة الرواية‪ ،‬يجد مَن يحمل ه َّم‬‫البحث عن المعرفة ضالته‪ .‬ويجد مَن يتوق‬ ‫هــذا‪ ،‬وإن كان الفكر الفلسفي يغلب على‬ ‫إلى جمالية الذوق األدبي الرفيع ًّ‬ ‫حسا إبداعيًا معاني الــحــوار‪ .‬وكــأن الكاتبة تستجلب منه‬ ‫فنيًا يشدّه بشغف كبير؛ ألن الروائي راصد مقوالته اإلشراقية‪ ،‬فما ذلك إال ليعيد مساءلتها‬ ‫لصورة مجتمعه من حوله‪.‬‬ ‫بتقنيات الفلسفة المعاصرة ونظريات التحليل‬ ‫فأهمية الرواية‪ ،‬وكل خصائصها الجمالية‪ ،‬النفسي‪.‬‬ ‫تتجسد فيما أبدعته كاتبتها مــن أساليب‬ ‫كــمــا طــرحــت الــكــاتــبــة ضــمــن الــقــوالــب‬ ‫ٍ‬ ‫حوارية تركّز على‬ ‫وصف للمشهد المستنكر من الــســيــكــولــوجــيــة الــمــعــاصــرة نفسها مسألة‬ ‫خالل صوت الراوي‪ ،‬وبصيغة ضمير الغائب‪ ،‬الوصال‪ .‬إن كاتبة الرواية استطاعت بحنكتها‬ ‫تتبع حياة الدكتورة «الجوهرة»‪ ،‬فهي الفتاة الفكرية والفنية أن تتحدث عن فكرة الزواج‬ ‫التي لم تكتف بالتعليم المتوسط أو الثانوي‪ ،‬في سياق اجتماعي تبني عليه الروائية أحداث‬ ‫بل أكملت دراستها الجامعية‪ ،‬وتخصصت في الرواية ومكنوناتها الداخلية؛ فزواج البنت يبدو‬ ‫ال ألسرتها منذ لحظة ميالدها‪ ،‬أياً‬ ‫ال شاغ ً‬ ‫دراســة الطب‪ ،‬وأضحت تختلط بالرجال في شغ ً‬ ‫وقت ال يسمح بذلك‪ ،‬ومجتمع يرفض الحديث كــان هــذا الــزوج‪ ،‬وأي ـاً كــان رقمها إلــى جانب‬ ‫مع أي رجل خارج المحارم المحللة لها‪ ،‬مع زوجاته السابقات‪ ،‬فالشرع أحـ َّل وأبــاح أربع‬ ‫أنها ترتدي البرقع‪ ،‬وال يظهر منها إال عيناها‪ .‬نساء‪ ،‬وخير للمرأة أن تكون الثانية أو الثالثة‬ ‫الموضوعية المعرفية؛ إذ استلهمت في قالب‬ ‫حواري جذاب ‪ -‬من الفكر المجتمعي المتزمت‬ ‫والفلسفي المعاصر وعلم التحليل النفسي‪-‬‬ ‫النقاشات الفكرية الدقيقة التي تــدور بين‬ ‫جوهرة وزميلها الطبيب حول موضوع العشق‪.‬‬

‫إنّها الوارفة التي تعكس خصائص رواية‬ ‫ما بعد الحداثة‪ ،‬في كشف للذات التقليدية‬ ‫البحتة‪ ،‬التي تمنح الكاتبة حرية التصرف في‬ ‫شكل بناء الرواية وأسلوبها‪ .‬إنها الخاصيات‬ ‫التي يحددها النقاد في تجاوز الكاتب الروائي‬ ‫لخيوط حياكة الرواية التقليدية‪ .‬إذ قامت هذه‬ ‫األخيرة على ضرورة وجود وحدة الموضوع‪،‬‬ ‫أي قصة متسلسلة لها بداية ونهاية‪ ،‬وعقدة‬ ‫وبــطــل يصنع أو تصنعه أحــداثــهــا فــي إطــار‬ ‫مراحل زمن تاريخي خَ طّ ي‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫أو حتى الــرابــعــة‪ ،‬على أن تظل وحــيــدة في‬ ‫بيت أبيها‪ ،‬فالعنوسة في مجتمع مغلق‪ ،‬تعني‬ ‫اضطراباً اجتماعياً في وضع األسرة‪ ،‬وتعني‬ ‫قلقاً ذكورياً ال يتوقف‪ ،‬وتعني ذ ّل المرأة‪.‬‬

‫فــيــتــجــسّ ــد الــجــانــب اإلبـ ــداعـ ــي ل ــرواي ــة‬ ‫«ال ــوارف ــة»‪ ،‬حين أطلقت على تلك البطلة‬ ‫ظالل روحها لتكون كالشجرة المعطاءة لكل‬ ‫مَن حولها‪ ،‬تورف عليهم بقلبها؛ وهذا وحده‬ ‫صف المرأة من‬ ‫يدل على انحياز المؤلفة إلى ِّ‬ ‫خالل البطلة «جوهرة»‪ ،‬ووقوفها إلى جانبها‬ ‫إ ّن عــم ـ َق مــضــامــيــن «الـ ــوارفـ ــة» ألميمة في محنة عيشها‪ ،‬وإطــاق صفة «الــوارفــة»‬ ‫الــخــمــيــس يــعــود إل ــى اعــتــمــاد كاتبتها على عليها وهي محاولة تعكس إبــداع الكاتب في‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫فحين تناقش الرواية العشق لتعلو به إلى‬ ‫أعلى مستويات الفهم واإلدراك باستعمال‬ ‫الرموز‪ ،‬فهو اإلبداع الروائي‪ ..‬وكان أقوى تلك‬ ‫الرموز حضورًا المرأةُ وطيفُها اللذان تجلّيا في‬ ‫غصت بهن‬ ‫صور كل النساء في الرواية التي ّ‬ ‫من كل فئات المجتمع‪ ،‬ومن مختلف البيئات‬ ‫والقناعات‪ ،‬لكن هذه النماذج تبقى تدور في‬ ‫فلك الــرجــل؛ ســواء كــان األب‪ ،‬أو األخ‪ ،‬أو‬ ‫الزوج‪ ،‬أو زميل العمل‪ ،‬أو السائق‪ ،‬أو الخادم‪ ،‬أميمة الخميس تلقي كلمة في حفل فوزها بجائزة نجيب محفوظ‬ ‫أو المدرس‪ .‬وضمن كل هذه العالقات تأتي ويتقدم مسيرتها‪..‬‬ ‫الــمــرأة تالياً‪ ،‬فــي المرتبة الثانية‪ ،‬المرتبة‬ ‫إ ّن قم َة إبــداع وجماليةِ روايــة «الــوارفــة»‬ ‫الالحقة‪ ،‬في كلمتها وفي قرارها‪ ،‬وفي حياتها‪.‬‬ ‫شأنُها شأ َن الروايات المبدعة لفترة ما بعد‬ ‫تَبْرَع أميمة الخميس بحسّ ها وفطنتها ودقة‬ ‫وفنية أسلوبها في العرض والوصف في إثارة الحداثة‪ ،‬تكمن في إشــراك كاتبتها للقارئ‬ ‫فضول القارئ ومساءلته لقناعاته منذ فقرتها إشــراكــا مُلهِ ماً يغريه بــإعــادة كتابة الــروايــة‪،‬‬ ‫األولــى‪ .‬ويــزداد الشغف بقراءتها مع الحوار وخاصة المرأة السعودية التي نقلت لنا حياتها‬ ‫األول بين الشيخ والمريد‪ .‬ويتعمق االنجذاب المجتمعية بتفاصيلها كاملة‪ ،‬فهي رواية نسائية‬ ‫أكثر فأكثر كلما سمت فكرة العشق كي ترتقي خالصة‪ ،‬بدءاً بمؤلفتها وعنوانها‪ ،‬مروراً بحياة‬ ‫من مستواها الملموس نحو بُعدها الروحي‬ ‫بطلتها‪ ،‬عبوراً فوق زاوية مشاهدها‪ ،‬وانتهاء‬ ‫اإللــهــي‪ ،‬الــذي تـ ُعــود فيه لتلتحم بالواقعي‪،‬‬ ‫فتضفي عليه سموها‪ .‬وذلك بفضل صيرورة بعوالمها الباطنة‪ ،‬ومقوالتها الناجزة‪.‬‬ ‫تُخرج العشق من دنس الواقع‪ ،‬وتعلو به عن‬ ‫الوارفة‪ ،‬تعكس لنا ما يمكن أن نطلبه حين‬ ‫التصور العامي الواقعي‪ ،‬وذلك حين تمكّنت نشعر أننا أشد إنسانية وأكثر إنصافاً للمرأة‪،‬‬ ‫من عرض لحظات إنسانية فاضحة في حياة‬ ‫مستلهمين ما ّدتَنا من قراءتنا وتأويلِنا لِما‬ ‫الفتاة والــمــرأة‪ .‬واستطاعت تسليط الضوء‬ ‫تثيره الرواية من أسئلة وأجوبة معرفية دقيقة‬ ‫على دوائــر الحياة االجتماعية األسرية في‬ ‫إبداع لرواية‬ ‫المدينة‪ ،‬وكيف أن حياة المرأة متعلقة بالزواج‪ ،‬مُستفِ زّة‪ .‬وهو ما يُع ّد بحقّ أسمى ٍ‬ ‫وبعالقتها مع الرجل؛ ما يختصر حضورها مــا بعد الــحــداثــة؛ إذ يــو ِّلــد إبــداعــا شخصيًا‬ ‫اإلنــســانــي بــوصــولــهــا لــرجــل يــقــود خطوها‪ ،‬جديدًا لدى قارئها‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫خاصيتين مــن خاصيات روايــتــهــا‪ :‬تجاوزها‬ ‫لالجترار الفكري‪ ،‬وانتصارها لصالح المرأة‪.‬‬

‫* أكاديمية وكاتبة من األردن‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪9‬‬


‫أميمة الخميس‬ ‫ود ْه ُ‬ ‫رد‬ ‫الس ِ‬ ‫هج ِ‬ ‫الف ْك ِر َ‬ ‫َو ُ‬ ‫شة َّ‬ ‫■ د‪ .‬نورة سعيد القحطاني*‬

‫انعكاس‬ ‫ٌ‬ ‫كان للتغيرات االجتماعية‪-‬السياسية في المملكة خالل التسعينيات الميالدية‬ ‫الجذري للرواية السعودية‪ .‬كما أثرت هذه التحوالت تأثير ًا عميق ًا على‬ ‫ّ‬ ‫واضح في التحوّل‬ ‫الهوية الثقافية واإلنـتــاج الثقافي في المملكة‪ .‬وخــال هــذه المرحلة‪ ،‬ظهر جيل جديد‬ ‫من الكتاب السعوديين‪ ،‬ال سيما الكاتبات‪ ،‬نتيجة لهذه التغيرات‪ ،‬و ُنـشــرت رواي ــات كثيرة‬ ‫تعكس تحديات خطيرة للمسكوت عنه في المجتمع السعودي‪ .‬هؤالء الروائيات الجدد كنّ‬ ‫على درجة عالية من التعليم‪ ،‬وشاركن بقوة في مجاالت متنوعة مثل االقتصاد والتعليم‬ ‫واإلعالم‪ .‬وقد أتاحت لهن كتابة الرواية فرصة كبيرة الستكشاف قضايا التابو ومناقشتها‪،‬‬ ‫وتحدّ ي المجتمع الذكوري‪ ،‬وأحيانًا إثارة غضبه‪ .‬وأصبحت رواياتهن وسيلة استراتيجية‬ ‫للتعبير عن أفكارهن ورؤيتهن النسوية‪ ،‬من خالل االختباء وراء عال ٍَم خياليٍّ ‪ ،‬جاء جزء ًا من‬ ‫الواقع والشخصيات المجتمعية واللحظات التاريخية‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫تأتي الروائية أميمة الخميس في مقدمة‬ ‫الــروائــيــات الــســعــوديــات الــاتــي عكسن هــذه‬ ‫التحوّالت في رواياتهن‪ ،‬مشيرة إلى فرص جديدة‬ ‫منحت لــلــمــرأة كالسفر إلــى الــخــارج‪ ،‬والعمل‬ ‫والتفوق‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬في رواية البحريات‬ ‫(‪٢٠٠٦‬م)‪ ،‬تركز الخميس على حياة النساء في‬ ‫نجد‪ ،‬ال سيما تجارب المهاجرات من مختلف‬ ‫الــبــلــدان‪ .‬وفــي هــذه الــروايــة‪ ،‬تــحــاول أن تلفت‬ ‫االنتباه إلى النضال الذي تواجهه هؤالء النسوة‬ ‫عندما يحاولن االندماج في المجتمع المحلي‪،‬‬ ‫وغالباً مــا يخفقن ويــجــدن أنفسهن مهمشات‬ ‫بشكل دائم‪ .‬كما تنتقد العنصرية في المجتمع‪ ،‬إذ‬ ‫تسيطر الثقافة التقليدية والعادات القبلية على‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫حرية المرأة‪ .‬وتعكس بطالت الرواية التغييرات‬ ‫المعقدة في المجتمع السعودي‪ ،‬وتناقش بجرأة‬ ‫آثار الخطاب الديني المتشدد على وضع المرأة‬ ‫في ذلك الزمن‪ .‬كما تسلط الرواية الضوء على‬ ‫عدد من القضايا ذات الصلة بالمرأة السعودية‪،‬‬ ‫بما في ذلك الزواج والطالق وحقوق المرأة‪.‬‬ ‫وفي روايتها الثانية «الوارفة» (‪ )٢٠٠٨‬تركز‬ ‫الخميس على هوية الــمــرأة‪ ،‬وتقارن بين حياة‬ ‫النساء من مناطق مختلفة في المملكة العربية‬ ‫السعودية من ناحية‪ ،‬واختالف حياتهن عن حياة‬ ‫النساء األجنبيات من ناحية أخرى‪ .‬وإضافة إلى‬ ‫ذلــك‪ ،‬فهي تتناول تأثير الــدراســة في الخارج‬


‫وفي هذه الرواية ظهر العمق الفلسفي للكاتبة‬ ‫في سرد توثيقي متخم باألسئلة العميقة التي‬ ‫تثير القارئ‪ ،‬وتشد انتباهه إلى عوالم وثقافات‬ ‫متنوعة تنم عن خلفية ثقافية عالية ووعي سردي‬ ‫ال يتقنه إال أميمة‪ .‬ولنتأمل مثال تلك الفلسفة‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫على بطلة الــروايــة الجوهرة‪ ،‬التي تسافر إلى‬ ‫كــنــدا إلكــمــال تدريبها الطبي‪ .‬فتمنحها هذه‬ ‫التجربة فرصة رائعة لتطوير مهاراتها الشخصية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬وتتعلم كيفية إدارة عالقاتها مع‬ ‫الزمالء الذكور واإلناث في مكان العمل‪ .‬وهنا‪،‬‬ ‫كانت الكاتبة تضع على لسان بطلتها آراءها حول‬ ‫الفصل بين الجنسين في المجتمع السعودي‪،‬‬ ‫وكيف ينظر المجتمع إلــى هــذه القضية‪ .‬وفي‬ ‫أميمة الخميس بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ‬ ‫إحدى مقابالتها‪ ،‬تشير الروائية إلى أن الكتابة‬ ‫هي الوسيلة الحاسمة للتحرر من تأثير اإلرث‬ ‫التاريخي للثقافة التقليدية السائدة (الشرق العميقة في قولها‪:‬‬ ‫األوسط‪٢٠٠٨ ،‬م)‪.‬‬ ‫«ال تجعل بينك وبين الحقيقة سدًا أو حجابًا‪،‬‬ ‫ويــأتــي فــوز أميمة الخميس بجائزة نجيب فإن جاء على شكل بشر يزعم امتالكه الحقيقة‬ ‫محفوظ فــي األدب لعام ‪٢٠١٨‬م عــن روايتها كلها‪ ،‬فأبعده عن دربك‪ ،‬فهي ليست سوى حقيقته‬ ‫«مسرى الغرانيق في مدن العقيق»‪ ،‬ووصولها هــو‪ ،‬وإن جــاء على شكل يقين فوضئه بماء‬ ‫أيضا للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية السؤال‪ ،‬وإن جاء على شكل جبل‪ ،‬فاصعده بحثا‬ ‫العربية (البوكر) لعام ‪٢٠١٩‬م‪ ،‬متوّجً ا لمسيرة عما خلف الجبل‪ .‬ال تسلم رأسك لكائن يسوسك‬ ‫أدبية متميزة‪ .‬في تجربة سردية لم تبق على ويدّعي أنه يمتلك أرض اليقين كاملة‪ ،‬فإنك بهذا‬ ‫مستوى واحد؛ بل جاءت تجربة مغايرة متطورة؛ تكون كالبعير الذي أسلم عقاله لسارقه»‪.‬‬ ‫فرواية «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» تنقل‬ ‫كل هذا يأتي ليقول‪ :‬إن رواية الكاتبة السعودية‬ ‫الــقــارئ عبر ســردٍ تاريخي في رحلة عجائبية جاءت وسيلة مثالية لتوثيق التغيرات االجتماعية‬ ‫ينطلق فيها البطل مِ زيَد الحنفي من وسط جزيرة والثقافية والــتــحــديــات الــمــعــاصــرة‪ ،‬ومعالجة‬ ‫العرب م ــرورًا ببغداد‪ ،‬ثم الــقــدس‪ ،‬فالقاهرة‪ ،‬القضايا التي غالباً مــا تكون مثيرة للجدل‪،‬‬ ‫فــالــقــيــروان‪ ،‬فــاألنــدلــس‪ .‬وبــاســتــقــصــاء عميق والتي تنشأ عن التحديث السريع‪ .‬كما يؤكد فوز‬ ‫ألحداث تاريخية عبر أزمنة متعددة‪ ..‬نعيش مع أميمة الخميس أن أعمال الكتّاب السعوديين‬ ‫البطل أحداث رحلته ومصادفاتها العجيبة التي المعاصرين‪ ،‬ذكوراً وإناثاً‪ ،‬قد وجدت طريقها إلى‬ ‫أدت إلى انخراطه في جماعة سرية تُعمِ ل العقل قوائم الجوائز األدبية الكبرى‪ ،‬وأصبحت ضمن‬ ‫وتحتفي به لتصل إلى الحق‪.‬‬ ‫قوائم الكتب األكثر مبيعاً في العالم العربي‪.‬‬ ‫وسيبقى اسم أميمة الخميس عالمة فارقة في‬ ‫تاريخ الرواية السعودية والخليجية‪ ،‬وسنـظل في‬ ‫تطلع وشغف دائم لما يجود به قلمها وفكرها من‬ ‫إبــداع ســرديّ ؛ نقرأ فيه ذواتنا‪ ،‬ونعيد اكتشاف‬ ‫الدهشة بين مرايا واقعه المختلف‪.‬‬

‫ * كاتبة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪11‬‬


‫أميمة الخميس‪..‬‬ ‫لم َت َ‬ ‫يداك حين «مسرى العقيق»؟؟‬ ‫ف‬ ‫رت ِج ْ‬ ‫ِ‬ ‫َأ ْ‬ ‫■ انتصار الرجبي*‬

‫بالتأكيد‪ ،‬كانت أميمة الخميس خائفة‪ ،‬وهــي تخط أولــى حــروف روايتها التي قامت‬ ‫فكرتها على الحضارة اإلنسانية التى تشمل الشرق والغرب حين حملتنا روحيا من بغداد‬ ‫إلــى الـقــدس‪ ،‬فالقاهرة‪ ،‬م ــرورًا بالقيروان‪ ،‬وصــوال إلــى قرطبة‪ .‬وكيف مزجت روايتها بين‬ ‫الفوقية الروحية وعالم أدب الرحلة‪ ،‬وكيف لم ترتجف يداها وهي تحدثنا عن ذاك البطل‬ ‫الذي نقل الكتب إلى مكتبات تلك المدن‪ ..‬فتنقلنا الرواية من العالم العربى إلى األندلس‪،‬‬ ‫وتسرد العالقة بينهما من خالل لغة غنية مختلفة‪ ،‬فقد تقدم السرد فى مسارين بالتوازي‪..‬‬ ‫فالمسار األول يتبع خطوات «الحنفي» من قلب الجزيرة العربية إلــى بـغــداد‪ ،‬فالقدس‪،‬‬ ‫ثم القاهرة‪ ،‬فالقيروان‪ ،‬وتنتهى الرحلة بشكل مفارق فى زنازين األندلس‪ ،‬حيث التاريخ‬ ‫الذهبى للحضارة اإلسالمية؛ أما المسار الثاني الذى سار بخطوات‪ ،‬فهو الرؤى األيدلوجية‬ ‫والسياسية والمعرفية التى شكّ لت اللحظة الحاضرة بكل مآسيها وأحزانها وخيباتها؛ إذ‬ ‫نشهد الصراع بين العقل والنقل‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫ال شك أن الخميس استفادت من عملها في‬ ‫الصحافة المكتوبة‪ ،‬فاكتسبت القدرة على االنتباه‬ ‫إلى الواقع بك ّل تفاصيله‪ ،‬فك ّل ما يحتاج إليه كاتب‬ ‫الــروايــة هو الجلوس في مكان مــا‪ ،‬واالستعانة‬ ‫بحاسة البصر لمالحظة حركة الحياة من حوله‪،‬‬ ‫وتحديدًا كيف يتعامل النّاس في يومياتهم‪ ،‬وكيف‬ ‫يمشون في الشوارع‪ ،‬أو كيف يتواصلون بالكالم‪،‬‬ ‫أو حتّى كيف يمسكون باألشياء‪ ،‬ولذلك كانت‬ ‫هي اليد التي امتلكت باليمين القدرة على كتابة‬ ‫الــروايــة‪ ،‬وبيسارها رســمــت المقال الصحفي‬ ‫المتميز‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫«تاجر ُكتُب‪ ،‬قد تكون هذه صنعتي حقاً‪ ،‬أو‬ ‫لربما أستتر خلفها بمنجً ى من الريبة والشك‬ ‫بين مسافري قافلة العطور المتجهة من بغداد‬ ‫إلى القدس‪ ،‬فـمِ ن بغداد إلى القدس فالقاهرة ث ّم‬ ‫القيروان فاألندلس‪.‬‬ ‫يسافر مــزيــد الحنفي النجدي مــن وسط‬ ‫جزيرة العرب ليجد نفسه بين ليلة وضحاها‬ ‫مكلّفاً بمهمة خطيرة‪ .‬سبع وصايا كان على مزيد‬ ‫أن ينساها‪ ،‬بعد قراءتها‪ ،‬ويترك لرحالته أن تكون‬ ‫تجلياً لها‪ .‬لكن شغفه بالكتب ومخالفته بعض‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫الوصايا ختمتا رحلته بنهاية لم يكن يتوقعها‪...‬‬ ‫وأنت ستطوف اآلن في مقطع من الرواية حين‬ ‫تترجم كل اللغة الروائية هنا‪:‬‬ ‫«مخ َّي ٌر ال َ ُمــسـ َّيـرٌبــفــؤادي جــمــرات شجن لم‬ ‫تترمد‪ ،‬ركلتني بغداد خارجها ولم أغادرها طوعاً‪،‬‬ ‫مغوية بغداد ومتوحشة‪ ،‬كفاتنة تسللت إلى خبائها‬ ‫ورشفت ينابيعها وقطفت ثمارها‪ ،‬وفــي الفجر‬ ‫طلبت مني بشراسة المغادرة‪ ،‬بها تكشف لي السر‬ ‫األعظم‪ ،‬ونفخ أهل التوحيد في روحي رسالتهم؛‬ ‫رحيلي عن بغداد جعلني مضطرباً مشتتاً كأن‬ ‫تحتي الريح!‬ ‫هل أنا مخيّر أم مسيّر؟ ففي ذلك اليوم الذي‬ ‫اكتملت فيه مشيئة الرحيل عن بغداد‪ ،‬انتصف‬ ‫النهار وأنا ما برحت أطوف مناخ القوافل بحثاً‬ ‫عن قافلة‪ ،‬بعضهم أشار علي بالذهاب إلى األنبار‪،‬‬ ‫فهناك سأجد الكثير من القوافل أصحابها هم‬ ‫األمهر في القيافة ومعرفة بالدروب‪ ،‬في حين‬ ‫أن القوافل التي تصل بغداد أصحابها مصابون‬ ‫بالجشع‪ ،‬بل إن بعضهم يقسم أنهم يتوازعون‬ ‫أمــوال قوافل التجار مع لصوص متربصين في‬ ‫الدرب‪..‬‬

‫الرواية الفائزة بالجائزة‬

‫في أساسه رحلة بعيدة وهوة عميقة في البحث‬ ‫المضني‪ ،‬وهنا تتجلى حنكتها الروائية‪ .‬سرد‬ ‫األحــداث واألغــال ال تقيدها‪ ،‬ال تخاف من أي‬ ‫شيء‪ ،‬بالرغم من شعوري أن يديها ترتجف‪ ،‬ألنها‬ ‫تمتلك جرأة تخط بها كل قوانين السرد المحكية‬ ‫أقلب عيني في الوجوه والسمات‪ ،‬واللص لن‬ ‫حين تتجرأ على قوانين العقل وتدمجها مع الدين‬ ‫يأتي ليقول لي‪ :‬أيها األخ الكريم مزيد‪ :‬أنا لص‪،‬‬ ‫لغة وحوارًا وحركة مرسومة مدروسة‪.‬‬ ‫فلطفاً ال تستقل قافلتي»‪.‬‬

‫تتحدث بلغة مباشرة بهية يستمتع بها القارئ‪،‬‬ ‫لم تترك لنا الرواية أي مساحة ممكنة لأللوان‬ ‫البهيجة‪ ،‬فقد استبد الــلــون الــرمــادي القاتم حتى إنها اختارت تلك الموضوعات االجتماعية‬ ‫على أجــوائــهــا‪ ،‬فكل شــيء قــاتــم‪ ،‬حتى لغة تلك التي نراها كل يوم دون ملل أو كلل‪.‬‬ ‫الشخصيات المعجونة بأديم الوجع كانت قاتمة‬ ‫تحمل بــيــن ســطــورهــا تــســاؤال عــن العقل‪،‬‬ ‫والذعة‪.‬‬ ‫استطاعت أميمة أن تمتلك تقنيات الكتابة والــعــاقــة بين الــمــركــز واألط ـ ــراف‪ ،‬مسترسلة‬ ‫الــروائــيــة والــســرديــة إذ تنتقل مــن حــدث آلخر بإيجاز واضح ينم عن إلمام بكل جوانب الثقافة‬ ‫دون أن تشعر بفعل ذلك االنتقال‪ ،‬مع االنتقال التاريخية‪.‬‬ ‫* كاتبة من فلسطين‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪13‬‬


‫ُ‬ ‫عتبات النَّ ص‬ ‫ُ‬ ‫وصرخاته األنثوية المجروحة‬ ‫■ محمد العامري*‬

‫تعد الكاتبة أميمة الخميس‪ ،‬المولودة في مدينة الرياض‪ ،‬من أبرز الكاتبات السعوديات‬ ‫ّوي؛ إذ أصبحت أميمة الخميس عالمة روائية نسوية‬ ‫اللواتي برزْن عبر منجز واضح في الر ْ‬ ‫صارخة تؤثث مناخاتها السردية بأوجاع المرأة العربية عامة والخليجية بخاصة‪.‬‬ ‫درســت األدب العربي واللغة اإلنجليزية لتعمل تربويةً وإعالميةً فيما بعد؛ فحياتها‬ ‫تنشغل بهموم الــذات والتغيير المجتمعي عبر اإلعــام والنص األدبــي‪ ،‬وصــو ًال الى الفعل‬ ‫التربوي عبر مجموعة من قصص األطفال‪ ،‬بدأت نشاطها األدبي واإلبداعي مبكرا‪ ،‬ونشرت‬ ‫أول مجموعة قصصية لها في العام ‪1993‬م بعنوان «والضلع حين استوى»‪ ،‬تبعتها عدد من‬ ‫المجموعات القصصية منها «مجلس الرجال الكبير» و«أين يذهب هذا الضوء» و«الترياق»‪،‬‬ ‫ونالت اعترافا بمنجزها األدبــي‪ ،‬حين فازت بجائزة أبْها للقصة‪ ،‬وجائزة نجيب محفوظ‬ ‫للرواية‪ ،‬ووصلت بعض رواياتها إلى القائمة الطويلة في البوكر‪.‬‬ ‫أحاول في هذه العجالة أن أتناول بعضاً مجرياتها كشبابيك تفتح للقارئ مشاهد‬

‫مــن عناوين كتبها كعتبات دالــة على متن وســيــاقــات الــمــتــن للتلصص عــلــى أفــعــال‬

‫السرد لديها‪ ،‬وخاصة طبيعة الموضوعات األمكنة والشخوص‪ ،‬وستكون تلك العتبات‬ ‫التي تتناولها أميمة بوصفها عتبة النص التي مادة سيميولوجية لتتبع العالمات واإلشارات‬

‫تشي بمتنه «تيترولوجيا النص»‪ ..‬فهو البوابة الدالة على طبيعة الموضوعات التي تتناولها‬

‫الرئيسة لطبيعة تشكالت النص وانعكاساته أميمة الخميس؛ فهي تبحث في عالمات‬ ‫الدالة على طبيعة الرسالة التي يبثها؛ بل ومكونات الحياة االجتماعية المسكوبة بالهم‬

‫يشكل هاجسا مهما تــتــمــرأى فيه فواتح الــذاتــي‪ ،‬تحديدا مسألة «الجندرية»‪ ،‬وما‬ ‫الكتاب وشيفرا النص الفوقية «‪ »paratexte‬يبثه المصطلح من مفاهيم تربوية اجتماعية‬

‫‪14‬‬

‫حــســب «جــيــرار جــيــنــيــت»‪ ،‬وال ــوق ــوف على يختص بالدرجة األولــى في وجــود المرأة‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫نجحت أميمة في جذب انتباه الــدارس‬ ‫والقارئ معا عبر تلك العناوين الدالة على‬ ‫طبيعة خطابها السردي؛ فعنوان «والضلع إذا‬ ‫استوى» هو بمثابة بوابة تتعالق مع موروثنا‬ ‫الديني واالجتماعي فيما يخص داللة هذه‬ ‫الجملة‪ ،‬إذ تناكف الشائع فيما يخص المرأة‬ ‫بكونها من ضلع أعوج‪ ،‬وأخذت القارئ إلى‬ ‫أسئلة قاسية تنسف مــن خاللها مفاهيم‬ ‫وراثية ومعرفية تكلست في عقل المجتمع‬ ‫العربي واإلسالمي‪ ،‬وأذكر هنا هذا الحديث‬ ‫الصحيح‪« ،‬رواه الشيخان فــي الصحيح‬ ‫عــن النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬أنه‬ ‫قــال‪( :‬استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة‬ ‫خلقت مــن ضلع أع ــوج‪ ،‬وإن أعــوج مــا في‬ ‫الضلع أعــاه‪ « )..‬وفي الحديث اآلخر في‬ ‫الصحيحين (مــا رأيــت مــن ناقصات عقل‬ ‫فالكتابة بالنسبة ألميمة الخميس هي‬ ‫ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)‪ .‬أداة تستخدمها للدفاع عن نفسها من أجل‬ ‫فــهــذا األم ــر هــو رفــض لما فهمناه من الحصول على قيمة الحرية الــتــي تطمح‬ ‫تفاسير حول الحديث السابق‪ ،‬وقد انْطلت إليها‪،‬؛وهناك عتبة أخرى تتقاطع بل تتطابق‬ ‫على العامة حقائق مفاهيمية أسهمت في مــع الــعــنــوان الــســابــق فيما يخص المعنى‬ ‫االنتقاص من وجود المرأة في مجتمعاتها؛ والــداللــة «والضلع اذا اســتــوى»‪ ،‬هو عنوان‬ ‫فجاءت العتبة فاتحة ساخنة في عنونتها «مجلس الــرجــال الكبير»‪ ،‬فخصصت في‬ ‫هذه العتبة الرجال وأعطتهم صفة الكبير‬ ‫«والضلع إذا استوى»‪.‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫العربية في جغرافيا ذكورية بامتياز‪ ،‬وقد‬ ‫الحظت أن هذا األمر قد أصبح همًا أساسً ا‬ ‫لمعظم الكاتبات المعاصرات في الخليج‬ ‫العربي‪ ،‬وقــد أسهمت في ذلــك انفتاحات‬ ‫«العلب اإللكترونية» الواسعة على العالم‪،‬‬ ‫وإمكانات التحرك والسباحة في تلك العوالم‬ ‫الحرة‪.‬‬

‫فما فعلته أميمة في عناوينها هي رسالة‬ ‫صــرخــة لمجتمعها فــيــمــا يــخــص طبيعة‬ ‫وجود المرأة‪ ،‬ومدى القسوات التي تمارس‬ ‫على حركتها بين الناس ككائن إنساني له‬ ‫الحق في ممارسة أحالمه بحرية مكفولة‬ ‫بالدساتير والقوانين‪ ،‬فالضلع إذا استوى‬ ‫هو عَ نْونة أقرب إلى الملصق الذي يدل على‬ ‫رسالة قصيرة وصارخة‪ ،‬بل هو إنذار للنساء‬ ‫فيما يخص الفعل التغييري ألوضاعهن في‬ ‫مجتمعات ا ْرتَكنتْ إلى األعراف االجتماعية‬ ‫الــجــهــلــويــة‪ .‬وأذكــــر هــنــا ق ــول الفيلسوفة‬ ‫والشاعرة الفرنسية سيكسوس «المولودة‬ ‫فــي وهـــران ‪1937‬م» حين قــالــت‪( :‬يمكن‬ ‫للنساء أن يقرأن ويخترن البقاء محاصرات‬ ‫في أجسادهن بواسطة لغة ال تسمح لهن‬ ‫بالتعبير عن أنفسهن‪ ،‬أو يمكنهن استخدام‬ ‫الجسد طريق ًة للتواصل‪ .‬فهي تصف أسلوباً‬ ‫كتابياً نسوياً معيناً‪ ،‬تقول إنه يحاول االنتقال‬ ‫خارج قواعد المحادثة الموجودة في النظم‬ ‫األبوية‪ .‬وتقول إن اللغة األنثوية تسمح للمرأة‬ ‫بمعالجة احتياجاتها من خالل بناء قصص‬ ‫ذاتية قوية)‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫كعالمة وإشارة على السيطرة‬ ‫الــــذكــــوريــــة‪ ،‬فــيــمــا يــخــص‬ ‫ال ــق ــرارات الــتــي تنتظم في‬ ‫سياقات الحراك المجتمعي‪،‬‬ ‫ناقدة بذلك القيمة الذكورية‬ ‫التي منحها المجتمع للذكر‬ ‫دون غـــيـــره‪ ،‬ل ــذل ــك أولـــت‬ ‫أمــيــمــة الــخــمــيــس أهــمــيــة‬ ‫قصوى لعناوينها التي تحمل‬ ‫همومًا أنثوية بائنة‪ ،‬بكوْن‬ ‫العنوان من العناصر التي يتأسس عليها‬ ‫جسد النص وتشكالته المعرفية وصوالً إلى‬ ‫الموضوع‪ ،‬بل هو المفتاح السحري للولوج‬ ‫إليه القتحامه وسبر أغواره‪ ،‬وتجعل المتلقي‬ ‫يستدل على خيوطه ليتتبعها‪ ،‬تماما كما‬ ‫فسرته السيميوطيقيا فيما يخص أهمية‬ ‫العنوان وضروراته في معرفة المتن وسبره‪،‬‬ ‫وسالح رئيس لتحليله‪ ،‬لذلك نرى أن عتبات‬ ‫النص تقدم مسارات عمودية حفرية تفكيكية‬ ‫وتركيبية في الوقت ذاته‪ ،‬لمعرفة مدايات ما‬ ‫يذهب إلية المتن‪.‬‬ ‫فهو الشعاع الذي يضيء غموض النص‬ ‫ويحيل السراب إلى ماء نستطيع اإلمساك‬ ‫به‪ ،‬ويقيس تجعداته وأثالمه الخفية‪ ،‬وحين‬ ‫نذهب إلى عنوان آخر يحقق الغاية التناصية‬ ‫نفسها مع حلم المرأة‪ ،‬والتغيير في وجودها‬ ‫البائس هو «أين يذهب هذا الضوء»‪ ،‬فتحليل‬ ‫تلك المناصات تعد أسيجة للمتن المشفّرة‬ ‫بالعتبات القوية التي تقود القارئ إلى لذة‬ ‫ * كاتب من األردن‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫التعرف على مجريات متن‬ ‫النص؛ فهي عالقة عضوية‬ ‫بــيــن وج ــه الــنــص أي العتبة‬ ‫وبــيــن جــســده‪ ،‬وم ــا يتحرك‬ ‫من نسغ للعنوان داخل جسد‬ ‫النص نفسه‪.‬‬ ‫فأين يذهب الضوء كعنوان‬ ‫يقودنا إلى استدراج قوة وجود‬ ‫المرأة وصورة الحصار الذي‬ ‫يحيط بها عبر تساؤل «أين يذهب الضوء»‬ ‫فهو محاوالت للفكاك من حصارات مركبة‬ ‫وخــانــقــة‪ ،‬وبــحــث دؤوب تهجس بــه األنثى‬ ‫للخروج من ضيق الممر المجتمعي الذي‬ ‫يشكل هاجسً ا لديها الجتراح أدوات مبدعة‬ ‫لتفتيت صالبة الحصار وتفكيكه للسماح‬ ‫للضوء أن يم ّر من مكانه الطبيعي‪ ،‬والضوء‬ ‫معادل موضوعي لصورة األنثى وحيرتها‬ ‫فــي النفاذ مــن ربقة الــحــصــار‪ ،‬ولــم يبتعد‬ ‫عنوان المجموعة القصصية «الترياق» عن‬ ‫السياقات السابقة التي أشرنا إليها‪ ،‬إذ‬ ‫يشكل الترياق مناقضات السّ م بِكوْن السم‬ ‫هــو السياق العاطب لطبيعة األشــيــاء في‬ ‫حياتها؛ فالترياق هو العالج الذي يتعافى منه‬ ‫المسموم؛ فالسُّ م ربما سم األفكار والتقاليد‬ ‫والــقــيــم البالية الــتــي تكلست فــي وجــدان‬ ‫مجتمعات العالم الثالث؛ فهل بتسميتها‬ ‫ال شافيًا لتلك األمراض‬ ‫الترياق وجدت ح ً‬ ‫المجتمعية؟‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ُ‬ ‫شعرية عتبات النص «البحريات»‬ ‫ألميمة الخميس‬ ‫■ إميان املخيلد*‬

‫يـعــد ال ـخ ـطــاب ال ـغــافــي م ــن أه ــم عـتـبــات ال ـنــص الـتــي‬ ‫يمكن أن نقرأ الرواية من خالله؛ فهو أولى عتبات النص‬ ‫الموازي التي تساعدنا على فهم األجناس األدبية بصفة‬ ‫عامة‪ ،‬والرواية بصفة خاصة‪ ،‬على مستوى الداللة والبناء‬ ‫والتشكيل والرؤية؛ ومن ثم‪ ،‬فإن الغالف يساعد على استكناه‬ ‫مرامي النص وأبعاده الفنية واإليديولوجية والجمالية‪.‬‬ ‫وهو أول ما يواجه القارئ قبل عملية القراءة؛ ألن الغالف‬ ‫هو الذي يحيط بالنص الروائي‪ ،‬ويغلفه‪ ،‬ويحميه‪ ،‬ويكشف‬ ‫عن بؤره الداللية من خالل عنوان خارجي مركزي‪ ،‬أو عبر‬ ‫عناوين فرعية تترجم رؤى ومقصدية وتيمها الداللية‪.‬‬ ‫و يحمل الغالف الخارجي أيقونات بصرية‬ ‫وعالمات تشكيلية ولوحات فنية‪ ،‬كما يحمل‬ ‫رؤية لغوية وداللة بصرية‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬يتقاطع‬ ‫التشكيل الــلــغــوي مــع التشكيل البصري‪،‬‬ ‫ويتطلب هذا من القارئ أن يمتلك رؤية فنية‬ ‫وجمالية تمكنه من فك رموز الغالف وإنتاج‬ ‫دالالت ــه‪ ،‬وربطها ب ــدالالت النص المركز‪/‬‬ ‫الرواية‪.‬‬

‫ويمكن اعتبار العناوين وأسماء المؤلفين‬ ‫وكـــل اإلشــــــارات ال ــم ــوج ــودة ف ــي الــغــاف‬ ‫األمامي‪ ،‬كما يقول حميد لحمداني‪ ،‬داخلة‬ ‫في تشكيل المظهر الخارجي للرواية‪ ،‬كما أن‬ ‫اختيار مواقع كل هذه اإلشارات وترتيبها ال‬ ‫بد أن تكون له داللة جمالية أو قيمية؛ فوضع‬ ‫االسم في أعلى الصفحة‪ ،‬ال يعطي االنطباع‬ ‫نفسه ال ــذي يعطيه وضــعــه فــي األســفــل‪.‬‬ ‫ولذلك غلب تقديم األسماء في معظم الكتب‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪17‬‬


‫الصادرة حديثا في األعلى‪ ،‬إال إنه يصعب‬ ‫على الـ ــدوام ضبط التفسيرات الممكنة‬ ‫وردود فعل القراء‪ ،‬وكذا ضبط نوع التأثيرات‬ ‫الخفية التي يمكن أن يمارسها توزيع المواقع‬ ‫فــي التشكيل الخارجي لــلــروايــة؛ ألن هذا‬ ‫يختلف من قارئ آلخر‪ ،‬بل يختلف من طريقة‬ ‫للتلقي عن أخرى(‪.)1‬‬

‫حدثًا أو مشهدًا من مشاهدها‪ ،‬يستلهمه‬ ‫الفنان الذي يصمم الغالف ويعبر عنه؛ ما‬ ‫يُمكِّن القارئ من الربط بين النص والتشكيل‬ ‫بسبب داللته المباشرة على مضمون الرواية‪.‬‬ ‫وهذا ما حدث في الرواية‪ ،‬فربما تكون هذه‬ ‫اللوحة معبّرة عــن واح ــدة مــن البحريات‬ ‫اللواتي شكلن الفضاء السردي للنص‪.‬‬

‫للغالف الخارجي للعمل األدبــي والفني‬ ‫ويبدو أن حضور هذه الرسوم الواقعية‬ ‫واجهتان‪ :‬أمامية وخلفية‪ .‬فنستحضر في يقوم بوظيفة إذكاء خيال القارئ‪ ،‬لكي يتمثل‬ ‫الــغــاف األمــامــي اســم الــمــبــدع‪ ،‬والــعــنــوان بعض وقائع القصة وكأنها تجري أمامه‪.‬‬ ‫الخارجي‪ ،‬والتعيين الجنسي للعمل األدبي‪،‬‬ ‫وأه ــم عتبة يحويها الــغــاف الخارجي‬ ‫والــعــنــوان الــفــرعــي‪ ،‬ودار الــنــشــر‪ ،‬وعــدد‬ ‫هو اسم المؤلف الــذي يعين العمل األدبي‬ ‫الطبعات‪ ،‬والرسوم والصور التشكيلية‪ .‬أما‬ ‫ويخصصه ويمنحه قيمة أدبــيــة‪ ،‬ويسفره‬ ‫فيما يخص الغالف الخلفي‪ ،‬فربما نجد‬ ‫في المكان والزمان‪ ،‬ويساعده على الترويج‬ ‫الصورة الفوتوغرافية للمبدع‪ ،‬وكلمة تصف‬ ‫واالستهالك‪ ،‬ويجذب القارئ المتلقي‪ .‬إن‬ ‫العمل‪ ،‬قد تكون لناقد ما أو لــدار النشر‪،‬‬ ‫تثبيت اسم المؤلف العائلي والشخصي‪ ،‬يراد‬ ‫وقد تكون مجتزئا من النص‪ ،‬ويحرص غالبا‬ ‫منه تخليده في ذاكرة القارئ‪ .‬وإن اسم أي‬ ‫المؤلف على أن يكون المجتزأ الذي يقدمه‬ ‫للقارئ داالً وكــاشــفـاً للنص‪ ،‬ويثير شهوة مؤلف على الغالف‪ ،‬ال يعدو كونه ركامًا من‬ ‫القراءة لدى القارئ‪ ،‬بل يحفزه ويدفعه إلى «الحروف الميتة»‪ ،‬فحين يرتقي اسم المؤلف‬ ‫إلى مستوى النص‪ ،‬فإنه ينتعش ويتحرك‪،‬‬ ‫اقتناء الكتاب‪.‬‬ ‫ويهب نفسه بحق للقراءة‪ ،‬أما حين يقتصر‬ ‫التشكيل الفني للغالف‬ ‫وجـــوده على الــغــاف‪ ،‬فــا يــكــون موضوع‬ ‫يتخذ التشكيل البصري للغالف شكلين‪ ،‬قراءة‪ ،‬بل عالمة على أن المؤلف مشهور أو‬ ‫فإما أن يكون تشكيال واقعيا‪ ،‬أو تجريديا‪ ،‬شبه معروف أو مجهول‪.‬‬ ‫ويأتي غالف «البحريات» كتعبير عن التشكيل‬ ‫تطرح عتبة المؤلف إشكاليات منهجية‬ ‫الواقعي‪ ،‬إذ يتوسط الغالف لوحة المــرأة ومعرفية متعددة‪ ،‬كما يــرى فيليب لوجون‬ ‫جميلة تعبر عن روح البحريات اللواتي أتين الــــذي ي ــق ــول‪« :‬أي دور تــلــعــبــه األســمــاء‬ ‫من بالد الشام إلى الجزيرة العربية؛ ليبدأن الشخصية‪ ،‬وخاصة اسم المؤلف‪ ،‬في إدراك‬ ‫حياة جديدة مغايرة لحياتهن السابقة‪ ،‬لكن القارئ للجنس الذي ينتمي إليه نص ما‪ ،‬ومن‬ ‫هذه الحياة الجديدة لم تفلح في أن تسلب ثم في اختياره لكيفية قراءته؟ هل سأقرأ‬ ‫منهن روح البحر وليونته‪.‬‬ ‫نصا بالطريقة نفسها إذا كانت الشخصية‬ ‫ً‬

‫‪18‬‬

‫أما التشكيل الواقعي فيشير بشكل مباشر الــرئــيــســة تحمل اس ـ ًمــا مختلفًا عــن اســم‬ ‫إلى أحداث الرواية‪ ،‬أو ربما يختار موقفا أو المؤلف‪ ،‬أو إذا كانت تحمل االسم نفسه»(‪.)2‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫أميمة الخميس تتسلم جائزة نجيب محفوظ للرواية ‪ ٢٠١٨‬م‬

‫ولكن هل يتماهى المؤلف على الغالف‬ ‫والمؤلف داخل النص على مستوى الشعرية‬ ‫السردية؟ حتما ثمة فرق كبير بينهما؛ ألن‬ ‫المؤلف على الغالف هو ذات معينة ومحددة‬ ‫لكاتب النص‪ ،‬فهو كائن من لحم ودم؛ فالقارئ‬ ‫حينما يقرأ اسم أميمة الخميس متوسطً ا‬ ‫غالف «البحريات» يدرك في اتفاق ضمني‬ ‫أن ثمة ذات متعينة في الزمان والمكان‪ ،‬لها‬ ‫وجــود فعلي؛ بل ربما لو بحث على شبكة‬ ‫اإلنــتــرنــت لــوجــد لــهــا ص ــورة فوتوغرافية‬ ‫واقعية تؤكد له وجودها‪ .‬بينما المؤلف داخل‬ ‫النص (السارد) ما هو إال كائن ورقي خيالي‬ ‫وافتراضي يسبح في عوالم مَجازية وفنية‪.‬‬ ‫فالمؤلف داخل النص هو الــذات الساردة‪،‬‬ ‫أو ما يُسمى نقديا بـــ «المؤلف الضمني»‪،‬‬ ‫أو «األن ــا الــروائــيــة األخـــرى»‪ ،‬وربــمــا يتخذ‬ ‫من الــراوي العليم أو صوتا سرديًا؛ وربما‬ ‫يستخدم الــكــاتــب مــا يُسمى بــ «المؤلف‬ ‫الــمــجــرد»؛ أي ذلــك الــذي ينحصر وجــوده‬ ‫داخــل فضاء الــروايــة‪ ،‬متنقال فــي فضائه‬ ‫السردي‪ ،‬متخذًا أكثر من صوت‪ ،‬وأكثر من‬

‫وجه يتخفى وراءه‪ .‬ولقد استخدمت أميمة‬ ‫الخميس صوت الراوي العليم أو السارد كِ ل َي‬ ‫العلم لتعبر عن جميع شخصيات الرواية‬ ‫وليس البحريات فقط‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬الخطاب الغالفي هو عالمات لغوية‬ ‫وبصرية‪ ،‬ويشتمل على مــؤشــرات أيقونية‬ ‫وإشــارات سيميائية وعتبات توضح طبيعة‬ ‫العمل وتعين هويته وتحدد جنسه األدبــي‬ ‫والفني‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فالغالف عتبة أساس لفهم‬ ‫العمل األدبــي وتفسيره‪ ،‬وخطوة ضرورية‬ ‫لتفكيك المنتج الفني والروائي وتركيبه في‬ ‫مقوالت ذهنية نقدية أو وصفية‪ ،‬أو في شكل‬ ‫خــاصــات تقويمية مكثفة دالل ـ ًيــا وشكليًا‬ ‫وتداوليًا‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬ســوف تستخدم الباحثة العتبات‬ ‫النصية التي سوف تقرأ بها الباحثة عتبة‬ ‫غالف الطبعة الخامسة لرواية «البحريات»‬ ‫ألميمة الخميس‪ ،‬يأتي التشكيل البصري‬ ‫لغالف الرواية داالً ويعمق على المضمون‬ ‫والداللة الكلية التي تسعى الرواية إلنتاجها‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪19‬‬


‫تأتي خلفية صفحة الــغــاف مقسمة إلى‬ ‫مساحتين‪ ..‬المساحة األول ــى وتمثل ثلث‬ ‫الغالف تقريبًا‪ ،‬يتربع اســم الكاتبة واسم‬ ‫الــروايــة ومــا بينهما التجنيس األدب ــي‪ .‬أما‬ ‫المساحة الباقية وتمثل الثلثين تقريبًا‪..‬‬ ‫فتتوسطها لوحة لوجه فتاة قوقازية سوف‬ ‫نتعرض لها في حينه‪.‬‬ ‫يأتي اسم الكاتبة وبالخط الثقيل والذي‬ ‫يتموضع أعلى الغالف‪ ،‬ليشير بشكل الفت‬ ‫إلــى مكانة الكاتبة األدبــيــة التي حفرتهاـ‬ ‫حسبما تشير سيرتها الــذاتــيــة المرفقة‬ ‫بالروايةـ والتي اتضحت معالمها في عدد‬ ‫كبير مــن ال ــرواي ــات والــقــصــص‪ ،‬وقصص‬ ‫األط ــف ــال والــكــتــب الــثــقــافــيــة والــمــعــرفــيــة‪،‬‬ ‫فتصدير اســم الكاتبة فــي أعــلــى مقدمة‬ ‫الغالف؛ ألنه صار اسما علما تراهن عليه‬ ‫دار النشر في التوزيع والتسويق للعمل‪.‬‬ ‫ثم يلي اسم الكاتبة تجنيس النص‪ ،‬وهذا‬ ‫يخالف أدبــيــات تصميم األغــلــفــة‪ ،‬فكلمة‬ ‫«رواية» غالبا تكتب بعد اسم الكاتب وعنوان‬ ‫النص‪ ،‬وفي هذا تأكيد من دار النشر على‬ ‫أهمية التجنيس‪ ،‬وذلــك أن للرواية سوقًا‬ ‫يختلف عــن ســوق بقية األجــنــاس األدبــيــة‪،‬‬ ‫انطالقا من مقولة «زمن الرواية»‪.‬‬ ‫ثم يتربع عنوان العمل «البحريات» في‬ ‫مساحة الغالف بالعرض‪ ،‬وتمتشق فيه األلف‬ ‫التي تسبق التاء ألعلى‪ ،‬لتخبرنا عن هؤالء‬ ‫القادمات من بالد الطراوة والنداوة والجمال‬ ‫إلــى بــاد الــصــحــاري‪ ،‬لكنهن يأبين على‬ ‫الذوبان في الثقافة الصحراوية الجديدة‬ ‫عليهن‪ ،‬فيبقين متمردات صاخبات مبهجات‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫ولالسم في النص‪ ،‬سواء في المقدمة التي‬ ‫أوضحت فيها الكاتبة ماذا تقصد بالبحريات‪،‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫والتي سوف يتم قراءتها في موضع آخر بما‬ ‫هي أحد مفاتيح قراءة النص‪ ،‬أو في النص‬ ‫المِ ْن الداخل‪ ،‬وتفسر الكاتبة «البحريات»‬ ‫بأنهن نساء قدمن من البحر على فضاء‬ ‫المملكة الصحراوي‪ ،‬حاولن االندماج في‬ ‫ثقافة المجتمع‪ ،‬لكنهن لم يستطعن؛ كما‬ ‫أن المجتمع ظل آلخر لحظة يتعامل معهن‬ ‫بحذر‪ ،‬بل أطلق عليهن «طرح بحر» كما دأب‬ ‫على إطــاق تلك التسمية على كل شخص‬ ‫ليست لديه جذور صحراوية قبلية أصيلة‪.‬‬ ‫ثم يأتي الجزء الثاني من الغالف‪ ،‬والذي‬ ‫يمثل ثلثي المساحة كما أشــارت الباحثة‬ ‫سابقا‪ ،‬تتوسطه لــوحــة «جــاريــة قوقازية»‬ ‫للفنان العالمي أوغست كلمنت‪ .‬يأتي وجه‬ ‫الجارية القوقازية يخالف تمامًا وجوه نساء‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬فهو الوجه المدور األبيض‪،‬‬ ‫شديد البياض‪ ،‬يحيط بهذا البورتريه إطار‬ ‫من الخشب المذهّ ب‪ ،‬وعلى طرف البرواز‬ ‫األيمن من أعلى تفتح نافذة صغيرة ملونة‬ ‫باللون األزرق في إشــارة إلى البحر‪ ،‬وكأن‬ ‫الــنــافــذة ستظل مفتوحة فــي روح أولئك‬ ‫النسوة الــائــي جئ َن مــن وراء البحر‪ ،‬هن‬ ‫يحملن بلدانهن وثقافتهن الماضية في‬ ‫قلوبهن‪ ،‬ويتُق َن للعودة‪ ،‬ويشتقْن للرحيل‪،‬‬ ‫فيظل المربع األزرق نــافــذ ًة مفتوح ًة على‬ ‫األمل‪ .‬ويحيط بالوجه القمري غطاء رأس‬ ‫أسود تتدلى منه حلقات مذهّ بة صغيرة من‬ ‫جوانبه‪ ،‬وتتدلى مع القرط الذهبي الطويل‬ ‫حتى آخر الرقبة‪ ،‬كما يحيط بالرقبة عقدان‬ ‫أحدهما من الذهب يتراص في طبقات حول‬ ‫العنق الطويل األبيض‪ ،‬ويعلوه عقد آخر من‬ ‫العقيق األحمر‪ .‬كما ترتدي الجارية رداء من‬ ‫األحمر المختلط باألخضر‪.‬‬


‫عنوان الكتاب صناعة يجب االعتناء بها؛‬ ‫ألن العنوان والكِ تاب وجهان لعملة واحدة‪،‬‬ ‫أو هو رأس للنص‪ ،‬ويعد النص جسدًا لهذا‬ ‫الرأس‪ ،‬وهو مقصود لذاته‪ .‬ولهذا يُعد العنوان‬ ‫ال رئيسا لقراءة العمل األدبــي‪ ،‬نظرًا‬ ‫مدخ ً‬ ‫إلى كونه من أهم عناصر النص الموازي‪،‬‬ ‫بشكل‬ ‫ٍ‬ ‫وهو من أهم عناصر العمل التخييلي‬ ‫خاص‪ .‬وقد أ ُهمِ ل َتْ دراسة العنوان من قبل‬ ‫النقاد‪ ،‬ولــم يُلحظ دوره المهم في تحليل‬ ‫الــنــص األدب ــي إال مــع النصف الــثــانــي من‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬فقد كان يُنظر إليه بوصفه‬ ‫ال للقارئ إلى‬ ‫اسماً للنص الذي يتقدّمه‪ ،‬ودلي ً‬ ‫الكتاب‪ ،‬وجاذباً له إلى القراءة(‪.)3‬‬ ‫يأتي عنوان «البحريات» ليفرض داللته‬ ‫الكلية على الفضاء الروائي‪ ،‬فالكاتبة تفتتح‬ ‫الــســرد بالحديث عــن بهيجة الــتــي جــاءت‬ ‫مــن وراء البحر‪ ،‬مــن الــشــام ومــن الحبشة‬ ‫والصومال وألمانيا وغيرها من البلدان‪.‬‬ ‫يحيل العنوان «البحريات» إلى البحر‪ ،‬بصفته‬ ‫فضاء مفتوحاً‪ ،‬تنتمي إليه الشخصيات‬ ‫األســاس في الرواية‪ ،‬فضاء يتيح قــدرًا من‬ ‫التحقق فــي مقاومة للتغيب‪ ،‬فقد غيبهن‬ ‫البحر عن أوطانهن‪ ،‬لكنه يمثل أيضا حلم‬ ‫العودة‪ ،‬وللبحريات أحــوال وعــادات تختلف‬ ‫عــن البيئة المحيطة‪ ،‬كما أن لهن عالقة‬ ‫مختلفة بأجسادهن‪ ،‬فهن يعطين للجسد‬ ‫حــريــة الــفــعــل (صــخــب بهيجة وضحكها‬ ‫وعالقتها بجسدها) في مقابل الصحراء‪،‬‬ ‫التي تنتفي فيها صور التعدد‪ ،‬وعدم قبول‬ ‫اآلخر‪ ،‬بل وتعمل على طمس لهُوية الجسد‬ ‫وكبح رغباته (موضي في صمتها وعالقتها‬ ‫السلبية بــجــســدهــا)‪ .‬ينهض فــي الــروايــة‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫عتبة العنوان في الرواية‬

‫خــطــابــان؛ خــطــاب ال ــص ــح ــراء‪ ،‬وخــطــاب‬ ‫البحريات؛ كما تتم مواجهة بين ثقافتين‬ ‫مختلفتين‪ ،‬أو نمطين يغاير أحدهما اآلخر‪،‬‬ ‫من الوعي والسلوك واألفكار‪.‬إن البحريات‬ ‫بحسب تجليات العنوان في النص شخصيات‬ ‫نسائية يقعن ضحايا لمناخ صحراوي‪ ،‬تصفه‬ ‫الرواية بالقاحل والمتقشف؛ نساء يأتين إلى‬ ‫السعودية‪ ،‬ألسباب مختلفة‪ ،‬عمل‪ ،‬زواج‪،‬‬ ‫كجوار قبل عقود من الزمن‪ .‬لكن ثالثاً‬ ‫ٍ‬ ‫أو‬ ‫منهن‪ ،‬وهن الشاميات بهيجة وسعاد ورحاب‪،‬‬ ‫يستأثرن بمعظم مساحة السرد‪ .‬ومن خالل‬ ‫هؤالء النسوة تتأمل الرواية معضلة الوجود‪،‬‬ ‫وتعاين حياة ملؤها األسى والرتابة في بيئة‬ ‫قاسية‪.‬‬ ‫النصوص الداخلية في الرواية‬ ‫أوالً اإلهداء‪:‬‬ ‫نصية تحمل عالمات لغويّة‬ ‫اإلهداء عتبة ّ‬ ‫وإيحاءات رمزيةً‪ ،‬يعلن فيها‬ ‫ٍ‬ ‫وإشارات داللي ًة‬ ‫ٍ‬ ‫المؤلِّف عــن إه ــداء كتابه لشخص مــا‪ ،‬أو‬ ‫لمعنى أو لرمز من الرموز‪ .‬وقد يكون اإلهداء‬ ‫بشكل مباشر إلى شخص أو شخوص بعينها‪،‬‬ ‫فيجد القارئ نفسه أمام المُهدِ ي (المؤلف)‬ ‫والمُهدَى إليه الشخص الذي اختاره المؤلف‪،‬‬ ‫ليتوجه إليه بالخطاب اإلهدائي‪.‬‬ ‫وغاية المؤلف من وراء اإلهــداء توجيه‬ ‫انتباه القارئ إلى َمـ ْن أ ُهــدي إليه الكتاب‪،‬‬ ‫وتوظيفه في تحقيق بعض األهداف الدِّاللية‬ ‫والقِ يَمية‪ ،‬ليعلو قدره عند القارئ‪ ،‬ويرتاح‬ ‫إلى أثــره‪ ،‬ويكسب تعاطفه قبل الولوج في‬ ‫النص‪ ،‬والتفاعل مع محتواه‪ .‬ويمثِّل اإلهداء‬ ‫ّ‬ ‫أوّل حضور لغوي للمؤلف في النص‪ ،‬ويكون‬ ‫بمثابة االستهالل الذي يلمس ذات القارئ‬ ‫النفسية‪ ،‬ألنه عتبة تبتعد قليال عن التخييل‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪21‬‬


‫وتقترب من السيرذاتية‪ ،‬فحتما الكاتب يهدي فال يرى أحداً مستح ّقاً له»(‪.)7‬‬ ‫لشخص واقعي‪ ،‬وليس تخييليا‪ ،‬وربما يخلق‬ ‫وربــمــا يــكــون غــيــاب اإلهـ ــداء فــي بعض‬ ‫هذا نوعً ا من التعاطف النفسي بين القارئ المؤلّفات واألعــمــال اإلبداعية عائداً إلى‬ ‫والمؤلف‪.‬‬ ‫رغــبــة الــمــؤلــف فــي مــبــاشــرة الــقــارئ فعله‬ ‫مفهوم اإلهداء‬

‫والمعنى األقرب للتصور في اإلهداء يأتي‬ ‫من المعنى الداللي للفعل أهــدى‪ ،‬فنقول‪:‬‬ ‫"أهديتُ ُه وأهديتُ ل ُه وإليهِ ؛ أي‪ :‬أتحفت ُه به‪،‬‬ ‫وأعطيته إكراماً وح ّباً ومودّة»(‪.)4‬‬ ‫واإلهــــداء اصــطــاح ـاً هــو‪« :‬تــقــديــر من‬ ‫وعــرفــان يحمله لــآخــريــن‪ ،‬ســوا ًء‬ ‫الكاتب ِ‬ ‫مجموعات واقعي ًة أو‬ ‫ٍ‬ ‫أكــانــوا أشخاصاً أم‬ ‫اعتبارية»(‪.)5‬‬ ‫وال تقتصر وظيفة اإلهــداء على الدعم‬ ‫النفسي والتواصل اإلنساني مع المُهدى له‪،‬‬ ‫لكن لإلهداء‪ ،‬كذلك‪ ،‬وظائف أخرى‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫«التصديرية‪ ،‬واالفتتاحية‪ ،‬والسيميائية‪،‬‬ ‫والــداللــيــة‪ ،‬والــتــداولــيــة‪ ،‬ووظــيــفــة التلميح‬ ‫واإليــمــاء‪ ،‬واألدلــجــة‪ ،‬والــتــنــاص‪ ،‬والتَّكنِية‪،‬‬ ‫والمدلولية‪ ،‬والتعليق‪ ،‬والتشاكل‪ ،‬والشرح‪،‬‬ ‫واالخ ــت ــزال‪ ،‬والتكثيف‪ ،‬وخــلــق المفارقة‪،‬‬ ‫واالنــزيــاح عن طريق إربــاك المتلقي‪ ،‬وه ّز‬ ‫أفق انتظاره»(‪.)6‬‬

‫‪22‬‬

‫وقد يقدم الكاتب نصه دون إهداء سواء‬ ‫كان خاصاً أم عاما‪ ،‬وهنا يمكن تفسير غياب‬ ‫اإلهداء من نص ما أن هذا يدل على درجة‬ ‫الصفرية‪ ،‬وكأن الكاتب خالي الذهن تمامًا‬ ‫ممن يمكن أن يهديهم كــتــابــه‪ ،‬وقــد فسر‬ ‫تقصد أن‬ ‫بعضهم غياب اإلهداء بأن الكاتب ّ‬ ‫يقول‪« :‬هذا الكتاب غير مهدًى إلى أحد‪..‬‬ ‫وهذه العبارة تشي بأن الكاتب ال يرى أحداً‬ ‫يستحقّ اإلهداء‪ ،‬أو أنّه يُغالي من قيمة كتابه‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫القرائيّ دون مقدّمات تأثيرية‪ ،‬أو إشارات‬ ‫داللية‪ ،‬تفصح عن مقاصد إنتاجه‪ ،‬لذلك يَكِ ُل‬ ‫اكتشافَها إليه‪ .‬وكتابة اإلهداء أو تغييبه من‬ ‫يشف عن طريقة‬ ‫ّ‬ ‫خيارات الكاتب‪ .‬واإلهداء‬ ‫تفكير المؤلّف‪ ،‬فله مطلق الحرية في إثبات‬ ‫اإلهــداء في طبعة ّمــا‪ ،‬أو حذفه في طبعة‬ ‫أخــرى أو تغييره؛ كما له مطلق الحرية أن‬ ‫يستغني عن اإلهداء ويكتفي بالتصدير‪ ،‬وقد‬ ‫يجمع الكاتب بين اإلهداء والتصدير الذي‬ ‫يعده بمثابة المفتتح للنص‪.‬‬ ‫تقوم أميمة الخميس بإهداء نصها إلى‬ ‫«سهام سيدة البحريات»‪ ..‬وربما يتساءل‬ ‫القارئ من هي سهام؟ لكنه حتما سيفهم‬ ‫لماذا اختصتها الكاتبة باإلهداء؛ فهي سيدة‬ ‫على تلك الشريحة االجتماعية التي انتقتها‬ ‫لتكشف عن عوالمها السرية‪ ،‬إنها سيدة‬ ‫البحريات‪ ،‬فحتما تستحق اإلهــداء‪ .‬وتظل‬ ‫عالمة االستفهام عمن تكون سهام معلقة أمام‬ ‫القارئ حين يقرأ النص‪ ،‬فربما لن يتكشف‬ ‫له مَن هي سهام؟ لكن حتما سيكتشف أن‬ ‫البحريات جديرات برواية كاملة‪ ،‬وسيدتهن‬ ‫(سهام) جديرة بالتالي باإلهداء‪.‬‬ ‫المقدمة‬ ‫ّ‬ ‫ثانيا‪:‬‬ ‫من العتبات المهمة في الرواية هو خطاب‬ ‫المقدمة‪ ،‬والمقدّمة هي أوّل ما يُقرأ من‬ ‫الكتاب‪ ،‬وهي أيضاً آخر ما يُكتَب فيه‪ ،‬إنّها‬ ‫النص‬ ‫ّ‬ ‫بمثابة مفتاح الباب المؤدّي إلى كنز‬ ‫الذي يسعى المؤلِّف إلى أن يُظهرَه قارئه‪،‬‬ ‫بعد أن تكون فكرتُ ُه قد نضجتْ ‪ ،‬وصــورةُ‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫أميمة تحصل على جائزة نجيب محفوظ للرواية‬

‫َضــحَ ــتْ ‪ .‬وثمة روايــات يحرص وداللةً‪ ،‬وتهيئ اإلطار العا ّم الذي ستدور فيه‬ ‫مُؤلَّفه قد و ُ‬ ‫الكاتب فيها على وجــود مقدمة لروايته‪ ،‬وقائع الرّواية؛ ك ّل ذلك قصد تحفيز القارئ‬ ‫وهناك من الروايات التي تخلو من المقدمة‪ .‬وتأطير الرواية وتحبيكها»(‪.)10‬‬ ‫والمقدّمة ذات سلطة توجيهيّة‪ ،‬تداولية‬ ‫نصه؛ فهي‬ ‫يستثمرها المؤلّف في خدمة ّ‬ ‫تفرض «ميثاقاً قرائياً ضمنياً يُلزم القارئ‬ ‫باالنصياع للكاتب‪ ،‬وبقراءة ما كتبه في ضوء‬ ‫للنص‬ ‫ّ‬ ‫إرشاداته وتوصياته؛ بما يضمن قراءة‬ ‫حسنة»(‪.)8‬‬ ‫إنّ المقدمة «وعــاء معرفي‪ -‬إيديولوجي‬ ‫يَسَ ع تصوّرات الكاتب ورؤاه للعالم‪ ،‬ويبيّن‬ ‫نصه؛ بل إنّها‬ ‫الغاية التي من أجلها كتب َّ‬ ‫جواب خفيّ عن سؤال مُفترض يشغل خاطر‬ ‫الكاتب ويُحيِّره»(‪.)9‬‬ ‫على أنّ المقدِّمة في األعمال اإلبداعيّة هي‬

‫تــكــتــب أمــيــمــة الــخــمــيــس فـــي روايــــة‬ ‫«البحريات» مقدمة تخبر فيها القارئ عن‬ ‫هؤالء النسوة الالتي قدمن مع البحر‪ ،‬ونظرة‬ ‫المجتمع السعودي لهن‪ ،‬وعالقتهن بالمجتمع‬ ‫وبالبلدان األخ ــرى التي هــي وراء البحر‪،‬‬ ‫والــتــوق النفسي لهذه البلدان التي قدمن‬ ‫منها‪ ،‬وتــبــدأ المقدمة ببيت شعر لجرير‬ ‫ينفي فيه بعض صفات البحريات عن النساء‬ ‫العربيات‪ ،‬فالعربية الحق ال يجب أن تتسم‬ ‫بصفاتهن‪ ،‬تقول الخميس‪« :‬قــال الشاعر‬ ‫جرير منذ ما يقرب من ألف عام‪:‬‬

‫ِعـ ـ ــراب ـ ـ ـ ًا لـ ــم َي ـ ـ ـ ـ ِـدنَّ مـ ــع ال ـن ـص ــاري‬ ‫مباشر يستخدمه المؤلّف‬ ‫ِ‬ ‫نصيٍّ‬ ‫آخر فضاء ِّ‬ ‫ولـ ـ ــم ي ــأكـ ـل ــن مـ ــن سـ ـم ــك الـ ـق ــراح‬

‫قبل أن ينتقل إلــى فضاء المتن المركزي‪،‬‬ ‫واصـ ًفــا نسوة الجزيرة العربية اللواتي‬ ‫ويسلم زمام السَّ رد إلى الراوي‪ .‬إنَّها «مدخل‬ ‫أســاس لولوج كون الرواية الحكائي‪ ،‬ألنّها يقبعن فــي قلب الــصــحــراء‪ ..‬لــم تمازجهن‬ ‫النص الرّوائي تشكي ً‬ ‫ّ‬ ‫تُسهِ ُم في استجالء‬ ‫ال البحار ولم يذقن السمك قط»‪.‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪23‬‬


‫إذاً‪ ،‬جرير ومــن بعده الكاتبة تنفي عن‬ ‫حرائر الجزيرة تهمة‪ ،‬وتثبتها للبحريات‪،‬‬ ‫فهل هــذا مــا أرادتـ ــه أميمة الخميس من‬ ‫روايتها؟ هل يصب ذلــك في رافــد الداللة‬ ‫الكلية للرواية؟ في الحقيقة مَن يقرأ الرواية‬ ‫يكتشف أن الكاتبة تنتصر لهؤالء النسوة‪،‬‬ ‫لكنها من خالل المقدمة‪ ،‬ومن خالل بيت‬ ‫جرير‪ ،‬ثم من خالل السياق الروائي أرادت‬ ‫أن تعري الثقافة التي تنال من هؤالء النسوة‬ ‫وتهمشهن‪ ،‬وتنتصر لثقافة الجزيرة التي‬ ‫تفضل نساء الصحراء الالتي لم يخالطن‬ ‫البحر على هؤالء البحريات‪.‬‬ ‫تواصل الكاتبة مقدمتها‪ ،‬وترمي مزيدًا‬ ‫مــن الــخــيــوط والــصــفــات حــول البحريات‪،‬‬ ‫فتقول‪« :‬يبدو أن هذا التشبيه (تقصد تشبيه‬ ‫جرير لنساء الجزيرة) ظل قابعًا في الوجدان‬ ‫الشعبي ألهــل الجزيرة‪ ،‬فباتوا ينعتون كل‬ ‫َمــن ال يلتثم بــجــذور قبلية (طــرش بحر)‪،‬‬ ‫أي الشتات الذي يقذفه البحر إلى جزيرة‬ ‫انتقاصا ووصمة‬ ‫ً‬ ‫العرب‪ ،‬بحيث بات البحر‬ ‫تمنع نقاء الساللة»(‪!)11‬‬

‫‪24‬‬

‫الصحراء نفسها تتكشف عن قباب المدن‬ ‫الذهبية الفارهة التي برقشت وجه الجزيرة‪.‬‬ ‫حدث أن شهقت موجة بحرية عارمة فغمرت‬ ‫وجه الجزيرة للحظات‪ ،‬وحين انحسرت كانت‬ ‫قد خلّفت وراءهــا عــددًا كبيرًا من النسوة‬ ‫الــبــحــريــات‪ ،‬انــتــثــرن هنا وهــنــاك‪ ،‬بعضهن‬ ‫استوحشن الصحراء‪ ،‬وعُد َن مع ارتداد أذيال‬ ‫الموجة‪ ،‬وبعضهن اآلخر بقين هناك جذرّن‬ ‫أقــدامــهــن‪ ،‬وم ــددن أذرعــهــن‪ ،‬لتتحول إلى‬ ‫أشجار بعضها شجر تفاح‪ ،‬وبعضها دراق‪،‬‬ ‫وبعضها اآلخر برتقال‪ ،‬ولكن جميعهن بقين‬ ‫يحتفظن بمالمحهن البحرية ورائحة المدن‬ ‫الساحلية التي قدِ من منها»(‪.)12‬‬ ‫إذاً‪ ،‬تحكي ال ــرواي ــة قــصــصــهــن‪ ،‬ليس‬ ‫قصص الرجوع والعودة‪ ،‬بل قصص البقاء‬ ‫والتجذير ومد األفــرع والنمو‪ ،‬ثم األزهــار‪،‬‬ ‫لكن يظل التوق والحنين يسيطر عليهن‪،‬‬ ‫وتظل روائح المدن القديمة تعلق بأرواحهن‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬حملت المقدمة التي كتبتها أميمة‬ ‫الخميس رؤيتها للعالم مع الخيوط الدرامية‬ ‫التي سوف تكوّن النسق السرديّ للنص‪.‬‬

‫إذاً‪ ،‬المقدمة تمهّد لالشتباك مع الثقافة‬ ‫اإلقــصــائــيــة الــتــي تــرسّ ــخــت فــي الــوجــدان‬ ‫الجمعي ألهل الجزيرة العربية‪ ،‬والتي تعود‬ ‫جــذورهــا للثقافة الشفهية المرتحلة عبر‬ ‫الذاكرة الجمعية والتي تكوّنت من الشعر‬ ‫واألمــثــال وغــيــرهــا مــن فــنــون الــقــول‪ ،‬هذه‬ ‫الوصمة «البحريات» تشير إلى عدم نقاء‬ ‫الساللة‪ ،‬وكأن هناك عرق نقي في العالم!!‬

‫العناوين الداخلية للنص‬

‫تــواصــل الــكــاتــبــة كــشــف خــيــوط رؤيتها‬ ‫للعالم‪ ،‬والتي سوف تتسع وتتجلى في النسق‬ ‫السردي‪ ،‬فتقول‪« :‬بعد بيت الشعر ذلك بما‬ ‫يقارب األلف عام‪ ،‬وحينما بدأت رمال تلك‬

‫تعد العناوين الداخلية عتبة مهمة؛ فهي‬ ‫امتداد لعتبة العنوان الرئيس‪ ،‬وأحد تجلياته؛‬ ‫فالفصل األول بطلته واحدة من أهم نساء‬ ‫البحر‪ ،‬بطلة البحريات‪ ،‬وربما تكون هي‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫المقدمة الداخلية‬ ‫قليلة هي الروايات التي تستخدم مقدمات‬ ‫للفصول المختلفة في الــروايــة‪ .‬فلم تقدم‬ ‫الكاتبة لفصول روايتها بمقدمات‪ ،‬فالمقدمة‬ ‫ســواء كانت مقدمة عامة أم داخلية‪ ،‬تظل‬ ‫اختيارًا وانحيازًا يختاره الكاتب وينحاز إليه‪.‬‬


‫* ‬ ‫(‪ )١‬‬ ‫(‪ )٢‬‬ ‫(‪ )٣‬‬ ‫(‪ )٤‬‬ ‫(‪ )٥‬‬ ‫(‪ )٦‬‬

‫ ‬

‫(‪ )٧‬‬ ‫(‪ )٨‬‬ ‫(‪ )٩‬‬ ‫(‪ )١٠‬‬ ‫(‪ )١١‬‬ ‫(‪ )١٢‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫سيدتهن بعد «سهام» صاحبة اإلهداء‪ ،‬إنها‬ ‫«بهيجة» التي كانت جارية لدى الملك (لم‬ ‫تشر الكاتبة إلى فترة زمنية بعينها‪ ،‬لنعرف‬ ‫أي ملك أهــدى «بهيجة» لوزيره‪ ،‬الــذي قام‬ ‫بدوره بإهدائها إلى أحد المقربين منه‪ ،‬فقام‬ ‫الرجل بتزويجها من ابنه «صالح»)‪ .‬وتحضر‬ ‫بهيجة في النص ببهجتها وصخبها‪ ،‬فهي لها‬ ‫من اسمها نصيب‪ ،‬تلك الشامية الجميلة‬ ‫التي كانت قادرة على أن تدخل البهجة على‬ ‫المكان الذي تحل فيه‪« :‬كانت فاقعة‪ ،‬مفرق‬ ‫شعرها الكستنائي المشقّر‪ ،‬يلتمع تحت‬ ‫غطاء رأسها التل األســود الشفاف‪ ،‬الذي‬ ‫يغطي رأسها‪ ،‬ومن ثم يستدير حول وجهها‪،‬‬ ‫وعندما يالمس وجنتها البيضاء المرتفعة‬ ‫الالمعة كان يزيدها غرابة»؛ ومصدر الغرابة‬ ‫هو المغايرة عن نساء جزيرة العرب الالتي‬ ‫لهن من قسوة الصحراء نصيب‪ ،‬انعكس على‬ ‫مالمحهن كما وصفتهن الكاتبة‪.‬‬

‫يأتي الفصل الثاني ليكمل سردية جمال‬ ‫«بهيجة»‪ ،‬فعنوانه «بحرية من ساللة اللوز‬ ‫األخضر» ونرى ما لوصف البحرية بهيجة‬ ‫بأنها من ساللة اللوز‪ ،‬لما للوز من جمال؛‬ ‫إن بهيجة تشعر بالحنين إلى موطن اللوز‪،‬‬ ‫إلى دمشق الشام‪« :‬بهيجة التي كانت تعاني‬ ‫لــواعــج فـــراق أهــلــهــا عــنــدمــا تــهــب الــريــاح‬ ‫الموسمية الحارة في شهور الصيف على‬ ‫نجد‪ ،‬فتتشقق األيدي وتجف الشفاه‪ ..‬كان‬ ‫جفاف الهواء يُحرّش خياشيمها الداخلية‪،‬‬ ‫تلك الخياشيم التي اعتادت الظالل المنداة‬ ‫التي تمنحها أشجار الشام لعتمة المساء»‪.‬‬ ‫وهكذا تواصل الكاتبة توظيف العتبات‬ ‫الداخلية للفصول التي تأتي بمثابة مفاتيح‬ ‫للقراءة وكاشفة عــن عالم الــروايــة لثالثة‬ ‫وعــشــريــن فصال وثــاثــة وعــشــريــن عنوانا‬ ‫كاشفاً‪.‬‬

‫كاتبة من السعودية‪.‬‬ ‫انظر حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي من منظور النقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬ ‫البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى سنة ‪1991‬م‪.‬‬ ‫جميل حمداوي العتبات النصية‪ ،‬مجلة عتبات الثقافية‪ ،‬العدد األول‪ 25 ،‬يناير ‪2012‬م‪.‬‬ ‫انظر خالد حسين حسين‪ :‬في نظرية العنوان (مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية)‪ ،‬دار التكوين‪،‬‬ ‫دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪2007 ،‬م‪ :‬ص‪.)138-137‬‬ ‫انظر‪ :‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ :‬ج‪ 5‬ص‪ .4641‬وابن فارس‪ ،‬معجم مقاييس اللغة‪ :‬ج‪ 6‬ص‪ .43‬ود‪ .‬أحمد‬ ‫مختار عمر وآخرون‪ ،‬معجم اللغة العربية المعاصرة‪ :‬ج‪ 3‬ص‪.2336‬‬ ‫عبدالحق بلعابد‪ ،‬عتبات (ج‪ .‬جينيت من النص إلــى المناص)‪ ،‬الــدار العربية للعلوم ناشرون‪،‬‬ ‫بيروت‪2008،‬م‪ :‬ص‪.94‬‬ ‫جميل حمداوي‪ ،‬شعرية النص الموازي‪ ،‬شبكة األلوكة‪ ،‬طبعة أولى ‪2014‬م ص‪.110‬‬ ‫‪/www.alukah.net/books/files/book_8963/bookfile‬‬

‫عبدالحق بلعابد‪ ،‬عتبات (ج‪ .‬جينيت من النص إلى المناص)‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص‪.99‬‬ ‫جميل حمداوي‪ ،‬شعرية النص الموازي‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص‪.190‬‬ ‫عبدالحق بلعابد‪ ،‬عتبات (ج‪ .‬جينيت من النص إلى المناص)‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص‪.124‬‬ ‫نزار قبيالت‪« :‬العتبات النصية لرواية «أوراق معبد الكتب» لهاشم غرابية أنموذجاً‪ ،‬مجلة اﻟﻌﻠوم‬ ‫اﻹﻧﺳﺎﻧﻳﺔ واﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻳﺔ‪ ،‬اﻟﻣﺟﻠّد‪ .41 .‬اﻟﻌدد‪2014.‬م‪- .‬‬ ‫أميمة الخميس‪ ،‬البحريات‪ ،‬ط‪ ،5‬دار مدارك للنشر‪ ،‬دبي‪2014 ،‬م‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪25‬‬


‫ُ‬ ‫وحكايات األطفال‬ ‫أميمة الخميس‬

‫مطير*‬ ‫■ مصطفى خالد‬ ‫ّ‬

‫ليس هناك من ينكر أهمية القصة في حياة الطفل‪ ،‬وقــد أكــدت الكثير من الدراسات‬ ‫التربوية والسيكولوجية أهمية القصة بالنسبة لألطفال‪ ،‬من حيث كونها أهم األساليب‬ ‫التربوية المؤثرة والفعالة في تربية الطفل وتوجيهه‪ ،‬لما لها من قوة تأثير على متلقيها‬ ‫سلب ًا أو إيجاباً‪ ،‬ذلك حسب نوعها والهدف منها‪ .‬كما لم يختلف رأيان حول دور القصة في‬ ‫توجيه السلوك لدى الطفل وغرس المبادئ الجيدة فيه‪ ،‬وزرع الفضائل‪ ..‬كما أنَّ لها الدور‬ ‫الكبير في تنمية اللغة وتهذيبها وتقوية الخيال في ذهن األطفال‪ ،‬فض ًال عن تأثيرها في‬ ‫إدخال البهجة والسرور في نفوسهم‪.‬‬ ‫ـاص بفكرة تشويق الطفل وجــذبــه لالستماع والتأمل‬ ‫وألميمة الخميس اهتما ٌم خـ ٌ‬ ‫الطفل منذ بدايات كتاباتها‪ ،‬وهي الكاتبة والتفكير‪ ،‬إضافة إلى إثارة خياله واإلبحار‬ ‫السعودية‪ ،‬التي ولــدت وتعلمت في مدينة به في عالمه المميز‪.‬‬ ‫الرياض‪ ،‬والحاصلة على درجة البكالوريوس‬ ‫وتــعــد تــلــك الــمــجــمــوعــات القصصية‬ ‫فــي األدب الــعــربــي‪ ،‬ودبــلــوم لغة إنجليزية لــلــكــاتــبــة أمــيــمــة الــخــمــيــس مــصــدر إمــتــاع‬ ‫ا لتنمية‬ ‫من جامعة واشنطن‪ ،‬والتي عملت معلمة وتسلية للطفل‪ ،‬وكــذلــك مــدخ ـ ً‬ ‫في القطاع التربوي‪ ،‬ومن ثم مديرة إلدارة القيم الدينية وترسيخها لديه‪ ،‬وتعزيز قيم‬ ‫اإلعالم التربوي في وزارة التربية والتعليم االعتزاز بالوطن والتراث والتاريخ‪ ،‬واكتساب‬ ‫(وزارة التعليم حاليا)‪ .‬ومن الالفت أهمية المعلومات الخاصة به‪ ،‬إضافة إلى تنمية‬ ‫اختيارها للعناوين بشكل مختلف تمامًا‪ ،‬المفاهيم العلمية والرياضية واالجتماعية‪،‬‬ ‫فحين تنظر إلــى تلك العناوين فأنت تبدأ وإثراء الحصيلة اللغوية لدى الطفل وتزويده‬ ‫بـ‪ :‬سلسلة حديقة الطلح‪ ،‬سلسلة متكاملة بمفردات وتراكيب لغوية جديدة؛ كما تنمي‬ ‫تدفعك للتساؤل! وهل للطلح حديقة؟ وكيف القصة مــهــارة االســتــمــاع واإلنــصــات لدى‬ ‫ينمو؟ وكيف يتكون حول ذاته ليخلق لنفسه الطفل‪ ..‬وتنمي كذلك الميول القرائية لديه‪،‬‬ ‫حديقة متكاملة؟‬ ‫وتُكسبه القدرة على النقد والتحليل والتقويم‬ ‫انتقاال إلــى «عصفور الحنطة»‪ ..‬وتلك من خالل إبداء الرأي في شخصيات القصة‬ ‫القصة التي ترجمت لليابانية ‪-‬الكورية وتحليلها وتقويمها‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫ التشيكية ‪ -‬األلمانية‪ ،‬دليل على أهمية‬‫ال‬ ‫قصص األطفال المشوقة التي تعد عم ً‬ ‫فنيًا يمنح الطفل الشعور بالمتعة والبهجة‪،‬‬ ‫لما تمتلكه مــن مــمــيــزات‪ ..‬كــالــقــدرة على‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫وحين تقرأ قصة «حكاية قطرة»‪ ..‬تدرك‬ ‫أنك أمــام مشروع طفولي تربوي‪ ،‬فالقصة‬ ‫تساعد الطفل على فهم السلوك اإلنساني‪،‬‬ ‫وتعزيز االتــجــاهــات اإليجابية نحو القيم‬


‫اإلنسانية األصيلة‪ ،‬كما تثير خيال الطفل‬ ‫وتثري فكره‪ ،‬وتعزز لديه حب االستطالع‪،‬‬ ‫وتعد مــصــدراً مهماً لتعزيز شعور الطفل‬ ‫جو عائلي مليء‬ ‫بالطمأنينة واألمان‪ ،‬وإضفاء ٍ‬ ‫باأللفة والمحبة‪ ،‬وهــذا الجو شبيه بالجو‬ ‫فقصة «فـــراس األس ــد الــشــجــاع»‪ ،‬منذ‬ ‫الــذي يشعر به الطفل مع أ ُ ِّمــهِ وهي تسرد العنوان تتعرف إلى بطولة فراس وشجاعته‬ ‫له قصة‪.‬‬ ‫وتشبيهه باألسد قوة‪ ،‬فتلك القصص تجعلنا‬ ‫وحــيــن تمر على قصة «س ــارق الــلــون»‪ ،‬نؤكد أن التعلم بالقصة قبل أن يكون مكتسبًا‬ ‫يثيرك العنوان لتبحث في ثنايا األوراق عن من الغرب‪ ،‬فإنه موجود في ديننا اإلسالمي‬ ‫مدلول السرقة التي تعالجها فكرة القصة وتــراثــنــا األصــيــل؛ فــالــرســول عليه الصالة‬ ‫بلغة مجازية بسيطة تناسب الطفل‪ ،‬وتجعله والسالم علم الصحابة بالقصة‪ ..‬والدليل‬ ‫يعيش خياال متنقال من بيئة‪ ،‬كما ننتبه ونحن القصص القرآني‪ ..‬وكم كان تأثيرها على‬ ‫نطلع على قصصها أنــهــا تختلف حسب الــرجــال كبيراً فكيف على الــصــغــار؟! كما‬ ‫الفئة العمرية والجنس‪ ،‬وإن كان اختالفها اعتدنا على قصص الجدات التي كنا نتشوق‬ ‫حسب العمر أكثر‪ ..‬أما من حيث الجنس‪ ،‬لسماعها منذ قــديــم الــزمــان حتى يومنا‬ ‫فالقصص التي تحبها اإلنــاث تختلف عن هذا‪ ..‬وهذا من أحد فوائد األسرة الممتدة‬ ‫القصص التي يحبها الذكور‪ ،‬فاإلناث يَمِ لن التي يزرع فيها الجد والجدة عبر القصص‬ ‫إلى القصص العاطفية والرومانسية التي التي يروونها قيمًا تربط الصغار بتراثهم‬ ‫تنسجم مع طبيعتهن‪ ،‬أما الذكور فيميلون وماضيهم العريق‪.‬‬ ‫لقصص المغامرات والبطوالت‪ ،‬وهــذا ما‬ ‫وهذا ما سعت إليه أميمة الخميس من‬ ‫تفعله الخميس منذ الــعــنــوان‪ ،‬فأنت تجد خالل كل مجموعاتها القصصية المتوافرة‬ ‫نفسك موجهًا مباشرة للقصة التي تبحث بين أيدي األطفال وأهلهم‪.‬‬ ‫عنها‪ ،‬فلن تبتعد الفتاة عن قصة «ألنك بنت»‬ ‫وهنا‪ ،‬ال بد من االنتباه للقصة التي نقرأها‬ ‫حيث سيلقي بها خيالها أنها ستجد نفسها‬ ‫أو يقرأها الطفل بنفسه بأن يكون الخيال‬ ‫هناك‪.‬‬ ‫فيها معقوالً وإيجابياً‪ ،‬فنحن نريد من الطفل‬ ‫وقصة «وضحى الفراشة الصحراوية» أن ينمّي خياله وتأمالته دون أن يغرق نفسه‬ ‫التي تجعلك تغني وأنت تقرؤها‪ ،‬وهي القصة في عالم آخــر اتحد معه عبر القصة‪ ،‬وال‬ ‫التي قدمت كعرض باليه للصغار في فينا‪ .‬يدري أنه يختلف عن الواقع الذي يعيش فيه؛‬ ‫وتلك العناوين الالفتة في اختيارها‪ ..‬وهــذا ما صنعته أميمة حين كانت تقتبس‬ ‫تدل على أن القصص التي يحتاجها األطفال شخصياتها من الواقع‪ ،‬إضافة إلى اكتسابها‬ ‫تختلف نوعها حسب المرحلة العمرية التي مهارة ش ِّد األنظار منذ العتبة األولى‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫يمرون بها‪ ،‬فهناك القصص االجتماعية‪،‬‬ ‫والخيالية‪ ،‬وقصص البطوالت والمغامرات‬ ‫واأللــغــاز‪ ،‬والقصص الواقعية‪ ،‬وغيرها من‬ ‫القصص‪.‬‬

‫ * كاتب من العراق‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪27‬‬


‫ُ‬ ‫ورذاذ الجمالي‬ ‫وهج الكتابة‬ ‫أميمة الخميس‪ُ ..‬‬

‫■ تركية العمري*‬

‫انفتاحا على اإلنسانية والجمالية مــعً ــا‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬ ‫تمثل كتابات الـمــرأة األدبـيــة فــي العالم‬ ‫حققت هذه الكتابات نموً ا للمجتمعات؛ إذ تعرّف الرجل على الكائن الذي يشاركه الكون‬ ‫وهو المرأة‪ ،‬كما منحت كتابات المرأة ازدهــارًا لألدب بشكل عام‪ .‬وترى الكاتبة البريطانية‬ ‫فرجينا وولف أن خصوبة األدب ُسلبت بسبب األبواب التي أُقفلت لزمن طويل أمام النساء‪.‬‬ ‫لقد ازده ــر أدبــنــا السعودي‬ ‫بسبب حــضــور كتابات النساء‪،‬‬ ‫وظهور الكاتبة السعودية‪ ،‬ومن بين‬ ‫الكاتبات تشرق الكاتبة والقاصة‬ ‫والروائية أميمة الخميس التي‬ ‫تمثل شعاعً ا ساطعًا في مشهدنا‬ ‫الثقافي‪ .‬فهي كاتبة المقال التي‬ ‫اهتمت بشؤون المجتمع‪ ،‬وبالمرأة‬ ‫خاصة‪ ،‬وهي القاصة التي فتحت‬ ‫عــبــر ســردهــا القصصي هموم‬ ‫ال ــم ــرأة الــســعــوديــة‪ ،‬وكـ ــان أول‬ ‫هطولها القصصي (والضلع حين‬ ‫استوى)‪ ،‬وهي التي مرت بالمجال‬ ‫التربوي ووضعت إشراقات تربوية‪ ،‬كما مرت بأدب‬ ‫الطفل فكانت (وسمية) أول هتانها لألطفال‪.‬‬ ‫وهــي كديمة بين مكاشفات صباحية رقيقة‪،‬‬ ‫لكأنها تخبر الــقــارئ عــن شــاعــرة تختبئ فيها‪،‬‬ ‫وهي الروائية التي كتبت السرد الروائي وفتحت‬ ‫لها األبواب‪ ..‬فعبرته بعمق فكرها‪ ،‬ورشاقة لغتها‪،‬‬ ‫لتسهم فــي اتــســاع وجــود الــروايــة السعودية في‬ ‫المشهد الثقافي العربي والدولي‪.‬‬ ‫ـض ــا بــتــقــديــم الــقــاصــات‬ ‫أســهــمــت أمــيــمــة أي ـ ً‬ ‫السعوديات عبر الملفات الثقافية التي كانت تعدها‬ ‫أو تشارك بإعدادها‪ ،‬ومنها كتاب صحيفة الرياض‪،‬‬ ‫وهنا نجد انفسنا أمام كاتبة تحمل مسئولية ثقافية‬ ‫تجاه وطنها ومبدعاته‪.‬‬ ‫كــانــت روايـــة (الــبــحــريــات) أول ق ــدوم أميمة‬ ‫الخميس للسرد الــروائــي‪ ،‬تلتها روايــة (الــوارفــة)‬

‫‪28‬‬

‫* كاتبة وقاصة ومترجمة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫التي داعبت بها البوكر العربية‪،‬‬ ‫لتأتي رواي ــة (زيـ ــارة ســجــى)‪ ،‬ثم‬ ‫روايــة (مسرى الغرانيق في مدن‬ ‫العقيق)‪ ،‬والتي تقترب من التاريخ‬ ‫والحقيقة‪ ،‬لتهدي القارئ ضــوءًا‬ ‫يقود إلى حقيقة تراها هي‪ ،‬وقد‬ ‫حصلت بهذه الرواية على ميدالية‬ ‫نجيب محفوظ لآلداب ‪ .2018‬لقد‬ ‫حققت روايــاتــهــا أص ــداء مضيئة‬ ‫ل ــدى الــقــارئ المحلي والــعــربــي‬ ‫واألجنبي أيضا‪.‬‬ ‫ولكن ماذا عن الكتابة والوعي‬ ‫لدى أميمة الخميس؟ تكونت الكتابة والوعي بها‬ ‫لدى أميمة منذ الصغر‪ ،‬فقد نشأت بين أنهار أسرة‬ ‫مثقفة‪ ،‬فنهلت من فــرات الفكر والكتابة واللغة‬ ‫واألدب‪ ،‬وشقت نهرها الخاص بها‪ ،‬فكانت الكاتبة‬ ‫التي حملت في داخلها مشاعل فكر تنويري يضيء‬ ‫لنساء وطنها اللواتي عانين من التهميش لوقت‬ ‫طويل‪.‬‬ ‫إن كــتــابــات أمــيــمــة الــخــمــيــس ال تــقــف عند‬ ‫منح القارئ المتعة الفكرية والجمالية البصرية‬ ‫والتخيلية عبر لغتها الشاعرية الرقيقة‪ ،‬ولكن هناك‬ ‫طبقات عميقة بين كتاباتها تدعو القارئ للتفكير‪،‬‬ ‫واالقتراب من اإلنسانية‪ ،‬وجماليات الحياة‪.‬‬ ‫وهي ‪-‬أميمة الخميس‪ -‬تستحق االحتفاء بها‬ ‫وبإبداعها ورؤاها التي أضاءت ثقافتنا‪ ،‬وأسهمت‬ ‫في تنمية مجتمعنا‪ .‬فقد نثرت الجميل‪ ،‬وتهامس‬ ‫األجمل‪ ،‬وترذ بالجمالي‪.‬‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ُ‬ ‫عودة غاليليو‪..‬‬

‫هارب ًا من خيانات البحر واليابسة‬ ‫■ عبداهلل بيال*‬

‫يُصرُّ الشاعر زكي الصدير على إدهــاش القارئ‪ ،‬وإنعاش ذاكرته الشعرية‪ ،‬بما‬ ‫توجس‬ ‫ٍ‬ ‫والخوض في المحاولة‪ ،‬دون‬ ‫ِ‬ ‫االختالف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫نصوص ممعنةٍ في‬ ‫ٍ‬ ‫يجترحه من‬ ‫تجريب وخلق الصورة المباينة للمعهودِ‬ ‫ِ‬ ‫أو ارتياب؛ مستحث ًا الفكر َة كي تمعن في‬ ‫الغموض المجاني الذي عاب الكثير من النصوص‬ ‫ِ‬ ‫قيد‬ ‫والمبتذل‪ ،‬والمنفلتة من ِ‬ ‫ـراك ال ـقــارئ أيـضـ ًا فــي مهمة خـلـ ِـق النص‬ ‫الشعرية الـحــديـثــة‪ ،‬وال ـق ــادرة على إش ـ ِ‬ ‫أدق كائناته ودالالته‪.‬‬ ‫الشعري‪ ،‬واستجوابه‪ ،‬والتعمق في ِ‬ ‫في مجموعة الشاعر األخيرة «عودة فيها أن يفتح بــوابــات الــتــجــريـ ِـب على‬

‫درجة عالية مصاريعها‪ ،‬بــمــزج األشــكــال الشعرية‬ ‫ٍ‬ ‫غاليليو»(‪ ،)١‬يأتي الشعر في‬

‫من النضوج‪ ،‬بعد أن خرج من تنّور تجربة فــي قــوالــب حــواريــة متفقة مــع الحالة‬

‫الشاعر ومحاوالته الحثيثة لخلق عالمه النفسية لكل نــص‪ ،‬وص ــوالً إلــى شهوة‬ ‫الشعري الخاص‪ ،‬بعيداً عن التقليدية المالئكة‪ ،‬ومجموعة حانة‪ ،‬ووقوفاً عند‬

‫والتكرار لألصوات الشعرية المهيمنة «عودة غاليليو»‪ ،‬تلك العودة التي تبشر‬ ‫على المشهد اإلبــداعــي؛ تلك التجربة بها الفنون جميعها‪ ،‬ألنها تؤم ُن بتجدد‬ ‫بحالة من حضورها وأبديته‪ ،‬وإن اختلفت أشكال‬ ‫ٍ‬ ‫التي لـوَّنــت النص الشعري‬

‫البنفسج الــقــادر على الجهر بأحقية هـــذا الــحــضــور الــمــؤبــد‪ ،‬إذ ال يمكن‬

‫وأهمية اندغام وتــزاوج الفنون‪ ،‬مــروراً للفنون أن تُــصــاب بــعــدوى الغياب‪ ،‬إ ّال‬

‫بجنيات شومان التي استطاع الشاعر بمعناه المجازيِّ الذي يستبطن حضوراً‬ ‫ٍ‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪29‬‬


‫زكي الصدير في أمسية شعرية‬

‫آخــر‪ ،‬وهنا يطل عــنــوان المجموعة «عــودة شعرية مــنــفــردة‪ ،‬بين كــل نصين شعريين‪،‬‬

‫غاليليو» ليعيد البشارة بذلك الحضور وتلك وينسحب هذا التكثيفُ على عدد النصوص‬ ‫العودة‪ ،‬للشعر والفلسفة والموسيقى والثورة‪ ،‬الشعرية الـ (‪ )73‬في المجموعة‪ ،‬والذي يبدو‬

‫بمضامينها المختلفة‪.‬‬

‫كبيراً مقارنة بعدد الصفحات الـ (‪ )83‬التي‬

‫تكثيف هذه المجموعة‪ ،‬حوت نصوص المجموعة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عمل الشاعر على‬

‫وكـ ــأنَّ التكثيف بــكــل أشــكــالــه ومــعــانــيــه هو‬

‫ـوص المجموعة بالكثير من‬ ‫تمتاز نــصـ ُ‬

‫الطريقة الوحيدة لمجابهة اللغة وعصرنتها‪ ،‬المالمح التي يمكن أن تتبدى لقارئها‪ ،‬وهي‬

‫خروجاً من قيود الشكل والمعنى المباشرَين؛ مالمح تقتبس حضورها وتأثيرها وقدرتها‬ ‫نجد التكثيف حاضراً في الصور الشعرية على التشكل‪ ،‬مــن الــشــاعــر ذاتـــه؛ أفــكــاره‪،‬‬ ‫التي حفلت بها المجموعة‪ ،‬وهو تكثيفٌ رمزي أوهامه‪ ،‬قناعاته‪ ،‬توجساته‪ ..‬إلخ‪ ،‬فهي تتمثُّله‬ ‫يقول ويصمت‪ ،‬يبدي ويُخفي‪ ،‬يش ُع ويخفت‪ ،‬كما يتمثَّلها تماماً‪.‬‬

‫ممتحناً فراسة القارئ‪ ،‬ومختبراً مدى تعمّقه‬

‫يظهر ملمح الغربة أو الوحشة الذاتية في‬

‫في تفاصيل الــصــورة‪ ،‬لينتقل هــذا التكثيف الكثير من نصوص المجموعة‪ ،‬والغربة هنا‬ ‫إلى الفكرة التي تبدو محركاً أساساً للصورة تخرج أحياناً من ذات الشاعر لتتجسد في‬ ‫ومبدعاً أولياً لكل تفاصيلها‪.‬‬

‫الذوات األخرى‪ ،‬بشري ًة كانت أم مادية‪ ،‬وهي‬

‫اغتراب الشاعر ووحشته‬ ‫ِ‬ ‫وبــالــمــرور على عــنــاويــن الــنــصــوص نجد تمظهرات تنبع من‬

‫والتكثيف الشعري المبذول في أسلوب الذاتية‪ ،‬وكأنَّها قد أصبحت مكوناً رئيساً من‬ ‫َ‬ ‫الجهد‬ ‫عنونتها‪ ،‬وكمية الصور الشعرية المتدفقة مكونات الشخصية المبدعة‪ ،‬ويتجلى ملمح‬

‫ال‬ ‫في كل عنوان‪ ،‬لكأنَّ الشاعر يحاول أن يمنح االغتراب والوحشة في بعض النصوص‪ ،‬فمث ً‬

‫‪30‬‬

‫القارئ فرص ًة للتوق ِّد الشعري بالتقاط صورة يقول الشاعر‪« :‬الغريب ُة الوحيدةُ التي تسك ُن‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫الورقة األولى من يومياتها‪ /:‬الغريبُ الوحي ُد تأخذ لــو َن الليلِ ‪ ،‬وطع َم الملحِ ‪ ،‬وأن تصب َح‬ ‫الذي يسكن بيتي‪ ،‬وال أعرفه‪ ،‬ينام معي» ص‪ ،14‬هاوي ًة ال يمكن للشاعر إ ّال أن يُسلم نفسه‬ ‫لكأنَّ االغتراب هنا شعو ٌر متباد ٌل بين ذاتين إليها‪.‬‬

‫حاضرتين في عمق غيابهما‪ ،‬وعلى القارئ‬

‫وهــنــا تتضح بعض المالمح األخ ــرى في‬

‫أن يبحر بكامل وعيه كي يغرق في تفاصيل مجموعة «عودة غاليليو»‪ ،‬إذ يحضر الليل بكل ما‬ ‫ِ‬ ‫ذلك الحضورِ‬ ‫حموالت تراثية وثقافية وأسطورية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الغائب‪ ،‬والغيبةِ الحاضرة؛ تلك له وفيه من‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫بيتي‪ ،‬وال أعرفها تنا ُم معي‪ /‬كان مكتوباً في‬

‫هــذا االغــتــرابُ وتلك الوحشة‪ ،‬يمكن أن‬

‫التي تتجلى بوعي شعري وشعوري في قول ذلك الليل الحاضر بسطوته وجبروته وقسوته‬ ‫الشاعر‪« :‬هــكــذا يلتقي شخصان غريبان‪ /‬وأســــراره وكــنــوزه وقبحه وجــمــالــيــاتــه‪ ،‬يبدو‬ ‫لهما الرصيفُ وللمارة الشارع‪ / .../‬غريبان‪ /‬كالراعي الوحيد لكل هذا القطيعِ من هواجس‬ ‫يــنــظــران لبعضها مــؤقــتــا» ص‪ ،31‬ومــا دام الــشــاعــر‪ ،‬ليصفه بكل إفــصـ ٍـاح بـــ‪« :‬الــراعــي‬

‫الغريبان في هذه الحالة المؤقتة فهما خليقان الليل ُي الضال‪ /‬تستقي ُل النجو ُم بين يديك‪/‬‬ ‫قمر جديد» ص‪ ،16‬تلك‬ ‫بأن يكتب لهما الشاعر معنوناً أحد نصوصه تبقى متأهباً لغواية ٍ‬

‫ٍ‬ ‫بـ «وصي ٌة‬ ‫لغريبة عابرةٍ في البيت» ص ‪36‬؛ الغواية تستدر ُج الشاعر إلــى حفلة الموتى‪،‬‬ ‫شاعر أل َ‬ ‫ٍ‬ ‫وبحدس‬ ‫ِ‬ ‫ـرف يص َّع ُد‬ ‫ِف االغترابَ وتعايش معه‪ ،‬و«هكذا ِينتهي بي الليلُ‪ /‬على جُ ـ ٍ‬ ‫ال بد وأن يحتاط لغربته األثير ِة لديه‪ ،‬ليضع بي إلى السماء» ص‪ ،23‬ليظل معرا ُج الشاعر‬ ‫مبكراً «الخطة ب» للتعامل مع هاجس الخوف مستمراً إلى ما ال نهاية له‪ ،‬وهو مع كل ذلك‬

‫من المحاولةِ ‪ -‬الغربة‪ ،‬ليقول‪« :‬الغريبُ الذي يظل وفياً لليلِ محتفياً به؛ فنجده هنا يصبح‪:‬‬ ‫قر َع بابكَ في منتصف الليل‪ / .../‬الغريبُ «مث َل ساحليٍّ يجمع سالل الربيعِ تحسُّ باً من‬

‫حياتك المُحتملة لــو أنــك أشــرعــتَ بابك» ليالي الرطوبة‪ /.../‬تست ُّل من منتصف الليل‬ ‫ص‪ ،66‬ليستمر هاجس الغربة والوحشة في نجم ًة فرّت من جحيم الكون» ص‪ ،29‬ألنه ربما‬

‫هذه المجموعة بالتناسل بين ٍ‬ ‫سماوية باهظة»‪ ،‬يستطيع من‬ ‫ٍ‬ ‫نص وآخر‪ ،‬حتى ظفِ َر بـ «فرجةِ‬ ‫نبض الليل» ص‪ ،30‬ولو فعل‬ ‫«يجس َ‬ ‫َّ‬ ‫يصل إلى شاطئ ذلك البحر الذي استوحش خاللها أن‬

‫واغــتــرب فأصبح «غريباً وســط اإلسمنت‪ /‬ذلك كما ينبغي «لكان أخذ من الليلِ هيبته‪ /‬من‬ ‫غريباً يعانقه السرا ُق والمتطفلو َن واألثرياء‪ /‬النهار حشودَه» ص‪38‬؛ هكذا يختبر الشاع ُر‬

‫غريباً يُغتَصبُ دون أن أسمع نشيجه السري» الليل فــي الكثير مــن نصوصه‪ ،‬ليبدو حيناً‬ ‫ال مصاباً بالحراسة الليلية» ص‪ ،40‬وحيناً‬ ‫ص‪ ،76‬وحين يغتربُ البح ُر بكل ما يحمله من «رم ً‬ ‫ِ‬ ‫رموز ودالالت‪ ،‬يكون كائ ُن‬ ‫ٍ‬ ‫االغتراب قد أخذ فرص ًة جيد ًة للرقص «إذا جاء اللي ُل الرخيص»‬

‫أكثر أشكاله اكتماالً في وعي الشاعر‪.‬‬

‫ص‪ ،46‬الذي ال يكف أن يكو َن «صديقي الذي‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪31‬‬


‫يرافقني بعد انطفاء الحانة‪/ .../‬أعرف الليل‬ ‫خــائــفـاً‪ /‬مــرعــوبـاً فــي الــشــارع» ص‪55‬؛ ومع‬

‫ذلك فاألحوط دائماً «بينما يحصي النائمو َن‬ ‫خرافهم‪ /‬ال تغفل عن ليلك» ص ‪68‬؛ واجلس‬

‫رصيف الليل» وقل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫على «كرسيٍّ افتراضي فوق‬

‫«مَن يقاسمني هذا الليلَ‪ /‬دون أن يسألني عن‬ ‫اسمي؟» ص ‪75‬؛ سيعتذر إليك اللي ُل مرغماً‪،‬‬ ‫وستمضي عنه قــائ ـاً‪« :‬مــا لــي ولــهــذا الليل‬ ‫المالح» ص‪.65‬‬

‫يظهر ملم ٌح آخر حس ٌي ومعنوي من مالمح‬

‫المجموعة‪ ،‬وهو ملمح ذوقي الذع‪ ،‬من ّك ٌه بالملح‪،‬‬

‫بكل معانيه ودالالته المتعددة‪ ،‬أنواعه‪ ،‬شفافيته‪،‬‬

‫بياضه‪ ،‬انمحائه‪ ،‬ذوبانه‪ ،‬حقيقته ومجازه؛ وقد‬

‫عمد الشاعر إلى ما يشبه عملية رش الملح بين‬ ‫العديد من نصوص المجموعة‪ ،‬وكأنه يحاول لم يجد الشاع ُر بُداً من االعتراف التام بكونه‬ ‫ال مالحاً‪ /‬ليس‬ ‫بهذه العملية أن ينعش ذاكرة القارئ وحواسِّ ه‪« ،‬فريسة الملح»‪ ،‬وأنه يحتا ُج «رم ً‬

‫مانحاً قيم ًة ذوقية لما يستحق‪ ،‬وسالباً تلك بطعم الروتين اليوميِّ للشمس» ص‪40‬؛ وحين‬ ‫القيمة عما ال يستحق؛ ومــن «الليلِ المالح» يحين موعد الرقص‪-‬الهرب‪-‬الخلوص إلى‬ ‫ص‪ ،65‬الذي يتبرأ الشاع ُر منه وينفض يديه من أقاصي الــروح‪ ،‬فال بد أن يكون هذا الرقص‬ ‫بطعم غير منزّهاً عن مخالطة األرض المالحة‪« ،‬ارقص‪/‬‬ ‫ٍ‬ ‫عالقته به‪ ،‬ذلك الليل الذي التبس‬ ‫معتاد لدى الشاعر‪ ،‬فلم يجد بُداً من اختبار وحدكَ قصياً عن األرض المالحة» ص‪ ،46‬هذا‬ ‫ٍ‬

‫تلك الملوحة‪« :‬بسطتُ يــدي‪ /‬كانت مالحةً» الرقص جدي ٌر بأن ال يلتفت إلى «فزاعةِ الملح»‬ ‫ص‪ ،32‬تلك الملوحة التي امتزجت بملوحة المنصوبةِ في طريقِ رثاءاتنا المجانية للشهيدِ‬ ‫حروب الملح‪ .../‬نسيَ‬ ‫ِ‬ ‫الليل المطبقِ على روح الشاعر‪ ،‬الذي يبدي الذي كان «يحرسنا من‬ ‫إيماناً ساخراً بذلك التقليد الذي يقضي‪ :‬بـ «أن أن البحر مال ٌح أيضاً» ص‪51‬؛ من البحرِ إلى‬ ‫ـواف الرصيف‪/ .../‬أن نتعفَّن البحرِ يظل المل ُح شاهداً ومشهوداً عليه‪ ،‬يرفعه‬ ‫نبصق على حـ ِّ‬ ‫كراية‪ ،‬يل ِّو ُح بها ليقول‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫بطيئاً رغم ملوحتنا» ص‪39‬؛ ويا للمفارقة إذ الشاع ُر أمام العالم كله‬ ‫رغم ك ِّل هذه الملوحةِ التي انغرسنا فيها فإننا ها أنــذا راس ـ ٌخ بتأريخي وانتمائي وكينونتي‬

‫‪32‬‬

‫ما نزال مؤهلين للتعفّن البطيء‪ ،‬ربما لذلك «بملوحةِ البحرِ على جلدي‪ /‬بغبار الصحراءِ‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫وألنَّ الملح في بعض حاالته‪ ،‬يمثِّل صور ًة‬ ‫من صور التهاوي الفظيع‪ ،‬واالنمحاء والذوبانِ‬ ‫الــســريــع‪ ،‬كــان الملح قريناً للهاوية‪ ،‬ومــؤذنـاً‬ ‫بالتالشي واالنــتــهــاء‪ ،‬لذلك كــان هــذا العال ُم‬ ‫أرتال من الملح جديراً بأن يُختصر‬ ‫المبني على ٍ‬ ‫قابل للتدويرِ في كل‬ ‫«مشهد بالستيكي» ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫لحظاته‪ ،‬وربما يستحق الشاعر أن يغبط نفسه؛‬ ‫ألنه قد اكتشف قبل الخطوة األخيرة هشاشة‬ ‫األرض المالحة التي كان ينوي غرس جذوره‬ ‫فيها‪ ،‬ليقول لذاته‪« :‬بين جميعِ من سبقوكَ كنتَ‬ ‫األوف َر حظاً‪ /‬ربما ألنك اكتشفتَ قبل الخطوة‬ ‫األخيرة‪ / .../‬أنَّ ما اعتبرتها أرض ًــا لم تكن‬ ‫سوى هاوية» ص‪ ،48‬وهو بالرغم من إيمانه‬ ‫وعي ينسى‬ ‫بهذه المعرفة فإنه أحياناً وبدون ٍ‬ ‫و«يجلس على حافة الوادي‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫«نبوءة الهاوية»‪،‬‬ ‫معتقداً أنَّ الحشو َد مأم ُن الهاوية»‪ ،‬إنّها الغبطة‬ ‫حشد أن‬ ‫ٍ‬ ‫الساحرة التي يمكن لالنغماس في أيِّ‬ ‫يهبكَ إياها‪ ،‬ولكنها سريعاً ما تنقضي لتكتشف‬ ‫أنَّ الهاوية قد ابتلعتك‪ ،‬لتأخذ مكانكَ «في‬ ‫انتظار حفلةِ الموتى» في الجُ رف الصاعد إلى‬ ‫لألرض‬ ‫ِ‬ ‫السماء الــذي «كلما فتحتُ له هاوي ًة‬ ‫بشهاب» ص‪ ،23‬يقو ُل الشاعرُ؛ وكأنَّ‬ ‫ٍ‬ ‫باغتني‬ ‫الهاوية هي قد ُر الشاعر الذي ال مناص منه‪،‬‬ ‫ولكنه لم يحتط لها كما يجب‪ ،‬و«لو كان يدري‬ ‫المأخو ُذ بالمنحدرِ أنَّ مصيرَه االرتطام‪/ .../‬‬ ‫سالل‪ ،‬يوزعها على‬ ‫ٍ‬ ‫لكان ادَّخر الحياةَ كلَّها في‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫في مسامات وجهي»‪.‬‬

‫رفقاءِ الهاوية» ص‪ ،38‬ربما «في الطريقِ إلى‬ ‫الهاوية‪ /‬قبل االرتطامِ بقليل‪ / .../‬في الهاويةِ‬ ‫أثناء االرتطام‪ / .../‬في الهاوية بعد االرتطامِ‬ ‫مباشرةً» ص‪ ،41‬وليعمِّق الشاع ُر من حتمية‬ ‫الهاوية وعبثية الفرار من االرتطام بقاعها‪ ،‬ها‬ ‫مخاتلة أو مناورة‬ ‫ٍ‬ ‫هو يناش ُد الحياةَ هاوي ًة دون‬ ‫عليك ‪-‬منذ البدايةِ ‪ -‬أن تأخذينا مباشر ًة‬ ‫ِ‬ ‫«كان‬ ‫إلى الهاوية» ص‪.80‬‬ ‫بنصوص شعرية جاءت‬ ‫ٍ‬ ‫حفلت المجموعة‬ ‫خاصة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إهـــداءات لشخصيات أدبــيــة عــامـ ٍـة‪،‬‬ ‫قريبة‪ ،‬وبعيدةْ‪ ،‬ولكنها تشترك جميعُها في‬ ‫ٍ‬ ‫إيمانها بعودة غاليليو‪ ،‬تلك العودة التي تحمل‬ ‫معنيين‪ ،‬األول‪ :‬يتمثل في عود ِة زمن الخرافةِ ‪،‬‬ ‫ـوف أمـ ــام ســلــطــانِ ال ــزي ـ ِـف‪ ،‬وضجيج‬ ‫وال ــخ ـ ِ‬ ‫الغوغاء‪ ،‬بينما يسفر المعنى الثاني عن عود ِة‬ ‫الثور ِة والعصيانِ على التجهيلِ ‪ ،‬وتعليب الوعي‪،‬‬ ‫واجبات الضمير‬ ‫ِ‬ ‫محاولة للتهرّب من‬ ‫ٍ‬ ‫دون أيِّ‬ ‫األخالقي واإلنساني‪ ،‬وإن كلّفها ذلك أن تصبح‬ ‫كهنوتية هزلية‪ ،‬كتلك التي‬ ‫ٍ‬ ‫لمحاكمة‬ ‫ٍ‬ ‫أسير ًة‬ ‫تضمنها نص «عودة غاليليو»‪ :‬خائفٌ ‪ /..‬حتى‬ ‫في القولِ «إنــكَ خائفٌ » خائفٌ ‪ /‬ال تجرؤ أن‬ ‫تهمس ألحدهم‬ ‫َ‬ ‫الشمس‪ /‬وال أن‬ ‫ِ‬ ‫تشي َر إلــى‬ ‫األرض تــدور»‪ /‬أنــتَ خائفٌ من خوفكَ ‪/‬‬ ‫َ‬ ‫«إنَّ‬ ‫تدس مجازاتكَ في شقوقِ‬ ‫مطمئ ٌن لسكينتكَ ‪ُّ /‬‬ ‫جدرانكَ ‪ /‬تتأك ُد أ ّال أح َد استطا َع أن يختر َق‬ ‫تأويلكَ ‪ /‬تخافُ مــن‪ /...‬تُشع ُل نــاركَ عاليةً‪/‬‬ ‫ليتخيلوكَ طيفاً وينسوكَ »‪.‬‬

‫ * كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫(‪ )١‬مجموعة شعرية للشاعر السعودي‪ ،‬زكي الصدير‪ ،‬صدرت عن منشورات المتوسط ‪ -‬ميالنو‪-‬إيطاليا‪،‬‬ ‫الطبعة األولى ‪2019‬م‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪33‬‬


‫قراءة في كتاب إبراهيم البليهي‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واالستجابة‬ ‫الريادة‬

‫(قوضت أوروبا هيمنة الكنيسة فانفتحت لها اآلفاق)‬ ‫ّ‬ ‫■ د‪ .‬سعيد بن حمد الهاجري*‬

‫الكتاب هو خالصة قراءة لتاريخ أوروبا على مدار أربعين سنة‪ .‬يقع في (‪)574‬‬ ‫صفحة مــن القطع ال ـعــادي‪ ،‬وهــو مــن مـنـشــورات داري ابــن الـنــديــم فــي الجزائر‬ ‫والروافد في لبنان‪ .‬يأتي هذا الكتاب جزء ًا من مشروع فكري واسع يجمعه عنوان‬ ‫واحد هو «تأسيس علم الجهل لتحرير العقل»‪ .‬يحتوي الكتاب على مقدمة واثني‬ ‫عشر مبحثاً‪ ،‬بسط المؤلف في المباحث الثالثة األولى فكرة الريادة واالستجابة‪،‬‬ ‫بينما تناول في باقي المباحث استعراض أمثلة لرواد عمليين غيّروا العالم كما‬ ‫يصفهم المؤلف‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫يشير مؤلفنا فــي مقدمته إلــى أنه ترشيد األعمال ونجاعتها؛ ويستضيء‬ ‫توصل من خالل البحث والتمحيص إلى بهما قادة الفكر والفعل‪.‬‬ ‫أن التقدم الحضاري الــذي حــدث في‬ ‫ويشير إلى أن الذين قادوا األحداث‬ ‫أوروبــا لم يكن نتيجة للعلوم واألفكار‪.‬‬ ‫المزلزلة التي غيرت أوروب ــا لــم يكن‬ ‫فالفلسفة والعلوم واإلقناع ال يمكن أن‬ ‫هدفهم تحرير أوروبا من قبضة الكنيسةـ‬ ‫تقود إلــى اإلفــاقــة من العمى الثقافي‬ ‫والخروج من كهف الالهوت الكنسي‪ .‬وإنما جاءت النتائج اإليجابية دون قصد‬ ‫ويرى أن الذي أحدث التغيير والتقدم منهم أو ضــد قصدهم‪ .‬النتائج على‬ ‫الحضاري في أوروبــا خلقته األحــداث المستوى الــتــاريــخــي تــأتــي طبقا لما‬ ‫الكبرى‪ ،‬ثم أتى دور الفلسفة والعلوم في يسميه هيجل مكر التاريخ‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ويشير البليهي إلــى أنــه قــد تعمّق في‬ ‫دراسة التاريخ األوروبــي والتراث األوروبــي؛‬ ‫فدرس بعناية تاريخ الفلسفة‪ ،‬وتاريخ العلوم‪،‬‬ ‫والتاريخ السياسي‪ ،‬وتاريخ االنشقاقات على‬ ‫الكنيسة‪ ،‬وتــاريــخ االخــتــراعــات‪ ،‬فــأدرك أن‬ ‫حركة التاريخ ال تسير بالعقل‪ ،‬وال وفق خطة‬ ‫محددة بفكر عقالني‪ ،‬وإنما يندفع الفاعلون‬ ‫لمصالحهم وأهدافهم وصراعاتهم‪ ،‬ثم يتخذ‬ ‫التاريخ مسارًا آخر ال يتفق مع أهــداف أي‬ ‫طرف من أولئك الفاعلين‪ .‬ويضيف أنه اثناء‬ ‫تعمقه في دراسة الكيانات الثقافية وطبيعة‬ ‫االنسان‪ ،‬توصل إلى أن اإلنسان كائن تلقائي‪،‬‬ ‫وأن اإلنسانية محكومة بالكيانات الثقافية‬ ‫المتباينة التي تكونت قبل العلوم‪ ،‬وأن أوضاع‬ ‫المجتمعات والتطورات الفكرية والعلمية‬ ‫والحضارية؛ تقوم على القيادة واالنقياد‪،‬‬ ‫وأنــهــا تتغير بــالــريــادات الفردية الخارقه‪،‬‬ ‫واالستجابات اإليجابية الكافية‪.‬‬

‫جهازا للبرمجة‪ ،‬فيتولى عمليات الفرز‬ ‫والتصنيف والترميز‪ ،‬فتتكون التصورات‬ ‫واألنــمــاط لتبقى أســاســا لكل مــا يأتي‬ ‫بعدها؛ فــاألنــمــاط األول ــى تظل تتحكم‬ ‫بــالــفــرد خـ ــال عــمــره إال ف ــي ح ــاالت‬ ‫استثنائية حين ينكسر أو ينفرط ما تكون‬ ‫تلقائيا‪...‬الخ‪.‬‬

‫وينهي المؤلف مقدمته بالتأكيد على‬ ‫عدد من النقاط هي محور المباحث الثالثة‬ ‫األولى‪ ،‬ويتبعها ببقية المباحث التسعة أمثلة‬ ‫تأكيدية عليها‪ .‬ومن أهم النقاط التي يؤكد‬ ‫ينتقل المؤلف إلى المبحث األول الذي‬ ‫عليها‪:‬‬ ‫عــن ـوّن لــه «لــكــل أمــة نــظــام فــكــري‪ :‬تلقائي‬ ‫التوارث حتمي الهيمنة»‪ .‬حيث يرى أن العقل‬ ‫‪ .1‬أن االنسان كائن تلقائي‪.‬‬ ‫البشري عند كل األمم؛ قد كوّنته وتملكته وما‬ ‫‪ .2‬أن االنسان يولد (على الفطرة) بقابليات‬ ‫تزال تتحكم به ثقافات ما قبل العلم الحديث‪،‬‬ ‫فارغة مفتوحة وليس بعقل جاهز‪.‬‬ ‫فلكل أمة نظام فكري (كيان ثقافي) يتم توارثه‬ ‫‪ .3‬أن قــابــلــيــات اإلنــســان تــتــكــون وتتشكل بشكل تلقائي حتمي‪ ،‬فكل أمــة بمجموعها‬ ‫باألسبق إليها‪.‬‬ ‫وبأفرادها؛ مملوكة لثقافتها‪ ،‬وليست مالكة‬ ‫‪ .4‬أن دماغ المولود يكون مجهزا الستقبال لها‪ ،‬فال يمكنها تغييرها او التخلي عنها‪،‬‬ ‫م ــا تــنــقــلــه الـ ــحـ ــواس‪ ،‬كــمــا أنـ ــه يملك ولكن يمكن استغاللها من داخلها‪ ،‬بتضخيم‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪35‬‬


‫بعض قيمها وتركيز االهتمام على ما يخدم‬ ‫التوجه الــذي يــراد لــه إلــى أن يــســود‪ .‬وكل‬ ‫كيان ثقافي هو بنية قوية مغلقة صامدة‪ ،‬ال‬ ‫تضعفها الهزائم مهما بلغت‪ .‬ويضرب مثاال‬ ‫لذلك أقلية اليزيديين وأقلية اآلمــش في‬ ‫أمريكا‪.‬‬ ‫ويــنــاقــش الــمــؤلــف مــفــهــوم الــعــقــل لــدى‬ ‫اإلنسان‪ ،‬إذ ينطلق المؤلف مستظال بنظرية‬ ‫الحتمية والتي تفترض أن كل شيء يحدث‬ ‫نتيجة لــســبــب‪ .‬وبــمــا أن نــظــريــة الحتمية‬ ‫ونظرية الجبرية تتشابهان في النتيجة‪ ،‬إال‬ ‫إنهما تختلفان في السبب‪ ،‬إذ تقرر الجبرية‬ ‫أن األحداث مقررة مسبقا وال ضرورة لسبب‬ ‫حدوثها إال قضاء اهلل وقدره‪ ،‬إال إن المؤلف‬ ‫يجنح إلى الحتمية؛ ألنها أقرب إلى التفسير‬ ‫المنطقي مــن الجبرية مــن وجــهــة نظري‪.‬‬ ‫وبهذا يقرر أن العقل ليس جوهرا يولد به‬ ‫اإلنــســان جــاهــزا‪ ،‬وإنــمــا هــو نتيجة حتمية‬ ‫للثقافة السائدة‪ .‬فالفرد يتكون عقله تلقائيا‬ ‫من خــال ما تنقله حواسه من أسرته إلى‬ ‫دماغه‪ ،‬ثم من هذا التكون التلقائي انبعث‬ ‫الوعي تلقائيا‪ .‬ومع ذلك لم يتطرق المؤلف‬ ‫إلى مناقشة موضوع الذكاء‪ ،‬وكيف يتفاوت‬ ‫الناس في نسبة الذكاء‪ ،‬وما أسباب ذلك؟ كما‬ ‫لم يتطرق إلى شرح موضوع الفروق الفردية‬ ‫وهي من المواضيع المهمة جدا‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫اإلنسان كائن تلقائي‪ ،‬فهو يتبرمج بالسائد‪،‬‬ ‫وال يسأل عن هذا السائد كيف يكون وكيف‬ ‫حــدث ولــمــاذا الناس مرتبطون بــه؟! وهذا‬ ‫حال الناس في كل األزمان إال قلة قليلة من‬ ‫الفالسفة والتنويريين الذين انتهجوا منهج‬ ‫الشك واعتنقوا مبدأ الــســؤال والتمحيص‬ ‫وعــدم أخــذ األم ــور على مــا هــي عليه دون‬ ‫سؤال واستيضاح‪.‬‬ ‫من المسلّم به أنــه عند وجــود أكثر من‬ ‫ثقافة‪ ،‬فإن االستقالل الثقافي يكون حاضرًا‪،‬‬ ‫فال تــزاوج وال تمازج بين الثقافات‪ ،‬وإنما‬ ‫من المتوقع أن تتفرع الثقافة الواحدة إلى‬ ‫مذاهب وطوائف‪ ،‬لكن يبقى التوارث الثقافي‬ ‫حتمي الحدوث وليس أمرًا اختياريا‪ .‬وخير‬ ‫مثال على ذلك النسيج األمريكي المتشكل‬ ‫من عدد من الثقافات التي تنتظم في الثقافة‬ ‫األمريكية العليا كما تسنها المؤسسات‬ ‫الرسمية وتُطبق بقوة القانون‪ ،‬وأما الثقافات‬ ‫المتوارثة األصيلة فتبقى حاكمة لتصرفات‬ ‫وأفــعــال أتباعها‪ ،‬ويتجلى ذلــك في طقوس‬ ‫الملبس وممارسة الشعائر الدينية‪.‬‬ ‫الحتمية الثقافية تقييد للعقل وهــذه‬ ‫معضلته الكبرى‪ .‬ويمكن تحديد مسارات‬ ‫حركة العقل إجماال في ثالثة نظم فكرية‬ ‫يتحرك بها‪:‬‬

‫‪ .1‬التفكير التلقائي‪ :‬وهو التبرمج بكل قيم‬ ‫أما الثقافة ذاتها فهي مرتبطة ارتباطا‬ ‫ومعايير وعادات المجتمع دون تمحيص‬ ‫وثيقا بالمتبرمجين بها وال تنفصل عنهم‪.‬‬ ‫أو سؤال‪،‬‬ ‫فهم شــيء واحــد وال توجد مسافة بينهما‪.‬‬ ‫إال إن الثقافة تلعب دورا في أنها تفصل ‪ .2‬التفكير الفلسفي‪ :‬يتخلق هــذا النظام‬ ‫الفكري بفعل الشك في النظام الفكري‬ ‫المنتمين إليها عن إدراك طبيعتها‪ ،‬وذلك ألن‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫التلقائي وحــرقــة األسئلة حــول الوجود‬ ‫عند أفراد استثنائيين‪ .‬بقي هذا النظام‬ ‫الفكري خاصا بتفكير القلة من األمم‪.‬‬ ‫‪ .3‬النظام الثالث مزيج من النظام التلقائي‬ ‫والــنــظــام الفلسفي فيما يتعلق بالعلوم‬ ‫والتعليم‪ ،‬ولكن يبقى محكوما بالنظام‬ ‫التلقائي‪.‬‬ ‫وبهذا يرى المؤلف أن المتعلمين والعلماء‬ ‫هم مجرد ناقل للمعارف وليسوا منتجين‬ ‫لتلك المعارف والمفاهيم‪ .‬وهو هنا ال ينفي‬ ‫التطور في المجاالت العلمية التخصصية‬ ‫وتطوير العلوم‪ ،‬والتي هي امتداد للبحوث‬ ‫العلمية واإلضــافــات النافعة والمفيدة في‬ ‫تلك المجاالت‪ ،‬لكنه يؤكد على مبدأ الريادة‬ ‫واإلتيان بشيء مخالف للسائد والمألوف في‬ ‫المجاالت الفكرية‪.‬‬ ‫الــمــنــتــجــون لــلــفــكــر الــفــلــســفــي وكــذلــك‬ ‫الــمــدركــون ألعماقه ومــغــزاه خــال التاريخ‬ ‫وعند جميع األمم هم عدد قليل من األفراد‬ ‫االستثنائيين‪ .‬فــاإلنــســان مــن وجــهــة نظر‬ ‫البليهي ال ينشط ألنه يعرف‪ ،‬وإنما يندفع‬ ‫للبحث والمعرفة إذا احتاج لهذه المعرفة‪،‬‬ ‫فالشاكّ يكون مطلبه االطمئنان للحقيقة‪.‬‬ ‫ويحسن هنا لو أن المؤلف أنار بثاقب فكره‬ ‫لماذا االنسان يشك؟ ولماذا االنــدفــاع؟ ما‬ ‫الذي يجعله يندفع وغيره ال يندفع؟ أسئلة‬ ‫في ظني لو عالجها المؤلف الكتملت اللوحة‬ ‫واتضحت الصورة‪.‬‬ ‫ويعرج المؤلف على العملية التعليمية إذ‬ ‫يرى أن التعليم النظامي‪ ،‬التعليم اضطرارا‪،‬‬

‫إبراهيم البليهي‬

‫يستغرق ثلث أعمار األجيال‪ ،‬ومع ذلك فهو‬ ‫الخادع األكبر ألنه تعليم يؤدي إلى المهنة‪،‬‬ ‫لكنه ال يؤدي إلى المعرفة التي تليق باإلنسان‪.‬‬ ‫حتمية الثقافة تولد ما يسميه المؤلف‬ ‫بالعقل الجمعي؛ إذ تسود مفاهيم الفكر‬ ‫الثقافي نتيجة الــتــوارث بين أفــراد وفئات‬ ‫المجتمع‪ ،‬فيصبح الفرد يفكر بعقلية الجميع‬ ‫ويدور في فلكهم‪ ،‬وال يمكنه أن يخرج على ما‬ ‫هو مألوف ومعروف‪ ،‬وإال اعتبر مارقا خارجا‬ ‫عــن منظومة الفكر الجمعي‪ .‬هــذا العقل‬ ‫الجمعي وكذلك العقول الفردية محكومة‬ ‫بما يسميه الباحث قانون القصور الذاتي‪.‬‬ ‫ألن الثقافة هي الذات‪ ،‬فبالتالي ال شيء يعلو‬ ‫على الــذات؛ ومن هنا‪ ،‬تولّد القصور وعدم‬ ‫التطور وأصبح التدهور أقرب؛ ألن التدهور‬ ‫سهل ومتسارع بفعل الجاذبية الثقافية؛ أما‬ ‫التطور والتقدم فيحتاجان إلــى قــوة دافعة‬ ‫رافــعــة ويتطلبان جــهــدا وصــبــرا ومصابرة‬ ‫وتعامال ذكيا مع المقاومة الفكرية العصية‪.‬‬ ‫الجهل نوعان‪ :‬بسيط ومركّب‪ .‬فالبسيط‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪37‬‬


‫تــمــلــؤه الــمــعــلــومــات‪ ،‬أم ــا الــمــر ّكــب فيحتاج‬ ‫فيلسوفا خارجا عن الثقافة السائدة ومنقلبا‬ ‫عليها‪ .‬إال إنه المخلّص على حسب المؤلف‬ ‫ال ــذي ينقذ الــبــشــريــة مــن معضلة الجهل‬ ‫المركّب‪.‬‬ ‫ويرى البليهي أن االنسان كائن تلقائيّ حسيّ‬ ‫نفعيّ عاطفيّ انفعاليّ ‪ ،‬تتحكم به البرمجة‬ ‫التلقائية والمشاعر العميقة والمتطلبات‬ ‫النفسية والجسدية‪ ،‬وال يرتقي إلى مستوى‬ ‫الموضوعية العلمية والفكر المحض إال إذا‬ ‫أمضته رغبة حادة بالتحقق‪ ،‬وهذا في غاية‬ ‫الندرة‪ ..‬وهو بهذا كأنه يتكلم عن جبرية من‬ ‫نوع جديد‪ .‬فإذا كانت نظرية الجبرية ترى‬ ‫أن كــل شــيء معد مسبقا‪ ،‬وأن استجابات‬ ‫اإلنسان هي نتيجة لتلك الجبرية الخارجية؛‬ ‫فالمالحظ أن الكالم هنا عن جبرية الثقافة‬ ‫الــتــي يتبرمج بها اإلنــســان وتُــسـ ّيــر سلوكه‬ ‫وتصرفاته وجبرية مشاعره العميقة التي بال‬ ‫شك هي نتاج المحيط الثقافي الذي بقيمه‬ ‫ومعاييرة يحدد نوع المشاعر‪ ،‬ومتى يمكن‬ ‫التعبير عنها وبأي صيغة وعلى أية حال‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫المقترحة‪ ،‬نظرية التلقائية‪ ،‬ويسوق البراهين‬ ‫واالستشهادات ليثبت تلك التلقائية‪ .‬ومع‬ ‫أن هذا أمر طبيعي ومعروف لدى الباحثين‬ ‫عموما‪ ،‬إال إن ذلك المنهج كان قد تعرّض‬ ‫لــه المؤلف وهــو ينتقد تلقائية مــا يسميه‬ ‫التعلم اضــطــرارا‪« .‬فاإلنسان كائن تلقائي‬ ‫تــحــركــه الــبــرمــجــة الثقافية الــتــي صاغته‬ ‫تلقائيا كما تحركه رغباته واحتياجاته‪ ..‬إال‬ ‫إن المعرفة وسيلة لتحقيق ما تقرره اإلرادة‬ ‫بينما اإلرادات متضاربة؛ فالصراعات هي‬ ‫صــراعــات اإلرادات‪ ،‬أمــا المعلومات فهي‬ ‫لخدمة هذه اإلرادات‪ ،‬فاإلنسان يبحث عن‬ ‫المعلومات التي تعزز مواقفه‪ ،‬أما المعلومات‬ ‫الحيادية فتمر دون أن ينتبه لها‪ ،‬ومن غير أن‬ ‫يعيرها اهتماما‪ ...‬ص ‪.»39‬‬ ‫ويقرر البليهي أن التعلم اضطرارًا ال يقود‬ ‫إلى التطور كما يراه هو‪ ..‬وهو كسر الطوق‬ ‫الثقافي المتحكم بسلوك اإلنسانية وإدراكها‬ ‫ووعيها‪ .‬حتى جعلتهم أسرى ومحكومين لتلك‬ ‫الحتمية الثقافية‪ .‬ويشير إلى أن الناس خالل‬ ‫القرون وقبل ظهور العلوم الحديثة حققوا‬ ‫نجاحات عملية عظيمة ورائعة كاألهرامات‬ ‫وسور الصين العظيم‪ ...‬اما اكتساب الناس‬ ‫للسلوك المتحضر في المجتمعات المزدهرة‬ ‫فلم يكن نتيجة الدراسة والتعليم أو الوعي‬ ‫القصدي‪ ،‬ولكنه يحصل تطبعاً من أسلوب‬ ‫الحياة المنضبط بالنظام وبالمؤسسات‪.‬‬

‫ويرجع المؤلف مرة أخرى لموضوع العقل‬ ‫الذي ذكر في السابق إلى أنه ليس جوهرًا‬ ‫يولد مــع اإلنــســان وإنــمــا هــو نتيجة حتمية‬ ‫للثقافة‪ ،‬فيذكر هنا أنه ‪-‬أي العقل‪ -‬قدرة‬ ‫عملية وليس جهازا معرفيا‪ ،‬أي ليس جهازا‬ ‫للتفكير‪ ،‬وإنما جهازا نفعيا يستجيب بصورة‬ ‫ويقدم المؤلف وصفًا رائعا لحال الناس‬ ‫تلقائية مرتبطة بمطلب البقاء؛ أما التحقق‬ ‫وهــم متبرمجون ومنتظمون فــي حياتهم‬ ‫المعرفي فهو مطلب طارئ‪.‬‬ ‫اليومية‪ ،‬ولكن ما إلى أن ينحل هذا النظام‬ ‫ويستمر الــمــؤلــف فــي مناقشة نظريته حتى يندلع السلوك األناني‪ ،‬ويشيع سوء الفهم‪،‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫الكيانات الثقافية كيانات متمايزة‬

‫يــرى البليهي أنــه نظرًا ألن كل فــرد في‬ ‫المجتمع يتشرب الثقافة السائدة في بيئته‬ ‫الثقافية‪ ،‬وبالتالي يتشكل فكره تبعًا لذلك‪،‬‬ ‫مما ولّد مجتمعات عنقودية كل مجتمع يرى‬ ‫أنه هو األفضل واألصــح‪ ،‬وينظر إلى غيره‬ ‫من المجتمعات على أنها على خطأ وقد‬ ‫جانبت الصواب‪ .‬هذه الصورة ولدت التنافر‬ ‫بين المجتمعات‪ ،‬بل الحروب واللجوء إلى‬ ‫منطق القوة واإلخضاع‪ .‬ويرى أنه لكي تتحرر‬ ‫اإلنسانية من هذه المعضلة وتعيش بتناغم‬ ‫وانسجام مع المجتمعات األخرى‪ ،‬عليها أن‬ ‫تتخلى عن تلك الثقافات السائدة وتتجه إلى‬ ‫التفاهم واإلقناع مع المجتمعات األخــرى‪.‬‬ ‫التكوّ ن التلقائي للعقول الفردية‬ ‫على قادة الفكر والفعل في العالم التركيز‬ ‫يؤكد المؤلف مرة أخرى أن العقل ليس‬ ‫على تحرير اإلنــســانــيــة مــن رك ــام التاريخ‬ ‫جوهرًا‪ ،‬وإنما هو نتاج لتشرب القابليات التي‬ ‫لتستخدم العقل بدال من العضل‪.‬‬ ‫ولد بها اإلنسان لقيم وأخالقيات ومعايير‬ ‫ويبدو لي أن إشكالية محدودية المفكرين البيئة الثقافية التي يولد بها‪ .‬إال إن هذا‬ ‫في العالم ‪-‬كما أشار إلى ذلك المؤلف في التشرب أم ٌر تلقائي‪ ،‬ويحدث منذ اللحظات‬ ‫غير ما موضع‪ -‬لن تنسجم مع هذا التنظير‪ .‬األولى للطفولة‪ ،‬ثم ينمو ويتطور بنمو الفرد‬ ‫فإذا كنا نتكلم عن البشرية بتعدادها الذي في كل مراحل حياته‪ ،‬وبالتالي هو يأخذ كل‬ ‫يتجاوز السبعة مليارات إنسان‪ ،‬والمفكرون شيء من بيئته بشكل تلقائي ودون تمحيص‪،‬‬ ‫الفلسفيون ال يتجاوز عددهم الثالث خانات ويرى أن غيره من البيئات األخرى على خطأ‬ ‫فــي الــعــالــم وأنــهــم مــنــبــوذون ومــارقــون في وهو الوحيد الذي على صواب‪ .‬وإضافة لهذه‬ ‫مجتمعاتهم‪ ،‬فكيف تتقبلهم باقي المجتمعات الحتمية والتلقائية فــإن إمكانيات الجهاز‬ ‫وكيف يكون تأثيرهم؟! أضف إلى ذلك وجود العصبي الــذي تنتقل إليه المعلومات عن‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫وتتضارب المواقف‪ ،‬ويعجز المتخاصمون عن‬ ‫التفاهم‪ ،‬فيظهر عمق الخلل وفداحة العجز‪،‬‬ ‫نتيجة التلقائية الثقافية‪ ،‬حين تنحل السلطة‬ ‫الضابطة في أي مجتمع‪.‬‬

‫ثوابت في كل األديان ومنها ديننا اإلسالمي‬ ‫التي تنص على «ولن ترضى عنك اليهود وال‬ ‫النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى اهلل‬ ‫هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي‬ ‫جاءك من العلم ما لك من اهلل من ولي وال‬ ‫نصير» البقرة ‪ .120‬إال إن اإلسالم ‪-‬وهو دين‬ ‫المعامالت ودين االخالق ودين العدل ودين‬ ‫اإلنسانية‪ -‬يحترم العقول‪ ،‬ويدعو إلى حُ سن‬ ‫التعامل ليس فقط بين المسلمين‪ ،‬بل حتى‬ ‫مع غير المسلمين من الطوائف األخرى‪ ،‬ولو‬ ‫التزم المسلمون بدينهم حق االلتزام من غير‬ ‫غلو وال تسطيح‪ ،‬لسمت اإلنسانية وتسامى‬ ‫البشر‪ ..‬ولنا شواهد كثيرة من سيرة النبي‬ ‫المصطفى صلى اهلل عليه وســلــم‪ ،‬وسيرة‬ ‫خلفائه الراشدين من بعده والتابعين‪ .‬وال‬ ‫يعني هــذا االنــغــاق وع ــدم االنــفــتــاح على‬ ‫الحضارات األخرى‪ ،‬ولكن بما ال يتناقض مع‬ ‫ثوابتها التي تتعبد اهلل بها‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫طريق الحواس‪ ،‬هي أقل من جزء من المليار‬ ‫من كم الطاقة الكلية التي تنفث ذبذباتها في‬ ‫البيئة‪ .‬وكما تختلف وتتمايز المجتمعات‪ ،‬فإن‬ ‫األفــراد كذلك يتمايزون حتى داخــل البيئة‬ ‫الواحدة والنظام الفكري الواحد‪.‬‬ ‫تلقائية وحتمية‬ ‫تعدد اآلراء بتعدد األفراد‬ ‫إن البليهي وإن لم يناقش موضوع الفروق‬ ‫الفردية بشكل مباشر‪ ،‬إال إنه هنا يقرر أن‬ ‫تعدد اآلراء بتعدد األفراد أمر تلقائي وحتمي‪.‬‬ ‫فالفرد الذي يولد بقابليات فارغة يتشرب‬ ‫ثقافة بيته السائدة بشكل حتمي‪ ،‬ويتشربها‬ ‫تلقائيا من غير سؤال وال استفسار وال معرفة‬ ‫وال فهم لكل تلك المتغيرات في بيئته‪ ،‬وإنما‬ ‫يأخذها على أنها مسلّمات‪ ،‬ويتصرف تبعًا‬ ‫لذلك بتلقائية تامه يختلف عن غيره حتى‬ ‫داخل بيئته؛ وبالتالي فإن رأيه يكون مختلفا‬ ‫عن آراء اآلخرين داخل بيئته‪ ،‬وإن كان في‬ ‫بعض وليس الكل‪ ،‬إال أنه سيختلف طبعا عن‬ ‫غيره في البيئات والكيانات الفكرية األخرى‬ ‫بشكل أكبر‪.‬‬ ‫تلقائية وأولوية وأصالة العقل األداتي‬

‫‪40‬‬

‫يفرق هنا المؤلف بين نوعين من العقل‪:‬‬ ‫العقل األداتي والعقل الناقد الفاحص‪ .‬ويرى‬ ‫أن العقل األداتـ ــي الــوســائــلــي هــو األصــل؛‬ ‫ألنــه يتشكل ويتكون نتيجة البيئة الثقافية‬ ‫المحيطة والمغذية له عن طريق الحواس‪،‬‬ ‫يــعــزز ذلــك النظام التعليمي ال ــذي يكرس‬ ‫توجيهه إلــى العمل واإلنــتــاج والتركيز على‬ ‫وســائــل الــكــســب؛ كما تــعــززه أيــضــا النظم‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫االقتصادية والسياسية واالجتماعية التي‬ ‫تكرس اإلعــانــات واالمــتــيــازات للمتفوقين‬ ‫في التعليم اضطرارا‪ ،‬كما يسميهم المؤلف‬ ‫وليس للتعلم اندفاعا‪ .‬لقد أحالت تلك النظم‬ ‫كما يراها المؤلف الفكر والعلم والمعرفة‬ ‫إلى مجرد أدوات ووسائل عملية ومهنية من‬ ‫أجل التمكن والهيمنة‪ .‬لقد استغرقت تلك‬ ‫النظم تفكير األجــيــال وكـرّســت اهتمامهم‬ ‫للتعلم اضطرارًا من أجل العمل‪ ،‬ثم استهلكت‬ ‫حياتهم في األداء العملي المهني‪.‬‬ ‫أما العقل الناقد الفاحص‪ ،‬فإنه أمر غريب‬ ‫وغير طبيعي‪ ،‬ويتطلب التحوّل إليه تحوالت‬ ‫عميقة تبدأ بأهمية إدراك تلقائية وأولوية‬ ‫وأصالة التفكير األداتي الوسائلي أوال‪.‬‬ ‫ويشير الباحث إلــى أن الــنــاس يكونون‬ ‫عقالنيين نسبيا فيما يتعلق بالتعامالت‬ ‫اليومية‪ ..‬أمــا التصورات ذاتها والمعايير‬ ‫والقيم واالهتمامات فال تكون محل شك وال‬ ‫مراجعة وال تحليل وال تحقّق‪.‬‬ ‫ويمضي المؤلف فــي مناقشة سلبيات‬ ‫العقل األداتي الذي يرى إلى أنه هو األصل؛‬ ‫ألنه انبثق من تشرّب الفرد لثقافة الكيان‬ ‫الفكري الــذي نشأ فيه‪ .‬هــذا الفكر الذي‬ ‫يكرّس التعلم المهني المحسوس من أجل‬ ‫العيش والــكــســب‪ ،‬ولــيــس مــن أجــل التطور‬ ‫الــخــاق‪ ،‬مــن حسن‬ ‫ّ‬ ‫والتحضر األخــاقــي‬ ‫الظن والعدالة الذاتية والمحبة الفطرية‬ ‫لــآخــر وغيرها مــن الـ ُمـثُــل العليا‪ ..‬ويــرى‬ ‫قصور تلك العلوم التي تكرّس هذا النوع من‬ ‫التعلم االضطراري ألنها ببساطة جزّأت العلم‬


‫توضيح معادلة الريادة واالستجابة‬ ‫الريادة‬ ‫عمل فكري مبدع أصيل يقود التغيير الكلي‬ ‫في المجتمع‪ .‬وليس كل عمل فكري مبدع‬ ‫يقود إلى الريادة بمفهومها الشامل الكلي‪.‬‬ ‫النظام الفكري‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫والعالم إلــى جزيئات متفتته؛ فأصبح من‬ ‫يدرس الطب يتخصص في جزئيات معينة‪،‬‬ ‫وكــذا بقية العلوم‪« .‬جزيئات العلوم بقيت‬ ‫ممزقة بين ماليين العقول»‪ .‬ويمضي ليقول‪:‬‬ ‫« إال إن تكوين رؤية علمية عن العالم ال يمكن‬ ‫أن تتحقق بالتخصصات المجزأة ذات الهدف‬ ‫المهني العملي» ص ‪ .151‬إال إن المؤلف هنا‬ ‫يظهر تأثره بالفكر الفلسفي الذي يرى أن‬ ‫العلوم كلها ال بــد أن تنضوي تحت مظلة‬ ‫فكرية واحـ ــدة‪ .‬وحــســب تعريف ديــورانــت‬ ‫للفلسفه كما يقتبسه المؤلف في صفحة ‪160‬‬ ‫«هي محاولة اإلنسان إلى أن يفهم الوجود في‬ ‫مجموعهِ ‪ ،‬هي بحث جريء عن العلل األولى‬ ‫ِ‬ ‫لألشياء ومغزاها النهائي‪ ،‬وعن معنى الحق‬ ‫والجمال والفضيلة والعدالة واإلنسان األمثل‬ ‫والدولة المثلى»‪ .‬ولعل فلسفته هنا وتبريره‬ ‫لوجود نوعين من العقل أو العلوم هو نتيجة‬ ‫حتمية لمكر التاريخ عند هيجل‪.‬‬

‫ التفكير الفلسفي‪ ،‬وهو نظام القلة المفكّرة‬‫من الفالسفة‪ ،‬وهــو نظام فكري مغاير‬ ‫ومباين لكل الثقافات‪ .‬وهو يمثل قطيعة‬ ‫مــع التلقائية‪ ،‬وانفصاال عــن الثقافات‬ ‫السائدة في كل مكان‪ .‬ويتخلق هذا النظام‬ ‫بفعل الشك في النظام الفكري التلقائي‬ ‫وحرقة األسئلة حول الوجود‪.‬‬ ‫ نظام التفكير في التعليم الجمعي‪ .‬هذا‬‫النظام مزيج من النظام التلقائي والنظام‬ ‫الفلسفي فهو يأخذ بالنظام الفلسفي‬ ‫فيما يتعلق بالعلوم والتعليم‪ ،‬ولكنه يبقى‬ ‫محكومًا بالنظام التلقائي فيما عدا ذلك‪.‬‬ ‫العقل جوهر أم مكتسب‬ ‫تشير معظم الدراسات إلى أن العقل ليس‬ ‫جــوهــرا يولد بــه االنــســان وإنــمــا هــو نتيجة‬ ‫حتمية للثقافة السائدة‪ .‬فكل مولود يولد على‬ ‫ينصرانه‪.‬‬ ‫الفطرة‪ ،‬فأبواه يهوّدانه أو ّ‬ ‫فالفرد يتكون عقله تلقائيا من خالل ما‬ ‫تنقله حواسه من أسرته إلى دماغه‪ ،‬ومن هذا‬ ‫التكون التلقائي انبعث الوعي تلقائيا‪.‬‬ ‫العقل في أصل وجوده قدرة عملية وليس‬ ‫جهازاـ فاستجاباته نفعية تلقائية مرتبطة‬ ‫بمطلب البقاء‪ ،‬أمــا التحقق المعرفي فهو‬ ‫مطلب طاريء‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫لكل أمة نظام فكري تلقائي التوارث‬ ‫حتمي الهيمنة‬

‫ ‪ -‬التفكير التلقائي وهــو النظام األســاس‬ ‫األوّلـــي والــعــام لكل البشر فــي مختلف‬ ‫األمم تخضع لنظام فكري خاص بكل أمة‬ ‫الكيانات الثقافية‪ .‬إال إنه التبرمج بكل‬ ‫قيم المجتمع ومعاييره وعــاداتــه‪ ،‬دون (كيان ثقافي) يتم توارثه بشكل حتمي‪.‬‬ ‫تمحيص أو سؤال‪.‬‬ ‫األمة مملوكة لثقافتها وليست مالكة لها‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪41‬‬


‫وال يمكن تغيير تلك الثقافة أو التخلي عنها‪،‬‬ ‫االستجابة هــي قبول األفــكــار الريادية‬ ‫فالتحضر والــتــط ـوّر ال‬ ‫ّ‬ ‫ولكن يمكن استغاللها من داخلها بتضخيم والعمل بموجبها‪.‬‬ ‫بعض قيمها وتركيز االهتمام على ما يخدم يحصل إال بوجود عنصرَيّ الريادة واالستجابة‬ ‫التوجّ ه الذي يراد له إلى أن يسود‪.‬‬ ‫الكافية‪.‬‬ ‫الثقافة تعزل المنتمين لها عــن إدراك‬ ‫طبيعتها‪ .‬وكــل ثقافة مستقلة عن الثقافات‬ ‫إرادة ‪ -‬نظام فكري ‪ -‬استجابة ‪ -‬تطور‪.‬‬ ‫األخرى وال تقبل التزاوج معها‪ ،‬وإنما قد تتفرع‬ ‫معوقات االستجابة الكافية‬ ‫وتنقسم إلى مذاهب وطوائف‪ .‬كما أن توارث‬ ‫الثقافة أمر حتمي وليس اختيارياً‪ ..‬ولنا في ‪ .1‬طبيعة اإلنــســان نفسه‪ .‬فاإلنسان كائن‬ ‫النسيج االجتماعي األمريكي خير مثال‪.‬‬ ‫تلقائيّ حسيّ نفعيّ انفعاليّ ‪ ،‬تتحكم به‬ ‫البرمجة التلقائية والمشاعر العميقة‬ ‫العقل ال يعمل طليقا‪ ،‬وإن هذا التقييد‬ ‫والمتطلبات النفسية والــجــســديــة‪ ،‬وال‬ ‫القوي العميق هو معضلته الكبرى‪.‬‬ ‫يرتقي إلى مستوى الموضوعية العلمية‬ ‫تبعا للنظام الفكري تكون الريادة‬ ‫والفكر المحض إال إذا أمضته رغبة حادة‬ ‫ الــريــادة في مجال محدود ضمن نطاق‬‫بالتحقق؛ وهذا أمر في غاية الندرة‪.‬‬ ‫المجال الذي يعمل به اإلنسان‪.‬‬ ‫‪ .2‬النظام الفكري الذي ينشأ فيه االنسان‪.‬‬ ‫والحس‬ ‫ّ‬ ‫ الــريــادة الخارجة عن المألوف‬‫فلكل أمــة نــظــام فــكــري خــاص تلقائيّ‬ ‫المشترك؛ كالمخترعات‪ ،‬وكروية األرض‪.‬‬ ‫التوارث وحتميّ الهيمنة‪.‬‬ ‫نموذج الريادة واالستجابة‬

‫ ال ــري ــادة الــفــكــريــة الــتــي تكسر اإلط ــار‬‫الثقافي السائد وتــؤدي إلى نقلة فكرية‬ ‫كلية في المجتمعات؛ كالريادات الفكرية‬ ‫الفلسفية‪.‬‬ ‫تكون الريادات‬

‫‪42‬‬

‫‪ .3‬قانون القصور الــذاتــي‪ .‬حتمية الثقافة‬ ‫تولد العقل الجمعي؛ إذ يصبح الفرد‬ ‫بعقلية الجميع ويدور في فلكهم‪ ،‬وال يمكنه‬ ‫الخروج عن ما هو مألوف ومعروف‪ ،‬وإال‬ ‫اعتبر مارقا خارجا عن منظومة الفكر‬ ‫الجمعي‪ .‬هــذا العقل الجمعي وكذلك‬ ‫العقول الفردية محكومة بقانون القصور‬ ‫الذاتي؛ إذ ال شيء يعلو على الذات‪.‬‬

‫الريادات في عمومها تحدث دون تخطيط‪.‬‬ ‫إنها عمل فكري تحدث بشكل تلقائي تنساب‬ ‫انسيابا وتأتي كإلهام‪ .‬وكما يقول نيتشه‪:‬‬ ‫‪ .4‬الجهل المركّب‪ .‬فالناس يندمجون في‬ ‫«الفكرة تظهر عندما تريد هي وليس عندما‬ ‫حياتهم ويتوارثون ثقافات مجتمعاتهم‪،‬‬ ‫أريد أنا»‪.‬‬ ‫وي ــرون أنها هــي األصــح واألصــلــح‪ ،‬وما‬ ‫س ــواه ــا م ــن ثــقــافــات غــيــر صحيحة‪.‬‬ ‫االستجابة‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫وتنشأ تبعا لذلك الصراعات والحروب‬ ‫والمشكالت بسبب ذلك الجهل المركب‬ ‫الذي ال تفيد فيه المعلومات مهما كثرت‪.‬‬ ‫فالمعلومات تمأل وتجيب الجهل البسيط‬ ‫‪ .9‬السلبية التي ينظر بها المجتمع للرواد‪.‬‬ ‫فقط‪ ،‬أما الجهل المركّب فيكمن عالجه‬ ‫لكل فعل مخالف لما اعتاده المجتمع ثمنه‬ ‫في الفكر الناقد الفاحص الممحص‪.‬‬ ‫وضريبته‪ .‬فالخروج على قيم المجتمع‬ ‫‪ .5‬نــظــم الــتــعــلــيــم ف ــي الــعــالــم‪ .‬إذ درج ــت‬ ‫ومــعــايــيــره وأخــاقــه مــدعــاة إل ــى النبذ‬ ‫وتأسست تلك النظم على تعميق ثقافة‬ ‫والطرد والــبــراءة‪ .‬ولكون اإلنسان كائن‬ ‫العمل واإلنتاج من أجل العيش‪ ،‬فانغمس‬ ‫اجتماعي يميل إلى مجتمعه ويانس بقربه‬ ‫الــنــاس فــي األعــمــال‪ ،‬ولهثوا وراء لقمة‬ ‫ويستوحش بالبعد عــنــه‪ ،‬فــإن الــخــروج‬ ‫العيش وانــصــرفــوا عــن التفرّغ للتفكير‬ ‫على المجتمع يتطلب شجاعة وصمودًا‬ ‫الناقد‪ .‬فالتعليم اضطرارًا ال يقود إلى‬ ‫وإرادة قوية وقليلون هم الذين ينجحون‬ ‫التطور‪.‬‬ ‫في ذلك‪ .‬وتذكر المصادر إلى أن الرائد‬ ‫‪ .6‬تغلغل العقل األدات ــي الوسائلي‪ .‬العقل‬ ‫المؤثر يتحلى بأربعة أوصاف‪ :‬االستمرار‬ ‫األداتي الوسائلي هو األصل؛ ألنه يتشكل‬ ‫في منهجه‪ ،‬واالستعداد للتضحية بوقته‬ ‫ويتكوّن نتيجة البيئة الثقافية المحيطة‬ ‫وماله وصحته وسمعته‪ ،‬واالستقاللية في‬ ‫والمغذّية له عن طريق الحواس‪ ،‬ويعزز‬ ‫فكره‪ ،‬والصمود في موقفه‪.‬‬ ‫ذلك النظم التعليمية التي تكرّس توجيهه‬ ‫مالحظات فنية على الكتاب‬ ‫إلى العمل واإلنتاج والتركيز على وسائل‬ ‫الكسب‪.‬‬ ‫‪ .1‬لم يذكر المؤلف منهجيته في الكتاب‪،‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫لوجود السواد األعظم من الناس مغتبطين‬ ‫به‪ ،‬أما الجديد فهو مخالف للمألوف وال‬ ‫يعرف ما الذي سيترتب عليه‪.‬‬

‫‪ .7‬التركيبة االجتماعية والسياسية التي‬ ‫تكرّس اإلعالنات واالمتيازات للمتفوقين‬ ‫ف ــي الــتــعــلــيــم اضـــطـــرارا عــلــى حــســاب‬ ‫‪ .2‬الكتاب خال من قائمة المراجع مع أنه‬ ‫المتعلمين اندفاعا‪ ،‬الذين يعانون الرفض‬ ‫مليء جدا باالقتباسات‪.‬‬ ‫والتهميش ونعتهم بأقذع األوصاف‪.‬‬ ‫‪ .3‬لم أجد توثيقا لالقتباسات في الكتاب من‬ ‫‪ .8‬طبيعة مقاومة التغيير‪ .‬اإلنــســان عدو‬ ‫حيث ما جرت عليه منهجيات التأليف!‬ ‫ما يجهل‪ ،‬يستوحش من الجديد وينفر‬ ‫من غير المألوف ويستصعب الجديد‪ .4 .‬الكتاب مليء باالنتقاد الكبير للتعليم‬ ‫النظامي وللمتعلمين اضطرارا وألصحاب‬ ‫الحس هي التي ثبتت المألوف‬ ‫ّ‬ ‫فطبيعة‬ ‫ألنه اختبره وتفاعل معه وشعر باالطمئنان‬ ‫الشهادات‪.‬‬ ‫وذلك أوجد تكرارًا كثيرًا لبعض المفاهيم‬ ‫امتأل بها الكتاب‪.‬‬

‫ *‬

‫كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪43‬‬


‫شتيوي الغيثي‬

‫تب ُعني"‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ديوانه األول "ال ِظ َّل َي َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وإشراقات الرؤى‬ ‫اإليقاع‬ ‫غنائيات‬ ‫ِ‬

‫■ أ‪.‬د‪ .‬محمد صالح الشنطي*‬

‫الديوان األول‬

‫االبن البكر أثير عند والــده؛ فهو الذي يمنحه صك األبوة ويشعره أن الحياة‬ ‫عطاء‪ ،‬وأن للعطاء معنىً يفوق المعاني كلها؛ ويشعره أن وجوده لن ينتهي بانتهاء‬ ‫عمره؛ بل يظل أثره ماثال في إبداعه‪.‬‬ ‫وكذلك الديوان األول للشاعر بطاقة هوية ووثيقة ملكية؛ وبشارة باآلتي؛ من‬ ‫هنا آثــرت أن استشيم لحظة اإلبــداع األولــى؛ فغيمتها مغدقة‪ ،‬وبرقها لن يكون‬ ‫ظليل كم تفيّأت ظالله‪ ،‬فما انحسر ظله يومً ا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عالم‬ ‫خلّبا‪ ،‬وشاعرها ينتمي إلى ٍ‬ ‫وما خذلتني بروقه التي طالما قرأت في ألقها البشارة القادمة؛ بل جادت سماؤها‬ ‫بإذن ربّها بديمة مدرار‪ ..‬وبباقة من اإلبداع لها عبير المسك ونشر الورد‪.‬‬ ‫فــي ديــوانــه األول (ال ظــل يتبعني)‬ ‫يتبدّى الشعور بــالــذات لــدى الشاعر‬ ‫شتيوي الغيثي‪ ،‬ومنذ العنوان يساورنا‬ ‫تحس بالعزلة‬ ‫ُّ‬ ‫الشعور بأن األنا الشاعرة‬ ‫وتضيق بالغربة‪ ،‬فهو وحده يمضي بال‬ ‫ظلٍّ وحيدًا حتى من أفياء شجرة تشعره‬ ‫يحتمي بها من وقدة الحرّ‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫ومنذ اإلهداء‪ ،‬يستبد به قلق الوجود‪،‬‬ ‫فهو يهدي الــديــوان لوالديه الــذي كان‬ ‫مجرد حلم فــي مخيلتهما‪ ،‬ويــرجــو أن‬ ‫يــكــون خلقا ســويــا كــمــا تــــراءى لهما‪،‬‬ ‫فتحقيق الـــذات أمــر يشغل الشاعر‪،‬‬ ‫يبحث عنها كونًا ماثال في اآلخر الذي‬ ‫هو مرآته‪ ،‬وبخاصة األنثى‪ ،‬التي يرى‬ ‫أنها علة الوجود وتمام الكينونة؛ فهو‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫شتيوي الغيثي‬

‫يشعر أن إدراكـــه لصنوه الــذي يتوق إليه‪ ،‬فيدلف إلى عالم الواقع‪ ،‬بعيدًا عن األحالم‬ ‫ويتوحد فيه حدَّ الفناء الصوفي‪ ،‬هو اآلخر الوردية التي تتألق فيها األنثى ضياء وبهاء‪.‬‬ ‫األنثى المعشوقة‪ ،‬كل ذلك يأتي في مرحلة‬ ‫التوحد والفناء‬ ‫ّ‬ ‫تشكّل الــوعــي بالحضور الحقيقي‪ ..‬حتى‬ ‫في قصيدته األولى في الديوان الموسومة‬ ‫إذا تم له ما أراد‪ ،‬بدأ يخرج من قبو الذات‬ ‫ب (ت ــصــوّف)‪ ،‬يتوجه الــشــاعــر بكليته إلى‬ ‫ليستكشف ما حوله ومَن حوله‪.‬‬ ‫مخاطبة اآلخر األنثى‪ ،‬فهناك ركنان أساسان‬ ‫البحث عن الذات‬ ‫ف ــي الــقــصــيــدة‪ ،‬ضــمــيــر ال ـ ــذات الــشــاعــرة‬ ‫يتكون الديوان من ثماني عشرة قصيدة؛ المخاطب (بكسر الطاء)‪ ،‬وضمير المخاطبة‬ ‫بعض هــذه القصائد تتعلق بالمرأة وتنتمي (بفتح الطاء) من أول القصيدة إلى آخرها‪،‬‬ ‫إلى مرحلة من العمر تتألق فيها الذات في والقافية المطلقة تنتهي بياء المتكلم في‬ ‫بحثها الــدؤوب عن صنوها اآلخر‪ ،‬وتنخرط مجملها‪ ،‬وما بين الضميرين تنهمر النجوى‬ ‫في حالة وجدانية أشبه بنوبة عشق تجذب مــن األنــا الشاعرة فــي طقوسية تصل إلى‬ ‫الذات إلى محيط المعشوقة التي تتحول إلى درجة االبتهال‪ ،‬تتوق للتوحّ د والفناء في فيض‬ ‫كائن نوراني‪ ،‬يضيء ظلمة القلب‪ ،‬ويبدد حزن سخيّ للتداعيات التي تنثال بعفوية‪ ،‬مفردات‬ ‫اللفت‬ ‫الفؤاد؛ وأمــا البقية الباقية فيبدو الشاعر عاشقة تتحدر في تلقائية دافقة‪ ،‬ولعل ّ‬ ‫فيها وقد انعتق من قوقعة التوحّ د والفناء‪ ،‬هذه الكثافة الملحوظة في استخدام أساليب‬ ‫ليرتطم بالتحدّيات التي تستثير كوامن روحه النداء التي تتخلّل النص‪ ،‬وما يعقبها من ذكر‬ ‫ولواعج قلبه‪ ..‬ليخوض صراعا مع معطياته‪ ،‬كنائيّ عن المحبوب في توسّ ل واستسالم‪،‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪45‬‬


‫تتبدّى الذات واصفة موصوفة في تقابل واله؛‬ ‫فهي تصف حالتها في ذروة األلم والنشوة‪،‬‬ ‫وتصف المعشوقة في أبهى صورها؛ فهذه‬ ‫المقابلة المزدوجة تعبر عن احتدام وجدانيّ‬ ‫متأجّ ج‪.‬‬ ‫وتأتي المشاهد متوالية تصوّر العاشق في‬ ‫تجليات طبيعية كونية‪:‬‬

‫ك ـف ـف ــت ع ـن ــي غ ـي ـث ــا ك ـن ــت غـيـمـتــه‬ ‫ظـ ـم ــآن أشـ ـ ــرب م ــن نـ ـي ــران ت ـن ــوري‬ ‫أتـيـتــك اآلن أسـتـسـقـيــك مــن ظمأ‬ ‫أدمت بعض تسطيري‬ ‫رمضاء حبك ْ‬ ‫وفي صور مجازية ذات طابع كنائي الداللة‬ ‫في صيغها االستعارية قريبة المتناول‪ ،‬ولعل‬ ‫المقصود بكنائية الداللة‪ ..‬إشارتها المباشرة‬ ‫التي ال تحتمل التأويل واالتساع في المعنى‬ ‫كما هي الحال في التعبير االستعاري‪ ،‬وأخرى‬ ‫ذات بعد روحــي تستدعي نصوصا غائبة‬ ‫متناصة مع بعض ما جاء في كتاب اهلل العزيز‬ ‫ّ‬ ‫فــي شكل مــن أشــكــال التعالق النصوصي‬ ‫القائم على االمتصاص والتحويل‪ ،‬وليس‬ ‫مجرد االقتباس متجاوزة المفهوم البالغي‬ ‫التقليدي‪ ،‬غير مقيّدة بحرفية النصوص؛ بل‬ ‫مستلهمة روح النص متماهية معه ومحايثة‬ ‫له في جملة من التمثّالت والصور تستدعي‬ ‫أجـــواء روحــيــة خالصة تنسجم مــع عنوان‬ ‫القصيدة (تصوّف)‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫وفي المقابل‪ ،‬تأتي بقية األبيات لتستأثر‬ ‫بعالم آخر يقابل تلك األجــواء الروحية التي‬ ‫تمثّلها في أبياته السابقة‪ ،‬فهي بهجة الدنيا‬ ‫ورونقها‪ ،‬وبحر من النور وزهر اللوز وفراشة‪،‬‬ ‫وما إلى ذلك من تمثّالت استعارية تستجلب‬ ‫أجـ ــواء المتعة الــبــاذخــة والــجــمــال األخّ ــاذ‬ ‫في صــوره الحسية في مقابل تلك األجــواء‬ ‫الروحية‪.‬‬ ‫ما بين النداء والتقرير والوصف الكنائيّ‬ ‫واالستعاريّ والتكثيف للفاعلين الرئيسين‬ ‫الذات واآلخر‪ ،‬والتقابل بين المعنويّ والحسيّ ‪،‬‬ ‫والروحيّ والدنيويّ ‪ ،‬والمناجاة والتقريري‪،‬‬ ‫والوصفيّ والمجازيّ ‪ ،‬تتبدّى شعرية النص في‬ ‫إطار إيقاع تفعيالت البسيط التي تستوعب‬ ‫سردية الذات الطامحة إلى تحقيق وجودها‪.‬‬

‫وتستعلن هــذه الــظــواهــر األسلوبية في‬ ‫هذا الديوان في القصائد التي تبدو فيها‬ ‫الذات في شتّى تجلياتها‪ ،‬ولكنها تخرج من‬ ‫عباءتها لتلتحم بالك ّل الجمعيّ وتصوّره طرفا‬ ‫آخر يقابل األنثى المعشوقة‪ ،‬فتعيش مرحلة‬ ‫الــمــكــابــدة بين طرفين أحــدهــمــا يستكمل‬ ‫وجــوده من خالله‪ ،‬واآلخــر يحول بينه وبين‬ ‫هذا الوجود‪ ،‬يتمثل ذلك في قصيدته (أغنية‬ ‫في وجه الخناجر) التي تجسّ د هذا الصراع‪،‬‬ ‫فثمة ثنائية تقوم على التضا ّد بين األغنية‪،‬‬ ‫والخنجر بين لحن الحياة ولون الدم‪ ،‬وهنا‬ ‫يــبــرز عنصر جــديــد هــو عنصر لــه طابع‬ ‫إن ــي تـصـ ّوفــت فــي عينيك منتشيا‬ ‫صراعيّ بين الفناء والبقاء‪ ،‬وهــذه إضافة‬ ‫يــا ج ــذوة الـنــار كــانــت جــانــب الطور‬ ‫جديدة دخلت على خط العشق‪ ،‬فبينما كانت‬ ‫محراب عينيك طول العمر معتكفا‬ ‫الثنائية في القصيدة السابقة قائمة على‬ ‫إل ـ ـيـ ــه ف ــان ـك ـش ـف ــي ي ـ ــا درة الـ ـح ــور التكامل والتوحّ د‪ ،‬يضاف إليها عنصر جديد‬ ‫وطرف جديد يبدو عائقا في طريق التحقّق‪،‬‬ ‫صليت جنات عدن في شفاهك‪ ..‬في‬ ‫خديك في ناهد من مرمر جوري وهذا يذكرنا ب(مورفولوجيا) الحكاية عند‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مـ ـث ــل نـ ـج ــد أن ـ ـ ــا س ــأحـ ـي ــا ط ــوي ــا‬ ‫حـيــن فــي الـحــب دائ ـمــا تمطريني‬ ‫أن ـ ــت أحـ ـل ــى ق ــدي ـس ــة فـ ــي ح ـيــاتــي‬ ‫فــاس ـك ـنــي ف ــي ق ـص ـيــدتــي وع ـيــونــي‬ ‫ويسلك النهج ذاتــه فــي تجلّيات األنثى‬ ‫المعشوقة‪ ،‬فهي زهر الحياة‪ ،‬وغزال‪ ،‬ونخلة‪،‬‬ ‫وغابة زيتون‪ ،‬وقصيدة‪ ،‬ولحن‪ ،‬وواحــة من‬ ‫ضــيــاء‪ .‬وه ــذا الــتــراكــم الكمي القائم على‬ ‫التشبيه يحدث تحوّال كيفيًا يدعو الشاعر‬ ‫إل ــى الــبــوح بــمــكــنــونــات الـ ــذات وهــمــومــهــا‪،‬‬ ‫والشكوى من اآلخر الذي يعيق ويعرقل‪ ،‬وتبدو‬ ‫الذات المعشوقة في مقابل الذات المعيقة؛‬ ‫فالشاعر يتوق إلى االتحاد معها لمواجهة‬ ‫ه ــذا اآلخ ــر الــعــدوانــي‪ ،‬ال ــذي ينهمك في‬ ‫وصفه كما فعل مع اآلخر األنثى المعشوقة؛‬ ‫ولكن من خالل الحركة والفعل؛ وليس عبر‬

‫دث ـ ـ ــريـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي‪ ،‬فـ ـ ـ ـ ــإن ق ـ ـل ـ ـبـ ــي حـ ــزيـ ــن‬ ‫وأنـ ـ ــا الـ ـح ــزن ف ــي ع ـي ــون ال ـحــزيــن‬ ‫و في قصيدة (سأعلن أنك السماء) محطة‬ ‫شعرية فاصلة‪ ،‬يخلص فيها الشاعر إلى حيث‬ ‫المستقر ذروة الفناء في المحبوب؛ فقد اختار‬ ‫عبارة مركزية تتكرر على نحو منتظم‪ ،‬وهي‬ ‫عبارة «سأعلن أنك أنت السماء» التي تتشكل‬ ‫في تجليات تعبيرية تظل مشدودة إلى داللتها‬ ‫األصلية‪ ،‬وتتبدّى فيها إشارتان سيميائيتان‪:‬‬ ‫الجهر والرفعة‪ ،‬فاإلعالن إيــذان بالحسم؛‬ ‫فلم يعد األمر يحتمل اإلخفاء واإلسرار‪ ،‬كما‬ ‫أن السماء تعني العلو والرفعة والظل‪ ،‬فهي‬ ‫تعلو على ما عداها من الكائنات‪ ،‬والمقاطع‬ ‫الــعــشــرة وفــضــاء القصيدة الكتابي الــذي‬ ‫يعيد توزيع أجــزاء البيت الشعري‪ ،‬كل ذلك‬ ‫له دالالته؛ فعدد المقاطع عشرة‪ ،‬وهو عدد‬ ‫يشير إلى التمام‪ ،‬عقد مقفل هو تعبير عن‬ ‫اكتمال الموقف الشعري‪ ،‬والمقطع المتكرّر‬ ‫أشبه بالطرقات المتتالية التي تنبّه إلى جدّية‬ ‫الموقف‪ ،‬كما أن الميم الساكنة تومئ إلى‬ ‫السكون ونقطة االنتهاء‪ ،‬فضال عن االتكاء‬ ‫على تفعيلة المتقارب التي تتحدّر متناغمة‬ ‫مع اإلقرار واالستقرار‪ .‬وجدل النفي واإلثبات‬ ‫في القصيدة ظاهرة أسلوبية بارزة‪ ،‬والفعل‬ ‫والذاتي وما يوازيه من فعل كوني‪ ،‬والبدء‬ ‫والمنتهى‪ ،‬ثم الالزمة الشعرية وتداعياتها‬ ‫ولوازمها ومفارقاتها‪ ،‬واالستقصاء بمطاردة‬ ‫التفاصيل واإلحاطة بها‪ ،‬وأفعل التفضيل‪،‬‬ ‫وازدواجية التشبيه على هذا النحو‪:‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫«بروب» في حديثه عن نحو الحكاية وبنيتها‪،‬‬ ‫وذلك حين يتحدث عن الحوافز والعوائق‪.‬‬ ‫ولكننا هنا في معرض تحققّ الذات والحيلولة‬ ‫بين األنا واآلخر المعشوق‪ ،‬وهذا يقودنا إلى‬ ‫استحضار السياق على المستوى الفردي‬ ‫والــجــمــاعــي‪ ،‬وال ــح ــراك الــســيــري الــذاتــي‪،‬‬ ‫والحراك التاريخي الجمعي؛ على أية حال‪..‬‬ ‫فإننا فــي هــذه القصيدة ال تفارقنا نغمة‬ ‫المناجاة التي ترقّ نبرتها حتى تالمس سقف‬ ‫االستغاثة‪ ،‬فثمة مَن يعمل على الحيلولة دون‬ ‫الهدف دون التوحّ د مع اآلخــر المحبوب‪،‬‬ ‫فيعلو الصوت وتتكاثف أساليب الطلب في‬ ‫صيغة األمــر الصريح الــذي يبدو التماسً ا‬ ‫ودعــاء في إلحاح ووتيرة متسارعة ومكثّفة‬ ‫ومتالحقة‪ ،‬وتتبعها لهجة تتوسّ ل بالتقرير‬ ‫والتوكيد وذك ــر بدهيات يتم التذكير بها‬ ‫لطرفي الثنائية العاشق والمعشوق‪:‬‬

‫التقرير والتجريد‪ ،‬فهم ربعه الذين ذبحوه‪،‬‬ ‫وهم الذين طعنوه وطردوه‪ ،‬وهم الذين تآمروا‬ ‫عليه‪ ،‬متعاونين مع الحياة التي ضيعته؛ وهنا‬ ‫يستحضر النص القرآني متمثّال به‪:‬‬

‫‪47‬‬


‫س ـ ـ ــأعـ ـ ـ ـل ـ ـ ــن أيـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا الـ ـ ـ ـس ـ ـ ــاح ـ ـ ــرة‬ ‫ب ــأن ــك تـسـتـلـهـمـيــن رحـ ـي ــق ال ــزه ــر‬ ‫ولـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون ال ـ ـ ـ ــزه ـ ـ ـ ــر وح ـ ـ ـ ـ ــب الـ ـ ــزهـ ـ ــر‬ ‫وأن ـ ـ ــك ت ـغ ـت ـس ـل ـيــن ب ـ ـضـ ــوء ال ـق ـمــر‬ ‫التحوّ الت والتجليات‬ ‫و فــي كــل مقطع مــن مقاطع القصيدة‬ ‫يتمثل الشاعر المحبوبة في مشاهد وتحوالت‬ ‫تستقصي تجلياتها؛ فهي أول أنثى وآخــر‬ ‫أنثى وكل النساء‪ ،‬وهي السحب التي يسافر‬ ‫فيها قطرة من مطر‪ ،‬وهي أجمل أنثى‪ ،‬وهي‬ ‫الساحرة‪ ،‬هي األميرة والقصيدة‪ ،‬وهي طفل‬ ‫من ياسمين‪ ،‬وهي الحبيبة كانت وما تزال‪،‬‬ ‫وبعد كل هذه التجليات يريدها خالصة له‪:‬‬

‫فكوني الحبيبة‬

‫‪48‬‬

‫المضافة إلى الفراشات والدالفين‪ ،‬عبارة‬ ‫كوني الحبيبة‬ ‫«مــن خــال القصيدة»‪ ،‬وهــذا التكرار الذي‬ ‫كوني الحبيبة‬ ‫يــثــري تفعيلة الــمــتــقــارب تنساب محتشدة‬ ‫وتــبــدو الــظــاهــرة األســلــوبــيــة األبـ ــرز في باالنفعال‪ ،‬فضال عما أشرت إليه من تكرار‬ ‫قصائد الــشــاعــر المتعلقة بــاآلخــر األنثى‬ ‫للصيغ الطلبية؛ أمرًا‪ ،‬ونداءً‪ ،‬واستفهامًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التكرار واستثمار اإليــقــاع الناجم عنه في‬ ‫فــي قصيدة (لــقــاء) وإن جــاءت متأخرة‬ ‫ترديد الالزمة‪ ،‬وخصوصا في أسلوب الطلب‬ ‫(األم ــر)‪ ،‬ويعكس ذلــك َف ـوَرا ًنــا وجدانيًا إذا في ترتيب قصائد الديوان‪ ،‬فهي تمثّل ذروة‬ ‫صح التعبير‪ ،‬فثمة إلحاح واضح تأكيدًا على المرحلة الوجدانية التي تصل فيها الذات‬ ‫اشتعال اللحظة بالمشاعر الجياشة تجاه الشاعرة إلى قمة الفرح‪ ،‬في مناجاة شاعرية‬ ‫المعشوقة؛ ففي قصيدة (عيناك مي) تتكرر تخال ضمير المتكلم الجمعي (نا) تعبيرًا عن‬ ‫عبارة «بعينيك مــي» ست مــرات في الستة االنصهار في بوتقة الحب‪ ،‬فيتحول اللقاء إلى‬ ‫أسطر األولى‪ ،‬وفي مطالع المقاطع الخمس حالة وجدانية فريدة في أجواء كونية يرفدها‬ ‫األول ــى مــن القصيدة‪ ،‬و «بعينيك مــي» في الــزمــان والــمــكــان فــي تجلياتهما الربيعية‪،‬‬ ‫مبتدأ المقطع األول وختامه‪ ،‬فضال عن تكرار والمناجاة الهامسة‪ ،‬ولوازم الفرح من ضحك‬ ‫الصيغة النحوية التي تبدأ بالفعل المضارع‪ ،‬وطرائف وحكايات وتوصيف يسترفد معين‬ ‫وتكرار الفعل تسقط‪ ،‬وفي المقاطع الستة اللغة بحقول الــداللــة فيها‪ ،‬فتأتي صــورة‬ ‫عاج قد نفخ فيه الشعر‬ ‫األخيرة تتكرر عبارة «أيا امرأة»‪ ،‬ناهيك عن المحبوبة تمثاالً من ٍ‬ ‫مــفــردات أخ ــرى‪ ،‬مثل «حتى ح ــدود» و«كــل» فاستوى كائنا شعريا في لوحة تشكيلية بالغة‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ق ـم ــرٌ ع ـلــى ط ــرف األريـ ـك ــة جــالـ ٌـس‬ ‫و أن ـ ــا اح ـت ــرق ــت ه ـن ــا كـ ـع ــود ث ـقــاب‬ ‫ـان ن ـ ّـض ــاح ـت ــان خ ـلــف نـقــابـهــا‬ ‫ع ـي ـن ـ ِ‬ ‫فـ ـ ـب ـ ــأي آالء ال ـ ـ ـهـ ـ ــوى أسـ ـ ـ ـ ــرى بــي‬ ‫ويـ ـ ـ ــدان مـ ـصـ ـق ــوالن خ ـل ــف ع ـب ــاءة‬ ‫ه ــل ي ـس ـكــن ال ـي ــاق ــوت ت ـحــت إه ــاب‬ ‫اســتــثــمــار لــلــمــفــردات الــقــرآنــيــة فــي نهج‬ ‫استعاري خصب في دالالتــه المرجعية عبر‬ ‫تناص يقوم على التمثل انعتاق العالمة من‬ ‫ّ‬ ‫قيودها اإلشارية لتحلق في فضاء جديد‪ ،‬على‬ ‫ال إيقاعيًا بسيطً ا يلمحه‬ ‫الرغم مما يبدو خل ً‬ ‫المتلقي على نحو ما‪ ،‬وذلك في قوله (أسرى‬ ‫بي)‪ ،‬لقد استرسل الشاعر في تشكيل اللوحة‬ ‫بكل تفاصيلها‪ ،‬ولكنها لوحة تنزاح مفرداتها‬ ‫وتتأبّى على التصوير المباشر لتغزو مناطق‬ ‫قصية ال يرتادها إال من صفت قريحته‪ ،‬فلسنا‬ ‫أمام مشهد تزيّنه الخطوط واأللوان؛ بل نحن‬ ‫أمام صياغات استعارية ذات دالالت عميقة‬ ‫تتجاوز السطح الظاهر إلى العمق ملتقطة‬ ‫نبضا سريًا خفيًا‪ ،‬فالعشب الذي ينبت في‬ ‫ً‬ ‫المسافة بين العاشق والمعشوق‪ ،‬والحمام‬ ‫الــذي ينزل على غدير المحبوبة والصباح‬ ‫محراب الهوى والعشق‪ ..‬لغة استعارية تلتقط‬ ‫دقائق نفسية بالغة الخفاء‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫البهاء‪ ،‬واستوفى عناصر الحركة والصوت‬ ‫والــضــوء والــلــون‪ ،‬وحــشــدهــا بعناية ونضد‬ ‫تفاصيلها بحرفية بالغة‪ ،‬وأطلق بلبل التأويل‬ ‫من قفصه الذهبي ليحلق في فضاء المعنى‬ ‫كما يشاء‪:‬‬

‫بالقصائد التي يكون الخطاب فيها يتصل‬ ‫باآلخر الــمــرأة والمدينة‪ ،‬بل تشمل مجمل‬ ‫الخطاب الشعري في الديوان أيضا؛ فالمدينة‬ ‫تتماهى مع المرأة في وجــدان الشاعر كما‬ ‫في قصيدته (صديقتي بــيــروت)‪ ،‬فقد كان‬ ‫التكرار ظــاهــرة ب ــارزة فيها‪ ،‬وهــذا التكرار‬ ‫المقرون بتوالي الصفات التي تبدو تمثالتها‬ ‫فــي القصيدة عبر التمظهرات المجازية‪،‬‬ ‫حيث يخلع الشاعر عليها صفات األنثى؛‬ ‫فهي الصديقة والجميلة واألغنية والحرية‬ ‫التي تقابل وجها آخر للمدينة التي يصفها‬ ‫بنعوت مضادة‪ ،‬وفي مقابل الفرح واالنطالق‬ ‫والحرية التي ينشدها الشاعر هناك النقيض‬ ‫الــذي يصفه الشاعر بمفردات تنتمي إلى‬ ‫حقل داللي مختلف‪.‬‬ ‫ويــصــرح فــي ختام قصيدته بــأن بيروت‬ ‫هي المرأة‪ ،‬التي ال يمكن إال أن تكون كذلك‬ ‫متماهية في القصيدة باألنثى المعشوقة‪:‬‬

‫ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروت يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ص ـ ـ ــديـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـت ـ ـ ــي‬ ‫بـ ـ ـ ـي ـ ـ ــروت ي ـ ـ ــا ص ـ ــديـ ـ ـق ـ ــة ال ـ ـس ـ ـمـ ــاء‬ ‫ه ـ ـ ــل م ـ ـم ـ ـكـ ــن أال ت ـ ـ ـكـ ـ ــون امـ ـ ـ ـ ــرأة‬ ‫غيرك ‪-‬صديقتي ‪ -‬تنام في األحشاء‬

‫وتمثل قصيدة بيروت نقلة رؤيوية وجمالية‬ ‫فــي الــديــوان؛ إذ ينتقل الشاعر مــن التعلق‬ ‫باآلخر األنثى إلى اآلخر المدينة التي تتماهى‬ ‫معها‪ ..‬ولكنها ال تكونها‪ ،‬ولكننا هنا ال نتحدث‬ ‫عن تطور في الزمان‪ ،‬فقد تتزامن القصائد‬ ‫التي قيلت في المرأة مع األخرى التي قيلت‬ ‫في المدينة‪ ،‬نستنتج ذلك من تاريخ إنشاء كل‬ ‫قصيدة كما أثبته الشاعر‪ ،‬وهذا التزامن الذي‬ ‫المرأة والمدينة‬ ‫نلمحه له داللته التي تنتمي إلى مرجعيات‬ ‫وكما سبق‪ ،‬فإن الظواهر األسلوبية التي ثقافية واجتماعية؛ ففي هذه المرحلة تتبدى‬ ‫لم تقتصر على ظاهرة التكرار فيما يتعلق اهتمامات الشاعر ومواقفه وتوقه إلى الحب‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪49‬‬


‫مشاركة شتيوي الغيثي في أمسية شعرية بمدينة سكاكا‬

‫‪50‬‬

‫للمرأة والــوطــن والحرية واالنــطــاق‪ .‬ففي‬ ‫قصيدته (نقوش على جدار حائلي)‪ ،‬تنتصب‬ ‫حائل مدينته األثيرة حبيبة يبثها نجواه ويشكو‬ ‫همّه‪ ،‬إنها الصدر الحنون الذي يأوي إليه بعد‬ ‫أن حالت الحال وانــهــارت اآلمــال أو كــادت؛‬ ‫ثمة إيقاع حزين‪ ،‬ومعجم حزين‪ ،‬وأنين يسكن‬ ‫الكلمات‪ ،‬وهي في نظري من أجمل القصائد‬ ‫في الديوان؛ ألنها تعبر عن تجربة الصدمة‬ ‫التي واجهت الشاعر حينما فــارق المدينة‪،‬‬ ‫فنأَتْ به عن حضن األم ورفقة الصحاب‪،‬‬ ‫وقــذفــت بــه فــي أحــضــان الغربة بعيدًا عن‬ ‫نوع جديد‬ ‫األهل والخالن‪ ،‬يعاني احتدامًا من ٍ‬ ‫لم يألفه؛ وهنا‪ ،‬تتبدّى لغة الشاعر محتشدة‬ ‫بنبرة اعترافية شجيّة باكية‪ ،‬مستثمرًا مخزون‬ ‫الــذاكــرة الــذي يتدفق بتفاصيل حميمة عن‬ ‫المكان والــزمــان البشر‪ ،‬وال تفرقه ظاهرة‬ ‫التكرار الملحاح‪ ،‬فهو يتلظى بجمر العاطفة‬ ‫المشبوبة‪ ،‬يتقرّى المالمح ويقتنص المواقف‬ ‫في متابعة دؤوب‪ ،‬وتداعيات تنهمر بال هوادة؛‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫ولذلك‪ ،‬يتبدى التداخل بين الصيغ األسلوبية‬ ‫التي تتجسّ د فيها الدهشة عبر ك ْم الخبرية‬ ‫التي تتدفق‪ ،‬والصيغ االستفهامية بما تثيره‬ ‫من قلق وزعزعة لما و َق َر في النفس واستقر‬ ‫في القلب‪ ،‬وليس غريبًا أن تُراوِ ح األسئلة بين‬ ‫تلك التي تتساءل عن المكان‪ ،‬واألخرى التي‬ ‫تستفهم عن الحال (أين وكيف)‪:‬‬

‫ك ـ ـيـ ــف يـ ـ ــا ح ـ ــائ ـ ــل أص ـ ـ ـ ـ ـ ـوّر مـ ـ ــا بــي‬ ‫وحـ ـ ــروفـ ـ ــي م ـ ــن قـ ـه ــره ــا خـ ــرسـ ــاءُ‬ ‫أي ـ ـ ـ ــن ح ـ ــريـ ـ ـت ـ ــي ال ـ ـ ـتـ ـ ــي سـ ــرقـ ــوهـ ــا‬ ‫كـ ـي ــف مـ ــاتـ ــت دفـ ـ ــاتـ ـ ــري الـ ـ ــزرقـ ـ ــاءُ‬ ‫جماليات االلتفات‬ ‫جماليات االلــتــفــات تتبدى فــي تحوّالت‬ ‫الضمائر وتــنـوّع الخطاب؛ فهو إذ يخاطب‬ ‫حائل بوصفها عشيقة معشوقة‪ ،‬في تشكيل‬ ‫لغوي متماوج‪ ،‬يتمثل في ذلك التساؤل الحائر‬ ‫ثنائي األطــراف (وجهك أم الحب)‪ ،‬اقتران‬ ‫جميل بين الجمال الحسي والمعنوي‪ ،‬اسم‬


‫كـ ــم ح ـب ـي ــب خ ـب ــأت ــه فـ ــي ض ـم ـيــري‬ ‫خـ ـطـ ـفـ ـت ــه ال ـ ـ ـمـ ـ ــدائـ ـ ــن ال ـ ـهـ ــوجـ ــاء‬ ‫كـ ـ ــم ص ـ ــدي ـ ــق نـ ـسـ ـيـ ـت ــه مـ ـ ــن زمـ ـ ــان‬ ‫أحـ ـ ـ ـ ــرام عـ ـل ــى ال ـ ـصـ ــديـ ــق الـ ــوفـ ــاء‬ ‫وفي قوله «أح ــرام»‪ .‬إشــارة شفيفة لنص‬ ‫يــومــئ إل ــى الــغــربــة وال ــح ــزن الــلــتــيــن عانى‬ ‫منهما أحمد شوقي فــي منفاه‪ ،‬مستدعيا‬ ‫قــولــه « أح ــرام على بالبله الـ ــدوح»‪ ،‬حركة‬ ‫لغوية داللية تقابل جَ يَشانا داخليًا هائالً‪،‬‬ ‫وبــعــدهــا‪ ..‬تلك مكاشفة شاكية باكية عبر‬ ‫جملة من االستفهامات الزاخرة بالمفارقات‬ ‫غير المألوفة التي تتناقض مــع المنطق؛‬ ‫من هنا‪ ،‬كانت هذه السلسلة المتوالية التي‬ ‫تزخر بأساليب االستفهام‪ ،‬وهــذا التعاقب‬ ‫بين أساليب الطلب من نداء واستفهام وأمر‪،‬‬ ‫ثم ألوان من األخبار ما بين ابتدائي وطلبي‬ ‫وإنكاري ونفي وتكرار‪ ،‬جَ يَشان لغوي يعبر عن‬ ‫لهيب يندلع بين الجوانح في لحظة شعرية‬ ‫ملتهبة بــشــواظ وجــدانــي‪ ،‬ثــم تــأتــي لحظة‬ ‫الختام حيث يُلقي الشاعر بنفسه في أحضان‬ ‫مدينته المعشوقة‪.‬‬

‫وبعد حائل تأتي جــدة؛ وإذا كانت حائل‬ ‫المعشوقة األثــيــرة‪ ،‬فهي فــلــذة مــن فلذات‬ ‫هــذا الكبد المعنّى‪ ،‬لــه مــن الحب مــا يفي‬ ‫بحق الوفاء؛ وفــاء األبناء لآلباء واألمهات‪.‬‬ ‫لــم تكن المناسبة إال الصاعق الــذي فجّ ر‬ ‫مكنون المشاعر المخزونة في الفؤاد حبا‬ ‫وانتماء‪ .‬وكما هي الحال فيما يتعلق بالحب‬ ‫األول (حائل) فإن ولَهًا بتراب الوطن وعشقًا‬ ‫للماء واليابسة فيه جعل النداء المتكرر ضربًا‬ ‫من ضروب التعبير عن التعلق والتعالق بين‬ ‫الشاعر وإحــدى حبيبتيه (عينيه)‪ ،‬فكانت‬ ‫اللوازم األسلوبية التي استثمرها في تجسيد‬ ‫حبه لحائل هــي ذاتــهــا فيما يتعلق بجدة‪،‬‬ ‫وإن كان الحب للحبيب األوّل أش ّد اشتعاالً‬ ‫شبكة متواشجة ال ــدالالت والتشكيل ما وأورى زن ــدا‪ ،‬فقد ك ـرّر الــنــداء وكــرّر البوح‬ ‫بين المفتتح واالختتام‪ :‬تأمل لفيْض الجمال (آمنت)‪ ،‬وكرّر االعتراف (رميت)‪ ،‬وكرّر ألوانًا‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫الذات واسم المعنى‪ ،‬ثم ذلك التذييل الذي‬ ‫يجيب عن السؤال مساويًا بين طرفي هذه‬ ‫الثنائية «تــتــســاوى فــي عيني األشــيــاء»‪ ،‬ثم‬ ‫اإلفضاء عبر النجوى‪ ،‬ومن ثم االلتفات في‬ ‫ـوق ال‬ ‫صــورة االســتــدراك الــذي يعبر عن شـ ٍ‬ ‫يريد أن تفوته شــاردةٌ وال واردةٌ فيه تعلقا‬ ‫بكل التفاصيل‪ ،‬وهذا االرتباك أمام الحبيبة‬ ‫عبر التساؤل المتلهّف واالعتراف الصريح‪،‬‬ ‫ثم العتاب اللطيف عبر أسلوب ك ْم الخبرية‬ ‫للتذكير والتكثير‪:‬‬

‫والجالل‪ ،‬ثمة مناجاة واسترجاع لجميل األيام‬ ‫واألح ــام‪ ،‬وهيام في فضاء الــذكــريــات‪ ،‬ثم‬ ‫شكوى ونجوى واعتراف واستدعاء لمدائن‬ ‫الــحــزن‪ ،‬واستشامة لبرق خلّب فــوق أرض‬ ‫العروبة التي تمزّقت أشالء ونفثات مصدور‪،‬‬ ‫وتمركز في أتون الهم العام بعد أن لم يعد‬ ‫يطيق همّه الــخــاص‪ ،‬ومالمسة لسديم لم‬ ‫يعد قــادرًا على تبيّن تضاريس المكان فيه‬ ‫وال الزمان‪ ،‬وسخرية ُمــرة وكوميديا سوداء‬ ‫وقاموس متهرّئ يبتذل المعاني في مراوغة ال‬ ‫نظير لها‪ ،‬ومذلّة وكبرياء كسير تحت سنابك‬ ‫الخيول الجامحة‪ ،‬وبعد ذلك كلّه ذاتٌ متعبة‬ ‫تستلقي في أحضان حبيب نأى فكانت الّلقيا‪،‬‬ ‫بعد أن اصطلى بجمرة القهر والبكاء‪ .‬هذه‬ ‫الحالة الشعرية المتلظية أنجبتها طرائق في‬ ‫الخطاب الشعري‪ ،‬احتشدت على نحو خاص‬ ‫بأساليب متواشجة لتفضي عالئقها بهذا كلّه‬ ‫في موقف شعريّ وجدانيّ مشتعل‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫من الطلب‪ ،‬وكــان التعبي ُر االستعاريُّ سي َد الشعراء‪ ،‬غضبة مضرية عبر تداعيات تنهمر‬ ‫الخطاب والتماهي مــع الــمــرأة المعشوقة بال عائق في تدفق متسارع غزير‪.‬‬ ‫أيقونة المحبة‪:‬‬ ‫لقد سلك الشاعر سبيل التقرير وأساليب‬

‫نــاديــت للوطن المسجور فــي دمنا‬ ‫كالنحل يطلع من صوت الجماهير‬

‫نــاديــت يــا وط ـنــي‪ ..‬يــا نخلةً بفمي‬ ‫ه ـ ــا أزلـ ـ ـ ــت عـ ـ ــذابـ ـ ــات ال ـع ـص ــاف ـي ــر‬ ‫الهم العام والهم الخاص‬ ‫أما قصيدة (كلمات من ذاكرة الحفر)‪ ،‬فهي‬ ‫تنعطف بقصائد الديوان نحو اله ِّم العام ثاني ًة‬ ‫دون أن تنعتق من إســار التجربة الخاصة؛‬ ‫فيستبدل الشاعر بضمير األنــا ضمير الـ‬ ‫(نحن) خطاب المتكلم للجماعة؛ فهو يبدأ‬ ‫بالقول نتذكر‪ ،‬فالضمير (نا) و(نحن) تتكرر‬ ‫في القصيدة في توال وتواتر‪ ،‬ويأتي االلتفات‬ ‫من ضمير المتكلمين إلى ضمير المفرد(أنا)‪،‬‬ ‫فلم يعد المخاطب مجهوال؛ بل هو األنثى‬ ‫األطهر واألجمل‪ ،‬ثم ينعطف ثانية بعد هذه‬ ‫االلتفاتة إلى الخطاب الجمعي‪ ،‬وتكاد تتوارى‬ ‫أساليب الطلب االنفعالية لتح ّل محلها أساليب‬ ‫الوصف والخبر والتقرير في بوح شجي‪ ،‬ثم‬ ‫ال يلبث الخطاب أن يتجه اتجاهً ا آخر جديدًا‬ ‫يقترب من الهجاء الذاتي‪ ..‬على نحو ما نرى‬ ‫عند نزار قباني وأحمد مطر ومظفر النواب‪،‬‬ ‫ولعله يمارس قسوة تالمس السقف األعلى‬ ‫في الهجاء في قوله‪:‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ــن مـ ـ ـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ــورون حـ ـ ـ ـف ـ ـ ــرا‬ ‫نـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ــن م ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـ ــورون نـ ـ ـ ـخ ـ ـ ــرا‬ ‫كــال ـب ـغــايــا‪ ..‬نـلـعــق األح ـج ــار صـبــرا‬ ‫كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرايـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا نـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـس ـ ـ ــر‬

‫‪52‬‬

‫ويشتد وجيب الغضب لينفجر معجمًا‬ ‫مفرداته الهجائية تالمس سقف مَن ذكرنا من‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫التوكيد والتشبيهات القريبة‪ ،‬التي تناسب‬ ‫هذا الخطاب الشعري المتمرد على الحالة‬ ‫الــتــاريــخــيــة بــر ّمــتــه‪ ،‬والــتــشــبــيــهــات مباشرة‬ ‫وأدواتها تتكرّر في إيقاع جهير‪ ،‬ويأتي ذلك‬ ‫عبر المجازات المباشرة‪ ،‬ويتجاوز الخطاب‬ ‫الموجّ ه إلــى العرب لينال الشرق كله عبر‬ ‫الــزفــرات الــتــي تتبلور ن ــداء واستصراخا‪،‬‬ ‫ولذلك يخرج الشاعر في المقاطع األخيرة‬ ‫من مظلة الخبر إلى النداء الصريح المكتمل‬ ‫بأدواته كافة؛ لقد تحوّل الخطاب من خطاب‬ ‫استعاريّ إلى خطاب كنائيّ مباشر يعتمد على‬ ‫التراكم الكميّ الذي يتبدّى من خالل التكرار‪:‬‬

‫«عرب نحن هنا‬ ‫عرب موتى هنا‬ ‫عرب كسلى هنا»‬ ‫ثم‪:‬‬

‫«أيها الشرق الذي يمطرنا عنقود نار‬ ‫أيها الشرق الذي في كل حال يتقنفذ‬ ‫أيها الشرق الذي يحلم في الليلة‬ ‫أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــولـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة»‬ ‫اللغة الشعرية واللغة الفورية‬ ‫ينحو الشاعر في هذا الديوان األول منحى‬ ‫الشعراء الذين نزلوا بلغة الشعر إلى الميادين‬ ‫والطرق‪ ،‬ملتقطين حــرارة اليومي والواقعي‬ ‫والـــمـــتـــداول‪ ،‬عــلــى طــريــقــة نــــزار وص ــاح‬ ‫عبدالصبور وأضرابهم واستلّوا إيقاعاتهم‬ ‫من نبض الناس العاديين‪ ،‬وعمد إلى العبارة‬ ‫القصيرة الموقّعة وتداعياتها وانثياالتها‪،‬‬ ‫صيغة تتشكّل منها أشعارُه في أغلب قصائده‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫التفعيلية‪ ،‬ويلتقط ‪ -‬مما هو متاح من نثريات‬ ‫الــواقــع المعاش فــي األســـواق والــطــرقــات‪-‬‬ ‫مفرداته الشعرية‪ ،‬كما في قصيدته الطويلة‬ ‫(مسافرون في الزمن المسافر)‪ ،‬فقد اهتم‬ ‫باإليقاع والترجيع والتوقيع اهتمامًا بــارزًا‪،‬‬ ‫وألــحّ كثيرًا في استثمار الدفقات الشعرية‬ ‫التي تتكرّر بمعان مختلفة وتفاصيل متباينة؛‬ ‫ولكنها تصطنع أطرًا وتراكيب متماثلة‪ ،‬واتّكأ‬ ‫على لعبة النفي واإلثبات‪ ،‬لقد ترددت أنفاس‬ ‫ـوصــا فــي قصائده االنتقادية‪،‬‬ ‫ن ــزار‪ ،‬وخــصـ ً‬ ‫مثل قصيدة (هوامش على دفتر النكسة)‪،‬‬ ‫مألوف سبق أن لمحناه في أشعار‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا أم ٌر‬ ‫الجيل السابق من كبار الشعراء‪ ،‬مثل غازي‬ ‫القصيبي (رحمه اهلل) الذي أشار إلى ذلك‬ ‫في كتابه (حياتي في الشعر)؛ إنها معطيات‬ ‫المرحلة التاريخية بالنسبة لألمّة‪ ،‬تتسق مع‬ ‫تلك السن المبكرة للمبدع حينما يلتفت حوله‪،‬‬ ‫فيجد في أشعار هذه الطبقة من الشعراء ما‬ ‫يالمس أوتــار شعوره باإلحباط والقلق على‬ ‫مستقبل األمة‪ .‬فتبرز هذه النزعة التي تجلد‬ ‫فيها الذات جلدًا مبرحً ا طمعا في إيقاظها‪.‬‬

‫إلى مَن رحلوا من الشعراء بعد أن أيقظوا‬ ‫اإلحساس بهذا الهوان التاريخي الذي تردّينا‬ ‫فــي شــبــاكــه‪ ،‬أمــثــال الثبيتي؛ إذ عمل على‬ ‫االشتباك مــع نصه الشهير (سيد البيد)‪،‬‬ ‫الذي أصبح يعرف به بوصفه شاعرًا مبدعً ا‪،‬‬ ‫فهو الرمز والقناع‪ ،‬وهو الخطاب والمخاطب‪،‬‬ ‫فالشاعر يخاطبه مستذكرًا دوره متلمسً ا‬ ‫خطاه مقتفيا أثره‪ ،‬في رثائية جديدة تتجاوز‬ ‫التقليد‪ ،‬وتحاق بعيدًا فتجعل منه أنموذجً ا‬ ‫ورمزًا متفاعال مع قاموسه الشعري‪ ،‬وتراكيبه‬ ‫وصــوره الفنية وجماليات شعره‪ ،‬فأساطير‬ ‫والطين والنخل عناصر داللية رئيسة في‬ ‫شعره‪ ،‬وقد عمد إلى رسم (بروتريه) شعري‬ ‫يوضح قسماته الجمالية‪:‬‬ ‫له ّ‬

‫يا سيد الشعر‬ ‫يا أيها البدوي المسافر للشمس‬ ‫مثل هديل الحمام‬ ‫و مثل الزوابع‬

‫أصل‬ ‫فكما كان الثبيتي من الجيل الــذي ّ‬ ‫لــلــحــداثــة الــشــعــريــة عــبــر دي ــوان ــه الشهير‬ ‫(الــتــضــاريــس)‪ ،‬الــذي وظّ ــف فيه األســطــورة‬ ‫وهــذا س ـوّغ ‪ -‬على نحو مــا ‪ -‬استدعاء الــشــرقــيــة الــبــابــلــيــة‪ ،‬ثــم اجــتــرح أســطــورتــه‬ ‫التاريخ فــي مــراحــل التحوالت الكبرى في الخاصة‪ ،‬صوّره شتيوي بطال أسطوريًا أيضا‪،‬‬ ‫األندلس وحواضرها‪:‬‬ ‫فهو سيّد البيد وسيّد الشعر‪ ،‬وكأنه أبوللو‪،‬‬ ‫وهو المسافر للشمس‪ ..‬فهو كائن أسطوري‬ ‫خمسة آالف سنة‬ ‫م ـ ّر كالزوبعة وهــدل كالحمام‪ .‬وهــو عاشق‬ ‫ونحن في شتاتنا‬ ‫معشوق يعشق الشعر ويعشقه الشعر‪ ،‬وهو‬ ‫نسير في عواصف الصحراء‬ ‫يسري حيًا في عــروق القصيد وكأنه نسغ‬ ‫تشتمنا قرطبة‬ ‫اإلبداع‪ .‬وهو يفنى في ظواهر الطبيعة والكون‬ ‫تشتمنا غرناطة‬ ‫ويحل في عروق النخيل والمزارع‪.‬‬ ‫تبكي علينا دائما نافورة الحمراء‬

‫سيد البيد واألسطورة‬ ‫مــن قــصــائــد ال ــدي ــوان مــا ج ــاء عــمــود ًيــا‬ ‫وال يقف األمر عند استذكار المجد اآلفل تناظريا وعموديًا توزيعيًا‪ ،‬أي أعيد ترتيب‬ ‫والع ِّز الضائع في األندلس؛ بل يتجاوز ذلك أجزاء أبياتها في فضاء الصفحة لينسجم مع‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪53‬‬


‫شكل القصيدة التفعيلية‪ ،‬ومنها ما جاء على‬ ‫نظام التفعيلة‪ .‬وليست هذه المسألة شكلية‬ ‫فحسب؛ بل لها دالالتــهــا‪ ،‬وقــد الحظت من‬ ‫خالل قراءتي للتواريخ المدوّنة في ذيل كل‬ ‫قصيدة أن الشاعر كتب النصوص الشعرية‬ ‫في العقد األول من هــذا القرن الميالدي‪،‬‬ ‫وأن آخــر القصائد كتبت في ‪2010‬م‪ ،‬وأنه‬ ‫فــي ديــوانــه الثاني قــد بــدأ مرحلة جديدة‬ ‫انعطفت بــه إلــى م ــدارج جــديــدة‪ ،‬وتباشير‬ ‫هذا التحوّل تبدو في بعض قصائد الديوان؛‬ ‫ففي قصيدته (صباحية إلى بلقيس) يستلهم‬ ‫التاريخ والــحــضــارة‪ ..‬األع ــام والنصوص‪،‬‬ ‫وينفلت الخيال محلقًا في آماد بعيدة تزداد‬ ‫فــي القصيدة درجــة التكثيف ويصطنع ما‬ ‫يقرّب من تقنية القناع‪ ،‬ولكنه يظل سائرا‬ ‫في المسافة التي تقع ما بين الكناية والقناع‪،‬‬ ‫فهو حاتم الطائي الذي يعقر حصانه إلكرام‬ ‫ضيوفه‪ ،‬ومحبوبته بلقيس في تجلياتها ملكة‬ ‫تتهادى؛ ومن هنا‪ ،‬جاء عنوان القصيدة الذي‬ ‫سبق ذكره‪:‬‬

‫حفيدة بلقيس استفيقي؛‬ ‫فإنني أنا حاتم الطائي جئت مشرّدا‬ ‫عقرت حصاني للجميع تكرما‬ ‫ولكنهم قد أسلموني إلى العدا‬

‫وقد تحوّلت طقوسيتها إلى شعائرية جمعت‬ ‫بين عناصر متباينة تفجر مــفــارقــات لها‬ ‫أصداؤها الجمالية‪ ،‬فضال عن أن القصيدة‬ ‫تخطو إلى مربع تستجلب فيها بعض مالمح‬ ‫التناص تتمثّل‬ ‫ّ‬ ‫أسطورية‪ ،‬وبدت فيها ظاهرة‬ ‫النص الغائب الذي كان حضوره في مفردات‬ ‫وإشــارات إلى امتصاص للنص وتحويل له‪..‬‬ ‫رغم كثافة حضوره‪ ،‬غير أنه أكثر قدرة على‬ ‫البث الداللي في اتجاهات متعددة تنأى به‬ ‫عن المعنى المرجعي‪:‬‬

‫وعرشك يا بلقيس مليون هدهد‬ ‫يصبحه‪ ،‬فاستأسري القلب هدهدا‬ ‫لديك بنيت الصبح سرحا ممددا‬ ‫قوارير نور منتهاك ومبتدا‬ ‫ويتسع مدى الثنائيات إلى مدى يتجاوز‬ ‫التقابل والتضاد‪ ،‬إلى المفارقة التي تجمع‬ ‫بين أعناق المتنافرات والمتماثالت على حد‬ ‫تعبير عبدالقاهر الجرجاني‪ ،‬فالمقابلة بين‬ ‫الملكة المدنية والشاعر البدوي يلتقيان في‬ ‫فضاء العشق‪:‬‬

‫أنا البدوي النائم بين نوقه‬ ‫تصبحه بنت المدينة بالردى‬ ‫إذا كان وجه الشمس يصحو فإنه‬ ‫بحسنك مشغول إلى آخر المدى‬

‫مالمح ملحمية في إطار غنائي‪:‬‬ ‫هذه القفلة التي أنهى بها قصيدته‪ ،‬فجمع‬ ‫مقتربات جديدة‬ ‫فيها أشتات الــرؤيــة الشعرية التي تتجاوز‬ ‫وتــأخــذ الــصــورة عــنــده م ــدى أوس ــع من الغنائية التقليدية إلــى مــشــارف ملحمية‬ ‫الــمــجــاز الــبــاغــي؛ إذ تتشكل فــي مشاهد واضحة القسمات‪.‬‬ ‫وتجليات وإشــراقــات‪ ،‬وتتعدد مرجعياتها‪،‬‬ ‫هــذه مقاربة مــوجــزة‪ ،‬حــاولــت أن تحاور‬ ‫ويــســود نفس تــتــردد فيه إيقاعات ملحمية نــصــوص ال ــدي ــوان‪ ،‬وتتبيّن بعضا مــن رؤاه‬ ‫تعمق غنائية القصيدة‪ ،‬كما تبدو المناجاة وجمالياته‪.‬‬ ‫ * أكاديمي وكاتب وناقد من األردن‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ديوان «حين النوافذ امرأة» ألحمد اللهيب‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الحنين‬ ‫شواطئ‬ ‫مسفوحة على‬ ‫عبرات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫■ هشام بنشاوي*‬

‫من قاموس الشجن‪ ،‬اللوعة والفقد‪ ،‬تنهل قصائد الشاعر والباحث د‪ .‬أحمد‬ ‫اللهيب في أضمومته الشعرية «حين النوافذ امــرأة»‪ ،‬وفي القصيدة التي تحمل‬ ‫اسم الديوان‪ ،‬يكتب اللهيب‪ ،‬بلغة وجدانية شجية مرهفة‪ ،‬عن النوافذ المشرعة‬ ‫للسهر‪ ،‬المتعبة بالنحيب‪ ،‬الحالمة بالمطر‪ ،‬حين تغفو الشوارع وتبتسم أضواؤها‬ ‫للغريب‪ ،‬وترسم واجهة للحزن‪ ،‬حينئذ تغتال شاعرنا األمنيات‪ ،‬وتنزاح ذاكرة من‬ ‫الحنين‪ ،‬ويهتف لنفسه‪« :‬الـحــزن مــن أمــر قلبي‪ ،‬ومــا أملك الـيــوم إال قليال من‬ ‫الصبر وبعضا من الذكريات التي لم تزل‪ ،‬فأنّى لقلبي ما تأفكون»‪ ،‬وإذا انسربت‬ ‫قطرة للقاء‪ ،‬ونفر زغب الحواصل عن نومة هانئة‪ ،‬وارتشعت األنامل في مقبض‬ ‫النافذة‪ ،‬والح ابتسام القمر‪ ،‬وفرجة نهر تتماوج أمــواهــه في السحر‪ ،‬مشى إلى‬ ‫طرف النهر حامال عصفورتين‪ ،‬والذ بجبل النور‪ ،‬مرتشفا الماء من حافة البئر‪،‬‬ ‫واقتحم البئر عابرً ا نحو النهاية‪.‬‬ ‫وفي قصيدة «جنة من زنابق أهدابها»‪ ،‬أهدابها‪ ،‬وتجذبه ناحيتها لتدخله إلى‬

‫يستهل أحمد اللهيب دخول هذا الفردوس مهبط األنــبــيــاء‪ ،‬بينما حاجبها واقــف‬

‫بوصف عين المحبوبة‪ ،‬التي تشبه انبثاق يحسب خطواتها‪ ،‬لعل األمــيــرة تمسح‬ ‫الضياء على لوحة خالدة‪ ،‬وحين تومئ أركانه بالسواد‪ ،‬وتغدو أناملها كي تبارك‬ ‫يتهادى السكون إلى مهده‪ ،‬ثم تولي إلى صهوته بالغناء؛ أمــا أهدابها فهي تظل‬

‫روحــه شــاردة‪ ،‬أمــا المقلة فهي دنيا من تنافح عن ذبذبات النسيم‪ ،‬وتغلق بوابة‬ ‫الثلج تغازلها ومــضــة الــشــمــس‪ ،‬وتمدد الحُ سن لكي تنام العصافير دون عناء‪،‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪55‬‬


‫وتبسم في الصباح على نغم وسماء‪ ،‬ويتجلى‬ ‫زئبق يتالشى إذا جاء الضوء‪ ،‬وينمو‬ ‫البؤبؤ مثل ٍ‬ ‫مثل شجر الصنوبر حين تجف قطرات الضياء‪،‬‬ ‫في حين يسكب بياض العين الماء في مفرق‬ ‫التين‪ ،‬يتلو لها ســورة‪ ،‬ينثني حامال زهرتين‪،‬‬ ‫نجمتين‪ ،‬ويضيء السناء‪ ،‬أما الكحل‪ ،‬فوحده‬ ‫يذهل فــوق الــصــراط فيدعو‪ ،‬يصلي فيغفو‪.‬‬ ‫ويصف شاعرنا الــخــروج متسائال‪« :‬أتــرانــي‬ ‫وقفت لها فرحة حين قبلني وعدها؟! أتراني‬ ‫انتهيت إلى شاطئ الدمع أتلو انكساري لها…؟!‬ ‫برجاء …»‪.‬‬ ‫في قصيدة «أحرف ضائعة» يرثي شاعرنا‬ ‫جرحنا العربي‪ ،‬الــذي يتمطط من الماء إلى‬ ‫الماء؛ فلسطين‪ ،‬وهــو يتأمل خارطة الكون‪،‬‬ ‫باحثا عن أحرف ضيعها التاريخ‪ ،‬يبحث عن‬ ‫فــاء كمحاق مسكين‪ ،‬يبحث عن الم ال تشبه‬ ‫كــل الــامــات‪ ،‬حــمــراء الــلــون‪ ،‬وتنق كضفدعة‬ ‫في آخر ليل‪ ،‬وتنام على كف الحجر النابض‬ ‫بالقهر‪ ،‬وتضم السين‪ ،‬كي يولد طفل يحمل‬ ‫سكينا أو حــجــرا مــن طــيــن‪ ،‬ويــــردد‪« :‬نحن‬ ‫الــزيــتــون‪ ،‬نحن الزيتون «‪ ،‬ويظل يفتش بين‬ ‫األنهار وبين األشجار وفي الوديان باحثا عن‬ ‫حرف الطاء‪ ،‬لكي يمسح عن وجهه آثار الحزن‬ ‫في يوم قان كليالي الصيف الحمراء‪ ،‬في يوم‬ ‫تحتفل فيه الــمــدن العربية باللون األحمر‪،‬‬ ‫الذي لم تعد حمرته ترمز إلى الثورة وال الدم‪،‬‬ ‫بل لونا للدفء في مدن عاجزة انهزامية‪ ،‬ال‬

‫‪56‬‬

‫تعرف كيف تحزن‪ ،‬وأقصى ما تملك الشجب‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫أحمد اللهيب‬

‫أو الصراخ أو الرقص‪ ،‬مدن تضم آالفا تشرب‬

‫في قارعة الطرقات‪ ،‬مثل كالب تلعق ما تلقى‬

‫من جيف جوفاء‪ .‬ويعاود الشاعر البحث عن‬

‫الياء الخرساء‪ ،‬التي تسكن قاع البحر‪ ،‬وتبوح‬ ‫بآالف اآلالم عن عشق الوطن المدفون بآالف‬ ‫األوراق‪ ،‬ومــائــات المؤتمرات البلهاء‪ ،‬بينما‬ ‫تضيع الــنــون‪ ،‬أو تسقط ســهــوا مــن الــوطــن‪،‬‬

‫والزيتون؛ الشجرة‪ -‬الرمز‪:‬‬

‫يا وط‪ ..‬آه الزيتو‪..‬‬ ‫أينْ النونْ ؟‬ ‫ضاعت في اآلفاق‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْف أبي ْه‬ ‫طفل يتوارى خل َ‬ ‫ٍ‬ ‫في صرخةِ‬ ‫آهٍ بلْ أينَ فلسطين؟‬ ‫آه بلْ أينَ فلسطينْ ؟‬ ‫وفــي قصيدته «قـــراءة فــي أروق ــة لندن»‪،‬‬


‫ويرثي غربة اإلنسان المعاصر وخواءه الفكري اإلقامة والــرخــاء‪ ،‬لكنه «يستريح» في السفر‬ ‫وبوهيميته‪ ،‬حيث نقرأ‪:‬‬

‫رقصت‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫هنا أُنشودتي‬ ‫مت ملتحف ًا شحوبَ اللّيلْ‬ ‫الص ُ‬ ‫يجيءُ ّ‬ ‫فيحكي قص َة المأساةِ‬ ‫وطن تشر ُد ُه غرو ُر الذّ ات‬ ‫عن ٍ‬ ‫الطرقات‪،‬‬ ‫كيف يُضاجعُ ّ‬ ‫اإلنسان َ‬ ‫ِ‬ ‫عن‬ ‫يوب اللّيل‪،‬‬ ‫ويبحث في ُج ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُفتش عنْ هُ ويتِ هِ عن اللّذات‪،‬‬ ‫ي ُ‬ ‫وعنْ شيءٍ يُخفّ ُف لوع َة ال ّزفَراتْ ‪..‬‬ ‫يشع الفخرُ في عينَيه‪،‬‬ ‫وطن ُّ‬ ‫هنا ٌ‬ ‫اغتسلت بقايا الرّوح‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫هنا‬ ‫ُك األفراح‪،‬‬ ‫هنا تغتال َ‬ ‫جوف هذي األْرض‬ ‫ُ‬ ‫ويبسمُ‬ ‫أُسارقُ دهش َة التّاريخ‪،‬‬ ‫تمط ْت في حواجبِ هِ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فتَلمعُ في دخيلتِ ه‪:‬‬ ‫هنا األمجا ُد والتاريخ‬ ‫هنا األمجا ُد والتاريخ‪..‬‬ ‫فآهٍ لوع َة الماضي‬ ‫الشعَب‪،‬‬ ‫وطن تُشتّتُ هُ دموعُ ّ‬ ‫على ٍ‬ ‫األنفاس‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حرارات منَ‬ ‫ٌ‬ ‫وتمسحهُ‬ ‫ُ‬ ‫شعب‪،‬‬ ‫وطن وال ٌ‬ ‫فال ٌ‬ ‫بل اآلهاتْ ‪..‬‬ ‫وف ــي نــص «م ــا لــم يقله الــشــعــراء‪ ...‬من‬

‫والطلب‪ ،‬هكذا إذاً نلمس انحرافا واضحا في‬

‫المعنى الــذي تصوره حياة اإلنسان الطبيعي‬ ‫الذي يسعى إلى الراحة في اإلقامة‪ ،‬ويتعب في‬

‫السفر والتنقل‪ ،‬كما كتب د‪ .‬أحمد اللهيب عن‬ ‫المتنبي في كتابه «نظرات في الشعر العربي»‪،‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫يواصل اللهيب إدانــة الزمن العربي الــرديء‪ ،‬المعتد بالذات الشاعرة‪ ،‬فالمتنبي «يتعب» في‬

‫الصادر عن منشورات «المجلة العربية»‪:‬‬

‫ـراب على مَهْ ي َِع‬ ‫يركض مثلَ الـ ّـسـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫لقدْ جــا َء‬ ‫مس‪،‬‬ ‫الش ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْتشف الموتَ ِمنْ مُ قلةِ األدْعياءْ ‪،‬‬ ‫ير ُ‬ ‫الحزْنُ في راحةِ القَهْ رْ‪،‬‬ ‫َفض ُ‬ ‫في ْنت ُ‬ ‫الضياءْ ‪.‬‬ ‫ويلمعُ منهُ ّ‬ ‫األرض يُورقُ وجهُ المساءْ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وفي دَورةِ‬ ‫ُمسك عن قولهِ ‪ :‬الخيلُ والليلْ ‪...‬‬ ‫في ُ‬ ‫غد ‪ -‬أنكرَه‪.‬‬ ‫ألنّ الذي كا َن يعرفهُ ‪ -‬في ٍ‬ ‫الصبرِ ُجرحاً‪،‬‬ ‫فيحفرُ في يقظةِ ّ‬ ‫كف كافور‪،‬‬ ‫كاليأس في ّ‬ ‫ِ‬ ‫يُواريهِ‬ ‫الذلّ كالسيلْ ‪.‬‬ ‫ويمضي إلى ساحةِ ُّ‬ ‫ُوقظهُ الفجرُ عن صرخةِ المَجد‬ ‫سي ُ‬ ‫أرض مص َر غريباً‪:‬‬ ‫لقد كا َن في ِ‬ ‫ولكنْ أرى الو َْج َه وجهيَ‬ ‫والقول قوليَ‬ ‫والكف كفيَ‬ ‫َّ‬ ‫ولكنْ أرى القو َم ال يفهمون‪...‬‬ ‫إن المحرّك الحقيقي لنفسية المتنبي لم‬

‫مذكرات أبي الطيب المتنبي المنسية»‪ ،‬نصافح يكن حياة طبيعية تألفها البشرية‪ ،‬بقدر ما كان‬

‫الشاعر العربي الكبير أبــو الطيب المتنبي‪ ،‬روحا تهتز بحثا عن مطامع أخرى يسعى إلى‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪57‬‬


‫تحقيقها‪ ،‬كما يرثي الشاعر زمن الفروسية‪،‬‬ ‫بنبرة يــأس وحــســرة ونــدامــة‪ ،‬ويــرســم صــورة‬ ‫كاريكاتيرية للرجل العربي‪ ،‬الذي لم يعد يحمل‬ ‫إال رغيف الخبز بدل السيف‪ ،‬ويستلهم اللهيب‬ ‫روح المتنبي المتمردة‪ ،‬الثائرة على كل ما هو‬ ‫سكوني‪:‬‬

‫لقد أَ ْنبَأتُهُ الليالي بع َْجزِ الرّجال‪.‬‬ ‫الخبْزِ ‪،‬‬ ‫فما عا َد يحملُ إال رغيف ًا من ُ‬ ‫وقطع َة ُجبْن‪.‬‬ ‫شخصهُ قدْ تراءى على ِمنْبرِ القُ دْ ِس‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫يحملُ في جَ وْفِ ه الموت‪..‬‬ ‫الح ّب‪.‬‬ ‫الشرُ فات على بسمةِ ُ‬ ‫مُ ْنبَثق ًا في ُ‬ ‫لـقــدْ ك ــا َن فــي مــا مـضــى ي ـرْقُ ـ ُـب ال ـض ــو َء في‬ ‫َات‪،‬‬ ‫الوَجَ ن ِ‬ ‫تُمزّقُ هُ ساعةُ االنتظار أما َم الوفودْ‪،‬‬ ‫خيوط الزّمنْ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وفي عَ يْنِ ه تتجلّى‬ ‫فأينَ المَ واثيقُ ‪ ،‬أينَ الوعُ ودْ؟‬ ‫وأينَ دعاواكمُ صحةُ العَقلْ ؟‬ ‫كل الذي تأْلمون‪،‬‬ ‫لقدْ صا َر ُّ‬ ‫بعض الذي تأمَلون‪.‬‬ ‫وما صا َر ُ‬ ‫الشجاع ْة‬ ‫ألستمْ ترو َن طريقَ ّ‬ ‫وطرْق النّدى؟‬ ‫لقدْ كا َن ِمن بينكمْ مَنْ يرددُ‪:‬‬ ‫ال يُفلحُ القومُ موالهمُ العُ ْجم‪.‬‬

‫شغاف القلب‪ ،‬كما تشي بذلك رسالته «إلى‬ ‫سيدي الذي لم يحضر»‪:‬‬

‫أنا مُ تع ٌَب ‪ -‬سيدي ‪،-‬‬ ‫أبحث عنْ غَ يمةٍ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحز ِْن‬ ‫ومُ نْطَ رِ حٌ في رُبى ُ‬ ‫مت أَغفو‪.‬‬ ‫الص ُ‬ ‫ُالمسنِ ي ّ‬ ‫وحينَ ي ُ‬ ‫ويا سيدي‪،‬‬ ‫أشق سبيلي وحيداً‪،‬‬ ‫إليك ُّ‬ ‫أتيت َ‬ ‫ُ‬ ‫الخطَ ى‪،‬‬ ‫كل ُ‬ ‫أُقبّلُ ّ َ‬ ‫وأ َْجثو أمامَك‪.‬‬

‫يبحث عنْ صومَعة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫راهب‬ ‫يبدو أحمد اللهيب مسكونا بالحزن في فذا مدمعِ ي ٌ‬ ‫نصوص وجدانية‪ ،‬يكتبها بلغة مشرقة تالمس مقلتايَ تنسكتَا في رِ حابك!‬ ‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬

‫‪58‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مستحيلة‬ ‫كثافة‬ ‫والبحثُ عن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫■ إبراهيم احلجري*‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ُ‬ ‫للقاص ساعد الخميسي‬ ‫مجموعة "نقوش"‬ ‫ُّ‬

‫ـودي «س ــاع ــد الـخـمـيـســي» م ـقــول ـ َة ع ـنــونــةِ مجموعتِ ه‬ ‫ـاص ال ـس ـع ـ ّ‬ ‫يستلهم ال ـق ـ ُّ‬ ‫القصصيّة من مجال الفنون والـعـمــارة‪ ،‬ليدلّل على طبيعة العملية اإلبداعية‬ ‫ـوري الــذي استّنه لنفسه في مباشرة تشكيل هذه‬ ‫التي نهجها‪ ،‬واألسـلــوب األحـفـ ّ‬ ‫العوالم السردية الموسومة بــ(نـقــوش)‪ ،‬الـصــادرة عــن مؤسسة االنتشار العربي‬ ‫باحتضان من النادي األدبي بجدة‪ ،‬اإلصدار رقم ‪ ،193‬والمتّسمة‬ ‫ٍ‬ ‫بيروت‪2015 ،‬م‪،‬‬ ‫بــالـكـثــافــة ال ـشــديــدة؛ انـسـجــامــا مــع اخـتـيــاره الـنــوعــيّ ال ــذي صـ ـرّح بــه فــي عتبات‬ ‫المجموعة‪ ،‬ومشيراتها األوليّة (قصص قصيرة جدا)‪ ،‬مع سبق اإلصرار والترصد‪،‬‬ ‫حساس ومفرط من الكاتب تجاه عوالمه‪ ،‬وتشييداته القصصية‪ ،‬وإزاء‬ ‫وبوعي ّ‬ ‫المنظورات المتّبعة في خلخلة زوايــا الــذوات المعتمة للشخصيات‪ ،‬والفواعل‪،‬‬ ‫واألفضية المتنوّعة‪ ،‬وفي تناسق مع سيرورة اإلبــداالت الثقافية المرتهن إليها‬ ‫فكريا‪ ،‬وجماليا‪ ،‬ودالليا‪ ،‬ناهيك عن الرؤية المسبقة في إدراك فوارق النّوع بين‬ ‫النصوص‪ ،‬ومميزات كلّ نمط على حدة‪ ،‬بين القصة‪ ،‬والقصة القصيرة‪ ،‬والقصة‬ ‫الطويلة‪ ،‬والقصة القصيرة جدا‪ ،‬أو كما بات يصطلح عليها في األدبيات النقدية‬ ‫الجديدة المواكبة لهذا النوع من القص بـ (ق‪ .‬ق‪ .‬ج‪ ).‬أو النص الشذرة القصصية‪،‬‬ ‫أو الومضة القصصية‪ ،‬أو الهايكو القصصي‪ ،‬أو غير ذلك من التسميات التي لم‬ ‫يحسم بعد‪ ،‬معرفيا في مشروعيتها‪ ،‬أو مقروئيتها‪ ،‬أو مقبوليتها اإلبستمولوجية‬ ‫خاصة‬ ‫والمعرفية‪ ،‬لكون عمر النوع من الكتابة قصير؛ مقارنة مع باقي األنــواع‪ّ ،‬‬ ‫في عالمنا العربيّ ‪ ،‬دون أن ننسى أنه‪ ،‬في فترة زمنية وجيزة‪ ،‬راكم عددا كبيرا من‬ ‫النصوص‪ ،‬والمجاميع‪ ،‬والمنجزات‪ ،‬واألنطولوجيات‪ ،‬والكتابات النقدية المواكبة‪.‬‬ ‫اســتــعــار الــبــاثّ مــفــردة «الــنــقــوش» تحتاجها الكتابة الــشــذريــة‪ ،‬المكثفة‪،‬‬

‫بــوصــفــهــا اخــتــيــارًا ِحــرف ـ ّيــا لــلــمــهــارة‪ ،‬سيرا على نول المتصوّفة الذين برعوا‬

‫والصنعة‪ ،‬واإلبداع الخالق‪ ،‬مع االقتصاد في هذا النوع من القول‪ .‬يقول السارد‬ ‫في الجهد والوقت‪ ،‬وهذه كلها ميزات فــي نقوشه‪( :‬حشد ظــامــيّ ‪ ،‬يمضون‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪59‬‬


‫فيه تنقيبًا عن نب ّو الروابي‪ ،‬يقدحون رؤوس‬ ‫«السمر» متقابلين حــول مواطئ أقدامهم‪،‬‬ ‫يعييهم تحديد االتــجــاه‪ ،‬تشتد حواراتهم‪،‬‬ ‫ينهض أحدهم‪ ،‬نابشً ا جسد الرماد المسجى‬ ‫من عهد فقد الظباء‪ ،‬يكشف عن وجه عملة‬ ‫نقدية كــاســدة تشبه اســتــدارة البوصلة‪...‬‬ ‫يقذفها في الفضاء إلى أن تستقر على وجه‬ ‫الرمل‪ ،‬يقهقه مرددا‪ :‬الريح حافظة للعهد‪)!..‬‬ ‫(انظر ظهر الغالف)‪ ،‬غير أن النقش المنشود‬ ‫هنا‪ ،‬هو نقش الكلمة‪ ،‬فالعبارة‪ ،‬فالمعنى‬ ‫المستبطن‪ ،‬بذكاء‪ ،‬وحرص‪ ،‬ومجاهدة‪.‬‬

‫‪60‬‬

‫تتضمن الــمــجــمــوعــة الــتــي ز ّي ــن ــتْ وجــه‬ ‫لفنان غير معروف‪ ،‬والمهداة‬ ‫ٍ‬ ‫غالفها لوح ٌة‬ ‫إل ــى الــوالــديــن الــلــذيــن أنــبــتــا الــمــؤلــف في‬ ‫البداوة (ص ‪ ،)3‬أربعا وستين قصة قصيرة‬ ‫جــدا‪ ،‬كتبت على مــدار سبع سنوات ما بين‬ ‫(‪2014 -2007‬م)‪ ،‬وتوزّعتْ على حوالي (‪)74‬‬ ‫صفحة مــن الحجم المتوسط‪ ،‬تُنتظم في‬ ‫فصلين أو بابين (نقوش حائرة)‪ ،‬و(نقوش‬ ‫دائرة)‪ ،‬وتختتم بسيرة علمية للكاتب أسماها‬ ‫(نقشً ا شخصيًا)؛ علما أنّ النصوص تتفاوت‬ ‫من حيث درجة قصرها‪ ،‬وكثافتها بين قصة‬ ‫قصصا ال‬ ‫ً‬ ‫وأخــرى‪ ،‬إذ إنّنا نصادف أحيانا‬ ‫يتعدى حجمها سطرين‪ ،‬وهي على التوالي‪،‬‬ ‫بالترتيب نفسه الذي وردت به في الكتاب‪:‬‬ ‫(تحليل مقرر‪ ،‬أنف‪ ،‬غواية‪ ،‬انحناءة‪ ،‬عتاد‪،‬‬ ‫جــدار الدهشة‪ ،‬خطى‪ ،‬وسائط‪ ،‬طمأنينة‪،‬‬ ‫أمــســيــة‪ ،‬مقايضة‪ ،‬لقمة عصية‪ ،‬ترتيب‪،‬‬ ‫متواليات‪ ،‬تقرير لحالة ما‪ ،‬إعصار‪ ،‬هزال‪،‬‬ ‫زوايــا‪ ،‬بال هوية‪ ،‬محاوالت‪ ،‬انقياد‪ ،‬تأخر‪،‬‬ ‫غــزو‪ ،2011 ،‬لحمة‪ ،‬سيرورة‪ ،‬حيرة‪ ،‬دليل‪،‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫القاص ساعد الخميسي‬

‫زحزحة ليل‪ ،‬فــراق‪ ،‬انقالب‪ ،‬صعود‪ ،‬عتق‪،‬‬ ‫عــودة الــبــدء‪ ،‬مجاهل‪ ،‬نفس‪ ،‬وثيقة‪ ،‬فــزع‪،‬‬ ‫لغتان‪ ،‬فخ‪ ،‬تجاوز مشروع‪ ،‬صدمة‪ ،‬تأجيل‪،‬‬ ‫المجنون‪ ،‬اتفاقية‪ ،‬نفاذ‪ ،‬مقاومة‪ ،‬اقتصاص‪،‬‬ ‫ضياع‪ ،‬خلط‪ ،‬تلقي‪ ،‬أمثال‪ ،‬تجدد‪ ،‬ضنكا‪،‬‬ ‫سبق‪ ،‬إجماع‪ ،‬ادخــار‪ ،‬رحلة للنجاة‪ ،‬إشارة‪،‬‬ ‫عزوف‪ ،‬سنن‪ ،‬وصية‪ ،‬زيف‪ ،‬بالبل)‪.‬‬ ‫تتشكل أغلب العناوين الفرعية من مفردة‬ ‫واحــدة‪ ،‬تناغمًا مع طبيعة الكتابة الومضية‬ ‫التي تستكين إلــى اإليــحــاء بــدل التفصيل‪،‬‬ ‫واإلحالة بدل اإلطالة واالستطراد‪ ،‬والتكثيف‬ ‫بــدل التوسيع‪ ،‬في مراهنة قوية على ذكاء‬ ‫المتلقي‪ ،‬وكفاءته في فكّ شفرات النصوص‪،‬‬ ‫وم ــلء الــبــيــاضــات الــتــي تتخلل الــعــبــارات‪،‬‬ ‫والمقوالت‪ ،‬واألفعال السّ ردية‪ ،‬علما أن هذه‬ ‫العناوين مرتبطة فيما بينها‪ ،‬في إطار شبكة‬ ‫من العالقات النّسقية المُفكّر فيها قبليًا؛‬ ‫سعياً من الكاتب في إضفاء سمة التّوليد‬ ‫الدالليّ على ك ّل العالمات النّصية‪ ،‬عمود ًيًا‬ ‫وأفقيًا؛ انبثاقًا عن وعيه النقديّ ‪ ،‬وخلفيّته‬


‫القاص «ساعد الخميسي»‪ ،‬في والجنوب‪ ،‬فهي أيضا‪ ،‬تنصرف إلى تحريك‬ ‫ّ‬ ‫يراه ُن‬ ‫بحس‬ ‫ّ‬ ‫مــنــجــزه القصصي ال ــوام ــض‪ ،‬عــلــى كثافة البرك اآلسنة في أعماق الشخوص‪،‬‬ ‫الــمــقــول كــمــا ســبــقــت اإلشـــــارة إل ــى ذلــك‪ ،‬لغويّ دقيق‪ ،‬وتالعب داللّــي مفارق‪ ،‬يرتكز‬ ‫استنادًا إلى التركيز الشديد‪ ،‬واالقتصاد في على بناء المفارقة‪ ،‬والتعبير الساخر‪ ،‬والتهكم‬ ‫الكلمات‪ ،‬وانتقاء المفردات ذات الحمولة الخفيّ الذي يضمر نقدًا عميقًا لكثير من‬ ‫القوية‪ ،‬والمتعددة األبعاد‪ .‬وبين جملة سردية الــســلــوكــيــات الــبــشــريــة‪ ،‬وللقيم الساقطة‬ ‫وأخرى‪ ،‬يقفز كثيرًا على الوقائع واألحداث‪ ،‬المستشرية في عالم اليوم‪ .‬ومن بين هذه‬ ‫لــيــتــركــهــا تشتغل فــي الــبــيــاض‪ ،‬عــلــمــا أن الخصائص‪ ،‬نجد خاصية اإلده ــاش التي‬ ‫الجمل المذكورة تحيل‪ ،‬بشكل ما‪ ،‬إلى تلك تستهدف خلخلة حــدس الــقــارئ‪ ،‬ونعني به‬ ‫التفاصيل الغائبة‪ ،‬وكــأنّ القصص لم تكتب الخاصية التي تمكننا من إرباك المتلقي في‬ ‫لقارئ مستهلك كسول يطمئن إلى الجاهز القصة القصيرة جدا‪ ،‬وتخييب أفق انتظاره‪،‬‬ ‫والمكتمل‪ ،‬بل تستهدف متلقيًا ذكيًا‪ ،‬قادرًا حينما يفاجأ بخاتمة غريبة‪ ،‬مقلقة‪ ،‬لم يكن‬ ‫على المشاركة في بناء المعرفة‪ ،‬واكتشاف يتوقعها إطالقا(‪.)٢‬‬ ‫األبعاد المستضمر ِة للنصوص‪ ،‬ومنازعتها‬ ‫حصته في الفهم والتأويل والتحليل والتركيب‬ ‫ّ‬ ‫واالستنتاج‪ ،‬بل واإلضــافــة أيضا‪ ،‬وهــذا ما‬ ‫يــروم إليه الباث من خالل تقنية التكثيف‪،‬‬ ‫فإذا كانت زبدة تجارب الحياة مستقاة من‬ ‫إجمالي هــذه مدرسة الحياة‪ ،‬فــإن اإليجاز‬ ‫شكّل الدرس األول الذي كان على من أراد‬ ‫الدخول إلى عالم القصة القصيرة إدراكــه‬ ‫وتعلمه‪ ،‬فقد ميّز النقاد القصة القصيرة عن‬ ‫القصة والرواية بعدم العناية بالتفاصيل‪ ،‬أو‬ ‫حتى عدم االلتزام بالبداية والنهاية‪ ،‬حتى‬ ‫قيل‪ :‬إنها يمكن أن تدور حول مشهد أو حالة‬ ‫سيكولوجية أو اجتماعية(‪...)١‬‬ ‫وبقدر ما تجن ُح القصيصات إلى خلخلة‬ ‫األســئــلــة الــمــؤرقــة لــإنــســان المعاصر من‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫المعرفية التي راكمها‪ ،‬وتجربته اإلنسانية في حــروب‪ ،‬وبــرود في العالقات‪ ،‬ونكوص على‬ ‫الحياة والكتابة‪.‬‬ ‫مستوى القيم‪ ،‬وتفاوت طبقي بين الشمال‬

‫‪61‬‬


‫تلعب الكتابة في مجموعة (نقوش) على الضمائر‪ :‬المفرد المتكلم‪ ،‬المفرد الغائب‪،‬‬ ‫كسر المسار الــســردي‪ ،‬أو قلب البرنامج المفردة الغائبة‪ ،‬المثني‪ ،‬الجمع‪.‬‬ ‫العاملي‪ ،‬إذ تفاجئ الومضة متلقيَها بدمج‬ ‫يقول جميل حــمــداوي فــي هــذا اإلطــار‪:‬‬ ‫حدث غير مرتقب‪ ،‬لم يكن يتوقعه القارئ‬ ‫«وإذا كانت مجموعة من الروايات والقصص‬ ‫أو حتى الشخصيات المشاركة‪ ،‬كأن تفكر‬ ‫القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء‬ ‫شخصية في فكرة‪ ،‬ثم يكتشف أن مَن يستهدفه‬ ‫علمية مــحــددة بــدقــة‪ ،‬تعبر عــن كينونات‬ ‫الراوي بتلك الفكرة له تصور مخالف تماما‬ ‫وذوات إنسانية مــرصــودة فــي ضــوء رؤى‬ ‫لما كان يخطط له‪ ،‬فتنتهي القصة القصيرة‬ ‫فيزيولوجية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬وأخالقية‪،‬‬ ‫بمخرجات مفاجئة‪ ،‬معكوسة تجعل تفكير‬ ‫فـــإنّ الــقــصــة الــقــصــيــرة ج ــدا تتخلص من‬ ‫القارئ تتأرجح بين طبقيتين من المعنى‪،‬‬ ‫هذه األسماء الشخصية العلمية المعرفة‪،‬‬ ‫وجسرين من التشييد السرديّ ‪ .‬وعليه‪ ،‬فهو‬ ‫فتصبح ذواتًــــا مجهولة نــكــرة‪ .‬وبــالــتــالــي‪،‬‬ ‫مطالب‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬بإيجاد العالقات‬ ‫تتحول هــذه الشخصيات القصصية‪ ،‬في‬ ‫بين العناصر‪ ،‬وتركيبها لالنتهاء إلى معنى‬ ‫عصر العولمة‪ ،‬إلى كائنات معلبة‪ ،‬ومستلبة‪،‬‬ ‫شخصيّ ليس بالضرورة هو ما يسطّ ره باثّ‬ ‫ومشيأة‪ ،‬ومرقمة بــدون هوية تحددها‪ ،‬وال‬ ‫النّص‪ ،‬إن كان هذا األخير قد سطّ ر أصال‪،‬‬ ‫كينونة وجودية تخصصها عن باقي الذوات‬ ‫معنىً ما‪ ،‬يقول الــراوي في قصة (لغتان)‪:‬‬ ‫(عاكفا على روائح الكتب‪ ،‬لبست له عقودًا التخييلية األخ ــرى‪ .‬وبالتالي‪ ،‬تبقى أيضا‬ ‫من الفل‪ ،‬ثم ولجت صومعته‪ ،‬وأشارت له في دون حــمــوالت إنسانية تميزها عــن باقي‬ ‫صمت‪ :‬ضمني‪َ .‬قل َبَ صفحةً‪ ،‬وزحزح نظارته‪ :‬الشخصيات األخرى»(‪.)٤‬‬ ‫عفواً‪« ...‬لسان العرب» ال يتسع!!)(‪.)٣‬‬ ‫ننس أن صاحب «نــقــوش» أبــدع في‬ ‫وال َ‬

‫‪62‬‬

‫انــســجــامــا مـــع خــصــوصــيــة الــومــضــة‬ ‫القصصية‪ ،‬يعمد السارد إلى طمس معالم‬ ‫المكونات السردية‪ ،‬فالكون السرديّ مبهم‬ ‫في عموم تمظهراته‪ ،‬ال يفصح‪ ،‬بل يلمح‪،‬‬ ‫باقتصاد شديد‪ ،‬وأحيانا‪ ،‬مبالغ فيه‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫فالفضاء الــســرديّ شامل‪ ،‬وفضفاض‪ ،‬وال‬ ‫هوية لــه‪ ،‬أمــا الشخصيات‪ ،‬فأغلبها بدون‬ ‫وســم‪ ،‬وال سمات فيزيولوجية لها‪ ،‬بل هي‬ ‫مجرّد ضمائر مستترة في مجمل أبعادها؛‬ ‫وك ــأنّ الكاتب يقصد بملفوظه ك ـ ّل الناس‬ ‫وبالقدر نفسه ال يقصد أحــدا؛ منوّعا بين‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫اختيار مفتتحاته وأقفاله‪ ،‬بما يجعل النص‬ ‫سجاال متواصال في ذهن المتلقي‪ ،‬إذ حرص‬ ‫على أن يقحم المتلقي مباشرة فــي عالم‬ ‫الحكي‪ ،‬أو على األصح‪ ،‬في الحالة الوجدانية‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬مورطا إياه فيها؛ ثم سرعان ما‬ ‫يــضــعــه‪ ،‬بشكل مــفــاجــئ‪ ،‬وجــهــا لــوجــه‪ ،‬مع‬ ‫مــخــرجــات غــيــر متوقعة الــبــتــة‪ ،‬انسجاما‬ ‫مع الرغبة في استدماج القارئ في حالة‬ ‫الــذهــول‪ ،‬واإلدهـــاش المفكر فيهما سلفا‪.‬‬ ‫وهذا أمر محبّذ‪ ،‬ليس في القصة القصيرة‬ ‫جدا فحسب‪ ،‬بل في القصة بوصفها نوعً ا‬


‫وال ينفصل التفكير فــي المفتتح لدى‬ ‫القاص‪ ،‬عن «القفلة» أو المختتم‪ ،‬إذ تقام‬ ‫بينهما ص ــات غــيــر خــفــيــة‪ ،‬حــرصــا على‬ ‫خــدمــة المتّجه الفنيّ المصمم سلفا؛ إذ‬ ‫تتحقّق بطريقة مفارقة‪ ،‬عمّا يتوقعه القارئ‪،‬‬ ‫ـاص الظاهرة‬ ‫ساعية إلخفاء مقصدية الــقـ ّ‬ ‫والــمــضــمــرة‪ ،‬وع ـ ًيــا مــنــه بكونها المحرك‬ ‫األســاس لفضول المتلقي‪ ،‬عن طريق دفعه‬ ‫إلى التأويل‪ ،‬والبحث عن الحلول المتاحة‪،‬‬ ‫والممكنة للمنجز القصصي القصير جداً(‪.)6‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ككل‪ ،‬إذ يؤك ّد «ياسين النصير» في معرض‬ ‫حديثه عن خصوصيات القصة القصيرة‪،‬‬ ‫أنّ الجملة االستهاللية فيها «أشبه ما تكون‬ ‫بالبيضة المخصبة التي ستكون جنينا(‪،)5‬‬ ‫بمعنى أن المفتتح هــو مشعل التقدم في‬ ‫السرد‪ ،‬وبوابة نجاحه‪.‬‬

‫تصير مــادة دسمة للحكي‪ ،‬ورؤيــة للوجود‪،‬‬ ‫ومــهــارة فــي الــكــتــابــة‪ ،‬كــل هــذه المعطيات‬ ‫بشكل‬ ‫ٍ‬ ‫مكّنته مــن ضبط آلــيــات اشتغاله‪،‬‬ ‫متواز‪ ،‬يتداخل فيه الفنيّ ‪ ،‬والجماليّ ‪ ،‬وزاوية‬ ‫ٍ‬ ‫الرؤية عند الباث والمتلقي‪ ،‬حيث يصبحان‬ ‫معًا‪ ،‬مشاركين في كتابة المنجز القصصيّ‬ ‫القاص الحقيقيّ‬ ‫ّ‬ ‫القصير جدًا‪ ،‬في وقت يَ ْعل َ ُم‬ ‫النص القصصيّ القصير ج ـدًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن بداية‬ ‫(‪)7‬‬ ‫ونهايته تنتظرانه في ذهن القارئ ‪.‬‬

‫القاص «ساعد الخميسي» على‬ ‫ّ‬ ‫يحرص‬ ‫أن يكون عالمه السرديّ مفعماً بالعمومية‪،‬‬ ‫متقصدا‪ ،‬في دالالته الموجزة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والشمولية‪،‬‬ ‫اإلنسان في شتى مناحيه‪ ،‬وتجلياته‪ ،‬وأبعاده‪،‬‬ ‫وســاع ـ ًيــا إل ــى أن تــكــون رســالــتــه مضمرة‪،‬‬ ‫ومشفرة‪ ،‬تومض بين الكلمات‪ ،‬ثم تختفي مثل‬ ‫السراب؛ ليظل حضورها ملفتا‪ ،‬ومتواصال‪،‬‬ ‫ومتجددًا عبر كل ق ــراءة‪ .‬وعقب كـ ّل رحلة‬ ‫لــذلــك‪ ،‬واســتــنــادا إلــى هــذا االشــتــراط‪ ،‬للبحث عن معنى‪ ،‬تتحيّن روح النص‪ ،‬وترتقي‬ ‫استفاد القاص من تجربته الحياتية‪ ،‬التي العبارات والكلم‪.‬‬

‫ * ناقد وروائي من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )١‬صالح هويدي‪ :‬السرد الوامض‪ ،‬منشورات الرافد‪ ،‬العدد ‪ ،139‬دائرة الثقافة واإلعالم‪ ،‬الشارقة‪ ،‬اإلمارات‬ ‫العربية المتحدة‪ ،‬الطبعة األولى‪2017 ،‬م‪ ،‬ص‪ .‬ص‪.41 -40 .‬‬ ‫(‪ )٢‬محمد المختاري‪ :‬لمع السرد‪ ،‬دراسات في السرد الوامض بالمغرب‪ ،‬منشورات األلوكة‪ ،‬المملكة العربية‬ ‫السعودية الطبعة األولى‪2018 ،‬م‪ ،‬ص‪.60 .‬‬ ‫(‪ )٣‬ساعد الخميسي‪ :‬نقوش‪ ،‬مجموعة قصصية‪ ،‬إصدارات النادي األدبي‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪،‬‬ ‫ع‪ ،193 .‬مؤسسة االنتشار العربي‪ ،‬بيروت‪ /‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪2015 ،‬م‪ ،‬ص‪ .‬ص‪.49 .‬‬ ‫(‪ )٤‬جميل حمداوي‪ :‬أسماء الشخصيات في القصة القصيرة جدا بين التعريف والتنكير‪ ،‬موقع األلوكة‬ ‫األدبية واللغوية‪ ،‬الرجاء العودة للرابط الرقمي؛ المتاح التصفح منذ تاريخ‪https://www. :2016/8/21 :‬‬ ‫‪alukah.net/literature_language/0/106864/#ixzz5lcjORf5C‬رابط الموضوع‪https://www.alukah.net/literature_language/0/10 :‬‬ ‫‪6864/#ixzz5lciXNVH5‬‬

‫(‪ )٥‬ياسين النصير‪ :‬االستهالل‪ ،‬فن البدايات في النص األدبــي‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪1998‬م‪ ،‬ص‪.230 .‬‬ ‫(‪ )٦‬محمد يوب‪ :‬مضمرات القصة القصيرة جدا‪ ،‬منشورات دفاتر االختالف‪ ،‬مطبعة سجلماسة‪ ،‬مكناس‪،‬‬ ‫المغرب‪ ،‬الطبعة األولى سنة ‪2012‬م‪ ،‬ص‪ .‬ص‪.84-82 .‬‬ ‫(‪ )٧‬نفسه‪ ،‬ص‪.57-56:‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪63‬‬


‫وج ُ‬ ‫سة‬ ‫الم َت ِّ‬ ‫ُ‬

‫■ نوره العبيري*‬

‫ليت هذا الزائرُ أنت‪ .‬تمتمت بها بخفة وخفية‪ ،‬فارتبك زائرها وفتح نافذتها‪..‬‬ ‫سألها‪ :‬لمن هذا الحمام النائم؟‬ ‫فأجابت برعشةٍ ‪ :‬إنــه لسفره الــذي يستقر عند كل شــيء إال عندي‪ ،‬كحقائبه‬ ‫المغادرة كل ليل بعطرها‪ ،‬رحيل بي وهو ال يدري!‬ ‫ابـتـســم زائــرهــا وه ــو يـلــف بـقــايــا الـمـنــديــل ال ــذي بـيــن أصــابـعــه‪ ،‬وبـيــن كــل طيةٍ‬ ‫يعرف كم‬ ‫ُ‬ ‫للمنديل‪ ،‬تتملقُ هي بستائرها التي تشتعلُ منها أغنيات الصيف الذي‬ ‫متوجسةً من كل شيء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قطعة جليد خبأت بها سؤال الليل والوسائد‪ ،‬تنظرُ إليه‬ ‫إال من حقيقة ما تعلمه‪.‬‬ ‫ابتسم بلطف‪ ،‬أربكها‪ ،‬وكشف عن خبايا واألخرى‪..‬‬ ‫توجسها قــائـاً‪ :‬اغلقي هاتفك‪ ،‬فالصورة‬ ‫كثير األسئلة‪ ..‬قليل البقاء‪.‬‬ ‫المُعلقة بخلفية جــهــازك لــن تمسح بين‬ ‫اقــتــرب وأمــســك بشمعتها الــتــي كــادت‬ ‫جفنيك هذا االنتظار‪ ،‬وهذا البكاء‪ .‬كابرت‬ ‫فــوق هزيمة الحديث مقاطع ًة قلق المكان تنطفئ وهي مسرعة نحو منضدتها لتحضر‬ ‫على منضدة تفص ُل حد البعد بينهما‪ ،‬لم يكن فنجان القهوة الذي قد برد‪ ،‬في نصف حديث‬ ‫لديه خوف سوى على أشيائها الثمينة‪ ،‬أخذ مُحرق‪ ..‬طلب منها أن تطلق سراح الحمام‪..‬‬ ‫يهتز بجسده‪ ،‬وبدأت الراحة تتسلل لقميصها لم يكن يقصد رحمتها بالحمام‪..‬‬ ‫الممتلئ بسهد الصيف‪.‬‬ ‫هــو يريد جــوابـاً يكشف ســر أمانها من‬ ‫ـدس الحمام!‬ ‫انــتــقــل لــأريــكــة الــمــجــاورة‪ ،‬وه ــو يـ ُ‬

‫المنديل في جيبه ليُطيل النظر في مزهريتها‪.‬‬ ‫بدأ الغضب يثور كالبركان من مالمحها‬ ‫سألها بصوت يخبئ في طياته لم أنت خائفة لتنفعل على وجه الفنجان قائلة‪ :‬تسأ ُل عن‬ ‫قائالً‪ :‬كم ثمن هذه المزهرية؟‬ ‫ثمن المزهرية ولــم تخبرنِ كــم ملعق ًة من‬ ‫وحين حاولت أن تجيب‪ ..‬قطع أنفاس السكر تريد لقهوتك!‬ ‫الكالم من بين عجل ردها ليردف قائالً‪ :‬من‬ ‫منشغل أنــت بهذا الحمام‪ ،‬ولــم تكترث‬ ‫أين هذه المزهرية؟‬ ‫لمنديل متسخ خبأته بجيب قميصك!‬

‫‪64‬‬

‫لم يمنحها ضيفها أن تتنفس بين الكلمة‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫مَن الذي أخبرك بعنواني‪.‬‬


‫سأغير مكان مزهريتي‪ ..‬ال!‬ ‫اكسر مرآتي‪ ..‬ال!‬ ‫تباً‪ ..‬بعث العبث وخرج‪ ،‬لم يخسر ضحكة من‬ ‫فمه‪ ،‬قالتها وهي تتهم الحمام بمجيئه‪..‬‬ ‫و تتهم الشمعة بعيب ضعفها من الظالم‪..‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫تمتمت‪ .‬مــا أط ــول مــســاء األم ــس‪ ،‬ومــا أقبح‬ ‫ابتسم قائالً‪ :‬لما كنت خائفة على هذه الشمعة‬ ‫وأنت تتقنين صنع القناديل!‬ ‫منضدتي‪ ،‬لم أكره قهوتي كاألمس‪ ..،‬لكن ال بأس‪..‬‬ ‫كانت هنا نقطة الرجوع التي تجعلها تنسحبُ من بعض األشياء المعذبة تعلمنا كيف نهدأ‪.‬‬ ‫نصف الغضب؛ كأنها تقول لهذا الملل من جلوسه‪:‬‬ ‫كانت تحتاج في تلك المحطة فلسفة أبعد من‬ ‫سأمنحك الكثير من الوقت لتعتق تفاصيلي‪.‬‬ ‫وجوه المسافرين في بداية الصباح‪ ،‬وأشياء أبعد‬ ‫أدارت ظهرها نحو الــمــرآة وهــي تحدثه‪ :‬أنا من أن ال تشرب قهوة دافئة في صيف جامد‪.‬‬ ‫امرأة ذاب جليد الوقت عن مالمح زمني‪ ،‬وأدار هو‬ ‫تصل في منتصف الظهيرة‪ ..‬تبحث عن شراء‬ ‫ظهره نحو الباب‪..‬‬ ‫جريدة‪ ،‬تقرأ في أول صفحة خبر احتراق مصنع‪..‬‬ ‫صافحها مصافحة ســريــعــة‪ ..‬لــم تكن بقدر‬ ‫اغلقت الصحيفة سريعا وتمتمت‪ :‬بداخلي كره‬ ‫معركة تلك المنضدة التي صبرت على حديث بارد‪.‬‬ ‫للشمع‪..‬‬ ‫خــرج بطريقة غير مرضية لفضوله‪ ،‬وغير‬ ‫ال‪ ..‬ال‪..‬أنا أحب شموعي‪ ،‬لكن ضيفي باألمس‬ ‫مقبولة لــغــرور صمتها‪ .‬اتجهت بخفة‪ ،‬وأنهت‬ ‫أثقل كالمه بالمساء‪ ..‬أنا منزعجة‪.‬‬ ‫تفاصيل تلك المنضدة‪.‬‬ ‫حملت حقيبتها البنيّة قبل حلول المساء لتعود‬ ‫اجهشت بالبكاء‪ ..‬منذ الصيف الماضي لم تبك‬ ‫إلى منزلها‪،‬‬ ‫بتلك الطريقة المريحة‪ ..‬تمتمت‪:‬‬ ‫وحــيــن وصــلــت‪ ...‬وصــلــت فــي التوقيت غير‬ ‫المناسب‬ ‫تشعل شمعتين وتبدأ صنع القناديل‪..‬‬ ‫يــطــر ُق الــبــاب‪..‬حــدثــت نفسها بــغــرابــة‪ ،‬بعد‬ ‫التاسعة‪ !..‬مَن قد يكون يا ترى!‬ ‫تفتح الباب‪ ..‬وإذا بالشيء غير المرضي‪..‬‬

‫وفي صباح اليوم التالي استيقظت على غير‬ ‫عادتها؛ ألنها نائمة من مساء لم يكن على ما يرام‪.‬‬ ‫أهال بك‪ ،‬أنت من جديد‪.‬‬ ‫تتلقى اتصاالً لتكليفها بمهمة عمل‪ ،‬تمشي وفي‬ ‫رد عليها زائــرهــا بــصــوت ســاخــر‪ :‬مــا ا لذي‬ ‫ذاكرتها لذاك السفر‪ ،‬وهي تتذكر حديث ضيف‬ ‫مساء األمس‪ ،‬تحاول أن تطوي في ذاكرتها الشيء يزعجك؟‬ ‫المهم‪ .‬لم يكن ترتيب حقائبها سهالً؛ ألن تفاصيل‬ ‫أنا لم أكن ٍأت إليك‪ ..‬قد أضعت شيئاً ما‪..‬‬ ‫غائب جعلها تتوجس حتى‬ ‫ٍ‬ ‫السفر هي تفاصيل‬ ‫ال من شمعتها‪ ..‬أطفأها‬ ‫حدثها وهو يقتربُ قلي ً‬ ‫تربي الحمام في نوافذها‪.‬‬ ‫بال سابق إنذار‪..‬‬ ‫تجلس‬ ‫ُ‬ ‫تخرجُ‪ ..‬تصل للمحطة‪ ،‬من عادتها أنها‬ ‫أدار ظهره نحو الباب قائال‪ :‬عليك أن تمكثي‬ ‫قرب النافذة في القطار‪ ،‬لكنها لم تكن تريد أن‬ ‫ترى تفاصيل‪ ..‬في ذاك الصباح جلست بعيداً عن طويال في العتمة؛ ألن النور يجلب لك اللصوص‬ ‫تفاصيل الضوء‪..‬‬ ‫يا متوجسة!‬ ‫* قاصة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪65‬‬


‫ُ‬ ‫ذاكرة الموتى‬

‫■ حليم الفرجي*‬

‫سمعت حكايا كثيرة عن الموت‪ ..‬بعضها مخيفة‪..‬‬ ‫وأظ ـنــه ال ـظــل األسـ ــود ال ــذي يـحــل ضـيــفً ــا غـيــر مــرغــوب ب ــه‪ ،‬فيخطف األرواح‬ ‫الجميلة‪ ،‬وينخر األجساد ويجوّفها من الداخل‪..‬‬ ‫قال لي بائع البسكويت ذات نهار‪ :‬إن الموت يحضر باكرً ا جدً ا قبل استيقاظنا‬ ‫من النوم‪ ،‬فهو ال يخشى الظالم‪ ،‬وال يندس تحت لحافه خشية البرد مثلنا‪..‬‬ ‫يأتي دائما بوجه قاتم ال يضحك‪ ،‬ويحمل معه سالسل كثيرة ليقيّد بها األرواح‬ ‫الفارة من اآلخرة‪..‬‬

‫‪66‬‬

‫كنت أتساءل دائما‪ :‬لماذا ال نهرب‬ ‫أصبح بائع البسكويت صديقي منذ‬ ‫رح ــل والـ ــدي لــلــســمــاء‪ ،‬فكنت أتحين‬ ‫من الموت‪..‬‬ ‫الفرص ألبقى بجانبه وأستمع لحديثه‪..‬‬ ‫أال نستطيع مبارزته والتفوق عليه!!‬ ‫صديقي الجديد ظهر مــن الفراغ‬ ‫لماذا منذ األزل لم ينج منه أحد!!‬ ‫والالشيء‪ ،‬لم أكن أعلم عنه شيئا سوى‬ ‫أن اســمــه ســامــر‪ ،‬ويسكن خلف التل‬ ‫أنحن جبناء‪ ..‬أم هو قوي جدا!!‬ ‫المقابل للقرية‪ ،‬وأنــه مثلي رحــل أبوه‬ ‫لــمــاذا نستسلم ونــمــد لــه أيــديــنــا‪،‬‬ ‫يوما ما‪.‬‬ ‫ونمضي معه حيث يأخذنا دون مقاومة!!‬ ‫أخبرني أنه يبيع البسكويت وبعض‬ ‫أسئلة كثيرة كانت تدور برأسي‪ ،‬وال الــحــلــوى‪ ،‬ويتنقل بين الــقــرى القريبة‬ ‫ويترك خلفه أ ّمًا عجوزًا وال يعود إليها‬ ‫أجد لها جوابا‪..‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫هــرعــت فــي طــرقــات القرية أبــحــث عن‬ ‫إال قرب المساء‪..‬‬ ‫لم أذهب يوما لزيارته في بيته‪ ،‬فهو لم سامر وأنا أخفي دموعي‪ ،‬سألت كثيرًا عن‬ ‫يتأخر عن موعده أبدًا‪ ،‬فكان يحضر صباحا بــيــتــه‪ ..‬فلم أجــد مــن يعرفه ويــدلــنــي على‬ ‫لنتسكع سويا‪ ،‬وأرافقه حين يمضي لكسب منزله‪..‬‬ ‫وحين عثرت على البيت الوحيد خلف‬ ‫رزقــه‪ ،‬ونعود منهكي القوى قــرب المساء‪،‬‬ ‫ليودّعني عند مدخل القرية‪ ..‬فأعود للبيت‪ ،‬التل‪ ..‬كنت قد فقدت األمل‪..‬‬ ‫بينما يمضي هو إلى حيث ال أدري‪..‬‬ ‫لــم أســتــطــع تمييز صــوتــهــا المصاحب‬ ‫توطدت عالقتنا يوما بعد آخر‪ ،‬وأصبح لصرير الباب القديم‪ ،‬وحين أعدت سؤالها‬ ‫عن صديقي أشاحت بوجهها بعيدًا ثم نظرت‬ ‫مالزما لي كظلي معظم النهار‪.‬‬ ‫إلي‪:‬‬ ‫حتى عند مــرض أمــي وارتــفــاع حرارتها‬ ‫سامر رحــل منذ عــام‪ ،‬توفي في حادثة‬ ‫كــنــت‪ ،‬أفــضــل الــجــلــوس على عتبة الــبــاب‪،‬‬ ‫وانــتــظــار مـ ــرور صــديــقــي‪ ..‬عــن أن أظــل أليمة‪.‬‬ ‫بجوارها ألسمع أنينها وشكواها المتكررة‪..‬‬ ‫اقتربت مني كثيرا لتنظر في وجهي‪ :‬مَن‬

‫في إحدى تلك الليالي‪ ،‬رحلت أمي دون أنــت؟ ولماذا تسأل عنه اآلن بعد كل هذا‬ ‫جلبة‪ ..‬رحــلــت حين كنت أعــبــر الجسور‪ ،‬الوقت؟؟‬ ‫وأقفز تحت المطر‪ ،‬وأضحك للسماء التي‬ ‫ال أعلم كيف حملتني قدماي ألهرب من‬ ‫ال تهبنا ســوى العطايا‪ ،‬وأســابــق صديقي ذلك المكان! وكيف استطعت رؤية طريقي‬ ‫اللتقاط الحجارة ورميها في النهر‪..‬‬ ‫للمنزل‪..‬‬

‫عند عــودتــي للمنزل كــانــت أمــي تنظر‬ ‫في الصباح الباكر أخذوا أمي للمقبرة‪،‬‬ ‫للسماء أيضا‪ ،‬ولكن ليس لشكر اهلل على كان نعشها خفيفًا باردًا‪..‬‬ ‫عــطــايــاه‪ ..‬لعلها كــانــت تــقــاوم إح ــدى تلك‬ ‫وحين شارفنا على المقابر‪ ..‬كان هناك‬ ‫الــســاســل حــيــن امــتــدت لتسحب روحــهــا‬ ‫شيخ كبير يرتدي البياض‪ ،‬خطف النعش‬ ‫فتركت عينيها مفتوحتين تشيّع بها روحها من بين أيدينا واختفى بين القبور مستبشرا‬ ‫المختطفة‪..‬‬ ‫ليوقظ األموات الستقبالها‪ ،‬بينما كان يقف‬ ‫يــداهــا بــاردتــان‪ ،‬وعلى وجهها ابتسامة صديقي سامر هناك على حافة القبر المعد‬ ‫جميلة‪ ،‬وكأن الموت جاءها حامال معه علب ألمي وهو يحمل علب البسكويت وعلى وجهه‬ ‫ابتسامة‪ ،‬وكانت المرة األخيرة التي أراه بها‪.‬‬ ‫البسكويت‪..‬‬

‫* قاصة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪67‬‬


‫أزهــــــــــار‬ ‫■ محمد الرياني*‬

‫أزهار ترعى ثالث شياه‪ ،‬مظلتها المستديرة الصفراء ذات الرأس االسطواني‪،‬‬ ‫عصاها الصفراء من شجر السدر‪ ،‬وثوبها المشجر ذو األكمام الطويلة أبــرز ما‬ ‫يميزها‪ ،‬الساكنون في أطراف قريتها الصغيرة يعرفون شياهها الثالث من هيئتها‪،‬‬ ‫ويعرفونها من شياهها الـثــاث‪ ،‬التي يختلط اللون األبيض ببعض الـســواد في‬ ‫واحــدة منها‪ ،‬بها خفة عجيبة وهي تجري وراء الشياه‪ ،‬تشبه قارعات الخطوب‪،‬‬ ‫قوامها الممشوق وجسمها النحيل ساعداها على هــذه الخفة‪ ،‬تصعد العقوم‬ ‫المتحجرة مــن تــراكــم األع ــوام طـلــوعً ــا ون ــزو ًال خــوفً ــا على شياهها من‬ ‫ّ‬ ‫الـتــرابـيــة‬ ‫الضياع‪ ،‬ومن كالب الضاحية التي يصل نباحها أطراف القرية‪ ،‬لم تسلم أزهار من‬ ‫بعض العقاب اللطيف من أصحاب األراضــي النابتة أراضيهم من ماء السحاب‪،‬‬ ‫يصل إلى درجة حجزها كلها أو واحدة منها‪ ،‬فيطلق سراحها بفعل دموعها البريئة‬ ‫خوف ًا من أهلها الذين ال يرونها جديرة بهذه المهنة‪.‬‬ ‫كبرتْ أزهــار‪ ،‬جمال الطفولة انتقل شياهها على الزراعة المنتصبة على‬

‫معها إلى الشباب‪ ،‬أصابعها التي كانت الطريق نحو المرعى‪ ،‬نمَتْ أزهار وهي‬

‫ترسم ‪ -‬خرابيش‪ -‬على تراب المراعي تتذكر تفاصيل طفولتها على البراري‪،‬‬ ‫أضحتْ تكتب على الدفاتر‪ ،‬كتبتْ في أ ّلــفــتْ رواي ــة مــن الحقل‪ ،‬ومــن رؤوس‬

‫شبابها عن نفسها‪ ،‬عن أزهار التي كانت دوابها‪ ،‬ومن وحي قلمها الذي تألق في‬ ‫ترعى‪ ،‬وعــن أزهــار التي كانتْ تعتدي الشباب‪.‬‬

‫ * قاص من السعودية‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫مطر‬ ‫وجهها ُكله‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫■ ناصر سالم اجلاسم*‬

‫ما الــذي يرمي إليك بوجه امــرأة حسناء من تبوك‪ ،‬في هذا الصباح الشتوي‬ ‫البارد؟ وتراه بزينته الكاملة‪ ،‬زينة الشفتين والعينين والخدين‪ ،‬فوق رغيف خبز‬ ‫أفغاني أبيض م ــدوّر؛ وتــرى فيه وجهها الجميل المستدير الباسم‪ ،‬كما نظرت‬ ‫إليك ألول مرة قبل سبعة عشر عاما‪ ،‬وينتشر من جوف الرغيف عطرها شانيل‬ ‫‪ ،5‬ويهزم رائحة الخبز الشهية في مطعمك‪ ،‬ويطردها من المكان لتخرج عبر‬ ‫ـاص مشاغب عذّ به طــول االستماع لسورة البقرة في مكان‬ ‫النافذة مثل جنيٍّ عـ ٍ‬ ‫مغلق‪ .‬ينتشر عطرها ويسيطر على حواسك كلها‪ ،‬فتراها وقد جلست متربعة في‬ ‫محيط دائرة الرغيف‪ ،‬وكأنه بساط سحري لها ومدت فنجان القهوة العربية إلى‬ ‫فمها‪ ،‬فيصعقك في مطعمك اقتراب حافة الفنجان من فمها كما تُصعق أرنبةٌ أمٌّ‬ ‫في قفصها استشعرتْ ذبحَ وليدها الغائب عنها مع الجيش البعيد الذي يقاتل‬ ‫األعــداء‪ ،‬لتوصل إشــارة أو تمرر رسالة سرية للملك لطلب الدعم والمدد كي ال‬ ‫يُهزم ويندحر جيشه أو يتراجع‪ ،‬وتراها وقد نهضت بكامل جسدها من الرغيف‬ ‫ماشية إليك ويوجع قلبك رؤيتك انثناء خصرها الطري فتصيح‪ :‬آه يا غرس لقد‬ ‫أخذوك مني مثلما يؤخذ الوطن من ساكنيه وقد سكنت قلبي وعقلي!‬ ‫ومــذيــع الــنــشــرة اإلخــبــاريــة يــقــرأ‪ :‬ت ــؤدي النــخــفــاض شــديــد فــي درجــات‬

‫تتعرض اآلن منطقة تبوك ومنطقة الحرارة‪ ،‬قد تصل لدون األربع درجات‬ ‫ال ــح ــدود الــشــمــالــيــة طــريــف وعــرعــر مــئــويــة‪ ،‬مــع تــوقــعــات بــهــطــول أمــطــار‬

‫والــجــوف ومنطقة المدينة المنورة غزيرة على المناطق المذكورة وجريان‬

‫واألجــزاء الغربية من المملكة العربية السيول فيها‪ ...‬فيما ستهبّ في غضون‬ ‫السعودية لهبوب كتلة هوائية بــاردة الساعات القليلة القادمة على األجزاء‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪69‬‬


‫الشرقية من البالد ومنطقة حفر الباطن من بعيد بحسن لونه األخضر الفاتح يجاور‬ ‫ومحافظة إبقيق واألحساء تحديدًا عاصفة حسن شفتيها المصبوغتين باألحمر القاني‪،‬‬ ‫غبارية كثيفة المدى‪ ،‬يتدنى معها مجال وتدرج حباته واحدة تلو أخرى فوق لسانها‬ ‫الــرؤيــة البصرية إلــى متر واح ــد‪ ،‬فنرجو الــوردي وتنزلق في جوفها‪ ،‬وأنت مصدور‬ ‫من المواطنين أخذ الحيطة وتوخي الحذر ومسجون في محيط دائرة الغبار تكح تكح‪..‬‬ ‫حفاظً ا على سالمتكم‪.‬‬ ‫وصــوت كحتك ال يسمعه أحد فيقرب لك‬ ‫وجهكَ كله غبار‪ ،‬ووجهها كله مطر‪ ،‬وقد الماء‪ ،‬وتستشعر مذاق العنب التبوكي اللذيذ‬ ‫ِخفتَ عليها وارتعبت حين سمعت خبر الكتلة وتحس بمذاق شفتيها العذبتين‪ ،‬وها أنت ذا‬

‫الهوائية الباردة‪ ،‬وجهك حزن وقلق‪ ،‬ووجهها اآلن وأنت في حمام الغبار تدرك متأخرا‬ ‫ورد أحمر‪ ،‬وال تدري إن كان قد أهمّها أو أن (غــرس) لم تكن قد أحبتك‪ ،‬وإنما قد‬

‫آلمها خبر اتجاه العاصفة الغبارية إليك أم أحبت جبل اللوز وثلجً ا يزهر فوقه وعنبًا‬ ‫ال طيبًا غيرك ال يقول‬ ‫ال‪ ،‬وجبل اللوز في تبوك يثمر بالثلج وجبل ينبت قريبًا منه ورج ً‬ ‫القارة عقيم‪ ،‬ورغيف الخبز األفغاني وكوب لها ال أبدًا أبدا‪ ،‬ويجعلها تنهض من السرير‬

‫الحليب ينالهما الغبار في مطعمك قبل أن صــبــاح كــل يــوم سعيدة‪ ،‬وتــقــف تحت نهر‬ ‫يصال لفمك‪ ،‬وغبار يعلو شعر رأسك ويعلو الماء العلوي وجسدها كله ماء وهي تبتسم‪،‬‬

‫شاربيك وأنــت تكح‪ ،‬وقلبك يحترق لرؤية وتتذكر بحب تفاصيل ما جرى مع زوجها‬ ‫العنب التبوكي يمرق في فم غــرس‪ ،‬تراه بالليل التبوكي‪.‬‬ ‫ * قاص من السعودية‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫صمت‬

‫■ محمد صوانة*‬

‫بحث‬

‫الصغارِ في ِحجرها‪،‬‬ ‫صخَ بَ ِّ‬ ‫تَجْ َم ُع َ‬

‫بعد غياب‪،‬‬

‫ُشاغل َهم عن نَومِ هِ ‪..‬‬ ‫ت ِ‬

‫الحظ ذوبان الصور المعلقة على الجدار‪،‬‬

‫الصمت‪!..‬‬ ‫فيوقِ ظُ ُه َ‬

‫يتلمّسها على مُحَ ر ِ​ِّك الذِ كريات‪..‬‬

‫دفء‬ ‫تندل ُق حباتُ ال َودَقِ على الجبين‪..‬‬ ‫جف للتو‪..‬‬ ‫دمع َّ‬ ‫تغس ُل آثا َر ٍ‬ ‫تنهمر زخاتُ بَرَد‪ ،‬يكفه ُر األُ ُفقُ؛‬ ‫يرتعش برداً‪..‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫ومضات‪..‬‬

‫يبحث عن طيف‪..‬‬ ‫مرايا منتهية الصالحية!‬ ‫اشترت منه مرآة جديدة‪..‬‬ ‫في اليوم التالي عادت تستبدلها‪،‬‬ ‫لم يمانع‪..‬‬

‫ألي‪،‬‬ ‫بعد ٍ‬ ‫يلتحف بدفءِ ذِ كراه!‬ ‫ُ‬ ‫ذاكرتها‬ ‫تش ُّد من نبرة صوتها‪،‬‬

‫ظلت كل يوم تأتي لتستبدل المرايا‪..‬‬ ‫تعنّفه‪ :‬مراياك منتهية الصالحية!‬ ‫أدوار‬ ‫بسؤال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يُ ِل ُّح الصغي ُر عليه‬

‫ُــفــردات‬ ‫ِ‬ ‫تــح ـ َم ـ ُّر عــروقــهــا‪ ،‬تُــشــعِ ـ ُل كُـــلَّ م‬ ‫يستذك ُر أيا َم طفولتهِ وهو يمتطي صهوةَ‬ ‫الممنوع‪..‬‬ ‫برؤوس الكبارِ ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫الفضولِ ‪ ،‬مُتشبثاً‬ ‫وأنا أتج َّو ُل في (ذاكرتها)‪ ،‬بكلِ هدوءٍ ‪..‬‬ ‫يتماهى؛‬ ‫ذاكرة فقط‬ ‫تَص َف ُع ُه اللوح ُة صبا َح مساء‪..‬‬ ‫في لحظةِ تمر ٍُّد‪،‬‬ ‫ُراب»؛‬ ‫ُمسكُ «الغ ِ‬ ‫ي ِ‬ ‫يقذِ ُف ُه بعيداً‪..‬‬ ‫ف عالياً‪،‬‬ ‫فيُرَفرِ ُ‬ ‫ثم يَستَقِ ُر في ذاكرتِهِ ‪..‬‬

‫يتظاه ُر باالن ِْشغالِ !‬ ‫مشهد‬ ‫ظل مشهد الرواية يطرق بابي‪..‬‬ ‫يُ ِلحُّ‪ ..‬وأَشي ُح عنه‪..‬‬ ‫في لحظة حنين‪ ،‬أزحت الستارة برغبة‬ ‫عارمة‪ ،‬ألعيشه من جديد‪..‬‬ ‫يتالشى طيف البطل عن المسرح!‬

‫* قاص أردني مقيم في السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪71‬‬


‫نصان‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫مناقب العين‬ ‫ُ‬

‫■ زياد السالم*‬

‫هــذا بــابٌ مثل أي بــاب آخــر‪ ،‬ال أعماقه‪ .‬يا صاحب القميص ال خوف‬ ‫شــيء يلفت النظر فيه إال هــذه العين على المفتون إن وافقه نسيم الصبا‪.‬‬ ‫السحرية‪ ،‬بشكلها المخروطي تشبه‬ ‫اجر ْح السماء بمنجل اللذة‪ ،‬قبل أن‬ ‫تــابــوت فــراشــة‪ .‬يطمح الــقــديــس إلى‬ ‫يطحن الموت عظامك‪ ،‬قبل أن يضع‬ ‫محو صورته‪ ،‬أو على األقل يعمل على‬ ‫خــرزة فــي قحفة رأســك أيها الفاني‪.‬‬ ‫الشباك؛ هو‬ ‫تشويشها كي يفلت من ِ‬ ‫العين تق ٌد القميص قبل اليد‪ ،‬هي رائدة‬ ‫يــدرك أن العين طاغية‪ .‬فــي الحفلة‬ ‫الرخام‪ ،‬الجسّ اسة قبل المصافحة وبعد‬ ‫تظهر الجوزاء في ثوب العيد‪ ،‬تكون في‬ ‫المصافحة‪ ،‬هي األســرع في التقييم‬ ‫ذروة مجدها‪ ،‬كل واحد منا يذهب إلى‬ ‫هذه الحفلة أو تلك‪ ،‬محموالً على حدقة والرقش والحفر والتنقيب‪ ،‬أنا أكتشف‬ ‫هي أكبر ما فيه‪ ،‬حين نحتفل مع بعضنا الــخــاطــف مــن طريقته فــي المعاينة‪،‬‬ ‫بدافع الحب‪ ،‬يتحرر إنسان العين من الــفــاكــهــة الــســر ّيــة ألتقطها بنظرتي‬ ‫نظرته المألوفة الحزينة‪ .‬فانظر إلى المتوحشة‪ ،‬العين تجمع المناقب في‬ ‫مــا يسرك وال تبخل على نفسك في حزمة واحـــدة‪ ،‬هــذا الــضــوء المتدفق‬ ‫النظر‪ .‬العين رفيقة اللون مفطورة على يكفي لحدوث معجزة‪ ،‬لكن علينا أن‬ ‫الكرم؛ القلب البخيل ينكسر السهم في نغادر مواقعنا لنرى بشكل أفضل‪.‬‬

‫رسم‪ :‬شهد الزيد‬

‫‪72‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫رسم‪ :‬شهد الزيد‬

‫ُ‬ ‫جنازة الغريب‬ ‫الجنازة المرفوعة فــوق األكتاف بــيــديــه الــصــاعــدتــيــن إل ــى الــســمــاء‪،‬‬

‫ليست جــنــازتــي‪ ،‬اســألــوا الــريــح عن الصبي الذي تركناه برفقة طائر أبي‬ ‫المسامير التي تطايرت في الهواء‪ ،‬المنذر‪ ،‬كي يحرسا األمانة في الحي‬ ‫لــقــد أغــلــق الــمــتــربــصــون عيونهم مع أهلنا‪ .‬اسألوا الريح عن المتاريس‬ ‫وأفــواهــهــم وآذانــهــم فــي يــوم الزينة‪ ،‬التي وضعتموها في طريقي‪ ،‬لكنها‬

‫حال بين الضحك والبكاء‪.‬‬ ‫كانوا في ٍ‬

‫انقلبت في وجوهكم مع أول خطوة؛‬

‫اسـ ــألـ ــوا الـــريـــح عـــن خــطــواتــي اسألوها عن الفحم والفضة واألواني‬

‫المخمورة بأنفاس الليل‪ ،‬اسألوها الــمــزخــرفــة وريـ ــش الــنــعــام‪ .‬وقفت‬

‫وال تعزلوني عن قلبي الذي تبلل من وحيداً‪ ،‬وضعت ساعتي على حجر‪،‬‬ ‫لهاث نخلة في ٍ‬ ‫واد بين جبلين‪ .‬هذا جمعت خيوط الحكاية حتى اكتملت‬ ‫كتابي عرضته عليكم بمفرق الماء‪ ،‬عند تلعة الغدير‪ .‬أنا لم أنكث وعداً‪،‬‬

‫فاشتبهتم بالباب الموارب حين الح ومــا كنت ألضعف أو أستسلم‪ ..‬إال‬ ‫منه رماد نجمة‪ .‬هذا هو أنا‪ ،‬رفيقكم إذا داهمتني أغنية جبلية‪ ،‬اسألوا‬ ‫من البسملة حتى الدم الذي شهدناه الريح عن يوم مولدي ويــوم مماتي‪،‬‬ ‫في أعقاب المباهلة‪.‬‬ ‫فالجنازة المرفوعة فــوق األكــتــاف‬ ‫الصبي قارع الجرس كان يتباهى ليست جنازتي‪.‬‬ ‫ * قاص ومفكر من الجوف ‪ -‬السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪73‬‬


‫كبر الورد !‬ ‫■ جواد احلطاب*‬

‫كبر الورد في بيتنا‬ ‫وانتظرناك ‪ ..‬مثل المطر‬ ‫المشاوير نامت هنا‬ ‫فمتى يستفيق السفر‬ ‫***‬

‫يقولون ‪ :‬جاء‬ ‫فأنسى يديَ على النافذة‬ ‫وأركض مغسولة بالبكاء‬ ‫وأبصر في الباب‪ :‬قلبي‬ ‫‪ ..‬وال أنت ‪ ..‬ال كركرات المطر‬ ‫اشترطت على صيف هذي السنة‬ ‫غيمة ‪ ..‬سوسنة‬ ‫شرفة ‪ ..‬وقمر‬ ‫انتظرتك فيها‬ ‫شتاء ‪ ..‬وصيفا‬ ‫ويوما‪ :‬وألفا‬ ‫لم تجيء ‪..‬‬ ‫فتكسرت ‪ ..‬مثل المطر‬ ‫ * شاعر من العراق‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫■ حامد أبوطلعة*‬

‫لحقْ بَةٍ‬ ‫ضلَّ الفؤادُ ِ‬

‫ما كان في ما كان يجمعُ عم َر ُه‬

‫ثم اهتدى‬

‫إال ليأتيَ يا حبيبةُ مفردا‬

‫وأتاك يحكي النص َر في زمن الرَّ دى‬ ‫ِ‬

‫ما كان يعصر خيبة الماضي‬

‫هذا‬

‫يبست‬ ‫ْ‬ ‫وقد‬

‫يد‬ ‫وقد شرب الثمال َة من ٍ‬

‫فتنمو في يديهِ مُ جَ دَّ دا‬

‫يحسو مرارتَها على تب َّْت يدا‬

‫أو كان معتني ًا بغرسة يأسهِ‬

‫سنواته الخمسون‬

‫إال لينبت حوله أملٌ غدا‬

‫يو َم قيامةٍ‬

‫لت‬ ‫إليك الحالَ كيف تبدَّ ْ‬ ‫يشكو ِ‬

‫رأس المدى‬ ‫َّبت َ‬ ‫أهوالها قد شي ْ‬

‫ويريك هذا العمر كيف تبددا‬ ‫ِ‬

‫سنواته‬

‫يبدو كأسعد ما ترين‬

‫كلْما يحدثها بما يفنيه من سنواته‬

‫وإنما‬

‫قالت فدا‬

‫كل الشقاء مخب ٌأ فيما بدا‬

‫الكلمات‬ ‫ِ‬ ‫متثاقلُ‬

‫ف َتلَقَّ فيهِ‬

‫ليس يلومه أحدٌ‬

‫وقد هوتْ بحياتهِ قممُ الوفاءِ‬

‫وكان اهلل فيها األوحدا‬

‫فخَ َّل َفتْهُ مُ ْجهَدا‬

‫يربو على قلب التقي‬

‫وت ً َ​َعه َِديهِ‬

‫لسانهُ ر َْط ٌب بذكر اهلل‬

‫ففيك مَ ْرقَدُ ُه الذي يبكي به‬ ‫ِ‬

‫مَ ْلب َُسهُ الهُ دى‬

‫كي يستريح ويرقدا‬

‫لكنه ُسو ٌر‬

‫يبكي على تلك السنين بحرقةٍ‬

‫بظاهر رحمةٍ‬

‫متسائالً‪:‬‬

‫وبباطن يحوي لذلك موقدا‬ ‫ٍ‬

‫ذهبت ُسدى!؟‬ ‫ْ‬ ‫ماذا وقد‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫ذهبت ُسدى‪...‬‬ ‫ْ‬

‫* شاعر من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪75‬‬


‫على الطريق‬

‫■ أحمد النعمي*‬

‫ـال ج ـ ـ ـل ـ ـ ـسـ ـ ــت إل ـ ـ ـ ـ ـ ــى الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوادي‬ ‫عـ ـ ـ ـل ـ ـ ــى مـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ٍـد خـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫وح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدً ا وفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي نـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـس ـ ـ ــي تـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــاوي ـ ـ ـ ــم مـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ــاد‬ ‫أت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ي ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـثـ ـ ــر األب ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ل ـ ـ ـ ـ ــم يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث ـ ـ ــن ح ـ ـ ـ ـ ــرف ـ ــه‬ ‫ع ـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ــث م ـ ـ ـ ـ ــا ي ـ ـ ـث ـ ـ ـنـ ـ ــي وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد جـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ب ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ــزاد‬ ‫فـ ـ ـ ــأص ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ــي إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى األشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـ ــار والـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــر ك ـ ـل ـ ـمـ ــا‬ ‫ب ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـثـ ـ ـ ــت ت ـ ـ ـ ــرانـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــي وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدوي وإنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـ ــادي‬ ‫و أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــز مـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــا زان شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـئ ـ ـ ــا يـ ـ ـعـ ـ ـيـ ـ ـنـ ـ ـن ـ ــي‬ ‫وقـ ـ ـ ـ ــد بـ ـ ـح ـ ــت ب ـ ــالـ ـ ـخ ـ ــاف ـ ــي مـ ـ ـ ــع الـ ـ ـمـ ـ ـنـ ـ ـظ ـ ــر الـ ـ ـ ـه ـ ـ ــادي‬ ‫ج ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــت وف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام آم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ط ـ ـ ــام ـ ـ ــح‬ ‫و أسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـت ـ ـ ـهـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزةٍ ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوق أط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواد‬ ‫ف ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّنـ ـ ــت ل ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــا وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد جـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ص ـ ــوتـ ـ ـه ـ ــا‬ ‫يـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــادي أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب الـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــوح ي ـ ـ ـ ـ ــا ذلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك الـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ــادي‬ ‫ت ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ــأت ـ ـ ــي ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم لـ ـ ـمـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ــدي‬ ‫و أب ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ــى أسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــر الـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ــوح والـ ـ ـ ـ ـ ــرائـ ـ ـ ـ ـ ــح ال ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ــادي‬ ‫فـ ـ ـ ـب ـ ـ ــادلـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدوي ون ـ ـ ـ ـ ـ ــادي ـ ـ ـ ـ ـ ــت ف ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ــربـ ـ ـ ــى‬ ‫حـ ـ ـبـ ـ ـيـ ـ ـ ًب ـ ــا ل ـ ـ ـ ــه أحـ ـ ـ ـي ـ ـ ــا وق ـ ـ ـ ـ ــد ص ـ ـ ـحـ ـ ــت ف ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـن ـ ـ ــادي‬ ‫أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب وأشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــى إن تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادى بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـصـ ـ ــده‬ ‫و أس ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد إن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد الـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ــوف إلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ــادي‬ ‫يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث ـ ـ ــرن ـ ـ ــي ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوق مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــض ل ـ ـ ـ ـ ـ ــوص ـ ـ ـلـ ـ ــه‬ ‫وي ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـع ـ ـ ـنـ ـ ــي وصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلٌ إذا غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ح ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــادي‬ ‫وتـ ـ ـ ـ ــزهـ ـ ـ ـ ــو بـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا الـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ــاع ـ ـ ـ ــات فـ ـ ـ ـ ــي مـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـع ـ ـ ــدي هـ ـن ــا‬ ‫وت ـ ـ ـب ـ ـ ـل ـ ـ ـغ ـ ـ ـهـ ـ ــا اآلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات م ـ ـ ـ ـ ــن أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرف ال ـ ـ ـ ـ ـشـ ـ ـ ـ ــادي‬ ‫ـراحـ ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوردةٍ‬ ‫فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ــرس ـ ـ ــل م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن يـ ـ ـ ــأس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ً‬ ‫بـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ــن عـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـي ـ ــر الـ ـ ـنـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ــس ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقً ـ ـ ــا لـ ـمـ ـ ـ ـيـ ـع ــاد‬ ‫‪76‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ن ـ ـ ـس ـ ـ ـيـ ـ ــت ب ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا أمـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع ح ـ ــولـ ـ ـه ـ ــا‬ ‫وقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد صـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـع ـ ـ ــت صـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـع ـ ـ ــا غـ ـ ـ ــري ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــا إلج ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــادي‬ ‫نـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــت وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد زورت شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـئ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫نـ ـ ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ــب وتـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َو ّد ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا دون أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ــاد‬ ‫و لـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـن ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ــد الـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ــي نـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ــر فـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ‬ ‫ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ــاء ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي يـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـ ـش ـ ــى كـ ـ ـ ـِ ـ ـ ـ َلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْي ـ ـ ـنـ ـ ــا ب ـ ــأبـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ــاد‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫و تـ ـ ـ ـك ـ ـ ــرمـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي ب ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ــوص ـ ـ ـ ــل سـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًي ـ ـ ــا ل ـ ـب ـ ـه ـ ـج ـ ـتـ ــي‬ ‫و ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ل ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــت اآلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ف ـ ـ ـ ـ ــي ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم م ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــادي‬

‫ف ـ ـ ـ ـ ــذقـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ــا أم ـ ـ ـ ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـنـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوصـ ـ ـ ــل حـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــوة‬ ‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــردد فـ ـ ـ ـ ـ ــي سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــع الـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ــا حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ــو أوراد‬ ‫أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدق فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ــن جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــونـ ـ ـ ــي ولـ ـ ـهـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ــي‬ ‫وق ـ ـ ـ ـ ـ ــد كـ ـ ـ ـن ـ ـ ــت يـ ـ ـ ــومـ ـ ـ ــا ذل ـ ـ ـ ـ ـ ــك ال ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــاحـ ـ ـ ــث ال ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ــادي‬ ‫و أدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو إلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ــاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــثً ـ ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــد كـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا‬ ‫بـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ــف ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي ي ـ ـ ـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـ ـ ــو ب ـ ـت ـ ـفـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـيـ ــر م ـ ـنـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ــاد‬ ‫فـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـج ـ ـ ــذب م ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدوهً ـ ـ ـ ــا إلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى س ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ــر ع ـ ـي ـ ـن ـ ـهـ ــا‬ ‫و يـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ــظ أن ال ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــل يـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــو ب ـ ــأجـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ــاد‬ ‫و ي ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ــر مـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــرً ا م ـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب خ ـ ـ ـ ـ ــده ـ ــا‬ ‫ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهٍ م ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــرٍ ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ــاءات وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد‬ ‫فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــرس ـ ـ ـ ـ ـ ــم فـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا تـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ــى بـ ـ ـ ـ ـل ـ ـحـ ـ ـ ـ ـظـ ــة‬ ‫ه ـ ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ــد مـ ـ ـتـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــوع ـ ـ ـ ًـ ــا ب ـ ـ ــأمـ ـ ـ ـج ـ ـ ــاد أم ـ ـ ـجـ ـ ــاد‬ ‫وإن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أنـ ـ ـ ـ ــاجـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ــدر فـ ـ ـ ـ ــي غ ـ ـ ـ ــام ـ ـ ـ ــر ال ـ ـ ــدج ـ ـ ــى‬ ‫يـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــض سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــاءً ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ل ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءات أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ــاد‬ ‫ـروج خ ـ ـ ـص ـ ـ ـي ـ ـ ـبـ ـ ــةٍ‬ ‫وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب لـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــلٌ ف ـ ـ ـ ـ ـ ــي م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫وبـ ـ ـتـ ـ ـن ـ ــا ن ـ ـع ـ ـيـ ــش ال ـ ـ ـحـ ـ ــب ف ـ ـ ــي ال ـ ـم ـ ـل ـ ـت ـ ـقـ ــى ال ـ ـ ـهـ ـ ــادي‬ ‫و ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ض ـ ـ ـ ـ ــمَّ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــا بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــت بـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــاه وح ـ ـ ـ ـ ـ ــدنـ ـ ــا‬ ‫قـ ـ ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرا آلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد آب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد‬ ‫* شاعر من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪77‬‬


‫ٌ‬ ‫هوية‬ ‫أنا سيد المنتمين إلى كل شيء‬ ‫وسيد هذي الرياح‬ ‫تجول بكل الجهات بغير انتماء‬ ‫درب‬ ‫أنا سيد الراحلين إلى كل ٍ‬ ‫تقود اعوجاجاته للسنى‪..‬‬ ‫والسناء‬

‫***‬ ‫***‬

‫رضعت حليب اإلباء‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫فمنذ الطفولة ُ‬ ‫لثغت البدايات‬ ‫ُ‬ ‫وكنت‬ ‫في جنبات الوضوح‬ ‫وكنت الجبان أمام الجمال‬ ‫ُ‬ ‫وكنت القصيدة فوق شفاه النساءْ‬ ‫ُ‬

‫***‬

‫انتميت‬ ‫ُ‬ ‫إلى لغة البدو‬ ‫إليهم وهم يقطعون الفالة بشيء من ربيع المجازات‬ ‫حين ينادون أشياءهم بضمير الحياةِ‬ ‫إلى لغة النجر والهيل والشعر والتمر‬ ‫في ردهات الشتاءْ‬

‫***‬

‫أنا سيد المنتمين إلى الحب واألغنيات‬ ‫وألف صالة مع الفجر‪..‬‬ ‫يرفعها البسطاء‬ ‫أنا الليل والصبح‬ ‫والمدح والقدح‬ ‫والصفح‬ ‫والغضب المستطير على كل شيء‬ ‫سيخدش رأس زجاجة عطر الوفاء‬ ‫أنا الشوق حين ينادي صغيرً ا‬ ‫تدحرج من نعمة الذكريات البعيدة‬ ‫ليبنيَ صرح ًا قديم ًا من الحلم‬ ‫‪78‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫■ شتيوي الغيثي*‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫يبني هويته في سؤال الحياة‬ ‫ويسرق من لغة الناس أسماءهم‬ ‫ويرتبها في نشيد السماء (المساء)‬

‫***‬

‫أنا المتزوج من قطرةٍ للندى‬ ‫ورغيف لهذا المدى‬ ‫ولي في حطام النجوم صدى‪..‬‬ ‫ولي في صنوف البقاء‪..‬‬ ‫بقاء‪..‬‬ ‫أنا نبتةٌ في أديم السؤال‬ ‫أسف تراب الحقيقة في كل وادٍ‬ ‫ّ‬ ‫وأمتح من بئر أجداديَ الغرباءْ‬

‫***‬

‫أنا سيدُ الوجع المستفيض بعين الفقير‪..‬‬ ‫وظفرُ المنية دون الخَ واء‬ ‫أنا بذرة األولين‬ ‫وآخر من كتبوا ِسفْ رهم بِ دَواةِ الغناء‬ ‫فبي من أساطير قومي‬ ‫وبي من حداثة عمر البكاء‬ ‫وبي من روايات عمرو العالء‬ ‫وبي من نقودات أهل البناء‬ ‫وبي من رمال النفود‬ ‫وبي من حضارة عصر الفضاء‬

‫***‬

‫أنا آخر من قذفتهم طفولتهم في مسيرة هذي الحياة‬ ‫فصار يقاتل أال يسير بدرب الرياء‬ ‫سيف كل القلوب التي عجزت عن معاركها‬ ‫ُ‬ ‫أنا‬ ‫في الحروب األخيرة للحب والكبرياء‬ ‫أنا شمعة لدموع المحبين واألشقياء‬ ‫باب لحاء‬ ‫أنا سيد الواقفين على كل ٍ‬ ‫وباب لباءْ‬ ‫أنا كل طين تشكّ ل من حرف‪:‬‬ ‫شين‪ ..‬وتاء‪ ..‬وياء‪ ..‬وواو‪ ..‬وياء‬ ‫ٍ‬ ‫* شاعر وأكاديمي من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪79‬‬


‫ٌ‬ ‫شموخ‬ ‫كبِّر‪..‬‬ ‫فقد ضجَّ الفضا بالمارقينَ ‪..‬‬ ‫و لم تزلْ آمالُهمْ قفر ًا‬ ‫كيد ِهمْ‬ ‫و ُخطةُ ِ‬ ‫مُ تخاذِ لَة‪!..‬‬

‫هيهاتَ‬ ‫الغدر‬ ‫ُِ‬ ‫تقلبُهُ رياحُ‬ ‫ُغاث‪..‬‬ ‫أصوات الب ِ‬ ‫ُ‬ ‫الميمون‬ ‫ِ‬ ‫تلوي جي َد ُه‬ ‫الل‬ ‫الض ِ‬ ‫نشنةُ َّ‬ ‫تغرُّ ه في اهللِ ِش ِ‬ ‫الباطلَة‪..‬‬ ‫ِ‬

‫ِكبّر‪..‬‬ ‫سمعٌ ‪..‬‬ ‫فصوتُك مُ ِ‬ ‫الموبقات ِحيالهُ جَ وعى‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫المعرش دونهُ‬ ‫ِّ‬ ‫الليل‬ ‫ِ‬ ‫ترجي غفو َة‬ ‫ِّ‬ ‫كالب‬ ‫ُ‬ ‫لتهب عن سَ عَرٍ‬ ‫َّ‬ ‫القافلَة!!‬

‫في صدرِ هِ‬ ‫بركانُ أمتِّهِ يصلي خاشعاً‪..‬‬ ‫شمس الحقيقةِ مُ س َدالً‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫و دثا ُر ُه‬ ‫بساطهُ حزْمٌ ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫همس الدُّ جى‬ ‫ُ‬ ‫فكيف يروعُ هُ‬ ‫طوب‬ ‫الخ ُ‬ ‫َنوش موقِ فَهُ ُ‬ ‫وت ُ‬ ‫الذاهلَة‪..‬؟!‬ ‫ِ‬

‫نفس في المَ دارِ‬ ‫ٌ‬ ‫هللِ‬ ‫تسيرُ واثقةً ‪..‬‬ ‫تنوءُ بهمِّ ها الوطنيِّ‬ ‫الخنو َع‬ ‫ال تلوي على وَجَ ٍل يراودها ُ‬ ‫بجالل طلتِّها األبيَّةِ‬ ‫ِ‬ ‫و لم تزلْ‬ ‫ماثِ لَة‪..‬‬ ‫الحسادُ في ألقابِ هِ‬ ‫َّ‬ ‫كمْ زاي َد‬ ‫المرجفات‬ ‫ُ‬ ‫و تقاذَفتْهُ‬ ‫بمكرِ ها‪..‬‬ ‫السفوح مهابةً‬ ‫ِ‬ ‫فربا على كلِّ‬ ‫كالطودِ ترفعُ هُ الخصالُ‬ ‫الفاضلَة‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫* شاعرمن السعودية‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫■ حسني صميلي*‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫ال لن يكونَ ‪..‬‬ ‫ولن يكونَ ‪..‬‬ ‫الشعب ‪ -‬ياهلل ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ألنهُ في‬ ‫كالمباه ِج‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫يركض‬ ‫ُ‬ ‫كاألماني‪..‬‬ ‫كالسحائِ ِب‬ ‫هاطلَة‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫قد ٌر‬ ‫طلوعهِ ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫هلل منذُ‬ ‫رعا ُه ا ُ‬ ‫و أضا َء في دنيا األنامِ‬ ‫منازِ لَه‪...‬‬


‫■ عبداهلل األسمري*‬

‫ضربت قالع الروح‬ ‫ُ‬ ‫بمجداف الطفولة‬ ‫ِ‬ ‫وحملت تابوتي إلى العُ دْ وَةِ القُ ْصوَى‬ ‫عقارب الزمن الممتد‬ ‫في أقاصي الروح‬ ‫تحتفي بالبدايات المؤجلة‬ ‫في أزمنةِ الوجع الغابر‬ ‫رهنت العمر‬ ‫ُ‬ ‫بضراوة اللحظة‬ ‫ورهاني المجهول‬ ‫لم تشهد له األماني‬ ‫ألقيت عليها قميص يوسف‬ ‫وأنصت لخطى العابرين‬ ‫ألرسم من دمائهم‬ ‫منفى لحفيف الكلمات‬ ‫وخفق جروحي‬ ‫صنعت لها تابوتًا آخر‬ ‫من سنديان السامدين‬ ‫على رمال التيه‬ ‫وكسوت عورة المسافات‬ ‫بحوافر الصافنات‬ ‫بددت بياض الدروب‬ ‫حين سلمت ذاكرتي‬ ‫لثقوب التاريخ‬ ‫المزيف‬ ‫وعدت بتابوتي وحيدً ا‬ ‫ُ‬ ‫إلى العُ دوةِ الدُّ ْنيَا!‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫ٌ‬ ‫تابوت آخر‬

‫* شاعر من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪81‬‬


‫َ‬ ‫أقول‬ ‫لن‬ ‫حبيبتي َأنا ْ‬

‫■ شاهر ذيب*‬

‫وف‬ ‫شَ ف ٌَق يُ سافرُ في َصحارَى الجَ ِ‬ ‫َبحث عن غَ َضا‪،‬‬ ‫ي ُ‬ ‫ينيك أُغنيةً ‪..‬‬ ‫ليقطف ِمنْ شَ ذا عَ ِ‬ ‫َ‬ ‫ويَمُ دُّ ُأنْمُ لَهُ‬ ‫ويَمضي‬ ‫الكون‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫الكلمات فوقَ‬ ‫ِ‬ ‫يَنشرُ‬ ‫يَزرعُ ها لِ َتب ُْسقَ أ َْحرُ ف ًا‬ ‫بدمٍ وأحالمٍ فال يَقوى على إحراقِ ها‬ ‫َضاء‬ ‫األرض وال َق َد ُر الف َ‬ ‫ِ‬ ‫وَهَ ٌج من‬

‫***‬ ‫َكوين‬ ‫شَ ف ٌَق يُ عاندُ لحظ َة الت ِ‬ ‫هناك شَ رنقةٌ‬ ‫َ‬ ‫وأنت‬ ‫البدايات‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫زمن‬ ‫في ِ‬ ‫حاالت التَحَ وُّ ِل والحياة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الصحراءِ‬ ‫غزل َ‬ ‫ن ُِسجَ ْت لها ِمنْ مَ ِ‬

‫***‬ ‫ِمنْ أَينَ ِجئ ِْت فراشَ تي؟‬ ‫أصبح ِت األسيرة؟‬ ‫ْ‬ ‫وكيف‬ ‫َ‬ ‫وقت‪،‬‬ ‫كاأل َْسرِ ال َيثْنيهِ ُ‬ ‫عاند للنبوءة‪،‬‬ ‫َمن المُ ِ‬ ‫يهب الز ِ‬ ‫في غَ ِ‬ ‫ِّمال‬ ‫َّات الر ِ‬ ‫لت َضفائِ رُ ها بِ ــذر ِ‬ ‫صت الرّبا كغزالةٍ ُجبِ ْ‬ ‫ولقدْ َتقَمَّ ِ‬ ‫الصفرِ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ماوات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َحلت عَ يناها من َود ِْق السَ‬ ‫واكت ْ‬ ‫وشَ َّب ِشفاهَ ها وَهَ جُ الظهيرة‪.‬‬

‫***‬ ‫حبيبَتي!‬ ‫أنا لَنْ أقولَ بأن َِّك األُنثى الوحيد ُة‬ ‫إِ نْ َض ِحكْ ِت‪..‬‬ ‫األرض أجيا ًال وأكثرْ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يَطوُ لُ عُ مْ رُ‬ ‫‪82‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫أو إِ نْ َبك َْت‬ ‫الصنوبَر‪.‬‬ ‫غابات َ‬ ‫ُ‬ ‫تَغفو على كتِ فيْها‬ ‫أنا لنْ أقولَ ‪:‬‬ ‫َستجدي مُ رور َِك فوقَ تُربَتِ ها‬ ‫بأنَّ َتفَتُّ حَ األزهارِ ي ْ‬ ‫َف َت ْربُو ِمنْ نَدا كَفَّ ي ِْك ياقوت ًا وعَ نبر‪.‬‬

‫***‬ ‫حبيبتي‬ ‫ألقاك يوماً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تَدرينَ أنِّي لَمْ ولَنْ‬ ‫غي َر أن َِّك كالنَّهارِ البِ كرِ قدْ تَغْ شَ ا ُه أمواجُ الغيوم‪.‬‬ ‫للموت‬ ‫ِ‬ ‫لكن َِّك لنْ تَنحني‬ ‫أزمنةُ الظالم‪،‬‬ ‫السرِ ِ‬ ‫إِ نْ جَ اءت بِ هِ في ِّ‬ ‫فامنحي وقتَ الظهيرةِ‬ ‫روج إلى الحقيقة‪،‬‬ ‫بعض أجنح َة العُ ِ‬ ‫َ‬ ‫بعض وقت َِك‬ ‫َ‬ ‫وامنحيني‬ ‫القلب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كي أ َِحلَّ بخفقةِ‬ ‫ورَعشةِ صوتِ ِك المنثورِ في وَهَ ِج النجومِ ‪،‬‬ ‫أطراف المجرَّ ة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وفوقَ‬ ‫عينيك موتي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وإذا ما حانَ في‬ ‫دافع مَ وتَي إذا ما جا َء‬ ‫ولست بِ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لكنِّي‪...‬‬ ‫لحظيك‬ ‫ِ‬ ‫شمو َخ ا ْلهَامِ في‬ ‫لم أ َْح ِن‬ ‫ولَنْ أَحني‪..‬‬ ‫فال ت َْحنِ ي‪.‬‬ ‫ * شاعر وطبيب من سورية مقيم بالجوف‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪83‬‬


‫عط ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫األكف‬ ‫ش‬

‫■ خالد أبو حمدية*‬

‫عَ ـي ّـرْتِ هِ بالـح ِّـب‬ ‫فـيـ َم يُ ـعَـيّـرُ ْك؟!‬ ‫ـتلت أسط َر ُه‬ ‫واغ ِ‬ ‫يؤس ِطرُ ْك‬ ‫وكانَ ْ‬ ‫مـاذا تـقــولُ الــريـح فـي أغـصانِ هِ ؟!‬ ‫تَعرى على مَ ـ ّر الفصول‬ ‫وتستـُرُ ْك‬ ‫ْ‬ ‫شواطئ‬ ‫ٌ‬ ‫تغفو على عَ طَ ِش األكـ َّف‬ ‫مـحـتـلـ ّةٌ‬ ‫َلويحها ي ْـسـتـمْ ِـطرُ ْك‬ ‫تـ ُ‬ ‫يا مــاءُ‬ ‫قـُـلْ لـلبحرِ ذاب شراعُ ـنا‬ ‫الموج‬ ‫ِ‬ ‫فاخفض جناح‬ ‫جئنا نعـبُـرُ ك‬ ‫ال يـسـتـوي من يـفـتـديـك مغادِ ر ًا‬ ‫يمتطيك‬ ‫َ‬ ‫يا بحــرُ فيمَ نْ‬ ‫ويَغدُ رُك ْ‬ ‫ك ـنّـا صـغـار ًا‬ ‫والـحـيـاة ك ـب ـيـر ًة‬ ‫فبأي وجـهـيـهـا تـواتـي َت ْـسـحَ ـرُ ْك‬ ‫ّ‬ ‫واآلنَ‬ ‫ما تحكي‬ ‫شاخص‬ ‫ٌ‬ ‫ُك‬ ‫وشيب ُ‬ ‫ّك أبـهَـرُ ْك‬ ‫ويـضـيـقُ بـامـرأةٍ تـحـب َ‬ ‫و َت ِـح ُّـن!!‬ ‫هل ما زلتَ تذكر وجهها‬ ‫أم تـُنـكـِرُ األشـواقَ فـيـهِ‬ ‫وتـنـكِ ـرُ ْك‬ ‫وجعُ الكـبـيـر م ـع ـل ـ ّق‬ ‫فـي حـل ِْـمـهِ‬ ‫صعب تـخَ ـيّلُ أنّ جرحـ َ​َك‬ ‫ٌ‬ ‫يكـْبُرُ ك ْ‬ ‫جـ َ َر َح النبيذُ شفا َه صوتِ َك‬ ‫واشتـفى‬ ‫مذ صار ما يسليك عنها‬ ‫‪84‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫يـ ُْسكِ رُ ْك‬ ‫كرومهـا‬ ‫ِ‬ ‫اك جدْ بَ‬ ‫واستنبتت كفّ َ‬ ‫أخ َضرُ ْك‬ ‫لناشف مقلتيها ْ‬ ‫ِ‬ ‫وسعى‬ ‫ناشئةِ الـغرام بـلـيلـِهِ‬ ‫كنت ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫تستعبدينَ شجونـ َهُ‬ ‫ويـُـحَ ـ ِّرر ُْك‬ ‫وتـبعـثـرين كيانَهُ‬ ‫فـتـذكـري!‬ ‫عظامهِ مرمَ رُ ْك‬ ‫ِ‬ ‫قـ َدْ قدّ من أنقى‬ ‫لـك ـنّـك النَذ ُر المُ عانِ دُ َص ـ ْب ـ َر ُه‬ ‫لــو الح نجمٌ شاردٌ‬ ‫يت َذك ـ ّرُ ْك‬ ‫أنـثـى عـلـى أ َلـ ٍـق تـثـو ُر‬ ‫وف ـتـنـةٍ‬ ‫فـلـمنْ ِغـواهـا آيِ ــلٌ‬ ‫َـطـرُ ْك؟!‬ ‫و َتـع ّ‬ ‫وكمـهـرةٍ‬ ‫حـ َ َرنـ َْت بـمـضـمـار الرؤى‬ ‫تـحـنـو عـلـيـهـا في الخيال‬ ‫وتـك ِـسرُ ْك‬ ‫مالمحَ ها‬ ‫شَ ـرِ ب ْـت ِ‬ ‫مَ ـسـامُ ـك كـ ـلـُّهــا‬ ‫والحزنُ في عَ ْص ِف الغياب‬ ‫يـُبَعثِ رُ ْك‬ ‫ما الحزنُ‬ ‫في َلـ ْيلـيْـك غـيـرُ وديـعَـةٍ‬ ‫مـن شارد الهدب المبلّل‬ ‫تـُبـ ِْصــرُ ْك‬ ‫ـاط ـ َر الـمـنـفـيّ فــي خَ ـ ـلـ َوات ـِهِ‬ ‫يـا خ ِ‬ ‫الغيوب‬ ‫ِ‬ ‫ال كـ ّـف تـنفذُ في‬ ‫وتج ْـبـُـرُ ْك‬ ‫حـتى‬ ‫وال يـشـفي انتظارَك هـُدْ هـُدٌ‬ ‫ـديم‬ ‫يأتـيك بالـطـّيـف الق ِ‬ ‫ويـخــبِ ـرُ ْك‬ ‫ * شاعر من األردن‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪85‬‬


‫لست أدري‬ ‫ُ‬ ‫لست أدري‬ ‫ُ‬ ‫شوق وحنينْ‬ ‫ٍ‬ ‫بينَ‬ ‫كيف أُكتُ ْب‬ ‫فوق سطرِ العُ مْ رِ قُ ولي‬ ‫كتاب العاشقينْ‬ ‫في ِ‬ ‫أي ُجزءٍ ترتضينْ !؟‬ ‫ّ‬ ‫لست أدري‬ ‫ُ‬ ‫رأس َذيْلْ‬ ‫كيْدُ أنثى‪ُ ،‬‬ ‫دبَّروا أمري بِ لَيلْ‬ ‫واستمالوا كُ لّ مَ يْلْ‬ ‫ِمن صباحي علّني أو ربَّما‬ ‫لس ُت أدري‬ ‫ْ‬ ‫جَ هَّ زوا لي رحلةً‬ ‫َل تَراني وِ جهَةً‬ ‫في متاعي‬ ‫يرضي غُ رور السؤالْ‬ ‫كُ لّ ما ِ‬ ‫غير شيءٍ‬ ‫واحد‬ ‫ٍ‬ ‫عن ر ُ​ُجوعي‬ ‫لست أدري‬ ‫ُ‬ ‫أي ف ٍَّك ذ ْنبُهُ‬ ‫ّ‬ ‫إِ فْ ُك ذِ ئ ٍْب ِمن دمي‬ ‫كُ لُّ دلْوٍ قل ُْب بِ ئْرٍ‬ ‫فيهِ حبْلٌ كان وِ صلي‬ ‫كالسراب‬ ‫ْ‬ ‫ظَ لَّ يطفو‬ ‫صوب ميالدي يُ نادي‬ ‫جيب‬ ‫من يُ ْ‬ ‫لست أدري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫* شاعر من السعودية‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫■ محمد عسيري*‬


‫■ حسني جومان السويدي*‬

‫قُ م لِ لحَ يَاةِ‬ ‫ُقي‬ ‫وَفُ َك الطَ وقَ عَ ن عُ ن ِ‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫رؤى‬

‫َالت َفتَاةٌ )‬ ‫(ق ّ‬ ‫كَسَ اهَ ا اللِ يلُ بِ األر َِق‬ ‫قُ م ب َِددِ الرَهلَ ثم اشرق‬ ‫بناصيتي‪!..‬‬ ‫َاك تَذ ُر الفَر َح في‬ ‫كَيمَ ا أر َ‬ ‫دق‬ ‫الحَ ِ‬ ‫مس‪ ،‬ال تَرفِ ق‬ ‫قُ م عَ انِ ِق الشَ َ‬ ‫بِ قُ بلَتِ هَا‬ ‫َاق ِعنَاقُ الوَجد ِ‬ ‫ِخيرُ العِ ن ِ‬ ‫بالشَ ب َِق‬ ‫أذِ ب مُ رُ وج ًا ِمنَ اآلمَ ِال في‬ ‫َتي‬ ‫ُلغ ِ‬ ‫َاعصرِ الغِ ي َم ثُ م أغرِ ق بِ ه‬ ‫أو ف ِ‬ ‫ُحرَقي‬ ‫قُ م وَاسرِ ِج اللِ يلَ ال تَأبه لِ وَحشَ تِ هِ‬ ‫اص َم اليومَ‪..‬‬ ‫ال عَ ِ‬ ‫لن تَنجو ِمنَ ال َغر َِق‬ ‫* شاعر من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪87‬‬


‫وني‬ ‫قطاع النَّ ْش ِر ِ‬ ‫ُ‬ ‫اإلل ُ‬ ‫كتر ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والصوتي‪ ..‬استيل لونارتوتش‬ ‫الرقمي‬ ‫الهادئة للكتابين‬ ‫الثورة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫■ ترجمة‪ :‬خديجة حلفاوي*‬

‫رغم إطالقه ألول مرة من قبل «أمازون» (‪ )Amazon‬منذ أكثر من عشر سنوات‪،‬‬ ‫[وجلِّ دول العالم]‪ ،‬كان بمثابة‬ ‫إال أن وصول نظام «كيندل» (‪ )Kindle‬إلى فرنسا ُ‬ ‫نقطة التحول الرئيسة نحو عصر الكتب الرقمية‪ .‬لكن‪ ،‬ماذا عن اليوم؟ بمناسبة‬ ‫صــدور الشريط الدرامي «حيوات مزدوجة» (‪ )Doubles vies‬ل«أوليفيه أسايس»‬ ‫خاصا حول‬ ‫(‪- )Olivier Assayas‬الذي يسلط الضوء على الموضوع‪ -‬نقدم تقريرً ا ً‬ ‫واقع «الكتاب الرقمي» (‪.)e-book‬‬ ‫عقب نشر أول كــتــاب رقــمــي‪ ،‬ساد‬

‫اض ــط ــراب وذعـ ــر كــبــيــريــن فــي قطاع‬

‫النشر والصحافة‪ .‬ومــن خــال تقديم‬

‫مقارنات وسيناريوهات متعددة لما آلت‬

‫إليه صناعة التسجيالت الصوتية‪ ،‬تنبأ‬ ‫العديد من المهتمين بـ«الموت الوشيك‬

‫للكتاب الورقي» لتحل محله ثورة الكتاب‬ ‫الرقمي بفعل تطوره الهائل الذي تعززه‬

‫‪88‬‬

‫لــم يكن فــي مــحــلــه‪ ...‬ال يــزال الكتاب‬ ‫الورقي يقاوم‪ ،‬وال تزال الكتب تحافظ‬ ‫على حضورها الدائم بالمكتبات‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫هل األمر داللة على كون الكتاب الورقي‬ ‫لم يفقد تأثيره؟ كيف تطور موقع الكتب‬ ‫الرقمية واستعماله خــال العشرية‬ ‫األخيرة؟ وفي أي من المجاالت تطور‬ ‫بشكل أفضل؟‬

‫األرقام‪ .‬واضح أن التنبؤ بالمد العظيم‬ ‫بــعــد خــمــس عــشــر ســنــة مــن دخــول‬ ‫لـ«الكتاب الرقمي»‪ ،‬بعد عشر سنوات‪ ،‬اإللكتروني في القراءة اليومية بفرنسا‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫تتصدر الرومانسي ُة األدبَ البوليسي وأدب‬ ‫التخييل والخيال العلمي والفانتازيا قائمة‬ ‫األجــنــاس األدبــيــة األكثر قــراءة في الشكل‬ ‫الرقمي‪ .‬يعد «بنيوا تاريل» (‪،)Benoît Tariel‬‬ ‫مــســؤول المبيعات المباشر بـ ـــ(‪ ،)TEA‬أن‬ ‫«الرومانسية تلقى نجاحا كبيرا في العالم‬ ‫الرقمي‪ ،‬لكونها تتوافق مــع مبدأ الــقــراءة‬

‫رغم تماسك هذه القطاعات وبحثها الدائم‬ ‫عن التكيّف مع التحوالت المختلفة‪ ،‬ال يزال‬ ‫الكتاب الرقمي ينمو ببطء في فرنسا أكثر‬ ‫من الدول المجاورة لها‪ .‬كيف يمكن تفسير‬ ‫هذا التفرّد؟ «ال يزال الفرنسيون متمسكين‬ ‫للغاية بالكتاب الــورقــي»‪ ،‬يجيب «فينسينت‬ ‫مونادي» (‪( )Vincent Monadé‬المركز الوطني‬ ‫الفرنسي للكتاب)‪ .‬وبالفعل‪ ،‬هناك جانب‬ ‫عاطفي خاص للمكتبة الشخصية والرمزيات‬ ‫االجتماعية التي تحملها‪ .‬في نظرنا‪ ،‬يظل‬ ‫الكتاب عالمة خارجية على الثروة الفكرية!‬ ‫في حين أن المرور نحو اللوحة الرقمية أقل‬ ‫سالسة‪.‬‬

‫تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫وجــ ّل دول الــعــالــم‪ ،‬يتقاسم ثــاثــة فاعلين‬ ‫رئــيــســيــن مــجــاال بــيــن األجـــهـــزة الــلــوحــيــة‬ ‫وتطبيقات القراءة المتنقلة‪« :‬أمازون وكيندل‬ ‫(‪ %45‬من السوق) «‪ »la Fnac‬و«‪%18( »Kobo‬‬ ‫إلى ‪ %20‬من السوق) و«أبل» (‪ %13‬إلى ‪%19‬‬ ‫من الــســوق)‪ .‬ثم في المرتبة الرابعة نجد‬ ‫(‪ %5( )TEA‬من السوق) التي تبنت مشروع‬ ‫«الكتاب اإللكتروني البديل» (‪The Ebook‬‬ ‫‪ )Alternative‬بعد إطالقها سنة ‪2012‬م من‬ ‫قبل مكتبة (‪ )Decitre‬كبديل محتمل للكتاب‬ ‫الورقي‪.‬‬

‫اإللزامية‪ ،‬إضافة إلى كون هذا الجنس األدبي‬ ‫أقل حضورًا في المكتبة الكالسيكية»‪ .‬تمثل‬ ‫نسبة مبيعات «الكتب الرقمية» نحو ‪ %20‬من‬ ‫رقــم معامالت دور نشر (‪)Harlequin‬؛ أي‬ ‫ِضعف ما تسجّ له دار نشر عامة‪.‬‬

‫الناشرون الممانعون‬ ‫يمكن أن نجازف بالقول إن هذا التردد‬ ‫يقترن في األساس بتردد وتحفظ الناشرين‬ ‫أنفسهم إزاء الكتاب الرقمي‪ .‬يرى بنيوا تاريل‬ ‫أن «األم ــر استغرق بعضا مــن الــوقــت قبل‬ ‫أن تؤخذ خصوصيات الكتاب الرقمي في‬ ‫الحسبان من قبل الجهات التقليدية الفاعلة‬ ‫في القطاع»‪ .‬اليوم‪ ،‬ال تزال سياسة التسعير‬ ‫أكبر عقبة أمام تنمية قطاع النشر الرقمي‪.‬‬ ‫«ليس هناك اتــســاق فــي سياسة التسعير‬ ‫الشاملة بين الناشرين‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬ال‬ ‫تغير دور النشر سعر الكتاب الرقمي حينما‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪89‬‬


‫تصدر نسخة «الجيب» من الكتاب الورقي»‪.‬‬ ‫كنتيجة لذلك‪ ،‬يحدث أن يجد القارئ نفسه‬ ‫أمام االختيار بين كتاب ورقي بـ (‪ )20‬يورو‪،‬‬ ‫نسخة جيب بـ(‪ )8‬يورو ونسخة رقمية بـ (‪)14‬‬ ‫يــورو؛ فجوة غير مبررة‪ ،‬بالنسبة لرهانات‬ ‫تطور المكتبة الرقمية‪.‬‬ ‫تعد القرصنة أكبر مشكلة في عالم النشر‬ ‫الرقمي‪ .‬إذا كانت القرصنة منتشرة بشكل‬ ‫كبير في القطاع السمعي البصري أو مواقع‬ ‫التدفق العالي (‪ ،)streaming‬فإن مخاطرها‬ ‫فــي عــالــم الــكــتــاب الــرقــمــي تــقــتــرن بتعدد‬ ‫استراتيجيات تقاسم الكتاب اإللكتروني الذي‬ ‫تم شراؤه من قبل مستخدم واحد وتوزيعها‬ ‫على اآلالف من القراء على شبكة اإلنترنت‪.‬‬ ‫يختار بعض الناشرين إدراج «حقوق الملكية‬ ‫الرقمية» (‪ )DRM‬في كتبهم‪ .‬تسمح هذه‬ ‫الحماية اإللكترونية الصغيرة بإمكانية تشفير‬ ‫الوصول إلى الملف والح ِّد من عدد النسخ‬ ‫التي يمكن أن يقوم بها المشتري‪ .‬على الرغم‬

‫‪90‬‬

‫من أن إعــداد نظام إدارة الحقوق الرقمية‬ ‫مكلف للغاية‪ ،‬يظل سهل االختراق من قبل‬ ‫القراصنة‪« .‬في الواقع‪ ،‬تزعج هذه الحماية‬ ‫المستخدم العادي أكثر بكثير من القرصان»‪،‬‬ ‫يفسر فينسينت مونادي‪ .‬والنتيجة‪ ،‬يفضل‬ ‫بعض الناشرين (‪)...Eyrolles، Bragelonne‬‬ ‫عدم االنفتاح على مثل الخدمات المكلفة‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬يتعرضون لخطر القرصنة‪ ،‬ويعولون‬ ‫على المسؤولية األخالقية والفردية للقراء‪.‬‬ ‫بنسبة لـ ‪ %7‬من سوق الكتب‪ ،‬هل ستستمر‬ ‫نسبة الكتب الرقمية في النمو أم أنها ستصل‬ ‫إلى حد أقصى معين؟ «أعتقد أن اقتصاد‬ ‫الكتاب الرقمي سيمثل في نهاية المطاف ما‬ ‫بين ‪ %10‬إلى ‪ %12‬من دون زعزعة استقرار‬ ‫االقتصاد الورقي»‪ ،‬يؤكد فينسينت مونادي‪.‬‬ ‫ويضيف بينوا تــاريــل أن «نسبة المبيعات‬ ‫ستستمر في النمو ببطء‪ ،‬لكن بشكل مستمر‪.‬‬ ‫ففي فرنسا‪ ،‬نميل إلى المبالغة في تقدير‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫الكتاب الصوتي في ازدهار‪..‬‬ ‫يعد قطاع الكتاب الصوتي أحد المجاالت‬ ‫األســاس التي تطورت عن الكتاب الرقمي‬ ‫خ ــال الــســنــوات الــخــمــس األخــيــرة بشكل‬ ‫متسارع‪ ،‬وأضحت «نجما» غير متوقع في‬ ‫مجال النشر‪ .‬لفترة طويلة كان هذا النوع من‬ ‫الكتب حكرًا على المكفوفين‪ .‬لكن توسعت‬ ‫قاعدته الجماهيرية مــع تعميم المعدات‬ ‫واألجهزة المتنقلة بين المستخدمين‪ .‬تهيمن‬ ‫منصة (‪- )Audiolib‬تنتمي إلــى مجموعة‬ ‫(‪ -)Hachette‬على القطاع‪ ،‬حيث تضاعفت‬ ‫نسب التحميل بين سنوات ‪2013‬م و‪2017‬م‪،‬‬ ‫ما يثير جشع العديد من الناشرين اآلخرين‪.‬‬ ‫دشنت مجموعة (‪( )Editis‬مالكة ل» ‪ « First‬و»‬ ‫‪ »Belfond‬و» ‪ )...»Robert Laffont‬خطواتها‬ ‫األولى الكتساح السوق مع مشروع (‪،)Lizzie‬‬ ‫العالمة التجارية الصوتية للمجموعة‪ .‬وفي‬ ‫الجهة األخـ ــرى‪ ،‬ال ت ــزال أمـ ــازون تواصل‬ ‫هيمنتها على منصة التنزيالت (‪.)Audible‬‬ ‫من المثير لالهتمام أن نعلم أن القادمين‬ ‫الجدد للمجال هم مشغّلو خدمة الهواتف‬ ‫النقالة‪ ،‬إذ انضم ثنائي (‪ )Fnac-Kobo‬إلى‬ ‫شركة (‪ )Orange‬مــن أجــل تقديم عــروض‬ ‫للكتب الصوتية لعمالء العالمة التجارية‪.‬‬

‫تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫الــثــورات التي تحدث على المدى القصير‬ ‫والتقليل من شأن الثورات التي تحدث على‬ ‫المديين المتوسط والطويل»‪.‬‬

‫يعد بينوا تاريل أن «مصدر قوة الكتاب‬ ‫الصوتي تكمن في كونها تجذب فئة جديدة‬ ‫من الناس الذين يقرؤون قليال وال يضطرون‬ ‫أبــداً إلــى طــرق أبــواب متجر لبيع الكتب»‪.‬‬ ‫وإذا كان ‪ %2‬من الفرنسيين يمتلكون لوحات‬ ‫إلكترونية‪« ،‬فــإن ‪ %18‬قد سبق لهم بالفعل‬ ‫«قراءة» كتاب صوتي‪ ،‬منهم ‪ %7‬خالل األشهر‬ ‫االثني عشر األخيرة»‪ ،‬وهو ما كشفت عنه‬ ‫دراســة حديثة لـ (‪ )Ipsos‬أجريت من قبل‬ ‫«النقابة الوطنية للنشر»‪.‬‬ ‫لتحقيق االستفادة المثلى من االحتماالت‬ ‫التي توفرها وثيرة تطور الرقمنة‪ ،‬يعد بينوا‬ ‫تــاريــل أنــه علينا أن «نــتــجــاوز االختالفات‬ ‫البسيطة‪ ،‬ونفكر في استمرارية أقوى للورقي‬ ‫والرقمي معا» تصب فــي مصلحة الكتاب‬ ‫أساسا‪ .‬وبالنظر إلى إمكانية تضمين وعرض‬ ‫الكتب الرقمية بالمكتبات الــورقــيــة‪ ،‬يظل‬ ‫عددها الكبير وغناها قيمة مضافة للسوق‬ ‫الفرنسية للكتاب‪« .‬يمكن أن نتخيل نظاما‬ ‫رقميا للبطاقات يقوم بموجبه بائعو الكتب‬ ‫أيضا‪ .‬على سبيل المثال‪،‬‬ ‫ببيع الكتب الرقمية ً‬ ‫في حالة نفاد مخزون النسخ الورقية»‪ .‬في‬ ‫مواجهة التحوالت التي يعيشها عالم الثقافة‬ ‫والنشر‪ ،‬سيتعين على القطاع االعتماد على‬ ‫المزيد من االبتكار وتكامل االستخدامات‪.‬‬ ‫ماذا لو كانت ثورة الكتاب الرقمي قد بدأت‬ ‫للتو؟‬

‫ * كاتبة ومترجمة من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )١‬نشرت هذه المادة حديثا باللغة الفرنسية‪:‬‬

‫ ‬

‫‪Estelle lenartowicz, livre numérique: la révolution tranquille, magazine Lire, décembre 2018‬‬‫‪.janvier 2019, pp: 33-34‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪91‬‬


‫األديب‬ ‫والروائي‬ ‫الدكتور‬ ‫«طارق‬ ‫الطيب»‪:‬‬ ‫العربيةُ لغتي المبدعة وبيتي الحميم‪ ،‬وما عداها روافد مساعدة‬ ‫نصيب العالم العربي نسخة واحدة لكل ربع مليون شخص!!‬ ‫تطور األجناس األدبية أمر حتمي‪ ،‬والجمع بينها ليس جريمة‪!،‬‬ ‫صراع الرواية والشعر مفتعل‪ ،‬والحكم للنقد والجمهور‬ ‫مؤلف الهواجس الطارئة ليس أديباً‪ ،‬بل كاتب خواطر!!‬ ‫■ حاوره‪ :‬محسن حسن‬

‫‪92‬‬

‫يقف على مسافة سواء من ثقافات وال ــس ــودان ــي ــة‪ ،‬م ــؤم ــل ل ــواق ــع عــربــي‬ ‫ِّ‬ ‫الشرق والغرب‪ ،‬ويــدرك‬ ‫بحس األديب أفضل‪ ،‬نحو التخلّي عن ثقافة االنتقاء‬ ‫ووعــي العاقل أن جوهر اإلنسانية ال واالجتزاء ونبذ اآلخر المختلف‪ ،‬ونحو‬ ‫تقيّده حدود أو تقف أمامه جغرافياً أو تكريس واق ــع ثقافي جــديــد‪ ،‬يستنير‬ ‫تضاريس‪ ،‬لكنه رغم احتفاء الغربيين‬ ‫بالماضي المشرق فيستلهمه بوعي‬ ‫به وبكتاباته الروائية والشعرية وغيرها‬ ‫حاضر‪ ،‬ويتعلم من الغابر المر فيتجنب‬ ‫أكــثــر مــن الــمــصــريــيــن والــســودانــيــيــن‬ ‫تكرار مآسيه وكوارثه‪..‬‬ ‫والعرب‪ ،‬إال أنه معتز بشرقيته‪ ،‬مفتخر‬ ‫أعماله ترجمت لثماني لغات عالمية‪،‬‬ ‫بلغته الــعــربــيــة‪ ،‬وب ــج ــذوره المصرية‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫إنه األديب والروائي والشاعر د‪« .‬طارق‬

‫الرواية تتخلل تلك المسارات ليس لصدمة‬

‫دول أوربية‪..‬‬

‫الطيب»‪ ،‬حاورته الجوبة عن مالمح مشواره‬

‫الثقافي واألدبي واإلنساني‪ ،‬وحول العديد من‬ ‫قضايا األجناس األدبية المختلفة كالرواية‬

‫والقصة والشعر‪ ،‬إضافة ألطروحات عديدة‬ ‫أخرى حول مالمح المشهد الثقافي العربي‪،‬‬

‫فكان هذا اللقاء‪.‬‬

‫الرواية األحدث وتكريم األدباء‬ ‫ ¦روايتك األحدث (وأطــوف عارياً) تناولت‬ ‫قضايا الهجرة بمفهوم مختلف‪ ،‬وتحمل‬ ‫إشـ ـع ــارات خـفـيــة بـحـتـمـيــة زوال الـقـيــود‬ ‫الـفــاصـلــة بـيــن ال ـح ـض ــارات اإلن ـســان ـيــة‪..‬‬ ‫تتفق أم تختلف؟‬

‫الالوصول‪ .‬هناك مفاجآت كثيرة داخل‬

‫القارئ وإنما لمحاولة إفاقته إن أمكن‪.‬‬ ‫وفــي الــواقــع ال تحمل روايــتــي إشعارات‬

‫خفية بحتمية زوال القيود الفاصلة بين‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫بعضها لدى مدارس وجامعات أربع‬ ‫ويدّرس ُ‬

‫لحظة الوصول إلى األرض األوروبية أو‬

‫الحضارات بل ببيان تعقدها؛ ففي ظني‬

‫الــحــضــارة واحــــدة‪ ..‬لكن عمارتها لها‬

‫فواصل جدرانها أسمك من التخيل!‬

‫ ¦ف ــي م ـع ــرض ال ـق ــاه ــرة ال ــدول ــي الـمــاضــي‬ ‫للكتاب كــان لــديــك تحفظ على أسلوب‬ ‫تكريم المثقفين واألدبـ ــاء‪ ..‬أوالً‪ :‬لماذا‬ ‫ه ـ ــذا ال ـت ـح ـف ــظ؟ وث ــانـ ـيـ ـاً‪ :‬ك ـي ــف وج ــدت‬ ‫اس ـت ـق ـب ــال ال ـ ـقـ ــارئ ال ـم ـص ــري ل ــرواي ـت ــك‬ ‫األحدث؟‬

‫روايــتــي األخــيــرة (وأط ــوف عــار ًيــا) التي‬ ‫صدرت العام ‪2018‬م تتناول عدة قضايا‪،‬‬ ‫مسارها األســاس يبدأ من إجبار فنان‬

‫عربي موهوب ليتحوّل إلى هامش الفن‪،‬‬ ‫وتحديدا إلى «موديل» للطالبات والطالب‬

‫في أكاديمية الفنون في فيينا‪ .‬وفي وقوفه‬ ‫العاري‪ ،‬يُعرّي مثالب المجتمع الذي عاش‬

‫فيه والمجتمع األوروبــي الذي أتى إليه‪،‬‬ ‫عبر حكاية حب وزواج انقطعت في بلده‪،‬‬

‫تتحول لحكاية أخ ــرى ملهمة‪ .‬ومسار‬ ‫الهجرة هنا يأتي عبر شقيق البطل‪ ،‬ليس‬ ‫من أجل حكاية أسباب الهجرة والطريق‬ ‫الــمــحــزن نحو الــشــمــال‪ ،‬وإنــمــا يالمس‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪93‬‬


‫عرضتُ‬ ‫ْ‬ ‫‪ρ ρ‬لم يكن تحفظً ا على األسلوب بل‬ ‫إضافة لفكرة تكريم المثقفين واألدبــاء‪،‬‬ ‫بأن يتم تكريم ُكتّاب أحياء بجوار ال ُكتّاب‬ ‫الراحلين‪ .‬فالمالحظة عندي أن أغلب‬ ‫الــكــتــاب الــمــجــيــديــن ال يحصلون على‬ ‫ ¦حينما تستحوذ عليك ُحــمّ ــى المقارنة‬ ‫تقدير ولو معنوي في حياتهم‪ ،‬وبمجرد‬ ‫ب ـي ــن ال ـث ـق ــاف ــة ال ـع ــرب ـي ــة ب ـك ــل أب ـع ــاده ــا‬ ‫رحيلهم تنبري األقالم لبيان عبقرية كل‬ ‫ال ـم ــاض ـي ــة والـ ـح ــاض ــرة‪ ،‬وب ـي ــن ال ـث ـقــافــة‬ ‫راحـــل‪ ،‬وال تــجــرؤ صحيفة على رفض‬ ‫األلمانية بكل مكوناتها‪ ،‬مــاذا يصدمك‬ ‫هذا الرثاء الحماسيّ ‪ .‬أما كيف استقبل‬ ‫من مالمح تلك المقارنة؟‬ ‫القارئ المصري رواية (وأطوف عاريًا)‪،‬‬ ‫فليس عندي علم‪ ،‬لم أقرأ نقدًا واحدًا ‪ρ ρ‬سأوضح أوال أن اللغة في النمسا هي‬ ‫اللغة األلمانية‪ ،‬وليست هناك لغة غيرها‪،‬‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬وليس لدي أي شلة أو دائرة‬ ‫وهــي بالتالي رافــد أســاس في الثقافة‬ ‫أمــارس معها التبادل الترويجي للكتابة‬ ‫المعتمِ دة على اللغة األلمانية‪ ،‬وللدخول‬ ‫عن أعمالي‪ .‬لكني أثق أن هناك أقالماً‬ ‫إلى متن اإلجابة أقول‪ :‬يصدمني الكثير‪:‬‬ ‫صادقة ستكتب بعد حين‪.‬‬ ‫الماضي العربي ليس جميال كله كما‬ ‫اللغة وحوار الثقافات‬ ‫ندّعي‪ ،‬وال كما نتخير منه في الحاضر‬ ‫ ¦ما الجديد على مستوى كل من‪ :‬الشعر‪،‬‬ ‫بما يروق لنا ونلوي به عنق ما ال يستجيب‬ ‫والرواية‪ ،‬بالنسبة للدكتور طارق الطيب‬ ‫لراحة بالنا‪ .‬نتواءم مع ماضينا لألسف‬ ‫م ـمــا سـيـطــالـعــه الـ ـق ــراء ف ــي المستقبل‬ ‫بطريقة االنتقاء‪ .‬الماضي األوروبي ليس‬ ‫القريب؟‬ ‫سيئا كله‪ ،‬لكنهم يتخيرون منه السيئ‬ ‫التي أراها‪ .‬رغم أنني أتفهم محبة القارئ‬ ‫ورغبته في االطــاع على جــديــدي؛ إال‬ ‫أفضل أن أفاجئ القارئ بالكتاب‬ ‫ّ‬ ‫إنني‬ ‫وهو على أعتاب النشر‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫‪ρ ρ‬عند أي مبدع ال يتوقف الذهن أبدًا عن‬ ‫الكتابة الصامتة‪ ،‬وهذا حادثٌ معي على‬ ‫الدوام‪ ،‬لكن العبرة في النهاية بالمنشور‬ ‫فعال‪ ،‬وقد تعودت مؤخرًا أ ّال أبوح بما لم‬ ‫أنته منه تماما‪ .‬أبــوح فقط بما انتهيت‬ ‫ورضيت عنه‪ .‬قديما كنت أبوح بما أكتب‬ ‫أو ما سأكتب‪ ،‬وكنت أتعرض للمساءلة‬ ‫باستمرار عن صدور العمل المزمع‪ ،‬وكان‬ ‫هذا يقلقني ويربك ترتيباتي وأولوياتي‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫عمدًا للرغبة في عدم تكراره‪ ،‬يتخيرون‬ ‫طريقة التذكر الدائم وعدم الــردم على‬ ‫التاريخ القبيح‪ .‬وهذا مفيد للتغيير الذي‬ ‫يؤدي حقًا إلى تغيير حقيقي‪ .‬التستر على‬ ‫أجــزاء ظالمة من التاريخ جريمة تسعى‬ ‫للبدء في تنفيذ جرائم أحدث! ثقافياً‪ ،‬في‬ ‫عالمنا العربي‪ ،‬نحن إجماالً في انحدار‬ ‫نسبي‪ ،‬ا ُنظر إلى األسئلة األيديولوجية‪-‬‬ ‫والدينية منها بــاألســاس‪ -‬التي تشغل‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫الناس في العقود األربعة األخيرة‪ ،‬ا ُنظر‬ ‫إلى األسئلة المعرفية المؤسسة فكريًا‬ ‫على فلسفة الوعي‪ ،‬أو حتى المرفوع منها‬ ‫على أساس تطبيقي فيما يخص التعليم؛‬ ‫ستكتشف الــبــون الــشــاســع بيننا وبين‬ ‫ماضينا القريب وستكتشف الهوّة الهائلة‬ ‫بيننا وبين الغرب‪.‬‬ ‫أمــارة الماضي العتيد وحدها لن تخلق‬ ‫حاضرًا يمكنه المنافسة في سوق الثقافة‪.‬‬ ‫ُحضرْها‬ ‫حضارتنا التي من المفترض أن ن ِ‬ ‫ُحضرها دائما لحاضرنا ونبني عليها‪،‬‬ ‫ون ِ ّ‬ ‫نفعل بها العكس تماما؛ نهدمها ونحطمها‬ ‫بالمعنى ال ــم ــادي للتحطيم‪ ،‬بــمــعــاول‬ ‫وفــؤوس‪ ،‬متخذين أغبى وأجهل فترات‬ ‫التاريخ كمثال نموذجي للمحو‪ .‬المزعج‬ ‫والــذي يحدث بتساهل وقبول هو هذا‬ ‫الديني المتطرف والمنسكب تدريجيا‬ ‫من آنية الشر والذي مهما بالغ‪ ،‬يتوافق‬ ‫معه مهمّشو المجتمع رغبة في تغيير قد‬ ‫يلبي أمنيات مَنسيّة لهم‪ ،‬فإن لم ينجح‬ ‫فليحطم ترف الجميع وأمانهم!‬ ‫ ¦ك ـنــت حــري ـص ـ ًا ع ـلــى إن ـج ــاز ك ــل أعـمــالــك‬ ‫ت ـقــري ـب ـ ًا بــالـلـغــة ال ـعــرب ـيــة رغ ــم إج ــادت ــك‬ ‫التامة لعدة لغات أخ ــرى‪ ...‬مــا الرسالة‬ ‫التي أردْتَ إيصالها؟‬ ‫‪ρ ρ‬أنــا أكتب باللغة التي أشعر أنها نبرة‬ ‫صوتي الحقيقية‪ ،‬وهــي اللغة العربية‪،‬‬ ‫الــلــغــات األخ ــرى راف ــد مساعد ثقافيًا‬ ‫وذهنيًا‪ ،‬ومرافئ معرفية صالحة لالتكاء‬

‫عليها لمصلحة اللغة األم‪ .‬أشــعــر مع‬

‫العربية بأنني فــي بيتي الــذي أتحرك‬ ‫فيه بحريتي‪ ،‬وأتعامل مع حروفي فيه‬

‫مثل تعاملي مع أشيائي الحميمة‪ .‬مع لغة‬ ‫أخرى يجب أن أكون حذِ رًا ومتمكنًا في‬

‫آن‪ .‬ليست بطولة أن أكتب إبداعا في لغة‬ ‫يكتشف اللسان األم من خاللها أنني غير‬

‫جدير بها‪ ،‬أو أنني أسير على سطحها‪.‬‬ ‫اللغة هي روح الكتابة وأمها والتساهل مع‬

‫النسب الصادق لألم يؤدي بالمبدع إلى‬

‫اليُتم اإلبداعي‪ .‬هناك من يجيد الكتابة‬

‫بلغتين أو أكثر بالمهارة نفسها لكنهم قلة‪.‬‬ ‫أنا لست منهم‪ .‬أما كتاباتي األكاديمية‬

‫فال بأس أن أكتبها بلغة أخرى‪ ،‬فضبطها‬ ‫سيعتمد على صرامة اللغة ودقتها أكثر‬

‫من حساسيتها اإلبداعية‪.‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪95‬‬


‫اإلبداع بين هويتين‬ ‫ ¦في خضم ما ترجم لك من أعمال شعرية‬ ‫وروائية إلى لغات مختلفة‪ ..‬كيف وجدت‬ ‫الـتـلــقّ ــي ل ـهــذه األعـ ـم ــال؟ وه ــل أنصفك‬ ‫القراء العرب ومنهم السودانيون؟‬ ‫‪ρ ρ‬تُرجمت أعمالي إلى ثماني لغات ككتب‬ ‫منشورة‪ :‬في فرنسا والنمسا وألمانيا‬ ‫وإيطاليا وإنجلترا وكوستاريكا وفنزويال‬ ‫وصربيا ومقدونيا ورومانيا وهولندا‪ ،‬وإلى‬ ‫أكثر من ذلك كنصوص في أنطولوجيات‬ ‫ودوريـــات أدبــيــة فــي السويد والبرتغال‬ ‫وبلجيكا والــصــيــن والــهــنــد وأوكــرانــيــا‬ ‫وكرواتيا وغيرها‪ .‬هذه الترجمات صحبها‬ ‫دعــوات رسمية للحضور وتقديم العمل‬ ‫المترجم في البلد صاحب لغة الترجمة‪،‬‬

‫بل أدرج ــوا بعض أعمالي في المناهج‬ ‫التعليمية لطالب المراحل الثانوية أو‬ ‫الجامعية فــي مــدارســهــم وجامعاتهم‪،‬‬

‫كما حدث في النمسا وألمانيا وفرنسا‬

‫وإيطاليا تحديدًا‪ ،‬وحين ذهبت والتقيت‬

‫بــالــطــاب وبالمهتمين وج ــدت احتفا ًء‬ ‫وقبوالً وحوارًا مفيدًا للطرفين‪ .‬وفي تلك‬

‫البالد البعيدة وجدت مكانًا لكتابي في‬ ‫رفوف مكتباتهم فصرت قريبًا منهم‪ .‬في‬

‫المقابل كمثال‪ ،‬حين دُعيت يومًا لجامعتي‬ ‫(عين شمس) التي تخرجت فيها‪ ،‬ألقدّم‬

‫محاضرة ولقا ًء مع طلبة كلية اآلداب‪ُ ،‬منِع‬

‫الطالب من الحضور‪ ،‬واقتصر اللقاء‬

‫على غرفة مغلقة تجمع فقط أعضاء‬ ‫هيئة الــتــدريــس! لــذا‪ ،‬أقــول مــن أســف‪،‬‬

‫إن التقييم العربي يعتمد على الصوت‬ ‫العالي ال الصيت العالي‪ ،‬والقارئ العربي‬

‫ال تصله أعمالي بسهولة‪ .‬فألف نسخة‬

‫ألكثر من ثالثمائة مليون عربي (وهي‬ ‫ال تــوزع كلها إال بعد سنوات)‪ ،‬يعني أن‬

‫نصيب القارئ العربي نسخة واحدة ألكثر‬

‫من ربع مليون شخص‪.‬‬

‫أمــا عن الــســودان فهو لم ينشر لي أي‬

‫كتاب حتى يومنا هذا‪ ،‬بينما نشرت لي‬

‫كوستاريكا في أميركا الوسطى كتابا قبل‬ ‫أعوام قليلة على سبيل المقارنة المحزنة‪،‬‬ ‫وكــتــابــي مــتــاح لــديــهــم ف ــي الــجــامــعــات‬

‫والمدارس والمؤسسات المعنية باألدب‬

‫‪96‬‬

‫هناك!‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫ ¦هــل نستطيع الـقــول إن كـتــاب «محطات‬ ‫م ــن ال ـس ـي ــرة ال ــذاتـ ـي ــة» ه ــو ن ـت ــاج خــاص‬ ‫لمعاناة «مغترب» وذكريات «منتسب»؟‬ ‫‪«ρ ρ‬محطات من السيرة الذاتية» هو كتابي‬ ‫األول الذي يسجل ربع قرن من مولدي‬

‫ونشأتي وحياتي في مصر‪ .‬عجلت به‬

‫للنشر قبل أن أنسى الحكايات الجديرة‬ ‫بالحكي أو قبل غيابها طــي النسيان‪.‬‬ ‫هــنــاك نتف قليلة فيه عــن الحياة في‬

‫فيينا‪ ،‬لكنها ستأتي في كتابة أخرى بشكل‬ ‫أوضــح وأوقــع في وقت آخر مناسب‪ .‬ال‬

‫أحبذ على كلمة «معاناة» في ربطها بكلمة‬ ‫«مغترب»‪ ،‬فالمعاناة ضرورية والزمة في‬

‫الحياة وفــي الفن واإلبـ ــداع بالضرورة‬ ‫وليست حكرا على المغترب‪ ،‬أما كلمة‬ ‫مغترب فهي تطلق على من اغتربوا في‬ ‫الغرب أساسً ا‪ ،‬ثم أصبحت تطلق على‬

‫كل من غــادر البالد حتى لو «تَــشَ ـرَّق»‪.‬‬

‫وألن مصير بعض هــؤالء المغتربين هو‬ ‫العودة إلى ديارهم‪ ،‬فالكلمة كانت وما‬

‫تــزال تصف حالة استثنائية أو مؤقتة‪.‬‬ ‫فــي حالتي أنــا‪ ،‬انتقلت للغرب وعشت‬

‫فيه‪ ،‬ودرست وتزوجت فيه‪ ،‬وأعمل وأكتب‬ ‫وأزور بــادي وقتما شئت‪ ،‬لكن أرضي‬

‫الجديدة هنا ثبَتُّ عليها وارتحتُ إليها‬ ‫وارتاحت إليّ ‪ .‬لذا‪ ،‬لم أعد أرى أن بقائي‬

‫مؤقت‪ ،‬ولم أعد أشعر باالغتراب بعد أن‬

‫تعلمت لغتهم وخبرت عاداتهم وتقاليدهم‬ ‫وأضفت لنفسي منها ما ناسبني‪ .‬ليس‬

‫الروائي د‪ .‬طارق الطيب‬

‫ثمة اغــتــراب فــي حالتي‪ ،‬وإنــمــا شعور‬ ‫بالحنين اإليجابي من وقت آلخر‪ ..‬وهذا‬ ‫ملهم ومفيد‪ .‬وليس لي اعتراض على كلمة‬ ‫«ذكريات»‪ ،‬ولكن ال أحبذ كلمة «منتسب»‪،‬‬ ‫حتى لــو صاغها السجع فــي الــســؤال‪،‬‬ ‫فالذكريات مكون أســاس فــي السيرة‪،‬‬ ‫بدونها تفقد الكتابة رونقها وجدواها‬ ‫وشرعيتها‪ .‬أما االنتساب وأظنه للمكان‬ ‫الجديد‪ ،‬فهو شيء إيجابي لو توافرت فيه‬ ‫راحة البال والمواطنة الحقة واالحتفاظ‬ ‫بــرافــد الهوية األصــلــي الــذي ال يغيب‪.‬‬ ‫هناك قلة تستطيع أن تجد انسجاما‬ ‫وتكامال بين الشرق والغرب في روافد‬ ‫حضارية ليست ملكا ألحد‪ ،‬أظن نفسي‬ ‫واحدا من هؤالء‪ ،‬وال تؤرقني الحياة في‬ ‫فيينا وال التفكير في فصلها أو ربطها‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪97‬‬


‫بحياتي في مصر أو بالرافد السوداني‪.‬‬

‫ال ـت ـع ـب ـيــر‪ ..‬م ـ ــاذا ق ـص ــدت م ــن وراء هــذه‬ ‫الكيفية في التجسيد السردي والروائي؟‬

‫العوالم في مكان «بــدون» أرض وتاريخ‪،‬‬

‫‪ρ ρ‬ســــأكــــون صــــادقــــا وأصــــــــرح بــجــهــلــي‬ ‫بـــــــ«الفلسفة الجنسية ثالثية األبعاد»‬ ‫فــي رواي ــة (الرحلة ‪ 797‬المتجهة إلى‬ ‫فيينا)! فــالــروايــة أبــســط مــن ذلــك في‬ ‫التناول‪ ،‬وإن كانت الحالة المعروضة فيها‬ ‫معقّدة ومختلفة‪ ،‬فجرأة تناول حياة امرأة‬ ‫متزوجة‪ ،‬تحكي بوضوح ووجــع وببقايا‬ ‫فرح عن حياة تُسرق منها من قبل زوجها‬ ‫(فاروق) وحياة تُقدم إليها من قِ بَل آدم‪،‬‬ ‫هي الموضوع األســاس للرواية‪ ،‬وليس‬ ‫الفلسفة الجنسية‪ .‬الجنس جزء طبيعي‬ ‫في الحياة‪ ،‬يفقد طبيعته ومعناه ضمن‬ ‫الشروط الزواجية المتعسفة أو المنهارة‬ ‫ويتحوّل لكابوس يزهق الحياة‪ .‬والرواية‬ ‫سلّطت الضوء على «العالقة الحميمة»‬ ‫بــاقــتــراب صــريــح وغــيــر مــبــتــذل‪ ،‬لكنه‬ ‫حقيقي وال يتوارى خلف الكلمات ليترك‬ ‫للقارئ التخمين واإلكمال‪ ،‬بل يسرد له‬ ‫رهافة العالقة وسموها وصدقها‪.‬‬

‫الحيرة هي حالة مَن يعيش «بين» هذه‬ ‫وهذا ال ينطبق عليّ ؛ فأنا أكرر دائما أنني‬ ‫أعيش «في» وليس «بين» مكانين!‬

‫الرحلة ‪ 797‬والقفز األدبي‬ ‫ ¦«الــوصـفـيــة» مـكــون أصـيــل مــن مكوناتك‬ ‫األسلوبية والـســرديــة‪ ،‬لكنها طاغية في‬ ‫«الرحلة ‪ 797‬المتجهة إلى فيينا»‪ ..‬أليس‬ ‫كذلك؟‬ ‫‪ρ ρ‬الوصف حلية السرد‪ ،‬الحوار أيضا مكون‬ ‫أســاس ضــروري‪ .‬روايتي (الرحلة ‪797‬‬

‫المتجهة إلــى فيينا)‪ ،‬هــي حكاية ليلى‬ ‫وآدم‪ ،‬قصة حب مستحيلة‪ ،‬لكنها صارت‬

‫ممكنة‪ .‬سؤال «الوصفية» يأتي اآلن في‬ ‫ســؤالــك مــن خ ــارج الــروايــة‪ ،‬أي حولها‬

‫وليس فيها‪ .‬الوصف عندي وصف نفسي‬ ‫في األساس لشخصيات ارتبطت مصائر‬

‫بعضها ببعضها اآلخــر‪ .‬والــروايــة فيها‬

‫بوح وصدمة وتناقضات بشر وخروج عن‬

‫المألوف‪ ،‬وفيها حياة طويلة عنيدة لبطلة ¦مــن الــواضــح‪ ،‬أن قفزاتك بين األجناس‬ ‫الحكاية «ليلى»‪ ،‬ال يمكنها أن تعبّر عنها‬ ‫األدب ـيــة ال تــرتـبــط بــآلـيــة م ــا‪ ،‬بــل بميول‬ ‫سوى بالبوح والتفصيل والصراحة‪ ،‬كل‬ ‫أدب ـي ــة وظ ــرف ـي ــة‪ ..‬فـهــل ال ـكـتــابــة األدب ـيــة‬ ‫هذا يحتاج لوصف وحوار وهي لم تفعل‬ ‫فــي مجملها لــديــك هــي هــاجــس طــاريء‬ ‫هذا بإغراق‪ ..‬بل بالضروري في الحكي!‬ ‫ودفقة شعورية ممتدة إلى حين؟‬

‫‪98‬‬

‫ ¦كــذلــك فــي ه ــذه ال ــرواي ــة «‪ »797‬تجسيد ‪ρ ρ‬ال أدري‪ ،‬لــمــاذا يصر بعضهم على أن‬ ‫خاص لفلسفة جنسية «ثالثية األبعاد»‬ ‫األجناس األدبية‪ -‬في الكتابة اإلبداعية‬ ‫كالقصة والرواية والشعر‪ -‬عوالم مختلفة‬ ‫ب ــال ـم ـص ـط ـل ــح الـ ـتـ ـكـ ـن ــول ــوج ــي إن صــح‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫بينها مسافات وال رابــط بينها‪ ،‬أو على‬ ‫ضــرورة تخصص المبدع في نوع واحد‬ ‫فــقــط ال يــكــتــب غــيــره‪ .‬أتــمــنــى أن تتم‬ ‫مراجعة الكاتب في مضمون ما يكتب‬ ‫بصرف النظر عن النوع الــذي اختاره؛‬ ‫فليس هناك اقتراف جريمة في الجمع‬ ‫بين الرواية والشعر مثال‪ ،‬أو بين القصة‬ ‫والمسرحية‪ ،‬أو الرواية والمقالة األدبية‪..‬‬ ‫من الخطأ محاسبة الكاتب عن قصيدة‬ ‫يكتبها وعن قصة كتبها‪ ،‬نحن نخرج بهذا‬ ‫من التقييم النقدي إلى تفريق نوعي لن‬ ‫يُــجــدي الحديث فيه‪ .‬وهــل هناك آلية‬ ‫المكان وصراع الهوية‬ ‫معينة لالنتقال من كتابة قصة إلى رواية‬ ‫ ¦في كتاباتك الروائية والقصصية األولى‬ ‫إلى شعر ثم إلى مقالة أدبية مثال؟ من‬ ‫وفق بعض اآلراء وجد القارىء تجسيد ًا‬ ‫الطبيعي أن يكون للكاتب ميوله األدبية‬ ‫لـصــراع الهوية والتباين الثقافي‪ ..‬لكن‬ ‫وأن تتوافق لــه الــظــروف فينجز عمله‬ ‫خَ ـفــتَ ه ــذا فــي ال ـك ـتــابــات األحـ ـ ــدث‪ ..‬ما‬ ‫اإلبداعي‪ .‬مَن يكتب بهاجس طارئ فهو‬ ‫ردك؟‬ ‫كاتب خواطر مؤقتة‪ ،‬يكتبها عدد هائل‬ ‫‪ρ ρ‬هذه اآلراء أيضا تنبع من قراءة منقوصة‬ ‫من البشر‪ ،‬لكنهم ليسوا أدباء‪.‬‬ ‫ألعمالي األدبية‪ .‬لم ألجأ في كتاباتي ألي‬ ‫ ¦ف ــي ت ـج ــرب ــة ال ـق ـص ــة ال ـق ـص ـي ــرة‪ ،‬لــديــك‬ ‫صــراع مع الهويات‪ ،‬ربما تناولت بشكل‬ ‫تجربتان بينهما خمس سـنــوات‪ ..‬لماذا‬ ‫أكثر وضوحا وضعية المعاناة والفقد‬ ‫في رأيــك تبدو تجارب القصة القصيرة‬ ‫والتهميش الموجودة بعمق وسط الناس‬ ‫كالمنمنمات فــي سـيــرة الــروائــي العربي‬ ‫المتشابهين في اللغة والمولد والنشأة‬ ‫تحديداً؟‬ ‫والدين والــعــادات والتقاليد‪ .‬أظن أنني‬ ‫‪ρ ρ‬القصة القصيرة رغم أنها األصعب في‬ ‫أميل للكتابة عن صراع الهوية مع نفسها‬ ‫الكتابة األدبية النثرية من وجهة نظري؛‬ ‫أكثر من صراعها مع هويات أخــرى لو‬ ‫إال إن االهتمام بها أضعف كثيرًا من‬ ‫جاز التعبير! وفي روايتي (الرحلة ‪797‬‬ ‫قيمتها الفنية ومكانتها‪ .‬أما عن نفسي‪،‬‬ ‫المتجهة إلى فيينا)‪ ،‬وهي رواية يحكيها‬ ‫آدم مــن أرض أوروب ــي ــة يــعــيــش عليها‬ ‫فأنا لم أحسب الفارق الزمني بين نشر‬ ‫القصص أو حتى نشر أي عمل‪ ،‬فليس‬ ‫هناك جــدول للعمل اإلبــداعــي عندي‪،‬‬ ‫مــا أكتبه وأقتنع بــه وأرض ــى عنه أدفــع‬ ‫به للنشر‪ .‬هناك من «أخلصوا» للقصة‬ ‫الــقــصــيــرة فــقــط وركــــــزوا مــجــهــودهــم‬ ‫ال أو‬ ‫اإلبداعي عليها‪ ،‬وهناك مَن كتب عم ً‬ ‫اثنين‪ ،‬وله عالمة بارزة في القليل العميق‬ ‫الــذي أنجزه‪ .‬الكثرة ليست دليال على‬ ‫رقيّ اإلبداع أبدا‪ ،‬فاألديب ليس مهاجما‬ ‫في فريق الكتابة وعليه تسجيل أهداف‬ ‫في شكل كتب!‬

‫‪99‬‬


‫ويعرفها وجذوره ممتدة إلفريقيا‪ ،‬بينما‬ ‫ليلى تحكي حياتها من أرض بعيدة (من‬ ‫مــصــر) وهــي على أرض جــديــدة‪ .‬ليس‬ ‫بين ليلى وآدم صراع بل وِ فاق يتلمّسان‬ ‫فيه الوقت الذي يتجمعان فيه معا كروح‬ ‫واحــدة‪ .‬مأساة ليلى كانت مأساة امرأة‬ ‫في عالم شرقي له ممنوعاته‪ ،‬ومأساة‬ ‫آدم كانت في حريته المتاحة في عالم‬ ‫غربي‪ .‬ارتــبــاط امــرأة متزوجة تقع في‬ ‫حب آخر هو محور الرواية وأسئلتها التي‬ ‫عرّت الشرق والغرب والعادات والتقاليد‬ ‫والتاريخ‪ .‬العالم تغير ولــم تعد مشكلة‬ ‫في الشعر وقضايا الحداثة‬ ‫الشرق والغرب من المنظور القديم هي‬ ‫المشكلة األزلــيــة التي نلوكها عشرات ¦"بعنا األرض وفرحنا بالغبار" ‪ ..‬هل لك‬ ‫أن تحدثنا عن الرمزية الكامنة في هذا‬ ‫الــمــرات فــي أعــمــال أدبــيــة مستنسخة‪،‬‬ ‫العنوان؟‬ ‫هناك آفاق أرحب وأقرب وأكثر عصرية‪.‬‬ ‫التباين الثقافي‪ -‬كقضية تواصل وتقاطع‪ρ ρ -‬هذا عنوان لديوان صدر لي في بيروت‬ ‫واضــح في كل كتاباتي‪ ،‬بل على العكس‬ ‫في العام ‪2010‬م‪ ،‬وال أستطيع هنا أن‬ ‫من طرح السؤال؛ أراه يتصاعد بمراحل‬ ‫أنتحل دور الناقد لتحليل عنوان ديواني‪.‬‬ ‫في روايتي األخيرة (وأطوف عاريا) التي‬ ‫ولكن يمكن أن أضيف باختصار‪ :‬نحن‬ ‫ببساطة بعنا األرض وفرحنا بالغبار‪..‬‬ ‫تتخذ من عار التاريخ األوروبي متكئا لها‪.‬‬ ‫ومــا زلنا نبيع األرض ونفرح بالغبار‪..‬‬ ‫ ¦فيينا حاضرة بقوة في مكونك الشعري‬ ‫وأتمنى أال نبيع كل األرض ونفرح بالغبار!‬ ‫والشعوري‪ ..‬فهل تفوّق الوطن الحاضن‬ ‫وجــدانــي يحفظ ويــرى ويكتب ويعترف‬ ‫ويُــق ـدّر ج ــزءًا مــن عالم عشت فيه وما‬ ‫أزال‪ ،‬وهذا ال يحتاج مني أن أتعسفه في‬ ‫الكتابة‪ .‬القاهرة محل مولدي ونشأتي ال‬ ‫يمكن تبديلها في الوجدان وال حجبها‪،‬‬ ‫وليس هناك كتاب لي يخلو من حضور‬ ‫مصر والــســودان بــوضــوح‪ .‬ليس عندي‬ ‫«أفعل التفضيل»؛ ليس هناك مكان يتفوق‬ ‫عندي في الكتابة على مكان آخر‪ .‬الكتابة‬ ‫تنتصر لروح اإلنسان أوالً قبل أن تنتصر‬ ‫لروح المكان!‬

‫‪100‬‬

‫والبديل شعرياً؟‬ ‫ ¦ل ـمــاذا اسـتـبــدلــت األرقـ ــام بــالـعـنــاويــن في‬ ‫ديوانك السادس «ليس إثماً»؟ وهل لذلك‬ ‫‪ρ ρ‬فيينا وطني بالفعل‪ ،‬وليست بديال لمكان‬ ‫عالقة بمضمون هذا الديوان؟‬ ‫آخر بل هي امتداد لألصل‪ ،‬أعيش فيها‬ ‫منذ أربعة وثالثين عاما‪ ،‬ال أدعي المكان ‪ρ ρ‬دي ــوان «ليس إثــمــا» هــو الــجــزء المك َّمل‬ ‫المنسوخ على ديواني «بعض الظن»؛ يعني‬ ‫وال الزمان وال أتمثلهما في كتاباتي إال‬ ‫كتابة على كتابة‪ ،‬ولو أنني استعنت فيه‬ ‫بــقــدر حضورهما فــي حياتي بصدق‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫بعناوين‪ ،‬فكنت سألجأ لنسخ العناوين‬ ‫السابقة نفسها التي في الديوان األول‬ ‫بسبب االرتباط (الظني) بين الديوانين‪،‬‬ ‫وه ــذا كــان سيربك الــقــارئ أو الناقد‪،‬‬ ‫ففضلت أن أســتــعــيــض عــن الــعــنــاويــن‬ ‫بأرقام‪ ،‬دون فلسفة أبعد من ذلك‪ .‬لكن‬ ‫يمكن للقارئ أن يقرأ كل ديــوان بمعزل‬ ‫عن اآلخر تماما‪ ،‬فاالرتباط على كل حال‬ ‫ليس شرطيا وليس ملزما‪ ،‬وإنما كما قلت‬ ‫هو «ارتباط ظني»‪.‬‬ ‫ ¦كيف تقيّم دفــاع أنصار الشعر العمودي‬ ‫عن ديمومة البقاء للقصيدة العمودية‬ ‫ف ــي م ـقــابــل لـحـظـيــة ال ـتــأث ـيــر ال ـش ـعــوري‬ ‫وآنيته للقصيدة الحديثة؟‬ ‫‪ρ ρ‬كل جنس أدبي إبداعي يتطور مع الزمن‪.‬‬ ‫الشعر العمودي كانت له سطوة في زمن‬ ‫كان له‪ .‬إن التبرؤ من القصيدة الحديثة‬ ‫في المطلق على أنها لم تخرج من عباءة‬ ‫العمودية هو لَيّ عنق للحقيقة‪ ،‬وهناك‬ ‫الــقــادم األح ــدث‪ .‬الثبات مــوت‪ .‬أســاس‬ ‫البيت يبقى دائما واألثاث يتغير‪ ،‬والجدال‬ ‫هنا سيطول عن األساس واألثاث! الشعر‬ ‫العمودي لم يمت‪ ،‬بل ما يزال موجودا‪،‬‬ ‫وما نزال في أشعار المناسبات حتى يومنا‬ ‫هذا نتغنى بالشعر العمودي أو نحاكيه‪،‬‬ ‫وإن كان الشعر العمودي يلتزم باللفظ‬ ‫والمعنى وال ــوزن والقافية‪ ،‬فالقصيدة‬ ‫الحديثة مــا ت ــزال ترتكز على تركيبة‬ ‫أخرى تتنازل عن بحور الشعر المعروفة‪،‬‬

‫ولــكــن لها أيــضــا جمالياتها بمقاييس‬ ‫أخرى‪ .‬هناك شيء مهم يجب أن يؤخذ‬ ‫في االعتبار‪ ،‬فالحفظ وحده واالستعادة‬ ‫باإللقاء للقصيدة ليس مسوّغا لتفوّقها‬ ‫وهذا ما يظنه كثيرون‪ ،‬وكثيرا ما نتجاهل‬ ‫المعنى الصادر من قصيدة حديثة قوية‬ ‫غير مقفّاة الرتباطنا بجينات سمعية‬ ‫متوارثة تتنصت للقافية والوزن بالسليقة‪،‬‬ ‫حس طربي أكثر منه تركيزا في‬ ‫وهــذا ٌّ‬ ‫المعنى! نحن مجتمع يعتمد على التمثل‬ ‫بــاآليــة والــحــديــث الــنــبــوي والــشــعــر إلى‬ ‫يومنا هذا‪ ،‬وحتى في األوساط الشعبية‬ ‫يبرز المثل العامي المقفّى عادة ويُتناقل‬ ‫بسهولة بسبب هذه الخاصية‪ .‬الخروج‬ ‫مــن عــبــاءة الــقــوافــي ينظر إلــيــه أحياناً‬ ‫كالتغريد خارج السرب‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪101‬‬


‫ ¦هناك مَ ن يرى أن صراع الشعر والرواية‬ ‫مفتعل‪ ..‬ما رأيك؟‬ ‫‪ρ ρ‬الــصــراع ينشأ حينما يــقــرر طــرف أن‬ ‫مُنتَجه اإلبداعي أسمَى من إبداع طرف‬ ‫آخر‪ .‬وتستعر االنفعاالت أكثر كلما زادت‬ ‫النعرات الشوفينية اإلبداعية‪ .‬وعلى كل‬ ‫حــال‪ ،‬فــقــرارات الصراعات األدبــيــة لن‬ ‫تهدأ ما حيينا‪ ،‬وإن كــان الحراك فيها‬ ‫مؤخَ را يميل سلبا وتوحّ شا‪ ،‬وهل هدأت‬ ‫الــصــراعــات عــلــى الــمــذاهــب الشعرية‬ ‫واألن ــواع الشعرية! اآلن يبرز ما يسمى‬ ‫بــالــروايــة الشبابية وهــي توضع مقابل‬ ‫الــروايــة «التقليدية» مثال‪ ،‬ويتم افتعال‬ ‫صراعات وهمية‪ ،‬ويتحوّل الناس لفرق‬ ‫مناصرة أو مــعــاديــة‪ .‬األج ــدر فــي ظني‬ ‫هو الــرأي الصادق للنقد‪ ،‬وتــرك ساحة‬ ‫االختيار للناس‪ ،‬فليست هناك وصاية‬ ‫على األدب!‬

‫مجتمع قوْته الحكاية أن تحيا الحكاية‬ ‫األكثر إدهاشا‪ .‬وتطويع األسطورة بشكل‬ ‫حداثي مالئم يمكنه أن يخلق إلهاما يصب‬ ‫في صالح الكتابة‪ .‬هناك أساطير ثابتة‬ ‫متوارثة‪ ،‬وأساطير متغيرة أو متحوّلة أو‬ ‫مطوَّعة لتناسب كل زمان ومكان‪ ،‬لكنها‬ ‫دائما أساس الحكايات‪ ..‬سواء اعتمدت‬ ‫على قدرات بشرية خارقة ومُبالَغ فيها‪ ،‬أم‬ ‫على قدرات مميزة كاألساطير اليونانية‬ ‫أو الفرعونية أو أساطير شعوب المايا‬ ‫وغيرها؛ وكــل شعب له أساطيره‪ ،‬ومن‬ ‫يجيد حفظها وتــداولــهــا يحفظ جــذور‬ ‫هويته ووجــــوده‪ .‬الــفــن برمته يجب أن‬ ‫يكتشف مناطق دائــمــة لــإدهــاش ســواء‬ ‫تأسست على أساطير قديمة أو هجينة‬ ‫أو مستحدثة؛ ومثلما توجد إدهاشات‬ ‫بصرية أو سمعية‪ ،‬فبالتأكيد هناك الكثير‬ ‫من اإلدهاشات الكتابية التي لم تولد بعد!‬

‫ ¦في الختام‪ ،‬متى يداهمك الفن التشكيلي‬ ‫األسطورة والفن التشكيلي‬ ‫برغبة عارمة في اإلمساك بالريشة بعيد ًا‬ ‫ ¦األسطورة السودانية دوم ًا حاضرة وبقوة‬ ‫عــن التشبث بالقلم؟ وهــل هــي مـيــزة أن‬ ‫فــي كـتــابــات ال ـســودان ـي ـيــن‪ ..‬فـهــل ت ــرى أن‬ ‫ترسم أغلفة أعمالك؟‬ ‫العالم لم يكتشف هــذه األسـطــورة بعد؟‬ ‫‪ρ ρ‬كثيرا مــا أفــعــل ه ــذا‪ ،‬أمــســك بالريشة‬ ‫وهل الكتابة كافية الستفزاز اآلخر نحو‬ ‫ألتخلص مــن أشــيــاء ال تــخــرج بالكتابة‬ ‫هذا االكتشاف؟‬ ‫أو ال تستحضرها الكتابة‪ ،‬ولكن يبدو‬

‫‪102‬‬

‫‪ρ ρ‬هذا صحيح‪ ،‬والمجتمع السوداني تحضره‬ ‫األسطورة يوميا‪ ،‬سواء في شكلها الديني‬ ‫أو حتى ما قبل الدين؛ وحكايات الجدات‬ ‫هناك ال تخلو من األساطير‪ ،‬وهي قوت‬ ‫«األحاجي» وزاد الكتابة في ٍآن‪ .‬األسطورة‬ ‫مكمن إثــارة الدهشة‪ ،‬ومن الطبيعي في‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫أن هناك نقمة ما تحاول أن تلصق بي‬ ‫عمليا احتراف الفن التشكيلي‪ ،‬وهذا غير‬ ‫صحيح‪ .‬األمر ببساطة إنني أحب الفنون‬ ‫التشكيلية وأداوم على متابعتها‪ ،‬ومدينة‬ ‫مثل فيينا العريقة أو أوروبــا بشكل عام‬ ‫تسمح للنهل مــن هــذا المعين الفياض‬


‫طارق الطيب في سطور‬

‫شارك في العديد من المهرجانات األدبية‬ ‫العالمية في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا‬ ‫الشمالية وأميركا الجنوبية‪.‬‬ ‫حصل على العديد مــن المنح السنوية‬ ‫الكبرى والجوائز منها منحة إلياس كانِتـّـي‬ ‫(‪ )Elias Canetti‬الكبرى في ﭬﯿﯿﻨّﺎ في العام‬ ‫‪2005‬م‪ ،‬والجائزة الكبرى للشعر في رومانيا‬ ‫في العام ‪2007‬م‪.‬‬ ‫ُع ِّي َن سفيراً للنمسا لعام الحوار الثقافي‬ ‫األوروبي (‪ )EJID‬في العام ‪2008‬م‪.‬‬

‫من مواليد القاهرة‪ ،‬في الثاني من يناير‬ ‫‪1959‬م‪ .‬انتقل في عــام ‪1984‬م إلــى ﭬﯿﯿﻨّﺎ‬ ‫حيث أنهى دراســتــه في فلسفة االقتصاد‪،‬‬ ‫وه ــو يعيش اآلن فيها ويــعــمــل إل ــى جانب‬ ‫الكتابة األدبية بالتدريس في ثالث جامعات‬ ‫بها (جامعة ﭬﯿﯿﻨّﺎ‪ ،‬جامعة جراتس‪ ،‬جامعة‬ ‫كريمس)‪.‬‬

‫حــاصــل عــلــى زمــالــة «بــرنــامــج الكتابة‬ ‫العالمي»‪ ،‬وبرنامج «بين السطور» بجامعة‬ ‫أيوا في أميركا‪ ،‬في العام ‪2008‬م‪.‬‬

‫ن ُِشرَت له كتب مترجمة في اللغات التالية‬

‫صدر له مؤخَّ رًا‪( :‬نهارات ﭬﯿﯿﻨّﺎ) القاهرة‪،‬‬ ‫دار العين ‪2016‬م‪ ،‬و(الرحلة ‪ 797‬المتجهة‬ ‫إلــى ﭬﯿﯿﻨّﺎ) الــقــاهــرة‪ ،‬دار العين ‪2014‬م‪،‬‬ ‫و(محطَّ ات من السيرة الذاتية) القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫العين ‪2012‬م‪.‬‬

‫نشر حتى اآلن ثالث روايات ومجموعتين‬ ‫قصصيتين‪ ،‬وخــمــس مجموعات شعرية‪،‬‬ ‫ومسرحية واحدة‪ ،‬وكتابًا في السيرة الذاتية‪،‬‬ ‫وكتابًا في المقالة‪.‬‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫بكل يسر‪ .‬نعم‪ ،‬لديَّ ميول فنية تخرج في‬ ‫شكل رسوم سواء بالزيت أو األكواريل أو‬ ‫الطباشير‪ ،‬لكنها ميول شخصية باألساس‪،‬‬ ‫ولم أعد نفسي يوما فنانا تشكيليا‪ .‬أما أن‬ ‫تختار بعض دور النشر العربية واألوروبية‬ ‫لوحات من رسومي لتكون أغلفة‪ ،‬فليس‬ ‫هــذا بالشيء الــخــارق‪ ،‬ولــم أفــرض يوما‬ ‫على أي نــاشــر أن يــأخــذ لــوحــة لتكون‬ ‫غالفا لكتاب لي أو لغيري‪ .‬أحب الرسم‪،‬‬ ‫وممارسته ليست عيبا‪ ،‬وهناك كثير من‬ ‫األدبــاء والشعراء ممن سبقوني وأبدعوا‬ ‫أكثر مني بمراحل في المجال نفسه أو‬ ‫غيره‪ .‬أحب الرسم ولست تشكيليا ولست‬ ‫مسرحيا‪ ،‬ومــن سيساعدني على محو‬ ‫جملة (فــنــان تشكيلي) مــن المعلومات‬ ‫ال ــواردة عني في «الويكيبديا» فسأكون‬ ‫ممتنا له أو لها إلى األبد!‬

‫على ترتيب صدورها‪ :‬األلمانية‪ ،‬الفرنسية‪،‬‬ ‫المقدونية‪ ،‬الصربية‪ ،‬اإلنجليزية‪ ،‬اإلسبانية‪،‬‬ ‫الرومانية‪ ،‬ثم اإليطالية‪ .‬كما له ترجمات‬ ‫في لغات أخرى لنصوص أدبية في العديد‬ ‫من األنطولوجيات والمجالت والــدوريــات‬ ‫العالمية‪ ..‬كاألوكرانية والكرواتية والبوسنية‬ ‫والروسية والبرتغالية والمالطية والسويدية‬ ‫والصينية وغيرها‪.‬‬

‫حصل على وسام الجمهورية النمساوية‬ ‫تقديرًا ألعماله في مجال األدب والتواصل‬ ‫األدبي داخل ّيًا وعالم ّيًا‪ ،‬في العام ‪2008‬م‪.‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪103‬‬


‫الشاعر األردني‬

‫محمود فضيل التل‬ ‫هناك هواجس عديدة تُ َّح ِركُ ني لكتابة الشعر‬ ‫في مقدمتها الوطن‬ ‫عرار سبق نازك المالئكة بالقصيدة الحديثة‬ ‫شخصية ثقافية أردنية‪ ،‬تتمتَّع بالذكاء والصراحة‪ ،‬والوضوح‪ ،‬يعبِّر عن أفكاره‬ ‫ومشاعره بجرأة‪ .‬له مشاركات فاعلة في الساحة الثقافية‪ ،‬وفي الصحافة األدبية؛‬ ‫صدرت له إحدى عشرة مجموعة شعرية‪ ،‬وقدم العديد من الرؤى غير السائدة إلى‬ ‫جانب أعماله في مجال الدراسات الفكرية‪ ،‬وشارك في العديد من المهرجانات‬ ‫المحلية والعربية والدولية؛ نشر قصائده في مجالت أردنية وعربية‪ .‬غير أن المهم‬ ‫في تجربته أنها لم تكن متكررة‪ ،‬بل لها مالمحها الخاصة وأسلوبها المميز‪.‬‬ ‫محمود فضيل التل‪ ،‬شاعر يختزن في ذاته شاعرية صادقة وهدوء ًا جاذباً؛ لم‬ ‫تتسلل إلى روحه تقاليد المكاتب وأبهة الوظيفة‪.‬‬ ‫فــي هــذا ال ـحــوار مــع مجلة «الـجــوبــة» تجسيد لمالمح شخصيته وشاعريته‬ ‫وإنسانيته‪..‬‬ ‫■ حاوره نضال القاسم‬

‫‪104‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫‪ρ ρ‬إن اإلنــســان بحياته وقــضــايــاه وآمــالــه‬ ‫وأفــراحــه وأحــزانــه وآالم ــه هــو الــدائــرة‬ ‫المركزية في الحياة‪ ..‬لكن هناك هواجس‬ ‫عديدة تحركني لكتابة الشعر‪ ،‬والسبب‬ ‫أن هــواجــس اإلنــســان كــثــيــرة وجــوانــب‬ ‫حياته متعددة ومتنوعة؛ ما يثري الشعر‬ ‫منها‪ ،‬وفي مقدمتها الوطن‪ .‬فالوطن هو‬ ‫الصدر الذي تسكنه نفس اإلنسان بكل ما‬ ‫فيها وبمجمل مكنوناته‪ ،‬وهو يمثل وجود‬ ‫اإلنسان بكرامة وحرية وسيادة‪.‬‬

‫أما لماذا أكتب‪ ،‬فلشعوري بأن الكتابة ‪-‬‬ ‫الشعر‪ -‬مسؤولية يقوم الشاعر بواسطته‬ ‫بدور‪ ،‬ويمارس مسؤولية في المجتمع عن‬ ‫طريق التعبير عن حياة هــذا المجتمع‬ ‫والناس فيه‪ ،‬ويتناول قضاياهم ويتحدث‬ ‫عنها‪ ،‬ويبدي موقفه منها ورأيه فيها‪...‬‬ ‫ويحرك مشاعر الناس ويثير اهتماماتهم‬ ‫لــيــذكــي فــيــهــم اإلح ــس ــاس بــواجــبــاتــهــم‬ ‫ومسؤولياتهم بعمق فهمه لها وبجمالية‬ ‫عالية تبعث فيهم اإلحساس واالستنارة‬ ‫والــمــتــعــة‪ .‬كــل ه ــذا مــن خ ــال إيماني‬ ‫بواجبي ودوري ومسؤوليتي في المجتمع‪.‬‬

‫وإذا ما نظرنا إلى الموضوعات الشعرية‬ ‫عند الشعراء لوجدناها كثيرة‪ ،‬وهذا يؤكد ¦مَ ـ ــن أس ــات ــذت ــك الـ ـق ــدم ــاء وال ـ ـجـ ــدد فــي‬ ‫الشعر؟‬ ‫أن الهواجس التي تحرك الشاعر لكتابة‬ ‫الشعر كثيرة‪ .‬فالحياة بحد ذاتها تعد ‪ρ ρ‬إنني أعد كل شاعر قديم أو جديد قرأت‬ ‫هاجساً وبخاصة عند الذين ينظرون إلى‬ ‫له ‪ -‬على مستوى من اإلبــداع والعطاء‬ ‫الحياة من منطلق فكري وبُع ٍْد فلسفي‪،‬‬ ‫الشعري‪ -‬أستاذاً لي؛ ألنني ال بد وأن أكون‬ ‫وليس من زاوية واقع معاش على أي نحو‬ ‫قد تعلمت منه شيئاً بشكل مباشر وغير‬ ‫كــان هــذا الــواقــع‪ ..‬فتعدد األسئلة عن‬ ‫مباشر لم أكن أعلمه من قبل‪ ،‬ولو كان‬ ‫جدوى واستحقاق هذه الحياة ألن تكون‬ ‫ذلك من قصيدة واحدة أو ديوان واحد‪.‬‬ ‫وأن تُعاش‪ ،‬وما الذي ينتظر اإلنسان بعد‬ ‫أما األساتذة القدماء فهم الذين أثروا فيّ‬ ‫هذه الحياة؟! كل هذه األسئلة وغيرها مثل‬ ‫فكراً وإحساسا ووجداناً وأسلوباً وموقفاً‪.‬‬ ‫كيف علينا أن نعيشها ونحياها؟ وكيف‬ ‫وقد يكون لي أساتذة في الشعر رغم أنني‬ ‫يجب أن ننظر إليها؟ كل ذلك له تأثيره‬ ‫لم أقرأ لهم ولم أعرف لهم شعراً‪ ،‬ولكنهم‬ ‫الكبير على نظرة اإلنسان لهذه الحياة‬ ‫علّموني أهمية الشعر وتذوّقه وحقيقة‬ ‫ودوره ومسؤولياته فيها وعلى أي نحو‬ ‫أبــعــاده وأعماقه وأصــالــتــه‪ ،‬ومــن هــؤالء‬ ‫يجب أن تكون‪ .‬كذلك‪ ،‬فإن الحب هاجس‬ ‫على سبيل المثال أستاذي الكبير ومعلمي‬ ‫وله سلطانه وأهميته في حياة اإلنسان‪،‬‬ ‫الفاضل أ‪ .‬د‪ .‬عبدالكريم خليفة‪ ..‬فقد‬ ‫تأثرت به من حيث شدة تفهمه وذوبانه‬ ‫لهذا يكثر الشعر العاطفي في الشعر عند‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫ ¦ما هو الهاجس الذي يُ حرّك قلم محمود‬ ‫فضيل التل‪ /‬لماذا يكتب وماذا ينتظر؟‬

‫كل الشعوب وفي كل المجتمعات‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫في النص الشعري‪ ،‬وقد كان أستاذي في‬ ‫الجامعة األردنية؛ فعندما كان يُسمعنا‬ ‫القصيدة وكــنــت أشــعــر كأنها لــه؛ ألنه‬ ‫كان يتغلغل بروحه الحساسة في النص‬ ‫ويقدمه بصورة رائعة‪ .‬وقد كان سبباً في‬ ‫أنني تأثرت كثيراً جداً بالشاعر القديم‬ ‫«أبو ذؤيب الهذلي» في قصيدته التي رثا‬ ‫بها أبناءه‪ ،‬حدث ذلك عام ‪1962‬م‪ ،‬وما‬ ‫أزال أعيشها حتى اآلن؛ فهي بالنسبة لي‬ ‫مدرسة شعرية‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬

‫ِأمـ ـ ـ ـ ــنَ ال ـ ـم ـ ـنـ ــون وري ـ ـب ـ ـهـ ــا ت ـت ــوج ــع‬ ‫وال ــده ــر لـيــس بمعتب مــن يـجــزعُ‬ ‫قالت أميمة مــا لجسمك شاحب ًا‬ ‫م ـنــذُ ابـتـلـيــتَ وم ـثــل مــالــك نــدفــعُ‬ ‫ف ــأجـ ـبـ ـتـ ـه ــا أمّ ـ ـ ـ ـ ــا لـ ـجـ ـسـ ـم ــي إنـ ــه‬ ‫أودى بـ ـن ــيّ مـ ــن ال ـ ـبـ ــاد فـ ــو ّدعـ ــوا‬ ‫أودى بـ ـ ـن ـ ــيّ وأعـ ـ ـقـ ـ ـب ـ ــون ـ ــي غ ـصــة‬ ‫بـ ـع ــد الـ ـ ــرقـ ـ ــاد وعـ ـ ـب ـ ــرة ال ت ـق ـل ــعُ‬ ‫ـوى وأعـ ـنـ ـق ــوا ل ـه ــواه ــمُ‬ ‫س ـب ـق ــوا هـ ـ ـ ً‬ ‫ف ـت ـخ ــرم ــوا ولـ ـك ــل ج ـن ــب م ـص ــرعُ‬

‫‪106‬‬

‫ومن الشعراء الذين تتلمذت على شعرهم‬ ‫ مــن الــقــدمــاء‪« -‬عمر الــخــيــام»‪ ،‬وكــان‬‫المدخل اللتفاتي عليه فكره وفلسفته‬ ‫في الحياة التي نجدها في شعره بشكل‬ ‫واضـــح‪ .‬ولــمــا ق ــرأت شــعــره سكن هذا‬ ‫ال إلعجابي‬ ‫الشعر في نفسي وكان مدخ ً‬ ‫وتــقــديــري واعــتــزازي بــعــرار «مصطفى‬ ‫وهبي التل» ‪ -‬شاعر األردن‪ -‬الذي أعده‬ ‫اآلن أستاذي األول؛ ألنه أنموذج خاص‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫فــي الــشــعــر؛ فــشــعــره يــصــدر عــن فكر‬ ‫وفلسفة آمن بها‪ ،‬وناضل من أجل فلسفته‬ ‫وقــنــاعــاتــه حتى أن شــعــره ليس مجرد‬ ‫انفعال أو ردة فعل تجاه حــاالت معينة‪،‬‬ ‫بل إنه ناضل من أجل إرساء قيم ومبادىء‬ ‫إنسانية قائمة على الــحــق والــمــســاواة‬ ‫والعدالة والحرية والديمقراطية‪ .‬فعانى‬ ‫األم ـرّيــن مــن أجــل دعــوتــه لــهــذه القيم‪،‬‬ ‫وبقي على هذا النهج حتى فارق الحياة‪.‬‬ ‫وقــد كــان رائــداً في أكثر من مجال في‬ ‫الشعر‪ .‬لم يسبقه أحد عليها‪ ،‬وسأقوم‬ ‫بــإعــدادهــا فيما بعد فــي بحث خاص‬ ‫تحت عــنــوان «ريـــادات عــرار الشعرية»‬ ‫من خالل منظور الحياة المتميزة وطنياً‬ ‫واجتماعياً وسياسياً‪ ،‬التي عاشها بإيمان‬ ‫واقتناع رغم كل ما تحملّه مقابل مسيرته‬ ‫الحياتية والشعرية الرائعة‪ .‬فمن أهم ما‬ ‫أود قوله أن شعره كان انعكاساً لحياته‬ ‫وهذه المبادئ والقناعات؛ ما أكد التزامه‬ ‫بقضايا الوطن واألمة واإلنسانية‪.‬‬ ‫وما أود أن أعيد تأكيده في مجال التلمذة‬ ‫واألستاذية في الشعر‪ ،‬هو إيماني بأن‬ ‫التأثير والتأثر ليس شرطاً أن يكون بنتاج‬ ‫أو إبــداع شاعر بكل ما قــدم‪ ،‬بل يمكن‬ ‫أن يكون شاعر ما أستاذاً لي بفلسفته‬ ‫ولو بقصيدة واحدة‪ ،‬كما يمكن أن يكون‬ ‫شاعر آخر أستاذًا لي بروحه الشعرية‬ ‫ووجدانيته‪ ،‬وآخر بفكره‪ ،‬وآخر بعاطفته‬ ‫التي يكتب فيها الشعر‪ ،‬وقد يكون شاعر‬ ‫أســتــاذاً لــي بأسلوبه وآفــاقــه الشعرية‪،‬‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫وهــكــذا‪ ..‬لــذلــك‪ ،‬وتحت هــذا االعتقاد‬ ‫أقول إن من أساتذتي على سبيل المثال‬ ‫إضــافــة إلــى مــا ذكــرت الــشــعــراء‪ :‬مالك‬ ‫بن الريب‪ ،‬إبراهيم ناجي‪ ،‬أبــو القاسم‬ ‫الــشــابــي‪ ،‬وعــمــرو بــن كلثوم فــي معلقته‬ ‫المشهورة‪ ،‬و أ‪ .‬د‪ .‬ناصر الدين األسد‪،‬‬ ‫والشاعر عبدالرحيم عمر‪.‬‬ ‫ ¦ك ـي ــف ت ـن ـظــر ل ـخــري ـطــة ال ـش ـع ــر ال ـعــربــي‬ ‫اليوم؟ ومَ ن من الشعراء جذب اهتمامك‬ ‫وش ـع ــرت ع ـبــر أع ـمــالــه بـنـكـهــة الـتـجــديــد‬ ‫واألصــالــة والعمق؟ وهــل ما يــزال الشعر‬ ‫دي ـ ــوان ال ـع ــرب وشــاغ ـل ـهــم‪ ،‬أم أن القصة‬ ‫والرواية احتال الساحة األوسع؟‬ ‫‪ρ ρ‬كــان الشعر ومــا ي ــزال وسيبقى ديــوان‬ ‫العرب‪ .‬ولكل لون أو نوع أدبي خصائصه‬ ‫وطبيعته‪ .‬فطبيعة الشعر وخصائصه‬ ‫مهما طالت القصيدة تمكن من حفظه‬ ‫وترداده كلمة كلمة‪ ،‬أما القصة والرواية‬ ‫فيمكن أن يل ّم الــقــارىء بــاإلطــار العام‬ ‫للقصة أو ال ــرواي ــة‪ ...‬إضــافــة إلــى أن‬ ‫أسلوب كتابة الشعر وبنائيته أسرع في‬ ‫التأثير وأكــثــر مــقــدرة على شــد انتباه‬ ‫السامع والسير مع الشاعر كلمة كلمة‪،‬‬ ‫ولما تمتاز به القصيدة في الغالب من‬ ‫صر مقارنة بالقصة أو الرواية فإنها‬ ‫قِ َ‬ ‫أكثر تشويقاً‪ .‬واألسلوب الذي تقرأ فيه‬ ‫القصيدة وفقاً للمعنى والتعبير المالئم‬ ‫عن جوها بانفعاالتها واحاسيسها أكثر‬ ‫تأثيراً‪ ،‬فالقارئ أو المستمع أميل إلى‬ ‫الشعر من القصة والرواية‪ .‬وإن الركود‬

‫الشعري نتيجة ذهول الشعراء وإحباطهم‬ ‫مما يرونه في واقعهم العربي والدولي ال‬ ‫يعني أنه تراجع لصالح أي جنس أدبي‬ ‫آخ ــر‪ .‬فــهــذه األيـــام ال شــك أنــنــا نشهد‬ ‫مــا يدهشنا مــن مــســتــجــدات سياسية‬ ‫وعــســكــريــة مــحــاطــة بــالــدمــار والــرعــب‬ ‫والــخــوف والقتل واالنقسام والــثــورات‪،‬‬ ‫وما سمي بالربيع العربي‪ ،‬جعلت الشعراء‬ ‫يــشــعــرون بخيبة األم ــل وانــفــتــاح أبــواب‬ ‫الــضــيــاع واتــســاعــهــا إل ــى حــد ال يبشر‬ ‫باطمئنان وارتــيــاح‪ ،‬فتوقفوا مذهولين‬ ‫أمام ما يجري‪ ،‬يحسبون لهذا المجهول‬ ‫حساباً؛ فهانت في أنفسهم كل األشياء‬ ‫فتوقفوا‪ ،‬مراقبين يبحثون عن األرضية‬ ‫التي يضعون أرجلهم عليها‪ ،‬ويفكرون في‬ ‫كيفية إعــادة صياغة أو تشكيل الواقع‬ ‫العربي الــائــق والمناسب لــأمــة‪ .‬لكن‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪107‬‬


‫التجديد واألصالة والعمق فهو الشاعر‬ ‫الرمز الوطني والقومي (عرار) مصطفى‬ ‫وهبي التل‪.‬‬

‫‪108‬‬

‫الشعر مــوجــود ولــن يخفت لــه نــور‪ ،‬وال‬ ‫أبالغ إن قلت إن كثيراً من الشعراء يكتبون‬ ‫وال ينشرون إنتاجهم بسبب شعورهم‬ ‫باليأس واإلحــبــاط وخيبة األم ــل أمــام ¦لماذا اختفى األديــب والشاعر الظاهرة‪،‬‬ ‫لحظة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫صور الموت التي يشاهدونها كل‬ ‫وهــل انتهى عصر العمالقة فــي الشعر‪،‬‬ ‫ولشعورهم ربما بعدم جدوى الكلمة أمام‬ ‫مــا هــي أس ـبــاب حــالــة ال ــرك ــود؟ وم ــا مــدى‬ ‫هذا السعير الــذي يجتاح العالم كله‪...‬‬ ‫تأثير الـصــراعــات الشخصية فــي ان ــزواء‬ ‫فالشعر ديــوان العرب وسيبقى له ألقه‬ ‫ال ـح ــوارات ال ـجــادة الـتــي تــدعــم المسيرة‬ ‫وتفوقه‪ ،‬وبرأيي أن الكلمة في القصيدة‬ ‫الثقافية؟‬ ‫أكثر تأثيراً واقناعاً وتشويقاً وجاذبي ًة‬ ‫‪ρ ρ‬هذه مجموعة أسئلة جديرة باالهتمام‪.‬‬ ‫منها في القصة والرواية‪ .‬ومن يراقب ما‬ ‫وتــســتــحــق الـــوقـــوف عــنــدهــا‪ ،‬ون ــظ ــراً‬ ‫يطرح من إبداعات متنوعة من األجناس‬ ‫الستحقاقها لهذه األسئلة المعبّرة عن‬ ‫األدبــيــة ال بــد أن يجد أن المطروح أو‬ ‫أهميتها كظاهرة‪ ،‬ال بد وأن تكون لهذا‬ ‫المنشور شعراً يفوق بكثير ما ينشر أو‬ ‫االخــتــفــاء أســبــاب لــهــا أهــمــيــة خــاصــة‪،‬‬ ‫يصدر من العمل القصصي أو الروائي‪...‬‬ ‫من هذه األسباب على سبيل المثال ال‬ ‫وما يقال من أن اليوم هو زمان القصة‬ ‫الحصر‪ :‬ظهور تيارات وتوجهات ومدارس‬ ‫والرواية وتراجع الشعر ما هي إ ّال مقولة‬ ‫أدبــيــة حــديــثــة انــحــصــرت اهتماماتها‬ ‫ارتآها بعضهم وأطلقوها‪ ،‬وأخذت تتردد‬ ‫بالحداثة ومــا بعد الحداثة والتجريب‬ ‫على األلسنة وفــق االهتمامات‪ ،‬خاصة‬ ‫وغير ذلك‪ ،‬فطفت هذه التوجهات على ما‬ ‫وأننا مولعون بالتطوع للدعوة إلى ما يقال‬ ‫كان موجوداً وكان لها أثرها الواضح على‬ ‫على مسامعنا أيّا كان مصدره ومهما كان‬ ‫ما كــان سائداً من قبل‪ .‬إن العديد من‬ ‫مغزاه‪ ...‬وغالباً ما نتخلى عن حقنا في‬ ‫المبدعين ممن كانوا في عداد ما يسمى‬ ‫تفحصه وتقليب أوجهه والتأكد من صحة‬ ‫باألديب والشاعر الظاهرة لهم اتجاهات‬ ‫ما نسمع أو يلقى على مسامعنا‪.‬‬ ‫سياسية وطنية وقومية من منظور حزبي‪،‬‬ ‫فخريطة الشعر هذه األيام فيها خفوت‪،‬‬ ‫ويــعــدون أنفسهم مناضلين اتــخــذوا من‬ ‫وفيها متابعة؛ لكن فيها عزوف عن النشر‬ ‫اإلبداع والشعر وسيلة لتحقيق أهدافهم‬ ‫واإلفــصــاح عــن الـــرأي وبــيــان الموقف‬ ‫السياسية؛ فلما لــم يــجــدوا نتيجة لما‬ ‫وبلورته أو تحديده‪ ،‬واألسباب كثيرة‪ -‬ال‬ ‫طمحوا عليه‪ ،‬أ ّثــر ذلــك على نشاطهم‬ ‫داعــي لذكرها هنا‪ -‬أمــا الشاعر الذي‬ ‫اإلبداعي فَخَ فَتَ لديهم اإلحساس بهذه‬ ‫شــعــرت أن ــه عــب ـ َّر عــبــر أعــمــالــه بنكهة‬ ‫الظاهرة والسعي لها‪ ،‬ولم تعد حلماً لهم‪،‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫وال ينشغل بالهم بها من قريب أو بعيد‪.‬‬ ‫كذلك عــدم التميّز بين المبدعين من‬ ‫األدباء والشعراء‪ ،‬إذ أصبحت نسبة كبيرة‬ ‫من الشعراء يتساوون تقريباً في المكانة‬ ‫والمنزلة الشعرية‪ .‬ومر ّد ذلك أنه لم يعد‬ ‫لدى الشعراء أن يأتوا بظواهر مميزة في‬ ‫إبداعاتهم الشعرية واألدبية‪ ،‬كما رأينا‬ ‫عند عرار في ريادته لعدة ظواهر مميزة‬ ‫في شعره اشتهر وامتاز بها على غيره من‬ ‫الشعراء‪.‬‬ ‫وعــدم توفر الحرية الكافية والــازمــة‬ ‫لإلبداع المتميز فالمبدع ‪ -‬الشاعر ‪-‬‬ ‫يتردد في كتابة بعض التعابير والتأمالت‬ ‫واألفكار والشواهد ‪ -‬ويعدل في النهاية ¦هل لألخالق دور فيما هو شعري؟‬ ‫عن اإلتيان بشيء من هذا القبيل لكي ال‬ ‫‪ρ ρ‬األخالق أساس كل شيء في حياة اإلنسان‪.‬‬ ‫تحسب عليه‪ ،‬وحتى ال يتعرض للمساءلة‪.‬‬ ‫وفي مجال اإلبداع عامة والشعر خاصة‬ ‫إن المجتمع بحد ذاته والشعراء منه بشكل‬ ‫تصبح األخ ــاق عالمة مميزة للشعر‪.‬‬ ‫خاص لم يعودوا مهتمين بهذه الظاهرة‬ ‫فكيف سيستقيم تذوقنا وتلقينا الشعر‬ ‫ومزاياها‪ ..‬ومما يجدر ذكره أن ثمة مَن‬ ‫إلنسان ال يتصف باألخالق‪ ،‬وال يحظى‬ ‫يعتقد أنه هو سيد هذه الظاهرة بسبب‬ ‫باالحترام والتقدير من قبل اآلخرين؟!‬ ‫غياب األطــر المنظمة لهذه الظاهرة‪..‬‬ ‫وبخاصة أن كل الصفات التي يمتاز بها‬ ‫وقد يكون أحد هذه األسباب أن لم يعد‬ ‫الشعر تندرج تحت مسميّات أخالقية‬ ‫أحد يهتم بهذه الظاهرة ومسمّاها بعد أن‬ ‫مقبولة قبوالً عاماً عند المواطنين‪ ،‬وتعد‬ ‫ظن شخص أو أكثر أنه الشاعر الظاهرة‬ ‫أركــان ـاً أســاســيــة فــي صــاح المجتمع‪.‬‬ ‫بين الشعراء والمبدعين‪ .‬وللصراعات‬ ‫فــالــشــاعــر قـ ــدوة عــنــد المتلقي ورمــز‬ ‫الشخصية دور ال يستهان به في غياب‬ ‫لكل شــيء جميل‪ :‬لإلحساس والشعور‬ ‫الحوارات والفعاليات الجادة التي تدعم‬ ‫والخيال والتأمل والتذوق والتعبير عنه‬ ‫المسيرة الثقافية‪ ،‬وإن غيابها يعد أحد‬ ‫كنموذج إنساني خــاص فــي المجتمع؛‬ ‫أسباب غياب الشاعر الظاهرة‪.‬‬ ‫لهذا كان اعتقادي دائماً انطالقاً من ذلك‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪109‬‬


‫مشاعرنا وكياناتنا الوطنية والسياسية‬ ‫واالجتماعية والجمالية‪.‬‬

‫‪110‬‬

‫أن الشعر يجب أن يكون صورة صادقة‬ ‫وحقيقية عن الشاعر‪ ،‬وأن يطابق ما فيه‬ ‫من ٍ‬ ‫معان وأفكار سلوك الشاعر الشخصي ¦مـ ــا ع ــاق ــة الـ ـن ــص الـ ـشـ ـع ــري ب ـمــرج ـعــه‬ ‫في الحياة‪ ..‬ال أن يكون هناك اختالف‬ ‫الواقعي؟‬ ‫بين الشاعر وشعره‪ ،‬حتى ال يكون مجرد‬ ‫‪ρ ρ‬إن الواقع هو األصل في مختلف جوانب‬ ‫موهبة يوظفها الشاعر ليقول ما يتوقعه‬ ‫الحياة‪ ،‬مهما تنوّعت المذاهب الفنية‬ ‫الناس منه ويعجبهم‪ ،‬فعلى الشاعر أن‬ ‫في األدب والفنون وتعدّدت ألوانها؛ ألن‬ ‫يكون منسجماً مع نفسه فكراً وسلوكاً‪،‬‬ ‫الشاعر من أي مذهب‪ ،‬أو إلى أي مدرسة‬ ‫وقــوالً وعمالً؛ ألنه يعد قــدوة‪ ،‬وصاحب‬ ‫كان انتماؤه ال ينفصل عن الواقع‪ ،‬الذي‬ ‫رسالة في المجتمع‪ .‬فهو ‪-‬واألمر كذلك‪-‬‬ ‫يبقى هو المرجع‪ .‬ولكن الــذي يختلف‬ ‫شخصية قيادية وريــاديــة‪ ،‬وليس مجرد‬ ‫لــدى الشعراء هو الوسيلة في التعبير‬ ‫بالحكم والنصح‬ ‫إنسان قادر على اإلتيان ِ‬ ‫واألسلوب الذي يتناول به النص الشعري‪،‬‬ ‫واإلرشــــاد ال ــذي إذا تمثل بــه اعــتــقــاداً‬ ‫والخلفية التي تشكلت عنده بفعل تجربته‬ ‫وتــحـلّــى بــه ســلــوكـاً تصبح لــديــه مقدرة‬ ‫اإلبــداعــيــة‪ ،‬وطــبــيــعــة تــكــويــنــه النفسي‬ ‫على صياغة القوالب الشعرية وتطويع‬ ‫واألسلوب الذي يتالءم معه‪ ،‬ويكون أكثر‬ ‫اللغة لما يريد وكما يــريــد‪ .‬فاألخالق‬ ‫انسجاماً وتناغماً مع هذا التكوين الذي‬ ‫حلية الشاعر ووقاره اإلبداعي حتى يجد‬ ‫تتداخل وتتفاعل فيه عوامل كثيرة‪ ،‬منها‬ ‫الناس رغبة في االستماع إليه‪ ،‬واألخذ‬ ‫ميوله واهتماماته ووجــدانــه والوسيلة‬ ‫عنه‪ ،‬واحــتــرام ما يدعوهم له من ُمث ٍُل‬ ‫األكثر مالءمة له‪ ،‬وأكثر تأثيرا به‪ ،‬وأوفر‬ ‫وقيم نفسية واجتماعية وفكرية ووطنية‬ ‫ٍ‬ ‫تعبيراً لديه‪ ،‬وعنده من ألــوان التعبير‬ ‫وسياسية (محلية وقومية)؛ والشاعر‬ ‫األخــرى ومستوياتها؛ فالشاعر عندما‬ ‫وشعره وجهان لعملة واحدة هي العملية‬ ‫يكون رومنسياً أو واقعياً أو كالسيكياً أو‬ ‫اإلبداعية بأخالقية ثابتة‪ ،‬ال تتحول وال‬ ‫رمزياً أو تعبيرياً أو طبيعياً‪ ،‬إلى غير ذلك‬ ‫تتغير مع الظروف واألح ــوال‪ .‬قــال اهلل‬ ‫من المذاهب األخرى‪ ..‬يبقى منطلقاً من‬ ‫سبحانه وتعالى ممتدحاً نبيه الكريم‬ ‫الواقع‪ ،‬ويظل الواقع المنبت والمستودع‬ ‫محمد صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬وإنك لعلى‬ ‫ال ــذي تنبعث منه كــافــة القضايا التي‬ ‫خُ ل ٍُق عظيم»‪..‬‬ ‫تشكل موضوعات لنصوصه الشعرية؛‬ ‫فاألخالق هي ميزة اإلنسان بفطرته‪ .‬ما‬ ‫حــتــى لــو أبـــدع نــص ـاً مــن الــخــيــال‪ .‬ألن‬ ‫فائدة الحياة بال أخالق؟ وكيف سيكون‬ ‫مكوناته العاطفية والثقافية واالجتماعية‬ ‫الشعر بال أخــاق تؤكد وجــودنــا وتعزز‬ ‫والنفسية وتطلعاته وميوله‪ ،‬جاء الكثير‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ ¦كـيــف ب ــدأ الـتـجــديــد فــي الـشـعــر األردن ــي‬ ‫المعاصر‪ ،‬وهــل صحيح أن عبدالرحيم‬ ‫عمر كان له السبق في الريادة‪ ،‬كما يرى‬ ‫بعض النقاد؟‬ ‫‪ρ ρ‬هذا سؤال يستحق االهتمام؛ ألنه يقود‬ ‫للحديث عن مرحلة جديدة متميزة من‬ ‫حياة الشعر في األردن؛ هذا من ناحية‪،‬‬ ‫كما أنــه يضع األمــر في نصابه ويعطي‬ ‫الــحــق بــرأيــي لصاحبه‪ ،‬وأقــصــد بذلك‬ ‫مَن هو رائد التجديد في الشعر العربي‬ ‫وليس في األردن فقط‪ .‬من الطبيعي أن‬

‫وإذا كان التاريخ هو الشاهد األول وهو‬ ‫الــفــيــصــل فــي الــحــكــم لــمــراحــل حــدوث‬ ‫الظاهرة أو الحدث‪ ،‬فبالرجوع إلى ما بين‬ ‫أيدينا في المراجع والكتب والبحوث التي‬ ‫تحدثت حول هذا الموضوع يكون (عرار)‬ ‫مصطفى وهبي التل‪ -‬بناء على ما يتوافر‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫منها من الــواقــع؛ والــواقــع هو المخزون‬ ‫ال ــذي يمدنا بالقضايا والموضوعات‬ ‫التي تشغل بال الشاعر ويسعى للتعبير‬ ‫عنها‪ .‬إنما نكون واقعيين أو كالسيكيين‬ ‫أو رومانسيين أو تأثيريين أو تعبيريين‬ ‫وغــيــر ذل ــك مــن الــمــذاهــب والــمــدارس‬ ‫بطريقتنا الــتــي نــتــنــاول فيها أح ــداث‬ ‫حياتنا‪ ،‬ونعبر عنها بالطريقة التي نجد‬ ‫أنفسنا بها منسجمين مع ذواتنا ضمن‬ ‫أجــواء وأساليب وطــرائــق فنية خاصة؛‬ ‫فكل شاعر يختلف عن غيره؛ لهذا نجد‬ ‫تنوعاً عند الشعراء‪ ..‬وفــي هــذا إغناء‬ ‫لــإبــداع وجمال في التناول واألسلوب‬ ‫والطريقة حتى ال ننسج على منوال واحد‬ ‫ومتشابه‪ ،‬بعيداً عــن الملل والجفاف‬ ‫والــتــصــحــر الــشــعــري؛ وف ــي حــيــن يكون‬ ‫اختالف المذهب بما يقتضيه من تنوّع‬ ‫في أساليب التعبير أكثر تشويقاً وإقناعاً‬ ‫وأغنى لتجاربنا اإلبداعية‪.‬‬

‫نجد أكثر من رأي حول ظاهرة التجديد‬ ‫التي يكاد من المتفق عليه أنها بدأت في‬ ‫األربعينيات من القرن الميالدي الماضي‪.‬‬ ‫وليست هنا المشكلة‪ ،‬بل هي في إصرار‬ ‫بعضهم على رأي بتسمية شاعرين لهذه‬ ‫الريادة‪ ،‬رغم أن التاريخ الزمني ال يؤيد‬ ‫دعواهم‪ .‬ورغم ذلك يظلون على رأيهم‪.‬‬ ‫الشاعرة نازك المالئكة اعترفت بأسبقية‬ ‫بعض هذه المحاوالت ‪-‬التجديدية‪ -‬على‬ ‫محاولتها‪ .‬وهي ‪ -‬نازك المالئكة ترى أن‬ ‫هذا االتجاه الشعري قد ظهر في أواخر‬ ‫األربعينيات‪ ،‬وأن أول قصيدة حرة نشرت‬ ‫كانت قصيدتها «الكوليرا» سنة ‪1947‬م‪،‬‬ ‫ذكرت أنها كتبتها في ‪1947/10/27‬م‪،‬‬ ‫نشرتها مجلة العروبة البيروتية في عدد‬ ‫ديسمبر (كــانــون األول) عــام ‪1947‬م‪،‬‬ ‫وأنها صدرت فيما بعد ضمن مجموعتها‬ ‫«شظايا ورماد» سنة ‪1949‬م‪ ،‬ومعها دعوة‬ ‫رسمية إلى الشعر الحر في المقدمة‪.‬‬ ‫وقد تنازعت نازك والسياب ريادة الشعر‬ ‫الحرّ‪ ،‬وقوبل ادّعاء نازك السبق إلى هذا‬ ‫النوع من الشعر بعاصفة من النقد‪ ،‬إذ‬ ‫ذكر بعض النقاد شعراً ح ّراً لشعراء عرب‬ ‫قبل هذا التاريخ‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫لنا بهذا الشأن ‪ -‬هو رائد التجديد في‬ ‫الشعر العربي‪ -‬يقول أ‪ .‬د‪ .‬عبدالفتاح‬ ‫النجار في كتابه (حركة الشعر في األردن‬ ‫(‪1992-1971‬م)‪ ،‬مطبعة البهجة‪ /‬إربد‪،‬‬ ‫الطبعة األولى‪ /‬عمّان‪1998 ،‬م‪ .‬ما يلي‪:‬‬ ‫(ومن محاوالت تطوير القصيدة العربية‪،‬‬ ‫الــتــجــارب الشعرية الــثــاث الــتــي كتبها‬ ‫شاعر األردن مصطفى وهبي التل (عرار)‬ ‫(‪1949-1897‬م) وهي‪« :‬متى» و«يا حلوة‬ ‫النظرة» و«أعن الهوى»)‪.‬‬ ‫وفي كتابه مصطفى وهبي التل (عــرار)‬ ‫حياته وشعره؛ أورد الكاتب يوسف عطا‬ ‫الــطــريــفــي تــواريــخ كــتــابــة (عــــرار) لهذه‬ ‫القصائد الثالث على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫«قصيدة‪ :‬متى؟» بتاريخ ‪ 8‬تشرين الثاني‬ ‫‪1942‬م‪.‬‬ ‫«قصيدة‪ :‬يــا حلوة النظرة» بتاريخ ‪28‬‬ ‫كانون الثاني عام ‪1942‬م‪.‬‬ ‫«قصيدة‪ :‬أعن الهوى» سنة ‪1942‬م‪.‬‬

‫‪112‬‬

‫أن ال يعرفوا هذه الحقيقة‪ ،‬ولم تصلهم‬ ‫ولم يوسعوا دائرة بحثهم ليشملوا األردن‬ ‫وشعره في دراساتهم وبحوثهم‪ .‬وهذه هي‬ ‫الحقيقة المدعمة بالتواريخ آنفة الذكر‪.‬‬ ‫أم ــا بــالــنــســبــة لــمــا تــفــضـلّــت بــذكــره أو‬ ‫االستفسار عنه حول صحة أن عبدالرحيم‬ ‫عمر كان له السبق في مسألة الريادة‪-‬‬ ‫كما يرى بعض الكتّاب‪:‬‬ ‫أرجو أن أؤكد محبتي وتقديري ألستاذي‬ ‫الــجــلــيــل الــمــرحــوم عــبــدالــرحــيــم عمر‬ ‫ا في‬ ‫واعــتــزازي بــه إنساناً وأخــاً وزمــيـ ً‬ ‫العمل (فــي اإلذاع ــة)‪ ،‬ولــن أنسى فضله‬ ‫ورعايته لي أيام كان رئيسي في العمل‪-‬‬ ‫في اإلذاعة األردنية‪ ،‬إذ كان مديراً للبرامج‬ ‫وكنت في معيته رئيساً للقسم الثقافي‪،‬‬ ‫وإنني أقدر شاعريته المتميزة ومسيرته‬ ‫الثقافية والحياتية‪ ،‬وهــو بــا شــك من‬ ‫الــقــادة الرياديين في الساحة الثقافية‬ ‫األردنــيــة والعربية‪ ،‬وقــد كانت (لــعــرار)‬ ‫عنده مكانة خاصة ال ينافسه عليها أحد‪.‬‬ ‫رغم كل ذلك من تقديريي واعتزازي به‬ ‫ح ّياً وفقيدا‪ ،‬فإن الريادة في الشعر الحر‬ ‫(الحديث) وفق ما ذكرت من معطيات هي‬ ‫لشاعر األردن (ع ــرار) مصطفى وهبي‬ ‫التل‪ .‬رحم اهلل عرار‪ ،‬ورحم اهلل أستاذي‬ ‫عبدالرحيم عمر‪ ،‬فقد كانا من أعمدة‬ ‫الثقافة واألدب في األردن‪.‬‬

‫وبناء على ذلك يكون عرار قد سبق نازك‬ ‫المالئكة فــي كتابة القصيدة الحديثة‬ ‫(الحرة) بحوالي خمس سنوات‪ ،‬ويكون‬ ‫مصطفى وهــبــي الــتــل (عــــرار)‪ -‬شاعر‬ ‫األردن‪ -‬هو رائد الشعر الحر (الحديث)‬ ‫اعتماداً على هذا الفرق الزمني بين نظم‬ ‫نازك المالئكة وبدر شاكر السياب؛ أما‬ ‫لهذا اإلصرار على تسمية نازك وبدر لهذه ¦مــا هــو أث ــر شـعــرك خ ــارج ال ـح ــدود؟ وهــل‬ ‫الريادة فأمر يحتاج إلى بحث خاص‪ ،‬أهم‬ ‫ت ـع ـت ـقــد أنـ ـ ــك قـ ـم ــت ب ــواجـ ـب ــك فـ ــي ه ــذا‬ ‫ما يمكن أن يقال فيه ليس ذنب (عرار)‬ ‫المجال‪ ،‬وكيف يمكن مــن وجهة نظرك‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫‪ρ ρ‬سبق وأن كانت لي مشاركات شعرية في‬ ‫بعض المهرجانات العربية واألجنبية‬ ‫في العراق‪ ،‬ومصر‪ ،‬والجزائر وإيطاليا‪،‬‬ ‫والكويت‪.‬‬ ‫وقد لقي الشعر الذي شاركت به أو قدمته‬ ‫في هذه المناسبات استحساناً‪ .‬كما أنني‬ ‫قمت بتزويد بعض المؤسسات الثقافية‬ ‫التي تعنى بــاإلبــداع ببعض إصــداراتــي‬ ‫الشعرية‪ ،‬وكذلك زوّدت عدداً من األدباء‬ ‫العرب ببعض هــذه الــدواويــن‪ .‬وقــد قام‬ ‫بعض النقاد العرب بتقديم دراسات عن‬ ‫بعض أعمالي الشعرية في المؤتمرات‪،‬‬ ‫فكانت اآلراء واألفــكــار بشأنها أيضاً‬ ‫في غاية األهمية واإلشــادة بمضامينها‬ ‫وموضوعاتها ومستوياتها الفنية‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى بعض الدراسات النقدية التي قدّمها‬ ‫أساتذة أكاديميون في الجامعات األردنية‪.‬‬

‫الجماهير‪ ،‬فال شك أن هناك وسائل كثيرة‬ ‫متعددة ومتنوعة وتالئم كل المستويات‬ ‫واألنواع الثقافية واإلبداعية منها‪:‬‬ ‫ المحاضرات والندوات على أن يراعى‬‫تعميمها على مختلف المناطق وال يجري‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫لـلـشـعــر أن ي ـصــل إلـ ــى أوس ـ ــع ق ــاع ــدة في‬ ‫الجماهير؟‬

‫تــوصــيــل الــشــعــر إل ــى أوس ــع قــاعــدة في‬

‫تركيزها في العاصمة‪.‬‬ ‫ المهرجانات الشعرية‪.‬‬‫ الــمــعــارض‪ :‬ويحشد فيها ألكبر عدد‬‫من الكتب والدواوين الشعرية‪ ،‬وال شك‬ ‫بأن المعارض التي تقيمها وزارة الثقافة‬ ‫ال عاماً‬ ‫تحت عنوان مكتبة األسرة تعد عم ً‬ ‫ناجحاً لهذه الغاية‪.‬‬ ‫ المؤتمرات الخاصة بالشعر‪ :‬ويتاح‬‫ألكبر عــدد ممكن مــن المهتمين وذوي‬ ‫العالقة للحضور والمشاركة‪.‬‬ ‫‪ -‬الــمــجــات والــنــشــرات المتخصصة‬

‫والحقيقة أنــنــي بما قــدمــت مــن خالل‬ ‫الـ ــدواويـ ــن الــتــي تــش ـرّفــت بــإصــدارهــا‬ ‫وتقديمها إلــى الجمهور الكريم‪ ،‬قارئاً‬ ‫ومستمعاً‪ ،‬وتــنــاولــي للقضايا الوطنية‬ ‫والقومية التي تتصل بحياته‪ ،‬تجعلني‬ ‫أشعر باعتزاز بإسهامي في ثقافتنا وأدبنا‬ ‫المحلي والقومي واإلنــســانــي‪ ..‬وأشعر‬ ‫بارتياح وأنني في حدود ما أستطيع قد‬ ‫قمت بواجبي على أفضل نحو ممكن‪.‬‬

‫‪ -‬نشر ودعم إبداعات الشعراء من مختلف‬

‫أما الوسيلة المثلى التي يمكن بواسطتها‬

‫األعمار والمراتب واأللوان الشعرية‪.‬‬

‫فــي الشعر‪ .‬ونــشــر إبــداعــات الناشئين‬ ‫والمبدعين من الشعراء‪ ،‬لتقديم صورة‬ ‫عن التجربة الشعرية للشباب والناشئين‬ ‫والروّاد‪.‬‬ ‫ تخصيص الجوائز والمكافآت للفائزين‬‫في مسابقات ومنافسات تقام لتشجيع‬ ‫الشعراء وتعميم منجزهم الشعري‪.‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪113‬‬


‫الشاعر‬ ‫مـــــازن‬ ‫اليحيا‬ ‫في المجر‪ ،‬قلب القارة األوروبية‪ ،‬درست األدب اإلنجليزي‪ ،‬وهناك‬ ‫العربية‬ ‫ِ‬ ‫لدي صداقات بأشخاص لديهم الفضول بآداب اللغة‬ ‫تكوَّ نَت َّ‬ ‫وبالشعر الحديث بخاصة‪.‬‬ ‫العتبارات تاريخية‬ ‫ٍ‬ ‫انفتاح اللغة اإلنجليزية على ثقافات الشعوب‬ ‫المرونة وهي تتقدم عبر الزمن‪!..‬‬ ‫ِ‬ ‫معروفة مَ نَ حها نوع ًا من‬ ‫قصائد «والت ويتمان» أو «آلن غينسبرغ» أو حتى «جون آغارد الكاريبي»‬ ‫لهي خير دليل على معجزة خلق القوانين الصارمة‪!..‬‬ ‫عملية اإلفادة من وسائل التواصل االجتماعي الحديثة لم تزل في‬ ‫عالمنا العربي محدودة المنفعة‪ ،‬ومردودها لم يزل محصور ًا في حدود‬ ‫المنفعة الفردية الضيقة!‬ ‫مكتبة الكونغرس األمريكي‪ ،‬ال أفارقها لما تحويه من أعمال أدبية‬ ‫ولقاءات نادرة‪!..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومحاضرات‬ ‫ٍ‬ ‫ودراسات‬ ‫ٍ‬ ‫■ حاوره ‪ :‬عمر بوقاسم‬

‫حياته غنية بالتفاصيل الخاصة التي يصعب أن تتكرر‪ ،!..‬الشاعر مازن اليحيا‬ ‫الــذي أهــدى المكتبة الشعرية أربــع مجموعات‪ ،‬يعد أحد األسماء المتميزة في‬ ‫الساحة الشعرية السعودية‪ .‬والقارئ لهذه المجموعات الشعرية سوف يدرك أن‬ ‫ما يقرأه هو مشهد كامل بعين الشاعر‪ ،‬الذي ورث هذه المجهرية الذي يخلق بها‬ ‫صورة تتقطر بالكثير من مشاهد الحياة الخاصة التي عاشها شاعرنا مع والده‬ ‫الفنان الكبير عبدالجبار اليحيا «يرحمه اهلل»‪..‬‬

‫‪114‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫من عالم الشاعر‪!..‬‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫وعندما سألته عن األثر الذي تركه الفنان عبدالجبار اليحيا في الشاعر مازن‬ ‫للعمل الفني يجب أن يكون منهلها رغبة اإلنسان‬ ‫ٍ‬ ‫اليحيا‪ ،‬قال‪ « :‬القوانين الصارمة‬ ‫العميقة في الوصول إلى الرقص الجماعيِّ ‪ ..‬عرضةً سامريةً في ليلنا األبهى‪.‬‬ ‫ترك لي الدربَ المستحيل َة وجنائنَ الذكرى»‪ ..‬وهذا ما يقودنا إلى هذا الحوار‪..‬‬

‫ ¦شـيــاطـيــن‪2000 ،‬م‪ ،‬دار ال ـك ـنــوز األدب ـي ــة‪،‬‬ ‫ب ـيــروت»؛ «‪ ،»Flags of March‬مجموعة‬ ‫شعرية باللغة اإلنـجـلـيــزيــة‪2000 ،‬م‪ ،‬دار‬ ‫الكنوز األدب ـيــة‪ ،‬ب ـيــروت»؛ «رس ــام علّمَ ني‪،‬‬ ‫‪2010‬م‪ ،‬دار شــرق ـيــات لـلـنـشــر وال ـتــوزيــع‪،‬‬ ‫الـقــاهــرة»؛ «أطـيــر صــوامــع الـغــال عاليا‪،‬‬ ‫شعر‪2018 ،‬م‪ ،‬دار عرب للطباعة والنشر»‪.‬‬ ‫ه ــذه اإلصـ ـ ــدارات لـلـشــاعــر م ــازن اليحيا‬ ‫وهي توثق مشوار شاعرنا منذ تسعينيات‬ ‫الـ ـق ــرن الـ ـم ــاض ــي‪ ،‬ال ـ ــذي يـعـتـمــد كـثـيــرا‬ ‫على خلق الصورة الشعرية من تجربته‬ ‫المعاشة والخاصة وهذا ما يميزه‪ .‬مازن‬ ‫اليحيا‪ ،‬ماذا يقول في هذا االتجاه؟‬ ‫حولنا هي ما تفضي بوعينا إلى «حاستِهِ‬

‫‪ρ ρ‬الصورة الشعرية المعاشة والخاصة‪ ،‬أرى‬ ‫الــســادســةِ »‪ ،‬فاللقطة المرئية هــي ما‬ ‫مقومات‪ ،‬بل‬ ‫ِ‬ ‫الوصف ما هو من‬ ‫ِ‬ ‫في هذا‬ ‫تمنحها البوصل َة والداللة‪.‬‬ ‫الواجب تحققها‬ ‫ِ‬ ‫الشروط المبدئِيةِ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫عمل فنيٍّ بالمطلق‪ .‬بصرف النظر‬ ‫في أي ٍ‬ ‫في أعمالي التي ذكرتها في سؤالك إنما‬ ‫عن إن كانت الصورة الشعرية المعاشة‬ ‫كنت أحاو ُل اإلبرةَ ال ُممَغنَطة‪.‬‬ ‫والــخــاصــة مــنــتــقــا ًة مــبــاشــر ًة مــن عــالــمِ‬ ‫في قلب القارة األوروبية‪!..‬‬ ‫آلة‬ ‫الشاعر كما تلتقط الصو ُر بعدسةِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تصويرية‪ ،‬أو كانت مستقا ًة‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‪ ،‬وعلى ¦«‪ ،»Flags of March‬عـنــوان مجموعتك‬ ‫مباشر فإنها ضرور ًة أولى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫شكل‪ ،‬غيرِ‬ ‫ٍ‬ ‫الـ ـ ـشـ ـ ـع ـ ــري ـ ــة والـ ـ ـ ـت ـ ـ ــي كـ ـتـ ـبـ ـتـ ـه ــا ب ــالـ ـلـ ـغ ــة‬ ‫فإن كانت عالقة الحواس بالعالم الذي‬

‫اإلنجليزية‪ ،‬ما سر كتابتك لهذه التجربة‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪115‬‬


‫مــــاء‬

‫مص التمر َة في المهدِ ثدي‬ ‫َّ‬ ‫ن َ​َصبَ الخيم َة يسبِ قُ ني‬ ‫في ساحِ غدي‬

‫هواءٌ‬ ‫عاش‬ ‫َلب َ‬ ‫بال األ ِ‬ ‫في ِج ِ‬ ‫الثلج‬ ‫بياض ِ‬ ‫في ِ‬ ‫مات والع ِ‬ ‫سالالت من ال َنّسَ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أجيا ًال وأجيا ًال‬ ‫طريح للهوى واسرجن به‬ ‫ٍ‬ ‫َصف «داسَ ن‬ ‫أطنان ًا من الصحوِ الذي يُحصى بِ سَ رمَدِ هِ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫كِ نّه على ز ِ َّل الزوالي بتابوت»‬ ‫(‪)٢‬‬ ‫«مسومل عقب مي مبهوت»‬ ‫زمهريرُ‬ ‫وطهُ عب َر السنين تكا َثفَت‬ ‫خط ُ‬ ‫ُ‬ ‫األرض ينفُ ثْ‬ ‫ِ‬ ‫غاسق‬ ‫ِ‬ ‫مَن رآى من‬ ‫تقاطع ًا وتكثّفت‬ ‫الجبال ُ‬ ‫ِ‬ ‫بين‬ ‫نيزك ًا صوبَ الثُريّا والمعارِ ج‬ ‫برد ًا على بردٍ‬ ‫بقوس نافرٌ‬ ‫ٍ‬ ‫خطه ميلٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ضباب ًا دون مادتِ هِ‬ ‫من ِ‬ ‫العج‬ ‫رضاب الغيمِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثقيل الق ِ َّر سالت كِ رِ ستا ًال وسالت سَ لْسَ بيل ِحبرُ ُه من‬ ‫فاضت‬ ‫الوقت َ‬ ‫ِ‬ ‫نسيج‬ ‫في ِ‬ ‫مُ ستَحل ٌَب‬ ‫‪.......‬‬ ‫أمشاجهِ َغب ٌَش‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫‪.......‬‬ ‫ووصلٌ في ِمدرارِ هِ غيرُ مبتوت‬ ‫‪.......‬‬ ‫من أين يأتي ماءُ المسابِ ح؟‬ ‫يا بن لُعبون المطارِ ح‬ ‫من رَعدِ ها‬ ‫صاخب دورانُها حول مكانِ َك‬ ‫ٌ‬ ‫من دَمدَمٍ في الروحِ يبقى عند غيبتهِ‬ ‫والخَ لوجُ‬ ‫والتروس في السماء‬ ‫ِ‬ ‫السيوف‬ ‫ِ‬ ‫من قَعْ قَعِ‬ ‫السكوت‬ ‫نحيبُها خا ُم ُّ‬ ‫كالحق مَرق َْب‬ ‫ِّ‬ ‫من وقفةٍ‬ ‫‪.......‬‬ ‫أعراف النخيل‬ ‫ِ‬ ‫بين‬ ‫‪.......‬‬ ‫يَدلِ ُف في العشرين من صالةِ العمرِ‬ ‫‪.......‬‬ ‫والدنيا مَجالِ ْس‬ ‫الشوك عذب ًا والمَحلُ مالِ ح؟‬ ‫ِ‬ ‫من أين َنتْحُ‬ ‫الح ِ ّج ِي‬ ‫ِح ِ ّجي المزروع ِ‬

‫اب ــنُ مُ ــجَ ـ ِ ّـبــرِ الــعِ ـظــامِ بـيــديــهِ (ي ـبــر ُأ حتى كسر‬ ‫الترقوة)‬ ‫أراض جَ اللُ ِشعابِ ها برقٌ ‪:‬‬ ‫من ٍ‬ ‫الجل!‬ ‫جَ ِ‬ ‫‪.......‬‬ ‫‪.......‬‬ ‫‪.......‬‬ ‫من أين مُ ّ َذهَ ُب الماءِ في َزر ِْي المشالِ ح؟‬ ‫تفج َر سالَ بثادِ ق‬ ‫َثدَقَ الماءُ ّ َ‬ ‫سقف ُسرادِ ق‬ ‫َودَقَ المطرُ إلى ِ‬

‫في مدرسةِ العُ َل َيّا‬ ‫في الثانويةِ مُ خ َتبَر‪:‬‬ ‫غلينا الما َء في دَور ٍَق‬ ‫وعزلنا الهيدروجين ببو َتقَة‬ ‫لم نكن ندري بماذا تُربَط الذ َرّات‬ ‫وال لماذا انفلَتَ األوكسجينُ في الهواءِ‬ ‫لحظةً محترِ قَة‬

‫(‪ )٢()١‬من شعر «محمد بن لعبون»‪.‬‬

‫‪116‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫من نصوص الشاعر مازن اليحيى‬


‫‪ρ ρ‬مــنــذ مــطــلــع الــتــســعــيــنــيــات م ــن الــقــرن‬ ‫الماضي وحتى آخــرهــا‪ ،‬كنتُ فــي قلب‬ ‫القارة األوروبية أدرس األدب اإلنجليزي‬ ‫في إحدى جامعاتها‪ .‬تك َّونَت هناك لديَّ‬ ‫صــداقــاتٌ لدنها فــضــو ٌل بـــآداب اللغة‬ ‫العربيةِ وبالشعر الحديث بخاصة‪.‬‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫باإلنجليزية‪ ،‬وهل هناك خصائص فنية‬ ‫تتميز بها القصيدة باللغة اإلنجليزية؟‬

‫اإلنجليزية‪ .‬إن انفتاح اللغة اإلنجليزية‬ ‫عــلــى ثــقــافــات وحـ ــضـ ــارات الــشــعــوب‬ ‫العتبارات تاريخية معروفة‪َ ،‬منَحها نوعاً‬ ‫ٍ‬ ‫من المرونةِ وهي تتقدم عبر الزمن‪ .‬هذه‬ ‫المرونة‪ ،‬التي عكست وانعكست في ج ِّل‬ ‫محافلِ نشاطاتِهم أثّرت وأثرَت مخرَجات‬ ‫ثقافتهم األدبية‪ ،‬منها دون شك الشعر‪.‬‬ ‫ولكن علينا ان ننتبه ان األعمال الفنية‬ ‫قاطبة تخضع في صميمها لعملية خلق‬ ‫شـــروط جــديــدة‪ .‬إلعـ ــادة خــلــق شــروط‬ ‫جــديــدة‪ .‬المرونة في اللغة اإلنجليزية‬ ‫سمحت للشاعر ان يعيد صياغة شروط‬ ‫القصيدة‪ .‬وسمحت كذلك للمتلقي ان‬ ‫يقيم العمل وفقاً لمدى نجاعة قوانين‬ ‫العمل الفني (القصيدة) في إيصال قيمة‬ ‫نابض ما‪.‬‬ ‫تواتر ٍ‬ ‫جمالية ذات ٍ‬ ‫إن قصائد والت ويتمان أو آلن غينسبرغ‬ ‫أو حتى جون آغــارد الكاريبي لهي خير‬ ‫دليل على معجزة خلق القوانين الصارمة‬ ‫والشروط المتشعبة الدقيقة التي منحتها‬ ‫مرونة اللغة للقصيدة‪.‬‬ ‫خطف الفكرة‪!..‬‬

‫شخصية كانت هناك رغبة تلح‬ ‫ٍ‬ ‫ناحية‬ ‫ٍ‬ ‫ومن‬ ‫عليَّ حدَّ األرق في أن يتواصل الشاع ُر ¦«‪1931‬م ‪2014 -‬م» بين هذين التاريخين‬ ‫بكل إيــقــاع تفاعالتِهِ مــع َمــن يعايشهم‬ ‫عاش الفنان التشكيلي الكبير عبدالجبار‬ ‫يومَهم وحياتَهم‪ ،‬تاريخَ هم‪ ،‬مدنَه‪ ،‬في أن‬ ‫اليحيى «رحـمــه اهلل» وهــو صاحب سيرة‬ ‫رقصهِ ألقدامِ هم والكتوف‪.‬‬ ‫ساحات ِ‬ ‫ِ‬ ‫يمدَّ‬ ‫متميزة توثقها أعماله‪ ،‬وهــو والــدك‪ ،‬ما‬ ‫أردتُ أن أر َّد شيئًا من جميلِ جميلِهم‪.‬‬ ‫األثر الذي تركه في الشاعر مازن اليحيا؟‬ ‫حنان‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الخط كانحناءِ‬ ‫ُّ‬ ‫وهــذا ما يأتي بي إلــى سؤالك حــول ما ‪ρ ρ‬ال اللونُ‪ ،‬ال‪ ،‬ال‪ .‬ال‬ ‫قــد يميز الخصائص الفنية للقصيدة‬ ‫الغروب‪ ،‬ال‪ .‬ال البرتقال ُة في يد‬ ‫ِ‬ ‫كقوس‬ ‫ِ‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪117‬‬


‫السمراءِ أو في كبدِ السماء‪ .‬بل الساع ُد‬ ‫مــشــدود ًة في فعل البناءِ ‪ .‬النخلةُ‪ ،‬حين‬ ‫تطول وتعلو‪ ،‬لتش ِب َه البنتَ والمرأةَ سعفاً‬ ‫‪ρ ρ‬بل هي نمط من أنماط الشعر العربي‬ ‫عثرات‬ ‫ِ‬ ‫وعذقا‪ .‬الدربُ التي مشاها جاب ُر‬ ‫ِ‬ ‫الــحــديــث‪ .‬قــد تــكــون تــجــارب الشعوب‬ ‫آهات‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫الكرامِ واألعشى‪ .‬النسي ُم حام ً‬ ‫األخرى أسهمت في دخول الجيل األول‬ ‫من مروا بوادي حنيف َة عبر الزمان وتركوا‬ ‫من شعراء العربيةِ في مضمار التجربة‪.‬‬ ‫البيتَ والخطوةَ األسمى‪.‬‬ ‫ـات السيئ َة‬ ‫غــيــر أن ــي أرى أن الــتــرجــمـ ِ‬ ‫تُولوز لُترك وجنوحه العارم ألن يصي َر‬ ‫وانعدا َم الحريةِ لدى الشعوب العربية أ ّث َر‬ ‫عمالقاً قائداً للمستضعفين ال الضعفاء‪.‬‬ ‫سلباً وفتح المجال لمن ال مَلكة شعري َة‬ ‫لــخــطــفِ ــهِ فــكــرةَ الــتــعــبــيــرِ رســم ـاً صــوب‬ ‫لديه‪ ،‬إن تــوافـرَت‪ ،‬انعدمت المسؤولية‬ ‫الجديدِ ‪ ،‬صوب الطباعةِ ‪ ،‬صوب الملصق‬ ‫الذاتية لديه تجاه الموهبة‪ -‬وإن توافرَت‬ ‫الــدعــائــيِّ وبهجةِ البوست‪ ،‬نحو تعريةِ‬ ‫ال َمل َ َك َة الشعرية والمسؤولية‪ ،‬غاب جو ُع‬ ‫الزيف في صدر الفرد ومنابر القطيع‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـف عــنــه‪ .‬تــاريــخ ديــوان‬ ‫المعرفةِ والــكــشـ ِ‬ ‫بعض النقاد والكتّاب‪ .‬مازن اليحيا ماذا‬ ‫يقول؟‬

‫فان غوخ‪ ،‬حين البطاطا بالكاد تكفي جو َع‬ ‫مَن في مناجمِ الفحمِ ماتوا قدّا َم أوروبا‪،‬‬ ‫ـات وغيوماً تراكمي ًة‬ ‫وهــي تتشكل شــركـ ٍ‬ ‫الشمس يكون عنفوا َن‬ ‫ِ‬ ‫عظمى‪ .‬حين عبّا ُد‬ ‫البؤس والصرخ َة المثلى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وضدَّ‬ ‫الحياة ِ‬

‫رمــال ال تحصى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫العرب ضــاربُ أل ــوانِ‬ ‫فيه من النثر ما يرفع الموسيقى خيمةً‪،‬‬ ‫فيه ما يمنح الصواري أشرعة‪ .‬إن بحور‬ ‫الخليل لم تزل في طور التشكّل ما دامت‬ ‫يره َف‬ ‫اللغة حَ ِييّة‪ .‬ما على الشاعر إال أن ِ‬ ‫السمع‪.‬‬

‫للعمل الفني يجب أن‬ ‫ٍ‬ ‫القوانين الصارمة‬ ‫يكون منهلها رغبة اإلنسان العميقة في‬ ‫صوت القصيدة‪!..‬‬ ‫الوصول إلى الرقص الجماعيِّ ‪ :‬عرض ًة‬ ‫ ¦شعراء الستينيات والسبعينيات وكذلك‬ ‫سامري ًة في ليلنا األبهى‪.‬‬ ‫شـ ـع ــراء ال ـث ـم ــان ـي ـن ـي ــات‪ ،‬ي ـت ـح ــدث ــون عــن‬ ‫تــرك لــي الـ ــدربَ المستحيل َة وجنائ َن‬ ‫ت ـج ــارب ـه ــم ب ــأن ـه ــا األحـ ـ ــق ب ــال ـب ـق ــاء‪ ،‬وأن‬ ‫الذكرى‪.‬‬ ‫األجيال التي تلتهم‪ ،‬لم تأت بشيء جديد‬ ‫يستحق الوقوف عليه‪ ،‬هل هذا صحيح؟‬ ‫بحور الخليل لم تزل في طور‬ ‫ماذا تقول؟‬ ‫التشكّ ل‪!..‬‬

‫‪118‬‬

‫ ¦«قصيدة النثر ترتبط بالذائقة األجنبية ‪ρ ρ‬ال يُحصر الشعر بجيل أو حقبة‪ .‬من رأى‬ ‫في هــذا القول صوابًا حــادًا‪ .‬قد يبهت‬ ‫وال ـ ـتـ ــراث األج ـن ـب ــي‪ ،‬ول ـي ـســت نــاب ـعــة من‬ ‫صوت القصيدة في شتاءٍ ما ليمنح لشاشة‬ ‫التراث العربي»‪ ،‬هذه العبارة تحمل تصور‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫السينما قبساً أو يهب النار للمسرح‪.‬‬ ‫ولكني أرى إن األشكال الفنية واألدبية‬ ‫الباقية ستظل باقية‪ ،‬وإن اندمجت في‬ ‫ـارع ما مع الطريق‬ ‫مكان ما كاندماج شـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫السريع‪ .‬سيبقى للطرق الصغيرة الضيقة ‪ρ ρ‬إن عملية االستفادة من وسائل التواصل‬ ‫مُشاتها‪ ،‬وستكتظ بأحبابها إن شــاؤوا‬ ‫االجتماعي الحديثة لم تزل في عالمنا‬ ‫الكرنفال‪ .‬أقول هذا ألن الموسيقا عض ٌو‬ ‫العربي محدودة المنفعة‪ ،‬ومردودها لم‬ ‫رئيس من أعضاء الكالم وحادي موكب‬ ‫ٌ‬ ‫يزل محصوراً في حدود ونطاق المنفعة‬ ‫العاطفة فيه‪ ،‬وإن منه خَ ل َت‪.‬‬ ‫الفردية الضيقة‪ .‬في النشاطات األدبية‬ ‫كما في سائر النشاطات األخرى‪.‬‬ ‫ظاهرة طبيعية‪!..‬‬ ‫ثــم هناك المتابعين‪ ،‬هــل لهم دور؟ هل‬ ‫ستساعد متابعاتهم ومشاركاتهم (التي‬ ‫ُتـ ـ ـوَثِ ـ ــق) ب ــال ــوص ــول ل ـل ـه ــدف ال ـج ـمــاعــيِّ‬ ‫المعل َِن والمش َترَك؟‬

‫طوبى لسعدي يوسف‬ ‫وطوبى لمشواره‪!..‬‬

‫ ¦انـتـشــرت عـلــى الشبكة الــرقـمـيــة مــواقــع‪،‬‬ ‫تدّ عي أنها الحاضنة للتجارب اإلبداعية‬ ‫ال ـش ـبــاب ـيــة‪ ،‬وك ــأن ـه ــا ت ـلــزم ـهــم بــالـحـضــور ¦فــي حـ ــواري مــع الـشــاعــر الـعــربــي الكبير‬ ‫س ـعــدي ي ــوس ــف‪ ،‬وال ـ ــذي نـشــر ف ــي مجلة‬ ‫كبوابة لدخول عالم األدب الموثق‪ ،‬هل‬ ‫اإلع ـ ـ ـ ــام واالتـ ـ ـ ـص ـ ـ ــال‪ ،‬قـ ـ ــال ف ـ ــي إح ـ ــدى‬ ‫تجد هــذا االنتشار لمثل هــذه المواقع‪،‬‬ ‫إج ــاب ــات ــه‪« :‬إن ـن ــا مـتـخـلـفــون ش ـعــري ـ ًا إزاء‬ ‫ظاهرة صحية لإلبداع؟‬ ‫األم ــم األخـ ــرى‪ ،‬مـعــاركـنــا األدب ـيــة بائسة‬ ‫مجتمع‬ ‫ٍ‬ ‫‪ρ ρ‬إن لم يأت االنتشار من مؤسسات‬ ‫بالفعل»‪ ،‬ما رأيك؟‬ ‫حر‪ ،‬ومن قطاعيه العام والخاص‪ ،‬سيبقى‬ ‫ٍ‬ ‫‪ρ ρ‬سعدي يوسف له في المنشط الثقافي‬ ‫ال فردياً يستفيد منه أفراد‪.‬‬ ‫التوثيق عم ً‬ ‫حول العالم والمحفل الشعري بخاصة‬ ‫وال في الظاهرة التي ذكرتَها سوى أنها‬ ‫احتكاك لصيق‪ ،‬وتجربته الفذة والطويلة‬ ‫ظاهرة طبيعية تتطور مع تطور المجتمع‪.‬‬ ‫دليل على هذا‪ .‬ومن زاويتي وركني‬ ‫لَخَ ير ٍ‬ ‫ ¦قــد يحظى مــوقــع مــا بــاهـتـمــام متابعيه‬ ‫الظليل والــهــادئ‪ ،‬أرى أنــه قــال صدقاً‪.‬‬ ‫وازدياد عددهم بسبب مشاركة كوكبةٍ من‬ ‫ألسنا نرى عبر العالم العربي االبتعاد عن‬ ‫األدب ــاء ونشاطهم‪ ،‬ولكن علينا أن نقف‬ ‫موقع من‬ ‫ٍ‬ ‫أي منابزة بين أدبائنا إال على‬ ‫لـحـظــةً لـنـســأل أنـفـسـنــا أسـئـلــة مبدئية‪:‬‬ ‫مواقع صيغ التفضيل‪ ،‬كــاألول‪ ،‬األقــوى‪،‬‬ ‫ما هو هدف الموقع من التوثيق؟ ما هو‬ ‫وعلى المناصب؟ ومن لم يستطع المنابزة‬ ‫ه ــدف األدي ــب مــن الـتــوثـيــق؟ هــل التقيا‬ ‫منصب فتراه ينافح على‬ ‫ٍ‬ ‫موقع أو‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫عـلــى غــايــةٍ مـشـتــركــة؟ هــل ُأع ــلِ ــنَ الـهــدف‬ ‫الــجــوائــز‪ ،‬هــذه أو تلك‪ .‬طوبى لسعدي‬ ‫يــوســف وطــوبــى لــمــشــواره‪ .‬بينما نــرى‬ ‫مــن التوثيق فــي بـيــان الموقع المعلن؟‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪119‬‬


‫‪120‬‬

‫إنسان أن يحض َر في‬ ‫ٍ‬ ‫في تجارب الشعوب األخــرى منافحات ‪ρ ρ‬من حق اإلنسان‪ ،‬أيِّ‬ ‫أي فضاءٍ إبداعيٍّ شاء‪ .‬إنه حقٌّ مشروع‪.‬‬ ‫دروب‬ ‫ٍ‬ ‫إلثبات رؤى وأدعية ح ـرّى لسكِّ‬ ‫من حقِّ المنشدِ أن يتو َق للغناءِ كجوقة‪.‬‬ ‫وغابات لم تُطأ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مفازات‬ ‫ٍ‬ ‫عبر‬ ‫عازف الناي أن يفت َح في رئتيهِ‬ ‫ِ‬ ‫من حقِّ‬ ‫حق مشروع‪!..‬‬ ‫أوركِ ــســتــرا‪ .‬ومــن حــقِّ الشاعر أن يقول‬ ‫ ¦أن ي ـك ـتــب ش ــاع ــر «مـ ـ ــا» رواي ـ ـ ــة أو ع ـم ـ ًا‬ ‫موسيقى الحيا ِة روايةً‪.‬‬ ‫سردياً‪ ،‬لم يعد شيئ ًا غريبا‪ ،‬فهذه الحالة‬ ‫التصنيف يأتي به الرابط‪ ،‬ذات الرابط‬ ‫أصبحت منتشرة في الساحات الثقافية‬ ‫العضوي‪ ،‬بين المتلقي والعمل األدبــي‪،‬‬ ‫العربية‪ ،‬فمن الكتّاب مَ ن يرفض وصف‬ ‫الــنــص‪ .‬وأنــا هنا قـدّمــت المتلقي على‬ ‫هــذه الحالة بالتحوّل‪ ،‬بل يعده تواص ًال‬ ‫النص ألولويته في إنشاء هــذا الرابط‬ ‫طبيعيً ا بين فضاءات الكتابة‪ ،‬ومــن حق‬ ‫العضوي‪ .‬ال رابط بال المتلقي‪ .‬بل أكاد‬ ‫الشاعر أن يحضر في أي فضاء إبداعي‪،‬‬ ‫متلق‪ .‬هذا ما أراه‪.‬‬ ‫أجزم‪ :‬ال نص بدون ٍ‬ ‫وأن هــذه الحالة ليست بالجديدة على‬ ‫ّمة‬ ‫فإن سلّمنا بهذه الجدلية النتهينا بمسل ٍ‬ ‫ال ـش ــاع ــر‪ ..‬وم ـن ـهــم مَ ــن ي ــرى أن ـهــا عـقــدة‬ ‫تتبعها‪ :‬التصنيف يشي بوعي المتلقي‬ ‫الـتـصـنـيــف ول ـهــا سـلـبـيــاتـهــا ال ـتــي تعاني‬ ‫عمل أدبــيٍّ أو نص‪ .‬فإن‬ ‫ورغبته من أي ٍ‬ ‫مـنـهــا الـســاحــة الـثـقــافـيــة‪ ،‬الـشــاعــر مــازن‬ ‫كانت رغبة المتلقي الوصول إلى اكتشاف‬ ‫اليحيا‪ ،‬ماذا يقول؟‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫ترحال في صحراء الحياة‬ ‫ٍ‬ ‫واحة غنّاء بعد‬ ‫ٍ‬ ‫الفانية‪ ،‬دفع بالنص أمامه ليكون الحادي‬ ‫والدليل‪ .‬وإن ارتــأى المكوث حيث هو‬ ‫مكَثَ معه من كان مربوطاً به شرطا‪.‬‬ ‫وبالتالي تنوع التصنيف (أو الال تصنيف)‬ ‫ما هو إال كشف لهذه العالقة‪.‬‬ ‫لست صحفيا‪!..‬‬ ‫ ¦"ال ـص ـحــافــة مـقـبــرة ال ـم ـب ــدع"‪ ،‬ه ــل لـهــذه‬ ‫المقولة أثر في عدم تعمق مازن اليحيا‬ ‫في الصحافة؟‬ ‫القلب‬ ‫ِ‬ ‫‪ρ ρ‬ال أبدا‪ .‬بل كما أنه ال يمكن لطبيب‬ ‫أسنان‪ ،‬فأنا لست صحفيا‬ ‫ٍ‬ ‫أن يكون طبيبَ‬

‫واالقـ ـتـ ـص ــادي ــة الـ ـت ــي ي ـش ـهــدهــا ال ـعــالــم‬ ‫الـعــربــي‪ ،‬عـلــى شـكــل الـخـطــاب اإلبــداعــي‬ ‫ومضمونه؟‬

‫وال أفقه في نشاطها‪ .‬أما إن كان سؤالك ‪ρ ρ‬أراهــا كالتغيّرات التي تطرأ على جسدِ‬ ‫إنسان ما في قفزةٍ ‪ ،‬لم يزل في الهواءِ‬ ‫ٍ‬ ‫محاوالت‬ ‫ٍ‬ ‫عن عــدم نشر ما أكتبه من‬ ‫شعرية في الصحافة‪ ،‬فللمسألة أسبابٌ‬

‫معلقا‪ .‬إني ما أزال أستقرئ موطئ قدميّ‬

‫عدة‪ .‬منها ما يمتّ «بنوع» النص الذي‬

‫على أرض أراها لم تُطأ بعدُ‪ .‬وأرى أثرَها‬

‫أحاوله‪ ،‬والذي يبعدني ويبعد الصحافة‬ ‫فــي آن مــن طــرحــه فــي مــا هــو سريع‬ ‫ويومي وزائل كزوال الخبر‪ .‬ومنها ما له‬ ‫حضور دائم‬ ‫ٍ‬ ‫أسباب في ما يتطلبه من‬ ‫ومتواصل مع ذوي الشأن الصحفي‪ ،‬إذ‬ ‫إن حياتي المهنية تأخذ من يومي ما‬ ‫ال يترك مجاالً إال للمتابعة القريبة من‬ ‫خلف الستار والتواصل مع ثلة قليلة من‬ ‫األصدقاء‪.‬‬ ‫صدمة كهربائية‪!..‬‬ ‫ ¦ك ـي ــف ت ـ ــرى أث ـ ــر الـ ـتـ ـغـ ـي ــرات ال ـس ـيــاس ـيــة‬

‫على شكل الخطاب اإلبداعي أكثر من‬ ‫على مضمونه‪.‬‬ ‫ما تمر به البشرية‪ ،‬ال عالمنا العربي‬ ‫وحده‪ ،‬من إعادة خلق أقطابها السياسية‬ ‫وكياناتها‪ ،‬وانتقالها من ثنائية القطبية‬ ‫إلــى تعدديتها‪ .‬ومــا تمر بــه نشاطاتها‬ ‫االقتصادية من إعادة تشكل سيمنح بكل‬ ‫تأكيد شكل الخطاب اإلبداعي ماد ًة ح ّي ًة‬ ‫ٍ‬ ‫صياغة‪ .‬أراه صدم ًة كهربائية‬ ‫ٍ‬ ‫إلعــادة‬ ‫مرجوةً‪ ،‬فإما تميته ميتة رحيم ًة أو تنفضه‬ ‫نفض ًة يف ّز فيها من سباته واقفا‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪121‬‬


‫أما المضمون‪ ،‬فدوماً كان وسيبقى جوهر‬

‫القفزات التكنولوجية وتسارع تواترها‬

‫اإلنسان وسبب سؤاله الوجودي‪.‬‬

‫أدخلت عناصر جديدة في زمن ما‪-‬وراء‬

‫سيبقى الليل يعقبه الــنــهــار‪ .‬وستبقى‬

‫المعلوماتية ومــا عــادت ال ـــ(دات ــا‪)data-‬‬

‫الموجة تعقبها الموجة على شط الحياة‬ ‫ما دامت‪.‬‬

‫مكتبة الكونجرس‪!..‬‬ ‫ ¦ما المواقع التي تحظى باهتمامك على‬ ‫الشبكة العنكبوتية؟‬ ‫كثيرة! ولكن على سبيل المثال ال الحصر‪:‬‬ ‫مكتبة الكونغرس األمــريــكــي‪ ،‬المقروء‬ ‫منها والــمــرئــي والمسموع‪ ،‬ال أفارقها‬ ‫منذ فترة ليست بالقصيرة‪ ..‬لما تحويه‬

‫ومحاضرات‬ ‫ٍ‬ ‫ـات‬ ‫من أعمال أدبية ودراسـ ٍ‬

‫ولقاءات نادرة‪ .‬وموقع رؤية ‪ ٢٠٣٠‬أتابعه‬ ‫ٍ‬

‫وطنية‬ ‫ٍ‬ ‫الهتمامات‬ ‫ٍ‬ ‫بُعَيد إنشائه بقليل‬ ‫ـاب بحت‪.‬‬ ‫أوالً‪ ،‬ومهنية‪ ،‬ولمحض إعــجـ ٍ‬ ‫وموقع مسك من المؤسسات الخاصة‬

‫التي تجذبني هــذه األيــام‪ .‬وموقع نعوم‬

‫قاعدة بيانات جامدة‪ .‬أصبحت (أيــه‪-‬‬ ‫آي ‪ .).A.I -‬أصبحت صوفي أوّل ذكاء‬ ‫اصطناعي حاملة الجنسية السعودية‪.‬‬ ‫أال تتفق معي إذاً أن على كال الطرفين‬ ‫إعــادة النظر في كيانهما والعالقة التي‬ ‫تــجــمــعــهــمــا‪ .‬وإن شــئــت وســمــحــت لي‬ ‫فإني أحيلك إلى إجابتي السابقة حول‬ ‫التصنيف بين األنــســاق األدبــيــة ودور‬ ‫المتلقي في العالقة والرابط الذي يجمع‬ ‫العمل اإلبداعي وإياه‪ .‬فإن كان للنقد دو ٌر‬ ‫فهو دور الطليعي من بين صيغة المتلقي‬ ‫الجماعية‪ ،‬وهو الجاذب للعمل اإلبداعي‬ ‫من خلف الجموع للمقدمة‪.‬‬

‫تشومسكي‪ ،‬وسعدي يوسف من المواقع ¦هل لنا أن نتعرف على محتوى مكتبتك؟‬

‫الشخصية‪ .‬على سبيل المثال ال الحصر‪.‬‬ ‫ ¦تطفو على السطح االتهامات بين الناقد‬ ‫والـ ـمـ ـب ــدع‪ « ،‬ال ـن ـق ــد ال ي ــواك ــب ال ـحــركــة‬ ‫اإلبداعية»‪ « ،‬غياب النص اإلبداعي الجاد‬ ‫الذي يستحق أن يقرأ»‪ ،‬وأنت كشاعر هل‬ ‫تنصف طرفا على اآلخر ؟‬ ‫‪ρ ρ‬أرى أن على كليهما أن يعيدا النظ َر‬

‫‪122‬‬

‫في هوّيتيهما والعالقة التي تربطهما‪.‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫جل ديــوان العرب من شعراء المعلقات‬ ‫إلى شعراء الحديث‪ ،‬وجل الشعر العالمي‬ ‫من الصيني إلى األوروبي إلى اإلفريقي‬ ‫فاألمريكي‪ .‬روايـــات باللغتين العربية‬ ‫واإلنجليزية حديثة وقديمة‪ .‬قليل من‬ ‫كتب النقد األدبي واأليدلوجي وشيء من‬ ‫كتب الفلسفة والتاريخ‪.‬‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫الكاتب النمساوي نوربرت جشتراين‬ ‫■ حوار‪ :‬نسرين البخشوجني‬

‫ولد الكاتب النمساوي نوربرت جشتراين عــام‪1961‬م بقرية تيرول‪ ،‬يُعد حاليا‬ ‫واحد ًا من أشهر الكتاب النمساويين‪ ،‬تتناول أعماله القضايا المثارة في المجتمع‬ ‫األوروبي وتلقى استحسان النقاد‪ .‬حصل على العديد من الجوائز‪ ..‬منها جائزة‬ ‫بريمن لألداب عام ‪1989‬م‪ ،‬جائزة برلين لآلداب عام ‪1994‬م‪ ،‬وآخرها جائزة مدينة‬ ‫انسبروك لإلبداع الفني عام ‪2018‬م‪.‬‬ ‫صدر له العديد من األعمال أخرها رواية «السنوات القادمة» التى صدرت عام‬ ‫‪2018‬م‪ ،‬نشرت روايــة «ذكــرى البداية» عام ‪2013‬م‪ ،‬والتي صــدرت نسختها العربية‬ ‫مطلع هذا العام‪ .‬تتناول الرواية موضوع الهوس الديني من خالل شاب يُدعى‬ ‫«دانيال»‪ ،‬متهم بزرع قنبلة في محطة قطار بإحدى المدن النائية‪.‬‬ ‫ ¦ي ـقــوم الـمـعـلــم «أت ـ ــون» بـ ــدور ال ـســارد ‪ρ ρ‬بالطبع‪ ،‬وهذا ما دفعني لالستمرار‬ ‫فــي رواي ـتــك‪ ،‬فهو يحكي قصة أحد‬

‫في الكتابة‪ .‬ولكن من ناحية أخرى‪،‬‬

‫طالبه «دانيال»‪ ،‬والمتهم بزرع قنبلة‬

‫الكتابة ليست لكشف الحقائق بقدر‬

‫في إحــدى محطات القطار بمدينة‬

‫ما هي بحث عن الصدق‪ .‬أعتقد أننا‬

‫نائية‪ ،‬هــل تتفق معي أن للحقيقة‬

‫ال يجب أن نكون مهووسين بفكرة‬

‫عدة أوجه؟‬

‫الحقيقة‪ .‬فحين يكون هناك حرب‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪123‬‬


‫فــي بلد مــا‪ ،‬تصبح الحقيقة هــي أول‬

‫أخــرى يرفض العالم كله‪ .‬حينها يكون‬

‫ضحايا الصحف؛ ألن كل طرف يظن أنه‬

‫لديه خــيــاران‪ :‬إمــا أن يصبح قديسً ا أو‬

‫يمتلك الحقيقة المطلقة‪ ،‬ولهذا السبب‬ ‫فقط «امتالك الحقيقة» تبدأ الحروب‪.‬‬ ‫ ¦نتعرف على قصة حياة بطل الرواية من‬ ‫خالل سردٍ متوازٍ بين الماضي والحاضر‪،‬‬ ‫مــن وجهة نظرك لـمــاذا انـســاق «دانـيــال»‬

‫شيطانًا‪ ،‬أمــر مــفــزع حين ن ــدرك كيف‬

‫يشتركان في تبنّي الفكرة نفسها‪ ،‬كالهما‬ ‫يؤمن بالنقاء‪ ،‬كالهما يؤمن باألبيض‬ ‫واألس ــود‪ ،‬لكن ال يوجد أبيض وأســود‪،‬‬ ‫هناك فقط ظالل مختلفة رمادية اللون!‬

‫لــرجــل ال ــدي ــن الـمـتـطــرف رغ ــم ارتـبــاطــه ¦ه ــل يُ ـ ـع ــد «دانـ ـ ـي ـ ــال» ض ـح ـيــة االخـ ـت ــاف‬ ‫األيدولوجي والهوس الديني؟‬ ‫بمعلمه المستنير «أتون»؟‬ ‫‪ρ ρ‬نكتب الرواية حين نشعر أن هناك مشكلة‬ ‫ما‪ .‬وعادة ما يهتم الكاتب بالشخصيات‬ ‫السيئة وليست الشخصيات السوية‪.‬‬ ‫ربما تكون رغبة الكاتب في فهم دوافع‬

‫يمكنني أن أعده ضحية حين كان صغيرا‪،‬‬ ‫لكن حين كبر وأصبح في إمكانه اتخاذ‬ ‫قــرارات‪ ..‬لم يعد ضحية‪ .‬ألنه المسئول‬ ‫الوحيد عن قراراته وأفعاله‪.‬‬

‫الشخصية‪ ،‬ولماذا اتخذت قراراً بالسعي ¦إلى أي مدى دمجت أحداثا حقيقية في‬ ‫فــي الطريق الخطأ‪ .‬أمــا الشخصيات‬ ‫إطار خيالي في روايتك «ذكرى البداية»؟‬

‫المثالية فهي مملة‪ .‬رغم أن المضي في‬ ‫االتجاه الصحيح أمر صعب للغاية‪ .‬رجل‬ ‫الدين المتطرف يستطيع أن يقنع الناس‬ ‫بفكرة النجاة‪ ،‬فيظنون أن الحياة ستكون‬ ‫أسهل لو أمنوا بأفكاره‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬أنا ال أعــرف أي طريقة أخــرى للكتابة‪.‬‬ ‫األمــر دائمًا عني وعن العالم‪ .‬صحيح‪،‬‬

‫أنــنــي لــســت بــحــاجــة إلـ ــى أن أخ ــوض‬ ‫التجارب نفسها التي خاضتها إحــدى‬ ‫شخصيات روايتي‪ ،‬لكنني بحاجة إلى أن‬

‫ ¦عانى «دانيال» من رفض أبيه لهُ ‪ ،‬هل كان‬

‫أقوم بتجارب تجعلني في وضع يسمح لي‬

‫بمعلمه ثم برجل الدين المتطرف؟ وهل‬

‫طريقة دانيال في التفكير‪ ،‬ويمكنني أن‬

‫يـحــاول تعويض هــذا الشعور باالرتباط‬ ‫الشعور بالرفض يصنع إنسان ًا متطرفاً؟‬

‫بفهم مشاعره وأفكاره‪ .‬أعرف الكثير عن‬ ‫أضعها بسهولة في أحداث روائية‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬لست مــتــأكــدا‪ ،‬ولكن ربما يحدث هذا ¦فــي رواي ـتــك األح ــدث «األي ــام الـقــادمــة»‪..‬‬

‫‪124‬‬

‫إذا كنت شخصاً ليس لديه استراتيجية‪،‬‬

‫ناقشت أحد أهم الموضوعات المطروحة‬

‫فيبدأ في رفــض المجتمع‪ ،‬وفــى خطوة‬

‫في المجتمع األوروبي حاليا‪ ،‬الالجئين‪،‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ال ـق ــرار ف ــي ه ــذا ال ـش ــأن‪ .‬أريـ ــد أن أع ــرف‬ ‫رأيك الشخصي في هذا األمر؟‬ ‫‪ρ ρ‬كــانــت ال ــرواي ــة تــتــحــدث ب ــاألح ــرى عن‬ ‫الجمهور األلــمــانــي وكــيــف تعاملوا مع‬

‫القضية‪ .‬بالنسبة للكتاب‪ ،‬عادة ما يكون‬ ‫من السهل جدًا الحصول على رأي‪ .‬نعم‪،‬‬

‫أنــت تحب اإلنــســانــيــة‪ ،‬ونــعــم‪ ،‬تحب كل‬

‫إنسان‪ .‬ال أقصد أن أكون ساخرًا عندما‬ ‫أقول هذا؛ هذا صحيح‪ ،‬لكنه سهل للغاية‪.‬‬

‫بالنسبة للسياسة‪ ،‬األمــر أكثر تعقيدًا‪،‬‬ ‫ويتعين على السياسي اتــخــاذ قــرارات‬ ‫ليس فقط بشأن األفـ ــراد‪ .‬مــن السهل‬ ‫أن ن ــق ــول‪ ،‬تــفــضــلــوا بــالــحــضــور أنــتــم‬

‫بشأن مجموعات من الناس‪ ،‬وعليك أن‬ ‫تراقب ما هو جيد لهم وما هو ممكن‪.‬‬ ‫في السنوات القادمة‪ ،‬سينتقل الماليين‬

‫والماليين من مكان إلى آخر‪ ،‬وال يمكنك‬ ‫إيقافهم إذا كانوا يعتقدون أنهم سيجدون‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫ل ـك ـنــك م ـن ـحــت ل ـل ـق ــراء ف ــرص ــة الت ـخ ــاذ‬

‫ضيوفنا‪ .‬لكن السياسي يتخذ قــرارات‬

‫سعادتهم أو مجرد لقمة العيش في مكان‬ ‫آخر‪ .‬ال يمكنك بناء الجدران‪ ،‬ويجب أال‬

‫تحاول‪ ..‬ولكن يجب أن تكون مستعدًا‪،‬‬ ‫ولكي تكون مستعدًا‪ ،‬هناك الكثير من‬ ‫القرارات السياسية التي يجب اتخاذها‬

‫مثل‪ :‬كــم عديد الالجئين الــذيــن يمكن‬ ‫ألي دولة أوروبية أن تقبلهم؟ وهل هناك‬

‫حد؟ بالطبع نعم‪ .‬وما الذي سنفعله حيال‬ ‫ذلك‪ ،‬إذا تم الوصول إلى الحد األقصى‬

‫نوربرت جشتراين مع المحررة نسرين البخشونجي‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪125‬‬


‫وكانت مجتمعاتنا على وشــك االنفجار‬ ‫أو االنهيار‪ ،‬والكثيرون اآلخرون يريدون‬

‫المجيء في المستقبل؟ ال أدري! ولكني‬ ‫أعلم أن المشكالت ال تختفي بمجرد‬

‫عدم التحدث عنها‪.‬‬

‫ ¦بمن تأثر الكاتب نوربرت جشتراين؟‬ ‫‪ρ ρ‬اإلنجيل كــان المصدر األول للقصص‬ ‫حين كنت طــفــا‪ ،‬كنت أتخيل السماء‬

‫مليئة بــالــمــائــكــة‪ ،‬ثــم صـــارت قصص‬ ‫األطفال مهمة جدا بالنسبة لي‪ ،‬خاصة‬ ‫في القرية الصغيرة التي نشأت بها والتي‬ ‫تعرفت فيها على العالم الكبير الجميل‬ ‫والمفزع أحيانا‪ .‬ولكني متعلق بكتابات‬ ‫الكاتب األمريكي ويليام فوكنر‪ ،‬والكاتب‬ ‫الــفــرنــســي كــلــود ســيــمــون‪ ،‬والــبــرتــغــالــي‬ ‫أنطونيو لوبو أنتونيس‪ ،‬فأنا أعيد قراءة‬ ‫أعمالهم كل فترة‪ ،‬إضافة إلى القليل من‬ ‫الكتب األخرى‪.‬‬ ‫ ¦مَ ن الذي يقرأ المسودة األولى لرواياتك؟‬ ‫‪ρ ρ‬الــمــحــرر األدبـ ــي‪ ،‬لكني أقــرأهــا مئات‬ ‫المرات قبل أن أرسل له السطور األولى‬

‫للنص الجديد‪ .‬ألن الكتابة تعني قراءة كل‬ ‫عال عدة مرات‪ .‬قد يبدو‬ ‫بصوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ما كتبت‬ ‫هذا ممال جدا‪ ،‬لكني أفعله حتى ال أجد‬

‫أي شيء يمكن تعديله‪.‬‬ ‫ ¦تــرجـمــت رواي ـت ــك «ذكـ ــرى ال ـبــدايــة» لعدة‬ ‫لـ ـغ ــات أخ ــره ــا ال ـن ـس ـخــة ال ـع ــرب ـي ــة ال ـتــي‬

‫‪126‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫ص ــدرت مطلع ه ــذا ال ـعــام وترجمتها د‪.‬‬ ‫لـبـنــى فـ ــؤاد‪ ،‬حــدثـنــي عــن ش ـع ــورك‪ ،‬وهــل‬ ‫التقيت المترجمة لمناقشة العمل؟‬ ‫‪ρ ρ‬يمكنني أن أقـــول إنــنــي سعيد للغاية‬ ‫وفــخــور ج ــداً بــذلــك‪ ،‬وعــنــدمــا عرضت‬

‫الترجمة العربية على ابنتي كانت مفتونة‬ ‫بالحروف العربية‪ .‬لم تصدق أنني كتبت‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬وبدأت أخبرها عن اللغات‬ ‫والبلدان المختلفة‪ .‬بالفعل التقينا‪ ،‬لقد‬ ‫كانت جــادة ج ـدًا‪ ،‬مهتمة ج ـدًا بفهم كل‬ ‫شيء‪ ،‬وأحيانًا واجهتني مشكلة في شرح‬ ‫األشياء التي بدت واضحة بالنسبة لي‪،‬‬ ‫لكن ذلك لم يكن واضحً ا عندما رأيتها‬ ‫من منظور آخر‪ .‬أعتقد أنها قامت بعمل‬ ‫جيد للغاية‪.‬‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫سينما نجيب محفوظ‬ ‫السماح عبداهلل*‬ ‫■‬ ‫ّ‬

‫تــأثـيــر «نـجـيــب مـحـفــوظ» عـلــى السينما ال يمكن إن ـك ــاره؛ فـهــو َم ــن أسـهــم في‬ ‫تعميق الخطاب السينمائي‪ ،‬وإلباسه زِ يّا فلسفيا‪ ،‬وجعله ذا رسالة‪ ،‬مع عدم إغفال‬ ‫الجانب البصري الــذي يضفي متعة إضافية على المشاهد المنظورة‪ .‬بدا هذا‬ ‫جليا‪ ،‬ليس فقط في األعمال المأخوذة عن رواياته‪ ،‬بل استطعنا أن نلمسه فيما‬ ‫كتبه هو مباشرة للسينما‪ ،‬من خالل السيناريوهات التي وضعها لقصص غيره من‬ ‫المؤلفين السينمائيين‪.‬‬ ‫كثير من المتابعين يذكرون هذا التأثير‪ ،‬لكن أحدا ال يتوقف أمام تأثير السينما‬ ‫على «نجيب محفوظ»‪ ،‬والحقيقة أن تأثير السينما عليه كان أبعد مما يتخيله‬ ‫المتخيلون‪ ،‬فقد كانت السينما واحدة من الروافد األكثر ثراء في مخيلته!‬ ‫بــــدأت عــاقــة «نــجــيــب مــحــفــوظ»‬ ‫بالسينما مبكرا جدا‪ ،‬كان في الخامسة‬ ‫مــن عــمــره‪ ،‬عندما افتتحت فــي بيت‬ ‫القاضي أول سينما في حي الحسين‪،‬‬ ‫وربما تكون أول سينما في مصر كلها‪،‬‬ ‫كانت الخادمة تحمله على كتفها‪ ،‬وتقطع‬ ‫تذكرة بخمسة مليمات‪ ،‬وتجلس بجواره‪،‬‬ ‫ومــا إن يتم تشغيل الفيلم‪ ،‬حتى تغط‬ ‫في نــوم عميق‪ ،‬وتتركه أمــام عالم من‬ ‫الغرائبيات‪ ،‬ممتلئا حركة واصطداما‬ ‫وعربات مسرعة‪.‬‬

‫صــاحــب الــســيــنــمــا رج ــل اب ــن بلد‪،‬‬ ‫مثقف وواع وابن نكتة‪ ،‬ويرتدي جلبابا‬ ‫فضفاضا‪ ،‬ويجلس طــوال الــوقــت في‬ ‫الــمــقــهــى الــمــواجــه للسينما‪ ،‬يشرب‬ ‫الشيشة‪ ،‬وعيناه على بــاب السينما‪،‬‬ ‫يحسب أعداد الداخلين‪ ،‬وما إن يشعر‬ ‫أن الــعــدد أصبح مالئما‪ ،‬حتى يعطي‬ ‫للعامل المطل مــن كــوة فــي الحجرة‬ ‫العلوية من السينما إشارة لبدء التشغيل‪،‬‬ ‫وما إن يتحرك الشريط على الحائط‬ ‫األبيض‪ ،‬حتى تلتهب أكف المشاهدين‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪127‬‬


‫بالتصفيق‪ ،‬عندها‪ ،‬يبتسم صاحب السينما‬ ‫فــي رضــا‪ ،‬ويطلب مــن نــادل المقهى قهوة‬ ‫مضبوطة‪ ،‬ويشد في ياي الشيشة‪ ،‬وهو يقدر‬ ‫مكسبه في هذا اليوم‪.‬‬ ‫لم يكن صاحب السينما يملك غير فيلمين‬ ‫فقط‪ ،‬واحــد لـ «شارلي شابلن»‪ ،‬والثاني لـ‬ ‫«فــان تــوم»‪ ،‬يعرضهما آنــاء الليل وأطــراف‬ ‫النهار‪ ،‬لــم يكن صناع السينما حتى ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬قد اخترعوا هذه المواعيد الملزمة‬ ‫التي نعرفها اآلن‪ ،‬وإنما تبدأ الحفلة عندما‬ ‫يشير صــاحــب السينما لعامله النشيط‪،‬‬ ‫السينما نفسها لم تكن كما نعرفها اآلن‪ ،‬كانت‬ ‫مجرد دكك خشبية ممدودة كيفما اتفق‪ ،‬وال‬ ‫سقف لها‪ ،‬وبعض البيوت التي لها أكثر من‬ ‫طابقين‪ ،‬كان سكانها يطلون من نوافذها‪،‬‬ ‫ليشاهدوا الفيلمين مجانا! وكــان الفيلمان‬ ‫اليتيمان اللذان يملكهما صاحب السينما‪،‬‬ ‫يُعرضان حسب الطلب‪ ،‬فإذا ما انشغل أحد‬ ‫المشاهدين في حديث مع الجالس بجواره‬ ‫عن مشهد بعينه‪ ،‬يطلب من عامل التشغيل‪،‬‬ ‫بكل بساطة‪ ،‬إع ــادة المشهد‪ ،‬فيعيده له‪،‬‬ ‫حتى أن «نجيب محفوظ» عندما ترك بيت‬ ‫الــقــاضــي‪ ،‬وانــتــقــل للسكن إلــى العباسية‪،‬‬ ‫اصطحب أصــدقــاءه مــرة ليريهم المنطقة‬ ‫التي ولد فيها‪ ،‬وطــرأ في ذهنه أن يعزمهم‬ ‫على السينما‪ ،‬وكانت مغلقة‪ ،‬وكان صاحبها‬ ‫جالسا على المقهى المواجه لها‪ ،‬فتقدم منه‬ ‫«نجيب محفوظ»‪ ،‬وطلب منه بكل بساطة‪ ،‬أن‬ ‫يفتح لهم السينما ليتفرجوا‪ ،‬فقام‪ ،‬وأخرج‬ ‫المفاتيح من جيبه‪ ،‬وفتحها لهم‪ ،‬وأمر عامله‬ ‫بتشغيل فيلميه اليتيمين‪ ،‬ففعل‪.‬‬

‫‪128‬‬

‫نجيب محفوظ في طفولته‬

‫بالسينما‪ ،‬وإذا ما التقى بأصدقائه‪ ،‬قلب‬ ‫كل األحاديث التي تدور بينهم إلى مشاهد‬ ‫سينمائية‪ ،‬تماما كتلك المشاهد التي يراها‬ ‫في السينما‪ ،‬وتطور األمر‪ ،‬حتى نقل تمثيله‬ ‫للمشاهد إلى البيت‪.‬‬ ‫ذات مــرة‪ ،‬استدرج الخادمة النئوم التي‬ ‫كــانــت تحمله على كتفه إلــى سينما بيت‬ ‫القاضي‪ ،‬وحدق في عينيها طويال‪ ،‬ثم قال‬ ‫لها بحكمة األطباء‪:‬‬ ‫أنت مريضة جــدا‪ ،‬وال بد من أن أكشف‬ ‫عليك‪.‬‬

‫مــددهــا عــلــى الــســريــر‪ ،‬وم ــرر ي ــده على‬ ‫جسمها كما يفعل األطباء المحترفون‪ ،‬وتنهد‬ ‫تنهيدة عميقة‪ ،‬ثم أخبرها بالقرار الطبي‬ ‫ك ــان قــلــب «نــجــيــب مــحــفــوظ» قــد تعلق الخطير‪:‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫خــرج األمــر مــن يدنا تماما‪ ،‬وال بــد من إل ــى مــحــل فــي ش ــارع ف ــؤاد متخصص في‬ ‫إجراء جراحة عاجلة‪.‬‬ ‫بيع السينمات‪ ،‬ك ـوّر فلوسه المحوشة على‬ ‫الخادمة شهقت من المفاجأة‪ ،‬وتذكرت المنضدة‪ ،‬وبكل ثقة قال للبائع‪:‬‬ ‫الــدوخــة التي تالزمها كلما صعدت ساللم‬ ‫أريد أن أشتري سينما‪.‬‬ ‫البيت‪ ،‬فقد كان البيت طوليا وليس عرضيا‪،‬‬ ‫نظر البائع إليه من فوق ومن تحت‪ ،‬فوجده‬ ‫فحجرة المسافرين فــي الطابق األرضــي‪،‬‬ ‫صغيرا‪ ،‬فسأله‪ :‬وهل تعرف طريقة تشغيلها؟‬ ‫وحجرات النوم في الطابقين الثاني والثالث‪،‬‬ ‫«نجيب محفوظ» جاهز دائــمــا بــالــردود‬ ‫وتذكرت رغبتها الدائمة في النوم‪ ،‬واصفرار‬ ‫المقنعة‪ ،‬واإلجــابــات التي تجعل السائل ال‬ ‫بشرتها‪ ،‬وسألته بلهفة‪:‬‬ ‫يتردد لحظة في تقديم كل ما يطلبه‪ ،‬حتى‬ ‫ومَن الذي سيجري هذه الجراحة؟‬ ‫ولو كان صغيرا يتطاول بالطربوش‪ ،‬فقال له‪:‬‬ ‫بثقة رد عليها‪:‬‬ ‫سوف تتكرم عليَّ من فضلك‪ ،‬وتعرفني طريقة‬

‫ال تقلقي على اإلطالق‪ ،‬المسألة بسيطة‪ ،‬تشغيلها‪.‬‬ ‫وسأقوم أنا اآلن بإجراء هذه العملية‪.‬‬ ‫ابــتــســم الــرجــل مــوافــقــا‪ ،‬وع ــد الــفــلــوس‬ ‫اصطحبها إلى المطبخ‪ ،‬وجعلها تستلقي فوجدها مضبوطة‪ ،‬فأجلسه بجواره‪ ،‬وراح‬ ‫على المنضدة التي تخرط عليها الملوخية‪ ،‬يشرح له أبعاد القضية‪.‬‬ ‫وأمسك السكينة التي تذبح بها الفراخ‪ ،‬وراح‬ ‫كانت سينماه الصغيرة ملفوفة في علبة‬ ‫يشرط في جسدها‪ ،‬ولما نزلت الدماء منها‪ ،‬كرتونية‪ ،‬ومربوطة بدوبارة على هيئة وردة‪،‬‬ ‫صرخت بكل عزمها‪ ،‬فحضرت أمه‪ ،‬وألجمتها وكــان يمسكها بكل فــرح الصبي المشتاق‪،‬‬ ‫المفاجأة‪.‬‬ ‫الذي استطاع أن يحقق حلمه الكبير‪ ،‬ويهزها‬

‫أمسكت السكينة منه‪ ،‬وقالت له بلهجة بأصابعه‪ ،‬وكأنما يريد أن يريها للدنيا كلها‪.‬‬ ‫عقابية‪ :‬ال بد وأن أفعل في جسمك مثلما‬ ‫اشــتــرى حصالة فــخــاريــة جــديــدة‪ ،‬وبــدأ‬ ‫فعلت في جسم الخادمة المسكينة‪.‬‬ ‫يــح ـوّش مــرة أخ ــرى‪ ،‬هــو منذ صــغــره يملك‬ ‫وظل هو يجري من أمامها‪ ،‬وهي ممسكة خاصية الصبر واالنتظار‪ ،‬وال يعرف السأم‬ ‫بالسكينة تجري خلفه‪ ،‬حتى دخل أبوه‪ ،‬وخبأه أبدا‪ ،‬ولما كسر حصالته الجديدة‪ ،‬اتجه من‬ ‫فــوره إلــى محل األف ــام الــذي أمــام سينما‬ ‫عن والدته في دوالب المالبس‪.‬‬ ‫حـ ـوّش «نجيب مــحــفــوظ» مــن مصروفه أوليمبيا‪ ،‬واشترى فيلما من أفالم رعاة البقر‪.‬‬ ‫دخل حجرته‪ ،‬واستخرج سينماه‪ ،‬كانت علبة‬ ‫الشخصي‪ ،‬حتى امتألت حصالته الفخار‪،‬‬ ‫ولما رجها ولــم تصدر شخللة‪ ،‬عــرف أنها بدائية التكوين‪ ،‬لم يكن السادة المخترعون‬ ‫امــتــأت‪ ،‬فكسرها‪ ،‬وعبأ جيوبه بالقروش قد توصلوا بعد إلى اختراع الفيديو أو السي‬ ‫والــتــعــريــفــات وأنــصــاف الــفــرنــكــات‪ ،‬وذهــب دي روم‪ ،‬كانت هذه العلبة الصغيرة الساحرة‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪129‬‬


‫هي أحدث ما توصل إليه عباقرة االختراعات‬ ‫العجائبية في عشرينيات القرن الماضي‪.‬‬ ‫َرش مالء ًة بيضاء على شباك الحجرة‪،‬‬ ‫ف َ‬ ‫ووجه إليها عين العلبة الــدوّارة‪ ،‬وثبت أمام‬ ‫العين الدوّارة المنظار المقلوب الذي سيعكس‬ ‫الــصــور المتتالية مــعــدولــة‪ ،‬وثــبــت شريط‬ ‫الفيلم السينمائي الذي يشبه فيلم التصوير‬ ‫الفوتوغرافي على البكرة‪ ،‬بعد أن تأكد من‬ ‫تثبيت خــروم األفــام في السنون الحديدية‬ ‫الدقيقة للعلبة‪ ،‬وأدخــل شمعة في المحيط‬ ‫األسفل من العلبة‪ ،‬وأشعلها بالكبريت‪ ،‬تماما‬ ‫كما شرح له السيد المبجل بائع السينمات‬ ‫فــي محله العتيق بــشــارع ف ــؤاد‪ ،‬أطــفــأ نور‬ ‫الــغــرفــة‪ ،‬وأحــكــم غلق بابها جــيــدا‪ ،‬وضغط‬ ‫شارلي شابلن‬ ‫على زر التشغيل‪ ،‬وجلس على الفوتيه‪ ،‬وكان‬ ‫قلبه يكاد ينط من بين ضلوعه‪ ،‬وهو يشاهد‬ ‫في هذا االختراع استطاع «نجيب محفوظ»‬ ‫المشاهد تترى على مالءته البيضاء‪.‬‬ ‫أن يشاهد أفالما كثيرة غير فيلمي سينما‬ ‫في اليوم التالي‪ ،‬ذهب إلى غرفة أمه‪ ،‬قبل بيت القاضي اليتيمين‪ ،‬واستطاع أن يحلق في‬ ‫يدها‪ ،‬وقال لها بلغة العشرينيات العتيقة‪ :‬من سماوات الفرح بأجنحة من السعادة‪.‬‬ ‫فضلك يا نينة‪ ،‬تفضلي معي ألعزم حضرتك‬ ‫على السينما‪.‬‬

‫أمه فرحت جدا‪ ،‬فهذه هي المرة األولى‬ ‫الــتــي ســتــذهــب فيها للسينما‪ ،‬لــتــرى هــذه‬ ‫العفاريت التي تتنطط على الشاشة‪ ،‬كانت‬ ‫تتوق ألن تــراهــا مــن كثرة مــا سمعت عنها‬ ‫من أبنائها‪ ،‬فاتجهت إلــى خزانة مالبسها‬ ‫لتستخرج لبس الــخــروج‪ ،‬لكنه شــدهــا من‬ ‫يدها إلــى غرفته‪ ،‬وأجلسها على الفوتيه‪،‬‬ ‫وشغل االختراع‪ ،‬أما أمه فقد كادت تجن من‬ ‫االندهاش‪.‬‬ ‫ * كاتب من مصر‪.‬‬

‫‪130‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫مرت شهور وسنون وعقود‪ ،‬ودخل «نجيب‬ ‫محفوظ» إلــى هــذا المربع الفضي‪ ،‬دخل‬ ‫كله‪ ،‬بقضه وقضيضه‪ ،‬وأصبح اسمه يكتب‬ ‫بالبنط العريض على أفيشات السينمات‬ ‫كلها‪ ،‬واشترى لبنتيه ولزوجته جهاز الفيديو‪،‬‬ ‫واشــتــرى لهن السي دي روم‪ ،‬وكــان يتفرج‬ ‫معهن‪ ،‬لكنه‪ ،‬كلما اختال بنفسه‪ ،‬سرح بعينيه‬ ‫إلى اختراعه العجائبي القديم‪ ،‬وتمنى من‬ ‫صميم فؤاده‪ ،‬لو أنه يعود مرة أخرى‪ ،‬يحوّش‬ ‫في الحصالة الفخار‪ ،‬ليشتري أفــام رعاة‬ ‫البقر‪.‬‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ودالالتها‬ ‫اللغة‬ ‫أصوات‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫الصوتي)‬ ‫والمجاز‬ ‫االعتباط‬ ‫(جدلي ُة‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫■ أ‪ .‬د‪ .‬عبداهلل بن أحمد الفَ يفي*‬

‫الحجج الطريفة‪ ،‬منها قولهم‪ :‬إن المجاز‬ ‫يحتجُّ منكرو المجاز اللغوي ببعض ُ‬ ‫ك َِذب‪ ،‬والك َِذب ال يجوز‪ .‬وهذا يذكِّرنا بمن حرَّ م فنَّ التمثيل في العصر الحديث؛‬ ‫ألن التمثيل ك َِذب‪ ،‬والك َِذب حرام! وهؤالء ال يفرقون بين الك َِذب األخالقي والتعبير‬ ‫الفنِّي القائم على التخييل‪ .‬ومَن بلغ به المقام إلى هذا الــدرك‪ ،‬فال سبيل إلى‬ ‫إفهامه أو جداله‪ .‬وكيف‪ ،‬وقد نفى البالغة واللغة‪ ،‬يبقى إلى حواره من سبيل؟! وال‬ ‫غرو‪ ،‬فهؤالء لو استطاعوا لنفوا الحضارة البشريَّة برُ مَّ تها‪ ،‬والطبيعة المحيطة‬ ‫وسنن اهلل في خلقه جميعً ا؛ ألن لديهم دون كلِّ أمرٍ ُشبهةً تجعله منكَرً ا‪،‬‬ ‫بكاملها‪ُ ،‬‬ ‫حالل وال جائزٍ وال مجاز‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وحَ ر ًَجا يبتدعونه يجعله حرامً ا‪ ،‬حتى ما أبقوا لنا من‬ ‫ِسوَى الموت وارتقاب يوم الحساب!‬ ‫غفلة أو تغافل‬ ‫ومــن طرفاتهم كــذلــك احتجاجهم وأوائل اللغويين‪ ،‬هم في ٍ‬ ‫بــأن الــمــجــاز لــم يقل بــه (الخليل بن عن أمور‪:‬‬ ‫أحمد الفراهيدي) وغيره من الرعيل‬

‫أوَّلها‪ ،‬أن هذه القضيَّة البدهيَّة لم‬

‫األول‪ .‬وهؤالء المبتدعة من أبناء قرون تكن لتُثا َر لدَى هؤالء المؤسِّ سين لعلوم‬ ‫االنحطاط اللغوي والبالغي والثقافي العربيَّة‪ ،‬كما أ ُثيرت في عصور الفراغ‪،‬‬ ‫والــفــكــري‪ ،‬الــذيــن يــحــتــجُّ ــون بالخليل والــجــدل السفسطائي‪ ،‬والــمــكــابــرات‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪131‬‬


‫كوكب آخر‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫الــجــدل ـ َّيــة الــمــتــورِّمــة بــهــا أنـ ــوف الــتــاريــخ وهؤالء‪ ،‬ال ريب‪ ،‬يعيشون في‬ ‫اإلسالمي في العصور المتأخرة‪.‬‬

‫عالقة له بكوكب األرض‪ ،‬وال بالمعارف التي‬

‫وثــانــيــهــا‪ ،‬أن االحــتــجــاج بــالــسَّ ـلَــف لنفي نشأت عليه‪ ،‬وال بالتجربة البشريَّة جملة‬ ‫وتفصيل‪ .‬ومَن يتصوَّر مثل هذا ال يقال عنه‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الخَ ل َف‪ ،‬ليس فيه من جديد؛ فهو تردي ٌد‬ ‫بــبــغــائــيٌّ لــحُ ــجَّ ــة أزلــ َّي ــة ق ــال بــهــا الــعــجــزة‬ ‫زمان‬ ‫ٍ‬ ‫المنقطعين من ُعبَّاد السَّ ل َف‪ ،‬في ك ِّل‬ ‫ومكان‪ ،‬منذ قوم (نــوح)‪ ،‬الذين قالوا‪﴿ :‬ما‬ ‫سَ مِ ْعنَا ِب َهـٰذَا فِ ي آبَا ِئنَا األَ َّو ِلــيــن﴾‪ .‬موقنين‬ ‫أنهم بهذا قد أدلوا بحُ جَّ ة بالغة ال تُ َردُّ‪ ،‬فكفَى‬

‫إنه ال يعلم‪ ،‬بل األصح أن يقال‪ :‬إنه ال يعقل‪.‬‬ ‫ومع ذلك فهو واث ٌق بما يقول ثق ًة عمياء‪ ،‬لم‬ ‫رسول وال جاء بها‬ ‫ٍ‬ ‫يدَّ ِعها قبله من نبيٍّ وال‬ ‫كتاب‪.‬‬ ‫ورابعها‪ ،‬أن النفي االنتقائي‪ ،‬زعمًا‪ :‬أن‬

‫باآلباءُ حُ جَّ ة‪ ،‬وبالسَّ ماع عنهم مستنَدًا‪ ،‬ال قِ بَل القدماء لم يقولوا بالمجاز‪ ،‬محض مغالطة‪.‬‬ ‫ألحد بدحضه!‬ ‫ٍ‬ ‫وثالثها‪ ،‬أن أصحاب مذهب السَّ ل َفيِّين‬ ‫ه ــؤالء‪ -‬الــذيــن ال يفكرون بأدمغتهم التي‬ ‫في رؤوسهم بل بأدمغة آبائهم الثقافيِّين‪-‬‬ ‫يعتقدون أن السَّ ل َف ما ترك للخَ ل َف من شيء‪.‬‬ ‫وتلك عقيدةٌ جاهل َّي ٌة توارثوها ث َّم أَسْ لَمُوها‪.‬‬

‫فإ ْن صحَّ أنهم لم يقولوا به‪ ،‬فهم لم يقولوا‬

‫بنفيه؛ ولــو كــان أمــره لديهم من الخطورة‬ ‫العقديَّة بمكان‪ ،‬القتضى ذلك تنبيه األُ َّمــة‬ ‫إلى نُكرانه من أوَّل يوم‪ ،‬وكفَى اهلل المؤمنين‬ ‫المجاز!‬ ‫وخامسها‪ ،‬أن ما زعموه من أن القدماء لم‬

‫فما لم يجدوا آباءهم عليه من مِ ل ٍَّة فليس يقولوا بالمجاز هو في النهاية محض افتراء‪،‬‬ ‫من الحقيقة في شيء‪ ،‬وال حتى من المجاز‪ .‬ألجأهم إليه الــمِ ــراء‪ .‬فلقد أشــار األوائــل‬ ‫وما أكثر األشياء التي لم يَقُل بها األوائــل‪ ،‬إلــى المجاز‪ ،‬وإ ْن بمصطلحاتهم العتيقة‪،‬‬ ‫أو لم تصلنا عنهم‪ .‬وإلى تهافت االستدالل كتعبيرهم عنه بـــ«االتــســاع فــي الــكــام» أو‬

‫اختالل ذِ هن ّيًا في تصوُّر «االخــتــصــار فــيــه»(‪ .)1‬وبــذا رأوا رأيــهــم في‬ ‫ً‬ ‫بمثل هذا‪ ،‬فإن فيه‬ ‫المعارف والعلوم‪ ،‬نشأ ًة وارتقاءً‪ .‬لكن كيف فهم بعض آيات القرآن‪ ،‬منذ القرنين األول‬ ‫يُستغرَب مثل هذا االختالل الذِّهني ممَّن والثاني الهجريَّين‪ .‬أ َّمــا الجهل بضرورات‬ ‫بمقوالت تزعم أن التطوُّر االصطالحي‪ ،‬فرديف الجهل بتطوُّر‬ ‫ٍ‬ ‫تجدهم يجادلونك أحيانًا‬ ‫فضل عن كونها لغ َة العلوم واآلداب والمعارف في األُمم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫العربيَّة كانت لغ َة آدم‪،‬‬

‫‪132‬‬

‫أيضا؟‬ ‫الجنِّ والمالئكة ً‬ ‫األُمم البائدة‪ ،‬ولغ َة ِ‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫والحقُّ ‪ -‬بعد أنفلونزا المجاز‪ ،‬التي َوبَأَت‬


‫عرب‬ ‫االنحطاط اللغوي واألدبي والحضاري‪ -‬أن التي كان ينطلق منها علماء اللغة‪ ،‬من ٍ‬ ‫اللغة ليس معظمها قائمًا على المجاز فقط‪ ،‬وغير عرب‪ ،‬وهو ما ال شأن لمنكري المجاز‬ ‫كما كان (ابن جنيّ ) يقول‪ ،‬بل اللغة كلُّها مجا ٌز به‪ ،‬ولكنه مصداق ما قيل قديمًا‪ :‬مَن دخل‬

‫في مجاز‪ .‬حتى ما نظنُّه اليوم حقيقة‪ ،‬كان في غير فنِّه جاء بالعجائب! «تلك هي الفكرة‬ ‫مجازًا في تاريخ اللغة الماضي‪ ،‬إلى أ ْن ترسَّ خ التي كان ينطلق منها علماء اللغة‪( ،‬ابن ِجنِّي)‪،‬‬ ‫وأصبح حقيق ًة في تصوُّرنا بعدئذ‪ .‬إن اللغة و(ابــن دريــد)‪ ،‬و(ابــن فــارس)‪ ،‬و(هامبلت)‪،‬‬

‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫الثقاف َة العرب َّي َة لقرون‪ ،‬وترسَّ خت إبَّان عصور ‪ .)ONOMATOPOEIA‬وتلك هي الفكرة‬

‫مجا ٌز متناسل‪ ،‬واإلنسان ضحيَّة لغته؛ ولوال و(جــســبــرســن) وغــيــرهــم‪ .‬وه ــم‪ -‬وإ ْن بالغ‬ ‫ذلك‪ ،‬ما نشأت جدليَّة المعطِّ لة والمشبِّهة بعضهم أحيانًا في التماس العالقات بين‬ ‫دوالِّ اللغة ومدلوالتها‪ -‬لم يعْدوا الحقَّ في‬ ‫أصل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نفسها‪ ،‬وال القول بإنكار المجاز‬ ‫هــذا ما يقوله نفاةُ الحقيقة عن اللغة‪.‬‬ ‫وقــولــهــم‪ -‬وإ ْن يــبــدو متط ِّرفًا فــي االتــجــاه‬ ‫النقيض لمذهب نُفاة المجاز‪ -‬له وجاهته‪،‬‬ ‫بالنظر إلى طبيعة اللغة ووظيفتها وتطوُّرها‪.‬‬ ‫ال بمعنى أنني إذا قلت «شمس» في الوقت‬ ‫ال ــراه ــن ال أعــنــي ذل ــك الــنــجــم المشتعل‬ ‫المعروف؛ لكن بمعنى أن أوَّل مَن سمَّى ذلك‬ ‫النجم المشتعل المعروف «ش م س» إنما‬ ‫كانت ترتسم في ذهنه لوح ٌة تعبير َّي ٌة نقلها‬ ‫مــن خــال هــذه األص ــوات اللغويَّة‪ ،‬ث ـ َّم من‬ ‫خالل هذه الصيغة الصرفيَّة‪ .‬واختالف أبناء‬ ‫اللغات في زوايــا النظر والتعبير ال يُسقِ ط‬ ‫هذه الفرضيَّة‪.‬‬ ‫تصوير صوتيٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫إن اللغة كلَّها‪ ،‬إذاً‪ ،‬محض‬

‫هذه الفكرة‪ ،‬مع ما أ ُثير عليهم من النكير‬

‫حولها‪ ،‬وما واجهها به (فرديناند دي سوسير‬ ‫‪de Saussure‬‬

‫‪ )Ferdinand‬من الرفض؛ إذ‬

‫يرى اعتباطية اللغة وأنها ال تخضع لمنطق‬ ‫أو نظام مطَّ رد‪ ،‬وأن المؤشرات على المناسبة‬ ‫بين الدالِّ ومدلوله‪ ،‬كأصداء الطبيعة‪ ،‬هي‬ ‫مــن الــقِ ـلَّــة واالخــتــاف بين الـلُّــغــات بحيث‬ ‫ـص ـ ُّح اتــخــاذهــا أســاسً ــا لظاهرة لغويَّة‬ ‫ال يَـ ِ‬ ‫مطَّ ردة أو شبيهة بالمطَّ ردة‪ ،‬فليست أكثر‬ ‫مــن أصــــوات قليلة ت ــص ــادَف أ ْن أشبهت‬ ‫أصواتها دالالتها‪ .‬لكن قلتها النسبيَّة تلك في‬ ‫اللغات غير الفطريَّة‪ ،‬وكذلك اختالفها بين‬ ‫فضل عن‬ ‫ً‬ ‫الشعوب‪ ،‬ليس بحُ جَّ ة إلسقاطها‪،‬‬ ‫أن المناسبة الصوتيَّة بين أصــوات اللغات‬ ‫والطبيعة ليست حصرًا في ظاهرة أصداء‬

‫مجازيٍّ عن المعاني الذهنيَّة‪ .‬يشهد بذلك ما الطبيعة اللغويَّة‪ ،‬بل هي تدخل كثيرًا‪ -‬عند‬ ‫يُعرَف بمحاكاة أصوات الطبيعة (األُنوماتوبيا التأمُّل‪ -‬في المناسبة بين ألفاظ اللغة وما‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪133‬‬


‫تُعبِّر عنه من دالالت غير صوتيَّة‪ .‬وال يبدو األشياء والكلمات مجازيَّة ابتداءً‪ .‬ال نقول‬ ‫مقنعًا الزعم بأن هذا اإلحساس بالمناسبة اعتباطيَّة كما زعــم (دي سوسير)‪ -‬وكأنه‬ ‫بين دوالِّ اللغة ومدلوالتها ليس ِسوَى وَهْ م ال يتحدث عن اللغة البَشريَّة‪ ،‬بل عن لغات‬ ‫يتولَّد عــن مكتسبات الــمــرء اللغويَّة‪ ،‬وما الطير والنحل؛ إذ نظر إلى اللغة بوصفها‬

‫ينشأ عن ذاك من ٍ‬ ‫ربط بين بعض األصوات مجرَّد إشــارات تُــدرس ِسيْمَوِ ّيًا‪ -‬بل نقول‬ ‫وداللتها‪ ،‬وأن كلَّ ٍ‬ ‫لفظ يصلح أن يُتَّخَ ذ للتعبير إن العالقة بين األشياء والكلمات في اللغة‬

‫وفصل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أصــا‬ ‫عن أيِّ معنى من المعاني عند التواضع عليه‪ ،‬البشريَّة مجازيَّة تعبيريَّة‪ً ،‬‬ ‫مثل‪ ،‬ال يحمل ما يوحي‬ ‫وأن لفظ «الشجرة»‪ً ،‬‬ ‫أ َّم ــا الــعــاقــة بين الكلمات والــمــعــانــي في‬ ‫بفروعها وجــذورهــا وأوراقــهــا وخضرتها؛‬ ‫تاريخ التطوُّر اللغوي‪ ،‬فشيوع المجاز فيها‬ ‫ألن هــذا الربط يُ ــدرَك بين أصــوات اللغة‬ ‫أم ٌر بَدَهي‪ ،‬مَن نفاه فقد نَفَى اللغة والتطوُّر‬ ‫ومدلوالتها وإ ْن لم يسبق لإلنسان اكتسابها‪،‬‬ ‫اللغوي في آن؛ من حيث أزهــق روح اللغة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وكأنما في الذهن اإلنساني َملَكَة فطريَّة‬ ‫وتلك الروح هي ما اصطُ لِح عليه‪ :‬بالمجاز‪.‬‬ ‫أوَّليَّة كليَّة‪ ،‬تُشبِه َملَكَة اإلحساس بالتعبير‬ ‫لــوال المكابرة المُؤدلجة‪ -‬التي أعيت من‬ ‫الصوَر‬ ‫الموسيقيِّ وتذوقه‪ ،‬قادرةٌ على إدراك ُّ‬ ‫ذهن غير هذا‪.‬‬ ‫يداويها‪ -‬ما خطر في ٍ‬ ‫الصوتيَّة لألشياء وتكوينها‪ .‬وأ ًّي ــا ما يكن‬ ‫األمــر‪ ،‬فيما إذا كانت تلك َملَكَة فطريَّة أو‬

‫وإذا كان هذا هو الشأن في اللغة بعامَّة‪،‬‬

‫ـاصــة؟! إن اللغة‬ ‫مكتسبة في الربط الموسيقيِّ التعبيريِّ بين فكيف باللغة األدب ـ َّيــة بــخـ َّ‬ ‫الصوت والــداللــة‪ ،‬فــمــؤدَّى ذلــك واحــ ٌد في األدبيَّة ال قيام لها َّإل بانحرافها عن اللغة‬ ‫النهاية‪ ،‬وهو أن هناك رابط ًة تعبير َّي ًة بين التواصليَّة‪ .‬وإنَّما المجاز مظه ٌر واحٌــد من‬ ‫أصوات اللغة وموضوعاتها»(‪.)2‬‬

‫مظاهر االنحرافات اللغويَّة واألسلوبيَّة التي‬

‫النص األدبيَّ هويَّته‪ .‬فإ ْن هي أ ُنكِ رت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وعليه‪ ،‬فاللغة كلُّها قائمة على التصوير تمنح‬ ‫الفنِّي‪ ،‬الذي لُبُّ أدواته المجاز األَوَّلي‪ ،‬بمعنى فقد أ ُنكِ رت أدبيَّة األدب‪ .‬وإذا أ ُنكِ رت أدبيَّة‬ ‫الرمز التعبيري عن األشياء‪ .‬إن العالقة بين األدب‪ ،‬فقل على بالغيَّته السالم!‬ ‫* جامعة الملك سعود‪ ،‬بالرِّياض‪.‬‬ ‫ثل‪ :‬سيبويه‪1988( ،‬م)‪ ،‬الكتاب‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبدالسالم محمَّد هارون‬ ‫(‪ )1‬انظر بجامعة الملك سعود‪ ،‬بالرِّياض ً‬ ‫(القاهرة‪ :‬مكتبة الخانجي)‪.212 :1 ،‬‬ ‫َصريَّة في ِشعر العُميان‪ :‬دراسة نقديَّـة في الخيال واإلبداع‪( ،‬الرِّياض‪:‬‬ ‫الصورة الب َ‬ ‫(‪ )2‬انظر كتابي‪1996( :‬م)‪ُّ ،‬‬ ‫النادي األدبي)‪.302 -301 ،‬‬

‫‪134‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫شخصيات روائية‬ ‫في مشاهدات ح ّية‬

‫■ ليلى عبداهلل*‬

‫تبلورت العالقة ما بين الروايات والتلفزيون منذ زمن طويل‪ ،‬فالعلبة الصغيرة‬ ‫التي عرضت صورًا رمادية باهتة ويخرج منها أصوات بشرية أحدثت ضجة هائلة‬ ‫فاجأت العالم ولوّنت حياة أجيال كثيرة‪ ،‬كبارًا وصغارًا‪ .‬حكاية الصندوق المربع‬ ‫الذي خطف الحكايات من أفــواه الحكّ ائين‪ ،‬فصارت صوتًا وصــور ًة ومات الحكي‬ ‫مسطحا اليوم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وماتت شهرزاد‪ ،‬هذا الصندوق الذي غدا‬ ‫أول روايـــة تــطــرأ ببالي كلما وجــدت في روايــة األفــام حين تربّع أول تلفزيون‬ ‫أم ــام ــي شــاشــة تــلــفــزيــون حــكــايــة مــاريــا في القرية واستحوذت على عقول الناس!‬ ‫مــارجــريــتــا بطلة روايـــة «راويـ ــة األف ــام»‬ ‫العالقة ما بين الــروايــات والتلفزيون‬ ‫للروائي «إيرنان ريبيرا لتيلير»‪ ،‬الطفلة التي توثقت بعد اكتشاف هذا االختراع‪ ،‬وصار‬ ‫كان والدها المقعد يبعثها لمشاهدة األفالم عدد كبير من المهتمين يحرصون على نقل‬ ‫في السينما كل نهاية أسبوع‪ ،‬لتسرد عليه الروايات الجيدة وذائعة الصيت إلى الشاشة‬ ‫مشاهداتها التفصيلية عن طاقم التمثيل التي تلّم حولها جميع أف ــراد المجتمع‪،‬‬ ‫والــحــدث بأسلوب حكائي ب ــارع‪ ،‬سرعان وترسّ خ جماليات العمل األدبي في أذهان‬ ‫مــا ص ــارت حــكــاءة األفـ ــام فــي الــقــريــة‪ ،‬الناس‪ .‬كما أن كثيرا من المسابقات األدبية‬ ‫وأصبحت تمثل ما تشاهده‪ ،‬وترتدي كما والجوائز العالمية صارت تخصص شرطً ا‬ ‫يرتدي الممثلون لتعزّز المشاهد البصرية للروايات التي ترشح لجوائزها بأن تصلح‬ ‫في ذهن مَن يسمعها مبهورًا من سكان تلك لصناعة الدراما‪ ،‬ما يجعل الكاتب يكتب‬ ‫القرية النائية‪« :‬لم أكن أروي الفيلم‪ ،‬بل أعماالً تستوفي الصورة الدرامية ليحظى‬ ‫كنت أمثله‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ :‬كنت أعيشه‪ .‬بالفوز والشهرة في آن‪.‬‬ ‫وكان أبي وأخوتي يستمعون وينظرون إليّ‬ ‫األدب العربي غــزيــر‪ ،‬وثــمــة كثير من‬ ‫بأفواه مفتوحة» لكن موهبتها الفذّة انهارت‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪135‬‬


‫روايــات عربية حُ وّلت لمسلسالت درامية على‬ ‫رأسها أعمال الروائي المصري الذي حاز جائزة‬ ‫نوبل «نجيب محفوظ» ولعل من أشهرها «بين‬ ‫القصرين» و«قصر الشوق والسكرية» ومسلسل‬ ‫«أفـ ــراح الــقــبــة» ال ــذي عــرض منذ عامين في‬ ‫رمضان وفاقت شهرته اآلفاق‪ ،‬وتكمن ميزة هذا‬ ‫العمل أنه أُخذ من عدة روايات جمعتها ببراعة‬ ‫فــريــدة السيناريست «نــشــوى زاي ــد»‪ ،‬فوضعت‬ ‫المشاهد العربي أمام عمل درامي رصين عمّق‬ ‫من جماليات روايــات الروائي العالمي «نجيب‬ ‫محفوظ» في ذاكــرة األجيال‪ ،‬وخلّدت مشواره‬ ‫الكتابي الحافل بــأجــواء المصريين والــشــارع‬ ‫المصري‪.‬‬ ‫وهناك أسماء عربية عرضت رواياتهم على‬ ‫الشاشات كالروائي «يوسف السباعي»‪ ،‬و«إحسان‬ ‫عــبــدالــقــدوس»‪ ،‬و«ع ــاء األســوانــي»‪ ،‬و«إلــيــاس‬ ‫خوري»‪ ،‬و«حنا مينا»‪ ،‬و«محمد شكري»‪ ،‬و«غسان‬ ‫كنفاني»‪ ،‬و«أحالم المستغانمي» وغيرهم‪.‬‬ ‫بعض األعــمــال الكتابية نالت شهرة تفوق‬ ‫شهرة العمل الدرامي‪ ،‬لكن في الوقت نفسه ثمة‬ ‫أعمال روائية لم تكن بالمستوى المطلوب‪ ،‬أو‬ ‫لم تفق جمال الرواية المكتوبة؛ ربما يعود ذلك‬

‫‪136‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫لطبيعة الشخصيات وتفاصيلها كتاب ّيًا‪ ،‬وتخييلها‬ ‫في عقل الــقــارئ‪ ،‬تكاد تتمايز عن مشاهدتها‬ ‫واقع ّيًا‪ .‬وروايات أخرى حولت لمسلسالت درامية‬ ‫ناجحة بينما الرواية جاءت هزيلة‪ .‬وهنا‪ ،‬أتخيل‬ ‫مشاهد المسلسل المصري «بنت اسمها ذات»‪،‬‬ ‫من اخراج «كاملة أبو ذكــرى»‪ ،‬وحوار وسيناريو‬ ‫«مريم نعوم»؛ إذ يتجلى في المسلسل الذي كان‬ ‫من بطولة النجمة «نيللي كريم» والممثل «باسم‬ ‫سمارة» مــدى الصناعة المحكمة التي بذلتها‬ ‫السيناريست «مريم نعوم» في تحويل الحكاية‬ ‫الورقية من تأليف الروائي «صنع اهلل إبراهيم»‪،‬‬ ‫التي جاءت ناقصة التفاصيل والترتيب السردي‬ ‫أيــضــا‪ ،‬ألحداثها التي عرضت بوتيرة واحــدة‬ ‫إلى حكاية بصرية بانورامية‪ .‬وخلق شخصيات‬ ‫مشبّعة باألحاسيس العميقة والحوارات السلسة‪،‬‬ ‫ال درام ّيًا جبارًا‪ ،‬يتناول‬ ‫لقد صنع فريق العمل عم ً‬ ‫تاريخ وقضايا الشارع المصري منذ خمسينيات‬ ‫القرن الماضي حتى قيام الثورة المصرية‪.‬‬ ‫وال ــح ــال نــفــســه أيــضــا مــع مسلسل تركي‬ ‫عرض على الشاشات العربية منذ عام ‪2005‬م‬ ‫حتى عام ‪2010‬م بأجزائه الخمسة‪ ،‬المسلسل‬ ‫الــذي خلق جماهيرية كبيرة وقت عرضه على‬ ‫شاشة ‪« ،mbc‬األوراق المتساقطة»‪ ..‬من بطولة‬ ‫عائلة تركية‪ ،‬األب «علي رضا تكين» مع أبنائه‬ ‫الخمسة‪ ،‬وتكمن قــوة المسلسل في شخصية‬ ‫األب‪ ،‬الرجل الشريف‪ ،‬رسمت شخصيته بمالمح‬ ‫عميقة ظهرت مدى نبله مع عائلته‪ ،‬هذا األنموذج‬ ‫المثالي دفعني شخص ّيًا إلى قراءة الرواية التي‬ ‫بنت عليها الحكاية والتي تحمل العنوان نفسه‬ ‫«األوراق المتساقطة» للروائي التركي «رشــاد‬ ‫نوري غونتكن»‪ .‬وهنا كقارئة شعرتُ بخيبة أمل‬ ‫كبيرة؛ فالرواية جاءت هزيلة ونحتت شخصياتها‬ ‫بسطحية‪ ،‬يبرز هنا عظمة فريق العمل في‬ ‫تحويل الــدرامــا إلــى مشاهد بصرية مفعمة‬ ‫بالحركة‪ ،‬مفعمة بالحياة ومشبّعة باالنفعاالت‬


‫بينما حققت بــعــض الــمــســلــســات تــوازنــا‬ ‫رائـ ـ ًق ــا بــيــن م ــا تــخـ ّيــلــه ال ــروائ ــي وم ــا صنعه‬ ‫المخرج‪ ،‬كالمسلسل المصري «الــوتــد» الذي‬ ‫عرض على الشاشة العربية في عام ‪1996‬م‪،‬‬ ‫مــن اخ ــراج «أحــمــد الــنــحــاس»‪ ،‬مسلسل الوتد‬ ‫يوازي في جماله وتأثيره الرواية التي اقتبست‬ ‫منها الحكاية‪ ،‬وحملت العنوان نفسه للروائي‬ ‫المصري البديع «خيري شلبي»‪ ،‬والــذي عرف‬ ‫مدى مقدرته البديعة في تصوير حياة األرياف‬ ‫وخصوصيته‪ ،‬لقد تفنن في نفخ روح اإلبداع في‬ ‫شخصية بطلة الرواية المسلسل «فاطمة تعلبه»‪،‬‬

‫الروايات التي أخذت منه ببراعة السيناريست‬ ‫«مريم نــعــوم»؛ فالمسلسل ثمرة ثــاث روايــات‬ ‫للروائي المصري «عــزالــديــن شكري فشير»‪،‬‬ ‫روايــات جــاءت كثالثية‪ ،‬كان أولها «مقتل فخر‬ ‫الدين»‪ ،‬ثم أتبعها برواية «غرفة العناية المركزة»‪،‬‬ ‫ثم ختمها أخــيـرًا بــروايــة «أبــو عمر المصري»‬ ‫حيث عنوان المسلسل الدرامي‪ .‬كان باإلمكان‬ ‫عبر أحداثها المفصلة المحورية عن شخصية‬ ‫البطل وبقية الشخصيات التي جــاءت مكثّفة‬ ‫ال درام ـ ًّيــا عمالقًا‬ ‫في الــروايــات أن تصنع عم ً‬ ‫مــن جــزأيــن أو ثالثة أج ــزاء لتأخذ الــروايــات‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫اإلنسانية الصادقة‪.‬‬ ‫والذي أدى الدور ببراعة الممثلة القديرة وقتئذ‬ ‫وهناك مسلسالت غيّبت جمال الــروايــات «هدى سلطان «‪-‬رحمها اهلل‪ -‬المرأة القوية واألم‬ ‫والــقــصــص ف ــي أحـــــداث ســطــحــيــة وركــيــكــة‪ ،‬المتسلطة استطاعت أن تصنع الخوف في قلوب‬ ‫كالمسلسل الخليجي «ساق البامبو» الذي جاء كل مشاهديها من الكبار والصغار معًا!‬ ‫مفتقدًا للقوة والتأثير الذي تمتعت به الرواية‬ ‫أيضا مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»‪،‬‬ ‫التي حملت الــعــنــوان نفسه لــلــروائــي الكويتي الــذي صنع شهرة كبيرة في قلوب الجماهير‬ ‫الــشــاب «ســعــود السنعوسي»‪ ،‬الــذي حــاز على أثــنــاء عرضه عــام ‪1996‬م‪ ،‬مــأخــوذ مــن روايــة‬ ‫جائزة البوكر عن هذه الرواية عام ‪2013‬م‪ ،‬حيث باالسم نفسه للروائي المصري القدير «إحسان‬ ‫تناولت الرواية موضوعً ا غاية في األهمية تفشى عــبــدالــقــدوس»‪ ،‬وســيــنــاريــو وحـــوار «مصطفى‬ ‫في المجتمعات الخليجية السيما الكويتية‪ ،‬وهو مــحــرم»‪ ،‬وإخ ــراج «أحمد توفيق»‪ ،‬ومــن بطولة‬ ‫الزواج من الفليبينيات وتركهن مع أول حمل دون الثنائي العريق الفنان «نــور الشريف» ‪-‬رحمه‬ ‫السؤال عنهن‪ .‬ترحلن إلى بالدهن وهن حامالت اهلل‪ -‬والــفــنــانــة «عبلة كــامــل»‪ ،‬مــا يميّز هذا‬ ‫طف ً‬ ‫ال سليل بيئة صــحــراويــة منعّمة بخيرات المسلسل أنــه إلــى حــد اآلن يــدغــدغ األجيال‬ ‫البترول‪ ،‬فتضعه األم في بيئتها المعدمة‪ ،‬محرومًا الــســابــقــة واألج ــي ــال الــجــديــدة أي ــض ــا‪ ،‬حيث‬ ‫من أبسط حقوقه‪ ،‬متطبعًا بأخالقيات مكان ال تتداول بروح الخفة صور الفنانة «عبلة كامل»‬ ‫يمت له بصلة وثيقة‪ ،‬ويجد هذا الطفل نفسه ككوميكس لتعبر عن الحاالت النفسية التي يمر‬ ‫متزعزعً ا بين هويتين منشطرتين تمامًا كبطل بها اإلنسان في حياته كالفرح والحزن والكآبة‪،‬‬ ‫الروائي «إيتالو كالفينو» في رواية «الفيسكونت صارت أيقونة لوجه دعائي مضمّخ باألحاسيس‬ ‫المشطور»‪ ،‬تائهًا بين أم فلبينية حيث يعيش معها المتباينة‪ ،‬ترويجها داللة على مدى التأثير الذي‬ ‫في بالدها‪ ،‬وأب خليجي تخلى عنه قبل والدته غرسه هذا العمل الدرامي األصيل في عقول‬ ‫وأنكر وجوده! لقد أسقط المسلسل المأخوذ عن المشاهدين‪.‬‬ ‫هذه الرواية روح الشخصيات؛ فقد جاءت في‬ ‫أيضا المسلسل المصري «أبو عمر المصري»‬ ‫الكتاب الورقي‪ ،‬أعمق وأدعى تأثيرًا في النفس الذي أثار جدالً واسعًا‪ ،‬حقق العمل الذي عرض‬ ‫من العمل الدرامي‪.‬‬ ‫في شهر رمضان الماضي توافقًا مبدعً ا ما بين‬

‫‪137‬‬


‫حقها‪ ،‬ويــكــون العمل الــدرامــي مستوف ّيًا في‬ ‫عرض شخصية مثيرة للجدل‪ ،‬وكتبت بأسلوب‬ ‫فاجع وعميق كفخرالدين‪ ،‬أو ما ُكنّي به حين‬ ‫أصبح فردًا من الجماعات اإلسالمية «أبو عمر‬ ‫المصري»‪.‬‬ ‫حتى الروايات التي بطابع كوميدي تنجح في‬ ‫كثير من األحيان كأفالم درامية تطرح قضايا‬ ‫مهمة بــأســلــوب ســاخــر الذع‪ ،‬كــروايــة «عــايــزة‬ ‫أتــجــوز»‪ ،‬للكاتبة المصرية «غــادة عبدالعال»‪،‬‬ ‫التي كانت تكتب مدونات عن فتاة تريد الزواج‪،‬‬ ‫ويــحــدث لــهــا مــقــالــب مطعّمة بالسخرية من‬ ‫أسرتها ومن جيرانها في العمارة‪ ،‬وصديقاتها‬ ‫في مكان عملها في الصيدلية‪ ،‬هذه المواقف‬ ‫جمعتها في كتاب سرعان ما حوّلت لمسلسل‬ ‫شهير عرض في أحد مواسم رمضان من بطولة‬ ‫الفنانة « هند صبري»‪ ،‬وأبــدع المخرج «رامي‬ ‫إمام» في نقل حالة الفتاة المصرية الراغبة في‬ ‫الــزواج‪ ،‬وقسوة ما تتلقاه من مجتمع ال يراها‬ ‫سوى عانس‪ ،‬مجتمع وضع نجاح المرأة في حيّز‬ ‫الزواج فحسب‪ ،‬في حصولها على عريس مهما‬ ‫كانت مواصفاته‪ ،‬مكتفيًا لكونه ذكر!‬ ‫وبــالــعــودة إلــى كتب التاريخ والــتــراث‪ ،‬نجد‬ ‫أمامنا تحفة فــي األدب الفكاهي «البخالء»‬ ‫ألبي عثمان عمرو بن بحر المعروف في التاريخ‬ ‫العربي بــــ«الجاحظ» كتاب متعمق في السخرية‪،‬‬ ‫مطعّم بالحكايات الهزلية عن البخالء وطبائع‬ ‫نفسياتهم وسلوكياتهم وفضح لنواياهم وأسرار‬ ‫بيوتهم‪ ،‬حيث صور الشخصيات بمهارة إزميل‬ ‫نــحــات‪ .‬بــخــاء لكن ظــرفــاء أيــضــا‪ ،‬والــدرامــا‬ ‫العربية نجحت في تحويل بعض حكايات هذا‬ ‫الكتاب إلى مشاهدات درامية عرفت بالخفة‬ ‫ال لــروح الكتاب وغاية كاتبه‪.‬‬ ‫والطرافة‪ ،‬مماث ً‬ ‫ظلت المسلسالت التي تعنى بالبخالء من كافة‬ ‫* كاتبة من اإلمارات‪.‬‬

‫‪138‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫الدول العربية من مصر والعراق وسوريا ولبنان‬ ‫في زمن ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬تستقي من‬ ‫بئر أفكار الجاحظ الغزيرة‪ .‬كمسلسل «البخالء»‬ ‫ومسلسل «بخالء لكن ظرفاء» وغيرها‪.‬‬ ‫النجاح األدبــي للروايات الــذي يش ّد صناع‬ ‫الــدرامــا يظل الــقــارئ هــو مــن يرفعه لمصاف‬ ‫الكتب الروائية الجديرة بالقراءة‪ ،‬كما العمل‬ ‫الدرامي تمامًا‪ ،‬فالمشاهد هنا بديل القارئ‪،‬‬ ‫يحكم عــلــى ال ــدرام ــا وف ــق مــا يــشــاهــده‪ ،‬ومــا‬ ‫يحققه المسلسل من نسبة مشاهدة عالية في‬ ‫قنوات اليوتيوب‪ ،‬كالهما الــقــارئ والمشاهد‬ ‫هما الشخص نفسه‪ ،‬هما مَن يصنعان المجد‬ ‫الحقيقي للمؤلف ولطاقم المسلسل في آن‪،‬‬ ‫السيما في زمن صارت فيه األعمال الدرامية‬ ‫متاحة عبر كبسة زر كحال الكتب أيضا‪ ،‬بمعنى‬ ‫صارت معظم األذواق مستقلة وليست مسيّرة‪،‬‬ ‫صــارت عبر وصايا قــارئ جيّد ومشاهد ملّم‬ ‫بصناعة الدراما‪.‬‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫مواطن األسد في شبه الجزيرة العربية‬ ‫الشعرية‬ ‫من المصادر ِ‬ ‫■ أحمد إبراهيم البوق*‬

‫انحسار األسد من معظم مناطق توزيعه الجغرافي في شبه الجزيرة العربية‪،‬‬ ‫تزامن مع زيــادة انتشار السكان وحركتهم وتطور وسائل القتل‪ ،‬ولكن آخر وجود‬ ‫له في شبه الجزيرة العربية ربما يرجع الى الثلث األول من القرن العشرين في‬ ‫العراق‪.‬‬ ‫العال‪ ..‬مقبرة األسود‪!..‬‬

‫ولــم يتبق من ساللة األســد اآلسيوي ســوى مجموعة منعزلة في شمال غرب‬ ‫الهند قد تكون مصدر ًا محتم ًال الستعادة هــذا التراث الطبيعي لشبه الجزيرة‬ ‫العربية‪ .‬وت ــدل كـثــرة نقش األس ــود على الصخور فــي مناطق مختلفة فــي شبه‬ ‫الجزيرة العربية على انتشاره الواسع القديم فيها‪ ،‬ومن أبرز النقوش والمجسمات‬ ‫له «مقبرة األسود» المحفورة في الصخور‪ ،‬وترجع للحضارة الرادائية في العال‪،‬‬ ‫والتي تشهد حالي ًا استعادة هائلة للتراث الطبيعي فيها‪ .‬وقد ارتبط ذكر األسد‬ ‫بمواقع في شبه الجزيرة العربية تسمى بالمآسد‪-‬جمع مأسدة‪ -‬وخلد ذلك في‬ ‫الشواهد الشعرية‪ ،‬وسنستعرض بعضها فــي هــذا المقال‪ .‬فالشاعرة الخنساء‬ ‫الشهيرة قالت ترثي أخاها صخراً‪:‬‬

‫حامي الحقيق تخالُهُ عند الوغى‬

‫وقالت فيه أيضاً‪:‬‬

‫أسـ ـ ــد ًا بـبـيـشــة ك ـ ِ‬ ‫كس وال عُ مرٌ‬ ‫ـاشـ ـ َر ص ـخــر ًا سَ محُ الخليفة ال نِ ٌ‬ ‫ليث الغابةِ العادي‬ ‫بل باسلٌ مثلُ ِ‬ ‫أي الــذي يحمي مــا يلزم حمايته‪،‬‬ ‫الخل ذي لِ بَدٍ‬ ‫وبيشة موقع شهير كمأسدة في جنوب من أسدِ بيش َة يحمي ِ‬ ‫غربي المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫من أهله الحافِ رِ األدنينَ والبادي‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪139‬‬


‫وقالت فيه أيضاً‪:‬‬

‫وجاء كذلك عند النجاشي الحارثي في‬ ‫رجز له‪ ،‬وذكر مأسدين خفّان وشاش‬

‫أس ـ ـ ـ ـ ــود تـ ـب ــا َل ــةٍ‬ ‫ك ـ ـ ـ ــأنّ مُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـد ًال مـ ـ ــن ُ‬ ‫ـاش‬ ‫ي ـكــونُ لـهــا ح ـيـ ُـث اسـ ـت ــدارَت وك ـرّت ل ـ ـ ـيـ ـ ـ ُـث عـ ـ ــريـ ـ ــن ل ـ ـل ـ ـك ـ ـبـ ــاش غ ـ ـ ـ ِ‬ ‫ـاش‬ ‫م ـ ــن أس ـ ـ ــد خـ ـ ــفّ ـ ـ ــانَ ولـ ـ ـي ـ ـ ِـث ش ـ ـ ِ‬

‫والمدل‪ :‬األسد المزهو بنفسه‪ ،‬وتبالة‪..‬‬ ‫ويعتقد بعض البلدانين أن خفّان مأسدة‬ ‫واد شهير جنوب شرقي الطائف إلى وقت‬ ‫ٍ‬ ‫قرب الكوفة‪ ،‬وشاش مدينة بما وراء النخر‪.‬‬ ‫قريب كانت تكثر فيه الظباء‪.‬‬ ‫والمأسدة ذكرها الفرزدق كذلك‪:‬‬ ‫أما الشاعرة ليلى األخيلية‪ ،‬فقد ذكرت ل ـع ــمُ ــرك م ــا ل ـي ـ ُـث ب ـخ ــفّ ــانَ خ ـ ــادِ ٌر‬ ‫مأسدة اسمها خفّان‪:‬‬

‫قدما‬ ‫بأشج َع من بشرِ بن عُ تب َة مُ ِ‬

‫ف ـت ــىً ك ـ ــانَ أح ـي ــا م ــن فـ ـت ــاةٍ حَ ـي ـيــةٍ‬ ‫ـال مُ عتصم ًا‬ ‫وأشـ ـجـ ـ َع م ــن ل ـي ـ ٍـث ب ـخــفّ ــان خـ ــادِ رِ إن ــي رأيـ ـ ُـت أب ــا األش ـب ـ ِ‬ ‫بـ ــه الـ ـجـ ـب ــالُ ك ـ ـعـ ــادٍ ِع ـ ـن ـ ـ َد خــفّ ــانــا‬ ‫وهذا الموقع ذكره أبو الفضل الكناني‪:‬‬ ‫وقال يمدح أسد بن عبداهلل‪:‬‬

‫أما تميم بن مقبل فقد ذكر مأسدتين في‬ ‫َفـنـهـنـهـ ُـت عـنــهُ ال ـق ــو َم حـتــى كأنما‬ ‫واد شهير بين النماص وعسير ال‬ ‫حَ ـ ـ َبـ ــا دو َن ـ ـ ــه لـ ـي ـ ٌـث بـ ـخ ــفّ ــان خـ ـ ــادِ رِ ترج‪ ..‬وهو ٍ‬ ‫زال يزخر بالوعول والظباء والنمور‪ ،‬ومأسدة‬ ‫وجاء كذلك عند األعشى الكبير‬ ‫أخرى اسمها « ِعتوَد»‪:‬‬

‫وما مخد ٌر وردٌ عليه مهابةٌ ‬ ‫جاف كأنّهم‬ ‫الع ُ‬ ‫ُحلوس ًا بها الشمُّ ِ‬ ‫أسـ ـ ـ ـ ــودٌ ب ـ ـتـ ــرج أو أس ـ ـ ـ ــودٌ بـ ـعـ ـتـ ـ َودَا‬ ‫ُ‬ ‫أبـ ــو أشـ ـ ُب ـ ٍـل أم ـس ــى ب ـخ ــفّ ــان خ ـ ــادِ رِ‬ ‫‪140‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫فـ ـ ـل ـ ــمّ ـ ــا أن رأون ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا فـ ـ ـ ــي وغ ـ ــاه ـ ــا‬ ‫دَر ُبـ ـ ـ ـ ــوا ك ـم ــا دَربـ ـ ـ ــت اسـ ـ ــود خَ ـف ـيــةٍ‬ ‫ك ـ ـ ــآس ـ ـ ــادِ ال ـ ـغـ ــري ـ ـفـ ــةِ والـ ـحـ ـجـ ـي ـ ِـب‬ ‫ـاب مــن األس ــودِ ضــواري‬ ‫غـلـ ُـب الــرقـ ِ‬ ‫ـات ال ـ ـ ّل ـ ـجـ ــم ف ـي ـنــا‬ ‫والمأسدة نفسها ذكرها األعشى الكبير‪ :‬وخـ ـ ـي ـ ـ ٍـل ع ـ ــالـ ـ ـك ـ ـ ِ‬ ‫ك ـ ـ ـ ــأنّ ك ـ ـمـ ــا َت ـ ـهـ ــا أسـ ـ ـ ـ ـ َد الـ ـ َّـضـ ــريـ ــب‬ ‫ِم ـ ــن ك ـ ــلَّ س ــابـ ـح ــةِ وأج ـ ـ ـ ــر َد س ــاب ـ ٍـح‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫وص ـ ـ ـ َعـ ـ ــادِ‬ ‫َت ـ ـ ـ ـ ــردِ ي ب ـ ــأس ـ ـ ِـد خَ ـ ــفَّ ـ ـيـ ــةٍ ِ‬ ‫وسَ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ــدٌ لـ ـ ــو دع ـ ـ ــو ُت ـ ـ ــهُ ـ ـ ــمُ لـ ـث ــاب ــوا‬ ‫وذكرها الراعي النميري‪:‬‬ ‫ـاب َنـ ـ ـ ــوٌ ى ب ــأس ـ ِـد‬ ‫ـف غ ـ ـ ـ ِ‬ ‫إل ـ ـ ــيّ حـ ـفـ ـي ـ َ‬ ‫ـاك ولـ ـي ـ ُـث َخَ ــفَّ ـي ــةٍ‬ ‫وأنـ ـ ــتَ اب ـ ــنُ أمـ ـ ـ ٍ‬ ‫ومأسدة الغريف ذكرها كذلك عمرو بن‬ ‫األس ــودُ الغُ ُ‬ ‫َتـفــادى ُ‬ ‫لب منهُ تفاديا األسود‪:‬‬

‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫أما مأسدة « خَ في ٍّة « فقد ذكرها كعب بن األودي‪ ،‬فقد ذكر مآسد في شعره « (الغريفة‪،‬‬ ‫والضريب ونوى)‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫والحجيب‪،‬‬ ‫زهير‪:‬‬

‫الحديد كما مَ شَ ت‬ ‫ِ‬ ‫حلق‬ ‫أمــا الــفــرزدق فقد قــال يمدح يزيد بن يمشونَ في ِ‬ ‫عبدالملك‪:‬‬ ‫أس ــدُ ال ـغــريـ ِـف ب ـكــلّ نـحـ ٍـس مُ ِظلم‬

‫َض ـ ــرب ـ ــوا بـ ـح ــق ن ـ ـبـ ــوةٍ ك ــان ــت لـهــم‬ ‫وس ـ ـيـ ـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـوف أس ـ ـ ِـد خَ ــفَّ ـ ـي ــةٍ ل ــم َت ـنــكُ ـ ِـل إذ ًا لـ ـظـ ـنـ ـن ـ ُـت جَ ـ ـ ـ ّن ـ ـ ـ َة ذي ع ــري ـ ٍـن‬ ‫وآس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا َد ال ـ ـ ـغـ ـ ــريـ ـ ـ ِـف ف ـ ـ ــي َصـ ـعـ ـي ــر‬ ‫ومــن أق ــدم الــشــعــراء الجاهليين الفوة‬ ‫وعند المثقب العبدي‪:‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪141‬‬


‫ومــأســدة «عــثّــرَ» ذكــرهــا زهــيــر بــن أبي‬ ‫سلمى‪:‬‬

‫ل ـيـ ٌـث يِ ـع ـ ّث ـ َر ي ـص ـطــا َد الـ ـ ّرج ــالَ إذا‬ ‫الليث عــن أقــرانِ ــه َصدَقا‬ ‫ُ‬ ‫مــا ك ــذّ بَ‬ ‫وكذلك ذكرها كعب بن زهير‪:‬‬

‫ُغم من ضراءِ األسد مُ خدرةٌ‬ ‫من صب ٍ‬ ‫ب ـب ـط ــن عَ ـ ـ ـ ّث ـ ـ ـ َر غ ـ ـيـ ــلٌ دو َنـ ـ ـ ـ ــه غ ـي ــلُ‬ ‫أما أشهر مأسدة وإليها ينسب األسود‬ ‫فهي «الشَّ رى» وقد ذكرها الفرزدق‪:‬‬

‫فـ ــإنّ ام ـ ــر ًأ يـسـعــى يُ ـخ ـ ّبــب زوجـتــي‬ ‫كـســاعٍ إلــى أسـ ِـد الـ ّـشــرى يستبيلُها‬ ‫والجواهري يقول إن «الشرى» طريق في‬ ‫يـ ـ ــا بـ ـ ـ ـ ــد ُر يـ ـ ــا بـ ـ ـح ـ ــرُ عُ ـ ـ ـمـ ـ ــام ـ ـ ـ َة يــا‬ ‫سُ لمى كثير األسد‪.‬‬ ‫وقال أيضاً يمدح اإلمام زين العابدين بن‬ ‫علي بن الحسين‪:‬‬

‫ل ـي ــثَ ال ـ ّـش ــرى ي ــا حَ ـ ـم ــامُ ي ــا ر َُج ـ ــلُ‬

‫والمتنبي ذكــر مواقع أخــرى لألسد في‬ ‫قصيدته الشهيرة عن األسد ذكر «األردنّ »‬

‫هُ ـ ــمُ الـ ـعـ ـي ــونُ إذا م ــا أزمـ ـ ــةٌ أ َزمـ ــت‬ ‫الشرى واليأس محترمُ وبحيرة طبريا‪:‬‬ ‫واألسدُ أسدُ ّ‬ ‫والمتنبي يقول في ذات المأسدة‪:‬‬

‫وق ـ ـعـ ــت عـ ـل ــى األردنِّ مـ ـن ــه ب ـل ـيــةٌ‬ ‫ـاق ُت ـل ــوال‬ ‫ـضـ ــدت ب ـه ــا هـ ـ ــا َم الـ ــرفـ ـ ِ‬ ‫َنـ ـ َ‬

‫فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يُرى‬ ‫الشرى وهو من ٍ‬ ‫لَيثَ ّ‬ ‫عجل إذا انتشبا وردٌ إذا ور َد الـ ـبـ ـحـ ـي ــر َة شـ ــارب ـ ـ ًا‬ ‫ور َد الـ ـ ـ ـف ـ ـ ــراتَ زئ ـ ـ ــيُ ـ ـ ــر ُه والـ ــنِ ـ ـيـ ــا‬ ‫وقال يمدح كافور األخشيدي‪:‬‬ ‫وذكر « الغراديس» وهو موضع بالشام‪:‬‬

‫ف ــإ ّال تكن ِمـضــرُ الـ َّـشــرى أو عَ رينهُ‬ ‫ف ــإنّ ال ــذي فيها مــن ال ـنـ ِ‬ ‫ـاس أس ــدُ ُه أجـ ــارُك يــا أسـ ـ َد ال ـغــراديــس مـكـرَمٌ‬ ‫وقال يمدح بدر بن عّ مار‪:‬‬ ‫فمسلمُ‬ ‫ِ‬ ‫ـات‬ ‫فتسكن نفسي أَم مُ ـهـ ٌ‬ ‫* باحث وشاعر سعودي‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءات‬

‫االحتياجات املجتمعية للمرأة يف‬ ‫محافظة الغاط ودورها يف حتقيق‬ ‫التنمية املستدامة‬

‫املؤلف ‪ :‬أ‪ .‬د‪ .‬اجلوهرة بنت فهد عبداهلل الزامل‬ ‫الناشر ‪ :‬مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‪٢٠١٩ ،‬م‬ ‫صدر حديثاً عن برنامج النشر ودعم األبحاث بمركز‬ ‫عبدالرحمن السديري الثقافي‪ ،‬كتاب االحتياجات‬ ‫المجتمعية للمرأة في محافظة الغاط ودورها‬ ‫في تحقيق التنمية المستدامة‪ ،‬وهو ثمرة دراسة‬ ‫ميدانية موّلها مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‪.‬‬ ‫سعت الدراسة إلى تقدير احتياجات المرأة‬ ‫االجتماعية واالقتصادية بمحافظة الغاط‪،‬‬ ‫بهدف التوصل إلى تصور تخطيطي مقترح لتلبية‬ ‫احتياجات المرأة للتنمية المستدامة من خالل‬ ‫المحكّات اآلتية‪( :‬االحتياجات االجتماعية‪،‬‬ ‫واالقتصادية‪ ،‬والبيئية‪ ،‬والتعليمية‪ ،‬والثقافية‪،‬‬ ‫والصحية‪ ،‬والترفيهية‪ ،‬واحتياجات البنية التحتية‬ ‫واإلسكان)‪.‬‬ ‫وقد عمدت الدراسة إلى ترتيب أولويات احتياجات‬ ‫المرأة‪ ،‬ومعرفة تقييم المرأة نفسها لالحتياجات‬ ‫الموجودة بالغاط‪ ،‬وتحديد الصعوبات التي‬ ‫تعوق إشباع احتياجاتها لتحقيق أهداف التنمية‬ ‫المستدامة‪.‬‬ ‫وتوصلت النتائج إلى أن االحتياجات الترفيهية تمثل‬ ‫أولى االحتياجات المجتمعية التي توليها المرأة‬ ‫بمحافظة الغاط أهمية الفتة‪ ،‬يليها االحتياجات‬ ‫الصحية‪ ،‬ثم احتياجات البنية التحتية واإلسكان‬

‫والمرافق‪ ،‬ثم جاءت االحتياجات البيئية‪ ،‬يليها‬ ‫االحتياجات االجتماعية‪ ،‬ثم االقتصادية في‬ ‫الترتيب السادس‪ ،‬وفي الترتيب السابع واألخير جاء‬ ‫متوسط االحتياجات التعليمية والثقافية وتقييم‬ ‫الخدمات المتوافرة في محافظة الغاط‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫أن الخدمات التعليمية والثقافية جيدة كما تراها‬ ‫النساء عيّنة الدراسة‪ ،‬بينما تم تصنيف الخدمات‬ ‫الترفيهية بالمقبولة‪.‬‬ ‫وتوصلت الدراسة إلى تحديد الصعوبات التي‬ ‫تعوق إشباع احتياجات المرأة‪ ،‬والمقترحات إلشباع‬ ‫تلك االحتياجات‪ ،‬والتخطيط لعدد من المبادرات‬ ‫التنفيذية بهدف تحقيق أهداف التنمية المستدامة‪.‬‬ ‫يمثل الكتاب إضافة إلى أدبيات الدراسات‬ ‫االجتماعية المتعلقة باالحتياجات المجتمعية‬ ‫للمرأة‪ ،‬لمساعدة الجهات الرسمية واألهلية‬ ‫المهتمة بشؤونها‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أن مركز عبدالرحمن السديري‬ ‫الثقافي أقام ورشة عمل في محافظة الغاط‪،‬‬ ‫بحضور محافظ الغاط وقادة الوحدات والمؤسسات‬ ‫الحكومية واألهلية لدراسة مخرجات هذه الدراسة‪،‬‬ ‫لإلفادة منها في التخطيط لألنشطة والخدمات‬ ‫المتعلقة بالمرأة في الغاط‪.‬‬ ‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬

‫‪143‬‬


‫الـ ـ ـصـ ـ ـفـ ـ ـح ـ ــة األخـ ـ ـ ـي ـ ـ ــرة‬

‫القصة ‪ ..‬اليوميات‪ ..‬الرواية‪ ..‬السيرة الذاتية‬ ‫■ صالح القرشي*‬

‫مع فورة الرواية السعودية قبل أكثر من عشر سنوات‪ ،‬كان القول عن روايــة ما أنها سيرة‬ ‫ذاتية اتهام يقلل من أهميتها الفنية‪ ،‬ويطلق عادة للتشكيك في قيمة الرواية أو في قدرات‬ ‫الروائي‪ ،‬بينما في مجتمعات أخرى كان يجري العكس‪ ،‬إذ إن السيرة الذاتية الذائعة لكاتب ما‬ ‫يمكن أن تفقد قيمتها ومصداقيتها فيما لو وجد مَن يشكك في كونها مجرد رواية!‬ ‫أتذكر أنــه وعبر منتدى ثقافي مـعــروف‪ ،‬سئلت عن الفرق بين الــروايــة والسيرة الذاتية‪،‬‬ ‫فأجبت أن الرواية مكتوب على غالفها رواية‪ ،‬فيما السيرة الذاتية مكتوب على غالفها سيرة‬ ‫ذاتية‪ ،‬وهذا الجواب لم يعجب الكثير من الزمالء في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫أتذكر أيضا أن بعض النقاد تناولوا الرواية‬ ‫أال يــمــكــن لــلــقــصــة الــقــصــيــرة أن تكتب‬ ‫المعروفة لغازي القصيبي رحمه اهلل ( شقة بطريقة اليوميات وباستخدام ضمير المتكلم‬ ‫الحرية) وقت صدورها قائلين هذه ليست وباستخدام حتى تواريخ معينة‪..‬؟‬ ‫رواية‪ ،‬إنها مجرد سيرة ذاتية‪ ،‬والسبب الوحيد‬ ‫الجواب يمكن جدا‪..‬‬ ‫الذي يملكه أولئك النقاد لتسويغ ذلك القول هو‬ ‫أنهم يعرفون جوانب من حياة الكاتب‪ ،‬وبالتالي‬ ‫هــل يعني هــذا أنها يوميات أو مذكرات‬ ‫يسهل عليهم الحديث عن كونها مجرد سيرة‪ .‬وليست قصة قصيرة؟‬

‫ولــكــن ه ــل هـ ــذا تــقــيــيــم نــقــدي حقيقي‬ ‫الحقيقة أنه ال يمكن الجزم بذلك؟ إال في‬ ‫وموضوعي؟‬ ‫حالة واحــدة‪ ،‬وهي أن يكتب عليها صاحبها‬ ‫ماذا سيكون موقف مَن يقرأ العمل دون أن أنها يوميات أو مذكرات‪ ،‬سوى ذلــك‪ ..‬فهي‬ ‫يعرف شيئا عن حياة كاتبه؟‬ ‫ستكون قصة قصيرة بعيدا عن مسألة الجودة‬ ‫ونــقــطــة االلــتــبــاس هــنــا تكمن فيما قاله الفنية من عدمها‪.‬‬ ‫إمبرتو إيكو (بطريقة ما‪ ،‬أعتبر كل رواية هي‬ ‫وهــنــالــك الــكــثــيــر مــن الــنــمــاذج الــروائــيــة‬ ‫سيرة ذاتية‪ .‬حينما نبتكر شخصية روائية‪ ،‬والقصصية التي تستخدم تقنية اليوميات أو‬ ‫فنحن بشكل ما نسبغ عليها بعضاً من حياتنا‬ ‫المذكرات او السيرة الذاتية لخلق أجواء معينة‬ ‫الخاصة‪ .‬فنعطي هذه الشخصية جزءًا منا‪،‬‬ ‫دون أن تخرجها هذه التقنية الكتابية عن كونها‬ ‫ونعطي تلك جزءًا آخر منا‪ .‬بهذا ال أراني أكتب‬ ‫سيرتي الذاتية بشكل مباشر‪ ،‬لكن سيرتي قصص أو روايات‪.‬‬ ‫الذاتية تصبح مضمّنة في الــراويــة‪ .‬وهناك‬ ‫الخالصة‪ ،‬أننا أمام فنون مراوِ غة ومرنة‪،‬‬ ‫فرق‪).‬‬ ‫ال يمكن تأطيرها بشكل مطلق‪ ،‬وتبقى الجودة‬ ‫ومثل إشكالية الرواية والسيرة الذاتية دائما الفنية هي المعيار األهــم بعيدًا عن مسألة‬ ‫ما تحضر مسألة القصة القصيرة واليوميات‪ ..‬التصنيف!‬ ‫* كاتب من السعودية‪.‬‬

‫‪144‬‬

‫العدد ‪ - 63‬ربيع ‪١٤٤٠‬هـ (‪٢٠١٩‬م)‬


‫من إصدارات اجلوبة‬


‫من إصدارات برنامج النشر في‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.