ُ وغنائيات اإليقاع. ¦شتيوي الغيثي ُ أصوات اللغة ودال التها. ¦
النشر اإللكتروني بين الرقمي والصوتي. ¦ ُ
¦مواجهــــــات :طارق الطيب؛ مازن اليحيا؛ ومحمود فضيل التل؛ ونوربرت جشتراين.
أميمة الخميس:
كاتب ُة ال َوجد والرؤى الحالمة
63
برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم البحوث والرسائل العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف 1-نشر الدراسات واإلبداعات األدبية والفكرية
يهتم بالدراسات ،واإلبداعات األدبية ،ويهدف إلى إخراج أعمال متميزة ،وتشجيع حركة اإلبداع األدبي واإلنتاج الفكري وإثرائها بكل ما هو أصيل ومميز. ويشمل النشر أعمال التأليف والترجمة والتحقيق والتحرير. مجاالت النشر: أ -الدراسات التي تتناول منطقة الجوف ومحافظة الغاط في أي مجال من المجاالت. ب -اإلبداعات األدبية والفكرية بأجناسها المختلفة (وفقاً لما هو مب ّين في البند « »٨من شروط النشر). ج -الدراسات األخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف ومحافظة الغاط (وفقاً لما هو مب ّين في البند « »٨من شروط النشر). شروطه: -١أن تتسم الدراسات والبحوث بالموضوعية واألصالة والعمق ،وأن تكون موثقة طبقاً للمنهجية العلمية. -٢أن تُكتب المادة بلغة سليمة. -٣أن يُرفق أصل العمل إذا كان مترجماً ،وأن يتم الحصول على موافقة صاحب الحق. -٤أن تُق ّدم المادة مطبوعة باستخدام الحاسوب على ورق ( )A4ويرفق بها قرص ممغنط. -٥أن تكون الصور الفوتوغرافية واللوحات واألشكال التوضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومناسبة للنشر. -٦إذا كان العمل إبداعاً أدبياً فيجب أن يتّسم بالتم ّيز الفني وأن يكون مكتوباً بلغة عربية فصيحة. -٧أن يكون حجم المادة -وفقاً للشكل الذي ستصدر فيه -على النحو اآلتي: الكتب :ال تقل عن مئة صفحة بالمقاس المذكور. البحوث التي تنشر ضمن مجالت محكمة يصدرها المركز :تخضع لقواعد النشر فيتلك المجالت. الكتيبات :ال تزيد على مئة صفحة( .تحتوي الصفحة على « »250كلمة تقريباً). -٨فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت النشر ،فيشمل األعمال المقدمة من أبناء وبنات منطقة الجوف ،إضافة إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام ،أما ما يتعلق بالبند (ج) فيشترط أن يكون الكاتب من أبناء أو بنات المنطقة فقط. -٩يمنح المركز صاحب العمل الفكري نسخاً مجانية من العمل بعد إصداره ،إضافة إلى مكافأة مالية مناسبة. -١٠تخضع المواد المقدمة للتحكيم.
-2دعم البحوث والرسائل العلمية
يهتم بدعم مشاريع البحوث والرسائل العلمية والدراسات املتعلقة مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط ،ويهدف إلى تشجيع الباحثني على طرق أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها وأفكارها. (أ) الشروط العامة: -١يشمل الدعم املالي البحوث األكادميية والرسائل العلمية املقدمة إلى اجلامعات واملراكز البحثية والعلمية ،كما يشمل البحوث الفردية ،وتلك املرتبطة مبؤسسات غير أكادميية. -٢يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة متعلقاً مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط. -٣يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة جديداً يف فكرته ومعاجلته. -٤أن ال يتقدم الباحث أو الدارس مبشروع بحث قد فرغ منه. -٥يقدم الباحث طلباً للدعم مرفقاً به خطة البحث. -٦تخضع مقترحات املشاريع إلى تقومي علمي. -٧للمركز حق حتديد السقف األدنى واألعلى للتمويل. -٨ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل إجراء تعديالت جذرية تؤدي إلى تغيير وجهة املوضوع إال بعد الرجوع للمركز. -٩يقدم الباحث نسخة من السيرة الذاتية. (ب) الشروط اخلاصة بالبحوث: -١يلتزم الباحث بكل ما جاء يف الشروط العامة(البند «أ»). -٢يشمل املقترح ما يلي: توصيف مشروع البحث ،ويشمل موضوع البحث وأهدافه ،خطة العمل ومراحله،واملدة املطلوبة إلجناز العمل. ميزانية تفصيلية متوافقة مع متطلبات املشروع ،تشمل األجهزة واملستلزماتاملطلوبة ،مصاريف السفر والتنقل والسكن واإلعاشة ،املشاركني يف البحث من طالب ومساعدين وفنيني ،مصاريف إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة. حتديد ما إذا كان البحث مدعوماً كذلك من جهة أخرى.(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية: إضافة لكل ما ورد يف الشروط اخلاصة بالبحوث (البند «ب») يلتزم الباحث مبا يلي: -١أن يكون موضوع الرسالة وخطتها قد أق ّرا من اجلهة األكادميية ،ويرفق ما يثبت ذلك. -٢أن يُق ّدم توصية من املشرف على الرسالة عن مدى مالءمة خطة العمل. هاتف 014 6245992 :فاكس014 6247780 : الجـوف 42421ص .ب 458 هاتف 016 4422497 :فاكس016 4421307 : الغ ـ ـ ــاط 11914ص.ب 63 الرياض 11614ص .ب 94781هاتف 011 2015494 :فاكس011 2015498 :
info@alsudairy.org.sa www.alsudairy.org.sa
مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري
ملف ثقايف ربع سنوي يصدر عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي هيئة النشر ودعم األبحاث
رئيساً د .عبدالواحد بن خالد الحميد عضواً د .خليل بن إبراهيم المعيقل عضواً د .ميجان بن حسين الرويلي أ .د .مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضواً عضواً د .علي دبكل العنزي عضواً محمد بن أحمد الراشد أسرة التحرير
إبراهيم بن موسى احلميد محرر ًا محمود الرمحي محرر ًا محمد صوانة اإلخراج الفني :خالد الدعاس
املشرف العام
هاتف)+966()14(6263455 : املراســــــالت : فاكس)+966()14(6247780 : ص .ب 458سكاكا اجلـوف -اململكة العربية السعودية www.alsudairy.org.sa aljoubahmag@alsudairy.org.sa
ردمد ISSN 1319 - 2566 سعر النسخة 8رياالت -تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع االشتراك السنوي لألفراد 50ريا ًال واملؤسسات 60ريا ًال
رئيساً فيصل بن عبدالرحمن السديري عضواً سلطان بن عبدالرحمن السديري د .زياد بن عبدالرحمن السديري العضو المنتدب عضواً عبدالعزيز بن عبدالرحمن السديري عضواً د .سلمان بن عبدالرحمن السديري عضواً د .عبدالرحمن بن صالح الشبيلي عضواً د .عبدالواحد بن خالد الحميد سلمان بن عبدالمحسن بن محمد السديري عضواً طارق بن زياد بن عبدالرحمن السديري عضواً سلطان بن فيصل بن عبدالرحمن السديري عضواً أ .د .مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضواً قواعد النشر
-1أن تكون املادة أصيلة . -2لم يسبق نشرها ورقياً أو رقمياً. -3تراعي اجلدية واملوضوعية. -4تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها. -5ترتيب املواد يف العدد يخضع العتبارات فنية. -6ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني والكتّاب ،على أن تكون املادة باللغة العربية. «اجلوبة» مناألسماءالتيكانتتُطلقعلىمنطقةاجلوفسابقاً.
املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر.
يُعنى بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط ،ويقيم املناشط املنبرية الثفافية، ويتبنّي برنامجاً للنشر ودعم األبحاث والدراسات ،ويخدم الباحثني واملؤلفني ،وتصدر عنه مجلة (أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي ،ومجلة (اجلوبة) الثقافية ،ويضم املركز ك ً ال من( :دار العلوم) مبدينة سكاكا ،و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط ،ويف كل منهما قسم للرجال وآخر للنساء .وتصرف على املركز مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية.
0553308853
Alsudairy1385
www.alsudairy.org.sa
العدد - ٦٣ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
الـمحتويــــات االفتتاحية :إبراهيم بن موسى الحميد .......................... دراسات ونقد :أميمة الخميس ..كاتبة الوجد والرؤى الحالمة ... الوارفة ..ظالل المرأة تعشق الحياة -د .هناء البواب........... أميمة الخميس وهج الفكر ودهشة السرد -د .نورة القحطاني.... يداك حين «مسرى العقيق»؟؟ -انتصار الرجبي .... ِ ألم ترتجف عتبات النص وصرخاته األنثوية المجروحة -محمد العامري... شعرية عتبات النص «البحريات» -إيمان المخيلد............... أميمة الخميس وحكايات األطفال -مصطفى خالد مطيّر ...... أميمة الخميس ..وهج الكتابة ورذاذ الجمالي -تركية العمري ..
6.......................... أميمة الخميس وهج الفكر ودهشة السرد
92.............................
األديب والروائي د .طارق الطيب
114............................
الشاعر مـــــازن اليحيا
٤ ٦ 7 10 12 14 17 26 28 29 34 44 55
عودة غاليليو - ...عبداهلل بيال................................... الريادة واالستجابة -د .سعيد بن حمد الهاجري................ شتيوي الغيثي - ..محمد صالح الشنطي ........................ ديوان «حين النوافذ امرأة» ألحمد اللهيب -هشام بنشاوي ..... للقاص ساعد الخميسي والبحث عن كثافةٍ ُّ مجموعة "نقوش" مستحيلةٍ -إبراهيم الحجري59 ................................... نصوص :المتوجسة -نوره العبيري64 ................................ ذاكرة الموتى -حليم الفرجي 66 .................................... أزهــــــــــار -محمد الرياني68 .................................. وجهها كله مطر -ناصر سالم الجاسم 69 ..................... ومضات سريعة -محمد صوانة 71 ............................ نصوص زياد السالم 72 ......................................... كبر الورد ! -جواد الحطاب74 ...................................... ذهبتْ سُ دى -حامد أبوطلعة75 ..................................... على الطريق -أحمد النعمي 76 ................................ هوية -شتيوي الغيثي 78 ....................................... شموخ -حسين صميلي ٨٠ ..................................... تابوت آخر -عبداهلل األسمري ٨١ ............................. حبيبتي أَنا ل ْن أقو َل -شاهر ذيب ٨٢ .......................... عطش األكف -خالد أبو حمدية٨٤ ............................ لست أدري -محمد عسيري ٨٦ ............................... رؤى -حسين جومان السويدي87 ................................... ترجمة :قطاع النشر اإللكتروني -ترجمة :خديجة حلفاوي٨٨ ...... مواجهات :الروائي د« ،طارق الطيب» -حاوره :محسن حسن 92 .... الشاعر محمود فضيل التل -حاوره نضال القاسم 104 .............. الشاعر مازن اليحيا -حاوره :عمر بوقاسم114 ..................... الكاتب النمساوي نوربرت جشتراين -حاوره :نسرين البخشونجي123 .... نوافذ :سينما نجيب محفوظ -السمّاح عبداهلل 127 ............. أصوات اللغة ودالالتها -أ .د .عبداهلل الفَيفي 131 ............. شخصيات روائية في مشاهدات حيّة -ليلى عبداهلل135 ............ مواطن األسد في شبه الجزيرة العربية -أحمد البوق 139 ..... قراءات 143 ........................................................ الصفحة األخيرة :القصة ..اليوميات ..الرواية ..السيرة الذاتية -صالح القرشي ١٤٤ ....................................
■ إبراهيم بن موسى احلميد
يؤكد الباحث األستاذ محمد القشعمي أن الرواية في المملكة العربية السعودية سبقت أقطارًا عربية مختلفة؛ منها :تونس ،وسورية ،ولبنان ،واليمن، والجزائر .لقد صــدرت أول روايــة سعودية في العام 1930م لعبدالقدوس األنصاري ،ثم 1935م لمحمد نور جوهري؛ بينما صدرت أول رواية في تونس في العام 1935م ،وفي سورية عام 1937م؛ فيما تأخر صدور أول رواية في لبنان واليمن إلى العام 1939م؛ أما الجزائر فأول رواية عربية فيها صدرت في العام 1947م(.)١ وقد بدأ عصر جديد للرواية السعودية في الصعود في العام 1994م، بعد صدور رواية «شقة الحرية» للدكتور غازي القصيبي ،يرحمه اهلل ،وكان بسيل من الروايات ل ُكتّاب وشعراء وقاصين ،لم تشهد له ٍ خروجها إيذانًا ال من قبل ..حتى أصبحت الرواية ديوا َن العرب الجديد؛ الحركة الثقافية مثي ً ال صدر في العام 2000م )22( ،رواية ،ليتصاعد الرقم ويصل إلى ()100 فمث ً رواية عام 2011م ،و( )120رواية عام 2016م ،وِ فق ببليوغرافيا خالد اليوسف. وقد نتج عن الطفرة الروائية الجديدة في المملكة تتويج عدد من الروائيين بالفوز بأهم الجوائز األدبية في العالم العربي ،منهم :عبده خال ،ورجاء عالم، وآخرها تتويج الروائية أ ُميمة الخميس بجائزة نجيب محفوظ للرواية عام ( 2018م) ،الجائزة التي ترعاها الجامعة األميركية بالقاهرة .والجائزة تتوّج مسيرة أميمة الخميس الروائية والسردية ،في تجربة مميزة ،شهد لها فيها
4
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
تــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــج
حـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدـة س ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ دراـ ـ ـ ـ ـ اف ـ ـاتـاون عدد كبير من النُقّاد وال ُقرّاء ،إذ انتشرت أعمالها الروائية في المملكة والعالم العربي، وكانت من أبرز الروائيين الذين يُشار إلى تميّز تجاربهم وقدرتهم اإلبداعية ،وسط العديد المتزايد من األعمال الروائية المحلية والعربية. برعت أميمة الخميس في أعمالها مجترحة اختراقات وتجديدات ،بدءاً من أعمالها السردية األولى في «الضلع حين استوى» ،و«مجلس الرجال الكبير» ،وحتى في كتاباتها لألطفال ،وصوال إلى رواياتها المهمة ،والتي وثّقت الحياة االجتماعية والثقافية في المملكة؛ إذ تنقلت بنا أميمة برواياتها من «البحريات» ،حيث تتفاعل مع مجتمعها وتسرد حياة النساء المهاجرات والقادمات من وراء البحار ،للعمل أو مرافقات ألزواجهن أثناء عملهم في المملكة، ومحاوالت االندماج والتهميش الذي يعانينه ،وقصصهن وحياتهن اليومية في غربتهن .وفي «الوارفة» نجد أنها تب َر ُع في وصف حال المرأة السعودية واألسرة السعودية ،وموقفها من المرأة ،من خالل نماذج متنوعة من مناطق المملكة ،وتأثير الدراسة في الخارج؛ مؤكِّدة ال وار ًفًا وعطا ًء لكل مضامين يشي بها عنوان الرواية ،إذ تُ َع ُّد بطل َة الرواية؛ فتظل المرأة ظ ً مَن حولها ،كما تسرد الرواية مشهدًا لطبيعة عمل المرأة في بيئة جديدة عليها من خالل عملها ،ومن خالل قضية الزواج والعالقات اإلنسانية داخل األسرة الواحدة. في روايتها «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» الفائزة بجائزة نجيب محفوظ ،تبرز أميمة إمكاناتها الروائية السردية ،المعتمدة على البحث والتاريخ والقوافل ،وتفتح األبواب لخزائن ال لكاتبة تكتب عن أماكن بقيت مغلقة قرونًا طويلة ،في عمل بحثي ال يمكن أن يكون سه ً وحياة لم تعشها إال مجازًا ربما ،فهي تستحضر شخصية روايتها الرئيسة وأماكنها التي ال وحياةً؛ لتُشكِّل المشهد تسافر إليها ،وتتقاطع مع شذرات من شخصية الرواية فكرًا وتعام ً الكليَّ للرواية ،وكأنها تسير على خُ طى محفوظ نفسه في «ابن فطومة» ،أو تتذكر كتاب المدن ..تلك الجداريات الغنائية من زمن العشق والسفر لعبدالعزيز المقالح. ( )١الرواية العربية وبداياتها في المملكة :الجوبة العدد .35 العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
5
جــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
أُميمة الخميس كاتبــة الوجــد والــرؤى الحالمة ال بدّ من اإلشارة إلى أن الخطاب الروائي المعاصر في السعودية والذي يمتلك إمكانات الغنى والتنوّع؛ مّ ا يعني إمكانية تأويله بشكل يُبطل فكرة تمنّعه على المتلقي ،أو انغالقه على عملية التلقي التي ال تلبث أن تضع يدها على مدخل تأويلي مناسب ،يخترق آفــاق النص اإلبــداعــي ،ويصيغ فحوى أفكاره الخصبة في انبعاثات نصيّة واضحة ،تُخرجه من مكنونه اإلبداعي وصيغته الوجدانيّة إلى صيغة فكرية قادرة على إيقاد شعلة التلقي عند اآلخرين. عندما نتحدث عن النثر وعذاباته المحببة للنفس؛ فإننا ننهل من فيض معينه الخصب، ومن التصاقه الوجداني بالنفس اإلنسانية؛ ليمنحها ما تسمو معه ،وتنهض به ،فنقول ما قاله البحتري :
إذا الـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـج ـ ـ ــومُ ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءتْ ف ـ ـ ــي جـ ــوان ـ ـب ـ ـهـ ــا لـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ًـا ح ـ ـس ـ ـبـ ــت س ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــاءً ُر ِّك ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ْـت ف ـي ـه ــا هكذا وجد نتاج أميمة الخميس ،وإذا بها تُزهر وجداً ،وتشيب بهاءً وألقاً. إذ ،ال يمكن بحال من األحوال دراسة كاتب ،دون التوقف على الرؤيا التي يحملها .فلم تتعب الحب والمحبة الصافية ،كتبت ذاتها ،وبحثت ّ الروائية الخميس من وجع الكتابة ،ولم يُتعبها في جوانية عالمها ،ومجتمعها المنغلق على ذاته ..في وقت تقتحم فيه كفارسة كل الحدود وتجتاز الدنيا ،فصاغت األسئلة المعمّ دة بأبعاد الزمن ،والمشيّدة بعمارة اآلتي ،تتطهر بنار الحب كينونة كبرى ،ومعنى ّ أحب ،ويحب ،بعدما وجدت في الكتابة ،وتبعث رماده فينيق ًا لمن ّ أثير ًا من التجدد ،واالنعتاق. ال أرى وسيلة للدخول إلى عالم الخميس الروائي إال من خالل غوايتها اإلبداعية وروحها األثيرة وأحوالها ومقاماتها.
6
هــذا الثراء في المعنى يستدعي طاقة لغوية وقــوة تعبيرية تستفز وجداننا ،ننتشي من فيضها وفيوضها ٌحلمية المعنى وكينونة السؤال. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ٌ َ ُ الحياة تعشق المرأة ظالل ٍ ■ د .هناء بنت علي البواب*
ـص روايــة ال بد من اإلش ــارة منذ البدء إلــى أنّ جمالي َة نـ ِّ «ال ــوارف ــة» لـلــروائـيــة الـسـعــوديــة أمـيـمــة الـخـمـيــس ،وأهميتَه المعرفية ال يمكن أن يعكسها ُّأي ّ نــص نـقــديٍّ محتمَل .إذ ال تروي قصة وال أحداثا متسلسلة يمكن اختزالها في نص يكتب على هامشها ،على غرار ما ترويه الرواية الكالسيكية.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
الوارفة..
فـهــي تسمح لبطلة ال ــرواي ــة أن تـكــون الـعــالــم المختلف للسيطرة على السرد الروائي بشكل يدهش القارىء ،فتلك البطلة التي تعمل طبيبة في مستشفى في الرياض ،حيث تتعرّف على «أدريان» زميلتها األوروبّية التي تفتح لها عالمً ا جــديــد ًا بقصصها .كأنّها ال تستطيع العيش إال مــن خالل حياة «اآلخر» ،ولو كان هذا اآلخر طبيبًا التقت به في تورونتو. إن مــا يشد الــقــارئ إلــى متابعة الــروايــة هــو جــاذبــيــة إب ــداع أسلوبها ،ودق ــة معانيها وسموها .إذ عمدت الكاتبة إلى آلية اختزال األفكار وتكثيفها لتصب في عمقها الداللي. وترَكت للقارئ فسح ًة واسعة للتخيّل والتحليل واالستيعاب؛ وذلك ضمن قالب أدبي فني بديع، جمعت فيه جمالية األسلوب وعمق المعنى، بين جاذبية األدب الروائي وأركيولوجيا الفكر الفلسفي؛ فتسرد الرواية نسيجاً بين حياتها الشخصية مثل عالقتها بالعائلة في البيت وبيئة العمل المختلفة تمامًا ،وأهمّها أحالم اليقظة التي تعيش خاللها «جــوهــرة» حياة مزدوجة. فتقدم الخميس مشهداً روائياً ناجزاً في تتبع ح ــراك المجتمع الــســعــودي وانتقاله،
ال في أســرة «عثمان» وانتقاله من حياة ممث ً القرية إلــى حياة المدينة ،وتكتب بتفاصيل دقيقة حول ما تراه هي بعينها من تصورات لمرحلة الستينيات وحتى لحظة كتابة المشهد الروائي ،وتتخذ من المرأة في بيئتها معادالً موضوعياً للوأد الذكوري للمرأة ،المرأة التي تبقى مــحــاصــرة بسلوكيات ذكــوريــة ال ترى فيها إال كائناً ناقصاً ،ووسيلة إلمتاع الرجل، وتتمركز فكرة القتل البشعة حين تصور لنا صورة والدة الدكتورة «الجوهرة» ،وهي تذهب إلى المستوصف القريب من نهاية شارع بيتها، لتقف أمــام كاتب المركز الصحي متلعثمة عاجزة عن نطق اسمها ،فكيف تبوح باسمها لرجل غريب؟ وكيف يمكنها أن تواجه نفسها، وتفسر األمر لزوجها لو اكتشف فعلتها؟ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
7
من خالل ذلك المشهد تحديدًا ،تدرك أن الكاتبة كانت ترفض تلك الحياة المتقوقعة في بؤرة األلم المعيشي؛ عندها فقط ال يسَ ع قارئَ الرواية إ ّال أ ْن يجزم -في أولى مالحظاته بأن في قراءة الرواية ،يجد مَن يحمل ه َّمالبحث عن المعرفة ضالته .ويجد مَن يتوق هــذا ،وإن كان الفكر الفلسفي يغلب على إلى جمالية الذوق األدبي الرفيع ًّ حسا إبداعيًا معاني الــحــوار .وكــأن الكاتبة تستجلب منه فنيًا يشدّه بشغف كبير؛ ألن الروائي راصد مقوالته اإلشراقية ،فما ذلك إال ليعيد مساءلتها لصورة مجتمعه من حوله. بتقنيات الفلسفة المعاصرة ونظريات التحليل فأهمية الرواية ،وكل خصائصها الجمالية ،النفسي. تتجسد فيما أبدعته كاتبتها مــن أساليب كــمــا طــرحــت الــكــاتــبــة ضــمــن الــقــوالــب ٍ حوارية تركّز على وصف للمشهد المستنكر من الــســيــكــولــوجــيــة الــمــعــاصــرة نفسها مسألة خالل صوت الراوي ،وبصيغة ضمير الغائب ،الوصال .إن كاتبة الرواية استطاعت بحنكتها تتبع حياة الدكتورة «الجوهرة» ،فهي الفتاة الفكرية والفنية أن تتحدث عن فكرة الزواج التي لم تكتف بالتعليم المتوسط أو الثانوي ،في سياق اجتماعي تبني عليه الروائية أحداث بل أكملت دراستها الجامعية ،وتخصصت في الرواية ومكنوناتها الداخلية؛ فزواج البنت يبدو ال ألسرتها منذ لحظة ميالدها ،أياً ال شاغ ً دراســة الطب ،وأضحت تختلط بالرجال في شغ ً وقت ال يسمح بذلك ،ومجتمع يرفض الحديث كــان هــذا الــزوج ،وأي ـاً كــان رقمها إلــى جانب مع أي رجل خارج المحارم المحللة لها ،مع زوجاته السابقات ،فالشرع أحـ َّل وأبــاح أربع أنها ترتدي البرقع ،وال يظهر منها إال عيناها .نساء ،وخير للمرأة أن تكون الثانية أو الثالثة الموضوعية المعرفية؛ إذ استلهمت في قالب حواري جذاب -من الفكر المجتمعي المتزمت والفلسفي المعاصر وعلم التحليل النفسي- النقاشات الفكرية الدقيقة التي تــدور بين جوهرة وزميلها الطبيب حول موضوع العشق.
إنّها الوارفة التي تعكس خصائص رواية ما بعد الحداثة ،في كشف للذات التقليدية البحتة ،التي تمنح الكاتبة حرية التصرف في شكل بناء الرواية وأسلوبها .إنها الخاصيات التي يحددها النقاد في تجاوز الكاتب الروائي لخيوط حياكة الرواية التقليدية .إذ قامت هذه األخيرة على ضرورة وجود وحدة الموضوع، أي قصة متسلسلة لها بداية ونهاية ،وعقدة وبــطــل يصنع أو تصنعه أحــداثــهــا فــي إطــار مراحل زمن تاريخي خَ طّ ي.
8
أو حتى الــرابــعــة ،على أن تظل وحــيــدة في بيت أبيها ،فالعنوسة في مجتمع مغلق ،تعني اضطراباً اجتماعياً في وضع األسرة ،وتعني قلقاً ذكورياً ال يتوقف ،وتعني ذ ّل المرأة.
فــيــتــجــسّ ــد الــجــانــب اإلبـ ــداعـ ــي ل ــرواي ــة «ال ــوارف ــة» ،حين أطلقت على تلك البطلة ظالل روحها لتكون كالشجرة المعطاءة لكل مَن حولها ،تورف عليهم بقلبها؛ وهذا وحده صف المرأة من يدل على انحياز المؤلفة إلى ِّ خالل البطلة «جوهرة» ،ووقوفها إلى جانبها إ ّن عــم ـ َق مــضــامــيــن «الـ ــوارفـ ــة» ألميمة في محنة عيشها ،وإطــاق صفة «الــوارفــة» الــخــمــيــس يــعــود إل ــى اعــتــمــاد كاتبتها على عليها وهي محاولة تعكس إبــداع الكاتب في
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
فحين تناقش الرواية العشق لتعلو به إلى أعلى مستويات الفهم واإلدراك باستعمال الرموز ،فهو اإلبداع الروائي ..وكان أقوى تلك الرموز حضورًا المرأةُ وطيفُها اللذان تجلّيا في غصت بهن صور كل النساء في الرواية التي ّ من كل فئات المجتمع ،ومن مختلف البيئات والقناعات ،لكن هذه النماذج تبقى تدور في فلك الــرجــل؛ ســواء كــان األب ،أو األخ ،أو الزوج ،أو زميل العمل ،أو السائق ،أو الخادم ،أميمة الخميس تلقي كلمة في حفل فوزها بجائزة نجيب محفوظ أو المدرس .وضمن كل هذه العالقات تأتي ويتقدم مسيرتها.. الــمــرأة تالياً ،فــي المرتبة الثانية ،المرتبة إ ّن قم َة إبــداع وجماليةِ روايــة «الــوارفــة» الالحقة ،في كلمتها وفي قرارها ،وفي حياتها. شأنُها شأ َن الروايات المبدعة لفترة ما بعد تَبْرَع أميمة الخميس بحسّ ها وفطنتها ودقة وفنية أسلوبها في العرض والوصف في إثارة الحداثة ،تكمن في إشــراك كاتبتها للقارئ فضول القارئ ومساءلته لقناعاته منذ فقرتها إشــراكــا مُلهِ ماً يغريه بــإعــادة كتابة الــروايــة، األولــى .ويــزداد الشغف بقراءتها مع الحوار وخاصة المرأة السعودية التي نقلت لنا حياتها األول بين الشيخ والمريد .ويتعمق االنجذاب المجتمعية بتفاصيلها كاملة ،فهي رواية نسائية أكثر فأكثر كلما سمت فكرة العشق كي ترتقي خالصة ،بدءاً بمؤلفتها وعنوانها ،مروراً بحياة من مستواها الملموس نحو بُعدها الروحي بطلتها ،عبوراً فوق زاوية مشاهدها ،وانتهاء اإللــهــي ،الــذي تـ ُعــود فيه لتلتحم بالواقعي، فتضفي عليه سموها .وذلك بفضل صيرورة بعوالمها الباطنة ،ومقوالتها الناجزة. تُخرج العشق من دنس الواقع ،وتعلو به عن الوارفة ،تعكس لنا ما يمكن أن نطلبه حين التصور العامي الواقعي ،وذلك حين تمكّنت نشعر أننا أشد إنسانية وأكثر إنصافاً للمرأة، من عرض لحظات إنسانية فاضحة في حياة مستلهمين ما ّدتَنا من قراءتنا وتأويلِنا لِما الفتاة والــمــرأة .واستطاعت تسليط الضوء تثيره الرواية من أسئلة وأجوبة معرفية دقيقة على دوائــر الحياة االجتماعية األسرية في إبداع لرواية المدينة ،وكيف أن حياة المرأة متعلقة بالزواج ،مُستفِ زّة .وهو ما يُع ّد بحقّ أسمى ٍ وبعالقتها مع الرجل؛ ما يختصر حضورها مــا بعد الــحــداثــة؛ إذ يــو ِّلــد إبــداعــا شخصيًا اإلنــســانــي بــوصــولــهــا لــرجــل يــقــود خطوها ،جديدًا لدى قارئها.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
خاصيتين مــن خاصيات روايــتــهــا :تجاوزها لالجترار الفكري ،وانتصارها لصالح المرأة.
* أكاديمية وكاتبة من األردن. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
9
أميمة الخميس ود ْه ُ رد الس ِ هج ِ الف ْك ِر َ َو ُ شة َّ ■ د .نورة سعيد القحطاني*
انعكاس ٌ كان للتغيرات االجتماعية-السياسية في المملكة خالل التسعينيات الميالدية الجذري للرواية السعودية .كما أثرت هذه التحوالت تأثير ًا عميق ًا على ّ واضح في التحوّل الهوية الثقافية واإلنـتــاج الثقافي في المملكة .وخــال هــذه المرحلة ،ظهر جيل جديد من الكتاب السعوديين ،ال سيما الكاتبات ،نتيجة لهذه التغيرات ،و ُنـشــرت رواي ــات كثيرة تعكس تحديات خطيرة للمسكوت عنه في المجتمع السعودي .هؤالء الروائيات الجدد كنّ على درجة عالية من التعليم ،وشاركن بقوة في مجاالت متنوعة مثل االقتصاد والتعليم واإلعالم .وقد أتاحت لهن كتابة الرواية فرصة كبيرة الستكشاف قضايا التابو ومناقشتها، وتحدّ ي المجتمع الذكوري ،وأحيانًا إثارة غضبه .وأصبحت رواياتهن وسيلة استراتيجية للتعبير عن أفكارهن ورؤيتهن النسوية ،من خالل االختباء وراء عال ٍَم خياليٍّ ،جاء جزء ًا من الواقع والشخصيات المجتمعية واللحظات التاريخية.
10
تأتي الروائية أميمة الخميس في مقدمة الــروائــيــات الــســعــوديــات الــاتــي عكسن هــذه التحوّالت في رواياتهن ،مشيرة إلى فرص جديدة منحت لــلــمــرأة كالسفر إلــى الــخــارج ،والعمل والتفوق .على سبيل المثال ،في رواية البحريات (٢٠٠٦م) ،تركز الخميس على حياة النساء في نجد ،ال سيما تجارب المهاجرات من مختلف الــبــلــدان .وفــي هــذه الــروايــة ،تــحــاول أن تلفت االنتباه إلى النضال الذي تواجهه هؤالء النسوة عندما يحاولن االندماج في المجتمع المحلي، وغالباً مــا يخفقن ويــجــدن أنفسهن مهمشات بشكل دائم .كما تنتقد العنصرية في المجتمع ،إذ تسيطر الثقافة التقليدية والعادات القبلية على العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
حرية المرأة .وتعكس بطالت الرواية التغييرات المعقدة في المجتمع السعودي ،وتناقش بجرأة آثار الخطاب الديني المتشدد على وضع المرأة في ذلك الزمن .كما تسلط الرواية الضوء على عدد من القضايا ذات الصلة بالمرأة السعودية، بما في ذلك الزواج والطالق وحقوق المرأة. وفي روايتها الثانية «الوارفة» ( )٢٠٠٨تركز الخميس على هوية الــمــرأة ،وتقارن بين حياة النساء من مناطق مختلفة في المملكة العربية السعودية من ناحية ،واختالف حياتهن عن حياة النساء األجنبيات من ناحية أخرى .وإضافة إلى ذلــك ،فهي تتناول تأثير الــدراســة في الخارج
وفي هذه الرواية ظهر العمق الفلسفي للكاتبة في سرد توثيقي متخم باألسئلة العميقة التي تثير القارئ ،وتشد انتباهه إلى عوالم وثقافات متنوعة تنم عن خلفية ثقافية عالية ووعي سردي ال يتقنه إال أميمة .ولنتأمل مثال تلك الفلسفة
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
على بطلة الــروايــة الجوهرة ،التي تسافر إلى كــنــدا إلكــمــال تدريبها الطبي .فتمنحها هذه التجربة فرصة رائعة لتطوير مهاراتها الشخصية واالجتماعية ،وتتعلم كيفية إدارة عالقاتها مع الزمالء الذكور واإلناث في مكان العمل .وهنا، كانت الكاتبة تضع على لسان بطلتها آراءها حول الفصل بين الجنسين في المجتمع السعودي، وكيف ينظر المجتمع إلــى هــذه القضية .وفي أميمة الخميس بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ إحدى مقابالتها ،تشير الروائية إلى أن الكتابة هي الوسيلة الحاسمة للتحرر من تأثير اإلرث التاريخي للثقافة التقليدية السائدة (الشرق العميقة في قولها: األوسط٢٠٠٨ ،م). «ال تجعل بينك وبين الحقيقة سدًا أو حجابًا، ويــأتــي فــوز أميمة الخميس بجائزة نجيب فإن جاء على شكل بشر يزعم امتالكه الحقيقة محفوظ فــي األدب لعام ٢٠١٨م عــن روايتها كلها ،فأبعده عن دربك ،فهي ليست سوى حقيقته «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» ،ووصولها هــو ،وإن جــاء على شكل يقين فوضئه بماء أيضا للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية السؤال ،وإن جاء على شكل جبل ،فاصعده بحثا العربية (البوكر) لعام ٢٠١٩م ،متوّجً ا لمسيرة عما خلف الجبل .ال تسلم رأسك لكائن يسوسك أدبية متميزة .في تجربة سردية لم تبق على ويدّعي أنه يمتلك أرض اليقين كاملة ،فإنك بهذا مستوى واحد؛ بل جاءت تجربة مغايرة متطورة؛ تكون كالبعير الذي أسلم عقاله لسارقه». فرواية «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» تنقل كل هذا يأتي ليقول :إن رواية الكاتبة السعودية الــقــارئ عبر ســردٍ تاريخي في رحلة عجائبية جاءت وسيلة مثالية لتوثيق التغيرات االجتماعية ينطلق فيها البطل مِ زيَد الحنفي من وسط جزيرة والثقافية والــتــحــديــات الــمــعــاصــرة ،ومعالجة العرب م ــرورًا ببغداد ،ثم الــقــدس ،فالقاهرة ،القضايا التي غالباً مــا تكون مثيرة للجدل، فــالــقــيــروان ،فــاألنــدلــس .وبــاســتــقــصــاء عميق والتي تنشأ عن التحديث السريع .كما يؤكد فوز ألحداث تاريخية عبر أزمنة متعددة ..نعيش مع أميمة الخميس أن أعمال الكتّاب السعوديين البطل أحداث رحلته ومصادفاتها العجيبة التي المعاصرين ،ذكوراً وإناثاً ،قد وجدت طريقها إلى أدت إلى انخراطه في جماعة سرية تُعمِ ل العقل قوائم الجوائز األدبية الكبرى ،وأصبحت ضمن وتحتفي به لتصل إلى الحق. قوائم الكتب األكثر مبيعاً في العالم العربي. وسيبقى اسم أميمة الخميس عالمة فارقة في تاريخ الرواية السعودية والخليجية ،وسنـظل في تطلع وشغف دائم لما يجود به قلمها وفكرها من إبــداع ســرديّ ؛ نقرأ فيه ذواتنا ،ونعيد اكتشاف الدهشة بين مرايا واقعه المختلف.
* كاتبة من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
11
أميمة الخميس.. لم َت َ يداك حين «مسرى العقيق»؟؟ ف رت ِج ْ ِ َأ ْ ■ انتصار الرجبي*
بالتأكيد ،كانت أميمة الخميس خائفة ،وهــي تخط أولــى حــروف روايتها التي قامت فكرتها على الحضارة اإلنسانية التى تشمل الشرق والغرب حين حملتنا روحيا من بغداد إلــى الـقــدس ،فالقاهرة ،م ــرورًا بالقيروان ،وصــوال إلــى قرطبة .وكيف مزجت روايتها بين الفوقية الروحية وعالم أدب الرحلة ،وكيف لم ترتجف يداها وهي تحدثنا عن ذاك البطل الذي نقل الكتب إلى مكتبات تلك المدن ..فتنقلنا الرواية من العالم العربى إلى األندلس، وتسرد العالقة بينهما من خالل لغة غنية مختلفة ،فقد تقدم السرد فى مسارين بالتوازي.. فالمسار األول يتبع خطوات «الحنفي» من قلب الجزيرة العربية إلــى بـغــداد ،فالقدس، ثم القاهرة ،فالقيروان ،وتنتهى الرحلة بشكل مفارق فى زنازين األندلس ،حيث التاريخ الذهبى للحضارة اإلسالمية؛ أما المسار الثاني الذى سار بخطوات ،فهو الرؤى األيدلوجية والسياسية والمعرفية التى شكّ لت اللحظة الحاضرة بكل مآسيها وأحزانها وخيباتها؛ إذ نشهد الصراع بين العقل والنقل.
12
ال شك أن الخميس استفادت من عملها في الصحافة المكتوبة ،فاكتسبت القدرة على االنتباه إلى الواقع بك ّل تفاصيله ،فك ّل ما يحتاج إليه كاتب الــروايــة هو الجلوس في مكان مــا ،واالستعانة بحاسة البصر لمالحظة حركة الحياة من حوله، وتحديدًا كيف يتعامل النّاس في يومياتهم ،وكيف يمشون في الشوارع ،أو كيف يتواصلون بالكالم، أو حتّى كيف يمسكون باألشياء ،ولذلك كانت هي اليد التي امتلكت باليمين القدرة على كتابة الــروايــة ،وبيسارها رســمــت المقال الصحفي المتميز. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
«تاجر ُكتُب ،قد تكون هذه صنعتي حقاً ،أو لربما أستتر خلفها بمنجً ى من الريبة والشك بين مسافري قافلة العطور المتجهة من بغداد إلى القدس ،فـمِ ن بغداد إلى القدس فالقاهرة ث ّم القيروان فاألندلس. يسافر مــزيــد الحنفي النجدي مــن وسط جزيرة العرب ليجد نفسه بين ليلة وضحاها مكلّفاً بمهمة خطيرة .سبع وصايا كان على مزيد أن ينساها ،بعد قراءتها ،ويترك لرحالته أن تكون تجلياً لها .لكن شغفه بالكتب ومخالفته بعض
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
الوصايا ختمتا رحلته بنهاية لم يكن يتوقعها... وأنت ستطوف اآلن في مقطع من الرواية حين تترجم كل اللغة الروائية هنا: «مخ َّي ٌر ال َ ُمــسـ َّيـرٌبــفــؤادي جــمــرات شجن لم تترمد ،ركلتني بغداد خارجها ولم أغادرها طوعاً، مغوية بغداد ومتوحشة ،كفاتنة تسللت إلى خبائها ورشفت ينابيعها وقطفت ثمارها ،وفــي الفجر طلبت مني بشراسة المغادرة ،بها تكشف لي السر األعظم ،ونفخ أهل التوحيد في روحي رسالتهم؛ رحيلي عن بغداد جعلني مضطرباً مشتتاً كأن تحتي الريح! هل أنا مخيّر أم مسيّر؟ ففي ذلك اليوم الذي اكتملت فيه مشيئة الرحيل عن بغداد ،انتصف النهار وأنا ما برحت أطوف مناخ القوافل بحثاً عن قافلة ،بعضهم أشار علي بالذهاب إلى األنبار، فهناك سأجد الكثير من القوافل أصحابها هم األمهر في القيافة ومعرفة بالدروب ،في حين أن القوافل التي تصل بغداد أصحابها مصابون بالجشع ،بل إن بعضهم يقسم أنهم يتوازعون أمــوال قوافل التجار مع لصوص متربصين في الدرب..
الرواية الفائزة بالجائزة
في أساسه رحلة بعيدة وهوة عميقة في البحث المضني ،وهنا تتجلى حنكتها الروائية .سرد األحــداث واألغــال ال تقيدها ،ال تخاف من أي شيء ،بالرغم من شعوري أن يديها ترتجف ،ألنها تمتلك جرأة تخط بها كل قوانين السرد المحكية أقلب عيني في الوجوه والسمات ،واللص لن حين تتجرأ على قوانين العقل وتدمجها مع الدين يأتي ليقول لي :أيها األخ الكريم مزيد :أنا لص، لغة وحوارًا وحركة مرسومة مدروسة. فلطفاً ال تستقل قافلتي».
تتحدث بلغة مباشرة بهية يستمتع بها القارئ، لم تترك لنا الرواية أي مساحة ممكنة لأللوان البهيجة ،فقد استبد الــلــون الــرمــادي القاتم حتى إنها اختارت تلك الموضوعات االجتماعية على أجــوائــهــا ،فكل شــيء قــاتــم ،حتى لغة تلك التي نراها كل يوم دون ملل أو كلل. الشخصيات المعجونة بأديم الوجع كانت قاتمة تحمل بــيــن ســطــورهــا تــســاؤال عــن العقل، والذعة. استطاعت أميمة أن تمتلك تقنيات الكتابة والــعــاقــة بين الــمــركــز واألط ـ ــراف ،مسترسلة الــروائــيــة والــســرديــة إذ تنتقل مــن حــدث آلخر بإيجاز واضح ينم عن إلمام بكل جوانب الثقافة دون أن تشعر بفعل ذلك االنتقال ،مع االنتقال التاريخية. * كاتبة من فلسطين. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
13
ُ عتبات النَّ ص ُ وصرخاته األنثوية المجروحة ■ محمد العامري*
تعد الكاتبة أميمة الخميس ،المولودة في مدينة الرياض ،من أبرز الكاتبات السعوديات ّوي؛ إذ أصبحت أميمة الخميس عالمة روائية نسوية اللواتي برزْن عبر منجز واضح في الر ْ صارخة تؤثث مناخاتها السردية بأوجاع المرأة العربية عامة والخليجية بخاصة. درســت األدب العربي واللغة اإلنجليزية لتعمل تربويةً وإعالميةً فيما بعد؛ فحياتها تنشغل بهموم الــذات والتغيير المجتمعي عبر اإلعــام والنص األدبــي ،وصــو ًال الى الفعل التربوي عبر مجموعة من قصص األطفال ،بدأت نشاطها األدبي واإلبداعي مبكرا ،ونشرت أول مجموعة قصصية لها في العام 1993م بعنوان «والضلع حين استوى» ،تبعتها عدد من المجموعات القصصية منها «مجلس الرجال الكبير» و«أين يذهب هذا الضوء» و«الترياق»، ونالت اعترافا بمنجزها األدبــي ،حين فازت بجائزة أبْها للقصة ،وجائزة نجيب محفوظ للرواية ،ووصلت بعض رواياتها إلى القائمة الطويلة في البوكر. أحاول في هذه العجالة أن أتناول بعضاً مجرياتها كشبابيك تفتح للقارئ مشاهد
مــن عناوين كتبها كعتبات دالــة على متن وســيــاقــات الــمــتــن للتلصص عــلــى أفــعــال
السرد لديها ،وخاصة طبيعة الموضوعات األمكنة والشخوص ،وستكون تلك العتبات التي تتناولها أميمة بوصفها عتبة النص التي مادة سيميولوجية لتتبع العالمات واإلشارات
تشي بمتنه «تيترولوجيا النص» ..فهو البوابة الدالة على طبيعة الموضوعات التي تتناولها
الرئيسة لطبيعة تشكالت النص وانعكاساته أميمة الخميس؛ فهي تبحث في عالمات الدالة على طبيعة الرسالة التي يبثها؛ بل ومكونات الحياة االجتماعية المسكوبة بالهم
يشكل هاجسا مهما تــتــمــرأى فيه فواتح الــذاتــي ،تحديدا مسألة «الجندرية» ،وما الكتاب وشيفرا النص الفوقية « »paratexteيبثه المصطلح من مفاهيم تربوية اجتماعية
14
حــســب «جــيــرار جــيــنــيــت» ،وال ــوق ــوف على يختص بالدرجة األولــى في وجــود المرأة
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
نجحت أميمة في جذب انتباه الــدارس والقارئ معا عبر تلك العناوين الدالة على طبيعة خطابها السردي؛ فعنوان «والضلع إذا استوى» هو بمثابة بوابة تتعالق مع موروثنا الديني واالجتماعي فيما يخص داللة هذه الجملة ،إذ تناكف الشائع فيما يخص المرأة بكونها من ضلع أعوج ،وأخذت القارئ إلى أسئلة قاسية تنسف مــن خاللها مفاهيم وراثية ومعرفية تكلست في عقل المجتمع العربي واإلسالمي ،وأذكر هنا هذا الحديث الصحيح« ،رواه الشيخان فــي الصحيح عــن النبي -صلى اهلل عليه وسلم -أنه قــال( :استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت مــن ضلع أع ــوج ،وإن أعــوج مــا في الضلع أعــاه « )..وفي الحديث اآلخر في الصحيحين (مــا رأيــت مــن ناقصات عقل فالكتابة بالنسبة ألميمة الخميس هي ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) .أداة تستخدمها للدفاع عن نفسها من أجل فــهــذا األم ــر هــو رفــض لما فهمناه من الحصول على قيمة الحرية الــتــي تطمح تفاسير حول الحديث السابق ،وقد انْطلت إليها،؛وهناك عتبة أخرى تتقاطع بل تتطابق على العامة حقائق مفاهيمية أسهمت في مــع الــعــنــوان الــســابــق فيما يخص المعنى االنتقاص من وجود المرأة في مجتمعاتها؛ والــداللــة «والضلع اذا اســتــوى» ،هو عنوان فجاءت العتبة فاتحة ساخنة في عنونتها «مجلس الــرجــال الكبير» ،فخصصت في هذه العتبة الرجال وأعطتهم صفة الكبير «والضلع إذا استوى».
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
العربية في جغرافيا ذكورية بامتياز ،وقد الحظت أن هذا األمر قد أصبح همًا أساسً ا لمعظم الكاتبات المعاصرات في الخليج العربي ،وقــد أسهمت في ذلــك انفتاحات «العلب اإللكترونية» الواسعة على العالم، وإمكانات التحرك والسباحة في تلك العوالم الحرة.
فما فعلته أميمة في عناوينها هي رسالة صــرخــة لمجتمعها فــيــمــا يــخــص طبيعة وجود المرأة ،ومدى القسوات التي تمارس على حركتها بين الناس ككائن إنساني له الحق في ممارسة أحالمه بحرية مكفولة بالدساتير والقوانين ،فالضلع إذا استوى هو عَ نْونة أقرب إلى الملصق الذي يدل على رسالة قصيرة وصارخة ،بل هو إنذار للنساء فيما يخص الفعل التغييري ألوضاعهن في مجتمعات ا ْرتَكنتْ إلى األعراف االجتماعية الــجــهــلــويــة .وأذكــــر هــنــا ق ــول الفيلسوفة والشاعرة الفرنسية سيكسوس «المولودة فــي وهـــران 1937م» حين قــالــت( :يمكن للنساء أن يقرأن ويخترن البقاء محاصرات في أجسادهن بواسطة لغة ال تسمح لهن بالتعبير عن أنفسهن ،أو يمكنهن استخدام الجسد طريق ًة للتواصل .فهي تصف أسلوباً كتابياً نسوياً معيناً ،تقول إنه يحاول االنتقال خارج قواعد المحادثة الموجودة في النظم األبوية .وتقول إن اللغة األنثوية تسمح للمرأة بمعالجة احتياجاتها من خالل بناء قصص ذاتية قوية).
15
كعالمة وإشارة على السيطرة الــــذكــــوريــــة ،فــيــمــا يــخــص ال ــق ــرارات الــتــي تنتظم في سياقات الحراك المجتمعي، ناقدة بذلك القيمة الذكورية التي منحها المجتمع للذكر دون غـــيـــره ،ل ــذل ــك أولـــت أمــيــمــة الــخــمــيــس أهــمــيــة قصوى لعناوينها التي تحمل همومًا أنثوية بائنة ،بكوْن العنوان من العناصر التي يتأسس عليها جسد النص وتشكالته المعرفية وصوالً إلى الموضوع ،بل هو المفتاح السحري للولوج إليه القتحامه وسبر أغواره ،وتجعل المتلقي يستدل على خيوطه ليتتبعها ،تماما كما فسرته السيميوطيقيا فيما يخص أهمية العنوان وضروراته في معرفة المتن وسبره، وسالح رئيس لتحليله ،لذلك نرى أن عتبات النص تقدم مسارات عمودية حفرية تفكيكية وتركيبية في الوقت ذاته ،لمعرفة مدايات ما يذهب إلية المتن. فهو الشعاع الذي يضيء غموض النص ويحيل السراب إلى ماء نستطيع اإلمساك به ،ويقيس تجعداته وأثالمه الخفية ،وحين نذهب إلى عنوان آخر يحقق الغاية التناصية نفسها مع حلم المرأة ،والتغيير في وجودها البائس هو «أين يذهب هذا الضوء» ،فتحليل تلك المناصات تعد أسيجة للمتن المشفّرة بالعتبات القوية التي تقود القارئ إلى لذة * كاتب من األردن.
16
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
التعرف على مجريات متن النص؛ فهي عالقة عضوية بــيــن وج ــه الــنــص أي العتبة وبــيــن جــســده ،وم ــا يتحرك من نسغ للعنوان داخل جسد النص نفسه. فأين يذهب الضوء كعنوان يقودنا إلى استدراج قوة وجود المرأة وصورة الحصار الذي يحيط بها عبر تساؤل «أين يذهب الضوء» فهو محاوالت للفكاك من حصارات مركبة وخــانــقــة ،وبــحــث دؤوب تهجس بــه األنثى للخروج من ضيق الممر المجتمعي الذي يشكل هاجسً ا لديها الجتراح أدوات مبدعة لتفتيت صالبة الحصار وتفكيكه للسماح للضوء أن يم ّر من مكانه الطبيعي ،والضوء معادل موضوعي لصورة األنثى وحيرتها فــي النفاذ مــن ربقة الــحــصــار ،ولــم يبتعد عنوان المجموعة القصصية «الترياق» عن السياقات السابقة التي أشرنا إليها ،إذ يشكل الترياق مناقضات السّ م بِكوْن السم هــو السياق العاطب لطبيعة األشــيــاء في حياتها؛ فالترياق هو العالج الذي يتعافى منه المسموم؛ فالسُّ م ربما سم األفكار والتقاليد والــقــيــم البالية الــتــي تكلست فــي وجــدان مجتمعات العالم الثالث؛ فهل بتسميتها ال شافيًا لتلك األمراض الترياق وجدت ح ً المجتمعية؟
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ُ شعرية عتبات النص «البحريات» ألميمة الخميس ■ إميان املخيلد*
يـعــد ال ـخ ـطــاب ال ـغــافــي م ــن أه ــم عـتـبــات ال ـنــص الـتــي يمكن أن نقرأ الرواية من خالله؛ فهو أولى عتبات النص الموازي التي تساعدنا على فهم األجناس األدبية بصفة عامة ،والرواية بصفة خاصة ،على مستوى الداللة والبناء والتشكيل والرؤية؛ ومن ثم ،فإن الغالف يساعد على استكناه مرامي النص وأبعاده الفنية واإليديولوجية والجمالية. وهو أول ما يواجه القارئ قبل عملية القراءة؛ ألن الغالف هو الذي يحيط بالنص الروائي ،ويغلفه ،ويحميه ،ويكشف عن بؤره الداللية من خالل عنوان خارجي مركزي ،أو عبر عناوين فرعية تترجم رؤى ومقصدية وتيمها الداللية. و يحمل الغالف الخارجي أيقونات بصرية وعالمات تشكيلية ولوحات فنية ،كما يحمل رؤية لغوية وداللة بصرية ،ومن ثم ،يتقاطع التشكيل الــلــغــوي مــع التشكيل البصري، ويتطلب هذا من القارئ أن يمتلك رؤية فنية وجمالية تمكنه من فك رموز الغالف وإنتاج دالالت ــه ،وربطها ب ــدالالت النص المركز/ الرواية.
ويمكن اعتبار العناوين وأسماء المؤلفين وكـــل اإلشــــــارات ال ــم ــوج ــودة ف ــي الــغــاف األمامي ،كما يقول حميد لحمداني ،داخلة في تشكيل المظهر الخارجي للرواية ،كما أن اختيار مواقع كل هذه اإلشارات وترتيبها ال بد أن تكون له داللة جمالية أو قيمية؛ فوضع االسم في أعلى الصفحة ،ال يعطي االنطباع نفسه ال ــذي يعطيه وضــعــه فــي األســفــل. ولذلك غلب تقديم األسماء في معظم الكتب العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
17
الصادرة حديثا في األعلى ،إال إنه يصعب على الـ ــدوام ضبط التفسيرات الممكنة وردود فعل القراء ،وكذا ضبط نوع التأثيرات الخفية التي يمكن أن يمارسها توزيع المواقع فــي التشكيل الخارجي لــلــروايــة؛ ألن هذا يختلف من قارئ آلخر ،بل يختلف من طريقة للتلقي عن أخرى(.)1
حدثًا أو مشهدًا من مشاهدها ،يستلهمه الفنان الذي يصمم الغالف ويعبر عنه؛ ما يُمكِّن القارئ من الربط بين النص والتشكيل بسبب داللته المباشرة على مضمون الرواية. وهذا ما حدث في الرواية ،فربما تكون هذه اللوحة معبّرة عــن واح ــدة مــن البحريات اللواتي شكلن الفضاء السردي للنص.
للغالف الخارجي للعمل األدبــي والفني ويبدو أن حضور هذه الرسوم الواقعية واجهتان :أمامية وخلفية .فنستحضر في يقوم بوظيفة إذكاء خيال القارئ ،لكي يتمثل الــغــاف األمــامــي اســم الــمــبــدع ،والــعــنــوان بعض وقائع القصة وكأنها تجري أمامه. الخارجي ،والتعيين الجنسي للعمل األدبي، وأه ــم عتبة يحويها الــغــاف الخارجي والــعــنــوان الــفــرعــي ،ودار الــنــشــر ،وعــدد هو اسم المؤلف الــذي يعين العمل األدبي الطبعات ،والرسوم والصور التشكيلية .أما ويخصصه ويمنحه قيمة أدبــيــة ،ويسفره فيما يخص الغالف الخلفي ،فربما نجد في المكان والزمان ،ويساعده على الترويج الصورة الفوتوغرافية للمبدع ،وكلمة تصف واالستهالك ،ويجذب القارئ المتلقي .إن العمل ،قد تكون لناقد ما أو لــدار النشر، تثبيت اسم المؤلف العائلي والشخصي ،يراد وقد تكون مجتزئا من النص ،ويحرص غالبا منه تخليده في ذاكرة القارئ .وإن اسم أي المؤلف على أن يكون المجتزأ الذي يقدمه للقارئ داالً وكــاشــفـاً للنص ،ويثير شهوة مؤلف على الغالف ،ال يعدو كونه ركامًا من القراءة لدى القارئ ،بل يحفزه ويدفعه إلى «الحروف الميتة» ،فحين يرتقي اسم المؤلف إلى مستوى النص ،فإنه ينتعش ويتحرك، اقتناء الكتاب. ويهب نفسه بحق للقراءة ،أما حين يقتصر التشكيل الفني للغالف وجـــوده على الــغــاف ،فــا يــكــون موضوع يتخذ التشكيل البصري للغالف شكلين ،قراءة ،بل عالمة على أن المؤلف مشهور أو فإما أن يكون تشكيال واقعيا ،أو تجريديا ،شبه معروف أو مجهول. ويأتي غالف «البحريات» كتعبير عن التشكيل تطرح عتبة المؤلف إشكاليات منهجية الواقعي ،إذ يتوسط الغالف لوحة المــرأة ومعرفية متعددة ،كما يــرى فيليب لوجون جميلة تعبر عن روح البحريات اللواتي أتين الــــذي ي ــق ــول« :أي دور تــلــعــبــه األســمــاء من بالد الشام إلى الجزيرة العربية؛ ليبدأن الشخصية ،وخاصة اسم المؤلف ،في إدراك حياة جديدة مغايرة لحياتهن السابقة ،لكن القارئ للجنس الذي ينتمي إليه نص ما ،ومن هذه الحياة الجديدة لم تفلح في أن تسلب ثم في اختياره لكيفية قراءته؟ هل سأقرأ منهن روح البحر وليونته. نصا بالطريقة نفسها إذا كانت الشخصية ً
18
أما التشكيل الواقعي فيشير بشكل مباشر الــرئــيــســة تحمل اس ـ ًمــا مختلفًا عــن اســم إلى أحداث الرواية ،أو ربما يختار موقفا أو المؤلف ،أو إذا كانت تحمل االسم نفسه»(.)2
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
أميمة الخميس تتسلم جائزة نجيب محفوظ للرواية ٢٠١٨م
ولكن هل يتماهى المؤلف على الغالف والمؤلف داخل النص على مستوى الشعرية السردية؟ حتما ثمة فرق كبير بينهما؛ ألن المؤلف على الغالف هو ذات معينة ومحددة لكاتب النص ،فهو كائن من لحم ودم؛ فالقارئ حينما يقرأ اسم أميمة الخميس متوسطً ا غالف «البحريات» يدرك في اتفاق ضمني أن ثمة ذات متعينة في الزمان والمكان ،لها وجــود فعلي؛ بل ربما لو بحث على شبكة اإلنــتــرنــت لــوجــد لــهــا ص ــورة فوتوغرافية واقعية تؤكد له وجودها .بينما المؤلف داخل النص (السارد) ما هو إال كائن ورقي خيالي وافتراضي يسبح في عوالم مَجازية وفنية. فالمؤلف داخل النص هو الــذات الساردة، أو ما يُسمى نقديا بـــ «المؤلف الضمني»، أو «األن ــا الــروائــيــة األخـــرى» ،وربــمــا يتخذ من الــراوي العليم أو صوتا سرديًا؛ وربما يستخدم الــكــاتــب مــا يُسمى بــ «المؤلف الــمــجــرد»؛ أي ذلــك الــذي ينحصر وجــوده داخــل فضاء الــروايــة ،متنقال فــي فضائه السردي ،متخذًا أكثر من صوت ،وأكثر من
وجه يتخفى وراءه .ولقد استخدمت أميمة الخميس صوت الراوي العليم أو السارد كِ ل َي العلم لتعبر عن جميع شخصيات الرواية وليس البحريات فقط. إذاً ،الخطاب الغالفي هو عالمات لغوية وبصرية ،ويشتمل على مــؤشــرات أيقونية وإشــارات سيميائية وعتبات توضح طبيعة العمل وتعين هويته وتحدد جنسه األدبــي والفني .ومن ثم ،فالغالف عتبة أساس لفهم العمل األدبــي وتفسيره ،وخطوة ضرورية لتفكيك المنتج الفني والروائي وتركيبه في مقوالت ذهنية نقدية أو وصفية ،أو في شكل خــاصــات تقويمية مكثفة دالل ـ ًيــا وشكليًا وتداوليًا. إذاً ،ســوف تستخدم الباحثة العتبات النصية التي سوف تقرأ بها الباحثة عتبة غالف الطبعة الخامسة لرواية «البحريات» ألميمة الخميس ،يأتي التشكيل البصري لغالف الرواية داالً ويعمق على المضمون والداللة الكلية التي تسعى الرواية إلنتاجها. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
19
تأتي خلفية صفحة الــغــاف مقسمة إلى مساحتين ..المساحة األول ــى وتمثل ثلث الغالف تقريبًا ،يتربع اســم الكاتبة واسم الــروايــة ومــا بينهما التجنيس األدب ــي .أما المساحة الباقية وتمثل الثلثين تقريبًا.. فتتوسطها لوحة لوجه فتاة قوقازية سوف نتعرض لها في حينه. يأتي اسم الكاتبة وبالخط الثقيل والذي يتموضع أعلى الغالف ،ليشير بشكل الفت إلــى مكانة الكاتبة األدبــيــة التي حفرتهاـ حسبما تشير سيرتها الــذاتــيــة المرفقة بالروايةـ والتي اتضحت معالمها في عدد كبير مــن ال ــرواي ــات والــقــصــص ،وقصص األط ــف ــال والــكــتــب الــثــقــافــيــة والــمــعــرفــيــة، فتصدير اســم الكاتبة فــي أعــلــى مقدمة الغالف؛ ألنه صار اسما علما تراهن عليه دار النشر في التوزيع والتسويق للعمل. ثم يلي اسم الكاتبة تجنيس النص ،وهذا يخالف أدبــيــات تصميم األغــلــفــة ،فكلمة «رواية» غالبا تكتب بعد اسم الكاتب وعنوان النص ،وفي هذا تأكيد من دار النشر على أهمية التجنيس ،وذلــك أن للرواية سوقًا يختلف عــن ســوق بقية األجــنــاس األدبــيــة، انطالقا من مقولة «زمن الرواية». ثم يتربع عنوان العمل «البحريات» في مساحة الغالف بالعرض ،وتمتشق فيه األلف التي تسبق التاء ألعلى ،لتخبرنا عن هؤالء القادمات من بالد الطراوة والنداوة والجمال إلــى بــاد الــصــحــاري ،لكنهن يأبين على الذوبان في الثقافة الصحراوية الجديدة عليهن ،فيبقين متمردات صاخبات مبهجات.
20
ولالسم في النص ،سواء في المقدمة التي أوضحت فيها الكاتبة ماذا تقصد بالبحريات، العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
والتي سوف يتم قراءتها في موضع آخر بما هي أحد مفاتيح قراءة النص ،أو في النص المِ ْن الداخل ،وتفسر الكاتبة «البحريات» بأنهن نساء قدمن من البحر على فضاء المملكة الصحراوي ،حاولن االندماج في ثقافة المجتمع ،لكنهن لم يستطعن؛ كما أن المجتمع ظل آلخر لحظة يتعامل معهن بحذر ،بل أطلق عليهن «طرح بحر» كما دأب على إطــاق تلك التسمية على كل شخص ليست لديه جذور صحراوية قبلية أصيلة. ثم يأتي الجزء الثاني من الغالف ،والذي يمثل ثلثي المساحة كما أشــارت الباحثة سابقا ،تتوسطه لــوحــة «جــاريــة قوقازية» للفنان العالمي أوغست كلمنت .يأتي وجه الجارية القوقازية يخالف تمامًا وجوه نساء الجزيرة العربية ،فهو الوجه المدور األبيض، شديد البياض ،يحيط بهذا البورتريه إطار من الخشب المذهّ ب ،وعلى طرف البرواز األيمن من أعلى تفتح نافذة صغيرة ملونة باللون األزرق في إشــارة إلى البحر ،وكأن الــنــافــذة ستظل مفتوحة فــي روح أولئك النسوة الــائــي جئ َن مــن وراء البحر ،هن يحملن بلدانهن وثقافتهن الماضية في قلوبهن ،ويتُق َن للعودة ،ويشتقْن للرحيل، فيظل المربع األزرق نــافــذ ًة مفتوح ًة على األمل .ويحيط بالوجه القمري غطاء رأس أسود تتدلى منه حلقات مذهّ بة صغيرة من جوانبه ،وتتدلى مع القرط الذهبي الطويل حتى آخر الرقبة ،كما يحيط بالرقبة عقدان أحدهما من الذهب يتراص في طبقات حول العنق الطويل األبيض ،ويعلوه عقد آخر من العقيق األحمر .كما ترتدي الجارية رداء من األحمر المختلط باألخضر.
عنوان الكتاب صناعة يجب االعتناء بها؛ ألن العنوان والكِ تاب وجهان لعملة واحدة، أو هو رأس للنص ،ويعد النص جسدًا لهذا الرأس ،وهو مقصود لذاته .ولهذا يُعد العنوان ال رئيسا لقراءة العمل األدبــي ،نظرًا مدخ ً إلى كونه من أهم عناصر النص الموازي، بشكل ٍ وهو من أهم عناصر العمل التخييلي خاص .وقد أ ُهمِ ل َتْ دراسة العنوان من قبل النقاد ،ولــم يُلحظ دوره المهم في تحليل الــنــص األدب ــي إال مــع النصف الــثــانــي من القرن العشرين ،فقد كان يُنظر إليه بوصفه ال للقارئ إلى اسماً للنص الذي يتقدّمه ،ودلي ً الكتاب ،وجاذباً له إلى القراءة(.)3 يأتي عنوان «البحريات» ليفرض داللته الكلية على الفضاء الروائي ،فالكاتبة تفتتح الــســرد بالحديث عــن بهيجة الــتــي جــاءت مــن وراء البحر ،مــن الــشــام ومــن الحبشة والصومال وألمانيا وغيرها من البلدان. يحيل العنوان «البحريات» إلى البحر ،بصفته فضاء مفتوحاً ،تنتمي إليه الشخصيات األســاس في الرواية ،فضاء يتيح قــدرًا من التحقق فــي مقاومة للتغيب ،فقد غيبهن البحر عن أوطانهن ،لكنه يمثل أيضا حلم العودة ،وللبحريات أحــوال وعــادات تختلف عــن البيئة المحيطة ،كما أن لهن عالقة مختلفة بأجسادهن ،فهن يعطين للجسد حــريــة الــفــعــل (صــخــب بهيجة وضحكها وعالقتها بجسدها) في مقابل الصحراء، التي تنتفي فيها صور التعدد ،وعدم قبول اآلخر ،بل وتعمل على طمس لهُوية الجسد وكبح رغباته (موضي في صمتها وعالقتها السلبية بــجــســدهــا) .ينهض فــي الــروايــة
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
عتبة العنوان في الرواية
خــطــابــان؛ خــطــاب ال ــص ــح ــراء ،وخــطــاب البحريات؛ كما تتم مواجهة بين ثقافتين مختلفتين ،أو نمطين يغاير أحدهما اآلخر، من الوعي والسلوك واألفكار.إن البحريات بحسب تجليات العنوان في النص شخصيات نسائية يقعن ضحايا لمناخ صحراوي ،تصفه الرواية بالقاحل والمتقشف؛ نساء يأتين إلى السعودية ،ألسباب مختلفة ،عمل ،زواج، كجوار قبل عقود من الزمن .لكن ثالثاً ٍ أو منهن ،وهن الشاميات بهيجة وسعاد ورحاب، يستأثرن بمعظم مساحة السرد .ومن خالل هؤالء النسوة تتأمل الرواية معضلة الوجود، وتعاين حياة ملؤها األسى والرتابة في بيئة قاسية. النصوص الداخلية في الرواية أوالً اإلهداء: نصية تحمل عالمات لغويّة اإلهداء عتبة ّ وإيحاءات رمزيةً ،يعلن فيها ٍ وإشارات داللي ًة ٍ المؤلِّف عــن إه ــداء كتابه لشخص مــا ،أو لمعنى أو لرمز من الرموز .وقد يكون اإلهداء بشكل مباشر إلى شخص أو شخوص بعينها، فيجد القارئ نفسه أمام المُهدِ ي (المؤلف) والمُهدَى إليه الشخص الذي اختاره المؤلف، ليتوجه إليه بالخطاب اإلهدائي. وغاية المؤلف من وراء اإلهــداء توجيه انتباه القارئ إلى َمـ ْن أ ُهــدي إليه الكتاب، وتوظيفه في تحقيق بعض األهداف الدِّاللية والقِ يَمية ،ليعلو قدره عند القارئ ،ويرتاح إلى أثــره ،ويكسب تعاطفه قبل الولوج في النص ،والتفاعل مع محتواه .ويمثِّل اإلهداء ّ أوّل حضور لغوي للمؤلف في النص ،ويكون بمثابة االستهالل الذي يلمس ذات القارئ النفسية ،ألنه عتبة تبتعد قليال عن التخييل العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
21
وتقترب من السيرذاتية ،فحتما الكاتب يهدي فال يرى أحداً مستح ّقاً له»(.)7 لشخص واقعي ،وليس تخييليا ،وربما يخلق وربــمــا يــكــون غــيــاب اإلهـ ــداء فــي بعض هذا نوعً ا من التعاطف النفسي بين القارئ المؤلّفات واألعــمــال اإلبداعية عائداً إلى والمؤلف. رغــبــة الــمــؤلــف فــي مــبــاشــرة الــقــارئ فعله مفهوم اإلهداء
والمعنى األقرب للتصور في اإلهداء يأتي من المعنى الداللي للفعل أهــدى ،فنقول: "أهديتُ ُه وأهديتُ ل ُه وإليهِ ؛ أي :أتحفت ُه به، وأعطيته إكراماً وح ّباً ومودّة»(.)4 واإلهــــداء اصــطــاح ـاً هــو« :تــقــديــر من وعــرفــان يحمله لــآخــريــن ،ســوا ًء الكاتب ِ مجموعات واقعي ًة أو ٍ أكــانــوا أشخاصاً أم اعتبارية»(.)5 وال تقتصر وظيفة اإلهــداء على الدعم النفسي والتواصل اإلنساني مع المُهدى له، لكن لإلهداء ،كذلك ،وظائف أخرى ،منها: «التصديرية ،واالفتتاحية ،والسيميائية، والــداللــيــة ،والــتــداولــيــة ،ووظــيــفــة التلميح واإليــمــاء ،واألدلــجــة ،والــتــنــاص ،والتَّكنِية، والمدلولية ،والتعليق ،والتشاكل ،والشرح، واالخ ــت ــزال ،والتكثيف ،وخــلــق المفارقة، واالنــزيــاح عن طريق إربــاك المتلقي ،وه ّز أفق انتظاره»(.)6
22
وقد يقدم الكاتب نصه دون إهداء سواء كان خاصاً أم عاما ،وهنا يمكن تفسير غياب اإلهداء من نص ما أن هذا يدل على درجة الصفرية ،وكأن الكاتب خالي الذهن تمامًا ممن يمكن أن يهديهم كــتــابــه ،وقــد فسر تقصد أن بعضهم غياب اإلهداء بأن الكاتب ّ يقول« :هذا الكتاب غير مهدًى إلى أحد.. وهذه العبارة تشي بأن الكاتب ال يرى أحداً يستحقّ اإلهداء ،أو أنّه يُغالي من قيمة كتابه العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
القرائيّ دون مقدّمات تأثيرية ،أو إشارات داللية ،تفصح عن مقاصد إنتاجه ،لذلك يَكِ ُل اكتشافَها إليه .وكتابة اإلهداء أو تغييبه من يشف عن طريقة ّ خيارات الكاتب .واإلهداء تفكير المؤلّف ،فله مطلق الحرية في إثبات اإلهــداء في طبعة ّمــا ،أو حذفه في طبعة أخــرى أو تغييره؛ كما له مطلق الحرية أن يستغني عن اإلهداء ويكتفي بالتصدير ،وقد يجمع الكاتب بين اإلهداء والتصدير الذي يعده بمثابة المفتتح للنص. تقوم أميمة الخميس بإهداء نصها إلى «سهام سيدة البحريات» ..وربما يتساءل القارئ من هي سهام؟ لكنه حتما سيفهم لماذا اختصتها الكاتبة باإلهداء؛ فهي سيدة على تلك الشريحة االجتماعية التي انتقتها لتكشف عن عوالمها السرية ،إنها سيدة البحريات ،فحتما تستحق اإلهــداء .وتظل عالمة االستفهام عمن تكون سهام معلقة أمام القارئ حين يقرأ النص ،فربما لن يتكشف له مَن هي سهام؟ لكن حتما سيكتشف أن البحريات جديرات برواية كاملة ،وسيدتهن (سهام) جديرة بالتالي باإلهداء. المقدمة ّ ثانيا: من العتبات المهمة في الرواية هو خطاب المقدمة ،والمقدّمة هي أوّل ما يُقرأ من الكتاب ،وهي أيضاً آخر ما يُكتَب فيه ،إنّها النص ّ بمثابة مفتاح الباب المؤدّي إلى كنز الذي يسعى المؤلِّف إلى أن يُظهرَه قارئه، بعد أن تكون فكرتُ ُه قد نضجتْ ،وصــورةُ
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
أميمة تحصل على جائزة نجيب محفوظ للرواية
َضــحَ ــتْ .وثمة روايــات يحرص وداللةً ،وتهيئ اإلطار العا ّم الذي ستدور فيه مُؤلَّفه قد و ُ الكاتب فيها على وجــود مقدمة لروايته ،وقائع الرّواية؛ ك ّل ذلك قصد تحفيز القارئ وهناك من الروايات التي تخلو من المقدمة .وتأطير الرواية وتحبيكها»(.)10 والمقدّمة ذات سلطة توجيهيّة ،تداولية نصه؛ فهي يستثمرها المؤلّف في خدمة ّ تفرض «ميثاقاً قرائياً ضمنياً يُلزم القارئ باالنصياع للكاتب ،وبقراءة ما كتبه في ضوء للنص ّ إرشاداته وتوصياته؛ بما يضمن قراءة حسنة»(.)8 إنّ المقدمة «وعــاء معرفي -إيديولوجي يَسَ ع تصوّرات الكاتب ورؤاه للعالم ،ويبيّن نصه؛ بل إنّها الغاية التي من أجلها كتب َّ جواب خفيّ عن سؤال مُفترض يشغل خاطر الكاتب ويُحيِّره»(.)9 على أنّ المقدِّمة في األعمال اإلبداعيّة هي
تــكــتــب أمــيــمــة الــخــمــيــس فـــي روايــــة «البحريات» مقدمة تخبر فيها القارئ عن هؤالء النسوة الالتي قدمن مع البحر ،ونظرة المجتمع السعودي لهن ،وعالقتهن بالمجتمع وبالبلدان األخ ــرى التي هــي وراء البحر، والــتــوق النفسي لهذه البلدان التي قدمن منها ،وتــبــدأ المقدمة ببيت شعر لجرير ينفي فيه بعض صفات البحريات عن النساء العربيات ،فالعربية الحق ال يجب أن تتسم بصفاتهن ،تقول الخميس« :قــال الشاعر جرير منذ ما يقرب من ألف عام:
ِعـ ـ ــراب ـ ـ ـ ًا لـ ــم َي ـ ـ ـ ـ ِـدنَّ مـ ــع ال ـن ـص ــاري مباشر يستخدمه المؤلّف ِ نصيٍّ آخر فضاء ِّ ولـ ـ ــم ي ــأكـ ـل ــن مـ ــن سـ ـم ــك الـ ـق ــراح
قبل أن ينتقل إلــى فضاء المتن المركزي، واصـ ًفــا نسوة الجزيرة العربية اللواتي ويسلم زمام السَّ رد إلى الراوي .إنَّها «مدخل أســاس لولوج كون الرواية الحكائي ،ألنّها يقبعن فــي قلب الــصــحــراء ..لــم تمازجهن النص الرّوائي تشكي ً ّ تُسهِ ُم في استجالء ال البحار ولم يذقن السمك قط».
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
23
إذاً ،جرير ومــن بعده الكاتبة تنفي عن حرائر الجزيرة تهمة ،وتثبتها للبحريات، فهل هــذا مــا أرادتـ ــه أميمة الخميس من روايتها؟ هل يصب ذلــك في رافــد الداللة الكلية للرواية؟ في الحقيقة مَن يقرأ الرواية يكتشف أن الكاتبة تنتصر لهؤالء النسوة، لكنها من خالل المقدمة ،ومن خالل بيت جرير ،ثم من خالل السياق الروائي أرادت أن تعري الثقافة التي تنال من هؤالء النسوة وتهمشهن ،وتنتصر لثقافة الجزيرة التي تفضل نساء الصحراء الالتي لم يخالطن البحر على هؤالء البحريات. تواصل الكاتبة مقدمتها ،وترمي مزيدًا مــن الــخــيــوط والــصــفــات حــول البحريات، فتقول« :يبدو أن هذا التشبيه (تقصد تشبيه جرير لنساء الجزيرة) ظل قابعًا في الوجدان الشعبي ألهــل الجزيرة ،فباتوا ينعتون كل َمــن ال يلتثم بــجــذور قبلية (طــرش بحر)، أي الشتات الذي يقذفه البحر إلى جزيرة انتقاصا ووصمة ً العرب ،بحيث بات البحر تمنع نقاء الساللة»(!)11
24
الصحراء نفسها تتكشف عن قباب المدن الذهبية الفارهة التي برقشت وجه الجزيرة. حدث أن شهقت موجة بحرية عارمة فغمرت وجه الجزيرة للحظات ،وحين انحسرت كانت قد خلّفت وراءهــا عــددًا كبيرًا من النسوة الــبــحــريــات ،انــتــثــرن هنا وهــنــاك ،بعضهن استوحشن الصحراء ،وعُد َن مع ارتداد أذيال الموجة ،وبعضهن اآلخر بقين هناك جذرّن أقــدامــهــن ،وم ــددن أذرعــهــن ،لتتحول إلى أشجار بعضها شجر تفاح ،وبعضها دراق، وبعضها اآلخر برتقال ،ولكن جميعهن بقين يحتفظن بمالمحهن البحرية ورائحة المدن الساحلية التي قدِ من منها»(.)12 إذاً ،تحكي ال ــرواي ــة قــصــصــهــن ،ليس قصص الرجوع والعودة ،بل قصص البقاء والتجذير ومد األفــرع والنمو ،ثم األزهــار، لكن يظل التوق والحنين يسيطر عليهن، وتظل روائح المدن القديمة تعلق بأرواحهن. وهكذا ،حملت المقدمة التي كتبتها أميمة الخميس رؤيتها للعالم مع الخيوط الدرامية التي سوف تكوّن النسق السرديّ للنص.
إذاً ،المقدمة تمهّد لالشتباك مع الثقافة اإلقــصــائــيــة الــتــي تــرسّ ــخــت فــي الــوجــدان الجمعي ألهل الجزيرة العربية ،والتي تعود جــذورهــا للثقافة الشفهية المرتحلة عبر الذاكرة الجمعية والتي تكوّنت من الشعر واألمــثــال وغــيــرهــا مــن فــنــون الــقــول ،هذه الوصمة «البحريات» تشير إلى عدم نقاء الساللة ،وكأن هناك عرق نقي في العالم!!
العناوين الداخلية للنص
تــواصــل الــكــاتــبــة كــشــف خــيــوط رؤيتها للعالم ،والتي سوف تتسع وتتجلى في النسق السردي ،فتقول« :بعد بيت الشعر ذلك بما يقارب األلف عام ،وحينما بدأت رمال تلك
تعد العناوين الداخلية عتبة مهمة؛ فهي امتداد لعتبة العنوان الرئيس ،وأحد تجلياته؛ فالفصل األول بطلته واحدة من أهم نساء البحر ،بطلة البحريات ،وربما تكون هي
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
المقدمة الداخلية قليلة هي الروايات التي تستخدم مقدمات للفصول المختلفة في الــروايــة .فلم تقدم الكاتبة لفصول روايتها بمقدمات ،فالمقدمة ســواء كانت مقدمة عامة أم داخلية ،تظل اختيارًا وانحيازًا يختاره الكاتب وينحاز إليه.
* ( )١ ( )٢ ( )٣ ( )٤ ( )٥ ( )٦
( )٧ ( )٨ ( )٩ ( )١٠ ( )١١ ( )١٢
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
سيدتهن بعد «سهام» صاحبة اإلهداء ،إنها «بهيجة» التي كانت جارية لدى الملك (لم تشر الكاتبة إلى فترة زمنية بعينها ،لنعرف أي ملك أهــدى «بهيجة» لوزيره ،الــذي قام بدوره بإهدائها إلى أحد المقربين منه ،فقام الرجل بتزويجها من ابنه «صالح») .وتحضر بهيجة في النص ببهجتها وصخبها ،فهي لها من اسمها نصيب ،تلك الشامية الجميلة التي كانت قادرة على أن تدخل البهجة على المكان الذي تحل فيه« :كانت فاقعة ،مفرق شعرها الكستنائي المشقّر ،يلتمع تحت غطاء رأسها التل األســود الشفاف ،الذي يغطي رأسها ،ومن ثم يستدير حول وجهها، وعندما يالمس وجنتها البيضاء المرتفعة الالمعة كان يزيدها غرابة»؛ ومصدر الغرابة هو المغايرة عن نساء جزيرة العرب الالتي لهن من قسوة الصحراء نصيب ،انعكس على مالمحهن كما وصفتهن الكاتبة.
يأتي الفصل الثاني ليكمل سردية جمال «بهيجة» ،فعنوانه «بحرية من ساللة اللوز األخضر» ونرى ما لوصف البحرية بهيجة بأنها من ساللة اللوز ،لما للوز من جمال؛ إن بهيجة تشعر بالحنين إلى موطن اللوز، إلى دمشق الشام« :بهيجة التي كانت تعاني لــواعــج فـــراق أهــلــهــا عــنــدمــا تــهــب الــريــاح الموسمية الحارة في شهور الصيف على نجد ،فتتشقق األيدي وتجف الشفاه ..كان جفاف الهواء يُحرّش خياشيمها الداخلية، تلك الخياشيم التي اعتادت الظالل المنداة التي تمنحها أشجار الشام لعتمة المساء». وهكذا تواصل الكاتبة توظيف العتبات الداخلية للفصول التي تأتي بمثابة مفاتيح للقراءة وكاشفة عــن عالم الــروايــة لثالثة وعــشــريــن فصال وثــاثــة وعــشــريــن عنوانا كاشفاً.
كاتبة من السعودية. انظر حميد لحمداني :بنية النص السردي من منظور النقد األدبي ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة األولى سنة 1991م. جميل حمداوي العتبات النصية ،مجلة عتبات الثقافية ،العدد األول 25 ،يناير 2012م. انظر خالد حسين حسين :في نظرية العنوان (مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية) ،دار التكوين، دمشق ،الطبعة األولى2007 ،م :ص.)138-137 انظر :ابن منظور ،لسان العرب :ج 5ص .4641وابن فارس ،معجم مقاييس اللغة :ج 6ص .43ود .أحمد مختار عمر وآخرون ،معجم اللغة العربية المعاصرة :ج 3ص.2336 عبدالحق بلعابد ،عتبات (ج .جينيت من النص إلــى المناص) ،الــدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت2008،م :ص.94 جميل حمداوي ،شعرية النص الموازي ،شبكة األلوكة ،طبعة أولى 2014م ص.110 /www.alukah.net/books/files/book_8963/bookfile
عبدالحق بلعابد ،عتبات (ج .جينيت من النص إلى المناص) ،مرجع سابق :ص.99 جميل حمداوي ،شعرية النص الموازي ،مرجع سابق :ص.190 عبدالحق بلعابد ،عتبات (ج .جينيت من النص إلى المناص) ،مرجع سابق :ص.124 نزار قبيالت« :العتبات النصية لرواية «أوراق معبد الكتب» لهاشم غرابية أنموذجاً ،مجلة اﻟﻌﻠوم اﻹﻧﺳﺎﻧﻳﺔ واﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻳﺔ ،اﻟﻣﺟﻠّد .41 .اﻟﻌدد2014.م- . أميمة الخميس ،البحريات ،ط ،5دار مدارك للنشر ،دبي2014 ،م ،ص.8 المصدر السابق. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
25
ُ وحكايات األطفال أميمة الخميس
مطير* ■ مصطفى خالد ّ
ليس هناك من ينكر أهمية القصة في حياة الطفل ،وقــد أكــدت الكثير من الدراسات التربوية والسيكولوجية أهمية القصة بالنسبة لألطفال ،من حيث كونها أهم األساليب التربوية المؤثرة والفعالة في تربية الطفل وتوجيهه ،لما لها من قوة تأثير على متلقيها سلب ًا أو إيجاباً ،ذلك حسب نوعها والهدف منها .كما لم يختلف رأيان حول دور القصة في توجيه السلوك لدى الطفل وغرس المبادئ الجيدة فيه ،وزرع الفضائل ..كما أنَّ لها الدور الكبير في تنمية اللغة وتهذيبها وتقوية الخيال في ذهن األطفال ،فض ًال عن تأثيرها في إدخال البهجة والسرور في نفوسهم. ـاص بفكرة تشويق الطفل وجــذبــه لالستماع والتأمل وألميمة الخميس اهتما ٌم خـ ٌ الطفل منذ بدايات كتاباتها ،وهي الكاتبة والتفكير ،إضافة إلى إثارة خياله واإلبحار السعودية ،التي ولــدت وتعلمت في مدينة به في عالمه المميز. الرياض ،والحاصلة على درجة البكالوريوس وتــعــد تــلــك الــمــجــمــوعــات القصصية فــي األدب الــعــربــي ،ودبــلــوم لغة إنجليزية لــلــكــاتــبــة أمــيــمــة الــخــمــيــس مــصــدر إمــتــاع ا لتنمية من جامعة واشنطن ،والتي عملت معلمة وتسلية للطفل ،وكــذلــك مــدخ ـ ً في القطاع التربوي ،ومن ثم مديرة إلدارة القيم الدينية وترسيخها لديه ،وتعزيز قيم اإلعالم التربوي في وزارة التربية والتعليم االعتزاز بالوطن والتراث والتاريخ ،واكتساب (وزارة التعليم حاليا) .ومن الالفت أهمية المعلومات الخاصة به ،إضافة إلى تنمية اختيارها للعناوين بشكل مختلف تمامًا ،المفاهيم العلمية والرياضية واالجتماعية، فحين تنظر إلــى تلك العناوين فأنت تبدأ وإثراء الحصيلة اللغوية لدى الطفل وتزويده بـ :سلسلة حديقة الطلح ،سلسلة متكاملة بمفردات وتراكيب لغوية جديدة؛ كما تنمي تدفعك للتساؤل! وهل للطلح حديقة؟ وكيف القصة مــهــارة االســتــمــاع واإلنــصــات لدى ينمو؟ وكيف يتكون حول ذاته ليخلق لنفسه الطفل ..وتنمي كذلك الميول القرائية لديه، حديقة متكاملة؟ وتُكسبه القدرة على النقد والتحليل والتقويم انتقاال إلــى «عصفور الحنطة» ..وتلك من خالل إبداء الرأي في شخصيات القصة القصة التي ترجمت لليابانية -الكورية وتحليلها وتقويمها.
26
التشيكية -األلمانية ،دليل على أهميةال قصص األطفال المشوقة التي تعد عم ً فنيًا يمنح الطفل الشعور بالمتعة والبهجة، لما تمتلكه مــن مــمــيــزات ..كــالــقــدرة على العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
وحين تقرأ قصة «حكاية قطرة» ..تدرك أنك أمــام مشروع طفولي تربوي ،فالقصة تساعد الطفل على فهم السلوك اإلنساني، وتعزيز االتــجــاهــات اإليجابية نحو القيم
اإلنسانية األصيلة ،كما تثير خيال الطفل وتثري فكره ،وتعزز لديه حب االستطالع، وتعد مــصــدراً مهماً لتعزيز شعور الطفل جو عائلي مليء بالطمأنينة واألمان ،وإضفاء ٍ باأللفة والمحبة ،وهــذا الجو شبيه بالجو فقصة «فـــراس األس ــد الــشــجــاع» ،منذ الــذي يشعر به الطفل مع أ ُ ِّمــهِ وهي تسرد العنوان تتعرف إلى بطولة فراس وشجاعته له قصة. وتشبيهه باألسد قوة ،فتلك القصص تجعلنا وحــيــن تمر على قصة «س ــارق الــلــون» ،نؤكد أن التعلم بالقصة قبل أن يكون مكتسبًا يثيرك العنوان لتبحث في ثنايا األوراق عن من الغرب ،فإنه موجود في ديننا اإلسالمي مدلول السرقة التي تعالجها فكرة القصة وتــراثــنــا األصــيــل؛ فــالــرســول عليه الصالة بلغة مجازية بسيطة تناسب الطفل ،وتجعله والسالم علم الصحابة بالقصة ..والدليل يعيش خياال متنقال من بيئة ،كما ننتبه ونحن القصص القرآني ..وكم كان تأثيرها على نطلع على قصصها أنــهــا تختلف حسب الــرجــال كبيراً فكيف على الــصــغــار؟! كما الفئة العمرية والجنس ،وإن كان اختالفها اعتدنا على قصص الجدات التي كنا نتشوق حسب العمر أكثر ..أما من حيث الجنس ،لسماعها منذ قــديــم الــزمــان حتى يومنا فالقصص التي تحبها اإلنــاث تختلف عن هذا ..وهذا من أحد فوائد األسرة الممتدة القصص التي يحبها الذكور ،فاإلناث يَمِ لن التي يزرع فيها الجد والجدة عبر القصص إلى القصص العاطفية والرومانسية التي التي يروونها قيمًا تربط الصغار بتراثهم تنسجم مع طبيعتهن ،أما الذكور فيميلون وماضيهم العريق. لقصص المغامرات والبطوالت ،وهــذا ما وهذا ما سعت إليه أميمة الخميس من تفعله الخميس منذ الــعــنــوان ،فأنت تجد خالل كل مجموعاتها القصصية المتوافرة نفسك موجهًا مباشرة للقصة التي تبحث بين أيدي األطفال وأهلهم. عنها ،فلن تبتعد الفتاة عن قصة «ألنك بنت» وهنا ،ال بد من االنتباه للقصة التي نقرأها حيث سيلقي بها خيالها أنها ستجد نفسها أو يقرأها الطفل بنفسه بأن يكون الخيال هناك. فيها معقوالً وإيجابياً ،فنحن نريد من الطفل وقصة «وضحى الفراشة الصحراوية» أن ينمّي خياله وتأمالته دون أن يغرق نفسه التي تجعلك تغني وأنت تقرؤها ،وهي القصة في عالم آخــر اتحد معه عبر القصة ،وال التي قدمت كعرض باليه للصغار في فينا .يدري أنه يختلف عن الواقع الذي يعيش فيه؛ وتلك العناوين الالفتة في اختيارها ..وهــذا ما صنعته أميمة حين كانت تقتبس تدل على أن القصص التي يحتاجها األطفال شخصياتها من الواقع ،إضافة إلى اكتسابها تختلف نوعها حسب المرحلة العمرية التي مهارة ش ِّد األنظار منذ العتبة األولى.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
يمرون بها ،فهناك القصص االجتماعية، والخيالية ،وقصص البطوالت والمغامرات واأللــغــاز ،والقصص الواقعية ،وغيرها من القصص.
* كاتب من العراق. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
27
ُ ورذاذ الجمالي وهج الكتابة أميمة الخميسُ ..
■ تركية العمري*
انفتاحا على اإلنسانية والجمالية مــعً ــا ،وقد ً تمثل كتابات الـمــرأة األدبـيــة فــي العالم حققت هذه الكتابات نموً ا للمجتمعات؛ إذ تعرّف الرجل على الكائن الذي يشاركه الكون وهو المرأة ،كما منحت كتابات المرأة ازدهــارًا لألدب بشكل عام .وترى الكاتبة البريطانية فرجينا وولف أن خصوبة األدب ُسلبت بسبب األبواب التي أُقفلت لزمن طويل أمام النساء. لقد ازده ــر أدبــنــا السعودي بسبب حــضــور كتابات النساء، وظهور الكاتبة السعودية ،ومن بين الكاتبات تشرق الكاتبة والقاصة والروائية أميمة الخميس التي تمثل شعاعً ا ساطعًا في مشهدنا الثقافي .فهي كاتبة المقال التي اهتمت بشؤون المجتمع ،وبالمرأة خاصة ،وهي القاصة التي فتحت عــبــر ســردهــا القصصي هموم ال ــم ــرأة الــســعــوديــة ،وكـ ــان أول هطولها القصصي (والضلع حين استوى) ،وهي التي مرت بالمجال التربوي ووضعت إشراقات تربوية ،كما مرت بأدب الطفل فكانت (وسمية) أول هتانها لألطفال. وهــي كديمة بين مكاشفات صباحية رقيقة، لكأنها تخبر الــقــارئ عــن شــاعــرة تختبئ فيها، وهي الروائية التي كتبت السرد الروائي وفتحت لها األبواب ..فعبرته بعمق فكرها ،ورشاقة لغتها، لتسهم فــي اتــســاع وجــود الــروايــة السعودية في المشهد الثقافي العربي والدولي. ـض ــا بــتــقــديــم الــقــاصــات أســهــمــت أمــيــمــة أي ـ ً السعوديات عبر الملفات الثقافية التي كانت تعدها أو تشارك بإعدادها ،ومنها كتاب صحيفة الرياض، وهنا نجد انفسنا أمام كاتبة تحمل مسئولية ثقافية تجاه وطنها ومبدعاته. كــانــت روايـــة (الــبــحــريــات) أول ق ــدوم أميمة الخميس للسرد الــروائــي ،تلتها روايــة (الــوارفــة)
28
* كاتبة وقاصة ومترجمة من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
التي داعبت بها البوكر العربية، لتأتي رواي ــة (زيـ ــارة ســجــى) ،ثم روايــة (مسرى الغرانيق في مدن العقيق) ،والتي تقترب من التاريخ والحقيقة ،لتهدي القارئ ضــوءًا يقود إلى حقيقة تراها هي ،وقد حصلت بهذه الرواية على ميدالية نجيب محفوظ لآلداب .2018لقد حققت روايــاتــهــا أص ــداء مضيئة ل ــدى الــقــارئ المحلي والــعــربــي واألجنبي أيضا. ولكن ماذا عن الكتابة والوعي لدى أميمة الخميس؟ تكونت الكتابة والوعي بها لدى أميمة منذ الصغر ،فقد نشأت بين أنهار أسرة مثقفة ،فنهلت من فــرات الفكر والكتابة واللغة واألدب ،وشقت نهرها الخاص بها ،فكانت الكاتبة التي حملت في داخلها مشاعل فكر تنويري يضيء لنساء وطنها اللواتي عانين من التهميش لوقت طويل. إن كــتــابــات أمــيــمــة الــخــمــيــس ال تــقــف عند منح القارئ المتعة الفكرية والجمالية البصرية والتخيلية عبر لغتها الشاعرية الرقيقة ،ولكن هناك طبقات عميقة بين كتاباتها تدعو القارئ للتفكير، واالقتراب من اإلنسانية ،وجماليات الحياة. وهي -أميمة الخميس -تستحق االحتفاء بها وبإبداعها ورؤاها التي أضاءت ثقافتنا ،وأسهمت في تنمية مجتمعنا .فقد نثرت الجميل ،وتهامس األجمل ،وترذ بالجمالي.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ُ عودة غاليليو..
هارب ًا من خيانات البحر واليابسة ■ عبداهلل بيال*
يُصرُّ الشاعر زكي الصدير على إدهــاش القارئ ،وإنعاش ذاكرته الشعرية ،بما توجس ٍ والخوض في المحاولة ،دون ِ االختالف، ِ نصوص ممعنةٍ في ٍ يجترحه من تجريب وخلق الصورة المباينة للمعهودِ ِ أو ارتياب؛ مستحث ًا الفكر َة كي تمعن في الغموض المجاني الذي عاب الكثير من النصوص ِ قيد والمبتذل ،والمنفلتة من ِ ـراك ال ـقــارئ أيـضـ ًا فــي مهمة خـلـ ِـق النص الشعرية الـحــديـثــة ،وال ـق ــادرة على إش ـ ِ أدق كائناته ودالالته. الشعري ،واستجوابه ،والتعمق في ِ في مجموعة الشاعر األخيرة «عودة فيها أن يفتح بــوابــات الــتــجــريـ ِـب على
درجة عالية مصاريعها ،بــمــزج األشــكــال الشعرية ٍ غاليليو»( ،)١يأتي الشعر في
من النضوج ،بعد أن خرج من تنّور تجربة فــي قــوالــب حــواريــة متفقة مــع الحالة
الشاعر ومحاوالته الحثيثة لخلق عالمه النفسية لكل نــص ،وص ــوالً إلــى شهوة الشعري الخاص ،بعيداً عن التقليدية المالئكة ،ومجموعة حانة ،ووقوفاً عند
والتكرار لألصوات الشعرية المهيمنة «عودة غاليليو» ،تلك العودة التي تبشر على المشهد اإلبــداعــي؛ تلك التجربة بها الفنون جميعها ،ألنها تؤم ُن بتجدد بحالة من حضورها وأبديته ،وإن اختلفت أشكال ٍ التي لـوَّنــت النص الشعري
البنفسج الــقــادر على الجهر بأحقية هـــذا الــحــضــور الــمــؤبــد ،إذ ال يمكن
وأهمية اندغام وتــزاوج الفنون ،مــروراً للفنون أن تُــصــاب بــعــدوى الغياب ،إ ّال
بجنيات شومان التي استطاع الشاعر بمعناه المجازيِّ الذي يستبطن حضوراً ٍ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
29
زكي الصدير في أمسية شعرية
آخــر ،وهنا يطل عــنــوان المجموعة «عــودة شعرية مــنــفــردة ،بين كــل نصين شعريين،
غاليليو» ليعيد البشارة بذلك الحضور وتلك وينسحب هذا التكثيفُ على عدد النصوص العودة ،للشعر والفلسفة والموسيقى والثورة ،الشعرية الـ ( )73في المجموعة ،والذي يبدو
بمضامينها المختلفة.
كبيراً مقارنة بعدد الصفحات الـ ( )83التي
تكثيف هذه المجموعة ،حوت نصوص المجموعة. ِ عمل الشاعر على
وكـ ــأنَّ التكثيف بــكــل أشــكــالــه ومــعــانــيــه هو
ـوص المجموعة بالكثير من تمتاز نــصـ ُ
الطريقة الوحيدة لمجابهة اللغة وعصرنتها ،المالمح التي يمكن أن تتبدى لقارئها ،وهي
خروجاً من قيود الشكل والمعنى المباشرَين؛ مالمح تقتبس حضورها وتأثيرها وقدرتها نجد التكثيف حاضراً في الصور الشعرية على التشكل ،مــن الــشــاعــر ذاتـــه؛ أفــكــاره، التي حفلت بها المجموعة ،وهو تكثيفٌ رمزي أوهامه ،قناعاته ،توجساته ..إلخ ،فهي تتمثُّله يقول ويصمت ،يبدي ويُخفي ،يش ُع ويخفت ،كما يتمثَّلها تماماً.
ممتحناً فراسة القارئ ،ومختبراً مدى تعمّقه
يظهر ملمح الغربة أو الوحشة الذاتية في
في تفاصيل الــصــورة ،لينتقل هــذا التكثيف الكثير من نصوص المجموعة ،والغربة هنا إلى الفكرة التي تبدو محركاً أساساً للصورة تخرج أحياناً من ذات الشاعر لتتجسد في ومبدعاً أولياً لكل تفاصيلها.
الذوات األخرى ،بشري ًة كانت أم مادية ،وهي
اغتراب الشاعر ووحشته ِ وبــالــمــرور على عــنــاويــن الــنــصــوص نجد تمظهرات تنبع من
والتكثيف الشعري المبذول في أسلوب الذاتية ،وكأنَّها قد أصبحت مكوناً رئيساً من َ الجهد عنونتها ،وكمية الصور الشعرية المتدفقة مكونات الشخصية المبدعة ،ويتجلى ملمح
ال في كل عنوان ،لكأنَّ الشاعر يحاول أن يمنح االغتراب والوحشة في بعض النصوص ،فمث ً
30
القارئ فرص ًة للتوق ِّد الشعري بالتقاط صورة يقول الشاعر« :الغريب ُة الوحيدةُ التي تسك ُن
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
الورقة األولى من يومياتها /:الغريبُ الوحي ُد تأخذ لــو َن الليلِ ،وطع َم الملحِ ،وأن تصب َح الذي يسكن بيتي ،وال أعرفه ،ينام معي» ص ،14هاوي ًة ال يمكن للشاعر إ ّال أن يُسلم نفسه لكأنَّ االغتراب هنا شعو ٌر متباد ٌل بين ذاتين إليها.
حاضرتين في عمق غيابهما ،وعلى القارئ
وهــنــا تتضح بعض المالمح األخ ــرى في
أن يبحر بكامل وعيه كي يغرق في تفاصيل مجموعة «عودة غاليليو» ،إذ يحضر الليل بكل ما ِ ذلك الحضورِ حموالت تراثية وثقافية وأسطورية، ِ الغائب ،والغيبةِ الحاضرة؛ تلك له وفيه من
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
بيتي ،وال أعرفها تنا ُم معي /كان مكتوباً في
هــذا االغــتــرابُ وتلك الوحشة ،يمكن أن
التي تتجلى بوعي شعري وشعوري في قول ذلك الليل الحاضر بسطوته وجبروته وقسوته الشاعر« :هــكــذا يلتقي شخصان غريبان /وأســــراره وكــنــوزه وقبحه وجــمــالــيــاتــه ،يبدو لهما الرصيفُ وللمارة الشارع / .../غريبان /كالراعي الوحيد لكل هذا القطيعِ من هواجس يــنــظــران لبعضها مــؤقــتــا» ص ،31ومــا دام الــشــاعــر ،ليصفه بكل إفــصـ ٍـاح بـــ« :الــراعــي
الغريبان في هذه الحالة المؤقتة فهما خليقان الليل ُي الضال /تستقي ُل النجو ُم بين يديك/ قمر جديد» ص ،16تلك بأن يكتب لهما الشاعر معنوناً أحد نصوصه تبقى متأهباً لغواية ٍ
ٍ بـ «وصي ٌة لغريبة عابرةٍ في البيت» ص 36؛ الغواية تستدر ُج الشاعر إلــى حفلة الموتى، شاعر أل َ ٍ وبحدس ِ ـرف يص َّع ُد ِف االغترابَ وتعايش معه ،و«هكذا ِينتهي بي الليلُ /على جُ ـ ٍ ال بد وأن يحتاط لغربته األثير ِة لديه ،ليضع بي إلى السماء» ص ،23ليظل معرا ُج الشاعر مبكراً «الخطة ب» للتعامل مع هاجس الخوف مستمراً إلى ما ال نهاية له ،وهو مع كل ذلك
من المحاولةِ -الغربة ،ليقول« :الغريبُ الذي يظل وفياً لليلِ محتفياً به؛ فنجده هنا يصبح: قر َع بابكَ في منتصف الليل / .../الغريبُ «مث َل ساحليٍّ يجمع سالل الربيعِ تحسُّ باً من
حياتك المُحتملة لــو أنــك أشــرعــتَ بابك» ليالي الرطوبة /.../تست ُّل من منتصف الليل ص ،66ليستمر هاجس الغربة والوحشة في نجم ًة فرّت من جحيم الكون» ص ،29ألنه ربما
هذه المجموعة بالتناسل بين ٍ سماوية باهظة» ،يستطيع من ٍ نص وآخر ،حتى ظفِ َر بـ «فرجةِ نبض الليل» ص ،30ولو فعل «يجس َ َّ يصل إلى شاطئ ذلك البحر الذي استوحش خاللها أن
واغــتــرب فأصبح «غريباً وســط اإلسمنت /ذلك كما ينبغي «لكان أخذ من الليلِ هيبته /من غريباً يعانقه السرا ُق والمتطفلو َن واألثرياء /النهار حشودَه» ص38؛ هكذا يختبر الشاع ُر
غريباً يُغتَصبُ دون أن أسمع نشيجه السري» الليل فــي الكثير مــن نصوصه ،ليبدو حيناً ال مصاباً بالحراسة الليلية» ص ،40وحيناً ص ،76وحين يغتربُ البح ُر بكل ما يحمله من «رم ً ِ رموز ودالالت ،يكون كائ ُن ٍ االغتراب قد أخذ فرص ًة جيد ًة للرقص «إذا جاء اللي ُل الرخيص»
أكثر أشكاله اكتماالً في وعي الشاعر.
ص ،46الذي ال يكف أن يكو َن «صديقي الذي العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
31
يرافقني بعد انطفاء الحانة/ .../أعرف الليل خــائــفـاً /مــرعــوبـاً فــي الــشــارع» ص55؛ ومع
ذلك فاألحوط دائماً «بينما يحصي النائمو َن خرافهم /ال تغفل عن ليلك» ص 68؛ واجلس
رصيف الليل» وقل: ِ على «كرسيٍّ افتراضي فوق
«مَن يقاسمني هذا الليلَ /دون أن يسألني عن اسمي؟» ص 75؛ سيعتذر إليك اللي ُل مرغماً، وستمضي عنه قــائ ـاً« :مــا لــي ولــهــذا الليل المالح» ص.65
يظهر ملم ٌح آخر حس ٌي ومعنوي من مالمح
المجموعة ،وهو ملمح ذوقي الذع ،من ّك ٌه بالملح،
بكل معانيه ودالالته المتعددة ،أنواعه ،شفافيته،
بياضه ،انمحائه ،ذوبانه ،حقيقته ومجازه؛ وقد
عمد الشاعر إلى ما يشبه عملية رش الملح بين العديد من نصوص المجموعة ،وكأنه يحاول لم يجد الشاع ُر بُداً من االعتراف التام بكونه ال مالحاً /ليس بهذه العملية أن ينعش ذاكرة القارئ وحواسِّ ه« ،فريسة الملح» ،وأنه يحتا ُج «رم ً
مانحاً قيم ًة ذوقية لما يستحق ،وسالباً تلك بطعم الروتين اليوميِّ للشمس» ص40؛ وحين القيمة عما ال يستحق؛ ومــن «الليلِ المالح» يحين موعد الرقص-الهرب-الخلوص إلى ص ،65الذي يتبرأ الشاع ُر منه وينفض يديه من أقاصي الــروح ،فال بد أن يكون هذا الرقص بطعم غير منزّهاً عن مخالطة األرض المالحة« ،ارقص/ ٍ عالقته به ،ذلك الليل الذي التبس معتاد لدى الشاعر ،فلم يجد بُداً من اختبار وحدكَ قصياً عن األرض المالحة» ص ،46هذا ٍ
تلك الملوحة« :بسطتُ يــدي /كانت مالحةً» الرقص جدي ٌر بأن ال يلتفت إلى «فزاعةِ الملح» ص ،32تلك الملوحة التي امتزجت بملوحة المنصوبةِ في طريقِ رثاءاتنا المجانية للشهيدِ حروب الملح .../نسيَ ِ الليل المطبقِ على روح الشاعر ،الذي يبدي الذي كان «يحرسنا من إيماناً ساخراً بذلك التقليد الذي يقضي :بـ «أن أن البحر مال ٌح أيضاً» ص51؛ من البحرِ إلى ـواف الرصيف/ .../أن نتعفَّن البحرِ يظل المل ُح شاهداً ومشهوداً عليه ،يرفعه نبصق على حـ ِّ كراية ،يل ِّو ُح بها ليقول: ٍ بطيئاً رغم ملوحتنا» ص39؛ ويا للمفارقة إذ الشاع ُر أمام العالم كله رغم ك ِّل هذه الملوحةِ التي انغرسنا فيها فإننا ها أنــذا راس ـ ٌخ بتأريخي وانتمائي وكينونتي
32
ما نزال مؤهلين للتعفّن البطيء ،ربما لذلك «بملوحةِ البحرِ على جلدي /بغبار الصحراءِ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
وألنَّ الملح في بعض حاالته ،يمثِّل صور ًة من صور التهاوي الفظيع ،واالنمحاء والذوبانِ الــســريــع ،كــان الملح قريناً للهاوية ،ومــؤذنـاً بالتالشي واالنــتــهــاء ،لذلك كــان هــذا العال ُم أرتال من الملح جديراً بأن يُختصر المبني على ٍ قابل للتدويرِ في كل «مشهد بالستيكي» ٍ ٍ في لحظاته ،وربما يستحق الشاعر أن يغبط نفسه؛ ألنه قد اكتشف قبل الخطوة األخيرة هشاشة األرض المالحة التي كان ينوي غرس جذوره فيها ،ليقول لذاته« :بين جميعِ من سبقوكَ كنتَ األوف َر حظاً /ربما ألنك اكتشفتَ قبل الخطوة األخيرة / .../أنَّ ما اعتبرتها أرض ًــا لم تكن سوى هاوية» ص ،48وهو بالرغم من إيمانه وعي ينسى بهذه المعرفة فإنه أحياناً وبدون ٍ و«يجلس على حافة الوادي/ ُ «نبوءة الهاوية»، معتقداً أنَّ الحشو َد مأم ُن الهاوية» ،إنّها الغبطة حشد أن ٍ الساحرة التي يمكن لالنغماس في أيِّ يهبكَ إياها ،ولكنها سريعاً ما تنقضي لتكتشف أنَّ الهاوية قد ابتلعتك ،لتأخذ مكانكَ «في انتظار حفلةِ الموتى» في الجُ رف الصاعد إلى لألرض ِ السماء الــذي «كلما فتحتُ له هاوي ًة بشهاب» ص ،23يقو ُل الشاعرُ؛ وكأنَّ ٍ باغتني الهاوية هي قد ُر الشاعر الذي ال مناص منه، ولكنه لم يحتط لها كما يجب ،و«لو كان يدري المأخو ُذ بالمنحدرِ أنَّ مصيرَه االرتطام/ .../ سالل ،يوزعها على ٍ لكان ادَّخر الحياةَ كلَّها في
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
في مسامات وجهي».
رفقاءِ الهاوية» ص ،38ربما «في الطريقِ إلى الهاوية /قبل االرتطامِ بقليل / .../في الهاويةِ أثناء االرتطام / .../في الهاوية بعد االرتطامِ مباشرةً» ص ،41وليعمِّق الشاع ُر من حتمية الهاوية وعبثية الفرار من االرتطام بقاعها ،ها مخاتلة أو مناورة ٍ هو يناش ُد الحياةَ هاوي ًة دون عليك -منذ البدايةِ -أن تأخذينا مباشر ًة ِ «كان إلى الهاوية» ص.80 بنصوص شعرية جاءت ٍ حفلت المجموعة خاصة، ٍ إهـــداءات لشخصيات أدبــيــة عــامـ ٍـة، قريبة ،وبعيدةْ ،ولكنها تشترك جميعُها في ٍ إيمانها بعودة غاليليو ،تلك العودة التي تحمل معنيين ،األول :يتمثل في عود ِة زمن الخرافةِ ، ـوف أمـ ــام ســلــطــانِ ال ــزي ـ ِـف ،وضجيج وال ــخ ـ ِ الغوغاء ،بينما يسفر المعنى الثاني عن عود ِة الثور ِة والعصيانِ على التجهيلِ ،وتعليب الوعي، واجبات الضمير ِ محاولة للتهرّب من ٍ دون أيِّ األخالقي واإلنساني ،وإن كلّفها ذلك أن تصبح كهنوتية هزلية ،كتلك التي ٍ لمحاكمة ٍ أسير ًة تضمنها نص «عودة غاليليو» :خائفٌ /..حتى في القولِ «إنــكَ خائفٌ » خائفٌ /ال تجرؤ أن تهمس ألحدهم َ الشمس /وال أن ِ تشي َر إلــى األرض تــدور» /أنــتَ خائفٌ من خوفكَ / َ «إنَّ تدس مجازاتكَ في شقوقِ مطمئ ٌن لسكينتكَ ُّ / جدرانكَ /تتأك ُد أ ّال أح َد استطا َع أن يختر َق تأويلكَ /تخافُ مــن /...تُشع ُل نــاركَ عاليةً/ ليتخيلوكَ طيفاً وينسوكَ ».
* كاتب من السعودية. ( )١مجموعة شعرية للشاعر السعودي ،زكي الصدير ،صدرت عن منشورات المتوسط -ميالنو-إيطاليا، الطبعة األولى 2019م. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
33
قراءة في كتاب إبراهيم البليهي
ُ ُ واالستجابة الريادة
(قوضت أوروبا هيمنة الكنيسة فانفتحت لها اآلفاق) ّ ■ د .سعيد بن حمد الهاجري*
الكتاب هو خالصة قراءة لتاريخ أوروبا على مدار أربعين سنة .يقع في ()574 صفحة مــن القطع ال ـعــادي ،وهــو مــن مـنـشــورات داري ابــن الـنــديــم فــي الجزائر والروافد في لبنان .يأتي هذا الكتاب جزء ًا من مشروع فكري واسع يجمعه عنوان واحد هو «تأسيس علم الجهل لتحرير العقل» .يحتوي الكتاب على مقدمة واثني عشر مبحثاً ،بسط المؤلف في المباحث الثالثة األولى فكرة الريادة واالستجابة، بينما تناول في باقي المباحث استعراض أمثلة لرواد عمليين غيّروا العالم كما يصفهم المؤلف.
34
يشير مؤلفنا فــي مقدمته إلــى أنه ترشيد األعمال ونجاعتها؛ ويستضيء توصل من خالل البحث والتمحيص إلى بهما قادة الفكر والفعل. أن التقدم الحضاري الــذي حــدث في ويشير إلى أن الذين قادوا األحداث أوروبــا لم يكن نتيجة للعلوم واألفكار. المزلزلة التي غيرت أوروب ــا لــم يكن فالفلسفة والعلوم واإلقناع ال يمكن أن هدفهم تحرير أوروبا من قبضة الكنيسةـ تقود إلــى اإلفــاقــة من العمى الثقافي والخروج من كهف الالهوت الكنسي .وإنما جاءت النتائج اإليجابية دون قصد ويرى أن الذي أحدث التغيير والتقدم منهم أو ضــد قصدهم .النتائج على الحضاري في أوروبــا خلقته األحــداث المستوى الــتــاريــخــي تــأتــي طبقا لما الكبرى ،ثم أتى دور الفلسفة والعلوم في يسميه هيجل مكر التاريخ. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ويشير البليهي إلــى أنــه قــد تعمّق في دراسة التاريخ األوروبــي والتراث األوروبــي؛ فدرس بعناية تاريخ الفلسفة ،وتاريخ العلوم، والتاريخ السياسي ،وتاريخ االنشقاقات على الكنيسة ،وتــاريــخ االخــتــراعــات ،فــأدرك أن حركة التاريخ ال تسير بالعقل ،وال وفق خطة محددة بفكر عقالني ،وإنما يندفع الفاعلون لمصالحهم وأهدافهم وصراعاتهم ،ثم يتخذ التاريخ مسارًا آخر ال يتفق مع أهــداف أي طرف من أولئك الفاعلين .ويضيف أنه اثناء تعمقه في دراسة الكيانات الثقافية وطبيعة االنسان ،توصل إلى أن اإلنسان كائن تلقائي، وأن اإلنسانية محكومة بالكيانات الثقافية المتباينة التي تكونت قبل العلوم ،وأن أوضاع المجتمعات والتطورات الفكرية والعلمية والحضارية؛ تقوم على القيادة واالنقياد، وأنــهــا تتغير بــالــريــادات الفردية الخارقه، واالستجابات اإليجابية الكافية.
جهازا للبرمجة ،فيتولى عمليات الفرز والتصنيف والترميز ،فتتكون التصورات واألنــمــاط لتبقى أســاســا لكل مــا يأتي بعدها؛ فــاألنــمــاط األول ــى تظل تتحكم بــالــفــرد خـ ــال عــمــره إال ف ــي ح ــاالت استثنائية حين ينكسر أو ينفرط ما تكون تلقائيا...الخ.
وينهي المؤلف مقدمته بالتأكيد على عدد من النقاط هي محور المباحث الثالثة األولى ،ويتبعها ببقية المباحث التسعة أمثلة تأكيدية عليها .ومن أهم النقاط التي يؤكد ينتقل المؤلف إلى المبحث األول الذي عليها: عــن ـوّن لــه «لــكــل أمــة نــظــام فــكــري :تلقائي التوارث حتمي الهيمنة» .حيث يرى أن العقل .1أن االنسان كائن تلقائي. البشري عند كل األمم؛ قد كوّنته وتملكته وما .2أن االنسان يولد (على الفطرة) بقابليات تزال تتحكم به ثقافات ما قبل العلم الحديث، فارغة مفتوحة وليس بعقل جاهز. فلكل أمة نظام فكري (كيان ثقافي) يتم توارثه .3أن قــابــلــيــات اإلنــســان تــتــكــون وتتشكل بشكل تلقائي حتمي ،فكل أمــة بمجموعها باألسبق إليها. وبأفرادها؛ مملوكة لثقافتها ،وليست مالكة .4أن دماغ المولود يكون مجهزا الستقبال لها ،فال يمكنها تغييرها او التخلي عنها، م ــا تــنــقــلــه الـ ــحـ ــواس ،كــمــا أنـ ــه يملك ولكن يمكن استغاللها من داخلها ،بتضخيم
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
35
بعض قيمها وتركيز االهتمام على ما يخدم التوجه الــذي يــراد لــه إلــى أن يــســود .وكل كيان ثقافي هو بنية قوية مغلقة صامدة ،ال تضعفها الهزائم مهما بلغت .ويضرب مثاال لذلك أقلية اليزيديين وأقلية اآلمــش في أمريكا. ويــنــاقــش الــمــؤلــف مــفــهــوم الــعــقــل لــدى اإلنسان ،إذ ينطلق المؤلف مستظال بنظرية الحتمية والتي تفترض أن كل شيء يحدث نتيجة لــســبــب .وبــمــا أن نــظــريــة الحتمية ونظرية الجبرية تتشابهان في النتيجة ،إال إنهما تختلفان في السبب ،إذ تقرر الجبرية أن األحداث مقررة مسبقا وال ضرورة لسبب حدوثها إال قضاء اهلل وقدره ،إال إن المؤلف يجنح إلى الحتمية؛ ألنها أقرب إلى التفسير المنطقي مــن الجبرية مــن وجــهــة نظري. وبهذا يقرر أن العقل ليس جوهرا يولد به اإلنــســان جــاهــزا ،وإنــمــا هــو نتيجة حتمية للثقافة السائدة .فالفرد يتكون عقله تلقائيا من خــال ما تنقله حواسه من أسرته إلى دماغه ،ثم من هذا التكون التلقائي انبعث الوعي تلقائيا .ومع ذلك لم يتطرق المؤلف إلى مناقشة موضوع الذكاء ،وكيف يتفاوت الناس في نسبة الذكاء ،وما أسباب ذلك؟ كما لم يتطرق إلى شرح موضوع الفروق الفردية وهي من المواضيع المهمة جدا.
36
اإلنسان كائن تلقائي ،فهو يتبرمج بالسائد، وال يسأل عن هذا السائد كيف يكون وكيف حــدث ولــمــاذا الناس مرتبطون بــه؟! وهذا حال الناس في كل األزمان إال قلة قليلة من الفالسفة والتنويريين الذين انتهجوا منهج الشك واعتنقوا مبدأ الــســؤال والتمحيص وعــدم أخــذ األم ــور على مــا هــي عليه دون سؤال واستيضاح. من المسلّم به أنــه عند وجــود أكثر من ثقافة ،فإن االستقالل الثقافي يكون حاضرًا، فال تــزاوج وال تمازج بين الثقافات ،وإنما من المتوقع أن تتفرع الثقافة الواحدة إلى مذاهب وطوائف ،لكن يبقى التوارث الثقافي حتمي الحدوث وليس أمرًا اختياريا .وخير مثال على ذلك النسيج األمريكي المتشكل من عدد من الثقافات التي تنتظم في الثقافة األمريكية العليا كما تسنها المؤسسات الرسمية وتُطبق بقوة القانون ،وأما الثقافات المتوارثة األصيلة فتبقى حاكمة لتصرفات وأفــعــال أتباعها ،ويتجلى ذلــك في طقوس الملبس وممارسة الشعائر الدينية. الحتمية الثقافية تقييد للعقل وهــذه معضلته الكبرى .ويمكن تحديد مسارات حركة العقل إجماال في ثالثة نظم فكرية يتحرك بها:
.1التفكير التلقائي :وهو التبرمج بكل قيم أما الثقافة ذاتها فهي مرتبطة ارتباطا ومعايير وعادات المجتمع دون تمحيص وثيقا بالمتبرمجين بها وال تنفصل عنهم. أو سؤال، فهم شــيء واحــد وال توجد مسافة بينهما. إال إن الثقافة تلعب دورا في أنها تفصل .2التفكير الفلسفي :يتخلق هــذا النظام الفكري بفعل الشك في النظام الفكري المنتمين إليها عن إدراك طبيعتها ،وذلك ألن
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
التلقائي وحــرقــة األسئلة حــول الوجود عند أفراد استثنائيين .بقي هذا النظام الفكري خاصا بتفكير القلة من األمم. .3النظام الثالث مزيج من النظام التلقائي والــنــظــام الفلسفي فيما يتعلق بالعلوم والتعليم ،ولكن يبقى محكوما بالنظام التلقائي. وبهذا يرى المؤلف أن المتعلمين والعلماء هم مجرد ناقل للمعارف وليسوا منتجين لتلك المعارف والمفاهيم .وهو هنا ال ينفي التطور في المجاالت العلمية التخصصية وتطوير العلوم ،والتي هي امتداد للبحوث العلمية واإلضــافــات النافعة والمفيدة في تلك المجاالت ،لكنه يؤكد على مبدأ الريادة واإلتيان بشيء مخالف للسائد والمألوف في المجاالت الفكرية. الــمــنــتــجــون لــلــفــكــر الــفــلــســفــي وكــذلــك الــمــدركــون ألعماقه ومــغــزاه خــال التاريخ وعند جميع األمم هم عدد قليل من األفراد االستثنائيين .فــاإلنــســان مــن وجــهــة نظر البليهي ال ينشط ألنه يعرف ،وإنما يندفع للبحث والمعرفة إذا احتاج لهذه المعرفة، فالشاكّ يكون مطلبه االطمئنان للحقيقة. ويحسن هنا لو أن المؤلف أنار بثاقب فكره لماذا االنسان يشك؟ ولماذا االنــدفــاع؟ ما الذي يجعله يندفع وغيره ال يندفع؟ أسئلة في ظني لو عالجها المؤلف الكتملت اللوحة واتضحت الصورة. ويعرج المؤلف على العملية التعليمية إذ يرى أن التعليم النظامي ،التعليم اضطرارا،
إبراهيم البليهي
يستغرق ثلث أعمار األجيال ،ومع ذلك فهو الخادع األكبر ألنه تعليم يؤدي إلى المهنة، لكنه ال يؤدي إلى المعرفة التي تليق باإلنسان. حتمية الثقافة تولد ما يسميه المؤلف بالعقل الجمعي؛ إذ تسود مفاهيم الفكر الثقافي نتيجة الــتــوارث بين أفــراد وفئات المجتمع ،فيصبح الفرد يفكر بعقلية الجميع ويدور في فلكهم ،وال يمكنه أن يخرج على ما هو مألوف ومعروف ،وإال اعتبر مارقا خارجا عــن منظومة الفكر الجمعي .هــذا العقل الجمعي وكذلك العقول الفردية محكومة بما يسميه الباحث قانون القصور الذاتي. ألن الثقافة هي الذات ،فبالتالي ال شيء يعلو على الــذات؛ ومن هنا ،تولّد القصور وعدم التطور وأصبح التدهور أقرب؛ ألن التدهور سهل ومتسارع بفعل الجاذبية الثقافية؛ أما التطور والتقدم فيحتاجان إلــى قــوة دافعة رافــعــة ويتطلبان جــهــدا وصــبــرا ومصابرة وتعامال ذكيا مع المقاومة الفكرية العصية. الجهل نوعان :بسيط ومركّب .فالبسيط العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
37
تــمــلــؤه الــمــعــلــومــات ،أم ــا الــمــر ّكــب فيحتاج فيلسوفا خارجا عن الثقافة السائدة ومنقلبا عليها .إال إنه المخلّص على حسب المؤلف ال ــذي ينقذ الــبــشــريــة مــن معضلة الجهل المركّب. ويرى البليهي أن االنسان كائن تلقائيّ حسيّ نفعيّ عاطفيّ انفعاليّ ،تتحكم به البرمجة التلقائية والمشاعر العميقة والمتطلبات النفسية والجسدية ،وال يرتقي إلى مستوى الموضوعية العلمية والفكر المحض إال إذا أمضته رغبة حادة بالتحقق ،وهذا في غاية الندرة ..وهو بهذا كأنه يتكلم عن جبرية من نوع جديد .فإذا كانت نظرية الجبرية ترى أن كــل شــيء معد مسبقا ،وأن استجابات اإلنسان هي نتيجة لتلك الجبرية الخارجية؛ فالمالحظ أن الكالم هنا عن جبرية الثقافة الــتــي يتبرمج بها اإلنــســان وتُــسـ ّيــر سلوكه وتصرفاته وجبرية مشاعره العميقة التي بال شك هي نتاج المحيط الثقافي الذي بقيمه ومعاييرة يحدد نوع المشاعر ،ومتى يمكن التعبير عنها وبأي صيغة وعلى أية حال.
38
المقترحة ،نظرية التلقائية ،ويسوق البراهين واالستشهادات ليثبت تلك التلقائية .ومع أن هذا أمر طبيعي ومعروف لدى الباحثين عموما ،إال إن ذلك المنهج كان قد تعرّض لــه المؤلف وهــو ينتقد تلقائية مــا يسميه التعلم اضــطــرارا« .فاإلنسان كائن تلقائي تــحــركــه الــبــرمــجــة الثقافية الــتــي صاغته تلقائيا كما تحركه رغباته واحتياجاته ..إال إن المعرفة وسيلة لتحقيق ما تقرره اإلرادة بينما اإلرادات متضاربة؛ فالصراعات هي صــراعــات اإلرادات ،أمــا المعلومات فهي لخدمة هذه اإلرادات ،فاإلنسان يبحث عن المعلومات التي تعزز مواقفه ،أما المعلومات الحيادية فتمر دون أن ينتبه لها ،ومن غير أن يعيرها اهتماما ...ص .»39 ويقرر البليهي أن التعلم اضطرارًا ال يقود إلى التطور كما يراه هو ..وهو كسر الطوق الثقافي المتحكم بسلوك اإلنسانية وإدراكها ووعيها .حتى جعلتهم أسرى ومحكومين لتلك الحتمية الثقافية .ويشير إلى أن الناس خالل القرون وقبل ظهور العلوم الحديثة حققوا نجاحات عملية عظيمة ورائعة كاألهرامات وسور الصين العظيم ...اما اكتساب الناس للسلوك المتحضر في المجتمعات المزدهرة فلم يكن نتيجة الدراسة والتعليم أو الوعي القصدي ،ولكنه يحصل تطبعاً من أسلوب الحياة المنضبط بالنظام وبالمؤسسات.
ويرجع المؤلف مرة أخرى لموضوع العقل الذي ذكر في السابق إلى أنه ليس جوهرًا يولد مــع اإلنــســان وإنــمــا هــو نتيجة حتمية للثقافة ،فيذكر هنا أنه -أي العقل -قدرة عملية وليس جهازا معرفيا ،أي ليس جهازا للتفكير ،وإنما جهازا نفعيا يستجيب بصورة ويقدم المؤلف وصفًا رائعا لحال الناس تلقائية مرتبطة بمطلب البقاء؛ أما التحقق وهــم متبرمجون ومنتظمون فــي حياتهم المعرفي فهو مطلب طارئ. اليومية ،ولكن ما إلى أن ينحل هذا النظام ويستمر الــمــؤلــف فــي مناقشة نظريته حتى يندلع السلوك األناني ،ويشيع سوء الفهم، العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
الكيانات الثقافية كيانات متمايزة
يــرى البليهي أنــه نظرًا ألن كل فــرد في المجتمع يتشرب الثقافة السائدة في بيئته الثقافية ،وبالتالي يتشكل فكره تبعًا لذلك، مما ولّد مجتمعات عنقودية كل مجتمع يرى أنه هو األفضل واألصــح ،وينظر إلى غيره من المجتمعات على أنها على خطأ وقد جانبت الصواب .هذه الصورة ولدت التنافر بين المجتمعات ،بل الحروب واللجوء إلى منطق القوة واإلخضاع .ويرى أنه لكي تتحرر اإلنسانية من هذه المعضلة وتعيش بتناغم وانسجام مع المجتمعات األخرى ،عليها أن تتخلى عن تلك الثقافات السائدة وتتجه إلى التفاهم واإلقناع مع المجتمعات األخــرى. التكوّ ن التلقائي للعقول الفردية على قادة الفكر والفعل في العالم التركيز يؤكد المؤلف مرة أخرى أن العقل ليس على تحرير اإلنــســانــيــة مــن رك ــام التاريخ جوهرًا ،وإنما هو نتاج لتشرب القابليات التي لتستخدم العقل بدال من العضل. ولد بها اإلنسان لقيم وأخالقيات ومعايير ويبدو لي أن إشكالية محدودية المفكرين البيئة الثقافية التي يولد بها .إال إن هذا في العالم -كما أشار إلى ذلك المؤلف في التشرب أم ٌر تلقائي ،ويحدث منذ اللحظات غير ما موضع -لن تنسجم مع هذا التنظير .األولى للطفولة ،ثم ينمو ويتطور بنمو الفرد فإذا كنا نتكلم عن البشرية بتعدادها الذي في كل مراحل حياته ،وبالتالي هو يأخذ كل يتجاوز السبعة مليارات إنسان ،والمفكرون شيء من بيئته بشكل تلقائي ودون تمحيص، الفلسفيون ال يتجاوز عددهم الثالث خانات ويرى أن غيره من البيئات األخرى على خطأ فــي الــعــالــم وأنــهــم مــنــبــوذون ومــارقــون في وهو الوحيد الذي على صواب .وإضافة لهذه مجتمعاتهم ،فكيف تتقبلهم باقي المجتمعات الحتمية والتلقائية فــإن إمكانيات الجهاز وكيف يكون تأثيرهم؟! أضف إلى ذلك وجود العصبي الــذي تنتقل إليه المعلومات عن
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
وتتضارب المواقف ،ويعجز المتخاصمون عن التفاهم ،فيظهر عمق الخلل وفداحة العجز، نتيجة التلقائية الثقافية ،حين تنحل السلطة الضابطة في أي مجتمع.
ثوابت في كل األديان ومنها ديننا اإلسالمي التي تنص على «ولن ترضى عنك اليهود وال النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى اهلل هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من اهلل من ولي وال نصير» البقرة .120إال إن اإلسالم -وهو دين المعامالت ودين االخالق ودين العدل ودين اإلنسانية -يحترم العقول ،ويدعو إلى حُ سن التعامل ليس فقط بين المسلمين ،بل حتى مع غير المسلمين من الطوائف األخرى ،ولو التزم المسلمون بدينهم حق االلتزام من غير غلو وال تسطيح ،لسمت اإلنسانية وتسامى البشر ..ولنا شواهد كثيرة من سيرة النبي المصطفى صلى اهلل عليه وســلــم ،وسيرة خلفائه الراشدين من بعده والتابعين .وال يعني هــذا االنــغــاق وع ــدم االنــفــتــاح على الحضارات األخرى ،ولكن بما ال يتناقض مع ثوابتها التي تتعبد اهلل بها.
39
طريق الحواس ،هي أقل من جزء من المليار من كم الطاقة الكلية التي تنفث ذبذباتها في البيئة .وكما تختلف وتتمايز المجتمعات ،فإن األفــراد كذلك يتمايزون حتى داخــل البيئة الواحدة والنظام الفكري الواحد. تلقائية وحتمية تعدد اآلراء بتعدد األفراد إن البليهي وإن لم يناقش موضوع الفروق الفردية بشكل مباشر ،إال إنه هنا يقرر أن تعدد اآلراء بتعدد األفراد أمر تلقائي وحتمي. فالفرد الذي يولد بقابليات فارغة يتشرب ثقافة بيته السائدة بشكل حتمي ،ويتشربها تلقائيا من غير سؤال وال استفسار وال معرفة وال فهم لكل تلك المتغيرات في بيئته ،وإنما يأخذها على أنها مسلّمات ،ويتصرف تبعًا لذلك بتلقائية تامه يختلف عن غيره حتى داخل بيئته؛ وبالتالي فإن رأيه يكون مختلفا عن آراء اآلخرين داخل بيئته ،وإن كان في بعض وليس الكل ،إال أنه سيختلف طبعا عن غيره في البيئات والكيانات الفكرية األخرى بشكل أكبر. تلقائية وأولوية وأصالة العقل األداتي
40
يفرق هنا المؤلف بين نوعين من العقل: العقل األداتي والعقل الناقد الفاحص .ويرى أن العقل األداتـ ــي الــوســائــلــي هــو األصــل؛ ألنــه يتشكل ويتكون نتيجة البيئة الثقافية المحيطة والمغذية له عن طريق الحواس، يــعــزز ذلــك النظام التعليمي ال ــذي يكرس توجيهه إلــى العمل واإلنــتــاج والتركيز على وســائــل الــكــســب؛ كما تــعــززه أيــضــا النظم العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
االقتصادية والسياسية واالجتماعية التي تكرس اإلعــانــات واالمــتــيــازات للمتفوقين في التعليم اضطرارا ،كما يسميهم المؤلف وليس للتعلم اندفاعا .لقد أحالت تلك النظم كما يراها المؤلف الفكر والعلم والمعرفة إلى مجرد أدوات ووسائل عملية ومهنية من أجل التمكن والهيمنة .لقد استغرقت تلك النظم تفكير األجــيــال وكـرّســت اهتمامهم للتعلم اضطرارًا من أجل العمل ،ثم استهلكت حياتهم في األداء العملي المهني. أما العقل الناقد الفاحص ،فإنه أمر غريب وغير طبيعي ،ويتطلب التحوّل إليه تحوالت عميقة تبدأ بأهمية إدراك تلقائية وأولوية وأصالة التفكير األداتي الوسائلي أوال. ويشير الباحث إلــى أن الــنــاس يكونون عقالنيين نسبيا فيما يتعلق بالتعامالت اليومية ..أمــا التصورات ذاتها والمعايير والقيم واالهتمامات فال تكون محل شك وال مراجعة وال تحليل وال تحقّق. ويمضي المؤلف فــي مناقشة سلبيات العقل األداتي الذي يرى إلى أنه هو األصل؛ ألنه انبثق من تشرّب الفرد لثقافة الكيان الفكري الــذي نشأ فيه .هــذا الفكر الذي يكرّس التعلم المهني المحسوس من أجل العيش والــكــســب ،ولــيــس مــن أجــل التطور الــخــاق ،مــن حسن ّ والتحضر األخــاقــي الظن والعدالة الذاتية والمحبة الفطرية لــآخــر وغيرها مــن الـ ُمـثُــل العليا ..ويــرى قصور تلك العلوم التي تكرّس هذا النوع من التعلم االضطراري ألنها ببساطة جزّأت العلم
توضيح معادلة الريادة واالستجابة الريادة عمل فكري مبدع أصيل يقود التغيير الكلي في المجتمع .وليس كل عمل فكري مبدع يقود إلى الريادة بمفهومها الشامل الكلي. النظام الفكري
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
والعالم إلــى جزيئات متفتته؛ فأصبح من يدرس الطب يتخصص في جزئيات معينة، وكــذا بقية العلوم« .جزيئات العلوم بقيت ممزقة بين ماليين العقول» .ويمضي ليقول: « إال إن تكوين رؤية علمية عن العالم ال يمكن أن تتحقق بالتخصصات المجزأة ذات الهدف المهني العملي» ص .151إال إن المؤلف هنا يظهر تأثره بالفكر الفلسفي الذي يرى أن العلوم كلها ال بــد أن تنضوي تحت مظلة فكرية واحـ ــدة .وحــســب تعريف ديــورانــت للفلسفه كما يقتبسه المؤلف في صفحة 160 «هي محاولة اإلنسان إلى أن يفهم الوجود في مجموعهِ ،هي بحث جريء عن العلل األولى ِ لألشياء ومغزاها النهائي ،وعن معنى الحق والجمال والفضيلة والعدالة واإلنسان األمثل والدولة المثلى» .ولعل فلسفته هنا وتبريره لوجود نوعين من العقل أو العلوم هو نتيجة حتمية لمكر التاريخ عند هيجل.
التفكير الفلسفي ،وهو نظام القلة المفكّرةمن الفالسفة ،وهــو نظام فكري مغاير ومباين لكل الثقافات .وهو يمثل قطيعة مــع التلقائية ،وانفصاال عــن الثقافات السائدة في كل مكان .ويتخلق هذا النظام بفعل الشك في النظام الفكري التلقائي وحرقة األسئلة حول الوجود. نظام التفكير في التعليم الجمعي .هذاالنظام مزيج من النظام التلقائي والنظام الفلسفي فهو يأخذ بالنظام الفلسفي فيما يتعلق بالعلوم والتعليم ،ولكنه يبقى محكومًا بالنظام التلقائي فيما عدا ذلك. العقل جوهر أم مكتسب تشير معظم الدراسات إلى أن العقل ليس جــوهــرا يولد بــه االنــســان وإنــمــا هــو نتيجة حتمية للثقافة السائدة .فكل مولود يولد على ينصرانه. الفطرة ،فأبواه يهوّدانه أو ّ فالفرد يتكون عقله تلقائيا من خالل ما تنقله حواسه من أسرته إلى دماغه ،ومن هذا التكون التلقائي انبعث الوعي تلقائيا. العقل في أصل وجوده قدرة عملية وليس جهازاـ فاستجاباته نفعية تلقائية مرتبطة بمطلب البقاء ،أمــا التحقق المعرفي فهو مطلب طاريء ..الخ. لكل أمة نظام فكري تلقائي التوارث حتمي الهيمنة
-التفكير التلقائي وهــو النظام األســاس األوّلـــي والــعــام لكل البشر فــي مختلف األمم تخضع لنظام فكري خاص بكل أمة الكيانات الثقافية .إال إنه التبرمج بكل قيم المجتمع ومعاييره وعــاداتــه ،دون (كيان ثقافي) يتم توارثه بشكل حتمي. تمحيص أو سؤال. األمة مملوكة لثقافتها وليست مالكة لها العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
41
وال يمكن تغيير تلك الثقافة أو التخلي عنها، االستجابة هــي قبول األفــكــار الريادية فالتحضر والــتــط ـوّر ال ّ ولكن يمكن استغاللها من داخلها بتضخيم والعمل بموجبها. بعض قيمها وتركيز االهتمام على ما يخدم يحصل إال بوجود عنصرَيّ الريادة واالستجابة التوجّ ه الذي يراد له إلى أن يسود. الكافية. الثقافة تعزل المنتمين لها عــن إدراك طبيعتها .وكــل ثقافة مستقلة عن الثقافات إرادة -نظام فكري -استجابة -تطور. األخرى وال تقبل التزاوج معها ،وإنما قد تتفرع معوقات االستجابة الكافية وتنقسم إلى مذاهب وطوائف .كما أن توارث الثقافة أمر حتمي وليس اختيارياً ..ولنا في .1طبيعة اإلنــســان نفسه .فاإلنسان كائن النسيج االجتماعي األمريكي خير مثال. تلقائيّ حسيّ نفعيّ انفعاليّ ،تتحكم به البرمجة التلقائية والمشاعر العميقة العقل ال يعمل طليقا ،وإن هذا التقييد والمتطلبات النفسية والــجــســديــة ،وال القوي العميق هو معضلته الكبرى. يرتقي إلى مستوى الموضوعية العلمية تبعا للنظام الفكري تكون الريادة والفكر المحض إال إذا أمضته رغبة حادة الــريــادة في مجال محدود ضمن نطاقبالتحقق؛ وهذا أمر في غاية الندرة. المجال الذي يعمل به اإلنسان. .2النظام الفكري الذي ينشأ فيه االنسان. والحس ّ الــريــادة الخارجة عن المألوففلكل أمــة نــظــام فــكــري خــاص تلقائيّ المشترك؛ كالمخترعات ،وكروية األرض. التوارث وحتميّ الهيمنة. نموذج الريادة واالستجابة
ال ــري ــادة الــفــكــريــة الــتــي تكسر اإلط ــارالثقافي السائد وتــؤدي إلى نقلة فكرية كلية في المجتمعات؛ كالريادات الفكرية الفلسفية. تكون الريادات
42
.3قانون القصور الــذاتــي .حتمية الثقافة تولد العقل الجمعي؛ إذ يصبح الفرد بعقلية الجميع ويدور في فلكهم ،وال يمكنه الخروج عن ما هو مألوف ومعروف ،وإال اعتبر مارقا خارجا عن منظومة الفكر الجمعي .هــذا العقل الجمعي وكذلك العقول الفردية محكومة بقانون القصور الذاتي؛ إذ ال شيء يعلو على الذات.
الريادات في عمومها تحدث دون تخطيط. إنها عمل فكري تحدث بشكل تلقائي تنساب انسيابا وتأتي كإلهام .وكما يقول نيتشه: .4الجهل المركّب .فالناس يندمجون في «الفكرة تظهر عندما تريد هي وليس عندما حياتهم ويتوارثون ثقافات مجتمعاتهم، أريد أنا». وي ــرون أنها هــي األصــح واألصــلــح ،وما س ــواه ــا م ــن ثــقــافــات غــيــر صحيحة. االستجابة العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
وتنشأ تبعا لذلك الصراعات والحروب والمشكالت بسبب ذلك الجهل المركب الذي ال تفيد فيه المعلومات مهما كثرت. فالمعلومات تمأل وتجيب الجهل البسيط .9السلبية التي ينظر بها المجتمع للرواد. فقط ،أما الجهل المركّب فيكمن عالجه لكل فعل مخالف لما اعتاده المجتمع ثمنه في الفكر الناقد الفاحص الممحص. وضريبته .فالخروج على قيم المجتمع .5نــظــم الــتــعــلــيــم ف ــي الــعــالــم .إذ درج ــت ومــعــايــيــره وأخــاقــه مــدعــاة إل ــى النبذ وتأسست تلك النظم على تعميق ثقافة والطرد والــبــراءة .ولكون اإلنسان كائن العمل واإلنتاج من أجل العيش ،فانغمس اجتماعي يميل إلى مجتمعه ويانس بقربه الــنــاس فــي األعــمــال ،ولهثوا وراء لقمة ويستوحش بالبعد عــنــه ،فــإن الــخــروج العيش وانــصــرفــوا عــن التفرّغ للتفكير على المجتمع يتطلب شجاعة وصمودًا الناقد .فالتعليم اضطرارًا ال يقود إلى وإرادة قوية وقليلون هم الذين ينجحون التطور. في ذلك .وتذكر المصادر إلى أن الرائد .6تغلغل العقل األدات ــي الوسائلي .العقل المؤثر يتحلى بأربعة أوصاف :االستمرار األداتي الوسائلي هو األصل؛ ألنه يتشكل في منهجه ،واالستعداد للتضحية بوقته ويتكوّن نتيجة البيئة الثقافية المحيطة وماله وصحته وسمعته ،واالستقاللية في والمغذّية له عن طريق الحواس ،ويعزز فكره ،والصمود في موقفه. ذلك النظم التعليمية التي تكرّس توجيهه مالحظات فنية على الكتاب إلى العمل واإلنتاج والتركيز على وسائل الكسب. .1لم يذكر المؤلف منهجيته في الكتاب،
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
لوجود السواد األعظم من الناس مغتبطين به ،أما الجديد فهو مخالف للمألوف وال يعرف ما الذي سيترتب عليه.
.7التركيبة االجتماعية والسياسية التي تكرّس اإلعالنات واالمتيازات للمتفوقين ف ــي الــتــعــلــيــم اضـــطـــرارا عــلــى حــســاب .2الكتاب خال من قائمة المراجع مع أنه المتعلمين اندفاعا ،الذين يعانون الرفض مليء جدا باالقتباسات. والتهميش ونعتهم بأقذع األوصاف. .3لم أجد توثيقا لالقتباسات في الكتاب من .8طبيعة مقاومة التغيير .اإلنــســان عدو حيث ما جرت عليه منهجيات التأليف! ما يجهل ،يستوحش من الجديد وينفر من غير المألوف ويستصعب الجديد .4 .الكتاب مليء باالنتقاد الكبير للتعليم النظامي وللمتعلمين اضطرارا وألصحاب الحس هي التي ثبتت المألوف ّ فطبيعة ألنه اختبره وتفاعل معه وشعر باالطمئنان الشهادات. وذلك أوجد تكرارًا كثيرًا لبعض المفاهيم امتأل بها الكتاب.
*
كاتب من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
43
شتيوي الغيثي
تب ُعني" في ِ ديوانه األول "ال ِظ َّل َي َ ُ ُ وإشراقات الرؤى اإليقاع غنائيات ِ
■ أ.د .محمد صالح الشنطي*
الديوان األول
االبن البكر أثير عند والــده؛ فهو الذي يمنحه صك األبوة ويشعره أن الحياة عطاء ،وأن للعطاء معنىً يفوق المعاني كلها؛ ويشعره أن وجوده لن ينتهي بانتهاء عمره؛ بل يظل أثره ماثال في إبداعه. وكذلك الديوان األول للشاعر بطاقة هوية ووثيقة ملكية؛ وبشارة باآلتي؛ من هنا آثــرت أن استشيم لحظة اإلبــداع األولــى؛ فغيمتها مغدقة ،وبرقها لن يكون ظليل كم تفيّأت ظالله ،فما انحسر ظله يومً ا، ٍ عالم خلّبا ،وشاعرها ينتمي إلى ٍ وما خذلتني بروقه التي طالما قرأت في ألقها البشارة القادمة؛ بل جادت سماؤها بإذن ربّها بديمة مدرار ..وبباقة من اإلبداع لها عبير المسك ونشر الورد. فــي ديــوانــه األول (ال ظــل يتبعني) يتبدّى الشعور بــالــذات لــدى الشاعر شتيوي الغيثي ،ومنذ العنوان يساورنا تحس بالعزلة ُّ الشعور بأن األنا الشاعرة وتضيق بالغربة ،فهو وحده يمضي بال ظلٍّ وحيدًا حتى من أفياء شجرة تشعره يحتمي بها من وقدة الحرّ.
44
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ومنذ اإلهداء ،يستبد به قلق الوجود، فهو يهدي الــديــوان لوالديه الــذي كان مجرد حلم فــي مخيلتهما ،ويــرجــو أن يــكــون خلقا ســويــا كــمــا تــــراءى لهما، فتحقيق الـــذات أمــر يشغل الشاعر، يبحث عنها كونًا ماثال في اآلخر الذي هو مرآته ،وبخاصة األنثى ،التي يرى أنها علة الوجود وتمام الكينونة؛ فهو
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
شتيوي الغيثي
يشعر أن إدراكـــه لصنوه الــذي يتوق إليه ،فيدلف إلى عالم الواقع ،بعيدًا عن األحالم ويتوحد فيه حدَّ الفناء الصوفي ،هو اآلخر الوردية التي تتألق فيها األنثى ضياء وبهاء. األنثى المعشوقة ،كل ذلك يأتي في مرحلة التوحد والفناء ّ تشكّل الــوعــي بالحضور الحقيقي ..حتى في قصيدته األولى في الديوان الموسومة إذا تم له ما أراد ،بدأ يخرج من قبو الذات ب (ت ــصــوّف) ،يتوجه الــشــاعــر بكليته إلى ليستكشف ما حوله ومَن حوله. مخاطبة اآلخر األنثى ،فهناك ركنان أساسان البحث عن الذات ف ــي الــقــصــيــدة ،ضــمــيــر ال ـ ــذات الــشــاعــرة يتكون الديوان من ثماني عشرة قصيدة؛ المخاطب (بكسر الطاء) ،وضمير المخاطبة بعض هــذه القصائد تتعلق بالمرأة وتنتمي (بفتح الطاء) من أول القصيدة إلى آخرها، إلى مرحلة من العمر تتألق فيها الذات في والقافية المطلقة تنتهي بياء المتكلم في بحثها الــدؤوب عن صنوها اآلخر ،وتنخرط مجملها ،وما بين الضميرين تنهمر النجوى في حالة وجدانية أشبه بنوبة عشق تجذب مــن األنــا الشاعرة فــي طقوسية تصل إلى الذات إلى محيط المعشوقة التي تتحول إلى درجة االبتهال ،تتوق للتوحّ د والفناء في فيض كائن نوراني ،يضيء ظلمة القلب ،ويبدد حزن سخيّ للتداعيات التي تنثال بعفوية ،مفردات اللفت الفؤاد؛ وأمــا البقية الباقية فيبدو الشاعر عاشقة تتحدر في تلقائية دافقة ،ولعل ّ فيها وقد انعتق من قوقعة التوحّ د والفناء ،هذه الكثافة الملحوظة في استخدام أساليب ليرتطم بالتحدّيات التي تستثير كوامن روحه النداء التي تتخلّل النص ،وما يعقبها من ذكر ولواعج قلبه ..ليخوض صراعا مع معطياته ،كنائيّ عن المحبوب في توسّ ل واستسالم، العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
45
تتبدّى الذات واصفة موصوفة في تقابل واله؛ فهي تصف حالتها في ذروة األلم والنشوة، وتصف المعشوقة في أبهى صورها؛ فهذه المقابلة المزدوجة تعبر عن احتدام وجدانيّ متأجّ ج. وتأتي المشاهد متوالية تصوّر العاشق في تجليات طبيعية كونية:
ك ـف ـف ــت ع ـن ــي غ ـي ـث ــا ك ـن ــت غـيـمـتــه ظـ ـم ــآن أشـ ـ ــرب م ــن نـ ـي ــران ت ـن ــوري أتـيـتــك اآلن أسـتـسـقـيــك مــن ظمأ أدمت بعض تسطيري رمضاء حبك ْ وفي صور مجازية ذات طابع كنائي الداللة في صيغها االستعارية قريبة المتناول ،ولعل المقصود بكنائية الداللة ..إشارتها المباشرة التي ال تحتمل التأويل واالتساع في المعنى كما هي الحال في التعبير االستعاري ،وأخرى ذات بعد روحــي تستدعي نصوصا غائبة متناصة مع بعض ما جاء في كتاب اهلل العزيز ّ فــي شكل مــن أشــكــال التعالق النصوصي القائم على االمتصاص والتحويل ،وليس مجرد االقتباس متجاوزة المفهوم البالغي التقليدي ،غير مقيّدة بحرفية النصوص؛ بل مستلهمة روح النص متماهية معه ومحايثة له في جملة من التمثّالت والصور تستدعي أجـــواء روحــيــة خالصة تنسجم مــع عنوان القصيدة (تصوّف).
46
وفي المقابل ،تأتي بقية األبيات لتستأثر بعالم آخر يقابل تلك األجــواء الروحية التي تمثّلها في أبياته السابقة ،فهي بهجة الدنيا ورونقها ،وبحر من النور وزهر اللوز وفراشة، وما إلى ذلك من تمثّالت استعارية تستجلب أجـ ــواء المتعة الــبــاذخــة والــجــمــال األخّ ــاذ في صــوره الحسية في مقابل تلك األجــواء الروحية. ما بين النداء والتقرير والوصف الكنائيّ واالستعاريّ والتكثيف للفاعلين الرئيسين الذات واآلخر ،والتقابل بين المعنويّ والحسيّ ، والروحيّ والدنيويّ ،والمناجاة والتقريري، والوصفيّ والمجازيّ ،تتبدّى شعرية النص في إطار إيقاع تفعيالت البسيط التي تستوعب سردية الذات الطامحة إلى تحقيق وجودها.
وتستعلن هــذه الــظــواهــر األسلوبية في هذا الديوان في القصائد التي تبدو فيها الذات في شتّى تجلياتها ،ولكنها تخرج من عباءتها لتلتحم بالك ّل الجمعيّ وتصوّره طرفا آخر يقابل األنثى المعشوقة ،فتعيش مرحلة الــمــكــابــدة بين طرفين أحــدهــمــا يستكمل وجــوده من خالله ،واآلخــر يحول بينه وبين هذا الوجود ،يتمثل ذلك في قصيدته (أغنية في وجه الخناجر) التي تجسّ د هذا الصراع، فثمة ثنائية تقوم على التضا ّد بين األغنية، والخنجر بين لحن الحياة ولون الدم ،وهنا يــبــرز عنصر جــديــد هــو عنصر لــه طابع إن ــي تـصـ ّوفــت فــي عينيك منتشيا صراعيّ بين الفناء والبقاء ،وهــذه إضافة يــا ج ــذوة الـنــار كــانــت جــانــب الطور جديدة دخلت على خط العشق ،فبينما كانت محراب عينيك طول العمر معتكفا الثنائية في القصيدة السابقة قائمة على إل ـ ـيـ ــه ف ــان ـك ـش ـف ــي ي ـ ــا درة الـ ـح ــور التكامل والتوحّ د ،يضاف إليها عنصر جديد وطرف جديد يبدو عائقا في طريق التحقّق، صليت جنات عدن في شفاهك ..في خديك في ناهد من مرمر جوري وهذا يذكرنا ب(مورفولوجيا) الحكاية عند
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـث ــل نـ ـج ــد أن ـ ـ ــا س ــأحـ ـي ــا ط ــوي ــا حـيــن فــي الـحــب دائ ـمــا تمطريني أن ـ ــت أحـ ـل ــى ق ــدي ـس ــة فـ ــي ح ـيــاتــي فــاس ـك ـنــي ف ــي ق ـص ـيــدتــي وع ـيــونــي ويسلك النهج ذاتــه فــي تجلّيات األنثى المعشوقة ،فهي زهر الحياة ،وغزال ،ونخلة، وغابة زيتون ،وقصيدة ،ولحن ،وواحــة من ضــيــاء .وه ــذا الــتــراكــم الكمي القائم على التشبيه يحدث تحوّال كيفيًا يدعو الشاعر إل ــى الــبــوح بــمــكــنــونــات الـ ــذات وهــمــومــهــا، والشكوى من اآلخر الذي يعيق ويعرقل ،وتبدو الذات المعشوقة في مقابل الذات المعيقة؛ فالشاعر يتوق إلى االتحاد معها لمواجهة ه ــذا اآلخ ــر الــعــدوانــي ،ال ــذي ينهمك في وصفه كما فعل مع اآلخر األنثى المعشوقة؛ ولكن من خالل الحركة والفعل؛ وليس عبر
دث ـ ـ ــريـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي ،فـ ـ ـ ـ ــإن ق ـ ـل ـ ـبـ ــي حـ ــزيـ ــن وأنـ ـ ــا الـ ـح ــزن ف ــي ع ـي ــون ال ـحــزيــن و في قصيدة (سأعلن أنك السماء) محطة شعرية فاصلة ،يخلص فيها الشاعر إلى حيث المستقر ذروة الفناء في المحبوب؛ فقد اختار عبارة مركزية تتكرر على نحو منتظم ،وهي عبارة «سأعلن أنك أنت السماء» التي تتشكل في تجليات تعبيرية تظل مشدودة إلى داللتها األصلية ،وتتبدّى فيها إشارتان سيميائيتان: الجهر والرفعة ،فاإلعالن إيــذان بالحسم؛ فلم يعد األمر يحتمل اإلخفاء واإلسرار ،كما أن السماء تعني العلو والرفعة والظل ،فهي تعلو على ما عداها من الكائنات ،والمقاطع الــعــشــرة وفــضــاء القصيدة الكتابي الــذي يعيد توزيع أجــزاء البيت الشعري ،كل ذلك له دالالته؛ فعدد المقاطع عشرة ،وهو عدد يشير إلى التمام ،عقد مقفل هو تعبير عن اكتمال الموقف الشعري ،والمقطع المتكرّر أشبه بالطرقات المتتالية التي تنبّه إلى جدّية الموقف ،كما أن الميم الساكنة تومئ إلى السكون ونقطة االنتهاء ،فضال عن االتكاء على تفعيلة المتقارب التي تتحدّر متناغمة مع اإلقرار واالستقرار .وجدل النفي واإلثبات في القصيدة ظاهرة أسلوبية بارزة ،والفعل والذاتي وما يوازيه من فعل كوني ،والبدء والمنتهى ،ثم الالزمة الشعرية وتداعياتها ولوازمها ومفارقاتها ،واالستقصاء بمطاردة التفاصيل واإلحاطة بها ،وأفعل التفضيل، وازدواجية التشبيه على هذا النحو: العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
«بروب» في حديثه عن نحو الحكاية وبنيتها، وذلك حين يتحدث عن الحوافز والعوائق. ولكننا هنا في معرض تحققّ الذات والحيلولة بين األنا واآلخر المعشوق ،وهذا يقودنا إلى استحضار السياق على المستوى الفردي والــجــمــاعــي ،وال ــح ــراك الــســيــري الــذاتــي، والحراك التاريخي الجمعي؛ على أية حال.. فإننا فــي هــذه القصيدة ال تفارقنا نغمة المناجاة التي ترقّ نبرتها حتى تالمس سقف االستغاثة ،فثمة مَن يعمل على الحيلولة دون الهدف دون التوحّ د مع اآلخــر المحبوب، فيعلو الصوت وتتكاثف أساليب الطلب في صيغة األمــر الصريح الــذي يبدو التماسً ا ودعــاء في إلحاح ووتيرة متسارعة ومكثّفة ومتالحقة ،وتتبعها لهجة تتوسّ ل بالتقرير والتوكيد وذك ــر بدهيات يتم التذكير بها لطرفي الثنائية العاشق والمعشوق:
التقرير والتجريد ،فهم ربعه الذين ذبحوه، وهم الذين طعنوه وطردوه ،وهم الذين تآمروا عليه ،متعاونين مع الحياة التي ضيعته؛ وهنا يستحضر النص القرآني متمثّال به:
47
س ـ ـ ــأعـ ـ ـ ـل ـ ـ ــن أيـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا الـ ـ ـ ـس ـ ـ ــاح ـ ـ ــرة ب ــأن ــك تـسـتـلـهـمـيــن رحـ ـي ــق ال ــزه ــر ولـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون ال ـ ـ ـ ــزه ـ ـ ـ ــر وح ـ ـ ـ ـ ــب الـ ـ ــزهـ ـ ــر وأن ـ ـ ــك ت ـغ ـت ـس ـل ـيــن ب ـ ـضـ ــوء ال ـق ـمــر التحوّ الت والتجليات و فــي كــل مقطع مــن مقاطع القصيدة يتمثل الشاعر المحبوبة في مشاهد وتحوالت تستقصي تجلياتها؛ فهي أول أنثى وآخــر أنثى وكل النساء ،وهي السحب التي يسافر فيها قطرة من مطر ،وهي أجمل أنثى ،وهي الساحرة ،هي األميرة والقصيدة ،وهي طفل من ياسمين ،وهي الحبيبة كانت وما تزال، وبعد كل هذه التجليات يريدها خالصة له:
فكوني الحبيبة
48
المضافة إلى الفراشات والدالفين ،عبارة كوني الحبيبة «مــن خــال القصيدة» ،وهــذا التكرار الذي كوني الحبيبة يــثــري تفعيلة الــمــتــقــارب تنساب محتشدة وتــبــدو الــظــاهــرة األســلــوبــيــة األبـ ــرز في باالنفعال ،فضال عما أشرت إليه من تكرار قصائد الــشــاعــر المتعلقة بــاآلخــر األنثى للصيغ الطلبية؛ أمرًا ،ونداءً ،واستفهامًا. ّ التكرار واستثمار اإليــقــاع الناجم عنه في فــي قصيدة (لــقــاء) وإن جــاءت متأخرة ترديد الالزمة ،وخصوصا في أسلوب الطلب (األم ــر) ،ويعكس ذلــك َف ـوَرا ًنــا وجدانيًا إذا في ترتيب قصائد الديوان ،فهي تمثّل ذروة صح التعبير ،فثمة إلحاح واضح تأكيدًا على المرحلة الوجدانية التي تصل فيها الذات اشتعال اللحظة بالمشاعر الجياشة تجاه الشاعرة إلى قمة الفرح ،في مناجاة شاعرية المعشوقة؛ ففي قصيدة (عيناك مي) تتكرر تخال ضمير المتكلم الجمعي (نا) تعبيرًا عن عبارة «بعينيك مــي» ست مــرات في الستة االنصهار في بوتقة الحب ،فيتحول اللقاء إلى أسطر األولى ،وفي مطالع المقاطع الخمس حالة وجدانية فريدة في أجواء كونية يرفدها األول ــى مــن القصيدة ،و «بعينيك مــي» في الــزمــان والــمــكــان فــي تجلياتهما الربيعية، مبتدأ المقطع األول وختامه ،فضال عن تكرار والمناجاة الهامسة ،ولوازم الفرح من ضحك الصيغة النحوية التي تبدأ بالفعل المضارع ،وطرائف وحكايات وتوصيف يسترفد معين وتكرار الفعل تسقط ،وفي المقاطع الستة اللغة بحقول الــداللــة فيها ،فتأتي صــورة عاج قد نفخ فيه الشعر األخيرة تتكرر عبارة «أيا امرأة» ،ناهيك عن المحبوبة تمثاالً من ٍ مــفــردات أخ ــرى ،مثل «حتى ح ــدود» و«كــل» فاستوى كائنا شعريا في لوحة تشكيلية بالغة العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ق ـم ــرٌ ع ـلــى ط ــرف األريـ ـك ــة جــالـ ٌـس و أن ـ ــا اح ـت ــرق ــت ه ـن ــا كـ ـع ــود ث ـقــاب ـان ن ـ ّـض ــاح ـت ــان خ ـلــف نـقــابـهــا ع ـي ـن ـ ِ فـ ـ ـب ـ ــأي آالء ال ـ ـ ـهـ ـ ــوى أسـ ـ ـ ـ ــرى بــي ويـ ـ ـ ــدان مـ ـصـ ـق ــوالن خ ـل ــف ع ـب ــاءة ه ــل ي ـس ـكــن ال ـي ــاق ــوت ت ـحــت إه ــاب اســتــثــمــار لــلــمــفــردات الــقــرآنــيــة فــي نهج استعاري خصب في دالالتــه المرجعية عبر تناص يقوم على التمثل انعتاق العالمة من ّ قيودها اإلشارية لتحلق في فضاء جديد ،على ال إيقاعيًا بسيطً ا يلمحه الرغم مما يبدو خل ً المتلقي على نحو ما ،وذلك في قوله (أسرى بي) ،لقد استرسل الشاعر في تشكيل اللوحة بكل تفاصيلها ،ولكنها لوحة تنزاح مفرداتها وتتأبّى على التصوير المباشر لتغزو مناطق قصية ال يرتادها إال من صفت قريحته ،فلسنا أمام مشهد تزيّنه الخطوط واأللوان؛ بل نحن أمام صياغات استعارية ذات دالالت عميقة تتجاوز السطح الظاهر إلى العمق ملتقطة نبضا سريًا خفيًا ،فالعشب الذي ينبت في ً المسافة بين العاشق والمعشوق ،والحمام الــذي ينزل على غدير المحبوبة والصباح محراب الهوى والعشق ..لغة استعارية تلتقط دقائق نفسية بالغة الخفاء.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
البهاء ،واستوفى عناصر الحركة والصوت والــضــوء والــلــون ،وحــشــدهــا بعناية ونضد تفاصيلها بحرفية بالغة ،وأطلق بلبل التأويل من قفصه الذهبي ليحلق في فضاء المعنى كما يشاء:
بالقصائد التي يكون الخطاب فيها يتصل باآلخر الــمــرأة والمدينة ،بل تشمل مجمل الخطاب الشعري في الديوان أيضا؛ فالمدينة تتماهى مع المرأة في وجــدان الشاعر كما في قصيدته (صديقتي بــيــروت) ،فقد كان التكرار ظــاهــرة ب ــارزة فيها ،وهــذا التكرار المقرون بتوالي الصفات التي تبدو تمثالتها فــي القصيدة عبر التمظهرات المجازية، حيث يخلع الشاعر عليها صفات األنثى؛ فهي الصديقة والجميلة واألغنية والحرية التي تقابل وجها آخر للمدينة التي يصفها بنعوت مضادة ،وفي مقابل الفرح واالنطالق والحرية التي ينشدها الشاعر هناك النقيض الــذي يصفه الشاعر بمفردات تنتمي إلى حقل داللي مختلف. ويــصــرح فــي ختام قصيدته بــأن بيروت هي المرأة ،التي ال يمكن إال أن تكون كذلك متماهية في القصيدة باألنثى المعشوقة:
ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروت يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ص ـ ـ ــديـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـت ـ ـ ــي بـ ـ ـ ـي ـ ـ ــروت ي ـ ـ ــا ص ـ ــديـ ـ ـق ـ ــة ال ـ ـس ـ ـمـ ــاء ه ـ ـ ــل م ـ ـم ـ ـكـ ــن أال ت ـ ـ ـكـ ـ ــون امـ ـ ـ ـ ــرأة غيرك -صديقتي -تنام في األحشاء
وتمثل قصيدة بيروت نقلة رؤيوية وجمالية فــي الــديــوان؛ إذ ينتقل الشاعر مــن التعلق باآلخر األنثى إلى اآلخر المدينة التي تتماهى معها ..ولكنها ال تكونها ،ولكننا هنا ال نتحدث عن تطور في الزمان ،فقد تتزامن القصائد التي قيلت في المرأة مع األخرى التي قيلت في المدينة ،نستنتج ذلك من تاريخ إنشاء كل قصيدة كما أثبته الشاعر ،وهذا التزامن الذي المرأة والمدينة نلمحه له داللته التي تنتمي إلى مرجعيات وكما سبق ،فإن الظواهر األسلوبية التي ثقافية واجتماعية؛ ففي هذه المرحلة تتبدى لم تقتصر على ظاهرة التكرار فيما يتعلق اهتمامات الشاعر ومواقفه وتوقه إلى الحب العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
49
مشاركة شتيوي الغيثي في أمسية شعرية بمدينة سكاكا
50
للمرأة والــوطــن والحرية واالنــطــاق .ففي قصيدته (نقوش على جدار حائلي) ،تنتصب حائل مدينته األثيرة حبيبة يبثها نجواه ويشكو همّه ،إنها الصدر الحنون الذي يأوي إليه بعد أن حالت الحال وانــهــارت اآلمــال أو كــادت؛ ثمة إيقاع حزين ،ومعجم حزين ،وأنين يسكن الكلمات ،وهي في نظري من أجمل القصائد في الديوان؛ ألنها تعبر عن تجربة الصدمة التي واجهت الشاعر حينما فــارق المدينة، فنأَتْ به عن حضن األم ورفقة الصحاب، وقــذفــت بــه فــي أحــضــان الغربة بعيدًا عن نوع جديد األهل والخالن ،يعاني احتدامًا من ٍ لم يألفه؛ وهنا ،تتبدّى لغة الشاعر محتشدة بنبرة اعترافية شجيّة باكية ،مستثمرًا مخزون الــذاكــرة الــذي يتدفق بتفاصيل حميمة عن المكان والــزمــان البشر ،وال تفرقه ظاهرة التكرار الملحاح ،فهو يتلظى بجمر العاطفة المشبوبة ،يتقرّى المالمح ويقتنص المواقف في متابعة دؤوب ،وتداعيات تنهمر بال هوادة؛ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ولذلك ،يتبدى التداخل بين الصيغ األسلوبية التي تتجسّ د فيها الدهشة عبر ك ْم الخبرية التي تتدفق ،والصيغ االستفهامية بما تثيره من قلق وزعزعة لما و َق َر في النفس واستقر في القلب ،وليس غريبًا أن تُراوِ ح األسئلة بين تلك التي تتساءل عن المكان ،واألخرى التي تستفهم عن الحال (أين وكيف):
ك ـ ـيـ ــف يـ ـ ــا ح ـ ــائ ـ ــل أص ـ ـ ـ ـ ـ ـوّر مـ ـ ــا بــي وحـ ـ ــروفـ ـ ــي م ـ ــن قـ ـه ــره ــا خـ ــرسـ ــاءُ أي ـ ـ ـ ــن ح ـ ــريـ ـ ـت ـ ــي ال ـ ـ ـتـ ـ ــي سـ ــرقـ ــوهـ ــا كـ ـي ــف مـ ــاتـ ــت دفـ ـ ــاتـ ـ ــري الـ ـ ــزرقـ ـ ــاءُ جماليات االلتفات جماليات االلــتــفــات تتبدى فــي تحوّالت الضمائر وتــنـوّع الخطاب؛ فهو إذ يخاطب حائل بوصفها عشيقة معشوقة ،في تشكيل لغوي متماوج ،يتمثل في ذلك التساؤل الحائر ثنائي األطــراف (وجهك أم الحب) ،اقتران جميل بين الجمال الحسي والمعنوي ،اسم
كـ ــم ح ـب ـي ــب خ ـب ــأت ــه فـ ــي ض ـم ـيــري خـ ـطـ ـفـ ـت ــه ال ـ ـ ـمـ ـ ــدائـ ـ ــن ال ـ ـهـ ــوجـ ــاء كـ ـ ــم ص ـ ــدي ـ ــق نـ ـسـ ـيـ ـت ــه مـ ـ ــن زمـ ـ ــان أحـ ـ ـ ـ ــرام عـ ـل ــى ال ـ ـصـ ــديـ ــق الـ ــوفـ ــاء وفي قوله «أح ــرام» .إشــارة شفيفة لنص يــومــئ إل ــى الــغــربــة وال ــح ــزن الــلــتــيــن عانى منهما أحمد شوقي فــي منفاه ،مستدعيا قــولــه « أح ــرام على بالبله الـ ــدوح» ،حركة لغوية داللية تقابل جَ يَشانا داخليًا هائالً، وبــعــدهــا ..تلك مكاشفة شاكية باكية عبر جملة من االستفهامات الزاخرة بالمفارقات غير المألوفة التي تتناقض مــع المنطق؛ من هنا ،كانت هذه السلسلة المتوالية التي تزخر بأساليب االستفهام ،وهــذا التعاقب بين أساليب الطلب من نداء واستفهام وأمر، ثم ألوان من األخبار ما بين ابتدائي وطلبي وإنكاري ونفي وتكرار ،جَ يَشان لغوي يعبر عن لهيب يندلع بين الجوانح في لحظة شعرية ملتهبة بــشــواظ وجــدانــي ،ثــم تــأتــي لحظة الختام حيث يُلقي الشاعر بنفسه في أحضان مدينته المعشوقة.
وبعد حائل تأتي جــدة؛ وإذا كانت حائل المعشوقة األثــيــرة ،فهي فــلــذة مــن فلذات هــذا الكبد المعنّى ،لــه مــن الحب مــا يفي بحق الوفاء؛ وفــاء األبناء لآلباء واألمهات. لــم تكن المناسبة إال الصاعق الــذي فجّ ر مكنون المشاعر المخزونة في الفؤاد حبا وانتماء .وكما هي الحال فيما يتعلق بالحب األول (حائل) فإن ولَهًا بتراب الوطن وعشقًا للماء واليابسة فيه جعل النداء المتكرر ضربًا من ضروب التعبير عن التعلق والتعالق بين الشاعر وإحــدى حبيبتيه (عينيه) ،فكانت اللوازم األسلوبية التي استثمرها في تجسيد حبه لحائل هــي ذاتــهــا فيما يتعلق بجدة، وإن كان الحب للحبيب األوّل أش ّد اشتعاالً شبكة متواشجة ال ــدالالت والتشكيل ما وأورى زن ــدا ،فقد ك ـرّر الــنــداء وكــرّر البوح بين المفتتح واالختتام :تأمل لفيْض الجمال (آمنت) ،وكرّر االعتراف (رميت) ،وكرّر ألوانًا العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
الذات واسم المعنى ،ثم ذلك التذييل الذي يجيب عن السؤال مساويًا بين طرفي هذه الثنائية «تــتــســاوى فــي عيني األشــيــاء» ،ثم اإلفضاء عبر النجوى ،ومن ثم االلتفات في ـوق ال صــورة االســتــدراك الــذي يعبر عن شـ ٍ يريد أن تفوته شــاردةٌ وال واردةٌ فيه تعلقا بكل التفاصيل ،وهذا االرتباك أمام الحبيبة عبر التساؤل المتلهّف واالعتراف الصريح، ثم العتاب اللطيف عبر أسلوب ك ْم الخبرية للتذكير والتكثير:
والجالل ،ثمة مناجاة واسترجاع لجميل األيام واألح ــام ،وهيام في فضاء الــذكــريــات ،ثم شكوى ونجوى واعتراف واستدعاء لمدائن الــحــزن ،واستشامة لبرق خلّب فــوق أرض العروبة التي تمزّقت أشالء ونفثات مصدور، وتمركز في أتون الهم العام بعد أن لم يعد يطيق همّه الــخــاص ،ومالمسة لسديم لم يعد قــادرًا على تبيّن تضاريس المكان فيه وال الزمان ،وسخرية ُمــرة وكوميديا سوداء وقاموس متهرّئ يبتذل المعاني في مراوغة ال نظير لها ،ومذلّة وكبرياء كسير تحت سنابك الخيول الجامحة ،وبعد ذلك كلّه ذاتٌ متعبة تستلقي في أحضان حبيب نأى فكانت الّلقيا، بعد أن اصطلى بجمرة القهر والبكاء .هذه الحالة الشعرية المتلظية أنجبتها طرائق في الخطاب الشعري ،احتشدت على نحو خاص بأساليب متواشجة لتفضي عالئقها بهذا كلّه في موقف شعريّ وجدانيّ مشتعل.
51
من الطلب ،وكــان التعبي ُر االستعاريُّ سي َد الشعراء ،غضبة مضرية عبر تداعيات تنهمر الخطاب والتماهي مــع الــمــرأة المعشوقة بال عائق في تدفق متسارع غزير. أيقونة المحبة: لقد سلك الشاعر سبيل التقرير وأساليب
نــاديــت للوطن المسجور فــي دمنا كالنحل يطلع من صوت الجماهير
نــاديــت يــا وط ـنــي ..يــا نخلةً بفمي ه ـ ــا أزلـ ـ ـ ــت عـ ـ ــذابـ ـ ــات ال ـع ـص ــاف ـي ــر الهم العام والهم الخاص أما قصيدة (كلمات من ذاكرة الحفر) ،فهي تنعطف بقصائد الديوان نحو اله ِّم العام ثاني ًة دون أن تنعتق من إســار التجربة الخاصة؛ فيستبدل الشاعر بضمير األنــا ضمير الـ (نحن) خطاب المتكلم للجماعة؛ فهو يبدأ بالقول نتذكر ،فالضمير (نا) و(نحن) تتكرر في القصيدة في توال وتواتر ،ويأتي االلتفات من ضمير المتكلمين إلى ضمير المفرد(أنا)، فلم يعد المخاطب مجهوال؛ بل هو األنثى األطهر واألجمل ،ثم ينعطف ثانية بعد هذه االلتفاتة إلى الخطاب الجمعي ،وتكاد تتوارى أساليب الطلب االنفعالية لتح ّل محلها أساليب الوصف والخبر والتقرير في بوح شجي ،ثم ال يلبث الخطاب أن يتجه اتجاهً ا آخر جديدًا يقترب من الهجاء الذاتي ..على نحو ما نرى عند نزار قباني وأحمد مطر ومظفر النواب، ولعله يمارس قسوة تالمس السقف األعلى في الهجاء في قوله:
نـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ــن مـ ـ ـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ــورون حـ ـ ـ ـف ـ ـ ــرا نـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ــن م ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـ ــورون نـ ـ ـ ـخ ـ ـ ــرا كــال ـب ـغــايــا ..نـلـعــق األح ـج ــار صـبــرا كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرايـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا نـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـس ـ ـ ــر
52
ويشتد وجيب الغضب لينفجر معجمًا مفرداته الهجائية تالمس سقف مَن ذكرنا من العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
التوكيد والتشبيهات القريبة ،التي تناسب هذا الخطاب الشعري المتمرد على الحالة الــتــاريــخــيــة بــر ّمــتــه ،والــتــشــبــيــهــات مباشرة وأدواتها تتكرّر في إيقاع جهير ،ويأتي ذلك عبر المجازات المباشرة ،ويتجاوز الخطاب الموجّ ه إلــى العرب لينال الشرق كله عبر الــزفــرات الــتــي تتبلور ن ــداء واستصراخا، ولذلك يخرج الشاعر في المقاطع األخيرة من مظلة الخبر إلى النداء الصريح المكتمل بأدواته كافة؛ لقد تحوّل الخطاب من خطاب استعاريّ إلى خطاب كنائيّ مباشر يعتمد على التراكم الكميّ الذي يتبدّى من خالل التكرار:
«عرب نحن هنا عرب موتى هنا عرب كسلى هنا» ثم:
«أيها الشرق الذي يمطرنا عنقود نار أيها الشرق الذي في كل حال يتقنفذ أيها الشرق الذي يحلم في الليلة أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــولـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة» اللغة الشعرية واللغة الفورية ينحو الشاعر في هذا الديوان األول منحى الشعراء الذين نزلوا بلغة الشعر إلى الميادين والطرق ،ملتقطين حــرارة اليومي والواقعي والـــمـــتـــداول ،عــلــى طــريــقــة نــــزار وص ــاح عبدالصبور وأضرابهم واستلّوا إيقاعاتهم من نبض الناس العاديين ،وعمد إلى العبارة القصيرة الموقّعة وتداعياتها وانثياالتها، صيغة تتشكّل منها أشعارُه في أغلب قصائده
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
التفعيلية ،ويلتقط -مما هو متاح من نثريات الــواقــع المعاش فــي األســـواق والــطــرقــات- مفرداته الشعرية ،كما في قصيدته الطويلة (مسافرون في الزمن المسافر) ،فقد اهتم باإليقاع والترجيع والتوقيع اهتمامًا بــارزًا، وألــحّ كثيرًا في استثمار الدفقات الشعرية التي تتكرّر بمعان مختلفة وتفاصيل متباينة؛ ولكنها تصطنع أطرًا وتراكيب متماثلة ،واتّكأ على لعبة النفي واإلثبات ،لقد ترددت أنفاس ـوصــا فــي قصائده االنتقادية، ن ــزار ،وخــصـ ً مثل قصيدة (هوامش على دفتر النكسة)، مألوف سبق أن لمحناه في أشعار ٌ وهذا أم ٌر الجيل السابق من كبار الشعراء ،مثل غازي القصيبي (رحمه اهلل) الذي أشار إلى ذلك في كتابه (حياتي في الشعر)؛ إنها معطيات المرحلة التاريخية بالنسبة لألمّة ،تتسق مع تلك السن المبكرة للمبدع حينما يلتفت حوله، فيجد في أشعار هذه الطبقة من الشعراء ما يالمس أوتــار شعوره باإلحباط والقلق على مستقبل األمة .فتبرز هذه النزعة التي تجلد فيها الذات جلدًا مبرحً ا طمعا في إيقاظها.
إلى مَن رحلوا من الشعراء بعد أن أيقظوا اإلحساس بهذا الهوان التاريخي الذي تردّينا فــي شــبــاكــه ،أمــثــال الثبيتي؛ إذ عمل على االشتباك مــع نصه الشهير (سيد البيد)، الذي أصبح يعرف به بوصفه شاعرًا مبدعً ا، فهو الرمز والقناع ،وهو الخطاب والمخاطب، فالشاعر يخاطبه مستذكرًا دوره متلمسً ا خطاه مقتفيا أثره ،في رثائية جديدة تتجاوز التقليد ،وتحاق بعيدًا فتجعل منه أنموذجً ا ورمزًا متفاعال مع قاموسه الشعري ،وتراكيبه وصــوره الفنية وجماليات شعره ،فأساطير والطين والنخل عناصر داللية رئيسة في شعره ،وقد عمد إلى رسم (بروتريه) شعري يوضح قسماته الجمالية: له ّ
يا سيد الشعر يا أيها البدوي المسافر للشمس مثل هديل الحمام و مثل الزوابع
أصل فكما كان الثبيتي من الجيل الــذي ّ لــلــحــداثــة الــشــعــريــة عــبــر دي ــوان ــه الشهير (الــتــضــاريــس) ،الــذي وظّ ــف فيه األســطــورة وهــذا س ـوّغ -على نحو مــا -استدعاء الــشــرقــيــة الــبــابــلــيــة ،ثــم اجــتــرح أســطــورتــه التاريخ فــي مــراحــل التحوالت الكبرى في الخاصة ،صوّره شتيوي بطال أسطوريًا أيضا، األندلس وحواضرها: فهو سيّد البيد وسيّد الشعر ،وكأنه أبوللو، وهو المسافر للشمس ..فهو كائن أسطوري خمسة آالف سنة م ـ ّر كالزوبعة وهــدل كالحمام .وهــو عاشق ونحن في شتاتنا معشوق يعشق الشعر ويعشقه الشعر ،وهو نسير في عواصف الصحراء يسري حيًا في عــروق القصيد وكأنه نسغ تشتمنا قرطبة اإلبداع .وهو يفنى في ظواهر الطبيعة والكون تشتمنا غرناطة ويحل في عروق النخيل والمزارع. تبكي علينا دائما نافورة الحمراء
سيد البيد واألسطورة مــن قــصــائــد ال ــدي ــوان مــا ج ــاء عــمــود ًيــا وال يقف األمر عند استذكار المجد اآلفل تناظريا وعموديًا توزيعيًا ،أي أعيد ترتيب والع ِّز الضائع في األندلس؛ بل يتجاوز ذلك أجزاء أبياتها في فضاء الصفحة لينسجم مع العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
53
شكل القصيدة التفعيلية ،ومنها ما جاء على نظام التفعيلة .وليست هذه المسألة شكلية فحسب؛ بل لها دالالتــهــا ،وقــد الحظت من خالل قراءتي للتواريخ المدوّنة في ذيل كل قصيدة أن الشاعر كتب النصوص الشعرية في العقد األول من هــذا القرن الميالدي، وأن آخــر القصائد كتبت في 2010م ،وأنه فــي ديــوانــه الثاني قــد بــدأ مرحلة جديدة انعطفت بــه إلــى م ــدارج جــديــدة ،وتباشير هذا التحوّل تبدو في بعض قصائد الديوان؛ ففي قصيدته (صباحية إلى بلقيس) يستلهم التاريخ والــحــضــارة ..األع ــام والنصوص، وينفلت الخيال محلقًا في آماد بعيدة تزداد فــي القصيدة درجــة التكثيف ويصطنع ما يقرّب من تقنية القناع ،ولكنه يظل سائرا في المسافة التي تقع ما بين الكناية والقناع، فهو حاتم الطائي الذي يعقر حصانه إلكرام ضيوفه ،ومحبوبته بلقيس في تجلياتها ملكة تتهادى؛ ومن هنا ،جاء عنوان القصيدة الذي سبق ذكره:
حفيدة بلقيس استفيقي؛ فإنني أنا حاتم الطائي جئت مشرّدا عقرت حصاني للجميع تكرما ولكنهم قد أسلموني إلى العدا
وقد تحوّلت طقوسيتها إلى شعائرية جمعت بين عناصر متباينة تفجر مــفــارقــات لها أصداؤها الجمالية ،فضال عن أن القصيدة تخطو إلى مربع تستجلب فيها بعض مالمح التناص تتمثّل ّ أسطورية ،وبدت فيها ظاهرة النص الغائب الذي كان حضوره في مفردات وإشــارات إلى امتصاص للنص وتحويل له.. رغم كثافة حضوره ،غير أنه أكثر قدرة على البث الداللي في اتجاهات متعددة تنأى به عن المعنى المرجعي:
وعرشك يا بلقيس مليون هدهد يصبحه ،فاستأسري القلب هدهدا لديك بنيت الصبح سرحا ممددا قوارير نور منتهاك ومبتدا ويتسع مدى الثنائيات إلى مدى يتجاوز التقابل والتضاد ،إلى المفارقة التي تجمع بين أعناق المتنافرات والمتماثالت على حد تعبير عبدالقاهر الجرجاني ،فالمقابلة بين الملكة المدنية والشاعر البدوي يلتقيان في فضاء العشق:
أنا البدوي النائم بين نوقه تصبحه بنت المدينة بالردى إذا كان وجه الشمس يصحو فإنه بحسنك مشغول إلى آخر المدى
مالمح ملحمية في إطار غنائي: هذه القفلة التي أنهى بها قصيدته ،فجمع مقتربات جديدة فيها أشتات الــرؤيــة الشعرية التي تتجاوز وتــأخــذ الــصــورة عــنــده م ــدى أوس ــع من الغنائية التقليدية إلــى مــشــارف ملحمية الــمــجــاز الــبــاغــي؛ إذ تتشكل فــي مشاهد واضحة القسمات. وتجليات وإشــراقــات ،وتتعدد مرجعياتها، هــذه مقاربة مــوجــزة ،حــاولــت أن تحاور ويــســود نفس تــتــردد فيه إيقاعات ملحمية نــصــوص ال ــدي ــوان ،وتتبيّن بعضا مــن رؤاه تعمق غنائية القصيدة ،كما تبدو المناجاة وجمالياته. * أكاديمي وكاتب وناقد من األردن.
54
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ديوان «حين النوافذ امرأة» ألحمد اللهيب ٌ ٌ الحنين شواطئ مسفوحة على عبرات ِ ِ ■ هشام بنشاوي*
من قاموس الشجن ،اللوعة والفقد ،تنهل قصائد الشاعر والباحث د .أحمد اللهيب في أضمومته الشعرية «حين النوافذ امــرأة» ،وفي القصيدة التي تحمل اسم الديوان ،يكتب اللهيب ،بلغة وجدانية شجية مرهفة ،عن النوافذ المشرعة للسهر ،المتعبة بالنحيب ،الحالمة بالمطر ،حين تغفو الشوارع وتبتسم أضواؤها للغريب ،وترسم واجهة للحزن ،حينئذ تغتال شاعرنا األمنيات ،وتنزاح ذاكرة من الحنين ،ويهتف لنفسه« :الـحــزن مــن أمــر قلبي ،ومــا أملك الـيــوم إال قليال من الصبر وبعضا من الذكريات التي لم تزل ،فأنّى لقلبي ما تأفكون» ،وإذا انسربت قطرة للقاء ،ونفر زغب الحواصل عن نومة هانئة ،وارتشعت األنامل في مقبض النافذة ،والح ابتسام القمر ،وفرجة نهر تتماوج أمــواهــه في السحر ،مشى إلى طرف النهر حامال عصفورتين ،والذ بجبل النور ،مرتشفا الماء من حافة البئر، واقتحم البئر عابرً ا نحو النهاية. وفي قصيدة «جنة من زنابق أهدابها» ،أهدابها ،وتجذبه ناحيتها لتدخله إلى
يستهل أحمد اللهيب دخول هذا الفردوس مهبط األنــبــيــاء ،بينما حاجبها واقــف
بوصف عين المحبوبة ،التي تشبه انبثاق يحسب خطواتها ،لعل األمــيــرة تمسح الضياء على لوحة خالدة ،وحين تومئ أركانه بالسواد ،وتغدو أناملها كي تبارك يتهادى السكون إلى مهده ،ثم تولي إلى صهوته بالغناء؛ أمــا أهدابها فهي تظل
روحــه شــاردة ،أمــا المقلة فهي دنيا من تنافح عن ذبذبات النسيم ،وتغلق بوابة الثلج تغازلها ومــضــة الــشــمــس ،وتمدد الحُ سن لكي تنام العصافير دون عناء، العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
55
وتبسم في الصباح على نغم وسماء ،ويتجلى زئبق يتالشى إذا جاء الضوء ،وينمو البؤبؤ مثل ٍ مثل شجر الصنوبر حين تجف قطرات الضياء، في حين يسكب بياض العين الماء في مفرق التين ،يتلو لها ســورة ،ينثني حامال زهرتين، نجمتين ،ويضيء السناء ،أما الكحل ،فوحده يذهل فــوق الــصــراط فيدعو ،يصلي فيغفو. ويصف شاعرنا الــخــروج متسائال« :أتــرانــي وقفت لها فرحة حين قبلني وعدها؟! أتراني انتهيت إلى شاطئ الدمع أتلو انكساري لها…؟! برجاء …». في قصيدة «أحرف ضائعة» يرثي شاعرنا جرحنا العربي ،الــذي يتمطط من الماء إلى الماء؛ فلسطين ،وهــو يتأمل خارطة الكون، باحثا عن أحرف ضيعها التاريخ ،يبحث عن فــاء كمحاق مسكين ،يبحث عن الم ال تشبه كــل الــامــات ،حــمــراء الــلــون ،وتنق كضفدعة في آخر ليل ،وتنام على كف الحجر النابض بالقهر ،وتضم السين ،كي يولد طفل يحمل سكينا أو حــجــرا مــن طــيــن ،ويــــردد« :نحن الــزيــتــون ،نحن الزيتون « ،ويظل يفتش بين األنهار وبين األشجار وفي الوديان باحثا عن حرف الطاء ،لكي يمسح عن وجهه آثار الحزن في يوم قان كليالي الصيف الحمراء ،في يوم تحتفل فيه الــمــدن العربية باللون األحمر، الذي لم تعد حمرته ترمز إلى الثورة وال الدم، بل لونا للدفء في مدن عاجزة انهزامية ،ال
56
تعرف كيف تحزن ،وأقصى ما تملك الشجب العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
أحمد اللهيب
أو الصراخ أو الرقص ،مدن تضم آالفا تشرب
في قارعة الطرقات ،مثل كالب تلعق ما تلقى
من جيف جوفاء .ويعاود الشاعر البحث عن
الياء الخرساء ،التي تسكن قاع البحر ،وتبوح بآالف اآلالم عن عشق الوطن المدفون بآالف األوراق ،ومــائــات المؤتمرات البلهاء ،بينما تضيع الــنــون ،أو تسقط ســهــوا مــن الــوطــن،
والزيتون؛ الشجرة -الرمز:
يا وط ..آه الزيتو.. أينْ النونْ ؟ ضاعت في اآلفاق، ْ ْف أبي ْه طفل يتوارى خل َ ٍ في صرخةِ آهٍ بلْ أينَ فلسطين؟ آه بلْ أينَ فلسطينْ ؟ وفــي قصيدته «قـــراءة فــي أروق ــة لندن»،
ويرثي غربة اإلنسان المعاصر وخواءه الفكري اإلقامة والــرخــاء ،لكنه «يستريح» في السفر وبوهيميته ،حيث نقرأ:
رقصت.. ْ هنا أُنشودتي مت ملتحف ًا شحوبَ اللّيلْ الص ُ يجيءُ ّ فيحكي قص َة المأساةِ وطن تشر ُد ُه غرو ُر الذّ ات عن ٍ الطرقات، كيف يُضاجعُ ّ اإلنسان َ ِ عن يوب اللّيل، ويبحث في ُج ِ ُ ُفتش عنْ هُ ويتِ هِ عن اللّذات، ي ُ وعنْ شيءٍ يُخفّ ُف لوع َة ال ّزفَراتْ .. يشع الفخرُ في عينَيه، وطن ُّ هنا ٌ اغتسلت بقايا الرّوح، ْ هنا ُك األفراح، هنا تغتال َ جوف هذي األْرض ُ ويبسمُ أُسارقُ دهش َة التّاريخ، تمط ْت في حواجبِ هِ ، ّ فتَلمعُ في دخيلتِ ه: هنا األمجا ُد والتاريخ هنا األمجا ُد والتاريخ.. فآهٍ لوع َة الماضي الشعَب، وطن تُشتّتُ هُ دموعُ ّ على ٍ األنفاس، ْ حرارات منَ ٌ وتمسحهُ ُ شعب، وطن وال ٌ فال ٌ بل اآلهاتْ .. وف ــي نــص «م ــا لــم يقله الــشــعــراء ...من
والطلب ،هكذا إذاً نلمس انحرافا واضحا في
المعنى الــذي تصوره حياة اإلنسان الطبيعي الذي يسعى إلى الراحة في اإلقامة ،ويتعب في
السفر والتنقل ،كما كتب د .أحمد اللهيب عن المتنبي في كتابه «نظرات في الشعر العربي»،
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
يواصل اللهيب إدانــة الزمن العربي الــرديء ،المعتد بالذات الشاعرة ،فالمتنبي «يتعب» في
الصادر عن منشورات «المجلة العربية»:
ـراب على مَهْ ي َِع يركض مثلَ الـ ّـسـ ِ ُ لقدْ جــا َء مس، الش ْ ّ ْتشف الموتَ ِمنْ مُ قلةِ األدْعياءْ ، ير ُ الحزْنُ في راحةِ القَهْ رْ، َفض ُ في ْنت ُ الضياءْ . ويلمعُ منهُ ّ األرض يُورقُ وجهُ المساءْ ، ِ وفي دَورةِ ُمسك عن قولهِ :الخيلُ والليلْ ... في ُ غد -أنكرَه. ألنّ الذي كا َن يعرفهُ -في ٍ الصبرِ ُجرحاً، فيحفرُ في يقظةِ ّ كف كافور، كاليأس في ّ ِ يُواريهِ الذلّ كالسيلْ . ويمضي إلى ساحةِ ُّ ُوقظهُ الفجرُ عن صرخةِ المَجد سي ُ أرض مص َر غريباً: لقد كا َن في ِ ولكنْ أرى الو َْج َه وجهيَ والقول قوليَ والكف كفيَ َّ ولكنْ أرى القو َم ال يفهمون... إن المحرّك الحقيقي لنفسية المتنبي لم
مذكرات أبي الطيب المتنبي المنسية» ،نصافح يكن حياة طبيعية تألفها البشرية ،بقدر ما كان
الشاعر العربي الكبير أبــو الطيب المتنبي ،روحا تهتز بحثا عن مطامع أخرى يسعى إلى العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
57
تحقيقها ،كما يرثي الشاعر زمن الفروسية، بنبرة يــأس وحــســرة ونــدامــة ،ويــرســم صــورة كاريكاتيرية للرجل العربي ،الذي لم يعد يحمل إال رغيف الخبز بدل السيف ،ويستلهم اللهيب روح المتنبي المتمردة ،الثائرة على كل ما هو سكوني:
لقد أَ ْنبَأتُهُ الليالي بع َْجزِ الرّجال. الخبْزِ ، فما عا َد يحملُ إال رغيف ًا من ُ وقطع َة ُجبْن. شخصهُ قدْ تراءى على ِمنْبرِ القُ دْ ِس.. ُ يحملُ في جَ وْفِ ه الموت.. الح ّب. الشرُ فات على بسمةِ ُ مُ ْنبَثق ًا في ُ لـقــدْ ك ــا َن فــي مــا مـضــى ي ـرْقُ ـ ُـب ال ـض ــو َء في َات، الوَجَ ن ِ تُمزّقُ هُ ساعةُ االنتظار أما َم الوفودْ، خيوط الزّمنْ . ُ وفي عَ يْنِ ه تتجلّى فأينَ المَ واثيقُ ،أينَ الوعُ ودْ؟ وأينَ دعاواكمُ صحةُ العَقلْ ؟ كل الذي تأْلمون، لقدْ صا َر ُّ بعض الذي تأمَلون. وما صا َر ُ الشجاع ْة ألستمْ ترو َن طريقَ ّ وطرْق النّدى؟ لقدْ كا َن ِمن بينكمْ مَنْ يرددُ: ال يُفلحُ القومُ موالهمُ العُ ْجم.
شغاف القلب ،كما تشي بذلك رسالته «إلى سيدي الذي لم يحضر»:
أنا مُ تع ٌَب -سيدي ،- أبحث عنْ غَ يمةٍ . ُ الحز ِْن ومُ نْطَ رِ حٌ في رُبى ُ مت أَغفو. الص ُ ُالمسنِ ي ّ وحينَ ي ُ ويا سيدي، أشق سبيلي وحيداً، إليك ُّ أتيت َ ُ الخطَ ى، كل ُ أُقبّلُ ّ َ وأ َْجثو أمامَك.
يبحث عنْ صومَعة. ُ راهب يبدو أحمد اللهيب مسكونا بالحزن في فذا مدمعِ ي ٌ نصوص وجدانية ،يكتبها بلغة مشرقة تالمس مقلتايَ تنسكتَا في رِ حابك! * كاتب من المغرب.
58
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مستحيلة كثافة والبحثُ عن ٍ ٍ
■ إبراهيم احلجري*
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ُ للقاص ساعد الخميسي مجموعة "نقوش" ُّ
ـودي «س ــاع ــد الـخـمـيـســي» م ـقــول ـ َة ع ـنــونــةِ مجموعتِ ه ـاص ال ـس ـع ـ ّ يستلهم ال ـق ـ ُّ القصصيّة من مجال الفنون والـعـمــارة ،ليدلّل على طبيعة العملية اإلبداعية ـوري الــذي استّنه لنفسه في مباشرة تشكيل هذه التي نهجها ،واألسـلــوب األحـفـ ّ العوالم السردية الموسومة بــ(نـقــوش) ،الـصــادرة عــن مؤسسة االنتشار العربي باحتضان من النادي األدبي بجدة ،اإلصدار رقم ،193والمتّسمة ٍ بيروت2015 ،م، بــالـكـثــافــة ال ـشــديــدة؛ انـسـجــامــا مــع اخـتـيــاره الـنــوعــيّ ال ــذي صـ ـرّح بــه فــي عتبات المجموعة ،ومشيراتها األوليّة (قصص قصيرة جدا) ،مع سبق اإلصرار والترصد، حساس ومفرط من الكاتب تجاه عوالمه ،وتشييداته القصصية ،وإزاء وبوعي ّ المنظورات المتّبعة في خلخلة زوايــا الــذوات المعتمة للشخصيات ،والفواعل، واألفضية المتنوّعة ،وفي تناسق مع سيرورة اإلبــداالت الثقافية المرتهن إليها فكريا ،وجماليا ،ودالليا ،ناهيك عن الرؤية المسبقة في إدراك فوارق النّوع بين النصوص ،ومميزات كلّ نمط على حدة ،بين القصة ،والقصة القصيرة ،والقصة الطويلة ،والقصة القصيرة جدا ،أو كما بات يصطلح عليها في األدبيات النقدية الجديدة المواكبة لهذا النوع من القص بـ (ق .ق .ج ).أو النص الشذرة القصصية، أو الومضة القصصية ،أو الهايكو القصصي ،أو غير ذلك من التسميات التي لم يحسم بعد ،معرفيا في مشروعيتها ،أو مقروئيتها ،أو مقبوليتها اإلبستمولوجية خاصة والمعرفية ،لكون عمر النوع من الكتابة قصير؛ مقارنة مع باقي األنــواعّ ، في عالمنا العربيّ ،دون أن ننسى أنه ،في فترة زمنية وجيزة ،راكم عددا كبيرا من النصوص ،والمجاميع ،والمنجزات ،واألنطولوجيات ،والكتابات النقدية المواكبة. اســتــعــار الــبــاثّ مــفــردة «الــنــقــوش» تحتاجها الكتابة الــشــذريــة ،المكثفة،
بــوصــفــهــا اخــتــيــارًا ِحــرف ـ ّيــا لــلــمــهــارة ،سيرا على نول المتصوّفة الذين برعوا
والصنعة ،واإلبداع الخالق ،مع االقتصاد في هذا النوع من القول .يقول السارد في الجهد والوقت ،وهذه كلها ميزات فــي نقوشه( :حشد ظــامــيّ ،يمضون العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
59
فيه تنقيبًا عن نب ّو الروابي ،يقدحون رؤوس «السمر» متقابلين حــول مواطئ أقدامهم، يعييهم تحديد االتــجــاه ،تشتد حواراتهم، ينهض أحدهم ،نابشً ا جسد الرماد المسجى من عهد فقد الظباء ،يكشف عن وجه عملة نقدية كــاســدة تشبه اســتــدارة البوصلة... يقذفها في الفضاء إلى أن تستقر على وجه الرمل ،يقهقه مرددا :الريح حافظة للعهد)!.. (انظر ظهر الغالف) ،غير أن النقش المنشود هنا ،هو نقش الكلمة ،فالعبارة ،فالمعنى المستبطن ،بذكاء ،وحرص ،ومجاهدة.
60
تتضمن الــمــجــمــوعــة الــتــي ز ّي ــن ــتْ وجــه لفنان غير معروف ،والمهداة ٍ غالفها لوح ٌة إل ــى الــوالــديــن الــلــذيــن أنــبــتــا الــمــؤلــف في البداوة (ص ،)3أربعا وستين قصة قصيرة جــدا ،كتبت على مــدار سبع سنوات ما بين (2014 -2007م) ،وتوزّعتْ على حوالي ()74 صفحة مــن الحجم المتوسط ،تُنتظم في فصلين أو بابين (نقوش حائرة) ،و(نقوش دائرة) ،وتختتم بسيرة علمية للكاتب أسماها (نقشً ا شخصيًا)؛ علما أنّ النصوص تتفاوت من حيث درجة قصرها ،وكثافتها بين قصة قصصا ال ً وأخــرى ،إذ إنّنا نصادف أحيانا يتعدى حجمها سطرين ،وهي على التوالي، بالترتيب نفسه الذي وردت به في الكتاب: (تحليل مقرر ،أنف ،غواية ،انحناءة ،عتاد، جــدار الدهشة ،خطى ،وسائط ،طمأنينة، أمــســيــة ،مقايضة ،لقمة عصية ،ترتيب، متواليات ،تقرير لحالة ما ،إعصار ،هزال، زوايــا ،بال هوية ،محاوالت ،انقياد ،تأخر، غــزو ،2011 ،لحمة ،سيرورة ،حيرة ،دليل، العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
القاص ساعد الخميسي
زحزحة ليل ،فــراق ،انقالب ،صعود ،عتق، عــودة الــبــدء ،مجاهل ،نفس ،وثيقة ،فــزع، لغتان ،فخ ،تجاوز مشروع ،صدمة ،تأجيل، المجنون ،اتفاقية ،نفاذ ،مقاومة ،اقتصاص، ضياع ،خلط ،تلقي ،أمثال ،تجدد ،ضنكا، سبق ،إجماع ،ادخــار ،رحلة للنجاة ،إشارة، عزوف ،سنن ،وصية ،زيف ،بالبل). تتشكل أغلب العناوين الفرعية من مفردة واحــدة ،تناغمًا مع طبيعة الكتابة الومضية التي تستكين إلــى اإليــحــاء بــدل التفصيل، واإلحالة بدل اإلطالة واالستطراد ،والتكثيف بــدل التوسيع ،في مراهنة قوية على ذكاء المتلقي ،وكفاءته في فكّ شفرات النصوص، وم ــلء الــبــيــاضــات الــتــي تتخلل الــعــبــارات، والمقوالت ،واألفعال السّ ردية ،علما أن هذه العناوين مرتبطة فيما بينها ،في إطار شبكة من العالقات النّسقية المُفكّر فيها قبليًا؛ سعياً من الكاتب في إضفاء سمة التّوليد الدالليّ على ك ّل العالمات النّصية ،عمود ًيًا وأفقيًا؛ انبثاقًا عن وعيه النقديّ ،وخلفيّته
القاص «ساعد الخميسي» ،في والجنوب ،فهي أيضا ،تنصرف إلى تحريك ّ يراه ُن بحس ّ مــنــجــزه القصصي ال ــوام ــض ،عــلــى كثافة البرك اآلسنة في أعماق الشخوص، الــمــقــول كــمــا ســبــقــت اإلشـــــارة إل ــى ذلــك ،لغويّ دقيق ،وتالعب داللّــي مفارق ،يرتكز استنادًا إلى التركيز الشديد ،واالقتصاد في على بناء المفارقة ،والتعبير الساخر ،والتهكم الكلمات ،وانتقاء المفردات ذات الحمولة الخفيّ الذي يضمر نقدًا عميقًا لكثير من القوية ،والمتعددة األبعاد .وبين جملة سردية الــســلــوكــيــات الــبــشــريــة ،وللقيم الساقطة وأخرى ،يقفز كثيرًا على الوقائع واألحداث ،المستشرية في عالم اليوم .ومن بين هذه لــيــتــركــهــا تشتغل فــي الــبــيــاض ،عــلــمــا أن الخصائص ،نجد خاصية اإلده ــاش التي الجمل المذكورة تحيل ،بشكل ما ،إلى تلك تستهدف خلخلة حــدس الــقــارئ ،ونعني به التفاصيل الغائبة ،وكــأنّ القصص لم تكتب الخاصية التي تمكننا من إرباك المتلقي في لقارئ مستهلك كسول يطمئن إلى الجاهز القصة القصيرة جدا ،وتخييب أفق انتظاره، والمكتمل ،بل تستهدف متلقيًا ذكيًا ،قادرًا حينما يفاجأ بخاتمة غريبة ،مقلقة ،لم يكن على المشاركة في بناء المعرفة ،واكتشاف يتوقعها إطالقا(.)٢ األبعاد المستضمر ِة للنصوص ،ومنازعتها حصته في الفهم والتأويل والتحليل والتركيب ّ واالستنتاج ،بل واإلضــافــة أيضا ،وهــذا ما يــروم إليه الباث من خالل تقنية التكثيف، فإذا كانت زبدة تجارب الحياة مستقاة من إجمالي هــذه مدرسة الحياة ،فــإن اإليجاز شكّل الدرس األول الذي كان على من أراد الدخول إلى عالم القصة القصيرة إدراكــه وتعلمه ،فقد ميّز النقاد القصة القصيرة عن القصة والرواية بعدم العناية بالتفاصيل ،أو حتى عدم االلتزام بالبداية والنهاية ،حتى قيل :إنها يمكن أن تدور حول مشهد أو حالة سيكولوجية أو اجتماعية(...)١ وبقدر ما تجن ُح القصيصات إلى خلخلة األســئــلــة الــمــؤرقــة لــإنــســان المعاصر من العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
المعرفية التي راكمها ،وتجربته اإلنسانية في حــروب ،وبــرود في العالقات ،ونكوص على الحياة والكتابة. مستوى القيم ،وتفاوت طبقي بين الشمال
61
تلعب الكتابة في مجموعة (نقوش) على الضمائر :المفرد المتكلم ،المفرد الغائب، كسر المسار الــســردي ،أو قلب البرنامج المفردة الغائبة ،المثني ،الجمع. العاملي ،إذ تفاجئ الومضة متلقيَها بدمج يقول جميل حــمــداوي فــي هــذا اإلطــار: حدث غير مرتقب ،لم يكن يتوقعه القارئ «وإذا كانت مجموعة من الروايات والقصص أو حتى الشخصيات المشاركة ،كأن تفكر القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء شخصية في فكرة ،ثم يكتشف أن مَن يستهدفه علمية مــحــددة بــدقــة ،تعبر عــن كينونات الراوي بتلك الفكرة له تصور مخالف تماما وذوات إنسانية مــرصــودة فــي ضــوء رؤى لما كان يخطط له ،فتنتهي القصة القصيرة فيزيولوجية ،ونفسية ،واجتماعية ،وأخالقية، بمخرجات مفاجئة ،معكوسة تجعل تفكير فـــإنّ الــقــصــة الــقــصــيــرة ج ــدا تتخلص من القارئ تتأرجح بين طبقيتين من المعنى، هذه األسماء الشخصية العلمية المعرفة، وجسرين من التشييد السرديّ .وعليه ،فهو فتصبح ذواتًــــا مجهولة نــكــرة .وبــالــتــالــي، مطالب ،في نهاية المطاف ،بإيجاد العالقات تتحول هــذه الشخصيات القصصية ،في بين العناصر ،وتركيبها لالنتهاء إلى معنى عصر العولمة ،إلى كائنات معلبة ،ومستلبة، شخصيّ ليس بالضرورة هو ما يسطّ ره باثّ ومشيأة ،ومرقمة بــدون هوية تحددها ،وال النّص ،إن كان هذا األخير قد سطّ ر أصال، كينونة وجودية تخصصها عن باقي الذوات معنىً ما ،يقول الــراوي في قصة (لغتان): (عاكفا على روائح الكتب ،لبست له عقودًا التخييلية األخ ــرى .وبالتالي ،تبقى أيضا من الفل ،ثم ولجت صومعته ،وأشارت له في دون حــمــوالت إنسانية تميزها عــن باقي صمت :ضمنيَ .قل َبَ صفحةً ،وزحزح نظارته :الشخصيات األخرى»(.)٤ عفواً« ...لسان العرب» ال يتسع!!)(.)٣ ننس أن صاحب «نــقــوش» أبــدع في وال َ
62
انــســجــامــا مـــع خــصــوصــيــة الــومــضــة القصصية ،يعمد السارد إلى طمس معالم المكونات السردية ،فالكون السرديّ مبهم في عموم تمظهراته ،ال يفصح ،بل يلمح، باقتصاد شديد ،وأحيانا ،مبالغ فيه .لذلك، فالفضاء الــســرديّ شامل ،وفضفاض ،وال هوية لــه ،أمــا الشخصيات ،فأغلبها بدون وســم ،وال سمات فيزيولوجية لها ،بل هي مجرّد ضمائر مستترة في مجمل أبعادها؛ وك ــأنّ الكاتب يقصد بملفوظه ك ـ ّل الناس وبالقدر نفسه ال يقصد أحــدا؛ منوّعا بين العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
اختيار مفتتحاته وأقفاله ،بما يجعل النص سجاال متواصال في ذهن المتلقي ،إذ حرص على أن يقحم المتلقي مباشرة فــي عالم الحكي ،أو على األصح ،في الحالة الوجدانية اإلنسانية ،مورطا إياه فيها؛ ثم سرعان ما يــضــعــه ،بشكل مــفــاجــئ ،وجــهــا لــوجــه ،مع مــخــرجــات غــيــر متوقعة الــبــتــة ،انسجاما مع الرغبة في استدماج القارئ في حالة الــذهــول ،واإلدهـــاش المفكر فيهما سلفا. وهذا أمر محبّذ ،ليس في القصة القصيرة جدا فحسب ،بل في القصة بوصفها نوعً ا
وال ينفصل التفكير فــي المفتتح لدى القاص ،عن «القفلة» أو المختتم ،إذ تقام بينهما ص ــات غــيــر خــفــيــة ،حــرصــا على خــدمــة المتّجه الفنيّ المصمم سلفا؛ إذ تتحقّق بطريقة مفارقة ،عمّا يتوقعه القارئ، ـاص الظاهرة ساعية إلخفاء مقصدية الــقـ ّ والــمــضــمــرة ،وع ـ ًيــا مــنــه بكونها المحرك األســاس لفضول المتلقي ،عن طريق دفعه إلى التأويل ،والبحث عن الحلول المتاحة، والممكنة للمنجز القصصي القصير جداً(.)6
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ككل ،إذ يؤك ّد «ياسين النصير» في معرض حديثه عن خصوصيات القصة القصيرة، أنّ الجملة االستهاللية فيها «أشبه ما تكون بالبيضة المخصبة التي ستكون جنينا(،)5 بمعنى أن المفتتح هــو مشعل التقدم في السرد ،وبوابة نجاحه.
تصير مــادة دسمة للحكي ،ورؤيــة للوجود، ومــهــارة فــي الــكــتــابــة ،كــل هــذه المعطيات بشكل ٍ مكّنته مــن ضبط آلــيــات اشتغاله، متواز ،يتداخل فيه الفنيّ ،والجماليّ ،وزاوية ٍ الرؤية عند الباث والمتلقي ،حيث يصبحان معًا ،مشاركين في كتابة المنجز القصصيّ القاص الحقيقيّ ّ القصير جدًا ،في وقت يَ ْعل َ ُم النص القصصيّ القصير ج ـدًا، ّ أن بداية ()7 ونهايته تنتظرانه في ذهن القارئ .
القاص «ساعد الخميسي» على ّ يحرص أن يكون عالمه السرديّ مفعماً بالعمومية، متقصدا ،في دالالته الموجزة، ّ والشمولية، اإلنسان في شتى مناحيه ،وتجلياته ،وأبعاده، وســاع ـ ًيــا إل ــى أن تــكــون رســالــتــه مضمرة، ومشفرة ،تومض بين الكلمات ،ثم تختفي مثل السراب؛ ليظل حضورها ملفتا ،ومتواصال، ومتجددًا عبر كل ق ــراءة .وعقب كـ ّل رحلة لــذلــك ،واســتــنــادا إلــى هــذا االشــتــراط ،للبحث عن معنى ،تتحيّن روح النص ،وترتقي استفاد القاص من تجربته الحياتية ،التي العبارات والكلم.
* ناقد وروائي من المغرب. ( )١صالح هويدي :السرد الوامض ،منشورات الرافد ،العدد ،139دائرة الثقافة واإلعالم ،الشارقة ،اإلمارات العربية المتحدة ،الطبعة األولى2017 ،م ،ص .ص.41 -40 . ( )٢محمد المختاري :لمع السرد ،دراسات في السرد الوامض بالمغرب ،منشورات األلوكة ،المملكة العربية السعودية الطبعة األولى2018 ،م ،ص.60 . ( )٣ساعد الخميسي :نقوش ،مجموعة قصصية ،إصدارات النادي األدبي ،جدة ،المملكة العربية السعودية، ع ،193 .مؤسسة االنتشار العربي ،بيروت /لبنان ،الطبعة األولى2015 ،م ،ص .ص.49 . ( )٤جميل حمداوي :أسماء الشخصيات في القصة القصيرة جدا بين التعريف والتنكير ،موقع األلوكة األدبية واللغوية ،الرجاء العودة للرابط الرقمي؛ المتاح التصفح منذ تاريخhttps://www. :2016/8/21 : alukah.net/literature_language/0/106864/#ixzz5lcjORf5Cرابط الموضوعhttps://www.alukah.net/literature_language/0/10 : 6864/#ixzz5lciXNVH5
( )٥ياسين النصير :االستهالل ،فن البدايات في النص األدبــي ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،القاهرة 1998م ،ص.230 . ( )٦محمد يوب :مضمرات القصة القصيرة جدا ،منشورات دفاتر االختالف ،مطبعة سجلماسة ،مكناس، المغرب ،الطبعة األولى سنة 2012م ،ص .ص.84-82 . ( )٧نفسه ،ص.57-56: العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
63
وج ُ سة الم َت ِّ ُ
■ نوره العبيري*
ليت هذا الزائرُ أنت .تمتمت بها بخفة وخفية ،فارتبك زائرها وفتح نافذتها.. سألها :لمن هذا الحمام النائم؟ فأجابت برعشةٍ :إنــه لسفره الــذي يستقر عند كل شــيء إال عندي ،كحقائبه المغادرة كل ليل بعطرها ،رحيل بي وهو ال يدري! ابـتـســم زائــرهــا وه ــو يـلــف بـقــايــا الـمـنــديــل ال ــذي بـيــن أصــابـعــه ،وبـيــن كــل طيةٍ يعرف كم ُ للمنديل ،تتملقُ هي بستائرها التي تشتعلُ منها أغنيات الصيف الذي متوجسةً من كل شيء، ّ قطعة جليد خبأت بها سؤال الليل والوسائد ،تنظرُ إليه إال من حقيقة ما تعلمه. ابتسم بلطف ،أربكها ،وكشف عن خبايا واألخرى.. توجسها قــائـاً :اغلقي هاتفك ،فالصورة كثير األسئلة ..قليل البقاء. المُعلقة بخلفية جــهــازك لــن تمسح بين اقــتــرب وأمــســك بشمعتها الــتــي كــادت جفنيك هذا االنتظار ،وهذا البكاء .كابرت فــوق هزيمة الحديث مقاطع ًة قلق المكان تنطفئ وهي مسرعة نحو منضدتها لتحضر على منضدة تفص ُل حد البعد بينهما ،لم يكن فنجان القهوة الذي قد برد ،في نصف حديث لديه خوف سوى على أشيائها الثمينة ،أخذ مُحرق ..طلب منها أن تطلق سراح الحمام.. يهتز بجسده ،وبدأت الراحة تتسلل لقميصها لم يكن يقصد رحمتها بالحمام.. الممتلئ بسهد الصيف. هــو يريد جــوابـاً يكشف ســر أمانها من ـدس الحمام! انــتــقــل لــأريــكــة الــمــجــاورة ،وه ــو يـ ُ
المنديل في جيبه ليُطيل النظر في مزهريتها. بدأ الغضب يثور كالبركان من مالمحها سألها بصوت يخبئ في طياته لم أنت خائفة لتنفعل على وجه الفنجان قائلة :تسأ ُل عن قائالً :كم ثمن هذه المزهرية؟ ثمن المزهرية ولــم تخبرنِ كــم ملعق ًة من وحين حاولت أن تجيب ..قطع أنفاس السكر تريد لقهوتك! الكالم من بين عجل ردها ليردف قائالً :من منشغل أنــت بهذا الحمام ،ولــم تكترث أين هذه المزهرية؟ لمنديل متسخ خبأته بجيب قميصك!
64
لم يمنحها ضيفها أن تتنفس بين الكلمة العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مَن الذي أخبرك بعنواني.
سأغير مكان مزهريتي ..ال! اكسر مرآتي ..ال! تباً ..بعث العبث وخرج ،لم يخسر ضحكة من فمه ،قالتها وهي تتهم الحمام بمجيئه.. و تتهم الشمعة بعيب ضعفها من الظالم..
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
تمتمت .مــا أط ــول مــســاء األم ــس ،ومــا أقبح ابتسم قائالً :لما كنت خائفة على هذه الشمعة وأنت تتقنين صنع القناديل! منضدتي ،لم أكره قهوتي كاألمس ..،لكن ال بأس.. كانت هنا نقطة الرجوع التي تجعلها تنسحبُ من بعض األشياء المعذبة تعلمنا كيف نهدأ. نصف الغضب؛ كأنها تقول لهذا الملل من جلوسه: كانت تحتاج في تلك المحطة فلسفة أبعد من سأمنحك الكثير من الوقت لتعتق تفاصيلي. وجوه المسافرين في بداية الصباح ،وأشياء أبعد أدارت ظهرها نحو الــمــرآة وهــي تحدثه :أنا من أن ال تشرب قهوة دافئة في صيف جامد. امرأة ذاب جليد الوقت عن مالمح زمني ،وأدار هو تصل في منتصف الظهيرة ..تبحث عن شراء ظهره نحو الباب.. جريدة ،تقرأ في أول صفحة خبر احتراق مصنع.. صافحها مصافحة ســريــعــة ..لــم تكن بقدر اغلقت الصحيفة سريعا وتمتمت :بداخلي كره معركة تلك المنضدة التي صبرت على حديث بارد. للشمع.. خــرج بطريقة غير مرضية لفضوله ،وغير ال ..ال..أنا أحب شموعي ،لكن ضيفي باألمس مقبولة لــغــرور صمتها .اتجهت بخفة ،وأنهت أثقل كالمه بالمساء ..أنا منزعجة. تفاصيل تلك المنضدة. حملت حقيبتها البنيّة قبل حلول المساء لتعود اجهشت بالبكاء ..منذ الصيف الماضي لم تبك إلى منزلها، بتلك الطريقة المريحة ..تمتمت: وحــيــن وصــلــت ...وصــلــت فــي التوقيت غير المناسب تشعل شمعتين وتبدأ صنع القناديل.. يــطــر ُق الــبــاب..حــدثــت نفسها بــغــرابــة ،بعد التاسعة !..مَن قد يكون يا ترى! تفتح الباب ..وإذا بالشيء غير المرضي..
وفي صباح اليوم التالي استيقظت على غير عادتها؛ ألنها نائمة من مساء لم يكن على ما يرام. أهال بك ،أنت من جديد. تتلقى اتصاالً لتكليفها بمهمة عمل ،تمشي وفي رد عليها زائــرهــا بــصــوت ســاخــر :مــا ا لذي ذاكرتها لذاك السفر ،وهي تتذكر حديث ضيف مساء األمس ،تحاول أن تطوي في ذاكرتها الشيء يزعجك؟ المهم .لم يكن ترتيب حقائبها سهالً؛ ألن تفاصيل أنا لم أكن ٍأت إليك ..قد أضعت شيئاً ما.. غائب جعلها تتوجس حتى ٍ السفر هي تفاصيل ال من شمعتها ..أطفأها حدثها وهو يقتربُ قلي ً تربي الحمام في نوافذها. بال سابق إنذار.. تجلس ُ تخرجُ ..تصل للمحطة ،من عادتها أنها أدار ظهره نحو الباب قائال :عليك أن تمكثي قرب النافذة في القطار ،لكنها لم تكن تريد أن ترى تفاصيل ..في ذاك الصباح جلست بعيداً عن طويال في العتمة؛ ألن النور يجلب لك اللصوص تفاصيل الضوء.. يا متوجسة! * قاصة من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
65
ُ ذاكرة الموتى
■ حليم الفرجي*
سمعت حكايا كثيرة عن الموت ..بعضها مخيفة.. وأظ ـنــه ال ـظــل األسـ ــود ال ــذي يـحــل ضـيــفً ــا غـيــر مــرغــوب ب ــه ،فيخطف األرواح الجميلة ،وينخر األجساد ويجوّفها من الداخل.. قال لي بائع البسكويت ذات نهار :إن الموت يحضر باكرً ا جدً ا قبل استيقاظنا من النوم ،فهو ال يخشى الظالم ،وال يندس تحت لحافه خشية البرد مثلنا.. يأتي دائما بوجه قاتم ال يضحك ،ويحمل معه سالسل كثيرة ليقيّد بها األرواح الفارة من اآلخرة..
66
كنت أتساءل دائما :لماذا ال نهرب أصبح بائع البسكويت صديقي منذ رح ــل والـ ــدي لــلــســمــاء ،فكنت أتحين من الموت.. الفرص ألبقى بجانبه وأستمع لحديثه.. أال نستطيع مبارزته والتفوق عليه!! صديقي الجديد ظهر مــن الفراغ لماذا منذ األزل لم ينج منه أحد!! والالشيء ،لم أكن أعلم عنه شيئا سوى أن اســمــه ســامــر ،ويسكن خلف التل أنحن جبناء ..أم هو قوي جدا!! المقابل للقرية ،وأنــه مثلي رحــل أبوه لــمــاذا نستسلم ونــمــد لــه أيــديــنــا، يوما ما. ونمضي معه حيث يأخذنا دون مقاومة!! أخبرني أنه يبيع البسكويت وبعض أسئلة كثيرة كانت تدور برأسي ،وال الــحــلــوى ،ويتنقل بين الــقــرى القريبة ويترك خلفه أ ّمًا عجوزًا وال يعود إليها أجد لها جوابا.. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
هــرعــت فــي طــرقــات القرية أبــحــث عن إال قرب المساء.. لم أذهب يوما لزيارته في بيته ،فهو لم سامر وأنا أخفي دموعي ،سألت كثيرًا عن يتأخر عن موعده أبدًا ،فكان يحضر صباحا بــيــتــه ..فلم أجــد مــن يعرفه ويــدلــنــي على لنتسكع سويا ،وأرافقه حين يمضي لكسب منزله.. وحين عثرت على البيت الوحيد خلف رزقــه ،ونعود منهكي القوى قــرب المساء، ليودّعني عند مدخل القرية ..فأعود للبيت ،التل ..كنت قد فقدت األمل.. بينما يمضي هو إلى حيث ال أدري.. لــم أســتــطــع تمييز صــوتــهــا المصاحب توطدت عالقتنا يوما بعد آخر ،وأصبح لصرير الباب القديم ،وحين أعدت سؤالها عن صديقي أشاحت بوجهها بعيدًا ثم نظرت مالزما لي كظلي معظم النهار. إلي: حتى عند مــرض أمــي وارتــفــاع حرارتها سامر رحــل منذ عــام ،توفي في حادثة كــنــت ،أفــضــل الــجــلــوس على عتبة الــبــاب، وانــتــظــار مـ ــرور صــديــقــي ..عــن أن أظــل أليمة. بجوارها ألسمع أنينها وشكواها المتكررة.. اقتربت مني كثيرا لتنظر في وجهي :مَن
في إحدى تلك الليالي ،رحلت أمي دون أنــت؟ ولماذا تسأل عنه اآلن بعد كل هذا جلبة ..رحــلــت حين كنت أعــبــر الجسور ،الوقت؟؟ وأقفز تحت المطر ،وأضحك للسماء التي ال أعلم كيف حملتني قدماي ألهرب من ال تهبنا ســوى العطايا ،وأســابــق صديقي ذلك المكان! وكيف استطعت رؤية طريقي اللتقاط الحجارة ورميها في النهر.. للمنزل..
عند عــودتــي للمنزل كــانــت أمــي تنظر في الصباح الباكر أخذوا أمي للمقبرة، للسماء أيضا ،ولكن ليس لشكر اهلل على كان نعشها خفيفًا باردًا.. عــطــايــاه ..لعلها كــانــت تــقــاوم إح ــدى تلك وحين شارفنا على المقابر ..كان هناك الــســاســل حــيــن امــتــدت لتسحب روحــهــا شيخ كبير يرتدي البياض ،خطف النعش فتركت عينيها مفتوحتين تشيّع بها روحها من بين أيدينا واختفى بين القبور مستبشرا المختطفة.. ليوقظ األموات الستقبالها ،بينما كان يقف يــداهــا بــاردتــان ،وعلى وجهها ابتسامة صديقي سامر هناك على حافة القبر المعد جميلة ،وكأن الموت جاءها حامال معه علب ألمي وهو يحمل علب البسكويت وعلى وجهه ابتسامة ،وكانت المرة األخيرة التي أراه بها. البسكويت..
* قاصة من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
67
أزهــــــــــار ■ محمد الرياني*
أزهار ترعى ثالث شياه ،مظلتها المستديرة الصفراء ذات الرأس االسطواني، عصاها الصفراء من شجر السدر ،وثوبها المشجر ذو األكمام الطويلة أبــرز ما يميزها ،الساكنون في أطراف قريتها الصغيرة يعرفون شياهها الثالث من هيئتها، ويعرفونها من شياهها الـثــاث ،التي يختلط اللون األبيض ببعض الـســواد في واحــدة منها ،بها خفة عجيبة وهي تجري وراء الشياه ،تشبه قارعات الخطوب، قوامها الممشوق وجسمها النحيل ساعداها على هــذه الخفة ،تصعد العقوم المتحجرة مــن تــراكــم األع ــوام طـلــوعً ــا ون ــزو ًال خــوفً ــا على شياهها من ّ الـتــرابـيــة الضياع ،ومن كالب الضاحية التي يصل نباحها أطراف القرية ،لم تسلم أزهار من بعض العقاب اللطيف من أصحاب األراضــي النابتة أراضيهم من ماء السحاب، يصل إلى درجة حجزها كلها أو واحدة منها ،فيطلق سراحها بفعل دموعها البريئة خوف ًا من أهلها الذين ال يرونها جديرة بهذه المهنة. كبرتْ أزهــار ،جمال الطفولة انتقل شياهها على الزراعة المنتصبة على
معها إلى الشباب ،أصابعها التي كانت الطريق نحو المرعى ،نمَتْ أزهار وهي
ترسم -خرابيش -على تراب المراعي تتذكر تفاصيل طفولتها على البراري، أضحتْ تكتب على الدفاتر ،كتبتْ في أ ّلــفــتْ رواي ــة مــن الحقل ،ومــن رؤوس
شبابها عن نفسها ،عن أزهار التي كانت دوابها ،ومن وحي قلمها الذي تألق في ترعى ،وعــن أزهــار التي كانتْ تعتدي الشباب.
* قاص من السعودية.
68
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
مطر وجهها ُكله ُ ٌ ■ ناصر سالم اجلاسم*
ما الــذي يرمي إليك بوجه امــرأة حسناء من تبوك ،في هذا الصباح الشتوي البارد؟ وتراه بزينته الكاملة ،زينة الشفتين والعينين والخدين ،فوق رغيف خبز أفغاني أبيض م ــدوّر؛ وتــرى فيه وجهها الجميل المستدير الباسم ،كما نظرت إليك ألول مرة قبل سبعة عشر عاما ،وينتشر من جوف الرغيف عطرها شانيل ،5ويهزم رائحة الخبز الشهية في مطعمك ،ويطردها من المكان لتخرج عبر ـاص مشاغب عذّ به طــول االستماع لسورة البقرة في مكان النافذة مثل جنيٍّ عـ ٍ مغلق .ينتشر عطرها ويسيطر على حواسك كلها ،فتراها وقد جلست متربعة في محيط دائرة الرغيف ،وكأنه بساط سحري لها ومدت فنجان القهوة العربية إلى فمها ،فيصعقك في مطعمك اقتراب حافة الفنجان من فمها كما تُصعق أرنبةٌ أمٌّ في قفصها استشعرتْ ذبحَ وليدها الغائب عنها مع الجيش البعيد الذي يقاتل األعــداء ،لتوصل إشــارة أو تمرر رسالة سرية للملك لطلب الدعم والمدد كي ال يُهزم ويندحر جيشه أو يتراجع ،وتراها وقد نهضت بكامل جسدها من الرغيف ماشية إليك ويوجع قلبك رؤيتك انثناء خصرها الطري فتصيح :آه يا غرس لقد أخذوك مني مثلما يؤخذ الوطن من ساكنيه وقد سكنت قلبي وعقلي! ومــذيــع الــنــشــرة اإلخــبــاريــة يــقــرأ :ت ــؤدي النــخــفــاض شــديــد فــي درجــات
تتعرض اآلن منطقة تبوك ومنطقة الحرارة ،قد تصل لدون األربع درجات ال ــح ــدود الــشــمــالــيــة طــريــف وعــرعــر مــئــويــة ،مــع تــوقــعــات بــهــطــول أمــطــار
والــجــوف ومنطقة المدينة المنورة غزيرة على المناطق المذكورة وجريان
واألجــزاء الغربية من المملكة العربية السيول فيها ...فيما ستهبّ في غضون السعودية لهبوب كتلة هوائية بــاردة الساعات القليلة القادمة على األجزاء العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
69
الشرقية من البالد ومنطقة حفر الباطن من بعيد بحسن لونه األخضر الفاتح يجاور ومحافظة إبقيق واألحساء تحديدًا عاصفة حسن شفتيها المصبوغتين باألحمر القاني، غبارية كثيفة المدى ،يتدنى معها مجال وتدرج حباته واحدة تلو أخرى فوق لسانها الــرؤيــة البصرية إلــى متر واح ــد ،فنرجو الــوردي وتنزلق في جوفها ،وأنت مصدور من المواطنين أخذ الحيطة وتوخي الحذر ومسجون في محيط دائرة الغبار تكح تكح.. حفاظً ا على سالمتكم. وصــوت كحتك ال يسمعه أحد فيقرب لك وجهكَ كله غبار ،ووجهها كله مطر ،وقد الماء ،وتستشعر مذاق العنب التبوكي اللذيذ ِخفتَ عليها وارتعبت حين سمعت خبر الكتلة وتحس بمذاق شفتيها العذبتين ،وها أنت ذا
الهوائية الباردة ،وجهك حزن وقلق ،ووجهها اآلن وأنت في حمام الغبار تدرك متأخرا ورد أحمر ،وال تدري إن كان قد أهمّها أو أن (غــرس) لم تكن قد أحبتك ،وإنما قد
آلمها خبر اتجاه العاصفة الغبارية إليك أم أحبت جبل اللوز وثلجً ا يزهر فوقه وعنبًا ال طيبًا غيرك ال يقول ال ،وجبل اللوز في تبوك يثمر بالثلج وجبل ينبت قريبًا منه ورج ً القارة عقيم ،ورغيف الخبز األفغاني وكوب لها ال أبدًا أبدا ،ويجعلها تنهض من السرير
الحليب ينالهما الغبار في مطعمك قبل أن صــبــاح كــل يــوم سعيدة ،وتــقــف تحت نهر يصال لفمك ،وغبار يعلو شعر رأسك ويعلو الماء العلوي وجسدها كله ماء وهي تبتسم،
شاربيك وأنــت تكح ،وقلبك يحترق لرؤية وتتذكر بحب تفاصيل ما جرى مع زوجها العنب التبوكي يمرق في فم غــرس ،تراه بالليل التبوكي. * قاص من السعودية.
70
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
صمت
■ محمد صوانة*
بحث
الصغارِ في ِحجرها، صخَ بَ ِّ تَجْ َم ُع َ
بعد غياب،
ُشاغل َهم عن نَومِ هِ .. ت ِ
الحظ ذوبان الصور المعلقة على الجدار،
الصمت!.. فيوقِ ظُ ُه َ
يتلمّسها على مُحَ ر ِِّك الذِ كريات..
دفء تندل ُق حباتُ ال َودَقِ على الجبين.. جف للتو.. دمع َّ تغس ُل آثا َر ٍ تنهمر زخاتُ بَرَد ،يكفه ُر األُ ُفقُ؛ يرتعش برداً..
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
ومضات..
يبحث عن طيف.. مرايا منتهية الصالحية! اشترت منه مرآة جديدة.. في اليوم التالي عادت تستبدلها، لم يمانع..
ألي، بعد ٍ يلتحف بدفءِ ذِ كراه! ُ ذاكرتها تش ُّد من نبرة صوتها،
ظلت كل يوم تأتي لتستبدل المرايا.. تعنّفه :مراياك منتهية الصالحية! أدوار بسؤال، ٍ يُ ِل ُّح الصغي ُر عليه
ُــفــردات ِ تــح ـ َم ـ ُّر عــروقــهــا ،تُــشــعِ ـ ُل كُـــلَّ م يستذك ُر أيا َم طفولتهِ وهو يمتطي صهوةَ الممنوع.. برؤوس الكبارِ .. ِ الفضولِ ،مُتشبثاً وأنا أتج َّو ُل في (ذاكرتها) ،بكلِ هدوءٍ .. يتماهى؛ ذاكرة فقط تَص َف ُع ُه اللوح ُة صبا َح مساء.. في لحظةِ تمر ٍُّد، ُراب»؛ ُمسكُ «الغ ِ ي ِ يقذِ ُف ُه بعيداً.. ف عالياً، فيُرَفرِ ُ ثم يَستَقِ ُر في ذاكرتِهِ ..
يتظاه ُر باالن ِْشغالِ ! مشهد ظل مشهد الرواية يطرق بابي.. يُ ِلحُّ ..وأَشي ُح عنه.. في لحظة حنين ،أزحت الستارة برغبة عارمة ،ألعيشه من جديد.. يتالشى طيف البطل عن المسرح!
* قاص أردني مقيم في السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
71
نصان.. ّ مناقب العين ُ
■ زياد السالم*
هــذا بــابٌ مثل أي بــاب آخــر ،ال أعماقه .يا صاحب القميص ال خوف شــيء يلفت النظر فيه إال هــذه العين على المفتون إن وافقه نسيم الصبا. السحرية ،بشكلها المخروطي تشبه اجر ْح السماء بمنجل اللذة ،قبل أن تــابــوت فــراشــة .يطمح الــقــديــس إلى يطحن الموت عظامك ،قبل أن يضع محو صورته ،أو على األقل يعمل على خــرزة فــي قحفة رأســك أيها الفاني. الشباك؛ هو تشويشها كي يفلت من ِ العين تق ٌد القميص قبل اليد ،هي رائدة يــدرك أن العين طاغية .فــي الحفلة الرخام ،الجسّ اسة قبل المصافحة وبعد تظهر الجوزاء في ثوب العيد ،تكون في المصافحة ،هي األســرع في التقييم ذروة مجدها ،كل واحد منا يذهب إلى هذه الحفلة أو تلك ،محموالً على حدقة والرقش والحفر والتنقيب ،أنا أكتشف هي أكبر ما فيه ،حين نحتفل مع بعضنا الــخــاطــف مــن طريقته فــي المعاينة، بدافع الحب ،يتحرر إنسان العين من الــفــاكــهــة الــســر ّيــة ألتقطها بنظرتي نظرته المألوفة الحزينة .فانظر إلى المتوحشة ،العين تجمع المناقب في مــا يسرك وال تبخل على نفسك في حزمة واحـــدة ،هــذا الــضــوء المتدفق النظر .العين رفيقة اللون مفطورة على يكفي لحدوث معجزة ،لكن علينا أن الكرم؛ القلب البخيل ينكسر السهم في نغادر مواقعنا لنرى بشكل أفضل.
رسم :شهد الزيد
72
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
رسم :شهد الزيد
ُ جنازة الغريب الجنازة المرفوعة فــوق األكتاف بــيــديــه الــصــاعــدتــيــن إل ــى الــســمــاء،
ليست جــنــازتــي ،اســألــوا الــريــح عن الصبي الذي تركناه برفقة طائر أبي المسامير التي تطايرت في الهواء ،المنذر ،كي يحرسا األمانة في الحي لــقــد أغــلــق الــمــتــربــصــون عيونهم مع أهلنا .اسألوا الريح عن المتاريس وأفــواهــهــم وآذانــهــم فــي يــوم الزينة ،التي وضعتموها في طريقي ،لكنها
حال بين الضحك والبكاء. كانوا في ٍ
انقلبت في وجوهكم مع أول خطوة؛
اسـ ــألـ ــوا الـــريـــح عـــن خــطــواتــي اسألوها عن الفحم والفضة واألواني
المخمورة بأنفاس الليل ،اسألوها الــمــزخــرفــة وريـ ــش الــنــعــام .وقفت
وال تعزلوني عن قلبي الذي تبلل من وحيداً ،وضعت ساعتي على حجر، لهاث نخلة في ٍ واد بين جبلين .هذا جمعت خيوط الحكاية حتى اكتملت كتابي عرضته عليكم بمفرق الماء ،عند تلعة الغدير .أنا لم أنكث وعداً،
فاشتبهتم بالباب الموارب حين الح ومــا كنت ألضعف أو أستسلم ..إال منه رماد نجمة .هذا هو أنا ،رفيقكم إذا داهمتني أغنية جبلية ،اسألوا من البسملة حتى الدم الذي شهدناه الريح عن يوم مولدي ويــوم مماتي، في أعقاب المباهلة. فالجنازة المرفوعة فــوق األكــتــاف الصبي قارع الجرس كان يتباهى ليست جنازتي. * قاص ومفكر من الجوف -السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
73
كبر الورد ! ■ جواد احلطاب*
كبر الورد في بيتنا وانتظرناك ..مثل المطر المشاوير نامت هنا فمتى يستفيق السفر ***
يقولون :جاء فأنسى يديَ على النافذة وأركض مغسولة بالبكاء وأبصر في الباب :قلبي ..وال أنت ..ال كركرات المطر اشترطت على صيف هذي السنة غيمة ..سوسنة شرفة ..وقمر انتظرتك فيها شتاء ..وصيفا ويوما :وألفا لم تجيء .. فتكسرت ..مثل المطر * شاعر من العراق.
74
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
■ حامد أبوطلعة*
لحقْ بَةٍ ضلَّ الفؤادُ ِ
ما كان في ما كان يجمعُ عم َر ُه
ثم اهتدى
إال ليأتيَ يا حبيبةُ مفردا
وأتاك يحكي النص َر في زمن الرَّ دى ِ
ما كان يعصر خيبة الماضي
هذا
يبست ْ وقد
يد وقد شرب الثمال َة من ٍ
فتنمو في يديهِ مُ جَ دَّ دا
يحسو مرارتَها على تب َّْت يدا
أو كان معتني ًا بغرسة يأسهِ
سنواته الخمسون
إال لينبت حوله أملٌ غدا
يو َم قيامةٍ
لت إليك الحالَ كيف تبدَّ ْ يشكو ِ
رأس المدى َّبت َ أهوالها قد شي ْ
ويريك هذا العمر كيف تبددا ِ
سنواته
يبدو كأسعد ما ترين
كلْما يحدثها بما يفنيه من سنواته
وإنما
قالت فدا
كل الشقاء مخب ٌأ فيما بدا
الكلمات ِ متثاقلُ
ف َتلَقَّ فيهِ
ليس يلومه أحدٌ
وقد هوتْ بحياتهِ قممُ الوفاءِ
وكان اهلل فيها األوحدا
فخَ َّل َفتْهُ مُ ْجهَدا
يربو على قلب التقي
وت ً ََعه َِديهِ
لسانهُ ر َْط ٌب بذكر اهلل
ففيك مَ ْرقَدُ ُه الذي يبكي به ِ
مَ ْلب َُسهُ الهُ دى
كي يستريح ويرقدا
لكنه ُسو ٌر
يبكي على تلك السنين بحرقةٍ
بظاهر رحمةٍ
متسائالً:
وبباطن يحوي لذلك موقدا ٍ
ذهبت ُسدى!؟ ْ ماذا وقد
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
ذهبت ُسدى... ْ
* شاعر من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
75
على الطريق
■ أحمد النعمي*
ـال ج ـ ـ ـل ـ ـ ـسـ ـ ــت إل ـ ـ ـ ـ ـ ــى الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوادي عـ ـ ـ ـل ـ ـ ــى مـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ٍـد خـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ وح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدً ا وفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي نـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـس ـ ـ ــي تـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــاوي ـ ـ ـ ــم مـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ــاد أت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ي ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـثـ ـ ــر األب ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ل ـ ـ ـ ـ ــم يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث ـ ـ ــن ح ـ ـ ـ ـ ــرف ـ ــه ع ـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ــث م ـ ـ ـ ـ ــا ي ـ ـ ـث ـ ـ ـنـ ـ ــي وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد جـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ب ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ــزاد فـ ـ ـ ــأص ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ــي إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى األشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـ ــار والـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــر ك ـ ـل ـ ـمـ ــا ب ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـثـ ـ ـ ــت ت ـ ـ ـ ــرانـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــي وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدوي وإنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـ ــادي و أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــز مـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــا زان شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـئ ـ ـ ــا يـ ـ ـعـ ـ ـيـ ـ ـنـ ـ ـن ـ ــي وقـ ـ ـ ـ ــد بـ ـ ـح ـ ــت ب ـ ــالـ ـ ـخ ـ ــاف ـ ــي مـ ـ ـ ــع الـ ـ ـمـ ـ ـنـ ـ ـظ ـ ــر الـ ـ ـ ـه ـ ـ ــادي ج ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــت وف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام آم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ط ـ ـ ــام ـ ـ ــح و أسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـت ـ ـ ـهـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزةٍ ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوق أط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواد ف ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّنـ ـ ــت ل ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــا وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد جـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ص ـ ــوتـ ـ ـه ـ ــا يـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــادي أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب الـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــوح ي ـ ـ ـ ـ ــا ذلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك الـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ــادي ت ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ــأت ـ ـ ــي ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم لـ ـ ـمـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ــدي و أب ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ــى أسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــر الـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ــوح والـ ـ ـ ـ ـ ــرائـ ـ ـ ـ ـ ــح ال ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ــادي فـ ـ ـ ـب ـ ـ ــادلـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدوي ون ـ ـ ـ ـ ـ ــادي ـ ـ ـ ـ ـ ــت ف ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ــربـ ـ ـ ــى حـ ـ ـبـ ـ ـيـ ـ ـ ًب ـ ــا ل ـ ـ ـ ــه أحـ ـ ـ ـي ـ ـ ــا وق ـ ـ ـ ـ ــد ص ـ ـ ـحـ ـ ــت ف ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـن ـ ـ ــادي أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب وأشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــى إن تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادى بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـصـ ـ ــده و أس ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد إن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد الـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ــوف إلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ــادي يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث ـ ـ ــرن ـ ـ ــي ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوق مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــض ل ـ ـ ـ ـ ـ ــوص ـ ـ ـلـ ـ ــه وي ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـع ـ ـ ـنـ ـ ــي وصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــلٌ إذا غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ح ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــادي وتـ ـ ـ ـ ــزهـ ـ ـ ـ ــو بـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا الـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ــاع ـ ـ ـ ــات فـ ـ ـ ـ ــي مـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـع ـ ـ ــدي هـ ـن ــا وت ـ ـ ـب ـ ـ ـل ـ ـ ـغ ـ ـ ـهـ ـ ــا اآلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات م ـ ـ ـ ـ ــن أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرف ال ـ ـ ـ ـ ـشـ ـ ـ ـ ــادي ـراحـ ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوردةٍ فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ــرس ـ ـ ــل م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن يـ ـ ـ ــأس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ً بـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ــن عـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـي ـ ــر الـ ـ ـنـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ــس ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقً ـ ـ ــا لـ ـمـ ـ ـ ـيـ ـع ــاد 76
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ن ـ ـ ـس ـ ـ ـيـ ـ ــت ب ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا أمـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع ح ـ ــولـ ـ ـه ـ ــا وقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد صـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـع ـ ـ ــت صـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـع ـ ـ ــا غـ ـ ـ ــري ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــا إلج ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــادي نـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــت وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد زورت شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـئ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه نـ ـ ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ــب وتـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َو ّد ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا دون أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ــاد و لـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـن ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ــد الـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ــي نـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ــر فـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ــاء ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي يـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـ ـش ـ ــى كـ ـ ـ ـِ ـ ـ ـ َلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْي ـ ـ ـنـ ـ ــا ب ـ ــأبـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ــاد
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
و تـ ـ ـ ـك ـ ـ ــرمـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي ب ـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ــوص ـ ـ ـ ــل سـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًي ـ ـ ــا ل ـ ـب ـ ـه ـ ـج ـ ـتـ ــي و ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ل ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــت اآلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال ف ـ ـ ـ ـ ــي ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم م ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــادي
ف ـ ـ ـ ـ ــذقـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ــا أم ـ ـ ـ ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـنـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوصـ ـ ـ ــل حـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــوة نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــردد فـ ـ ـ ـ ـ ــي سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــع الـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ــا حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ــو أوراد أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدق فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ــن جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــونـ ـ ـ ــي ولـ ـ ـهـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ــي وق ـ ـ ـ ـ ـ ــد كـ ـ ـ ـن ـ ـ ــت يـ ـ ـ ــومـ ـ ـ ــا ذل ـ ـ ـ ـ ـ ــك ال ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــاحـ ـ ـ ــث ال ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ــادي و أدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو إلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ــاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــثً ـ ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــد كـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا بـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ــف ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذي ي ـ ـ ـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـ ـ ــو ب ـ ـت ـ ـفـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـيـ ــر م ـ ـنـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ــاد فـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـج ـ ـ ــذب م ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدوهً ـ ـ ـ ــا إلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى س ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ــر ع ـ ـي ـ ـن ـ ـهـ ــا و يـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ــظ أن ال ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــل يـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــو ب ـ ــأجـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ــاد و ي ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ــر مـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــرً ا م ـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب خ ـ ـ ـ ـ ــده ـ ــا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهٍ م ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــرٍ ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ــاءات وق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــرس ـ ـ ـ ـ ـ ــم فـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا تـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ــى بـ ـ ـ ـ ـل ـ ـحـ ـ ـ ـ ـظـ ــة ه ـ ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ــد مـ ـ ـتـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــوع ـ ـ ـ ًـ ــا ب ـ ـ ــأمـ ـ ـ ـج ـ ـ ــاد أم ـ ـ ـجـ ـ ــاد وإن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أنـ ـ ـ ـ ــاجـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ــدر فـ ـ ـ ـ ــي غ ـ ـ ـ ــام ـ ـ ـ ــر ال ـ ـ ــدج ـ ـ ــى يـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــض سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــاءً ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ل ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءات أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ــاد ـروج خ ـ ـ ـص ـ ـ ـي ـ ـ ـبـ ـ ــةٍ وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب لـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــلٌ ف ـ ـ ـ ـ ـ ــي م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ وبـ ـ ـتـ ـ ـن ـ ــا ن ـ ـع ـ ـيـ ــش ال ـ ـ ـحـ ـ ــب ف ـ ـ ــي ال ـ ـم ـ ـل ـ ـت ـ ـقـ ــى ال ـ ـ ـهـ ـ ــادي و ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ض ـ ـ ـ ـ ــمَّ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــا بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــت بـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــاه وح ـ ـ ـ ـ ـ ــدنـ ـ ــا قـ ـ ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرا آلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد آب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاد * شاعر من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
77
ٌ هوية أنا سيد المنتمين إلى كل شيء وسيد هذي الرياح تجول بكل الجهات بغير انتماء درب أنا سيد الراحلين إلى كل ٍ تقود اعوجاجاته للسنى.. والسناء
*** ***
رضعت حليب اإلباء ُ كنت فمنذ الطفولة ُ لثغت البدايات ُ وكنت في جنبات الوضوح وكنت الجبان أمام الجمال ُ وكنت القصيدة فوق شفاه النساءْ ُ
***
انتميت ُ إلى لغة البدو إليهم وهم يقطعون الفالة بشيء من ربيع المجازات حين ينادون أشياءهم بضمير الحياةِ إلى لغة النجر والهيل والشعر والتمر في ردهات الشتاءْ
***
أنا سيد المنتمين إلى الحب واألغنيات وألف صالة مع الفجر.. يرفعها البسطاء أنا الليل والصبح والمدح والقدح والصفح والغضب المستطير على كل شيء سيخدش رأس زجاجة عطر الوفاء أنا الشوق حين ينادي صغيرً ا تدحرج من نعمة الذكريات البعيدة ليبنيَ صرح ًا قديم ًا من الحلم 78
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
■ شتيوي الغيثي*
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
يبني هويته في سؤال الحياة ويسرق من لغة الناس أسماءهم ويرتبها في نشيد السماء (المساء)
***
أنا المتزوج من قطرةٍ للندى ورغيف لهذا المدى ولي في حطام النجوم صدى.. ولي في صنوف البقاء.. بقاء.. أنا نبتةٌ في أديم السؤال أسف تراب الحقيقة في كل وادٍ ّ وأمتح من بئر أجداديَ الغرباءْ
***
أنا سيدُ الوجع المستفيض بعين الفقير.. وظفرُ المنية دون الخَ واء أنا بذرة األولين وآخر من كتبوا ِسفْ رهم بِ دَواةِ الغناء فبي من أساطير قومي وبي من حداثة عمر البكاء وبي من روايات عمرو العالء وبي من نقودات أهل البناء وبي من رمال النفود وبي من حضارة عصر الفضاء
***
أنا آخر من قذفتهم طفولتهم في مسيرة هذي الحياة فصار يقاتل أال يسير بدرب الرياء سيف كل القلوب التي عجزت عن معاركها ُ أنا في الحروب األخيرة للحب والكبرياء أنا شمعة لدموع المحبين واألشقياء باب لحاء أنا سيد الواقفين على كل ٍ وباب لباءْ أنا كل طين تشكّ ل من حرف: شين ..وتاء ..وياء ..وواو ..وياء ٍ * شاعر وأكاديمي من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
79
ٌ شموخ كبِّر.. فقد ضجَّ الفضا بالمارقينَ .. و لم تزلْ آمالُهمْ قفر ًا كيد ِهمْ و ُخطةُ ِ مُ تخاذِ لَة!..
هيهاتَ الغدر ُِ تقلبُهُ رياحُ ُغاث.. أصوات الب ِ ُ الميمون ِ تلوي جي َد ُه الل الض ِ نشنةُ َّ تغرُّ ه في اهللِ ِش ِ الباطلَة.. ِ
ِكبّر.. سمعٌ .. فصوتُك مُ ِ الموبقات ِحيالهُ جَ وعى ُ و المعرش دونهُ ِّ الليل ِ ترجي غفو َة ِّ كالب ُ لتهب عن سَ عَرٍ َّ القافلَة!!
في صدرِ هِ بركانُ أمتِّهِ يصلي خاشعاً.. شمس الحقيقةِ مُ س َدالً.. ُ و دثا ُر ُه بساطهُ حزْمٌ .. ُ و همس الدُّ جى ُ فكيف يروعُ هُ طوب الخ ُ َنوش موقِ فَهُ ُ وت ُ الذاهلَة..؟! ِ
نفس في المَ دارِ ٌ هللِ تسيرُ واثقةً .. تنوءُ بهمِّ ها الوطنيِّ الخنو َع ال تلوي على وَجَ ٍل يراودها ُ بجالل طلتِّها األبيَّةِ ِ و لم تزلْ ماثِ لَة.. الحسادُ في ألقابِ هِ َّ كمْ زاي َد المرجفات ُ و تقاذَفتْهُ بمكرِ ها.. السفوح مهابةً ِ فربا على كلِّ كالطودِ ترفعُ هُ الخصالُ الفاضلَة.. ِ * شاعرمن السعودية.
80
■ حسني صميلي*
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ال لن يكونَ .. ولن يكونَ .. الشعب -ياهلل - ِ ألنهُ في كالمباه ِج.. ِ يركض ُ كاألماني.. كالسحائِ ِب هاطلَة.. ِ قد ٌر طلوعهِ .. ِ هلل منذُ رعا ُه ا ُ و أضا َء في دنيا األنامِ منازِ لَه...
■ عبداهلل األسمري*
ضربت قالع الروح ُ بمجداف الطفولة ِ وحملت تابوتي إلى العُ دْ وَةِ القُ ْصوَى عقارب الزمن الممتد في أقاصي الروح تحتفي بالبدايات المؤجلة في أزمنةِ الوجع الغابر رهنت العمر ُ بضراوة اللحظة ورهاني المجهول لم تشهد له األماني ألقيت عليها قميص يوسف وأنصت لخطى العابرين ألرسم من دمائهم منفى لحفيف الكلمات وخفق جروحي صنعت لها تابوتًا آخر من سنديان السامدين على رمال التيه وكسوت عورة المسافات بحوافر الصافنات بددت بياض الدروب حين سلمت ذاكرتي لثقوب التاريخ المزيف وعدت بتابوتي وحيدً ا ُ إلى العُ دوةِ الدُّ ْنيَا!
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
ٌ تابوت آخر
* شاعر من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
81
َ أقول لن حبيبتي َأنا ْ
■ شاهر ذيب*
وف شَ ف ٌَق يُ سافرُ في َصحارَى الجَ ِ َبحث عن غَ َضا، ي ُ ينيك أُغنيةً .. ليقطف ِمنْ شَ ذا عَ ِ َ ويَمُ دُّ ُأنْمُ لَهُ ويَمضي الكون.. ِ الكلمات فوقَ ِ يَنشرُ يَزرعُ ها لِ َتب ُْسقَ أ َْحرُ ف ًا بدمٍ وأحالمٍ فال يَقوى على إحراقِ ها َضاء األرض وال َق َد ُر الف َ ِ وَهَ ٌج من
*** َكوين شَ ف ٌَق يُ عاندُ لحظ َة الت ِ هناك شَ رنقةٌ َ وأنت البداياتِ ، ِ زمن في ِ حاالت التَحَ وُّ ِل والحياة. ُ الصحراءِ غزل َ ن ُِسجَ ْت لها ِمنْ مَ ِ
*** ِمنْ أَينَ ِجئ ِْت فراشَ تي؟ أصبح ِت األسيرة؟ ْ وكيف َ وقت، كاأل َْسرِ ال َيثْنيهِ ُ عاند للنبوءة، َمن المُ ِ يهب الز ِ في غَ ِ ِّمال َّات الر ِ لت َضفائِ رُ ها بِ ــذر ِ صت الرّبا كغزالةٍ ُجبِ ْ ولقدْ َتقَمَّ ِ الصفرِ ، ُ ماوات، ِ َحلت عَ يناها من َود ِْق السَ واكت ْ وشَ َّب ِشفاهَ ها وَهَ جُ الظهيرة.
*** حبيبَتي! أنا لَنْ أقولَ بأن َِّك األُنثى الوحيد ُة إِ نْ َض ِحكْ ِت.. األرض أجيا ًال وأكثرْ، ِ يَطوُ لُ عُ مْ رُ 82
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
أو إِ نْ َبك َْت الصنوبَر. غابات َ ُ تَغفو على كتِ فيْها أنا لنْ أقولَ : َستجدي مُ رور َِك فوقَ تُربَتِ ها بأنَّ َتفَتُّ حَ األزهارِ ي ْ َف َت ْربُو ِمنْ نَدا كَفَّ ي ِْك ياقوت ًا وعَ نبر.
*** حبيبتي ألقاك يوماً، ِ تَدرينَ أنِّي لَمْ ولَنْ غي َر أن َِّك كالنَّهارِ البِ كرِ قدْ تَغْ شَ ا ُه أمواجُ الغيوم. للموت ِ لكن َِّك لنْ تَنحني أزمنةُ الظالم، السرِ ِ إِ نْ جَ اءت بِ هِ في ِّ فامنحي وقتَ الظهيرةِ روج إلى الحقيقة، بعض أجنح َة العُ ِ َ بعض وقت َِك َ وامنحيني القلب، ِ كي أ َِحلَّ بخفقةِ ورَعشةِ صوتِ ِك المنثورِ في وَهَ ِج النجومِ ، أطراف المجرَّ ة، ِ وفوقَ عينيك موتي، ِ وإذا ما حانَ في دافع مَ وتَي إذا ما جا َء ولست بِ ٍ ُ لكنِّي... لحظيك ِ شمو َخ ا ْلهَامِ في لم أ َْح ِن ولَنْ أَحني.. فال ت َْحنِ ي. * شاعر وطبيب من سورية مقيم بالجوف. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
83
عط ُ َ ِّ األكف ش
■ خالد أبو حمدية*
عَ ـي ّـرْتِ هِ بالـح ِّـب فـيـ َم يُ ـعَـيّـرُ ْك؟! ـتلت أسط َر ُه واغ ِ يؤس ِطرُ ْك وكانَ ْ مـاذا تـقــولُ الــريـح فـي أغـصانِ هِ ؟! تَعرى على مَ ـ ّر الفصول وتستـُرُ ْك ْ شواطئ ٌ تغفو على عَ طَ ِش األكـ َّف مـحـتـلـ ّةٌ َلويحها ي ْـسـتـمْ ِـطرُ ْك تـ ُ يا مــاءُ قـُـلْ لـلبحرِ ذاب شراعُ ـنا الموج ِ فاخفض جناح جئنا نعـبُـرُ ك ال يـسـتـوي من يـفـتـديـك مغادِ ر ًا يمتطيك َ يا بحــرُ فيمَ نْ ويَغدُ رُك ْ ك ـنّـا صـغـار ًا والـحـيـاة ك ـب ـيـر ًة فبأي وجـهـيـهـا تـواتـي َت ْـسـحَ ـرُ ْك ّ واآلنَ ما تحكي شاخص ٌ ُك وشيب ُ ّك أبـهَـرُ ْك ويـضـيـقُ بـامـرأةٍ تـحـب َ و َت ِـح ُّـن!! هل ما زلتَ تذكر وجهها أم تـُنـكـِرُ األشـواقَ فـيـهِ وتـنـكِ ـرُ ْك وجعُ الكـبـيـر م ـع ـل ـ ّق فـي حـل ِْـمـهِ صعب تـخَ ـيّلُ أنّ جرحـ ََك ٌ يكـْبُرُ ك ْ جـ َ َر َح النبيذُ شفا َه صوتِ َك واشتـفى مذ صار ما يسليك عنها 84
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
يـ ُْسكِ رُ ْك كرومهـا ِ اك جدْ بَ واستنبتت كفّ َ أخ َضرُ ْك لناشف مقلتيها ْ ِ وسعى ناشئةِ الـغرام بـلـيلـِهِ كنت ِ ما ِ تستعبدينَ شجونـ َهُ ويـُـحَ ـ ِّرر ُْك وتـبعـثـرين كيانَهُ فـتـذكـري! عظامهِ مرمَ رُ ْك ِ قـ َدْ قدّ من أنقى لـك ـنّـك النَذ ُر المُ عانِ دُ َص ـ ْب ـ َر ُه لــو الح نجمٌ شاردٌ يت َذك ـ ّرُ ْك أنـثـى عـلـى أ َلـ ٍـق تـثـو ُر وف ـتـنـةٍ فـلـمنْ ِغـواهـا آيِ ــلٌ َـطـرُ ْك؟! و َتـع ّ وكمـهـرةٍ حـ َ َرنـ َْت بـمـضـمـار الرؤى تـحـنـو عـلـيـهـا في الخيال وتـك ِـسرُ ْك مالمحَ ها شَ ـرِ ب ْـت ِ مَ ـسـامُ ـك كـ ـلـُّهــا والحزنُ في عَ ْص ِف الغياب يـُبَعثِ رُ ْك ما الحزنُ في َلـ ْيلـيْـك غـيـرُ وديـعَـةٍ مـن شارد الهدب المبلّل تـُبـ ِْصــرُ ْك ـاط ـ َر الـمـنـفـيّ فــي خَ ـ ـلـ َوات ـِهِ يـا خ ِ الغيوب ِ ال كـ ّـف تـنفذُ في وتج ْـبـُـرُ ْك حـتى وال يـشـفي انتظارَك هـُدْ هـُدٌ ـديم يأتـيك بالـطـّيـف الق ِ ويـخــبِ ـرُ ْك * شاعر من األردن. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
85
لست أدري ُ لست أدري ُ شوق وحنينْ ٍ بينَ كيف أُكتُ ْب فوق سطرِ العُ مْ رِ قُ ولي كتاب العاشقينْ في ِ أي ُجزءٍ ترتضينْ !؟ ّ لست أدري ُ رأس َذيْلْ كيْدُ أنثىُ ، دبَّروا أمري بِ لَيلْ واستمالوا كُ لّ مَ يْلْ ِمن صباحي علّني أو ربَّما لس ُت أدري ْ جَ هَّ زوا لي رحلةً َل تَراني وِ جهَةً في متاعي يرضي غُ رور السؤالْ كُ لّ ما ِ غير شيءٍ واحد ٍ عن ر ُُجوعي لست أدري ُ أي ف ٍَّك ذ ْنبُهُ ّ إِ فْ ُك ذِ ئ ٍْب ِمن دمي كُ لُّ دلْوٍ قل ُْب بِ ئْرٍ فيهِ حبْلٌ كان وِ صلي كالسراب ْ ظَ لَّ يطفو صوب ميالدي يُ نادي جيب من يُ ْ لست أدري. ُ * شاعر من السعودية.
86
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
■ محمد عسيري*
■ حسني جومان السويدي*
قُ م لِ لحَ يَاةِ ُقي وَفُ َك الطَ وقَ عَ ن عُ ن ِ
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
رؤى
َالت َفتَاةٌ ) (ق ّ كَسَ اهَ ا اللِ يلُ بِ األر َِق قُ م ب َِددِ الرَهلَ ثم اشرق بناصيتي!.. َاك تَذ ُر الفَر َح في كَيمَ ا أر َ دق الحَ ِ مس ،ال تَرفِ ق قُ م عَ انِ ِق الشَ َ بِ قُ بلَتِ هَا َاق ِعنَاقُ الوَجد ِ ِخيرُ العِ ن ِ بالشَ ب َِق أذِ ب مُ رُ وج ًا ِمنَ اآلمَ ِال في َتي ُلغ ِ َاعصرِ الغِ ي َم ثُ م أغرِ ق بِ ه أو ف ِ ُحرَقي قُ م وَاسرِ ِج اللِ يلَ ال تَأبه لِ وَحشَ تِ هِ اص َم اليومَ.. ال عَ ِ لن تَنجو ِمنَ ال َغر َِق * شاعر من السعودية. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
87
وني قطاع النَّ ْش ِر ِ ُ اإلل ُ كتر ّ ُ ُ والصوتي ..استيل لونارتوتش الرقمي الهادئة للكتابين الثورة ّ ّ ■ ترجمة :خديجة حلفاوي*
رغم إطالقه ألول مرة من قبل «أمازون» ( )Amazonمنذ أكثر من عشر سنوات، [وجلِّ دول العالم] ،كان بمثابة إال أن وصول نظام «كيندل» ( )Kindleإلى فرنسا ُ نقطة التحول الرئيسة نحو عصر الكتب الرقمية .لكن ،ماذا عن اليوم؟ بمناسبة صــدور الشريط الدرامي «حيوات مزدوجة» ( )Doubles viesل«أوليفيه أسايس» خاصا حول (- )Olivier Assayasالذي يسلط الضوء على الموضوع -نقدم تقريرً ا ً واقع «الكتاب الرقمي» (.)e-book عقب نشر أول كــتــاب رقــمــي ،ساد
اض ــط ــراب وذعـ ــر كــبــيــريــن فــي قطاع
النشر والصحافة .ومــن خــال تقديم
مقارنات وسيناريوهات متعددة لما آلت
إليه صناعة التسجيالت الصوتية ،تنبأ العديد من المهتمين بـ«الموت الوشيك
للكتاب الورقي» لتحل محله ثورة الكتاب الرقمي بفعل تطوره الهائل الذي تعززه
88
لــم يكن فــي مــحــلــه ...ال يــزال الكتاب الورقي يقاوم ،وال تزال الكتب تحافظ على حضورها الدائم بالمكتبات .لكن، هل األمر داللة على كون الكتاب الورقي لم يفقد تأثيره؟ كيف تطور موقع الكتب الرقمية واستعماله خــال العشرية األخيرة؟ وفي أي من المجاالت تطور بشكل أفضل؟
األرقام .واضح أن التنبؤ بالمد العظيم بــعــد خــمــس عــشــر ســنــة مــن دخــول لـ«الكتاب الرقمي» ،بعد عشر سنوات ،اإللكتروني في القراءة اليومية بفرنسا العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
تتصدر الرومانسي ُة األدبَ البوليسي وأدب التخييل والخيال العلمي والفانتازيا قائمة األجــنــاس األدبــيــة األكثر قــراءة في الشكل الرقمي .يعد «بنيوا تاريل» (،)Benoît Tariel مــســؤول المبيعات المباشر بـ ـــ( ،)TEAأن «الرومانسية تلقى نجاحا كبيرا في العالم الرقمي ،لكونها تتوافق مــع مبدأ الــقــراءة
رغم تماسك هذه القطاعات وبحثها الدائم عن التكيّف مع التحوالت المختلفة ،ال يزال الكتاب الرقمي ينمو ببطء في فرنسا أكثر من الدول المجاورة لها .كيف يمكن تفسير هذا التفرّد؟ «ال يزال الفرنسيون متمسكين للغاية بالكتاب الــورقــي» ،يجيب «فينسينت مونادي» (( )Vincent Monadéالمركز الوطني الفرنسي للكتاب) .وبالفعل ،هناك جانب عاطفي خاص للمكتبة الشخصية والرمزيات االجتماعية التي تحملها .في نظرنا ،يظل الكتاب عالمة خارجية على الثروة الفكرية! في حين أن المرور نحو اللوحة الرقمية أقل سالسة.
تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة
وجــ ّل دول الــعــالــم ،يتقاسم ثــاثــة فاعلين رئــيــســيــن مــجــاال بــيــن األجـــهـــزة الــلــوحــيــة وتطبيقات القراءة المتنقلة« :أمازون وكيندل ( %45من السوق) « »la Fnacو«%18( »Kobo إلى %20من السوق) و«أبل» ( %13إلى %19 من الــســوق) .ثم في المرتبة الرابعة نجد ( %5( )TEAمن السوق) التي تبنت مشروع «الكتاب اإللكتروني البديل» (The Ebook )Alternativeبعد إطالقها سنة 2012م من قبل مكتبة ( )Decitreكبديل محتمل للكتاب الورقي.
اإللزامية ،إضافة إلى كون هذا الجنس األدبي أقل حضورًا في المكتبة الكالسيكية» .تمثل نسبة مبيعات «الكتب الرقمية» نحو %20من رقــم معامالت دور نشر ()Harlequin؛ أي ِضعف ما تسجّ له دار نشر عامة.
الناشرون الممانعون يمكن أن نجازف بالقول إن هذا التردد يقترن في األساس بتردد وتحفظ الناشرين أنفسهم إزاء الكتاب الرقمي .يرى بنيوا تاريل أن «األم ــر استغرق بعضا مــن الــوقــت قبل أن تؤخذ خصوصيات الكتاب الرقمي في الحسبان من قبل الجهات التقليدية الفاعلة في القطاع» .اليوم ،ال تزال سياسة التسعير أكبر عقبة أمام تنمية قطاع النشر الرقمي. «ليس هناك اتــســاق فــي سياسة التسعير الشاملة بين الناشرين .على سبيل المثال ،ال تغير دور النشر سعر الكتاب الرقمي حينما العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
89
تصدر نسخة «الجيب» من الكتاب الورقي». كنتيجة لذلك ،يحدث أن يجد القارئ نفسه أمام االختيار بين كتاب ورقي بـ ( )20يورو، نسخة جيب بـ( )8يورو ونسخة رقمية بـ ()14 يــورو؛ فجوة غير مبررة ،بالنسبة لرهانات تطور المكتبة الرقمية. تعد القرصنة أكبر مشكلة في عالم النشر الرقمي .إذا كانت القرصنة منتشرة بشكل كبير في القطاع السمعي البصري أو مواقع التدفق العالي ( ،)streamingفإن مخاطرها فــي عــالــم الــكــتــاب الــرقــمــي تــقــتــرن بتعدد استراتيجيات تقاسم الكتاب اإللكتروني الذي تم شراؤه من قبل مستخدم واحد وتوزيعها على اآلالف من القراء على شبكة اإلنترنت. يختار بعض الناشرين إدراج «حقوق الملكية الرقمية» ( )DRMفي كتبهم .تسمح هذه الحماية اإللكترونية الصغيرة بإمكانية تشفير الوصول إلى الملف والح ِّد من عدد النسخ التي يمكن أن يقوم بها المشتري .على الرغم
90
من أن إعــداد نظام إدارة الحقوق الرقمية مكلف للغاية ،يظل سهل االختراق من قبل القراصنة« .في الواقع ،تزعج هذه الحماية المستخدم العادي أكثر بكثير من القرصان»، يفسر فينسينت مونادي .والنتيجة ،يفضل بعض الناشرين ()...Eyrolles، Bragelonne عدم االنفتاح على مثل الخدمات المكلفة. لذلك ،يتعرضون لخطر القرصنة ،ويعولون على المسؤولية األخالقية والفردية للقراء. بنسبة لـ %7من سوق الكتب ،هل ستستمر نسبة الكتب الرقمية في النمو أم أنها ستصل إلى حد أقصى معين؟ «أعتقد أن اقتصاد الكتاب الرقمي سيمثل في نهاية المطاف ما بين %10إلى %12من دون زعزعة استقرار االقتصاد الورقي» ،يؤكد فينسينت مونادي. ويضيف بينوا تــاريــل أن «نسبة المبيعات ستستمر في النمو ببطء ،لكن بشكل مستمر. ففي فرنسا ،نميل إلى المبالغة في تقدير
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
الكتاب الصوتي في ازدهار.. يعد قطاع الكتاب الصوتي أحد المجاالت األســاس التي تطورت عن الكتاب الرقمي خ ــال الــســنــوات الــخــمــس األخــيــرة بشكل متسارع ،وأضحت «نجما» غير متوقع في مجال النشر .لفترة طويلة كان هذا النوع من الكتب حكرًا على المكفوفين .لكن توسعت قاعدته الجماهيرية مــع تعميم المعدات واألجهزة المتنقلة بين المستخدمين .تهيمن منصة (- )Audiolibتنتمي إلــى مجموعة ( -)Hachetteعلى القطاع ،حيث تضاعفت نسب التحميل بين سنوات 2013م و2017م، ما يثير جشع العديد من الناشرين اآلخرين. دشنت مجموعة (( )Editisمالكة ل» « Firstو» »Belfondو» )...»Robert Laffontخطواتها األولى الكتساح السوق مع مشروع (،)Lizzie العالمة التجارية الصوتية للمجموعة .وفي الجهة األخـ ــرى ،ال ت ــزال أمـ ــازون تواصل هيمنتها على منصة التنزيالت (.)Audible من المثير لالهتمام أن نعلم أن القادمين الجدد للمجال هم مشغّلو خدمة الهواتف النقالة ،إذ انضم ثنائي ( )Fnac-Koboإلى شركة ( )Orangeمــن أجــل تقديم عــروض للكتب الصوتية لعمالء العالمة التجارية.
تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة
الــثــورات التي تحدث على المدى القصير والتقليل من شأن الثورات التي تحدث على المديين المتوسط والطويل».
يعد بينوا تاريل أن «مصدر قوة الكتاب الصوتي تكمن في كونها تجذب فئة جديدة من الناس الذين يقرؤون قليال وال يضطرون أبــداً إلــى طــرق أبــواب متجر لبيع الكتب». وإذا كان %2من الفرنسيين يمتلكون لوحات إلكترونية« ،فــإن %18قد سبق لهم بالفعل «قراءة» كتاب صوتي ،منهم %7خالل األشهر االثني عشر األخيرة» ،وهو ما كشفت عنه دراســة حديثة لـ ( )Ipsosأجريت من قبل «النقابة الوطنية للنشر». لتحقيق االستفادة المثلى من االحتماالت التي توفرها وثيرة تطور الرقمنة ،يعد بينوا تــاريــل أنــه علينا أن «نــتــجــاوز االختالفات البسيطة ،ونفكر في استمرارية أقوى للورقي والرقمي معا» تصب فــي مصلحة الكتاب أساسا .وبالنظر إلى إمكانية تضمين وعرض الكتب الرقمية بالمكتبات الــورقــيــة ،يظل عددها الكبير وغناها قيمة مضافة للسوق الفرنسية للكتاب« .يمكن أن نتخيل نظاما رقميا للبطاقات يقوم بموجبه بائعو الكتب أيضا .على سبيل المثال، ببيع الكتب الرقمية ً في حالة نفاد مخزون النسخ الورقية» .في مواجهة التحوالت التي يعيشها عالم الثقافة والنشر ،سيتعين على القطاع االعتماد على المزيد من االبتكار وتكامل االستخدامات. ماذا لو كانت ثورة الكتاب الرقمي قد بدأت للتو؟
* كاتبة ومترجمة من المغرب. ( )١نشرت هذه المادة حديثا باللغة الفرنسية:
Estelle lenartowicz, livre numérique: la révolution tranquille, magazine Lire, décembre 2018.janvier 2019, pp: 33-34 العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
91
األديب والروائي الدكتور «طارق الطيب»: العربيةُ لغتي المبدعة وبيتي الحميم ،وما عداها روافد مساعدة نصيب العالم العربي نسخة واحدة لكل ربع مليون شخص!! تطور األجناس األدبية أمر حتمي ،والجمع بينها ليس جريمة!، صراع الرواية والشعر مفتعل ،والحكم للنقد والجمهور مؤلف الهواجس الطارئة ليس أديباً ،بل كاتب خواطر!! ■ حاوره :محسن حسن
92
يقف على مسافة سواء من ثقافات وال ــس ــودان ــي ــة ،م ــؤم ــل ل ــواق ــع عــربــي ِّ الشرق والغرب ،ويــدرك بحس األديب أفضل ،نحو التخلّي عن ثقافة االنتقاء ووعــي العاقل أن جوهر اإلنسانية ال واالجتزاء ونبذ اآلخر المختلف ،ونحو تقيّده حدود أو تقف أمامه جغرافياً أو تكريس واق ــع ثقافي جــديــد ،يستنير تضاريس ،لكنه رغم احتفاء الغربيين بالماضي المشرق فيستلهمه بوعي به وبكتاباته الروائية والشعرية وغيرها حاضر ،ويتعلم من الغابر المر فيتجنب أكــثــر مــن الــمــصــريــيــن والــســودانــيــيــن تكرار مآسيه وكوارثه.. والعرب ،إال أنه معتز بشرقيته ،مفتخر أعماله ترجمت لثماني لغات عالمية، بلغته الــعــربــيــة ،وب ــج ــذوره المصرية العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
إنه األديب والروائي والشاعر د« .طارق
الرواية تتخلل تلك المسارات ليس لصدمة
دول أوربية..
الطيب» ،حاورته الجوبة عن مالمح مشواره
الثقافي واألدبي واإلنساني ،وحول العديد من قضايا األجناس األدبية المختلفة كالرواية
والقصة والشعر ،إضافة ألطروحات عديدة أخرى حول مالمح المشهد الثقافي العربي،
فكان هذا اللقاء.
الرواية األحدث وتكريم األدباء ¦روايتك األحدث (وأطــوف عارياً) تناولت قضايا الهجرة بمفهوم مختلف ،وتحمل إشـ ـع ــارات خـفـيــة بـحـتـمـيــة زوال الـقـيــود الـفــاصـلــة بـيــن ال ـح ـض ــارات اإلن ـســان ـيــة.. تتفق أم تختلف؟
الالوصول .هناك مفاجآت كثيرة داخل
القارئ وإنما لمحاولة إفاقته إن أمكن. وفــي الــواقــع ال تحمل روايــتــي إشعارات
خفية بحتمية زوال القيود الفاصلة بين
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
بعضها لدى مدارس وجامعات أربع ويدّرس ُ
لحظة الوصول إلى األرض األوروبية أو
الحضارات بل ببيان تعقدها؛ ففي ظني
الــحــضــارة واحــــدة ..لكن عمارتها لها
فواصل جدرانها أسمك من التخيل!
¦ف ــي م ـع ــرض ال ـق ــاه ــرة ال ــدول ــي الـمــاضــي للكتاب كــان لــديــك تحفظ على أسلوب تكريم المثقفين واألدبـ ــاء ..أوالً :لماذا ه ـ ــذا ال ـت ـح ـف ــظ؟ وث ــانـ ـيـ ـاً :ك ـي ــف وج ــدت اس ـت ـق ـب ــال ال ـ ـقـ ــارئ ال ـم ـص ــري ل ــرواي ـت ــك األحدث؟
روايــتــي األخــيــرة (وأط ــوف عــار ًيــا) التي صدرت العام 2018م تتناول عدة قضايا، مسارها األســاس يبدأ من إجبار فنان
عربي موهوب ليتحوّل إلى هامش الفن، وتحديدا إلى «موديل» للطالبات والطالب
في أكاديمية الفنون في فيينا .وفي وقوفه العاري ،يُعرّي مثالب المجتمع الذي عاش
فيه والمجتمع األوروبــي الذي أتى إليه، عبر حكاية حب وزواج انقطعت في بلده،
تتحول لحكاية أخ ــرى ملهمة .ومسار الهجرة هنا يأتي عبر شقيق البطل ،ليس من أجل حكاية أسباب الهجرة والطريق الــمــحــزن نحو الــشــمــال ،وإنــمــا يالمس العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
93
عرضتُ ْ ρ ρلم يكن تحفظً ا على األسلوب بل إضافة لفكرة تكريم المثقفين واألدبــاء، بأن يتم تكريم ُكتّاب أحياء بجوار ال ُكتّاب الراحلين .فالمالحظة عندي أن أغلب الــكــتــاب الــمــجــيــديــن ال يحصلون على ¦حينما تستحوذ عليك ُحــمّ ــى المقارنة تقدير ولو معنوي في حياتهم ،وبمجرد ب ـي ــن ال ـث ـق ــاف ــة ال ـع ــرب ـي ــة ب ـك ــل أب ـع ــاده ــا رحيلهم تنبري األقالم لبيان عبقرية كل ال ـم ــاض ـي ــة والـ ـح ــاض ــرة ،وب ـي ــن ال ـث ـقــافــة راحـــل ،وال تــجــرؤ صحيفة على رفض األلمانية بكل مكوناتها ،مــاذا يصدمك هذا الرثاء الحماسيّ .أما كيف استقبل من مالمح تلك المقارنة؟ القارئ المصري رواية (وأطوف عاريًا)، فليس عندي علم ،لم أقرأ نقدًا واحدًا ρ ρسأوضح أوال أن اللغة في النمسا هي اللغة األلمانية ،وليست هناك لغة غيرها، حتى اآلن ،وليس لدي أي شلة أو دائرة وهــي بالتالي رافــد أســاس في الثقافة أمــارس معها التبادل الترويجي للكتابة المعتمِ دة على اللغة األلمانية ،وللدخول عن أعمالي .لكني أثق أن هناك أقالماً إلى متن اإلجابة أقول :يصدمني الكثير: صادقة ستكتب بعد حين. الماضي العربي ليس جميال كله كما اللغة وحوار الثقافات ندّعي ،وال كما نتخير منه في الحاضر ¦ما الجديد على مستوى كل من :الشعر، بما يروق لنا ونلوي به عنق ما ال يستجيب والرواية ،بالنسبة للدكتور طارق الطيب لراحة بالنا .نتواءم مع ماضينا لألسف م ـمــا سـيـطــالـعــه الـ ـق ــراء ف ــي المستقبل بطريقة االنتقاء .الماضي األوروبي ليس القريب؟ سيئا كله ،لكنهم يتخيرون منه السيئ التي أراها .رغم أنني أتفهم محبة القارئ ورغبته في االطــاع على جــديــدي؛ إال أفضل أن أفاجئ القارئ بالكتاب ّ إنني وهو على أعتاب النشر.
94
ρ ρعند أي مبدع ال يتوقف الذهن أبدًا عن الكتابة الصامتة ،وهذا حادثٌ معي على الدوام ،لكن العبرة في النهاية بالمنشور فعال ،وقد تعودت مؤخرًا أ ّال أبوح بما لم أنته منه تماما .أبــوح فقط بما انتهيت ورضيت عنه .قديما كنت أبوح بما أكتب أو ما سأكتب ،وكنت أتعرض للمساءلة باستمرار عن صدور العمل المزمع ،وكان هذا يقلقني ويربك ترتيباتي وأولوياتي العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
عمدًا للرغبة في عدم تكراره ،يتخيرون طريقة التذكر الدائم وعدم الــردم على التاريخ القبيح .وهذا مفيد للتغيير الذي يؤدي حقًا إلى تغيير حقيقي .التستر على أجــزاء ظالمة من التاريخ جريمة تسعى للبدء في تنفيذ جرائم أحدث! ثقافياً ،في عالمنا العربي ،نحن إجماالً في انحدار نسبي ،ا ُنظر إلى األسئلة األيديولوجية- والدينية منها بــاألســاس -التي تشغل
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
الناس في العقود األربعة األخيرة ،ا ُنظر إلى األسئلة المعرفية المؤسسة فكريًا على فلسفة الوعي ،أو حتى المرفوع منها على أساس تطبيقي فيما يخص التعليم؛ ستكتشف الــبــون الــشــاســع بيننا وبين ماضينا القريب وستكتشف الهوّة الهائلة بيننا وبين الغرب. أمــارة الماضي العتيد وحدها لن تخلق حاضرًا يمكنه المنافسة في سوق الثقافة. ُحضرْها حضارتنا التي من المفترض أن ن ِ ُحضرها دائما لحاضرنا ونبني عليها، ون ِ ّ نفعل بها العكس تماما؛ نهدمها ونحطمها بالمعنى ال ــم ــادي للتحطيم ،بــمــعــاول وفــؤوس ،متخذين أغبى وأجهل فترات التاريخ كمثال نموذجي للمحو .المزعج والــذي يحدث بتساهل وقبول هو هذا الديني المتطرف والمنسكب تدريجيا من آنية الشر والذي مهما بالغ ،يتوافق معه مهمّشو المجتمع رغبة في تغيير قد يلبي أمنيات مَنسيّة لهم ،فإن لم ينجح فليحطم ترف الجميع وأمانهم! ¦ك ـنــت حــري ـص ـ ًا ع ـلــى إن ـج ــاز ك ــل أعـمــالــك ت ـقــري ـب ـ ًا بــالـلـغــة ال ـعــرب ـيــة رغ ــم إج ــادت ــك التامة لعدة لغات أخ ــرى ...مــا الرسالة التي أردْتَ إيصالها؟ ρ ρأنــا أكتب باللغة التي أشعر أنها نبرة صوتي الحقيقية ،وهــي اللغة العربية، الــلــغــات األخ ــرى راف ــد مساعد ثقافيًا وذهنيًا ،ومرافئ معرفية صالحة لالتكاء
عليها لمصلحة اللغة األم .أشــعــر مع
العربية بأنني فــي بيتي الــذي أتحرك فيه بحريتي ،وأتعامل مع حروفي فيه
مثل تعاملي مع أشيائي الحميمة .مع لغة أخرى يجب أن أكون حذِ رًا ومتمكنًا في
آن .ليست بطولة أن أكتب إبداعا في لغة يكتشف اللسان األم من خاللها أنني غير
جدير بها ،أو أنني أسير على سطحها. اللغة هي روح الكتابة وأمها والتساهل مع
النسب الصادق لألم يؤدي بالمبدع إلى
اليُتم اإلبداعي .هناك من يجيد الكتابة
بلغتين أو أكثر بالمهارة نفسها لكنهم قلة. أنا لست منهم .أما كتاباتي األكاديمية
فال بأس أن أكتبها بلغة أخرى ،فضبطها سيعتمد على صرامة اللغة ودقتها أكثر
من حساسيتها اإلبداعية.
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
95
اإلبداع بين هويتين ¦في خضم ما ترجم لك من أعمال شعرية وروائية إلى لغات مختلفة ..كيف وجدت الـتـلــقّ ــي ل ـهــذه األعـ ـم ــال؟ وه ــل أنصفك القراء العرب ومنهم السودانيون؟ ρ ρتُرجمت أعمالي إلى ثماني لغات ككتب منشورة :في فرنسا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وكوستاريكا وفنزويال وصربيا ومقدونيا ورومانيا وهولندا ،وإلى أكثر من ذلك كنصوص في أنطولوجيات ودوريـــات أدبــيــة فــي السويد والبرتغال وبلجيكا والــصــيــن والــهــنــد وأوكــرانــيــا وكرواتيا وغيرها .هذه الترجمات صحبها دعــوات رسمية للحضور وتقديم العمل المترجم في البلد صاحب لغة الترجمة،
بل أدرج ــوا بعض أعمالي في المناهج التعليمية لطالب المراحل الثانوية أو الجامعية فــي مــدارســهــم وجامعاتهم،
كما حدث في النمسا وألمانيا وفرنسا
وإيطاليا تحديدًا ،وحين ذهبت والتقيت
بــالــطــاب وبالمهتمين وج ــدت احتفا ًء وقبوالً وحوارًا مفيدًا للطرفين .وفي تلك
البالد البعيدة وجدت مكانًا لكتابي في رفوف مكتباتهم فصرت قريبًا منهم .في
المقابل كمثال ،حين دُعيت يومًا لجامعتي (عين شمس) التي تخرجت فيها ،ألقدّم
محاضرة ولقا ًء مع طلبة كلية اآلدابُ ،منِع
الطالب من الحضور ،واقتصر اللقاء
على غرفة مغلقة تجمع فقط أعضاء هيئة الــتــدريــس! لــذا ،أقــول مــن أســف،
إن التقييم العربي يعتمد على الصوت العالي ال الصيت العالي ،والقارئ العربي
ال تصله أعمالي بسهولة .فألف نسخة
ألكثر من ثالثمائة مليون عربي (وهي ال تــوزع كلها إال بعد سنوات) ،يعني أن
نصيب القارئ العربي نسخة واحدة ألكثر
من ربع مليون شخص.
أمــا عن الــســودان فهو لم ينشر لي أي
كتاب حتى يومنا هذا ،بينما نشرت لي
كوستاريكا في أميركا الوسطى كتابا قبل أعوام قليلة على سبيل المقارنة المحزنة، وكــتــابــي مــتــاح لــديــهــم ف ــي الــجــامــعــات
والمدارس والمؤسسات المعنية باألدب
96
هناك! العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
¦هــل نستطيع الـقــول إن كـتــاب «محطات م ــن ال ـس ـي ــرة ال ــذاتـ ـي ــة» ه ــو ن ـت ــاج خــاص لمعاناة «مغترب» وذكريات «منتسب»؟ «ρ ρمحطات من السيرة الذاتية» هو كتابي األول الذي يسجل ربع قرن من مولدي
ونشأتي وحياتي في مصر .عجلت به
للنشر قبل أن أنسى الحكايات الجديرة بالحكي أو قبل غيابها طــي النسيان. هــنــاك نتف قليلة فيه عــن الحياة في
فيينا ،لكنها ستأتي في كتابة أخرى بشكل أوضــح وأوقــع في وقت آخر مناسب .ال
أحبذ على كلمة «معاناة» في ربطها بكلمة «مغترب» ،فالمعاناة ضرورية والزمة في
الحياة وفــي الفن واإلبـ ــداع بالضرورة وليست حكرا على المغترب ،أما كلمة مغترب فهي تطلق على من اغتربوا في الغرب أساسً ا ،ثم أصبحت تطلق على
كل من غــادر البالد حتى لو «تَــشَ ـرَّق».
وألن مصير بعض هــؤالء المغتربين هو العودة إلى ديارهم ،فالكلمة كانت وما
تــزال تصف حالة استثنائية أو مؤقتة. فــي حالتي أنــا ،انتقلت للغرب وعشت
فيه ،ودرست وتزوجت فيه ،وأعمل وأكتب وأزور بــادي وقتما شئت ،لكن أرضي
الجديدة هنا ثبَتُّ عليها وارتحتُ إليها وارتاحت إليّ .لذا ،لم أعد أرى أن بقائي
مؤقت ،ولم أعد أشعر باالغتراب بعد أن
تعلمت لغتهم وخبرت عاداتهم وتقاليدهم وأضفت لنفسي منها ما ناسبني .ليس
الروائي د .طارق الطيب
ثمة اغــتــراب فــي حالتي ،وإنــمــا شعور بالحنين اإليجابي من وقت آلخر ..وهذا ملهم ومفيد .وليس لي اعتراض على كلمة «ذكريات» ،ولكن ال أحبذ كلمة «منتسب»، حتى لــو صاغها السجع فــي الــســؤال، فالذكريات مكون أســاس فــي السيرة، بدونها تفقد الكتابة رونقها وجدواها وشرعيتها .أما االنتساب وأظنه للمكان الجديد ،فهو شيء إيجابي لو توافرت فيه راحة البال والمواطنة الحقة واالحتفاظ بــرافــد الهوية األصــلــي الــذي ال يغيب. هناك قلة تستطيع أن تجد انسجاما وتكامال بين الشرق والغرب في روافد حضارية ليست ملكا ألحد ،أظن نفسي واحدا من هؤالء ،وال تؤرقني الحياة في فيينا وال التفكير في فصلها أو ربطها العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
97
بحياتي في مصر أو بالرافد السوداني.
ال ـت ـع ـب ـيــر ..م ـ ــاذا ق ـص ــدت م ــن وراء هــذه الكيفية في التجسيد السردي والروائي؟
العوالم في مكان «بــدون» أرض وتاريخ،
ρ ρســــأكــــون صــــادقــــا وأصــــــــرح بــجــهــلــي بـــــــ«الفلسفة الجنسية ثالثية األبعاد» فــي رواي ــة (الرحلة 797المتجهة إلى فيينا)! فــالــروايــة أبــســط مــن ذلــك في التناول ،وإن كانت الحالة المعروضة فيها معقّدة ومختلفة ،فجرأة تناول حياة امرأة متزوجة ،تحكي بوضوح ووجــع وببقايا فرح عن حياة تُسرق منها من قبل زوجها (فاروق) وحياة تُقدم إليها من قِ بَل آدم، هي الموضوع األســاس للرواية ،وليس الفلسفة الجنسية .الجنس جزء طبيعي في الحياة ،يفقد طبيعته ومعناه ضمن الشروط الزواجية المتعسفة أو المنهارة ويتحوّل لكابوس يزهق الحياة .والرواية سلّطت الضوء على «العالقة الحميمة» بــاقــتــراب صــريــح وغــيــر مــبــتــذل ،لكنه حقيقي وال يتوارى خلف الكلمات ليترك للقارئ التخمين واإلكمال ،بل يسرد له رهافة العالقة وسموها وصدقها.
الحيرة هي حالة مَن يعيش «بين» هذه وهذا ال ينطبق عليّ ؛ فأنا أكرر دائما أنني أعيش «في» وليس «بين» مكانين!
الرحلة 797والقفز األدبي ¦«الــوصـفـيــة» مـكــون أصـيــل مــن مكوناتك األسلوبية والـســرديــة ،لكنها طاغية في «الرحلة 797المتجهة إلى فيينا» ..أليس كذلك؟ ρ ρالوصف حلية السرد ،الحوار أيضا مكون أســاس ضــروري .روايتي (الرحلة 797
المتجهة إلــى فيينا) ،هــي حكاية ليلى وآدم ،قصة حب مستحيلة ،لكنها صارت
ممكنة .سؤال «الوصفية» يأتي اآلن في ســؤالــك مــن خ ــارج الــروايــة ،أي حولها
وليس فيها .الوصف عندي وصف نفسي في األساس لشخصيات ارتبطت مصائر
بعضها ببعضها اآلخــر .والــروايــة فيها
بوح وصدمة وتناقضات بشر وخروج عن
المألوف ،وفيها حياة طويلة عنيدة لبطلة ¦مــن الــواضــح ،أن قفزاتك بين األجناس الحكاية «ليلى» ،ال يمكنها أن تعبّر عنها األدب ـيــة ال تــرتـبــط بــآلـيــة م ــا ،بــل بميول سوى بالبوح والتفصيل والصراحة ،كل أدب ـي ــة وظ ــرف ـي ــة ..فـهــل ال ـكـتــابــة األدب ـيــة هذا يحتاج لوصف وحوار وهي لم تفعل فــي مجملها لــديــك هــي هــاجــس طــاريء هذا بإغراق ..بل بالضروري في الحكي! ودفقة شعورية ممتدة إلى حين؟
98
¦كــذلــك فــي ه ــذه ال ــرواي ــة « »797تجسيد ρ ρال أدري ،لــمــاذا يصر بعضهم على أن خاص لفلسفة جنسية «ثالثية األبعاد» األجناس األدبية -في الكتابة اإلبداعية كالقصة والرواية والشعر -عوالم مختلفة ب ــال ـم ـص ـط ـل ــح الـ ـتـ ـكـ ـن ــول ــوج ــي إن صــح العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
بينها مسافات وال رابــط بينها ،أو على ضــرورة تخصص المبدع في نوع واحد فــقــط ال يــكــتــب غــيــره .أتــمــنــى أن تتم مراجعة الكاتب في مضمون ما يكتب بصرف النظر عن النوع الــذي اختاره؛ فليس هناك اقتراف جريمة في الجمع بين الرواية والشعر مثال ،أو بين القصة والمسرحية ،أو الرواية والمقالة األدبية.. من الخطأ محاسبة الكاتب عن قصيدة يكتبها وعن قصة كتبها ،نحن نخرج بهذا من التقييم النقدي إلى تفريق نوعي لن يُــجــدي الحديث فيه .وهــل هناك آلية المكان وصراع الهوية معينة لالنتقال من كتابة قصة إلى رواية ¦في كتاباتك الروائية والقصصية األولى إلى شعر ثم إلى مقالة أدبية مثال؟ من وفق بعض اآلراء وجد القارىء تجسيد ًا الطبيعي أن يكون للكاتب ميوله األدبية لـصــراع الهوية والتباين الثقافي ..لكن وأن تتوافق لــه الــظــروف فينجز عمله خَ ـفــتَ ه ــذا فــي ال ـك ـتــابــات األحـ ـ ــدث ..ما اإلبداعي .مَن يكتب بهاجس طارئ فهو ردك؟ كاتب خواطر مؤقتة ،يكتبها عدد هائل ρ ρهذه اآلراء أيضا تنبع من قراءة منقوصة من البشر ،لكنهم ليسوا أدباء. ألعمالي األدبية .لم ألجأ في كتاباتي ألي ¦ف ــي ت ـج ــرب ــة ال ـق ـص ــة ال ـق ـص ـي ــرة ،لــديــك صــراع مع الهويات ،ربما تناولت بشكل تجربتان بينهما خمس سـنــوات ..لماذا أكثر وضوحا وضعية المعاناة والفقد في رأيــك تبدو تجارب القصة القصيرة والتهميش الموجودة بعمق وسط الناس كالمنمنمات فــي سـيــرة الــروائــي العربي المتشابهين في اللغة والمولد والنشأة تحديداً؟ والدين والــعــادات والتقاليد .أظن أنني ρ ρالقصة القصيرة رغم أنها األصعب في أميل للكتابة عن صراع الهوية مع نفسها الكتابة األدبية النثرية من وجهة نظري؛ أكثر من صراعها مع هويات أخــرى لو إال إن االهتمام بها أضعف كثيرًا من جاز التعبير! وفي روايتي (الرحلة 797 قيمتها الفنية ومكانتها .أما عن نفسي، المتجهة إلى فيينا) ،وهي رواية يحكيها آدم مــن أرض أوروب ــي ــة يــعــيــش عليها فأنا لم أحسب الفارق الزمني بين نشر القصص أو حتى نشر أي عمل ،فليس هناك جــدول للعمل اإلبــداعــي عندي، مــا أكتبه وأقتنع بــه وأرض ــى عنه أدفــع به للنشر .هناك من «أخلصوا» للقصة الــقــصــيــرة فــقــط وركــــــزوا مــجــهــودهــم ال أو اإلبداعي عليها ،وهناك مَن كتب عم ً اثنين ،وله عالمة بارزة في القليل العميق الــذي أنجزه .الكثرة ليست دليال على رقيّ اإلبداع أبدا ،فاألديب ليس مهاجما في فريق الكتابة وعليه تسجيل أهداف في شكل كتب!
99
ويعرفها وجذوره ممتدة إلفريقيا ،بينما ليلى تحكي حياتها من أرض بعيدة (من مــصــر) وهــي على أرض جــديــدة .ليس بين ليلى وآدم صراع بل وِ فاق يتلمّسان فيه الوقت الذي يتجمعان فيه معا كروح واحــدة .مأساة ليلى كانت مأساة امرأة في عالم شرقي له ممنوعاته ،ومأساة آدم كانت في حريته المتاحة في عالم غربي .ارتــبــاط امــرأة متزوجة تقع في حب آخر هو محور الرواية وأسئلتها التي عرّت الشرق والغرب والعادات والتقاليد والتاريخ .العالم تغير ولــم تعد مشكلة في الشعر وقضايا الحداثة الشرق والغرب من المنظور القديم هي المشكلة األزلــيــة التي نلوكها عشرات ¦"بعنا األرض وفرحنا بالغبار" ..هل لك أن تحدثنا عن الرمزية الكامنة في هذا الــمــرات فــي أعــمــال أدبــيــة مستنسخة، العنوان؟ هناك آفاق أرحب وأقرب وأكثر عصرية. التباين الثقافي -كقضية تواصل وتقاطعρ ρ -هذا عنوان لديوان صدر لي في بيروت واضــح في كل كتاباتي ،بل على العكس في العام 2010م ،وال أستطيع هنا أن من طرح السؤال؛ أراه يتصاعد بمراحل أنتحل دور الناقد لتحليل عنوان ديواني. في روايتي األخيرة (وأطوف عاريا) التي ولكن يمكن أن أضيف باختصار :نحن ببساطة بعنا األرض وفرحنا بالغبار.. تتخذ من عار التاريخ األوروبي متكئا لها. ومــا زلنا نبيع األرض ونفرح بالغبار.. ¦فيينا حاضرة بقوة في مكونك الشعري وأتمنى أال نبيع كل األرض ونفرح بالغبار! والشعوري ..فهل تفوّق الوطن الحاضن وجــدانــي يحفظ ويــرى ويكتب ويعترف ويُــق ـدّر ج ــزءًا مــن عالم عشت فيه وما أزال ،وهذا ال يحتاج مني أن أتعسفه في الكتابة .القاهرة محل مولدي ونشأتي ال يمكن تبديلها في الوجدان وال حجبها، وليس هناك كتاب لي يخلو من حضور مصر والــســودان بــوضــوح .ليس عندي «أفعل التفضيل»؛ ليس هناك مكان يتفوق عندي في الكتابة على مكان آخر .الكتابة تنتصر لروح اإلنسان أوالً قبل أن تنتصر لروح المكان!
100
والبديل شعرياً؟ ¦ل ـمــاذا اسـتـبــدلــت األرقـ ــام بــالـعـنــاويــن في ديوانك السادس «ليس إثماً»؟ وهل لذلك ρ ρفيينا وطني بالفعل ،وليست بديال لمكان عالقة بمضمون هذا الديوان؟ آخر بل هي امتداد لألصل ،أعيش فيها منذ أربعة وثالثين عاما ،ال أدعي المكان ρ ρدي ــوان «ليس إثــمــا» هــو الــجــزء المك َّمل المنسوخ على ديواني «بعض الظن»؛ يعني وال الزمان وال أتمثلهما في كتاباتي إال كتابة على كتابة ،ولو أنني استعنت فيه بــقــدر حضورهما فــي حياتي بصدق. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
بعناوين ،فكنت سألجأ لنسخ العناوين السابقة نفسها التي في الديوان األول بسبب االرتباط (الظني) بين الديوانين، وه ــذا كــان سيربك الــقــارئ أو الناقد، ففضلت أن أســتــعــيــض عــن الــعــنــاويــن بأرقام ،دون فلسفة أبعد من ذلك .لكن يمكن للقارئ أن يقرأ كل ديــوان بمعزل عن اآلخر تماما ،فاالرتباط على كل حال ليس شرطيا وليس ملزما ،وإنما كما قلت هو «ارتباط ظني». ¦كيف تقيّم دفــاع أنصار الشعر العمودي عن ديمومة البقاء للقصيدة العمودية ف ــي م ـقــابــل لـحـظـيــة ال ـتــأث ـيــر ال ـش ـعــوري وآنيته للقصيدة الحديثة؟ ρ ρكل جنس أدبي إبداعي يتطور مع الزمن. الشعر العمودي كانت له سطوة في زمن كان له .إن التبرؤ من القصيدة الحديثة في المطلق على أنها لم تخرج من عباءة العمودية هو لَيّ عنق للحقيقة ،وهناك الــقــادم األح ــدث .الثبات مــوت .أســاس البيت يبقى دائما واألثاث يتغير ،والجدال هنا سيطول عن األساس واألثاث! الشعر العمودي لم يمت ،بل ما يزال موجودا، وما نزال في أشعار المناسبات حتى يومنا هذا نتغنى بالشعر العمودي أو نحاكيه، وإن كان الشعر العمودي يلتزم باللفظ والمعنى وال ــوزن والقافية ،فالقصيدة الحديثة مــا ت ــزال ترتكز على تركيبة أخرى تتنازل عن بحور الشعر المعروفة،
ولــكــن لها أيــضــا جمالياتها بمقاييس أخرى .هناك شيء مهم يجب أن يؤخذ في االعتبار ،فالحفظ وحده واالستعادة باإللقاء للقصيدة ليس مسوّغا لتفوّقها وهذا ما يظنه كثيرون ،وكثيرا ما نتجاهل المعنى الصادر من قصيدة حديثة قوية غير مقفّاة الرتباطنا بجينات سمعية متوارثة تتنصت للقافية والوزن بالسليقة، حس طربي أكثر منه تركيزا في وهــذا ٌّ المعنى! نحن مجتمع يعتمد على التمثل بــاآليــة والــحــديــث الــنــبــوي والــشــعــر إلى يومنا هذا ،وحتى في األوساط الشعبية يبرز المثل العامي المقفّى عادة ويُتناقل بسهولة بسبب هذه الخاصية .الخروج مــن عــبــاءة الــقــوافــي ينظر إلــيــه أحياناً كالتغريد خارج السرب. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
101
¦هناك مَ ن يرى أن صراع الشعر والرواية مفتعل ..ما رأيك؟ ρ ρالــصــراع ينشأ حينما يــقــرر طــرف أن مُنتَجه اإلبداعي أسمَى من إبداع طرف آخر .وتستعر االنفعاالت أكثر كلما زادت النعرات الشوفينية اإلبداعية .وعلى كل حــال ،فــقــرارات الصراعات األدبــيــة لن تهدأ ما حيينا ،وإن كــان الحراك فيها مؤخَ را يميل سلبا وتوحّ شا ،وهل هدأت الــصــراعــات عــلــى الــمــذاهــب الشعرية واألن ــواع الشعرية! اآلن يبرز ما يسمى بــالــروايــة الشبابية وهــي توضع مقابل الــروايــة «التقليدية» مثال ،ويتم افتعال صراعات وهمية ،ويتحوّل الناس لفرق مناصرة أو مــعــاديــة .األج ــدر فــي ظني هو الــرأي الصادق للنقد ،وتــرك ساحة االختيار للناس ،فليست هناك وصاية على األدب!
مجتمع قوْته الحكاية أن تحيا الحكاية األكثر إدهاشا .وتطويع األسطورة بشكل حداثي مالئم يمكنه أن يخلق إلهاما يصب في صالح الكتابة .هناك أساطير ثابتة متوارثة ،وأساطير متغيرة أو متحوّلة أو مطوَّعة لتناسب كل زمان ومكان ،لكنها دائما أساس الحكايات ..سواء اعتمدت على قدرات بشرية خارقة ومُبالَغ فيها ،أم على قدرات مميزة كاألساطير اليونانية أو الفرعونية أو أساطير شعوب المايا وغيرها؛ وكــل شعب له أساطيره ،ومن يجيد حفظها وتــداولــهــا يحفظ جــذور هويته ووجــــوده .الــفــن برمته يجب أن يكتشف مناطق دائــمــة لــإدهــاش ســواء تأسست على أساطير قديمة أو هجينة أو مستحدثة؛ ومثلما توجد إدهاشات بصرية أو سمعية ،فبالتأكيد هناك الكثير من اإلدهاشات الكتابية التي لم تولد بعد!
¦في الختام ،متى يداهمك الفن التشكيلي األسطورة والفن التشكيلي برغبة عارمة في اإلمساك بالريشة بعيد ًا ¦األسطورة السودانية دوم ًا حاضرة وبقوة عــن التشبث بالقلم؟ وهــل هــي مـيــزة أن فــي كـتــابــات ال ـســودان ـي ـيــن ..فـهــل ت ــرى أن ترسم أغلفة أعمالك؟ العالم لم يكتشف هــذه األسـطــورة بعد؟ ρ ρكثيرا مــا أفــعــل ه ــذا ،أمــســك بالريشة وهل الكتابة كافية الستفزاز اآلخر نحو ألتخلص مــن أشــيــاء ال تــخــرج بالكتابة هذا االكتشاف؟ أو ال تستحضرها الكتابة ،ولكن يبدو
102
ρ ρهذا صحيح ،والمجتمع السوداني تحضره األسطورة يوميا ،سواء في شكلها الديني أو حتى ما قبل الدين؛ وحكايات الجدات هناك ال تخلو من األساطير ،وهي قوت «األحاجي» وزاد الكتابة في ٍآن .األسطورة مكمن إثــارة الدهشة ،ومن الطبيعي في
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
أن هناك نقمة ما تحاول أن تلصق بي عمليا احتراف الفن التشكيلي ،وهذا غير صحيح .األمر ببساطة إنني أحب الفنون التشكيلية وأداوم على متابعتها ،ومدينة مثل فيينا العريقة أو أوروبــا بشكل عام تسمح للنهل مــن هــذا المعين الفياض
طارق الطيب في سطور
شارك في العديد من المهرجانات األدبية العالمية في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية. حصل على العديد مــن المنح السنوية الكبرى والجوائز منها منحة إلياس كانِتـّـي ( )Elias Canettiالكبرى في ﭬﯿﯿﻨّﺎ في العام 2005م ،والجائزة الكبرى للشعر في رومانيا في العام 2007م. ُع ِّي َن سفيراً للنمسا لعام الحوار الثقافي األوروبي ( )EJIDفي العام 2008م.
من مواليد القاهرة ،في الثاني من يناير 1959م .انتقل في عــام 1984م إلــى ﭬﯿﯿﻨّﺎ حيث أنهى دراســتــه في فلسفة االقتصاد، وه ــو يعيش اآلن فيها ويــعــمــل إل ــى جانب الكتابة األدبية بالتدريس في ثالث جامعات بها (جامعة ﭬﯿﯿﻨّﺎ ،جامعة جراتس ،جامعة كريمس).
حــاصــل عــلــى زمــالــة «بــرنــامــج الكتابة العالمي» ،وبرنامج «بين السطور» بجامعة أيوا في أميركا ،في العام 2008م.
ن ُِشرَت له كتب مترجمة في اللغات التالية
صدر له مؤخَّ رًا( :نهارات ﭬﯿﯿﻨّﺎ) القاهرة، دار العين 2016م ،و(الرحلة 797المتجهة إلــى ﭬﯿﯿﻨّﺎ) الــقــاهــرة ،دار العين 2014م، و(محطَّ ات من السيرة الذاتية) القاهرة ،دار العين 2012م.
نشر حتى اآلن ثالث روايات ومجموعتين قصصيتين ،وخــمــس مجموعات شعرية، ومسرحية واحدة ،وكتابًا في السيرة الذاتية، وكتابًا في المقالة.
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
بكل يسر .نعم ،لديَّ ميول فنية تخرج في شكل رسوم سواء بالزيت أو األكواريل أو الطباشير ،لكنها ميول شخصية باألساس، ولم أعد نفسي يوما فنانا تشكيليا .أما أن تختار بعض دور النشر العربية واألوروبية لوحات من رسومي لتكون أغلفة ،فليس هــذا بالشيء الــخــارق ،ولــم أفــرض يوما على أي نــاشــر أن يــأخــذ لــوحــة لتكون غالفا لكتاب لي أو لغيري .أحب الرسم، وممارسته ليست عيبا ،وهناك كثير من األدبــاء والشعراء ممن سبقوني وأبدعوا أكثر مني بمراحل في المجال نفسه أو غيره .أحب الرسم ولست تشكيليا ولست مسرحيا ،ومــن سيساعدني على محو جملة (فــنــان تشكيلي) مــن المعلومات ال ــواردة عني في «الويكيبديا» فسأكون ممتنا له أو لها إلى األبد!
على ترتيب صدورها :األلمانية ،الفرنسية، المقدونية ،الصربية ،اإلنجليزية ،اإلسبانية، الرومانية ،ثم اإليطالية .كما له ترجمات في لغات أخرى لنصوص أدبية في العديد من األنطولوجيات والمجالت والــدوريــات العالمية ..كاألوكرانية والكرواتية والبوسنية والروسية والبرتغالية والمالطية والسويدية والصينية وغيرها.
حصل على وسام الجمهورية النمساوية تقديرًا ألعماله في مجال األدب والتواصل األدبي داخل ّيًا وعالم ّيًا ،في العام 2008م.
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
103
الشاعر األردني
محمود فضيل التل هناك هواجس عديدة تُ َّح ِركُ ني لكتابة الشعر في مقدمتها الوطن عرار سبق نازك المالئكة بالقصيدة الحديثة شخصية ثقافية أردنية ،تتمتَّع بالذكاء والصراحة ،والوضوح ،يعبِّر عن أفكاره ومشاعره بجرأة .له مشاركات فاعلة في الساحة الثقافية ،وفي الصحافة األدبية؛ صدرت له إحدى عشرة مجموعة شعرية ،وقدم العديد من الرؤى غير السائدة إلى جانب أعماله في مجال الدراسات الفكرية ،وشارك في العديد من المهرجانات المحلية والعربية والدولية؛ نشر قصائده في مجالت أردنية وعربية .غير أن المهم في تجربته أنها لم تكن متكررة ،بل لها مالمحها الخاصة وأسلوبها المميز. محمود فضيل التل ،شاعر يختزن في ذاته شاعرية صادقة وهدوء ًا جاذباً؛ لم تتسلل إلى روحه تقاليد المكاتب وأبهة الوظيفة. فــي هــذا ال ـحــوار مــع مجلة «الـجــوبــة» تجسيد لمالمح شخصيته وشاعريته وإنسانيته.. ■ حاوره نضال القاسم
104
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ρ ρإن اإلنــســان بحياته وقــضــايــاه وآمــالــه وأفــراحــه وأحــزانــه وآالم ــه هــو الــدائــرة المركزية في الحياة ..لكن هناك هواجس عديدة تحركني لكتابة الشعر ،والسبب أن هــواجــس اإلنــســان كــثــيــرة وجــوانــب حياته متعددة ومتنوعة؛ ما يثري الشعر منها ،وفي مقدمتها الوطن .فالوطن هو الصدر الذي تسكنه نفس اإلنسان بكل ما فيها وبمجمل مكنوناته ،وهو يمثل وجود اإلنسان بكرامة وحرية وسيادة.
أما لماذا أكتب ،فلشعوري بأن الكتابة - الشعر -مسؤولية يقوم الشاعر بواسطته بدور ،ويمارس مسؤولية في المجتمع عن طريق التعبير عن حياة هــذا المجتمع والناس فيه ،ويتناول قضاياهم ويتحدث عنها ،ويبدي موقفه منها ورأيه فيها... ويحرك مشاعر الناس ويثير اهتماماتهم لــيــذكــي فــيــهــم اإلح ــس ــاس بــواجــبــاتــهــم ومسؤولياتهم بعمق فهمه لها وبجمالية عالية تبعث فيهم اإلحساس واالستنارة والــمــتــعــة .كــل ه ــذا مــن خ ــال إيماني بواجبي ودوري ومسؤوليتي في المجتمع.
وإذا ما نظرنا إلى الموضوعات الشعرية عند الشعراء لوجدناها كثيرة ،وهذا يؤكد ¦مَ ـ ــن أس ــات ــذت ــك الـ ـق ــدم ــاء وال ـ ـجـ ــدد فــي الشعر؟ أن الهواجس التي تحرك الشاعر لكتابة الشعر كثيرة .فالحياة بحد ذاتها تعد ρ ρإنني أعد كل شاعر قديم أو جديد قرأت هاجساً وبخاصة عند الذين ينظرون إلى له -على مستوى من اإلبــداع والعطاء الحياة من منطلق فكري وبُع ٍْد فلسفي، الشعري -أستاذاً لي؛ ألنني ال بد وأن أكون وليس من زاوية واقع معاش على أي نحو قد تعلمت منه شيئاً بشكل مباشر وغير كــان هــذا الــواقــع ..فتعدد األسئلة عن مباشر لم أكن أعلمه من قبل ،ولو كان جدوى واستحقاق هذه الحياة ألن تكون ذلك من قصيدة واحدة أو ديوان واحد. وأن تُعاش ،وما الذي ينتظر اإلنسان بعد أما األساتذة القدماء فهم الذين أثروا فيّ هذه الحياة؟! كل هذه األسئلة وغيرها مثل فكراً وإحساسا ووجداناً وأسلوباً وموقفاً. كيف علينا أن نعيشها ونحياها؟ وكيف وقد يكون لي أساتذة في الشعر رغم أنني يجب أن ننظر إليها؟ كل ذلك له تأثيره لم أقرأ لهم ولم أعرف لهم شعراً ،ولكنهم الكبير على نظرة اإلنسان لهذه الحياة علّموني أهمية الشعر وتذوّقه وحقيقة ودوره ومسؤولياته فيها وعلى أي نحو أبــعــاده وأعماقه وأصــالــتــه ،ومــن هــؤالء يجب أن تكون .كذلك ،فإن الحب هاجس على سبيل المثال أستاذي الكبير ومعلمي وله سلطانه وأهميته في حياة اإلنسان، الفاضل أ .د .عبدالكريم خليفة ..فقد تأثرت به من حيث شدة تفهمه وذوبانه لهذا يكثر الشعر العاطفي في الشعر عند العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
¦ما هو الهاجس الذي يُ حرّك قلم محمود فضيل التل /لماذا يكتب وماذا ينتظر؟
كل الشعوب وفي كل المجتمعات.
105
في النص الشعري ،وقد كان أستاذي في الجامعة األردنية؛ فعندما كان يُسمعنا القصيدة وكــنــت أشــعــر كأنها لــه؛ ألنه كان يتغلغل بروحه الحساسة في النص ويقدمه بصورة رائعة .وقد كان سبباً في أنني تأثرت كثيراً جداً بالشاعر القديم «أبو ذؤيب الهذلي» في قصيدته التي رثا بها أبناءه ،حدث ذلك عام 1962م ،وما أزال أعيشها حتى اآلن؛ فهي بالنسبة لي مدرسة شعرية ،ومطلعها:
ِأمـ ـ ـ ـ ــنَ ال ـ ـم ـ ـنـ ــون وري ـ ـب ـ ـهـ ــا ت ـت ــوج ــع وال ــده ــر لـيــس بمعتب مــن يـجــزعُ قالت أميمة مــا لجسمك شاحب ًا م ـنــذُ ابـتـلـيــتَ وم ـثــل مــالــك نــدفــعُ ف ــأجـ ـبـ ـتـ ـه ــا أمّ ـ ـ ـ ـ ــا لـ ـجـ ـسـ ـم ــي إنـ ــه أودى بـ ـن ــيّ مـ ــن ال ـ ـبـ ــاد فـ ــو ّدعـ ــوا أودى بـ ـ ـن ـ ــيّ وأعـ ـ ـقـ ـ ـب ـ ــون ـ ــي غ ـصــة بـ ـع ــد الـ ـ ــرقـ ـ ــاد وعـ ـ ـب ـ ــرة ال ت ـق ـل ــعُ ـوى وأعـ ـنـ ـق ــوا ل ـه ــواه ــمُ س ـب ـق ــوا هـ ـ ـ ً ف ـت ـخ ــرم ــوا ولـ ـك ــل ج ـن ــب م ـص ــرعُ
106
ومن الشعراء الذين تتلمذت على شعرهم مــن الــقــدمــاء« -عمر الــخــيــام» ،وكــانالمدخل اللتفاتي عليه فكره وفلسفته في الحياة التي نجدها في شعره بشكل واضـــح .ولــمــا ق ــرأت شــعــره سكن هذا ال إلعجابي الشعر في نفسي وكان مدخ ً وتــقــديــري واعــتــزازي بــعــرار «مصطفى وهبي التل» -شاعر األردن -الذي أعده اآلن أستاذي األول؛ ألنه أنموذج خاص العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
فــي الــشــعــر؛ فــشــعــره يــصــدر عــن فكر وفلسفة آمن بها ،وناضل من أجل فلسفته وقــنــاعــاتــه حتى أن شــعــره ليس مجرد انفعال أو ردة فعل تجاه حــاالت معينة، بل إنه ناضل من أجل إرساء قيم ومبادىء إنسانية قائمة على الــحــق والــمــســاواة والعدالة والحرية والديمقراطية .فعانى األم ـرّيــن مــن أجــل دعــوتــه لــهــذه القيم، وبقي على هذا النهج حتى فارق الحياة. وقــد كــان رائــداً في أكثر من مجال في الشعر .لم يسبقه أحد عليها ،وسأقوم بــإعــدادهــا فيما بعد فــي بحث خاص تحت عــنــوان «ريـــادات عــرار الشعرية» من خالل منظور الحياة المتميزة وطنياً واجتماعياً وسياسياً ،التي عاشها بإيمان واقتناع رغم كل ما تحملّه مقابل مسيرته الحياتية والشعرية الرائعة .فمن أهم ما أود قوله أن شعره كان انعكاساً لحياته وهذه المبادئ والقناعات؛ ما أكد التزامه بقضايا الوطن واألمة واإلنسانية. وما أود أن أعيد تأكيده في مجال التلمذة واألستاذية في الشعر ،هو إيماني بأن التأثير والتأثر ليس شرطاً أن يكون بنتاج أو إبــداع شاعر بكل ما قــدم ،بل يمكن أن يكون شاعر ما أستاذاً لي بفلسفته ولو بقصيدة واحدة ،كما يمكن أن يكون شاعر آخر أستاذًا لي بروحه الشعرية ووجدانيته ،وآخر بفكره ،وآخر بعاطفته التي يكتب فيها الشعر ،وقد يكون شاعر أســتــاذاً لــي بأسلوبه وآفــاقــه الشعرية،
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
وهــكــذا ..لــذلــك ،وتحت هــذا االعتقاد أقول إن من أساتذتي على سبيل المثال إضــافــة إلــى مــا ذكــرت الــشــعــراء :مالك بن الريب ،إبراهيم ناجي ،أبــو القاسم الــشــابــي ،وعــمــرو بــن كلثوم فــي معلقته المشهورة ،و أ .د .ناصر الدين األسد، والشاعر عبدالرحيم عمر. ¦ك ـي ــف ت ـن ـظــر ل ـخــري ـطــة ال ـش ـع ــر ال ـعــربــي اليوم؟ ومَ ن من الشعراء جذب اهتمامك وش ـع ــرت ع ـبــر أع ـمــالــه بـنـكـهــة الـتـجــديــد واألصــالــة والعمق؟ وهــل ما يــزال الشعر دي ـ ــوان ال ـع ــرب وشــاغ ـل ـهــم ،أم أن القصة والرواية احتال الساحة األوسع؟ ρ ρكــان الشعر ومــا ي ــزال وسيبقى ديــوان العرب .ولكل لون أو نوع أدبي خصائصه وطبيعته .فطبيعة الشعر وخصائصه مهما طالت القصيدة تمكن من حفظه وترداده كلمة كلمة ،أما القصة والرواية فيمكن أن يل ّم الــقــارىء بــاإلطــار العام للقصة أو ال ــرواي ــة ...إضــافــة إلــى أن أسلوب كتابة الشعر وبنائيته أسرع في التأثير وأكــثــر مــقــدرة على شــد انتباه السامع والسير مع الشاعر كلمة كلمة، ولما تمتاز به القصيدة في الغالب من صر مقارنة بالقصة أو الرواية فإنها قِ َ أكثر تشويقاً .واألسلوب الذي تقرأ فيه القصيدة وفقاً للمعنى والتعبير المالئم عن جوها بانفعاالتها واحاسيسها أكثر تأثيراً ،فالقارئ أو المستمع أميل إلى الشعر من القصة والرواية .وإن الركود
الشعري نتيجة ذهول الشعراء وإحباطهم مما يرونه في واقعهم العربي والدولي ال يعني أنه تراجع لصالح أي جنس أدبي آخ ــر .فــهــذه األيـــام ال شــك أنــنــا نشهد مــا يدهشنا مــن مــســتــجــدات سياسية وعــســكــريــة مــحــاطــة بــالــدمــار والــرعــب والــخــوف والقتل واالنقسام والــثــورات، وما سمي بالربيع العربي ،جعلت الشعراء يــشــعــرون بخيبة األم ــل وانــفــتــاح أبــواب الــضــيــاع واتــســاعــهــا إل ــى حــد ال يبشر باطمئنان وارتــيــاح ،فتوقفوا مذهولين أمام ما يجري ،يحسبون لهذا المجهول حساباً؛ فهانت في أنفسهم كل األشياء فتوقفوا ،مراقبين يبحثون عن األرضية التي يضعون أرجلهم عليها ،ويفكرون في كيفية إعــادة صياغة أو تشكيل الواقع العربي الــائــق والمناسب لــأمــة .لكن العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
107
التجديد واألصالة والعمق فهو الشاعر الرمز الوطني والقومي (عرار) مصطفى وهبي التل.
108
الشعر مــوجــود ولــن يخفت لــه نــور ،وال أبالغ إن قلت إن كثيراً من الشعراء يكتبون وال ينشرون إنتاجهم بسبب شعورهم باليأس واإلحــبــاط وخيبة األم ــل أمــام ¦لماذا اختفى األديــب والشاعر الظاهرة، لحظة، ٍ صور الموت التي يشاهدونها كل وهــل انتهى عصر العمالقة فــي الشعر، ولشعورهم ربما بعدم جدوى الكلمة أمام مــا هــي أس ـبــاب حــالــة ال ــرك ــود؟ وم ــا مــدى هذا السعير الــذي يجتاح العالم كله... تأثير الـصــراعــات الشخصية فــي ان ــزواء فالشعر ديــوان العرب وسيبقى له ألقه ال ـح ــوارات ال ـجــادة الـتــي تــدعــم المسيرة وتفوقه ،وبرأيي أن الكلمة في القصيدة الثقافية؟ أكثر تأثيراً واقناعاً وتشويقاً وجاذبي ًة ρ ρهذه مجموعة أسئلة جديرة باالهتمام. منها في القصة والرواية .ومن يراقب ما وتــســتــحــق الـــوقـــوف عــنــدهــا ،ون ــظ ــراً يطرح من إبداعات متنوعة من األجناس الستحقاقها لهذه األسئلة المعبّرة عن األدبــيــة ال بــد أن يجد أن المطروح أو أهميتها كظاهرة ،ال بد وأن تكون لهذا المنشور شعراً يفوق بكثير ما ينشر أو االخــتــفــاء أســبــاب لــهــا أهــمــيــة خــاصــة، يصدر من العمل القصصي أو الروائي... من هذه األسباب على سبيل المثال ال وما يقال من أن اليوم هو زمان القصة الحصر :ظهور تيارات وتوجهات ومدارس والرواية وتراجع الشعر ما هي إ ّال مقولة أدبــيــة حــديــثــة انــحــصــرت اهتماماتها ارتآها بعضهم وأطلقوها ،وأخذت تتردد بالحداثة ومــا بعد الحداثة والتجريب على األلسنة وفــق االهتمامات ،خاصة وغير ذلك ،فطفت هذه التوجهات على ما وأننا مولعون بالتطوع للدعوة إلى ما يقال كان موجوداً وكان لها أثرها الواضح على على مسامعنا أيّا كان مصدره ومهما كان ما كــان سائداً من قبل .إن العديد من مغزاه ...وغالباً ما نتخلى عن حقنا في المبدعين ممن كانوا في عداد ما يسمى تفحصه وتقليب أوجهه والتأكد من صحة باألديب والشاعر الظاهرة لهم اتجاهات ما نسمع أو يلقى على مسامعنا. سياسية وطنية وقومية من منظور حزبي، فخريطة الشعر هذه األيام فيها خفوت، ويــعــدون أنفسهم مناضلين اتــخــذوا من وفيها متابعة؛ لكن فيها عزوف عن النشر اإلبداع والشعر وسيلة لتحقيق أهدافهم واإلفــصــاح عــن الـــرأي وبــيــان الموقف السياسية؛ فلما لــم يــجــدوا نتيجة لما وبلورته أو تحديده ،واألسباب كثيرة -ال طمحوا عليه ،أ ّثــر ذلــك على نشاطهم داعــي لذكرها هنا -أمــا الشاعر الذي اإلبداعي فَخَ فَتَ لديهم اإلحساس بهذه شــعــرت أن ــه عــب ـ َّر عــبــر أعــمــالــه بنكهة الظاهرة والسعي لها ،ولم تعد حلماً لهم، العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
وال ينشغل بالهم بها من قريب أو بعيد. كذلك عــدم التميّز بين المبدعين من األدباء والشعراء ،إذ أصبحت نسبة كبيرة من الشعراء يتساوون تقريباً في المكانة والمنزلة الشعرية .ومر ّد ذلك أنه لم يعد لدى الشعراء أن يأتوا بظواهر مميزة في إبداعاتهم الشعرية واألدبية ،كما رأينا عند عرار في ريادته لعدة ظواهر مميزة في شعره اشتهر وامتاز بها على غيره من الشعراء. وعــدم توفر الحرية الكافية والــازمــة لإلبداع المتميز فالمبدع -الشاعر - يتردد في كتابة بعض التعابير والتأمالت واألفكار والشواهد -ويعدل في النهاية ¦هل لألخالق دور فيما هو شعري؟ عن اإلتيان بشيء من هذا القبيل لكي ال ρ ρاألخالق أساس كل شيء في حياة اإلنسان. تحسب عليه ،وحتى ال يتعرض للمساءلة. وفي مجال اإلبداع عامة والشعر خاصة إن المجتمع بحد ذاته والشعراء منه بشكل تصبح األخ ــاق عالمة مميزة للشعر. خاص لم يعودوا مهتمين بهذه الظاهرة فكيف سيستقيم تذوقنا وتلقينا الشعر ومزاياها ..ومما يجدر ذكره أن ثمة مَن إلنسان ال يتصف باألخالق ،وال يحظى يعتقد أنه هو سيد هذه الظاهرة بسبب باالحترام والتقدير من قبل اآلخرين؟! غياب األطــر المنظمة لهذه الظاهرة.. وبخاصة أن كل الصفات التي يمتاز بها وقد يكون أحد هذه األسباب أن لم يعد الشعر تندرج تحت مسميّات أخالقية أحد يهتم بهذه الظاهرة ومسمّاها بعد أن مقبولة قبوالً عاماً عند المواطنين ،وتعد ظن شخص أو أكثر أنه الشاعر الظاهرة أركــان ـاً أســاســيــة فــي صــاح المجتمع. بين الشعراء والمبدعين .وللصراعات فــالــشــاعــر قـ ــدوة عــنــد المتلقي ورمــز الشخصية دور ال يستهان به في غياب لكل شــيء جميل :لإلحساس والشعور الحوارات والفعاليات الجادة التي تدعم والخيال والتأمل والتذوق والتعبير عنه المسيرة الثقافية ،وإن غيابها يعد أحد كنموذج إنساني خــاص فــي المجتمع؛ أسباب غياب الشاعر الظاهرة. لهذا كان اعتقادي دائماً انطالقاً من ذلك العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
109
مشاعرنا وكياناتنا الوطنية والسياسية واالجتماعية والجمالية.
110
أن الشعر يجب أن يكون صورة صادقة وحقيقية عن الشاعر ،وأن يطابق ما فيه من ٍ معان وأفكار سلوك الشاعر الشخصي ¦مـ ــا ع ــاق ــة الـ ـن ــص الـ ـشـ ـع ــري ب ـمــرج ـعــه في الحياة ..ال أن يكون هناك اختالف الواقعي؟ بين الشاعر وشعره ،حتى ال يكون مجرد ρ ρإن الواقع هو األصل في مختلف جوانب موهبة يوظفها الشاعر ليقول ما يتوقعه الحياة ،مهما تنوّعت المذاهب الفنية الناس منه ويعجبهم ،فعلى الشاعر أن في األدب والفنون وتعدّدت ألوانها؛ ألن يكون منسجماً مع نفسه فكراً وسلوكاً، الشاعر من أي مذهب ،أو إلى أي مدرسة وقــوالً وعمالً؛ ألنه يعد قــدوة ،وصاحب كان انتماؤه ال ينفصل عن الواقع ،الذي رسالة في المجتمع .فهو -واألمر كذلك- يبقى هو المرجع .ولكن الــذي يختلف شخصية قيادية وريــاديــة ،وليس مجرد لــدى الشعراء هو الوسيلة في التعبير بالحكم والنصح إنسان قادر على اإلتيان ِ واألسلوب الذي يتناول به النص الشعري، واإلرشــــاد ال ــذي إذا تمثل بــه اعــتــقــاداً والخلفية التي تشكلت عنده بفعل تجربته وتــحـلّــى بــه ســلــوكـاً تصبح لــديــه مقدرة اإلبــداعــيــة ،وطــبــيــعــة تــكــويــنــه النفسي على صياغة القوالب الشعرية وتطويع واألسلوب الذي يتالءم معه ،ويكون أكثر اللغة لما يريد وكما يــريــد .فاألخالق انسجاماً وتناغماً مع هذا التكوين الذي حلية الشاعر ووقاره اإلبداعي حتى يجد تتداخل وتتفاعل فيه عوامل كثيرة ،منها الناس رغبة في االستماع إليه ،واألخذ ميوله واهتماماته ووجــدانــه والوسيلة عنه ،واحــتــرام ما يدعوهم له من ُمث ٍُل األكثر مالءمة له ،وأكثر تأثيرا به ،وأوفر وقيم نفسية واجتماعية وفكرية ووطنية ٍ تعبيراً لديه ،وعنده من ألــوان التعبير وسياسية (محلية وقومية)؛ والشاعر األخــرى ومستوياتها؛ فالشاعر عندما وشعره وجهان لعملة واحدة هي العملية يكون رومنسياً أو واقعياً أو كالسيكياً أو اإلبداعية بأخالقية ثابتة ،ال تتحول وال رمزياً أو تعبيرياً أو طبيعياً ،إلى غير ذلك تتغير مع الظروف واألح ــوال .قــال اهلل من المذاهب األخرى ..يبقى منطلقاً من سبحانه وتعالى ممتدحاً نبيه الكريم الواقع ،ويظل الواقع المنبت والمستودع محمد صلى اهلل عليه وسلم« :وإنك لعلى ال ــذي تنبعث منه كــافــة القضايا التي خُ ل ٍُق عظيم».. تشكل موضوعات لنصوصه الشعرية؛ فاألخالق هي ميزة اإلنسان بفطرته .ما حــتــى لــو أبـــدع نــص ـاً مــن الــخــيــال .ألن فائدة الحياة بال أخالق؟ وكيف سيكون مكوناته العاطفية والثقافية واالجتماعية الشعر بال أخــاق تؤكد وجــودنــا وتعزز والنفسية وتطلعاته وميوله ،جاء الكثير العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
¦كـيــف ب ــدأ الـتـجــديــد فــي الـشـعــر األردن ــي المعاصر ،وهــل صحيح أن عبدالرحيم عمر كان له السبق في الريادة ،كما يرى بعض النقاد؟ ρ ρهذا سؤال يستحق االهتمام؛ ألنه يقود للحديث عن مرحلة جديدة متميزة من حياة الشعر في األردن؛ هذا من ناحية، كما أنــه يضع األمــر في نصابه ويعطي الــحــق بــرأيــي لصاحبه ،وأقــصــد بذلك مَن هو رائد التجديد في الشعر العربي وليس في األردن فقط .من الطبيعي أن
وإذا كان التاريخ هو الشاهد األول وهو الــفــيــصــل فــي الــحــكــم لــمــراحــل حــدوث الظاهرة أو الحدث ،فبالرجوع إلى ما بين أيدينا في المراجع والكتب والبحوث التي تحدثت حول هذا الموضوع يكون (عرار) مصطفى وهبي التل -بناء على ما يتوافر العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
منها من الــواقــع؛ والــواقــع هو المخزون ال ــذي يمدنا بالقضايا والموضوعات التي تشغل بال الشاعر ويسعى للتعبير عنها .إنما نكون واقعيين أو كالسيكيين أو رومانسيين أو تأثيريين أو تعبيريين وغــيــر ذل ــك مــن الــمــذاهــب والــمــدارس بطريقتنا الــتــي نــتــنــاول فيها أح ــداث حياتنا ،ونعبر عنها بالطريقة التي نجد أنفسنا بها منسجمين مع ذواتنا ضمن أجــواء وأساليب وطــرائــق فنية خاصة؛ فكل شاعر يختلف عن غيره؛ لهذا نجد تنوعاً عند الشعراء ..وفــي هــذا إغناء لــإبــداع وجمال في التناول واألسلوب والطريقة حتى ال ننسج على منوال واحد ومتشابه ،بعيداً عــن الملل والجفاف والــتــصــحــر الــشــعــري؛ وف ــي حــيــن يكون اختالف المذهب بما يقتضيه من تنوّع في أساليب التعبير أكثر تشويقاً وإقناعاً وأغنى لتجاربنا اإلبداعية.
نجد أكثر من رأي حول ظاهرة التجديد التي يكاد من المتفق عليه أنها بدأت في األربعينيات من القرن الميالدي الماضي. وليست هنا المشكلة ،بل هي في إصرار بعضهم على رأي بتسمية شاعرين لهذه الريادة ،رغم أن التاريخ الزمني ال يؤيد دعواهم .ورغم ذلك يظلون على رأيهم. الشاعرة نازك المالئكة اعترفت بأسبقية بعض هذه المحاوالت -التجديدية -على محاولتها .وهي -نازك المالئكة ترى أن هذا االتجاه الشعري قد ظهر في أواخر األربعينيات ،وأن أول قصيدة حرة نشرت كانت قصيدتها «الكوليرا» سنة 1947م، ذكرت أنها كتبتها في 1947/10/27م، نشرتها مجلة العروبة البيروتية في عدد ديسمبر (كــانــون األول) عــام 1947م، وأنها صدرت فيما بعد ضمن مجموعتها «شظايا ورماد» سنة 1949م ،ومعها دعوة رسمية إلى الشعر الحر في المقدمة. وقد تنازعت نازك والسياب ريادة الشعر الحرّ ،وقوبل ادّعاء نازك السبق إلى هذا النوع من الشعر بعاصفة من النقد ،إذ ذكر بعض النقاد شعراً ح ّراً لشعراء عرب قبل هذا التاريخ.
111
لنا بهذا الشأن -هو رائد التجديد في الشعر العربي -يقول أ .د .عبدالفتاح النجار في كتابه (حركة الشعر في األردن (1992-1971م) ،مطبعة البهجة /إربد، الطبعة األولى /عمّان1998 ،م .ما يلي: (ومن محاوالت تطوير القصيدة العربية، الــتــجــارب الشعرية الــثــاث الــتــي كتبها شاعر األردن مصطفى وهبي التل (عرار) (1949-1897م) وهي« :متى» و«يا حلوة النظرة» و«أعن الهوى»). وفي كتابه مصطفى وهبي التل (عــرار) حياته وشعره؛ أورد الكاتب يوسف عطا الــطــريــفــي تــواريــخ كــتــابــة (عــــرار) لهذه القصائد الثالث على النحو اآلتي: «قصيدة :متى؟» بتاريخ 8تشرين الثاني 1942م. «قصيدة :يــا حلوة النظرة» بتاريخ 28 كانون الثاني عام 1942م. «قصيدة :أعن الهوى» سنة 1942م.
112
أن ال يعرفوا هذه الحقيقة ،ولم تصلهم ولم يوسعوا دائرة بحثهم ليشملوا األردن وشعره في دراساتهم وبحوثهم .وهذه هي الحقيقة المدعمة بالتواريخ آنفة الذكر. أم ــا بــالــنــســبــة لــمــا تــفــضـلّــت بــذكــره أو االستفسار عنه حول صحة أن عبدالرحيم عمر كان له السبق في مسألة الريادة- كما يرى بعض الكتّاب: أرجو أن أؤكد محبتي وتقديري ألستاذي الــجــلــيــل الــمــرحــوم عــبــدالــرحــيــم عمر ا في واعــتــزازي بــه إنساناً وأخــاً وزمــيـ ً العمل (فــي اإلذاع ــة) ،ولــن أنسى فضله ورعايته لي أيام كان رئيسي في العمل- في اإلذاعة األردنية ،إذ كان مديراً للبرامج وكنت في معيته رئيساً للقسم الثقافي، وإنني أقدر شاعريته المتميزة ومسيرته الثقافية والحياتية ،وهــو بــا شــك من الــقــادة الرياديين في الساحة الثقافية األردنــيــة والعربية ،وقــد كانت (لــعــرار) عنده مكانة خاصة ال ينافسه عليها أحد. رغم كل ذلك من تقديريي واعتزازي به ح ّياً وفقيدا ،فإن الريادة في الشعر الحر (الحديث) وفق ما ذكرت من معطيات هي لشاعر األردن (ع ــرار) مصطفى وهبي التل .رحم اهلل عرار ،ورحم اهلل أستاذي عبدالرحيم عمر ،فقد كانا من أعمدة الثقافة واألدب في األردن.
وبناء على ذلك يكون عرار قد سبق نازك المالئكة فــي كتابة القصيدة الحديثة (الحرة) بحوالي خمس سنوات ،ويكون مصطفى وهــبــي الــتــل (عــــرار) -شاعر األردن -هو رائد الشعر الحر (الحديث) اعتماداً على هذا الفرق الزمني بين نظم نازك المالئكة وبدر شاكر السياب؛ أما لهذا اإلصرار على تسمية نازك وبدر لهذه ¦مــا هــو أث ــر شـعــرك خ ــارج ال ـح ــدود؟ وهــل الريادة فأمر يحتاج إلى بحث خاص ،أهم ت ـع ـت ـقــد أنـ ـ ــك قـ ـم ــت ب ــواجـ ـب ــك فـ ــي ه ــذا ما يمكن أن يقال فيه ليس ذنب (عرار) المجال ،وكيف يمكن مــن وجهة نظرك العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ρ ρسبق وأن كانت لي مشاركات شعرية في بعض المهرجانات العربية واألجنبية في العراق ،ومصر ،والجزائر وإيطاليا، والكويت. وقد لقي الشعر الذي شاركت به أو قدمته في هذه المناسبات استحساناً .كما أنني قمت بتزويد بعض المؤسسات الثقافية التي تعنى بــاإلبــداع ببعض إصــداراتــي الشعرية ،وكذلك زوّدت عدداً من األدباء العرب ببعض هــذه الــدواويــن .وقــد قام بعض النقاد العرب بتقديم دراسات عن بعض أعمالي الشعرية في المؤتمرات، فكانت اآلراء واألفــكــار بشأنها أيضاً في غاية األهمية واإلشــادة بمضامينها وموضوعاتها ومستوياتها الفنية ،إضافة إلى بعض الدراسات النقدية التي قدّمها أساتذة أكاديميون في الجامعات األردنية.
الجماهير ،فال شك أن هناك وسائل كثيرة متعددة ومتنوعة وتالئم كل المستويات واألنواع الثقافية واإلبداعية منها: المحاضرات والندوات على أن يراعىتعميمها على مختلف المناطق وال يجري
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
لـلـشـعــر أن ي ـصــل إلـ ــى أوس ـ ــع ق ــاع ــدة في الجماهير؟
تــوصــيــل الــشــعــر إل ــى أوس ــع قــاعــدة في
تركيزها في العاصمة. المهرجانات الشعرية. الــمــعــارض :ويحشد فيها ألكبر عددمن الكتب والدواوين الشعرية ،وال شك بأن المعارض التي تقيمها وزارة الثقافة ال عاماً تحت عنوان مكتبة األسرة تعد عم ً ناجحاً لهذه الغاية. المؤتمرات الخاصة بالشعر :ويتاحألكبر عــدد ممكن مــن المهتمين وذوي العالقة للحضور والمشاركة. -الــمــجــات والــنــشــرات المتخصصة
والحقيقة أنــنــي بما قــدمــت مــن خالل الـ ــدواويـ ــن الــتــي تــش ـرّفــت بــإصــدارهــا وتقديمها إلــى الجمهور الكريم ،قارئاً ومستمعاً ،وتــنــاولــي للقضايا الوطنية والقومية التي تتصل بحياته ،تجعلني أشعر باعتزاز بإسهامي في ثقافتنا وأدبنا المحلي والقومي واإلنــســانــي ..وأشعر بارتياح وأنني في حدود ما أستطيع قد قمت بواجبي على أفضل نحو ممكن.
-نشر ودعم إبداعات الشعراء من مختلف
أما الوسيلة المثلى التي يمكن بواسطتها
األعمار والمراتب واأللوان الشعرية.
فــي الشعر .ونــشــر إبــداعــات الناشئين والمبدعين من الشعراء ،لتقديم صورة عن التجربة الشعرية للشباب والناشئين والروّاد. تخصيص الجوائز والمكافآت للفائزينفي مسابقات ومنافسات تقام لتشجيع الشعراء وتعميم منجزهم الشعري.
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
113
الشاعر مـــــازن اليحيا في المجر ،قلب القارة األوروبية ،درست األدب اإلنجليزي ،وهناك العربية ِ لدي صداقات بأشخاص لديهم الفضول بآداب اللغة تكوَّ نَت َّ وبالشعر الحديث بخاصة. العتبارات تاريخية ٍ انفتاح اللغة اإلنجليزية على ثقافات الشعوب المرونة وهي تتقدم عبر الزمن!.. ِ معروفة مَ نَ حها نوع ًا من قصائد «والت ويتمان» أو «آلن غينسبرغ» أو حتى «جون آغارد الكاريبي» لهي خير دليل على معجزة خلق القوانين الصارمة!.. عملية اإلفادة من وسائل التواصل االجتماعي الحديثة لم تزل في عالمنا العربي محدودة المنفعة ،ومردودها لم يزل محصور ًا في حدود المنفعة الفردية الضيقة! مكتبة الكونغرس األمريكي ،ال أفارقها لما تحويه من أعمال أدبية ولقاءات نادرة!.. ٍ ومحاضرات ٍ ودراسات ٍ ■ حاوره :عمر بوقاسم
حياته غنية بالتفاصيل الخاصة التي يصعب أن تتكرر ،!..الشاعر مازن اليحيا الــذي أهــدى المكتبة الشعرية أربــع مجموعات ،يعد أحد األسماء المتميزة في الساحة الشعرية السعودية .والقارئ لهذه المجموعات الشعرية سوف يدرك أن ما يقرأه هو مشهد كامل بعين الشاعر ،الذي ورث هذه المجهرية الذي يخلق بها صورة تتقطر بالكثير من مشاهد الحياة الخاصة التي عاشها شاعرنا مع والده الفنان الكبير عبدالجبار اليحيا «يرحمه اهلل»..
114
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
من عالم الشاعر!..
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
وعندما سألته عن األثر الذي تركه الفنان عبدالجبار اليحيا في الشاعر مازن للعمل الفني يجب أن يكون منهلها رغبة اإلنسان ٍ اليحيا ،قال « :القوانين الصارمة العميقة في الوصول إلى الرقص الجماعيِّ ..عرضةً سامريةً في ليلنا األبهى. ترك لي الدربَ المستحيل َة وجنائنَ الذكرى» ..وهذا ما يقودنا إلى هذا الحوار..
¦شـيــاطـيــن2000 ،م ،دار ال ـك ـنــوز األدب ـي ــة، ب ـيــروت»؛ « ،»Flags of Marchمجموعة شعرية باللغة اإلنـجـلـيــزيــة2000 ،م ،دار الكنوز األدب ـيــة ،ب ـيــروت»؛ «رس ــام علّمَ ني، 2010م ،دار شــرق ـيــات لـلـنـشــر وال ـتــوزيــع، الـقــاهــرة»؛ «أطـيــر صــوامــع الـغــال عاليا، شعر2018 ،م ،دار عرب للطباعة والنشر». ه ــذه اإلصـ ـ ــدارات لـلـشــاعــر م ــازن اليحيا وهي توثق مشوار شاعرنا منذ تسعينيات الـ ـق ــرن الـ ـم ــاض ــي ،ال ـ ــذي يـعـتـمــد كـثـيــرا على خلق الصورة الشعرية من تجربته المعاشة والخاصة وهذا ما يميزه .مازن اليحيا ،ماذا يقول في هذا االتجاه؟ حولنا هي ما تفضي بوعينا إلى «حاستِهِ
ρ ρالصورة الشعرية المعاشة والخاصة ،أرى الــســادســةِ » ،فاللقطة المرئية هــي ما مقومات ،بل ِ الوصف ما هو من ِ في هذا تمنحها البوصل َة والداللة. الواجب تحققها ِ الشروط المبدئِيةِ ، ِ من عمل فنيٍّ بالمطلق .بصرف النظر في أي ٍ في أعمالي التي ذكرتها في سؤالك إنما عن إن كانت الصورة الشعرية المعاشة كنت أحاو ُل اإلبرةَ ال ُممَغنَطة. والــخــاصــة مــنــتــقــا ًة مــبــاشــر ًة مــن عــالــمِ في قلب القارة األوروبية!.. آلة الشاعر كما تلتقط الصو ُر بعدسةِ ٍ ٍ تصويرية ،أو كانت مستقا ًة ٍ بشكل ،وعلى ¦« ،»Flags of Marchعـنــوان مجموعتك مباشر فإنها ضرور ًة أولى. ٍ شكل ،غيرِ ٍ الـ ـ ـشـ ـ ـع ـ ــري ـ ــة والـ ـ ـ ـت ـ ـ ــي كـ ـتـ ـبـ ـتـ ـه ــا ب ــالـ ـلـ ـغ ــة فإن كانت عالقة الحواس بالعالم الذي
اإلنجليزية ،ما سر كتابتك لهذه التجربة العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
115
مــــاء
مص التمر َة في المهدِ ثدي َّ ن ََصبَ الخيم َة يسبِ قُ ني في ساحِ غدي
هواءٌ عاش َلب َ بال األ ِ في ِج ِ الثلج بياض ِ في ِ مات والع ِ سالالت من ال َنّسَ ِ ٍ أجيا ًال وأجيا ًال طريح للهوى واسرجن به ٍ َصف «داسَ ن أطنان ًا من الصحوِ الذي يُحصى بِ سَ رمَدِ هِ ()1 كِ نّه على ز ِ َّل الزوالي بتابوت» ()٢ «مسومل عقب مي مبهوت» زمهريرُ وطهُ عب َر السنين تكا َثفَت خط ُ ُ األرض ينفُ ثْ ِ غاسق ِ مَن رآى من تقاطع ًا وتكثّفت الجبال ُ ِ بين نيزك ًا صوبَ الثُريّا والمعارِ ج برد ًا على بردٍ بقوس نافرٌ ٍ خطه ميلٌ ُّ ضباب ًا دون مادتِ هِ من ِ العج رضاب الغيمِ ِ ِ ثقيل الق ِ َّر سالت كِ رِ ستا ًال وسالت سَ لْسَ بيل ِحبرُ ُه من فاضت الوقت َ ِ نسيج في ِ مُ ستَحل ٌَب ....... أمشاجهِ َغب ٌَش ِ في ....... ووصلٌ في ِمدرارِ هِ غيرُ مبتوت ....... من أين يأتي ماءُ المسابِ ح؟ يا بن لُعبون المطارِ ح من رَعدِ ها صاخب دورانُها حول مكانِ َك ٌ من دَمدَمٍ في الروحِ يبقى عند غيبتهِ والخَ لوجُ والتروس في السماء ِ السيوف ِ من قَعْ قَعِ السكوت نحيبُها خا ُم ُّ كالحق مَرق َْب ِّ من وقفةٍ ....... أعراف النخيل ِ بين ....... يَدلِ ُف في العشرين من صالةِ العمرِ ....... والدنيا مَجالِ ْس الشوك عذب ًا والمَحلُ مالِ ح؟ ِ من أين َنتْحُ الح ِ ّج ِي ِح ِ ّجي المزروع ِ
اب ــنُ مُ ــجَ ـ ِ ّـبــرِ الــعِ ـظــامِ بـيــديــهِ (ي ـبــر ُأ حتى كسر الترقوة) أراض جَ اللُ ِشعابِ ها برقٌ : من ٍ الجل! جَ ِ ....... ....... ....... من أين مُ ّ َذهَ ُب الماءِ في َزر ِْي المشالِ ح؟ تفج َر سالَ بثادِ ق َثدَقَ الماءُ ّ َ سقف ُسرادِ ق َودَقَ المطرُ إلى ِ
في مدرسةِ العُ َل َيّا في الثانويةِ مُ خ َتبَر: غلينا الما َء في دَور ٍَق وعزلنا الهيدروجين ببو َتقَة لم نكن ندري بماذا تُربَط الذ َرّات وال لماذا انفلَتَ األوكسجينُ في الهواءِ لحظةً محترِ قَة
( )٢()١من شعر «محمد بن لعبون».
116
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
من نصوص الشاعر مازن اليحيى
ρ ρمــنــذ مــطــلــع الــتــســعــيــنــيــات م ــن الــقــرن الماضي وحتى آخــرهــا ،كنتُ فــي قلب القارة األوروبية أدرس األدب اإلنجليزي في إحدى جامعاتها .تك َّونَت هناك لديَّ صــداقــاتٌ لدنها فــضــو ٌل بـــآداب اللغة العربيةِ وبالشعر الحديث بخاصة.
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
باإلنجليزية ،وهل هناك خصائص فنية تتميز بها القصيدة باللغة اإلنجليزية؟
اإلنجليزية .إن انفتاح اللغة اإلنجليزية عــلــى ثــقــافــات وحـ ــضـ ــارات الــشــعــوب العتبارات تاريخية معروفةَ ،منَحها نوعاً ٍ من المرونةِ وهي تتقدم عبر الزمن .هذه المرونة ،التي عكست وانعكست في ج ِّل محافلِ نشاطاتِهم أثّرت وأثرَت مخرَجات ثقافتهم األدبية ،منها دون شك الشعر. ولكن علينا ان ننتبه ان األعمال الفنية قاطبة تخضع في صميمها لعملية خلق شـــروط جــديــدة .إلعـ ــادة خــلــق شــروط جــديــدة .المرونة في اللغة اإلنجليزية سمحت للشاعر ان يعيد صياغة شروط القصيدة .وسمحت كذلك للمتلقي ان يقيم العمل وفقاً لمدى نجاعة قوانين العمل الفني (القصيدة) في إيصال قيمة نابض ما. تواتر ٍ جمالية ذات ٍ إن قصائد والت ويتمان أو آلن غينسبرغ أو حتى جون آغــارد الكاريبي لهي خير دليل على معجزة خلق القوانين الصارمة والشروط المتشعبة الدقيقة التي منحتها مرونة اللغة للقصيدة. خطف الفكرة!..
شخصية كانت هناك رغبة تلح ٍ ناحية ٍ ومن عليَّ حدَّ األرق في أن يتواصل الشاع ُر ¦«1931م 2014 -م» بين هذين التاريخين بكل إيــقــاع تفاعالتِهِ مــع َمــن يعايشهم عاش الفنان التشكيلي الكبير عبدالجبار يومَهم وحياتَهم ،تاريخَ هم ،مدنَه ،في أن اليحيى «رحـمــه اهلل» وهــو صاحب سيرة رقصهِ ألقدامِ هم والكتوف. ساحات ِ ِ يمدَّ متميزة توثقها أعماله ،وهــو والــدك ،ما أردتُ أن أر َّد شيئًا من جميلِ جميلِهم. األثر الذي تركه في الشاعر مازن اليحيا؟ حنان، ٍ الخط كانحناءِ ُّ وهــذا ما يأتي بي إلــى سؤالك حــول ما ρ ρال اللونُ ،ال ،ال .ال قــد يميز الخصائص الفنية للقصيدة الغروب ،ال .ال البرتقال ُة في يد ِ كقوس ِ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
117
السمراءِ أو في كبدِ السماء .بل الساع ُد مــشــدود ًة في فعل البناءِ .النخلةُ ،حين تطول وتعلو ،لتش ِب َه البنتَ والمرأةَ سعفاً ρ ρبل هي نمط من أنماط الشعر العربي عثرات ِ وعذقا .الدربُ التي مشاها جاب ُر ِ الــحــديــث .قــد تــكــون تــجــارب الشعوب آهات ِ ال الكرامِ واألعشى .النسي ُم حام ً األخرى أسهمت في دخول الجيل األول من مروا بوادي حنيف َة عبر الزمان وتركوا من شعراء العربيةِ في مضمار التجربة. البيتَ والخطوةَ األسمى. ـات السيئ َة غــيــر أن ــي أرى أن الــتــرجــمـ ِ تُولوز لُترك وجنوحه العارم ألن يصي َر وانعدا َم الحريةِ لدى الشعوب العربية أ ّث َر عمالقاً قائداً للمستضعفين ال الضعفاء. سلباً وفتح المجال لمن ال مَلكة شعري َة لــخــطــفِ ــهِ فــكــرةَ الــتــعــبــيــرِ رســم ـاً صــوب لديه ،إن تــوافـرَت ،انعدمت المسؤولية الجديدِ ،صوب الطباعةِ ،صوب الملصق الذاتية لديه تجاه الموهبة -وإن توافرَت الــدعــائــيِّ وبهجةِ البوست ،نحو تعريةِ ال َمل َ َك َة الشعرية والمسؤولية ،غاب جو ُع الزيف في صدر الفرد ومنابر القطيع. ِ ـف عــنــه .تــاريــخ ديــوان المعرفةِ والــكــشـ ِ بعض النقاد والكتّاب .مازن اليحيا ماذا يقول؟
فان غوخ ،حين البطاطا بالكاد تكفي جو َع مَن في مناجمِ الفحمِ ماتوا قدّا َم أوروبا، ـات وغيوماً تراكمي ًة وهــي تتشكل شــركـ ٍ الشمس يكون عنفوا َن ِ عظمى .حين عبّا ُد البؤس والصرخ َة المثلى. ِ وضدَّ الحياة ِ
رمــال ال تحصى. ٍ العرب ضــاربُ أل ــوانِ فيه من النثر ما يرفع الموسيقى خيمةً، فيه ما يمنح الصواري أشرعة .إن بحور الخليل لم تزل في طور التشكّل ما دامت يره َف اللغة حَ ِييّة .ما على الشاعر إال أن ِ السمع.
للعمل الفني يجب أن ٍ القوانين الصارمة يكون منهلها رغبة اإلنسان العميقة في صوت القصيدة!.. الوصول إلى الرقص الجماعيِّ :عرض ًة ¦شعراء الستينيات والسبعينيات وكذلك سامري ًة في ليلنا األبهى. شـ ـع ــراء ال ـث ـم ــان ـي ـن ـي ــات ،ي ـت ـح ــدث ــون عــن تــرك لــي الـ ــدربَ المستحيل َة وجنائ َن ت ـج ــارب ـه ــم ب ــأن ـه ــا األحـ ـ ــق ب ــال ـب ـق ــاء ،وأن الذكرى. األجيال التي تلتهم ،لم تأت بشيء جديد يستحق الوقوف عليه ،هل هذا صحيح؟ بحور الخليل لم تزل في طور ماذا تقول؟ التشكّ ل!..
118
¦«قصيدة النثر ترتبط بالذائقة األجنبية ρ ρال يُحصر الشعر بجيل أو حقبة .من رأى في هــذا القول صوابًا حــادًا .قد يبهت وال ـ ـتـ ــراث األج ـن ـب ــي ،ول ـي ـســت نــاب ـعــة من صوت القصيدة في شتاءٍ ما ليمنح لشاشة التراث العربي» ،هذه العبارة تحمل تصور العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
السينما قبساً أو يهب النار للمسرح. ولكني أرى إن األشكال الفنية واألدبية الباقية ستظل باقية ،وإن اندمجت في ـارع ما مع الطريق مكان ما كاندماج شـ ٍ ٍ السريع .سيبقى للطرق الصغيرة الضيقة ρ ρإن عملية االستفادة من وسائل التواصل مُشاتها ،وستكتظ بأحبابها إن شــاؤوا االجتماعي الحديثة لم تزل في عالمنا الكرنفال .أقول هذا ألن الموسيقا عض ٌو العربي محدودة المنفعة ،ومردودها لم رئيس من أعضاء الكالم وحادي موكب ٌ يزل محصوراً في حدود ونطاق المنفعة العاطفة فيه ،وإن منه خَ ل َت. الفردية الضيقة .في النشاطات األدبية كما في سائر النشاطات األخرى. ظاهرة طبيعية!.. ثــم هناك المتابعين ،هــل لهم دور؟ هل ستساعد متابعاتهم ومشاركاتهم (التي ُتـ ـ ـوَثِ ـ ــق) ب ــال ــوص ــول ل ـل ـه ــدف ال ـج ـمــاعــيِّ المعل َِن والمش َترَك؟
طوبى لسعدي يوسف وطوبى لمشواره!..
¦انـتـشــرت عـلــى الشبكة الــرقـمـيــة مــواقــع، تدّ عي أنها الحاضنة للتجارب اإلبداعية ال ـش ـبــاب ـيــة ،وك ــأن ـه ــا ت ـلــزم ـهــم بــالـحـضــور ¦فــي حـ ــواري مــع الـشــاعــر الـعــربــي الكبير س ـعــدي ي ــوس ــف ،وال ـ ــذي نـشــر ف ــي مجلة كبوابة لدخول عالم األدب الموثق ،هل اإلع ـ ـ ـ ــام واالتـ ـ ـ ـص ـ ـ ــال ،قـ ـ ــال ف ـ ــي إح ـ ــدى تجد هــذا االنتشار لمثل هــذه المواقع، إج ــاب ــات ــه« :إن ـن ــا مـتـخـلـفــون ش ـعــري ـ ًا إزاء ظاهرة صحية لإلبداع؟ األم ــم األخـ ــرى ،مـعــاركـنــا األدب ـيــة بائسة مجتمع ٍ ρ ρإن لم يأت االنتشار من مؤسسات بالفعل» ،ما رأيك؟ حر ،ومن قطاعيه العام والخاص ،سيبقى ٍ ρ ρسعدي يوسف له في المنشط الثقافي ال فردياً يستفيد منه أفراد. التوثيق عم ً حول العالم والمحفل الشعري بخاصة وال في الظاهرة التي ذكرتَها سوى أنها احتكاك لصيق ،وتجربته الفذة والطويلة ظاهرة طبيعية تتطور مع تطور المجتمع. دليل على هذا .ومن زاويتي وركني لَخَ ير ٍ ¦قــد يحظى مــوقــع مــا بــاهـتـمــام متابعيه الظليل والــهــادئ ،أرى أنــه قــال صدقاً. وازدياد عددهم بسبب مشاركة كوكبةٍ من ألسنا نرى عبر العالم العربي االبتعاد عن األدب ــاء ونشاطهم ،ولكن علينا أن نقف موقع من ٍ أي منابزة بين أدبائنا إال على لـحـظــةً لـنـســأل أنـفـسـنــا أسـئـلــة مبدئية: مواقع صيغ التفضيل ،كــاألول ،األقــوى، ما هو هدف الموقع من التوثيق؟ ما هو وعلى المناصب؟ ومن لم يستطع المنابزة ه ــدف األدي ــب مــن الـتــوثـيــق؟ هــل التقيا منصب فتراه ينافح على ٍ موقع أو ٍ على عـلــى غــايــةٍ مـشـتــركــة؟ هــل ُأع ــلِ ــنَ الـهــدف الــجــوائــز ،هــذه أو تلك .طوبى لسعدي يــوســف وطــوبــى لــمــشــواره .بينما نــرى مــن التوثيق فــي بـيــان الموقع المعلن؟ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
119
120
إنسان أن يحض َر في ٍ في تجارب الشعوب األخــرى منافحات ρ ρمن حق اإلنسان ،أيِّ أي فضاءٍ إبداعيٍّ شاء .إنه حقٌّ مشروع. دروب ٍ إلثبات رؤى وأدعية ح ـرّى لسكِّ من حقِّ المنشدِ أن يتو َق للغناءِ كجوقة. وغابات لم تُطأ. ٍ مفازات ٍ عبر عازف الناي أن يفت َح في رئتيهِ ِ من حقِّ حق مشروع!.. أوركِ ــســتــرا .ومــن حــقِّ الشاعر أن يقول ¦أن ي ـك ـتــب ش ــاع ــر «مـ ـ ــا» رواي ـ ـ ــة أو ع ـم ـ ًا موسيقى الحيا ِة روايةً. سردياً ،لم يعد شيئ ًا غريبا ،فهذه الحالة التصنيف يأتي به الرابط ،ذات الرابط أصبحت منتشرة في الساحات الثقافية العضوي ،بين المتلقي والعمل األدبــي، العربية ،فمن الكتّاب مَ ن يرفض وصف الــنــص .وأنــا هنا قـدّمــت المتلقي على هــذه الحالة بالتحوّل ،بل يعده تواص ًال النص ألولويته في إنشاء هــذا الرابط طبيعيً ا بين فضاءات الكتابة ،ومــن حق العضوي .ال رابط بال المتلقي .بل أكاد الشاعر أن يحضر في أي فضاء إبداعي، متلق .هذا ما أراه. أجزم :ال نص بدون ٍ وأن هــذه الحالة ليست بالجديدة على ّمة فإن سلّمنا بهذه الجدلية النتهينا بمسل ٍ ال ـش ــاع ــر ..وم ـن ـهــم مَ ــن ي ــرى أن ـهــا عـقــدة تتبعها :التصنيف يشي بوعي المتلقي الـتـصـنـيــف ول ـهــا سـلـبـيــاتـهــا ال ـتــي تعاني عمل أدبــيٍّ أو نص .فإن ورغبته من أي ٍ مـنـهــا الـســاحــة الـثـقــافـيــة ،الـشــاعــر مــازن كانت رغبة المتلقي الوصول إلى اكتشاف اليحيا ،ماذا يقول؟ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
ترحال في صحراء الحياة ٍ واحة غنّاء بعد ٍ الفانية ،دفع بالنص أمامه ليكون الحادي والدليل .وإن ارتــأى المكوث حيث هو مكَثَ معه من كان مربوطاً به شرطا. وبالتالي تنوع التصنيف (أو الال تصنيف) ما هو إال كشف لهذه العالقة. لست صحفيا!.. ¦"ال ـص ـحــافــة مـقـبــرة ال ـم ـب ــدع" ،ه ــل لـهــذه المقولة أثر في عدم تعمق مازن اليحيا في الصحافة؟ القلب ِ ρ ρال أبدا .بل كما أنه ال يمكن لطبيب أسنان ،فأنا لست صحفيا ٍ أن يكون طبيبَ
واالقـ ـتـ ـص ــادي ــة الـ ـت ــي ي ـش ـهــدهــا ال ـعــالــم الـعــربــي ،عـلــى شـكــل الـخـطــاب اإلبــداعــي ومضمونه؟
وال أفقه في نشاطها .أما إن كان سؤالك ρ ρأراهــا كالتغيّرات التي تطرأ على جسدِ إنسان ما في قفزةٍ ،لم يزل في الهواءِ ٍ محاوالت ٍ عن عــدم نشر ما أكتبه من شعرية في الصحافة ،فللمسألة أسبابٌ
معلقا .إني ما أزال أستقرئ موطئ قدميّ
عدة .منها ما يمتّ «بنوع» النص الذي
على أرض أراها لم تُطأ بعدُ .وأرى أثرَها
أحاوله ،والذي يبعدني ويبعد الصحافة فــي آن مــن طــرحــه فــي مــا هــو سريع ويومي وزائل كزوال الخبر .ومنها ما له حضور دائم ٍ أسباب في ما يتطلبه من ومتواصل مع ذوي الشأن الصحفي ،إذ إن حياتي المهنية تأخذ من يومي ما ال يترك مجاالً إال للمتابعة القريبة من خلف الستار والتواصل مع ثلة قليلة من األصدقاء. صدمة كهربائية!.. ¦ك ـي ــف ت ـ ــرى أث ـ ــر الـ ـتـ ـغـ ـي ــرات ال ـس ـيــاس ـيــة
على شكل الخطاب اإلبداعي أكثر من على مضمونه. ما تمر به البشرية ،ال عالمنا العربي وحده ،من إعادة خلق أقطابها السياسية وكياناتها ،وانتقالها من ثنائية القطبية إلــى تعدديتها .ومــا تمر بــه نشاطاتها االقتصادية من إعادة تشكل سيمنح بكل تأكيد شكل الخطاب اإلبداعي ماد ًة ح ّي ًة ٍ صياغة .أراه صدم ًة كهربائية ٍ إلعــادة مرجوةً ،فإما تميته ميتة رحيم ًة أو تنفضه نفض ًة يف ّز فيها من سباته واقفا. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
121
أما المضمون ،فدوماً كان وسيبقى جوهر
القفزات التكنولوجية وتسارع تواترها
اإلنسان وسبب سؤاله الوجودي.
أدخلت عناصر جديدة في زمن ما-وراء
سيبقى الليل يعقبه الــنــهــار .وستبقى
المعلوماتية ومــا عــادت ال ـــ(دات ــا)data-
الموجة تعقبها الموجة على شط الحياة ما دامت.
مكتبة الكونجرس!.. ¦ما المواقع التي تحظى باهتمامك على الشبكة العنكبوتية؟ كثيرة! ولكن على سبيل المثال ال الحصر: مكتبة الكونغرس األمــريــكــي ،المقروء منها والــمــرئــي والمسموع ،ال أفارقها منذ فترة ليست بالقصيرة ..لما تحويه
ومحاضرات ٍ ـات من أعمال أدبية ودراسـ ٍ
ولقاءات نادرة .وموقع رؤية ٢٠٣٠أتابعه ٍ
وطنية ٍ الهتمامات ٍ بُعَيد إنشائه بقليل ـاب بحت. أوالً ،ومهنية ،ولمحض إعــجـ ٍ وموقع مسك من المؤسسات الخاصة
التي تجذبني هــذه األيــام .وموقع نعوم
قاعدة بيانات جامدة .أصبحت (أيــه- آي .).A.I -أصبحت صوفي أوّل ذكاء اصطناعي حاملة الجنسية السعودية. أال تتفق معي إذاً أن على كال الطرفين إعــادة النظر في كيانهما والعالقة التي تــجــمــعــهــمــا .وإن شــئــت وســمــحــت لي فإني أحيلك إلى إجابتي السابقة حول التصنيف بين األنــســاق األدبــيــة ودور المتلقي في العالقة والرابط الذي يجمع العمل اإلبداعي وإياه .فإن كان للنقد دو ٌر فهو دور الطليعي من بين صيغة المتلقي الجماعية ،وهو الجاذب للعمل اإلبداعي من خلف الجموع للمقدمة.
تشومسكي ،وسعدي يوسف من المواقع ¦هل لنا أن نتعرف على محتوى مكتبتك؟
الشخصية .على سبيل المثال ال الحصر. ¦تطفو على السطح االتهامات بين الناقد والـ ـمـ ـب ــدع « ،ال ـن ـق ــد ال ي ــواك ــب ال ـحــركــة اإلبداعية» « ،غياب النص اإلبداعي الجاد الذي يستحق أن يقرأ» ،وأنت كشاعر هل تنصف طرفا على اآلخر ؟ ρ ρأرى أن على كليهما أن يعيدا النظ َر
122
في هوّيتيهما والعالقة التي تربطهما.
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
جل ديــوان العرب من شعراء المعلقات إلى شعراء الحديث ،وجل الشعر العالمي من الصيني إلى األوروبي إلى اإلفريقي فاألمريكي .روايـــات باللغتين العربية واإلنجليزية حديثة وقديمة .قليل من كتب النقد األدبي واأليدلوجي وشيء من كتب الفلسفة والتاريخ.
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
الكاتب النمساوي نوربرت جشتراين ■ حوار :نسرين البخشوجني
ولد الكاتب النمساوي نوربرت جشتراين عــام1961م بقرية تيرول ،يُعد حاليا واحد ًا من أشهر الكتاب النمساويين ،تتناول أعماله القضايا المثارة في المجتمع األوروبي وتلقى استحسان النقاد .حصل على العديد من الجوائز ..منها جائزة بريمن لألداب عام 1989م ،جائزة برلين لآلداب عام 1994م ،وآخرها جائزة مدينة انسبروك لإلبداع الفني عام 2018م. صدر له العديد من األعمال أخرها رواية «السنوات القادمة» التى صدرت عام 2018م ،نشرت روايــة «ذكــرى البداية» عام 2013م ،والتي صــدرت نسختها العربية مطلع هذا العام .تتناول الرواية موضوع الهوس الديني من خالل شاب يُدعى «دانيال» ،متهم بزرع قنبلة في محطة قطار بإحدى المدن النائية. ¦ي ـقــوم الـمـعـلــم «أت ـ ــون» بـ ــدور ال ـســارد ρ ρبالطبع ،وهذا ما دفعني لالستمرار فــي رواي ـتــك ،فهو يحكي قصة أحد
في الكتابة .ولكن من ناحية أخرى،
طالبه «دانيال» ،والمتهم بزرع قنبلة
الكتابة ليست لكشف الحقائق بقدر
في إحــدى محطات القطار بمدينة
ما هي بحث عن الصدق .أعتقد أننا
نائية ،هــل تتفق معي أن للحقيقة
ال يجب أن نكون مهووسين بفكرة
عدة أوجه؟
الحقيقة .فحين يكون هناك حرب العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
123
فــي بلد مــا ،تصبح الحقيقة هــي أول
أخــرى يرفض العالم كله .حينها يكون
ضحايا الصحف؛ ألن كل طرف يظن أنه
لديه خــيــاران :إمــا أن يصبح قديسً ا أو
يمتلك الحقيقة المطلقة ،ولهذا السبب فقط «امتالك الحقيقة» تبدأ الحروب. ¦نتعرف على قصة حياة بطل الرواية من خالل سردٍ متوازٍ بين الماضي والحاضر، مــن وجهة نظرك لـمــاذا انـســاق «دانـيــال»
شيطانًا ،أمــر مــفــزع حين ن ــدرك كيف
يشتركان في تبنّي الفكرة نفسها ،كالهما يؤمن بالنقاء ،كالهما يؤمن باألبيض واألس ــود ،لكن ال يوجد أبيض وأســود، هناك فقط ظالل مختلفة رمادية اللون!
لــرجــل ال ــدي ــن الـمـتـطــرف رغ ــم ارتـبــاطــه ¦ه ــل يُ ـ ـع ــد «دانـ ـ ـي ـ ــال» ض ـح ـيــة االخـ ـت ــاف األيدولوجي والهوس الديني؟ بمعلمه المستنير «أتون»؟ ρ ρنكتب الرواية حين نشعر أن هناك مشكلة ما .وعادة ما يهتم الكاتب بالشخصيات السيئة وليست الشخصيات السوية. ربما تكون رغبة الكاتب في فهم دوافع
يمكنني أن أعده ضحية حين كان صغيرا، لكن حين كبر وأصبح في إمكانه اتخاذ قــرارات ..لم يعد ضحية .ألنه المسئول الوحيد عن قراراته وأفعاله.
الشخصية ،ولماذا اتخذت قراراً بالسعي ¦إلى أي مدى دمجت أحداثا حقيقية في فــي الطريق الخطأ .أمــا الشخصيات إطار خيالي في روايتك «ذكرى البداية»؟
المثالية فهي مملة .رغم أن المضي في االتجاه الصحيح أمر صعب للغاية .رجل الدين المتطرف يستطيع أن يقنع الناس بفكرة النجاة ،فيظنون أن الحياة ستكون أسهل لو أمنوا بأفكاره.
ρ ρأنا ال أعــرف أي طريقة أخــرى للكتابة. األمــر دائمًا عني وعن العالم .صحيح،
أنــنــي لــســت بــحــاجــة إلـ ــى أن أخ ــوض التجارب نفسها التي خاضتها إحــدى شخصيات روايتي ،لكنني بحاجة إلى أن
¦عانى «دانيال» من رفض أبيه لهُ ،هل كان
أقوم بتجارب تجعلني في وضع يسمح لي
بمعلمه ثم برجل الدين المتطرف؟ وهل
طريقة دانيال في التفكير ،ويمكنني أن
يـحــاول تعويض هــذا الشعور باالرتباط الشعور بالرفض يصنع إنسان ًا متطرفاً؟
بفهم مشاعره وأفكاره .أعرف الكثير عن أضعها بسهولة في أحداث روائية.
ρ ρلست مــتــأكــدا ،ولكن ربما يحدث هذا ¦فــي رواي ـتــك األح ــدث «األي ــام الـقــادمــة»..
124
إذا كنت شخصاً ليس لديه استراتيجية،
ناقشت أحد أهم الموضوعات المطروحة
فيبدأ في رفــض المجتمع ،وفــى خطوة
في المجتمع األوروبي حاليا ،الالجئين،
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ال ـق ــرار ف ــي ه ــذا ال ـش ــأن .أريـ ــد أن أع ــرف رأيك الشخصي في هذا األمر؟ ρ ρكــانــت ال ــرواي ــة تــتــحــدث ب ــاألح ــرى عن الجمهور األلــمــانــي وكــيــف تعاملوا مع
القضية .بالنسبة للكتاب ،عادة ما يكون من السهل جدًا الحصول على رأي .نعم،
أنــت تحب اإلنــســانــيــة ،ونــعــم ،تحب كل
إنسان .ال أقصد أن أكون ساخرًا عندما أقول هذا؛ هذا صحيح ،لكنه سهل للغاية.
بالنسبة للسياسة ،األمــر أكثر تعقيدًا، ويتعين على السياسي اتــخــاذ قــرارات ليس فقط بشأن األفـ ــراد .مــن السهل أن ن ــق ــول ،تــفــضــلــوا بــالــحــضــور أنــتــم
بشأن مجموعات من الناس ،وعليك أن تراقب ما هو جيد لهم وما هو ممكن. في السنوات القادمة ،سينتقل الماليين
والماليين من مكان إلى آخر ،وال يمكنك إيقافهم إذا كانوا يعتقدون أنهم سيجدون
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
ل ـك ـنــك م ـن ـحــت ل ـل ـق ــراء ف ــرص ــة الت ـخ ــاذ
ضيوفنا .لكن السياسي يتخذ قــرارات
سعادتهم أو مجرد لقمة العيش في مكان آخر .ال يمكنك بناء الجدران ،ويجب أال
تحاول ..ولكن يجب أن تكون مستعدًا، ولكي تكون مستعدًا ،هناك الكثير من القرارات السياسية التي يجب اتخاذها
مثل :كــم عديد الالجئين الــذيــن يمكن ألي دولة أوروبية أن تقبلهم؟ وهل هناك
حد؟ بالطبع نعم .وما الذي سنفعله حيال ذلك ،إذا تم الوصول إلى الحد األقصى
نوربرت جشتراين مع المحررة نسرين البخشونجي العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
125
وكانت مجتمعاتنا على وشــك االنفجار أو االنهيار ،والكثيرون اآلخرون يريدون
المجيء في المستقبل؟ ال أدري! ولكني أعلم أن المشكالت ال تختفي بمجرد
عدم التحدث عنها.
¦بمن تأثر الكاتب نوربرت جشتراين؟ ρ ρاإلنجيل كــان المصدر األول للقصص حين كنت طــفــا ،كنت أتخيل السماء
مليئة بــالــمــائــكــة ،ثــم صـــارت قصص األطفال مهمة جدا بالنسبة لي ،خاصة في القرية الصغيرة التي نشأت بها والتي تعرفت فيها على العالم الكبير الجميل والمفزع أحيانا .ولكني متعلق بكتابات الكاتب األمريكي ويليام فوكنر ،والكاتب الــفــرنــســي كــلــود ســيــمــون ،والــبــرتــغــالــي أنطونيو لوبو أنتونيس ،فأنا أعيد قراءة أعمالهم كل فترة ،إضافة إلى القليل من الكتب األخرى. ¦مَ ن الذي يقرأ المسودة األولى لرواياتك؟ ρ ρالــمــحــرر األدبـ ــي ،لكني أقــرأهــا مئات المرات قبل أن أرسل له السطور األولى
للنص الجديد .ألن الكتابة تعني قراءة كل عال عدة مرات .قد يبدو بصوت ٍ ٍ ما كتبت هذا ممال جدا ،لكني أفعله حتى ال أجد
أي شيء يمكن تعديله. ¦تــرجـمــت رواي ـت ــك «ذكـ ــرى ال ـبــدايــة» لعدة لـ ـغ ــات أخ ــره ــا ال ـن ـس ـخــة ال ـع ــرب ـي ــة ال ـتــي
126
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ص ــدرت مطلع ه ــذا ال ـعــام وترجمتها د. لـبـنــى فـ ــؤاد ،حــدثـنــي عــن ش ـع ــورك ،وهــل التقيت المترجمة لمناقشة العمل؟ ρ ρيمكنني أن أقـــول إنــنــي سعيد للغاية وفــخــور ج ــداً بــذلــك ،وعــنــدمــا عرضت
الترجمة العربية على ابنتي كانت مفتونة بالحروف العربية .لم تصدق أنني كتبت هذا الكتاب ،وبدأت أخبرها عن اللغات والبلدان المختلفة .بالفعل التقينا ،لقد كانت جــادة ج ـدًا ،مهتمة ج ـدًا بفهم كل شيء ،وأحيانًا واجهتني مشكلة في شرح األشياء التي بدت واضحة بالنسبة لي، لكن ذلك لم يكن واضحً ا عندما رأيتها من منظور آخر .أعتقد أنها قامت بعمل جيد للغاية.
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
سينما نجيب محفوظ السماح عبداهلل* ■ ّ
تــأثـيــر «نـجـيــب مـحـفــوظ» عـلــى السينما ال يمكن إن ـك ــاره؛ فـهــو َم ــن أسـهــم في تعميق الخطاب السينمائي ،وإلباسه زِ يّا فلسفيا ،وجعله ذا رسالة ،مع عدم إغفال الجانب البصري الــذي يضفي متعة إضافية على المشاهد المنظورة .بدا هذا جليا ،ليس فقط في األعمال المأخوذة عن رواياته ،بل استطعنا أن نلمسه فيما كتبه هو مباشرة للسينما ،من خالل السيناريوهات التي وضعها لقصص غيره من المؤلفين السينمائيين. كثير من المتابعين يذكرون هذا التأثير ،لكن أحدا ال يتوقف أمام تأثير السينما على «نجيب محفوظ» ،والحقيقة أن تأثير السينما عليه كان أبعد مما يتخيله المتخيلون ،فقد كانت السينما واحدة من الروافد األكثر ثراء في مخيلته! بــــدأت عــاقــة «نــجــيــب مــحــفــوظ» بالسينما مبكرا جدا ،كان في الخامسة مــن عــمــره ،عندما افتتحت فــي بيت القاضي أول سينما في حي الحسين، وربما تكون أول سينما في مصر كلها، كانت الخادمة تحمله على كتفها ،وتقطع تذكرة بخمسة مليمات ،وتجلس بجواره، ومــا إن يتم تشغيل الفيلم ،حتى تغط في نــوم عميق ،وتتركه أمــام عالم من الغرائبيات ،ممتلئا حركة واصطداما وعربات مسرعة.
صــاحــب الــســيــنــمــا رج ــل اب ــن بلد، مثقف وواع وابن نكتة ،ويرتدي جلبابا فضفاضا ،ويجلس طــوال الــوقــت في الــمــقــهــى الــمــواجــه للسينما ،يشرب الشيشة ،وعيناه على بــاب السينما، يحسب أعداد الداخلين ،وما إن يشعر أن الــعــدد أصبح مالئما ،حتى يعطي للعامل المطل مــن كــوة فــي الحجرة العلوية من السينما إشارة لبدء التشغيل، وما إن يتحرك الشريط على الحائط األبيض ،حتى تلتهب أكف المشاهدين العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
127
بالتصفيق ،عندها ،يبتسم صاحب السينما فــي رضــا ،ويطلب مــن نــادل المقهى قهوة مضبوطة ،ويشد في ياي الشيشة ،وهو يقدر مكسبه في هذا اليوم. لم يكن صاحب السينما يملك غير فيلمين فقط ،واحــد لـ «شارلي شابلن» ،والثاني لـ «فــان تــوم» ،يعرضهما آنــاء الليل وأطــراف النهار ،لــم يكن صناع السينما حتى ذلك الوقت ،قد اخترعوا هذه المواعيد الملزمة التي نعرفها اآلن ،وإنما تبدأ الحفلة عندما يشير صــاحــب السينما لعامله النشيط، السينما نفسها لم تكن كما نعرفها اآلن ،كانت مجرد دكك خشبية ممدودة كيفما اتفق ،وال سقف لها ،وبعض البيوت التي لها أكثر من طابقين ،كان سكانها يطلون من نوافذها، ليشاهدوا الفيلمين مجانا! وكــان الفيلمان اليتيمان اللذان يملكهما صاحب السينما، يُعرضان حسب الطلب ،فإذا ما انشغل أحد المشاهدين في حديث مع الجالس بجواره عن مشهد بعينه ،يطلب من عامل التشغيل، بكل بساطة ،إع ــادة المشهد ،فيعيده له، حتى أن «نجيب محفوظ» عندما ترك بيت الــقــاضــي ،وانــتــقــل للسكن إلــى العباسية، اصطحب أصــدقــاءه مــرة ليريهم المنطقة التي ولد فيها ،وطــرأ في ذهنه أن يعزمهم على السينما ،وكانت مغلقة ،وكان صاحبها جالسا على المقهى المواجه لها ،فتقدم منه «نجيب محفوظ» ،وطلب منه بكل بساطة ،أن يفتح لهم السينما ليتفرجوا ،فقام ،وأخرج المفاتيح من جيبه ،وفتحها لهم ،وأمر عامله بتشغيل فيلميه اليتيمين ،ففعل.
128
نجيب محفوظ في طفولته
بالسينما ،وإذا ما التقى بأصدقائه ،قلب كل األحاديث التي تدور بينهم إلى مشاهد سينمائية ،تماما كتلك المشاهد التي يراها في السينما ،وتطور األمر ،حتى نقل تمثيله للمشاهد إلى البيت. ذات مــرة ،استدرج الخادمة النئوم التي كــانــت تحمله على كتفه إلــى سينما بيت القاضي ،وحدق في عينيها طويال ،ثم قال لها بحكمة األطباء: أنت مريضة جــدا ،وال بد من أن أكشف عليك.
مــددهــا عــلــى الــســريــر ،وم ــرر ي ــده على جسمها كما يفعل األطباء المحترفون ،وتنهد تنهيدة عميقة ،ثم أخبرها بالقرار الطبي ك ــان قــلــب «نــجــيــب مــحــفــوظ» قــد تعلق الخطير:
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
خــرج األمــر مــن يدنا تماما ،وال بــد من إل ــى مــحــل فــي ش ــارع ف ــؤاد متخصص في إجراء جراحة عاجلة. بيع السينمات ،ك ـوّر فلوسه المحوشة على الخادمة شهقت من المفاجأة ،وتذكرت المنضدة ،وبكل ثقة قال للبائع: الــدوخــة التي تالزمها كلما صعدت ساللم أريد أن أشتري سينما. البيت ،فقد كان البيت طوليا وليس عرضيا، نظر البائع إليه من فوق ومن تحت ،فوجده فحجرة المسافرين فــي الطابق األرضــي، صغيرا ،فسأله :وهل تعرف طريقة تشغيلها؟ وحجرات النوم في الطابقين الثاني والثالث، «نجيب محفوظ» جاهز دائــمــا بــالــردود وتذكرت رغبتها الدائمة في النوم ،واصفرار المقنعة ،واإلجــابــات التي تجعل السائل ال بشرتها ،وسألته بلهفة: يتردد لحظة في تقديم كل ما يطلبه ،حتى ومَن الذي سيجري هذه الجراحة؟ ولو كان صغيرا يتطاول بالطربوش ،فقال له: بثقة رد عليها: سوف تتكرم عليَّ من فضلك ،وتعرفني طريقة
ال تقلقي على اإلطالق ،المسألة بسيطة ،تشغيلها. وسأقوم أنا اآلن بإجراء هذه العملية. ابــتــســم الــرجــل مــوافــقــا ،وع ــد الــفــلــوس اصطحبها إلى المطبخ ،وجعلها تستلقي فوجدها مضبوطة ،فأجلسه بجواره ،وراح على المنضدة التي تخرط عليها الملوخية ،يشرح له أبعاد القضية. وأمسك السكينة التي تذبح بها الفراخ ،وراح كانت سينماه الصغيرة ملفوفة في علبة يشرط في جسدها ،ولما نزلت الدماء منها ،كرتونية ،ومربوطة بدوبارة على هيئة وردة، صرخت بكل عزمها ،فحضرت أمه ،وألجمتها وكــان يمسكها بكل فــرح الصبي المشتاق، المفاجأة. الذي استطاع أن يحقق حلمه الكبير ،ويهزها
أمسكت السكينة منه ،وقالت له بلهجة بأصابعه ،وكأنما يريد أن يريها للدنيا كلها. عقابية :ال بد وأن أفعل في جسمك مثلما اشــتــرى حصالة فــخــاريــة جــديــدة ،وبــدأ فعلت في جسم الخادمة المسكينة. يــح ـوّش مــرة أخ ــرى ،هــو منذ صــغــره يملك وظل هو يجري من أمامها ،وهي ممسكة خاصية الصبر واالنتظار ،وال يعرف السأم بالسكينة تجري خلفه ،حتى دخل أبوه ،وخبأه أبدا ،ولما كسر حصالته الجديدة ،اتجه من فــوره إلــى محل األف ــام الــذي أمــام سينما عن والدته في دوالب المالبس. حـ ـوّش «نجيب مــحــفــوظ» مــن مصروفه أوليمبيا ،واشترى فيلما من أفالم رعاة البقر. دخل حجرته ،واستخرج سينماه ،كانت علبة الشخصي ،حتى امتألت حصالته الفخار، ولما رجها ولــم تصدر شخللة ،عــرف أنها بدائية التكوين ،لم يكن السادة المخترعون امــتــأت ،فكسرها ،وعبأ جيوبه بالقروش قد توصلوا بعد إلى اختراع الفيديو أو السي والــتــعــريــفــات وأنــصــاف الــفــرنــكــات ،وذهــب دي روم ،كانت هذه العلبة الصغيرة الساحرة العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
129
هي أحدث ما توصل إليه عباقرة االختراعات العجائبية في عشرينيات القرن الماضي. َرش مالء ًة بيضاء على شباك الحجرة، ف َ ووجه إليها عين العلبة الــدوّارة ،وثبت أمام العين الدوّارة المنظار المقلوب الذي سيعكس الــصــور المتتالية مــعــدولــة ،وثــبــت شريط الفيلم السينمائي الذي يشبه فيلم التصوير الفوتوغرافي على البكرة ،بعد أن تأكد من تثبيت خــروم األفــام في السنون الحديدية الدقيقة للعلبة ،وأدخــل شمعة في المحيط األسفل من العلبة ،وأشعلها بالكبريت ،تماما كما شرح له السيد المبجل بائع السينمات فــي محله العتيق بــشــارع ف ــؤاد ،أطــفــأ نور الــغــرفــة ،وأحــكــم غلق بابها جــيــدا ،وضغط شارلي شابلن على زر التشغيل ،وجلس على الفوتيه ،وكان قلبه يكاد ينط من بين ضلوعه ،وهو يشاهد في هذا االختراع استطاع «نجيب محفوظ» المشاهد تترى على مالءته البيضاء. أن يشاهد أفالما كثيرة غير فيلمي سينما في اليوم التالي ،ذهب إلى غرفة أمه ،قبل بيت القاضي اليتيمين ،واستطاع أن يحلق في يدها ،وقال لها بلغة العشرينيات العتيقة :من سماوات الفرح بأجنحة من السعادة. فضلك يا نينة ،تفضلي معي ألعزم حضرتك على السينما.
أمه فرحت جدا ،فهذه هي المرة األولى الــتــي ســتــذهــب فيها للسينما ،لــتــرى هــذه العفاريت التي تتنطط على الشاشة ،كانت تتوق ألن تــراهــا مــن كثرة مــا سمعت عنها من أبنائها ،فاتجهت إلــى خزانة مالبسها لتستخرج لبس الــخــروج ،لكنه شــدهــا من يدها إلــى غرفته ،وأجلسها على الفوتيه، وشغل االختراع ،أما أمه فقد كادت تجن من االندهاش. * كاتب من مصر.
130
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
مرت شهور وسنون وعقود ،ودخل «نجيب محفوظ» إلــى هــذا المربع الفضي ،دخل كله ،بقضه وقضيضه ،وأصبح اسمه يكتب بالبنط العريض على أفيشات السينمات كلها ،واشترى لبنتيه ولزوجته جهاز الفيديو، واشــتــرى لهن السي دي روم ،وكــان يتفرج معهن ،لكنه ،كلما اختال بنفسه ،سرح بعينيه إلى اختراعه العجائبي القديم ،وتمنى من صميم فؤاده ،لو أنه يعود مرة أخرى ،يحوّش في الحصالة الفخار ،ليشتري أفــام رعاة البقر.
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
ُ ُ ودالالتها اللغة أصوات ِ
ُ الصوتي) والمجاز االعتباط (جدلي ُة ِ َّ ّ ■ أ .د .عبداهلل بن أحمد الفَ يفي*
الحجج الطريفة ،منها قولهم :إن المجاز يحتجُّ منكرو المجاز اللغوي ببعض ُ ك َِذب ،والك َِذب ال يجوز .وهذا يذكِّرنا بمن حرَّ م فنَّ التمثيل في العصر الحديث؛ ألن التمثيل ك َِذب ،والك َِذب حرام! وهؤالء ال يفرقون بين الك َِذب األخالقي والتعبير الفنِّي القائم على التخييل .ومَن بلغ به المقام إلى هذا الــدرك ،فال سبيل إلى إفهامه أو جداله .وكيف ،وقد نفى البالغة واللغة ،يبقى إلى حواره من سبيل؟! وال غرو ،فهؤالء لو استطاعوا لنفوا الحضارة البشريَّة برُ مَّ تها ،والطبيعة المحيطة وسنن اهلل في خلقه جميعً ا؛ ألن لديهم دون كلِّ أمرٍ ُشبهةً تجعله منكَرً ا، بكاملهاُ ، حالل وال جائزٍ وال مجاز، ٍ وحَ ر ًَجا يبتدعونه يجعله حرامً ا ،حتى ما أبقوا لنا من ِسوَى الموت وارتقاب يوم الحساب! غفلة أو تغافل ومــن طرفاتهم كــذلــك احتجاجهم وأوائل اللغويين ،هم في ٍ بــأن الــمــجــاز لــم يقل بــه (الخليل بن عن أمور: أحمد الفراهيدي) وغيره من الرعيل
أوَّلها ،أن هذه القضيَّة البدهيَّة لم
األول .وهؤالء المبتدعة من أبناء قرون تكن لتُثا َر لدَى هؤالء المؤسِّ سين لعلوم االنحطاط اللغوي والبالغي والثقافي العربيَّة ،كما أ ُثيرت في عصور الفراغ، والــفــكــري ،الــذيــن يــحــتــجُّ ــون بالخليل والــجــدل السفسطائي ،والــمــكــابــرات العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
131
كوكب آخر ،ال ٍ الــجــدل ـ َّيــة الــمــتــورِّمــة بــهــا أنـ ــوف الــتــاريــخ وهؤالء ،ال ريب ،يعيشون في اإلسالمي في العصور المتأخرة.
عالقة له بكوكب األرض ،وال بالمعارف التي
وثــانــيــهــا ،أن االحــتــجــاج بــالــسَّ ـلَــف لنفي نشأت عليه ،وال بالتجربة البشريَّة جملة وتفصيل .ومَن يتصوَّر مثل هذا ال يقال عنه: ً الخَ ل َف ،ليس فيه من جديد؛ فهو تردي ٌد بــبــغــائــيٌّ لــحُ ــجَّ ــة أزلــ َّي ــة ق ــال بــهــا الــعــجــزة زمان ٍ المنقطعين من ُعبَّاد السَّ ل َف ،في ك ِّل ومكان ،منذ قوم (نــوح) ،الذين قالوا﴿ :ما سَ مِ ْعنَا ِب َهـٰذَا فِ ي آبَا ِئنَا األَ َّو ِلــيــن﴾ .موقنين أنهم بهذا قد أدلوا بحُ جَّ ة بالغة ال تُ َردُّ ،فكفَى
إنه ال يعلم ،بل األصح أن يقال :إنه ال يعقل. ومع ذلك فهو واث ٌق بما يقول ثق ًة عمياء ،لم رسول وال جاء بها ٍ يدَّ ِعها قبله من نبيٍّ وال كتاب. ورابعها ،أن النفي االنتقائي ،زعمًا :أن
باآلباءُ حُ جَّ ة ،وبالسَّ ماع عنهم مستنَدًا ،ال قِ بَل القدماء لم يقولوا بالمجاز ،محض مغالطة. ألحد بدحضه! ٍ وثالثها ،أن أصحاب مذهب السَّ ل َفيِّين ه ــؤالء -الــذيــن ال يفكرون بأدمغتهم التي في رؤوسهم بل بأدمغة آبائهم الثقافيِّين- يعتقدون أن السَّ ل َف ما ترك للخَ ل َف من شيء. وتلك عقيدةٌ جاهل َّي ٌة توارثوها ث َّم أَسْ لَمُوها.
فإ ْن صحَّ أنهم لم يقولوا به ،فهم لم يقولوا
بنفيه؛ ولــو كــان أمــره لديهم من الخطورة العقديَّة بمكان ،القتضى ذلك تنبيه األُ َّمــة إلى نُكرانه من أوَّل يوم ،وكفَى اهلل المؤمنين المجاز! وخامسها ،أن ما زعموه من أن القدماء لم
فما لم يجدوا آباءهم عليه من مِ ل ٍَّة فليس يقولوا بالمجاز هو في النهاية محض افتراء، من الحقيقة في شيء ،وال حتى من المجاز .ألجأهم إليه الــمِ ــراء .فلقد أشــار األوائــل وما أكثر األشياء التي لم يَقُل بها األوائــل ،إلــى المجاز ،وإ ْن بمصطلحاتهم العتيقة، أو لم تصلنا عنهم .وإلى تهافت االستدالل كتعبيرهم عنه بـــ«االتــســاع فــي الــكــام» أو
اختالل ذِ هن ّيًا في تصوُّر «االخــتــصــار فــيــه»( .)1وبــذا رأوا رأيــهــم في ً بمثل هذا ،فإن فيه المعارف والعلوم ،نشأ ًة وارتقاءً .لكن كيف فهم بعض آيات القرآن ،منذ القرنين األول يُستغرَب مثل هذا االختالل الذِّهني ممَّن والثاني الهجريَّين .أ َّمــا الجهل بضرورات بمقوالت تزعم أن التطوُّر االصطالحي ،فرديف الجهل بتطوُّر ٍ تجدهم يجادلونك أحيانًا فضل عن كونها لغ َة العلوم واآلداب والمعارف في األُمم. ً العربيَّة كانت لغ َة آدم،
132
أيضا؟ الجنِّ والمالئكة ً األُمم البائدة ،ولغ َة ِ العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
والحقُّ -بعد أنفلونزا المجاز ،التي َوبَأَت
عرب االنحطاط اللغوي واألدبي والحضاري -أن التي كان ينطلق منها علماء اللغة ،من ٍ اللغة ليس معظمها قائمًا على المجاز فقط ،وغير عرب ،وهو ما ال شأن لمنكري المجاز كما كان (ابن جنيّ ) يقول ،بل اللغة كلُّها مجا ٌز به ،ولكنه مصداق ما قيل قديمًا :مَن دخل
في مجاز .حتى ما نظنُّه اليوم حقيقة ،كان في غير فنِّه جاء بالعجائب! «تلك هي الفكرة مجازًا في تاريخ اللغة الماضي ،إلى أ ْن ترسَّ خ التي كان ينطلق منها علماء اللغة( ،ابن ِجنِّي)، وأصبح حقيق ًة في تصوُّرنا بعدئذ .إن اللغة و(ابــن دريــد) ،و(ابــن فــارس) ،و(هامبلت)،
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
الثقاف َة العرب َّي َة لقرون ،وترسَّ خت إبَّان عصور .)ONOMATOPOEIAوتلك هي الفكرة
مجا ٌز متناسل ،واإلنسان ضحيَّة لغته؛ ولوال و(جــســبــرســن) وغــيــرهــم .وه ــم -وإ ْن بالغ ذلك ،ما نشأت جدليَّة المعطِّ لة والمشبِّهة بعضهم أحيانًا في التماس العالقات بين دوالِّ اللغة ومدلوالتها -لم يعْدوا الحقَّ في أصل. ً نفسها ،وال القول بإنكار المجاز هــذا ما يقوله نفاةُ الحقيقة عن اللغة. وقــولــهــم -وإ ْن يــبــدو متط ِّرفًا فــي االتــجــاه النقيض لمذهب نُفاة المجاز -له وجاهته، بالنظر إلى طبيعة اللغة ووظيفتها وتطوُّرها. ال بمعنى أنني إذا قلت «شمس» في الوقت ال ــراه ــن ال أعــنــي ذل ــك الــنــجــم المشتعل المعروف؛ لكن بمعنى أن أوَّل مَن سمَّى ذلك النجم المشتعل المعروف «ش م س» إنما كانت ترتسم في ذهنه لوح ٌة تعبير َّي ٌة نقلها مــن خــال هــذه األص ــوات اللغويَّة ،ث ـ َّم من خالل هذه الصيغة الصرفيَّة .واختالف أبناء اللغات في زوايــا النظر والتعبير ال يُسقِ ط هذه الفرضيَّة. تصوير صوتيٍّ ٍ إن اللغة كلَّها ،إذاً ،محض
هذه الفكرة ،مع ما أ ُثير عليهم من النكير
حولها ،وما واجهها به (فرديناند دي سوسير de Saussure
)Ferdinandمن الرفض؛ إذ
يرى اعتباطية اللغة وأنها ال تخضع لمنطق أو نظام مطَّ رد ،وأن المؤشرات على المناسبة بين الدالِّ ومدلوله ،كأصداء الطبيعة ،هي مــن الــقِ ـلَّــة واالخــتــاف بين الـلُّــغــات بحيث ـص ـ ُّح اتــخــاذهــا أســاسً ــا لظاهرة لغويَّة ال يَـ ِ مطَّ ردة أو شبيهة بالمطَّ ردة ،فليست أكثر مــن أصــــوات قليلة ت ــص ــادَف أ ْن أشبهت أصواتها دالالتها .لكن قلتها النسبيَّة تلك في اللغات غير الفطريَّة ،وكذلك اختالفها بين فضل عن ً الشعوب ،ليس بحُ جَّ ة إلسقاطها، أن المناسبة الصوتيَّة بين أصــوات اللغات والطبيعة ليست حصرًا في ظاهرة أصداء
مجازيٍّ عن المعاني الذهنيَّة .يشهد بذلك ما الطبيعة اللغويَّة ،بل هي تدخل كثيرًا -عند يُعرَف بمحاكاة أصوات الطبيعة (األُنوماتوبيا التأمُّل -في المناسبة بين ألفاظ اللغة وما العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
133
تُعبِّر عنه من دالالت غير صوتيَّة .وال يبدو األشياء والكلمات مجازيَّة ابتداءً .ال نقول مقنعًا الزعم بأن هذا اإلحساس بالمناسبة اعتباطيَّة كما زعــم (دي سوسير) -وكأنه بين دوالِّ اللغة ومدلوالتها ليس ِسوَى وَهْ م ال يتحدث عن اللغة البَشريَّة ،بل عن لغات يتولَّد عــن مكتسبات الــمــرء اللغويَّة ،وما الطير والنحل؛ إذ نظر إلى اللغة بوصفها
ينشأ عن ذاك من ٍ ربط بين بعض األصوات مجرَّد إشــارات تُــدرس ِسيْمَوِ ّيًا -بل نقول وداللتها ،وأن كلَّ ٍ لفظ يصلح أن يُتَّخَ ذ للتعبير إن العالقة بين األشياء والكلمات في اللغة
وفصل. ً أصــا عن أيِّ معنى من المعاني عند التواضع عليه ،البشريَّة مجازيَّة تعبيريَّةً ، مثل ،ال يحمل ما يوحي وأن لفظ «الشجرة»ً ، أ َّم ــا الــعــاقــة بين الكلمات والــمــعــانــي في بفروعها وجــذورهــا وأوراقــهــا وخضرتها؛ تاريخ التطوُّر اللغوي ،فشيوع المجاز فيها ألن هــذا الربط يُ ــدرَك بين أصــوات اللغة أم ٌر بَدَهي ،مَن نفاه فقد نَفَى اللغة والتطوُّر ومدلوالتها وإ ْن لم يسبق لإلنسان اكتسابها، اللغوي في آن؛ من حيث أزهــق روح اللغة. َّ وكأنما في الذهن اإلنساني َملَكَة فطريَّة وتلك الروح هي ما اصطُ لِح عليه :بالمجاز. أوَّليَّة كليَّة ،تُشبِه َملَكَة اإلحساس بالتعبير لــوال المكابرة المُؤدلجة -التي أعيت من الصوَر الموسيقيِّ وتذوقه ،قادرةٌ على إدراك ُّ ذهن غير هذا. يداويها -ما خطر في ٍ الصوتيَّة لألشياء وتكوينها .وأ ًّي ــا ما يكن األمــر ،فيما إذا كانت تلك َملَكَة فطريَّة أو
وإذا كان هذا هو الشأن في اللغة بعامَّة،
ـاصــة؟! إن اللغة مكتسبة في الربط الموسيقيِّ التعبيريِّ بين فكيف باللغة األدب ـ َّيــة بــخـ َّ الصوت والــداللــة ،فــمــؤدَّى ذلــك واحــ ٌد في األدبيَّة ال قيام لها َّإل بانحرافها عن اللغة النهاية ،وهو أن هناك رابط ًة تعبير َّي ًة بين التواصليَّة .وإنَّما المجاز مظه ٌر واحٌــد من أصوات اللغة وموضوعاتها»(.)2
مظاهر االنحرافات اللغويَّة واألسلوبيَّة التي
النص األدبيَّ هويَّته .فإ ْن هي أ ُنكِ رت، َّ وعليه ،فاللغة كلُّها قائمة على التصوير تمنح الفنِّي ،الذي لُبُّ أدواته المجاز األَوَّلي ،بمعنى فقد أ ُنكِ رت أدبيَّة األدب .وإذا أ ُنكِ رت أدبيَّة الرمز التعبيري عن األشياء .إن العالقة بين األدب ،فقل على بالغيَّته السالم! * جامعة الملك سعود ،بالرِّياض. ثل :سيبويه1988( ،م) ،الكتاب ،تحقيق :عبدالسالم محمَّد هارون ( )1انظر بجامعة الملك سعود ،بالرِّياض ً (القاهرة :مكتبة الخانجي).212 :1 ، َصريَّة في ِشعر العُميان :دراسة نقديَّـة في الخيال واإلبداع( ،الرِّياض: الصورة الب َ ( )2انظر كتابي1996( :م)ُّ ، النادي األدبي).302 -301 ،
134
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
شخصيات روائية في مشاهدات ح ّية
■ ليلى عبداهلل*
تبلورت العالقة ما بين الروايات والتلفزيون منذ زمن طويل ،فالعلبة الصغيرة التي عرضت صورًا رمادية باهتة ويخرج منها أصوات بشرية أحدثت ضجة هائلة فاجأت العالم ولوّنت حياة أجيال كثيرة ،كبارًا وصغارًا .حكاية الصندوق المربع الذي خطف الحكايات من أفــواه الحكّ ائين ،فصارت صوتًا وصــور ًة ومات الحكي مسطحا اليوم. ً وماتت شهرزاد ،هذا الصندوق الذي غدا أول روايـــة تــطــرأ ببالي كلما وجــدت في روايــة األفــام حين تربّع أول تلفزيون أم ــام ــي شــاشــة تــلــفــزيــون حــكــايــة مــاريــا في القرية واستحوذت على عقول الناس! مــارجــريــتــا بطلة روايـــة «راويـ ــة األف ــام» العالقة ما بين الــروايــات والتلفزيون للروائي «إيرنان ريبيرا لتيلير» ،الطفلة التي توثقت بعد اكتشاف هذا االختراع ،وصار كان والدها المقعد يبعثها لمشاهدة األفالم عدد كبير من المهتمين يحرصون على نقل في السينما كل نهاية أسبوع ،لتسرد عليه الروايات الجيدة وذائعة الصيت إلى الشاشة مشاهداتها التفصيلية عن طاقم التمثيل التي تلّم حولها جميع أف ــراد المجتمع، والــحــدث بأسلوب حكائي ب ــارع ،سرعان وترسّ خ جماليات العمل األدبي في أذهان مــا ص ــارت حــكــاءة األفـ ــام فــي الــقــريــة ،الناس .كما أن كثيرا من المسابقات األدبية وأصبحت تمثل ما تشاهده ،وترتدي كما والجوائز العالمية صارت تخصص شرطً ا يرتدي الممثلون لتعزّز المشاهد البصرية للروايات التي ترشح لجوائزها بأن تصلح في ذهن مَن يسمعها مبهورًا من سكان تلك لصناعة الدراما ،ما يجعل الكاتب يكتب القرية النائية« :لم أكن أروي الفيلم ،بل أعماالً تستوفي الصورة الدرامية ليحظى كنت أمثله ،بل أكثر من ذلك :كنت أعيشه .بالفوز والشهرة في آن. وكان أبي وأخوتي يستمعون وينظرون إليّ األدب العربي غــزيــر ،وثــمــة كثير من بأفواه مفتوحة» لكن موهبتها الفذّة انهارت العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
135
روايــات عربية حُ وّلت لمسلسالت درامية على رأسها أعمال الروائي المصري الذي حاز جائزة نوبل «نجيب محفوظ» ولعل من أشهرها «بين القصرين» و«قصر الشوق والسكرية» ومسلسل «أفـ ــراح الــقــبــة» ال ــذي عــرض منذ عامين في رمضان وفاقت شهرته اآلفاق ،وتكمن ميزة هذا العمل أنه أُخذ من عدة روايات جمعتها ببراعة فــريــدة السيناريست «نــشــوى زاي ــد» ،فوضعت المشاهد العربي أمام عمل درامي رصين عمّق من جماليات روايــات الروائي العالمي «نجيب محفوظ» في ذاكــرة األجيال ،وخلّدت مشواره الكتابي الحافل بــأجــواء المصريين والــشــارع المصري. وهناك أسماء عربية عرضت رواياتهم على الشاشات كالروائي «يوسف السباعي» ،و«إحسان عــبــدالــقــدوس» ،و«ع ــاء األســوانــي» ،و«إلــيــاس خوري» ،و«حنا مينا» ،و«محمد شكري» ،و«غسان كنفاني» ،و«أحالم المستغانمي» وغيرهم. بعض األعــمــال الكتابية نالت شهرة تفوق شهرة العمل الدرامي ،لكن في الوقت نفسه ثمة أعمال روائية لم تكن بالمستوى المطلوب ،أو لم تفق جمال الرواية المكتوبة؛ ربما يعود ذلك
136
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
لطبيعة الشخصيات وتفاصيلها كتاب ّيًا ،وتخييلها في عقل الــقــارئ ،تكاد تتمايز عن مشاهدتها واقع ّيًا .وروايات أخرى حولت لمسلسالت درامية ناجحة بينما الرواية جاءت هزيلة .وهنا ،أتخيل مشاهد المسلسل المصري «بنت اسمها ذات»، من اخراج «كاملة أبو ذكــرى» ،وحوار وسيناريو «مريم نعوم»؛ إذ يتجلى في المسلسل الذي كان من بطولة النجمة «نيللي كريم» والممثل «باسم سمارة» مــدى الصناعة المحكمة التي بذلتها السيناريست «مريم نعوم» في تحويل الحكاية الورقية من تأليف الروائي «صنع اهلل إبراهيم»، التي جاءت ناقصة التفاصيل والترتيب السردي أيــضــا ،ألحداثها التي عرضت بوتيرة واحــدة إلى حكاية بصرية بانورامية .وخلق شخصيات مشبّعة باألحاسيس العميقة والحوارات السلسة، ال درام ّيًا جبارًا ،يتناول لقد صنع فريق العمل عم ً تاريخ وقضايا الشارع المصري منذ خمسينيات القرن الماضي حتى قيام الثورة المصرية. وال ــح ــال نــفــســه أيــضــا مــع مسلسل تركي عرض على الشاشات العربية منذ عام 2005م حتى عام 2010م بأجزائه الخمسة ،المسلسل الــذي خلق جماهيرية كبيرة وقت عرضه على شاشة « ،mbcاألوراق المتساقطة» ..من بطولة عائلة تركية ،األب «علي رضا تكين» مع أبنائه الخمسة ،وتكمن قــوة المسلسل في شخصية األب ،الرجل الشريف ،رسمت شخصيته بمالمح عميقة ظهرت مدى نبله مع عائلته ،هذا األنموذج المثالي دفعني شخص ّيًا إلى قراءة الرواية التي بنت عليها الحكاية والتي تحمل العنوان نفسه «األوراق المتساقطة» للروائي التركي «رشــاد نوري غونتكن» .وهنا كقارئة شعرتُ بخيبة أمل كبيرة؛ فالرواية جاءت هزيلة ونحتت شخصياتها بسطحية ،يبرز هنا عظمة فريق العمل في تحويل الــدرامــا إلــى مشاهد بصرية مفعمة بالحركة ،مفعمة بالحياة ومشبّعة باالنفعاالت
بينما حققت بــعــض الــمــســلــســات تــوازنــا رائـ ـ ًق ــا بــيــن م ــا تــخـ ّيــلــه ال ــروائ ــي وم ــا صنعه المخرج ،كالمسلسل المصري «الــوتــد» الذي عرض على الشاشة العربية في عام 1996م، مــن اخ ــراج «أحــمــد الــنــحــاس» ،مسلسل الوتد يوازي في جماله وتأثيره الرواية التي اقتبست منها الحكاية ،وحملت العنوان نفسه للروائي المصري البديع «خيري شلبي» ،والــذي عرف مدى مقدرته البديعة في تصوير حياة األرياف وخصوصيته ،لقد تفنن في نفخ روح اإلبداع في شخصية بطلة الرواية المسلسل «فاطمة تعلبه»،
الروايات التي أخذت منه ببراعة السيناريست «مريم نــعــوم»؛ فالمسلسل ثمرة ثــاث روايــات للروائي المصري «عــزالــديــن شكري فشير»، روايــات جــاءت كثالثية ،كان أولها «مقتل فخر الدين» ،ثم أتبعها برواية «غرفة العناية المركزة»، ثم ختمها أخــيـرًا بــروايــة «أبــو عمر المصري» حيث عنوان المسلسل الدرامي .كان باإلمكان عبر أحداثها المفصلة المحورية عن شخصية البطل وبقية الشخصيات التي جــاءت مكثّفة ال درام ـ ًّيــا عمالقًا في الــروايــات أن تصنع عم ً مــن جــزأيــن أو ثالثة أج ــزاء لتأخذ الــروايــات العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
اإلنسانية الصادقة. والذي أدى الدور ببراعة الممثلة القديرة وقتئذ وهناك مسلسالت غيّبت جمال الــروايــات «هدى سلطان «-رحمها اهلل -المرأة القوية واألم والــقــصــص ف ــي أحـــــداث ســطــحــيــة وركــيــكــة ،المتسلطة استطاعت أن تصنع الخوف في قلوب كالمسلسل الخليجي «ساق البامبو» الذي جاء كل مشاهديها من الكبار والصغار معًا! مفتقدًا للقوة والتأثير الذي تمتعت به الرواية أيضا مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»، التي حملت الــعــنــوان نفسه لــلــروائــي الكويتي الــذي صنع شهرة كبيرة في قلوب الجماهير الــشــاب «ســعــود السنعوسي» ،الــذي حــاز على أثــنــاء عرضه عــام 1996م ،مــأخــوذ مــن روايــة جائزة البوكر عن هذه الرواية عام 2013م ،حيث باالسم نفسه للروائي المصري القدير «إحسان تناولت الرواية موضوعً ا غاية في األهمية تفشى عــبــدالــقــدوس» ،وســيــنــاريــو وحـــوار «مصطفى في المجتمعات الخليجية السيما الكويتية ،وهو مــحــرم» ،وإخ ــراج «أحمد توفيق» ،ومــن بطولة الزواج من الفليبينيات وتركهن مع أول حمل دون الثنائي العريق الفنان «نــور الشريف» -رحمه السؤال عنهن .ترحلن إلى بالدهن وهن حامالت اهلل -والــفــنــانــة «عبلة كــامــل» ،مــا يميّز هذا طف ً ال سليل بيئة صــحــراويــة منعّمة بخيرات المسلسل أنــه إلــى حــد اآلن يــدغــدغ األجيال البترول ،فتضعه األم في بيئتها المعدمة ،محرومًا الــســابــقــة واألج ــي ــال الــجــديــدة أي ــض ــا ،حيث من أبسط حقوقه ،متطبعًا بأخالقيات مكان ال تتداول بروح الخفة صور الفنانة «عبلة كامل» يمت له بصلة وثيقة ،ويجد هذا الطفل نفسه ككوميكس لتعبر عن الحاالت النفسية التي يمر متزعزعً ا بين هويتين منشطرتين تمامًا كبطل بها اإلنسان في حياته كالفرح والحزن والكآبة، الروائي «إيتالو كالفينو» في رواية «الفيسكونت صارت أيقونة لوجه دعائي مضمّخ باألحاسيس المشطور» ،تائهًا بين أم فلبينية حيث يعيش معها المتباينة ،ترويجها داللة على مدى التأثير الذي في بالدها ،وأب خليجي تخلى عنه قبل والدته غرسه هذا العمل الدرامي األصيل في عقول وأنكر وجوده! لقد أسقط المسلسل المأخوذ عن المشاهدين. هذه الرواية روح الشخصيات؛ فقد جاءت في أيضا المسلسل المصري «أبو عمر المصري» الكتاب الورقي ،أعمق وأدعى تأثيرًا في النفس الذي أثار جدالً واسعًا ،حقق العمل الذي عرض من العمل الدرامي. في شهر رمضان الماضي توافقًا مبدعً ا ما بين
137
حقها ،ويــكــون العمل الــدرامــي مستوف ّيًا في عرض شخصية مثيرة للجدل ،وكتبت بأسلوب فاجع وعميق كفخرالدين ،أو ما ُكنّي به حين أصبح فردًا من الجماعات اإلسالمية «أبو عمر المصري». حتى الروايات التي بطابع كوميدي تنجح في كثير من األحيان كأفالم درامية تطرح قضايا مهمة بــأســلــوب ســاخــر الذع ،كــروايــة «عــايــزة أتــجــوز» ،للكاتبة المصرية «غــادة عبدالعال»، التي كانت تكتب مدونات عن فتاة تريد الزواج، ويــحــدث لــهــا مــقــالــب مطعّمة بالسخرية من أسرتها ومن جيرانها في العمارة ،وصديقاتها في مكان عملها في الصيدلية ،هذه المواقف جمعتها في كتاب سرعان ما حوّلت لمسلسل شهير عرض في أحد مواسم رمضان من بطولة الفنانة « هند صبري» ،وأبــدع المخرج «رامي إمام» في نقل حالة الفتاة المصرية الراغبة في الــزواج ،وقسوة ما تتلقاه من مجتمع ال يراها سوى عانس ،مجتمع وضع نجاح المرأة في حيّز الزواج فحسب ،في حصولها على عريس مهما كانت مواصفاته ،مكتفيًا لكونه ذكر! وبــالــعــودة إلــى كتب التاريخ والــتــراث ،نجد أمامنا تحفة فــي األدب الفكاهي «البخالء» ألبي عثمان عمرو بن بحر المعروف في التاريخ العربي بــــ«الجاحظ» كتاب متعمق في السخرية، مطعّم بالحكايات الهزلية عن البخالء وطبائع نفسياتهم وسلوكياتهم وفضح لنواياهم وأسرار بيوتهم ،حيث صور الشخصيات بمهارة إزميل نــحــات .بــخــاء لكن ظــرفــاء أيــضــا ،والــدرامــا العربية نجحت في تحويل بعض حكايات هذا الكتاب إلى مشاهدات درامية عرفت بالخفة ال لــروح الكتاب وغاية كاتبه. والطرافة ،مماث ً ظلت المسلسالت التي تعنى بالبخالء من كافة * كاتبة من اإلمارات.
138
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
الدول العربية من مصر والعراق وسوريا ولبنان في زمن ثمانينيات القرن الماضي ،تستقي من بئر أفكار الجاحظ الغزيرة .كمسلسل «البخالء» ومسلسل «بخالء لكن ظرفاء» وغيرها. النجاح األدبــي للروايات الــذي يش ّد صناع الــدرامــا يظل الــقــارئ هــو مــن يرفعه لمصاف الكتب الروائية الجديرة بالقراءة ،كما العمل الدرامي تمامًا ،فالمشاهد هنا بديل القارئ، يحكم عــلــى ال ــدرام ــا وف ــق مــا يــشــاهــده ،ومــا يحققه المسلسل من نسبة مشاهدة عالية في قنوات اليوتيوب ،كالهما الــقــارئ والمشاهد هما الشخص نفسه ،هما مَن يصنعان المجد الحقيقي للمؤلف ولطاقم المسلسل في آن، السيما في زمن صارت فيه األعمال الدرامية متاحة عبر كبسة زر كحال الكتب أيضا ،بمعنى صارت معظم األذواق مستقلة وليست مسيّرة، صــارت عبر وصايا قــارئ جيّد ومشاهد ملّم بصناعة الدراما.
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
مواطن األسد في شبه الجزيرة العربية الشعرية من المصادر ِ ■ أحمد إبراهيم البوق*
انحسار األسد من معظم مناطق توزيعه الجغرافي في شبه الجزيرة العربية، تزامن مع زيــادة انتشار السكان وحركتهم وتطور وسائل القتل ،ولكن آخر وجود له في شبه الجزيرة العربية ربما يرجع الى الثلث األول من القرن العشرين في العراق. العال ..مقبرة األسود!..
ولــم يتبق من ساللة األســد اآلسيوي ســوى مجموعة منعزلة في شمال غرب الهند قد تكون مصدر ًا محتم ًال الستعادة هــذا التراث الطبيعي لشبه الجزيرة العربية .وت ــدل كـثــرة نقش األس ــود على الصخور فــي مناطق مختلفة فــي شبه الجزيرة العربية على انتشاره الواسع القديم فيها ،ومن أبرز النقوش والمجسمات له «مقبرة األسود» المحفورة في الصخور ،وترجع للحضارة الرادائية في العال، والتي تشهد حالي ًا استعادة هائلة للتراث الطبيعي فيها .وقد ارتبط ذكر األسد بمواقع في شبه الجزيرة العربية تسمى بالمآسد-جمع مأسدة -وخلد ذلك في الشواهد الشعرية ،وسنستعرض بعضها فــي هــذا المقال .فالشاعرة الخنساء الشهيرة قالت ترثي أخاها صخراً:
حامي الحقيق تخالُهُ عند الوغى
وقالت فيه أيضاً:
أسـ ـ ــد ًا بـبـيـشــة ك ـ ِ كس وال عُ مرٌ ـاشـ ـ َر ص ـخــر ًا سَ محُ الخليفة ال نِ ٌ ليث الغابةِ العادي بل باسلٌ مثلُ ِ أي الــذي يحمي مــا يلزم حمايته، الخل ذي لِ بَدٍ وبيشة موقع شهير كمأسدة في جنوب من أسدِ بيش َة يحمي ِ غربي المملكة العربية السعودية. من أهله الحافِ رِ األدنينَ والبادي العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
139
وقالت فيه أيضاً:
وجاء كذلك عند النجاشي الحارثي في رجز له ،وذكر مأسدين خفّان وشاش
أس ـ ـ ـ ـ ــود تـ ـب ــا َل ــةٍ ك ـ ـ ـ ــأنّ مُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـد ًال مـ ـ ــن ُ ـاش ي ـكــونُ لـهــا ح ـيـ ُـث اسـ ـت ــدارَت وك ـرّت ل ـ ـ ـيـ ـ ـ ُـث عـ ـ ــريـ ـ ــن ل ـ ـل ـ ـك ـ ـبـ ــاش غ ـ ـ ـ ِ ـاش م ـ ــن أس ـ ـ ــد خـ ـ ــفّ ـ ـ ــانَ ولـ ـ ـي ـ ـ ِـث ش ـ ـ ِ
والمدل :األسد المزهو بنفسه ،وتبالة.. ويعتقد بعض البلدانين أن خفّان مأسدة واد شهير جنوب شرقي الطائف إلى وقت ٍ قرب الكوفة ،وشاش مدينة بما وراء النخر. قريب كانت تكثر فيه الظباء. والمأسدة ذكرها الفرزدق كذلك: أما الشاعرة ليلى األخيلية ،فقد ذكرت ل ـع ــمُ ــرك م ــا ل ـي ـ ُـث ب ـخ ــفّ ــانَ خ ـ ــادِ ٌر مأسدة اسمها خفّان:
قدما بأشج َع من بشرِ بن عُ تب َة مُ ِ
ف ـت ــىً ك ـ ــانَ أح ـي ــا م ــن فـ ـت ــاةٍ حَ ـي ـيــةٍ ـال مُ عتصم ًا وأشـ ـجـ ـ َع م ــن ل ـي ـ ٍـث ب ـخــفّ ــان خـ ــادِ رِ إن ــي رأيـ ـ ُـت أب ــا األش ـب ـ ِ بـ ــه الـ ـجـ ـب ــالُ ك ـ ـعـ ــادٍ ِع ـ ـن ـ ـ َد خــفّ ــانــا وهذا الموقع ذكره أبو الفضل الكناني: وقال يمدح أسد بن عبداهلل:
أما تميم بن مقبل فقد ذكر مأسدتين في َفـنـهـنـهـ ُـت عـنــهُ ال ـق ــو َم حـتــى كأنما واد شهير بين النماص وعسير ال حَ ـ ـ َبـ ــا دو َن ـ ـ ــه لـ ـي ـ ٌـث بـ ـخ ــفّ ــان خـ ـ ــادِ رِ ترج ..وهو ٍ زال يزخر بالوعول والظباء والنمور ،ومأسدة وجاء كذلك عند األعشى الكبير أخرى اسمها « ِعتوَد»:
وما مخد ٌر وردٌ عليه مهابةٌ جاف كأنّهم الع ُ ُحلوس ًا بها الشمُّ ِ أسـ ـ ـ ـ ــودٌ ب ـ ـتـ ــرج أو أس ـ ـ ـ ــودٌ بـ ـعـ ـتـ ـ َودَا ُ أبـ ــو أشـ ـ ُب ـ ٍـل أم ـس ــى ب ـخ ــفّ ــان خ ـ ــادِ رِ 140
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
فـ ـ ـل ـ ــمّ ـ ــا أن رأون ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا فـ ـ ـ ــي وغ ـ ــاه ـ ــا دَر ُبـ ـ ـ ـ ــوا ك ـم ــا دَربـ ـ ـ ــت اسـ ـ ــود خَ ـف ـيــةٍ ك ـ ـ ــآس ـ ـ ــادِ ال ـ ـغـ ــري ـ ـفـ ــةِ والـ ـحـ ـجـ ـي ـ ِـب ـاب مــن األس ــودِ ضــواري غـلـ ُـب الــرقـ ِ ـات ال ـ ـ ّل ـ ـجـ ــم ف ـي ـنــا والمأسدة نفسها ذكرها األعشى الكبير :وخـ ـ ـي ـ ـ ٍـل ع ـ ــالـ ـ ـك ـ ـ ِ ك ـ ـ ـ ــأنّ ك ـ ـمـ ــا َت ـ ـهـ ــا أسـ ـ ـ ـ ـ َد الـ ـ َّـضـ ــريـ ــب ِم ـ ــن ك ـ ــلَّ س ــابـ ـح ــةِ وأج ـ ـ ـ ــر َد س ــاب ـ ٍـح وقال: وص ـ ـ ـ َعـ ـ ــادِ َت ـ ـ ـ ـ ــردِ ي ب ـ ــأس ـ ـ ِـد خَ ـ ــفَّ ـ ـيـ ــةٍ ِ وسَ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ــدٌ لـ ـ ــو دع ـ ـ ــو ُت ـ ـ ــهُ ـ ـ ــمُ لـ ـث ــاب ــوا وذكرها الراعي النميري: ـاب َنـ ـ ـ ــوٌ ى ب ــأس ـ ِـد ـف غ ـ ـ ـ ِ إل ـ ـ ــيّ حـ ـفـ ـي ـ َ ـاك ولـ ـي ـ ُـث َخَ ــفَّ ـي ــةٍ وأنـ ـ ــتَ اب ـ ــنُ أمـ ـ ـ ٍ ومأسدة الغريف ذكرها كذلك عمرو بن األس ــودُ الغُ ُ َتـفــادى ُ لب منهُ تفاديا األسود:
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
أما مأسدة « خَ في ٍّة « فقد ذكرها كعب بن األودي ،فقد ذكر مآسد في شعره « (الغريفة، والضريب ونوى): ّ والحجيب، زهير:
الحديد كما مَ شَ ت ِ حلق أمــا الــفــرزدق فقد قــال يمدح يزيد بن يمشونَ في ِ عبدالملك: أس ــدُ ال ـغــريـ ِـف ب ـكــلّ نـحـ ٍـس مُ ِظلم
َض ـ ــرب ـ ــوا بـ ـح ــق ن ـ ـبـ ــوةٍ ك ــان ــت لـهــم وس ـ ـيـ ـ ِ ُ ـوف أس ـ ـ ِـد خَ ــفَّ ـ ـي ــةٍ ل ــم َت ـنــكُ ـ ِـل إذ ًا لـ ـظـ ـنـ ـن ـ ُـت جَ ـ ـ ـ ّن ـ ـ ـ َة ذي ع ــري ـ ٍـن وآس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا َد ال ـ ـ ـغـ ـ ــريـ ـ ـ ِـف ف ـ ـ ــي َصـ ـعـ ـي ــر ومــن أق ــدم الــشــعــراء الجاهليين الفوة وعند المثقب العبدي:
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
141
ومــأســدة «عــثّــرَ» ذكــرهــا زهــيــر بــن أبي سلمى:
ل ـيـ ٌـث يِ ـع ـ ّث ـ َر ي ـص ـطــا َد الـ ـ ّرج ــالَ إذا الليث عــن أقــرانِ ــه َصدَقا ُ مــا ك ــذّ بَ وكذلك ذكرها كعب بن زهير:
ُغم من ضراءِ األسد مُ خدرةٌ من صب ٍ ب ـب ـط ــن عَ ـ ـ ـ ّث ـ ـ ـ َر غ ـ ـيـ ــلٌ دو َنـ ـ ـ ـ ــه غ ـي ــلُ أما أشهر مأسدة وإليها ينسب األسود فهي «الشَّ رى» وقد ذكرها الفرزدق:
فـ ــإنّ ام ـ ــر ًأ يـسـعــى يُ ـخ ـ ّبــب زوجـتــي كـســاعٍ إلــى أسـ ِـد الـ ّـشــرى يستبيلُها والجواهري يقول إن «الشرى» طريق في يـ ـ ــا بـ ـ ـ ـ ــد ُر يـ ـ ــا بـ ـ ـح ـ ــرُ عُ ـ ـ ـمـ ـ ــام ـ ـ ـ َة يــا سُ لمى كثير األسد. وقال أيضاً يمدح اإلمام زين العابدين بن علي بن الحسين:
ل ـي ــثَ ال ـ ّـش ــرى ي ــا حَ ـ ـم ــامُ ي ــا ر َُج ـ ــلُ
والمتنبي ذكــر مواقع أخــرى لألسد في قصيدته الشهيرة عن األسد ذكر «األردنّ »
هُ ـ ــمُ الـ ـعـ ـي ــونُ إذا م ــا أزمـ ـ ــةٌ أ َزمـ ــت الشرى واليأس محترمُ وبحيرة طبريا: واألسدُ أسدُ ّ والمتنبي يقول في ذات المأسدة:
وق ـ ـعـ ــت عـ ـل ــى األردنِّ مـ ـن ــه ب ـل ـيــةٌ ـاق ُت ـل ــوال ـضـ ــدت ب ـه ــا هـ ـ ــا َم الـ ــرفـ ـ ِ َنـ ـ َ
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يُرى الشرى وهو من ٍ لَيثَ ّ عجل إذا انتشبا وردٌ إذا ور َد الـ ـبـ ـحـ ـي ــر َة شـ ــارب ـ ـ ًا ور َد الـ ـ ـ ـف ـ ـ ــراتَ زئ ـ ـ ــيُ ـ ـ ــر ُه والـ ــنِ ـ ـيـ ــا وقال يمدح كافور األخشيدي: وذكر « الغراديس» وهو موضع بالشام:
ف ــإ ّال تكن ِمـضــرُ الـ َّـشــرى أو عَ رينهُ ف ــإنّ ال ــذي فيها مــن ال ـنـ ِ ـاس أس ــدُ ُه أجـ ــارُك يــا أسـ ـ َد ال ـغــراديــس مـكـرَمٌ وقال يمدح بدر بن عّ مار: فمسلمُ ِ ـات فتسكن نفسي أَم مُ ـهـ ٌ * باحث وشاعر سعودي.
142
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءات
االحتياجات املجتمعية للمرأة يف محافظة الغاط ودورها يف حتقيق التنمية املستدامة
املؤلف :أ .د .اجلوهرة بنت فهد عبداهلل الزامل الناشر :مركز عبدالرحمن السديري الثقايف٢٠١٩ ،م صدر حديثاً عن برنامج النشر ودعم األبحاث بمركز عبدالرحمن السديري الثقافي ،كتاب االحتياجات المجتمعية للمرأة في محافظة الغاط ودورها في تحقيق التنمية المستدامة ،وهو ثمرة دراسة ميدانية موّلها مركز عبدالرحمن السديري الثقافي. سعت الدراسة إلى تقدير احتياجات المرأة االجتماعية واالقتصادية بمحافظة الغاط، بهدف التوصل إلى تصور تخطيطي مقترح لتلبية احتياجات المرأة للتنمية المستدامة من خالل المحكّات اآلتية( :االحتياجات االجتماعية، واالقتصادية ،والبيئية ،والتعليمية ،والثقافية، والصحية ،والترفيهية ،واحتياجات البنية التحتية واإلسكان). وقد عمدت الدراسة إلى ترتيب أولويات احتياجات المرأة ،ومعرفة تقييم المرأة نفسها لالحتياجات الموجودة بالغاط ،وتحديد الصعوبات التي تعوق إشباع احتياجاتها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتوصلت النتائج إلى أن االحتياجات الترفيهية تمثل أولى االحتياجات المجتمعية التي توليها المرأة بمحافظة الغاط أهمية الفتة ،يليها االحتياجات الصحية ،ثم احتياجات البنية التحتية واإلسكان
والمرافق ،ثم جاءت االحتياجات البيئية ،يليها االحتياجات االجتماعية ،ثم االقتصادية في الترتيب السادس ،وفي الترتيب السابع واألخير جاء متوسط االحتياجات التعليمية والثقافية وتقييم الخدمات المتوافرة في محافظة الغاط ،وهذا يعني أن الخدمات التعليمية والثقافية جيدة كما تراها النساء عيّنة الدراسة ،بينما تم تصنيف الخدمات الترفيهية بالمقبولة. وتوصلت الدراسة إلى تحديد الصعوبات التي تعوق إشباع احتياجات المرأة ،والمقترحات إلشباع تلك االحتياجات ،والتخطيط لعدد من المبادرات التنفيذية بهدف تحقيق أهداف التنمية المستدامة. يمثل الكتاب إضافة إلى أدبيات الدراسات االجتماعية المتعلقة باالحتياجات المجتمعية للمرأة ،لمساعدة الجهات الرسمية واألهلية المهتمة بشؤونها. ومن الجدير بالذكر أن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي أقام ورشة عمل في محافظة الغاط، بحضور محافظ الغاط وقادة الوحدات والمؤسسات الحكومية واألهلية لدراسة مخرجات هذه الدراسة، لإلفادة منها في التخطيط لألنشطة والخدمات المتعلقة بالمرأة في الغاط. العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
143
الـ ـ ـصـ ـ ـفـ ـ ـح ـ ــة األخـ ـ ـ ـي ـ ـ ــرة
القصة ..اليوميات ..الرواية ..السيرة الذاتية ■ صالح القرشي*
مع فورة الرواية السعودية قبل أكثر من عشر سنوات ،كان القول عن روايــة ما أنها سيرة ذاتية اتهام يقلل من أهميتها الفنية ،ويطلق عادة للتشكيك في قيمة الرواية أو في قدرات الروائي ،بينما في مجتمعات أخرى كان يجري العكس ،إذ إن السيرة الذاتية الذائعة لكاتب ما يمكن أن تفقد قيمتها ومصداقيتها فيما لو وجد مَن يشكك في كونها مجرد رواية! أتذكر أنــه وعبر منتدى ثقافي مـعــروف ،سئلت عن الفرق بين الــروايــة والسيرة الذاتية، فأجبت أن الرواية مكتوب على غالفها رواية ،فيما السيرة الذاتية مكتوب على غالفها سيرة ذاتية ،وهذا الجواب لم يعجب الكثير من الزمالء في ذلك الوقت. أتذكر أيضا أن بعض النقاد تناولوا الرواية أال يــمــكــن لــلــقــصــة الــقــصــيــرة أن تكتب المعروفة لغازي القصيبي رحمه اهلل ( شقة بطريقة اليوميات وباستخدام ضمير المتكلم الحرية) وقت صدورها قائلين هذه ليست وباستخدام حتى تواريخ معينة..؟ رواية ،إنها مجرد سيرة ذاتية ،والسبب الوحيد الجواب يمكن جدا.. الذي يملكه أولئك النقاد لتسويغ ذلك القول هو أنهم يعرفون جوانب من حياة الكاتب ،وبالتالي هــل يعني هــذا أنها يوميات أو مذكرات يسهل عليهم الحديث عن كونها مجرد سيرة .وليست قصة قصيرة؟
ولــكــن ه ــل هـ ــذا تــقــيــيــم نــقــدي حقيقي الحقيقة أنه ال يمكن الجزم بذلك؟ إال في وموضوعي؟ حالة واحــدة ،وهي أن يكتب عليها صاحبها ماذا سيكون موقف مَن يقرأ العمل دون أن أنها يوميات أو مذكرات ،سوى ذلــك ..فهي يعرف شيئا عن حياة كاتبه؟ ستكون قصة قصيرة بعيدا عن مسألة الجودة ونــقــطــة االلــتــبــاس هــنــا تكمن فيما قاله الفنية من عدمها. إمبرتو إيكو (بطريقة ما ،أعتبر كل رواية هي وهــنــالــك الــكــثــيــر مــن الــنــمــاذج الــروائــيــة سيرة ذاتية .حينما نبتكر شخصية روائية ،والقصصية التي تستخدم تقنية اليوميات أو فنحن بشكل ما نسبغ عليها بعضاً من حياتنا المذكرات او السيرة الذاتية لخلق أجواء معينة الخاصة .فنعطي هذه الشخصية جزءًا منا، دون أن تخرجها هذه التقنية الكتابية عن كونها ونعطي تلك جزءًا آخر منا .بهذا ال أراني أكتب سيرتي الذاتية بشكل مباشر ،لكن سيرتي قصص أو روايات. الذاتية تصبح مضمّنة في الــراويــة .وهناك الخالصة ،أننا أمام فنون مراوِ غة ومرنة، فرق). ال يمكن تأطيرها بشكل مطلق ،وتبقى الجودة ومثل إشكالية الرواية والسيرة الذاتية دائما الفنية هي المعيار األهــم بعيدًا عن مسألة ما تحضر مسألة القصة القصيرة واليوميات ..التصنيف! * كاتب من السعودية.
144
العدد - 63ربيع ١٤٤٠هـ (٢٠١٩م)
من إصدارات اجلوبة
من إصدارات برنامج النشر في