مجلة الجوبة 67 : محور عن الأديب جار الله الحميد ومواجهات مع الشاعر أحمد اللهيب ، الناقدة ماجدة ص

Page 1

‫ ¦التشكيل النسائي السعودي‬ ‫بين األصالة والمعاصرة‪.‬‬ ‫ ¦نحن واليابان فسحة للتأمل‪.‬‬ ‫ ¦مع «كورونا» في العزلة سالمة‪.‬‬ ‫ ¦أعمدة الرجاجيل بسكاكا‪ :‬هل‬ ‫كانت مراصد فلكية؟‬ ‫ ¦نصوص شعرية وسردية ‪.‬‬ ‫ ¦مواجهات مع ‪ :‬الشاعر أحمد‬ ‫اللهيب‪ ،‬الناقدة ماجدة صالح‪،‬‬ ‫الروائية صونيا خضر‪.‬‬

‫دراسات ونقد‬

‫‪ ‬جاراهلل الحميد‬ ‫القص‬ ‫تمرّد مدهش على تقاليد‬ ‫ّ‬

‫‪67‬‬


‫برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم البحوث والرسائل‬ ‫العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‬ ‫‪ 1-‬نشر الدراسات واإلبداعات األدبية والفكرية‬

‫يهتم بالدراسات‪ ،‬واإلبداعات األدبية‪ ،‬ويهدف إلى إخراج أعمال متميزة‪ ،‬وتشجيع حركة‬ ‫اإلبداع األدبي واإلنتاج الفكري وإثرائها بكل ما هو أصيل ومميز‪.‬‬ ‫ويشمل النشر أعمال التأليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬ ‫مجاالت النشر‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬الدراسات التي تتناول منطقة الجوف ومحافظة الغاط في أي مجال من المجاالت‪.‬‬ ‫ب‪ -‬اإلبداعات األدبية والفكرية بأجناسها المختلفة (وفقاً لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من شروط النشر)‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الدراسات األخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف ومحافظة الغاط (وفقاً لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من‬ ‫شروط النشر)‪.‬‬ ‫شروطه‪:‬‬ ‫‪ -١‬أن تتسم الدراسات والبحوث بالموضوعية واألصالة والعمق‪ ،‬وأن تكون موثقة طبقاً للمنهجية العلمية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬أن تُكتب المادة بلغة سليمة‪.‬‬ ‫‪ -٣‬أن يُرفق أصل العمل إذا كان مترجماً‪ ،‬وأن يتم الحصول على موافقة صاحب الحق‪.‬‬ ‫‪ -٤‬أن تُق ّدم المادة مطبوعة باستخدام الحاسوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قرص ممغنط‪.‬‬ ‫‪ -٥‬أن تكون الصور الفوتوغرافية واللوحات واألشكال التوضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومناسبة‬ ‫للنشر‪.‬‬ ‫‪ -٦‬إذا كان العمل إبداعاً أدبياً فيجب أن يتّسم بالتم ّيز الفني وأن يكون مكتوباً بلغة عربية‬ ‫فصيحة‪.‬‬ ‫‪ -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفقاً للشكل الذي ستصدر فيه ‪ -‬على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫ الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة صفحة بالمقاس المذكور‪.‬‬‫ البحوث التي تنشر ضمن مجالت محكمة يصدرها المركز‪ :‬تخضع لقواعد النشر في‬‫تلك المجالت‪.‬‬ ‫ الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة صفحة‪( .‬تحتوي الصفحة على «‪ »250‬كلمة تقريباً)‪.‬‬‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت النشر‪ ،‬فيشمل األعمال المقدمة من أبناء وبنات‬ ‫منطقة الجوف‪ ،‬إضافة إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪ ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج)‬ ‫فيشترط أن يكون الكاتب من أبناء أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يمنح المركز صاحب العمل الفكري نسخاً مجانية من العمل بعد إصداره‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫مكافأة مالية مناسبة‪.‬‬ ‫‪ -١٠‬تخضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬


‫‪ -2‬دعم البحوث والرسائل العلمية‬

‫يهتم بدعم مشاريع البحوث والرسائل العلمية والدراسات املتعلقة مبنطقة اجلوف‬ ‫ومحافظة الغاط‪ ،‬ويهدف إلى تشجيع الباحثني على طرق أبواب علمية بحثية جديدة يف‬ ‫معاجلاتها وأفكارها‪.‬‬ ‫(أ) الشروط العامة‪:‬‬ ‫‪ -١‬يشمل الدعم املالي البحوث األكادميية والرسائل العلمية املقدمة إلى اجلامعات‬ ‫واملراكز البحثية والعلمية‪ ،‬كما يشمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مبؤسسات غير‬ ‫أكادميية‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة متعلقاً مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط‪.‬‬ ‫‪ -٣‬يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة جديداً يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬ ‫‪ -٤‬أن ال يتقدم الباحث أو الدارس مبشروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬ ‫‪ -٥‬يقدم الباحث طلباً للدعم مرفقاً به خطة البحث‪.‬‬ ‫‪ -٦‬تخضع مقترحات املشاريع إلى تقومي علمي‪.‬‬ ‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد السقف األدنى واألعلى للتمويل‪.‬‬ ‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل إجراء تعديالت جذرية تؤدي إلى تغيير‬ ‫وجهة املوضوع إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬ ‫‪ -٩‬يقدم الباحث نسخة من السيرة الذاتية‪.‬‬ ‫(ب) الشروط اخلاصة بالبحوث‪:‬‬ ‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف الشروط العامة (البند «أ»)‪.‬‬ ‫‪ -٢‬يشمل املقترح ما يلي‪:‬‬ ‫ توصيف مشروع البحث‪ ،‬ويشمل موضوع البحث وأهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪،‬‬‫واملدة املطلوبة إلجناز العمل‪.‬‬ ‫ ميزانية تفصيلية متوافقة مع متطلبات املشروع‪ ،‬تشمل األجهزة واملستلزمات‬‫املطلوبة‪ ،‬مصاريف السفر والتنقل والسكن واإلعاشة‪ ،‬املشاركني يف البحث من‬ ‫طالب ومساعدين وفنيني‪ ،‬مصاريف إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬ ‫ حتديد ما إذا كان البحث مدعوماً كذلك من جهة أخرى‪.‬‬‫(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية‪:‬‬ ‫إضافة لكل ما ورد يف الشروط اخلاصة بالبحوث (البند «ب») يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬ ‫‪ -١‬أن يكون موضوع الرسالة وخطتها قد أق ّرا من اجلهة األكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬ ‫‪ -٢‬أن يُق ّدم توصية من املشرف على الرسالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬ ‫هاتف‪ 014 6245992 :‬فاكس‪014 6247780 :‬‬ ‫الجـوف ‪ 42421‬ص‪ .‬ب ‪ 458‬‬ ‫هاتف‪ 016 4422497 :‬فاكس‪016 4421307 :‬‬ ‫الغ ـ ـ ــاط ‪ 11914‬ص‪.‬ب ‪ 63‬‬ ‫الرياض ‪ 11614‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬هاتف‪ 011 2015494 :‬فاكس‪011 2015498 :‬‬

‫‪info@alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬


‫مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري‬

‫ملف ثقايف ربع سنوي يصدر عن‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬ ‫هيئة النشر ودعم األبحاث‬

‫رئيساً‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫عضواً‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬خليل بن إبراهيم المعيقل ‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬مشاعل بنت عبدالمحسن السدير ي عضواً‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬علي دبكل العنزي ‬ ‫عضواً‬ ‫محمد بن أحمد الراشد ‬ ‫أسرة التحرير‬

‫إبراهيم بن موسى احلميد‬ ‫محرر ًا‬ ‫ ‬ ‫محمود الرمحي‬ ‫محرر ًا‬ ‫ ‬ ‫محمد صوانة‬ ‫اإلخراج الفني ‪ :‬خالد الدعاس‬

‫املشرف العام‬

‫هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬ ‫املراســــــالت‪ :‬‬ ‫فاكس‪)+966()14(6247780 :‬‬ ‫ ‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية السعودية‬ ‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪aljoubahmag@alsudairy.org.sa‬‬

‫ردمد ‪ISSN 1319 - 2566‬‬ ‫سعر النسخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع‬ ‫االشتراك السنوي لألفراد ‪ 50‬ريا ًال واملؤسسات ‪ 60‬ريا ًال‬

‫رئيساً‬ ‫فيصل بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫عضواً‬ ‫سلطان بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫د‪ .‬زياد بن عبدالرحمن السديري العضو المنتدب‬ ‫عضواً‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬سلمان بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫عضواً‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬خليل بن إبراهيم المعيقل ‬ ‫عضواً‬ ‫سلمان بن عبدالمحسن بن محمد السديري عضواً‬ ‫طارق بن زياد بن عبدالرحمن السديري عضواً‬ ‫سلطان بن فيصل بن عبدالرحمن السديري عضواً‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضواً‬ ‫قواعد النشر‬

‫‬‪ -1‭‬أن‬ ‪‭‬تكون‬ ‪‭‬املادة‬ ‪‭‬أصيلة‬ ‪.‭‬‬ ‫‪ ‭‬-2‬لم‬ ‪‭‬يسبق‬ ‪‭‬نشرها‬ ‪‭‬ورقيا‬ً ‪‭‬أو‬ ‪‭‬رقميا‬ً‪‭.‬‬ ‫‪ ‭‬-3‬تراعي‬ ‪‭‬اجلدية‬ ‪‭‬واملوضوعية‬‪‭.‬‬ ‫‬‪ -4‭‬تخضع‬ ‪‭‬املواد‬ ‪‭‬للمراجعة‬ ‪‭‬والتحكيم‬ ‪‭‬قبل‬ ‪‭‬نشرها‬‪‭.‬‬ ‫‬‪ -5‭‬ترتيب‬ ‪‭‬املواد‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬العدد‬ ‪‭‬يخضع‬ ‪‭‬العتبارات‬ ‪‭‬فنية‬‪‭.‬‬ ‫‬‪ -6‭‬ترحب‬ ‪‭‬اجلوبة‬ ‪‭‬بإسهامات‬ ‪‭‬املبدعني‬ ‪‭‬والباحثني‪‭‬‬ ‫‬والكتّاب‪‭ ‬،‬على‬ ‪‭‬أن‬ ‪‭‬تكون‬ ‪‭‬املادة‬ ‪‭‬باللغة‬ ‪‭‬العربية‬‪‭.‬‬ ‫‮«‬اجلوبة‬‪‭‬‮»‬ من‬‪‭‬األسماء‬‪‭‬التي‬‪‭‬كانت‬‪‭‬تُطلق‬‪‭‬على‬‪‭‬منطقة‬‪‭‬اجلوف‬‪‭‬سابق‬اً‪‭.‬‬

‫املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر‪.‬‬

‫يُعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املناشط املنبرية الثقافية‪،‬‬ ‫ويتبنّى برنامجاً للنشر ودعم األبحاث والدراسات‪ ،‬يخدم الباحثني واملؤلفني‪ ،‬وتصدر عنه مجلة‬ ‫(أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي‪ ،‬ومجلة (اجلوبة) الثقافية‪ ،‬ويضم املركز ك ً‬ ‫ال من‪( :‬دار‬ ‫العلوم) مبدينة سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما قسم للرجال وآخر‬ ‫للنساء‪ .‬ويصرف على املركز مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‪.‬‬

‫‪0553308853‬‬

‫‪Alsudairy1385‬‬


‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪6..........................‬‬

‫جاراهلل الحميد‬ ‫اختبارات السرد في تنوع التعبير‪..‬‬

‫‪95.............................‬‬ ‫حوار مع الشاعر‪:‬‬

‫أحمد اللهيب‬

‫‪128............................‬‬

‫أعمدة «الرجاجيل»‬ ‫مراصد فلكية قبل تسعة آالف عام بسكاكا‬

‫الـمحتويــــات‬ ‫االفتتاحية‪٤ .......................................................................‬‬ ‫دراسات ونقد‪ :‬جاراهلل الحميد‪ :‬اختباراتُ السردِ في تنوّع التعبير ‪٦ .........‬‬ ‫ج ــاراهلل الحميد‪ :‬الــبــدوي ال ــذي خــرج على تقاليد الــنــص القصصي! ‪-‬‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‪٧ ........................................................‬‬ ‫جاراهلل‪ ..‬مغام ٌر لن يتكرر أبدًا ‪ -‬يوسف المحيميد‪١٠ .....................‬‬ ‫جاراهلل الحميد‪ :‬وقشعريرة الكلمة ‪ -‬د‪ .‬هناء بنت علي البواب ‪١٢ ..............‬‬ ‫ُدهش واختالفُ الرؤيةِ في القصةِ القصير ِة‬ ‫جاراهلل الحميد‪ :‬كوكب ُة العنوانِ الم ِ‬ ‫ صدّيق الخالدي ‪١٥ ..........................................................‬‬‫جاراهلل الحميد‪ :‬سيرورةُ األلمِ في طبائعِ الكتابة ‪ -‬محمد العامري ‪١٧ .........‬‬ ‫مــصــادِ ُر الــرؤيــةِ بين العملِ الفنيِّ والنموذجِ القصصيِّ «جــاراهلل الحميد‬ ‫أنموذجاً» ‪ -‬يوسف اليوسف ‪٢٠ ................................................‬‬ ‫جاراهلل الحميد‪ :‬كاتب األلم والعزلة ‪ -‬نجاة الذهبي ‪٢٢ .........................‬‬ ‫جاراهلل الحميد‪ ..‬طائر الشمال الحزين ‪ -‬محمود العزازمة ‪٢٥ .................‬‬ ‫مطالعة في عوالم جاراهلل الحميد‪ ..‬القصصية والشعرية ‪ -‬غازي الملحم‪٣٣ ...‬‬ ‫وجوهٌ وأطيافٌ معذب ٌة في تجربة الفنانة التشكيلية السعودية "غدير حافظ" ‪-‬‬ ‫إبراهيم الحجري‪٣٧ ............................................................‬‬ ‫ّاصا وصا َر نحّ االً! ‪ -‬ليلى عبداهلل ‪٤٥ .................‬‬ ‫حكّاءُ الجبالِ الذي كان قن ً‬ ‫التشكي ُل النسائيُّ السعوديُّ بين األصالةِ والمعاصر ِة ‪ -‬خلف أبوزيد‪٤٨ .........‬‬ ‫للخطاب السرديِّ في‪( :‬عرّاف ُة المساء) ‪ -‬امحمد امحور ‪٥٣ ....‬‬ ‫ِ‬ ‫الذاتُ المنتج ُة‬ ‫قــراءةٌ في الصفحات الــزرقــاء ارتجاف الحسرات في مهاوي الــذات عند‬ ‫الشاعر المغربي محمد بنميلود ‪ -‬نجاة الزباير ‪٥٩ ............................‬‬ ‫شعرن ُة القلقِ الوجوديِّ عند زكي الصدير ‪ -‬هشام بن الشاوي ‪٦٦ ...............‬‬ ‫نصوص‪ :‬المعنى بينهما‪ ،‬إعادة االتّصال ‪ -‬أحمد المال ‪٧١ ....................‬‬ ‫قصص قصيرة جدا ‪ -‬سعاد محمد اشوخي‪75 ..................................‬‬ ‫حي َن تُ َغنِّي ‪ -‬هدى الشماشي‪76 ..................................................‬‬ ‫ليلة شتوية دافئة ‪ -‬حسام الدين فكري ‪78 .......................................‬‬ ‫قلوب شفافة ‪ -‬حليم الفرجي‪80 ............................................‬‬ ‫نسائم الغياب ‪ -‬محمد الرياني ‪81 ...............................................‬‬ ‫الغرب ُة بستانُكَ ‪ -‬علي بافقيه ‪82 .................................................‬‬ ‫ياقوت ‪ -‬سعاد الزحيفي‪83 .......................................................‬‬ ‫كف القمرِ ‪ ،‬اعوجا ُج أُنثى! ‪ -‬ليال الصوص ‪84 ..........................‬‬ ‫في ِّ‬ ‫نبضاتٌ ‪ -‬مالك الخالدي ‪86 .....................................................‬‬ ‫ظن القصيدة ‪ -‬نوره عبيري‪88 ...................................................‬‬ ‫قصيدتان ‪ -‬غسان تهتموني‪90 ...................................................‬‬ ‫أذوبُ عليك ‪ -‬عبداهلل مفتاح‪91 .................................................‬‬ ‫أفكر في شجرة الحياة ‪ -‬جمال موساوي‪92 .....................................‬‬ ‫ترجمة‪ :‬الرج ُل األعمى‪ ..‬قصة الكاتبة األمريكية‪ :‬كيت شوبان ‪ -‬ترجمة‪:‬‬ ‫أميرة الوصيف‪93 ...........................................................‬‬ ‫مواجهات‪ :‬الشاعر أحمد اللهيب ‪ -‬حاوره‪ :‬عمر بوقاسم‪95 ...................‬‬ ‫الناقدة العربية د‪ .‬ماجدة صالح ‪ -‬حاورها‪ :‬نضال القاسم ‪105 ..................‬‬ ‫الشاعرة والروائية الفلسطينية «صونيا خضر» ‪ -‬حاورها‪ :‬عصام أبو زيد‪110 ...‬‬ ‫والشعر ‪ -‬أحمد البوق‪115 .‬‬ ‫الشعر العربي تخفّي في الطبيعة ِ‬ ‫نوافذ‪ :‬النم ُر في ِ‬ ‫نح ُن واليابانُ‪ :‬فسح ٌة لِلتأمُّل! ‪ -‬د‪ .‬سعيد سهمي ‪119 .............................‬‬ ‫في العُزلة سالمة ‪ -‬محمد علي حسن الجفري‪125 .........................‬‬ ‫أعمدةُ «الرجاجيل» مراص ٌد فلكي ٌة قبل تسعة آالف عامٍ بمدينة سكاكا ‪-‬‬ ‫إبراهيم الحميد‪128 ........................................................‬‬ ‫قراءات ‪135 ......................................................................‬‬ ‫الصفحة األخيرة‪ :‬هل الناق ُد مبد ٌع فاشلٌ؟ ‪ -‬صالح القرشي ‪136 ..............‬‬


‫■ إبراهيم بن موسى احلميد‬ ‫وُلِد األديب والشاعر والقاص جاراهلل بن يوسف الحميد في مدينة حائل عام ‪1954‬م‪/‬‬ ‫‪ 1374‬هجرية؛ فنشأ في شوارعها وحواريها‪ ،‬وبين جبالها ووديانها؛ عرف فيها السعادة‬ ‫والشقاء والحب‪ ،‬فصبغت أعماله األدبية وقصائده الشعرية‪.‬‬ ‫رغم قسوة ظروفه العائلية‪ ،‬استطاع الخروج من لُجّ ة صحراء النفود‪ ،‬كما استطاع‬ ‫بثقافته ولغته الرصينة الوصول إلى نخبة كتاب القصة في ثقافتنا المحلية‪ ،‬واالنضمام‬ ‫إلى قائمة األدباء الذين أثروا تجربتهم وأثّروا في مجتمعهم‪ .‬ورغم تعدد األسماء األدبية‬ ‫والثقافية التي برزت على مستوى المملكة في حائل‪ ،‬إال إنه كان األديب األبرز الذي‬ ‫استطاع أن يخترق اإلعــام الثقافي‪ ،‬وأن يصبغ صــور ًة حائلية للمثقف في اإلعالم‬ ‫والصحافة‪ ،‬كما استطاع أن يكون قرينًا لمدينته التي عشقها وأحبها وعاش فيها في‬ ‫مخيلة كثير من األدباء والمثقفين‪.‬‬ ‫ال على الحياة بما فيها‬ ‫جاراهلل الحميد في بداياته‪ ،‬ورغم قسوة البدايات‪ ،‬كان مقب ً‬ ‫من ثقافة وجمال‪ ،‬أحب التجريب واللغة والقصة القصيرة‪ ،‬ووظّ ف لغته التي اكتسبها من‬ ‫وجوده في مدينة غنية بالتراث والجماليات واألهازيج‪ ،‬مرتكزًا إلى تراث غنيّ أمسك‬ ‫بطرفه وتمرّد عليه في لغة شفيفة‪ ،‬استطاع أن يؤسس من خاللها نموذجً ا جديدًا للقاص‬ ‫البارع والكاتب المميز الذي يركّز على الشكل كما يهتم بالمضمون؛ ولذلك فقد تبوأ‬ ‫مكانته كأحد رواد القصة القصيرة الجدد في المملكة العربية السعودية‪ ،‬رغم نفيه‬ ‫المتكرر أن يكون رائدًا‪ ،‬ومحاوالته التملّص من مسئولية الريادة‪ ،‬إال إن أعماله األدبية‬

‫‪4‬‬

‫هي من ألقت عليه هذا الوِ شاح‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ثم وجوه كثيرة أولها مريم (‪1984‬م)‪ ،‬ثم في رائحة المدن (‪1998‬م)‪ ،‬ثم ظالل رجال‬ ‫هاربين (‪2000‬م)‪ ،‬ثم طباعة األعمال الكاملة (‪2010‬م)‪ ،‬عن نادي حائل األدبي‪ ،‬ومؤسسة‬ ‫االنتشار العربي ببيروت‪ .‬وقد تميزت هذه األعمال بقربها من اإلنسان بطبيعته البشرية‪،‬‬

‫حـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدـة‬ ‫س ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫دراـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫اف ـ‬ ‫ـاتـاون‬

‫بدأت تجربة األديب جاراهلل اإلبداعية مع النشر في أحزان عشبة برية (‪1980‬م)‪،‬‬

‫ولغة سردية أخّ ــاذة‪ ،‬أسهمت بمنح نصوصه طاقة تعبيرية‪ ،‬أبعدتها عن أجواء السرد‬ ‫التقليدي الذي كان سائدًا في مرحلة من المراحل‪ ،‬وشدت المتلقي القارئ‪ ،‬بعبقها‬ ‫وانفتاحها على آفاق بعيدة‪ ،‬مشكّل ًة وعيًا جديدًا في مجال القصة القصيرة؛ ولهذا فقد‬ ‫التفت إليه النقاد والصفحات الثقافية؛ وبرز واحداً من أهم األسماء السردية في الثقافة‬ ‫الوطنية‪.‬‬ ‫تشف عن أديب مختلف‪ ،‬يكتب قصصه ببراعة‪ ،‬تحتاج من‬ ‫ّ‬ ‫قصص جاراهلل الحميد‬ ‫قارئها وعيًا وإحاط ًة بما يريد أن يوصله إليه‪ ،‬وال يكشف جاراهلل ببساطة عن االتجاهات‬ ‫التي تسير إليها قصصه وشخصياته؛ ورغم كون هذه الشخصيات تعيش حيوات قصيرة‪،‬‬ ‫كما قصصه‪ ،‬إال إننا نكتشف أن هذه الشخصيات موجودة بيننا‪ ،‬نشاهدها تعبر أمامنا‪،‬‬ ‫تُعايشنا‪ ،‬وتعيش معنا‪ ،‬وهي مهمة عسيرة على الكاتب المبدع الذي يحاول الوصول إلى‬ ‫قارئه‪ ،‬وإشراكه في حواراته السردية وإدخاله في عوالمها‪.‬‬ ‫في حياته العامة‪ ،‬عاش جاراهلل الحميد صنوفًا من الحرمان والتجاهل‪ ،‬ولم يجد من‬ ‫يحتضنه بعد األزمات الشخصية التي عاشها زم ًنًا طويال‪ ،‬وقد التفت إليه نادي حائل‬ ‫األدبي منذ سنوات‪ ،‬والذي كان يصرف له مرتبًا شهريًا لقاء وظيفة مستشار النادي‬ ‫حسب تصريح األديب الكبير‪ ،‬وفيما بعد‪ ،‬وبعد تصاعد ظروفه القاهرة‪ ،‬حاول أصدقاء‬ ‫األديب جاراهلل الحميد في المجتمع الثقافي واإلعالمي عمل نداءات عبر منصة موقع‬ ‫تويتر إلنقاذ األديب الحميد‪ ،‬خاصة مع ظروفه الصحية الصعبة التي ألزمته الكرسي‬ ‫المتحرك‪ ،‬وهذا ما يجدد الدعوة إلى االستجابة لطلب إنشاء صندوق لدعم األدباء‬ ‫وتفريغ المبدعين وكبار السن منهم‪ ،‬وإحاطتهم بالرعاية واالهتمام‪ ،‬ليتمكنوا من إنجاز‬ ‫إبداعهم في ظروف كريمة منصفة‪ ،‬وهذا ما نرجو أن يتحقق لألديب الكبير جاراهلل‬ ‫الحميد‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪5‬‬


‫جاراهلل الحميد‬

‫اختبارات السر ِد في تن ّوع التعبير‬ ‫ُ‬ ‫المجموعات األدبية لذلك الكاتب المهم‪ ،‬ذلك الرجل البدوي‬ ‫ٍ‬ ‫وأنت تقف أمام‬ ‫السعودي‪ ،‬ابن الصحراء الذي اقترف مهنة القصة كحياة يومية؛ فأصبح السرد‬ ‫صور ًة مهمة ً‪ ،‬تشبهه‪ ،‬وتعبّر عن واقعه وأحالمه وأمنياته‪ .‬فالقارئ له يشمّ رائحة‬ ‫األلم في كل سطر من سردياته‪ ،‬كأنه إبر ٌة أو مخر ٌز يحفر في لحم المأساة؛ فتن ّز‬ ‫سطوره دمً ا بلون الكلمات المتبعثره‪ ،‬ذلك الدم اليانع في صحراء الواقع‪ .‬لقد‬ ‫برز الحميد كصرخة ملهوف في الصحراء يبحث عن "مريمه" التي ضاعت بين‬ ‫الدروب‪ .‬ثم يتوه في مدنه‪ ،‬التي تتوه في الجزيرة العربية هنا‪..‬‬ ‫بين مجموعاته القصصية‪ ،‬تجد القاص السعودي المتميز جاراهلل الحميد‪،‬‬ ‫يتفرّد بكاميرة الكتابة‪ ،‬يرصد تفاصيل دقيقة محكومة باالختزال‪ ،‬وذات دالالت‬ ‫بخفهِ الثقيل عشبته‬ ‫وتأويالت بعيدة؛ كأن يصور جم ًال مليئًا بالنياشين‪ ،‬يهرس ُ‬ ‫البرية التي تأبى أن تموت‪ ،‬وهي صورة قوية عن استمرار الحلم والثورة عن الواقع‬ ‫البائس‪ ،‬وهو المتمرد الذي يرفض الكالسيكية المحضة‪ ،‬وهو القاص المختلف‬ ‫بحرفه‪ ،‬المختلف دومً ا بأسلوبه‪ ،‬وهو الكاتب ابن البيئة البدوية‪.‬‬ ‫ورغــم بعض االنتباهات التي تناولت هذه التجربة‪ ..‬إ ّال إن الحميد لم يأخذ‬ ‫حقه في المختبر السردي وال النقدي العربي‪ ،‬وهــذا األمــر يعود إلى قصر ذراع‬ ‫الماكينة النقدية التي لم تكِ دّ في البحث عن هــذه الـفــرادة‪ .‬ويأتي هــذا الملف‬ ‫عرفانًا من مجلة الجوبة لتقدّ م لقارئها مجموعة من الكتابات التي تمس روحه‪،‬‬ ‫وهي كتابات متنوعة من السعودية وليبيا واألردن والسودان‪ ،‬تصف لنا روح القاص‬ ‫ونصوصه‪ ،‬وجدارتها في الحضور والقراءة والنقد‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫البدوي الذي خرج على تقاليد النص القصصي!‬ ‫■ عبدالرحمن الدرعان*‬

‫منذ أن أصــدر جــاراهلل الحميد مجموعته القصصية األولــى (أحــزان عشبة برية)‪ ،‬وهو‬ ‫واحــد من أهم األسماء التي شكلت الموجة التي تلت جيل الــرواد مع عبداهلل باخشوين‪،‬‬ ‫وحسين علي حسين‪ ،‬وعبدالعزيز مشري‪ ،‬وصالح األشقر‪ ،‬ومحمد علوان‪ ،‬وفهد الخليوي‬ ‫نصا مغايرً ا‬ ‫وآخــريــن‪ .‬خــرج على تقاليد النص القصصي التقليدي ونواميسه‪ ،‬مقدمً ا ً‬ ‫منفص ًال عن السياق السائد‪ ،‬منسجمً ا مع فضاء التحوّالت نحو الحداثة‪ ،‬فقد كسر نمط‬ ‫نصا ضد الحكاية كما كانت‬ ‫الحكاية وكتب نصا في الغالب بال حدث؛ أو لنكن أكثر دقة‪ ،‬كتب ً‬ ‫تروى بل كما تتحرك ظالل أبطالها‪ .‬يبدو لي على األرجح أن جاراهلل كان مبدعً ا بقدر ما كان‬ ‫عاقً ا آلبائه من جيل الكتّاب الذين سبقوه‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫جاراهلل الحميد‬

‫لست هنا بصدد قراءة هذه التجربة العميقة التي أشبعها النقاد منذ عقودٍ تناو ًال وقراءة‪،‬‬ ‫بيد إنني أكتب من موقع القارئ الذي يتأمل تجربة جاراهلل باحترام يليق بها‪.‬‬ ‫مَن يدنو من عالم هذا الكاتب الموغل‬ ‫في أحزانه القديمة‪ ،‬سيدرك على الفور‬ ‫أن أحــد المؤثرات التي دفعت به إلى‬ ‫عالم الكتابة‪ ،‬هو تلك الرغبة في الفرار‬ ‫من الواقع األليم‪ ،‬نحو واقــع بديل‪ ،‬من‬ ‫العقل المقيّد نحو آفــاق الجنون‪ ،‬وال‬ ‫شك أن اليتم المبكّر الذي ترك جروحه‬ ‫الغائرة في روح الفتى‪ /‬كان له أثر لم‬ ‫يندمل‪ ،‬والسيما أن يقع هذا الحدث في‬ ‫مجتمع تقليدي‪ ،‬حيث األب يمثل السند‬ ‫القوي؛ ومن فقدانه في التوقيت السيء‪،‬‬ ‫جمل في‬ ‫ٍ‬ ‫ولــد كائ ٌن مــذعــو ٌر تــائـهٌ‪ ،‬مثل‬

‫عبد الرحمن الدرعان‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪7‬‬


‫الصحراء‪ ،‬كما يعبّر هو نفسه في لقاء بأنه يعيش ضمن فقاعة تتحرك داخل‬ ‫أجرته معه صحيفة عكاظ‪.‬‬

‫المجتمع‪ ،‬وفق شروطها الداخلية‪ ،‬وليس‬

‫لقد تركه اليتم صبيًا لم يكبر على وفق شروطه‪.‬‬ ‫مخاوفه‪ ،‬منذ أن كسرته مواجهة الموت‪،‬‬

‫لهذا‪ ،‬ال نستغرب أن يبلغ به الشعور‬

‫فيما هو في بحر الستة عشر عامًا‪ .‬وقد باالنفصال عن واقعه حدّ أن يرثي نفسه‬ ‫انعكس ذلك في كتابته؛ ففي ٍ‬ ‫لقاء آخر على طريقة مالك بن الريب‪ .‬فالحياة‬ ‫ا هــي مــنــظــومــة هــائــلــة من‬ ‫يق ُّر جــاراهلل بأنه ال يكتب ما ال يحدث لــديــه أص ـ ـ ً‬ ‫له؛ أي إنه بمعنى ما‪ ،‬يدوّن تجربته‪ ،‬ولكن المخاوف والوحشة‪ ،‬نتابع أبطاله وهم‬ ‫ليس تماما على هيئة السيرة الذاتية‪.‬‬

‫يتحركون غالبًا في المطارات والفنادق‬

‫بــيــد إن قـــــراءة نــصــوصــة المليئة الضخمة الممتلئة بالموظفين المريبين‪،‬‬ ‫بــالــتــكــثــيــف‪ ،‬والــتــقــطــيــع الــســيــنــمــائــي‪ ،‬والمصحات‪ ،‬حيث األطباء المناوبين‪،‬‬ ‫والكابوسية‪ ،‬والــوســاوس‪ ،‬يشي بشكل وأظـــن أن قــصــة (ف ــي الــصــبــاح) تمثل‬ ‫مــا بــأن واق ــع الكاتب واق ــع مغاير‪ ،‬إن النموذج الذروة الذي يكفي لتقديم لمحة‬ ‫(البرادايم) خاصته ال يتفق وال يتطابق عما يختزنه من وحشة وارتياب وشكوك‬ ‫تمامًا مع أبجدية المجموع‪ .‬يمكن القول وهواجس‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫السمة‬ ‫بقي أن أشير إلى تلك ّ‬ ‫الشخصية التي ظهرت جل ّيًا في‬ ‫لقاء تلفزيونيٍّ أعتقد أنه الوحيد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بفرح‬ ‫ٍ‬ ‫حينما انــداحــت مالمحه‬ ‫طفولي وهو يسرد حكاية البدوي‬ ‫الذي يصادفه‪ ،‬ويلقي عليه هذا‬ ‫الــســؤال البالغ البساطة‪ :‬أنت‬ ‫جاراهلل الحميد؟!‬ ‫إنها مفارقة كبيرة أن يتدفق‬ ‫رجل‬ ‫كل هذا الفرح على مالمح ٍ‬ ‫مــثــخـ ٍـن بــالــحــزن‪ ،‬يفتته قطعه‬ ‫قطعة على األرصفة المعتمة‪.‬‬ ‫وأخيرًا‪ ،‬أحيي مجلة الجوبة‬ ‫عــلــى تــكــريــس ه ــذا الــمــلــف عن‬ ‫أحــد أبــرز ُكـ ّتــاب القصة الذين‬ ‫فتوحات مبكرة في هذا‬ ‫ٍ‬ ‫قدّ موا‬ ‫الفن الجميل‪.‬‬

‫القاص جاراهلل الحميد‬ ‫ّ‬

‫* قاص وكاتب من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪9‬‬


‫أبدا‬ ‫جاراهلل‪ ..‬مغامرٌ لن يتكرر ً‬ ‫■ يوسف احمليميد*‬

‫في المرحلة الثانوية‪ ،‬كنت قد عثرت على مجموعات قصصية أولى لحسين علي حسين‬ ‫(الرحيل)‪ ،‬وعبدالعزيز مشري (موت على الماء)‪ ،‬وخيرية السقاف (أن تبحر نحو األبعاد)‪،‬‬ ‫ولطيفة السالم (الزحف األبيض)‪ ،‬وزاد شغفي بالقصة القصيرة قراءة وكتابة‪ ،‬إذ كنت أرسل‬ ‫من صندوق بريد المستشفى المركزي قرب منزلنا في عليشه‪ ،‬وأنتظر عدة أيام مصحوبًا‬ ‫بالقلق والدهشة‪ ،‬والخيبة أحيانًا‪ ،‬حتى كتب لي أحد المحررين من كُ تاب القصة الشباب‬ ‫ضمن الردود بأن أزور مقر الجريدة‪.‬‬ ‫ذهبت وسألت عن مكتبه‪ ،‬كان يلبس صدمني هذا التقطيع السريع في الجمل‪،‬‬ ‫نــظــارتــيــن دائــريــتــيــن‪ ،‬ذكــرنــي بــالــكـ ّتــاب الحوار الفلسفي الموجز‪ ،‬ثم اكتشفت فيما‬ ‫الــروس‪ ،‬لم يطلب لي قهوة أو شايًا‪ ،‬بل بعد أن معظم جيل جــاراهلل تأثروا بهذه‬ ‫كتب لي على ورقــة صفراء أمــامــه‪ ،‬اسم المجموعة الصغيرة حجمًا‪ ،‬الكبيرة أثرًا‪،‬‬ ‫قصصا قصيرة اعتمدت‬ ‫ً‬ ‫كاتب وعنوان كتاب‪ ،‬واســم المكتبة التي وقد كتبت بعدها‬ ‫يتوفر فيها‪ ،‬أتــذكــر اسمها مكتبة خالد فيها على التقطيع والمونتاج واللغة المكثفة‬ ‫في شارع الثميري‪ ،‬خرجت وهبطت نحو واإليحاء‪.‬‬ ‫شارع الناصرية‪ ،‬كنت أفكر أنني مريض‪،‬‬

‫جــــاراهلل الــحــمــيــد نبتة بــريــة شرسة‬

‫وهــذا الطبيب بنظارتيه الدائريتين كتب وعــنــيــدة‪ ،‬ج ــاء مــن الــشــمــال بشخصية‬ ‫لي وصفة‪ ،‬في اليوم التالي ذهبت هناك‪ ،‬مختلفة‪ ،‬وبنص مغاير‪ ،‬ولقد نبت في جيل‬ ‫وابتعت مجموعة (أح ــزان عشبة بريّة) السبعينيات والثمانينيات‪ ،‬ذلــك الجيل‬ ‫لجاراهلل الحميد‪ ،‬كانت مجموعته األولى‪ ،‬المثقف والــقــلــق‪ ،‬جيل ح ــا ّد الــمــواقــف‪،‬‬ ‫صغيرة بنحو ستين صفحة‪ ،‬بـ ٍ‬ ‫ـورق المع‪ ،‬جيل يكتب بلغة سردية عالية‪ ،‬ويــرى أن‬ ‫ٍ‬ ‫ـوط‬ ‫وخــطـ ٍ‬ ‫نحيلة بيضاء‪ ،‬وغــاف أســود‪ ،‬بإمكانه تغيير العالم من خــال الكلمة‪،‬‬

‫يتوسطه رسم لعشبة برية تشققت األرض لقد كنت محظوظا أن بدأت أتعلم الكتابة‬ ‫تحتها‪.‬‬ ‫وسط ضجيج الثمانينيات‪ ،‬حيث المالحق‬ ‫قــرأت المجموعة في جلسة واحــدة‪ ،‬الثقافية للصحف‪ ،‬والمجالت‪ ،‬واألمسيات‬

‫‪10‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫القصصية‪ ،‬والجمهور بذائقته‬ ‫العالية‪ ،‬فمن يكتب قصة آنذاك‬ ‫يقرأها في األمسيات‪ ،‬وتنشرها‬ ‫الصحف بحفاوة‪ ،‬ويكتب عنها‬ ‫النقاد‪ ،‬ووســط هــذا االحتفال‬ ‫بالنص الــســردي جــاء جــاراهلل‬ ‫ع َرّابًا للقصة الجديدة المتمردة‬ ‫عــلــى تقاليد الــقــصــة آنـــذاك‪،‬‬ ‫وم ــع ــه عــبــدالــعــزيــز مــشــري‪،‬‬ ‫ال ــذي ســرعــان مــا تــراجــع في‬ ‫مجموعاته القصصية الالحقة‬ ‫عن المغامرة‪ ،‬بينما استمرت‬ ‫تجربة جــاراهلل الحميد تنضج‬ ‫في الطريق الــذي اختاره لها‪،‬‬ ‫فكتب (وجوه كثيرة أولها مريم)‬ ‫و(رائحة المدن) و(ظالل رجال‬ ‫هاربين)؛ هو لم يكتب كثيرًا‪،‬‬ ‫وال يكتب مطوالت وال مرويات‪،‬‬ ‫هو يكتب الناس بحسّ ه وحزنه‬ ‫العميقين‪ ،‬بكلمات قليلة لكنها‬ ‫مؤثرة ونافذة؛ هو ال يكتب ألجل‬ ‫الكتابة‪ ،‬وال للتسلية‪ ،‬بل يكتب‬ ‫أحزان أعشابه البرية‪ ،‬وغربته‪،‬‬ ‫ووح ــدت ــه‪ ،‬ووحــشــتــه‪ ،‬وحــزنــه‪،‬‬ ‫كاتب نادر ال يتكرر!‬ ‫* كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪11‬‬


‫جاراهلل الحميد‬ ‫وقشعريرة الكلمة‬

‫■ د‪ .‬هناء بنت علي البواب*‬

‫ـاس‪ ..‬زمــن التصدع وتغير األخ ــاق؛ أصبح الــرجــل الـفــارس‪ ..‬الرجل‬ ‫فــي زمــن ق ـ ٍ‬ ‫الحقيقي‪ ،‬عملة نادرة‪ ..‬هل عرفت في حياتك رج ًال ال يقهر؟ إنه الرجل الفارس‪ ..‬هو‬ ‫الذي ال يقهر وال يظلم‪.‬‬ ‫هذا هو القاص السعودي جاراهلل الحميد‪ ،‬صاحب الكلمة القوية الجهورة التي‬ ‫تبوح بمفاتن الحرف اللين‪ ،‬والتي تجذب القلوب‪ ..‬ولكنها تصهر األرواح عتابًا ووجعً ا‪.‬‬ ‫قاص وأديب سعودي بارز‪ ،‬نشأ في منطقة حائل‪ ،‬شمالي السعودية‪ ،‬ويعد من أبرز‬ ‫أدباء نهاية السبعينيات والثمانينيات الميالدية‪ .‬أصدر عدة مجموعات قصصية من‬ ‫أهمها «أحزان عشبة برية»‪.‬‬ ‫سأترك الحديث عن شخص الجاراهلل كان القارئ يلمح في ثناياها بــذور الكتابة‬

‫نفسه‪ ،‬وما يتمتع به من سمعة طيبة‪ ،‬سواء القصصية‪ ،‬أي القبض على تقنيات السرد‬ ‫على المستوى الشخصي أو اإلبــداعــي؛ القصصي‪ ،‬بمفهومه التقليدي‪ ،‬فهي كتابة‬ ‫ألتحدث عن محطات في مسيرته القصصية‪ ،‬تُنبئ عن والدة قاص محترف‪ ،‬وتتحقق هذه‬

‫وقد آن لي أن أقف عند مجموعات الحميد الوالدة في تجربته الثانية‪( ،‬وجوه كثيرة أولها‬ ‫القصصية‪ ،‬لما لهذه القصص من قيمة فنية‪ ،‬مريم ‪1984‬م)‪ ،‬عن نادي القصة السعودي‪،‬‬

‫بل من قيمة تستحقّ البحث والدراسة‪ ،‬وهي فكان لتجربة الصحراء األثــر األعمق في‬ ‫قصص تمت ّد زهاء ثالثين عاماً أو أكثر‪ ،‬فهي تشكّل وعيه القصصي‪ ،‬ونزوعه نحو كتابة‬ ‫في مجملها تجربة تخالف السائد‪ ،‬وتتجاوز جديدة‪ ،‬تتجاوز الكتابة األولى‪ ،‬ففي «العشبة‬

‫المألوف‪.‬‬

‫البرية» كتابة تأمل وفلسفة الوجود اإلنساني‪،‬‬

‫ينحو الــدارســون إلى أن تجربة جاراهلل ووعي في مدركات اإلنسان‪ ،‬في واقع مشظّ ى‬ ‫الــحــمــيــد ق ــد نــضــجــت فــنــي ـاً ف ــي بــدايــة وفسيفساء‪ ،‬واقع مأساوي النزوع‪.‬‬

‫الثمانينيات بمجموعته القصصية «أحزان‬

‫والـــذي يــدفــع حماسة الــقــارئ لمتابعة‬

‫عشبة بريّة»‪ ،‬ومن يتتبع تجربته يجد أنها قصص المجموعة دفعة واحــدة؛ فالحميد‬ ‫طغت عليها الرومانسية الحالمة‪ ،‬وانحازت يترك لقارئه مساحة كبيرة من الوعي في‬

‫‪12‬‬

‫الكتابة إلــى نمط الــخــاطــرة النثرية‪ ،‬وإن التعامل مع قصصه الجديدة؛ في حين كان‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ومــا يسجّ ل لهذه المجموعة مــن تميّز‬ ‫ذاك االشتغال على تقنيات السرد الحديثة‪،‬‬ ‫وتوظيف القطع السينمائي‪ ،‬واالسترجاع‬ ‫واالستباق وغيرها‪ ،‬بصورة الفتة للنظر‪،‬‬ ‫فكانت الحياة رديف الوجع المرتبط بالمكان‬ ‫والزمان‪ ،‬بما هما ضدين‪ .‬كما نسمع صوت‬ ‫الــــراوي مــن خ ــال (األنــــا) فــي تــداعــيــات‬ ‫ومونولوجات داخلية تصل مــا انقطع من‬ ‫الماضي مع الحاضر‪ ،‬في البحث عن لحظة‬ ‫الخروج من السجن الداخلي للحميد الذي‬ ‫يوجعه دومًا بال نزاع‪ ،‬وينقله إلى عالم أكثر‬ ‫ثنائية‬ ‫ٍ‬ ‫صراع نفسيٍّ ينفجر في‬ ‫ٍ‬ ‫فضاءً‪ ،‬وفي‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫القارئ مغيباً تماماً في مجموعته األولــى‪،‬‬ ‫غريبة أو عجائبية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بل هي كتابة منغلقة على الــذات في وعي‬ ‫لــعــ ّل تــجــربــة الــحــمــيــد ف ــي مجموعته‬ ‫الــعــالــم؛ فمجموعة «أحـ ــزان عشبة برية»‬ ‫القصصية (ظــال رجــال هاربين ‪2000‬م)‪،‬‬ ‫عبارة عن قصص قصيرة جــداً‪ ،‬تحفر في‬ ‫عن نادي حائل األدبــي‪ .‬هي تجربة مغايرة‬ ‫الذاكرة عالماً متشابكاً من األلم والحزن‪،‬‬ ‫فــي تقنياتها السردية عــن كــل مــا سبقها؛‬ ‫وتقدّم المجموعة تجربة واعية في كتابة‬ ‫ـاص في‬ ‫فالكاتب يشتغل على ثيمة الــتــنـ ّ‬ ‫هذا النمط أو الشكل القصصي‪ ،‬ويشترك‬ ‫التناص العميق‬ ‫ّ‬ ‫فيه مــع مجموعة مــحــدودة مــن التجارب قصص المجموعة‪ ،‬وهــذا‬ ‫القصصية العربية الواعية‪ ،‬فهو يعبّر عن يبرز بين نصه ونصوص كُتاب جيله في ذلك‬ ‫الوقت‪ .‬وما يلفت النظر أيضاً في المجموعة‬ ‫مضمون القصص «بأقل الكلمات»‪.‬‬ ‫حالة التحول‪ ،‬تحوّل الشخص إلى تمثال‪ ،‬وما‬ ‫ولكن القارئ المتمحص لمجموعته التالية‬ ‫ينبني على هذا التحول ال يخرج من أسْ رِ‬ ‫(رائــحــة الــمــدن (‪1998‬م)‪ ،‬عــن نــادي جدة‬ ‫األدبي الثقافي يعرف تمامًا أنه يلحم الزمان التأمل وفلسفة الحياة‪.‬‬ ‫والمكان في بنية قصصية واحــدة (أي في‬ ‫وكما سبق أن ذكــرت‪ ،‬فــإن حالة التأمل‬ ‫لحظة زمكانية)‪ ،‬تتحدد مالمح الزمان في الموغلة في فلسفة الحياة والكون‪ ،‬تدفعه‬ ‫فضاءين‪ :‬خارجي من خالل الحياة‪ ،‬وداخلي‬ ‫من خالل الصحراء التي أثرت به‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫التأمل والفلسفة مــن خــال رؤيــتــه للكون‬

‫والحياة والدين واآللهة والتاريخ‪ ،‬في نظام‬ ‫أسطوري أو أسطرة الواقع‪.‬‬

‫إن تجربته تجربة ثرية‪ ،‬وتتطور بشكل‬

‫الفــت للنظر‪ ،‬وتنحاز للكتابة الجديدة أو‬ ‫للتجريب‪ ،‬باعتبار أن التجريب مسألة مهمة‬ ‫في تحوالت الكتابة الحديثة‪ ،‬وال بّــد من‬ ‫اإلشــارة إلى تجربة الحميد التي قدمت له‬ ‫مادة غنية للكتابة‪ ،‬ولرؤيته للعالم‪ ،‬ودفعته‬

‫للبحث عن المعرفة هي نفسها التي عاشها‬

‫غيره‪ ،‬ولكنه أصيب بقشعريرة الحياة فنقلها‬

‫لنا في قشعريرة الكلمة‪ .‬كل هذا وذاك ساعد‬ ‫في تطوير تجربته القصصية‪ ،‬وأصبحت هذه‬

‫دائــمـاً للبحث عــن ال ــذات ومكنوناتها كما‬ ‫القاص الذي‬ ‫ّ‬ ‫نلحظ ذلك في أسلوبه‪ ،‬فهو‬ ‫عزف على أحزان عشبته البرية‪ ،‬وصاغ لها‬ ‫ملحمة؛ حُ ــق للعشبة أن تماري بها‪ ،‬ونقل‬ ‫آهاته بصوتها‪ ..‬كما تراقص بقلمه بين وجوه‬ ‫أولها مريم‪ ،‬وأسّ س لقصة ستبقى في أذهان‬ ‫الكثيرين‪ ،‬ولم ينس رائحة المدن‪ ،‬إذ رسّ خ‬ ‫صورة إبداعية من صــوره‪ .‬وذلك أيضا من‬ ‫خالل مجموعة «ظالل رجال هاربين»‪.‬‬

‫التجربة عالمة بارزة في الكتابة القصصية‬ ‫سعودياً وعربياً‪.‬‬

‫وهو القائل عن نفسه‪..‬‬ ‫"إنــنــي أشــعــر اآلن بأنني بطل المشهد‬

‫الــحــالــي‪ .‬الــبــطــولــة والــتــاريــخ والــعــلــم كلها‬

‫مصادفات‪ ،‬فبطولتي فيها نــوع من تحدي‬ ‫الــذات‪ ،‬فالذات مسمومة بالخوف وجبانة‪،‬‬ ‫والوعي درع الروح‪ ،‬والتحكم في الوعي هو‬

‫سيف المثقف‪ .‬فقد جعلوني بطال‪ ،‬تقصداً؟‬

‫جــــاراهلل يُــعــ ّد حــالــة خــاصــة فــي عالم ربما؛ لكن ال تنس أنني شريك في تحويلي‬ ‫األدب‪ ،‬بفكره وإبداعه‪ ،‬بعنفوانه وصخبه‪ ،‬إلى بطل‪ ،‬وأنني ناتج العملية‪ ،‬أي (الكل)!‬ ‫برفضه وقبوله‪ ..‬فقلمه يحمل سحراً خاصاً‪ ،‬ولــكــن‪ :‬ال تبتغوني لكم بــطـاً‪ ..‬إنني رجل‬ ‫وشخصية تــؤكــد أنــه بطل مــشــهــده‪ ،‬يبقى حرّضته المنايا على نفسه‪ ،‬صــار السيف‬ ‫الحميد يدور داخل قصص المجموعة في بيني وبين رغيفي"‪.‬‬ ‫ * أكاديمية وناقدة من األردن‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫صديق اخلالدي*‬ ‫■ ّ‬

‫الحميد لحظة اصطدامه بـ ( مريم) في مجموعته (وجوه كثيرة أولها مريم)‪ ،‬يصدمنا‬ ‫بمتواليةٌ سرديَّة تكشف حــاالت األنثى حين تريد الرغبة المقموعة وتحاول أن تعيشها‬ ‫دومً ــا‪ ،‬فثمَّ ة خوف من الواقع المُ لتبس‪ .‬لهذا‪ ،‬يبدو الصراعُ حــا ّد ًا بين الرَّ غبة واإلرادة؛ ما‬ ‫ولَّد عالقةً ضدِّ يَّة صراعية بين الذات والذات‪ ،‬وبين هذه واآلخر‪ .‬فالحالة النفسية المحرِّكة‬ ‫للقاص جاراهلل الحميد تتذبذب بين اإلِ قــدام واإلِ حجام‪ ،‬والجرأة والخوف‪ ،‬فتبدو معادلة‬ ‫األلم واللذّ ة حاضرة في مواقف متعددة في هذه المتوالية القصصية‪ .‬وهو الذي لم ينتظر‬ ‫كثيراً‪ ،‬بل في عام ‪1984‬م‪ ،‬أصدر مجموعة قصصية تحت عنوان‪" :‬وجوه كثيرة أولها مريم"‪،‬‬ ‫وهي أكثر التصاق ًا بالحاالت اإلنسانية ومفارقات الحياة التي يقدمها بلغة مميزة‪ .‬وال تخلو‬ ‫حس ساخرٍ ربما عرف به جاراهلل الحميد في كتابات أخرى‪.‬‬ ‫بعض النصوص من ٍّ‬ ‫تبدو الن َّّصوص في مجموعته هذه أكثر استقطاباً‬ ‫لــكــل حـــاالت الــنــفــي واإلث ــب ــات الــتــي تُ ــحــرِّك أبــعــاد‬ ‫ّص يُع ُّد بمثابة تكثيف و َم ْر َكزَة‬ ‫الشخصيات‪ ،‬فهذا الن ّ‬ ‫لك ِّل ما يليه من نصوص جاءت شارحة له؛ فهو المت ُن‬ ‫والنصوص األخرى حاشية له‪ ،‬بالمعنى التفسيري؛ ما‬ ‫شكَّل بنية ف ّنيَّة للحدث؛ فثمة تصعيد للحدث‪ ،‬وإيغال‬ ‫في تكريسه‪ ،‬وتوتير للعالقة الملتهبة بصمت‪.‬‬ ‫الحميد كتب هذه المجموعة ليكون أكثر قرباً من‬ ‫محيطه‪ ،‬حيث يغوص في هموم ذلك المحيط ويسائله‬ ‫ويحاوره‪ ،‬بل ويكتب بطريقة أكثر حداثة قصته‪ ،‬متخذاً‬ ‫من المقاطع والمشاهد الراجعة طريقة للكتابة‪ ،‬حيث‬ ‫فضاء القصة والتجريب مفتوح على مصراعيه أمام‬ ‫مبدع استطاع أن يصل بقصته إلى دهشة رسمت اسمه‬ ‫في خريطة المشهد اإلبداعي‪ ،‬تلك الدهشة اإلبداعية‬ ‫لكاتب يتقمّص كل األرواح في قصة واحدة‪ ،‬ويحاول أن‬ ‫يكون هو ذاته بل غيره‪ ،‬هو الذي حاول أن يرسم المرأة‬ ‫والرجل والطفل في مجموعة قصصية ثالثة جاءت‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫جاراهلل الحميد‬ ‫دهش‬ ‫م‬ ‫كوكب ُة‬ ‫العنوان ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫القصيرة‬ ‫القصة‬ ‫الرؤية في‬ ‫واختالف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫تحت عنوان "رائحة المدن" عام ‪1997‬م‪ ،‬وفيه عالقة‬ ‫إنسان اليوم وإنسان القرية والريف بالمدن الكبيرة‪،‬‬ ‫وطريقة الحياة فيها‪ ،‬في نصوص مثل‪" :‬بنت الجيران"‪،‬‬ ‫و "ورق الخبيز" وقصة "مانجو"‪ ،‬فكيف تمكن أن يسبر‬ ‫أغوار الحياة ويسبر األرض التي تمكنت من زرع كلماته‬ ‫بين أعشابها وأوراقها؟ بل ويمضي الحميد في هذه‬ ‫المجموعة إلى القصة القصيرة‪ ،‬وأيضاً القصيرة جداً‬ ‫في عوالم تتكئ على الخاطف واإليحائي‪ ،‬بعيداً عن‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪15‬‬


‫‪ 4‬ديسمبر ‪2012‬م‪ ،‬أقام نادي حائل األدبي محاضرة‬ ‫بعنوان‪" :‬تجربة جاراهلل الحميد القصصية"‪ ،‬قدّمها‬ ‫أستاذ األدب والنقد عضو هيئة التدريس بجامعة‬ ‫حائل الدكتور محمود العزازمة في القاعة الثقافية‬ ‫بمقر النادي‪ ،‬وأدار المحاضرة عضو مجلس إدارة‬ ‫نادي حائل األدبي األستاذ علي بن عبداهلل النعام‪ .‬ومن‬ ‫وقتها ظهر للقصة شك ٌل مختلفٌ ممي ٌز ال نظير له في‬ ‫زمن العزلة التي الذ إليها واختبأ بداخلها‪ ،‬خوفًا من‬ ‫المجتمع المتمرد على كل جديد‪ ،‬فهو الذي وجد فيها‬ ‫حالته وطريقته كي يستمر في كتابة إبداعه‪.‬‬ ‫جاراهلل الذي بدأ بمجموعته القصصية‪" :‬أحزان‬ ‫عشبة برية"‪ ،‬والتي كتبها القاص‪ ..‬ليقارب الكثير من‬ ‫قضايا مجتمعه‪ ،‬ويفتتح بها أسئلة ناقدة عن الحياة‬ ‫والحب في مدن وقصص تلقي بشخوصها على قارعة‬ ‫ـس القارئ واصطياده االنتظار والقلق‪.‬‬ ‫التفاصيل‪ ،‬بل تعتمد على حـ ّ‬ ‫للمفارقات المدهشة فيها‪ ،‬كما نجد ذلك في قصص‬ ‫وحين تتلمس العنوان وهو عتبة النص دومًا عند‬ ‫مثل "موت" و "المسجد" و "الالعب"‪ ،‬تلك القصة التي أهل النقد والرؤية الناقدة للنصوص‪ ،‬تجد أنه يعكس‬ ‫ال يسيطر عليها حــدث وال محور محدد‪ ،‬بل معيار حزن العشبة التي يلتقطها من أرض الحياة التي تمتلئ‬ ‫دهشتها هو انسجام الحالة والقبض عليها من بين‬ ‫به‪ ،‬ويمتلئ بها شوقا وح ّبًا للحياة‪.‬‬ ‫آالف ما يمر علينا من مواقف صغيرة‪.‬‬ ‫وتجدك وأنت تتجول في أنغام حروفه وموسيقى‬ ‫وهو الذي يتنقل فرديًا ومجموعاتيًا مع كل قصصه‬ ‫كلماته تصطدم بتجربة جــاراهلل الــذي كتب القصة‬ ‫وكلماته؛ فلديه لغة مختلفة في اختيار عناوين قصصه‬ ‫الحديثة في وقت مبكر في تجربة الكتابة السعودية‪،‬‬ ‫مثال‪ :‬قصة "شجيرات العتمة الصفراء"‪ ،‬وفي قصص‬ ‫حيث كــان المشهد يرتب أوراقــه ويستعد النطالقة‬ ‫أخرى قصيرة سنقرأ ذات اللغة المقتصدة والحالة‬ ‫في تكثيفها‪ ..‬وتبقى متوالياته من العنوان تكبر فيها أخــرى سوف تشهدها سنوات قادمة؛ فكان الحميد‬ ‫ـاص األكثر بصيرة ورؤيــة إلــى المشهد‬ ‫األسئلة ويعانق إنسان اليوم فيها معرفته الجديدة بما الكاتب والــقـ ّ‬ ‫القادم من رحم الحياة المختلفة‪ ،‬والتي عاناها الكاتب‬ ‫حوله في دهشة بالغة محاطة بالصمت والقلق‪.‬‬ ‫وعناها معًا‪ ..‬في ظل ظروف لم تتح له أن يكون منفتحً ا‬ ‫فعلينا أن نعترف أنه ضمن كوكبة كتبت القصة في‬ ‫على عالمٍ مغلقِ البصيرة‪.‬‬ ‫السعودية خالل العقدين الماضين‪ ،‬يبرز اسم جاراهلل‬ ‫هــذا الــقــاص‪ ،‬صاحب العنوان المدهش‪ ،‬واللغة‬ ‫الحميد الــقــاص الــذي بــدأ مسيرته القصصية في‬ ‫‪1977‬م‪ .‬وفي ديسمبر ‪2007‬م‪ ،‬احتضن النادي األدبي العارمة التي تسير بك حيث جذور النبتة العربية‪ ،‬هو‬ ‫بحائل األمسية الشعرية الثالثة لجاراهلل الحميد‪ .‬وفي جاراهلل الحميد‪ ،‬ابن الصحراء‪.‬‬ ‫* ناقد من السودان‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫■ محمد العامري*‬

‫ال يُمكن ألي دارس ألعمال الكاتب المتعدد جاراهلل الحميد»‪ ،‬إال أن يلمس وخزات األلم‬ ‫في نصوصه التي تنز ُّ ألمً ا في كل سطرٍ فيها؛ كما لو أن الحميد قد تنبأ في أحزان عشبة‬ ‫برية الصادرة عام ‪1980‬م عن مآله الشخصي‪ ،‬حيث الفقر والمرض وسوء الحال؛ فهو مآل‬ ‫يعبّر عن قيمة متدنية للمثقف في العالم العربي‪ .‬وبعد ذلك واجَ هنا بمجموعات أخرى‬ ‫ألما ونقدً ا من سابقتها‪ ،‬منها وجــوه كثيرة أولها مريم ‪1984‬م‪ ،‬ورائحة المدن‬ ‫ليست أقل ً‬ ‫‪1998‬م‪ ،‬وظالل رجال هاربين ‪2000‬م‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫جاراهلل الحميد‬ ‫طبائع الكتابة‬ ‫األلم في‬ ‫سيرور ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫لم يكن األلم سوى محفّز لسرد جرى في بسبب الــحــارة التي كانت تمثل لي مصدر‬

‫أديم روحه منذ السبعينيات من القرن الفائت‪ ،‬إزعاج‪ ،‬وبيئة مشكالت مجتمعية آنذاك‪ ،‬ما‬ ‫ليبرز كعالمة مفارقة في السرد السعودي‪ ،‬جعلني أتحول من منزلي بعد بيعه‪ ،‬إلى شقة‬ ‫الذي ذهب بموضوعاته للكشف عن األلم في مستأجرة»‪.‬‬

‫مجتمع المهمشين‪ ،‬حيث تحيز للمهمشين؛‬

‫هذا التحيّز في سلوك الكتابة لدى الحميد‬

‫منتصرًا لهمومهم ومشاكلهم التي غابت عن هو نبض يجرح الورقة ليرصد أتعابه وأنين‬ ‫الحياة االجتماعية‪ ،‬فكان سرده منارة للكشف المهمشين‪ ،‬فكانت قصصه تختزل حالته‬

‫عن تلك الهواجس وبثها بلغة سردية سلسة الشخصية التي تنعكس في الضمير الجمعي‬ ‫نال عبرها تكريمًا مبكرًا‬ ‫والمتعبين‬ ‫للمهمشين‬ ‫في مهرجان السرد‪.‬‬

‫والفقراء‪.‬‬

‫ي ــق ــول الــحــمــيــد عن‬

‫فــــفــــي م ــج ــم ــوع ــت ــه‬

‫ال ــم ــدن»‪ :‬كــانــت نتيجة‬

‫عشبة برية»‪ ،‬نقبض على‬

‫لي أن الفن قرين الفقر‬

‫ف ــي الـ ــذاكـ ــرة الجمعية‬

‫االجــتــمــاعــي‪ ،‬فقد بعت‬

‫في البؤس؛ فمن ينتصر‬

‫م ــج ــم ــوع ــت ــه «رائـ ــحـ ــة‬

‫ال ــق ــص ــص ــي ــة «أحـــــــزان‬

‫تــجــربــة عشتها‪ ،‬أكــدت‬

‫تساؤالت وحفريات عميقة‬

‫والغربة‪ ،‬إلى جانب اليُتم‬

‫لــلــذيــن يــتــقــاطــعــون معه‬

‫منزلي في أحد األحياء‬

‫للعدالة االجتماعية ال ب ّد‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪17‬‬


‫جــاراهلل الحميد اختار أن يَعْبر صهدًا‬

‫حارقاً‪ ،‬دون جراب من ماء األمنيات‪ ،‬لكنه‬

‫تحصن بألمه العميق ليَعْبر تلك المسافة‬ ‫ّ‬ ‫المتعِ بة‪ ،‬عَ بَرها بقرار الكدود الذي ال يمّل‬ ‫وال يتوقف عــن كشوفاته للمسكوت عنه‪،‬‬

‫لغة وعــرة تناسب طبيعة الموضوع ذاتــه؛‬ ‫ففي مجموعته «أحــزان عشبة برية» يقول‪:‬‬

‫«يا اهلل‪ ...‬لقد كانت المدينة مآلى بنساء‬

‫ترجمة أعمال جاراهلل الحميد إلى اللغتين الصينية واإلنجليزية‬ ‫وصدورها عن نادي حايل االدبي بالتعاون مع دار االئتالف‬

‫له أن ينتهج نهج الحميد؛ لذلك كان الصرخة‬

‫صغيرات‪ ..‬ولكنهن خشنات‪ ..‬ويستعملن‬ ‫أظافرهن في الكالم»‪.‬‬

‫فحين يصف النساء الصغيرات بالخشونة‪،‬‬

‫الــمــدو ّيــة فــي بــركــة راك ــدة تــنــادي بالعدالة هــي جملة تُعظم مــن حجم الــبــؤس‪ ،‬حتى‬ ‫وانــصــاف المهمشين والمثقفين‪ ،‬وإع ــادة إن العِ وَز قد بلغ النساء الصغيرات اللواتي‬

‫االعتبار لكرامة اإلنسان من عدالة وحقه في لم ينعمْن بحياة تليق بهن‪ ،‬فنرى إلى نهج‬ ‫الحرية والعيش‪.‬‬ ‫تراجيدي عميق مشفوع بمتواليات لحياة‬

‫فكان أنين المتعبين‪ ،‬كتعب الساقية التي داكنة مليئة بالصور الوصفية المتتالية التي‬ ‫يسّ ح ماؤها في رمــل األمــانــي‪ .‬ظل الحميد توحي وتصرح بفجاعة الواقع المعيش‪.‬‬ ‫يسقي مــن وجــدانــه الرهيف حبره الداكن‬

‫فــالــمــتــأمــل لطبيعة الــحــمــيــد يستطيع‬

‫ليضيء مساحة مظلمة في مُركبات مجتمع وبسهولة كبيرة أن يعرف أن هــذا الكاتب‬ ‫أكله البؤس‪ ،‬فانتصر لوجودهم في سرد ين ُّز قد اختار ما يشبهه في الكتابة‪ ،‬وال يستطيع‬ ‫ألما ورشاقة‪.‬‬

‫أن يبدع في موضوعة الفرح؛ بكونه شرب‬

‫يشير الناقد الشنطي إلى أن «جــاراهلل الحزن لتتشر به األحداث المؤلمة‪ ،‬وتصبح‬ ‫الحميد حريص على التشكيل التجريدي جــزءاً عضويا من إيقاعه اليومي‪ ،‬حتى إن‬ ‫الــرمــزي ال ــذي يعبر عــن إحــســاس الكاتب الفواجع الحقته في أحالمه وصحوه‪ ،‬يقول‬ ‫بالغربة متمثلة بالرحيل الدائب تارة‪ ،‬والعزلة الحميد‪« :‬ينخر الــذاكــرة دود األي ــام التي‬ ‫الموحشة تارة أخرى‪ ،‬والتوحد مع الكائنات لها صمت وبــرودة البالط الصامت البارد‪،‬‬

‫األخــرى ومكابدتها وانبعاثها من بين فكي والمدينة كما هــي وجــه أبيض كالعجين‪،‬‬

‫‪18‬‬

‫الرحى»‪.‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫قيلولة طويلة مترعة باللبن‪ ،‬وجــه محايد‬


‫نبذ الحميد كل شيء فلم يعد يساوره أمل أحــام الكاتب كحالة عضوية بين السارد‬ ‫التغيير فاختار عزلته المؤلمة‪ ،‬ربما تعينه والشخصية التي تتحرك في مساحة السرد‪،‬‬

‫على تحمل أحمال الصوفيين الذين اكتفوا فهي شخصيات تفضح الــواقــع المأساوي‬ ‫بقليل من الكأل وكثير من الرؤيا الصافية؛ وتفسّ ره؛ فهو قام بتكريس عشبته الخاصة‬

‫فكانت تلك المؤسسات الحكومية بمثابة بــه‪ ،‬وحمّلها مــدلــوالت رمــزيــة تشتبك مع‬ ‫«فترينات» ال تعنيه بشيء‪ ،‬بكونها ال تمثل الواقع وتجلياته التراجيدية‪.‬‬ ‫الحقيقة في االيقاع الشعبي والحياة الواقعة‪،‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫كالالشيء‪ ،‬اعترف بذلك وأوقع»‪.‬‬

‫وصــوالً إلى تدخل الشخصيات في تفسير‬

‫تلك العشبة التي حملت فروعً ا متعددة‬

‫فهي مسافة بعيدة بين تلك المؤسسات وما نستطيع أن ندركها بالتأويل المتعدد‪ ،‬فحين‬ ‫يحدث فــي الــقــاع‪ ،‬هــذا الــســأم طــال فكرة يــدوس العشبة جمل مبق ٌع بالنياشين وال‬

‫القبيلة‪ ،‬فاكتفى بذاته كعين تراقب سخافات تموت تلك العشبة‪ ،‬فهي البذرة التي تحمل‬ ‫الحياة وكذبتها التي تنطلي على الناس‪ ،‬لذلك الحياة وال تموت بوصفها ثورة صغيرة ربما‬

‫ظل البدوّي الذي يبحث عن حَ يَوات حياته تتنامى فيما بعد‪ .‬فقد استفادت لغة السرد‬ ‫األولــى وينبذ هجوم المدينة على غــدران لدى جاراهلل الحميد من تجربته الشعرية‪،‬‬ ‫الصحراء وأعشابها‪ ،‬التي تشكل له ذاكرة‬

‫جمالية أسهمت في تشكيل مخيلته‪ ،‬فما يراه‬

‫هو احتالل لمخيلته وضميره اإلنساني‪.‬‬

‫فقد تحوّلت عناصر األرض إلى أبطال‬

‫لقصصه‪ ،‬تحديدا الكأل؛ فالعشب أصبح من‬

‫المفاتيح األساس لمجمل سردياته‪ ،‬كداللة‬

‫حيث عمق اللغة ورشاقتها‪.‬‬

‫فهو يعوّل على انتشار العشب وتنامي‬

‫الوعي‪ ،‬ونرى ذلك بقوله‪« :‬معك عشب كثير‪.‬‬

‫سينبت في يوم ما عشبٌ آخر‪ ..‬ونرى»‪.‬‬

‫«أحــزان عشبة برية» هي أنسنة للعشب‬

‫رمزية لصورة الحياة الطبيعية والــرخــاء‪ ،‬وتحميله مساحة من التأويل الــذي يحمل‬ ‫فالعشبة هــي الــجــواب الصامت لمفاهيم مناخات مواربة‪ ،‬له عالقة بالبوح واإلفصاح‬ ‫عن مفاهيم أراد قولها الكاتب ليفتح مجاال‬ ‫الحياة الحرة‪.‬‬ ‫تنكشف شخصياته القصصية عن غربة‬

‫قاسية في محيط حركتها العاطفية المليئة‬

‫ألسئلة كامنة تختلج في ذات الكاتب‪.‬‬

‫يبقى جــاراهلل الحميد عالمة بــارزة في‬

‫بــالــكـ ّد وال ــب ــؤس؛ فشخصياته فــي القص السرد العربي‪ ،‬لما تميزت به سردياته من‬ ‫تتقمص موقف الكاتب نفسه من الواقع‪ ،‬عمق ورشاقة في اللغة‪.‬‬ ‫ * كاتب من األردن‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪19‬‬


‫القصصي‬ ‫والنموذج‬ ‫الفني‬ ‫العمل‬ ‫الرؤية بين‬ ‫مصا ِدر ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫«جاراهلل الحميد أنموذج ًا»‬

‫■ يوسف اليوسف*‬

‫يسعى الفنان التشكيلي عبر العصور للوصول إلى معادلة خاصة‪ ،‬يستطيع من خاللها‬ ‫إدراك ماهيّة الجمال في البيئة التي يتحرّك فيها‪ ،‬ولكنه يكتشف في كل لحظة استحالة‬ ‫وجــود تلك المعادلة؛ فالموضوع الجمالي يتجاوز في احتماالت إدراكــه أن يتحدد ضمن‬ ‫رؤية أحادية‪ ،‬ويستحيل أن يتم إدراكه دفعة واحدة في زمن واحد أو مكان واحد‪ .‬فهو متغيّر‬ ‫ومتراكب ومتنامٍ بشكل ال يمكن اإلحاطة به‪ .‬وكل المنجزات المتعلّقة بالفن التشكيلي‪،‬‬ ‫سواء على مستوى التاريخ أو النقد أو اإلنتاج الفني أو الجمالي أو الفلسفي‪ ،‬ما هي إال‬ ‫مـحــاوالت على طريق اإلدراك لحقيقة الـفــن‪ ،‬ومعنى الـفــن‪ .‬وكــذلــك كاتب القصة الــذي‬ ‫تنفلت من بين جفنيه كلمات تتبعثر على الورق‪ ،‬يرسمها بالحروف ليبين لنا مصدر الرؤية‬ ‫المختلفة لديه‪ ،‬في زمن ال يمكننا ان نقتنص فيه كل شيء‪.‬‬ ‫الفلسفية التي تحاول تفسير الجمال‪ ،‬وباتت هذه‬ ‫النظرية إطــارًا نظر ًيّا فلسف ّيًا يحتكم إليه الفن‬ ‫وعلومه‪ .‬وبات الفالسفة ومؤرخو الفن منشغلين‬ ‫في المفاهيم الجمالية وعالقتها بالفن وبالخبرة‬ ‫الجمالية‪ ،‬وكيف نرى الجمال‪ ،‬وما هو الجمال‪،‬‬ ‫وغيره من النقاط التي ما تزال محور جدل حتى‬ ‫وقتنا هذا‪.‬‬

‫ينطلق القاص جــاراهلل الحميد من مجموعته‬ ‫الكاملة التي أصدرها عام ‪2010‬م‪ ،‬في سعيه من‬ ‫ســؤال واحــد هو غاية اهتمامه؛ أين يوجد الفن؟‬ ‫بمعنى الكلمة المكتوبة حقيقة‪ ،‬وليس كذبًا او‬ ‫افتراء؛ فهو قاص متميز في حفر أخاديد الكلمات‪،‬‬ ‫ليظهر لــنــا بــراعــتــه فــي كــل مجموعاته البرية‬ ‫والعشبية واألنثوية التي اختزلها في مريم‪ ،‬في بعد‬ ‫ديني أسطوري‪ ،‬كيف وأين وجد كلمته التي يمكن أن‬ ‫إ َّن مفهوم الجمال والعمليات الذهنية التي تحكم‬ ‫يضعها على الورق؟ هذا السؤال‪ ،‬هو ما ينبني عليه إرهاصات العمل القصصي عند الحميد‪ ،‬والكيفية‬ ‫كل ما في العملية الفنية منذ َّ‬ ‫خط أول إنسان خطً ا الــتــي يستلهم بــهــا الــقــاص الــمــرهــف اإلحــســاس‬ ‫على جدار أو ورقة أو قماش‪.‬‬ ‫مــوضــوعــاتــه وتقنياته وأفــكــاره الفنية‪ ،‬ومفهوم‬ ‫وما يزال الحميد يسعى خلف اإلجابة باحثًا االبتكار في العمل الفني‪ ،‬والظروف التي ينشأ فيها‬ ‫ومن ِّقبًا ومج ِّربًا‪ .‬ونحن ندين له في هذا‪ ،‬ألن كل العمل الفني‪ ،‬جميعها مفاتيح مهمة لفهم مصادر‬ ‫ما تراكم في تاريخ القصة السعودية من أعمال العمل القصصي عنده‪ ،‬ولمعرفة الكيفية التي يفكّر‬ ‫وكتابات وبحث في الجماليات‪ ..‬عائد إلــى تلك فيها هذا الرجل البدوي ودوافعه إلنتاج القصة‪.‬‬ ‫القدرات على التأمل الدقيق‪.‬‬ ‫كما أ َّن التأمالت التي يقوم بها الفنان في‬

‫‪20‬‬

‫قبل ثالثة آالف سنة‪ ،‬تأمل أفالطون في الكيفية مسيرته الفنية ممزوجة بالتراكمات المعرفية‬ ‫التي يت ُّم فيها خلق العمل الفني‪ ،‬ووضــع نظريته والتقنيّة‪ ،‬جميعها تتكاثف معًا لتكوين ظــروف‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫مناسبة لتولد فيها مدخالت العمل الفني‪ ،‬ولكي‬ ‫يستقيم فهم الكيفية التي تولد فيها األعمال الفنيّة‬ ‫ال بُ َّد من توضيح العوامل األساس التي تؤثر في‬ ‫ظروف إنتاج العمل الفني‪.‬‬ ‫يسعى الحميد إلــى تحديد أهــ ِّم المصادر‬ ‫للرؤية الفنيّة والتي يتأمل من خاللها موضوعاته‬ ‫ويصوغها وفق تلك الرؤية‪ ،‬وهذه العمليّة السهلة‬ ‫ظاهرًا وبالغة التعقيد في أعماقها تمتلك أبعادًا‬ ‫غير منظورة‪ ،‬إذ إنَّه يحتاج أحيانًا إلى سنوات طويلة‬ ‫من التأمّل والتجريب لكي يحقق لنفسه مسارًا‬ ‫جمال ّيًا وفق رؤية لها خصوصيّة ومالمح مستقلّة‪،‬‬ ‫وقــد تمكن من ذلــك وهــو يصف مــدن الغياب من‬ ‫حيث الروح الضائعة في قصصه‪.‬‬ ‫كذلك االستلهام عند الحميد الذي أبدع فيه منذ‬ ‫اللحظة األولى وأنت تقرأ مجموعاته القصصية؛‬ ‫إذ يُع َرّف االستلهام لغ ًة في المعجم الوسيط‪« :‬أن‬ ‫يستوحي أحدنا شيئًا جديدًا مبن ّيًا على شيء قديم‪.‬‬ ‫وأن يستلهم فــان رأي فــان‪ ،‬بمعنى يطلب منه‬ ‫التعرّف عليه‪ .‬ويقف الشاعر أمام بيت محبوبته‬ ‫موقفًا شعور ّيًا ما فيستلهم منه قصيدته»‪.‬‬ ‫إ َّن مفهوم االستلهام في قصص الحميد يرتبط‬ ‫بشكل أس ــاس بــوجــود محفِّز مــعـ َّيــن‪ ،‬يعمل على‬ ‫تنشيط الذهنية الفنية لدى الفنان المحمَّل بالخبرة‬ ‫الجماليَّة وبالمعرفة التقنيَّة‪ ،‬بحيث تتكامل في‬ ‫ذهنه مدخالت المعادلة التشكيلية «موقف جمالي‬ ‫(المحفِّز) ‪ +‬معرفة تقنية ومهارات تشكيلية ‪ +‬خبرة‬ ‫جمالية = عمل فنيِّ »‪ .‬في هذا الموقف تنشأ لدى‬ ‫القاص تصوّرات جديدة لما يراه أو يفكّر فيه أو‬ ‫يحسّ ه‪ ،‬فيبدأ بإزاحته عن طبيعته التي يوجد فيها‬ ‫ليصوِّره ضمن التصوُّرات التي تتشكَّل في ذهنه‬ ‫خاصة به‪ .‬وهناك أمر آخر هو المعرفة‬ ‫في صورة َّ‬ ‫الحرَفيّة‪ ،‬فطبيعة العملية الفنية التشكيلية‬ ‫التقنيّة‪ِ ،‬‬ ‫تقوم على استخدام أدوات معيّنة وخامات وسطوح‬

‫مالئمة لكي يت َّم التصوير أو تنفيذ العمل الفني‬ ‫عليها‪ ،‬وه ــذا يتطلّب مجموعة مــن الــمــهــارات‬ ‫للسيطرة عليها والتحكّم فيها‪ ،‬لكي يستطيع من‬ ‫خاللها الكاتب أن يعبّر عن غاياته القصصية لتصل‬ ‫إلينا بروحه قبل حروفه‪.‬‬ ‫فــي الوهلة األول ــى تــبــدو لنا أعــمــال الحميد‬ ‫القصصية مكوّنة من عناصر بشرية تشخيصية‬ ‫محاطة بتقسيمات هندسية مبنيّة في مرجعيتها‬ ‫على وحدات هندسية أو نباتية‪ ،‬وكأنه ضمّنها في‬ ‫لوحاته كجزء من المعالجة التكوينية‪ ،‬لكن الحقيقة‬ ‫أ َّن الحميد كان يستلهم عناصره وحلوله التقنية‬ ‫واإلنشائية من أكثر من مصدر‪ ،‬وأول تلك المصادر‬ ‫هو الطبيعة؛ فالعناصر الزخرفية التي قسّ مها‬ ‫إلى مساحات هندسية من خالل حروفه وتشكيل‬ ‫عناوين قصصه القصيرة‪ ،‬تتشكّل لتبني معمارًا‬ ‫زخرف ّيًا يحيط بالعنصر البشري في لوحاته‪ ،‬هي‬ ‫لمفردات استمدّها من المناظر‬ ‫ٍ‬ ‫اختزال وتحريف‬ ‫الطبيعة التي قــام بتصويرها على مــدى سنوات‬ ‫عديدة‪ ،‬وهذا إبداع القاص المحترف‪.‬‬

‫ * ناقد من ليبيا‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪21‬‬


‫جاراهلل الحميد‪..‬‬ ‫كاتب األلم والعزلة‬ ‫■ جناة الذهبي*‬

‫والقاص والشاعر السعودي جاراهلل الحميد يعد من أبرز الكتاب السعوديين في‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب‬ ‫مجال القصة القصيرة‪ ،‬وهو أحد أهمّ عرّابيها في السعودية بشكلها الحديث‪ .‬بدأ مسيرته‬ ‫القصصيّة منذ أربعين عامً ا‪ ،‬ولمع اسمه في األدب منذ صدور مجموعته القصصيّة «أحزان‬ ‫عشبة بريّة» في أواخر السبعينيات‪ .‬صدرت له الحقا العديد من المجموعات القصصيّة‬ ‫مثل‪« :‬رائحة المدن» و«ظالل رجال هاربين»‪ ،‬وقد توقّ ف عن نشر مؤلفاته منذ التسعينيات‪.‬‬ ‫صــدرت «أعماله الكاملة» سنة ‪2010‬م عن‬ ‫نادي حائل األدبي ومؤسسة االنتشار العربي في‬ ‫بيروت‪ .‬كتب الحميد في عدّة صحف ومنابر أدبيّة‬ ‫عربيّة مثل صحيفة «الجزيرة السعوديّة»‪ ،‬وجريدة‬ ‫«القبس الكويتيّة»‪ ،‬وموقع «العربيّة نت»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫بدأ الحميد مبكّرا في السير بكتابة حرة ال‬ ‫تنتظم بشكل تقليدي‪ ،‬ليصغي لذاته ويعبر عنها‬ ‫بصورة حرة؛ إذ تكاد قصصه تخلو من األحداث‪،‬‬ ‫وأثر هذه األحداث هو ما يبرز في تعامله مع ك ّل‬ ‫القصة‬ ‫ّ‬ ‫ال بذاته عن‬ ‫قصة بوصفها بنا ًء مستق ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي تليها‪ ،‬فهو يعتمد على التشكيل السينمائي‪،‬‬ ‫ويكتفي باإليجاز واإليماء وتكثيف الداللة كما‬ ‫وصفه الدكتور العزازمة‪.‬‬

‫من المظاهر الالمعة في الحياة الثقافية المزيفة؛‬ ‫فهو يؤمن بأ ّن فعل الكتابة شرط أساس للوجود‪،‬‬ ‫فهو القائل «يا اهلل‪ ،‬كم أن الكتابة عظيمة»‪.‬‬

‫يصف الــروائــي السعودي يوسف المحيميد‬ ‫قصص الحميد فيقول «تلك الجمل القصيرة‪،‬‬ ‫العبارات المبتورة‪ ،‬الحوار الــذي ال يكشف كل‬ ‫ش ــيء‪ ،‬هــذه الــنــقــات الغريبة فــي الــســرد‪ ،‬أو‬ ‫لنسميها القفزات الوثابة من مشهد آلخر‪ ،‬تلك‬ ‫الفراغات التي يتركها جاراهلل قصدًا‪ ،‬كي يورط‬ ‫القارئ في تخيّلها»‪.‬‬

‫وقد حظيت تجربة الحميد باهتمام كبير في‬ ‫ميدان الدراسات النقدية‪ ،‬كما كانت مجموعاته‬ ‫القصصية مــادة لعدد من األطــروحــات العلمية‬ ‫التي تناولت األدب السعودي وتحديداً فن القصة‬ ‫ال يستهين الحميد بكتابة قصصه‪ ،‬ويعد‬ ‫القصيرة‪.‬‬ ‫غامضا وصعبًا؛‬ ‫ً‬ ‫عالم القصة القصيرة عالمًا‬ ‫حين نقترب مــن نصوصه الــســرديــة‪ ،‬فإنّنا ألنّه يتطلّب تكنيكات مختلفة‪ ،‬إذ تُكتب قصصه‬ ‫نجد كاتبا متأمّال وحا ًدًا وحزينًا‪ .‬فمنذ «أحزان بلغة التداعي نحو قصص مضادة‪ ،‬أو ما يسمى‬ ‫عشبة بريّة» وهو يعد الكتابة أسلوب حياة‪ ،‬وأرق التجريد‪ ،‬ذلك الشكل التعبيري الملغّم الذي يمنع‬ ‫إبداعيّ ‪ ،‬جعلته يختار بمقتضاها العزلة والتخفف الفهم المستق ّر أو المريح‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫ك ــان ينعت نفسه بــذلــك اإلنــســان البسيط‬ ‫الممتلئ بالوحدة واأللــم‪ ،‬فيقول «أحــب السالم‬ ‫والعدالة والوطن والناس‪ ،‬وهــذه هي مؤهالتي‬ ‫ال غير‪ ...‬ينام العالم وأبقى أفتّت هذا الحزن‬ ‫وأقتاته»‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫لقد قام الحميد بتوظيف الشعر في قصصه‪،‬‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫فحقّق مــوازنــات عجيبة بين مدرستي الشعر‬ ‫والكتابة‪ .‬تميّز إنتاجه بالتعبير عن األلــم وعن‬ ‫الحزن‪ ،‬ربما ألنّه لم يكن يملك آليات تغيير الواقع‬ ‫أو مخالفته‪ ،‬لذلك لجأ إلى السخرية المتشائمة‬ ‫من واقعه‪ ،‬وحـوّل الغضب الداخلي الذي يشعر‬ ‫به تجاه نفسه إلى كتابة‪ ..‬وكثيرا ما يستحضر‬ ‫خاللها الشعر لذلك تبدو قصصه غارقة في‬ ‫الشعريّة‪.‬‬ ‫لطالما كــان الحميد ينظر لنفسه على أنه‬ ‫ضحية‪ ،‬وبأنه مالحق ومضطهد‪ ،‬لذلك كان يشبّه‬ ‫نفسه ببطل رواية «التحوّل» لـكافكا‪ ،‬تلك الحشرة‬ ‫العمالقة والمفزعة‪ ،‬إذ يقول‪« :‬إنني مثله تمامًا‪،‬‬ ‫كلنا بالحقيقة مثله‪ ،‬لكننا مع التمارين السويدية‬ ‫تعلمنا أن ننقلب على بطوننا‪ ،‬لكننا ظللنا نراوح‬ ‫بين كوننا بشرًا وما يبدو أنه (فيروس) يفتك بنا‪،‬‬ ‫يذكرنا دائما بأننا ضحايا»‪.‬‬ ‫ومــنــذ وفـ ــاة وال ـ ــده شــعــر الــحــمــيــد بغربته‬ ‫وقصصا حــول ذلــك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الالنهائية‪ ،‬وكتب شــعـرًا‬ ‫سيدي‬ ‫ّْ‬ ‫كان يقول «منذ صار أخي األكبر وأمــي‬ ‫غربات‬ ‫ٍ‬ ‫البيت‪ ،‬صــار موحشً ا وكريهًا‪ ،‬وتغربت‬ ‫صغيرة‪ ،‬تشردت مختارًا الكتابة‪ ..‬أنا الغريب‪..‬‬ ‫أنا الطريد‪ ..‬وأنا المتهم الجاهز للتحقيق معه‬ ‫كلما حــدث أم ـ ٌر غامض‪ ،‬بكل أوجــاعــي أمــارس‬ ‫معك لعبة الهادئ والممتن»‪.‬‬

‫وهي البخل والبخالء‪.‬‬ ‫يبني الحميد في قصصه عالقات رمزيّة بين‬ ‫األمكنة واألشخاص؛ إذ تصبح المدن والبنايات‬ ‫مــراد ًفــا للوحدة والــعــزلــة الشديدين‪ ،‬وتتحوّل‬ ‫الــصــحــارى دالل ــة للتلذّذ بالمعاناة والدهشة‪.‬‬ ‫يسوق القاص معاني متناقضة مثل الصحراء‬ ‫والماء والخضرة والشساعة والنهايات والحدود‬ ‫واألحالم واإلصرار واإلرهاق والنسيان والمعرفة‬ ‫والــتــجــاهــل‪ .‬يجعلنا الحميد نــتــوه مــع أبطاله‬ ‫في أمكنة داخليّة خالية ومقفرة تماما كذاته‬ ‫الوحيدة‪ ،‬الغريبة والمجنونة‪ .‬تقدّم لنا قصصه‬ ‫أبطاال مجانين بأحالم جماعيّة مستحيلة‪ ،‬فهو‬ ‫يحدّثنا عــن أساطير ملوّنة ومــدهــشــة‪ ،‬ولكنّه‬ ‫يكتب عن ألم الفقد واإلهدار والخسارة‪ .‬يصف‬ ‫الحميد العشبة الواقعيّة التي تتلوّن باستمرار‬ ‫فــي مجموعته «أحـــزان عشبة بــر ّيــة» ليخوض‬ ‫في مواضيع إنسانيتنا غير المستقرّة‪ ،‬وبحذّرنا‬ ‫من مغبّة االتكال على األحالم واالسترسال في‬ ‫الدهشة‪.‬‬

‫كانت الكتابة بمثابة طوق النجاة الذي تعلّق‬ ‫بها مبكّرا لتجاوز ضياع وجهته‪ ،‬وللتغلّب على‬ ‫إحساسه الدائم بالنقصان‪ .‬وكان الشعر مالذه‬ ‫الــوحــيــد لــرثــاء نفسه والــســخــريــة منها بــحـدّة‬ ‫وصرامة‪ .‬لم يمنعه حزنه الدائم من العالم من‬ ‫يكتب الشاعر عن كآبة الواقع وعذابات الحيّ‬ ‫التشبّث بمعنى الحياة‪ ،‬كما لم يكره الحميد الفقر‬ ‫على الرغم من أنّه عاش معدمًا‪« ،‬بالعكس أنا أكن فيه‪ ،‬لذلك يسمي األعشاب بـ«بر ّيةَ» ليؤكّد على‬ ‫للفقر احتراما منقطع النظير»‪ ،‬هكذا كان يق ّر جوانب الحياة المتحرّكة والفجائعية‪.‬‬ ‫كلّما تحدّث عن الخصاصة التي عاشها‪ ،‬مسلّطا‬ ‫يرفض جــاراهلل الحميد «البقاء في مجتمع‬ ‫يقص حكايات عن الهروب نحو‬ ‫الضوء على الشيء الذي يمقته أكثر من الفقر‪ ..‬صامت»‪ ،‬لذلك ّ‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪23‬‬


‫منظر طبيعي من حائل‬

‫عوالم أخــرى‪ ،‬عوالم منعزلة وب ــاردة وممطرة‪ ،‬قريبي‪ ..‬أخذت ثيابي‪ ..‬ثم سافرت»‪.‬‬ ‫وعوالم كئيبة مغلقة وغير بشريّة‪ .‬تم ّر بنا صور‬ ‫تُعلمنا شخصيات قصصه أ ّن الحياة صعبة‬ ‫األمكنة غير المستقرّة فــي ك ـ ّل قصصه‪ ،‬فهو‬ ‫وحيوانيّة مثلها مثل الــدواب العمياء التي تسير‬ ‫يتحدّث عن الصحراء والفنادق واألسواق والبحر‬ ‫والغرف الضيّقة والبيوت التي صنعت من الطين‪ ،‬في طــرق طويلة وخطرة لتدوس علينا‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫يــذ ّكــرنــا ك ـ ّل ذلــك بــعــذابــات ممكنة كــاالحــتــراق فمعظم أبطال قصصه إما على سفر‪ ،‬أو قادمة‬ ‫والتجمّد واألرق واإلفــاس والعجز واالنــدثــار‪ .‬من سفر‪ ،‬أو إنها تستعد لذلك! يقذفنا جاراهلل‬ ‫تنطوي قصص الحميد على أقدار غير محدودة الحميد في المعنى الحقيقيّ للحياة وهو الحزن‬ ‫الدائم‪ ،‬لذلك يستعين دائما بصورة مسافر وحيد‪،‬‬ ‫للبؤس والتشرّد والقمع واالستالب والذوبان‪.‬‬ ‫يتنقل جاراهلل الحميد في أعماله بين العديد ويجعلنا نعايش لحظات حرجة مقترنة بالسفر‪..‬‬ ‫من األزمنة ليحيلنا إلى معنى االستمراريّة الكريه‪ ،‬مثل مــواجــهــة الــغــربــاء والــتــعــرض إلــى مخاطر‬ ‫إذ يتقصى معنى الفناء واآلخرة بأوجه عديدة‪ ،‬في الطرقات والتغيير المستم ّر للوجهات‪ ،‬ألم يقل‬ ‫استحضار الطفولة والشيخوخة والعصا والعقاب أحد الشعراء «وضعتني في المهبّ وقالت‪ :‬ليست‬ ‫والحقائب والسفر وعــربــات الــقــطــار‪ .‬يجعلنا الحياة في اإلقامة‪ ،‬الحياة في السفر»‪.‬‬ ‫القاص أمام ومضات الحياة ال ُمتْعِ بة‪ ،‬تلك التي‬ ‫قصصا عن‬ ‫ً‬ ‫لقد ق ـدّم لنا ج ــاراهلل الحميد‬ ‫نعاينها ونحن في طريقنا إلى النهاية‪ .‬يتحدّث أحد‬ ‫وفضل التشبّث‬ ‫أبطال قصصه قائال «أحسست أنني عشبة برية مناخات االنتظار والتردّد والغربة‪ّ ،‬‬ ‫يدوسها جمل منتفخ بنياشين التاريخ‪ ،‬والمؤلم بالتعبير عن ذاتيته الحزينة والمعذّبة‪ .‬لم يجمّل‬ ‫أنها لم تمت‪ ،‬أخذت حقيبتي من صديقي‪ ..‬وكان الــواقــع بل جعله أكثر واقعيّة في صــور شبيهة‬ ‫الطريق يبدو واضحاً حاداً ألول مرة‪ ،‬وِ أثر عصا بالتقاط كليشيات فوتوغرافيّة سودوايّة‪ ،‬أو ما‬ ‫الــمــدرس مــا تــزال فــي جــلــدي‪ ،‬ذهبت إلــى بيت يمكن أن نسميه بالسخرية السوداء‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫* كاتبة من تونس‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫■ محمود حسني العزازمة*‬

‫جاراهلل الحميد مواليد حائل عام ‪1954‬م‪ ،‬وقد يذكّرنا تاريخ‬ ‫م ــول ــده بــأمــر جـلــل ح ــل ب ــاألم ــة الـعــربـيــة واإلس ــام ـي ــة‪ ،‬احـتــال‬ ‫فلسطين عــام ‪1948‬م وسمي ذلــك العام بعام النكبة‪ ،‬كما يذكر‬ ‫بعام ‪1967‬م وهو عام استكمال احتالل فلسطين بما فيها القدس‬ ‫الشريف‪ ،‬وأطلق عليه عام النكسة‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫جاراهلل الحميد‪ ..‬طائر الشمال الحزين‬

‫ولــد جــاراهلل الحميد بين النكبة والنكسة‪ ،‬وقــد كــان لهذين‬ ‫الحدثين الجسيمين أثر كبير على مسيرة األدب العربي الحديث‬ ‫في كافة البالد العربية‪ ،‬وقد أطلق النقاد على جيل األدباء بعد‬ ‫نكسة ‪1967‬م تسمية جيل أدب ــاء النكسة‪ ،‬لما كــان فــي أدبـهــم أثــر كبير يتعلق بإحساسهم‬ ‫بالهزيمة وخيبة األمل الذي كانوا يعلقونه على مستقبل أمتهم‪.‬‬ ‫ربما تكون هذه مقدمة يمكن أن نقرأ من ‪ -‬رائحة المدن عام ‪1997‬م‪ ،‬النادي األدبي‬ ‫الثقافي فــي جــدة‪ .‬وتضم ثماني عشرة‬ ‫خاللها ظالل االنكسارت‪ ،‬وتقاطيع التشظي‬ ‫قصة هــي‪( :‬الــخــروج لــيــا‪ ،‬الــظــل‪ ،‬بنت‬ ‫في تجربة جاراهلل الحميد القصصية‪.‬‬ ‫الــجــيــران‪ ،‬ورق الخبيز‪ ،‬الــشــام‪ ،‬مانجو‪،‬‬ ‫أصــدر جــاراهلل الحميد أربــع مجموعات‬ ‫الالعب‪ ،‬من هو‪ ،‬صالح‪ ،‬موت‪ ،‬المسجد‪،‬‬ ‫قصصية خالل عشرين عاما هي‪:‬‬ ‫البلبل‪ ،‬المبكر‪ ،‬السحر‪ ،‬الخليج‪ ،‬شاي‪،‬‬ ‫ أحزان عشبة برية عام ‪1979‬م‪ ،‬منشورات‬‫منتصف الليل قرب الفجر‪ ،‬مِ نَّة)‪.‬‬ ‫دار الوطن‪ .‬وتضم هذه المجموعة ست‬ ‫ ظالل رجــال هاربين عام ‪1998‬م‪ ،‬النادي‬‫قصص قصيرة هي (أحــزان عشبة برية‪،‬‬ ‫األدبــي بحائل‪ .‬وتضم تسع قصص هي‪:‬‬ ‫مــعــانــاة مــطــر عــبــدالــرحــمــن ومــبــاهــجــه‪،‬‬ ‫(خماسية األيــام األربعة‪ ،‬فصل كابوسي‪،‬‬ ‫مقدمة‪ ،‬حديث خــاص جــدا معك‪ ،‬حلول‬ ‫وفي الصباح‪ ،‬شجيرات العتمة الصفراء‪،‬‬ ‫لمشكلة الطين‪ ،‬الطوفان)‪.‬‬ ‫ال ــك ــوب‪ ،‬مــتــوالــيــات‪ ،‬ثــاجــة عــلــى شكل‬ ‫ وجوه كثيرة أولها مريم عام ‪1985‬م‪ ،‬صدرت‬‫غرفة‪ ،‬أسفار‪ ،‬فندق األحالم يقدم باقات‬ ‫عن نادي القصة السعودي‪ ،‬وتضم عشر‬ ‫الزهور)‪.‬‬ ‫قصص هي‪( :‬الحزين‪ ،‬الحمام‪ ،‬إيقاعات‬ ‫بداية التجربة‬ ‫صامتة وأسئلة‪ ،‬الذي ال يكترث‪ ،‬أغنيات‬ ‫لفائزة في الصحو والنوم‪ ،‬أغنية صغيرة‬ ‫بدأت تجربة جاراهلل الحميد القصصية‬ ‫لعصافير الــنــافــذة الثالثة‪ ،‬وجــوه كثيرة فــعــلــيــا ع ــام ‪1979‬م ب ــإص ــداره مجموعته‬ ‫أولها مريم‪ ،‬تفاصيل النوم العام‪ ،‬أغنية القصصية األولى "أحزان عشبة برية"‪ ،‬وبعد‬ ‫للصرصار الطويل‪ ،‬مطر للجيران ولي)‪.‬‬ ‫ست سنوات أصدر مجموعته الثانية "وجوه‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪25‬‬


‫كثيرة أولها مريم"‪ ،‬وبعد اثنتي عشرة سنة‬ ‫أص ــدر مجموعته الثالثة "رائــحــة الــمــدن"‪،‬‬ ‫وبــعــدهــا بــعــام واحـــد أصـــدر جـ ــاراهلل آخــر‬ ‫مجموعاته القصصية وهــي "ظ ــال رجــال‬ ‫هاربين"‪.‬‬ ‫بعد أن صدرت األعمال الكاملة لجاراهلل‬ ‫الحميد ضمن إصــدارات النادي األدبــي في‬ ‫حائل بالتعاون مع دار االنتشار العربي عام‬ ‫‪2010‬م‪ ،‬فكرت وأنــا أقيم في حائل أنــه من‬ ‫الواجب عقد محاضرة تتحدث عن تجربته‬ ‫بهذه المناسبة‪ ،‬أو الكتابة عن تجربته مطوال‬ ‫وبما تستحقه‪ ،‬غير أن الظروف لم تكن مواتية‬ ‫في ذلــك الــوقــت‪ ،‬واألمــر المؤكد أنني أحد‬ ‫األشخاص المقصرين تجاه تجربة جاراهلل‬ ‫الحميد التي تستحق الكثير‪.‬‬ ‫شهادة جاراهلل الحميد‬ ‫يُ َعرِّف جاراهلل الحميد بنفسه قائال‪:‬‬ ‫«لم أكتب القصة القصيرة كشيء أرغب‬ ‫باقتنائه في مجتمع تهلهلت فيه قيم الحب‪.‬‬ ‫والمتعة التي تورثها نصوصي أنها ليست أكثر‬ ‫مــن تــســاؤالت وحفر فــي الــذاكــرة الجمعية‪،‬‬ ‫بغية الوصول إلى خلق إبداعي له خصوصيته‬ ‫وينتمي إلى العالم‪ ...‬إنني إنسان أحب السالم‬ ‫والعدالة والوطن والناس وهذه مؤهالتي ال‬ ‫غير»‪.‬‬ ‫إلى أي جيل قصصي ينتمي الحميد؟‬ ‫كان أول ظهور للقصة في المملكة العربية‬ ‫السعودية على شكل مقالة‪ ،‬ثــم على شكل‬ ‫مقامات كما ظهرت عند عبدالوهاب آشي‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫أما جيل القصة الفعلي األول‪ ،‬فيمثله ك ّل من‬ ‫القاص أحمد السباعي‪ ،‬ومحمد علي مغربي‪،‬‬ ‫ولقمان ياسين‪ ،‬وفؤاد عنقاوي وغيرهم‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫في منتصف السبعينيات‪ ،‬ظهر تيار التجديد‬ ‫القصصي‪ ،‬ذلك الجيل الذي لم تقنعه نمطية‬ ‫الجيل السابق‪ ،‬فتمرد على طريقة أسالفه‬ ‫فــي الكتابة‪ ،‬رافــضــا االنــصــيــاع لتقاليدهم‬ ‫القصصية التي تتقيد بالعناصر التقليدية‬ ‫للقصة وتطبقها عند الكتابة بحذافيرها‪،‬‬ ‫وبــدأت خطوات ذلك الجيل الجديد الواثقة‬ ‫تخط له سبيال جديدا ومختلفا عنوانه األبرز‬ ‫التجريب وكسر القيود السالفة‪.‬‬ ‫وجــد هــذا الجيل ضالته فــي الحداثة‪،‬‬ ‫وأخلص لها أيما إخالص؛ منفتحا على قضايا‬ ‫المجتمع والواقع‪ ،‬ومشتبكا في الوقت نفسه‬ ‫مع تجلياته اإلنسانية ومشاعره الذاتية التي‬ ‫ب ــدأت تطفو على سطح القصص بضمير‬ ‫المتكلم‪ ،‬تتنازعها مشاعر جياشة مؤثرة‬ ‫كالحب والوحدة والحزن والخوف‪ ،‬ومختلف‬ ‫هواجس اإلنسان الحديث‪.‬‬ ‫بــدأت مرحلة الحداثة على صعيد الفن‬ ‫األدبـ ــي فــي الــســعــوديــة بــدايــة الثمانينيات‬ ‫الميالدية‪ ،‬كما يشير د‪ .‬عبداهلل الغذامي في‬ ‫كتابه (قصة الحداثة في السعودية)‪ ،‬ونجد أن‬ ‫جاراهلل الحميد كان قد سبق مرحلة الحداثة‬ ‫بعدة ســنــوات‪ ،‬فقد صــدرت مجموعته عام‬ ‫‪1979‬م‪ ،‬وكان قد فرغ من كتابتها كما أخبرني‬ ‫قبل سنتين من هذا التاريخ عام ‪1977‬م‪ ،‬بل‬ ‫إنه كتب بعض قصص المجموعة قبل هذا‬ ‫التاريخ بنحو ثالث سنوات‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬تأتي ريادة جاراهلل الحميد لفن‬ ‫القصة وأهميته في تاريخ القصة السعودية‪،‬‬ ‫وقــد ازدهــرت القصة مع ازدهــار الصحافة‬ ‫الثقافية التي عمل بها جاراهلل الحميد طويال؛‬ ‫فالصحافة كــادت أن تكون النافذة الوحيدة‬ ‫للنشر القصصي‪ ،‬وأول قصة لجاراهلل الحميد‬ ‫نشرت عبر الصحافة‪ ،‬وعرفه جمهور القراء‬


‫أطــلــق د‪ .‬الــحــازمــي على جيل جــاراهلل‬ ‫الحميد اســم جيل "الــغــربــاء"‪ ،‬ويــصــف من‬ ‫يعنيهم بالغرباء بأنهم ينهجون منهجا وجوديا‬ ‫في طرحهم وأسلوبهم واتجاههم‪ ،‬وهم جيل‬ ‫الشباب آنذاك الذين ظهرت مجموعاتهم بعد‬ ‫نكسة ‪1967‬م‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫والمتابعين من خاللها‪.‬‬ ‫بعض الظواهر الموضوعية في تجربة جاراهلل‬ ‫ويبدو أن القصة القصيرة السعودية ما قبل الحميد القصصية‪:‬‬ ‫جيل جاراهلل الحميد كانت متأثرة بالتقاليد‬ ‫المطر في قصص جاراهلل الحميد‬ ‫الفنية والموضوعية للقصة المصرية‪ ،‬وخاصة‬ ‫المطر رمــز الخير والــعــطــاء والخصب‪،‬‬ ‫تجارب محمود تيمور‪ ،‬والسباعي‪ ،‬ونجيب‬ ‫محفوظ‪ ،‬وهي قصص تتمسك بعناصر القص وبالتالي رمز الحياة‪ ،‬وهو رمز البعث والميالد‬ ‫المعروفة (المكان‪ ،‬الزمان‪ ،‬األحداث‪ ،‬العقدة‪ ،‬وتجدد الحياة والتغيرات في المستقبل‪ ،‬وهو‬ ‫الشخوص) كما يشير الناقد السعودي د‪ .‬في الوقت نفسه رمز الحزن والضياع‪.‬‬ ‫منصور الحازمي‪.‬‬ ‫المطر حين يهطل على األرض يأمل‬ ‫القاص أن تتغير مع هطوله أوضــاع الواقع‬ ‫الحزين‪ ،‬لكن هطوله لدى جاراهلل الحميد لم‬ ‫يَحُ ل دون استمرار الجزع واأللم والحزن‪ ،‬وكأن‬ ‫الواقع بحاجة إلى أمطار كثيرة ومتواصلة غير‬ ‫منقطعة ليتغير الواقع لألفضل‪.‬‬

‫صورة المطر مرتبطة لدى جاراهلل الحميد‬ ‫ويمكن تسميتهم بجيل الــرواد الحقيقيين بالحزن دائما‪ ،‬وقد فشل المطر في إحداث‬ ‫لفن القصة القصيرة‪ ،‬ومنهم‪ :‬جاراهلل الحميد‪ ،‬أي تغيير في الحياة‪ ،‬نالحظ ذلك في‪:‬‬ ‫وحسين علي حسين‪ ،‬وعبدالعزيز المشري‪،‬‬ ‫وفهد الخليوي وغيرهم‪..‬‬

‫يرجع د‪ .‬الحازمي تبدل القصة وتطورها‬ ‫عند ج ــاراهلل الحميد ورفــاقــه إلــى وسائل‬ ‫االتصال التي صارت أسهل من ذي قبل؛ إذ‬ ‫كان األدبــاء السعوديون على اتصال باألدباء‬ ‫العرب‪ ،‬وتأثروا تبعا لذلك باالتجاهات التي‬ ‫كانت سائدة في الــدول العربية من وجودية‬ ‫وتجريدية وتكعيبية وسريالية واإلســقــاط‬ ‫وال ــرم ــزي ــة‪ ،‬غــيــر أنــنــي أخــتــلــف قــلــيــا مع‬ ‫د‪.‬الــحــازمــي‪ ،‬وأقـــول إن جيل السبعينيات‬ ‫القصصي ظهر في السعودية بالتزامن من‬ ‫أشقائه العرب‪ ،‬بمعنى أن هذا الجيل لم ينقل‬ ‫التجربة العربية بل واكبها وبدأ معها وأضاف‬ ‫إليها‪ ،‬ويمكن وصف هذا الجيل أنه بال معلم‪.‬‬ ‫وفي هذه العجالة؛ وددت أن أشير إلى‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪27‬‬


‫(قصة مطر للجيران ولي) صفحة ‪.115‬‬ ‫(قصة أغنية صغيرة لعصافير النافذة‬ ‫الثالثة) صفحة ‪.89‬‬ ‫ال ومروعً ا‪ ،‬وصار‬ ‫(المطر ظل مطرًا جمي ً‬ ‫أبيض‪ ..‬أبيض وأسئلة)‪.‬‬

‫هل معك ثمن ثوب جديد للعيد؟‬ ‫فضحكت مدعيا الكبرياء!!! صفحة ‪52‬‬ ‫ قلت للولوة‪:‬‬‫هل أنت صغيرة؟‬

‫فضحكت حتى تحرك صــدرهــا الصغير‬ ‫صفحة ‪ 52‬يقول (المطر كان يهطل ويقسو‪،‬‬ ‫بقوة وأكملت‪:‬‬ ‫وأثناء ذلك تكونت مستنقعات كبيرة ضخمة‬ ‫ إنك تتحدث عن أشياء ال أعرفها‪.‬‬‫مألى باألحذية وجثث الفئران‪ ،‬وعندما أدخل‬ ‫المطبخ أشــم رائــحــة الطبخ‪ ،‬بطريقة غير‬ ‫ فقلت لها‪:‬‬‫معتادة‪ ،‬إذ إن المطر كان يهطل في رأسي)‪.‬‬ ‫صدقت!! صفحة ‪53‬‬ ‫هذه الصورة المطرية استطاعت أن تدهش‬ ‫ قال لي الموظف‪:‬‬‫القارئ وهي نابعة من فكرة‪ :‬إن الواقع المرير‬ ‫هل هذا هو اسمك الكامل؟‬ ‫ال ينفع معه مطر‪ ،‬من شدة اتساخه ال يمكن‬ ‫للمطر أن يغسله‪.‬‬ ‫فقلت‪ :‬بال شك!!!‬ ‫السخرية في قصص جاراهلل الحميد‬

‫يقدم جاراهلل الحميد عبر السخرية صورة‬ ‫هجائية عن الجوانب القبيحة والسلبية للحياة‬ ‫والمجتمع‪ ،‬وتأتي في قالب هجومي متعمد‬ ‫ومباغت على مشاهدات الواقع وبشاعاته التي‬ ‫تراها عين األديب بدقة متناهية وبحساسية‬ ‫مرهفة‪ ،‬وكــأن الــقــاص يريد االنتصار على‬ ‫مجريات الواقع ليخفف من قسوته وآالمــه‪،‬‬ ‫مقترحا بعد انتصاره واقـ َعــا أفضل يحترم‬ ‫إنسانية اإلنسان وقيمه العليا‪ ،‬بدت السخرية‬ ‫أحيانا الذع ــة ومــمــزوجــة بالغضب والتأثر‬ ‫واالحتجاج‪ ،‬وتكثر السخرية التي تأتي على‬ ‫شكل المفارقة فــي بعض قصص جــاراهلل‬ ‫الحميد‪ ،‬إذ يخلفان معا (السخرية والمفارقة)‬ ‫عوالم جاذبة للقارئ وصادمة له أحيانا‪:‬‬ ‫(إنهم يضيعون في الفنادق الكبرى أولئك‬ ‫الشماليون) األعمال الكاملة‪ ،‬صفحة ‪195‬‬

‫‪28‬‬

‫ قالت لي سلمى‪:‬‬‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫قال وعيناه تدوران في فراغ موحش‪:‬‬ ‫هل الحفيظة معك؟‬ ‫فكرت طويال‪ ..‬حتى كاد يضربني ثم قلت‪:‬‬ ‫ال!!‬ ‫ في اليوم الرابع انقطعت الكهرباء تماما‪..‬‬‫وقال صديقي لزوجته أن تحاول أن تطبخ لنا‬ ‫عشاء في هــذا الليل على ضــوء الفانوس‪..‬‬ ‫ولكنه عاد وهو يرتعد ويقول‪:‬‬ ‫دعنا نخرج لنرى الناس!! صفحة ‪55‬‬ ‫ حين عدت من سفري العجيب قالت لي‬‫أمي‪:‬‬ ‫هل كنت تعاني من فقرك المعتاد؟‬ ‫فقلت لها محاوال إضحاكها‪:‬‬ ‫واكتشفت أيضا أنني مصاب بفقر الدم!!‬ ‫فلم تضحك‪ .‬صفحة ‪54‬‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬ ‫صاحب السمو الملكي األمير فيصل بن فهد بن مقرن بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة حائل يكرم جاراهلل الحميد‬

‫وتبرز السخرية السوداء التي يبعثا األلم أحيانا‪ ،‬وعبر التالعب اللفظي المتقن‪ ،‬وعبر‬ ‫في المقطع التالي‪:‬‬ ‫الحوار بين شخصين بجمل قصيرة مكثفة‬ ‫ومنتقاة بعناية‪ ،‬غير أنها قبل كل شيء تبدو‬ ‫ضحك طويال‪ ..‬كمن يتقيأ‪:‬‬ ‫انفعاال مركبا قادما من أعماق نفس إنسانية‬ ‫فما الحل‪ ،‬إذاً؟‬ ‫معذبة‪.‬‬ ‫فكر طويال‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫األحالم والكوابيس‬ ‫سأسأل أي رجل فيما بعد! صفحة ‪47‬‬ ‫تشكل الكوابيس ظاهرة الفتة في النسيج‬ ‫ أنت رغمًا عنك تتكون من عدة أشياء القصصي لدى جاراهلل الحميد‪ ،‬ظهرت في‬‫اســمــك الــربــاعــي‪ ..‬ل ــون ثــيــابــك‪ ..‬حافظة قصصه على شكل تداعيات مختلطة بالواقع‪،‬‬ ‫نقودك‪ ..‬المدن التي سافرت إليها‪ ..‬الجريدة مؤشرة على األهوال التي تتصدى لها النفس‬ ‫التي تقرأها باستمرار‪ ..‬هل تحب البحر؟ اإلنسانية المعذبة‪ ،‬غير أنها في الوقت نفسه‬ ‫(المطلوب جواب حاد) هل تنسى باستمرار؟ تقدم العجائبي والغرائبي بانسياب ال تخطئه‬ ‫هل أنت مصاب بالعمى الليلي؟ هل تستعمل العين‪ ،‬وفي سياق بنية سردية ال تبعد الوقائع‬ ‫زيت كبد الحوت؟ صفحة ‪37‬‬ ‫عن األحالم‪.‬‬ ‫وهــكــذا‪ ،‬تــبــدو سخرية ج ــاراهلل الحميد‬ ‫بدت الكوابيس ظاهرة واضحة في قصة‬ ‫سخرية مدروسة؛ ال تقصد الفكاهة‪ ،‬بل تقصد "فندق األحالم يقدم باقات الزهور"‪:‬‬ ‫اللذع واإليــام والتأثير العميق في المتلقي‪،‬‬ ‫(تبدأ القصة عندما يسافر البطل ويسكن‬ ‫عبر التصوير المبالغ بــه (الــكــاريــكــاتــوري)‬ ‫في أحد الفنادق الكبرى‪ ،‬يجلس في صالة‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪29‬‬


‫الفندق‪ ،‬ويظن أنــه سيصادف أحــدا يعرفه‪ ،‬بالتوجسات والعربات وبعض الذين هجمت‬ ‫يأت‪..‬‬ ‫لكن أحدا لم ِ‬ ‫الــمــديــنــة عــلــى قلوبهم الــخــضــراء فــصــاروا‬ ‫ثم يطلب منه موظف الفندق أن يتوجه مخبولين من الفزع)‪.‬‬ ‫إلى صالة الطعام‪ ،‬لكن الموظف يسأل بطل‬ ‫قصة فصل كابوسي صفحة ‪167‬‬ ‫القصة (هل تحس بالصداع)؟‬ ‫(أف ـ ــاق الــكــاتــب الــمــســرحــي ونــظــر إلــى‬

‫وتــــســــاءل‪ :‬ه ــل ه ــم يـ ــقـ ــرؤون اإلن ــس ــان ساعته‪ ،‬يا اهلل منتصف الليل‪ ،‬تذكر أن أهله‬ ‫كالصحيفة في الفنادق الكبرى؟‬ ‫في الــخــارج‪ ،‬لماذا أحلم دائما بهذا الشكل‬ ‫وفي نهاية القصة يتوجه البطل إلى صالة الفجائعي؟)‪.‬‬ ‫الطعام‪ ،‬ثم يقوم من كرسيه إلى موظف الفندق‬ ‫ارتباط األحالم والكوابيس بخبث‬ ‫ويسأله‪ :‬هل لديكم أسبرين؟ يضحك الموظف‬ ‫يعايشه اإلنسان في الواقع‪:‬‬ ‫بقوة ويقول له‪:‬‬ ‫قصة مطر عبدالرحمن‪ ،‬قصة مؤلمة‪،‬‬ ‫أي أسبرين؟ إنــك ال تشكو من الصداع! والد البطل يقول له‪ :‬لن تصير رجال ما لم‬ ‫فأنت تحلم‪ .‬قم من النوم أوال)‪.‬‬ ‫تترك هــذه البلدة‪ ،‬إن الناس هنا ينظرون‬ ‫كــمــا ب ــدت فــي قــصــة (شــجــيــرات العتمة لك بكراهية؛ فيغادر البلدة إلى أرض اهلل‬ ‫الواسعة ودون هدف محدد‪.‬‬ ‫الصفراء) صفحة ‪:177‬‬ ‫(فــي الليل أغمض عيني وأتسلى بنسج‬ ‫الحكايات التي لم تحدث‪ ،‬وأستحضر بعض‬ ‫الــوجــوه القديمة‪ ،‬وتستغرقني اختالطات‬ ‫الحلم‪ :‬أضيع قليال في الدهاليز القديمة‬ ‫للذاكرة‪ ،‬وأبتعد مخافة من الكابوس‪ ،‬ألهو‬ ‫بتتبع نبضي‪.)...‬‬

‫‪30‬‬

‫الصحراء والغبار وكل شيء يرفضه‪ ،‬غير‬ ‫أن المفارقة أنه في الفندق يختارون له غرفة‬ ‫مطلة على صحراء شاسعة وغبار‪ ،‬فتبدأ‬ ‫عندئذ الكوابيس لدى بطل القصة‪ ،‬كوابيس‬ ‫باعثها األول بشاعات الواقع‪ ،‬تقول القصة‪:‬‬ ‫(اكتشف مطر عبدالرحمن أنــه وحيد‬ ‫في فندق الزهرة المتأللئة‪ ،‬فاجتاحه شعور‬ ‫بالفزع‪ ،‬كاد معه أن يطلب جنديا لحراسته‬ ‫من جهامة الصحراء القابعة وراء النافذة‪،‬‬ ‫وبدأ هذا الشعور يتسرب إلى األشياء صارت‬ ‫أواني الشاي مثل الحيوانات صغيرة وخائفة)‬ ‫ص‪.30:‬‬

‫ثم يقول (دخلت إلى دار كبيرة فيها رجال‬ ‫كثيرون خائفون‪ ،‬لم أنظر إليهم‪ ،‬وهم ما نظروا‬ ‫إليّ ‪ ،‬كنا في وقت هو مزيج من الليل والنهار‪،‬‬ ‫بياض رمادي وعتمة صفراء‪ .‬ونحن واقفون‬ ‫على سجاجيد حمراء زاهية كنا نستمع إلى‬ ‫أصوات تأتي من غرفة جانبية لها باب قديم‬ ‫من الخشب‪ ،‬يعلو بين حين وحين صوت كأنه‬ ‫وحين يعود من السفر الطويل‪ ،‬ينزل مطر‬ ‫صوت دم ينقط‪ ،‬وبعض غرغرة ميت‪ ،‬الذي‬ ‫عبدالرحمن من الطائرة‪ ،‬لكنه لم ير أحدا‬ ‫بجواري يلكز الذي بجواره‪ :‬ما هذا الصوت؟)‬ ‫يعرفه‪ ،‬ولكنه اكتفى بــأ ْن حَ يَّا نفسه تحية‬ ‫القصة نفسها صفحة ‪:181‬‬ ‫الــصــبــاح‪ ،‬وحــيــن وصــل البيت‪ ،‬كــان هناك‬ ‫(ويــمــضــي الــعــشــاء فيكون الليل المترع تحيات كثيرة ذكرته بعشب البر الرمادي‪،‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫وقــال لنفسه‪ :‬إن أمــي تحبني أكثر عندما‬ ‫أكون وحيدا (ص‪)36 :‬‬ ‫وال تبدو تلك األح ــام والكوابيس في‬ ‫قصص جاراهلل الحميد منفصلة عن الواقع‪،‬‬ ‫بل تكاد تكون مشاهد معاشة أو متخيلة منه‪،‬‬ ‫إذ يصعب في بعض األحيان التفريق بينها‬ ‫وبين ما قد يحدث في الواقع‪ ،‬تولد األحالم‬ ‫والكوابيس نتيجة مصاعب الــواقــع وتعدد‬ ‫تحدياته‪ ،‬فتهرب النفس المعذبة للحلم‬ ‫إليجاد واقع مواز أقل وحشة من المعاش‪،‬‬ ‫غير أن تلك النفس تصطدم بما هو أشد‬ ‫وأقسى (الكوابيس)‪.‬‬ ‫القصة القصيدة‬

‫بيت السرد للقصة القصيرة يكرم الكاتب جاراهلل‬ ‫الحميد بنشر كتاب يتضمن نصوص وشهادات‬

‫استطاعت قصص جاراهلل أن تجمع بين‬ ‫الشعر والــقــصــة؛ ألن طبيعة الموضوعات‬ ‫الشعر العربي األسود‬ ‫الــتــي تــعــالــجــهــا قــصــصــه ه ــي مــوضــوعــات‬ ‫الطفولة التي تقافزت بين خطوط وجهك‬ ‫مرتبطة بأعماق النفس اإلنسانية‪ ،‬تتمحور‬ ‫حول العالقة بالمرأة‪ ،‬أو بغربته وعذاباته‪،‬‬ ‫فــي الصباح عرفت أنني لــم أعــد أتذكر‬ ‫وان ــك ــس ــارات ــه‪ ،‬ووحـــدتـــه‪ ،‬وق ــس ــوة الــظــرف وجهك‬ ‫الحياتي وغير ذلــك‪ ،‬وكل هذه الموضوعات‬ ‫مساء‬ ‫هي موضوعات بطبيعتها هشة وال تستطيع‬ ‫مقاومة اللغة الشعرية‪ ،‬والدليل على ذلك‬ ‫كنا وحيدين‬ ‫أننا عندما نقرأ بعض المقاطع التي أراد لها‬ ‫أنت وحيدة‬ ‫جــاراهلل أن تكون مقاطع قصصية ‪ -‬عندما‬ ‫وأنا وحيد‬ ‫نقرأها‪ -‬نجد أنها مشرّبة بالشاعرية من‬ ‫ناحية اللغة‪ ،‬ومن ناحية الفكرة‪ ،‬ومن ناحية‬ ‫رائــحــة البحر تأتي مــن بعيد وتمأل جو‬ ‫ما تتركه في أثر على القارئ‪.‬‬ ‫الغرفة‬ ‫ومن هذه األمثلة‪:‬‬ ‫تضحكين كأنما تبكين أصدق البكاء‬ ‫قصة أغنيات لفائزة في الصحو والنوم‬ ‫صفحة‪:80‬‬

‫لماذا أنت جميلة إلى هذا الحد‪..‬؟‬

‫كما يتجلى ذلك في قصة أسفار صفحة‬ ‫أنا يا فائزة لم أعد أتذكر وجهك‪ ،‬البارحة‬ ‫‪:189‬‬ ‫أعــطــيــتــك شــكــا وأحــبــبــتــك فــيــه‪ ،‬تــذكــرت‬ ‫الساعدين الخاليين من الغوايش‬ ‫هل كنت عصفور نفسك؟‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪31‬‬


‫البس جناحيك الرمليين الصغيرين‪..‬‬ ‫ هل تحاول باستمرار القفز فوق الحيطان‬‫أم ال؟‬ ‫اســنــد رأس ــك إلــى مقاعد المتعبين في‬ ‫المطارات‪..‬‬ ‫ هل أنت مصاب بعدوى االحتقار؟‬‫تلك المقاعد الليلية تعرف الفقراء العائدين ‪ -‬هل تستطيع تفسير األحالم؟‬ ‫وتحنو عليهم‪.‬‬ ‫ وهل تعتقد أن هذا يسمى تفسيرًا؟‬‫ضع في حقيبتك الكتب واألدوية‬ ‫ يا اهلل‪ ..‬ما هذه البلوى؟‬‫وامض من مكان إلى مكان‬ ‫ أريد أن أفهم‪ ..‬كيف؟‬‫حاول أن تمسك‬ ‫ ما تفسير ذلك يا سيدي؟‬‫آه‬ ‫ هل تعرف تأثير الفيتامينات البائية مثلي؟‬‫أستفار‪.‬‬

‫األسئلة في تجربة جاراهلل الحميد‬

‫‪ -‬القطط‪ ..‬كيف مسألة التناسل؟‬

‫وهــكــذا‪ ،‬فإننا نــاحــظ ج ــاراهلل الحميد‬ ‫ظاهرة تكرار األسئلة في قصص جاراهلل‬ ‫يتفنن فــي أساليب االستفهام؛ فقد أورده‬ ‫الحميد ظاهرة تستحق التوقف عندها‪:‬‬ ‫وجدت في قصصه عشرات األسئلة التي إنكاريًا‪ ،‬وتوبيخيًا‪ ،‬وتهكميًا‪ ،‬وتنبيهيًا‪ ،‬وتعجبيًا‪،‬‬ ‫تبحث عن إجاباتها‪ ،‬ويبدو أن جاراهلل الحميد وكل ذلك قد يأتي في قصة واحدة‪.‬‬ ‫حتى هذه اللحظة لم يأته جواب على أسئلته‪.‬‬ ‫خــتــامـاً‪ ،‬هــنــاك مــحــاور كثيرة فــي تجربة‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫‪ -‬‬

‫هل تحب البحر أو تكره البحر؟‬ ‫جــاراهلل الحميد القصصية‪ ،‬حَ رِ يّة بتدبرها‬ ‫والوقوف على أجزائها المتشعبة‪ ،‬وهي تحتاج‬ ‫هل تنسى باستمرار؟‬ ‫إلــى دراســات معمقة ووافية ورصينة‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫هل أنت مصاب بالعمى الليلي؟‬ ‫القصة القصيرة جداً في أدب جاراهلل الحميد‪،‬‬ ‫هل تستعمل زيت كبد الحوت؟‬ ‫وظــاهــرة التقطيع السينمائي والمسرحي‪،‬‬ ‫وأنت ماذا يعنيك من هذا؟‬ ‫وصورة المرأة وتجلياتها في قصصه‪ ،‬وظاهرة‬ ‫مــا عالقتك بالطبيب والــبــائــع وصاحب الــمــطــارات واألســفــار‪ ،‬وغــيــرهــا الكثير من‬ ‫التاكسي؟‬ ‫القضايا والموضوعات الالفتة في تجربته‬ ‫هل أنــت مريض فعال أم تدعي المرض القصصية الغنية بمضامينها اإلنسانية‬ ‫حين تنام صباحا؟‬ ‫والزاخرة باإلبداع والتميز‪ ،‬وما هذه الورقة‬ ‫هل تسكن في بيت أم في جحر وأيهما إال محاولة أولى وعجلى وال توفي حق تجربة‬ ‫تفضل؟‬ ‫جاراهلل الحميد شيئاً من حقها‪.‬‬

‫* قاص وأكاديمي من األردن‪ -‬جامعة حائل‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫جاراهلل الحميد‪ ..‬القصصية والشعرية‬ ‫■ غازي خيران امللحم*‬

‫لكل حقبة أدبية كُ تّابها‪ ،‬ولكل إبــداعٍ إنساني أعالمه‪ ،‬وحين يطوف بنا الخيال في فن‬ ‫القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية‪ ،‬يتبادر إلى الذهن اسمُ ال يمكن أن يغيب‬ ‫عن الذاكرة‪ ،‬أو التغاضي عنه في ميدان هذا اللون الحكواتي الزاهي الرحب‪.‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫مطالعة في عوالم‬

‫ذلـكــم هــو الـقــاص والـشــاعــر الـمـفــوه‪« :‬ج ــاراهلل بــن يــوســف الحميد»‪ ،‬الـمــولــود فــي حائل‬ ‫ردحــا من الوقت‪ ،‬عندما لمس فيها ضالته في‬ ‫السعودية عام ‪1374‬ه ــ‪ .‬الذي تنكب العزلة ً‬ ‫اإلبداع‪.‬‬ ‫ويعده الكثيرون واحداً من رواد القصة‬ ‫القصيرة على مستوى المملكة‪ ،‬وله قصب‬ ‫السبق في هذا الخصوص السردي‪ ،‬بدأه في‬ ‫سبعينيات القرن الميالدي الماضي‪ ،‬وظلت‬ ‫تلك وجهته األدبــيــة‪ ،‬الــتــي سلك مسلكها‬ ‫اإلبــداعــي‪ ،‬رغــم حضوره األدبــي اآلخــر في‬ ‫ساحات ثقافية كثيرة‪ ،‬تمثلت في إسهاماته‬ ‫في نشاطات نادي حائل األدبــي‪ ،‬ثم عضوًا‬ ‫فــي أدب ــي المنطقة الشرقية‪ ،‬إلــى جانب‬ ‫كتاباته في الشعر الحر والعمودي والمقالة‬ ‫الهادفة‪ ،‬التي نشرها في العديد من كبريات‬ ‫الصحف السعودية والعربية‪ ،‬مثل صحيفة‬ ‫الجزيرة‪ ،‬وصحيفة عكاظ‪ ،‬والقبس الكويتية‪،‬‬ ‫وغيرها من الدوريات والمجالت العربية‪.‬‬

‫مسيرة الحميد القصصية‬

‫قدر لهذا األديــب‪ ،‬خالل مسيرته الثقافية‬ ‫المتعددة المشارب والمكتنزة بالفعاليات‪ ،‬أن‬ ‫ينتج عددًا ال بأس به من المجموعات القصصية‪،‬‬ ‫ذات السوية الجيدة من اإلبداع والخصوصية‪،‬‬ ‫المتمثلة بالرحيل والغربة الدائبة تارة‪ ،‬والعزلة‬ ‫الموحشة تارة أخرى‪ ،‬والمفارقات االجتماعية‬ ‫التي ال حصر لها‪ ،‬استلهم شخوصها وأحداثها‬ ‫من وحــي الخيال وواقــع الحياة‪ ،‬استهلها في‬ ‫العام ‪1980‬م‪ .‬بمجموعته األولــى التي جاءت‬ ‫تحت عنوان‪« :‬أحزان عشبة برية»‪ ،‬ازدحم فيها‬ ‫األفق بسحاب يأبى التالشي قبل أن يتمكن من‬ ‫غسيل أحزان تلك العشبة‪ ،‬قارب في أحداثها‬ ‫الكثير من قضايا مجتمعة‪ ،‬الــذي يعد نسخة‬ ‫من المجتمع العربي ككل‪ ،‬للتشابه في بيئاته‬ ‫كما أحيا الحميد العديد من األمسيات على اختالفاتها‪ ،‬واهتماماته الحياتية المتماثلة‬ ‫الشعرية والقصصية‪ ،‬التي القت استحسانًا تقريبًا‪ ،‬من خالل بطل القصة األبــرز‪ ،‬عندما‬ ‫جــيـدًا مــن قبل جمهوره المتابع‪ ،‬والكتاب حاول أن يكتشف حقيقة الواقع الذي يعيشه‪،‬‬ ‫عبر تفسيره لحلم كــان قــد رآه‪ ،‬أو تخيله‪،‬‬ ‫والنقاد على حد سواء‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪33‬‬


‫بــأنــه امــســك عشبة بــريــة أســطــوريــة األل ــوان‪،‬‬ ‫لكنه مــا إن جلس بمحاذاتها يتأملها‪ ،‬حتى‬ ‫فوجئ بجمل ضخم منتفخ األوداج يهوي إليها‬ ‫بقدمه الضخمة‪ ،‬ويدوسها بقوة لسحقها‪ ،‬لكن‬ ‫المفاجئة إن تلك العشبة ظلت منتصبة القوام‪،‬‬ ‫وبعد ذاك العام بحولين تقريبًا‪ ،‬وتحديدًا‬ ‫وتصر بعناد على البقاء‪ ،‬وترفض االنحناء على في سنة ‪2000‬م‪ .‬أضاف الحميد إلى أعماله‬ ‫الرغم من الوجع الذي بدأ ينتابها!‬ ‫السابقة مجموعته األخيرة التي دوَّنها بعنوان‪:‬‬ ‫ولم ينتظر الحميد طويال‪ ،‬بل ما أسرع ما «ظــال الــرجــال الهاربين»‪ ،‬وقــد احتوت هذه‬ ‫اتبع تلك المجموعة بمجموعة ثانية‪ ،‬جاءت األضمومة القصصية على تسعة قصص‪ ،‬منها‬ ‫تحت عنوان‪« :‬وجوه كثيرة أولها مريم»‪ ،‬صدرت على سبيل المثال‪ ،‬أقصوصة‪« :‬خماسية األيام‬ ‫في العام ‪1984‬م‪ .‬وبطل هذه القصة هو‪« :‬مطر» األربعة»‪ ،‬ومكانها في مستشفى يعالج به أحد‬ ‫البدوي الهارب من مفازة الصحراء‪ ،‬التي لم المرضى من داء عضال‪ ،‬وعندما جاء قريبه‬ ‫تعد بنظره ذيّاك البريق الفطري الذي اعتاده‪ ،‬لزيارته واالستفسار عن حاله‪ ،‬أجابته إحدى‬ ‫فيلجأ إلى المدينة لعله يجد فيها ضالته عبر الممرضات بنبرة متوترة حانقة‪ ،‬ال تخلو من‬ ‫تلك الربوع التي تخيلها األكثر تطورًا‪ ،‬فيستأنس الكلمات المقززة‪ ،‬التي لم يستطع تمريرها أو‬ ‫هضمها‪ ،‬فما كان منه إال مغادرة المشفى على‬ ‫ويخفف شيئا من هواجسه النفسية‪ ،‬التي باتت‬ ‫عجل‪ ،‬كي ال ينزلق لسانه بعبارات غير الئقة‪،‬‬ ‫تنتابه بين الفينة واألخرى‪ ،‬فيأخذ بالتنقل من‬ ‫ليس هــذا زمانها وال مكانها‪ ،‬واخــذ يتمشى‬ ‫مكان إلى آخر‪ ،‬سائرًا عبر الحارات والشوارع‬ ‫في البهو الخارجي للمشفى‪ ،‬وقد أخرج لتوّه‬ ‫المكتظة بالناس والسيارات والمتاجر‪ ،‬فيصم‬ ‫سيجارة يود إشعالها عندما فوجئ بالممرضة‬ ‫أذنيه صخب المدينة المتعدد المصادر‪ ،‬لكنه‬ ‫ذاتــهــا‪ ،‬تقبل عليه وتأخذ في تعنيفه مجددًا‬ ‫بعد كل هذا العناء‪ ،‬لم يفلح بالعثور على بغيته‬ ‫وتنهره قائلة‪ :‬أال تعي يا هذا أن التدخين هنا‬ ‫المنشودة في اكتساب الراحة التي كان يأملها‪،‬‬ ‫ممنوع؟!‬ ‫عندما يكتشف أن كل الــوجــوه متشابهة وأن‬ ‫فــي ه ــذه الــلــحــظــة‪ ،‬تــفــاقــم لــديــه الشعور‬ ‫اختلف لون سحنتها‪.‬‬ ‫باإلحباط والمهانة‪ ،‬ومــا كــان منه إال التوجه‬ ‫ثــم تــجــيء مجموعته الثالثة‪ ،‬الــتــي كتبها ناحية الــبــوابــة الخارجية للمشفى‪ ،‬ومضى‬ ‫الحميد في العام ‪1998‬م‪ .‬وهي ال تقل جودة عن مهروال ال يلوي على شــيء‪ ،‬وكــأن احــد ذئاب‬ ‫عمليه السابقين‪ ،‬ودوّنها تحت عنوان‪« :‬رائحة الصحراء يطارده‪.‬‬ ‫ال ــم ــدن»‪ ،‬الــتــي تكشف أحــداثــهــا عــن عالقة‬ ‫األعمال الكاملة لجاراهلل الحميد‬ ‫اإلنسان القروي ابن الريف‪ ،‬بأقرانه من سكان‬ ‫المدن والحاضرة‪ ،‬والمفارقات التي حصلت‬ ‫نــظــرا ألهــمــيــة تــلــك األع ــم ــال القصصية‬ ‫معه نتيجة االختالفات الشاسعة في األعراف وتميزها‪ ،‬وتقديرًا لجهد الكاتب‪ ،‬بادر «النادي‬ ‫والــعــادات الريفية‪ ،‬الــتــي فطر عليها‪ ،‬وبين األدبــي» في حائل إلى جمع األعمال الكاملة‬ ‫المجتمع المدني الذي هو بصدده‪ .‬وقد احتوت لألديب الحميد‪ ،‬وأصدرها في كتاب من القطع‬ ‫هذه المجموعة على العديد من األقاصيص‬ ‫المتفردة في أحداثها وحواراتها وشخوصها‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬أقصوصة «بنت الجيران»‪« ،‬ورق الخبيز»‪،‬‬ ‫و«مانقو» و«المسجد والالعب»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫(تــعــد القصة القصيرة بالنسبة لــي‪ ،‬من‬ ‫أصعب الفنون كتابة‪ ،‬ألنــه فــي داخــل العمل‬ ‫تكتيكات متعددة بحاجة إلى تروّي وتمحيص‪،‬‬ ‫وكــونــي تــأثــرت بالسينما وبــريــقــهــا وطريقة‬ ‫معالجتها لــأحــداث‪ ،‬جــاءت معظم قصصي‬ ‫تشبه مشاريع فيلمية)‪ .‬ويضيف الحميد (إنني‬ ‫إنسان أحب السالم والعدالة والوطن والناس‪،‬‬ ‫وهذه هي مؤهالتي ال غير‪ ،‬وعلى هذا النسق‬ ‫كانت معظم أعمالي)‪.‬‬

‫وفي تلك األمسية المشهودة‪ ،‬ما كاد الحميد‬ ‫يلقي أولى قصائده على مسامع الحضور‪ ،‬حتى‬ ‫أخذتهم النشوة ومقاطعة الشاعر عدة مرات‬ ‫بالتصفيق والهتاف الحار‪ ،‬السيما عندما بدأ‬ ‫بإنشاد أبيات من قصيدة بعنوان‪« :‬جــاراهلل‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫المتوسط بلغ مجموع صفحاته (‪ )196‬صفحة‪ .‬معددًا مزاياه من خالل المعنى والمبنى اللتين‬ ‫كتب الحميد نفسه مقدمته التي استهلها بقوله‪ :‬اتكأ عليهما األديب في مجمل أعماله تنوعها‪.‬‬

‫كما ورد على الغالف األخير للكتاب كلمة‬ ‫للناقد الدكتور‪« :‬محمد صالح الشنطي»‪ ،‬جاء‬ ‫فيها إن جــاراهلل الحميد‪ ،‬في قصصه يعمد‬ ‫إلى التشكيل التجريدي الرمزي‪ ،‬الــذي يعبر‬ ‫عــن إحــســاس الــكــاتــب بالغربة المتمثلة في‬ ‫الرحيل الدائب تــارة‪ ،‬والعزلة الموحشة تارة‬ ‫أخرى‪ ،‬والتوحد مع الكائنات األخرى ومكابدتها‬ ‫وانبعاثها من بين شدقي الرحى‪ ،‬حيث المنهج‬ ‫اإليقاعي المفعم بالتداعيات‪ ،‬المترعة بالصور‬ ‫الموحية‪ ،‬وتعدد طرق الحكاية ولغتها التراكمية‪،‬‬ ‫التي تــزدحــم بالجمل المليئة باالفتراضات‬ ‫واالستقصاء والتقاط التفاصيل‪.‬‬ ‫الحميد الشاعر‬ ‫أقيم فــي الــنــادي األدب ــي بحائل‪ ،‬األمسية‬ ‫الشعرية الثالثة للشاعر والقاص الحميد‪ ،‬والتي‬ ‫كان قبلها بفترة من الزمن‪ ،‬قد أحيا أمسيتين‬ ‫شعريتين‪ ،‬في كل من اإلحساء‪ ،‬وعلى مدرج نادي‬ ‫التعاون الرياضي بالقصيم‪ .‬لتأتي هذه األمسية‬ ‫بمثابة الثالثة في مسيرته الشعرية‪ ،‬وقد بدأ‬ ‫الحفل الذي كان عريفه اإلعالمي السعودي‪:‬‬ ‫«خضر الشريهي» بتعريف واستعراض لمسيرة‬ ‫الحميد اإلبداعية في مجالي القصة والشعر‪،‬‬

‫منظر طبيعي من حائل‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪35‬‬


‫الحميد يرثي نفسه»‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬ ‫ثم يتابع‪:‬‬ ‫ليوم هذا موطني‪،‬‬ ‫يا صاحبي رحلي دنا الموت فاصمتا‬ ‫وكـ ـف ــا م ــن الـ ـل ــوم الـ ـ ــذي لـمـتـمــانـيــا لم أبق رهن حروب عصر موغل تحت الزمن‬ ‫اليوم لنا وطن‪..‬‬ ‫وإن ك ــان فــي ال ـمــوت ال ـخــاص فإنه‬ ‫وفي قصيدة أخرى‪ ،‬كان قد أهداها لألديبة‬ ‫لـنـعــم الـ ــذي م ــا خ ــاف م ـمــن يــاقـيــا‬ ‫الكويتية سعدية مفرح‪ ،‬بمناسبة فوزها بإحدى‬ ‫أكـ ـ ـ ــان عـ ـل ــى درب ـ ـ ـ ــي‪ ،‬ودرب ـ ـ ـ ــي وعـ ـ ــورة‬ ‫الجوائز العالمية‪ ،‬ممثلة لدولة الكويت في‬ ‫وش ــوك مــن الـقـهــر اب ـتــدا‪ ،‬والتهابيا‬ ‫خريطة الشعر العالمي‪ .‬ومنها هذه األبيات‪:‬‬

‫يـ ــا ص ــاحـ ـب ــي ال ـ ـمـ ــوغـ ــات بــرف ـق ـتــي‬ ‫ألـ ــم تـخـشـيــا م ــن أن ت ـكــونــا مـكــانـيــا‬ ‫ثم يستطرد قائالً‪:‬‬

‫وقـ ـ ـ ـ ــوال ألهـ ـ ـل ـ ــي إنـ ـ ـ ــه مـ ـ ـ ــات م ـب ـع ــدا‬ ‫لكي ال يظنوا ميتتي كاحتجاجيا‬ ‫خـ ــذانـ ــي فـ ـج ــران ــي ب ـث ــوب ــي إل ـي ـك ـمــا‬ ‫وقــد كنت قبل الـيــوم أصـعــب قياديا‬ ‫وللحميد قصائد نثرية ال تقل جــودة عن‬ ‫شعره العمودي‪ ،‬الذي يوصف بشعر التفعيلة‪،‬‬ ‫ومــن تلك مقطوعته‪« :‬وبالنجم هم يهتدون»‪،‬‬ ‫التي ألقاها في حفل جمعية الثقافة والفنون‪،‬‬ ‫بمناسبة اليوم الوطني‪ ،‬وتكريمه ضمن الرواد‬ ‫بمنطقة حائل‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬

‫هو اآلن لك‬ ‫بجانبه قد جلست يؤجج وجنتيك‬ ‫اختالج التردد‬ ‫وارتعش الليل شيئا قليال‬ ‫أسيلقي عليك كالما ثقيال؟‬ ‫أم ترى اخترت أيسر صدري‬ ‫لتسمع الكالم‬ ‫ألن الكالم جميل‬ ‫وأنت الذي قد جعلت الكالم جميال؟‬ ‫مثلما شاء لك‬ ‫أيها الموغل في الصبوات الحسان‬ ‫استدرك إليك‬ ‫رأى شعرك المستريح‬ ‫وراود عينيك‪ ،‬لكن ما استطاع إليك سبيال‪..‬‬

‫وطن عال‪ ..‬ثم استهل‬ ‫هذه جملة مطالعات مقتضبة في أدبيات‬ ‫مطرا لذاكرة الزمن‬ ‫الشاعر والقاص السعودي جــاراهلل الحميد‪،‬‬ ‫فجباله سود غرابيب طوال‬ ‫عرجت على بعضها فقطفت من كل حديقة‬ ‫كانت تقيم هنا‬ ‫باقة‪ ،‬ومن كل بستان سلة‪ ،‬كمؤلفاته القصصية‬ ‫منذ زمن‬ ‫والشعرية الملونة بأطياف إنسانية‪ ،‬التي وجدت‬ ‫من عهد عاد‬ ‫فحواها واضح االلتصاق بالحاالت االجتماعية‬ ‫ينهض عبد العزيز سالحه‪ ،‬رب وملب‪ ،‬نظرة في محيطة البيئي‪ ،‬ومفارقات الحياة وتقلباتها‪،‬‬ ‫قصوى‪ ،‬حلما ذات العماد‬ ‫قدمها الكاتب لقرائه ومتابعيه بلغة سلسة‬ ‫لكنه زمن له وقف الزمن‪..‬‬ ‫مشوقة في أكثر وجوهها اإلبداعية‪.‬‬ ‫ * كاتب وباحث من سوريا مقيم في السعودية‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫في تجربة الفنانة التشكيلية السعودية "غدير حافظ"‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫معذبة‬ ‫وأطياف‬ ‫وجوه‬ ‫ٌ‬

‫■ إبراهيم احلجري*‬

‫مــا يلفت المتتبع للمشهد التشكيلي الـسـعــودي‪ ،‬نقديا وجـمــالـيــا‪ ،‬هــو تنوّع‬ ‫التيارات‪ ،‬واالتجاهات‪ ،‬والـمــدارس الفنية‪ ،‬من جهة‪ ،‬واإلقـبــال المنتج والمتميز‬ ‫للمرأة السعودية على مجال الفن البصري بكافة تلويناته‪ ،‬وتجلياته؛ مستفيدة‬ ‫من الحركية العالمية في هذا المجال‪ ،‬ومن اتساع خيالها وقدرتها على االبتكار‬ ‫والتخيل‪ ،‬واإلبداع من جهة ثانية؛ وهذا‪ ،‬ما جعل الغنى والثراء عنوانين بارزين‬ ‫في كل التجارب التشكيلية السعودية‪ ،‬سواء تلك التي تنشط في الداخل‪ ،‬أو تلك‬ ‫التي بلغ صداها خارج الحدود‪ ،‬ويكفي أن نشير‪ -‬على سبيل المثال ال الحصر‪-‬‬ ‫إلى تجربة الفنانة غدير حافظ‪.‬‬ ‫وقــد سبق أن أشــرت‪ ،‬في غير هذا‬ ‫الــمــقــام‪ ،‬إلــى تميز الــمــرأة السعودية‬ ‫عــربــيــا‪ ،‬عــلــى مــســتــوى األدب والــفــن‪،‬‬ ‫وتفردها بلمسة خــاصــة‪ ،‬تبعدها عن‬ ‫النمطية‪ ،‬والرتابة‪ ،‬وتكرر الموضوعات‪،‬‬ ‫والثيمات‪ ،‬واألساليب‪ ،‬واألشكال؛ ولعلي‬ ‫لن أجازف إذا قلت إن الصوت النسوي‬ ‫السعودي األكــثــر ج ــراءة على اجتراح‬ ‫بعض القضايا اإلنسانية‪ ،‬وتناول بعض‬ ‫المعاني‪ ،‬وسبر بعض األغــوار النفسية‬ ‫الدفينة التي ظلت‪ ،‬مهملة‪ ،‬ومهمشة‪،‬‬ ‫ومحاطة بكثير من االلتباس‪ ،‬والغموض‪،‬‬ ‫والضبابية‪.‬‬

‫تهدف التجربة الفنية‪ ،‬لدى التشكيلية‬ ‫السعودية غدير حافظ(((‪ ،‬إلى إبراز هذه‬ ‫القضية‪ ،‬والدفاع عنها بشكل ضمني‪،‬‬ ‫من خالل إبالغ صوت المرأة السعودية‬ ‫إلــى الــعــالــم‪ ،‬واالرتــقــاء ببوحها الفني‬ ‫صــوب األعــالــي‪ ،‬من خــال مشاركاتها‬ ‫الخارجية‪ ،‬وإسهاماتها العالمية؛ بوصفها‬ ‫ممثلة للمشهد السعودي التشكيلي في‬ ‫عدد من التظاهرات العالمية الوازنة‪.‬‬ ‫تقول في إحــدى حواراتها عن المرأة‪:‬‬ ‫«الــمــرأة هي العنصر الجميل والفعال‬ ‫في الحياة‪ ،‬مع عدم إنكار مكانة الرجل‬ ‫ودوره في الحياة‪ ،‬ولكن لديّ قناعة بأن‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪37‬‬


‫المرأة تمثل ثالثة أرباع الحياة‪ ،‬بينما للرجل‬ ‫الربع الباقي(((»‪.‬‬ ‫مــن هنا‪ ،‬جــاء اهتمامي بصوت الفنانة‬ ‫التشكيلية غدير حافظ‪ ،‬التي ذاع صيتها‬ ‫خارج المملكة‪ ،‬بفعل اجتهادها في مداعبة‬ ‫الفرشاة‪ ،‬وافتضاض بياض القماش‪ ،‬وطرْق‬ ‫المستغلقات من ال ـدّوالّ ‪ ،‬والمعاني الخبيئة‬ ‫في داخل اإلنسان العربي خاصة‪ ،‬والكوني‬ ‫بشكل أعم؛ ففضال عن تنويعها على مستوى‬ ‫ال ــح ــوام ــل‪ ،‬وال ــم ــوض ــوع ــات‪ ،‬واألســالــيــب‪،‬‬ ‫واختراقها جوانية اإلنسان‪ ،‬وتجاوزها الشكل‬ ‫الــخــارجــي‪ ،‬عــابــرة نحو األلـ ــوان المعتمة‪،‬‬ ‫واألطياف المتماوجة‪ ،‬والظالل‪ ،‬واألشباح‪،‬‬ ‫والكائنات الالمرئية‪ ،‬والصور المشوشة فيه‪،‬‬ ‫وكأنها تتطلع إلى القبض على أوهامه‪ ،‬وبقايا‬ ‫أحالمه‪ ،‬ونثار حطامه‪ ،‬وأنقاضه‪ ،‬وهي تجربة‬

‫صعبة لن تتأتى إال لفنان متمرّس‪ ،‬خبير‪،‬‬ ‫ومجرب‪ ،‬يعرف كيف يرهن اللحظة‪ ،‬ويعكس‬ ‫ظاللها الهاربة على الحوامل المتنوعة‪ ،‬حتى‬ ‫يجد فيها المشاهد‪ ،‬والمتتبع بعضا من‬ ‫صداه‪ ،‬وذاكرة خيباته‪ ،‬ومطامحه المتكسرة‪،‬‬ ‫ولم ال بعض مسراته‪ ،‬وسعادته المؤقتة‪.‬‬ ‫ولــتــؤســس أســلــوبــهــا ال ــخ ــاص‪ ،‬تستند‬ ‫الفنانة حافظ غدير‪ ،‬ابنة المدينة المنورة‬ ‫ذات التكوين األكاديمي في مجال الفنون‬ ‫البصرية‪ ،‬إلــى كــل الــتــيــارات‪ ،‬واالتجاهات‬ ‫والمدارس‪ ،‬تاركة لموهبتها متسعا للرفد من‬ ‫كل هذه المرجعيات‪ ،‬كلما ألحت عليها فكرة‬ ‫ما‪ ،‬أو راودها خيال‪ ،‬أو هيّجها مخاض حدس‬ ‫فني‪ ،‬فهي ال تفرض األسلوب على الفكرة‬ ‫أو الــتــصــور‪ ،‬بــل تــتــرك لألخيرين (الفكرة‬ ‫والتصور) أفق اختيار األسلوب‪ ،‬ليكون العمل‬ ‫منسجما ومرجعيته‪ ،‬متساوقا وفلسفته‬ ‫الخاصة المنبثق عنها‪ ،‬تقول غدير عن هذا‬ ‫المعطى التأسيسي‪" :‬جميع المدارس الفنية‬ ‫تستهويني‪ ،‬وربما ال أحب أن أفضل نوعً ا على‬ ‫اآلخر؛ ألن لكل منها طريقته في التعبير‪ ،‬ولكن‬ ‫أكثر المدارس التي استخدمتها في لوحاتي‬ ‫كانت المدرسة التعبيرية الرمزية وأسلوب‬ ‫الفنتازيا‪ ،‬لكنني ال أفرض مدرسة تشكيلية‬ ‫مــحــددة على المتدربين عندي بالمرسم‪،‬‬ ‫لعدم حصرهم في قالب تشكيلي‪ ،‬كما أهدف‬ ‫إلى تعزيز االحتكاك بين المشاركين‪ ،‬بغرض‬ ‫تنمية الروح الفنية بينهم»(((‪.‬‬ ‫‪ .1‬وجوه وأطياف مشوهة‪:‬‬

‫لحظة تفاعل الفنانة غدير مع عالمها الفني‬

‫‪38‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫تتمثل الفنانة غدير حافظ العالم‪ ،‬من‬


‫من معرض جدة بالمملكة العربية السعودية‬

‫وتــكــاد تكون مــيــزات الــتــحــول‪ ،‬والمسخ‪،‬‬ ‫والــتــشــوه‪ ،‬خصائص فاصلة فــي تجربتها‬ ‫التمثيلية للكون الجمالي والداللي‪ ،‬إذ يقوم‬ ‫مبدأها فــي الــرســم على الــظــل‪ ،‬والبقايا‪،‬‬ ‫والــصــورة األولــيــة الباهتة (‪négatives des‬‬ ‫‪ ،)photos‬وانعكاس الخراب‪ ،‬وتمثيل البعد‬ ‫الخلفي للفرد المنكسر‪ ،‬مــص ـوّرة بذلك‪،‬‬ ‫نفسيته المنهارة‪ ،‬وأحالمه المجهضة‪ ،‬وروحه‬ ‫المتهدمة أم ــام مــا يــجــري مــن انتكاسات‬ ‫للبشرية‪ ،‬يقودها اإلنسان بنفسه‪ ،‬متشبثا‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫خالل تعبيرات رمزية‪ ،‬أغلبها عبارة عن وجوه‬ ‫مشوّهة‪ ،‬ومــســوخ بشرية‪ ،‬فقدت طبيعتها‬ ‫األول ــى‪ ،‬وصــارت إلــى ما صــارت إليه بفعل‬ ‫فاعل رمزي أو مــادي‪ ،‬وكــأنّ الفنانة تُقاسم‬ ‫هــذا اإلنــســان المنكسر الــذي لم يتبق منه‬ ‫ســوى شظايا همومه‪ ،‬وأحــزانــه‪ ،‬عذاباته‪،‬‬ ‫وتوصل‪ ،‬في آن معا‪ ،‬صوته المشروخ لألخر‪،‬‬ ‫وتــوري البشر صــور الشر المستفحل‪ ،‬وما‬ ‫تركه من خراب على البشرية جمعاء‪ .‬ولعلها‬ ‫بتلك الــوجــوه البشعة التي تشبه الزومبي‬ ‫واألشباح العائدة من القبور‪ ،‬تعكس ما سببه‬ ‫اإلنسان ألخيه اإلنسان من فظاعات‪ ،‬صار‬ ‫بفعلها البشر مسخا مخيفا‪ ،‬وظــل صــوراً‬ ‫من معرض ألبانيا كوسوفو‬ ‫متقابلة للعناء الفردي والجماعي في ظل‬ ‫هيمنة القيم الممسوخة التي قضت على أصابه من تصدعات‪ ،‬كما عملت على رصد‬ ‫النبل‪ ،‬والنقاء‪ ،‬والصفاء‪ ،‬والتكافل‪ ،‬والتعاون‪ ،‬ثورة اإلنسان ضد الظلم‪ ،‬وراحت تحكي عن‬ ‫أحالم الشباب‪ ،‬مجسّ دة األمل واأللم والمرح‪،‬‬ ‫والمحبة‪.‬‬ ‫لــقــد تــفــاعــلــت الــفــنــانــة م ــع الــقــضــايــا خاصة في معرضها الذي أقيم بجدة تحت‬ ‫المستجدة عربيا‪ ،‬ودوليا‪ ،‬وسعت لوحاتها عنوان "مجموعة إنسان ‪٢٠١١‬م" ألنها مررت‬ ‫إلــى عكس صــور الحراك االجتماعي‪ ،‬وما رســائــل جمعت كــل األبــعــاد اإلنــســانــيــة في‬ ‫الحراك االجتماعي(((‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫صور من معرضها باألوبرا المصرية‬

‫في الغالب‪ ،‬إلــى رصــد مالمح الخراب في‬ ‫الوجوه‪ ،‬دون أن تميز وجه المرأة عن الرجل‪،‬‬ ‫إذ يرد الوجهان معا‪ ،‬في لوحاتها‪ ،‬مع حفظ‬ ‫الــفــوارق بينهما‪ ،‬متكئين على بعضهما‪ ،‬أو‬ ‫مستندين على الفراغ‪ ،‬أو مائلين بال سند‪،‬‬ ‫أو غــارقــيــن فــي ســديــم هــاويــة مــن ظــام‪،‬‬ ‫مذهولين بالمتاهة التي وجدا نفسيهما فيها‪،‬‬ ‫للداللة على أن اإلنسان يعاني من الخيبات‪،‬‬ ‫ويتحمل عــواقــب االنــهــيــارات الــرمــزيــة‪ ،‬في‬ ‫شموليته‪ ،‬أنثى وذكــرا‪ ،‬فــردًا ومجتمعا‪ ،‬في‬ ‫كل الجغرافيات‪ ،‬ومهما كانت هويته‪ .‬لذاك‬ ‫كان نزوعها نحو التوجه الفنتازي في التعبير‬ ‫البصري عن مكنوناتها الشعورية‪ ،‬ومكنونات‬ ‫كائناتها الشبحية‪ ،‬وأرواحها المعذبة ناجحً ا‪،‬‬ ‫وفــعــاالً‪ .‬تقول غدير عــن استلهامها لتلك‬ ‫الوجوه المقنّعة بااللتباس‪« :‬تقيدنا ظروف‬ ‫الحياة أحياناً وتجعلنا نرتدي بعض األقنعة‬ ‫لنخفي مالمح شخصياتنا‪ .‬حينها نضطر إلى‬ ‫العيش في عالم الخيال‪ .‬لربما نجد أنفسنا‬ ‫هناك نحلم بالعيش كسوبرمان»(((‪.‬‬

‫بعنجهيته‪ ،‬وأنــانــيــتــه‪ ،‬ومــضــح ـ ًيــا بــتــاريــخ‬ ‫حضارته‪ ،‬ورصــيــده القيمي‪ ،‬وكأنها تقول‬ ‫عبر لوحاتها المنجزة‪ ،‬وتلك التي لم تنجز‬ ‫بعد‪ ،‬ها ما تبقى منا‪ ،‬ها رفاتنا المنسي‪ ،‬وها‬ ‫صورتنا الحقيقية التي ال نريد أن نراها‪،‬‬ ‫ونتهرب منها‪ ،‬تقول ذلك‪ ،‬بكل أسى‪ ،‬وحسرة‪،‬‬ ‫وهــي تــرى معايير الجمال‪ ،‬وقيم الصالح‪،‬‬ ‫ومكتسبات الفطرة السليمة تنهار أمام أعين‬ ‫الــنــاس‪ ،‬ف ــرادى وجــمــاعــات‪ .‬تــقــول الفنانة‬ ‫غدير‪« :‬هذا الخيال المسيطر على لوحاتي‬ ‫تبدو الفنانة مسكونة بوجوه اآلخرين‪،‬‬ ‫سمّيته "سوبرمان" إنه الخيال الملهم للعمل مثلما هي مسكونة بأحالمهم‪ ،‬ومعاناتهم‪،‬‬ ‫ككل‪ ،‬وبعد انتهاء معرض القاهرة سيحمل فالصور تلك‪ ،‬تلح عليها مسبقا‪ ،‬وتستقر‬ ‫المعرض صورة "سوبرمان" وينتقل بها إلى‬ ‫(((‬ ‫إحدى دول العالم»‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫وقــد ركــزت غدير كثيرا فــي إب ــراز هذه‬ ‫األبــعــاد الــداللــيــة‪ ،‬مــن خــال تبئير الوجوه‬ ‫اإلنسانية دون غيرها مــن باقي الجسد؛‬ ‫ألن الوجه هو ما يبين خصوصية اإلنسان‪،‬‬ ‫وجوهره‪ ،‬وهويته‪ ،‬بل هو ما يميزه عن باقي‬ ‫المخلوقات التي تمأل الكون‪ ،‬كما أنها سعت‪،‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫معرض شتات بين الحقيقة والخيال بالمدينة المنورة سنة ‪٢٠١٩‬م‬


‫‪ .2‬الثنائية والتعددية والصور‬ ‫الماسخة‪:‬‬

‫من معرض مجموعة إنسان بجدة سنة ‪٢٠١٥‬م‬

‫في مخيلتها‪ ،‬لزمن قد يطول‪ ،‬قبل أن يتحول‬ ‫إلى كائن بصري متجسد‪ ،‬تنصهر الكائنات‬ ‫في أعماقها اإلنسانية‪ ،‬بأسئلتها العويصة‪،‬‬ ‫وحاجاتها الغامضة‪ ،‬وشكاويها المقموعة‪،‬‬ ‫ورغباتها المكبوتة‪ ،‬ثم تتحول‪ ،‬عبر إيقاع‬ ‫بطيء‪ ،‬وفق سيرورة نفسية يحكمها منطق‬ ‫التشكل اإلبداعي‪ ،‬وبعدها تخرج إلى العلن‪،‬‬ ‫في شكل عوالم بصرية تشبهها‪ ،‬من حيث‬ ‫التشوّه‪ ،‬والعناء‪ ،‬والتشظي‪ ،‬والنكوص‪ ،‬بلمسة‬ ‫ال تخلو من الغرائبية‪ ،‬واإلدهــاش‪ ،‬والتعبير‬ ‫الــرمــزي الكثيف اإلي ــح ــاءات‪ ،‬واإلحـ ــاالت‪،‬‬ ‫والدالالت السياسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والنفسية‬ ‫باألساس‪ .‬وتبدو الفنانة واعية بهذا المسار‬ ‫التوليدي لكائنات لوحاتها‪ ،‬وعوالمها الفنية‪،‬‬ ‫من خــال تصريحها في إحــدى حواراتها‪:‬‬ ‫«يهمني إيصال قضية إلــى اإلنــســان‪ ،‬كيف‬ ‫يستطيع أن يعيش مع خياله‪ ،‬أو يحتفظ به مع‬ ‫نفسه‪ ،‬والمعرض يتيح تلك الفرصة‪ ،‬وكنت‬ ‫انتظر اكتمال الفكرة في داخلي منذ ست‬

‫يثير المتفاع َل مع لوحات الفنانة غدير‬ ‫حافظ‪ ،‬خاصيتا المسخ‪ ،‬والتشوّه التي تحفل‬ ‫بهما تجربتها‪ ،‬خاصة في معرضها «مجموعة‬ ‫إنسان ‪2011‬م»؛ إذ تبرز وجوه وأطياف بال‬ ‫مالمح‪ ،‬وال خصوصيات‪ ،‬وال هويات‪ ،‬وكأنها‬ ‫مسوخ خارجة من رفات الدهر‪ ،‬ال تحمل أية‬ ‫عالمة لإلنسانية‪.‬‬ ‫مــعــارضــهــا الــمــتــنــاثــرة لــغــة بــصــريــة غير‬ ‫معلنة تجسدها الــجــمــال فــي ذل ــك األفــق‬ ‫غير المتناهي من النفس اإلنسانية‪ ،‬فلكل‬ ‫لوحة قصة وحوار‪ ،‬حتى إنه يخيل للمشاهد‬ ‫أن اللوحة إحــدى شخصيات هــذه القصة‬ ‫الغرائبية التي تختفي معها مالمح البشر‪،‬‬ ‫وال يكاد يلفي فيها حتى ملمح البدائية‪ :‬فهي‬ ‫انعكاس لفرط غياب القيم‪ ،‬واضمحاللها‪،‬‬ ‫وامــتــهــان كــرامــة اإلن ــس ــان‪ ،‬بفعل سيطرة‬ ‫الماديات‪ ،‬وغلبة الشهوات‪ ،‬وهيمنة القيم‬ ‫االستهالكية‪ ،‬وطغيان الصراعات الواهية‬ ‫حــول المنافع البرغماتية‪ ،‬وكــذا الحروب‬ ‫الدامية التي ترهق كاهل الحضارة اإلنسانية‪،‬‬ ‫وتقتل األبــريــاء‪ ،‬والمدنيين بــدون أسباب‬ ‫وجيهة‪ ،‬صراعات تتأسس‪ ،‬في عمقها‪ ،‬على‬ ‫أساس أغراض إيديولوجية ضيقة لن تقدم‬ ‫لإلنسان‪ ،‬وتاريخ حضارته شيئا يذكر‪ ،‬بل‬ ‫ستعود به مسافات ضوئية نحو الوراء‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫سنوات‪ ،‬وبعد القاهرة أنظّ م المعرض في‬ ‫أماكن أخرى عدة‪ ،‬وهو الخامس في سلسلة‬ ‫معارضي»(((‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫من معرض جدة بالمملكة العربية السعودية ‪ -‬مجموعة إنسان‬

‫تعتمد الفنانة على مدركها السيكولوجي‬ ‫لتفسير الــدواخــل اإلنسانية‪ ،‬وتسعى‪ ،‬في‬ ‫الــوقــت ذاتــــه‪ ،‬إل ــى رص ــده ــا‪ ،‬انــبــثــاقــا عن‬ ‫حساسيتها المفرطة تجاه القضايا اإلنسانية‬ ‫التي تتفاعل معها‪ ،‬سواء بشكل مباشر‪ ،‬أو‬ ‫من خــال وسائل اإلع ــام‪ ،‬خاصة في ظل‬ ‫الــظــروف العصيبة التي يمر بها عــدد من‬ ‫البلدان العربية‪ ،‬وفــي سياق دولــي متوتر‪،‬‬ ‫ومتسارع الخطوات نحو بؤر الصراع‪ ،‬وغلبة‬ ‫منطق الهيمنة‪ ،‬فهي تشيد مشروعها الفني‬ ‫عــلــى خلفيات فلسفية تعكس انــفــعــاالت‪،‬‬

‫‪42‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫وأحاسيس‪ ،‬وأفــكــار‪ ،‬وتــصــورات‪ ،‬ومشاعر‪،‬‬ ‫وتــمــثــيــات لــلــعــالــم‪ ،‬واإلنـــســـان‪ ،‬والــــذات‪،‬‬ ‫ترصدها فــي شكل تعابير نفسية تبرزها‬ ‫خشونة الخطوط‪ ،‬وسالسة اإليقاع الموسيقى‬ ‫البصري(((‪.‬‬ ‫وفضال عن ذلك‪ ،‬فهي ترسم لتُبلّغ المتلقي‬ ‫رسالتها الفنية‪ ،‬التي ال تخلو من تنبيه للمآزق‬ ‫والتحديات المطوقة لإلنسان العربي‪ ،‬بصفة‬ ‫خاصة‪ ،‬واإلنسان العالمي بشكل أعم‪ ،‬وذلك‪،‬‬ ‫من خالل تربيتها للذوق والرؤية البصرية‬ ‫من جهة‪ ،‬ومن خالل تكويناتها‪ ،‬وتدريباتها‬


‫تستعير الــفــنــانــة غــديــر مــكــون األخيلة‬ ‫والحدوس والتهيئات والتوهمات القهرية؛‬ ‫لتجسد حرقة اإلنــســان العربي المعاصر‪،‬‬ ‫بفعل الــنــكــســات الــمــتــتــالــيــة‪ ،‬فــوجــدت في‬ ‫الخياالت والتعبيرات الفنتازية خير موجه‬ ‫لها‪ ،‬ومعين لها في رســم العمق اإلنساني‬ ‫الخائب‪ ،‬والجريح‪ ،‬والمتعفن بالخسارات‪،‬‬ ‫لذلك‪ ،‬يبدو‪ ،‬في مشهده البراني‪ ،‬ملمحً ا‬

‫ولعل هــذا ينسجم مع األسلوب العملي‬ ‫الــذي تشتغل وفقه الفنانة‪ ،‬بحيث إنها ال‬ ‫تحدد موضوعاتها بشكل مسبق لتهيئها على‬ ‫طول فترة زمنية محددة‪ ،‬بل تترك السياق‬ ‫يلهمها‪ ،‬ويمدها باألفكار التي تُــخـزّن في‬ ‫الذاكرة والمخيلة‪ ،‬لتصير‪ ،‬مع مرور الزمان‪،‬‬ ‫منظور‬ ‫ٍ‬ ‫عوالم طــازجــة‪ ،‬قابلة للتجسد من‬ ‫فني‪ ،‬غير أنها حينما تتجلى‪ ،‬قد توحي ببنات‬ ‫أفكار أ ُخَ ر‪ ،‬وتلوينات مغايرة أو شبيهة‪ ،‬ومن‬ ‫هنا‪ ،‬تتأسس نــواة معرض ما‪ ،‬أو مجموعة‬ ‫من اللوحات المنتمية إلى الثيمة نفسها‪ ،‬أو‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫للصغار والكبار والنساء‪ ،‬مؤكدة على نبل‬ ‫رســالــة الــفــن‪ ،‬وأهميته فــي تغيير العالم‬ ‫واإلنــســان معًا نحو األفــضــل‪ ،‬ونحو ضمان‬ ‫الكثير مــن قيم الــكــرامــة والــحــب والــرقــي‪،‬‬ ‫بدل المشاحنات‪ ،‬والصراعات‪ ،‬والحروب‪،‬‬ ‫والعدوان‪ ،‬والظلم‪ ..‬تلك المواصفات التي ال‬ ‫تليق بإنسان را َك َم حضارة عبر قرون‪ .‬تقول‬ ‫غدير حافظ‪« :‬لكل إنسان هدف يسعى إلى‬ ‫تحقيقه في الحياة‪ ،‬وذلك من خالل مقدرته‬ ‫أو موهبة حباه بها اهلل‪ .‬وبالنسبة لي فقد‬ ‫وهبني اهلل الحس الفني الــذي أت ــذوّق من‬ ‫خالله معاني الجمال واإلبداع‪ ،‬ولهذا وضعت‬ ‫نــصــب عيني أه ــدافـ ـاً سعيت لتحقيقها‪،‬‬ ‫وأهمها نشر الوعي الثقافي الفني‪ ،‬وإظهار‬ ‫مدى تأثيره في النفس البشرية‪ ،‬وذلك من‬ ‫خالل الــدورات التي أنظّ مها للسيدات في‬ ‫مرسمي الخاص في المجاالت المختلفة‪،‬‬ ‫ألنني واثقة بأهمية الفنون بالنسبة للمرأة‪،‬‬ ‫ودورهــا في االرتقاء بذوقها الفني‪ ،‬وجعلها‬ ‫متفائلة وتعيش في حالة رضا نفسي وتوافق‬ ‫مــع الـــذات ومــع اآلخـــر‪ .‬فالفن التشكيلي‬ ‫يهذّب النفس البشرية ويرتقي بالمشاعر‬ ‫الروحانية»(((‪.‬‬

‫بــشــر ًيــا شــائــهــا‪ ،‬متهلهل الــمــظــاهــر‪ ،‬مبعثر‬ ‫القسمات‪ ،‬منزوع الهوية الفيزيقية‪ ،‬مذهوال‬ ‫من صدمات مــا‪ ،‬مترنح األبعاد والسمات‪،‬‬ ‫تمامًا مثل بقايا جــثـ ٍـث مزقتها األسلحة‪،‬‬ ‫وفتتتها العفونة‪ ،‬ونال منها الدمار‪.‬‬

‫من معرض شتات بين الحقيقة والخيال‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪43‬‬


‫الموضوعة ذاتها‬

‫(‪même thème‬‬

‫‪ ،)le‬تقول لوحاتي تأتي من مشاعر تــدور داخلي‪ ،‬أو‬

‫الفنانة غدير عن هذه السيرورة اإلبداعية‪ :‬من موقف م َّر بي‪ ،‬أو قضية تشغلني‪ ،‬وبال‬ ‫(أنا ال أبحث عن فكرة ألرسمها‪ ،‬بل األفكار تخطيط تتبلور الفكرة وتتحرر على اللوحة‬ ‫هي من تأتي إليّ دون أن أخطط لها‪ ،‬فأنا بمجرد أن أمسك فرشتي‪ ،‬فتبدأ األفكار‬ ‫ال أرسم ألنني أريد أن أرسم‪ ،‬بل أرسم ألن باالنهمار وكأنها زخات مطر ال تتوقف إال‬ ‫مشاعري هي َمــن تحرك ريشتي‪ ،‬فأفكار بعد انتهاء العمل)(‪.((1‬‬ ‫ * ناقد وروائي من املغرب‪.‬‬ ‫((( غديــر حافــظ فنانــة ســعودية‪‎‬ولــدت يف املدينــة املنــورة يف ‪1978‬م‪ ‎،‬تخرجــت مــن كليــة التربيــة واالقتصــاد‬ ‫املنزلــي‪ ،‬قســم تربيــة فنيــه عــام ‪٢٠٠٢‬م‪ ،‬تخصــص خــزف ومعــادن‪ .‬عملــت معيــدة يف اجلامعــة‪ ،‬ومــن ثــم‬ ‫تركــت العمــل لتنشــئ معهد"إبــداع الغديــر للفنــون" اخلــاص بهــا لتدريــب الســيدات واألطفــال بجــدة عــام‬ ‫‪٢٠٠٨‬م‪ .‬مثلــت اململكــة كأول فنانــة تشــكيليه ســعودية يف كل مــن كوســوفو والبانيــا وبرشــتينا وجوســتيفار‬ ‫(صربيــا) ‪٢٠١٤‬م‪ ،‬شــاركت يف ورشــة رســم يف ألبانيــا مدينــة تيرانــا لعــام‪٢٠١٥‬م‪ ،‬ثــم يف ورشــة رســم‬ ‫كوســوفو يف مدينــه برشــينا لعــام ‪٢٠١٥‬م‪ ،‬مثلمــا شــاركت يف مهرجــان مــورال فيســت يف مدينــة فــرزاي‬ ‫لعــام ‪٢٠١٦‬م‪ ،‬وكذلــك يف ورشــة رســم يف مدينــة جوســتيفار كوســوفو لعــام ‪٢٠١٦‬م‪ ،‬ومثلــت اململكــة كعضــو‬ ‫جلنــة حتكيــم ل ‪٢٨‬دولــه يف ملتقــى أوالدنــا الدولــي األول لــذوي القــدرات اخلاصــة ‪ ،‬يف مصــر‪ .‬للمزيــد‪:‬‬ ‫‪http://artist-ghadeer-hafee.ahlamontada.net/t10-topic‬‬

‫((( التشــكيلية غديــر حافــظ ورســوماتها املبهــرة‪ ،‬مقــال منشــور منــذ تاريــخ‪ 20 :‬مــارس‪2016 ،‬م‪ ،‬علــى‬ ‫موقــع رواد األعمــال‪:‬‬

‫‪https://www.rowadalaamal.com/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%‬‬

‫‪B4%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8‬‬

‫‪%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%BA%D8%AF%D9%8A%D8%B1‬‬‫‪%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8‬‬

‫(( (‬ ‫((( ‬ ‫((( ‬ ‫(( (‬ ‫((( ‬ ‫((( ‬

‫املرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫املرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫محمــد الصــادق‪ ،‬انظــر الرابــط الرقمــي‪ ،‬املتاح للتصفــح‪ ،‬منــذ‪2018-12-13 :‬م‪https://www.aljarida. :‬‬ ‫‪:com/ext/articles/print/1544624471150635200‬‬ ‫املرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫املرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫محمد فتحي‪ :‬التشــكيلية «غدير حافظ»‪ ،‬لوحات دعوة للحق واخلير واجلمال‪ 29 ،‬فبراير ‪2016‬م‪ ،‬على‬ ‫موقــع املدائــن‪http://www.almadaen.com.sa/100079/%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%87 :‬‬ ‫‪%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D9%85%D8%AA%D8%B9-%D8%A8%D8%B5%D8%A8%D8%BA%D8%A9‬‬‫‪%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8‬‬ ‫‪/%A9‬‬

‫((( املرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫(‪ ((1‬حــوار مــع الفنانــة غديــر حافــظ‪ ،‬أجــراه الصحفــي حمــد مصطفــى الغــر‪ ،‬لفائــدة مجلــة اليمامــة‪ ،‬متــاح‬ ‫للتصفــح منــذ‪2017/2/21‬م علــى الرابــط‪http://sites.alriyadh.com/alyamamah/article/1156161 :‬‬

‫‪44‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫الجبال‬ ‫اء‬ ‫ِ‬ ‫حكّ ُ‬

‫نح ً‬ ‫اال!‬ ‫اصا‬ ‫َ‬ ‫وصار ّ‬ ‫الذي كان قنّ ً‬ ‫■ ليلى عبداهلل*‬

‫"نحن قناصون نعم‪ .‬العادة تنادينا‪ .‬الذاكرة تدفعنا إلى العودة إلى كل مكان‬ ‫عشنا فيه من قبل‪ .‬األلفة والشقاء الــذي القيناه في بعض األيــام‪ ،‬كلها أسباب‬ ‫تدفعنا لكي نستمر في رحالتنا‪ ..‬فالوعل ينادينا‪ ،‬هو ما يــزال هناك يهبط من‬ ‫المنحدرات‪ ،‬ويشرب من غــدران الــوادي‪ ،‬ويقف على حدود الجبال وعلى القمم‪،‬‬ ‫يستأنس بأصواتنا فيقترب"‪.‬‬ ‫يمضي الــكــاتــب الــعــمــانــي زه ــران المبشرة التي تــتــراص فــي مناماتهم‬ ‫القاسمي فــي روايــتــه "الــقــنــاص" من اللذيذة‪.‬‬ ‫إصـــــدارات دار مسعى للنشر‪ ،‬إلــى‬

‫إنه يغور في زمن كان القنص فيه‬ ‫مهنة‪ ،‬يكسب القناص من ممارستها‬ ‫قوت أيامه‪ ،‬يحمل تفق السكتون على‬ ‫كتفه وعدة الرحلة‪ ،‬ليمضي أياما تصل‬ ‫ألسابيع بعيدا عن بيته وزوجته وأبنائه‪،‬‬ ‫في عزلة كاملة ليكسب رزقه‪.‬‬

‫في تراكضها‪ ،‬إنها تماثل تلك األحالم‬

‫يسحب القاسمي ُقرّاءه إلى عوالمه‬

‫جلب ذكريات مضمّخة بالبيئة الجبلية‬ ‫العمانية‪ ،‬حيث الطبيعة فــي أخشن‬ ‫تــجــلــيــاتــهــا وأصــلــبــهــا‪ ،‬حــيــث صــعــود‬ ‫منحدرات عالية‪ ،‬يتماهى معها أنفاس‬ ‫الصائدين خلف مطاردة وعول رشيقة‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪45‬‬


‫عبر ثــاثــة فــصــول ج ــاءت محملة بسيرة‬ ‫الــق ـ ّنــاص الــمــدعــو "صــالــح بــن شــيــخــان"‪،‬‬ ‫مستعرضا أطوار حياته التي قضاها جلهّا‬ ‫ً‬ ‫في القنص‪ ،‬مذ كان صب ّيًا صغيرًا برفقة‬ ‫ا فــي أعتاب‬ ‫والـ ــده‪ ..‬إلــى أن أصبح رجــ ً‬ ‫الستين من عمره‪ ،‬مستخدمًا راو ًّيــا عليمًا‬ ‫حين تستدعي التفاصيل الحاضر‪ ،‬وجالبًا‬ ‫ضمير المتكلم بتقنية الــمــونــولــوج حين‬ ‫يستغرق صالح بن شيخان استدعاء طفولته‬ ‫الشيقة في القنص مع والده وعمه سيف‪.‬‬ ‫في الفصل األول‪ ،‬تبدأ الرواية بمقدمة‬ ‫شاعرية تظهر للقارئ الصورة البانورامية‬ ‫لــلــمــكــان‪ ،‬مــكــان الــقــنــص‪ ،‬هــو مــكــان حــيّ‬ ‫ونابض رغم أنه يستدعي سكونًا عميقًا‪،‬‬ ‫ألن الوعول تجفل من أخف األصوات‪ ،‬رغم‬ ‫صخب الطبيعة غير أن القناص يتلو صالة‬ ‫اإلنصات في هيئة هذه المخلوقات‪ .‬وهنا‬ ‫أتساءل‪ :‬هل كانت هذه المقدمة ضرورية‬ ‫ليولج الكاتب قارئه إلى عالم القناص؟‬ ‫كان يمكن لقارئه أن يقتحم عالم الرواية‬ ‫مباشرة من مقطع‪":‬من يرى أول مرة صالح بن‬ ‫شيخان‪ ،‬هــذا الرجل الــذي سيدخل عامه‬ ‫الستين‪ ،‬سوف يخصم من عمره مدة ال تقل‬ ‫عن عشرين سنة‪ ،‬ذلك ألن بنيته الجسدية‬ ‫ما تزال سليمة وقوية‪ ،‬تغطيها بشرة توحي‬ ‫وهو ما يسعد به صالح مع نفسه‪ -‬أنه ما‬‫يزال في عافية الشباب"‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫دروبهم‪ ،‬فوالده يختبر ج ّيدًا هذه الجبال‪،‬‬ ‫وعورتها‪ ،‬شقوقها‪ ،‬لقد صارت هذه الجبال‬ ‫مرتعًا لصالح بن شيخان أيضا‪ ،‬وبات يعرف‬ ‫كل صخرة فيها وشجرة‪.‬‬ ‫يكبر الفتى ويحمل عدّ ته معه‪ ،‬أشياءه‬ ‫التي غدت كرفاق للروح‪ ،‬حتى أن لكل واحد‬ ‫منها اسم‪ ،‬يتراءى غرامه لتسمية أشيائه؛‬ ‫لكسر حدّ ة وحشته في تلك البقاع القاسية‬ ‫إال من تراكض الوعول؛ ففي الفصل الثاني‬ ‫من الرواية يتفاجأ القارئ بصورة صالح بن‬ ‫شيخان‪ ،‬الطفل الذي كان مشدوهً ا برفقة‬ ‫ا كبيرًا يُعرف بين أهل‬ ‫والــده‪ ..‬صار رجـ ً‬ ‫قريته بطباعه الــحــادة والغريبة‪ ،‬يتجنب‬ ‫الحديث مع الناس‪ ،‬حتى إخوته ال يشبهونه‬ ‫في طبعه السمج‪ ،‬لقد صــارت شخصيته‬ ‫محمّلة‪ ،‬ومن يفهم أبعادها يدرك أن الرجل‬ ‫طوال تلك السنين كان يتتبّع حلمه في أن‬ ‫قناصا‪ ،‬ولن يكون كذلك إال حين يقع‬ ‫ً‬ ‫يكون‬ ‫تيس الــوعــل بطلقة تفنقه كما قــال عمه‬ ‫سيف‪ .‬فيبقى هذا الحلم هاجسه الوحيد‬ ‫في الرواية‪ ،‬يمضي إليه دون أن يبالي بأي‬ ‫شيء آخر في العالم من حوله‪.‬‬

‫الصالت االجتماعية في الرواية تسودها‬ ‫الضغينة وتعارك بين األخــوة على مطامع‬ ‫مادية بحتة‪ ،‬لعل الصلة االجتماعية التي‬ ‫توثقت بين صالح بن شيخان كانت مع عمه‬ ‫سيف‪ .‬فقد صار معلمه في القنص بعد أن‬ ‫يــتــراءى لنا في هــذا الفصل صالح بن رحل والــده للعمل في إحدى دول الخليج‪،‬‬ ‫شيخان الطفل الــذي يمضي خلف والــده لقد اتخذه أ ًبــا واتــخــذه العم ابـ ًنــا‪ ،‬وصار‬ ‫ا لــلــنــاس التائهين عن يلقمه قوانين القنص‪ ،‬وخباياها‪.‬‬ ‫الـــذي يــكــون دلــي ـ ً‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫غير أنه ينكفئ وحيدًا‪ ،‬وتكون الجبال‬ ‫التي اعتادها موطئًا موحشً ا بعد أن تخلو‬ ‫مــن قناصيها‪ .‬فقد صــدر ق ــرار حكومي‬ ‫في منتصف السبعينيات يمنع فيها صيد‬ ‫الوعول لحمايتها من االنقراض‪.‬‬ ‫في الفصل الثالث من الــروايــة‪ ،‬تخفت‬ ‫روح المغامرة عند الطفل‪ /‬الرجل‪ ،‬وتتمزق‬ ‫ذكريات الطفولة وهو يرتع بين هذه الجبال‬ ‫مــتــوعـدًا ضحيته رغــم كــل صــكــوك المنع‬ ‫والــوعــيــد‪ ،‬ينتصب أمامنا رجــل يشعر أن‬ ‫عمره يتبدد في انتظار حلمه المستحيل‪.‬‬ ‫وحين يسقط تيس الوعل بطلقة بندقيته‬ ‫تتخبطه أحاسيس غريبة‪ ،‬يتمنى لــو أن‬ ‫وال ــده وعمه أحــيــاء كــي يشهدوا اللحظة‬ ‫قناصا حقيق ّيًا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الخالدة‪ ،‬كيف أنه أصبح‬ ‫كيف قنص هذا التيس وصار من غنائمه؟‬ ‫غير أن إحساسً ا بالخذالن يجتاحه‪ ،‬ويشعر‬ ‫أن حياته كقناص وصلت لنهايتها‪ ،‬فقد صار‬ ‫ال أمامه‪ ،‬ذاك الترقب‪،‬‬ ‫الحلم الموعود ماث ً‬ ‫واالنــتــظــار‪ ،‬والتوجس على مــدار كل تلك‬ ‫السنين انهارت دفعة واحدة" أيها التيس‪ ،‬يا‬ ‫وعل الجبال العالية‪ ،‬يا روحي المنفلتة من‬ ‫أعباء الحياة‪ ،‬ها أنت قد سقطت وتحولت‬ ‫إلــى أش ــاء‪ ،‬لكن هــل حقا كنت أري ــد أن‬ ‫اصطادك؟"‪.‬‬

‫إلى عدة شخصيات لتظهر في روايته "جوع‬ ‫الــعــســل" دار مسعى للنشر‪ ،‬ثــاث رجــال‬

‫نحالين يسعون بكل همة لمطاردة خاليا‬

‫النحل بين شقوق الجبال؛ فقد صارت هي‬ ‫المتنفس الوحيد لهؤالء الذين ترعرعوا‬

‫بين الطبيعة ورضعوا حليبها‪ ":‬حظر صيد‬ ‫الوعول ج ّر معه امتناع الناس عن الحياة‬

‫في الجبل‪ ،‬وبقي العسّ الون هم فقط من‬

‫يذهبون في موسم الربيع بحثا عن العسل‬

‫الجبلي بينما توقفت الحركة"‪.‬‬

‫وك ــان السبيل الــوحــيــد لمداهمة تلك‬

‫يــبــدو أن ه ــذا الــقــنــاص هــجــر القنص الجبال هو في ضخّ اندفاع جديد‪ ،‬وحلت‬ ‫لتداعيات كثيرة منها قانونية ومنها نفسية النحالت محل الوعول‪ ،‬وصارت حلمًا يلهث‬ ‫أيضا‪ .‬وكأن البطل نفسه انشطر واستحال وراءه القناص الذي صار بدوره نحاالً‪.‬‬ ‫ * كاتبة عمانية مقيمة في اإلمارات‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪47‬‬


‫ُ‬ ‫السعودي‬ ‫النسائي‬ ‫التشكيل‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫والمعاصرة‬ ‫األصالة‬ ‫بين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫■ خلف أحمد محمود أبوزيد*‬

‫هناك مقولة للناقد الفني الفرنسي "بودلير" يقول فيها‪" :‬إن فنانينا ارتدوا‬ ‫الـمــابــس الـتــركـيــة‪ -‬فــي إش ــارة إل ــى مــوضــة االس ـت ـشــراق الـتــي ازدهـ ــرت فــي الفن‬ ‫الفرنسي‪-‬والمالبس اليونانية القديمة‪ ،‬وال أحد منهم انتبه إلى جمال مالبسنا‬ ‫الحديثة السوداء‪ ،‬رمز الحداد األبدي"‪ .‬وفي الواقع إن بودلير بمقولته هذه فتح‬ ‫باب ًا واسعاً‪ ،‬في البحث عن الرائع في حركة الواقع‪ ،‬ولكن قبل بودلير‪ ،‬خبر الفنان‬ ‫العربي‪ ،‬تأثير الظاهرة التشكيلية بالظاهرة االجتماعية‪ ،‬ومستويات التفكير‪،‬‬ ‫ولعبت قيم التراث وما أفرزته من عــادات وتقاليد‪ ،‬دور ًا رئيس ًا في إغناء الذاكرة‬ ‫اإلبــداعـيــة‪ ،‬وتشكيل الذائقة الجمالية‪ ،‬إذ انتقلت بما يشبه الميراث من جيل‬ ‫إلي جيل؛ وقد كانت الفنانة التشكيلية السعودية المعاصرة‪ ،‬من أكثر الفنانات‬ ‫التشكيليات الـعــربـيــات‪ ،‬اسـتـلـهــامـ ًا لـمــوضــوع ال ـت ــراث‪ ،‬حـتــى أضـحــى فنها يزخر‬ ‫بأساليب فنية بديعة‪ ،‬تعكس الــروح العصرية بحركاتها الفنية المتنوعة‪ ،‬وفي‬ ‫الوقت نفسه تتصل اتصا ًال قوي ًا بالتراث والبيئة المحلية‪ ،‬والتي تعد من سماتها‬ ‫الواضحة‪.‬‬ ‫جيل الرائدات واستلهام التراث‬

‫‪48‬‬

‫تــجــربــة الــجــيــل األول م ــن الــفــنــانــات‬

‫اتسمت الــحــركــة التشكيلية لجيل التشكيليات الــســعــوديــات‪ ،‬بــدايــة من‬ ‫الرائدات في المملكة العربية السعودية صفية بن زقــر‪ ،‬التي درســت الفن في‬ ‫بالبساطة‪ ،‬التي أخفت وراءه ــا عمقاً الــقــاهــرة ول ــن ــدن‪ ،‬واتــســمــت تجربتها‬ ‫وأصــالــة‪ ،‬في تمثيل الموضوع وإدراك باالتجاه إلى التراث السعودي والنهل‬ ‫ال‬ ‫جوانبه‪ ،‬ونلمس ذلــك جيداً من خالل مــن روافـ ــده‪ ،‬فجعلت مــن فنها سج ً‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫من أعمال الفنانة صفية بن زقر‬

‫ولــنــتــرك صــفــيــة بــن زقـ ــر‪ ،‬إل ــى الفنانة‬ ‫منيرة موصلي رفيقة دربها‪ ،‬وصاحبة أول‬ ‫معرض تشكيلي مشترك مع صفية بن زقر‬ ‫الــذي أقيم في عــام ‪1968‬م‪ ،‬وتمتاز منيرة‬ ‫موصلي بأعمالها الفنية ذات الطابع الواقعي‬ ‫الــرمــزي‪ ،‬الــذي اتجهت فيه إلــى التلخيص‬ ‫بشكل استفادت فيه من المورث البصري‬ ‫الــســعــودي‪ ،‬الـ ــذي ظــهــر جــلــي ـاً فــي معظم‬ ‫لوحاتها التي تالقح فيها الحداثة مع روح‬ ‫التراث السعودي‪ ،‬إذ تعد من أوائل الفنانات‬ ‫التشكيليات السعوديات‪ ،‬التي عبّرت أعمالها‬ ‫المبكرة عن أفكار وأطروحات‪ ،‬تقترب من‬ ‫شكل المشروع‪ ،‬كما في تجربتها التي وظفت‬ ‫لها الخامات المحلية بشكل جديد ومغاير‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ال في تصوير فترة مهمة جداً من تاريخ‬ ‫حاف ً‬ ‫المملكة؛ إذ امــتــازت فــي هــذا االتــجــاه عن‬ ‫جميع الفنانين والفنانات السعوديات في‬ ‫محاولتها بعث هذا التراث من جديد‪ ،‬من أجل‬ ‫االحتفاظ به ألبناء اليوم وأجيال المستقبل‪،‬‬ ‫فأصبحت أعمالها الفنية اليوم مرتكزاً مهماً‬ ‫لعدد من طالب وأساتذة ودارســي كثير من‬ ‫المواد االجتماعية والفكرية والفلسفية‪ ،‬من‬ ‫خالل أعمالها التي استمدتها من التراث‪،‬‬ ‫والــتــي عــبــرت عنها بقولها‪" :‬إليــجــاد مــادة‬ ‫لموضوعاتي الفنية‪ ،‬تشعبت أهتماماتي بين‬ ‫البحث في العادات االجتماعية‪ ،‬والمالبس‬ ‫القديمة‪ ،‬وبين الحصول على الصور القديمة‬ ‫وتصنيفها‪ ،‬حسب مناطقها‪ ،‬لتكون مرجعاً‬ ‫دائماً لي"‪ .‬ولم يكن اهتمامها فقط ينصبُّ‬ ‫في شكل تسجيل هذا التراث‪ ،‬بل امتد فنها‬ ‫وإبداعها لينقل لنا القيم التي كانت معيشة‬

‫في ذلــك الــوقــت‪ ،‬وقــد ظهر ذلــك جلياً في‬ ‫الحرف والعادات واأللعاب‬ ‫أعمالها التي مثلّت ِ‬ ‫الشعبية واألطفال‪ ،‬وفي تصوير موضوعات‬ ‫مختلفة‪ ،‬وكذلك في المجتمع الذي اهتمت‬ ‫بجميع قطاعاته‪ ،‬وتصوير األنشطة الخاصة‬ ‫عدد من األعمال التي‬ ‫بالرجال والنساء في ٍ‬ ‫صــورت فيها نشاطات النساء ومالبسهن‬ ‫وعاداتهن‪ ،‬وإن ما يتضح ويميز تجربة هذه‬ ‫الفنانة أنها تجربة نبعت من التراث‪ ،‬استقلت‬ ‫خاللها وتــحــررت مــن التأثير بــالــمــدارس‬ ‫الشرقية والغربية‪ ،‬واستغنت عن أساليب‬ ‫وفلسفات روادهــا‪ ،‬وكوّنت أسلوبها الخاص‬ ‫الذي يصوّر الحياة التي أصبحنا نفتقدها‬ ‫في أيامنا هذه‪ ،‬وعادت للتراث متخذ ًة منه‬ ‫المادة الرئيسة إلبداع أعمالها‪ ،‬التي حازت‬ ‫على إعجاب الجميع‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫من أعمال الفنانة منيرة موصلي‬

‫التراث في صيغ تحديثية‬

‫‪50‬‬

‫وبعد هذه التجارب الناجحة للجيل األول‬ ‫من الفنانات التشكيليات السعوديات‪ ،‬ازداد‬ ‫النشاط الفني النسائي في المملكة العربية‬ ‫الــســعــوديــة‪ ،‬إذ شــهــدت الحركة التشكيلية‬ ‫النسائية بالمملكة ازدهــاراً كبيراً‪ ،‬وانتشاراً‬ ‫واسعاً‪ ،‬بظهور أسماء نسائية جديدة‪ ،‬جمعت‬ ‫أعمالهن بين التراث والتحديث‪ ،‬عن طريق‬ ‫ال من أشكال التحديث‪،‬‬ ‫إلباس التراث شك ً‬ ‫وفــي الــوقــت نفسه المحافظة على جوهر‬ ‫هذا التراث‪ ،‬ونلمس ذلك في أعمال رائدة‬ ‫عــاشــور الــتــي ب ــرزت فــي أعمالها المدينة‬ ‫العربية ببساطتها وجماليتها‪ ،‬والتي سرعان‬ ‫ما اختارت من تفاصيلها وتقاطعيها‪ ،‬هذا إلى‬ ‫جانب ما امتازت به أعمالها بذاتية شاعرية‬ ‫مليئة بشحنات رومانسية طوّعتها في لوحة‬ ‫الفتة لالنتباه‪ ،‬كما تميزت رائ ــدة عاشور‬ ‫بتناولها لفن "الكوالج الطباعي"‪ ،‬وفن الكوالج‬ ‫فن بصري يقوم على المواءمة بين عناصر‬ ‫وخامات متنافرة ومتنوعة على سطح واحد‪،‬‬ ‫بغية إحــداث نوع من اإلثــارة البصرية بفعل‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫جمع المتناقضات في الحيّز الجمالي‪ ،‬وذلك‬ ‫عبر تقنية القص واللصق‪ ،‬وهو فن يحتاج إلى‬ ‫دقة وصبر متناهيين‪ ،‬لتنسيق اللوحات التي‬ ‫تتناول فيها الــتــراث اإلســامــي والــزخــارف‬ ‫الشرقية والصحراء والكثبان الرملية‪ ،‬وهناك‬ ‫من الفنانات السعوديات من حاولن االنطالق‬ ‫إلى التحديث عبر وسائط ووسائل مختلفة‪،‬‬ ‫كما في أعمال بدرية الناصر وأضواء بنت‬ ‫يــزيــد‪ ،‬وشريفه الــســريــري‪ ،‬ون ــوال مصلي‪،‬‬ ‫ووفاء بريمي‪ ،‬وتغريد الجدعاني‪ ..‬والالئي‬ ‫عبرت أعمالهن عن توجهات جديدة‪ ،‬سعيْ َن‬ ‫من خاللها إلــى البحث عن طبيعة مميزة‬ ‫وشكل جديد من أشكال التعبير الفني‪ ،‬الذي‬ ‫تتزاوج فيه الهندسة بالواقعية الرومانسية‬ ‫المتالحقة عند أغلبهن مــع روح الــتــراث‬ ‫الــســعــودي‪ ،‬كما لجأ العديد مــن الفنانات‬ ‫السعوديات إلى االستفادة من منتجات البيئة‬ ‫المحلية‪ ،‬واستخدامها بصيغ تحديثية‪ ،‬كما‬ ‫في أعمال حميدة السنان‪ ،‬واعتدال عضوي‪،‬‬ ‫وإلهام بامحرز‪ ،‬في استخدامهن العديد من‬ ‫الخامات من المعاجين واألخــشــاب وقطع‬ ‫الــحــديــد واألس ـ ــاك‪ ،‬واألقــمــشــة واألوراق‬


‫خطوات على طريق التحديث‬ ‫لــقــد اســتــطــاعــت الــفــنــانــة التشكيلية‬ ‫السعودية أن تخطو خــطــوات واســعــة على‬ ‫طريق التحديث‪ ،‬وبهذه اللمسة التحديثية‪،‬‬ ‫وبكل ثقلها ومــحــاورهــا المتعددة وغربتها‬ ‫عن المفاهيم والمدركات العادية لإلنسان‬ ‫صاحب الموروثات التقليدية‪ .‬وكــان عليها‬ ‫أن تواكب هذا التحديث‪ ،‬دون فقدان للهوية‬ ‫السعودية ذات السمة الحضارية المحمّلة‬ ‫بهذا اإلرث العظيم‪ .‬ويبرز من بين هؤالء‬ ‫شادية عالم التي تحتل موقعاً متميزاً من‬ ‫التعبيرية العربية المحدثة‪ ،‬من خــال ما‬ ‫تتجول به لوحاتها في مدن وأقنعة وشخوص‬ ‫مؤنثة‪ ،‬حيث بدأت بتصوير ذاتها‪ ،‬ثم أمعنت‬ ‫في التعبير عن توجه واختناق روحها في‬ ‫حجرات انطوائية ساعية للخروج من قمقم‬ ‫الغربة المتوهجة بتحرق وجداني ال تحده‬ ‫حدود‪ ،‬إذ تالمس موهبتها توهجات تشارف‬ ‫حدود الغناء‪ ،‬عالم عاصف بالوحدة والغبطة‬ ‫والطهرانية والعذوبة والخصوبة‪ ،‬وكذلك في‬ ‫أعمال الفنانة وفاء بريمي التي تميل فيها إلى‬ ‫التجريد‪ ،‬بحيث تجعل القارئ ألعمالها يسبح‬ ‫بخياله في اللوحة ليقدم قراءة جديدة للعمل‬ ‫الفني حسب مــا يــصــوره لــه فكره وخياله‪،‬‬ ‫ونلمس هذه الموجة التحديثية في أعمال‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫والحبال والخيوط في تشكيل موضوعات‬ ‫إنسانية‪ ،‬مستخدمات فيها خامات مختلفة‬ ‫تتناسب مــع مختلف األســالــيــب واألشــكــال‬ ‫الفنية التي تترابط مع الــعــادات والتقاليد‬ ‫السعودية المتوارثة‪.‬‬

‫الفنانتين عال حجازي‪ ،‬وحنان حلواني‪ ،‬اللتين‬ ‫استخدمتا لوحات "الحفر" أو "الغرافيك"‪،‬‬ ‫وهــو فــن تشكيلي غير منتشر بشكل كبير‬ ‫في المملكة العربية السعودية‪ ،‬ويمثل تجربة‬ ‫جديدة تحتاج إلى مهارة عالية‪ ،‬وإن ميزة هذا‬

‫من أعمال الفنانة رائدة عاشور‬

‫من أعمال الفنانة نوال مصلى‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪51‬‬


‫من أعمال الفنانة شادية عالم‬

‫الفن تتمثل في القدرة على إدخال األلوان إلى ومعاناتها‪ ،‬وحــاولــت من خــال أعمالها أن‬ ‫اللوحة حتى بعد إنجازها‪ ،‬األمر الذي يبدو تترجم ما بداخل اآلخر برؤية الفنان‪.‬‬ ‫ال في الرسم العادي‪ ،‬ألن اإلحساس‬ ‫مستحي ً‬

‫ال ــذي يــخــرج على ال ــورق ال يمكن تبديله‪،‬‬

‫وأعمال الفنانة "ابتسام عبداهلل باجبير" التي‬ ‫امتازت بتجربة فنية جديدة في الرسم على‬ ‫الحرير‪ ،‬إذ وصلت إلى مستوى جعل أسلوب‬

‫الرسم على الحرير مستوىً رفيعاً من حيث‬ ‫التحكم في خامة الحرير‪ ،‬وبتطويرها إلى‬ ‫استخدام األلوان بحركة ومرونة لم يكن لها‬ ‫مثيل من قبل‪ ،‬وقــد ساعد ذلــك في تقديم‬

‫ص ــور إبــداعــيــة فنية تــتــمــازج فيها جميع‬ ‫الــمــدارس الفنية مــع خامة الــحــريــر‪ ،‬التي‬

‫عرفت بصعوبة ودقة التعامل معها‪ ،‬وأعمال‬

‫الفنانة "وفــاء عبداهلل العقيل" التي برعت‬ ‫فــي تجسيد انــفــعــاالت الــمــرأة ومشاعرها‬ ‫ * كاتب من مصر‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫أخيراً‪،‬‬ ‫كنا مع قراءة للحركة التشكيلية النسائية‬ ‫في المملكة العربية السعودية‪ ،‬والتي ما أن‬ ‫بدأت حركتها األولى مع الجيل األول‪ ،‬حتى‬ ‫أصبح لها موقع متميز‪ ،‬يستحق الثناء في‬ ‫تحوّالت الفن العربي‪ ،‬في ظل بحث الحركة‬ ‫التشكيلية النسائية السعودية الحديثة عن‬ ‫فــضــاءات جــديــدة وتقنيات مبتكرة‪ ،‬األمــر‬ ‫ال ــذي جعلها ال تقل أهمية عــن األعــمــال‬ ‫التشكيلية العظيمة للتشكيل النسائي العربي‬ ‫والــعــالــمــي‪ ،‬مــن خــال تــجــارب تــحــاول شق‬ ‫الطريق الصعب‪ ،‬وتبحث عن أشكال فنية‬ ‫جديدة تمزج األصالة بالمعاصرة‪ .‬وتبحث‬ ‫عن العادي في الواقع العادي‪.‬‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السردي في‪:‬‬ ‫للخطاب‬ ‫المنتجة‬ ‫الذات‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬

‫(عر ُ‬ ‫افة المساء) لشيمة الشمري‬ ‫ّ‬ ‫■ د‪ .‬امحمد امحور*‬

‫عــرافــة ال ـم ـس ــاء(((‪ ،‬ع ـنــوان دال لمجموعة قصصية أبــدعـتـهــا أنــامــل القاصة‬ ‫السعودية‪ ،‬الدكتورة شيمة الشمري‪ ،‬األستاذة بجامعة حائل‪ .‬والعبارة المثبتة على‬ ‫ظهر غالف هذه المجوعة‪( :‬قصص بحجم القلب) تدل داللة صريحة على انتساب‬ ‫هذه المجموعة إلى جنس القصة‪ ،‬وتحديدً ا إلى جنس القصة القصيرة جدا‪ .‬هذا‬ ‫النوع األدبي الذي يمتلك كل مقومات التعبير عمّ ا يحس به قلب اإلنسان‪ ،‬بل ما‬ ‫يعانيه في عالم معقد‪ ،‬ومغلّف بالمكر‪ ،‬والخداع‪ ،‬والنفاق‪ ،‬واألحالم المزيفة‪.‬‬ ‫القاصة في هذا االختيار‬ ‫ّ‬ ‫وقد وفقّت‬

‫تــتــكــون ه ــذه األضــمــومــة مــن أربــع‬

‫األجــنــاســي إلــى حــد كبير؛ إذ جعلت وسبعين قــصــة قــصــيــرة جـــدا‪ .‬كتبت‬ ‫قصصها قصيرة بحجم القلب‪ ،‬وعياً منها بلغة أدبية راقية‪ ،‬تحفز القارئ للتعاون‬

‫بالقيمة األنطولوجية للقصة القصيرة مع الــذات المنتجة للخطاب السردي‬ ‫جدًا في عالقتها بالقلب‪ ،‬مصدر اإلبداع في بناء المعنى‪ ،‬وتــأويــل األيــقــونــات‪،‬‬ ‫واإللهام‪ ،‬ومكمن األحاسيس والمشاعر‪ .‬والــعــامــات‪ ،‬الــتــي يــزخــر بــهــا المتن‬ ‫وال غرو‪ ،‬فالقصة القصيرة لها القدرة القصصي البهي والممتع‪.‬‬

‫الفائقة على اإلنصات الجيد لهمسات‬ ‫القلب وأسراره وحركاته‪.‬‬

‫إن الذات المنتجة للخطاب السردي‬ ‫تــتــفــاعــل مــع ص ــوت اإلن ــس ــان‪ .‬وهــذا‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪53‬‬


‫مؤلفات الشمري‬

‫يدل على أنّ هذه الــذات تتفاعل مع عوالم الطاقة الفنية التي يمتلكها اإلنسان المفعم‬ ‫تخييلية‪ ،‬هي ليست وليدة اللحظة اإلبداعية‪ ،‬بالحياة‪ ،‬والحيوية‪ ،‬والنشاط‪.‬‬ ‫بقدر ما هي تفاعل وحوار مع ذوات إنسانية‬

‫تــقــول ال ــس ــاردة فــي الــقــصــة المعنونة‬

‫أخ ــرى‪ ،‬قــد تــشــارك هــذه ال ــذات أحالمها بـ(مصير)‪:‬‬ ‫وطموحها‪ ،‬وقد تستميلها لتعيش لحظات‬ ‫(تعالى صراخها‪..‬‬ ‫متوترة ومنفعلة‪ ،‬لكونها لحظات من صميم‬ ‫فتاة يافعة بدت كمن ال يشتكي من علة!‬ ‫التخيل‪ ،‬ال تكتفي برصد تفاصيل الواقع‬ ‫ال إبداعيًا ال تتحدث‪..‬‬ ‫المعيش‪ ،‬وإنما تسعى لتحقق فع ً‬

‫بعد أن حررت طاقاتها التخييلية من أبعادها‬

‫‪54‬‬

‫تصرخ فقط‪ !..‬تصرخ وتضرب األرض‬

‫المادية‪ ،‬لتربطها بأبعاد تفاعلية من صميم بيدها‪..‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫عبر فعل القراءة في عوالم تخييلية‪ ،‬تعلي‬ ‫مــن القيم اإلنسانية الكونية‪ .‬ومــا إهــداء‬

‫الــقــاصــة شيمة الــشــمــري هــذه األضمومة‬ ‫الــوارفــة الظالل إلــى اإلنــســان أينما وجد‪،‬‬

‫إال دليل ساطع على انخراطها في فضاء‬ ‫قصصي يطفح بجمال حسي‪ ،‬أعاد االعتبار‬

‫الشمري توقع عرافة المساء‬

‫حضر والدها‪..‬‬ ‫حملها‪..‬‬ ‫ساروا بعيدا‪..‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫إن المتلقي لهذا العمل المائز‪ ،‬سينخرط‬

‫للذات الساردة‪ ،‬لتنطلق بكل عفوية وتلقائية‬

‫في مساجلة المبدعين والفيسبوكيين عبر‬

‫قصصها الجميلة‪ ،‬الــتــي تــرمــز للجمال‪،‬‬ ‫والصفاء‪ ،‬والنقاء‪ ،‬والمحبة الدائمة‪.‬‬

‫إن تفاعل ال ــذات الــســاردة مــع السيدة‬

‫ومــا زال صــراخــهــا حــاضــرا‪ ..‬ومــا زال األنيقة الهادئة في قصة (فضفضة)(((‪ ،‬هو‬ ‫في حقيقة األمــر رغبة ملحة في استعادة‬ ‫صوتها يزورني كل مساء!)(((‪.‬‬ ‫الزمن الجميل‪.‬‬ ‫إن الــقــارئ الــمــؤهــل لــتــأويــل مــثــل هــذه‬ ‫واحتفاء بهذا الزمن‪ ،‬مجسّ دًا في أحالم‬ ‫المقاطع السردية‪ ،‬هو القارئ الــذي راكم‬ ‫ال موسوعيًا حول القصة القصيرة جدا‪ ،‬الــطــفــولــة‪ .‬ثــم ان ه ــذه الــــذات ال تكتفي‬ ‫سج ً‬ ‫فــالــذات الــســاردة قــد أج ــادت رســم مالمح باستعادة ذكريات الطفولة‪ ،‬وإنما تعيد إنتاج‬

‫شخصية فتاة يافعة‪ ،‬انهكها الصراخ واألنين الحلم انطالقا من حاضر بئيس‪ ،‬يتنكر للقيم‬ ‫اإلنسانية الكونية‪ ،‬ويع ُّم فيه الصراخ والبكاء‪،‬‬ ‫وهي تنتظر في قاعة االنتظار‪.‬‬ ‫ولــم يكن من الهيّن أن تجيد رســم هذه‬

‫المالمح‪ ،‬لوال أن الذات الساردة قد تفاعلت‬

‫والــحــركــات المفاجئة‪ ،‬واالرتــفــاع السريع‪،‬‬ ‫والــهــبــوط األسـ ــرع؛ إنــه زمــن رديء بشكل‬

‫سافر‪ ،‬فال غرو أن تعود المرأة إلى حالة‬

‫مع اإلنسان المرهف الحواس والمشاعر‪،‬‬ ‫وتكف عن البكاء والصراخ‬ ‫ّ‬ ‫واستشعرت المواقف اإلنسانية النبيلة‪ ،‬ومن الهدوء المعتاد‪،‬‬ ‫ثم ليس غريبا أن تظل صــورة هــذه الفتاة اللذين ال يجديان في زمن الحروب المشتعلة‬ ‫اليافعة عالقة في الذهن والــوجــدان؛ لقد في كل حدب وصوب‪.‬‬ ‫رحلت هذه الفتاة‪ ،‬لكن صوتها يظل يسكن‬

‫الذات الساردة إلى األبد‪.‬‬

‫وعبر فعل السرد تنفذ الذات الساردة إلى‬

‫هذا الواقع الجريح‪ ،‬باحثة عن وعي ممكن‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪55‬‬


‫تشيده‪ ،‬انطالقا من حــوار عميق ورصين صــوغ األفعال السردية من منظور جديد‪،‬‬

‫مع اآلخر الذي ترفضه‪ ،‬وتنفصل عنه‪ ،‬ألنه يعيد للفضاءات المكانية بهاءها ورونقها‪،‬‬ ‫يتعالى عن القيم اإلنسانية والكونية‪ .‬على ألنها تسلط مــزي ـدًا مــن الــضــوء على هذه‬ ‫حــد تعبير ســارتــر‪( :‬قتلوني‪ ..‬قطعوني‪ ..‬الذات المتوترة والمنفعلة‪ ،‬التي تندد بالقتل‬ ‫مزقوني هؤالء المساكين دفنوا أشالئي كل وتشيد بأحالم الطفولة‪ ،‬وتتغنى بالحرية‬

‫جزء في مدينة‪ ..‬غمروني بالتراب مفرقا‪ ..‬عبر إعادة إنتاج الحلم‪.‬‬ ‫حتى أكون عبرة لعيون خائفة وقلوب ترفض‬ ‫تقول الــســاردة مندِّدة بالقتل في قصة‪:‬‬ ‫الحياة!!)‪.‬‬ ‫(جبالن من الــحــب)‪( :‬عــرفــوا بأمرهما‪!..‬‬ ‫إن الذات الساردة في هذا المقطع‪ ،‬وغيره اســتــنــكــروا ال ــل ــق ــاء‪ ..‬نـــــددوا بــالــنــظــرات‬ ‫من المقاطع السردية‪ ،‬ذاتٌ تفاعلية مع هذا البيضات‪ ..‬أمسكوا بهما‪ ..‬قــال‪ :‬أحبها؛‬ ‫اآلخــر المستفز لهذه الــذات‪ ،‬التي تنتصر قطعوا لسانه! هرعت إلــيــه‪ ..‬صــوبــوا إلى‬ ‫للقيم اإلنسانية وتتعاطف مع اإلنسان أينما قلبها السهام‪ !..‬قتلوهما على مرأى ومسمع‬ ‫وجد‪ ،‬عبر اإلنصات المرهف النطباعاته‪ ،‬من هذا الكون الصامت‪.((()..‬‬

‫ومواقفه اإليجابية‪.‬‬

‫وهذا اإلنصات المرهف يقتضي طاقات‬

‫إبداعية‪ ،‬وتعبيرية‪ ،‬وتخييلية‪ ،‬تسمح للذات‬

‫المنتجة للخطاب الــســردي بــإدمــاج هذا‬ ‫الخطاب في البنية السردية القابلة للتحليل‪،‬‬ ‫والــكــشــف عــن الــنــســق الــضــمــنــي للقصة‪،‬‬

‫نصا إبداعيًا مفتوحً ا على األنماط‬ ‫بوصفها ً‬ ‫السردية الحديثة والمعاصرة‪.‬‬

‫إن الذات المنتجة للخطاب السردي تظل‬

‫حاضرة بقوة‪ ،‬في جميع النصوص القصصية‬

‫المشكلة لهذه المجموعة‪ ،‬تحضر من خالل‬ ‫اللغة اإلبــداعــيــة الــتــي تتماهى مــع عوالم‬

‫الذات‪ ،‬بوصفه فعال من صميم التخيل‪ .‬ثم‬

‫إن السجل الموسوعي للقارئ الذي يستضمر‬

‫‪56‬‬

‫قوانين اللغة الشعرية االنزياحية‪ ،‬إلعــادة‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫وتقول مشيدة بأحالم الطفولة‪( :‬وبعد‬


‫واستعادت هدوءها المعتاد)(((‪.‬‬

‫ليلة‪ ..‬تجلس الفتاة أمام التلفاز‪ ..‬وحيدة في‬

‫ال تتوانى الــســاردة في التغنّي بالحرية منتصف األرق‪ ..‬تتابع فيلما يحكي عن هجرة‬ ‫في مقاطع سردية مختلفة أبرزها القصة الطيور‪ !..‬الفتاة تلك كانت يافعة في الثامنة‬ ‫المعنونة ب (عزم)‪ ،‬تقول الساردة على لسان عشر ربيعا‪ ،‬عندما قفزت ذات حلم من الدور‬ ‫الــذات المنفعلة والمتوترة بهموم اإلنسان الخامس!!)(((‪.‬‬

‫وشــجــونــه‪( :‬عــنــدمــا زج ــوا بــي فــي القفص‬

‫إن األبــعــاد التفاعلية لهذه المجموعة‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫أن انتهت اللعبة‪ ..‬كفكفت دموعها ثم نزلت‪،‬‬

‫تقول الساردة في قصة (محاولة)‪( :‬كل‬

‫مــع رفــقــاء التحليق‪ ..‬لــم أشغل نفسي إال القصصية تقتضي قارئًا نموذجيًا‪ ،‬سيقرأها‬

‫نصا واحدًا ال يقبل التجزئة‪ ،‬ما دامت‬ ‫برسم جناحين بلون الحرية‪ ..‬وبوابة باتجاه بوصفها ً‬ ‫السماء‪.((()!..‬‬

‫الذات المنتجة للخطاب السردي تحضر من‬

‫إن مثل هــذه المقاطع السردية البهية خــال اللغة اإلبــداعــيــة الخصبة‪ ،‬وتحضر‬ ‫والممتعة‪ ،‬هــي التي لملمت جــراح الــذات كذلك من خالل المعارف‪ ،‬والخبرات‪ ،‬التي‬

‫المبدعة‪ ،‬التي انخرطت بكل عفوية وتلقائية استقتها القاصة شيمة الشمري من بطون‬ ‫في إعادة إنتاج الحلم‪ ،‬تحفزها رغبة جامحة أمهات الكتب‪ ،‬وكونت من خاللها رؤية العالم‪،‬‬ ‫في نقل أحــداث ووقــائــع‪ ،‬تجد سندها في بأسلوب رصين ومائز‪ ،‬يستجيب للذوق العام‬ ‫الواقع العربي الجريح‪ ،‬فكل مقطع سردي األدبــي‪ ،‬ويحافظ على تقاليد الكتابة‪ ،‬كما‬

‫يضمر حـــوارًا عميقًا ورصــيـ ًنــا مــع أخْ يلة رسخها رواد ُكتّاب القصة‪.‬‬ ‫مفترضة‪ ،‬تتفاعل بدورها مع عوالم نصية‪،‬‬

‫وهي بحق وحقيقة رائدة القصة القصيرة‬

‫تنهل من البيئة العربية السعودية التي ارتوت جدا عن جدارة واستحقاق‪ ،‬إنها تخلق عالمها‬ ‫المؤلفة بمائها‪ ،‬واكتوت بنارها واستنشقت الخاص‪ ،‬مراودة سحر الكلمة‪ ،‬وهي تحاور‬

‫رحيقها سنين عددا‪.‬‬

‫األنساق الثقافية السائدة؛ وهذا ال يعني أنها‬

‫انــخــرطــت ال ــذات الــســاردة فــي دوالــيــب تنساق وراء هذه األنساق‪ ،‬بل إنها بقدراتها‬ ‫الكتابة القصصية‪ ،‬وأع ــادت إنتاج الحلم‪ ،‬اإلبداعية الفائقة‪ ،‬تشيد نسقها الخاص‪،‬‬

‫اعــتــمــادًا على مــتـ ٍـن غــنــيٍّ ومــتــنــوع‪ ،‬يحاور عبر استلهام روح الحكاية‪ ،‬وإخضاع منطق‬ ‫األنساق الثقافية السائدة‪ ،‬ويعبّر عن روح السرد للزمن المعاصر‪ ،‬إذ ال يزال اإلنسان‬ ‫العصر‪ ،‬في تعالقه الممكن مع المتخيل الذي يطمح إلى إثبات الذات بعد الوجود‪.‬‬

‫أتاح للذات أن تعبّر عن أعماقها‪ ،‬وما يختلج‬ ‫في وجدانها‪.‬‬

‫وال غــرابــة إذا وجــدنــا ال ــذات المنتجة‬

‫للخطاب السردي‪ ،‬تجرد من عالمها السردي‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪57‬‬


‫ذوا ًت ــا إنسانية‪ ،‬تخلق معها ح ــوارًا رصينًا نفسها‪ ،‬الــتــي تتمتع بها الـــذات المنتجة‬

‫وممتعا‪ ،‬يعيد لهذه الذات ألقها وقلقها‪.‬‬

‫للخطاب الــســردي‪ ،‬وكالهما يتعاونان من‬

‫تقرأ في قصة (موناليزا) ‪" :‬تجلس متأملة أجل تحقيق النص‪ ،‬إ ْن عن طريق التوليد أو‬ ‫مالمحهم‪ ..‬وحركاتهم‪ ..‬في عينيها حزن التأويل‪.‬‬ ‫وغموض‪ ..‬وعلى شفتيها ابتسامة مغتصبة‪..‬‬

‫إن هــذه المجموعة القصصية تقترح‬

‫كأنها تتأهب لعمل جنوني‪ ..‬ربما تقفز خارج ع ــام ــات ســيــمــيــائــيــة‪( :‬الــربــيــع األحــمــر‪،‬‬ ‫أسوار اللوحة!"(((‪.‬‬ ‫الجداول الحمراء‪ ،‬ألواح الشوكوالتة‪ ،‬األسد‪،‬‬ ‫يتضح من خالل هذه القصة أن المبدعة الفراشة‪ ،‬األصداف‪ ،‬البحر‪ ،‬التفاحة‪ ،‬القطة‬ ‫شــيــمــة الــشــمــري‪ ،‬ق ــد ســخــرت طــاقــاتــهــا المشاكسة‪ ،‬الصمغ‪ ،‬النوارس‪ ،‬الورود‪ ،)..‬هي‬

‫اإلبــداعــيــة والتخيلية‪ ،‬لتجريب إمكانات بمثابة مؤشرات تساعد القارئ المفترض‬ ‫سردية تنهل من اللوحات الفنية المشهورة‪ ،‬على إعادة بناء النص وتحيينه‪ ،‬وتحقيق فعل‬ ‫وإعادة تشكيلها وبلورتها‪ ،‬انطالقا من الواقع السرد؛ فهي نسيج من الفضاءات البيضاء‪،‬‬ ‫الكائن‪ ،‬الذي يرفض االنغالق على الثقافة والفجوات التي تنتظر من يمألها‪.‬‬

‫النمطية الضيقة‪ ،‬ويحفز الــذات المبدعة‬

‫إن القصة القصيرة جدا في هذا السياق‬

‫على االنــخــراط فــي سلسلة مــن األحــداث تعيش على فائض المعنى‪ .‬والمبدعة شيمة‬ ‫الممكنة‪ ،‬إ ْن على مستوى بناء القواعد‪ ،‬الشمري تعوِّل على قارئ يملك الموسوعة‬ ‫والوحدات‪ ،‬والمواصفات النصية‪ ،‬المشكلة األدبية لبناء ومــلء الفضاءات والفجوات‪،‬‬ ‫للنسق الضمني للقصة القصيرة جــدا‪ ،‬أو والفراغات والبياضات‪ ،‬ألن وظيفتها ليست‬

‫على مستوى اختيار اللغة ونمط الموسوعة‪ ،‬تعليمية‪ ،‬بل جمالية‪ ،‬تترك للقارئ المبادرة‬ ‫والمعجم واألسلوب‪.‬‬ ‫التأويلية لخلخلة معنى الزمن في مختلف‬ ‫ومــن ثــم‪ ،‬فــإن الــقــارئ يتمتع بالقدرات تشكالته‪.‬‬

‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬ ‫((( الشمري‪ ،‬شيمة‪ :‬عرافة املساء‪ ،‬منشورات نادي الباحة األدبي ودار االنتشار ببيروت‪2014 ،‬م‬ ‫((( ص‪13-12‬‬ ‫((( ص‪21‬‬ ‫((( ص‪19‬‬ ‫((( ص‪21‬‬ ‫((( ص ‪27‬‬ ‫((( ص‪29‬‬ ‫((( ص‪117‬‬

‫‪58‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ارتجاف الحسرات في مهاوي الذات‬ ‫عند الشاعر المغربي محمد بنميلود‬ ‫"كل أصدقائي شعراء موتى‬ ‫إال إن قصائدهم ما تزال حيّة"‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ٌ‬ ‫قراءة في الصفحات الزرقاء‬

‫■ جناة الزباير*‬

‫تأنَّ قليال وأنت تفتح باب قصائده‪ ،‬قد تخاله طفال يلهو بقطعة غيم‪ ،‬أو جنديا‬ ‫يكتب بدم الكون عذاباته‪.‬‬ ‫محمد بنميلود‪ ،‬هــذا الشاعر الــذي يأخذ البياض بتالبيب حبره‪ ،‬كي يكتب‬ ‫بدمع أصابعه عن شتاء مُ ٍّر يقيم بين أطراف روحه‪.‬‬ ‫فهل هو ذلك الشاعر الذي يلعب بأوتار الريح‪ ،‬فتأخذنا عباراته نحو هذا المدى‬ ‫العاري‪ ،‬حيث تتناثر كأس األحالم شظايا ال يجمعها غير خيط ناي حزين؟ أم هو‬ ‫ذلك المستحمّ بماء القلق‪ ،‬أنى اتجهت ركائبه انمحق؟‬ ‫انخطاف فوق شفاه اللغة‬ ‫فوق كتفيِّ التمرد تسافر قصائده‪،‬‬

‫الطويل أال أنجلي)‪.‬‬ ‫يقول‪:‬‬

‫حاملة قيثارة الذين عبروا أرض الروح‪ ،‬كثيرون ذهبوا‪،‬‬ ‫إذ ال تسمع غير صــدى خطاهم وهي وكان الشتاء يبلل أضواء النيون‪،‬‬ ‫تتأوه بين أنامله‪ ،‬مط ً‬ ‫ال من سور شريد ومعاطفنا قصيرة على الرعشات‪،‬‬

‫على شمس غــادرت صهوة النهار‪ .‬فال ووقـ ـفـ ـن ــا ن ـت ــوس ــل إل ـي ـه ــم ب ـن ـظــرات ـنــا‬ ‫نكاد نرى غير آثار ضائعة في الالمكان‪ ،‬المبلولة‪..‬‬ ‫تردد مع امرئ القيس‪( :‬أال أيها الليل كثيرون انعكسوا فــي صفاء دموعنا‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪59‬‬


‫وهم يبتعدون دون التفات‪..‬‬ ‫عادت الفصول في أوانها‪،‬‬ ‫ع ـ ــادت ال ـط ـي ــور‪ ،‬وأزهـ ـ ــر األصـ ـي ــص‪ ،‬عند‬ ‫النافذة ‪..‬‬ ‫ولم يعودوا‪.‬‬ ‫(من قصيدة «الوداع»)‬ ‫يختزل الشاعر المتمرس بنميلود آالمه‬ ‫فــي سياق لغوي شــفــاف‪ ،‬فقوته الرؤيوية‬ ‫للواقع‪ ،‬تجعلنا نمشي على ضوء هذه النزعة‬ ‫الدرامية كي نتوغّ ل في الظاهر المرئي‪،‬‬ ‫حيث يشحن مجموعة من الــدالالت ليعبر‬ ‫عن معاناةٍ تُحَ وِّل النص الشعري إلى موت‬ ‫مــرتــقــب‪ ،‬ثــائــرا على الــحــيــاة العبثية التي‬ ‫تحصد أرواح األبــريــاء المشنوقين بحبال‬ ‫الفقر والجوع والتشرد‪.‬‬ ‫يقول (في قصيدة «الوداع»)‪:‬‬

‫كثيرون‪ ،‬كثيرون‬ ‫ناموا كاألطفال على أسرّة العجزة‬ ‫لم نسمع أنينهم في الليل‬ ‫لــم يطلبوا م ــاءً وال دواء وال حكاية نوم‬ ‫أخيرة‪..‬‬ ‫وفي الصباح‪،‬‬ ‫حين أشرقت الشمس‪،‬‬ ‫ورفرفت الفراشات في الحديقة من خلف‬ ‫زجاج المطابخ‪،‬‬ ‫وكان نهارا جميالً‪،‬‬ ‫وصباح ًا مستسلم ًا لرائحة البن‪،‬‬ ‫لم يستيقظوا‪..‬‬ ‫لم يستيقظوا أبدا‪! ..‬‬ ‫‪60‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫الشاعر المغربي محمد بنميلود‬

‫تــتــاءم األصـ ــوات وتنسجم داخ ــل هذه‬ ‫القصيدة التي حــاول من خاللها الشاعر‬ ‫ترجمة انفعاله النفسي‪ ،‬موظفًا التكرار‬ ‫بوصفه قيمة جمالية‪ .‬هكذا نجد تكرار‬ ‫كل من ( كثيرون‪ ،‬كثيرون الصباح‪ ،‬صباحا‬ ‫يستيقظوا‪ ،‬يستيقظوا)‪ ،‬فجرس هذا التكرار‬ ‫اللفظي‪ ،‬يكثف الــداللــة اإليحائية‪ ،‬ويمنح‬ ‫للقارئ مساحة حرة للتفاعل مع اإليقاعات‬ ‫التعبيرية المُتناولة‪ ،‬والتفكير في المفردات‬ ‫التي تحمل إيحاء نفسيًا مفعمًا بالعواطف‪.‬‬ ‫فالدكتورة أماني سليمان داود تــرى أن‬ ‫الــتــكــرار يضفي «ضــربــات إيقاعية مميزة‬ ‫تحس بها األذن فقط‪ ،‬بــل ينفعل معها‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫الوجدان كله؛ ما ينفي أن يكون هذا التكرار‬ ‫ضعفا في طبع الشاعر أو نقصا في أدواته‬ ‫الفنية‪ ،‬فهو نمط أسلوبي له ما يسنده في‬ ‫(‪)١‬‬ ‫إطار الداللة‪».‬‬ ‫هذا التكرار الذي يضع الــذات الساردة‬ ‫في بؤرة داللية كي تخلق نوعا من االمتداد‬


‫فمن خالل رحلته الشعرية ال نلمس غير‬ ‫فكما قال شارل بدلير في قصيدته‬ ‫الخيبة وانكسار األح ــام‪ ،‬فهل هي نزعة ‪ / MORT DES PAUVRES‬موت الفقراء‪:‬‬ ‫تشاؤمية استوطنت وجدان الشاعر العربي إنه الموت الذي يعزّي واحسرتاه‬ ‫المعاصر؟‬

‫‪LA‬‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫إن الحركات الداخلية للقصيدة تستحضر‬ ‫داخل النص‪ .‬إنها ترجمة للمعاني الدفينة‬ ‫التي تقول الــذات واآلخــر من خــال جمل هزة عاطفية‪ ،‬تقدم في عُجالة مؤلمة حكمة‬ ‫انسيابية تعزز جماليته‪ ،‬الستقطاب اهتمام الشاعر التي استخلصها من عذاباته‪:‬‬ ‫المتلقي من خالل رفع مستوى اإلحساس علينا أن نألف الوداعات‬ ‫بالقصيدة‪.‬‬ ‫كما نألف أسرّة نومنا)‪.‬‬

‫وهو الذي يحملنا على الحياة‪.‬‬

‫يقول‪:‬‬

‫بكثير من الصمت‬ ‫والحنو‬ ‫والنظرات الطويلة إلى األبواب‬ ‫وإلى الغمام فوق محطات القطارات‬ ‫وفوق المقابر في أواخر الخريف‬ ‫وبالموسيقى التي بال أغان‬ ‫وبال راقصين‬ ‫علينا أن نألف الوداعات‬ ‫كما نألف ِأسرّة نومنا‪.‬‬

‫الشاعر المغربي محمد بنميلود‬

‫ضوضاء الذات‬ ‫يسرق الشاعر بنميلود الدهشة وهو يدعو‬ ‫القارئ كي يدخل إلى مدنه الجريحة التي‬ ‫تقرأ أســرار العواصف‪ ،‬فلماذا يضرب لنا‬ ‫موعدًا فوق سهول ومرتفعات تمشي فيها‬ ‫القصيدة كدموع الشموع‪ ،‬يجتاحه غضب‬ ‫شتوي مثل غجري طريد‪..‬؟‬ ‫يقول‪:‬‬

‫أنا شاعر من الطبقة الغاضبة‬ ‫من العمال المسرّحين من الخدمة‬ ‫والجنود الذين يكرهون الجنراالت‬ ‫والـنـجــاريــن الــذيــن ال يملكون ورش ــة وال‬ ‫أدوات نجارة‬ ‫والـيـســاريـيــن المتطرفين الــذيــن أنهكت‬ ‫الزنازين السرية أجسادهم‬ ‫ولم تنهك أرواحهم‪.‬‬ ‫إن (األن ــا) ال ُم َغيَّبة داخــل البياض‪ ،‬قد‬ ‫خلقت توازيًا مع المتن الظاهر‪ ،‬فبين إظهارها‬ ‫وإضمارها يجسد النص فعل الهوية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪61‬‬


‫والشاعر؛ هو ذلك المتعدد في الواحد‬ ‫الذي يتنفس آالم البسطاء والمطحونين بين‬ ‫فكي رحى الوطن‪ .‬إذ على أنقاض اإلنسانية‬ ‫المفتقدة يشرب قهوة تــمــرده تــاركــا قلقه‬ ‫الوجودي كي يُفرد أجنحته المكسورة بين‬ ‫ثنايا واقع يستمد منه صورَه الحسية‪.‬‬ ‫يقول في أحد حواراته‪« :‬الكتابة الشعرية‬ ‫بــاألســاس هــي مــوقــف ص ــارم وواضـــح من‬ ‫العالم‪ ،‬ومن الوجود‪ ،‬ومن السلطة‪ ،‬مفارق‬ ‫وصدامي‪ ،‬ويقدم بديال جماليا‪ ،‬ضد القبح‪،‬‬ ‫وض ــد السلطة والــظــلــم والــجــهــل‪ ،‬ويــكــون‬ ‫انتصارًا للحق والمعرفة والعدالة واإلنسان‪.‬‬ ‫كل شعر أو أدب يفتقد لذلك يعاد فيه النظر‬ ‫في نظري»(‪.)٢‬‬ ‫لكن؛ كيف سينساب الرماد النحيل من‬ ‫كفيه وهو ذاهب إلى الالمكان؟‬ ‫لوحة من مرارة االغتراب‬ ‫إن الشعر؛ هو ذلك الجسر الضوئي الذي‬ ‫يمد حبال جماله بين الشاعر والقارئ‪ ،‬فبين‬ ‫نوتاته يتدفق ظله نهرًا مــحــاوالً أن يغسل‬ ‫أوجاع األرض‪.‬‬ ‫ولكن؛ ماذا لو فرَّت الحروف أسرابًا مثل‬ ‫فجر بعيد؟‬ ‫يائسة نحو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫غزالة‬ ‫ٍ‬ ‫يقول‪:‬‬

‫عبر المسرب الغامض‬ ‫لم يعد لي مكان هنا‬ ‫ولم يعد لي مكان في أي مكان‬ ‫عيناي حزينتان‬ ‫‪62‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫قرنفل قديم‬ ‫ٍ‬ ‫كرائحة‬ ‫مدقوق بالزلزال‬ ‫ٍ‬ ‫يتخطفني‬ ‫ّ‬ ‫ضباب‬ ‫باب حديدي ألطالل دارنا الميتة‬ ‫الحجرات تحت األرض‬ ‫ُ‬ ‫وعلى العتبة تجلس حياتي‬ ‫سيجدونني معلقا في شجرة المدخل‬ ‫بحبل البرق‬ ‫ألصير غصنًا يابسا‬ ‫شبحا من حفيف‬ ‫ً‬ ‫ريشة الطائر الشتوي الحزين‬ ‫الثمرة المشنوقة‬ ‫التي ترعب العالم‪.‬‬ ‫من قصيدة « أنا ذاهب اآلن»‬ ‫إن أغلب قصائد الشاعر محمد بنميلود‪،‬‬ ‫مراثي ألحــام موغلة في المرارة والوجع‪،‬‬ ‫وتــعــب هــائــم فــي فــلــوات الــــروح‪ .‬فــهــل هو‬ ‫اغتراب نفسي في أقصى تمزقه؟‬ ‫يقول‪:‬‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫إننا نحبك أيتها المدن المشلولة التي إلى خرائب المدن‬ ‫أتكئ على الجدران األخيرة‬ ‫ولدتنا والدة عسيرة‬ ‫وطردتنا كما تفطم الوحوش صغارها في ال ألستريح‬ ‫بل ألسندها‪.‬‬ ‫العاصفة‬ ‫ونحن نغادر‬ ‫فهل نحن أمام تجربة متفردة تالكم الواقع‬ ‫في قطار المحرقة القديم‬ ‫بقفازات شعرية؟‬ ‫في العربات األخيرة‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫أو على نعش‬ ‫«أ ُكتبْ كأنّك داخل حلبة المالكمة‪ /‬في‬ ‫نلوح لك بمناديل الغرباء‬ ‫جولة أخيرة‪ /‬مُخفيًا مسامير في القفّازات‪/‬‬ ‫الذين بال عائالت‪.‬‬ ‫كمن يصفّي بــوســاخــة حــســا ًبــا وســخً ــا مع‬ ‫يدخلنا الشاعر إلى كهف مرعب وقاتم‪،‬‬ ‫الوجود»(‪.)٤‬‬ ‫تــتــحــرك فــيــه ع ــب ــارات تُــســقــط ف ــي ذات ــه‬ ‫هــكــذا يكتب الــشــاعــر محمد بنميلود‬ ‫أحاسيس حزينة‪ ،‬مستعمال كلمات دالة على‬ ‫الشجن الرهيب (المدن المشلولة‪ /‬نعش‪ /‬بــحــرقــة ووعـــــي‪ ،‬فــشــعــره صـــدى ألزمـــات‬ ‫الوحوش‪ /‬العاصفة ‪ /‬الغرباء‪ /‬بال عائالت)‪ .‬المواطن المطحون‪ ،‬وكأنه يقول مع الشاعر‬ ‫عبدالمعطي حجازي في قصيدته «ميالد‬ ‫إنها المدينة التي تطرد أبــنــاءهــا رغم‬ ‫الكلمات»(‪:)٥‬‬ ‫حبهم لها‪ ،‬فتسقط أقنعتها القاتمة تباعً ا‬ ‫الكلمة تنمو بالدمعة‬ ‫وهي تدوس بأقدام الالمباالة قلب الشاعر‬ ‫وليزرعها كل شقي مثلي‪ ،‬عرف الجوع‪،‬‬ ‫المرهف‪.‬‬ ‫يــذكــرنــا هــذا بما قــالــه الــشــاعــر صالح‬ ‫عبدالصبور فــي «مــذكــرات الصوفي بشر‬ ‫الحافي»(‪:)٣‬‬

‫وعذابات الحب الخاسر‪.‬‬

‫قدح من ماء السرد‬

‫نــجــد ف ــي جــغــرافــيــا الــشــعــر الــمــغــربــي‬ ‫المعاصر شعراء عانقوا التجارب اإلنسانية‬ ‫ها أنت ترى الدنيا من قمة وجدك‬ ‫مــن خــال خطاب يلج الفضاء الحكائي‪.‬‬ ‫ال تبصر إال األنقاض السوداء‪.‬‬ ‫ويشتغل الشاعر‪ /‬الــســارد محمد بنميلود‬ ‫هــذه األنــقــاض الــتــي يسندها الشاعر‬ ‫على السرد المباشر في العديد من نصوصه‬ ‫محمد بنميلود بقصائده‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫بعيدًا عن اللغة الكثيفة الموغلة في المجاز‪،‬‬ ‫في المساء‬ ‫منصهرًا فــي لغة اليومي الغنية ببساطة‬ ‫عائدا بصمت الخاسر‬ ‫كلماتها‪ .‬متجاوزًا تعبيره الذاتي نحو أفق‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪63‬‬


‫مشبع بتفاصيل يتقاذفها الزمن الماضي قــاتــمــة‪ ،‬ترجمها معجم دال عــلــى الفقد‬ ‫ٍ‬ ‫والحاضر‪.‬‬ ‫والضياع مثل‪( :‬كانت لنا بالد‪ ،‬بيت‪ ،‬عائلة‪،‬‬ ‫ضــبــاب‪ ..‬غطى الــعــالــم‪ ،‬لــم نجد العالم‪،‬‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫منازلنا محطات الــقــطــارات‪ ،)..‬إذ وظف‬ ‫كانت لنا بالد‬ ‫ـص موضوعً ا إنسانيًا يرمي‬ ‫حكاية تُــشَ ــخِّ ـ ُ‬ ‫كان لنا بيت‬ ‫بظالله على ما يجري في كل البالد العربية‬ ‫كـ ــانـ ــت لـ ـن ــا ع ــائـ ـل ــة وإخـ ـ ـ ـ ــوة ص ـ ـغـ ــار مــن‬ ‫التي اغتصبت حريتها‪ ،‬ليصبح العالم رقعة‬ ‫الكريستال‬ ‫شطرنج صغيرة تضيق فيها أنفاسه‪ ،‬حتى‬ ‫ٍ‬ ‫لكن الضباب جاء وغطى العالم‬ ‫فقد اإلحساس باألمان‪( .‬وننام بعين واحدة)‪.‬‬

‫وحين انقشع الضباب‬ ‫لم نجد العالم‬ ‫نجلس كل مرة على رصيف سكة بعيدة‬ ‫بحقيبة واحدة‬ ‫دون أن نكون قد أتينا من مكان‬ ‫أو ذاهبين إلى مكان‬ ‫منازلنا محطات القطارات البطيئة‬ ‫مـ ـط ــارات ع ـلــى أط ـ ــراف ال ـم ــدن بـسـقــوف‬ ‫عالية‬ ‫ومراس فسيحة للسفن في الشتاء‬ ‫ٍ‬ ‫منازلنا محطات‬ ‫وأهلنا المسافرون‬ ‫نتوسد حقائبنا‬ ‫وننام بعين واحدة‬ ‫محاذرين أن يسرق اللصوص بريق‬ ‫الكريستال‪.‬‬

‫يقول مستحضرا قول الشاعر‪:‬‬

‫بإحدَى مُ قْ َل َتيْهِ َو َي َت ِّقى‬ ‫َينَامُ ْ‬ ‫بِ أ ُْخرَى الْمَ نَايَا فَهْ َو يَقْ ظَ انُ نَائِ مُ‬ ‫فبين تناقضات الــعــالــم‪ ،‬تــنــاثــرت ذات‬ ‫الشاعر المقهورة فوق عتبة الوجود‪ ،‬لتتسكع‬ ‫قصائده خــارج الــسِّ ــرب‪ ،‬مرفرفة في أفق‬ ‫س ــردي يتنامى عــن طــريــق لــغـ ٍـة تنهل من‬ ‫معجم نفسي غني بصور فنية‪ ،‬تحاول هدم‬ ‫الواقع المعاش لبناء آخر من خالل التخييل‪،‬‬ ‫فتتحول القصائد إلى أغنية خريفية ترمي‬ ‫بظاللها على فضاء مليء بالخيبات‪.‬‬ ‫يقول‪:‬‬

‫العالم كله‬ ‫يتجه‬ ‫يُحَ ِّو ُل الشاعر نصه لوثيقة تتواشج فيها إلى أقرب حافة‪.‬‬

‫‪64‬‬

‫(من قصيدة دخان)‬

‫لغة الشعر والسرد بأسلوب غنائي‪ ،‬يغلب‬ ‫عليه طابع استرجاع ما كان‪ .‬فهل هو صوت‬ ‫فبقدر ما يضيق قد ُح العالم‪ ،‬يتسع سم ُر‬ ‫الذين فقدوا أوطانهم؟‬ ‫الشاعر محمد بنميلود الذي يتقاسم مناجاته‬ ‫لقد أخصبت قصيدته ظ ــاالً وألــوا ًنــا مع الليل‪ ،‬محاوال أن يلملم شتاته من خالل‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫قصائد تلتقط األلم بعدسة سينمائية دقيقة‪،‬‬

‫فهل (الحي الخطير) الــذي يحمل عنوان‬ ‫مخاضا جماليًا ليعانق‬ ‫ً‬ ‫أولــى روايــاتــه‪ ،‬كان‬

‫عالم الكتابة‪ ،‬وليكون صوتًا شعريًا كثيف‬

‫اإلنسانية‪ ،‬تتحرك أمام مراياه أزمنة وأمكنة‬ ‫تعلن عن ميالد صرخاته؟‬ ‫يقول‬

‫إخوة‬ ‫ولدتني أمّ ي بال ْ‬ ‫في الحيّ الخطير‬ ‫كان عليّ‬ ‫أن أدافع عن نفسي‬ ‫قطة الميناء‬ ‫بأظافر ّ‬ ‫أيضا‬ ‫واآلن ً‬ ‫ها أنت ترى‬ ‫ال شيء في العالم يتغيّر‬ ‫الحقب‬ ‫بعد مرور ِ‬ ‫سوى انهيار اإلمبراطوريات‬ ‫الصحاب بين القارّات‬ ‫وتفرّق ِّ‬ ‫مالحقين الغبار‪.‬‬

‫هــذا هــو الشاعر محمد بنميلود الــذي‬ ‫يحمل حطب ذاتــه ليتدفأ به الــمــارون من‬ ‫عوالمه‪ ،‬والذي جعل من الكتابة خندقا كي‬ ‫يحمي هشاشته‪ .‬يــقــول‪« :‬إنــنــي أكتب اآلن‬ ‫تقريباً فقط كي أدافع عن نفسي وليس كي‬

‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ظالل النهاية‬

‫أبــدع‪ ،‬فالدفاع عن النفس وعن الوجود ال‬ ‫شك يسبق اإلبــداع‪ ،‬إن لم يكن إبداعاً في‬ ‫حد ذاته» ‪.‬‬ ‫(‪)٦‬‬

‫إنها المرارة التي يعيشها جيل بأكمله‪،‬‬ ‫كشفت عن رؤية إبداعية تحاول ترميم الذات‬ ‫من خالل رحلة البؤس والموت واالنحطاط‬ ‫الــذي يمر مثل اإلعــصــار داخــل نصوصه‪،‬‬ ‫باحثا عن الحرية وإعطاء قيمة لإلنسان‪.‬‬ ‫فهل سيجد بــا ًبــا للخروج لعناق حلمه‬ ‫المطلق؟ يقول‪:‬‬

‫أبحث عن باب للخروج‬ ‫لكن عدد الداخلين المستمر الغفير‬ ‫يسد كل األبواب‪.‬‬

‫* كاتبة من المغرب‬ ‫(‪ )١‬جريدة القدس العربي‪ - 5‬نوفمبر ‪ /2014 -‬حوارمصعب النميري‪.‬‬ ‫(‪ )٢‬أماني سليمان داود‪« :‬األسلوبية والصوفية دراسة في شعر الحسين بن منصور الحالج»‪ ،‬دار مجدالوي‪،‬‬ ‫عمان‪ ،‬ص ‪ ،67‬ط‪2002 ،2‬م‪.‬‬ ‫(‪ )٣‬ديوان أحالم الفارس القديم‪،‬صالح عبدالصبور‪ .‬ص‪https://www.kutubpdfbook.com/book 83 :‬‬ ‫(‪/https://elmawja.com )٤‬‬

‫‪blog/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D9%86%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8‬‬ ‫‪%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%B5%D8‬‬‫‪%A7%D8%B1%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7‬‬

‫(‪ )٥‬ديوان مدينة بال قلب‪ ،‬صالح عبدالصبور ص‪ / 77 :‬منتديات مكتبة العرب‪.‬‬ ‫(‪https://al-akhbar.com/Kalimat/233007 )٦‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪65‬‬


‫ُ‬ ‫الوجودي‬ ‫القلق‬ ‫شعرنة‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫عند زكي الصدير‬ ‫■ هشام بن الشاوي*‬

‫أول الكالم‪:‬‬

‫يأسك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هو اكتشافك المتأخر بأن ليس ثمة أمل‪.‬‬ ‫ ‬

‫قاسم حداد‬

‫شهوة المالئكة‬ ‫المشروعات التي تليق ألن تكون مآالت‬ ‫رغم أن عنوان هذا الديوان مخاتل‪ ،‬األحالم العظيمة‪.‬‬ ‫فالشاعر السعودي زكي الصدير يبدو‬ ‫نــحــن إذاً بــصــدد مــشــروع شعري‬ ‫مسكونا بقلق أنــطــولــوجــي‪ ،‬سيتجلى كبير وحــسّ ــاس ومــوغــل فــي الرهافة‬ ‫بوضوح في أضمومته الشعرية األخيرة واإلن ــس ــان ــي ــة(((‪ ..‬إذ يــعــتــرف صاحب‬ ‫«بخالف حسناتي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫«عودة غاليليو»‪ .‬في «شهوة المالئكة» «جنيات شومان» أنه‬ ‫يعيد الشاعر السعودي الشاب إنتاج قــبـ َل نــومــي كــل ليلة أحـــاو ُل أن أعــد َد‬ ‫فقرات‬ ‫ِ‬ ‫نصه الشعري بطريقة توحي أنــه في خطاياي‪ ،‬وحي َن أتــجــاو ُز عــدد‬ ‫مرحلة التحضير النهائي لنص شعري أصابعي العشرة أســأ ُم ألنني لم أزل‬ ‫خطيئة‬ ‫ٍ‬ ‫قادر على اختصارها في‬ ‫نــهــائــي ل ــن يــكــتــمــل‪ ،‬كــكــل الــنــصــوص غي َر ٍ‬ ‫الشعرية الكبرى للشعراء الكبار‪ ..‬وككل واحــدة! أفت ُح أصابعي للريح‪ ،‬وأبتس ُم‬

‫‪66‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫الشاعر زكي الصدير في إحدى المناسبات‬

‫أغط في النوم!»‪.‬‬ ‫لكتفي اليسرى‪ ،‬ثم ُّ‬

‫في «عــودة غاليليو» ما يشبه المانيفستو‬ ‫الــشــعــري‪ ،‬الـــذي يــتــأســس عــلــى االنــفــات‬ ‫من إيقاع الرتابة‪ ،‬والــخــروجِ عن المألوف‬ ‫بحدس المتمرِّد‪ ،‬بعيداً عن كليشيه المفاهيم‬ ‫المُضادَّة والصور المعكوسة‪ .‬المعارضة في‬ ‫ملمح شعري يظه ُر‬ ‫ٍ‬ ‫هذا الكتاب‪ ،‬تأتي من‬ ‫اقتراف الحياة‪ ،‬قبل الكلمات‪ .‬تلك‬ ‫ِ‬ ‫جل ّياً في‬ ‫التفاصيل‪ ،‬التي ال تتوقَّف عند ح ِّد سردها‪،‬‬ ‫أو عدِّها في قوائم موائد الكون‪ ،‬إنَّما تلعبُ‬ ‫دوراً أه ّم من مجرَّد وجودها‪ ،‬لعلَّه حضورها‬ ‫ككائنات يتعام ُل معها الشاعر بدِ قَّة مجر ٍِّب‬ ‫ٍ‬ ‫يختب ُر وهم الخالص‪.‬‬

‫وبلغة عذبة آسرة‪ ،‬يقذف بنا زكي الصدير‬ ‫إلى أحراش الوجود‪« ،‬من بين كل كتل اللحم‬ ‫المتقاطرة دمًا بين أصابعي لم أختر سوى‬ ‫جسدي‪ ،‬وكأنه األمــل الوحيد الــذي أذهب‬ ‫إليه قــصـدًا أو ســهــواً كلما أصابني عط ٌل‬ ‫بسيطٌ في الــذاكــرة‪ ،‬عط ٌل بسيط يمنحني‬ ‫البدء من جديد‪ ،‬عط ٌل بسيط جدًا يعيدني‬ ‫ألكتشفني من خالله! عط ٌل بسيط للغاية‬ ‫يتفرغ معي بشكل كامل لتشكيل قوالبي‪،‬‬ ‫وإعادة رسمي في أرض أحبها وتخونني! إنه‬ ‫جسدي الذي ال أراه إال من خالل شهواتي‬ ‫ورغــائــبــي ونــزواتــي‪ ،‬ال أراه إال مــن خالل‬ ‫ي ــصــرِّح الــشــاعــر ف ــي قــصــيــدة «حفلة‬ ‫صلواتي وأدعيتي وابتهاالتي‪ ،‬ال أراه إال حين الموتى»‪:‬‬ ‫بتخمة فيه‪ ،‬أو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أشعر‬ ‫خفة منه‪ ،‬ال أراه إال أُمَ نِّي نفسي بالخالص‬ ‫عندما يغامر معي ليكتشفني في أرضي‪ ،‬أو‬ ‫يلف ِج ْل َد الكون‬ ‫الخالص الذي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫أقوم أنا باكتشافهِ في أرضه!‪.(((»...‬‬ ‫عودة غاليليو‬ ‫منذ البدء‪ ،‬يقتر ُح الشاعر زكي الصدير‬

‫ينتظرُ الطوفان‬ ‫يُ علِّق أحاجيه في العتمة‪.‬‬

‫نفسها‬ ‫تكشف قصيدةُ زكي الصدير عن ِ‬ ‫ُ‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪67‬‬


‫ٍ‬ ‫في‬ ‫بقلب مفتوح‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫صفحة متفرِّدة‪ ،‬حولها بياض مُريب‪ .‬وأنا‬

‫ماثل في الفراغ‪ ،‬ال يمك ُن تجاوزهُ‬ ‫لباب ٍ‬ ‫صورةٌ ٍ‬ ‫مفتاح في اليد‪ ،‬هكذا نقرأ ما تري ُد‬ ‫ٍ‬ ‫دون‬ ‫طرق وإن‬ ‫قوله الكلمات‪ ،‬ما ترسمه لنا من ٍ‬ ‫دهشة تمتز ُج فيها‬ ‫ٍ‬ ‫تشعَّبت‪ ،‬وما تمنحنا من‬ ‫األشــيــاء باالحتماالت‪ ،‬صانع ًة عالمها في‬ ‫عالم آخر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫فــي قصيدة «قلب زهــري مفتوح» كتب‬ ‫الصدير‪:‬‬

‫ال يتردَّد زكي في زعزعةِ ما تطمئنُّ إليه‬ ‫اللُّغة‪ ،‬منطلقاً من حدسه الشعري األول‬ ‫بالعالم‪ ،‬كما لو أنَّه يعي ُد تشكيله المرَّة تلو‬ ‫المرَّة‪ ،‬وقد دمَّره بيديه دون ندم‪ .‬ليبدو من‬ ‫قصيدةٍ إلــى أخــرى وكــأ َّنــه يتقمَّص أدواراً‬ ‫يدَّ عي أنها تنجيهِ من ظلمِ األسقف الواطئة‪،‬‬ ‫والنوافذ المغلقة‪ ،‬والتاريخ المتراكم عند ك ِّل‬ ‫العتبات‪ .‬يعتذ ُر عن سيرة الدَّ م واللَّيلِ المالح‬ ‫المليء بالقتلة‪ ،‬يسرد هواجسه في العتمة‪،‬‬ ‫لغريبة‬ ‫ٍ‬ ‫بحقيبة فارغة ويكتب وصيته‬ ‫ٍ‬ ‫يتجوَّل‬ ‫عابرة في البيت‪ ،‬وحين أدرك أنَّ الطمأنينة‬ ‫أخــت الــمــوت‪ ،‬راح يلعبُ للمتعة وإلحصاء‬ ‫االحتماالت‪...‬‬

‫هربت لل ّت ّو من عملِ ها‪ ،‬لتُ قابلَ غريب ًا في‬ ‫ْ‬ ‫مَ قهى‬ ‫فتاةٌ عذبةٌ ترتدي تنّور ًة ســودا َء وقميص ًا‬ ‫أبيض‬ ‫كانت لها‬ ‫الجديلةُ التي في يدي ْ‬ ‫يدها كان لي‬ ‫الفنجانُ في ِ‬ ‫خائف‪...‬‬ ‫ٌ‬ ‫لم تتعرَّ ْف علينا‬ ‫خائف»‬ ‫ٌ‬ ‫َّك‬ ‫القول «إن َ‬ ‫ِ‬ ‫حتَّ ى في‬ ‫بقميص زهري‬ ‫ٍ‬ ‫هو‬ ‫خائف‬ ‫ٌ‬

‫‪68‬‬

‫الشاعر زكي الصدير‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫ال تجرؤُ أن تشي َر إلى الشمس‬ ‫(((‬ ‫األرض تدور»‬ ‫َ‬ ‫ألحد ِهم «إنَّ‬ ‫ِ‬ ‫تهمس‬ ‫َ‬ ‫وال أن‬ ‫قلق أنطولوجي‬ ‫تشي قصائد الصدير بما يؤرق الشاعر‬ ‫من القضايا الكبرى واألسئلة الفلسفية‪ ،‬إذ‬ ‫يشكل في نصوصه محور السؤال الوجودي‪،‬‬ ‫ويعيد صياغة مفردات العالم‪ ،‬فـالعدم كما‬ ‫يراه هو «المطلق الذي استطاع الفرار من‬ ‫قبضة الــوجــود»‪ ،..‬وفي قصيدة «أنا ورجل‬ ‫أس ــود ويــهــودي» يؤنسن الــشــاعــر الــمــوت‪،‬‬ ‫ويخاطبه ملتاعا‪:‬‬

‫يا موت‪،‬‬ ‫لم نعرفك قبل اآلن‬ ‫حسبناك نادرا‬ ‫شيئا مثل العيد الــذي يصادفنا مرتين‬ ‫وبــلــغــة مــدهــشــة‪ ،‬تــفــضــح هـ ــذا الــقــلــق‬ ‫كل سنة!‬ ‫الوجودي عند زكي‪ ،‬نقرأ في «جسد جديد»‪،‬‬ ‫أين نذهب بكل هؤالء الموتى؟‬ ‫وهو يواصل إبحاره في ي ّم البحث عن إجابة‬ ‫فمنا ال يضحك كل يوم‪.‬‬ ‫ألسئلة وجودية تؤرقه‪:‬‬

‫في نص «الدهشة المملة» يكتب الصدير‬ ‫وكنت كلما متّ وضعوني في جسد‪ ،‬ال‬ ‫عن الحياة‪ ،‬التي نحتملها وال نعيشها‪ ،‬فال أعرفه‪،‬‬ ‫فرق بيننا وبين نزيل زنزانة انفرادية‪:‬‬ ‫وصبّوا على دكة الموتى ماء السدر‪،‬‬

‫كـ ــأن أح ــده ــم وضـ ــع فـ ــوق رأسـ ـ ــي زن ــزان ــة‬ ‫انفرادية‪ ،‬ومضى‬ ‫أكسر جراري‪ ،‬وأفضح فخاخهم‬ ‫ت ــارك ــا إي ـ ــاي وح ـ ــدي الح ـت ـم ــاالت األيـ ــام‬ ‫ولمصادفات القدر‬ ‫أسير على الطريد‪ ،‬وأبيّن منابت الوهدة‪،‬‬ ‫وحدي أحسب ما تبقى مني فيه‬ ‫وأعلّي من ثأر المنشقّ‬ ‫أمرن أصابعي لوجبة جديدة‬ ‫لكنهم يعيدونني ‪-‬فــي كل مــرة‪ -‬لجسد‬ ‫فاتحا فمي النحناءة‪،‬‬ ‫جديد‪.‬‬ ‫ولسؤال‪.‬‬ ‫ثم ادخروني لهدنتهم‪.‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪69‬‬


‫وألننا ال نختار وجودنا‪ ،‬ال نختار أسماءنا افتعلوا حريقا‬ ‫وال هوياتنا‪ ،‬يعترف زكي الصدير في «وحدي‬ ‫دون قصد»‪:‬‬

‫اقتلوا طفال‪ ،‬ورجال عجوزًا‪ ،‬وامرأة حرة‬ ‫التقطوا صورًا لهم‬ ‫ارفعوا أعالما بألوان مختلفة‬

‫صدفة جئت بسحنة سمراء‬ ‫بلكنة شرقية‬ ‫أضيعوا دمي بين قبائلهم‬ ‫بملوحة البحر على جلدي‬ ‫أخبروهم‬ ‫بغبار الصحراء في مسامات وجهي‬ ‫إني الشاهد الوحيد على المجزرة‬ ‫وبنخلةٍ ضائعةٍ بين أصابعي‬ ‫الدليل األخير إلى العدم‬ ‫(((‬ ‫ل ــم أك ــن أش ــأ أن أكـ ــون بـ ـخ ــور ًا ف ــي ن ــذور ال ينبغي أن يضيع أجري سدى‬ ‫السماء‬ ‫آخر الكالم‬ ‫وال صال ًة في مأتمها‬ ‫وفــي قصيدة أخ ــرى‪ ،‬يبدو كما لــو كان‬

‫يصف محمد العتابي زكي الصدير بأنه‬

‫الشاعر يكتب وصيته األخيرة‪ ،‬يريد تأجيل يشبه في شعره الريح‪ ،‬التي تهب على الروح‬ ‫موته ولو لبرهة‪ ،‬فهو الشاهد الوحيد على مثل مواويل الليالي التي تُبحر فيها النجوم‬ ‫المجزرة ضد اإلنسان‪ ،‬ال يريد أن يضيع دمه تجاه الزمن الذي يُشبهك‪ ،‬بهدوء ابتسامته‬ ‫سدى‪ ،‬فيوصي بأن يفرقوه بين القبائل‪:‬‬

‫ـات‪،‬‬ ‫ا مــن حــنــيـ ٍـن وأغــنــيـ ٍ‬ ‫الــتــي تخفي جــب ـ ً‬

‫مت‬ ‫لو ُّ‬ ‫ال تجعلوهم يأخذوني سريعا إلى المقبرة‬ ‫لست على عجل كما تعلمون‬ ‫قدموا رشوة جيدة‬ ‫اصطدموا بسيارة اإلسعاف‬

‫نبض على‬ ‫ٌ‬ ‫يستقبلك والقصيدة فــي قلبه‬ ‫وقع المحبة‪ ،‬يحمل في رئتيه تنهّد الشاعر‬ ‫الذي جرفت مركبه الرياح إلى حيث يجهل‪،‬‬ ‫إلى حيث وحده مع الشعر في تأمل‪ .‬أسئلة‬ ‫الوجود(((‪.‬‬

‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬ ‫((( شهوة المالئكة» لزكي الصدير‪ :‬نصوص للوجع‪ ..‬قصائد للذة‪ ،‬سعدية مفرح‪ ،‬جريدة القدس العربي‪،‬‬ ‫لندن‪ 4 ،‬يونيو ‪2013‬‬ ‫((( سعدية مفرح‪ ،‬م‪ ،‬س‬ ‫((( موقع «ضفة ثالثة»‪ 10 ،‬أبريل ‪،2018‬‬

‫ ‬

‫‪https://www.alaraby.co.uk/diffah/books/2018/4/9/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%BA%D8%A7%D9%‬‬ ‫‪84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88‬‬

‫‪70‬‬

‫((( محمد حنفي‪ ،‬قصائد زكي الصدير تلويحة اإلنسان للموت»‪ ،‬جريدة «القبس»‪ ،‬الكويت‪ 12 ،‬سبتمبر ‪2018‬‬ ‫((( محمد حنفي‪ ،‬م‪ ،‬س‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫المعنى بينهما‪ ،‬إعادة ّ‬ ‫االتصال‬ ‫■ أحمد املال*‬

‫لجسد اللغة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المعنى هو النُّ سغُ الحيّ في الكلمات‪ ،‬هو الروح‬ ‫البحث‪ ،‬مباشرةً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫شروحات عديدة في المعنى‪ ،‬عب َر‬ ‫ٍ‬ ‫ألي منا التعرّف على‬ ‫يمكن ٍّ‬ ‫بسرعةٍ ويُسر‪ .‬أعتقدُ أنها رحلةٌ ماتعة حتمً ا‪ ،‬لكن لم يعد لي من سحرِ ها القدْ ر‬ ‫نفْ ُسه وال النصيب‪.‬‬ ‫عبرت به‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صت ما‬ ‫وتفح ُ‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا ما تلفّ ُّت‬ ‫قصد بابَ المعنى‪،‬‬ ‫رأيت أني أطرِ قُ مبكّ رً ا ودون ٍ‬ ‫ُ‬ ‫غافل عبرتُ عتب ًة شاقّة‪ ،‬لم يكن لي‬ ‫ً‬

‫بطريقة‬ ‫ٍ‬ ‫هنا‪ ،‬أحــاو ُل تنا ُو َل المعنى‬

‫ٍ‬ ‫هواجس‬ ‫َ‬ ‫دلي ٌل واضــح‪ ،‬سوى‬ ‫فحص‪ ،‬لم‬ ‫ٍ‬ ‫ورغبات‪ ،‬تر ِبكُني منذ عقود‪ ،‬دونما‬ ‫لكنّها حذَرتْني من ُذ الــبــدء‪ ،‬بأنه بيتٌ‬

‫أتطلّب أحكامًا قاطع ًة في سبيلِ الوصول‬

‫برحلة أكث َر متع ًة من‬ ‫ٍ‬ ‫غــامــض‪ ،‬يــر ّق ـ ُق الــقــلــبَ ؛ مــا يعني أني إليها‪ .‬كم وُعدنا‬ ‫مُعرَّض للكسْ رِ بغتةً‪ .‬والحذ ُر من اإلدّعاء الوصول‪ ،‬حيث ال منتهى‪ ..‬لربما رحلة‬ ‫طلب النجاة‪ ،‬فتأ ّملْ!‬ ‫أوجبُ من ِ‬

‫ليس هدفُها التح ّق َق واالكتمال‪ ..‬وهذا‬

‫أن تطلبَ معناك وحدَك‪ ،‬ال المعنى التف ّك ُر الذي أدّعيه تسلي ُة طريق‪ ،‬فلستُ‬ ‫السائ َر على األلــســن‪ ،‬كالمجنونِ بين من الجادّين حدَّ الضجر‪.‬‬ ‫مد ِّعي العقلَ‪ ،‬فعليك أن تتحمّل!‬

‫ألكشف عن نف ٍْس‪ ،‬تتناول‬ ‫َ‬ ‫أقول هذا‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪71‬‬


‫الحياةَ حولَها بعينِ الشعر ومعناه السائل ال‬

‫تفكيك‬ ‫ِ‬ ‫وهي مرحل ٌة مختلفة وسابق ٌة عن‬

‫ـان مقترحة وبــدائ ـ َل‬ ‫الصلب‪ .‬أحيانًا يشوبُ هــذه النظرةَ ته ُّك ٌم المعنى وصــيــاغــةِ مــعـ ٍ‬ ‫يُعينُها على الملل‪ ،‬وكآبةِ المنظر‪ ،‬وأحيانًا مفاهيمية‪.‬‬ ‫أخرى تتالعبُ اللغ ُة بي‪ ،‬متواطئ ًة وساخرة‪.‬‬

‫بديلة‬ ‫ٍ‬ ‫التفكيكُ والــبــحــثُ عــن مفاهي َم‬

‫الح ـ ٌق ومحتملة‪ ،‬هي إعــادةُ االتّصال بينهما‪ ،‬بين‬ ‫الــشــيءُ يس ِب ُق تسميتَه‪ ،‬والمعنى ِ‬

‫تحريك المسافة‬ ‫ِ‬ ‫سياق تراتبي‪ .‬كان الشيء الكلمةِ والمعنى‪ ،‬ومحاول ُة‬ ‫ٍ‬ ‫بهما‪ .‬ثالث ٌة في‬ ‫وأ ُطل َق عليه اس ٌم لعل ٍّة‪ ،‬فح َم َل معناه الذي أو التالعبُ بالمسافةِ الفاصلةِ الواصلة‪ ،‬أي‬

‫يخض ُع لنحْ ِت الزمن‪.‬‬ ‫كلما كــان الشيءُ مــوجــودًا وحــاضـرًا في‬ ‫التفكير‪ ،‬أي مستخ َدمًا بــوفــرة؛ تكاثرَتْ‬

‫بين الشيءِ ومعناه‪ .‬وقد قيل إنّ المعنى « عل ٌم‬

‫يناسبُ الحال»‪.‬‬ ‫اللفظ بما ِ‬ ‫ِ‬ ‫َف به أحوا ُل‬ ‫تُعر ُ‬ ‫إنّ التف ّك َر في المعنى الظاهر وتقليبَ ُه‬

‫ّصال في ح ِّد‬ ‫مسميّاتُه وتح ّولَتْ معانيه حَ سَ بَ تفاعلِهِ في على وجــوهٍ عدة‪ ،‬هو إعــادةُ ات ٍ‬ ‫ذاتِه‪ ،‬يرفِ ُد الفكرةَ بمعناها الصلب‪ ،‬المتحقَّقِ‬ ‫وِ عائِهِ الثقافي‪.‬‬ ‫منه‪ ،‬وهناك منطق ٌة أبع ُد وأش ُّد عتمةً‪ ،‬حيث‬ ‫بيئة منتَجُ ها‪ ،‬تضع األسما َء عليه‪.‬‬ ‫في ك ِّل ٍ‬ ‫واكتشاف معنًى‬ ‫ُ‬ ‫التخلي عن المعنى الظاهر‬ ‫تك ِن ُز كلَّ اسـ ٍـم بمعناه‪ .‬االس ـ ُم وِ عــاءٌ صلب‪،‬‬ ‫نفسهِ كل ّيًا حتى لمن‬ ‫يكشف عن ِ‬ ‫ُ‬ ‫مستتِر ال‬ ‫والمعنى مرِ ٌن سائل أو «زئبقي» حين نعني‬ ‫يحفِ ُر وينقّبُ عنه‪.‬‬ ‫عد َم الثبات‪.‬‬ ‫أشب ُه ما تكون السباحة في ظاهرِ المعنى‪،‬‬ ‫كثيرًا ما أحاو ُل إعادةَ النظر بين الشيء‬ ‫الغوص لألعماق إال معنى المعنى‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬ ‫وما‬ ‫ومعناه المستقر والمتّفقِ عليه في العقلِ‬ ‫مخاط ُر ج ّم ٌة ليس أقلُّها انقطا َع النفس‪.‬‬ ‫الــجــمــعــي‪ ،‬أو عــلــى األق ـ ـ ّل أبــــذِ ُل مــحــاولـ َة‬ ‫متوال غي ُر مكرّر‪ ،‬وهي‬ ‫ٍ‬ ‫التجرب ُة تمري ٌن‬ ‫الفصل بينَهما‪ .‬أحيانًا أ ُعي ُد الكلم َة مرارًا‬ ‫وبصوت مسموع لــي‪ ،‬وكأنها عملي ُة فصلِ‬ ‫ٍ‬

‫أدوات ومعطيات حتى‬ ‫ٍ‬ ‫حاجة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫مختب ٌر في‬

‫ملتصق‪ .‬قد تنج ُح محاولتي يحظَ ى المجرّبُ على الدهشة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫توأم «سيامي»‬ ‫ٍ‬

‫وتتحوّل الكلمة مجرّد ًة من معناها‪ ،‬غريب ًة في‬

‫مع حالتي‪ ،‬اقترحتُ الشتيمة على ابني‬

‫ً‬ ‫حياد ِصرْف‪ ،‬حدَّ أن أق َع أمامَها‬ ‫ٍ‬ ‫جاهل بها‪ .‬ال ِبكْر «مالك»‪ .‬كنتُ في أوائــل عشرينيّاتي‬ ‫هذا أشبه ما يكون بتعريةِ الكلمة من معناها من العمر‪ ،‬وكنتُ ِغ ّرًا بما يكفي ألري َد تغيي َر‬

‫‪72‬‬

‫وصلِها بمعنًى آخر‪.‬‬ ‫دو َن ْ‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫معنى العالم‪ .‬بدأتُ مع «مالك» في التعبير‬


‫تتم ّت ُع بشَ فرتِها السريّة كأن يص ُر ُخ قائال‪« :‬يا‬ ‫انعكاس الشمس‪ ،‬ومع هذه السحابة تنكسر‬ ‫ِ‬ ‫كرسي»‪« ..‬يا بْيالة»‪« ..‬يا كنَب»‪ ..‬حتى تح ّو َل نظرتي أو بالتحديد تعي ُد صياغ َة نظرتي‪.‬‬ ‫الكلمات مع الوقت‪ ،‬فصارت ك ُّل‬ ‫ِ‬ ‫معنى هذه‬

‫كلمة منها «كرسي‪ ،‬بيالة‪ ،‬كنب»‪ ،‬تعني شتائ َم‬ ‫ٍ‬ ‫فعل وحمل َت معناها الضمني‪.‬‬ ‫مؤلم ًة ً‬ ‫وهــنــا‪ ،‬حــدثَــت مشكلة! حــ ّدةُ االنــحــراف‬ ‫واالنــزيــاح عــن المعنى الــعــام إلــى المعنى‬ ‫الشخصي عندي وعند ابني «مالك»‪ ..‬هذا‬ ‫االنــحــراف واالنــزيــاح عن المعنى الجمعي‬ ‫المتواطأ عليه‪ ،‬سبّب لنا كثيرًا من القلقِ‬

‫حين نبّهني صديقي الفنّان‪ ،‬وقال لي‪ :‬هل‬ ‫رأيتَ ما أعني‪.‬‬ ‫لم أستطع ر ّدًا وعيني ثابت ٌة على «حاويةِ‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫ِ‬ ‫عن شعورِ نا‬ ‫غبار تتطاي ُر وتلمع في‬ ‫بالغضب عبر شتيمةِ مبتكَرة سحاب ٌة عمود ّي ٌة من ٍ‬

‫«ههْ»؛‬ ‫قُمامة»!‪ ..‬كم عبرتُ أمامها ولم أرها؛ ِ‬ ‫نبرةُ الخارجِ من حمّام الدهشة‪.‬‬ ‫كانت تجرب ًة تل َتْ أحــاديــثَ طويل ًة حول‬ ‫الفنِّ والمعنى‪ ..‬بين اللغةِ والمفهوم‪ ..‬الشكلِ‬

‫واالضــطــراب مــع الفهم المحيط بنا‪ ،‬من والمضمون‪ ..‬الحداثةِ والقِ دامة‪ ..‬إلى آخرِ ه‬ ‫االستغراب؛ إلى الشماتةِ ؛ مــرورَا بالتذمر‪ .‬من تساؤالت الثمانينيات‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫وسرعا َن ما تنازلتُ عن «معجمِ نا الصغير»!!‬

‫تلك دهش ٌة أعادَتْ اتّصالي بالكون‪.‬‬

‫بيت‬ ‫فتخلّيْتُ عنه‪ ،‬وأع ــدتُ الشتيم َة إلــى ِ‬

‫إنّ أكث َر المعاني‪ ،‬مخاتِل ًة حَ سَ بَ ما أظنّ ‪،‬‬

‫أبيها‪ ،‬حيث غلب ُة المعنى على المفهومِ القا ِّر هي تلك المعاني التي تأتي ضمنًا‪ ،‬ويمكنني‬ ‫والرّاسخ‪.‬‬ ‫وصفُها بـــ «مــتــازمــةِ البديهيات»‪ ،‬إ ْذ هي‬

‫ٍ‬ ‫أذ ُك ـ ُر قبل َها حال ًة خضعتُ فيها‬ ‫مساءلة‪ ،‬وال حتى انتباه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لتجربة منقول ٌة دو َن تفك ٍّر أو‬

‫مــشــابــهــة‪ ،‬حــيــن أخــذنــي صــديــقــي الفنان‬

‫منتصف‬ ‫ِ‬ ‫التشكيلي محمد عمر بشارة في‬ ‫الثمانينيات‪ ،‬في سيارتِه الصغيرة وأوقفني‪،‬‬ ‫بإغماض‬ ‫ِ‬ ‫مشهد من األلوان‪ ،‬وأشا َر عليّ‬ ‫ٍ‬ ‫عند‬ ‫عينيَّ وتصفيةِ ذهني من أيــةِ فكرةٍ سابقة‬ ‫تخص هذا المشهد‪ .‬نفّذتُ حرف ّيًا ما قاله‬ ‫ُّ‬

‫ماذا لو طفل ُكَ يلتفِ تُ فجأ ًة نحوَكَ ويسأل‪:‬‬ ‫لماذا أصاب ُع القدم مشابه ٌة للتي في اليد‪.‬‬ ‫ُمسك‪ ،‬وال‬ ‫ما حاج ُة القدم إليها؟ فهي ال ت ِ‬ ‫تقبِض‪ ،‬وال تحُ ًّك الظه َر مثال‪ ..‬وكثيرةٌ كثيرة‬ ‫هي البديهيات التي لم نتوقّف لحظ ًة عندها‬

‫الصديق بشارة‪ ،‬ثم حين فتحتُ عينيّ ثانيةً‪ .‬وال أعدنا االتّصا َل بمعناها‪.‬‬

‫بحواف بن ٍّية‬ ‫َّ‬ ‫أبصرتُها؛ كتل ًة صفراء تسطعُ‪،‬‬

‫ـاط الشيء‬ ‫حسنًا‪ ،‬أيــن المعنى في ارتــبـ ِ‬

‫صدِ ئة‪ ،‬ملطّ خ ًة ٍ‬ ‫َ‬ ‫مثل عندما‬ ‫بلون أخض َر متعرّج‪ ،‬وثمّة بأثرِ ِه في كلٍّ منا؟ بالنسبة لي ً‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪73‬‬


‫أستم ُع إلى أغاني فريد األطــرش في ذرو ِة بابَ الشعر‪ ،‬ولم يزل عص ّيًا حتى اليوم‪ ،‬بل‬ ‫متاهة‬ ‫ٍ‬ ‫كتابة أمشي في‬ ‫ٍ‬ ‫فصل الــصــيــف؛ أش ـ ُع ـ ُر فــجــأ ًة بقشعريرة؛ أكثر‪ ،‬صرتُ بع َد ك ِّل‬ ‫ضارية من البرد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫برجفة‬ ‫ٍ‬

‫مظلمة وفــي كـ ِّل سانحةِ ضــوءٍ ألهثُ خلفَه‬

‫ُغشي عيني وأحيانًا‬ ‫بعضه؛ أحيانًا ي ِ‬ ‫َ‬ ‫وعندما أشُ ُّم عطرا في هواءٍ عابر؛أتذ ّك ُر ألدركَ‬ ‫سراب يتفتّتُ في يدي‪ ،‬لك ْن حي َن‬ ‫ٍ‬ ‫ينقلبُ إلى‬ ‫مدين ًة عبرتُ بها من قبل‪..‬‬ ‫قليل من الوقت‪ ،‬غالبا‬ ‫أكتبُ ُه وأض ُع ُه جانبًا ً‬ ‫كيف يتغ ّي ُر معنى الكلمات وتنقلِبُ عن‬ ‫ما يدهشُ ني عندما أعو ُد إلى قراءتِه‪.‬‬ ‫مقاصدِ ها الحرفية في نبر ِة الصوت‪ ،‬وكيف‬ ‫علَّمَني الشع ُر االنحيا َز للمعنى الموارَب‪،‬‬ ‫تحمِ ُل ضــدَّ هــا بمجرّدِ حــركـ ٍـة وإشـــارةٍ من‬ ‫الجسد‪..‬‬ ‫إنّ المعنى في الشعر هو دهش ُة االنزياحِ‬ ‫عن المعتاد والسائد‪ ..‬االنشقاق عن المفهوم‬ ‫المستقر والثابت في األذهان‪ ..‬يكم ُن الشع ُر‬ ‫في استخدامِ المفرد ِة في غيرِ موضعِ ها‬

‫الشفيف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ال ذلك الجليِّ الفاقعِ لونُه‪ ،‬المعنى‬ ‫مخضعًا‬ ‫ِ‬ ‫المتمهّل دو َن مكابرة‪ ،‬المعنى الحنون‬

‫صائتَ اللفظ‪ .‬هو المعنى الح ّر يمن ُح مساح ًة‬ ‫طليق ًة للتعبير‪.‬‬ ‫ـاف أكــثــرِ مــن معنى‬ ‫فــي الــشــعــر اكــتــشـ ُ‬

‫نفسهِ لحظ َة‬ ‫ف عن ِ‬ ‫يكش ُ‬ ‫المعتاد‪ ،‬أو مجاورتِها لمفردةٍ ألوّلِ مرة بما المعنى‪ ..‬فالنص ال ِ‬ ‫يُحرِ ُز قطعًا في سياق االتّصال المتوقّع وأ ُفقِ الكتابة‪ ،‬إال بمعنى تشكُّلِ الكتابة‪ .‬أما بعدَها‬

‫طبقات‬ ‫ٍ‬ ‫ـوص ويــتــحـوّل مــتــجـو ًِّل فــي‬ ‫االنتظار المعتاد‪ .‬هنا يتجلّى المعنى المبتكَر‪ ،‬فهو يــغـ ُ‬ ‫غامضة‪ ،‬ليسَ تْ متعدّد ًة فقط بل ربما غي َر‬ ‫وتنقد ُح شرارةُ الشعر‪.‬‬ ‫مكان ما‬ ‫ٍ‬ ‫بالقدر ِة على رؤيــةِ المعنى من‬ ‫اجتراحهِ من‬ ‫ِ‬ ‫ليس في المتناول‪ ،‬ومحاولةِ‬ ‫العدم‪ ،‬نصب ُح في حيّزِ الشعر‪.‬‬ ‫لكني واح ٌد من الناس‪ ،‬تأخُ ذُني ِسنَ ٌة من‬ ‫نوم‪ ،‬وكثيرًا ما أنتب ُه إلى أن التيا َر يجرفُني مع‬ ‫الخلق‪ .‬كنتُ أشُ قُّ عن المعنى لينقذَني ويأخ َذ‬ ‫بيدي إلــى ضـ ّفــةِ الشعر الغامضة‪ ،‬هكذا‬ ‫مفتاحهِ ‪ ،‬كيمياءِ المعنى وهو يفت ُح‬ ‫ِ‬ ‫كشفتُ عن‬

‫‪74‬‬

‫* كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫مفك ٍَّر بها عندها‪ .‬وبعد ك ـ ِّل هــذا التعدّد‬

‫منفصل‬ ‫ً‬ ‫والتشكّل في رحلة االكتشاف‪ ،‬أغدو‬ ‫عن النص‪ ،‬وتظهر لي نوايا لم أقصدها حين‬ ‫النص يراني غريبًا كما أراه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الكتابة‪ .‬وكأنّ‬ ‫أيضا‪ ،‬غريبا‪ّ .‬كــانّ الفراغ من النص يعني‬ ‫ً‬ ‫غُربتَنا نحن االثنين؛ النص وكاتبه‪.‬‬ ‫هذا ما أعني‬ ‫أو‪ :‬هكذا أظنّ ‪.‬‬


‫■ سعاد محمد اشوخي*‬

‫وحيد‬

‫هي‪ :‬تفتح قلبها ألول طارق باب‪ ،‬هو‬

‫ما نفع كل هذا المال وأنــت تجلس يصارع من أجل صاحبة أقصر فستان‪.‬‬

‫وحيدا‪ ،‬تحتسي كوب شاي ال يُثني أحد‬

‫على رائحة النعناع المنبعثة منه‪ .‬يمر‬

‫اليوم بطيئا‪ ،‬تتكرر تفاصيله‪ ،‬عقاربه ال‬

‫تتحرك من مكانها حتى إذا جاء الليل‪،‬‬

‫تناولت عشاءك المعهود أمــام شاشة‬

‫تلبّ س‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫قصص قصيرة جدا‬

‫وأنــا أمشط شعري تجلس أمامي‬ ‫بحذر‪ ،‬تستمع إلى ثرثرتي كل يوم‪.‬‬ ‫أصــبــحــت تــقــلــدنــي ف ــي ك ــل ش ــيء؛‬

‫بحجم ج ــدار‪ ،‬وال أحــد يناقش معك أضــحــك فــتــضــحــك‪ ،‬أغــضــب فتعبس‬ ‫أحداث المسلسل وال سياسة العالم‪.‬‬ ‫لغضبي‪ ،‬أتجمل فتتجمل معي‪ ،‬ما أن‬ ‫غارقًا كان في هدوء الصالحين حين أغادر حتى تتلبسني وتختفي من المرآة‪.‬‬ ‫صرخ الصمت‪ :‬أين الحياة؟؟‬ ‫الفنجان األول‬ ‫بال مباالة‪ ،‬ينظر إلى الخواء‪ ،‬وينطلق‬ ‫فــي قعر الفنجان بقايا بُ ٍــن مُبلل‪،‬‬ ‫يف في ذاكرة أرهقها‬ ‫شريط العمر كطَ ٍ‬ ‫يتشكَّل بتمايُل الفنجان يُمنة ويُسرة‪.‬‬ ‫التفكير‪ ،‬ينكمش كطفل صغير ينتظر‬ ‫تقرأه العجوز باهتمام بالغ؛ عمر طويل‪،‬‬ ‫من يُربِّتُ على كتفه وينام‪.‬‬ ‫قَ َدران‬

‫ومستقبل زاهــر‪ ،‬عريس‪ ،‬وزفــة‪ ،‬نجاح‬ ‫وانتصار‪ ،‬وهذه النقط زهور الحب يا‬

‫هي‪ ،‬بأحالم األميرات تمأل خيالها‪ ،‬وردة‪.‬‬ ‫وتسأل‪ :‬هب أننا افترقنا‪ ،‬ووهبت ذكراك‬ ‫تأخذ العجوز بشارتَها وتهمس لي‪:‬‬ ‫للنسيان‪ ،‬أتبادلني النسيان وترحل؟ هب‬ ‫أن األيــام مضت على غير ما رسمنا‪ ،‬الحب زهرة الحياة‪.‬‬ ‫أتصارع من أجل ما أردنا؟‬

‫كــأس الــشــاي ال ــذي أحــب مــا يــزال‬

‫هو‪ ،‬يجيب بمكر الرجال‪ :‬يا حبيبي جــانــبــا‪ ،‬أم ــا ج ــدي فــقــد ع ــاد ليشرب‬

‫كل شيء بقضاء‪.‬‬

‫فنجانه الثاني ِبنَهَم‪.‬‬

‫ * قاصة من المغرب‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪75‬‬


‫حين ُت َغ ِّني‬ ‫َ‬ ‫■ هدى الشماشي*‬

‫كانت القصة تروى على هذا النحو‪:‬‬ ‫ذهب امحند إلى المدينة‪ ،‬وعاد بطفل قال إنه ولده‪.‬‬ ‫زوجته التي لم تكن محنكة كما يجب بفنون الـصــراخ‪ ..‬صمتت فقط‪ .‬وضعت الطفل بجانب‬ ‫أطفالها‪ ،‬وجعلتهم يأكلون من القصعة نفسها‪ .‬كان الصغير صامتا أيضا‪.‬‬ ‫قال له امحند في اليوم األول‪ :‬نادِ ها أمي‪ ،‬لكنه لم ينادها أو يحدثها بكلمة‪ ،‬وكان يكتفي بالنظر‪.‬‬ ‫هل هذه هي طفولة الرجل الذي أصبح شاهدة على ألمي‪.‬‬ ‫أبي فيما بعد؟‬ ‫يــكــون طــفــل الــمــرأة األخـ ــرى متسمرًا‬ ‫إن الــنــاس يقولون الكثير أيــضــا‪ .‬ذهب بجانبها حينها‪ ،‬ولكنهما ال يتبادالن الحديث‪.‬‬ ‫امحند مــرة أخــرى إلــى المدينة وعــاد بأم يلعب أطفالها هي في كل مكان ويصنعون‬ ‫الطفل‪ ،‬ولكنه أنكرها‪ .‬كان األمــر محرجا جلبة بهيجة‪ ،‬أما هو فيلتصق بها‪.‬‬ ‫للغاية‪ .‬ركض تجاه األخــرى‪ -‬التي لم تكن‬ ‫ العباد قساة!‬‫أمــه‪ -‬واختبأ فــي حضنها ألول مــرة منذ‬ ‫يحس الرجل حينها أنها تصبح بعيدة‬ ‫ـس الجميع‬ ‫وطـــأت قــدمــاه الــمــنــزل‪ ،‬وأحـ ـ ّ‬ ‫تماما عنه‪ ،‬محصنة وقوية وال تهتم ألمره‬ ‫بالذهول‪.‬‬ ‫حــتــى‪ ..‬وعــنــدهــا يــوجــه لــهــا الــحــديــث أو‬ ‫نادته أمه باكية تقريبا‪ :‬أحمد‪ ،‬ولكنه تعلق السباب‪.‬‬ ‫أكثر بذراعي األخرى التي لم تبذل مجهودًا‬ ‫يكون عندها أبي قد حرك بصره بينهما‬ ‫لدفعه عنها‪.‬‬ ‫كلما تكلما‪ ،‬ولكنه ال ينهض‪ .‬يصرخ به والده‬ ‫قال امحند ليمأل الهواء الثقيل‪ :‬انهض أحيانا بأن يغادر إلى حيث األطفال‪ ،‬أما هي‬ ‫وسلم على أمــك‪ ،‬ولم يكن ينوي أن يجبره فتصمت فقط‪ .‬تبدو محايدة تماما حين‬ ‫على هذا في الحقيقة‪ ،‬عدا ‪-‬طبعا ‪ -‬عن يتعلق األمر به‪ ،‬ويعلق بها مع ذلك‪ ..‬ويلحق‬ ‫كونه كان يخاف زوجته‪.‬‬ ‫بها إلى كل مكان‪.‬‬ ‫إن خوف الرجال من زوجاتهم أمر يبدو‬ ‫هل كنت تحبها يا أبي؟‬‫غريبا للوهلة األولــى‪ ،‬ولكنه موجود دائما‪.‬‬ ‫ كانت أفضل شخص في ذلك البيت‪.‬‬‫كــان امحند يخاف صمت زوجته ووجهها‬ ‫الشاحب المعاتب‪ .‬كان أيضا يخافها حين‬ ‫إن الحديث عن ماضيه يسعده‪ ،‬ويرأب‬ ‫تطحن الحبوب وتغني‪ :‬يا نجوم السماء كوني بعض الصدوع بيننا‪ .‬قلت له حين طلقت‬

‫‪76‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ عيرني بكونك مغنيا يوم تركته ورحلت‪.‬‬‫‪ -‬هل عليّ أن أحس بالذنب؟‬

‫قضى ذات مرة مسا ًء كامال وهو يتحدث‬ ‫عن مساوئي‪ :‬امرأة ال تصمت‪ ،‬وال يمكن لك‬ ‫لقد جــاء أحمد إلــى العالم حتى يغني‪،‬‬ ‫أبدا أن تعرف ما تريده‪.‬‬ ‫وكان صمت طفولته كله تدريب على ذلك‪.‬‬ ‫يفتح فمه حتى يظهر حلقه‪ ،‬ويــبــدو كأنه‬ ‫ ال أحد يعرف ما يريده يا أبي‪.‬‬‫دخــل بعدها صمته‪ ..‬ولــم يعد يتحدث يجرب الموت أو أشد أنواع العذاب قسوة‪،‬‬ ‫عــنــي‪ .‬كــانــت الــوحــدة الــتــي تحيط بنا قد مرددا أهازيج المرأة التي لم تكن أمه‪.‬‬ ‫جعلتنا نتفاهم بالنظر أو حتى بدونه‪ ،‬أما‬ ‫صاح به والده في كل مرة‪ :‬هل تجرب أن‬ ‫حين كان يتحدث فذلك لكي يروي ماضيه‪.‬‬ ‫تكون امرأة؟‬ ‫ هذا يعني ربما أنني سأموت قريبا‪.‬‬‫وخــاف فعال أن يظن به الناس ذلــك‪..‬‬ ‫ هذا يعني فقط أننا عاطالن يا أبي‪.‬‬‫فبدأ يفكر بتزويجه‪.‬‬ ‫إنني ال أحب الكلمات الكبيرة‪ .‬جئت بعد‬ ‫شرح األمــر لزوجته الثانية فعارضته‪:‬‬ ‫طالقي للبيت وبكيت لبعض الوقت ثم انتهى‬ ‫في السادسة عشر‪ ،‬هذا كثير! أما المرأة‬ ‫األمــر‪ .‬إن الفراق يشبه عضة كلب‪ ،‬فأنت‬ ‫سوف تحتفظ دائما بندبته‪ .‬زوجي قال لي األخرى فلم تعلق على األمر‪ ،‬ولكنها توقفت‬ ‫قبل رحيلي‪ :‬هل هذا ما علمك إياه والدك لسبب ما عن الغناء‪.‬‬ ‫«المغني»؟‬ ‫كان أبي حينها قد بدأ يغني في األفراح‪،‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫وع ــدت لبيته‪ :‬يــبــدو أنــنــا سننهي حياتنا‬ ‫معًا‪ ،‬ولكنه بدا منزعجا من هذه الحميمية‬ ‫الزائدة‪ ،‬وسرعان ما بدأ يزعجه كل شيء‪.‬‬

‫‪ -‬يبقى أنك ابنتي‪.‬‬

‫استعمل في الواقع كلمة شعبية أخرى ويتلقى الضرب من والده في نهاية كل منها‪،‬‬ ‫كانت تستعمل قبل عشرات السنين‪ ،‬وكانت وبات يفكر بالرحيل‪.‬‬ ‫تجرح كسكين‪.‬‬ ‫جاء رجل ونطق جملة سحرية في أذنه‬ ‫ والدي أفضل من عشرة بهائم مثلك‪.‬‬‫اليمنى‪ :‬في المدينة قد يسجلون لك شريطا‪.‬‬ ‫وكان هذا ردًا جيدًا‪ ..‬فقد كان مستواي‬ ‫وكان هذا ما جعله يرحل ذات صباح دون‬ ‫التعليمي يفوقه‪ ،‬وكــان هــذا ينغص عليه‬ ‫أن يخبر أحدًا من إخوته أو والديه‪.‬‬ ‫حياته‪.‬‬ ‫ ولكنك ودعت األخرى يا أبي‪.‬‬‫ بالنسبة لذلك الرجل‪ ،‬لقد كان سيئا‬‫بشكل فاضح‪.‬‬

‫‪ -‬أنا أيضا لست جيدة كثيرا‪.‬‬

‫ طبعا‪ ،‬وحين قبلت رأسها تبين لي أنها‬‫تبكي‪.‬‬

‫* كاتبة من المغرب‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪77‬‬


‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫دافئة‬ ‫شتوية‬ ‫ليلة‬ ‫■ حسام الدين فكري*‬

‫زجاج نافذتي يكاد أن يتحطم‪ .‬آالف المردة يدقّ ون بقبضاتهم المائية الصاخبة‪.‬‬ ‫المطر لم يتوقف منذ الصباح الباكر‪ .‬على طرف فراشي أجلس كالجنين متدثر ًا‬ ‫بثيابي‪ .‬أفرك كفيّ في بعضهما حث ًا للدفء‪ .‬برودة الطقس تآمرت مع الصقيع‬ ‫الساري في قلبي‪ .‬مضت خمسة أيام كاملة دون أن أسمع صوتها‪ ،‬أو ترسل لي رسالة‬ ‫واحدة‪ .‬هي في كندا وأنا في مصر‪ .‬تدرس الدكتوراه منذ ثالث سنوات‪ .‬كنا مع ًا في‬ ‫كلية واحدة‪ ،‬وكنت معيد ًا في القسم الذي تدرس به‪ .‬ثم اكتشفنا أننا جيران أيض ًا‬ ‫نسكن في منطقة واحدة‪ .‬نمت قصة حبنا في رحاب الجامعة‪ .‬كل ركن من أركانها‬ ‫يحكي طرف ًا من قصتنا التي ال تشبهها قصة حب‪.‬‬ ‫في المرة السابقة عندما تحادثنا‬

‫عــبــر «ال ــوات ــس ــاب»‪ ،‬ث ــار ج ــدل واســع‬

‫بيننا‪ .‬تــريــد أن تعمل فــي كــنــدا بعد‬

‫انتهاء دراستها‪ ،‬وأنــا أريدها أن تعود‬ ‫إلى كنفي‪ .‬لقد تحملتُ ثالث سنوات‪..‬‬

‫وسوف أتحمل الرابعة‪ ،‬لكن قلبي يذوي‬

‫بدونها‪ ،‬فكيف له أن يتحمل أكثر من‬ ‫هذا‪ .‬تقول لي أن أسافر إليها في إعارة‬

‫‪78‬‬

‫مهما كانت اإلغ ــراءات‪ .‬والدتي مسنة‬ ‫وحيدة وأنا ولدها الوحيد الذي تبقى‬ ‫لها‪ ،‬بعد سفر شقيقي األكــبــر للعمل‬ ‫بإحدى دول الخليج‪ .‬روحــان وحيدتان‬ ‫نحن تحت سقف واحـــد‪ .‬لكننا على‬ ‫األقل نتساند على بعضنا في وجه تيار‬ ‫الحياة الجارف‪ .‬لن أستطيع أن أتركها‬ ‫أبداً‪.‬‬

‫مــن جامعتي المصرية إلــى جامعتها‬ ‫فــي خــضــم األمــــواج الــمــدبــبــة التي‬ ‫الكندية‪ .‬ال أطيق الغربة وال أتحمس لها تنقر رأســي‪ ،‬تــدوي «رنــة» مفاجئة من‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫هاتفي‪ ،‬أركــض نحوه وأختطفه اختطافاً‪،‬‬ ‫إنــهــا ه ــي‪ ،‬تــقــول ل ــي‪« :‬تــعــال كلمني على‬ ‫انعقد لساني‪ .‬لم أفهم‪ .‬فلم أقل شيئاً!‬ ‫السكايب»‪ .‬فــي جــزء مــن الثانية كنت قد‬ ‫ أال تصدقني؟!‬‫أدرت جهاز الكومبيوتر الخاص بي‪ .‬وجهها‬ ‫يطل مشعاً بضوء النهار المنعكس عليه‪.‬‬ ‫حاولت أن أتجاوز دهشتي وأقول شيئاً‪:‬‬ ‫إنه فرق التوقيت بالطبع‪ .‬عندهم في كندا‬ ‫ بالطبع ال أصدق‪ ..‬كيف هذا وأنت في‬‫نهار وعندنا ليل‪ .‬برودتهم أقسى من برودتنا‬ ‫كندا‪ ..‬وأنا في مصر‪..‬‬ ‫لكنهم اعتادوا عليها‪.‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬بل بعد لحظات قليلة!‬

‫قذفتني بمفاجأة أكبر من األولى‪:‬‬

‫بــدون مقدمات‪ ،‬ألصقت شفتي بشاشة‬ ‫الجهاز أقبلها‪ .‬تورد وجهها بحمرة الخجل‬ ‫ بل أنا في مصر!!‬‫كــزهــرة ياسمين نــاضــجــة‪ .‬تجلس أمامي‬ ‫عاد لساني يبحث عن الكلمات‪ .‬فغرت‬ ‫بحجابها يزين رأســهــا‪ .‬لم تتخل أبــداً عن‬ ‫أخالقها الشرقية وهــي في غربتها‪ .‬بدت فاهي في بالهة ال تليق بأستاذ جامعي مثلي!‬ ‫الدهشة على وجهها مما فعلت‪ .‬سألتني‬ ‫استطردت توضح لي‪:‬‬ ‫في تعجب يخالطه امتنان يسيل من ضحكة‬ ‫ أنا في إجازة قصيرة لبضعة أيام‪ ..‬ارتدِ‬‫رقيقة يانعة‪:‬‬ ‫مالبسك فوراً‪ ..‬واعبر الشارع إلى منزلي‪..‬‬ ‫ ماذا تفعل؟‬‫ لم أفعل شيئاً‪ ..‬شوقي إليك هو من‬‫فعل‪ ..‬شوقي إليك يمأل الكون!‬

‫سوف تجدني أنتظرك!‬

‫‪ -‬ولكن‪ ..‬النهار الذي على وجهك و‪...‬‬

‫تزداد ضحكتها رقة‪:‬‬

‫‪ -‬ها ها‪ ..‬لقد خدعتك‪ ..‬حتى أفاجئك!!‬

‫‪ -‬عُد إلى رشدك!‬

‫لم أفكر في المطر الذي ينهال كالشالل‪.‬‬

‫ وهــل بقى لي من الرشد شيئاً وأنت لــم أفــكــر فــي الــبــرد الــقــارس الـــذي يأكل‬‫بعيدة عني في أقصى األرض هكذا!‬ ‫األوصــــال‪ ،‬لــم تمأل ذهــنــي ســوى صورتها‬ ‫ ال تقلق‪ ..‬هانت‪ ..‬سوف نلتقي قريباً‪.‬‬‫رددت عليها ساخراً‪:‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ ..‬قريباً جداً‪ ..‬بعد عام كامل!‬

‫الناعمة‪ ،‬حبيبتي الغالية‪.‬‬ ‫يا نور مهجتي‪ ،‬ها أنذا قادم إليك‪ ،‬قلبي‬ ‫يتدفأ بحبك‪.‬‬

‫ * قاص من مصر‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪79‬‬


‫ٌ‬ ‫شفافة‬ ‫قلوب‬ ‫ٌ‬ ‫■ حليم الفرجي*‬

‫كبر أطفالي في الليل‪ ،‬كبروا حينما كنت نائمة‪ .‬وكبروا جدا‪،‬‬ ‫ألطفال صغارٍ قبل لحظات كانوا يلهون حولي وأعد‬ ‫ٍ‬ ‫ما زلت ال أستوعب كيف‬ ‫لهم الرضعات‪ ،‬وهكذا فجأة أصبحوا رجاال!!‬ ‫كــنــت أســمــع صــراخــهــم ط ــوال تلك‬ ‫كيف لــي أن أنــام طويال ألستيقظ‬ ‫األعـ ــوام حين يــتــنــازعــون حــول قطعة وقد تغير كل شيء؟!‬

‫لفض‬ ‫ِّ‬ ‫مــابــس ألحــدهــم‪ ،‬وأن ــا أج ــري‬ ‫كبر أطفالي و َك ـ ِبــرتُ أيــضـاً‪ ،‬كبرت‬ ‫الــنــزاع‪ ..‬يخبرني أحدهم أن مالبسه وضعفت عيناي وذاكرتي‪ ،‬وظهري أيضا‬ ‫صغرت ولــم يعد يستطع ارتــداءهــا‪ ..‬بات يشكو انحناءه‪..‬‬ ‫فأسرعت للسوق ألجلب له غيرها أكبر‬ ‫أيفعل بي النوم الطويل هذا؟‬ ‫مقاسً ا ولآلخر أيضا‪.‬‬ ‫عليَّ أن أبقى بمفردي‪ ،‬أبقى بمفردي!‬ ‫لم يكونوا يعتمدون على والدهم في‬ ‫بقيت أرددهــا كثيرًا بعد أن قالتها‬ ‫شيء‪ ،‬كنت لهم أما وأبا؛ لم أكن أدرك‬ ‫لي الممرضة بدار رعاية المسنين قبل‬ ‫أن شكواهم تلك تعني أنهم ال يخبرونني‬ ‫أن تعيدني لحجرتي وتقفل الباب‪ ،‬هي‬ ‫أن قاماتهم قــد زادت طــوال وكذلك‬ ‫ال تفهم أنه ال بد لي أن أذهب للسوق‬ ‫أحجامهم فقط!!‬ ‫ألجلب ألطفالي مالبساً أطول وأوسع؛‬ ‫كيف كبروا فجأة ولم ألحظ هذا؟! ألنهم مازالوا يكبرون!‬ ‫* قاصة من السعودية‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫■ محمد الرياني*‬

‫كل المقاعد كانت تتجه إلــى النهر باستثناء مقعدي كــان متجهً ا إليها‪ ،‬هم‬ ‫ينظرون إلى المراكب الصاخبة التي تتعالى فيها أصوات الفرح‪ ..‬وأنا أنظر إلى‬ ‫الدَّ رَج القديم الذي كانت تجري عليه وعلى وجهها الدائري دمعة‪ ،‬وأنا أستمع إلى‬ ‫آثرت أن أعيش‬ ‫رجائها‪ ،‬انقطع االتصال بيني وبين السامرين معي على الضفاف‪ُ ،‬‬ ‫لحظة الفراق بيننا في غربة أراها عمرً ا وهي أيام‪.‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫الغياب‬ ‫نسائم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬

‫فــي أول ي ــوم أغــيــب فــيــه عنها‪ ..‬القادمة من الدُّور العالية‪ ،‬وأنا أسترْو ُح‬ ‫اتصلتْ تسأل عن موعد عودتي‪ ،‬تكرر من عالمها الصغير كل نسائم العالم‪.‬‬ ‫عندي منظر بكائها ودموعها وجلستها تركنا المكان الهادئ وهم يسألون عن‬ ‫على آخر السلم‪ ،‬وكيف كانت تدعوني سر الشرود‪ ،‬في اليوم األخير للغربة‬ ‫ألجلس بجوارها‪ ،‬وأنا أقول لها‪:‬‬ ‫اتصلتْ تسألني‪ ،‬وقد كنتُ قريبًا منها‬

‫لــن أغــيــب عــنــك كــثــي ـرًا‪ ،‬وسأجلب يفصل بيننا الباب‪..‬‬ ‫لك هدايا وألعابًا‪ ،‬وهي تمسح دمعتها‬ ‫أين أنت؟‬ ‫بأصبعها الرقيق وقد اتخ َذ شكال أشبه‬ ‫قلتُ لها بجانب النهر البعيد‪.‬‬ ‫بــانــحــنــاء ِة حــزيــن وهــي تسألني‪ :‬وهل‬ ‫ضحكتْ وقالت أنت تضحك عليّ ‪.‬‬ ‫ستحضر لي‪ ....‬و‪ ....‬و‪ ...‬و‪....‬‬ ‫وأنا أقول لها‪ :‬كل ما تريدين‪ ،‬وكيف‬ ‫نهضتْ بخفة ورمتْ بجسدها الصغير‬ ‫بين أحضاني وهي تضحك وتبكي في‬ ‫آن معًا‪ ،‬وأنا أقبلها مكان الدمعة وألوّح‬ ‫لها تلويحة الوداع‪.‬‬

‫ك ــان شــعــورهــا أكــبــر مــن عمرها‪،‬‬

‫فاجأتها بفتح الباب وهي تتكئ عليه‪،‬‬ ‫هبت نسائم مع لحظة العناق أروع من‬ ‫النسائم التي عزفتُ عنها‪ ،‬لم تسألني‬

‫عــن الــهــدايــا الــتــي وعــدتــهــا بــهــا‪ ،‬كــان‬

‫كل الذين حولي ظلوا يستنشقون الموقف أروع بكثير من فتح الحقائب‬ ‫نسائم النهر‪ ،‬وتضيء في عيونهم األنوار القادمة من السفر‪.‬‬ ‫ * قاص من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪81‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بستان َك‬ ‫الغربة‬

‫*‬

‫■ علي بافقيه**‬

‫ُك‬ ‫الغربةُ بستان َ‬ ‫فيه رمّ انٌ و أشجا ٌر‬ ‫نخلٌ طويلٌ له سعف‬ ‫ماءٌ و ُحو ٌر و أحجا ٌر‬ ‫أشواك الورد ْة‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫‪..‬‬ ‫و فيما أنتَ تُعالج التابوتَ‬ ‫تدعك النجم َة‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫ُخذ بي للرّمال البعيدة‬ ‫لونها كُ مي ٌْت‬ ‫تَهطلُ من فوقها األمطار‬ ‫‪..‬‬ ‫و فيما أنتَ تُداري العَوسجة‬ ‫تحبس الكالم‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫و تَقرأ اليباس‪،‬‬ ‫تُحاو ُر الحصى‬ ‫يا غريب‬ ‫‪..‬‬ ‫طفلٌ و ممحاةٌ و ورقة‬ ‫وك لت َُصفُ َو‬ ‫أمْ ُح َ‬ ‫الشاعرُ مَ ْحوُ السكوتْ‬ ‫َصقْ لُ العبارةِ‬ ‫و هدمُ ها‬ ‫جَ نّةُ الحمار‬ ‫و جَ نّةُ المعنى‬

‫‪82‬‬

‫ * خــص الشــاعر الكبيــر علــي بافقيــه "الجوبــة"‪ ..‬بهــذه القصيــدة و التــي‬ ‫تنشــر ألول مــرة‪.‬‬ ‫** شاعر من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫■ سعاد الزحيفي*‬

‫ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ُحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــقَّ لـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـ ــوت أن يـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـب ـ ـ ــاه ـ ـ ــى‬ ‫ف ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ت ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــب ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان وتـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءت ف ـ ـ ـ ـ ــأش ـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ـ ــت الـ ـ ـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــاة بـ ـ ـ ــداخ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــي‬ ‫وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ــات س ـ ـ ـ ـ ــواه ـ ـ ـ ـ ــا‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫ياقوت‬

‫اهلل ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوّرهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وأح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن خـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا‬ ‫وب ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ــه ذي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد أواله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وب ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ال ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ــوق مـ ـ ـ ـ ـ ـ ّي ـ ـ ـ ـ ــزه ـ ـ ـ ـ ــا فـ ـ ـل ـ ــم‬ ‫ت ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــرف م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ال ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــوى س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوى م ـ ـ ـع ـ ـ ـنـ ـ ــاهـ ـ ــا‬ ‫عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ــن مـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ــادة‬ ‫أن ت ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــر األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزان ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـن ـ ـ ــاه ـ ـ ــا‬ ‫قـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان م ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ــدم ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ال ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــل ك ـ ـ ـ ــرام ـ ـ ـ ــة‬ ‫لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــق سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة وال أش ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫ت ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ــع ال ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــرة ف ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـي ـ ـ ــن ل ـ ـض ـ ـع ـ ـف ـ ـهـ ــا‬ ‫وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــرة ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ب ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــض نـ ـ ـ ـ ــداهـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل ت ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ــم ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ع ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــى أدوائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل تـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــي ج ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــل شـ ـ ـ ـ ـ ــداهـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ــل تـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ــي وتـ ـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ــب م ـ ـ ـج ـ ـ ـل ـ ـ ـسـ ـ ــي‬ ‫وت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ف ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ــا أحـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وإذا ب ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ــت ع ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــي ت ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــض دمـ ـ ـ ــوع ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا‬ ‫رف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع اإللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وش ـ ـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫هـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي قـ ـ ـ ـ ـ ــوتـ ـ ـ ـ ـ ــي وه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــرة لـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي وإن‬ ‫وض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت جـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــرتـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــى يـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـن ـ ـ ــاه ـ ـ ــا‬ ‫* ‬

‫شاعرة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪83‬‬


‫في ِّ‬ ‫اعوجاج ُأنثى!‬ ‫القمر‪،‬‬ ‫كف‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫■ ليال الصوص*‬

‫بجانب سيء‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪‎‬ربما لست بتلك الفتاة المثالية‪ ،‬وأحتفظ داخلي‬ ‫‪‎‬لكني لم أخن وعد ًا‬ ‫‪‎‬لم أكسر صديق ًا‬ ‫‪‎‬ذقت طعم الخذالن‬ ‫‪‎‬فشلت في الرحيل‬ ‫‪‎‬أحببت بصدق‬ ‫‪‎‬وسأموت بسالم‪!..‬‬ ‫‪‎‬أحاول أن أكتب رسالة في زمن الكورونا‬ ‫إلى ما بعد تاريخ الرحيل األخير‪،‬‬ ‫‪‎‬حين تُطف ُأ األضواء على سفح البحر‪،‬‬ ‫‪‎‬وتصبح الرياح غريبة كذئاب تعوي في فراغ الغروب‪.‬‬ ‫‪‎‬حزينة هي على من كان يمر ليجمع أصداف األحالم الميتة‪،‬‬

‫‪84‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫‪‎‬الوداع هو ما ندركه قبل الرحيل بلحظات‪ ،‬لكننا نفشل في االعتراف‬ ‫‪‎‬فتبقى الكلمات على أطراف األنامل‪ ،‬تزهر يوم ًا ما جدلة ياسمين‪..‬‬ ‫‪‎‬غريبة هي فكرة الموت‪،‬‬

‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫‪‎‬على طفلة اختبرت لذة الغرق األول مع تكسر موج طفولتها األولى‬

‫‪‎‬تأتيك مصادفةً حين تتعثر به في كل مكان‬ ‫‪‎‬عند واجهات المحالّ ذوات اإلعالنات عن طرق عالج األمراض‬ ‫‪‎‬داخل الكتب المكدّ سة على رفوف المكتبات بعناوينها عن الرحيل‬ ‫‪‎‬السير على طرقات خالية ّإل من أوراق صفراء‬ ‫كحل عينها الغبار‪..‬‬ ‫‪‎‬وتأمل مكتبتي التي ّ‬ ‫‪‎‬كأن الكون يودّعك‪ ..‬لهذا سأكتب‪،‬‬ ‫‪‎‬إلى أمي‪ ،‬كنت نقطة ضعفي غير المُ علنة‬ ‫‪‎‬إلى أبي‪ ،‬رغم جفائك‪ ..‬لكني أدرك ثقتك بقدراتي‬ ‫‪‎‬إلى أخَ واتي‪ ،‬أنتم سور دفاعاتي األخير‬ ‫‪‎‬إلى أوالد أخواتي‪ ،‬معكم تعلمت أن أكون أم ًا‬ ‫‪‎‬إلى ميسا ء‪ ،‬ستبقين زهرة مشمش الضيعةِ والغد مشرق ألجلك‬ ‫بسيف ال يرحم‬ ‫ٍ‬ ‫‪‎‬إلى بان‪ ،‬أنت أقوى مما تُدركين‪ ،‬حاربي‬ ‫‪‎‬إلى منال‪ ،‬قلبك نقطة قوتك‪ ،‬حافظي عليه‬ ‫‪‎‬إلى عبداهلل‪ ،‬كنتَ الصديق األقرب إلى القلب وأكثر‬ ‫أبق على حنانك‪ ،‬وأبقني داخلك سر ًا‬ ‫‪‎‬إلى رجل النون‪ِ ،‬‬ ‫‪‎‬إلى رجل الثلج‪ ،‬كنت دوم ًا حدث ًا استثنائي ًا‬ ‫‪‎‬إلى كل من تقاطعت معهم‪،‬‬ ‫‪‎‬ربما لم تدركوا‪ ،‬لكني وهبتكم محبتي أوالً‪..‬‬ ‫ *‬

‫شاعرة من لبنان ‪ -‬صيدا‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪85‬‬


‫ٌ‬ ‫نبضات‬ ‫■ مالك اخلالدي*‬

‫(عمر)‬ ‫ُ‬

‫ـزن يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراودُ نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫أع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوذُ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلل مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫ـأس يُ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ــاجـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي‬ ‫‏ أع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوذُ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلل م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫‏ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاألم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـس لـ ـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـ ـ ٌـف إلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌٌّـي يـ ـ ـ ـص ـ ـ ــافِ ـ ـ ـ ُـحـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي‬ ‫‏فـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ُـت أنـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ــى وال األيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامُ ُت ـ ـ ـن ـ ـ ـس ـ ـ ـي ـ ـ ـنـ ـ ــي‬ ‫‏فـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــرِ عـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــرٌ مـ ـ ـ ـ ــن األح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامِ أرقـ ـ ـ ـ ُبـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا‬ ‫ـات س ـ ـتـ ــأت ـ ـي ـ ـنـ ــي‬ ‫ـض اب ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــامـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫‏ف ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ِـب ب ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫(انتماء)‬

‫أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أن ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ــي ل ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـثـ ـ ـ ـ ـ ــرى و الـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ِـل‬ ‫ـض ال ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ــدى‬ ‫ـزن ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءِ ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫و حــــــــــــ ِ‬ ‫‏هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروحُ لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرارِ ت ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــلُ‬ ‫ـال ُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدى‬ ‫ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ال ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ــرُ دون ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬

‫‪86‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫(قلب)‬

‫‏هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذا فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــؤادي لـ ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــر اهلل م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ق ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ــدا‬ ‫‏ب ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلل قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامَ‪ ،‬بِ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدْ ِي ال ـ ـ ـم ـ ـ ـص ـ ـ ـط ـ ـ ـفـ ـ ــى سـ ـ ـج ـ ــدا‬ ‫‏فـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــمْ ل ـ ـ ـق ـ ـ ـل ـ ـ ـبـ ـ ــي م ـ ـ ـ ـ ــن األقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدارِ أج ـ ـ ـم ـ ـ ـ َل ـ ـ ـهـ ـ ــا‬ ‫‏ي ـ ـ ـ ـ ــا رب‪ ..‬ي ـ ـ ـ ـ ــا رب واجـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ــل أمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َرن ـ ـ ـ ـ ـ ــا رش ـ ـ ـ ـ ــدا‬ ‫(اشتياق)‬

‫ـض ل ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ُـت أس ـ ـ ـ ـ ـ ــا ُه‬ ‫لـ ـ ـ ـ ــي فـ ـ ـ ـ ــي «الـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــةِ » ن ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫‏ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـت أن ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ــى وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ق ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــي ت ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ــاسـ ـ ـ ـ ــا ُه‬ ‫‏أشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ــاقُ وال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقُ ُت ـ ـ ـش ـ ـ ـج ـ ـ ـي ـ ـ ـنـ ـ ــي ل ـ ـ ـ ــواع ـ ـ ـ ـ ُـج ـ ـ ـ ــهُ‬ ‫‏ي ـ ـ ـ ـ ــا رب فـ ـ ـ ــاك ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ْـب ل ـ ـ ـق ـ ـ ـل ـ ـ ـبـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ ّـب ل ـ ـ ـق ـ ـ ـيـ ـ ــا ُه‬ ‫(مطر)‬

‫ـاض ال ـ ـ ـ ـ ـ ـشـ ـ ـ ـ ـ ــوقُ سـ ـ ّـج ـ ـي ـ ـنـ ــا‬ ‫ـراب وفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّ َـن ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫‏حـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــى أت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ال ـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــمُ تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوّاقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًا ل ـ ـي ـ ـس ـ ـق ـ ـي ـ ـنـ ــا‬ ‫األرض م ـ ـ ـ ـ ــا أش ـ ـ ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ــى ق ـ ـ ـصـ ـ ــائـ ـ ــدنـ ـ ــا‬ ‫ُ‬ ‫‏ي ـ ـ ـ ـ ــا ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذه‬ ‫‏ح ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ــى ال ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ــاءُ أف ـ ـ ـ ـ ـ ــاض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـت ك ـ ـ ـ ـ ــي ُت ـ ـ ـ ــداويـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــا‬ ‫ *‬

‫شاعرة وقاصة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪87‬‬


‫القصيدة‬ ‫ظن‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫■ نوره عبيري*‬

‫أحقيقة ما صدقناه‬ ‫يا ظن القصيدة‬ ‫حرف‬ ‫ً‬ ‫كلما شاب في آخر القافية‬ ‫وُ لِ َد بصبا اإللهام قافية جديدة‬ ‫يا شعرُ ما كان في انتهائك‬ ‫بمحيطات لساني‬ ‫لحن تأتي‬ ‫إال بحور ِ‬ ‫بأزمنةٍ عنيدة‬ ‫***‬

‫يا شعر كيف ال يكون‬ ‫في رنين وحيك‬ ‫في وريدي وقعٌ بال انتهاء‬ ‫و أنت المهووس في عاصفة الحبر‬ ‫أن أبقى‬ ‫كف فجرها‬ ‫شاعر ًة تعصر في راحة ّ‬ ‫من ليلها الطويل الكريم بوحدته‬ ‫عصفور ًة للصبح أغنيتها وليدة‬ ‫يا شعرُ ما الجدوى‬ ‫كنت أنا الجدوى‬ ‫إن ُ‬ ‫و أنت الجدوى التي تبحث عني‬ ‫مُ تشابهان‬ ‫بضياع الكالم فيك حين تسألني‬ ‫من بالصمت أكملنا؟!‬ ‫تُدلل بي بعض التيه‬ ‫كفتنة عقد في نحر فقيرة للتو‬ ‫صلّت فجر عيدها‬ ‫‪88‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫و ركضت لبنات الحي سعيد ًة‬ ‫يا شعر ما أعتقت ظني فيك‬ ‫و أظنك صدقً ا لن تعتقني‬ ‫حتى أؤمن أن الفصاح َة‬ ‫جواب في لحن قولي‬ ‫ٌ‬ ‫حين أُسأل عن اسمي‬ ‫اجيب اسمي القصيد ًة‬ ‫ُ‬ ‫بل اسمي قصيدة‬ ‫تُأول المجهول و تطيله بي‬ ‫ألنني لو كنت أعلم فيك ما خاتمتي‬ ‫كنت أطلت‬ ‫لما ُ‬ ‫في قصير بعض بردي‬ ‫رداء شاعرةٍ أربك لحنها شك صيفي‬ ‫تنطق اللحن في طرف كل غروب‬ ‫شفقه يلوح لي بطيف مسافر‬ ‫و تكسر في مرايا كل مساء‬ ‫مرآة عطري‬ ‫من آني‪ ..‬يا شعرُ أنت تأتي‬ ‫تُقبلُ ‪ ،‬و أجهل بأنك مُ دبر‬ ‫و تدبرُ ‪ ،‬و تلعب بالعطش‬ ‫في دعابات كأسي‬ ‫تُذكرني أن الظنَ فيك صدقً‬ ‫وأن الزيف الذي‬ ‫عطش‬ ‫ً‬ ‫يُ ريبني فيك ليس‬ ‫بعدل‬ ‫ِ‬ ‫نصف الحقيق َة بي‬ ‫َ‬ ‫يقينً يُ‬ ‫أنت الظن الذي تصدقه القصيدة‬ ‫حين يثور شكي‬ ‫و ال أظنُ سوى أن اسمي‬ ‫القصيدة‪.‬‬ ‫* ‬

‫شاعرة من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪89‬‬


‫قصيدتان‬ ‫■ غسان تهتموني*‬

‫اآلخر من حلمي‬ ‫ِ‬ ‫الطرف‬ ‫ِ‬ ‫في‬

‫المكتوب‬ ‫ْ‬ ‫إظفرك‬ ‫ِ‬ ‫لم يجرحْ‬ ‫لم تبتسمي كالعاد ْة‬ ‫بالصمت‬ ‫ِ‬ ‫أسرف‬ ‫َ‬ ‫فكالنا‬ ‫ونادا ُه الدفترُ إيَّا ْه‬ ‫بالشوق مراد ْه‬ ‫ِ‬ ‫عبأ‬ ‫نصفين‬ ‫ِ‬ ‫نصفين إلى‬ ‫ِ‬ ‫وتشقَقَ حزني‬ ‫بعينيك مداد ْه‬ ‫ِ‬ ‫فخلت الشع َر‬ ‫ُ‬ ‫البرزخ‬ ‫ِ‬ ‫فأتمِّ ي لألعراف طقوس‬ ‫كوني لليل سهاده‬ ‫لماذا‪..‬؟‬ ‫تصدِّ ُر فيَّ الجرا َح‬ ‫إذا ما رشقتَ السهاَ َم‬ ‫وتقسو‬ ‫بدونك‬ ‫ِ‬ ‫وتعلمُ أنَّي قليلٌ‬ ‫الحرب وحدي‬ ‫ِ‬ ‫أعدو إلى‬ ‫هناك‬ ‫َ‬ ‫أماميَ رومٌ‬ ‫فرس‬ ‫هنالك ُ‬ ‫َ‬ ‫وخلفي‬ ‫فسيح عتابي‬ ‫ٌ‬ ‫قتيلٌ حمامي‬ ‫وتسألُ كيف بدت عنقي‬ ‫ترس‬ ‫للعواذل ُ‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬ ‫لي ا ُ‬ ‫يحالفك طرفي‬ ‫َ‬ ‫إن لم‬ ‫إذا ما أطال الزفي َر نواحٌ‬ ‫وطار بُعيدي‬ ‫حس‬ ‫خيامك للقبر ُّ‬ ‫َ‬ ‫وزلفى‬ ‫* ‬

‫‪90‬‬

‫شاعر من األردن‪.‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫لي اهللُ‬


‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص‬

‫أذوب عليك‬ ‫ُ‬ ‫■ عبداهلل مفتاح*‬

‫قليل على ال َرّمْ ِل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َو ل َنبْقَ‬ ‫نبني بيوتًا‪،‬‬ ‫وسورًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْك‬ ‫ونهرب من موجةٍ تتهادى إ َلي ْ‬ ‫ُ‬ ‫البيوت وروحي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتذوب‬ ‫ُ‬ ‫سأرسمُ قلبًا‪!..‬‬ ‫ُ‬ ‫أج ُث‪..‬‬ ‫تقولين‪ْ :‬‬ ‫فأجثو‪..‬‬ ‫ْك‬ ‫ت َُض ِ ّمينَ قلبي بكلتا َي َدي ْ‬ ‫فأذوب بِ َل مَ وجةٍ تتهادى‬ ‫ُ‬ ‫أذوب‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫أذوب‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ْك‬ ‫أذوب علي ْ‬ ‫ُ‬ ‫* ‬

‫شاعر من السعودية‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪91‬‬


‫ُأ ِ ّ‬ ‫الحياة‬ ‫شجرة‬ ‫فك ُر في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫■ جمال موساوي*‬

‫في كل هذا الضجيج‪،‬‬ ‫شمس‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أنا اآلن بال‬ ‫أتأمل الكرة األرضية تخطو في الظال ْم‬ ‫ثمَّ كما لو أنني‬ ‫الحرب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫مسكون بروح‬ ‫أغيرُ على ممالك ماضيةٍ ‪،‬‬ ‫هناك ما ينبغي أن أستعيدهُ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫شمسي التي ربيتُ ها في بيت الحاضر‬ ‫صنارتي التي أصطادُ بها المستقبلَ ‪،‬‬ ‫وطريقي‪.‬‬ ‫أفكرُ في الكرة األرضيةِ ‪،‬‬ ‫ممالك آتيةٍ ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تنسف الظال َم إلى‬ ‫ُ‬ ‫وفي خطواتي‬ ‫هناك ما ينبغي أن يكون لي‪:‬‬ ‫َ‬ ‫غطا ُه الغبا ُر‬ ‫وجهي وقد ّ‬ ‫ويدي لتكتبَ ما يوحي هذا الضجيجْ‬ ‫وطريقي التي في نهايتها‬ ‫عش فيه طيور‪.‬‬ ‫ستنب ُ​ُت شجرة فوقها ّ‬ ‫أفك ّر في الكرة األرضيةِ‬ ‫في الظالمِ‬ ‫في صدري الذي يهتزُّ‬ ‫في الطيور التي ستخرجُ ساخر ًة‬ ‫من الصيادِ‬ ‫الصيد‬ ‫ِ‬ ‫كالب‬ ‫ومن ِ‬ ‫الضجيج‬ ‫ِ‬ ‫في روحي التي ستصعدُ أعلى من‬ ‫الحرب‬ ‫ِ‬ ‫فكرتي عن‬ ‫ِ‬ ‫وفي‬ ‫واألسرِ‬ ‫والحياة‪.‬‬ ‫فحسب‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫أفكر في شجرة الحياة‬ ‫* ‬

‫‪92‬‬

‫شاعر من المغرب‪.‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫قصة الكاتبة األمريكية‪ :‬كيت شوبان‬

‫*‬

‫■ ترجمة‪ :‬أميرة الوصيف**‬

‫تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫ُ‬ ‫الرجل األعمى‬

‫بيد واح ــدة‪ ،‬يهبط أسفل الـشــارع‪ .‬قبعته القديمة‬ ‫رجــلٌ يحمل صندوقً ا أحمر صغير ًا ِ‬ ‫القش‪ ،‬وثيابه الرَثة تبدو وكــأن المطر ضربها كثيراً‪ ،‬وأن حــرارة الشمس‬ ‫ّ‬ ‫المصنوعة من‬ ‫جففتها مرات عديدة‪ .‬لم يكن الرجل عجوزاً‪ ،‬إال إن عالمات الوهن تبدو جَ لي َة عليه‪.‬‬ ‫مشى الــرجــل ذاه ـ ًـا تحت الشمس على امـتــداد الرصيف الكالِ ح ال ـحــارِ ق‪ .‬فــي االتجاه‬ ‫المُ عاكس من الشارع‪ ،‬يوجد المزيد من األشجار؛ التي تُلقي بظاللها‪ ،‬كان الناس جميعهم‬ ‫يمشون في ذلك االتجاه إال ذلك الرجل‪ ،‬لكونه أعمى‪ ،‬وعالو َة على ذلك‪ ،‬ألنه غبي‪.‬‬ ‫في الصندوق األحمر الصغير أقالم الرصاص‪ ،‬جرس الباب‪ ،‬لم يكن بحاجة إلى أقالم الرصاص‪،‬‬ ‫وليس لديه أية نية للتورط في إزعاج سيدة المنزل‬ ‫كان الرجل يسعى جاهداً إلى بيعها‪.‬‬ ‫ـصــا‪ ،‬ولكنه حول مثل تلك األشياء التافهة‪.‬‬ ‫لــم يكن الــرجــل األعــمــى يملك عـ ً‬ ‫ظل الرجل في الخارج طيلة الوقت‪ ،‬ومشى‬ ‫ُرشد نفسه‪ ،‬إما بسَ حب قدميه على امتداد‬ ‫كان ي ِ‬ ‫لمسافات طويلة دون أن يبيع شيئاً‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أحجار الواجهات‪ ،‬أو من خالل تَتَبع يديه للسياج‬ ‫الحديدي‪.‬‬ ‫ذات نهار‪ ،‬قام شخص ما بمنحه ذلك الصندوق‬

‫عندما وصــل األعمى إلــى درجــات منزل ما‪ ،‬المليء بأقالم الرصاص‪ ،‬وأرسله ليكسب عيشه‬ ‫حاول أن يصعده‪ ،‬في بعض األحيان عندما يصل بعد أن سأم من تجوال ذلك األعمى في كل مكان‪.‬‬ ‫الرجل إلى الباب بعد تكبده العناء‪ ،‬ال يفلح في‬ ‫الجوع بأنيابه الحادة قرص معدته‪ ،‬والظمأ‬ ‫إيــجــاد الــزر الكهربائي‪ ،‬عندها يــحــاول الرجل الشديد جَ فّف فمه‪ ،‬وعذّبه‪.‬‬ ‫واضح‪ ،‬ويذهب في طريقه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫النزول بصبرِ‬ ‫كانت الشمس تغلي‪ ،‬تج ّو َل الرجل األعمى في‬ ‫بــعــض الــبــوابــات الــحــديــديــة ُمــقـ َفــلــة‪ ،‬سافر مالبسه الثقيلة‪ ،‬كان يرتدي سُ ترَة ومعطفاً فوق‬ ‫أصحابها من أجــل إجــازة الصيف‪ ،‬كــان الرجل القميص‪ ،‬كان بإمكانه تغيير هذه الثياب‪ ،‬وحملها‬ ‫األعمى يستهلك وقتاً طوي ً‬ ‫ال يُجاهِ د في فتح تلك على ذراعــه‪ ،‬أو إلقائها بعيداً‪ ،‬لكنه لم يفكر في‬ ‫البوابات‪ ،‬ولعل ما يحدث فارقاً هو أن األعمى ذلك‪.‬‬ ‫يظن أن الزمن كله تحت تصرفه‪.‬‬ ‫شاهدته امــرأه عطوفة من نافذتها باألعلى‪،‬‬ ‫في ذلك الوقت‪ ،‬نجح الرجل األعمى في إيجاد شعرت باألسى حياله‪ ،‬وتمنت لو بإمكانه عبور‬ ‫الظل‪.‬‬ ‫الزر الكهربائي‪ ،‬ولكن الرجل أو الخادم الذي أجاب الطريق إلى حيث ِ‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪93‬‬


‫من أيــن أتــت كل هــذه الجماهير فجأة؟! هل‬ ‫عرج الرجل األعمى إلى الشارع الجانبي حيث‬ ‫السحر؟‬ ‫الجَ لَبة‪ ،‬والضوضاء التي أحدثها مجموعة أطفال جاءت بفعل ِ‬ ‫أشقياء أثناء اللعب‪.‬‬ ‫األوالد يهربون‪ ،‬الرجال والنساء يذرفون الدمع‬ ‫جــذب لــون الــصــنــدوق الصغير الــذي يحمله‬ ‫لمُصافحة أعينهم ذلك المشهد البغيض‪ ،‬األطباء‬ ‫الرجل األعمى انتباه األطفال‪ ،‬وأرادوا بشدة أن‬ ‫يكتشفوا ما يوجد في داخله‪ ،‬حاول أحد األطفال يندفعون مع حقائبهم‪ ،‬وكأن السماء هي مَن قامت‬ ‫أن يأخذه ويهرب‪ ،‬إال إن غريزة الرجل األعمى بإرسالهم مُباشرةَ إلى هنا‪.‬‬

‫لحماية نفسه‪ ،‬والدفاع عن مصدر رزقه الوحيد‪،‬‬ ‫تنامى الرعب والفزع عندما أدرك الحشد أن‬ ‫جعلته يُــقــاوِ م‪ ،‬ويــصــرخ فــي األطــفــال‪ ،‬وينعتهم‬ ‫الرجل الميت‪ ،‬صاحب الوجه المُشَ وه هذا هو أحد‬ ‫بالشتائم‪.‬‬ ‫األشخاص األكثر ثراءَ‪ ،‬األكثر قيمة‪ ،‬األكثر تأثيراً‬ ‫جــاء أحــد رجــال الشرطة إلــى حيث الجَ لبَة‬ ‫في المدينة!‬ ‫الــمــوجــودة فــي زاويـ ــة ال ــش ــارع‪ ،‬وعــنــدهــا وجــد‬ ‫رج ــل مــثــلــه مــعــروف بــحــصــافــتــه‪ ،‬وحكمته‪،‬‬ ‫أن الــرجــل صاحب الصندوق هــو مركز التوتر‬ ‫واإلزعاج‪ ،‬اقترب منه الشرطي‪ ،‬وجذبه من ياقته‪ ،‬وبــصــيــرتــه الــنــافــذة كــيــف يــاقــي ه ــذا المصير‬ ‫ولكن عندما رأى أنه أعمى‪ ،‬امتنع عن تعنيفه‪ ،‬الرهيب؟!‬ ‫وأرسله في طريقه ليكسب عيشه‪.‬‬ ‫كان المسكين يقود بسرعة بالغة من مقر عمله‬ ‫عاد الرجل مرة أخرى‪ ،‬يمشي تحت الشمس‬ ‫حتى يَلحق بأسرته التي ستبدأ عطلتها الصيفية‬ ‫الحارقة‪ ،‬هائماً على وجهه‪ ،‬يتجوّل بال فائدة‪ ،‬ثم‬ ‫انعطف إلى شارع مزدحم بالسيارات الكهربائية خالل ساعة أو اثنتين في منزلهم الصيفي على‬ ‫أصوات صاعقة ساحل المحيط األطلسي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الوحشية التي ال تَكف عن إصدار‬ ‫ذهاباً وإياباً‪ ،‬تُطلَق أجراساً مُفزعة‪ ،‬حرفياً كانت‬ ‫أثناء عجلته‪ ،‬لم يَلمح السيارة األخرى القادمة‬ ‫األرض ترتعش تحت قدميه من قوة دفعها المُريعة‪.‬‬ ‫من االتجاه اآلخر‪ ،‬وعندها تكرر الشيء الشائع‪،‬‬ ‫عندما بدأ الرجل األعمى يعبر الشارع‪ ،‬شيء المروع‪ ،‬األليم نفسه‪.‬‬ ‫ما حدث‪ ،‬شيء مُريع؛ شيء ما جعل النساء تُصعَق‪،‬‬ ‫لم يكن يعرف الرجل األعمى ِل َم كانت كل هذه‬ ‫وجعل أقوى الرجال يشعرون بالمرض والدوار!‬ ‫الضجة‪ ،‬كان قد عبر إلى الشارع‪ ،‬هناك‪ ،‬حيث ال‬ ‫َ‬ ‫شفاه السائق كانت شاحبة تماماً كوجهه‪،‬‬ ‫ارتعش الرجل و تَ َرنّح من َهــول الجهد البشري يزال يتعثر تحت أشعة الشمس الحارقة‪ ،‬ساحباً‬ ‫الخارق الذي بذله من أجل إيقاف سيارته‪.‬‬ ‫قدميه على امتداد أحجار الواجهات‪..‬‬ ‫ * كيت شوبان‪ ،‬كاتبة قصص قصيرة وروائية أمريكية‪ ،‬تعد شوبان من رواد األدب األنثوي في القرن‬ ‫العشرين‪ .‬كتبت شوبان بين ‪ 1892‬و‪1895‬م عدداً من القصص القصيرة‪ .‬من أعمالها الكبرى مجموعتان‬ ‫قصصيتان هما «جماعة بايو» (‪1894‬م) و«ليلة في أكادي» (‪1897‬م)‪ ،‬ومن أهم قصصها القصيرة «طفل‬ ‫ديزيريه» (منشورة في سنة ‪1893‬م) و«قصة ساعة» (صدرت في ‪1894‬م) و"العاصفة"‪ .‬حصلت كيت‬ ‫شوبان على اعتراف واسع بعد مرور عشر سنوات على مماتها بصفتها من كبار مؤلفي زمانها‪..‬‬

‫‪94‬‬

‫** كاتبة ومترجمة مصرية‪ ،‬مصدر النص‪ :‬موقع األدب األمريكي‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪.American Literature‬‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫الشاعر أحمد اللهيب‪:‬‬ ‫التأثر والتأثير عملية نفسية معقدة ال يمكن‬ ‫حصر أبعادها من خالل قصيدة واحدة أو اثنتين‪!..‬‬ ‫الشاعر أحمد سليمان اللهيب من مواليد مدينة بريدة ‪1971‬م‪ .‬هو رفيق الكلمة‬ ‫التي تليق بصوته‪ ،‬فهي ترافقه في فضاء الشعر‪ ،‬والحياة تمده من خبرات جمالية‬ ‫وثقافية وتربوية‪ ،‬وهذه الخبرات هي األساس التي تغذّ ي تجربته في الكتابة؛ وله‬ ‫الكثير من المشاركات في األمسيات الشعرية‪ ،‬والتي توثّق مُ نتجه األدبــي‪ ،‬وهو‬ ‫يتسلح بثقافة أصيلة وبروح تنتشي بإيقاعها المتفرد‪ .‬عندما سألته عن دواوينه‬ ‫وكتبه النقدية قال‪" :‬على الباحث أو المبدع أن يجعل التأليف النقطة األولى في‬ ‫عالمه‪ ،‬فالكتاب هو األبقى‪ ،‬واألجمل‪ ،‬والتاريخ يشهد بذلك‪ ،‬فمن بقيت مؤلفاتهم‬ ‫بقوا وعاشوا إلى وقتنا‪ ،‬ومن غابت مؤلفاتهم وضاعت فقدوا‪ .‬ومن هنا كانت حكاية‬ ‫المشروع‪ ،‬المشروع أن تكون حاضرً ا بين فينةٍ وأخــرى بكتاب أو دراســة أو ديــوان‬ ‫شعر‪ ،‬وال ريب أن كل كتاب يصدر لي يجعلني بصدد البحث عن تأليف كتاب آخر‪.‬‬ ‫وهكذا الوالدة ليست موتا‪ ،‬بل حياة أخرى في عالم التأليف‪ .‬وهنا وجدت نفسي‪،‬‬ ‫الخرج بقية"‪ ..‬الجوبة‬ ‫فكانت هذه الدراسات وهذه الدواوين الشعرية‪ .‬وما يزال في ِ‬ ‫ومن هذا البوح الجريء‪ ،‬توثق حوار ًا مع الشاعر الدكتور أحمد اللهيب‪..‬‬ ‫■ حاوره‪ :‬عمر بوقاسم‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪95‬‬


‫األمسية الشعرية لها بريق جماهيري‪ ،‬ولها‬ ‫أهمية في سيرة الشاعر‪ ،‬فهي إضافة نوعية‬ ‫وكمية له‬ ‫العودة للقصيدة التناظرية دليل على أن‬ ‫الشعر اآلن يعيش وهجا جديدا‪ ،‬وبخاصة مع‬ ‫وجود شعراء أعادوا للقصيدة بريقها‪!..‬‬ ‫الشاعر ابن لقراءاته مهما كانت‪ ..‬إال إن‬ ‫االستقالل أمر مهم حتى تبرز شخصية الشاعر‬ ‫وأصالته من خالل التجربة الشعرية الخاصة‪!..‬‬ ‫الذاكرة تعود بي إلى المرحلة‬ ‫الثانوية‪!..‬‬ ‫ ¦أح ـمــد الـلـهـيــب مــن األس ـم ــاء ال ـتــي بــرزت‬ ‫فــي الـمـشـهــد الـشـعــري ال ـس ـعــودي‪ ،‬أهــدى‬ ‫المكتبة ع ــدد ًا مــن اإلص ـ ــدارات الشعرية‬ ‫وال ـن ـق ــدي ــة‪ ،‬م ـن ـه ــا‪« ..‬اتـ ـج ــاه ــات ال ـبــاغــة‬ ‫الجديدة في مجلة فصول ‪2016-1980‬م»‬ ‫عــام ‪1441‬ه ــ‪« ،‬نـظــرات في الشعر العربي»‬ ‫ع ــام ‪1437‬هـ ـ ــ‪« ،‬أوراق مــن حـلــم لــم ينته»‪،‬‬ ‫«النبع الحزين» عام ‪1424‬هـ‪« ،‬قربان لحزن‬ ‫ال يبصر» ‪2013‬م؛ إضافة لعدد من الكتب‬ ‫الـنـقــديــة وال ـش ـعــريــة‪ .‬مــا الـمـســاحــة التي‬ ‫اختصرتها هــذه اإلص ـ ــدارات مــن مشروع‬ ‫أحمد اللهيب مع الكلمة؟‬

‫‪96‬‬

‫‪ρ ρ‬بالنسبة لسؤالك عن إصداراتي من الكتب‬ ‫شعرًا ونقدًا‪ ،‬فلعل الذاكرة تعود بي إلى‬ ‫المرحلة الثانوية‪ ،‬حين كان أستاذنا للغة‬ ‫الــعــربــيــة محمد الــشــويــعــي فــي مــدرســة‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫الملك عبدالعزيز الثانوية‪ ،‬يقدم لنا بين‬ ‫الفينة واألخرى كتبًا لنقرأها‪ ،‬ويهدي لنا‬ ‫شيئا منها‪ ،‬فكانت العالقة مع الكتاب منذ‬ ‫تلك اللحظات تتشكل في طورها األول‪،‬‬ ‫كان الشعر يجري في لساني في مواقف‬ ‫متباينة بأبيات تبحث عمن يقومها‪ ،‬وكان‬ ‫ذلك األستاذ هو الطريق األولــى لتلمس‬ ‫الصواب في كتابة الشعر‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬كان البحث عن الذات في الشعر‪،‬‬ ‫ونبش الشعر في الذات‪ ،‬فكانت المرحلة‬ ‫الجامعية هــي الــسّ ــداد فــي ذلــك‪ ،‬حيث‬ ‫القراءة واالطــاع ومعرفة الشعر العربي‬ ‫مــنــذ عــصــوره األول ـ ــى‪ ،‬وبــيــن كــتــاب في‬ ‫يدي وكتاب بين عيني‪ ،‬وكتاب في أدراج‬ ‫المكتبة‪ ،‬كانت والدة هاجس التأليف‪ ،‬وما‬ ‫زلتُ مقتنعًا بأن التأليف هو الباقي‪ ،‬وأن‬ ‫على الباحث أو المبدع أن يجعل التأليف‬ ‫النقطة األولــى في عالمه‪ ،‬فالكتاب هو‬ ‫األبقى‪ ،‬واألجمل؛ والتاريخ يشهد بذلك‪،‬‬ ‫فمن بقيت مؤلفاتهم بقوا وعــاشــوا إلى‬ ‫وقــتــنــا‪ ،‬ومــن غــابــت مؤلفاتهم وضاعت‬ ‫فُقدوا‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كانت حكاية المشروع‪،‬‬ ‫الــمــشــروع أن تــكــون حــاض ـرًا بــيــن فينة‬ ‫وأخــرى بكتاب أو دراســة أو ديــوان شعر‪،‬‬ ‫وال ريب أن كل كتاب يصدر لي يجعلني‬ ‫ـاب آخــر‪.‬‬ ‫بــصــدد البحث عــن تأليف كــتـ ٍ‬ ‫وهكذا الوالدة ليست موتًا‪ ،‬بل حيا ًة أخرى‬ ‫في عالم التأليف‪ .‬وهنا‪ ،‬وجدت نفسي‪،‬‬ ‫فكانت هــذه الــدراســات وهــذه الــدواويــن‬ ‫الخرج بقية‪.‬‬ ‫الشعرية‪ .‬وما يزال في ِ‬


‫ ¦كناقد مــرة ومـبــدع «شــاعــر» مــرة أخ ــرى‪،..‬‬ ‫يحضر الــدكـتــور أحـمــد اللهيب‪ ،‬هــل ثمة‬ ‫عالقة جدلية بين النقد واإلبــداع‪ ،‬وكيف‬ ‫وفقت أنت بين االتجاهين؟‬ ‫‪ρ ρ‬ال أستطيع تحديد مدى التوفيق في ذلك‪،‬‬ ‫وللقارئ أن يرصد مالمحه في المسارين‬ ‫نــق ـدًا وشــع ـرًا‪ ،‬أمــا العالقة بين الشعر‬ ‫والنقد‪ ،‬فما يتصوره العقل أن العالقة‬ ‫يجب أن تكون حاضرة‪ ،‬ولكن في الواقع‬ ‫نجد أن مسافة كــبــرى تقطع صلتهما‪.‬‬ ‫الواقع أن الشعر يسير في اتجاه يكثر فيه‬ ‫الشعراء وتتجدد فيه القصائد‪ ،‬بينما نجد‬ ‫انحسارًا في جانب النقد والنقاد‪ ،‬وكثير‬ ‫منهم تحولوا إلى مجاالت أخرى من النقد‬ ‫الثقافي أو النقد االجتماعي أو الفلسفي؛‬ ‫ومن هنا‪ ،‬نجد عملية إفالس النقد بجانب‬ ‫ازدهار الشعر‪ ،‬والعودة للقصيدة التناظرية‬ ‫دليل على أن الشعر اآلن يعيش وهجً ا‬ ‫جديدًا‪ ،‬وبخاصة مع وجود شعراء أعادوا‬ ‫للقصيدة التناظرية بريقها‪ ،‬وتقاطعت‬ ‫مع الذاكرة العربية التي تستحوذ عليها‬ ‫القيم اإليقاعية والتناظرية‪ ،‬فوجدت هذه‬ ‫القصيدة مكانتها‪ ،‬وهي ما تنبأت به نازك‬ ‫المالئكة منذ خمسين سنة‪ ،‬بأن القصيدة‬ ‫التناظرية ستعود‪.‬‬

‫المحاوالت تندرج تحت هذين المسارين؛‬

‫فوقع النقد في ورطة‪ ،‬حاول أن يستعير من‬ ‫العلوم األخرى ما ينهض به‪ ،‬لكنه تعثر مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬وحتى في العلوم المساندة للنقد‬

‫مثل النحو والبالغة‪ ،‬لم يعودا تقليديين كما‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫العالقة بين الشعر والنقد‪!..‬‬

‫االتــجــاهــات النسقية داخ ــل الــنــص‪ ،‬كل‬

‫نعرف‪ ..‬ثمة تحوّالت كبرى يشهدانها في‬ ‫مجاالت علم اللغة واللسانيات الحديثة من‬ ‫جانب النحو‪ ،‬وتحليل الخطاب وعلم النص‬ ‫من جانب البالغة‪ .‬ولذا النقد في ورطة‪،‬‬

‫والنقاد في ورطة أخرى‪ ،‬فاتساع مساحة‬ ‫النقد ودخوله في مسارات مختلفة جعل‬

‫النقاد في حيرة؛ إضافة إلى أن التعامل‬ ‫مع النص اإلبداعي لم يعد سهال‪ ،‬فالنص‬

‫تــراكــمــات مــتــجــذرة فــي عقلية المبدع‪،‬‬

‫أعود للنقد في جانب‪ ،‬ال أحب أن أغفله‪،‬‬ ‫فالنقد في مسارين كبيرين‪ ،‬نقد سياقي‪،‬‬ ‫ونقد نسقي؛ ومن هنا‪ ،‬كانت االتجاهات‬ ‫السياقية في النقد خــارج النص‪ ،‬بينما‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪97‬‬


‫ولذا يحتاج النقاد إلى الغوص الكتشاف‬ ‫مساحات اإلبداع والتفرد فيه‪.‬‬ ‫ما تقوله اللوحة تعجز عنه الكلمات‪!..‬‬ ‫ ¦«أب ـ ــي ك ــان رسـ ــام ـ ـاً»‪ ،‬ه ــذا ع ـن ــوان مـقــالــك‬ ‫الـمـنـشــور بمجلة الـيـمــامــة‪ ،‬وال ــذي ترثي‬ ‫ف ـيــه ال ــزم ــن ال ـج ـم ـيــل ل ـمــدرســة الـعـبــاس‬ ‫ابــن عبدالمطلب االبتدائية التي درست‬ ‫بها‪ ،‬وكان والــدك مدرسا بها والــذي كانت‬ ‫لــه رس ــوم ــات عـلــى جـ ــدران ه ــذه الـمــدرســة‬ ‫الـتــي تــم هدمها لتجديدها‪ ،‬ولـكــن لهذه‬ ‫الرسوم قيمة أبعد من العاطفة في نفس‬ ‫الشاعر أحمد اللهيب‪ ،‬ما األثر الذي تركه‬ ‫سـلـيـمــان الـلـهـيــب ورســومــاتــه فــي الشاعر‬ ‫أحمد اللهيب؟‬ ‫‪ρ ρ‬سؤال مؤلم‪ ،‬ال أعلم لماذا ال نحافظ على‬ ‫شيء من خصوصيتنا العمرانية‪ ،‬المدن‬ ‫تتشابه أســواقــهــا وشــوارعــهــا وبناياتها‪،‬‬ ‫لم نعد قادرين على تمييز هــذه المدن‪،‬‬ ‫نحاول أن نفرق بينها‪ .‬حين تمسح ذاكرتك‬ ‫بهدمها‪ ،‬وذاكــرة والدك أيضا يكون األلم‬

‫أي موقع حاسوبي‬ ‫حين تزور ّ‬ ‫ستجد أنك في عالم مليء‬ ‫باألسماء الشابة الجديدة التي‬ ‫تتعاطى الكلمة اإلبداعية‬ ‫بأساليب وطرق متنوعة‪!..‬‬ ‫بين كتاب في يدي وكتاب بين‬ ‫ي‪ ،‬وكتاب في أدراج المكتبة‪،‬‬ ‫عين َ ْ‬ ‫كانت والدة هاجس التأليف‪!..‬‬ ‫‪98‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫أشد وآلــم‪ .‬الخيبة تتمثل في أن الرسم‬ ‫لم يعد فنًا يمكن أن يعيد الحياة لنا من‬ ‫جديد‪ ..‬أن يبعث السرور والنشوة بطريقة‬ ‫مختلفة روحــيــة غير مــاديــة‪ ،‬الــرســم هو‬ ‫التحول الجميل بين واقعين‪ ،‬واقع مادي‬ ‫وواقــع فني‪ ،‬ما تقوله اللوحة تعجز عنه‬ ‫تشف عنه اللوحة تقصر‬ ‫ّ‬ ‫الكلمات‪ ،‬ومــا‬ ‫عنه األغنيات‪.‬‬ ‫أما والدي سليمان اللهيب ‪ -‬حفظه اهلل ‪-‬‬ ‫فقد كان ذا أثر كبير في حياتي الثقافية‬ ‫حريصا على أن‬ ‫ً‬ ‫والعلمية‪ ،‬منذ الصغر كان‬ ‫نتعلم‪ ،‬وكانت فرحته بحصولي على درجة‬ ‫الــدكــتــوراه كما يقال (تسوى الدنيا وما‬ ‫فيها)‪ ،‬ال شك بأن أبي ترك فيّ قدرة على‬ ‫بناء شخصية تعتمد على نفسها‪ ،‬وتسعى‬ ‫لنيل درجــات علمية‪ ،‬وتسجل حضورها‬ ‫ثقافيًا وأدب ًيًا‪ ،‬أبي هو المحرك األول لي‬ ‫ألكون حاضرا في عديد من المناسبات‪،‬‬ ‫فاسمي ال يرتفع إال باسمه‪.‬‬ ‫بريق جماهيري‪!..‬‬ ‫ ¦أقمت أمسيات شعرية في عدد من المنابر‬ ‫كاألندية األدبـيــة والمهرجانات الثقافية‪،‬‬ ‫طبعا هــذا الـتــواصــل المباشر مــع الـقــارئ‬ ‫«الجمهور»‪ ،‬له الكثير من األهمية للشاعر‪،‬‬ ‫فهو يتعرف كيف تصل قصيدته لآلخرين‪،‬‬ ‫ومـ ــدى األثـ ــر الـ ــذي تـتــركــه الـقـصـيــدة من‬ ‫خ ـ ــال درجـ ـ ــة ال ـت ـف ــاع ــل‪ .‬ال ـش ــاع ــر أح ـمــد‬ ‫اللهيب‪ ،‬هل يؤيد ويؤكد أهمية مثل هذه‬ ‫األمسيات الشعرية؟‬


‫ال ليل أو نهار يحيطني‪!..‬‬ ‫ ¦بعض الـشـعــراء والمبدعين بصفة عامة‬ ‫يـلـتــزمــون بـطـقــس مـعـيــن أث ـنــاء الـكـتــابــة‪،‬‬ ‫أحمد اللهيب‪ ،‬كيف ومتى يكتب؟‬ ‫‪ρ ρ‬ال طقوس يمكن أن أسجلها هنا بمعنى‬ ‫أن تكون غريبة أو خارجة عن المألوف‬ ‫أو حتى ساذجة‪ .‬طقوسي ‪ -‬إن شئت أن‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫‪ρ ρ‬ال ريــب أن األمسية الشعرية لها بريق‬ ‫جماهيري‪ ،‬ولها أهمية في سيرة الشاعر‪،‬‬ ‫فهي إضافة نوعية وكمية له‪ ،‬نوعية من‬ ‫حيث الجهة الداعية ونوع المناسبة الثقافية‬ ‫ومن حيث الحضور؛ فالشاعر يقدم نفسه‪،‬‬ ‫ويــقــدم عقله وشــعــره للقارئ المستمع‪،‬‬ ‫وهــذا سيخرج بانطباع يكون له أثــر في‬ ‫نفس الشاعر‪ ،‬فالشاعر الذي يحرم نفسه‬ ‫المشاركة في األمسيات الشعرية يكون قد‬ ‫أغلق على نفسه بابًا من التواصل الثقافي‬ ‫واألدبي والحضور االجتماعي‪ ،‬ليس بحثًا‬ ‫عن الشهرة‪ ..‬بل هو تقديم نفسك في‬ ‫مجال تحبه وتبدع فيه وقد تتميز أيضا‪،‬‬ ‫ولكن يجب أن يختار الشاعر القصائد‬ ‫المناسبة للحدث الثقافي الذي دعي له‪،‬‬ ‫وللحضور‪ .‬فقد يقع في ورطة حين يجد‬ ‫أن المتلقي لم يكن متوقعًا أو كما يحب‪.‬‬ ‫وأذكــر أنني شاركت في مؤتمر وألقيت‬ ‫قصيدتين إحداهما عنوانها (مدونة في‬ ‫خاصرة الوطن)‪ ،‬واألخرى بعنوان (صباح‬ ‫مُحلى حبًا) فلقيت الثانية استحسانا من‬ ‫المستمعين ألنها كانت غزلية‪.‬‬

‫ـال ال‬ ‫تسميها طقوساً ‪ ،-‬فقط‪ ،‬مكان خـ ٍ‬ ‫أحد فيه‪ ،‬وقلم أحمر في الغالب‪ ،‬وورقة‬ ‫بيضاء بِكرٌ‪ ،‬ومساحة من ال ــدوران على‬ ‫القدمين أو طريق طويل أكون مسافراً فيه‬ ‫يمتد مع وحدة ال رفيق فيها سوى الشعر‬ ‫والــذكــريــات‪ ،‬هكذا تكون القصيدة في‬ ‫الغالب حاضرة‪ .‬ال ليل أو نهار يحيطني‪،‬‬ ‫بل كل وقت هو ملك لحالة اإللهام التي‬ ‫تنتابني‪ ،‬وغــالــبـاً هــي حــالــة مــن التأمل‬ ‫والشعور بالغربة وحنين إلــى الذكريات‬ ‫التي تسكن في أعماقي‪ ،‬ووحــدة تحرق‬ ‫أنفاسي التي تتصاعد بين الفينة واألخرى‬ ‫بألم وتوتر داخلي ال يظهر على الجوارح‪،‬‬ ‫فأنا ال أبدي رفضاً أو غضباً‪ ،‬وال أكسر‬ ‫األشياء من حولي‪ ،‬وال أمــزق الورقة تلو‬ ‫األخرى‪ ،‬إنما هو توتر داخلي سحيق في‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪99‬‬


‫كهوف مظلمة تصاحبه حالة من صمت‬ ‫عميق وجميل‪ ،‬هكذا تولد القصيدة من‬ ‫رحــم األحـ ــزان ل ــدي‪ ،‬ألنــهــا عشق أبــدي‬ ‫يتغلغل في خواطري ويسبح بين أحاسيسي‬ ‫ودواخلي‪ .‬هذا ما يمكن أن أ ُسميه طقوساً‬ ‫كتابية!‪ .‬لم تكن تجربة الكتابة اإلبداعية‬ ‫لتولد بشكل قسري أو حالة إجهاض‪ ،‬بل‬ ‫هي تأتي فجأة!‬

‫‪100‬‬

‫الــتــي تترسب فــي داخ ــل العقل العربي‬ ‫مكونات ال تناسب واقــعــه‪ ،‬وال يستطيع‬ ‫التخلص منها‪ .‬والنتائج التي يحققها‬ ‫ليست إال ردود أفعال؛ ولهذا‪ ،‬ال توجد‬ ‫استراتيجيات يعتمد عليها في تحقيق‬ ‫األثر المنشود في الخطاب اإلبداعي؛ ألنه‬ ‫خطاب محكوم بغيره‪.‬‬ ‫أدونيس ارتد عن كتابة قصيدة النثر‪!..‬‬

‫البحث عن األثر‪!..‬‬ ‫ ¦كثير من الشعراء الذين كــان لهم موقف‬ ‫ ¦لـيــس ه ـنــاك أث ــر واضـ ــح حـتــى اآلن على‬ ‫مــن قصيدة النثر تغيرت نظرتهم عنها‪،‬‬ ‫مضمون أو شكل الخطاب اإلبــداعــي‪ ،‬في‬ ‫وأصـ ـبـ ـح ــوا ي ـت ـعــاطــون ـهــا ق ـ ـ ــراءة وك ـت ــاب ــة‪،‬‬ ‫ظ ــل ال ـت ـغ ـيــرات الـسـيــاسـيــة واالق ـت ـصــاديــة‬ ‫وخــاصــة بعد تـصــدرهــا المشهد الشعري‬ ‫التي يشهدها العالم العربي في السنوات‬ ‫العربي‪ ،‬أليس هذا دلي ًال على قدرتها على‬ ‫األخيرة‪ ،‬برأيك ما سبب غياب األثر؟‬ ‫االستمرار واحتواء ما عجزت عنه قصيدة‬ ‫‪ρ ρ‬الــمــوضــوع شــائــك ومــتــرابــط‪ ،‬والــبــحــث‬ ‫التفعيلة؟‬ ‫عن المكونات األســاس في تكوين العقل‬ ‫‪ρ ρ‬أصبحت قصيدة النثر واقعًا‪ ،‬وال يمكن أن‬ ‫العربي هو الذي سيفتح الباب الحتمال‬ ‫إيجاد إجابة واضحة تساعد على تصور‬ ‫األثــر للخطاب اإلبــداعــي؛ فهذا السؤال‬ ‫يطرح عدة تساؤالت يمكن أن تعد خطوة‬ ‫فــي البحث عــن األثـــر‪ ،‬بـــدءًا مــن ســؤال‬ ‫معرفي محض وهو‪ :‬مدى القدرة الجدلية‬ ‫للعقل العربي للخلوص من المشكالت‬ ‫التي تواجهه؟ ومرورًا بسؤال آخر هو‪ :‬ما‬ ‫مكونات العقل العربي القادر على صناعة‬ ‫األثر؟ وسؤال ثالث‪ :‬ما قدرة العقل العربي‬ ‫على التخلص من سيطرة اآلخر لتحقيق‬ ‫تصور مناسب لواقعه وحياته؟ وغيرها‪،‬‬ ‫ألن الورطة التي تواجه العقل العربي في‬ ‫أمرين‪ :‬ما مكوناته؟ وما نتاجه؟ المكونات‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫نتخلى عنها أو نحاربها‪ ،‬والحكم الفصل‬ ‫ح ــول الــتــنــازع المستمر بــيــن القصيدة‬ ‫التناظرية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر‬ ‫أصبح شبه مستحيل‪ ،‬والزمن هو القادر‬ ‫على تمحيص الحق في ذلك ولمن البقاء‪.‬‬ ‫ولكن من الجدير ذكره أن أدونيس ارتد‬ ‫عن كتابة قصيدة النثر مشيراً إلــى أن‬ ‫كتابتها تستلزم مبدعها (موهبة وثقافة‬ ‫عاليتين)‪ ..‬وهــذا لــم يتوفر لــدى غالب‬ ‫الشعراء الذين كتبوا هذه القصيدة‪ .‬يقول‬ ‫أدونيس في كتابه «زمن الشعر» في رسالة‬ ‫بعثها إلى يوسف الخال مبرزاً ثناءه على‬ ‫أنسي الحاج الــذي تفرد بكتابة قصيدة‬ ‫الــنــثــر‪ :‬أنــســي ه ــو‪ ،‬بيننا األنــقــى‪ .‬نحن‬ ‫ال أو كثيراً»؛‬ ‫اآلخرين ملوثون بالتقليد قلي ً‬ ‫وبهذا يتنكر أدونيس لمسيرة ما يقرب‬ ‫من ثالثين عاماً من عمر هذه القصيدة‪،‬‬ ‫علماً أ ّن أدونيس من أبرز الشعراء والنقاد‬ ‫الــعــرب الــذيــن أك ــدوا على ترسيخ هذه‬ ‫الوعي النقدي‪!..‬‬ ‫القصيدة في الشعر العربي المعاصر‪،‬‬ ‫إ ّن هــذا الموقف يجعلني استنكر على ¦مــن المؤكد ال يغيب عنك دكـتــور أحمد‪،‬‬ ‫أن هناك تـجــارب نقدية سعودية وعربية‬ ‫بعض شعرائنا الشباب الــذي يخرج بين‬ ‫استحضرت في سياقها مصطلحات غربية‬ ‫الفينة واألخــرى معلناً أنه الوحيد الذي‬ ‫لها مرجعيتها وواقـعـهــا‪ ،‬هــل هناك مبر ٌر‬ ‫يستطيع كتابة قصيدة النثر بالشكل الفني‬ ‫إيجابيّ لهذا التجنيس للمصطلحات في‬ ‫ناد‬ ‫الصحيح‪ ،‬ويرفع عقيرته منادياً في ك ّل ٍ‬ ‫الثقافة العربية؟‬ ‫بين اآلونــة واألخــرى أنه بقصيدة سمجة‬ ‫بلغ مبلغ الشعراء الكبار‪ ،‬وهي في الحقيقة ‪ρ ρ‬هــذا جــزء مــن واقــع النقد األدبـــي‪ ،‬فهو‬ ‫كــام رُجــم بعضه فــوق بعض‪ ،‬ولألسف‬ ‫يعاني من حمولة مثقلة بالمصطلحات‬ ‫الشديد تجد بين أروقة مالحقنا الثقافية‬ ‫النقدية الــمــتــعــددة؛ ول ــذا‪ ،‬ظــهــرت كتب‬ ‫مَن يرسم له صورة المبدع الف ّذ في زمن‬ ‫المصطلحات الــتــي تترجم عــن الغرب‬ ‫تترى عجائبه‪ .‬وال أتصور أ ّن أدونيس هو‬ ‫وتنقل ما توصلوا إليه من مصطلحات‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫الشاعر الوحيد الــذي أنــف مــؤخــراً من‬ ‫كتابة قصيدة النثر؛ ألنها ببساطة تحتاج‬ ‫إلــى ثقافة عُمرية طويلة‪ ،‬وإلــى موهبة‬ ‫أصيلة‪ ،‬وتجربة حيوية عظيمة‪ ،‬بــل ال‬ ‫غرو أن رجع وسيرجع غيره‪ .‬وإذا تصوّر‬ ‫شعراؤنا الشباب أنهم بتقليدهم اآلخرين‪،‬‬ ‫مشروع ثقافي‬ ‫ٍ‬ ‫ومناداتهم بأنهم أصحاب‬ ‫أدب ـ ـ ٍـي ســـوف يــمــزق الــحــجــب ويكشف‬ ‫األسـ ــرار‪ ،‬إنــمــا هــم كمثل الــغــراب الــذي‬ ‫أضاع مشيته ومشية الحمامة‪ .‬وهم‪ ..‬أما‬ ‫علموا أن الشاعر الغربي إنما يصدر في‬ ‫كتابته لهذا النوع من اإلبــداع الفني عن‬ ‫وعـ ٍـي وتــوجـ ٍـه أدبــي وثقافة أصيلة‪ ،‬وما‬ ‫أشبه شعراءنا الشباب المقلدين للغرب‬ ‫في كتابة هذه المزعومة قصيدة بشبابنا‬ ‫لباس‬ ‫المقلّد للغرب بشكله الخارجي من ٍ‬ ‫أو قصة شعر أو غيرها‪ ..‬وهو بذلك غير‬ ‫واع وال فاهم‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫‪101‬‬


‫إن الحديث عن المصطلح النقدي يظل‬ ‫شائكًا وصعبًا‪ ،‬وبما أن هــذا الحضور‬ ‫يلزم القارئ أن يتأمل وأن يتدارس وأن‬ ‫يتذاكر هــذه المصطلحات الغربية على‬ ‫وجه التحديد‪ ،‬فإنه بات لزامًا علينا أن‬ ‫نبحث عــن تقريبها إلــى العقل الناقد‪،‬‬ ‫لكي يتمكن مــن أن يطبقها على أرض‬ ‫اإلبداع الشعري والسردي‪ .‬والورطة التي‬ ‫وقع فيها النقاد هي أنهم يستعملون لغة‬ ‫نقدية غير مفهومة تنحو إلى تغريب النقد‬ ‫وتجهيل الــقــارئ‪ ،‬ولــو سعوا إلــى الكتابة‬ ‫بلغة يفهمها القارئ العادي‪ ،‬وانطلقوا من‬ ‫(الوعي النقدي) دون استجالب لنظرية‬ ‫ما‪ ،‬واستغنوا عن اشتقاق المصطلحات‬ ‫الخاصة بــه‪ ،‬لــوجــدوا لبضاعتهم سوقًا‬ ‫رائجة غير كاسدة‪ ،‬وجمهورًا واسعًا يثق‬ ‫بهم‪ ،‬وينافح عن مقوالتهم‪ .‬غير أ ّن واقع‬ ‫النقد األدبــي يعكس غير ذلــك‪ ،‬فالناقد‬ ‫يسعى بكل ما أوتي من معرفة ‪ -‬تلقفها من‬ ‫اآلخر‪ /‬الغربي ‪ -‬إلى استعراض عضالته‬ ‫الفكرية‪ ،‬فيردد ما قاله اآلخرون إن صدقاً‬ ‫وإن كذباً إثباتاً لذاته واحتقاراً لغيره‪.‬‬ ‫عالقة الترجمة بقصيدة النثر‬ ‫العربية‪!..‬‬ ‫ ¦«قصيدة النثر ترتبط بالذائقة األجنبية‬ ‫وال ـ ـتـ ــراث األجـ ـنـ ـب ــي‪ ،‬ول ـي ـس ــت ن ــاب ـع ــة مــن‬ ‫التراث العربي»‪ ،‬هذه العبارة تحمل تصوّر‬ ‫بعض اآلدباء‪ .‬الشاعر أحمد اللهيب ماذا‬ ‫يقول‪..‬؟‬

‫‪102‬‬

‫‪ρ ρ‬هـ ــذا الـــســـؤال يــعــود بــنــا إلـ ــى مــفــهــوم‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫(التأصيل)‪ ،‬والحقيقة يجب أن نفهم أو‬ ‫نعي جيدًا ما خصائص قصيدة النثر؟‬ ‫وما مكوناتها الفنية؟ ثم بعد ذلك ننظر‬ ‫في تراثنا العربي‪ ..‬هل يمكن أن تتقاطع‬ ‫هــذه المقومات معه‪ ..‬أو هل يمكن أن‬ ‫نجد أرضية مشتركة بين قصيدة النثر‬ ‫(نظريًا وإبداعيًا) والنثر الفني العربي؟‬ ‫وه ــذا سيدخلنا فــي جــانــب آخ ــر‪ ،‬وهو‬ ‫عالقة الترجمة بقصيدة النثر العربية‪،‬‬ ‫هل أثّــرت الترجمة على كتابات ُكتّاب‬ ‫قصيدة النثر؟ ولذا فالتساؤل يحتاج إلى‬ ‫تساؤالت كي نجد مساحة من القول فيه‪.‬‬ ‫ومــن ثــم سنعود إلــى تحرير المصطلح‬ ‫نفسه فــي الــثــقــافــة الــعــربــيــة والثقافة‬ ‫الغربية‪ ،‬ونعود إلــى الورطة نفسها في‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫العالقة بين القصيدة والنثر‪ .‬وكما ذكرت‬ ‫سابقا أصبحت قصيدة النثر واقعًا ال‬ ‫يمكن التخلي عــنــه؛ ولــذلــك‪ ،‬ال يمكن‬ ‫نفيها مطلقاً‪ ،‬فهي مرت بمرحلة التكوين‪،‬‬ ‫وهي اآلن تقف ثابتة أمام النقاد‪ .‬كتاب‬ ‫قصيدة النثر يحملون لــواء‪( :‬نحن قليل‬ ‫لكننا موجودون)‪ ،‬لكن تبقى فنية قصيدة‬ ‫النثر مرهونة بقدرة كاتبها وثقافته‪ ،‬فهي‬ ‫فــن يعتمد التركيز ومتابعة التفاصيل‬ ‫الــدقــيــقــة‪ ،‬والــتــقــاط الــصــور الجزئية‬ ‫وتشكيلها في صــورة كلية‪ ،‬وهــذا ما ال‬ ‫يوجد في التراث العربي‪.‬‬

‫دار تستطيع إيصال صوته أو إبداعه‪،‬‬ ‫مع تحمله تكاليف هذا النشر والتوزيع‪.‬‬ ‫ولعل أسباب هذا كثيرة ومتعددة‪ .‬فالنظر‬ ‫لواقع القراءة على مستوى الفرد موضع‬ ‫استفهام‪ ،‬والنظر لوجود ما يزاحم الكتاب‬ ‫مــن مــجــاالت أخــرى رياضية وترفيهية‬ ‫واقتصادية موضع آخر يستحق االهتمام؛‬ ‫كــذلــك جـــودة الــمــحــتــوى ل ــدى الــكــاتــب‪،‬‬ ‫فالتميز اإلب ــداع ــي سيحظى بالنشر‬ ‫والــتــوزيــع‪ ،‬لكن أدرك أن وضــع النشر‬ ‫والتوزيع فيه صعوبة أيضا‪.‬‬ ‫الشاعر ابن لقراءاته‪!..‬‬

‫هذا قصور مني‪!..‬‬ ‫ ¦أنت قارئ جيد للتراث الشعري‪ 00‬شعراء‬ ‫ ¦كيف ترى قراءة النقاد لتجربتك؟‬ ‫اليوم منهم مَ ن لم يقرأ وليس لديه أص ًال‬ ‫أدوات القراءة لهذا الموروث‪ ،‬ويحرصون‬ ‫‪ρ ρ‬لم أقف على قراءات كاملة لديوان شعري‬ ‫على قراءة بعضهم وما هو مترجم‪ ،‬ماذا‬ ‫كامل لي‪ ،‬ولعل هذا قصور مني‪ ،‬ما وقفت‬ ‫تقول في هذا؟‬ ‫عليه هي قراءات لقصائد معينة‪ .‬ولذا‪،‬‬ ‫الحكم هنا يــكــون غير واض ــح أو غير ‪ρ ρ‬دائما نسمع أن المبدع ابــن بيئته وهو‬ ‫مكتمل‪.‬‬ ‫أيضا ابن قراءاته‪ ،‬فالتراث هو االنطالقة‬ ‫في زمن شبكات التواصل‬ ‫االجتماعي‪!..‬‬ ‫ ¦دائ ـ ـ ـمـ ـ ــا هـ ـ ـن ـ ــاك شـ ـ ـك ـ ــوى مـ ـ ــن ال ـ ـش ـ ـعـ ــراء‬ ‫بخصوص النشر والـتــوزيــع! هل واجهت‬ ‫هذه المشكلة؟‬ ‫‪ρ ρ‬هــي شــكــوى عــامــة‪ ،‬وبــخــاصــة فــي زمن‬ ‫شبكات التواصل االجتماعي التي سهلت‬ ‫الوصول إلى أي نص أو أي قصيدة‪ ،‬ولذا‬ ‫أصبح الشاعر أو الكاتب يبحث عن أي‬

‫األولى التي يجب على الشاعر أن يجعلها‬ ‫محور اهتمامه‪ ،‬الشاعر ابــن لقراءاته‬ ‫مهما كانت‪ ..‬إال إن االستقالل أمر مهم‬ ‫حتى تبرز شخصية الشاعر وأصالته من‬ ‫خالل التجربة الشعرية الخاصة‪ ،‬وعملية‬ ‫التأثر والتأثير عملية نفسية معقدة ال‬ ‫يمكن حصر أبعادها من خالل قصيدة‬ ‫واحدة أو اثنتين‪ ،‬وحين يزعم شاعر مهما‬ ‫بلغ من مكانة أنه وحيد عصره‪ ،‬وأنه لم‬ ‫يتأثر بأحد من قبل‪ ،‬أتصور أن العاقل‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪103‬‬


‫أنــك فــي عالم مليء بــاألســمــاء الشابة‬

‫منا يشك فــي مصداقية ذلــك الــقــول‪.‬‬ ‫والتواصل مع اآلخر جيّد‪ ،‬لكنه ال يكون‬ ‫الجديدة التي تتعاطى الكلمة اإلبداعية‬ ‫على حساب تراثي وثقافتي‪ ،‬ألن الشاعر‬ ‫بأساليب وطرق متنوعة‪.‬‬ ‫ال ب ّد أن ينطلق من أرضية مشتركة مع‬ ‫حين أمارس لذة القراءة‪!..‬‬ ‫القارئ‪ ..‬وهنا‪ ،‬ال بد من العودة للتراث‬ ‫بكل أشكالها‪.‬‬ ‫ ¦هـ ــل لـ ـلـ ـق ــارئ أن ي ـق ـت ــرب مـ ــن ع ــال ـم ــك‪،‬‬ ‫الشبكة العنكبوتية‪!..‬‬

‫ويتعرف على محتوى مكتبتك؟‬

‫ ¦ان ـت ـشــرت م ــواق ــع حــاســوب ـيــة‪ ،‬ت ــدّ ع ــي أنـهــا ‪ρ ρ‬مكتبتي أدبية تهتم باألدب والنقد وفنون‬ ‫اللغة العربية األخــرى‪ ،‬فالكتاب الورقي‬ ‫الحاضنة للتجارب اإلبداعية الشبابية‪،‬‬ ‫هو األبقى واألقــرب تناوالً لــدي‪ ،‬وحين‬ ‫وكأنها تلزمهم بالحضور كبوابة لدخول‬ ‫ع ــال ــم األدب الـ ـم ــوث ــق‪ ،‬هـ ــل ت ـج ــد ه ــذا‬ ‫أمارس لذة القراءة‪ ،‬ال أستطيع ممارستها‬ ‫االن ـت ـش ــار لـمـثــل ه ــذه ال ـم ــواق ــع‪ ،‬ظــاهــرة‬ ‫عبر الشبكة‪ ،‬أمــا الكتاب الــورقــي فهو‬ ‫صحية لإلبداع؟‬ ‫األنــســب واألحــســن فــي رأيـ ــي‪ ،‬ولــذلــك‬ ‫اخــتــرت هــذه السبيل‪ .‬مكتبتي تحتفظ‬

‫‪104‬‬

‫‪ρ ρ‬المواقع الحاسوبية عامة استطاعت أن‬ ‫ال من المبدعين وأسما ًء تستحق‬ ‫تقدم جي ً‬ ‫بكل كتب التراث ودواوين الشعراء وتهتم‬ ‫أن نصفق لــهــا ب ــح ــرارة دائ ــمـ ـاً‪ ،‬ولقد‬ ‫بنوع الكتاب وجودة النشر والدار الناشرة‬ ‫استطاعت أن تقذف في بحيرة اإلبداع‬ ‫والطبعات األولى‪ .‬وتهتم بدواوين الشعراء‬ ‫الراكدة لدينا أحجاراً متوالية ما تنفك‬ ‫والمختارات الشعرية والنثرية‪ .‬ولذا‪ ،‬فهي‬ ‫أن تتسع دائــرة التميز فيها؛ وهــي إلى‬ ‫أثيرة عندي ألنها متخصصة‪.‬‬ ‫جانب ذلك تجاوزت الصحافة المقروءة‪،‬‬ ‫ثقافة جادة‪!..‬‬ ‫واستطاعت أن تنزع فتيل االختناق من‬ ‫رقاب المبدعين‪ ،‬وأن تجعل أصواتهم أكثر ¦ما المواقع التي تتصدر مفضلة الشبكة‬ ‫حضوراً‪ ،‬وال شك لــديّ أن هذه الشبكة‬ ‫العنكبوتية لديك؟‬ ‫تجاوزت مراحل كثيرة في مساحة النشر‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬أصبحت الشبكة العنكبوتية هي ‪ρ ρ‬أجــــد فـــي (ت ــوي ــت ــر) مــســاحــة جــيــدة‪،‬‬ ‫فالمالحظ أن ثقافة (تويتر) ثقافة جادة‬ ‫مساحة إبداعنا وملتقى عطائنا‪ ،‬ولقد‬ ‫بشكل عــام‪ ،‬مقارنة بغيره من المواقع‬ ‫استطاع المبدع أن يجد حلقة تواصل‬ ‫الحاسوبية‪ .‬ولــذا ألقى فيه بغيتي في‬ ‫مع القراء‪ ،‬وأن يجد فيها مكاناً يليق به‪.‬‬ ‫فحين تزور أيّ موقع حاسوبي‪ ..‬ستجد‬ ‫نشر ما أريد من شعر أو نقد‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫الناقدة العربية د‪ .‬ماجدة صالح‪:‬‬

‫ُ‬ ‫والغوص في أعماقه‪،‬‬ ‫الكشف عن خبايا النص‬ ‫ُ‬ ‫الستنطاقه واستخراج مكنوناته ومواطن‬ ‫الجمال فيه‬ ‫ضمن مجموعة الحوارات‪ ،‬واللقاءات الثقافية‪ ،‬التي أقوم بها‪ ،‬منذ فترة بعيدة‪،‬‬ ‫مع مجموعة من الكتّاب العرب‪ ،‬من المحيط إلى الخليج‪ ،‬كان لقائي هذه المرَّ ة‪،‬‬ ‫في هذا الحوار‪ ،‬مع الناقدة واألكاديمية الدكتورة ماجدة صالح‪ ،‬المقيمة حالي ًا في‬ ‫مدينة شيكاغو بالواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وهي شخصية أردنية‪ /‬فلسطينية‪،‬‬ ‫تنتمي إلى ذاتها بامتياز‪ ،‬وتتمتَّع بالذكاء والصراحة والثقافة والوعي‪ ،‬والوضوح‪،‬‬ ‫وتعبِّر عن أفكارها ومشاعرها بكل جرأة وشجاعة ودقة‪.‬‬ ‫الــدكـتــورة مــاجــدة صــاح نــاقــدة وأكــاديـمـيــة حاصلة على درج ــة الــدك ـتــوراه في‬ ‫البالغة والنقد سنة ‪2006‬م‪ ،‬صدر لها حتى اآلن ثالثة مؤلفات في النقد األدبي‪،‬‬ ‫إلى جانب عشرات البحوث المنشورة في المجالت الثقافية العربية والعالمية‪،‬‬ ‫وشاركت في عدد من المؤتمرات العلمية‪ ،‬وهي شخصية تختزن في ذاتها شاعرية‬ ‫صادقة وه ــدوء ًا جــاذبـاً‪ ،‬غير أن المهم في تجربتها أنها غير متكررة‪ ،‬بل حاولت‬ ‫أن تكون لها مالمحها الخاصة وأسلوبها المميز؛ ما جعل تجربتها النقدية لها‬ ‫تجسد الكثير‬ ‫خصوصيتها وفرادتها‪ ،‬وأجوبتها في هذا الحوار مع مجلة «الجوبة» ّ‬ ‫من شخصيتها وشاعريتها وإنسانيتها‪..‬‬ ‫■ حاورها‪ :‬نضال القاسم‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪105‬‬


‫معاناة شخوص رواياته‪.‬‬

‫ ¦أرجو في البداية أن نقرأ في هوية الدكتورة‬ ‫«ماجدة صالح»؟‬ ‫ ¦ل ــو ط ـل ـب ـنــا م ـن ــك ال ـح ــدي ــث ع ــن ب ــداي ــات‬ ‫تجربتك النقدية‪ ،‬كيف بدأت رحلتك في‬ ‫‪ρ ρ‬ماجدة صالح أردنية الجنسية فلسطينية‬ ‫عالم النقد؟‬ ‫األص ــل والـ ــدم‪ ،‬حصلت على الــدكــتــوراه‬ ‫في البالغة والنقد سنة ‪2006‬م‪ ،‬صدر‬ ‫لي ثالثة كتب هــذه السنة‪ ،‬وشاركت في‬ ‫عدد من المؤتمرات الدولية‪ ،‬ولي مقاالت‬ ‫وبحوث منشورة في مجالت محكّمة وعلى‬ ‫اإلنترنت‪ ،‬متزوجة‪ ،‬أقيم في شيكاغو‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬ال يمكنني ذكر وقت محدد كما أسلفت‪،‬‬ ‫لكن مــمــارســة الكتابة النقدية تبلورت‬ ‫ونضجت بفعل الــقــراءة المستمرة‪ ،‬بعد‬ ‫أن امتلكت األدوات النقدية مــن خالل‬ ‫دراستي للبالغة والنقد‪ .‬إذ بدأت بكتابة‬ ‫بعض البحوث والمقاالت التي نُشر بعضها‬ ‫وشــاركــت ببعضها اآلخ ــر فــي مؤتمرات‬ ‫دولية‪ ،‬وما أزال أشق طريقي في مجال‬ ‫النقد األدبي‪.‬‬

‫ ¦متى بدأت الكتابة‪ ،‬وما الذي دفعك إليها؟‬ ‫ومــا هــي الـعــوامــل الـتــي أسهمت فــي إبــراز‬ ‫موهبتك؟ وماذا يعني لك‪ ،‬إنسانةً وكاتبة‬ ‫أيضاً‪ ،‬فعل الكتابة؟‬ ‫ ¦من أساتذتك القدماء والجدد في النقد؟‬ ‫‪ρ ρ‬ال يمكنني تحديد تاريخ محدد‪ ،‬أذكر أني ‪ρ ρ‬أديــن بالفضل لكل ناقد عربي نهلت من‬ ‫في المرحلة اإلعــداديــة كنت أقــرأ بعض‬ ‫معينه وأفدت من تجربته النقدية من غير‬ ‫القصص وأحاول تحليلها‪ ،‬فاخترت دراسة‬ ‫تحديد‪ ،‬فقد أفــدت من تجربة كل ناقد‬ ‫األدب والنقد الذي كان سببًا رئيسً ا في‬ ‫قرأت تجاربه وأعماله‪.‬‬ ‫خوض هذا المجال واالستمرار فيه؛ إذ ¦مـ ــا هـ ــي ال ـ ــدائ ـ ــرة األسـ ـ ـ ــاس فـ ــي حــرك ـتــك‬ ‫لــدي رغبة وحــب في استكناه النصوص‬ ‫النقدية؟‬ ‫األدب ــي ــة بمختلف أن ــواع ــه ــا‪ ،‬فالكشف‬ ‫‪ρ ρ‬ال أتحرك وفق دائرة معينة‪ ،‬أقرأ الوجوه‬ ‫عــن خبايا النص والــغــوص فــي أعماقه‪،‬‬ ‫المختلفة لألدب بأنواعه المتعددة‪ ،‬فهناك‬ ‫الستنطاقه واستخراج مكنوناته ومواطن‬ ‫ظواهر وقضايا تستجد‪ ،‬وما يثيرني وأجد‬ ‫الجمال فيه أمر ماتع‪.‬‬ ‫فيه ما يقال وما يستحق‪ ،‬أخوض تجربة‬ ‫الكتابة فيه وعنه‪.‬‬

‫‪106‬‬

‫كما أجــد في الكتابة متنفسا أنطلق من‬ ‫نصا نقديًا؟‬ ‫خالله إلــى عــوالــم مختلفة‪ ،‬تختلف عن ¦كيف تواجه الدكتورة ماجدة ً‬ ‫عالمنا حيناً‪ ،‬وتشبهه أحياناً أخرى‪ .‬فبعد‬ ‫‪ρ ρ‬أبحث في دواخل النص عن بصمة مميزة‬ ‫ال‬ ‫قراءتي لــروايــات الــروائــي فحماوي مث ً‬ ‫للناقد‪ ،‬تشي برؤيته النقدية وقدرته على‬ ‫أحسست أن الشخصيات النسوية فيها‬ ‫التفرد واإلبداع بكل تجلياته‪.‬‬ ‫تحكي معاناتي ومعاناة الفلسطيني عامة‪،‬‬ ‫وبالتالي كان هذا اإلحساس كافياً للخوض ¦كيف تنظرين إلى مشروعك النقدي بعد‬ ‫كتابك األول «الـمــأســاة الفلسطينية في‬ ‫في عالم فحماوي الروائي‪ ،‬وطريقاً لترجمة‬ ‫واستخراج بعض ما أحس به وأعانيه قبل‬ ‫روايات صبحي فحماوي» والثاني «الخيال‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫العلمي في رواية‪ ..‬اإلسكندرية ‪»2050‬؟ وما‬ ‫هي المشاريع التي تعملين عليها اآلن؟‬ ‫‪ρ ρ‬لكل ناقد مشروعه الذي يعمل عليه ويسعى‬ ‫لتحقيقه‪ ،‬أجــدنــي فــي بــحــث دائـــم عن‬ ‫تجارب إبداعية تشدني وفق ما تفرضه‬ ‫الساحة األدبية بإنتاجها اإلبداعي‪ .‬وحاليا‬ ‫أعمل على دراس ــة الحجاج فــي قصيدة‬ ‫المخرج والمردود على النصارى واليهود‬ ‫للبوصيري‪ ،‬وكنت قــد شــاركــت فــي أحد‬ ‫الــمــؤتــمــرات بــبــحــث ح ــول الــحــجــاج في‬ ‫هــذه القصيدة نــال استحسان وإعجاب‬ ‫المشاركين‪ ،‬فقررت التوسّ ع في دراســة‬ ‫األساليب الحجاجية في القصيدة كاملة‬ ‫وهي طويلة جدا عدد أبياتها (‪ )282‬بيتا‪.‬‬ ‫ ¦ل ـن ـت ـك ـلــم عـ ــن جـ ــديـ ــدك ال ـت ــأل ـي ـف ــي ح ــول‬ ‫الروائي صبحي فحماوي؟‬

‫نعم‪ ،‬يحتاج النقد إلى موهبة وتذوق جمالية‬ ‫النص‪ ،‬مع التجريب والممارسة والقراءة‬ ‫واالط ــاع واإلفـــادة مــن تــجــارب اآلخرين‬ ‫وامتالك األدوات اإلجرائية للنقد‪.‬‬

‫‪ρ ρ‬ال جديد‪ ،‬أصــدرت كتابين حــول روايــات‬ ‫الروائي صبحي فحماوي‪ ،‬فرواياته تستحق‬ ‫البحث فيها ودراستها‪ ،‬وصــدر لي أيضاً ¦فــي الــوقــت ال ــذي يتحدث فيه الـغــرب عن‬ ‫مرحلة «ما بعد الحداثة» في األدب‪ ،‬هناك‬ ‫كتاب تحليل النص الشعري ‪ -‬مساءلته‬ ‫من يرى أننا كعرب لم ندخل بعد مرحلة‬ ‫واستنطاقه ‪ -‬وهــذا ال يعني عــدم وجود‬ ‫«ال ـحــداثــة» نـفـسـهــا!! فــإلــى أي م ــدى يعدُّ‬ ‫روايــات أو أعمال أدبية تستحق الدراسة‬ ‫مثل هذا الحكم دقيق ًا برأيك؟‬ ‫واالهتمام‪ ،‬أو حصر كتاباتي في روايات‬ ‫الروائي فحماوي‪.‬‬ ‫‪ρ ρ‬قد يكون صحيحاً إلى حد ما‪ ،‬مشكلتنا أننا‬ ‫ال ننتج‪ ،‬بل ال نجيد استخدام ما نستورده‬ ‫ ¦هل قدسية كتابة النقد هي التي تفرض‬ ‫من الغرب‪ ،‬فال نراعي خلفياتنا الثقافية‬ ‫على كاتبه نوع ًا من الهيبة‪ ،‬وهل بوسع أي‬ ‫والتاريخية المناسبة لفكرنا وثقافتنا‬ ‫كاتب أن يصبح ناقداً؟ وهل يحتاج النقد‬ ‫ولغتنا ومــحــددات مجتمعنا‪ ،‬وال نملك‬ ‫إلــى موهبة أم تكفي الممارسة والخبرة‪،‬‬ ‫الجرأة والقدرة على التجديد أو اإلضافة‪.‬‬ ‫وما هي شروط الناقد الناجح؟‬ ‫‪ρ ρ‬قد يصبح الكاتب ناقداً إذا امتلك األدوات ¦ما رأيك في المناهج النقديّة الحداثية؟‬ ‫النقدية ونظرة ثاقبة ورؤية خاصة‪.‬‬ ‫‪ρ ρ‬تقصد المناهج الغربية التي تتغير وفقا‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪107‬‬


‫لما تقتضيه الحاجة‪ ،‬فينتج الــغــرب ما‬ ‫يتماشى مع أدبهم‪ ،‬ويأتي دورنا القتباس‬ ‫تلك المناهج بــا تــحـ ّفــظ‪ ،‬نقتلعها من‬ ‫سياقاتها األصلية المنتجة لها‪ ،‬ونبدأ في‬ ‫تطبيق تلك المناهج إجرائيا على أدبنا‪،‬‬ ‫بعد أن أسقطنا مفاهيمها ودالالتــهــا؛‬ ‫فباتت مشوّهة قاصرة‪ ،‬ال تفي بالغرض‪،‬‬ ‫ولقصورنا عن فهم تلك المناهج وضعنا‬ ‫المنتج األدب ــي داخ ــل قــالــب أو إط ــار ال‬ ‫يــتــجــاوزه‪ ،‬وهــذا إجــحــاف فــي حــق النص‬ ‫األدبــي‪ .‬هناك سوء فهم واستخدام لتلك‬ ‫المناهج‪.‬‬

‫‪108‬‬

‫يحاكي عالمه الواقعي ويبرز تفاصيله بلغة‬ ‫جمالية وأسلوب متميز‪.‬‬ ‫ ¦ما هي أبــرز الصعوبات التي واجهتك في‬ ‫حياتك؟‬ ‫‪ρ ρ‬ال أعتقد بوجود إنسان على هذه األرض لم‬ ‫تعركه الحياة‪ ،‬شخصياً‪ ..‬مررت بصعوبات‬ ‫كثيرة كباقي الناس‪ ،‬لكني أحمد اهلل دائماً‪.‬‬ ‫ ¦إلى أي حد تعد الكتابة مهمةً في حياتك؟‬ ‫وأي فصل من فصول السنة يُلهمك أكثر؟‬

‫‪ρ ρ‬تشدني الكتابة وتأخذني إلى عالم آخر‪،‬‬ ‫وتبعدني ‪ -‬بشكل مؤقت ‪ -‬عــن مشاكل‬ ‫ ¦برأيك‪ ،‬لماذا حــازت الرواية العربية على‬ ‫الحياة ومنغصاتها‪ ،‬فهي المتنفس الذي‬ ‫اهتمام النقاد أكثر من الشعر؟‬ ‫من خالله أعبّر عن نفسي وعــن كل ما‬ ‫يشغل اإلنسان‪.‬‬ ‫‪ρ ρ‬حظيت الرواية باهتمام القرّاء قبل النقّاد‪،‬‬ ‫لمالمستها الواقع وتصوير الحياة التي‬ ‫وال وقت محدد عندي للكتابة‪ ،‬أكتب عندما‬ ‫نحياها‪ ،‬وتمسكها بالمقومات التي تؤهلها‬ ‫أشعر برغبة في الكتابة‪ ،‬تارة تكون لدي‬ ‫الحــتــال الــصــدارة‪ ،‬فالناقد حين يبني‬ ‫رغبة وال تسعفني الكلمات‪ ،‬وتارة أخرى ال‬ ‫دراسة على رواية ما فإنه يدرس مجتمعًا‬ ‫أجد الرغبة في الكتابة‪.‬‬ ‫بكل مكوناته ومزاياه وعيوبه‪ ،‬فيبقى في‬ ‫ ¦كيف تــرى الدكتورة ماجدة واقــع الساحة‬ ‫إطار واقع المجتمع الذي يعيش فيه غير‬ ‫الثقافية األردن ـيــة ال ـيــوم؟ ومــا الخالصة‬ ‫بعيد عنه‪.‬‬ ‫التي خرجت بها كناقدة ألعمال كثيرة من‬ ‫ ¦ ما هي غاية الكتابة؟ ما عالقتها بالحياة؟‬ ‫األدب األردني؟‬ ‫وما هي رسالة المبدع في المجتمع؟‬ ‫‪ρ ρ‬تعج الساحة الثقافية بالغث والسمين‪،‬‬ ‫‪ρ ρ‬تتعدد غــايــات الكتابة لتصب فــي بحر‬ ‫إنتاج أدبي غزير ال يرتقي في غالبيته إلى‬ ‫الحياة التي يعيشها اإلنــســان‪ ،‬فالحياة‬ ‫درجــة اإلبــداع والتميّز‪ .‬وقد صدمت من‬ ‫ليست سوى تجارب إنسانية نحياها بكل‬ ‫المشهد الثقافي الذي يعاني من الشللية‪،‬‬ ‫ما فيها‪ ،‬والكتابة تبلورها وترسمها‪ .‬وتضع‬ ‫والنقد السلبي الذي يرتكز على العالقات‬ ‫تلك التجارب تحت المجهر‪ ،‬وهنا يظهر‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وفي المقابل ال تخلو الساحة‬ ‫دور المبدع فــي قــدرتــه على خلق عالم‬ ‫أيضا من نصوص إبداعية متميزة‪ ،‬وأقالم‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫جادّة‪ .‬وهذا حال الساحة الثقافية العربية‬ ‫عامة‪.‬‬ ‫ ¦مـ ــا هـ ــو الـ ـمـ ـع ــوق األس ـ ـ ــاس فـ ــي أن ي ـكــون‬ ‫لـلـمـثـقــف دو ٌر م ــؤث ــرٌ ع ـلــى حــركــة ال ـشــارع‬ ‫والناس والحياة؟‬ ‫‪ρ ρ‬فــي وطــنــنــا الــعــربــي الــعــوائــق كــثــيــرة‪ ،‬إن‬ ‫المجتمع منظومة اجتماعية متكاملة‪،‬‬ ‫إذا فسد جــزء منها فــســدت المنظومة‬ ‫بكاملها؛ فمحاربة المثقف من المسؤولين‬ ‫أو مــن السلطة‪ ،‬أو مــن بعض المثقفين‬ ‫أنفسهم‪ ،‬وفــرض القيود عليه تجعله في‬ ‫خــوف ورهــبــة مــن إب ــداء رأي ــه‪ ،‬كــذلــك ال‬ ‫يتمتع غالبية المثقفين بمكانة تليق بهم‪،‬‬ ‫وكيف له أن يؤثر في المجتمع وهو منشغل‬ ‫بمشاكله الخاصة والبحث عن حياة أفضل‬ ‫له وألسرته‪.‬‬

‫وإنما فينا وفي كل ما يحيط بنا‪.‬‬

‫ ¦د‪ .‬ماجدة صالح‪ ،‬على الصعيد الشخصي‪¦ ..‬مـ ـ ــاذا عـ ــن أحـ ــامـ ــك ال ـم ــؤج ـل ــة؟ وبـ ـم ــاذا‬ ‫تختتمين هذ الحوار؟‬ ‫هــل تـشـعــريــن بخيبة أم ــل ت ـجــاه المشهد‬ ‫الثقافي العربي؟‬ ‫‪ρ ρ‬لكل منا أحالم يسعى جاهداً إلى تحقيقها‪،‬‬

‫‪ρ ρ‬أشعر بخيبة أمل كبيرة وإحباط شديد!‬

‫ ¦يتردد بين حين وآخر أن هناك أزمة ثقافة‪،‬‬ ‫ويذهب آخرون إلى تسميتها أزمة مثقفين‪،‬‬ ‫ما رؤيتكم الخاصة لهذه القضية؟‬ ‫‪ρ ρ‬هناك أزمــة قيم ومــبــادئ‪ ،‬انعكست على‬ ‫جوانب الحياة المختلفة وعلى كل أطياف‬ ‫المجتمع ومكوناته‪ ،‬ابتعدنا عن تعاليم‬ ‫الــديــن الحنيف‪ ،‬وتركنا عاداتنا وقيمنا‬ ‫اإلسالمية التي ترتقي باألمة‪ ،‬فتراجعنا‬ ‫وتخلّفنا عــن ركــب الــحــضــارة والثقافة‪،‬‬ ‫فأزمتنا ليست محصورة في الثقافة فقط‪،‬‬

‫وأنا كباقي الناس لدي أحالم على الصعيد‬ ‫الشخصي‪ ،‬وعلى الصعيد العام‪ ،‬الشخصية‬ ‫منها أحتفظ بها لنفسي‪ ،‬أما العامة فأرجو‬ ‫من اهلل أن تنهض األمة العربية من سباتها‬ ‫وتتمسك بقيم ديننا لــتــقـوّم االعــوجــاج‬ ‫الــذي حدث في سلوكياتنا وانعكس على‬ ‫مجتمعاتنا العربية‪.‬‬

‫كما أرجــو من اهلل أن يحفظ سائر بالد‬ ‫المسلمين وأن يعم السالم واألمــان‪ ،‬وأن‬ ‫نعيد سيرتنا األولى باالعتصام بحبل اهلل‬ ‫والعودة إلى تعاليم اإلسالم الحنيف‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪109‬‬


‫الشاعرة والروائية‬ ‫الفلسطينية «صونيا خضر»‪:‬‬ ‫الشاعر الذكي هو الشاعر المراوغ الذي‬ ‫يستطيع أن يص ّوب سهم القصيدة نحو‬ ‫قلب الشجرة‪ ،‬وفيما قراؤه يستمتعون‬ ‫بصورة الشجرة وهواء الكلمات العليل‬ ‫ترى الشاعرة والروائية الفلسطينية صونيا خضر أنّه «ال تعارض أبد ًا بين أن‬ ‫تكون شاعر ًا وروائـيــا ً‪ ،‬وربما إمكانية الشعر هي إضافة لـلــراوي‪ ،‬ومنحة للسرد»‪.‬‬ ‫وقالت‪ « :‬ابتعاد ًا عن الصورة النمطية للكاتب الفلسطيني‪ ،‬واستناد ًا إلى اليوميات‬ ‫العادية والهموم اإلنسانية المشتركة بين الفلسطيني وغيره من البشر‪ ،‬أنحاز إلى‬ ‫الوجه المهمّ ش للفلسطينيّ ‪ ،‬الذي ‪-‬ومهما بلغت معاناته من االحتالل‪ ،‬ومهما‬ ‫اختلفت طــرق نـضــالــه‪ -‬يـنــدرج تحت اإلنـســان ال ــذي يـمــارس كــل طـقــوس الحياة‬ ‫ويستحق كل معاني الحياة»‪ .‬خضر كاتبة وشاعرة فلسطينية‪ ،‬سبق أن صدرت لها‬ ‫أعمال منها‪« :‬باب األبد» رواية‪ ،‬كما أصدرت من قبل ثالث مجموعات شعرية هي‪:‬‬ ‫«لشموس خبأتها» عن دار فضاءات في األردن ‪2009‬م‪ ،‬و«ال تحب القهوة إذا» عن‬ ‫بيت الشعر الفلسطيني ‪2012‬م‪ ،‬و«معطرة أمضي إليه» وهي مجموعة بالعربية‬ ‫والفرنسية عن دار لزهاري لبتر في الجزائر‪.‬‬ ‫■ حاورها‪ :‬عصام أبو زيد‬

‫‪110‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫الرواية؛ كيف ترينها؟‬

‫الفلسطينية؛ حدثينا أكثر عن ذلك‪.‬‬

‫ـضــلــت‪ ،‬أن ــا أتــجــنــب المستهلك‬ ‫‪ρ ρ‬الــمــراوحــة بين كتابة القصيدة وكتابة ‪ρ ρ‬كــمــا تــفـ ّ‬ ‫الرواية هو فن التنقّل بين الجهات‪ ،‬حسب‬ ‫واالستهالك‪ ،‬في وقت يكاد أال يخلو عمل‬ ‫الحالة والرسالة‪ ،‬وربما حسب المزاج‬

‫أدبــي لكاتب فلسطيني من التطرق إلى‬

‫وعلى مختلف أنواعها تتطلب التمكّن من‬

‫وأصبحت هــذه البصمة هي التي تميز‬

‫وعناصره‪.‬‬

‫أنــواعــه‪ .‬وج ــدت لنفسي خــطـاً مختلفاً‬

‫العاطفيّ كذلك؛ لكن الكتابة بشكل عام‬

‫اله ّم الفلسطيني وتداعيات االحتالل‪،‬‬

‫اللغة‪ ،‬وتوظيفها في العمل حسب تقنياته‬

‫األدب وال ــف ــن الــفــلــســطــيــنــي بمختلف‬

‫«اللغة هي منزل الوجود» كما يقول مارتن‬

‫بعض الــشــيء‪ ،‬بانحيازي إلــى اإلنسان‬

‫هــايــدجــر‪ ،‬وبــالــتــالــي فاللغة هــي منزل‬

‫األدب‪ ،‬فال كتابة على اإلطــاق من دون‬

‫لغة‪ ،‬وال أدب على اإلطــاق بــدون لغة‪.‬‬

‫يتمكن الكاتب أو الشاعر من التنقّل بين‬ ‫األن ــواع األدبــيــة المختلفة إن تمكّن من‬

‫اللغة أوالً‪ ،‬وإن استطاع توظيف تلك اللغة‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫ ¦ال ـمــراوحــة بـيــن كـتــابــة الـقـصـيــدة وكتابة‬

‫ع ـ ــن االس ـ ـت ـ ـهـ ــاك الـ ـمـ ـب ــاش ــر ل ـل ـق ـض ـيــة‬

‫أوالً؛ مشاعره‪ ،‬قلقه الــوجــودي‪ ،‬صوته‬

‫الداخليّ ونزوحه نحو تقدير الذات؛ في‬

‫روايتي األولى «باب األبد» الصادرة عن‬ ‫دار الــفــارابــي عــام ‪2016‬م مــثـاً‪ ،‬وعبر‬

‫رســائــل متبادلة بين شخصية واقعية‬

‫فنياً بين تلك األنــواع‪ .‬القصيدة هي نوع‬ ‫أدبي يتطلّب جمالية لغوية فائقة يستطيع‬ ‫الكاتب من خاللها الــخــروج بالتراكيب‬ ‫الفنية والصور‪ ،‬فيما الرواية تتطلب مهارة‬

‫لغوية فائقة يستطيع الكاتب من خاللها‬ ‫قيادة عملية السرد صعوداً ونزوالً حسب‬ ‫مجريات األحداث‪.‬‬

‫هذه المقدمة ألقول أن ال تعارض أبداً بين‬

‫أن تكون شاعراً وروائياً‪ ،‬وربما إمكانية‬

‫الشعر هي إضافة للراوي‪ ،‬ومنحة للسرد‪.‬‬

‫ ¦ت ـطــرح كـتــابــاتــك ف ـع ـ ًا لـلـمـقــاومــة يتأكد‬ ‫عبر إحساس الكائن بالحياة‪ ،‬وتبتعدين‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪111‬‬


‫وأخرى متخيّلة‪ ،‬حاولت تشريح المشاعر‬

‫اإلنسانية‪ ،‬والمعاني الملتبسة للحب؛‬ ‫أوجدت التبريرات واألسباب التي تدفع‬ ‫الــعــشــاق الخــتــاق أزمــاتــهــم عــوض ـاً عن‬

‫محاكمتهم‪ ،‬أو اللجوء إلى النواح العاطفي‬

‫الذي أصبح مستهلكاً أيضا‪ ،‬فخخت هذه‬

‫الرسائل التي تبدو في ظاهرها‪ ،‬وكأنها‬

‫العادية والهموم اإلنسانية المشتركة بين‬ ‫الفلسطيني وغيره من البشر‪ ،‬أنحاز إلى‬ ‫الوجه المهمّش للفلسطينيّ الذي ‪-‬ومهما‬ ‫بلغت معاناته من االحتالل‪ ،‬ومهما اختلفت‬ ‫طرق نضاله‪ -‬يندرج تحت اإلنسان الذي‬ ‫يمارس كل طقوس الحياة‪ ،‬ويستحق كل‬ ‫معانيها‪.‬‬

‫بين عاشقين‪ ،‬بألغام قد تنفجر بعد كل ¦هل أنت مزاجية عندما تكتبين وتؤمنين‬ ‫عــبــارة‪ ،‬ليعيد الــقــارئ النظر بالمعاني‬ ‫بما يسمى باإللهام؟‬ ‫النمطية لكثير مــن الــمــفــردات التي ‪ρ ρ‬نعم‪ ،‬أنا مزاجية جداً في الكتابة‪ ،‬احتاج‬ ‫استسلم لمعناها دون محاوالت لفهمها‪،‬‬

‫ما يلهمني ويستفزني للكتابة‪ ،‬في الشعر‬ ‫وفي الرواية؛ لذلك أفشل غالباً في حال‬ ‫طلب مني الكتابة حول موضوع ما‪ ،‬وبشكل‬ ‫خاص إن كان هذا الموضوع ال يؤثر بي أو‬ ‫يعنيني بشكل خاص‪ .‬ومن هنا‪ ،‬أستطيع‬ ‫أن أستحق ثقة القارئ‪ ،‬وهنا يكمن الفرق‬ ‫بين امتهان الكتابة والشغف بالكتابة‪.‬‬

‫الفلسطيني‪ ،‬واســتــنــاداً إلــى اليوميات‬

‫الصورة لخدمة النص ال من يؤشر إلى‬

‫مثل األمــومــة والــحــب والــحــيــاة والموت‬

‫والــســعــادة وال ــج ــدوى‪ ،‬وتــطــرقــت أيضا‬

‫لتابوهات عاطفية محر ٌم المساس فيها‬

‫أو الحديث عنها مثل انتهازية األبناء ودور‬ ‫األم في ترسيخ الفكر الذكوري‪ ،‬وسلطة‬

‫المحتكرين للثقافة واألدب والدين‪ ،‬كل‬

‫هذه الموضوعات هي استفزاز للمقاومة‬ ‫ ¦هل القصيدة لديك فعل معرفي أم فعل‬ ‫على صعيد جودة الذات‪ ،‬للعمل على فك‬ ‫بوح أم ماذا؟‬ ‫االلتباسات الحاصلة بين المترادفات‬ ‫‪ρ ρ‬ال تــخــلــو قــصــيــدة م ــن بـ ــوح وتــجــســيــد‬ ‫مثل األنــانــيــة واحــتــرام الـ ــذات‪ ،‬الــغــرور‬ ‫للهواجس الشخصية‪ ،‬لكننا وحين نخرج‬ ‫والــكــبــريــاء‪ ،‬العيش والــحــيــاة‪ ،‬وغيرها؛‬ ‫من مراهقة القصيدة‪ ،‬تتحول القصيدة‬ ‫ما يصعد بالقارئ نحو جــدواه‪ ،‬ومعنى‬ ‫إل ــى فــعــل مــعــرفــي‪ ،‬مــبــنــي عــلــى تــراكــم‬ ‫وجوده وليهدم المعبد الذي تورّث طقوس‬ ‫الخبرات الحياتية‪ ،‬التي يندرج تحتها‬ ‫تقديسه‪ ،‬ويستطيع وقتها المقاومة ألجل‬ ‫كل ما يتعلّق بأسباب الشعر‪ .‬الشاعر‬ ‫وطن صالح للحياة‪ ،‬ال من خالل الموت‬ ‫الحقيقي هو من يستطيع تضمين بوحه‬ ‫في سبيله بل من خالل الحياة فيه‪.‬‬ ‫دون أن يتعرى تماماً‪ ،‬من يستطيع تحقيق‬ ‫ابــتــعــاداً عــن الــصــورة النمطية للكاتب‬ ‫سبب القصيدة بمكر ودهاء‪ ،‬ومن يوظف‬

‫‪112‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫الشاعر الذكي هو الشاعر المراوغ الذي‬ ‫يستطيع أن يصوّب سهم القصيدة نحو‬ ‫قلب الــشــجــرة‪ ،‬فيما ُق ـ ـرّاؤُه يستمتعون‬ ‫بصورة الشجرة وهواء الكلمات العليل‪.‬‬ ‫ ¦كـ ـي ــف تـ ــريـ ــن ت ــأثـ ـي ــر م ـ ــواق ـ ــع الـ ـت ــواص ــل‬ ‫وخصوصا «الفيسبوك» على‬ ‫ً‬ ‫االجتماعي‬ ‫النص الجديد؟‬ ‫‪ρ ρ‬إيــجــابــيــات وســلــبــيــات مــواقــع الــتــواصــل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬تقع فــي وجــه واح ــد‪ ،‬لكن‬ ‫َمــن يــحــدد الــوجــه سلباً أو إيــجــا ًبــا هو‬ ‫المستخدم لها‪ ،‬الذي يختار طبيعة موقعه‬ ‫وشكله فيه؛ هذا بشكل عام؛ أما تأثيرها‬ ‫على الــنــص‪ ،‬فقد وفـ ـرّت هــذه المواقع‬ ‫المنصات للنشر‪ ،‬دون أي ضــوابــط أو‬ ‫ّ‬

‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‬

‫الصورة في سياق النص‪.‬‬

‫تحفظات‪ ،‬والسهولة في النشر ومجانية‬ ‫األلــقــاب واالعــتــمــاد بشكل خــاص على‬ ‫الــعــاقــات الشخصية بــالــتــقــيــيــم‪ ،‬وإن‬ ‫أتاحت الفرصة للعديد من النصوص بأن‬ ‫تصل إلى القارئ أينما كان‪ ،‬فقد ظلمت‬ ‫النص‪ ،‬بأن جعلته عابراً‪ ،‬قصير العمر‬ ‫ودون أثر عميق ليعلق بالذاكرة‪ .‬مع توفّر‬ ‫مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬مضى زمن‬ ‫ال في الذاكرة‬ ‫القصيدة التي تعمّر طوي ً‬ ‫الجماعية‪ ،‬والــتــي تحفظ غيباً وتتردد‬ ‫بعض مقاطعها قي المناسبات الوطنية‬ ‫واللحظات العاطفية الحميمة‪ ،‬مضى‬ ‫زمن الشعر منذ أصبح متوافراً وفائضاً‬ ‫ال‬ ‫عــلــى الــمــنــصــات اإللــكــتــرونــيــة‪ ،‬ضح ً‬ ‫ومناسباتياً‪ ،‬في وقت تراكمت فيه تلك‬ ‫المناسبات‪.‬‬ ‫ ¦كيف تنظرين إلــى واقــع دور النشر سواء‬ ‫الخاصة أم الحكومية؟‬ ‫‪ρ ρ‬لي تجربة يتيمة مع دار نشر حكومية‪،‬‬ ‫كلفتني ضعف ما كلفني أي إصدار آخر‪،‬‬ ‫بسبب اســتــهــتــار المسئولين‪ ،‬ال رغبة‬ ‫لي بالحديث عنها؛ أمــا عن دور النشر‬ ‫الخاصة‪ ،‬فلم يعد خفياً أمر تحولها إلى‬ ‫شركات تجارية‪ ،‬تعمل على إنتاج المواد‬ ‫المكتوبة ال على النشر والتوزيع‪ ،‬لم تعد‬ ‫جودة المنتج األدبي أهم معايير النشر‪،‬‬ ‫بل السعر المدفوع فيه؛ لذلك وحسب‬ ‫إحــصــاءات رسمية‪ ،‬تزايد النشر بشكل‬ ‫ملحوظ في السنوات األخيرة‪ ،‬وفي المقابل‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪113‬‬


‫تضاءل شراء الكتب؛ نظراً لفقدان الثقة‬ ‫بجودة المنتج األدبي‪ ،‬ولتوافره إلكترونياً‪،‬‬ ‫واقتصار مهمات دور النشر على الطباعة‬ ‫والتوزيع بشكل يقتصر على المشاركة في‬ ‫معارض الكتب‪ ،‬دون أدنى اهتمام بتسويق‬ ‫المحتوى إعالميا ونقدياً‪.‬‬ ‫تقع مسئولية تسويق المنتج األدبي بشكل‬ ‫عام على عاتق الكاتب‪ ،‬فهو مَن سيدفع‬

‫تكلفة النشر وسيتواصل مع الصحافة‬ ‫والنقاد وسيرشحه للجوائز‪ ،‬وهــذه لم‬ ‫تــكــن فيما مــضــى مهمة الــكــاتــب‪ ،‬لكن‬

‫وضمن التوليفة الجديدة لعملية النشر‬ ‫وبكل أسف يجد نفسه مجبرًا على ذلك‪،‬‬ ‫ربما هناك بعض االستثناءات في هذا‬

‫ال‬ ‫السياق‪ ،‬لــدور نشر تقوم بدورها كام ً‬

‫من تكلفة وتسويق وتوزيع‪ ،‬لكن حتى هذه‬ ‫الدور يعتمد بشكل أساس على العالقات‬

‫الشخصية وشروط االنتماء األيديولوجي‬ ‫والسياسي لهذه الدور‪ ،‬مهملة ومستبعدة‬

‫أي منتج أدبي مهما كانت جودة محتواه‪،‬‬

‫في حال عدم استيفاء هذه الشروط‪.‬‬ ‫ ¦ماذا عن طقوسك في الكتابة؟‬

‫‪ρ ρ‬االنــفــصــال عــن الــعــالــم والــضــجــيــج‪ ،‬في‬ ‫ســاعــات الــلــيــل الــمــتــأخــرة‪ ،‬أو الصباح‬

‫الباكر‪ ،‬وكــامــرأة لديها مسئوليات بيت‬ ‫وعــائــلــة‪ ،‬أحــتــاج أن يــكــون كــل مــا حولي‬

‫منظماً ونظيفاً‪ ،‬ومهماتي المنزلية منجزة‪،‬‬

‫‪114‬‬

‫ومظهري الئقاً‪ ،‬ال أستطيع الكتابة في‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫أجواء فوضوية‪ ،‬وال قرب منضدة عليها‬ ‫القليل من الغبار مثال‪ ،‬ال أستطيع ترتيب‬ ‫الفوضى التي فــي داخــلــي إن لــم أرتــب‬ ‫الفوضى من حولي أوالً؛ قد يبدو هذا‬ ‫أمــرًا مثيراً للسخرية‪ ،‬لكني أراه أم ـرًا‬ ‫مثيراً لإلعجاب‪ ،‬ويستحق التقدير‪ ،‬فأنا‬ ‫عينة وواحــدة من النساء‪ ،‬اللواتي ورغم‬ ‫كل المسئوليات الملقاة على كاهلها‪ ،‬من‬ ‫إدارة بيت وعائلة وحياة اجتماعية نشطة‪،‬‬ ‫تستطيع أن تنجز ما لم ينجزه الكثيرون‬ ‫ممن يقضون معظم وقتهم في المقاهي‬ ‫تحقيقاً لطقوسهم بالكتابة‪ ،‬وهم يعرفون‬ ‫أن هنالك َمــن سيقوم بكوي قمصانهم‬ ‫وإعداد الطعام لهم وغسل صحونهم‪.‬‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫الشعر العربي‬ ‫النمر ُ في ِ‬ ‫ّ‬ ‫والشعر‬ ‫تخفي في الطبيعة‬ ‫ِ‬

‫■ أحمد ابراهيم البوق*‬

‫النمر حيوان انعزالي يعيش بمفرده‪ ،‬وال يلتقي الذكر باألنثى إال في موسم‬ ‫ال ـت ــزاوج‪ ،‬ويـنـفـصــان بـعــد ذل ــك! معظم نـشــاطــه ل ـي ـاً‪ ،‬ورب ـمــا لـهــذا الـسـبــب قلّت‬ ‫الشعر‪ ،‬وإن ذكر فهو رمز للقوة والبطش‪ .‬ومن أسمائه‬ ‫مشاهداته‪ ،‬فقلّ وجوده في ِ‬ ‫و"الضرجع"‪ ،‬واألنثى‬ ‫ّ‬ ‫و"السبنتي" و"الكثعم"‬ ‫ّ‬ ‫في التراث العربي "األبرد" و"األرقط"‬ ‫"القزْر"‬ ‫و"السبنتاه" و"العسبرة"‪ ،‬ومن أسماء جرائها ِ‬ ‫َّ‬ ‫تسمى "النمرة" و"الخيثمة"‬ ‫و "الهرماس"‪.‬‬

‫وصوته عند الغضب يسمى الزَّمخرة‪ .‬ب ـش ـك ــة ح ـ ـ ــازم ال عـ ـي ــب فـيـهــا‬ ‫أمــا عند االسترخاء والــراحــة فيسمى‬ ‫إذا ل ـبــس ال ـك ـم ــا ُة ج ـلــود نـمــرِ‬

‫الهرير والغطيط والخرير‪ .‬ويُجمع النمر‬ ‫وفي ذات المعنى يقول ابن الرومي‬ ‫على أنمر ونمور ونُمر وأنمار ونِماره‪( ،‬ت‪896‬م)‪:‬‬ ‫وفي األمثال يقال لمن استعد للحرب‪:‬‬ ‫سرى إليه عُ دا ُة اهلل فانصلتوا‬ ‫(لبس لهم جلد النمر)‪ .‬وفي ذلك يقول‬ ‫مستأسدينَ عليهم جلدة الن ِّمرِ‬ ‫الثعالبي (ت‪1038‬م)‪:‬‬ ‫"والتنمُّر" أصبح مصطلحاً على سوء‬ ‫وال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرُ م ـ ـ ـ ـ ــن جـ ـ ـف ـ ــائ ـ ــه‬ ‫المعاملة والتوحش فيها‪ .‬وقــد كانت‬ ‫ـس ل ـ ـ ــي ج ـ ـ ـل ـ ـ ـ َد ال ـ ـ ّنـ ـ ِـمـ ــر‬ ‫ي ـ ـل ـ ـبـ ـ ُ‬ ‫كذلك منذ القدم‪ ،‬وفي ذلك ما يقوله‬ ‫ويقول دريد بن الصمة (ت ‪630‬م) عمر بن أبي ربيعة (ت‪719‬م) في رائيته‬ ‫الشهيرة‪ ،‬إنــه كلما زار حبيبته "نعم"‬ ‫راثياً صديقه معاوية أخا الخنساء‪:‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪115‬‬


‫أنثى النمر العربي‬

‫يتنمّر عليه قريب لها‪:‬‬

‫زرت ُن ـع ـم ـ ًا ل ــم ي ــزل ذو قــرابــةٍ‬ ‫إذا ُ‬ ‫ل ـ ـ ـهـ ـ ــا ك ـ ـ ـ ّل ـ ـ ـمـ ـ ــا الق ـ ـ ـي ـ ـ ـتـ ـ ــه ي ـ ـت ـ ـنـ ــمّ ـ ــرُ‬ ‫وإسباغ صفات النمور على األشخاص‬ ‫من كمال المدح‪ .‬ومن ذلك وصف الخنساء‬ ‫(ت‪645‬م) ألخيها صخر‪ ،‬وأن مشيته في‬ ‫الــحــروب هــادئــة ال يُــحَ ــس بــهــا‪ ،‬وســاحــه‬ ‫األنياب واألظفار كالنمور‪:‬‬

‫عضلَةٍ‬ ‫السبنتي إلى هيجا َء مُ ِ‬ ‫مَ شي ّ‬ ‫ـاب وأظـ ـ ـف ـ ــا ُر‬ ‫َلـ ـ ـ ــهُ ِسـ ـ ــاحـ ـ ــان‪ :‬أن ـ ـ ـيـ ـ ـ ٌ‬

‫‪116‬‬

‫واليمن جنوباً‪ ،‬ومن عمان إلى اإلمارات‪ ،‬ولكن‬ ‫أعــداده انحسرت بشكل كبير جــداً‪ ،‬بسبب‬ ‫تدهور بيئاته وصيد فرائسه من الوعول‬ ‫والظباء والوبر واألرانــب والطيور‪ ،‬وأصبح‬ ‫مهدداً باالنقراض بشكل حرج‪ ،‬وتقدر بعض‬ ‫الدراسات أن أعــداده في البرية ال تتجاوز‬ ‫الماءتين رغم جهود المحافظة عليه وإكثاره‪،‬‬ ‫التي تنفذها المملكة واإلمـــارات وعمان‪.‬‬ ‫ولعل مهاجمته لألغنام والجمال‪ ،‬وتداخله‬ ‫مع أنشطة الرعي‪ ،‬أحد أهم األسباب التي‬ ‫تدفع المتضررين لقتله وتسميمه‪ .‬ويبدو‬ ‫أن هذا التداخل قديم جــداً‪ ،‬فقد أشار له‬ ‫امرؤ القيس (ت ‪540‬م) قبل نحو (‪)1500‬‬ ‫عــام‪ ،‬عندما وصف أن من يحبهم يسكنون‬ ‫في األماكن المرتفعة أو رؤوس الجبال يعدو‬ ‫على شائهم النمر‪:‬‬

‫ورغم أن النمور واسعة االنتشار من القارة‬ ‫األفريقية مروراً بالجزيرة العربية حتى غرب‬ ‫آسيا‪ ،‬إال إن سالالتها تتنوع حسب البيئات‪.‬‬ ‫وقــد رصــد البحث العلمي (‪ )24‬نوعاً من‬ ‫النمور‪ ..‬منها‪ :‬النمر العربي‪ ،‬والذي ينحصر‬ ‫توزيعه الجغرافي في المناطق الجبلية غرب‬ ‫ـاس بِ ـ ــقُ ـ ـ ّنـ ــةٍ‬ ‫الجزيرة العربية وجنوبيها‪ ،‬وحتى الشرق‪ ..‬أَح ـ ـ ـ ـ ُّـب إلـ ـيـ ـن ــا م ـ ــن أن ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫يـ ـ ــروح ع ـل ــى آثـ ـ ــار ش ــائِ ـ ـه ــمُ ال ـ ِ ّـن ـم ــر‬ ‫فيمتد من فلسطين شماالً إلــى السعودية‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ووصفوها‪ .‬ومن ذلك ما قاله الشنفري (ت‬ ‫‪525‬م) في الميته الشهيرة‪ ،‬حين استبدل‬ ‫الوحوش بأهله‪ .‬وذكر الذئب " سي ٌد عملّس"‬ ‫والنمر أرق ــط زهــلــول"الــســريــع"‪ ،‬والضبع‪،‬‬ ‫عــرفــاء‪ .‬وقــال إنهم أهله الذين ال يفشون‬ ‫سره‪ ،‬وال يخذلونه إذا ما ارتكب جناية‪ ،‬وأنهم‬ ‫يتميزون بالشجاعة‪ ،‬ولكنه أشجع منهم إذا‬ ‫عرضت طــريــدة‪ ،‬وأنــه ال يسبقهم باألكل‪،‬‬ ‫ألن األفضل من يتفضل بما يملك‪ ،‬فيترك‬ ‫الطريدة التي يصطادها يأكلون منها أوالً‪:‬‬

‫ـس‬ ‫ول ــي دون ـك ــم أه ـل ــونَ س ـيــدٌ عـمـ ّلـ ٌ‬ ‫ـول وعـ ــرفـ ــاء جَ ـي ـئــلُ‬ ‫وأرق ـ ـ ــط زه ـ ـلـ ـ ٌ‬ ‫هُ ــمُ األه ــلُ ال مستودع الـ ِّـســر ذائــع‬ ‫لديهم وال الجاني بما جرَّ يُ خذَلُ‬ ‫وكـ ـ ـ ـ ــلٌ أَبـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌـي بـ ـ ــاسـ ـ ــلٌ غ ـ ـيـ ــر أ ّن ـ ـنـ ــي‬ ‫إذا عــرضــت أول ــى ال ـطــرائِ ــد أيــسَ ــلُ‬

‫الشعر سريعة ومنعزلة‪،‬‬ ‫والنمور كما يصفها ِ‬ ‫والنمر العربي على وجــه الخصوص من‬ ‫أصغر النمور حجماً في العالم‪ ،‬وال يضاهيه‬ ‫إال نمر الكيب في جنوبي إفريقيا‪ .‬ويبلغ‬ ‫متوسط وزن الذكر بين ‪ 35-30‬كغم واألنثى‬ ‫ال نادرة لقلة إنتاجها‬ ‫‪25-20‬كغم‪ .‬والنمور فع ً‬ ‫وتعرض جرائها للخطر‪ .‬فالحمل يستمر‬ ‫حوالي ‪ 3‬أشهر والمواليد بين ‪ 3-1‬مولوداً‪،‬‬ ‫تبقى األم معهم أليــام‪ ،‬ثم تضطر لتركهم‬ ‫بحثاً عن الغذاء‪ ،‬ألنها ترعاهم بمفردها‪،‬‬ ‫وقد تغيب ألكثر من يوم‪ ،‬ما يعرض مواليدها‬ ‫لالفتراس من الضباع أو الذئاب‪ .‬وتستمر‬ ‫الرضاعة إلــى عــدة أشــهــر‪ ،‬ولكن الصغار‬ ‫يمكن أن تبدأ الصيد من عمر خمسة أشهر‬ ‫لصغار الطرائد‪ ،‬ومع ظهور األنياب الدائمة‬ ‫يبدأ الصيد الفعلي بين ‪ 8-7‬أشهر‪ .‬والنمور‬

‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫والشعراء الصعاليك‪ ..‬صــادف بعضهم وإن مُ دّ ِت األيدي إلى الزاد لم أكن‬ ‫النمور فــي الجبال وذكــروهــا فــي ِشعرهم‬ ‫بأعَ جلهم إذا جشعُ الـقــومِ أعَ جلُ‬

‫النمر العربي بالمحمية‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪117‬‬


‫واألبيض رغم أن ظاهره يدل على السواد‪.‬‬ ‫وهــذا الصاحب ال يعلّل‪ ،‬وإذا ما التقى به‬ ‫كان جل الحديث صمت ونظرات كالسهام‪.‬‬ ‫وعيون النمر "طحالء"‪ ..‬وهو لون ترابي يميل‬ ‫للصفرة كما هو في الــواقــع‪ .‬وأن طعامهم‬ ‫كان أنثى الوعول‪ ،‬يتناوبون عليها؛ ألن واقع‬ ‫الحال ال يأكل النمر الفريسة كاملة‪ ،‬ولكن‬ ‫يعود لصيده إن لم يستطع سحبه‪ .‬ويقول‬ ‫القتال أنني أميط األذى‪ ..‬أي الفرث عن‬ ‫الــصــيــد‪ ،‬ولــكــن النمر يــأكــل جــوفــهــا‪ ،‬وهي‬ ‫حقيقة علمية‪ ..‬وكأن القتال يعرض مشهداً‬ ‫سينمائيا في وصف النمر‪ ،‬وأن لهما مجمع‬ ‫ماء "قَلتٌ " في جبال بعيدة يختلفون إليه‪،‬‬ ‫يشرب منه من يأتيه أوالً‪ ،‬وأن عداوته مع‬ ‫النمر يشوبها االحترام فيقول‪:‬‬

‫تعتمد على طيف واسع مع الطرائد‪ ،‬وقد قدر‬ ‫في بعض الدراسات اإلفريقية إلى أكثر من‬ ‫‪ 90‬نوعاً مختلفاً تعتمد عليها في الغذاء‪ .‬وفي‬ ‫الجزيرة العربية معظمها من الوعول والظباء‬ ‫الجبلية والوبر واألرانب وبعض أنواع الطيور‬ ‫كالحجل‪ .‬ويحدث البلوغ بين ‪ 3-2‬سنوات‪،‬‬ ‫وتنفصل المواليد عن أمهاتها بعد ‪18-12‬‬ ‫شهراً‪ ،‬وتميل اإلناث إلى تأسيس مناطق لهن‬ ‫قريباً من األم‪ ،‬بينما تبتعد الذكور‪ .‬ويُراوح‬ ‫نطاق حركتها السنوي بين بضعة كيلومترات‬ ‫مربعة إلــى ‪800‬ك ــم‪ 2‬تبعاً لوفرة الفرائس‬ ‫وندرتها وحركتها اليومية‪ ،‬كذلك من أكثر‬ ‫من كيلومتر إلى أكثر من ‪30‬كم تبعاً لتوافر‬ ‫الصيد‪ .‬والــنــمــور تعتمد فــي الصيد على‬ ‫حاستي النظر والسمع وليس الشم كالذئاب‪،‬‬ ‫ولذلك عيونها كبيرة‪ ،‬ووقوعها في مقدمة‬ ‫صاحب في الغارِ هدّ َك صاحب ًا‬ ‫ٌ‬ ‫الــرأس يعطي عمقاً في الرؤية‪ ..‬وتحديداً ولي‬ ‫الليلية‪ .‬وألن األسنان الطواحن تغيب لديها‪،‬‬ ‫ه ـ ـ ـ َو الـ ـ ـج ـ ــونُ إ ّال أ ّن ـ ـ ــه ال يُ ـ ـعـ ـ ّل ـ ُـك‬ ‫فإنها تبلع اللحم وال تقطعه‪ ،‬قــد تهاجم‬ ‫إذا مــا الـتـقـيـنــا ك ــان ج ــلَّ حديثنا‬ ‫فريسة أكبر منها بأضعاف‪ .‬وقــد سجلت‬ ‫ـرف كالمعابل أطـحــلُ‬ ‫ـات وط ـ ٌ‬ ‫ص ـمـ ٌ‬ ‫مهاجمتها لإلبل في المملكة في الحوادث‬ ‫ـام ـنــا‬ ‫الشعر على تَ ـض ـمّ ـن ــت األروى ل ـن ــا بِ ـط ـعـ ِ‬ ‫القليلة التي سجلت فيها‪ .‬وفي ِ‬ ‫ندرة ذكر النمر لم يذكر إال فرداً‪ ،‬وهو كذلك‬ ‫كِ ــان ــا ل ــه ِم ـن ـه ــا ن ـص ـي ـ ٌـب ومـ ــأ َكـ ــلُ‬ ‫في واقع الحال‪.‬‬

‫ف ــأغ ـل ـب ــهُ ف ــي ص ـن ـع ــةِ الـ ـ ـ ــزادِ إ ّن ـن ــي‬ ‫ولعل أجمل وصف للنمر ما قاله القتال‬ ‫أم ـ ـيـ ـ ُـط األذى عـ ـن ــهُ وال ي ـت ــأمّ ــلُ‬

‫الــكــابــي (ت‪690‬م)‪ ،‬وه ــو مــن الــشــعــراء‬

‫ـأرض م ـض ـ ّلــةٍ‬ ‫وك ــان ــت ل ـن ــا َقـ ـل ـ ٌـت ب ـ ـ ـ ٍ‬ ‫الــصــعــالــيــك‪ ،‬عــنــدمــا ك ــان فـ ــاراً فــي جبال‬ ‫شـ ــري ـ ـعـ ــتُ ـ ـنـ ــا ألي ـ ـ ـنـ ـ ــا ج ـ ـ ـ ـ ــا َء أوّلُ‬

‫المدينة المنورة وآخى نمراً‪ .‬هذا النمر له‬ ‫كهف يعيش فيه‪ ،‬وهو وصف دقيق‪ ،‬ولونه كِ ـ ــانـ ــا عَ ـ ـ ـ ــدوٌّ لـ ــو ي ـ ــرى فـ ــي عَ ـ ـ ــدوّه‬ ‫"جون"‪ ،‬وهذا اللون من التضغاء‪ ،‬أي األسود‬ ‫مَ ـح ــز ًا وكـ ـ ٌّـل ف ــي الـ ـع ــداوةِ مُ ـجـ ِـمــلُ‬ ‫* باحث وشاعر سعودي‪.‬‬

‫‪118‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫ٌ‬ ‫لتأمل!‬ ‫واليابان‪:‬‬ ‫نحن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فسحة ِل ُّ‬ ‫■ د‪ .‬سعيد سهمي*‬

‫على الرغم من الفجوة الرقمية الكبيرة جــدا بيننا وبين اليابان في جميع‬ ‫المجاالت‪ ،‬والتي تجعل المسافة الزمنية بيننا وبينهم على مستوى التقدم طويلة‬ ‫جدا؛ هذه الفجوة التي جعلت من باب التهكم والسخرية المقابلة بين المغرب‬ ‫واليابان‪ ..‬بل بين جميع الــدول العربية وبين اليابان‪ ،‬إال إن هناك فسح َة تأمل‬ ‫تجعل من القابلية‪ ،‬أو من الممكن خلق نوع من التمييز حتى بين المتناقضات‬ ‫على مستوى العرب واليابان؛ ال سيما أن مشروع التحديث في كثير من الدول‬ ‫الـعــربـيــة ارت ـبــط بــالـقــرن الـتــاســع عـشــر وسـبــق الـنـهـضــة الـيــابــانـيــة‪ ،‬ل ــوال العقلية‬ ‫التقليدية التي ســادت المرحلة‪ ،‬وخاصة بعد االستقالل وبعد الحرب العالمية‬ ‫الثانية‪ ،‬إذ لم تستفد الدول العربية من التاريخ‪ ،‬ولم تخلق لنفسها برنامجا قويًا‬ ‫للتحديث واالنتقال الديمقراطي وتطوير البحث العلمي والتقني‪.‬‬ ‫اليابان‪ ..‬هذه الدولة التي تقع على الحيوية دمـ ــا ًرًا وخــرا ًبــا‪ ،‬استطاع أن‬

‫شــبــه «ب ــرك ــان» انــطــاقــا مــن موقعها ينهض من جديد ويتحدى العالم‪ ،‬ويكون‬ ‫الجغرافي الــذي تهزه بشكل مستمر مصدر انبهار لجميع الــدول المتقدمة‬ ‫الــبــراكــيــن والـــــزالزل‪ ،‬وبــســبــب شكلها نفسها‪ ،‬فضال عن الدول النامية التي‬

‫األرخبيلي حيث تتربع على (‪ )6852‬تضربُ باليابان اليوم المثل في الرقيّ‬

‫جزيرة‪ ،‬وهذا البلد الذي عانى ويالت الحضاري والتقدم التكنولوجي؛ ما دفع‬ ‫الــحــروب على مــ ّر تــاريــخــه‪ ،‬ال سيما عددًا من دول جنوب شرقي آسيا إلى‬ ‫في الحرب العالمية الثانية من طرف أن تحذو حذوها‪ ،‬وتلتحق بها‪ ،‬وتنخرط‬

‫الحلفاء الذين ألقوا بقنابلهم النووية في موكب الدول المتقدمة مثل ماليزيا‬ ‫على الشعب الياباني‪ ..‬ف ــأردوا مدنه وإندونيسيا وسنغافورة التي أصبحت‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪119‬‬


‫ريادة اليابان في صناعة الروبوت (‪)https://www.zefrench.net‬‬

‫منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن تعد قد انتهت من هــذه المعضلة منذ النصف‬ ‫أسرع دولة في إنعاش اقتصادها بنمو وصل الثاني من القرن العشرين‪ ،‬بل إن إحصائيات‬ ‫إلــى ‪( %17.9‬موسوعة ويكيبيديا الحرة‪1986 ،‬م تشير إلى أن أكثر من ‪ % 94‬درسوا‬ ‫‪2020‬م)‪.‬‬ ‫مرحلة الــثــانــوي رغــم أن إلــزامــيــة التعليم‬

‫لــن يسعنا هــنــا الــمــجــال لــلــحــديــث عن تقتصر ‪-‬كما فــي المغرب‪-‬على مرحلتي‬ ‫جميع المفارقات بيننا وبين اليابان‪ ،‬ولكن االبتدائي واإلع ــدادي‪ ،‬بل إنها أعلنت سنة‬ ‫يمكننا التأمل في بعض المجاالت األساس؛ ‪2000‬م أن كل مواطن ياباني ال يجيد لغة‬ ‫كالتعليم‪ ،‬والثقافة‪ ،‬واالقتصاد‪.‬‬ ‫أجنبية والتعامل مع الكمبيوتر يعد في عداد‬ ‫تحدي األمية وتثقيف المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫‪-1‬‬

‫األميين‪.‬‬

‫وإذا كان العلم أســاس التقدم الياباني‪،‬‬

‫‪120‬‬

‫إذا كانت جل الــدول العربية إلــى اليوم‬ ‫تخوض في موضوع محو األمية‪ ،‬ولم تخرج وكانت الكتب مصدر العلم‪ ..‬ففي اليابان‬ ‫إلى حدود اليوم من هذه الطامة الكبرى‪ ..‬تجد الكتاب كالماء والخبز؛ إذ تجد المكتبات‬ ‫حيث تعرف نسبة أكثر من ‪ % 19‬من األمية أينما وليتَ وجهك‪ ،‬كما تجد المقاهي أينما‬ ‫فــي الــوطــن العربي (إحــصــاء ‪2014‬م) أي توجهت في الــدول العربية‪ ،‬ففي مقاطعة‬ ‫مــا يقدر ب‪ 96‬مليون نسمة‪ ،‬فــإن اليابان كاناقاوا مثال توجد (‪ )11‬مكتبة إضافة إلى‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫‪ -2‬تحديث المدرسة‬

‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫مكتبات الجامعات الــثــاث الــمــوجــودة في وتأخذ بعين االعتبار التوافق والتوفيق بين‬ ‫المنطقة نفسها‪ ،‬مع العلم أن كل مكتبة مزودة التدريس النظري والتطبيقي‪ ،‬وتركز على‬ ‫بالحواسيب ومرتبطة بشبكة اإلنترنت‪ ،‬إذا ما التكوين التقني بوصفه قوة تكنولوجية‪.‬‬ ‫أضفنا إلى ذلك أن اليابان تعمل على طبع كل‬ ‫أما مَن ينظر إلى حال المدرسة اليابانية‬ ‫كتاب صدر في العالم وفي وقت قياسي جدا‪ ،‬وحــال المدرسة العربية‪ ،‬فسيتفاجأ طبعًا‬ ‫كما أنها تترجم جميع الكتب إلى اليابانية‬ ‫سواء من حيث طبيعة المقررات الدراسية‬ ‫التي تم اعتمادها كلغة رسمية إضافة إلى‬ ‫أو المواد التي ندرسها‪ ،‬فــإذا كان التلميذ‬ ‫اإلنجليزية في بعض التخصصات الجامعية‪،‬‬ ‫الياباني منذ االبتدائي يعتمد الحاسوب‬ ‫علما أن اليابانية هي لغة التدريس الجامعي‬ ‫الوسيلة األســاس‪ ،‬فما تــزال مدرستنا تعد‬ ‫باستثناء الدراسات العليا التي يسمح فيها‬ ‫المعلوميات بالنسبة إلينا مــادة ثانوية وال‬ ‫باللغة اإلنجليزية كاختيار‪.‬‬ ‫ت ــدرس فــي كثير مــن الــمــؤســســات‪ ،‬فضال‬ ‫عــن ت ـدّنــي نسبة اســتــخــدام اإلنــتــرنــت في‬

‫وإذا ك ــان التعليم عــنــدنــا مــمــز ًقــا بين المؤسسات العمومية والخاصة‪.‬‬ ‫فــي هــذا الــســيــاق‪ ،‬يــذهــب أحــد الكتاب‬ ‫البحث عــن الــبــرامــج الغربية واالنــخــراط‬ ‫في إصالحات بيداغوجية سنة بعد سنة‪ ،‬العرب إلــى أنــه زار صديقا له في اليابان‬ ‫فــالــيــابــان تــضــع مــخــطــطــات بــيــداغــوجــيــة في هاماماتو بداية الثمانينيات‪ ،‬وفي ساعة‬ ‫وديداكتيكية دقيقة تنظر ألبعد الحدود‪ ،‬معينة تفاجأ أن سمع األب يطلب من ابنه‬

‫الروبوت تغزو حياة اليابانيين (‪ ،https://www.aljazeera.net‬في ‪ 14‬مارس ‪)2020‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪121‬‬


‫الذهاب إلى غرفته لمتابعة محاضرة أستاذه‪ ،‬غياب االســتــعــداد اللوجستيكي‪ ،‬باستثناء‬ ‫فلما استفسره في األمر‪ ،‬أخبره الصديق أن بعض دول الخليج التي استطاعت االنتقال‬ ‫التلميذ يتلقى دروسً ــا خصوصية عن بعد إلى التعليم الذكي منذ عقد تقريبا‪.‬‬ ‫من طرف أستاذه‪ ،‬وأن التعلم عن بعد يتيح‬

‫فرصة التعلم وتعميق المكتسبات المعرفية‬ ‫لكل مَن ال يستطيع االستفادة من الساعات‬

‫الخصوصية بعين المكان‪.‬‬

‫ولعل ذلك ما يدعو إلى تأمل عميق في‬

‫الفجوة الزمنية بيننا وبين اليابان على مستوى‬

‫التقدم اللوجستيكي في التعليم؛ إذ إننا اليوم‬ ‫ما نزال نجد صعوبة في ذلك‪ ،‬خاصة أننا‬

‫محتاجون أحيانا إلى تلقي الدروس عن بعد‪،‬‬

‫كما هو الحال لهذا العصر الــذي انتشرت‬

‫فيه األوبــئــة مثل (‪ )Covid -19‬الــذي جعل‬ ‫التعلم عن بعد في معظم دول العالم ضرورة‬

‫‪ -3‬تشجيع البحث العلمي وتقديس‬ ‫العلماء في اليابان‬ ‫إذا كنا نحن ال ننفق على البحث العلمي‬ ‫إال ‪ %0.64‬من الدخل القومي حسب تقرير‬ ‫اليونسكو ‪2010‬م‪ ،‬فاليابان تنفق عليه (‪)130‬‬ ‫بليون دوالر‪ ،‬أي ما يوازي أكثر من ‪ %24‬من‬ ‫إنفاق دول العالم كلها (إحصاءات ‪2000‬م)‪،‬‬ ‫ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على اإلبداع‬ ‫واالبــتــكــار‪ ،‬فــقــد بلغت بــــراءات االخــتــراع‬ ‫في اليابان (‪ )43.660‬حسب إحصائيات‬ ‫‪2012‬م مقابل (‪ )491‬بــراءة اخــتــراع فقط‬ ‫للدول العربية مجتمعة!‬

‫ملحة لتفادي العدوى وانتقال المرض‪ ،‬والتي‬ ‫وإذا كنا نحن نتخلى عن مفكرينا وعلمائنا‪،‬‬ ‫تجد فيه معظم الدول العربية صعوبة بسبب فاليابان ترفع العلماء إلى درجة قريبة من‬

‫‪122‬‬

‫شركة (سوني) من أهم الشركات التكنولوجية العالمية المتخصصة في صناعة اإللكترونيات‬ ‫(‪ ،http://www.cunotic.com‬في ‪ 14‬مارس ‪)2020‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫‪ -4‬التفوّق التقني‬ ‫الواقع أن البحث في الفجوة بين اليابان‬ ‫والدول العربية تستدعي كثيرا من التنقيب‬ ‫والتقصي ال للتشفّي أو البكاء على الحال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بل ألخذ العبرة واالعتبار‪ ،‬وإلصالح أنفسنا‪،‬‬ ‫ولعصرنة األمــة واالنــتــقــال نحو المجتمع‬ ‫الــعــربــي الــحــداثــي؛ ولــعــل الــوقــفــة األســاس‬ ‫التي تدعو إلى االهتمام ال سيما في عصر‬

‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫درجــة القديس‪ ،‬وتعانقهم باألحضان كما‬ ‫فعلت مع المفكر المغربي المهدي المنجرة‬ ‫الــذي يعد مــن أبــرز علماء المستقبل في‬ ‫عصرنا؛ وكما احتضنت مــن قبل المفكر‬ ‫اإلداري واالقتصادي األمريكي ويليام ديمنغ‬ ‫(‪ ))W. Edwards Deming‬صاحب هندسة‬ ‫إدارة الــجــودة الشاملة‪ ،‬وصاحب النظيرة‬ ‫المسماة دائ ــرة ديمنغ الــتــي تتوقف على‬ ‫المخطط (خطط ‪ -‬نفذ ‪ -‬افحص ‪ -‬باشر)‬ ‫والذي استطاع أن ينهض بالصناعة اليابانية‬ ‫التي ارتكز عليها االقتصاد الياباني‪ ،‬بعد أن‬ ‫تجاهله قادة الصناعة األمريكية في بداية‬ ‫األربعينيات من القرن الماضي؛ إذ ركزت‬ ‫اليابان على الصناعة عالية التكنولوجيا التي‬ ‫ال تكلف تكاليف نقل أو إنتاج كثيرة‪ ،‬في حين‬ ‫ما نزال نحن نعتمد على الموارد الطبيعية‬ ‫وعلى الفالحة كقطاع أساس‪ ،‬مع ما لها من‬ ‫ضعف على مستوى المردودية وصعوبات‬ ‫على مستوى اإلنتاج أو التصدير؛ وما نزال‬ ‫إلى اليوم نصدر المواد الخام إلى الخارج‬ ‫ونستوردها مصنّعة بأكثر من كلفة إنتاجها!‬

‫الخبير األمريكي ويليام ديمنغ من أبرز منظري الجودة‬ ‫في الصناعة اليابانية‪.‬‬

‫الممكنات اليوم مع الرقمية‪ ،‬هي تلك الفجوة‬ ‫التكنولوجية بيننا وبين اليابان‪ ،‬فلألسف‬ ‫الشديد نجد أن أكبر فوبيا لدى العربي هي‬ ‫فوبيا التقنية‪ ،‬فالخوف يزداد في مجتمعاتنا‬ ‫من التقنية‪ ،‬ولألسف الشديد فإننا ال نثق‬ ‫في الصناعة العربية إن وجدت‪ ،‬حيث تتمثل‬ ‫معظم الواردات العربية في استيراد المواد‬ ‫المصنعة والتكنولوجية‪.‬‬ ‫في حين أن الصناعة اليابانية تنافس‬ ‫أعتى األمم الصناعية مثل أمريكا وألمانيا‪،‬‬ ‫وهو ما يجعل صناعتها أكثر جودة في العالم‬ ‫كما هو الحال لشركة سوني (‪ )Sony‬الرائدة‬ ‫في مجال اإللكترونيات التي يعود تأسيسها‬ ‫إلى سنة (‪1946‬م)‪ ،‬والتي تعد األكثر جودة‬ ‫على مستوى المنتجات اإللكترونية قبل أن‬ ‫تصبح رائدة منذ تسعينيات القرن الماضي‬ ‫في مجال البرمجيات‪.‬‬ ‫وفي مجال صناعة السيارات تعد اليابان‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪123‬‬


‫يعد التعليم أولى أولويات المجتمع الياباني (‪ ،https://m.alwafd.news‬في ‪ 14‬مارس ‪.)2020‬‬

‫قوة خارقة في هذا المجال‪ ..‬من حيث نسبة في مواقف محرجة جــدا‪ ،‬ولذلك نكتفي‬

‫اإلنتاج العالمي ومــن حيث الــجــودة‪ ،‬حيث بهذه النكتة المعبرة التي تقول‪ :‬كان هناك‬ ‫تنافس الشركات اليابانية أقوى الشركات سباق تجديف بين قاربين لفريق عربي‬ ‫العالمية لصناعة السيارات‪ ،‬من قبيل تويوتا وفريق ياباني‪ ،‬وكل قارب يحمل على متنه‬ ‫التي تأسست منذ (‪1937‬م)‪ ،‬والتي تتوافر تسعة أشخاص‪ ،‬وفي نهاية السباق وجدوا‬ ‫اليوم على نحو (‪ )522‬فرعً ا‪ ،‬بل إن شركة أن الفريق الياباني انتصر بفارق رهيب‬ ‫نيسان (‪ )Nissan‬لصناعة السيارات تعد جــداً‪ ،‬وبتحليل النتيجة وجــدوا أن الفريق‬

‫ســادس أكبر مصنع للسيارات في العالم‪ ،‬الياباني يتكون مــن مدير واحــد وثمانية‬ ‫إذ تقدر قيمتها السوقية بنحو ‪ 40.2‬مليار مجدفين‪ ،‬في حين أن الفريق العربي يتكون‬ ‫دوالر‬

‫(‪،https://makkahnewspaper.com‬‬

‫‪ 14‬مارس ‪.)2020‬‬

‫في قاربه من مدير عام وثالثة مديري إدارات‬ ‫وأربعة رؤســاء أقسام ومجدف واحــد‪ .‬في‬

‫على أنــه يطول الحديث في التوصيف النهاية قــرر الــفــريــق الــعــربــي عمل لجنة‬ ‫والمقارنة إذا ما دخلنا إلى حقول السياسة تقصي الحقائق لمحاسبة المخطئ ففصلوا‬ ‫واالجتماع والحضارة واإلعــام؛ ما يضعنا المجدِّ ف!‬ ‫ * كاتب من المغرب‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫ٌ‬ ‫سالمة‬ ‫العزلة‬ ‫في ُ‬ ‫■ محمد علي حسن اجلفري*‬

‫ظن صديقي أنه الوحيد الذي اختار العزلة اختيارًا من تلقاء نفسه‪ ..‬وأرسل‬ ‫إليّ رسالة بذلك‪ ،‬وهو ال يعلم أن ألوفا مؤلفة‪ ،‬بل ال أبالغ إن قلت الماليين من‬ ‫الناس قد اعتزلوا الخروج من بيوتهم بسبب فيروس كورونا‪ .‬لكني بعثت له برسالة‬ ‫تأييد‪ ،‬وقلت له أن األسالف قد قالوا قبل مئات السنين «في العزلة سالمة»‪.‬‬ ‫وفتشت في الذاكرة أين قرأت هذا األثر‪ ،‬وبعد تقليب صفحات الذهن ساعة بعد‬ ‫ساعة‪ ،‬وبعد اضطراري إلى الخروج من المنزل لشراء شيء من الخضار والدجاج‪،‬‬ ‫ومشاهدة شــوارع جــدة شبه خــاويــة‪ ،‬ومــن ضجيج السيارات في الضحى مرتاحة‬ ‫البال‪ ،‬شعشع ببالي الجواب في األسبوع األخير من مارس ‪2020‬م‪ .‬فعندي كتاب‬ ‫يصيب المح ّز اسمه « الدليل المشير إلى سند االتصال بالحبيب البشير صلى‬ ‫اهلل وسلم عليه وعلى آله ذوي الفضل الشهير وصحبه ذوي القدر الكبير»‪ .‬تأليف‬ ‫أبي بكر بن أحمد بن حسين الحبشي العلوي‪ ،‬القاضي بمكة المكرمة‪ ،‬المولود‬ ‫سنة ‪1320‬هـ‪ ،‬والمتوفى سنة ‪1374‬هـ(‪.)١‬‬ ‫وكــنــت أحــتــفــظ بنسخة مخطوطة‬ ‫بقلم المؤلف رحمه اهلل‪ ،‬أهداني إياها‬ ‫األس ــت ــاذ الــدكــتــور عــبــد ال ــوه ــاب أبــو‬ ‫سليمان‪ ،‬شفاه اهلل‪ ،‬قبل أكثر من عشرين‬ ‫سنة‪ .‬واألستاذ أبو سليمان كان قد أخذ‬ ‫والكتاب ينقسم إلــى ثالثة أقسام؛‬ ‫شيئًا من العلم على المؤلف الذي كان‬ ‫مديرًا لمدرسة الفالح بمكة المكرمة القسم األول‪ ،‬وهــو يشغل نحو ثلثي‬ ‫في الخمسينيات من القرن الرابع عشر‬ ‫الهجري‪ .‬فبيني وبين المؤلف رحمه اهلل‬ ‫صلة غير مباشرة‪ .‬تكاد تقارب اإلجازة‪،‬‬ ‫إن كنت على صواب‪.‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪125‬‬


‫الكتاب عن تراجم الشيوخ الذين أخذ عنهم‬ ‫المؤلف؛ والقسم الثاني‪ ،‬وهو محل اقتباس‬ ‫راو إلى‬ ‫هذا الموضوع عن المسلسالت‪ ،‬من ٍ‬ ‫راو‪ ،‬ويبدأ هذا القسم بمسلسل «الراحمون‬ ‫ٍ‬ ‫يرحمهم الرحمن‪ ،‬ارحــمــوا من في األرض‬ ‫يرحمكم من في السماء»‪.‬‬ ‫وأمــا حديث «في العزلة سالمة» فيقول‬ ‫مؤلف كتاب الدليل المشير‪ :‬أخبرنا شيخنا‬ ‫السيد محمد المرزوقي أبــو حسين قــراءة‬ ‫عليه‪ ،‬قــال‪ :‬أخبرني السيد علي بن ظاهر‬ ‫الوتري‪ ..‬ويستمر المسلسل لنحو ‪ 26‬راويًا‪،‬‬ ‫واحـدًا عن واحد‪ ،‬عن ابن جريج عن عطاء‬ ‫عن أبي موسى األشعري رضي اهلل عنه قال‪:‬‬ ‫أخبرنا رسول اهلل ‪« :‬سالمة الرجل في‬ ‫الفتنة أن يلزم بيته»‪ .‬قال أبو موسى‪ :‬صدق‬ ‫رسول اهلل ‪ :‬في العزلة سالمة‪ ،‬فخرجنا‬ ‫وندمنا‪ .‬وقال عطاء‪ :‬صدق رسول اهلل ‬ ‫في العزلة سالمة‪ ،‬وقال كل من رجال السند‬ ‫حتى شيخنا كذلك‪.‬‬ ‫ويأتي الدكتور مصطفي محمود ليشرح‬ ‫لنا في مقال بعنوان «ماذا قالت لي الخلوة»‬ ‫فيقول‪« :‬الخلوة مع النفس حينما يبدأ ذلك‬ ‫الحديث السري‪ ..‬ذلك الحوار الداخلي‪ ..‬تلك‬ ‫المكالمة االنفرادية‪ ،‬حيث يصغي الواحد إلى‬ ‫نفسه دون أن يخشى أ ُذنًا أخرى تتلصص على‬ ‫الخط‪ ..‬ولهذا كانت الخلوة مع النفس شيئًا‬ ‫ضــرور ًيــا ومقدسً ا بالنسبة إلنسان العصر‬ ‫الضائع في متاهات الكذب والتزييف‪ ..‬وهي‬ ‫بالنسبة له طوق نجاة وقارب إنقاذ»(‪.)٢‬‬

‫‪126‬‬

‫رجــل اختار العزلة مــدة خمس عشرة سنة‬ ‫مقابل مليونين (من الروبالت بما أن الروائي‬ ‫روسي)‪ .‬فهو يصور لنا مجلسً ا يتناقش فيه‬ ‫عدة أشخاص‪ ،‬بينهم ثري مصرفي ومحام‪،‬‬ ‫حول عقوبة اإلعدام‪ ،‬ويقول المحامي أنه لو‬ ‫خُ يّر بين اإلعدام والسجن عدة سنوات فإنه‬ ‫سيختار السجن طبعا! ويندهش المصرفي‬ ‫جدال ثم في‬ ‫ٍ‬ ‫من هذا االختيار‪ ،‬ويدخل في‬ ‫ـان مع المحامي أنــه سيدفع له مليوني‬ ‫رهـ ٍ‬ ‫روبل إذا وافق على البقاء معزوال هذه المدة‪.‬‬ ‫وباختصار فإن الصفقة تنتهي بكتابة وثيقة‬ ‫بينهما‪ .‬وفيها يوافق المحامي على البقاء‬ ‫سجينًا في فناء المصرفي طيلة هذه المدة‪.،‬‬ ‫فهو يقدم حريته‪ ،‬والمصرفي يقدم له المال‬ ‫في نهاية المدة المحددة‪ .‬ويشترط المصرفي‬ ‫على أن يبقى المحامي في عزلته هــذه ال‬ ‫يخالط أح ـدًا من البشر فيما عــدا حارس‬ ‫يقدم له الطعام والشراب والكتب ليقرأها‪.‬‬ ‫وأنه لو خرج من محبسه قبل الموعد بثالث‬ ‫دقائق فقط فإن المصرفي في ِح ٍل من دفع‬ ‫مليوني روبل له‪.‬‬

‫وتنقضي الــمــدة‪ ،‬وفــي آخــر ليلة يكون‬ ‫المحامي قــد وصــل إلــى عبثية الــمــال بعد‬ ‫التعمق فــي ق ــراءة كتب األدب والفلسفة‪،‬‬ ‫ويــكــتــب ورقـ ــة أن ــه ســيــخــرج قــبــل الــســاعــة‬ ‫الــمــوعــودة ألنــه ال يــريــد الــمــال‪ .‬على حين‬ ‫يساور المصرفي الندم الشديد على خسران‬ ‫المال ويقرر أنه سيخنق المحامي في جوف‬ ‫الليل وهو نائم‪ ،‬فتبدو الوفاة وكأنها عادية ال‬ ‫شأن له بها‪ .‬وبذلك يوفر على نفسه الغرامة‪.‬‬ ‫***‬ ‫ولكنه عندما تسلل إلى غرفة الحجز رأى‬ ‫ويختلف التصور األدبي عن المأثور لدينا الورقة التي كتبها المحامي‪ ،‬وقرر أن يعرف‬ ‫نحن المسلمين حول العزلة‪ ،‬أو ما اصطلح ما فيها أوالً‪ .‬فلما قرأ الورقة تنفس الصعداء‬ ‫عليها المتصوفة بالخلوة‪.‬‬ ‫وشــــــــــــــــــعر بارتياح شديد‪ .‬وعاد متسـلال‬ ‫ففي األدب يقص أنطوان تشيخوف قصة إلى منزله‪ .‬وتنتهي قصة «الرهان»(‪ )٣‬بدخول‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫ال ــح ــارس مــع انــبــاج الــصــبــاح إل ــى غرفة‬ ‫المحجوز وإذا به قد خرج‪( .‬بإيجاز)‬ ‫***‬ ‫إن العزلة منحة ال محنة‪ .‬فلوالها لما‬ ‫خرج أشهر سجين في التاريخ وهو سيدنا‬ ‫يوسف عليه السالم ليكون وزير مالية مصر‪،‬‬ ‫بصرف النظر عن الظروف التي أحاطت به‬ ‫عليه السالم‪.‬‬ ‫الــطــريــف أن األديــــب الــمــصــري أحمد‬ ‫بهجـت‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬في كتابه «أنبياء اهلل»‬ ‫قال‪ :‬إن يوسف قابل امرأة العزيز بعد خروجه‬ ‫من السجن ووجدها قد خسرت نصف وزنها‬ ‫حزنًا على دخول الحبيب السجن(‪.)٤‬‬ ‫وفي عصرنا انتقل مالكولم إكس من مروِّج‬ ‫مخدرات وهاتك حرمات‪ ،‬إلى أشهر داعية‬ ‫مالكولم‪ ..‬من عزلة المجرم الخطر حيث أطلق عليه‬ ‫أمريكي أســود بعد أن اعتنق اإلســام في‬ ‫لقب الشيطان إلى أكبر داعية إسالمي في امريكا‬ ‫السجن‪ .‬وبعد مقتله بنحو (‪ )30‬سنة أصدرت‬ ‫هيئة الخدمات البريدية األمريكية طابع بريد فايروس كورونا»‪.‬‬ ‫تكريمًا لذكراه‪.‬‬ ‫ورســالــة ثانية تــنــادي‪« :‬انــتــبــه! التنقل‬ ‫***‬ ‫ولــقــد جابهت دول الــعــالــم وب ــاء كــورونــا المستمر‪ ،‬والمخالطة سبب رئيس لتفشي‬ ‫بالتوسل إلى شعوبها أن يلتزموا بيوتهم وال فيروس كورونا‪ ..‬لسالمتك إبق في المنزل‪..‬‬ ‫يخرجوا منها إال للضرورة القصوى‪.‬‬ ‫مع تحيات وزارة الصحة»‪.‬‬ ‫وأرســلــت وزارة الصحة السعودية ربما‬ ‫مليون رســالــة إلــى المواطنين والمقيمين‬ ‫لقد أحسنت يا صديقي بالعزلة االختيارية‬ ‫تحثهم على البقاء في منازلهم‪ .‬ومــن هذه‬ ‫قبل أن ينتشر القرار بالبقاء في البيوت‪ .‬ففي‬ ‫الرسائل واحدة تقول‪« :‬كلنا مسؤول‪ .‬البقاء‬ ‫في المنزل سالحنا األقوى بإذن اهلل لمواجهة العزلة سالمة‪.‬‬ ‫* مترجم ونائب مدير مركز معلومات مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر سابقا‪.‬‬ ‫(‪ )١‬أبو بكر بن أحمد بن حسين الحبشي العلوي ‪ :‬الدليل المشير إلى سند االتصال بالحبيب البشير صلى‬ ‫اهلل وسلم عليه وعلى آله ذوي الفضل الشهير وصحبه ذوي القدر الكبير ‪ /‬المكتبة المكية‪.‬‬ ‫(‪ )٢‬مصطفى محمود ‪ /‬األعمال الكاملة ‪ /‬دار القمر ‪ -‬بيروت‬ ‫(‪ )٣‬انطون تشيخوف ‪ :‬الرهان ‪ /‬ترجمة مجيد حميد جاسم ‪ /‬المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة األردنية‬ ‫(‪ )٤‬أحمد بهجت ‪ :‬أنبياء اهلل ‪ /‬الطبعة ‪ / 25‬دار الشروق‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪127‬‬


‫أعمدة «الرجاجيل»‬ ‫مراصد فلكية قبل تسعة آالف عام بمدينة سكاكا‬ ‫■ إبراهيم احلميد‬

‫هذه أثار الجوف تدل عليه وعلى عمق تاريخه وجذوره‪ ،‬آثاره هي مداميك األيام‬ ‫التي عبرت بها هذه المنطقة قطار الزمن القديم الى العصر الجديد!‪.‬‬ ‫في منطقة الجوف كثير من األثــار والشواهد التي تضرب في أعماق التاريخ‬ ‫القديم والحديث‪ ،‬ومــن أهــم هــذه األثــار نجد أعمدة الرجاجيل التي أدرك أهل‬ ‫المنطقة أهميتها‪ ،‬فقد حافظوا عليها طــوال فـتــرات الـتــاريــخ‪ ،‬وكــانــت وجهتهم‬ ‫الترفيهية والـسـيــاحـيــة س ـنــوات طــويـلــة‪ ،‬وكــانــت م ــدارس سـكــاكــا تنظم رحالتها‬ ‫المدرسية إليها طوال عقود من الزمن‪ ،‬ألخذ الصور التذكارية مع هذه األعمدة‬ ‫قصصا غريبة عن هذه األثار‪ ..‬ومنها‬ ‫ً‬ ‫العجيبة‪ ،‬وكان الكثير من األهالي يتداولون‬ ‫أنها كانت في األصل رجال تحولوا إلى أحجار‪ ،‬أصبحت مع مرور الزمن تسمى‬ ‫أعمدة الرجاجيل‪.‬‬

‫‪128‬‬

‫وقد كشفت باحثة آثار سعودية عن‬ ‫أن األعــمــدة الــحــجــريــة‪ ،‬الــتــي خلّفتها‬ ‫الحضارات السابقة‪ ،‬في مواقع شمالي‬ ‫غرب المملكة العربية السعودية‪ ،‬كانت‬ ‫تمثل مــراصــد فلكية واستشفائية في‬ ‫أواخر العصور الحجرية (فترة ما قبل‬ ‫األل ــف الــرابــعــة قبل الــمــيــاد)‪ ،‬مبينة‬ ‫أنها تعكس هندسة معمارية متقدمة‪،‬‬ ‫وقدرات ذهنية متطورة لمنشئيها‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫وقالت باحثة اآلثــار بجامعة الملك‬ ‫سعود منيرة علي المشوح‪ ،‬في دراسة‬ ‫حديثة لها نشرتها (واس) و صحف‬ ‫عديدة‪ ،‬إنها تتبعت مالمح (‪ )21‬موقعاً‬ ‫لألعمدة الحجرية في المملكة‪ ،‬والرسوم‬ ‫الصخرية الموجودة بها‪ ،‬للوصول إلى‬ ‫مؤشرات تكشف عن معانيها الحضارية‪،‬‬ ‫وتوصلت بعد الدراسة إلى مجموعة من‬ ‫الـ ــدالالت‪ ،‬مثل الممارسات الرمزية‪،‬‬ ‫والــعــقــائــديــة‪ ،‬واالســتــشــفــاء ومعالجة‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫«أعمدة الرجاجيل»‬

‫‪ ٩‬أالف عام من التاريخ في سكاكا الجوف‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪129‬‬


‫ال عن دالالت فلكية‪.‬‬ ‫المرضى‪ ،‬فض ً‬ ‫وأشـ ــارت إلــى أن مــوقــع الــرجــاجــيــل في‬ ‫منطقة الجوف ‪ -‬شمالي المملكة ‪ -‬يصنف‬ ‫ضمن مواقع اآلثار الفلكية الفريدة والنادرة‬ ‫الوجود في العالم‪ ،‬مثل ستونهنغ في بريطانيا‪،‬‬ ‫ونبتا في مصر‪ ،‬ومواقع أخرى في إندونيسيا‪،‬‬ ‫وفــرنــســا‪ ،‬وبريطانيا‪ ،‬وأمــيــركــا وأستراليا‪،‬‬ ‫باعتبار أن جميع مواقع األعمدة الحجرية في‬ ‫العالم تجمعها خصائص واحــدة‪ ،‬وهي أنها‬ ‫مصنوعة على زاوية مقدارها (‪ )180‬درجة‪،‬‬ ‫ولديها اصطفاف تجاه الشمال الجنوبي وعلى‬ ‫امتداد نجم القطب الشمالي «الجدي» الواقع‬ ‫ضمن كوكبة الدب األصغر‪ ،‬كما أنها تعود إلى‬ ‫فترات زمنية متقاربة‪ ،‬وهي أنها في معظمها‬ ‫ترجع إلى تسعة آالف سنة قبل الميالد‪.‬‬

‫والعصر النحاسي بجامعة برلين الحرة رئيس‬ ‫البعثة السعودية األلمانية للتنقيب‪ ،‬الدكتور‬ ‫هانز جورج جيبل‪ ،‬قد كشف عن عثور البعثة‬ ‫على مكتشفات أثرية في موقع الرجاجيل‬ ‫بمنطقة الجوف‪ ،‬تعود إلى العصر النحاسي‪.‬‬ ‫وفي محاضرة في قطاع اآلثار‪ ،‬بالمتحف‬ ‫الــوطــنــي بــالــريــاض؛ ق ــال «جــيــبــل»‪« :‬أب ــرز‬ ‫معثورات البعثة في موقع الرجاجيل بمنطقة‬ ‫الــجــوف كــان حلياً محروقة وقــائــد وخــرز‬ ‫من المعادن واألص ــداف والعظام وأحجار‬ ‫وأوان من الحجر الرملي ومكاشط‬ ‫ٍ‬ ‫االبسيدين‬ ‫مروحية الشكل»‪.‬‬

‫وأضاف‪« :‬تم العثور كذلك على بقايا مواد‬ ‫أخرى من المنطقة السكنية العلوية وحجر‬ ‫رملي مربع الشكل ذي زوايــا مقوسة‪ ،‬يبدو‬ ‫وكــان أستاذ العصر الحجري الحديث أنــه منقول لغرفة الدفن البيضاوية‪ ،‬وجد‬

‫‪130‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫بين صف األحجار المربعة الداخلية والصف‬ ‫األساس لغرفة الدفن»‪.‬‬

‫وتــابــع‪« :‬هــذه الــدالئــل توجد مــن العظام‬ ‫المتفحمة في التربة المتأثرة بالمياه ذات‬ ‫اللون الرمادي الموجودة في الطبقات في‬ ‫مواقع أخرى من الموقع داخل غرف الدفن‪،‬‬ ‫وبين الطبقات السميكة في األحجار العلوية»‪.‬‬

‫على الماء من عمق ‪5 - 4‬م‪ ،‬تــؤرخ لأللف‬ ‫الخامسة قبل الميالد‪ ،‬ومن المرجح العثور‬ ‫على كثير من اآلبار التي تعود لنفس الفترة‬ ‫وربما بعدها»‪.‬‬

‫وقالت باحثة اآلثار بجامعة الملك سعود‬ ‫منيرة علي المشوح‪ :‬إن موقع الرجاجيل في‬ ‫الجوف أ ُقيم كمثيالته من المواقع األخرى في‬ ‫آسيا وأفريقيا وأوروبــا‪ ،‬مؤكدة أن الهندسة‬ ‫الدقيقة لتخطيط موقع الرجاجيل‪ ،‬وتوجهات‬ ‫األعمدة الحجرية في نطاقه‪ ،‬تعطي صورة‬ ‫أكثر وضوحاً لنوعية التواصل الحضاري في‬ ‫عصور ما قبل التاريخ‪.‬‬

‫وأردف‪« :‬مــوقــع الرجاجيل يمثل مقبرة‬ ‫مركزية للمجتمعات الرعوية المتنقلة للفترة‬ ‫التي تعود إلى (‪ )7000 - 6500‬سنة خلت‬ ‫«العصر النحاسي»‪ ،‬حيث ازده ــرت ثقافة‬ ‫جــديــر بــالــذكــر أن الــدكــتــور هــانــز جــورج‬ ‫الرعي التي تعتمد على اآلبار في تلك الفترة جويل له اهتمام في مناطق البيئات القديمة‬ ‫في شبة الجزيرة العربية»‪.‬‬ ‫في الجزيرة العربية وخارجها في تخصص‬ ‫وتابع‪« :‬نصب القبور أو األعمدة التي يصل الـ ــدراسـ ــات االجــتــمــاعــيــة واالســتــيــطــانــيــة‬ ‫طولها إلى ‪4.5‬م يحتمل أنها نصب لزعماء واحتياجاتها‪ ،‬إضافة إلى اهتماماته الحالية‬ ‫عــن ثــقــافــات مجتمعات الــبــاديــة‪ ،‬كما قدم‬ ‫القبائل الذين قادوا تلك األجيال»‪.‬‬ ‫وقال «جيبل»‪« :‬اثنان من اآلبار المحفورة العديد من األبحاث والدراسات المتخصصة‬ ‫في الرصيف ثبت أنها آبار جوفية للحصول المنشورة والكتب في العصور الحجرية‪.‬‬

‫وأردف‪« :‬هــنــاك دلــيــل واض ــح أن بقايا‬ ‫العظام في الغرفة البيضاوية السفلية توجد‬ ‫فيها آثار حرق كبير ومتعمد‪ ،‬ونفس الحالة‬ ‫للغرفة العلوية»‪.‬‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪131‬‬


‫وأضافت إن الباحثين األوروبيين توصلوا‬ ‫إلــى أن هــذا الــنــوع مــن المنشآت األثــريــة‬ ‫يرتبط بوجود اصطفافات فلكية دقيقة من‬ ‫الصعب تجاهلها‪ ،‬وبخاصة أن معظمها ينتمي‬ ‫إلى عصر الثورة الزراعية‪ ،‬بوصف أن أكثر‬ ‫النشاطات الزراعية‪ ،‬ابتداء من تهيئة الحقول‬ ‫لعملية بذر البذور‪ ،‬وانتهاء بمرحلة الحصاد؛‬ ‫ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفصول واألنواء‪ ،‬فال‬ ‫عجب أن نرى آثاراً لعلم الفلك تعود إلى تلك‬ ‫المرحلة‪.‬‬

‫وتم تحديد موضع محدد لوقوف الراصد؛‬ ‫فإن العالمات الواضحة على امتداد محور‬ ‫الرائي‪ ،‬مثل أعلى نقطة على سفح جبل‪ ،‬أو‬ ‫النقطة المنخفضة بين منحدرين؛ يمكن أن‬ ‫تعمل بمثابة نقاط معايرة‪ ،‬يتم عن طريقها‬ ‫تحديد شروق وغروب أي جرم سماوي بدقة‬ ‫متناهية‪ ،‬وهــو يظهر فــي مــواقــع األعــمــدة‬ ‫الحجرية بالطائف‪ ،‬التي ما زالت تستخدم‬ ‫في رصد الشهور الهجرية‪.‬‬ ‫وطالبت الباحثة الجهات المعنية بإدراج‬ ‫موقع الرجاجيل في سكاكا بمنطقة الجوف‬ ‫ضمن الــمــواقــع المستهدفة للتسجيل في‬ ‫قائمة التراث العالمي‪ ،‬أسوة بمواقع مماثلة‬ ‫في العالم تم تسجيلها‪ ،‬نظراً إلى ما تضمه‬ ‫من تميز وتفرد عالمي‪.‬‬

‫وقدمت منيرة المشوح في دراستها نماذج‬ ‫ألدلــة وشــواهــد أثــريــة فــي موقع الرجاجيل‬ ‫مرتبطة بالفلك‪ ،‬مثل الــدوائــر الحجرية‬ ‫المكونة مــن أعــمــدة حجرية‪ ،‬والــتــي تشبه‬ ‫الشواخص الشمسية‪ ،‬ونماذج لمراصد ما‬ ‫ويتكون موقع أعمدة الرجاجيل األثــري‪،‬‬ ‫قبل التاريخ‪ ،‬مشيرة إلى أنه إذا ما أ ُعطي‬ ‫الراصد مساحة كافية لرؤية األفق السماوي‪ ،‬في منطقة الجوف‪ ،‬من خمسين مجموعة‬ ‫من األعمدة الحجرية المنتصبة والمسماة‬ ‫بـ«الرجاجيل»‪ ،‬وتتكون من عدد من األعمدة‬ ‫الحجرية المنحوتة مــن الحجر الرملي‪،‬‬ ‫ويـــراوح عــددهــا بين ثالثة وسبعة أعمدة‪،‬‬ ‫ويصل ارتفاع بعض األعمدة القائمة إلى أعلى‬ ‫من ثالثة أمتار‪ ،‬فيما تبلغ سماكتها نحو ستين‬ ‫سنتيمتراً‪.‬‬

‫‪132‬‬

‫ويذكر الدكتور خليل المعيقل االبراهيم‬ ‫في كتابه «بحوث في أثــار منطقة الجوف»‬ ‫الصادر منذ اكثر من (‪ )20‬عاما» إن هناك‬ ‫أكثر من (‪ )50‬مجموعة من األعمدة الحجرية‬ ‫المنتصبة والمائلة‪ ،‬والتي تعود لأللف الرابعة‬ ‫قبل الميالد‪ ،‬أو ما يعرف بحضارة العصر‬ ‫النحاسي (الكالكوليثي)‪ ،‬حيث يعتقد أنها‬ ‫تشكل موقعاً لمعبد قديم إلحدى الحضارات‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ‬

‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪133‬‬


‫التي شهدتها منطقة الجوف»‪.‬‬ ‫ويذكر أن الدكتور عبدالرحمن األنصاري‬ ‫عالم اآلثــار المعروف‪ ،‬قد أشــار سابقا إلى‬ ‫أن االفتراضات األثرية تعتقد بــأن الموقع‬ ‫يعود إلى األلف الرابعة قبل الميالد‪ ،‬والموقع‬ ‫بحاجة إلى إجراء تنقيبات مختلفة للوقوف‬ ‫على أســراره وغوامضه‪ ،‬إذ أن تلك األعمدة‬ ‫تشبه إلى حد كبير تلك األحجار الموجودة‬ ‫في بريطانيا‪ ..‬والتي تعود إلى األلف الثالثة‬ ‫قبل الميالد‪.‬‬

‫‪134‬‬

‫أعم‪ ،‬امتدت خالل األلف الرابعة قبل الميالد‬ ‫إلــى سيناء وشــرق األردن وجنوبي سورية‬ ‫وغرب العراق‪ ،‬وأطلق عليها حضارة العصر‬ ‫الحجري‪/‬المعدني؛ الكتشافها أسلوب صهر‬ ‫النحاس‪.‬‬

‫وتتميز هــذه الــحــضــارة بــقــرى الــدوائــر‬ ‫الحجرية التي ربما كانت تستعمل للسكن‬ ‫الــمــوســمــي‪ ،‬وتــشــيــر الــوثــيــقــة إلـ ــى مــوقــع‬ ‫الــرجــاجــيــل بــقــولــهــا‪ :‬ثــمــة مجمع مثير من‬ ‫الحجارة والركامات قرب سكاكا يعرف باسم‬ ‫ويشير األنــصــاري إلــى أن هــذا الشكل أعمدة الرجاجيل‪ ،‬وكان مركزاً هاماً له نظائر‬ ‫الحجري قد يكون مرتبطاً بطقوس عقائدية في سيناء‪.‬‬ ‫في أغلب الظن‪ ،‬أو هو بمثابة أحد األشكال‬ ‫ويرى بعض الباحثين بناء على مالحظتهم‬ ‫االستداللية بعلم النجوم والفلك‪ ،‬وهناك من‬ ‫للموقع أن دائــريــة المجموعات الحجرية‬ ‫يقول إن هذه األعمدة ما هي إال شواهد على‬ ‫تضفي بعداً جدارياً للمكان‪ ،‬وقد يوحي ذلك‬ ‫قبور عَ ليّة القوم من الشعوب القديمة التي‬ ‫بأنها ربما كانت جزءاً من سور طويل ملتف‬ ‫سكنت منطقة الجوف‪ ،‬وتشير وثيقة موجودة‬ ‫بالقرية‪ ،‬وذلــك بناء على فرضية ما تعنيه‬ ‫بمتحف دومة الجندل إلى أنه يبدو أن الوضع‬ ‫الــحــجــارة المتكسرة والمتكومة فــي دائــرة‬ ‫االقتصادي للمناطق الداخلية في الجزيرة‬ ‫منتصف الموقع‪ ،‬مما يشير إلــى أنها ربما‬ ‫العربية‪ ،‬وهي المناطق الواقعة إلى الجنوب‬ ‫من صحراء النفود استمر على حاله حتى كانت مذبحاً تقدم فيه القرابين أو غير ذلك‪.‬‬ ‫وتجعل تلك اآلث ــار مــن منطقة الجوف‬ ‫األلــف الثانية قبل الميالد تقريباً ‪،‬ويتمثل‬ ‫في مزاولة رعي الماشية من الماعز واألبقار منطقة أثرية من الطراز األول‪ ،‬وجانب اآلثار‬ ‫واألغنام باإلضافة إلى االعتماد على ممارسة يحتل مكانة أســاس في مجمل االهتمامات‬ ‫الصيد وجمع القوت كما كان سائداً آنذاك‪ .‬اإلنسانية‪ ،‬فهناك الماليين من مواطني الدول‬ ‫وتــضــيــف الــوثــيــقــة إن ــه فــي حــوالــي عــام المختلفة ومن السعوديةـ الذين يقطعون آالف‬ ‫(‪ )4000‬قبل الميالد‪ ،‬دخل شمالي الجزيرة األميال للتعرف على معالم التراث الحضاري‬ ‫الــعــربــيــة نــفــوذ حــضــارة الــعــصــر الــحــجــري والثقافي في أماكن وجودها‪ ،‬بل إن هناك‬ ‫الــحــديــث (الــفــخــار)‪ ،‬الــتــي كــانــت تستخدم العديد من الدول تعتمد في صناعة السياحة‬ ‫الفخار وتمارس الزراعة البسيطة والصيد لديها على ما عندها من آثار خلفها األجداد‪.‬‬ ‫والرعي‪ ،‬وقامت هذه الحضارة في شمالي وما يوجد بمنطقة الجوف يعد مكوناً أساساً‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬لتشكل جــزءاً من حضارة لصناعة سياحة ناجحة‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬


‫املؤلف ‪ :‬فراس حج محمد‬

‫املؤلف ‪ :‬د‪ .‬فوزية أبو خالد‬

‫الناشر ‪ :‬دار روافد للطباعة والنشر يف القاهرة‬

‫الناشر ‪ :‬املركز الثقايف للكتاب للنشر والتوزيع‬

‫يقع الكتاب في (‪ )570‬صفحة‪ ،‬توزعتها ثمانية‬ ‫فصول‪« :‬كيف يحدث الشعر؟»‪« ،‬ظواهر سلبية في‬ ‫مسيرة الشعراء»‪« ،‬وهج المرأة الشّ اعرة»‪« ،‬الشّ عر‬ ‫بين األيروتيكية واأليروسية»‪« ،‬الشعر قضايا وآراء»‪،‬‬ ‫«آفاق من شعريّة القرآن الكريم واللّغة العربيّة»‪،‬‬ ‫(الشّ اعر وسلطة اإلعالم المعاصر)‪ ..‬وتوقّف‬ ‫الكاتب في الفصل الثامن «في حضرة الكتب» عند‬ ‫مجموعة من الكتب‪ ،‬تلك الّتي أولت عناية خاصة‬ ‫بالدّرس النّقديّ الشّ عريّ وبعض الكتب الشعرية‬ ‫القديمة والمترجمة‪.‬‬ ‫ويبين الكاتب في مقدمة كتابه استفادته من «النقد‬ ‫الثقافي»‪ ،‬وأولى اهتماما بظاهرة «النّقد التّفاعليّ »‪،‬‬ ‫فتعدّدت صوره داخل مباحث الكتاب‪ ،‬ويُع ّد الكتاب‬ ‫برامج المسابقات الشّ عريّة وبرامج الحوارات‬ ‫األدبيّة‪ ،‬وعقد النّدوات األدبيّة الّتي تستهدف أحد‬ ‫الكتب ومناقشتها‪ ،‬والتّعليق الذّي ينحو المنحى‬ ‫الصفحات األدبيّة أو الثّقافيّة في‬ ‫النّقدي لمحرّر ّ‬ ‫والمجلت من بين هذا النشاط النقدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصحف‬ ‫ّ‬ ‫وأخيرا ما ينشر على مواقع النّشر اإللكترونيّ‬ ‫كأمازون و»‪ »Good Reader‬من مقاالت قصيرة‬ ‫للقرّاء تقييمًا للكتب الّتي قرأوها داخلة أيضا فيما‬ ‫بات يعرف بالنقد التفاعلي أو النقد االفتراضي‪.‬‬

‫ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءات‬

‫الكتاب ‪ :‬بالغة الصنعة الشعرية‬

‫الكتاب ‪ :‬سيرة األمهات‬

‫تزامنا مع يوم المرأة العالمي لعام‬ ‫‪2020‬م‪،‬صدر كتاب جديد للدكتورة فوزية أبو‬ ‫خالد بعنوان « سيرة األمهات « عن المركز‬ ‫الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع في شهر‬ ‫مارس ‪ 2020‬م‪.‬‬ ‫تقول مؤلفة الكتاب الدكتورة فوزية أبو خالد‬ ‫الشاعرة واألكاديمية والكاتبة السعودية‬ ‫المرموقة‪ ،‬وصاحبة النضال الممتد في سبيل‬ ‫المرأة وحقوقها إن الكتاب سيكون حاضرًا‬ ‫على أرفف المكتبات ومعارض الكتاب عبر‬ ‫المدن والقوافل العابرة للقارات قريبا بإذن‬ ‫اهلل‪ ،‬ليلتقي القراء عشاق المعرفة‪ ،‬وكل‬ ‫باحث وباحثة بموكب من األمهات يزيد على‬ ‫(‪ )50‬قامة من نخل الجزيرة العربية‪ ،‬وأكثر‬ ‫من خمسين قلمًا من كاتبات وكتاب المملكة‬ ‫العربية السعودية‪ ،‬يشتركون في كتابة تظاهرة‬ ‫حب وكفاح من سيرة األمهات‪.‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫‪135‬‬


‫الـ ـ ـصـ ـ ـفـ ـ ـح ـ ــة األخـ ـ ـ ـي ـ ـ ــرة‬

‫ٌ‬ ‫فاشل؟‬ ‫مبدع‬ ‫الناقد‬ ‫هل‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫■ صالح القرشي*‬

‫فــي أمسية أدبـيــة عقدت فــي الفترة القريبة الماضية فــي مركز الملك فهد الثقافي‪،‬‬ ‫وكانت تتناول عالقة المبدع بالناقد‪ ،‬استعاد أحد المشاركين في تلك األمسية‪ -‬وهو روائي‬ ‫معروف‪ -‬مقولة (ليس الناقد سوى مبدع فاشل)‪ ،‬كما جرى الحديث في تلك األمسية عن‬ ‫أن الناقد ال وجود له لوال المبدع‪.‬‬ ‫ـدي على هــذا التناول الــذي ينطلق من فكرة الصراع الثنائي‬ ‫ورغــم التحفظ الكبير لـ ّ‬ ‫والبدائي الذي يمكن تشبيهه بالمصارعة‪ ،‬أو المالكمة؛ إذ ال بد لطرف من هزيمة الطرف‬ ‫اآلخر‪.‬‬ ‫إال إننا وأمــام مقولة (الناقد مبدع فاشل)‪ ،‬ال‬ ‫بُـ َّد من أن نعترف أن هــذه المقولة يمكن وصفها‬ ‫بالمقولة الكالسيكية التقليدية التي تتكرر بتفاوت‬ ‫األزمنة واألمكنة‪.‬‬ ‫هــنــا‪ ،‬نــتــذكــر مــا كتبه الــشــاعــر الكبير رســول‬ ‫حمزاتوف في كتابه الجميل (بلدي)‪ ،‬فهو يقول‪:‬‬ ‫(في معهد اآلداب جرت األمور على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫كنا في السنة األولى عشرين شاعرًا وأربعة قصاصين‬ ‫ومؤلفًا مسرحيًا‪ ،‬وفي السنة الثانية أصبحنا خمسة‬ ‫عشر شاعرًا وثمانية قصاصين ومؤلفًا مسرحيًا‬ ‫وناقدًا أدبيًا‪ ،‬وفي السنة الثالثة صرنا ثمانية شعراء‬ ‫وعشرة قصاصين ومؤلفًا مسرحيًا وستة نقاد‪ ،‬وفي‬ ‫وقاصا واحدًا‬ ‫ً‬ ‫السنة األخيرة بقينا شاعرًا واحـدًا‬ ‫ومؤلفًا مسرحيًا واح ـدًا والبقية نقادًا)‪ .‬انتهى ما‬ ‫قاله حمزاتوف‪ ،‬وهو يصب كما رأينا في مسار الرفع‬ ‫نفسه من قيمة اإلبداع والتقليل من أهمية النقد‪.‬‬

‫‪136‬‬

‫وحول هذه العبارة التي تتكرر كثيرًا كما قلنا‪،‬‬ ‫يعلق الناقد البحريني جعفر حسن قائال‪( :‬إن فكرة‬ ‫كــون الناقد أديباً فاشالً‪ ،‬هي نــوع من المغالطة‪،‬‬ ‫فبدال من أن ينصبَّ النقاش على ما يطرحه الناقد‪..‬‬ ‫العدد ‪ - ٦٧‬ربيع ‪١٤٤١‬هـ (‪٢٠٢٠‬م)‬

‫يتحول الموضوع إلى ذم الناقد ذاته بوصفه أديباً‬ ‫فاشالً‪ ،‬وما دام كذلك‪ ،‬فكل ما يقوله يدخل في باب‬ ‫الفشل‪ ،‬إنها من التعميمات التي تنتشر عند عامة‬ ‫الناس بسرعة على اعتبارها ذاهبة ضداً على الحفر‬ ‫المعرفي الذي يجعل أدبية األدب موضوعه‪ ،‬ويعتقد‬ ‫بذلك كثي ٌر من الناس من دون إعــادة التفكير في‬ ‫العبارة)‪.‬‬ ‫واإلشكالية ‪-‬من وجهة نظري‪ -‬تأتي من زاوية أن‬ ‫المبدع (الشاعر)‪( ،‬القاص)‪ ،‬يعتقد أن الناقد عندما‬ ‫يكتب‪ ..‬فهو يتوجه بكتابته نحو المبدع مباشرة؛‬ ‫قاصا؛ وكأن عملية النقد هي مجرد‬ ‫شاعرًا كان أم ً‬ ‫خطاب خاص موجّ ه من الناقد تجاه المبدع‪ .‬وهذه‬ ‫نظرة خاطئة جــدًا‪ ،‬فلو كــان األمــر كــذلــك‪ ..‬لكان‬ ‫يمكن توجيه ذلك النقد في رسالة خاصة للشاعر‬ ‫أو القاص‪ ،‬بدال من النشر في كتاب أو صحيفة؛‬ ‫لكن الحقيقة أن الناقد مثله مثل المبدع‪ ،‬يتوجه‬ ‫بخطابه للقارئ بداية ونهاية‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالنقد ذاته‬ ‫هو إبداع كما هو الحال في الشعر أو القصة‪ ،‬وهذا‬ ‫هو مَكمنُ الخطأ في موضوع تلك األمسية التي بدأ‬ ‫بها المقال‪.‬‬


‫من إصدارات اجلوبة‬


‫من إصدارات برنامج النشر في‬

‫صدر حديثاً‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.