¦التشكيل النسائي السعودي بين األصالة والمعاصرة. ¦نحن واليابان فسحة للتأمل. ¦مع «كورونا» في العزلة سالمة. ¦أعمدة الرجاجيل بسكاكا :هل كانت مراصد فلكية؟ ¦نصوص شعرية وسردية . ¦مواجهات مع :الشاعر أحمد اللهيب ،الناقدة ماجدة صالح، الروائية صونيا خضر.
دراسات ونقد
جاراهلل الحميد القص تمرّد مدهش على تقاليد ّ
67
برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم البحوث والرسائل العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف 1-نشر الدراسات واإلبداعات األدبية والفكرية
يهتم بالدراسات ،واإلبداعات األدبية ،ويهدف إلى إخراج أعمال متميزة ،وتشجيع حركة اإلبداع األدبي واإلنتاج الفكري وإثرائها بكل ما هو أصيل ومميز. ويشمل النشر أعمال التأليف والترجمة والتحقيق والتحرير. مجاالت النشر: أ -الدراسات التي تتناول منطقة الجوف ومحافظة الغاط في أي مجال من المجاالت. ب -اإلبداعات األدبية والفكرية بأجناسها المختلفة (وفقاً لما هو مب ّين في البند « »٨من شروط النشر). ج -الدراسات األخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف ومحافظة الغاط (وفقاً لما هو مب ّين في البند « »٨من شروط النشر). شروطه: -١أن تتسم الدراسات والبحوث بالموضوعية واألصالة والعمق ،وأن تكون موثقة طبقاً للمنهجية العلمية. -٢أن تُكتب المادة بلغة سليمة. -٣أن يُرفق أصل العمل إذا كان مترجماً ،وأن يتم الحصول على موافقة صاحب الحق. -٤أن تُق ّدم المادة مطبوعة باستخدام الحاسوب على ورق ( )A4ويرفق بها قرص ممغنط. -٥أن تكون الصور الفوتوغرافية واللوحات واألشكال التوضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومناسبة للنشر. -٦إذا كان العمل إبداعاً أدبياً فيجب أن يتّسم بالتم ّيز الفني وأن يكون مكتوباً بلغة عربية فصيحة. -٧أن يكون حجم المادة -وفقاً للشكل الذي ستصدر فيه -على النحو اآلتي: الكتب :ال تقل عن مئة صفحة بالمقاس المذكور. البحوث التي تنشر ضمن مجالت محكمة يصدرها المركز :تخضع لقواعد النشر فيتلك المجالت. الكتيبات :ال تزيد على مئة صفحة( .تحتوي الصفحة على « »250كلمة تقريباً). -٨فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت النشر ،فيشمل األعمال المقدمة من أبناء وبنات منطقة الجوف ،إضافة إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام ،أما ما يتعلق بالبند (ج) فيشترط أن يكون الكاتب من أبناء أو بنات المنطقة فقط. -٩يمنح المركز صاحب العمل الفكري نسخاً مجانية من العمل بعد إصداره ،إضافة إلى مكافأة مالية مناسبة. -١٠تخضع المواد المقدمة للتحكيم.
-2دعم البحوث والرسائل العلمية
يهتم بدعم مشاريع البحوث والرسائل العلمية والدراسات املتعلقة مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط ،ويهدف إلى تشجيع الباحثني على طرق أبواب علمية بحثية جديدة يف معاجلاتها وأفكارها. (أ) الشروط العامة: -١يشمل الدعم املالي البحوث األكادميية والرسائل العلمية املقدمة إلى اجلامعات واملراكز البحثية والعلمية ،كما يشمل البحوث الفردية ،وتلك املرتبطة مبؤسسات غير أكادميية. -٢يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة متعلقاً مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط. -٣يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة جديداً يف فكرته ومعاجلته. -٤أن ال يتقدم الباحث أو الدارس مبشروع بحث قد فرغ منه. -٥يقدم الباحث طلباً للدعم مرفقاً به خطة البحث. -٦تخضع مقترحات املشاريع إلى تقومي علمي. -٧للمركز حق حتديد السقف األدنى واألعلى للتمويل. -٨ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل إجراء تعديالت جذرية تؤدي إلى تغيير وجهة املوضوع إال بعد الرجوع للمركز. -٩يقدم الباحث نسخة من السيرة الذاتية. (ب) الشروط اخلاصة بالبحوث: -١يلتزم الباحث بكل ما جاء يف الشروط العامة (البند «أ»). -٢يشمل املقترح ما يلي: توصيف مشروع البحث ،ويشمل موضوع البحث وأهدافه ،خطة العمل ومراحله،واملدة املطلوبة إلجناز العمل. ميزانية تفصيلية متوافقة مع متطلبات املشروع ،تشمل األجهزة واملستلزماتاملطلوبة ،مصاريف السفر والتنقل والسكن واإلعاشة ،املشاركني يف البحث من طالب ومساعدين وفنيني ،مصاريف إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة. حتديد ما إذا كان البحث مدعوماً كذلك من جهة أخرى.(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية: إضافة لكل ما ورد يف الشروط اخلاصة بالبحوث (البند «ب») يلتزم الباحث مبا يلي: -١أن يكون موضوع الرسالة وخطتها قد أق ّرا من اجلهة األكادميية ،ويرفق ما يثبت ذلك. -٢أن يُق ّدم توصية من املشرف على الرسالة عن مدى مالءمة خطة العمل. هاتف 014 6245992 :فاكس014 6247780 : الجـوف 42421ص .ب 458 هاتف 016 4422497 :فاكس016 4421307 : الغ ـ ـ ــاط 11914ص.ب 63 الرياض 11614ص .ب 94781هاتف 011 2015494 :فاكس011 2015498 :
info@alsudairy.org.sa www.alsudairy.org.sa
مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري
ملف ثقايف ربع سنوي يصدر عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي هيئة النشر ودعم األبحاث
رئيساً د .عبدالواحد بن خالد الحميد عضواً أ .د .خليل بن إبراهيم المعيقل أ .د .مشاعل بنت عبدالمحسن السدير ي عضواً عضواً د .علي دبكل العنزي عضواً محمد بن أحمد الراشد أسرة التحرير
إبراهيم بن موسى احلميد محرر ًا محمود الرمحي محرر ًا محمد صوانة اإلخراج الفني :خالد الدعاس
املشرف العام
هاتف)+966()14(6263455 : املراســــــالت : فاكس)+966()14(6247780 : ص .ب 458سكاكا اجلـوف -اململكة العربية السعودية www.alsudairy.org.sa aljoubahmag@alsudairy.org.sa
ردمد ISSN 1319 - 2566 سعر النسخة 8رياالت -تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع االشتراك السنوي لألفراد 50ريا ًال واملؤسسات 60ريا ًال
رئيساً فيصل بن عبدالرحمن السديري عضواً سلطان بن عبدالرحمن السديري د .زياد بن عبدالرحمن السديري العضو المنتدب عضواً عبدالعزيز بن عبدالرحمن السديري عضواً د .سلمان بن عبدالرحمن السديري عضواً د .عبدالواحد بن خالد الحميد أ .د .خليل بن إبراهيم المعيقل عضواً سلمان بن عبدالمحسن بن محمد السديري عضواً طارق بن زياد بن عبدالرحمن السديري عضواً سلطان بن فيصل بن عبدالرحمن السديري عضواً أ .د .مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضواً قواعد النشر
-1أن تكون املادة أصيلة . -2لم يسبق نشرها ورقياً أو رقمياً. -3تراعي اجلدية واملوضوعية. -4تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها. -5ترتيب املواد يف العدد يخضع العتبارات فنية. -6ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني والكتّاب ،على أن تكون املادة باللغة العربية. «اجلوبة» مناألسماءالتيكانتتُطلقعلىمنطقةاجلوفسابقاً.
املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر.
يُعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط ،ويقيم املناشط املنبرية الثقافية، ويتبنّى برنامجاً للنشر ودعم األبحاث والدراسات ،يخدم الباحثني واملؤلفني ،وتصدر عنه مجلة (أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي ،ومجلة (اجلوبة) الثقافية ،ويضم املركز ك ً ال من( :دار العلوم) مبدينة سكاكا ،و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط ،ويف كل منهما قسم للرجال وآخر للنساء .ويصرف على املركز مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية.
0553308853
Alsudairy1385
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
6..........................
جاراهلل الحميد اختبارات السرد في تنوع التعبير..
95............................. حوار مع الشاعر:
أحمد اللهيب
128............................
أعمدة «الرجاجيل» مراصد فلكية قبل تسعة آالف عام بسكاكا
الـمحتويــــات االفتتاحية٤ ....................................................................... دراسات ونقد :جاراهلل الحميد :اختباراتُ السردِ في تنوّع التعبير ٦ ......... ج ــاراهلل الحميد :الــبــدوي ال ــذي خــرج على تقاليد الــنــص القصصي! - عبدالرحمن الدرعان٧ ........................................................ جاراهلل ..مغام ٌر لن يتكرر أبدًا -يوسف المحيميد١٠ ..................... جاراهلل الحميد :وقشعريرة الكلمة -د .هناء بنت علي البواب ١٢ .............. ُدهش واختالفُ الرؤيةِ في القصةِ القصير ِة جاراهلل الحميد :كوكب ُة العنوانِ الم ِ صدّيق الخالدي ١٥ ..........................................................جاراهلل الحميد :سيرورةُ األلمِ في طبائعِ الكتابة -محمد العامري ١٧ ......... مــصــادِ ُر الــرؤيــةِ بين العملِ الفنيِّ والنموذجِ القصصيِّ «جــاراهلل الحميد أنموذجاً» -يوسف اليوسف ٢٠ ................................................ جاراهلل الحميد :كاتب األلم والعزلة -نجاة الذهبي ٢٢ ......................... جاراهلل الحميد ..طائر الشمال الحزين -محمود العزازمة ٢٥ ................. مطالعة في عوالم جاراهلل الحميد ..القصصية والشعرية -غازي الملحم٣٣ ... وجوهٌ وأطيافٌ معذب ٌة في تجربة الفنانة التشكيلية السعودية "غدير حافظ" - إبراهيم الحجري٣٧ ............................................................ ّاصا وصا َر نحّ االً! -ليلى عبداهلل ٤٥ ................. حكّاءُ الجبالِ الذي كان قن ً التشكي ُل النسائيُّ السعوديُّ بين األصالةِ والمعاصر ِة -خلف أبوزيد٤٨ ......... للخطاب السرديِّ في( :عرّاف ُة المساء) -امحمد امحور ٥٣ .... ِ الذاتُ المنتج ُة قــراءةٌ في الصفحات الــزرقــاء ارتجاف الحسرات في مهاوي الــذات عند الشاعر المغربي محمد بنميلود -نجاة الزباير ٥٩ ............................ شعرن ُة القلقِ الوجوديِّ عند زكي الصدير -هشام بن الشاوي ٦٦ ............... نصوص :المعنى بينهما ،إعادة االتّصال -أحمد المال ٧١ .................... قصص قصيرة جدا -سعاد محمد اشوخي75 .................................. حي َن تُ َغنِّي -هدى الشماشي76 .................................................. ليلة شتوية دافئة -حسام الدين فكري 78 ....................................... قلوب شفافة -حليم الفرجي80 ............................................ نسائم الغياب -محمد الرياني 81 ............................................... الغرب ُة بستانُكَ -علي بافقيه 82 ................................................. ياقوت -سعاد الزحيفي83 ....................................................... كف القمرِ ،اعوجا ُج أُنثى! -ليال الصوص 84 .......................... في ِّ نبضاتٌ -مالك الخالدي 86 ..................................................... ظن القصيدة -نوره عبيري88 ................................................... قصيدتان -غسان تهتموني90 ................................................... أذوبُ عليك -عبداهلل مفتاح91 ................................................. أفكر في شجرة الحياة -جمال موساوي92 ..................................... ترجمة :الرج ُل األعمى ..قصة الكاتبة األمريكية :كيت شوبان -ترجمة: أميرة الوصيف93 ........................................................... مواجهات :الشاعر أحمد اللهيب -حاوره :عمر بوقاسم95 ................... الناقدة العربية د .ماجدة صالح -حاورها :نضال القاسم 105 .................. الشاعرة والروائية الفلسطينية «صونيا خضر» -حاورها :عصام أبو زيد110 ... والشعر -أحمد البوق115 . الشعر العربي تخفّي في الطبيعة ِ نوافذ :النم ُر في ِ نح ُن واليابانُ :فسح ٌة لِلتأمُّل! -د .سعيد سهمي 119 ............................. في العُزلة سالمة -محمد علي حسن الجفري125 ......................... أعمدةُ «الرجاجيل» مراص ٌد فلكي ٌة قبل تسعة آالف عامٍ بمدينة سكاكا - إبراهيم الحميد128 ........................................................ قراءات 135 ...................................................................... الصفحة األخيرة :هل الناق ُد مبد ٌع فاشلٌ؟ -صالح القرشي 136 ..............
■ إبراهيم بن موسى احلميد وُلِد األديب والشاعر والقاص جاراهلل بن يوسف الحميد في مدينة حائل عام 1954م/ 1374هجرية؛ فنشأ في شوارعها وحواريها ،وبين جبالها ووديانها؛ عرف فيها السعادة والشقاء والحب ،فصبغت أعماله األدبية وقصائده الشعرية. رغم قسوة ظروفه العائلية ،استطاع الخروج من لُجّ ة صحراء النفود ،كما استطاع بثقافته ولغته الرصينة الوصول إلى نخبة كتاب القصة في ثقافتنا المحلية ،واالنضمام إلى قائمة األدباء الذين أثروا تجربتهم وأثّروا في مجتمعهم .ورغم تعدد األسماء األدبية والثقافية التي برزت على مستوى المملكة في حائل ،إال إنه كان األديب األبرز الذي استطاع أن يخترق اإلعــام الثقافي ،وأن يصبغ صــور ًة حائلية للمثقف في اإلعالم والصحافة ،كما استطاع أن يكون قرينًا لمدينته التي عشقها وأحبها وعاش فيها في مخيلة كثير من األدباء والمثقفين. ال على الحياة بما فيها جاراهلل الحميد في بداياته ،ورغم قسوة البدايات ،كان مقب ً من ثقافة وجمال ،أحب التجريب واللغة والقصة القصيرة ،ووظّ ف لغته التي اكتسبها من وجوده في مدينة غنية بالتراث والجماليات واألهازيج ،مرتكزًا إلى تراث غنيّ أمسك بطرفه وتمرّد عليه في لغة شفيفة ،استطاع أن يؤسس من خاللها نموذجً ا جديدًا للقاص البارع والكاتب المميز الذي يركّز على الشكل كما يهتم بالمضمون؛ ولذلك فقد تبوأ مكانته كأحد رواد القصة القصيرة الجدد في المملكة العربية السعودية ،رغم نفيه المتكرر أن يكون رائدًا ،ومحاوالته التملّص من مسئولية الريادة ،إال إن أعماله األدبية
4
هي من ألقت عليه هذا الوِ شاح. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ثم وجوه كثيرة أولها مريم (1984م) ،ثم في رائحة المدن (1998م) ،ثم ظالل رجال هاربين (2000م) ،ثم طباعة األعمال الكاملة (2010م) ،عن نادي حائل األدبي ،ومؤسسة االنتشار العربي ببيروت .وقد تميزت هذه األعمال بقربها من اإلنسان بطبيعته البشرية،
حـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدـة س ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ دراـ ـ ـ ـ ـ اف ـ ـاتـاون
بدأت تجربة األديب جاراهلل اإلبداعية مع النشر في أحزان عشبة برية (1980م)،
ولغة سردية أخّ ــاذة ،أسهمت بمنح نصوصه طاقة تعبيرية ،أبعدتها عن أجواء السرد التقليدي الذي كان سائدًا في مرحلة من المراحل ،وشدت المتلقي القارئ ،بعبقها وانفتاحها على آفاق بعيدة ،مشكّل ًة وعيًا جديدًا في مجال القصة القصيرة؛ ولهذا فقد التفت إليه النقاد والصفحات الثقافية؛ وبرز واحداً من أهم األسماء السردية في الثقافة الوطنية. تشف عن أديب مختلف ،يكتب قصصه ببراعة ،تحتاج من ّ قصص جاراهلل الحميد قارئها وعيًا وإحاط ًة بما يريد أن يوصله إليه ،وال يكشف جاراهلل ببساطة عن االتجاهات التي تسير إليها قصصه وشخصياته؛ ورغم كون هذه الشخصيات تعيش حيوات قصيرة، كما قصصه ،إال إننا نكتشف أن هذه الشخصيات موجودة بيننا ،نشاهدها تعبر أمامنا، تُعايشنا ،وتعيش معنا ،وهي مهمة عسيرة على الكاتب المبدع الذي يحاول الوصول إلى قارئه ،وإشراكه في حواراته السردية وإدخاله في عوالمها. في حياته العامة ،عاش جاراهلل الحميد صنوفًا من الحرمان والتجاهل ،ولم يجد من يحتضنه بعد األزمات الشخصية التي عاشها زم ًنًا طويال ،وقد التفت إليه نادي حائل األدبي منذ سنوات ،والذي كان يصرف له مرتبًا شهريًا لقاء وظيفة مستشار النادي حسب تصريح األديب الكبير ،وفيما بعد ،وبعد تصاعد ظروفه القاهرة ،حاول أصدقاء األديب جاراهلل الحميد في المجتمع الثقافي واإلعالمي عمل نداءات عبر منصة موقع تويتر إلنقاذ األديب الحميد ،خاصة مع ظروفه الصحية الصعبة التي ألزمته الكرسي المتحرك ،وهذا ما يجدد الدعوة إلى االستجابة لطلب إنشاء صندوق لدعم األدباء وتفريغ المبدعين وكبار السن منهم ،وإحاطتهم بالرعاية واالهتمام ،ليتمكنوا من إنجاز إبداعهم في ظروف كريمة منصفة ،وهذا ما نرجو أن يتحقق لألديب الكبير جاراهلل الحميد. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
5
جاراهلل الحميد
اختبارات السر ِد في تن ّوع التعبير ُ المجموعات األدبية لذلك الكاتب المهم ،ذلك الرجل البدوي ٍ وأنت تقف أمام السعودي ،ابن الصحراء الذي اقترف مهنة القصة كحياة يومية؛ فأصبح السرد صور ًة مهمة ً ،تشبهه ،وتعبّر عن واقعه وأحالمه وأمنياته .فالقارئ له يشمّ رائحة األلم في كل سطر من سردياته ،كأنه إبر ٌة أو مخر ٌز يحفر في لحم المأساة؛ فتن ّز سطوره دمً ا بلون الكلمات المتبعثره ،ذلك الدم اليانع في صحراء الواقع .لقد برز الحميد كصرخة ملهوف في الصحراء يبحث عن "مريمه" التي ضاعت بين الدروب .ثم يتوه في مدنه ،التي تتوه في الجزيرة العربية هنا.. بين مجموعاته القصصية ،تجد القاص السعودي المتميز جاراهلل الحميد، يتفرّد بكاميرة الكتابة ،يرصد تفاصيل دقيقة محكومة باالختزال ،وذات دالالت بخفهِ الثقيل عشبته وتأويالت بعيدة؛ كأن يصور جم ًال مليئًا بالنياشين ،يهرس ُ البرية التي تأبى أن تموت ،وهي صورة قوية عن استمرار الحلم والثورة عن الواقع البائس ،وهو المتمرد الذي يرفض الكالسيكية المحضة ،وهو القاص المختلف بحرفه ،المختلف دومً ا بأسلوبه ،وهو الكاتب ابن البيئة البدوية. ورغــم بعض االنتباهات التي تناولت هذه التجربة ..إ ّال إن الحميد لم يأخذ حقه في المختبر السردي وال النقدي العربي ،وهــذا األمــر يعود إلى قصر ذراع الماكينة النقدية التي لم تكِ دّ في البحث عن هــذه الـفــرادة .ويأتي هــذا الملف عرفانًا من مجلة الجوبة لتقدّ م لقارئها مجموعة من الكتابات التي تمس روحه، وهي كتابات متنوعة من السعودية وليبيا واألردن والسودان ،تصف لنا روح القاص ونصوصه ،وجدارتها في الحضور والقراءة والنقد.
6
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
البدوي الذي خرج على تقاليد النص القصصي! ■ عبدالرحمن الدرعان*
منذ أن أصــدر جــاراهلل الحميد مجموعته القصصية األولــى (أحــزان عشبة برية) ،وهو واحــد من أهم األسماء التي شكلت الموجة التي تلت جيل الــرواد مع عبداهلل باخشوين، وحسين علي حسين ،وعبدالعزيز مشري ،وصالح األشقر ،ومحمد علوان ،وفهد الخليوي نصا مغايرً ا وآخــريــن .خــرج على تقاليد النص القصصي التقليدي ونواميسه ،مقدمً ا ً منفص ًال عن السياق السائد ،منسجمً ا مع فضاء التحوّالت نحو الحداثة ،فقد كسر نمط نصا ضد الحكاية كما كانت الحكاية وكتب نصا في الغالب بال حدث؛ أو لنكن أكثر دقة ،كتب ً تروى بل كما تتحرك ظالل أبطالها .يبدو لي على األرجح أن جاراهلل كان مبدعً ا بقدر ما كان عاقً ا آلبائه من جيل الكتّاب الذين سبقوه.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
جاراهلل الحميد
لست هنا بصدد قراءة هذه التجربة العميقة التي أشبعها النقاد منذ عقودٍ تناو ًال وقراءة، بيد إنني أكتب من موقع القارئ الذي يتأمل تجربة جاراهلل باحترام يليق بها. مَن يدنو من عالم هذا الكاتب الموغل في أحزانه القديمة ،سيدرك على الفور أن أحــد المؤثرات التي دفعت به إلى عالم الكتابة ،هو تلك الرغبة في الفرار من الواقع األليم ،نحو واقــع بديل ،من العقل المقيّد نحو آفــاق الجنون ،وال شك أن اليتم المبكّر الذي ترك جروحه الغائرة في روح الفتى /كان له أثر لم يندمل ،والسيما أن يقع هذا الحدث في مجتمع تقليدي ،حيث األب يمثل السند القوي؛ ومن فقدانه في التوقيت السيء، جمل في ٍ ولــد كائ ٌن مــذعــو ٌر تــائـهٌ ،مثل
عبد الرحمن الدرعان العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
7
الصحراء ،كما يعبّر هو نفسه في لقاء بأنه يعيش ضمن فقاعة تتحرك داخل أجرته معه صحيفة عكاظ.
المجتمع ،وفق شروطها الداخلية ،وليس
لقد تركه اليتم صبيًا لم يكبر على وفق شروطه. مخاوفه ،منذ أن كسرته مواجهة الموت،
لهذا ،ال نستغرب أن يبلغ به الشعور
فيما هو في بحر الستة عشر عامًا .وقد باالنفصال عن واقعه حدّ أن يرثي نفسه انعكس ذلك في كتابته؛ ففي ٍ لقاء آخر على طريقة مالك بن الريب .فالحياة ا هــي مــنــظــومــة هــائــلــة من يق ُّر جــاراهلل بأنه ال يكتب ما ال يحدث لــديــه أص ـ ـ ً له؛ أي إنه بمعنى ما ،يدوّن تجربته ،ولكن المخاوف والوحشة ،نتابع أبطاله وهم ليس تماما على هيئة السيرة الذاتية.
يتحركون غالبًا في المطارات والفنادق
بــيــد إن قـــــراءة نــصــوصــة المليئة الضخمة الممتلئة بالموظفين المريبين، بــالــتــكــثــيــف ،والــتــقــطــيــع الــســيــنــمــائــي ،والمصحات ،حيث األطباء المناوبين، والكابوسية ،والــوســاوس ،يشي بشكل وأظـــن أن قــصــة (ف ــي الــصــبــاح) تمثل مــا بــأن واق ــع الكاتب واق ــع مغاير ،إن النموذج الذروة الذي يكفي لتقديم لمحة (البرادايم) خاصته ال يتفق وال يتطابق عما يختزنه من وحشة وارتياب وشكوك تمامًا مع أبجدية المجموع .يمكن القول وهواجس.
8
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
السمة بقي أن أشير إلى تلك ّ الشخصية التي ظهرت جل ّيًا في لقاء تلفزيونيٍّ أعتقد أنه الوحيد، ٍ بفرح ٍ حينما انــداحــت مالمحه طفولي وهو يسرد حكاية البدوي الذي يصادفه ،ويلقي عليه هذا الــســؤال البالغ البساطة :أنت جاراهلل الحميد؟! إنها مفارقة كبيرة أن يتدفق رجل كل هذا الفرح على مالمح ٍ مــثــخـ ٍـن بــالــحــزن ،يفتته قطعه قطعة على األرصفة المعتمة. وأخيرًا ،أحيي مجلة الجوبة عــلــى تــكــريــس ه ــذا الــمــلــف عن أحــد أبــرز ُكـ ّتــاب القصة الذين فتوحات مبكرة في هذا ٍ قدّ موا الفن الجميل.
القاص جاراهلل الحميد ّ
* قاص وكاتب من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
9
أبدا جاراهلل ..مغامرٌ لن يتكرر ً ■ يوسف احمليميد*
في المرحلة الثانوية ،كنت قد عثرت على مجموعات قصصية أولى لحسين علي حسين (الرحيل) ،وعبدالعزيز مشري (موت على الماء) ،وخيرية السقاف (أن تبحر نحو األبعاد)، ولطيفة السالم (الزحف األبيض) ،وزاد شغفي بالقصة القصيرة قراءة وكتابة ،إذ كنت أرسل من صندوق بريد المستشفى المركزي قرب منزلنا في عليشه ،وأنتظر عدة أيام مصحوبًا بالقلق والدهشة ،والخيبة أحيانًا ،حتى كتب لي أحد المحررين من كُ تاب القصة الشباب ضمن الردود بأن أزور مقر الجريدة. ذهبت وسألت عن مكتبه ،كان يلبس صدمني هذا التقطيع السريع في الجمل، نــظــارتــيــن دائــريــتــيــن ،ذكــرنــي بــالــكـ ّتــاب الحوار الفلسفي الموجز ،ثم اكتشفت فيما الــروس ،لم يطلب لي قهوة أو شايًا ،بل بعد أن معظم جيل جــاراهلل تأثروا بهذه كتب لي على ورقــة صفراء أمــامــه ،اسم المجموعة الصغيرة حجمًا ،الكبيرة أثرًا، قصصا قصيرة اعتمدت ً كاتب وعنوان كتاب ،واســم المكتبة التي وقد كتبت بعدها يتوفر فيها ،أتــذكــر اسمها مكتبة خالد فيها على التقطيع والمونتاج واللغة المكثفة في شارع الثميري ،خرجت وهبطت نحو واإليحاء. شارع الناصرية ،كنت أفكر أنني مريض،
جــــاراهلل الــحــمــيــد نبتة بــريــة شرسة
وهــذا الطبيب بنظارتيه الدائريتين كتب وعــنــيــدة ،ج ــاء مــن الــشــمــال بشخصية لي وصفة ،في اليوم التالي ذهبت هناك ،مختلفة ،وبنص مغاير ،ولقد نبت في جيل وابتعت مجموعة (أح ــزان عشبة بريّة) السبعينيات والثمانينيات ،ذلــك الجيل لجاراهلل الحميد ،كانت مجموعته األولى ،المثقف والــقــلــق ،جيل ح ــا ّد الــمــواقــف، صغيرة بنحو ستين صفحة ،بـ ٍ ـورق المع ،جيل يكتب بلغة سردية عالية ،ويــرى أن ٍ ـوط وخــطـ ٍ نحيلة بيضاء ،وغــاف أســود ،بإمكانه تغيير العالم من خــال الكلمة،
يتوسطه رسم لعشبة برية تشققت األرض لقد كنت محظوظا أن بدأت أتعلم الكتابة تحتها. وسط ضجيج الثمانينيات ،حيث المالحق قــرأت المجموعة في جلسة واحــدة ،الثقافية للصحف ،والمجالت ،واألمسيات
10
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
القصصية ،والجمهور بذائقته العالية ،فمن يكتب قصة آنذاك يقرأها في األمسيات ،وتنشرها الصحف بحفاوة ،ويكتب عنها النقاد ،ووســط هــذا االحتفال بالنص الــســردي جــاء جــاراهلل ع َرّابًا للقصة الجديدة المتمردة عــلــى تقاليد الــقــصــة آنـــذاك، وم ــع ــه عــبــدالــعــزيــز مــشــري، ال ــذي ســرعــان مــا تــراجــع في مجموعاته القصصية الالحقة عن المغامرة ،بينما استمرت تجربة جــاراهلل الحميد تنضج في الطريق الــذي اختاره لها، فكتب (وجوه كثيرة أولها مريم) و(رائحة المدن) و(ظالل رجال هاربين)؛ هو لم يكتب كثيرًا، وال يكتب مطوالت وال مرويات، هو يكتب الناس بحسّ ه وحزنه العميقين ،بكلمات قليلة لكنها مؤثرة ونافذة؛ هو ال يكتب ألجل الكتابة ،وال للتسلية ،بل يكتب أحزان أعشابه البرية ،وغربته، ووح ــدت ــه ،ووحــشــتــه ،وحــزنــه، كاتب نادر ال يتكرر! * كاتب من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
11
جاراهلل الحميد وقشعريرة الكلمة
■ د .هناء بنت علي البواب*
ـاس ..زمــن التصدع وتغير األخ ــاق؛ أصبح الــرجــل الـفــارس ..الرجل فــي زمــن ق ـ ٍ الحقيقي ،عملة نادرة ..هل عرفت في حياتك رج ًال ال يقهر؟ إنه الرجل الفارس ..هو الذي ال يقهر وال يظلم. هذا هو القاص السعودي جاراهلل الحميد ،صاحب الكلمة القوية الجهورة التي تبوح بمفاتن الحرف اللين ،والتي تجذب القلوب ..ولكنها تصهر األرواح عتابًا ووجعً ا. قاص وأديب سعودي بارز ،نشأ في منطقة حائل ،شمالي السعودية ،ويعد من أبرز أدباء نهاية السبعينيات والثمانينيات الميالدية .أصدر عدة مجموعات قصصية من أهمها «أحزان عشبة برية». سأترك الحديث عن شخص الجاراهلل كان القارئ يلمح في ثناياها بــذور الكتابة
نفسه ،وما يتمتع به من سمعة طيبة ،سواء القصصية ،أي القبض على تقنيات السرد على المستوى الشخصي أو اإلبــداعــي؛ القصصي ،بمفهومه التقليدي ،فهي كتابة ألتحدث عن محطات في مسيرته القصصية ،تُنبئ عن والدة قاص محترف ،وتتحقق هذه
وقد آن لي أن أقف عند مجموعات الحميد الوالدة في تجربته الثانية( ،وجوه كثيرة أولها القصصية ،لما لهذه القصص من قيمة فنية ،مريم 1984م) ،عن نادي القصة السعودي،
بل من قيمة تستحقّ البحث والدراسة ،وهي فكان لتجربة الصحراء األثــر األعمق في قصص تمت ّد زهاء ثالثين عاماً أو أكثر ،فهي تشكّل وعيه القصصي ،ونزوعه نحو كتابة في مجملها تجربة تخالف السائد ،وتتجاوز جديدة ،تتجاوز الكتابة األولى ،ففي «العشبة
المألوف.
البرية» كتابة تأمل وفلسفة الوجود اإلنساني،
ينحو الــدارســون إلى أن تجربة جاراهلل ووعي في مدركات اإلنسان ،في واقع مشظّ ى الــحــمــيــد ق ــد نــضــجــت فــنــي ـاً ف ــي بــدايــة وفسيفساء ،واقع مأساوي النزوع.
الثمانينيات بمجموعته القصصية «أحزان
والـــذي يــدفــع حماسة الــقــارئ لمتابعة
عشبة بريّة» ،ومن يتتبع تجربته يجد أنها قصص المجموعة دفعة واحــدة؛ فالحميد طغت عليها الرومانسية الحالمة ،وانحازت يترك لقارئه مساحة كبيرة من الوعي في
12
الكتابة إلــى نمط الــخــاطــرة النثرية ،وإن التعامل مع قصصه الجديدة؛ في حين كان العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ومــا يسجّ ل لهذه المجموعة مــن تميّز ذاك االشتغال على تقنيات السرد الحديثة، وتوظيف القطع السينمائي ،واالسترجاع واالستباق وغيرها ،بصورة الفتة للنظر، فكانت الحياة رديف الوجع المرتبط بالمكان والزمان ،بما هما ضدين .كما نسمع صوت الــــراوي مــن خ ــال (األنــــا) فــي تــداعــيــات ومونولوجات داخلية تصل مــا انقطع من الماضي مع الحاضر ،في البحث عن لحظة الخروج من السجن الداخلي للحميد الذي يوجعه دومًا بال نزاع ،وينقله إلى عالم أكثر ثنائية ٍ صراع نفسيٍّ ينفجر في ٍ فضاءً ،وفي العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
القارئ مغيباً تماماً في مجموعته األولــى، غريبة أو عجائبية. ٍ بل هي كتابة منغلقة على الــذات في وعي لــعــ ّل تــجــربــة الــحــمــيــد ف ــي مجموعته الــعــالــم؛ فمجموعة «أحـ ــزان عشبة برية» القصصية (ظــال رجــال هاربين 2000م)، عبارة عن قصص قصيرة جــداً ،تحفر في عن نادي حائل األدبــي .هي تجربة مغايرة الذاكرة عالماً متشابكاً من األلم والحزن، فــي تقنياتها السردية عــن كــل مــا سبقها؛ وتقدّم المجموعة تجربة واعية في كتابة ـاص في فالكاتب يشتغل على ثيمة الــتــنـ ّ هذا النمط أو الشكل القصصي ،ويشترك التناص العميق ّ فيه مــع مجموعة مــحــدودة مــن التجارب قصص المجموعة ،وهــذا القصصية العربية الواعية ،فهو يعبّر عن يبرز بين نصه ونصوص كُتاب جيله في ذلك الوقت .وما يلفت النظر أيضاً في المجموعة مضمون القصص «بأقل الكلمات». حالة التحول ،تحوّل الشخص إلى تمثال ،وما ولكن القارئ المتمحص لمجموعته التالية ينبني على هذا التحول ال يخرج من أسْ رِ (رائــحــة الــمــدن (1998م) ،عــن نــادي جدة األدبي الثقافي يعرف تمامًا أنه يلحم الزمان التأمل وفلسفة الحياة. والمكان في بنية قصصية واحــدة (أي في وكما سبق أن ذكــرت ،فــإن حالة التأمل لحظة زمكانية) ،تتحدد مالمح الزمان في الموغلة في فلسفة الحياة والكون ،تدفعه فضاءين :خارجي من خالل الحياة ،وداخلي من خالل الصحراء التي أثرت به.
13
التأمل والفلسفة مــن خــال رؤيــتــه للكون
والحياة والدين واآللهة والتاريخ ،في نظام أسطوري أو أسطرة الواقع.
إن تجربته تجربة ثرية ،وتتطور بشكل
الفــت للنظر ،وتنحاز للكتابة الجديدة أو للتجريب ،باعتبار أن التجريب مسألة مهمة في تحوالت الكتابة الحديثة ،وال بّــد من اإلشــارة إلى تجربة الحميد التي قدمت له مادة غنية للكتابة ،ولرؤيته للعالم ،ودفعته
للبحث عن المعرفة هي نفسها التي عاشها
غيره ،ولكنه أصيب بقشعريرة الحياة فنقلها
لنا في قشعريرة الكلمة .كل هذا وذاك ساعد في تطوير تجربته القصصية ،وأصبحت هذه
دائــمـاً للبحث عــن ال ــذات ومكنوناتها كما القاص الذي ّ نلحظ ذلك في أسلوبه ،فهو عزف على أحزان عشبته البرية ،وصاغ لها ملحمة؛ حُ ــق للعشبة أن تماري بها ،ونقل آهاته بصوتها ..كما تراقص بقلمه بين وجوه أولها مريم ،وأسّ س لقصة ستبقى في أذهان الكثيرين ،ولم ينس رائحة المدن ،إذ رسّ خ صورة إبداعية من صــوره .وذلك أيضا من خالل مجموعة «ظالل رجال هاربين».
التجربة عالمة بارزة في الكتابة القصصية سعودياً وعربياً.
وهو القائل عن نفسه.. "إنــنــي أشــعــر اآلن بأنني بطل المشهد
الــحــالــي .الــبــطــولــة والــتــاريــخ والــعــلــم كلها
مصادفات ،فبطولتي فيها نــوع من تحدي الــذات ،فالذات مسمومة بالخوف وجبانة، والوعي درع الروح ،والتحكم في الوعي هو
سيف المثقف .فقد جعلوني بطال ،تقصداً؟
جــــاراهلل يُــعــ ّد حــالــة خــاصــة فــي عالم ربما؛ لكن ال تنس أنني شريك في تحويلي األدب ،بفكره وإبداعه ،بعنفوانه وصخبه ،إلى بطل ،وأنني ناتج العملية ،أي (الكل)! برفضه وقبوله ..فقلمه يحمل سحراً خاصاً ،ولــكــن :ال تبتغوني لكم بــطـاً ..إنني رجل وشخصية تــؤكــد أنــه بطل مــشــهــده ،يبقى حرّضته المنايا على نفسه ،صــار السيف الحميد يدور داخل قصص المجموعة في بيني وبين رغيفي". * أكاديمية وناقدة من األردن.
14
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
صديق اخلالدي* ■ ّ
الحميد لحظة اصطدامه بـ ( مريم) في مجموعته (وجوه كثيرة أولها مريم) ،يصدمنا بمتواليةٌ سرديَّة تكشف حــاالت األنثى حين تريد الرغبة المقموعة وتحاول أن تعيشها دومً ــا ،فثمَّ ة خوف من الواقع المُ لتبس .لهذا ،يبدو الصراعُ حــا ّد ًا بين الرَّ غبة واإلرادة؛ ما ولَّد عالقةً ضدِّ يَّة صراعية بين الذات والذات ،وبين هذه واآلخر .فالحالة النفسية المحرِّكة للقاص جاراهلل الحميد تتذبذب بين اإلِ قــدام واإلِ حجام ،والجرأة والخوف ،فتبدو معادلة األلم واللذّ ة حاضرة في مواقف متعددة في هذه المتوالية القصصية .وهو الذي لم ينتظر كثيراً ،بل في عام 1984م ،أصدر مجموعة قصصية تحت عنوان" :وجوه كثيرة أولها مريم"، وهي أكثر التصاق ًا بالحاالت اإلنسانية ومفارقات الحياة التي يقدمها بلغة مميزة .وال تخلو حس ساخرٍ ربما عرف به جاراهلل الحميد في كتابات أخرى. بعض النصوص من ٍّ تبدو الن َّّصوص في مجموعته هذه أكثر استقطاباً لــكــل حـــاالت الــنــفــي واإلث ــب ــات الــتــي تُ ــحــرِّك أبــعــاد ّص يُع ُّد بمثابة تكثيف و َم ْر َكزَة الشخصيات ،فهذا الن ّ لك ِّل ما يليه من نصوص جاءت شارحة له؛ فهو المت ُن والنصوص األخرى حاشية له ،بالمعنى التفسيري؛ ما شكَّل بنية ف ّنيَّة للحدث؛ فثمة تصعيد للحدث ،وإيغال في تكريسه ،وتوتير للعالقة الملتهبة بصمت. الحميد كتب هذه المجموعة ليكون أكثر قرباً من محيطه ،حيث يغوص في هموم ذلك المحيط ويسائله ويحاوره ،بل ويكتب بطريقة أكثر حداثة قصته ،متخذاً من المقاطع والمشاهد الراجعة طريقة للكتابة ،حيث فضاء القصة والتجريب مفتوح على مصراعيه أمام مبدع استطاع أن يصل بقصته إلى دهشة رسمت اسمه في خريطة المشهد اإلبداعي ،تلك الدهشة اإلبداعية لكاتب يتقمّص كل األرواح في قصة واحدة ،ويحاول أن يكون هو ذاته بل غيره ،هو الذي حاول أن يرسم المرأة والرجل والطفل في مجموعة قصصية ثالثة جاءت
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
جاراهلل الحميد دهش م كوكب ُة العنوان ال ُ ِ ِ ُ القصيرة القصة الرؤية في واختالف ِ ِ ِ
تحت عنوان "رائحة المدن" عام 1997م ،وفيه عالقة إنسان اليوم وإنسان القرية والريف بالمدن الكبيرة، وطريقة الحياة فيها ،في نصوص مثل" :بنت الجيران"، و "ورق الخبيز" وقصة "مانجو" ،فكيف تمكن أن يسبر أغوار الحياة ويسبر األرض التي تمكنت من زرع كلماته بين أعشابها وأوراقها؟ بل ويمضي الحميد في هذه المجموعة إلى القصة القصيرة ،وأيضاً القصيرة جداً في عوالم تتكئ على الخاطف واإليحائي ،بعيداً عن
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
15
4ديسمبر 2012م ،أقام نادي حائل األدبي محاضرة بعنوان" :تجربة جاراهلل الحميد القصصية" ،قدّمها أستاذ األدب والنقد عضو هيئة التدريس بجامعة حائل الدكتور محمود العزازمة في القاعة الثقافية بمقر النادي ،وأدار المحاضرة عضو مجلس إدارة نادي حائل األدبي األستاذ علي بن عبداهلل النعام .ومن وقتها ظهر للقصة شك ٌل مختلفٌ ممي ٌز ال نظير له في زمن العزلة التي الذ إليها واختبأ بداخلها ،خوفًا من المجتمع المتمرد على كل جديد ،فهو الذي وجد فيها حالته وطريقته كي يستمر في كتابة إبداعه. جاراهلل الذي بدأ بمجموعته القصصية" :أحزان عشبة برية" ،والتي كتبها القاص ..ليقارب الكثير من قضايا مجتمعه ،ويفتتح بها أسئلة ناقدة عن الحياة والحب في مدن وقصص تلقي بشخوصها على قارعة ـس القارئ واصطياده االنتظار والقلق. التفاصيل ،بل تعتمد على حـ ّ للمفارقات المدهشة فيها ،كما نجد ذلك في قصص وحين تتلمس العنوان وهو عتبة النص دومًا عند مثل "موت" و "المسجد" و "الالعب" ،تلك القصة التي أهل النقد والرؤية الناقدة للنصوص ،تجد أنه يعكس ال يسيطر عليها حــدث وال محور محدد ،بل معيار حزن العشبة التي يلتقطها من أرض الحياة التي تمتلئ دهشتها هو انسجام الحالة والقبض عليها من بين به ،ويمتلئ بها شوقا وح ّبًا للحياة. آالف ما يمر علينا من مواقف صغيرة. وتجدك وأنت تتجول في أنغام حروفه وموسيقى وهو الذي يتنقل فرديًا ومجموعاتيًا مع كل قصصه كلماته تصطدم بتجربة جــاراهلل الــذي كتب القصة وكلماته؛ فلديه لغة مختلفة في اختيار عناوين قصصه الحديثة في وقت مبكر في تجربة الكتابة السعودية، مثال :قصة "شجيرات العتمة الصفراء" ،وفي قصص حيث كــان المشهد يرتب أوراقــه ويستعد النطالقة أخرى قصيرة سنقرأ ذات اللغة المقتصدة والحالة في تكثيفها ..وتبقى متوالياته من العنوان تكبر فيها أخــرى سوف تشهدها سنوات قادمة؛ فكان الحميد ـاص األكثر بصيرة ورؤيــة إلــى المشهد األسئلة ويعانق إنسان اليوم فيها معرفته الجديدة بما الكاتب والــقـ ّ القادم من رحم الحياة المختلفة ،والتي عاناها الكاتب حوله في دهشة بالغة محاطة بالصمت والقلق. وعناها معًا ..في ظل ظروف لم تتح له أن يكون منفتحً ا فعلينا أن نعترف أنه ضمن كوكبة كتبت القصة في على عالمٍ مغلقِ البصيرة. السعودية خالل العقدين الماضين ،يبرز اسم جاراهلل هــذا الــقــاص ،صاحب العنوان المدهش ،واللغة الحميد الــقــاص الــذي بــدأ مسيرته القصصية في 1977م .وفي ديسمبر 2007م ،احتضن النادي األدبي العارمة التي تسير بك حيث جذور النبتة العربية ،هو بحائل األمسية الشعرية الثالثة لجاراهلل الحميد .وفي جاراهلل الحميد ،ابن الصحراء. * ناقد من السودان.
16
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
■ محمد العامري*
ال يُمكن ألي دارس ألعمال الكاتب المتعدد جاراهلل الحميد» ،إال أن يلمس وخزات األلم في نصوصه التي تنز ُّ ألمً ا في كل سطرٍ فيها؛ كما لو أن الحميد قد تنبأ في أحزان عشبة برية الصادرة عام 1980م عن مآله الشخصي ،حيث الفقر والمرض وسوء الحال؛ فهو مآل يعبّر عن قيمة متدنية للمثقف في العالم العربي .وبعد ذلك واجَ هنا بمجموعات أخرى ألما ونقدً ا من سابقتها ،منها وجــوه كثيرة أولها مريم 1984م ،ورائحة المدن ليست أقل ً 1998م ،وظالل رجال هاربين 2000م.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
جاراهلل الحميد طبائع الكتابة األلم في سيرور ُة ِ ِ
لم يكن األلم سوى محفّز لسرد جرى في بسبب الــحــارة التي كانت تمثل لي مصدر
أديم روحه منذ السبعينيات من القرن الفائت ،إزعاج ،وبيئة مشكالت مجتمعية آنذاك ،ما ليبرز كعالمة مفارقة في السرد السعودي ،جعلني أتحول من منزلي بعد بيعه ،إلى شقة الذي ذهب بموضوعاته للكشف عن األلم في مستأجرة».
مجتمع المهمشين ،حيث تحيز للمهمشين؛
هذا التحيّز في سلوك الكتابة لدى الحميد
منتصرًا لهمومهم ومشاكلهم التي غابت عن هو نبض يجرح الورقة ليرصد أتعابه وأنين الحياة االجتماعية ،فكان سرده منارة للكشف المهمشين ،فكانت قصصه تختزل حالته
عن تلك الهواجس وبثها بلغة سردية سلسة الشخصية التي تنعكس في الضمير الجمعي نال عبرها تكريمًا مبكرًا والمتعبين للمهمشين في مهرجان السرد.
والفقراء.
ي ــق ــول الــحــمــيــد عن
فــــفــــي م ــج ــم ــوع ــت ــه
ال ــم ــدن» :كــانــت نتيجة
عشبة برية» ،نقبض على
لي أن الفن قرين الفقر
ف ــي الـ ــذاكـ ــرة الجمعية
االجــتــمــاعــي ،فقد بعت
في البؤس؛ فمن ينتصر
م ــج ــم ــوع ــت ــه «رائـ ــحـ ــة
ال ــق ــص ــص ــي ــة «أحـــــــزان
تــجــربــة عشتها ،أكــدت
تساؤالت وحفريات عميقة
والغربة ،إلى جانب اليُتم
لــلــذيــن يــتــقــاطــعــون معه
منزلي في أحد األحياء
للعدالة االجتماعية ال ب ّد العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
17
جــاراهلل الحميد اختار أن يَعْبر صهدًا
حارقاً ،دون جراب من ماء األمنيات ،لكنه
تحصن بألمه العميق ليَعْبر تلك المسافة ّ المتعِ بة ،عَ بَرها بقرار الكدود الذي ال يمّل وال يتوقف عــن كشوفاته للمسكوت عنه،
لغة وعــرة تناسب طبيعة الموضوع ذاتــه؛ ففي مجموعته «أحــزان عشبة برية» يقول:
«يا اهلل ...لقد كانت المدينة مآلى بنساء
ترجمة أعمال جاراهلل الحميد إلى اللغتين الصينية واإلنجليزية وصدورها عن نادي حايل االدبي بالتعاون مع دار االئتالف
له أن ينتهج نهج الحميد؛ لذلك كان الصرخة
صغيرات ..ولكنهن خشنات ..ويستعملن أظافرهن في الكالم».
فحين يصف النساء الصغيرات بالخشونة،
الــمــدو ّيــة فــي بــركــة راك ــدة تــنــادي بالعدالة هــي جملة تُعظم مــن حجم الــبــؤس ،حتى وانــصــاف المهمشين والمثقفين ،وإع ــادة إن العِ وَز قد بلغ النساء الصغيرات اللواتي
االعتبار لكرامة اإلنسان من عدالة وحقه في لم ينعمْن بحياة تليق بهن ،فنرى إلى نهج الحرية والعيش. تراجيدي عميق مشفوع بمتواليات لحياة
فكان أنين المتعبين ،كتعب الساقية التي داكنة مليئة بالصور الوصفية المتتالية التي يسّ ح ماؤها في رمــل األمــانــي .ظل الحميد توحي وتصرح بفجاعة الواقع المعيش. يسقي مــن وجــدانــه الرهيف حبره الداكن
فــالــمــتــأمــل لطبيعة الــحــمــيــد يستطيع
ليضيء مساحة مظلمة في مُركبات مجتمع وبسهولة كبيرة أن يعرف أن هــذا الكاتب أكله البؤس ،فانتصر لوجودهم في سرد ين ُّز قد اختار ما يشبهه في الكتابة ،وال يستطيع ألما ورشاقة.
أن يبدع في موضوعة الفرح؛ بكونه شرب
يشير الناقد الشنطي إلى أن «جــاراهلل الحزن لتتشر به األحداث المؤلمة ،وتصبح الحميد حريص على التشكيل التجريدي جــزءاً عضويا من إيقاعه اليومي ،حتى إن الــرمــزي ال ــذي يعبر عــن إحــســاس الكاتب الفواجع الحقته في أحالمه وصحوه ،يقول بالغربة متمثلة بالرحيل الدائب تارة ،والعزلة الحميد« :ينخر الــذاكــرة دود األي ــام التي الموحشة تارة أخرى ،والتوحد مع الكائنات لها صمت وبــرودة البالط الصامت البارد،
األخــرى ومكابدتها وانبعاثها من بين فكي والمدينة كما هــي وجــه أبيض كالعجين،
18
الرحى».
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
قيلولة طويلة مترعة باللبن ،وجــه محايد
نبذ الحميد كل شيء فلم يعد يساوره أمل أحــام الكاتب كحالة عضوية بين السارد التغيير فاختار عزلته المؤلمة ،ربما تعينه والشخصية التي تتحرك في مساحة السرد،
على تحمل أحمال الصوفيين الذين اكتفوا فهي شخصيات تفضح الــواقــع المأساوي بقليل من الكأل وكثير من الرؤيا الصافية؛ وتفسّ ره؛ فهو قام بتكريس عشبته الخاصة
فكانت تلك المؤسسات الحكومية بمثابة بــه ،وحمّلها مــدلــوالت رمــزيــة تشتبك مع «فترينات» ال تعنيه بشيء ،بكونها ال تمثل الواقع وتجلياته التراجيدية. الحقيقة في االيقاع الشعبي والحياة الواقعة،
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
كالالشيء ،اعترف بذلك وأوقع».
وصــوالً إلى تدخل الشخصيات في تفسير
تلك العشبة التي حملت فروعً ا متعددة
فهي مسافة بعيدة بين تلك المؤسسات وما نستطيع أن ندركها بالتأويل المتعدد ،فحين يحدث فــي الــقــاع ،هــذا الــســأم طــال فكرة يــدوس العشبة جمل مبق ٌع بالنياشين وال
القبيلة ،فاكتفى بذاته كعين تراقب سخافات تموت تلك العشبة ،فهي البذرة التي تحمل الحياة وكذبتها التي تنطلي على الناس ،لذلك الحياة وال تموت بوصفها ثورة صغيرة ربما
ظل البدوّي الذي يبحث عن حَ يَوات حياته تتنامى فيما بعد .فقد استفادت لغة السرد األولــى وينبذ هجوم المدينة على غــدران لدى جاراهلل الحميد من تجربته الشعرية، الصحراء وأعشابها ،التي تشكل له ذاكرة
جمالية أسهمت في تشكيل مخيلته ،فما يراه
هو احتالل لمخيلته وضميره اإلنساني.
فقد تحوّلت عناصر األرض إلى أبطال
لقصصه ،تحديدا الكأل؛ فالعشب أصبح من
المفاتيح األساس لمجمل سردياته ،كداللة
حيث عمق اللغة ورشاقتها.
فهو يعوّل على انتشار العشب وتنامي
الوعي ،ونرى ذلك بقوله« :معك عشب كثير.
سينبت في يوم ما عشبٌ آخر ..ونرى».
«أحــزان عشبة برية» هي أنسنة للعشب
رمزية لصورة الحياة الطبيعية والــرخــاء ،وتحميله مساحة من التأويل الــذي يحمل فالعشبة هــي الــجــواب الصامت لمفاهيم مناخات مواربة ،له عالقة بالبوح واإلفصاح عن مفاهيم أراد قولها الكاتب ليفتح مجاال الحياة الحرة. تنكشف شخصياته القصصية عن غربة
قاسية في محيط حركتها العاطفية المليئة
ألسئلة كامنة تختلج في ذات الكاتب.
يبقى جــاراهلل الحميد عالمة بــارزة في
بــالــكـ ّد وال ــب ــؤس؛ فشخصياته فــي القص السرد العربي ،لما تميزت به سردياته من تتقمص موقف الكاتب نفسه من الواقع ،عمق ورشاقة في اللغة. * كاتب من األردن. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
19
القصصي والنموذج الفني العمل الرؤية بين مصا ِدر ُ ِّ ِّ ِ ِ ِ
«جاراهلل الحميد أنموذج ًا»
■ يوسف اليوسف*
يسعى الفنان التشكيلي عبر العصور للوصول إلى معادلة خاصة ،يستطيع من خاللها إدراك ماهيّة الجمال في البيئة التي يتحرّك فيها ،ولكنه يكتشف في كل لحظة استحالة وجــود تلك المعادلة؛ فالموضوع الجمالي يتجاوز في احتماالت إدراكــه أن يتحدد ضمن رؤية أحادية ،ويستحيل أن يتم إدراكه دفعة واحدة في زمن واحد أو مكان واحد .فهو متغيّر ومتراكب ومتنامٍ بشكل ال يمكن اإلحاطة به .وكل المنجزات المتعلّقة بالفن التشكيلي، سواء على مستوى التاريخ أو النقد أو اإلنتاج الفني أو الجمالي أو الفلسفي ،ما هي إال مـحــاوالت على طريق اإلدراك لحقيقة الـفــن ،ومعنى الـفــن .وكــذلــك كاتب القصة الــذي تنفلت من بين جفنيه كلمات تتبعثر على الورق ،يرسمها بالحروف ليبين لنا مصدر الرؤية المختلفة لديه ،في زمن ال يمكننا ان نقتنص فيه كل شيء. الفلسفية التي تحاول تفسير الجمال ،وباتت هذه النظرية إطــارًا نظر ًيّا فلسف ّيًا يحتكم إليه الفن وعلومه .وبات الفالسفة ومؤرخو الفن منشغلين في المفاهيم الجمالية وعالقتها بالفن وبالخبرة الجمالية ،وكيف نرى الجمال ،وما هو الجمال، وغيره من النقاط التي ما تزال محور جدل حتى وقتنا هذا.
ينطلق القاص جــاراهلل الحميد من مجموعته الكاملة التي أصدرها عام 2010م ،في سعيه من ســؤال واحــد هو غاية اهتمامه؛ أين يوجد الفن؟ بمعنى الكلمة المكتوبة حقيقة ،وليس كذبًا او افتراء؛ فهو قاص متميز في حفر أخاديد الكلمات، ليظهر لــنــا بــراعــتــه فــي كــل مجموعاته البرية والعشبية واألنثوية التي اختزلها في مريم ،في بعد ديني أسطوري ،كيف وأين وجد كلمته التي يمكن أن إ َّن مفهوم الجمال والعمليات الذهنية التي تحكم يضعها على الورق؟ هذا السؤال ،هو ما ينبني عليه إرهاصات العمل القصصي عند الحميد ،والكيفية كل ما في العملية الفنية منذ َّ خط أول إنسان خطً ا الــتــي يستلهم بــهــا الــقــاص الــمــرهــف اإلحــســاس على جدار أو ورقة أو قماش. مــوضــوعــاتــه وتقنياته وأفــكــاره الفنية ،ومفهوم وما يزال الحميد يسعى خلف اإلجابة باحثًا االبتكار في العمل الفني ،والظروف التي ينشأ فيها ومن ِّقبًا ومج ِّربًا .ونحن ندين له في هذا ،ألن كل العمل الفني ،جميعها مفاتيح مهمة لفهم مصادر ما تراكم في تاريخ القصة السعودية من أعمال العمل القصصي عنده ،ولمعرفة الكيفية التي يفكّر وكتابات وبحث في الجماليات ..عائد إلــى تلك فيها هذا الرجل البدوي ودوافعه إلنتاج القصة. القدرات على التأمل الدقيق. كما أ َّن التأمالت التي يقوم بها الفنان في
20
قبل ثالثة آالف سنة ،تأمل أفالطون في الكيفية مسيرته الفنية ممزوجة بالتراكمات المعرفية التي يت ُّم فيها خلق العمل الفني ،ووضــع نظريته والتقنيّة ،جميعها تتكاثف معًا لتكوين ظــروف
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
مناسبة لتولد فيها مدخالت العمل الفني ،ولكي يستقيم فهم الكيفية التي تولد فيها األعمال الفنيّة ال بُ َّد من توضيح العوامل األساس التي تؤثر في ظروف إنتاج العمل الفني. يسعى الحميد إلــى تحديد أهــ ِّم المصادر للرؤية الفنيّة والتي يتأمل من خاللها موضوعاته ويصوغها وفق تلك الرؤية ،وهذه العمليّة السهلة ظاهرًا وبالغة التعقيد في أعماقها تمتلك أبعادًا غير منظورة ،إذ إنَّه يحتاج أحيانًا إلى سنوات طويلة من التأمّل والتجريب لكي يحقق لنفسه مسارًا جمال ّيًا وفق رؤية لها خصوصيّة ومالمح مستقلّة، وقــد تمكن من ذلــك وهــو يصف مــدن الغياب من حيث الروح الضائعة في قصصه. كذلك االستلهام عند الحميد الذي أبدع فيه منذ اللحظة األولى وأنت تقرأ مجموعاته القصصية؛ إذ يُع َرّف االستلهام لغ ًة في المعجم الوسيط« :أن يستوحي أحدنا شيئًا جديدًا مبن ّيًا على شيء قديم. وأن يستلهم فــان رأي فــان ،بمعنى يطلب منه التعرّف عليه .ويقف الشاعر أمام بيت محبوبته موقفًا شعور ّيًا ما فيستلهم منه قصيدته». إ َّن مفهوم االستلهام في قصص الحميد يرتبط بشكل أس ــاس بــوجــود محفِّز مــعـ َّيــن ،يعمل على تنشيط الذهنية الفنية لدى الفنان المحمَّل بالخبرة الجماليَّة وبالمعرفة التقنيَّة ،بحيث تتكامل في ذهنه مدخالت المعادلة التشكيلية «موقف جمالي (المحفِّز) +معرفة تقنية ومهارات تشكيلية +خبرة جمالية = عمل فنيِّ » .في هذا الموقف تنشأ لدى القاص تصوّرات جديدة لما يراه أو يفكّر فيه أو يحسّ ه ،فيبدأ بإزاحته عن طبيعته التي يوجد فيها ليصوِّره ضمن التصوُّرات التي تتشكَّل في ذهنه خاصة به .وهناك أمر آخر هو المعرفة في صورة َّ الحرَفيّة ،فطبيعة العملية الفنية التشكيلية التقنيّةِ ، تقوم على استخدام أدوات معيّنة وخامات وسطوح
مالئمة لكي يت َّم التصوير أو تنفيذ العمل الفني عليها ،وه ــذا يتطلّب مجموعة مــن الــمــهــارات للسيطرة عليها والتحكّم فيها ،لكي يستطيع من خاللها الكاتب أن يعبّر عن غاياته القصصية لتصل إلينا بروحه قبل حروفه. فــي الوهلة األول ــى تــبــدو لنا أعــمــال الحميد القصصية مكوّنة من عناصر بشرية تشخيصية محاطة بتقسيمات هندسية مبنيّة في مرجعيتها على وحدات هندسية أو نباتية ،وكأنه ضمّنها في لوحاته كجزء من المعالجة التكوينية ،لكن الحقيقة أ َّن الحميد كان يستلهم عناصره وحلوله التقنية واإلنشائية من أكثر من مصدر ،وأول تلك المصادر هو الطبيعة؛ فالعناصر الزخرفية التي قسّ مها إلى مساحات هندسية من خالل حروفه وتشكيل عناوين قصصه القصيرة ،تتشكّل لتبني معمارًا زخرف ّيًا يحيط بالعنصر البشري في لوحاته ،هي لمفردات استمدّها من المناظر ٍ اختزال وتحريف الطبيعة التي قــام بتصويرها على مــدى سنوات عديدة ،وهذا إبداع القاص المحترف.
* ناقد من ليبيا. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
21
جاراهلل الحميد.. كاتب األلم والعزلة ■ جناة الذهبي*
والقاص والشاعر السعودي جاراهلل الحميد يعد من أبرز الكتاب السعوديين في ّ الكاتب مجال القصة القصيرة ،وهو أحد أهمّ عرّابيها في السعودية بشكلها الحديث .بدأ مسيرته القصصيّة منذ أربعين عامً ا ،ولمع اسمه في األدب منذ صدور مجموعته القصصيّة «أحزان عشبة بريّة» في أواخر السبعينيات .صدرت له الحقا العديد من المجموعات القصصيّة مثل« :رائحة المدن» و«ظالل رجال هاربين» ،وقد توقّ ف عن نشر مؤلفاته منذ التسعينيات. صــدرت «أعماله الكاملة» سنة 2010م عن نادي حائل األدبي ومؤسسة االنتشار العربي في بيروت .كتب الحميد في عدّة صحف ومنابر أدبيّة عربيّة مثل صحيفة «الجزيرة السعوديّة» ،وجريدة «القبس الكويتيّة» ،وموقع «العربيّة نت» ،وغيرها.
بدأ الحميد مبكّرا في السير بكتابة حرة ال تنتظم بشكل تقليدي ،ليصغي لذاته ويعبر عنها بصورة حرة؛ إذ تكاد قصصه تخلو من األحداث، وأثر هذه األحداث هو ما يبرز في تعامله مع ك ّل القصة ّ ال بذاته عن قصة بوصفها بنا ًء مستق ّ ّ التي تليها ،فهو يعتمد على التشكيل السينمائي، ويكتفي باإليجاز واإليماء وتكثيف الداللة كما وصفه الدكتور العزازمة.
من المظاهر الالمعة في الحياة الثقافية المزيفة؛ فهو يؤمن بأ ّن فعل الكتابة شرط أساس للوجود، فهو القائل «يا اهلل ،كم أن الكتابة عظيمة».
يصف الــروائــي السعودي يوسف المحيميد قصص الحميد فيقول «تلك الجمل القصيرة، العبارات المبتورة ،الحوار الــذي ال يكشف كل ش ــيء ،هــذه الــنــقــات الغريبة فــي الــســرد ،أو لنسميها القفزات الوثابة من مشهد آلخر ،تلك الفراغات التي يتركها جاراهلل قصدًا ،كي يورط القارئ في تخيّلها».
وقد حظيت تجربة الحميد باهتمام كبير في ميدان الدراسات النقدية ،كما كانت مجموعاته القصصية مــادة لعدد من األطــروحــات العلمية التي تناولت األدب السعودي وتحديداً فن القصة ال يستهين الحميد بكتابة قصصه ،ويعد القصيرة. غامضا وصعبًا؛ ً عالم القصة القصيرة عالمًا حين نقترب مــن نصوصه الــســرديــة ،فإنّنا ألنّه يتطلّب تكنيكات مختلفة ،إذ تُكتب قصصه نجد كاتبا متأمّال وحا ًدًا وحزينًا .فمنذ «أحزان بلغة التداعي نحو قصص مضادة ،أو ما يسمى عشبة بريّة» وهو يعد الكتابة أسلوب حياة ،وأرق التجريد ،ذلك الشكل التعبيري الملغّم الذي يمنع إبداعيّ ،جعلته يختار بمقتضاها العزلة والتخفف الفهم المستق ّر أو المريح.
22
ك ــان ينعت نفسه بــذلــك اإلنــســان البسيط الممتلئ بالوحدة واأللــم ،فيقول «أحــب السالم والعدالة والوطن والناس ،وهــذه هي مؤهالتي ال غير ...ينام العالم وأبقى أفتّت هذا الحزن وأقتاته». العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
لقد قام الحميد بتوظيف الشعر في قصصه،
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
فحقّق مــوازنــات عجيبة بين مدرستي الشعر والكتابة .تميّز إنتاجه بالتعبير عن األلــم وعن الحزن ،ربما ألنّه لم يكن يملك آليات تغيير الواقع أو مخالفته ،لذلك لجأ إلى السخرية المتشائمة من واقعه ،وحـوّل الغضب الداخلي الذي يشعر به تجاه نفسه إلى كتابة ..وكثيرا ما يستحضر خاللها الشعر لذلك تبدو قصصه غارقة في الشعريّة. لطالما كــان الحميد ينظر لنفسه على أنه ضحية ،وبأنه مالحق ومضطهد ،لذلك كان يشبّه نفسه ببطل رواية «التحوّل» لـكافكا ،تلك الحشرة العمالقة والمفزعة ،إذ يقول« :إنني مثله تمامًا، كلنا بالحقيقة مثله ،لكننا مع التمارين السويدية تعلمنا أن ننقلب على بطوننا ،لكننا ظللنا نراوح بين كوننا بشرًا وما يبدو أنه (فيروس) يفتك بنا، يذكرنا دائما بأننا ضحايا». ومــنــذ وفـ ــاة وال ـ ــده شــعــر الــحــمــيــد بغربته وقصصا حــول ذلــك، ً الالنهائية ،وكتب شــعـرًا سيدي ّْ كان يقول «منذ صار أخي األكبر وأمــي غربات ٍ البيت ،صــار موحشً ا وكريهًا ،وتغربت صغيرة ،تشردت مختارًا الكتابة ..أنا الغريب.. أنا الطريد ..وأنا المتهم الجاهز للتحقيق معه كلما حــدث أم ـ ٌر غامض ،بكل أوجــاعــي أمــارس معك لعبة الهادئ والممتن».
وهي البخل والبخالء. يبني الحميد في قصصه عالقات رمزيّة بين األمكنة واألشخاص؛ إذ تصبح المدن والبنايات مــراد ًفــا للوحدة والــعــزلــة الشديدين ،وتتحوّل الــصــحــارى دالل ــة للتلذّذ بالمعاناة والدهشة. يسوق القاص معاني متناقضة مثل الصحراء والماء والخضرة والشساعة والنهايات والحدود واألحالم واإلصرار واإلرهاق والنسيان والمعرفة والــتــجــاهــل .يجعلنا الحميد نــتــوه مــع أبطاله في أمكنة داخليّة خالية ومقفرة تماما كذاته الوحيدة ،الغريبة والمجنونة .تقدّم لنا قصصه أبطاال مجانين بأحالم جماعيّة مستحيلة ،فهو يحدّثنا عــن أساطير ملوّنة ومــدهــشــة ،ولكنّه يكتب عن ألم الفقد واإلهدار والخسارة .يصف الحميد العشبة الواقعيّة التي تتلوّن باستمرار فــي مجموعته «أحـــزان عشبة بــر ّيــة» ليخوض في مواضيع إنسانيتنا غير المستقرّة ،وبحذّرنا من مغبّة االتكال على األحالم واالسترسال في الدهشة.
كانت الكتابة بمثابة طوق النجاة الذي تعلّق بها مبكّرا لتجاوز ضياع وجهته ،وللتغلّب على إحساسه الدائم بالنقصان .وكان الشعر مالذه الــوحــيــد لــرثــاء نفسه والــســخــريــة منها بــحـدّة وصرامة .لم يمنعه حزنه الدائم من العالم من يكتب الشاعر عن كآبة الواقع وعذابات الحيّ التشبّث بمعنى الحياة ،كما لم يكره الحميد الفقر على الرغم من أنّه عاش معدمًا« ،بالعكس أنا أكن فيه ،لذلك يسمي األعشاب بـ«بر ّيةَ» ليؤكّد على للفقر احتراما منقطع النظير» ،هكذا كان يق ّر جوانب الحياة المتحرّكة والفجائعية. كلّما تحدّث عن الخصاصة التي عاشها ،مسلّطا يرفض جــاراهلل الحميد «البقاء في مجتمع يقص حكايات عن الهروب نحو الضوء على الشيء الذي يمقته أكثر من الفقر ..صامت» ،لذلك ّ العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
23
منظر طبيعي من حائل
عوالم أخــرى ،عوالم منعزلة وب ــاردة وممطرة ،قريبي ..أخذت ثيابي ..ثم سافرت». وعوالم كئيبة مغلقة وغير بشريّة .تم ّر بنا صور تُعلمنا شخصيات قصصه أ ّن الحياة صعبة األمكنة غير المستقرّة فــي ك ـ ّل قصصه ،فهو وحيوانيّة مثلها مثل الــدواب العمياء التي تسير يتحدّث عن الصحراء والفنادق واألسواق والبحر والغرف الضيّقة والبيوت التي صنعت من الطين ،في طــرق طويلة وخطرة لتدوس علينا .لذلك، يــذ ّكــرنــا ك ـ ّل ذلــك بــعــذابــات ممكنة كــاالحــتــراق فمعظم أبطال قصصه إما على سفر ،أو قادمة والتجمّد واألرق واإلفــاس والعجز واالنــدثــار .من سفر ،أو إنها تستعد لذلك! يقذفنا جاراهلل تنطوي قصص الحميد على أقدار غير محدودة الحميد في المعنى الحقيقيّ للحياة وهو الحزن الدائم ،لذلك يستعين دائما بصورة مسافر وحيد، للبؤس والتشرّد والقمع واالستالب والذوبان. يتنقل جاراهلل الحميد في أعماله بين العديد ويجعلنا نعايش لحظات حرجة مقترنة بالسفر.. من األزمنة ليحيلنا إلى معنى االستمراريّة الكريه ،مثل مــواجــهــة الــغــربــاء والــتــعــرض إلــى مخاطر إذ يتقصى معنى الفناء واآلخرة بأوجه عديدة ،في الطرقات والتغيير المستم ّر للوجهات ،ألم يقل استحضار الطفولة والشيخوخة والعصا والعقاب أحد الشعراء «وضعتني في المهبّ وقالت :ليست والحقائب والسفر وعــربــات الــقــطــار .يجعلنا الحياة في اإلقامة ،الحياة في السفر». القاص أمام ومضات الحياة ال ُمتْعِ بة ،تلك التي قصصا عن ً لقد ق ـدّم لنا ج ــاراهلل الحميد نعاينها ونحن في طريقنا إلى النهاية .يتحدّث أحد وفضل التشبّث أبطال قصصه قائال «أحسست أنني عشبة برية مناخات االنتظار والتردّد والغربةّ ، يدوسها جمل منتفخ بنياشين التاريخ ،والمؤلم بالتعبير عن ذاتيته الحزينة والمعذّبة .لم يجمّل أنها لم تمت ،أخذت حقيبتي من صديقي ..وكان الــواقــع بل جعله أكثر واقعيّة في صــور شبيهة الطريق يبدو واضحاً حاداً ألول مرة ،وِ أثر عصا بالتقاط كليشيات فوتوغرافيّة سودوايّة ،أو ما الــمــدرس مــا تــزال فــي جــلــدي ،ذهبت إلــى بيت يمكن أن نسميه بالسخرية السوداء.
24
* كاتبة من تونس. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
■ محمود حسني العزازمة*
جاراهلل الحميد مواليد حائل عام 1954م ،وقد يذكّرنا تاريخ م ــول ــده بــأمــر جـلــل ح ــل ب ــاألم ــة الـعــربـيــة واإلس ــام ـي ــة ،احـتــال فلسطين عــام 1948م وسمي ذلــك العام بعام النكبة ،كما يذكر بعام 1967م وهو عام استكمال احتالل فلسطين بما فيها القدس الشريف ،وأطلق عليه عام النكسة.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
جاراهلل الحميد ..طائر الشمال الحزين
ولــد جــاراهلل الحميد بين النكبة والنكسة ،وقــد كــان لهذين الحدثين الجسيمين أثر كبير على مسيرة األدب العربي الحديث في كافة البالد العربية ،وقد أطلق النقاد على جيل األدباء بعد نكسة 1967م تسمية جيل أدب ــاء النكسة ،لما كــان فــي أدبـهــم أثــر كبير يتعلق بإحساسهم بالهزيمة وخيبة األمل الذي كانوا يعلقونه على مستقبل أمتهم. ربما تكون هذه مقدمة يمكن أن نقرأ من -رائحة المدن عام 1997م ،النادي األدبي الثقافي فــي جــدة .وتضم ثماني عشرة خاللها ظالل االنكسارت ،وتقاطيع التشظي قصة هــي( :الــخــروج لــيــا ،الــظــل ،بنت في تجربة جاراهلل الحميد القصصية. الــجــيــران ،ورق الخبيز ،الــشــام ،مانجو، أصــدر جــاراهلل الحميد أربــع مجموعات الالعب ،من هو ،صالح ،موت ،المسجد، قصصية خالل عشرين عاما هي: البلبل ،المبكر ،السحر ،الخليج ،شاي، أحزان عشبة برية عام 1979م ،منشوراتمنتصف الليل قرب الفجر ،مِ نَّة). دار الوطن .وتضم هذه المجموعة ست ظالل رجــال هاربين عام 1998م ،الناديقصص قصيرة هي (أحــزان عشبة برية، األدبــي بحائل .وتضم تسع قصص هي: مــعــانــاة مــطــر عــبــدالــرحــمــن ومــبــاهــجــه، (خماسية األيــام األربعة ،فصل كابوسي، مقدمة ،حديث خــاص جــدا معك ،حلول وفي الصباح ،شجيرات العتمة الصفراء، لمشكلة الطين ،الطوفان). ال ــك ــوب ،مــتــوالــيــات ،ثــاجــة عــلــى شكل وجوه كثيرة أولها مريم عام 1985م ،صدرتغرفة ،أسفار ،فندق األحالم يقدم باقات عن نادي القصة السعودي ،وتضم عشر الزهور). قصص هي( :الحزين ،الحمام ،إيقاعات بداية التجربة صامتة وأسئلة ،الذي ال يكترث ،أغنيات لفائزة في الصحو والنوم ،أغنية صغيرة بدأت تجربة جاراهلل الحميد القصصية لعصافير الــنــافــذة الثالثة ،وجــوه كثيرة فــعــلــيــا ع ــام 1979م ب ــإص ــداره مجموعته أولها مريم ،تفاصيل النوم العام ،أغنية القصصية األولى "أحزان عشبة برية" ،وبعد للصرصار الطويل ،مطر للجيران ولي). ست سنوات أصدر مجموعته الثانية "وجوه العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
25
كثيرة أولها مريم" ،وبعد اثنتي عشرة سنة أص ــدر مجموعته الثالثة "رائــحــة الــمــدن"، وبــعــدهــا بــعــام واحـــد أصـــدر جـ ــاراهلل آخــر مجموعاته القصصية وهــي "ظ ــال رجــال هاربين". بعد أن صدرت األعمال الكاملة لجاراهلل الحميد ضمن إصــدارات النادي األدبــي في حائل بالتعاون مع دار االنتشار العربي عام 2010م ،فكرت وأنــا أقيم في حائل أنــه من الواجب عقد محاضرة تتحدث عن تجربته بهذه المناسبة ،أو الكتابة عن تجربته مطوال وبما تستحقه ،غير أن الظروف لم تكن مواتية في ذلــك الــوقــت ،واألمــر المؤكد أنني أحد األشخاص المقصرين تجاه تجربة جاراهلل الحميد التي تستحق الكثير. شهادة جاراهلل الحميد يُ َعرِّف جاراهلل الحميد بنفسه قائال: «لم أكتب القصة القصيرة كشيء أرغب باقتنائه في مجتمع تهلهلت فيه قيم الحب. والمتعة التي تورثها نصوصي أنها ليست أكثر مــن تــســاؤالت وحفر فــي الــذاكــرة الجمعية، بغية الوصول إلى خلق إبداعي له خصوصيته وينتمي إلى العالم ...إنني إنسان أحب السالم والعدالة والوطن والناس وهذه مؤهالتي ال غير». إلى أي جيل قصصي ينتمي الحميد؟ كان أول ظهور للقصة في المملكة العربية السعودية على شكل مقالة ،ثــم على شكل مقامات كما ظهرت عند عبدالوهاب آشي.
26
أما جيل القصة الفعلي األول ،فيمثله ك ّل من القاص أحمد السباعي ،ومحمد علي مغربي، ولقمان ياسين ،وفؤاد عنقاوي وغيرهم. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
في منتصف السبعينيات ،ظهر تيار التجديد القصصي ،ذلك الجيل الذي لم تقنعه نمطية الجيل السابق ،فتمرد على طريقة أسالفه فــي الكتابة ،رافــضــا االنــصــيــاع لتقاليدهم القصصية التي تتقيد بالعناصر التقليدية للقصة وتطبقها عند الكتابة بحذافيرها، وبــدأت خطوات ذلك الجيل الجديد الواثقة تخط له سبيال جديدا ومختلفا عنوانه األبرز التجريب وكسر القيود السالفة. وجــد هــذا الجيل ضالته فــي الحداثة، وأخلص لها أيما إخالص؛ منفتحا على قضايا المجتمع والواقع ،ومشتبكا في الوقت نفسه مع تجلياته اإلنسانية ومشاعره الذاتية التي ب ــدأت تطفو على سطح القصص بضمير المتكلم ،تتنازعها مشاعر جياشة مؤثرة كالحب والوحدة والحزن والخوف ،ومختلف هواجس اإلنسان الحديث. بــدأت مرحلة الحداثة على صعيد الفن األدبـ ــي فــي الــســعــوديــة بــدايــة الثمانينيات الميالدية ،كما يشير د .عبداهلل الغذامي في كتابه (قصة الحداثة في السعودية) ،ونجد أن جاراهلل الحميد كان قد سبق مرحلة الحداثة بعدة ســنــوات ،فقد صــدرت مجموعته عام 1979م ،وكان قد فرغ من كتابتها كما أخبرني قبل سنتين من هذا التاريخ عام 1977م ،بل إنه كتب بعض قصص المجموعة قبل هذا التاريخ بنحو ثالث سنوات. من هنا ،تأتي ريادة جاراهلل الحميد لفن القصة وأهميته في تاريخ القصة السعودية، وقــد ازدهــرت القصة مع ازدهــار الصحافة الثقافية التي عمل بها جاراهلل الحميد طويال؛ فالصحافة كــادت أن تكون النافذة الوحيدة للنشر القصصي ،وأول قصة لجاراهلل الحميد نشرت عبر الصحافة ،وعرفه جمهور القراء
أطــلــق د .الــحــازمــي على جيل جــاراهلل الحميد اســم جيل "الــغــربــاء" ،ويــصــف من يعنيهم بالغرباء بأنهم ينهجون منهجا وجوديا في طرحهم وأسلوبهم واتجاههم ،وهم جيل الشباب آنذاك الذين ظهرت مجموعاتهم بعد نكسة 1967م.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
والمتابعين من خاللها. بعض الظواهر الموضوعية في تجربة جاراهلل ويبدو أن القصة القصيرة السعودية ما قبل الحميد القصصية: جيل جاراهلل الحميد كانت متأثرة بالتقاليد المطر في قصص جاراهلل الحميد الفنية والموضوعية للقصة المصرية ،وخاصة المطر رمــز الخير والــعــطــاء والخصب، تجارب محمود تيمور ،والسباعي ،ونجيب محفوظ ،وهي قصص تتمسك بعناصر القص وبالتالي رمز الحياة ،وهو رمز البعث والميالد المعروفة (المكان ،الزمان ،األحداث ،العقدة ،وتجدد الحياة والتغيرات في المستقبل ،وهو الشخوص) كما يشير الناقد السعودي د .في الوقت نفسه رمز الحزن والضياع. منصور الحازمي. المطر حين يهطل على األرض يأمل القاص أن تتغير مع هطوله أوضــاع الواقع الحزين ،لكن هطوله لدى جاراهلل الحميد لم يَحُ ل دون استمرار الجزع واأللم والحزن ،وكأن الواقع بحاجة إلى أمطار كثيرة ومتواصلة غير منقطعة ليتغير الواقع لألفضل.
صورة المطر مرتبطة لدى جاراهلل الحميد ويمكن تسميتهم بجيل الــرواد الحقيقيين بالحزن دائما ،وقد فشل المطر في إحداث لفن القصة القصيرة ،ومنهم :جاراهلل الحميد ،أي تغيير في الحياة ،نالحظ ذلك في: وحسين علي حسين ،وعبدالعزيز المشري، وفهد الخليوي وغيرهم..
يرجع د .الحازمي تبدل القصة وتطورها عند ج ــاراهلل الحميد ورفــاقــه إلــى وسائل االتصال التي صارت أسهل من ذي قبل؛ إذ كان األدبــاء السعوديون على اتصال باألدباء العرب ،وتأثروا تبعا لذلك باالتجاهات التي كانت سائدة في الــدول العربية من وجودية وتجريدية وتكعيبية وسريالية واإلســقــاط وال ــرم ــزي ــة ،غــيــر أنــنــي أخــتــلــف قــلــيــا مع د.الــحــازمــي ،وأقـــول إن جيل السبعينيات القصصي ظهر في السعودية بالتزامن من أشقائه العرب ،بمعنى أن هذا الجيل لم ينقل التجربة العربية بل واكبها وبدأ معها وأضاف إليها ،ويمكن وصف هذا الجيل أنه بال معلم. وفي هذه العجالة؛ وددت أن أشير إلى العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
27
(قصة مطر للجيران ولي) صفحة .115 (قصة أغنية صغيرة لعصافير النافذة الثالثة) صفحة .89 ال ومروعً ا ،وصار (المطر ظل مطرًا جمي ً أبيض ..أبيض وأسئلة).
هل معك ثمن ثوب جديد للعيد؟ فضحكت مدعيا الكبرياء!!! صفحة 52 قلت للولوة:هل أنت صغيرة؟
فضحكت حتى تحرك صــدرهــا الصغير صفحة 52يقول (المطر كان يهطل ويقسو، بقوة وأكملت: وأثناء ذلك تكونت مستنقعات كبيرة ضخمة إنك تتحدث عن أشياء ال أعرفها.مألى باألحذية وجثث الفئران ،وعندما أدخل المطبخ أشــم رائــحــة الطبخ ،بطريقة غير فقلت لها:معتادة ،إذ إن المطر كان يهطل في رأسي). صدقت!! صفحة 53 هذه الصورة المطرية استطاعت أن تدهش قال لي الموظف:القارئ وهي نابعة من فكرة :إن الواقع المرير هل هذا هو اسمك الكامل؟ ال ينفع معه مطر ،من شدة اتساخه ال يمكن للمطر أن يغسله. فقلت :بال شك!!! السخرية في قصص جاراهلل الحميد
يقدم جاراهلل الحميد عبر السخرية صورة هجائية عن الجوانب القبيحة والسلبية للحياة والمجتمع ،وتأتي في قالب هجومي متعمد ومباغت على مشاهدات الواقع وبشاعاته التي تراها عين األديب بدقة متناهية وبحساسية مرهفة ،وكــأن الــقــاص يريد االنتصار على مجريات الواقع ليخفف من قسوته وآالمــه، مقترحا بعد انتصاره واقـ َعــا أفضل يحترم إنسانية اإلنسان وقيمه العليا ،بدت السخرية أحيانا الذع ــة ومــمــزوجــة بالغضب والتأثر واالحتجاج ،وتكثر السخرية التي تأتي على شكل المفارقة فــي بعض قصص جــاراهلل الحميد ،إذ يخلفان معا (السخرية والمفارقة) عوالم جاذبة للقارئ وصادمة له أحيانا: (إنهم يضيعون في الفنادق الكبرى أولئك الشماليون) األعمال الكاملة ،صفحة 195
28
قالت لي سلمى:العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
قال وعيناه تدوران في فراغ موحش: هل الحفيظة معك؟ فكرت طويال ..حتى كاد يضربني ثم قلت: ال!! في اليوم الرابع انقطعت الكهرباء تماما..وقال صديقي لزوجته أن تحاول أن تطبخ لنا عشاء في هــذا الليل على ضــوء الفانوس.. ولكنه عاد وهو يرتعد ويقول: دعنا نخرج لنرى الناس!! صفحة 55 حين عدت من سفري العجيب قالت ليأمي: هل كنت تعاني من فقرك المعتاد؟ فقلت لها محاوال إضحاكها: واكتشفت أيضا أنني مصاب بفقر الدم!! فلم تضحك .صفحة 54
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد صاحب السمو الملكي األمير فيصل بن فهد بن مقرن بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة حائل يكرم جاراهلل الحميد
وتبرز السخرية السوداء التي يبعثا األلم أحيانا ،وعبر التالعب اللفظي المتقن ،وعبر في المقطع التالي: الحوار بين شخصين بجمل قصيرة مكثفة ومنتقاة بعناية ،غير أنها قبل كل شيء تبدو ضحك طويال ..كمن يتقيأ: انفعاال مركبا قادما من أعماق نفس إنسانية فما الحل ،إذاً؟ معذبة. فكر طويال ،وقال: األحالم والكوابيس سأسأل أي رجل فيما بعد! صفحة 47 تشكل الكوابيس ظاهرة الفتة في النسيج أنت رغمًا عنك تتكون من عدة أشياء القصصي لدى جاراهلل الحميد ،ظهرت فياســمــك الــربــاعــي ..ل ــون ثــيــابــك ..حافظة قصصه على شكل تداعيات مختلطة بالواقع، نقودك ..المدن التي سافرت إليها ..الجريدة مؤشرة على األهوال التي تتصدى لها النفس التي تقرأها باستمرار ..هل تحب البحر؟ اإلنسانية المعذبة ،غير أنها في الوقت نفسه (المطلوب جواب حاد) هل تنسى باستمرار؟ تقدم العجائبي والغرائبي بانسياب ال تخطئه هل أنت مصاب بالعمى الليلي؟ هل تستعمل العين ،وفي سياق بنية سردية ال تبعد الوقائع زيت كبد الحوت؟ صفحة 37 عن األحالم. وهــكــذا ،تــبــدو سخرية ج ــاراهلل الحميد بدت الكوابيس ظاهرة واضحة في قصة سخرية مدروسة؛ ال تقصد الفكاهة ،بل تقصد "فندق األحالم يقدم باقات الزهور": اللذع واإليــام والتأثير العميق في المتلقي، (تبدأ القصة عندما يسافر البطل ويسكن عبر التصوير المبالغ بــه (الــكــاريــكــاتــوري) في أحد الفنادق الكبرى ،يجلس في صالة العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
29
الفندق ،ويظن أنــه سيصادف أحــدا يعرفه ،بالتوجسات والعربات وبعض الذين هجمت يأت.. لكن أحدا لم ِ الــمــديــنــة عــلــى قلوبهم الــخــضــراء فــصــاروا ثم يطلب منه موظف الفندق أن يتوجه مخبولين من الفزع). إلى صالة الطعام ،لكن الموظف يسأل بطل قصة فصل كابوسي صفحة 167 القصة (هل تحس بالصداع)؟ (أف ـ ــاق الــكــاتــب الــمــســرحــي ونــظــر إلــى
وتــــســــاءل :ه ــل ه ــم يـ ــقـ ــرؤون اإلن ــس ــان ساعته ،يا اهلل منتصف الليل ،تذكر أن أهله كالصحيفة في الفنادق الكبرى؟ في الــخــارج ،لماذا أحلم دائما بهذا الشكل وفي نهاية القصة يتوجه البطل إلى صالة الفجائعي؟). الطعام ،ثم يقوم من كرسيه إلى موظف الفندق ارتباط األحالم والكوابيس بخبث ويسأله :هل لديكم أسبرين؟ يضحك الموظف يعايشه اإلنسان في الواقع: بقوة ويقول له: قصة مطر عبدالرحمن ،قصة مؤلمة، أي أسبرين؟ إنــك ال تشكو من الصداع! والد البطل يقول له :لن تصير رجال ما لم فأنت تحلم .قم من النوم أوال). تترك هــذه البلدة ،إن الناس هنا ينظرون كــمــا ب ــدت فــي قــصــة (شــجــيــرات العتمة لك بكراهية؛ فيغادر البلدة إلى أرض اهلل الواسعة ودون هدف محدد. الصفراء) صفحة :177 (فــي الليل أغمض عيني وأتسلى بنسج الحكايات التي لم تحدث ،وأستحضر بعض الــوجــوه القديمة ،وتستغرقني اختالطات الحلم :أضيع قليال في الدهاليز القديمة للذاكرة ،وأبتعد مخافة من الكابوس ،ألهو بتتبع نبضي.)...
30
الصحراء والغبار وكل شيء يرفضه ،غير أن المفارقة أنه في الفندق يختارون له غرفة مطلة على صحراء شاسعة وغبار ،فتبدأ عندئذ الكوابيس لدى بطل القصة ،كوابيس باعثها األول بشاعات الواقع ،تقول القصة: (اكتشف مطر عبدالرحمن أنــه وحيد في فندق الزهرة المتأللئة ،فاجتاحه شعور بالفزع ،كاد معه أن يطلب جنديا لحراسته من جهامة الصحراء القابعة وراء النافذة، وبدأ هذا الشعور يتسرب إلى األشياء صارت أواني الشاي مثل الحيوانات صغيرة وخائفة) ص.30:
ثم يقول (دخلت إلى دار كبيرة فيها رجال كثيرون خائفون ،لم أنظر إليهم ،وهم ما نظروا إليّ ،كنا في وقت هو مزيج من الليل والنهار، بياض رمادي وعتمة صفراء .ونحن واقفون على سجاجيد حمراء زاهية كنا نستمع إلى أصوات تأتي من غرفة جانبية لها باب قديم من الخشب ،يعلو بين حين وحين صوت كأنه وحين يعود من السفر الطويل ،ينزل مطر صوت دم ينقط ،وبعض غرغرة ميت ،الذي عبدالرحمن من الطائرة ،لكنه لم ير أحدا بجواري يلكز الذي بجواره :ما هذا الصوت؟) يعرفه ،ولكنه اكتفى بــأ ْن حَ يَّا نفسه تحية القصة نفسها صفحة :181 الــصــبــاح ،وحــيــن وصــل البيت ،كــان هناك (ويــمــضــي الــعــشــاء فيكون الليل المترع تحيات كثيرة ذكرته بعشب البر الرمادي، العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
وقــال لنفسه :إن أمــي تحبني أكثر عندما أكون وحيدا (ص)36 : وال تبدو تلك األح ــام والكوابيس في قصص جاراهلل الحميد منفصلة عن الواقع، بل تكاد تكون مشاهد معاشة أو متخيلة منه، إذ يصعب في بعض األحيان التفريق بينها وبين ما قد يحدث في الواقع ،تولد األحالم والكوابيس نتيجة مصاعب الــواقــع وتعدد تحدياته ،فتهرب النفس المعذبة للحلم إليجاد واقع مواز أقل وحشة من المعاش، غير أن تلك النفس تصطدم بما هو أشد وأقسى (الكوابيس). القصة القصيدة
بيت السرد للقصة القصيرة يكرم الكاتب جاراهلل الحميد بنشر كتاب يتضمن نصوص وشهادات
استطاعت قصص جاراهلل أن تجمع بين الشعر والــقــصــة؛ ألن طبيعة الموضوعات الشعر العربي األسود الــتــي تــعــالــجــهــا قــصــصــه ه ــي مــوضــوعــات الطفولة التي تقافزت بين خطوط وجهك مرتبطة بأعماق النفس اإلنسانية ،تتمحور حول العالقة بالمرأة ،أو بغربته وعذاباته، فــي الصباح عرفت أنني لــم أعــد أتذكر وان ــك ــس ــارات ــه ،ووحـــدتـــه ،وق ــس ــوة الــظــرف وجهك الحياتي وغير ذلــك ،وكل هذه الموضوعات مساء هي موضوعات بطبيعتها هشة وال تستطيع مقاومة اللغة الشعرية ،والدليل على ذلك كنا وحيدين أننا عندما نقرأ بعض المقاطع التي أراد لها أنت وحيدة جــاراهلل أن تكون مقاطع قصصية -عندما وأنا وحيد نقرأها -نجد أنها مشرّبة بالشاعرية من ناحية اللغة ،ومن ناحية الفكرة ،ومن ناحية رائــحــة البحر تأتي مــن بعيد وتمأل جو ما تتركه في أثر على القارئ. الغرفة ومن هذه األمثلة: تضحكين كأنما تبكين أصدق البكاء قصة أغنيات لفائزة في الصحو والنوم صفحة:80
لماذا أنت جميلة إلى هذا الحد..؟
كما يتجلى ذلك في قصة أسفار صفحة أنا يا فائزة لم أعد أتذكر وجهك ،البارحة :189 أعــطــيــتــك شــكــا وأحــبــبــتــك فــيــه ،تــذكــرت الساعدين الخاليين من الغوايش هل كنت عصفور نفسك؟ العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
31
البس جناحيك الرمليين الصغيرين.. هل تحاول باستمرار القفز فوق الحيطانأم ال؟ اســنــد رأس ــك إلــى مقاعد المتعبين في المطارات.. هل أنت مصاب بعدوى االحتقار؟تلك المقاعد الليلية تعرف الفقراء العائدين -هل تستطيع تفسير األحالم؟ وتحنو عليهم. وهل تعتقد أن هذا يسمى تفسيرًا؟ضع في حقيبتك الكتب واألدوية يا اهلل ..ما هذه البلوى؟وامض من مكان إلى مكان أريد أن أفهم ..كيف؟حاول أن تمسك ما تفسير ذلك يا سيدي؟آه هل تعرف تأثير الفيتامينات البائية مثلي؟أستفار.
األسئلة في تجربة جاراهلل الحميد
-القطط ..كيف مسألة التناسل؟
وهــكــذا ،فإننا نــاحــظ ج ــاراهلل الحميد ظاهرة تكرار األسئلة في قصص جاراهلل يتفنن فــي أساليب االستفهام؛ فقد أورده الحميد ظاهرة تستحق التوقف عندها: وجدت في قصصه عشرات األسئلة التي إنكاريًا ،وتوبيخيًا ،وتهكميًا ،وتنبيهيًا ،وتعجبيًا، تبحث عن إجاباتها ،ويبدو أن جاراهلل الحميد وكل ذلك قد يأتي في قصة واحدة. حتى هذه اللحظة لم يأته جواب على أسئلته. خــتــامـاً ،هــنــاك مــحــاور كثيرة فــي تجربة -
هل تحب البحر أو تكره البحر؟ جــاراهلل الحميد القصصية ،حَ رِ يّة بتدبرها والوقوف على أجزائها المتشعبة ،وهي تحتاج هل تنسى باستمرار؟ إلــى دراســات معمقة ووافية ورصينة ،مثل: هل أنت مصاب بالعمى الليلي؟ القصة القصيرة جداً في أدب جاراهلل الحميد، هل تستعمل زيت كبد الحوت؟ وظــاهــرة التقطيع السينمائي والمسرحي، وأنت ماذا يعنيك من هذا؟ وصورة المرأة وتجلياتها في قصصه ،وظاهرة مــا عالقتك بالطبيب والــبــائــع وصاحب الــمــطــارات واألســفــار ،وغــيــرهــا الكثير من التاكسي؟ القضايا والموضوعات الالفتة في تجربته هل أنــت مريض فعال أم تدعي المرض القصصية الغنية بمضامينها اإلنسانية حين تنام صباحا؟ والزاخرة باإلبداع والتميز ،وما هذه الورقة هل تسكن في بيت أم في جحر وأيهما إال محاولة أولى وعجلى وال توفي حق تجربة تفضل؟ جاراهلل الحميد شيئاً من حقها.
* قاص وأكاديمي من األردن -جامعة حائل.
32
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
جاراهلل الحميد ..القصصية والشعرية ■ غازي خيران امللحم*
لكل حقبة أدبية كُ تّابها ،ولكل إبــداعٍ إنساني أعالمه ،وحين يطوف بنا الخيال في فن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية ،يتبادر إلى الذهن اسمُ ال يمكن أن يغيب عن الذاكرة ،أو التغاضي عنه في ميدان هذا اللون الحكواتي الزاهي الرحب.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
مطالعة في عوالم
ذلـكــم هــو الـقــاص والـشــاعــر الـمـفــوه« :ج ــاراهلل بــن يــوســف الحميد» ،الـمــولــود فــي حائل ردحــا من الوقت ،عندما لمس فيها ضالته في السعودية عام 1374ه ــ .الذي تنكب العزلة ً اإلبداع. ويعده الكثيرون واحداً من رواد القصة القصيرة على مستوى المملكة ،وله قصب السبق في هذا الخصوص السردي ،بدأه في سبعينيات القرن الميالدي الماضي ،وظلت تلك وجهته األدبــيــة ،الــتــي سلك مسلكها اإلبــداعــي ،رغــم حضوره األدبــي اآلخــر في ساحات ثقافية كثيرة ،تمثلت في إسهاماته في نشاطات نادي حائل األدبــي ،ثم عضوًا فــي أدب ــي المنطقة الشرقية ،إلــى جانب كتاباته في الشعر الحر والعمودي والمقالة الهادفة ،التي نشرها في العديد من كبريات الصحف السعودية والعربية ،مثل صحيفة الجزيرة ،وصحيفة عكاظ ،والقبس الكويتية، وغيرها من الدوريات والمجالت العربية.
مسيرة الحميد القصصية
قدر لهذا األديــب ،خالل مسيرته الثقافية المتعددة المشارب والمكتنزة بالفعاليات ،أن ينتج عددًا ال بأس به من المجموعات القصصية، ذات السوية الجيدة من اإلبداع والخصوصية، المتمثلة بالرحيل والغربة الدائبة تارة ،والعزلة الموحشة تارة أخرى ،والمفارقات االجتماعية التي ال حصر لها ،استلهم شخوصها وأحداثها من وحــي الخيال وواقــع الحياة ،استهلها في العام 1980م .بمجموعته األولــى التي جاءت تحت عنوان« :أحزان عشبة برية» ،ازدحم فيها األفق بسحاب يأبى التالشي قبل أن يتمكن من غسيل أحزان تلك العشبة ،قارب في أحداثها الكثير من قضايا مجتمعة ،الــذي يعد نسخة من المجتمع العربي ككل ،للتشابه في بيئاته كما أحيا الحميد العديد من األمسيات على اختالفاتها ،واهتماماته الحياتية المتماثلة الشعرية والقصصية ،التي القت استحسانًا تقريبًا ،من خالل بطل القصة األبــرز ،عندما جــيـدًا مــن قبل جمهوره المتابع ،والكتاب حاول أن يكتشف حقيقة الواقع الذي يعيشه، عبر تفسيره لحلم كــان قــد رآه ،أو تخيله، والنقاد على حد سواء. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
33
بــأنــه امــســك عشبة بــريــة أســطــوريــة األل ــوان، لكنه مــا إن جلس بمحاذاتها يتأملها ،حتى فوجئ بجمل ضخم منتفخ األوداج يهوي إليها بقدمه الضخمة ،ويدوسها بقوة لسحقها ،لكن المفاجئة إن تلك العشبة ظلت منتصبة القوام، وبعد ذاك العام بحولين تقريبًا ،وتحديدًا وتصر بعناد على البقاء ،وترفض االنحناء على في سنة 2000م .أضاف الحميد إلى أعماله الرغم من الوجع الذي بدأ ينتابها! السابقة مجموعته األخيرة التي دوَّنها بعنوان: ولم ينتظر الحميد طويال ،بل ما أسرع ما «ظــال الــرجــال الهاربين» ،وقــد احتوت هذه اتبع تلك المجموعة بمجموعة ثانية ،جاءت األضمومة القصصية على تسعة قصص ،منها تحت عنوان« :وجوه كثيرة أولها مريم» ،صدرت على سبيل المثال ،أقصوصة« :خماسية األيام في العام 1984م .وبطل هذه القصة هو« :مطر» األربعة» ،ومكانها في مستشفى يعالج به أحد البدوي الهارب من مفازة الصحراء ،التي لم المرضى من داء عضال ،وعندما جاء قريبه تعد بنظره ذيّاك البريق الفطري الذي اعتاده ،لزيارته واالستفسار عن حاله ،أجابته إحدى فيلجأ إلى المدينة لعله يجد فيها ضالته عبر الممرضات بنبرة متوترة حانقة ،ال تخلو من تلك الربوع التي تخيلها األكثر تطورًا ،فيستأنس الكلمات المقززة ،التي لم يستطع تمريرها أو هضمها ،فما كان منه إال مغادرة المشفى على ويخفف شيئا من هواجسه النفسية ،التي باتت عجل ،كي ال ينزلق لسانه بعبارات غير الئقة، تنتابه بين الفينة واألخرى ،فيأخذ بالتنقل من ليس هــذا زمانها وال مكانها ،واخــذ يتمشى مكان إلى آخر ،سائرًا عبر الحارات والشوارع في البهو الخارجي للمشفى ،وقد أخرج لتوّه المكتظة بالناس والسيارات والمتاجر ،فيصم سيجارة يود إشعالها عندما فوجئ بالممرضة أذنيه صخب المدينة المتعدد المصادر ،لكنه ذاتــهــا ،تقبل عليه وتأخذ في تعنيفه مجددًا بعد كل هذا العناء ،لم يفلح بالعثور على بغيته وتنهره قائلة :أال تعي يا هذا أن التدخين هنا المنشودة في اكتساب الراحة التي كان يأملها، ممنوع؟! عندما يكتشف أن كل الــوجــوه متشابهة وأن فــي ه ــذه الــلــحــظــة ،تــفــاقــم لــديــه الشعور اختلف لون سحنتها. باإلحباط والمهانة ،ومــا كــان منه إال التوجه ثــم تــجــيء مجموعته الثالثة ،الــتــي كتبها ناحية الــبــوابــة الخارجية للمشفى ،ومضى الحميد في العام 1998م .وهي ال تقل جودة عن مهروال ال يلوي على شــيء ،وكــأن احــد ذئاب عمليه السابقين ،ودوّنها تحت عنوان« :رائحة الصحراء يطارده. ال ــم ــدن» ،الــتــي تكشف أحــداثــهــا عــن عالقة األعمال الكاملة لجاراهلل الحميد اإلنسان القروي ابن الريف ،بأقرانه من سكان المدن والحاضرة ،والمفارقات التي حصلت نــظــرا ألهــمــيــة تــلــك األع ــم ــال القصصية معه نتيجة االختالفات الشاسعة في األعراف وتميزها ،وتقديرًا لجهد الكاتب ،بادر «النادي والــعــادات الريفية ،الــتــي فطر عليها ،وبين األدبــي» في حائل إلى جمع األعمال الكاملة المجتمع المدني الذي هو بصدده .وقد احتوت لألديب الحميد ،وأصدرها في كتاب من القطع هذه المجموعة على العديد من األقاصيص المتفردة في أحداثها وحواراتها وشخوصها، مثل :أقصوصة «بنت الجيران»« ،ورق الخبيز»، و«مانقو» و«المسجد والالعب» ،وغيرها.
34
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
(تــعــد القصة القصيرة بالنسبة لــي ،من أصعب الفنون كتابة ،ألنــه فــي داخــل العمل تكتيكات متعددة بحاجة إلى تروّي وتمحيص، وكــونــي تــأثــرت بالسينما وبــريــقــهــا وطريقة معالجتها لــأحــداث ،جــاءت معظم قصصي تشبه مشاريع فيلمية) .ويضيف الحميد (إنني إنسان أحب السالم والعدالة والوطن والناس، وهذه هي مؤهالتي ال غير ،وعلى هذا النسق كانت معظم أعمالي).
وفي تلك األمسية المشهودة ،ما كاد الحميد يلقي أولى قصائده على مسامع الحضور ،حتى أخذتهم النشوة ومقاطعة الشاعر عدة مرات بالتصفيق والهتاف الحار ،السيما عندما بدأ بإنشاد أبيات من قصيدة بعنوان« :جــاراهلل
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
المتوسط بلغ مجموع صفحاته ( )196صفحة .معددًا مزاياه من خالل المعنى والمبنى اللتين كتب الحميد نفسه مقدمته التي استهلها بقوله :اتكأ عليهما األديب في مجمل أعماله تنوعها.
كما ورد على الغالف األخير للكتاب كلمة للناقد الدكتور« :محمد صالح الشنطي» ،جاء فيها إن جــاراهلل الحميد ،في قصصه يعمد إلى التشكيل التجريدي الرمزي ،الــذي يعبر عــن إحــســاس الــكــاتــب بالغربة المتمثلة في الرحيل الدائب تــارة ،والعزلة الموحشة تارة أخرى ،والتوحد مع الكائنات األخرى ومكابدتها وانبعاثها من بين شدقي الرحى ،حيث المنهج اإليقاعي المفعم بالتداعيات ،المترعة بالصور الموحية ،وتعدد طرق الحكاية ولغتها التراكمية، التي تــزدحــم بالجمل المليئة باالفتراضات واالستقصاء والتقاط التفاصيل. الحميد الشاعر أقيم فــي الــنــادي األدب ــي بحائل ،األمسية الشعرية الثالثة للشاعر والقاص الحميد ،والتي كان قبلها بفترة من الزمن ،قد أحيا أمسيتين شعريتين ،في كل من اإلحساء ،وعلى مدرج نادي التعاون الرياضي بالقصيم .لتأتي هذه األمسية بمثابة الثالثة في مسيرته الشعرية ،وقد بدأ الحفل الذي كان عريفه اإلعالمي السعودي: «خضر الشريهي» بتعريف واستعراض لمسيرة الحميد اإلبداعية في مجالي القصة والشعر،
منظر طبيعي من حائل
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
35
الحميد يرثي نفسه» ،ومطلعها: ثم يتابع: ليوم هذا موطني، يا صاحبي رحلي دنا الموت فاصمتا وكـ ـف ــا م ــن الـ ـل ــوم الـ ـ ــذي لـمـتـمــانـيــا لم أبق رهن حروب عصر موغل تحت الزمن اليوم لنا وطن.. وإن ك ــان فــي ال ـمــوت ال ـخــاص فإنه وفي قصيدة أخرى ،كان قد أهداها لألديبة لـنـعــم الـ ــذي م ــا خ ــاف م ـمــن يــاقـيــا الكويتية سعدية مفرح ،بمناسبة فوزها بإحدى أكـ ـ ـ ــان عـ ـل ــى درب ـ ـ ـ ــي ،ودرب ـ ـ ـ ــي وعـ ـ ــورة الجوائز العالمية ،ممثلة لدولة الكويت في وش ــوك مــن الـقـهــر اب ـتــدا ،والتهابيا خريطة الشعر العالمي .ومنها هذه األبيات:
يـ ــا ص ــاحـ ـب ــي ال ـ ـمـ ــوغـ ــات بــرف ـق ـتــي ألـ ــم تـخـشـيــا م ــن أن ت ـكــونــا مـكــانـيــا ثم يستطرد قائالً:
وقـ ـ ـ ـ ــوال ألهـ ـ ـل ـ ــي إنـ ـ ـ ــه مـ ـ ـ ــات م ـب ـع ــدا لكي ال يظنوا ميتتي كاحتجاجيا خـ ــذانـ ــي فـ ـج ــران ــي ب ـث ــوب ــي إل ـي ـك ـمــا وقــد كنت قبل الـيــوم أصـعــب قياديا وللحميد قصائد نثرية ال تقل جــودة عن شعره العمودي ،الذي يوصف بشعر التفعيلة، ومــن تلك مقطوعته« :وبالنجم هم يهتدون»، التي ألقاها في حفل جمعية الثقافة والفنون، بمناسبة اليوم الوطني ،وتكريمه ضمن الرواد بمنطقة حائل ،جاء فيها:
هو اآلن لك بجانبه قد جلست يؤجج وجنتيك اختالج التردد وارتعش الليل شيئا قليال أسيلقي عليك كالما ثقيال؟ أم ترى اخترت أيسر صدري لتسمع الكالم ألن الكالم جميل وأنت الذي قد جعلت الكالم جميال؟ مثلما شاء لك أيها الموغل في الصبوات الحسان استدرك إليك رأى شعرك المستريح وراود عينيك ،لكن ما استطاع إليك سبيال..
وطن عال ..ثم استهل هذه جملة مطالعات مقتضبة في أدبيات مطرا لذاكرة الزمن الشاعر والقاص السعودي جــاراهلل الحميد، فجباله سود غرابيب طوال عرجت على بعضها فقطفت من كل حديقة كانت تقيم هنا باقة ،ومن كل بستان سلة ،كمؤلفاته القصصية منذ زمن والشعرية الملونة بأطياف إنسانية ،التي وجدت من عهد عاد فحواها واضح االلتصاق بالحاالت االجتماعية ينهض عبد العزيز سالحه ،رب وملب ،نظرة في محيطة البيئي ،ومفارقات الحياة وتقلباتها، قصوى ،حلما ذات العماد قدمها الكاتب لقرائه ومتابعيه بلغة سلسة لكنه زمن له وقف الزمن.. مشوقة في أكثر وجوهها اإلبداعية. * كاتب وباحث من سوريا مقيم في السعودية.
36
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
في تجربة الفنانة التشكيلية السعودية "غدير حافظ"
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ٌ ٌ معذبة وأطياف وجوه ٌ
■ إبراهيم احلجري*
مــا يلفت المتتبع للمشهد التشكيلي الـسـعــودي ،نقديا وجـمــالـيــا ،هــو تنوّع التيارات ،واالتجاهات ،والـمــدارس الفنية ،من جهة ،واإلقـبــال المنتج والمتميز للمرأة السعودية على مجال الفن البصري بكافة تلويناته ،وتجلياته؛ مستفيدة من الحركية العالمية في هذا المجال ،ومن اتساع خيالها وقدرتها على االبتكار والتخيل ،واإلبداع من جهة ثانية؛ وهذا ،ما جعل الغنى والثراء عنوانين بارزين في كل التجارب التشكيلية السعودية ،سواء تلك التي تنشط في الداخل ،أو تلك التي بلغ صداها خارج الحدود ،ويكفي أن نشير -على سبيل المثال ال الحصر- إلى تجربة الفنانة غدير حافظ. وقــد سبق أن أشــرت ،في غير هذا الــمــقــام ،إلــى تميز الــمــرأة السعودية عــربــيــا ،عــلــى مــســتــوى األدب والــفــن، وتفردها بلمسة خــاصــة ،تبعدها عن النمطية ،والرتابة ،وتكرر الموضوعات، والثيمات ،واألساليب ،واألشكال؛ ولعلي لن أجازف إذا قلت إن الصوت النسوي السعودي األكــثــر ج ــراءة على اجتراح بعض القضايا اإلنسانية ،وتناول بعض المعاني ،وسبر بعض األغــوار النفسية الدفينة التي ظلت ،مهملة ،ومهمشة، ومحاطة بكثير من االلتباس ،والغموض، والضبابية.
تهدف التجربة الفنية ،لدى التشكيلية السعودية غدير حافظ((( ،إلى إبراز هذه القضية ،والدفاع عنها بشكل ضمني، من خالل إبالغ صوت المرأة السعودية إلــى الــعــالــم ،واالرتــقــاء ببوحها الفني صــوب األعــالــي ،من خــال مشاركاتها الخارجية ،وإسهاماتها العالمية؛ بوصفها ممثلة للمشهد السعودي التشكيلي في عدد من التظاهرات العالمية الوازنة. تقول في إحــدى حواراتها عن المرأة: «الــمــرأة هي العنصر الجميل والفعال في الحياة ،مع عدم إنكار مكانة الرجل ودوره في الحياة ،ولكن لديّ قناعة بأن العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
37
المرأة تمثل ثالثة أرباع الحياة ،بينما للرجل الربع الباقي(((». مــن هنا ،جــاء اهتمامي بصوت الفنانة التشكيلية غدير حافظ ،التي ذاع صيتها خارج المملكة ،بفعل اجتهادها في مداعبة الفرشاة ،وافتضاض بياض القماش ،وطرْق المستغلقات من ال ـدّوالّ ،والمعاني الخبيئة في داخل اإلنسان العربي خاصة ،والكوني بشكل أعم؛ ففضال عن تنويعها على مستوى ال ــح ــوام ــل ،وال ــم ــوض ــوع ــات ،واألســالــيــب، واختراقها جوانية اإلنسان ،وتجاوزها الشكل الــخــارجــي ،عــابــرة نحو األلـ ــوان المعتمة، واألطياف المتماوجة ،والظالل ،واألشباح، والكائنات الالمرئية ،والصور المشوشة فيه، وكأنها تتطلع إلى القبض على أوهامه ،وبقايا أحالمه ،ونثار حطامه ،وأنقاضه ،وهي تجربة
صعبة لن تتأتى إال لفنان متمرّس ،خبير، ومجرب ،يعرف كيف يرهن اللحظة ،ويعكس ظاللها الهاربة على الحوامل المتنوعة ،حتى يجد فيها المشاهد ،والمتتبع بعضا من صداه ،وذاكرة خيباته ،ومطامحه المتكسرة، ولم ال بعض مسراته ،وسعادته المؤقتة. ولــتــؤســس أســلــوبــهــا ال ــخ ــاص ،تستند الفنانة حافظ غدير ،ابنة المدينة المنورة ذات التكوين األكاديمي في مجال الفنون البصرية ،إلــى كــل الــتــيــارات ،واالتجاهات والمدارس ،تاركة لموهبتها متسعا للرفد من كل هذه المرجعيات ،كلما ألحت عليها فكرة ما ،أو راودها خيال ،أو هيّجها مخاض حدس فني ،فهي ال تفرض األسلوب على الفكرة أو الــتــصــور ،بــل تــتــرك لألخيرين (الفكرة والتصور) أفق اختيار األسلوب ،ليكون العمل منسجما ومرجعيته ،متساوقا وفلسفته الخاصة المنبثق عنها ،تقول غدير عن هذا المعطى التأسيسي" :جميع المدارس الفنية تستهويني ،وربما ال أحب أن أفضل نوعً ا على اآلخر؛ ألن لكل منها طريقته في التعبير ،ولكن أكثر المدارس التي استخدمتها في لوحاتي كانت المدرسة التعبيرية الرمزية وأسلوب الفنتازيا ،لكنني ال أفرض مدرسة تشكيلية مــحــددة على المتدربين عندي بالمرسم، لعدم حصرهم في قالب تشكيلي ،كما أهدف إلى تعزيز االحتكاك بين المشاركين ،بغرض تنمية الروح الفنية بينهم»(((. .1وجوه وأطياف مشوهة:
لحظة تفاعل الفنانة غدير مع عالمها الفني
38
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
تتمثل الفنانة غدير حافظ العالم ،من
من معرض جدة بالمملكة العربية السعودية
وتــكــاد تكون مــيــزات الــتــحــول ،والمسخ، والــتــشــوه ،خصائص فاصلة فــي تجربتها التمثيلية للكون الجمالي والداللي ،إذ يقوم مبدأها فــي الــرســم على الــظــل ،والبقايا، والــصــورة األولــيــة الباهتة (négatives des ،)photosوانعكاس الخراب ،وتمثيل البعد الخلفي للفرد المنكسر ،مــص ـوّرة بذلك، نفسيته المنهارة ،وأحالمه المجهضة ،وروحه المتهدمة أم ــام مــا يــجــري مــن انتكاسات للبشرية ،يقودها اإلنسان بنفسه ،متشبثا العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
خالل تعبيرات رمزية ،أغلبها عبارة عن وجوه مشوّهة ،ومــســوخ بشرية ،فقدت طبيعتها األول ــى ،وصــارت إلــى ما صــارت إليه بفعل فاعل رمزي أو مــادي ،وكــأنّ الفنانة تُقاسم هــذا اإلنــســان المنكسر الــذي لم يتبق منه ســوى شظايا همومه ،وأحــزانــه ،عذاباته، وتوصل ،في آن معا ،صوته المشروخ لألخر، وتــوري البشر صــور الشر المستفحل ،وما تركه من خراب على البشرية جمعاء .ولعلها بتلك الــوجــوه البشعة التي تشبه الزومبي واألشباح العائدة من القبور ،تعكس ما سببه اإلنسان ألخيه اإلنسان من فظاعات ،صار بفعلها البشر مسخا مخيفا ،وظــل صــوراً من معرض ألبانيا كوسوفو متقابلة للعناء الفردي والجماعي في ظل هيمنة القيم الممسوخة التي قضت على أصابه من تصدعات ،كما عملت على رصد النبل ،والنقاء ،والصفاء ،والتكافل ،والتعاون ،ثورة اإلنسان ضد الظلم ،وراحت تحكي عن أحالم الشباب ،مجسّ دة األمل واأللم والمرح، والمحبة. لــقــد تــفــاعــلــت الــفــنــانــة م ــع الــقــضــايــا خاصة في معرضها الذي أقيم بجدة تحت المستجدة عربيا ،ودوليا ،وسعت لوحاتها عنوان "مجموعة إنسان ٢٠١١م" ألنها مررت إلــى عكس صــور الحراك االجتماعي ،وما رســائــل جمعت كــل األبــعــاد اإلنــســانــيــة في الحراك االجتماعي(((.
39
صور من معرضها باألوبرا المصرية
في الغالب ،إلــى رصــد مالمح الخراب في الوجوه ،دون أن تميز وجه المرأة عن الرجل، إذ يرد الوجهان معا ،في لوحاتها ،مع حفظ الــفــوارق بينهما ،متكئين على بعضهما ،أو مستندين على الفراغ ،أو مائلين بال سند، أو غــارقــيــن فــي ســديــم هــاويــة مــن ظــام، مذهولين بالمتاهة التي وجدا نفسيهما فيها، للداللة على أن اإلنسان يعاني من الخيبات، ويتحمل عــواقــب االنــهــيــارات الــرمــزيــة ،في شموليته ،أنثى وذكــرا ،فــردًا ومجتمعا ،في كل الجغرافيات ،ومهما كانت هويته .لذاك كان نزوعها نحو التوجه الفنتازي في التعبير البصري عن مكنوناتها الشعورية ،ومكنونات كائناتها الشبحية ،وأرواحها المعذبة ناجحً ا، وفــعــاالً .تقول غدير عــن استلهامها لتلك الوجوه المقنّعة بااللتباس« :تقيدنا ظروف الحياة أحياناً وتجعلنا نرتدي بعض األقنعة لنخفي مالمح شخصياتنا .حينها نضطر إلى العيش في عالم الخيال .لربما نجد أنفسنا هناك نحلم بالعيش كسوبرمان»(((.
بعنجهيته ،وأنــانــيــتــه ،ومــضــح ـ ًيــا بــتــاريــخ حضارته ،ورصــيــده القيمي ،وكأنها تقول عبر لوحاتها المنجزة ،وتلك التي لم تنجز بعد ،ها ما تبقى منا ،ها رفاتنا المنسي ،وها صورتنا الحقيقية التي ال نريد أن نراها، ونتهرب منها ،تقول ذلك ،بكل أسى ،وحسرة، وهــي تــرى معايير الجمال ،وقيم الصالح، ومكتسبات الفطرة السليمة تنهار أمام أعين الــنــاس ،ف ــرادى وجــمــاعــات .تــقــول الفنانة غدير« :هذا الخيال المسيطر على لوحاتي تبدو الفنانة مسكونة بوجوه اآلخرين، سمّيته "سوبرمان" إنه الخيال الملهم للعمل مثلما هي مسكونة بأحالمهم ،ومعاناتهم، ككل ،وبعد انتهاء معرض القاهرة سيحمل فالصور تلك ،تلح عليها مسبقا ،وتستقر المعرض صورة "سوبرمان" وينتقل بها إلى ((( إحدى دول العالم».
40
وقــد ركــزت غدير كثيرا فــي إب ــراز هذه األبــعــاد الــداللــيــة ،مــن خــال تبئير الوجوه اإلنسانية دون غيرها مــن باقي الجسد؛ ألن الوجه هو ما يبين خصوصية اإلنسان، وجوهره ،وهويته ،بل هو ما يميزه عن باقي المخلوقات التي تمأل الكون ،كما أنها سعت، العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
معرض شتات بين الحقيقة والخيال بالمدينة المنورة سنة ٢٠١٩م
.2الثنائية والتعددية والصور الماسخة:
من معرض مجموعة إنسان بجدة سنة ٢٠١٥م
في مخيلتها ،لزمن قد يطول ،قبل أن يتحول إلى كائن بصري متجسد ،تنصهر الكائنات في أعماقها اإلنسانية ،بأسئلتها العويصة، وحاجاتها الغامضة ،وشكاويها المقموعة، ورغباتها المكبوتة ،ثم تتحول ،عبر إيقاع بطيء ،وفق سيرورة نفسية يحكمها منطق التشكل اإلبداعي ،وبعدها تخرج إلى العلن، في شكل عوالم بصرية تشبهها ،من حيث التشوّه ،والعناء ،والتشظي ،والنكوص ،بلمسة ال تخلو من الغرائبية ،واإلدهــاش ،والتعبير الــرمــزي الكثيف اإلي ــح ــاءات ،واإلحـ ــاالت، والدالالت السياسية ،واالجتماعية ،والنفسية باألساس .وتبدو الفنانة واعية بهذا المسار التوليدي لكائنات لوحاتها ،وعوالمها الفنية، من خــال تصريحها في إحــدى حواراتها: «يهمني إيصال قضية إلــى اإلنــســان ،كيف يستطيع أن يعيش مع خياله ،أو يحتفظ به مع نفسه ،والمعرض يتيح تلك الفرصة ،وكنت انتظر اكتمال الفكرة في داخلي منذ ست
يثير المتفاع َل مع لوحات الفنانة غدير حافظ ،خاصيتا المسخ ،والتشوّه التي تحفل بهما تجربتها ،خاصة في معرضها «مجموعة إنسان 2011م»؛ إذ تبرز وجوه وأطياف بال مالمح ،وال خصوصيات ،وال هويات ،وكأنها مسوخ خارجة من رفات الدهر ،ال تحمل أية عالمة لإلنسانية. مــعــارضــهــا الــمــتــنــاثــرة لــغــة بــصــريــة غير معلنة تجسدها الــجــمــال فــي ذل ــك األفــق غير المتناهي من النفس اإلنسانية ،فلكل لوحة قصة وحوار ،حتى إنه يخيل للمشاهد أن اللوحة إحــدى شخصيات هــذه القصة الغرائبية التي تختفي معها مالمح البشر، وال يكاد يلفي فيها حتى ملمح البدائية :فهي انعكاس لفرط غياب القيم ،واضمحاللها، وامــتــهــان كــرامــة اإلن ــس ــان ،بفعل سيطرة الماديات ،وغلبة الشهوات ،وهيمنة القيم االستهالكية ،وطغيان الصراعات الواهية حــول المنافع البرغماتية ،وكــذا الحروب الدامية التي ترهق كاهل الحضارة اإلنسانية، وتقتل األبــريــاء ،والمدنيين بــدون أسباب وجيهة ،صراعات تتأسس ،في عمقها ،على أساس أغراض إيديولوجية ضيقة لن تقدم لإلنسان ،وتاريخ حضارته شيئا يذكر ،بل ستعود به مسافات ضوئية نحو الوراء. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
سنوات ،وبعد القاهرة أنظّ م المعرض في أماكن أخرى عدة ،وهو الخامس في سلسلة معارضي»(((.
41
من معرض جدة بالمملكة العربية السعودية -مجموعة إنسان
تعتمد الفنانة على مدركها السيكولوجي لتفسير الــدواخــل اإلنسانية ،وتسعى ،في الــوقــت ذاتــــه ،إل ــى رص ــده ــا ،انــبــثــاقــا عن حساسيتها المفرطة تجاه القضايا اإلنسانية التي تتفاعل معها ،سواء بشكل مباشر ،أو من خــال وسائل اإلع ــام ،خاصة في ظل الــظــروف العصيبة التي يمر بها عــدد من البلدان العربية ،وفــي سياق دولــي متوتر، ومتسارع الخطوات نحو بؤر الصراع ،وغلبة منطق الهيمنة ،فهي تشيد مشروعها الفني عــلــى خلفيات فلسفية تعكس انــفــعــاالت،
42
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
وأحاسيس ،وأفــكــار ،وتــصــورات ،ومشاعر، وتــمــثــيــات لــلــعــالــم ،واإلنـــســـان ،والــــذات، ترصدها فــي شكل تعابير نفسية تبرزها خشونة الخطوط ،وسالسة اإليقاع الموسيقى البصري(((. وفضال عن ذلك ،فهي ترسم لتُبلّغ المتلقي رسالتها الفنية ،التي ال تخلو من تنبيه للمآزق والتحديات المطوقة لإلنسان العربي ،بصفة خاصة ،واإلنسان العالمي بشكل أعم ،وذلك، من خالل تربيتها للذوق والرؤية البصرية من جهة ،ومن خالل تكويناتها ،وتدريباتها
تستعير الــفــنــانــة غــديــر مــكــون األخيلة والحدوس والتهيئات والتوهمات القهرية؛ لتجسد حرقة اإلنــســان العربي المعاصر، بفعل الــنــكــســات الــمــتــتــالــيــة ،فــوجــدت في الخياالت والتعبيرات الفنتازية خير موجه لها ،ومعين لها في رســم العمق اإلنساني الخائب ،والجريح ،والمتعفن بالخسارات، لذلك ،يبدو ،في مشهده البراني ،ملمحً ا
ولعل هــذا ينسجم مع األسلوب العملي الــذي تشتغل وفقه الفنانة ،بحيث إنها ال تحدد موضوعاتها بشكل مسبق لتهيئها على طول فترة زمنية محددة ،بل تترك السياق يلهمها ،ويمدها باألفكار التي تُــخـزّن في الذاكرة والمخيلة ،لتصير ،مع مرور الزمان، منظور ٍ عوالم طــازجــة ،قابلة للتجسد من فني ،غير أنها حينما تتجلى ،قد توحي ببنات أفكار أ ُخَ ر ،وتلوينات مغايرة أو شبيهة ،ومن هنا ،تتأسس نــواة معرض ما ،أو مجموعة من اللوحات المنتمية إلى الثيمة نفسها ،أو
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
للصغار والكبار والنساء ،مؤكدة على نبل رســالــة الــفــن ،وأهميته فــي تغيير العالم واإلنــســان معًا نحو األفــضــل ،ونحو ضمان الكثير مــن قيم الــكــرامــة والــحــب والــرقــي، بدل المشاحنات ،والصراعات ،والحروب، والعدوان ،والظلم ..تلك المواصفات التي ال تليق بإنسان را َك َم حضارة عبر قرون .تقول غدير حافظ« :لكل إنسان هدف يسعى إلى تحقيقه في الحياة ،وذلك من خالل مقدرته أو موهبة حباه بها اهلل .وبالنسبة لي فقد وهبني اهلل الحس الفني الــذي أت ــذوّق من خالله معاني الجمال واإلبداع ،ولهذا وضعت نــصــب عيني أه ــدافـ ـاً سعيت لتحقيقها، وأهمها نشر الوعي الثقافي الفني ،وإظهار مدى تأثيره في النفس البشرية ،وذلك من خالل الــدورات التي أنظّ مها للسيدات في مرسمي الخاص في المجاالت المختلفة، ألنني واثقة بأهمية الفنون بالنسبة للمرأة، ودورهــا في االرتقاء بذوقها الفني ،وجعلها متفائلة وتعيش في حالة رضا نفسي وتوافق مــع الـــذات ومــع اآلخـــر .فالفن التشكيلي يهذّب النفس البشرية ويرتقي بالمشاعر الروحانية»(((.
بــشــر ًيــا شــائــهــا ،متهلهل الــمــظــاهــر ،مبعثر القسمات ،منزوع الهوية الفيزيقية ،مذهوال من صدمات مــا ،مترنح األبعاد والسمات، تمامًا مثل بقايا جــثـ ٍـث مزقتها األسلحة، وفتتتها العفونة ،ونال منها الدمار.
من معرض شتات بين الحقيقة والخيال العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
43
الموضوعة ذاتها
(même thème
،)leتقول لوحاتي تأتي من مشاعر تــدور داخلي ،أو
الفنانة غدير عن هذه السيرورة اإلبداعية :من موقف م َّر بي ،أو قضية تشغلني ،وبال (أنا ال أبحث عن فكرة ألرسمها ،بل األفكار تخطيط تتبلور الفكرة وتتحرر على اللوحة هي من تأتي إليّ دون أن أخطط لها ،فأنا بمجرد أن أمسك فرشتي ،فتبدأ األفكار ال أرسم ألنني أريد أن أرسم ،بل أرسم ألن باالنهمار وكأنها زخات مطر ال تتوقف إال مشاعري هي َمــن تحرك ريشتي ،فأفكار بعد انتهاء العمل)(.((1 * ناقد وروائي من املغرب. ((( غديــر حافــظ فنانــة ســعوديةولــدت يف املدينــة املنــورة يف 1978م ،تخرجــت مــن كليــة التربيــة واالقتصــاد املنزلــي ،قســم تربيــة فنيــه عــام ٢٠٠٢م ،تخصــص خــزف ومعــادن .عملــت معيــدة يف اجلامعــة ،ومــن ثــم تركــت العمــل لتنشــئ معهد"إبــداع الغديــر للفنــون" اخلــاص بهــا لتدريــب الســيدات واألطفــال بجــدة عــام ٢٠٠٨م .مثلــت اململكــة كأول فنانــة تشــكيليه ســعودية يف كل مــن كوســوفو والبانيــا وبرشــتينا وجوســتيفار (صربيــا) ٢٠١٤م ،شــاركت يف ورشــة رســم يف ألبانيــا مدينــة تيرانــا لعــام٢٠١٥م ،ثــم يف ورشــة رســم كوســوفو يف مدينــه برشــينا لعــام ٢٠١٥م ،مثلمــا شــاركت يف مهرجــان مــورال فيســت يف مدينــة فــرزاي لعــام ٢٠١٦م ،وكذلــك يف ورشــة رســم يف مدينــة جوســتيفار كوســوفو لعــام ٢٠١٦م ،ومثلــت اململكــة كعضــو جلنــة حتكيــم ل ٢٨دولــه يف ملتقــى أوالدنــا الدولــي األول لــذوي القــدرات اخلاصــة ،يف مصــر .للمزيــد: http://artist-ghadeer-hafee.ahlamontada.net/t10-topic
((( التشــكيلية غديــر حافــظ ورســوماتها املبهــرة ،مقــال منشــور منــذ تاريــخ 20 :مــارس2016 ،م ،علــى موقــع رواد األعمــال:
https://www.rowadalaamal.com/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%
B4%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8
%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%BA%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8
(( ( ((( ((( (( ( ((( (((
املرجع السابق نفسه. املرجع السابق نفسه. محمــد الصــادق ،انظــر الرابــط الرقمــي ،املتاح للتصفــح ،منــذ2018-12-13 :مhttps://www.aljarida. : :com/ext/articles/print/1544624471150635200 املرجع السابق نفسه. املرجع السابق نفسه. محمد فتحي :التشــكيلية «غدير حافظ» ،لوحات دعوة للحق واخلير واجلمال 29 ،فبراير 2016م ،على موقــع املدائــنhttp://www.almadaen.com.sa/100079/%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%87 : %D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D9%85%D8%AA%D8%B9-%D8%A8%D8%B5%D8%A8%D8%BA%D8%A9%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8 /%A9
((( املرجع السابق نفسه. ( ((1حــوار مــع الفنانــة غديــر حافــظ ،أجــراه الصحفــي حمــد مصطفــى الغــر ،لفائــدة مجلــة اليمامــة ،متــاح للتصفــح منــذ2017/2/21م علــى الرابــطhttp://sites.alriyadh.com/alyamamah/article/1156161 :
44
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
الجبال اء ِ حكّ ُ
نح ً اال! اصا َ وصار ّ الذي كان قنّ ً ■ ليلى عبداهلل*
"نحن قناصون نعم .العادة تنادينا .الذاكرة تدفعنا إلى العودة إلى كل مكان عشنا فيه من قبل .األلفة والشقاء الــذي القيناه في بعض األيــام ،كلها أسباب تدفعنا لكي نستمر في رحالتنا ..فالوعل ينادينا ،هو ما يــزال هناك يهبط من المنحدرات ،ويشرب من غــدران الــوادي ،ويقف على حدود الجبال وعلى القمم، يستأنس بأصواتنا فيقترب". يمضي الــكــاتــب الــعــمــانــي زه ــران المبشرة التي تــتــراص فــي مناماتهم القاسمي فــي روايــتــه "الــقــنــاص" من اللذيذة. إصـــــدارات دار مسعى للنشر ،إلــى
إنه يغور في زمن كان القنص فيه مهنة ،يكسب القناص من ممارستها قوت أيامه ،يحمل تفق السكتون على كتفه وعدة الرحلة ،ليمضي أياما تصل ألسابيع بعيدا عن بيته وزوجته وأبنائه، في عزلة كاملة ليكسب رزقه.
في تراكضها ،إنها تماثل تلك األحالم
يسحب القاسمي ُقرّاءه إلى عوالمه
جلب ذكريات مضمّخة بالبيئة الجبلية العمانية ،حيث الطبيعة فــي أخشن تــجــلــيــاتــهــا وأصــلــبــهــا ،حــيــث صــعــود منحدرات عالية ،يتماهى معها أنفاس الصائدين خلف مطاردة وعول رشيقة
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
45
عبر ثــاثــة فــصــول ج ــاءت محملة بسيرة الــق ـ ّنــاص الــمــدعــو "صــالــح بــن شــيــخــان"، مستعرضا أطوار حياته التي قضاها جلهّا ً في القنص ،مذ كان صب ّيًا صغيرًا برفقة ا فــي أعتاب والـ ــده ..إلــى أن أصبح رجــ ً الستين من عمره ،مستخدمًا راو ًّيــا عليمًا حين تستدعي التفاصيل الحاضر ،وجالبًا ضمير المتكلم بتقنية الــمــونــولــوج حين يستغرق صالح بن شيخان استدعاء طفولته الشيقة في القنص مع والده وعمه سيف. في الفصل األول ،تبدأ الرواية بمقدمة شاعرية تظهر للقارئ الصورة البانورامية لــلــمــكــان ،مــكــان الــقــنــص ،هــو مــكــان حــيّ ونابض رغم أنه يستدعي سكونًا عميقًا، ألن الوعول تجفل من أخف األصوات ،رغم صخب الطبيعة غير أن القناص يتلو صالة اإلنصات في هيئة هذه المخلوقات .وهنا أتساءل :هل كانت هذه المقدمة ضرورية ليولج الكاتب قارئه إلى عالم القناص؟ كان يمكن لقارئه أن يقتحم عالم الرواية مباشرة من مقطع":من يرى أول مرة صالح بن شيخان ،هــذا الرجل الــذي سيدخل عامه الستين ،سوف يخصم من عمره مدة ال تقل عن عشرين سنة ،ذلك ألن بنيته الجسدية ما تزال سليمة وقوية ،تغطيها بشرة توحي وهو ما يسعد به صالح مع نفسه -أنه مايزال في عافية الشباب".
46
دروبهم ،فوالده يختبر ج ّيدًا هذه الجبال، وعورتها ،شقوقها ،لقد صارت هذه الجبال مرتعًا لصالح بن شيخان أيضا ،وبات يعرف كل صخرة فيها وشجرة. يكبر الفتى ويحمل عدّ ته معه ،أشياءه التي غدت كرفاق للروح ،حتى أن لكل واحد منها اسم ،يتراءى غرامه لتسمية أشيائه؛ لكسر حدّ ة وحشته في تلك البقاع القاسية إال من تراكض الوعول؛ ففي الفصل الثاني من الرواية يتفاجأ القارئ بصورة صالح بن شيخان ،الطفل الذي كان مشدوهً ا برفقة ا كبيرًا يُعرف بين أهل والــده ..صار رجـ ً قريته بطباعه الــحــادة والغريبة ،يتجنب الحديث مع الناس ،حتى إخوته ال يشبهونه في طبعه السمج ،لقد صــارت شخصيته محمّلة ،ومن يفهم أبعادها يدرك أن الرجل طوال تلك السنين كان يتتبّع حلمه في أن قناصا ،ولن يكون كذلك إال حين يقع ً يكون تيس الــوعــل بطلقة تفنقه كما قــال عمه سيف .فيبقى هذا الحلم هاجسه الوحيد في الرواية ،يمضي إليه دون أن يبالي بأي شيء آخر في العالم من حوله.
الصالت االجتماعية في الرواية تسودها الضغينة وتعارك بين األخــوة على مطامع مادية بحتة ،لعل الصلة االجتماعية التي توثقت بين صالح بن شيخان كانت مع عمه سيف .فقد صار معلمه في القنص بعد أن يــتــراءى لنا في هــذا الفصل صالح بن رحل والــده للعمل في إحدى دول الخليج، شيخان الطفل الــذي يمضي خلف والــده لقد اتخذه أ ًبــا واتــخــذه العم ابـ ًنــا ،وصار ا لــلــنــاس التائهين عن يلقمه قوانين القنص ،وخباياها. الـــذي يــكــون دلــي ـ ً
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
غير أنه ينكفئ وحيدًا ،وتكون الجبال التي اعتادها موطئًا موحشً ا بعد أن تخلو مــن قناصيها .فقد صــدر ق ــرار حكومي في منتصف السبعينيات يمنع فيها صيد الوعول لحمايتها من االنقراض. في الفصل الثالث من الــروايــة ،تخفت روح المغامرة عند الطفل /الرجل ،وتتمزق ذكريات الطفولة وهو يرتع بين هذه الجبال مــتــوعـدًا ضحيته رغــم كــل صــكــوك المنع والــوعــيــد ،ينتصب أمامنا رجــل يشعر أن عمره يتبدد في انتظار حلمه المستحيل. وحين يسقط تيس الوعل بطلقة بندقيته تتخبطه أحاسيس غريبة ،يتمنى لــو أن وال ــده وعمه أحــيــاء كــي يشهدوا اللحظة قناصا حقيق ّيًا، ً الخالدة ،كيف أنه أصبح كيف قنص هذا التيس وصار من غنائمه؟ غير أن إحساسً ا بالخذالن يجتاحه ،ويشعر أن حياته كقناص وصلت لنهايتها ،فقد صار ال أمامه ،ذاك الترقب، الحلم الموعود ماث ً واالنــتــظــار ،والتوجس على مــدار كل تلك السنين انهارت دفعة واحدة" أيها التيس ،يا وعل الجبال العالية ،يا روحي المنفلتة من أعباء الحياة ،ها أنت قد سقطت وتحولت إلــى أش ــاء ،لكن هــل حقا كنت أري ــد أن اصطادك؟".
إلى عدة شخصيات لتظهر في روايته "جوع الــعــســل" دار مسعى للنشر ،ثــاث رجــال
نحالين يسعون بكل همة لمطاردة خاليا
النحل بين شقوق الجبال؛ فقد صارت هي المتنفس الوحيد لهؤالء الذين ترعرعوا
بين الطبيعة ورضعوا حليبها ":حظر صيد الوعول ج ّر معه امتناع الناس عن الحياة
في الجبل ،وبقي العسّ الون هم فقط من
يذهبون في موسم الربيع بحثا عن العسل
الجبلي بينما توقفت الحركة".
وك ــان السبيل الــوحــيــد لمداهمة تلك
يــبــدو أن ه ــذا الــقــنــاص هــجــر القنص الجبال هو في ضخّ اندفاع جديد ،وحلت لتداعيات كثيرة منها قانونية ومنها نفسية النحالت محل الوعول ،وصارت حلمًا يلهث أيضا .وكأن البطل نفسه انشطر واستحال وراءه القناص الذي صار بدوره نحاالً. * كاتبة عمانية مقيمة في اإلمارات. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
47
ُ السعودي النسائي التشكيل ُّ ُّ والمعاصرة األصالة بين ِ ِ ■ خلف أحمد محمود أبوزيد*
هناك مقولة للناقد الفني الفرنسي "بودلير" يقول فيها" :إن فنانينا ارتدوا الـمــابــس الـتــركـيــة -فــي إش ــارة إل ــى مــوضــة االس ـت ـشــراق الـتــي ازدهـ ــرت فــي الفن الفرنسي-والمالبس اليونانية القديمة ،وال أحد منهم انتبه إلى جمال مالبسنا الحديثة السوداء ،رمز الحداد األبدي" .وفي الواقع إن بودلير بمقولته هذه فتح باب ًا واسعاً ،في البحث عن الرائع في حركة الواقع ،ولكن قبل بودلير ،خبر الفنان العربي ،تأثير الظاهرة التشكيلية بالظاهرة االجتماعية ،ومستويات التفكير، ولعبت قيم التراث وما أفرزته من عــادات وتقاليد ،دور ًا رئيس ًا في إغناء الذاكرة اإلبــداعـيــة ،وتشكيل الذائقة الجمالية ،إذ انتقلت بما يشبه الميراث من جيل إلي جيل؛ وقد كانت الفنانة التشكيلية السعودية المعاصرة ،من أكثر الفنانات التشكيليات الـعــربـيــات ،اسـتـلـهــامـ ًا لـمــوضــوع ال ـت ــراث ،حـتــى أضـحــى فنها يزخر بأساليب فنية بديعة ،تعكس الــروح العصرية بحركاتها الفنية المتنوعة ،وفي الوقت نفسه تتصل اتصا ًال قوي ًا بالتراث والبيئة المحلية ،والتي تعد من سماتها الواضحة. جيل الرائدات واستلهام التراث
48
تــجــربــة الــجــيــل األول م ــن الــفــنــانــات
اتسمت الــحــركــة التشكيلية لجيل التشكيليات الــســعــوديــات ،بــدايــة من الرائدات في المملكة العربية السعودية صفية بن زقــر ،التي درســت الفن في بالبساطة ،التي أخفت وراءه ــا عمقاً الــقــاهــرة ول ــن ــدن ،واتــســمــت تجربتها وأصــالــة ،في تمثيل الموضوع وإدراك باالتجاه إلى التراث السعودي والنهل ال جوانبه ،ونلمس ذلــك جيداً من خالل مــن روافـ ــده ،فجعلت مــن فنها سج ً العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
من أعمال الفنانة صفية بن زقر
ولــنــتــرك صــفــيــة بــن زقـ ــر ،إل ــى الفنانة منيرة موصلي رفيقة دربها ،وصاحبة أول معرض تشكيلي مشترك مع صفية بن زقر الــذي أقيم في عــام 1968م ،وتمتاز منيرة موصلي بأعمالها الفنية ذات الطابع الواقعي الــرمــزي ،الــذي اتجهت فيه إلــى التلخيص بشكل استفادت فيه من المورث البصري الــســعــودي ،الـ ــذي ظــهــر جــلــي ـاً فــي معظم لوحاتها التي تالقح فيها الحداثة مع روح التراث السعودي ،إذ تعد من أوائل الفنانات التشكيليات السعوديات ،التي عبّرت أعمالها المبكرة عن أفكار وأطروحات ،تقترب من شكل المشروع ،كما في تجربتها التي وظفت لها الخامات المحلية بشكل جديد ومغاير. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ال في تصوير فترة مهمة جداً من تاريخ حاف ً المملكة؛ إذ امــتــازت فــي هــذا االتــجــاه عن جميع الفنانين والفنانات السعوديات في محاولتها بعث هذا التراث من جديد ،من أجل االحتفاظ به ألبناء اليوم وأجيال المستقبل، فأصبحت أعمالها الفنية اليوم مرتكزاً مهماً لعدد من طالب وأساتذة ودارســي كثير من المواد االجتماعية والفكرية والفلسفية ،من خالل أعمالها التي استمدتها من التراث، والــتــي عــبــرت عنها بقولها" :إليــجــاد مــادة لموضوعاتي الفنية ،تشعبت أهتماماتي بين البحث في العادات االجتماعية ،والمالبس القديمة ،وبين الحصول على الصور القديمة وتصنيفها ،حسب مناطقها ،لتكون مرجعاً دائماً لي" .ولم يكن اهتمامها فقط ينصبُّ في شكل تسجيل هذا التراث ،بل امتد فنها وإبداعها لينقل لنا القيم التي كانت معيشة
في ذلــك الــوقــت ،وقــد ظهر ذلــك جلياً في الحرف والعادات واأللعاب أعمالها التي مثلّت ِ الشعبية واألطفال ،وفي تصوير موضوعات مختلفة ،وكذلك في المجتمع الذي اهتمت بجميع قطاعاته ،وتصوير األنشطة الخاصة عدد من األعمال التي بالرجال والنساء في ٍ صــورت فيها نشاطات النساء ومالبسهن وعاداتهن ،وإن ما يتضح ويميز تجربة هذه الفنانة أنها تجربة نبعت من التراث ،استقلت خاللها وتــحــررت مــن التأثير بــالــمــدارس الشرقية والغربية ،واستغنت عن أساليب وفلسفات روادهــا ،وكوّنت أسلوبها الخاص الذي يصوّر الحياة التي أصبحنا نفتقدها في أيامنا هذه ،وعادت للتراث متخذ ًة منه المادة الرئيسة إلبداع أعمالها ،التي حازت على إعجاب الجميع.
49
من أعمال الفنانة منيرة موصلي
التراث في صيغ تحديثية
50
وبعد هذه التجارب الناجحة للجيل األول من الفنانات التشكيليات السعوديات ،ازداد النشاط الفني النسائي في المملكة العربية الــســعــوديــة ،إذ شــهــدت الحركة التشكيلية النسائية بالمملكة ازدهــاراً كبيراً ،وانتشاراً واسعاً ،بظهور أسماء نسائية جديدة ،جمعت أعمالهن بين التراث والتحديث ،عن طريق ال من أشكال التحديث، إلباس التراث شك ً وفــي الــوقــت نفسه المحافظة على جوهر هذا التراث ،ونلمس ذلك في أعمال رائدة عــاشــور الــتــي ب ــرزت فــي أعمالها المدينة العربية ببساطتها وجماليتها ،والتي سرعان ما اختارت من تفاصيلها وتقاطعيها ،هذا إلى جانب ما امتازت به أعمالها بذاتية شاعرية مليئة بشحنات رومانسية طوّعتها في لوحة الفتة لالنتباه ،كما تميزت رائ ــدة عاشور بتناولها لفن "الكوالج الطباعي" ،وفن الكوالج فن بصري يقوم على المواءمة بين عناصر وخامات متنافرة ومتنوعة على سطح واحد، بغية إحــداث نوع من اإلثــارة البصرية بفعل العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
جمع المتناقضات في الحيّز الجمالي ،وذلك عبر تقنية القص واللصق ،وهو فن يحتاج إلى دقة وصبر متناهيين ،لتنسيق اللوحات التي تتناول فيها الــتــراث اإلســامــي والــزخــارف الشرقية والصحراء والكثبان الرملية ،وهناك من الفنانات السعوديات من حاولن االنطالق إلى التحديث عبر وسائط ووسائل مختلفة، كما في أعمال بدرية الناصر وأضواء بنت يــزيــد ،وشريفه الــســريــري ،ون ــوال مصلي، ووفاء بريمي ،وتغريد الجدعاني ..والالئي عبرت أعمالهن عن توجهات جديدة ،سعيْ َن من خاللها إلــى البحث عن طبيعة مميزة وشكل جديد من أشكال التعبير الفني ،الذي تتزاوج فيه الهندسة بالواقعية الرومانسية المتالحقة عند أغلبهن مــع روح الــتــراث الــســعــودي ،كما لجأ العديد مــن الفنانات السعوديات إلى االستفادة من منتجات البيئة المحلية ،واستخدامها بصيغ تحديثية ،كما في أعمال حميدة السنان ،واعتدال عضوي، وإلهام بامحرز ،في استخدامهن العديد من الخامات من المعاجين واألخــشــاب وقطع الــحــديــد واألس ـ ــاك ،واألقــمــشــة واألوراق
خطوات على طريق التحديث لــقــد اســتــطــاعــت الــفــنــانــة التشكيلية السعودية أن تخطو خــطــوات واســعــة على طريق التحديث ،وبهذه اللمسة التحديثية، وبكل ثقلها ومــحــاورهــا المتعددة وغربتها عن المفاهيم والمدركات العادية لإلنسان صاحب الموروثات التقليدية .وكــان عليها أن تواكب هذا التحديث ،دون فقدان للهوية السعودية ذات السمة الحضارية المحمّلة بهذا اإلرث العظيم .ويبرز من بين هؤالء شادية عالم التي تحتل موقعاً متميزاً من التعبيرية العربية المحدثة ،من خــال ما تتجول به لوحاتها في مدن وأقنعة وشخوص مؤنثة ،حيث بدأت بتصوير ذاتها ،ثم أمعنت في التعبير عن توجه واختناق روحها في حجرات انطوائية ساعية للخروج من قمقم الغربة المتوهجة بتحرق وجداني ال تحده حدود ،إذ تالمس موهبتها توهجات تشارف حدود الغناء ،عالم عاصف بالوحدة والغبطة والطهرانية والعذوبة والخصوبة ،وكذلك في أعمال الفنانة وفاء بريمي التي تميل فيها إلى التجريد ،بحيث تجعل القارئ ألعمالها يسبح بخياله في اللوحة ليقدم قراءة جديدة للعمل الفني حسب مــا يــصــوره لــه فكره وخياله، ونلمس هذه الموجة التحديثية في أعمال
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
والحبال والخيوط في تشكيل موضوعات إنسانية ،مستخدمات فيها خامات مختلفة تتناسب مــع مختلف األســالــيــب واألشــكــال الفنية التي تترابط مع الــعــادات والتقاليد السعودية المتوارثة.
الفنانتين عال حجازي ،وحنان حلواني ،اللتين استخدمتا لوحات "الحفر" أو "الغرافيك"، وهــو فــن تشكيلي غير منتشر بشكل كبير في المملكة العربية السعودية ،ويمثل تجربة جديدة تحتاج إلى مهارة عالية ،وإن ميزة هذا
من أعمال الفنانة رائدة عاشور
من أعمال الفنانة نوال مصلى العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
51
من أعمال الفنانة شادية عالم
الفن تتمثل في القدرة على إدخال األلوان إلى ومعاناتها ،وحــاولــت من خــال أعمالها أن اللوحة حتى بعد إنجازها ،األمر الذي يبدو تترجم ما بداخل اآلخر برؤية الفنان. ال في الرسم العادي ،ألن اإلحساس مستحي ً
ال ــذي يــخــرج على ال ــورق ال يمكن تبديله،
وأعمال الفنانة "ابتسام عبداهلل باجبير" التي امتازت بتجربة فنية جديدة في الرسم على الحرير ،إذ وصلت إلى مستوى جعل أسلوب
الرسم على الحرير مستوىً رفيعاً من حيث التحكم في خامة الحرير ،وبتطويرها إلى استخدام األلوان بحركة ومرونة لم يكن لها مثيل من قبل ،وقــد ساعد ذلــك في تقديم
ص ــور إبــداعــيــة فنية تــتــمــازج فيها جميع الــمــدارس الفنية مــع خامة الــحــريــر ،التي
عرفت بصعوبة ودقة التعامل معها ،وأعمال
الفنانة "وفــاء عبداهلل العقيل" التي برعت فــي تجسيد انــفــعــاالت الــمــرأة ومشاعرها * كاتب من مصر.
52
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
أخيراً، كنا مع قراءة للحركة التشكيلية النسائية في المملكة العربية السعودية ،والتي ما أن بدأت حركتها األولى مع الجيل األول ،حتى أصبح لها موقع متميز ،يستحق الثناء في تحوّالت الفن العربي ،في ظل بحث الحركة التشكيلية النسائية السعودية الحديثة عن فــضــاءات جــديــدة وتقنيات مبتكرة ،األمــر ال ــذي جعلها ال تقل أهمية عــن األعــمــال التشكيلية العظيمة للتشكيل النسائي العربي والــعــالــمــي ،مــن خــال تــجــارب تــحــاول شق الطريق الصعب ،وتبحث عن أشكال فنية جديدة تمزج األصالة بالمعاصرة .وتبحث عن العادي في الواقع العادي.
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ُ ُ السردي في: للخطاب المنتجة الذات ِّ ِ
(عر ُ افة المساء) لشيمة الشمري ّ ■ د .امحمد امحور*
عــرافــة ال ـم ـس ــاء((( ،ع ـنــوان دال لمجموعة قصصية أبــدعـتـهــا أنــامــل القاصة السعودية ،الدكتورة شيمة الشمري ،األستاذة بجامعة حائل .والعبارة المثبتة على ظهر غالف هذه المجوعة( :قصص بحجم القلب) تدل داللة صريحة على انتساب هذه المجموعة إلى جنس القصة ،وتحديدً ا إلى جنس القصة القصيرة جدا .هذا النوع األدبي الذي يمتلك كل مقومات التعبير عمّ ا يحس به قلب اإلنسان ،بل ما يعانيه في عالم معقد ،ومغلّف بالمكر ،والخداع ،والنفاق ،واألحالم المزيفة. القاصة في هذا االختيار ّ وقد وفقّت
تــتــكــون ه ــذه األضــمــومــة مــن أربــع
األجــنــاســي إلــى حــد كبير؛ إذ جعلت وسبعين قــصــة قــصــيــرة جـــدا .كتبت قصصها قصيرة بحجم القلب ،وعياً منها بلغة أدبية راقية ،تحفز القارئ للتعاون
بالقيمة األنطولوجية للقصة القصيرة مع الــذات المنتجة للخطاب السردي جدًا في عالقتها بالقلب ،مصدر اإلبداع في بناء المعنى ،وتــأويــل األيــقــونــات، واإللهام ،ومكمن األحاسيس والمشاعر .والــعــامــات ،الــتــي يــزخــر بــهــا المتن وال غرو ،فالقصة القصيرة لها القدرة القصصي البهي والممتع.
الفائقة على اإلنصات الجيد لهمسات القلب وأسراره وحركاته.
إن الذات المنتجة للخطاب السردي تــتــفــاعــل مــع ص ــوت اإلن ــس ــان .وهــذا العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
53
مؤلفات الشمري
يدل على أنّ هذه الــذات تتفاعل مع عوالم الطاقة الفنية التي يمتلكها اإلنسان المفعم تخييلية ،هي ليست وليدة اللحظة اإلبداعية ،بالحياة ،والحيوية ،والنشاط. بقدر ما هي تفاعل وحوار مع ذوات إنسانية
تــقــول ال ــس ــاردة فــي الــقــصــة المعنونة
أخ ــرى ،قــد تــشــارك هــذه ال ــذات أحالمها بـ(مصير): وطموحها ،وقد تستميلها لتعيش لحظات (تعالى صراخها.. متوترة ومنفعلة ،لكونها لحظات من صميم فتاة يافعة بدت كمن ال يشتكي من علة! التخيل ،ال تكتفي برصد تفاصيل الواقع ال إبداعيًا ال تتحدث.. المعيش ،وإنما تسعى لتحقق فع ً
بعد أن حررت طاقاتها التخييلية من أبعادها
54
تصرخ فقط !..تصرخ وتضرب األرض
المادية ،لتربطها بأبعاد تفاعلية من صميم بيدها.. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
عبر فعل القراءة في عوالم تخييلية ،تعلي مــن القيم اإلنسانية الكونية .ومــا إهــداء
الــقــاصــة شيمة الــشــمــري هــذه األضمومة الــوارفــة الظالل إلــى اإلنــســان أينما وجد،
إال دليل ساطع على انخراطها في فضاء قصصي يطفح بجمال حسي ،أعاد االعتبار
الشمري توقع عرافة المساء
حضر والدها.. حملها.. ساروا بعيدا..
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
إن المتلقي لهذا العمل المائز ،سينخرط
للذات الساردة ،لتنطلق بكل عفوية وتلقائية
في مساجلة المبدعين والفيسبوكيين عبر
قصصها الجميلة ،الــتــي تــرمــز للجمال، والصفاء ،والنقاء ،والمحبة الدائمة.
إن تفاعل ال ــذات الــســاردة مــع السيدة
ومــا زال صــراخــهــا حــاضــرا ..ومــا زال األنيقة الهادئة في قصة (فضفضة)((( ،هو في حقيقة األمــر رغبة ملحة في استعادة صوتها يزورني كل مساء!)(((. الزمن الجميل. إن الــقــارئ الــمــؤهــل لــتــأويــل مــثــل هــذه واحتفاء بهذا الزمن ،مجسّ دًا في أحالم المقاطع السردية ،هو القارئ الــذي راكم ال موسوعيًا حول القصة القصيرة جدا ،الــطــفــولــة .ثــم ان ه ــذه الــــذات ال تكتفي سج ً فــالــذات الــســاردة قــد أج ــادت رســم مالمح باستعادة ذكريات الطفولة ،وإنما تعيد إنتاج
شخصية فتاة يافعة ،انهكها الصراخ واألنين الحلم انطالقا من حاضر بئيس ،يتنكر للقيم اإلنسانية الكونية ،ويع ُّم فيه الصراخ والبكاء، وهي تنتظر في قاعة االنتظار. ولــم يكن من الهيّن أن تجيد رســم هذه
المالمح ،لوال أن الذات الساردة قد تفاعلت
والــحــركــات المفاجئة ،واالرتــفــاع السريع، والــهــبــوط األسـ ــرع؛ إنــه زمــن رديء بشكل
سافر ،فال غرو أن تعود المرأة إلى حالة
مع اإلنسان المرهف الحواس والمشاعر، وتكف عن البكاء والصراخ ّ واستشعرت المواقف اإلنسانية النبيلة ،ومن الهدوء المعتاد، ثم ليس غريبا أن تظل صــورة هــذه الفتاة اللذين ال يجديان في زمن الحروب المشتعلة اليافعة عالقة في الذهن والــوجــدان؛ لقد في كل حدب وصوب. رحلت هذه الفتاة ،لكن صوتها يظل يسكن
الذات الساردة إلى األبد.
وعبر فعل السرد تنفذ الذات الساردة إلى
هذا الواقع الجريح ،باحثة عن وعي ممكن العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
55
تشيده ،انطالقا من حــوار عميق ورصين صــوغ األفعال السردية من منظور جديد،
مع اآلخر الذي ترفضه ،وتنفصل عنه ،ألنه يعيد للفضاءات المكانية بهاءها ورونقها، يتعالى عن القيم اإلنسانية والكونية .على ألنها تسلط مــزي ـدًا مــن الــضــوء على هذه حــد تعبير ســارتــر( :قتلوني ..قطعوني ..الذات المتوترة والمنفعلة ،التي تندد بالقتل مزقوني هؤالء المساكين دفنوا أشالئي كل وتشيد بأحالم الطفولة ،وتتغنى بالحرية
جزء في مدينة ..غمروني بالتراب مفرقا ..عبر إعادة إنتاج الحلم. حتى أكون عبرة لعيون خائفة وقلوب ترفض تقول الــســاردة مندِّدة بالقتل في قصة: الحياة!!). (جبالن من الــحــب)( :عــرفــوا بأمرهما!.. إن الذات الساردة في هذا المقطع ،وغيره اســتــنــكــروا ال ــل ــق ــاء ..نـــــددوا بــالــنــظــرات من المقاطع السردية ،ذاتٌ تفاعلية مع هذا البيضات ..أمسكوا بهما ..قــال :أحبها؛ اآلخــر المستفز لهذه الــذات ،التي تنتصر قطعوا لسانه! هرعت إلــيــه ..صــوبــوا إلى للقيم اإلنسانية وتتعاطف مع اإلنسان أينما قلبها السهام !..قتلوهما على مرأى ومسمع وجد ،عبر اإلنصات المرهف النطباعاته ،من هذا الكون الصامت.((()..
ومواقفه اإليجابية.
وهذا اإلنصات المرهف يقتضي طاقات
إبداعية ،وتعبيرية ،وتخييلية ،تسمح للذات
المنتجة للخطاب الــســردي بــإدمــاج هذا الخطاب في البنية السردية القابلة للتحليل، والــكــشــف عــن الــنــســق الــضــمــنــي للقصة،
نصا إبداعيًا مفتوحً ا على األنماط بوصفها ً السردية الحديثة والمعاصرة.
إن الذات المنتجة للخطاب السردي تظل
حاضرة بقوة ،في جميع النصوص القصصية
المشكلة لهذه المجموعة ،تحضر من خالل اللغة اإلبــداعــيــة الــتــي تتماهى مــع عوالم
الذات ،بوصفه فعال من صميم التخيل .ثم
إن السجل الموسوعي للقارئ الذي يستضمر
56
قوانين اللغة الشعرية االنزياحية ،إلعــادة العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
وتقول مشيدة بأحالم الطفولة( :وبعد
واستعادت هدوءها المعتاد)(((.
ليلة ..تجلس الفتاة أمام التلفاز ..وحيدة في
ال تتوانى الــســاردة في التغنّي بالحرية منتصف األرق ..تتابع فيلما يحكي عن هجرة في مقاطع سردية مختلفة أبرزها القصة الطيور !..الفتاة تلك كانت يافعة في الثامنة المعنونة ب (عزم) ،تقول الساردة على لسان عشر ربيعا ،عندما قفزت ذات حلم من الدور الــذات المنفعلة والمتوترة بهموم اإلنسان الخامس!!)(((.
وشــجــونــه( :عــنــدمــا زج ــوا بــي فــي القفص
إن األبــعــاد التفاعلية لهذه المجموعة
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
أن انتهت اللعبة ..كفكفت دموعها ثم نزلت،
تقول الساردة في قصة (محاولة)( :كل
مــع رفــقــاء التحليق ..لــم أشغل نفسي إال القصصية تقتضي قارئًا نموذجيًا ،سيقرأها
نصا واحدًا ال يقبل التجزئة ،ما دامت برسم جناحين بلون الحرية ..وبوابة باتجاه بوصفها ً السماء.((()!..
الذات المنتجة للخطاب السردي تحضر من
إن مثل هــذه المقاطع السردية البهية خــال اللغة اإلبــداعــيــة الخصبة ،وتحضر والممتعة ،هــي التي لملمت جــراح الــذات كذلك من خالل المعارف ،والخبرات ،التي
المبدعة ،التي انخرطت بكل عفوية وتلقائية استقتها القاصة شيمة الشمري من بطون في إعادة إنتاج الحلم ،تحفزها رغبة جامحة أمهات الكتب ،وكونت من خاللها رؤية العالم، في نقل أحــداث ووقــائــع ،تجد سندها في بأسلوب رصين ومائز ،يستجيب للذوق العام الواقع العربي الجريح ،فكل مقطع سردي األدبــي ،ويحافظ على تقاليد الكتابة ،كما
يضمر حـــوارًا عميقًا ورصــيـ ًنــا مــع أخْ يلة رسخها رواد ُكتّاب القصة. مفترضة ،تتفاعل بدورها مع عوالم نصية،
وهي بحق وحقيقة رائدة القصة القصيرة
تنهل من البيئة العربية السعودية التي ارتوت جدا عن جدارة واستحقاق ،إنها تخلق عالمها المؤلفة بمائها ،واكتوت بنارها واستنشقت الخاص ،مراودة سحر الكلمة ،وهي تحاور
رحيقها سنين عددا.
األنساق الثقافية السائدة؛ وهذا ال يعني أنها
انــخــرطــت ال ــذات الــســاردة فــي دوالــيــب تنساق وراء هذه األنساق ،بل إنها بقدراتها الكتابة القصصية ،وأع ــادت إنتاج الحلم ،اإلبداعية الفائقة ،تشيد نسقها الخاص،
اعــتــمــادًا على مــتـ ٍـن غــنــيٍّ ومــتــنــوع ،يحاور عبر استلهام روح الحكاية ،وإخضاع منطق األنساق الثقافية السائدة ،ويعبّر عن روح السرد للزمن المعاصر ،إذ ال يزال اإلنسان العصر ،في تعالقه الممكن مع المتخيل الذي يطمح إلى إثبات الذات بعد الوجود.
أتاح للذات أن تعبّر عن أعماقها ،وما يختلج في وجدانها.
وال غــرابــة إذا وجــدنــا ال ــذات المنتجة
للخطاب السردي ،تجرد من عالمها السردي العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
57
ذوا ًت ــا إنسانية ،تخلق معها ح ــوارًا رصينًا نفسها ،الــتــي تتمتع بها الـــذات المنتجة
وممتعا ،يعيد لهذه الذات ألقها وقلقها.
للخطاب الــســردي ،وكالهما يتعاونان من
تقرأ في قصة (موناليزا) " :تجلس متأملة أجل تحقيق النص ،إ ْن عن طريق التوليد أو مالمحهم ..وحركاتهم ..في عينيها حزن التأويل. وغموض ..وعلى شفتيها ابتسامة مغتصبة..
إن هــذه المجموعة القصصية تقترح
كأنها تتأهب لعمل جنوني ..ربما تقفز خارج ع ــام ــات ســيــمــيــائــيــة( :الــربــيــع األحــمــر، أسوار اللوحة!"(((. الجداول الحمراء ،ألواح الشوكوالتة ،األسد، يتضح من خالل هذه القصة أن المبدعة الفراشة ،األصداف ،البحر ،التفاحة ،القطة شــيــمــة الــشــمــري ،ق ــد ســخــرت طــاقــاتــهــا المشاكسة ،الصمغ ،النوارس ،الورود ،)..هي
اإلبــداعــيــة والتخيلية ،لتجريب إمكانات بمثابة مؤشرات تساعد القارئ المفترض سردية تنهل من اللوحات الفنية المشهورة ،على إعادة بناء النص وتحيينه ،وتحقيق فعل وإعادة تشكيلها وبلورتها ،انطالقا من الواقع السرد؛ فهي نسيج من الفضاءات البيضاء، الكائن ،الذي يرفض االنغالق على الثقافة والفجوات التي تنتظر من يمألها.
النمطية الضيقة ،ويحفز الــذات المبدعة
إن القصة القصيرة جدا في هذا السياق
على االنــخــراط فــي سلسلة مــن األحــداث تعيش على فائض المعنى .والمبدعة شيمة الممكنة ،إ ْن على مستوى بناء القواعد ،الشمري تعوِّل على قارئ يملك الموسوعة والوحدات ،والمواصفات النصية ،المشكلة األدبية لبناء ومــلء الفضاءات والفجوات، للنسق الضمني للقصة القصيرة جــدا ،أو والفراغات والبياضات ،ألن وظيفتها ليست
على مستوى اختيار اللغة ونمط الموسوعة ،تعليمية ،بل جمالية ،تترك للقارئ المبادرة والمعجم واألسلوب. التأويلية لخلخلة معنى الزمن في مختلف ومــن ثــم ،فــإن الــقــارئ يتمتع بالقدرات تشكالته.
* كاتب من المغرب. ((( الشمري ،شيمة :عرافة املساء ،منشورات نادي الباحة األدبي ودار االنتشار ببيروت2014 ،م ((( ص13-12 ((( ص21 ((( ص19 ((( ص21 ((( ص 27 ((( ص29 ((( ص117
58
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ارتجاف الحسرات في مهاوي الذات عند الشاعر المغربي محمد بنميلود "كل أصدقائي شعراء موتى إال إن قصائدهم ما تزال حيّة"
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ٌ قراءة في الصفحات الزرقاء
■ جناة الزباير*
تأنَّ قليال وأنت تفتح باب قصائده ،قد تخاله طفال يلهو بقطعة غيم ،أو جنديا يكتب بدم الكون عذاباته. محمد بنميلود ،هــذا الشاعر الــذي يأخذ البياض بتالبيب حبره ،كي يكتب بدمع أصابعه عن شتاء مُ ٍّر يقيم بين أطراف روحه. فهل هو ذلك الشاعر الذي يلعب بأوتار الريح ،فتأخذنا عباراته نحو هذا المدى العاري ،حيث تتناثر كأس األحالم شظايا ال يجمعها غير خيط ناي حزين؟ أم هو ذلك المستحمّ بماء القلق ،أنى اتجهت ركائبه انمحق؟ انخطاف فوق شفاه اللغة فوق كتفيِّ التمرد تسافر قصائده،
الطويل أال أنجلي). يقول:
حاملة قيثارة الذين عبروا أرض الروح ،كثيرون ذهبوا، إذ ال تسمع غير صــدى خطاهم وهي وكان الشتاء يبلل أضواء النيون، تتأوه بين أنامله ،مط ً ال من سور شريد ومعاطفنا قصيرة على الرعشات،
على شمس غــادرت صهوة النهار .فال ووقـ ـفـ ـن ــا ن ـت ــوس ــل إل ـي ـه ــم ب ـن ـظــرات ـنــا نكاد نرى غير آثار ضائعة في الالمكان ،المبلولة.. تردد مع امرئ القيس( :أال أيها الليل كثيرون انعكسوا فــي صفاء دموعنا العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
59
وهم يبتعدون دون التفات.. عادت الفصول في أوانها، ع ـ ــادت ال ـط ـي ــور ،وأزهـ ـ ــر األصـ ـي ــص ،عند النافذة .. ولم يعودوا. (من قصيدة «الوداع») يختزل الشاعر المتمرس بنميلود آالمه فــي سياق لغوي شــفــاف ،فقوته الرؤيوية للواقع ،تجعلنا نمشي على ضوء هذه النزعة الدرامية كي نتوغّ ل في الظاهر المرئي، حيث يشحن مجموعة من الــدالالت ليعبر عن معاناةٍ تُحَ وِّل النص الشعري إلى موت مــرتــقــب ،ثــائــرا على الــحــيــاة العبثية التي تحصد أرواح األبــريــاء المشنوقين بحبال الفقر والجوع والتشرد. يقول (في قصيدة «الوداع»):
كثيرون ،كثيرون ناموا كاألطفال على أسرّة العجزة لم نسمع أنينهم في الليل لــم يطلبوا م ــاءً وال دواء وال حكاية نوم أخيرة.. وفي الصباح، حين أشرقت الشمس، ورفرفت الفراشات في الحديقة من خلف زجاج المطابخ، وكان نهارا جميالً، وصباح ًا مستسلم ًا لرائحة البن، لم يستيقظوا.. لم يستيقظوا أبدا! .. 60
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
الشاعر المغربي محمد بنميلود
تــتــاءم األصـ ــوات وتنسجم داخ ــل هذه القصيدة التي حــاول من خاللها الشاعر ترجمة انفعاله النفسي ،موظفًا التكرار بوصفه قيمة جمالية .هكذا نجد تكرار كل من ( كثيرون ،كثيرون الصباح ،صباحا يستيقظوا ،يستيقظوا) ،فجرس هذا التكرار اللفظي ،يكثف الــداللــة اإليحائية ،ويمنح للقارئ مساحة حرة للتفاعل مع اإليقاعات التعبيرية المُتناولة ،والتفكير في المفردات التي تحمل إيحاء نفسيًا مفعمًا بالعواطف. فالدكتورة أماني سليمان داود تــرى أن الــتــكــرار يضفي «ضــربــات إيقاعية مميزة تحس بها األذن فقط ،بــل ينفعل معها ّ ال الوجدان كله؛ ما ينفي أن يكون هذا التكرار ضعفا في طبع الشاعر أو نقصا في أدواته الفنية ،فهو نمط أسلوبي له ما يسنده في ()١ إطار الداللة». هذا التكرار الذي يضع الــذات الساردة في بؤرة داللية كي تخلق نوعا من االمتداد
فمن خالل رحلته الشعرية ال نلمس غير فكما قال شارل بدلير في قصيدته الخيبة وانكسار األح ــام ،فهل هي نزعة / MORT DES PAUVRESموت الفقراء: تشاؤمية استوطنت وجدان الشاعر العربي إنه الموت الذي يعزّي واحسرتاه المعاصر؟
LA
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
إن الحركات الداخلية للقصيدة تستحضر داخل النص .إنها ترجمة للمعاني الدفينة التي تقول الــذات واآلخــر من خــال جمل هزة عاطفية ،تقدم في عُجالة مؤلمة حكمة انسيابية تعزز جماليته ،الستقطاب اهتمام الشاعر التي استخلصها من عذاباته: المتلقي من خالل رفع مستوى اإلحساس علينا أن نألف الوداعات بالقصيدة. كما نألف أسرّة نومنا).
وهو الذي يحملنا على الحياة.
يقول:
بكثير من الصمت والحنو والنظرات الطويلة إلى األبواب وإلى الغمام فوق محطات القطارات وفوق المقابر في أواخر الخريف وبالموسيقى التي بال أغان وبال راقصين علينا أن نألف الوداعات كما نألف ِأسرّة نومنا.
الشاعر المغربي محمد بنميلود
ضوضاء الذات يسرق الشاعر بنميلود الدهشة وهو يدعو القارئ كي يدخل إلى مدنه الجريحة التي تقرأ أســرار العواصف ،فلماذا يضرب لنا موعدًا فوق سهول ومرتفعات تمشي فيها القصيدة كدموع الشموع ،يجتاحه غضب شتوي مثل غجري طريد..؟ يقول:
أنا شاعر من الطبقة الغاضبة من العمال المسرّحين من الخدمة والجنود الذين يكرهون الجنراالت والـنـجــاريــن الــذيــن ال يملكون ورش ــة وال أدوات نجارة والـيـســاريـيــن المتطرفين الــذيــن أنهكت الزنازين السرية أجسادهم ولم تنهك أرواحهم. إن (األن ــا) ال ُم َغيَّبة داخــل البياض ،قد خلقت توازيًا مع المتن الظاهر ،فبين إظهارها وإضمارها يجسد النص فعل الهوية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
61
والشاعر؛ هو ذلك المتعدد في الواحد الذي يتنفس آالم البسطاء والمطحونين بين فكي رحى الوطن .إذ على أنقاض اإلنسانية المفتقدة يشرب قهوة تــمــرده تــاركــا قلقه الوجودي كي يُفرد أجنحته المكسورة بين ثنايا واقع يستمد منه صورَه الحسية. يقول في أحد حواراته« :الكتابة الشعرية بــاألســاس هــي مــوقــف ص ــارم وواضـــح من العالم ،ومن الوجود ،ومن السلطة ،مفارق وصدامي ،ويقدم بديال جماليا ،ضد القبح، وض ــد السلطة والــظــلــم والــجــهــل ،ويــكــون انتصارًا للحق والمعرفة والعدالة واإلنسان. كل شعر أو أدب يفتقد لذلك يعاد فيه النظر في نظري»(.)٢ لكن؛ كيف سينساب الرماد النحيل من كفيه وهو ذاهب إلى الالمكان؟ لوحة من مرارة االغتراب إن الشعر؛ هو ذلك الجسر الضوئي الذي يمد حبال جماله بين الشاعر والقارئ ،فبين نوتاته يتدفق ظله نهرًا مــحــاوالً أن يغسل أوجاع األرض. ولكن؛ ماذا لو فرَّت الحروف أسرابًا مثل فجر بعيد؟ يائسة نحو ٍ ٍ غزالة ٍ يقول:
عبر المسرب الغامض لم يعد لي مكان هنا ولم يعد لي مكان في أي مكان عيناي حزينتان 62
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
قرنفل قديم ٍ كرائحة مدقوق بالزلزال ٍ يتخطفني ّ ضباب باب حديدي ألطالل دارنا الميتة الحجرات تحت األرض ُ وعلى العتبة تجلس حياتي سيجدونني معلقا في شجرة المدخل بحبل البرق ألصير غصنًا يابسا شبحا من حفيف ً ريشة الطائر الشتوي الحزين الثمرة المشنوقة التي ترعب العالم. من قصيدة « أنا ذاهب اآلن» إن أغلب قصائد الشاعر محمد بنميلود، مراثي ألحــام موغلة في المرارة والوجع، وتــعــب هــائــم فــي فــلــوات الــــروح .فــهــل هو اغتراب نفسي في أقصى تمزقه؟ يقول:
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
إننا نحبك أيتها المدن المشلولة التي إلى خرائب المدن أتكئ على الجدران األخيرة ولدتنا والدة عسيرة وطردتنا كما تفطم الوحوش صغارها في ال ألستريح بل ألسندها. العاصفة ونحن نغادر فهل نحن أمام تجربة متفردة تالكم الواقع في قطار المحرقة القديم بقفازات شعرية؟ في العربات األخيرة يقول: أو على نعش «أ ُكتبْ كأنّك داخل حلبة المالكمة /في نلوح لك بمناديل الغرباء جولة أخيرة /مُخفيًا مسامير في القفّازات/ الذين بال عائالت. كمن يصفّي بــوســاخــة حــســا ًبــا وســخً ــا مع يدخلنا الشاعر إلى كهف مرعب وقاتم، الوجود»(.)٤ تــتــحــرك فــيــه ع ــب ــارات تُــســقــط ف ــي ذات ــه هــكــذا يكتب الــشــاعــر محمد بنميلود أحاسيس حزينة ،مستعمال كلمات دالة على الشجن الرهيب (المدن المشلولة /نعش /بــحــرقــة ووعـــــي ،فــشــعــره صـــدى ألزمـــات الوحوش /العاصفة /الغرباء /بال عائالت) .المواطن المطحون ،وكأنه يقول مع الشاعر عبدالمعطي حجازي في قصيدته «ميالد إنها المدينة التي تطرد أبــنــاءهــا رغم الكلمات»(:)٥ حبهم لها ،فتسقط أقنعتها القاتمة تباعً ا الكلمة تنمو بالدمعة وهي تدوس بأقدام الالمباالة قلب الشاعر وليزرعها كل شقي مثلي ،عرف الجوع، المرهف. يــذكــرنــا هــذا بما قــالــه الــشــاعــر صالح عبدالصبور فــي «مــذكــرات الصوفي بشر الحافي»(:)٣
وعذابات الحب الخاسر.
قدح من ماء السرد
نــجــد ف ــي جــغــرافــيــا الــشــعــر الــمــغــربــي المعاصر شعراء عانقوا التجارب اإلنسانية ها أنت ترى الدنيا من قمة وجدك مــن خــال خطاب يلج الفضاء الحكائي. ال تبصر إال األنقاض السوداء. ويشتغل الشاعر /الــســارد محمد بنميلود هــذه األنــقــاض الــتــي يسندها الشاعر على السرد المباشر في العديد من نصوصه محمد بنميلود بقصائده ،يقول: بعيدًا عن اللغة الكثيفة الموغلة في المجاز، في المساء منصهرًا فــي لغة اليومي الغنية ببساطة عائدا بصمت الخاسر كلماتها .متجاوزًا تعبيره الذاتي نحو أفق العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
63
مشبع بتفاصيل يتقاذفها الزمن الماضي قــاتــمــة ،ترجمها معجم دال عــلــى الفقد ٍ والحاضر. والضياع مثل( :كانت لنا بالد ،بيت ،عائلة، ضــبــاب ..غطى الــعــالــم ،لــم نجد العالم، يقول: منازلنا محطات الــقــطــارات ،)..إذ وظف كانت لنا بالد ـص موضوعً ا إنسانيًا يرمي حكاية تُــشَ ــخِّ ـ ُ كان لنا بيت بظالله على ما يجري في كل البالد العربية كـ ــانـ ــت لـ ـن ــا ع ــائـ ـل ــة وإخـ ـ ـ ـ ــوة ص ـ ـغـ ــار مــن التي اغتصبت حريتها ،ليصبح العالم رقعة الكريستال شطرنج صغيرة تضيق فيها أنفاسه ،حتى ٍ لكن الضباب جاء وغطى العالم فقد اإلحساس باألمان( .وننام بعين واحدة).
وحين انقشع الضباب لم نجد العالم نجلس كل مرة على رصيف سكة بعيدة بحقيبة واحدة دون أن نكون قد أتينا من مكان أو ذاهبين إلى مكان منازلنا محطات القطارات البطيئة مـ ـط ــارات ع ـلــى أط ـ ــراف ال ـم ــدن بـسـقــوف عالية ومراس فسيحة للسفن في الشتاء ٍ منازلنا محطات وأهلنا المسافرون نتوسد حقائبنا وننام بعين واحدة محاذرين أن يسرق اللصوص بريق الكريستال.
يقول مستحضرا قول الشاعر:
بإحدَى مُ قْ َل َتيْهِ َو َي َت ِّقى َينَامُ ْ بِ أ ُْخرَى الْمَ نَايَا فَهْ َو يَقْ ظَ انُ نَائِ مُ فبين تناقضات الــعــالــم ،تــنــاثــرت ذات الشاعر المقهورة فوق عتبة الوجود ،لتتسكع قصائده خــارج الــسِّ ــرب ،مرفرفة في أفق س ــردي يتنامى عــن طــريــق لــغـ ٍـة تنهل من معجم نفسي غني بصور فنية ،تحاول هدم الواقع المعاش لبناء آخر من خالل التخييل، فتتحول القصائد إلى أغنية خريفية ترمي بظاللها على فضاء مليء بالخيبات. يقول:
العالم كله يتجه يُحَ ِّو ُل الشاعر نصه لوثيقة تتواشج فيها إلى أقرب حافة.
64
(من قصيدة دخان)
لغة الشعر والسرد بأسلوب غنائي ،يغلب عليه طابع استرجاع ما كان .فهل هو صوت فبقدر ما يضيق قد ُح العالم ،يتسع سم ُر الذين فقدوا أوطانهم؟ الشاعر محمد بنميلود الذي يتقاسم مناجاته لقد أخصبت قصيدته ظ ــاالً وألــوا ًنــا مع الليل ،محاوال أن يلملم شتاته من خالل العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
قصائد تلتقط األلم بعدسة سينمائية دقيقة،
فهل (الحي الخطير) الــذي يحمل عنوان مخاضا جماليًا ليعانق ً أولــى روايــاتــه ،كان
عالم الكتابة ،وليكون صوتًا شعريًا كثيف
اإلنسانية ،تتحرك أمام مراياه أزمنة وأمكنة تعلن عن ميالد صرخاته؟ يقول
إخوة ولدتني أمّ ي بال ْ في الحيّ الخطير كان عليّ أن أدافع عن نفسي قطة الميناء بأظافر ّ أيضا واآلن ً ها أنت ترى ال شيء في العالم يتغيّر الحقب بعد مرور ِ سوى انهيار اإلمبراطوريات الصحاب بين القارّات وتفرّق ِّ مالحقين الغبار.
هــذا هــو الشاعر محمد بنميلود الــذي يحمل حطب ذاتــه ليتدفأ به الــمــارون من عوالمه ،والذي جعل من الكتابة خندقا كي يحمي هشاشته .يــقــول« :إنــنــي أكتب اآلن تقريباً فقط كي أدافع عن نفسي وليس كي
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ظالل النهاية
أبــدع ،فالدفاع عن النفس وعن الوجود ال شك يسبق اإلبــداع ،إن لم يكن إبداعاً في حد ذاته» . ()٦
إنها المرارة التي يعيشها جيل بأكمله، كشفت عن رؤية إبداعية تحاول ترميم الذات من خالل رحلة البؤس والموت واالنحطاط الــذي يمر مثل اإلعــصــار داخــل نصوصه، باحثا عن الحرية وإعطاء قيمة لإلنسان. فهل سيجد بــا ًبــا للخروج لعناق حلمه المطلق؟ يقول:
أبحث عن باب للخروج لكن عدد الداخلين المستمر الغفير يسد كل األبواب.
* كاتبة من المغرب ( )١جريدة القدس العربي - 5نوفمبر /2014 -حوارمصعب النميري. ( )٢أماني سليمان داود« :األسلوبية والصوفية دراسة في شعر الحسين بن منصور الحالج» ،دار مجدالوي، عمان ،ص ،67ط2002 ،2م. ( )٣ديوان أحالم الفارس القديم،صالح عبدالصبور .صhttps://www.kutubpdfbook.com/book 83 : (/https://elmawja.com )٤
blog/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D9%86%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8 %A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7
( )٥ديوان مدينة بال قلب ،صالح عبدالصبور ص / 77 :منتديات مكتبة العرب. (https://al-akhbar.com/Kalimat/233007 )٦ العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
65
ُ الوجودي القلق شعرنة ِّ ِ عند زكي الصدير ■ هشام بن الشاوي*
أول الكالم:
يأسك، ُ هو اكتشافك المتأخر بأن ليس ثمة أمل.
قاسم حداد
شهوة المالئكة المشروعات التي تليق ألن تكون مآالت رغم أن عنوان هذا الديوان مخاتل ،األحالم العظيمة. فالشاعر السعودي زكي الصدير يبدو نــحــن إذاً بــصــدد مــشــروع شعري مسكونا بقلق أنــطــولــوجــي ،سيتجلى كبير وحــسّ ــاس ومــوغــل فــي الرهافة بوضوح في أضمومته الشعرية األخيرة واإلن ــس ــان ــي ــة((( ..إذ يــعــتــرف صاحب «بخالف حسناتي، ِ «عودة غاليليو» .في «شهوة المالئكة» «جنيات شومان» أنه يعيد الشاعر السعودي الشاب إنتاج قــبـ َل نــومــي كــل ليلة أحـــاو ُل أن أعــد َد فقرات ِ نصه الشعري بطريقة توحي أنــه في خطاياي ،وحي َن أتــجــاو ُز عــدد مرحلة التحضير النهائي لنص شعري أصابعي العشرة أســأ ُم ألنني لم أزل خطيئة ٍ قادر على اختصارها في نــهــائــي ل ــن يــكــتــمــل ،كــكــل الــنــصــوص غي َر ٍ الشعرية الكبرى للشعراء الكبار ..وككل واحــدة! أفت ُح أصابعي للريح ،وأبتس ُم
66
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
الشاعر زكي الصدير في إحدى المناسبات
أغط في النوم!». لكتفي اليسرى ،ثم ُّ
في «عــودة غاليليو» ما يشبه المانيفستو الــشــعــري ،الـــذي يــتــأســس عــلــى االنــفــات من إيقاع الرتابة ،والــخــروجِ عن المألوف بحدس المتمرِّد ،بعيداً عن كليشيه المفاهيم المُضادَّة والصور المعكوسة .المعارضة في ملمح شعري يظه ُر ٍ هذا الكتاب ،تأتي من اقتراف الحياة ،قبل الكلمات .تلك ِ جل ّياً في التفاصيل ،التي ال تتوقَّف عند ح ِّد سردها، أو عدِّها في قوائم موائد الكون ،إنَّما تلعبُ دوراً أه ّم من مجرَّد وجودها ،لعلَّه حضورها ككائنات يتعام ُل معها الشاعر بدِ قَّة مجر ٍِّب ٍ يختب ُر وهم الخالص.
وبلغة عذبة آسرة ،يقذف بنا زكي الصدير إلى أحراش الوجود« ،من بين كل كتل اللحم المتقاطرة دمًا بين أصابعي لم أختر سوى جسدي ،وكأنه األمــل الوحيد الــذي أذهب إليه قــصـدًا أو ســهــواً كلما أصابني عط ٌل بسيطٌ في الــذاكــرة ،عط ٌل بسيط يمنحني البدء من جديد ،عط ٌل بسيط جدًا يعيدني ألكتشفني من خالله! عط ٌل بسيط للغاية يتفرغ معي بشكل كامل لتشكيل قوالبي، وإعادة رسمي في أرض أحبها وتخونني! إنه جسدي الذي ال أراه إال من خالل شهواتي ورغــائــبــي ونــزواتــي ،ال أراه إال مــن خالل ي ــصــرِّح الــشــاعــر ف ــي قــصــيــدة «حفلة صلواتي وأدعيتي وابتهاالتي ،ال أراه إال حين الموتى»: بتخمة فيه ،أو ٍ ٍ أشعر خفة منه ،ال أراه إال أُمَ نِّي نفسي بالخالص عندما يغامر معي ليكتشفني في أرضي ،أو يلف ِج ْل َد الكون الخالص الذي ُّ ِ أقوم أنا باكتشافهِ في أرضه!.(((»... عودة غاليليو منذ البدء ،يقتر ُح الشاعر زكي الصدير
ينتظرُ الطوفان يُ علِّق أحاجيه في العتمة.
نفسها تكشف قصيدةُ زكي الصدير عن ِ ُ العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
67
ٍ في بقلب مفتوح. ٍ صفحة متفرِّدة ،حولها بياض مُريب .وأنا
ماثل في الفراغ ،ال يمك ُن تجاوزهُ لباب ٍ صورةٌ ٍ مفتاح في اليد ،هكذا نقرأ ما تري ُد ٍ دون طرق وإن قوله الكلمات ،ما ترسمه لنا من ٍ دهشة تمتز ُج فيها ٍ تشعَّبت ،وما تمنحنا من األشــيــاء باالحتماالت ،صانع ًة عالمها في عالم آخر. ٍ فــي قصيدة «قلب زهــري مفتوح» كتب الصدير:
ال يتردَّد زكي في زعزعةِ ما تطمئنُّ إليه اللُّغة ،منطلقاً من حدسه الشعري األول بالعالم ،كما لو أنَّه يعي ُد تشكيله المرَّة تلو المرَّة ،وقد دمَّره بيديه دون ندم .ليبدو من قصيدةٍ إلــى أخــرى وكــأ َّنــه يتقمَّص أدواراً يدَّ عي أنها تنجيهِ من ظلمِ األسقف الواطئة، والنوافذ المغلقة ،والتاريخ المتراكم عند ك ِّل العتبات .يعتذ ُر عن سيرة الدَّ م واللَّيلِ المالح المليء بالقتلة ،يسرد هواجسه في العتمة، لغريبة ٍ بحقيبة فارغة ويكتب وصيته ٍ يتجوَّل عابرة في البيت ،وحين أدرك أنَّ الطمأنينة أخــت الــمــوت ،راح يلعبُ للمتعة وإلحصاء االحتماالت...
هربت لل ّت ّو من عملِ ها ،لتُ قابلَ غريب ًا في ْ مَ قهى فتاةٌ عذبةٌ ترتدي تنّور ًة ســودا َء وقميص ًا أبيض كانت لها الجديلةُ التي في يدي ْ يدها كان لي الفنجانُ في ِ خائف... ٌ لم تتعرَّ ْف علينا خائف» ٌ َّك القول «إن َ ِ حتَّ ى في بقميص زهري ٍ هو خائف ٌ
68
الشاعر زكي الصدير العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
دراس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ون ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
ال تجرؤُ أن تشي َر إلى الشمس ((( األرض تدور» َ ألحد ِهم «إنَّ ِ تهمس َ وال أن قلق أنطولوجي تشي قصائد الصدير بما يؤرق الشاعر من القضايا الكبرى واألسئلة الفلسفية ،إذ يشكل في نصوصه محور السؤال الوجودي، ويعيد صياغة مفردات العالم ،فـالعدم كما يراه هو «المطلق الذي استطاع الفرار من قبضة الــوجــود» ،..وفي قصيدة «أنا ورجل أس ــود ويــهــودي» يؤنسن الــشــاعــر الــمــوت، ويخاطبه ملتاعا:
يا موت، لم نعرفك قبل اآلن حسبناك نادرا شيئا مثل العيد الــذي يصادفنا مرتين وبــلــغــة مــدهــشــة ،تــفــضــح هـ ــذا الــقــلــق كل سنة! الوجودي عند زكي ،نقرأ في «جسد جديد»، أين نذهب بكل هؤالء الموتى؟ وهو يواصل إبحاره في ي ّم البحث عن إجابة فمنا ال يضحك كل يوم. ألسئلة وجودية تؤرقه:
في نص «الدهشة المملة» يكتب الصدير وكنت كلما متّ وضعوني في جسد ،ال عن الحياة ،التي نحتملها وال نعيشها ،فال أعرفه، فرق بيننا وبين نزيل زنزانة انفرادية: وصبّوا على دكة الموتى ماء السدر،
كـ ــأن أح ــده ــم وضـ ــع فـ ــوق رأسـ ـ ــي زن ــزان ــة انفرادية ،ومضى أكسر جراري ،وأفضح فخاخهم ت ــارك ــا إي ـ ــاي وح ـ ــدي الح ـت ـم ــاالت األيـ ــام ولمصادفات القدر أسير على الطريد ،وأبيّن منابت الوهدة، وحدي أحسب ما تبقى مني فيه وأعلّي من ثأر المنشقّ أمرن أصابعي لوجبة جديدة لكنهم يعيدونني -فــي كل مــرة -لجسد فاتحا فمي النحناءة، جديد. ولسؤال. ثم ادخروني لهدنتهم.
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
69
وألننا ال نختار وجودنا ،ال نختار أسماءنا افتعلوا حريقا وال هوياتنا ،يعترف زكي الصدير في «وحدي دون قصد»:
اقتلوا طفال ،ورجال عجوزًا ،وامرأة حرة التقطوا صورًا لهم ارفعوا أعالما بألوان مختلفة
صدفة جئت بسحنة سمراء بلكنة شرقية أضيعوا دمي بين قبائلهم بملوحة البحر على جلدي أخبروهم بغبار الصحراء في مسامات وجهي إني الشاهد الوحيد على المجزرة وبنخلةٍ ضائعةٍ بين أصابعي الدليل األخير إلى العدم ((( ل ــم أك ــن أش ــأ أن أكـ ــون بـ ـخ ــور ًا ف ــي ن ــذور ال ينبغي أن يضيع أجري سدى السماء آخر الكالم وال صال ًة في مأتمها وفــي قصيدة أخ ــرى ،يبدو كما لــو كان
يصف محمد العتابي زكي الصدير بأنه
الشاعر يكتب وصيته األخيرة ،يريد تأجيل يشبه في شعره الريح ،التي تهب على الروح موته ولو لبرهة ،فهو الشاهد الوحيد على مثل مواويل الليالي التي تُبحر فيها النجوم المجزرة ضد اإلنسان ،ال يريد أن يضيع دمه تجاه الزمن الذي يُشبهك ،بهدوء ابتسامته سدى ،فيوصي بأن يفرقوه بين القبائل:
ـات، ا مــن حــنــيـ ٍـن وأغــنــيـ ٍ الــتــي تخفي جــب ـ ً
مت لو ُّ ال تجعلوهم يأخذوني سريعا إلى المقبرة لست على عجل كما تعلمون قدموا رشوة جيدة اصطدموا بسيارة اإلسعاف
نبض على ٌ يستقبلك والقصيدة فــي قلبه وقع المحبة ،يحمل في رئتيه تنهّد الشاعر الذي جرفت مركبه الرياح إلى حيث يجهل، إلى حيث وحده مع الشعر في تأمل .أسئلة الوجود(((.
* كاتب من المغرب. ((( شهوة المالئكة» لزكي الصدير :نصوص للوجع ..قصائد للذة ،سعدية مفرح ،جريدة القدس العربي، لندن 4 ،يونيو 2013 ((( سعدية مفرح ،م ،س ((( موقع «ضفة ثالثة» 10 ،أبريل ،2018
https://www.alaraby.co.uk/diffah/books/2018/4/9/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%BA%D8%A7%D9% 84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88
70
((( محمد حنفي ،قصائد زكي الصدير تلويحة اإلنسان للموت» ،جريدة «القبس» ،الكويت 12 ،سبتمبر 2018 ((( محمد حنفي ،م ،س العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
المعنى بينهما ،إعادة ّ االتصال ■ أحمد املال*
لجسد اللغة. ِ المعنى هو النُّ سغُ الحيّ في الكلمات ،هو الروح البحث ،مباشرةً، ِ شروحات عديدة في المعنى ،عب َر ٍ ألي منا التعرّف على يمكن ٍّ بسرعةٍ ويُسر .أعتقدُ أنها رحلةٌ ماتعة حتمً ا ،لكن لم يعد لي من سحرِ ها القدْ ر نفْ ُسه وال النصيب. عبرت به، ُ صت ما وتفح ُ ّ كثيرا ما تلفّ ُّت قصد بابَ المعنى، رأيت أني أطرِ قُ مبكّ رً ا ودون ٍ ُ غافل عبرتُ عتب ًة شاقّة ،لم يكن لي ً
بطريقة ٍ هنا ،أحــاو ُل تنا ُو َل المعنى
ٍ هواجس َ دلي ٌل واضــح ،سوى فحص ،لم ٍ ورغبات ،تر ِبكُني منذ عقود ،دونما لكنّها حذَرتْني من ُذ الــبــدء ،بأنه بيتٌ
أتطلّب أحكامًا قاطع ًة في سبيلِ الوصول
برحلة أكث َر متع ًة من ٍ غــامــض ،يــر ّق ـ ُق الــقــلــبَ ؛ مــا يعني أني إليها .كم وُعدنا مُعرَّض للكسْ رِ بغتةً .والحذ ُر من اإلدّعاء الوصول ،حيث ال منتهى ..لربما رحلة طلب النجاة ،فتأ ّملْ! أوجبُ من ِ
ليس هدفُها التح ّق َق واالكتمال ..وهذا
أن تطلبَ معناك وحدَك ،ال المعنى التف ّك ُر الذي أدّعيه تسلي ُة طريق ،فلستُ السائ َر على األلــســن ،كالمجنونِ بين من الجادّين حدَّ الضجر. مد ِّعي العقلَ ،فعليك أن تتحمّل!
ألكشف عن نف ٍْس ،تتناول َ أقول هذا العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
71
الحياةَ حولَها بعينِ الشعر ومعناه السائل ال
تفكيك ِ وهي مرحل ٌة مختلفة وسابق ٌة عن
ـان مقترحة وبــدائ ـ َل الصلب .أحيانًا يشوبُ هــذه النظرةَ ته ُّك ٌم المعنى وصــيــاغــةِ مــعـ ٍ يُعينُها على الملل ،وكآبةِ المنظر ،وأحيانًا مفاهيمية. أخرى تتالعبُ اللغ ُة بي ،متواطئ ًة وساخرة.
بديلة ٍ التفكيكُ والــبــحــثُ عــن مفاهي َم
الح ـ ٌق ومحتملة ،هي إعــادةُ االتّصال بينهما ،بين الــشــيءُ يس ِب ُق تسميتَه ،والمعنى ِ
تحريك المسافة ِ سياق تراتبي .كان الشيء الكلمةِ والمعنى ،ومحاول ُة ٍ بهما .ثالث ٌة في وأ ُطل َق عليه اس ٌم لعل ٍّة ،فح َم َل معناه الذي أو التالعبُ بالمسافةِ الفاصلةِ الواصلة ،أي
يخض ُع لنحْ ِت الزمن. كلما كــان الشيءُ مــوجــودًا وحــاضـرًا في التفكير ،أي مستخ َدمًا بــوفــرة؛ تكاثرَتْ
بين الشيءِ ومعناه .وقد قيل إنّ المعنى « عل ٌم
يناسبُ الحال». اللفظ بما ِ ِ َف به أحوا ُل تُعر ُ إنّ التف ّك َر في المعنى الظاهر وتقليبَ ُه
ّصال في ح ِّد مسميّاتُه وتح ّولَتْ معانيه حَ سَ بَ تفاعلِهِ في على وجــوهٍ عدة ،هو إعــادةُ ات ٍ ذاتِه ،يرفِ ُد الفكرةَ بمعناها الصلب ،المتحقَّقِ وِ عائِهِ الثقافي. منه ،وهناك منطق ٌة أبع ُد وأش ُّد عتمةً ،حيث بيئة منتَجُ ها ،تضع األسما َء عليه. في ك ِّل ٍ واكتشاف معنًى ُ التخلي عن المعنى الظاهر تك ِن ُز كلَّ اسـ ٍـم بمعناه .االس ـ ُم وِ عــاءٌ صلب، نفسهِ كل ّيًا حتى لمن يكشف عن ِ ُ مستتِر ال والمعنى مرِ ٌن سائل أو «زئبقي» حين نعني يحفِ ُر وينقّبُ عنه. عد َم الثبات. أشب ُه ما تكون السباحة في ظاهرِ المعنى، كثيرًا ما أحاو ُل إعادةَ النظر بين الشيء الغوص لألعماق إال معنى المعنى ،حيث ُ وما ومعناه المستقر والمتّفقِ عليه في العقلِ مخاط ُر ج ّم ٌة ليس أقلُّها انقطا َع النفس. الــجــمــعــي ،أو عــلــى األق ـ ـ ّل أبــــذِ ُل مــحــاولـ َة متوال غي ُر مكرّر ،وهي ٍ التجرب ُة تمري ٌن الفصل بينَهما .أحيانًا أ ُعي ُد الكلم َة مرارًا وبصوت مسموع لــي ،وكأنها عملي ُة فصلِ ٍ
أدوات ومعطيات حتى ٍ حاجة إلى ٍ مختب ٌر في
ملتصق .قد تنج ُح محاولتي يحظَ ى المجرّبُ على الدهشة. ِ توأم «سيامي» ٍ
وتتحوّل الكلمة مجرّد ًة من معناها ،غريب ًة في
مع حالتي ،اقترحتُ الشتيمة على ابني
ً حياد ِصرْف ،حدَّ أن أق َع أمامَها ٍ جاهل بها .ال ِبكْر «مالك» .كنتُ في أوائــل عشرينيّاتي هذا أشبه ما يكون بتعريةِ الكلمة من معناها من العمر ،وكنتُ ِغ ّرًا بما يكفي ألري َد تغيي َر
72
وصلِها بمعنًى آخر. دو َن ْ العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
معنى العالم .بدأتُ مع «مالك» في التعبير
تتم ّت ُع بشَ فرتِها السريّة كأن يص ُر ُخ قائال« :يا انعكاس الشمس ،ومع هذه السحابة تنكسر ِ كرسي»« ..يا بْيالة»« ..يا كنَب» ..حتى تح ّو َل نظرتي أو بالتحديد تعي ُد صياغ َة نظرتي. الكلمات مع الوقت ،فصارت ك ُّل ِ معنى هذه
كلمة منها «كرسي ،بيالة ،كنب» ،تعني شتائ َم ٍ فعل وحمل َت معناها الضمني. مؤلم ًة ً وهــنــا ،حــدثَــت مشكلة! حــ ّدةُ االنــحــراف واالنــزيــاح عــن المعنى الــعــام إلــى المعنى الشخصي عندي وعند ابني «مالك» ..هذا االنــحــراف واالنــزيــاح عن المعنى الجمعي المتواطأ عليه ،سبّب لنا كثيرًا من القلقِ
حين نبّهني صديقي الفنّان ،وقال لي :هل رأيتَ ما أعني. لم أستطع ر ّدًا وعيني ثابت ٌة على «حاويةِ
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
ِ عن شعورِ نا غبار تتطاي ُر وتلمع في بالغضب عبر شتيمةِ مبتكَرة سحاب ٌة عمود ّي ٌة من ٍ
«ههْ»؛ قُمامة»! ..كم عبرتُ أمامها ولم أرها؛ ِ نبرةُ الخارجِ من حمّام الدهشة. كانت تجرب ًة تل َتْ أحــاديــثَ طويل ًة حول الفنِّ والمعنى ..بين اللغةِ والمفهوم ..الشكلِ
واالضــطــراب مــع الفهم المحيط بنا ،من والمضمون ..الحداثةِ والقِ دامة ..إلى آخرِ ه االستغراب؛ إلى الشماتةِ ؛ مــرورَا بالتذمر .من تساؤالت الثمانينيات.. ِ وسرعا َن ما تنازلتُ عن «معجمِ نا الصغير»!!
تلك دهش ٌة أعادَتْ اتّصالي بالكون.
بيت فتخلّيْتُ عنه ،وأع ــدتُ الشتيم َة إلــى ِ
إنّ أكث َر المعاني ،مخاتِل ًة حَ سَ بَ ما أظنّ ،
أبيها ،حيث غلب ُة المعنى على المفهومِ القا ِّر هي تلك المعاني التي تأتي ضمنًا ،ويمكنني والرّاسخ. وصفُها بـــ «مــتــازمــةِ البديهيات» ،إ ْذ هي
ٍ أذ ُك ـ ُر قبل َها حال ًة خضعتُ فيها مساءلة ،وال حتى انتباه. ٍ لتجربة منقول ٌة دو َن تفك ٍّر أو
مــشــابــهــة ،حــيــن أخــذنــي صــديــقــي الفنان
منتصف ِ التشكيلي محمد عمر بشارة في الثمانينيات ،في سيارتِه الصغيرة وأوقفني، بإغماض ِ مشهد من األلوان ،وأشا َر عليّ ٍ عند عينيَّ وتصفيةِ ذهني من أيــةِ فكرةٍ سابقة تخص هذا المشهد .نفّذتُ حرف ّيًا ما قاله ُّ
ماذا لو طفل ُكَ يلتفِ تُ فجأ ًة نحوَكَ ويسأل: لماذا أصاب ُع القدم مشابه ٌة للتي في اليد. ُمسك ،وال ما حاج ُة القدم إليها؟ فهي ال ت ِ تقبِض ،وال تحُ ًّك الظه َر مثال ..وكثيرةٌ كثيرة هي البديهيات التي لم نتوقّف لحظ ًة عندها
الصديق بشارة ،ثم حين فتحتُ عينيّ ثانيةً .وال أعدنا االتّصا َل بمعناها.
بحواف بن ٍّية َّ أبصرتُها؛ كتل ًة صفراء تسطعُ،
ـاط الشيء حسنًا ،أيــن المعنى في ارتــبـ ِ
صدِ ئة ،ملطّ خ ًة ٍ َ مثل عندما بلون أخض َر متعرّج ،وثمّة بأثرِ ِه في كلٍّ منا؟ بالنسبة لي ً العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
73
أستم ُع إلى أغاني فريد األطــرش في ذرو ِة بابَ الشعر ،ولم يزل عص ّيًا حتى اليوم ،بل متاهة ٍ كتابة أمشي في ٍ فصل الــصــيــف؛ أش ـ ُع ـ ُر فــجــأ ًة بقشعريرة؛ أكثر ،صرتُ بع َد ك ِّل ضارية من البرد. ٍ برجفة ٍ
مظلمة وفــي كـ ِّل سانحةِ ضــوءٍ ألهثُ خلفَه
ُغشي عيني وأحيانًا بعضه؛ أحيانًا ي ِ َ وعندما أشُ ُّم عطرا في هواءٍ عابر؛أتذ ّك ُر ألدركَ سراب يتفتّتُ في يدي ،لك ْن حي َن ٍ ينقلبُ إلى مدين ًة عبرتُ بها من قبل.. قليل من الوقت ،غالبا أكتبُ ُه وأض ُع ُه جانبًا ً كيف يتغ ّي ُر معنى الكلمات وتنقلِبُ عن ما يدهشُ ني عندما أعو ُد إلى قراءتِه. مقاصدِ ها الحرفية في نبر ِة الصوت ،وكيف علَّمَني الشع ُر االنحيا َز للمعنى الموارَب، تحمِ ُل ضــدَّ هــا بمجرّدِ حــركـ ٍـة وإشـــارةٍ من الجسد.. إنّ المعنى في الشعر هو دهش ُة االنزياحِ عن المعتاد والسائد ..االنشقاق عن المفهوم المستقر والثابت في األذهان ..يكم ُن الشع ُر في استخدامِ المفرد ِة في غيرِ موضعِ ها
الشفيف، ِ ال ذلك الجليِّ الفاقعِ لونُه ،المعنى مخضعًا ِ المتمهّل دو َن مكابرة ،المعنى الحنون
صائتَ اللفظ .هو المعنى الح ّر يمن ُح مساح ًة طليق ًة للتعبير. ـاف أكــثــرِ مــن معنى فــي الــشــعــر اكــتــشـ ُ
نفسهِ لحظ َة ف عن ِ يكش ُ المعتاد ،أو مجاورتِها لمفردةٍ ألوّلِ مرة بما المعنى ..فالنص ال ِ يُحرِ ُز قطعًا في سياق االتّصال المتوقّع وأ ُفقِ الكتابة ،إال بمعنى تشكُّلِ الكتابة .أما بعدَها
طبقات ٍ ـوص ويــتــحـوّل مــتــجـو ًِّل فــي االنتظار المعتاد .هنا يتجلّى المعنى المبتكَر ،فهو يــغـ ُ غامضة ،ليسَ تْ متعدّد ًة فقط بل ربما غي َر وتنقد ُح شرارةُ الشعر. مكان ما ٍ بالقدر ِة على رؤيــةِ المعنى من اجتراحهِ من ِ ليس في المتناول ،ومحاولةِ العدم ،نصب ُح في حيّزِ الشعر. لكني واح ٌد من الناس ،تأخُ ذُني ِسنَ ٌة من نوم ،وكثيرًا ما أنتب ُه إلى أن التيا َر يجرفُني مع الخلق .كنتُ أشُ قُّ عن المعنى لينقذَني ويأخ َذ بيدي إلــى ضـ ّفــةِ الشعر الغامضة ،هكذا مفتاحهِ ،كيمياءِ المعنى وهو يفت ُح ِ كشفتُ عن
74
* كاتب من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
مفك ٍَّر بها عندها .وبعد ك ـ ِّل هــذا التعدّد
منفصل ً والتشكّل في رحلة االكتشاف ،أغدو عن النص ،وتظهر لي نوايا لم أقصدها حين النص يراني غريبًا كما أراه، َّ الكتابة .وكأنّ أيضا ،غريباّ .كــانّ الفراغ من النص يعني ً غُربتَنا نحن االثنين؛ النص وكاتبه. هذا ما أعني أو :هكذا أظنّ .
■ سعاد محمد اشوخي*
وحيد
هي :تفتح قلبها ألول طارق باب ،هو
ما نفع كل هذا المال وأنــت تجلس يصارع من أجل صاحبة أقصر فستان.
وحيدا ،تحتسي كوب شاي ال يُثني أحد
على رائحة النعناع المنبعثة منه .يمر
اليوم بطيئا ،تتكرر تفاصيله ،عقاربه ال
تتحرك من مكانها حتى إذا جاء الليل،
تناولت عشاءك المعهود أمــام شاشة
تلبّ س
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
قصص قصيرة جدا
وأنــا أمشط شعري تجلس أمامي بحذر ،تستمع إلى ثرثرتي كل يوم. أصــبــحــت تــقــلــدنــي ف ــي ك ــل ش ــيء؛
بحجم ج ــدار ،وال أحــد يناقش معك أضــحــك فــتــضــحــك ،أغــضــب فتعبس أحداث المسلسل وال سياسة العالم. لغضبي ،أتجمل فتتجمل معي ،ما أن غارقًا كان في هدوء الصالحين حين أغادر حتى تتلبسني وتختفي من المرآة. صرخ الصمت :أين الحياة؟؟ الفنجان األول بال مباالة ،ينظر إلى الخواء ،وينطلق فــي قعر الفنجان بقايا بُ ٍــن مُبلل، يف في ذاكرة أرهقها شريط العمر كطَ ٍ يتشكَّل بتمايُل الفنجان يُمنة ويُسرة. التفكير ،ينكمش كطفل صغير ينتظر تقرأه العجوز باهتمام بالغ؛ عمر طويل، من يُربِّتُ على كتفه وينام. قَ َدران
ومستقبل زاهــر ،عريس ،وزفــة ،نجاح وانتصار ،وهذه النقط زهور الحب يا
هي ،بأحالم األميرات تمأل خيالها ،وردة. وتسأل :هب أننا افترقنا ،ووهبت ذكراك تأخذ العجوز بشارتَها وتهمس لي: للنسيان ،أتبادلني النسيان وترحل؟ هب أن األيــام مضت على غير ما رسمنا ،الحب زهرة الحياة. أتصارع من أجل ما أردنا؟
كــأس الــشــاي ال ــذي أحــب مــا يــزال
هو ،يجيب بمكر الرجال :يا حبيبي جــانــبــا ،أم ــا ج ــدي فــقــد ع ــاد ليشرب
كل شيء بقضاء.
فنجانه الثاني ِبنَهَم.
* قاصة من المغرب. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
75
حين ُت َغ ِّني َ ■ هدى الشماشي*
كانت القصة تروى على هذا النحو: ذهب امحند إلى المدينة ،وعاد بطفل قال إنه ولده. زوجته التي لم تكن محنكة كما يجب بفنون الـصــراخ ..صمتت فقط .وضعت الطفل بجانب أطفالها ،وجعلتهم يأكلون من القصعة نفسها .كان الصغير صامتا أيضا. قال له امحند في اليوم األول :نادِ ها أمي ،لكنه لم ينادها أو يحدثها بكلمة ،وكان يكتفي بالنظر. هل هذه هي طفولة الرجل الذي أصبح شاهدة على ألمي. أبي فيما بعد؟ يــكــون طــفــل الــمــرأة األخـ ــرى متسمرًا إن الــنــاس يقولون الكثير أيــضــا .ذهب بجانبها حينها ،ولكنهما ال يتبادالن الحديث. امحند مــرة أخــرى إلــى المدينة وعــاد بأم يلعب أطفالها هي في كل مكان ويصنعون الطفل ،ولكنه أنكرها .كان األمــر محرجا جلبة بهيجة ،أما هو فيلتصق بها. للغاية .ركض تجاه األخــرى -التي لم تكن العباد قساة!أمــه -واختبأ فــي حضنها ألول مــرة منذ يحس الرجل حينها أنها تصبح بعيدة ـس الجميع وطـــأت قــدمــاه الــمــنــزل ،وأحـ ـ ّ تماما عنه ،محصنة وقوية وال تهتم ألمره بالذهول. حــتــى ..وعــنــدهــا يــوجــه لــهــا الــحــديــث أو نادته أمه باكية تقريبا :أحمد ،ولكنه تعلق السباب. أكثر بذراعي األخرى التي لم تبذل مجهودًا يكون عندها أبي قد حرك بصره بينهما لدفعه عنها. كلما تكلما ،ولكنه ال ينهض .يصرخ به والده قال امحند ليمأل الهواء الثقيل :انهض أحيانا بأن يغادر إلى حيث األطفال ،أما هي وسلم على أمــك ،ولم يكن ينوي أن يجبره فتصمت فقط .تبدو محايدة تماما حين على هذا في الحقيقة ،عدا -طبعا -عن يتعلق األمر به ،ويعلق بها مع ذلك ..ويلحق كونه كان يخاف زوجته. بها إلى كل مكان. إن خوف الرجال من زوجاتهم أمر يبدو هل كنت تحبها يا أبي؟غريبا للوهلة األولــى ،ولكنه موجود دائما. كانت أفضل شخص في ذلك البيت.كــان امحند يخاف صمت زوجته ووجهها الشاحب المعاتب .كان أيضا يخافها حين إن الحديث عن ماضيه يسعده ،ويرأب تطحن الحبوب وتغني :يا نجوم السماء كوني بعض الصدوع بيننا .قلت له حين طلقت
76
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
عيرني بكونك مغنيا يوم تركته ورحلت. -هل عليّ أن أحس بالذنب؟
قضى ذات مرة مسا ًء كامال وهو يتحدث عن مساوئي :امرأة ال تصمت ،وال يمكن لك لقد جــاء أحمد إلــى العالم حتى يغني، أبدا أن تعرف ما تريده. وكان صمت طفولته كله تدريب على ذلك. يفتح فمه حتى يظهر حلقه ،ويــبــدو كأنه ال أحد يعرف ما يريده يا أبي.دخــل بعدها صمته ..ولــم يعد يتحدث يجرب الموت أو أشد أنواع العذاب قسوة، عــنــي .كــانــت الــوحــدة الــتــي تحيط بنا قد مرددا أهازيج المرأة التي لم تكن أمه. جعلتنا نتفاهم بالنظر أو حتى بدونه ،أما صاح به والده في كل مرة :هل تجرب أن حين كان يتحدث فذلك لكي يروي ماضيه. تكون امرأة؟ هذا يعني ربما أنني سأموت قريبا.وخــاف فعال أن يظن به الناس ذلــك.. هذا يعني فقط أننا عاطالن يا أبي.فبدأ يفكر بتزويجه. إنني ال أحب الكلمات الكبيرة .جئت بعد شرح األمــر لزوجته الثانية فعارضته: طالقي للبيت وبكيت لبعض الوقت ثم انتهى في السادسة عشر ،هذا كثير! أما المرأة األمــر .إن الفراق يشبه عضة كلب ،فأنت سوف تحتفظ دائما بندبته .زوجي قال لي األخرى فلم تعلق على األمر ،ولكنها توقفت قبل رحيلي :هل هذا ما علمك إياه والدك لسبب ما عن الغناء. «المغني»؟ كان أبي حينها قد بدأ يغني في األفراح،
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
وع ــدت لبيته :يــبــدو أنــنــا سننهي حياتنا معًا ،ولكنه بدا منزعجا من هذه الحميمية الزائدة ،وسرعان ما بدأ يزعجه كل شيء.
-يبقى أنك ابنتي.
استعمل في الواقع كلمة شعبية أخرى ويتلقى الضرب من والده في نهاية كل منها، كانت تستعمل قبل عشرات السنين ،وكانت وبات يفكر بالرحيل. تجرح كسكين. جاء رجل ونطق جملة سحرية في أذنه والدي أفضل من عشرة بهائم مثلك.اليمنى :في المدينة قد يسجلون لك شريطا. وكان هذا ردًا جيدًا ..فقد كان مستواي وكان هذا ما جعله يرحل ذات صباح دون التعليمي يفوقه ،وكــان هــذا ينغص عليه أن يخبر أحدًا من إخوته أو والديه. حياته. ولكنك ودعت األخرى يا أبي. بالنسبة لذلك الرجل ،لقد كان سيئابشكل فاضح.
-أنا أيضا لست جيدة كثيرا.
طبعا ،وحين قبلت رأسها تبين لي أنهاتبكي.
* كاتبة من المغرب. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
77
ٌ ٌ ٌ دافئة شتوية ليلة ■ حسام الدين فكري*
زجاج نافذتي يكاد أن يتحطم .آالف المردة يدقّ ون بقبضاتهم المائية الصاخبة. المطر لم يتوقف منذ الصباح الباكر .على طرف فراشي أجلس كالجنين متدثر ًا بثيابي .أفرك كفيّ في بعضهما حث ًا للدفء .برودة الطقس تآمرت مع الصقيع الساري في قلبي .مضت خمسة أيام كاملة دون أن أسمع صوتها ،أو ترسل لي رسالة واحدة .هي في كندا وأنا في مصر .تدرس الدكتوراه منذ ثالث سنوات .كنا مع ًا في كلية واحدة ،وكنت معيد ًا في القسم الذي تدرس به .ثم اكتشفنا أننا جيران أيض ًا نسكن في منطقة واحدة .نمت قصة حبنا في رحاب الجامعة .كل ركن من أركانها يحكي طرف ًا من قصتنا التي ال تشبهها قصة حب. في المرة السابقة عندما تحادثنا
عــبــر «ال ــوات ــس ــاب» ،ث ــار ج ــدل واســع
بيننا .تــريــد أن تعمل فــي كــنــدا بعد
انتهاء دراستها ،وأنــا أريدها أن تعود إلى كنفي .لقد تحملتُ ثالث سنوات..
وسوف أتحمل الرابعة ،لكن قلبي يذوي
بدونها ،فكيف له أن يتحمل أكثر من هذا .تقول لي أن أسافر إليها في إعارة
78
مهما كانت اإلغ ــراءات .والدتي مسنة وحيدة وأنا ولدها الوحيد الذي تبقى لها ،بعد سفر شقيقي األكــبــر للعمل بإحدى دول الخليج .روحــان وحيدتان نحن تحت سقف واحـــد .لكننا على األقل نتساند على بعضنا في وجه تيار الحياة الجارف .لن أستطيع أن أتركها أبداً.
مــن جامعتي المصرية إلــى جامعتها فــي خــضــم األمــــواج الــمــدبــبــة التي الكندية .ال أطيق الغربة وال أتحمس لها تنقر رأســي ،تــدوي «رنــة» مفاجئة من العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
هاتفي ،أركــض نحوه وأختطفه اختطافاً، إنــهــا ه ــي ،تــقــول ل ــي« :تــعــال كلمني على انعقد لساني .لم أفهم .فلم أقل شيئاً! السكايب» .فــي جــزء مــن الثانية كنت قد أال تصدقني؟!أدرت جهاز الكومبيوتر الخاص بي .وجهها يطل مشعاً بضوء النهار المنعكس عليه. حاولت أن أتجاوز دهشتي وأقول شيئاً: إنه فرق التوقيت بالطبع .عندهم في كندا بالطبع ال أصدق ..كيف هذا وأنت فينهار وعندنا ليل .برودتهم أقسى من برودتنا كندا ..وأنا في مصر.. لكنهم اعتادوا عليها.
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
-ال ..بل بعد لحظات قليلة!
قذفتني بمفاجأة أكبر من األولى:
بــدون مقدمات ،ألصقت شفتي بشاشة الجهاز أقبلها .تورد وجهها بحمرة الخجل بل أنا في مصر!!كــزهــرة ياسمين نــاضــجــة .تجلس أمامي عاد لساني يبحث عن الكلمات .فغرت بحجابها يزين رأســهــا .لم تتخل أبــداً عن أخالقها الشرقية وهــي في غربتها .بدت فاهي في بالهة ال تليق بأستاذ جامعي مثلي! الدهشة على وجهها مما فعلت .سألتني استطردت توضح لي: في تعجب يخالطه امتنان يسيل من ضحكة أنا في إجازة قصيرة لبضعة أيام ..ارتدِرقيقة يانعة: مالبسك فوراً ..واعبر الشارع إلى منزلي.. ماذا تفعل؟ لم أفعل شيئاً ..شوقي إليك هو منفعل ..شوقي إليك يمأل الكون!
سوف تجدني أنتظرك!
-ولكن ..النهار الذي على وجهك و...
تزداد ضحكتها رقة:
-ها ها ..لقد خدعتك ..حتى أفاجئك!!
-عُد إلى رشدك!
لم أفكر في المطر الذي ينهال كالشالل.
وهــل بقى لي من الرشد شيئاً وأنت لــم أفــكــر فــي الــبــرد الــقــارس الـــذي يأكلبعيدة عني في أقصى األرض هكذا! األوصــــال ،لــم تمأل ذهــنــي ســوى صورتها ال تقلق ..هانت ..سوف نلتقي قريباً.رددت عليها ساخراً: -نعم ..قريباً جداً ..بعد عام كامل!
الناعمة ،حبيبتي الغالية. يا نور مهجتي ،ها أنذا قادم إليك ،قلبي يتدفأ بحبك.
* قاص من مصر. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
79
ٌ شفافة قلوب ٌ ■ حليم الفرجي*
كبر أطفالي في الليل ،كبروا حينما كنت نائمة .وكبروا جدا، ألطفال صغارٍ قبل لحظات كانوا يلهون حولي وأعد ٍ ما زلت ال أستوعب كيف لهم الرضعات ،وهكذا فجأة أصبحوا رجاال!! كــنــت أســمــع صــراخــهــم ط ــوال تلك كيف لــي أن أنــام طويال ألستيقظ األعـ ــوام حين يــتــنــازعــون حــول قطعة وقد تغير كل شيء؟!
لفض ِّ مــابــس ألحــدهــم ،وأن ــا أج ــري كبر أطفالي و َك ـ ِبــرتُ أيــضـاً ،كبرت الــنــزاع ..يخبرني أحدهم أن مالبسه وضعفت عيناي وذاكرتي ،وظهري أيضا صغرت ولــم يعد يستطع ارتــداءهــا ..بات يشكو انحناءه.. فأسرعت للسوق ألجلب له غيرها أكبر أيفعل بي النوم الطويل هذا؟ مقاسً ا ولآلخر أيضا. عليَّ أن أبقى بمفردي ،أبقى بمفردي! لم يكونوا يعتمدون على والدهم في بقيت أرددهــا كثيرًا بعد أن قالتها شيء ،كنت لهم أما وأبا؛ لم أكن أدرك لي الممرضة بدار رعاية المسنين قبل أن شكواهم تلك تعني أنهم ال يخبرونني أن تعيدني لحجرتي وتقفل الباب ،هي أن قاماتهم قــد زادت طــوال وكذلك ال تفهم أنه ال بد لي أن أذهب للسوق أحجامهم فقط!! ألجلب ألطفالي مالبساً أطول وأوسع؛ كيف كبروا فجأة ولم ألحظ هذا؟! ألنهم مازالوا يكبرون! * قاصة من السعودية.
80
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
■ محمد الرياني*
كل المقاعد كانت تتجه إلــى النهر باستثناء مقعدي كــان متجهً ا إليها ،هم ينظرون إلى المراكب الصاخبة التي تتعالى فيها أصوات الفرح ..وأنا أنظر إلى الدَّ رَج القديم الذي كانت تجري عليه وعلى وجهها الدائري دمعة ،وأنا أستمع إلى آثرت أن أعيش رجائها ،انقطع االتصال بيني وبين السامرين معي على الضفافُ ، لحظة الفراق بيننا في غربة أراها عمرً ا وهي أيام.
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
الغياب نسائم ُ ِ
فــي أول ي ــوم أغــيــب فــيــه عنها ..القادمة من الدُّور العالية ،وأنا أسترْو ُح اتصلتْ تسأل عن موعد عودتي ،تكرر من عالمها الصغير كل نسائم العالم. عندي منظر بكائها ودموعها وجلستها تركنا المكان الهادئ وهم يسألون عن على آخر السلم ،وكيف كانت تدعوني سر الشرود ،في اليوم األخير للغربة ألجلس بجوارها ،وأنا أقول لها: اتصلتْ تسألني ،وقد كنتُ قريبًا منها
لــن أغــيــب عــنــك كــثــي ـرًا ،وسأجلب يفصل بيننا الباب.. لك هدايا وألعابًا ،وهي تمسح دمعتها أين أنت؟ بأصبعها الرقيق وقد اتخ َذ شكال أشبه قلتُ لها بجانب النهر البعيد. بــانــحــنــاء ِة حــزيــن وهــي تسألني :وهل ضحكتْ وقالت أنت تضحك عليّ . ستحضر لي ....و ....و ...و.... وأنا أقول لها :كل ما تريدين ،وكيف نهضتْ بخفة ورمتْ بجسدها الصغير بين أحضاني وهي تضحك وتبكي في آن معًا ،وأنا أقبلها مكان الدمعة وألوّح لها تلويحة الوداع.
ك ــان شــعــورهــا أكــبــر مــن عمرها،
فاجأتها بفتح الباب وهي تتكئ عليه، هبت نسائم مع لحظة العناق أروع من النسائم التي عزفتُ عنها ،لم تسألني
عــن الــهــدايــا الــتــي وعــدتــهــا بــهــا ،كــان
كل الذين حولي ظلوا يستنشقون الموقف أروع بكثير من فتح الحقائب نسائم النهر ،وتضيء في عيونهم األنوار القادمة من السفر. * قاص من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
81
ُ ُ بستان َك الغربة
*
■ علي بافقيه**
ُك الغربةُ بستان َ فيه رمّ انٌ و أشجا ٌر نخلٌ طويلٌ له سعف ماءٌ و ُحو ٌر و أحجا ٌر أشواك الورد ْة ُ و .. و فيما أنتَ تُعالج التابوتَ تدعك النجم َة ُ و ُخذ بي للرّمال البعيدة لونها كُ مي ٌْت تَهطلُ من فوقها األمطار .. و فيما أنتَ تُداري العَوسجة تحبس الكالم ُ و و تَقرأ اليباس، تُحاو ُر الحصى يا غريب .. طفلٌ و ممحاةٌ و ورقة وك لت َُصفُ َو أمْ ُح َ الشاعرُ مَ ْحوُ السكوتْ َصقْ لُ العبارةِ و هدمُ ها جَ نّةُ الحمار و جَ نّةُ المعنى
82
* خــص الشــاعر الكبيــر علــي بافقيــه "الجوبــة" ..بهــذه القصيــدة و التــي تنشــر ألول مــرة. ** شاعر من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
■ سعاد الزحيفي*
ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد ُحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــقَّ لـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـ ــوت أن يـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـب ـ ـ ــاه ـ ـ ــى ف ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـح ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ت ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــب ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان وتـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءت ف ـ ـ ـ ـ ــأش ـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ـ ــت الـ ـ ـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــاة بـ ـ ـ ــداخ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــي وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ــات س ـ ـ ـ ـ ــواه ـ ـ ـ ـ ــا
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
ياقوت
اهلل ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوّرهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وأح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن خـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا وب ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ــه ذي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــول قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد أواله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وب ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ال ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ــوق مـ ـ ـ ـ ـ ـ ّي ـ ـ ـ ـ ــزه ـ ـ ـ ـ ــا فـ ـ ـل ـ ــم ت ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــرف م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ال ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــوى س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوى م ـ ـ ـع ـ ـ ـنـ ـ ــاهـ ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ــن مـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ــادة أن ت ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــر األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزان ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـن ـ ـ ــاه ـ ـ ــا قـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان م ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ــدم ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ال ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــل ك ـ ـ ـ ــرام ـ ـ ـ ــة لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ــق سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة وال أش ـ ـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا ت ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ــع ال ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــرة ف ـ ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـي ـ ـ ــن ل ـ ـض ـ ـع ـ ـف ـ ـهـ ــا وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــرة ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ب ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــض نـ ـ ـ ـ ــداهـ ـ ـ ـ ــا وت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل ت ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ــم ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ع ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــى أدوائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل تـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــي ج ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــل شـ ـ ـ ـ ـ ــداهـ ـ ـ ـ ـ ــا وتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ــل تـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ــي وتـ ـ ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ــب م ـ ـ ـج ـ ـ ـل ـ ـ ـسـ ـ ــي وت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ف ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ــا أحـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا وإذا ب ـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ــت ع ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــي ت ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــض دمـ ـ ـ ــوع ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا رف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع اإللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وش ـ ـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ــاهـ ـ ـ ـ ـ ــا هـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي قـ ـ ـ ـ ـ ــوتـ ـ ـ ـ ـ ــي وه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــرة لـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي وإن وض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت جـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــرتـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــى يـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـن ـ ـ ــاه ـ ـ ــا *
شاعرة من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
83
في ِّ اعوجاج ُأنثى! القمر، كف ِ ُ ■ ليال الصوص*
بجانب سيء، ٍ ربما لست بتلك الفتاة المثالية ،وأحتفظ داخلي لكني لم أخن وعد ًا لم أكسر صديق ًا ذقت طعم الخذالن فشلت في الرحيل أحببت بصدق وسأموت بسالم!.. أحاول أن أكتب رسالة في زمن الكورونا إلى ما بعد تاريخ الرحيل األخير، حين تُطف ُأ األضواء على سفح البحر، وتصبح الرياح غريبة كذئاب تعوي في فراغ الغروب. حزينة هي على من كان يمر ليجمع أصداف األحالم الميتة،
84
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
الوداع هو ما ندركه قبل الرحيل بلحظات ،لكننا نفشل في االعتراف فتبقى الكلمات على أطراف األنامل ،تزهر يوم ًا ما جدلة ياسمين.. غريبة هي فكرة الموت،
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
على طفلة اختبرت لذة الغرق األول مع تكسر موج طفولتها األولى
تأتيك مصادفةً حين تتعثر به في كل مكان عند واجهات المحالّ ذوات اإلعالنات عن طرق عالج األمراض داخل الكتب المكدّ سة على رفوف المكتبات بعناوينها عن الرحيل السير على طرقات خالية ّإل من أوراق صفراء كحل عينها الغبار.. وتأمل مكتبتي التي ّ كأن الكون يودّعك ..لهذا سأكتب، إلى أمي ،كنت نقطة ضعفي غير المُ علنة إلى أبي ،رغم جفائك ..لكني أدرك ثقتك بقدراتي إلى أخَ واتي ،أنتم سور دفاعاتي األخير إلى أوالد أخواتي ،معكم تعلمت أن أكون أم ًا إلى ميسا ء ،ستبقين زهرة مشمش الضيعةِ والغد مشرق ألجلك بسيف ال يرحم ٍ إلى بان ،أنت أقوى مما تُدركين ،حاربي إلى منال ،قلبك نقطة قوتك ،حافظي عليه إلى عبداهلل ،كنتَ الصديق األقرب إلى القلب وأكثر أبق على حنانك ،وأبقني داخلك سر ًا إلى رجل النونِ ، إلى رجل الثلج ،كنت دوم ًا حدث ًا استثنائي ًا إلى كل من تقاطعت معهم، ربما لم تدركوا ،لكني وهبتكم محبتي أوالً.. *
شاعرة من لبنان -صيدا. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
85
ٌ نبضات ■ مالك اخلالدي*
(عمر) ُ
ـزن يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراودُ نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوذُ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلل مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ ـأس يُ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ــاجـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي أع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوذُ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلل م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاألم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـس لـ ـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـ ـ ٌـف إلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌٌّـي يـ ـ ـ ـص ـ ـ ــافِ ـ ـ ـ ُـحـ ـ ـ ـن ـ ـ ــي فـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ُـت أنـ ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ــى وال األيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامُ ُت ـ ـ ـن ـ ـ ـس ـ ـ ـي ـ ـ ـنـ ـ ــي فـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــرِ عـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــرٌ مـ ـ ـ ـ ــن األح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامِ أرقـ ـ ـ ـ ُبـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا ـات س ـ ـتـ ــأت ـ ـي ـ ـنـ ــي ـض اب ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــامـ ـ ـ ـ ٍ ف ـ ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ِـب ب ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ُ (انتماء)
أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أن ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ــي ل ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـثـ ـ ـ ـ ـ ــرى و الـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ِـل ـض ال ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ــدى ـزن ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءِ ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ و حــــــــــــ ِ هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــروحُ لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرارِ ت ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــلُ ـال ُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدى ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ال ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ــرُ دون ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
86
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
(قلب)
هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذا فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــؤادي لـ ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــر اهلل م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ق ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ــدا ب ـ ـ ـ ـ ـ ــاهلل قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامَ ،بِ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدْ ِي ال ـ ـ ـم ـ ـ ـص ـ ـ ـط ـ ـ ـفـ ـ ــى سـ ـ ـج ـ ــدا فـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ــمْ ل ـ ـ ـق ـ ـ ـل ـ ـ ـبـ ـ ــي م ـ ـ ـ ـ ــن األقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدارِ أج ـ ـ ـم ـ ـ ـ َل ـ ـ ـهـ ـ ــا ي ـ ـ ـ ـ ــا رب ..ي ـ ـ ـ ـ ــا رب واجـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ــل أمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َرن ـ ـ ـ ـ ـ ــا رش ـ ـ ـ ـ ــدا (اشتياق)
ـض ل ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ُـت أس ـ ـ ـ ـ ـ ــا ُه لـ ـ ـ ـ ــي فـ ـ ـ ـ ــي «الـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــةِ » ن ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ٌ ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـت أن ـ ـ ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ـ ــى وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ق ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــي ت ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ــاسـ ـ ـ ـ ــا ُه أشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ــاقُ وال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـشـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوقُ ُت ـ ـ ـش ـ ـ ـج ـ ـ ـي ـ ـ ـنـ ـ ــي ل ـ ـ ـ ــواع ـ ـ ـ ـ ُـج ـ ـ ـ ــهُ ي ـ ـ ـ ـ ــا رب فـ ـ ـ ــاك ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ْـب ل ـ ـ ـق ـ ـ ـل ـ ـ ـبـ ـ ــي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـصـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ ّـب ل ـ ـ ـق ـ ـ ـيـ ـ ــا ُه (مطر)
ـاض ال ـ ـ ـ ـ ـ ـشـ ـ ـ ـ ـ ــوقُ سـ ـ ّـج ـ ـي ـ ـنـ ــا ـراب وفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّ َـن ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ حـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــى أت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ال ـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــمُ تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوّاقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًا ل ـ ـي ـ ـس ـ ـق ـ ـي ـ ـنـ ــا األرض م ـ ـ ـ ـ ــا أش ـ ـ ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ــى ق ـ ـ ـصـ ـ ــائـ ـ ــدنـ ـ ــا ُ ي ـ ـ ـ ـ ــا ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذه ح ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ــى ال ـ ـ ـ ـ ـس ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ــاءُ أف ـ ـ ـ ـ ـ ــاض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـت ك ـ ـ ـ ـ ــي ُت ـ ـ ـ ــداويـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــا *
شاعرة وقاصة من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
87
القصيدة ظن ِ ُّ ■ نوره عبيري*
أحقيقة ما صدقناه يا ظن القصيدة حرف ً كلما شاب في آخر القافية وُ لِ َد بصبا اإللهام قافية جديدة يا شعرُ ما كان في انتهائك بمحيطات لساني لحن تأتي إال بحور ِ بأزمنةٍ عنيدة ***
يا شعر كيف ال يكون في رنين وحيك في وريدي وقعٌ بال انتهاء و أنت المهووس في عاصفة الحبر أن أبقى كف فجرها شاعر ًة تعصر في راحة ّ من ليلها الطويل الكريم بوحدته عصفور ًة للصبح أغنيتها وليدة يا شعرُ ما الجدوى كنت أنا الجدوى إن ُ و أنت الجدوى التي تبحث عني مُ تشابهان بضياع الكالم فيك حين تسألني من بالصمت أكملنا؟! تُدلل بي بعض التيه كفتنة عقد في نحر فقيرة للتو صلّت فجر عيدها 88
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
و ركضت لبنات الحي سعيد ًة يا شعر ما أعتقت ظني فيك و أظنك صدقً ا لن تعتقني حتى أؤمن أن الفصاح َة جواب في لحن قولي ٌ حين أُسأل عن اسمي اجيب اسمي القصيد ًة ُ بل اسمي قصيدة تُأول المجهول و تطيله بي ألنني لو كنت أعلم فيك ما خاتمتي كنت أطلت لما ُ في قصير بعض بردي رداء شاعرةٍ أربك لحنها شك صيفي تنطق اللحن في طرف كل غروب شفقه يلوح لي بطيف مسافر و تكسر في مرايا كل مساء مرآة عطري من آني ..يا شعرُ أنت تأتي تُقبلُ ،و أجهل بأنك مُ دبر و تدبرُ ،و تلعب بالعطش في دعابات كأسي تُذكرني أن الظنَ فيك صدقً وأن الزيف الذي عطش ً يُ ريبني فيك ليس بعدل ِ نصف الحقيق َة بي َ يقينً يُ أنت الظن الذي تصدقه القصيدة حين يثور شكي و ال أظنُ سوى أن اسمي القصيدة. *
شاعرة من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
89
قصيدتان ■ غسان تهتموني*
اآلخر من حلمي ِ الطرف ِ في
المكتوب ْ إظفرك ِ لم يجرحْ لم تبتسمي كالعاد ْة بالصمت ِ أسرف َ فكالنا ونادا ُه الدفترُ إيَّا ْه بالشوق مراد ْه ِ عبأ نصفين ِ نصفين إلى ِ وتشقَقَ حزني بعينيك مداد ْه ِ فخلت الشع َر ُ البرزخ ِ فأتمِّ ي لألعراف طقوس كوني لليل سهاده لماذا..؟ تصدِّ ُر فيَّ الجرا َح إذا ما رشقتَ السهاَ َم وتقسو بدونك ِ وتعلمُ أنَّي قليلٌ الحرب وحدي ِ أعدو إلى هناك َ أماميَ رومٌ فرس هنالك ُ َ وخلفي فسيح عتابي ٌ قتيلٌ حمامي وتسألُ كيف بدت عنقي ترس للعواذل ُ ِ هلل لي ا ُ يحالفك طرفي َ إن لم إذا ما أطال الزفي َر نواحٌ وطار بُعيدي حس خيامك للقبر ُّ َ وزلفى *
90
شاعر من األردن.
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
لي اهللُ
نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوص
أذوب عليك ُ ■ عبداهلل مفتاح*
قليل على ال َرّمْ ِل، ً َو ل َنبْقَ نبني بيوتًا، وسورًا، ُ ْك ونهرب من موجةٍ تتهادى إ َلي ْ ُ البيوت وروحي، ُ فتذوب ُ سأرسمُ قلبًا!.. ُ أج ُث.. تقولينْ : فأجثو.. ْك ت َُض ِ ّمينَ قلبي بكلتا َي َدي ْ فأذوب بِ َل مَ وجةٍ تتهادى ُ أذوب.. ُ أذوب.. ُ ْك أذوب علي ْ ُ *
شاعر من السعودية. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
91
ُأ ِ ّ الحياة شجرة فك ُر في ِ ِ ■ جمال موساوي*
في كل هذا الضجيج، شمس، ٍ أنا اآلن بال أتأمل الكرة األرضية تخطو في الظال ْم ثمَّ كما لو أنني الحرب، ْ مسكون بروح أغيرُ على ممالك ماضيةٍ ، هناك ما ينبغي أن أستعيدهُ: َ شمسي التي ربيتُ ها في بيت الحاضر صنارتي التي أصطادُ بها المستقبلَ ، وطريقي. أفكرُ في الكرة األرضيةِ ، ممالك آتيةٍ ، َ تنسف الظال َم إلى ُ وفي خطواتي هناك ما ينبغي أن يكون لي: َ غطا ُه الغبا ُر وجهي وقد ّ ويدي لتكتبَ ما يوحي هذا الضجيجْ وطريقي التي في نهايتها عش فيه طيور. ستنب ُُت شجرة فوقها ّ أفك ّر في الكرة األرضيةِ في الظالمِ في صدري الذي يهتزُّ في الطيور التي ستخرجُ ساخر ًة من الصيادِ الصيد ِ كالب ومن ِ الضجيج ِ في روحي التي ستصعدُ أعلى من الحرب ِ فكرتي عن ِ وفي واألسرِ والحياة. فحسب. ْ أفكر في شجرة الحياة *
92
شاعر من المغرب.
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
قصة الكاتبة األمريكية :كيت شوبان
*
■ ترجمة :أميرة الوصيف**
تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة
ُ الرجل األعمى
بيد واح ــدة ،يهبط أسفل الـشــارع .قبعته القديمة رجــلٌ يحمل صندوقً ا أحمر صغير ًا ِ القش ،وثيابه الرَثة تبدو وكــأن المطر ضربها كثيراً ،وأن حــرارة الشمس ّ المصنوعة من جففتها مرات عديدة .لم يكن الرجل عجوزاً ،إال إن عالمات الوهن تبدو جَ لي َة عليه. مشى الــرجــل ذاه ـ ًـا تحت الشمس على امـتــداد الرصيف الكالِ ح ال ـحــارِ ق .فــي االتجاه المُ عاكس من الشارع ،يوجد المزيد من األشجار؛ التي تُلقي بظاللها ،كان الناس جميعهم يمشون في ذلك االتجاه إال ذلك الرجل ،لكونه أعمى ،وعالو َة على ذلك ،ألنه غبي. في الصندوق األحمر الصغير أقالم الرصاص ،جرس الباب ،لم يكن بحاجة إلى أقالم الرصاص، وليس لديه أية نية للتورط في إزعاج سيدة المنزل كان الرجل يسعى جاهداً إلى بيعها. ـصــا ،ولكنه حول مثل تلك األشياء التافهة. لــم يكن الــرجــل األعــمــى يملك عـ ً ظل الرجل في الخارج طيلة الوقت ،ومشى ُرشد نفسه ،إما بسَ حب قدميه على امتداد كان ي ِ لمسافات طويلة دون أن يبيع شيئاً. ِ أحجار الواجهات ،أو من خالل تَتَبع يديه للسياج الحديدي. ذات نهار ،قام شخص ما بمنحه ذلك الصندوق
عندما وصــل األعمى إلــى درجــات منزل ما ،المليء بأقالم الرصاص ،وأرسله ليكسب عيشه حاول أن يصعده ،في بعض األحيان عندما يصل بعد أن سأم من تجوال ذلك األعمى في كل مكان. الرجل إلى الباب بعد تكبده العناء ،ال يفلح في الجوع بأنيابه الحادة قرص معدته ،والظمأ إيــجــاد الــزر الكهربائي ،عندها يــحــاول الرجل الشديد جَ فّف فمه ،وعذّبه. واضح ،ويذهب في طريقه. ٍ النزول بصبرِ كانت الشمس تغلي ،تج ّو َل الرجل األعمى في بــعــض الــبــوابــات الــحــديــديــة ُمــقـ َفــلــة ،سافر مالبسه الثقيلة ،كان يرتدي سُ ترَة ومعطفاً فوق أصحابها من أجــل إجــازة الصيف ،كــان الرجل القميص ،كان بإمكانه تغيير هذه الثياب ،وحملها األعمى يستهلك وقتاً طوي ً ال يُجاهِ د في فتح تلك على ذراعــه ،أو إلقائها بعيداً ،لكنه لم يفكر في البوابات ،ولعل ما يحدث فارقاً هو أن األعمى ذلك. يظن أن الزمن كله تحت تصرفه. شاهدته امــرأه عطوفة من نافذتها باألعلى، في ذلك الوقت ،نجح الرجل األعمى في إيجاد شعرت باألسى حياله ،وتمنت لو بإمكانه عبور الظل. الزر الكهربائي ،ولكن الرجل أو الخادم الذي أجاب الطريق إلى حيث ِ
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
93
من أيــن أتــت كل هــذه الجماهير فجأة؟! هل عرج الرجل األعمى إلى الشارع الجانبي حيث السحر؟ الجَ لَبة ،والضوضاء التي أحدثها مجموعة أطفال جاءت بفعل ِ أشقياء أثناء اللعب. األوالد يهربون ،الرجال والنساء يذرفون الدمع جــذب لــون الــصــنــدوق الصغير الــذي يحمله لمُصافحة أعينهم ذلك المشهد البغيض ،األطباء الرجل األعمى انتباه األطفال ،وأرادوا بشدة أن يكتشفوا ما يوجد في داخله ،حاول أحد األطفال يندفعون مع حقائبهم ،وكأن السماء هي مَن قامت أن يأخذه ويهرب ،إال إن غريزة الرجل األعمى بإرسالهم مُباشرةَ إلى هنا.
لحماية نفسه ،والدفاع عن مصدر رزقه الوحيد، تنامى الرعب والفزع عندما أدرك الحشد أن جعلته يُــقــاوِ م ،ويــصــرخ فــي األطــفــال ،وينعتهم الرجل الميت ،صاحب الوجه المُشَ وه هذا هو أحد بالشتائم. األشخاص األكثر ثراءَ ،األكثر قيمة ،األكثر تأثيراً جــاء أحــد رجــال الشرطة إلــى حيث الجَ لبَة في المدينة! الــمــوجــودة فــي زاويـ ــة ال ــش ــارع ،وعــنــدهــا وجــد رج ــل مــثــلــه مــعــروف بــحــصــافــتــه ،وحكمته، أن الــرجــل صاحب الصندوق هــو مركز التوتر واإلزعاج ،اقترب منه الشرطي ،وجذبه من ياقته ،وبــصــيــرتــه الــنــافــذة كــيــف يــاقــي ه ــذا المصير ولكن عندما رأى أنه أعمى ،امتنع عن تعنيفه ،الرهيب؟! وأرسله في طريقه ليكسب عيشه. كان المسكين يقود بسرعة بالغة من مقر عمله عاد الرجل مرة أخرى ،يمشي تحت الشمس حتى يَلحق بأسرته التي ستبدأ عطلتها الصيفية الحارقة ،هائماً على وجهه ،يتجوّل بال فائدة ،ثم انعطف إلى شارع مزدحم بالسيارات الكهربائية خالل ساعة أو اثنتين في منزلهم الصيفي على أصوات صاعقة ساحل المحيط األطلسي. ٍ الوحشية التي ال تَكف عن إصدار ذهاباً وإياباً ،تُطلَق أجراساً مُفزعة ،حرفياً كانت أثناء عجلته ،لم يَلمح السيارة األخرى القادمة األرض ترتعش تحت قدميه من قوة دفعها المُريعة. من االتجاه اآلخر ،وعندها تكرر الشيء الشائع، عندما بدأ الرجل األعمى يعبر الشارع ،شيء المروع ،األليم نفسه. ما حدث ،شيء مُريع؛ شيء ما جعل النساء تُصعَق، لم يكن يعرف الرجل األعمى ِل َم كانت كل هذه وجعل أقوى الرجال يشعرون بالمرض والدوار! الضجة ،كان قد عبر إلى الشارع ،هناك ،حيث ال َ شفاه السائق كانت شاحبة تماماً كوجهه، ارتعش الرجل و تَ َرنّح من َهــول الجهد البشري يزال يتعثر تحت أشعة الشمس الحارقة ،ساحباً الخارق الذي بذله من أجل إيقاف سيارته. قدميه على امتداد أحجار الواجهات.. * كيت شوبان ،كاتبة قصص قصيرة وروائية أمريكية ،تعد شوبان من رواد األدب األنثوي في القرن العشرين .كتبت شوبان بين 1892و1895م عدداً من القصص القصيرة .من أعمالها الكبرى مجموعتان قصصيتان هما «جماعة بايو» (1894م) و«ليلة في أكادي» (1897م) ،ومن أهم قصصها القصيرة «طفل ديزيريه» (منشورة في سنة 1893م) و«قصة ساعة» (صدرت في 1894م) و"العاصفة" .حصلت كيت شوبان على اعتراف واسع بعد مرور عشر سنوات على مماتها بصفتها من كبار مؤلفي زمانها..
94
** كاتبة ومترجمة مصرية ،مصدر النص :موقع األدب األمريكي العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
.American Literature
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
الشاعر أحمد اللهيب: التأثر والتأثير عملية نفسية معقدة ال يمكن حصر أبعادها من خالل قصيدة واحدة أو اثنتين!.. الشاعر أحمد سليمان اللهيب من مواليد مدينة بريدة 1971م .هو رفيق الكلمة التي تليق بصوته ،فهي ترافقه في فضاء الشعر ،والحياة تمده من خبرات جمالية وثقافية وتربوية ،وهذه الخبرات هي األساس التي تغذّ ي تجربته في الكتابة؛ وله الكثير من المشاركات في األمسيات الشعرية ،والتي توثّق مُ نتجه األدبــي ،وهو يتسلح بثقافة أصيلة وبروح تنتشي بإيقاعها المتفرد .عندما سألته عن دواوينه وكتبه النقدية قال" :على الباحث أو المبدع أن يجعل التأليف النقطة األولى في عالمه ،فالكتاب هو األبقى ،واألجمل ،والتاريخ يشهد بذلك ،فمن بقيت مؤلفاتهم بقوا وعاشوا إلى وقتنا ،ومن غابت مؤلفاتهم وضاعت فقدوا .ومن هنا كانت حكاية المشروع ،المشروع أن تكون حاضرً ا بين فينةٍ وأخــرى بكتاب أو دراســة أو ديــوان شعر ،وال ريب أن كل كتاب يصدر لي يجعلني بصدد البحث عن تأليف كتاب آخر. وهكذا الوالدة ليست موتا ،بل حياة أخرى في عالم التأليف .وهنا وجدت نفسي، الخرج بقية" ..الجوبة فكانت هذه الدراسات وهذه الدواوين الشعرية .وما يزال في ِ ومن هذا البوح الجريء ،توثق حوار ًا مع الشاعر الدكتور أحمد اللهيب.. ■ حاوره :عمر بوقاسم العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
95
األمسية الشعرية لها بريق جماهيري ،ولها أهمية في سيرة الشاعر ،فهي إضافة نوعية وكمية له العودة للقصيدة التناظرية دليل على أن الشعر اآلن يعيش وهجا جديدا ،وبخاصة مع وجود شعراء أعادوا للقصيدة بريقها!.. الشاعر ابن لقراءاته مهما كانت ..إال إن االستقالل أمر مهم حتى تبرز شخصية الشاعر وأصالته من خالل التجربة الشعرية الخاصة!.. الذاكرة تعود بي إلى المرحلة الثانوية!.. ¦أح ـمــد الـلـهـيــب مــن األس ـم ــاء ال ـتــي بــرزت فــي الـمـشـهــد الـشـعــري ال ـس ـعــودي ،أهــدى المكتبة ع ــدد ًا مــن اإلص ـ ــدارات الشعرية وال ـن ـق ــدي ــة ،م ـن ـه ــا« ..اتـ ـج ــاه ــات ال ـبــاغــة الجديدة في مجلة فصول 2016-1980م» عــام 1441ه ــ« ،نـظــرات في الشعر العربي» ع ــام 1437هـ ـ ــ« ،أوراق مــن حـلــم لــم ينته»، «النبع الحزين» عام 1424هـ« ،قربان لحزن ال يبصر» 2013م؛ إضافة لعدد من الكتب الـنـقــديــة وال ـش ـعــريــة .مــا الـمـســاحــة التي اختصرتها هــذه اإلص ـ ــدارات مــن مشروع أحمد اللهيب مع الكلمة؟
96
ρ ρبالنسبة لسؤالك عن إصداراتي من الكتب شعرًا ونقدًا ،فلعل الذاكرة تعود بي إلى المرحلة الثانوية ،حين كان أستاذنا للغة الــعــربــيــة محمد الــشــويــعــي فــي مــدرســة العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
الملك عبدالعزيز الثانوية ،يقدم لنا بين الفينة واألخرى كتبًا لنقرأها ،ويهدي لنا شيئا منها ،فكانت العالقة مع الكتاب منذ تلك اللحظات تتشكل في طورها األول، كان الشعر يجري في لساني في مواقف متباينة بأبيات تبحث عمن يقومها ،وكان ذلك األستاذ هو الطريق األولــى لتلمس الصواب في كتابة الشعر. من هنا ،كان البحث عن الذات في الشعر، ونبش الشعر في الذات ،فكانت المرحلة الجامعية هــي الــسّ ــداد فــي ذلــك ،حيث القراءة واالطــاع ومعرفة الشعر العربي مــنــذ عــصــوره األول ـ ــى ،وبــيــن كــتــاب في يدي وكتاب بين عيني ،وكتاب في أدراج المكتبة ،كانت والدة هاجس التأليف ،وما زلتُ مقتنعًا بأن التأليف هو الباقي ،وأن على الباحث أو المبدع أن يجعل التأليف النقطة األولــى في عالمه ،فالكتاب هو األبقى ،واألجمل؛ والتاريخ يشهد بذلك، فمن بقيت مؤلفاتهم بقوا وعــاشــوا إلى وقــتــنــا ،ومــن غــابــت مؤلفاتهم وضاعت فُقدوا .ومن هنا ،كانت حكاية المشروع، الــمــشــروع أن تــكــون حــاض ـرًا بــيــن فينة وأخــرى بكتاب أو دراســة أو ديــوان شعر، وال ريب أن كل كتاب يصدر لي يجعلني ـاب آخــر. بــصــدد البحث عــن تأليف كــتـ ٍ وهكذا الوالدة ليست موتًا ،بل حيا ًة أخرى في عالم التأليف .وهنا ،وجدت نفسي، فكانت هــذه الــدراســات وهــذه الــدواويــن الخرج بقية. الشعرية .وما يزال في ِ
¦كناقد مــرة ومـبــدع «شــاعــر» مــرة أخ ــرى،.. يحضر الــدكـتــور أحـمــد اللهيب ،هــل ثمة عالقة جدلية بين النقد واإلبــداع ،وكيف وفقت أنت بين االتجاهين؟ ρ ρال أستطيع تحديد مدى التوفيق في ذلك، وللقارئ أن يرصد مالمحه في المسارين نــق ـدًا وشــع ـرًا ،أمــا العالقة بين الشعر والنقد ،فما يتصوره العقل أن العالقة يجب أن تكون حاضرة ،ولكن في الواقع نجد أن مسافة كــبــرى تقطع صلتهما. الواقع أن الشعر يسير في اتجاه يكثر فيه الشعراء وتتجدد فيه القصائد ،بينما نجد انحسارًا في جانب النقد والنقاد ،وكثير منهم تحولوا إلى مجاالت أخرى من النقد الثقافي أو النقد االجتماعي أو الفلسفي؛ ومن هنا ،نجد عملية إفالس النقد بجانب ازدهار الشعر ،والعودة للقصيدة التناظرية دليل على أن الشعر اآلن يعيش وهجً ا جديدًا ،وبخاصة مع وجود شعراء أعادوا للقصيدة التناظرية بريقها ،وتقاطعت مع الذاكرة العربية التي تستحوذ عليها القيم اإليقاعية والتناظرية ،فوجدت هذه القصيدة مكانتها ،وهي ما تنبأت به نازك المالئكة منذ خمسين سنة ،بأن القصيدة التناظرية ستعود.
المحاوالت تندرج تحت هذين المسارين؛
فوقع النقد في ورطة ،حاول أن يستعير من العلوم األخرى ما ينهض به ،لكنه تعثر مرة أخرى ،وحتى في العلوم المساندة للنقد
مثل النحو والبالغة ،لم يعودا تقليديين كما
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
العالقة بين الشعر والنقد!..
االتــجــاهــات النسقية داخ ــل الــنــص ،كل
نعرف ..ثمة تحوّالت كبرى يشهدانها في مجاالت علم اللغة واللسانيات الحديثة من جانب النحو ،وتحليل الخطاب وعلم النص من جانب البالغة .ولذا النقد في ورطة،
والنقاد في ورطة أخرى ،فاتساع مساحة النقد ودخوله في مسارات مختلفة جعل
النقاد في حيرة؛ إضافة إلى أن التعامل مع النص اإلبداعي لم يعد سهال ،فالنص
تــراكــمــات مــتــجــذرة فــي عقلية المبدع،
أعود للنقد في جانب ،ال أحب أن أغفله، فالنقد في مسارين كبيرين ،نقد سياقي، ونقد نسقي؛ ومن هنا ،كانت االتجاهات السياقية في النقد خــارج النص ،بينما العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
97
ولذا يحتاج النقاد إلى الغوص الكتشاف مساحات اإلبداع والتفرد فيه. ما تقوله اللوحة تعجز عنه الكلمات!.. ¦«أب ـ ــي ك ــان رسـ ــام ـ ـاً» ،ه ــذا ع ـن ــوان مـقــالــك الـمـنـشــور بمجلة الـيـمــامــة ،وال ــذي ترثي ف ـيــه ال ــزم ــن ال ـج ـم ـيــل ل ـمــدرســة الـعـبــاس ابــن عبدالمطلب االبتدائية التي درست بها ،وكان والــدك مدرسا بها والــذي كانت لــه رس ــوم ــات عـلــى جـ ــدران ه ــذه الـمــدرســة الـتــي تــم هدمها لتجديدها ،ولـكــن لهذه الرسوم قيمة أبعد من العاطفة في نفس الشاعر أحمد اللهيب ،ما األثر الذي تركه سـلـيـمــان الـلـهـيــب ورســومــاتــه فــي الشاعر أحمد اللهيب؟ ρ ρسؤال مؤلم ،ال أعلم لماذا ال نحافظ على شيء من خصوصيتنا العمرانية ،المدن تتشابه أســواقــهــا وشــوارعــهــا وبناياتها، لم نعد قادرين على تمييز هــذه المدن، نحاول أن نفرق بينها .حين تمسح ذاكرتك بهدمها ،وذاكــرة والدك أيضا يكون األلم
أي موقع حاسوبي حين تزور ّ ستجد أنك في عالم مليء باألسماء الشابة الجديدة التي تتعاطى الكلمة اإلبداعية بأساليب وطرق متنوعة!.. بين كتاب في يدي وكتاب بين ي ،وكتاب في أدراج المكتبة، عين َ ْ كانت والدة هاجس التأليف!.. 98
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
أشد وآلــم .الخيبة تتمثل في أن الرسم لم يعد فنًا يمكن أن يعيد الحياة لنا من جديد ..أن يبعث السرور والنشوة بطريقة مختلفة روحــيــة غير مــاديــة ،الــرســم هو التحول الجميل بين واقعين ،واقع مادي وواقــع فني ،ما تقوله اللوحة تعجز عنه تشف عنه اللوحة تقصر ّ الكلمات ،ومــا عنه األغنيات. أما والدي سليمان اللهيب -حفظه اهلل - فقد كان ذا أثر كبير في حياتي الثقافية حريصا على أن ً والعلمية ،منذ الصغر كان نتعلم ،وكانت فرحته بحصولي على درجة الــدكــتــوراه كما يقال (تسوى الدنيا وما فيها) ،ال شك بأن أبي ترك فيّ قدرة على بناء شخصية تعتمد على نفسها ،وتسعى لنيل درجــات علمية ،وتسجل حضورها ثقافيًا وأدب ًيًا ،أبي هو المحرك األول لي ألكون حاضرا في عديد من المناسبات، فاسمي ال يرتفع إال باسمه. بريق جماهيري!.. ¦أقمت أمسيات شعرية في عدد من المنابر كاألندية األدبـيــة والمهرجانات الثقافية، طبعا هــذا الـتــواصــل المباشر مــع الـقــارئ «الجمهور» ،له الكثير من األهمية للشاعر، فهو يتعرف كيف تصل قصيدته لآلخرين، ومـ ــدى األثـ ــر الـ ــذي تـتــركــه الـقـصـيــدة من خ ـ ــال درجـ ـ ــة ال ـت ـف ــاع ــل .ال ـش ــاع ــر أح ـمــد اللهيب ،هل يؤيد ويؤكد أهمية مثل هذه األمسيات الشعرية؟
ال ليل أو نهار يحيطني!.. ¦بعض الـشـعــراء والمبدعين بصفة عامة يـلـتــزمــون بـطـقــس مـعـيــن أث ـنــاء الـكـتــابــة، أحمد اللهيب ،كيف ومتى يكتب؟ ρ ρال طقوس يمكن أن أسجلها هنا بمعنى أن تكون غريبة أو خارجة عن المألوف أو حتى ساذجة .طقوسي -إن شئت أن
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
ρ ρال ريــب أن األمسية الشعرية لها بريق جماهيري ،ولها أهمية في سيرة الشاعر، فهي إضافة نوعية وكمية له ،نوعية من حيث الجهة الداعية ونوع المناسبة الثقافية ومن حيث الحضور؛ فالشاعر يقدم نفسه، ويــقــدم عقله وشــعــره للقارئ المستمع، وهــذا سيخرج بانطباع يكون له أثــر في نفس الشاعر ،فالشاعر الذي يحرم نفسه المشاركة في األمسيات الشعرية يكون قد أغلق على نفسه بابًا من التواصل الثقافي واألدبي والحضور االجتماعي ،ليس بحثًا عن الشهرة ..بل هو تقديم نفسك في مجال تحبه وتبدع فيه وقد تتميز أيضا، ولكن يجب أن يختار الشاعر القصائد المناسبة للحدث الثقافي الذي دعي له، وللحضور .فقد يقع في ورطة حين يجد أن المتلقي لم يكن متوقعًا أو كما يحب. وأذكــر أنني شاركت في مؤتمر وألقيت قصيدتين إحداهما عنوانها (مدونة في خاصرة الوطن) ،واألخرى بعنوان (صباح مُحلى حبًا) فلقيت الثانية استحسانا من المستمعين ألنها كانت غزلية.
ـال ال تسميها طقوساً ،-فقط ،مكان خـ ٍ أحد فيه ،وقلم أحمر في الغالب ،وورقة بيضاء بِكرٌ ،ومساحة من ال ــدوران على القدمين أو طريق طويل أكون مسافراً فيه يمتد مع وحدة ال رفيق فيها سوى الشعر والــذكــريــات ،هكذا تكون القصيدة في الغالب حاضرة .ال ليل أو نهار يحيطني، بل كل وقت هو ملك لحالة اإللهام التي تنتابني ،وغــالــبـاً هــي حــالــة مــن التأمل والشعور بالغربة وحنين إلــى الذكريات التي تسكن في أعماقي ،ووحــدة تحرق أنفاسي التي تتصاعد بين الفينة واألخرى بألم وتوتر داخلي ال يظهر على الجوارح، فأنا ال أبدي رفضاً أو غضباً ،وال أكسر األشياء من حولي ،وال أمــزق الورقة تلو األخرى ،إنما هو توتر داخلي سحيق في العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
99
كهوف مظلمة تصاحبه حالة من صمت عميق وجميل ،هكذا تولد القصيدة من رحــم األحـ ــزان ل ــدي ،ألنــهــا عشق أبــدي يتغلغل في خواطري ويسبح بين أحاسيسي ودواخلي .هذا ما يمكن أن أ ُسميه طقوساً كتابية! .لم تكن تجربة الكتابة اإلبداعية لتولد بشكل قسري أو حالة إجهاض ،بل هي تأتي فجأة!
100
الــتــي تترسب فــي داخ ــل العقل العربي مكونات ال تناسب واقــعــه ،وال يستطيع التخلص منها .والنتائج التي يحققها ليست إال ردود أفعال؛ ولهذا ،ال توجد استراتيجيات يعتمد عليها في تحقيق األثر المنشود في الخطاب اإلبداعي؛ ألنه خطاب محكوم بغيره. أدونيس ارتد عن كتابة قصيدة النثر!..
البحث عن األثر!.. ¦كثير من الشعراء الذين كــان لهم موقف ¦لـيــس ه ـنــاك أث ــر واضـ ــح حـتــى اآلن على مــن قصيدة النثر تغيرت نظرتهم عنها، مضمون أو شكل الخطاب اإلبــداعــي ،في وأصـ ـبـ ـح ــوا ي ـت ـعــاطــون ـهــا ق ـ ـ ــراءة وك ـت ــاب ــة، ظ ــل ال ـت ـغ ـيــرات الـسـيــاسـيــة واالق ـت ـصــاديــة وخــاصــة بعد تـصــدرهــا المشهد الشعري التي يشهدها العالم العربي في السنوات العربي ،أليس هذا دلي ًال على قدرتها على األخيرة ،برأيك ما سبب غياب األثر؟ االستمرار واحتواء ما عجزت عنه قصيدة ρ ρالــمــوضــوع شــائــك ومــتــرابــط ،والــبــحــث التفعيلة؟ عن المكونات األســاس في تكوين العقل ρ ρأصبحت قصيدة النثر واقعًا ،وال يمكن أن العربي هو الذي سيفتح الباب الحتمال إيجاد إجابة واضحة تساعد على تصور األثــر للخطاب اإلبــداعــي؛ فهذا السؤال يطرح عدة تساؤالت يمكن أن تعد خطوة فــي البحث عــن األثـــر ،بـــدءًا مــن ســؤال معرفي محض وهو :مدى القدرة الجدلية للعقل العربي للخلوص من المشكالت التي تواجهه؟ ومرورًا بسؤال آخر هو :ما مكونات العقل العربي القادر على صناعة األثر؟ وسؤال ثالث :ما قدرة العقل العربي على التخلص من سيطرة اآلخر لتحقيق تصور مناسب لواقعه وحياته؟ وغيرها، ألن الورطة التي تواجه العقل العربي في أمرين :ما مكوناته؟ وما نتاجه؟ المكونات العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
نتخلى عنها أو نحاربها ،والحكم الفصل ح ــول الــتــنــازع المستمر بــيــن القصيدة التناظرية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أصبح شبه مستحيل ،والزمن هو القادر على تمحيص الحق في ذلك ولمن البقاء. ولكن من الجدير ذكره أن أدونيس ارتد عن كتابة قصيدة النثر مشيراً إلــى أن كتابتها تستلزم مبدعها (موهبة وثقافة عاليتين) ..وهــذا لــم يتوفر لــدى غالب الشعراء الذين كتبوا هذه القصيدة .يقول أدونيس في كتابه «زمن الشعر» في رسالة بعثها إلى يوسف الخال مبرزاً ثناءه على أنسي الحاج الــذي تفرد بكتابة قصيدة الــنــثــر :أنــســي ه ــو ،بيننا األنــقــى .نحن ال أو كثيراً»؛ اآلخرين ملوثون بالتقليد قلي ً وبهذا يتنكر أدونيس لمسيرة ما يقرب من ثالثين عاماً من عمر هذه القصيدة، علماً أ ّن أدونيس من أبرز الشعراء والنقاد الــعــرب الــذيــن أك ــدوا على ترسيخ هذه الوعي النقدي!.. القصيدة في الشعر العربي المعاصر، إ ّن هــذا الموقف يجعلني استنكر على ¦مــن المؤكد ال يغيب عنك دكـتــور أحمد، أن هناك تـجــارب نقدية سعودية وعربية بعض شعرائنا الشباب الــذي يخرج بين استحضرت في سياقها مصطلحات غربية الفينة واألخــرى معلناً أنه الوحيد الذي لها مرجعيتها وواقـعـهــا ،هــل هناك مبر ٌر يستطيع كتابة قصيدة النثر بالشكل الفني إيجابيّ لهذا التجنيس للمصطلحات في ناد الصحيح ،ويرفع عقيرته منادياً في ك ّل ٍ الثقافة العربية؟ بين اآلونــة واألخــرى أنه بقصيدة سمجة بلغ مبلغ الشعراء الكبار ،وهي في الحقيقة ρ ρهــذا جــزء مــن واقــع النقد األدبـــي ،فهو كــام رُجــم بعضه فــوق بعض ،ولألسف يعاني من حمولة مثقلة بالمصطلحات الشديد تجد بين أروقة مالحقنا الثقافية النقدية الــمــتــعــددة؛ ول ــذا ،ظــهــرت كتب مَن يرسم له صورة المبدع الف ّذ في زمن المصطلحات الــتــي تترجم عــن الغرب تترى عجائبه .وال أتصور أ ّن أدونيس هو وتنقل ما توصلوا إليه من مصطلحات. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
الشاعر الوحيد الــذي أنــف مــؤخــراً من كتابة قصيدة النثر؛ ألنها ببساطة تحتاج إلــى ثقافة عُمرية طويلة ،وإلــى موهبة أصيلة ،وتجربة حيوية عظيمة ،بــل ال غرو أن رجع وسيرجع غيره .وإذا تصوّر شعراؤنا الشباب أنهم بتقليدهم اآلخرين، مشروع ثقافي ٍ ومناداتهم بأنهم أصحاب أدب ـ ـ ٍـي ســـوف يــمــزق الــحــجــب ويكشف األسـ ــرار ،إنــمــا هــم كمثل الــغــراب الــذي أضاع مشيته ومشية الحمامة .وهم ..أما علموا أن الشاعر الغربي إنما يصدر في كتابته لهذا النوع من اإلبــداع الفني عن وعـ ٍـي وتــوجـ ٍـه أدبــي وثقافة أصيلة ،وما أشبه شعراءنا الشباب المقلدين للغرب في كتابة هذه المزعومة قصيدة بشبابنا لباس المقلّد للغرب بشكله الخارجي من ٍ أو قصة شعر أو غيرها ..وهو بذلك غير واع وال فاهم. ٍ
101
إن الحديث عن المصطلح النقدي يظل شائكًا وصعبًا ،وبما أن هــذا الحضور يلزم القارئ أن يتأمل وأن يتدارس وأن يتذاكر هــذه المصطلحات الغربية على وجه التحديد ،فإنه بات لزامًا علينا أن نبحث عــن تقريبها إلــى العقل الناقد، لكي يتمكن مــن أن يطبقها على أرض اإلبداع الشعري والسردي .والورطة التي وقع فيها النقاد هي أنهم يستعملون لغة نقدية غير مفهومة تنحو إلى تغريب النقد وتجهيل الــقــارئ ،ولــو سعوا إلــى الكتابة بلغة يفهمها القارئ العادي ،وانطلقوا من (الوعي النقدي) دون استجالب لنظرية ما ،واستغنوا عن اشتقاق المصطلحات الخاصة بــه ،لــوجــدوا لبضاعتهم سوقًا رائجة غير كاسدة ،وجمهورًا واسعًا يثق بهم ،وينافح عن مقوالتهم .غير أ ّن واقع النقد األدبــي يعكس غير ذلــك ،فالناقد يسعى بكل ما أوتي من معرفة -تلقفها من اآلخر /الغربي -إلى استعراض عضالته الفكرية ،فيردد ما قاله اآلخرون إن صدقاً وإن كذباً إثباتاً لذاته واحتقاراً لغيره. عالقة الترجمة بقصيدة النثر العربية!.. ¦«قصيدة النثر ترتبط بالذائقة األجنبية وال ـ ـتـ ــراث األجـ ـنـ ـب ــي ،ول ـي ـس ــت ن ــاب ـع ــة مــن التراث العربي» ،هذه العبارة تحمل تصوّر بعض اآلدباء .الشاعر أحمد اللهيب ماذا يقول..؟
102
ρ ρهـ ــذا الـــســـؤال يــعــود بــنــا إلـ ــى مــفــهــوم العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
(التأصيل) ،والحقيقة يجب أن نفهم أو نعي جيدًا ما خصائص قصيدة النثر؟ وما مكوناتها الفنية؟ ثم بعد ذلك ننظر في تراثنا العربي ..هل يمكن أن تتقاطع هــذه المقومات معه ..أو هل يمكن أن نجد أرضية مشتركة بين قصيدة النثر (نظريًا وإبداعيًا) والنثر الفني العربي؟ وه ــذا سيدخلنا فــي جــانــب آخ ــر ،وهو عالقة الترجمة بقصيدة النثر العربية، هل أثّــرت الترجمة على كتابات ُكتّاب قصيدة النثر؟ ولذا فالتساؤل يحتاج إلى تساؤالت كي نجد مساحة من القول فيه. ومــن ثــم سنعود إلــى تحرير المصطلح نفسه فــي الــثــقــافــة الــعــربــيــة والثقافة الغربية ،ونعود إلــى الورطة نفسها في
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
العالقة بين القصيدة والنثر .وكما ذكرت سابقا أصبحت قصيدة النثر واقعًا ال يمكن التخلي عــنــه؛ ولــذلــك ،ال يمكن نفيها مطلقاً ،فهي مرت بمرحلة التكوين، وهي اآلن تقف ثابتة أمام النقاد .كتاب قصيدة النثر يحملون لــواء( :نحن قليل لكننا موجودون) ،لكن تبقى فنية قصيدة النثر مرهونة بقدرة كاتبها وثقافته ،فهي فــن يعتمد التركيز ومتابعة التفاصيل الــدقــيــقــة ،والــتــقــاط الــصــور الجزئية وتشكيلها في صــورة كلية ،وهــذا ما ال يوجد في التراث العربي.
دار تستطيع إيصال صوته أو إبداعه، مع تحمله تكاليف هذا النشر والتوزيع. ولعل أسباب هذا كثيرة ومتعددة .فالنظر لواقع القراءة على مستوى الفرد موضع استفهام ،والنظر لوجود ما يزاحم الكتاب مــن مــجــاالت أخــرى رياضية وترفيهية واقتصادية موضع آخر يستحق االهتمام؛ كــذلــك جـــودة الــمــحــتــوى ل ــدى الــكــاتــب، فالتميز اإلب ــداع ــي سيحظى بالنشر والــتــوزيــع ،لكن أدرك أن وضــع النشر والتوزيع فيه صعوبة أيضا. الشاعر ابن لقراءاته!..
هذا قصور مني!.. ¦أنت قارئ جيد للتراث الشعري 00شعراء ¦كيف ترى قراءة النقاد لتجربتك؟ اليوم منهم مَ ن لم يقرأ وليس لديه أص ًال أدوات القراءة لهذا الموروث ،ويحرصون ρ ρلم أقف على قراءات كاملة لديوان شعري على قراءة بعضهم وما هو مترجم ،ماذا كامل لي ،ولعل هذا قصور مني ،ما وقفت تقول في هذا؟ عليه هي قراءات لقصائد معينة .ولذا، الحكم هنا يــكــون غير واض ــح أو غير ρ ρدائما نسمع أن المبدع ابــن بيئته وهو مكتمل. أيضا ابن قراءاته ،فالتراث هو االنطالقة في زمن شبكات التواصل االجتماعي!.. ¦دائ ـ ـ ـمـ ـ ــا هـ ـ ـن ـ ــاك شـ ـ ـك ـ ــوى مـ ـ ــن ال ـ ـش ـ ـعـ ــراء بخصوص النشر والـتــوزيــع! هل واجهت هذه المشكلة؟ ρ ρهــي شــكــوى عــامــة ،وبــخــاصــة فــي زمن شبكات التواصل االجتماعي التي سهلت الوصول إلى أي نص أو أي قصيدة ،ولذا أصبح الشاعر أو الكاتب يبحث عن أي
األولى التي يجب على الشاعر أن يجعلها محور اهتمامه ،الشاعر ابــن لقراءاته مهما كانت ..إال إن االستقالل أمر مهم حتى تبرز شخصية الشاعر وأصالته من خالل التجربة الشعرية الخاصة ،وعملية التأثر والتأثير عملية نفسية معقدة ال يمكن حصر أبعادها من خالل قصيدة واحدة أو اثنتين ،وحين يزعم شاعر مهما بلغ من مكانة أنه وحيد عصره ،وأنه لم يتأثر بأحد من قبل ،أتصور أن العاقل
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
103
أنــك فــي عالم مليء بــاألســمــاء الشابة
منا يشك فــي مصداقية ذلــك الــقــول. والتواصل مع اآلخر جيّد ،لكنه ال يكون الجديدة التي تتعاطى الكلمة اإلبداعية على حساب تراثي وثقافتي ،ألن الشاعر بأساليب وطرق متنوعة. ال ب ّد أن ينطلق من أرضية مشتركة مع حين أمارس لذة القراءة!.. القارئ ..وهنا ،ال بد من العودة للتراث بكل أشكالها. ¦هـ ــل لـ ـلـ ـق ــارئ أن ي ـق ـت ــرب مـ ــن ع ــال ـم ــك، الشبكة العنكبوتية!..
ويتعرف على محتوى مكتبتك؟
¦ان ـت ـشــرت م ــواق ــع حــاســوب ـيــة ،ت ــدّ ع ــي أنـهــا ρ ρمكتبتي أدبية تهتم باألدب والنقد وفنون اللغة العربية األخــرى ،فالكتاب الورقي الحاضنة للتجارب اإلبداعية الشبابية، هو األبقى واألقــرب تناوالً لــدي ،وحين وكأنها تلزمهم بالحضور كبوابة لدخول ع ــال ــم األدب الـ ـم ــوث ــق ،هـ ــل ت ـج ــد ه ــذا أمارس لذة القراءة ،ال أستطيع ممارستها االن ـت ـش ــار لـمـثــل ه ــذه ال ـم ــواق ــع ،ظــاهــرة عبر الشبكة ،أمــا الكتاب الــورقــي فهو صحية لإلبداع؟ األنــســب واألحــســن فــي رأيـ ــي ،ولــذلــك اخــتــرت هــذه السبيل .مكتبتي تحتفظ
104
ρ ρالمواقع الحاسوبية عامة استطاعت أن ال من المبدعين وأسما ًء تستحق تقدم جي ً بكل كتب التراث ودواوين الشعراء وتهتم أن نصفق لــهــا ب ــح ــرارة دائ ــمـ ـاً ،ولقد بنوع الكتاب وجودة النشر والدار الناشرة استطاعت أن تقذف في بحيرة اإلبداع والطبعات األولى .وتهتم بدواوين الشعراء الراكدة لدينا أحجاراً متوالية ما تنفك والمختارات الشعرية والنثرية .ولذا ،فهي أن تتسع دائــرة التميز فيها؛ وهــي إلى أثيرة عندي ألنها متخصصة. جانب ذلك تجاوزت الصحافة المقروءة، ثقافة جادة!.. واستطاعت أن تنزع فتيل االختناق من رقاب المبدعين ،وأن تجعل أصواتهم أكثر ¦ما المواقع التي تتصدر مفضلة الشبكة حضوراً ،وال شك لــديّ أن هذه الشبكة العنكبوتية لديك؟ تجاوزت مراحل كثيرة في مساحة النشر. ولذلك ،أصبحت الشبكة العنكبوتية هي ρ ρأجــــد فـــي (ت ــوي ــت ــر) مــســاحــة جــيــدة، فالمالحظ أن ثقافة (تويتر) ثقافة جادة مساحة إبداعنا وملتقى عطائنا ،ولقد بشكل عــام ،مقارنة بغيره من المواقع استطاع المبدع أن يجد حلقة تواصل الحاسوبية .ولــذا ألقى فيه بغيتي في مع القراء ،وأن يجد فيها مكاناً يليق به. فحين تزور أيّ موقع حاسوبي ..ستجد نشر ما أريد من شعر أو نقد. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
الناقدة العربية د .ماجدة صالح:
ُ والغوص في أعماقه، الكشف عن خبايا النص ُ الستنطاقه واستخراج مكنوناته ومواطن الجمال فيه ضمن مجموعة الحوارات ،واللقاءات الثقافية ،التي أقوم بها ،منذ فترة بعيدة، مع مجموعة من الكتّاب العرب ،من المحيط إلى الخليج ،كان لقائي هذه المرَّ ة، في هذا الحوار ،مع الناقدة واألكاديمية الدكتورة ماجدة صالح ،المقيمة حالي ًا في مدينة شيكاغو بالواليات المتحدة األمريكية ،وهي شخصية أردنية /فلسطينية، تنتمي إلى ذاتها بامتياز ،وتتمتَّع بالذكاء والصراحة والثقافة والوعي ،والوضوح، وتعبِّر عن أفكارها ومشاعرها بكل جرأة وشجاعة ودقة. الــدكـتــورة مــاجــدة صــاح نــاقــدة وأكــاديـمـيــة حاصلة على درج ــة الــدك ـتــوراه في البالغة والنقد سنة 2006م ،صدر لها حتى اآلن ثالثة مؤلفات في النقد األدبي، إلى جانب عشرات البحوث المنشورة في المجالت الثقافية العربية والعالمية، وشاركت في عدد من المؤتمرات العلمية ،وهي شخصية تختزن في ذاتها شاعرية صادقة وه ــدوء ًا جــاذبـاً ،غير أن المهم في تجربتها أنها غير متكررة ،بل حاولت أن تكون لها مالمحها الخاصة وأسلوبها المميز؛ ما جعل تجربتها النقدية لها تجسد الكثير خصوصيتها وفرادتها ،وأجوبتها في هذا الحوار مع مجلة «الجوبة» ّ من شخصيتها وشاعريتها وإنسانيتها.. ■ حاورها :نضال القاسم العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
105
معاناة شخوص رواياته.
¦أرجو في البداية أن نقرأ في هوية الدكتورة «ماجدة صالح»؟ ¦ل ــو ط ـل ـب ـنــا م ـن ــك ال ـح ــدي ــث ع ــن ب ــداي ــات تجربتك النقدية ،كيف بدأت رحلتك في ρ ρماجدة صالح أردنية الجنسية فلسطينية عالم النقد؟ األص ــل والـ ــدم ،حصلت على الــدكــتــوراه في البالغة والنقد سنة 2006م ،صدر لي ثالثة كتب هــذه السنة ،وشاركت في عدد من المؤتمرات الدولية ،ولي مقاالت وبحوث منشورة في مجالت محكّمة وعلى اإلنترنت ،متزوجة ،أقيم في شيكاغو.
ρ ρال يمكنني ذكر وقت محدد كما أسلفت، لكن مــمــارســة الكتابة النقدية تبلورت ونضجت بفعل الــقــراءة المستمرة ،بعد أن امتلكت األدوات النقدية مــن خالل دراستي للبالغة والنقد .إذ بدأت بكتابة بعض البحوث والمقاالت التي نُشر بعضها وشــاركــت ببعضها اآلخ ــر فــي مؤتمرات دولية ،وما أزال أشق طريقي في مجال النقد األدبي.
¦متى بدأت الكتابة ،وما الذي دفعك إليها؟ ومــا هــي الـعــوامــل الـتــي أسهمت فــي إبــراز موهبتك؟ وماذا يعني لك ،إنسانةً وكاتبة أيضاً ،فعل الكتابة؟ ¦من أساتذتك القدماء والجدد في النقد؟ ρ ρال يمكنني تحديد تاريخ محدد ،أذكر أني ρ ρأديــن بالفضل لكل ناقد عربي نهلت من في المرحلة اإلعــداديــة كنت أقــرأ بعض معينه وأفدت من تجربته النقدية من غير القصص وأحاول تحليلها ،فاخترت دراسة تحديد ،فقد أفــدت من تجربة كل ناقد األدب والنقد الذي كان سببًا رئيسً ا في قرأت تجاربه وأعماله. خوض هذا المجال واالستمرار فيه؛ إذ ¦مـ ــا هـ ــي ال ـ ــدائ ـ ــرة األسـ ـ ـ ــاس فـ ــي حــرك ـتــك لــدي رغبة وحــب في استكناه النصوص النقدية؟ األدب ــي ــة بمختلف أن ــواع ــه ــا ،فالكشف ρ ρال أتحرك وفق دائرة معينة ،أقرأ الوجوه عــن خبايا النص والــغــوص فــي أعماقه، المختلفة لألدب بأنواعه المتعددة ،فهناك الستنطاقه واستخراج مكنوناته ومواطن ظواهر وقضايا تستجد ،وما يثيرني وأجد الجمال فيه أمر ماتع. فيه ما يقال وما يستحق ،أخوض تجربة الكتابة فيه وعنه.
106
كما أجــد في الكتابة متنفسا أنطلق من نصا نقديًا؟ خالله إلــى عــوالــم مختلفة ،تختلف عن ¦كيف تواجه الدكتورة ماجدة ً عالمنا حيناً ،وتشبهه أحياناً أخرى .فبعد ρ ρأبحث في دواخل النص عن بصمة مميزة ال قراءتي لــروايــات الــروائــي فحماوي مث ً للناقد ،تشي برؤيته النقدية وقدرته على أحسست أن الشخصيات النسوية فيها التفرد واإلبداع بكل تجلياته. تحكي معاناتي ومعاناة الفلسطيني عامة، وبالتالي كان هذا اإلحساس كافياً للخوض ¦كيف تنظرين إلى مشروعك النقدي بعد كتابك األول «الـمــأســاة الفلسطينية في في عالم فحماوي الروائي ،وطريقاً لترجمة واستخراج بعض ما أحس به وأعانيه قبل روايات صبحي فحماوي» والثاني «الخيال
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
العلمي في رواية ..اإلسكندرية »2050؟ وما هي المشاريع التي تعملين عليها اآلن؟ ρ ρلكل ناقد مشروعه الذي يعمل عليه ويسعى لتحقيقه ،أجــدنــي فــي بــحــث دائـــم عن تجارب إبداعية تشدني وفق ما تفرضه الساحة األدبية بإنتاجها اإلبداعي .وحاليا أعمل على دراس ــة الحجاج فــي قصيدة المخرج والمردود على النصارى واليهود للبوصيري ،وكنت قــد شــاركــت فــي أحد الــمــؤتــمــرات بــبــحــث ح ــول الــحــجــاج في هــذه القصيدة نــال استحسان وإعجاب المشاركين ،فقررت التوسّ ع في دراســة األساليب الحجاجية في القصيدة كاملة وهي طويلة جدا عدد أبياتها ( )282بيتا. ¦ل ـن ـت ـك ـلــم عـ ــن جـ ــديـ ــدك ال ـت ــأل ـي ـف ــي ح ــول الروائي صبحي فحماوي؟
نعم ،يحتاج النقد إلى موهبة وتذوق جمالية النص ،مع التجريب والممارسة والقراءة واالط ــاع واإلفـــادة مــن تــجــارب اآلخرين وامتالك األدوات اإلجرائية للنقد.
ρ ρال جديد ،أصــدرت كتابين حــول روايــات الروائي صبحي فحماوي ،فرواياته تستحق البحث فيها ودراستها ،وصــدر لي أيضاً ¦فــي الــوقــت ال ــذي يتحدث فيه الـغــرب عن مرحلة «ما بعد الحداثة» في األدب ،هناك كتاب تحليل النص الشعري -مساءلته من يرى أننا كعرب لم ندخل بعد مرحلة واستنطاقه -وهــذا ال يعني عــدم وجود «ال ـحــداثــة» نـفـسـهــا!! فــإلــى أي م ــدى يعدُّ روايــات أو أعمال أدبية تستحق الدراسة مثل هذا الحكم دقيق ًا برأيك؟ واالهتمام ،أو حصر كتاباتي في روايات الروائي فحماوي. ρ ρقد يكون صحيحاً إلى حد ما ،مشكلتنا أننا ال ننتج ،بل ال نجيد استخدام ما نستورده ¦هل قدسية كتابة النقد هي التي تفرض من الغرب ،فال نراعي خلفياتنا الثقافية على كاتبه نوع ًا من الهيبة ،وهل بوسع أي والتاريخية المناسبة لفكرنا وثقافتنا كاتب أن يصبح ناقداً؟ وهل يحتاج النقد ولغتنا ومــحــددات مجتمعنا ،وال نملك إلــى موهبة أم تكفي الممارسة والخبرة، الجرأة والقدرة على التجديد أو اإلضافة. وما هي شروط الناقد الناجح؟ ρ ρقد يصبح الكاتب ناقداً إذا امتلك األدوات ¦ما رأيك في المناهج النقديّة الحداثية؟ النقدية ونظرة ثاقبة ورؤية خاصة. ρ ρتقصد المناهج الغربية التي تتغير وفقا العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
107
لما تقتضيه الحاجة ،فينتج الــغــرب ما يتماشى مع أدبهم ،ويأتي دورنا القتباس تلك المناهج بــا تــحـ ّفــظ ،نقتلعها من سياقاتها األصلية المنتجة لها ،ونبدأ في تطبيق تلك المناهج إجرائيا على أدبنا، بعد أن أسقطنا مفاهيمها ودالالتــهــا؛ فباتت مشوّهة قاصرة ،ال تفي بالغرض، ولقصورنا عن فهم تلك المناهج وضعنا المنتج األدب ــي داخ ــل قــالــب أو إط ــار ال يــتــجــاوزه ،وهــذا إجــحــاف فــي حــق النص األدبــي .هناك سوء فهم واستخدام لتلك المناهج.
108
يحاكي عالمه الواقعي ويبرز تفاصيله بلغة جمالية وأسلوب متميز. ¦ما هي أبــرز الصعوبات التي واجهتك في حياتك؟ ρ ρال أعتقد بوجود إنسان على هذه األرض لم تعركه الحياة ،شخصياً ..مررت بصعوبات كثيرة كباقي الناس ،لكني أحمد اهلل دائماً. ¦إلى أي حد تعد الكتابة مهمةً في حياتك؟ وأي فصل من فصول السنة يُلهمك أكثر؟
ρ ρتشدني الكتابة وتأخذني إلى عالم آخر، وتبعدني -بشكل مؤقت -عــن مشاكل ¦برأيك ،لماذا حــازت الرواية العربية على الحياة ومنغصاتها ،فهي المتنفس الذي اهتمام النقاد أكثر من الشعر؟ من خالله أعبّر عن نفسي وعــن كل ما يشغل اإلنسان. ρ ρحظيت الرواية باهتمام القرّاء قبل النقّاد، لمالمستها الواقع وتصوير الحياة التي وال وقت محدد عندي للكتابة ،أكتب عندما نحياها ،وتمسكها بالمقومات التي تؤهلها أشعر برغبة في الكتابة ،تارة تكون لدي الحــتــال الــصــدارة ،فالناقد حين يبني رغبة وال تسعفني الكلمات ،وتارة أخرى ال دراسة على رواية ما فإنه يدرس مجتمعًا أجد الرغبة في الكتابة. بكل مكوناته ومزاياه وعيوبه ،فيبقى في ¦كيف تــرى الدكتورة ماجدة واقــع الساحة إطار واقع المجتمع الذي يعيش فيه غير الثقافية األردن ـيــة ال ـيــوم؟ ومــا الخالصة بعيد عنه. التي خرجت بها كناقدة ألعمال كثيرة من ¦ ما هي غاية الكتابة؟ ما عالقتها بالحياة؟ األدب األردني؟ وما هي رسالة المبدع في المجتمع؟ ρ ρتعج الساحة الثقافية بالغث والسمين، ρ ρتتعدد غــايــات الكتابة لتصب فــي بحر إنتاج أدبي غزير ال يرتقي في غالبيته إلى الحياة التي يعيشها اإلنــســان ،فالحياة درجــة اإلبــداع والتميّز .وقد صدمت من ليست سوى تجارب إنسانية نحياها بكل المشهد الثقافي الذي يعاني من الشللية، ما فيها ،والكتابة تبلورها وترسمها .وتضع والنقد السلبي الذي يرتكز على العالقات تلك التجارب تحت المجهر ،وهنا يظهر االجتماعية ،وفي المقابل ال تخلو الساحة دور المبدع فــي قــدرتــه على خلق عالم أيضا من نصوص إبداعية متميزة ،وأقالم العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
جادّة .وهذا حال الساحة الثقافية العربية عامة. ¦مـ ــا هـ ــو الـ ـمـ ـع ــوق األس ـ ـ ــاس فـ ــي أن ي ـكــون لـلـمـثـقــف دو ٌر م ــؤث ــرٌ ع ـلــى حــركــة ال ـشــارع والناس والحياة؟ ρ ρفــي وطــنــنــا الــعــربــي الــعــوائــق كــثــيــرة ،إن المجتمع منظومة اجتماعية متكاملة، إذا فسد جــزء منها فــســدت المنظومة بكاملها؛ فمحاربة المثقف من المسؤولين أو مــن السلطة ،أو مــن بعض المثقفين أنفسهم ،وفــرض القيود عليه تجعله في خــوف ورهــبــة مــن إب ــداء رأي ــه ،كــذلــك ال يتمتع غالبية المثقفين بمكانة تليق بهم، وكيف له أن يؤثر في المجتمع وهو منشغل بمشاكله الخاصة والبحث عن حياة أفضل له وألسرته.
وإنما فينا وفي كل ما يحيط بنا.
¦د .ماجدة صالح ،على الصعيد الشخصي¦ ..مـ ـ ــاذا عـ ــن أحـ ــامـ ــك ال ـم ــؤج ـل ــة؟ وبـ ـم ــاذا تختتمين هذ الحوار؟ هــل تـشـعــريــن بخيبة أم ــل ت ـجــاه المشهد الثقافي العربي؟ ρ ρلكل منا أحالم يسعى جاهداً إلى تحقيقها،
ρ ρأشعر بخيبة أمل كبيرة وإحباط شديد!
¦يتردد بين حين وآخر أن هناك أزمة ثقافة، ويذهب آخرون إلى تسميتها أزمة مثقفين، ما رؤيتكم الخاصة لهذه القضية؟ ρ ρهناك أزمــة قيم ومــبــادئ ،انعكست على جوانب الحياة المختلفة وعلى كل أطياف المجتمع ومكوناته ،ابتعدنا عن تعاليم الــديــن الحنيف ،وتركنا عاداتنا وقيمنا اإلسالمية التي ترتقي باألمة ،فتراجعنا وتخلّفنا عــن ركــب الــحــضــارة والثقافة، فأزمتنا ليست محصورة في الثقافة فقط،
وأنا كباقي الناس لدي أحالم على الصعيد الشخصي ،وعلى الصعيد العام ،الشخصية منها أحتفظ بها لنفسي ،أما العامة فأرجو من اهلل أن تنهض األمة العربية من سباتها وتتمسك بقيم ديننا لــتــقـوّم االعــوجــاج الــذي حدث في سلوكياتنا وانعكس على مجتمعاتنا العربية.
كما أرجــو من اهلل أن يحفظ سائر بالد المسلمين وأن يعم السالم واألمــان ،وأن نعيد سيرتنا األولى باالعتصام بحبل اهلل والعودة إلى تعاليم اإلسالم الحنيف. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
109
الشاعرة والروائية الفلسطينية «صونيا خضر»: الشاعر الذكي هو الشاعر المراوغ الذي يستطيع أن يص ّوب سهم القصيدة نحو قلب الشجرة ،وفيما قراؤه يستمتعون بصورة الشجرة وهواء الكلمات العليل ترى الشاعرة والروائية الفلسطينية صونيا خضر أنّه «ال تعارض أبد ًا بين أن تكون شاعر ًا وروائـيــا ً ،وربما إمكانية الشعر هي إضافة لـلــراوي ،ومنحة للسرد». وقالت « :ابتعاد ًا عن الصورة النمطية للكاتب الفلسطيني ،واستناد ًا إلى اليوميات العادية والهموم اإلنسانية المشتركة بين الفلسطيني وغيره من البشر ،أنحاز إلى الوجه المهمّ ش للفلسطينيّ ،الذي -ومهما بلغت معاناته من االحتالل ،ومهما اختلفت طــرق نـضــالــه -يـنــدرج تحت اإلنـســان ال ــذي يـمــارس كــل طـقــوس الحياة ويستحق كل معاني الحياة» .خضر كاتبة وشاعرة فلسطينية ،سبق أن صدرت لها أعمال منها« :باب األبد» رواية ،كما أصدرت من قبل ثالث مجموعات شعرية هي: «لشموس خبأتها» عن دار فضاءات في األردن 2009م ،و«ال تحب القهوة إذا» عن بيت الشعر الفلسطيني 2012م ،و«معطرة أمضي إليه» وهي مجموعة بالعربية والفرنسية عن دار لزهاري لبتر في الجزائر. ■ حاورها :عصام أبو زيد
110
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
الرواية؛ كيف ترينها؟
الفلسطينية؛ حدثينا أكثر عن ذلك.
ـضــلــت ،أن ــا أتــجــنــب المستهلك ρ ρالــمــراوحــة بين كتابة القصيدة وكتابة ρ ρكــمــا تــفـ ّ الرواية هو فن التنقّل بين الجهات ،حسب واالستهالك ،في وقت يكاد أال يخلو عمل الحالة والرسالة ،وربما حسب المزاج
أدبــي لكاتب فلسطيني من التطرق إلى
وعلى مختلف أنواعها تتطلب التمكّن من
وأصبحت هــذه البصمة هي التي تميز
وعناصره.
أنــواعــه .وج ــدت لنفسي خــطـاً مختلفاً
العاطفيّ كذلك؛ لكن الكتابة بشكل عام
اله ّم الفلسطيني وتداعيات االحتالل،
اللغة ،وتوظيفها في العمل حسب تقنياته
األدب وال ــف ــن الــفــلــســطــيــنــي بمختلف
«اللغة هي منزل الوجود» كما يقول مارتن
بعض الــشــيء ،بانحيازي إلــى اإلنسان
هــايــدجــر ،وبــالــتــالــي فاللغة هــي منزل
األدب ،فال كتابة على اإلطــاق من دون
لغة ،وال أدب على اإلطــاق بــدون لغة.
يتمكن الكاتب أو الشاعر من التنقّل بين األن ــواع األدبــيــة المختلفة إن تمكّن من
اللغة أوالً ،وإن استطاع توظيف تلك اللغة
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
¦ال ـمــراوحــة بـيــن كـتــابــة الـقـصـيــدة وكتابة
ع ـ ــن االس ـ ـت ـ ـهـ ــاك الـ ـمـ ـب ــاش ــر ل ـل ـق ـض ـيــة
أوالً؛ مشاعره ،قلقه الــوجــودي ،صوته
الداخليّ ونزوحه نحو تقدير الذات؛ في
روايتي األولى «باب األبد» الصادرة عن دار الــفــارابــي عــام 2016م مــثـاً ،وعبر
رســائــل متبادلة بين شخصية واقعية
فنياً بين تلك األنــواع .القصيدة هي نوع أدبي يتطلّب جمالية لغوية فائقة يستطيع الكاتب من خاللها الــخــروج بالتراكيب الفنية والصور ،فيما الرواية تتطلب مهارة
لغوية فائقة يستطيع الكاتب من خاللها قيادة عملية السرد صعوداً ونزوالً حسب مجريات األحداث.
هذه المقدمة ألقول أن ال تعارض أبداً بين
أن تكون شاعراً وروائياً ،وربما إمكانية
الشعر هي إضافة للراوي ،ومنحة للسرد.
¦ت ـطــرح كـتــابــاتــك ف ـع ـ ًا لـلـمـقــاومــة يتأكد عبر إحساس الكائن بالحياة ،وتبتعدين العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
111
وأخرى متخيّلة ،حاولت تشريح المشاعر
اإلنسانية ،والمعاني الملتبسة للحب؛ أوجدت التبريرات واألسباب التي تدفع الــعــشــاق الخــتــاق أزمــاتــهــم عــوض ـاً عن
محاكمتهم ،أو اللجوء إلى النواح العاطفي
الذي أصبح مستهلكاً أيضا ،فخخت هذه
الرسائل التي تبدو في ظاهرها ،وكأنها
العادية والهموم اإلنسانية المشتركة بين الفلسطيني وغيره من البشر ،أنحاز إلى الوجه المهمّش للفلسطينيّ الذي -ومهما بلغت معاناته من االحتالل ،ومهما اختلفت طرق نضاله -يندرج تحت اإلنسان الذي يمارس كل طقوس الحياة ،ويستحق كل معانيها.
بين عاشقين ،بألغام قد تنفجر بعد كل ¦هل أنت مزاجية عندما تكتبين وتؤمنين عــبــارة ،ليعيد الــقــارئ النظر بالمعاني بما يسمى باإللهام؟ النمطية لكثير مــن الــمــفــردات التي ρ ρنعم ،أنا مزاجية جداً في الكتابة ،احتاج استسلم لمعناها دون محاوالت لفهمها،
ما يلهمني ويستفزني للكتابة ،في الشعر وفي الرواية؛ لذلك أفشل غالباً في حال طلب مني الكتابة حول موضوع ما ،وبشكل خاص إن كان هذا الموضوع ال يؤثر بي أو يعنيني بشكل خاص .ومن هنا ،أستطيع أن أستحق ثقة القارئ ،وهنا يكمن الفرق بين امتهان الكتابة والشغف بالكتابة.
الفلسطيني ،واســتــنــاداً إلــى اليوميات
الصورة لخدمة النص ال من يؤشر إلى
مثل األمــومــة والــحــب والــحــيــاة والموت
والــســعــادة وال ــج ــدوى ،وتــطــرقــت أيضا
لتابوهات عاطفية محر ٌم المساس فيها
أو الحديث عنها مثل انتهازية األبناء ودور األم في ترسيخ الفكر الذكوري ،وسلطة
المحتكرين للثقافة واألدب والدين ،كل
هذه الموضوعات هي استفزاز للمقاومة ¦هل القصيدة لديك فعل معرفي أم فعل على صعيد جودة الذات ،للعمل على فك بوح أم ماذا؟ االلتباسات الحاصلة بين المترادفات ρ ρال تــخــلــو قــصــيــدة م ــن بـ ــوح وتــجــســيــد مثل األنــانــيــة واحــتــرام الـ ــذات ،الــغــرور للهواجس الشخصية ،لكننا وحين نخرج والــكــبــريــاء ،العيش والــحــيــاة ،وغيرها؛ من مراهقة القصيدة ،تتحول القصيدة ما يصعد بالقارئ نحو جــدواه ،ومعنى إل ــى فــعــل مــعــرفــي ،مــبــنــي عــلــى تــراكــم وجوده وليهدم المعبد الذي تورّث طقوس الخبرات الحياتية ،التي يندرج تحتها تقديسه ،ويستطيع وقتها المقاومة ألجل كل ما يتعلّق بأسباب الشعر .الشاعر وطن صالح للحياة ،ال من خالل الموت الحقيقي هو من يستطيع تضمين بوحه في سبيله بل من خالل الحياة فيه. دون أن يتعرى تماماً ،من يستطيع تحقيق ابــتــعــاداً عــن الــصــورة النمطية للكاتب سبب القصيدة بمكر ودهاء ،ومن يوظف
112
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
الشاعر الذكي هو الشاعر المراوغ الذي يستطيع أن يصوّب سهم القصيدة نحو قلب الــشــجــرة ،فيما ُق ـ ـرّاؤُه يستمتعون بصورة الشجرة وهواء الكلمات العليل. ¦كـ ـي ــف تـ ــريـ ــن ت ــأثـ ـي ــر م ـ ــواق ـ ــع الـ ـت ــواص ــل وخصوصا «الفيسبوك» على ً االجتماعي النص الجديد؟ ρ ρإيــجــابــيــات وســلــبــيــات مــواقــع الــتــواصــل االجتماعي ،تقع فــي وجــه واح ــد ،لكن َمــن يــحــدد الــوجــه سلباً أو إيــجــا ًبــا هو المستخدم لها ،الذي يختار طبيعة موقعه وشكله فيه؛ هذا بشكل عام؛ أما تأثيرها على الــنــص ،فقد وفـ ـرّت هــذه المواقع المنصات للنشر ،دون أي ضــوابــط أو ّ
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
الصورة في سياق النص.
تحفظات ،والسهولة في النشر ومجانية األلــقــاب واالعــتــمــاد بشكل خــاص على الــعــاقــات الشخصية بــالــتــقــيــيــم ،وإن أتاحت الفرصة للعديد من النصوص بأن تصل إلى القارئ أينما كان ،فقد ظلمت النص ،بأن جعلته عابراً ،قصير العمر ودون أثر عميق ليعلق بالذاكرة .مع توفّر مواقع التواصل االجتماعي ،مضى زمن ال في الذاكرة القصيدة التي تعمّر طوي ً الجماعية ،والــتــي تحفظ غيباً وتتردد بعض مقاطعها قي المناسبات الوطنية واللحظات العاطفية الحميمة ،مضى زمن الشعر منذ أصبح متوافراً وفائضاً ال عــلــى الــمــنــصــات اإللــكــتــرونــيــة ،ضح ً ومناسباتياً ،في وقت تراكمت فيه تلك المناسبات. ¦كيف تنظرين إلــى واقــع دور النشر سواء الخاصة أم الحكومية؟ ρ ρلي تجربة يتيمة مع دار نشر حكومية، كلفتني ضعف ما كلفني أي إصدار آخر، بسبب اســتــهــتــار المسئولين ،ال رغبة لي بالحديث عنها؛ أمــا عن دور النشر الخاصة ،فلم يعد خفياً أمر تحولها إلى شركات تجارية ،تعمل على إنتاج المواد المكتوبة ال على النشر والتوزيع ،لم تعد جودة المنتج األدبي أهم معايير النشر، بل السعر المدفوع فيه؛ لذلك وحسب إحــصــاءات رسمية ،تزايد النشر بشكل ملحوظ في السنوات األخيرة ،وفي المقابل العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
113
تضاءل شراء الكتب؛ نظراً لفقدان الثقة بجودة المنتج األدبي ،ولتوافره إلكترونياً، واقتصار مهمات دور النشر على الطباعة والتوزيع بشكل يقتصر على المشاركة في معارض الكتب ،دون أدنى اهتمام بتسويق المحتوى إعالميا ونقدياً. تقع مسئولية تسويق المنتج األدبي بشكل عام على عاتق الكاتب ،فهو مَن سيدفع
تكلفة النشر وسيتواصل مع الصحافة والنقاد وسيرشحه للجوائز ،وهــذه لم تــكــن فيما مــضــى مهمة الــكــاتــب ،لكن
وضمن التوليفة الجديدة لعملية النشر وبكل أسف يجد نفسه مجبرًا على ذلك، ربما هناك بعض االستثناءات في هذا
ال السياق ،لــدور نشر تقوم بدورها كام ً
من تكلفة وتسويق وتوزيع ،لكن حتى هذه الدور يعتمد بشكل أساس على العالقات
الشخصية وشروط االنتماء األيديولوجي والسياسي لهذه الدور ،مهملة ومستبعدة
أي منتج أدبي مهما كانت جودة محتواه،
في حال عدم استيفاء هذه الشروط. ¦ماذا عن طقوسك في الكتابة؟
ρ ρاالنــفــصــال عــن الــعــالــم والــضــجــيــج ،في ســاعــات الــلــيــل الــمــتــأخــرة ،أو الصباح
الباكر ،وكــامــرأة لديها مسئوليات بيت وعــائــلــة ،أحــتــاج أن يــكــون كــل مــا حولي
منظماً ونظيفاً ،ومهماتي المنزلية منجزة،
114
ومظهري الئقاً ،ال أستطيع الكتابة في العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
أجواء فوضوية ،وال قرب منضدة عليها القليل من الغبار مثال ،ال أستطيع ترتيب الفوضى التي فــي داخــلــي إن لــم أرتــب الفوضى من حولي أوالً؛ قد يبدو هذا أمــرًا مثيراً للسخرية ،لكني أراه أم ـرًا مثيراً لإلعجاب ،ويستحق التقدير ،فأنا عينة وواحــدة من النساء ،اللواتي ورغم كل المسئوليات الملقاة على كاهلها ،من إدارة بيت وعائلة وحياة اجتماعية نشطة، تستطيع أن تنجز ما لم ينجزه الكثيرون ممن يقضون معظم وقتهم في المقاهي تحقيقاً لطقوسهم بالكتابة ،وهم يعرفون أن هنالك َمــن سيقوم بكوي قمصانهم وإعداد الطعام لهم وغسل صحونهم.
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
الشعر العربي النمر ُ في ِ ّ والشعر تخفي في الطبيعة ِ
■ أحمد ابراهيم البوق*
النمر حيوان انعزالي يعيش بمفرده ،وال يلتقي الذكر باألنثى إال في موسم ال ـت ــزاوج ،ويـنـفـصــان بـعــد ذل ــك! معظم نـشــاطــه ل ـي ـاً ،ورب ـمــا لـهــذا الـسـبــب قلّت الشعر ،وإن ذكر فهو رمز للقوة والبطش .ومن أسمائه مشاهداته ،فقلّ وجوده في ِ و"الضرجع" ،واألنثى ّ و"السبنتي" و"الكثعم" ّ في التراث العربي "األبرد" و"األرقط" "القزْر" و"السبنتاه" و"العسبرة" ،ومن أسماء جرائها ِ َّ تسمى "النمرة" و"الخيثمة" و "الهرماس".
وصوته عند الغضب يسمى الزَّمخرة .ب ـش ـك ــة ح ـ ـ ــازم ال عـ ـي ــب فـيـهــا أمــا عند االسترخاء والــراحــة فيسمى إذا ل ـبــس ال ـك ـم ــا ُة ج ـلــود نـمــرِ
الهرير والغطيط والخرير .ويُجمع النمر وفي ذات المعنى يقول ابن الرومي على أنمر ونمور ونُمر وأنمار ونِماره( ،ت896م): وفي األمثال يقال لمن استعد للحرب: سرى إليه عُ دا ُة اهلل فانصلتوا (لبس لهم جلد النمر) .وفي ذلك يقول مستأسدينَ عليهم جلدة الن ِّمرِ الثعالبي (ت1038م): "والتنمُّر" أصبح مصطلحاً على سوء وال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرُ م ـ ـ ـ ـ ــن جـ ـ ـف ـ ــائ ـ ــه المعاملة والتوحش فيها .وقــد كانت ـس ل ـ ـ ــي ج ـ ـ ـل ـ ـ ـ َد ال ـ ـ ّنـ ـ ِـمـ ــر ي ـ ـل ـ ـبـ ـ ُ كذلك منذ القدم ،وفي ذلك ما يقوله ويقول دريد بن الصمة (ت 630م) عمر بن أبي ربيعة (ت719م) في رائيته الشهيرة ،إنــه كلما زار حبيبته "نعم" راثياً صديقه معاوية أخا الخنساء: العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
115
أنثى النمر العربي
يتنمّر عليه قريب لها:
زرت ُن ـع ـم ـ ًا ل ــم ي ــزل ذو قــرابــةٍ إذا ُ ل ـ ـ ـهـ ـ ــا ك ـ ـ ـ ّل ـ ـ ـمـ ـ ــا الق ـ ـ ـي ـ ـ ـتـ ـ ــه ي ـ ـت ـ ـنـ ــمّ ـ ــرُ وإسباغ صفات النمور على األشخاص من كمال المدح .ومن ذلك وصف الخنساء (ت645م) ألخيها صخر ،وأن مشيته في الــحــروب هــادئــة ال يُــحَ ــس بــهــا ،وســاحــه األنياب واألظفار كالنمور:
عضلَةٍ السبنتي إلى هيجا َء مُ ِ مَ شي ّ ـاب وأظـ ـ ـف ـ ــا ُر َلـ ـ ـ ــهُ ِسـ ـ ــاحـ ـ ــان :أن ـ ـ ـيـ ـ ـ ٌ
116
واليمن جنوباً ،ومن عمان إلى اإلمارات ،ولكن أعــداده انحسرت بشكل كبير جــداً ،بسبب تدهور بيئاته وصيد فرائسه من الوعول والظباء والوبر واألرانــب والطيور ،وأصبح مهدداً باالنقراض بشكل حرج ،وتقدر بعض الدراسات أن أعــداده في البرية ال تتجاوز الماءتين رغم جهود المحافظة عليه وإكثاره، التي تنفذها المملكة واإلمـــارات وعمان. ولعل مهاجمته لألغنام والجمال ،وتداخله مع أنشطة الرعي ،أحد أهم األسباب التي تدفع المتضررين لقتله وتسميمه .ويبدو أن هذا التداخل قديم جــداً ،فقد أشار له امرؤ القيس (ت 540م) قبل نحو ()1500 عــام ،عندما وصف أن من يحبهم يسكنون في األماكن المرتفعة أو رؤوس الجبال يعدو على شائهم النمر:
ورغم أن النمور واسعة االنتشار من القارة األفريقية مروراً بالجزيرة العربية حتى غرب آسيا ،إال إن سالالتها تتنوع حسب البيئات. وقــد رصــد البحث العلمي ( )24نوعاً من النمور ..منها :النمر العربي ،والذي ينحصر توزيعه الجغرافي في المناطق الجبلية غرب ـاس بِ ـ ــقُ ـ ـ ّنـ ــةٍ الجزيرة العربية وجنوبيها ،وحتى الشرق ..أَح ـ ـ ـ ـ ُّـب إلـ ـيـ ـن ــا م ـ ــن أن ـ ـ ـ ـ ٍ يـ ـ ــروح ع ـل ــى آثـ ـ ــار ش ــائِ ـ ـه ــمُ ال ـ ِ ّـن ـم ــر فيمتد من فلسطين شماالً إلــى السعودية العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ووصفوها .ومن ذلك ما قاله الشنفري (ت 525م) في الميته الشهيرة ،حين استبدل الوحوش بأهله .وذكر الذئب " سي ٌد عملّس" والنمر أرق ــط زهــلــول"الــســريــع" ،والضبع، عــرفــاء .وقــال إنهم أهله الذين ال يفشون سره ،وال يخذلونه إذا ما ارتكب جناية ،وأنهم يتميزون بالشجاعة ،ولكنه أشجع منهم إذا عرضت طــريــدة ،وأنــه ال يسبقهم باألكل، ألن األفضل من يتفضل بما يملك ،فيترك الطريدة التي يصطادها يأكلون منها أوالً:
ـس ول ــي دون ـك ــم أه ـل ــونَ س ـيــدٌ عـمـ ّلـ ٌ ـول وعـ ــرفـ ــاء جَ ـي ـئــلُ وأرق ـ ـ ــط زه ـ ـلـ ـ ٌ هُ ــمُ األه ــلُ ال مستودع الـ ِّـســر ذائــع لديهم وال الجاني بما جرَّ يُ خذَلُ وكـ ـ ـ ـ ــلٌ أَبـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌـي بـ ـ ــاسـ ـ ــلٌ غ ـ ـيـ ــر أ ّن ـ ـنـ ــي إذا عــرضــت أول ــى ال ـطــرائِ ــد أيــسَ ــلُ
الشعر سريعة ومنعزلة، والنمور كما يصفها ِ والنمر العربي على وجــه الخصوص من أصغر النمور حجماً في العالم ،وال يضاهيه إال نمر الكيب في جنوبي إفريقيا .ويبلغ متوسط وزن الذكر بين 35-30كغم واألنثى ال نادرة لقلة إنتاجها 25-20كغم .والنمور فع ً وتعرض جرائها للخطر .فالحمل يستمر حوالي 3أشهر والمواليد بين 3-1مولوداً، تبقى األم معهم أليــام ،ثم تضطر لتركهم بحثاً عن الغذاء ،ألنها ترعاهم بمفردها، وقد تغيب ألكثر من يوم ،ما يعرض مواليدها لالفتراس من الضباع أو الذئاب .وتستمر الرضاعة إلــى عــدة أشــهــر ،ولكن الصغار يمكن أن تبدأ الصيد من عمر خمسة أشهر لصغار الطرائد ،ومع ظهور األنياب الدائمة يبدأ الصيد الفعلي بين 8-7أشهر .والنمور
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
والشعراء الصعاليك ..صــادف بعضهم وإن مُ دّ ِت األيدي إلى الزاد لم أكن النمور فــي الجبال وذكــروهــا فــي ِشعرهم بأعَ جلهم إذا جشعُ الـقــومِ أعَ جلُ
النمر العربي بالمحمية
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
117
واألبيض رغم أن ظاهره يدل على السواد. وهــذا الصاحب ال يعلّل ،وإذا ما التقى به كان جل الحديث صمت ونظرات كالسهام. وعيون النمر "طحالء" ..وهو لون ترابي يميل للصفرة كما هو في الــواقــع .وأن طعامهم كان أنثى الوعول ،يتناوبون عليها؛ ألن واقع الحال ال يأكل النمر الفريسة كاملة ،ولكن يعود لصيده إن لم يستطع سحبه .ويقول القتال أنني أميط األذى ..أي الفرث عن الــصــيــد ،ولــكــن النمر يــأكــل جــوفــهــا ،وهي حقيقة علمية ..وكأن القتال يعرض مشهداً سينمائيا في وصف النمر ،وأن لهما مجمع ماء "قَلتٌ " في جبال بعيدة يختلفون إليه، يشرب منه من يأتيه أوالً ،وأن عداوته مع النمر يشوبها االحترام فيقول:
تعتمد على طيف واسع مع الطرائد ،وقد قدر في بعض الدراسات اإلفريقية إلى أكثر من 90نوعاً مختلفاً تعتمد عليها في الغذاء .وفي الجزيرة العربية معظمها من الوعول والظباء الجبلية والوبر واألرانب وبعض أنواع الطيور كالحجل .ويحدث البلوغ بين 3-2سنوات، وتنفصل المواليد عن أمهاتها بعد 18-12 شهراً ،وتميل اإلناث إلى تأسيس مناطق لهن قريباً من األم ،بينما تبتعد الذكور .ويُراوح نطاق حركتها السنوي بين بضعة كيلومترات مربعة إلــى 800ك ــم 2تبعاً لوفرة الفرائس وندرتها وحركتها اليومية ،كذلك من أكثر من كيلومتر إلى أكثر من 30كم تبعاً لتوافر الصيد .والــنــمــور تعتمد فــي الصيد على حاستي النظر والسمع وليس الشم كالذئاب، ولذلك عيونها كبيرة ،ووقوعها في مقدمة صاحب في الغارِ هدّ َك صاحب ًا ٌ الــرأس يعطي عمقاً في الرؤية ..وتحديداً ولي الليلية .وألن األسنان الطواحن تغيب لديها، ه ـ ـ ـ َو الـ ـ ـج ـ ــونُ إ ّال أ ّن ـ ـ ــه ال يُ ـ ـعـ ـ ّل ـ ُـك فإنها تبلع اللحم وال تقطعه ،قــد تهاجم إذا مــا الـتـقـيـنــا ك ــان ج ــلَّ حديثنا فريسة أكبر منها بأضعاف .وقــد سجلت ـرف كالمعابل أطـحــلُ ـات وط ـ ٌ ص ـمـ ٌ مهاجمتها لإلبل في المملكة في الحوادث ـام ـنــا الشعر على تَ ـض ـمّ ـن ــت األروى ل ـن ــا بِ ـط ـعـ ِ القليلة التي سجلت فيها .وفي ِ ندرة ذكر النمر لم يذكر إال فرداً ،وهو كذلك كِ ــان ــا ل ــه ِم ـن ـه ــا ن ـص ـي ـ ٌـب ومـ ــأ َكـ ــلُ في واقع الحال.
ف ــأغ ـل ـب ــهُ ف ــي ص ـن ـع ــةِ الـ ـ ـ ــزادِ إ ّن ـن ــي ولعل أجمل وصف للنمر ما قاله القتال أم ـ ـيـ ـ ُـط األذى عـ ـن ــهُ وال ي ـت ــأمّ ــلُ
الــكــابــي (ت690م) ،وه ــو مــن الــشــعــراء
ـأرض م ـض ـ ّلــةٍ وك ــان ــت ل ـن ــا َقـ ـل ـ ٌـت ب ـ ـ ـ ٍ الــصــعــالــيــك ،عــنــدمــا ك ــان فـ ــاراً فــي جبال شـ ــري ـ ـعـ ــتُ ـ ـنـ ــا ألي ـ ـ ـنـ ـ ــا ج ـ ـ ـ ـ ــا َء أوّلُ
المدينة المنورة وآخى نمراً .هذا النمر له كهف يعيش فيه ،وهو وصف دقيق ،ولونه كِ ـ ــانـ ــا عَ ـ ـ ـ ــدوٌّ لـ ــو ي ـ ــرى فـ ــي عَ ـ ـ ــدوّه "جون" ،وهذا اللون من التضغاء ،أي األسود مَ ـح ــز ًا وكـ ـ ٌّـل ف ــي الـ ـع ــداوةِ مُ ـجـ ِـمــلُ * باحث وشاعر سعودي.
118
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
ٌ لتأمل! واليابان: نحن ُ ُ فسحة ِل ُّ ■ د .سعيد سهمي*
على الرغم من الفجوة الرقمية الكبيرة جــدا بيننا وبين اليابان في جميع المجاالت ،والتي تجعل المسافة الزمنية بيننا وبينهم على مستوى التقدم طويلة جدا؛ هذه الفجوة التي جعلت من باب التهكم والسخرية المقابلة بين المغرب واليابان ..بل بين جميع الــدول العربية وبين اليابان ،إال إن هناك فسح َة تأمل تجعل من القابلية ،أو من الممكن خلق نوع من التمييز حتى بين المتناقضات على مستوى العرب واليابان؛ ال سيما أن مشروع التحديث في كثير من الدول الـعــربـيــة ارت ـبــط بــالـقــرن الـتــاســع عـشــر وسـبــق الـنـهـضــة الـيــابــانـيــة ،ل ــوال العقلية التقليدية التي ســادت المرحلة ،وخاصة بعد االستقالل وبعد الحرب العالمية الثانية ،إذ لم تستفد الدول العربية من التاريخ ،ولم تخلق لنفسها برنامجا قويًا للتحديث واالنتقال الديمقراطي وتطوير البحث العلمي والتقني. اليابان ..هذه الدولة التي تقع على الحيوية دمـ ــا ًرًا وخــرا ًبــا ،استطاع أن
شــبــه «ب ــرك ــان» انــطــاقــا مــن موقعها ينهض من جديد ويتحدى العالم ،ويكون الجغرافي الــذي تهزه بشكل مستمر مصدر انبهار لجميع الــدول المتقدمة الــبــراكــيــن والـــــزالزل ،وبــســبــب شكلها نفسها ،فضال عن الدول النامية التي
األرخبيلي حيث تتربع على ( )6852تضربُ باليابان اليوم المثل في الرقيّ
جزيرة ،وهذا البلد الذي عانى ويالت الحضاري والتقدم التكنولوجي؛ ما دفع الــحــروب على مــ ّر تــاريــخــه ،ال سيما عددًا من دول جنوب شرقي آسيا إلى في الحرب العالمية الثانية من طرف أن تحذو حذوها ،وتلتحق بها ،وتنخرط
الحلفاء الذين ألقوا بقنابلهم النووية في موكب الدول المتقدمة مثل ماليزيا على الشعب الياباني ..ف ــأردوا مدنه وإندونيسيا وسنغافورة التي أصبحت العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
119
ريادة اليابان في صناعة الروبوت ()https://www.zefrench.net
منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن تعد قد انتهت من هــذه المعضلة منذ النصف أسرع دولة في إنعاش اقتصادها بنمو وصل الثاني من القرن العشرين ،بل إن إحصائيات إلــى ( %17.9موسوعة ويكيبيديا الحرة1986 ،م تشير إلى أن أكثر من % 94درسوا 2020م). مرحلة الــثــانــوي رغــم أن إلــزامــيــة التعليم
لــن يسعنا هــنــا الــمــجــال لــلــحــديــث عن تقتصر -كما فــي المغرب-على مرحلتي جميع المفارقات بيننا وبين اليابان ،ولكن االبتدائي واإلع ــدادي ،بل إنها أعلنت سنة يمكننا التأمل في بعض المجاالت األساس؛ 2000م أن كل مواطن ياباني ال يجيد لغة كالتعليم ،والثقافة ،واالقتصاد. أجنبية والتعامل مع الكمبيوتر يعد في عداد تحدي األمية وتثقيف المجتمع ّ -1
األميين.
وإذا كان العلم أســاس التقدم الياباني،
120
إذا كانت جل الــدول العربية إلــى اليوم تخوض في موضوع محو األمية ،ولم تخرج وكانت الكتب مصدر العلم ..ففي اليابان إلى حدود اليوم من هذه الطامة الكبرى ..تجد الكتاب كالماء والخبز؛ إذ تجد المكتبات حيث تعرف نسبة أكثر من % 19من األمية أينما وليتَ وجهك ،كما تجد المقاهي أينما فــي الــوطــن العربي (إحــصــاء 2014م) أي توجهت في الــدول العربية ،ففي مقاطعة مــا يقدر ب 96مليون نسمة ،فــإن اليابان كاناقاوا مثال توجد ( )11مكتبة إضافة إلى العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
-2تحديث المدرسة
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
مكتبات الجامعات الــثــاث الــمــوجــودة في وتأخذ بعين االعتبار التوافق والتوفيق بين المنطقة نفسها ،مع العلم أن كل مكتبة مزودة التدريس النظري والتطبيقي ،وتركز على بالحواسيب ومرتبطة بشبكة اإلنترنت ،إذا ما التكوين التقني بوصفه قوة تكنولوجية. أضفنا إلى ذلك أن اليابان تعمل على طبع كل أما مَن ينظر إلى حال المدرسة اليابانية كتاب صدر في العالم وفي وقت قياسي جدا ،وحــال المدرسة العربية ،فسيتفاجأ طبعًا كما أنها تترجم جميع الكتب إلى اليابانية سواء من حيث طبيعة المقررات الدراسية التي تم اعتمادها كلغة رسمية إضافة إلى أو المواد التي ندرسها ،فــإذا كان التلميذ اإلنجليزية في بعض التخصصات الجامعية، الياباني منذ االبتدائي يعتمد الحاسوب علما أن اليابانية هي لغة التدريس الجامعي الوسيلة األســاس ،فما تــزال مدرستنا تعد باستثناء الدراسات العليا التي يسمح فيها المعلوميات بالنسبة إلينا مــادة ثانوية وال باللغة اإلنجليزية كاختيار. ت ــدرس فــي كثير مــن الــمــؤســســات ،فضال عــن ت ـدّنــي نسبة اســتــخــدام اإلنــتــرنــت في
وإذا ك ــان التعليم عــنــدنــا مــمــز ًقــا بين المؤسسات العمومية والخاصة. فــي هــذا الــســيــاق ،يــذهــب أحــد الكتاب البحث عــن الــبــرامــج الغربية واالنــخــراط في إصالحات بيداغوجية سنة بعد سنة ،العرب إلــى أنــه زار صديقا له في اليابان فــالــيــابــان تــضــع مــخــطــطــات بــيــداغــوجــيــة في هاماماتو بداية الثمانينيات ،وفي ساعة وديداكتيكية دقيقة تنظر ألبعد الحدود ،معينة تفاجأ أن سمع األب يطلب من ابنه
الروبوت تغزو حياة اليابانيين ( ،https://www.aljazeera.netفي 14مارس )2020 العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
121
الذهاب إلى غرفته لمتابعة محاضرة أستاذه ،غياب االســتــعــداد اللوجستيكي ،باستثناء فلما استفسره في األمر ،أخبره الصديق أن بعض دول الخليج التي استطاعت االنتقال التلميذ يتلقى دروسً ــا خصوصية عن بعد إلى التعليم الذكي منذ عقد تقريبا. من طرف أستاذه ،وأن التعلم عن بعد يتيح
فرصة التعلم وتعميق المكتسبات المعرفية لكل مَن ال يستطيع االستفادة من الساعات
الخصوصية بعين المكان.
ولعل ذلك ما يدعو إلى تأمل عميق في
الفجوة الزمنية بيننا وبين اليابان على مستوى
التقدم اللوجستيكي في التعليم؛ إذ إننا اليوم ما نزال نجد صعوبة في ذلك ،خاصة أننا
محتاجون أحيانا إلى تلقي الدروس عن بعد،
كما هو الحال لهذا العصر الــذي انتشرت
فيه األوبــئــة مثل ( )Covid -19الــذي جعل التعلم عن بعد في معظم دول العالم ضرورة
-3تشجيع البحث العلمي وتقديس العلماء في اليابان إذا كنا نحن ال ننفق على البحث العلمي إال %0.64من الدخل القومي حسب تقرير اليونسكو 2010م ،فاليابان تنفق عليه ()130 بليون دوالر ،أي ما يوازي أكثر من %24من إنفاق دول العالم كلها (إحصاءات 2000م)، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على اإلبداع واالبــتــكــار ،فــقــد بلغت بــــراءات االخــتــراع في اليابان ( )43.660حسب إحصائيات 2012م مقابل ( )491بــراءة اخــتــراع فقط للدول العربية مجتمعة!
ملحة لتفادي العدوى وانتقال المرض ،والتي وإذا كنا نحن نتخلى عن مفكرينا وعلمائنا، تجد فيه معظم الدول العربية صعوبة بسبب فاليابان ترفع العلماء إلى درجة قريبة من
122
شركة (سوني) من أهم الشركات التكنولوجية العالمية المتخصصة في صناعة اإللكترونيات ( ،http://www.cunotic.comفي 14مارس )2020 العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
-4التفوّق التقني الواقع أن البحث في الفجوة بين اليابان والدول العربية تستدعي كثيرا من التنقيب والتقصي ال للتشفّي أو البكاء على الحال، ّ بل ألخذ العبرة واالعتبار ،وإلصالح أنفسنا، ولعصرنة األمــة واالنــتــقــال نحو المجتمع الــعــربــي الــحــداثــي؛ ولــعــل الــوقــفــة األســاس التي تدعو إلى االهتمام ال سيما في عصر
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
درجــة القديس ،وتعانقهم باألحضان كما فعلت مع المفكر المغربي المهدي المنجرة الــذي يعد مــن أبــرز علماء المستقبل في عصرنا؛ وكما احتضنت مــن قبل المفكر اإلداري واالقتصادي األمريكي ويليام ديمنغ ( ))W. Edwards Demingصاحب هندسة إدارة الــجــودة الشاملة ،وصاحب النظيرة المسماة دائ ــرة ديمنغ الــتــي تتوقف على المخطط (خطط -نفذ -افحص -باشر) والذي استطاع أن ينهض بالصناعة اليابانية التي ارتكز عليها االقتصاد الياباني ،بعد أن تجاهله قادة الصناعة األمريكية في بداية األربعينيات من القرن الماضي؛ إذ ركزت اليابان على الصناعة عالية التكنولوجيا التي ال تكلف تكاليف نقل أو إنتاج كثيرة ،في حين ما نزال نحن نعتمد على الموارد الطبيعية وعلى الفالحة كقطاع أساس ،مع ما لها من ضعف على مستوى المردودية وصعوبات على مستوى اإلنتاج أو التصدير؛ وما نزال إلى اليوم نصدر المواد الخام إلى الخارج ونستوردها مصنّعة بأكثر من كلفة إنتاجها!
الخبير األمريكي ويليام ديمنغ من أبرز منظري الجودة في الصناعة اليابانية.
الممكنات اليوم مع الرقمية ،هي تلك الفجوة التكنولوجية بيننا وبين اليابان ،فلألسف الشديد نجد أن أكبر فوبيا لدى العربي هي فوبيا التقنية ،فالخوف يزداد في مجتمعاتنا من التقنية ،ولألسف الشديد فإننا ال نثق في الصناعة العربية إن وجدت ،حيث تتمثل معظم الواردات العربية في استيراد المواد المصنعة والتكنولوجية. في حين أن الصناعة اليابانية تنافس أعتى األمم الصناعية مثل أمريكا وألمانيا، وهو ما يجعل صناعتها أكثر جودة في العالم كما هو الحال لشركة سوني ( )Sonyالرائدة في مجال اإللكترونيات التي يعود تأسيسها إلى سنة (1946م) ،والتي تعد األكثر جودة على مستوى المنتجات اإللكترونية قبل أن تصبح رائدة منذ تسعينيات القرن الماضي في مجال البرمجيات. وفي مجال صناعة السيارات تعد اليابان العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
123
يعد التعليم أولى أولويات المجتمع الياباني ( ،https://m.alwafd.newsفي 14مارس .)2020
قوة خارقة في هذا المجال ..من حيث نسبة في مواقف محرجة جــدا ،ولذلك نكتفي
اإلنتاج العالمي ومــن حيث الــجــودة ،حيث بهذه النكتة المعبرة التي تقول :كان هناك تنافس الشركات اليابانية أقوى الشركات سباق تجديف بين قاربين لفريق عربي العالمية لصناعة السيارات ،من قبيل تويوتا وفريق ياباني ،وكل قارب يحمل على متنه التي تأسست منذ (1937م) ،والتي تتوافر تسعة أشخاص ،وفي نهاية السباق وجدوا اليوم على نحو ( )522فرعً ا ،بل إن شركة أن الفريق الياباني انتصر بفارق رهيب نيسان ( )Nissanلصناعة السيارات تعد جــداً ،وبتحليل النتيجة وجــدوا أن الفريق
ســادس أكبر مصنع للسيارات في العالم ،الياباني يتكون مــن مدير واحــد وثمانية إذ تقدر قيمتها السوقية بنحو 40.2مليار مجدفين ،في حين أن الفريق العربي يتكون دوالر
(،https://makkahnewspaper.com
14مارس .)2020
في قاربه من مدير عام وثالثة مديري إدارات وأربعة رؤســاء أقسام ومجدف واحــد .في
على أنــه يطول الحديث في التوصيف النهاية قــرر الــفــريــق الــعــربــي عمل لجنة والمقارنة إذا ما دخلنا إلى حقول السياسة تقصي الحقائق لمحاسبة المخطئ ففصلوا واالجتماع والحضارة واإلعــام؛ ما يضعنا المجدِّ ف! * كاتب من المغرب.
124
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
ٌ سالمة العزلة في ُ ■ محمد علي حسن اجلفري*
ظن صديقي أنه الوحيد الذي اختار العزلة اختيارًا من تلقاء نفسه ..وأرسل إليّ رسالة بذلك ،وهو ال يعلم أن ألوفا مؤلفة ،بل ال أبالغ إن قلت الماليين من الناس قد اعتزلوا الخروج من بيوتهم بسبب فيروس كورونا .لكني بعثت له برسالة تأييد ،وقلت له أن األسالف قد قالوا قبل مئات السنين «في العزلة سالمة». وفتشت في الذاكرة أين قرأت هذا األثر ،وبعد تقليب صفحات الذهن ساعة بعد ساعة ،وبعد اضطراري إلى الخروج من المنزل لشراء شيء من الخضار والدجاج، ومشاهدة شــوارع جــدة شبه خــاويــة ،ومــن ضجيج السيارات في الضحى مرتاحة البال ،شعشع ببالي الجواب في األسبوع األخير من مارس 2020م .فعندي كتاب يصيب المح ّز اسمه « الدليل المشير إلى سند االتصال بالحبيب البشير صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله ذوي الفضل الشهير وصحبه ذوي القدر الكبير» .تأليف أبي بكر بن أحمد بن حسين الحبشي العلوي ،القاضي بمكة المكرمة ،المولود سنة 1320هـ ،والمتوفى سنة 1374هـ(.)١ وكــنــت أحــتــفــظ بنسخة مخطوطة بقلم المؤلف رحمه اهلل ،أهداني إياها األس ــت ــاذ الــدكــتــور عــبــد ال ــوه ــاب أبــو سليمان ،شفاه اهلل ،قبل أكثر من عشرين سنة .واألستاذ أبو سليمان كان قد أخذ والكتاب ينقسم إلــى ثالثة أقسام؛ شيئًا من العلم على المؤلف الذي كان مديرًا لمدرسة الفالح بمكة المكرمة القسم األول ،وهــو يشغل نحو ثلثي في الخمسينيات من القرن الرابع عشر الهجري .فبيني وبين المؤلف رحمه اهلل صلة غير مباشرة .تكاد تقارب اإلجازة، إن كنت على صواب.
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
125
الكتاب عن تراجم الشيوخ الذين أخذ عنهم المؤلف؛ والقسم الثاني ،وهو محل اقتباس راو إلى هذا الموضوع عن المسلسالت ،من ٍ راو ،ويبدأ هذا القسم بمسلسل «الراحمون ٍ يرحمهم الرحمن ،ارحــمــوا من في األرض يرحمكم من في السماء». وأمــا حديث «في العزلة سالمة» فيقول مؤلف كتاب الدليل المشير :أخبرنا شيخنا السيد محمد المرزوقي أبــو حسين قــراءة عليه ،قــال :أخبرني السيد علي بن ظاهر الوتري ..ويستمر المسلسل لنحو 26راويًا، واحـدًا عن واحد ،عن ابن جريج عن عطاء عن أبي موسى األشعري رضي اهلل عنه قال: أخبرنا رسول اهلل « :سالمة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته» .قال أبو موسى :صدق رسول اهلل :في العزلة سالمة ،فخرجنا وندمنا .وقال عطاء :صدق رسول اهلل في العزلة سالمة ،وقال كل من رجال السند حتى شيخنا كذلك. ويأتي الدكتور مصطفي محمود ليشرح لنا في مقال بعنوان «ماذا قالت لي الخلوة» فيقول« :الخلوة مع النفس حينما يبدأ ذلك الحديث السري ..ذلك الحوار الداخلي ..تلك المكالمة االنفرادية ،حيث يصغي الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أ ُذنًا أخرى تتلصص على الخط ..ولهذا كانت الخلوة مع النفس شيئًا ضــرور ًيــا ومقدسً ا بالنسبة إلنسان العصر الضائع في متاهات الكذب والتزييف ..وهي بالنسبة له طوق نجاة وقارب إنقاذ»(.)٢
126
رجــل اختار العزلة مــدة خمس عشرة سنة مقابل مليونين (من الروبالت بما أن الروائي روسي) .فهو يصور لنا مجلسً ا يتناقش فيه عدة أشخاص ،بينهم ثري مصرفي ومحام، حول عقوبة اإلعدام ،ويقول المحامي أنه لو خُ يّر بين اإلعدام والسجن عدة سنوات فإنه سيختار السجن طبعا! ويندهش المصرفي جدال ثم في ٍ من هذا االختيار ،ويدخل في ـان مع المحامي أنــه سيدفع له مليوني رهـ ٍ روبل إذا وافق على البقاء معزوال هذه المدة. وباختصار فإن الصفقة تنتهي بكتابة وثيقة بينهما .وفيها يوافق المحامي على البقاء سجينًا في فناء المصرفي طيلة هذه المدة.، فهو يقدم حريته ،والمصرفي يقدم له المال في نهاية المدة المحددة .ويشترط المصرفي على أن يبقى المحامي في عزلته هــذه ال يخالط أح ـدًا من البشر فيما عــدا حارس يقدم له الطعام والشراب والكتب ليقرأها. وأنه لو خرج من محبسه قبل الموعد بثالث دقائق فقط فإن المصرفي في ِح ٍل من دفع مليوني روبل له.
وتنقضي الــمــدة ،وفــي آخــر ليلة يكون المحامي قــد وصــل إلــى عبثية الــمــال بعد التعمق فــي ق ــراءة كتب األدب والفلسفة، ويــكــتــب ورقـ ــة أن ــه ســيــخــرج قــبــل الــســاعــة الــمــوعــودة ألنــه ال يــريــد الــمــال .على حين يساور المصرفي الندم الشديد على خسران المال ويقرر أنه سيخنق المحامي في جوف الليل وهو نائم ،فتبدو الوفاة وكأنها عادية ال شأن له بها .وبذلك يوفر على نفسه الغرامة. *** ولكنه عندما تسلل إلى غرفة الحجز رأى ويختلف التصور األدبي عن المأثور لدينا الورقة التي كتبها المحامي ،وقرر أن يعرف نحن المسلمين حول العزلة ،أو ما اصطلح ما فيها أوالً .فلما قرأ الورقة تنفس الصعداء عليها المتصوفة بالخلوة. وشــــــــــــــــــعر بارتياح شديد .وعاد متسـلال ففي األدب يقص أنطوان تشيخوف قصة إلى منزله .وتنتهي قصة «الرهان»( )٣بدخول
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
ال ــح ــارس مــع انــبــاج الــصــبــاح إل ــى غرفة المحجوز وإذا به قد خرج( .بإيجاز) *** إن العزلة منحة ال محنة .فلوالها لما خرج أشهر سجين في التاريخ وهو سيدنا يوسف عليه السالم ليكون وزير مالية مصر، بصرف النظر عن الظروف التي أحاطت به عليه السالم. الــطــريــف أن األديــــب الــمــصــري أحمد بهجـت ،رحمه اهلل ،في كتابه «أنبياء اهلل» قال :إن يوسف قابل امرأة العزيز بعد خروجه من السجن ووجدها قد خسرت نصف وزنها حزنًا على دخول الحبيب السجن(.)٤ وفي عصرنا انتقل مالكولم إكس من مروِّج مخدرات وهاتك حرمات ،إلى أشهر داعية مالكولم ..من عزلة المجرم الخطر حيث أطلق عليه أمريكي أســود بعد أن اعتنق اإلســام في لقب الشيطان إلى أكبر داعية إسالمي في امريكا السجن .وبعد مقتله بنحو ( )30سنة أصدرت هيئة الخدمات البريدية األمريكية طابع بريد فايروس كورونا». تكريمًا لذكراه. ورســالــة ثانية تــنــادي« :انــتــبــه! التنقل *** ولــقــد جابهت دول الــعــالــم وب ــاء كــورونــا المستمر ،والمخالطة سبب رئيس لتفشي بالتوسل إلى شعوبها أن يلتزموا بيوتهم وال فيروس كورونا ..لسالمتك إبق في المنزل.. يخرجوا منها إال للضرورة القصوى. مع تحيات وزارة الصحة». وأرســلــت وزارة الصحة السعودية ربما مليون رســالــة إلــى المواطنين والمقيمين لقد أحسنت يا صديقي بالعزلة االختيارية تحثهم على البقاء في منازلهم .ومــن هذه قبل أن ينتشر القرار بالبقاء في البيوت .ففي الرسائل واحدة تقول« :كلنا مسؤول .البقاء في المنزل سالحنا األقوى بإذن اهلل لمواجهة العزلة سالمة. * مترجم ونائب مدير مركز معلومات مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر سابقا. ( )١أبو بكر بن أحمد بن حسين الحبشي العلوي :الدليل المشير إلى سند االتصال بالحبيب البشير صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله ذوي الفضل الشهير وصحبه ذوي القدر الكبير /المكتبة المكية. ( )٢مصطفى محمود /األعمال الكاملة /دار القمر -بيروت ( )٣انطون تشيخوف :الرهان /ترجمة مجيد حميد جاسم /المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة األردنية ( )٤أحمد بهجت :أنبياء اهلل /الطبعة / 25دار الشروق العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
127
أعمدة «الرجاجيل» مراصد فلكية قبل تسعة آالف عام بمدينة سكاكا ■ إبراهيم احلميد
هذه أثار الجوف تدل عليه وعلى عمق تاريخه وجذوره ،آثاره هي مداميك األيام التي عبرت بها هذه المنطقة قطار الزمن القديم الى العصر الجديد!. في منطقة الجوف كثير من األثــار والشواهد التي تضرب في أعماق التاريخ القديم والحديث ،ومــن أهــم هــذه األثــار نجد أعمدة الرجاجيل التي أدرك أهل المنطقة أهميتها ،فقد حافظوا عليها طــوال فـتــرات الـتــاريــخ ،وكــانــت وجهتهم الترفيهية والـسـيــاحـيــة س ـنــوات طــويـلــة ،وكــانــت م ــدارس سـكــاكــا تنظم رحالتها المدرسية إليها طوال عقود من الزمن ،ألخذ الصور التذكارية مع هذه األعمدة قصصا غريبة عن هذه األثار ..ومنها ً العجيبة ،وكان الكثير من األهالي يتداولون أنها كانت في األصل رجال تحولوا إلى أحجار ،أصبحت مع مرور الزمن تسمى أعمدة الرجاجيل.
128
وقد كشفت باحثة آثار سعودية عن أن األعــمــدة الــحــجــريــة ،الــتــي خلّفتها الحضارات السابقة ،في مواقع شمالي غرب المملكة العربية السعودية ،كانت تمثل مــراصــد فلكية واستشفائية في أواخر العصور الحجرية (فترة ما قبل األل ــف الــرابــعــة قبل الــمــيــاد) ،مبينة أنها تعكس هندسة معمارية متقدمة، وقدرات ذهنية متطورة لمنشئيها. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
وقالت باحثة اآلثــار بجامعة الملك سعود منيرة علي المشوح ،في دراسة حديثة لها نشرتها (واس) و صحف عديدة ،إنها تتبعت مالمح ( )21موقعاً لألعمدة الحجرية في المملكة ،والرسوم الصخرية الموجودة بها ،للوصول إلى مؤشرات تكشف عن معانيها الحضارية، وتوصلت بعد الدراسة إلى مجموعة من الـ ــدالالت ،مثل الممارسات الرمزية، والــعــقــائــديــة ،واالســتــشــفــاء ومعالجة
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
«أعمدة الرجاجيل»
٩أالف عام من التاريخ في سكاكا الجوف
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
129
ال عن دالالت فلكية. المرضى ،فض ً وأشـ ــارت إلــى أن مــوقــع الــرجــاجــيــل في منطقة الجوف -شمالي المملكة -يصنف ضمن مواقع اآلثار الفلكية الفريدة والنادرة الوجود في العالم ،مثل ستونهنغ في بريطانيا، ونبتا في مصر ،ومواقع أخرى في إندونيسيا، وفــرنــســا ،وبريطانيا ،وأمــيــركــا وأستراليا، باعتبار أن جميع مواقع األعمدة الحجرية في العالم تجمعها خصائص واحــدة ،وهي أنها مصنوعة على زاوية مقدارها ( )180درجة، ولديها اصطفاف تجاه الشمال الجنوبي وعلى امتداد نجم القطب الشمالي «الجدي» الواقع ضمن كوكبة الدب األصغر ،كما أنها تعود إلى فترات زمنية متقاربة ،وهي أنها في معظمها ترجع إلى تسعة آالف سنة قبل الميالد.
والعصر النحاسي بجامعة برلين الحرة رئيس البعثة السعودية األلمانية للتنقيب ،الدكتور هانز جورج جيبل ،قد كشف عن عثور البعثة على مكتشفات أثرية في موقع الرجاجيل بمنطقة الجوف ،تعود إلى العصر النحاسي. وفي محاضرة في قطاع اآلثار ،بالمتحف الــوطــنــي بــالــريــاض؛ ق ــال «جــيــبــل»« :أب ــرز معثورات البعثة في موقع الرجاجيل بمنطقة الــجــوف كــان حلياً محروقة وقــائــد وخــرز من المعادن واألص ــداف والعظام وأحجار وأوان من الحجر الرملي ومكاشط ٍ االبسيدين مروحية الشكل».
وأضاف« :تم العثور كذلك على بقايا مواد أخرى من المنطقة السكنية العلوية وحجر رملي مربع الشكل ذي زوايــا مقوسة ،يبدو وكــان أستاذ العصر الحجري الحديث أنــه منقول لغرفة الدفن البيضاوية ،وجد
130
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
بين صف األحجار المربعة الداخلية والصف األساس لغرفة الدفن».
وتــابــع« :هــذه الــدالئــل توجد مــن العظام المتفحمة في التربة المتأثرة بالمياه ذات اللون الرمادي الموجودة في الطبقات في مواقع أخرى من الموقع داخل غرف الدفن، وبين الطبقات السميكة في األحجار العلوية».
على الماء من عمق 5 - 4م ،تــؤرخ لأللف الخامسة قبل الميالد ،ومن المرجح العثور على كثير من اآلبار التي تعود لنفس الفترة وربما بعدها».
وقالت باحثة اآلثار بجامعة الملك سعود منيرة علي المشوح :إن موقع الرجاجيل في الجوف أ ُقيم كمثيالته من المواقع األخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبــا ،مؤكدة أن الهندسة الدقيقة لتخطيط موقع الرجاجيل ،وتوجهات األعمدة الحجرية في نطاقه ،تعطي صورة أكثر وضوحاً لنوعية التواصل الحضاري في عصور ما قبل التاريخ.
وأردف« :مــوقــع الرجاجيل يمثل مقبرة مركزية للمجتمعات الرعوية المتنقلة للفترة التي تعود إلى ( )7000 - 6500سنة خلت «العصر النحاسي» ،حيث ازده ــرت ثقافة جــديــر بــالــذكــر أن الــدكــتــور هــانــز جــورج الرعي التي تعتمد على اآلبار في تلك الفترة جويل له اهتمام في مناطق البيئات القديمة في شبة الجزيرة العربية». في الجزيرة العربية وخارجها في تخصص وتابع« :نصب القبور أو األعمدة التي يصل الـ ــدراسـ ــات االجــتــمــاعــيــة واالســتــيــطــانــيــة طولها إلى 4.5م يحتمل أنها نصب لزعماء واحتياجاتها ،إضافة إلى اهتماماته الحالية عــن ثــقــافــات مجتمعات الــبــاديــة ،كما قدم القبائل الذين قادوا تلك األجيال». وقال «جيبل»« :اثنان من اآلبار المحفورة العديد من األبحاث والدراسات المتخصصة في الرصيف ثبت أنها آبار جوفية للحصول المنشورة والكتب في العصور الحجرية.
وأردف« :هــنــاك دلــيــل واض ــح أن بقايا العظام في الغرفة البيضاوية السفلية توجد فيها آثار حرق كبير ومتعمد ،ونفس الحالة للغرفة العلوية».
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
131
وأضافت إن الباحثين األوروبيين توصلوا إلــى أن هــذا الــنــوع مــن المنشآت األثــريــة يرتبط بوجود اصطفافات فلكية دقيقة من الصعب تجاهلها ،وبخاصة أن معظمها ينتمي إلى عصر الثورة الزراعية ،بوصف أن أكثر النشاطات الزراعية ،ابتداء من تهيئة الحقول لعملية بذر البذور ،وانتهاء بمرحلة الحصاد؛ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفصول واألنواء ،فال عجب أن نرى آثاراً لعلم الفلك تعود إلى تلك المرحلة.
وتم تحديد موضع محدد لوقوف الراصد؛ فإن العالمات الواضحة على امتداد محور الرائي ،مثل أعلى نقطة على سفح جبل ،أو النقطة المنخفضة بين منحدرين؛ يمكن أن تعمل بمثابة نقاط معايرة ،يتم عن طريقها تحديد شروق وغروب أي جرم سماوي بدقة متناهية ،وهــو يظهر فــي مــواقــع األعــمــدة الحجرية بالطائف ،التي ما زالت تستخدم في رصد الشهور الهجرية. وطالبت الباحثة الجهات المعنية بإدراج موقع الرجاجيل في سكاكا بمنطقة الجوف ضمن الــمــواقــع المستهدفة للتسجيل في قائمة التراث العالمي ،أسوة بمواقع مماثلة في العالم تم تسجيلها ،نظراً إلى ما تضمه من تميز وتفرد عالمي.
وقدمت منيرة المشوح في دراستها نماذج ألدلــة وشــواهــد أثــريــة فــي موقع الرجاجيل مرتبطة بالفلك ،مثل الــدوائــر الحجرية المكونة مــن أعــمــدة حجرية ،والــتــي تشبه الشواخص الشمسية ،ونماذج لمراصد ما ويتكون موقع أعمدة الرجاجيل األثــري، قبل التاريخ ،مشيرة إلى أنه إذا ما أ ُعطي الراصد مساحة كافية لرؤية األفق السماوي ،في منطقة الجوف ،من خمسين مجموعة من األعمدة الحجرية المنتصبة والمسماة بـ«الرجاجيل» ،وتتكون من عدد من األعمدة الحجرية المنحوتة مــن الحجر الرملي، ويـــراوح عــددهــا بين ثالثة وسبعة أعمدة، ويصل ارتفاع بعض األعمدة القائمة إلى أعلى من ثالثة أمتار ،فيما تبلغ سماكتها نحو ستين سنتيمتراً.
132
ويذكر الدكتور خليل المعيقل االبراهيم في كتابه «بحوث في أثــار منطقة الجوف» الصادر منذ اكثر من ( )20عاما» إن هناك أكثر من ( )50مجموعة من األعمدة الحجرية المنتصبة والمائلة ،والتي تعود لأللف الرابعة قبل الميالد ،أو ما يعرف بحضارة العصر النحاسي (الكالكوليثي) ،حيث يعتقد أنها تشكل موقعاً لمعبد قديم إلحدى الحضارات العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــذ
العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
133
التي شهدتها منطقة الجوف». ويذكر أن الدكتور عبدالرحمن األنصاري عالم اآلثــار المعروف ،قد أشــار سابقا إلى أن االفتراضات األثرية تعتقد بــأن الموقع يعود إلى األلف الرابعة قبل الميالد ،والموقع بحاجة إلى إجراء تنقيبات مختلفة للوقوف على أســراره وغوامضه ،إذ أن تلك األعمدة تشبه إلى حد كبير تلك األحجار الموجودة في بريطانيا ..والتي تعود إلى األلف الثالثة قبل الميالد.
134
أعم ،امتدت خالل األلف الرابعة قبل الميالد إلــى سيناء وشــرق األردن وجنوبي سورية وغرب العراق ،وأطلق عليها حضارة العصر الحجري/المعدني؛ الكتشافها أسلوب صهر النحاس.
وتتميز هــذه الــحــضــارة بــقــرى الــدوائــر الحجرية التي ربما كانت تستعمل للسكن الــمــوســمــي ،وتــشــيــر الــوثــيــقــة إلـ ــى مــوقــع الــرجــاجــيــل بــقــولــهــا :ثــمــة مجمع مثير من الحجارة والركامات قرب سكاكا يعرف باسم ويشير األنــصــاري إلــى أن هــذا الشكل أعمدة الرجاجيل ،وكان مركزاً هاماً له نظائر الحجري قد يكون مرتبطاً بطقوس عقائدية في سيناء. في أغلب الظن ،أو هو بمثابة أحد األشكال ويرى بعض الباحثين بناء على مالحظتهم االستداللية بعلم النجوم والفلك ،وهناك من للموقع أن دائــريــة المجموعات الحجرية يقول إن هذه األعمدة ما هي إال شواهد على تضفي بعداً جدارياً للمكان ،وقد يوحي ذلك قبور عَ ليّة القوم من الشعوب القديمة التي بأنها ربما كانت جزءاً من سور طويل ملتف سكنت منطقة الجوف ،وتشير وثيقة موجودة بالقرية ،وذلــك بناء على فرضية ما تعنيه بمتحف دومة الجندل إلى أنه يبدو أن الوضع الــحــجــارة المتكسرة والمتكومة فــي دائــرة االقتصادي للمناطق الداخلية في الجزيرة منتصف الموقع ،مما يشير إلــى أنها ربما العربية ،وهي المناطق الواقعة إلى الجنوب من صحراء النفود استمر على حاله حتى كانت مذبحاً تقدم فيه القرابين أو غير ذلك. وتجعل تلك اآلث ــار مــن منطقة الجوف األلــف الثانية قبل الميالد تقريباً ،ويتمثل في مزاولة رعي الماشية من الماعز واألبقار منطقة أثرية من الطراز األول ،وجانب اآلثار واألغنام باإلضافة إلى االعتماد على ممارسة يحتل مكانة أســاس في مجمل االهتمامات الصيد وجمع القوت كما كان سائداً آنذاك .اإلنسانية ،فهناك الماليين من مواطني الدول وتــضــيــف الــوثــيــقــة إن ــه فــي حــوالــي عــام المختلفة ومن السعوديةـ الذين يقطعون آالف ( )4000قبل الميالد ،دخل شمالي الجزيرة األميال للتعرف على معالم التراث الحضاري الــعــربــيــة نــفــوذ حــضــارة الــعــصــر الــحــجــري والثقافي في أماكن وجودها ،بل إن هناك الــحــديــث (الــفــخــار) ،الــتــي كــانــت تستخدم العديد من الدول تعتمد في صناعة السياحة الفخار وتمارس الزراعة البسيطة والصيد لديها على ما عندها من آثار خلفها األجداد. والرعي ،وقامت هذه الحضارة في شمالي وما يوجد بمنطقة الجوف يعد مكوناً أساساً الجزيرة العربية ،لتشكل جــزءاً من حضارة لصناعة سياحة ناجحة. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
املؤلف :فراس حج محمد
املؤلف :د .فوزية أبو خالد
الناشر :دار روافد للطباعة والنشر يف القاهرة
الناشر :املركز الثقايف للكتاب للنشر والتوزيع
يقع الكتاب في ( )570صفحة ،توزعتها ثمانية فصول« :كيف يحدث الشعر؟»« ،ظواهر سلبية في مسيرة الشعراء»« ،وهج المرأة الشّ اعرة»« ،الشّ عر بين األيروتيكية واأليروسية»« ،الشعر قضايا وآراء»، «آفاق من شعريّة القرآن الكريم واللّغة العربيّة»، (الشّ اعر وسلطة اإلعالم المعاصر) ..وتوقّف الكاتب في الفصل الثامن «في حضرة الكتب» عند مجموعة من الكتب ،تلك الّتي أولت عناية خاصة بالدّرس النّقديّ الشّ عريّ وبعض الكتب الشعرية القديمة والمترجمة. ويبين الكاتب في مقدمة كتابه استفادته من «النقد الثقافي» ،وأولى اهتماما بظاهرة «النّقد التّفاعليّ »، فتعدّدت صوره داخل مباحث الكتاب ،ويُع ّد الكتاب برامج المسابقات الشّ عريّة وبرامج الحوارات األدبيّة ،وعقد النّدوات األدبيّة الّتي تستهدف أحد الكتب ومناقشتها ،والتّعليق الذّي ينحو المنحى الصفحات األدبيّة أو الثّقافيّة في النّقدي لمحرّر ّ والمجلت من بين هذا النشاط النقدي، ّ الصحف ّ وأخيرا ما ينشر على مواقع النّشر اإللكترونيّ كأمازون و» »Good Readerمن مقاالت قصيرة للقرّاء تقييمًا للكتب الّتي قرأوها داخلة أيضا فيما بات يعرف بالنقد التفاعلي أو النقد االفتراضي.
ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراءات
الكتاب :بالغة الصنعة الشعرية
الكتاب :سيرة األمهات
تزامنا مع يوم المرأة العالمي لعام 2020م،صدر كتاب جديد للدكتورة فوزية أبو خالد بعنوان « سيرة األمهات « عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع في شهر مارس 2020م. تقول مؤلفة الكتاب الدكتورة فوزية أبو خالد الشاعرة واألكاديمية والكاتبة السعودية المرموقة ،وصاحبة النضال الممتد في سبيل المرأة وحقوقها إن الكتاب سيكون حاضرًا على أرفف المكتبات ومعارض الكتاب عبر المدن والقوافل العابرة للقارات قريبا بإذن اهلل ،ليلتقي القراء عشاق المعرفة ،وكل باحث وباحثة بموكب من األمهات يزيد على ( )50قامة من نخل الجزيرة العربية ،وأكثر من خمسين قلمًا من كاتبات وكتاب المملكة العربية السعودية ،يشتركون في كتابة تظاهرة حب وكفاح من سيرة األمهات. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
135
الـ ـ ـصـ ـ ـفـ ـ ـح ـ ــة األخـ ـ ـ ـي ـ ـ ــرة
ٌ فاشل؟ مبدع الناقد هل ُ ٌ
■ صالح القرشي*
فــي أمسية أدبـيــة عقدت فــي الفترة القريبة الماضية فــي مركز الملك فهد الثقافي، وكانت تتناول عالقة المبدع بالناقد ،استعاد أحد المشاركين في تلك األمسية -وهو روائي معروف -مقولة (ليس الناقد سوى مبدع فاشل) ،كما جرى الحديث في تلك األمسية عن أن الناقد ال وجود له لوال المبدع. ـدي على هــذا التناول الــذي ينطلق من فكرة الصراع الثنائي ورغــم التحفظ الكبير لـ ّ والبدائي الذي يمكن تشبيهه بالمصارعة ،أو المالكمة؛ إذ ال بد لطرف من هزيمة الطرف اآلخر. إال إننا وأمــام مقولة (الناقد مبدع فاشل) ،ال بُـ َّد من أن نعترف أن هــذه المقولة يمكن وصفها بالمقولة الكالسيكية التقليدية التي تتكرر بتفاوت األزمنة واألمكنة. هــنــا ،نــتــذكــر مــا كتبه الــشــاعــر الكبير رســول حمزاتوف في كتابه الجميل (بلدي) ،فهو يقول: (في معهد اآلداب جرت األمور على النحو اآلتي: كنا في السنة األولى عشرين شاعرًا وأربعة قصاصين ومؤلفًا مسرحيًا ،وفي السنة الثانية أصبحنا خمسة عشر شاعرًا وثمانية قصاصين ومؤلفًا مسرحيًا وناقدًا أدبيًا ،وفي السنة الثالثة صرنا ثمانية شعراء وعشرة قصاصين ومؤلفًا مسرحيًا وستة نقاد ،وفي وقاصا واحدًا ً السنة األخيرة بقينا شاعرًا واحـدًا ومؤلفًا مسرحيًا واح ـدًا والبقية نقادًا) .انتهى ما قاله حمزاتوف ،وهو يصب كما رأينا في مسار الرفع نفسه من قيمة اإلبداع والتقليل من أهمية النقد.
136
وحول هذه العبارة التي تتكرر كثيرًا كما قلنا، يعلق الناقد البحريني جعفر حسن قائال( :إن فكرة كــون الناقد أديباً فاشالً ،هي نــوع من المغالطة، فبدال من أن ينصبَّ النقاش على ما يطرحه الناقد.. العدد - ٦٧ربيع ١٤٤١هـ (٢٠٢٠م)
يتحول الموضوع إلى ذم الناقد ذاته بوصفه أديباً فاشالً ،وما دام كذلك ،فكل ما يقوله يدخل في باب الفشل ،إنها من التعميمات التي تنتشر عند عامة الناس بسرعة على اعتبارها ذاهبة ضداً على الحفر المعرفي الذي يجعل أدبية األدب موضوعه ،ويعتقد بذلك كثي ٌر من الناس من دون إعــادة التفكير في العبارة). واإلشكالية -من وجهة نظري -تأتي من زاوية أن المبدع (الشاعر)( ،القاص) ،يعتقد أن الناقد عندما يكتب ..فهو يتوجه بكتابته نحو المبدع مباشرة؛ قاصا؛ وكأن عملية النقد هي مجرد شاعرًا كان أم ً خطاب خاص موجّ ه من الناقد تجاه المبدع .وهذه نظرة خاطئة جــدًا ،فلو كــان األمــر كــذلــك ..لكان يمكن توجيه ذلك النقد في رسالة خاصة للشاعر أو القاص ،بدال من النشر في كتاب أو صحيفة؛ لكن الحقيقة أن الناقد مثله مثل المبدع ،يتوجه بخطابه للقارئ بداية ونهاية .وهكذا ،فالنقد ذاته هو إبداع كما هو الحال في الشعر أو القصة ،وهذا هو مَكمنُ الخطأ في موضوع تلك األمسية التي بدأ بها المقال.
من إصدارات اجلوبة
من إصدارات برنامج النشر في
صدر حديثاً