صدر حديث ًا كتاب: > فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال: عبدالرحمن بن أحمد السديري > المؤلف :مجموعة من الباحثين > المحرر :د .عبدالرحمن الشبيلي
-العدد - 18شتاء 1429هـ 2008 -م
من �إ�صدارات م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية
ليل األساطير في طفولتي :شهادة روائية ليوسف احمليميد احلداثة السردية في اخلطاب القصصي العربي قراءة في ديوانني جلاسم الصحيح وعيد احلجيلي نصوص قصصية لعبدالسالم احلميد وفاطمة املزروعي ومحمد زيتون قصائد لعبدالرحيم اخلصار وأحمد الواصل وجمال املوساوي ويوسف عبدالعزيز
حوارات مع :صالح فضل ،وعبدالسالم املسدي ،ومصدق احلبيب
> السعر 45 :رياالً. > متوافر في المكتبات التجارية. > ك��م��ا يطلب م��ب��اش��رة م��ن مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية.
18
18
أحد آثار الرجاجيل املشهورة في منطقة اجلوف
منوذج يظهر جماليات اخلط العربي للخطاط مصدق احلبيب
لوحة تشكيلية للفنان نصير السمارة أحد رواد الفن التشكيلي مبنطقة اجلوف
اجلوبة -شتاء 1429هـ
1
العدد 18 شتاء 1429هـ 2008 -م
ملف ثقافي ربع سنوي يصدر عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية
املشرف العام إبراهيم احلميد املراسالت توجه باسم املشرف العام ّ
هاتف)+966( )4( 6245992 : فاكس)+966( )4( 6247780 : ص .ب 458سكاكا اجلـ ــوف -اململكة العربية السعودية aljoubah@gmail.com ردمد ISSN 1319 - 2566
سعر النسخة 8رياالت تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع
قواعد النشر
-1أن تكون املادة أصيلة. -2لم يسبق نشرها. -3تراعي اجلدية واملوضوعية. -4تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها. -5ترتيب املواد في العدد يخضع العتبارات فنية. -6ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني والكتّاب، على أن تكون املادة باللغة العربية. اجلوبة من األسماء التي كانت تطلق على منطقة اجلوف سابق ًا
الناش ـ ـ ـ ــر :مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية أسسها األمير عبدالرحمن بن أحمد السديري (أمير منطقة اجلوف من 1362/9/5هـ 1410/7/1هـ املوافق 1943/9/4م 1990/1/27 -م) بهدف إدارة ومتويل املكتبة العامةالتي أنشأها عام 1383هـ املعروفة باسم دار اجلوف للعلوم .وتتضمن برامج املؤسسة نشر الدراسات واإلبداعات األدبية ،ودعم البحوث والرسائل العلمية ،وإصدار مجلة دورية ،وجائزة األمير عبدالرحمن السديري للتفوق العلمي ،كما أنشأت روضة ومدارس الرحمانية األهلية للبنني والبنات ،وكذلك أنشأت جامع الرحمانية. 2
اجلوبة -شتاء 1429هـ
احملتويــــات
>6......................... من صفحات التاريخ احمللي ملنطقة اجلوف :الرحلة التنوخية
>49...................... الصحيح في ديوان «نحيب جاسم ّ األبجدية» :شعرية تتمرد على األبجدية التي تضيق على رؤى الشاعر وشطحاته الشعرية
>66...................... الناقد د.صالح فضل يحلل مأزق الثقافة العربية ويكشف أسبابه لوحة الغالف: لوحة من أعمال الفنانة سامية احللبي
االفتتاحية 4......................................................... دراس����ات :أسئلة المغايرة ف��ي راه��ن الشعر المغربي :اإلبداع والذات والهوية -د .عبد الفتاح شهيد12........................... الحداثة السردية :مقدمة في مظاهر اإلتصال واإلنفصال في الخطاب القصصي العربي -إبراهيم الكراوي 18.................. قصص قصيرة :قصص قصيرة جداً -هشام بن الشاوي 24....... صانع البهجة -عبدالسالم الحميد25.............................. صورة قبيحة -فاطمة المزروعي 26................................ قصص قصيرة جداً -مصطفى لغتيري 27......................... قصتان قصيرتان -محمد زيتون28................................. شــــــــرفــــــة -محمود عطية محمود 30.............................. فصل من رواية :الشتات األول -فيصل أكرم 32.................... شعر :ليس تماما يا أمي -جمال الموساوي 36...................... سفين ُة الجَ دائل -أحمد الواصل 38................................. مُـد ُن العُـ ْزلـة -د .شريف بُقنه الشّ هراني40......................... األمازيغي -عبد الرحيم الخصار 42................................ حدثيني -علي محمد آدم44........................................ قصائد قصيرة -يوسف عبدالعزيز45.............................. نقد :أخيرا وصل الشتاء لعبدالرحيم الخصار -يونس الحيول46.... قراءة في رواية فسوق لعبده خال -د .عالي القرشي 51........... قامة تتلعثم لعيد الحجيلي -عبدالحق ميفراني 53................. مواجهات :حوار مع الناقد محمد المشايخ -عمار الجنيدي 56.... حـــــوار مع الشاعر والمسرحي د .نصار عبدالله -محمود سليمان62... عالم اللسانيات التونسي عبدالسالم المسدي -عصام أبوزيد80... نوافذ :قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي -شمس علي 82.... رحلة محمد شكري المفتوحة -عبدالحق ميفراني84.............. المعالجة الحاسوبية للخط العربي ...هل خدمته أم شوهته؟ خلف سرحان القرشي 88............................................. شهادات :ليل األساطير في طفولتي -يوسف المحيميد 92......... تشكيل :مصدق الحبيب :الخط العربي الحلم والسحر -الكنتاوي لبكم 96... الفنانة سامية حلبي :اللون المستوحى من الطبيعة -جعفر العقيلي101... التقريب بين السينما والكتاب -خالد ربيع السيد106.............. قراءات :فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال -محمد صوانة110.... مسيرة التعليم في منطقة الجوف -محمود الرمحي 115........... خرافات تكاد تكون معاصرة 116..................................... مفاجأة ماجد -محمد محمود السويركي 119...................... دومة الجندل -د .عبدالعزيز بن سعود الغزي118.................. المرأة في الجزيرة العربية قبل اإلسالم -د .هتون الفاسي120...
اجلوبة -شتاء 1429هـ
3
اإلفتتاحية > إبراهيم احلميد حفل العام الميالدي 2007م كما العام الهجري 1428هـ بالعديد من األحداث الثقافية التي لوّنت العام ،فمن المؤتمرات الثقافية إلى معارض الكتب ،ووصوال إلى اإلصدارات التي لم تدع ألي لون ثقافي أن يحتكر الساحة ،على الرغم من أن الساحة الثقافية ال تزال غير مستوعبة لذلك ال عن استيعابها كلها؛ الكم الهائل من اإلصدارات الروائية ،التي يعجز القارئ عن حصرها فض ً إال انه وعلى الرغم من ذلك ،فلم تخ ُل الساحة الثقافية من اإلصدارات في مجال الشعر والنثر والترجمة والدراسات والشؤون الثقافية المتنوعة. كما حفل العام المنصرم بأحداث مهمة؛ منها ما سر الخاطر وأبهج النفس ،ومنها ما كدّر الصفو؛ فقد شهد العام رحيل شعراء وأدب��اء ،كما شهد والدة أسماء جديدة ،حلّقت في سماء المشهد الثقافي العربي ،ما يؤكد أن الثقافة العربية ال تزال حبلى بكل جديد. وكذلك في المملكة العربية السعودية كانت السنة حافلة باألحداث الثقافية ،فقد بدأت بمشاريع األندية األدبية التي باتت أكثر توهّ جا ووضوحا ،من حيث الرؤية وتحقيق األهداف؛ إذ شهدت معظم األندية األدبية نشاطات ثقافية ،انعكست إيجابا على حركة الثقافة في المملكة؛ وإال ما معنى إحياء سوق عكاظ في الطائف ثقافياً ،وملتقيات السرد والنص وجماليات القصيدة في جدة والقصيم والباحة ،وملتقى سيسرا بالجوف ،وأمسيات الشعر والقص وغيرها في المدينة وتبوك والدمام وجيزان؟ وال ننسى أن نعرّج على مناسبة معرض الكتاب ..هذه المناسبة السنوية التي بات جميعنا يترقب موعدها عاما إثر عام .كما ال ننسى مبادرات وزارة الثقافة واإلعالم في المملكة العربية السعودية من أجل إشراك مثقفي المملكة والوطن العربي في صنع إستراتيجية ثقافية للمملكة، يجري بلورتها في نسختها النهائية.
ا فتتا حيــــة 4
عن المؤتمر العلمي األول للتطوير التربوي في الوطن العربي «اآلن أصبح في مقدورنا أن نقفز نحو الجودة ...أن نتحول إلى صناعة االحتراف في عملنا التربوي ،من خ�لال لقاء عربي مميز وفريد؛ إذ سيجتمع نحو ( )300خبير وعالم وأكاديمي على مدى أيام المؤتمر ،لتقديم خالصة تجاربهم ونتاجهم العلمي والعملي في مجال التطوير التربوي». العبارة الماضية كانت شعاراً دعائياً ألحد المؤتمرات العلمية العربية التي عقدت مؤخراً. إال أننا ومن واقع المؤتمرات العربية المشابهة التي تعقد كل يوم ،ومن خالل اللجان التي تعقدها
اجلوبة -شتاء 1429هـ
مختلف المنظمات العربية من المحيط إلى الخليج ،ومن خالل سنوات طويلة من التجارب التعليمية ،لم نلحظ أن هناك تطوراً في مستوى التعليم انعكس إلى خلق مجتمع عربي مثقف ،أو إلى ثورة علمية تقنية وصناعية؛ تنتقل بالمجتمعات العربية إلى ما يسمى بمجتمع المعرفة ،أو تحويل هذه المجتمعات إلى مجتمعات بنَّاءَة ،تحافظ على المكتسبات التنموية والعلمية ،وتبني عليها ،كما تفعل كل أمم الدنيا .وكأن كل أمة تأتي لتحاول اختراع العجلة من جديد! وكأن هذه المجتمعات تولد في جزر معزولة في كل دورة من دورات تشكُّل المجتمع ،بأي صورة وعلى أي نظام؛ بل إن هذه األنظمة التعليمية عجزت حتى عن صون الوحدة الوطنية في بعض الدول العربية! وفي نظرة مراجعة إلى القيادات التربوية في العالم العربي نجد أن معظمها قد تلقى علومه في دول متقدمة، وحصل على أعلى الدرجات العلمية في جامعات ودول تتميز بأنظمة تعليمية متطورة؛ إال إننا لن نحمّل التربويين ال في أكثر مما يحتملوا ،ولكن من الواضح أن هناك خل ً بنائنا التربوي والثقافي ،وهو ما أدى إلى انتكاس مخرجات التعليم في العالم العربي ،وم��ن ثم تخلّف المجتمعات العربية ،ليصبح «الجهل خي ٌر من التعليم الناقص» ،على رأي أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد ،منذ أكثر من ستين عاما ..وإذا أردنا أن نحلّل واقعنا التربوي والتعليمي اليوم، فال بد لنا من النظر إلى تجارب الدول المتقدمة والبناء عليها ،ال محاولة اخ�ت��راع العجلة من جديد ،من خالل الشعارات؛ ألن القالب موجود وال يبقى سوى البناء عليه.
الجوبة 18
عليه الجمهور العربي م��ن المحيط إل��ى الخليج ناقداً ومحكّما في برنامج أمير الشعراء ،فهو يواصل قراءاته ومتابعاته وتحليالته حاضراً بقوة ،داخل فعاليات حركة النقد واإلب��داع والثقافة؛ كما تحتل مؤلفاته في المجال النقدي مكانة متميزة ،فهي تجمع بين التنظير النقدي والتطبيق. ك�م��ا ت �ق �دّم ال �ج��وب��ة ف��ي ه ��ذا ال �ع��دد ال �ن��اق��د الكبير عبدالسالم المسدي ،أح��د أب��رز المتخصصين العرب في حقل الدراسات اللسانية المعاصرة ،وأحد الدارسين القالئل الذين تجاوزوا مرحلة النقل والترجمة من الغرب، إل��ى آف��اق التوليد واالس �ت �ح��داث وم��واءم��ة العلم الكلي لتاريخية لغتنا العربية ونوعيتها. وتحاور الجوبة الناقد األردني محمد المشايخ ،الذي يع ُّد من أهم النقاد األردنيين ،الذين توقفوا طويال عند األدب واألدباء األردنيين في سيرهم الذاتية واإلبداعية. كما تقدم الجوبة م�ق��االً ع��ن التقريب بين السينما والكتاب ،للناقد الفني والقاص خالد ربيع السيد. وفي مجال التشكيل تحتفي الجوبة بتجربتين ثريتين لفنانين عربيين مقيمين في أمريكا ،هما :الفنانة التشكيلية سامية الحلبي ،والفنان التشكيلي الدكتور مصدق الحبيب، الفنان الذي عشق الخط العربي وأبدع فيه. وتسعد الجوبة أن تقدم دراسة جديدة للدكتور عوض البادي عن رحلة مجهولة تمت قبل أكثر من 100عام ،إلى منطقة الجوف قام بها عز الدين آل علم الدين التنوخي.
ومقاالت ٍ دراسات وقصصاً وقصائد ٍ كما تقدم المجلة ..اذاً ها هي الجوبة ،تصل في عددها الثامن عشر وشهادات ،كلنا أمل أن تشكّل في مجموعها مادة ترضي ٍ إلى مرحلة ،تحاول من خاللها تلبية خيارات قرّائها إلى ما يتوقعه محبو الجوبة ويأملونه منها. النهم المعرفي واإلبداعي ،وها هي تقدّم في هذا المدماك وإذا كانت الجوبة قدمت ما تستطيعه ،لكسب ثقة الجديد أطباقا متنوعة من الوجبات الثقافية ،التي تأمل قرّائها ومحبيها على امتداد الوطن العربي؛ فإنها تقدّم الجوبة أن تكون كما يشتهي قرّاؤها في كل مكان. بهذا المدماك ما تستطيع أن تفعله كما يقول الشاعر تقدّم الجوبة في هذا العدد الناقد الكبير صالح فضل، الفلسطيني مريد البرغوثي ،وهو المحاولة لتقديم الجديد بعد أن عرفه المثقفون في كل مكان من خالل طروحاته والمفيد دائماً. النقدية العميقة وكتبه الجادة ،ومن خالل الجوائز العديدة ولكم تحياتي.. التي فاز بها في مختلف األقطار العربية ،وبعد أن تعرّف اجلوبة -شتاء 1429هـ
5
من صفحات التاريخ احمللي ملنطقة اجلوف الرحلة التنوخية
> د .عوض البادي
<
في مقالة سابقة في مجلة الجوبة( ،)1بيّنا أن منطقة الجوف ,قد حظيت بنصيب وافر من اهتمام الرحالة األجانب ،الذين توافدوا إليها منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى عشرينيات القرن العشرين الميالدي .وكان هؤالء الرحالة قدّموا معلومات مهمة ومفيدة للباحثين عن تاريخ المنطقة المحلي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا( .)2ولم تحظ المنطقة بنصيب في كتابات رحالة عرب خالل تلك الفترة ،ربما لعدم وجودهم ،أو ألنهم لم يكتبوا شيئاً ،وذلك حسب المعطيات المعلوماتية المتاحة حتى اآلن .وق��د يكشف الزمن عما خبأه من خ�لال البحث المعمق في اإلرث الثقافي الجغرافي والتاريخي العربي .والحالة التي بين أيدينا في هذه الصفحة التاريخية من صفحات التاريخ المحلي الحديث لمنطقة الجوف قد تؤكد ذلك ،ما لم تكن حالة استثنائية .وهذه الحالة تخص شخصية علمية وسياسية عربية ،قادتها الظروف إلى الرحيل إلى المنطقة والكتابة عنها .كان صاحب هذه الشخصية هو عز الدين آل علم الدين التنوخي ،الذي ف ّر من سورية مع مناضلين آخرين هرباً من الجندية ،أو للمطالبة باستقالل البالد العربية ،أو لالنضمام للثورة العربية التي أعلنت في مكة في اليوم التاسع من شهر شعبان 1334هـ الموافق للعاشر من شهر حزيران عام 1916م بهدف االستقالل عن الحكم العثماني.
صاحب الرحلة
درا��������س�������ات 6
ولد عز الدين التنوخي في دمشق عام 1889م ،وتلقى تعليمه في مدارسها ،وبعد نيل الشهادة الرسمية التركية التحق بمدرسة فرنسية في يافا ،ثم التحق بالجامع األزهر في القاهرة ،وبعدها ذهب في بعثة علمية إلى فرنسا لدراسة الزراعة .بعد دراسة ثالث سنوات في مدرسة زراعية في فرنسا ،عاد إلى بالده وعيّن مدرساً للزراعة في مركز زراعي ببيروت .وعندما أ ُعلنت الحرب العالمية األولى في عام 1914م استدعي للتجنيد لكنه فر من الجيش التركي بحلب ،وبعد إعالن الثورة العربية الكبرى عام 1916م انضم إليها .بعد دخول قوات الثورة العربية دمشق في نهاية شهر سبتمبر عام ،1918وتشكيل الحكومة العربية فيها ،تقلد التنوخي منصب وزير الزراعة ،وعين عضواً في مجلس المعارف الذي ألفته وزارة المعارف بدمشق ،وقد تحول هذا المجلس إلى المجمع العلمي العربي،
اجلوبة -شتاء 1429هـ
ثم إلى مجمع اللغة العربية .وبعد العدوان الفرنسي واحتالل دمشق عام 1920م ،هاجر إلى العراق ،وعين أستاذاً لألدب العربي في مدارس الموصل ،ثم استقر حتى سنة 1931م في بغداد ،حيث عين أستاذاً لألدب العربي في دار المعلمين االبتدائية ،ثم في دار المعلمين العالية .ثم عاد إلى دمشق ،فعين أميناً لسر المجمع العلمي ال�ع��رب��ي ،ث��م عين م��درس �اً ل�ل�أدب العربي في بعض المدارس الثانوية ،فمفتشاً للغة العربية ،فمديراً لمعارف محافظة السويداء ،فأستاذا في كلية اآلداب بجامعة دمشق ،فنائباً لرئيس مجمع اللغة العربية، واستمر في هذا المنصب إلى حين وفاته عام 1966م. ألّف التنوخي مجموعة من المؤلفات في اللغة واألدب، وترجم عن الفرنسية ،وحقق مجموعة من المخطوطات في النقد اللغوي والنحو والبالغة واللغة(.)3
الضباط العرب ،وجرى توزيعهم على الواليات التركية البعيدة ،وأسندت مهام قيادة القطاعات العسكرية في الواليات العربية إلى ضباط أت��راك ،وكلفت الحكومة أحمد جمال باشا والي سورية بمتابعة تنفيذ اإلجراءات الحكومية المتضمنة إع ��داد برنامج التتريك ،وحل األح���زاب العربية واع�ت�ق��ال ال �ق �ي��ادات .ف��ي ظ��ل هذه الظروف واندالع الحرب العالمية األولى ودخول تركيا فيها عند نهاية عام 1914م ،أصدرت السلطات التركية أوامرها بالقبض على قادة الحركات العربية والمثقفين المشاركين في حركة االستقالل ،فتمكن بعض هؤالء من الفرار إلى الصحراء أو اللجوء إلى أماكن آمنة أو االلتحاق بالشريف حسين في مكة وق��د ك��ان يخطط للثورة على ال�ت��رك( .)4وك��ان التنوخي واح��دا من هؤالء المطلوبين ،فولى وجهه شطر الصحراء.
ظروف الرحلة
الرحلة التنوخية
()5
ي��ذك��ر ال �ت �ن��وخ��ي أن ��ه ع �ن��دم��ا ك ��ان ف��ي ح �ل��ب علم ب��أن األت ��راك ق��د أم��روا بالقبض عليه «فاستجار من المعاطب بالسباسب ،وم��ن ال �ع��وادي ب��ال�ب��وادي ،والذ م��ن ع�ق��اب ال�ع�ج��زة األش���رار باجتياز ع�ق��اب المفاوز واألوع� ��ار ،ف �ت��وارى ع��ن العيون وال��رق �ب��اء ،ي��وم�اً بجبل الشيخ في الجوالن ويوماً على متون الصافنات الجياد يقطع سهول حوران» .ويذكر أيضاً أنه التقى بصديقه جالل الدين البخاري الذي كان أيضاً فاراً من عدوان األتراك« ،فتوافقا وترافقا حتى وصال إلى البلقاء في األردن ونزال ضيفين مستجيرين على عشيرة بني صخر قرب الزرقاء .وقد أقام هو ورفيقه بين ظهرانيهم شهر ذي القعدة سنة 1332ه�ـ(1914م) ،وفي اليوم الخامس من ذي الحجة انتقال لعرب السرحان الذين كانوا على وشك الرحيل جنوباً ،ورافقوهم في رحلتهم حتى وصال إلى األزرق.
في مواجهة حركة التتريك ،التي بدأت في السلطنة العثمانية في مستهل القرن العشرين الميالدي في البالد غير التركية التابعة لها ،ومنها كثير من البالد العربية، نشأت حركات وجمعيات ثقافية واجتماعية وسياسية سرية وعلنية ،بهدف المحافظة على الهوية واللغة العربية ،والدعوة لمساواة العرب باألتراك في جميع ميادين الوظائف العامة والمراكز اإلداري��ة والسياسية العليا ،السيما وأن العرب يشكلون أكثر من نصف سكان الدولة العثمانية .وقد جسد المؤتمر القومي العربي األول المنعقد في باريس بين 23 -17من شهر يونيو 1913م، وض��م كثيرا من أعضاء الجمعيات العربية المطالبة بالحقوق العربية ،ومنها ضرورة تطبيق الالمركزية في الواليات العربية ،واعتماد اللغة العربية لغة رسمية في مجلس النواب العثماني وفي مجالس الواليات العربية، وأن تكون الخدمة العسكرية للعرب في الواليات العربية إال في ظروف استثنائية .جاء موقف الحكومة التركية التحق التنوخي ورفيقه بالشيخ عودة أبو تايه ،شيخ من المطالب العربية ،ومن انعقاد ذلك المؤتمر تعسفيا ،قبيلة الحويطات ،الذي كان مخيماً مع قبيلته عند قليب فاتخذت إج ��راءات ضد الضباط العرب في الجيش العقيلة ،بالقرب من قريات الملح ،التي هي مجموعة ال�ت��رك��ي ،فحدثت حملة تنقالت واس�ع��ة موجهة ضد م��ن ق��رى صغيرة بها م�لاح��ات طبيعية .وه��ي واحات اجلوبة -شتاء 1429هـ
7
نخيل في كل واح��دة منها ،حسب وصفه ،ع��دة بيوت قروية مشيدة باللبن ،وأهمها قريات ثالث هي قرية كاف وقرية منوة وقرية إثرة. وف��ي قرية ك��اف ما يزيد على عشرين أل��ف نخلة. وي�ن�ق��ل م��ن ه��ذه ال �ق��رى ال�م�ل��ح إل��ى ح� ��وران وعجلون والجوالن حيث يشترى بأثمانه بضائع دمشقية ،مما يصلح للبادية أو يقايض بعضه بالحنطة. مكث التنوخي ورفيقه عدة أيام في مخيم الشيخ أبو تايه ال��ذي أمنهما ،ومن مخيمه عبرا وادي السرحان راحلين إلى حاضرة الجوف. يصف التنوخي وصوله إلى الجوف بقوله« :وما زلنا نطوي البيد ،ونواصل السير بالسرى حتى الح لنا جبل شاهق في البيداء ،قاتم اللون ،يقال له العبد ،بينه وبين الجوف نحو فرسخ ،وحينما بلغناه ألفينا بجانبه عدة الصفِّاح الصلصالي، رواب من ُّ قُلب في وهدة ،يحدق بها ٍ ووجدنا الحنظل نابتاً في هذه الوهدة ،وبعد أن شربنا، ركبنا وخبت بنا المطايا ،سيما بعد أن شاهدت خضرة النخيل ،وش�ع��رت بأنها على مقربة م��ن ال�م��اء النمير والعلف الوفير والظل الظليل ،وأم��ا أن��ا فقد شعرت بما يشعر ب��ه رك��ب السفينة ال �س��ادرة ف��ي تيه البحار إذا ظهرت لهم الجزيرة ،واطمأن فؤادي بابتعادي عن أشراك األتراك. ولما دنونا من دومة الجندل ،وجدتها في غور من األرض يحدق بها الهضاب واآلكام ،فعلمت سبب تسمية البدو لها اليوم بالجوف ،وشاهدت في مدخلها الغربي أنقاض سور كان بالصحاف مشيدا ،وما زلنا نلج في نخيل الجوف ونشاهد بيوت الشرارات الشعرية حتى بلغنا البيوت الحجرية ،فلم ننخ المطايا لوصولنا بعد الغروب في قصر األمير ،وأنخناها في مخيم طائفة من عقيل نجد ،جاءت إلى الجوف من الشام لشراء جمال للحكومة التركية». في صباح اليوم التالي تمت دعوة التنوخي ورفيقه إلى قصر اإلم��ارة ،لمقابلة نائب األمير إذ كان األمير
8
اجلوبة -شتاء 1429هـ
نواف الشعالن أمير المنطقة في زيارة إلى بلدة سكاكة، ويصف التنوخي هذه المقابلة بقوله« :سرنا إلى قصر اإلمارة الذي كنا نسمع عنه ونحن بالبادية من البدو ،بأنه يحاكي بفخامته قصور الشام ،أو أنه القصر الذي خلعت عليه جمالها األيام .دخلنا بوابته ،فشاهدنا مدفعين من الطراز القديم ،يقال ألحدهما المنصور ،غنمه األمير ن��واف من ابن الرشيد حين اكتساحه الجوف منه ،ثم صعدنا درج� �اً مؤلفاً م��ن نحو ثالثين درج ��ة ،ودخلنا مجلس األمير الخاص ،فقابلنا نائبه عامر ،وهو رجل طويل القامة ،أسمر اللون ،متقلد سيفا مفضضاً ،وبعد أن حيانا ،ومن مجلسه ادنانا ،أمر بطعام ..وبعد ذلك سألنا عامر أمرنا ومقصدنا ،فقلنا ل��ه :إن��ا من طلبة العلم الشريف ،وأهل الشام .وإنما هربنا من جندية ال نطيقها ألنا من ح ْمل َة األقالم وأنصار السالم .فرحب بنا ووعدنا بمقدم األمير نواف خيرا». يصف التنوخي دومة الجندل حاضرة منطقة الجوف في حينه وصفاً يستشهد فيه بما ورد عن هذه البلدة التاريخية في المعاجم وكتب التاريخ واألشعار ،فينقل ما ورد حولها ويضيف إليها مشاهداته .وق��د وصف دومة الجندل بقوله« :ويقال لها الجوف في أيامنا هذه، ثم تطلق الجوف على مجموعة القرايا التي قاعدتها دومة الجندل ،كما تطلق تونس على القاعدة والعمالة التونسية .وكان العرب يطلقون على دومة وتوابعها كلمة القريات .وهي في غائط أو جوف من األرض ،وبها عين تشج ،ومبنية بالصفاح من الجندل ،وأكثر القرى مبنية باللبن ،وشاهدنا أنقاض سورها العظيم ،وحصنها المنيع الذي ال يزال البدو يلقبونه بمارد ،وهو مشيد على رابية علوها نحو عشرين مترا ،ويقال أن نصفه األعلى مهدم، وأنقاضه ال ت��زال حول القصر ،وسكان دوم��ة الجندل اليوم من قبيلة السرحان وغيرها من قبائل بادية الشام ونجد .ودومة الجندل اليوم عبارة عن روضة مغروسة بالنخيل ,وبها منه نحو سبعين ألف نخلة ،يضرب بجودة ثمرها المثل ،وي��زرع في تربتها الرملية الصلصالية الحنطة والشعير ما يكفي السكان ،ويزرع الدوميون أو الجوفيون من الخضر الباذنجان والطماطم ،وبها صنف
من القثاء يخال المرء أنه منسوب إلى العمالقة ،ألن طول الواحدة يبلغ متراً أو أكثر ،وقطرها نحو عشرة سنتمترات ،وأرضها قابلة لزراعة كافة الخضر ،ولغرس األشجار المثمرة .وقد غرس األمير نواف بستاناً على ط��راز بساتين دمشق ،فنما فيه التفاح واللوز والجوز والمشمش ،ثم ذبلت أشجار البستان لجهل الفالحين بأصول البستنة». «وثروة الجوفيين من النخيل ،وهم يتعهدونه بالري وال�خ��دم��ة على ال���دوام ،والنخل ط��وي��ل ال �ج��ذور .وقد يستغني ع��ن ال�م��اء م��دة طويلة ،ول��ه جلد على تحمل غمره بالماء مدة شهرين ،كما يحصل بالبصرة ،واألرض السطحية في سكاكة رملية ،لكن جذور النخيل الطويلة تخترق الطبقة الرملية إلى الطينية الصفراء ،..وقد راعني منظر نخيل الجوف البهيج عند وصولي ..ولتمر الجوف شهرة ذائعة ،وهو ذو أصناف جمة لذيذة جداً لم أذق ،قبل أن رأيت الجوف في حياتي ،تمراً ألذ منه». « ...واآلب��ار الواسعة ال تحصى في دوم��ة الجندل كثرة ،وعمق البئر من سطح األرض إل��ى سطح الماء بضع قامات ،وعمق الماء كذلك ،وقطر فوهة البئر نحو خمسة أمتار أو أكثر ،فالمياه غزيرة جداً تحت األرض، يظنها المتخيل بحراً ،ولو نصبنا على هذه اآلبار روافع الماء ألجرينا في دومة نهرا». « ...وفي دومة الجندل من الصناعة حياكة العباءات ال�م�ش�ه��ورة ب��ال�ج��وف�ي��ة ،وص�ن��اع��ة ال�س�ي��وف وأغمدتها المفضضة والمذهبة .ويأتي إلى الجوف تجار من دمشق وبلدة قبيسة من العراق .وفي سكاكة نحو من عشرين تاجراً أصلهم من النجف وغيرها ،ويبيعون للبدو التمن (األرز) واألقمشة والتمور ،ويشترون السمن ،واألغنام والحمير ليرسلوها إلى العراق». يشير التنوخي في سياق حديثه عن المنطقة إلى أنها كانت تابعة إلمارة ابن الرشيد في حائل ،وأن أمير الجوف الشيخ نواف ابن الشيخ نوري الشعالن ،شيخ الرولة من عنزة ،قد حارب ابن الرشيد سنة 1326هـ، واستولى عليها على الرغم من مطالبة والده له بالكف
عن مهاجمة الجوف بسبب تهديدات الحكومة التركية. ويشير إلى أن الشيخ نواف مكث نحو سنة يهاجم دومة الجندل حتى فتحها عنوة ،وصار من ذلك اليوم يلقب باألمير ،وإنه قد دافع عن إمارته حتى استتب له األمر. وحول طريقته في الحكم يذكر التنوخي أن األمير كان يجلس كل يوم مقدار ساعة في مجلس عام يحضر فيه مئات القرويين والبدو ،ويتحاكم أمامه الخصوم فيحكم بينهم بالعرف البدوي ،وأنه كان يحيل األحكام المتعلقة باألحوال الشخصية إلى القاضي الشرعي. وال يوجد في الجوف إال قاض واحد ال يعرف حسب قول التنوخي إال المسائل الفقهية« ،وهو أعشى البصر ال يستفيد من الكتب الجمة الموروثة عن سلفه شيئاً، فإن الكتب موجودة في صندوق كبير بعضها مخطوط وبعضها مطبوع في مصر والهند ،وقد أكل منها األرضة والغبار ،وإن أكثر تلك الكتب سلفي من مؤلفات قامع البدع والخرافات اإلمام ابن تيمية ،وتلميذه ابن القيم». ويوجد قاض آخر في سكاكة ذكره التنوخي في سياق وصفه للبلدة .وقد ذكر التنوخي أن األمير نواف انتدبه ليكون حكماً بين قاضي دومة الجندل وقاضي سكاكة، اللذين اختلفا ف��ي مسألة شرعية تتعلق بالفرائض. ويذكر التنوخي «أن أهل هذه البلدات حنابلة يعظمون الشيخ محمد بن عبدالوهاب الحنبلي جداً ،لذلك فهم أقرب إلى الفطرة وأبعد عن الخرافات». وي��ذك��ر التنوخي «أن األم �ي��ر ك��ان ش��دي��د التمسك بالدين ،فال يترك الصلوات الخمس ،ويأمر قومه بها، وإنه يؤدي صالة الجمعة في مسجد دومة الجامع القديم عهده ،الذي يقال إنه عمري بناه عمر بن الخطاب ]، وال يزال ،كسائر المساجد في صدر اإلسالم ،مسقوفا بالجريد ومفروشاً بالحصى» .ويذكر أيضاً أن لألمير ول��ع شديد بسماع العلم وأن��ه ق��رأ له شيئاً كثيراً من التاريخ والحديث ،وأنهما قضيا ليالي في ق��راءة ألف ليلة وليلة وغيرها من أخبار العرب وأشعارهم ،وأنه قرأ له مرة قصيدة عمرو بن كلثوم المعلقة « فكان يتمايل طرباً لمعانيها ،ال سيما ما يتعلق بالحماسة». اجلوبة -شتاء 1429هـ
9
خالل وجود التنوخي بالجوف وصل إليها مجموعة «كتب لي األمير نواف كتاب وصيته للسيد مهدي النجفي، كبير التجار في سكاكة ،وذلك أخ � ��رى م ��ن ال��ه��ارب��ي��ن من ليرسلني مع القافلة الذاهبة ال�ن�ي��ر ال �ت��رك��ي ف��ي سورية، الش �ت��راء التمن م��ن العراق، وك��ان��وا م��ن ال�ن��اش�ط�ي��ن في كما أوص��ى األمير بي حاكم الحركة القومية العربية ومن سكاكة المعين عليها ،واسمه المحكوم عليهم باإلعدام، ال� �غ� �ث� �ي ��ان ،أح � ��د أف � � ��راد آل وكان منهم األمير المحامي ال�ش�ع�لان ،وه��و ش ��اب .ويوم عارف الشهابي ،وعبدالغني السفر ودع��ت سمو األمير، ال �ع��ري �س��ي ص��اح��ب جريدة وس��رن��ا ص �ب��اح �اً وأن ��ا رديف ال �م �ف �ي��د ،وت��وف �ي��ق البساط الغثيان على ذلوله ،وكان معنا أح� ��د ض� �ب ��اط االحتياط، بعض أعيان سكاكة ،ولم نبلغ وال��ش��اع��ر ال �ب �ي��روت��ي عمر حماها إال قبيل العصر بعد حمد .وإذ رحب بهم األمير أن جزنا بين قرية قارة وبين وأك��رم وفادتهم ،إال إنه بعد قرية الطوير. أن علم أن�ه��م م��ن المحكوم ع�ل�ي�ه��م ب���اإلع���دام ،رأى أن وس��ك��اك��ة واق� �ع ��ة شمال مصلحته تقضي أن يغادروا ال� � �ج � ��وف ،ف� ��ي ب �س �ي��ط من الجوف ،ألنه لو علم األتراك األرض ف��ي ج��وف منخفض بذلك لتوترت عالقته مع األتراك في سورية التي يمتار محاط ،كدومة الجندل ،بالروابي واآلكام ،ولذلك كانت منها قومه .وك��ان ه��ؤالء يريدون الذهاب إلى الحجاز طيبة المناخ ،ع��ذب��ة ،واس�ع��ة ال�ط��رق ،كثيرة الحدائق بنا ًء على اتفاق مسبق مع األمير فيصل بن الحسين ،النخلية .وبعد أن أنخنا ال��رواح��ل في حصن اإلمارة، ف��زوده��م األم�ي��ر بحاجتهم م��ن ال�م��ال وال���زاد ،وأرسل توافد أهل البلدة للسالم على شيخهم الجديد ،ومن معهم دليال إل��ى م��دائ��ن ص��ال��ح ،التي منها سيذهبون جملة المسلّمين المهدي ،فعرفني به الغثيان ،وأوصاه إلى المدينة بواسطة سكة الحديد الحجازية .قبضت ب��ي ،وأعطيته رس��ال��ة ال��وص�ي��ة ،ث��م انتقلت إل��ى داره، السلطات التركية عليهم واعدموا في بيروت شنقاً مع وبقيت شهر ربيع األول مكرماً بضيافته ،وكأني من آل كوكبة من الشخصيات القومية في السادس من شهر بيته .وبه تعرفت بسائر إخواننا العرب من تجار البلدة مايو 1916م. الذين أكرموني ج��داً .وعثرت لديهم على نسخة من أما عن التنوخي نفسه فيذكر أن األمير نواف خيره ديوان شاعر قريش الشريف الرضي ،فكنت أقرأ لهم بين اإلقامة لديه وبين السفر إلى العراق فاختار األخير ،المرقصات من قصائده العصماء. فانتقل إلى سكاكة في طريقه إلى العراق .مكث التنوخي ولهؤالء التجار في سكاكة جنائن من النخيل ،وبينهم في سكاكة شهر ربيع األول من سنة 1334هـ(1916م) ،تاجر من قبيسة ،وكان السكاكيون يصلّون الجمعة في وفي أوائل شهر ربيع اآلخر غادرها في ركب من الصلبة م �ي��دان متسع م��ن األرض ،ألن مسجدهم ك��ان يرمم متوجهاً إلى حيث أراد. يومئذ ،فكان الخطيب يخطبهم واقفاً بال منبر ،وهو يصف التنوخي رحلته إلى سكاكة وإقامته فيها بقوله :ال يحسن العربية ،فيلحن كثيراً ،وهو مثل خطيب دومة
10
اجلوبة -شتاء 1429هـ
كالهما ال يذكر السلطان التركي في خطبته ،وال يدعو إلى العراق لينقلوا أحمال التمن إلى سكاكة والجوف. له ،وال يعترف بخالفته ،وهما يدعوان الله بأن يصلح وص��ل التنوخي بعد شهر من مغادرته سكاكة إلى األحوال ويحسن المآل». مقصده البصرة ،منهياً بذلك هذه الرحلة التي قضى ويصف التنوخي السكاكيون بقوله« :والسكاكيون معظمها في منطقة ال�ج��وف ،متجنباً بذلك المصير أس�ل��م أج �س��ام �اً ،وأع �ظ��م آف��اق �اً م��ن ال��دوم�ي�ي��ن ،فترى الذي أصاب رفاقه اآلخرين بمن فيهم رفيقة المباشر فيهم ال��وج��وه المقمرة الصبيحة ،واألب ��دان الضخمة الصحيحة ،والبدويات الرعابيب بحسن غير مجلوب .جالل الدين البخاري ،الذي شنق أيضاً في بيروت بزعم وبما أن سكاكة غير مسورة وال حصينة كانت عرضة أنه شوّق البدو إلى الثورة. للغزاة والمهاجمين ،فاتخذ ك��ل سكاكي بيته حصناً إذ ركز هذا العرض على وصف التنوخي المباشر حفر فيه بئره وم�لأه بالمؤونة ،والذخيرة ،فحق عليه لما خ�ب��ره شخصياً ف��ي منطقة ل�ج��وف ،إال أن نصه المثل االنكليزي القائل« :بيت االنكليزي قلعته» وبيوتهم قد جاء غنياً بالشواهد واالقتباسات التاريخية حول مشيدة باللبن ،مدعومة بشجر األثل». المنطقة ،وبالمعلومات األثنوغرافية الغنية حول بادية غ��ادر التنوخي سكاكة في أوائ��ل شهر ربيع اآلخر 1334ه � � �ـ(1916م) م��ع رك��ب م��ن الصلبة ال��ذي��ن كانوا المنطقة وقبائلها ،وبأسلوب المطلع عل تاريخ العرب قدموا إلى سكاكة ،في أواخر شهر ربيع األول الشتراء وتراثهم .وبهذا المعنى تعد رحلته إضافة نوعية للبحث التمر ،ثم يعودون لمنازلهم في البادية ،ومنها يذهبون في التاريخ المحلي للمنطقة.
< أكاديمي وباحث سعودي. .1عوض البادي« ،أهمية كتابات الرحالة األوروبيين لتاريخ منطقة الجوف» ،الجوبة ،العدد .130-120 :2006 ،14 .2انظر حول كتابات الرحالة األوروبيين في منطقة الجوف :عوض البادي ،الرحالة األوروبيون في شمال الجزيرةالعربية :منطقة الجوف ووادي السرحان ،1922 -1845ط(2بيروت :الدار العربية للموسوعات.)2002 ، .3حول ترجمته ،انظر :خيرالدين الزركلي ،األعالم ،مج ،4ط(10بيروت :دار العلم للماليين ،)1992 ،ص .229وانظر ترجمته أيضاً في ال عن مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ،عدد .541 -538 ،1966 ،41 في كتاب رحلته نق ً .4حول تاريخ هذه المرحلة ،انظر: زين نور الدين زين ،نشوء القومية العربية مع دراسة تاريخية في العالقات العربية التركية ،ط(3بيروت :دار النهار للنشر.)1979 ، جورج انطونيوس ،يقظة العرب :تاريخ حركة العرب القومية ،ترجمة ناصر الدين األسد وإحسان عباس ،ط( 6بيروت :دار العلم للماليين.)1980 ، وثاق المؤتمر العربي األول :1913كتاب المؤتمر والمراسالت الدبلوماسية المتعلقة به ،تقديم ودراسة وجيه كوثراني (بيروت :دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع.)1980 ، .5نشر عز الدين التنوخي وقائع رحلته التي حدثت في الفترة الواقعة بين أواخر شوال سنة 1332هـ (1914م) ونهاية ربيع اآلخر 1334هـ (1916م) في حلقات في مجلة المقتطف المصرية .نشرت الحلقة األولى وكانت بعنوان« :في بادية الشام» في عدد مايو 1917م ،ص 448-445؛ ونشرت الحلقة الثانية تحت عنوان« :الهزيم» في عدد يوليو 1917م ،ص 38 -33؛ ونشرت الحلقة الثالثة تحت عنوان« :الدين في البادية» في عدد أغسطس 1917م ،ص 124-119؛ ونشرت الحلقة الرابعة تحت عنوان« :طعام البلدية» في عدد أكتوبر 1917م ،ص 336 -331؛ ونشرت الحلقة الخامسة تحت عنوان« :دومة الجندل» في عدد يناير ،1918ص 27-22؛ ونشرت الحلقة السادسة تحت عنوان« :سكاكة» في عدد إبريل ،1918ص .249-245 جمعت هذه الحلقات وحققت ونشرت في كتاب جاء تحت عنوان :الرحلة التنوخية ،جمع وتحقيق يحيى عبدالرؤوف جبر (عمان: خاص.)1985 ، هذا وقد استقيت النصوص الواردة في هذه المقالة حول منطقة الجوف من هذا الكتاب مباشرة وبلغة كاتبها.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 11
أسئلة املغايرة في راهن الشعر املغربي: اإلبداع والذات والهوية
> د .عبدالفتاح شهيد
<
لما سُ �ئ��ل محمود دروي ��ش ع��ن طريقة كتابة ال�ق�ص�ي��دة ،ق ��ال« :القصيدة دائماً مفاجئة ،تأتي في أسوأ األمكنة والحاالت النفسية ،وعلى أكثر األوراق
فوضوية»()1؛ بينما يرى أحد زمالئنا الشعراء أن الكتابة الشعرية« :حالة وعي ح ��اد»( .)2ويظل س��ؤال الشعر محرجاً ومحرقاً للشعراء منذ األزل ،إال أن ما
يحسب لشعر الحداثة ،أنه خرج بهذا السؤال من مزالق التفاخر والتالسن الفج، ومنحه أبعاداً أخرى؛ انتقل خاللها الصراع من خارج الشعر إلى داخله ،وبين قوة القصيدة وقوة الشاعر ،تستمر فعالية العملية الشعرية وتألقها. وحين سُ ئل بشار بن برد :بم فُقتَ أهل عصرك؟ قال« :ألني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ،ويناجيني به طبعي ،ويبعثه فكري ..ال والله ،ما ملك قيادي
قط اإلعجاب بشيء مما آت��ي ب��ه»( .)3فالشاعر في خ�لاف مستمر مع الذات قبل االختالف مع اآلخر .يشاكسها ويناورها باستمرار ،ليستحث سائر طاقاتها النفسية واإلبداعية ،الستكشاف أعمق معانيها وأجمل ما لديها. ويتساءل بعضهم ف��ي ان��دف��اع م��ادي كبير« :أل��م يكتب الشعر ف��ي القضية الفلسطينية أكثر مما كتب في أي قضية أخرى من قضايا العالم؟ ما الذي فعله الشعر؟ لم يحرز نصراً ،ولم يدفع العرب إلحراز النصر ،)4(» ..وهو تساؤل يعكس
إدراك لوظيفة الشعر ،وعالقة الشاعر بأسئلة الهوية التي يناوشها ٍ حالة عدم دائماً؛ فهي جزء من ذاته ال تنفك عنه وال ينفك عنها.
12
اجلوبة -شتاء 1429هـ
إن أسئلة الشعر ال��ذات الهوية التي عرضناها ا ..لـ ..و ..د ..ا ..ع. في هذا المدخل تشكل بنيات أساسية في تجارب شعرائنا ال�ش�ب��اب ،ال�ت��ي ن��راه��ن عليها جميعا في تحقيق آمالنا في إعطاء الشعر نضارته ،والخروج به من منتدياته الضيقة إلى آفاق التلقي الواسعة. وذلك ال يتحقق دون تفعيل القراءة التحليلية النقدية، التي تستكشف وتغني وتؤسس «دائماً لبدايات كالم
()5 آخر» بتعبير أدونيس .وليست القراءة المعيقة التي ()6 يحسب معها الشاعر نفسه «ليس بحاجة للنقد» .
والتركيز على تجارب دون أخرى ال يعني نضوبا في باقي التجارب الشبابية الكثيرة ،بل هو فقط اختصار وتمثيل ،يرافقه «سعي لوصول مجرى نهر كبير ال
()7 التحديق في ضفة من ضفتيه» .
سؤال الشعر واإلبداع:
فهذا التشتت للغة والحرف (المعبر عنه بصرياً، أي �ض �اً) ،يعكس ضيقاً ع��ن تحمل مكابداته .وليس األمر ها هنا أن الشاعر «ينتحر أمام عجزه ،حيث
()9 المحنة كاملة وهو يواجه تم ّن َع اللغةِ واستعصاءَها» ،
وإنما هي رغبة النفوس الكبيرة التي تتجاوز األشياء القريبة ،مما يقع بين يديها إلى صياغة العالم كله صياغة شعرية في بيت أو قصيدة .فيعيش متمزعاً بين البوح والكتمان في لعبة القبض على أكثر األشياء تمنعاً وأبعد األحاسيس غوراً ،وفي حالة صراع دائم مع هذه اللغة القصيدة(:)10 أبدو متعب ًا من دونها وأمكث الليل بطوله أقترح خدي على الوسادة
ظلت أسئلة اإلب��داع حاضرة في الشعر العربي كأني أصارع شبح ًا القديم ،فيما عُرف بالبطولة الشعرية لدى أبي تمام ما استطاع أحدنا
ومن حذا حذوه .إال أن هذه األسئلة اكتسبت أبعادا أن يدع اآلخر مغايرة في تجارب شعرائنا ،الذين يشتد أرقهم حين لينام بسالم يجدون اللغة أو القصيدة غير قادرة على تحمل فيض
فالصراع مرير ،بين الوسادة التي يريد أن يضع
الذات الغامر ،فيزداد التردد بين الكالم والبوح ،مما عليها خده الراغب في البوح ،ورأسه المثقل باألفكار ()8 يعبر عنه الشاعر سعيد ياسف : والمعاني ،وبين الشاعر الذي يؤدي وظيفة التبليغ، حين أزهرت أشجار الكالم
والقصيدة التي يشبّهها بالرعد ال �م��دوّي والشبح
كان سيبوح بالذي تكبدّ ه
المرعب .ودون أن يدع أحدهما اآلخر يستكين ،يظالن
لوال هذه الحروف
في صراع مستمر ،ال ينتهي إال ليبدأ من جديد ،في
التي كلما استجار بها
وعي وإدراك ألسرار العملية الشعرية ،التي ال تنتهي
تضيق
مع آخر نقطة في آخر قصيدة ،بل تتشكل من عالم
أية لغة هذه التي غرّبتْه؟؟
«من التقابالت والتداخالت بين أفكار وآراء متضادة
لم يكن ثمة قربه
ومتناقضة» .فتظل أسئلة اإلبداع ترهق الشاعر
سوى
ويرهقها؛ يعرف حيناً مصدرها ،ويجهل أحياناً كثيرة
()11
اجلوبة -شتاء 1429هـ 13
ال ووصالً ،عالئق وقطائع ،بدءا منابعها ومساربها؛ يقتنصها ليمتلكها مرة ،وتقتنصه «تكويناً وتكوناً ،فص ً لتهرول به في إس��ار المجهول م��رات أخ��رى ،فتظل ونهاية؛ بسبب أنه زئبقي من جهة عالقته بالوعي لألسئلة حينيتها وحرقتها ل��دى فاطمة الزهراء وبالالوعي»(.)14
بنيس(:)12
ترهقني أسئلة الكتابة من أين تشرق هذي الكلمات المعتقة بالصعب والمحال؟ كيف تقنصني هذه األفكار؟ المهرولة بي نحو الجنون؟ لم أخيّر.. ما بين الغوص في التفاصيل المملّة والوعي بجمر المتاهة؟ إال أن بعض التجارب الشبابية تظن أنها قبضت على كل األش�ي��اء ،وولجت «مملكة الشعراء» تعزف سمفونية اإلبداع متى شاءت وأنى تشاء .وهو ما يبدو واضحاً على طول ديوان الشاعرة إلهام زويريق(:)13 أتنقل بين شطآن القصيدة أستجمع نوار الكلمات أصوغه إكليل محبّة لهذا المساء الجميل
سؤال الذات والوجود: يميز الشاعر الناقد محمد السرغيني بين «أنا» ال�ش��اع��ر ال �م �ح��دودة ،و«أن� ��ا» ال�ش�ع��ر ،ذات األبعاد ال�م�ت �ع��ددة .إال أن ال�ف�ص��ل والتمييز بينهما أثناء القصيدة ال يتأتى س �ه�لاً؛ م��ا يجعل ح�ض��ور األنا محموماً ب�ق��وة األس�ئ�ل��ة وإل�ح��اح�ه��ا ،م��ن قبيل :هل حضور األنا الشاعر انكفاء عن الذات في ظل واقع االنحسار واالندحار؟ أم إن مجادلة الذات ومجالدتها نوع من التطهير يغتسل به الشاعر للرقي إلى منازل المالئكة واألنبياء؟ وهل تردد األنا اإلنسان نوع من المونولوغ ،ال��ذي يريد به االستعاضة عن الفوضى والصخب ،لإلنصات إلى آالم الذات وآمالها؟ تتناسل األسئلة على هذا المنحى ،وال نمتلك إجابات جاهزة، في شعر يتبنى المغايرة والتمنّع أو هكذا أردن��ا له على ك��ل ح��ال؛ فيبدأ م��ن ال ��ذات ويسائل وجودها الفيزيقي ،ال��ذي يشكّله الجسد بكل أبعاده القابلة للقياس .وهي مساءلة يدرك الشاعر نور الدين بازين
()15 حيث تمارس المناسبة سلطتها على الشاعرة ،مما أسرارها وإجرائياتها ،يقول :
يغريها بامتالك القصيدة وهي الزالت في مطلعها ،إن جسدي تالشى وليس العكس .فتحكم عليها بالموت قبل الوالدة؛ إذ مع هباء الليل إن المقطع ٍ خال من التساؤل ،وال يعبر عن أي معاناة ،وأني كرهت وأي إدراك للرؤيا التي يجب أن تنطلق غامضة ،وال رائحة نهاري
تتوضح إال مع نهاية رحلة اإلب ��داع ،إن كانت لهذه جاثم ًا على صدري الرحلة نهاية .وهو توجّ ه يطبع ديوان الشاعرة طرا ،حيث يدون الرصيف ما يشكل خطورة كبيرة على التجربة الشعرية التي ال جلساتي يجب أن تنتهي في اإلبداع إلى قول فصل وقبض تام ببكاء األماكن الشاحبة..
14
اجلوبة -شتاء 1429هـ
فنالحظ في المقطع هذا الصراع بين الحضور الغياب والكتمان(:)19 ال �ق��وي ن�ح��وي�اً ل�لأن��ا (ض�م��ائ��ر ال�م�ت�ك�ل��م) ،والغياب ولكنك المستمر معجميا للجسد ،الذي يصير طيفا مندثرا ،تأخرت دقّ ة قلب.. في دوامة الزمان والمكان ،التي أرقت الشعراء مند يا بثينتي المستحيلة.. زمان بعيد ،الزمان الذي يشكل تواتره الحقيقة األزلية بعد رمشة عين ونهاية ميتافيزيقية ،يرسم فيها الموت نهاية آلمال سأعود إلى أصلي التراب.. وآالم الشاعر .ثم المكان ال��ذي «ينحني ،ويتداخل ،فادفني سر نعيي
وينتقل ،ويحير ،وي�ض�ي��ع»( .)16إذ من المكان «تأتي في بئر الكتمان مفاجآت السقوط»(.)17
ويتخذ االنكفاء عن ال��ذات وتبريز معاناتها مع ال��زم��ان ،خصوصا دالالت أخ��رى يختلط فيها لدى
واحذري كبوة العين إن باغتك فضول الجيران وفي تماه تام بين واقع الموت الذي ينهي كل حلم
ال�ش��اع��ر ال �م��رح��وم محمد رزق ��ي ال��واق��ع باإلبداع جميل ،وفنية القصيد التي تبتر كل معنى مسترسل، ()20 وه��واج��س وض��وح اللحظة ،بهموم مجهول اللحظة تخنق الشاعر أحزانه وويحاته : ()18 يا جرح عمري: التي تليها : آه..
يرحل العمر الجميل
لو تستطيع اليدان..
كحلم األصيل!
بت قدم الثواني لعط ُ َّ
يا ويح شعري:
أوقفت عقرب العمر ُ
تنتهي القصيدة!
على طفلين
وما نويت
شيّدا فوق سطح الجيران
جملتي المفيدة!
سد مأرب ضد طوفان الزمان
إن ال�ع��ودة إل��ى ال��ذات ع��ادة ما تكون في الشعر العربي لحظة للمفاخرة ،ال تتجاوز السطحية إلى
فيمارس الزمان سلطته وسطوته على الشاعر ،عمق النفس اإلنسانية ،وأسرار الجسد الذي يمتلك يرى معها نهايته قريبة ،فيطلق آهة مريرة ،تتلوها طاقات كبيرة للتحول واالستعاضة .وفي مغايراتهم تمنيات يبدو خاللها ضعف اإلن�س��ان أم��ام طوفان المستمرة يحاول شعراؤنا مساءلة وم�ج��اوزة أكثر
الزمان الجارف .فال يمتلك إال البكاء واألنين في األسئلة إحراجا لهذه ال��ذات ،ومنها أسئلة الزمان
انتظار الحقيقة الوجودية الماثلة أمامه .وتستحيل والمكان والموت .رادي��ن للجسد مكانته التي ظلت األزم �ن��ة الطويلة م��ع م�س��ار القصيدة رم�ش��ة عين ،الروح لفترة طويلة تستبد بها .وإن كنا نخاف من جالل س��رع��ان م��ا س�ي�ت��وارى الشاعر بعدها ف��ي أحضان الموت وجبروته أن يعانق القصائد معانقة مباشرة،
اجلوبة -شتاء 1429هـ 15
يستعاد خاللها بعثه ،ال لبناء حياة أشمل وأجمل ،بل الذي يخلقه الشاعر بعيداً عن اليومي والواقعي.. لتذوق مرارته مع كل كتابة أو قراءة جديدة ،ما يجعل ولعل هذا األمل المتجدد في خلق عالم متغيّر تنبعث
النصوص تتصف بحتمية ومباشرة(:)21
فيه األشياء انبعاثات غير مسبوقة ،وبعالقات جديدة
...الباب
تنطوي عن معرفة بأسرار العملية الشعرية ،وسعي
ذابل
حثيث نحو الخلق واإلبداع والمغايرة ،وهو ما المسته ()23
مشرع على العزاء
إلهام زويريق :
..والكراسي
أكتب على ممرات سجنك
جاثمة على الجدار القديم
بقايا آمال
..والداخل
أستنفر الهمم المشدوهة
حزن رتيب
أشق عنك رياح ًا
لا ف��ي النص ،تلوك المساء إن��ه ال �ح��دث ال ��ذي ي�ظ��ل م�س�ت��رس� ً مستبداً بنفس الشاعر اإلنسان ،دون أن يتمكن من أحمل على سعفاته
تحويله إلى وقائع شعرية خالصة ،بواسطة كيمياء أقواس قزح السؤال التي تحيل العالم كله بقوته وشساعته لحظة مخاضها شعر في غاية الصفاء والتجريد.
سؤال الهوية: من الباحثين مَن يرى أن شعراء جيل الستينيات كانوا «أكثر تعاطيا مع قضاياهم على الرغم من عدم وج��ود وسائل لالتصال وقنوات األخبار والصحف وقتها ...وم��ع ه��ذا ف��إن الشعر في تلك الفترة كان
أكثر حضورا من اآلن»( .)22وفي الحقيقة فإن تجارب شبابنا الكثيرة والمتنوعة قمينة بالرد على مثل هذا ال��رأي .ومهما كانت محدودة في الزمان والمكان،
فيبقى للتجربة تألقها وجمالها ،وإال فإن الشاعر ال يخلق مناضلين ،وال يضع قنابل موقوتة .بل إن الشعر
أهازيج للفجر اآلتي إذ تبدو الشاعرة قوية تفعل في األشياء وتغيّر فيها بواسطة مجموعة األفعال األقفال في الزمن ال �م �ض��ارع ،ال ��دال على االس�ت�م��راري��ة ف��ي الحاضر وال�م�س�ت�ق�ب��ل (أك �ت��ب أس�ت�ن�ف��ر أش ��ف أح��م��ل) .وفي الحقيقة ،فبدايات هذه الجمل تلخص مهمة الشاعر، فهو دائم الكتابة؛ والكتابة ليست لغوا من الحديث أو عمال للمترفين ،ب��ل ه��و اح�ت��راق دائ��م ،يستنفر بنقل الحرقة إلى غيره ،وحثهم على الحركة والفعل. فيكون الشق نوعا من القدرة على الكشف عن أعماق األش�ي��اء لكشف حقائقها؛ ث��م تأتي المهمة األكبر واألعظم ،وهي حمل هذا الثقل المجسّ د في أقواس
له عوالمه الخاصة ،التي يعيد من خاللها ترتيب األشياء ،وإعادة تنسيق الوعي الفردي والجماعي مما قزح ،أمال في حياة أخرى وضوء ونور جديدين. ال نرى نتائجه إال بعد أجيال ،ويبقى العالم الجمالي
16
اجلوبة -شتاء 1429هـ
وتبقى القضية الفلسطينية الجرح الدامي ،الذي
ما زال ينخر في جسد األمة العربية ،وظل حاضرا تماه مع أي نموذج ،مهما بدا ساميا؛ ويدل ثانياً، ()24 بقوة في تجارب شعرائنا ؛ ما يتسع كثيرا عن تتبع ع��ن رغ�ب��ة ف��ي إض�ف��اء أب�ع��اد ج��دي��دة على الذات
بنياته.
ال��ش��اع��رة ،الرت� �ي ��اد آف� ��اق ال �ت �ج��ري��ب ومغامرات
وفي الختام ،فقد ظلت أسئلة اإلب��داع والذات العطاء والبحث العمودي الذي ال ينتهي ،ويعكس وال�ه��وي��ة تلقي بظاللها على ال�ت�ج��ارب الشعرية ثالثاً ،تمسكا بالهوية والدفاع عن ثوابتها القومية
الشبابية في المغرب؛ ما يعبر أوالً ،عن نوع من واإلسالمية ،لرد الشعر إلى مكانه الحقيقي في االنتماء الفني لعالم الشعر ،دون أي انبتار عن شعور والشعور األف��راد والجماعات .إال أن هذه األص��ول باسم الحداثية وال�ث��وري��ة على األنظمة التجارب على سموقها في مدارج اإلبداع ،تبقى في
ال�ق��دي�م��ة .ف�لا تعني ال�ح��داث��ة تهشيم ك��ل عالقة حاجة إلى تشذيب متفاعل وحوار متواصل ،ينصت ب��األص��ول ،ب��ل االن�ط�لاق منها لبناء ص��رح شعري فيه الشاعر إلى سكون ال��ذات المبدعة ،وصوت يعي دون جهل ،ويغير دون اجتثاث ،ويجدد دون المتلقي في تنوعه المتعاقب والمغني. < باحث من المغرب. ( )1التصور المنهجي ومستويات اإلدراك ،د.أحمد الطريسي أعراب ،1989 ،ص.16 ( )2الكلمة للشاعر الليبي سالم العوكلي في جلسة مع الكاتب. ( )3مقدمة الشعر العربي ،أدونيس ،دار العودة ،بيروت ،ط ،1979 ،3ص.42-41 ( )4الشعر والناقد ،د.وهب رومية ،عالم المعرفة ،شتنبر ،2006ص.16 ( )5كالم البدايات ،أدونيس ،دار اآلداب ،ط ،1,1989ص.190 ( )6العبارة ألحد الشعراء الشباب ،في حوار معه على موقع الكتروني. ( )7التجربة الشعرية المغايرة والنقد الغائب ،محمود السرساري ،الموقف األدبي ،ع ،424آب.2006 ( )8ديوان «كي أدرك أنحائي» ،سعيد يسف ،منشورات وزارة الثقافة ،2004 ،ص.36 ( )9بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد ،محمد عدناني ،عالم الفكر ،يناير ،2006ص.102 (« )10كي أدرك أنحائي» ،ص.18 ( )11التصور المنهجي ،ص.18 ( )12ديوان ( )13ديوان «رغم أنف أبي» ،الهام زويرق ،منشورات أفروديت ،ط ،2005 ،1ص.34 ( )14الشعر والتجربة,د.محمد السرغيني ،الوحدة ،يونيو ،1991ص.128 ( )15ديوان «على باب معالي الكالم» ،نور الدين بازين ،منشورات جماعة الديوان ،ط ،2004 ،1ص.19 ( )16مقدمة للشعر العربي ،ص.15 ( )17المرجع نفسه ،والصفحة ذاتها. ( )18ديوان «بحبر الروح» ،محمد رزقي» ،المطبعة الوطنية ،ط ،2005 ،1ص.74 ( )19المرجع نفسه ،ص.77-76 ( )20المرجع نفسه ،ص.60 ( )21ديوان «دفتر الموتى» ،ادريس علوش /على موقعه االلكتروني. ( )22الشعر والقضايا الجادة ،سيف المري ،جواهر ،دجنبر ،2006ص.5 ( )23ديوان «رغم أنفأبي» ،ص.43 ( )24ينظر» - :كي أدرك أنحائي» ،في مواقع متفرقة.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 17
احلداثة السردية :مقدمة في مظاهر اإلتصال واإلنفصال
في اخلطاب القصصي العربي
> إبراهيم الكراوي
<
تطمح هذه الدرﺍﺳﺓ إلى اكتشاف تجليات خطاب الحداﺛة في القصة العربية ،وإضاءة المفهوم نفسه الذي أصبح يثير مجموعة من األسئلة ،المتعلقة بمفهوم الكتابة السردية الجديدة بالمغرب وآفاقها ،ثم العالئق التي تنسجها مع العالم .بل إن هذا الخطاب ،سيحاول مساءلة مفهوم الكتابة ذاته ،كما طرحه النقد الجديد ،ومن خالل هاجس البحث عن أنساق مغايرة ،وخلخلة األسئلة المألوفة ،ثم عالقة الذات الكاتبة بفعل الكتابة .هذه القضايا وأخرى ترتبط بالبنيات الخطابية سنحاول موقعتها داخ��ل الخطاب النقدي ،ألن مجموعة من النصوص شكلت أفقا خصبا لمعالجتها .وفي هذا اإلطار ،سنختار -على المستوى التمثيلي -إحدى التجارب التي راكمت منجزا خاصا ومميزا في المشهد القصصي العربي؛ وفضالعن ذلك ،فإنها تمثل وترتبط بهذه القضايا ،خاصة وأنها حاولت بلورة مفهوم الكتابة السردية الجديدة في المغرب ممارسة وتنظيرا .يتعلق األم��ر إذاً في هذه الدراسة ،بمقاربة خطاب الحداثة في مجموعة «برتقالة للزواج ..برتقالة للطالق «للقاص والروائي جمال بوطيب.
خطاب االستهالل وفخاخ القراءة: يتمثل خطاب االستهالل -سواء في النص القصصي أو الروائي -بوصفه وحدة مستقلة نسقيا ومقطعيا .إنها تدشن عملية التواصل بين مرسل الخطاب السردي والمرسل إليه (المتلقي)، وتوجّ ه ،من ثم ،فعل التواصل نحو بناء سردية للخطاب نفسه ،تروم اإليقاع بالقارئ في فخاخ غواية النص ،اإلستمرار في فعل القراءة وإع��ادة إنتاج النص .هكذا يفتح عنوان النص األول «خالص» يدشن المجموعة؛ إنه يؤشر لهاجس يؤرق الذات ،وعالمة تفتح أفق خطاب محتمل. وخطاب االستهالل يلقي الضوء جليا على ه��ذه الهواجس المؤرقة ،من خ�لال استثمار بنية الحوار المشهدي الموسم بأبعاد درامية .وهي بنية تلتقط لحظة خاصة ينطلق عبرها المسار السردي« :ما بال عينيك ترمقاني في حنق؟ قلت للوجه الخالسي اآلسر :أهوى العتاب .لم يرد الوجه قائال .قلت متوسال :خلصني إذاً ورخص ألشواقي العليلة بالرحيل .رد الوجه الخالسي اآلسر مشترطا :خالصك في أن تبتلي الليل! الليل يا سيدي ابتلى الشعراء ،فكيف أبتليه أنا
18
اجلوبة -شتاء 1429هـ
الواهن المهزوم؟! أوث��ق نجومه وأثقب قمره .أفي هذا خالصي؟ خالصك في أن تلوث باألبيض ظلمة ()1 الليل ونومي وأحالمك .يستثمر خطاب االستهالل هنا مكون الحوار ،ويضعنا داخل مشهد محاورة بين الذات -السارد ،واآلخر األنثى. إن ال�ح��وار هنا يبلور وج�ه��ات نظر ،وي�ع��ري عن أص ��وات وم��واق��ف م��ن ال�ع��ال��م ،نكتشف م��ن خاللها أغوار الذات في عالقتها بالعالم .فالذات العاشقة تعيش لحظة حياة جمالية ،لحظة تقاطع موسومة بقلق الذات ،وهاجس تشكيل أنساق الكتابة والتفاعل معها ،وذلك بوصفها واحدة من اآلليات التي يتشكل عبرها خطاب االستهالل .وتتخلل ه��ذا الخطاب التواصلي وظائف تعمل على احتواء بنيات جمالية أخرى .فبعد عملية التأثير على المتلقي من خالل تشكالت خطاب االستهالل ،يدشن السارد خطابه بمصدر ،ع��وض�اً ع��ن الفعل ،وم��ن ث��م يرسخ فرادة الواقعة التي عاشها السارد؛ ومما يدل على ذلك نفي وقوعها في الزمن ،فالحدث أو الواقعة ينفرد بها السارد .ويترسخ البعد التواصلي ال��ذي يرمي إليه السارد من خالل بناء نسقية الخطاب ،متمثلة في نظام العالمات الذي يؤثث فضاء خطاب االستهالل فندق/مصحة/خمسة/نجوم /وهي الفئة األولى من العالمات التي تنتج ألثر معنى هو مأساوية وغرابة الواقعة التي سيحكيها السارد.
بناء فعل هذا التواصل مع العالم ،وذلك من خالل ت �ج��اوز اإلن �ف �ص��ال ال ��ذي وس��م ع�لاق��ة ه��ذه الذات ب��اآلخ��ر ،إل��ى فعل اإلت�ص��ال م��ع العالم ،متمثال في اللفظ المكون للعنوان« :خالص» الكلمة الذرية في النص ،ه��ذا األخير يتمظهر كأفق لفضاء العنوان وتمطيط لمحتمالت المعنى .لكن أي خالص تبحث عنه ال��ذات؟ إن الكتابة من خالل بنية الحوار هذه والتي تعكس هاجس خطاب الحداثة ،بحث وحفر، استبطان للذات ،واستكناه ألعماقها .وهي تشريح لوضعية الذات المتشظية في عالم الواقع ،بوصفه واقعا مفككا موسوما بالمفارقات. إن سؤال الخالص هنا سؤال وجودي ،سؤال قلق ال ��ذات ،وه��و ال ينفصل ع��ن أسئلة الكتابة وحدود خطاب الحداثة .ف االستهالل داخل هذا الخطاب كما يتبين من خ�لال المقاطع السابقة -إحالةعلى تدمير الموضوع النصي ،وفي اآلن ذاته يضاعف من المدلوالت ويفتح أفق خطاب المحتمل ،مسافرا بالقارئ من فضاء المعنى إلى فضاء الداللة .ومن ثم يمكن القول إن النص في خطاب الحداثة يعمل على تحويل أنساقه إلى محتمالت الداللة ،ويصبح من ثم نصا مفتوحا يؤسس لفعل ال�ق��راءة بوصفها ممارسة فعالة ومنتجة .وه��ذا ما نلمسه من خالل بنية الخاتمة في النص« :خالصك في أن تعرف إلى أي فصيلة ينتمي هذا الدم»!
أما الفئة الثانية من العالمات فهي :الشعراء/ يالحظ إذاً أن خطاب االستهالل يتمظهر بكونه العشاق/النجوم/القمر/األبيض/الليل/األحالم ،نسقا داال داخ��ل خطاب الحداثة .ويمكن أن نمثل وهي فئة تؤشر على رؤية للعالم تحمل بعداً جمالياً لتمظهرات هذا النسق من خالل الثنائية التالية: مرتبطاً بأبعاد الكتابة .إن هذا النسق من العالمات الالسواد السواد / يتشكل بوصفه نسقا مستقال وداال داخ��ل خطاب اإلتصال اإلنفصال / االستهالل .إنه يفضح هاجس الكتابة ال��ذي يراود بنية اإلنسجام /بنية التوتر الذات .وباإلضافة إلى تشاكل المعنى الذي ينكشف الالبياض البياض / من خ�لال ه��ذه الفئات من العالمات ،نلفي تشاكل الالتواصل مع العالم /التواصل مع العالم الداللة .فالذات منشغلة ببناء تواصل جمالي يؤتث من خالل فعل اإلنجاز فضاء ليل الشعراء .هكذا تكشف بنية الحوار في بمفهومه اللساني خطاب االستهالل عن حالة الذات ،وهي تسعى إلى
اجلوبة -شتاء 1429هـ 19
إن هذه الثنائية تعكس األبعاد الوجودية للذات. فسواد الليل وطقوسه المرتبطة بجمالية الكتابة وجمالية حياتية متمثلة ف��ي ال��رؤي��ة ف��ي اإلتصال بالمرأة ،مما يتيح فعل اإلستمرار في الحياة واإلتصال مع العالم؛ فيما يتضح العكس من خالل البياض، الذي يشتغل بوصفه عالمة تؤشر على عدم ،فراغ يلوث جمال وطقوس الليل (الكتابة) ومن ثم فهو هنا تجسيد لغياب فعل الكتابة ،أي اإلنفصال مع العالم. وم��ن هنا ه��ذا التجاذب بين الموت والحياة من خ�لال ح�ض��ور فعل الكتابة أو ع��دم��ه .وتبعا لهذا يمكن القول إن ال��ذات ال تحمل هاجسا وحيدا هو فعل اإلتصال بـ -الوجه الخالسي -بوصفه عالمة سيمولوجية ت��ؤش��ر ع�ل��ى ج��زء م��ن ال�ج�س��د يكثف مدلوالت تحيل على هوية الذات ،وعمقها المترامي في تخوم أعماق الذات األخرى التي تسعى لتحقيق فعل اإلتصال ..إذاً الذات تسعى إلى الخالص لكون هذا األخير يؤسس لمحتمل الخطاب السردي في النص ،وانطالقا منه يتمطط هذا الفضاء النصي السردي .وهذا الخالص يتحقق من خالل اإلتصال ب��اآلخ��ر – األن �ث��ى -ف��ى ف�ض��اء ال�ل�ي��ل ال ��ذي تؤتثه [األصوب تؤثثه] أبعاد فنية ،تؤسس لشروط استمرار هذه العالقة الوجودية .ويتضح من خالل البنيات السابقة أن حياة النص في خطاب الحداثة تتشكل انطالقا من المعاني المحتملة .إنها بهذا المعنى ال تحيل على الرجع الحقيقة إذ أن «ليس تلك اللغة التواصلية التي يقننها النحو ،فهو ال يكتفي بتصوير ال��واق��ع أو ال��دالل��ة عليه ،فحيثما يكون النص وإال يشارك في تحريك وتحويل الواقع الذي يمسك به ()2 في لحظة انغالقه» ... وإذاً ،يتضح أن خطاب االستهالل يتجه إلى بناء عقد سردي ،من خالله يدشن السارد عالقة تواصل خاصة مع المسرود له ،فيحثه على قراءة النص بكونه شخصية من شخصياته من جهة ،ومن خالل فعل القراءة الذي يروم اكتشاف العالم وإنتاج معرفة تمس جوهر العالم .إن الوظائف التي يضطلع بها خطاب
20
اجلوبة -شتاء 1429هـ
االس �ت �ه�لال ف��ي ه��ذا ال�ن��ص تكشف ع��ن جماليات السرد في خطاب الحداثة ،وفضال عن ذل��ك فإن خطاب االستهالل يتمظهر بوصفه نسقاً داال يتبين من خالله الخطاب السردي وينتج مدلوالت خطاب المحتمل .بهذا يمكن أن نشبه مفهوم االستهالل ف��ي النص القصصي بتمثالت مفهوم المطلع في القصيدة التقليدية وذلك بوصفه استراتيجية نصية، وبنية ذات بعد جمالي ونسق داللي مستقل ،يتفاعل وي�ت��آل��ف م��ع أن �س��اق نصية أخ ��رى ،وب�ع��د تواصلي؛ فكما هو الشأن بالنسبة لخطاب االستهالل ،يسعى المطلع إلى استمالة القلوب واألسماع ،ولفت انتباه المتلقي ،بوصفه ضامنا لعملية التواصل. وان��ط�ل�اق��ا م ��ن ه���ذا ي �م �ك��ن ال� �ق ��ول إن خطاب االس�ت�ه�لال يسعى إل��ى اإلي �ق��اع ب��ال�ق��ارئ ف��ي فخاخ القراءة من خالل محاولة اإليهام بواقعية ما سيحكي، ومن ثم إقحام القارئ داخل النسق السردي من أجل بناء التواصل .لكن الميثاق التواصلي ال��ذي يسعى لتحقيقه السارد قد يتلون بأبعاد أخ��رى ،من خالل اشتغاله كآلية م��ن آل�ي��ات تضعيف ال�م��دل��ول الذي ينتجه النص .وه��ذا ما يتجلى في نص آخ��ر تحت ع�ن��وان «غ �م��زة ..ص �ب��اح ..غ�م��ز» ،إذ يتمثل خطاب االستهالل هنا تنبيها إلى ف��رادة الواقعة السردية، ومن ثم فهو يضطلع هنا بوظيفة تأثيرية« :يقيناً لو حصل لك ما حصل لي لكنت اآلن نزيل مصحة عقلية من صنف خمسة نجوم ،ولكن أحمد الله ألن هذا لم يحصل ،واشكرني ألنك ستستفيد مما سأحكيه لك»( .)3إن السارد هنا يتقرب من القارئ ،يبني عقد التواصل من خالل إقناعه بفرادة ما سيحكي .ففعل السرد -حسب السارد -فعل متفرد ،سيؤثر عليه ويجعله يأخذ العبرة بعد عملية القراءة ،وهنا يبلغ التواصل أوج قمته ،ويحقق اإلقناع غايته .وتتنتشر داخل فضاء خطاب االستهالل باإلضافة إلى البعد التواصلي الذي ينهض بميثاق القراءة وظائف أخرى، تعمل على احتواء بنيات جمالية أخ��رى ،كالوظيفة التأثيرية .هكذا يسعى خطاب االستهالل إلى تجاوز
البنيات النصية لنكشف كيف تتعالق على مستوى ب�ن��اء ال�خ�ط��اب ال �س��ردي م��ع ال�خ�ط��اب ال��ذي يدشن فعل الحكي ،مؤسسة ألس��اق خطابية تميز القصة الحديثة .لنتأمل إذن بنيات بعض المقاطع بوصفها عملية إجرائية ،وهي تمكننا من اكتشاف المناطق الداللية المترامية داخل النص.
البعد التواصلي إلى محاولة التأثير .فالسارد يستهل خطابه بمصدر عوضا عن الفعل ،لكنه هنا يرسخ فكرة فرادة الواقعة التي عاشها السارد ،وانتفاء وجودها في الزمان لكون المصدر يدل على حدث مجرد من ال��زم��ان ..إن هذا الميثاق التواصلي يتأسس ،هنا، من خالل التعدد اللغوي ،فإقحام لغات وتنضيدها (أحمد الله ،اللغة الشعرية التي تعتمد اإلنزياح )..وهذه البنيات هي كالتالي: وفق نسق خاص ،يؤمن عملية ضمان البعد التواصلي «وق��ع ذل��ك ف��ي ي��وم خريفي على ال��رغ��م م��ن أن الذي يتغيبه خطاب االستهالل ،وفضال عن ذلك فهو الفصل لم يكن كذلك ،استيقظت متأخرا كالعادة، تعدد يسم عالم الواقع نفسه. بسرعة خاطفة غسلت وجهي ،وأنا أستعرض سيل إن هذه األبعاد التي تؤسس لخطاب االستهالل اللوم والشتائم ال��ذي ينتظرني عندما سأصل إلى تتشكل انطالقا من أنساق خطابية متمثلة في نظام عملي»«/لست أذكر ،إذا تذكرت سأخبرك ،كان مصعد ال�ع�لام��ات ال ��ذي ي��ؤث��ث ف�ض��اء خ�ط��اب االستهالل: العمارة معطال ،ال أستعمله ألنني أفتيت في تحريمه م� �ص� �ح ��ة /ع �ق �ل �ي��ة /خ� �م� �س ��ة /ن�� �ج� ��وم ،/وح� ��رف على نفسي ،ما دمت أسكن في الميتا -عمارة»«/في اإلستدراك .الذي يمفصل وحدة خطاب االستهالل لحظة ش ��رود سببها التفكير ف��ي ال�س�ي��د المدير ويبنيه .ويلعب هذا التمفصل دورا خاصا في أنساق ومحاضراته الصباحية ،رفعت بصري ،التقت عينانا، القصة القصيرة ،خاصة مع حرف اإلستدراك ،إنه فوجئت بها تغمزني ،داخلني شك رهيب ،وخمّنت أن يسم النص القصصي بدينامية خاصة به متمثلة في ما نسميه بالوقفات القصصية بوصفها إحدىسمات األمر وراءه خدعة ،تنتهي كما في األفالم ،إلى بيت الحكي في خطاب الحداثة في القصة القصيرة ،عصابة سطو»« /في بيت المدير وأنا أحدث زوجته وسنتوقف عند ه��ذا المفهوم ف��ي ال �ج��زء الخاص التي لم تكن كما توقعت ،غمزتني ابنته المراهقة، فسلمت عن طواعية فيما تبقى من عقلي(.)5 بالبالغة والسرد في القصة. هكذا يظهر خطاب االستهالل بوصفه مجموعة من العالمات تنتظم في نسق سردي ،وتشتغل على تضعيف بنية ال�م��دل��ول .ويمكن أن ننظر إل��ى هذا الخطاب المستقل ( االس�ت�ه�لال��ي) بوصفه فضاء س�ي�م��ول��وج�ي��ا «ي�ن�ش�غ��ل ب��ال �ع�لاق��ات ب �ي��ن العالمات واألشياء التي تحيل عليها» وقد استخلصنا سابقاً معالم هذا النسق :مصحة/عقلية/صنف/خمسة/ نجوم ،وه��و يأتي هنا ليضاعف أث��ر المعنى ،الذي ينشغل ال�خ�ط��اب بتشكيله ،أي غ��راب��ة ومأساوية وف��رادة ما سيحكيه السارد .إن خطاب االستهالل ال يمكن ق��راءت��ه والكشف عن أب�ع��اده إال من خالل البنيات ،التي تنتشر على م��دار المساحة السردية للنص .ولكي نكشف عن هذه األبعاد ،سنتوغل داخل
إن البنيات المقطعية السالفة تكشف عن غرابة الواقع الذي تحيا فيه الذات بوصفه يتمظهر كسيرورة. فالمسار السردي الذي ولده خطاب االستهالل ينمو تدريجيا في اتجاه الكشف عن واقع موسوم بالتوتر والغرابة .لكن معالجة بنيات الواقع في هذا النص تخضع لرؤية خاصة ،تتمثل في تدمير بنية الموضوع أو التيمة داخل النص ،وإعادة بنائه ..فرؤية الواقع في النص ،تخضع لترميم يفجر جماليات الكتابة ،متمثلة في الهندسة المعمارية التي تميز الخطاب السردي ف��ي المجموعة ،وه��ي هندسة تعتمد مجموعة من المكونات :البياض ،توزيع األسطر ،األقواس ،بالغة ال�ل�غ��ة ..إض��اف��ة إل��ى أن�ه��ا م�س��ورة بحدائق الداللة، وتخترقها دروب المعنى المتشعبة بواسطة اللغة
اجلوبة -شتاء 1429هـ 21
وعبرها ..هكذا يدمر السارد موضوع النص من أجل تجلية الوقائع التي تؤتث فضاء الواقع .وهي وقائع تتحول إلى مسارات سردية ،وتؤشر لمدلوالت تكشف عن وضعية الذات التي تعري غرابة ومفارقات الواقع. وإذا كانت هذه المدلوالت التي تنتشر عبر النص، تتمظهر بوصفها تشتغل داخ��ل خ�ط��اب المحتمل، فإن خطاب االستهالل يمكن ّع��ده في هذا اإلطار داال ،عبره تتفجر هذه البنيات ،وانطالقا منه تتمثل السيرورة السردية والتي تكشف عن السيرورة داخل الواقع .إن هذه السيرورة تتحقق من خالل دينامية سردية نصطلح على تسميتها بدينامية الواقع .هذه األخيرة تتشكل من خالل الفاعلين ،مصدر الدينامية، ثم السارد بوصفه أحد أط��راف المعادلة السردية، وفاعال في الحكي ومشاركا في مسرحة الحكاية. فهو إضافة إلى أنه يولّد مسارا سرديا انطالقا من شخوص تتشكل هويتها الداخلية والخارجية انطالقا من المحتمل السردي ،فسماتها ال تتحدد بالمظاهر الخارجية والداخلية (ان�ف�ع��االت ،ل�ب��اس ،انتماؤها الطبقي) ولكن بانتمائها إلى مسار سردية الخطاب وم��ن ث��م ال تتحدد بنية ال�م��دل��ول ال��ذي تشكله ،إال باإلنتهاء من آخر جملة في النص .إن هوية الشخوص في النص وحمولتها النفسية والثقافية تتحدد في خطاب الحداثة هنا ،انطالقا من وضعها داخل فضاء الحكي ،وعالئقها بباقي الفواعل في النص .فعالقة التقابل الموسومة بغرابة الواقعة بين السارد وباقي الفئات األخرى :السارد /المدير؛ السارد /سكرتيرة المدير ،زوجة المدير ،ابنة المدير .إن هذه التقابالت تكشف وضعية ال��ذات – السارد ،وتحيل على الفئة اإلجتماعية .وبالتالي فإنها هنا تكشف الحمولة النفسية بوصفها محركا للرغبة في التواصل ،إنها منبع دينامية السرد وجوهر سيرورته ،بل إنها تحيلنا على جوهر عالقة السارد بالمحكي .ويالحظ هنا أن القصة القصيرة ت��وزع هذه المقوالت بعيدا عن التشابك العالئقي اإلشكالي بين هذه الفئات الذي يميز الخطاب الروائي .إنها أنساق يمكن القول إنها
22
اجلوبة -شتاء 1429هـ
تميز الخطاب في القصة القصيرة .فالفئات التي استخلصناها تطفو على سطح الخطاب القصصي، تتمظهر ببساطة ،ويغلب عليها اإليجاز والتكثيف .لكن ه��ذه العالقات بين ه��ذه الفئات ،ال تخضع لمفهوم الحقيقة ،فحتى بالنسبة لهوية الشخصيات في خطاب الحداثة تطفح بالعتمة المؤقتة ،وبالسؤال وال�ق�ل��ق ال��وج��ودي ال��داخ �ل��ي .لكن نجدها عالقات تنخرط في نسق ،وتخضع لمحتمل الوجود النصي وسرديته وآلياته الخطابية. وي�ك�ش��ف ل�ن��ا ه ��ذا ال �م �س��ار ال��س��ردي ال���ذي بدأ بخطاب االستهالل المولد للمسار نفسه ،والضامن الستمرارية فعل القراءة ،ومن ثم فعل استمرار حياة النص بوصفها فضاء مكانيا مؤثتا بشخوص وصور، وإال تعرض للتدمير حين ينتفي فعل القراءة ويتعطل. وهكذا ،فحياة النص هنا مرتبطة بدينامية الفاعلين الذين يؤتثون الفضاء السردي ،وينسجون تفاصيله المكثفة في نسق لغوي .فالقصة القصيرة في خطاب ال �ح��داث��ة ،ت �ن��زع إل��ى اإلس �ئ �ن��اس ببعض التفاصيل المكثفة ،التي تؤتث فضاء الحكي من أجل توسيع أفق البنيات التخييلية الموسومة ببالغة اإليجاز .وهذا ما يتجلى من خالل العودة إلى نصوص المجموعة التي تنحث م��ن تفاصيل اليومي وه��واج��س الذات أنساقاً قصصية أغنت الفضاء ال��دالل��ي .وسنتبين هذه المعالم من خالل التوغل في المقاربة .إن هذه التفاصيل التي تؤتث الفضاء النصي ،ينسجها ممثلون ي��ؤدون أدوارا تيماتية وعاملية .فالسارد والمدير يؤديان دورا تيماتيا خاصا هو :موظفة ،والمذيعة دور صحفية؛ وتأتي فئة الفتاة الشقراء/زوجة المدير/ابنة المدير وهي فئة تشترك في األنوثة ودورها مرتبط بفضاء البيت ،لكن بعدها الداللي يتشكل بالخصوص من خالل الجسد األنثوي والرغبة في اإلتصال .إنها تصنع عالمة المحتمل األدبي وسردية النص .وهي هنا الرغبة في إرسال خطاب الغمز ،الذي يروم فعل التواصل واإلتصال مع السارد المشدوه أمام واقعة خطاب الغمز ،أي اإلتصال بالعالم وهو اتصال يجسد
فعل اإلنجاز اللغوي ومن خالله وعبره فعل الكتابة. وه��و س��ارد ،كما سبقت اإلش ��ارة ،يمثل ويتقابل مع فئات أخرى من الممثلين .ففئة السارد تتقابل مع فئة يظهر عليها سمة نقص تسعى إلى تجاوزه عن طريق بناء موضوع رغبة هو نفسه العالمة المحتملة ،التي تؤسس للرغبة في التواصل مع اآلخر الرجل .إن معالم هذا التواصل غير جلية لحد اآلن ويمكن أن نعري عن أحد أبعادها إذا نحن انتهينا إلى تأمل بنيات الخاتمة، وال�ت��ي تكشف ع��ن معالم ال�س�ي��رورة ال�س��ردي��ة التي تحدثنا عنها .ويمكن أن نستشف ذلك من خالل هذه المقاطع :وفي الصباح تزوجت ابنة المدير واقتتل شرطيان وأعلن اإلضراب العام وأعلنت حرب سميت ()6 حرب الخلي ؛ توقع هذه المقاطع لنهاية محتملة للنص ،وفي نفس اآلن يؤسس لإلنفتاح ال��ذي يميز خطاب الحداثة في القصة القصيرة ،وتجليات مفهوم السيرورة الموسوم بزمن الواقع ،زمن يتميز بالتوتر. فالصباح الذي بدأ باإلستعداد لمواجهة شتائم السيد المدير يتحول عبر مسار سردي إلى ظاهرة أو مسرح يستوعب محكيات متنوعة. ويتضح م��ن خ�لال ق��راءت�ن��ا ل�ه��ذه البنيات (بنية خطاب االستهالل ،بنية المقاطع ،بنية الخاتمة) أنها تتفاعل في إطار عالقات اإلئتالف واإلختالف لتنتج مدلوالخاصا يرتبط بالزمن الموسوم بالتوتر، والواقع الذي يستدعي التأمل من خالل الكشف عن سيرورته .وقد ينهض خطاب االستهالل استراتيجية خاصة ت��روم إيهام المتلقي بواقعية المحكي ،وهذا ما يمكن أن نستشفه في نص« :ث�لاث غرف تخادع المدينة» ،فالسارد يستهل المحكي بتصوير فضاء المدينة ليال بوصفها يمثل صورة سردية تفجر الرحم
النصي ،الذي هو الغرفة بوصفها كينونة للذات ،ورصد لعالقة الخارج والداخل ،اإلنفتاح واإلنغالق ،اإلتصال واإلنفصال؛ وهي عالمات تتحقق عبر اشتغال العالمة ()7 داخل الخطاب :خارج الغرف ..داخل الغرف ..تمثل هذه البنية المقطعية المولد للمسار السردي لخطاب النص .إنها تعمل من خالل استراتيجية التقابل التي تتيح للسارد اإلستمرار في نسج التفاصيل التي تؤتث المحكي .في هذا النص يتغير موقع الرؤية بالنسبة للسارد ،وذلك لطبيعة المشهد وأبعاده المغايرة التي تنظم العالقة بين ثنائيات رج��ل/ام��رأة إنطالقا من فضاء داخلي هو الغرف الثالث في المدينة ليال .ومن ثم فخطاب االستهالل ال يدشن فقط استراتيجية الحكي ،بل يوسع آفاقه كما يتجلى من خالل اإلنتقال م��ن فضاء مفتوح ه��و المدينة إل��ى فضاء مغلق هو الغرفة؛ إنها بنية تعكس بعد التوتر داخل الخطاب بين ال ��دال وال �م��دل��ول .وه��ذا م��ا يتجلى ف��ي فضاء االستهالل ال��ذي يهيئ لتلقي ه��ذا التوتر ،فسلطة ال�ل�ي��ل أع �م��ق وأش ��د م��ن سلطة ال �ش��رط��ة ،والغرف الثالث المضيئة تترجم التوتر بين السلطتين .وتؤشر إل��ى إح��دى س�م��ات الشخصيات وه��ي ال �خ��وف« :ال تخف .قالت له بعدما طلبت منه الدخول إلى غرفتها وتردد )8(» ..والبناء المعماري للنص نفسه يعكس هذا التوتر ،والفضاء المكاني الذي تجري فيه المشاهد وهو الفندق .تأسيسا على ما سبق يمكن القول إن خطاب االستهالل يتمثل بوصفه داال ،واستراتيجية متعددة األبعاد .إنه أحد األسس التي ينهض عليها خطاب الحداثة في النصوص المعاصرة.
< كاتب مغربي. -1جمال بوطيب ,برتقالة للزواج!! برتقال للطالق!! .دار جسور .وجدة .1996 .ص..16 : -2كريستيفا .جوليا .علم النص ت :فريد الزاهي ،عبدالجليل ناظم .دار توبقال .الدار البيضاء .1991 .ص .9 -3جمال بوطيب .المرجع السابق .ص.33 R. Barthes. essais critiques.Ed: Seuil. paris.1966. p: 206 -4 -6نفس المرجع .ص.36 -5جمال بوطيب .المرجع السابق .ص.33 : - 7نفس المرجع .ص -8 45نفس المرجع .ص46
اجلوبة -شتاء 1429هـ 23
قصص قصيرة جدا ً > هشام بن الشاوي
<
-1عيد كئيب: تستيقظ م�ت��أخ��را ،تبقى ف��ي فراشك محتفال بوحدتك .من خلف الباب المتجهم تنداح كلمات التهاني ،وم��ن أعماقك يلح عليك صوت ما أال تبرح حجرتك ،وأن ال تشاركهم تمثيليتهم السخيفة .قبل أن تغادر ف��راش��ك ،ت ��ذرف س �م��اء عينيك دمعات، أحببت أن ال ي��راه��ا أح��د مصلوبة على جفنيك في هذا الصباح االحتفالي! تغادر زن��زان�ت��ك األث �ي��رة ،ت��رد على تحايا األهل ببرود ،والصغار يرفلون في حللهم الجديدة مبتهجين .ي�س��أل��ك أح��ده��م ع��ن عينيك المحتقنتين .اللعنة! كيف ل��م تنتبه إلى أنهما ستفضحانك؟! تلوذ بحصن صمتك، وي��رد عليه األب بلهجة كالسياط :يا الله ف ��اق!!؟؟ تلوذ بحصن صمتك الصاخب، ويذبح قلبك الحنين إل��ى طفولة قديمة، رحلت مبكرا إلى مرافئ الشجن.
-2باب الخسارات
-3حاجة مأل القسيمة ،وضعها بين طيات دفتر التوفير ..بعد أن خط عليها ما تبقى من رصيده. قبل أشهر ،فكر في التخلي عن ذاك ال��رص�ي��د ،لكونه ليس م��ن ح �ق��ه ..هاتف داخلي يطمئنه« :ليس مهما إن كان حالال أو حراما»! قلقا ينتظر دوره ،وفي أذنيه يرن صراخ أبويه وهما يعنفانه..
قصص قصيرة
دائماً أهربُ م َن الطرقات ! ..ال أحبُّ تحسس جيوبه ،فكّر في أشياء كثيرة، أعرف مَنِ الطارق، َ أن أفت َح الباب ،وال أ ْن عاصفة تلقف كلمات الموظفة الجميلة« :ال يمكنك ٍ وقبل أن يهر َع األ ُخ الصغي ُر مث َل ليطلَّ من الشبّاك ،أغمغم :إذا سأ َل عنّي سحب المبلغ ليبقى الحساب جاريا.» .. أيُّ شخص ..فأنا غير موجود! امتدت أصابعه إلى الورقة المطوية.. �ص��د ..ال أع��رف لماذا أشاح بوجهه عنها ،ثم مزقها. �رف َم��ن أق� ِ وي �ع� ُ < قاص من المغرب.
24
�اب ارتك َن إل��ى زاوية يصرَّان على ط��رقِ ب� ٍ النسيان؟ فإذا لمحتُ أحدَهما في الشارع بسرعة، ٍ في أ ّي��امِ عطلهما -اس�ت��درتُمغيِّراً االت �ج��اهَ ،أو ذب��تُ ف��ي ال��زح��ام .قد الحب»، َّ يكون الطارق ..لكني أمقتُ «هذا ألن��ه يذكّرني بطريقِ األش ��واك ..لم أقبل أن يكون الحبُّ شفق ًة تُختلس ..فلم آخذ �ات ام�ت�ح��ان ل�غ��ة ال�ع��م سام، منهما إج��اب� ِ وتركت الورقة بيضاء..
اجلوبة -شتاء 1429هـ
صانع البهجة.. > عبدالسالم احلميد
<
لم تكن تهمهم حالتي النفسية أبداً ،ألنني كنت دائم النكتة على حالي في كل حاالتي..
أنا.
كان بعضهم يتمنى دوام شقائي ،كي تدوم ضحكاتهم ..هم. سموني صانع البهجة ..هم. فعلوها لعلمهم أني أبدع في خلق الفرح ،كلما زاد ألمي ..أنا. استهوتني اللعبة ،كلما زاد استمتاعهم ..هم. وكأنما أدمنت األلم ..كما أدمنوا وجودي المبهج ..هم. استيقظت ذاك الصباح على دموعي ..كنت أبكي وأنا نائم. تساءلت: -
إلى متى أبكي في داخلي؟
-
لماذا ال يفكر أحدهم بالسؤال عن حالي؟
قاطعتهم جميعاً ،وعشت في عزلة تامة ..لم يمر طويل وقت حتى اقتحموا عالمي..
لم يفكر أحدهم بالسؤال عن حالي ..أجبروني على العودة إليهم ألروي لهم نكاتي..
كنت أرويها لهم وعيوني تطفح بالدمع وعيونهم مغرورقة بالدموع ،وهم مستغرقون في الضحك.
< قاص من السعودية.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 25
صورة قبيحة المرآة.. تجعلني أشعر وكأني سأظل حبيسا فيها إلى األبد.. دوماً ..أمامكَ ؛ في الحمَّام ،في الغرفة والصالة ،في عملك ،خصوصاً عندما ترى وجه مسؤوليك.. كلما نظرتَ إليها ،تشعر وكأنها تُجردّك من مظهرك الخارجي ،ذلك المظهر الذي اعتدت عليه زمناً ،واعتاد ال �ن��اس أن ي�ع��رف��ون��ك ب��ه ،وج �ه �اً مصبوغا بالمشاعر المتلونة ،وج �س��داً ضخماً يتحرك ف��ي تململ .تركب سيارتك منذ الصباح الباكر ،تحشر نفسك فيها ،تنطلق بسرعة ،تقف أمام اإلشارة منتظراً ،تلتفت يمنة ويسرة، تتثاءب ،ترفع وجهك ناحية المرآة ،تعدل غترتك ،تمسح َص المتجمع في ُمؤَقِ عينيك ،تشتري الجريدة، بقايا الرﱠم ِ تقرأ العناوين الكبيرة لَمْحَ اً بعينين صامتتين ،تحرك يداً على مقود السيارة ،ويداً ترمي بالجريدة على المقعد المجاور بعصبية روتينية.. صور السيارات المارّة، المرآة الجانبية ،تنعكس فيها ُ محاول ًة تجاوز سيارتك الحمراء الصغيرة .تنظر إلى ساعتك..
> فاطمة املزروعي
<
عيناك التي ترى كل هذا .لكنك تعلم بأن مرآتك في هذا الصباح المشبع برائحة الضباب ستُجردك من قسوتك وعنفوانك مع نفسك ،وستُظهر لك ضعفك.. السيارات تتجاوزك ،تعبر سيارتك في سرعة.. سوف يوبخك مديرك على تأخرك ،وسيعلن ذلك على المأل ،سيخبر رفاقك ،سوف يمر على مكتبك ،ومكاتب أخرى ،سوف ينتشر الخبر في المكان كله ،سيعلقه على زجاج المدخل ليراه حتى المراجعون ،وحينها لن تضطر إلى إخفاء شخصيتك ،أو التقمص بأخرى. توقف سيارتك في ذلك المكان ال��ذي هجرته منذ فترة طويلة ،وتمر أم��ام��ك غيمة ،تتجاوز ب��ك روحكَ وعقلك .وجهها المدور ينظر إليك من شباك غرفتها، تستمع إلى ثرثرتها الطفولية وهي تتحدث مع زميالتها، فتضحك في سرّكَ ،وأنت تعلم أنها تفعل ذلك ،لتجعلك تهتم بها .كنت تتوقع نفسك أكبر من أن تكون محطة ألحالمها .على ك ٍّل ليس هذا هو هاجسك اآلن َ.
تتحرك ببطء ،صوت الهاتف يصل لمسامعك ،شاطئ الكورنيش الخالي من الناس يفتح ذراعيه لك ،تقترب آه ،لقد تأخرت..غير آبه بعامل النظافة الذي ينظر إليك باستغراب ،يرن أول م��رة في حياتك تتأخر ،هل تتذكر كيف كانوا صوت الهاتف مرة أخ��رى في جيبك ،تتجاهله ،تتذكر يمتدحونك في المكان ال��ذي تعمل فيه؟ كنت نشيطاً، كيف كنت تتناوله على عجالة إذا ما أتاك أي اتصال؟ مجتهداً ،تعمل كعقارب الساعة ،تؤدي كل ما يُطلب منك، صورة قبيحة ،متناقضة ،لروحين في جسد واحد، دون أن تتكلم أو تتفوه بشيء أو حتى تعترض .وحتى مع عائلتك ،تضع قناعك البارد ،وكأنهم ملفات تنجز بل أرواح عدة تتصارع في هذا الجسد الذي هو أنتَ ، لتشتت وذوبان في ال شيء! ٍ فتجرك معامالتها بآلية. سور الكورنيش يقترب ،وجسدك يقترب منه أكثر تعود للنظر إلى صورتك في المرآة األمامية ،وجهك الكبير ،وشارباك ،وأنفك ،والشامة التي تعلو حاجبك رغماً عنك ،تلمح المرآة في المياه ..،تتابع نفسكَ - األيمن ،وشعيرات أنفك ،وأسنانك ،ورموشك القصيرة ،على سطحها الالمع -كشريط سينمائي قديم ،غير آبه ومسام جلد وجهك المتغضن ،كل شيء فيك ،وعيناك ،برنين الهاتف الذي يسكن جيبك.. < قاصة من اإلمارات.
26
اجلوبة -شتاء 1429هـ
قصص قصيرة جدا ً > مصطفى لغتيري
المطهر هنالك في البحر األبيض المتوسط ،وبتواطؤ
مكشوف مع هبات النسيم ،القادمة من القارة العجوز ،كنت أغوص بجسدي المتعب في المياه
الهادئة ..وبوحي من عرافة إفريقية ،حرصت على أن يكون عدد الغوصات سبعا ..وكأنني بذلك أتطهر من خطايا المحيط األطلسي.
تفوكت ف��ي ب�لاد األم��ازي��غ ،ك��ان تلميذ يجلس في
ال �ص��ف األم ��ام ��ي ،يتتبع ب��اه�ت�م��ام محاوالت
المدرس تعليم التالميذ اللسان العربي.
فجأة التفت المدرس ،فلمح الشمس بازغة
تطل من النافذه ،فتنبه التالميذ إلى وجودها، ث��م سألهم “ما هذه؟” ..رف��ع تلميذ إصبعه،
فأجاب “تفوكت” ..غضب ال �م��درس ،فعقب
قائال “إنها الشمس” ..ثم طلب من التالميذ
أن يرددوا وراءه لفظة “الشمس” مرات عدة.. تعلم ال�ت�لام�ي��ذ ال�ل�ف�ظ��ة ،ف�ع��اد ال �م��درس إلى
<
درسه ..حين انتهى منه ،قصد التلميذ الجالس
في الصف األمامي ..سحبه من ي��ده ..أوقفه أمام الباب ..أشار بأصبعه نحو الشمس ،ثم
سأله“ :ماهذه؟” دون تردد أجاب الطفل:
“في المدرسة اسمها الشمس وفي البيت
اسمها “تفوكت”.
الموت على هيئة رج��ل ،تقدم الموت نحو شاب،
يقتعد ك��رس�ي��ا ع�ل��ى ق��ارع��ة ال �ط��ري��ق ..جلس
بجانبه ،ث��م م��ا لبث أن س��أل��ه - :ه��ل تخاف الموت؟
واثقا من نفسه ،أجاب الشاب: -ال ،أب��دا ،إن لم يمت المرء اليوم ،قطعا
سيموت غداً .بهدوء أردف الموت: -أنا الموت ..جئت آلخذك.
ارتعد الشاب ..انتفض هارباً ..لم ينتبه إلى
سيارة قادمة بسرعة مجنونة ،فدهسته..
< قاص من المغرب.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 27
قصتان قصيرتان > محمد زيتون
<
لحية الصمت جلس حائرا ،وسحاب االضطراب يخيم على فضاء خواطره« :المرأة التي أحبها ..ال
تحبني ..والتي ال أحبها ..تحبني ..يا لها من مشكلة؟».
البارحة وجد نفسه الهثا يعدو بين أغصان غابة كثيفة ،ومن خلفه ذئ��اب وكالب
ورعود تتناثر .وحدها تقاسيم الحبيبة كانت تشرق في أفق اللهاث ،غير أنه كلما التفت
وجدها ومن ال يحب ..تماما كالعواء والنباح والهدير ..تالحقه بأنياب طويلة ،وبأردية
بيضاء كالثلج ،فيشرع في الذوبان ..ويكاد يذوب من هول ما يرى ،لوال أن تتداركه الوالدة بمنديلها البارد ..تكفكف رذاذ الحمى: ما بك يا ولدي؟ ال شيء يا أمي! وترقد جانبه: أمي ماذا كان سيفعل أبي لو أنه عاش المأزق ذاته؟ أزاحت أنظارها عنه صامتة ،أخدت اإلبريق وصبت في كوبه بعض القهوة ،ثم بعض
الحليب ،ثم ناولته ملعقة سكر ،ثم تاهت في ذيول ضحكة الوالد المعلقة صورته على الحائط:
أبوك يا ولدي كان إذا أعجبته فتاة خطبها ،وإذا خطبها تزوجها ،وإذا تزوجها صابر
وجاهد رفقتها ،وإذا ما أحس منها جفاء أمهلها ..ولم يهملها ..تلك أيام!
28
اجلوبة -شتاء 1429هـ
ألذلك تزوج ثالث نساء؟؟؟
األولى.
كال ..بل لذلك عشن معه في حالل ربنا ..يرحمه حرك الملعقة دون أن يضع السكر ،ساهماً في الله. فضاء ال�ش��ارع ،ثم ع��اد بعد أن ذاق مرارتها ليضع بعض القطع البيضاء ،ويترك بعضها اآلخر أمامه. إيه!!.. ح��رك الملعقة ،أزال ال��زب��د ،رم��ى مالبسه ،وتمدد أين أيام والدك من أيامك يا بني؟ على الشاطئ .األم��واج تتردد بين الفينة واألخرى وص �م �ت��ت ..ول �ب��ث م�ل�ي��ا ي �غ��ط ف��ي ع� ��واء ونباح في أحشائه .حلو مذاق االنتظار ..تلمظه ..والسكر وهدير ..وخياالت شتى .ليستيقظ على وقع نكباته ،كالصخور البيضاء على الشاطئ. وسجل آماله العريض ،وسعار أيامه الحالكة .أبصر المقهى تعبر مرح الضحى لتستقل قيظ الظهيرة، الدمعات متسللة من عينيها ،منزاحة على خديها، وال�ع��رق يتهادى ف��ي صمت ،وال�غ��ادي��ن والغاديات.. وأيقن أنه لن يكون مثل أبيه. والرائحين والرائحات..
مكتبة النجاح
في المقهى ،في الواجهة األمامية ،جلس مرتبكا.. م �ه �ن��دم��ا ..ي �ف��وح ع��ط��را ،وع �ي �ن��اه ت�ت�س�ق��ط معالم المرور ..تفتش عن طالسم مفتقدة ،يسافر الحنين الستضافتها ،لمشاطأتها.. وليستمر في ه��ذا الجنوح اللذيذ ،اس�ت��أذن في تأخير قهوته أو عصيره .إن��ه ن��ادرا ما يجود على نفسه بعصير بارد في قيظ( )1هذه الصحراء. أخرج منديال من جيبه ،مسح العرق المتصبب، وطوى المنديل جانبا فوق المائدة ..وتاه بين :الغادين والرائحين ،ال�غ��ادي��ات وال��رائ �ح��ات ..ن��زع نظارتيه، مسحهما ،حك عينيه ،رمم بصره بحركات سريعة: لقد تأخرت كثيرا.اس�ت�ع�ج��ل ال� �ن ��ادل ف��ي ت�ح�ض�ي��ر ال �ق �ه��وة المرة، كالعادة. لعلها ل��ن ت��أت��ي ..ه �ك��ذا ه ��ن ..ف��ي مواعيدهن
ه��ي ،ب��دوره��ا ،ك��ان��ت ت�ت�ه��ادى بين أم ��واج القلق والصبر واالضطراب ..العرق يعبر جبينها المتردد في علياء الجسد بين اليمين واليسار ..والغادين والغاديات ..والرائحين والرائحات ..وطلعتها الزاهية تبدي ارتياحا متكلفا بغاية تبديد األنظار ،ورائحتها متضوعة ..أجلت بدورها قهوتها ،كانت تطمع في عصير ،جيبها ال يحفل بثمن العصير ،نادرا ما تجد من يجود عليها بعصير ..تأخر كثيرا ،فكرت في االنصراف ..ماذا سيقول رواد المقهى لو انصرفت؟ م��اذا سيقول ل��و حضر م�ت��أخ��را؟ ل��م تضبط اسمه جيدا ..ولم تجد من القهوة بد. كانت قهوتها خاثرة بالسكر ..قلبها يتبطن فرحة مقموعة ،خيبة أمل ..غبن ..ندم ..شماتة ..بصيص أمل في وصوله متأخرا ..معتذرا.. أم��ا ه��و ،ففي المقهى ال�م�ج��اور ف�ق��ط ..يشرب قهوته ..في انتظارها ،ويتجرع مرارة عدم وفائها.
< قاص من المغرب. ( )1قيظ :شدة حرارة الجو.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 29
شــــــــرفــــــة > محمود عطية محمود
<
اخترق ضوء الصباح خصاص الشرفة ،لينبسط على أرجاء الحجرة ،التى تبتلع سريراً لفرد ،ومنضدة من الخوص المضفر ،وكرسيا مترنحاً ..يستند بظهره إلى فم الباب المفغور على باقى الشقة الواسعة ،المغلق على عتمته. اهتز خيال وحدات الخصاص على حوائط الحجرة .ضوّت بوهن – الكريستاالت الثالث ،المدالة من نجفة قديمة – غطى التراب هيكلها – تنتصف السقف ،المتساقطة منه قشور طالئه. استلقى الضوء على تجاعيد الوجه المستلم النوم متقطع ،بعد أرق معاند ،فانتفض – بعد كمون – البدن العجوز بشعره المهوش ولحيته غير الحليقة ،لترتطم السيقان اليابسة – المتصلبة فيها عروق خضراء متشابكة – ببالط األرضية العارى ،مع طقطقة مفاصل الركبة والفخذ بألم متكسر ،بينما سعت القدمان تبحثان عن مداسهما المختبىء تحت السرير الواطىء. لحظات ،وانتفضت خلف الخصاص ،بدفعات متتالية من أيد ارتعشت حتى استجمعت قواها ،ثم أحكمت قبضتها ،فغزا الضوء بكامل شدته فضاء الحجرة ،وج��اوزه��ا فى اتجاه الممر الضيق بين الحجرة وباقى الشقة ،من حول البدن الشاخص على عتبة الشرفة ،ب��ارز البطن من بين دفتي قميص مفتوح – على لحم عار – ال يخفى بثوراً تتناثر على البطن ،وأسفل الثديين المترهلين يغطيهما الشعر األبيض ،فى حين ذهبت العينان المدهوشتان يمين الشرفة الخالية ،إال من إصيصين فارغين يستقران على سياج الشرفة لصق الحائط على الجانبين. تقدم بخطوات مترنحة نحو السياج .إتكأ بيديه عليه ،وانحنى صدره فوقه .حدّ قت العينان بنظرات مهتزة فى شروخ قمة السياج التى تسرح نحو واجهته الخارجية ،وتتسع فى خطوط تكشف عن أسياخ حديدية صدئة ،وتضيق فى خطوط أخرى تتوازى وتتقاطع حتى تتسع مرة أخرى. تبرم الوجه العابس مغمغماً ،ثم التفت بنصف جسده إلى داخل الحجرة ،لتخايله انعكاسات الضوء التى ازدادت على الكريستاالت الثالثة ،فاهتزت الجفون المتهدلة،
30
اجلوبة -شتاء 1429هـ
ثم أغمضت نصف إغماضة عاودت بعدها خطواته الدفء ،مع الحيوية النابضة. ال عن ترنحها – عبور الحجرة ،نحو – التى تخلت قلي ً لم تبدأ حكايتكما معاً كحكايات العشق المتخمة داخل الشقة الذي بدأ يتسرب إليه الضوء. ب��درام��ا ال��زم��ن ال��ذي ي �ت��راءى أم��ام عينيك – اآلن
«تخلت عنك عافيتك ؛ فصرت تشحذها بليل – ممسوخاً ،مجبوالً على التراخى وع��دم االتزان، يطول عليك بال نوم ..تتقلب فيه ذكرياتك ..تعاودك والميوعة ،بل أتت الحكاية من رحم تقاليد راسخة ؛ فيه سمات أيامك الخوالي كخياالت مارقة ..تبث لتضعها األقدار أمام عينيك آية للوقار ،مع الجمال.. فيك آثار صرامة تصرفاتك ،حميتك ،جديتك وسط مع االحتشام. أق��ران��ك ،نشاطك الرياضى ال��ذى ف��اق الجميع فى ك��ان��ت زه� ��رات ع�م��رك�م��ا ت�ن�ض��اف إل ��ى عقدكما الفروسية ،الرماية ،سباحة المسافات الطويلة في الراسخ ،كحبات مرمرية ،تنهمر واحدة تلو أخرى ،تلو معسكرات النشاط ،وسباقات ال�ع��دو ف��ى الصباح الثالثة ؛ لترصعه ولتصير كنوزاً تتدلى من رحم الحب الباكر ..ال تمل من تذكيرك بطولك الذى كان فارعاً ،المتعقل ،لكن األيام تفرض طقوس دورانها ،فيمضى شدة البدلة الميرى على جسدك الذي كان ممشوقا ،ك��ل ف��ى درب يخصه ت��ارك��ا عبق وج ��وده ي�س��رى فى ولمعان نجومها المستقرة على كتفيك ترسخهما ،المكان الذى ولد فيه ،رغم البعد وحنين اإلشتياق.. وتزيد من زهوك ..تكسبك انحناءتك الخفيفة ،وأنت صرتما وحيدين ..بات كل منهما يعزف لحن وجوده تنظر إلى األشياء من أعلى بشموخ. بموازاة اآلخر على مشاعر هادئة كما بدأت». ال يشفع سهاد ليلك لجسدك أن يستريح أو يخلد خرج من الحمام ،حليق الذقن ..يجفف بمنشفته إلى خمول – كأضعف اإليمان – تحتاجه ،والشمس قطرات الماء المتساقطة من شعره الفضى ،الذى طالعة على الدنيا ..تنذر بالحياة التى»... التأمت خصالته والتصقت ببعضها منسحبة إلى على باب الحجرة اصطدم بالكرسى ،فانزلقت خلف رأسه ،وابيّض لون جبهته المعاً. أرجله المائلة ،وازداد ميلها .أدركته ي��داه بانحناءة إتجه نحو الشرفة تشمله ارتعاشة خفيفة تدغدغ موجعة ،لترده إلى الحائط ومضى يحاول أن ينفض ح��واس��ه ..يستجمع رغ�ب��ة أك�ي��دة ف��ى ترميم شروخ عن رأسه ما استغرق فيه. السياج ،التى ك��ان يلحقها دوم��ا قبل أن تستفحل. م��ن المطبخ أت ��اه ص��وت جلبة ،ارت �ط��ام أواني ،إق �ت��رب ..ع ��اود االت �ك��اء ب�ي��دي��ه ع�ل��ى ق�م��ة السياج، احتكاك أكواب زجاجية ،مع خرير مياه صنبور يشتد واالنحناء بصدره عليه ؛ ليتفقد الشروخ بعينين شبه ثم يخف ،ثم ينقطع ،ثم يعود إلى الشدة ،ثم يصمت؛ ثابتتبن ،بينما ح ّل إلى ج��واره عبق خفيف ال يفارق ليحل محله حفيف أق��دام متباطئة ،ولكنها تخدش إحساسه ،مع ظل ابتسامة امتدت معها يد معروقة، صمت الشقة المتناهى. ل��م ت��زل تحتفظ بملمسها الناعم ال�ب��ض ،على يده «تشاركك حياتك ،منذ كانت ربيعا يانعا تتألق نافرة العروق مربتة ،أشاعت فيه لمسة دفء عادلت فيه زهور عيونكما النضرة ،وتتألأل نجوم لياليكما ارتعاشته ،بينما تؤكد اليد األخرى على وضع صينية السعيدة التى كانت تتمطى فيها أبدان الرشاقة ،مع شاى الصباح على قمة السياج. < قاص من مصر.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 31
فصل من رواية
الشتات األول
()1
> فيصل أكرم
<
الهجري 1400 ّ العام ليس أغرب من هذا العام في حياة سيف بن أعطى ،ففي مطلع اليوم األول منه سيف مع شقيقه ،يركضان من المنزل باتجاه الحرم المكيّ الشريف للحاق ٌ كان بالركعة األولى من صالة الفجر ،ولكن ..كانت المفاجأة أن وجدا أبواب الحرم مقفلة! عادا إلى البيت ليخبرا األهل بما رأياه ،فلم يصدقهما أح ٌد في بادئ األمر ،ثم كان ما كان من أصوات إطالق نار ،وعلم الجميع وقتها أن عصابة مسلحة احتلت المسجد الحرام في صبيحة ذلك اليوم. أغلقت المدارس أبوابها ،واعتكف الناس في بيوتهم ،وبما أن بيت سيف كان
فصل من رواي��ة 32
ال يبعد كثيراً عن المسجد الحرام ،فقد كانت مناظر المعركة والنيران ودماء الضحايا من المصلين األبرياء والجنود المدافعين عن بيت الله ،ال تنسى أبداً
اجلوبة -شتاء 1429هـ
مهما امتد بسيف العمر. سيف من نفسه حين يتذكّر: وقد يستغربُ اآلن ٌ
كان في الحادية عشرة من عمره ،ويمتلك جرأة
جعلته ينطلق على دراجته النارية مرّات ومرّات –كالصاروخ -من أمام ساحة المسجد الحرام،
سيف على أح � ّر من الجمر ..وحين ٌ ينتظرها جلس في المكان المخصص ليستمع إلى اسمه في اإلعالن ،لم يكن اسمه «األول» كما اعتاد، وال ال�ث��ان��ي ..وال حتى ال��راب��ع ..ب��ل ك��ان سيف «الخامس» هذه المرة.
ليلتقط –في ك ّل مرة -أحد المحاصرين هناك،
تقدم الفتى بحزن شديد ،وه��و يصعد إلى
دام هذا الحدث أسبوعين تقريباً ،وانتهى
و«يشوتها» بقدمه ويركض بعيداً عنها وهو يجلد
والمحتمين بالسيارات الواقفة ،ليحمله مبتعداً ال�م�ن�ص��ة ،الس �ت�لام ج��ائ��زت��ه ال �ب��ائ �س��ة ،وخرج به عن مكان الحدث.. مسرعاً من المكان ليلقي بالجائزة على األرض.. بالقبض على العصابة المسلحة ،التي عرفت باسم (عصابة جهيمان) نسبة إل��ى زعيمها/
جهيمان.
***
�ف في ف��ي ال�ع��ام نفسه 1400ه� �ـ ،نجح س�ي� ٌ
المرحلة االبتدائية (المنتهية بالصف السادس)
وح�ق��ق –كعادته -الترتيب األول ،ليس على
نفسه باللوم والتأنيب والتوبيخ.. �ف ج��ائ��زت��ه (ال �م �ك��ون��ة م��ن كأس ت ��رك س �ي� ٌ زجاجية ،وطقم أقالم ،وشهادة تفوّق) ملقاة في الشارع وعاد إلى البيت ..رافضاً تلك الجائزة التي هبطت به من المركز األول –الذي اعتاد خامس ال يذكره إ ّال بترتيبه ٍ مركز ٍ عليه -إلى الخامس (واألخير) بين إخوته الذكور..
***
مدرسته فقط ،بل على مستوى م��دارس مكة
المكرمة جميعها ،وهذا ما جعله يتأهل للدخول ف��ي مسابقة ك �ب��رى ،نظمتها وزارة المعارف آن ��ذاك ،يشترك فيها المتفوقون دراس �ي �اً من
مختلف المراحل ومختلف مدن المملكة.
ال له، سيف مثي ً ٌ لاب��يّ ل��م ي � َر ك��ان حش ٌد ط� ّ
في قاعة كبرى – ربما كانت قاعة جامعية أو
ما يشبه ذلك -وكانت األسئلة كثيرة ومتنوعة ومتعددة األشكال ،شفه ّياً وتحريرياً ورياضياً، وكلها بعيد عن المناهج تماماً.
وفي العام نفسه 1400ه �ـ ،أيضاً ،كان على جميع سكان األح�ي��اء المجاورة للحرم المكيّ إخالء البيوت لصدور قرار بإزالتها تماماً وبدء التهيئة لمشروع توسعة الحرم. كان منظ ُر الناس وهم يغادرون بيوتهم يترك سيف غي َر ٌ دمعات حرّى تحف ُر في القلب ،وكان ٍ مصدّق لما يجري حوله :أهكذا إذاً؟ زمالئي.. أص��دق��ائ��ي وأع� ��دائ� ��ي ..ج �ي��ران��ي ..أصحاب الدكاكين ..الرصيف ..األزقة الترابية ..الكالب
دام امتحان المسابقة ست ساعات ،أو نحو والقطط ..ك ّل شيء سأودعه اآلن ولن أراه مرة
ذل��ك ،وظ�ه��رت النتائج بعد ع��دة أسابيع ،كان أخرى؟؟
اجلوبة -شتاء 1429هـ 33
كان والد سيف قد اشترى منزالً يبعد كثيراً ونهائياً تلك المدرسة التي كانت منتهى طموحه عن الحيّ األصلي ،ويحفر عميقاً في (المسفلة)
طيلة سنين دراسته االبتدائية ..سيغادر أمنيته
حيث ك ّل شيء بدائيّ هناك في ذلك الوقت.
بسرعة قاسية. ٍ القديمة
ربما كان للبيت الجديد فرحة أولى –وأخيرة-
وه �ك��ذا ك��ان��ت ق �س��وة س �ي��ف ع �ل��ى دراجته
تمثلت في زواج شقيقة سيف الكبرى (عواطف)
ال�ن��اري��ة ،ف��ي ذل��ك ال�م�ش��وار ال�م�ص�ي��ريّ ،فكان
التي كانت –وال تزال إلى األبد -األحب واألغلى يقود الدراجة النارية على سرعة 120كم في من أهله ..بعد أمه وأبيه اللذين لم يعيشا طوي ً ال الساعة ،وهو يأخذ الطريق الملتوي من (ريع في المنزل الجديد. سيف -في ما بعد -أن حتى ما ٌ واكتشف
بخش) حيث صخرة (المسخوطة) ،التي يعرف أهل مكة أن دوّارها من أخطر الطرقات..
كان يحسبها «فرحة» ب��زواج أخته ،لم تكن إ ّال
�ف ك��ل ذل��ك (ب�ب��راع��ة انتحارية) ت�ج��اوز س�ي� ٌ
عنواناً لفراق وحرمان من شقيقته التي غادرت
حتى وصل إلى الدوار المقابل لمتوسطة بالل
مع زوجها إلى الرياض.
بن رباح.
***
ال يزال العام 1400هـ في منتصفه ،حين كان ال بد لسيف من أن ينتقل من مدرسة (خالد بن الوليد) المتوسطة ،إلى متوسطة (بالل بن رباح).. ألن األولى ستزال تماماً كبقية أشياء الحي. سيف في أحد صباحات العام 1400هـ، ٌ ذهب ليستلم ملفه ال��دراس��يّ من متوسطة خالد بن ال��ول�ي��د لينقله إل��ى متوسطة ب�لال ب��ن رباح.. وفي طريقه بين المدرستين ،وهو على دراجته النارية –التي تسابق الريح -كان يمسك مقود الدراجة النارية بيده اليمنى ،ويمسك الملف الدراسيّ باليد اليسرى ..وبكل ما أوتي من قوة، الملف من شدة الهواء ..وكانت في ّ حتى ال يطير حلقه غصة جارحة ،إذ لم يكن يتصوّر أبداً أنه سيغادر المدرسة التي طالما حلم بدخولها..
هي ذي شاحنة ضخمة تظهر في وجه سيف، يميل عنها – وهو المحترف في قيادة الدراجة النارية -بحركة بهلوانية ،ولكنّ الهواء العاصف يدفع الملف الدراسيّ من يد سيف إلى وجهه ليغطي عينيه.. سيف تلك الشاحنة ،وخلفها شاحنة ٌ تفادى أخ ��رى ،ول �ك��نّ األخ ��رى الم�س��ت ط��رف مؤخرة الدراجة المسرعة التي راحت تطير في الهواء ثم تتقلب ..فمرة سيف فوقها ومرّات هي فوقه.. إل��ى أن حذفهما التقليب إل��ى السكة األخرى حيث سيارة (وانيت) محملة بأسياخ الحديد، فانغرس سيخ في لحمة ساق سيف ،وانغرس سيخ آخر في فخذه ،وكاد سيخ ثالثٌ أن يفقأ عينه لوال لطفُ الله ..فكانت شجة في رأسه. ص��وت الحادثة ك��ان عظيماً ،فهرع مدرسو
سيغادرها قبل أن يشبع منها ..سيغادر تماماً المتوسطة (ال�م�ش��ؤوم��ة) إل��ى م��وق��ع الحادث،
34
اجلوبة -شتاء 1429هـ
فما أن رآهم سيف – وكان قد رآهم في زيارته أحداً من أهله ،مضى على بقائه في المستشفى
السابقة ألخذ موافقتهم على نقله -حتى صار
أكثر من يومين ..كان هو واألطباء يحمدون الله
يناديهم ليقدّم لهم ملفه الدراسي الذي اصطبغ أن األسياخ المست العظم مالمسة طفيفة ،ولم بلونين ال ثالث لهما :سواد اإلسفلت ،واحمرار تحدث أي كسر ،ولله الحمد. دم سيف..
أخذ أحد المدرّسين الملف من يد سيف ،مع
سيف يبكي من شدة الفرح ،فأكثر ما ٌ كان كان يخشاه أن يتكرر ما حدث حين كُسرت يده
دهشته بتمسك الفتى بملفه على الرغم من هذا اليسرى ،وتتكرر معاناة أمه الحبيبة معه. الحادث المهول! لم يكمل سيف اليوم الثالث ،حتى قام عن وح� ��اول آخ� ��رون أن ي�ح�م�ل��وا س �ي �ف �اً ،ولكنّ السرير األبيض ،وانتزع المصل من يده ،وهرب
األس�ي��اخ الحديدية كانت مغروسة ف��ي أجزاء من المستشفى عائداً إلى البيت.. من جسده الضئيل (خصوصاً الجانب األيسر) ذلك البيت «المشؤوم» الذي لم يبق أح ٌد فيه سيف «مفرفراً» من شدة األلم ،حتى ٌ فـ ..تحرّك انتزع جسده من تلك األسياخ ،فبادر أحد فاعلي الخير بأخذه على سيارته إلى المستشفى..
سيف في أي مستشفىً ٌ وهناك ،حيث ال يدري
هو ..ضمّد األطباء ما استطاعوا من جراحه،
وأغلقوا ما استطاعوا من الفوّهات التي فتحتها سيف يتماثل ٌ األسياخ في جسده النحيل ،وصار
للشفاء قليالً.
ح�ي��ن ب ��دأ س�ي��ف ي�ش�ع��ر بنفسه ويستطيع
ال�ت�ح�رّك ،ك��ان الكثير م��ن األط �ب��اء والزائرين
يأتون إليه قائلين :سمعنا عن حادثتك ،ونريد
أن نعرف كيف استطعت ان�ت��زاع األس�ي��اخ من جسدك؟ هل كنت تقول (الله أكبر)؟!
كان سيف بمفرده في المستشفى ،لم يخبر
على حاله..
سيف يتصوّر أن البيت كله ٌ فبعد أن ك��ان – خ �ص��وص �اً أم ��ه -ف��ي ف ��زع وخ� ��وف عليه وبحث مستميت عنه (كما كان يوم ضياعه في ٍ عرفات).. ه��ا ه��و ي��دخ��ل ال �ب �ي��ت ب �ج��راح��ه ف�ل�ا يجد أحداً. وبعد س��ؤال ال �م��ارّة وال�ح�ج��ارة والحيطان، تبين له أن أهله كلهم يتواجدون ه�ن��اك ..في المستشفى نفسه الذي هرب منه ..يتواجدون ودم��وع �ه��م ع�ل��ى خ��دوده��م ملتفين ح ��ول األم العظيمة (خ��دي �ج��ة) وه ��ي ت��رق��د ع�ل��ى سرير المرض والموت..
( )1المدخل الخامس إلى الفصل األول من سيرة (سيف بن أعطى) .وقد نُشرت المداخل 4 -1في العدد 16من مجلة (الجوبة). < كاتب وروائي من السعودية.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 35
ليس متاما يا أمي > جمال املوساوي
<
ش��������ع��������ر 36
ال ،ليس تماما يا أمي،
أنني أحضن الكون بين شفتيَّ
تظنين أنني سيء الطبع إلى هذا الحدِّ
كما قد أدَّعي في لحظة انفصام
وَأنّني مولعٌ بالهتاف للفراغ
أو أنّني أوشك على القفز
وأنّني ال أعرف الطريق
في مهاوي الكالم.
التي ينبغي أن تكون طريقي،
ال ،ليس تماما يا أمي،
وأنّني أسرف في الطاعة للظاللْ
مخطئ ٌ لكنني
وأنني بال شبيهٍ في البرية.
األقل. ّْ مقنع على ٍ أو غيرُ
ال ،ليس تماما يا أمي،
السماء البعيد ُة مرمى خطايَ
مخطئ. ٌ لكنني
واألرض نَعْ لي، ُ
ال داعي لتسفيه حسن ظن ِّك،
لذلك أكتنز السحاب لسفرٍ
فالمسافة رفيعة إلى حدّ التالشي
محتملْ
بين ظن ِّك وما أريد،
وأشج ُب صداقتهُ للريحْ . ُ
وخطواتي ضئيلة
صرنا نقيضين :أنا والريحْ ،
ويدي،
أستبطئ العم َر
ما في يدي حيلة كي أركِّب العالم
وتسرق سنواته
كما يحلو للغيمةِ التي ترهق كاهلي.
تباعاً.
ال ،ليس تماما يا أمي،
ال ،ليس تمام ًا يا أمّ ي،
اجلوبة -شتاء 1429هـ
بدأت ،أنا اآلخرُ ،انجرافي نح َو الهاوية، ُ
أحالم ِك. ِ التي لم تكنْ سوى
وتماما لما لو في قصةٍ ملفقةٍ ،
ال ،ليس تماما يا أمي،
أبيض كغمامةٍ ُ وجهي
أنّني أشحذُ السنوات من الدنيا
وضحكتي تسخرُ من الصباح
وأنَّني أمعنُ في التسكع داخل مدار اللغةِ
حيث الفرح لم يعدْ مجدياً ،كما كانْ .
ُدرك المعنى كيْ أ َ
بدأت يا أُمّ ي، ُ
وكيْ أعثر على نصيبي من غَ نِ يمةِ الكالمْ.
األرض ِ تركت أحالما لتنْمو في ُ
ال ،ليس تماما يا أمِّ ي،
تركت الشمس تمعن في قسوتها، ُ أمسك الكون من حاجبيه الك َّثيْنْ . ُ وانجرفت.. ُ ال ،ليس تماما يا أمي،
مخطئ ٌ لكنني أدَّعي أنَّ الحياة صغيرةٌ إلى حدِّ البشاعَ ةِ
كيف أصدِّ قُ
ُؤس وأنَّ العا َل َم شديدُ الب ِ
الحد ّْ قاس إلى هذا أنَّني ٍ وأنَّني سيء الطبع ،تماما ،كما تظنين العصيان ِ رف في مس ٌ وأنّني ْ
رك سقف األحالمِ ال يُ دْ ْ َ أنَّ
ومصاب بدوارْ، ٌ بينما األمرُ ،في النهايةِ ،
لظالل غامضةٍ ، ٍ وفي الطاعة
الطبع ِ أنَّك ،يا أمِّ ي ،تظنّين أنَّني سيّ ءُ
وأنّني
وأنَّ أحالمي مسيَّجةٌ
ال أقْ وى
وأن َِّك تظنّين ،أيضاً ،أن بيدي حيلةً
السقف الذي وضعتِ هِ ِ على رؤية
وأنَّ الكونَ بينَ شفتيَّ :
ألحالمي،
كنْ .
aaa < شاعر من المغرب
اجلوبة -شتاء 1429هـ 37
سفين ُ ة اجلَدائل
إلى راحلة الهوادِج باحتماالت سليمان الديكان
()1
> أحمد الواصل
<
-1جديلة الرحيل: ُه َو ذاكَ رَحيْ ٌل ين َز ُع وت َر الوجَ عِ .. ُه َو ذاكَ رَحي ٌل ينحَ ُر ذاتَ الصم ِْت،.. فمن يَسْ تَطي ُع الرحي َل وحْ دَه؟.. نقض الترابُ ع ْهدَه ،ولم يحْ فِ ْر أسما َء الراحلين.. َ الصحْ راء - الهزَّاني( )2كان يَسْ ني القصائ َد على شفا ِه َّيسألون فاتح َة الطَّ ا ُعوْنِ .. ال رَحْ َمةٌ.. ال جوعٌ.. أم سَ ن ٌة للحُ زْنِ في ذاكِ رة ِح َّصة( ..)3؟
-2جديلة الحنين: َّاحل َة.. َقص لَكَ هَ ِجيْ ُن ال َموْقِ دِ حُ ل ُ َم ال َمرْأ ِة الر ِ ي ُّ « :يا ول َع األحاجي،.. يا حني َن النوق األخيرة».. إليكم يا ُملْتَفِّي األعناقِ :.. « َويْاله ..لتَعْشُ بَ الروحُ،..
38
اجلوبة -شتاء 1429هـ
وياله ..لتَ ْعرَى فيك الروح» ..
و ْقعٌ..
َويْالهِ ..لتَ ُد ْو َم أم تَطْ غَى في رَحيْ ِلهَا هذ ِه الهَامَاتُ ؟
و ْقعٌ..
هَ امَاتُ الحُ زْنِ لِجَ دائلِ ال َمرْسى اآلتي..
-3جديلة الشبق: يحنُّ عليْكَ هذا النخْ لُ، ال ِ صهيْ ُل القَافِ يَةِ ؟ فمِ ْن أيْ َن للفالحِ َ ْس التراب؟! أيُّ مسَ اءٍ جم َع له هم َ سَ قطَ تْ وحدها تمْرةُ الحَ مْد.. تمضي في طَ ريْقِ كَ وتَغِ يْبُ عَ نْكَ العُسْ بان صيف عمرِ كَ تمي ُل وتُ َهوِّم َ تَق ِْضي ن َِشيْ َداً للسَّ ع َِف وحَ نانِه ُكلَّمَا امتدَّ غابَتْ فِ طْ ن ُة الرَّجُ لِ ،.. فيَسَّ اقَطُ النبْ ُع مِ ْن قشور النفس ذات َمثُوْبةِ الشَّ بَق.. ِ
-4جديلة السبيل: ترْويْكَ األحْ جَ ا ُر عن َم ْملَكَةِ السَّ بَايا ُصغِ ي.. وت ْ وَجْ ٌه تنْبُتُ عليه ظنو ُن الخَ يْلِ .. ُصغي فت َِطيْرُ ..؟ أت ْ ش عَ لَيْه أمني َة العُشْ ِب.. تَنْقِ ُ عمَّا احْ تَك َم واسْ تَباحَ تْه النجوى فال سبي َل للندى..
و ْقعٌ.. خَ زيْن ُة الهَوى تَنْك َِسرُ.. و ْقعٌ.. و ْقعٌ.. و ْقعٌ.. احلِ ال ُعمُرِ سَ َهرٌ.. لِسَ ِ و ْقعٌ.. و ْقعٌ.. و ْقعٌ.. ذهبٌ يُدْريك عَ ْن حَ دي ِْث الشَّ قَاءِ وسَ لْوَاه.. رَحي ٌل يَ ْد ُفنُه رَحي ٌل بين سهْمِ البحْ رِ ومكيد ِة القاع.. رباب ٌة تخر ُج من المَاءِ ونساءُ ال َبدْو يَخْ ب ْز َن ال َغيْ َم عصاكَ ، تُم ِْسكُ َ فال تَ ْقوَى على ترتيل هذه اللغة: يف مِ َن اإلعْ جَ از» .. «حَ بْ ٌل مِ َن البَالغةِ وسَ ٌ
-5جديلة النخل: تكِ ُّف بيديك شَ ْه َوةَ ال َّرمْلِ .. ص ْولَةِ البحْ ر َو عَ ذَارَى اللُّ ْؤلُؤِ ..؟ ماذا عن َ كَشفَت ا ْمرَأةٌ خدَّ ها عليه ِحيكَ مَجْ ُد السُّ وْر.. والصبْيَا ُن َملُّوا نجْ َم االنتظار.. ِّ
ال حياةَ لعينيكَ بين التَّيهِ وغُيومِ هِ
إنك تَتْرُكُ َهذَا وتَرْحَ ُل قبْ َل أن تن ِّو َخ بهم مِ لَّ ٌة في ال َمهْلِ
سَ ماؤك مَجْ بُول ٌة بشذا المسْ حُ وب..
أو شَ هادةٌ في سوقِ الخَ يلِ ! ..
< شاعر سعودي ( )1سليمان الديكان :موسيقي كويتي. ( )2محسن الهزاني :شاعر نبطي من الحريق. ( )3حصة السبيل ،جدتي ألبي.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 39
عـزْلـة مـد ُ ن ال ُ ُ
«مقاطع من قصيدة طويلة» > د .شريف ُبقنه ّ الشهراني
<
11
حال تَسَ ير. ..على كُ لّ ٍ
واتصال ثم ْ َموت، ٌ «مولدٌ
العمْ القة، تلك ال َق ّو ُة ِ
الحقَائق تلك هي كُ لّ ّ َ
تسيرُ في َصمْ ت.
حين ُتد َُّق المَ ساميُ ر في النّعوش» 1 عن المَ ارقين.. عيونُهم الحَ زينَة السنون تقهرهُ م ّ
40
12 الشقاء ينوس فيه ّ ُ قاطبةً بحبور األرض ِ ليظفر ُ روحه ..ينغمرُ العالَمُ في ِ
أجال ق َِصيرة ٌ وتمزّقهُ م
أحاسيس فيـّاضة. َ
و الحياةُ..
لم يَعْ رف أنّه بُركان
حال تَسير، على كُ لّ ٍ
إ ّال عندما فارَت حمَ مُ ه!
و تظلُّ كذلك
ميّت من قام النّهار
تُغرّر بكلّ جيل
ونام الليل كلّه،
وتواجه كلّ َفرْد، ُ
كُ تِ بَ المَ عْ نى على االنسَ ان
اجلوبة -شتاء 1429هـ
..محكومٌ عليك
فال يشتهي شيئ ًا
أن تهبَ َبدَنك عي َد األرْض..
سوى العُ زلة.
أن ترت َِجل العُ مْ ر كلّه
مجا ُز الّلحظة تست َِهلُّ ختامَ ها؛
إرادَة خَ يّرة..
على أن ت َْسكبَ كلّ شَ يْ ءٍ
تَشكُ رُ رُغْ َم كلّ شيْ ء.
رؤوسنا.. ِ فوقَ
طوبَى لالنهائيّ ..
الصيامُ عن الشعر، ّ
المَ كْ نون في صدرك.
13
أقذر وسائل التسلّط على الذات.
14
كلما تخاذَلَ المنطقُ وأفلسَ ت ِحنْكته.. النوائب ِ الشعرُ بزمام يمس ُك ّ ُ ويسجرُ تنّو َر القصيدةِ ّ وَهَ ج ًا كون ّياً.. بمنْسأة الغواية! أهش ِ ّ
ال َي ـوْمُ والسماء. عروس األرْض ّ ُ ناك مُ هَرو ًال عندَما أخرجُ هُ َ على العُ ْشب ال َقزَحي
تفرّج كُ ربتي،
في َبنَفْ سَ ِج الغَسَ ِق،
آنس في فراديس جنتي اآلن ُ
وأشعُ رُ بسَ ديم هذا الفَضاء
وجحيمي بع َد غَ ٍد،
ينداحُ من بين كَتِ فيّ
وما َبيْن ذَلك
وتحت قميصي؛
على حافّ ة الرّؤيا أتضاعف تقديرات مُ تجاوزة. الشعر، ّ يان أثقلَه التّركيز أثملُ من نِ ْس ٍ
الت أسلّمُ روحي للمُ رسَ ِ تَذْ روني أسفا َر إبْتهاالت، أترك لروحي أن َتتَنازلَ ُ
مزاجٌ كُ لّـي لَهُ األحياء واألموات
عن كلِّ أحزانِ ها..
يسخرها لهُ ال َكوْن وحدة ّ
وتغْ ِفر كـلّ اآلالم.
< شاعر سعودي. < (مُد ُن ال ُعزْلة) يصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)2007/
اجلوبة -شتاء 1429هـ 41
األمازيغي > عبدالرحيم اخلصار
<
أنا حفيد الملك األمازيغي القديم
غير أني حين أنظر إلى وجه جدتي
الذي مات غدرا بطعنة من أيدي الرومان
كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر
هوايتي أن أضرم النار في الجليد
قالت لي فيما مضى أنت حفيد الجبال
وأبني المصائد لطيور ال تصل األرض
فاتجهت إلى الجنوب ,كما يتجه «أركيولوجي»( )1إلى
يخطر ل��ي أح��ي��ان��ا أن أخ���رج سمكة م��ن ال��ن��ه��ر ثم صحراء بال خريطة أعيدها إليه
سألت الشيوخ والعرافين والرعاة والحكماء
وأق�����ف ع��ك��س ال��ت��ي��ار أن��ت��ظ��ر م��وه��م��ا ن��ف��س��ي أني سألت مطاريد الليل والباحثين عن الدفائن وحفاري سأصطادها يوما ما
اآلبار
يخطر لي أحيانا أن أفتح أقفاصا في السطح
تقفيت آث��ار الساللة في السفوح وعلى مقربة من
وأطلق العصافير التي أفنيت سنوات في رعايتها.
األفالج
أنا حفيد الملك األمازيغي القديم
ف���ي م��ن��ع��رج��ات ال���ق���رى وم��ش��اع��ات��ه��ا ف���ي الكهوف
ال أعرف جملة من لغتي ،ال أذكر شيئا عن أسالفي
والمداشر والمغارات
سوى أن جدي كان راعيا في جبال األطلس يطارد لم أسمع س��وى رج��ع صوتي كهدير رك��ام من الثلج
42
قطعان األروية
ينهار
وعبر منحدرات اللوز كان يركض بالليل والنهار
خبرتني عجوز تتكئ على عكازة ومئة عام وأكثر
ناصبا شباكه وفخاخه لطرائد الوادي والغابة،
أن جدي كان حطابا ،لذلك حمل فأسه قبل الرحيل
وكباقي النازحين ستقذفه المجاعة إلى السهول
وفي حمأة الغضب أسقط شجرة العائلة.
ليصلح أواني العرب ،ويتغزل بامرأة ستغدو يوما ما
أنا حفيد الملك األمازيغي القديم
جدتي.
ف��ي داخ��ل��ي تركض قطعان م��ن الجواميس إل��ى أن
أنا حفيد الملك األمازيغي القديم
تتعب
ال كتاب يذكر شيئا مما أنتظر
تتعارك النسور ،ويتناثر ريشها بين الجبال
كل الكتب تروي دائما عكس الحكاية
تعوي ذئاب في أكماتها
اجلوبة -شتاء 1429هـ
بيد أن صوتها القاسي ال يجتاز الوجار
خوفا من غدر السفوح
في الداخل تموت أفكار كثيرة بنيران صديقة
لذلك أحيا في غرفة على السطح
والدي ينظر إلى صورة أبيه المعلقة فوق الدوالب وتسقط من شفتيه الكلمات ثقيلة في جوف الليل لم تقطب حاجبيك وتحمل الخنجر والبندقية وال أحد يطاردنا اليوم!؟
أقرأ كتابا عن شعوب المايا وأسمع أغنية ألحفاد آشور أطيل النظر إلى السماء وألملم شتات النجوم
لماذا تركت اآلخرين وتدحرجت من الجنوب
أجلس مثل بومة على كتف العالم
مثلما تتدحرج صخرة من أعالي الجبل
وأخاف أن أسقط فتدهسني أطرافه
وتتفتت على جراف في ضفة الوادي؟
أخ����اف أن تجتثني ي���د م���ا وت���ط���وح ب���ي إل���ى سهب
أنا حفيد الملك األمازيغي القديم لم أرث عن أسالفي سوى نظرتي المرتابة وإحساسي الدائم بأني أمشي على رصيف يرتج وأتكئ على حائط سينهار
سحيق. أنا حفيد الملك األمازيغي القديم الذي ساد هذه األرض قبل ألفي عام
أم��د ي��دي إل��ى ظلمة ال نهاية لها ،وأسبح في مياه والذي ال أملك له صورة على جدار غرفتي غادرة فماذا أفعل فيك أيها العالم وكل أمالكي قلم وورقة؟ أسهر الليالي ،أشذب الكلمات أناشد صورا في األلبوم أن ترقص معي
فقط أتخيله شبيها برجال األساطير بصولجان من عاج الفيلة وتاج من الريش والذهب رأيته مرة في منامي بعمامة رجل كردي
وأفتح نافذتي في عز الشتاء على نوافذ مغلقة
ربما أشياء كثيرة تربطني باألكراد
يركض الناس متلهفين باتجاه الحياة
غير أني أتنفس هواء هاته البالد كما يحلو لي
وأنا يجرفني التيار باتجاه حياة أخرى
وأدب كسائر الخلق في المنحدرات ُّ
يهتف الناس بأسماء بعضهم كما لو أنهم قديسون
لكنها رغبة الماء في أن يعرف نبعه
أفضل أن أحيا صامتا على أن أهتف باسم أحد وأنا ّ أن أكون أعمى على أن أبصر مواكب العته تمر بزهو أمام بيتي
قبل أن يجرفه الشالل رغبتي أنا في أن ألتفت إلى الوراء
أن أكون أصم ًا على أن أسمع نشازك أيتها الحياة
كي أجلو وجهتي
ربما اعتاد أجدادي على الجلوس في أعالي الجبل
لتبدو واضحة مثل صورتي في المرآة.
< شاعر من المغرب. ( )1أركيولوجي :عالم آثار.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 43
حدثيني > علي محمد آدم
<
حدثيني كيف أشجتني المزاميرُ وقلبي في رماد العشق كالشطآن أمسى حدثيني طالما أصغيت للذكرى تعابثني تعاتبني تهاتفني تؤرجحني لعلي حين تجرحني رياح الوقت أستسقي بريق اآله في صمتي وأنسى حدثيني عينيك ِ سافرت في ُ كلما واحتدمت غيوم الدمع تمطرني وتأسى حدثيني كلما أشعلت بالكلمات واآلهات كالمزمار ِ نوح الناي تفتح لي نوافذها كمرسى حدثيني ألهبت باإلنصات ُ كلما للناعين ذاكرتي لتقسى حدثيني هل يموت الورد أم يتلو الذبول وينطوي في غابة اآلالم ..محروم ًا وتعسا حدثيني كيف عاد الناي ذاكرتي < شاعر سعودي.
44
اجلوبة -شتاء 1429هـ
وفي شفتيك قافلة تعيد الوقت مقرونا بأوجاعي وغيم الدمع باألحداق أمسى حدثيني لذة اإلنصات تمنحني سكون النفس كالظمآن ينعشه خرير الماء ما دامت ظالل العيش شمسا حدثيني أسمعيني رقصة األنفاس كالحمى تجرجرنا إلى الشرفات واللحظات تلهبنا كأن العمر لعبتنا معلقة على جدران قصر الحب قنديال وبؤسا حدثيني إنني أبحرت في شفتيك واحتدمت سيول الخوف تجرفني وتأسى حدثيني إنما األيام والساعات في روحي وفي عيني عمياء وخرسا حدثيني إنها اآلالم تجمعنا توحدنا وفي جنباتها حفالتنا تحيى وهذا البوح يمطرنا ترانيما وحسا.
قصائد قصيرة > يوسف عبدالعزيز
<
الشاعر أعمال ّ
التّ مثال
زجاجات ٍ حقلَ
طعينات على الرَّ ف ٍ بومات ٍ خمس ُ
يترجرجُ فيها ال َهذَيانُ
رأس مكتهلٌ لي ٌ
قمري ويوارينَ ٌّ ُيغ َّطيهنّ دمعٌ
وس َّل َة أخطاء
ومريض ُ
الكالما.
كشحاذٍ ّ كا َن العُ مرُ الوغدُ يمرُّ
بومات ٍ خمس ُ
معتمرٍ فوق الرأس حذاء
الشاعر تصايحنَ على مائدةِ َّ
في الغرفةِ
َّيل في الل ِ
حاولَ أن يكتبَ شيئ ًا
تسقط كسماءٍ عاليةٍ حين ُ طائشةٍ
َونَقَّ ْر َن
الصورةِ س بهدوءٍ صندوقَ ّ فتَحَ َّس َ
تفيض ُ
الظالما. ّ
أغمض عينيهِ َ
ومريض ُ رأس مكتهلٌ لي ٌ
فانسَ َكبَت جرَّ ُة موسيقى
قلت :سأقطعُ هُ صباح ُ ٍ ذات
سيرة ذاتيّ ة
��س شتّى، رأس م��ح��ش��وٌّ ب��ك��واب��ي ٍ ٌ وحروب ٍ ّات ب���ال���ري���ش، ون������س������اءٍ م�������زه�������و ٍ وموسيقى
السكّ ين أمسكت ّ ُ وهنا
الشاعرُ تبن أيّامي ،قالَ ّ حَ فنَةُ ٍ
واشتعلَ الوردُ على الجدران
تلهث خلفي كالكلبَة وحياتي ُ
رب شفاهٍ قُ ربَه ورفرف ِس ُ َ
مرتبكاً ،ووحيد ًا
ما جدوى ذلك؟
كان يُقل ُِّب أوراقَ الماضي
الشاعرُ ،ورمى قالَ ّ
صاحوا فرحين:
هرمات ٍ خمس نساءٍ َ فيرى
ِمن نافذةِ الغرفةِ
سقط التمثالْ َ
األرشيف ْ في
قلبَه.
سقط التمثالْ . َ
يت األم َر سريع ًا سوَّ ُ فتدحر َج في الحال الضجرين لكنَّ النّاس َّ
< شاعر من األردن.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 45
(أخيرا وصل الشتاء) لعبدالرحيم اخلصار: كفن االنتظار املطروز منذ الوالدة
> يونس احليول
<
حتى قبل صدور مجموعته الثانية التي اجترح لها عنوان (أرى وأكتفي بالنظر) بأيام ،ما زالت باكورة إنتاج الشاعر المغربي عبدالرحيم الخصار (أخيرا وصل الشتاء)( )1التي صدرت عن منشورات وزارة الثقافة المغربية سنة 2004لم تحظ بااللتفاتة النقدية ،المتناسبة مع بصمة هذا الشاعر ،وحضوره في المشهد الشعري المغربي الجديد. والحقيقة أن الخصار يستمر في شق مغامرته اإلب��داع�ي��ة ،التي بدأها في التسعينيات ،من القرن السابق بعدد من المنابر الشعرية المغربية والعربية؛ محاوال تمييز صوته عن شعراء جيله باإلخالص للنثر كوسيلة وحيدة لبناء خطابه الشعري، ذلك أن قصيدة النثر عنده تقف عند التخوم القصوى ألجناس أدبية أخرى في مقدمتها السرد ،مسهما بذلك في تحويل النظر عن المفهوم الثابت للقصيدة .ففي فعل الكتابة عند الخصار ،عامة ،وفي مجموعته األولى ،خاصة ،تتعدد األصوات وتتقاطع ،ويتحول السرد إلى أحد إمكانات تفجير اللغة ،أي جعلها قابلة الستيعاب أفق الرؤية ،بانتقالها من السياق الشعري إلى سياقات خطابية أخرى ،أو ما نسميه بالتعتيم األجناسي(.)2
ن���������ق���������د 46
تتأسس مجموعة (أخيرا وصل الشتاء) على نصوص مختلفة األحجام ،تلحمها تيمة ال تخطؤها العين ،ويكاد ال يخلو منها أي نص من نصوص الديوان ،وهي تيمة االنتظار التي يفصح عنها العنوان سريعا ،انطالقا من ركوبه على خرق تركيبي فاضح ،يتجسد في ترتيب جديد ومختلف ألج��زاء الكالم ،بتقديم كلمة (أخيرا) المفترض نحويا أن تتذيل الجملة ال أن تتقدمها! هذا الترتيب الذي هو تبئير للكلمة، وتسليط مقصود النتباه القارئ عليها ،ليدرك أن هذا الشتاء لم يصل إال بعد انتظار مرير وقاس ،عاشت فيه الذات الشاعرة كل أشكال الخوف والتوجس ،ليس فقط
اجلوبة -شتاء 1429هـ
من موت أشجار الكستناء والطرفاء والصفصاف، وأزهار المارغريت والغاردينيا والوستيريا ،التي تؤثث فضاءات قصائد المجموعة ،بل أيضا وأساسا من يباس الحب في قلب المرأة ،التي ينتظرها بالرجاء نفسه ال��ذي يحمله على ال�ق�ط��رات األول ��ى لفصل الشتاء .نقرأ في نص (لست وسيما بما يكفي): صوت الكناري في القفص يحدث أنك قادمة من الصحراء منذ أزيد من فصل وأنا أنتظر رجاء ال تتأخري فمن فرط الحرارة قد يجف الحب في قلبك (ص)38 إن قسوة االن�ت�ظ��ار والنظر إلى األف��ق بخوف من أال تحمل الغيوم س��وى تبشير م��زي��ف ه��و م��ا يجعل ال�ش��اع��ر ي�ح��دق ف��ي ال�م��اض��ي بنوع م��ن اليوتوبيا ،حيث ك��ل ش��يء كان على ما يرومه .يقول في نص (خارج القفص): هامتي محنية باتجاه الماضي وعيناي تحدقان في الذي راح من تلك الشرفة كانت تطل فتاتي الصغيرة بشرى ،ذات التنورة الحمراء قرب عمود الكهرباء المائل (ص)15 أو يحتمي بالمتخيل ،حيث نافذة الالوعي تشرع أكثر من مرة في المجموعة ،ليتسلل عبرها الشاعر فاردا ذراعيه للحلم ،هاربا من سطوة يوم جاف ذاق فيه القسوة من أكثر من كأس ،وتلقى في دروبه وابال من الصفعات ،إنه في الحلم فقط يرى ما يريد: هل كنت تلبسين فستانك األبيض الشفاف أم أن أطرافك كانت مغطاة بالثلج؟ لقد كان الضباب كثيفا
لذلك لم أرك جيدا وأنت تعبرين كالبرق في حلم البارحة (ص)38 إن الشتاء المنتظر كمخلص للشاعر من عذاباته يتأخر كثيراً ،على الرغم من النهاية المتفائلة التي يعلن عنها عنوان المجموعة ،وال حدائق الماضي أو جنان الحلم قادرة في هذه الحالة على الصمود أكثر، ف��ي وج��ه واق ��ع ال ي �ت��ورع ع��ن عزل الشاعر أكثر واإلم�ع��ان في إيذائه؛ لذلك يبدو االنتظار هو من جديد الخيار األوح��د للشاعر أم��ام عدم قدرته -هو الوحيد األعزل المليء جسده بالرضوض -على مجابهة ج �ب��روت ال �ح �ي��اة ،وإن ك��ان��ت بعض س �ط��ور ال �م �ج �م��وع��ة ت�ح�م��ل تمردا على ال��واق��ع وت�ع��زف نغمة انتفاض على الوضع ،سرعان ما تخفت أمام ت��وق ال��ذات الشاعرة إل��ى السكينة واكتفائها بعزلة تستسلم فيها لآلتي وترقبه بعنق مشرئب ،لنقرأ هذا المقطع من نص (ال أحد يطرق الباب): أعرف أيضا أن الفراشة التي كنت أوزع أجنحتها على رفاقي ستعود إلى حينما تزهر أشجار الخيزران وفي انتظارها في انتظار أن تعود دون أن يراها رفاقي أطفأت مصابيح العالم وأشعلت قنديال صغيرا في قلبي (ص)33 إن م��ا زاد تيمة االن �ت �ظ��ار ن �ت��وءا ف��ي جغرافية المجموعة هو الطابع السردي ال��ذي يلقي بظالله على أغلب القصائد ،خاصة وأن فعل االنتظار غالبا ما يكون ردة فعل سلبية تجاه معاكسة الوقت لرغبات الشاعر ،ردة تنتهي بها النصوص ولكنها ال تشكل خالصا ل��ذات يتضح أنها تقع أحيانا فريسة نزوع
اجلوبة -شتاء 1429هـ 47
م��ازوش��ي تستلذ م��ن خ�لال��ه ال�ع�ك��وف ف��ي صومعة االنتظار ،الذي يبدو أحيانا وكأنه مكتوب في لوحها المحفوظ ،فحتى الشتاء المفترض أن يأتي مبرقا مرعدا محمال بسحب الخالص ال يفعل س��وى أن يعمق وح��دة الشاعر وعزلته ،نقرأ في نص (أخبئ حزني في شجرة الطرفاء): وحين يهزمني االنتظار ويجمد الثلج قدمي الواقفتين ألجلك أعود إلى حجرتي مستأنسا بنحيب البرد والمطر (ص)10 ول�ع��ل ال �ق��ارئ م��ن هنا يستنتج أن االن�ت�ظ��ار في مجموعة (أخيرا وصل الشتاء) ليس ذلك االنتظار ال��ذي يعيشه الجميع ،ويتبدد بوقوع الحدث الذي نترقبه ،إنه انتظار آخ��ر ،انتظار من أجل االنتظار، انتظار هدفه المضمر تأجيل اآلتي ،أكبر وقت ممكن خوفا وتوجسا من ذاك اآلتي الذي يمكن أن يشكل خيبة مدوية ،ويقود إلى فراغ داخلي شاسع .فحتى في نص (رجل الثلج) الذي قد منه عنوان المجموعة ككل ،نجد أن انتشاء الشاعر بسقوط المطر بإشعال النار في المدفئة وتعليق المصابيح وأجراس النحاس والشرائط الملونة على شجرة العيد ،ووضع الشموع الحمراء على أط��راف الطاولة ،سيتحول إل��ى فرح مؤجل ومنسي بسبب التوتر ال��ذي يصاحب النظر إل��ى الساعة ،وانتظار ق��دوم رج��ل الثلج ال��ذي يبدو أن��ه أخ�ل��ف وع��ده على غير ال �ع��ادة مسلما الشاعر إل��ى ف��ؤوس الحيرة واألل ��م( :أراق���ب ب��ن��دول الساعة وأنتظر ..لكن رج��ل الثلج لم يمر ،لم أسمع صرير عربته كالعادة ،أوه ،رجل الثلج ،لم يطرق النافذة ،ولم يهبني نصيبي من الهدايا) (ص.)48
إن (شتاء) عبدالرحيم الخصار إذاً شتاء مخادع،
يخاتل القارئ موهما إياه بكونه وصل أخيرا لكي يفك اللغز ،الذي يلقي بظالل غير مرئية على المسالك
التي تقود لإلمساك بمفتاح النصوص :لغز االنتظار، ال ��ذي يمسي ف��ي المجموعة ككفن ج��اه��ز ينتظر
فقط لحظة تأبين الشاعر لقطعان آماله ،الراكضة
بهمة صوب مهاوي اليأس ،أو ليس في أي حال من
األحوال المعنى الذي أراده الشاعر المغربي الكبير
عبداللطيف اللعبي حين ق��ال :ليس هنالك سوى االنتظار ولغزه واألسئلة ت��زدرد األسئلة ما يتبقى منها فلفل الذع ه��و طائر تحت اللهاة دليل على اللعنة تشكله الحجارة التي يقذف بها أكثر من مرة لتزجية الوقت االنتظار كفن مطروز منذ الوالدة(.)3
قد يكون السعي في عرف اإلرادة اإلنسانية هو
المحبذ ،والفعل المنظور إليه بعين الرضا ،انطالقا
من المتاع الذي خلفته في الذاكرة ممارسة الشعوب،
ولكن (األدب ،وح��ده ،امتدح االنتظار وت� ّوج��ه على ع��رش التمزق اإلنساني وأع�ط��اه قيمة ال تقل عن
السعي .االنتظار ال يعني الصبر أو امتحان أعماق
الكائن وإنما يعني ،أيضا ،الحيرة وانعدام اليقين،
والحيرة وانعدام اليقين هما ذهب األدب وفضته)(.)4 ربما من هنا وم��ن مناحي أخ��رى بالتأكيد تأتي
النغمة الحائرة في مجموعة (أخيرا وصل الشتاء)
لعبدالرحيم ال�خ�ص��ار ،النغمة ال�ت��ي أع�ط��ت لفعل
االنتظار طابعه القلق ،الذي بدونه يصعب اإلمساك بجمرة اإلبداع.
< كاتب من المغرب -1مجموعة (أخيرا وصل الشتاء) لعبدالرحيم الخصار.منشورات وزارة الثقافة لسنة .2004 (-2الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر) صالح بوسريف ،دار الحرف للنشر والتوزيع ،ط.2007 ،1 (-3شذرات من سفر تكوين منسي) عبداللطيف اللعبي ،ترجمة مبارك وساط ،منشورات الموجة .مارس .2004 (-4القدس العربي) أمجد ناصر ،عدد 1دجنبر .2006
48
اجلوبة -شتاء 1429هـ
ديوان «نحيب األبجدية» ل جاسم الصح ّيح :شعرية تتمرد على
األبجدية التي تضيق على رؤى الشاعر وعلى شطحاته الشعرية > أديب حسن محمد
<
الشي َء في الدنيا يعادل متعة اكتشاف شاعر ،فهذا بأعراف. الكائن الذي يُسلّي وحشة الوجود ،كالنباتات النادرة وع��ل��ى ال ��رغ ��م من التي تنتشر في بقاع األرض ال�ع��ذارى ،تحمل ألواناً أن ال��ن��اق��د ع � ��ادة ما مغايرة لكل ما يحيط بها ،وتنطوي على خصائص يكون محايداً إلى حد نادرة غير قابلة للتعميم والمداولة. البرود في تناول النص
األدبي؛ فإن بعض تلك النصوص تُخرج الناقد عن رزانته ،وتُدخله في دوامة العشق:عشق النص ال��ذي هو بصدده؛ وذل��ك نتيجة الركازة الجمالية الهائلة التي ينطوي عليها النص، والتي تشبع روح الناقد الباحثة أب��داً عن أي ملمح جمالي ينير النص.
إن الشاعر الحق هو ذلك الذي يمتلك رهافة العمل مع اللغة ،ويحلّق بالخيال إل��ى أبعد أبعد من حدود العقل البشري المادي ،هو ذاك الذي تبهج قصائده أرواح��ن��ا ،أو تُ��ده�ش�ه��ا ،أو تُشعل أح��زان�ه��ا النبيلة، وتعيد ت��وزي��ع خ��رائ��ط األس�ئ�ل��ة ،وتنبش مستقبالتنا الجمالية ،فنخرج من إسار كينونتنا المألوفة ،لنغدو كائنات أثيرية ،نتماهى في المفردات ،ونعيد تشكيل من هنا ،فإن الشاعر ما هو إال ذلك السهم العاشق القصيدة. الذي قد يخطئ أو يصيب دريئة الناقد .وال أحسب ال�ش��اع��ر ال�س�ع��ودي ج��اس��م محمد الصحيّح من الشاعر جاسم الصحيح إال ذلك الصياد الماهر الذي نصه بشباك خ��اوي��ة ،ب��ل بشباك مثقلة األسماء المتصدرة للمشهد الشعري السعودي ،ويشكل ال يعود م��ن ّ حالة شعرية متفردة ،تمتلك أس�ب��اب الخصوصية ،بصيد وفير مما تشتهيه البالغة ،ويرتضيه الجمال. ومفردات التمايز عن المحيط. تحتاج قصيدة «ري ��اح فلسفية» ال�ت��ي يفتتح بها والديوان المعنون «نحيب األبجدية» يعد السادس الشاعر ديوانه إلى وقفة نقدية متأنية ،ومتكاملة. في مسيرته الشعرية. فهذا النص المتّسق مع عنوانه منذ الكلمة األولى
«نحيب األبجدية» يقدم لنا حالة شعرية مختلفة ،وحتى نقطة النهاية ،ال يدعك تفلت منه ،أو تشرد عنه أراد لها الشاعر ذلك في نية معلنة من العنوان ،الذي لحظة واحدة. يشي بحالة شعرية تتمرد على األبجدية ،التي تضيق يبدو الشاعر متمكناً من موضوعه ،ويغذّي سرْدهُ على رؤى الشاعر وعلى شطحاته الشعرية. ّانة المنسوج على تفعيلة البحر الكامل بقافية رن ٍ وم���ا ي �ق��دم��ه ج��اس��م ال �ص �ح �ي��ح ي �ش �ك��ل محاولة هي الميم المضمومة ،بحيثُ يُشوّقكَ اللتقام السرد الستكشاف جانب آخر من اللغة ،حيث أن جموح خيال الشعري التقاماً متسارعاً لتصل بشغف إلى القافية الشاعر ،وتوتر المفردات المثقلة بأسئلة الوجود ،التي تليها ،وهكذا..
يشكالن تمدداً تضيق عليه قمصان اللغة ،فتتصاعد لغة شعرية شاكية متمردة ال تعترف بحدود ،وال تلتزم
وينتقل الشاعر بمهارة كبيرة من فكرة إلى أخرى،
اجلوبة -شتاء 1429هـ 49
فيجرحنا ،ويُحيّرنا ،ويحزننا ،ويُفاجئنا ،وهو يتص ّي ُد صوراً شعرية شديدة الحساسية واإليحاء.
استفزازياً ،وفي ذات الوقت يحقق هذا التقابل هدف الشاعر الفكري الصوفيّ .
تتميّز تجربة الشاعر جاسم الصحيّح بالتكثيف، مفردات ٍ «ريا ٌح فلسفية» نص صوفيّ وجوديّ بامتياز وقلّما نجد تجربة شعرية تحترم التكثيف ،وتبتعد عن وطقوس.. ٍ ومعان ٍ الحشو وعن اإلطالة غير المبررة ،هذه اإلطالة التي يفتتح الشاعر قصيدته بالكلمات التالية: تحدث غالباً بسبب انتهاء الدفق الشعري ،وإصرار في الخارج األعمى أتيهُ .. بعض الشعراء على إكمال النص مما يحدث فصاماً بين جزأين أحدهما عالي التركيز، كأنني من دون كلّ الكائنات وشديد اإليحاء ،واآلخر فاقد لتوتر الموت ِ لوحش ِ طريدةٌ مُ ثْلى الشعر ،ولحميميّة اندفاقه الجمالي ... األوليّ . وحدي كأنّي بائعٌ متجوّلٌ اكتهلت بضاعتي/... ُ وكهولتي منذ ص15
ي�ب��دو التكثيف ه�ن��ا نتيجة وعي عميق بماهية الشعر ،واحترام شديد لفرادته ،وافتراقه عن الكالم العادي، أو عن الوظائف األخرى للغة .ويبدو التكثيف في أشد تجلياته في رباعيات الشاعر ،يقول في إحداها:
فالشاعر ي�ق�دّم شطْ حاً صوفياً، يحاول فيه الخروج من جسده ،والعبور في سياحة روحية خالصة إل��ى روح «أنا منذُ اخضرارِ النفْ ِس الموجودات ..يُحاورها ،ويستنطقها، ب ُْستانيّها الذاتي. ويبحث ف��ي معانيها المُسْ تترة ،وه��و إل��ى ذل��ك على الرغبات من أعشاب لذاتي. ِ أقص زوائ َد ّ الرغم من جنوح الخيال في الصور الشعرية ،ال يقدّم الغوايات ..ص204 ِ وأمنعُ عن جذور الحل ِْم ساقي َة افتعال ٍ َعلة ،تتخشّ ب فيها اللغة ،وتتصنّع في حاالت مُفت ٍ ٍ مُضمَر ،إنما يُقدّم الحاالت بانسيابية ملفتة ،تجعل من وال أعتقد أن هذا النص يحتاج إلى أي توصيف اإلدهاش في نهاية كل صورة تحصيل حاصل ،يقول :خارج مفردات الشاعر نفسها ،التي تشع بالعديد من ال�ق��راءات الجمالية ،المنبعثة من المقدرة الفائقة األوقات في عُ مْ ري ُ /ما بالها تتصارع على توظيف جمال اللغة ،والخيال الخالّق في سبك عابث بغدي.. ٌ وأمسي جمل شعرية تضيء الروح وتبهجها. شئت التلفّ تَ للوراءِ فإن ُ ت�ح�ت��اج ت�ج��رب��ة ج��اس��م ال�ص�ح� ّي��ح ل��وق�ف��ة نقدية خشيت يطعنهُ األمامُ /!!..ص16 ُ مطولة ،لعلها تعطيها ما تستحقه ،وتضيء مسيرة هنا تُبنى الصورة الشعرية على التضاد أو التقابل ،هذا الشاعر على امتداد مجموعاته المطبوعة :ظلي المفردات المتعاكسة :األمس والغد ،األمام والوراء ،خليفتي عليكم ،عناق الشموع والدموع ،حمائم تكنس تتقابل ف��ي الجملة الشعرية ،وي�ح��دث ت��وت��ر شديد العتمة ،رقصة عرفانيّة ،أولمبياد الجسد. فيما بينها ،ما يعطي الصورة الشعرية طابعاً جمالياً
< كاتب من سوريا.
50
اجلوبة -شتاء 1429هـ
قراءة في رواية /عبده خال (فسوق) > د .عالي سرحان القرشي
<
حين تهيمن سدرة الفن على نسج رؤية إبداعية لعراك الحياة بأبعادها المختلفة :الحب ،حفظ البقاء ،صيانة السمعة ..كما في رواية «فسوق» لعبده خال ..تجد وجهاً مختلفاً .نقرأ فيهُ :عرْينا، مواجهة ضغوطنا ،فوارق الطبقات الجائرة ،استسالمنا لسدر العادة ،ودهس عربات اإللف والغباء.. وأظن مهمة الكتابة اإلبداعية مخولة بجدل ذلك ،وصياغة المسارات الحياتية في الحُ زم الرمزية التي يستوحيها الكاتب أو ينتجها؛ ألن الكتابة حينئذ تمعن في كشف الرؤية ،باإلبحار خلف تجاوزات الكشف ،وت�ج��اورات الحجب ،ورب��ط ذلك بالزمر اإلنسانية الكبرى ،المختزلة من تراكم وتكثف التجربة البشرية؛ ذلك ألنه – كما أعتقد – ال يكفي في التجربة اإلبداعية الوقوف عند سرد مسارات ما يجري ،والتعليق عليه ،وفق المواقف الذاتية األحادية ،على النحو الذي ساد في كثير من السرديات؛ إذ أن ذلك يؤول إلى سرد تسجيلي ،حتى وإن أمعن في كشف مناطق مظللة ومخبأة تحت ستار الجميل الحسن ،والجميل ومداراة العيب ،إذ أن كشف المستور والمخبأ ،تشترك فيه مثل هذه الكتابات مع تحريات األمن ،وكشافات الصحافة ..لكن عمل عبده خال هنا – كما في أعماله السابقة – يجاوز مثل هذا السرد إلى تعانق فني؛ تتمازج فيه العجائبية بالواقع ،والمتخيل بالجاري، وقراءة المبدع بقراءة المحقق ،والمخفي بالمشاهد والملموس. في عمل عبده خال هذا ،تدخل الضحية «جليلة» الحدث ،من خالل الجملة األولى في كتابة العمل ،حين يقول الكاتب :هربت من قبرها!! من هذه الجملة نجد أننا أمام لحظة مختلفة ،وتكوين مختلف :فالقبر موت ،وصمت ،ونهاية ،وإطباق؛ فهو نهاية حدث ،وبدء راحة لكثير من المشكالت، وتعتيم على كثير من القضايا؛ لكن ابتداء الكتابة بذلك جعل القبر مبتدأ الحديث ،ومبتدأ فصول الرواية ،مبتدأ إنشاء السيرة لهذه الضحية وتشعبات عالقاتها المختلفة ،فيؤول القبر إلى فضيحة، وتؤول المقبرة إلى مسرح حكايات منها تبتدئ ،وفيها تقبر ،تبتدئ منه ثم يطبق عليها ،فال يرشح منها إال أجزاء تظل تتنامى حتى تعود إليه لتكتسب من غرابة المنبع وقداً جديداً. تحمل الجملة السابقة تورية من الممكن أن تجعل القبر بفعل نمو سيرتها الكتابية على حوافه حياة هربت م��ن قبرها ف��ي الحياة ،ال��ذي أحكم الخناق ،وش��د ال��وث��اق على حريتها واختيارها وعواطفها؛ ليكون فضاء الجملة الموارى هو هذه الحياة التي نسجتها ،والحكايات التي امتدت بها، واألردية التي انتهكتها ،واألودية التي جعلت الكتابة فيها ،تفضح الستر الموارب ،وتكشف الكبرياء المفضوحة ،والكرامة الهشة. اسم الضحية «جليلة» تحمل هذا االس��م ذا ال��دالالت الفضائية لتتردى في جبروت الصوت
اجلوبة -شتاء 1429هـ 51
ال �ط��اغ��ي ،وأح��ك��ام ال �ع �ي��ب ،وال �ت �ص��ورات الممزقة، المعبأة بخياالت مختلفة منها البرئ القاصر ،ومنها الممعن في الخرافة ،ومنها السادر في نشوة التشفي واالنتصار ..فيكون ذلك منبئاً عن حال التردي الذي يغتال الفضيلة والكرامة ،ويجعلها عالماً لعمل روائي عنوانه «فسوق». شخصيتان رئيستان في العالقة مع «جليلة» حرصت الكتابة الروائية على أن تقيم فيها ج��ذوراً من هذه ال �ع�لاق��ة وت �ش��اب �ك �ه��ا ه���ي :األب / م�ح�س��ن ال��وه �ي��ب ،وش�ف�ي��ق الميت، ف ��األب ع��اش ضحية ح��ب منكسر، شهد مقتل عشيقته «جليلة» ولم يكن ليستطيع الدفاع عنها ،فسرى ذلك ذنبا في نفسه ،وجرحاً غائراً لم يبرأ منه ،سمى ابنته بذلك االس��م «أراد بتكرار االسم استرجاع حبيبته ،من موت مضى بها بعيداً ،فسمى ابنته بها» ص ،26لكن الحال لم يمض على ما أراد «ليعود اسم جليلة داالً على الرذيلة» ص.26 أما شفيق الميت ،الذي أخفى جثتها ،وحفظها في ثالجة ،ليخلو إليها ،ويبادلها هدايا المحب ،ويناجيها، فقد جدل العمل الروائي حياته من بين براثن الموت، حين جسد الكاتب لحظة سالمته من الموت الذي أودى بأبويه ،وح�ي��اة أخ��ر ،ف��ي ان�ق�لاب حافلة كانت في طريقها إلى المدينة المنورة ،إذ يقول الكاتب عن صاحبنا «استفاق محشوراً بين أشالء الجثث المقطعة والمهروسة ،كانت تغطيه ثالث جثث مقطعة األوصال، ومشدوخة ..ظل متهيجاً في نشيج محموم ..متشبثا بيد مبتورة وق��اب�ض�اً على الخنصر والبنصر معاً.. «ص .»29لنجد أننا أمام شخصية ضاقت عنها الحياة، < ناقد وأكاديمي من السعودية.
52
اجلوبة -شتاء 1429هـ
وابتدأت مقومات وجودها من الموت ،الذي تحتفظ منه بقايا جسد تظل تحمله ،لتؤول بعد ذلك إلى المقبرة عند عمه القبار ،من المودعين ألحبائهم والمتوشحين ألحزانهم ،يحصل على لقمة عيشه ..يتسلل أحياناً إلى بيت «جليلة» ،أحس منها بنحو وإشفاق تجاهه، ما لبث أن حال بينه وبينها كبره ،فلم يعد يجالسها، ف��اح�ت�ف�ظ��ت ذات� ��ه ل �ه��ا ب��ص��ورة ظل يناجيها .طلب يدها فصدا ،فكان ضحية ف ��وارق ال�ط�ب�ق��ات ،كما كان محمود الذي أحب جليلة قبل ذلك.. وحين قبرت جليلة ،أراد االحتفاظ ب�ج�س��ده��ا ،ف�ك��ان��ت ح�ك��اي��ة الراوية التي تجسد لنا حكاية القبر الذي يحتضن حكاية حب موؤودة ،وحكاية البحث ع��ن الحقيقة ال�ت��ي تختفي في الحياة ،وتنبعث من بين براثن الظالم ،وحكاية الضوء الخافت في زاوي ��ة مظلمة م��ن المقبرة يكشف حقيقة ما يجري ،وحكاية التصرفات الحمقاء التي تودي بالحقيقة ،كما فعل العريف عطية الذي لم يترك تلك االعترافات ،والتأمالت التي ساقها الكاتب على لسان شفيق الميت أن تتم حين انطلق لينقل الخبر إلى فئات مختلفة من المجتمع ،فيأتون ويقبرون ذلك الحوار اإلنساني ،كما قبرت تصوراتهم الحقيقة ،حتى نهشوا الضحية ،ونهشوا أسرتها ،ونالوا من عرضهم.. من المقبرة ،من عالم الموت نسج الكاتب الحقائق، وروى عن الرغبات المنطفئة ،والحكايات المدفونة. حين نستمع إلى شفيق الميت يقول «أعيش بين العري، كل شيء هنا يعود إلى أصله ،إلى البداية األولى» ص « ،241أول مرة احتويتها بين ذراع��ي يوم دفنها» ص « 242اآلن هي لي ،أنا قبرها ،وهي قبري» ص .243
قامة تتلعثم لعيد احلجيلي: سؤال الكتابة الشعرية
«بين باب القصيد ونافذة الحلم تمتد مقبرة الشعراء» مسافة -قامة تتلعثم /ص81 دي� ��وان ال�ش��اع��ر ال �س �ع��ودي ع�ي��د الحجيلي الصادر عن دار شرقيات بمصر «قامة تتلعثم» ص��ورة مصغرة من مشهد شعري ،تتجاور فيه ال�ن�ص��وص وال� ��رؤى ،كما ت�ت�ج��اور المرجعيات الفكرية .الديوان الصادر في حلة أنيقة ،وغالف أبدعته الفنانة هبة حلمي ،حيث يشاكس الجسد أمثولة ميتولوجية ،مجازات لهذه القامة التي تتلعثم ،الجسد الهالمي الذي يأسرنا في أولى عتبات الديوان يرتكس بالضحية ،التي تتموضع كخربشات فسيفسائية تنبطح أرضا من جسد ي��أس��رك بالرغبة الثاوية التي تسكنه لتجعله أقرب إلى حم العالم ،الفنانة هبة حلمي أبدعت نصا لونيا مليئا باألثون األيقونية وبمفارقات البصري ،ما يجعل من غ�لاف دي��وان الشاعر عيد الحجيلي ملفوفا بنص تستعير فيه الصورة بذخ المعنى.
> عبداحلق ميفراني
<
يصطخب الخصب في ساعديه يجب جذور الغيابة.. .. ثم جواد ذبيح (الفارس المنتظر/ص.)43 «الفارس الذبيح» المبتدأ في أول��ى عتبات ال��دي��وان يحمل أي م�ق��ارب��ة للنصوص دالالت إض��اف�ي��ة ،تجعل م��ن غ�لاف ال��دي��وان ،قصيدة ثاوية موشومة بمجازات لونية تقدم لنا فسحة بصرية شبيهة بنافذة مثخنة بشعرية مفتوحة على القراءة.
قصائد «ق��ام��ة تتلعثم» م��وزع��ة بين نصين شعريين« :أجراس الصمت» (تضم 9نصوص)، و»خيبات واجفة» (تضم 27نصا) ،ميزة القصائد ككل قصرها ،بل إننا نجد قصائد شذرية ال تتعدى الجملة الواحدة ،كما تشير مالحظة أولية إلى أننا أمام عناوين مفتوحة خالية من التعريف (ه�ب��اء -ترميم -أرض -دع��وة -ذك ��رى) .. وم� ��ا ي �ع �م��ق ه� ��ذه االس� �ت� �ع ��ارة ه ��و الجسد وباستثناء عنوان الديوان ،وقصيدة هذيان لن المحمول على ما يشبه الفرس ،حيث الفارس يكتمل (ص ،)11تغيب األف�ع��ى ع��ن إرشادات ممسكا «بفارس جريح ،وفرس ذبيح».. عناوين القصائد ،مما يفرز لنا أوي��ة أبعد ما رسمته بذوب الرؤى تكون ع��ن اإلخ �ب��ار ،إذ يتشكل عالم القصائد فارسا وفق هذا الغياب ،ال تحديدات وال تعاريف لهذا يمخر الصمت اليأس واأللم الممتد على جغرافية العالم..
اجلوبة -شتاء 1429هـ 53
كينونة قصائد «ق��ام��ة تتلعثم» كينونات مركبة، ال مرجعيات لها س��وى ال��ذك��ري��ات ،حيث المفارقة بين شاعر يخط كينوناته لغة ،ولغة تفتح الكينونة على اليأس ،إذ تكشف قصائد «قامة تتلعثم» أولى «الهذيان»
«المرفأ القرمزي»/القصيدة.. توغلت في القافيات العذارى /ص.23 دعيني أغني على شرفات الجراح وحيداً /..ص.36
الحروف التي دفنت يصر ال�ش��اع��ر على ت��أب��ط ع��زل�ت��ه ،وي��راه��ن على نصف أصواتها في المساحيق كيما تمر على مرمر قصيدته في فتح سرايا هذه المتاهات المتمنعة خلف الوجل األل ��م ،إن إص ��رار ال�ق�ص��ائ��د على الفذ مثل الهباء /ص.13 كشف «خيبات الصمت» من خالل التأكيد على سؤال الكتابة الشعرية، ه� ��ذا ال���وع���ي ال� �ح���اد بسؤال ب �م��ا ه��ي أف ��ق «ك �ت��ارس �ي �س��ي» من الكتابة تكشفه لنا قصائد «قامة نذوب هذا السقوط المدوي بحثا تتلعثم» بما هو كينونة يلفها اليأس، عن البياض ،بياض الثلج وبياض وهذيان يكتم .هذا الوعي الفجائعي ال��ورق��ة ،ف �ض��اء وك�ي�ن��ون��ة محتملة له ما يبرره على مستوى مجازي للقصيدة وللمعنى في عالم أمسى ف��ي حضور العديد م��ن القصائد بدون معنى تماما. ال�م�س�ك��ون��ة ب��ال �ك �ت��اب��ة ،بالحرف، حصاد: ب��ال��ك�ل�ام ،ب��ال �ش �ع��ر ،بالقصيدة، كلما نضجت فكرة بالعالم ..وه��و ما يكشفه الديوان في عذوق السهر ككل في أن «األجراس» و«الخيبات» يتحوالن إل��ى وحدتين يصيغان في ال��دي��وان أشكال وجد الثلج مسترخيا «تلعثم» ه��ذا الجسد الشعري الهالمي ..وال��ذي لن في سرير الحروف /ص.63 يكون إال البوح. وال يحضر هذا الوعي المبطن بسؤال الكتابة إال إذا هممت ببرج الكالم استعار فمي الراقصون في ارتباط وثيق بالقلق وبألم الشاعر المسكون فهذه على وتر األرض الرغبة للتحلل من هذا االنكسار ال تتم إال عبر البوح والعرض الشعري .كاستعارة لهذا الصمت المفتوح.. والفرض وأنا أتأبط خيمة قلبي والرفض وأرتق فجوات والغيمة القادمة /ص.15 منفاي البوح هنا يرتبط في العمق بسؤال الكتابة الشعرية ،بالصمت واألغنيات /ص.79 وبأفق المغايرة؛ وعي يتشكل في ثنايا دالالت القصائد، وه� ��و ال �ص �م��ت/ال �م�لاذ ح �ي��ث ي��رق��د الشعراء، وتصر هذه الكينونة الشعرية على سبر أغوار المنتهي ويستكنون إلى محرابهم الشعري وإل��ى مسافاتهم.. والمطلق من خالل اإلص��رار على الدخول لمتاهات كينونة ال�ش��اع��ر ق�ص��ائ��ده ،هويته اس�ت�ع��ارة مدفونة
54
اجلوبة -شتاء 1429هـ
ف��ي أرض القصيدة ،والقصيدة أرض خ�لاء مليئة قافية «باألغنيات» وباألماني .لكنها هوية تتحقق على بياض قافيه /ص.69 ساخن ،حيث ال حدود لمعنى ،وال شكل لهذا الحلول إن قدرة القصائد على صياغة قلق ووجع الكتابة ال والعبور إلى «فرح المجازات». تضاهيه إال فكرة الموت ،والعدم وهو ما أجملناه في مسافة: عنصر الغياب ،حرقة الكتابة ووجعها يوازيه البياض/ بين باب القصيد المقبرة ،المثوى األخير للشاعر وللشاعرة ،كالهما ونافذة الحلم خ�لا ل�ه��ذا ال �ق��داس ،حيث العمر يمضي اختصارا تمتد مقبرة الشعراء /ص.81 في قصيدة ،وحيث القصيدة م�لاذا روحيا نهائيا ال ثيمة الغياب هي العنصر الرؤيوي المعبر للخيبة ،تضاهيه أي رؤيا. ح�ي��ث ال م�س��اف��ة تفصل ب�ي��ن ال�ق�ص�ي��دة وال�ح�ل��م إال وف��ي ص��ورة أشبه بالكاريكاتيرية ،يقدم الشاعر ال�غ�ي��اب .وال�غ�ي��اب هنا يتخذ منحى اس�ت�ع��اري ألفق «القارئ» االفتراضي ،أحيانا تعبر الصياغات اللغوية االنكسار الذي تتمثله القصائد ككل ،إذ يمتد بين ثنايا في القصائد على حس لوني ،وك��أن الشاعر يرسم دالالت النصوص إلى الحد الذي تتحول فيه القصائد تراكيبه وفق قانونها الخاص.. إلى فضاءات لهذه االستعارة الكبرى. قارئ: «قامة تتلعثم» في النهاية ال تمثل تجميعا لنصوص شعرية سيقت في تاريخ كتابتها ،بل هي عتبة تجربة شعرية تمح بمنجزها النصي أكثر مما تصرح ،إنها في قدرتها على صوغ مالمح تجربة شعرية يسكنها س��ؤال الكتابة الشعرية عبر مكونات تخييلية ،تقدم م��ن خاللها ب��وح «ال�ش��اع��ر» ورؤاه ،الشاعر الجريح وجراحاته ،الشاعر وقصيدته ،ونعمق هذا التصريح بالتعليل التالي: شاعر: بعدما شربت عمره الكلمات
قيل مات /ص.61 شاعرة: بين هدأة مرآتها ولهاث الرؤى الصاخبة ترقب العمر يسقط
حك رأس القصيدة بالنظرة الجائعة فجأة لمح القمل ينساب من أذن الذاكرة/ ..ص.77 «ن��ور الذاكرة» هكذا تشع القصيدة بين جبهتين، الغياب والمفارقة .مفارقة ال�ق��ارئ وه��و هنا بدون تحديد ،إذ ال تكتفي القصائد بانفتاح عناوينها على المطلق ،ب��ل إن إرادة القصائد تتجه ف��ي بناءاتها النهائية إلى تمثل الحكمة األزلية للشعر ،هناك في الالنهائي يتحقق المعنى لكننا في النهاية ال يكشف دي��وان «قامة تتلعثم» إال عن مزيد من مفارقات المعنى والوجود والكينونة، أم��ا ال��ذاك��رة فهي ع��ش ال�ب�لاغ��ة ال��دف�ي��ن ،والشاعر «مايسترو» البهاء يرنو للغياب.
< شاعر وناقد من المغرب.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 55
الناقد األردني محمد املشايخ:
يطالب أن يتخصص النقاد مبنهج حتى يبدعوا.. > حاوره في عمان :عمار اجلنيدي
<
ثمّة حوارات طريفة ،يجتاز فيها أحد المتحاوريْن أو كالهما أبعاد ما يمكن أن يُخطط
أو يُرسَ َم له ،فيكون الحوار راسخاً في الضمير والذهن مهما تعاقبت عليه األزمان.
وبتمرد واضح على أبجديات الكالم المنمّق والجاهز؛ ترى الصراحة والعفوية تقطران
من الحوار ذاته بكل بساطة وأ ُلفة وطيبة ،ترقى إلى االنطباع بأن المثقف ال يعيش في جزر
معزولة عن اآلخرين ،وبأن اإلبداع والنقد صنوان يجب أن ال يطالهما األهواء والعالقات
الشخصية.
ويعد محمد المشايخ ،الذي يعمل مديرا لمكتب مؤسسة جائزة عبدالعزيز بن
سعود البابطين لإلبداع الشعري في عمّان ،من أهم النقاد األردنيين ،الذين توقفوا طويال
عند األدب واألدباء األردنيين في سيرهم الذاتية واإلبداعية ،وحاولوا إيصال صوتهم النقي
والملتزم ،إلى الساحة األدبية العربية.
له أكثر من عشرين مؤلفا في النقد األدبي ،أهمها -1 :أضواء على األدب والفن في
األرض المحتلة ،عمان :دار آسيا -2 1983 ،قراءة في أدب األرض المحتلة ،القدس :دار البيادر -3 .1984 ،األدب واألدباء والكتّاب المعاصرون في األردن :عمان :مطابع الدستور
1989م -4 ،المبدعون األردنيون والفلسطينيون المكرمون بمنحهم وسام القدس للثقافة
واآلداب والفنون لعام ،1991عمان :دائرة الثقافة1991 ،م -5 ،دليل الكاتب األردني ،عمان:
م����واج����ه����ات 56
رابطة الكتاب األردنيين.1994 ،
شغل العديد من الوظائف التي أتاحت له االطالع على شؤون الثقافة األردنية وشجونها،
أهمها :مديراً في دائرة الشؤون الفلسطينية بوزارة الخارجية ،كما عمل محرراً ثقافياً غير
متفرغ في عدد من الصحف والمجالت ،منها :االثنين ،الوجدان العربي ،طبريا ،المحرر،
المجد ،األردن ،اللواء ،الدستور ،صامد االقتصادي ،فرح ،ومندوباً لمعجم البابطين للشعراء
العرب المعاصرين في األردن خالل السنوات 1995-1992م سكرتيراً تنفيذياً ثم مديراً
اجلوبة -شتاء 1429هـ
إدارياً لرابطة الكتاب األردنيين .وهو عضو في رابطة < هل تعتقد أن الناقد يجب أن ينتمي لمدرسة نقدية بعينها؟ الكتاب األردنيين ،وعضو إتحاد الكتاب العرب. وفيما يلي وقائع الحوار الذي أجريناه معه في مقر
> نعم.
رابطة الكتاب األردنيين:
< لماذا؟
< ل��م��اذا ات �ج �ه��ت ل�ل�ن�ق��د ول ��م ت�ت�ج��ه ن �ح��و الكتابة
> ألننا نعاني في الساحة النقدية العربية ،من الكتابة ال�ت��ي تتصف بالبانوراما النقدية ،أو الكوكتيل
اإلبداعية؟
> حقيقة أنني ب��دأت بالكتابة اإلبداعية ،وتحديدا
ال �ن �ق��دي ،فحين ت�ت��داخ��ل ال��م��دارس والمذاهب والمناهج ،لدى الناقد الواحد ،نجده يفتقر إلى الرؤية الصائبة ،ويدخل في إطار الفوضى؛ وحين يتخصص بمنهج ،يبدع ،وتكون كتابته أقرب إلى النقد األدبي.
مناسبات وطنية ،أو يتم تعليقها على لوحة إبداعات
< ساد المنهج االنطباعي الحركة النقدية األردنية ط ��وال ع �ق��ود م �ض��ت ،ه��ل ه��ذا المنهج مناسب اآلن بعد ه��ذا التطور الهائل ف��ي المصطلحات والمدارس النقدية؟
«الشعر» ،وذلك في أثناء دراستي في قسم اللغة
العربية ف��ي الجامعة األردن �ي��ة خ�لال السنوات
،1977-1972وكنت واح��دا من شعراء الجامعة
ال�ق�لائ��ل ،وك��ان��ت ل��ي ق�ص��ائ��دي ال�ت��ي ألقيها في
الطلبة ،أو في جريدة الجامعة التي كان يُطلق عليها
آنذاك «أجراس» ،أو في جريدة األخبار األردنية،
غير أنني بعد تخرجي من الجامعة ،عملت إلى
جانب األديب الراحل خليل السواحري في رابطة
الكتاب األردنيين ،وكان آنذاك المحرر الثقافي في
جريدة الدستور األردنية ،وكان كلما أهداه كاتب
نسخة م��ن إص ��داره الجديد ،يقوم بتحويله إلي
ألكتب دراسة نقدية عنه ،ومع الزمن توقفت عن
إب��داع الشعر ،وتخصصت بالنقد األدب��ي ،وللعلم فإن النقد إبداع!
< ما الذي يحد من حرية الناقد؟ > ثمة أم��ور كثيرة تحد من ه��ذه الحرية ،فالناقد حين يكتب ،يكون في داخله أكثر من رقيب :رقيب السلطة ،ورقيب الصحيفة أو المجلة التي ستنشر فيها المادة النقدية ،ثم الكاتب الذي ينقده .وهذه
كلها ع��وام��ل ت�ف��رض على ال�ن��اق��د أال ي�ق��ول رأيه
الحقيقي ،وقناعته الداخلية ،فيجامل ،ويكتب فقط ما يرضي هؤالء الرقباء.
> ع�ل��ى ال�ع�ك��س م��ن ذل ��ك ت �م��ام��ا؛ وذل���ك ألن هذا المنهج ،يستند إلى وجهة النظر الشخصية للناقد فيما يقرأ ،ووجهة النظر ه��ذه ترتبط بالعالقة الشخصية مع المبدع ،ف��إن كانت إيجابية ،فإن المادة النقدية ستمتلئ بالمديح والتقريظ ،وإن كانت سلبية ،فإن تلك المادة ستمتلئ بالشتائم، وعندها يوصف الناقد بالحاقد ..المطلوب من ن�ق��ادن��ا ق ��راءة المناهج النقدية المختلفة التي ظهرت في العالم ،واختيار المناسب منها ،لقد ات�ك��أت منذ ال�ب��داي��ة على المنهج التكاملي وما زلت كذلك ،وذلك بالنظر إلى انه يشتمل على كل المناهج النقدية المتعارف عليها في الغرب ،والتي تغطي النص اإلبداعي ومؤلفه والظروف المكانية والبيئية التي تم إبداعه فيها. < تتميز الساحة الثقافية في األردن بتحكم الشلل
اجلوبة -شتاء 1429هـ 57
الثقافية فيها ،إلى أين تقود هذه الشلل ،ولماذا ال تنخرط في إحداها؟ > ترتبط هذه الشلل أحيانا بإطار سياسي يدعمها ويهيئ لها الوسائل اإلعالمية الكفيلة بتحقيق التواصل بينها وبين جمهورها ،وفي أحيان أخرى، تربط العالقات والمصالح الشخصية بين عدد من أدع�ي��اء األدب والمتنفذين في بعض وسائل اإلع�لام ،فيصولون ويجولون ،وفي الوقت نفسه يكتمون أنفاس المبدعين الحقيقيين ،ويحرمونهم من فرصة النشر ..تخيّل يا أخي المبدع عمّار، أن معظم أساتذة الجامعات األردنية الذين علمونا األدب والنقد ،محرومون من النشر في الصحافة المحكومة من الشلل ،معظمهم صامتون ،بينما الذين يرفعون أصواتهم من تالمذتهم ،هم الذين يتحكمون بإبداع وب��أرزاق المبدعين الحقيقيين، وأن��ا واح��د من الذين يفضلون الصمت ،مستندا إل��ى إب��داع��ي ال��ذي نشرته على م��دى السنوات 2005 -1970م .فهذا رصيد مهم ،يغنيني بعد كل هذا العمر عن التوسل لشلة ،أو االلتحاق بها لممارسة قمع اآلخرين وتكميم أفواههم.
الناقد زياد أبو لبن قصة قصيرة لنشرها في مجلة
أفكار التي تصدر عن وزارة الثقافة األردنية ،وبعد
ساعة من تلك الواقعة قام شخص آخر بتسليم
ص��ورة عن القصة نفسها للناقد نفسه لنشرها
في المجلة ..وبعد أن جمعهما معا ،اعترفا له، أنهما تقاسما مجموعة قصصية مخطوطة للقاص
العراقي الراحل غازي العبادي ،ونسب كل منهما
عددا من قصصها لنفسه ،غير أن كل منهما بقيت
نفسه متعلقة بالقصة ال�ت��ي ق��دم��اه��ا منفردين
لمجلة أف�ك��ار ..وت��دور األي��ام ،ونجد أن ثمة من يسطو على إبداع عمار الجنيدي ..وكان الفضل
ف��ي ذل��ك ل�لأدي��ب محمد س�لام جميعان ،الذي
فضح السارق في جريدة ال��رأي األردن�ي��ة ،دوري
الشخصي ،يبدأ من العقوبة التي سأتعرض لها من اللص السارق ،ومع ذلك فقد فضحت في جريدة
الدستور األردنية عام 1979شويعرا قام بالسطو
على كتاب «فاروق شوشة» :أجمل عشرين قصيدة
حب» وأبدل اسمه باسم شوشة ،غير أنه منذ ذلك
العام ،حرم نفسه من الظهور في الساحة الثقافية ثانية.
< م��ا ه��و دور ال�ح��رك��ة ال�ن�ق��دي��ة ف��ي رص��د وكشف < أي��ن يقع األدب األردن��ي بالنسبة للحركة األدبية العربية؟ السرقات األدبية في األردن ،وما هو دورك أنت شخصيا في ذلك؟ > تمتاز الساحة الثقافية األردن �ي��ة ،بقدرتها على > ثمة بعض األشخاص الذين تسوّل لهم أنفسهم، سرقة إبداع غيرهم ،ونسبته ألنفسهم .وأول سرقة كشفتها ،كانت في نادي أسرة القلم الثقافي في الزرقاء ،في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حيث نظـ ّم النادي مسابقة أدبية ألعضائه من هواة األدب ،فقام معظمهم بالسطو على أحد دواوين الشاعر محمد الفي ،الموجود في مكتبة النادي.. األخ�ط��ر منها كانت عندما ق��ام أح��ده��م بتسليم
58
اجلوبة -شتاء 1429هـ
إنجاب أع��داد هائلة من األدب��اء ،الذين يُصدرون بشكل ف��ردي أع��دادا هائلة من الكتب ،ويقيمون
أع��دادا كبيرة من الفعاليات الثقافية ،وينضوون تحت ل��واء أع��داد أكبر من المؤسسات الثقافية،
ومع ذلك فإن ثمة شكوى في داخل المملكة ،تتهم
األدب��اء ومؤسساتهم وإبداعاتهم بالقصور ،غير أن هذا القصور سرعان ما ينقشع حين يشارك
مبدعو األردن في فعاليات ثقافية عربية ،حيث
نجدهم في الطليعة قوال وفعال ،ويستحقون الثناء
وعلى سيرة جحا ،سأل أحدهم د .جميل علوش
والتشجيع الذي ال يالقونه في الداخل ،ومن ثم
علوش :لماذا جحا أشهر مني ومن فخري قعوار
ه �ن��اك ،ويحصلون على ال �ج��وائ��ز ،وع�ل��ى الدعم
مرة :لماذا فخري قعوار أشهر منك ،فقال له د.
فإن تقييم أدبنا في الداخل سلبي ،وفي الخارج
ومن أدباء األردن كلهم ..وأود أن أقول لك يا أخي
أنه ال كرامة لنبي في وطنه ،صحيح أن الشعور
نتخاصم عليها ،أال تعلم أن��ه يتم تفصيل بعض
باتجاه الرقي والتقدم ،ولكن كفانا جلدا للذات،
إقفال الجائزة والمؤسسة التي تمنحها ..ال أدري
إيجابي ،األم��ر ال��ذي يجعلني أردد مع المرددين
بالقصور يدفع نحو المزيد من العطاء ،ويدفع
عمار اتق الله ..كم جائزة لدينا في األردن حتى
الجوائز لبعض األشخاص ،وحين يأخذونها يتم
طالما أننا على الصعيدين القومي واإلنساني في
يا عمار لماذا تحولت في اآلونة األخيرة إلى فاضح
< هل صحيح أن هناك خلال يعتور الجوائز األدبية
ألم أطلب منك مراجعة أحد العطارين ،ليقدم لك
الطليعة.
ب�ش�ك��ل يخضعها ل�م��زاج�ي��ة األج� �ن ��دات والشلل
الثقافية ،وكيف تذهب الجوائز لغير مستحقيها؟
> يقولون إن المنتصر دائما يُستقبل ب��ال��ورود ،أما
المهزوم فيُستقبل باإلدانة والنقيصة ،وه��ذا هو
حال الجوائز عندنا؛ من يفوز بها يرفع من مكانتها
ومن مكانة المؤسسة التي تمنحها ،ومن ال يأخذها يتهم المؤسسة والقائمين عليها بتهم قد ال تكون
صحيحة ..ال أريد رد هذه التهمة على اإلطالق،
فثمة حاالت فردية كنت شاهدا عليها حين تقدمت
بكتابي لمؤسسة محترمة للفوز بمسابقة في مجال السيرة الذاتية ،سلمت كتاب (من يوميات سكرتير
الكتاب) للموظفة التي تستقبل المؤلفات المقدمة للجائزة ،في آخ��ر ي��وم لتسيلم الكتب المرشحة
ألسرار الثقافة والمثقفين ،والمؤسسات الثقافية، بعض األعشاب المنشطة لمكامن اإلبداع عندك
في باب غير باب الفضائح« ..منـك لله يا عمّار».. دعني أسترسل معك ..يوم 2007/1/16نشرت
جريدة الرأي األردنية مقالة للدكتور إبراهيم خليل
قال فيها( :حدثني من أثق بصحة روايته ،أن كاتبة
تكتب لألطفال اقترحت على هيئة إدارية لجمعية
معينة تخصيص جائزة لألطفال ،واع��دة بتأمين
قيمة الجائزة النقدية ،وعندما جاء موعد تأليف لجنة التحكيم اختارت هي بنفسها أعضاء اللجنة،
وعندما فازت بالجائزة استخرجت المبلغ الذي تبرعت به من حسابها البنكي واستعادته على هيئة
جائزة في ي��وم أو يومين)! وبعد ذل��ك أسألك يا
عمار :هل جئت تطلب نارا ..أم تشعل في البيت نارا؟
للفوز ،فقالت لي إن كتابي هو الوحيد المقدم لحقل السيرة الذاتية ،بينما توجد عشرات الكتب < يتعاظم شأن قصيدة النثر في األردن لدرجة أننا لم نعد نقرأ القصيدة العمودية ،لماذا؟ المقدمة لألجناس األخ���رى ..ف��ي ال�ي��وم التالي
طالعت في الصحف نبأ تمديد موعد تسلم الكتب > عرفنا حتى اآلن والحظنا انتشار أصناف ثالثة من المرشحة للجائزة نفسها لمدة 15يوماً ،وفعال
الشعر :العمودي التقليدي ،وشعر التفعيلة»الحر
وتم منحه الجائزة( :ألف دينار ،وطباعة الكتاب)!
تتحكم في هيئة تحريرها فئة تنحاز لواحد من
تقدم أحدهم بكتاب عن السيرة الذاتية لجحا،
الحديث» ،والشعر المنثور ..بعض وسائل اإلعالم،
اجلوبة -شتاء 1429هـ 59
ه��ذه األص �ن��اف ،وال تكاد تطالع فيها أي صنف
آخ��ر ..والحقيقة أن المعركة في الباطن حامية
ال تسمح ل��ي ب��رواي��ة ه��ذه الحكاية بوصفها مدخ ً
قبل أي��ام ف��ي م�ح��اض��رة ل��ه ف��ي منتدى مؤسسة
عروس ،وشجعني على ذلك بمقولة« :نيّال من جمّع
محمود األفغاني ،اتصل به في القدس في مجلة
تنتظر على أحر من الجمر المجمّر ابن الحالل قبل
الوطيس ..بدليل أن الشاعر راضي صدوق قال
عبدالحميد ش��وم��ان ،إن شاعر شباب فلسطين
األف��ق الجديد ،في مطلع الستينيات من القرن
الماضي ،حيث خصص راض��ي صفحات واسعة في المجلة لشعر التفعيلة ،وق��ال له يا راضي..
لقد أهداني الملك عبدالله مسدسا لم أستخدمه
ل�لإج��اب��ة :ط�ل��ب م�ن��ي ف�ن��ان م�ه��م أن أب�ح��ث ل��ه عن
بين رأسين على مخدة» ،وبالفعل كانت الفتاة جاهزة
أن يفوتها القطار ،وقد تجاوزت التاسعة والثالثين
من عمرها ،وحددت لهما موعدا لاللتقاء بمكتبي، وم��ع بداية اللقاء ،ب��دأ الفنان يقدم أصنافا شتى
من الحركات واألص��وات والحكايات الفنتازية ،ولم
حتى اآلن ،فإن واصلت نشر شعر التفعيلة فسوف
يتحدث عن أي شأن من شؤون الحياة ،أو الزواج ،أو
الخصومة الحادة بين أنصار التقليد والتجديد،
إنها تبحث عنه بالمندل ،إال أن انسحبت من الجلسة
تكون أول ضحايا هذا المسدس ..واآلن ،وأمام
وأم��ام أنصار ه��ذه األصناف الثالثة من الشعر، صرنا نطالع من يضع حال وسطا على غ��رار ما
المستقبل ،فما كان من الفتاة المحتاجة للعريس ،بل
بعد نصف ساعة من بدئها ،ولما سألتها عن سر
انسحابها بدل تقدمها وهجومها على فتى األحالم
يصنعه صديقك العطار ،فيقول إن قصيدة النثر،
قالت لي :الفنانون كل ساعة بعقل ..وأنا ال أستطيع
ه��ي شعر وال ن�ث��ر ..حيّرتني بأسئلتك وال�ل��ه يا
وكانت تجربتي مع الفنانين الذين كتبت عن أعمالهم
قال ،إنه شاهد عمودا أثريا مكتوب عليه ما يفيد
يـُفـَصـ ّل لي ما سأقوله ليس عن أعماله فحسب بل
ه��ي قصيدة خنثى ،ال ه��ي ذك��ر وال أن�ث��ى ،أي ال
عمار ..لقد صنع شاعرنا ما صنعه أحدهم حين أنه ال يجوز وضعه ال في الشمس وال في الظل..
فكيف سيراه السيّاح وهو مدفون ..أنا مع الكتابة الشعرية ،ليكتب الشعراء وال�ن��اث��رون ما شاؤوا،
المهم أن يكتبوا ،والزمن هو ال��ذي يغربل ،فإما أن يرتقي هذا الصنف أو ذاك ،وإما أن ينطمس..
المهم ،أن في الحركة بركة ،ولتمض عجلة اإلبداع إلى حيث شاءت.
< ي�لاح��ظ أن ��ك تكتب ع��ن ك��ل األج �ن��اس والفنون اإلبداعية ،إال عن المسرح والسينما والتلفزيون.. لماذا؟
> لقد كتبت في فترات سابقة عن هذه الفنون وغيرها
60
بما ف��ي ذل��ك الفنون التشكيلية ..ول�ك��ن ،أرج��و أن
اجلوبة -شتاء 1429هـ
العيش معهم ،ألم تالحظ حركاته وأقواله وأفعاله.. الفنية مثل تجربة تلك الفتاة ،كل واحد منهم يريد أن
وعن أعمال اآلخرين ،فرأيت أن الكتابة عن الشعراء وكتاب القصة والرواية وغيرها من األجناس األدبية تجلب أذى أقل ،فهم بالنسبة للفنانين غالبى ..وأكثر
تواضعا ..مبسوط يا عمار؟ أنا أعرف أنك لن يهدأ لك بال إال إذا شبكتني مع القطاع الفني من خالل
هذا الحوار ..أنا صاحي لك ..بدليل أنني لم أتحدث
عن الفنانات ألنهن أرحب ص��درا ..وإبداعهن أكثر جودة ..وألسنتهن أكثر دفئا.
< كيف تقيّم تجربة عمان عاصمة للثقافة العربية عام .2002
> كلما اتسعت دائرة اإلبداع من المحلية إلى العربية
فاألممية كلما كانت الفائدة أعم والجدوى أكثر،
معك ،فأردد مقولة للصديق القاص خليل قنديل،
ومن ثم فإن تجارب العواصم الثقافية ،من أروع
قال لي ألنهم ال ينشغلون بالزيارات وحمل الهدايا
إذ ثمة غيمة شاسعة ،خراجها عائد على الجميع، التجارب األدبية القومية واإلنسانية ،التي تجمع
بين المبدعين العرب وجمهورهم ،وتحقق فعاليات ال تتمثل في المؤتمرات وال �ن��دوات فحسب ،وال
ف��ي المطبوعات م��ن صحف وم�ج�لات فقط ،إذ
ثمة فعاليات أك�ث��ر خ �ل��ودا ،خ��ذ ف��ي ع�م��ان على
سبيل المثال شارع الثقافة ،انتهت الفعالية قبل
4س �ن��وات ،وم��ا زال ال �ش��ارع ع��ام��را بالمثقفين
والفنانين والمفكرين والعشاق أيضا ..نعم هي
تجربة رائعة ومفيدة بكل ما في الكلمة من معنى، ولكنها فائدة موسمية ،نتمنى أن يكثر تكرارها في كل العواصم العربية.
جاء فيها أنه يهنئ مبدعي الغرب ،ولما سألته لماذا
للواتي يلدن أو ال��ذي��ن طالهم الطهور ،ه��ذا عدا عن المشاركة في حفالت ال��زواج ،واإلص�لاح عند
الطالق والغضب وفورة الدم.
< هل تعتقد أن الحركة النقدية في الوطن العربي مقصرة تجاه األدب الفلسطيني؟
> نعم الحركة النقدية في الوطن العربي مقصرة م��ع األدب ف��ي ك��ل األق �ط��ار ول�ي��س ف��ي فلسطين
فحسب ،فالناقد أم��ام ه��ذا ال�ع��دد الضخم من الكتب والمجالت والصحف األدب�ي��ة ،وكذلك ما تبثه وسائل اإلع�لام المسموعة والمرئية ،يقف عاجزا عن اللحاق بهذه ال�غ��زارة ،فتجده يتوقف
< ه��ل قدمت اإلب ��داع واألدب األردن ��ي إل��ى الوطن
عند كتاب أو أكثر كل فترة ،أو عند نص أو آخر..
> دع�ن��ي أع �ت��رف ل��ك أن�ن��ي ف��ي أي ��ام ال�ع��زوب�ي��ة كنت
فما بالك بما يصدر ف��ي األق�ط��ار األخ ��رى .أما
وخ��ارج��ه ،أم��ا بعد ال� ��زواج ،ف�ص��رت م�ح�ت��ارا بين
ليس كمن يعدونها» ،فيها إبداع ،وفيها حركة أدبية
العربي؟
أكثر نشاطا ،في اإلبداع ،وفي النشر داخل األردن الكتابة عن العولمة وبين شراء البندورة والبطاطا
لكنه ال يستطيع اإلحاطة بكل ما يصدر في قطره، فلسطين فلها خصوصيتها« ،والذي تحت العصي
مواكبة للحركة السياسية والعسكرية ومعطياتها
وال �ب��اذن �ج��ان ل�ل�م�ن��زل ،ب�ي��ن ال�ك�ت��اب��ة ع��ن اإلصالح
على األرض؛ غير أن ذلك اإلبداع ،وتلك الحركة،
متطلبات مهما صغرت ،إال أنها تنسي المرء وتحول
الماضي ،كان األمر مختلفا ،كنت تجد كتابا من
الثقافي ،وبين تلبية متطلبات الزوجة واألبناء ،فهي بينه وبين عيون اإلبداع؛ ولذا فإن السنوات 1970
ال ت�ج��د م��ن يشغل نفسها ب�ه��ا م��ن ال �ن �ق��اد .في كل الوطن العربي يكتبون عن فلسطين وأدبها،
(حيث بدأت الكتابة) و( 1985حيث تزوجت وعمري
أما اآلن ،فقد وصل كثيرون إلى مرحلة اإلحباط،
معظم الصحف والمجالت العربية ،وأوصلت لها
النقاد ،بينما واصلت عجلة اإلبداع عطاءها ،وهو
33عاما) كانت الفترة التي استطعت فيها مراسلة صوت المبدع األردني ،وتعليقي األدبي على إنتاجه..
وبعدها أكلني غ��ول الوظيفة ..وشغلتني العائلة
والعالقات االجتماعية ..وهنا أيضا دعني أسترسل
ولم يعودوا ي��رون لإلبداع ج��دوى ،فصمت معظم
إبداع بالمناسبة لمن يطّ لع عليه يستحق القراءة
والدراسة ،ولكن أنى لنا أن نجد النقاد المتفرغين لدراسة ذلك اإلبداع ونقده؟!
< كاتب أردني.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 61
حـــــوار مع الشاعر واملسرحي
الدكتور نصار عبدالله > حاوره محمود سليمان هو شاعر شديد االختالف والمغايرة للسائد والمألوف؛ لغة وفكرا ووعيا ورؤية شعرية ،وتشكيل قصيدة ،وهو لم يخرج من عباءة أحد .منذ بداياته األولى في المجموعة الشعرية المشتركة «الهجرة من الجهات األربع» التي صدرت عام ،1970وهو مجبول من الجرانيت الذي يمتلئ به صعيد مصر وجباله ،فيه منه قوته وحدته وشموخه وصالبته، وعدم التفريط في ذرة واحدة مما يعده حقا وشرفا وكبرياء .فيه من نيل مصر الخالد طالقته وانسيابه وعذوبته وتدفقه وانفتاحه األبدي ،ليصب في روافد وفروع ورياحات وترع وقنوات ،ال يجمد أمام عائق ،وال تركد مياهه الصاهلة دوما خلف سدود أو جسور. ومن هذه الطبيعة ثنائية التكوين جمعت شاعرية نصار عبدالله أستاذ الفلسفة ورجل االقتصاد والقانون بين الصخر والماء ،بين العناد واليسر ،بين الغضب والرضا ،بين الثورة والحزن. هكذا يقول عنه الشاعر فاروق شوشة. وهنا وبال مقدمات ،كان حوارنا مع الدكتور نصار عبدالله ،أستاذ الفلسفة والشاعر والباحث والمسرحي وأحد األصوات الشعرية المهمة عربياً والتي استطاعت أن تنسج خصوصية ما لتصبح هذه الخصوصية هي السمة السائدة في الكثير من أعماله. فكان هذا الحوار < دعنا نبدأ من المكان؛ إذ إن المكان والزمان هما المشكالن للتجربة .ما الذي تقوله عن المكان وأنت اآلن بعيد عن القاهرة مدينة الضوء؟ وإلى أي مدى ترى قد استوعب مشروعك الشعري واألدبى هذا البعد؟ > سوف أكون صادقا معك ومع نفسي ،ألقول لك إن المشكلة الحقيقية بالنسبة لي
عزلة املكان ميكن جتاوزها بسهولة أما عزلة الزمان ،فهذا هو امل��أزق احلقيقي ال��ذي يعيشه كل متمسك ب��دور الكلمة 62
اجلوبة -شتاء 1429هـ
ليست هي المكان ،ولكنه ال��زم��ان .إن��ه اللحظة التاريخية الراهنة ،اللحظة التي تضاءلت فيها جدوى الكتابة إلى أدنى حد ممكن ،أو هذا هو على األقل ما أشعر به .القاهرة بالنسبة لي ليست هي مدينة األضواء ولكنها مدينة الظالم المطبق. وأقصد بالظالم تلك األكاذيب والتفاهات التي ينتجها ويكرسها إع�ل�ام العاصمة .أخ�ط��ر من ذلك تضاؤل تلك المساحة المضيئة التي كانت فيما مضى قادرة على تشكيل الوجدان العربي، وإع� ��ادة ص�ي��اغ�ت��ه م��ن خ�ل�ال ال�ك�ل�م��ة المكتوبة العميقة والصادقة ،شعرا كانت الكلمة أو نثرا. عزلة المكان يمكن تجاوزها بسهولة من خالل تقنيات االتصال الحديثة وفى مقدمتها اإلنترنت؛ أما عزلة الزمان فهذه هي المأزق الحقيقي الذي يعيشه كل متمسك بدور الكلمة .كثيرا ما توقفت عن الكتابة لفقدان الثقة في ج��دواه��ا ..وكلما توقفت فإن ال��ذي يعيدني إليها هو فرضية ما، مجرد فرضية ،مؤداها أن هناك في أماكن ما ال نعلمها على وج��ه التحديد ثمة ق��راء يقرأون م��ا نكتب وي �ت��أث��رون ب��ه ،وأن ه ��ؤالء ه��م الذين سيصنعون المستقبل أو يسهمون ف��ي صنعه، وبهذا الشكل نكون قد أسهمنا نحن أيضا في صنعه .ومع هذا فإنني كثيرا ما أخشى أن تكون هذه الفرضية مجرد وهم ،أو إنها مبالغ فيها إن كانت على قدر ما من الحقيقة. < أص��درت العديد من المجموعات الشعرية منها: (الهجرة من الجهات األرب��ع) مع شعراء آخرين و(ق�ص��ائ��د للصغار وال �ك �ب��ار)( ،أح���زان األزمنة األول� ��ى)( ،قلبي طفل ض ��ال)( ،م��ا زل��ت أقول) (سألت وجهه الجميل) ،وعددا من المسرحيات إل ��ى ج��ان��ب إص���دارات���ك ال�م�ت�م�ي��زة ف��ي مجال الدراسات الفلسفية والمقال والترجمة ،ليأخذنا ال �س��ؤال ون �ق��ول :أي ه��ذه ال�م�ج��االت اق��رب إلى
قلبك؟
ك�����ث�����ي�����را م���ا
> أن� ��ا ش��غ��وف بالمعرفة، وأعتبر أن العمل اإلبداعي الفني هو في جوهره نوع ال������ك������ت������اب������ة م��ن ال�ك�ش��ف ع��ن مناطق ل�������ف�������ق�������دان معينة ال يصل إليها العلم ب� ��أدوات� ��ه ،وال الفلسفة ال����ث����ق����ة في ب ��أدوات� �ه ��ا ال��خ��اص��ة ،إن ج���������دواه���������ا كل تلك المجاالت نوافذ م �خ �ت �ل �ف��ة ل �ل �ك �ش��ف عن جوهر األشياء وعن عالقاتها بعضها البعض؛ كل المجاالت تلك قريبة إلى نفسي بقدر ما يعطيني إبداعي في كل منها.
ت��وق��ف��ت عن
< نالحظ أن الدكتور نصار وف��يٌّ إليقاع القصيدة العربية األصيلة وعلى الرغم من ذل��ك نجد له الكثير من األعمال والقصيدة النثرية الجديدة، فهل يعد ذلك موقفا لصالح قصيدة النثر؟ > نعم ،يمكنك أن تعد األمر كذلك. < هناك شخصيات مهمة في تاريخ األدب أثرت في حياة الكثيرين ،وال تزال آثارها مشتعلة حتى هذه األيام .مَـ ْن من رموز الحركة األدبية والفكرية التي أثرت فيك أو عرفتها وصاحبتها الحقا؟ > أهم هذه الشخصيات الشاعر صالح عبدالصبور ال��ذي ربطتني به صداقة عميقة ،وهو شخصية نادرة حقا .فقد كان ممتع الصحبة خفيف الظل، وأعتقد أنه لو لم يشتهر كشاعر وكاتب مسرحي الش�ت�ه��ر ب��أن��ه واح ��د م��ن أه��م ظ��رف��اء م�ص��ر في ال�ق��رن العشرين (وق��د أش��رت إل��ى ه��ذا الجانب م��ن شخصيته ف��ي م �ق��ال��ي( :م �م��ازح��ات صالح عبدالصبور كتب رموز الصحافة رموز السياسة)، كما كان يتسم بثقافة واسعة جدا ،وكان قادرا على استيعاب المذاهب الفلسفية الصعبة وهضمها
اجلوبة -شتاء 1429هـ 63
وتمثلها وتحويلها إل��ى أفكار ك�������ان ص��ل�اح حية نابضة ،كما كان له اهتمام عبدالصبور كبير بالقضايا الوطنية .وقد واح����������دا من اشتركت معه ع��ام 1972في ترجمة كتاب ج�ي��رار شاليان أه���م ظرفاء ع��ن ال�م�ق��اوم��ة الفلسطينية، م�������ص�������ر ف����ي وك��ان حريصا على أن ننتهي من الترجمة ،قبل أن يسبقنا ال��������������ق��������������رن إل ��ى ذل ��ك م�ت��رج�م��و وناشرو ال����ع����ش����ري����ن ب��ي��روت ،إل ��ى ح��د أن �ن��ا قمنا بسلخ ال�ك�ت��اب إل��ى نصفين، ق� � ��ام ه� ��و ب� �ت ��رج� �م ��ة نصفه وترجمت أنا النصف اآلخ��ر حتى ننتهي منه في أسرع وقت ،وعندما انتهينا منه قدم الترجمة إلى صديقه الناشر (أحمد سعيد محمدية) صاحب دار العودة الذي فاجأه بالقول بأن هذا الكتاب قد ترجم فعال ونشر في بيروت منذ أيام! وقد ظلت مخطوطة الترجمة في حوزتي (نصفها بخط يده ونصفها بخط ي��دي) ،ظلت في حوزتي ما يقرب من عشرين عاما عندما طلبها منى الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازي ،الذي نشر منها فصال في مجلة إب��داع في العدد التذكاري ال��ذي صدر عن صالح عبدالصبور في مطلع التسعينيات.
ثقافيا في مصر ،مما نتج عنه غياب أدباء بحجم أمل وعبدالصبور ونجيب محفوظ حتى اآلن؟ > ال �غ �ي��اب ال���ذي نعيشه غ �ي��اب ش��ام��ل ،وه ��و في األساس غياب سياسي واجتماعي؛ فعندما يغيب المشروع العربي القومي الشامل تغيب الثقافة العربية بكل تجلياتها ،ويغيب الشعر بوصفه أحد هذه التجليات. < م��ا ه��ي المنطقة المعتمة ف��ي حياة أم��ل دنقل، والتي لم يتطرق إليها اآلخ ��رون ،أو لم تعرفها عنه األجيال الالحقة ،وترى أنها أثرت في معظم كتابته ن�ظ��راً ألن��ك كنت صديقا ل�ه��ذا الشاعر الكبير؟ > ال أظن أنه قد بقيت في حياة أمل مناطق معتمة ذات ش��أن ف��ي كتاباته ،لقد كانت حياته كتابا مفتوحا مثل شعره .ولقد كتب عنه الكثير وروى عنه الكثير أيضا في الندوات والمؤتمرات التي تناولت سيرته :وأعتقد أن ما كتب وما قيل ،يغطى كل الجوانب ذات الشأن والتأثير على كتاباته ،ولم يبق في اعتقادي سوى بعض التفاصيل والذكريات التي يفضل البعض أن يحتفظوا بها ألنفسهم. < كيف تقيّم تجربة الشعر الحديث وأن��ت متابع لكثير من األص��وات الشعرية العربية؟ ما الذي تأخذه على أصحاب هذه التجارب وهل هناك أسماء محددة ت��رى أنها استطاعت أن تفرض نفسها أو قدمت النموذج لهذا الشكل؟
من هذه الرموز أيضا نجيب محفوظ الذي ربطتني به صلة عميقة من ال�م��ودة ،وق��د تحدثت عنها في مقال بعنوان (ذكريات محفوظية) المنشور على شبكة النت في (صحيفة المصريين) عدد ،2006/9/15ومنها أمل دنقل الذي رويت طرفا > ليس في وسعي أن أقدم تقييما شامال لتجربة من ذكرياتي معه في (موقع شروق) ،وأخيراً منها الشعر الحديث في مصر ،لكن يمكن أن أشير إلى الصديق العزيز الراهن بهاء طاهر الذي ما زلت بعض األسماء ،التي استطاعت أن تقدم تجارب أتصل به أو يتصل بي بشكل يومي إلى اآلن. أصيلة متميزة ،منها على سبيل المثال :حسن طلب وعبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان. < م��ا دمنا نتكلم ع��ن أم��ل دنقل ونجيب محفوظ وص�لاح عبدالصبور .أال ت��رى أن هناك ركوداً < كنت تعيش في القاهرة ونعرف أنك قضيت وقتا
64
اجلوبة -شتاء 1429هـ
أن����ا أن���ده���ش ج����دا م���ن ال���ذي���ن ي��ط��ال��ب��ون ال����دول����ة أو امل��ج��ت��م��ع بكفالة ح��ري��ة األدي�����ب ،ب��ي��ن��م��ا ق��ل��وب��ه��م وع��ق��ول��ه��م م��ك��ب��ل��ة ب��ك��ل أن�����واع األغ��ل�ال! فما الذي تقوله عن تجربتك المسرحية؟
>
<
>
<
من حياتك في أكثر من مكان ،أستاذا للفلسفة وش��اع��را وأدي�ب��ا إل��ى جانب كتاباتك الصحفية > ،خالل فترة معينة كنت أتصور أن الحرية الواسعة ماذا بقى من مالح كل هذه الفترة؟ التي يتيحها العمل المسرحي في األداء سوف تجعل من المسرح مشروعا مستقبليا لي ،لكن بقى من القاهرة الكثير من الذكريات ،وبقى منهم هذا المشروع قد أجهض لألسف نتيجة إلصرار عدد من األصدقاء الذين ما زلت أتواصل معهم بعض المخرجين على االحتفاظ بنصوص لي إلى يومنا هذا. دون أن يخرجوها ،ودون أن يسمحوا لغيرهم قال أحد الشعراء (كلما خطوت خطوة في طريق بإخراجها ،ما أصابني باإلحباط الشديد ،خاصة الشعر الطويل أشعر أنني أقترب من الحرية). وأنني ال أجيد التعامل مع مثل هذا النمط أي ��ن تكمن ح��ري��ة األدي� ��ب م��ن وجهة عندما يغيب م��ن السلوك ال��ذي يتسم ب��ه المشتغلون نظركم؟ امل�����������ش�����������روع ف��ي ال��وس��ط المسرحي ،وه��و م��ا جعلني ح ��ري ��ة األدي � � ��ب ت��ك��م��ن ،أوال وقبل أرك��ز كتاباتي فى السنوات األخيرة على ك��ل ش��يء ،ف��ي تحطيم األغ�ل�ال التي ال��������ع��������رب��������ي نمط خ��اص م��ن ال�م�ق��ال ال�س��اخ��ر الذي تكبله داخ��ل ذات��ه ،وأن��ا أندهش جدا ال�������ق�������وم�������ي كنت أقدمه في عمود( :توكلت على الله) من أولئك الذين يطالبون ال��دول��ة أو ال��ذي ظللت على م��دى س�ن��وات أكتبه لـ المجتمع بكفالة حرية األدي��ب بينما ال������ش������ام������ل، (صحيفة ال�ج�ي��ل) وب�ع��ده��ا ل��ـ (صحيفة ق�ل��وب�ه��م وع�ق��ول�ه��م مكبلة ب�ك��ل أنواع ت����������غ����������ي����������ب صوت األمة) إلى أن قام األستاذ إبراهيم األغ�لال ،نعم إن كفالة حرية المبدع ال�����ث�����ق�����اف�����ة عيسى بمنعه من النشر بمجرد أن تولى في مواجهة السلطات الخارجية أمر رئاسة تحريرها ،بعدها نشرته بانتظام م �ط �ل��وب ،ول �ك��ن ال �م��دخ��ل الحقيقي العربية بكل في (صحيفة الفجر) ،وأعتقد أنه لألسف لمشروعية مثل هذه المطالبة هو أن جت���ل���ي���ات���ه���ا أو لحسن الحظ يمتص أغلب ما لدي من يتحرر األدي��ب من أغالله الداخلية، الشحنة اإلبداعية ويفرغني أوالً بأول. ولكي يتحرر منها الب��د له أن يراها. وك��ل عملية إب��داع�ي��ة ه��ي محاولة ل��رؤي��ة جانب < أي��ن تكمن مشكلة المسرح في العالم العربي.. وهل هي مشكلة نص أم وعي أم ماذا ؟ معين م��ن ه��ذه األغ�ل�ال ،وه��ذا ه��و م��ا قصدته عندما قلت ل��ك إن العمل اإلب��داع��ي الفني هو > بالقطع هي ليست مشكلة نص ،هي كما قلت لك مشكلة مناخ عام ،مشكلة ماء راكد ال تتكاثر فيه في جوهره نوع من المعرفة ،ألنه في جوهره نوع إال الطحالب ،وال يطفو على سطحه سوى الزبد، من الكشف عن مناطق معينة ال يصل إليها العلم يطفو فيه الزبد وال يذهب ،بل يظل جاثما وباقيا بأدواته وال الفلسفة بأدواتها الخاصة. ألن هناك ما يساعده على البقاء. إذا تركنا محطة الشعر واتجهنا قليال إلى المسرح،
اجلوبة -شتاء 1429هـ 65
حلل مأزق الثقافة العربية وكشف أسبابه
الناقد د.صالح فضل:
غياب اإلبداع جعل الثقافة العربية تابعة وهامشية! الميكن للرواية أن حتل محل الشعر
> محمد احلمامصي
يعد الناقد الكبير د.صالح فضل واحدا من النقاد الكبار القالئل ،الذين يتمتعون بحيوية وفعالية الحضور على الساحة النقدية العربية؛ فهو يواصل قراءاته ومتابعاته وتحليالته، حاضرا بقوة داخل فعاليات حركة النقد واإلبداع والثقافة. وقد شغل العديد من المواقع الثقافية المهمة ،منها رئاسة دار الكتب والوثائق القومية ،ومنصب المستشار الثقافي لمصر ف��ي إسبانيا وم��دي��ر المعهد المصري للدراسات اإلسالمية لمدة خمس سنوات ،وعمل عميداً للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون ،ورئيساً لقسم اللغة العربية بكلية اآلداب ،بجامعة عين شمس ،وهو خريج كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1962م وحاصل على الدكتوراه في األدب العربي من جامعة مدريد المركزية عام 1972م ،ودرّس فيها ث ّم في جامعة عين شمس منذ عام 1979م ،وأسهم بالكتابة في العديد من الدوريات العربية ،وشارك في تأسيس مجلة «فصول» وعمل نائباً لرئيس تحريرها ،كما شارك في تأسيس الجمعية المصرية للنقد األدبي وعمل رئيسا مناوبا لها منذ عام 1989م.
66
اجلوبة -شتاء 1429هـ
تحتل مؤلفاته في المجال النقدي مكانة متميزة، إذ تجمع بين التنظير النقدي والتطبيق ،ومن أهم هذه المؤلفات :نظرية البنائية في النقد األدب��ي ،ومنهج الواقعية في اإلبداع األدبي ،وتأثير الثقافة اإلسالمية في الكوميديا اإللهية لدانتي ،وعلم األسلوب :مبادؤه وإجراءاته ،وإنتاج الداللة األدبية ،وبالغة الخطاب وعلم ال�ن��ص ،وت�ح��والت الشعرية العربية ،ومناهج النقد المعاصر ،ولذة التجريب الروائي.
ب���أب���ي وروح������ي ال���ن���اع���م���ات الغيدا الباس ـ ــمات ع��ن ال��ت��ي��م نضيدا ال����ران����ي����ات ب���ك���ل أح������ور فاتـ ـ ـ ــر ي��ذر الخلي م��ن ال��ق��ل��وب عميدا إلى أن يقول: وال����ل����ه م����ا دون ال����ج��ل�اء ويوم ــه ي���وم تسميه ال��ك��ن��ـ��ان��ة عي ـ ـ ـ ــدا
وق��د ح�ص��ل د .ص�ل�اح ف�ض��ل ع�ل��ى ع��دة جوائز ك��ان ه��ذا ف��ي العشرينيات م��ن ال�ق��رن الماضي، مصرية وعربية منها جائزة البابطين لإلبداع في نقد الشعر عام 1997م ،وجائزة الدولة التقديرية في يجعل تحقيق االستقالل بداية األعياد ال السياسية وال االقتصادية وال االجتماعية فحسب، اآلداب عام 2000م .وهو عضو في مجمع أدجل�������������������������ة ولكن الكونية للوطن العربي بأكمله .ثم جاء اللغة العربية. ال������������وع������������ي النصف الثاني ليشهد تعقيدات وتحديات وفي هذا الحوار نتعرف على رؤيته في في غاية الخطورة ،تصورنا أن الحركة الواقع الحالي للثقافة واإلبداع والنقد في وف����������ق����������دان الثورية التي استهلها الضباط األحرار عالمنا العربي. ال����ب����وص����ل����ة في مصر العام الثاني والخمسين ،سوف < هل الثقافة العربية في ظل تحديات تضع هذا الحلم للدولة القوية المستقبلية ك�ث�ي��رة وم�ع�ق��دة س ��واء داخ�ل�ي��ة أو نتيجة ك���ان���ت سمة موضع التحقيق ،خاصة ،وقد عملت آلة ضغوط خارجية؟ ل�����ل�����ن�����ص�����ف دعائية جهنمية وحاجة المجتمع العربي > ف��ي تقديري أن النصف األول من ال���������ث���������ان���������ي إلى صناعة البطوالت على تجسيد هذا الحلم في شخص عبد الناصر الذي أترع القرن العشرين ،ال��ذي ك��ان يشهد طفرة ����رن ق ���� ل ا ������ن م وجدانات الجماهير باألمل ،لكن لم نلبث ثقافية في مراكز اإلنتاج الثقافي حينئذ في مصر والشام والعراق كان يضمر كثيرا ال���ع���ش���ري���ن! وأبناء جيلي ،على وجه التحديد ،الذين ش �ه��دوا ذل ��ك أن س�ق�ط��ت ف ��وق رؤوسنا من التفاؤل للمستقبل ،ولم يكن يتصور أن جميعا مطرقة السابع والستين ،أفقنا مجرد شيوع حركة التحديث المجتمعي في األبنية السياسية واالقتصادية والثقافية وفي مذهولين من الصدمة ،لم تكن صدمة بهزيمة القوى أسس الدولة الحديثة ،وال��ذي كان يتخذ بؤرته في العربية أمام الكيان الصهيوني فقط ،ولم تكن صدمة هدفه األساسي في استقالل هذه الدول عن المحتل عسكرية ف�ق��ط؛ لكنها ك��ان��ت ف��ي ج��ذوره��ا صدمة األجنبي اإلنجليزي أو الفرنسي يجعل حلمه في الحلم وإف�لاس ثقافة الغوغائية ،وجفاف البحيرة ال�ج�لاء واالس�ت�ق�لال غاية المنى ونقطة االنطالق ووض��وح ما فيها من أسماك ميته .كانت الزعامة لمستقبل مشرق ،ما زلت مثال أتذكر قصيدة شوقي المحصلة األخيرة تسير في غير الطريق األساسي، الذي البد أن تسير عليه الدول التي تبني ذاتها .كانت التي غنتها أم كلثوم ومطلعها الغزلي الفاتن:
اجلوبة -شتاء 1429هـ 67
هذه الزعامة (زعامة عبد الناصر) على افتتاننا بها أيامها ،أمامها تجربة مرافقة ،وهي تجربة نهرو في الهند مثال ،وك��ان نهرو وتيتو رفيقي عبد الناصر، لكن نهرو اختار للهند طريق البناء العلمي في الثقافة والديمقراطية المتوازنة بين آالف الطوائف واألعراق واللغات التي يشكلها الهند وبحر الفقر المدقع، وأسفرت اختيارات الهند منذ نهرو حتى اآلن عن اس�ت�م��رار الهند كقوة عظمى نتيجة للعلم والفكر والثقافة والطاقة الذرية والصناعات الدقيقة ،وأما نحن فحتى دولة الوحدة التي لم نكد نهنأ بها سنتين أو ثالثة تفتت وه��ي تتشكل ألن العقلية عسكرية، واالستقالل أصعب من االحتالل ،وبناء الدول ال يتم إال بالحرية والديمقراطية ،وهذا هو الحلم الحقيقي ال��ذي يتعين على كل األجيال الحالية والقادمة أن تؤمن به وتستهدفه. ك ��ان وض ��ع ال�م�ث�ق�ف�ي��ن ف��ي غ��اي��ة ال �غ��راب��ة في الخمسينيات والستينيات ،ال أريد أن أستعيده كثيرا، لكن أدلجة الوعي وفقدان البوصلة الحقيقية جعلهم ال يقوون على قيادة الفكر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ،تركوا للسياسيين هذه القيادة العشوائية فتخبطنا تخبطا شديدا في عواصف عدة، من اتجاهات اشتراكية بذلنا فيها خالصة طاقتنا، وتحالفنا مع الكتلة الشرقية عبر العقدين السادس والسابع من القرن العشرين إلى أول السبعينيات ،ثم االتجاهات المضادة تماما األوروامريكية والموالية للغرب إل��ى درج��ة التبعية ،وال�ت��ي نقضت ك��ل غزل البناء االشتراكي السابق على يد السادات ،ثم كانت فترة التجميد الكبرى في العقود الثالثة الماضية. ما أري��د أن أقوله فيما يتصل بالثقافة ألخصه في ثالث نقاط :النقطة األولى هي أن عدم وضوح الرؤية اللبرالية المتحررة التي تؤمن بالدولة المدنية وبحتمية الوصول إلى التجربة الديمقراطية وسيادة
68
اجلوبة -شتاء 1429هـ
التفكير العلمي أدى إلى تأرجح الشراع العربي خاصة في المراكز ذات الثقل الحقيقي في توجيه السفينة العربية بين تيارين متناقضين :التيار الماركسي الذي كان مؤدلجا إلى درجة كبيرة والتيار المناقض له وال��ذي اشتعل لمقاومته وه��و التيار اإلسالمي. ه��ذه التقلصات األي��دي��ول��وج�ي��ة ال �ح��ادة ه��ي الوجع الحقيقي للثقافة العربية ،لم نكد نبرأ من العصف األيديولوجي الماركسي الذي هدأ بعد سقوط نموذج االتحاد السوفيتي ،حتى بدأنا نتعرض لعواصف أشد ضراوة ،تريد أن تعيد التاريخ إلى الماضي ،وتتصور أن هذا الماضي هو ال��ذي ينبغي أن ينتصب حلما للمستقبل ،وهو تصور مستحيل ال يصح في أي فهم صحيح .وه��ذا التصور يغفل أن كل الشعوب التي سبقتنا إل��ى التنمية وإل��ى التقدم واألخ��ذ بأسباب القوة البد أن تمر من الباب الواسع لمقدس العصر الحديث ،وه��و الحريات في مستوياتها السياسية والديمقراطية وفي مستوياتها االقتصادية. هذا المأزق الذي نواجهه يضاف إليه مأزق آخر ال نستطيع أن نتجاهله ،وهو أن المنظور العام لوحدة اللغة العربية وتجانس العقيدة بين اإلسالم والمسيحية في الوطن العربي يوهم للوهلة األولى أننا بالفعل أمة واحدة؛ لكن التمايزات واالختالفات القطرية الحادة في درج��ة نمو المجتمعات وتطورها بين المشرق العربي والمغرب العربي ،وفي اإلمكانات االقتصادية بين ال��دول النفطية وغير النفطية ،خلقت توترات بالغة الحدة والخطورة في جسد العقل العربي .لو صح ه��ذا التعبير من ناحية ف��إن المجتمعات التي سبقت إلى حركة النهضة مثل المجتمعات المصرية والشامية والعراقية ،والمجتمعات التي أفادها قربها م��ن ال�ب�لاد الغربية ف��ي تجربتها المتوسطية ،مثل الشمال األفريقي تختلف جذريا في درج��ة نموها المجتمعي.
ً ً جديدة متاما عن النقد األيديولوجي الشائع صفحة جتربة فصول كانت الظاهرة الثانية التي أتوقف عندها مليا ،هي أنه على الرغم من ضخامة رؤوس األموال المتوافرة في الوطن العربي ،فكلها مكدسة وغير فاعلة ،والمراكز المالية الغربية واألجنبية ال تستثمر أي شيء منها لتنمية العقل أو الثقافة أو العلم ،في ظل غيبة اإلبداع العلمي عن الخارطة اإلنتاجية للثقافة العربية ،األمر الذي جعلها ثقافة تابعة وهامشية وغير مؤثرة على اإلطالق في حركة الحضارة الحديثة.
اآلن في العلم والمعلومات ،وتملك علما ومعلومات في عصر المعرفة الحديث يمكن أن تمتلك قوة تستطيع أن تجعلك ندا لآلخرين ،ومع ذلك ال يبذلون أي جهد المتالك العلم أو المعرفة وال امتالك المعلومات، ويكتفون بوضعهم االستهالكي والمهمش ،ويعادون العالم معتقدين أنهم ق��ادرون على تغييره ،وهم في حقيقة األمر ال يستطيعون إال تهديده بالدمار. وإذا أضفنا إلى كل تلك العوامل السرطان المتمكن من الجسد العربي والذي استزرع فيه منذ منتصف القرن ،والمتمثل في إسرائيل ألدركنا بشاعة الوضع الكلي للثقافة العربية اآلن ،إذ إنها ترضي األعداء، لكنها ال ينبغي أن ترضي أهلها أو ترضي الغيورين عليها ،ألنها تفتقد العناصر األساسية التالية :أوال سيادة التفكير العلمي ،ألننا ما زلنا محكومين في معظم تصرفاتنا بالتفكير الغيبي إلى درجة كبيرة، وثانيا تفتقد المؤشر /البوصلة الحقيقية لتقدم كل الشعوب حتى اآلن ،وهو اعتبار أن الديمقراطية هي المنطلق الحقيقي للنمو والتقدم؛ على األقل إذا كانت النخبة المثقفة قد آمنت أخيرا بذلك ،إذ ما زالت األغلبية العظمى من أبناء الشعب العربي في مختلف األقطار ال تؤمن ب��ه ،وتكتفي الحلم برغيف الخبز القريب أو مشاغل الحياة اليومية البسيطة ،وتفتقد ال�م�ش��روع الحقيقي ف��ي التنمية الفكرية العلمية؛ ال �ش��يء ال��وح�ي��د ال ��ذي ي�ع��زي قليال وض��ع الثقافة العربية هو أن اإلبداع األدبي فيها يتنامى بقدر اتساع موجات التعليم.
ال�ظ��اه��رة الثالثة والفاجعة أن�ه��ا ثقافة شديدة االغ��ت��رار ب��ذات�ه��ا وش��دي��دة االس�ت�ح�ض��ار لماضيها والفخر به ،ومن ثم فهي مصابة بنوع من حساسية الشعور الحاد بالذات وتضخم االعتداد إلى درجة خطيرة ،وأخذ هذا طابعا أيديولوجيا يتصل بالعقيدة على وجه التحديد ،فعلى الرغم من أننا قد أفرزنا في العقود األخيرة نتيجة للعوامل التي أشرت إليها من َقبْل تيارات إرهابية هددت أمن العالم إال أننا ال نزال نشكو وبملء صوتنا إذا وجه أحد إلينا االتهام بهذا الصدد ،وتصورنا أن هناك حربا ضروسا على معتقداتنا وع�ل��ى دي�ن�ن��ا .ورب �م��ا أدى بعض الحمق السياسي للقوى األحادية الغاشمة التي تتحكم في مصير العالم اآلن ،وه��ي ق��وة ال��والي��ات المتحدة، التي تشهد أغبى إدارة يمكن أن تتوالها ويقودها المحافظون الجدد ،أدى حمق هذه اإلدارة إلى تفاقم مشكلة ما يسمى باإلرهاب السياسي ،الذي أصبح تهمة ال نستطيع أن ندعيها وال نستطيع أن ننفيها في الوقت ذاته ،ألنه بالفعل يستخدم الدين لدى فرقاء كثيرين منا يتوهمون أن في وسعهم إصالح العالم، إن دخول مراكز إنتاج أدبي وثقافي جديدة على وأنهم مفوضون بنشر اإلسالم بالقوة أو على األقل خارطة الثقافة العربية إلي جانب المراكز القديمة، بردع القوى المعادية لهم .وأغرب ما في هذا السياق وب��روز مواهب حقيقية في مختلف مجاالت الفنون هو أنهم يرون بأم أعينهم أن مصادر القوة تتجسد األدبية ،يعود سببه -في تقديري -إلى أن اإلبداع
اجلوبة -شتاء 1429هـ 69
األدبي جهد مشروعات فردية .فبجهدك الشخصي يمكنك أن تصبح شاعرا عظيما لو كنت موهوبا ،أو تصبح روائيا أو كاتبا ،لكن ال يمكنك بالجهد نفسه أن تصبح عالما كبيرا في مجاالت الفلك أو الطب أو غير ذلك ؛ ألن ذلك يرتبط ببنية مجتمع علمي البد من تكوينها ،وبتضافر اختصاصات متعددة وباستثمارات مادية وبشرية ،وبمؤسسات علمية وبمناخ نفتقده في كل أرجاء الوطن العربي دون استثناء. < هل يعني كالمك ه��ذا أن��ه لم يكن ثمة بوادر لمشروع نهضوي فكري عربي؟ > بالتأكيد كانت هناك موجات وب��وادر عديدة، وليست ب��ادرة واح��دة لمشروعات نهضوية عربية، اب �ت��داء م��ن ال �ق��رن ال�ت��اس��ع عشر إل��ى مطلع القرن العشرين ثم إل��ى منتصفه؛ كلها موجات ذات زخم قوي جدا نهضويا ،لكن المشكلة هي تلك التوترات والتقلصات واالنحرافات التي ضلت غاياتها؛ بمعنى أننا كنا في االتجاه الصحيح -كما أسلفت -طالما كنا دوال محتلة وهدفنا األساسي هو االستقالل ،وعندما حصلنا على ذلك االستقالل الشكلي ،لم نعرف كيف ن��دي��ر مجتمعاتنا كما تُ ��دار المجتمعات الحديثة؛ فقد ظللنا نحكم بطرق قبلية أو ديكتاتورية ،وعلى أحسن الفروض بطرق فاشية عسكرية ،وهذا ال يبني مستقبال للشعوب على اإلطالق إلى أن نخرج من هذه ال��دائ��رة ،ون��درك أن الخط االستراتيجي والبوصلة الحقيقية التي توجه طاقاتنا نحو المستقبل البد أن تعبر من باب الديمقراطية الحقيقية ،وليست تلك األشكال المزيفة التي تفننّا في تجميلها وصناعتها، ك��أوه��ام ضخمة ن�ت�ش��دق ب�ه��ا وه��ي غ�ي��ر م��اث�ل��ة في الواقع .جمهورياتنا تتحول إلى ملكيات وهذا مسار سخرية في العالم كله ،لم يحدث في أي منطقة في العالم أن تحولت الجمهوريات إل��ى ملكيات ،لكنه يهدد بأن يصبح هو القاعدة لدينا ،فمعنى ذلك أننا
70
اجلوبة -شتاء 1429هـ
حتى اآلن في مجموع الرأي العام .ودعك من النخب الطليعية مع أنها هي القائدة في إحساس المواطن ال �ع��ادي ب�ض��رورات��ه المستقبلية ،ل��م نكد نستوعب هذه ال�ض��رورة ،وما أتمناه أن تصبح هذه الضرورة هي البديل الحقيقي والمشروع للحلم القومي في الخمسينيات ،فمثال «حلم الوحدة العربية الكبرى» التي تغنى الناس بها تحت زعامة عبد الناصر تبين أنها كانت وهماً؛ ألنها لم تدرك التحديات الحقيقية الداخلية وال�خ��ارج�ي��ة ،وبنية المجتمعات المفككة كانت تحتاج إل��ى توحيد اقتصادي وتوحيد ثقافي وت��وح�ي��د ف��ي درج ��ة النمو ال�م��دن��ي وم�ف�ه��وم الدولة ذاته قبل أن تقفز إلى التوحيد السياسي؛ إذاً القوى السياسية الحقيقية في العالم العربي لم تتجذر لدى عامة الناس ولدى الشعوب ذاتها ،حتى يمكن أن تقوى على فرض إرادتها في تبادل السلطة وتداولها وفي المشروع الديمقراطي والتنموي الحقيقي. < في ضوء مفهوم المثقف القائد وحامل رسالة الوعي والتنوير في المجتمع ..هل هناك مثقفون في الوطن العربي اآلن أم هناك خدام سلطة؟ > ال ينبغي أن نكون قساة على أنفسنا ،ال شك أن الوطن العربي ارتفعت فيه نسبة التعليم وارتفعت فيه نسبة الوعي ونسبة الثقافة؛ فبينما كان المثقفون في العقود الماضية أف��رادا معدودين أصبحوا اآلن فيالق وأعدادا كبيرة ،منهم بطبيعة الحال الموالون للسلطة ،واالنتهازيون ،وترزية القوانين ،وغير ذلك من األصناف التي تشير إليها؛ لكن منهم أيضا المخلصون الحقيقيون وأنا أؤمن أن هؤالء المخلصين لو واتتهم الفرصة ،أو أتيحت لهم الظروف ،سيظهرون طاقات وإمكانات مدهشة. لقد ع��اص��رت ح��ال��ة مثل ذل��ك عندما كنت في إسبانيا حيث شهدت فترتين :األول��ى ،كانت فترة فرانكو ،وق��د طالت ديكتاتوريته نحو أربعة عقود،
ومن كان يعيش في أيام فرانكو لم يكن يتصور أبدا أن هذا الشعب المقموع بالقوة الفاشية لفرانكو يمكن أن يكون فيه مفكرون ومبدعون وساسة من الطراز األول ،لكن عندما مات فرانكو واختار الملك خيار الديمقراطية على عكس ما ك��ان يعده له فرانكو، إذ بالمفاجأة المدهشة أن��ه من بين صفوف آالف المحامين والمهندسين ورجال اإلدارة والتجار برزت إم�ك��ان��ات سياسية وزع��ام��ات ف��رض��ت نفسها على المناخ األوربي بعد ذلك كعقليات مدهشة.
ألنه إذا تأملنا بداية عصر النهضة سنجد أن قادة الفكر في المجتمعات العربية كانوا نقادا من الدرجة األولى؛ ألن النقد يبدأ باألدب ويتسع إلى بقية دوائر الحياة الثقافية والحياة العامة ،وما نفتقده حقيقة في مجتمعنا العربي هو الفكر النقدي ،ألنه إذا شاع الفكر النقدي في السياسة وفي المجتمع ،وفي الفكر الديني ،وفي االقتصاد وفي الثقافة ،كان ذلك إيذانا بارتفاع درجة الوعي ،وخاصة مع شجاعة نقد الذات وشجاعة استبصار المستقبل.
ما أريد أن أقوله هو أن الديمقراطية تصنع وهجها وب�ط��والت�ه��ا وزع��ام��ات�ه��ا ،فقط لترفع الديكتاتورية وال�ق�م��ع وال�س�ل�ط��ات األب��دي��ة المتحكمة ي��ده��ا عن قامات أبناء أي شعب في المنطقة العربية ،وستجد أن عدد النابغين في مجال الممارسات السياسية واالق�ت�ص��ادي��ة والعلمية واإلب��داع �ي��ة ي�ف��وق م��ا كنت تتصوره بمراحل .أن��ا أؤم��ن أن شعوبنا ال ينقصها على اإلط�لاق الوعي وال تنقصها العقليات ؛ بدليل أن معظم المؤسسات الناجحة في العالم الغربي حافلة بالعناصر العربية المهاجرة ،وهي تبدع وتنتج وتثمر على أعلى مستوى ،ألن النظام الذي يعملون ف��ي ن �ط��اق��ه ،وي �ن��درج��ون ض�م��ن ت��روس��ه ،يستخرج منهم أجمل ما لديهم ويبرز أعظم مواهبهم؛ بينما نظمنا تخنق وتقتل وتحبط وتفسد طاقات أبنائنا! كيف يمكن لنا أن نصل في الوطن العربي ولو في عدة دول تبدأ هي بذلك ثم تكر المسبحة بعد ذلك وتتبعها بقية الدول إلى تهيئة الجو لخلق هذا النظام الذي يحل التنافس الحر الخالق واإلبداع الحقيقي محل القمع والفساد والسيطرة والديكتاتورية؟ وهذا هو المنطلق.
وق��د لعب النقد ف��ي عمومه م��ن فكري وثقافي وأدبي دورا رائدا وطليعيا ،وأوشك أن أقول أن النقد األدبي كان هو قاطرة النهضة ،فمثال ال نستطيع أن ننكر دور طه حسين في قيادة الفكر العربي ،عندما كان عميدا له في النصف األول من القرن العشرين، وكان وعيه النقدي الموجّ ه والمنبثق أساسا من الفكر األدب��ي هو ال��ذي يقود ويحرك طاقته لقيادة حركة التعليم ،وقيادة حركة المجتمع وحركة التنوير.
إن ما نحن في أشد الحاجة إليه اآلن هو سيادة الفكر النقدي فإذا ما قصرنا األمر على مجال النقد األدب��ي ،وجدنا أن تراثنا في هذا الجانب اإلنساني خصب وغني ومتنامي إلى درجة ما ،وهو يواكب إلى حد ما تراثنا اإلبداعي ويتوافق معه ألنهما -الفكر اإلب��داع��ي ،والفكر النقدي -هما الجناحان للطائر اإلن�س��ان��ي ذات ��ه ال�ل��ذي��ن يحلق بهما ،ول�ك��ن الجناح المهيض فيهما -كما أش��رت من قبل -هو جناح اإلبداع العلمي واالبتكارات التكنولوجية ،إذ ما زالت ت��درج على األرض ول��م تنطلق بعد ،فلم تحلق ،ولم تحقق إنجازاتها الظاهرة الالفتة في الفكر النقدي، والفكر النقدي يتسم بشئ من الندرة ؛ بمعنى أنه من < برأيك هل حال النقد عامة واألدبي خاصة كما بين عشرة مبدعين مثال يكفي أن يكون هناك ناقدا هو حال الثقافة العربية؟ في مستواهم ،وربما أج��رؤ على القول يكفي ناقد > مسؤولية النقد أشد من مسؤولية اإلبداع ،أوال لكل مائة مبدع؛ ألن المسألة في كل العصور تقريبا
اجلوبة -شتاء 1429هـ 71
س��ارت على هذا النحو ،ونحن نستهدي بمؤشرات الحديث في القرن العشرين ،كما يزدهر اإلبداع في الماضي والحاضر لندرك طبائع األشياء ،مثال كنت الشعر والكتابة واألجناس األخرى يزدهر النقد ،وأن مكلفا برئاسة اللجنة العلمية التي تعد موسوعة هذين القرنين الرابع الهجري أو العاشر الميالدي أعالم األدب��اء والعلماء العرب والمصريين على مر والعشرين يستحوذان على خمسين بالمائة من عدد العصور ،والتي تصدرها المنظمة العربية للتربية المبدعين والنقاد .ولم تنجب القرون الخمسة عشرة والثقافة والعلوم ،وأثناء التخطيط لهذه الموسوعة األخرى إال خمسين بالمائة ،ففترات الزخم والعطاء قلت لهم( :إنه لو كان من المفروض أن يكون هناك هما الفترتان المشار إليهما ،فقد كثر فيهما عدد نحو عشرة آالف عالم فاتركوا للفكر األدبي إبداعا المبدعين ،وبمواكبة ذلك كثر عدد النقاد نسبياً ،مع ونقدا ألفين ،ولبقية الجوانب اإلنسانية في العلوم أن النقاد في كل مرحلة وكل جيل كانوا دائما يصنفون وال �م �ع��ارف ال �ب��اق��ي) .وت �ص��ورت أن م��ن بين هذين في مستويات عديدة ،ال يكاد المستوى األول الذي األلفين (األدب��اء والشعراء والكتاب والنقاد) يمكن يمكن أن نطلق عليه (أعالم النقاد) في كل جيل يزيد أن يكون في المتوسط نحو خمسمائة ناقد ،وأخذت في جميع أرج��اء الوطن العربي عن عشرة أسماء، أع ��د ال �ق��وائ��م األول� ��ى وأس �ت �ع �ي��ن ببعض ك���������������ت���������������اب وإذا أخذنا ذلك من الدراسات التحليلية لإلحصاءات ولإلنتاج ،انتهينا إلى نتيجة المحررين والكتاب ،وإذا بي أفاجأ أن ما ����دة ي ���� ص ���� ق ���� ل ا م�ف��اده��ا أن العملية النقدية ليست في أنتجته الثقافة العربية عبر كل عصورها ال يتجاوز مائتي ناقد مع أنني أعددت فيهم ال���ع���م���ودي���ة كثرة العدد وال في غ��زارة اإلن�ت��اج ،وإنما في نوعية الفكر النقدي ال��ذي يستطيع كل شراح الدواوين والمشتغلين بالبالغة و ق���ص���ي���دة أن يبدع منطلقاته ومبادئه وتصوراته ،وأن والمشتغلين بتاريخ األدب وكل المشتغلين ���ة ل ��� ي ��� ع ��� ف ��� ت ��� ل ا يستوعب اإلبداع ويقوم بإضاءته وإضاءة بتاريخ النقد ،ووج��دت أن النقاد في كل ال�ع�ص��ور ال يمكن أن يصلوا إل��ى نصف أك���ث���ر ق����درة الطريق أمامه ويقوم بوظائفه المتعددة. الرقم الذي قدرته في البداية ،وهم على الظاهرة الثالثة الالفتة فيما يتصل أكثر تقدير يقدرون بمائتي اسم مع تفاوت ع��ل��ى كتابة بالنقد أن كل النقاد الذين اقتصروا على شديد في مستوياتهم .ومع مالحظة أننا ق�������ص�������ي�������دة ث�ق��اف��ة محلية واح���دة ل��م يستطيعوا أن ال ن��درج ف��ي ه��ذه الموسوعة إال أسماء ال���������ن���������ث���������ر .يمضوا أي خطوات في تنمية هذه الثقافة، ال ��ذي ��ن رح� �ل ��وا ف �ق��ط وال ن� ��درج أسماء وأن جميع من مثلوا قيادات فكرية نقدية األحياء ،أخذت مثال أحصي أسماء النقاد طورت وغيرت وأضافت وأنجزت بالفعل، في الوطن العربي .في القرن العشرين ممن رحلوا كانوا من الذين يقفون بين ثقافتين أو أكثر والذين فوجدت أنهم ال يتعدون على اإلطالق خمسين اسما ،أطلقت عليهم المهجنين ،وكما أنه في النباتات قد عبر مائة عام في أرجاء الوطن العربي ،والحظت شيئا تبين علميا أن تحسين الساللة يتوقف على التهجين آخر بالغ الطرافة هو أن فترات االزده��ار والتوهج ففي الفكر النقدي والفكر العلمي كذلك األمر ،ألن ف��ي اإلب ��داع «ال�ف�ت��رات المسماة بالذهبية» ،وهما نسبة عالية م��ن الفكر النقدي تتدخل ف��ي مجال فترتا العصر العباسي الثاني وجزيئا في المرحلة العلم ،ويتوقف اإلنجاز وتحسين الساللة على فكرة األندلسية الملحقة بالعصر العباسي ،ثم فترة العصر التهجين؛ بمعنى أنه لو أخذنا مثال كاتبين معروفين
72
اجلوبة -شتاء 1429هـ
مارسا النقد األدبي في العصر الحديث ،وكانا يمثالن قطبي الرحى المتناقضين في مطلع القرن العشرين، وقامت بينهما في العقود األولى من القرن العشرين م�ع��ارك ض��اري��ة مثل الرافعي وط��ه حسين ،سنجد أن مصطفى ص��ادق الرافعي كان من أق��وى وأنضج وأشد كتاب العقود األولى من القرن العشرين امتالكا لناصية الفكر العربي والثقافة العربية وق��درة على البيان المعجز ،وامتالكا ألسلوب بالغ القوة والجمال؛ لكنه كان إمام السلفيين ودعاة العروبة واإلسالم من داخلهما واالكتفاء بهما؛ بينما كان طه حسين واحدا من أولئك األزهريين الكبار المتمردين الذين أتموا تعليمهم في الثقافة الغربية في فرنسا ،وامتلكوا ناصية الفكر العربي القديم وطعموه وهجنوه ولقحوه بخالصة العلم والمعرفة وال�ف�ك��ر ال�غ��رب��ي والنقد الغربي الحديث. من الذي طوّر األدب العربي؟ ومن الذي قاد حركة البحث فيه؟ ومن الذي نمى اتجاهاته الجديدة في الرواية والمسرح والفكر والمقال والكتابة؟ ومن الذي أوج��د تيارات أضافت إل��ى األدب العربي إضافات مهمة وي��ذك��ر بوصفه على رأس م��درس��ة ومرحلة جددت الفكر واألدب العربيين؟ هل هو الرافعي مع قوته وعرامته وعنفوان امتالكه للغة العربية أم طه حسين؟ ما أريد أن أقوله هو أن هذا النموذج القريب منا هو الذي تكرر عبر التاريخ الفكري والثقافي العربي بأكمله ،سنجد أن أبرز النقاد منذ العصر العباسي حتى اليوم كانوا هم الذين امتلكوا لتطوير النقد والبالغة العربية زمام الثقافة الفارسية واليونانية، ووظفوا مقوالتهما ،واستطاعوا بهذا أن يطوروا الفكر النقدي العربي ،بل يصل بنا التأمل في بعض األحيان إلى أن هذه الخاصية ذاتها إلى حد ما موجودة لدى المبدعين أنفسهم ،فلو استعرضنا أسماء ابتداء من
أبي نواس ،وبشار بن برد ،وأبو تمام ،والمتنبي ،وأبو العالء المعري ،وابن الرومي ،لكي نذكر أعظم خمسة شعراء في تاريخ اللغة العربية سنجد أن ثقافاتهم مزدوجة فارسية ،عربية ،رومية ،يونانية ،وليست مقصورة على العرق األساسي العربي ؛ بمعنى أنه كما الفكر النقدي يعتمد على التهجين ،كذلك الفكر اإلب��داع��ي الجديد -إل��ى حد ما -يعتمد على هذا التهجين أيضا. < لكن هذا التهجين كانت له سلبيات في العصر الحديث مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، عندنا شاهد على ذلك مجلة (فصول) ،التي مثلت كتاباتها لغزا للقراء والمتخصصين على السواء قراءة دراسة نقدية فيها تماثل فك طلسم؟ > س��أق��ول ل��ك شيئا بسيطا ف��ي ه��ذا الصدد، دائما -وليس في تجربة فصول وحدها ،لكن في كل التجارب النقدية الكبرى في الوطن العربي في العصر الحديث على األق��ل لو اقتصرنا عليه -ما نجد أن ال��ذي��ن ي�م��ارس��ون الفكر النقدي يمكن أن نقسمهم إل��ي فئتين :األول��ى ،تمتلك ناصية الفكر ال�ن�ق��دي ال�ع��رب��ي واإلب� ��داع ال�ع��رب��ي ال�ق��دي��م وتمتلك الوعي بالثقافة المحلية والجذور التراثية ،وتمتلك ل�غ��ة م�ت�ب�ل��ورة ن��اص�ع��ة وج�م�ي�ل��ة ،وال�ف�ئ��ة ال�ث��ان�ي��ة من الشباب والمبتدئين الذين لم يقرأوا شيئا من تراثهم، ولم يحيطوا بعناصره األساسية ،وقفزوا على معرفة بعض العناصر النقدية بلغات أجنبية خيّل إليهم أنهم يتقنونها؛ بالطبع ستجد كتابات هذه المجموعة األخ�ي��رة فجّ ة وغير ناضجة أو مفهومة؛ ألنهم لم يستوعبوا شيئا .أنت ال تستطيع أن تطور في ثقافات ال تملكها .والتهجين تطوير؛ بمعنى أنه البد من أن تمتلك ناصية اللغة وثقافتها وأن تقرأ تراثها وتتشرب ب��ه ،بهذا وح��ده يمكن امتصاص واختيار العناصر التي يمكن أن تغذي هذه الثقافة ،ثم يحدث بعد ذلك
اجلوبة -شتاء 1429هـ 73
ما يشبه عملية التركيب بين هذه العناصر ،لتأتي (مشكلة البنية) وهو في الفلسفة ولم يكن متداوال في مزاج جديد بعد تهيئة األفكار والمبادئ وتركيب في النقد األدبي .كانت فصول تحرث في أرض بكر، معدالتها في إنتاجه وإنجازه النقدي الجديد .بمعنى وأن��ا مثال منذ العدد األول حرصت على أن أقدم أن الترجمة أمرها معروف ،إما أن يكون المترجم بابا اقترحته وكتبت فيه اسمه (تجربة نقدية) ،كنت ق��ادرا على اللغتين ،ومبينا فيهما؛ فتصبح ترجمته أت�ف��ادى ف��ي ه��ذا ال�ب��اب استخدام مصطلح جديد، جيدة وإما أن يكون غير قادر في لغته أو اللغة التي ألنني ال أريد أن أضع عوائق بيني وبين القارئ ،كنت ينقل منها وستكون الترجمة زائفة أو غير مفهومة ،أشرح فكرة المصطلح له وال أصدمه بالكلمة؛ ألنني لكن التحليق /التوليد أمر آخر يختلف عن الترجمة؛ عندما أشرحها سيدركها لكن ال أصدمه بالكلمة، بمعنى أن الناقد العربي عندما يستصفي ويستقطر غيري كان يتباهى بأن يقدم درعه الذي يتحصن به، ويمتص ويوظف بعض المنهجيات العلمية الحديثة ،ويريد أن يصدم به القارئ ،يريد أن يتباهى بجدته، فهو يخضعها بهضمه لها إلى إع��ادة تمثيل من نوع وم��ن ثم ال يمكن أن تحتضن من يضع على صدره جديد ،ويدمجها في نسقه الفكري وفي لغته ،ومن ثم درع��ا ألنه سوف يؤلم أضالعك ،لكن من يحضنك عندما يقوم بالتعبير عنها يكون بالغ الوضوح ،وسوف بحنو ورف��ق دون دروع ودون رم��اح ستبادله عشقا يصل إليك ،أما أن يكون تسعين بالمائة من الكتابات بعشق .ما أريد قوله أن هذه المسألة فردية ،ونسبة النقدية تفتقد ه��ذا النضج وتفتقد تلك الشفافية كبيرة من كتابات فصول كانت تتسم بهذه العقول، وتلك البلورة ،فهذا شأن كثير مما نقرؤه من نصوص التي تشير إليها ،لكن كتابات كبار الكتاب الناضجين، إبداعية لم تبلغ درجة نضجها واكتمالها درجة كبار وحتى من كان بصدد أن يصبح كبيرا فيما بعد ،كانت المبدعين ،الذين نستمتع ونفيد حقيق ًة من قراءتنا مختلفة ،ووجدت صداها لدى القراء. لهم ،ويفتحون أمامنا آفاقا جديدة .فما ينطبق على < يرى البعض أن الرواية العربية اآلن في حالة النقد في تراوحه ،بين ما هو رديء وصعب ومستغلق ازده��ار وت��ردد مقوالت زمن الرواية والرواية ديوان وال ج��دوى منه ،ينطبق على بقية أن��واع الكتابة في ال �ع��رب ..ه��ل تشهد ال ��رواي ��ة ال�ع��رب�ي��ة استكماال مختلف المستويات ،وليس بدعا منها. لمسيرتها التي ب��دأت بنجيب محفوظ م��رورا ببهاء لكن أريد أن أنبه إلى شئ في هذا الصدد يتصل في مجلة فصول على وجه التحديد ،ألنني كنت واحدا من «المذنبين الثالثة « في إطالقها عام 1980م وهي أنها كانت تمثل انقالباً وثور ًة وصفح ًة جديد ًة ومنطلقا مختلفا تماما عن النقد األيديولوجي الشائع ،الذي كانت تلوكه األلسن ،ولم يعد يعني شيئا .كانت تمثل نقل ًة معرفية حقيقية لم يتم التمهيد لها إال بكتب قليلة ج��دا ،منها كتابي عن نظرية البنائية ،ومنها كتاب كمال أبو ديب عن جدلية الخفاء والتجلي فقط تقريبا ،وال ننسى كتاب المرحوم د .زكريا إبراهيم
74
اجلوبة -شتاء 1429هـ
طاهر والغيطاني وأصالن والبساطي وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم لدى األجيال الجديدة؟
> أنا من أكثر الناس انشغاال كما تعرف بقراءة الشباب وإنتاجهم ال��روائ��ي ،س��واء في مصر أو في ال��وط��ن ال �ع��رب��ي ،وأج� ��د ف��ي ك��ل ل�ح�ظ��ة مفاجآت مدهشة لكشوف روائية جديدة تبهرني .وأنا أومن بأن عبقرية المخيلة العربية قد انطلقت من قمقم هذا ال��وادي ،وأنه ال سبيل إلى تحجيمها أو كبحها ع��ن ه��ذا االن �ف �ج��ار ال�ب��رك��ان��ي اإلب��داع��ي الجميل. ومنطلقا من الشواهد التي أقرؤها كل أسبوع وأكتب
عن بعضها وال أكتب عن بعضها اآلخر ألن طاقتي ووقتي ال يتسعان الحتضان كل نماذجها البديعة ؛ أستطيع أن أقول أن الرواية في عافية وفي فترة نمو جبارة ،وألنها جنس بالغ القدرة على التشكل وجنس تجريبي ومبتلع لألجناس األخ��رى؛ تجد فيها الفن التشكيلي والشعر والمذكرات والحكايات ،وتجد فيها األساطير وواقع الحياة الملموس ،وتجد فيها الخيال العلمي وكل (الهذيانات) البشرية ،ألنها كما أشرت مرة مثل جلد الفرا الذي يتسع لكل شئ ،فهي عوالم كاملة تختمر وتتفجر وتنطلق .وأظن أن ما ينتظرنا من مفاجآت مدهشة وإنجازات جديدة أكثر بكثير لدى الرجال والنساء والشباب والكبار ،مما شهدناه حتى اآلن ،هذه واحدة ،لكن باإلشارة إلى عبارة وردت في كالمك أنه شاعت مقولة أننا في عصر الرواية أنا اختلف عن هذه المقولة على الرغم من الخاصية التي ذكرتها اآلن ،ألن عصر الرواية بمعنى أن الرواية تقتل غيرها من الفنون األخ��رى ،هذا غير صحيح ألن الرواية تفجر الشاعر وال ترثه وال تحل محله وتستوعبه وتبتلعه لكنها ال تؤدي وظائفه. الرواية ال تحل محل الشعر ،الشعر في الثقافة العربية عنصر جوهري ،وغاية ما هناك أنه الديوان الوحيد للعرب .العرب كانوا فقراء في األجناس األدبية ليس لديهم مسرح ،وليست لديهم درام��ا وال فنون تشكيلية وال أشكال نحتية ،حتى الفنون الزخرفية اإلسالمية كانت تنمو على كره ومضض.والشعوب ذات التجربة اإلب��داع�ي��ة العريقة مثل المصريين والعراقيين والفنيقيين اض�ط��روا في فترات المد اإلسالمي إلى تقليص اهتماماتهم حتى تتواءم نسبيا مع العقيدة الجديدة ،ألن الفهم الصحراوي للمسلمين من تحريم الصورة إلى حد ما أعاق عمليات اإلبداع، عبر عصور طويلة ،فلم يكن لدى العرب سوى الشعر، كان الشعر هو ديوانهم الذي ال ديوان لهم غيره ،أما
اآلن فاإلنسان بدال من أن يسكن في مسكن مكون من حجرة واحدة يمكن أن يسكن في قصر فيه بهو ترتج أرج ��اؤه بالموسيقى العذبة الجميلة وتتناثر أصداؤها ،وفيه بهو آخر حافل بالفنون التشكيلية م��ن رس��م ون �ح��ت وع��م��ارة ،وث��ال��ث ح��اف��ل بالرواية والسرد والقصص ،وآخر جديد حافل بفنون الصورة والسينما والتليفزيون وغير ذل��ك ،فتلك الدواوين الجديدة التي تضاف للفنون العربية لن تسلب الشعر عرشه وال أهميته ،خاصة إذا أخذنا في االعتبار أمرين على قدر كبير من األهمية ،أولهما :أن الحاجة إلى الشعر تكاد تكون حاجة ليست روحية فقط وإنما بيولوجية جسدية ..هل تعرف مثال أن ماليين البشر ال يستطيعون أن يمضوا يوما واحدا دون أن يسمعوا �ان ،أليست ه��ذه األغنيات هي على األق��ل ع��دة أغ � ٍ وجبة الرغيف الصغيرة من الشعر التي نتناولها كل يوم وبدونها تعطش أرواحنا وعواطفنا وآذاننا إلى النغم الجميل؟ وإلى الشعر الجميل ،ليكن هذا الشعر مكتوبا بالفصحى أو العاميات المختلفة ،هذا ال يغير شيئا ،فهو شعر في نهاية األمر؛ وثانيهما :هل يمكن أن يتصور القارئ مثال أن اللغة وهي أداة اإلنسان للفكر وأداة العقل لألعمال وممارسة وظائفه في اإلنتاج الفكري والمعرفي والعلمي ،هذه اللغة تتردى، وت��زول معالمها ،ويضعف تأثيرها ،وت��رق ،وتتالشى على ألسنتنا في االستخدام اليومي ،ويصيبها الوهن وال�ض�ع��ف وأي �ض��ا رداءة االس�ت�ع�م��ال ..تفقد اللغة كثيرا من نداوتها ،وحيويتها ،وطاقتها التعبيرية في االس�ت�خ��دام اليومي ،وال�ع�لاج السحري للغة الذي يعيد لها قوتها وشبابها ونداوتها وحيويتها وفعاليتها الشعر .فالشعر هو الذي يعيد تجديد اللغة كلما رثت وضعفت ،الشعر عنصر جوهري في تجديد اللغة، وعندما أقول تجديد اللغة أقول إعطاء العقل أدواته للتفكير ألن اإلن�س��ان يفكر باللغة ،ه��ذا فضال عن اإلشباع الروحي والوجداني واإلنساني الهائل الذي
اجلوبة -شتاء 1429هـ 75
يقوم به الشعر؛ ومخيلة اإلن�س��ان يمكن أن تصاب بالضعف وال��ذب��ول مثل لغته والعنصر األساسي لشحذها مرة أخرى وشحن طاقتها هو الشعر. < لكن هناك من يرى أن الشعر في حالة انطفاء اآلن ..برأيك ما هي األسباب إذا كنت تسلم بذلك؟
أعددتها كان أبناء جيلها يعتقدون أنهم شعراء صغار مبتدئون ،اآلن نسلم جميعا أنهم شعراء كبار وعباقرة ويثرون أي ثقافة ويرفعون رأس أية لغة ،وبيننا اآلن من الصف الثاني من سيرثهم ومن ستصبح قاماتهم مثلهم وإن كنا ال ندرك ذلك في مثل تلك اللحظة.
< لكن أنت لك موقف من الشعراء الجدد وقصيدة > ال ..أنا ال أسلم بذلك؛ ألني ال أستطيع أن انظر النثر وشعرائها تحديدا؟ إلى الظواهر في ح��دود السنوات الخمس أو العشر > موقفي ببساطة أفيد فيه من تجربة األجيال ال�ت��ي تقع فيها ه��ذه اللحظة ،أن��ا أن�ظ��ر إل��ى األمور بمساحة زمنية كافية ك��أن انظر إل��ى عصر بأكمله ،الماضية ،كان يثير إشفاقي كثيرا عندما أقرأ مثال العصر ال��ذي نعيش فيه في الثالثين سنة األخيرة ،لعباس محمود العقاد ثورته الضارية في الديوان على وهي مدة الجيل الطبيعي ،من السبعينيات حتى اآلن أحمد شوقي ،ومحاولته هو والمازني تحطيم أسطورة شهد هذا العصر قمما شعرية بعضها رحل والبعض شوقي وحافظ بوصفهما مجددين وروادا للقصيدة اآلخر ما زال بيننا حتى اآلن ،لست بصدد تعدادها ،الرومانسية الحديثة وللشعر الوجداني ولغير ذلك. هذا العصر شهد نزار قباني وأدونيس وعبد الوهاب ثم عندما تقدم بهما العمر إذا بهما ينقلبان إلى أعتى البياتي وص�لاح عبد الصبور وأح�م��د عبد المعطي المحافظين ،خاصة العقاد وقصته مشهورة في إحالة حجازي وسعدي يوسف ومحمد عفيفي مطر ومحمود ديوان صالح عبد الصبور لالختصاص النثري ،هذه درويش ،وأستطيع أن أعد حتى عشرة أسماء كل منها الواقعة أفادتني كثيرا ؛بمعنى أنني منعت نفسي جدير بالحصول على جائزة نوبل إذا اتخذناها مقياسا عن التشبع بالنماذج التي صاحبت نمو إمكاناتي لإلبداع ..عصر يشهد على األقل عشرة أسماء يمكن النقدية وصاحبت فرصة تطبيقاتي على إبداعها، أن تحصل على نوبل نعده عصراً مات فيه الشعر ما متيحا الفرصة دائما ألن تجد هناك أشكاالً ورؤىً هذا الهراء؟ أي ثقافة يكفيها ثالثة من هذه األسماء وأطرا غير التي قد تعودت عليها ،دون أن أستطيع ل�ك��ي ت��زه��و ب�ه��م ف��ي ع�ص��ر ب��أك�م�ل��ه ،أن��ا دائ �م��ا أردد سلبها مشروعيتها وأحقيتها في الوجود وأهميتها أننا نعيش عصراً ذهبيا في الشعر العربي في هذه في حينها ،بل والتنبؤ لبعضها بأنه يمكن أن يتفوق العقود األخ�ي��رة ،وم��ن ثم ال ينبغي أن نكون قاصري على النماذج السالفة؛ مثل هذا المنطلق المبدئي النظر عندما نتصور أن األسباب التي تلتهم وستحل يجعلني مثال أقول إن الثورات الشعرية األربعة التي محلهم ال زالت قصيرة القامات في تقديرنا ،ألن لعبة مرت بالقصيدة العربية عبر القرن العشرين ،وهي القامات مثل لعبة أعمدة النور في اإلض��اءة ،وكلما الثورة الرومانسية بتمثالتها الثالث في شعر المهجر اقتربت اإلضاءة من عمود النور لم تسقط إال مساحة وشعر مدرسة الديوان وشعر مدرسة أبوللو ثم ثورة ضئيلة كظل لها ،وكلما بعدت عنه امتد ظل العمود قصيدة التفعيلة في منتصف القرن والشعر الحر كما حتى يطال الفضاء بأكمله .فدائما القامات الكبرى في كنا نسميه حينئذ ،ثم ثورة قصيدة النثر في العقود تصوري عندما نقترب منها ال ندرك حجمها نتصور األخيرة من القرن العشرين. أنها صغيرة بينما عندما يأتي كل هذه األسماء التي ه ��ذه ال �ت �ح��والت ال �ك �ب��رى ف��ي حقيقة األم���ر لم
76
اجلوبة -شتاء 1429هـ
تستوعبها الذائقة العامة حتى اآلن ،ويكفي للداللة حقيقة أيضا لكن على الرغم من كل تلك الحقائق على ذلك أننا إذا أمسكنا بأي كتاب مدرسي ال نجده أنا أؤمن أن قصيدة التفعيلة لها شرعيتها وضرورة في أي بلد عربي قادرا على استيعاب هذه التحوالت استمرارها ،وأن المهم في قصيدة النثر أن تحقق كلها واالع �ت��راف بشرعيتها ،سنجد بعض الكتب الشعر على ال��رغ��م م��ن فقدانها لإليقاع المتعارف يقف عند المرحلة اإلحيائية التي كان يمثلها شوقي عليه ،وأن القليل م��ن شعر قصيدة النثر ه��و الذي وحافظ والزهاوي وغيرهم ،ونجد بعضها يقف عند يحقق هذا الشرط ،وقد هدتني بعض اجتهاداتي إلى مدرسة الرومانسية في المهجر وأبولو أو الديوان ،أن صناع هذا القليل ،غالبا ما يكونون ممن أتقنوا القليل منها يقف عند مدرسة التفعيلة ،وس��وف ال قصيدة التفعيلة أو الشعر العمودي أو ما هو من قبيل نجد أي كتاب مدرسي ينتهي إلى االعتراف بشرعية ذل��ك .يعني أنا أكثر ثقة بالنصوص التجريبية التي قصيدة النثر ،ألن عقلية القائمين على التعليم ال يكتبها كتاب قصيدة النثر إذا كان لهم ماض في كتابة الشعر الموزون قبل ذلك ،سواء شعر التفعيلة أو الشعر تستوعب كل هذه التغيرات في وقت واحد. العمودي ،وأقل ثقة في من يفتقدون الحس الفكر النقدي الب��د أن ي�ك��ون مخالفا لهذه العقيدة التربوية ،البد أن يكون فكرا أم������������������������ارس الموسيقي ول��م ي �م��ارس��وا ك�ت��اب��ة قصيدة التفعيلة ،ولم يقيموا وزنا عروضيا ،أنا أقل يتسم بالتحرر ،يتسم باإليمان بأن اإلبداع حاليا النقد ثقة بهؤالء ،وال أتوقع أن يبدعوا أنماطا ال يمكن أن يتم ف��ي أط��ر ج��اه��زة سابقة التجهيز ،يتسم بالثقة في الطاقات الخالقة ا لتطبيقي إيقاعية جديدة ضمن قصيدة النثر.
وه������و مهمة
والموهوبة على أن تبتكر أشياء جديدة ،ومن ثم ال تزال تجربة النثر بالنسبة لي ال تغطي صعبة أدرك في منظوري مساحة الشعر العربي كله كما > المشكلة ف��ي ال�ق�ص��ة ال�ق�ص�ي��رة في يدعي أصحابها ،لكن ال يمكن لعاقل ذو خ���ط���ورت���ه���ا رأي��ي تتمثل ف��ي أم��ري��ن :األم��ر األول ،أنها حصافة نقدية أن ينكر شرعيتها وأهميتها انتشرت في العقود التي أحاطت بمنتصف وقدرتها على تخليق نماذجها العظيمة ،أن تكون هذه القرن نتيجة انتشار الصحف وحاجتها إلى تخصيص النماذج العظيمة قليلة بالنسبة لغثاء اإلنتاج الكثير في صفحات أدبية بعضها ال تملؤه إال القصص القصيرة، قصيدة النثر وهذا واقع نعترف به جميعا ،وأن تكون فكانت استجابة القصة القصيرة لهذه الحاجة مرتبطة هذه النماذج صادمة للذائقة العربية التي تعودت على بتلك الضرورة اإلعالمية؛ واألمر الثاني ،أنه برزت لدينا أن تتلقي اإليقاع ب��األذن ،هذا ال نستطيع أن ننكره ،عبقريات حقيقية ف��ي إن�ت��اج القصة القصيرة ابتدا ًء أن تكون تتمثل فيها درجة أعلى من الوعي الثقافي بمحمود تيمور إلى يوسف إدريس ،بعد هذه العبقريات بجماليات معاصرة ،يمكن أن نطلق عليها جماليات الكبرى في القصة تضاءلت حاجة الصحف إلى القصة االخ �ت�لاف ال�ت��ي ال يستعد كثير م��ن ال�ن��اس تقبلها ،القصيرة ،فلم يصبح ثمة طلب عليها واش�ت��د الطلب القليلون هم الذين يستمتعون بجماليات االختالف على الرواية في سوق اإلعالم والنشر ،ومن ثم ازدهرت بينما األغلبية العظمى ال يستمتعون إال بجماليات ما الرواية وتقلصت مساحة القصة القصيرة ،لكن كثيرا يتوافق مع األنماط التي درجوا عليها ويعرفونها ،هذه من كتاب القصة القصيرة يلجأون اآلن إلى ما أسميه < ع� ��ودة إل� ��ى ال� �س ��رد ،أي� ��ن القصة القصيرة ،وأين موقعها اآلن؟
اجلوبة -شتاء 1429هـ 77
الكتابة العنقودية ،وهي كما يتضح من عنوانها تتمثل في إبداع مجموعات من القصص القصيرة تربطها روابط من نوع ما ،بما يجعلها أشبه بالعنقود الذي تسري في حباته النكهة نفسها ،وتتذوق فيه الحالوة ذاتها؛ وإن كانت كل حبة منه تنفرد بشكلها وبنائها الخاص ،هذه الكتابة العنقودية أظن أنها تطوير ذكي ج��دا ،وألمحه عند بعض كتاب القصة القصيرة تجاوزا لمأزق القصة القصيرة ،ألن المجموعات القصصية الجيدة نادرة، والبد أن نشهد بذلك ،والذين برعوا بعد موجة يوسف إدري ��س العاتية ي��وس��ف ك��ان يمثل موهبة فنية جبارة ومذهلة لم ينبت في الفضاء العربي مثلها ،وهو بهذه المناسبة لم يأخذ حقه كما ينبغي حتى اآلن قلة قليلة جدا ربما أذكر منهم محمد المخزنجي وإبراهيم أصالن ال من يطاول تلك القامة الساحقة ،لكن الطريف أن ك ً من أصالن والمخزنجي يمارسان هذه الكتابة العنقودية ويداعبان األشكال الروائية ،ويتطوران بتجربتهما إلى صيغة (ال�ن��وف��ل) وه��ي القصة القصيرة الطويلة التي ال تتجاوز صفحاتها من خمسين إلى سبعين صفحة. وه��ذا حل وس��ط ربما ك��ان ينافس ال��رواي��ة في قراءته وحالوته وقدرته على استقطاب اهتمام القراء .ومثل آخر ما ق��رأت في هذا الصدد مجموعتان لكاتب بور سعيدي ،أدهشني بلغته ،اسمه «جمال مقار» ووجدت لديه نفسا جميال وغريبا في القصة القصيرة وأخر مجموعة قرأتها له «سفر الطفولة» و«نصري والحمار»، وهما قصتان شبه طويلتين في كتيب واحد وتتمثل فيهما الخاصية العنقودية. < قبل أن ننتقل إلى مشروعك النقدي ..نتوقف مع النقد داخ��ل األكاديميات المصرية فهو يعاني ضعفا ورداء ًة نتيجة بقائه داخل أطر قديمة بماذا تفسر ذلك؟ > ه��ذه ظ��اه��رة حقيقية وه��ي مرتبطة بتردي األوضاع الجامعية كلها ،ألن من بين خمسين أستاذا يمكن أن تعثر على ناقد واح��د ،فالغالبية العظمى
78
اجلوبة -شتاء 1429هـ
دارس��ون فاقدو الموهبة وال��وع��ي بالواقع ،وفاقدو اإلدراك بتحوالته وتغيراته السريعة وفاقدو االهتمام ب��ه ،وك��ان كل همهم أن يعكفوا على اآلث��ار القديمة لألدباء القدماء ليلوكوا األحكام التي يرددونها والتي قرأوها عشرات المرات عن هؤالء األدباء القدماء، م��ا زال ه�ن��اك م��ن يتصور أن مهمته تقتصر على تخصصه في األدب الجاهلي وتكتمل أستاذيته بهذا، دون أن يدرك أن الوعي بهذا األدب نفسه ال يمكن أن يتم إال في ضوء تمام المعرفة العلمية الحديثة، بكل جوانبها المختلفة وام �ت�لاك ج��وان��ب تحليلية تجعله قادرا على أن يعيد قراءته .لدينا تردي شديد في مستوى األس��ات��ذة األكاديميين ،وه��ذا في رأيي يعود إلى عاملين جوهريين ،ليس في األدب والنقد فقط ،بل في جوانب المعرفة كلها والتخصصات المختلفة ،ال�ع��ام��ل األول ه��و ف�ق��دان ال�ت��واص��ل مع التيارات العالمية ،فمعظم هؤالء لم يخرج من جدران معهده ،وكليته منذ أن كان طالبا حتى أصبح أستاذا، ومثل هذا االقتصار على الثقافة الواحدة ال يمكن أن يؤدي إال إلى السطحية وأحادية الرؤية واالنغالق، وه��ذا مرتبط بما قلته من قبل؛ بمعنى أن موجات البعثات التي تعيد للجامعات شبابها وتطعم مناهجها بالفكر العالمي قد انحسرت أو خمدت تماما .معظم أساتذة األدب في الجامعات المصرية لم يبرحوا كلياتهم ،وإن تركوها فباإلعارة إلى كليات أدنى منها شأنا وأقل درجة في المعرفة ،وال تضيف إليهم ،بل تنتقص منهم الكثير ،فيتدهورون في هذه الجامعات التي يعارون إليها ،بينما تنتفخ جيوبهم بما يحتاجون إليه من قوت أوالدهم ،ومن ثم فقدان النسق الحي من التواصل المعرفي بالجامعات الكبرى في العالم وبالحركة العلمية فيها هو السبب الرئيسي لهذا التردي ..والسبب الثاني واضح ومترتب على السبب األول ،وه��و ف�ق��دان الطموح الشخصي ألن هناك كثيرين لم يقدر لهم أن يظفروا بمثل هذه الفرص
من التواصل لكنهم استطاعوا أن يحفروا بأظافرهم أنفاقا يعبرون منها إل��ى العالم ،ويمسكون بضوء الشمس م��ن ال�ط��رف اآلخ��ر ،وه��ؤالء قلة ال تتعدى نسبتهم الواحد في المائة ،ومن ثم فالبقية عجزة وكسالى وهم مدرسون متضخمون ،وربما كان بعض مدرسي مراحل التعليم األول��ى ،أكثر منهم حيوية ونضجا وقدرة على العطاء! < أين يقف مشروعك النقدي اآلن؟ > كلمة تثير الشجون ،وأفهمها على أنها ال تعني التوقف ،وإن�م��ا تعني اللحظة فيما يتصل بمشروعي النقدي الذي بدأته كما بدأه كل النقاد الكبار بالتعرف.. أوالً هو ب��دأ بأنني كنت منقوعا في الثقافة والتراث العربيين ألنني أساسا حصلت على الثانوية األزهرية ثم ذهبت إلى دار العلوم الستكمال المعرفة العميقة بالتراث العربي القديم ،واستشراف اآلفاق اإلنسانية الجديدة للفكر العالمي ،ثم وجدت أثناء بعثتي في الستينيات أن لغة النقد قد اختلفت في العالم كله ،وأن��ه قد شبت ث��ورات علمية في النقد هي ث��ورة البنيوية وما بعدها. فجعلت همي األول التأسيس المعرفي لهذه الثورات عبر مجموعة من الكتب النظرية ،من أهمها :نظرية البنائية، ومنهج ال��واق�ع�ي��ة ،وع�ل��م األس �ل��وب ،وب�لاغ��ة الخطاب، وعلم النص ..بعد ه��ذا االحتشاد النظري واستيعاب المعطيات النظرية ف��ي الفكر العالمي م��ن المناهج الحديثة ،وال��ذي تبلور ف��ي خالصة صغيرة أسميتها (مناهج النقد المعاصر) ،كان البد أن أطرح ذلك على اإلبداع العربي فأخذت أمارس شيئا منتظما ودءوبا من النقد التطبيقي ،في الشعر والرواية والمسرح ،وفي ما يمكن أن نسميه الدراسات عبر النوعية أو الفنية بين الفنون المختلفة إل��ى جانب االهتمام الخاص باألدب المقارن ،والكتابة فيه بثالثة كتب ،أعتقد أنها أضافت شيئا إل��ى دراس��ات األدب المقارن .وك��ل ه��ذا ك��ان في مرحلة التأسيس النظري واالنطالق التي كانت أعمالي
فيها تنشر في الكتب أو في أبحاث متخصصة. النقلة النوعية ال�ت��ي ح��دث��ت منذ م��ا ي�ق��رب من عشر س �ن��وات ،وخ��رج��ت بها م��ن مجال الدراسات المتخصصة في المجالت والكتب إلى أفق الثقافة وال�م�ت�ل�ق��ي ال��ع��ام ،ج ��اءت ع�ن��دم��ا ب ��دأت أك �ت��ب في الصحف وف��ي المجالت الثقافية وال�ع��ام��ة ،حدث تحول في لغتي بعد أن كانت مكتنزة ومكثفة وعلمية أخذت تخف قليال ،وتنحو إلى جماليات كتابة المقال النقدي واألدب��ي ،بحيث تصبح أكثر ليونة ورهافة وقابلية للفهم وق��درة للتواصل مع القراء ،لكن ظل همي في هذه المرحلة األخيرة هو النقد التطبيقي خاصة ،حيث أدركت أن التجربة النقدية تسفر عن مركب جديد ،ال يصبح فيه اإلنسان ص��دى لغيره، وإنما بعد أن يحتشد ويستقل يصنع مركبه ومنظوره ورؤيته ويمارس بها كجهاز نظري مضمر؛ في هذه الفترة أجمع بين شقين كانا متباعدين إلى حد كبير، الشق األول ،نوع من الصرامة المنهجية والعلمية في االختيار والرؤية والتحليل والدقة العلمية؛ والشق الثاني ،البساطة والشفافية في التعبير ومحاولة اجتذاب القارئ والتفاعل الخالق والتواصل العاشق معه ..كيف يمكن وهذه معادلة صعبة أدرك خطورتها في اآلن ذاته أن تجمع بين صرامة علمية من ناحية وتذوق واستطعام إبداعي من أعمال فنية وإشراك القارئ معك في تذوق هذه األعمال لعل هذا المزاج للمنهجية من ناحية ،واألدبية من ناحية ثانية ،هو الذي حاولت أن أق��ارب به النصوص ،وخاصة النصوص ال�ط��ازج��ة ،ال�ت��ي خ��رج��ت لتوها م��ن ف��رن اإلب ��داع.. والمقاربات المتابعة في إبداع الشباب دائما ،كانت تمثل بالنسبة لي أولوية ألن صناعة المستقبل البد أن تبدأ بتحليل اللحظة الراهنة وتوجيهها والمشاركة في صنعها ،وفي تصوري أن النقد شريك وشريك فاعل في اإلبداع في تحريك الحياة.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 79
عالم اللسانيات التونسي عبدالسالم املسدي ل (اجلوبة):
جنحنا في تأسيس هوية لعلم اللسانيات ..لكن الثمار ليست على مستوى اجلهد.
> حاوره عصام أبوزيد عبدالسالم المسدي واحد من أبرز المتخصصين العرب في حقل الدراسات اللسانية المعاصرة وهو أحد الدارسين القالئل الذين تجاوزوا مرحلة النقل والترجمة من الغرب إلى آفاق التوليد واالستحداث وم ��واءم ��ة ال�ع�ل��م ال�ك�ل��ي ل�ت��اري�خ�ي��ة ون��وع �ي��ة لغتنا العربية.
السنين ،فاللسانيات فتحت المجال لتأسيس منهج جديد في فهم الظاهرة اللغوية البشرية بحيث أصبح علم اللغة الحديث يختلف في مفهومه وهويته المعرفية عن هوية فقه اللغة القديم.
< يبدو مصطلح اللسانيات جديداً على ثقافتنا وقدم المسدي العديد من الدراسات والمؤلفات العربية ،فهل لهذا العلم جذور في تراثنا أم أنه المهمة في هذا المجال منها( :التفكير اللساني في يرجع إلى السنوات األخيرة فقط؟ الحضارة العربية)( ،اللسانيان وأسسها المعرفية)، ل�ل��دراس��ات اللسانية ت��اري��خ طويل ف��ي ثقافتنا،(ال� �ش ��روط ف��ي ال� �ق ��رآن ،ع�ل��ى م�ن�ه��ج اللسانيات ويمكن القول أنها عرفت مرحلتين :المرحلة الوصفية)( ،قاموس اللسانيات) وع��ددا آخ � َر من األول��ى قديمة وغير مقننة ،والمرحلة الثانية الدراسات المهمة. بدأت في نهاية النصف األول من القرن وكانت أثناء زيارته األخيرة إلى القاهرة قادماً من تونس بمثابة مرحلة للتدوين والجمع ونشر المعرفة للمشاركة في مؤتمر قضايا المصطلح األدبي كان اللسانية تحت ماكان يعرف آنذاك بعلم اللغة، هذا الحوار: أم��ا في السنوات األخ�ي��رة فقد نشطت جهود < كيف يمكن أن نتعرف على اللسانيات كعلم؟ ال�ل�س��ان�ي�ي��ن ال �ع��رب وت �ب �ل��ور وع�ي�ه��م المعرفي والعلمي إلى حد القول بتأسيس نهج تطبيقي > هناك نظرتان للتعرف أو تحديد مفهوم مصطلح خصوصاً في تلك المحاوالت التي استهدفت (علم) ،النظرة األولى تقول بأن العلم هو اكتشاف إع��ادة بحث اللغة العربية في أبنيتها الصوتية مواد جديدة أو معلومات أو موضوعات جديدة وال�ص��رف�ي��ة وال�ن�ح��وي��ة وك��ذل��ك ال��دالل �ي��ة ،كما أما النظرة الثانية فهي اكتشاف منهج جديد ظهرت جهود عربية مهمة عمدت إلى استثمار لدراسة أو تناول مواد أو موضوعات أو ظواهر التطور العالمي العام في علوم اللسانيات كما موجودة بالفعل ،وبالمعنى الثاني يمكن القول في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وفي أن اللسانيات هي اكتشاف منهج جديد لدراسة اللغة التي هي موضوع قديم ومعروف منذ االف تطوير تقنيات اللغات عموماً.
80
اجلوبة -شتاء 1429هـ
< يمكن القول إذن أن مرحلة التأسيس النظري قد صاحبتها مرحلة أو خط تطبيقي؟
تتطلب – أيضاً – جهداً من القارئ لكي يصل إلى
مفاتيح اللغة ويسعى بدأب نحو الفهم الذي يجب
أن يفهمه ،فكما أن الكتابة ليست سهلة فإن القراءة
> حدث هذا إلى حد كبير ،ربما ألن العلم عموماً يتطور بشكل جدلي وال حدود قاطعة تفصل بين يجب أال تكون كذلك حتى ال نتحول إلى كسالى التنظير والتطبيق ،لكن ه��ذا ال يمنع أن هناك واعتقد أن هناك سمة عامة في مثقفينا وجمهور قصوراً في مناطق عدة في دراستنا اللغوية بشكل القراء عموماً وهي أنهم ينفرون من اللغة العلمية ال أن الفائدة االجرائية أو التطبيقية عام منها مث ً الصارمة وال يحبون الدقة والضبط ويسعون إلى التي تنعكس على اللغة العربية من تطور المفاهيم اتهام الكاتب أو المختص بالغموض وأن لغته غير النظرية ليست على المستوى المطلوب ،واعتقد أن مفهومة...إلخ .ه��ذا م��ن ناحية ال�ق��ارئ أم��ا من هذه الحلقة المفقودة هي باألساس ظاهرة علمية ناحية المتخصصين فنجد أن بعضهم ال يلتفت عربية عامة فنحن نتكلم كثيراً ولكن هذا الكالم إل��ى مهمته التنويرية وال يراعي البعد الشعبي ال ينعكس بالضرورة في فعل كما نقدم أبحاثاً واالجتماعي للعمل الذي يدرسه. نظرية كثيرة ولكنها ال تأتي بثمارها – بالضرورة – في مجال التطبيق واقصد بذلك ما يحدث في < أعتقد أن النقطة األخ�ي��رة والخاصة بالوظيفة مجاالت البحث العلمي األخرى .ومن ناحية أخرى المعرفية ل�لأك��ادي�م��ي أو ال�ب��اح��ث المتخصص هناك قصور في إلمام الدارس العربي في مجال تحتاج إلى قدر من التوضيح؟ اللسانيات بالعلم الكلي ،فما زالت صلة اللسانيين العرب بالعلم الكلي منقوصة ولم تتأسس بعد على > أق� �ص ��د ض� � ��رورة ت� �ع ��دد ال ��وظ ��ائ ��ف المعرفية للمتخصص ،فهو ال يبحث في فراغ أو من فراغ، المفهوم اإلنساني للمعرفة المطلقة. < هل ترى أن اللسانيات كعلم تجد االنتشار الملحوظ أو المالئم ،فهي – كما أرى – مازالت تعاني من اإلح �ج��ام أو الحصار داخ��ل دوائ��ر االكاديميين وأروقة الجامعات المتخصصة؟ > ه��ذا ص�ح�ي��ح ،وأن ��ا ال استطيع ال �ق��ول بانتشار اللسانيات انتشاراً ملحوظاً ،وهي بالكاد تعرف ع��ن نفسها كمنهج علمي ج ��اد ،وف��ي رأي ��ي أن هناك أسباباً واضحة وراء عدم انتشارهذا العلم الخطير وم��ن ه��ذه االس �ب��اب شيوع االستسهال في مجال الكتابة باللغة العربية فالقارئ يطلب نصوصا سهلة ومتيسرة ومعظم الكتاب يفضلون الكتابة بمستوى قدرة القاعدة العريضة على الفهم بصرف النظر عن تأثير ذلك على قواعد ودالالت اللغة ؛ بمعنى أننا لم نستطع بعد أن نؤطر سنة القراءة الجادة التي تتطلب جهداً من الكاتب كما
ال أن يضع في اعتباره أنه يقوم إلى جانب عليه مث ً عمله البحثي بوظيفة تربوية تستهدف تنشئة
أجيال تواصل المهمة التي يقوم بها الباحث حتى
ال تنقطع جهوده بتوقفه ،وعليه أن يربي تالميذ سواء في مدرج الجامعة أو قاعة مراكز البحث
أو من خالل الكتاب أو الصحيفة ،وعليه أيضاً أن يقيم جسوراً للحوار الديمقراطي في مجال العلم ذاته بينه وبين المتخصصين من زمالئه أو بينه
وبين علماء العالم الكبار ومدى ما تنجزه العقول اإلنسانية ف��ي م�ج��ال علمه ،وك��ذل��ك بينه وبين انعكاس هذا العلم على المجتمع الذي يعيش فيه،
وعليه أن يقوم باستمرار بصيانة قنوات الحوار
ال�ت��ي تربطه بالجمهور العريض م��ن المثقفين
والمبدعين عموماً ومن جمهور القراء بعامة.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 81
قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي مالئكة «الكوليرا» ..رحلت
> شمس علي «سكن الليل. أصغ إلى وقع صدى األنات. في عمق الظلمة تحت الصمت. على األموات. صرخات تعلو ..تضطرب. حزن يتدفق ..يلتهب. يتعثر فيه صدى اآلهات».
ن��������واف��������ذ 82
من رحم الموت ولدت حركة التجديد في الشعر العربي ،عبر قصيدة «الكوليرا» لنازك المالئكة ،رائدة الشعر الحديث والرومنطيقية الشعرية ،التي هزها ذات يوم من عام 1947سماع خبر تفشي وباء الكوليرا في مصر عبر المذياع ،ما ألجأها إلى العزلة في مكان مهجور قريبًا من دارهم ببغداد .وفي غضون ساعة من الزمن المختلف ،تدفقت عبر ثقوب روحها المطعونة بخنجر األلم ،شالالت الشعر الطازج بغزارة مشبعة برائحة عربات الموتى ،التي تنجر باألحصنة إلى مستودعها األخير في ريف مصر ،لتتخلق على إيقاع وقع أق��دام الخيل المتخيل في ذهن ن��ازك ص��وراً محقونة بجرعات مكثفة الحزن ،مرتدية أثواب الصمت ،السكون ،اللوعة ،األنات ،اآلهات ،الصرخات ،لتشكل معًا سيمفونية مكتظة بأبجديات الموت .محرضة على اجتراح لون شعري مغاير ،متخفف من وطأة القافية وثقلها ،عرف بالشعر الحر ،أو شعر التفعيلة.
اجلوبة -شتاء 1429هـ
وقد جاءت بذرة الرفض األولى لهذا النمط الشعري المستجد من قبل األب الشاعر لنازك وأقرب المقربين إليها ،صادق المالئكة الذي وجد في قصيدتها «الكوليرا» جنينًا شائهًا للشعر ،كره انضواءه تحت جنح بيت عريق الشاعرية ،كبيته الذي ضمه وأمها الشاعرة سلمى المالئكة ،صاحبة دي��وان «أنشودة المجد» في الثالثينيات من القرن الميالدي المنصرم ،لكن جموح نازك وعنادها تصديا لهذا الرفض المبكر ،إيمانًا منها بحق وليدها الشعري المطور في الحياة ،بل وكانت تتطلع إلى مستقبل باهر له ،حينما تحد واثق (قل ما تشاء إني واثقة أن قصيدتي ستغير واجهت والدها بالقول في نبرة ٍ خريطة الشعر العربي) .وكان حقيقًا بها أن تؤمن به ،فقد كان من القدرة على الصمود بحيث تناسلت روحه قصائد عدة ،تالحقت تباعاً ،لتغدو مجاميع شعرية ،منها :عاشقة الليل ،وشظايا رماد ،وقرار الموجة ،وشجرة القمر ،ومأساة الحياة ،وأغنية لإلنسان، ويغير ألوانه البحر. كما تسنى لها في انعطافة متباينة إصدار مجموعة قصصية بعنوان( :الشمس وراء أيضا ،دراسة في علم االجتماع ،عنوانها( :التجزيئية في القمة) .وفي انعطافة أخرى ً المجتمع العربي). وألن أيًا من اإلبداع يفجر حركة نقدية موازية ،من قبل المعاصرين ،أو من المبدع ذاته إذا كان ذا قابلية إبداعية أو أكاديمية تتيح له ذلك ،وامتلك أدوات النقد ،كنازك التي أفضى بها هذا األمر لعدة منجزات في النقد كـ «قضايا الشعر المعاصر «الذي ألمحت فيه لنظرة اإلقصاء التي يعانيها الشعر الحر من قبل سدنة الشعر العمودي، و«الصومعة والشرفة الحمراء» ،و«سيكولوجية الشعر»؛ ليحق لها بعد كل ذلك أن تحصد بعض أوسمة المبدعين ،كدرع اإلبداع العراقي عام ،1992وجائزة البابطين عام ،1996 وتكريمها من قبل دار األوب��را المصرية عام ،1999التي لم تسعفها ظروفها الصحية وقتها لحضوره ،فناب عنها بالحضور زوجها الدكتور عبدالهادي محبوبة ،الذي كان يومًا ما رئيسً ا لجامعة البصرة ووالد ابنها الوحيد «البراق» والذي برحيله عن الحياة عام 2001انقطعت أخبارها ،لتدخل نازك في دائرة العزلة عن اإلعالم ،حتى ظنها البعض مذ ذاك فارقت الحياة ،دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عنها!؟ في حين ظلت رائدة الشعر الحر تصارع في حلبة تراجيديا المرض ،إلى أن أسدل األربعاء 20يونيو حزيران 2007الستار على حياتها الزاخرة بالمنجز اإلبداعي.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 83
رحلة محمد شكري املفتوحة > عبداحلق ميفراني كتاب «ح��وار» لمحمد شكري ( ،)2003 – 1935هو في األس��اس ح��وارات أجراها األستاذان الزبير بن بوشتى ويحيى بن الوليد مع الكاتب الراحل محمد شكري ،وقد صدر هذا الكتاب عن مطبعة النجاح الجديدة ،ويقع في 158صفحة ،ويحتوي على حوارات مبوبة حسب تيمتها الى :الكتابة السردية /تلقي محمد شكري /سؤال المغرب اآلن /الطفولة/ الترجمة /المرأة /الرسائل /طنجة. ويختتم الكتاب بألبوم صور ،تؤرخ لمراحل حياة محمد شكري منذ سن 18إلى آخر حياته .ويقدم الكتاب بورتريه شبه مكتمل لمحمد شكري اإلنسان والكاتب مع جرد لمختلف آرائه تجاه عديد من القضايا التي تهم الكتاب والحياة معا .كما يمثل الكتاب وثيقة أساسية تعريفية بأحد أشهر رموز ثقافتنا سواء المغربية أو العربية ،والذي ترجمت كتاباته إلى العديد من اللغات ،إضافة إل��ى «الخبز الحافي» وال��ذي ص��در في طبعته السابعة سنة 2001م. وقد أجري الحوار أساسا لجريدة لندنية ،كما سبق نشره متسلسال في حلقات ،لكن إص��دار الكتاب يمثل مرجعاً أساسياً لقراءة مسار رحلة شكري المفتوحة أساسا على القراءة ،كما يشكل محطة معرفية للكاتب ،التي استطاع من خاللها أن يعيد قراءة مسارات وانعراجات هذه الرحلة ،وفق ذكاء تحريري خططاه بوعي الدكتور يحيى بن الوليد والمبدع المسرحي الزبير بن بوشتى؛ إذ أسهم الكتاب/الحوار في تقديم هذه الصورة الالنمطية لكاتب ظل مرهونا لظاهرة اختارها عن وعي ،لكنه في اآلن ذاته ،شكل نموذجاً حياً لحالة االستثناء في الكتابة .وكطنجة المكان المفتوح والمتعدد ،فتجربة محمد شكري ليست تنميطا لحالة بقدر ما هي تركيب النهائي لحاالت المبدع الكوني ،ال كما أرادها شكري
84
اجلوبة -شتاء 1429هـ
الفائقة على كتب أخ��رى على الرغم من أهمية هذه ولكن كما ارتضتها كتاباته. «الكاتب إما ميت أو صعب رؤيته» هكذا بدأ مفهوم األخيرة .فهذا النص الذي فتح أفقا قرائيا في المغرب محمد شكري للكاتب ،وهو تلميذ في مدرسة المعلمين توحدت من خالله كافة الشرائح االجتماعية لقراءته، بتطوان سنة 1960م ،وبمقهى كونتينتال في تطوان وي��ؤك��د ش�ك��ري أن االستقامة ال�س��اذج��ة ف��ي الكتابة التقى شكري الكاتب محمد الصباغ ،ال��ذي نصحه األدب�ي��ة ال تنتج أدب��ا؛ ف��أي كتابة الب��د أن تكون فيها بتملك أسلوب خاص من خالل استيعاب الكثير من مخيلة إبداعية ،ومن هنا يرد على ركام من األحكام األساليب ،وبين عامي 1960م و1961م نشر شكري الخاطئة التي وج��ه بها نص «الخبز الحافي» الذي نصوصه األول��ى التي ب��دأت بنص «حديقة العار» تم يمثل الجزء األول من سيرة ذاتية استكملت مع «زمن األخطاء» ,و«وج��وه» هذا النص األخير «جدول حبي» بمحلق الناشئين ،إلى أن نشر أول نصوصه القصصية «العنف محمد شكري :الذي قل فيه صوت شكري حتى تحول إلى سيرة جماعية. على الشاطئ» بمجلة اآلداب البيروتية
س �ن��ة ،1966وت �ل �ق��ى ح�ي�ن�ه��ا رسالة أنا أكتب بحثا لقد ظل عشق محمد شكري األول ل�ل�س��رد ال ��روائ ��ي ،ب�ع��د عشقه للقصة تشجيعية من سهيل إدريس. ���م ل �������ر س �������ن ع القصيرة ،ثم المسرح .وبالعودة لنص لقد تولدت رغبة الكتابة عند شكري بقصدية تجاوز مجتمعية ،وال يميل إلى ي�����ع�����ل�����ن ع���ن���ه «الخبز الحافي» ،فمعلوم أن هذا النص ظهر باللغة الفرنسية ،ثم أعاد شكري م�ق��والت أن��ه ق��اص أو روائ��ي بقدر ما يختار أن يكون س��اردا ،ويكتب السرد ،بعد ..ال أعرف نشره بالعربية حتى يتخلص من لعنات الناشرين ،وهو الذي يمتلك حكايات ال إذ تتداخل أجناس عدة في س��رده ،إن لم نقل هجنات .لكن مع ص��دور نصه م���ا ينتظرني تنتهي معهم ،وعندما صدر نص الخبز الحافي -هذا العنوان اقترحه الكاتب «الخبز الحافي» أمسى محمد شكري ظ��اه��رة ،علماً أن��ه نص يلي مجموعته يوم يعلن عنه الطاهر ب��ن جلون على شكري -منع من طرف رئيس رابطة علماء المغرب القصصية «مجنون الورد» 1979م ،التي وب��إي �ع��از ك�م��ا ي �ق��ول ش �ك��ري م��ن بعض ترجمت إلى الفرنسية واإليطالية وبعض نصوصها إلى اإلنجليزية ،واأللمانية ،واالسبانية ،وااليسالندية .األساتذة والمعلمين ويذكرهم واحدا واحدا ،غير أن لقد عبر ن��ص «الخبز الحافي» على طابع «الكتابة هذا المنع تسبب في نشر الكتاب مترجما إلى 16لغة، االحتجاجية التوثيقية» لكنه ظل خطابا أكثر منه نسقا ويعد شكري نفسه أقرب إلى الكاتب محمد زفزاف منه كتابيا ،على ال��رغ��م م��ن تأكيد شكري على استفادة إلى إدريس الخوري ،هؤالء الفرسان الثالثة بالنسبة له رضعوا من البؤس نفسه ومن التهميش ذاته. النص من جماليات تقنية السرد ولعبه. ويشير ال�ك��ات��ب إل��ى أن التهميش م �ف��روض على شخصيات كتاباته ،بحكم انتمائه هو نفسه إلى طبقة المهمشين؛ لذلك يميل شكري إلى الكتابة عن المنحط وال �م �ب��اءات بشكل س��ام ،وي�ظ��ل ن��ص الخبز الحافي نموذجا لتلك الكتب التي سحقت كتابها بشهرتها
ص��در (الخبز ال�ح��اف��ي) ف��ي طبعته العربية سنة 1981م قبل أن تجمعه الرقابة في 1983م ،وقد بيع منه حينها 20ألف نسخة ،لم تجد الرقابة سوى 700 نسخة .فالطبعة األول��ى بيعت في بضع أسابيع ،ثم بيعت الطبعات الثالث التي تلتها في أقل من سنتين
اجلوبة -شتاء 1429هـ 85
م���ح���م���د ش������ك������ري :أن�������ا م����س����ح����وق ب����ش����ه����رة ال����خ����ب����ز ال���ح���اف���ي قبل أن تصادره الرقابة ،أما الطبعة الفرنسية فقد بيع منها 165ألف نسخة (شربل داغ��ر) ،وطبعا استمر صدور الكتاب في طبعات أخرى باأللمانية واالسبانية وااليطالية .ويشير شكري إلى طبعة ألمانية فاخرة يعد شكري السيرة الذاتية حاجة أدبية لكل كاتب ص ��در م�ن�ه��ا أل ��ف ن�س�خ��ة ف�ق��ط خ��اص��ة بالجامعات ينتمي إلى العالم الثالث ،وترتبط عنده هذه الضرورة والجمعيات األدبية. باستكشاف بعض م��ا ل��م يكتبه ال�ت��أري��خ ال�م��أج��ور أو ع��ن ع�لاق��ة ش �ك��ري ب��ال�ت�ل�ق��ي س���واء ض �م��ن إطار الرسمي ،فالسيرة الذاتية توحي للقارئ بالحقيقة التي «سوسيولوجية القراءة» أو في عالقة كتابات شكري ال يؤمن بها وه��ي تطالعه في ال��رواي��ة ،ويعود شكري بالنقد ،يؤكد أن هناك ميثاقا وجدانيا وتآزرا بينه وبين لطفولته القاسية مع الجوع على الرغم من اعترافه قرائه ،وإذا كان هناك نقاد جادين ،فإن شكري يلمح على اختالف طفولة اليوم عن األمس ،فطفولة األمس إل��ى وج��ود نقاد «سطحيين» نقدهم شبيه «بمحاكم ترتبط بملء البطن ،أما اليوم فأمست أكثر تعقيدا .وعن التفتيش» ،غير أن ه��ذا ال ينفي أن س��ؤال الحجم عالقة شكري باألب يؤكد أنه صفى حسابه مع أبيه من الروائي كإبداع ال زال في طريق المتغير ،إذ ال زال خالل نصيه «الخبز الحافي» و«زم��ن األخ�ط��اء» ،لكن العالم العربي يؤسس للفن الروائي. هذه العالقة ظلت ترخي بظاللها على حياته إذ عزف ي�ح�ت�ف��ظ ش �ك��ري ب �ع�لاق��ات م�ت�م�ي��زة م��ع مختلف عن الزواج حتى ال يتحول هو اآلخر لوالد متسلط ،فكم األطياف السياسية بالمغرب ،وينظر للتحول بحذر القسوة والمعاناة جعلت شكري يعترف بأنه ولد دون في مغرب يستشرف مستقبله بمهل ،لكنه يعترف أنه أب .وإضافة إلى هذه العالقة المركبة مع أبيه يثير كاتب وال يميل لخطابات السياسة وااليديولوجيا ،كما شكري خطوات الهجرة األولى والتي عانى خاللها من يعترف أن الكاتب غير منفصل تماما عن نصوصه ،اضطهاد لغوي ،لكنه استطاع في بداية رحلته بطنجة إذ ليس هناك حياد مطلق .وعن ممارسته للصعلكة تعلم اللغة اإلسبانية ،ثم الفرنسية واإلنجليزية ويعد يؤكد شكري أن��ه مارسها بمفرده كنوع م��ن التدمير الكاتب بول بولز أول مترجمي شكري ،وقد ترجم له الذاتي لتسكين قلقه المجهول ،أما ح��وارات شكري في البداية نصوصا قصيرة إلى اإلنجليزية وتالها عليه فيقدمها في تصنيف مزدوج فالمغرب والعالم العربي شكري باإلسبانية ،لكنه يعترف أنه إذا كان بولز سببا ت�ع��ام��ل م�ع��ه ك �ظ��اه��رة ،أم ��ا ال �غ��رب ف�ك��ان��ت األسئلة في كتابته لسيرته الذاتية «الخبز الحافي» ومذكراته ترتبط به وبطنجة ،ه��ذه المدينة الكوسموبوليتية .مع جان جينيه وتيسي وليامز ،فإنه في المقابل كان لكن محمد شكري حول هذه ال�ح��وارات ضمن إطار يستفيد ماديا من نشر نصوصه المترجمة. القاهرة 1997/على إصدارها دون استشارته ،ويؤطر ش�ك��ري ه��ذا الفعل بالقرصنة ،وي��ؤك��د ش�ك��ري على تعرضه البتزاز الناشرين في بداياته.
التسويق الذاتي «الماركيتينغ» ،خاصة بعد االستغالل البشع الذي تعرض له هو وكتبه ،ويسرد هنا مثالين بارزين :مجموعته القصصية مجنون الورد 1979/مع دار اآلداب ،وإقدام الهيئة العامة لقصور الثقافة في
86
اجلوبة -شتاء 1429هـ
يعترف ش�ك��ري ب��أث��ر لقائه م��ع جينيه ،خصوصا ح��وارات�ه�م��ا ح��ول األدب ال�ع��ال�م��ي ،ويعتز بترجمات ن �ص��وص��ه ،س ��واء ت��رج�م��ة ال �ط��اه��ر ب��ن ج �ل��ون للخبز الحافي إلى الفرنسية أو ترجماته إلى اللغة االسبانية،
واأللمانية ..ويقف محمد شكري ضد الكتابة التي المسرحي الزبير بن بوشتى في إضاءة عتمات قوية من ت�خ��دم قضايا مرحلية ،إذ تختفي بانتهاء المرحلة سيرة هذا الكاتب الكوني المركب ،ولعل قيمة الكتاب وظروفها ،وقد أفادته الترجمة إلى الحد الذي وصلت تظهر اليوم بعد وفاة صاحب (الخبز الحافي) وزمن ترجمات كتبه إلى 46لغة. األخطاء ،ووج��وه ،ومجنون ال��ورد ،والخيمة .ففي يوم لقد كتب شكري عن المرأة التي يصنعها المجتمع السبت 15تشرين الثاني (نوفمبر) 2003غيب الموت م��دن�س��ة ،ام ��رأة م�ت�م��ردة وليست متواطئة .ويعترف الروائي المغربي محمد شكري بعد 68سنة من األوجاع باختياره حرفة الكتابة التي تمكنت منه ض��دا على والعطاء ،وبعد صراع طويل مع السرطان ،أسقطه على مؤسسة الزواج التي رأى فيها قيدا على حريته ككاتب ،أحد أسرّة المستشفى العسكري بالرباط ،بعد مسيرة أما الموت فيرى في الطريق المؤدي إليه مرعبا ،إذ حافلة بالعطاء اإلبداعي ..كان قد قضى ليلته األخيرة أن الطريقة التي يموت بها اإلنسان هي التي تخيف ف��ي س�ع��ادة كبيرة م��ع أص��دق��ائ��ه :عبدالحميد عقّار، شكري ال مبدأ الموت نفسه ،لقد أسكن شكري غضبه وحسن نجمي وكمال الخمليشي .ومن حين إلى آخر على عدم االستمرار في الكتابة بكتابة الرسائل التي يعود إلى دفتر صغير قرب وسادته ليسجّ ل عليه بعض االنطباعات» ولكنّ األوجاع عادت إليه كان عاجزا عن إيقاف جنون كتابتها، وس� ��واء رس��ائ �ل��ه م��ع م�ح�م��د ب� ��رادة أو محمد شكري :مع الفجر ورافقته إلى الساعة التاسعة ليدخل في غيبوبة توفي على إثرها. زفزاف أو البياتي ،فإنها مألت مرحلة ف ��راغ ت��وق�ف��ه ع��ن ال�ك�ت��اب��ة اإلبداعية ،أن�����������������������ا ض������د أوص ��ى محمد ش�ك��ري بمقتنياته إلى وزارة الثقافة ،ولكنّه لم ينس خادمته وتملك ه��ذه الرسائل قوتها الرمزية، �ص�ه��ا بمبلغ شهريّ ولعل صدور «ورد ورماد» رسائل شكري ال��ك��ت��اب��ة التي «ف�ت�ح�ي��ة» ال �ت��ي خ� ّ تحصل عليه من أحد البنوك «وهو ما وبرادة تظهر القيمة المعرفية للرسائل ت��خ��دم قضايا يكفيها لما تبقّى من حياتها.. بين المثقفين.
يختتم الحوار مع شكري باستحضار م������رح������ل������ي������ة، على غ�لاف ال�ك�ت��اب تصميم داللي م��وغ��ل ف��ي ال��رم��زي��ة ،إذ ت �م�لأ لفظتا مدينة طنجة ،المدينة ال�ت��ي يحتفظ شكري بانفالتات عنها مهاجرا وهو وك��ت��اب��ات��ي لم (ش �ك��ري ،وح���وار) ال��رك��ن األي �س��ر بلون أس� ��ود ع �ل��ى ب �ي��اض ب�ي�ن�م��ا ت �م�لأ يمين في سن السابعة ،ومن صدمة المعيش تقتد بأحد.. ال�ص�ف�ح��ة ن�ص��ف وج ��ه ش �ك��ري ،أو ما وط�غ�ي��ان ال �ك��ون االس �ت �ع �م��اري ،مرورا نسيته الذاكرة ،في إشارة إلى ما تبقى ب��أس��واق�ه��ا ال�م�ش�ه��ورة وم�ي�ن��ائ�ه��ا ،إلى من خبايا التفاصيل .وك��أن شكري في طنجة الفضاء الثقافي .وهنا يقر شكري أن طنجة لم تجد بعد كاتبها الحقيقي على الرغم من كتابات الحوار ينذغم في ثنايا طنجة األسطورة ،شكري الذي بولز وجين أرو ،وراين غايسن ،وبرادة والتازي وشكري أسهمت العديد من الكتابات والترجمات في إضاءة نفسه ،إذ تظل المدينة خاضعة ألسطورتها الدفينة واستقراء عوالمه التخييلية ،وبعضها أسهب في رصد بورتريه افتراضي لهذا الكاتب المنفلت .وهكذا يبدو وسط التاريخ. شكري في الحوار متلبسا بطنجة وخفاياها ليتحول إلى يعد كتاب ح��وار محمد شكري وثيقة تاريخية ،إذ سرها المسكون وإلى إضاءة تنفلت من الضوء والعتمة. أسهم كل من الناقد الكتور يحيى بن الوليد والمبدع
اجلوبة -شتاء 1429هـ 87
املعاجلة احلاسوبية للخط العربي: هل خدمته أم شوهته؟
> خلف سرحان القرشي
<
تروي كتب التراث العربي أن الخليفة العباسي الواثق بعث (ابن ترجمان) بهدايا إلى ملك الروم فرآهم قد علقوا على باب كنيستهم كتبا بالعربية فسأل عنها فقيل له :هذه كتب المأمون أحمد ابن أبي خالد استحسنوا صورتها فعلقوها.ويقال أيضا أن سليمان بن وهب كتب كتابا إلى ملك ال��روم في أي��ام الخليفة المعتمد ،فقال ملك ال��روم( :ما رأيت للعرب أحسن شيئا من هذا الشكل ،وما أحسدهم على شيء حسدي على جمال حروفهم) .وفي العصر الحديث يدلي الرسام الشهير (بيكاسو) بشهادته في الخط العربي قائال( -:إن أقصى نقطة حاولت الوصول إليها بالرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليها). لقد كان وما زال الخط العربي مثار إعجاب ودهشة الكثيرين حتى من غير العرب والمسلمين ممن استهواهم رسم الحرف العربي بسحره وروعته وتناسقه مع ما قبله وما بعده من حروف. إن االهتمام الذي ناله الخط العربي في الحضارة اإلسالمية نابع من أهمية ما كان يستخدم له ذلك الخط وهو كتابة آيات القرآن الكريم .وكانت فرحة الخطاط المسلم تبلغ ذروتها عندما يتم إنجاز نسخة من المصحف الشريف وذكر كتاب (العقد الفريد) أن أحد علماء حلب وكان خطاطا أيضا ،قد اعتاد أن يعتزل الناس طيلة شهر رمضان ليعتكف في أحد المساجد لينسخ نسخة أو اثنتين من المصحف الشريف ويهديها ألقربائه.ويقال أن الخطاط جمال الدين المستعصمي – الذي ينسب إليه الخط الياقوتي – يوصف بأنه «كتب القرآن ،ألف مرة ومرة كناية عن كثرة النسخ التي كتبها من المصحف الشريف». وفي تحذير اإلسالم من عمل الصور والمجسمات وصنع التماثيل أكسب الخط الفني
88
اجلوبة -شتاء 1429هـ
أهمية أخرى حيث توجه الحس الفني لدى المبدعين نحو الحرف العربي .يقول المستشرق الدانمركي (ي��وه�ن��س ب�ي��دس��ن) ف��ي ه��ذا ال �ص��دد( :وأص �ب��ح فن الكتابة ف��ي اإلس�ل�ام ال�ف��ن ال ��ذي ح��از على أعظم ق��در من االح�ت��رام ول��م تكن أي��ة أبجدية في العالم هدفا لمثل هذا العمل الفني المكثف مثل ما كانت األبجدية العربية). وكان من ثمار هذه العناية واالهتمام ظهور أنواع مختلفة م��ن ال�خ�ط��وط وق �ي��ام م ��دارس للخط لكل م��درس��ة منها أعالمها وسماتها ب��اإلض��اف��ة لشيوع ال�ل��وح��ات الفنية المعبرة ال�ت��ي ازدان ��ت بها قصور الخلفاء واألم���راء وال� ��وزراء وذوي اليسار محتوية آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقواال وحكما وأشعارا صيغت بحرفية وموهبة نادرتين .ولم يقتصر اهتمام الخطاطين على نسخ الكتب واللوحات فقط بل امتد ليشمل بعض الحرف اليدوية كالخزف وشغل المعادن وحفر الخشب وصنع الزجاج والنقش والزخرفة ال سيما تلك المستخدمة في فن المعمار ونحوه.
إال نوعا واحدا من الخط ال يمكن تغييره أو التحكم في حجمه ،ورغ��م ذلك كانت تعتبر فتحا مبينا في حينها وذلك ألن األنظمة التي كان يعمل من خاللها أولئك المطورون والمبرمجون هي أنظمة مصممة أساسا للتعامل مع لغات أجنبية في اغلب الحاالت خصائص حروفها تختلف عن خصائص الحروف العربية التي منها تغيير شكل الحرف حسب موقعه من الكلمة وبناء على ما قبله وما بعده من حروف ومثال ذلك حرف العين في الكلمات التالية( :وعي) (لعبة) (منتجع) بينما نجد أن حروف اللغة اإلنجليزية وكثيرا من اللغات األخرى تفتقد هذه الخاصية نظرا لكون حروفها تكتب منفصلة في الغالب ولكل حرف منها حالتين فقط صغير وكبير.
لم يقف طموح الحاسوبيين عند تمكين الحاسوب من طباعة الحروف العربية والتعامل معها في برامج تنسيق النصوص وغيرها من البرامج التي عربت أو صممت عربية لتوليد ال�خ�ط��وط العربية آليا بأنواعها المعروفة (النسخ والرقعة والكوفي والثلث) وتوليد خطوط جديدة قائمة أو مستوحاة من تلك وال يتسع المجال للحديث عن أنواع الخط العربي الخطوط ،وظهرت في أسواق البرامج العربية عدة الشهيرة التي تفتقت عنها عقلية وخيال الخطاطين خطوط ق��ام بتصميمها أف��راد ومؤسسات برمجية المسلمين في كل عصر وزمان كما أنه ال يتسع لذكر تعمل تحت نظم مختلفة وكان أغلبها موجها لخدمة أسماء أولئك الرواد العظام من الخطاطين عربا كانوا أغ��راض النشر اإللكتروني وم�ث��ال ذل��ك م��ا أنتجته أم عجما وجهودهم في خدمة هذا الفن البديع. شركتي (أي .تي.سي) و (مونوتايب) العالميتين في وم��ع ظهور أجهزة الحاسب اآلل��ي ،ك��ان الحرف هذا الصدد .وتوالت أمثال تلك البرامج وأصبحت العربي أول أه ��داف المبرمجين وم �ط��وري النظم تعمل على نظم تشغيل مختلفة وزودت ميكروسوفت ال�ح��اس��وب�ي��ة ال��راغ�ب�ي��ن ف��ي معالجة ال�ل�غ��ة العربية برامجها الويندوز واألوفيس وغيرهما بحزمة من حاسوبيا حيث استطاعوا بعد جهد ومعاناة ومحاوالت الخطوط العربية وساهمت ش��رك��ات مثل (حرف) عديدة من إنتاج برامج تسمح باستخدام الحرف إحدى الشركات التابعة لشركة صخر بإنتاج خطوط العربي ولعل بعض قراء هذه المقالة ممن قدر لهم مجموعة ج��واه��ر الخط العربي وظ�ه��رت عشرات التعامل مع الحاسوب منذ أكثر من عشرين عاما البرامج للخطوط ومنها على سبيل المثال (علوي) يتذكر برامج تنسيق النصوص العربية األول��ى التي و (القلم) و (الحقباني) كما أصدرت شركة المعالم كانت تعمل تحت نظام التشغيل (دوس) ،ولم يكن بها السعودية قبل عدة سنوات موسوعة للخطوط العربية،
اجلوبة -شتاء 1429هـ 89
وبلغ عدد أنواع الخطوط في بعض تلك البرامج أكثر من مائتي خط .وقبل عامين تقريبا ،ظهر برنامج (الكلك) وهو بمثابة نظام يتم من خالله توليد وإنتاج خطوط عربية ،لكن السؤال الذي يفرض نفسه هل خدمت كل ه��ذه النظم والبرامج الخط العربي أم شوهته ،وإذا كانت قد خدمته فعال فإلى أي حد كانت تلك الخدمة؟ قبل أن نحاول اإلجابة على هذا السؤال الكبير دعونا نشير لبعض المعضالت التي تواجه معالجة الخط العربي حاسوبيا-:
وتصبح في متناول المستخدم العادي. -3يبدو أنه ليس هناك قواعد محددة لطول الحرف في الخط العربي في أنواعه المختلفة فالتناسب الهندسي شبه م�ع��دوم فبعض ال�ح��روف صغير وبعضها كبير ومنها ما ينزل بمقدار معين وليس ه�ن��اك م��ن ح��د معين دق�ي��ق ل��ذل��ك س��وى تقدير الفنان لمسألة التناسق والتناغم ،وهذه مسألة يصعب التحكم فيها آليا وتجعل من الضرورة بمكان أن يكون المصمم خطاطا في األساس ألن فاقد الشيء ال يعطيه .أما ما يعرف بالخط القواعدي وما وضع له من قواعد detestمثل عدد النقاط لكل حرف فيظهر أنها جاءت تالية ووضعت ألغراض تعليمية فقط.
-1تعدد أشكال كتابة الحرف الواحد حيث تصل في بعض األحيان إلى أربعة أشكال كما ذكرنا في مثال حرف العين ناهيك عن األشكال التي يمكن أن تستخدم من الناحية الفنية فالحاء مثال تكتب -4قابلية الحرف العربي لإلطالة والتمطيط في أغ�ل��ب ال �ح��روف س ��واء أك��ان��ت مستقلة أو عند إذا أتت في نهاية الكلمة بثالثة أشكال،وكذلك ورودها أول الكلمة أو وسطها. ال �ع �ي��ن وال � ��راء وت �ك �ت��ب ك��ل م��ن ال �ك��اف والميم والنون والهاء والسين والياء والالم ألف بشكلين وهناك من يرى أن الخط العربي بهذه الخصائص مختلفين ،ومن شأن هذا التعدد والتنوع إعاقة وغيرها أثرى في الناحية الجمالية والخيالية لدى التعامل أليا بسالسة مع الخط العربي. الخطاط أو مصمم الخط ليبدع أكثر وينتج خطوطا -2احتياجه للحركات (التشكيل) م��ن فتح وضم وأشكاالً جديدة تزيد من غناء الخط العربي وتثري وكسر وسكون حيث ال يوجد في العربية حروف متذوقيه ألن المصمم لم يقيد نفسه بقواعد صارمة صامتة Vowel lettersمما يزيد من صعوبة تحد من إبداعه. كتابة الحرف العربي حيث يضطر الكاتب لكتابة حرفين إن لم يكن أكثر في حال رغبته تشكيل كتابته دفعا لإلبهام أو إلضفاء جمالية معينة من خالل تشكيل النص .إن جميع الخطوط العربية المنتجة حاسوبيا تغفل قضية التشكيل مثلها مثل الكتابات العربية الحديثة في الصحف والمجالت وتلك المنتجة من قبل برامج تنسيق النصوص وقد يتغير الحال بعد ظهور برامج للتشكيل اآللي سمعنا وقرأنا عنها منذ أكثر من عشر سنوات ويبدو أنها لم ت َر النور بعد أو على األقل لم تنتشر
90
اجلوبة -شتاء 1429هـ
وليس ك��ل م��ا ذك��ر ه��و فقط م��ا ي��واج��ه مصممي الخط العربي آلياً ،إذ أن هناك مشاكل أخرى لعل من أبرزها أن األنظمة التي يحاولون من خاللها تصميم خطوطهم هي أنظمة معدة أساساً لمعالجة اللغات الالتينية كما أسلفنا فكثير من مصممي الخطوط ال�ع��رب�ي��ة ي�ل�ج��أون الس �ت �خ��دام ب��رام��ج أع ��دت إلنتاج وتصميم الخطوط اإلنجليزية وبمعالجة معينة تنتج هذه البرامج خطوطا عربية ولعل برنامجي (فونت – أوتاماتيك) و (جرافيكس – فونتس) خير مثال على ذلك ،ومن المشاكل التي يعاني منها المصممون
أيضاً عدم وجود مقاييس محددة للتعامل مع الخطوط فاألخذ يستوجب العطاء والدين يستلزم الوفاء). العربية ناهيك عن القرصنة وقضية توثيق الحق وإذا علمنا أن طبعة الكتاب الذي اقتبسنا منه هذه المعنوي وال�م��ادي لمطوري الخطوط ومصمميها، العبارة ص��درت ع��ام 1994م ومؤلفه ليس بعيداً عن وفي هذا الصدد نشير إلى أن عددا غير قليل من معالجة الحرف العربي وشاهدنا في ذل��ك قوله في الخطوط العربية الحاسوبية المنتشرة في األسواق صفحة 17في نفس الكتاب ( ...وانتقلنا إلى الحرف اآلن ماهي إال خطوطا صممها آخ��رون ب��ذل��وا من وقتهم وجهدهم ومالهم الكثير حتى أنتجوها ،وقام الضوئي حيث يتولى العقل اإللكتروني في آالت الجمع بعد ذلك بعض قراصنة البرمجة وال نقول البرامج الحديثة أمر جمع الحروف بطريقة مختصرة جداً). واستقبلها من خالل أحد البرامج المتخصصة مثل فماذا يعني هذا؟ هل أطقم الخطوط العربية المتواجدة تلك التي ذكرناها سابقاً وأضاف عليها ما يطمس حالياً ال تعتبر إضافة للخط العربي في نظر المؤلف هويتها األصلية ويصادر حق مبدعها األول لينسبها الخطاط؟ أم أنه لم يطلع عليها؟ وهل و(كيف) بإمكان إلى نفسه مستغال قلة الوعي من قبل الكثيرين بمثل الحاسوب مساعدة أجيال اليوم في الوفاء بالدين الذي هذه الجوانب الفنية الدقيقة. تحدث عنه األستاذ الخطاط كامل البابا؟ نعود لسؤالنا عن خدمة الحاسوب للخط العربي أو تشويهه له ،لنؤكد أنه ليس من السهولة النطق بالحكم في قضية شائكة كهذه يزيد من تعقيدها وج��ود مئات من أن��واع الخطوط المنتجة حاسوبيا تحمل أس �م��اء مختلفة ي�ت��داخ��ل فيها األص �ي��ل مع الدخيل ،المبدع مع المقتبس والمسروق ،المتمشي مع القواعد مع المتجاهل أو الجاهل بها.
أسئلة نطرحها لنتجاوزها إلى أسئلة أخرى من
قبيل :هل يكفي الحاسوب فخراً أنه حال دون زيادة
ع��دد المسيئين للخط العربي م��ن ذوي الخطوط
الرديئة وما أكثرهم حيث بوسعهم من خالله طباعة
خطاباتهم ووثائقهم دون الحاجة الستخدام أناملهم؟ وهل حقاً ما يشاع من أن تقنية الحاسوب وخطوطه
صرفت كثيراً من المبدعين الحقيقيين عن مزاولة
وأجد من المناسب أن أختتم مقالتي هذه بفقرة إبداعهم بعد أن زاحمهم في لقمة عيشهم فصرفهم استوقفتني كثيراً أورده��ا الخطاط الشهير (كامل عنها وهذا ما تفعله التكنولوجيا التي ما إن تطول البابا) في كتابه (روح الخط العربي) إذ يقول: ح��رف��ة حتى تفسدها على رأي الكثيرين؟ أسئلة ( ...لذلك فإن شبابنا المتحمس للجديد لم يبدع تفضي إلى مزيد من األسئلة لعل من أهمها - :هل لنا خطا جديدا نضيفه إلى الخطوط القديمة وإنما خدم الحاسوب خطنا العربي أم شوهه؟ أغنى بلوحاته ج��دران بعض ال�ه��واة للفن التشكيلي وإنني أتمنى عليهم لو يولون عنايتهم ويجندوا طاقتهم المراجع: الفنية إلب� ��داع خ��ط ج��دي��د ي��زي��د ف��ي غ�ن��ى التراث -1كتاب (روح الخط العربي) تأليف :كامل البابا. العربي .لقد جهد أسالفنا في تطوير الخط العربي -2ك �ت��اب (ال �ك �ت��اب) ت��أل �ي��ف -:ي��وه�ن��س بيدرسن، حتى أحلوه مركز ال�ص��دارة ونحن اليوم ننعم بثمرة ترجمة -:حيدر غيبة. جهود السلف ،وإنه ل َديْن في أعناقنا يحتم علينا وفاؤه جهدنا المتواصل إلبداع أنواع جديدة ينعم بها الخلف -3مجلة (أبل) عدد نوفمبر 1993م < كاتب سعودي.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 91
شهادات
ليل األساطير في طفولتي
()1
> يوسف احمليميد
<
ال أعرف ِل َم ينتابني شعور بأن النص الروائي ال يكتمل إال بتسلل أس�ط��ورة م��ا ،كقط وحشي يدلف البيت اآلمن؛ فمنذ رواية فخاخ الرائحة ،وحتى نزهة الدلفين ،ومروراً برواية القارورة ،وأنا أرى كيف تتخلق بوله األساطير في نصي الروائي ،مثل شجر يعرِّش ٍ وجنون ،هل هي طفولتي التي ضجَّ ت باألساطير ،تلكم التي تقتات من ليل منزلنا في حي عليشة بالرياض؟ وكأنما الجبل الهائل أمام المنزل ،كان وحشاً أسطورياً ينتظر خروجي ،أو لكأنه يخفي وراءه العفريت ذا الرؤوس السبعة ،ومغاراته تخبئ أسرار الجثث اآلدمية.
�����ش����ه����ادات 92
هل نبتت األساطير في ذاكرتي منذ الطفولة ،ونحن نتحلّق حول أختي الكبرى ،في غرفتنا المعتمة ،المزدانة جدرانها ذات الطالء السماوي بأعواد العنبر ،التي ترمي رمادها من األعلى مثل ندف غيم يتأهب ،بينما أختي تقرأ علينا أسطورة الزير سالم، وعنترة العبسي ،والمقداد الكندي ،وألف ليلة وليلة؟ هل تسللت األسطورة إلى دمي، فتملكتني ،حتى إذا ما وضعت أولى أوراق روايتي أمامي تقافزت األساطير من رأسي إلى الورق ،وازدحمت مثل قطرات ماء مجنونة؟ إنها كل ذلك ،جاءت كل األساطير التي حفلت بها رواياتي من الهواء الذي أتنفسه يومياً ،بدءاً من قصص الجن الذين يطوفون
اجلوبة -شتاء 1429هـ
بخف ٍّة في المنزل ،يغلقون األب��واب ،ويطفئون ضوء المصابيح ،بل قد يصل تطفل أحدهم إلى أن يغير قناة التلفزيون أو حتى يطفئه! وحتى الكائنات التي تطير في ال�ه��واء ،من حصان مسحور يطير ،إلى فتاة جميلة تلبس ثوب الريش وتحلِّق في السماء كطير! ط �ف��ول �ت��ي ل��م ت �ح��ظ بمستلزمات الطفل الحديث ،إذ لم تحضر شاشة التلفزيون السحرية إلى البيت إال حين بلغت الثالثة ع �ش��رة ،وق��د ك��ان ذلك أي�ض�اً س�� َّراً بيننا نحن الصغار وبين ال نجدياً تقليدياً أمي ،إذ كان أبي رج ً م �ت �ش �دِّداً ،ي��رى ف��ي دخ��ول التلفزيون أو الشيطان كما ك��ان يسميه إل��ى أي بيت ،إنما هو دخ��ول ش� ّر ومنكر وبالء وكفر بما أن��زل ال�ل��ه! م��ن هنا عشت عشرة أعوام على السهرات الليلية ،كما لو كنَّا في ليل قاهري قديم ،أو في ساحة جامع الفنا بمراكش ،حيث يتوزع فيها الحكواتيون في األنحاء ،ويتحلَّق حولهم الناس فاغري أفواههم من الدهشة ،هكذا كانت الحكايات واألساطير تتخلق في عقلي الصغير ،تتحول الكلمات إلى شخوص ،والشخوص إلى وقائع ،والوقائع تنتظم ال أمامي. حتى تصبح واقعاً جمي ً كنت آخر من ينام في غرفتنا المشتركة ،إذ كنا أخواتي األربع وأنا وأمي ننام في غرفة واحدة ،بينما أبي يحوّل غرفتنا المجنونة إلى ما يشبه القبر ،حين ال تكون ليلة أمي ،إذ ال يملك أحد منا أن يتنفس فض ً عن أن يحكي ،فأفتقد ليل الحكايات الرائع ،وأتمنى في سرّي أن يبقى أبي كل ليلة مع زوجته األخرى، حتى تركض األساطير في فضاء الغرفة المخنوق، فيتسع! كم كانت اللحظة ثقيلة عند النوم ،فقد كان األرق يأكل أطرافي بجنون ،ألبقى مستلقياً أحدِّق
بالسقف األب�ي��ض ب�ش��دَّ ة حتى يتململ وي�ب��دأ لعبته الليلية؛ إذ يهبط نحوي تدريجياً ،فأضطر إلى أن يهش ذباباً أرف��ع ي��دي كل فينة ،كمن ُّ مؤذياً ،لكنني ال ألمس شيئاً ،ثم انقلب إلى جانبي األيمن ،فأنظر في الجدار ذي اللون السماوي ،أحدِّق فيه بشدَّ ة حتى يقترب فأغمض وقد دخلت في ملكوت السموات الهائلة ،أرى ما لم يره أحد ،أصاحب الكائنات التي تخفَّفت من ثقلها وط��ارت ،أطير معها ونلهو بين ال�ن�ج��وم ،ك��م ك��ان مشهد األرض في األسفل صغيراً ومذهالً! كم كانت بيوتنا تشبه حبَّات اللوز المتناثرة ،كم كانت عليشة صغيرة جداً بحجم علبة كبريت ،وكم كان الجسر الحديدي في �ص��ارات يشبه خيط نهاية ش��ارع ال �ع� َّ حذائي األسود! هكذا انتقلت ه��ذه العوالم ،وشغف البحث عن الخفَّة ،ودروب الحرية السماوية ،كي تجد طريقاً س��ال�ك��ة إل��ى ال �ن��ص اإلب ��داع ��ي ،ف��أص�ب�ح��ت األرض الثقيلة حسب نيتشه التي تغرس فيها النعامة رأسها، رغم أنها أسرع من الحصان ،أصبحت تلكم األرض ميداناً عالمياً وشخوصياً ،فحتى لو آخيت النعامة التي وصفها نيتشه بأنها أسرع من الحصان ،رغم أنها تدفن رأسها في األرض الثقيلة ،فإنني أقول عزيزي نيتشه :لم تكن تغرس رأسها خوفاً وال بحثاً عن الثقل! بل كانت تفتش في التفاصيل الغائبة أو المغيبة أو المدفونة ،تفتش عن األسرار المفقودة! هكذا شعرت لحظة كتابة فخاخ الرائحة أنني أمام بحث دقيق عن وثائق مدفونة ،فتتبعت وثائق الرقّ في السودان والسعودية ،والتقطت أساطير الحجاز، تلكم األساطير التي تبرر إحداها توفر الثروة غير المشروعة من المتاجرة بالبشر ،بالعثور على كنز
اجلوبة -شتاء 1429هـ 93
من كنوز بني هالل واألمم البائدة ،لحظة بناء أحد البيوت ،تلكم األساطير التي تبرر خطيئة األنثى آنذاك ،وحبلها غير المشروع ،بأنها لم تضاجع أحداً، بل حبلت من القمر ،حين نشرت مالبسها الداخلية في الهواء الطلق لحظة اكتمال القمر ،فتشكلت في رحمها طفلة تشبه القمر! أحياناً أشعر أن حضور األس�ط��ورة قد ال يكون علنياً ،لكن أح��داث الشخوص وصراعهم قد يحيل إل��ى أس �ط��ورة م��ا ،ال أع��رف كيف التقط كثير من النقاد والدارسين أسطورة جلجامش وصراعه مع إنكيدو داخل رواية فخاخ الرائحة؟ إذ أشار آخرهم وهو ناقد أمريكي إلى تمثل هاتين الشخصيتين في شخصيتي طراد ونهار ،إذ يتصارعان للظفر بساحة السطو الواسعة في صحراء مشتركة بينهما ،حتى ي �خ��ورا م�ث��ل ث��وري��ن منهكين ،فيتصالحا ويصبحا صديقين وق��اط�ع��ي ط��ري��ق م�ت�لازم�ي��ن ،حتى تنتهي الحياة بأحدهما مع إحدى قوافل الحج ،حين اكتشف الحراس محاولتهما الفاشلة للسرقة. هنا أك��اد أج��زم أن استلهام أس�ط��ورة جلجامش ج��اءت في روايتي من منطقة الالوعي .ثمة تماس حميم بين ج��زء م��ن أس �ط��ورة م�ع��روف��ة ،وبين حياة بدويين في الصحراء ،فقراءة األسطورة وتلبس الكاتب بها ،وإعادة إنتاجها بشكل آخر ،هو من شروط توالد النص اإلبداعي ،إذا آمنا أن التراث اإلنساني يشتغل منذ آالف السنين على نص إبداعي واحد ،يمارس التنويع عليه ،من خالل تعدد النصوص التي تسعى ألن تقدم تفسيراً للحياة والموت والكون. األساطير التي افتتحتُ بها رواية القارورة أجدني أن�ح��از فيها إل��ى السائد عند ق��راءة األس��اط�ي��ر ،أو الواجب طرحه ،وهو عدم السؤال :هل هي حقيقية؟ وإنما السؤال األكثر وعياً ،وهو :ما المقصود بها؟ ففي ظني أن الروائي أو القاص حينما يستلهم أسطورة
94
اجلوبة -شتاء 1429هـ
م��ا ،فهو يشير من خاللها إل��ى ه��دف أو مغزى ما، هكذا جاءت حكايات الحفيدات الثالث ،مطلع رواية ال�ق��ارورة وهن يسردن أساطير شعبية معروفة في الجزيرة العربية ،بغية المنافسة فيما بينهن لكسب جائزة الجدَّ ة ،وهي قارورة تحتضن الحكايات الميتة لكي تبقى وتحيا .ففي الحكايات الثالث ك��ان ثمَّ ة حضور للمقص ،وحضوره في محور الحكاية الشعبية من جهة ،وإيحاؤه في صلب الرواية وبطلتها البنت الثالثينية .وهو ما أشار إليه أحد النقاد السعوديين؛ إذ يشير فيما يشير إليه ،إلى محاولة قص الحياة ال�س��اب�ق��ة ،وم �ح��اول��ة العيش م��ن ج��دي��د ،س ��واء في حكاية األب الذي ترك بناته الصغيرات الثالث في الصحراء ،وقص طرف شماغه من تحت صغيرته التي ال تنام إال بجواره ،كي يهرب دون أن تستيقظ، ليبدأ حياته الجديدة م��ع زوج�ت��ه ال�ش��ري��رة ،أو في شخصية الرواية المحورية ،البنت الثالثينية التي تسعى إلى قص صك طالقها وحرقه بعد أن تعرَّضت إلى خديعة من حبيبها وزوجها المزوَّر. كثيراً ما أفكر هل كان عليَّ أن أقتصر على توظيف م��ا أري��د م��ن األساطير المحلية فحسب ،أي ذات الخصوصية التي ترتبط بالمكان ،أم أن األسطورة في العالم هي تراث إنساني متاح للجميع ،وتوظيفها يعتمد بالدرجة األولى على النص الجديد المكتوب، بمعنى أن حضور األسطورة يجب أن يكون منساباً بنعومة ،مثل عقد يزين جيد سيدة جميلة ،هكذا حضرت أسطورة االمبراطور الفرنسي شارلمان في رواية نزهة الدلفين ،كأنما حطَّ ت فجأة عليّ لحظة أن بدأتُ أرصد لحظات جنون خالد اللحياني ،وهو يقع مك َّباً على وجهه في عشق حبيبته آمنة ،كأنما أوقعته بذكاء في شرك السحر ،سحر عينيها وروحها الفائضة مرحاً وخبثاً .كما أن الرجل الذي تم مسخه طيراً ،وهو يصيح أو يغرَّد بحثاً عن حياة أخرى ،هي أيضاً محاولة التأرجح بين الواقع واألسطورة.
كثيراً ما تنتابني لحظات السؤال األكثر طموحاً :فالتهمته الطيور الجارحة! كيف يمكن أن تتحول الرواية بأحداثها وشخوصها هو الشغف إذاً ،بدهاليز الحكايات التي تستطيع لثوان ،تلكم التي تبقى ترن في ومكانها إلى أسطورة جديدة؟ بمعنى :ما مدى القدرة أن توقف وجيب القلب ٍ على أن أكتب رواية تخلق أسطورتها من عمقها دونما الذاكرة عقوداً من السنوات ،من أين تنشأ أساساً؟ جلب أساطير ال��ذاك��رة الشعبية المتاحة للجميع ،وكيف تتحول مع الزمن؟ وكيف تتبدل من مكان إلى ودون�م��ا توظيف تلك ف��ي ن��ص جديد آخر؟ كأنما هي صخور تتعرَّض إلى يتحدث عن واقع يومي جديد؟ بمعنى الريح والزمن ،فتتشكل بمرور الوقت خلق أسطورة ال تتشابه مع أسطورة نماذج متنوعة ومثيرة. س��ان �ت �ي��اغ��و ال ��راع ��ي االس��ب��ان��ي في حين كبرت ،وتعلَّق قلبي بالكتابة، رواي��ة الخيميائي لباولو كويليو ،تلك وأص �ب �ح��ت ال �ح �ك��اي��ات واألساطير ال��رواي��ة المتقاطعة م��ع إح��دى ليالي ت �ج �ع �ل �ن��ي أح� �ي ��ان� �اً أف ��سّ ��ر الواقع أل��ف ليلة وليلة ،وإنما خلق أسطورة بطريقتي ،ص��رت أنهض فجأة عن ت �ت �ف��ق م ��ع أس� �ط ��ورة ذاك الراعي، ل��وح��ة ال�م�ف��ات�ي��ح وأخ��ب��ط الجدار المتمثلة ب��أن الكون بأسره يتضامن ب�ق�ب�ض�ت��ي ،م �ن �ت �ظ��راً أن ت�ق�ف��ز من مع ما ترغب حين تؤمن برغبتك تلك صالبته ال�ف�ك��رة أو الهبة اإللهية، وتقاتل ألجلها ،إذ يتقاطع حلمي معه تقفز خفيفة ورائعة تخف أمام عيني ف��ي مسألة الطموح ،بحيث سأقاتل مع ح��روف األبجدية كلها إذ أسوقها في مخيلتي ،كالغيمة ،فأكاد أبكي صخباً وف��رح�اً ،هي اللحظة إذاً ،التي أرى أنها امتداد حقيقي ومنطقي لهروبي كخراف مذعورة ،لنصنع أسطورتنا الجديدة. ٍ إلى سطح البيت ،مخبئاً أسطورة الزير سالم ،أبي هل تجربتي السابقة في الكتابة للطفل ،فض ً ال ليلي المهلهل وقد عثرت عليها محفوظة بين مالبس ع��ن ق � ��راءات ال �ط �ف��ول��ة ،خ�ل�ق��ت ف��ي داخ��ل��ي ذلك أمي ،حيث تخبئها كي ال أقرأ فيها وأبكى .هل كنت الطموح؟ فبدأت منذ العاشرة اللعب على مفاتيح آلة متعاطفاً آنذاك مع حكاية الغدر والثأر من القتلة؟ أم كاتبة يدوية ،اشترتها لي أمي حين أنهيت المرحلة كنت منحازاً إلى القصيدة التي تطالب بعدم الصلح، اإلب �ت��دائ �ي��ة ،ف �ك��ان أول ن�ص��وص��ي المكتوبة قصة تلك القصيدة التي أحببتها بشغف وقت طفولتي، أسطورية برداء حكاية شعبية ،لم أعد أتذكر منها وأحببتها أي�ض�اً ف��ي تنويعها ال�ح��داث��ي ،وبعنوانها سوى الشخصية المحورية ،وهي شخصية ميسرة الجديد ال تصالح للشاعر أمل دنقل ،فهل نحن غير األخ ��رس ،ال��ذي يحمل صغار الطيور ف��ي جيوبه ،متسامحين؟ أم ثمَّ ة فرق بين التسامح والتخاذل؟ وي��راع��ي أعشاشها ،ذل��ك ال��ذي ع��رف كيف يجعل هكذا الزمتني األس�ط��ورة بكافة أشكالها ومنابتها الطيور تتبعه حين يمشي في الصحراء ،ويحادثها المتنوعة ،منذ والدت��ي وطفولتي ،وحتى اآلن فيما وتحادثه ،فال يفهم لغتها سواه ،وال يفهم لغته سواها ،أكتبه من نصوص روائية. وحين تفتقده القبيلة تشيع أنه تحوَّل إلى طير ضعيف ( )1شهادة حول الرواية واألسطورة ألقيت في ملتقى عبدالسالم العجيلي لإلبداع الروائي في سوريا. < روائي من السعودية.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 95
مصدق احلبيب:
اخلط العربي منبع للحلم والسحر الالمتناهي > حوار :الكنتاوي لبكم
<
ينتظر كل نص ليفجر طاقاته التشكيلية ،مطوعا ح��روف��ه وك�ل�م��ات��ه؛ فالكلمة ت�ت�ج��اوز ب�ع��ده��ا الروحي وال�ف�ل�س�ف��ي لتتحول إل��ى رس��ائ��ل تمنح نفسها بعدا جماليا .فالفنان مصدق الحبيب ،بما راكمه من تجارب عربية وع��ال�م�ي��ة ،ي��ري��د أن تبقى تجربته ف��ي الخط تقليدية محافظة بشكل أساسي ،مع مسحة خفيفة من المعاصرة؛ ليس فقط في األسلوب ،إنما في المواد والسلوك أيضاً؛ وهو الرهان الذي سار عليه بكل ثقة وجمالية. الفنان العراقي الدكتور مصدق الحبيب خطاط كالسيكي ورسام ومصمم، بخبرة تمتد بداياتها إلى أوائل السبعينيات ،أقام عددا من المعارض الشخصية، وشارك في أغلب المعارض داخل العراق وخارجه ،وهو حاصل على شهادة الدكتوراة في االقتصاد من الواليات المتحدة ،ويعمل حاليا أستاذا جامعيا في والية ماسجيوستس األمريكية بجامعة ( .)University of Massachusettsفي حوارنا الخاص معه ،سنترك للقراء مساحة إكتشاف جوانبه اإلبداعية ،عبر الكلمة واللوحة.
ت�������ش���ك���ي���ل 96
> كيف بدأت قصتك مع الخط العربي؟ < قبل أن أدخ��ل المدرسة ،وأتعلم ال�ق��راءة والكتابة ،كنت أراق��ب بشغف وانبهار أخي األكبر ،وهو يخط الكلمات بالطباشير على األرض والجدران ،وكان في قلبي شوق كبير واندفاع عارم لتقليده ..أتذكر مرة قمت فيها بتقليد إحدى الكلمات التي خطها أخي ،تقليداً دقيقا ،أثار اندهاش العائلة كلها ،واحتفاءها بما فعلت ،فوجدت في ذلك دعما كبيرا مكنني من االستمرار ..لكن التشجيع الكبير الذي تلقيته من معلمي في الصف الثاني االبتدائي ،كان له األثر األعظم في وضعي على الطريق الصحيح .فقد
اجلوبة -شتاء 1429هـ
كان هذا المعلم يقوم في كل درس للرسم بتكليفي باستنساخ غ�لاف اح��د الكتب ال�م�ص��ورة ،فكنت استنسخ عنوان الكتاب وصورة غالفه بحذافيرها على السبورة ،مستخدما الطباشير الملونة ،بينما ك��ان بقية التالميذ يستنسخون في دفاترهم ما أجود به! األمر الذي سلَّحني مبكرا بأهم عنصر من عناصر التطور الذاتي ،وهو الثقة بالنفس.
يحتاجه الفنان لإلبداع في صياغاتها ،وال يرتبط ذل��ك بمعانيها .فقد يحصل مثل ه��ذا الجمود التشكيلي مع نصوص عظيمة المعنى! ما يجعل مرحلة التصور المسبق المرحلة الحاسمة في اختيار العمل الفني .ولهذا فاني أح��اول التوفيق في اختيار النص الذي أرغب تضمينه شريطة أن أجد فيه الطاقات التشكيلية الكامنة التي تنتظر تفجيرها.
بعد ذلك ب��دأت مرحلة الدراسة الذاتية لكراسة ال�خ��ط ال�ع��رب��ي لفنان ال �ع��راق ال�خ��ال��د المرحوم > ه��ل ه �ن��اك خ �ط��وط معينة ت��رت��اح ل��رس�م�ه��ا دون غيرها؟ هاشم محمد البغدادي ،التي استنسخت كلماتها وس �ط��وره��ا م �ئ��ات ال� �م ��رات ..والزل���ت ح�ت��ى هذه < هناك اختالف كبير بين أنواع الخطوط العربية ،من ال �ل �ح �ظ��ة أع� ��ود إل �ي �ه��ا ل �ت��دق �ي��ق ش �ك��ل الحروف ناحية الطاقة االستيعابية الجمالية التي تنبثق من وحركتها ،فهي بالنسبة لي معين ال ينضب ،في إمكانات التشكيل وجوازه .يقف خط الثلث شامخاً عرض أصول الخط وصيغه المناسبة .في المرحلة في طليعة الخطوط ،التي تمنح نفسها لإلبداع الثانوية عملت خطاطا لليافطات ال�ت�ش�ك�ي�ل��ي ف��ي ح� ��دود القواعد واإلع�ل�ان��ات ،واس�ت�م��رت رحلة والمقاسات المشروطة .كما يتميز الممارسة اليومية إلى المرحلة الخط الكوفي بهذه الصفة أيضا، الجامعية ومرحلة الدراسات خاصة أنواعه الهندسية المشبعة العليا ،إذ كنت أعمل في المساء بحساب المثلثات ،والتي تتناغم خطاطا ورس��ام��ا ومصمما في وتنسجم بالتمام مع فن الزخرفة الصحافة والمكاتب التجارية. اإلسالمي .يشارك هذين النوعين الخط الديواني بنوعيه التقليدي > من أين تستلهم خطوطك؟ وال �ج �ل��ي ،ف�ي�م��ا ت��أت��ي ب �ع��د ذلك < يبعث فن الخط العربي أكثر من رسالة .فهناك الخطوط األخرى ،مثل :التعليق ،والنسخ ،والرقعة، رسالة المحتوى التي تعتمد على النص المكتوب، وبإمكانات أقل في الحرية التشكيلية؛ األمر الذي وه�ن��اك رس��ال��ة الشكل التي تعتمد على جمالية جعلها الخطوط المفضلة في كتابة اليد ،والمناسبة التشكيل ،وهناك الرسالة الفلسفية التي تعتمد أكثر لميكانيكية المطابع ،وذلك بسبب صياغاتها على العوامل الروحية في صياغة موهبة الفنان. التقليدية الصافية القليلة التحوير .ولهذا السبب ما يلهمني أوال هو الجانب الجمالي ،فيقوم الشكل فإني أرى في الثلث والديواني والكوفي الخطوط عندي بقيادة المحتوى ..ولهذا فإني أتأمل الصورة ال �ت��ي يستطيع ال �خ �ط��اط أن يرسمها ويشكلها ذهنيا أوال وقبل الشروع بالتنفيذ ،وعلى إثر ذلك بإبداعات ليس لها حدود. يكون بمقدوري اختيار النص ،ال��ذي يبيح نفسه > م��ا ه��ي اإلض��اف��ات ال�ت��ي قمتم بها ألج��ل الرقي للتشكيل الجمالي. باللوحة الحروفية؟ هناك كلمات أو عبارات معينة تفتقر في تركيبها ال �ل �غ��وي إل ��ى ال �م �ج��ال التشكيلي ال��رح��ب الذي < إن �ن��ي خ �ط��اط ت�ق�ل�ي��دي ب�ك��ل ال�م�ع��اي�ي��ر ،وأفتخر
اجلوبة -شتاء 1429هـ 97
كما أنه قد تم ،على نطاق أضيق ،استخدام األزرق والذهبي ،ول��م تستخدم األل��وان األخ��رى إال في ال�ن��زر اليسير ج��دا .إن�ن��ي أوظ��ف ال�ل��ون كعنصر تشكيلي مكمل لبناء اللوحة ،لكنني ال أزال محافظا في ذلك عن طريق تلوين الخلفية بألوان خالصة، وتلوين النقاط وال��وح��دات الزخرفية بطريقتها اإلسالمية .وهذا مختلف عن التحديث ،ألنني ال أذهب إلى إعطاء اللوحة تشكيالت لونية تجريدية، ال تفصل بين النص وخلفيته ،مثلما يفعل بعض الخطاطين المعاصرين.
بالحفاظ على تقليدية الخط بالقدر نفسه الذي أفتخر فيه بتجارب زمالئي الخطاطين المحدثين الذين خرجوا عن القواعد التقليدية .وليس لي أن أدعي أي إضافة لتاريخ المسيرة الفنية ،سوى ما يتميز به أسلوبي الشخصي بالطريقة نفسها التي يتميز بها كل خطاط .فعلى الرغم من الخطأ الشائع القائل بأن الخطاطين عموما لم يفعلوا شيئا سوى تقليد من سبقهم ،فإن هناك نمطاً وروحاً خاصة ينفثها كل خطاط في فنه حتى وه��و في صدد تقليد مخطوطة معينة ،وال يبدو ذلك النمط وال تظهر تلك ال��روح الخاصة إال للعين العارفة -إدماج الوحدات الزخرفية بالبناء التشكيلي للوحة والمتدربة والمتمرسة .ومع ذلك فإنني أستطيع الخط ،وجعلها عنصرا تكميليا لعناصر اللوحة أن أقول أن هناك بصمات واضحة ،بإمكانها أن األخ� ��رى ،وه��و بالتأكيد اس �ت �خ��دام يختلف عن تميز أسلوبي الشخصي عن غيره منها: االستخدام التقليدي للزخرفة ،التي غالبا ما تكون مستقلة في هيكلها التصميمي ،وغالبا ما تكون مسألة استخدام اللون ،التي تتميز عن الطريقةممتدة لمساحة أعرض وألغراض ديكورية بحتة. التقليدية من ناحية والطريقة المحدثة من ناحية هنا يمكن القول إنني أدمجت الموتيف الديكوري ثانية .يتلخص التمايز ع��ن التقليد المتوارث، بحدوده الدنيا مع عناصر التكوين الخطي من أجل ب��إدخ��ال��ي أل��وان �اً أك�ث��ر أوال ،وتوظيفها بطريقة أن يخدمه ال أن يطغى عليه. مختلفة ثانيا .فمن المعروف أن الغالبية العظمى من الخطوط التقليدية أنجزت باألبيض واألسود - .تقليل حجم النص إلى الحدود الدنيا ،وذلك من
98
اجلوبة -شتاء 1429هـ
أج��ل زي ��ادة ال�م��رون��ة التشكيلية ،وف�س��ح المجال األوسع لإلبداع الحر ،إذ أرى أنه كلما طال النص كلما تقيدت الحرية اإلبداعية ،وانحسرت إمكانات تصرف الفنان ،خاصة إذا ما أخذنا في االعتبار ضرورة االنصياع إلى القواعد واألصول التقليدية. فمما ال شك فيه أن الخطاط يجد آفاقا إبداعية أرحب وأسهل في إنجاز تكوينه التشكيلي ،لنص يتألف م��ن خمس أو س��ت كلمات ،مقارنة بنص > يتألف من سطرين أو ثالثة أسطر. < > هل يمكننا القول بعزلة الخط العربي أمام األشكال الفنية األخرى؟
بالنسبة للمشاهد الغربي أن يذهب لزيارة معرض عن الفنون اإلسالمية ،من أن ي��زور معرضا في الفن التجريدي المتواجد في كل زاوية من الرواق الثقافي .لقد كانت معارض الخط وما تزال في ال �خ��ارج تمثل ت�ظ��اه��رات ثقافية كبيرة ،وملتقى للمفكرين والمهتمين ب �ت��راث ال�ش�ع��وب األخرى وثقافاتها وفنونها. ما هي أسس قاعدتك الفنية؟ ليس لدي أس��اس أكاديمي بالمعنى التقليدي أو المدرسي ،فلم أدرس الخط على يد أي خطاط كما أنني لم أتخرج في أي معهد أو كلية فنية. األس � ��اس األك��ادي��م��ي ال� ��ذي أم�ت�ل�ك��ه ي �ت �ك��ون من المالحظة والتمحيص ،وال��دراس��ة الشخصية، والمران والممارسة ،إضافة إلى اإلصرار والعمل الدؤوب ،والحماس لهذا الفن .أعد نفسي تلميذا للمدرسة البغدادية ال��م��ع��اص��رة ،ال��ت��ي ت� ��وج عطاءها ال �خ �ط��اط ال �ك �ب �ي��ر ه��اش��م محمد ال� �ب� �غ ��دادي ،وه ��ي ام� �ت ��داد لتراث المدرسة البغدادية المبكرة ،التي أرس ��ى دعائمها عمالقة ال�خ��ط األوائ� ��ل ،وعلى رأسهم ابن مقلة وابن البواب.
< ال أذه ��ب إل��ى تسمية ذل��ك ب��ال�ع��زل��ة ،إن�م��ا أقول ت��راج��ع أه�م�ي�ت��ه التشكيلية أم ��ام أن� ��واع الفنون البصرية األخ��رى ،األم��ر ال��ذي سيتفاقم أكثر مع اجتياح االستخدامات اإلبداعية للكومبيوتر .ولذا فإننا يجب أن نتعامل بذكاء من أجل الحفاظ ع��ل��ى ه � ��ذا ال � �ت� ��راث الخالد واالستمرار بتقديمه إلى األجيال القادمة بأفضل ما يكون .وهذا يعني مواكبة العصر ،ومالحقة الحدث ،وتطويع المواد ،والتأقلم مع الظروف؛ وإال فال يمكن لنا أن نظل في ذهنية الكتاتيب العثمانية ونحن نعيش في > ماذا يعني لك فن الخط مقارنة بالرسم؟ العصر الرقمي «الديجتال» االلكتروني. < ك�ن��ت ق��د ص��رح��ت ب��رأي��ي ع ��دة م���رات ف��ي هذا > كيف يتلقى الغرب معارض الخط العربي؟ المجال ،وسأعيد هنا ما قلته سابقا .في تجربتي الشخصية ال أريد الخلط بين الخط والرسم .أود < المشاهد الغربي يتلقى فن الخط العربي بافتتان أن أراهما قسمين مختلفين .أريد أن تبقى تجربتي أك�ب��ر وح �م��اس أش��د م��ن المشاهد ال�ع��رب��ي .إنه في الخط تقليدية محافظة بشكل أساسي ،مع السحر الالمتناهي ،والحلم الفنتازي ،والتاريخ مسحة خفيفة م��ن ال�م�ع��اص��رة ،ل�ي��س ف�ق��ط في التليد بالنسبة ل��ه .وه��و ال �ن��اف��ذة المطلة على األس�ل��وب وإنما في ال�م��واد والسلوك أيضا .فال فهم الثقافة العربية واإلسالمية والتعايش معها. زلت أستخدم الورق واألحبار والقصب واالكريلك، وغالبا ما تكون معارض الخط في هذا المجال، والزلت مفتونا ومأخوذا بأصول تقييس المدرسة أكثر نجاحا من معارض الرسم والنحت ألن فيها البغدادية القديمة ،التي وضعها أبو على محمد بن من الخصوصية الثقافية ما يصرخ باالختالف مقلة (المتوفى عام 940م) وشذبها أبو الحسن والتعددية الحضارية .إنها فرصة أثمن وأندر
اجلوبة -شتاء 1429هـ 99
علي بن هالل بن البواب (المتوفى عام 1024م) وياقوت المستعصمي (المتوفى عام 1298م) .كما أنني أفتقر إلى الخبرة في إنتاج الخطوط بواسطة الكومبيوتر وال أريد أن أصل إلى هذا السبيل. أما تجربتي في الرسم فهي أكثر معاصرة ،على األق��ل ،من الناحية األسلوبية .ومن الجدير ذكره ه�ن��ا أن �ن��ي ال أع �ي��ب ع�ل��ى م��ن ي �م��زج ب�ي��ن الخط والرسم في لوحة تشكيلية واحدة! فمدرسة البعد الواحد التي أسسها التشكيليون العراقيون جميل حمودي ومديحة عمر وشاكر حسن آل سعيد هي قفزة تشكيلية محلية ،ارتقت إلى مستوى اإلبداع العالمي ،وهي بهذا مدعاة للفخر واالعتزاز في تأسيسها التجاه تشكيلي عربي كان منبعه العراق. وكما هو معروف فهي تقوم على استلهام األبعاد التشكيلية ال�ت�ج��ري��دي��ة ال �ف��ذة ل�ل�ح��رف العربي. هناك أيضا تجربة الزميل حسن المسعود الذي استلهم األبعاد الشعرية والفلسفية للحرف العربي في تشكيل لوحاته ،التي ال تلتزم بقواعد الخط التقليدية .وهناك بين هذا الحد وذاك مثل تجربة ال�خ�ط��اط اإلي��ران��ي جليل رس��ول��ي ،ال ��ذي يؤدي خطوط التعليق بأصولها األصلية ،لكنه يلوّنها ويشكّلها بطريقة تشكيلية تجريدية. > كيف نحافظ على الخط العربي؟ < ال�م�ح��اف�ظ��ة ع �ل��ى ال �خ��ط ال �ع��رب��ي ت�ت�م�خ��ض عن التمسك ب��ال�ت��راث الثقافي ال�ق��وم��ي اإلسالمي، واالع �ت��زاز ب��ال�ج��ذور ،وه��ي مهمة وطنية وقومية ك�ب�ي��رة وم �ع �ق��دة ،والب���د أن ت �ك��ون م��رت �ك��زة على قناعة سياسية أوالً وإجراءات تنفيذية عليا ثانيا، خاصة وأن مصير التوجه الثقافي والتعليمي في كل بلداننا العربية واإلسالمية يخضع لقرارات مركزية ،منشؤها االول واألخير الدولة .وكما هو معروف ،ال ينقصنا التفاخر بالتراث والمساومة على التوجهات القومية والدينية ،فما شاء الله، < كاتب مغربي.
100اجلوبة -شتاء 1429هـ
لدينا الكثرة الكاثرة من هذا القبيل! ولكن ينقصنا صدق النوايا والكفاءة في التنفيذ. ال �خ �ط��وة األول� ��ى ه��ي أن ن��ول��ي اه�ت�م��ام��ا خاصا للخط العربي ،كعنصر من عناصر الفن التشكيلي العالمي .ويمكن لهذه الخطوة أن تتجسد على شكل دروس نظامية ،تعطى لتالميذ المدارس خ�لال ال�م��راح��ل المختلفة ،وتتطور م��ع تقدمهم الدراسي .وإنها ليست مفاجأة أن أبوح بأن الخط العربي والزخرفة اإلسالمية ال يدرّسان في بلد الخط والزخرفة -العراق ،على سبيل المثال ،في أي مرحلة دراسية سوى للطلبة المتخصصين في معهد الفنون الجميلة .إن هذا اإلهمال المنهجي هو منبع األزم��ة ..خاصة في زمن انحسرت فيه إلى حد االنقراض كتاتيب الخطاطين الخاصة، فضاعت كل الفرص أم��ام األج�ي��ال لتفهم أصول الخط ،وتقدّر مكانته ،وتتمرن على ضبط قواعده. المسألة المهمة األخ��رى تتعلق بالموقف المهني للجمعيات وال� �ن ��وادي وال �م��ؤت �م��رات والكيانات التشكيلية ،التي ال تعد الخط جزءا من النشاط التشكيلي للحد الذي انعزل فيه الخطاطون في زاوية قصيّة ،لم يروا فيها أنفسهم سوى مواطنين من الدرجة الثانية في عالم اإلب��داع التشكيلي. ففي ال��وق��ت ال ��ذي تنتج فيه معاهدنا وكلياتنا الفنية عشرات األل��وف من الرسامين والنحاتين والخزافين والفوتوغرافيين والمصممين ،يقتصر إنتاج الخطاطين ،بصفة رئيسية ،على الحماس الفردي والنبوغ الشخصي .فالمهمة إذاً هي إعادة النظر في موقع الخط والخطاطين في الخريطة التشكيلية؛ وإال فإن االستمرار بما هو عليه اآلن يعني انقراض هذا الفن في مدة مستقبلية وجيزة، أم��ام اجتياح الكومبيوتر والوسائل التكنولوجية الحديثة ،مما يستلزم ليس فقط إعادة التوجه إنما تقويمه وتطويعه بما يواكب مفردات العصر.
الفنانة سامية حلبي:
سيرة اللون املستوحى من الطبيعة > جعفر العقيلي
<
في أعمالها الغنية بالطبقات اللونية ،والمستوحاة من الطبيعة الفلسطينية ،بدأت سامية حلبي ،إنجا َز لوحات تجريدية ،ينسجم فيها البناء والتكوين واللون معاً ،إذ رسمت، يقودها حسُّ ها الفني والجمالي العميق ،أورا َق التين ،والصخور ،وصوّرت انعكاسات الضوء على أوراق شجر الزيتون .وإضافة إلى ذلك ،اتكأت حلبي ،في لوحاتها التجريدية ،على ألوان الطبيعة ،إيماناً منها بأن التجريد مبني أساساً على الطبيعة وقوانينها« :لطالما كان التجريد ،بوصفه محاكاة للحياة والواقع ،عقيدتي ،وهو يقين أجدني ثابتة في االلتزام به. إنه يوجّ ه الجزء الرئيس لعملي الجاد». المتتبع لمسيرة حلبي التي ولدت في مدينة القدس عام 1936م ،ونزحت من فلسطين قبيل النكبة ،وعاشت مع عائلتها في بيروت بين سنتي 1948م – 1951م ،لتستقر ،بعد ذلك ،في الواليات المتحدة األميركية ..نجد أن هناك الكثير من المحطات التي شكلت مالمح تجربتها الفنية التي امتدت زهاء أربعة عقود .ولم تكن القدس وقتَ والدة حلبي قد تلوثت باالنتهاكات اإلسرائيلية .تقول سامية وهي تتحدث عن صورة لثوار فلسطين ما تزال تحتفظ بها« :لقد وُلدت وسط أصوات هذه الحشود الرائعة ،في ضوضاء الثورة، وكانت سنواتي الثالثة األولى في الحياة سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى من 1936م إلى 1939م». وتتابع« :تتشكل في ذاكرتي شمعة مضيئة باردة األلوان ،دافئة الملمس ..هذا الشكل ذاته يتراءى لي ليشكّل ذكرياتي عن القدس ،حيث الجدات وأقرباء زائرون والفرح عند نوافير الحدائق .تعرجات الشوارع الضيقة ..الحيطان ودكاكين المدينة القديمة ..هدوء
اجلوبة -شتاء 1429هـ 101
وسالم الناس ..أقواس وقبب ..والمخبز القديم ..العم العجوز في محل تصليح األحذية ..بائع الخضراوات على ح �م��اره .واألح �ي��اء ال�ج��دي��دة ب��أب��واق سياراتها ودكاكينها النشطة ..أتذكر القناعة التي كنا نعيشها في قدسنا وسط منبع الثقافة». بتشجيع من والدتها، ٍ وثّقت حلبي عالقتها بالفن، التي كانت تقف وراءها وتساندها .وزاد هذا الوثا ُق متان ًة حين بدأت سامية بتكريس وقتها في الرسم، أثناء سنواتها الدراسية األولى في جامعة ميتشيغان مطلع الستينيات ،حيث درست هناك مع الرسامين التعبيريين الذين زاروا الجامعة من نيويورك .وأسو ًة بالعديد من طالب الفن في تلك الفترة ،بدأت حلبي التفكي َر في االنتقال إلى نيويورك ،لكنها قررت أوالً أن تطوّر عملها ،أثناء ذلك انخرطت في ممارسة مهنة التدريس. واصلت حلبي دراس��ة الفن وتاريخه .ومن خالل دراستها لعلم التصميم في جامعة سنسناتي (1959م)، ومن ثم حصولها على شهادة الماجستير في الفنون م��ن جامعة ميتشيغان (1960م) ،والماجستير في الفنون الجميلة ع��ام (1963م) ،وج��دت سامية أن المناهج الفنية التي يتم تدريسها ف��ي الجامعات األميركية تنحى منحىً عنصرياً ،إذ إنها تركّز على الفن وتاريخه في أميركا وأوروبا ،بينما ال يحظى الفن في غير هاتين القارتين بحضور في تلك المناهج ،إذ يتم تهميشه وإلغاؤه وكأنه ال وجود له.
أهمية من نظرائهم غير البارزين .وبعد عشر سنوات م��ن الخدمة استغنت الجامعة ع��ن خدماتها ،ورداً على التحيّز العنصري والجنسي الذي أبدته الجامعة ضدّها ،نظّ مت حلبي مع مجموعة من الطالب معرضاً تشكيلياً في نيويورك يحمل نقداً لـ«ييل» ،وقد استغل عمال «ييل» المضربون في ذلك الوقت لوحات هذا المعرض في إضرابهم. وبعد أن َدرَّسَ ت الحلبي الفن في جامعة «هاواي» ف��ي أميركا ع��ام 1964م ،ب��دأت دراس��ة ت��اري��خ الفن العربي ،ووجدته عالماً واسعاً وله جذوره الراسخة، مما غيّر الكثير من األفكار والقناعات التي كانت يخص الفنون الغربية ،لتتجه ّ راس�خ��ة لديها فيما بعدها إلى رسم الزخرفة العربية ،التي ترى أنها تمثّل أرقى أنواع الفنون العالمية. وم ��ن خ�ل�ال دراس��ات �ه��ا وأب �ح��اث �ه��ا ،أك ��دت حلبي أن التجريد ه��و «ف��ن ع��رب��ي أص �ي��ل ،ع��رف��ه العرب وأجدادهم ،والدليل على ذلك اللوحات الفسيفسائية، وفن الخط العربي ،فالعرب كانوا شغوفين بالفن في مستوياته المختلفة ،فكانوا يحبون الهندسة وعلم الجبر وأشكال حروفهم العربية». وترى حلبي أن الفن ال ب ّد أن يعبّر ،بشكل أو بآخر، عن فكر إنساني ،وتؤكد على أنه ينبغي على الفنان العربي أن يكون ملتزماً ،وال يعني ذلك أن يعبّر عن أفكاره بطريقة مباشرة في لوحاته ،وإنما أن يتشبث بجذوره الفنية ،ويحاول أن يطوّر األساليب الفنية العربية القديمة ،ويضيف إليها م��ن روح العصر، ويتواصل مع غيره من الفنانين العرب للخروج بمدرسة ثورية تقدمية تاريخية تكون ام �ت��داداً للفن العربي األصيل ،وتنافس المدارس الفنية الغربية المعروفة ومنها التكعيبية ،ومدرسة الجداريات المكسيكية.
َد َّرس� � ��ت ح �ل �ب��ي ف ��ي ق �س��م ال �ف �ن��ون بالجامعات األميركية لمدة سبعة عشر عاماً (1982 – 1963م)، ثم تدرجت في وظيفتها من كليات الفنون المغمورة إلى أكثرها تميزاً (كلية الفنون في جامعة ييل) ،لكنها بعد كل ه��ذه الطريق التي اختطّ تها بنجاح ،وجدت أن هناك هالة غير حقيقية تغلّف حقيقة الجامعة، وهي تشير إلى أن الفنانين غير الملتزمين ،عربياً، وأن مدرّسي الفنون البارزين في «ييل» ليسوا أكثر هم أولئك الذين تأثروا بالفن «اإلسرائيلي» والفنون 102اجلوبة -شتاء 1429هـ
الغربية ،بحيث أضاعوا هويتهم الخاصة فيما ينجزون بكل ما أوتي من قوة أن يسخّ ر جهوده وعمله لخدمة من أعمال ،وأصبحوا مشتتّين بين تلك المدارس؛ هذه القضايا. يأخذون من هنا وهناك ،دون أن تكون لهم طريقتهم وتؤكد حلبي أن االنتفاضة الفلسطينية قد أثرت الخاصة في الرسم. بشكل كبير على الفنانين العرب الذين كانت لديهم
في أواخ��ر الثمانينيات ،عرضت سامية لوحاتها طموحات كبيرة ،تتمثّل في إيصال فنهم إلى العالم؛ وقد في معرض «هافانا – كوبا» ،وقد شكّلت هذه التجربة قادهم هذا الطموح إلى العودة إلى جذور الفن العربي ان� � �ع� � �ط � ��اف � ��ة ال� �م� �ت� �م� �ث� �ل ��ة ف� ��ي حياتها با لز خر فة ، الفنية ،خاصة وال � � � � �خ� � � � ��ط أن المعرض ال�� � �ع� � ��رب� � ��ي، ض ��م أعماالً واالتجاه نحو ل �ف �ن��ان �ي��ن من ال� � �م � ��درس � ��ة أف � ��ري� � �ق� � �ي � ��ا ا لمكسيكية وأم� � � �ي�� � ��رك�� � ��ا ال�� �ت� ��ي كانت الجنوبية .وأصبحت سامية أكثر ت�ه�ت��م ك �ث �ي��راً ب��ال �ج��داري��ات ،ومن إدراكاً لمحدودية المناخ الفني في أعالمها هوزي ليير . نيويورك ،إذ ك��ان الفرق بالنسبة لذلك ،بدأت سامية منذ العام لها كبيراً بين م�ع��رض «هافانا» 1995م بزيارة فلسطين مرتين في ومعرض «فينيسيا» ،الذي عرضت السنة أو أكثر ،حيث أقامت كثيراً ف �ي��ه ل��وح��ات �ه��ا س��اب �ق �اً .وأخ ��ذت من العالقات هناك ،وعملت في من أعمال الفنانة سامية الحلبي تقارن بين ما قدمته الطبقة الدولية جامعة بير زيت ،وفي برامج األمم الحاكمة من فن وكيف تم استثناء المتحدة .وخالل ذلك قامت حلبي الفن الفلسطيني وتجميده ،وبين ما قدمته «الطبقة بإجراء مقابالت مع العديد من الفنانين الفلسطينيين، العاملة» في هافانا التي اشتمل معرضها على لوحات وب��دأت ع��دة مشاريع ،منها :م�ش��روع رس��وم أشجار من الفن الفلسطيني. الزيتون ،ومشروع معالجة مذبحة «كفر قاسم» ،كما ل��م تكن حلبي بمعزل ع��ن ال�ت�ط��ورات السياسية قابلت بعض الناجين من المذبحة ،وق��رأت العديد التي شهدتها القضية الفلسطينية ،والتي أثّرت على من المطبوعات حول هذا الموضوع ،لتنجز بعد ذلك الحركة الفنية الفلسطينية ،خصوصاً م��ا أحدثته سلسلة من الرسوم حول المذبحة. االنتفاضة الفلسطينية في أواخر الثمانينيات وأوائل وف��ي العام 2002م أسست حلبي ومجموعة من التسعينيات ،من تأثير في هذا السياق ،وأدركت حلبي ،الفنانين «مؤسسة الجسر» التي كانت انطالقتها وبشكل ٍ مواز ،حجم مسؤوليات الفنان تجاه قضيته ،بمعرض فني حمل اسم «وليمز بيرغ يبني جسراً إلى ألن الفنان والمثقف الحقيقي ،كما ترى حلبي ،هو فلسطين» ،وقد القى هذا المعرض حضوراً الفتاً في من يكون على تماس مع قضاياه الوطنية ،ويحاول
اجلوبة -شتاء 1429هـ 103
الغرب ،لتبدأ المؤسسة بعد ذلك تنظي َم المعارض العربية التي تهدف إلى تعريف العالم بالفن العربي والحضارة العربية ،وتغيّر وجهة النظر الغربية تجاه الفن العربي. وكانت «مؤسسة الجسر» ،كما توضح حلبي ،قد تأسست بعد أن توقفت مؤسسة «الفنانات العربيات» تأسيس «جاليري» يمكن َ عن العمل ،وكانت حلبي تود من خالله إقامة المعارض الفنية ،التي تعرِّف العالم الغربي بالفن والفنان العربيين ،غير أنها لم تتمكن من تحقيق ذلك بمفردها .وخالل زيارتها لفلسطين جمعت حلبي أعماالً فنية للفنانين المتواجدين هناك، وه��ي تتحدث عن ه��ذه التجربة قائلة« :نظراً لعدم ت��واف��ر النقود ل��ديّ فقد ب��ادل��ت لوحاتي م��ع لوحات بعضهم ،وهي الضمانة الوحيدة التي قدمتها لهم حتى أتمكّن من عرض لوحاتهم في أميركا ،ثم إعادتها لهم واستعادة لوحاتي ،وقد كانوا متعاونين جداً معي». ب� ��دأت «م��ؤس �س��ة ال �ج �س��ر» ف ��ي ال� �ع ��ام 2003م التحضي َر لمعرض «صنع في فلسطين» ال��ذي أقيم في مدينة هويستن ،ال��ذي من المتوقع إقامته في ربيع العام ال�ق��ادم في نيويورك؛ المدينة التي تع ّد معقل اللوبي الصهيوني في أميركا .ويهدف المعرض إل��ى نشر أعمال الفنانين الفلسطينيين على نطاق عالمي ،والتأكيد على إبداع تجاربهم وتميّزها ،وقد أشرفت حلبي على إقامته برعاية متحف «ستيشن» لمدة ستة أشهر متواصلة .وب��دأت فكرة المعرض، كما تقول حلبي ،حين هاتفها عدد من القائمين على المتحف والمهتمين بالفن الفلسطيني ،ومنهم جيمس هيرتز الذي كان يريد أن يعرِّف العالم الغربي بالفن الفلسطيني ،وتضيف« :ك��ان ل��ديّ أرشيف جيد عن أع�م��ال الفنانين الفلسطينيين ،وتحمّست للفكرة، واشترطت قبل البدء بتنفيذ المعرض أن ال يُقام بعد انتهائه معرض مشابه له عن الفن اإلسرائيلي». 104اجلوبة -شتاء 1429هـ
وتتابع حلبي قائلةً« :ثم بدأت جولتي مع مجموعة من الفنانين الغربيين ،فزرنا المدن الفلسطينية كغزة وجنين ،كما زرنا مدينتي الزرقاء وعمّان في األردن، واستطعنا جمع لوحات لفنانين فلسطينيين عُرضت في المعرض ،الذي بلغت كلفته أربع مائة ألف دوالر، واشتمل على تسعين لوحة فنية ،وقد شهد المعرض إقباالً جماهرياً منقطع النظير ،إذ زاره الناس من سائر الجاليات والطبقات الموجودة في أميركا». وبعد هذا المعرض ،قام هيرتز بعمل تسعين ملفاً، يشتمل كل واحد منها على صور ملونة ألعمال الفنانين ال��ذي��ن ش��ارك��وا بالمعرض ،وبلغ ع��دده��م 23فناناً، منهم :تيسير بركات ،وسليمان منصور ،وعبدالرحمن مزين ،وروال حلواني ،وعبدالحي مسلم ،وفيرا تماري، وزهدي العدوي ،ومحمد الركوعي (الفنانان األخيران كانا معتقل َين في السجون اإلسرائيلية لمدة تزيد على األربعة عشر عاماً) .وقام هيرتز بتوزيعها على تسعين متحفاً في العالم ،لكن أياً من هذه المتاحف لم يتحمّس لفكرة اقتناء أعمال لهؤالء الفنانين خوفاً من غضب الحركة الصهيونية ،التي تموّل بعض هذه المتاحف أو تدعمها مالياً ،بحسب حلبي التي تلفت النظر إلى قوة الدعاية الصهيونية الموجهة للغرب ،محاول ًة التعتيم على الفن الفلسطيني ،وإقناع العالم بأن الفلسطينيين لم يتعرفوا على الفن بأشكاله المتعددة إال بعد أن تأسس الكيان الصهيوني في فلسطين. وعلى الرغم من الصعوبات التي كان من المتوقع حدوثها لدى إقامة المعرض ،إال أن حلبي سعت بكل جهدها إلى تحقيق فكرتها والدفاع عنها ،المتمثلة في وضع اسم فلسطين على المعرض ليتعرّف العالم الغربي على تاريخ فلسطين وحضارتها. وتعكف حلبي على إع��داد سلسلة تتمحور حول ال�ن�س��اء الفلسطينيات ،وت �ص �وّر الفلسطينيات في أدواره� ��ن التقليدية ك��أم�ه��ات وح��رف�ي��ات وقاطفات
للزيتون وك��ادح��ات في األرض ،ثم بوصفهن األرض لجان من الفنانين لتبني معارض مستقلة ،بعيداً عن نفسها .وق��د ب��دأت فكرة ه��ذه السلسلة حين كانت النمط التجاري. حلبي ت��درّس ط�لاب جامعة بير زي��ت كيفية تكوين واص �ل��ت ح�ل�ب��ي سعيها ل�لارت �ق��اء ب��رس��ال��ة الفن أش�ك��ال تجريدية ،ع��ن ط��ري��ق اس�ت�خ��دام م�ب��ادئ فن السامية ،ونشرت في سبيل ذلك كتاباً لفنانين وشعراء تطريز الثوب الريفي الفلسطيني .وقد استخدمت من قوميات متعددة ،يساندون الحركات الكفاحية في حلبي في إنجاز هذه السلسة األكرليك على القماش فلسطين وجنوب أفريقيا. الذي يبدو للوهلة األولى تقليدياً ،بل وحتى محافظاً، ويتضمن نشاط سامية الفني عدة وسائل فنية؛ قصه وإع ��ادة تنظيمه ويتم تلوين القماش وم��ن ث��م ّ كالرسم الزيتي واإلكريليك ،وحتى استخدام الكمبيوتر باستخدام الصمغ والخياطة ،من أجل تماسك العمل، كوسيلة فنية .فبعد عودتها من المعرض الذي أقامته ليغدو بعد ذلك قطعة جدارية من غير إطار خشبي. في غرناطة – إسبانيا العام 1986م قررت االهتمام حملت تجربتها ب �ع��داً إن �س��ان �ي �اً ،وظ �ل��ت حلبي بالكمبيوتر كوسيلة فنية ال كنمط إلكتروني ،لتهيئة م��ؤازِ رة للفئات الضعيفة والمقهورة أينما وُجدت ،األفكار للرسم الزيتي. ألن الظلم على الرغم من أنه يتّخذ أشكاالً متعددة، ال من األعمال الفنية، تملك الحلبي رصيداً حاف ً إال أنه يؤشر على معاناة واحدة .وبعد تجربتها في التدريس في هاواي العام 1986م ،بدأ واضحاً تأثير إال أن عدداً غير كبير من المتاحف يقتني أعمالها، التعصب ضد النساء والعرب بالتحديد ،ولكن، ّ النباتات االستوائية واألضواء الباهرة على أعمالها ،بسبب وقد تجلى ذلك التأثير في أحد أجمل لوحاتها التي على الرغم من ذلك ،عرف بعض أمناء المتاحف قيم َة حملت عنوان «إل��ى نيهاو من فلسطين» مستلهمة أعمالها الفنية ،وكان لديهم رغبة شديدة في اقتناء أجواء جزر هاواي التي يعيش أهلها حالة أشبه ما لوحاتها. سعت سامية نحو الكتابة بجدية ،فكتبت عن الفن تكون بالعبودية. تفضل ،من بين العدد الضخم «ال��زائ��ف» ف��ي معرض ن�ي��وي��ورك ،كما كتبت دراسة كما كانت سامية ّ للفنانين من جميع أنحاء العالم في نيويورك الذين تتعقب تاريخ الفن التجريدي في القرن العشرين، ينتمون إل��ى ثقافات ومعتقدات سياسية مختلفة ،وكتبت أيضاً بحثاً حول الفن التجريدي العربي في طبقة من الفنانين التي يدعوها بعضهم «األقليات العصور الوسطى ،هذا إضافة إلى كتابها عن أعمالها تحت األرض» ،وكان هذا الحماس لتوطيد العالقات الخاصة.
مهم ،بسبب قناعة حلبي أن مواقفهم غير المرغوب فيها في بيئة متعصبة ،تمنحهم رؤي��ة أوض��ح تجعل فنهم ه��و األف �ض��ل .وق��د ب��دأ اتصالها معهم أثناء السنوات التي قامت بالمساعدة بها في إدارة معرض «ووستر» ،الذي يدار من قبل مجموعة من الفنانين المتطوعين ،وقد ساعدت هذه المجموعة على تنظيم
تقيم سامية حلبي حالياً في األستوديو الخاص بها، الذي سكنته منذ سبعة وعشرين عاماً .وهو يقع في بناية قديمة في نيويورك ،تحتل الصور والرسومات وأوراق المالحظات جدرانه والمناضد الموجودة فيه، ويشغل أحد الزوايا مكتبٌ مخصص لحاسوب عتيق تزاحمه أكوام من الكتب واألقراص المدمجة.
< كاتب أردني.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 105
التقريب بني السينما والكتاب ..إيجاد الصورة > خالد ربيع السيد
<
األف�لام السينمائية التي نشاهدها على الشاشة الكبيرة أو الفضية (تلفزيون أو مونيتور) مصورة على أشرطة مصنوعة من مادة تسمى «السيليوليد» ،وهذه األشرطة، كما هو معروف ،تلف على بكرات كبيرة الحجم وثقيلة الوزن .ولكي يتم التصوير عليها فإن األمر يتطلب كل تلك الجهود التي يبذلها السينمائيون إلظهار األفالم على هذه األشرطة. وبحسب ما يذهب إليه صناع السينما األكثر إحترافاً في العالم ،فإن هذه األشرطة تعيق الكثير من األفكار التي يطمحون لتحقيقها في العرض واإلنتاج السينمائي ،لذلك يتم التحرك منذ عقد على األقل إلى السينما الرقمية ،أي اإلستغناء عن هذه األشرطة المقيدة ،واإلستعانة بالبرمجيات اإللكترونية فهي ستوفر فرص إنتاج جيدة ،وستحقق مشاهدة أفضل وأوضح وأكثر إمتاعاً. من هذا المنطلق ،يتنبأ الكثيرون من السينمائيين بأن إستخدام التكنولوجيا الرقمية سيكون سبباَ في خفض تكلفة صناعة األفالم .كما سيزداد عدد المنتجين ألفالم الحركة ال من قبل الجماهير .تلك والروايات الملحمية والفنتازية ،وهي األكثر إقباالً وتفضي ً
س����ي����ن����م����ا
التنبؤات والتي أرى أن المنطق يحكم إرهاصاتها وردت في مجلة Premiereعدد ما يو 2007م ضمن مقالة للناقد السينمائي جورج لوكاس .فكثير من قصص الخيال العلمي والروايات التاريخية والرسومية والفنتازية يتعذر ترجمتها إلى مشاهد سينمائية بكفاءة ،ألنه يتعين أن تعرض في الفيلم بشكل معادل لما توحي به من أفكار ،وهي ال تزال
106اجلوبة -شتاء 1429هـ
على شكل كلمات داخل كتاب .على أن الفجوة بين
ستار) ،يشرف عليه الممثل مورغان فريمان ،وقد بث
بين هذين الوسيطين اإلعالميين (السينما والكتاب)
هذا الموقع أول فيلم رقمي بواسطة تقنية (واي ما
ستضيق على نحو متزايد ،وستقترب الكلمة المكتوبة
كس).
من الدراما المصورة.
ذل��ك ي�ق��ود ،م��ن جهة أخ��رى ،إل��ى أسئلة عديدة
إذاً ،في المستقبل القريب ،كما يؤكد لوكاس ،سوف
ت��دور ح��ول مضامين النصوص األدب�ي��ة التي تأخذ
يتم تصوير الفيلم والتخطيط له بنظام التكنولوجيا
ف��ي الحسبان أنها معدة للسينما ،تلك النصوص
الرقمية ،حيث ستنقل بشكل آلي الصورة المسجلة
التي كان وال يزال أكثرها ينجز بطريقة مزج الفكرة
إلى الكمبيوتر ،كما ستتم معظم أعمال ما بعد اإلنتاج
والموضوع بجماليات الصورة ومتخيلها الدرامي،
بواسطة الكمبيوتر وسيتعين على أغلب العاملين في
والتي بالضرورة ال تحيد عن توظيف امكانات كل
الفيلم تعلم عمليات وتقنيات إبداعية جديدة.
ه��ذا التضافر بغرض خلق الفكرة وتحميلها بيئة
عندما عرض المخرج الفرنسي جورج ميلييه في
وزمن وداللة الكلمة.
فيلمه «رحلة إلى القمر» عام 1902م مشاهد لرجال
وف��ي ض��وء ه��ذا التصور أخ��ذ العديد م��ن كتاب
ف��وق سطحه ،كانت المرة األول��ى التي ح��اول فيها
السيناريو معالجة مضمون االع �م��ال ب�ط��رق فنية
اإلنسان أن يجعل غير الواقعي واقعياً عبر واسطة
إبداعية ،تعتمد النص وتسلك الصورة بعملية أطلق
تصويرية متحركة .وكانت هذه الحيلة السحرية بداية
عليها محمد بنيس (ترحيل النص) ودمجه في الصوت
تبلور «شكل فني» سينمائي جديد ،ثم نُفذ فيلم «كينج
والحركة ،إذ يتم نقل اإلشارة اللفظية وتحويلها إلى
كونج» الذي تم إنتاجه عام 1933م ،معلماَ بارزا في
إشارة ضوئية ،كي تدخل في صلب قناة االتصال عبر
حقل التصوير السينمائي (صورة بصورة) ،واكتملت
الصورة المعبرة؛ هذه القناة تجعل من مفهوم النص
إم �ك��ان��ات ف��ن ت�ح��ري��ك ال��دم��ى ف��ي الستينيات مع
االدب��ي مفهوما مغايراً لفعل ال�ق��راءة ،ضمن الخط
فيلم «راي هاري هوسين» ،وسلسلة أفالم «سندباد
اإلب��داع��ي المنتج والطريقة التي تقدم بها المادة.
البحار».
وه��ذا التفاعل في حد ذات��ه يحدث تمايزاً واضحا
ك��ل ذل��ك يقود إل��ى توقع إستثمار السينمائيون العرب ول��و الحقاً وخصوصاً الخليجيون الذين ال يزالون في طور التكوين ،إلى المضي قدماً في إنتاج أف�لام سينمائية تعتمد على التكنولوجيا الرقمية إعتماداً كلياً .ومن الراجح أن تتقدم سينما االنترنت فقد شهد عاما 2005م2006 ،م خطوة كبرى في
في عمل السيناريست إلى درجة يمكن معها تحديد! أي��ن يكمن المعنى ..وأي��ن تكمن أدات��ه ؟ ألن كل ما يفعله هو خلق النص وإنتاجه من جديد وفق مكونات الصورة واإلض��اءة والمؤثرات األخ��رى كالموسيقى واللون والديكور. إن األمر في غاية الوضوح بحسب ما أشار إليه
هذا اإلتجاه .وصنعت شركة «انتل »Intel/موقعاَ المخرج والمؤلف البولندي أندريه فايدا ،بعد العرض مخصصاً لبث األف�لام عبر اإلنترنت إسمه (كليك
الخاص لفيلمه «المواسم الجنائزية» حيث األحداث
اجلوبة -شتاء 1429هـ 107
المريبة والمفتعلة التي ترتكبها الدول العظمى بحق الدول الضعيفة والتي خلقت كيانات غريبة وطارئة على سطح هذاالكوكب .وكلما ساءت العالقة داخل الذات االنسانية ازداد معها إهمال القيم الحقيقية للوجود ،ولذا أخذ الخوف يشكل واحدة من العالمات الفارقة لحياتنا ،التي بدت كالكوميديا السوداء .فبين البرجوازية التي أحدثها النمو االقتصادي الغربي والفقر المدقع الذي تكوّن بفعل االستالب والهيمنة واالستهالك ،يتمركز شبح السالح النووي الفتاك الذي أربك إيقاع العصر. ن��رى ه��ذا الوضع المتأزم لحالة إنسان العصر المحيرة والمقلقة شكل محتوى النص لفيلم «المواسم الجنائزية» أو «مواسم الجنازات». لنتخيل ه��ذه اللقطة( :علبة س��وداء ملقاة على ساحل ال��رم��ال) ،من الممكن أن توحي لنا اللقطة بتحسس وج��وده��ا من دون أن ن��راه��ا ،ربما تحتوي على مادة نصية ،في إشارة إلى المعنى الضامر في سياق المشهد ،فنجد اختيار زاوي��ة اللقطة ومهارة التكنيك يعطي إنطباعا مخالفاً في كل لحظة حتى تغدو المسألة في غاية التعقيد أمام طالسم الصور المتداخلة في تحدياتها المستمرة لمناطق االحتمال والتوقع التخيلي.
الموجة الجديدة في تماه فني ،إذ تكاد رموز الصورة
وزوايا إلتقاطها تشكل أجواءها كفاصل إيقاعي بين خصائص المشهد ورص��د المشاهد ،مستعينة في
ذل��ك بإمكانية الكاميرا على بث الحياة في كل ما
يوضع أمام عدستها ،فتخلق االشياء لحظتها الحسية
المرئية ..سواء كان من خالل تقطيع المشهد إلى سلسلة من اللقطات ذات ال��زواي��ا المختلفة أو في
استخدام ألوان متجانسة واعتمادها الضوء بأقصى
دق��ة ممكنة ،ك��ي تتيح لنا أك�ت�ش��اف م��واط��ن القبح
والجمال ،وبمعنى آخر أكثر دقة ،إن تلك اللقطات لها ط��اق��ة على تمرين وتفعيل حسية التلقي في
ذهنية المشاهد ،عبر تنقالت مشهدية متباينة داخل
اللقطة .هذه التشكالت الفنية اإليحائية تتوازن فيها معايير الصورة والكلمة في نظم التعبير عن األشياء
بغية إنتاج الداللة والمعنى.
هكذا يتجلى دور النص ،فاتصال «أندريه» بأفالم
الموجة الجديدة يتحرك على مستويات عديدة من
ال��رؤى ،يأخذ كل منهما شكل المعالجة واألسلوب منهجاً ومفهوماً في إنتاج فلسفة العمل السينمائي،
على غرار ما يحدث في األدب تماما وكأن ما يتحقق في هذه الظاهرة له عالقة بنبوءة المنظر ..والمخرج
الروسي المعروف «إيزشتاين» قال ذات مرة :ال يمكن
أن أطمئن على السينما في خضم اإلنتاج المتالحق
مخرج الفيلم أراد أن يهيئ المشاهد لتقبل حقيقة ل�لاف�لام الوثائقية والتسجيلية وح�ت��ى التأريخية ال�ص��ور المسكونة باليوتوبيا النصية ،وان الواقع والسياسية ،إال بعد أن أرى السؤال يتجسد في نص
(المصور) يتأرجح بين المعقول والالمعقول ،وبين السينما /نص األب��داع المتخصص ال��ذي هو بحق وعي حكمة الكلمة وانتهازية فرصة التصوير ..حين كنزه وجوهرته. نرى القراصنة في جو احتفالي يخططون لبناء دار تؤوي المشردين المنبوذين.
وبهذا المعنى إتجه أكثر كتاب نصوص السينما
إل��ى التغريب وال�ض��دي��ة واإلخ �ت�لاف واإلزاح� ��ة ،أي
تتطابق أسئلة ان��دري��ه ف��ي الفيلم ،وه��ي أسئلة أن السينما في مغايرتها وجدت إختالفها وحريتها 108اجلوبة -شتاء 1429هـ
في فضاء التعبير ،واستطاعت أن تحول أو ترحّ ل من مشاعر وأحاسيس ،له القدرة على خلق ثنائيات
معنى النص واألث��ر البصري من تغريبة الواقع إلى غير متجانسة من األضداد كالود والنفور وما شابه التجاوز.
ذلك ..في حين تعطي الموسيقي والمؤثرات الصوتية
الوصف ،بل يتعدى ذلك إلى مركزية الصورة التي
يتطابق وأهمية الديكور الذي هو -معني بإمكانية
في ضوء هذه المعطيات نرى أن كتاب السيناريو ش�لاالً من المعاني بغية استثمارها وف��ق متطلبات والنصوص لم يعد اهتمامهم يحتفل بالتفاصيل أو وحيثيات المشهد في المجاز والتورية والرمز ،ما
تهشم األب�ن�ي��ة المتشابهة وأح�� ��داث ت �غ �ي��رات في
الشكل التقليدي وتجاوز مشاهد السرد والترتيب
واإلبحار بوساطة حركة ال �ك��ام �ي��را ن �ح��و البعد
ال��ث��ال��ث ال � ��ذي يجسد
المناطق غير المرئية ع� �ل���ى ال�� �ش� ��اش� ��ة ،كي
يستلهم المشاهد وصفه
اللقطة -إزاء النسق الصوري القائم.
أن تأخذ المهارة دور
الفعل في زاوية الكاميرا،
ل �ت �غ �ي �ي��ر ال� � � ��دالالت أو الوحدات عن صياغاتها
المعروفة ،يعني أن تقدم الكاميرا مغزى آخر في
عملية التصوير الفني
أو ال� ��دالل� ��ي ،وتحفز ال �م �س��اءل��ة ك �م��ا يقول
وتفاصيله التي تحدث
م �ح �م��د ب�� � ��رادة ،فهذا
ول � ��ذل � ��ك ع�� � ��ادة ما
ال ي �ق �ص��ر االم � ��ر على
في لحظة االستعادة.
يكون الفعل ف��ي النص
ال�س�ي�ن�م��ائ��ي ،ف��ي حالة
التنفيذ ،مقترنا بانحراف زاوية الكاميرا عن طبيعة
المشهد وبـ(إيقاع مختلف) ،هذا الفعل لديه القدرة على تغيير طبيعة العناصر األساسية ف��ي تركيب
ال �ص��ورة ال�ت��ي تتجسد فيها وق��ائ��ع ممكنة ،تأخذ
انعكاس هذه العناصر على بنية العمل بشكل مختزل،
لتري فاعليتها وتأثيرها؛ وأول هذه العناصر اللون، فباإلضافة إلى رموزه الجمالية وما يمكن أن يمنحنا
ال�ت�ع�ب�ي��ر (التصويري) تكسير ه��رم�ي��ة البناء
وأف �ق �ي��ة ال��زم��ن ،وإنما
ال ��واق ��ع ه ��و ال� ��ذي يهب
الكتابة شرعيتها ويبررها في الصورة أو في النص.
ل�ن�ت�س��اءل م��ن ج��دي��د :ه��ل ك��ل م��ا ح��اول��ه كتّاب
السيناريو من إنجاز في عالم السينما ق��ادر على تفعيل مخيلة المشاهد نفسها بقوة تأثير المالمح
ال�ت��ي تنتجها خبايا ال�ن��ص األدب���ي ،أم أن جمالية
األبداع هي التي تحدد جمالية التلقي؟
< كاتب من السعودية.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 109
الكتاب :فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال: عبدالرحمن بن أحمد السديري أمير منطقة الجوف. المؤلف :مجموعة من المؤلفين. المحرر :د .عبدالرحمن الشبيلي. الناشر :مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية. 1428هـ2007/م. > محمد صوانة
<
ق���������������راءات
صدر الكتاب بمبادرة من إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية إيماناً منها بأهمية حفظ ما تيسر جمعه من سيرة مؤسسها ،ال��ذي عمل أم�ي��راً لمنطقة ال�ج��وف لنحو نصف ق��رن ،كانت ل��ه خاللها مبادرات ثقافية ،م��ا ت��زال آث��اره��ا شامخة ف��ي مختلف ضروب األنشطة الثقافية ومساراتها.
بنفسه ،والمرجع هنا صاحب السيرة نفسه ،إال فيما يتعلق بأحداث يشاركه فيها آخرون؛ وسيرة ذاتية يتولى شخص آخر كتابتها وجمعها وتبويبها وبإشراف مباشر من صاحبها ،والفارق بينهما ظهور دور كاتبها وأسلوبه وتوظيف خبرته ومعلوماته في صياغة السيرة ،وسيرة غيرية يتولى فيها شخص أو أكثر مسؤولية تدوين سيرة آخ��ر ،ويُلجأ إليها غالباً عندما تتوافر المعلومات عن سيرة شخص ل��دى ع��دد م��ن أص��دق��ائ��ه وآخ��ري��ن ممن عايشوا معه أح��داث�اً ،وراف�ق��وه في مراحل من حياته، بهدف جمع ما تفرق من تاريخه وأعماله.
بذل في جمع المادة وتوثيق سيرة صاحبها ،واألعمال واألحداث التي عايشها األمير .كما نلحظ جهد المحرر واضحاً في جمع شتات الوقائع وتبويبها ،وحاضراً مع كل فقرة إن لم يكن مع كل كلمة سُ طّ رت في هذا الكتاب.
ويدخل الكتاب الذي نحن بصدده في النوع الثالث؛ فهو س�ي��رة غيرية ،ول�ك��ن م��ا يميز ك�ت��اب عبدالرحمن السديري ،أن ثالثة من أبنائه شاركوا في كتابة بعض فصوله ،وهم فيصل وزياد ولطيفة ،وقد قدم كل منهم توثيقاً لفترات مهمة م��ن ت��اري��خ وال��ده��م ،ف��ي أحداث ووقائع ال يعرفها غيرهم؛ كما شارك في إعداده كوكبة
ومنذ السطور األول��ى للكتاب ،يشعر ال �ق��ارئ بأن صاحب السيرة ك��ان مسكوناً بحب الجوف إل��ى درجة العشق ،وفي أشعاره وكتاباته من حب الجوف وارتباطه بها ما يزيد من اهتمام القارئ ورغبته في معرفة السر الكامن وراء هذا النوع من الحب والتعلّق ،على الرغم والنوع األخير منها ربما يكون من أصعب ضروب هذا من أن األمير ولد وترعرع في الغاط ،ثم انتقل أميراً الفن الماتع ،نظراً الختالف أسلوب كل كاتب وخبرته في لمنطقة الجوف في عهد الملك عبدالعزيز عام 1362هـ الكتابة ،وهنا تقع المسؤولية الكبرى على المحرر الذي (1943م) عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. يضطر في كثير من األحيان إلى التدخل لتالفي التكرار، وبتصفح قائمة المحتويات ،ندرك أن جهداً كبيراً قد أو إلدخال تعديالت بما يتوافق والنسق العام للكتاب.
ويمكننا القول إن كتب السيرة ال تعدو أن تخرج عن ثالثة أنواع :سيرة ذاتية ،يتولى صاحبها تدوين أحداثها
110اجلوبة -شتاء 1429هـ
من الكتّاب الذين رافقوا األمير وع��اص��روه ،فكانت لهم ذكريات مشتركة معه. وقد حظيَ الكتاب بتقديم من سمو األمير سلمان ابن عبدالعزيز ،أمير منطقة الرياض ،الذي أكد أن آلل السديري إسهامات متعددة في تاريخ الدولة السعودية، ودعا ليكون الكتاب بادرة لمزيد من الدراسات العلمية الموثّقة عن تاريخ أسرة السديري وإنجازاتها الوطنية؛ وق��د ذك��ر المحرر د .عبدالرحمن الشبيلي في تمهيده للكتاب نبذة مختصرة عن حياة األمير وأسرته ونشأته وتعليمه ث��م اخ�ت�ي��اره م��ن قبل الملك عبدالعزيز أميراً لمنطقة الجوف ،التي استمر فيها نحو نصف قرن من ال��زم��ان ،ك��ان��ت زاخ ��رة ب��اإلن �ج��ازات واألع �م��ال الثقافية واالجتماعية واإلدارية ،تستحق أن تسجّ ل وتوثّق لما تمثله من فترة مهمة في تاريخ الوطن ومسيرته .وجاء الكتاب ال ضمتها أربعة موضوعات رئيسة. في سبعة عشر فص ً شمل الموضوع األول المعنون« :أسرة وسيرة» ،ثالثة فصول :أعد الفصل األول منها المتخصص في تاريخ ال�ج��زي��رة العربية ،د .عبدالفتاح أب��و عليه ع��ن أسرة السديري تاريخا ونسبا ,وعالقتها باألسرة المالكة منذ الدولة السعودية األول��ى ودوره��م في إدارة العديد من إمارات المناطق وقيادة بعض الحمالت العسكرية التي سيّرها آل سعود. وجاء الفصل الثاني بعنوان« :األب ..الرئيس» بقلم األستاذ فيصل بن عبدالرحمن السديري - ،االبن األكبر لصاحب السيرة – الذي قدم لنا أحداثاً وقصصاً واقعية حدثت مع األمير عبدالرحمن ،منذ تكليفه باإلمارة، وتظهر فيها حكمة األم�ي��ر ،وتعامله م��ع عامة الناس ببساطة وحنكة ورحمة وشعور المسؤول ،بما يحس به المواطن ،والعمل على فض الخالفات التي كانت تنشأ أحياناً بين بعض المواطنين. وفي الفصل الثالث المعنون« :حياته» ،يسهب ابنه د .زياد السديري في تقديم المعلومات المهمة الوافية
والموثّقة عن مولد صاحب السيرة ونشأته ،فيقول :في ليلة م��ول��ده رأى أب��وه عبدالرحمن ف��ي منامه أن��ه رزق بمولود اسمه صالح؛ وألن��ه لم يُعرف في األس��رة مثل هذا االس��م أسماه« :عبدالرحمن» (ص .)89وقد ولع منذ صغره بالقنص بالصقور ورك��وب الخيل والسباق، وت��داول الشعر .كما يتحدث عن أسفاره ورحالته إلى الرياض ولقائه بالملك عبدالعزيز ،ثم مرافقته الملك عبدالعزيز إلى الحج عام 1359هـ (1940م) (ص .)106 ويتحدث عن أسلوب إدارته فينقل وصف مجموعة ممن عرفوه صغيراً باألناة وطيب المعشر والبعد عن سرعة الغضب أو إظ �ه��اره (ص .)112وق��د لقبته ال�ب��ادي��ة بـ «عشير ضيفه» نسبة لحسن استقباله الضيف واهتمامه به ومعاشرته له ،وكان يتواجد دائماً على رأس مائدته المفتوحة للجميع ،وال يغيب عنها إال لمرض أو سفر. وقد جعل في منزله «دكة» محاذية للشارع العام دون باب أو حراسة ،يأتيها من يشاء في كل وقت ،يعتني بها األمير ويعد لها العدة (ص .)114 ويختم الفصل بقوله« :إن وال��دي ذو شخصية ذات أبعاد مركبة ،ال تخضع للتحليل المسطّ ح؛ يتناول األمور بأناة بالغة ،فيحللها ويذهب فيها مذاهب بعيدة ،مقداماً ال تثنيه عن غايته الظنون وال المخاوف واالنتقادات، بسيط ف��ي هندامه ،متواضع خلوق خفيض الصوت، يأنف من قول «ال» ،ويبذل جاهه وماله في كل مبادرة تطلب فيها مساعدته؛ ذو ثقافة واسعة يتقبل التجديد ويرفض التقليد األعمى ،يميل إلى الريادة .وله سبق في عنايته بالمرأة وحقها في التعليم واإلسهام في خدمة مجتمعها .ويدعونا د .زي��اد إل��ى التفكير في مثل هذه الصفات الريادية في هذا الوقت الذي نمر فيه بمنعطف في مسارنا وأزمة في عالقاتنا وتصادم في محاور ثقافتنا؛ لعلنا نفيد كثير ًا إذا وقفنا على سيرة مثل هذه ،تؤكد أن ثقافتنا ليست ذات وجه واحد كما يقولون ،وأن األصالة ليست صفة يدعيها بعضنا عن سوانا( ،ص .)130حقاً إن ألوان الطيف مجتمعه هي وحدها التي تشكل حزمة
اجلوبة -شتاء 1429هـ 111
الضوء األكثر مالءمة إلنارة الطريق. وف��ي الموضوع الثاني« :م��راس�لات��ه وش��ع��ره» ،يقدم د .سد البازعي قراءة لمراسالت األمير خالل إمارته ب��ال�ج��وف .وي �ق��ول إن دراس ��ة ال��رس��ائ��ل أم��ر مهم لدى المشتغلين بالتاريخ؛ فهي تعد مصدراً رئيساً للملعومات، إذ ثمة تفاصيل دقيقة يصعب العثور عليها في مصادر أخرى غيرها؛ ما يمنحها خصوصية وأهمية بالغة .ثم يستعرض عدداً من رسائل األمير مع الملك عبدالعزيز ومع سمو وزير الداخلية ،وهي رسائل تدور حول عمل اإلمارة ومهام األمير ،ودور مؤسسات الدولة ،والخدمات المقدمة للمواطنين ،وما تكشفه من تطور لتلك الخدمات. وف��ي الفصل الخامس يتحدث د .سعد الصويان عن شعر األمير عبدالرحمن المتميز باألخالقيات والقِ يَم، وتوثيق كثير من القضايا واألحداث والمشاعر الفياضة س��واء في حب أوالده أو في حب الجوف ،وتفانيه في خدمة اآلخ��ري��ن وحنينه إل��ى ال�غ��اط .فقد ك��ان الشعر صديقاً مالزماً له ونديمه وأنيسه .وفي البيت التالي نلحظ أناته وسعة صدره مع من يخالفه: أن���ا رف��ي��ق��ي ل��و غ��ل��ط م��ا أق���در أجزيه إال ب����ص����ف����ح وع�����ق�����ة ع������ن ش���ن���ات���ه وفي بيت آخر يبدو أنه يرثي نفسه: أن����ا م���ن ال���دن���ي���ا خ��ل��ص��ت اع���ذرون���ي ل���ي ج���ان���ب ال���ل���ه ع���ن ح���ي���اة وضيعة
والتحمل وعفته ووف��اؤه ،وعالقته الحميمة مع الناس، وق��رب��ه م��ن المواطنين وس��داد رأي��ه ،ودوره ف��ي إصالح ذات البين ،ومساعيه في الخير ونماذج من إنجازاته. ث��م ي�ت�ح��دث د .م�ي�ج��ان ال��روي �ل��ي ع��ن ص ��ورة السديري ص��ورت «بأقالم غربيين» ،منهم :البريطانيون وليم كما ُ النكستر ،وج .ف .والفورد ،وجيفري كنغ ،وجون برادلي، واألمريكي آرون ليرنر .ثم يبحر بنا صاحب القلم السلس األس �ت��اذ عبدالرحمن ال��درع��ان ف��ي «ذك��ري��ات» ،فيعنى برصد روايات توثّق تفاصيل لم تنل حظها من االهتمام، تضيء زوايا مهمة في شخصية صاحب السيرة ،وتنبثق خصوصية ه��ذا ال�ف�ص��ل م��ن ال �ش �ه��ادات ال �ت��ي يرويها الشهود وأبناء جيله من الذاكرة .ويختم الدرعان الفصل بكلمة مؤثرة إذ يقول« :م��ا لم تقله ال��ش��ه��ادات ...الحت لي فكرة المدينة االفتراضية التي شيّدها عبدالرحمن السديري بين الجوف والغاط؛ مدينة شاهقة ممزوجة برائحة الحب والنخيل والماء والتربة الطيبة والزيتون، بأسوارها وعالقاتها الوثيقة ،التي وطدت أواصر القربى بين الكثيرين م��ن أه��ال��ي ال��ج��وف وال��غ��اط ،يتقاطعون مع ًا في قلب إنسان ظلت بصماته باقية بعد رحيله.. إنه يمثل مساحة شاسعة في هذه المدينة االفتراضية العصية على االندثار» .ويختم يوسف العتيق بفصل «في الصحافة» مستعرضاً سجل األخبار والتقارير الصحفية ال�ت��ي نشرتها الصحف ع��ن ن�ش��اط��ات األم �ي��ر اإلداري ��ة واالج�ت�م��اع�ي��ة وال�خ�ي��ري��ة وال�ث�ق��اف�ي��ة ،وك��ذل��ك نشاطات مؤسسته الخيرية.
وفي بيت آخر تلحظ تألمه على أوض��اع المسلمين وما آلت إليه: أما الموضوع الرابع ،وعنوانه« :في خدمة الجوف» أرى ال��ن��اس تخطي وال���زم���ان حنون فقد اشتمل على ثمانية فصول ،بدأها د .خليل المعيقل ع����ل����ى غ����ي����ر ت����ش����ري����ع اإلل��������ه ي���ب���ون بالتاريخ المعاصر للجوف الذي تحدث فيه عن التطور وفي الموضوع الثالث« :في عيون اآلخرين» يعرض فائز التنظيمي واإلداري وال �ت �ن �م��وي ف��ي ح��واض��ر منطقة الحربي شخصيته كما رسمها الشعراء؛ فتناول صفاته الجوف؛ وفي الفصل الحادي عشر استعرض األستاذ وخصاله من خالل شعره وشعر غيره من الشعراء ،ومنها :أحمد بن عبدالله آل الشيخ عدداً من الرسائل والبرقيات كرمه ،ومضيفه المفتوح ،والدكة التي اتخذها مضيفا المحفوظة ف��ي «أرش�ي��ف اإلم ��ارة» التي توضح أعمال مفتوحاً ل �ل��زوار ،والعفو والتسامح وال�ت��واض��ع والصبر األم �ي��ر عبدالرحمن ال�س��دي��ري وج �ه��وده لنقل أوضاع
112اجلوبة -شتاء 1429هـ
منطقة الجوف إلى أولي األمر والمسؤولين في الحكومة وبيان احتياجاتها التنموية والحضرية ،ومقترحاته لحلها، كما يذكر مرافقته األمير سعود في زيارة له إلى سوريا في أواخر عهد الملك عبدالعزيز ،وحصوله على وسام االستحقاق السوري من الدرجة الممتازة (ص .)296وفي الفصل الثاني عشر يتحدث د .عبدالواحد بن خالد الحميد عن «التنمية الثقافية» التي ُع���رف األمير ث ��م ي �ت �ح��دث ف �ي �ص��ل ب ��ن عبدالرحمن أسهم فيها األمير السديري بل ربما هو من عبدالرحمن السديري ف��ي الفصل الخامس عشر عن أرسى قواعدها في الجوف ،وما تزال شامخة ال�����س�����دي�����ري التنمية الزراعية التي كان لألمير اهتمام كما ه��ي مؤسسته ومنشأتها الرئيسة «دار ب����ث����ق����اف����ت����ة خ��اص بها فهي «عشقه ال�خ��اص وهوايته الجوف للعلوم» التي أصبحت مركز إشعاع ال������واس������ع������ة ،األولى» ونظراً لبعد الجوف عن المسطحات معرفي ي�خ��دم الباحثين وال �ق��راء بقسميها وك����ان يرفض ال �م��ائ �ي��ة وق� �ل ��ة ال� �م� �ش ��روع ��ات اإلنمائية للرجال والنساء ،من خالل ما يزيد عن ()120 والصناعية فيها ،فقد رأى بثاقب بصيرته ألف كتاب إضافة إلى ( )250دوري��ة ،فض ًال ال�����ت�����ق�����ل�����ي�����د أن الزراعة هي الخيار األنسب ،فعمل على عن أوعية معلوماتية متنوعة ومخطوطات األع����������م����������ى، دفع عجلة تطورها ،وأدخ��ل وسائل التقنية ووثائق ومسكوكات ووسائل سمعية بصرية ول��ه سبق في ال��زراع �ي��ة ال �ح��دي �ث��ة ،وي��سّ ��ر وص��ول �ه��ا إلى وغيرها .ويتحدث الحميد عن برنامج النشر ت��ع��ل��ي��م امل����رأة المزارعين ،وجلب أنواع الزراعات المطورة في المؤسسة الذي تشرف عليه هيئة خاصة وإس�����ه�����ام�����ه�����ا المناسبة للمنطقة؛ فأصبحت الجوف مركزاً وقد صدر عنها حتى اآلن ما يزيد على ()56 مهماً في إنتاج المحاصيل الزراعية. إص� ��داراً ،إض��اف��ة إل��ى تمويل أرب�ع��ة أبحاث ف�������ي خ����دم����ة وعن جهود السديري في «توطين البادية» علمية تدرس موضوعات متنوعة في الجوف م���ج���ت���م���ع���ه���ا ي�ح��دث�ن��ا د .خ��ال��د ال��ردي �ع��ان ف��ي الفصل بإشراف باحثين جامعيين .ويختم الحميد، ال� �س ��ادس ع �ش��ر ،ف �ي �ق��ول :إن األم �ي��ر بدأ ب��ال��وق��وف ع��ن��د ن��ظ��رة األم��ي��ر وث��اق��ب بصيرته عندما استطاع توظيف فكرة «الوقف» لخدمة مؤسسة خيرية بتشجيع البدو على التوطين من خالل تشجيعه للتعليم متخصصة في األنشطة الثقافية ،خروج ًا عن النمط والزراعة في المنطقة؛ وأق��ام مشروع وادي السرحان السائد الذي يركز على اإلحسان المباشر للمحتاجين؛ لتوطين البدو عام 1379هـ (1959م) ،ثم مشروع حماية وتنمية المراعي 1382هـ (1962م) ،ومشروعات أخرى ما جعلها رائدة في التنمية الثقافية. لتوطين بدو الشرارات ،وبعض عشائر الرولة وشمّر. وفي الفصل الثالث عشر يتحدث أحد رجال التعليم أما الفصل السابع عشر« :تنمية األسرة» فقد أعدته بالجوف ،د .عارف المسعر عن التنمية التعليمية التي عاشتها الجوف وحظيت بها خ�لال فترة عمل األمير ابنته لطيفة والكاتبة هداية درويش ،عرضتا فيه جوانب السديري ,وقدرته على إقناع األهالي بإرسال بناتهم إلى من الحياة األسرية لصاحب السيرة ،البار بوالدته ،الذي المدارس أس��وة بتدريس الذكور ،وافتتاح أول مدرسة اعتاد أن يفتح قلبه وبيته ألهله وذوي��ه؛ فيعمر الحب للبنات عام 1382ه��ـ (1962م) .وانتشار المدارس في كل أرجاء منزله .وأنه كان دائم االستشارة للمرأة داخل بيته :زوجته وبناته ،بل إن العالقة مع زوجته تعدت ربوع منطقة الجوف ليصل عددها إلى 75مدرسة عام 1410هـ(تاريخ تقاعد األمير) .ثم يحدثنا إبراهيم خليف السطام في الفصل الرابع عشر عن «التنمية البلدية والقروية» في الجوف ودور األمير في االهتمام بالتنظيم ال �ب �ل��دي ،وت��رس �ي��خ التخطيط ال �ع �م��ران��ي والمشاريع اإلنشائية ومشاريع اإلسكان الريفية.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 113
االستشارة لتصل أحيانا إلى المبادرة من «أم فيصل» ،وتوزيعها ،وتثبيت بيانات شرح الهوامش حيثما كان ذلك ال�ت��ي ك��ان��ت تنقل ل��ه ح��اج��ات وأوض���اع بعض سيدات ض��روري�اً بما فيه ش��رح غريب ألفاظ الشعر وتعريف أهل الجوف اللواتي يفتحن قلوبهن لها ،فتتولى متابعة باألماكن وغيرها. معالجة قضاياهن مع األمير ،الذي لم يكن يتوانى لحظة وأخير ًا فبين أيدينا سيرة موثقّة ألقت الضوء على واحدة عن تقديم المساعدة الممكنة. ف�ت��رة مهمة م��ن ح�ي��اة رج��ل دول��ة ب�ح��ق ،ع��اص��ر ملوك
وق��د ح��رص م�ح��رر ال�ك�ت��اب على إض��اف��ة ع��دد من ال �م�لاح��ق ال�م�ه�م��ة إل ��ى م� ��ادة ال �ك �ت��اب وه� ��ي« :ضيف ال�ج��زي��رة» ال��ذي تضمّن ح ��واراً أج��راه محمد الوعيل، الصحفي في جريدة الجزيرة عام 1402ه��ـ (1981م)، وفيه إجابات مهمة عن تاريخ أس��رة السدارى ،ونظرة األمير عبدالرحمن إلى الحياة والعمل العام وطلب العلم، ورأيه في المرأة والزراعة والشعر وغيرها.
الدولة السعودية ،منذ عهد الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك :سعود وفيصل وخالد وفهد ،منذ بدايات بناء الدولة السعودية الحديثة ،ثم في مراحل النمو والتطور واالزده ��ار .وج��اءت هذه الترجمة سيرة لحياة عملية زاخرة تبصرنا بما بذله من جهد في ترسيخ قواعد العمل العام ،وتذكرنا بأسس خدمة الوطن والمواطن ،وطرائق ابتكار األفكار الخالقة إلقناع الناس بتغيير عاداتهم وقناعاتهم إلى ما فيه نفعهم ونفع وطنهم ومجتمعهم. ك�م��ا ت�ح��دث��ت ت��رج�م��ة س �ي��رة األم �ي��ر ع�ب��دال��رح�م��ن عن مشاركة أبناء الجوف في كثير من األعمال التي كان يؤديها ،ووثّقت مؤازرتهم له وتفانيهم في العمل الجاد؛ فقابلوه حباً بحب ،وسطروا ذلك شعراً جميالً ،يعكس خبايا دواخلهم الصافية ورضاهم عن أميرهم.
والملحق الثاني بعنوان« :قصائد لم تنشر» جمعها اب�ن��ه زي ��اد ال �س��دي��ري ،وه��ي ق�ص��ائ��د كتبها األم �ي��ر بعد ص��دور ديوانه «القصائد» ع��ام 1403ه��ـ (1983م) ،وقد وجد أكثرها مكتوباً بخط يده ،وبعضها كتبها على ورق مستشفى «كليفالند كلينك» حيث كان يتلقى العالج .نأمل أن يجد أب�ن��اؤه الفرصة لجمع تلك القصائد واألشعار المتفرقة لألمير ،ونشرها ثانية في طبعة ثانية مزيدة حقاً ،نحن أمام سيرة حياتية متشعبة لرجل مميز، ومنقحة لديوان «القصائد»؛ لتكون مجتمعة في مؤلَف تنوعت اهتماماته وإنجازاته بين خدمة الوطن والمواطن واح��د؛ إذ م��ن خ�لال الشعر ،يمكنك أن تقرأ شخصية إداري�اً واجتماعياً ،والنهوض بالمرأة ،وتوطين البادية. الشاعر ،وتقف على أفكاره ومشاعره ،ونظرته للحياة. ثم تلك البصمة التي تركت أث��راً شامخاً ينمو ويكبر والملحق الثالث :قائمة ببليوجرافية تضمنت بعض كل يوم ،وهي مبادرته الثقافية والتنموية في مشروعه م��ا نشرته الصحف خ�لال فترة إم��ارت��ه م��ن نشاطات الثقافي المتمثل ف��ي دار ال �ج��وف للعلوم وبرامجها إداري��ة واجتماعية ،توثّق ج��زءاً من حياته .كما احتوى الثقافية والمعرفية ،ومركز الرحمانية الثقافي بالغاط، الكتاب على قائمة كاملة بالمراجع العربية واألجنبية .ثم كما أن أبناءه حرصوا على رعاية هذه الغرسة الثقافية، ملحق لصور ضم 56صورة فوتوغرافية توثّق فعاليات وأم��دوه��ا بعوامل النمو وال�ت�ط��ور؛ م��ا يؤكد أن األمير شارك فيها األمير وصنع العديد من أحداثها .إضافة السديري كان ذا بصيرة ثاقبة ،عندما غرس مبادرته وحصنها بمن يثق أن��ه سيرعاها ويوفر لها ّ إلى ملحق كشاف األسماء والمواقع الواردة في الكتاب .الثقافية، وتبدو بصمات المحرر واضحة في هيكلة الكتاب ،أس �ب��اب ال �ن �م��اء ..رح��م ال�ل��ه ص��اح��ب ال �س �ي��رة ،األمير واختيار الصور والوثائق وتوزيعها وشرحها ،وابراز بعض عبدالرحمن بن أحمد السديري ،وبارك في غرسه ،ما النصوص المقتبسة المهمة ،وتصنيف مقاالت الكتّاب يعود عليه بأجر عظيم يثقل موازينه. < كاتب وإعالمي أردني مقيم بالسعودية.
114اجلوبة -شتاء 1429هـ
الكتاب :مسيرة التعليم في منطقة الجوف تاريخ ..وسير ..وذكريات. المؤلف :إبراهيم بن خليف بن مسلم السطام. الناشر :النادي األدبي الثقافي بالجوف 2007م.
> محمود عبدالله الرمحي
<
هذا الكتاب أشبة بموسوعة تعليمية جوفية لم تترك أثرا تعليميا في منطقة الجوف إال وتطرقت إليه ،وال غرابة في ذلك ،فمؤلف الكتاب ابن من أبنائها,عانى ما عانته وتنفس ما تنفسته ,فجاء الكتاب واقعا تعليميا ملموسا خاليا من الخيال واإلدع��اء ،مجسداً حقائق تعليمية عاينها وعايشها بنفسه. نهج المؤلف في كتابه منهجا وصفيا ،رسم من خالله لوحة فنية؛ فكأن القارئ يشاهد من خاللها فيلما وثائقيا تعليمياً ،استهله بالبدايات الحقيقية للتعليم وما واجهته من معاناة ،منتهيا بعام 1426هـ عام الكليات والجامعات وانتشار الحاسب اآللي وتقنياته في غالبية مدارس المنطقة. قسّ م المؤلف كتابه الذي جاء في 582صفحة إلى ستة أبواب ،تحدث في الباب األول منها عن المالمح الجغرافية َّف بذلك القارئ – في الداخل والحضارية للمنطقة ,فعر َ وال �خ��ارج -على م�لام��ح المنطقة الجغرافية ومواردها الطبيعية والبشرية ,لينتقل في الباب الثاني إلى البدايات التعليمية األولى في المنطقة ,تلك التي اتخذت من البيوت والمساجد مقرا ,ومن حفظة القرآن الكريم والمثقفين معلما , ومن أعواد الشجر والبوص وسنا القدور قلما ومدادا .وبقدر تلك المعاناة جاءت النتائج مثمرة طيبة إلى أن قيض الله لهذه المنطقة شيخا جليال ومربيا فاضال هو سماحة الشيخ فيصل المبارك ,فحدثت معه نقلة تعليمية تركت بصماتها واضحة على أبنائها ,فما زال تالميذه آلل��ئ مضيئة حتى
يومنا هذا. وفي الباب الثالث تعمق المؤلف في أم��ور التعليم منذ بدئه وحتى عام 1426هـ ,فوصف المسيرة وصفا دقيقا بما رافقها من انتشار وتغير في المستوى ،وتوافر في األجهزة والمرافق التي تساعد على سيره .وقد تناول كل قطاع من قطاعات المنطقة على حدة بنين وبنات .ولم يفته الحديث ع��ن أول�ئ��ك ال��ذي��ن ش��ارك��وا ف��ي التعليم وم��ا ب��ذل��وه وعانوه , فتحدث عن الكتاتيب ،وتالمذة الشيخ فيصل رحمه الله، وأوائ ��ل المعلمين واإلداري �ي��ن ،ال��ذي��ن لهم فضل كبير على التعليم في المنطقة. وع �رّج في الباب الرابع على التعليم الجامعي ومراكز التعليم والكليات العلمية والتربوية والمعاهد ..تلك النقلة الحضارية الباهرة .وأورد في الباب الخامس صورا من حياة المجتمع التي غلب على بعضها طابع الفكاهة والطرافة ،بما فيهما من متعة وتشويق ،فضمنه مواقف وذكريات ومشاهد وطرائف وفوائد ،إضافة إلى المتاحف والمكتبات والنوادي، والمؤلفات التي صدرت عن أبناء المنطقة. أم��ا الباب السادس بما احتواه من مالحق ..فقد جاء ترجمة لتلك المسيرة بما شمله من بيانات وص��ور نادرة نقشت ف��ي ال��ذاك��رة ،ون �م��اذج لكتب وم��راس�لات وسجالت تقارن الماضي مع الحاضر ال��ذي يعيش عصر الحاسب اآللي وتقنياته.
< كاتب وشاعر أردني مقيم في السعودية
اجلوبة -شتاء 1429هـ 115
الكتاب :خرافات تكاد تكون معاصرة مجموعة قصصية المؤلف :محمد اشويكة الناشر :منشورات زاوية – المغرب
صدرت مجموعة قصصية جديدة للقاص المغربي محمد اشويكة ,تحت عنوان« :خرافات تكاد تكون معاصرة» ,عن منشورات زاوية بالرباط. تمثل هذه المجموعة خطوة رابعة في مسار اإلب��داع القصصي للقاص محمد اشويكة بعد (الحب الحافي) و(النصل والغمد) و(احتماالت «قصة ترابطية»)؛ وذلك في سياق اشتغاله التجريبي الفكري على تحوالت اإلنسان المغربي الوجودية والمعرفية والقيمية والجمالية؛ من خالل رصد بعض مفارقاته العجيبة :شعوذة/عقل ،تقليد/حداثة ،انفتاح/تطرف ،سرعة/بطء، غنى/فقر ،علم/أمية؛ موظفاً تقنيات سردية ،مرتبطة بمجاالت اهتمامه (جماليات بصرية ،فلسفة ،سوسيولوجيا.)... تقع المجموعة في 96صفحة من القطع المتوسط ،وتحتوي على سبعة نصوص قصصية ،تَ� َف��اعَ � َل معها الفنان المغربي محمد ش ��ردودي المقيم بفرنسا ،بحس تجريدي وتجريبي فائق ،فاستوحى من عوالمها سبع لوحات تضمنتها المجموعة ،بينما وَشَّ ى غالفها لوحة فنية للتشكيلي المغربي محمد المرابطي. من أجواء المجموعة نقتطف لكم المقطع التالي« :انساقت إلى ذهني عدة أسئلة جنونية كادت تفقدني صوابي ،تماسكت نفسي وهدّأت روع أعصابي. خفف دعاء الحاجة التي تمسك يدي اليمنى من قلقي».
116اجلوبة -شتاء 1429هـ
في قصة «مفاجأة ماجد» :إثارة تفكير الناشئة دون تدخّ ل
الكتاب :مفاجأة ماجد ( -قصة لألطفال). المؤلف :محمد صوانة. الناشر :م��ؤس��س��ة ع��ب��دال��رح��م��ن ال��س��دي��ري الخيرية، 1425ه����ـ2004 /م ،م��ن القطع ال��م��ت��وس��ط28 ، صفحة باأللوان ،تحوي 16لوحة.
> محمد محمود السويركي
<
ث�م��ة مجموعة م��ن ال�ق�ض��اي��ا المهمة المطروحة بأسلوب يتماهى مع مستوى التفكير لدى الناشئة من الفئة العمرية التي يتوجه إليها الكاتب والقاص األردني محمد صوانة( )1في قصة «مفاجأة ماجد» .وقد جاءت في طروحات وأفكار ثرية ,جديرة بالعناية والمناقشة؛ نلمس فيها غنى روح الكاتب وتجلياته ف��ي رسالته الموجهة نحو فئة عمرية مهمة .لقد فاجأنا الكاتب برؤية واعدة. نعم ثمة قضايا عديدة تشغل بال التربويين واآلباء على حد سواء ،نراها أشغلت بال الكاتب نفسه ،بدءاً من اللحظات األولى للقصة ،ومرورا بالمحطات التي استوقفنا بها ،وانتهاء بمسك الختام حيث التكريم الذي ناله بطل القصة :ماجد ,..ومن تلك القضايا :قضية إعمال الفكر ,والتفكير ,واالنطالق نحو األفق األرحب عبر الرحلة والتعرف على المحيط في حياة الفرد , وأهمية العمل الجماعي المنظم ,وكذلك التركيز على أهمية المطالعة اليومية. ها هو يتحدث عن الرحلة بوصفها تمثل -لدى الطفل -ذروة النشاط الذهني ،وخاصة عند أولئك التالميذ على مختلف مستوياتهم وأع�م��اره��م .وبدأ
الكاتب يشد انتباه قرائه من األط�ف��ال منذ الكلمات األولى في القصة ،باليوم الجميل الذي أمضاه التالميذ في رحلة ممتعة نحو مصانع المدينة؛ فيثير إحساس القارئ بالجمال الطبيعي والعفوي ال��ذي نلمسه في شخصيته هو ككاتب ..األمر الذي يجعل المتلقي يتفاعل مع المرسل (الكاتب)؛ إذ تصبح الرحلة رحلتين :رحلة يصطحب فيها المعلم طلبته إلى المنشآت والمصانع وبقية مرافق الوطن األخ��رى ,ورحلة أخ��رى ..جمالية إب��داع�ي��ة طرفاها الكاتب نفسه والمتلقي أي��ا كانت شريحته وفئته. وم��ن هنا يمكن القول إن الكاتب نجح في تقديم رسالة جديدة تتميز برقيها الفكري ،جنباً إلى جنب م��ع ال�ط��رح الفني واألدب ��ي ،م��ن خ�لال بعض اللفتات الجمالية واللماحية؛ التي نلحظها في انتقاء المفردات وال �ص��ور الفنية ,وح�ل�ق��ات ال�ت�ع��اون ال �م��دروس��ة التي يعقدها بين أف��راد الجماعة ,والرشاقة والعذوبة في التعبير ,واح�ت��رام ال��رأي وال��رأي اآلخ��ر أثناء الحوار , ال عن الجانب األخالقي الذي يوظّ فه الكاتب في فض ً إشاراته اإلبداعية بلماحية ..وغيرها كثير ,سواء كان في الظاهر أو الباطن.
< كاتب وناقد من األردن.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 117
الكتاب :دوم���ة ال��ج��ن��دل :منذ ظ��ه��ور االس�ل�ام حتى نهاية الدولة األموية (دراسة تاريخية حضارية). المؤلف :نايف بن علي السنيد الشراري الناشر :دارة الملك عبدالعزيز 1426هـ
> د .عبدالعزيز بن سعود الغزي
<
صدر حديثاً عن دارة الملك عبدالعزيز كتاب أصله رسالة ماجستير ،عنوانه: دومة الجندل منذ ظهور اإلسالم حتى نهاية الدولة األموية :دراسة تاريخية حضارية، للباحث نايف بن علي السنيد الشراري .ظهر الكتاب بالحجم المتوسط ،ويشتمل على ( )439صفحة .يتكون الكتاب من تقديم ومقدمة ،ثم التمهيد الذي اشتمل على التسمية ،فالموقع والحدود ،فدومة الجندل في العصر الجاهلي :تاريخها وقبائلها، ثم دومة الجندل في العصر اآلشوري ( 612 - 911ق .م) ،فدومة الجندل في العصر البابلي ( 539 -725ق .م) ،فدومة الجندل في عصر اليونان (أوائل القرن الرابع ق. م) ،والرومان (626 -272م) ،واألنباط ( 312ق .م 106 -م) ،ثم قبائل دومة الجندل في العصر الجاهلي. وه��ذا الكتاب اشتمل على ج��زء مكون من عشرين صفحة ،خصصها المؤلف للحديث عن دوم��ة الجندل خ�لال العصور السابقة على ظهور اإلس�ل�ام ،وثماني عشرة صفحة للحديث عن المظاهر اآلثارية المعمارية القديمة واإلسالمية فيها. كما خصص لوحات لآلثار اإلسالمية ،منها لوحات تحمل مظاهر معمارية ،ولوحات تحمل الكتابات اإلسالمية المبكرة التي عثر عليها في دومة الجندل ،والتي يكون أسفلها أحياناً كتابات سابقة على ظهور اإلسالم .فكل يعشق ما يحلو له وأنا أعشق القديم ،فأينما وجدته التفت إليه ،فهو األصل الخيال ،وهو المتعة وروح المستقبل، االستراحة لمن غمه واقعه وأشرقه مستقبله.
118اجلوبة -شتاء 1429هـ
ول�ع�ل��ه م��ن ال�م�ن��اس��ب أن أذك ��ر ق�ب��ل أن أع ��ود إلى محتويات الكتاب أن الدراسات الميدانية األثرية تفيد أن دومة الجندل من المواقع التي استوطنها اإلنسان منذ القدم ،ولعل من أهم معالمها اآلثارية حصن مارد أو قلعة مارد كما تسمى أحياناً ،تلك القلعة التي تتربع على قمة جبل منيع ،شبيهة بقالع عديدة عرفت في الجزيرة العربية ،مثل :قلعة البحرين في البحرين ،وقلعة تاروت في جزيرة تاروت بالمنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية ،وقلعة مرحب في خيبر بالمدينة المنورة، وقلعة زعبل في سكاكا بمنطقة الجوف ،وعدد كبير من القالع في جنوبي الجزيرة العربية وجنوبيها الشرقي. ونمطية تلك القالع تفيد أنها شيّدت خالل فترات كان اإلنسان ال يأمن على نفسه وماله ،ومن المؤكد أن قلعة دومة الجندل «قلعة مارد» تعود إلى ما قبل اإلسالم، وع�ن��دم��ا ج��اء اإلس�ل�ام ك��ان��ت ع��ام��رة بأهلها ،وكذلك خ�لال ال�ق��رون الثالثة الميالدية األول��ى ،عندما أراد جيش الزباء ،ملكة تدمر ،اقتحامها فعجز عن ذلك، فقالت الملكة قولها المشهور« :تم َّر َد مارد وعَ َّز األبلق». وتحتضن دوم��ة الجندل العديد من المواقع اآلثارية والتراثية ،وكان يسكنها عند ظهور اإلسالم األكيدر بن عبدالملك السكوني ،المنحدر من قبيلة كندة.
العسكرية عليها بادئاً بحملة أسامة بن زيد ] - سنة (11هـ) ،ثم حملة عياض بن غنم وخالد بن الوليد ]ما (12هـ) ،فقبائل دومة الجندل وحركة الفتوح، فدومة الجندل وحوادث الفتنة ،ثم األحوال اإلدارية. وتحدث في الفصل الثالث عن دومة الجندل في عصر بني أمية ،مبيناً أثر قبائل دومة الجندل في الحياة السياسية ،من حيث قيام الدولة األموية ،ثم إعادة تكوينها ،فأثرها في الجوانب اإلدارية ،وأثرها في الحركات والثورات ،ثم أثرها في إضعاف الدولة األموية وإسقاطها .وتحدث كذلك عن الهجرة إلى مناطق الفتح اإلسالمي ،ثم األحوال اإلدارية. وف��ي الفصل ال��راب��ع ج��اء الحديث عن الجوانب ال الحياة االجتماعية الحضارية في دومة الجندل شام ً واالقتصادية والعلمية والفكرية والعمرانية .واشتملت العمرانية على حصن دومة الجندل ،ومسجد عمر بن الخطاب ] ،ومسجد دومة الجندل األثري ،وبقايا المدينة القديمة (حي دومة س القديم) وقلعة زعبل وسوق دومة الجندل وسورها.
وبعد ذلك جاءت الخاتمة التي أُتْ ِبعَت بالمالحق للملوك وال�م�ل�ك��ات وال �ح �ك��ام ال��ذي��ن ح�ك�م��وا دومة ال�ج�ن��دل حتى نهاية ال��دول��ة األم��وي��ة سنة 132هـ , ناقش الباحث في الفصل األول دومة الجندل فملحق للخرائط والصور ،فالمصادر والمراجع. ف��ي ال �ع �ص��ر ال �ن �ب��وي ،ش��ام�ل�اً األح � ��وال الدينية تميز هذا العمل بمعالجته فترة زمنية محددة ال واألح��وال اإلداري��ة ،وقبائل دومة وعالقتها بظهور تتجاوز م��ائ��ة واثنتين وأرب�ع�ي��ن س�ن��ة ،ه��ذا م��ن حيث اإلس�لام ،والغزوات والسرايا النبوية عليها ،فبدأ الزمن ،أما من حيث المكان فهي مقصورة على دومة بالحمالت المباشرة الموجهة إليها ،وأنهى الفصل ال�ج�ن��دل .وال ش��ك أن ه��ذي��ن ال�ت�ح��دي��دي��ن :الزماني بحديث عن وفود قبائل دومة على النبي صلى الله والمكاني يُحسبان لصالح الكتاب .وميزة أخرى تميز عليه وسلم بالمدينة المنورة. بها الكتاب ،تتمثل بمنهج توثيق معلوماته المتميز؛ فقد وخص الفصل الثاني بالحديث عن دومة الجندل حرص الكاتب على توثيق معلوماته بأمانة واضحة، في عصر الخلفاء الراشدين ،فتحدث عن الحمالت ومناقشة قضايا بحثة ،مناقشة هادئة ومثمرة. < أكاديمي سعودي.
اجلوبة -شتاء 1429هـ 119
الفاسي تستعرض تاريخ املرأة النبطية في كتاب جديد ب : الكتا المؤلف : الناشر :
المرأة في الجزيرة العربية قبل اإلسالم :األنباط ()Women in Pre-Islamic Arabia: Nabataea الدكتورة هتون أجواد الفاسي دار آركيوبرس البريطانية ()Archaeopress-British
يتناول الكتاب تاريخ ال�م��رأة في الجزيرة العربية قبل اإلسالم في الفترة ما بين القرن األول قبل الميالد والقرن الثاني الميالدي ،أي منذ ما يقارب ألفي عام ،ويركز على تاريخ المرأة النبطية خالل فترة دولة األنباط ،التي سادت في الشمال الغربي للجزيرة العربية والممتدة حالياً في السعودية واألردن ومصر وسوريا وفلسطين. ويعتمد العمل في مصادره على النقوش الكتابية واآلثار والمصادر الكالسيكية إضافة إلى الدراسات النسوية ،وما استجد حديثاً في علم التأريخ .كما قامت مؤلفة الكتاب برحلة ميدانية مطولة شملت مدائن صالح والعال وخيبر وتبوك وقُرية والبدع (مغاير شعيب) ومقنا وعينونية وضبا وال��وج��ه ورواف ��ة وال��دي�س��ة وتيماء ودوم��ة الجندل وسكاكا والقريات وإثرا والكاف بالمملكة العربية السعودية والبتراء والبيضا ووادي رم وخربة الذريح وخربة تنور وسلع والطفيلة ومادبا وجبل نبو وأم الجمال وأم القطين في األردن وتدمر وبصرى والسويداء وخربة الخضر ودوم��ه وصلخد وسيع وقنوات وأوغاريت في سوريا والجبيل وصور وصيدا وبعلبك والنبطية في لبنان وووادي مكتب وطريق قوافل جنوب سيناء ووادي سيح سدره ووادي حجاج وسرابيط الخادم وغيرها في شبه جزيرة سيناء ،وذلك للوقوف على اآلثار المتعلقة بموضوع الكتاب. وسؤال الدراسة األول هو :هل كانت المرأة النبطية قد تمتعت بمكانة متميزة بالنسبة لمجتمعها والحقبة التاريخية المشار إليها؟ وبعد التدليل على ذلك ،تنتقل الدراسة إلى التساؤل الثاني ح��ول العوامل التي جعلت بإمكان المرأة النبطية أن تبرز ف��ي النقوش والعملة ،وت�ك��ون لها مكانة متميزة ،مقارنة بمعاصراتها .ويسعى الكتاب بشكل خاص
120اجلوبة -شتاء 1429هـ
إلى تعويض تهميش دور المرأة عبر التاريخ ،من خالل رواية ما يُعرف من قصة المرأة النبطية ،التي تمثل جزءاً مهماً من التاريخ اإلنساني عموماً ،والعربي خصوصاً. يقول الدكتور عبدالرحمن الطيب األن�ص��اري عن هذا ال�ك�ت��اب« :أج��د أن ه��ذا عمل متميز ،ألن��ه يناقش أفكاراً جديدة في مجال تاريخ الجزيرة العربية القديم والمرأة بشكل خاص .فهو ليس تنقيباً أثرياً عادياً وإنما تنقيب في النصوص والمجتمع ،ولذلك ج��اءت النتائج على مستوى لم تعهده الدراسات التاريخية السابقة في تاريخ الجزيرة العربية القديم؛ ج��اءت ج��دي��دة ومغرية بالبحث ف��ي هذا االتجاه بشكل قوي .ونرجو أن يتجه الباحثون إلى هذا النوع من البحوث الحضارية واالجتماعية والنقد التاريخي الواعي في دراسة التاريخ واآلثار». أم��ا أس�ت��اذ ال��دراس��ات السامية ف��ي جامعة مانشستر والخبير المعروف في تاريخ األنباط ،البروفيسور جون هيلي، فيقول« :في هذا الكتاب تضع الدكتورة هتون الفاسي منهجية جديدة ،وتقرّب وجهة نظر جديدة إلى موضوع دور المرأة في الجزيرة العربية القديمة ،وهو دور قد يفاجئ البعض وقد يزعج آخرين ،لكنها تعد إضافة حقيقية وجديدة تماماً، تثري فهمنا لدور المرأة في إطار المنهجية الحديثة». أما أستاذ التاريخ الروماني بجامعة ميامي ،البروفيسور دافيد جراف ،فيقول« :من أكثر ما وجدته إبداعياً وجذاباً ف��ي ه��ذا الكتاب قصة المدينتين « ح��ول الحجر (مدائن صالح) والرقيم (البتراء) كفاتحة وخاتمة لمناقشة تجذب القارئ إلى األبعاد األكثر تخصصاً في الكتاب ،وتدفع القارئ إلى المزيد من اإلثارة وحب االستطالع .باختصار ،في وجهة نظري ،هذا العمل هو جوهرة.