مجلة الجوبة العدد 18 Aljoubah 18

Page 1

‫صدر حديث ًا‬ ‫كتاب‪:‬‬ ‫> فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال‪:‬‬ ‫عبدالرحمن بن أحمد السديري‬ ‫> المؤلف‪ :‬مجموعة من الباحثين‬ ‫> المحرر‪ :‬د‪ .‬عبدالرحمن الشبيلي‬

‫‪ -‬العدد ‪ - 18‬شتاء ‪1429‬هـ ‪2008 -‬م‬

‫من �إ�صدارات م�ؤ�س�سة عبدالرحمن ال�سديري اخلريية‬

‫ليل األساطير في‬ ‫طفولتي‪ :‬شهادة روائية‬ ‫ليوسف احمليميد‬ ‫احلداثة السردية في‬ ‫اخلطاب القصصي العربي‬ ‫قراءة في ديوانني‬ ‫جلاسم الصحيح‬ ‫وعيد احلجيلي‬ ‫نصوص قصصية‬ ‫لعبدالسالم احلميد‬ ‫وفاطمة املزروعي‬ ‫ومحمد زيتون‬ ‫قصائد لعبدالرحيم‬ ‫اخلصار وأحمد الواصل‬ ‫وجمال املوساوي‬ ‫ويوسف عبدالعزيز‬

‫حوارات مع‪ :‬صالح فضل‪ ،‬وعبدالسالم املسدي‪ ،‬ومصدق احلبيب‬

‫> السعر‪ 45 :‬رياالً‪.‬‬ ‫> متوافر في المكتبات التجارية‪.‬‬ ‫> ك��م��ا يطلب م��ب��اش��رة م��ن مؤسسة‬ ‫عبدالرحمن السديري الخيرية‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫‪18‬‬


‫أحد آثار الرجاجيل املشهورة في منطقة اجلوف‬

‫منوذج يظهر جماليات اخلط العربي‬ ‫للخطاط مصدق احلبيب‬


‫لوحة تشكيلية للفنان نصير السمارة‬ ‫أحد رواد الفن التشكيلي مبنطقة اجلوف‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫‪1‬‬


‫العدد ‪18‬‬ ‫شتاء ‪1429‬هـ ‪2008 -‬م‬

‫ملف ثقافي ربع سنوي‬ ‫يصدر عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬

‫املشرف العام‬ ‫إبراهيم احلميد‬ ‫املراسالت‬ ‫توجه باسم املشرف العام‬ ‫ّ‬

‫هاتف‪)+966( )4( 6245992 :‬‬ ‫فاكس‪)+966( )4( 6247780 :‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 458‬سكاكا‬ ‫اجلـ ــوف ‪ -‬اململكة العربية السعودية‬ ‫‪aljoubah@gmail.com‬‬ ‫ردمد ‪ISSN 1319 - 2566‬‬

‫سعر النسخة ‪ 8‬رياالت‬ ‫تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع‬

‫قواعد النشر‬

‫‪ -1‬أن تكون املادة أصيلة‪.‬‬ ‫‪ -2‬لم يسبق نشرها‪.‬‬ ‫‪ -3‬تراعي اجلدية واملوضوعية‪.‬‬ ‫‪ -4‬تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها‪.‬‬ ‫‪ -5‬ترتيب املواد في العدد يخضع العتبارات فنية‪.‬‬ ‫‪ -6‬ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني والكتّاب‪،‬‬ ‫على أن تكون املادة باللغة العربية‪.‬‬ ‫اجلوبة من األسماء التي كانت تطلق على منطقة اجلوف سابق ًا‬

‫الناش ـ ـ ـ ــر‪ :‬مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬ ‫أسسها األمير عبدالرحمن بن أحمد السديري (أمير منطقة اجلوف من ‪1362/9/5‬هـ‬ ‫ ‪1410/7/1‬هـ املوافق ‪1943/9/4‬م ‪1990/1/27 -‬م) بهدف إدارة ومتويل املكتبة العامة‬‫التي أنشأها عام ‪1383‬هـ املعروفة باسم دار اجلوف للعلوم‪ .‬وتتضمن برامج املؤسسة‬ ‫نشر الدراسات واإلبداعات األدبية‪ ،‬ودعم البحوث والرسائل العلمية‪ ،‬وإصدار مجلة‬ ‫دورية‪ ،‬وجائزة األمير عبدالرحمن السديري للتفوق العلمي‪ ،‬كما أنشأت روضة ومدارس‬ ‫الرحمانية األهلية للبنني والبنات‪ ،‬وكذلك أنشأت جامع الرحمانية‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫احملتويــــات‬

‫>‪6.........................‬‬ ‫من صفحات التاريخ احمللي ملنطقة‬ ‫اجلوف‪ :‬الرحلة التنوخية‬

‫>‪49......................‬‬ ‫الصحيح في ديوان «نحيب‬ ‫جاسم‬ ‫ّ‬ ‫األبجدية»‪ :‬شعرية تتمرد على‬ ‫األبجدية التي تضيق على رؤى‬ ‫الشاعر وشطحاته الشعرية‬

‫>‪66......................‬‬ ‫الناقد د‪.‬صالح فضل يحلل مأزق‬ ‫الثقافة العربية ويكشف أسبابه‬ ‫لوحة الغالف‪:‬‬ ‫لوحة من أعمال الفنانة سامية احللبي‬

‫االفتتاحية ‪4.........................................................‬‬ ‫دراس����ات‪ :‬أسئلة المغايرة ف��ي راه��ن الشعر المغربي‪ :‬اإلبداع‬ ‫والذات والهوية ‪ -‬د‪ .‬عبد الفتاح شهيد‪12...........................‬‬ ‫الحداثة السردية‪ :‬مقدمة في مظاهر اإلتصال واإلنفصال في‬ ‫الخطاب القصصي العربي ‪ -‬إبراهيم الكراوي ‪18..................‬‬ ‫قصص قصيرة‪ :‬قصص قصيرة جداً ‪ -‬هشام بن الشاوي ‪24.......‬‬ ‫صانع البهجة ‪ -‬عبدالسالم الحميد‪25..............................‬‬ ‫صورة قبيحة ‪ -‬فاطمة المزروعي ‪26................................‬‬ ‫قصص قصيرة جداً ‪ -‬مصطفى لغتيري ‪27.........................‬‬ ‫قصتان قصيرتان ‪ -‬محمد زيتون‪28.................................‬‬ ‫شــــــــرفــــــة ‪ -‬محمود عطية محمود ‪30..............................‬‬ ‫فصل من رواية‪ :‬الشتات األول ‪ -‬فيصل أكرم ‪32....................‬‬ ‫شعر‪ :‬ليس تماما يا أمي ‪ -‬جمال الموساوي ‪36......................‬‬ ‫سفين ُة الجَ دائل ‪ -‬أحمد الواصل ‪38.................................‬‬ ‫مُـد ُن العُـ ْزلـة ‪ -‬د‪ .‬شريف بُقنه الشّ هراني‪40.........................‬‬ ‫األمازيغي ‪ -‬عبد الرحيم الخصار ‪42................................‬‬ ‫حدثيني ‪ -‬علي محمد آدم‪44........................................‬‬ ‫قصائد قصيرة ‪ -‬يوسف عبدالعزيز‪45..............................‬‬ ‫نقد‪ :‬أخيرا وصل الشتاء لعبدالرحيم الخصار ‪ -‬يونس الحيول‪46....‬‬ ‫قراءة في رواية فسوق لعبده خال ‪ -‬د‪ .‬عالي القرشي ‪51...........‬‬ ‫قامة تتلعثم لعيد الحجيلي ‪ -‬عبدالحق ميفراني ‪53.................‬‬ ‫مواجهات‪ :‬حوار مع الناقد محمد المشايخ ‪ -‬عمار الجنيدي ‪56....‬‬ ‫حـــــوار مع الشاعر والمسرحي د‪ .‬نصار عبدالله ‪ -‬محمود سليمان‪62...‬‬ ‫عالم اللسانيات التونسي عبدالسالم المسدي ‪ -‬عصام أبوزيد‪80...‬‬ ‫نوافذ‪ :‬قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي ‪ -‬شمس علي ‪82....‬‬ ‫رحلة محمد شكري المفتوحة ‪ -‬عبدالحق ميفراني‪84..............‬‬ ‫المعالجة الحاسوبية للخط العربي‪ ...‬هل خدمته أم شوهته؟‬ ‫خلف سرحان القرشي ‪88.............................................‬‬ ‫شهادات‪ :‬ليل األساطير في طفولتي ‪ -‬يوسف المحيميد ‪92.........‬‬ ‫تشكيل‪ :‬مصدق الحبيب‪ :‬الخط العربي الحلم والسحر ‪ -‬الكنتاوي لبكم ‪96...‬‬ ‫الفنانة سامية حلبي‪ :‬اللون المستوحى من الطبيعة ‪ -‬جعفر العقيلي‪101...‬‬ ‫التقريب بين السينما والكتاب ‪ -‬خالد ربيع السيد‪106..............‬‬ ‫قراءات‪ :‬فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال ‪ -‬محمد صوانة‪110....‬‬ ‫مسيرة التعليم في منطقة الجوف ‪ -‬محمود الرمحي ‪115...........‬‬ ‫خرافات تكاد تكون معاصرة ‪116.....................................‬‬ ‫مفاجأة ماجد ‪ -‬محمد محمود السويركي ‪119......................‬‬ ‫دومة الجندل ‪ -‬د‪ .‬عبدالعزيز بن سعود الغزي‪118..................‬‬ ‫المرأة في الجزيرة العربية قبل اإلسالم ‪ -‬د‪ .‬هتون الفاسي‪120...‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫‪3‬‬


‫اإلفتتاحية‬ ‫> إبراهيم احلميد‬ ‫حفل العام الميالدي ‪2007‬م كما العام الهجري ‪1428‬هـ بالعديد من األحداث الثقافية التي‬ ‫لوّنت العام‪ ،‬فمن المؤتمرات الثقافية إلى معارض الكتب‪ ،‬ووصوال إلى اإلصدارات التي لم تدع‬ ‫ألي لون ثقافي أن يحتكر الساحة‪ ،‬على الرغم من أن الساحة الثقافية ال تزال غير مستوعبة لذلك‬ ‫ال عن استيعابها كلها؛‬ ‫الكم الهائل من اإلصدارات الروائية‪ ،‬التي يعجز القارئ عن حصرها فض ً‬ ‫إال انه وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فلم تخ ُل الساحة الثقافية من اإلصدارات في مجال الشعر والنثر‬ ‫والترجمة والدراسات والشؤون الثقافية المتنوعة‪.‬‬ ‫كما حفل العام المنصرم بأحداث مهمة؛ منها ما سر الخاطر وأبهج النفس‪ ،‬ومنها ما كدّر‬ ‫الصفو؛ فقد شهد العام رحيل شعراء وأدب��اء‪ ،‬كما شهد والدة أسماء جديدة‪ ،‬حلّقت في سماء‬ ‫المشهد الثقافي العربي‪ ،‬ما يؤكد أن الثقافة العربية ال تزال حبلى بكل جديد‪.‬‬ ‫وكذلك في المملكة العربية السعودية كانت السنة حافلة باألحداث الثقافية‪ ،‬فقد بدأت‬ ‫بمشاريع األندية األدبية التي باتت أكثر توهّ جا ووضوحا‪ ،‬من حيث الرؤية وتحقيق األهداف؛ إذ‬ ‫شهدت معظم األندية األدبية نشاطات ثقافية‪ ،‬انعكست إيجابا على حركة الثقافة في المملكة؛‬ ‫وإال ما معنى إحياء سوق عكاظ في الطائف ثقافياً‪ ،‬وملتقيات السرد والنص وجماليات القصيدة‬ ‫في جدة والقصيم والباحة‪ ،‬وملتقى سيسرا بالجوف‪ ،‬وأمسيات الشعر والقص وغيرها في المدينة‬ ‫وتبوك والدمام وجيزان؟‬ ‫وال ننسى أن نعرّج على مناسبة معرض الكتاب‪ ..‬هذه المناسبة السنوية التي بات جميعنا‬ ‫يترقب موعدها عاما إثر عام‪ .‬كما ال ننسى مبادرات وزارة الثقافة واإلعالم في المملكة العربية‬ ‫السعودية من أجل إشراك مثقفي المملكة والوطن العربي في صنع إستراتيجية ثقافية للمملكة‪،‬‬ ‫يجري بلورتها في نسختها النهائية‪.‬‬

‫ا فتتا حيــــة‬ ‫‪4‬‬

‫عن المؤتمر العلمي األول للتطوير التربوي في الوطن العربي‬ ‫«اآلن أصبح في مقدورنا أن نقفز نحو الجودة‪ ...‬أن نتحول إلى صناعة االحتراف في عملنا‬ ‫التربوي‪ ،‬من خ�لال لقاء عربي مميز وفريد؛ إذ سيجتمع نحو (‪ )300‬خبير وعالم وأكاديمي‬ ‫على مدى أيام المؤتمر‪ ،‬لتقديم خالصة تجاربهم ونتاجهم العلمي والعملي في مجال التطوير‬ ‫التربوي»‪.‬‬ ‫العبارة الماضية كانت شعاراً دعائياً ألحد المؤتمرات العلمية العربية التي عقدت مؤخراً‪.‬‬ ‫إال أننا ومن واقع المؤتمرات العربية المشابهة التي تعقد كل يوم‪ ،‬ومن خالل اللجان التي تعقدها‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫مختلف المنظمات العربية من المحيط إلى الخليج‪ ،‬ومن‬ ‫خالل سنوات طويلة من التجارب التعليمية‪ ،‬لم نلحظ أن‬ ‫هناك تطوراً في مستوى التعليم انعكس إلى خلق مجتمع‬ ‫عربي مثقف‪ ،‬أو إلى ثورة علمية تقنية وصناعية؛ تنتقل‬ ‫بالمجتمعات العربية إلى ما يسمى بمجتمع المعرفة‪ ،‬أو‬ ‫تحويل هذه المجتمعات إلى مجتمعات بنَّاءَة‪ ،‬تحافظ على‬ ‫المكتسبات التنموية والعلمية‪ ،‬وتبني عليها‪ ،‬كما تفعل كل‬ ‫أمم الدنيا‪ .‬وكأن كل أمة تأتي لتحاول اختراع العجلة من‬ ‫جديد! وكأن هذه المجتمعات تولد في جزر معزولة في‬ ‫كل دورة من دورات تشكُّل المجتمع‪ ،‬بأي صورة وعلى أي‬ ‫نظام؛ بل إن هذه األنظمة التعليمية عجزت حتى عن صون‬ ‫الوحدة الوطنية في بعض الدول العربية!‬ ‫وفي نظرة مراجعة إلى القيادات التربوية في العالم‬ ‫العربي نجد أن معظمها قد تلقى علومه في دول متقدمة‪،‬‬ ‫وحصل على أعلى الدرجات العلمية في جامعات ودول‬ ‫تتميز بأنظمة تعليمية متطورة؛ إال إننا لن نحمّل التربويين‬ ‫ال في‬ ‫أكثر مما يحتملوا‪ ،‬ولكن من الواضح أن هناك خل ً‬ ‫بنائنا التربوي والثقافي‪ ،‬وهو ما أدى إلى انتكاس مخرجات‬ ‫التعليم في العالم العربي‪ ،‬وم��ن ثم تخلّف المجتمعات‬ ‫العربية‪ ،‬ليصبح «الجهل خي ٌر من التعليم الناقص»‪ ،‬على‬ ‫رأي أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد‪ ،‬منذ أكثر من ستين‬ ‫عاما‪ ..‬وإذا أردنا أن نحلّل واقعنا التربوي والتعليمي اليوم‪،‬‬ ‫فال بد لنا من النظر إلى تجارب الدول المتقدمة والبناء‬ ‫عليها‪ ،‬ال محاولة اخ�ت��راع العجلة من جديد‪ ،‬من خالل‬ ‫الشعارات؛ ألن القالب موجود وال يبقى سوى البناء عليه‪.‬‬

‫الجوبة ‪18‬‬

‫عليه الجمهور العربي م��ن المحيط إل��ى الخليج ناقداً‬ ‫ومحكّما في برنامج أمير الشعراء‪ ،‬فهو يواصل قراءاته‬ ‫ومتابعاته وتحليالته حاضراً بقوة‪ ،‬داخل فعاليات حركة‬ ‫النقد واإلب��داع والثقافة؛ كما تحتل مؤلفاته في المجال‬ ‫النقدي مكانة متميزة‪ ،‬فهي تجمع بين التنظير النقدي‬ ‫والتطبيق‪.‬‬ ‫ك�م��ا ت �ق �دّم ال �ج��وب��ة ف��ي ه ��ذا ال �ع��دد ال �ن��اق��د الكبير‬ ‫عبدالسالم المسدي‪ ،‬أح��د أب��رز المتخصصين العرب‬ ‫في حقل الدراسات اللسانية المعاصرة‪ ،‬وأحد الدارسين‬ ‫القالئل الذين تجاوزوا مرحلة النقل والترجمة من الغرب‪،‬‬ ‫إل��ى آف��اق التوليد واالس �ت �ح��داث وم��واءم��ة العلم الكلي‬ ‫لتاريخية لغتنا العربية ونوعيتها‪.‬‬ ‫وتحاور الجوبة الناقد األردني محمد المشايخ‪ ،‬الذي‬ ‫يع ُّد من أهم النقاد األردنيين‪ ،‬الذين توقفوا طويال عند‬ ‫األدب واألدباء األردنيين في سيرهم الذاتية واإلبداعية‪.‬‬ ‫كما تقدم الجوبة م�ق��االً ع��ن التقريب بين السينما‬ ‫والكتاب‪ ،‬للناقد الفني والقاص خالد ربيع السيد‪.‬‬ ‫وفي مجال التشكيل تحتفي الجوبة بتجربتين ثريتين‬ ‫لفنانين عربيين مقيمين في أمريكا‪ ،‬هما‪ :‬الفنانة التشكيلية‬ ‫سامية الحلبي‪ ،‬والفنان التشكيلي الدكتور مصدق الحبيب‪،‬‬ ‫الفنان الذي عشق الخط العربي وأبدع فيه‪.‬‬ ‫وتسعد الجوبة أن تقدم دراسة جديدة للدكتور عوض‬ ‫البادي عن رحلة مجهولة تمت قبل أكثر من ‪ 100‬عام‪ ،‬إلى‬ ‫منطقة الجوف قام بها عز الدين آل علم الدين التنوخي‪.‬‬

‫ومقاالت‬ ‫ٍ‬ ‫دراسات وقصصاً وقصائد‬ ‫ٍ‬ ‫كما تقدم المجلة‬ ‫‪ ..‬اذاً ها هي الجوبة‪ ،‬تصل في عددها الثامن عشر‬ ‫وشهادات‪ ،‬كلنا أمل أن تشكّل في مجموعها مادة ترضي‬ ‫ٍ‬ ‫إلى مرحلة‪ ،‬تحاول من خاللها تلبية خيارات قرّائها إلى‬ ‫ما يتوقعه محبو الجوبة ويأملونه منها‪.‬‬ ‫النهم المعرفي واإلبداعي‪ ،‬وها هي تقدّم في هذا المدماك‬ ‫وإذا كانت الجوبة قدمت ما تستطيعه‪ ،‬لكسب ثقة‬ ‫الجديد أطباقا متنوعة من الوجبات الثقافية‪ ،‬التي تأمل‬ ‫قرّائها ومحبيها على امتداد الوطن العربي؛ فإنها تقدّم‬ ‫الجوبة أن تكون كما يشتهي قرّاؤها في كل مكان‪.‬‬ ‫بهذا المدماك ما تستطيع أن تفعله كما يقول الشاعر‬ ‫تقدّم الجوبة في هذا العدد الناقد الكبير صالح فضل‪،‬‬ ‫الفلسطيني مريد البرغوثي‪ ،‬وهو المحاولة لتقديم الجديد‬ ‫بعد أن عرفه المثقفون في كل مكان من خالل طروحاته‬ ‫والمفيد دائماً‪.‬‬ ‫النقدية العميقة وكتبه الجادة‪ ،‬ومن خالل الجوائز العديدة‬ ‫ولكم تحياتي‪..‬‬ ‫التي فاز بها في مختلف األقطار العربية‪ ،‬وبعد أن تعرّف‬ ‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫‪5‬‬


‫من صفحات التاريخ احمللي ملنطقة اجلوف‬ ‫الرحلة التنوخية‬

‫> د‪ .‬عوض البادي‬

‫<‬

‫في مقالة سابقة في مجلة الجوبة(‪ ،)1‬بيّنا أن منطقة الجوف‪ ,‬قد حظيت بنصيب وافر من اهتمام‬ ‫الرحالة األجانب‪ ،‬الذين توافدوا إليها منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى عشرينيات القرن العشرين‬ ‫الميالدي‪ .‬وكان هؤالء الرحالة قدّموا معلومات مهمة ومفيدة للباحثين عن تاريخ المنطقة المحلي‬ ‫سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا(‪ .)2‬ولم تحظ المنطقة بنصيب في كتابات رحالة عرب خالل‬ ‫تلك الفترة‪ ،‬ربما لعدم وجودهم‪ ،‬أو ألنهم لم يكتبوا شيئاً‪ ،‬وذلك حسب المعطيات المعلوماتية المتاحة‬ ‫حتى اآلن‪ .‬وق��د يكشف الزمن عما خبأه من خ�لال البحث المعمق في اإلرث الثقافي الجغرافي‬ ‫والتاريخي العربي‪ .‬والحالة التي بين أيدينا في هذه الصفحة التاريخية من صفحات التاريخ المحلي‬ ‫الحديث لمنطقة الجوف قد تؤكد ذلك‪ ،‬ما لم تكن حالة استثنائية‪ .‬وهذه الحالة تخص شخصية علمية‬ ‫وسياسية عربية‪ ،‬قادتها الظروف إلى الرحيل إلى المنطقة والكتابة عنها‪ .‬كان صاحب هذه الشخصية‬ ‫هو عز الدين آل علم الدين التنوخي‪ ،‬الذي ف ّر من سورية مع مناضلين آخرين هرباً من الجندية‪ ،‬أو‬ ‫للمطالبة باستقالل البالد العربية‪ ،‬أو لالنضمام للثورة العربية التي أعلنت في مكة في اليوم التاسع‬ ‫من شهر شعبان ‪1334‬هـ الموافق للعاشر من شهر حزيران عام ‪1916‬م بهدف االستقالل عن الحكم‬ ‫العثماني‪.‬‬

‫صاحب الرحلة‬

‫درا��������س�������ات‬ ‫‪6‬‬

‫ولد عز الدين التنوخي في دمشق عام ‪1889‬م‪ ،‬وتلقى تعليمه في مدارسها‪ ،‬وبعد نيل الشهادة‬ ‫الرسمية التركية التحق بمدرسة فرنسية في يافا‪ ،‬ثم التحق بالجامع األزهر في القاهرة‪ ،‬وبعدها‬ ‫ذهب في بعثة علمية إلى فرنسا لدراسة الزراعة‪ .‬بعد دراسة ثالث سنوات في مدرسة زراعية في‬ ‫فرنسا‪ ،‬عاد إلى بالده وعيّن مدرساً للزراعة في مركز زراعي ببيروت‪ .‬وعندما أ ُعلنت الحرب العالمية‬ ‫األولى في عام ‪1914‬م استدعي للتجنيد لكنه فر من الجيش التركي بحلب‪ ،‬وبعد إعالن الثورة العربية‬ ‫الكبرى عام ‪1916‬م انضم إليها‪ .‬بعد دخول قوات الثورة العربية دمشق في نهاية شهر سبتمبر عام‬ ‫‪ ،1918‬وتشكيل الحكومة العربية فيها‪ ،‬تقلد التنوخي منصب وزير الزراعة‪ ،‬وعين عضواً في مجلس‬ ‫المعارف الذي ألفته وزارة المعارف بدمشق‪ ،‬وقد تحول هذا المجلس إلى المجمع العلمي العربي‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ثم إلى مجمع اللغة العربية‪ .‬وبعد العدوان الفرنسي‬ ‫واحتالل دمشق عام ‪1920‬م‪ ،‬هاجر إلى العراق‪ ،‬وعين‬ ‫أستاذاً لألدب العربي في مدارس الموصل‪ ،‬ثم استقر‬ ‫حتى سنة ‪1931‬م في بغداد‪ ،‬حيث عين أستاذاً لألدب‬ ‫العربي في دار المعلمين االبتدائية‪ ،‬ثم في دار المعلمين‬ ‫العالية‪ .‬ثم عاد إلى دمشق‪ ،‬فعين أميناً لسر المجمع‬ ‫العلمي ال�ع��رب��ي‪ ،‬ث��م عين م��درس �اً ل�ل�أدب العربي في‬ ‫بعض المدارس الثانوية‪ ،‬فمفتشاً للغة العربية‪ ،‬فمديراً‬ ‫لمعارف محافظة السويداء‪ ،‬فأستاذا في كلية اآلداب‬ ‫بجامعة دمشق‪ ،‬فنائباً لرئيس مجمع اللغة العربية‪،‬‬ ‫واستمر في هذا المنصب إلى حين وفاته عام ‪1966‬م‪.‬‬ ‫ألّف التنوخي مجموعة من المؤلفات في اللغة واألدب‪،‬‬ ‫وترجم عن الفرنسية‪ ،‬وحقق مجموعة من المخطوطات‬ ‫في النقد اللغوي والنحو والبالغة واللغة(‪.)3‬‬

‫الضباط العرب‪ ،‬وجرى توزيعهم على الواليات التركية‬ ‫البعيدة‪ ،‬وأسندت مهام قيادة القطاعات العسكرية في‬ ‫الواليات العربية إلى ضباط أت��راك‪ ،‬وكلفت الحكومة‬ ‫أحمد جمال باشا والي سورية بمتابعة تنفيذ اإلجراءات‬ ‫الحكومية المتضمنة إع ��داد برنامج التتريك‪ ،‬وحل‬ ‫األح���زاب العربية واع�ت�ق��ال ال �ق �ي��ادات‪ .‬ف��ي ظ��ل هذه‬ ‫الظروف واندالع الحرب العالمية األولى ودخول تركيا‬ ‫فيها عند نهاية عام ‪1914‬م‪ ،‬أصدرت السلطات التركية‬ ‫أوامرها بالقبض على قادة الحركات العربية والمثقفين‬ ‫المشاركين في حركة االستقالل‪ ،‬فتمكن بعض هؤالء‬ ‫من الفرار إلى الصحراء أو اللجوء إلى أماكن آمنة أو‬ ‫االلتحاق بالشريف حسين في مكة وق��د ك��ان يخطط‬ ‫للثورة على ال�ت��رك(‪ .)4‬وك��ان التنوخي واح��دا من هؤالء‬ ‫المطلوبين‪ ،‬فولى وجهه شطر الصحراء‪.‬‬

‫ظروف الرحلة‬

‫الرحلة التنوخية‬

‫(‪)5‬‬

‫ي��ذك��ر ال �ت �ن��وخ��ي أن ��ه ع �ن��دم��ا ك ��ان ف��ي ح �ل��ب علم‬ ‫ب��أن األت ��راك ق��د أم��روا بالقبض عليه «فاستجار من‬ ‫المعاطب بالسباسب‪ ،‬وم��ن ال �ع��وادي ب��ال�ب��وادي‪ ،‬والذ‬ ‫م��ن ع�ق��اب ال�ع�ج��زة األش���رار باجتياز ع�ق��اب المفاوز‬ ‫واألوع� ��ار‪ ،‬ف �ت��وارى ع��ن العيون وال��رق �ب��اء‪ ،‬ي��وم�اً بجبل‬ ‫الشيخ في الجوالن ويوماً على متون الصافنات الجياد‬ ‫يقطع سهول حوران»‪ .‬ويذكر أيضاً أنه التقى بصديقه‬ ‫جالل الدين البخاري الذي كان أيضاً فاراً من عدوان‬ ‫األتراك‪« ،‬فتوافقا وترافقا حتى وصال إلى البلقاء في‬ ‫األردن ونزال ضيفين مستجيرين على عشيرة بني صخر‬ ‫قرب الزرقاء‪ .‬وقد أقام هو ورفيقه بين ظهرانيهم شهر‬ ‫ذي القعدة سنة ‪1332‬ه�ـ(‪1914‬م)‪ ،‬وفي اليوم الخامس‬ ‫من ذي الحجة انتقال لعرب السرحان الذين كانوا على‬ ‫وشك الرحيل جنوباً‪ ،‬ورافقوهم في رحلتهم حتى وصال‬ ‫إلى األزرق‪.‬‬

‫في مواجهة حركة التتريك‪ ،‬التي بدأت في السلطنة‬ ‫العثمانية في مستهل القرن العشرين الميالدي في البالد‬ ‫غير التركية التابعة لها‪ ،‬ومنها كثير من البالد العربية‪،‬‬ ‫نشأت حركات وجمعيات ثقافية واجتماعية وسياسية‬ ‫سرية وعلنية‪ ،‬بهدف المحافظة على الهوية واللغة‬ ‫العربية‪ ،‬والدعوة لمساواة العرب باألتراك في جميع‬ ‫ميادين الوظائف العامة والمراكز اإلداري��ة والسياسية‬ ‫العليا‪ ،‬السيما وأن العرب يشكلون أكثر من نصف سكان‬ ‫الدولة العثمانية‪ .‬وقد جسد المؤتمر القومي العربي األول‬ ‫المنعقد في باريس بين ‪ 23 -17‬من شهر يونيو ‪1913‬م‪،‬‬ ‫وض��م كثيرا من أعضاء الجمعيات العربية المطالبة‬ ‫بالحقوق العربية‪ ،‬ومنها ضرورة تطبيق الالمركزية في‬ ‫الواليات العربية‪ ،‬واعتماد اللغة العربية لغة رسمية في‬ ‫مجلس النواب العثماني وفي مجالس الواليات العربية‪،‬‬ ‫وأن تكون الخدمة العسكرية للعرب في الواليات العربية‬ ‫إال في ظروف استثنائية‪ .‬جاء موقف الحكومة التركية‬ ‫التحق التنوخي ورفيقه بالشيخ عودة أبو تايه‪ ،‬شيخ‬ ‫من المطالب العربية‪ ،‬ومن انعقاد ذلك المؤتمر تعسفيا‪ ،‬قبيلة الحويطات‪ ،‬الذي كان مخيماً مع قبيلته عند قليب‬ ‫فاتخذت إج ��راءات ضد الضباط العرب في الجيش العقيلة‪ ،‬بالقرب من قريات الملح‪ ،‬التي هي مجموعة‬ ‫ال�ت��رك��ي‪ ،‬فحدثت حملة تنقالت واس�ع��ة موجهة ضد م��ن ق��رى صغيرة بها م�لاح��ات طبيعية‪ .‬وه��ي واحات‬ ‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫‪7‬‬


‫نخيل في كل واح��دة منها‪ ،‬حسب وصفه‪ ،‬ع��دة بيوت‬ ‫قروية مشيدة باللبن‪ ،‬وأهمها قريات ثالث هي قرية‬ ‫كاف وقرية منوة وقرية إثرة‪.‬‬ ‫وف��ي قرية ك��اف ما يزيد على عشرين أل��ف نخلة‪.‬‬ ‫وي�ن�ق��ل م��ن ه��ذه ال �ق��رى ال�م�ل��ح إل��ى ح� ��وران وعجلون‬ ‫والجوالن حيث يشترى بأثمانه بضائع دمشقية‪ ،‬مما‬ ‫يصلح للبادية أو يقايض بعضه بالحنطة‪.‬‬ ‫مكث التنوخي ورفيقه عدة أيام في مخيم الشيخ أبو‬ ‫تايه ال��ذي أمنهما‪ ،‬ومن مخيمه عبرا وادي السرحان‬ ‫راحلين إلى حاضرة الجوف‪.‬‬ ‫يصف التنوخي وصوله إلى الجوف بقوله‪« :‬وما زلنا‬ ‫نطوي البيد‪ ،‬ونواصل السير بالسرى حتى الح لنا جبل‬ ‫شاهق في البيداء‪ ،‬قاتم اللون‪ ،‬يقال له العبد‪ ،‬بينه وبين‬ ‫الجوف نحو فرسخ‪ ،‬وحينما بلغناه ألفينا بجانبه عدة‬ ‫الصفِّاح الصلصالي‪،‬‬ ‫رواب من ُّ‬ ‫قُلب في وهدة‪ ،‬يحدق بها ٍ‬ ‫ووجدنا الحنظل نابتاً في هذه الوهدة‪ ،‬وبعد أن شربنا‪،‬‬ ‫ركبنا وخبت بنا المطايا‪ ،‬سيما بعد أن شاهدت خضرة‬ ‫النخيل‪ ،‬وش�ع��رت بأنها على مقربة م��ن ال�م��اء النمير‬ ‫والعلف الوفير والظل الظليل‪ ،‬وأم��ا أن��ا فقد شعرت‬ ‫بما يشعر ب��ه رك��ب السفينة ال �س��ادرة ف��ي تيه البحار‬ ‫إذا ظهرت لهم الجزيرة‪ ،‬واطمأن فؤادي بابتعادي عن‬ ‫أشراك األتراك‪.‬‬ ‫ولما دنونا من دومة الجندل‪ ،‬وجدتها في غور من‬ ‫األرض يحدق بها الهضاب واآلكام‪ ،‬فعلمت سبب تسمية‬ ‫البدو لها اليوم بالجوف‪ ،‬وشاهدت في مدخلها الغربي‬ ‫أنقاض سور كان بالصحاف مشيدا‪ ،‬وما زلنا نلج في‬ ‫نخيل الجوف ونشاهد بيوت الشرارات الشعرية حتى‬ ‫بلغنا البيوت الحجرية‪ ،‬فلم ننخ المطايا لوصولنا بعد‬ ‫الغروب في قصر األمير‪ ،‬وأنخناها في مخيم طائفة من‬ ‫عقيل نجد‪ ،‬جاءت إلى الجوف من الشام لشراء جمال‬ ‫للحكومة التركية»‪.‬‬ ‫في صباح اليوم التالي تمت دعوة التنوخي ورفيقه‬ ‫إلى قصر اإلم��ارة‪ ،‬لمقابلة نائب األمير إذ كان األمير‬

‫‪8‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫نواف الشعالن أمير المنطقة في زيارة إلى بلدة سكاكة‪،‬‬ ‫ويصف التنوخي هذه المقابلة بقوله‪« :‬سرنا إلى قصر‬ ‫اإلمارة الذي كنا نسمع عنه ونحن بالبادية من البدو‪ ،‬بأنه‬ ‫يحاكي بفخامته قصور الشام‪ ،‬أو أنه القصر الذي خلعت‬ ‫عليه جمالها األيام‪ .‬دخلنا بوابته‪ ،‬فشاهدنا مدفعين من‬ ‫الطراز القديم‪ ،‬يقال ألحدهما المنصور‪ ،‬غنمه األمير‬ ‫ن��واف من ابن الرشيد حين اكتساحه الجوف منه‪ ،‬ثم‬ ‫صعدنا درج� �اً مؤلفاً م��ن نحو ثالثين درج ��ة‪ ،‬ودخلنا‬ ‫مجلس األمير الخاص‪ ،‬فقابلنا نائبه عامر‪ ،‬وهو رجل‬ ‫طويل القامة‪ ،‬أسمر اللون‪ ،‬متقلد سيفا مفضضاً‪ ،‬وبعد‬ ‫أن حيانا‪ ،‬ومن مجلسه ادنانا‪ ،‬أمر بطعام‪ ..‬وبعد ذلك‬ ‫سألنا عامر أمرنا ومقصدنا‪ ،‬فقلنا ل��ه‪ :‬إن��ا من طلبة‬ ‫العلم الشريف‪ ،‬وأهل الشام‪ .‬وإنما هربنا من جندية ال‬ ‫نطيقها ألنا من ح ْمل َة األقالم وأنصار السالم‪ .‬فرحب‬ ‫بنا ووعدنا بمقدم األمير نواف خيرا»‪.‬‬ ‫يصف التنوخي دومة الجندل حاضرة منطقة الجوف‬ ‫في حينه وصفاً يستشهد فيه بما ورد عن هذه البلدة‬ ‫التاريخية في المعاجم وكتب التاريخ واألشعار‪ ،‬فينقل‬ ‫ما ورد حولها ويضيف إليها مشاهداته‪ .‬وق��د وصف‬ ‫دومة الجندل بقوله‪« :‬ويقال لها الجوف في أيامنا هذه‪،‬‬ ‫ثم تطلق الجوف على مجموعة القرايا التي قاعدتها‬ ‫دومة الجندل‪ ،‬كما تطلق تونس على القاعدة والعمالة‬ ‫التونسية‪ .‬وكان العرب يطلقون على دومة وتوابعها كلمة‬ ‫القريات‪ .‬وهي في غائط أو جوف من األرض‪ ،‬وبها عين‬ ‫تشج‪ ،‬ومبنية بالصفاح من الجندل‪ ،‬وأكثر القرى مبنية‬ ‫باللبن‪ ،‬وشاهدنا أنقاض سورها العظيم‪ ،‬وحصنها المنيع‬ ‫الذي ال يزال البدو يلقبونه بمارد‪ ،‬وهو مشيد على رابية‬ ‫علوها نحو عشرين مترا‪ ،‬ويقال أن نصفه األعلى مهدم‪،‬‬ ‫وأنقاضه ال ت��زال حول القصر‪ ،‬وسكان دوم��ة الجندل‬ ‫اليوم من قبيلة السرحان وغيرها من قبائل بادية الشام‬ ‫ونجد‪ .‬ودومة الجندل اليوم عبارة عن روضة مغروسة‬ ‫بالنخيل‪ ,‬وبها منه نحو سبعين ألف نخلة‪ ،‬يضرب بجودة‬ ‫ثمرها المثل‪ ،‬وي��زرع في تربتها الرملية الصلصالية‬ ‫الحنطة والشعير ما يكفي السكان‪ ،‬ويزرع الدوميون أو‬ ‫الجوفيون من الخضر الباذنجان والطماطم‪ ،‬وبها صنف‬


‫من القثاء يخال المرء أنه منسوب إلى العمالقة‪ ،‬ألن‬ ‫طول الواحدة يبلغ متراً أو أكثر‪ ،‬وقطرها نحو عشرة‬ ‫سنتمترات‪ ،‬وأرضها قابلة لزراعة كافة الخضر‪ ،‬ولغرس‬ ‫األشجار المثمرة‪ .‬وقد غرس األمير نواف بستاناً على‬ ‫ط��راز بساتين دمشق‪ ،‬فنما فيه التفاح واللوز والجوز‬ ‫والمشمش‪ ،‬ثم ذبلت أشجار البستان لجهل الفالحين‬ ‫بأصول البستنة»‪.‬‬ ‫«وثروة الجوفيين من النخيل‪ ،‬وهم يتعهدونه بالري‬ ‫وال�خ��دم��ة على ال���دوام‪ ،‬والنخل ط��وي��ل ال �ج��ذور‪ .‬وقد‬ ‫يستغني ع��ن ال�م��اء م��دة طويلة‪ ،‬ول��ه جلد على تحمل‬ ‫غمره بالماء مدة شهرين‪ ،‬كما يحصل بالبصرة‪ ،‬واألرض‬ ‫السطحية في سكاكة رملية‪ ،‬لكن جذور النخيل الطويلة‬ ‫تخترق الطبقة الرملية إلى الطينية الصفراء‪ ،..‬وقد‬ ‫راعني منظر نخيل الجوف البهيج عند وصولي‪ ..‬ولتمر‬ ‫الجوف شهرة ذائعة‪ ،‬وهو ذو أصناف جمة لذيذة جداً لم‬ ‫أذق‪ ،‬قبل أن رأيت الجوف في حياتي‪ ،‬تمراً ألذ منه»‪.‬‬ ‫«‪ ...‬واآلب��ار الواسعة ال تحصى في دوم��ة الجندل‬ ‫كثرة‪ ،‬وعمق البئر من سطح األرض إل��ى سطح الماء‬ ‫بضع قامات‪ ،‬وعمق الماء كذلك‪ ،‬وقطر فوهة البئر نحو‬ ‫خمسة أمتار أو أكثر‪ ،‬فالمياه غزيرة جداً تحت األرض‪،‬‬ ‫يظنها المتخيل بحراً‪ ،‬ولو نصبنا على هذه اآلبار روافع‬ ‫الماء ألجرينا في دومة نهرا»‪.‬‬ ‫«‪ ...‬وفي دومة الجندل من الصناعة حياكة العباءات‬ ‫ال�م�ش�ه��ورة ب��ال�ج��وف�ي��ة‪ ،‬وص�ن��اع��ة ال�س�ي��وف وأغمدتها‬ ‫المفضضة والمذهبة‪ .‬ويأتي إلى الجوف تجار من دمشق‬ ‫وبلدة قبيسة من العراق‪ .‬وفي سكاكة نحو من عشرين‬ ‫تاجراً أصلهم من النجف وغيرها‪ ،‬ويبيعون للبدو التمن‬ ‫(األرز) واألقمشة والتمور‪ ،‬ويشترون السمن‪ ،‬واألغنام‬ ‫والحمير ليرسلوها إلى العراق»‪.‬‬ ‫يشير التنوخي في سياق حديثه عن المنطقة إلى‬ ‫أنها كانت تابعة إلمارة ابن الرشيد في حائل‪ ،‬وأن أمير‬ ‫الجوف الشيخ نواف ابن الشيخ نوري الشعالن‪ ،‬شيخ‬ ‫الرولة من عنزة‪ ،‬قد حارب ابن الرشيد سنة ‪1326‬هـ‪،‬‬ ‫واستولى عليها على الرغم من مطالبة والده له بالكف‬

‫عن مهاجمة الجوف بسبب تهديدات الحكومة التركية‪.‬‬ ‫ويشير إلى أن الشيخ نواف مكث نحو سنة يهاجم دومة‬ ‫الجندل حتى فتحها عنوة‪ ،‬وصار من ذلك اليوم يلقب‬ ‫باألمير‪ ،‬وإنه قد دافع عن إمارته حتى استتب له األمر‪.‬‬ ‫وحول طريقته في الحكم يذكر التنوخي أن األمير كان‬ ‫يجلس كل يوم مقدار ساعة في مجلس عام يحضر فيه‬ ‫مئات القرويين والبدو‪ ،‬ويتحاكم أمامه الخصوم فيحكم‬ ‫بينهم بالعرف البدوي‪ ،‬وأنه كان يحيل األحكام المتعلقة‬ ‫باألحوال الشخصية إلى القاضي الشرعي‪.‬‬ ‫وال يوجد في الجوف إال قاض واحد ال يعرف حسب‬ ‫قول التنوخي إال المسائل الفقهية‪« ،‬وهو أعشى البصر‬ ‫ال يستفيد من الكتب الجمة الموروثة عن سلفه شيئاً‪،‬‬ ‫فإن الكتب موجودة في صندوق كبير بعضها مخطوط‬ ‫وبعضها مطبوع في مصر والهند‪ ،‬وقد أكل منها األرضة‬ ‫والغبار‪ ،‬وإن أكثر تلك الكتب سلفي من مؤلفات قامع‬ ‫البدع والخرافات اإلمام ابن تيمية‪ ،‬وتلميذه ابن القيم»‪.‬‬ ‫ويوجد قاض آخر في سكاكة ذكره التنوخي في سياق‬ ‫وصفه للبلدة‪ .‬وقد ذكر التنوخي أن األمير نواف انتدبه‬ ‫ليكون حكماً بين قاضي دومة الجندل وقاضي سكاكة‪،‬‬ ‫اللذين اختلفا ف��ي مسألة شرعية تتعلق بالفرائض‪.‬‬ ‫ويذكر التنوخي «أن أهل هذه البلدات حنابلة يعظمون‬ ‫الشيخ محمد بن عبدالوهاب الحنبلي جداً‪ ،‬لذلك فهم‬ ‫أقرب إلى الفطرة وأبعد عن الخرافات»‪.‬‬ ‫وي��ذك��ر التنوخي «أن األم �ي��ر ك��ان ش��دي��د التمسك‬ ‫بالدين‪ ،‬فال يترك الصلوات الخمس‪ ،‬ويأمر قومه بها‪،‬‬ ‫وإنه يؤدي صالة الجمعة في مسجد دومة الجامع القديم‬ ‫عهده‪ ،‬الذي يقال إنه عمري بناه عمر بن الخطاب ]‪،‬‬ ‫وال يزال‪ ،‬كسائر المساجد في صدر اإلسالم‪ ،‬مسقوفا‬ ‫بالجريد ومفروشاً بالحصى»‪ .‬ويذكر أيضاً أن لألمير‬ ‫ول��ع شديد بسماع العلم وأن��ه ق��رأ له شيئاً كثيراً من‬ ‫التاريخ والحديث‪ ،‬وأنهما قضيا ليالي في ق��راءة ألف‬ ‫ليلة وليلة وغيرها من أخبار العرب وأشعارهم‪ ،‬وأنه قرأ‬ ‫له مرة قصيدة عمرو بن كلثوم المعلقة « فكان يتمايل‬ ‫طرباً لمعانيها‪ ،‬ال سيما ما يتعلق بالحماسة»‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫‪9‬‬


‫خالل وجود التنوخي بالجوف وصل إليها مجموعة «كتب لي األمير نواف كتاب وصيته للسيد مهدي النجفي‪،‬‬ ‫كبير التجار في سكاكة‪ ،‬وذلك‬ ‫أخ � ��رى م ��ن ال��ه��ارب��ي��ن من‬ ‫ليرسلني مع القافلة الذاهبة‬ ‫ال�ن�ي��ر ال �ت��رك��ي ف��ي سورية‪،‬‬ ‫الش �ت��راء التمن م��ن العراق‪،‬‬ ‫وك��ان��وا م��ن ال�ن��اش�ط�ي��ن في‬ ‫كما أوص��ى األمير بي حاكم‬ ‫الحركة القومية العربية ومن‬ ‫سكاكة المعين عليها‪ ،‬واسمه‬ ‫المحكوم عليهم باإلعدام‪،‬‬ ‫ال� �غ� �ث� �ي ��ان‪ ،‬أح � ��د أف � � ��راد آل‬ ‫وكان منهم األمير المحامي‬ ‫ال�ش�ع�لان‪ ،‬وه��و ش ��اب‪ .‬ويوم‬ ‫عارف الشهابي‪ ،‬وعبدالغني‬ ‫السفر ودع��ت سمو األمير‪،‬‬ ‫ال �ع��ري �س��ي ص��اح��ب جريدة‬ ‫وس��رن��ا ص �ب��اح �اً وأن ��ا رديف‬ ‫ال �م �ف �ي��د‪ ،‬وت��وف �ي��ق البساط‬ ‫الغثيان على ذلوله‪ ،‬وكان معنا‬ ‫أح� ��د ض� �ب ��اط االحتياط‪،‬‬ ‫بعض أعيان سكاكة‪ ،‬ولم نبلغ‬ ‫وال��ش��اع��ر ال �ب �ي��روت��ي عمر‬ ‫حماها إال قبيل العصر بعد‬ ‫حمد‪ .‬وإذ رحب بهم األمير‬ ‫أن جزنا بين قرية قارة وبين‬ ‫وأك��رم وفادتهم‪ ،‬إال إنه بعد‬ ‫قرية الطوير‪.‬‬ ‫أن علم أن�ه��م م��ن المحكوم‬ ‫ع�ل�ي�ه��م ب���اإلع���دام‪ ،‬رأى أن‬ ‫وس��ك��اك��ة واق� �ع ��ة شمال‬ ‫مصلحته تقضي أن يغادروا‬ ‫ال� � �ج � ��وف‪ ،‬ف� ��ي ب �س �ي��ط من‬ ‫الجوف‪ ،‬ألنه لو علم األتراك‬ ‫األرض ف��ي ج��وف منخفض‬ ‫بذلك لتوترت عالقته مع األتراك في سورية التي يمتار محاط‪ ،‬كدومة الجندل‪ ،‬بالروابي واآلكام‪ ،‬ولذلك كانت‬ ‫منها قومه‪ .‬وك��ان ه��ؤالء يريدون الذهاب إلى الحجاز طيبة المناخ‪ ،‬ع��ذب��ة‪ ،‬واس�ع��ة ال�ط��رق‪ ،‬كثيرة الحدائق‬ ‫بنا ًء على اتفاق مسبق مع األمير فيصل بن الحسين‪ ،‬النخلية‪ .‬وبعد أن أنخنا ال��رواح��ل في حصن اإلمارة‪،‬‬ ‫ف��زوده��م األم�ي��ر بحاجتهم م��ن ال�م��ال وال���زاد‪ ،‬وأرسل توافد أهل البلدة للسالم على شيخهم الجديد‪ ،‬ومن‬ ‫معهم دليال إل��ى م��دائ��ن ص��ال��ح‪ ،‬التي منها سيذهبون جملة المسلّمين المهدي‪ ،‬فعرفني به الغثيان‪ ،‬وأوصاه‬ ‫إلى المدينة بواسطة سكة الحديد الحجازية‪ .‬قبضت ب��ي‪ ،‬وأعطيته رس��ال��ة ال��وص�ي��ة‪ ،‬ث��م انتقلت إل��ى داره‪،‬‬ ‫السلطات التركية عليهم واعدموا في بيروت شنقاً مع وبقيت شهر ربيع األول مكرماً بضيافته‪ ،‬وكأني من آل‬ ‫كوكبة من الشخصيات القومية في السادس من شهر بيته‪ .‬وبه تعرفت بسائر إخواننا العرب من تجار البلدة‬ ‫مايو ‪1916‬م‪.‬‬ ‫الذين أكرموني ج��داً‪ .‬وعثرت لديهم على نسخة من‬ ‫أما عن التنوخي نفسه فيذكر أن األمير نواف خيره ديوان شاعر قريش الشريف الرضي‪ ،‬فكنت أقرأ لهم‬ ‫بين اإلقامة لديه وبين السفر إلى العراق فاختار األخير‪ ،‬المرقصات من قصائده العصماء‪.‬‬ ‫فانتقل إلى سكاكة في طريقه إلى العراق‪ .‬مكث التنوخي‬ ‫ولهؤالء التجار في سكاكة جنائن من النخيل‪ ،‬وبينهم‬ ‫في سكاكة شهر ربيع األول من سنة ‪1334‬هـ(‪1916‬م)‪ ،‬تاجر من قبيسة‪ ،‬وكان السكاكيون يصلّون الجمعة في‬ ‫وفي أوائل شهر ربيع اآلخر غادرها في ركب من الصلبة م �ي��دان متسع م��ن األرض‪ ،‬ألن مسجدهم ك��ان يرمم‬ ‫متوجهاً إلى حيث أراد‪.‬‬ ‫يومئذ‪ ،‬فكان الخطيب يخطبهم واقفاً بال منبر‪ ،‬وهو‬ ‫يصف التنوخي رحلته إلى سكاكة وإقامته فيها بقوله‪ :‬ال يحسن العربية‪ ،‬فيلحن كثيراً‪ ،‬وهو مثل خطيب دومة‬

‫‪10‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫كالهما ال يذكر السلطان التركي في خطبته‪ ،‬وال يدعو إلى العراق لينقلوا أحمال التمن إلى سكاكة والجوف‪.‬‬ ‫له‪ ،‬وال يعترف بخالفته‪ ،‬وهما يدعوان الله بأن يصلح‬ ‫وص��ل التنوخي بعد شهر من مغادرته سكاكة إلى‬ ‫األحوال ويحسن المآل»‪.‬‬ ‫مقصده البصرة‪ ،‬منهياً بذلك هذه الرحلة التي قضى‬ ‫ويصف التنوخي السكاكيون بقوله‪« :‬والسكاكيون‬ ‫معظمها في منطقة ال�ج��وف‪ ،‬متجنباً بذلك المصير‬ ‫أس�ل��م أج �س��ام �اً‪ ،‬وأع �ظ��م آف��اق �اً م��ن ال��دوم�ي�ي��ن‪ ،‬فترى‬ ‫الذي أصاب رفاقه اآلخرين بمن فيهم رفيقة المباشر‬ ‫فيهم ال��وج��وه المقمرة الصبيحة‪ ،‬واألب ��دان الضخمة‬ ‫الصحيحة‪ ،‬والبدويات الرعابيب بحسن غير مجلوب‪ .‬جالل الدين البخاري‪ ،‬الذي شنق أيضاً في بيروت بزعم‬ ‫وبما أن سكاكة غير مسورة وال حصينة كانت عرضة أنه شوّق البدو إلى الثورة‪.‬‬ ‫للغزاة والمهاجمين‪ ،‬فاتخذ ك��ل سكاكي بيته حصناً‬ ‫إذ ركز هذا العرض على وصف التنوخي المباشر‬ ‫حفر فيه بئره وم�لأه بالمؤونة‪ ،‬والذخيرة‪ ،‬فحق عليه‬ ‫لما خ�ب��ره شخصياً ف��ي منطقة ل�ج��وف‪ ،‬إال أن نصه‬ ‫المثل االنكليزي القائل‪« :‬بيت االنكليزي قلعته» وبيوتهم‬ ‫قد جاء غنياً بالشواهد واالقتباسات التاريخية حول‬ ‫مشيدة باللبن‪ ،‬مدعومة بشجر األثل»‪.‬‬ ‫المنطقة‪ ،‬وبالمعلومات األثنوغرافية الغنية حول بادية‬ ‫غ��ادر التنوخي سكاكة في أوائ��ل شهر ربيع اآلخر‬ ‫‪1334‬ه � � �ـ(‪1916‬م) م��ع رك��ب م��ن الصلبة ال��ذي��ن كانوا المنطقة وقبائلها‪ ،‬وبأسلوب المطلع عل تاريخ العرب‬ ‫قدموا إلى سكاكة‪ ،‬في أواخر شهر ربيع األول الشتراء وتراثهم‪ .‬وبهذا المعنى تعد رحلته إضافة نوعية للبحث‬ ‫التمر‪ ،‬ثم يعودون لمنازلهم في البادية‪ ،‬ومنها يذهبون في التاريخ المحلي للمنطقة‪.‬‬

‫< أكاديمي وباحث سعودي‪.‬‬ ‫‪ .1‬عوض البادي‪« ،‬أهمية كتابات الرحالة األوروبيين لتاريخ منطقة الجوف»‪ ،‬الجوبة‪ ،‬العدد ‪.130-120 :2006 ،14‬‬ ‫‪ .2‬انظر حول كتابات الرحالة األوروبيين في منطقة الجوف‪ :‬عوض البادي‪ ،‬الرحالة األوروبيون في شمال الجزيرةالعربية‪ :‬منطقة‬ ‫الجوف ووادي السرحان ‪ ،1922 -1845‬ط‪(2‬بيروت‪ :‬الدار العربية للموسوعات‪.)2002 ،‬‬ ‫‪ .3‬حول ترجمته‪ ،‬انظر‪ :‬خيرالدين الزركلي‪ ،‬األعالم‪ ،‬مج‪ ،4‬ط‪(10‬بيروت‪ :‬دار العلم للماليين‪ ،)1992 ،‬ص ‪ .229‬وانظر ترجمته أيضاً في‬ ‫ال عن مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق‪ ،‬عدد ‪.541 -538 ،1966 ،41‬‬ ‫في كتاب رحلته نق ً‬ ‫‪ .4‬حول تاريخ هذه المرحلة‪ ،‬انظر‪:‬‬ ‫زين نور الدين زين‪ ،‬نشوء القومية العربية مع دراسة تاريخية في العالقات العربية التركية‪ ،‬ط‪(3‬بيروت‪ :‬دار النهار للنشر‪.)1979 ،‬‬ ‫جورج انطونيوس‪ ،‬يقظة العرب‪ :‬تاريخ حركة العرب القومية‪ ،‬ترجمة ناصر الدين األسد وإحسان عباس‪ ،‬ط‪( 6‬بيروت‪ :‬دار العلم‬ ‫للماليين‪.)1980 ،‬‬ ‫وثاق المؤتمر العربي األول ‪ :1913‬كتاب المؤتمر والمراسالت الدبلوماسية المتعلقة به‪ ،‬تقديم ودراسة وجيه كوثراني (بيروت‪ :‬دار‬ ‫الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع‪.)1980 ،‬‬ ‫‪ .5‬نشر عز الدين التنوخي وقائع رحلته التي حدثت في الفترة الواقعة بين أواخر شوال سنة ‪1332‬هـ (‪1914‬م) ونهاية ربيع اآلخر‬ ‫‪1334‬هـ (‪1916‬م) في حلقات في مجلة المقتطف المصرية‪ .‬نشرت الحلقة األولى وكانت بعنوان‪« :‬في بادية الشام» في عدد مايو‬ ‫‪1917‬م‪ ،‬ص ‪448-445‬؛ ونشرت الحلقة الثانية تحت عنوان‪« :‬الهزيم» في عدد يوليو ‪1917‬م‪ ،‬ص ‪38 -33‬؛ ونشرت الحلقة الثالثة‬ ‫تحت عنوان‪« :‬الدين في البادية» في عدد أغسطس ‪1917‬م‪ ،‬ص ‪124-119‬؛ ونشرت الحلقة الرابعة تحت عنوان‪« :‬طعام البلدية»‬ ‫في عدد أكتوبر ‪1917‬م‪ ،‬ص ‪336 -331‬؛ ونشرت الحلقة الخامسة تحت عنوان‪« :‬دومة الجندل» في عدد يناير ‪ ،1918‬ص ‪27-22‬؛‬ ‫ونشرت الحلقة السادسة تحت عنوان‪« :‬سكاكة» في عدد إبريل ‪ ،1918‬ص ‪.249-245‬‬ ‫جمعت هذه الحلقات وحققت ونشرت في كتاب جاء تحت عنوان‪ :‬الرحلة التنوخية‪ ،‬جمع وتحقيق يحيى عبدالرؤوف جبر (عمان‪:‬‬ ‫خاص‪.)1985 ،‬‬ ‫هذا وقد استقيت النصوص الواردة في هذه المقالة حول منطقة الجوف من هذا الكتاب مباشرة وبلغة كاتبها‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪11‬‬


‫أسئلة املغايرة في راهن الشعر املغربي‪:‬‬ ‫اإلبداع والذات والهوية‬

‫> د‪ .‬عبدالفتاح شهيد‬

‫<‬

‫لما سُ �ئ��ل محمود دروي ��ش ع��ن طريقة كتابة ال�ق�ص�ي��دة‪ ،‬ق ��ال‪« :‬القصيدة‬ ‫دائماً مفاجئة‪ ،‬تأتي في أسوأ األمكنة والحاالت النفسية‪ ،‬وعلى أكثر األوراق‬

‫فوضوية»(‪)1‬؛ بينما يرى أحد زمالئنا الشعراء أن الكتابة الشعرية‪« :‬حالة وعي‬ ‫ح ��اد»(‪ .)2‬ويظل س��ؤال الشعر محرجاً ومحرقاً للشعراء منذ األزل‪ ،‬إال أن ما‬

‫يحسب لشعر الحداثة‪ ،‬أنه خرج بهذا السؤال من مزالق التفاخر والتالسن الفج‪،‬‬ ‫ومنحه أبعاداً أخرى؛ انتقل خاللها الصراع من خارج الشعر إلى داخله‪ ،‬وبين قوة‬ ‫القصيدة وقوة الشاعر‪ ،‬تستمر فعالية العملية الشعرية وتألقها‪.‬‬ ‫وحين سُ ئل بشار بن برد‪ :‬بم فُقتَ أهل عصرك؟ قال‪« :‬ألني لم أقبل كل ما‬ ‫تورده علي قريحتي‪ ،‬ويناجيني به طبعي‪ ،‬ويبعثه فكري‪ ..‬ال والله‪ ،‬ما ملك قيادي‬

‫قط اإلعجاب بشيء مما آت��ي ب��ه»(‪ .)3‬فالشاعر في خ�لاف مستمر مع الذات‬ ‫قبل االختالف مع اآلخر‪ .‬يشاكسها ويناورها باستمرار‪ ،‬ليستحث سائر طاقاتها‬ ‫النفسية واإلبداعية‪ ،‬الستكشاف أعمق معانيها وأجمل ما لديها‪.‬‬ ‫ويتساءل بعضهم ف��ي ان��دف��اع م��ادي كبير‪« :‬أل��م يكتب الشعر ف��ي القضية‬ ‫الفلسطينية أكثر مما كتب في أي قضية أخرى من قضايا العالم؟ ما الذي فعله‬ ‫الشعر؟ لم يحرز نصراً‪ ،‬ولم يدفع العرب إلحراز النصر‪ ،)4(» ..‬وهو تساؤل يعكس‬

‫إدراك لوظيفة الشعر‪ ،‬وعالقة الشاعر بأسئلة الهوية التي يناوشها‬ ‫ٍ‬ ‫حالة عدم‬ ‫دائماً؛ فهي جزء من ذاته ال تنفك عنه وال ينفك عنها‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫إن أسئلة الشعر ال��ذات الهوية التي عرضناها ا‪ ..‬لـ‪ ..‬و‪ ..‬د‪ ..‬ا‪ ..‬ع‪.‬‬ ‫في هذا المدخل تشكل بنيات أساسية في تجارب‬ ‫شعرائنا ال�ش�ب��اب‪ ،‬ال�ت��ي ن��راه��ن عليها جميعا في‬ ‫تحقيق آمالنا في إعطاء الشعر نضارته‪ ،‬والخروج‬ ‫به من منتدياته الضيقة إلى آفاق التلقي الواسعة‪.‬‬ ‫وذلك ال يتحقق دون تفعيل القراءة التحليلية النقدية‪،‬‬ ‫التي تستكشف وتغني وتؤسس «دائماً لبدايات كالم‬

‫(‪)5‬‬ ‫آخر» بتعبير أدونيس‪ .‬وليست القراءة المعيقة التي‬ ‫(‪)6‬‬ ‫يحسب معها الشاعر نفسه «ليس بحاجة للنقد» ‪.‬‬

‫والتركيز على تجارب دون أخرى ال يعني نضوبا في‬ ‫باقي التجارب الشبابية الكثيرة‪ ،‬بل هو فقط اختصار‬ ‫وتمثيل‪ ،‬يرافقه «سعي لوصول مجرى نهر كبير ال‬

‫(‪)7‬‬ ‫التحديق في ضفة من ضفتيه» ‪.‬‬

‫سؤال الشعر واإلبداع‪:‬‬

‫فهذا التشتت للغة والحرف (المعبر عنه بصرياً‪،‬‬ ‫أي �ض �اً)‪ ،‬يعكس ضيقاً ع��ن تحمل مكابداته‪ .‬وليس‬ ‫األمر ها هنا أن الشاعر «ينتحر أمام عجزه‪ ،‬حيث‬

‫(‪)9‬‬ ‫المحنة كاملة وهو يواجه تم ّن َع اللغةِ واستعصاءَها» ‪،‬‬

‫وإنما هي رغبة النفوس الكبيرة التي تتجاوز األشياء‬ ‫القريبة‪ ،‬مما يقع بين يديها إلى صياغة العالم كله‬ ‫صياغة شعرية في بيت أو قصيدة‪ .‬فيعيش متمزعاً‬ ‫بين البوح والكتمان في لعبة القبض على أكثر األشياء‬ ‫تمنعاً وأبعد األحاسيس غوراً‪ ،‬وفي حالة صراع دائم‬ ‫مع هذه اللغة القصيدة(‪:)10‬‬ ‫أبدو متعب ًا من دونها‬ ‫وأمكث الليل بطوله‬ ‫أقترح خدي على الوسادة‬

‫ظلت أسئلة اإلب��داع حاضرة في الشعر العربي كأني أصارع شبح ًا‬ ‫القديم‪ ،‬فيما عُرف بالبطولة الشعرية لدى أبي تمام ما استطاع أحدنا‬

‫ومن حذا حذوه‪ .‬إال أن هذه األسئلة اكتسبت أبعادا أن يدع اآلخر‬ ‫مغايرة في تجارب شعرائنا‪ ،‬الذين يشتد أرقهم حين لينام بسالم‬ ‫يجدون اللغة أو القصيدة غير قادرة على تحمل فيض‬

‫فالصراع مرير‪ ،‬بين الوسادة التي يريد أن يضع‬

‫الذات الغامر‪ ،‬فيزداد التردد بين الكالم والبوح‪ ،‬مما عليها خده الراغب في البوح‪ ،‬ورأسه المثقل باألفكار‬ ‫(‪)8‬‬ ‫يعبر عنه الشاعر سعيد ياسف ‪:‬‬ ‫والمعاني‪ ،‬وبين الشاعر الذي يؤدي وظيفة التبليغ‪،‬‬ ‫حين أزهرت أشجار الكالم‬

‫والقصيدة التي يشبّهها بالرعد ال �م��دوّي والشبح‬

‫كان سيبوح بالذي تكبدّ ه‬

‫المرعب‪ .‬ودون أن يدع أحدهما اآلخر يستكين‪ ،‬يظالن‬

‫لوال هذه الحروف‬

‫في صراع مستمر‪ ،‬ال ينتهي إال ليبدأ من جديد‪ ،‬في‬

‫التي كلما استجار بها‬

‫وعي وإدراك ألسرار العملية الشعرية‪ ،‬التي ال تنتهي‬

‫تضيق‬

‫مع آخر نقطة في آخر قصيدة‪ ،‬بل تتشكل من عالم‬

‫أية لغة هذه التي غرّبتْه؟؟‬

‫«من التقابالت والتداخالت بين أفكار وآراء متضادة‬

‫لم يكن ثمة قربه‬

‫ومتناقضة» ‪ .‬فتظل أسئلة اإلبداع ترهق الشاعر‬

‫سوى‬

‫ويرهقها؛ يعرف حيناً مصدرها‪ ،‬ويجهل أحياناً كثيرة‬

‫(‪)11‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪13‬‬


‫ال ووصالً‪ ،‬عالئق وقطائع‪ ،‬بدءا‬ ‫منابعها ومساربها؛ يقتنصها ليمتلكها مرة‪ ،‬وتقتنصه «تكويناً وتكوناً‪ ،‬فص ً‬ ‫لتهرول به في إس��ار المجهول م��رات أخ��رى‪ ،‬فتظل ونهاية؛ بسبب أنه زئبقي من جهة عالقته بالوعي‬ ‫لألسئلة حينيتها وحرقتها ل��دى فاطمة الزهراء وبالالوعي»(‪.)14‬‬

‫بنيس(‪:)12‬‬

‫ترهقني أسئلة الكتابة‬ ‫من أين تشرق هذي الكلمات‬ ‫المعتقة بالصعب والمحال؟‬ ‫كيف تقنصني هذه األفكار؟‬ ‫المهرولة بي نحو الجنون؟‬ ‫لم أخيّر‪..‬‬ ‫ما بين الغوص في التفاصيل المملّة‬ ‫والوعي بجمر المتاهة؟‬ ‫إال أن بعض التجارب الشبابية تظن أنها قبضت‬ ‫على كل األش�ي��اء‪ ،‬وولجت «مملكة الشعراء» تعزف‬ ‫سمفونية اإلبداع متى شاءت وأنى تشاء‪ .‬وهو ما يبدو‬ ‫واضحاً على طول ديوان الشاعرة إلهام زويريق(‪:)13‬‬ ‫أتنقل بين شطآن القصيدة‬ ‫أستجمع نوار الكلمات‬ ‫أصوغه إكليل محبّة‬ ‫لهذا المساء الجميل‬

‫سؤال الذات والوجود‪:‬‬ ‫يميز الشاعر الناقد محمد السرغيني بين «أنا»‬ ‫ال�ش��اع��ر ال �م �ح��دودة‪ ،‬و«أن� ��ا» ال�ش�ع��ر‪ ،‬ذات األبعاد‬ ‫ال�م�ت �ع��ددة‪ .‬إال أن ال�ف�ص��ل والتمييز بينهما أثناء‬ ‫القصيدة ال يتأتى س �ه�لاً؛ م��ا يجعل ح�ض��ور األنا‬ ‫محموماً ب�ق��وة األس�ئ�ل��ة وإل�ح��اح�ه��ا‪ ،‬م��ن قبيل‪ :‬هل‬ ‫حضور األنا الشاعر انكفاء عن الذات في ظل واقع‬ ‫االنحسار واالندحار؟ أم إن مجادلة الذات ومجالدتها‬ ‫نوع من التطهير يغتسل به الشاعر للرقي إلى منازل‬ ‫المالئكة واألنبياء؟ وهل تردد األنا اإلنسان نوع من‬ ‫المونولوغ‪ ،‬ال��ذي يريد به االستعاضة عن الفوضى‬ ‫والصخب‪ ،‬لإلنصات إلى آالم الذات وآمالها؟ تتناسل‬ ‫األسئلة على هذا المنحى‪ ،‬وال نمتلك إجابات جاهزة‪،‬‬ ‫في شعر يتبنى المغايرة والتمنّع أو هكذا أردن��ا له‬ ‫على ك��ل ح��ال؛ فيبدأ م��ن ال ��ذات ويسائل وجودها‬ ‫الفيزيقي‪ ،‬ال��ذي يشكّله الجسد بكل أبعاده القابلة‬ ‫للقياس‪ .‬وهي مساءلة يدرك الشاعر نور الدين بازين‬

‫(‪)15‬‬ ‫حيث تمارس المناسبة سلطتها على الشاعرة‪ ،‬مما أسرارها وإجرائياتها‪ ،‬يقول ‪:‬‬

‫يغريها بامتالك القصيدة وهي الزالت في مطلعها‪ ،‬إن جسدي تالشى‬ ‫وليس العكس‪ .‬فتحكم عليها بالموت قبل الوالدة؛ إذ مع هباء الليل‬ ‫إن المقطع ٍ‬ ‫خال من التساؤل‪ ،‬وال يعبر عن أي معاناة‪ ،‬وأني كرهت‬ ‫وأي إدراك للرؤيا التي يجب أن تنطلق غامضة‪ ،‬وال رائحة نهاري‬

‫تتوضح إال مع نهاية رحلة اإلب ��داع‪ ،‬إن كانت لهذه جاثم ًا على صدري‬ ‫الرحلة نهاية‪ .‬وهو توجّ ه يطبع ديوان الشاعرة طرا‪ ،‬حيث يدون الرصيف‬ ‫ما يشكل خطورة كبيرة على التجربة الشعرية التي ال جلساتي‬ ‫يجب أن تنتهي في اإلبداع إلى قول فصل وقبض تام ببكاء األماكن الشاحبة‪..‬‬

‫‪14‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫فنالحظ في المقطع هذا الصراع بين الحضور الغياب والكتمان(‪:)19‬‬ ‫ال �ق��وي ن�ح��وي�اً ل�لأن��ا (ض�م��ائ��ر ال�م�ت�ك�ل��م)‪ ،‬والغياب ولكنك‬ ‫المستمر معجميا للجسد‪ ،‬الذي يصير طيفا مندثرا‪ ،‬تأخرت دقّ ة قلب‪..‬‬ ‫في دوامة الزمان والمكان‪ ،‬التي أرقت الشعراء مند يا بثينتي المستحيلة‪..‬‬ ‫زمان بعيد‪ ،‬الزمان الذي يشكل تواتره الحقيقة األزلية بعد رمشة عين‬ ‫ونهاية ميتافيزيقية‪ ،‬يرسم فيها الموت نهاية آلمال سأعود إلى أصلي التراب‪..‬‬ ‫وآالم الشاعر‪ .‬ثم المكان ال��ذي «ينحني‪ ،‬ويتداخل‪ ،‬فادفني سر نعيي‬

‫وينتقل‪ ،‬ويحير‪ ،‬وي�ض�ي��ع»(‪ .)16‬إذ من المكان «تأتي في بئر الكتمان‬ ‫مفاجآت السقوط»(‪.)17‬‬

‫ويتخذ االنكفاء عن ال��ذات وتبريز معاناتها مع‬ ‫ال��زم��ان‪ ،‬خصوصا دالالت أخ��رى يختلط فيها لدى‬

‫واحذري كبوة العين‬ ‫إن باغتك فضول الجيران‬ ‫وفي تماه تام بين واقع الموت الذي ينهي كل حلم‬

‫ال�ش��اع��ر ال �م��رح��وم محمد رزق ��ي ال��واق��ع باإلبداع جميل‪ ،‬وفنية القصيد التي تبتر كل معنى مسترسل‪،‬‬ ‫(‪)20‬‬ ‫وه��واج��س وض��وح اللحظة‪ ،‬بهموم مجهول اللحظة تخنق الشاعر أحزانه وويحاته ‪:‬‬ ‫(‪)18‬‬ ‫يا جرح عمري‪:‬‬ ‫التي تليها ‪:‬‬ ‫آه‪..‬‬

‫يرحل العمر الجميل‬

‫لو تستطيع اليدان‪..‬‬

‫كحلم األصيل!‬

‫بت قدم الثواني‬ ‫لعط ُ‬ ‫َّ‬

‫يا ويح شعري‪:‬‬

‫أوقفت عقرب العمر‬ ‫ُ‬

‫تنتهي القصيدة!‬

‫على طفلين‬

‫وما نويت‬

‫شيّدا فوق سطح الجيران‬

‫جملتي المفيدة!‬

‫سد مأرب‬ ‫ضد طوفان الزمان‬

‫إن ال�ع��ودة إل��ى ال��ذات ع��ادة ما تكون في الشعر‬ ‫العربي لحظة للمفاخرة‪ ،‬ال تتجاوز السطحية إلى‬

‫فيمارس الزمان سلطته وسطوته على الشاعر‪ ،‬عمق النفس اإلنسانية‪ ،‬وأسرار الجسد الذي يمتلك‬ ‫يرى معها نهايته قريبة‪ ،‬فيطلق آهة مريرة‪ ،‬تتلوها طاقات كبيرة للتحول واالستعاضة‪ .‬وفي مغايراتهم‬ ‫تمنيات يبدو خاللها ضعف اإلن�س��ان أم��ام طوفان المستمرة يحاول شعراؤنا مساءلة وم�ج��اوزة أكثر‬

‫الزمان الجارف‪ .‬فال يمتلك إال البكاء واألنين في األسئلة إحراجا لهذه ال��ذات‪ ،‬ومنها أسئلة الزمان‬

‫انتظار الحقيقة الوجودية الماثلة أمامه‪ .‬وتستحيل والمكان والموت‪ .‬رادي��ن للجسد مكانته التي ظلت‬ ‫األزم �ن��ة الطويلة م��ع م�س��ار القصيدة رم�ش��ة عين‪ ،‬الروح لفترة طويلة تستبد بها‪ .‬وإن كنا نخاف من جالل‬ ‫س��رع��ان م��ا س�ي�ت��وارى الشاعر بعدها ف��ي أحضان الموت وجبروته أن يعانق القصائد معانقة مباشرة‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪15‬‬


‫يستعاد خاللها بعثه‪ ،‬ال لبناء حياة أشمل وأجمل‪ ،‬بل الذي يخلقه الشاعر بعيداً عن اليومي والواقعي‪..‬‬ ‫لتذوق مرارته مع كل كتابة أو قراءة جديدة‪ ،‬ما يجعل ولعل هذا األمل المتجدد في خلق عالم متغيّر تنبعث‬

‫النصوص تتصف بحتمية ومباشرة(‪:)21‬‬

‫فيه األشياء انبعاثات غير مسبوقة‪ ،‬وبعالقات جديدة‬

‫‪ ...‬الباب‬

‫تنطوي عن معرفة بأسرار العملية الشعرية‪ ،‬وسعي‬

‫ذابل‬

‫حثيث نحو الخلق واإلبداع والمغايرة‪ ،‬وهو ما المسته‬ ‫(‪)23‬‬

‫مشرع على العزاء‬

‫إلهام زويريق ‪:‬‬

‫‪ ..‬والكراسي‬

‫أكتب على ممرات سجنك‬

‫جاثمة على الجدار القديم‬

‫بقايا آمال‬

‫‪ ..‬والداخل‬

‫أستنفر الهمم المشدوهة‬

‫حزن رتيب‬

‫أشق عنك رياح ًا‬

‫لا ف��ي النص‪ ،‬تلوك المساء‬ ‫إن��ه ال �ح��دث ال ��ذي ي�ظ��ل م�س�ت��رس� ً‬ ‫مستبداً بنفس الشاعر اإلنسان‪ ،‬دون أن يتمكن من أحمل على سعفاته‬

‫تحويله إلى وقائع شعرية خالصة‪ ،‬بواسطة كيمياء أقواس قزح‬ ‫السؤال التي تحيل العالم كله بقوته وشساعته لحظة مخاضها‬ ‫شعر في غاية الصفاء والتجريد‪.‬‬

‫سؤال الهوية‪:‬‬ ‫من الباحثين مَن يرى أن شعراء جيل الستينيات‬ ‫كانوا «أكثر تعاطيا مع قضاياهم على الرغم من عدم‬ ‫وج��ود وسائل لالتصال وقنوات األخبار والصحف‬ ‫وقتها‪ ...‬وم��ع ه��ذا ف��إن الشعر في تلك الفترة كان‬

‫أكثر حضورا من اآلن»(‪ .)22‬وفي الحقيقة فإن تجارب‬ ‫شبابنا الكثيرة والمتنوعة قمينة بالرد على مثل هذا‬ ‫ال��رأي‪ .‬ومهما كانت محدودة في الزمان والمكان‪،‬‬

‫فيبقى للتجربة تألقها وجمالها‪ ،‬وإال فإن الشاعر ال‬ ‫يخلق مناضلين‪ ،‬وال يضع قنابل موقوتة‪ .‬بل إن الشعر‬

‫أهازيج للفجر اآلتي‬ ‫إذ تبدو الشاعرة قوية تفعل في األشياء وتغيّر‬ ‫فيها بواسطة مجموعة األفعال األقفال في الزمن‬ ‫ال �م �ض��ارع‪ ،‬ال ��دال على االس�ت�م��راري��ة ف��ي الحاضر‬ ‫وال�م�س�ت�ق�ب��ل (أك �ت��ب أس�ت�ن�ف��ر أش ��ف أح��م��ل)‪ .‬وفي‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فبدايات هذه الجمل تلخص مهمة الشاعر‪،‬‬ ‫فهو دائم الكتابة؛ والكتابة ليست لغوا من الحديث‬ ‫أو عمال للمترفين‪ ،‬ب��ل ه��و اح�ت��راق دائ��م‪ ،‬يستنفر‬ ‫بنقل الحرقة إلى غيره‪ ،‬وحثهم على الحركة والفعل‪.‬‬ ‫فيكون الشق نوعا من القدرة على الكشف عن أعماق‬ ‫األش�ي��اء لكشف حقائقها؛ ث��م تأتي المهمة األكبر‬ ‫واألعظم‪ ،‬وهي حمل هذا الثقل المجسّ د في أقواس‬

‫له عوالمه الخاصة‪ ،‬التي يعيد من خاللها ترتيب‬ ‫األشياء‪ ،‬وإعادة تنسيق الوعي الفردي والجماعي مما قزح‪ ،‬أمال في حياة أخرى وضوء ونور جديدين‪.‬‬ ‫ال نرى نتائجه إال بعد أجيال‪ ،‬ويبقى العالم الجمالي‬

‫‪16‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫وتبقى القضية الفلسطينية الجرح الدامي‪ ،‬الذي‬


‫ما زال ينخر في جسد األمة العربية‪ ،‬وظل حاضرا تماه مع أي نموذج‪ ،‬مهما بدا ساميا؛ ويدل ثانياً‪،‬‬ ‫(‪)24‬‬ ‫بقوة في تجارب شعرائنا ؛ ما يتسع كثيرا عن تتبع ع��ن رغ�ب��ة ف��ي إض�ف��اء أب�ع��اد ج��دي��دة على الذات‬

‫بنياته‪.‬‬

‫ال��ش��اع��رة‪ ،‬الرت� �ي ��اد آف� ��اق ال �ت �ج��ري��ب ومغامرات‬

‫وفي الختام‪ ،‬فقد ظلت أسئلة اإلب��داع والذات العطاء والبحث العمودي الذي ال ينتهي‪ ،‬ويعكس‬ ‫وال�ه��وي��ة تلقي بظاللها على ال�ت�ج��ارب الشعرية ثالثاً‪ ،‬تمسكا بالهوية والدفاع عن ثوابتها القومية‬

‫الشبابية في المغرب؛ ما يعبر أوالً‪ ،‬عن نوع من واإلسالمية‪ ،‬لرد الشعر إلى مكانه الحقيقي في‬ ‫االنتماء الفني لعالم الشعر‪ ،‬دون أي انبتار عن شعور والشعور األف��راد والجماعات‪ .‬إال أن هذه‬ ‫األص��ول باسم الحداثية وال�ث��وري��ة على األنظمة التجارب على سموقها في مدارج اإلبداع‪ ،‬تبقى في‬

‫ال�ق��دي�م��ة‪ .‬ف�لا تعني ال�ح��داث��ة تهشيم ك��ل عالقة حاجة إلى تشذيب متفاعل وحوار متواصل‪ ،‬ينصت‬ ‫ب��األص��ول‪ ،‬ب��ل االن�ط�لاق منها لبناء ص��رح شعري فيه الشاعر إلى سكون ال��ذات المبدعة‪ ،‬وصوت‬ ‫يعي دون جهل‪ ،‬ويغير دون اجتثاث‪ ،‬ويجدد دون المتلقي في تنوعه المتعاقب والمغني‪.‬‬ ‫< باحث من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )1‬التصور المنهجي ومستويات اإلدراك‪ ،‬د‪.‬أحمد الطريسي أعراب‪ ،1989 ،‬ص‪.16‬‬ ‫(‪ )2‬الكلمة للشاعر الليبي سالم العوكلي في جلسة مع الكاتب‪.‬‬ ‫(‪ )3‬مقدمة الشعر العربي‪ ،‬أدونيس‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1979 ،3‬ص‪.42-41‬‬ ‫(‪ )4‬الشعر والناقد‪ ،‬د‪.‬وهب رومية‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬شتنبر ‪ ،2006‬ص‪.16‬‬ ‫(‪ )5‬كالم البدايات‪ ،‬أدونيس‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬ط‪ ،1,1989‬ص‪.190‬‬ ‫(‪ )6‬العبارة ألحد الشعراء الشباب‪ ،‬في حوار معه على موقع الكتروني‪.‬‬ ‫(‪ )7‬التجربة الشعرية المغايرة والنقد الغائب‪ ،‬محمود السرساري‪ ،‬الموقف األدبي‪ ،‬ع‪ ،424‬آب‪.2006‬‬ ‫(‪ )8‬ديوان «كي أدرك أنحائي»‪ ،‬سعيد يسف‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،2004 ،‬ص‪.36‬‬ ‫(‪ )9‬بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد‪ ،‬محمد عدناني‪ ،‬عالم الفكر‪ ،‬يناير‪ ،2006‬ص‪.102‬‬ ‫(‪« )10‬كي أدرك أنحائي»‪ ،‬ص‪.18‬‬ ‫(‪ )11‬التصور المنهجي‪ ،‬ص‪.18‬‬ ‫(‪ )12‬ديوان‬ ‫(‪ )13‬ديوان «رغم أنف أبي»‪ ،‬الهام زويرق‪ ،‬منشورات أفروديت‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.34‬‬ ‫(‪ )14‬الشعر والتجربة‪,‬د‪.‬محمد السرغيني‪ ،‬الوحدة‪ ،‬يونيو‪ ،1991‬ص‪.128‬‬ ‫(‪ )15‬ديوان «على باب معالي الكالم»‪ ،‬نور الدين بازين‪ ،‬منشورات جماعة الديوان‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص‪.19‬‬ ‫(‪ )16‬مقدمة للشعر العربي‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫(‪ )17‬المرجع نفسه‪ ،‬والصفحة ذاتها‪.‬‬ ‫(‪ )18‬ديوان «بحبر الروح»‪ ،‬محمد رزقي»‪ ،‬المطبعة الوطنية‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.74‬‬ ‫(‪ )19‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.77-76‬‬ ‫(‪ )20‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.60‬‬ ‫(‪ )21‬ديوان «دفتر الموتى»‪ ،‬ادريس علوش‪ /‬على موقعه االلكتروني‪.‬‬ ‫(‪ )22‬الشعر والقضايا الجادة‪ ،‬سيف المري‪ ،‬جواهر‪ ،‬دجنبر‪ ،2006‬ص‪.5‬‬ ‫(‪ )23‬ديوان «رغم أنفأبي»‪ ،‬ص‪.43‬‬ ‫(‪ )24‬ينظر‪» - :‬كي أدرك أنحائي»‪ ،‬في مواقع متفرقة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪17‬‬


‫احلداثة السردية‪ :‬مقدمة في مظاهر اإلتصال واإلنفصال‬

‫في اخلطاب القصصي العربي‬

‫> إبراهيم الكراوي‬

‫<‬

‫تطمح هذه الدرﺍﺳﺓ إلى اكتشاف تجليات خطاب الحداﺛة في القصة العربية‪ ،‬وإضاءة المفهوم‬ ‫نفسه الذي أصبح يثير مجموعة من األسئلة‪ ،‬المتعلقة بمفهوم الكتابة السردية الجديدة بالمغرب‬ ‫وآفاقها‪ ،‬ثم العالئق التي تنسجها مع العالم‪ .‬بل إن هذا الخطاب‪ ،‬سيحاول مساءلة مفهوم‬ ‫الكتابة ذاته‪ ،‬كما طرحه النقد الجديد‪ ،‬ومن خالل هاجس البحث عن أنساق مغايرة‪ ،‬وخلخلة‬ ‫األسئلة المألوفة‪ ،‬ثم عالقة الذات الكاتبة بفعل الكتابة‪ .‬هذه القضايا وأخرى ترتبط بالبنيات‬ ‫الخطابية سنحاول موقعتها داخ��ل الخطاب النقدي‪ ،‬ألن مجموعة من النصوص شكلت أفقا‬ ‫خصبا لمعالجتها‪ .‬وفي هذا اإلطار‪ ،‬سنختار ‪ -‬على المستوى التمثيلي ‪ -‬إحدى التجارب التي‬ ‫راكمت منجزا خاصا ومميزا في المشهد القصصي العربي؛ وفضالعن ذلك‪ ،‬فإنها تمثل وترتبط‬ ‫بهذه القضايا‪ ،‬خاصة وأنها حاولت بلورة مفهوم الكتابة السردية الجديدة في المغرب ممارسة‬ ‫وتنظيرا‪ .‬يتعلق األم��ر إذاً في هذه الدراسة‪ ،‬بمقاربة خطاب الحداثة في مجموعة «برتقالة‬ ‫للزواج‪ ..‬برتقالة للطالق «للقاص والروائي جمال بوطيب‪.‬‬

‫خطاب االستهالل وفخاخ القراءة‪:‬‬ ‫يتمثل خطاب االستهالل ‪ -‬سواء في النص القصصي أو الروائي ‪ -‬بوصفه وحدة مستقلة‬ ‫نسقيا ومقطعيا‪ .‬إنها تدشن عملية التواصل بين مرسل الخطاب السردي والمرسل إليه (المتلقي)‪،‬‬ ‫وتوجّ ه‪ ،‬من ثم‪ ،‬فعل التواصل نحو بناء سردية للخطاب نفسه‪ ،‬تروم اإليقاع بالقارئ في فخاخ‬ ‫غواية النص‪ ،‬اإلستمرار في فعل القراءة وإع��ادة إنتاج النص‪ .‬هكذا يفتح عنوان النص األول‬ ‫«خالص» يدشن المجموعة؛ إنه يؤشر لهاجس يؤرق الذات‪ ،‬وعالمة تفتح أفق خطاب محتمل‪.‬‬ ‫وخطاب االستهالل يلقي الضوء جليا على ه��ذه الهواجس المؤرقة‪ ،‬من خ�لال استثمار بنية‬ ‫الحوار المشهدي الموسم بأبعاد درامية‪ .‬وهي بنية تلتقط لحظة خاصة ينطلق عبرها المسار‬ ‫السردي‪« :‬ما بال عينيك ترمقاني في حنق؟ قلت للوجه الخالسي اآلسر‪ :‬أهوى العتاب‪ .‬لم يرد‬ ‫الوجه قائال‪ .‬قلت متوسال‪ :‬خلصني إذاً ورخص ألشواقي العليلة بالرحيل‪ .‬رد الوجه الخالسي‬ ‫اآلسر مشترطا‪ :‬خالصك في أن تبتلي الليل! الليل يا سيدي ابتلى الشعراء‪ ،‬فكيف أبتليه أنا‬

‫‪18‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫الواهن المهزوم؟! أوث��ق نجومه وأثقب قمره‪ .‬أفي‬ ‫هذا خالصي؟ خالصك في أن تلوث باألبيض ظلمة‬ ‫(‪)1‬‬ ‫الليل ونومي وأحالمك ‪ .‬يستثمر خطاب االستهالل‬ ‫هنا مكون الحوار‪ ،‬ويضعنا داخل مشهد محاورة بين‬ ‫الذات ‪ -‬السارد‪ ،‬واآلخر األنثى‪.‬‬ ‫إن ال�ح��وار هنا يبلور وج�ه��ات نظر‪ ،‬وي�ع��ري عن‬ ‫أص ��وات وم��واق��ف م��ن ال�ع��ال��م‪ ،‬نكتشف م��ن خاللها‬ ‫أغوار الذات في عالقتها بالعالم‪ .‬فالذات العاشقة‬ ‫تعيش لحظة حياة جمالية‪ ،‬لحظة تقاطع موسومة‬ ‫بقلق الذات‪ ،‬وهاجس تشكيل أنساق الكتابة والتفاعل‬ ‫معها‪ ،‬وذلك بوصفها واحدة من اآلليات التي يتشكل‬ ‫عبرها خطاب االستهالل‪ .‬وتتخلل ه��ذا الخطاب‬ ‫التواصلي وظائف تعمل على احتواء بنيات جمالية‬ ‫أخرى‪ .‬فبعد عملية التأثير على المتلقي من خالل‬ ‫تشكالت خطاب االستهالل‪ ،‬يدشن السارد خطابه‬ ‫بمصدر‪ ،‬ع��وض�اً ع��ن الفعل‪ ،‬وم��ن ث��م يرسخ فرادة‬ ‫الواقعة التي عاشها السارد؛ ومما يدل على ذلك نفي‬ ‫وقوعها في الزمن‪ ،‬فالحدث أو الواقعة ينفرد بها‬ ‫السارد‪ .‬ويترسخ البعد التواصلي ال��ذي يرمي إليه‬ ‫السارد من خالل بناء نسقية الخطاب‪ ،‬متمثلة في‬ ‫نظام العالمات الذي يؤثث فضاء خطاب االستهالل‬ ‫فندق‪/‬مصحة‪/‬خمسة‪/‬نجوم‪ /‬وهي الفئة األولى من‬ ‫العالمات التي تنتج ألثر معنى هو مأساوية وغرابة‬ ‫الواقعة التي سيحكيها السارد‪.‬‬

‫بناء فعل هذا التواصل مع العالم‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫ت �ج��اوز اإلن �ف �ص��ال ال ��ذي وس��م ع�لاق��ة ه��ذه الذات‬ ‫ب��اآلخ��ر‪ ،‬إل��ى فعل اإلت�ص��ال م��ع العالم‪ ،‬متمثال في‬ ‫اللفظ المكون للعنوان‪« :‬خالص» الكلمة الذرية في‬ ‫النص‪ ،‬ه��ذا األخير يتمظهر كأفق لفضاء العنوان‬ ‫وتمطيط لمحتمالت المعنى‪ .‬لكن أي خالص تبحث‬ ‫عنه ال��ذات؟ إن الكتابة من خالل بنية الحوار هذه‬ ‫والتي تعكس هاجس خطاب الحداثة‪ ،‬بحث وحفر‪،‬‬ ‫استبطان للذات‪ ،‬واستكناه ألعماقها‪ .‬وهي تشريح‬ ‫لوضعية الذات المتشظية في عالم الواقع‪ ،‬بوصفه‬ ‫واقعا مفككا موسوما بالمفارقات‪.‬‬ ‫إن سؤال الخالص هنا سؤال وجودي‪ ،‬سؤال قلق‬ ‫ال ��ذات‪ ،‬وه��و ال ينفصل ع��ن أسئلة الكتابة وحدود‬ ‫خطاب الحداثة‪ .‬ف االستهالل داخل هذا الخطاب‬ ‫ كما يتبين من خ�لال المقاطع السابقة ‪ -‬إحالة‬‫على تدمير الموضوع النصي‪ ،‬وفي اآلن ذاته يضاعف‬ ‫من المدلوالت ويفتح أفق خطاب المحتمل‪ ،‬مسافرا‬ ‫بالقارئ من فضاء المعنى إلى فضاء الداللة‪ .‬ومن‬ ‫ثم يمكن القول إن النص في خطاب الحداثة يعمل‬ ‫على تحويل أنساقه إلى محتمالت الداللة‪ ،‬ويصبح‬ ‫من ثم نصا مفتوحا يؤسس لفعل ال�ق��راءة بوصفها‬ ‫ممارسة فعالة ومنتجة‪ .‬وه��ذا ما نلمسه من خالل‬ ‫بنية الخاتمة في النص‪« :‬خالصك في أن تعرف إلى‬ ‫أي فصيلة ينتمي هذا الدم»!‬

‫أما الفئة الثانية من العالمات فهي‪ :‬الشعراء‪/‬‬ ‫يالحظ إذاً أن خطاب االستهالل يتمظهر بكونه‬ ‫العشاق‪/‬النجوم‪/‬القمر‪/‬األبيض‪/‬الليل‪/‬األحالم‪ ،‬نسقا داال داخ��ل خطاب الحداثة‪ .‬ويمكن أن نمثل‬ ‫وهي فئة تؤشر على رؤية للعالم تحمل بعداً جمالياً لتمظهرات هذا النسق من خالل الثنائية التالية‪:‬‬ ‫مرتبطاً بأبعاد الكتابة‪ .‬إن هذا النسق من العالمات‬ ‫الالسواد‬ ‫ ‬ ‫السواد ‪/‬‬ ‫يتشكل بوصفه نسقا مستقال وداال داخ��ل خطاب ‬ ‫اإلتصال‬ ‫ ‬ ‫اإلنفصال ‪/‬‬ ‫االستهالل‪ .‬إنه يفضح هاجس الكتابة ال��ذي يراود‬ ‫بنية اإلنسجام ‪ /‬بنية التوتر‬ ‫الذات‪ .‬وباإلضافة إلى تشاكل المعنى الذي ينكشف‬ ‫الالبياض‬ ‫ ‬ ‫البياض ‪/‬‬ ‫من خ�لال ه��ذه الفئات من العالمات‪ ،‬نلفي تشاكل‬ ‫الالتواصل مع العالم ‪ /‬التواصل مع العالم‬ ‫الداللة‪ .‬فالذات منشغلة ببناء تواصل جمالي يؤتث‬ ‫من خالل فعل اإلنجاز‬ ‫فضاء ليل الشعراء‪ .‬هكذا تكشف بنية الحوار في ‬ ‫بمفهومه اللساني‬ ‫خطاب االستهالل عن حالة الذات‪ ،‬وهي تسعى إلى ‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪19‬‬


‫إن هذه الثنائية تعكس األبعاد الوجودية للذات‪.‬‬ ‫فسواد الليل وطقوسه المرتبطة بجمالية الكتابة‬ ‫وجمالية حياتية متمثلة ف��ي ال��رؤي��ة ف��ي اإلتصال‬ ‫بالمرأة‪ ،‬مما يتيح فعل اإلستمرار في الحياة واإلتصال‬ ‫مع العالم؛ فيما يتضح العكس من خالل البياض‪،‬‬ ‫الذي يشتغل بوصفه عالمة تؤشر على عدم‪ ،‬فراغ‬ ‫يلوث جمال وطقوس الليل (الكتابة) ومن ثم فهو هنا‬ ‫تجسيد لغياب فعل الكتابة‪ ،‬أي اإلنفصال مع العالم‪.‬‬ ‫وم��ن هنا ه��ذا التجاذب بين الموت والحياة من‬ ‫خ�لال ح�ض��ور فعل الكتابة أو ع��دم��ه‪ .‬وتبعا لهذا‬ ‫يمكن القول إن ال��ذات ال تحمل هاجسا وحيدا هو‬ ‫فعل اإلتصال بـ ‪ -‬الوجه الخالسي ‪ -‬بوصفه عالمة‬ ‫سيمولوجية ت��ؤش��ر ع�ل��ى ج��زء م��ن ال�ج�س��د يكثف‬ ‫مدلوالت تحيل على هوية الذات‪ ،‬وعمقها المترامي‬ ‫في تخوم أعماق الذات األخرى التي تسعى لتحقيق‬ ‫فعل اإلتصال‪ ..‬إذاً الذات تسعى إلى الخالص لكون‬ ‫هذا األخير يؤسس لمحتمل الخطاب السردي في‬ ‫النص‪ ،‬وانطالقا منه يتمطط هذا الفضاء النصي‬ ‫السردي‪ .‬وهذا الخالص يتحقق من خالل اإلتصال‬ ‫ب��اآلخ��ر – األن �ث��ى ‪ -‬ف��ى ف�ض��اء ال�ل�ي��ل ال ��ذي تؤتثه‬ ‫[األصوب تؤثثه] أبعاد فنية‪ ،‬تؤسس لشروط استمرار‬ ‫هذه العالقة الوجودية‪ .‬ويتضح من خالل البنيات‬ ‫السابقة أن حياة النص في خطاب الحداثة تتشكل‬ ‫انطالقا من المعاني المحتملة‪ .‬إنها بهذا المعنى ال‬ ‫تحيل على الرجع الحقيقة إذ أن «ليس تلك اللغة‬ ‫التواصلية التي يقننها النحو‪ ،‬فهو ال يكتفي بتصوير‬ ‫ال��واق��ع أو ال��دالل��ة عليه‪ ،‬فحيثما يكون النص وإال‬ ‫يشارك في تحريك وتحويل الواقع الذي يمسك به‬ ‫(‪)2‬‬ ‫في لحظة انغالقه‪» ...‬‬ ‫وإذاً‪ ،‬يتضح أن خطاب االستهالل يتجه إلى بناء‬ ‫عقد سردي‪ ،‬من خالله يدشن السارد عالقة تواصل‬ ‫خاصة مع المسرود له‪ ،‬فيحثه على قراءة النص بكونه‬ ‫شخصية من شخصياته من جهة‪ ،‬ومن خالل فعل‬ ‫القراءة الذي يروم اكتشاف العالم وإنتاج معرفة تمس‬ ‫جوهر العالم‪ .‬إن الوظائف التي يضطلع بها خطاب ‬

‫‪20‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫االس �ت �ه�لال ف��ي ه��ذا ال�ن��ص تكشف ع��ن جماليات‬ ‫السرد في خطاب الحداثة‪ ،‬وفضال عن ذل��ك فإن‬ ‫خطاب االستهالل يتمظهر بوصفه نسقاً داال يتبين‬ ‫من خالله الخطاب السردي وينتج مدلوالت خطاب‬ ‫المحتمل‪ .‬بهذا يمكن أن نشبه مفهوم االستهالل‬ ‫ف��ي النص القصصي بتمثالت مفهوم المطلع في‬ ‫القصيدة التقليدية وذلك بوصفه استراتيجية نصية‪،‬‬ ‫وبنية ذات بعد جمالي ونسق داللي مستقل‪ ،‬يتفاعل‬ ‫وي�ت��آل��ف م��ع أن �س��اق نصية أخ ��رى‪ ،‬وب�ع��د تواصلي؛‬ ‫فكما هو الشأن بالنسبة لخطاب االستهالل‪ ،‬يسعى‬ ‫المطلع إلى استمالة القلوب واألسماع‪ ،‬ولفت انتباه‬ ‫المتلقي‪ ،‬بوصفه ضامنا لعملية التواصل‪.‬‬ ‫وان��ط�ل�اق��ا م ��ن ه���ذا ي �م �ك��ن ال� �ق ��ول إن خطاب ‬ ‫االس�ت�ه�لال يسعى إل��ى اإلي �ق��اع ب��ال�ق��ارئ ف��ي فخاخ‬ ‫القراءة من خالل محاولة اإليهام بواقعية ما سيحكي‪،‬‬ ‫ومن ثم إقحام القارئ داخل النسق السردي من أجل‬ ‫بناء التواصل‪ .‬لكن الميثاق التواصلي ال��ذي يسعى‬ ‫لتحقيقه السارد قد يتلون بأبعاد أخ��رى‪ ،‬من خالل‬ ‫اشتغاله كآلية م��ن آل�ي��ات تضعيف ال�م��دل��ول الذي‬ ‫ينتجه النص‪ .‬وه��ذا ما يتجلى في نص آخ��ر تحت‬ ‫ع�ن��وان «غ �م��زة‪ ..‬ص �ب��اح‪ ..‬غ�م��ز»‪ ،‬إذ يتمثل خطاب ‬ ‫االستهالل هنا تنبيها إلى ف��رادة الواقعة السردية‪،‬‬ ‫ومن ثم فهو يضطلع هنا بوظيفة تأثيرية‪« :‬يقيناً لو‬ ‫حصل لك ما حصل لي لكنت اآلن نزيل مصحة عقلية‬ ‫من صنف خمسة نجوم‪ ،‬ولكن أحمد الله ألن هذا‬ ‫لم يحصل‪ ،‬واشكرني ألنك ستستفيد مما سأحكيه‬ ‫لك»(‪ .)3‬إن السارد هنا يتقرب من القارئ‪ ،‬يبني عقد‬ ‫التواصل من خالل إقناعه بفرادة ما سيحكي‪ .‬ففعل‬ ‫السرد ‪ -‬حسب السارد ‪ -‬فعل متفرد‪ ،‬سيؤثر عليه‬ ‫ويجعله يأخذ العبرة بعد عملية القراءة‪ ،‬وهنا يبلغ‬ ‫التواصل أوج قمته‪ ،‬ويحقق اإلقناع غايته‪ .‬وتتنتشر‬ ‫داخل فضاء خطاب االستهالل باإلضافة إلى البعد‬ ‫التواصلي الذي ينهض بميثاق القراءة وظائف أخرى‪،‬‬ ‫تعمل على احتواء بنيات جمالية أخ��رى‪ ،‬كالوظيفة‬ ‫التأثيرية‪ .‬هكذا يسعى خطاب االستهالل إلى تجاوز‬


‫البنيات النصية لنكشف كيف تتعالق على مستوى‬ ‫ب�ن��اء ال�خ�ط��اب ال �س��ردي م��ع ال�خ�ط��اب ال��ذي يدشن‬ ‫فعل الحكي‪ ،‬مؤسسة ألس��اق خطابية تميز القصة‬ ‫الحديثة‪ .‬لنتأمل إذن بنيات بعض المقاطع بوصفها‬ ‫عملية إجرائية‪ ،‬وهي تمكننا من اكتشاف المناطق‬ ‫الداللية المترامية داخل النص‪.‬‬

‫البعد التواصلي إلى محاولة التأثير‪ .‬فالسارد يستهل‬ ‫خطابه بمصدر عوضا عن الفعل‪ ،‬لكنه هنا يرسخ فكرة‬ ‫فرادة الواقعة التي عاشها السارد‪ ،‬وانتفاء وجودها‬ ‫في الزمان لكون المصدر يدل على حدث مجرد من‬ ‫ال��زم��ان‪ ..‬إن هذا الميثاق التواصلي يتأسس‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫من خالل التعدد اللغوي‪ ،‬فإقحام لغات وتنضيدها‬ ‫(أحمد الله‪ ،‬اللغة الشعرية التي تعتمد اإلنزياح‪ )..‬وهذه البنيات هي كالتالي‪:‬‬ ‫وفق نسق خاص‪ ،‬يؤمن عملية ضمان البعد التواصلي‬ ‫«وق��ع ذل��ك ف��ي ي��وم خريفي على ال��رغ��م م��ن أن‬ ‫الذي يتغيبه خطاب االستهالل‪ ،‬وفضال عن ذلك فهو‬ ‫الفصل لم يكن كذلك‪ ،‬استيقظت متأخرا كالعادة‪،‬‬ ‫تعدد يسم عالم الواقع نفسه‪.‬‬ ‫بسرعة خاطفة غسلت وجهي‪ ،‬وأنا أستعرض سيل‬ ‫إن هذه األبعاد التي تؤسس لخطاب االستهالل‬ ‫اللوم والشتائم ال��ذي ينتظرني عندما سأصل إلى‬ ‫تتشكل انطالقا من أنساق خطابية متمثلة في نظام‬ ‫عملي»‪«/‬لست أذكر‪ ،‬إذا تذكرت سأخبرك‪ ،‬كان مصعد‬ ‫ال�ع�لام��ات ال ��ذي ي��ؤث��ث ف�ض��اء خ�ط��اب االستهالل‪:‬‬ ‫العمارة معطال‪ ،‬ال أستعمله ألنني أفتيت في تحريمه‬ ‫م� �ص� �ح ��ة‪ /‬ع �ق �ل �ي��ة‪ /‬خ� �م� �س ��ة‪ /‬ن�� �ج� ��وم‪ ،/‬وح� ��رف‬ ‫على نفسي‪ ،‬ما دمت أسكن في الميتا ‪-‬عمارة»‪«/‬في‬ ‫اإلستدراك‪ .‬الذي يمفصل وحدة خطاب االستهالل‬ ‫لحظة ش ��رود سببها التفكير ف��ي ال�س�ي��د المدير‬ ‫ويبنيه‪ .‬ويلعب هذا التمفصل دورا خاصا في أنساق‬ ‫ومحاضراته الصباحية‪ ،‬رفعت بصري‪ ،‬التقت عينانا‪،‬‬ ‫القصة القصيرة‪ ،‬خاصة مع حرف اإلستدراك‪ ،‬إنه‬ ‫فوجئت بها تغمزني‪ ،‬داخلني شك رهيب‪ ،‬وخمّنت أن‬ ‫يسم النص القصصي بدينامية خاصة به متمثلة في‬ ‫ما نسميه بالوقفات القصصية بوصفها إحدىسمات األمر وراءه خدعة‪ ،‬تنتهي كما في األفالم‪ ،‬إلى بيت‬ ‫الحكي في خطاب الحداثة في القصة القصيرة‪ ،‬عصابة سطو»‪« /‬في بيت المدير وأنا أحدث زوجته‬ ‫وسنتوقف عند ه��ذا المفهوم ف��ي ال �ج��زء الخاص التي لم تكن كما توقعت‪ ،‬غمزتني ابنته المراهقة‪،‬‬ ‫فسلمت عن طواعية فيما تبقى من عقلي(‪.)5‬‬ ‫بالبالغة والسرد في القصة‪.‬‬ ‫هكذا يظهر خطاب االستهالل بوصفه مجموعة‬ ‫من العالمات تنتظم في نسق سردي‪ ،‬وتشتغل على‬ ‫تضعيف بنية ال�م��دل��ول‪ .‬ويمكن أن ننظر إل��ى هذا‬ ‫الخطاب المستقل ( االس�ت�ه�لال��ي) بوصفه فضاء‬ ‫س�ي�م��ول��وج�ي��ا «ي�ن�ش�غ��ل ب��ال �ع�لاق��ات ب �ي��ن العالمات‬ ‫واألشياء التي تحيل عليها» وقد استخلصنا سابقاً‬ ‫معالم هذا النسق‪ :‬مصحة‪/‬عقلية‪/‬صنف‪/‬خمسة‪/‬‬ ‫نجوم‪ ،‬وه��و يأتي هنا ليضاعف أث��ر المعنى‪ ،‬الذي‬ ‫ينشغل ال�خ�ط��اب بتشكيله‪ ،‬أي غ��راب��ة ومأساوية‬ ‫وف��رادة ما سيحكيه السارد‪ .‬إن خطاب االستهالل‬ ‫ال يمكن ق��راءت��ه والكشف عن أب�ع��اده إال من خالل‬ ‫البنيات‪ ،‬التي تنتشر على م��دار المساحة السردية‬ ‫للنص‪ .‬ولكي نكشف عن هذه األبعاد‪ ،‬سنتوغل داخل‬

‫إن البنيات المقطعية السالفة تكشف عن غرابة‬ ‫الواقع الذي تحيا فيه الذات بوصفه يتمظهر كسيرورة‪.‬‬ ‫فالمسار السردي الذي ولده خطاب االستهالل ينمو‬ ‫تدريجيا في اتجاه الكشف عن واقع موسوم بالتوتر‬ ‫والغرابة‪ .‬لكن معالجة بنيات الواقع في هذا النص‬ ‫تخضع لرؤية خاصة‪ ،‬تتمثل في تدمير بنية الموضوع‬ ‫أو التيمة داخل النص‪ ،‬وإعادة بنائه‪ ..‬فرؤية الواقع في‬ ‫النص‪ ،‬تخضع لترميم يفجر جماليات الكتابة‪ ،‬متمثلة‬ ‫في الهندسة المعمارية التي تميز الخطاب السردي‬ ‫ف��ي المجموعة‪ ،‬وه��ي هندسة تعتمد مجموعة من‬ ‫المكونات‪ :‬البياض‪ ،‬توزيع األسطر‪ ،‬األقواس‪ ،‬بالغة‬ ‫ال�ل�غ��ة‪ ..‬إض��اف��ة إل��ى أن�ه��ا م�س��ورة بحدائق الداللة‪،‬‬ ‫وتخترقها دروب المعنى المتشعبة بواسطة اللغة‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪21‬‬


‫وعبرها‪ ..‬هكذا يدمر السارد موضوع النص من أجل‬ ‫تجلية الوقائع التي تؤتث فضاء الواقع‪ .‬وهي وقائع‬ ‫تتحول إلى مسارات سردية‪ ،‬وتؤشر لمدلوالت تكشف‬ ‫عن وضعية الذات التي تعري غرابة ومفارقات الواقع‪.‬‬ ‫وإذا كانت هذه المدلوالت التي تنتشر عبر النص‪،‬‬ ‫تتمظهر بوصفها تشتغل داخ��ل خ�ط��اب المحتمل‪،‬‬ ‫فإن خطاب االستهالل يمكن ّع��ده في هذا اإلطار‬ ‫داال‪ ،‬عبره تتفجر هذه البنيات‪ ،‬وانطالقا منه تتمثل‬ ‫السيرورة السردية والتي تكشف عن السيرورة داخل‬ ‫الواقع‪ .‬إن هذه السيرورة تتحقق من خالل دينامية‬ ‫سردية نصطلح على تسميتها بدينامية الواقع‪ .‬هذه‬ ‫األخيرة تتشكل من خالل الفاعلين‪ ،‬مصدر الدينامية‪،‬‬ ‫ثم السارد بوصفه أحد أط��راف المعادلة السردية‪،‬‬ ‫وفاعال في الحكي ومشاركا في مسرحة الحكاية‪.‬‬ ‫فهو إضافة إلى أنه يولّد مسارا سرديا انطالقا من‬ ‫شخوص تتشكل هويتها الداخلية والخارجية انطالقا‬ ‫من المحتمل السردي‪ ،‬فسماتها ال تتحدد بالمظاهر‬ ‫الخارجية والداخلية (ان�ف�ع��االت‪ ،‬ل�ب��اس‪ ،‬انتماؤها‬ ‫الطبقي) ولكن بانتمائها إلى مسار سردية الخطاب‬ ‫وم��ن ث��م ال تتحدد بنية ال�م��دل��ول ال��ذي تشكله‪ ،‬إال‬ ‫باإلنتهاء من آخر جملة في النص‪ .‬إن هوية الشخوص‬ ‫في النص وحمولتها النفسية والثقافية تتحدد في‬ ‫خطاب الحداثة هنا‪ ،‬انطالقا من وضعها داخل فضاء‬ ‫الحكي‪ ،‬وعالئقها بباقي الفواعل في النص‪ .‬فعالقة‬ ‫التقابل الموسومة بغرابة الواقعة بين السارد وباقي‬ ‫الفئات األخرى‪ :‬السارد‪ /‬المدير؛ السارد‪ /‬سكرتيرة‬ ‫المدير‪ ،‬زوجة المدير‪ ،‬ابنة المدير‪ .‬إن هذه التقابالت‬ ‫تكشف وضعية ال��ذات – السارد‪ ،‬وتحيل على الفئة‬ ‫اإلجتماعية‪ .‬وبالتالي فإنها هنا تكشف الحمولة‬ ‫النفسية بوصفها محركا للرغبة في التواصل‪ ،‬إنها‬ ‫منبع دينامية السرد وجوهر سيرورته‪ ،‬بل إنها تحيلنا‬ ‫على جوهر عالقة السارد بالمحكي‪ .‬ويالحظ هنا‬ ‫أن القصة القصيرة ت��وزع هذه المقوالت بعيدا عن‬ ‫التشابك العالئقي اإلشكالي بين هذه الفئات الذي‬ ‫يميز الخطاب الروائي‪ .‬إنها أنساق يمكن القول إنها‬

‫‪22‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫تميز الخطاب في القصة القصيرة‪ .‬فالفئات التي‬ ‫استخلصناها تطفو على سطح الخطاب القصصي‪،‬‬ ‫تتمظهر ببساطة‪ ،‬ويغلب عليها اإليجاز والتكثيف‪ .‬لكن‬ ‫ه��ذه العالقات بين ه��ذه الفئات‪ ،‬ال تخضع لمفهوم‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فحتى بالنسبة لهوية الشخصيات في‬ ‫خطاب الحداثة تطفح بالعتمة المؤقتة‪ ،‬وبالسؤال‬ ‫وال�ق�ل��ق ال��وج��ودي ال��داخ �ل��ي‪ .‬لكن نجدها عالقات‬ ‫تنخرط في نسق‪ ،‬وتخضع لمحتمل الوجود النصي‬ ‫وسرديته وآلياته الخطابية‪.‬‬ ‫وي�ك�ش��ف ل�ن��ا ه ��ذا ال �م �س��ار ال��س��ردي ال���ذي بدأ‬ ‫بخطاب االستهالل المولد للمسار نفسه‪ ،‬والضامن‬ ‫الستمرارية فعل القراءة‪ ،‬ومن ثم فعل استمرار حياة‬ ‫النص بوصفها فضاء مكانيا مؤثتا بشخوص وصور‪،‬‬ ‫وإال تعرض للتدمير حين ينتفي فعل القراءة ويتعطل‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فحياة النص هنا مرتبطة بدينامية الفاعلين‬ ‫الذين يؤتثون الفضاء السردي‪ ،‬وينسجون تفاصيله‬ ‫المكثفة في نسق لغوي‪ .‬فالقصة القصيرة في خطاب‬ ‫ال �ح��داث��ة‪ ،‬ت �ن��زع إل��ى اإلس �ئ �ن��اس ببعض التفاصيل‬ ‫المكثفة‪ ،‬التي تؤتث فضاء الحكي من أجل توسيع أفق‬ ‫البنيات التخييلية الموسومة ببالغة اإليجاز‪ .‬وهذا‬ ‫ما يتجلى من خالل العودة إلى نصوص المجموعة‬ ‫التي تنحث م��ن تفاصيل اليومي وه��واج��س الذات‬ ‫أنساقاً قصصية أغنت الفضاء ال��دالل��ي‪ .‬وسنتبين‬ ‫هذه المعالم من خالل التوغل في المقاربة‪ .‬إن هذه‬ ‫التفاصيل التي تؤتث الفضاء النصي‪ ،‬ينسجها ممثلون‬ ‫ي��ؤدون أدوارا تيماتية وعاملية‪ .‬فالسارد والمدير‬ ‫يؤديان دورا تيماتيا خاصا هو‪ :‬موظفة‪ ،‬والمذيعة دور‬ ‫صحفية؛ وتأتي فئة الفتاة الشقراء‪/‬زوجة المدير‪/‬ابنة‬ ‫المدير وهي فئة تشترك في األنوثة ودورها مرتبط‬ ‫بفضاء البيت‪ ،‬لكن بعدها الداللي يتشكل بالخصوص‬ ‫من خالل الجسد األنثوي والرغبة في اإلتصال‪ .‬إنها‬ ‫تصنع عالمة المحتمل األدبي وسردية النص‪ .‬وهي‬ ‫هنا الرغبة في إرسال خطاب الغمز‪ ،‬الذي يروم فعل‬ ‫التواصل واإلتصال مع السارد المشدوه أمام واقعة‬ ‫خطاب الغمز‪ ،‬أي اإلتصال بالعالم وهو اتصال يجسد‬


‫فعل اإلنجاز اللغوي ومن خالله وعبره فعل الكتابة‪.‬‬ ‫وه��و س��ارد‪ ،‬كما سبقت اإلش ��ارة‪ ،‬يمثل ويتقابل مع‬ ‫فئات أخرى من الممثلين‪ .‬ففئة السارد تتقابل مع فئة‬ ‫يظهر عليها سمة نقص تسعى إلى تجاوزه عن طريق‬ ‫بناء موضوع رغبة هو نفسه العالمة المحتملة‪ ،‬التي‬ ‫تؤسس للرغبة في التواصل مع اآلخر الرجل‪ .‬إن معالم‬ ‫هذا التواصل غير جلية لحد اآلن ويمكن أن نعري عن‬ ‫أحد أبعادها إذا نحن انتهينا إلى تأمل بنيات الخاتمة‪،‬‬ ‫وال�ت��ي تكشف ع��ن معالم ال�س�ي��رورة ال�س��ردي��ة التي‬ ‫تحدثنا عنها‪ .‬ويمكن أن نستشف ذلك من خالل هذه‬ ‫المقاطع‪ :‬وفي الصباح تزوجت ابنة المدير واقتتل‬ ‫شرطيان وأعلن اإلضراب العام وأعلنت حرب سميت‬ ‫(‪)6‬‬ ‫حرب الخلي ؛ توقع هذه المقاطع لنهاية محتملة‬ ‫للنص‪ ،‬وفي نفس اآلن يؤسس لإلنفتاح ال��ذي يميز‬ ‫خطاب الحداثة في القصة القصيرة‪ ،‬وتجليات مفهوم‬ ‫السيرورة الموسوم بزمن الواقع‪ ،‬زمن يتميز بالتوتر‪.‬‬ ‫فالصباح الذي بدأ باإلستعداد لمواجهة شتائم السيد‬ ‫المدير يتحول عبر مسار سردي إلى ظاهرة أو مسرح‬ ‫يستوعب محكيات متنوعة‪.‬‬ ‫ويتضح م��ن خ�لال ق��راءت�ن��ا ل�ه��ذه البنيات (بنية‬ ‫خطاب االستهالل‪ ،‬بنية المقاطع‪ ،‬بنية الخاتمة)‬ ‫أنها تتفاعل في إطار عالقات اإلئتالف واإلختالف‬ ‫لتنتج مدلوالخاصا يرتبط بالزمن الموسوم بالتوتر‪،‬‬ ‫والواقع الذي يستدعي التأمل من خالل الكشف عن‬ ‫سيرورته‪ .‬وقد ينهض خطاب االستهالل استراتيجية‬ ‫خاصة ت��روم إيهام المتلقي بواقعية المحكي‪ ،‬وهذا‬ ‫ما يمكن أن نستشفه في نص‪« :‬ث�لاث غرف تخادع‬ ‫المدينة»‪ ،‬فالسارد يستهل المحكي بتصوير فضاء‬ ‫المدينة ليال بوصفها يمثل صورة سردية تفجر الرحم‬

‫النصي‪ ،‬الذي هو الغرفة بوصفها كينونة للذات‪ ،‬ورصد‬ ‫لعالقة الخارج والداخل‪ ،‬اإلنفتاح واإلنغالق‪ ،‬اإلتصال‬ ‫واإلنفصال؛ وهي عالمات تتحقق عبر اشتغال العالمة‬ ‫(‪)7‬‬ ‫داخل الخطاب‪ :‬خارج الغرف‪ ..‬داخل الغرف ‪ ..‬تمثل‬ ‫هذه البنية المقطعية المولد للمسار السردي لخطاب‬ ‫النص‪ .‬إنها تعمل من خالل استراتيجية التقابل التي‬ ‫تتيح للسارد اإلستمرار في نسج التفاصيل التي تؤتث‬ ‫المحكي‪ .‬في هذا النص يتغير موقع الرؤية بالنسبة‬ ‫للسارد‪ ،‬وذلك لطبيعة المشهد وأبعاده المغايرة التي‬ ‫تنظم العالقة بين ثنائيات رج��ل‪/‬ام��رأة إنطالقا من‬ ‫فضاء داخلي هو الغرف الثالث في المدينة ليال‪ .‬ومن‬ ‫ثم فخطاب االستهالل ال يدشن فقط استراتيجية‬ ‫الحكي‪ ،‬بل يوسع آفاقه كما يتجلى من خالل اإلنتقال‬ ‫م��ن فضاء مفتوح ه��و المدينة إل��ى فضاء مغلق هو‬ ‫الغرفة؛ إنها بنية تعكس بعد التوتر داخل الخطاب‬ ‫بين ال ��دال وال �م��دل��ول‪ .‬وه��ذا م��ا يتجلى ف��ي فضاء ‬ ‫االستهالل ال��ذي يهيئ لتلقي ه��ذا التوتر‪ ،‬فسلطة‬ ‫ال�ل�ي��ل أع �م��ق وأش ��د م��ن سلطة ال �ش��رط��ة‪ ،‬والغرف‬ ‫الثالث المضيئة تترجم التوتر بين السلطتين‪ .‬وتؤشر‬ ‫إل��ى إح��دى س�م��ات الشخصيات وه��ي ال �خ��وف‪« :‬ال‬ ‫تخف‪ .‬قالت له بعدما طلبت منه الدخول إلى غرفتها‬ ‫وتردد‪ )8(» ..‬والبناء المعماري للنص نفسه يعكس هذا‬ ‫التوتر‪ ،‬والفضاء المكاني الذي تجري فيه المشاهد‬ ‫وهو الفندق‪ .‬تأسيسا على ما سبق يمكن القول إن‬ ‫خطاب االستهالل يتمثل بوصفه داال‪ ،‬واستراتيجية‬ ‫متعددة األبعاد‪ .‬إنه أحد األسس التي ينهض عليها‬ ‫خطاب الحداثة في النصوص المعاصرة‪.‬‬

‫< كاتب مغربي‪.‬‬ ‫‪ -1‬جمال بوطيب‪ ,‬برتقالة للزواج!! برتقال للطالق!!‪ .‬دار جسور‪ .‬وجدة‪ .1996 .‬ص‪..16 :‬‬ ‫‪ -2‬كريستيفا‪ .‬جوليا‪ .‬علم النص ت‪ :‬فريد الزاهي‪ ،‬عبدالجليل ناظم‪ .‬دار توبقال‪ .‬الدار البيضاء‪ .1991 .‬ص ‪.9‬‬ ‫‪ -3‬جمال بوطيب‪ .‬المرجع السابق‪ .‬ص‪.33‬‬ ‫‪R. Barthes. essais critiques.Ed: Seuil. paris.1966. p: 206 -4‬‬ ‫‪ -6‬نفس المرجع‪ .‬ص‪.36‬‬ ‫ ‬ ‫‪ -5‬جمال بوطيب‪ .‬المرجع السابق‪ .‬ص‪.33 :‬‬ ‫‪ - 7‬نفس المرجع‪ .‬ص‪ -8 45‬نفس المرجع‪ .‬ص‪46‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪23‬‬


‫قصص قصيرة جدا ً‬ ‫> هشام بن الشاوي‬

‫<‬

‫‪ -1‬عيد كئيب‪:‬‬ ‫تستيقظ م�ت��أخ��را‪ ،‬تبقى ف��ي فراشك‬ ‫محتفال بوحدتك‪ .‬من خلف الباب المتجهم‬ ‫تنداح كلمات التهاني‪ ،‬وم��ن أعماقك يلح‬ ‫عليك صوت ما أال تبرح حجرتك‪ ،‬وأن ال‬ ‫تشاركهم تمثيليتهم السخيفة‪ .‬قبل أن تغادر‬ ‫ف��راش��ك‪ ،‬ت ��ذرف س �م��اء عينيك دمعات‪،‬‬ ‫أحببت أن ال ي��راه��ا أح��د مصلوبة على‬ ‫جفنيك في هذا الصباح االحتفالي! تغادر‬ ‫زن��زان�ت��ك األث �ي��رة‪ ،‬ت��رد على تحايا األهل‬ ‫ببرود‪ ،‬والصغار يرفلون في حللهم الجديدة‬ ‫مبتهجين‪ .‬ي�س��أل��ك أح��ده��م ع��ن عينيك‬ ‫المحتقنتين‪ .‬اللعنة! كيف ل��م تنتبه إلى‬ ‫أنهما ستفضحانك؟! تلوذ بحصن صمتك‪،‬‬ ‫وي��رد عليه األب بلهجة كالسياط‪ :‬يا الله‬ ‫ف ��اق!!؟؟ تلوذ بحصن صمتك الصاخب‪،‬‬ ‫ويذبح قلبك الحنين إل��ى طفولة قديمة‪،‬‬ ‫رحلت مبكرا إلى مرافئ الشجن‪.‬‬

‫‪ -2‬باب الخسارات‬

‫‪ -3‬حاجة‬ ‫مأل القسيمة‪ ،‬وضعها بين طيات دفتر‬ ‫التوفير‪ ..‬بعد أن خط عليها ما تبقى من‬ ‫رصيده‪.‬‬ ‫قبل أشهر‪ ،‬فكر في التخلي عن ذاك‬ ‫ال��رص�ي��د‪ ،‬لكونه ليس م��ن ح �ق��ه‪ ..‬هاتف‬ ‫داخلي يطمئنه‪« :‬ليس مهما إن كان حالال‬ ‫أو حراما»!‬ ‫قلقا ينتظر دوره‪ ،‬وفي أذنيه يرن صراخ‬ ‫أبويه وهما يعنفانه‪..‬‬

‫قصص‬ ‫قصيرة‬

‫دائماً أهربُ م َن الطرقات‪ ! ..‬ال أحبُّ‬ ‫تحسس جيوبه‪ ،‬فكّر في أشياء كثيرة‪،‬‬ ‫أعرف مَنِ الطارق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أن أفت َح الباب‪ ،‬وال أ ْن‬ ‫عاصفة تلقف كلمات الموظفة الجميلة‪« :‬ال يمكنك‬ ‫ٍ‬ ‫وقبل أن يهر َع األ ُخ الصغي ُر مث َل‬ ‫ليطلَّ من الشبّاك‪ ،‬أغمغم‪ :‬إذا سأ َل عنّي سحب المبلغ ليبقى الحساب جاريا‪.» ..‬‬ ‫أيُّ شخص‪ ..‬فأنا غير موجود!‬ ‫امتدت أصابعه إلى الورقة المطوية‪..‬‬ ‫�ص��د‪ ..‬ال أع��رف لماذا أشاح بوجهه عنها‪ ،‬ثم مزقها‪.‬‬ ‫�رف َم��ن أق� ِ‬ ‫وي �ع� ُ‬ ‫< قاص من المغرب‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫�اب ارتك َن إل��ى زاوية‬ ‫يصرَّان على ط��رقِ ب� ٍ‬ ‫النسيان؟ فإذا لمحتُ أحدَهما في الشارع‬ ‫بسرعة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ في أ ّي��امِ عطلهما ‪ -‬اس�ت��درتُ‬‫مغيِّراً االت �ج��اهَ‪ ،‬أو ذب��تُ ف��ي ال��زح��ام‪ .‬قد‬ ‫الحب»‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يكون الطارق‪ ..‬لكني أمقتُ «هذا‬ ‫ألن��ه يذكّرني بطريقِ األش ��واك‪ ..‬لم أقبل‬ ‫أن يكون الحبُّ شفق ًة تُختلس‪ ..‬فلم آخذ‬ ‫�ات ام�ت�ح��ان ل�غ��ة ال�ع��م سام‪،‬‬ ‫منهما إج��اب� ِ‬ ‫وتركت الورقة بيضاء‪..‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫صانع البهجة‪..‬‬ ‫> عبدالسالم احلميد‬

‫<‬

‫لم تكن تهمهم حالتي النفسية أبداً‪ ،‬ألنني كنت دائم النكتة على حالي في كل حاالتي‪..‬‬

‫أنا‪.‬‬

‫كان بعضهم يتمنى دوام شقائي‪ ،‬كي تدوم ضحكاتهم‪ ..‬هم‪.‬‬ ‫سموني صانع البهجة‪ ..‬هم‪.‬‬ ‫فعلوها لعلمهم أني أبدع في خلق الفرح‪ ،‬كلما زاد ألمي‪ ..‬أنا‪.‬‬ ‫استهوتني اللعبة‪ ،‬كلما زاد استمتاعهم‪ ..‬هم‪.‬‬ ‫وكأنما أدمنت األلم‪ ..‬كما أدمنوا وجودي المبهج‪ ..‬هم‪.‬‬ ‫استيقظت ذاك الصباح على دموعي‪ ..‬كنت أبكي وأنا نائم‪.‬‬ ‫تساءلت‪:‬‬ ‫‪ -‬‬

‫إلى متى أبكي في داخلي؟‬

‫‪ -‬‬

‫لماذا ال يفكر أحدهم بالسؤال عن حالي؟‬

‫قاطعتهم جميعاً‪ ،‬وعشت في عزلة تامة‪ ..‬لم يمر طويل وقت حتى اقتحموا عالمي‪..‬‬

‫لم يفكر أحدهم بالسؤال عن حالي‪ ..‬أجبروني على العودة إليهم ألروي لهم نكاتي‪..‬‬

‫كنت أرويها لهم وعيوني تطفح بالدمع وعيونهم مغرورقة بالدموع‪ ،‬وهم مستغرقون في‬ ‫الضحك‪.‬‬

‫< قاص من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪25‬‬


‫صورة قبيحة‬ ‫المرآة‪..‬‬ ‫تجعلني أشعر وكأني سأظل حبيسا فيها إلى األبد‪..‬‬ ‫دوماً‪ ..‬أمامكَ ؛ في الحمَّام‪ ،‬في الغرفة والصالة‪ ،‬في‬ ‫عملك‪ ،‬خصوصاً عندما ترى وجه مسؤوليك‪..‬‬ ‫كلما نظرتَ إليها‪ ،‬تشعر وكأنها تُجردّك من مظهرك‬ ‫الخارجي‪ ،‬ذلك المظهر الذي اعتدت عليه زمناً‪ ،‬واعتاد‬ ‫ال �ن��اس أن ي�ع��رف��ون��ك ب��ه‪ ،‬وج �ه �اً مصبوغا بالمشاعر‬ ‫المتلونة‪ ،‬وج �س��داً ضخماً يتحرك ف��ي تململ‪ .‬تركب‬ ‫سيارتك منذ الصباح الباكر‪ ،‬تحشر نفسك فيها‪ ،‬تنطلق‬ ‫بسرعة‪ ،‬تقف أمام اإلشارة منتظراً‪ ،‬تلتفت يمنة ويسرة‪،‬‬ ‫تتثاءب‪ ،‬ترفع وجهك ناحية المرآة‪ ،‬تعدل غترتك‪ ،‬تمسح‬ ‫َص المتجمع في ُمؤَقِ عينيك‪ ،‬تشتري الجريدة‪،‬‬ ‫بقايا الرﱠم ِ‬ ‫تقرأ العناوين الكبيرة لَمْحَ اً بعينين صامتتين‪ ،‬تحرك يداً‬ ‫على مقود السيارة‪ ،‬ويداً ترمي بالجريدة على المقعد‬ ‫المجاور بعصبية روتينية‪..‬‬ ‫صور السيارات المارّة‪،‬‬ ‫المرآة الجانبية‪ ،‬تنعكس فيها ُ‬ ‫محاول ًة تجاوز سيارتك الحمراء الصغيرة‪ .‬تنظر إلى‬ ‫ساعتك‪..‬‬

‫> فاطمة املزروعي‬

‫<‬

‫عيناك التي ترى كل هذا‪ .‬لكنك تعلم بأن مرآتك في هذا‬ ‫الصباح المشبع برائحة الضباب ستُجردك من قسوتك‬ ‫وعنفوانك مع نفسك‪ ،‬وستُظهر لك ضعفك‪..‬‬ ‫السيارات تتجاوزك‪ ،‬تعبر سيارتك في سرعة‪..‬‬ ‫سوف يوبخك مديرك على تأخرك‪ ،‬وسيعلن ذلك على‬ ‫المأل‪ ،‬سيخبر رفاقك‪ ،‬سوف يمر على مكتبك‪ ،‬ومكاتب‬ ‫أخرى‪ ،‬سوف ينتشر الخبر في المكان كله‪ ،‬سيعلقه على‬ ‫زجاج المدخل ليراه حتى المراجعون‪ ،‬وحينها لن تضطر‬ ‫إلى إخفاء شخصيتك‪ ،‬أو التقمص بأخرى‪.‬‬ ‫توقف سيارتك في ذلك المكان ال��ذي هجرته منذ‬ ‫فترة طويلة‪ ،‬وتمر أم��ام��ك غيمة‪ ،‬تتجاوز ب��ك روحكَ‬ ‫وعقلك‪ .‬وجهها المدور ينظر إليك من شباك غرفتها‪،‬‬ ‫تستمع إلى ثرثرتها الطفولية وهي تتحدث مع زميالتها‪،‬‬ ‫فتضحك في سرّكَ ‪ ،‬وأنت تعلم أنها تفعل ذلك‪ ،‬لتجعلك‬ ‫تهتم بها‪ .‬كنت تتوقع نفسك أكبر من أن تكون محطة‬ ‫ألحالمها‪ .‬على ك ٍّل ليس هذا هو هاجسك اآلن َ‪.‬‬

‫تتحرك ببطء‪ ،‬صوت الهاتف يصل لمسامعك‪ ،‬شاطئ‬ ‫الكورنيش الخالي من الناس يفتح ذراعيه لك‪ ،‬تقترب‬ ‫ آه‪ ،‬لقد تأخرت‪..‬‬‫غير آبه بعامل النظافة الذي ينظر إليك باستغراب‪ ،‬يرن‬ ‫أول م��رة في حياتك تتأخر‪ ،‬هل تتذكر كيف كانوا‬ ‫صوت الهاتف مرة أخ��رى في جيبك‪ ،‬تتجاهله‪ ،‬تتذكر‬ ‫يمتدحونك في المكان ال��ذي تعمل فيه؟ كنت نشيطاً‪،‬‬ ‫كيف كنت تتناوله على عجالة إذا ما أتاك أي اتصال؟‬ ‫مجتهداً‪ ،‬تعمل كعقارب الساعة‪ ،‬تؤدي كل ما يُطلب منك‪،‬‬ ‫صورة قبيحة‪ ،‬متناقضة‪ ،‬لروحين في جسد واحد‪،‬‬ ‫دون أن تتكلم أو تتفوه بشيء أو حتى تعترض‪ .‬وحتى‬ ‫مع عائلتك‪ ،‬تضع قناعك البارد‪ ،‬وكأنهم ملفات تنجز بل أرواح عدة تتصارع في هذا الجسد الذي هو أنتَ ‪،‬‬ ‫لتشتت وذوبان في ال شيء!‬ ‫ٍ‬ ‫فتجرك‬ ‫معامالتها بآلية‪.‬‬ ‫سور الكورنيش يقترب‪ ،‬وجسدك يقترب منه أكثر‬ ‫تعود للنظر إلى صورتك في المرآة األمامية‪ ،‬وجهك‬ ‫الكبير‪ ،‬وشارباك‪ ،‬وأنفك‪ ،‬والشامة التي تعلو حاجبك رغماً عنك‪ ،‬تلمح المرآة في المياه‪ ..،‬تتابع نفسكَ ‪-‬‬ ‫األيمن‪ ،‬وشعيرات أنفك‪ ،‬وأسنانك‪ ،‬ورموشك القصيرة‪ ،‬على سطحها الالمع ‪ -‬كشريط سينمائي قديم‪ ،‬غير آبه‬ ‫ومسام جلد وجهك المتغضن‪ ،‬كل شيء فيك‪ ،‬وعيناك‪ ،‬برنين الهاتف الذي يسكن جيبك‪..‬‬ ‫< قاصة من اإلمارات‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫قصص قصيرة جدا ً‬ ‫> مصطفى لغتيري‬

‫المطهر‬ ‫هنالك في البحر األبيض المتوسط‪ ،‬وبتواطؤ‬

‫مكشوف مع هبات النسيم‪ ،‬القادمة من القارة‬ ‫العجوز‪ ،‬كنت أغوص بجسدي المتعب في المياه‬

‫الهادئة‪ ..‬وبوحي من عرافة إفريقية‪ ،‬حرصت‬ ‫على أن يكون عدد الغوصات سبعا‪ ..‬وكأنني‬ ‫بذلك أتطهر من خطايا المحيط األطلسي‪.‬‬

‫تفوكت‬ ‫ف��ي ب�لاد األم��ازي��غ‪ ،‬ك��ان تلميذ يجلس في‬

‫ال �ص��ف األم ��ام ��ي‪ ،‬يتتبع ب��اه�ت�م��ام محاوالت‬

‫المدرس تعليم التالميذ اللسان العربي‪.‬‬

‫فجأة التفت المدرس‪ ،‬فلمح الشمس بازغة‬

‫تطل من النافذه‪ ،‬فتنبه التالميذ إلى وجودها‪،‬‬ ‫ث��م سألهم “ما هذه؟”‪ ..‬رف��ع تلميذ إصبعه‪،‬‬

‫فأجاب “تفوكت”‪ ..‬غضب ال �م��درس‪ ،‬فعقب‬

‫قائال “إنها الشمس”‪ ..‬ثم طلب من التالميذ‬

‫أن يرددوا وراءه لفظة “الشمس” مرات عدة‪..‬‬ ‫تعلم ال�ت�لام�ي��ذ ال�ل�ف�ظ��ة‪ ،‬ف�ع��اد ال �م��درس إلى‬

‫<‬

‫درسه‪ ..‬حين انتهى منه‪ ،‬قصد التلميذ الجالس‬

‫في الصف األمامي‪ ..‬سحبه من ي��ده‪ ..‬أوقفه‬ ‫أمام الباب‪ ..‬أشار بأصبعه نحو الشمس‪ ،‬ثم‬

‫سأله‪“ :‬ماهذه؟” دون تردد أجاب الطفل‪:‬‬

‫“في المدرسة اسمها الشمس وفي البيت‬

‫اسمها “تفوكت”‪.‬‬

‫الموت‬ ‫على هيئة رج��ل‪ ،‬تقدم الموت نحو شاب‪،‬‬

‫يقتعد ك��رس�ي��ا ع�ل��ى ق��ارع��ة ال �ط��ري��ق‪ ..‬جلس‬

‫بجانبه‪ ،‬ث��م م��ا لبث أن س��أل��ه‪ - :‬ه��ل تخاف‬ ‫الموت؟‬

‫واثقا من نفسه‪ ،‬أجاب الشاب‪:‬‬ ‫‪ -‬ال‪ ،‬أب��دا‪ ،‬إن لم يمت المرء اليوم‪ ،‬قطعا‬

‫سيموت غداً‪ .‬بهدوء أردف الموت‪:‬‬ ‫‪ -‬أنا الموت‪ ..‬جئت آلخذك‪.‬‬

‫ارتعد الشاب‪ ..‬انتفض هارباً‪ ..‬لم ينتبه إلى‬

‫سيارة قادمة بسرعة مجنونة‪ ،‬فدهسته‪..‬‬

‫< قاص من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪27‬‬


‫قصتان قصيرتان‬ ‫> محمد زيتون‬

‫<‬

‫لحية الصمت‬ ‫جلس حائرا‪ ،‬وسحاب االضطراب يخيم على فضاء خواطره‪« :‬المرأة التي أحبها‪ ..‬ال‬

‫تحبني‪ ..‬والتي ال أحبها‪ ..‬تحبني‪ ..‬يا لها من مشكلة؟»‪.‬‬

‫البارحة وجد نفسه الهثا يعدو بين أغصان غابة كثيفة‪ ،‬ومن خلفه ذئ��اب وكالب‬

‫ورعود تتناثر‪ .‬وحدها تقاسيم الحبيبة كانت تشرق في أفق اللهاث‪ ،‬غير أنه كلما التفت‬

‫وجدها ومن ال يحب‪ ..‬تماما كالعواء والنباح والهدير‪ ..‬تالحقه بأنياب طويلة‪ ،‬وبأردية‬

‫بيضاء كالثلج‪ ،‬فيشرع في الذوبان‪ ..‬ويكاد يذوب من هول ما يرى‪ ،‬لوال أن تتداركه الوالدة‬ ‫بمنديلها البارد‪ ..‬تكفكف رذاذ الحمى‪:‬‬ ‫ما بك يا ولدي؟‬ ‫ال شيء يا أمي!‬ ‫وترقد جانبه‪:‬‬ ‫أمي ماذا كان سيفعل أبي لو أنه عاش المأزق ذاته؟‬ ‫أزاحت أنظارها عنه صامتة‪ ،‬أخدت اإلبريق وصبت في كوبه بعض القهوة‪ ،‬ثم بعض‬

‫الحليب‪ ،‬ثم ناولته ملعقة سكر‪ ،‬ثم تاهت في ذيول ضحكة الوالد المعلقة صورته على‬ ‫الحائط‪:‬‬

‫أبوك يا ولدي كان إذا أعجبته فتاة خطبها‪ ،‬وإذا خطبها تزوجها‪ ،‬وإذا تزوجها صابر‬

‫وجاهد رفقتها‪ ،‬وإذا ما أحس منها جفاء أمهلها‪ ..‬ولم يهملها‪ ..‬تلك أيام!‬

‫‪28‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ألذلك تزوج ثالث نساء؟؟؟‬

‫األولى‪.‬‬

‫كال‪ ..‬بل لذلك عشن معه في حالل ربنا‪ ..‬يرحمه‬ ‫حرك الملعقة دون أن يضع السكر‪ ،‬ساهماً في‬ ‫الله‪.‬‬ ‫فضاء ال�ش��ارع‪ ،‬ثم ع��اد بعد أن ذاق مرارتها ليضع‬ ‫بعض القطع البيضاء‪ ،‬ويترك بعضها اآلخر أمامه‪.‬‬ ‫إيه‪!!..‬‬ ‫ح��رك الملعقة‪ ،‬أزال ال��زب��د‪ ،‬رم��ى مالبسه‪ ،‬وتمدد‬ ‫أين أيام والدك من أيامك يا بني؟‬ ‫على الشاطئ‪ .‬األم��واج تتردد بين الفينة واألخرى‬ ‫وص �م �ت��ت‪ ..‬ول �ب��ث م�ل�ي��ا ي �غ��ط ف��ي ع� ��واء ونباح في أحشائه‪ .‬حلو مذاق االنتظار‪ ..‬تلمظه‪ ..‬والسكر‬ ‫وهدير‪ ..‬وخياالت شتى‪ .‬ليستيقظ على وقع نكباته‪ ،‬كالصخور البيضاء على الشاطئ‪.‬‬ ‫وسجل آماله العريض‪ ،‬وسعار أيامه الحالكة‪ .‬أبصر‬ ‫المقهى تعبر مرح الضحى لتستقل قيظ الظهيرة‪،‬‬ ‫الدمعات متسللة من عينيها‪ ،‬منزاحة على خديها‪،‬‬ ‫وال�ع��رق يتهادى ف��ي صمت‪ ،‬وال�غ��ادي��ن والغاديات‪..‬‬ ‫وأيقن أنه لن يكون مثل أبيه‪.‬‬ ‫والرائحين والرائحات‪..‬‬

‫مكتبة النجاح‬

‫في المقهى‪ ،‬في الواجهة األمامية‪ ،‬جلس مرتبكا‪..‬‬ ‫م �ه �ن��دم��ا‪ ..‬ي �ف��وح ع��ط��را‪ ،‬وع �ي �ن��اه ت�ت�س�ق��ط معالم‬ ‫المرور‪ ..‬تفتش عن طالسم مفتقدة‪ ،‬يسافر الحنين‬ ‫الستضافتها‪ ،‬لمشاطأتها‪..‬‬ ‫وليستمر في ه��ذا الجنوح اللذيذ‪ ،‬اس�ت��أذن في‬ ‫تأخير قهوته أو عصيره‪ .‬إن��ه ن��ادرا ما يجود على‬ ‫نفسه بعصير بارد في قيظ(‪ )1‬هذه الصحراء‪.‬‬ ‫أخرج منديال من جيبه‪ ،‬مسح العرق المتصبب‪،‬‬ ‫وطوى المنديل جانبا فوق المائدة‪ ..‬وتاه بين‪ :‬الغادين‬ ‫والرائحين‪ ،‬ال�غ��ادي��ات وال��رائ �ح��ات‪ ..‬ن��زع نظارتيه‪،‬‬ ‫مسحهما‪ ،‬حك عينيه‪ ،‬رمم بصره بحركات سريعة‪:‬‬ ‫ لقد تأخرت كثيرا‪.‬‬‫اس�ت�ع�ج��ل ال� �ن ��ادل ف��ي ت�ح�ض�ي��ر ال �ق �ه��وة المرة‪،‬‬ ‫كالعادة‪.‬‬ ‫لعلها ل��ن ت��أت��ي‪ ..‬ه �ك��ذا ه ��ن‪ ..‬ف��ي مواعيدهن‬

‫ه��ي‪ ،‬ب��دوره��ا‪ ،‬ك��ان��ت ت�ت�ه��ادى بين أم ��واج القلق‬ ‫والصبر واالضطراب‪ ..‬العرق يعبر جبينها المتردد‬ ‫في علياء الجسد بين اليمين واليسار‪ ..‬والغادين‬ ‫والغاديات‪ ..‬والرائحين والرائحات‪ ..‬وطلعتها الزاهية‬ ‫تبدي ارتياحا متكلفا بغاية تبديد األنظار‪ ،‬ورائحتها‬ ‫متضوعة‪ ..‬أجلت بدورها قهوتها‪ ،‬كانت تطمع في‬ ‫عصير‪ ،‬جيبها ال يحفل بثمن العصير‪ ،‬نادرا ما تجد‬ ‫من يجود عليها بعصير‪ ..‬تأخر كثيرا‪ ،‬فكرت في‬ ‫االنصراف‪ ..‬ماذا سيقول رواد المقهى لو انصرفت؟‬ ‫م��اذا سيقول ل��و حضر م�ت��أخ��را؟ ل��م تضبط اسمه‬ ‫جيدا‪ ..‬ولم تجد من القهوة بد‪.‬‬ ‫كانت قهوتها خاثرة بالسكر‪ ..‬قلبها يتبطن فرحة‬ ‫مقموعة‪ ،‬خيبة أمل‪ ..‬غبن‪ ..‬ندم‪ ..‬شماتة‪ ..‬بصيص‬ ‫أمل في وصوله متأخرا‪ ..‬معتذرا‪..‬‬ ‫أم��ا ه��و‪ ،‬ففي المقهى ال�م�ج��اور ف�ق��ط‪ ..‬يشرب‬ ‫قهوته‪ ..‬في انتظارها‪ ،‬ويتجرع مرارة عدم وفائها‪.‬‬

‫< قاص من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )1‬قيظ‪ :‬شدة حرارة الجو‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪29‬‬


‫شــــــــرفــــــة‬ ‫> محمود عطية محمود‬

‫<‬

‫اخترق ضوء الصباح خصاص الشرفة‪ ،‬لينبسط على أرجاء الحجرة‪ ،‬التى تبتلع سريراً‬ ‫لفرد‪ ،‬ومنضدة من الخوص المضفر‪ ،‬وكرسيا مترنحاً‪ ..‬يستند بظهره إلى فم الباب‬ ‫المفغور على باقى الشقة الواسعة‪ ،‬المغلق على عتمته‪.‬‬ ‫اهتز خيال وحدات الخصاص على حوائط الحجرة‪ .‬ضوّت بوهن – الكريستاالت الثالث‪ ،‬المدالة‬ ‫من نجفة قديمة – غطى التراب هيكلها – تنتصف السقف‪ ،‬المتساقطة منه قشور طالئه‪.‬‬ ‫استلقى الضوء على تجاعيد الوجه المستلم النوم متقطع‪ ،‬بعد أرق معاند‪ ،‬فانتفض‬ ‫– بعد كمون – البدن العجوز بشعره المهوش ولحيته غير الحليقة‪ ،‬لترتطم السيقان‬ ‫اليابسة – المتصلبة فيها عروق خضراء متشابكة – ببالط األرضية العارى‪ ،‬مع طقطقة‬ ‫مفاصل الركبة والفخذ بألم متكسر‪ ،‬بينما سعت القدمان تبحثان عن مداسهما المختبىء‬ ‫تحت السرير الواطىء‪.‬‬ ‫لحظات‪ ،‬وانتفضت خلف الخصاص‪ ،‬بدفعات متتالية من أيد ارتعشت حتى استجمعت‬ ‫قواها‪ ،‬ثم أحكمت قبضتها‪ ،‬فغزا الضوء بكامل شدته فضاء الحجرة‪ ،‬وج��اوزه��ا فى‬ ‫اتجاه الممر الضيق بين الحجرة وباقى الشقة‪ ،‬من حول البدن الشاخص على عتبة‬ ‫الشرفة‪ ،‬ب��ارز البطن من بين دفتي قميص مفتوح – على لحم عار – ال يخفى بثوراً‬ ‫تتناثر على البطن‪ ،‬وأسفل الثديين المترهلين يغطيهما الشعر األبيض‪ ،‬فى حين ذهبت‬ ‫العينان المدهوشتان يمين الشرفة الخالية‪ ،‬إال من إصيصين فارغين يستقران على سياج‬ ‫الشرفة لصق الحائط على الجانبين‪.‬‬ ‫تقدم بخطوات مترنحة نحو السياج‪ .‬إتكأ بيديه عليه‪ ،‬وانحنى صدره فوقه‪ .‬حدّ قت‬ ‫العينان بنظرات مهتزة فى شروخ قمة السياج التى تسرح نحو واجهته الخارجية‪ ،‬وتتسع‬ ‫فى خطوط تكشف عن أسياخ حديدية صدئة‪ ،‬وتضيق فى خطوط أخرى تتوازى وتتقاطع‬ ‫حتى تتسع مرة أخرى‪.‬‬ ‫تبرم الوجه العابس مغمغماً‪ ،‬ثم التفت بنصف جسده إلى داخل الحجرة‪ ،‬لتخايله‬ ‫انعكاسات الضوء التى ازدادت على الكريستاالت الثالثة‪ ،‬فاهتزت الجفون المتهدلة‪،‬‬

‫‪30‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ثم أغمضت نصف إغماضة عاودت بعدها خطواته الدفء‪ ،‬مع الحيوية النابضة‪.‬‬ ‫ال عن ترنحها – عبور الحجرة‪ ،‬نحو‬ ‫– التى تخلت قلي ً‬ ‫لم تبدأ حكايتكما معاً كحكايات العشق المتخمة‬ ‫داخل الشقة الذي بدأ يتسرب إليه الضوء‪.‬‬ ‫ب��درام��ا ال��زم��ن ال��ذي ي �ت��راءى أم��ام عينيك – اآلن‬

‫«تخلت عنك عافيتك ؛ فصرت تشحذها بليل – ممسوخاً‪ ،‬مجبوالً على التراخى وع��دم االتزان‪،‬‬ ‫يطول عليك بال نوم‪ ..‬تتقلب فيه ذكرياتك‪ ..‬تعاودك والميوعة‪ ،‬بل أتت الحكاية من رحم تقاليد راسخة ؛‬ ‫فيه سمات أيامك الخوالي كخياالت مارقة‪ ..‬تبث لتضعها األقدار أمام عينيك آية للوقار‪ ،‬مع الجمال‪..‬‬ ‫فيك آثار صرامة تصرفاتك‪ ،‬حميتك‪ ،‬جديتك وسط مع االحتشام‪.‬‬ ‫أق��ران��ك‪ ،‬نشاطك الرياضى ال��ذى ف��اق الجميع فى‬ ‫ك��ان��ت زه� ��رات ع�م��رك�م��ا ت�ن�ض��اف إل ��ى عقدكما‬ ‫الفروسية‪ ،‬الرماية‪ ،‬سباحة المسافات الطويلة في الراسخ‪ ،‬كحبات مرمرية‪ ،‬تنهمر واحدة تلو أخرى‪ ،‬تلو‬ ‫معسكرات النشاط‪ ،‬وسباقات ال�ع��دو ف��ى الصباح الثالثة ؛ لترصعه ولتصير كنوزاً تتدلى من رحم الحب‬ ‫الباكر‪ ..‬ال تمل من تذكيرك بطولك الذى كان فارعاً‪ ،‬المتعقل‪ ،‬لكن األيام تفرض طقوس دورانها‪ ،‬فيمضى‬ ‫شدة البدلة الميرى على جسدك الذي كان ممشوقا‪ ،‬ك��ل ف��ى درب يخصه ت��ارك��ا عبق وج ��وده ي�س��رى فى‬ ‫ولمعان نجومها المستقرة على كتفيك ترسخهما‪ ،‬المكان الذى ولد فيه‪ ،‬رغم البعد وحنين اإلشتياق‪..‬‬ ‫وتزيد من زهوك‪ ..‬تكسبك انحناءتك الخفيفة‪ ،‬وأنت‬ ‫صرتما وحيدين‪ ..‬بات كل منهما يعزف لحن وجوده‬ ‫تنظر إلى األشياء من أعلى بشموخ‪.‬‬ ‫بموازاة اآلخر على مشاعر هادئة كما بدأت»‪.‬‬ ‫ال يشفع سهاد ليلك لجسدك أن يستريح أو يخلد‬ ‫خرج من الحمام‪ ،‬حليق الذقن‪ ..‬يجفف بمنشفته‬ ‫إلى خمول – كأضعف اإليمان – تحتاجه‪ ،‬والشمس‬ ‫قطرات الماء المتساقطة من شعره الفضى‪ ،‬الذى‬ ‫طالعة على الدنيا‪ ..‬تنذر بالحياة التى‪»...‬‬ ‫التأمت خصالته والتصقت ببعضها منسحبة إلى‬ ‫على باب الحجرة اصطدم بالكرسى‪ ،‬فانزلقت خلف رأسه‪ ،‬وابيّض لون جبهته المعاً‪.‬‬ ‫أرجله المائلة‪ ،‬وازداد ميلها‪ .‬أدركته ي��داه بانحناءة‬ ‫إتجه نحو الشرفة تشمله ارتعاشة خفيفة تدغدغ‬ ‫موجعة‪ ،‬لترده إلى الحائط ومضى يحاول أن ينفض‬ ‫ح��واس��ه‪ ..‬يستجمع رغ�ب��ة أك�ي��دة ف��ى ترميم شروخ‬ ‫عن رأسه ما استغرق فيه‪.‬‬ ‫السياج‪ ،‬التى ك��ان يلحقها دوم��ا قبل أن تستفحل‪.‬‬ ‫م��ن المطبخ أت ��اه ص��وت جلبة‪ ،‬ارت �ط��ام أواني‪ ،‬إق �ت��رب‪ ..‬ع ��اود االت �ك��اء ب�ي��دي��ه ع�ل��ى ق�م��ة السياج‪،‬‬ ‫احتكاك أكواب زجاجية‪ ،‬مع خرير مياه صنبور يشتد واالنحناء بصدره عليه ؛ ليتفقد الشروخ بعينين شبه‬ ‫ثم يخف‪ ،‬ثم ينقطع‪ ،‬ثم يعود إلى الشدة‪ ،‬ثم يصمت؛ ثابتتبن‪ ،‬بينما ح ّل إلى ج��واره عبق خفيف ال يفارق‬ ‫ليحل محله حفيف أق��دام متباطئة‪ ،‬ولكنها تخدش إحساسه‪ ،‬مع ظل ابتسامة امتدت معها يد معروقة‪،‬‬ ‫صمت الشقة المتناهى‪.‬‬ ‫ل��م ت��زل تحتفظ بملمسها الناعم ال�ب��ض‪ ،‬على يده‬ ‫«تشاركك حياتك‪ ،‬منذ كانت ربيعا يانعا تتألق نافرة العروق مربتة‪ ،‬أشاعت فيه لمسة دفء عادلت‬ ‫فيه زهور عيونكما النضرة‪ ،‬وتتألأل نجوم لياليكما ارتعاشته‪ ،‬بينما تؤكد اليد األخرى على وضع صينية‬ ‫السعيدة التى كانت تتمطى فيها أبدان الرشاقة‪ ،‬مع شاى الصباح على قمة السياج‪.‬‬ ‫< قاص من مصر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪31‬‬


‫فصل من رواية‬

‫الشتات األول‬

‫(‪)1‬‬

‫> فيصل أكرم‬

‫<‬

‫الهجري ‪1400‬‬ ‫ّ‬ ‫العام‬ ‫ليس أغرب من هذا العام في حياة سيف بن أعطى‪ ،‬ففي مطلع اليوم األول منه‬ ‫سيف مع شقيقه‪ ،‬يركضان من المنزل باتجاه الحرم المكيّ الشريف للحاق‬ ‫ٌ‬ ‫كان‬ ‫بالركعة األولى من صالة الفجر‪ ،‬ولكن‪ ..‬كانت المفاجأة أن وجدا أبواب الحرم‬ ‫مقفلة!‬ ‫عادا إلى البيت ليخبرا األهل بما رأياه‪ ،‬فلم يصدقهما أح ٌد في بادئ األمر‪ ،‬ثم‬ ‫كان ما كان من أصوات إطالق نار‪ ،‬وعلم الجميع وقتها أن عصابة مسلحة احتلت‬ ‫المسجد الحرام في صبيحة ذلك اليوم‪.‬‬ ‫أغلقت المدارس أبوابها‪ ،‬واعتكف الناس في بيوتهم‪ ،‬وبما أن بيت سيف كان‬

‫فصل من رواي��ة‬ ‫‪32‬‬

‫ال يبعد كثيراً عن المسجد الحرام‪ ،‬فقد كانت مناظر المعركة والنيران ودماء‬ ‫الضحايا من المصلين األبرياء والجنود المدافعين عن بيت الله‪ ،‬ال تنسى أبداً‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫مهما امتد بسيف العمر‪.‬‬ ‫سيف من نفسه حين يتذكّر‪:‬‬ ‫وقد يستغربُ اآلن ٌ‬

‫كان في الحادية عشرة من عمره‪ ،‬ويمتلك جرأة‬

‫جعلته ينطلق على دراجته النارية مرّات ومرّات‬ ‫–كالصاروخ‪ -‬من أمام ساحة المسجد الحرام‪،‬‬

‫سيف على أح � ّر من الجمر‪ ..‬وحين‬ ‫ٌ‬ ‫ينتظرها‬ ‫جلس في المكان المخصص ليستمع إلى اسمه‬ ‫في اإلعالن‪ ،‬لم يكن اسمه «األول» كما اعتاد‪،‬‬ ‫وال ال�ث��ان��ي‪ ..‬وال حتى ال��راب��ع‪ ..‬ب��ل ك��ان سيف‬ ‫«الخامس» هذه المرة‪.‬‬

‫ليلتقط –في ك ّل مرة‪ -‬أحد المحاصرين هناك‪،‬‬

‫تقدم الفتى بحزن شديد‪ ،‬وه��و يصعد إلى‬

‫دام هذا الحدث أسبوعين تقريباً‪ ،‬وانتهى‬

‫و«يشوتها» بقدمه ويركض بعيداً عنها وهو يجلد‬

‫والمحتمين بالسيارات الواقفة‪ ،‬ليحمله مبتعداً ال�م�ن�ص��ة‪ ،‬الس �ت�لام ج��ائ��زت��ه ال �ب��ائ �س��ة‪ ،‬وخرج‬ ‫به عن مكان الحدث‪..‬‬ ‫مسرعاً من المكان ليلقي بالجائزة على األرض‪..‬‬ ‫بالقبض على العصابة المسلحة‪ ،‬التي عرفت‬ ‫باسم (عصابة جهيمان) نسبة إل��ى زعيمها‪/‬‬

‫جهيمان‪.‬‬

‫***‬

‫�ف في‬ ‫ف��ي ال�ع��ام نفسه ‪1400‬ه� �ـ‪ ،‬نجح س�ي� ٌ‬

‫المرحلة االبتدائية (المنتهية بالصف السادس)‬

‫وح�ق��ق –كعادته‪ -‬الترتيب األول‪ ،‬ليس على‬

‫نفسه باللوم والتأنيب والتوبيخ‪..‬‬ ‫�ف ج��ائ��زت��ه (ال �م �ك��ون��ة م��ن كأس‬ ‫ت ��رك س �ي� ٌ‬ ‫زجاجية‪ ،‬وطقم أقالم‪ ،‬وشهادة تفوّق) ملقاة في‬ ‫الشارع وعاد إلى البيت‪ ..‬رافضاً تلك الجائزة‬ ‫التي هبطت به من المركز األول –الذي اعتاد‬ ‫خامس ال يذكره إ ّال بترتيبه‬ ‫ٍ‬ ‫مركز‬ ‫ٍ‬ ‫عليه‪ -‬إلى‬ ‫الخامس (واألخير) بين إخوته الذكور‪..‬‬

‫***‬

‫مدرسته فقط‪ ،‬بل على مستوى م��دارس مكة‬

‫المكرمة جميعها‪ ،‬وهذا ما جعله يتأهل للدخول‬ ‫ف��ي مسابقة ك �ب��رى‪ ،‬نظمتها وزارة المعارف‬ ‫آن ��ذاك‪ ،‬يشترك فيها المتفوقون دراس �ي �اً من‬

‫مختلف المراحل ومختلف مدن المملكة‪.‬‬

‫ال له‪،‬‬ ‫سيف مثي ً‬ ‫ٌ‬ ‫لاب��يّ ل��م ي � َر‬ ‫ك��ان حش ٌد ط� ّ‬

‫في قاعة كبرى – ربما كانت قاعة جامعية أو‬

‫ما يشبه ذلك ‪ -‬وكانت األسئلة كثيرة ومتنوعة‬ ‫ومتعددة األشكال‪ ،‬شفه ّياً وتحريرياً ورياضياً‪،‬‬ ‫وكلها بعيد عن المناهج تماماً‪.‬‬

‫وفي العام نفسه ‪1400‬ه �ـ‪ ،‬أيضاً‪ ،‬كان على‬ ‫جميع سكان األح�ي��اء المجاورة للحرم المكيّ‬ ‫إخالء البيوت لصدور قرار بإزالتها تماماً وبدء‬ ‫التهيئة لمشروع توسعة الحرم‪.‬‬ ‫كان منظ ُر الناس وهم يغادرون بيوتهم يترك‬ ‫سيف غي َر‬ ‫ٌ‬ ‫دمعات حرّى تحف ُر في القلب‪ ،‬وكان‬ ‫ٍ‬ ‫مصدّق لما يجري حوله‪ :‬أهكذا إذاً؟ زمالئي‪..‬‬ ‫أص��دق��ائ��ي وأع� ��دائ� ��ي‪ ..‬ج �ي��ران��ي‪ ..‬أصحاب‬ ‫الدكاكين‪ ..‬الرصيف‪ ..‬األزقة الترابية‪ ..‬الكالب‬

‫دام امتحان المسابقة ست ساعات‪ ،‬أو نحو والقطط‪ ..‬ك ّل شيء سأودعه اآلن ولن أراه مرة‬

‫ذل��ك‪ ،‬وظ�ه��رت النتائج بعد ع��دة أسابيع‪ ،‬كان أخرى؟؟‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪33‬‬


‫كان والد سيف قد اشترى منزالً يبعد كثيراً ونهائياً تلك المدرسة التي كانت منتهى طموحه‬ ‫عن الحيّ األصلي‪ ،‬ويحفر عميقاً في (المسفلة)‬

‫طيلة سنين دراسته االبتدائية‪ ..‬سيغادر أمنيته‬

‫حيث ك ّل شيء بدائيّ هناك في ذلك الوقت‪.‬‬

‫بسرعة قاسية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫القديمة‬

‫ربما كان للبيت الجديد فرحة أولى –وأخيرة‪-‬‬

‫وه �ك��ذا ك��ان��ت ق �س��وة س �ي��ف ع �ل��ى دراجته‬

‫تمثلت في زواج شقيقة سيف الكبرى (عواطف)‬

‫ال�ن��اري��ة‪ ،‬ف��ي ذل��ك ال�م�ش��وار ال�م�ص�ي��ريّ ‪ ،‬فكان‬

‫التي كانت –وال تزال إلى األبد‪ -‬األحب واألغلى يقود الدراجة النارية على سرعة ‪ 120‬كم في‬ ‫من أهله‪ ..‬بعد أمه وأبيه اللذين لم يعيشا طوي ً‬ ‫ال الساعة‪ ،‬وهو يأخذ الطريق الملتوي من (ريع‬ ‫في المنزل الجديد‪.‬‬ ‫سيف ‪ -‬في ما بعد ‪ -‬أن حتى ما‬ ‫ٌ‬ ‫واكتشف‬

‫بخش) حيث صخرة (المسخوطة)‪ ،‬التي يعرف‬ ‫أهل مكة أن دوّارها من أخطر الطرقات‪..‬‬

‫كان يحسبها «فرحة» ب��زواج أخته‪ ،‬لم تكن إ ّال‬

‫�ف ك��ل ذل��ك (ب�ب��راع��ة انتحارية)‬ ‫ت�ج��اوز س�ي� ٌ‬

‫عنواناً لفراق وحرمان من شقيقته التي غادرت‬

‫حتى وصل إلى الدوار المقابل لمتوسطة بالل‬

‫مع زوجها إلى الرياض‪.‬‬

‫بن رباح‪.‬‬

‫***‬

‫ال يزال العام ‪1400‬هـ في منتصفه‪ ،‬حين كان‬ ‫ال بد لسيف من أن ينتقل من مدرسة (خالد بن‬ ‫الوليد) المتوسطة‪ ،‬إلى متوسطة (بالل بن رباح)‪..‬‬ ‫ألن األولى ستزال تماماً كبقية أشياء الحي‪.‬‬ ‫سيف في أحد صباحات العام ‪1400‬هـ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ذهب‬ ‫ليستلم ملفه ال��دراس��يّ من متوسطة خالد بن‬ ‫ال��ول�ي��د لينقله إل��ى متوسطة ب�لال ب��ن رباح‪..‬‬ ‫وفي طريقه بين المدرستين‪ ،‬وهو على دراجته‬ ‫النارية –التي تسابق الريح‪ -‬كان يمسك مقود‬ ‫الدراجة النارية بيده اليمنى‪ ،‬ويمسك الملف‬ ‫الدراسيّ باليد اليسرى‪ ..‬وبكل ما أوتي من قوة‪،‬‬ ‫الملف من شدة الهواء‪ ..‬وكانت في‬ ‫ّ‬ ‫حتى ال يطير‬ ‫حلقه غصة جارحة‪ ،‬إذ لم يكن يتصوّر أبداً أنه‬ ‫سيغادر المدرسة التي طالما حلم بدخولها‪..‬‬

‫هي ذي شاحنة ضخمة تظهر في وجه سيف‪،‬‬ ‫يميل عنها – وهو المحترف في قيادة الدراجة‬ ‫النارية ‪ -‬بحركة بهلوانية‪ ،‬ولكنّ الهواء العاصف‬ ‫يدفع الملف الدراسيّ من يد سيف إلى وجهه‬ ‫ليغطي عينيه‪..‬‬ ‫سيف تلك الشاحنة‪ ،‬وخلفها شاحنة‬ ‫ٌ‬ ‫تفادى‬ ‫أخ ��رى‪ ،‬ول �ك��نّ األخ ��رى الم�س��ت ط��رف مؤخرة‬ ‫الدراجة المسرعة التي راحت تطير في الهواء‬ ‫ثم تتقلب‪ ..‬فمرة سيف فوقها ومرّات هي فوقه‪..‬‬ ‫إل��ى أن حذفهما التقليب إل��ى السكة األخرى‬ ‫حيث سيارة (وانيت) محملة بأسياخ الحديد‪،‬‬ ‫فانغرس سيخ في لحمة ساق سيف‪ ،‬وانغرس‬ ‫سيخ آخر في فخذه‪ ،‬وكاد سيخ ثالثٌ أن يفقأ‬ ‫عينه لوال لطفُ الله‪ ..‬فكانت شجة في رأسه‪.‬‬ ‫ص��وت الحادثة ك��ان عظيماً‪ ،‬فهرع مدرسو‬

‫سيغادرها قبل أن يشبع منها‪ ..‬سيغادر تماماً المتوسطة (ال�م�ش��ؤوم��ة) إل��ى م��وق��ع الحادث‪،‬‬

‫‪34‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫فما أن رآهم سيف – وكان قد رآهم في زيارته أحداً من أهله‪ ،‬مضى على بقائه في المستشفى‬

‫السابقة ألخذ موافقتهم على نقله ‪ -‬حتى صار‬

‫أكثر من يومين‪ ..‬كان هو واألطباء يحمدون الله‬

‫يناديهم ليقدّم لهم ملفه الدراسي الذي اصطبغ أن األسياخ المست العظم مالمسة طفيفة‪ ،‬ولم‬ ‫بلونين ال ثالث لهما‪ :‬سواد اإلسفلت‪ ،‬واحمرار تحدث أي كسر‪ ،‬ولله الحمد‪.‬‬ ‫دم سيف‪..‬‬

‫أخذ أحد المدرّسين الملف من يد سيف‪ ،‬مع‬

‫سيف يبكي من شدة الفرح‪ ،‬فأكثر ما‬ ‫ٌ‬ ‫كان‬ ‫كان يخشاه أن يتكرر ما حدث حين كُسرت يده‬

‫دهشته بتمسك الفتى بملفه على الرغم من هذا اليسرى‪ ،‬وتتكرر معاناة أمه الحبيبة معه‪.‬‬ ‫الحادث المهول!‬ ‫لم يكمل سيف اليوم الثالث‪ ،‬حتى قام عن‬ ‫وح� ��اول آخ� ��رون أن ي�ح�م�ل��وا س �ي �ف �اً‪ ،‬ولكنّ السرير األبيض‪ ،‬وانتزع المصل من يده‪ ،‬وهرب‬

‫األس�ي��اخ الحديدية كانت مغروسة ف��ي أجزاء من المستشفى عائداً إلى البيت‪..‬‬ ‫من جسده الضئيل (خصوصاً الجانب األيسر)‬ ‫ذلك البيت «المشؤوم» الذي لم يبق أح ٌد فيه‬ ‫سيف «مفرفراً» من شدة األلم‪ ،‬حتى‬ ‫ٌ‬ ‫فـ‪ ..‬تحرّك‬ ‫انتزع جسده من تلك األسياخ‪ ،‬فبادر أحد فاعلي‬ ‫الخير بأخذه على سيارته إلى المستشفى‪..‬‬

‫سيف في أي مستشفىً‬ ‫ٌ‬ ‫وهناك‪ ،‬حيث ال يدري‬

‫هو‪ ..‬ضمّد األطباء ما استطاعوا من جراحه‪،‬‬

‫وأغلقوا ما استطاعوا من الفوّهات التي فتحتها‬ ‫سيف يتماثل‬ ‫ٌ‬ ‫األسياخ في جسده النحيل‪ ،‬وصار‬

‫للشفاء قليالً‪.‬‬

‫ح�ي��ن ب ��دأ س�ي��ف ي�ش�ع��ر بنفسه ويستطيع‬

‫ال�ت�ح�رّك‪ ،‬ك��ان الكثير م��ن األط �ب��اء والزائرين‬

‫يأتون إليه قائلين‪ :‬سمعنا عن حادثتك‪ ،‬ونريد‬

‫أن نعرف كيف استطعت ان�ت��زاع األس�ي��اخ من‬ ‫جسدك؟ هل كنت تقول (الله أكبر)؟!‬

‫كان سيف بمفرده في المستشفى‪ ،‬لم يخبر‬

‫على حاله‪..‬‬

‫سيف يتصوّر أن البيت كله‬ ‫ٌ‬ ‫فبعد أن ك��ان‬ ‫– خ �ص��وص �اً أم ��ه ‪ -‬ف��ي ف ��زع وخ� ��وف عليه‬ ‫وبحث مستميت عنه (كما كان يوم ضياعه في‬ ‫ٍ‬ ‫عرفات)‪..‬‬ ‫ه��ا ه��و ي��دخ��ل ال �ب �ي��ت ب �ج��راح��ه ف�ل�ا يجد‬ ‫أحداً‪.‬‬ ‫وبعد س��ؤال ال �م��ارّة وال�ح�ج��ارة والحيطان‪،‬‬ ‫تبين له أن أهله كلهم يتواجدون ه�ن��اك‪ ..‬في‬ ‫المستشفى نفسه الذي هرب منه‪ ..‬يتواجدون‬ ‫ودم��وع �ه��م ع�ل��ى خ��دوده��م ملتفين ح ��ول األم‬ ‫العظيمة (خ��دي �ج��ة) وه ��ي ت��رق��د ع�ل��ى سرير‬ ‫المرض والموت‪..‬‬

‫(‪ )1‬المدخل الخامس إلى الفصل األول من سيرة (سيف بن أعطى)‪ .‬وقد نُشرت المداخل ‪ 4 -1‬في العدد ‪ 16‬من‬ ‫مجلة (الجوبة)‪.‬‬ ‫< كاتب وروائي من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪35‬‬


‫ليس متاما يا أمي‬ ‫> جمال املوساوي‬

‫<‬

‫ش��������ع��������ر‬ ‫‪36‬‬

‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمي‪،‬‬

‫أنني أحضن الكون بين شفتيَّ‬

‫تظنين أنني سيء الطبع إلى هذا الحدِّ‬

‫كما قد أدَّعي في لحظة انفصام‬

‫وَأنّني مولعٌ بالهتاف للفراغ‬

‫أو أنّني أوشك على القفز‬

‫وأنّني ال أعرف الطريق‬

‫في مهاوي الكالم‪.‬‬

‫التي ينبغي أن تكون طريقي‪،‬‬

‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمي‪،‬‬

‫وأنّني أسرف في الطاعة للظاللْ‬

‫مخطئ‬ ‫ٌ‬ ‫لكنني‬

‫وأنني بال شبيهٍ في البرية‪.‬‬

‫األقل‪.‬‬ ‫ّْ‬ ‫مقنع على‬ ‫ٍ‬ ‫أو غيرُ‬

‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمي‪،‬‬

‫السماء البعيد ُة مرمى خطايَ‬

‫مخطئ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫لكنني‬

‫واألرض نَعْ لي‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ال داعي لتسفيه حسن ظن ِّك‪،‬‬

‫لذلك أكتنز السحاب لسفرٍ‬

‫فالمسافة رفيعة إلى حدّ التالشي‬

‫محتملْ‬

‫بين ظن ِّك وما أريد‪،‬‬

‫وأشج ُب صداقتهُ للريحْ ‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وخطواتي ضئيلة‬

‫صرنا نقيضين‪ :‬أنا والريحْ ‪،‬‬

‫ويدي‪،‬‬

‫أستبطئ العم َر‬

‫ما في يدي حيلة كي أركِّب العالم‬

‫وتسرق سنواته‬

‫كما يحلو للغيمةِ التي ترهق كاهلي‪.‬‬

‫تباعاً‪.‬‬

‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمي‪،‬‬

‫ال‪ ،‬ليس تمام ًا يا أمّ ي‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫بدأت‪ ،‬أنا اآلخرُ ‪ ،‬انجرافي نح َو الهاوية‪،‬‬ ‫ُ‬

‫أحالم ِك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫التي لم تكنْ سوى‬

‫وتماما لما لو في قصةٍ ملفقةٍ ‪،‬‬

‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمي‪،‬‬

‫أبيض كغمامةٍ‬ ‫ُ‬ ‫وجهي‬

‫أنّني أشحذُ السنوات من الدنيا‬

‫وضحكتي تسخرُ من الصباح‬

‫وأنَّني أمعنُ في التسكع داخل مدار اللغةِ‬

‫حيث الفرح لم يعدْ مجدياً‪ ،‬كما كانْ ‪.‬‬

‫ُدرك المعنى‬ ‫كيْ أ َ‬

‫بدأت يا أُمّ ي‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وكيْ أعثر على نصيبي من غَ نِ يمةِ الكالمْ‪.‬‬

‫األرض‬ ‫ِ‬ ‫تركت أحالما لتنْمو في‬ ‫ُ‬

‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمِّ ي‪،‬‬

‫تركت الشمس تمعن في قسوتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أمسك الكون من حاجبيه الك َّثيْنْ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وانجرفت‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ال‪ ،‬ليس تماما يا أمي‪،‬‬

‫مخطئ‬ ‫ٌ‬ ‫لكنني‬ ‫أدَّعي أنَّ الحياة صغيرةٌ إلى حدِّ البشاعَ ةِ‬

‫كيف أصدِّ قُ‬

‫ُؤس‬ ‫وأنَّ العا َل َم شديدُ الب ِ‬

‫الحد‬ ‫ّْ‬ ‫قاس إلى هذا‬ ‫أنَّني ٍ‬ ‫وأنَّني سيء الطبع‪ ،‬تماما‪ ،‬كما تظنين‬ ‫العصيان‬ ‫ِ‬ ‫رف في‬ ‫مس ٌ‬ ‫وأنّني ْ‬

‫رك‬ ‫سقف األحالمِ ال يُ دْ ْ‬ ‫َ‬ ‫أنَّ‬

‫ومصاب بدوارْ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بينما األمرُ ‪ ،‬في النهايةِ ‪،‬‬

‫لظالل غامضةٍ ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفي الطاعة‬

‫الطبع‬ ‫ِ‬ ‫أنَّك‪ ،‬يا أمِّ ي‪ ،‬تظنّين أنَّني سيّ ءُ‬

‫وأنّني‬

‫وأنَّ أحالمي مسيَّجةٌ‬

‫ال أقْ وى‬

‫وأن َِّك تظنّين‪ ،‬أيضاً‪ ،‬أن بيدي حيلةً‬

‫السقف الذي وضعتِ هِ‬ ‫ِ‬ ‫على رؤية‬

‫وأنَّ الكونَ بينَ شفتيَّ ‪:‬‬

‫ألحالمي‪،‬‬

‫كنْ ‪.‬‬

‫‪aaa‬‬ ‫< شاعر من المغرب‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪37‬‬


‫سفين ُ‬ ‫ة اجلَدائل‬

‫إلى راحلة الهوادِج باحتماالت سليمان الديكان‬

‫(‪)1‬‬

‫> أحمد الواصل‬

‫<‬

‫‪-1‬جديلة الرحيل‪:‬‬ ‫ُه َو ذاكَ رَحيْ ٌل ين َز ُع وت َر الوجَ عِ ‪..‬‬ ‫ُه َو ذاكَ رَحي ٌل ينحَ ُر ذاتَ الصم ِْت‪،..‬‬ ‫فمن يَسْ تَطي ُع الرحي َل وحْ دَه؟‪..‬‬ ‫نقض الترابُ ع ْهدَه‪ ،‬ولم يحْ فِ ْر أسما َء الراحلين‪..‬‬ ‫َ‬ ‫الصحْ راء ‪-‬‬ ‫ الهزَّاني(‪ )2‬كان يَسْ ني القصائ َد على شفا ِه َّ‬‫يسألون فاتح َة الطَّ ا ُعوْنِ ‪..‬‬ ‫ال رَحْ َمةٌ‪..‬‬ ‫ال جوعٌ‪..‬‬ ‫أم سَ ن ٌة للحُ زْنِ في ذاكِ رة ِح َّصة(‪ ..)3‬؟‬

‫‪-2‬جديلة الحنين‪:‬‬ ‫َّاحل َة‪..‬‬ ‫َقص لَكَ هَ ِجيْ ُن ال َموْقِ دِ حُ ل ُ َم ال َمرْأ ِة الر ِ‬ ‫ي ُّ‬ ‫‪« :‬يا ول َع األحاجي‪،..‬‬ ‫يا حني َن النوق األخيرة‪»..‬‬ ‫إليكم يا ُملْتَفِّي األعناقِ ‪:..‬‬ ‫« َويْاله‪ ..‬لتَعْشُ بَ الروحُ‪،..‬‬

‫‪38‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫وياله‪ ..‬لتَ ْعرَى فيك الروح‪» ..‬‬

‫و ْقعٌ‪..‬‬

‫َويْاله‪ِ ..‬لتَ ُد ْو َم أم تَطْ غَى في رَحيْ ِلهَا هذ ِه الهَامَاتُ ؟‬

‫و ْقعٌ‪..‬‬

‫هَ امَاتُ الحُ زْنِ لِجَ دائلِ ال َمرْسى اآلتي‪..‬‬

‫‪-3‬جديلة الشبق‪:‬‬ ‫يحنُّ عليْكَ هذا النخْ لُ‪،‬‬ ‫ال ِ‬ ‫صهيْ ُل القَافِ يَةِ ؟‬ ‫فمِ ْن أيْ َن للفالحِ َ‬ ‫ْس التراب؟!‬ ‫أيُّ مسَ اءٍ جم َع له هم َ‬ ‫سَ قطَ تْ وحدها تمْرةُ الحَ مْد‪..‬‬ ‫تمضي في طَ ريْقِ كَ وتَغِ يْبُ عَ نْكَ العُسْ بان‬ ‫صيف عمرِ كَ تمي ُل وتُ َهوِّم‬ ‫َ‬ ‫تَق ِْضي‬ ‫ن َِشيْ َداً للسَّ ع َِف وحَ نانِه‬ ‫ُكلَّمَا امتدَّ غابَتْ فِ طْ ن ُة الرَّجُ لِ ‪،..‬‬ ‫فيَسَّ اقَطُ النبْ ُع مِ ْن قشور النفس‬ ‫ذات َمثُوْبةِ الشَّ بَق‪..‬‬ ‫ِ‬

‫‪-4‬جديلة السبيل‪:‬‬ ‫ترْويْكَ األحْ جَ ا ُر عن َم ْملَكَةِ السَّ بَايا‬ ‫ُصغِ ي‪..‬‬ ‫وت ْ‬ ‫وَجْ ٌه تنْبُتُ عليه ظنو ُن الخَ يْلِ ‪..‬‬ ‫ُصغي فت َِطيْرُ‪ ..‬؟‬ ‫أت ْ‬ ‫ش عَ لَيْه أمني َة العُشْ ِب‪..‬‬ ‫تَنْقِ ُ‬ ‫عمَّا احْ تَك َم واسْ تَباحَ تْه النجوى‬ ‫فال سبي َل للندى‪..‬‬

‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫خَ زيْن ُة الهَوى تَنْك َِسرُ‪..‬‬ ‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫احلِ ال ُعمُرِ سَ َهرٌ‪..‬‬ ‫لِسَ ِ‬ ‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫و ْقعٌ‪..‬‬ ‫ذهبٌ يُدْريك عَ ْن حَ دي ِْث الشَّ قَاءِ وسَ لْوَاه‪..‬‬ ‫رَحي ٌل يَ ْد ُفنُه رَحي ٌل بين سهْمِ البحْ رِ‬ ‫ومكيد ِة القاع‪..‬‬ ‫رباب ٌة تخر ُج من المَاءِ ونساءُ ال َبدْو يَخْ ب ْز َن ال َغيْ َم‬ ‫عصاكَ ‪،‬‬ ‫تُم ِْسكُ َ‬ ‫فال تَ ْقوَى على ترتيل هذه اللغة‪:‬‬ ‫يف مِ َن اإلعْ جَ از‪» ..‬‬ ‫«حَ بْ ٌل مِ َن البَالغةِ وسَ ٌ‬

‫‪-5‬جديلة النخل‪:‬‬ ‫تكِ ُّف بيديك شَ ْه َوةَ ال َّرمْلِ ‪..‬‬ ‫ص ْولَةِ البحْ ر َو عَ ذَارَى اللُّ ْؤلُؤِ ‪ ..‬؟‬ ‫ماذا عن َ‬ ‫كَشفَت ا ْمرَأةٌ خدَّ ها عليه ِحيكَ مَجْ ُد السُّ وْر‪..‬‬ ‫والصبْيَا ُن َملُّوا نجْ َم االنتظار‪..‬‬ ‫ِّ‬

‫ال حياةَ لعينيكَ بين التَّيهِ وغُيومِ هِ‬

‫إنك تَتْرُكُ َهذَا وتَرْحَ ُل قبْ َل أن تن ِّو َخ بهم مِ لَّ ٌة في ال َمهْلِ‬

‫سَ ماؤك مَجْ بُول ٌة بشذا المسْ حُ وب‪..‬‬

‫أو شَ هادةٌ في سوقِ الخَ يلِ ‪! ..‬‬

‫< شاعر سعودي‬ ‫(‪ )1‬سليمان الديكان‪ :‬موسيقي كويتي‪.‬‬ ‫(‪ )2‬محسن الهزاني‪ :‬شاعر نبطي من الحريق‪.‬‬ ‫(‪ )3‬حصة السبيل‪ ،‬جدتي ألبي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪39‬‬


‫عـزْلـة‬ ‫مـد ُ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ُ‬

‫«مقاطع من قصيدة طويلة»‬ ‫> د‪ .‬شريف ُبقنه ّ‬ ‫الشهراني‬

‫<‬

‫‪11‬‬

‫حال تَسَ ير‪.‬‬ ‫‪ ..‬على كُ لّ ٍ‬

‫واتصال ثم ْ َموت‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫«مولدٌ‬

‫العمْ القة‪،‬‬ ‫تلك ال َق ّو ُة ِ‬

‫الحقَائق‬ ‫تلك هي كُ لّ ّ‬ ‫َ‬

‫تسيرُ في َصمْ ت‪.‬‬

‫حين ُتد َُّق المَ ساميُ ر‬ ‫في النّعوش» ‪1‬‬ ‫عن المَ ارقين‪..‬‬ ‫عيونُهم الحَ زينَة‬ ‫السنون‬ ‫تقهرهُ م ّ‬

‫‪40‬‬

‫‪12‬‬ ‫الشقاء‬ ‫ينوس فيه ّ‬ ‫ُ‬ ‫قاطبةً‬ ‫بحبور األرض ِ‬ ‫ليظفر ُ‬ ‫روحه‬ ‫‪ ..‬ينغمرُ العالَمُ في ِ‬

‫أجال ق َِصيرة‬ ‫ٌ‬ ‫وتمزّقهُ م‬

‫أحاسيس فيـّاضة‪.‬‬ ‫َ‬

‫و الحياةُ‪..‬‬

‫لم يَعْ رف أنّه بُركان‬

‫حال تَسير‪،‬‬ ‫على كُ لّ ٍ‬

‫إ ّال عندما فارَت حمَ مُ ه!‬

‫و تظلُّ كذلك‬

‫ميّت من قام النّهار‬

‫تُغرّر بكلّ جيل‬

‫ونام الليل كلّه‪،‬‬

‫وتواجه كلّ َفرْد‪،‬‬ ‫ُ‬

‫كُ تِ بَ المَ عْ نى على االنسَ ان‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫‪ ..‬محكومٌ عليك‬

‫فال يشتهي شيئ ًا‬

‫أن تهبَ َبدَنك عي َد األرْض‪..‬‬

‫سوى العُ زلة‪.‬‬

‫أن ترت َِجل العُ مْ ر كلّه‬

‫مجا ُز الّلحظة تست َِهلُّ ختامَ ها؛‬

‫إرادَة خَ يّرة‪..‬‬

‫على أن ت َْسكبَ كلّ شَ يْ ءٍ‬

‫تَشكُ رُ رُغْ َم كلّ شيْ ء‪.‬‬

‫رؤوسنا‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫فوقَ‬

‫طوبَى لالنهائيّ ‪..‬‬

‫الصيامُ عن الشعر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫المَ كْ نون في صدرك‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫أقذر وسائل التسلّط على الذات‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫كلما تخاذَلَ المنطقُ‬ ‫وأفلسَ ت ِحنْكته‪..‬‬ ‫النوائب‬ ‫ِ‬ ‫الشعرُ بزمام‬ ‫يمس ُك ّ‬ ‫ُ‬ ‫ويسجرُ تنّو َر القصيدةِ‬ ‫ّ‬ ‫وَهَ ج ًا كون ّياً‪..‬‬ ‫بمنْسأة الغواية!‬ ‫أهش ِ‬ ‫ّ‬

‫ال َي ـوْمُ‬ ‫والسماء‪.‬‬ ‫عروس األرْض ّ‬ ‫ُ‬ ‫ناك مُ هَرو ًال‬ ‫عندَما أخرجُ هُ َ‬ ‫على العُ ْشب ال َقزَحي‬

‫تفرّج كُ ربتي‪،‬‬

‫في َبنَفْ سَ ِج الغَسَ ِق‪،‬‬

‫آنس في فراديس جنتي اآلن‬ ‫ُ‬

‫وأشعُ رُ بسَ ديم هذا الفَضاء‬

‫وجحيمي بع َد غَ ٍد‪،‬‬

‫ينداحُ من بين كَتِ فيّ‬

‫وما َبيْن ذَلك‬

‫وتحت قميصي؛‬

‫على حافّ ة الرّؤيا‬ ‫أتضاعف تقديرات مُ تجاوزة‪.‬‬ ‫الشعر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يان أثقلَه التّركيز‬ ‫أثملُ من نِ ْس ٍ‬

‫الت‬ ‫أسلّمُ روحي للمُ رسَ ِ‬ ‫تَذْ روني أسفا َر إبْتهاالت‪،‬‬ ‫أترك لروحي أن َتتَنازلَ‬ ‫ُ‬

‫مزاجٌ كُ لّـي لَهُ األحياء واألموات‬

‫عن كلِّ أحزانِ ها‪..‬‬

‫يسخرها‬ ‫لهُ ال َكوْن وحدة ّ‬

‫وتغْ ِفر كـلّ اآلالم‪.‬‬

‫< شاعر سعودي‪.‬‬ ‫< (مُد ُن ال ُعزْلة) يصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت‪)2007/‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪41‬‬


‫األمازيغي‬ ‫> عبدالرحيم اخلصار‬

‫<‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬

‫غير أني حين أنظر إلى وجه جدتي‬

‫الذي مات غدرا بطعنة من أيدي الرومان‬

‫كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر‬

‫هوايتي أن أضرم النار في الجليد‬

‫قالت لي فيما مضى أنت حفيد الجبال‬

‫وأبني المصائد لطيور ال تصل األرض‬

‫فاتجهت إلى الجنوب‪ ,‬كما يتجه «أركيولوجي»(‪ )1‬إلى‬

‫يخطر ل��ي أح��ي��ان��ا أن أخ���رج سمكة م��ن ال��ن��ه��ر ثم صحراء بال خريطة‬ ‫أعيدها إليه‬

‫سألت الشيوخ والعرافين والرعاة والحكماء‬

‫وأق�����ف ع��ك��س ال��ت��ي��ار أن��ت��ظ��ر م��وه��م��ا ن��ف��س��ي أني سألت مطاريد الليل والباحثين عن الدفائن وحفاري‬ ‫سأصطادها يوما ما‬

‫اآلبار‬

‫يخطر لي أحيانا أن أفتح أقفاصا في السطح‬

‫تقفيت آث��ار الساللة في السفوح وعلى مقربة من‬

‫وأطلق العصافير التي أفنيت سنوات في رعايتها‪.‬‬

‫األفالج‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬

‫ف���ي م��ن��ع��رج��ات ال���ق���رى وم��ش��اع��ات��ه��ا ف���ي الكهوف‬

‫ال أعرف جملة من لغتي‪ ،‬ال أذكر شيئا عن أسالفي‬

‫والمداشر والمغارات‬

‫سوى أن جدي كان راعيا في جبال األطلس يطارد لم أسمع س��وى رج��ع صوتي كهدير رك��ام من الثلج‬

‫‪42‬‬

‫قطعان األروية‬

‫ينهار‬

‫وعبر منحدرات اللوز كان يركض بالليل والنهار‬

‫خبرتني عجوز تتكئ على عكازة ومئة عام وأكثر‬

‫ناصبا شباكه وفخاخه لطرائد الوادي والغابة‪،‬‬

‫أن جدي كان حطابا‪ ،‬لذلك حمل فأسه قبل الرحيل‬

‫وكباقي النازحين ستقذفه المجاعة إلى السهول‬

‫وفي حمأة الغضب أسقط شجرة العائلة‪.‬‬

‫ليصلح أواني العرب‪ ،‬ويتغزل بامرأة ستغدو يوما ما‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬

‫جدتي‪.‬‬

‫ف��ي داخ��ل��ي تركض قطعان م��ن الجواميس إل��ى أن‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬

‫تتعب‬

‫ال كتاب يذكر شيئا مما أنتظر‬

‫تتعارك النسور‪ ،‬ويتناثر ريشها بين الجبال‬

‫كل الكتب تروي دائما عكس الحكاية‬

‫تعوي ذئاب في أكماتها‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫بيد أن صوتها القاسي ال يجتاز الوجار‬

‫خوفا من غدر السفوح‬

‫في الداخل تموت أفكار كثيرة بنيران صديقة‬

‫لذلك أحيا في غرفة على السطح‬

‫والدي ينظر إلى صورة أبيه المعلقة فوق الدوالب‬ ‫وتسقط من شفتيه الكلمات ثقيلة في جوف الليل‬ ‫لم تقطب حاجبيك وتحمل الخنجر والبندقية‬ ‫وال أحد يطاردنا اليوم!؟‬

‫أقرأ كتابا عن شعوب المايا‬ ‫وأسمع أغنية ألحفاد آشور‬ ‫أطيل النظر إلى السماء وألملم شتات النجوم‬

‫لماذا تركت اآلخرين وتدحرجت من الجنوب‬

‫أجلس مثل بومة على كتف العالم‬

‫مثلما تتدحرج صخرة من أعالي الجبل‬

‫وأخاف أن أسقط فتدهسني أطرافه‬

‫وتتفتت على جراف في ضفة الوادي؟‬

‫أخ����اف أن تجتثني ي���د م���ا وت���ط���وح ب���ي إل���ى سهب‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬ ‫لم أرث عن أسالفي سوى نظرتي المرتابة‬ ‫وإحساسي الدائم بأني أمشي على رصيف يرتج‬ ‫وأتكئ على حائط سينهار‬

‫سحيق‪.‬‬ ‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬ ‫الذي ساد هذه األرض قبل ألفي عام‬

‫أم��د ي��دي إل��ى ظلمة ال نهاية لها‪ ،‬وأسبح في مياه والذي ال أملك له صورة على جدار غرفتي‬ ‫غادرة‬ ‫فماذا أفعل فيك أيها العالم وكل أمالكي قلم وورقة؟‬ ‫أسهر الليالي‪ ،‬أشذب الكلمات‬ ‫أناشد صورا في األلبوم أن ترقص معي‬

‫فقط أتخيله شبيها برجال األساطير‬ ‫بصولجان من عاج الفيلة وتاج من الريش والذهب‬ ‫رأيته مرة في منامي بعمامة رجل كردي‬

‫وأفتح نافذتي في عز الشتاء على نوافذ مغلقة‬

‫ربما أشياء كثيرة تربطني باألكراد‬

‫يركض الناس متلهفين باتجاه الحياة‬

‫غير أني أتنفس هواء هاته البالد كما يحلو لي‬

‫وأنا يجرفني التيار باتجاه حياة أخرى‬

‫وأدب كسائر الخلق في المنحدرات‬ ‫ُّ‬

‫يهتف الناس بأسماء بعضهم كما لو أنهم قديسون‬

‫لكنها رغبة الماء في أن يعرف نبعه‬

‫أفضل أن أحيا صامتا على أن أهتف باسم أحد‬ ‫وأنا ّ‬ ‫أن أكون أعمى على أن أبصر مواكب العته تمر بزهو‬ ‫أمام بيتي‬

‫قبل أن يجرفه الشالل‬ ‫رغبتي أنا في أن ألتفت إلى الوراء‬

‫أن أكون أصم ًا على أن أسمع نشازك أيتها الحياة‬

‫كي أجلو وجهتي‬

‫ربما اعتاد أجدادي على الجلوس في أعالي الجبل‬

‫لتبدو واضحة مثل صورتي في المرآة‪.‬‬

‫< شاعر من المغرب‪.‬‬ ‫(‪ )1‬أركيولوجي‪ :‬عالم آثار‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪43‬‬


‫حدثيني‬ ‫> علي محمد آدم‬

‫<‬

‫حدثيني‬ ‫كيف أشجتني المزاميرُ‬ ‫وقلبي في رماد العشق‬ ‫كالشطآن أمسى‬ ‫حدثيني‬ ‫طالما أصغيت للذكرى‬ ‫تعابثني تعاتبني‬ ‫تهاتفني تؤرجحني‬ ‫لعلي حين تجرحني رياح الوقت أستسقي‬ ‫بريق اآله‬ ‫في صمتي وأنسى‬ ‫حدثيني‬ ‫عينيك‬ ‫ِ‬ ‫سافرت في‬ ‫ُ‬ ‫كلما‬ ‫واحتدمت غيوم الدمع‬ ‫تمطرني وتأسى‬ ‫حدثيني‬ ‫كلما أشعلت بالكلمات‬ ‫واآلهات كالمزمار‬ ‫ِ‬ ‫نوح الناي‬ ‫تفتح لي نوافذها كمرسى‬ ‫حدثيني‬ ‫ألهبت باإلنصات‬ ‫ُ‬ ‫كلما‬ ‫للناعين ذاكرتي لتقسى‬ ‫حدثيني‬ ‫هل يموت الورد‬ ‫أم يتلو الذبول وينطوي‬ ‫في غابة اآلالم‪ ..‬محروم ًا وتعسا‬ ‫حدثيني‬ ‫كيف عاد الناي ذاكرتي‬ ‫< شاعر سعودي‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫وفي شفتيك قافلة تعيد الوقت‬ ‫مقرونا بأوجاعي‬ ‫وغيم الدمع باألحداق أمسى‬ ‫حدثيني‬ ‫لذة اإلنصات تمنحني‬ ‫سكون النفس كالظمآن‬ ‫ينعشه خرير الماء‬ ‫ما دامت ظالل العيش شمسا‬ ‫حدثيني‬ ‫أسمعيني رقصة األنفاس كالحمى‬ ‫تجرجرنا إلى الشرفات‬ ‫واللحظات تلهبنا‬ ‫كأن العمر لعبتنا معلقة‬ ‫على جدران قصر الحب‬ ‫قنديال وبؤسا‬ ‫حدثيني‬ ‫إنني أبحرت في شفتيك‬ ‫واحتدمت سيول الخوف‬ ‫تجرفني وتأسى‬ ‫حدثيني‬ ‫إنما األيام والساعات‬ ‫في روحي وفي عيني‬ ‫عمياء وخرسا‬ ‫حدثيني‬ ‫إنها اآلالم تجمعنا توحدنا‬ ‫وفي جنباتها حفالتنا تحيى‬ ‫وهذا البوح يمطرنا ترانيما وحسا‪.‬‬


‫قصائد قصيرة‬ ‫> يوسف عبدالعزيز‬

‫<‬

‫الشاعر‬ ‫أعمال ّ‬

‫التّ مثال‬

‫زجاجات‬ ‫ٍ‬ ‫حقلَ‬

‫طعينات على الرَّ ف‬ ‫ٍ‬ ‫بومات‬ ‫ٍ‬ ‫خمس‬ ‫ُ‬

‫يترجرجُ فيها ال َهذَيانُ‬

‫رأس مكتهلٌ‬ ‫لي ٌ‬

‫قمري ويوارينَ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُيغ َّطيهنّ دمعٌ‬

‫وس َّل َة أخطاء‬

‫ومريض‬ ‫ُ‬

‫الكالما‪.‬‬

‫كشحاذٍ‬ ‫ّ‬ ‫كا َن العُ مرُ الوغدُ يمرُّ‬

‫بومات‬ ‫ٍ‬ ‫خمس‬ ‫ُ‬

‫معتمرٍ فوق الرأس حذاء‬

‫الشاعر‬ ‫تصايحنَ على مائدةِ َّ‬

‫في الغرفةِ‬

‫َّيل‬ ‫في الل ِ‬

‫حاولَ أن يكتبَ شيئ ًا‬

‫تسقط كسماءٍ عاليةٍ حين‬ ‫ُ‬ ‫طائشةٍ‬

‫َونَقَّ ْر َن‬

‫الصورةِ‬ ‫س بهدوءٍ صندوقَ ّ‬ ‫فتَحَ َّس َ‬

‫تفيض‬ ‫ُ‬

‫الظالما‪.‬‬ ‫ّ‬

‫أغمض عينيهِ‬ ‫َ‬

‫ومريض‬ ‫ُ‬ ‫رأس مكتهلٌ‬ ‫لي ٌ‬

‫فانسَ َكبَت جرَّ ُة موسيقى‬

‫قلت‪ :‬سأقطعُ هُ‬ ‫صباح ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ذات‬

‫سيرة ذاتيّ ة‬

‫��س شتّى‪،‬‬ ‫رأس م��ح��ش��وٌّ ب��ك��واب��ي ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫وحروب‬ ‫ٍ‬ ‫ّات ب���ال���ري���ش‪،‬‬ ‫ون������س������اءٍ م�������زه�������و ٍ‬ ‫وموسيقى‬

‫السكّ ين‬ ‫أمسكت ّ‬ ‫ُ‬ ‫وهنا‬

‫الشاعرُ‬ ‫تبن أيّامي‪ ،‬قالَ ّ‬ ‫حَ فنَةُ ٍ‬

‫واشتعلَ الوردُ على الجدران‬

‫تلهث خلفي كالكلبَة‬ ‫وحياتي ُ‬

‫رب شفاهٍ قُ ربَه‬ ‫ورفرف ِس ُ‬ ‫َ‬

‫مرتبكاً‪ ،‬ووحيد ًا‬

‫ما جدوى ذلك؟‬

‫كان يُقل ُِّب أوراقَ الماضي‬

‫الشاعرُ ‪ ،‬ورمى‬ ‫قالَ ّ‬

‫صاحوا فرحين‪:‬‬

‫هرمات‬ ‫ٍ‬ ‫خمس نساءٍ‬ ‫َ‬ ‫فيرى‬

‫ِمن نافذةِ الغرفةِ‬

‫سقط التمثالْ‬ ‫َ‬

‫األرشيف‬ ‫ْ‬ ‫في‬

‫قلبَه‪.‬‬

‫سقط التمثالْ ‪.‬‬ ‫َ‬

‫يت األم َر سريع ًا‬ ‫سوَّ ُ‬ ‫فتدحر َج في الحال‬ ‫الضجرين‬ ‫لكنَّ النّاس َّ‬

‫< شاعر من األردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪45‬‬


‫(أخيرا وصل الشتاء) لعبدالرحيم اخلصار‪:‬‬ ‫كفن االنتظار املطروز منذ الوالدة‬

‫> يونس احليول‬

‫<‬

‫حتى قبل صدور مجموعته الثانية التي اجترح لها عنوان (أرى وأكتفي بالنظر)‬ ‫بأيام‪ ،‬ما زالت باكورة إنتاج الشاعر المغربي عبدالرحيم الخصار (أخيرا وصل‬ ‫الشتاء)(‪ )1‬التي صدرت عن منشورات وزارة الثقافة المغربية سنة ‪ 2004‬لم تحظ‬ ‫بااللتفاتة النقدية‪ ،‬المتناسبة مع بصمة هذا الشاعر‪ ،‬وحضوره في المشهد الشعري‬ ‫المغربي الجديد‪.‬‬ ‫والحقيقة أن الخصار يستمر في شق مغامرته اإلب��داع�ي��ة‪ ،‬التي بدأها في‬ ‫التسعينيات‪ ،‬من القرن السابق بعدد من المنابر الشعرية المغربية والعربية؛‬ ‫محاوال تمييز صوته عن شعراء جيله باإلخالص للنثر كوسيلة وحيدة لبناء خطابه‬ ‫الشعري‪،‬‬ ‫ذلك أن قصيدة النثر عنده تقف عند التخوم القصوى ألجناس أدبية أخرى في‬ ‫مقدمتها السرد‪ ،‬مسهما بذلك في تحويل النظر عن المفهوم الثابت للقصيدة‪ .‬ففي‬ ‫فعل الكتابة عند الخصار‪ ،‬عامة‪ ،‬وفي مجموعته األولى‪ ،‬خاصة‪ ،‬تتعدد األصوات‬ ‫وتتقاطع‪ ،‬ويتحول السرد إلى أحد إمكانات تفجير اللغة‪ ،‬أي جعلها قابلة الستيعاب‬ ‫أفق الرؤية‪ ،‬بانتقالها من السياق الشعري إلى سياقات خطابية أخرى‪ ،‬أو ما نسميه‬ ‫بالتعتيم األجناسي(‪.)2‬‬

‫ن���������ق���������د‬ ‫‪46‬‬

‫تتأسس مجموعة (أخيرا وصل الشتاء) على نصوص مختلفة األحجام‪ ،‬تلحمها‬ ‫تيمة ال تخطؤها العين‪ ،‬ويكاد ال يخلو منها أي نص من نصوص الديوان‪ ،‬وهي تيمة‬ ‫االنتظار التي يفصح عنها العنوان سريعا‪ ،‬انطالقا من ركوبه على خرق تركيبي‬ ‫فاضح‪ ،‬يتجسد في ترتيب جديد ومختلف ألج��زاء الكالم‪ ،‬بتقديم كلمة (أخيرا)‬ ‫المفترض نحويا أن تتذيل الجملة ال أن تتقدمها! هذا الترتيب الذي هو تبئير للكلمة‪،‬‬ ‫وتسليط مقصود النتباه القارئ عليها‪ ،‬ليدرك أن هذا الشتاء لم يصل إال بعد انتظار‬ ‫مرير وقاس‪ ،‬عاشت فيه الذات الشاعرة كل أشكال الخوف والتوجس‪ ،‬ليس فقط‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫من موت أشجار الكستناء والطرفاء والصفصاف‪،‬‬ ‫وأزهار المارغريت والغاردينيا والوستيريا‪ ،‬التي تؤثث‬ ‫فضاءات قصائد المجموعة‪ ،‬بل أيضا وأساسا من‬ ‫يباس الحب في قلب المرأة‪ ،‬التي ينتظرها بالرجاء‬ ‫نفسه ال��ذي يحمله على ال�ق�ط��رات األول ��ى لفصل‬ ‫الشتاء‪ .‬نقرأ في نص (لست وسيما بما يكفي)‪:‬‬ ‫صوت الكناري في القفص‬ ‫يحدث أنك قادمة من الصحراء‬ ‫منذ أزيد من فصل وأنا أنتظر‬ ‫رجاء ال تتأخري‬ ‫فمن فرط الحرارة‬ ‫قد يجف الحب في قلبك (ص‪)38‬‬ ‫إن قسوة االن�ت�ظ��ار والنظر إلى‬ ‫األف��ق بخوف من أال تحمل الغيوم‬ ‫س��وى تبشير م��زي��ف ه��و م��ا يجعل‬ ‫ال�ش��اع��ر ي�ح��دق ف��ي ال�م��اض��ي بنوع‬ ‫م��ن اليوتوبيا‪ ،‬حيث ك��ل ش��يء كان‬ ‫على ما يرومه‪ .‬يقول في نص (خارج‬ ‫القفص)‪:‬‬ ‫هامتي محنية باتجاه الماضي‬ ‫وعيناي تحدقان في الذي راح‬ ‫من تلك الشرفة‬ ‫كانت تطل فتاتي الصغيرة‬ ‫بشرى‪ ،‬ذات التنورة الحمراء‬ ‫قرب عمود الكهرباء المائل (ص‪)15‬‬ ‫أو يحتمي بالمتخيل‪ ،‬حيث نافذة الالوعي تشرع‬ ‫أكثر من مرة في المجموعة‪ ،‬ليتسلل عبرها الشاعر‬ ‫فاردا ذراعيه للحلم‪ ،‬هاربا من سطوة يوم جاف ذاق‬ ‫فيه القسوة من أكثر من كأس‪ ،‬وتلقى في دروبه وابال‬ ‫من الصفعات‪ ،‬إنه في الحلم فقط يرى ما يريد‪:‬‬ ‫هل كنت تلبسين فستانك األبيض الشفاف‬ ‫أم أن أطرافك كانت مغطاة بالثلج؟‬ ‫لقد كان الضباب كثيفا‬

‫لذلك لم أرك جيدا‬ ‫وأنت تعبرين كالبرق في حلم البارحة (ص‪)38‬‬ ‫إن الشتاء المنتظر كمخلص للشاعر من عذاباته‬ ‫يتأخر كثيراً‪ ،‬على الرغم من النهاية المتفائلة التي‬ ‫يعلن عنها عنوان المجموعة‪ ،‬وال حدائق الماضي أو‬ ‫جنان الحلم قادرة في هذه الحالة على الصمود أكثر‪،‬‬ ‫ف��ي وج��ه واق ��ع ال ي �ت��ورع ع��ن عزل‬ ‫الشاعر أكثر واإلم�ع��ان في إيذائه؛‬ ‫لذلك يبدو االنتظار هو من جديد‬ ‫الخيار األوح��د للشاعر أم��ام عدم‬ ‫قدرته ‪ -‬هو الوحيد األعزل المليء‬ ‫جسده بالرضوض ‪ -‬على مجابهة‬ ‫ج �ب��روت ال �ح �ي��اة‪ ،‬وإن ك��ان��ت بعض‬ ‫س �ط��ور ال �م �ج �م��وع��ة ت�ح�م��ل تمردا‬ ‫على ال��واق��ع وت�ع��زف نغمة انتفاض‬ ‫على الوضع‪ ،‬سرعان ما تخفت أمام‬ ‫ت��وق ال��ذات الشاعرة إل��ى السكينة‬ ‫واكتفائها بعزلة تستسلم فيها لآلتي‬ ‫وترقبه بعنق مشرئب‪ ،‬لنقرأ هذا المقطع من نص (ال‬ ‫أحد يطرق الباب)‪:‬‬ ‫أعرف أيضا أن الفراشة‬ ‫التي كنت أوزع أجنحتها على رفاقي‬ ‫ستعود إلى حينما تزهر أشجار الخيزران‬ ‫وفي انتظارها‬ ‫في انتظار أن تعود‬ ‫دون أن يراها رفاقي‬ ‫أطفأت مصابيح العالم‬ ‫وأشعلت قنديال صغيرا في قلبي (ص‪)33‬‬ ‫إن م��ا زاد تيمة االن �ت �ظ��ار ن �ت��وءا ف��ي جغرافية‬ ‫المجموعة هو الطابع السردي ال��ذي يلقي بظالله‬ ‫على أغلب القصائد‪ ،‬خاصة وأن فعل االنتظار غالبا‬ ‫ما يكون ردة فعل سلبية تجاه معاكسة الوقت لرغبات‬ ‫الشاعر‪ ،‬ردة تنتهي بها النصوص ولكنها ال تشكل‬ ‫خالصا ل��ذات يتضح أنها تقع أحيانا فريسة نزوع‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪47‬‬


‫م��ازوش��ي تستلذ م��ن خ�لال��ه ال�ع�ك��وف ف��ي صومعة‬ ‫االنتظار‪ ،‬الذي يبدو أحيانا وكأنه مكتوب في لوحها‬ ‫المحفوظ‪ ،‬فحتى الشتاء المفترض أن يأتي مبرقا‬ ‫مرعدا محمال بسحب الخالص ال يفعل س��وى أن‬ ‫يعمق وح��دة الشاعر وعزلته‪ ،‬نقرأ في نص (أخبئ‬ ‫حزني في شجرة الطرفاء)‪:‬‬ ‫وحين يهزمني االنتظار‬ ‫ويجمد الثلج قدمي الواقفتين ألجلك‬ ‫أعود إلى حجرتي‬ ‫مستأنسا بنحيب البرد والمطر (ص‪)10‬‬ ‫ول�ع��ل ال �ق��ارئ م��ن هنا يستنتج أن االن�ت�ظ��ار في‬ ‫مجموعة (أخيرا وصل الشتاء) ليس ذلك االنتظار‬ ‫ال��ذي يعيشه الجميع‪ ،‬ويتبدد بوقوع الحدث الذي‬ ‫نترقبه‪ ،‬إنه انتظار آخ��ر‪ ،‬انتظار من أجل االنتظار‪،‬‬ ‫انتظار هدفه المضمر تأجيل اآلتي‪ ،‬أكبر وقت ممكن‬ ‫خوفا وتوجسا من ذاك اآلتي الذي يمكن أن يشكل‬ ‫خيبة مدوية‪ ،‬ويقود إلى فراغ داخلي شاسع‪ .‬فحتى‬ ‫في نص (رجل الثلج) الذي قد منه عنوان المجموعة‬ ‫ككل‪ ،‬نجد أن انتشاء الشاعر بسقوط المطر بإشعال‬ ‫النار في المدفئة وتعليق المصابيح وأجراس النحاس‬ ‫والشرائط الملونة على شجرة العيد‪ ،‬ووضع الشموع‬ ‫الحمراء على أط��راف الطاولة‪ ،‬سيتحول إل��ى فرح‬ ‫مؤجل ومنسي بسبب التوتر ال��ذي يصاحب النظر‬ ‫إل��ى الساعة‪ ،‬وانتظار ق��دوم رج��ل الثلج ال��ذي يبدو‬ ‫أن��ه أخ�ل��ف وع��ده على غير ال �ع��ادة مسلما الشاعر‬ ‫إل��ى ف��ؤوس الحيرة واألل ��م‪( :‬أراق���ب ب��ن��دول الساعة‬ ‫وأنتظر‪ ..‬لكن رج��ل الثلج لم يمر‪ ،‬لم أسمع صرير‬ ‫عربته كالعادة‪ ،‬أوه‪ ،‬رجل الثلج‪ ،‬لم يطرق النافذة‪ ،‬ولم‬ ‫يهبني نصيبي من الهدايا) (ص‪.)48‬‬

‫إن (شتاء) عبدالرحيم الخصار إذاً شتاء مخادع‪،‬‬

‫يخاتل القارئ موهما إياه بكونه وصل أخيرا لكي يفك‬ ‫اللغز‪ ،‬الذي يلقي بظالل غير مرئية على المسالك‬

‫التي تقود لإلمساك بمفتاح النصوص‪ :‬لغز االنتظار‪،‬‬ ‫ال ��ذي يمسي ف��ي المجموعة ككفن ج��اه��ز ينتظر‬

‫فقط لحظة تأبين الشاعر لقطعان آماله‪ ،‬الراكضة‬

‫بهمة صوب مهاوي اليأس‪ ،‬أو ليس في أي حال من‬

‫األحوال المعنى الذي أراده الشاعر المغربي الكبير‬

‫عبداللطيف اللعبي حين ق��ال‪ :‬ليس هنالك سوى‬ ‫االنتظار ولغزه واألسئلة ت��زدرد األسئلة ما يتبقى‬ ‫منها فلفل الذع ه��و طائر تحت اللهاة دليل على‬ ‫اللعنة تشكله الحجارة التي يقذف بها أكثر من مرة‬ ‫لتزجية الوقت االنتظار كفن مطروز منذ الوالدة(‪.)3‬‬

‫قد يكون السعي في عرف اإلرادة اإلنسانية هو‬

‫المحبذ‪ ،‬والفعل المنظور إليه بعين الرضا‪ ،‬انطالقا‬

‫من المتاع الذي خلفته في الذاكرة ممارسة الشعوب‪،‬‬

‫ولكن (األدب‪ ،‬وح��ده‪ ،‬امتدح االنتظار وت� ّوج��ه على‬ ‫ع��رش التمزق اإلنساني وأع�ط��اه قيمة ال تقل عن‬

‫السعي‪ .‬االنتظار ال يعني الصبر أو امتحان أعماق‬

‫الكائن وإنما يعني‪ ،‬أيضا‪ ،‬الحيرة وانعدام اليقين‪،‬‬

‫والحيرة وانعدام اليقين هما ذهب األدب وفضته)(‪.)4‬‬ ‫ربما من هنا وم��ن مناحي أخ��رى بالتأكيد تأتي‬

‫النغمة الحائرة في مجموعة (أخيرا وصل الشتاء)‬

‫لعبدالرحيم ال�خ�ص��ار‪ ،‬النغمة ال�ت��ي أع�ط��ت لفعل‬

‫االنتظار طابعه القلق‪ ،‬الذي بدونه يصعب اإلمساك‬ ‫بجمرة اإلبداع‪.‬‬

‫< كاتب من المغرب‬ ‫‪ -1‬مجموعة (أخيرا وصل الشتاء) لعبدالرحيم الخصار‪.‬منشورات وزارة الثقافة لسنة ‪.2004‬‬ ‫‪(-2‬الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر) صالح بوسريف‪ ،‬دار الحرف للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪.2007 ،1‬‬ ‫‪(-3‬شذرات من سفر تكوين منسي) عبداللطيف اللعبي‪ ،‬ترجمة مبارك وساط‪ ،‬منشورات الموجة‪ .‬مارس ‪.2004‬‬ ‫‪(-4‬القدس العربي) أمجد ناصر‪ ،‬عدد ‪ 1‬دجنبر ‪.2006‬‬

‫‪48‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ديوان «نحيب األبجدية» ل جاسم الصح ّيح‪ :‬شعرية تتمرد على‬

‫األبجدية التي تضيق على رؤى الشاعر وعلى شطحاته الشعرية‬ ‫> أديب حسن محمد‬

‫<‬

‫الشي َء في الدنيا يعادل متعة اكتشاف شاعر‪ ،‬فهذا بأعراف‪.‬‬ ‫الكائن الذي يُسلّي وحشة الوجود‪ ،‬كالنباتات النادرة‬ ‫وع��ل��ى ال ��رغ ��م من‬ ‫التي تنتشر في بقاع األرض ال�ع��ذارى‪ ،‬تحمل ألواناً أن ال��ن��اق��د ع � ��ادة ما‬ ‫مغايرة لكل ما يحيط بها‪ ،‬وتنطوي على خصائص يكون محايداً إلى حد‬ ‫نادرة غير قابلة للتعميم والمداولة‪.‬‬ ‫البرود في تناول النص‬

‫األدبي؛ فإن بعض تلك‬ ‫النصوص تُخرج الناقد عن رزانته‪ ،‬وتُدخله في دوامة‬ ‫العشق‪:‬عشق النص ال��ذي هو بصدده؛ وذل��ك نتيجة‬ ‫الركازة الجمالية الهائلة التي ينطوي عليها النص‪،‬‬ ‫والتي تشبع روح الناقد الباحثة أب��داً عن أي ملمح‬ ‫جمالي ينير النص‪.‬‬

‫إن الشاعر الحق هو ذلك الذي يمتلك رهافة العمل‬ ‫مع اللغة‪ ،‬ويحلّق بالخيال إل��ى أبعد أبعد من حدود‬ ‫العقل البشري المادي‪ ،‬هو ذاك الذي تبهج قصائده‬ ‫أرواح��ن��ا‪ ،‬أو تُ��ده�ش�ه��ا‪ ،‬أو تُشعل أح��زان�ه��ا النبيلة‪،‬‬ ‫وتعيد ت��وزي��ع خ��رائ��ط األس�ئ�ل��ة‪ ،‬وتنبش مستقبالتنا‬ ‫الجمالية‪ ،‬فنخرج من إسار كينونتنا المألوفة‪ ،‬لنغدو‬ ‫كائنات أثيرية‪ ،‬نتماهى في المفردات‪ ،‬ونعيد تشكيل‬ ‫من هنا‪ ،‬فإن الشاعر ما هو إال ذلك السهم العاشق‬ ‫القصيدة‪.‬‬ ‫الذي قد يخطئ أو يصيب دريئة الناقد‪ .‬وال أحسب‬ ‫ال�ش��اع��ر ال�س�ع��ودي ج��اس��م محمد الصحيّح من الشاعر جاسم الصحيح إال ذلك الصياد الماهر الذي‬ ‫نصه بشباك خ��اوي��ة‪ ،‬ب��ل بشباك مثقلة‬ ‫األسماء المتصدرة للمشهد الشعري السعودي‪ ،‬ويشكل ال يعود م��ن ّ‬ ‫حالة شعرية متفردة‪ ،‬تمتلك أس�ب��اب الخصوصية‪ ،‬بصيد وفير مما تشتهيه البالغة‪ ،‬ويرتضيه الجمال‪.‬‬ ‫ومفردات التمايز عن المحيط‪.‬‬ ‫تحتاج قصيدة «ري ��اح فلسفية» ال�ت��ي يفتتح بها‬ ‫والديوان المعنون «نحيب األبجدية» يعد السادس الشاعر ديوانه إلى وقفة نقدية متأنية‪ ،‬ومتكاملة‪.‬‬ ‫في مسيرته الشعرية‪.‬‬ ‫فهذا النص المتّسق مع عنوانه منذ الكلمة األولى‬

‫«نحيب األبجدية» يقدم لنا حالة شعرية مختلفة‪ ،‬وحتى نقطة النهاية‪ ،‬ال يدعك تفلت منه‪ ،‬أو تشرد عنه‬ ‫أراد لها الشاعر ذلك في نية معلنة من العنوان‪ ،‬الذي لحظة واحدة‪.‬‬ ‫يشي بحالة شعرية تتمرد على األبجدية‪ ،‬التي تضيق‬ ‫يبدو الشاعر متمكناً من موضوعه‪ ،‬ويغذّي سرْدهُ‬ ‫على رؤى الشاعر وعلى شطحاته الشعرية‪.‬‬ ‫ّانة‬ ‫المنسوج على تفعيلة البحر الكامل بقافية رن ٍ‬ ‫وم���ا ي �ق��دم��ه ج��اس��م ال �ص �ح �ي��ح ي �ش �ك��ل محاولة هي الميم المضمومة‪ ،‬بحيثُ يُشوّقكَ اللتقام السرد‬ ‫الستكشاف جانب آخر من اللغة‪ ،‬حيث أن جموح خيال الشعري التقاماً متسارعاً لتصل بشغف إلى القافية‬ ‫الشاعر‪ ،‬وتوتر المفردات المثقلة بأسئلة الوجود‪ ،‬التي تليها‪ ،‬وهكذا‪..‬‬

‫يشكالن تمدداً تضيق عليه قمصان اللغة‪ ،‬فتتصاعد‬ ‫لغة شعرية شاكية متمردة ال تعترف بحدود‪ ،‬وال تلتزم‬

‫وينتقل الشاعر بمهارة كبيرة من فكرة إلى أخرى‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪49‬‬


‫فيجرحنا‪ ،‬ويُحيّرنا‪ ،‬ويحزننا‪ ،‬ويُفاجئنا‪ ،‬وهو يتص ّي ُد‬ ‫صوراً شعرية شديدة الحساسية واإليحاء‪.‬‬

‫استفزازياً‪ ،‬وفي ذات الوقت يحقق هذا التقابل هدف‬ ‫الشاعر الفكري الصوفيّ ‪.‬‬

‫تتميّز تجربة الشاعر جاسم الصحيّح بالتكثيف‪،‬‬ ‫مفردات‬ ‫ٍ‬ ‫«ريا ٌح فلسفية» نص صوفيّ وجوديّ بامتياز‬ ‫وقلّما نجد تجربة شعرية تحترم التكثيف‪ ،‬وتبتعد عن‬ ‫وطقوس‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومعان‬ ‫ٍ‬ ‫الحشو وعن اإلطالة غير المبررة‪ ،‬هذه اإلطالة التي‬ ‫يفتتح الشاعر قصيدته بالكلمات التالية‪:‬‬ ‫تحدث غالباً بسبب انتهاء الدفق الشعري‪ ،‬وإصرار‬ ‫في الخارج األعمى أتيهُ ‪..‬‬ ‫بعض الشعراء على إكمال النص مما يحدث فصاماً‬ ‫بين جزأين أحدهما عالي التركيز‪،‬‬ ‫كأنني من دون كلّ الكائنات‬ ‫وشديد اإليحاء‪ ،‬واآلخر فاقد لتوتر‬ ‫الموت‬ ‫ِ‬ ‫لوحش‬ ‫ِ‬ ‫طريدةٌ مُ ثْلى‬ ‫الشعر‪ ،‬ولحميميّة اندفاقه الجمالي‬ ‫‪...‬‬ ‫األوليّ ‪.‬‬ ‫وحدي كأنّي بائعٌ متجوّلٌ‬ ‫اكتهلت بضاعتي‪/...‬‬ ‫ُ‬ ‫وكهولتي منذ‬ ‫ص‪15‬‬

‫ي�ب��دو التكثيف ه�ن��ا نتيجة وعي‬ ‫عميق بماهية الشعر‪ ،‬واحترام شديد‬ ‫لفرادته‪ ،‬وافتراقه عن الكالم العادي‪،‬‬ ‫أو عن الوظائف األخرى للغة‪ .‬ويبدو‬ ‫التكثيف في أشد تجلياته في رباعيات‬ ‫الشاعر‪ ،‬يقول في إحداها‪:‬‬

‫فالشاعر ي�ق�دّم شطْ حاً صوفياً‪،‬‬ ‫يحاول فيه الخروج من جسده‪ ،‬والعبور‬ ‫في سياحة روحية خالصة إل��ى روح‬ ‫«أنا منذُ اخضرارِ النفْ ِس‬ ‫الموجودات‪ ..‬يُحاورها‪ ،‬ويستنطقها‪،‬‬ ‫ب ُْستانيّها الذاتي‪.‬‬ ‫ويبحث ف��ي معانيها المُسْ تترة‪ ،‬وه��و إل��ى ذل��ك على‬ ‫الرغبات من أعشاب لذاتي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أقص زوائ َد‬ ‫ّ‬ ‫الرغم من جنوح الخيال في الصور الشعرية‪ ،‬ال يقدّم‬ ‫الغوايات‪ ..‬ص‪204‬‬ ‫ِ‬ ‫وأمنعُ عن جذور الحل ِْم ساقي َة‬ ‫افتعال‬ ‫ٍ‬ ‫َعلة‪ ،‬تتخشّ ب فيها اللغة‪ ،‬وتتصنّع في‬ ‫حاالت مُفت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مُضمَر‪ ،‬إنما يُقدّم الحاالت بانسيابية ملفتة‪ ،‬تجعل من‬ ‫وال أعتقد أن هذا النص يحتاج إلى أي توصيف‬ ‫اإلدهاش في نهاية كل صورة تحصيل حاصل‪ ،‬يقول‪ :‬خارج مفردات الشاعر نفسها‪ ،‬التي تشع بالعديد من‬ ‫ال�ق��راءات الجمالية‪ ،‬المنبعثة من المقدرة الفائقة‬ ‫األوقات في عُ مْ ري‬ ‫ُ‬ ‫‪/‬ما بالها تتصارع‬ ‫على توظيف جمال اللغة‪ ،‬والخيال الخالّق في سبك‬ ‫عابث بغدي‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأمسي‬ ‫جمل شعرية تضيء الروح وتبهجها‪.‬‬ ‫شئت التلفّ تَ للوراءِ‬ ‫فإن ُ‬ ‫ت�ح�ت��اج ت�ج��رب��ة ج��اس��م ال�ص�ح� ّي��ح ل��وق�ف��ة نقدية‬ ‫خشيت يطعنهُ األمامُ ‪ /!!..‬ص‪16‬‬ ‫ُ‬ ‫مطولة‪ ،‬لعلها تعطيها ما تستحقه‪ ،‬وتضيء مسيرة‬ ‫هنا تُبنى الصورة الشعرية على التضاد أو التقابل‪ ،‬هذا الشاعر على امتداد مجموعاته المطبوعة‪ :‬ظلي‬ ‫المفردات المتعاكسة‪ :‬األمس والغد‪ ،‬األمام والوراء‪ ،‬خليفتي عليكم‪ ،‬عناق الشموع والدموع‪ ،‬حمائم تكنس‬ ‫تتقابل ف��ي الجملة الشعرية‪ ،‬وي�ح��دث ت��وت��ر شديد العتمة‪ ،‬رقصة عرفانيّة‪ ،‬أولمبياد الجسد‪.‬‬ ‫فيما بينها‪ ،‬ما يعطي الصورة الشعرية طابعاً جمالياً‬

‫< كاتب من سوريا‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫قراءة في رواية ‪ /‬عبده خال (فسوق)‬ ‫> د‪ .‬عالي سرحان القرشي‬

‫<‬

‫حين تهيمن سدرة الفن على نسج رؤية إبداعية لعراك الحياة بأبعادها المختلفة‪ :‬الحب‪ ،‬حفظ‬ ‫البقاء‪ ،‬صيانة السمعة‪ ..‬كما في رواية «فسوق» لعبده خال‪ ..‬تجد وجهاً مختلفاً‪ .‬نقرأ فيه‪ُ :‬عرْينا‪،‬‬ ‫مواجهة ضغوطنا‪ ،‬فوارق الطبقات الجائرة‪ ،‬استسالمنا لسدر العادة‪ ،‬ودهس عربات اإللف والغباء‪..‬‬ ‫وأظن مهمة الكتابة اإلبداعية مخولة بجدل ذلك‪ ،‬وصياغة المسارات الحياتية في الحُ زم الرمزية‬ ‫التي يستوحيها الكاتب أو ينتجها؛ ألن الكتابة حينئذ تمعن في كشف الرؤية‪ ،‬باإلبحار خلف تجاوزات‬ ‫الكشف‪ ،‬وت�ج��اورات الحجب‪ ،‬ورب��ط ذلك بالزمر اإلنسانية الكبرى‪ ،‬المختزلة من تراكم وتكثف‬ ‫التجربة البشرية؛ ذلك ألنه – كما أعتقد – ال يكفي في التجربة اإلبداعية الوقوف عند سرد‬ ‫مسارات ما يجري‪ ،‬والتعليق عليه‪ ،‬وفق المواقف الذاتية األحادية‪ ،‬على النحو الذي ساد في كثير‬ ‫من السرديات؛ إذ أن ذلك يؤول إلى سرد تسجيلي‪ ،‬حتى وإن أمعن في كشف مناطق مظللة ومخبأة‬ ‫تحت ستار الجميل الحسن‪ ،‬والجميل ومداراة العيب‪ ،‬إذ أن كشف المستور والمخبأ‪ ،‬تشترك فيه مثل‬ ‫هذه الكتابات مع تحريات األمن‪ ،‬وكشافات الصحافة‪ ..‬لكن عمل عبده خال هنا – كما في أعماله‬ ‫السابقة – يجاوز مثل هذا السرد إلى تعانق فني؛ تتمازج فيه العجائبية بالواقع‪ ،‬والمتخيل بالجاري‪،‬‬ ‫وقراءة المبدع بقراءة المحقق‪ ،‬والمخفي بالمشاهد والملموس‪.‬‬ ‫في عمل عبده خال هذا‪ ،‬تدخل الضحية «جليلة» الحدث‪ ،‬من خالل الجملة األولى في كتابة‬ ‫العمل‪ ،‬حين يقول الكاتب‪ :‬هربت من قبرها!! من هذه الجملة نجد أننا أمام لحظة مختلفة‪ ،‬وتكوين‬ ‫مختلف‪ :‬فالقبر موت‪ ،‬وصمت‪ ،‬ونهاية‪ ،‬وإطباق؛ فهو نهاية حدث‪ ،‬وبدء راحة لكثير من المشكالت‪،‬‬ ‫وتعتيم على كثير من القضايا؛ لكن ابتداء الكتابة بذلك جعل القبر مبتدأ الحديث‪ ،‬ومبتدأ فصول‬ ‫الرواية‪ ،‬مبتدأ إنشاء السيرة لهذه الضحية وتشعبات عالقاتها المختلفة‪ ،‬فيؤول القبر إلى فضيحة‪،‬‬ ‫وتؤول المقبرة إلى مسرح حكايات منها تبتدئ‪ ،‬وفيها تقبر‪ ،‬تبتدئ منه ثم يطبق عليها‪ ،‬فال يرشح‬ ‫منها إال أجزاء تظل تتنامى حتى تعود إليه لتكتسب من غرابة المنبع وقداً جديداً‪.‬‬ ‫تحمل الجملة السابقة تورية من الممكن أن تجعل القبر بفعل نمو سيرتها الكتابية على حوافه‬ ‫حياة هربت م��ن قبرها ف��ي الحياة‪ ،‬ال��ذي أحكم الخناق‪ ،‬وش��د ال��وث��اق على حريتها واختيارها‬ ‫وعواطفها؛ ليكون فضاء الجملة الموارى هو هذه الحياة التي نسجتها‪ ،‬والحكايات التي امتدت بها‪،‬‬ ‫واألردية التي انتهكتها‪ ،‬واألودية التي جعلت الكتابة فيها‪ ،‬تفضح الستر الموارب‪ ،‬وتكشف الكبرياء‬ ‫المفضوحة‪ ،‬والكرامة الهشة‪.‬‬ ‫اسم الضحية «جليلة» تحمل هذا االس��م ذا ال��دالالت الفضائية لتتردى في جبروت الصوت‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪51‬‬


‫ال �ط��اغ��ي‪ ،‬وأح��ك��ام ال �ع �ي��ب‪ ،‬وال �ت �ص��ورات الممزقة‪،‬‬ ‫المعبأة بخياالت مختلفة منها البرئ القاصر‪ ،‬ومنها‬ ‫الممعن في الخرافة‪ ،‬ومنها السادر في نشوة التشفي‬ ‫واالنتصار‪ ..‬فيكون ذلك منبئاً عن حال التردي الذي‬ ‫يغتال الفضيلة والكرامة‪ ،‬ويجعلها عالماً لعمل روائي‬ ‫عنوانه «فسوق»‪.‬‬ ‫شخصيتان رئيستان في العالقة‬ ‫مع «جليلة» حرصت الكتابة الروائية‬ ‫على أن تقيم فيها ج��ذوراً من هذه‬ ‫ال �ع�لاق��ة وت �ش��اب �ك �ه��ا ه���ي‪ :‬األب ‪/‬‬ ‫م�ح�س��ن ال��وه �ي��ب‪ ،‬وش�ف�ي��ق الميت‪،‬‬ ‫ف ��األب ع��اش ضحية ح��ب منكسر‪،‬‬ ‫شهد مقتل عشيقته «جليلة» ولم يكن‬ ‫ليستطيع الدفاع عنها‪ ،‬فسرى ذلك‬ ‫ذنبا في نفسه‪ ،‬وجرحاً غائراً لم يبرأ‬ ‫منه‪ ،‬سمى ابنته بذلك االس��م «أراد‬ ‫بتكرار االسم استرجاع حبيبته‪ ،‬من‬ ‫موت مضى بها بعيداً‪ ،‬فسمى ابنته‬ ‫بها» ص ‪ ،26‬لكن الحال لم يمض على ما أراد «ليعود‬ ‫اسم جليلة داالً على الرذيلة» ص‪.26‬‬ ‫أما شفيق الميت‪ ،‬الذي أخفى جثتها‪ ،‬وحفظها في‬ ‫ثالجة‪ ،‬ليخلو إليها‪ ،‬ويبادلها هدايا المحب‪ ،‬ويناجيها‪،‬‬ ‫فقد جدل العمل الروائي حياته من بين براثن الموت‪،‬‬ ‫حين جسد الكاتب لحظة سالمته من الموت الذي‬ ‫أودى بأبويه‪ ،‬وح�ي��اة أخ��ر‪ ،‬ف��ي ان�ق�لاب حافلة كانت‬ ‫في طريقها إلى المدينة المنورة‪ ،‬إذ يقول الكاتب عن‬ ‫صاحبنا «استفاق محشوراً بين أشالء الجثث المقطعة‬ ‫والمهروسة‪ ،‬كانت تغطيه ثالث جثث مقطعة األوصال‪،‬‬ ‫ومشدوخة‪ ..‬ظل متهيجاً في نشيج محموم‪ ..‬متشبثا‬ ‫بيد مبتورة وق��اب�ض�اً على الخنصر والبنصر معاً‪..‬‬ ‫«ص‪ .»29‬لنجد أننا أمام شخصية ضاقت عنها الحياة‪،‬‬ ‫< ناقد وأكاديمي من السعودية‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫وابتدأت مقومات وجودها من الموت‪ ،‬الذي تحتفظ منه‬ ‫بقايا جسد تظل تحمله‪ ،‬لتؤول بعد ذلك إلى المقبرة‬ ‫عند عمه القبار‪ ،‬من المودعين ألحبائهم والمتوشحين‬ ‫ألحزانهم‪ ،‬يحصل على لقمة عيشه‪ ..‬يتسلل أحياناً‬ ‫إلى بيت «جليلة»‪ ،‬أحس منها بنحو وإشفاق تجاهه‪،‬‬ ‫ما لبث أن حال بينه وبينها كبره‪ ،‬فلم يعد يجالسها‪،‬‬ ‫ف��اح�ت�ف�ظ��ت ذات� ��ه ل �ه��ا ب��ص��ورة ظل‬ ‫يناجيها‪ .‬طلب يدها فصدا‪ ،‬فكان‬ ‫ضحية ف ��وارق ال�ط�ب�ق��ات‪ ،‬كما كان‬ ‫محمود الذي أحب جليلة قبل ذلك‪..‬‬ ‫وحين قبرت جليلة‪ ،‬أراد االحتفاظ‬ ‫ب�ج�س��ده��ا‪ ،‬ف�ك��ان��ت ح�ك��اي��ة الراوية‬ ‫التي تجسد لنا حكاية القبر الذي‬ ‫يحتضن حكاية حب موؤودة‪ ،‬وحكاية‬ ‫البحث ع��ن الحقيقة ال�ت��ي تختفي‬ ‫في الحياة‪ ،‬وتنبعث من بين براثن‬ ‫الظالم‪ ،‬وحكاية الضوء الخافت في‬ ‫زاوي ��ة مظلمة م��ن المقبرة يكشف‬ ‫حقيقة ما يجري‪ ،‬وحكاية التصرفات الحمقاء التي‬ ‫تودي بالحقيقة‪ ،‬كما فعل العريف عطية الذي لم يترك‬ ‫تلك االعترافات‪ ،‬والتأمالت التي ساقها الكاتب على‬ ‫لسان شفيق الميت أن تتم حين انطلق لينقل الخبر‬ ‫إلى فئات مختلفة من المجتمع‪ ،‬فيأتون ويقبرون ذلك‬ ‫الحوار اإلنساني‪ ،‬كما قبرت تصوراتهم الحقيقة‪ ،‬حتى‬ ‫نهشوا الضحية‪ ،‬ونهشوا أسرتها‪ ،‬ونالوا من عرضهم‪..‬‬ ‫من المقبرة‪ ،‬من عالم الموت نسج الكاتب الحقائق‪،‬‬ ‫وروى عن الرغبات المنطفئة‪ ،‬والحكايات المدفونة‪.‬‬ ‫حين نستمع إلى شفيق الميت يقول «أعيش بين العري‪،‬‬ ‫كل شيء هنا يعود إلى أصله‪ ،‬إلى البداية األولى» ص‬ ‫‪« ،241‬أول مرة احتويتها بين ذراع��ي يوم دفنها» ص‬ ‫‪« 242‬اآلن هي لي‪ ،‬أنا قبرها‪ ،‬وهي قبري» ص ‪.243‬‬


‫قامة تتلعثم لعيد احلجيلي‪:‬‬ ‫سؤال الكتابة الشعرية‬

‫«بين باب القصيد ونافذة الحلم تمتد مقبرة‬ ‫الشعراء» مسافة ‪ -‬قامة تتلعثم‪ /‬ص‪81‬‬ ‫دي� ��وان ال�ش��اع��ر ال �س �ع��ودي ع�ي��د الحجيلي‬ ‫الصادر عن دار شرقيات بمصر «قامة تتلعثم»‬ ‫ص��ورة مصغرة من مشهد شعري‪ ،‬تتجاور فيه‬ ‫ال�ن�ص��وص وال� ��رؤى‪ ،‬كما ت�ت�ج��اور المرجعيات‬ ‫الفكرية‪ .‬الديوان الصادر في حلة أنيقة‪ ،‬وغالف‬ ‫أبدعته الفنانة هبة حلمي‪ ،‬حيث يشاكس الجسد‬ ‫أمثولة ميتولوجية‪ ،‬مجازات لهذه القامة التي‬ ‫تتلعثم‪ ،‬الجسد الهالمي الذي يأسرنا في أولى‬ ‫عتبات الديوان يرتكس بالضحية‪ ،‬التي تتموضع‬ ‫كخربشات فسيفسائية تنبطح أرضا من جسد‬ ‫ي��أس��رك بالرغبة الثاوية التي تسكنه لتجعله‬ ‫أقرب إلى حم العالم‪ ،‬الفنانة هبة حلمي أبدعت‬ ‫نصا لونيا مليئا باألثون األيقونية وبمفارقات‬ ‫البصري‪ ،‬ما يجعل من غ�لاف دي��وان الشاعر‬ ‫عيد الحجيلي ملفوفا بنص تستعير فيه الصورة‬ ‫بذخ المعنى‪.‬‬

‫> عبداحلق ميفراني‬

‫<‬

‫يصطخب الخصب‬ ‫في ساعديه‬ ‫يجب جذور الغيابة‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫ثم جواد ذبيح (الفارس المنتظر‪/‬ص‪.)43‬‬ ‫«الفارس الذبيح» المبتدأ في أول��ى عتبات‬ ‫ال��دي��وان يحمل أي م�ق��ارب��ة للنصوص دالالت‬ ‫إض��اف�ي��ة‪ ،‬تجعل م��ن غ�لاف ال��دي��وان‪ ،‬قصيدة‬ ‫ثاوية موشومة بمجازات لونية تقدم لنا فسحة‬ ‫بصرية شبيهة بنافذة مثخنة بشعرية مفتوحة‬ ‫على القراءة‪.‬‬

‫قصائد «ق��ام��ة تتلعثم» م��وزع��ة بين نصين‬ ‫شعريين‪« :‬أجراس الصمت» (تضم ‪ 9‬نصوص)‪،‬‬ ‫و»خيبات واجفة» (تضم ‪ 27‬نصا)‪ ،‬ميزة القصائد‬ ‫ككل قصرها‪ ،‬بل إننا نجد قصائد شذرية ال‬ ‫تتعدى الجملة الواحدة‪ ،‬كما تشير مالحظة أولية‬ ‫إلى أننا أمام عناوين مفتوحة خالية من التعريف‬ ‫(ه�ب��اء ‪ -‬ترميم ‪ -‬أرض ‪ -‬دع��وة ‪ -‬ذك ��رى‪) ..‬‬ ‫وم� ��ا ي �ع �م��ق ه� ��ذه االس� �ت� �ع ��ارة ه ��و الجسد وباستثناء عنوان الديوان‪ ،‬وقصيدة هذيان لن‬ ‫المحمول على ما يشبه الفرس‪ ،‬حيث الفارس يكتمل (ص‪ ،)11‬تغيب األف�ع��ى ع��ن إرشادات‬ ‫ممسكا «بفارس جريح‪ ،‬وفرس ذبيح»‪..‬‬ ‫عناوين القصائد‪ ،‬مما يفرز لنا أوي��ة أبعد ما‬ ‫رسمته بذوب الرؤى‬ ‫تكون ع��ن اإلخ �ب��ار‪ ،‬إذ يتشكل عالم القصائد‬ ‫فارسا‬ ‫وفق هذا الغياب‪ ،‬ال تحديدات وال تعاريف لهذا‬ ‫يمخر الصمت‬ ‫اليأس واأللم الممتد على جغرافية العالم‪..‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪53‬‬


‫كينونة قصائد «ق��ام��ة تتلعثم» كينونات مركبة‪،‬‬ ‫ال مرجعيات لها س��وى ال��ذك��ري��ات‪ ،‬حيث المفارقة‬ ‫بين شاعر يخط كينوناته لغة‪ ،‬ولغة تفتح الكينونة‬ ‫على اليأس‪ ،‬إذ تكشف قصائد «قامة تتلعثم» أولى‬ ‫«الهذيان»‬

‫«المرفأ القرمزي»‪/‬القصيدة‪..‬‬ ‫توغلت في القافيات العذارى‪ /‬ص‪.23‬‬ ‫دعيني أغني على شرفات‬ ‫الجراح وحيداً‪ /..‬ص‪.36‬‬

‫الحروف التي دفنت‬ ‫يصر ال�ش��اع��ر على ت��أب��ط ع��زل�ت��ه‪ ،‬وي��راه��ن على‬ ‫نصف أصواتها في المساحيق كيما تمر على مرمر قصيدته في فتح سرايا هذه المتاهات المتمنعة خلف‬ ‫الوجل‬ ‫األل ��م‪ ،‬إن إص ��رار ال�ق�ص��ائ��د على‬ ‫الفذ مثل الهباء ‪/‬ص‪.13‬‬ ‫كشف «خيبات الصمت» من خالل‬ ‫التأكيد على سؤال الكتابة الشعرية‪،‬‬ ‫ه� ��ذا ال���وع���ي ال� �ح���اد بسؤال‬ ‫ب �م��ا ه��ي أف ��ق «ك �ت��ارس �ي �س��ي» من‬ ‫الكتابة تكشفه لنا قصائد «قامة‬ ‫نذوب هذا السقوط المدوي بحثا‬ ‫تتلعثم» بما هو كينونة يلفها اليأس‪،‬‬ ‫عن البياض‪ ،‬بياض الثلج وبياض‬ ‫وهذيان يكتم‪ .‬هذا الوعي الفجائعي‬ ‫ال��ورق��ة‪ ،‬ف �ض��اء وك�ي�ن��ون��ة محتملة‬ ‫له ما يبرره على مستوى مجازي‬ ‫للقصيدة وللمعنى في عالم أمسى‬ ‫ف��ي حضور العديد م��ن القصائد‬ ‫بدون معنى تماما‪.‬‬ ‫ال�م�س�ك��ون��ة ب��ال �ك �ت��اب��ة‪ ،‬بالحرف‪،‬‬ ‫حصاد‪:‬‬ ‫ب��ال��ك�ل�ام‪ ،‬ب��ال �ش �ع��ر‪ ،‬بالقصيدة‪،‬‬ ‫كلما نضجت فكرة‬ ‫بالعالم‪ ..‬وه��و ما يكشفه الديوان‬ ‫في عذوق السهر‬ ‫ككل في أن «األجراس» و«الخيبات»‬ ‫يتحوالن إل��ى وحدتين يصيغان في ال��دي��وان أشكال وجد الثلج مسترخيا‬ ‫«تلعثم» ه��ذا الجسد الشعري الهالمي‪ ..‬وال��ذي لن في سرير الحروف ‪ /‬ص‪.63‬‬ ‫يكون إال البوح‪.‬‬ ‫وال يحضر هذا الوعي المبطن بسؤال الكتابة إال‬ ‫إذا هممت ببرج الكالم استعار فمي الراقصون‬ ‫في ارتباط وثيق بالقلق وبألم الشاعر المسكون فهذه‬ ‫على وتر األرض‬ ‫الرغبة للتحلل من هذا االنكسار ال تتم إال عبر البوح‬ ‫والعرض‬ ‫الشعري‪ .‬كاستعارة لهذا الصمت المفتوح‪..‬‬ ‫والفرض‬ ‫وأنا أتأبط خيمة قلبي‬ ‫والرفض‬ ‫وأرتق فجوات‬ ‫والغيمة القادمة‪ /‬ص‪.15‬‬ ‫منفاي‬ ‫البوح هنا يرتبط في العمق بسؤال الكتابة الشعرية‪ ،‬بالصمت واألغنيات ‪ /‬ص‪.79‬‬ ‫وبأفق المغايرة؛ وعي يتشكل في ثنايا دالالت القصائد‪،‬‬ ‫وه� ��و ال �ص �م��ت‪/‬ال �م�لاذ ح �ي��ث ي��رق��د الشعراء‪،‬‬ ‫وتصر هذه الكينونة الشعرية على سبر أغوار المنتهي‬ ‫ويستكنون إلى محرابهم الشعري وإل��ى مسافاتهم‪..‬‬ ‫والمطلق من خالل اإلص��رار على الدخول لمتاهات‬ ‫كينونة ال�ش��اع��ر ق�ص��ائ��ده‪ ،‬هويته اس�ت�ع��ارة مدفونة‬

‫‪54‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ف��ي أرض القصيدة‪ ،‬والقصيدة أرض خ�لاء مليئة قافية‬ ‫«باألغنيات» وباألماني‪ .‬لكنها هوية تتحقق على بياض قافيه ‪/‬ص‪.69‬‬ ‫ساخن‪ ،‬حيث ال حدود لمعنى‪ ،‬وال شكل لهذا الحلول‬ ‫إن قدرة القصائد على صياغة قلق ووجع الكتابة ال‬ ‫والعبور إلى «فرح المجازات»‪.‬‬ ‫تضاهيه إال فكرة الموت‪ ،‬والعدم وهو ما أجملناه في‬ ‫مسافة‪:‬‬ ‫عنصر الغياب‪ ،‬حرقة الكتابة ووجعها يوازيه البياض‪/‬‬ ‫بين باب القصيد‬ ‫المقبرة‪ ،‬المثوى األخير للشاعر وللشاعرة‪ ،‬كالهما‬ ‫ونافذة الحلم‬ ‫خ�لا ل�ه��ذا ال �ق��داس‪ ،‬حيث العمر يمضي اختصارا‬ ‫تمتد مقبرة الشعراء‪ /‬ص‪.81‬‬ ‫في قصيدة‪ ،‬وحيث القصيدة م�لاذا روحيا نهائيا ال‬ ‫ثيمة الغياب هي العنصر الرؤيوي المعبر للخيبة‪ ،‬تضاهيه أي رؤيا‪.‬‬ ‫ح�ي��ث ال م�س��اف��ة تفصل ب�ي��ن ال�ق�ص�ي��دة وال�ح�ل��م إال‬ ‫وف��ي ص��ورة أشبه بالكاريكاتيرية‪ ،‬يقدم الشاعر‬ ‫ال�غ�ي��اب‪ .‬وال�غ�ي��اب هنا يتخذ منحى اس�ت�ع��اري ألفق «القارئ» االفتراضي‪ ،‬أحيانا تعبر الصياغات اللغوية‬ ‫االنكسار الذي تتمثله القصائد ككل‪ ،‬إذ يمتد بين ثنايا في القصائد على حس لوني‪ ،‬وك��أن الشاعر يرسم‬ ‫دالالت النصوص إلى الحد الذي تتحول فيه القصائد تراكيبه وفق قانونها الخاص‪..‬‬ ‫إلى فضاءات لهذه االستعارة الكبرى‪.‬‬ ‫قارئ‪:‬‬ ‫«قامة تتلعثم» في النهاية ال تمثل تجميعا لنصوص‬ ‫شعرية سيقت في تاريخ كتابتها‪ ،‬بل هي عتبة تجربة‬ ‫شعرية تمح بمنجزها النصي أكثر مما تصرح‪ ،‬إنها‬ ‫في قدرتها على صوغ مالمح تجربة شعرية يسكنها‬ ‫س��ؤال الكتابة الشعرية عبر مكونات تخييلية‪ ،‬تقدم‬ ‫م��ن خاللها ب��وح «ال�ش��اع��ر» ورؤاه‪ ،‬الشاعر الجريح‬ ‫وجراحاته‪ ،‬الشاعر وقصيدته‪ ،‬ونعمق هذا التصريح‬ ‫بالتعليل التالي‪:‬‬ ‫شاعر‪:‬‬ ‫بعدما شربت عمره‬ ‫الكلمات‬

‫قيل مات ‪/‬ص‪.61‬‬ ‫شاعرة‪:‬‬ ‫بين هدأة مرآتها‬ ‫ولهاث الرؤى الصاخبة‬ ‫ترقب العمر‬ ‫يسقط‬

‫حك رأس القصيدة‬ ‫بالنظرة الجائعة‬ ‫فجأة‬ ‫لمح القمل ينساب‬ ‫من أذن الذاكرة‪/ ..‬ص‪.77‬‬ ‫«ن��ور الذاكرة» هكذا تشع القصيدة بين جبهتين‪،‬‬ ‫الغياب والمفارقة‪ .‬مفارقة ال�ق��ارئ وه��و هنا بدون‬ ‫تحديد‪ ،‬إذ ال تكتفي القصائد بانفتاح عناوينها على‬ ‫المطلق‪ ،‬ب��ل إن إرادة القصائد تتجه ف��ي بناءاتها‬ ‫النهائية إلى تمثل الحكمة األزلية للشعر‪ ،‬هناك في‬ ‫الالنهائي يتحقق المعنى‬ ‫لكننا في النهاية ال يكشف دي��وان «قامة تتلعثم»‬ ‫إال عن مزيد من مفارقات المعنى والوجود والكينونة‪،‬‬ ‫أم��ا ال��ذاك��رة فهي ع��ش ال�ب�لاغ��ة ال��دف�ي��ن‪ ،‬والشاعر‬ ‫«مايسترو» البهاء يرنو للغياب‪.‬‬

‫< شاعر وناقد من المغرب‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪55‬‬


‫الناقد األردني محمد املشايخ‪:‬‬

‫يطالب أن يتخصص النقاد مبنهج حتى يبدعوا‪..‬‬ ‫> حاوره في عمان‪ :‬عمار اجلنيدي‬

‫<‬

‫ثمّة حوارات طريفة‪ ،‬يجتاز فيها أحد المتحاوريْن أو كالهما أبعاد ما يمكن أن يُخطط‬

‫أو يُرسَ َم له‪ ،‬فيكون الحوار راسخاً في الضمير والذهن مهما تعاقبت عليه األزمان‪.‬‬

‫وبتمرد واضح على أبجديات الكالم المنمّق والجاهز؛ ترى الصراحة والعفوية تقطران‬

‫من الحوار ذاته بكل بساطة وأ ُلفة وطيبة‪ ،‬ترقى إلى االنطباع بأن المثقف ال يعيش في جزر‬

‫معزولة عن اآلخرين‪ ،‬وبأن اإلبداع والنقد صنوان يجب أن ال يطالهما األهواء والعالقات‬

‫الشخصية‪.‬‬ ‫ ‬

‫ويعد محمد المشايخ‪ ،‬الذي يعمل مديرا لمكتب مؤسسة جائزة عبدالعزيز بن‬

‫سعود البابطين لإلبداع الشعري في عمّان‪ ،‬من أهم النقاد األردنيين‪ ،‬الذين توقفوا طويال‬

‫عند األدب واألدباء األردنيين في سيرهم الذاتية واإلبداعية‪ ،‬وحاولوا إيصال صوتهم النقي‬

‫والملتزم‪ ،‬إلى الساحة األدبية العربية‪.‬‬

‫له أكثر من عشرين مؤلفا في النقد األدبي‪ ،‬أهمها‪ -1 :‬أضواء على األدب والفن في‬

‫األرض المحتلة‪ ،‬عمان‪ :‬دار آسيا‪ -2 1983 ،‬قراءة في أدب األرض المحتلة‪ ،‬القدس‪ :‬دار‬ ‫البيادر‪ -3 .1984 ،‬األدب واألدباء والكتّاب المعاصرون في األردن‪ :‬عمان‪ :‬مطابع الدستور‬

‫‪1989‬م‪ -4 ،‬المبدعون األردنيون والفلسطينيون المكرمون بمنحهم وسام القدس للثقافة‬

‫واآلداب والفنون لعام ‪ ،1991‬عمان‪ :‬دائرة الثقافة‪1991 ،‬م‪ -5 ،‬دليل الكاتب األردني‪ ،‬عمان‪:‬‬

‫م����واج����ه����ات‬ ‫‪56‬‬

‫رابطة الكتاب األردنيين‪.1994 ،‬‬

‫شغل العديد من الوظائف التي أتاحت له االطالع على شؤون الثقافة األردنية وشجونها‪،‬‬

‫أهمها‪ :‬مديراً في دائرة الشؤون الفلسطينية بوزارة الخارجية‪ ،‬كما عمل محرراً ثقافياً غير‬

‫متفرغ في عدد من الصحف والمجالت‪ ،‬منها‪ :‬االثنين‪ ،‬الوجدان العربي‪ ،‬طبريا‪ ،‬المحرر‪،‬‬

‫المجد‪ ،‬األردن‪ ،‬اللواء‪ ،‬الدستور‪ ،‬صامد االقتصادي‪ ،‬فرح‪ ،‬ومندوباً لمعجم البابطين للشعراء‬

‫العرب المعاصرين في األردن خالل السنوات ‪1995-1992‬م سكرتيراً تنفيذياً ثم مديراً‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫إدارياً لرابطة الكتاب األردنيين‪ .‬وهو عضو في رابطة < هل تعتقد أن الناقد يجب أن ينتمي لمدرسة نقدية‬ ‫بعينها؟‬ ‫الكتاب األردنيين‪ ،‬وعضو إتحاد الكتاب العرب‪.‬‬ ‫وفيما يلي وقائع الحوار الذي أجريناه معه في مقر‬

‫> نعم‪.‬‬

‫رابطة الكتاب األردنيين‪:‬‬

‫< لماذا؟‬

‫< ل��م��اذا ات �ج �ه��ت ل�ل�ن�ق��د ول ��م ت�ت�ج��ه ن �ح��و الكتابة‬

‫> ألننا نعاني في الساحة النقدية العربية‪ ،‬من الكتابة‬ ‫ال�ت��ي تتصف بالبانوراما النقدية‪ ،‬أو الكوكتيل‬

‫اإلبداعية؟‬

‫> حقيقة أنني ب��دأت بالكتابة اإلبداعية‪ ،‬وتحديدا‬

‫ال �ن �ق��دي‪ ،‬فحين ت�ت��داخ��ل ال��م��دارس والمذاهب‬ ‫والمناهج‪ ،‬لدى الناقد الواحد‪ ،‬نجده يفتقر إلى‬ ‫الرؤية الصائبة‪ ،‬ويدخل في إطار الفوضى؛ وحين‬ ‫يتخصص بمنهج‪ ،‬يبدع‪ ،‬وتكون كتابته أقرب إلى‬ ‫النقد األدبي‪.‬‬

‫مناسبات وطنية‪ ،‬أو يتم تعليقها على لوحة إبداعات‬

‫< ساد المنهج االنطباعي الحركة النقدية األردنية‬ ‫ط ��وال ع �ق��ود م �ض��ت‪ ،‬ه��ل ه��ذا المنهج مناسب‬ ‫اآلن بعد ه��ذا التطور الهائل ف��ي المصطلحات‬ ‫والمدارس النقدية؟‬

‫«الشعر»‪ ،‬وذلك في أثناء دراستي في قسم اللغة‬

‫العربية ف��ي الجامعة األردن �ي��ة خ�لال السنوات‬

‫‪ ،1977-1972‬وكنت واح��دا من شعراء الجامعة‬

‫ال�ق�لائ��ل‪ ،‬وك��ان��ت ل��ي ق�ص��ائ��دي ال�ت��ي ألقيها في‬

‫الطلبة‪ ،‬أو في جريدة الجامعة التي كان يُطلق عليها‬

‫آنذاك «أجراس»‪ ،‬أو في جريدة األخبار األردنية‪،‬‬

‫غير أنني بعد تخرجي من الجامعة‪ ،‬عملت إلى‬

‫جانب األديب الراحل خليل السواحري في رابطة‬

‫الكتاب األردنيين‪ ،‬وكان آنذاك المحرر الثقافي في‬

‫جريدة الدستور األردنية‪ ،‬وكان كلما أهداه كاتب‬

‫نسخة م��ن إص ��داره الجديد‪ ،‬يقوم بتحويله إلي‬

‫ألكتب دراسة نقدية عنه‪ ،‬ومع الزمن توقفت عن‬

‫إب��داع الشعر‪ ،‬وتخصصت بالنقد األدب��ي‪ ،‬وللعلم‬ ‫فإن النقد إبداع!‬

‫< ما الذي يحد من حرية الناقد؟‬ ‫> ثمة أم��ور كثيرة تحد من ه��ذه الحرية‪ ،‬فالناقد‬ ‫حين يكتب‪ ،‬يكون في داخله أكثر من رقيب‪ :‬رقيب‬ ‫السلطة‪ ،‬ورقيب الصحيفة أو المجلة التي ستنشر‬ ‫فيها المادة النقدية‪ ،‬ثم الكاتب الذي ينقده‪ .‬وهذه‬

‫كلها ع��وام��ل ت�ف��رض على ال�ن��اق��د أال ي�ق��ول رأيه‬

‫الحقيقي‪ ،‬وقناعته الداخلية‪ ،‬فيجامل‪ ،‬ويكتب‬ ‫فقط ما يرضي هؤالء الرقباء‪.‬‬

‫> ع�ل��ى ال�ع�ك��س م��ن ذل ��ك ت �م��ام��ا؛ وذل���ك ألن هذا‬ ‫المنهج‪ ،‬يستند إلى وجهة النظر الشخصية للناقد‬ ‫فيما يقرأ‪ ،‬ووجهة النظر ه��ذه ترتبط بالعالقة‬ ‫الشخصية مع المبدع‪ ،‬ف��إن كانت إيجابية‪ ،‬فإن‬ ‫المادة النقدية ستمتلئ بالمديح والتقريظ‪ ،‬وإن‬ ‫كانت سلبية‪ ،‬فإن تلك المادة ستمتلئ بالشتائم‪،‬‬ ‫وعندها يوصف الناقد بالحاقد‪ ..‬المطلوب من‬ ‫ن�ق��ادن��ا ق ��راءة المناهج النقدية المختلفة التي‬ ‫ظهرت في العالم‪ ،‬واختيار المناسب منها‪ ،‬لقد‬ ‫ات�ك��أت منذ ال�ب��داي��ة على المنهج التكاملي وما‬ ‫زلت كذلك‪ ،‬وذلك بالنظر إلى انه يشتمل على كل‬ ‫المناهج النقدية المتعارف عليها في الغرب‪ ،‬والتي‬ ‫تغطي النص اإلبداعي ومؤلفه والظروف المكانية‬ ‫والبيئية التي تم إبداعه فيها‪.‬‬ ‫< تتميز الساحة الثقافية في األردن بتحكم الشلل‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪57‬‬


‫الثقافية فيها‪ ،‬إلى أين تقود هذه الشلل‪ ،‬ولماذا ال‬ ‫تنخرط في إحداها؟‬ ‫> ترتبط هذه الشلل أحيانا بإطار سياسي يدعمها‬ ‫ويهيئ لها الوسائل اإلعالمية الكفيلة بتحقيق‬ ‫التواصل بينها وبين جمهورها‪ ،‬وفي أحيان أخرى‪،‬‬ ‫تربط العالقات والمصالح الشخصية بين عدد‬ ‫من أدع�ي��اء األدب والمتنفذين في بعض وسائل‬ ‫اإلع�لام‪ ،‬فيصولون ويجولون‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬ ‫يكتمون أنفاس المبدعين الحقيقيين‪ ،‬ويحرمونهم‬ ‫من فرصة النشر‪ ..‬تخيّل يا أخي المبدع عمّار‪،‬‬ ‫أن معظم أساتذة الجامعات األردنية الذين علمونا‬ ‫األدب والنقد‪ ،‬محرومون من النشر في الصحافة‬ ‫المحكومة من الشلل‪ ،‬معظمهم صامتون‪ ،‬بينما‬ ‫الذين يرفعون أصواتهم من تالمذتهم‪ ،‬هم الذين‬ ‫يتحكمون بإبداع وب��أرزاق المبدعين الحقيقيين‪،‬‬ ‫وأن��ا واح��د من الذين يفضلون الصمت‪ ،‬مستندا‬ ‫إل��ى إب��داع��ي ال��ذي نشرته على م��دى السنوات‬ ‫‪2005 -1970‬م‪ .‬فهذا رصيد مهم‪ ،‬يغنيني بعد‬ ‫كل هذا العمر عن التوسل لشلة‪ ،‬أو االلتحاق بها‬ ‫لممارسة قمع اآلخرين وتكميم أفواههم‪.‬‬

‫الناقد زياد أبو لبن قصة قصيرة لنشرها في مجلة‬

‫أفكار التي تصدر عن وزارة الثقافة األردنية‪ ،‬وبعد‬

‫ساعة من تلك الواقعة قام شخص آخر بتسليم‬

‫ص��ورة عن القصة نفسها للناقد نفسه لنشرها‬

‫في المجلة‪ ..‬وبعد أن جمعهما معا‪ ،‬اعترفا له‪،‬‬ ‫أنهما تقاسما مجموعة قصصية مخطوطة للقاص‬

‫العراقي الراحل غازي العبادي‪ ،‬ونسب كل منهما‬

‫عددا من قصصها لنفسه‪ ،‬غير أن كل منهما بقيت‬

‫نفسه متعلقة بالقصة ال�ت��ي ق��دم��اه��ا منفردين‬

‫لمجلة أف�ك��ار‪ ..‬وت��دور األي��ام‪ ،‬ونجد أن ثمة من‬ ‫يسطو على إبداع عمار الجنيدي‪ ..‬وكان الفضل‬

‫ف��ي ذل��ك ل�لأدي��ب محمد س�لام جميعان‪ ،‬الذي‬

‫فضح السارق في جريدة ال��رأي األردن�ي��ة‪ ،‬دوري‬

‫الشخصي‪ ،‬يبدأ من العقوبة التي سأتعرض لها من‬ ‫اللص السارق‪ ،‬ومع ذلك فقد فضحت في جريدة‬

‫الدستور األردنية عام ‪1979‬شويعرا قام بالسطو‬

‫على كتاب «فاروق شوشة»‪ :‬أجمل عشرين قصيدة‬

‫حب» وأبدل اسمه باسم شوشة‪ ،‬غير أنه منذ ذلك‬

‫العام‪ ،‬حرم نفسه من الظهور في الساحة الثقافية‬ ‫ثانية‪.‬‬

‫< م��ا ه��و دور ال�ح��رك��ة ال�ن�ق��دي��ة ف��ي رص��د وكشف < أي��ن يقع األدب األردن��ي بالنسبة للحركة األدبية‬ ‫العربية؟‬ ‫السرقات األدبية في األردن‪ ،‬وما هو دورك أنت‬ ‫شخصيا في ذلك؟‬ ‫> تمتاز الساحة الثقافية األردن �ي��ة‪ ،‬بقدرتها على‬ ‫> ثمة بعض األشخاص الذين تسوّل لهم أنفسهم‪،‬‬ ‫سرقة إبداع غيرهم‪ ،‬ونسبته ألنفسهم‪ .‬وأول سرقة‬ ‫كشفتها‪ ،‬كانت في نادي أسرة القلم الثقافي في‬ ‫الزرقاء‪ ،‬في نهاية السبعينيات من القرن الماضي‪،‬‬ ‫حيث نظـ ّم النادي مسابقة أدبية ألعضائه من هواة‬ ‫األدب‪ ،‬فقام معظمهم بالسطو على أحد دواوين‬ ‫الشاعر محمد الفي‪ ،‬الموجود في مكتبة النادي‪..‬‬ ‫األخ�ط��ر منها كانت عندما ق��ام أح��ده��م بتسليم‬

‫‪58‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫إنجاب أع��داد هائلة من األدب��اء‪ ،‬الذين يُصدرون‬ ‫بشكل ف��ردي أع��دادا هائلة من الكتب‪ ،‬ويقيمون‬

‫أع��دادا كبيرة من الفعاليات الثقافية‪ ،‬وينضوون‬ ‫تحت ل��واء أع��داد أكبر من المؤسسات الثقافية‪،‬‬

‫ومع ذلك فإن ثمة شكوى في داخل المملكة‪ ،‬تتهم‬

‫األدب��اء ومؤسساتهم وإبداعاتهم بالقصور‪ ،‬غير‬ ‫أن هذا القصور سرعان ما ينقشع حين يشارك‬

‫مبدعو األردن في فعاليات ثقافية عربية‪ ،‬حيث‬


‫نجدهم في الطليعة قوال وفعال‪ ،‬ويستحقون الثناء‬

‫وعلى سيرة جحا‪ ،‬سأل أحدهم د‪ .‬جميل علوش‬

‫والتشجيع الذي ال يالقونه في الداخل‪ ،‬ومن ثم‬

‫علوش‪ :‬لماذا جحا أشهر مني ومن فخري قعوار‬

‫ه �ن��اك‪ ،‬ويحصلون على ال �ج��وائ��ز‪ ،‬وع�ل��ى الدعم‬

‫مرة‪ :‬لماذا فخري قعوار أشهر منك‪ ،‬فقال له د‪.‬‬

‫فإن تقييم أدبنا في الداخل سلبي‪ ،‬وفي الخارج‬

‫ومن أدباء األردن كلهم‪ ..‬وأود أن أقول لك يا أخي‬

‫أنه ال كرامة لنبي في وطنه‪ ،‬صحيح أن الشعور‬

‫نتخاصم عليها‪ ،‬أال تعلم أن��ه يتم تفصيل بعض‬

‫باتجاه الرقي والتقدم‪ ،‬ولكن كفانا جلدا للذات‪،‬‬

‫إقفال الجائزة والمؤسسة التي تمنحها‪ ..‬ال أدري‬

‫إيجابي‪ ،‬األم��ر ال��ذي يجعلني أردد مع المرددين‬

‫بالقصور يدفع نحو المزيد من العطاء‪ ،‬ويدفع‬

‫عمار اتق الله‪ ..‬كم جائزة لدينا في األردن حتى‬

‫الجوائز لبعض األشخاص‪ ،‬وحين يأخذونها يتم‬

‫طالما أننا على الصعيدين القومي واإلنساني في‬

‫يا عمار لماذا تحولت في اآلونة األخيرة إلى فاضح‬

‫< هل صحيح أن هناك خلال يعتور الجوائز األدبية‬

‫ألم أطلب منك مراجعة أحد العطارين‪ ،‬ليقدم لك‬

‫الطليعة‪.‬‬

‫ب�ش�ك��ل يخضعها ل�م��زاج�ي��ة األج� �ن ��دات والشلل‬

‫الثقافية‪ ،‬وكيف تذهب الجوائز لغير مستحقيها؟‬

‫> يقولون إن المنتصر دائما يُستقبل ب��ال��ورود‪ ،‬أما‬

‫المهزوم فيُستقبل باإلدانة والنقيصة‪ ،‬وه��ذا هو‬

‫حال الجوائز عندنا؛ من يفوز بها يرفع من مكانتها‬

‫ومن مكانة المؤسسة التي تمنحها‪ ،‬ومن ال يأخذها‬ ‫يتهم المؤسسة والقائمين عليها بتهم قد ال تكون‬

‫صحيحة‪ ..‬ال أريد رد هذه التهمة على اإلطالق‪،‬‬

‫فثمة حاالت فردية كنت شاهدا عليها حين تقدمت‬

‫بكتابي لمؤسسة محترمة للفوز بمسابقة في مجال‬ ‫السيرة الذاتية‪ ،‬سلمت كتاب (من يوميات سكرتير‬

‫الكتاب) للموظفة التي تستقبل المؤلفات المقدمة‬ ‫للجائزة‪ ،‬في آخ��ر ي��وم لتسيلم الكتب المرشحة‬

‫ألسرار الثقافة والمثقفين‪ ،‬والمؤسسات الثقافية‪،‬‬ ‫بعض األعشاب المنشطة لمكامن اإلبداع عندك‬

‫في باب غير باب الفضائح‪« ..‬منـك لله يا عمّار»‪..‬‬ ‫دعني أسترسل معك‪ ..‬يوم ‪ 2007/1/16‬نشرت‬

‫جريدة الرأي األردنية مقالة للدكتور إبراهيم خليل‬

‫قال فيها‪( :‬حدثني من أثق بصحة روايته‪ ،‬أن كاتبة‬

‫تكتب لألطفال اقترحت على هيئة إدارية لجمعية‬

‫معينة تخصيص جائزة لألطفال‪ ،‬واع��دة بتأمين‬

‫قيمة الجائزة النقدية‪ ،‬وعندما جاء موعد تأليف‬ ‫لجنة التحكيم اختارت هي بنفسها أعضاء اللجنة‪،‬‬

‫وعندما فازت بالجائزة استخرجت المبلغ الذي‬ ‫تبرعت به من حسابها البنكي واستعادته على هيئة‬

‫جائزة في ي��وم أو يومين)! وبعد ذل��ك أسألك يا‬

‫عمار‪ :‬هل جئت تطلب نارا‪ ..‬أم تشعل في البيت‬ ‫نارا؟‬

‫للفوز‪ ،‬فقالت لي إن كتابي هو الوحيد المقدم‬ ‫لحقل السيرة الذاتية‪ ،‬بينما توجد عشرات الكتب < يتعاظم شأن قصيدة النثر في األردن لدرجة أننا‬ ‫لم نعد نقرأ القصيدة العمودية‪ ،‬لماذا؟‬ ‫المقدمة لألجناس األخ���رى‪ ..‬ف��ي ال�ي��وم التالي‬

‫طالعت في الصحف نبأ تمديد موعد تسلم الكتب > عرفنا حتى اآلن والحظنا انتشار أصناف ثالثة من‬ ‫المرشحة للجائزة نفسها لمدة ‪ 15‬يوماً‪ ،‬وفعال‬

‫الشعر‪ :‬العمودي التقليدي‪ ،‬وشعر التفعيلة»الحر‬

‫وتم منحه الجائزة‪( :‬ألف دينار‪ ،‬وطباعة الكتاب)!‬

‫تتحكم في هيئة تحريرها فئة تنحاز لواحد من‬

‫تقدم أحدهم بكتاب عن السيرة الذاتية لجحا‪،‬‬

‫الحديث»‪ ،‬والشعر المنثور‪ ..‬بعض وسائل اإلعالم‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪59‬‬


‫ه��ذه األص �ن��اف‪ ،‬وال تكاد تطالع فيها أي صنف‬

‫آخ��ر‪ ..‬والحقيقة أن المعركة في الباطن حامية‬

‫ال‬ ‫تسمح ل��ي ب��رواي��ة ه��ذه الحكاية بوصفها مدخ ً‬

‫قبل أي��ام ف��ي م�ح��اض��رة ل��ه ف��ي منتدى مؤسسة‬

‫عروس‪ ،‬وشجعني على ذلك بمقولة‪« :‬نيّال من جمّع‬

‫محمود األفغاني‪ ،‬اتصل به في القدس في مجلة‬

‫تنتظر على أحر من الجمر المجمّر ابن الحالل قبل‬

‫الوطيس‪ ..‬بدليل أن الشاعر راضي صدوق قال‬

‫عبدالحميد ش��وم��ان‪ ،‬إن شاعر شباب فلسطين‬

‫األف��ق الجديد‪ ،‬في مطلع الستينيات من القرن‬

‫الماضي‪ ،‬حيث خصص راض��ي صفحات واسعة‬ ‫في المجلة لشعر التفعيلة‪ ،‬وق��ال له يا راضي‪..‬‬

‫لقد أهداني الملك عبدالله مسدسا لم أستخدمه‬

‫ل�لإج��اب��ة‪ :‬ط�ل��ب م�ن��ي ف�ن��ان م�ه��م أن أب�ح��ث ل��ه عن‬

‫بين رأسين على مخدة»‪ ،‬وبالفعل كانت الفتاة جاهزة‬

‫أن يفوتها القطار‪ ،‬وقد تجاوزت التاسعة والثالثين‬

‫من عمرها‪ ،‬وحددت لهما موعدا لاللتقاء بمكتبي‪،‬‬ ‫وم��ع بداية اللقاء‪ ،‬ب��دأ الفنان يقدم أصنافا شتى‬

‫من الحركات واألص��وات والحكايات الفنتازية‪ ،‬ولم‬

‫حتى اآلن‪ ،‬فإن واصلت نشر شعر التفعيلة فسوف‬

‫يتحدث عن أي شأن من شؤون الحياة‪ ،‬أو الزواج‪ ،‬أو‬

‫الخصومة الحادة بين أنصار التقليد والتجديد‪،‬‬

‫إنها تبحث عنه بالمندل‪ ،‬إال أن انسحبت من الجلسة‬

‫تكون أول ضحايا هذا المسدس‪ ..‬واآلن‪ ،‬وأمام‬

‫وأم��ام أنصار ه��ذه األصناف الثالثة من الشعر‪،‬‬ ‫صرنا نطالع من يضع حال وسطا على غ��رار ما‬

‫المستقبل‪ ،‬فما كان من الفتاة المحتاجة للعريس‪ ،‬بل‬

‫بعد نصف ساعة من بدئها‪ ،‬ولما سألتها عن سر‬

‫انسحابها بدل تقدمها وهجومها على فتى األحالم‬

‫يصنعه صديقك العطار‪ ،‬فيقول إن قصيدة النثر‪،‬‬

‫قالت لي‪ :‬الفنانون كل ساعة بعقل‪ ..‬وأنا ال أستطيع‬

‫ه��ي شعر وال ن�ث��ر‪ ..‬حيّرتني بأسئلتك وال�ل��ه يا‬

‫وكانت تجربتي مع الفنانين الذين كتبت عن أعمالهم‬

‫قال‪ ،‬إنه شاهد عمودا أثريا مكتوب عليه ما يفيد‬

‫يـُفـَصـ ّل لي ما سأقوله ليس عن أعماله فحسب بل‬

‫ه��ي قصيدة خنثى‪ ،‬ال ه��ي ذك��ر وال أن�ث��ى‪ ،‬أي ال‬

‫عمار‪ ..‬لقد صنع شاعرنا ما صنعه أحدهم حين‬ ‫أنه ال يجوز وضعه ال في الشمس وال في الظل‪..‬‬

‫فكيف سيراه السيّاح وهو مدفون‪ ..‬أنا مع الكتابة‬ ‫الشعرية‪ ،‬ليكتب الشعراء وال�ن��اث��رون ما شاؤوا‪،‬‬

‫المهم أن يكتبوا‪ ،‬والزمن هو ال��ذي يغربل‪ ،‬فإما‬ ‫أن يرتقي هذا الصنف أو ذاك‪ ،‬وإما أن ينطمس‪..‬‬

‫المهم‪ ،‬أن في الحركة بركة‪ ،‬ولتمض عجلة اإلبداع‬ ‫إلى حيث شاءت‪.‬‬

‫< ي�لاح��ظ أن ��ك تكتب ع��ن ك��ل األج �ن��اس والفنون‬ ‫اإلبداعية‪ ،‬إال عن المسرح والسينما والتلفزيون‪..‬‬ ‫لماذا؟‬

‫> لقد كتبت في فترات سابقة عن هذه الفنون وغيرها‬

‫‪60‬‬

‫بما ف��ي ذل��ك الفنون التشكيلية‪ ..‬ول�ك��ن‪ ،‬أرج��و أن‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫العيش معهم‪ ،‬ألم تالحظ حركاته وأقواله وأفعاله‪..‬‬ ‫الفنية مثل تجربة تلك الفتاة‪ ،‬كل واحد منهم يريد أن‬

‫وعن أعمال اآلخرين‪ ،‬فرأيت أن الكتابة عن الشعراء‬ ‫وكتاب القصة والرواية وغيرها من األجناس األدبية‬ ‫تجلب أذى أقل‪ ،‬فهم بالنسبة للفنانين غالبى‪ ..‬وأكثر‬

‫تواضعا‪ ..‬مبسوط يا عمار؟ أنا أعرف أنك لن يهدأ‬ ‫لك بال إال إذا شبكتني مع القطاع الفني من خالل‬

‫هذا الحوار‪ ..‬أنا صاحي لك‪ ..‬بدليل أنني لم أتحدث‬

‫عن الفنانات ألنهن أرحب ص��درا‪ ..‬وإبداعهن أكثر‬ ‫جودة‪ ..‬وألسنتهن أكثر دفئا‪.‬‬

‫< كيف تقيّم تجربة عمان عاصمة للثقافة العربية‬ ‫عام ‪.2002‬‬

‫> كلما اتسعت دائرة اإلبداع من المحلية إلى العربية‬


‫فاألممية كلما كانت الفائدة أعم والجدوى أكثر‪،‬‬

‫معك‪ ،‬فأردد مقولة للصديق القاص خليل قنديل‪،‬‬

‫ومن ثم فإن تجارب العواصم الثقافية‪ ،‬من أروع‬

‫قال لي ألنهم ال ينشغلون بالزيارات وحمل الهدايا‬

‫إذ ثمة غيمة شاسعة‪ ،‬خراجها عائد على الجميع‪،‬‬ ‫التجارب األدبية القومية واإلنسانية‪ ،‬التي تجمع‬

‫بين المبدعين العرب وجمهورهم‪ ،‬وتحقق فعاليات‬ ‫ال تتمثل في المؤتمرات وال �ن��دوات فحسب‪ ،‬وال‬

‫ف��ي المطبوعات م��ن صحف وم�ج�لات فقط‪ ،‬إذ‬

‫ثمة فعاليات أك�ث��ر خ �ل��ودا‪ ،‬خ��ذ ف��ي ع�م��ان على‬

‫سبيل المثال شارع الثقافة‪ ،‬انتهت الفعالية قبل‬

‫‪ 4‬س �ن��وات‪ ،‬وم��ا زال ال �ش��ارع ع��ام��را بالمثقفين‬

‫والفنانين والمفكرين والعشاق أيضا‪ ..‬نعم هي‬

‫تجربة رائعة ومفيدة بكل ما في الكلمة من معنى‪،‬‬ ‫ولكنها فائدة موسمية‪ ،‬نتمنى أن يكثر تكرارها في‬ ‫كل العواصم العربية‪.‬‬

‫جاء فيها أنه يهنئ مبدعي الغرب‪ ،‬ولما سألته لماذا‬

‫للواتي يلدن أو ال��ذي��ن طالهم الطهور‪ ،‬ه��ذا عدا‬ ‫عن المشاركة في حفالت ال��زواج‪ ،‬واإلص�لاح عند‬

‫الطالق والغضب وفورة الدم‪.‬‬

‫< هل تعتقد أن الحركة النقدية في الوطن العربي‬ ‫مقصرة تجاه األدب الفلسطيني؟‬

‫> نعم الحركة النقدية في الوطن العربي مقصرة‬ ‫م��ع األدب ف��ي ك��ل األق �ط��ار ول�ي��س ف��ي فلسطين‬

‫فحسب‪ ،‬فالناقد أم��ام ه��ذا ال�ع��دد الضخم من‬ ‫الكتب والمجالت والصحف األدب�ي��ة‪ ،‬وكذلك ما‬ ‫تبثه وسائل اإلع�لام المسموعة والمرئية‪ ،‬يقف‬ ‫عاجزا عن اللحاق بهذه ال�غ��زارة‪ ،‬فتجده يتوقف‬

‫< ه��ل قدمت اإلب ��داع واألدب األردن ��ي إل��ى الوطن‬

‫عند كتاب أو أكثر كل فترة‪ ،‬أو عند نص أو آخر‪..‬‬

‫> دع�ن��ي أع �ت��رف ل��ك أن�ن��ي ف��ي أي ��ام ال�ع��زوب�ي��ة كنت‬

‫فما بالك بما يصدر ف��ي األق�ط��ار األخ ��رى‪ .‬أما‬

‫وخ��ارج��ه‪ ،‬أم��ا بعد ال� ��زواج‪ ،‬ف�ص��رت م�ح�ت��ارا بين‬

‫ليس كمن يعدونها»‪ ،‬فيها إبداع‪ ،‬وفيها حركة أدبية‬

‫العربي؟‬

‫أكثر نشاطا‪ ،‬في اإلبداع‪ ،‬وفي النشر داخل األردن‬ ‫الكتابة عن العولمة وبين شراء البندورة والبطاطا‬

‫لكنه ال يستطيع اإلحاطة بكل ما يصدر في قطره‪،‬‬ ‫فلسطين فلها خصوصيتها‪« ،‬والذي تحت العصي‬

‫مواكبة للحركة السياسية والعسكرية ومعطياتها‬

‫وال �ب��اذن �ج��ان ل�ل�م�ن��زل‪ ،‬ب�ي��ن ال�ك�ت��اب��ة ع��ن اإلصالح‬

‫على األرض؛ غير أن ذلك اإلبداع‪ ،‬وتلك الحركة‪،‬‬

‫متطلبات مهما صغرت‪ ،‬إال أنها تنسي المرء وتحول‬

‫الماضي‪ ،‬كان األمر مختلفا‪ ،‬كنت تجد كتابا من‬

‫الثقافي‪ ،‬وبين تلبية متطلبات الزوجة واألبناء‪ ،‬فهي‬ ‫بينه وبين عيون اإلبداع؛ ولذا فإن السنوات ‪1970‬‬

‫ال ت�ج��د م��ن يشغل نفسها ب�ه��ا م��ن ال �ن �ق��اد‪ .‬في‬ ‫كل الوطن العربي يكتبون عن فلسطين وأدبها‪،‬‬

‫(حيث بدأت الكتابة) و‪( 1985‬حيث تزوجت وعمري‬

‫أما اآلن‪ ،‬فقد وصل كثيرون إلى مرحلة اإلحباط‪،‬‬

‫معظم الصحف والمجالت العربية‪ ،‬وأوصلت لها‬

‫النقاد‪ ،‬بينما واصلت عجلة اإلبداع عطاءها‪ ،‬وهو‬

‫‪ 33‬عاما) كانت الفترة التي استطعت فيها مراسلة‬ ‫صوت المبدع األردني‪ ،‬وتعليقي األدبي على إنتاجه‪..‬‬

‫وبعدها أكلني غ��ول الوظيفة‪ ..‬وشغلتني العائلة‬

‫والعالقات االجتماعية‪ ..‬وهنا أيضا دعني أسترسل‬

‫ولم يعودوا ي��رون لإلبداع ج��دوى‪ ،‬فصمت معظم‬

‫إبداع بالمناسبة لمن يطّ لع عليه يستحق القراءة‬

‫والدراسة‪ ،‬ولكن أنى لنا أن نجد النقاد المتفرغين‬ ‫لدراسة ذلك اإلبداع ونقده؟!‬

‫< كاتب أردني‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪61‬‬


‫حـــــوار مع الشاعر واملسرحي‬

‫الدكتور نصار عبدالله‬ ‫> حاوره محمود سليمان‬ ‫هو شاعر شديد االختالف والمغايرة للسائد والمألوف؛ لغة وفكرا ووعيا ورؤية‬ ‫شعرية‪ ،‬وتشكيل قصيدة‪ ،‬وهو لم يخرج من عباءة أحد‪ .‬منذ بداياته األولى في المجموعة‬ ‫الشعرية المشتركة «الهجرة من الجهات األربع» التي صدرت عام ‪ ،1970‬وهو مجبول من‬ ‫الجرانيت الذي يمتلئ به صعيد مصر وجباله‪ ،‬فيه منه قوته وحدته وشموخه وصالبته‪،‬‬ ‫وعدم التفريط في ذرة واحدة مما يعده حقا وشرفا وكبرياء‪ .‬فيه من نيل مصر الخالد‬ ‫طالقته وانسيابه وعذوبته وتدفقه وانفتاحه األبدي‪ ،‬ليصب في روافد وفروع ورياحات‬ ‫وترع وقنوات‪ ،‬ال يجمد أمام عائق‪ ،‬وال تركد مياهه الصاهلة دوما خلف سدود أو جسور‪.‬‬ ‫ومن هذه الطبيعة ثنائية التكوين جمعت شاعرية نصار عبدالله أستاذ الفلسفة ورجل‬ ‫االقتصاد والقانون بين الصخر والماء‪ ،‬بين العناد واليسر‪ ،‬بين الغضب والرضا‪ ،‬بين‬ ‫الثورة والحزن‪.‬‬ ‫هكذا يقول عنه الشاعر فاروق شوشة‪.‬‬ ‫وهنا وبال مقدمات‪ ،‬كان حوارنا مع الدكتور نصار عبدالله‪ ،‬أستاذ الفلسفة والشاعر‬ ‫والباحث والمسرحي وأحد األصوات الشعرية المهمة عربياً والتي استطاعت أن تنسج‬ ‫خصوصية ما لتصبح هذه الخصوصية هي السمة السائدة في الكثير من أعماله‪.‬‬ ‫فكان هذا الحوار‬ ‫< دعنا نبدأ من المكان؛ إذ إن المكان والزمان هما المشكالن للتجربة‪ .‬ما الذي تقوله‬ ‫عن المكان وأنت اآلن بعيد عن القاهرة مدينة الضوء؟ وإلى أي مدى ترى قد استوعب‬ ‫مشروعك الشعري واألدبى هذا البعد؟‬ ‫> سوف أكون صادقا معك ومع نفسي‪ ،‬ألقول لك إن المشكلة الحقيقية بالنسبة لي‬

‫عزلة املكان ميكن جتاوزها بسهولة أما عزلة الزمان‪ ،‬فهذا‬ ‫هو امل��أزق احلقيقي ال��ذي يعيشه كل متمسك ب��دور الكلمة‬ ‫‪62‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ليست هي المكان‪ ،‬ولكنه ال��زم��ان‪ .‬إن��ه اللحظة‬ ‫التاريخية الراهنة‪ ،‬اللحظة التي تضاءلت فيها‬ ‫جدوى الكتابة إلى أدنى حد ممكن‪ ،‬أو هذا هو‬ ‫على األقل ما أشعر به‪ .‬القاهرة بالنسبة لي ليست‬ ‫هي مدينة األضواء ولكنها مدينة الظالم المطبق‪.‬‬ ‫وأقصد بالظالم تلك األكاذيب والتفاهات التي‬ ‫ينتجها ويكرسها إع�ل�ام العاصمة‪ .‬أخ�ط��ر من‬ ‫ذلك تضاؤل تلك المساحة المضيئة التي كانت‬ ‫فيما مضى قادرة على تشكيل الوجدان العربي‪،‬‬ ‫وإع� ��ادة ص�ي��اغ�ت��ه م��ن خ�ل�ال ال�ك�ل�م��ة المكتوبة‬ ‫العميقة والصادقة‪ ،‬شعرا كانت الكلمة أو نثرا‪.‬‬ ‫عزلة المكان يمكن تجاوزها بسهولة من خالل‬ ‫تقنيات االتصال الحديثة وفى مقدمتها اإلنترنت؛‬ ‫أما عزلة الزمان فهذه هي المأزق الحقيقي الذي‬ ‫يعيشه كل متمسك بدور الكلمة‪ .‬كثيرا ما توقفت‬ ‫عن الكتابة لفقدان الثقة في ج��دواه��ا‪ ..‬وكلما‬ ‫توقفت فإن ال��ذي يعيدني إليها هو فرضية ما‪،‬‬ ‫مجرد فرضية‪ ،‬مؤداها أن هناك في أماكن ما‬ ‫ال نعلمها على وج��ه التحديد ثمة ق��راء يقرأون‬ ‫م��ا نكتب وي �ت��أث��رون ب��ه‪ ،‬وأن ه ��ؤالء ه��م الذين‬ ‫سيصنعون المستقبل أو يسهمون ف��ي صنعه‪،‬‬ ‫وبهذا الشكل نكون قد أسهمنا نحن أيضا في‬ ‫صنعه‪ .‬ومع هذا فإنني كثيرا ما أخشى أن تكون‬ ‫هذه الفرضية مجرد وهم‪ ،‬أو إنها مبالغ فيها إن‬ ‫كانت على قدر ما من الحقيقة‪.‬‬ ‫< أص��درت العديد من المجموعات الشعرية منها‪:‬‬ ‫(الهجرة من الجهات األرب��ع) مع شعراء آخرين‬ ‫و(ق�ص��ائ��د للصغار وال �ك �ب��ار)‪( ،‬أح���زان األزمنة‬ ‫األول� ��ى)‪( ،‬قلبي طفل ض ��ال)‪( ،‬م��ا زل��ت أقول)‬ ‫(سألت وجهه الجميل)‪ ،‬وعددا من المسرحيات‬ ‫إل ��ى ج��ان��ب إص���دارات���ك ال�م�ت�م�ي��زة ف��ي مجال‬ ‫الدراسات الفلسفية والمقال والترجمة‪ ،‬ليأخذنا‬ ‫ال �س��ؤال ون �ق��ول‪ :‬أي ه��ذه ال�م�ج��االت اق��رب إلى‬

‫قلبك؟‬

‫ك�����ث�����ي�����را م���ا‬

‫> أن� ��ا ش��غ��وف بالمعرفة‪،‬‬ ‫وأعتبر أن العمل اإلبداعي‬ ‫الفني هو في جوهره نوع ال������ك������ت������اب������ة‬ ‫م��ن ال�ك�ش��ف ع��ن مناطق ل�������ف�������ق�������دان‬ ‫معينة ال يصل إليها العلم‬ ‫ب� ��أدوات� ��ه‪ ،‬وال الفلسفة ال����ث����ق����ة في‬ ‫ب ��أدوات� �ه ��ا ال��خ��اص��ة‪ ،‬إن ج���������دواه���������ا‬ ‫كل تلك المجاالت نوافذ‬ ‫م �خ �ت �ل �ف��ة ل �ل �ك �ش��ف عن‬ ‫جوهر األشياء وعن عالقاتها بعضها البعض؛ كل‬ ‫المجاالت تلك قريبة إلى نفسي بقدر ما يعطيني‬ ‫إبداعي في كل منها‪.‬‬

‫ت��وق��ف��ت عن‬

‫< نالحظ أن الدكتور نصار وف��يٌّ إليقاع القصيدة‬ ‫العربية األصيلة وعلى الرغم من ذل��ك نجد له‬ ‫الكثير من األعمال والقصيدة النثرية الجديدة‪،‬‬ ‫فهل يعد ذلك موقفا لصالح قصيدة النثر؟‬ ‫> نعم‪ ،‬يمكنك أن تعد األمر كذلك‪.‬‬ ‫< هناك شخصيات مهمة في تاريخ األدب أثرت‬ ‫في حياة الكثيرين‪ ،‬وال تزال آثارها مشتعلة حتى‬ ‫هذه األيام‪ .‬مَـ ْن من رموز الحركة األدبية والفكرية‬ ‫التي أثرت فيك أو عرفتها وصاحبتها الحقا؟‬ ‫> أهم هذه الشخصيات الشاعر صالح عبدالصبور‬ ‫ال��ذي ربطتني به صداقة عميقة‪ ،‬وهو شخصية‬ ‫نادرة حقا‪ .‬فقد كان ممتع الصحبة خفيف الظل‪،‬‬ ‫وأعتقد أنه لو لم يشتهر كشاعر وكاتب مسرحي‬ ‫الش�ت�ه��ر ب��أن��ه واح ��د م��ن أه��م ظ��رف��اء م�ص��ر في‬ ‫ال�ق��رن العشرين (وق��د أش��رت إل��ى ه��ذا الجانب‬ ‫م��ن شخصيته ف��ي م �ق��ال��ي‪( :‬م �م��ازح��ات صالح‬ ‫عبدالصبور كتب رموز الصحافة رموز السياسة)‪،‬‬ ‫كما كان يتسم بثقافة واسعة جدا‪ ،‬وكان قادرا على‬ ‫استيعاب المذاهب الفلسفية الصعبة وهضمها‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪63‬‬


‫وتمثلها وتحويلها إل��ى أفكار‬ ‫ك�������ان ص��ل�اح‬ ‫حية نابضة‪ ،‬كما كان له اهتمام‬ ‫عبدالصبور كبير بالقضايا الوطنية‪ .‬وقد‬ ‫واح����������دا من اشتركت معه ع��ام ‪ 1972‬في‬ ‫ترجمة كتاب ج�ي��رار شاليان‬ ‫أه���م ظرفاء ع��ن ال�م�ق��اوم��ة الفلسطينية‪،‬‬ ‫م�������ص�������ر ف����ي وك��ان حريصا على أن ننتهي‬ ‫من الترجمة‪ ،‬قبل أن يسبقنا‬ ‫ال��������������ق��������������رن‬ ‫إل ��ى ذل ��ك م�ت��رج�م��و وناشرو‬ ‫ال����ع����ش����ري����ن ب��ي��روت‪ ،‬إل ��ى ح��د أن �ن��ا قمنا‬ ‫بسلخ ال�ك�ت��اب إل��ى نصفين‪،‬‬ ‫ق� � ��ام ه� ��و ب� �ت ��رج� �م ��ة نصفه‬ ‫وترجمت أنا النصف اآلخ��ر حتى ننتهي منه في‬ ‫أسرع وقت‪ ،‬وعندما انتهينا منه قدم الترجمة إلى‬ ‫صديقه الناشر (أحمد سعيد محمدية) صاحب‬ ‫دار العودة الذي فاجأه بالقول بأن هذا الكتاب قد‬ ‫ترجم فعال ونشر في بيروت منذ أيام! وقد ظلت‬ ‫مخطوطة الترجمة في حوزتي (نصفها بخط يده‬ ‫ونصفها بخط ي��دي)‪ ،‬ظلت في حوزتي ما يقرب‬ ‫من عشرين عاما عندما طلبها منى الشاعر أحمد‬ ‫عبدالمعطى حجازي‪ ،‬الذي نشر منها فصال في‬ ‫مجلة إب��داع في العدد التذكاري ال��ذي صدر عن‬ ‫صالح عبدالصبور في مطلع التسعينيات‪.‬‬

‫ثقافيا في مصر‪ ،‬مما نتج عنه غياب أدباء بحجم‬ ‫أمل وعبدالصبور ونجيب محفوظ حتى اآلن؟‬ ‫> ال �غ �ي��اب ال���ذي نعيشه غ �ي��اب ش��ام��ل‪ ،‬وه ��و في‬ ‫األساس غياب سياسي واجتماعي؛ فعندما يغيب‬ ‫المشروع العربي القومي الشامل تغيب الثقافة‬ ‫العربية بكل تجلياتها‪ ،‬ويغيب الشعر بوصفه أحد‬ ‫هذه التجليات‪.‬‬ ‫< م��ا ه��ي المنطقة المعتمة ف��ي حياة أم��ل دنقل‪،‬‬ ‫والتي لم يتطرق إليها اآلخ ��رون‪ ،‬أو لم تعرفها‬ ‫عنه األجيال الالحقة‪ ،‬وترى أنها أثرت في معظم‬ ‫كتابته ن�ظ��راً ألن��ك كنت صديقا ل�ه��ذا الشاعر‬ ‫الكبير؟‬ ‫> ال أظن أنه قد بقيت في حياة أمل مناطق معتمة‬ ‫ذات ش��أن ف��ي كتاباته‪ ،‬لقد كانت حياته كتابا‬ ‫مفتوحا مثل شعره‪ .‬ولقد كتب عنه الكثير وروى‬ ‫عنه الكثير أيضا في الندوات والمؤتمرات التي‬ ‫تناولت سيرته‪ :‬وأعتقد أن ما كتب وما قيل‪ ،‬يغطى‬ ‫كل الجوانب ذات الشأن والتأثير على كتاباته‪ ،‬ولم‬ ‫يبق في اعتقادي سوى بعض التفاصيل والذكريات‬ ‫التي يفضل البعض أن يحتفظوا بها ألنفسهم‪.‬‬ ‫< كيف تقيّم تجربة الشعر الحديث وأن��ت متابع‬ ‫لكثير من األص��وات الشعرية العربية؟ ما الذي‬ ‫تأخذه على أصحاب هذه التجارب وهل هناك‬ ‫أسماء محددة ت��رى أنها استطاعت أن تفرض‬ ‫نفسها أو قدمت النموذج لهذا الشكل؟‬

‫من هذه الرموز أيضا نجيب محفوظ الذي ربطتني‬ ‫به صلة عميقة من ال�م��ودة‪ ،‬وق��د تحدثت عنها‬ ‫في مقال بعنوان (ذكريات محفوظية) المنشور‬ ‫على شبكة النت في (صحيفة المصريين) عدد‬ ‫‪ ،2006/9/15‬ومنها أمل دنقل الذي رويت طرفا > ليس في وسعي أن أقدم تقييما شامال لتجربة‬ ‫من ذكرياتي معه في (موقع شروق)‪ ،‬وأخيراً منها‬ ‫الشعر الحديث في مصر‪ ،‬لكن يمكن أن أشير إلى‬ ‫الصديق العزيز الراهن بهاء طاهر الذي ما زلت‬ ‫بعض األسماء‪ ،‬التي استطاعت أن تقدم تجارب‬ ‫أتصل به أو يتصل بي بشكل يومي إلى اآلن‪.‬‬ ‫أصيلة متميزة‪ ،‬منها على سبيل المثال‪ :‬حسن‬ ‫طلب وعبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان‪.‬‬ ‫ < م��ا دمنا نتكلم ع��ن أم��ل دنقل ونجيب محفوظ‬ ‫وص�لاح عبدالصبور‪ .‬أال ت��رى أن هناك ركوداً < كنت تعيش في القاهرة ونعرف أنك قضيت وقتا‬

‫‪64‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫أن����ا أن���ده���ش ج����دا م���ن ال���ذي���ن ي��ط��ال��ب��ون ال����دول����ة أو امل��ج��ت��م��ع بكفالة‬ ‫ح��ري��ة األدي�����ب‪ ،‬ب��ي��ن��م��ا ق��ل��وب��ه��م وع��ق��ول��ه��م م��ك��ب��ل��ة ب��ك��ل أن�����واع األغ��ل�ال!‬ ‫فما الذي تقوله عن تجربتك المسرحية؟‬

‫> ‬

‫< ‬

‫> ‬

‫< ‬

‫من حياتك في أكثر من مكان‪ ،‬أستاذا للفلسفة‬ ‫وش��اع��را وأدي�ب��ا إل��ى جانب كتاباتك الصحفية‪ > ،‬خالل فترة معينة كنت أتصور أن الحرية الواسعة‬ ‫ماذا بقى من مالح كل هذه الفترة؟‬ ‫التي يتيحها العمل المسرحي في األداء سوف‬ ‫تجعل من المسرح مشروعا مستقبليا لي‪ ،‬لكن‬ ‫بقى من القاهرة الكثير من الذكريات‪ ،‬وبقى منهم‬ ‫هذا المشروع قد أجهض لألسف نتيجة إلصرار‬ ‫عدد من األصدقاء الذين ما زلت أتواصل معهم‬ ‫بعض المخرجين على االحتفاظ بنصوص لي‬ ‫إلى يومنا هذا‪.‬‬ ‫دون أن يخرجوها‪ ،‬ودون أن يسمحوا لغيرهم‬ ‫قال أحد الشعراء (كلما خطوت خطوة في طريق‬ ‫بإخراجها‪ ،‬ما أصابني باإلحباط الشديد‪ ،‬خاصة‬ ‫الشعر الطويل أشعر أنني أقترب من الحرية)‪.‬‬ ‫وأنني ال أجيد التعامل مع مثل هذا النمط‬ ‫أي ��ن تكمن ح��ري��ة األدي� ��ب م��ن وجهة‬ ‫عندما يغيب م��ن السلوك ال��ذي يتسم ب��ه المشتغلون‬ ‫نظركم؟‬ ‫امل�����������ش�����������روع ف��ي ال��وس��ط المسرحي‪ ،‬وه��و م��ا جعلني‬ ‫ح ��ري ��ة األدي � � ��ب ت��ك��م��ن‪ ،‬أوال وقبل‬ ‫أرك��ز كتاباتي فى السنوات األخيرة على‬ ‫ك��ل ش��يء‪ ،‬ف��ي تحطيم األغ�ل�ال التي ال��������ع��������رب��������ي‬ ‫نمط خ��اص م��ن ال�م�ق��ال ال�س��اخ��ر الذي‬ ‫تكبله داخ��ل ذات��ه‪ ،‬وأن��ا أندهش جدا ال�������ق�������وم�������ي كنت أقدمه في عمود‪( :‬توكلت على الله)‬ ‫من أولئك الذين يطالبون ال��دول��ة أو‬ ‫ال��ذي ظللت على م��دى س�ن��وات أكتبه لـ ‬ ‫المجتمع بكفالة حرية األدي��ب بينما ال������ش������ام������ل‪،‬‬ ‫(صحيفة ال�ج�ي��ل) وب�ع��ده��ا ل��ـ (صحيفة‬ ‫ق�ل��وب�ه��م وع�ق��ول�ه��م مكبلة ب�ك��ل أنواع ت����������غ����������ي����������ب صوت األمة) إلى أن قام األستاذ إبراهيم‬ ‫األغ�لال‪ ،‬نعم إن كفالة حرية المبدع ال�����ث�����ق�����اف�����ة عيسى بمنعه من النشر بمجرد أن تولى‬ ‫في مواجهة السلطات الخارجية أمر‬ ‫رئاسة تحريرها‪ ،‬بعدها نشرته بانتظام‬ ‫م �ط �ل��وب‪ ،‬ول �ك��ن ال �م��دخ��ل الحقيقي العربية بكل‬ ‫في (صحيفة الفجر)‪ ،‬وأعتقد أنه لألسف‬ ‫لمشروعية مثل هذه المطالبة هو أن جت���ل���ي���ات���ه���ا أو لحسن الحظ يمتص أغلب ما لدي من‬ ‫يتحرر األدي��ب من أغالله الداخلية‪،‬‬ ‫الشحنة اإلبداعية ويفرغني أوالً بأول‪.‬‬ ‫ولكي يتحرر منها الب��د له أن يراها‪.‬‬ ‫وك��ل عملية إب��داع�ي��ة ه��ي محاولة ل��رؤي��ة جانب < أي��ن تكمن مشكلة المسرح في العالم العربي‪..‬‬ ‫وهل هي مشكلة نص أم وعي أم ماذا ؟‬ ‫معين م��ن ه��ذه األغ�ل�ال‪ ،‬وه��ذا ه��و م��ا قصدته‬ ‫عندما قلت ل��ك إن العمل اإلب��داع��ي الفني هو > بالقطع هي ليست مشكلة نص‪ ،‬هي كما قلت لك‬ ‫مشكلة مناخ عام‪ ،‬مشكلة ماء راكد ال تتكاثر فيه‬ ‫في جوهره نوع من المعرفة‪ ،‬ألنه في جوهره نوع‬ ‫إال الطحالب‪ ،‬وال يطفو على سطحه سوى الزبد‪،‬‬ ‫من الكشف عن مناطق معينة ال يصل إليها العلم‬ ‫يطفو فيه الزبد وال يذهب‪ ،‬بل يظل جاثما وباقيا‬ ‫بأدواته وال الفلسفة بأدواتها الخاصة‪.‬‬ ‫ألن هناك ما يساعده على البقاء‪.‬‬ ‫إذا تركنا محطة الشعر واتجهنا قليال إلى المسرح‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪65‬‬


‫حلل مأزق الثقافة العربية وكشف أسبابه‬

‫الناقد د‪.‬صالح فضل‪:‬‬

‫غياب اإلبداع جعل الثقافة العربية تابعة وهامشية!‬ ‫الميكن للرواية أن حتل محل الشعر‬

‫> محمد احلمامصي‬

‫يعد الناقد الكبير د‪.‬صالح فضل واحدا من النقاد الكبار‬ ‫القالئل‪ ،‬الذين يتمتعون بحيوية وفعالية الحضور على الساحة‬ ‫النقدية العربية؛ فهو يواصل قراءاته ومتابعاته وتحليالته‪،‬‬ ‫حاضرا بقوة داخل فعاليات حركة النقد واإلبداع والثقافة‪.‬‬ ‫وقد شغل العديد من المواقع الثقافية المهمة‪ ،‬منها رئاسة‬ ‫دار الكتب والوثائق القومية‪ ،‬ومنصب المستشار الثقافي‬ ‫لمصر ف��ي إسبانيا وم��دي��ر المعهد المصري للدراسات‬ ‫اإلسالمية لمدة خمس سنوات‪ ،‬وعمل عميداً للمعهد العالي‬ ‫للنقد الفني بأكاديمية الفنون‪ ،‬ورئيساً لقسم اللغة العربية بكلية اآلداب‪ ،‬بجامعة عين‬ ‫شمس‪ ،‬وهو خريج كلية العلوم بجامعة القاهرة عام ‪1962‬م وحاصل على الدكتوراه في‬ ‫األدب العربي من جامعة مدريد المركزية عام ‪1972‬م‪ ،‬ودرّس فيها ث ّم في جامعة عين‬ ‫شمس منذ عام ‪1979‬م‪ ،‬وأسهم بالكتابة في العديد من الدوريات العربية‪ ،‬وشارك في‬ ‫تأسيس مجلة «فصول» وعمل نائباً لرئيس تحريرها‪ ،‬كما شارك في تأسيس الجمعية‬ ‫المصرية للنقد األدبي وعمل رئيسا مناوبا لها منذ عام ‪1989‬م‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫تحتل مؤلفاته في المجال النقدي مكانة متميزة‪،‬‬ ‫إذ تجمع بين التنظير النقدي والتطبيق‪ ،‬ومن أهم هذه‬ ‫المؤلفات‪ :‬نظرية البنائية في النقد األدب��ي‪ ،‬ومنهج‬ ‫الواقعية في اإلبداع األدبي‪ ،‬وتأثير الثقافة اإلسالمية‬ ‫في الكوميديا اإللهية لدانتي‪ ،‬وعلم األسلوب‪ :‬مبادؤه‬ ‫وإجراءاته‪ ،‬وإنتاج الداللة األدبية‪ ،‬وبالغة الخطاب‬ ‫وعلم ال�ن��ص‪ ،‬وت�ح��والت الشعرية العربية‪ ،‬ومناهج‬ ‫النقد المعاصر‪ ،‬ولذة التجريب الروائي‪.‬‬

‫ب���أب���ي وروح������ي ال���ن���اع���م���ات الغيدا‬ ‫الباس ـ ــمات ع��ن ال��ت��ي��م نضيدا‬ ‫ال����ران����ي����ات ب���ك���ل أح������ور فاتـ ـ ـ ــر‬ ‫ي��ذر الخلي م��ن ال��ق��ل��وب عميدا‬ ‫إلى أن يقول‪:‬‬ ‫وال����ل����ه م����ا دون ال����ج��ل�اء ويوم ــه‬ ‫ي���وم تسميه ال��ك��ن��ـ��ان��ة عي ـ ـ ـ ــدا‬

‫وق��د ح�ص��ل د‪ .‬ص�ل�اح ف�ض��ل ع�ل��ى ع��دة جوائز‬ ‫ك��ان ه��ذا ف��ي العشرينيات م��ن ال�ق��رن الماضي‪،‬‬ ‫مصرية وعربية منها جائزة البابطين لإلبداع في‬ ‫نقد الشعر عام ‪1997‬م‪ ،‬وجائزة الدولة التقديرية في يجعل تحقيق االستقالل بداية األعياد ال السياسية‬ ‫وال االقتصادية وال االجتماعية فحسب‪،‬‬ ‫اآلداب عام ‪2000‬م‪ .‬وهو عضو في مجمع‬ ‫أدجل�������������������������ة ولكن الكونية للوطن العربي بأكمله‪ .‬ثم جاء‬ ‫اللغة العربية‪.‬‬ ‫ال������������وع������������ي النصف الثاني ليشهد تعقيدات وتحديات‬ ‫وفي هذا الحوار نتعرف على رؤيته في‬ ‫في غاية الخطورة‪ ،‬تصورنا أن الحركة‬ ‫الواقع الحالي للثقافة واإلبداع والنقد في‬ ‫وف����������ق����������دان الثورية التي استهلها الضباط األحرار‬ ‫عالمنا العربي‪.‬‬ ‫ال����ب����وص����ل����ة في مصر العام الثاني والخمسين‪ ،‬سوف‬ ‫< هل الثقافة العربية في ظل تحديات‬ ‫تضع هذا الحلم للدولة القوية المستقبلية‬ ‫ك�ث�ي��رة وم�ع�ق��دة س ��واء داخ�ل�ي��ة أو نتيجة ك���ان���ت سمة‬ ‫موضع التحقيق‪ ،‬خاصة‪ ،‬وقد عملت آلة‬ ‫ضغوط خارجية؟‬ ‫ل�����ل�����ن�����ص�����ف دعائية جهنمية وحاجة المجتمع العربي‬ ‫> ف��ي تقديري أن النصف األول من ال���������ث���������ان���������ي إلى صناعة البطوالت على تجسيد هذا‬ ‫الحلم في شخص عبد الناصر الذي أترع‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬ال��ذي ك��ان يشهد طفرة‬ ‫����رن‬ ‫ق‬ ‫����‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫������ن‬ ‫م‬ ‫وجدانات الجماهير باألمل‪ ،‬لكن لم نلبث‬ ‫ثقافية في مراكز اإلنتاج الثقافي حينئذ‬ ‫في مصر والشام والعراق كان يضمر كثيرا ال���ع���ش���ري���ن! وأبناء جيلي‪ ،‬على وجه التحديد‪ ،‬الذين‬ ‫ش �ه��دوا ذل ��ك أن س�ق�ط��ت ف ��وق رؤوسنا‬ ‫من التفاؤل للمستقبل‪ ،‬ولم يكن يتصور أن‬ ‫جميعا مطرقة السابع والستين‪ ،‬أفقنا‬ ‫مجرد شيوع حركة التحديث المجتمعي‬ ‫في األبنية السياسية واالقتصادية والثقافية وفي مذهولين من الصدمة‪ ،‬لم تكن صدمة بهزيمة القوى‬ ‫أسس الدولة الحديثة‪ ،‬وال��ذي كان يتخذ بؤرته في العربية أمام الكيان الصهيوني فقط‪ ،‬ولم تكن صدمة‬ ‫هدفه األساسي في استقالل هذه الدول عن المحتل عسكرية ف�ق��ط؛ لكنها ك��ان��ت ف��ي ج��ذوره��ا صدمة‬ ‫األجنبي اإلنجليزي أو الفرنسي يجعل حلمه في الحلم وإف�لاس ثقافة الغوغائية‪ ،‬وجفاف البحيرة‬ ‫ال�ج�لاء واالس�ت�ق�لال غاية المنى ونقطة االنطالق ووض��وح ما فيها من أسماك ميته‪ .‬كانت الزعامة‬ ‫لمستقبل مشرق‪ ،‬ما زلت مثال أتذكر قصيدة شوقي المحصلة األخيرة تسير في غير الطريق األساسي‪،‬‬ ‫الذي البد أن تسير عليه الدول التي تبني ذاتها‪ .‬كانت‬ ‫التي غنتها أم كلثوم ومطلعها الغزلي الفاتن‪:‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪67‬‬


‫هذه الزعامة (زعامة عبد الناصر) على افتتاننا بها‬ ‫أيامها‪ ،‬أمامها تجربة مرافقة‪ ،‬وهي تجربة نهرو في‬ ‫الهند مثال‪ ،‬وك��ان نهرو وتيتو رفيقي عبد الناصر‪،‬‬ ‫لكن نهرو اختار للهند طريق البناء العلمي في الثقافة‬ ‫والديمقراطية المتوازنة بين آالف الطوائف واألعراق‬ ‫واللغات التي يشكلها الهند وبحر الفقر المدقع‪،‬‬ ‫وأسفرت اختيارات الهند منذ نهرو حتى اآلن عن‬ ‫اس�ت�م��رار الهند كقوة عظمى نتيجة للعلم والفكر‬ ‫والثقافة والطاقة الذرية والصناعات الدقيقة‪ ،‬وأما‬ ‫نحن فحتى دولة الوحدة التي لم نكد نهنأ بها سنتين‬ ‫أو ثالثة تفتت وه��ي تتشكل ألن العقلية عسكرية‪،‬‬ ‫واالستقالل أصعب من االحتالل‪ ،‬وبناء الدول ال يتم‬ ‫إال بالحرية والديمقراطية‪ ،‬وهذا هو الحلم الحقيقي‬ ‫ال��ذي يتعين على كل األجيال الحالية والقادمة أن‬ ‫تؤمن به وتستهدفه‪.‬‬ ‫ك ��ان وض ��ع ال�م�ث�ق�ف�ي��ن ف��ي غ��اي��ة ال �غ��راب��ة في‬ ‫الخمسينيات والستينيات‪ ،‬ال أريد أن أستعيده كثيرا‪،‬‬ ‫لكن أدلجة الوعي وفقدان البوصلة الحقيقية جعلهم‬ ‫ال يقوون على قيادة الفكر العربي في النصف الثاني‬ ‫من القرن العشرين‪ ،‬تركوا للسياسيين هذه القيادة‬ ‫العشوائية فتخبطنا تخبطا شديدا في عواصف عدة‪،‬‬ ‫من اتجاهات اشتراكية بذلنا فيها خالصة طاقتنا‪،‬‬ ‫وتحالفنا مع الكتلة الشرقية عبر العقدين السادس‬ ‫والسابع من القرن العشرين إلى أول السبعينيات ‪ ،‬ثم‬ ‫االتجاهات المضادة تماما األوروامريكية والموالية‬ ‫للغرب إل��ى درج��ة التبعية‪ ،‬وال�ت��ي نقضت ك��ل غزل‬ ‫البناء االشتراكي السابق على يد السادات‪ ،‬ثم كانت‬ ‫فترة التجميد الكبرى في العقود الثالثة الماضية‪.‬‬ ‫ما أري��د أن أقوله فيما يتصل بالثقافة ألخصه‬ ‫في ثالث نقاط‪ :‬النقطة األولى هي أن عدم وضوح‬ ‫الرؤية اللبرالية المتحررة التي تؤمن بالدولة المدنية‬ ‫وبحتمية الوصول إلى التجربة الديمقراطية وسيادة‬

‫‪68‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫التفكير العلمي أدى إلى تأرجح الشراع العربي خاصة‬ ‫في المراكز ذات الثقل الحقيقي في توجيه السفينة‬ ‫العربية بين تيارين متناقضين‪ :‬التيار الماركسي‬ ‫الذي كان مؤدلجا إلى درجة كبيرة والتيار المناقض‬ ‫له وال��ذي اشتعل لمقاومته وه��و التيار اإلسالمي‪.‬‬ ‫ه��ذه التقلصات األي��دي��ول��وج�ي��ة ال �ح��ادة ه��ي الوجع‬ ‫الحقيقي للثقافة العربية‪ ،‬لم نكد نبرأ من العصف‬ ‫األيديولوجي الماركسي الذي هدأ بعد سقوط نموذج‬ ‫االتحاد السوفيتي‪ ،‬حتى بدأنا نتعرض لعواصف أشد‬ ‫ضراوة‪ ،‬تريد أن تعيد التاريخ إلى الماضي‪ ،‬وتتصور‬ ‫أن هذا الماضي هو ال��ذي ينبغي أن ينتصب حلما‬ ‫للمستقبل‪ ،‬وهو تصور مستحيل ال يصح في أي فهم‬ ‫صحيح‪ .‬وه��ذا التصور يغفل أن كل الشعوب التي‬ ‫سبقتنا إل��ى التنمية وإل��ى التقدم واألخ��ذ بأسباب‬ ‫القوة البد أن تمر من الباب الواسع لمقدس العصر‬ ‫الحديث‪ ،‬وه��و الحريات في مستوياتها السياسية‬ ‫والديمقراطية وفي مستوياتها االقتصادية‪.‬‬ ‫هذا المأزق الذي نواجهه يضاف إليه مأزق آخر‬ ‫ال نستطيع أن نتجاهله‪ ،‬وهو أن المنظور العام لوحدة‬ ‫اللغة العربية وتجانس العقيدة بين اإلسالم والمسيحية‬ ‫في الوطن العربي يوهم للوهلة األولى أننا بالفعل أمة‬ ‫واحدة؛ لكن التمايزات واالختالفات القطرية الحادة‬ ‫في درج��ة نمو المجتمعات وتطورها بين المشرق‬ ‫العربي والمغرب العربي‪ ،‬وفي اإلمكانات االقتصادية‬ ‫بين ال��دول النفطية وغير النفطية‪ ،‬خلقت توترات‬ ‫بالغة الحدة والخطورة في جسد العقل العربي‪ .‬لو‬ ‫صح ه��ذا التعبير من ناحية ف��إن المجتمعات التي‬ ‫سبقت إلى حركة النهضة مثل المجتمعات المصرية‬ ‫والشامية والعراقية‪ ،‬والمجتمعات التي أفادها قربها‬ ‫م��ن ال�ب�لاد الغربية ف��ي تجربتها المتوسطية‪ ،‬مثل‬ ‫الشمال األفريقي تختلف جذريا في درج��ة نموها‬ ‫المجتمعي‪.‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدة متاما عن النقد األيديولوجي الشائع‬ ‫صفحة‬ ‫جتربة فصول كانت‬ ‫الظاهرة الثانية التي أتوقف عندها مليا‪ ،‬هي أنه‬ ‫على الرغم من ضخامة رؤوس األموال المتوافرة في‬ ‫الوطن العربي‪ ،‬فكلها مكدسة وغير فاعلة‪ ،‬والمراكز‬ ‫المالية الغربية واألجنبية ال تستثمر أي شيء منها‬ ‫لتنمية العقل أو الثقافة أو العلم‪ ،‬في ظل غيبة اإلبداع‬ ‫العلمي عن الخارطة اإلنتاجية للثقافة العربية‪ ،‬األمر‬ ‫الذي جعلها ثقافة تابعة وهامشية وغير مؤثرة على‬ ‫اإلطالق في حركة الحضارة الحديثة‪.‬‬

‫اآلن في العلم والمعلومات‪ ،‬وتملك علما ومعلومات في‬ ‫عصر المعرفة الحديث يمكن أن تمتلك قوة تستطيع‬ ‫أن تجعلك ندا لآلخرين‪ ،‬ومع ذلك ال يبذلون أي جهد‬ ‫المتالك العلم أو المعرفة وال امتالك المعلومات‪،‬‬ ‫ويكتفون بوضعهم االستهالكي والمهمش‪ ،‬ويعادون‬ ‫العالم معتقدين أنهم ق��ادرون على تغييره‪ ،‬وهم في‬ ‫حقيقة األمر ال يستطيعون إال تهديده بالدمار‪.‬‬ ‫وإذا أضفنا إلى كل تلك العوامل السرطان المتمكن‬ ‫من الجسد العربي والذي استزرع فيه منذ منتصف‬ ‫القرن‪ ،‬والمتمثل في إسرائيل ألدركنا بشاعة الوضع‬ ‫الكلي للثقافة العربية اآلن‪ ،‬إذ إنها ترضي األعداء‪،‬‬ ‫لكنها ال ينبغي أن ترضي أهلها أو ترضي الغيورين‬ ‫عليها‪ ،‬ألنها تفتقد العناصر األساسية التالية‪ :‬أوال‬ ‫سيادة التفكير العلمي‪ ،‬ألننا ما زلنا محكومين في‬ ‫معظم تصرفاتنا بالتفكير الغيبي إلى درجة كبيرة‪،‬‬ ‫وثانيا تفتقد المؤشر‪ /‬البوصلة الحقيقية لتقدم كل‬ ‫الشعوب حتى اآلن‪ ،‬وهو اعتبار أن الديمقراطية هي‬ ‫المنطلق الحقيقي للنمو والتقدم؛ على األقل إذا كانت‬ ‫النخبة المثقفة قد آمنت أخيرا بذلك ‪ ،‬إذ ما زالت‬ ‫األغلبية العظمى من أبناء الشعب العربي في مختلف‬ ‫األقطار ال تؤمن ب��ه‪ ،‬وتكتفي الحلم برغيف الخبز‬ ‫القريب أو مشاغل الحياة اليومية البسيطة‪ ،‬وتفتقد‬ ‫ال�م�ش��روع الحقيقي ف��ي التنمية الفكرية العلمية؛‬ ‫ال �ش��يء ال��وح�ي��د ال ��ذي ي�ع��زي قليال وض��ع الثقافة‬ ‫العربية هو أن اإلبداع األدبي فيها يتنامى بقدر اتساع‬ ‫موجات التعليم‪.‬‬

‫ال�ظ��اه��رة الثالثة والفاجعة أن�ه��ا ثقافة شديدة‬ ‫االغ��ت��رار ب��ذات�ه��ا وش��دي��دة االس�ت�ح�ض��ار لماضيها‬ ‫والفخر به‪ ،‬ومن ثم فهي مصابة بنوع من حساسية‬ ‫الشعور الحاد بالذات وتضخم االعتداد إلى درجة‬ ‫خطيرة‪ ،‬وأخذ هذا طابعا أيديولوجيا يتصل بالعقيدة‬ ‫على وجه التحديد‪ ،‬فعلى الرغم من أننا قد أفرزنا‬ ‫في العقود األخيرة نتيجة للعوامل التي أشرت إليها‬ ‫من َقبْل تيارات إرهابية هددت أمن العالم إال أننا ال‬ ‫نزال نشكو وبملء صوتنا إذا وجه أحد إلينا االتهام‬ ‫بهذا الصدد‪ ،‬وتصورنا أن هناك حربا ضروسا على‬ ‫معتقداتنا وع�ل��ى دي�ن�ن��ا‪ .‬ورب �م��ا أدى بعض الحمق‬ ‫السياسي للقوى األحادية الغاشمة التي تتحكم في‬ ‫مصير العالم اآلن‪ ،‬وه��ي ق��وة ال��والي��ات المتحدة‪،‬‬ ‫التي تشهد أغبى إدارة يمكن أن تتوالها ويقودها‬ ‫المحافظون الجدد‪ ،‬أدى حمق هذه اإلدارة إلى تفاقم‬ ‫مشكلة ما يسمى باإلرهاب السياسي‪ ،‬الذي أصبح‬ ‫تهمة ال نستطيع أن ندعيها وال نستطيع أن ننفيها في‬ ‫الوقت ذاته‪ ،‬ألنه بالفعل يستخدم الدين لدى فرقاء‬ ‫كثيرين منا يتوهمون أن في وسعهم إصالح العالم‪،‬‬ ‫إن دخول مراكز إنتاج أدبي وثقافي جديدة على‬ ‫وأنهم مفوضون بنشر اإلسالم بالقوة أو على األقل خارطة الثقافة العربية إلي جانب المراكز القديمة‪،‬‬ ‫بردع القوى المعادية لهم‪ .‬وأغرب ما في هذا السياق وب��روز مواهب حقيقية في مختلف مجاالت الفنون‬ ‫هو أنهم يرون بأم أعينهم أن مصادر القوة تتجسد األدبية‪ ،‬يعود سببه ‪-‬في تقديري‪ -‬إلى أن اإلبداع‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪69‬‬


‫األدبي جهد مشروعات فردية‪ .‬فبجهدك الشخصي‬ ‫يمكنك أن تصبح شاعرا عظيما لو كنت موهوبا‪ ،‬أو‬ ‫تصبح روائيا أو كاتبا‪ ،‬لكن ال يمكنك بالجهد نفسه أن‬ ‫تصبح عالما كبيرا في مجاالت الفلك أو الطب أو غير‬ ‫ذلك ؛ ألن ذلك يرتبط ببنية مجتمع علمي البد من‬ ‫تكوينها‪ ،‬وبتضافر اختصاصات متعددة وباستثمارات‬ ‫مادية وبشرية‪ ،‬وبمؤسسات علمية وبمناخ نفتقده في‬ ‫كل أرجاء الوطن العربي دون استثناء‪.‬‬ ‫< هل يعني كالمك ه��ذا أن��ه لم يكن ثمة بوادر‬ ‫لمشروع نهضوي فكري عربي؟‬ ‫> بالتأكيد كانت هناك موجات وب��وادر عديدة‪،‬‬ ‫وليست ب��ادرة واح��دة لمشروعات نهضوية عربية‪،‬‬ ‫اب �ت��داء م��ن ال �ق��رن ال�ت��اس��ع عشر إل��ى مطلع القرن‬ ‫العشرين ثم إل��ى منتصفه؛ كلها موجات ذات زخم‬ ‫قوي جدا نهضويا‪ ،‬لكن المشكلة هي تلك التوترات‬ ‫والتقلصات واالنحرافات التي ضلت غاياتها؛ بمعنى‬ ‫أننا كنا في االتجاه الصحيح ‪ -‬كما أسلفت ‪ -‬طالما كنا‬ ‫دوال محتلة وهدفنا األساسي هو االستقالل‪ ،‬وعندما‬ ‫حصلنا على ذلك االستقالل الشكلي‪ ،‬لم نعرف كيف‬ ‫ن��دي��ر مجتمعاتنا كما تُ ��دار المجتمعات الحديثة؛‬ ‫فقد ظللنا نحكم بطرق قبلية أو ديكتاتورية‪ ،‬وعلى‬ ‫أحسن الفروض بطرق فاشية عسكرية‪ ،‬وهذا ال يبني‬ ‫مستقبال للشعوب على اإلطالق إلى أن نخرج من هذه‬ ‫ال��دائ��رة‪ ،‬ون��درك أن الخط االستراتيجي والبوصلة‬ ‫الحقيقية التي توجه طاقاتنا نحو المستقبل البد أن‬ ‫تعبر من باب الديمقراطية الحقيقية‪ ،‬وليست تلك‬ ‫األشكال المزيفة التي تفننّا في تجميلها وصناعتها‪،‬‬ ‫ك��أوه��ام ضخمة ن�ت�ش��دق ب�ه��ا وه��ي غ�ي��ر م��اث�ل��ة في‬ ‫الواقع‪ .‬جمهورياتنا تتحول إلى ملكيات وهذا مسار‬ ‫سخرية في العالم كله‪ ،‬لم يحدث في أي منطقة في‬ ‫العالم أن تحولت الجمهوريات إل��ى ملكيات‪ ،‬لكنه‬ ‫يهدد بأن يصبح هو القاعدة لدينا‪ ،‬فمعنى ذلك أننا‬

‫‪70‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫حتى اآلن في مجموع الرأي العام‪ .‬ودعك من النخب‬ ‫الطليعية مع أنها هي القائدة في إحساس المواطن‬ ‫ال �ع��ادي ب�ض��رورات��ه المستقبلية‪ ،‬ل��م نكد نستوعب‬ ‫هذه ال�ض��رورة‪ ،‬وما أتمناه أن تصبح هذه الضرورة‬ ‫هي البديل الحقيقي والمشروع للحلم القومي في‬ ‫الخمسينيات ‪ ،‬فمثال «حلم الوحدة العربية الكبرى»‬ ‫التي تغنى الناس بها تحت زعامة عبد الناصر تبين‬ ‫أنها كانت وهماً؛ ألنها لم تدرك التحديات الحقيقية‬ ‫الداخلية وال�خ��ارج�ي��ة‪ ،‬وبنية المجتمعات المفككة‬ ‫كانت تحتاج إل��ى توحيد اقتصادي وتوحيد ثقافي‬ ‫وت��وح�ي��د ف��ي درج ��ة النمو ال�م��دن��ي وم�ف�ه��وم الدولة‬ ‫ذاته قبل أن تقفز إلى التوحيد السياسي؛ إذاً القوى‬ ‫السياسية الحقيقية في العالم العربي لم تتجذر لدى‬ ‫عامة الناس ولدى الشعوب ذاتها‪ ،‬حتى يمكن أن تقوى‬ ‫على فرض إرادتها في تبادل السلطة وتداولها وفي‬ ‫المشروع الديمقراطي والتنموي الحقيقي‪.‬‬ ‫< في ضوء مفهوم المثقف القائد وحامل رسالة‬ ‫الوعي والتنوير في المجتمع‪ ..‬هل هناك مثقفون في‬ ‫الوطن العربي اآلن أم هناك خدام سلطة؟‬ ‫> ال ينبغي أن نكون قساة على أنفسنا‪ ،‬ال شك‬ ‫أن الوطن العربي ارتفعت فيه نسبة التعليم وارتفعت‬ ‫فيه نسبة الوعي ونسبة الثقافة؛ فبينما كان المثقفون‬ ‫في العقود الماضية أف��رادا معدودين أصبحوا اآلن‬ ‫فيالق وأعدادا كبيرة‪ ،‬منهم بطبيعة الحال الموالون‬ ‫للسلطة‪ ،‬واالنتهازيون‪ ،‬وترزية القوانين‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫األصناف التي تشير إليها؛ لكن منهم أيضا المخلصون‬ ‫الحقيقيون وأنا أؤمن أن هؤالء المخلصين لو واتتهم‬ ‫الفرصة‪ ،‬أو أتيحت لهم الظروف‪ ،‬سيظهرون طاقات‬ ‫وإمكانات مدهشة‪.‬‬ ‫لقد ع��اص��رت ح��ال��ة مثل ذل��ك عندما كنت في‬ ‫إسبانيا حيث شهدت فترتين‪ :‬األول��ى‪ ،‬كانت فترة‬ ‫فرانكو‪ ،‬وق��د طالت ديكتاتوريته نحو أربعة عقود‪،‬‬


‫ومن كان يعيش في أيام فرانكو لم يكن يتصور أبدا‬ ‫أن هذا الشعب المقموع بالقوة الفاشية لفرانكو يمكن‬ ‫أن يكون فيه مفكرون ومبدعون وساسة من الطراز‬ ‫األول‪ ،‬لكن عندما مات فرانكو واختار الملك خيار‬ ‫الديمقراطية على عكس ما ك��ان يعده له فرانكو‪،‬‬ ‫إذ بالمفاجأة المدهشة أن��ه من بين صفوف آالف‬ ‫المحامين والمهندسين ورجال اإلدارة والتجار برزت‬ ‫إم�ك��ان��ات سياسية وزع��ام��ات ف��رض��ت نفسها على‬ ‫المناخ األوربي بعد ذلك كعقليات مدهشة‪.‬‬

‫ألنه إذا تأملنا بداية عصر النهضة سنجد أن قادة‬ ‫الفكر في المجتمعات العربية كانوا نقادا من الدرجة‬ ‫األولى؛ ألن النقد يبدأ باألدب ويتسع إلى بقية دوائر‬ ‫الحياة الثقافية والحياة العامة‪ ،‬وما نفتقده حقيقة‬ ‫في مجتمعنا العربي هو الفكر النقدي‪ ،‬ألنه إذا شاع‬ ‫الفكر النقدي في السياسة وفي المجتمع‪ ،‬وفي الفكر‬ ‫الديني‪ ،‬وفي االقتصاد وفي الثقافة‪ ،‬كان ذلك إيذانا‬ ‫بارتفاع درجة الوعي‪ ،‬وخاصة مع شجاعة نقد الذات‬ ‫وشجاعة استبصار المستقبل‪.‬‬

‫ما أريد أن أقوله هو أن الديمقراطية تصنع وهجها‬ ‫وب�ط��والت�ه��ا وزع��ام��ات�ه��ا‪ ،‬فقط لترفع الديكتاتورية‬ ‫وال�ق�م��ع وال�س�ل�ط��ات األب��دي��ة المتحكمة ي��ده��ا عن‬ ‫قامات أبناء أي شعب في المنطقة العربية‪ ،‬وستجد‬ ‫أن عدد النابغين في مجال الممارسات السياسية‬ ‫واالق�ت�ص��ادي��ة والعلمية واإلب��داع �ي��ة ي�ف��وق م��ا كنت‬ ‫تتصوره بمراحل‪ .‬أن��ا أؤم��ن أن شعوبنا ال ينقصها‬ ‫على اإلط�لاق الوعي وال تنقصها العقليات ؛ بدليل‬ ‫أن معظم المؤسسات الناجحة في العالم الغربي‬ ‫حافلة بالعناصر العربية المهاجرة‪ ،‬وهي تبدع وتنتج‬ ‫وتثمر على أعلى مستوى‪ ،‬ألن النظام الذي يعملون‬ ‫ف��ي ن �ط��اق��ه‪ ،‬وي �ن��درج��ون ض�م��ن ت��روس��ه‪ ،‬يستخرج‬ ‫منهم أجمل ما لديهم ويبرز أعظم مواهبهم؛ بينما‬ ‫نظمنا تخنق وتقتل وتحبط وتفسد طاقات أبنائنا!‬ ‫كيف يمكن لنا أن نصل في الوطن العربي ولو في‬ ‫عدة دول تبدأ هي بذلك ثم تكر المسبحة بعد ذلك‬ ‫وتتبعها بقية الدول إلى تهيئة الجو لخلق هذا النظام‬ ‫الذي يحل التنافس الحر الخالق واإلبداع الحقيقي‬ ‫محل القمع والفساد والسيطرة والديكتاتورية؟ وهذا‬ ‫هو المنطلق‪.‬‬

‫وق��د لعب النقد ف��ي عمومه م��ن فكري وثقافي‬ ‫وأدبي دورا رائدا وطليعيا‪ ،‬وأوشك أن أقول أن النقد‬ ‫األدبي كان هو قاطرة النهضة‪ ،‬فمثال ال نستطيع أن‬ ‫ننكر دور طه حسين في قيادة الفكر العربي‪ ،‬عندما‬ ‫كان عميدا له في النصف األول من القرن العشرين‪،‬‬ ‫وكان وعيه النقدي الموجّ ه والمنبثق أساسا من الفكر‬ ‫األدب��ي هو ال��ذي يقود ويحرك طاقته لقيادة حركة‬ ‫التعليم‪ ،‬وقيادة حركة المجتمع وحركة التنوير‪.‬‬

‫إن ما نحن في أشد الحاجة إليه اآلن هو سيادة‬ ‫الفكر النقدي فإذا ما قصرنا األمر على مجال النقد‬ ‫األدب��ي‪ ،‬وجدنا أن تراثنا في هذا الجانب اإلنساني‬ ‫خصب وغني ومتنامي إلى درجة ما‪ ،‬وهو يواكب إلى‬ ‫حد ما تراثنا اإلبداعي ويتوافق معه ألنهما ‪-‬الفكر‬ ‫اإلب��داع��ي‪ ،‬والفكر النقدي‪ -‬هما الجناحان للطائر‬ ‫اإلن�س��ان��ي ذات ��ه ال�ل��ذي��ن يحلق بهما‪ ،‬ول�ك��ن الجناح‬ ‫المهيض فيهما ‪ -‬كما أش��رت من قبل ‪ -‬هو جناح‬ ‫اإلبداع العلمي واالبتكارات التكنولوجية‪ ،‬إذ ما زالت‬ ‫ت��درج على األرض ول��م تنطلق بعد‪ ،‬فلم تحلق‪ ،‬ولم‬ ‫تحقق إنجازاتها الظاهرة الالفتة في الفكر النقدي‪،‬‬ ‫والفكر النقدي يتسم بشئ من الندرة ؛ بمعنى أنه من‬ ‫< برأيك هل حال النقد عامة واألدبي خاصة كما بين عشرة مبدعين مثال يكفي أن يكون هناك ناقدا‬ ‫هو حال الثقافة العربية؟‬ ‫في مستواهم‪ ،‬وربما أج��رؤ على القول يكفي ناقد‬ ‫> مسؤولية النقد أشد من مسؤولية اإلبداع‪ ،‬أوال لكل مائة مبدع؛ ألن المسألة في كل العصور تقريبا‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪71‬‬


‫س��ارت على هذا النحو‪ ،‬ونحن نستهدي بمؤشرات الحديث في القرن العشرين‪ ،‬كما يزدهر اإلبداع في‬ ‫الماضي والحاضر لندرك طبائع األشياء‪ ،‬مثال كنت الشعر والكتابة واألجناس األخرى يزدهر النقد‪ ،‬وأن‬ ‫مكلفا برئاسة اللجنة العلمية التي تعد موسوعة هذين القرنين الرابع الهجري أو العاشر الميالدي‬ ‫أعالم األدب��اء والعلماء العرب والمصريين على مر والعشرين يستحوذان على خمسين بالمائة من عدد‬ ‫العصور‪ ،‬والتي تصدرها المنظمة العربية للتربية المبدعين والنقاد‪ .‬ولم تنجب القرون الخمسة عشرة‬ ‫والثقافة والعلوم‪ ،‬وأثناء التخطيط لهذه الموسوعة األخرى إال خمسين بالمائة‪ ،‬ففترات الزخم والعطاء‬ ‫قلت لهم‪( :‬إنه لو كان من المفروض أن يكون هناك هما الفترتان المشار إليهما‪ ،‬فقد كثر فيهما عدد‬ ‫نحو عشرة آالف عالم فاتركوا للفكر األدبي إبداعا المبدعين‪ ،‬وبمواكبة ذلك كثر عدد النقاد نسبياً‪ ،‬مع‬ ‫ونقدا ألفين‪ ،‬ولبقية الجوانب اإلنسانية في العلوم أن النقاد في كل مرحلة وكل جيل كانوا دائما يصنفون‬ ‫وال �م �ع��ارف ال �ب��اق��ي)‪ .‬وت �ص��ورت أن م��ن بين هذين في مستويات عديدة‪ ،‬ال يكاد المستوى األول الذي‬ ‫األلفين (األدب��اء والشعراء والكتاب والنقاد) يمكن يمكن أن نطلق عليه (أعالم النقاد) في كل جيل يزيد‬ ‫أن يكون في المتوسط نحو خمسمائة ناقد‪ ،‬وأخذت في جميع أرج��اء الوطن العربي عن عشرة أسماء‪،‬‬ ‫أع ��د ال �ق��وائ��م األول� ��ى وأس �ت �ع �ي��ن ببعض ك���������������ت���������������اب وإذا أخذنا ذلك من الدراسات التحليلية‬ ‫لإلحصاءات ولإلنتاج‪ ،‬انتهينا إلى نتيجة‬ ‫المحررين والكتاب‪ ،‬وإذا بي أفاجأ أن ما‬ ‫����دة‬ ‫ي‬ ‫����‬ ‫ص‬ ‫����‬ ‫ق‬ ‫����‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م�ف��اده��ا أن العملية النقدية ليست في‬ ‫أنتجته الثقافة العربية عبر كل عصورها ال‬ ‫يتجاوز مائتي ناقد مع أنني أعددت فيهم ال���ع���م���ودي���ة كثرة العدد وال في غ��زارة اإلن�ت��اج‪ ،‬وإنما‬ ‫في نوعية الفكر النقدي ال��ذي يستطيع‬ ‫كل شراح الدواوين والمشتغلين بالبالغة‬ ‫و ق���ص���ي���دة‬ ‫أن يبدع منطلقاته ومبادئه وتصوراته‪ ،‬وأن‬ ‫والمشتغلين بتاريخ األدب وكل المشتغلين‬ ‫���ة‬ ‫ل‬ ‫���‬ ‫ي‬ ‫���‬ ‫ع‬ ‫���‬ ‫ف‬ ‫���‬ ‫ت‬ ‫���‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫يستوعب اإلبداع ويقوم بإضاءته وإضاءة‬ ‫بتاريخ النقد‪ ،‬ووج��دت أن النقاد في كل‬ ‫ال�ع�ص��ور ال يمكن أن يصلوا إل��ى نصف أك���ث���ر ق����درة الطريق أمامه ويقوم بوظائفه المتعددة‪.‬‬ ‫الرقم الذي قدرته في البداية‪ ،‬وهم على‬ ‫الظاهرة الثالثة الالفتة فيما يتصل‬ ‫أكثر تقدير يقدرون بمائتي اسم مع تفاوت ع��ل��ى كتابة‬ ‫بالنقد أن كل النقاد الذين اقتصروا على‬ ‫شديد في مستوياتهم‪ .‬ومع مالحظة أننا ق�������ص�������ي�������دة ث�ق��اف��ة محلية واح���دة ل��م يستطيعوا أن‬ ‫ال ن��درج ف��ي ه��ذه الموسوعة إال أسماء ال���������ن���������ث���������ر‪ .‬يمضوا أي خطوات في تنمية هذه الثقافة‪،‬‬ ‫ال ��ذي ��ن رح� �ل ��وا ف �ق��ط وال ن� ��درج أسماء‬ ‫وأن جميع من مثلوا قيادات فكرية نقدية‬ ‫األحياء‪ ،‬أخذت مثال أحصي أسماء النقاد‬ ‫طورت وغيرت وأضافت وأنجزت بالفعل‪،‬‬ ‫في الوطن العربي‪ .‬في القرن العشرين ممن رحلوا كانوا من الذين يقفون بين ثقافتين أو أكثر والذين‬ ‫فوجدت أنهم ال يتعدون على اإلطالق خمسين اسما‪ ،‬أطلقت عليهم المهجنين‪ ،‬وكما أنه في النباتات قد‬ ‫عبر مائة عام في أرجاء الوطن العربي‪ ،‬والحظت شيئا تبين علميا أن تحسين الساللة يتوقف على التهجين‬ ‫آخر بالغ الطرافة هو أن فترات االزده��ار والتوهج ففي الفكر النقدي والفكر العلمي كذلك األمر‪ ،‬ألن‬ ‫ف��ي اإلب ��داع «ال�ف�ت��رات المسماة بالذهبية»‪ ،‬وهما نسبة عالية م��ن الفكر النقدي تتدخل ف��ي مجال‬ ‫فترتا العصر العباسي الثاني وجزيئا في المرحلة العلم‪ ،‬ويتوقف اإلنجاز وتحسين الساللة على فكرة‬ ‫األندلسية الملحقة بالعصر العباسي‪ ،‬ثم فترة العصر التهجين؛ بمعنى أنه لو أخذنا مثال كاتبين معروفين‬

‫‪72‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫مارسا النقد األدبي في العصر الحديث‪ ،‬وكانا يمثالن‬ ‫قطبي الرحى المتناقضين في مطلع القرن العشرين‪،‬‬ ‫وقامت بينهما في العقود األولى من القرن العشرين‬ ‫م�ع��ارك ض��اري��ة مثل الرافعي وط��ه حسين‪ ،‬سنجد‬ ‫أن مصطفى ص��ادق الرافعي كان من أق��وى وأنضج‬ ‫وأشد كتاب العقود األولى من القرن العشرين امتالكا‬ ‫لناصية الفكر العربي والثقافة العربية وق��درة على‬ ‫البيان المعجز‪ ،‬وامتالكا ألسلوب بالغ القوة والجمال؛‬ ‫لكنه كان إمام السلفيين ودعاة العروبة واإلسالم من‬ ‫داخلهما واالكتفاء بهما؛ بينما كان طه حسين واحدا‬ ‫من أولئك األزهريين الكبار المتمردين الذين أتموا‬ ‫تعليمهم في الثقافة الغربية في فرنسا‪ ،‬وامتلكوا‬ ‫ناصية الفكر العربي القديم وطعموه وهجنوه ولقحوه‬ ‫بخالصة العلم والمعرفة وال�ف�ك��ر ال�غ��رب��ي والنقد‬ ‫الغربي الحديث‪.‬‬ ‫من الذي طوّر األدب العربي؟ ومن الذي قاد حركة‬ ‫البحث فيه؟ ومن الذي نمى اتجاهاته الجديدة في‬ ‫الرواية والمسرح والفكر والمقال والكتابة؟ ومن الذي‬ ‫أوج��د تيارات أضافت إل��ى األدب العربي إضافات‬ ‫مهمة وي��ذك��ر بوصفه على رأس م��درس��ة ومرحلة‬ ‫جددت الفكر واألدب العربيين؟ هل هو الرافعي مع‬ ‫قوته وعرامته وعنفوان امتالكه للغة العربية أم طه‬ ‫حسين؟‬ ‫ما أريد أن أقوله هو أن هذا النموذج القريب منا‬ ‫هو الذي تكرر عبر التاريخ الفكري والثقافي العربي‬ ‫بأكمله‪ ،‬سنجد أن أبرز النقاد منذ العصر العباسي‬ ‫حتى اليوم كانوا هم الذين امتلكوا لتطوير النقد‬ ‫والبالغة العربية زمام الثقافة الفارسية واليونانية‪،‬‬ ‫ووظفوا مقوالتهما‪ ،‬واستطاعوا بهذا أن يطوروا الفكر‬ ‫النقدي العربي‪ ،‬بل يصل بنا التأمل في بعض األحيان‬ ‫إلى أن هذه الخاصية ذاتها إلى حد ما موجودة لدى‬ ‫المبدعين أنفسهم‪ ،‬فلو استعرضنا أسماء ابتداء من‬

‫أبي نواس‪ ،‬وبشار بن برد‪ ،‬وأبو تمام‪ ،‬والمتنبي‪ ،‬وأبو‬ ‫العالء المعري‪ ،‬وابن الرومي‪ ،‬لكي نذكر أعظم خمسة‬ ‫شعراء في تاريخ اللغة العربية سنجد أن ثقافاتهم‬ ‫مزدوجة فارسية‪ ،‬عربية‪ ،‬رومية‪ ،‬يونانية‪ ،‬وليست‬ ‫مقصورة على العرق األساسي العربي ؛ بمعنى أنه‬ ‫كما الفكر النقدي يعتمد على التهجين‪ ،‬كذلك الفكر‬ ‫اإلب��داع��ي الجديد ‪-‬إل��ى حد ما ‪ -‬يعتمد على هذا‬ ‫التهجين أيضا‪.‬‬ ‫< لكن هذا التهجين كانت له سلبيات في العصر‬ ‫الحديث مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات‪،‬‬ ‫عندنا شاهد على ذلك مجلة (فصول)‪ ،‬التي مثلت‬ ‫كتاباتها لغزا للقراء والمتخصصين على السواء قراءة‬ ‫دراسة نقدية فيها تماثل فك طلسم؟‬ ‫> س��أق��ول ل��ك شيئا بسيطا ف��ي ه��ذا الصدد‪،‬‬ ‫دائما ‪ -‬وليس في تجربة فصول وحدها‪ ،‬لكن في‬ ‫كل التجارب النقدية الكبرى في الوطن العربي في‬ ‫العصر الحديث على األق��ل لو اقتصرنا عليه ‪ -‬ما‬ ‫نجد أن ال��ذي��ن ي�م��ارس��ون الفكر النقدي يمكن أن‬ ‫نقسمهم إل��ي فئتين‪ :‬األول��ى‪ ،‬تمتلك ناصية الفكر‬ ‫ال�ن�ق��دي ال�ع��رب��ي واإلب� ��داع ال�ع��رب��ي ال�ق��دي��م وتمتلك‬ ‫الوعي بالثقافة المحلية والجذور التراثية‪ ،‬وتمتلك‬ ‫ل�غ��ة م�ت�ب�ل��ورة ن��اص�ع��ة وج�م�ي�ل��ة‪ ،‬وال�ف�ئ��ة ال�ث��ان�ي��ة من‬ ‫الشباب والمبتدئين الذين لم يقرأوا شيئا من تراثهم‪،‬‬ ‫ولم يحيطوا بعناصره األساسية‪ ،‬وقفزوا على معرفة‬ ‫بعض العناصر النقدية بلغات أجنبية خيّل إليهم‬ ‫أنهم يتقنونها؛ بالطبع ستجد كتابات هذه المجموعة‬ ‫األخ�ي��رة فجّ ة وغير ناضجة أو مفهومة؛ ألنهم لم‬ ‫يستوعبوا شيئا‪ .‬أنت ال تستطيع أن تطور في ثقافات‬ ‫ال تملكها‪ .‬والتهجين تطوير؛ بمعنى أنه البد من أن‬ ‫تمتلك ناصية اللغة وثقافتها وأن تقرأ تراثها وتتشرب‬ ‫ب��ه‪ ،‬بهذا وح��ده يمكن امتصاص واختيار العناصر‬ ‫التي يمكن أن تغذي هذه الثقافة‪ ،‬ثم يحدث بعد ذلك‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪73‬‬


‫ما يشبه عملية التركيب بين هذه العناصر‪ ،‬لتأتي (مشكلة البنية) وهو في الفلسفة ولم يكن متداوال‬ ‫في مزاج جديد بعد تهيئة األفكار والمبادئ وتركيب في النقد األدبي‪ .‬كانت فصول تحرث في أرض بكر‪،‬‬ ‫معدالتها في إنتاجه وإنجازه النقدي الجديد‪ .‬بمعنى وأن��ا مثال منذ العدد األول حرصت على أن أقدم‬ ‫أن الترجمة أمرها معروف‪ ،‬إما أن يكون المترجم بابا اقترحته وكتبت فيه اسمه (تجربة نقدية)‪ ،‬كنت‬ ‫ق��ادرا على اللغتين‪ ،‬ومبينا فيهما؛ فتصبح ترجمته أت�ف��ادى ف��ي ه��ذا ال�ب��اب استخدام مصطلح جديد‪،‬‬ ‫جيدة وإما أن يكون غير قادر في لغته أو اللغة التي ألنني ال أريد أن أضع عوائق بيني وبين القارئ‪ ،‬كنت‬ ‫ينقل منها وستكون الترجمة زائفة أو غير مفهومة‪ ،‬أشرح فكرة المصطلح له وال أصدمه بالكلمة؛ ألنني‬ ‫لكن التحليق ‪ /‬التوليد أمر آخر يختلف عن الترجمة؛ عندما أشرحها سيدركها لكن ال أصدمه بالكلمة‪،‬‬ ‫بمعنى أن الناقد العربي عندما يستصفي ويستقطر غيري كان يتباهى بأن يقدم درعه الذي يتحصن به‪،‬‬ ‫ويمتص ويوظف بعض المنهجيات العلمية الحديثة‪ ،‬ويريد أن يصدم به القارئ‪ ،‬يريد أن يتباهى بجدته‪،‬‬ ‫فهو يخضعها بهضمه لها إلى إع��ادة تمثيل من نوع وم��ن ثم ال يمكن أن تحتضن من يضع على صدره‬ ‫جديد‪ ،‬ويدمجها في نسقه الفكري وفي لغته‪ ،‬ومن ثم درع��ا ألنه سوف يؤلم أضالعك‪ ،‬لكن من يحضنك‬ ‫عندما يقوم بالتعبير عنها يكون بالغ الوضوح‪ ،‬وسوف بحنو ورف��ق دون دروع ودون رم��اح ستبادله عشقا‬ ‫يصل إليك‪ ،‬أما أن يكون تسعين بالمائة من الكتابات بعشق‪ .‬ما أريد قوله أن هذه المسألة فردية‪ ،‬ونسبة‬ ‫النقدية تفتقد ه��ذا النضج وتفتقد تلك الشفافية كبيرة من كتابات فصول كانت تتسم بهذه العقول‪،‬‬ ‫وتلك البلورة‪ ،‬فهذا شأن كثير مما نقرؤه من نصوص التي تشير إليها‪ ،‬لكن كتابات كبار الكتاب الناضجين‪،‬‬ ‫إبداعية لم تبلغ درجة نضجها واكتمالها درجة كبار وحتى من كان بصدد أن يصبح كبيرا فيما بعد‪ ،‬كانت‬ ‫المبدعين‪ ،‬الذين نستمتع ونفيد حقيق ًة من قراءتنا مختلفة‪ ،‬ووجدت صداها لدى القراء‪.‬‬ ‫لهم‪ ،‬ويفتحون أمامنا آفاقا جديدة‪ .‬فما ينطبق على‬ ‫< يرى البعض أن الرواية العربية اآلن في حالة‬ ‫النقد في تراوحه‪ ،‬بين ما هو رديء وصعب ومستغلق ازده��ار وت��ردد مقوالت زمن الرواية والرواية ديوان‬ ‫وال ج��دوى منه‪ ،‬ينطبق على بقية أن��واع الكتابة في ال �ع��رب ‪ ..‬ه��ل تشهد ال ��رواي ��ة ال�ع��رب�ي��ة استكماال‬ ‫مختلف المستويات‪ ،‬وليس بدعا منها‪.‬‬ ‫لمسيرتها التي ب��دأت بنجيب محفوظ م��رورا ببهاء‬ ‫لكن أريد أن أنبه إلى شئ في هذا الصدد يتصل‬ ‫في مجلة فصول على وجه التحديد‪ ،‬ألنني كنت واحدا‬ ‫من «المذنبين الثالثة « في إطالقها عام ‪1980‬م وهي‬ ‫أنها كانت تمثل انقالباً وثور ًة وصفح ًة جديد ًة ومنطلقا‬ ‫مختلفا تماما عن النقد األيديولوجي الشائع‪ ،‬الذي‬ ‫كانت تلوكه األلسن‪ ،‬ولم يعد يعني شيئا‪ .‬كانت تمثل‬ ‫نقل ًة معرفية حقيقية لم يتم التمهيد لها إال بكتب‬ ‫قليلة ج��دا‪ ،‬منها كتابي عن نظرية البنائية‪ ،‬ومنها‬ ‫كتاب كمال أبو ديب عن جدلية الخفاء والتجلي فقط‬ ‫تقريبا‪ ،‬وال ننسى كتاب المرحوم د‪ .‬زكريا إبراهيم‬

‫‪74‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫طاهر والغيطاني وأصالن والبساطي وإبراهيم عبد‬ ‫المجيد وغيرهم لدى األجيال الجديدة؟‬

‫> أنا من أكثر الناس انشغاال كما تعرف بقراءة‬ ‫الشباب وإنتاجهم ال��روائ��ي‪ ،‬س��واء في مصر أو في‬ ‫ال��وط��ن ال �ع��رب��ي‪ ،‬وأج� ��د ف��ي ك��ل ل�ح�ظ��ة مفاجآت‬ ‫مدهشة لكشوف روائية جديدة تبهرني‪ .‬وأنا أومن‬ ‫بأن عبقرية المخيلة العربية قد انطلقت من قمقم‬ ‫هذا ال��وادي‪ ،‬وأنه ال سبيل إلى تحجيمها أو كبحها‬ ‫ع��ن ه��ذا االن �ف �ج��ار ال�ب��رك��ان��ي اإلب��داع��ي الجميل‪.‬‬ ‫ومنطلقا من الشواهد التي أقرؤها كل أسبوع وأكتب‬


‫عن بعضها وال أكتب عن بعضها اآلخر ألن طاقتي‬ ‫ووقتي ال يتسعان الحتضان كل نماذجها البديعة ؛‬ ‫أستطيع أن أقول أن الرواية في عافية وفي فترة نمو‬ ‫جبارة‪ ،‬وألنها جنس بالغ القدرة على التشكل وجنس‬ ‫تجريبي ومبتلع لألجناس األخ��رى؛ تجد فيها الفن‬ ‫التشكيلي والشعر والمذكرات والحكايات‪ ،‬وتجد فيها‬ ‫األساطير وواقع الحياة الملموس‪ ،‬وتجد فيها الخيال‬ ‫العلمي وكل (الهذيانات) البشرية‪ ،‬ألنها كما أشرت‬ ‫مرة مثل جلد الفرا الذي يتسع لكل شئ‪ ،‬فهي عوالم‬ ‫كاملة تختمر وتتفجر وتنطلق‪ .‬وأظن أن ما ينتظرنا‬ ‫من مفاجآت مدهشة وإنجازات جديدة أكثر بكثير‬ ‫لدى الرجال والنساء والشباب والكبار‪ ،‬مما شهدناه‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬هذه واحدة‪ ،‬لكن باإلشارة إلى عبارة وردت‬ ‫في كالمك أنه شاعت مقولة أننا في عصر الرواية‬ ‫أنا اختلف عن هذه المقولة على الرغم من الخاصية‬ ‫التي ذكرتها اآلن‪ ،‬ألن عصر الرواية بمعنى أن الرواية‬ ‫تقتل غيرها من الفنون األخ��رى‪ ،‬هذا غير صحيح‬ ‫ألن الرواية تفجر الشاعر وال ترثه وال تحل محله‬ ‫وتستوعبه وتبتلعه لكنها ال تؤدي وظائفه‪.‬‬ ‫الرواية ال تحل محل الشعر‪ ،‬الشعر في الثقافة‬ ‫العربية عنصر جوهري‪ ،‬وغاية ما هناك أنه الديوان‬ ‫الوحيد للعرب‪ .‬العرب كانوا فقراء في األجناس األدبية‬ ‫ليس لديهم مسرح‪ ،‬وليست لديهم درام��ا وال فنون‬ ‫تشكيلية وال أشكال نحتية‪ ،‬حتى الفنون الزخرفية‬ ‫اإلسالمية كانت تنمو على كره ومضض‪.‬والشعوب‬ ‫ذات التجربة اإلب��داع�ي��ة العريقة مثل المصريين‬ ‫والعراقيين والفنيقيين اض�ط��روا في فترات المد‬ ‫اإلسالمي إلى تقليص اهتماماتهم حتى تتواءم نسبيا‬ ‫مع العقيدة الجديدة‪ ،‬ألن الفهم الصحراوي للمسلمين‬ ‫من تحريم الصورة إلى حد ما أعاق عمليات اإلبداع‪،‬‬ ‫عبر عصور طويلة‪ ،‬فلم يكن لدى العرب سوى الشعر‪،‬‬ ‫كان الشعر هو ديوانهم الذي ال ديوان لهم غيره‪ ،‬أما‬

‫اآلن فاإلنسان بدال من أن يسكن في مسكن مكون‬ ‫من حجرة واحدة يمكن أن يسكن في قصر فيه بهو‬ ‫ترتج أرج ��اؤه بالموسيقى العذبة الجميلة وتتناثر‬ ‫أصداؤها ‪ ،‬وفيه بهو آخر حافل بالفنون التشكيلية‬ ‫م��ن رس��م ون �ح��ت وع��م��ارة‪ ،‬وث��ال��ث ح��اف��ل بالرواية‬ ‫والسرد والقصص‪ ،‬وآخر جديد حافل بفنون الصورة‬ ‫والسينما والتليفزيون وغير ذل��ك‪ ،‬فتلك الدواوين‬ ‫الجديدة التي تضاف للفنون العربية لن تسلب الشعر‬ ‫عرشه وال أهميته‪ ،‬خاصة إذا أخذنا في االعتبار‬ ‫أمرين على قدر كبير من األهمية‪ ،‬أولهما‪ :‬أن الحاجة‬ ‫إلى الشعر تكاد تكون حاجة ليست روحية فقط وإنما‬ ‫بيولوجية جسدية‪ ..‬هل تعرف مثال أن ماليين البشر‬ ‫ال يستطيعون أن يمضوا يوما واحدا دون أن يسمعوا‬ ‫�ان‪ ،‬أليست ه��ذه األغنيات هي‬ ‫على األق��ل ع��دة أغ � ٍ‬ ‫وجبة الرغيف الصغيرة من الشعر التي نتناولها كل‬ ‫يوم وبدونها تعطش أرواحنا وعواطفنا وآذاننا إلى‬ ‫النغم الجميل؟ وإلى الشعر الجميل‪ ،‬ليكن هذا الشعر‬ ‫مكتوبا بالفصحى أو العاميات المختلفة‪ ،‬هذا ال يغير‬ ‫شيئا‪ ،‬فهو شعر في نهاية األمر؛ وثانيهما‪ :‬هل يمكن‬ ‫أن يتصور القارئ مثال أن اللغة وهي أداة اإلنسان‬ ‫للفكر وأداة العقل لألعمال وممارسة وظائفه في‬ ‫اإلنتاج الفكري والمعرفي والعلمي‪ ،‬هذه اللغة تتردى‪،‬‬ ‫وت��زول معالمها‪ ،‬ويضعف تأثيرها‪ ،‬وت��رق‪ ،‬وتتالشى‬ ‫على ألسنتنا في االستخدام اليومي‪ ،‬ويصيبها الوهن‬ ‫وال�ض�ع��ف وأي �ض��ا رداءة االس�ت�ع�م��ال‪ ..‬تفقد اللغة‬ ‫كثيرا من نداوتها‪ ،‬وحيويتها‪ ،‬وطاقتها التعبيرية في‬ ‫االس�ت�خ��دام اليومي‪ ،‬وال�ع�لاج السحري للغة الذي‬ ‫يعيد لها قوتها وشبابها ونداوتها وحيويتها وفعاليتها‬ ‫الشعر‪ .‬فالشعر هو الذي يعيد تجديد اللغة كلما رثت‬ ‫وضعفت‪ ،‬الشعر عنصر جوهري في تجديد اللغة‪،‬‬ ‫وعندما أقول تجديد اللغة أقول إعطاء العقل أدواته‬ ‫للتفكير ألن اإلن�س��ان يفكر باللغة‪ ،‬ه��ذا فضال عن‬ ‫اإلشباع الروحي والوجداني واإلنساني الهائل الذي‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪75‬‬


‫يقوم به الشعر؛ ومخيلة اإلن�س��ان يمكن أن تصاب‬ ‫بالضعف وال��ذب��ول مثل لغته والعنصر األساسي‬ ‫لشحذها مرة أخرى وشحن طاقتها هو الشعر‪.‬‬ ‫< لكن هناك من يرى أن الشعر في حالة انطفاء‬ ‫اآلن‪ ..‬برأيك ما هي األسباب إذا كنت تسلم بذلك؟‬

‫أعددتها كان أبناء جيلها يعتقدون أنهم شعراء صغار‬ ‫مبتدئون‪ ،‬اآلن نسلم جميعا أنهم شعراء كبار وعباقرة‬ ‫ويثرون أي ثقافة ويرفعون رأس أية لغة‪ ،‬وبيننا اآلن من‬ ‫الصف الثاني من سيرثهم ومن ستصبح قاماتهم مثلهم‬ ‫وإن كنا ال ندرك ذلك في مثل تلك اللحظة‪.‬‬

‫< لكن أنت لك موقف من الشعراء الجدد وقصيدة‬ ‫> ال‪ ..‬أنا ال أسلم بذلك؛ ألني ال أستطيع أن انظر‬ ‫النثر وشعرائها تحديدا؟‬ ‫إلى الظواهر في ح��دود السنوات الخمس أو العشر‬ ‫> موقفي ببساطة أفيد فيه من تجربة األجيال‬ ‫ال�ت��ي تقع فيها ه��ذه اللحظة‪ ،‬أن��ا أن�ظ��ر إل��ى األمور‬ ‫بمساحة زمنية كافية ك��أن انظر إل��ى عصر بأكمله‪ ،‬الماضية‪ ،‬كان يثير إشفاقي كثيرا عندما أقرأ مثال‬ ‫العصر ال��ذي نعيش فيه في الثالثين سنة األخيرة‪ ،‬لعباس محمود العقاد ثورته الضارية في الديوان على‬ ‫وهي مدة الجيل الطبيعي‪ ،‬من السبعينيات حتى اآلن أحمد شوقي‪ ،‬ومحاولته هو والمازني تحطيم أسطورة‬ ‫شهد هذا العصر قمما شعرية بعضها رحل والبعض شوقي وحافظ بوصفهما مجددين وروادا للقصيدة‬ ‫اآلخر ما زال بيننا حتى اآلن‪ ،‬لست بصدد تعدادها‪ ،‬الرومانسية الحديثة وللشعر الوجداني ولغير ذلك‪.‬‬ ‫هذا العصر شهد نزار قباني وأدونيس وعبد الوهاب ثم عندما تقدم بهما العمر إذا بهما ينقلبان إلى أعتى‬ ‫البياتي وص�لاح عبد الصبور وأح�م��د عبد المعطي المحافظين‪ ،‬خاصة العقاد وقصته مشهورة في إحالة‬ ‫حجازي وسعدي يوسف ومحمد عفيفي مطر ومحمود ديوان صالح عبد الصبور لالختصاص النثري‪ ،‬هذه‬ ‫درويش‪ ،‬وأستطيع أن أعد حتى عشرة أسماء كل منها الواقعة أفادتني كثيرا ؛بمعنى أنني منعت نفسي‬ ‫جدير بالحصول على جائزة نوبل إذا اتخذناها مقياسا عن التشبع بالنماذج التي صاحبت نمو إمكاناتي‬ ‫لإلبداع‪ ..‬عصر يشهد على األقل عشرة أسماء يمكن النقدية وصاحبت فرصة تطبيقاتي على إبداعها‪،‬‬ ‫أن تحصل على نوبل نعده عصراً مات فيه الشعر ما متيحا الفرصة دائما ألن تجد هناك أشكاالً ورؤىً‬ ‫هذا الهراء؟ أي ثقافة يكفيها ثالثة من هذه األسماء وأطرا غير التي قد تعودت عليها‪ ،‬دون أن أستطيع‬ ‫ل�ك��ي ت��زه��و ب�ه��م ف��ي ع�ص��ر ب��أك�م�ل��ه‪ ،‬أن��ا دائ �م��ا أردد سلبها مشروعيتها وأحقيتها في الوجود وأهميتها‬ ‫أننا نعيش عصراً ذهبيا في الشعر العربي في هذه في حينها‪ ،‬بل والتنبؤ لبعضها بأنه يمكن أن يتفوق‬ ‫العقود األخ�ي��رة‪ ،‬وم��ن ثم ال ينبغي أن نكون قاصري على النماذج السالفة؛ مثل هذا المنطلق المبدئي‬ ‫النظر عندما نتصور أن األسباب التي تلتهم وستحل يجعلني مثال أقول إن الثورات الشعرية األربعة التي‬ ‫محلهم ال زالت قصيرة القامات في تقديرنا‪ ،‬ألن لعبة مرت بالقصيدة العربية عبر القرن العشرين‪ ،‬وهي‬ ‫القامات مثل لعبة أعمدة النور في اإلض��اءة‪ ،‬وكلما الثورة الرومانسية بتمثالتها الثالث في شعر المهجر‬ ‫اقتربت اإلضاءة من عمود النور لم تسقط إال مساحة وشعر مدرسة الديوان وشعر مدرسة أبوللو ثم ثورة‬ ‫ضئيلة كظل لها‪ ،‬وكلما بعدت عنه امتد ظل العمود قصيدة التفعيلة في منتصف القرن والشعر الحر كما‬ ‫حتى يطال الفضاء بأكمله‪ .‬فدائما القامات الكبرى في كنا نسميه حينئذ‪ ،‬ثم ثورة قصيدة النثر في العقود‬ ‫تصوري عندما نقترب منها ال ندرك حجمها نتصور األخيرة من القرن العشرين‪.‬‬ ‫أنها صغيرة بينما عندما يأتي كل هذه األسماء التي‬ ‫ه ��ذه ال �ت �ح��والت ال �ك �ب��رى ف��ي حقيقة األم���ر لم‬

‫‪76‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫تستوعبها الذائقة العامة حتى اآلن‪ ،‬ويكفي للداللة حقيقة أيضا لكن على الرغم من كل تلك الحقائق‬ ‫على ذلك أننا إذا أمسكنا بأي كتاب مدرسي ال نجده أنا أؤمن أن قصيدة التفعيلة لها شرعيتها وضرورة‬ ‫في أي بلد عربي قادرا على استيعاب هذه التحوالت استمرارها‪ ،‬وأن المهم في قصيدة النثر أن تحقق‬ ‫كلها واالع �ت��راف بشرعيتها‪ ،‬سنجد بعض الكتب الشعر على ال��رغ��م م��ن فقدانها لإليقاع المتعارف‬ ‫يقف عند المرحلة اإلحيائية التي كان يمثلها شوقي عليه‪ ،‬وأن القليل م��ن شعر قصيدة النثر ه��و الذي‬ ‫وحافظ والزهاوي وغيرهم‪ ،‬ونجد بعضها يقف عند يحقق هذا الشرط‪ ،‬وقد هدتني بعض اجتهاداتي إلى‬ ‫مدرسة الرومانسية في المهجر وأبولو أو الديوان‪ ،‬أن صناع هذا القليل‪ ،‬غالبا ما يكونون ممن أتقنوا‬ ‫القليل منها يقف عند مدرسة التفعيلة‪ ،‬وس��وف ال قصيدة التفعيلة أو الشعر العمودي أو ما هو من قبيل‬ ‫نجد أي كتاب مدرسي ينتهي إلى االعتراف بشرعية ذل��ك‪ .‬يعني أنا أكثر ثقة بالنصوص التجريبية التي‬ ‫قصيدة النثر‪ ،‬ألن عقلية القائمين على التعليم ال يكتبها كتاب قصيدة النثر إذا كان لهم ماض في كتابة‬ ‫الشعر الموزون قبل ذلك‪ ،‬سواء شعر التفعيلة أو الشعر‬ ‫تستوعب كل هذه التغيرات في وقت واحد‪.‬‬ ‫العمودي‪ ،‬وأقل ثقة في من يفتقدون الحس‬ ‫الفكر النقدي الب��د أن ي�ك��ون مخالفا‬ ‫لهذه العقيدة التربوية‪ ،‬البد أن يكون فكرا أم������������������������ارس الموسيقي ول��م ي �م��ارس��وا ك�ت��اب��ة قصيدة‬ ‫التفعيلة‪ ،‬ولم يقيموا وزنا عروضيا‪ ،‬أنا أقل‬ ‫يتسم بالتحرر‪ ،‬يتسم باإليمان بأن اإلبداع حاليا النقد‬ ‫ثقة بهؤالء‪ ،‬وال أتوقع أن يبدعوا أنماطا‬ ‫ال يمكن أن يتم ف��ي أط��ر ج��اه��زة سابقة‬ ‫التجهيز‪ ،‬يتسم بالثقة في الطاقات الخالقة ا لتطبيقي إيقاعية جديدة ضمن قصيدة النثر‪.‬‬

‫وه������و مهمة‬

‫والموهوبة على أن تبتكر أشياء جديدة‪ ،‬ومن‬ ‫ثم ال تزال تجربة النثر بالنسبة لي ال تغطي صعبة أدرك‬ ‫في منظوري مساحة الشعر العربي كله كما‬ ‫> المشكلة ف��ي ال�ق�ص��ة ال�ق�ص�ي��رة في‬ ‫يدعي أصحابها‪ ،‬لكن ال يمكن لعاقل ذو خ���ط���ورت���ه���ا‬ ‫رأي��ي تتمثل ف��ي أم��ري��ن‪ :‬األم��ر األول‪ ،‬أنها‬ ‫حصافة نقدية أن ينكر شرعيتها وأهميتها‬ ‫انتشرت في العقود التي أحاطت بمنتصف‬ ‫وقدرتها على تخليق نماذجها العظيمة‪ ،‬أن تكون هذه القرن نتيجة انتشار الصحف وحاجتها إلى تخصيص‬ ‫النماذج العظيمة قليلة بالنسبة لغثاء اإلنتاج الكثير في صفحات أدبية بعضها ال تملؤه إال القصص القصيرة‪،‬‬ ‫قصيدة النثر وهذا واقع نعترف به جميعا‪ ،‬وأن تكون فكانت استجابة القصة القصيرة لهذه الحاجة مرتبطة‬ ‫هذه النماذج صادمة للذائقة العربية التي تعودت على بتلك الضرورة اإلعالمية؛ واألمر الثاني‪ ،‬أنه برزت لدينا‬ ‫أن تتلقي اإليقاع ب��األذن‪ ،‬هذا ال نستطيع أن ننكره‪ ،‬عبقريات حقيقية ف��ي إن�ت��اج القصة القصيرة ابتدا ًء‬ ‫أن تكون تتمثل فيها درجة أعلى من الوعي الثقافي بمحمود تيمور إلى يوسف إدريس‪ ،‬بعد هذه العبقريات‬ ‫بجماليات معاصرة‪ ،‬يمكن أن نطلق عليها جماليات الكبرى في القصة تضاءلت حاجة الصحف إلى القصة‬ ‫االخ �ت�لاف ال�ت��ي ال يستعد كثير م��ن ال�ن��اس تقبلها‪ ،‬القصيرة‪ ،‬فلم يصبح ثمة طلب عليها واش�ت��د الطلب‬ ‫القليلون هم الذين يستمتعون بجماليات االختالف على الرواية في سوق اإلعالم والنشر‪ ،‬ومن ثم ازدهرت‬ ‫بينما األغلبية العظمى ال يستمتعون إال بجماليات ما الرواية وتقلصت مساحة القصة القصيرة‪ ،‬لكن كثيرا‬ ‫يتوافق مع األنماط التي درجوا عليها ويعرفونها‪ ،‬هذه من كتاب القصة القصيرة يلجأون اآلن إلى ما أسميه‬ ‫< ع� ��ودة إل� ��ى ال� �س ��رد‪ ،‬أي� ��ن القصة‬ ‫القصيرة‪ ،‬وأين موقعها اآلن؟‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪77‬‬


‫الكتابة العنقودية‪ ،‬وهي كما يتضح من عنوانها تتمثل في‬ ‫إبداع مجموعات من القصص القصيرة تربطها روابط‬ ‫من نوع ما‪ ،‬بما يجعلها أشبه بالعنقود الذي تسري في‬ ‫حباته النكهة نفسها‪ ،‬وتتذوق فيه الحالوة ذاتها؛ وإن‬ ‫كانت كل حبة منه تنفرد بشكلها وبنائها الخاص‪ ،‬هذه‬ ‫الكتابة العنقودية أظن أنها تطوير ذكي ج��دا‪ ،‬وألمحه‬ ‫عند بعض كتاب القصة القصيرة تجاوزا لمأزق القصة‬ ‫القصيرة‪ ،‬ألن المجموعات القصصية الجيدة نادرة‪،‬‬ ‫والبد أن نشهد بذلك‪ ،‬والذين برعوا بعد موجة يوسف‬ ‫إدري ��س العاتية ي��وس��ف ك��ان يمثل موهبة فنية جبارة‬ ‫ومذهلة لم ينبت في الفضاء العربي مثلها‪ ،‬وهو بهذه‬ ‫المناسبة لم يأخذ حقه كما ينبغي حتى اآلن قلة قليلة‬ ‫جدا ربما أذكر منهم محمد المخزنجي وإبراهيم أصالن‬ ‫ال‬ ‫من يطاول تلك القامة الساحقة‪ ،‬لكن الطريف أن ك ً‬ ‫من أصالن والمخزنجي يمارسان هذه الكتابة العنقودية‬ ‫ويداعبان األشكال الروائية‪ ،‬ويتطوران بتجربتهما إلى‬ ‫صيغة (ال�ن��وف��ل) وه��ي القصة القصيرة الطويلة التي‬ ‫ال تتجاوز صفحاتها من خمسين إلى سبعين صفحة‪.‬‬ ‫وه��ذا حل وس��ط ربما ك��ان ينافس ال��رواي��ة في قراءته‬ ‫وحالوته وقدرته على استقطاب اهتمام القراء‪ .‬ومثل‬ ‫آخر ما ق��رأت في هذا الصدد مجموعتان لكاتب بور‬ ‫سعيدي‪ ،‬أدهشني بلغته‪ ،‬اسمه «جمال مقار» ووجدت‬ ‫لديه نفسا جميال وغريبا في القصة القصيرة وأخر‬ ‫مجموعة قرأتها له «سفر الطفولة» و«نصري والحمار»‪،‬‬ ‫وهما قصتان شبه طويلتين في كتيب واحد وتتمثل فيهما‬ ‫الخاصية العنقودية‪.‬‬ ‫< قبل أن ننتقل إلى مشروعك النقدي‪ ..‬نتوقف مع‬ ‫النقد داخ��ل األكاديميات المصرية فهو يعاني ضعفا‬ ‫ورداء ًة نتيجة بقائه داخل أطر قديمة بماذا تفسر ذلك؟‬ ‫> ه��ذه ظ��اه��رة حقيقية وه��ي مرتبطة بتردي‬ ‫األوضاع الجامعية كلها‪ ،‬ألن من بين خمسين أستاذا‬ ‫يمكن أن تعثر على ناقد واح��د‪ ،‬فالغالبية العظمى‬

‫‪78‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫دارس��ون فاقدو الموهبة وال��وع��ي بالواقع‪ ،‬وفاقدو‬ ‫اإلدراك بتحوالته وتغيراته السريعة وفاقدو االهتمام‬ ‫ب��ه‪ ،‬وك��ان كل همهم أن يعكفوا على اآلث��ار القديمة‬ ‫لألدباء القدماء ليلوكوا األحكام التي يرددونها والتي‬ ‫قرأوها عشرات المرات عن هؤالء األدباء القدماء‪،‬‬ ‫م��ا زال ه�ن��اك م��ن يتصور أن مهمته تقتصر على‬ ‫تخصصه في األدب الجاهلي وتكتمل أستاذيته بهذا‪،‬‬ ‫دون أن يدرك أن الوعي بهذا األدب نفسه ال يمكن‬ ‫أن يتم إال في ضوء تمام المعرفة العلمية الحديثة‪،‬‬ ‫بكل جوانبها المختلفة وام �ت�لاك ج��وان��ب تحليلية‬ ‫تجعله قادرا على أن يعيد قراءته‪ .‬لدينا تردي شديد‬ ‫في مستوى األس��ات��ذة األكاديميين‪ ،‬وه��ذا في رأيي‬ ‫يعود إلى عاملين جوهريين‪ ،‬ليس في األدب والنقد‬ ‫فقط‪ ،‬بل في جوانب المعرفة كلها والتخصصات‬ ‫المختلفة‪ ،‬ال�ع��ام��ل األول ه��و ف�ق��دان ال�ت��واص��ل مع‬ ‫التيارات العالمية‪ ،‬فمعظم هؤالء لم يخرج من جدران‬ ‫معهده‪ ،‬وكليته منذ أن كان طالبا حتى أصبح أستاذا‪،‬‬ ‫ومثل هذا االقتصار على الثقافة الواحدة ال يمكن أن‬ ‫يؤدي إال إلى السطحية وأحادية الرؤية واالنغالق‪،‬‬ ‫وه��ذا مرتبط بما قلته من قبل؛ بمعنى أن موجات‬ ‫البعثات التي تعيد للجامعات شبابها وتطعم مناهجها‬ ‫بالفكر العالمي قد انحسرت أو خمدت تماما‪ .‬معظم‬ ‫أساتذة األدب في الجامعات المصرية لم يبرحوا‬ ‫كلياتهم‪ ،‬وإن تركوها فباإلعارة إلى كليات أدنى منها‬ ‫شأنا وأقل درجة في المعرفة‪ ،‬وال تضيف إليهم‪ ،‬بل‬ ‫تنتقص منهم الكثير‪ ،‬فيتدهورون في هذه الجامعات‬ ‫التي يعارون إليها‪ ،‬بينما تنتفخ جيوبهم بما يحتاجون‬ ‫إليه من قوت أوالدهم‪ ،‬ومن ثم فقدان النسق الحي‬ ‫من التواصل المعرفي بالجامعات الكبرى في العالم‬ ‫وبالحركة العلمية فيها هو السبب الرئيسي لهذا‬ ‫التردي‪ ..‬والسبب الثاني واضح ومترتب على السبب‬ ‫األول‪ ،‬وه��و ف�ق��دان الطموح الشخصي ألن هناك‬ ‫كثيرين لم يقدر لهم أن يظفروا بمثل هذه الفرص‬


‫من التواصل لكنهم استطاعوا أن يحفروا بأظافرهم‬ ‫أنفاقا يعبرون منها إل��ى العالم‪ ،‬ويمسكون بضوء‬ ‫الشمس م��ن ال�ط��رف اآلخ��ر‪ ،‬وه��ؤالء قلة ال تتعدى‬ ‫نسبتهم الواحد في المائة‪ ،‬ومن ثم فالبقية عجزة‬ ‫وكسالى وهم مدرسون متضخمون‪ ،‬وربما كان بعض‬ ‫مدرسي مراحل التعليم األول��ى‪ ،‬أكثر منهم حيوية‬ ‫ونضجا وقدرة على العطاء!‬ ‫< أين يقف مشروعك النقدي اآلن؟‬ ‫> كلمة تثير الشجون‪ ،‬وأفهمها على أنها ال تعني‬ ‫التوقف‪ ،‬وإن�م��ا تعني اللحظة فيما يتصل بمشروعي‬ ‫النقدي الذي بدأته كما بدأه كل النقاد الكبار بالتعرف‪..‬‬ ‫أوالً هو ب��دأ بأنني كنت منقوعا في الثقافة والتراث‬ ‫العربيين ألنني أساسا حصلت على الثانوية األزهرية ثم‬ ‫ذهبت إلى دار العلوم الستكمال المعرفة العميقة بالتراث‬ ‫العربي القديم‪ ،‬واستشراف اآلفاق اإلنسانية الجديدة‬ ‫للفكر العالمي‪ ،‬ثم وجدت أثناء بعثتي في الستينيات أن‬ ‫لغة النقد قد اختلفت في العالم كله‪ ،‬وأن��ه قد شبت‬ ‫ث��ورات علمية في النقد هي ث��ورة البنيوية وما بعدها‪.‬‬ ‫فجعلت همي األول التأسيس المعرفي لهذه الثورات عبر‬ ‫مجموعة من الكتب النظرية‪ ،‬من أهمها‪ :‬نظرية البنائية‪،‬‬ ‫ومنهج ال��واق�ع�ي��ة‪ ،‬وع�ل��م األس �ل��وب‪ ،‬وب�لاغ��ة الخطاب‪،‬‬ ‫وعلم النص‪ ..‬بعد ه��ذا االحتشاد النظري واستيعاب‬ ‫المعطيات النظرية ف��ي الفكر العالمي م��ن المناهج‬ ‫الحديثة‪ ،‬وال��ذي تبلور ف��ي خالصة صغيرة أسميتها‬ ‫(مناهج النقد المعاصر)‪ ،‬كان البد أن أطرح ذلك على‬ ‫اإلبداع العربي فأخذت أمارس شيئا منتظما ودءوبا من‬ ‫النقد التطبيقي‪ ،‬في الشعر والرواية والمسرح‪ ،‬وفي ما‬ ‫يمكن أن نسميه الدراسات عبر النوعية أو الفنية بين‬ ‫الفنون المختلفة إل��ى جانب االهتمام الخاص باألدب‬ ‫المقارن‪ ،‬والكتابة فيه بثالثة كتب‪ ،‬أعتقد أنها أضافت‬ ‫شيئا إل��ى دراس��ات األدب المقارن‪ .‬وك��ل ه��ذا ك��ان في‬ ‫مرحلة التأسيس النظري واالنطالق التي كانت أعمالي‬

‫فيها تنشر في الكتب أو في أبحاث متخصصة‪.‬‬ ‫النقلة النوعية ال�ت��ي ح��دث��ت منذ م��ا ي�ق��رب من‬ ‫عشر س �ن��وات‪ ،‬وخ��رج��ت بها م��ن مجال الدراسات‬ ‫المتخصصة في المجالت والكتب إلى أفق الثقافة‬ ‫وال�م�ت�ل�ق��ي ال��ع��ام‪ ،‬ج ��اءت ع�ن��دم��ا ب ��دأت أك �ت��ب في‬ ‫الصحف وف��ي المجالت الثقافية وال�ع��ام��ة‪ ،‬حدث‬ ‫تحول في لغتي بعد أن كانت مكتنزة ومكثفة وعلمية‬ ‫أخذت تخف قليال‪ ،‬وتنحو إلى جماليات كتابة المقال‬ ‫النقدي واألدب��ي‪ ،‬بحيث تصبح أكثر ليونة ورهافة‬ ‫وقابلية للفهم وق��درة للتواصل مع القراء‪ ،‬لكن ظل‬ ‫همي في هذه المرحلة األخيرة هو النقد التطبيقي‬ ‫خاصة‪ ،‬حيث أدركت أن التجربة النقدية تسفر عن‬ ‫مركب جديد‪ ،‬ال يصبح فيه اإلنسان ص��دى لغيره‪،‬‬ ‫وإنما بعد أن يحتشد ويستقل يصنع مركبه ومنظوره‬ ‫ورؤيته ويمارس بها كجهاز نظري مضمر؛ في هذه‬ ‫الفترة أجمع بين شقين كانا متباعدين إلى حد كبير‪،‬‬ ‫الشق األول‪ ،‬نوع من الصرامة المنهجية والعلمية في‬ ‫االختيار والرؤية والتحليل والدقة العلمية؛ والشق‬ ‫الثاني‪ ،‬البساطة والشفافية في التعبير ومحاولة‬ ‫اجتذاب القارئ والتفاعل الخالق والتواصل العاشق‬ ‫معه‪ ..‬كيف يمكن وهذه معادلة صعبة أدرك خطورتها‬ ‫في اآلن ذاته أن تجمع بين صرامة علمية من ناحية‬ ‫وتذوق واستطعام إبداعي من أعمال فنية وإشراك‬ ‫القارئ معك في تذوق هذه األعمال لعل هذا المزاج‬ ‫للمنهجية من ناحية‪ ،‬واألدبية من ناحية ثانية‪ ،‬هو الذي‬ ‫حاولت أن أق��ارب به النصوص‪ ،‬وخاصة النصوص‬ ‫ال�ط��ازج��ة‪ ،‬ال�ت��ي خ��رج��ت لتوها م��ن ف��رن اإلب ��داع‪..‬‬ ‫والمقاربات المتابعة في إبداع الشباب دائما‪ ،‬كانت‬ ‫تمثل بالنسبة لي أولوية ألن صناعة المستقبل البد‬ ‫أن تبدأ بتحليل اللحظة الراهنة وتوجيهها والمشاركة‬ ‫في صنعها‪ ،‬وفي تصوري أن النقد شريك وشريك‬ ‫فاعل في اإلبداع في تحريك الحياة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪79‬‬


‫عالم اللسانيات التونسي عبدالسالم املسدي ل (اجلوبة)‪:‬‬

‫جنحنا في تأسيس هوية لعلم اللسانيات‪ ..‬لكن الثمار‬ ‫ليست على مستوى اجلهد‪.‬‬

‫> حاوره عصام أبوزيد‬ ‫عبدالسالم المسدي واحد من أبرز المتخصصين‬ ‫العرب في حقل الدراسات اللسانية المعاصرة وهو‬ ‫أحد الدارسين القالئل الذين تجاوزوا مرحلة النقل‬ ‫والترجمة من الغرب إلى آفاق التوليد واالستحداث‬ ‫وم ��واءم ��ة ال�ع�ل��م ال�ك�ل��ي ل�ت��اري�خ�ي��ة ون��وع �ي��ة لغتنا‬ ‫العربية‪.‬‬

‫السنين‪ ،‬فاللسانيات فتحت المجال لتأسيس‬ ‫منهج جديد في فهم الظاهرة اللغوية البشرية‬ ‫بحيث أصبح علم اللغة الحديث يختلف في‬ ‫مفهومه وهويته المعرفية عن هوية فقه اللغة‬ ‫القديم‪.‬‬

‫< يبدو مصطلح اللسانيات جديداً على ثقافتنا‬ ‫وقدم المسدي العديد من الدراسات والمؤلفات‬ ‫العربية‪ ،‬فهل لهذا العلم جذور في تراثنا أم أنه‬ ‫المهمة في هذا المجال منها‪( :‬التفكير اللساني في‬ ‫يرجع إلى السنوات األخيرة فقط؟‬ ‫الحضارة العربية)‪( ،‬اللسانيان وأسسها المعرفية)‪،‬‬ ‫ ل�ل��دراس��ات اللسانية ت��اري��خ طويل ف��ي ثقافتنا‪،‬‬‫(ال� �ش ��روط ف��ي ال� �ق ��رآن‪ ،‬ع�ل��ى م�ن�ه��ج اللسانيات‬ ‫ويمكن القول أنها عرفت مرحلتين‪ :‬المرحلة‬ ‫الوصفية)‪( ،‬قاموس اللسانيات) وع��ددا آخ � َر من‬ ‫األول��ى قديمة وغير مقننة‪ ،‬والمرحلة الثانية‬ ‫الدراسات المهمة‪.‬‬ ‫بدأت في نهاية النصف األول من القرن وكانت‬ ‫أثناء زيارته األخيرة إلى القاهرة قادماً من تونس‬ ‫بمثابة مرحلة للتدوين والجمع ونشر المعرفة‬ ‫للمشاركة في مؤتمر قضايا المصطلح األدبي كان‬ ‫اللسانية تحت ماكان يعرف آنذاك بعلم اللغة‪،‬‬ ‫هذا الحوار‪:‬‬ ‫أم��ا في السنوات األخ�ي��رة فقد نشطت جهود‬ ‫< كيف يمكن أن نتعرف على اللسانيات كعلم؟‬ ‫ال�ل�س��ان�ي�ي��ن ال �ع��رب وت �ب �ل��ور وع�ي�ه��م المعرفي‬ ‫والعلمي إلى حد القول بتأسيس نهج تطبيقي‬ ‫> هناك نظرتان للتعرف أو تحديد مفهوم مصطلح‬ ‫خصوصاً في تلك المحاوالت التي استهدفت‬ ‫(علم)‪ ،‬النظرة األولى تقول بأن العلم هو اكتشاف‬ ‫إع��ادة بحث اللغة العربية في أبنيتها الصوتية‬ ‫مواد جديدة أو معلومات أو موضوعات جديدة‬ ‫وال�ص��رف�ي��ة وال�ن�ح��وي��ة وك��ذل��ك ال��دالل �ي��ة‪ ،‬كما‬ ‫أما النظرة الثانية فهي اكتشاف منهج جديد‬ ‫ظهرت جهود عربية مهمة عمدت إلى استثمار‬ ‫لدراسة أو تناول مواد أو موضوعات أو ظواهر‬ ‫التطور العالمي العام في علوم اللسانيات كما‬ ‫موجودة بالفعل‪ ،‬وبالمعنى الثاني يمكن القول‬ ‫في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وفي‬ ‫أن اللسانيات هي اكتشاف منهج جديد لدراسة‬ ‫اللغة التي هي موضوع قديم ومعروف منذ االف‬ ‫تطوير تقنيات اللغات عموماً‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫< يمكن القول إذن أن مرحلة التأسيس النظري قد‬ ‫صاحبتها مرحلة أو خط تطبيقي؟‬

‫تتطلب – أيضاً – جهداً من القارئ لكي يصل إلى‬

‫مفاتيح اللغة ويسعى بدأب نحو الفهم الذي يجب‬

‫أن يفهمه‪ ،‬فكما أن الكتابة ليست سهلة فإن القراءة‬

‫> حدث هذا إلى حد كبير‪ ،‬ربما ألن العلم عموماً‬ ‫يتطور بشكل جدلي وال حدود قاطعة تفصل بين‬ ‫يجب أال تكون كذلك حتى ال نتحول إلى كسالى‬ ‫التنظير والتطبيق‪ ،‬لكن ه��ذا ال يمنع أن هناك‬ ‫واعتقد أن هناك سمة عامة في مثقفينا وجمهور‬ ‫قصوراً في مناطق عدة في دراستنا اللغوية بشكل‬ ‫القراء عموماً وهي أنهم ينفرون من اللغة العلمية‬ ‫ال أن الفائدة االجرائية أو التطبيقية‬ ‫عام منها مث ً‬ ‫الصارمة وال يحبون الدقة والضبط ويسعون إلى‬ ‫التي تنعكس على اللغة العربية من تطور المفاهيم‬ ‫اتهام الكاتب أو المختص بالغموض وأن لغته غير‬ ‫النظرية ليست على المستوى المطلوب‪ ،‬واعتقد أن‬ ‫مفهومة‪...‬إلخ‪ .‬ه��ذا م��ن ناحية ال�ق��ارئ أم��ا من‬ ‫هذه الحلقة المفقودة هي باألساس ظاهرة علمية‬ ‫ناحية المتخصصين فنجد أن بعضهم ال يلتفت‬ ‫عربية عامة فنحن نتكلم كثيراً ولكن هذا الكالم‬ ‫إل��ى مهمته التنويرية وال يراعي البعد الشعبي‬ ‫ال ينعكس بالضرورة في فعل كما نقدم أبحاثاً‬ ‫واالجتماعي للعمل الذي يدرسه‪.‬‬ ‫نظرية كثيرة ولكنها ال تأتي بثمارها – بالضرورة‬ ‫– في مجال التطبيق واقصد بذلك ما يحدث في < أعتقد أن النقطة األخ�ي��رة والخاصة بالوظيفة‬ ‫مجاالت البحث العلمي األخرى‪ .‬ومن ناحية أخرى‬ ‫المعرفية ل�لأك��ادي�م��ي أو ال�ب��اح��ث المتخصص‬ ‫هناك قصور في إلمام الدارس العربي في مجال‬ ‫تحتاج إلى قدر من التوضيح؟‬ ‫اللسانيات بالعلم الكلي‪ ،‬فما زالت صلة اللسانيين‬ ‫العرب بالعلم الكلي منقوصة ولم تتأسس بعد على > أق� �ص ��د ض� � ��رورة ت� �ع ��دد ال ��وظ ��ائ ��ف المعرفية‬ ‫للمتخصص‪ ،‬فهو ال يبحث في فراغ أو من فراغ‪،‬‬ ‫المفهوم اإلنساني للمعرفة المطلقة‪.‬‬ ‫< هل ترى أن اللسانيات كعلم تجد االنتشار الملحوظ‬ ‫أو المالئم‪ ،‬فهي – كما أرى – مازالت تعاني من‬ ‫اإلح �ج��ام أو الحصار داخ��ل دوائ��ر االكاديميين‬ ‫وأروقة الجامعات المتخصصة؟‬ ‫> ه��ذا ص�ح�ي��ح‪ ،‬وأن ��ا ال استطيع ال �ق��ول بانتشار‬ ‫اللسانيات انتشاراً ملحوظاً‪ ،‬وهي بالكاد تعرف‬ ‫ع��ن نفسها كمنهج علمي ج ��اد‪ ،‬وف��ي رأي ��ي أن‬ ‫هناك أسباباً واضحة وراء عدم انتشارهذا العلم‬ ‫الخطير وم��ن ه��ذه االس �ب��اب شيوع االستسهال‬ ‫في مجال الكتابة باللغة العربية فالقارئ يطلب‬ ‫نصوصا سهلة ومتيسرة ومعظم الكتاب يفضلون‬ ‫الكتابة بمستوى قدرة القاعدة العريضة على الفهم‬ ‫بصرف النظر عن تأثير ذلك على قواعد ودالالت‬ ‫اللغة ؛ بمعنى أننا لم نستطع بعد أن نؤطر سنة‬ ‫القراءة الجادة التي تتطلب جهداً من الكاتب كما‬

‫ال أن يضع في اعتباره أنه يقوم إلى جانب‬ ‫عليه مث ً‬ ‫عمله البحثي بوظيفة تربوية تستهدف تنشئة‬

‫أجيال تواصل المهمة التي يقوم بها الباحث حتى‬

‫ال تنقطع جهوده بتوقفه‪ ،‬وعليه أن يربي تالميذ‬ ‫سواء في مدرج الجامعة أو قاعة مراكز البحث‬

‫أو من خالل الكتاب أو الصحيفة‪ ،‬وعليه أيضاً أن‬ ‫يقيم جسوراً للحوار الديمقراطي في مجال العلم‬ ‫ذاته بينه وبين المتخصصين من زمالئه أو بينه‬

‫وبين علماء العالم الكبار ومدى ما تنجزه العقول‬ ‫اإلنسانية ف��ي م�ج��ال علمه‪ ،‬وك��ذل��ك بينه وبين‬ ‫انعكاس هذا العلم على المجتمع الذي يعيش فيه‪،‬‬

‫وعليه أن يقوم باستمرار بصيانة قنوات الحوار‬

‫ال�ت��ي تربطه بالجمهور العريض م��ن المثقفين‬

‫والمبدعين عموماً ومن جمهور القراء بعامة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪81‬‬


‫قصيدتي ستغير خريطة الشعر العربي‬ ‫مالئكة «الكوليرا»‪ ..‬رحلت‬

‫> شمس علي‬ ‫«سكن الليل‪.‬‬ ‫أصغ إلى وقع صدى األنات‪.‬‬ ‫في عمق الظلمة تحت الصمت‪.‬‬ ‫على األموات‪.‬‬ ‫صرخات تعلو‪ ..‬تضطرب‪.‬‬ ‫حزن يتدفق‪ ..‬يلتهب‪.‬‬ ‫يتعثر فيه صدى اآلهات»‪.‬‬

‫ن��������واف��������ذ‬ ‫‪82‬‬

‫من رحم الموت ولدت حركة التجديد في الشعر العربي‪ ،‬عبر قصيدة «الكوليرا» لنازك‬ ‫المالئكة‪ ،‬رائدة الشعر الحديث والرومنطيقية الشعرية‪ ،‬التي هزها ذات يوم من عام‬ ‫‪ 1947‬سماع خبر تفشي وباء الكوليرا في مصر عبر المذياع‪ ،‬ما ألجأها إلى العزلة في‬ ‫مكان مهجور قريبًا من دارهم ببغداد‪ .‬وفي غضون ساعة من الزمن المختلف‪ ،‬تدفقت‬ ‫عبر ثقوب روحها المطعونة بخنجر األلم‪ ،‬شالالت الشعر الطازج بغزارة مشبعة برائحة‬ ‫عربات الموتى‪ ،‬التي تنجر باألحصنة إلى مستودعها األخير في ريف مصر‪ ،‬لتتخلق‬ ‫على إيقاع وقع أق��دام الخيل المتخيل في ذهن ن��ازك ص��وراً محقونة بجرعات مكثفة‬ ‫الحزن‪ ،‬مرتدية أثواب الصمت‪ ،‬السكون‪ ،‬اللوعة‪ ،‬األنات‪ ،‬اآلهات‪ ،‬الصرخات‪ ،‬لتشكل معًا‬ ‫سيمفونية مكتظة بأبجديات الموت‪ .‬محرضة على اجتراح لون شعري مغاير‪ ،‬متخفف‬ ‫من وطأة القافية وثقلها‪ ،‬عرف بالشعر الحر‪ ،‬أو شعر التفعيلة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫وقد جاءت بذرة الرفض األولى لهذا النمط الشعري المستجد من قبل األب الشاعر‬ ‫لنازك وأقرب المقربين إليها‪ ،‬صادق المالئكة الذي وجد في قصيدتها «الكوليرا» جنينًا‬ ‫شائهًا للشعر‪ ،‬كره انضواءه تحت جنح بيت عريق الشاعرية‪ ،‬كبيته الذي ضمه وأمها‬ ‫الشاعرة سلمى المالئكة‪ ،‬صاحبة دي��وان «أنشودة المجد» في الثالثينيات من القرن‬ ‫الميالدي المنصرم‪ ،‬لكن جموح نازك وعنادها تصديا لهذا الرفض المبكر‪ ،‬إيمانًا منها‬ ‫بحق وليدها الشعري المطور في الحياة‪ ،‬بل وكانت تتطلع إلى مستقبل باهر له‪ ،‬حينما‬ ‫تحد واثق (قل ما تشاء إني واثقة أن قصيدتي ستغير‬ ‫واجهت والدها بالقول في نبرة ٍ‬ ‫خريطة الشعر العربي)‪ .‬وكان حقيقًا بها أن تؤمن به‪ ،‬فقد كان من القدرة على الصمود‬ ‫بحيث تناسلت روحه قصائد عدة‪ ،‬تالحقت تباعاً‪ ،‬لتغدو مجاميع شعرية‪ ،‬منها‪ :‬عاشقة‬ ‫الليل‪ ،‬وشظايا رماد‪ ،‬وقرار الموجة‪ ،‬وشجرة القمر‪ ،‬ومأساة الحياة‪ ،‬وأغنية لإلنسان‪،‬‬ ‫ويغير ألوانه البحر‪.‬‬ ‫كما تسنى لها في انعطافة متباينة إصدار مجموعة قصصية بعنوان‪( :‬الشمس وراء‬ ‫أيضا‪ ،‬دراسة في علم االجتماع‪ ،‬عنوانها‪( :‬التجزيئية في‬ ‫القمة)‪ .‬وفي انعطافة أخرى ً‬ ‫المجتمع العربي)‪.‬‬ ‫وألن أيًا من اإلبداع يفجر حركة نقدية موازية‪ ،‬من قبل المعاصرين‪ ،‬أو من المبدع‬ ‫ذاته إذا كان ذا قابلية إبداعية أو أكاديمية تتيح له ذلك‪ ،‬وامتلك أدوات النقد‪ ،‬كنازك‬ ‫التي أفضى بها هذا األمر لعدة منجزات في النقد كـ «قضايا الشعر المعاصر «الذي‬ ‫ألمحت فيه لنظرة اإلقصاء التي يعانيها الشعر الحر من قبل سدنة الشعر العمودي‪،‬‬ ‫و«الصومعة والشرفة الحمراء»‪ ،‬و«سيكولوجية الشعر»؛ ليحق لها بعد كل ذلك أن تحصد‬ ‫بعض أوسمة المبدعين‪ ،‬كدرع اإلبداع العراقي عام ‪ ،1992‬وجائزة البابطين عام ‪،1996‬‬ ‫وتكريمها من قبل دار األوب��را المصرية عام ‪ ،1999‬التي لم تسعفها ظروفها الصحية‬ ‫وقتها لحضوره‪ ،‬فناب عنها بالحضور زوجها الدكتور عبدالهادي محبوبة‪ ،‬الذي كان يومًا‬ ‫ما رئيسً ا لجامعة البصرة ووالد ابنها الوحيد «البراق» والذي برحيله عن الحياة عام‬ ‫‪ 2001‬انقطعت أخبارها‪ ،‬لتدخل نازك في دائرة العزلة عن اإلعالم‪ ،‬حتى ظنها البعض‬ ‫مذ ذاك فارقت الحياة‪ ،‬دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عنها!؟‬ ‫في حين ظلت رائدة الشعر الحر تصارع في حلبة تراجيديا المرض‪ ،‬إلى أن أسدل‬ ‫األربعاء ‪ 20‬يونيو حزيران ‪ 2007‬الستار على حياتها الزاخرة بالمنجز اإلبداعي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪83‬‬


‫رحلة محمد شكري املفتوحة‬ ‫> عبداحلق ميفراني‬ ‫كتاب «ح��وار» لمحمد شكري (‪ ،)2003 – 1935‬هو في األس��اس ح��وارات أجراها‬ ‫األستاذان الزبير بن بوشتى ويحيى بن الوليد مع الكاتب الراحل محمد شكري‪ ،‬وقد صدر‬ ‫هذا الكتاب عن مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬ويقع في ‪ 158‬صفحة‪ ،‬ويحتوي على حوارات مبوبة‬ ‫حسب تيمتها الى‪ :‬الكتابة السردية‪ /‬تلقي محمد شكري‪ /‬سؤال المغرب اآلن‪ /‬الطفولة‪/‬‬ ‫الترجمة‪ /‬المرأة‪ /‬الرسائل‪ /‬طنجة‪.‬‬ ‫ويختتم الكتاب بألبوم صور‪ ،‬تؤرخ لمراحل حياة محمد شكري منذ سن ‪ 18‬إلى آخر‬ ‫حياته‪ .‬ويقدم الكتاب بورتريه شبه مكتمل لمحمد شكري اإلنسان والكاتب مع جرد لمختلف‬ ‫آرائه تجاه عديد من القضايا التي تهم الكتاب والحياة معا‪ .‬كما يمثل الكتاب وثيقة أساسية‬ ‫تعريفية بأحد أشهر رموز ثقافتنا سواء المغربية أو العربية‪ ،‬والذي ترجمت كتاباته إلى‬ ‫العديد من اللغات‪ ،‬إضافة إل��ى «الخبز الحافي» وال��ذي ص��در في طبعته السابعة سنة‬ ‫‪2001‬م‪.‬‬ ‫وقد أجري الحوار أساسا لجريدة لندنية‪ ،‬كما سبق نشره متسلسال في حلقات‪ ،‬لكن‬ ‫إص��دار الكتاب يمثل مرجعاً أساسياً لقراءة مسار رحلة شكري المفتوحة أساسا على‬ ‫القراءة‪ ،‬كما يشكل محطة معرفية للكاتب‪ ،‬التي استطاع من خاللها أن يعيد قراءة مسارات‬ ‫وانعراجات هذه الرحلة‪ ،‬وفق ذكاء تحريري خططاه بوعي الدكتور يحيى بن الوليد والمبدع‬ ‫المسرحي الزبير بن بوشتى؛ إذ أسهم الكتاب‪/‬الحوار في تقديم هذه الصورة الالنمطية‬ ‫لكاتب ظل مرهونا لظاهرة اختارها عن وعي‪ ،‬لكنه في اآلن ذاته‪ ،‬شكل نموذجاً حياً لحالة‬ ‫االستثناء في الكتابة‪ .‬وكطنجة المكان المفتوح والمتعدد‪ ،‬فتجربة محمد شكري ليست‬ ‫تنميطا لحالة بقدر ما هي تركيب النهائي لحاالت المبدع الكوني‪ ،‬ال كما أرادها شكري‬

‫‪84‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫الفائقة على كتب أخ��رى على الرغم من أهمية هذه‬ ‫ولكن كما ارتضتها كتاباته‪.‬‬ ‫«الكاتب إما ميت أو صعب رؤيته» هكذا بدأ مفهوم األخيرة‪ .‬فهذا النص الذي فتح أفقا قرائيا في المغرب‬ ‫محمد شكري للكاتب‪ ،‬وهو تلميذ في مدرسة المعلمين توحدت من خالله كافة الشرائح االجتماعية لقراءته‪،‬‬ ‫بتطوان سنة ‪1960‬م‪ ،‬وبمقهى كونتينتال في تطوان وي��ؤك��د ش�ك��ري أن االستقامة ال�س��اذج��ة ف��ي الكتابة‬ ‫التقى شكري الكاتب محمد الصباغ‪ ،‬ال��ذي نصحه األدب�ي��ة ال تنتج أدب��ا؛ ف��أي كتابة الب��د أن تكون فيها‬ ‫بتملك أسلوب خاص من خالل استيعاب الكثير من مخيلة إبداعية‪ ،‬ومن هنا يرد على ركام من األحكام‬ ‫األساليب‪ ،‬وبين عامي ‪1960‬م و‪1961‬م نشر شكري الخاطئة التي وج��ه بها نص «الخبز الحافي» الذي‬ ‫نصوصه األول��ى التي ب��دأت بنص «حديقة العار» تم يمثل الجزء األول من سيرة ذاتية استكملت مع «زمن‬ ‫األخطاء»‪ ,‬و«وج��وه» هذا النص األخير‬ ‫«جدول حبي» بمحلق الناشئين‪ ،‬إلى أن‬ ‫نشر أول نصوصه القصصية «العنف محمد شكري‪ :‬الذي قل فيه صوت شكري حتى تحول‬ ‫إلى سيرة جماعية‪.‬‬ ‫على الشاطئ» بمجلة اآلداب البيروتية‬

‫س �ن��ة ‪ ،1966‬وت �ل �ق��ى ح�ي�ن�ه��ا رسالة أنا أكتب بحثا‬ ‫لقد ظل عشق محمد شكري األول‬ ‫ل�ل�س��رد ال ��روائ ��ي‪ ،‬ب�ع��د عشقه للقصة‬ ‫تشجيعية من سهيل إدريس‪.‬‬ ‫���م‬ ‫ل‬ ‫�������ر‬ ‫س‬ ‫�������ن‬ ‫ع‬ ‫القصيرة‪ ،‬ثم المسرح‪ .‬وبالعودة لنص‬ ‫لقد تولدت رغبة الكتابة عند شكري‬ ‫بقصدية تجاوز مجتمعية‪ ،‬وال يميل إلى ي�����ع�����ل�����ن ع���ن���ه «الخبز الحافي»‪ ،‬فمعلوم أن هذا النص‬ ‫ظهر باللغة الفرنسية‪ ،‬ثم أعاد شكري‬ ‫م�ق��والت أن��ه ق��اص أو روائ��ي بقدر ما‬ ‫يختار أن يكون س��اردا‪ ،‬ويكتب السرد‪ ،‬بعد‪ ..‬ال أعرف نشره بالعربية حتى يتخلص من لعنات‬ ‫الناشرين‪ ،‬وهو الذي يمتلك حكايات ال‬ ‫إذ تتداخل أجناس عدة في س��رده‪ ،‬إن‬ ‫لم نقل هجنات‪ .‬لكن مع ص��دور نصه م���ا ينتظرني تنتهي معهم‪ ،‬وعندما صدر نص الخبز‬ ‫الحافي ‪ -‬هذا العنوان اقترحه الكاتب‬ ‫«الخبز الحافي» أمسى محمد شكري‬ ‫ظ��اه��رة‪ ،‬علماً أن��ه نص يلي مجموعته يوم يعلن عنه الطاهر ب��ن جلون على شكري ‪ -‬منع‬ ‫من طرف رئيس رابطة علماء المغرب‬ ‫القصصية «مجنون الورد» ‪1979‬م‪ ،‬التي‬ ‫وب��إي �ع��از ك�م��ا ي �ق��ول ش �ك��ري م��ن بعض‬ ‫ترجمت إلى الفرنسية واإليطالية وبعض نصوصها إلى‬ ‫اإلنجليزية‪ ،‬واأللمانية‪ ،‬واالسبانية‪ ،‬وااليسالندية‪ .‬األساتذة والمعلمين ويذكرهم واحدا واحدا‪ ،‬غير أن‬ ‫لقد عبر ن��ص «الخبز الحافي» على طابع «الكتابة هذا المنع تسبب في نشر الكتاب مترجما إلى ‪ 16‬لغة‪،‬‬ ‫االحتجاجية التوثيقية» لكنه ظل خطابا أكثر منه نسقا ويعد شكري نفسه أقرب إلى الكاتب محمد زفزاف منه‬ ‫كتابيا‪ ،‬على ال��رغ��م م��ن تأكيد شكري على استفادة إلى إدريس الخوري‪ ،‬هؤالء الفرسان الثالثة بالنسبة له‬ ‫رضعوا من البؤس نفسه ومن التهميش ذاته‪.‬‬ ‫النص من جماليات تقنية السرد ولعبه‪.‬‬ ‫ويشير ال�ك��ات��ب إل��ى أن التهميش م �ف��روض على‬ ‫شخصيات كتاباته‪ ،‬بحكم انتمائه هو نفسه إلى طبقة‬ ‫المهمشين؛ لذلك يميل شكري إلى الكتابة عن المنحط‬ ‫وال �م �ب��اءات بشكل س��ام‪ ،‬وي�ظ��ل ن��ص الخبز الحافي‬ ‫نموذجا لتلك الكتب التي سحقت كتابها بشهرتها‬

‫ص��در (الخبز ال�ح��اف��ي) ف��ي طبعته العربية سنة‬ ‫‪1981‬م قبل أن تجمعه الرقابة في ‪1983‬م‪ ،‬وقد بيع‬ ‫منه حينها ‪ 20‬ألف نسخة‪ ،‬لم تجد الرقابة سوى ‪700‬‬ ‫نسخة‪ .‬فالطبعة األول��ى بيعت في بضع أسابيع‪ ،‬ثم‬ ‫بيعت الطبعات الثالث التي تلتها في أقل من سنتين‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪85‬‬


‫م���ح���م���د ش������ك������ري‪ :‬أن�������ا م����س����ح����وق ب����ش����ه����رة ال����خ����ب����ز ال���ح���اف���ي‬ ‫قبل أن تصادره الرقابة‪ ،‬أما الطبعة الفرنسية فقد بيع‬ ‫منها ‪ 165‬ألف نسخة (شربل داغ��ر)‪ ،‬وطبعا استمر‬ ‫صدور الكتاب في طبعات أخرى باأللمانية واالسبانية‬ ‫وااليطالية‪ .‬ويشير شكري إلى طبعة ألمانية فاخرة‬ ‫يعد شكري السيرة الذاتية حاجة أدبية لكل كاتب‬ ‫ص ��در م�ن�ه��ا أل ��ف ن�س�خ��ة ف�ق��ط خ��اص��ة بالجامعات ينتمي إلى العالم الثالث‪ ،‬وترتبط عنده هذه الضرورة‬ ‫والجمعيات األدبية‪.‬‬ ‫باستكشاف بعض م��ا ل��م يكتبه ال�ت��أري��خ ال�م��أج��ور أو‬ ‫ع��ن ع�لاق��ة ش �ك��ري ب��ال�ت�ل�ق��ي س���واء ض �م��ن إطار الرسمي‪ ،‬فالسيرة الذاتية توحي للقارئ بالحقيقة التي‬ ‫«سوسيولوجية القراءة» أو في عالقة كتابات شكري ال يؤمن بها وه��ي تطالعه في ال��رواي��ة‪ ،‬ويعود شكري‬ ‫بالنقد‪ ،‬يؤكد أن هناك ميثاقا وجدانيا وتآزرا بينه وبين لطفولته القاسية مع الجوع على الرغم من اعترافه‬ ‫قرائه‪ ،‬وإذا كان هناك نقاد جادين‪ ،‬فإن شكري يلمح على اختالف طفولة اليوم عن األمس‪ ،‬فطفولة األمس‬ ‫إل��ى وج��ود نقاد «سطحيين» نقدهم شبيه «بمحاكم ترتبط بملء البطن‪ ،‬أما اليوم فأمست أكثر تعقيدا‪ .‬وعن‬ ‫التفتيش»‪ ،‬غير أن ه��ذا ال ينفي أن س��ؤال الحجم عالقة شكري باألب يؤكد أنه صفى حسابه مع أبيه من‬ ‫الروائي كإبداع ال زال في طريق المتغير‪ ،‬إذ ال زال خالل نصيه «الخبز الحافي» و«زم��ن األخ�ط��اء»‪ ،‬لكن‬ ‫العالم العربي يؤسس للفن الروائي‪.‬‬ ‫هذه العالقة ظلت ترخي بظاللها على حياته إذ عزف‬ ‫ي�ح�ت�ف��ظ ش �ك��ري ب �ع�لاق��ات م�ت�م�ي��زة م��ع مختلف عن الزواج حتى ال يتحول هو اآلخر لوالد متسلط‪ ،‬فكم‬ ‫األطياف السياسية بالمغرب‪ ،‬وينظر للتحول بحذر القسوة والمعاناة جعلت شكري يعترف بأنه ولد دون‬ ‫في مغرب يستشرف مستقبله بمهل‪ ،‬لكنه يعترف أنه أب‪ .‬وإضافة إلى هذه العالقة المركبة مع أبيه يثير‬ ‫كاتب وال يميل لخطابات السياسة وااليديولوجيا‪ ،‬كما شكري خطوات الهجرة األولى والتي عانى خاللها من‬ ‫يعترف أن الكاتب غير منفصل تماما عن نصوصه‪ ،‬اضطهاد لغوي‪ ،‬لكنه استطاع في بداية رحلته بطنجة‬ ‫إذ ليس هناك حياد مطلق‪ .‬وعن ممارسته للصعلكة تعلم اللغة اإلسبانية‪ ،‬ثم الفرنسية واإلنجليزية ويعد‬ ‫يؤكد شكري أن��ه مارسها بمفرده كنوع م��ن التدمير الكاتب بول بولز أول مترجمي شكري‪ ،‬وقد ترجم له‬ ‫الذاتي لتسكين قلقه المجهول‪ ،‬أما ح��وارات شكري في البداية نصوصا قصيرة إلى اإلنجليزية وتالها عليه‬ ‫فيقدمها في تصنيف مزدوج فالمغرب والعالم العربي شكري باإلسبانية‪ ،‬لكنه يعترف أنه إذا كان بولز سببا‬ ‫ت�ع��ام��ل م�ع��ه ك �ظ��اه��رة‪ ،‬أم ��ا ال �غ��رب ف�ك��ان��ت األسئلة في كتابته لسيرته الذاتية «الخبز الحافي» ومذكراته‬ ‫ترتبط به وبطنجة‪ ،‬ه��ذه المدينة الكوسموبوليتية‪ .‬مع جان جينيه وتيسي وليامز‪ ،‬فإنه في المقابل كان‬ ‫لكن محمد شكري حول هذه ال�ح��وارات ضمن إطار يستفيد ماديا من نشر نصوصه المترجمة‪.‬‬ ‫القاهرة ‪ 1997/‬على إصدارها دون استشارته‪ ،‬ويؤطر‬ ‫ش�ك��ري ه��ذا الفعل بالقرصنة‪ ،‬وي��ؤك��د ش�ك��ري على‬ ‫تعرضه البتزاز الناشرين في بداياته‪.‬‬

‫التسويق الذاتي «الماركيتينغ»‪ ،‬خاصة بعد االستغالل‬ ‫البشع الذي تعرض له هو وكتبه‪ ،‬ويسرد هنا مثالين‬ ‫بارزين‪ :‬مجموعته القصصية مجنون الورد‪ 1979/‬مع‬ ‫دار اآلداب‪ ،‬وإقدام الهيئة العامة لقصور الثقافة في‬

‫‪86‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫يعترف ش�ك��ري ب��أث��ر لقائه م��ع جينيه‪ ،‬خصوصا‬ ‫ح��وارات�ه�م��ا ح��ول األدب ال�ع��ال�م��ي‪ ،‬ويعتز بترجمات‬ ‫ن �ص��وص��ه‪ ،‬س ��واء ت��رج�م��ة ال �ط��اه��ر ب��ن ج �ل��ون للخبز‬ ‫الحافي إلى الفرنسية أو ترجماته إلى اللغة االسبانية‪،‬‬


‫واأللمانية‪ ..‬ويقف محمد شكري ضد الكتابة التي المسرحي الزبير بن بوشتى في إضاءة عتمات قوية من‬ ‫ت�خ��دم قضايا مرحلية‪ ،‬إذ تختفي بانتهاء المرحلة سيرة هذا الكاتب الكوني المركب‪ ،‬ولعل قيمة الكتاب‬ ‫وظروفها‪ ،‬وقد أفادته الترجمة إلى الحد الذي وصلت تظهر اليوم بعد وفاة صاحب (الخبز الحافي) وزمن‬ ‫ترجمات كتبه إلى ‪ 46‬لغة‪.‬‬ ‫األخطاء‪ ،‬ووج��وه‪ ،‬ومجنون ال��ورد‪ ،‬والخيمة‪ .‬ففي يوم‬ ‫لقد كتب شكري عن المرأة التي يصنعها المجتمع السبت ‪ 15‬تشرين الثاني (نوفمبر) ‪ 2003‬غيب الموت‬ ‫م��دن�س��ة‪ ،‬ام ��رأة م�ت�م��ردة وليست متواطئة‪ .‬ويعترف الروائي المغربي محمد شكري بعد ‪ 68‬سنة من األوجاع‬ ‫باختياره حرفة الكتابة التي تمكنت منه ض��دا على والعطاء‪ ،‬وبعد صراع طويل مع السرطان‪ ،‬أسقطه على‬ ‫مؤسسة الزواج التي رأى فيها قيدا على حريته ككاتب‪ ،‬أحد أسرّة المستشفى العسكري بالرباط‪ ،‬بعد مسيرة‬ ‫أما الموت فيرى في الطريق المؤدي إليه مرعبا‪ ،‬إذ حافلة بالعطاء اإلبداعي‪ ..‬كان قد قضى ليلته األخيرة‬ ‫أن الطريقة التي يموت بها اإلنسان هي التي تخيف ف��ي س�ع��ادة كبيرة م��ع أص��دق��ائ��ه‪ :‬عبدالحميد عقّار‪،‬‬ ‫شكري ال مبدأ الموت نفسه‪ ،‬لقد أسكن شكري غضبه وحسن نجمي وكمال الخمليشي‪ .‬ومن حين إلى آخر‬ ‫على عدم االستمرار في الكتابة بكتابة الرسائل التي يعود إلى دفتر صغير قرب وسادته ليسجّ ل عليه بعض‬ ‫االنطباعات» ولكنّ األوجاع عادت إليه‬ ‫كان عاجزا عن إيقاف جنون كتابتها‪،‬‬ ‫وس� ��واء رس��ائ �ل��ه م��ع م�ح�م��د ب� ��رادة أو محمد شكري‪ :‬مع الفجر ورافقته إلى الساعة التاسعة‬ ‫ليدخل في غيبوبة توفي على إثرها‪.‬‬ ‫زفزاف أو البياتي‪ ،‬فإنها مألت مرحلة‬ ‫ف ��راغ ت��وق�ف��ه ع��ن ال�ك�ت��اب��ة اإلبداعية‪ ،‬أن�����������������������ا ض������د أوص ��ى محمد ش�ك��ري بمقتنياته إلى‬ ‫وزارة الثقافة‪ ،‬ولكنّه لم ينس خادمته‬ ‫وتملك ه��ذه الرسائل قوتها الرمزية‪،‬‬ ‫�ص�ه��ا بمبلغ شهريّ‬ ‫ولعل صدور «ورد ورماد» رسائل شكري ال��ك��ت��اب��ة التي «ف�ت�ح�ي��ة» ال �ت��ي خ� ّ‬ ‫تحصل عليه من أحد البنوك «وهو ما‬ ‫وبرادة تظهر القيمة المعرفية للرسائل ت��خ��دم قضايا‬ ‫يكفيها لما تبقّى من حياتها‪..‬‬ ‫بين المثقفين‪.‬‬

‫يختتم الحوار مع شكري باستحضار م������رح������ل������ي������ة‪،‬‬ ‫على غ�لاف ال�ك�ت��اب تصميم داللي‬ ‫م��وغ��ل ف��ي ال��رم��زي��ة‪ ،‬إذ ت �م�لأ لفظتا‬ ‫مدينة طنجة‪ ،‬المدينة ال�ت��ي يحتفظ‬ ‫شكري بانفالتات عنها مهاجرا وهو وك��ت��اب��ات��ي لم (ش �ك��ري‪ ،‬وح���وار) ال��رك��ن األي �س��ر بلون‬ ‫أس� ��ود ع �ل��ى ب �ي��اض ب�ي�ن�م��ا ت �م�لأ يمين‬ ‫في سن السابعة‪ ،‬ومن صدمة المعيش تقتد بأحد‪..‬‬ ‫ال�ص�ف�ح��ة ن�ص��ف وج ��ه ش �ك��ري‪ ،‬أو ما‬ ‫وط�غ�ي��ان ال �ك��ون االس �ت �ع �م��اري‪ ،‬مرورا‬ ‫نسيته الذاكرة‪ ،‬في إشارة إلى ما تبقى‬ ‫ب��أس��واق�ه��ا ال�م�ش�ه��ورة وم�ي�ن��ائ�ه��ا‪ ،‬إلى‬ ‫من خبايا التفاصيل‪ .‬وك��أن شكري في‬ ‫طنجة الفضاء الثقافي‪ .‬وهنا يقر شكري أن طنجة‬ ‫لم تجد بعد كاتبها الحقيقي على الرغم من كتابات الحوار ينذغم في ثنايا طنجة األسطورة‪ ،‬شكري الذي‬ ‫بولز وجين أرو‪ ،‬وراين غايسن‪ ،‬وبرادة والتازي وشكري أسهمت العديد من الكتابات والترجمات في إضاءة‬ ‫نفسه‪ ،‬إذ تظل المدينة خاضعة ألسطورتها الدفينة واستقراء عوالمه التخييلية‪ ،‬وبعضها أسهب في رصد‬ ‫بورتريه افتراضي لهذا الكاتب المنفلت‪ .‬وهكذا يبدو‬ ‫وسط التاريخ‪.‬‬ ‫شكري في الحوار متلبسا بطنجة وخفاياها ليتحول إلى‬ ‫يعد كتاب ح��وار محمد شكري وثيقة تاريخية‪ ،‬إذ سرها المسكون وإلى إضاءة تنفلت من الضوء والعتمة‪.‬‬ ‫أسهم كل من الناقد الكتور يحيى بن الوليد والمبدع‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪87‬‬


‫املعاجلة احلاسوبية للخط العربي‪:‬‬ ‫هل خدمته أم شوهته؟‬

‫> خلف سرحان القرشي‬

‫<‬

‫تروي كتب التراث العربي أن الخليفة العباسي الواثق بعث (ابن ترجمان) بهدايا إلى‬ ‫ملك الروم فرآهم قد علقوا على باب كنيستهم كتبا بالعربية فسأل عنها فقيل له‪ :‬هذه‬ ‫كتب المأمون أحمد ابن أبي خالد استحسنوا صورتها فعلقوها‪.‬ويقال أيضا أن سليمان‬ ‫بن وهب كتب كتابا إلى ملك ال��روم في أي��ام الخليفة المعتمد‪ ،‬فقال ملك ال��روم‪( :‬ما‬ ‫رأيت للعرب أحسن شيئا من هذا الشكل‪ ،‬وما أحسدهم على شيء حسدي على جمال‬ ‫حروفهم)‪ .‬وفي العصر الحديث يدلي الرسام الشهير (بيكاسو) بشهادته في الخط‬ ‫العربي قائال‪( -:‬إن أقصى نقطة حاولت الوصول إليها بالرسم وجدت الخط العربي قد‬ ‫سبقني إليها)‪.‬‬ ‫لقد كان وما زال الخط العربي مثار إعجاب ودهشة الكثيرين حتى من غير العرب‬ ‫والمسلمين ممن استهواهم رسم الحرف العربي بسحره وروعته وتناسقه مع ما قبله وما‬ ‫بعده من حروف‪.‬‬ ‫إن االهتمام الذي ناله الخط العربي في الحضارة اإلسالمية نابع من أهمية ما كان‬ ‫يستخدم له ذلك الخط وهو كتابة آيات القرآن الكريم‪ .‬وكانت فرحة الخطاط المسلم تبلغ‬ ‫ذروتها عندما يتم إنجاز نسخة من المصحف الشريف وذكر كتاب (العقد الفريد) أن أحد‬ ‫علماء حلب وكان خطاطا أيضا‪ ،‬قد اعتاد أن يعتزل الناس طيلة شهر رمضان ليعتكف في‬ ‫أحد المساجد لينسخ نسخة أو اثنتين من المصحف الشريف ويهديها ألقربائه‪.‬ويقال أن‬ ‫الخطاط جمال الدين المستعصمي – الذي ينسب إليه الخط الياقوتي – يوصف بأنه‬ ‫«كتب القرآن‪ ،‬ألف مرة ومرة كناية عن كثرة النسخ التي كتبها من المصحف الشريف»‪.‬‬ ‫وفي تحذير اإلسالم من عمل الصور والمجسمات وصنع التماثيل أكسب الخط الفني‬

‫‪88‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫أهمية أخرى حيث توجه الحس الفني لدى المبدعين‬ ‫نحو الحرف العربي‪ .‬يقول المستشرق الدانمركي‬ ‫(ي��وه�ن��س ب�ي��دس��ن) ف��ي ه��ذا ال �ص��دد‪( :‬وأص �ب��ح فن‬ ‫الكتابة ف��ي اإلس�ل�ام ال�ف��ن ال ��ذي ح��از على أعظم‬ ‫ق��در من االح�ت��رام ول��م تكن أي��ة أبجدية في العالم‬ ‫هدفا لمثل هذا العمل الفني المكثف مثل ما كانت‬ ‫األبجدية العربية)‪.‬‬ ‫وكان من ثمار هذه العناية واالهتمام ظهور أنواع‬ ‫مختلفة م��ن ال�خ�ط��وط وق �ي��ام م ��دارس للخط لكل‬ ‫م��درس��ة منها أعالمها وسماتها ب��اإلض��اف��ة لشيوع‬ ‫ال�ل��وح��ات الفنية المعبرة ال�ت��ي ازدان ��ت بها قصور‬ ‫الخلفاء واألم���راء وال� ��وزراء وذوي اليسار محتوية‬ ‫آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقواال وحكما وأشعارا‬ ‫صيغت بحرفية وموهبة نادرتين‪ .‬ولم يقتصر اهتمام‬ ‫الخطاطين على نسخ الكتب واللوحات فقط بل امتد‬ ‫ليشمل بعض الحرف اليدوية كالخزف وشغل المعادن‬ ‫وحفر الخشب وصنع الزجاج والنقش والزخرفة ال‬ ‫سيما تلك المستخدمة في فن المعمار ونحوه‪.‬‬

‫إال نوعا واحدا من الخط ال يمكن تغييره أو التحكم‬ ‫في حجمه‪ ،‬ورغ��م ذلك كانت تعتبر فتحا مبينا في‬ ‫حينها وذلك ألن األنظمة التي كان يعمل من خاللها‬ ‫أولئك المطورون والمبرمجون هي أنظمة مصممة‬ ‫أساسا للتعامل مع لغات أجنبية في اغلب الحاالت‬ ‫خصائص حروفها تختلف عن خصائص الحروف‬ ‫العربية التي منها تغيير شكل الحرف حسب موقعه‬ ‫من الكلمة وبناء على ما قبله وما بعده من حروف‬ ‫ومثال ذلك حرف العين في الكلمات التالية‪( :‬وعي)‬ ‫(لعبة) (منتجع) بينما نجد أن حروف اللغة اإلنجليزية‬ ‫وكثيرا من اللغات األخرى تفتقد هذه الخاصية نظرا‬ ‫لكون حروفها تكتب منفصلة في الغالب ولكل حرف‬ ‫منها حالتين فقط صغير وكبير‪.‬‬

‫لم يقف طموح الحاسوبيين عند تمكين الحاسوب‬ ‫من طباعة الحروف العربية والتعامل معها في برامج‬ ‫تنسيق النصوص وغيرها من البرامج التي عربت‬ ‫أو صممت عربية لتوليد ال�خ�ط��وط العربية آليا‬ ‫بأنواعها المعروفة (النسخ والرقعة والكوفي والثلث)‬ ‫وتوليد خطوط جديدة قائمة أو مستوحاة من تلك‬ ‫وال يتسع المجال للحديث عن أنواع الخط العربي‬ ‫الخطوط‪ ،‬وظهرت في أسواق البرامج العربية عدة‬ ‫الشهيرة التي تفتقت عنها عقلية وخيال الخطاطين‬ ‫خطوط ق��ام بتصميمها أف��راد ومؤسسات برمجية‬ ‫المسلمين في كل عصر وزمان كما أنه ال يتسع لذكر‬ ‫تعمل تحت نظم مختلفة وكان أغلبها موجها لخدمة‬ ‫أسماء أولئك الرواد العظام من الخطاطين عربا كانوا‬ ‫أغ��راض النشر اإللكتروني وم�ث��ال ذل��ك م��ا أنتجته‬ ‫أم عجما وجهودهم في خدمة هذا الفن البديع‪.‬‬ ‫شركتي (أي‪ .‬تي‪.‬سي) و (مونوتايب) العالميتين في‬ ‫وم��ع ظهور أجهزة الحاسب اآلل��ي‪ ،‬ك��ان الحرف هذا الصدد‪ .‬وتوالت أمثال تلك البرامج وأصبحت‬ ‫العربي أول أه ��داف المبرمجين وم �ط��وري النظم تعمل على نظم تشغيل مختلفة وزودت ميكروسوفت‬ ‫ال�ح��اس��وب�ي��ة ال��راغ�ب�ي��ن ف��ي معالجة ال�ل�غ��ة العربية برامجها الويندوز واألوفيس وغيرهما بحزمة من‬ ‫حاسوبيا حيث استطاعوا بعد جهد ومعاناة ومحاوالت الخطوط العربية وساهمت ش��رك��ات مثل (حرف)‬ ‫عديدة من إنتاج برامج تسمح باستخدام الحرف إحدى الشركات التابعة لشركة صخر بإنتاج خطوط‬ ‫العربي ولعل بعض قراء هذه المقالة ممن قدر لهم مجموعة ج��واه��ر الخط العربي وظ�ه��رت عشرات‬ ‫التعامل مع الحاسوب منذ أكثر من عشرين عاما البرامج للخطوط ومنها على سبيل المثال (علوي)‬ ‫يتذكر برامج تنسيق النصوص العربية األول��ى التي و (القلم) و (الحقباني) كما أصدرت شركة المعالم‬ ‫كانت تعمل تحت نظام التشغيل (دوس)‪ ،‬ولم يكن بها السعودية قبل عدة سنوات موسوعة للخطوط العربية‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪89‬‬


‫وبلغ عدد أنواع الخطوط في بعض تلك البرامج أكثر‬ ‫من مائتي خط‪ .‬وقبل عامين تقريبا‪ ،‬ظهر برنامج‬ ‫(الكلك) وهو بمثابة نظام يتم من خالله توليد وإنتاج‬ ‫خطوط عربية‪ ،‬لكن السؤال الذي يفرض نفسه هل‬ ‫خدمت كل ه��ذه النظم والبرامج الخط العربي أم‬ ‫شوهته‪ ،‬وإذا كانت قد خدمته فعال فإلى أي حد‬ ‫كانت تلك الخدمة؟‬ ‫قبل أن نحاول اإلجابة على هذا السؤال الكبير‬ ‫دعونا نشير لبعض المعضالت التي تواجه معالجة‬ ‫الخط العربي حاسوبيا‪-:‬‬

‫وتصبح في متناول المستخدم العادي‪.‬‬ ‫‪ -3‬يبدو أنه ليس هناك قواعد محددة لطول الحرف‬ ‫في الخط العربي في أنواعه المختلفة فالتناسب‬ ‫الهندسي شبه م�ع��دوم فبعض ال�ح��روف صغير‬ ‫وبعضها كبير ومنها ما ينزل بمقدار معين وليس‬ ‫ه�ن��اك م��ن ح��د معين دق�ي��ق ل��ذل��ك س��وى تقدير‬ ‫الفنان لمسألة التناسق والتناغم‪ ،‬وهذه مسألة‬ ‫يصعب التحكم فيها آليا وتجعل من الضرورة‬ ‫بمكان أن يكون المصمم خطاطا في األساس‬ ‫ألن فاقد الشيء ال يعطيه‪ .‬أما ما يعرف بالخط‬ ‫القواعدي وما وضع له من قواعد ‪ detest‬مثل‬ ‫عدد النقاط لكل حرف فيظهر أنها جاءت تالية‬ ‫ووضعت ألغراض تعليمية فقط‪.‬‬

‫‪ -1‬تعدد أشكال كتابة الحرف الواحد حيث تصل في‬ ‫بعض األحيان إلى أربعة أشكال كما ذكرنا في‬ ‫مثال حرف العين ناهيك عن األشكال التي يمكن‬ ‫أن تستخدم من الناحية الفنية فالحاء مثال تكتب ‪ -4‬قابلية الحرف العربي لإلطالة والتمطيط في‬ ‫أغ�ل��ب ال �ح��روف س ��واء أك��ان��ت مستقلة أو عند‬ ‫إذا أتت في نهاية الكلمة بثالثة أشكال‪،‬وكذلك‬ ‫ورودها أول الكلمة أو وسطها‪.‬‬ ‫ال �ع �ي��ن وال � ��راء وت �ك �ت��ب ك��ل م��ن ال �ك��اف والميم‬ ‫والنون والهاء والسين والياء والالم ألف بشكلين‬ ‫وهناك من يرى أن الخط العربي بهذه الخصائص‬ ‫مختلفين‪ ،‬ومن شأن هذا التعدد والتنوع إعاقة وغيرها أثرى في الناحية الجمالية والخيالية لدى‬ ‫التعامل أليا بسالسة مع الخط العربي‪.‬‬ ‫الخطاط أو مصمم الخط ليبدع أكثر وينتج خطوطا‬ ‫‪ -2‬احتياجه للحركات (التشكيل) م��ن فتح وضم وأشكاالً جديدة تزيد من غناء الخط العربي وتثري‬ ‫وكسر وسكون حيث ال يوجد في العربية حروف متذوقيه ألن المصمم لم يقيد نفسه بقواعد صارمة‬ ‫صامتة ‪ Vowel letters‬مما يزيد من صعوبة تحد من إبداعه‪.‬‬ ‫كتابة الحرف العربي حيث يضطر الكاتب لكتابة‬ ‫حرفين إن لم يكن أكثر في حال رغبته تشكيل‬ ‫كتابته دفعا لإلبهام أو إلضفاء جمالية معينة من‬ ‫خالل تشكيل النص‪ .‬إن جميع الخطوط العربية‬ ‫المنتجة حاسوبيا تغفل قضية التشكيل مثلها مثل‬ ‫الكتابات العربية الحديثة في الصحف والمجالت‬ ‫وتلك المنتجة من قبل برامج تنسيق النصوص‬ ‫وقد يتغير الحال بعد ظهور برامج للتشكيل اآللي‬ ‫سمعنا وقرأنا عنها منذ أكثر من عشر سنوات‬ ‫ويبدو أنها لم ت َر النور بعد أو على األقل لم تنتشر‬

‫‪90‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫وليس ك��ل م��ا ذك��ر ه��و فقط م��ا ي��واج��ه مصممي‬ ‫الخط العربي آلياً‪ ،‬إذ أن هناك مشاكل أخرى لعل من‬ ‫أبرزها أن األنظمة التي يحاولون من خاللها تصميم‬ ‫خطوطهم هي أنظمة معدة أساساً لمعالجة اللغات‬ ‫الالتينية كما أسلفنا فكثير من مصممي الخطوط‬ ‫ال�ع��رب�ي��ة ي�ل�ج��أون الس �ت �خ��دام ب��رام��ج أع ��دت إلنتاج‬ ‫وتصميم الخطوط اإلنجليزية وبمعالجة معينة تنتج‬ ‫هذه البرامج خطوطا عربية ولعل برنامجي (فونت‬ ‫– أوتاماتيك) و (جرافيكس – فونتس) خير مثال‬ ‫على ذلك‪ ،‬ومن المشاكل التي يعاني منها المصممون‬


‫أيضاً عدم وجود مقاييس محددة للتعامل مع الخطوط فاألخذ يستوجب العطاء والدين يستلزم الوفاء)‪.‬‬ ‫العربية ناهيك عن القرصنة وقضية توثيق الحق‬ ‫وإذا علمنا أن طبعة الكتاب الذي اقتبسنا منه هذه‬ ‫المعنوي وال�م��ادي لمطوري الخطوط ومصمميها‪،‬‬ ‫العبارة ص��درت ع��ام ‪1994‬م ومؤلفه ليس بعيداً عن‬ ‫وفي هذا الصدد نشير إلى أن عددا غير قليل من‬ ‫معالجة الحرف العربي وشاهدنا في ذل��ك قوله في‬ ‫الخطوط العربية الحاسوبية المنتشرة في األسواق‬ ‫صفحة ‪ 17‬في نفس الكتاب (‪ ...‬وانتقلنا إلى الحرف‬ ‫اآلن ماهي إال خطوطا صممها آخ��رون ب��ذل��وا من‬ ‫وقتهم وجهدهم ومالهم الكثير حتى أنتجوها‪ ،‬وقام الضوئي حيث يتولى العقل اإللكتروني في آالت الجمع‬ ‫بعد ذلك بعض قراصنة البرمجة وال نقول البرامج الحديثة أمر جمع الحروف بطريقة مختصرة جداً)‪.‬‬ ‫واستقبلها من خالل أحد البرامج المتخصصة مثل فماذا يعني هذا؟ هل أطقم الخطوط العربية المتواجدة‬ ‫تلك التي ذكرناها سابقاً وأضاف عليها ما يطمس حالياً ال تعتبر إضافة للخط العربي في نظر المؤلف‬ ‫هويتها األصلية ويصادر حق مبدعها األول لينسبها الخطاط؟ أم أنه لم يطلع عليها؟ وهل و(كيف) بإمكان‬ ‫إلى نفسه مستغال قلة الوعي من قبل الكثيرين بمثل الحاسوب مساعدة أجيال اليوم في الوفاء بالدين الذي‬ ‫هذه الجوانب الفنية الدقيقة‪.‬‬ ‫تحدث عنه األستاذ الخطاط كامل البابا؟‬ ‫نعود لسؤالنا عن خدمة الحاسوب للخط العربي‬ ‫أو تشويهه له‪ ،‬لنؤكد أنه ليس من السهولة النطق‬ ‫بالحكم في قضية شائكة كهذه يزيد من تعقيدها‬ ‫وج��ود مئات من أن��واع الخطوط المنتجة حاسوبيا‬ ‫تحمل أس �م��اء مختلفة ي�ت��داخ��ل فيها األص �ي��ل مع‬ ‫الدخيل‪ ،‬المبدع مع المقتبس والمسروق‪ ،‬المتمشي‬ ‫مع القواعد مع المتجاهل أو الجاهل بها‪.‬‬

‫أسئلة نطرحها لنتجاوزها إلى أسئلة أخرى من‬

‫قبيل‪ :‬هل يكفي الحاسوب فخراً أنه حال دون زيادة‬

‫ع��دد المسيئين للخط العربي م��ن ذوي الخطوط‬

‫الرديئة وما أكثرهم حيث بوسعهم من خالله طباعة‬

‫خطاباتهم ووثائقهم دون الحاجة الستخدام أناملهم؟‬ ‫وهل حقاً ما يشاع من أن تقنية الحاسوب وخطوطه‬

‫صرفت كثيراً من المبدعين الحقيقيين عن مزاولة‬

‫وأجد من المناسب أن أختتم مقالتي هذه بفقرة إبداعهم بعد أن زاحمهم في لقمة عيشهم فصرفهم‬ ‫استوقفتني كثيراً أورده��ا الخطاط الشهير (كامل عنها وهذا ما تفعله التكنولوجيا التي ما إن تطول‬ ‫البابا) في كتابه (روح الخط العربي) إذ يقول‪:‬‬ ‫ح��رف��ة حتى تفسدها على رأي الكثيرين؟ أسئلة‬ ‫(‪ ...‬لذلك فإن شبابنا المتحمس للجديد لم يبدع تفضي إلى مزيد من األسئلة لعل من أهمها‪ - :‬هل‬ ‫لنا خطا جديدا نضيفه إلى الخطوط القديمة وإنما خدم الحاسوب خطنا العربي أم شوهه؟‬ ‫أغنى بلوحاته ج��دران بعض ال�ه��واة للفن التشكيلي‬ ‫وإنني أتمنى عليهم لو يولون عنايتهم ويجندوا طاقتهم المراجع‪:‬‬ ‫الفنية إلب� ��داع خ��ط ج��دي��د ي��زي��د ف��ي غ�ن��ى التراث ‪ -1‬كتاب (روح الخط العربي) تأليف‪ :‬كامل البابا‪.‬‬ ‫العربي‪ .‬لقد جهد أسالفنا في تطوير الخط العربي‬ ‫‪ -2‬ك �ت��اب (ال �ك �ت��اب) ت��أل �ي��ف‪ -:‬ي��وه�ن��س بيدرسن‪،‬‬ ‫حتى أحلوه مركز ال�ص��دارة ونحن اليوم ننعم بثمرة‬ ‫ترجمة‪ -:‬حيدر غيبة‪.‬‬ ‫جهود السلف‪ ،‬وإنه ل َديْن في أعناقنا يحتم علينا وفاؤه‬ ‫جهدنا المتواصل إلبداع أنواع جديدة ينعم بها الخلف ‪ -3‬مجلة (أبل) عدد نوفمبر ‪1993‬م‬ ‫< كاتب سعودي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪91‬‬


‫شهادات‬

‫ليل األساطير في طفولتي‬

‫(‪)1‬‬

‫> يوسف احمليميد‬

‫<‬

‫ال أعرف ِل َم ينتابني شعور بأن النص الروائي ال‬ ‫يكتمل إال بتسلل أس�ط��ورة م��ا‪ ،‬كقط وحشي يدلف‬ ‫البيت اآلمن؛ فمنذ رواية فخاخ الرائحة‪ ،‬وحتى نزهة‬ ‫الدلفين‪ ،‬ومروراً برواية القارورة‪ ،‬وأنا أرى كيف تتخلق‬ ‫بوله‬ ‫األساطير في نصي الروائي‪ ،‬مثل شجر يعرِّش ٍ‬ ‫وجنون‪ ،‬هل هي طفولتي التي ضجَّ ت باألساطير‪ ،‬تلكم‬ ‫التي تقتات من ليل منزلنا في حي عليشة بالرياض؟‬ ‫وكأنما الجبل الهائل أمام المنزل‪ ،‬كان وحشاً أسطورياً ينتظر خروجي‪ ،‬أو لكأنه يخفي‬ ‫وراءه العفريت ذا الرؤوس السبعة‪ ،‬ومغاراته تخبئ أسرار الجثث اآلدمية‪.‬‬

‫�����ش����ه����ادات‬ ‫‪92‬‬

‫هل نبتت األساطير في ذاكرتي منذ الطفولة‪ ،‬ونحن نتحلّق حول أختي الكبرى‪ ،‬في‬ ‫غرفتنا المعتمة‪ ،‬المزدانة جدرانها ذات الطالء السماوي بأعواد العنبر‪ ،‬التي ترمي‬ ‫رمادها من األعلى مثل ندف غيم يتأهب‪ ،‬بينما أختي تقرأ علينا أسطورة الزير سالم‪،‬‬ ‫وعنترة العبسي‪ ،‬والمقداد الكندي‪ ،‬وألف ليلة وليلة؟ هل تسللت األسطورة إلى دمي‪،‬‬ ‫فتملكتني‪ ،‬حتى إذا ما وضعت أولى أوراق روايتي أمامي تقافزت األساطير من رأسي‬ ‫إلى الورق‪ ،‬وازدحمت مثل قطرات ماء مجنونة؟ إنها كل ذلك‪ ،‬جاءت كل األساطير التي‬ ‫حفلت بها رواياتي من الهواء الذي أتنفسه يومياً‪ ،‬بدءاً من قصص الجن الذين يطوفون‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫بخف ٍّة في المنزل‪ ،‬يغلقون األب��واب‪ ،‬ويطفئون ضوء‬ ‫المصابيح‪ ،‬بل قد يصل تطفل أحدهم إلى أن يغير‬ ‫قناة التلفزيون أو حتى يطفئه! وحتى‬ ‫الكائنات التي تطير في ال�ه��واء‪ ،‬من‬ ‫حصان مسحور يطير‪ ،‬إلى فتاة جميلة‬ ‫تلبس ثوب الريش وتحلِّق في السماء‬ ‫كطير!‬ ‫ط �ف��ول �ت��ي ل��م ت �ح��ظ بمستلزمات‬ ‫الطفل الحديث‪ ،‬إذ لم تحضر شاشة‬ ‫التلفزيون السحرية إلى البيت إال حين‬ ‫بلغت الثالثة ع �ش��رة‪ ،‬وق��د ك��ان ذلك‬ ‫أي�ض�اً س�� َّراً بيننا نحن الصغار وبين‬ ‫ال نجدياً تقليدياً‬ ‫أمي‪ ،‬إذ كان أبي رج ً‬ ‫م �ت �ش �دِّداً‪ ،‬ي��رى ف��ي دخ��ول التلفزيون‬ ‫أو الشيطان كما ك��ان يسميه إل��ى أي‬ ‫بيت‪ ،‬إنما هو دخ��ول ش� ّر ومنكر وبالء‬ ‫وكفر بما أن��زل ال�ل��ه! م��ن هنا عشت عشرة أعوام‬ ‫على السهرات الليلية‪ ،‬كما لو كنَّا في ليل قاهري‬ ‫قديم‪ ،‬أو في ساحة جامع الفنا بمراكش‪ ،‬حيث يتوزع‬ ‫فيها الحكواتيون في األنحاء‪ ،‬ويتحلَّق حولهم الناس‬ ‫فاغري أفواههم من الدهشة‪ ،‬هكذا كانت الحكايات‬ ‫واألساطير تتخلق في عقلي الصغير‪ ،‬تتحول الكلمات‬ ‫إلى شخوص‪ ،‬والشخوص إلى وقائع‪ ،‬والوقائع تنتظم‬ ‫ال أمامي‪.‬‬ ‫حتى تصبح واقعاً جمي ً‬ ‫كنت آخر من ينام في غرفتنا المشتركة‪ ،‬إذ كنا‬ ‫أخواتي األربع وأنا وأمي ننام في غرفة واحدة‪ ،‬بينما‬ ‫أبي يحوّل غرفتنا المجنونة إلى ما يشبه القبر‪ ،‬حين‬ ‫ال‬ ‫تكون ليلة أمي‪ ،‬إذ ال يملك أحد منا أن يتنفس فض ً‬ ‫عن أن يحكي‪ ،‬فأفتقد ليل الحكايات الرائع‪ ،‬وأتمنى‬ ‫في سرّي أن يبقى أبي كل ليلة مع زوجته األخرى‪،‬‬ ‫حتى تركض األساطير في فضاء الغرفة المخنوق‪،‬‬ ‫فيتسع! كم كانت اللحظة ثقيلة عند النوم‪ ،‬فقد كان‬ ‫األرق يأكل أطرافي بجنون‪ ،‬ألبقى مستلقياً أحدِّق‬

‫بالسقف األب�ي��ض ب�ش��دَّ ة حتى يتململ وي�ب��دأ لعبته‬ ‫الليلية؛ إذ يهبط نحوي تدريجياً‪ ،‬فأضطر إلى أن‬ ‫يهش ذباباً‬ ‫أرف��ع ي��دي كل فينة‪ ،‬كمن ُّ‬ ‫مؤذياً‪ ،‬لكنني ال ألمس شيئاً‪ ،‬ثم انقلب‬ ‫إلى جانبي األيمن‪ ،‬فأنظر في الجدار‬ ‫ذي اللون السماوي‪ ،‬أحدِّق فيه بشدَّ ة‬ ‫حتى يقترب فأغمض وقد دخلت في‬ ‫ملكوت السموات الهائلة‪ ،‬أرى ما لم يره‬ ‫أحد‪ ،‬أصاحب الكائنات التي تخفَّفت‬ ‫من ثقلها وط��ارت‪ ،‬أطير معها ونلهو‬ ‫بين ال�ن�ج��وم‪ ،‬ك��م ك��ان مشهد األرض‬ ‫في األسفل صغيراً ومذهالً! كم كانت‬ ‫بيوتنا تشبه حبَّات اللوز المتناثرة‪ ،‬كم‬ ‫كانت عليشة صغيرة جداً بحجم علبة‬ ‫كبريت‪ ،‬وكم كان الجسر الحديدي في‬ ‫�ص��ارات يشبه خيط‬ ‫نهاية ش��ارع ال �ع� َّ‬ ‫حذائي األسود!‬ ‫هكذا انتقلت ه��ذه العوالم‪ ،‬وشغف البحث عن‬ ‫الخفَّة‪ ،‬ودروب الحرية السماوية‪ ،‬كي تجد طريقاً‬ ‫س��ال�ك��ة إل��ى ال �ن��ص اإلب ��داع ��ي‪ ،‬ف��أص�ب�ح��ت األرض‬ ‫الثقيلة حسب نيتشه التي تغرس فيها النعامة رأسها‪،‬‬ ‫رغم أنها أسرع من الحصان‪ ،‬أصبحت تلكم األرض‬ ‫ميداناً عالمياً وشخوصياً‪ ،‬فحتى لو آخيت النعامة‬ ‫التي وصفها نيتشه بأنها أسرع من الحصان‪ ،‬رغم‬ ‫أنها تدفن رأسها في األرض الثقيلة‪ ،‬فإنني أقول‬ ‫عزيزي نيتشه‪ :‬لم تكن تغرس رأسها خوفاً وال بحثاً‬ ‫عن الثقل! بل كانت تفتش في التفاصيل الغائبة أو‬ ‫المغيبة أو المدفونة‪ ،‬تفتش عن األسرار المفقودة!‬ ‫هكذا شعرت لحظة كتابة فخاخ الرائحة أنني أمام‬ ‫بحث دقيق عن وثائق مدفونة‪ ،‬فتتبعت وثائق الرقّ‬ ‫في السودان والسعودية‪ ،‬والتقطت أساطير الحجاز‪،‬‬ ‫تلكم األساطير التي تبرر إحداها توفر الثروة غير‬ ‫المشروعة من المتاجرة بالبشر‪ ،‬بالعثور على كنز‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪93‬‬


‫من كنوز بني هالل واألمم البائدة‪ ،‬لحظة بناء أحد‬ ‫البيوت‪ ،‬تلكم األساطير التي تبرر خطيئة األنثى‬ ‫آنذاك‪ ،‬وحبلها غير المشروع‪ ،‬بأنها لم تضاجع أحداً‪،‬‬ ‫بل حبلت من القمر‪ ،‬حين نشرت مالبسها الداخلية‬ ‫في الهواء الطلق لحظة اكتمال القمر‪ ،‬فتشكلت في‬ ‫رحمها طفلة تشبه القمر!‬ ‫أحياناً أشعر أن حضور األس�ط��ورة قد ال يكون‬ ‫علنياً‪ ،‬لكن أح��داث الشخوص وصراعهم قد يحيل‬ ‫إل��ى أس �ط��ورة م��ا‪ ،‬ال أع��رف كيف التقط كثير من‬ ‫النقاد والدارسين أسطورة جلجامش وصراعه مع‬ ‫إنكيدو داخل رواية فخاخ الرائحة؟ إذ أشار آخرهم‬ ‫وهو ناقد أمريكي إلى تمثل هاتين الشخصيتين في‬ ‫شخصيتي طراد ونهار‪ ،‬إذ يتصارعان للظفر بساحة‬ ‫السطو الواسعة في صحراء مشتركة بينهما‪ ،‬حتى‬ ‫ي �خ��ورا م�ث��ل ث��وري��ن منهكين‪ ،‬فيتصالحا ويصبحا‬ ‫صديقين وق��اط�ع��ي ط��ري��ق م�ت�لازم�ي��ن‪ ،‬حتى تنتهي‬ ‫الحياة بأحدهما مع إحدى قوافل الحج‪ ،‬حين اكتشف‬ ‫الحراس محاولتهما الفاشلة للسرقة‪.‬‬ ‫هنا أك��اد أج��زم أن استلهام أس�ط��ورة جلجامش‬ ‫ج��اءت في روايتي من منطقة الالوعي‪ .‬ثمة تماس‬ ‫حميم بين ج��زء م��ن أس �ط��ورة م�ع��روف��ة‪ ،‬وبين حياة‬ ‫بدويين في الصحراء‪ ،‬فقراءة األسطورة وتلبس الكاتب‬ ‫بها‪ ،‬وإعادة إنتاجها بشكل آخر‪ ،‬هو من شروط توالد‬ ‫النص اإلبداعي‪ ،‬إذا آمنا أن التراث اإلنساني يشتغل‬ ‫منذ آالف السنين على نص إبداعي واحد‪ ،‬يمارس‬ ‫التنويع عليه‪ ،‬من خالل تعدد النصوص التي تسعى‬ ‫ألن تقدم تفسيراً للحياة والموت والكون‪.‬‬ ‫األساطير التي افتتحتُ بها رواية القارورة أجدني‬ ‫أن�ح��از فيها إل��ى السائد عند ق��راءة األس��اط�ي��ر‪ ،‬أو‬ ‫الواجب طرحه‪ ،‬وهو عدم السؤال‪ :‬هل هي حقيقية؟‬ ‫وإنما السؤال األكثر وعياً‪ ،‬وهو‪ :‬ما المقصود بها؟ ففي‬ ‫ظني أن الروائي أو القاص حينما يستلهم أسطورة‬

‫‪94‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫م��ا‪ ،‬فهو يشير من خاللها إل��ى ه��دف أو مغزى ما‪،‬‬ ‫هكذا جاءت حكايات الحفيدات الثالث‪ ،‬مطلع رواية‬ ‫ال�ق��ارورة وهن يسردن أساطير شعبية معروفة في‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬بغية المنافسة فيما بينهن لكسب‬ ‫جائزة الجدَّ ة‪ ،‬وهي قارورة تحتضن الحكايات الميتة‬ ‫لكي تبقى وتحيا‪ .‬ففي الحكايات الثالث ك��ان ثمَّ ة‬ ‫حضور للمقص‪ ،‬وحضوره في محور الحكاية الشعبية‬ ‫من جهة‪ ،‬وإيحاؤه في صلب الرواية وبطلتها البنت‬ ‫الثالثينية‪ .‬وهو ما أشار إليه أحد النقاد السعوديين؛‬ ‫إذ يشير فيما يشير إليه‪ ،‬إلى محاولة قص الحياة‬ ‫ال�س��اب�ق��ة‪ ،‬وم �ح��اول��ة العيش م��ن ج��دي��د‪ ،‬س ��واء في‬ ‫حكاية األب الذي ترك بناته الصغيرات الثالث في‬ ‫الصحراء‪ ،‬وقص طرف شماغه من تحت صغيرته‬ ‫التي ال تنام إال بجواره‪ ،‬كي يهرب دون أن تستيقظ‪،‬‬ ‫ليبدأ حياته الجديدة م��ع زوج�ت��ه ال�ش��ري��رة‪ ،‬أو في‬ ‫شخصية الرواية المحورية‪ ،‬البنت الثالثينية التي‬ ‫تسعى إلى قص صك طالقها وحرقه بعد أن تعرَّضت‬ ‫إلى خديعة من حبيبها وزوجها المزوَّر‪.‬‬ ‫كثيراً ما أفكر هل كان عليَّ أن أقتصر على توظيف‬ ‫م��ا أري��د م��ن األساطير المحلية فحسب‪ ،‬أي ذات‬ ‫الخصوصية التي ترتبط بالمكان‪ ،‬أم أن األسطورة‬ ‫في العالم هي تراث إنساني متاح للجميع‪ ،‬وتوظيفها‬ ‫يعتمد بالدرجة األولى على النص الجديد المكتوب‪،‬‬ ‫بمعنى أن حضور األسطورة يجب أن يكون منساباً‬ ‫بنعومة‪ ،‬مثل عقد يزين جيد سيدة جميلة‪ ،‬هكذا‬ ‫حضرت أسطورة االمبراطور الفرنسي شارلمان في‬ ‫رواية نزهة الدلفين‪ ،‬كأنما حطَّ ت فجأة عليّ لحظة‬ ‫أن بدأتُ أرصد لحظات جنون خالد اللحياني‪ ،‬وهو‬ ‫يقع مك َّباً على وجهه في عشق حبيبته آمنة‪ ،‬كأنما‬ ‫أوقعته بذكاء في شرك السحر‪ ،‬سحر عينيها وروحها‬ ‫الفائضة مرحاً وخبثاً‪ .‬كما أن الرجل الذي تم مسخه‬ ‫طيراً‪ ،‬وهو يصيح أو يغرَّد بحثاً عن حياة أخرى‪ ،‬هي‬ ‫أيضاً محاولة التأرجح بين الواقع واألسطورة‪.‬‬


‫كثيراً ما تنتابني لحظات السؤال األكثر طموحاً‪ :‬فالتهمته الطيور الجارحة!‬ ‫كيف يمكن أن تتحول الرواية بأحداثها وشخوصها‬ ‫هو الشغف إذاً‪ ،‬بدهاليز الحكايات التي تستطيع‬ ‫لثوان‪ ،‬تلكم التي تبقى ترن في‬ ‫ومكانها إلى أسطورة جديدة؟ بمعنى‪ :‬ما مدى القدرة أن توقف وجيب القلب ٍ‬ ‫على أن أكتب رواية تخلق أسطورتها من عمقها دونما الذاكرة عقوداً من السنوات‪ ،‬من أين تنشأ أساساً؟‬ ‫جلب أساطير ال��ذاك��رة الشعبية المتاحة للجميع‪ ،‬وكيف تتحول مع الزمن؟ وكيف تتبدل من مكان إلى‬ ‫ودون�م��ا توظيف تلك ف��ي ن��ص جديد‬ ‫آخر؟ كأنما هي صخور تتعرَّض إلى‬ ‫يتحدث عن واقع يومي جديد؟ بمعنى‬ ‫الريح والزمن‪ ،‬فتتشكل بمرور الوقت‬ ‫خلق أسطورة ال تتشابه مع أسطورة‬ ‫نماذج متنوعة ومثيرة‪.‬‬ ‫س��ان �ت �ي��اغ��و ال ��راع ��ي االس��ب��ان��ي في‬ ‫حين كبرت‪ ،‬وتعلَّق قلبي بالكتابة‪،‬‬ ‫رواي��ة الخيميائي لباولو كويليو‪ ،‬تلك‬ ‫وأص �ب �ح��ت ال �ح �ك��اي��ات واألساطير‬ ‫ال��رواي��ة المتقاطعة م��ع إح��دى ليالي‬ ‫ت �ج �ع �ل �ن��ي أح� �ي ��ان� �اً أف ��سّ ��ر الواقع‬ ‫أل��ف ليلة وليلة‪ ،‬وإنما خلق أسطورة‬ ‫بطريقتي‪ ،‬ص��رت أنهض فجأة عن‬ ‫ت �ت �ف��ق م ��ع أس� �ط ��ورة ذاك الراعي‪،‬‬ ‫ل��وح��ة ال�م�ف��ات�ي��ح وأخ��ب��ط الجدار‬ ‫المتمثلة ب��أن الكون بأسره يتضامن‬ ‫ب�ق�ب�ض�ت��ي‪ ،‬م �ن �ت �ظ��راً أن ت�ق�ف��ز من‬ ‫مع ما ترغب حين تؤمن برغبتك تلك‬ ‫صالبته ال�ف�ك��رة أو الهبة اإللهية‪،‬‬ ‫وتقاتل ألجلها‪ ،‬إذ يتقاطع حلمي معه‬ ‫تقفز خفيفة ورائعة تخف أمام عيني‬ ‫ف��ي مسألة الطموح‪ ،‬بحيث سأقاتل‬ ‫مع ح��روف األبجدية كلها إذ أسوقها في مخيلتي‪ ،‬كالغيمة‪ ،‬فأكاد أبكي صخباً وف��رح�اً‪ ،‬هي اللحظة‬ ‫إذاً‪ ،‬التي أرى أنها امتداد حقيقي ومنطقي لهروبي‬ ‫كخراف مذعورة‪ ،‬لنصنع أسطورتنا الجديدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫إلى سطح البيت‪ ،‬مخبئاً أسطورة الزير سالم‪ ،‬أبي‬ ‫هل تجربتي السابقة في الكتابة للطفل‪ ،‬فض ً‬ ‫ال ليلي المهلهل وقد عثرت عليها محفوظة بين مالبس‬ ‫ع��ن ق � ��راءات ال �ط �ف��ول��ة‪ ،‬خ�ل�ق��ت ف��ي داخ��ل��ي ذلك أمي‪ ،‬حيث تخبئها كي ال أقرأ فيها وأبكى‪ .‬هل كنت‬ ‫الطموح؟ فبدأت منذ العاشرة اللعب على مفاتيح آلة متعاطفاً آنذاك مع حكاية الغدر والثأر من القتلة؟ أم‬ ‫كاتبة يدوية‪ ،‬اشترتها لي أمي حين أنهيت المرحلة كنت منحازاً إلى القصيدة التي تطالب بعدم الصلح‪،‬‬ ‫اإلب �ت��دائ �ي��ة‪ ،‬ف �ك��ان أول ن�ص��وص��ي المكتوبة قصة تلك القصيدة التي أحببتها بشغف وقت طفولتي‪،‬‬ ‫أسطورية برداء حكاية شعبية‪ ،‬لم أعد أتذكر منها وأحببتها أي�ض�اً ف��ي تنويعها ال�ح��داث��ي‪ ،‬وبعنوانها‬ ‫سوى الشخصية المحورية‪ ،‬وهي شخصية ميسرة الجديد ال تصالح للشاعر أمل دنقل‪ ،‬فهل نحن غير‬ ‫األخ ��رس‪ ،‬ال��ذي يحمل صغار الطيور ف��ي جيوبه‪ ،‬متسامحين؟ أم ثمَّ ة فرق بين التسامح والتخاذل؟‬ ‫وي��راع��ي أعشاشها‪ ،‬ذل��ك ال��ذي ع��رف كيف يجعل هكذا الزمتني األس�ط��ورة بكافة أشكالها ومنابتها‬ ‫الطيور تتبعه حين يمشي في الصحراء‪ ،‬ويحادثها المتنوعة‪ ،‬منذ والدت��ي وطفولتي‪ ،‬وحتى اآلن فيما‬ ‫وتحادثه‪ ،‬فال يفهم لغتها سواه‪ ،‬وال يفهم لغته سواها‪ ،‬أكتبه من نصوص روائية‪.‬‬ ‫وحين تفتقده القبيلة تشيع أنه تحوَّل إلى طير ضعيف‬ ‫(‪ )1‬شهادة حول الرواية واألسطورة ألقيت في ملتقى عبدالسالم العجيلي لإلبداع الروائي في سوريا‪.‬‬ ‫< روائي من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪95‬‬


‫مصدق احلبيب‪:‬‬

‫اخلط العربي منبع للحلم والسحر الالمتناهي‬ ‫> حوار‪ :‬الكنتاوي لبكم‬

‫<‬

‫ينتظر كل نص ليفجر طاقاته التشكيلية‪ ،‬مطوعا‬ ‫ح��روف��ه وك�ل�م��ات��ه؛ فالكلمة ت�ت�ج��اوز ب�ع��ده��ا الروحي‬ ‫وال�ف�ل�س�ف��ي لتتحول إل��ى رس��ائ��ل تمنح نفسها بعدا‬ ‫جماليا‪ .‬فالفنان مصدق الحبيب‪ ،‬بما راكمه من تجارب‬ ‫عربية وع��ال�م�ي��ة‪ ،‬ي��ري��د أن تبقى تجربته ف��ي الخط‬ ‫تقليدية محافظة بشكل أساسي‪ ،‬مع مسحة خفيفة من‬ ‫المعاصرة؛ ليس فقط في األسلوب‪ ،‬إنما في المواد‬ ‫والسلوك أيضاً؛ وهو الرهان الذي سار عليه بكل ثقة وجمالية‪.‬‬ ‫الفنان العراقي الدكتور مصدق الحبيب خطاط كالسيكي ورسام ومصمم‪،‬‬ ‫بخبرة تمتد بداياتها إلى أوائل السبعينيات‪ ،‬أقام عددا من المعارض الشخصية‪،‬‬ ‫وشارك في أغلب المعارض داخل العراق وخارجه‪ ،‬وهو حاصل على شهادة‬ ‫الدكتوراة في االقتصاد من الواليات المتحدة‪ ،‬ويعمل حاليا أستاذا جامعيا في‬ ‫والية ماسجيوستس األمريكية بجامعة (‪ .)University of Massachusetts‬في‬ ‫حوارنا الخاص معه‪ ،‬سنترك للقراء مساحة إكتشاف جوانبه اإلبداعية‪ ،‬عبر‬ ‫الكلمة واللوحة‪.‬‬

‫ت�������ش���ك���ي���ل‬ ‫‪96‬‬

‫> كيف بدأت قصتك مع الخط العربي؟‬ ‫< قبل أن أدخ��ل المدرسة‪ ،‬وأتعلم ال�ق��راءة والكتابة‪ ،‬كنت أراق��ب بشغف وانبهار أخي‬ ‫األكبر‪ ،‬وهو يخط الكلمات بالطباشير على األرض والجدران‪ ،‬وكان في قلبي شوق‬ ‫كبير واندفاع عارم لتقليده‪ ..‬أتذكر مرة قمت فيها بتقليد إحدى الكلمات التي خطها‬ ‫أخي‪ ،‬تقليداً دقيقا‪ ،‬أثار اندهاش العائلة كلها‪ ،‬واحتفاءها بما فعلت‪ ،‬فوجدت في ذلك‬ ‫دعما كبيرا مكنني من االستمرار‪ ..‬لكن التشجيع الكبير الذي تلقيته من معلمي في‬ ‫الصف الثاني االبتدائي‪ ،‬كان له األثر األعظم في وضعي على الطريق الصحيح‪ .‬فقد‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫كان هذا المعلم يقوم في كل درس للرسم بتكليفي‬ ‫باستنساخ غ�لاف اح��د الكتب ال�م�ص��ورة‪ ،‬فكنت‬ ‫استنسخ عنوان الكتاب وصورة غالفه بحذافيرها‬ ‫على السبورة‪ ،‬مستخدما الطباشير الملونة‪ ،‬بينما‬ ‫ك��ان بقية التالميذ يستنسخون في دفاترهم ما‬ ‫أجود به! األمر الذي سلَّحني مبكرا بأهم عنصر‬ ‫من عناصر التطور الذاتي‪ ،‬وهو الثقة بالنفس‪.‬‬

‫يحتاجه الفنان لإلبداع في صياغاتها‪ ،‬وال يرتبط‬ ‫ذل��ك بمعانيها‪ .‬فقد يحصل مثل ه��ذا الجمود‬ ‫التشكيلي مع نصوص عظيمة المعنى! ما يجعل‬ ‫مرحلة التصور المسبق المرحلة الحاسمة في‬ ‫اختيار العمل الفني‪ .‬ولهذا فاني أح��اول التوفيق‬ ‫في اختيار النص الذي أرغب تضمينه شريطة أن‬ ‫أجد فيه الطاقات التشكيلية الكامنة التي تنتظر‬ ‫تفجيرها‪.‬‬

‫بعد ذلك ب��دأت مرحلة الدراسة الذاتية لكراسة‬ ‫ال�خ��ط ال�ع��رب��ي لفنان ال �ع��راق ال�خ��ال��د المرحوم > ه��ل ه �ن��اك خ �ط��وط معينة ت��رت��اح ل��رس�م�ه��ا دون‬ ‫غيرها؟‬ ‫هاشم محمد البغدادي‪ ،‬التي استنسخت كلماتها‬ ‫وس �ط��وره��ا م �ئ��ات ال� �م ��رات‪ ..‬والزل���ت ح�ت��ى هذه < هناك اختالف كبير بين أنواع الخطوط العربية‪ ،‬من‬ ‫ال �ل �ح �ظ��ة أع� ��ود إل �ي �ه��ا ل �ت��دق �ي��ق ش �ك��ل الحروف‬ ‫ناحية الطاقة االستيعابية الجمالية التي تنبثق من‬ ‫وحركتها‪ ،‬فهي بالنسبة لي معين ال ينضب‪ ،‬في‬ ‫إمكانات التشكيل وجوازه‪ .‬يقف خط الثلث شامخاً‬ ‫عرض أصول الخط وصيغه المناسبة‪ .‬في المرحلة‬ ‫في طليعة الخطوط‪ ،‬التي تمنح نفسها لإلبداع‬ ‫الثانوية عملت خطاطا لليافطات‬ ‫ال�ت�ش�ك�ي�ل��ي ف��ي ح� ��دود القواعد‬ ‫واإلع�ل�ان��ات‪ ،‬واس�ت�م��رت رحلة‬ ‫والمقاسات المشروطة‪ .‬كما يتميز‬ ‫الممارسة اليومية إلى المرحلة‬ ‫الخط الكوفي بهذه الصفة أيضا‪،‬‬ ‫الجامعية ومرحلة الدراسات‬ ‫خاصة أنواعه الهندسية المشبعة‬ ‫العليا‪ ،‬إذ كنت أعمل في المساء‬ ‫بحساب المثلثات‪ ،‬والتي تتناغم‬ ‫خطاطا ورس��ام��ا ومصمما في‬ ‫وتنسجم بالتمام مع فن الزخرفة‬ ‫الصحافة والمكاتب التجارية‪.‬‬ ‫اإلسالمي‪ .‬يشارك هذين النوعين‬ ‫الخط الديواني بنوعيه التقليدي‬ ‫> من أين تستلهم خطوطك؟‬ ‫وال �ج �ل��ي‪ ،‬ف�ي�م��ا ت��أت��ي ب �ع��د ذلك‬ ‫< يبعث فن الخط العربي أكثر من رسالة‪ .‬فهناك‬ ‫الخطوط األخرى‪ ،‬مثل‪ :‬التعليق‪ ،‬والنسخ‪ ،‬والرقعة‪،‬‬ ‫رسالة المحتوى التي تعتمد على النص المكتوب‪،‬‬ ‫وبإمكانات أقل في الحرية التشكيلية؛ األمر الذي‬ ‫وه�ن��اك رس��ال��ة الشكل التي تعتمد على جمالية‬ ‫جعلها الخطوط المفضلة في كتابة اليد‪ ،‬والمناسبة‬ ‫التشكيل‪ ،‬وهناك الرسالة الفلسفية التي تعتمد‬ ‫أكثر لميكانيكية المطابع‪ ،‬وذلك بسبب صياغاتها‬ ‫على العوامل الروحية في صياغة موهبة الفنان‪.‬‬ ‫التقليدية الصافية القليلة التحوير‪ .‬ولهذا السبب‬ ‫ما يلهمني أوال هو الجانب الجمالي‪ ،‬فيقوم الشكل‬ ‫فإني أرى في الثلث والديواني والكوفي الخطوط‬ ‫عندي بقيادة المحتوى‪ ..‬ولهذا فإني أتأمل الصورة‬ ‫ال �ت��ي يستطيع ال �خ �ط��اط أن يرسمها ويشكلها‬ ‫ذهنيا أوال وقبل الشروع بالتنفيذ‪ ،‬وعلى إثر ذلك‬ ‫بإبداعات ليس لها حدود‪.‬‬ ‫يكون بمقدوري اختيار النص‪ ،‬ال��ذي يبيح نفسه‬ ‫> م��ا ه��ي اإلض��اف��ات ال�ت��ي قمتم بها ألج��ل الرقي‬ ‫للتشكيل الجمالي‪.‬‬ ‫باللوحة الحروفية؟‬ ‫هناك كلمات أو عبارات معينة تفتقر في تركيبها‬ ‫ال �ل �غ��وي إل ��ى ال �م �ج��ال التشكيلي ال��رح��ب الذي < إن �ن��ي خ �ط��اط ت�ق�ل�ي��دي ب�ك��ل ال�م�ع��اي�ي��ر‪ ،‬وأفتخر‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪97‬‬


‫كما أنه قد تم‪ ،‬على نطاق أضيق‪ ،‬استخدام األزرق‬ ‫والذهبي‪ ،‬ول��م تستخدم األل��وان األخ��رى إال في‬ ‫ال�ن��زر اليسير ج��دا‪ .‬إن�ن��ي أوظ��ف ال�ل��ون كعنصر‬ ‫تشكيلي مكمل لبناء اللوحة‪ ،‬لكنني ال أزال محافظا‬ ‫في ذلك عن طريق تلوين الخلفية بألوان خالصة‪،‬‬ ‫وتلوين النقاط وال��وح��دات الزخرفية بطريقتها‬ ‫اإلسالمية‪ .‬وهذا مختلف عن التحديث‪ ،‬ألنني ال‬ ‫أذهب إلى إعطاء اللوحة تشكيالت لونية تجريدية‪،‬‬ ‫ال تفصل بين النص وخلفيته‪ ،‬مثلما يفعل بعض‬ ‫الخطاطين المعاصرين‪.‬‬

‫بالحفاظ على تقليدية الخط بالقدر نفسه الذي‬ ‫أفتخر فيه بتجارب زمالئي الخطاطين المحدثين‬ ‫الذين خرجوا عن القواعد التقليدية‪ .‬وليس لي‬ ‫أن أدعي أي إضافة لتاريخ المسيرة الفنية‪ ،‬سوى‬ ‫ما يتميز به أسلوبي الشخصي بالطريقة نفسها‬ ‫التي يتميز بها كل خطاط‪ .‬فعلى الرغم من الخطأ‬ ‫الشائع القائل بأن الخطاطين عموما لم يفعلوا شيئا‬ ‫سوى تقليد من سبقهم‪ ،‬فإن هناك نمطاً وروحاً‬ ‫خاصة ينفثها كل خطاط في فنه حتى وه��و في‬ ‫صدد تقليد مخطوطة معينة‪ ،‬وال يبدو ذلك النمط‬ ‫وال تظهر تلك ال��روح الخاصة إال للعين العارفة ‪ -‬إدماج الوحدات الزخرفية بالبناء التشكيلي للوحة‬ ‫والمتدربة والمتمرسة‪ .‬ومع ذلك فإنني أستطيع‬ ‫الخط‪ ،‬وجعلها عنصرا تكميليا لعناصر اللوحة‬ ‫أن أقول أن هناك بصمات واضحة‪ ،‬بإمكانها أن‬ ‫األخ� ��رى‪ ،‬وه��و بالتأكيد اس �ت �خ��دام يختلف عن‬ ‫تميز أسلوبي الشخصي عن غيره منها‪:‬‬ ‫االستخدام التقليدي للزخرفة‪ ،‬التي غالبا ما تكون‬ ‫مستقلة في هيكلها التصميمي‪ ،‬وغالبا ما تكون‬ ‫ مسألة استخدام اللون‪ ،‬التي تتميز عن الطريقة‬‫ممتدة لمساحة أعرض وألغراض ديكورية بحتة‪.‬‬ ‫التقليدية من ناحية والطريقة المحدثة من ناحية‬ ‫هنا يمكن القول إنني أدمجت الموتيف الديكوري‬ ‫ثانية‪ .‬يتلخص التمايز ع��ن التقليد المتوارث‪،‬‬ ‫بحدوده الدنيا مع عناصر التكوين الخطي من أجل‬ ‫ب��إدخ��ال��ي أل��وان �اً أك�ث��ر أوال‪ ،‬وتوظيفها بطريقة‬ ‫أن يخدمه ال أن يطغى عليه‪.‬‬ ‫مختلفة ثانيا‪ .‬فمن المعروف أن الغالبية العظمى‬ ‫من الخطوط التقليدية أنجزت باألبيض واألسود‪ - .‬تقليل حجم النص إلى الحدود الدنيا‪ ،‬وذلك من‬

‫‪98‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫أج��ل زي ��ادة ال�م��رون��ة التشكيلية‪ ،‬وف�س��ح المجال‬ ‫األوسع لإلبداع الحر‪ ،‬إذ أرى أنه كلما طال النص‬ ‫كلما تقيدت الحرية اإلبداعية‪ ،‬وانحسرت إمكانات‬ ‫تصرف الفنان‪ ،‬خاصة إذا ما أخذنا في االعتبار‬ ‫ضرورة االنصياع إلى القواعد واألصول التقليدية‪.‬‬ ‫فمما ال شك فيه أن الخطاط يجد آفاقا إبداعية‬ ‫أرحب وأسهل في إنجاز تكوينه التشكيلي‪ ،‬لنص‬ ‫يتألف م��ن خمس أو س��ت كلمات‪ ،‬مقارنة بنص > ‬ ‫يتألف من سطرين أو ثالثة أسطر‪.‬‬ ‫< ‬ ‫> هل يمكننا القول بعزلة الخط العربي أمام األشكال‬ ‫الفنية األخرى؟‬

‫بالنسبة للمشاهد الغربي أن يذهب لزيارة معرض‬ ‫عن الفنون اإلسالمية‪ ،‬من أن ي��زور معرضا في‬ ‫الفن التجريدي المتواجد في كل زاوية من الرواق‬ ‫الثقافي‪ .‬لقد كانت معارض الخط وما تزال في‬ ‫ال �خ��ارج تمثل ت�ظ��اه��رات ثقافية كبيرة‪ ،‬وملتقى‬ ‫للمفكرين والمهتمين ب �ت��راث ال�ش�ع��وب األخرى‬ ‫وثقافاتها وفنونها‪.‬‬ ‫ما هي أسس قاعدتك الفنية؟‬ ‫ليس لدي أس��اس أكاديمي بالمعنى التقليدي أو‬ ‫المدرسي‪ ،‬فلم أدرس الخط على يد أي خطاط‬ ‫كما أنني لم أتخرج في أي معهد أو كلية فنية‪.‬‬ ‫األس � ��اس األك��ادي��م��ي ال� ��ذي أم�ت�ل�ك��ه ي �ت �ك��ون من‬ ‫المالحظة والتمحيص‪ ،‬وال��دراس��ة الشخصية‪،‬‬ ‫والمران والممارسة‪ ،‬إضافة إلى اإلصرار والعمل‬ ‫الدؤوب‪ ،‬والحماس لهذا الفن‪ .‬أعد‬ ‫نفسي تلميذا للمدرسة البغدادية‬ ‫ال��م��ع��اص��رة‪ ،‬ال��ت��ي ت� ��وج عطاءها‬ ‫ال �خ �ط��اط ال �ك �ب �ي��ر ه��اش��م محمد‬ ‫ال� �ب� �غ ��دادي‪ ،‬وه ��ي ام� �ت ��داد لتراث‬ ‫المدرسة البغدادية المبكرة‪ ،‬التي‬ ‫أرس ��ى دعائمها عمالقة ال�خ��ط األوائ� ��ل‪ ،‬وعلى‬ ‫رأسهم ابن مقلة وابن البواب‪.‬‬

‫ < ال أذه ��ب إل��ى تسمية ذل��ك ب��ال�ع��زل��ة‪ ،‬إن�م��ا أقول‬ ‫ت��راج��ع أه�م�ي�ت��ه التشكيلية أم ��ام أن� ��واع الفنون‬ ‫البصرية األخ��رى‪ ،‬األم��ر ال��ذي سيتفاقم أكثر مع‬ ‫اجتياح االستخدامات اإلبداعية‬ ‫للكومبيوتر‪ .‬ولذا فإننا يجب أن‬ ‫نتعامل بذكاء من أجل الحفاظ‬ ‫ع��ل��ى ه � ��ذا ال � �ت� ��راث الخالد‬ ‫واالستمرار بتقديمه إلى األجيال‬ ‫القادمة بأفضل ما يكون‪ .‬وهذا‬ ‫يعني مواكبة العصر‪ ،‬ومالحقة الحدث‪ ،‬وتطويع‬ ‫المواد‪ ،‬والتأقلم مع الظروف؛ وإال فال يمكن لنا أن‬ ‫نظل في ذهنية الكتاتيب العثمانية ونحن نعيش في > ماذا يعني لك فن الخط مقارنة بالرسم؟‬ ‫العصر الرقمي «الديجتال» االلكتروني‪.‬‬ ‫< ك�ن��ت ق��د ص��رح��ت ب��رأي��ي ع ��دة م���رات ف��ي هذا‬ ‫> كيف يتلقى الغرب معارض الخط العربي؟‬ ‫المجال‪ ،‬وسأعيد هنا ما قلته سابقا‪ .‬في تجربتي‬ ‫الشخصية ال أريد الخلط بين الخط والرسم‪ .‬أود‬ ‫< المشاهد الغربي يتلقى فن الخط العربي بافتتان‬ ‫أن أراهما قسمين مختلفين‪ .‬أريد أن تبقى تجربتي‬ ‫أك�ب��ر وح �م��اس أش��د م��ن المشاهد ال�ع��رب��ي‪ .‬إنه‬ ‫في الخط تقليدية محافظة بشكل أساسي‪ ،‬مع‬ ‫السحر الالمتناهي‪ ،‬والحلم الفنتازي‪ ،‬والتاريخ‬ ‫مسحة خفيفة م��ن ال�م�ع��اص��رة‪ ،‬ل�ي��س ف�ق��ط في‬ ‫التليد بالنسبة ل��ه‪ .‬وه��و ال �ن��اف��ذة المطلة على‬ ‫األس�ل��وب وإنما في ال�م��واد والسلوك أيضا‪ .‬فال‬ ‫فهم الثقافة العربية واإلسالمية والتعايش معها‪.‬‬ ‫زلت أستخدم الورق واألحبار والقصب واالكريلك‪،‬‬ ‫وغالبا ما تكون معارض الخط في هذا المجال‪،‬‬ ‫والزلت مفتونا ومأخوذا بأصول تقييس المدرسة‬ ‫أكثر نجاحا من معارض الرسم والنحت ألن فيها‬ ‫البغدادية القديمة‪ ،‬التي وضعها أبو على محمد بن‬ ‫من الخصوصية الثقافية ما يصرخ باالختالف‬ ‫مقلة (المتوفى عام ‪ 940‬م) وشذبها أبو الحسن‬ ‫والتعددية الحضارية‪ .‬إنها فرصة أثمن وأندر‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪99‬‬


‫علي بن هالل بن البواب (المتوفى عام ‪1024‬م)‬ ‫وياقوت المستعصمي (المتوفى عام ‪1298‬م)‪ .‬كما‬ ‫أنني أفتقر إلى الخبرة في إنتاج الخطوط بواسطة‬ ‫الكومبيوتر وال أريد أن أصل إلى هذا السبيل‪.‬‬ ‫أما تجربتي في الرسم فهي أكثر معاصرة‪ ،‬على‬ ‫األق��ل‪ ،‬من الناحية األسلوبية‪ .‬ومن الجدير ذكره‬ ‫ه�ن��ا أن �ن��ي ال أع �ي��ب ع�ل��ى م��ن ي �م��زج ب�ي��ن الخط‬ ‫والرسم في لوحة تشكيلية واحدة! فمدرسة البعد‬ ‫الواحد التي أسسها التشكيليون العراقيون جميل‬ ‫حمودي ومديحة عمر وشاكر حسن آل سعيد هي‬ ‫قفزة تشكيلية محلية‪ ،‬ارتقت إلى مستوى اإلبداع‬ ‫العالمي‪ ،‬وهي بهذا مدعاة للفخر واالعتزاز في‬ ‫تأسيسها التجاه تشكيلي عربي كان منبعه العراق‪.‬‬ ‫وكما هو معروف فهي تقوم على استلهام األبعاد‬ ‫التشكيلية ال�ت�ج��ري��دي��ة ال �ف��ذة ل�ل�ح��رف العربي‪.‬‬ ‫هناك أيضا تجربة الزميل حسن المسعود الذي‬ ‫استلهم األبعاد الشعرية والفلسفية للحرف العربي‬ ‫في تشكيل لوحاته‪ ،‬التي ال تلتزم بقواعد الخط‬ ‫التقليدية‪ .‬وهناك بين هذا الحد وذاك مثل تجربة‬ ‫ال�خ�ط��اط اإلي��ران��ي جليل رس��ول��ي‪ ،‬ال ��ذي يؤدي‬ ‫خطوط التعليق بأصولها األصلية‪ ،‬لكنه يلوّنها‬ ‫ويشكّلها بطريقة تشكيلية تجريدية‪.‬‬ ‫> كيف نحافظ على الخط العربي؟‬ ‫< ال�م�ح��اف�ظ��ة ع �ل��ى ال �خ��ط ال �ع��رب��ي ت�ت�م�خ��ض عن‬ ‫التمسك ب��ال�ت��راث الثقافي ال�ق��وم��ي اإلسالمي‪،‬‬ ‫واالع �ت��زاز ب��ال�ج��ذور‪ ،‬وه��ي مهمة وطنية وقومية‬ ‫ك�ب�ي��رة وم �ع �ق��دة‪ ،‬والب���د أن ت �ك��ون م��رت �ك��زة على‬ ‫قناعة سياسية أوالً وإجراءات تنفيذية عليا ثانيا‪،‬‬ ‫خاصة وأن مصير التوجه الثقافي والتعليمي في‬ ‫كل بلداننا العربية واإلسالمية يخضع لقرارات‬ ‫مركزية‪ ،‬منشؤها االول واألخير الدولة‪ .‬وكما هو‬ ‫معروف‪ ،‬ال ينقصنا التفاخر بالتراث والمساومة‬ ‫على التوجهات القومية والدينية‪ ،‬فما شاء الله‪،‬‬ ‫< كاتب مغربي‪.‬‬

‫‪ 100‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫لدينا الكثرة الكاثرة من هذا القبيل! ولكن ينقصنا‬ ‫صدق النوايا والكفاءة في التنفيذ‪.‬‬ ‫ال �خ �ط��وة األول� ��ى ه��ي أن ن��ول��ي اه�ت�م��ام��ا خاصا‬ ‫للخط العربي‪ ،‬كعنصر من عناصر الفن التشكيلي‬ ‫العالمي‪ .‬ويمكن لهذه الخطوة أن تتجسد على‬ ‫شكل دروس نظامية‪ ،‬تعطى لتالميذ المدارس‬ ‫خ�لال ال�م��راح��ل المختلفة‪ ،‬وتتطور م��ع تقدمهم‬ ‫الدراسي‪ .‬وإنها ليست مفاجأة أن أبوح بأن الخط‬ ‫العربي والزخرفة اإلسالمية ال يدرّسان في بلد‬ ‫الخط والزخرفة ‪ -‬العراق‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬في‬ ‫أي مرحلة دراسية سوى للطلبة المتخصصين في‬ ‫معهد الفنون الجميلة‪ .‬إن هذا اإلهمال المنهجي‬ ‫هو منبع األزم��ة‪ ..‬خاصة في زمن انحسرت فيه‬ ‫إلى حد االنقراض كتاتيب الخطاطين الخاصة‪،‬‬ ‫فضاعت كل الفرص أم��ام األج�ي��ال لتفهم أصول‬ ‫الخط‪ ،‬وتقدّر مكانته‪ ،‬وتتمرن على ضبط قواعده‪.‬‬ ‫المسألة المهمة األخ��رى تتعلق بالموقف المهني‬ ‫للجمعيات وال� �ن ��وادي وال �م��ؤت �م��رات والكيانات‬ ‫التشكيلية‪ ،‬التي ال تعد الخط جزءا من النشاط‬ ‫التشكيلي للحد الذي انعزل فيه الخطاطون في‬ ‫زاوية قصيّة‪ ،‬لم يروا فيها أنفسهم سوى مواطنين‬ ‫من الدرجة الثانية في عالم اإلب��داع التشكيلي‪.‬‬ ‫ففي ال��وق��ت ال ��ذي تنتج فيه معاهدنا وكلياتنا‬ ‫الفنية عشرات األل��وف من الرسامين والنحاتين‬ ‫والخزافين والفوتوغرافيين والمصممين‪ ،‬يقتصر‬ ‫إنتاج الخطاطين‪ ،‬بصفة رئيسية‪ ،‬على الحماس‬ ‫الفردي والنبوغ الشخصي‪ .‬فالمهمة إذاً هي إعادة‬ ‫النظر في موقع الخط والخطاطين في الخريطة‬ ‫التشكيلية؛ وإال فإن االستمرار بما هو عليه اآلن‬ ‫يعني انقراض هذا الفن في مدة مستقبلية وجيزة‪،‬‬ ‫أم��ام اجتياح الكومبيوتر والوسائل التكنولوجية‬ ‫الحديثة‪ ،‬مما يستلزم ليس فقط إعادة التوجه إنما‬ ‫تقويمه وتطويعه بما يواكب مفردات العصر‪.‬‬


‫الفنانة سامية حلبي‪:‬‬

‫سيرة اللون املستوحى من الطبيعة‬ ‫> جعفر العقيلي‬

‫<‬

‫في أعمالها الغنية بالطبقات اللونية‪ ،‬والمستوحاة من الطبيعة الفلسطينية‪ ،‬بدأت‬ ‫سامية حلبي‪ ،‬إنجا َز لوحات تجريدية‪ ،‬ينسجم فيها البناء والتكوين واللون معاً‪ ،‬إذ رسمت‪،‬‬ ‫يقودها حسُّ ها الفني والجمالي العميق‪ ،‬أورا َق التين‪ ،‬والصخور‪ ،‬وصوّرت انعكاسات الضوء‬ ‫على أوراق شجر الزيتون‪ .‬وإضافة إلى ذلك‪ ،‬اتكأت حلبي‪ ،‬في لوحاتها التجريدية‪ ،‬على‬ ‫ألوان الطبيعة‪ ،‬إيماناً منها بأن التجريد مبني أساساً على الطبيعة وقوانينها‪« :‬لطالما كان‬ ‫التجريد‪ ،‬بوصفه محاكاة للحياة والواقع‪ ،‬عقيدتي‪ ،‬وهو يقين أجدني ثابتة في االلتزام به‪.‬‬ ‫إنه يوجّ ه الجزء الرئيس لعملي الجاد»‪.‬‬ ‫المتتبع لمسيرة حلبي التي ولدت في مدينة القدس عام ‪1936‬م‪ ،‬ونزحت من فلسطين‬ ‫قبيل النكبة‪ ،‬وعاشت مع عائلتها في بيروت بين سنتي ‪1948‬م – ‪1951‬م‪ ،‬لتستقر‪ ،‬بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬في الواليات المتحدة األميركية‪ ..‬نجد أن هناك الكثير من المحطات التي شكلت‬ ‫مالمح تجربتها الفنية التي امتدت زهاء أربعة عقود‪ .‬ولم تكن القدس وقتَ والدة حلبي‬ ‫قد تلوثت باالنتهاكات اإلسرائيلية‪ .‬تقول سامية وهي تتحدث عن صورة لثوار فلسطين‬ ‫ما تزال تحتفظ بها‪« :‬لقد وُلدت وسط أصوات هذه الحشود الرائعة‪ ،‬في ضوضاء الثورة‪،‬‬ ‫وكانت سنواتي الثالثة األولى في الحياة سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى من ‪1936‬م‬ ‫إلى ‪1939‬م»‪.‬‬ ‫وتتابع‪« :‬تتشكل في ذاكرتي شمعة مضيئة باردة األلوان‪ ،‬دافئة الملمس‪ ..‬هذا الشكل‬ ‫ذاته يتراءى لي ليشكّل ذكرياتي عن القدس‪ ،‬حيث الجدات وأقرباء زائرون والفرح عند‬ ‫نوافير الحدائق‪ .‬تعرجات الشوارع الضيقة‪ ..‬الحيطان ودكاكين المدينة القديمة‪ ..‬هدوء‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪101‬‬


‫وسالم الناس‪ ..‬أقواس وقبب‪ ..‬والمخبز القديم‪ ..‬العم‬ ‫العجوز في محل تصليح األحذية‪ ..‬بائع الخضراوات‬ ‫على ح �م��اره‪ .‬واألح �ي��اء ال�ج��دي��دة ب��أب��واق سياراتها‬ ‫ودكاكينها النشطة‪ ..‬أتذكر القناعة التي كنا نعيشها‬ ‫في قدسنا وسط منبع الثقافة»‪.‬‬ ‫بتشجيع من والدتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وثّقت حلبي عالقتها بالفن‪،‬‬ ‫التي كانت تقف وراءها وتساندها‪ .‬وزاد هذا الوثا ُق‬ ‫متان ًة حين بدأت سامية بتكريس وقتها في الرسم‪،‬‬ ‫أثناء سنواتها الدراسية األولى في جامعة ميتشيغان‬ ‫مطلع الستينيات‪ ،‬حيث درست هناك مع الرسامين‬ ‫التعبيريين الذين زاروا الجامعة من نيويورك‪ .‬وأسو ًة‬ ‫بالعديد من طالب الفن في تلك الفترة‪ ،‬بدأت حلبي‬ ‫التفكي َر في االنتقال إلى نيويورك‪ ،‬لكنها قررت أوالً‬ ‫أن تطوّر عملها‪ ،‬أثناء ذلك انخرطت في ممارسة مهنة‬ ‫التدريس‪.‬‬ ‫واصلت حلبي دراس��ة الفن وتاريخه‪ .‬ومن خالل‬ ‫دراستها لعلم التصميم في جامعة سنسناتي (‪1959‬م)‪،‬‬ ‫ومن ثم حصولها على شهادة الماجستير في الفنون‬ ‫م��ن جامعة ميتشيغان (‪1960‬م)‪ ،‬والماجستير في‬ ‫الفنون الجميلة ع��ام (‪1963‬م)‪ ،‬وج��دت سامية أن‬ ‫المناهج الفنية التي يتم تدريسها ف��ي الجامعات‬ ‫األميركية تنحى منحىً عنصرياً‪ ،‬إذ إنها تركّز على‬ ‫الفن وتاريخه في أميركا وأوروبا‪ ،‬بينما ال يحظى الفن‬ ‫في غير هاتين القارتين بحضور في تلك المناهج‪ ،‬إذ‬ ‫يتم تهميشه وإلغاؤه وكأنه ال وجود له‪.‬‬

‫أهمية من نظرائهم غير البارزين‪ .‬وبعد عشر سنوات‬ ‫م��ن الخدمة استغنت الجامعة ع��ن خدماتها‪ ،‬ورداً‬ ‫على التحيّز العنصري والجنسي الذي أبدته الجامعة‬ ‫ضدّها‪ ،‬نظّ مت حلبي مع مجموعة من الطالب معرضاً‬ ‫تشكيلياً في نيويورك يحمل نقداً لـ«ييل»‪ ،‬وقد استغل‬ ‫عمال «ييل» المضربون في ذلك الوقت لوحات هذا‬ ‫المعرض في إضرابهم‪.‬‬ ‫وبعد أن َدرَّسَ ت الحلبي الفن في جامعة «هاواي»‬ ‫ف��ي أميركا ع��ام ‪1964‬م‪ ،‬ب��دأت دراس��ة ت��اري��خ الفن‬ ‫العربي‪ ،‬ووجدته عالماً واسعاً وله جذوره الراسخة‪،‬‬ ‫مما غيّر الكثير من األفكار والقناعات التي كانت‬ ‫يخص الفنون الغربية‪ ،‬لتتجه‬ ‫ّ‬ ‫راس�خ��ة لديها فيما‬ ‫بعدها إلى رسم الزخرفة العربية‪ ،‬التي ترى أنها تمثّل‬ ‫أرقى أنواع الفنون العالمية‪.‬‬ ‫وم ��ن خ�ل�ال دراس��ات �ه��ا وأب �ح��اث �ه��ا‪ ،‬أك ��دت حلبي‬ ‫أن التجريد ه��و «ف��ن ع��رب��ي أص �ي��ل‪ ،‬ع��رف��ه العرب‬ ‫وأجدادهم‪ ،‬والدليل على ذلك اللوحات الفسيفسائية‪،‬‬ ‫وفن الخط العربي‪ ،‬فالعرب كانوا شغوفين بالفن في‬ ‫مستوياته المختلفة‪ ،‬فكانوا يحبون الهندسة وعلم‬ ‫الجبر وأشكال حروفهم العربية»‪.‬‬ ‫وترى حلبي أن الفن ال ب ّد أن يعبّر‪ ،‬بشكل أو بآخر‪،‬‬ ‫عن فكر إنساني‪ ،‬وتؤكد على أنه ينبغي على الفنان‬ ‫العربي أن يكون ملتزماً‪ ،‬وال يعني ذلك أن يعبّر عن‬ ‫أفكاره بطريقة مباشرة في لوحاته‪ ،‬وإنما أن يتشبث‬ ‫بجذوره الفنية‪ ،‬ويحاول أن يطوّر األساليب الفنية‬ ‫العربية القديمة‪ ،‬ويضيف إليها م��ن روح العصر‪،‬‬ ‫ويتواصل مع غيره من الفنانين العرب للخروج بمدرسة‬ ‫ثورية تقدمية تاريخية تكون ام �ت��داداً للفن العربي‬ ‫األصيل‪ ،‬وتنافس المدارس الفنية الغربية المعروفة‬ ‫ومنها التكعيبية‪ ،‬ومدرسة الجداريات المكسيكية‪.‬‬

‫َد َّرس� � ��ت ح �ل �ب��ي ف ��ي ق �س��م ال �ف �ن��ون بالجامعات‬ ‫األميركية لمدة سبعة عشر عاماً (‪1982 – 1963‬م)‪،‬‬ ‫ثم تدرجت في وظيفتها من كليات الفنون المغمورة‬ ‫إلى أكثرها تميزاً (كلية الفنون في جامعة ييل)‪ ،‬لكنها‬ ‫بعد كل ه��ذه الطريق التي اختطّ تها بنجاح‪ ،‬وجدت‬ ‫أن هناك هالة غير حقيقية تغلّف حقيقة الجامعة‪،‬‬ ‫وهي تشير إلى أن الفنانين غير الملتزمين‪ ،‬عربياً‪،‬‬ ‫وأن مدرّسي الفنون البارزين في «ييل» ليسوا أكثر هم أولئك الذين تأثروا بالفن «اإلسرائيلي» والفنون‬ ‫‪ 102‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫الغربية‪ ،‬بحيث أضاعوا هويتهم الخاصة فيما ينجزون بكل ما أوتي من قوة أن يسخّ ر جهوده وعمله لخدمة‬ ‫من أعمال‪ ،‬وأصبحوا مشتتّين بين تلك المدارس؛ هذه القضايا‪.‬‬ ‫يأخذون من هنا وهناك‪ ،‬دون أن تكون لهم طريقتهم‬ ‫وتؤكد حلبي أن االنتفاضة الفلسطينية قد أثرت‬ ‫الخاصة في الرسم‪.‬‬ ‫بشكل كبير على الفنانين العرب الذين كانت لديهم‬

‫في أواخ��ر الثمانينيات‪ ،‬عرضت سامية لوحاتها طموحات كبيرة‪ ،‬تتمثّل في إيصال فنهم إلى العالم؛ وقد‬ ‫في معرض «هافانا – كوبا»‪ ،‬وقد شكّلت هذه التجربة قادهم هذا الطموح إلى العودة إلى جذور الفن العربي‬ ‫ان� � �ع� � �ط � ��اف � ��ة‬ ‫ال� �م� �ت� �م� �ث� �ل ��ة‬ ‫ف� ��ي حياتها‬ ‫با لز خر فة ‪،‬‬ ‫الفنية‪ ،‬خاصة‬ ‫وال � � � � �خ� � � � ��ط‬ ‫أن المعرض‬ ‫ال�� � �ع� � ��رب� � ��ي‪،‬‬ ‫ض ��م أعماالً‬ ‫واالتجاه نحو‬ ‫ل �ف �ن��ان �ي��ن من‬ ‫ال� � �م � ��درس � ��ة‬ ‫أف � ��ري� � �ق� � �ي � ��ا‬ ‫ا لمكسيكية‬ ‫وأم� � � �ي�� � ��رك�� � ��ا‬ ‫ال�� �ت� ��ي كانت‬ ‫الجنوبية‪ .‬وأصبحت سامية أكثر‬ ‫ت�ه�ت��م ك �ث �ي��راً ب��ال �ج��داري��ات‪ ،‬ومن‬ ‫إدراكاً لمحدودية المناخ الفني في‬ ‫أعالمها هوزي ليير‪ .‬‬ ‫نيويورك‪ ،‬إذ ك��ان الفرق بالنسبة‬ ‫لذلك‪ ،‬بدأت سامية منذ العام‬ ‫لها كبيراً بين م�ع��رض «هافانا»‬ ‫‪1995‬م بزيارة فلسطين مرتين في‬ ‫ومعرض «فينيسيا»‪ ،‬الذي عرضت‬ ‫السنة أو أكثر‪ ،‬حيث أقامت كثيراً‬ ‫ف �ي��ه ل��وح��ات �ه��ا س��اب �ق �اً‪ .‬وأخ ��ذت‬ ‫من العالقات هناك‪ ،‬وعملت في‬ ‫من أعمال الفنانة سامية الحلبي‬ ‫تقارن بين ما قدمته الطبقة الدولية‬ ‫جامعة بير زيت‪ ،‬وفي برامج األمم‬ ‫الحاكمة من فن وكيف تم استثناء‬ ‫المتحدة‪ .‬وخالل ذلك قامت حلبي‬ ‫الفن الفلسطيني وتجميده‪ ،‬وبين ما قدمته «الطبقة بإجراء مقابالت مع العديد من الفنانين الفلسطينيين‪،‬‬ ‫العاملة» في هافانا التي اشتمل معرضها على لوحات وب��دأت ع��دة مشاريع‪ ،‬منها‪ :‬م�ش��روع رس��وم أشجار‬ ‫من الفن الفلسطيني‪.‬‬ ‫الزيتون‪ ،‬ومشروع معالجة مذبحة «كفر قاسم»‪ ،‬كما‬ ‫ل��م تكن حلبي بمعزل ع��ن ال�ت�ط��ورات السياسية قابلت بعض الناجين من المذبحة‪ ،‬وق��رأت العديد‬ ‫التي شهدتها القضية الفلسطينية‪ ،‬والتي أثّرت على من المطبوعات حول هذا الموضوع‪ ،‬لتنجز بعد ذلك‬ ‫الحركة الفنية الفلسطينية‪ ،‬خصوصاً م��ا أحدثته سلسلة من الرسوم حول المذبحة‪.‬‬ ‫االنتفاضة الفلسطينية في أواخر الثمانينيات وأوائل‬ ‫وف��ي العام ‪2002‬م أسست حلبي ومجموعة من‬ ‫التسعينيات‪ ،‬من تأثير في هذا السياق‪ ،‬وأدركت حلبي‪ ،‬الفنانين «مؤسسة الجسر» التي كانت انطالقتها‬ ‫وبشكل ٍ‬ ‫مواز‪ ،‬حجم مسؤوليات الفنان تجاه قضيته‪ ،‬بمعرض فني حمل اسم «وليمز بيرغ يبني جسراً إلى‬ ‫ألن الفنان والمثقف الحقيقي‪ ،‬كما ترى حلبي‪ ،‬هو فلسطين»‪ ،‬وقد القى هذا المعرض حضوراً الفتاً في‬ ‫من يكون على تماس مع قضاياه الوطنية‪ ،‬ويحاول‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪103‬‬


‫الغرب‪ ،‬لتبدأ المؤسسة بعد ذلك تنظي َم المعارض‬ ‫العربية التي تهدف إلى تعريف العالم بالفن العربي‬ ‫والحضارة العربية‪ ،‬وتغيّر وجهة النظر الغربية تجاه‬ ‫الفن العربي‪.‬‬ ‫وكانت «مؤسسة الجسر»‪ ،‬كما توضح حلبي‪ ،‬قد‬ ‫تأسست بعد أن توقفت مؤسسة «الفنانات العربيات»‬ ‫تأسيس «جاليري» يمكن‬ ‫َ‬ ‫عن العمل‪ ،‬وكانت حلبي تود‬ ‫من خالله إقامة المعارض الفنية‪ ،‬التي تعرِّف العالم‬ ‫الغربي بالفن والفنان العربيين‪ ،‬غير أنها لم تتمكن‬ ‫من تحقيق ذلك بمفردها‪ .‬وخالل زيارتها لفلسطين‬ ‫جمعت حلبي أعماالً فنية للفنانين المتواجدين هناك‪،‬‬ ‫وه��ي تتحدث عن ه��ذه التجربة قائلة‪« :‬نظراً لعدم‬ ‫ت��واف��ر النقود ل��ديّ فقد ب��ادل��ت لوحاتي م��ع لوحات‬ ‫بعضهم‪ ،‬وهي الضمانة الوحيدة التي قدمتها لهم حتى‬ ‫أتمكّن من عرض لوحاتهم في أميركا‪ ،‬ثم إعادتها لهم‬ ‫واستعادة لوحاتي‪ ،‬وقد كانوا متعاونين جداً معي»‪.‬‬ ‫ب� ��دأت «م��ؤس �س��ة ال �ج �س��ر» ف ��ي ال� �ع ��ام ‪2003‬م‬ ‫التحضي َر لمعرض «صنع في فلسطين» ال��ذي أقيم‬ ‫في مدينة هويستن‪ ،‬ال��ذي من المتوقع إقامته في‬ ‫ربيع العام ال�ق��ادم في نيويورك؛ المدينة التي تع ّد‬ ‫معقل اللوبي الصهيوني في أميركا‪ .‬ويهدف المعرض‬ ‫إل��ى نشر أعمال الفنانين الفلسطينيين على نطاق‬ ‫عالمي‪ ،‬والتأكيد على إبداع تجاربهم وتميّزها‪ ،‬وقد‬ ‫أشرفت حلبي على إقامته برعاية متحف «ستيشن»‬ ‫لمدة ستة أشهر متواصلة‪ .‬وب��دأت فكرة المعرض‪،‬‬ ‫كما تقول حلبي‪ ،‬حين هاتفها عدد من القائمين على‬ ‫المتحف والمهتمين بالفن الفلسطيني‪ ،‬ومنهم جيمس‬ ‫هيرتز الذي كان يريد أن يعرِّف العالم الغربي بالفن‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬وتضيف‪« :‬ك��ان ل��ديّ أرشيف جيد عن‬ ‫أع�م��ال الفنانين الفلسطينيين‪ ،‬وتحمّست للفكرة‪،‬‬ ‫واشترطت قبل البدء بتنفيذ المعرض أن ال يُقام بعد‬ ‫انتهائه معرض مشابه له عن الفن اإلسرائيلي»‪.‬‬ ‫‪ 104‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫وتتابع حلبي قائلةً‪« :‬ثم بدأت جولتي مع مجموعة‬ ‫من الفنانين الغربيين‪ ،‬فزرنا المدن الفلسطينية كغزة‬ ‫وجنين‪ ،‬كما زرنا مدينتي الزرقاء وعمّان في األردن‪،‬‬ ‫واستطعنا جمع لوحات لفنانين فلسطينيين عُرضت‬ ‫في المعرض‪ ،‬الذي بلغت كلفته أربع مائة ألف دوالر‪،‬‬ ‫واشتمل على تسعين لوحة فنية‪ ،‬وقد شهد المعرض‬ ‫إقباالً جماهرياً منقطع النظير‪ ،‬إذ زاره الناس من‬ ‫سائر الجاليات والطبقات الموجودة في أميركا»‪.‬‬ ‫وبعد هذا المعرض‪ ،‬قام هيرتز بعمل تسعين ملفاً‪،‬‬ ‫يشتمل كل واحد منها على صور ملونة ألعمال الفنانين‬ ‫ال��ذي��ن ش��ارك��وا بالمعرض‪ ،‬وبلغ ع��دده��م ‪ 23‬فناناً‪،‬‬ ‫منهم‪ :‬تيسير بركات‪ ،‬وسليمان منصور‪ ،‬وعبدالرحمن‬ ‫مزين‪ ،‬وروال حلواني‪ ،‬وعبدالحي مسلم‪ ،‬وفيرا تماري‪،‬‬ ‫وزهدي العدوي‪ ،‬ومحمد الركوعي (الفنانان األخيران‬ ‫كانا معتقل َين في السجون اإلسرائيلية لمدة تزيد على‬ ‫األربعة عشر عاماً)‪ .‬وقام هيرتز بتوزيعها على تسعين‬ ‫متحفاً في العالم‪ ،‬لكن أياً من هذه المتاحف لم يتحمّس‬ ‫لفكرة اقتناء أعمال لهؤالء الفنانين خوفاً من غضب‬ ‫الحركة الصهيونية‪ ،‬التي تموّل بعض هذه المتاحف أو‬ ‫تدعمها مالياً‪ ،‬بحسب حلبي التي تلفت النظر إلى قوة‬ ‫الدعاية الصهيونية الموجهة للغرب‪ ،‬محاول ًة التعتيم‬ ‫على الفن الفلسطيني‪ ،‬وإقناع العالم بأن الفلسطينيين‬ ‫لم يتعرفوا على الفن بأشكاله المتعددة إال بعد أن‬ ‫تأسس الكيان الصهيوني في فلسطين‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من الصعوبات التي كان من المتوقع‬ ‫حدوثها لدى إقامة المعرض‪ ،‬إال أن حلبي سعت بكل‬ ‫جهدها إلى تحقيق فكرتها والدفاع عنها‪ ،‬المتمثلة‬ ‫في وضع اسم فلسطين على المعرض ليتعرّف العالم‬ ‫الغربي على تاريخ فلسطين وحضارتها‪.‬‬ ‫وتعكف حلبي على إع��داد سلسلة تتمحور حول‬ ‫ال�ن�س��اء الفلسطينيات‪ ،‬وت �ص �وّر الفلسطينيات في‬ ‫أدواره� ��ن التقليدية ك��أم�ه��ات وح��رف�ي��ات وقاطفات‬


‫للزيتون وك��ادح��ات في األرض‪ ،‬ثم بوصفهن األرض لجان من الفنانين لتبني معارض مستقلة‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫نفسها‪ .‬وق��د ب��دأت فكرة ه��ذه السلسلة حين كانت النمط التجاري‪.‬‬ ‫حلبي ت��درّس ط�لاب جامعة بير زي��ت كيفية تكوين‬ ‫واص �ل��ت ح�ل�ب��ي سعيها ل�لارت �ق��اء ب��رس��ال��ة الفن‬ ‫أش�ك��ال تجريدية‪ ،‬ع��ن ط��ري��ق اس�ت�خ��دام م�ب��ادئ فن السامية‪ ،‬ونشرت في سبيل ذلك كتاباً لفنانين وشعراء‬ ‫تطريز الثوب الريفي الفلسطيني‪ .‬وقد استخدمت من قوميات متعددة‪ ،‬يساندون الحركات الكفاحية في‬ ‫حلبي في إنجاز هذه السلسة األكرليك على القماش فلسطين وجنوب أفريقيا‪.‬‬ ‫الذي يبدو للوهلة األولى تقليدياً‪ ،‬بل وحتى محافظاً‪،‬‬ ‫ويتضمن نشاط سامية الفني عدة وسائل فنية؛‬ ‫قصه وإع ��ادة تنظيمه‬ ‫ويتم تلوين القماش وم��ن ث��م ّ‬ ‫كالرسم الزيتي واإلكريليك‪ ،‬وحتى استخدام الكمبيوتر‬ ‫باستخدام الصمغ والخياطة‪ ،‬من أجل تماسك العمل‪،‬‬ ‫كوسيلة فنية‪ .‬فبعد عودتها من المعرض الذي أقامته‬ ‫ليغدو بعد ذلك قطعة جدارية من غير إطار خشبي‪.‬‬ ‫في غرناطة – إسبانيا العام ‪1986‬م قررت االهتمام‬ ‫حملت تجربتها ب �ع��داً إن �س��ان �ي �اً‪ ،‬وظ �ل��ت حلبي بالكمبيوتر كوسيلة فنية ال كنمط إلكتروني‪ ،‬لتهيئة‬ ‫م��ؤازِ رة للفئات الضعيفة والمقهورة أينما وُجدت‪ ،‬األفكار للرسم الزيتي‪.‬‬ ‫ألن الظلم على الرغم من أنه يتّخذ أشكاالً متعددة‪،‬‬ ‫ال من األعمال الفنية‪،‬‬ ‫تملك الحلبي رصيداً حاف ً‬ ‫إال أنه يؤشر على معاناة واحدة‪ .‬وبعد تجربتها في‬ ‫التدريس في هاواي العام ‪1986‬م‪ ،‬بدأ واضحاً تأثير إال أن عدداً غير كبير من المتاحف يقتني أعمالها‪،‬‬ ‫التعصب ضد النساء والعرب بالتحديد‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النباتات االستوائية واألضواء الباهرة على أعمالها‪ ،‬بسبب‬ ‫وقد تجلى ذلك التأثير في أحد أجمل لوحاتها التي على الرغم من ذلك‪ ،‬عرف بعض أمناء المتاحف قيم َة‬ ‫حملت عنوان «إل��ى نيهاو من فلسطين» مستلهمة أعمالها الفنية‪ ،‬وكان لديهم رغبة شديدة في اقتناء‬ ‫أجواء جزر هاواي التي يعيش أهلها حالة أشبه ما لوحاتها‪.‬‬ ‫سعت سامية نحو الكتابة بجدية‪ ،‬فكتبت عن الفن‬ ‫تكون بالعبودية‪.‬‬ ‫تفضل‪ ،‬من بين العدد الضخم «ال��زائ��ف» ف��ي معرض ن�ي��وي��ورك‪ ،‬كما كتبت دراسة‬ ‫كما كانت سامية ّ‬ ‫للفنانين من جميع أنحاء العالم في نيويورك الذين تتعقب تاريخ الفن التجريدي في القرن العشرين‪،‬‬ ‫ينتمون إل��ى ثقافات ومعتقدات سياسية مختلفة‪ ،‬وكتبت أيضاً بحثاً حول الفن التجريدي العربي في‬ ‫طبقة من الفنانين التي يدعوها بعضهم «األقليات العصور الوسطى‪ ،‬هذا إضافة إلى كتابها عن أعمالها‬ ‫تحت األرض»‪ ،‬وكان هذا الحماس لتوطيد العالقات الخاصة‪.‬‬

‫مهم‪ ،‬بسبب قناعة حلبي أن مواقفهم غير المرغوب‬ ‫فيها في بيئة متعصبة‪ ،‬تمنحهم رؤي��ة أوض��ح تجعل‬ ‫فنهم ه��و األف �ض��ل‪ .‬وق��د ب��دأ اتصالها معهم أثناء‬ ‫السنوات التي قامت بالمساعدة بها في إدارة معرض‬ ‫«ووستر»‪ ،‬الذي يدار من قبل مجموعة من الفنانين‬ ‫المتطوعين‪ ،‬وقد ساعدت هذه المجموعة على تنظيم‬

‫تقيم سامية حلبي حالياً في األستوديو الخاص بها‪،‬‬ ‫الذي سكنته منذ سبعة وعشرين عاماً‪ .‬وهو يقع في‬ ‫بناية قديمة في نيويورك‪ ،‬تحتل الصور والرسومات‬ ‫وأوراق المالحظات جدرانه والمناضد الموجودة فيه‪،‬‬ ‫ويشغل أحد الزوايا مكتبٌ مخصص لحاسوب عتيق‬ ‫تزاحمه أكوام من الكتب واألقراص المدمجة‪.‬‬

‫< كاتب أردني‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪105‬‬


‫التقريب بني السينما والكتاب‪ ..‬إيجاد الصورة‬ ‫> خالد ربيع السيد‬

‫<‬

‫األف�لام السينمائية التي نشاهدها على الشاشة الكبيرة أو الفضية (تلفزيون أو‬ ‫مونيتور) مصورة على أشرطة مصنوعة من مادة تسمى «السيليوليد»‪ ،‬وهذه األشرطة‪،‬‬ ‫كما هو معروف‪ ،‬تلف على بكرات كبيرة الحجم وثقيلة الوزن‪ .‬ولكي يتم التصوير عليها فإن‬ ‫األمر يتطلب كل تلك الجهود التي يبذلها السينمائيون إلظهار األفالم على هذه األشرطة‪.‬‬ ‫وبحسب ما يذهب إليه صناع السينما األكثر إحترافاً في العالم‪ ،‬فإن هذه األشرطة‬ ‫تعيق الكثير من األفكار التي يطمحون لتحقيقها في العرض واإلنتاج السينمائي‪ ،‬لذلك‬ ‫يتم التحرك منذ عقد على األقل إلى السينما الرقمية‪ ،‬أي اإلستغناء عن هذه األشرطة‬ ‫المقيدة‪ ،‬واإلستعانة بالبرمجيات اإللكترونية فهي ستوفر فرص إنتاج جيدة‪ ،‬وستحقق‬ ‫مشاهدة أفضل وأوضح وأكثر إمتاعاً‪.‬‬ ‫من هذا المنطلق‪ ،‬يتنبأ الكثيرون من السينمائيين بأن إستخدام التكنولوجيا الرقمية‬ ‫سيكون سبباَ في خفض تكلفة صناعة األفالم‪ .‬كما سيزداد عدد المنتجين ألفالم الحركة‬ ‫ال من قبل الجماهير‪ .‬تلك‬ ‫والروايات الملحمية والفنتازية‪ ،‬وهي األكثر إقباالً وتفضي ً‬

‫س����ي����ن����م����ا‬

‫التنبؤات والتي أرى أن المنطق يحكم إرهاصاتها وردت في مجلة ‪ Premiere‬عدد‬ ‫ما يو ‪2007‬م ضمن مقالة للناقد السينمائي جورج لوكاس‪ .‬فكثير من قصص الخيال‬ ‫العلمي والروايات التاريخية والرسومية والفنتازية يتعذر ترجمتها إلى مشاهد سينمائية‬ ‫بكفاءة‪ ،‬ألنه يتعين أن تعرض في الفيلم بشكل معادل لما توحي به من أفكار‪ ،‬وهي ال تزال‬

‫‪ 106‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫على شكل كلمات داخل كتاب‪ .‬على أن الفجوة بين‬

‫ستار)‪ ،‬يشرف عليه الممثل مورغان فريمان‪ ،‬وقد بث‬

‫بين هذين الوسيطين اإلعالميين (السينما والكتاب)‬

‫هذا الموقع أول فيلم رقمي بواسطة تقنية (واي ما‬

‫ستضيق على نحو متزايد‪ ،‬وستقترب الكلمة المكتوبة‬

‫كس)‪.‬‬

‫من الدراما المصورة‪.‬‬

‫ذل��ك ي�ق��ود‪ ،‬م��ن جهة أخ��رى‪ ،‬إل��ى أسئلة عديدة‬

‫إذاً‪ ،‬في المستقبل القريب‪ ،‬كما يؤكد لوكاس‪ ،‬سوف‬

‫ت��دور ح��ول مضامين النصوص األدب�ي��ة التي تأخذ‬

‫يتم تصوير الفيلم والتخطيط له بنظام التكنولوجيا‬

‫ف��ي الحسبان أنها معدة للسينما‪ ،‬تلك النصوص‬

‫الرقمية‪ ،‬حيث ستنقل بشكل آلي الصورة المسجلة‬

‫التي كان وال يزال أكثرها ينجز بطريقة مزج الفكرة‬

‫إلى الكمبيوتر‪ ،‬كما ستتم معظم أعمال ما بعد اإلنتاج‬

‫والموضوع بجماليات الصورة ومتخيلها الدرامي‪،‬‬

‫بواسطة الكمبيوتر وسيتعين على أغلب العاملين في‬

‫والتي بالضرورة ال تحيد عن توظيف امكانات كل‬

‫الفيلم تعلم عمليات وتقنيات إبداعية جديدة‪.‬‬

‫ه��ذا التضافر بغرض خلق الفكرة وتحميلها بيئة‬

‫عندما عرض المخرج الفرنسي جورج ميلييه في‬

‫وزمن وداللة الكلمة‪.‬‬

‫فيلمه «رحلة إلى القمر» عام ‪1902‬م مشاهد لرجال‬

‫وف��ي ض��وء ه��ذا التصور أخ��ذ العديد م��ن كتاب‬

‫ف��وق سطحه‪ ،‬كانت المرة األول��ى التي ح��اول فيها‬

‫السيناريو معالجة مضمون االع �م��ال ب�ط��رق فنية‬

‫اإلنسان أن يجعل غير الواقعي واقعياً عبر واسطة‬

‫إبداعية‪ ،‬تعتمد النص وتسلك الصورة بعملية أطلق‬

‫تصويرية متحركة‪ .‬وكانت هذه الحيلة السحرية بداية‬

‫عليها محمد بنيس (ترحيل النص) ودمجه في الصوت‬

‫تبلور «شكل فني» سينمائي جديد‪ ،‬ثم نُفذ فيلم «كينج‬

‫والحركة‪ ،‬إذ يتم نقل اإلشارة اللفظية وتحويلها إلى‬

‫كونج» الذي تم إنتاجه عام ‪1933‬م‪ ،‬معلماَ بارزا في‬

‫إشارة ضوئية‪ ،‬كي تدخل في صلب قناة االتصال عبر‬

‫حقل التصوير السينمائي (صورة بصورة)‪ ،‬واكتملت‬

‫الصورة المعبرة؛ هذه القناة تجعل من مفهوم النص‬

‫إم �ك��ان��ات ف��ن ت�ح��ري��ك ال��دم��ى ف��ي الستينيات مع‬

‫االدب��ي مفهوما مغايراً لفعل ال�ق��راءة‪ ،‬ضمن الخط‬

‫فيلم «راي هاري هوسين»‪ ،‬وسلسلة أفالم «سندباد‬

‫اإلب��داع��ي المنتج والطريقة التي تقدم بها المادة‪.‬‬

‫البحار»‪.‬‬

‫وه��ذا التفاعل في حد ذات��ه يحدث تمايزاً واضحا‬

‫ك��ل ذل��ك يقود إل��ى توقع إستثمار السينمائيون‬ ‫العرب ول��و الحقاً وخصوصاً الخليجيون الذين ال‬ ‫يزالون في طور التكوين‪ ،‬إلى المضي قدماً في إنتاج‬ ‫أف�لام سينمائية تعتمد على التكنولوجيا الرقمية‬ ‫إعتماداً كلياً‪ .‬ومن الراجح أن تتقدم سينما االنترنت‬ ‫فقد شهد عاما ‪2005‬م‪2006 ،‬م خطوة كبرى في‬

‫في عمل السيناريست إلى درجة يمكن معها تحديد!‬ ‫أي��ن يكمن المعنى‪ ..‬وأي��ن تكمن أدات��ه ؟ ألن كل ما‬ ‫يفعله هو خلق النص وإنتاجه من جديد وفق مكونات‬ ‫الصورة واإلض��اءة والمؤثرات األخ��رى كالموسيقى‬ ‫واللون والديكور‪.‬‬ ‫إن األمر في غاية الوضوح بحسب ما أشار إليه‬

‫هذا اإلتجاه‪ .‬وصنعت شركة «انتل‪ »Intel/‬موقعاَ المخرج والمؤلف البولندي أندريه فايدا‪ ،‬بعد العرض‬ ‫مخصصاً لبث األف�لام عبر اإلنترنت إسمه (كليك‬

‫الخاص لفيلمه «المواسم الجنائزية» حيث األحداث‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪107‬‬


‫المريبة والمفتعلة التي ترتكبها الدول العظمى بحق‬ ‫الدول الضعيفة والتي خلقت كيانات غريبة وطارئة‬ ‫على سطح هذاالكوكب‪ .‬وكلما ساءت العالقة داخل‬ ‫الذات االنسانية ازداد معها إهمال القيم الحقيقية‬ ‫للوجود‪ ،‬ولذا أخذ الخوف يشكل واحدة من العالمات‬ ‫الفارقة لحياتنا‪ ،‬التي بدت كالكوميديا السوداء‪ .‬فبين‬ ‫البرجوازية التي أحدثها النمو االقتصادي الغربي‬ ‫والفقر المدقع الذي تكوّن بفعل االستالب والهيمنة‬ ‫واالستهالك‪ ،‬يتمركز شبح السالح النووي الفتاك‬ ‫الذي أربك إيقاع العصر‪.‬‬ ‫ن��رى ه��ذا الوضع المتأزم لحالة إنسان العصر‬ ‫المحيرة والمقلقة شكل محتوى النص لفيلم «المواسم‬ ‫الجنائزية» أو «مواسم الجنازات»‪.‬‬ ‫لنتخيل ه��ذه اللقطة‪( :‬علبة س��وداء ملقاة على‬ ‫ساحل ال��رم��ال)‪ ،‬من الممكن أن توحي لنا اللقطة‬ ‫بتحسس وج��وده��ا من دون أن ن��راه��ا‪ ،‬ربما تحتوي‬ ‫على مادة نصية‪ ،‬في إشارة إلى المعنى الضامر في‬ ‫سياق المشهد‪ ،‬فنجد اختيار زاوي��ة اللقطة ومهارة‬ ‫التكنيك يعطي إنطباعا مخالفاً في كل لحظة حتى‬ ‫تغدو المسألة في غاية التعقيد أمام طالسم الصور‬ ‫المتداخلة في تحدياتها المستمرة لمناطق االحتمال‬ ‫والتوقع التخيلي‪.‬‬

‫الموجة الجديدة في تماه فني‪ ،‬إذ تكاد رموز الصورة‬

‫وزوايا إلتقاطها تشكل أجواءها كفاصل إيقاعي بين‬ ‫خصائص المشهد ورص��د المشاهد‪ ،‬مستعينة في‬

‫ذل��ك بإمكانية الكاميرا على بث الحياة في كل ما‬

‫يوضع أمام عدستها‪ ،‬فتخلق االشياء لحظتها الحسية‬

‫المرئية‪ ..‬سواء كان من خالل تقطيع المشهد إلى‬ ‫سلسلة من اللقطات ذات ال��زواي��ا المختلفة أو في‬

‫استخدام ألوان متجانسة واعتمادها الضوء بأقصى‬

‫دق��ة ممكنة‪ ،‬ك��ي تتيح لنا أك�ت�ش��اف م��واط��ن القبح‬

‫والجمال‪ ،‬وبمعنى آخر أكثر دقة‪ ،‬إن تلك اللقطات‬ ‫لها ط��اق��ة على تمرين وتفعيل حسية التلقي في‬

‫ذهنية المشاهد‪ ،‬عبر تنقالت مشهدية متباينة داخل‬

‫اللقطة‪ .‬هذه التشكالت الفنية اإليحائية تتوازن فيها‬ ‫معايير الصورة والكلمة في نظم التعبير عن األشياء‬

‫بغية إنتاج الداللة والمعنى‪.‬‬

‫هكذا يتجلى دور النص‪ ،‬فاتصال «أندريه» بأفالم‬

‫الموجة الجديدة يتحرك على مستويات عديدة من‬

‫ال��رؤى‪ ،‬يأخذ كل منهما شكل المعالجة واألسلوب‬ ‫منهجاً ومفهوماً في إنتاج فلسفة العمل السينمائي‪،‬‬

‫على غرار ما يحدث في األدب تماما وكأن ما يتحقق‬ ‫في هذه الظاهرة له عالقة بنبوءة المنظر‪ ..‬والمخرج‬

‫الروسي المعروف «إيزشتاين» قال ذات مرة‪ :‬ال يمكن‬

‫أن أطمئن على السينما في خضم اإلنتاج المتالحق‬

‫مخرج الفيلم أراد أن يهيئ المشاهد لتقبل حقيقة ل�لاف�لام الوثائقية والتسجيلية وح�ت��ى التأريخية‬ ‫ال�ص��ور المسكونة باليوتوبيا النصية‪ ،‬وان الواقع والسياسية‪ ،‬إال بعد أن أرى السؤال يتجسد في نص‬

‫(المصور) يتأرجح بين المعقول والالمعقول‪ ،‬وبين السينما‪ /‬نص األب��داع المتخصص ال��ذي هو بحق‬ ‫وعي حكمة الكلمة وانتهازية فرصة التصوير‪ ..‬حين كنزه وجوهرته‪.‬‬ ‫نرى القراصنة في جو احتفالي يخططون لبناء دار‬ ‫تؤوي المشردين المنبوذين‪.‬‬

‫وبهذا المعنى إتجه أكثر كتاب نصوص السينما‬

‫إل��ى التغريب وال�ض��دي��ة واإلخ �ت�لاف واإلزاح� ��ة‪ ،‬أي‬

‫تتطابق أسئلة ان��دري��ه ف��ي الفيلم‪ ،‬وه��ي أسئلة أن السينما في مغايرتها وجدت إختالفها وحريتها‬ ‫‪ 108‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫في فضاء التعبير‪ ،‬واستطاعت أن تحول أو ترحّ ل من مشاعر وأحاسيس‪ ،‬له القدرة على خلق ثنائيات‬

‫معنى النص واألث��ر البصري من تغريبة الواقع إلى غير متجانسة من األضداد كالود والنفور وما شابه‬ ‫التجاوز‪.‬‬

‫ذلك‪ ..‬في حين تعطي الموسيقي والمؤثرات الصوتية‬

‫الوصف‪ ،‬بل يتعدى ذلك إلى مركزية الصورة التي‬

‫يتطابق وأهمية الديكور الذي هو ‪ -‬معني بإمكانية‬

‫في ضوء هذه المعطيات نرى أن كتاب السيناريو ش�لاالً من المعاني بغية استثمارها وف��ق متطلبات‬ ‫والنصوص لم يعد اهتمامهم يحتفل بالتفاصيل أو وحيثيات المشهد في المجاز والتورية والرمز‪ ،‬ما‬

‫تهشم األب�ن�ي��ة المتشابهة‬ ‫وأح�� ��داث ت �غ �ي��رات في‬

‫الشكل التقليدي وتجاوز‬ ‫مشاهد السرد والترتيب‬

‫واإلبحار بوساطة حركة‬ ‫ال �ك��ام �ي��را ن �ح��و البعد‬

‫ال��ث��ال��ث ال � ��ذي يجسد‬

‫المناطق غير المرئية‬ ‫ع� �ل���ى ال�� �ش� ��اش� ��ة‪ ،‬كي‬

‫يستلهم المشاهد وصفه‬

‫اللقطة ‪ -‬إزاء النسق الصوري القائم‪.‬‬

‫أن تأخذ المهارة دور‬

‫الفعل في زاوية الكاميرا‪،‬‬

‫ل �ت �غ �ي �ي��ر ال� � � ��دالالت أو‬ ‫الوحدات عن صياغاتها‬

‫المعروفة‪ ،‬يعني أن تقدم‬ ‫الكاميرا مغزى آخر في‬

‫عملية التصوير الفني‬

‫أو ال� ��دالل� ��ي‪ ،‬وتحفز‬ ‫ال �م �س��اءل��ة ك �م��ا يقول‬

‫وتفاصيله التي تحدث‬

‫م �ح �م��د ب�� � ��رادة‪ ،‬فهذا‬

‫ول � ��ذل � ��ك ع�� � ��ادة ما‬

‫ال ي �ق �ص��ر االم � ��ر على‬

‫في لحظة االستعادة‪.‬‬

‫يكون الفعل ف��ي النص‬

‫ال�س�ي�ن�م��ائ��ي‪ ،‬ف��ي حالة‬

‫التنفيذ‪ ،‬مقترنا بانحراف زاوية الكاميرا عن طبيعة‬

‫المشهد وبـ(إيقاع مختلف)‪ ،‬هذا الفعل لديه القدرة‬ ‫على تغيير طبيعة العناصر األساسية ف��ي تركيب‬

‫ال �ص��ورة ال�ت��ي تتجسد فيها وق��ائ��ع ممكنة‪ ،‬تأخذ‬

‫انعكاس هذه العناصر على بنية العمل بشكل مختزل‪،‬‬

‫لتري فاعليتها وتأثيرها؛ وأول هذه العناصر اللون‪،‬‬ ‫فباإلضافة إلى رموزه الجمالية وما يمكن أن يمنحنا‬

‫ال�ت�ع�ب�ي��ر (التصويري)‬ ‫تكسير ه��رم�ي��ة البناء‬

‫وأف �ق �ي��ة ال��زم��ن‪ ،‬وإنما‬

‫ال ��واق ��ع ه ��و ال� ��ذي يهب‬

‫الكتابة شرعيتها ويبررها في الصورة أو في النص‪.‬‬

‫ل�ن�ت�س��اءل م��ن ج��دي��د‪ :‬ه��ل ك��ل م��ا ح��اول��ه كتّاب‬

‫السيناريو من إنجاز في عالم السينما ق��ادر على‬ ‫تفعيل مخيلة المشاهد نفسها بقوة تأثير المالمح‬

‫ال�ت��ي تنتجها خبايا ال�ن��ص األدب���ي‪ ،‬أم أن جمالية‬

‫األبداع هي التي تحدد جمالية التلقي؟‬

‫< كاتب من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪109‬‬


‫الكتاب ‪ :‬فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال‪:‬‬ ‫ عبدالرحمن بن أحمد السديري أمير منطقة الجوف‪.‬‬ ‫المؤلف ‪ :‬مجموعة من المؤلفين‪.‬‬ ‫المحرر ‪ :‬د‪ .‬عبدالرحمن الشبيلي‪.‬‬ ‫الناشر ‪ :‬مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية‪.‬‬ ‫ ‪1428‬هـ‪2007/‬م‪.‬‬ ‫> محمد صوانة‬

‫<‬

‫ق���������������راءات‬

‫صدر الكتاب بمبادرة من إدارة مؤسسة عبدالرحمن‬ ‫السديري الخيرية إيماناً منها بأهمية حفظ ما تيسر‬ ‫جمعه من سيرة مؤسسها‪ ،‬ال��ذي عمل أم�ي��راً لمنطقة‬ ‫ال�ج��وف لنحو نصف ق��رن‪ ،‬كانت ل��ه خاللها مبادرات‬ ‫ثقافية‪ ،‬م��ا ت��زال آث��اره��ا شامخة ف��ي مختلف ضروب‬ ‫األنشطة الثقافية ومساراتها‪.‬‬

‫بنفسه‪ ،‬والمرجع هنا صاحب السيرة نفسه‪ ،‬إال فيما‬ ‫يتعلق بأحداث يشاركه فيها آخرون؛ وسيرة ذاتية يتولى‬ ‫شخص آخر كتابتها وجمعها وتبويبها وبإشراف مباشر‬ ‫من صاحبها‪ ،‬والفارق بينهما ظهور دور كاتبها وأسلوبه‬ ‫وتوظيف خبرته ومعلوماته في صياغة السيرة‪ ،‬وسيرة‬ ‫غيرية يتولى فيها شخص أو أكثر مسؤولية تدوين سيرة‬ ‫آخ��ر‪ ،‬ويُلجأ إليها غالباً عندما تتوافر المعلومات عن‬ ‫سيرة شخص ل��دى ع��دد م��ن أص��دق��ائ��ه وآخ��ري��ن ممن‬ ‫عايشوا معه أح��داث�اً‪ ،‬وراف�ق��وه في مراحل من حياته‪،‬‬ ‫بهدف جمع ما تفرق من تاريخه وأعماله‪.‬‬

‫بذل في جمع المادة وتوثيق سيرة صاحبها‪ ،‬واألعمال‬ ‫واألحداث التي عايشها األمير‪ .‬كما نلحظ جهد المحرر‬ ‫واضحاً في جمع شتات الوقائع وتبويبها‪ ،‬وحاضراً مع كل‬ ‫فقرة إن لم يكن مع كل كلمة سُ طّ رت في هذا الكتاب‪.‬‬

‫ويدخل الكتاب الذي نحن بصدده في النوع الثالث؛‬ ‫فهو س�ي��رة غيرية‪ ،‬ول�ك��ن م��ا يميز ك�ت��اب عبدالرحمن‬ ‫السديري‪ ،‬أن ثالثة من أبنائه شاركوا في كتابة بعض‬ ‫فصوله‪ ،‬وهم فيصل وزياد ولطيفة‪ ،‬وقد قدم كل منهم‬ ‫توثيقاً لفترات مهمة م��ن ت��اري��خ وال��ده��م‪ ،‬ف��ي أحداث‬ ‫ووقائع ال يعرفها غيرهم؛ كما شارك في إعداده كوكبة‬

‫ومنذ السطور األول��ى للكتاب‪ ،‬يشعر ال �ق��ارئ بأن‬ ‫صاحب السيرة ك��ان مسكوناً بحب الجوف إل��ى درجة‬ ‫العشق‪ ،‬وفي أشعاره وكتاباته من حب الجوف وارتباطه‬ ‫بها ما يزيد من اهتمام القارئ ورغبته في معرفة السر‬ ‫الكامن وراء هذا النوع من الحب والتعلّق‪ ،‬على الرغم‬ ‫والنوع األخير منها ربما يكون من أصعب ضروب هذا‬ ‫من أن األمير ولد وترعرع في الغاط‪ ،‬ثم انتقل أميراً الفن الماتع‪ ،‬نظراً الختالف أسلوب كل كاتب وخبرته في‬ ‫لمنطقة الجوف في عهد الملك عبدالعزيز عام ‪1362‬هـ الكتابة‪ ،‬وهنا تقع المسؤولية الكبرى على المحرر الذي‬ ‫(‪1943‬م) عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره‪.‬‬ ‫يضطر في كثير من األحيان إلى التدخل لتالفي التكرار‪،‬‬ ‫وبتصفح قائمة المحتويات‪ ،‬ندرك أن جهداً كبيراً قد أو إلدخال تعديالت بما يتوافق والنسق العام للكتاب‪.‬‬

‫ويمكننا القول إن كتب السيرة ال تعدو أن تخرج عن‬ ‫ثالثة أنواع‪ :‬سيرة ذاتية‪ ،‬يتولى صاحبها تدوين أحداثها‬

‫‪ 110‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫من الكتّاب الذين رافقوا األمير وع��اص��روه‪ ،‬فكانت لهم‬ ‫ذكريات مشتركة معه‪.‬‬ ‫وقد حظيَ الكتاب بتقديم من سمو األمير سلمان‬ ‫ابن عبدالعزيز‪ ،‬أمير منطقة الرياض‪ ،‬الذي أكد أن آلل‬ ‫السديري إسهامات متعددة في تاريخ الدولة السعودية‪،‬‬ ‫ودعا ليكون الكتاب بادرة لمزيد من الدراسات العلمية‬ ‫الموثّقة عن تاريخ أسرة السديري وإنجازاتها الوطنية؛‬ ‫وق��د ذك��ر المحرر د‪ .‬عبدالرحمن الشبيلي في تمهيده‬ ‫للكتاب نبذة مختصرة عن حياة األمير وأسرته ونشأته‬ ‫وتعليمه ث��م اخ�ت�ي��اره م��ن قبل الملك عبدالعزيز أميراً‬ ‫لمنطقة الجوف‪ ،‬التي استمر فيها نحو نصف قرن من‬ ‫ال��زم��ان‪ ،‬ك��ان��ت زاخ ��رة ب��اإلن �ج��ازات واألع �م��ال الثقافية‬ ‫واالجتماعية واإلدارية‪ ،‬تستحق أن تسجّ ل وتوثّق لما تمثله‬ ‫من فترة مهمة في تاريخ الوطن ومسيرته‪ .‬وجاء الكتاب‬ ‫ال ضمتها أربعة موضوعات رئيسة‪.‬‬ ‫في سبعة عشر فص ً‬ ‫شمل الموضوع األول المعنون‪« :‬أسرة وسيرة»‪ ،‬ثالثة‬ ‫فصول‪ :‬أعد الفصل األول منها المتخصص في تاريخ‬ ‫ال�ج��زي��رة العربية‪ ،‬د‪ .‬عبدالفتاح أب��و عليه ع��ن أسرة‬ ‫السديري تاريخا ونسبا‪ ,‬وعالقتها باألسرة المالكة منذ‬ ‫الدولة السعودية األول��ى ودوره��م في إدارة العديد من‬ ‫إمارات المناطق وقيادة بعض الحمالت العسكرية التي‬ ‫سيّرها آل سعود‪.‬‬ ‫وجاء الفصل الثاني بعنوان‪« :‬األب‪ ..‬الرئيس» بقلم‬ ‫األستاذ فيصل بن عبدالرحمن السديري‪ - ،‬االبن األكبر‬ ‫لصاحب السيرة – الذي قدم لنا أحداثاً وقصصاً واقعية‬ ‫حدثت مع األمير عبدالرحمن‪ ،‬منذ تكليفه باإلمارة‪،‬‬ ‫وتظهر فيها حكمة األم�ي��ر‪ ،‬وتعامله م��ع عامة الناس‬ ‫ببساطة وحنكة ورحمة وشعور المسؤول‪ ،‬بما يحس به‬ ‫المواطن‪ ،‬والعمل على فض الخالفات التي كانت تنشأ‬ ‫أحياناً بين بعض المواطنين‪.‬‬ ‫وفي الفصل الثالث المعنون‪« :‬حياته»‪ ،‬يسهب ابنه‬ ‫د‪ .‬زياد السديري في تقديم المعلومات المهمة الوافية‬

‫والموثّقة عن مولد صاحب السيرة ونشأته‪ ،‬فيقول‪ :‬في‬ ‫ليلة م��ول��ده رأى أب��وه عبدالرحمن ف��ي منامه أن��ه رزق‬ ‫بمولود اسمه صالح؛ وألن��ه لم يُعرف في األس��رة مثل‬ ‫هذا االس��م أسماه‪« :‬عبدالرحمن» (ص ‪ .)89‬وقد ولع‬ ‫منذ صغره بالقنص بالصقور ورك��وب الخيل والسباق‪،‬‬ ‫وت��داول الشعر‪ .‬كما يتحدث عن أسفاره ورحالته إلى‬ ‫الرياض ولقائه بالملك عبدالعزيز‪ ،‬ثم مرافقته الملك‬ ‫عبدالعزيز إلى الحج عام ‪1359‬هـ (‪1940‬م) (ص ‪.)106‬‬ ‫ويتحدث عن أسلوب إدارته فينقل وصف مجموعة ممن‬ ‫عرفوه صغيراً باألناة وطيب المعشر والبعد عن سرعة‬ ‫الغضب أو إظ �ه��اره (ص ‪ .)112‬وق��د لقبته ال�ب��ادي��ة بـ ‬ ‫«عشير ضيفه» نسبة لحسن استقباله الضيف واهتمامه‬ ‫به ومعاشرته له‪ ،‬وكان يتواجد دائماً على رأس مائدته‬ ‫المفتوحة للجميع‪ ،‬وال يغيب عنها إال لمرض أو سفر‪.‬‬ ‫وقد جعل في منزله «دكة» محاذية للشارع العام دون باب‬ ‫أو حراسة‪ ،‬يأتيها من يشاء في كل وقت‪ ،‬يعتني بها األمير‬ ‫ويعد لها العدة (ص ‪.)114‬‬ ‫ويختم الفصل بقوله‪« :‬إن وال��دي ذو شخصية ذات‬ ‫أبعاد مركبة‪ ،‬ال تخضع للتحليل المسطّ ح؛ يتناول األمور‬ ‫بأناة بالغة‪ ،‬فيحللها ويذهب فيها مذاهب بعيدة‪ ،‬مقداماً‬ ‫ال تثنيه عن غايته الظنون وال المخاوف واالنتقادات‪،‬‬ ‫بسيط ف��ي هندامه‪ ،‬متواضع خلوق خفيض الصوت‪،‬‬ ‫يأنف من قول «ال»‪ ،‬ويبذل جاهه وماله في كل مبادرة‬ ‫تطلب فيها مساعدته؛ ذو ثقافة واسعة يتقبل التجديد‬ ‫ويرفض التقليد األعمى‪ ،‬يميل إلى الريادة‪ .‬وله سبق في‬ ‫عنايته بالمرأة وحقها في التعليم واإلسهام في خدمة‬ ‫مجتمعها‪ .‬ويدعونا د‪ .‬زي��اد إل��ى التفكير في مثل هذه‬ ‫الصفات الريادية في هذا الوقت الذي نمر فيه بمنعطف‬ ‫في مسارنا وأزمة في عالقاتنا وتصادم في محاور ثقافتنا؛‬ ‫لعلنا نفيد كثير ًا إذا وقفنا على سيرة مثل هذه‪ ،‬تؤكد أن‬ ‫ثقافتنا ليست ذات وجه واحد كما يقولون‪ ،‬وأن األصالة‬ ‫ليست صفة يدعيها بعضنا عن سوانا‪( ،‬ص ‪ .)130‬حقاً‬ ‫إن ألوان الطيف مجتمعه هي وحدها التي تشكل حزمة‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪111‬‬


‫الضوء األكثر مالءمة إلنارة الطريق‪.‬‬ ‫وف��ي الموضوع الثاني‪« :‬م��راس�لات��ه وش��ع��ره»‪ ،‬يقدم‬ ‫د‪ .‬سد البازعي قراءة لمراسالت األمير خالل إمارته‬ ‫ب��ال�ج��وف‪ .‬وي �ق��ول إن دراس ��ة ال��رس��ائ��ل أم��ر مهم لدى‬ ‫المشتغلين بالتاريخ؛ فهي تعد مصدراً رئيساً للملعومات‪،‬‬ ‫إذ ثمة تفاصيل دقيقة يصعب العثور عليها في مصادر‬ ‫أخرى غيرها؛ ما يمنحها خصوصية وأهمية بالغة‪ .‬ثم‬ ‫يستعرض عدداً من رسائل األمير مع الملك عبدالعزيز‬ ‫ومع سمو وزير الداخلية‪ ،‬وهي رسائل تدور حول عمل‬ ‫اإلمارة ومهام األمير‪ ،‬ودور مؤسسات الدولة‪ ،‬والخدمات‬ ‫المقدمة للمواطنين‪ ،‬وما تكشفه من تطور لتلك الخدمات‪.‬‬ ‫وف��ي الفصل الخامس يتحدث د‪ .‬سعد الصويان عن‬ ‫شعر األمير عبدالرحمن المتميز باألخالقيات والقِ يَم‪،‬‬ ‫وتوثيق كثير من القضايا واألحداث والمشاعر الفياضة‬ ‫س��واء في حب أوالده أو في حب الجوف‪ ،‬وتفانيه في‬ ‫خدمة اآلخ��ري��ن وحنينه إل��ى ال�غ��اط‪ .‬فقد ك��ان الشعر‬ ‫صديقاً مالزماً له ونديمه وأنيسه‪ .‬وفي البيت التالي‬ ‫نلحظ أناته وسعة صدره مع من يخالفه‪:‬‬ ‫أن���ا رف��ي��ق��ي ل��و غ��ل��ط م��ا أق���در أجزيه‬ ‫إال ب����ص����ف����ح وع�����ق�����ة ع������ن ش���ن���ات���ه‬ ‫وفي بيت آخر يبدو أنه يرثي نفسه‪:‬‬ ‫أن����ا م���ن ال���دن���ي���ا خ��ل��ص��ت اع���ذرون���ي‬ ‫ل���ي ج���ان���ب ال���ل���ه ع���ن ح���ي���اة وضيعة‬

‫والتحمل وعفته ووف��اؤه‪ ،‬وعالقته الحميمة مع الناس‪،‬‬ ‫وق��رب��ه م��ن المواطنين وس��داد رأي��ه‪ ،‬ودوره ف��ي إصالح‬ ‫ذات البين‪ ،‬ومساعيه في الخير ونماذج من إنجازاته‪.‬‬ ‫ث��م ي�ت�ح��دث د‪ .‬م�ي�ج��ان ال��روي �ل��ي ع��ن ص ��ورة السديري‬ ‫ص��ورت «بأقالم غربيين»‪ ،‬منهم‪ :‬البريطانيون وليم‬ ‫كما ُ‬ ‫النكستر‪ ،‬وج‪ .‬ف‪ .‬والفورد‪ ،‬وجيفري كنغ‪ ،‬وجون برادلي‪،‬‬ ‫واألمريكي آرون ليرنر‪ .‬ثم يبحر بنا صاحب القلم السلس‬ ‫األس �ت��اذ عبدالرحمن ال��درع��ان ف��ي «ذك��ري��ات»‪ ،‬فيعنى‬ ‫برصد روايات توثّق تفاصيل لم تنل حظها من االهتمام‪،‬‬ ‫تضيء زوايا مهمة في شخصية صاحب السيرة‪ ،‬وتنبثق‬ ‫خصوصية ه��ذا ال�ف�ص��ل م��ن ال �ش �ه��ادات ال �ت��ي يرويها‬ ‫الشهود وأبناء جيله من الذاكرة‪ .‬ويختم الدرعان الفصل‬ ‫بكلمة مؤثرة إذ يقول‪« :‬م��ا لم تقله ال��ش��ه��ادات‪ ...‬الحت‬ ‫لي فكرة المدينة االفتراضية التي شيّدها عبدالرحمن‬ ‫السديري بين الجوف والغاط؛ مدينة شاهقة ممزوجة‬ ‫برائحة الحب والنخيل والماء والتربة الطيبة والزيتون‪،‬‬ ‫بأسوارها وعالقاتها الوثيقة‪ ،‬التي وطدت أواصر القربى‬ ‫بين الكثيرين م��ن أه��ال��ي ال��ج��وف وال��غ��اط‪ ،‬يتقاطعون‬ ‫مع ًا في قلب إنسان ظلت بصماته باقية بعد رحيله‪..‬‬ ‫إنه يمثل مساحة شاسعة في هذه المدينة االفتراضية‬ ‫العصية على االندثار»‪ .‬ويختم يوسف العتيق بفصل «في‬ ‫الصحافة» مستعرضاً سجل األخبار والتقارير الصحفية‬ ‫ال�ت��ي نشرتها الصحف ع��ن ن�ش��اط��ات األم �ي��ر اإلداري ��ة‬ ‫واالج�ت�م��اع�ي��ة وال�خ�ي��ري��ة وال�ث�ق��اف�ي��ة‪ ،‬وك��ذل��ك نشاطات‬ ‫مؤسسته الخيرية‪.‬‬

‫وفي بيت آخر تلحظ تألمه على أوض��اع المسلمين‬ ‫وما آلت إليه‪:‬‬ ‫أما الموضوع الرابع‪ ،‬وعنوانه‪« :‬في خدمة الجوف»‬ ‫أرى ال��ن��اس تخطي وال���زم���ان حنون‬ ‫فقد اشتمل على ثمانية فصول‪ ،‬بدأها د‪ .‬خليل المعيقل‬ ‫ع����ل����ى غ����ي����ر ت����ش����ري����ع اإلل��������ه ي���ب���ون بالتاريخ المعاصر للجوف الذي تحدث فيه عن التطور‬ ‫وفي الموضوع الثالث‪« :‬في عيون اآلخرين» يعرض فائز التنظيمي واإلداري وال �ت �ن �م��وي ف��ي ح��واض��ر منطقة‬ ‫الحربي شخصيته كما رسمها الشعراء؛ فتناول صفاته الجوف؛ وفي الفصل الحادي عشر استعرض األستاذ‬ ‫وخصاله من خالل شعره وشعر غيره من الشعراء‪ ،‬ومنها‪ :‬أحمد بن عبدالله آل الشيخ عدداً من الرسائل والبرقيات‬ ‫كرمه‪ ،‬ومضيفه المفتوح‪ ،‬والدكة التي اتخذها مضيفا المحفوظة ف��ي «أرش�ي��ف اإلم ��ارة» التي توضح أعمال‬ ‫مفتوحاً ل �ل��زوار‪ ،‬والعفو والتسامح وال�ت��واض��ع والصبر األم �ي��ر عبدالرحمن ال�س��دي��ري وج �ه��وده لنقل أوضاع‬

‫‪ 112‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫منطقة الجوف إلى أولي األمر والمسؤولين في الحكومة‬ ‫وبيان احتياجاتها التنموية والحضرية‪ ،‬ومقترحاته لحلها‪،‬‬ ‫كما يذكر مرافقته األمير سعود في زيارة له إلى سوريا‬ ‫في أواخر عهد الملك عبدالعزيز‪ ،‬وحصوله على وسام‬ ‫االستحقاق السوري من الدرجة الممتازة (ص ‪ .)296‬وفي‬ ‫الفصل الثاني عشر يتحدث د‪ .‬عبدالواحد‬ ‫بن خالد الحميد عن «التنمية الثقافية» التي ُع���رف األمير‬ ‫ث ��م ي �ت �ح��دث ف �ي �ص��ل ب ��ن عبدالرحمن‬ ‫أسهم فيها األمير السديري بل ربما هو من عبدالرحمن‬ ‫السديري ف��ي الفصل الخامس عشر عن‬ ‫أرسى قواعدها في الجوف‪ ،‬وما تزال شامخة ال�����س�����دي�����ري‬ ‫التنمية الزراعية التي كان لألمير اهتمام‬ ‫كما ه��ي مؤسسته ومنشأتها الرئيسة «دار ب����ث����ق����اف����ت����ة خ��اص بها فهي «عشقه ال�خ��اص وهوايته‬ ‫الجوف للعلوم» التي أصبحت مركز إشعاع ال������واس������ع������ة‪ ،‬األولى» ونظراً لبعد الجوف عن المسطحات‬ ‫معرفي ي�خ��دم الباحثين وال �ق��راء بقسميها وك����ان يرفض ال �م��ائ �ي��ة وق� �ل ��ة ال� �م� �ش ��روع ��ات اإلنمائية‬ ‫للرجال والنساء‪ ،‬من خالل ما يزيد عن (‪)120‬‬ ‫والصناعية فيها‪ ،‬فقد رأى بثاقب بصيرته‬ ‫ألف كتاب إضافة إلى (‪ )250‬دوري��ة‪ ،‬فض ًال ال�����ت�����ق�����ل�����ي�����د‬ ‫أن الزراعة هي الخيار األنسب‪ ،‬فعمل على‬ ‫عن أوعية معلوماتية متنوعة ومخطوطات األع����������م����������ى‪،‬‬ ‫دفع عجلة تطورها‪ ،‬وأدخ��ل وسائل التقنية‬ ‫ووثائق ومسكوكات ووسائل سمعية بصرية ول��ه سبق في ال��زراع �ي��ة ال �ح��دي �ث��ة‪ ،‬وي��سّ ��ر وص��ول �ه��ا إلى‬ ‫وغيرها‪ .‬ويتحدث الحميد عن برنامج النشر ت��ع��ل��ي��م امل����رأة المزارعين‪ ،‬وجلب أنواع الزراعات المطورة‬ ‫في المؤسسة الذي تشرف عليه هيئة خاصة وإس�����ه�����ام�����ه�����ا المناسبة للمنطقة؛ فأصبحت الجوف مركزاً‬ ‫وقد صدر عنها حتى اآلن ما يزيد على (‪)56‬‬ ‫مهماً في إنتاج المحاصيل الزراعية‪.‬‬ ‫إص� ��داراً‪ ،‬إض��اف��ة إل��ى تمويل أرب�ع��ة أبحاث ف�������ي خ����دم����ة‬ ‫وعن جهود السديري في «توطين البادية»‬ ‫علمية تدرس موضوعات متنوعة في الجوف م���ج���ت���م���ع���ه���ا‬ ‫ي�ح��دث�ن��ا د‪ .‬خ��ال��د ال��ردي �ع��ان ف��ي الفصل‬ ‫بإشراف باحثين جامعيين‪ .‬ويختم الحميد‪،‬‬ ‫ال� �س ��ادس ع �ش��ر‪ ،‬ف �ي �ق��ول‪ :‬إن األم �ي��ر بدأ‬ ‫ب��ال��وق��وف ع��ن��د ن��ظ��رة األم��ي��ر وث��اق��ب بصيرته عندما‬ ‫استطاع توظيف فكرة «الوقف» لخدمة مؤسسة خيرية بتشجيع البدو على التوطين من خالل تشجيعه للتعليم‬ ‫متخصصة في األنشطة الثقافية‪ ،‬خروج ًا عن النمط والزراعة في المنطقة؛ وأق��ام مشروع وادي السرحان‬ ‫السائد الذي يركز على اإلحسان المباشر للمحتاجين؛ لتوطين البدو عام ‪1379‬هـ (‪1959‬م)‪ ،‬ثم مشروع حماية‬ ‫وتنمية المراعي ‪1382‬هـ (‪1962‬م)‪ ،‬ومشروعات أخرى‬ ‫ما جعلها رائدة في التنمية الثقافية‪.‬‬ ‫لتوطين بدو الشرارات‪ ،‬وبعض عشائر الرولة وشمّر‪.‬‬ ‫وفي الفصل الثالث عشر يتحدث أحد رجال التعليم‬ ‫أما الفصل السابع عشر‪« :‬تنمية األسرة» فقد أعدته‬ ‫بالجوف‪ ،‬د‪ .‬عارف المسعر عن التنمية التعليمية التي‬ ‫عاشتها الجوف وحظيت بها خ�لال فترة عمل األمير ابنته لطيفة والكاتبة هداية درويش‪ ،‬عرضتا فيه جوانب‬ ‫السديري‪ ,‬وقدرته على إقناع األهالي بإرسال بناتهم إلى من الحياة األسرية لصاحب السيرة‪ ،‬البار بوالدته‪ ،‬الذي‬ ‫المدارس أس��وة بتدريس الذكور‪ ،‬وافتتاح أول مدرسة اعتاد أن يفتح قلبه وبيته ألهله وذوي��ه؛ فيعمر الحب‬ ‫للبنات عام ‪1382‬ه��ـ (‪1962‬م)‪ .‬وانتشار المدارس في كل أرجاء منزله‪ .‬وأنه كان دائم االستشارة للمرأة داخل‬ ‫بيته‪ :‬زوجته وبناته‪ ،‬بل إن العالقة مع زوجته تعدت‬ ‫ربوع منطقة الجوف ليصل عددها إلى ‪ 75‬مدرسة عام‬ ‫‪1410‬هـ(تاريخ تقاعد األمير)‪ .‬ثم يحدثنا إبراهيم خليف‬ ‫السطام في الفصل الرابع عشر عن «التنمية البلدية‬ ‫والقروية» في الجوف ودور األمير في االهتمام بالتنظيم‬ ‫ال �ب �ل��دي‪ ،‬وت��رس �ي��خ التخطيط ال �ع �م��ران��ي والمشاريع‬ ‫اإلنشائية ومشاريع اإلسكان الريفية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪113‬‬


‫االستشارة لتصل أحيانا إلى المبادرة من «أم فيصل»‪ ،‬وتوزيعها‪ ،‬وتثبيت بيانات شرح الهوامش حيثما كان ذلك‬ ‫ال�ت��ي ك��ان��ت تنقل ل��ه ح��اج��ات وأوض���اع بعض سيدات ض��روري�اً بما فيه ش��رح غريب ألفاظ الشعر وتعريف‬ ‫أهل الجوف اللواتي يفتحن قلوبهن لها‪ ،‬فتتولى متابعة باألماكن وغيرها‪.‬‬ ‫معالجة قضاياهن مع األمير‪ ،‬الذي لم يكن يتوانى لحظة‬ ‫وأخير ًا فبين أيدينا سيرة موثقّة ألقت الضوء على‬ ‫واحدة عن تقديم المساعدة الممكنة‪.‬‬ ‫ف�ت��رة مهمة م��ن ح�ي��اة رج��ل دول��ة ب�ح��ق‪ ،‬ع��اص��ر ملوك‬

‫وق��د ح��رص م�ح��رر ال�ك�ت��اب على إض��اف��ة ع��دد من‬ ‫ال �م�لاح��ق ال�م�ه�م��ة إل ��ى م� ��ادة ال �ك �ت��اب وه� ��ي‪« :‬ضيف‬ ‫ال�ج��زي��رة» ال��ذي تضمّن ح ��واراً أج��راه محمد الوعيل‪،‬‬ ‫الصحفي في جريدة الجزيرة عام ‪1402‬ه��ـ (‪1981‬م)‪،‬‬ ‫وفيه إجابات مهمة عن تاريخ أس��رة السدارى‪ ،‬ونظرة‬ ‫األمير عبدالرحمن إلى الحياة والعمل العام وطلب العلم‪،‬‬ ‫ورأيه في المرأة والزراعة والشعر وغيرها‪.‬‬

‫الدولة السعودية‪ ،‬منذ عهد الملك عبدالعزيز وأبنائه‬ ‫الملوك‪ :‬سعود وفيصل وخالد وفهد‪ ،‬منذ بدايات بناء‬ ‫الدولة السعودية الحديثة‪ ،‬ثم في مراحل النمو والتطور‬ ‫واالزده ��ار‪ .‬وج��اءت هذه الترجمة سيرة لحياة عملية‬ ‫زاخرة تبصرنا بما بذله من جهد في ترسيخ قواعد العمل‬ ‫العام‪ ،‬وتذكرنا بأسس خدمة الوطن والمواطن‪ ،‬وطرائق‬ ‫ابتكار األفكار الخالقة إلقناع الناس بتغيير عاداتهم‬ ‫وقناعاتهم إلى ما فيه نفعهم ونفع وطنهم ومجتمعهم‪.‬‬ ‫ك�م��ا ت�ح��دث��ت ت��رج�م��ة س �ي��رة األم �ي��ر ع�ب��دال��رح�م��ن عن‬ ‫مشاركة أبناء الجوف في كثير من األعمال التي كان‬ ‫يؤديها‪ ،‬ووثّقت مؤازرتهم له وتفانيهم في العمل الجاد؛‬ ‫فقابلوه حباً بحب‪ ،‬وسطروا ذلك شعراً جميالً‪ ،‬يعكس‬ ‫خبايا دواخلهم الصافية ورضاهم عن أميرهم‪.‬‬

‫والملحق الثاني بعنوان‪« :‬قصائد لم تنشر» جمعها‬ ‫اب�ن��ه زي ��اد ال �س��دي��ري‪ ،‬وه��ي ق�ص��ائ��د كتبها األم �ي��ر بعد‬ ‫ص��دور ديوانه «القصائد» ع��ام ‪1403‬ه��ـ (‪1983‬م)‪ ،‬وقد‬ ‫وجد أكثرها مكتوباً بخط يده‪ ،‬وبعضها كتبها على ورق‬ ‫مستشفى «كليفالند كلينك» حيث كان يتلقى العالج‪ .‬نأمل‬ ‫أن يجد أب�ن��اؤه الفرصة لجمع تلك القصائد واألشعار‬ ‫المتفرقة لألمير‪ ،‬ونشرها ثانية في طبعة ثانية مزيدة‬ ‫حقاً‪ ،‬نحن أمام سيرة حياتية متشعبة لرجل مميز‪،‬‬ ‫ومنقحة لديوان «القصائد»؛ لتكون مجتمعة في مؤلَف تنوعت اهتماماته وإنجازاته بين خدمة الوطن والمواطن‬ ‫واح��د؛ إذ م��ن خ�لال الشعر‪ ،‬يمكنك أن تقرأ شخصية إداري�اً واجتماعياً‪ ،‬والنهوض بالمرأة‪ ،‬وتوطين البادية‪.‬‬ ‫الشاعر‪ ،‬وتقف على أفكاره ومشاعره‪ ،‬ونظرته للحياة‪.‬‬ ‫ثم تلك البصمة التي تركت أث��راً شامخاً ينمو ويكبر‬ ‫والملحق الثالث‪ :‬قائمة ببليوجرافية تضمنت بعض كل يوم‪ ،‬وهي مبادرته الثقافية والتنموية في مشروعه‬ ‫م��ا نشرته الصحف خ�لال فترة إم��ارت��ه م��ن نشاطات الثقافي المتمثل ف��ي دار ال �ج��وف للعلوم وبرامجها‬ ‫إداري��ة واجتماعية‪ ،‬توثّق ج��زءاً من حياته‪ .‬كما احتوى الثقافية والمعرفية‪ ،‬ومركز الرحمانية الثقافي بالغاط‪،‬‬ ‫الكتاب على قائمة كاملة بالمراجع العربية واألجنبية‪ .‬ثم كما أن أبناءه حرصوا على رعاية هذه الغرسة الثقافية‪،‬‬ ‫ملحق لصور ضم ‪ 56‬صورة فوتوغرافية توثّق فعاليات وأم��دوه��ا بعوامل النمو وال�ت�ط��ور؛ م��ا يؤكد أن األمير‬ ‫شارك فيها األمير وصنع العديد من أحداثها‪ .‬إضافة السديري كان ذا بصيرة ثاقبة‪ ،‬عندما غرس مبادرته‬ ‫وحصنها بمن يثق أن��ه سيرعاها ويوفر لها‬ ‫ّ‬ ‫إلى ملحق كشاف األسماء والمواقع الواردة في الكتاب‪ .‬الثقافية‪،‬‬ ‫وتبدو بصمات المحرر واضحة في هيكلة الكتاب‪ ،‬أس �ب��اب ال �ن �م��اء‪ ..‬رح��م ال�ل��ه ص��اح��ب ال �س �ي��رة‪ ،‬األمير‬ ‫واختيار الصور والوثائق وتوزيعها وشرحها‪ ،‬وابراز بعض عبدالرحمن بن أحمد السديري‪ ،‬وبارك في غرسه‪ ،‬ما‬ ‫النصوص المقتبسة المهمة‪ ،‬وتصنيف مقاالت الكتّاب يعود عليه بأجر عظيم يثقل موازينه‪.‬‬ ‫< كاتب وإعالمي أردني مقيم بالسعودية‪.‬‬

‫‪ 114‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫الكتاب ‪ :‬مسيرة التعليم في منطقة الجوف‬ ‫ تاريخ‪ ..‬وسير‪ ..‬وذكريات‪.‬‬ ‫المؤلف ‪ :‬إبراهيم بن خليف بن مسلم السطام‪.‬‬ ‫الناشر ‪ :‬النادي األدبي الثقافي بالجوف ‪2007‬م‪.‬‬

‫> محمود عبدالله الرمحي‬

‫<‬

‫هذا الكتاب أشبة بموسوعة تعليمية جوفية لم تترك أثرا‬ ‫تعليميا في منطقة الجوف إال وتطرقت إليه‪ ،‬وال غرابة في‬ ‫ذلك‪ ،‬فمؤلف الكتاب ابن من أبنائها‪,‬عانى ما عانته وتنفس‬ ‫ما تنفسته‪ ,‬فجاء الكتاب واقعا تعليميا ملموسا خاليا من‬ ‫الخيال واإلدع��اء‪ ،‬مجسداً حقائق تعليمية عاينها وعايشها‬ ‫بنفسه‪.‬‬ ‫نهج المؤلف في كتابه منهجا وصفيا‪ ،‬رسم من خالله‬ ‫لوحة فنية؛ فكأن القارئ يشاهد من خاللها فيلما وثائقيا‬ ‫تعليمياً‪ ،‬استهله بالبدايات الحقيقية للتعليم وما واجهته من‬ ‫معاناة‪ ،‬منتهيا بعام ‪1426‬هـ عام الكليات والجامعات وانتشار‬ ‫الحاسب اآللي وتقنياته في غالبية مدارس المنطقة‪.‬‬ ‫قسّ م المؤلف كتابه الذي جاء في ‪ 582‬صفحة إلى ستة‬ ‫أبواب‪ ،‬تحدث في الباب األول منها عن المالمح الجغرافية‬ ‫َّف بذلك القارئ – في الداخل‬ ‫والحضارية للمنطقة‪ ,‬فعر َ‬ ‫وال �خ��ارج ‪ -‬على م�لام��ح المنطقة الجغرافية ومواردها‬ ‫الطبيعية والبشرية‪ ,‬لينتقل في الباب الثاني إلى البدايات‬ ‫التعليمية األولى في المنطقة‪ ,‬تلك التي اتخذت من البيوت‬ ‫والمساجد مقرا‪ ,‬ومن حفظة القرآن الكريم والمثقفين معلما‪ ,‬‬ ‫ومن أعواد الشجر والبوص وسنا القدور قلما ومدادا‪ .‬وبقدر‬ ‫تلك المعاناة جاءت النتائج مثمرة طيبة إلى أن قيض الله‬ ‫لهذه المنطقة شيخا جليال ومربيا فاضال هو سماحة الشيخ‬ ‫فيصل المبارك‪ ,‬فحدثت معه نقلة تعليمية تركت بصماتها‬ ‫واضحة على أبنائها‪ ,‬فما زال تالميذه آلل��ئ مضيئة حتى‬

‫يومنا هذا‪.‬‬ ‫وفي الباب الثالث تعمق المؤلف في أم��ور التعليم منذ‬ ‫بدئه وحتى عام ‪1426‬هـ‪ ,‬فوصف المسيرة وصفا دقيقا بما‬ ‫رافقها من انتشار وتغير في المستوى‪ ،‬وتوافر في األجهزة‬ ‫والمرافق التي تساعد على سيره‪ .‬وقد تناول كل قطاع من‬ ‫قطاعات المنطقة على حدة بنين وبنات‪ .‬ولم يفته الحديث‬ ‫ع��ن أول�ئ��ك ال��ذي��ن ش��ارك��وا ف��ي التعليم وم��ا ب��ذل��وه وعانوه‪ ,‬‬ ‫فتحدث عن الكتاتيب‪ ،‬وتالمذة الشيخ فيصل رحمه الله‪،‬‬ ‫وأوائ ��ل المعلمين واإلداري �ي��ن‪ ،‬ال��ذي��ن لهم فضل كبير على‬ ‫التعليم في المنطقة‪.‬‬ ‫وع �رّج في الباب الرابع على التعليم الجامعي ومراكز‬ ‫التعليم والكليات العلمية والتربوية والمعاهد‪ ..‬تلك النقلة‬ ‫الحضارية الباهرة‪ .‬وأورد في الباب الخامس صورا من حياة‬ ‫المجتمع التي غلب على بعضها طابع الفكاهة والطرافة‪ ،‬بما‬ ‫فيهما من متعة وتشويق‪ ،‬فضمنه مواقف وذكريات ومشاهد‬ ‫وطرائف وفوائد‪ ،‬إضافة إلى المتاحف والمكتبات والنوادي‪،‬‬ ‫والمؤلفات التي صدرت عن أبناء المنطقة‪.‬‬ ‫أم��ا الباب السادس بما احتواه من مالحق‪ ..‬فقد جاء‬ ‫ترجمة لتلك المسيرة بما شمله من بيانات وص��ور نادرة‬ ‫نقشت ف��ي ال��ذاك��رة‪ ،‬ون �م��اذج لكتب وم��راس�لات وسجالت‬ ‫تقارن الماضي مع الحاضر ال��ذي يعيش عصر الحاسب‬ ‫اآللي وتقنياته‪.‬‬

‫< كاتب وشاعر أردني مقيم في السعودية‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪115‬‬


‫الكتاب ‪ :‬خرافات تكاد تكون معاصرة‬ ‫ مجموعة قصصية‬ ‫المؤلف ‪ :‬محمد اشويكة‬ ‫الناشر ‪ :‬منشورات زاوية – المغرب‬

‫صدرت مجموعة قصصية جديدة للقاص المغربي محمد اشويكة‪ ,‬تحت‬ ‫عنوان‪« :‬خرافات تكاد تكون معاصرة»‪ ,‬عن منشورات زاوية بالرباط‪.‬‬ ‫تمثل هذه المجموعة خطوة رابعة في مسار اإلب��داع القصصي للقاص‬ ‫محمد اشويكة بعد (الحب الحافي) و(النصل والغمد) و(احتماالت «قصة‬ ‫ترابطية»)؛ وذلك في سياق اشتغاله التجريبي الفكري على تحوالت اإلنسان‬ ‫المغربي الوجودية والمعرفية والقيمية والجمالية؛ من خالل رصد بعض‬ ‫مفارقاته العجيبة‪ :‬شعوذة‪/‬عقل‪ ،‬تقليد‪/‬حداثة‪ ،‬انفتاح‪/‬تطرف‪ ،‬سرعة‪/‬بطء‪،‬‬ ‫غنى‪/‬فقر‪ ،‬علم‪/‬أمية؛ موظفاً تقنيات سردية‪ ،‬مرتبطة بمجاالت اهتمامه‬ ‫(جماليات بصرية‪ ،‬فلسفة‪ ،‬سوسيولوجيا‪.)...‬‬ ‫تقع المجموعة في ‪ 96‬صفحة من القطع المتوسط‪ ،‬وتحتوي على سبعة‬ ‫نصوص قصصية‪ ،‬تَ� َف��اعَ � َل معها الفنان المغربي محمد ش ��ردودي المقيم‬ ‫بفرنسا‪ ،‬بحس تجريدي وتجريبي فائق‪ ،‬فاستوحى من عوالمها سبع لوحات‬ ‫تضمنتها المجموعة‪ ،‬بينما وَشَّ ى غالفها لوحة فنية للتشكيلي المغربي محمد‬ ‫المرابطي‪.‬‬ ‫من أجواء المجموعة نقتطف لكم المقطع التالي‪« :‬انساقت إلى ذهني عدة‬ ‫أسئلة جنونية كادت تفقدني صوابي‪ ،‬تماسكت نفسي وهدّأت روع أعصابي‪.‬‬ ‫خفف دعاء الحاجة التي تمسك يدي اليمنى من قلقي»‪.‬‬

‫‪ 116‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫في قصة «مفاجأة ماجد»‪ :‬إثارة تفكير الناشئة دون تدخّ ل‬

‫الكتاب ‪ :‬مفاجأة ماجد ‪( -‬قصة لألطفال)‪.‬‬ ‫المؤلف ‪ :‬محمد صوانة‪.‬‬ ‫الناشر ‪ :‬م��ؤس��س��ة ع��ب��دال��رح��م��ن ال��س��دي��ري الخيرية‪،‬‬ ‫‪1425‬ه����ـ‪2004 /‬م‪ ،‬م��ن القطع ال��م��ت��وس��ط‪28 ،‬‬ ‫صفحة باأللوان‪ ،‬تحوي ‪ 16‬لوحة‪.‬‬

‫> محمد محمود السويركي‬

‫<‬

‫ث�م��ة مجموعة م��ن ال�ق�ض��اي��ا المهمة المطروحة‬ ‫بأسلوب يتماهى مع مستوى التفكير لدى الناشئة من‬ ‫الفئة العمرية التي يتوجه إليها الكاتب والقاص األردني‬ ‫محمد صوانة(‪ )1‬في قصة «مفاجأة ماجد»‪ .‬وقد جاءت‬ ‫في طروحات وأفكار ثرية‪ ,‬جديرة بالعناية والمناقشة؛‬ ‫نلمس فيها غنى روح الكاتب وتجلياته ف��ي رسالته‬ ‫الموجهة نحو فئة عمرية مهمة‪ .‬لقد فاجأنا الكاتب‬ ‫برؤية واعدة‪.‬‬ ‫نعم ثمة قضايا عديدة تشغل بال التربويين واآلباء‬ ‫على حد سواء‪ ،‬نراها أشغلت بال الكاتب نفسه‪ ،‬بدءاً‬ ‫من اللحظات األولى للقصة‪ ،‬ومرورا بالمحطات التي‬ ‫استوقفنا بها‪ ،‬وانتهاء بمسك الختام حيث التكريم الذي‬ ‫ناله بطل القصة‪ :‬ماجد‪ ,..‬ومن تلك القضايا‪ :‬قضية‬ ‫إعمال الفكر‪ ,‬والتفكير‪ ,‬واالنطالق نحو األفق األرحب‬ ‫عبر الرحلة والتعرف على المحيط في حياة الفرد‪ ,‬‬ ‫وأهمية العمل الجماعي المنظم‪ ,‬وكذلك التركيز على‬ ‫أهمية المطالعة اليومية‪.‬‬ ‫ها هو يتحدث عن الرحلة بوصفها تمثل ‪ -‬لدى‬ ‫الطفل ‪ -‬ذروة النشاط الذهني‪ ،‬وخاصة عند أولئك‬ ‫التالميذ على مختلف مستوياتهم وأع�م��اره��م‪ .‬وبدأ‬

‫الكاتب يشد انتباه قرائه من األط�ف��ال منذ الكلمات‬ ‫األولى في القصة‪ ،‬باليوم الجميل الذي أمضاه التالميذ‬ ‫في رحلة ممتعة نحو مصانع المدينة؛ فيثير إحساس‬ ‫القارئ بالجمال الطبيعي والعفوي ال��ذي نلمسه في‬ ‫شخصيته هو ككاتب‪ ..‬األمر الذي يجعل المتلقي يتفاعل‬ ‫مع المرسل (الكاتب)؛ إذ تصبح الرحلة رحلتين‪ :‬رحلة‬ ‫يصطحب فيها المعلم طلبته إلى المنشآت والمصانع‬ ‫وبقية مرافق الوطن األخ��رى‪ ,‬ورحلة أخ��رى‪ ..‬جمالية‬ ‫إب��داع�ي��ة طرفاها الكاتب نفسه والمتلقي أي��ا كانت‬ ‫شريحته وفئته‪.‬‬ ‫وم��ن هنا يمكن القول إن الكاتب نجح في تقديم‬ ‫رسالة جديدة تتميز برقيها الفكري‪ ،‬جنباً إلى جنب‬ ‫م��ع ال�ط��رح الفني واألدب ��ي‪ ،‬م��ن خ�لال بعض اللفتات‬ ‫الجمالية واللماحية؛ التي نلحظها في انتقاء المفردات‬ ‫وال �ص��ور الفنية‪ ,‬وح�ل�ق��ات ال�ت�ع��اون ال �م��دروس��ة التي‬ ‫يعقدها بين أف��راد الجماعة‪ ,‬والرشاقة والعذوبة في‬ ‫التعبير‪ ,‬واح�ت��رام ال��رأي وال��رأي اآلخ��ر أثناء الحوار‪ ,‬‬ ‫ال عن الجانب األخالقي الذي يوظّ فه الكاتب في‬ ‫فض ً‬ ‫إشاراته اإلبداعية بلماحية‪ ..‬وغيرها كثير‪ ,‬سواء كان‬ ‫في الظاهر أو الباطن‪.‬‬

‫< كاتب وناقد من األردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪117‬‬


‫الكتاب ‪ :‬دوم���ة ال��ج��ن��دل‪ :‬منذ ظ��ه��ور االس�ل�ام حتى نهاية‬ ‫الدولة األموية (دراسة تاريخية حضارية)‪.‬‬ ‫المؤلف ‪ :‬نايف بن علي السنيد الشراري‬ ‫الناشر ‪ :‬دارة الملك عبدالعزيز ‪1426‬هـ‬

‫> د‪ .‬عبدالعزيز بن سعود الغزي‬

‫<‬

‫صدر حديثاً عن دارة الملك عبدالعزيز كتاب أصله رسالة ماجستير‪ ،‬عنوانه‪:‬‬ ‫دومة الجندل منذ ظهور اإلسالم حتى نهاية الدولة األموية‪ :‬دراسة تاريخية حضارية‪،‬‬ ‫للباحث نايف بن علي السنيد الشراري‪ .‬ظهر الكتاب بالحجم المتوسط‪ ،‬ويشتمل‬ ‫على (‪ )439‬صفحة‪ .‬يتكون الكتاب من تقديم ومقدمة‪ ،‬ثم التمهيد الذي اشتمل على‬ ‫التسمية‪ ،‬فالموقع والحدود‪ ،‬فدومة الجندل في العصر الجاهلي‪ :‬تاريخها وقبائلها‪،‬‬ ‫ثم دومة الجندل في العصر اآلشوري (‪ 612 - 911‬ق‪ .‬م)‪ ،‬فدومة الجندل في العصر‬ ‫البابلي (‪ 539 -725‬ق‪ .‬م)‪ ،‬فدومة الجندل في عصر اليونان (أوائل القرن الرابع ق‪.‬‬ ‫م)‪ ،‬والرومان (‪626 -272‬م)‪ ،‬واألنباط (‪ 312‬ق‪ .‬م ‪106 -‬م)‪ ،‬ثم قبائل دومة الجندل‬ ‫في العصر الجاهلي‪.‬‬ ‫وه��ذا الكتاب اشتمل على ج��زء مكون من عشرين صفحة‪ ،‬خصصها المؤلف‬ ‫للحديث عن دوم��ة الجندل خ�لال العصور السابقة على ظهور اإلس�ل�ام‪ ،‬وثماني‬ ‫عشرة صفحة للحديث عن المظاهر اآلثارية المعمارية القديمة واإلسالمية فيها‪.‬‬ ‫كما خصص لوحات لآلثار اإلسالمية‪ ،‬منها لوحات تحمل مظاهر معمارية‪ ،‬ولوحات‬ ‫تحمل الكتابات اإلسالمية المبكرة التي عثر عليها في دومة الجندل‪ ،‬والتي يكون‬ ‫أسفلها أحياناً كتابات سابقة على ظهور اإلسالم‪ .‬فكل يعشق ما يحلو له وأنا أعشق‬ ‫القديم‪ ،‬فأينما وجدته التفت إليه‪ ،‬فهو األصل الخيال‪ ،‬وهو المتعة وروح المستقبل‪،‬‬ ‫االستراحة لمن غمه واقعه وأشرقه مستقبله‪.‬‬

‫‪ 118‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬


‫ول�ع�ل��ه م��ن ال�م�ن��اس��ب أن أذك ��ر ق�ب��ل أن أع ��ود إلى‬ ‫محتويات الكتاب أن الدراسات الميدانية األثرية تفيد‬ ‫أن دومة الجندل من المواقع التي استوطنها اإلنسان‬ ‫منذ القدم‪ ،‬ولعل من أهم معالمها اآلثارية حصن مارد أو‬ ‫قلعة مارد كما تسمى أحياناً‪ ،‬تلك القلعة التي تتربع على‬ ‫قمة جبل منيع‪ ،‬شبيهة بقالع عديدة عرفت في الجزيرة‬ ‫العربية‪ ،‬مثل‪ :‬قلعة البحرين في البحرين‪ ،‬وقلعة تاروت‬ ‫في جزيرة تاروت بالمنطقة الشرقية للمملكة العربية‬ ‫السعودية‪ ،‬وقلعة مرحب في خيبر بالمدينة المنورة‪،‬‬ ‫وقلعة زعبل في سكاكا بمنطقة الجوف‪ ،‬وعدد كبير من‬ ‫القالع في جنوبي الجزيرة العربية وجنوبيها الشرقي‪.‬‬ ‫ونمطية تلك القالع تفيد أنها شيّدت خالل فترات كان‬ ‫اإلنسان ال يأمن على نفسه وماله‪ ،‬ومن المؤكد أن قلعة‬ ‫دومة الجندل «قلعة مارد» تعود إلى ما قبل اإلسالم‪،‬‬ ‫وع�ن��دم��ا ج��اء اإلس�ل�ام ك��ان��ت ع��ام��رة بأهلها‪ ،‬وكذلك‬ ‫خ�لال ال�ق��رون الثالثة الميالدية األول��ى‪ ،‬عندما أراد‬ ‫جيش الزباء‪ ،‬ملكة تدمر‪ ،‬اقتحامها فعجز عن ذلك‪،‬‬ ‫فقالت الملكة قولها المشهور‪« :‬تم َّر َد مارد وعَ َّز األبلق»‪.‬‬ ‫وتحتضن دوم��ة الجندل العديد من المواقع اآلثارية‬ ‫والتراثية‪ ،‬وكان يسكنها عند ظهور اإلسالم األكيدر بن‬ ‫عبدالملك السكوني‪ ،‬المنحدر من قبيلة كندة‪.‬‬

‫العسكرية عليها بادئاً بحملة أسامة بن زيد ] ‪-‬‬ ‫سنة (‪11‬هـ)‪ ،‬ثم حملة عياض بن غنم وخالد بن الوليد‬ ‫]ما (‪12‬هـ)‪ ،‬فقبائل دومة الجندل وحركة الفتوح‪،‬‬ ‫فدومة الجندل وحوادث الفتنة‪ ،‬ثم األحوال اإلدارية‪.‬‬ ‫وتحدث في الفصل الثالث عن دومة الجندل في‬ ‫عصر بني أمية‪ ،‬مبيناً أثر قبائل دومة الجندل في‬ ‫الحياة السياسية‪ ،‬من حيث قيام الدولة األموية‪ ،‬ثم‬ ‫إعادة تكوينها‪ ،‬فأثرها في الجوانب اإلدارية‪ ،‬وأثرها‬ ‫في الحركات والثورات‪ ،‬ثم أثرها في إضعاف الدولة‬ ‫األموية وإسقاطها‪ .‬وتحدث كذلك عن الهجرة إلى‬ ‫مناطق الفتح اإلسالمي‪ ،‬ثم األحوال اإلدارية‪.‬‬ ‫وف��ي الفصل ال��راب��ع ج��اء الحديث عن الجوانب‬ ‫ال الحياة االجتماعية‬ ‫الحضارية في دومة الجندل شام ً‬ ‫واالقتصادية والعلمية والفكرية والعمرانية‪ .‬واشتملت‬ ‫العمرانية على حصن دومة الجندل‪ ،‬ومسجد عمر بن‬ ‫الخطاب ]‪ ،‬ومسجد دومة الجندل األثري‪ ،‬وبقايا‬ ‫المدينة القديمة (حي دومة س القديم) وقلعة زعبل‬ ‫وسوق دومة الجندل وسورها‪.‬‬

‫وبعد ذلك جاءت الخاتمة التي أُتْ ِبعَت بالمالحق‬ ‫للملوك وال�م�ل�ك��ات وال �ح �ك��ام ال��ذي��ن ح�ك�م��وا دومة‬ ‫ال�ج�ن��دل حتى نهاية ال��دول��ة األم��وي��ة سنة ‪132‬هـ‪ ,‬‬ ‫ناقش الباحث في الفصل األول دومة الجندل فملحق للخرائط والصور‪ ،‬فالمصادر والمراجع‪.‬‬ ‫ف��ي ال �ع �ص��ر ال �ن �ب��وي‪ ،‬ش��ام�ل�اً األح � ��وال الدينية‬ ‫تميز هذا العمل بمعالجته فترة زمنية محددة ال‬ ‫واألح��وال اإلداري��ة‪ ،‬وقبائل دومة وعالقتها بظهور‬ ‫تتجاوز م��ائ��ة واثنتين وأرب�ع�ي��ن س�ن��ة‪ ،‬ه��ذا م��ن حيث‬ ‫اإلس�لام‪ ،‬والغزوات والسرايا النبوية عليها‪ ،‬فبدأ‬ ‫الزمن‪ ،‬أما من حيث المكان فهي مقصورة على دومة‬ ‫بالحمالت المباشرة الموجهة إليها‪ ،‬وأنهى الفصل‬ ‫ال�ج�ن��دل‪ .‬وال ش��ك أن ه��ذي��ن ال�ت�ح��دي��دي��ن‪ :‬الزماني‬ ‫بحديث عن وفود قبائل دومة على النبي صلى الله‬ ‫والمكاني يُحسبان لصالح الكتاب‪ .‬وميزة أخرى تميز‬ ‫عليه وسلم بالمدينة المنورة‪.‬‬ ‫بها الكتاب‪ ،‬تتمثل بمنهج توثيق معلوماته المتميز؛ فقد‬ ‫وخص الفصل الثاني بالحديث عن دومة الجندل حرص الكاتب على توثيق معلوماته بأمانة واضحة‪،‬‬ ‫في عصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬فتحدث عن الحمالت ومناقشة قضايا بحثة‪ ،‬مناقشة هادئة ومثمرة‪.‬‬ ‫< أكاديمي سعودي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ ‪119‬‬


‫الفاسي تستعرض تاريخ املرأة النبطية في كتاب جديد‬ ‫ب ‪ :‬‬ ‫الكتا ‬ ‫ ‬ ‫المؤلف ‪ :‬‬ ‫الناشر ‪ :‬‬

‫المرأة في الجزيرة العربية قبل اإلسالم‪ :‬األنباط‬ ‫(‪)Women in Pre-Islamic Arabia: Nabataea‬‬ ‫الدكتورة هتون أجواد الفاسي‬ ‫دار آركيوبرس البريطانية (‪)Archaeopress-British‬‬

‫يتناول الكتاب تاريخ ال�م��رأة في الجزيرة العربية قبل‬ ‫اإلسالم في الفترة ما بين القرن األول قبل الميالد والقرن‬ ‫الثاني الميالدي‪ ،‬أي منذ ما يقارب ألفي عام‪ ،‬ويركز على‬ ‫تاريخ المرأة النبطية خالل فترة دولة األنباط‪ ،‬التي سادت‬ ‫في الشمال الغربي للجزيرة العربية والممتدة حالياً في‬ ‫السعودية واألردن ومصر وسوريا وفلسطين‪.‬‬ ‫ويعتمد العمل في مصادره على النقوش الكتابية واآلثار‬ ‫والمصادر الكالسيكية إضافة إلى الدراسات النسوية‪ ،‬وما‬ ‫استجد حديثاً في علم التأريخ‪ .‬كما قامت مؤلفة الكتاب‬ ‫برحلة ميدانية مطولة شملت مدائن صالح والعال وخيبر‬ ‫وتبوك وقُرية والبدع (مغاير شعيب) ومقنا وعينونية وضبا‬ ‫وال��وج��ه ورواف ��ة وال��دي�س��ة وتيماء ودوم��ة الجندل وسكاكا‬ ‫والقريات وإثرا والكاف بالمملكة العربية السعودية والبتراء‬ ‫والبيضا ووادي رم وخربة الذريح وخربة تنور وسلع والطفيلة‬ ‫ومادبا وجبل نبو وأم الجمال وأم القطين في األردن وتدمر‬ ‫وبصرى والسويداء وخربة الخضر ودوم��ه وصلخد وسيع‬ ‫وقنوات وأوغاريت في سوريا والجبيل وصور وصيدا وبعلبك‬ ‫والنبطية في لبنان وووادي مكتب وطريق قوافل جنوب سيناء‬ ‫ووادي سيح سدره ووادي حجاج وسرابيط الخادم وغيرها‬ ‫في شبه جزيرة سيناء‪ ،‬وذلك للوقوف على اآلثار المتعلقة‬ ‫بموضوع الكتاب‪.‬‬ ‫وسؤال الدراسة األول هو‪ :‬هل كانت المرأة النبطية قد‬ ‫تمتعت بمكانة متميزة بالنسبة لمجتمعها والحقبة التاريخية‬ ‫المشار إليها؟ وبعد التدليل على ذلك‪ ،‬تنتقل الدراسة إلى‬ ‫التساؤل الثاني ح��ول العوامل التي جعلت بإمكان المرأة‬ ‫النبطية أن تبرز ف��ي النقوش والعملة‪ ،‬وت�ك��ون لها مكانة‬ ‫متميزة‪ ،‬مقارنة بمعاصراتها‪ .‬ويسعى الكتاب بشكل خاص‬

‫‪ 120‬اجلوبة ‪ -‬شتاء ‪1429‬هـ‬

‫إلى تعويض تهميش دور المرأة عبر التاريخ‪ ،‬من خالل رواية‬ ‫ما يُعرف من قصة المرأة النبطية‪ ،‬التي تمثل جزءاً مهماً من‬ ‫التاريخ اإلنساني عموماً‪ ،‬والعربي خصوصاً‪.‬‬ ‫يقول الدكتور عبدالرحمن الطيب األن�ص��اري عن هذا‬ ‫ال�ك�ت��اب‪« :‬أج��د أن ه��ذا عمل متميز‪ ،‬ألن��ه يناقش أفكاراً‬ ‫جديدة في مجال تاريخ الجزيرة العربية القديم والمرأة‬ ‫بشكل خاص‪ .‬فهو ليس تنقيباً أثرياً عادياً وإنما تنقيب في‬ ‫النصوص والمجتمع‪ ،‬ولذلك ج��اءت النتائج على مستوى‬ ‫لم تعهده الدراسات التاريخية السابقة في تاريخ الجزيرة‬ ‫العربية القديم؛ ج��اءت ج��دي��دة ومغرية بالبحث ف��ي هذا‬ ‫االتجاه بشكل قوي‪ .‬ونرجو أن يتجه الباحثون إلى هذا النوع‬ ‫من البحوث الحضارية واالجتماعية والنقد التاريخي الواعي‬ ‫في دراسة التاريخ واآلثار»‪.‬‬ ‫أم��ا أس�ت��اذ ال��دراس��ات السامية ف��ي جامعة مانشستر‬ ‫والخبير المعروف في تاريخ األنباط‪ ،‬البروفيسور جون هيلي‪،‬‬ ‫فيقول‪« :‬في هذا الكتاب تضع الدكتورة هتون الفاسي منهجية‬ ‫جديدة‪ ،‬وتقرّب وجهة نظر جديدة إلى موضوع دور المرأة‬ ‫في الجزيرة العربية القديمة‪ ،‬وهو دور قد يفاجئ البعض‬ ‫وقد يزعج آخرين‪ ،‬لكنها تعد إضافة حقيقية وجديدة تماماً‪،‬‬ ‫تثري فهمنا لدور المرأة في إطار المنهجية الحديثة»‪.‬‬ ‫أما أستاذ التاريخ الروماني بجامعة ميامي‪ ،‬البروفيسور‬ ‫دافيد جراف‪ ،‬فيقول‪« :‬من أكثر ما وجدته إبداعياً وجذاباً‬ ‫ف��ي ه��ذا الكتاب قصة المدينتين « ح��ول الحجر (مدائن‬ ‫صالح) والرقيم (البتراء) كفاتحة وخاتمة لمناقشة تجذب‬ ‫القارئ إلى األبعاد األكثر تخصصاً في الكتاب‪ ،‬وتدفع القارئ‬ ‫إلى المزيد من اإلثارة وحب االستطالع‪ .‬باختصار‪ ،‬في وجهة‬ ‫نظري‪ ،‬هذا العمل هو جوهرة‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.