Joba-23

Page 1

‫‪ -‬العدد ‪ - 23‬ربيع ‪1430‬هـ ‪2009 -‬م‬

‫صدر حديث ًا عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬

‫مواجهات مع‪:‬‬ ‫مفلح العدوان‬ ‫ثريا العريض‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‬ ‫الشويحطية أقدم موقع‬ ‫أثري غربي آسيا‬ ‫ظاهرة التمرد والعصيان‬ ‫عند املراهقني‬ ‫بني الترجمة والتعريب‬ ‫السفر موضوع روائي‬ ‫قصص‬ ‫وقصائد مختارة‬

‫ملف العدد‪ :‬الطيب صالح‬

‫مبشاركة‪ :‬محمد جميل أحمد – ظافر اجلبيري‬ ‫‪23‬‬

‫خالد ربيع السيد – مأمون التلب‬

‫‪23‬‬


‫من إصدارات اجلوبة‬

‫صورة من احلياة البرية في ربيع منطقة اجلوف‬


‫شجرة غضاة أو الغضى؛ تقف وحيدة في نفود اجلوف‪ ،‬بعد أن اقتطع احلطابون رفيقاتها!‬ ‫تصوير‪ :‬سلطان الزيد‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫‪1‬‬


‫‪ -‬العدد ‪ - 23‬ربيع ‪1430‬هـ ‪2009 -‬م‬

‫صدر حديث ًا عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬

‫مواجهات مع‪:‬‬ ‫مفلح العدوان‬ ‫ثريا العريض‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‬ ‫الشويحطية أقدم موقع‬ ‫أثري غربي آسيا‬ ‫ظاهرة التمرد والعصيان‬ ‫عند املراهقني‬ ‫بني الترجمة والتعريب‬ ‫السفر موضوع روائي‬ ‫قصص‬ ‫وقصائد مختارة‬

‫ملف العدد‪ :‬الطيب صالح‬

‫مبشاركة‪ :‬محمد جميل أحمد – ظافر اجلبيري‬ ‫‪23‬‬

‫خالد ربيع السيد – مأمون التلب‬

‫‪23‬‬


‫من إصدارات اجلوبة‬

‫صورة من احلياة البرية في ربيع منطقة اجلوف‬


‫العدد ‪23‬‬ ‫ربيع ‪1430‬هـ ‪2009 -‬م‬

‫ملف ثقافي ربع سنوي‬ ‫يصدر عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬

‫‪ -‬العدد ‪ - 23‬ربيع ‪1430‬هـ ‪2009 -‬م‬

‫صدر حديث ًا عن مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬

‫مواجهات مع‪:‬‬ ‫مفلح العدوان‬ ‫ثريا العريض‬ ‫عبدالرحمن الدرعان‬ ‫الشويحطية أقدم موقع‬ ‫أثري غربي آسيا‬

‫املشرف العام‬

‫ظاهرة التمرد والعصيان‬ ‫عند املراهقني‬ ‫بني الترجمة والتعريب‬ ‫السفر موضوع روائي‬

‫إبراهيم احلميد‬

‫قصص‬ ‫وقصائد مختارة‬

‫ملف العدد‪ :‬الطيب صالح‬

‫مبشاركة‪ :‬محمد جميل أحمد – ظافر اجلبيري‬

‫املراسالت‬ ‫توجه باسم املشرف العام‬ ‫ّ‬

‫هاتف‪)+966( )4( 6245992 :‬‬ ‫فاكس‪)+966( )4( 6247780 :‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 458‬سكاكا‬ ‫اجلـ ــوف ‪ -‬اململكة العربية السعودية‬ ‫‪aljoubah@gmail.com‬‬ ‫‪www.aljoubah.com‬‬

‫ردمد ‪ISSN 1319 - 2566‬‬

‫سعر النسخة ‪ 8‬رياالت‬ ‫تطلب من الشركة الوطنية للتوزيع‬

‫‪23‬‬

‫خالد ربيع السيد – مأمون التلب‬

‫‪23‬‬

‫قواعد النشر‬

‫‪ - 1‬أن تكون املادة أصيلة‪.‬‬ ‫‪ - 2‬لم يسبق نشرها‪.‬‬ ‫‪ - 3‬تراعي اجلدية واملوضوعية‪.‬‬ ‫‪ - 4‬تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها‪.‬‬ ‫‪ - 5‬ترتيب املواد في العدد يخضع العتبارات فنية‪.‬‬ ‫‪ - 6‬ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني والكتّاب‪،‬‬ ‫على أن تكون املادة باللغة العربية‪.‬‬ ‫اجلوبة من األسماء التي كانت تطلق على منطقة اجلوف سابق ًا‬

‫الناش ـ ـ ـ ــر‪ :‬مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‬ ‫أسسها األمير عبدالرحمن بن أحمد السديري (أمير منطقة اجلوف من ‪1362/9/5‬هـ‬ ‫ ‪1410/7/1‬هـ املوافق ‪1943/9/4‬م ‪1990/1/27 -‬م) بهدف إدارة ومتويل املكتبة العامة‬‫التي أنشأها عام ‪1383‬هـ املعروفة باسم دار اجلوف للعلوم‪ .‬وتتضمن برامج املؤسسة‬ ‫نشر الدراسات واإلبداعات األدبية‪ ،‬ودعم البحوث والرسائل العلمية‪ ،‬وإصدار مجلة‬ ‫دورية‪ ،‬وجائزة األمير عبدالرحمن السديري للتفوق العلمي‪ ،‬كما أنشأت روضة ومدارس‬ ‫الرحمانية األهلية للبنني والبنات‪ ،‬وجامع الرحمانية‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫الـمحتويــــات‬

‫‪6.......................‬‬ ‫الطيب صالح‪ ..‬سرد من أفق آخر‬

‫‪90.....................‬‬ ‫الدرعان‪ :‬الكتابة كوصلة الرعد‬

‫‪108....................‬‬ ‫الشويحطية‬ ‫أقدم موقع آثري غربي آسيا‬

‫‪101 ...................‬‬ ‫ظاهرة التمرد والعصيان عند املراهقني‬ ‫لوحة الغالف‪:‬‬

‫زه���رة ال��رب �ح�لا أو «ال��رب �ح �ل��ى» م��ن ربيع‬ ‫اجلوف‪ ,‬تصوير‪ :‬سلطان ضيف الله الزيد‪.‬‬

‫االفتتاحية‪4.............................................................‬‬ ‫ملف العدد‪ :‬الطيب صالح ‪ -‬محمد جميل أحمد‪6...................‬‬ ‫دراسات‪ :‬التعايش واالندماج بين الشاعر والقارئ عند سعد سعيد‬ ‫الرفاعي ‪ -‬د‪ .‬نادية لطفي ناصر ‪22.................................‬‬ ‫روايات السفر (دراسة لنماذج مختارة) ‪ -‬سيد الوكيل ‪34.............‬‬ ‫قصص قصيرة‪ :‬جميل‪ ...‬ألنـه‪ ...‬بعيـــــد! ‪ -‬حنان الرويلي ‪45.......‬‬ ‫الباب في مهمة خاصة ‪ -‬فهد المصبح ‪46............................‬‬ ‫قصص قصيرة جداً ‪ -‬محمد صوانه‪48...............................‬‬ ‫قصص قصيرة جداً ‪ -‬عبير المقبل‪50................................‬‬ ‫شتاء السارد ‪ -‬محمد النجيمي ‪51....................................‬‬ ‫قصص قصيرة جداً ‪ -‬د‪.‬جميل حمداوي‪52...........................‬‬ ‫وطن الخلود‪ - ..‬فيصل الدغماني‪53..................................‬‬ ‫نحن‪ ...‬غربة وطــن! ‪ -‬المغيرة الهويدي‪54............................‬‬ ‫فصل من رواية‪ :‬الشمس التي رحلت ‪ -‬محمد عطيف ‪55...........‬‬ ‫شعر‪ :‬األرض المتخيلة ‪ -‬إبراهيم حسو ‪60...........................‬‬ ‫عاهدته ‪ -‬أحمد عكور‪62..............................................‬‬ ‫حبيبي‪ ..‬وطني ‪ -‬السيد موسى البدري ‪63............................‬‬ ‫دروب الكرى ‪ -‬سماره غازي الفرطوسي ‪64...........................‬‬ ‫رحلة ‪ -‬د‪ .‬حافظ المغربي‪65..........................................‬‬ ‫قصيدتان ‪ -‬عبدالرحيم الخصار‪66...................................‬‬ ‫على وشك االختباء‪ - ! ..‬عبدالله الزماي‪67..........................‬‬ ‫من قصيدة (خفقات قلب) ‪ -‬دكتور عبدالرحيم مراشدة‪68...........‬‬ ‫هواجس ‪ -‬جاك صبري شماس ‪69....................................‬‬ ‫نقد‪ :‬قراءة في مجموعة هالل الحجري الشعرية «هذا الليل لي»‬ ‫كتابة الليل‪ ..‬ليل الكتابة ‪ -‬إبراهيم الحجري‪70.......................‬‬ ‫النقد وتنقية الواقع الشعري العربي ‪ -‬حسين محي الدين سباهي‪75.‬‬ ‫وقوفا حيال غابة ذات مساء متجمد ‪ -‬ترجمة‪ :‬خلف القرشي ‪78....‬‬ ‫مواجهات‪ :‬حوار مع القاص مفلح العدوان ‪ -‬محمد البشتاوي‪80....‬‬ ‫حوار مع الشاعرة الدكتورة ثريا العريض ‪ -‬محمد نجيم ‪85..........‬‬ ‫حوار مع القاص السعودي عبدالرحمن الدرعان‪ ،‬محمود الرمحي‪90......‬‬ ‫نوافذ‪ :‬البعد السوسيولوجي للعولمة الثقافية ‪ -‬محمد قدس ‪94....‬‬ ‫األعمال األدبية بين الترجمة والتعريب ‪ -‬محمود خلف الله ‪97.......‬‬ ‫ظاهرة التمرد والعصيان عند المراهقين ‪ -‬خوله مناصرة ‪101.......‬‬ ‫«حلوة» الجـوفــي ‪ -‬فواز بن صالح الجعفر ‪103........................‬‬ ‫من روائع األدب األندلسي ‪ -‬نورا علي ‪105............................‬‬ ‫الشويحطية ‪ -‬د‪ .‬خليل إبراهيم المعيقل ‪108..........................‬‬ ‫فنون‪ :‬التصوير الفوتوغرافي‪ ..‬عل ٌم وفن ‪ -‬أيمن السطام‪110........‬‬ ‫مسرح‪ :‬النص المسرحي العربي ‪ -‬مهند صالحات ‪113..............‬‬ ‫مال واقتصاد‪ :‬حقائق غائبة يكشفها اإلقتصاد اإلسالمي‬ ‫في ضوء األزمة المالية الراهنة ‪ -‬أحمد محمد نصار‪116............‬‬ ‫قراءات‪ :‬عصام أبو زيد‪ ،‬د‪ .‬علي هنداوي‪ ،‬د‪ .‬نواف الذويبان ‪118....‬‬ ‫األنشطة الثقافية بالمؤسسة ‪ -‬عماد المغربي ‪128..............‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫‪3‬‬


‫من دومة اجلندل إلى دومة الطيب صالح‬ ‫> إبراهيم احلميد‬ ‫كثير من معجبي الطيب صالح‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬لم يكن مَدخلي إلى عوالمه‬ ‫على عكس ٍ‬ ‫«موسم الهجرة إلى الشمال» بل «دومة ود حامد»‪.‬‬ ‫شدني إلى الرواية تعلقي بمدينتي التوأم‪ ،‬دوم��ة الجندل‪ ،‬تلك المدينة التي لها‬ ‫في وجداني ووج��دان كل ساكني ه��ذه األرض‪ ،‬عشق ووشائج ت�ج� َّذرت في األرض‪،‬‬ ‫بعمق جذور نخيلها‪ ،‬وزيتونها‪ ،‬و كينها‪ ،‬وحورها‪ ،‬وبقوة بأس جندلها الذي يُ َز ِ ّي ُن قلعتها‬ ‫الشهيرة منذ ثالثة أالف عام‪.‬‬ ‫يتنقل قارئ «دومة ود حامد» بين حمير محجوب وحسين‪ ..‬والنخلة التي يرغب في‬ ‫شرائها مقابل عشرين جنيها‪ .‬في نخلة على الجدول‪ ،‬إحدى القصص السبعة التي‬ ‫يشكلها الكتاب‪ ،‬م��رورا بتفاصيل الحياة في القرية‪ ،‬ونبوءة الشيخ دوليب بالقحط‪،‬‬ ‫وتوقف الفيضان من النيل الذي كان موارا في ماضي األيام‪..‬‬ ‫وتتابع القصص التي تأتي تباعا‪ :‬نخلة على الجدول؛ حفنة تمر؛ رسالة إلى إيلين؛‬ ‫حتى يصل إلى «دومة ود حامد» ‪ -‬القصة المركزية التي تجلى فيها الطيب صالح‬ ‫ساردا ‪ -‬حتى نصل إلى «إذا جاءت»‪« ،‬هكذا يا سادتي»‪« ،‬مقدمات»‪.‬‬ ‫في «دومة ود حامد»‪ ،‬تتشابه الظروف مع حياة الناس في «دومة الجندل»‪ ،‬ولهذا‬ ‫أسرتني بالحياة حولها‪ ،‬فالهم الذي يشغل أهالي «دوم��ة الجندل»‪ ،‬هو نفسه الذي‬ ‫يشغل بطلنا في «دوم��ة ود حامد»‪ ،‬حيث تتنازعه رغبات الرحيل والهجرة‪ ،‬كما أن‬ ‫نشأة «دومة ود حامد» بأسطوريةِ وغرائبية حكايتها التي بدأها ود حامد‪ ،‬تتشابه مع‬ ‫الظروف التي و ُِجدت في «دومة الجندل»‪ :‬واحة وفيرة المياه وسط صحراء شاسعة‪،‬‬ ‫حتى يصل إلى ذروة النشوة التي استثارت كل أهالي «دوم��ة الجندل»‪ ،‬حينما يقول‬ ‫البطل « والله لو كانت دومتكم هذي «دومة الجندل»‪ ..‬وكنتم المسلمين‪ ..‬تقاتلون مع‬ ‫علي ومعاوية‪ « ..‬في إشارة إلى حادثة التحكيم الشهيرة التي وقعت بين اإلمام علي بن‬ ‫أبي طالب‪ ،‬والخليفة معاوية بن أبي سفيان‪.‬‬ ‫وحتى عندما يأتي من تستصرخ فيه الرغبات في التعلق بـ «دومة ود حامد»‪ ،‬تأتي‬

‫‪4‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫إلى جذعها المكتنز الممتلئ‪ ،‬كقامة المرأة البدينة‪ ،‬وإلى الجريد في أعالها‪ ،‬كأنه عرف المهر‬ ‫الجامحة»‪« . ..‬حين تصعد الشمس وقت الضحى‪ ،‬يمتد ظل الدومة فوق األرض المزروعة»‪.‬‬ ‫تشاب ٌه عمي ٌق جَ م َع بين تفاصيل الحياة‪ ،‬والمكان‪ ،‬واألرض‪ ،‬والماء‪ ،‬وبين «دومة الجندل»‪ ..‬ما‬ ‫أبهج فِ َّي زهو المكان‪ ،‬وجعلني أسير في آفاق «دومة الجندل»‪ ،‬التي جعل منها الطيب صالح‪ ،‬تيمة‬ ‫لـ «دومة ود حامد»‪.‬‬

‫اف�����������ت�����������ت�����������اح�����������ي�����������ة‬

‫العبارات‪ ،‬وكأنها تتحدث عن «دومة الجندل»‪« :‬أنظر إليها‪ ،‬ضاربة بعروقها في األرض‪ ،‬أنظر‬

‫بسرد غاي ًة في اإلتقان و البساطة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال تنتهي حكايات « دومة ود حامد»‪ ،‬حتى تبدأ من جديد‬ ‫مما يحير قارئ الطيب صالح‪ ،‬كيف تطوعت له هذه اللغة الشفيفة‪ ،‬التي عبر بها آفاق العالمية‪..‬‬ ‫فوصل إلى قلوب عشاقه في كل مكان‪.‬‬ ‫في خاتمة مجموعة «دومة ود حامد»‪ ،‬تأتي قصة (مقدمات)‪ ..‬مكونة من سبعة نصوص أو‬ ‫قصص قصيرة جدا‪ ،‬تصلح ألن يكون كل منها حكاية لوحدها‪ ،‬أو قصيدة تحكي حكايات إنسانية‬ ‫مختلفة‪ ،‬تعبر كل منها عن حالة قد تصادفنا في أي شارع‪ ،‬أو مكتب‪ ،‬أو حي‪ ،‬ولكن أسلوبه الساحر‪،‬‬ ‫جعل منها أيقونات تحولت في يده إلى أقمار‪ ،‬على شكل قصص قصيرة‪.‬‬ ‫وجدتني أستعيد «دومة ود حامد» بعدما خصصنا ملف هذا العدد للراحل الكبير‪ ،‬ليكتب عنه‬ ‫بعض من عرفوه‪ ،‬أو عشقوا لغته‪ ..‬وتتلمذوا على يديه‪ ،‬وهنا البد من توجيه الشكر وأجزله إلى‬ ‫الصديق الشاعر‪ ..‬والناقد الجميل محمد جميل أحمد‪ ،‬على جهوده في إعداد هذا الملف‪ ،‬والذي‬ ‫يكتب مفتتحه في ذات الوقت (عوليس األسود) مستعيدا جيمس جويس‪ .،‬بمشاركة األصدقاء‬ ‫خالد ربيع السيد‪ ..‬تحت عنوان (الطيب صالح‪ ..‬منادمة في الحكي عنه ومعه)‪ ،‬بانوراما سريعة‬ ‫عن محطات هامة لسيرة الراحل الكبير‪ ،‬من خالل رصد إبداعه‪ ،‬عبر الكثير من شهادات النقاد‬ ‫والمبدعين‪ ،‬و ظافر الجبيري‪ ،‬عن (الطيب صالح‪ ..‬ألوان من الصراع)‪ ،‬كاشفا عن وجوه الصراع‬ ‫المتعددة في النص السردي للطيب صالح‪ ،‬ومستعرضا طبيعة ذلك الصراع بين المجموعات‬ ‫القصصية والروايات‪ ،‬والشاعر السوداني مأمون التلب‪ ،‬تحت عنوان (أطياف مصطفى سعيد‪:‬‬ ‫الحياة في مكان آخر)‪ ..‬عن سر جرثومة الكتابة وقناعها الخطير الذي طالما فسر مغزى عزوف‬ ‫الطيب صالح‪ ..‬وهروبه من مأزقها‪ ،‬مستبدال بها حياة في ال��واق��ع‪ ..‬هي أكثر أمنا من حياة‬ ‫الكتابة‪.‬‬ ‫وهذا الملف‪ ..‬أقل ما يمكن أن يقدم إلى كاتب بقامة الطيب صالح‪ ..‬وهو الرجل الذي عشق‬ ‫هذه األرض‪ ،‬وظل يتردد عليها سنوات عديدة مكرما معززا‪ ،‬رحم الله الطيب صالح حيا في كتبه‪..‬‬ ‫و ميتا في لحده‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫‪5‬‬


‫سرد من أفق آخر ‪:‬‬

‫الطيب صالح‪ :‬منادمة في احلكي عنه‬ ‫ومعه مبناسبة رحيله‬

‫أحمد*‬

‫ > أعد امللف الشاعر‪ :‬محمد جميل‬ ‫ ش��ارك فيه‪ :‬خالد ربيع السيد(‪ - )1‬ظافر‬ ‫اجلبيري(‪ - )2‬مأمون التلب (‪.)3‬‬

‫ربما لم يتفق لكاتب أن وجد من الذيوع والشهرة في‬ ‫حياته رغم أعماله القليلة‪ ،‬مثلما اتفق للكاتب والروائي‬ ‫السوداني الطيب صالح؛ ولهذا‪ ،‬حين رحل كاتبنا الكبير‬ ‫ف��ي ش��ب��اط فبراير الماضي ع��ن عمر يناهز الثمانين‬ ‫عاما‪ ،‬كان قد عرف الكثير من ألوان التكريم واالحتفاء‬ ‫في الشرق والغرب‪ .‬ويأتي رحيله الفاجع مناسبة أخرى‬ ‫للحديث عن الكثير الكثير مما يختزنه إبداعه السردي‪،‬‬ ‫الذي مأل الدنيا وشغل الناس‪ ،‬ال سيما روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)‪.‬‬ ‫ل��ق��د خ��ل��ق ال� ��راح� ��ل ال �ك �ب �ي��ر م��ج��ازا لكن الفريد فيما حدث للطيب صالح في‬ ‫إنسانيا لتجربة إبداعية محايثة‪ ،‬وعابرة تجربته الروائية‪ ،‬لم يحدث‪ ،‬ال لجوزيف‬ ‫لخصوصيتها في الوقت نفسه‪ .‬وقد أضمر ك��ون��راد (ال� ��ذي ت�م��اه��ى ت�م��ام��ا م��ع وطنه‬ ‫عبر رواي �ت��ه حياتين‪ ،‬ل��م ت��زل طبيعتهما الجديد)‪ ،‬وال لنجيب محفوظ (ال��ذي لم‬ ‫ال �ظ�ل�ال ال�خ�ف�ي��ة ل�ل�ع�لاق��ة ال �م��رك �ب��ة بين يغادر مكانه أصال) من ناحية‪ ،‬وال للتجارب‬ ‫ال��ش��رق وال� �غ ��رب‪ ،‬ض �م��ن ب�ن�ي��ة ح�ض��اري��ة‬ ‫الروائية التي تأتي في وارد المقارنة بين‬ ‫ثابتة ومتجددة للغرب في تلك العالقة‪،‬‬ ‫الشرق والغرب‪ ،‬كرواية‪ ،‬قنديل أم هاشم‬ ‫كما بين المنفى وال��وط��ن‪ ،‬وب�ي��ن األزم�ن��ة‬ ‫ليحيى حقي‪ ،‬من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫الحديثة واألزم �ن��ة القديمة؛ بمعنى آخر‬ ‫فاإلبداع السردي للطيب صالح ال تنبع‬ ‫إن الزمن المحايث لألزمنة كلها سيبقى‬ ‫طيفا متجددا قي حيثيات ه��ذه الرواية‪ .‬فتنته من التعبير الجمالي للغة فحسب‪ ،‬بل‬

‫‪6‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫عوليس األسود‬ ‫ذات مرة شكا الطيب صالح لصديق سوداني‬ ‫بالمجازفة في ما ال طاقة له به إزاء آفاق غير‬ ‫ف��ي لحظة ب��وح ن� ��ادرة‪ ،‬ع��ن ورط ��ة ح�ي��ات��ه التي‬ ‫متناهية‪.‬‬ ‫عاشها‪ ،‬وما إذا كانت الصدف التي لعبت دورا‬ ‫لقد كان الصدام قويا وحرجا في فعل النفي‬ ‫كبيرا في تلك الحياة قناعا لمصير‪ ،‬ربما لم يكن‬ ‫المزدوج؛ كان أقوى من قدرة النفس البرية على‬ ‫في يوم من األيام يرغب فيه في قرارة نفسه؟‬ ‫احتمال طاقة الحضارة‪ ،‬وهي تهب كالعواصف‬ ‫ثمة حدود مضنية لتجربة الحياة حين تكون‬ ‫العاتية بتناقضاتها على ال��ذات وتمزيقها شر‬ ‫أشبه بعاصفة أو لعبة مرايا في مخيلة المبدع؛‬ ‫ممزق‪.‬‬ ‫فهي إذ تتعذب من تقاطعات متناقضة‬ ‫ك��ان مصطفى سعيد بالنسبة‬ ‫بين األنا واآلخر‪ ،‬والظن واليقين‪ ،‬ال‬ ‫ل�ل�ط�ي��ب ص��ال��ح ش�ب�ح��ا ف��ي م�ك��ان‬ ‫تلعب مع تلك المخيلة لعبة الوجه‬ ‫م��ا م��ن ح�ي��ات��ه؛ ول �ه��ذا ف��إن ضغط‬ ‫وال �ق �ن��اع ف�ح�س��ب‪ ،‬ب��ل ت�ج��ره��ا إل��ى‬ ‫التناقضات الذي جعل من مصطفى‬ ‫إق �ح��ام مستمر ف��ي عين العاصفة‬ ‫سعيد خليقة خائبة ومعطوبة في‬ ‫وراء ق �ن��اع ال ي�ك��ف ع��ن االل�ت�ص��اق‬ ‫ال�خ�ي��ال ال �س��ردي للطيب ص��ال��ح‪،‬‬ ‫بالوجه‪ ،‬دون أن يكون بديال عنه‪.‬‬ ‫ظ ��ل ب��اس �ت �م��رار ال �ظ��ل ال ��وج ��ودي‬ ‫هكذا تبتعد الحياة األولى لتستعيد‬ ‫محمد جميل أحمد‬ ‫الذي يعكس روحا شقية ومدفوعة‪،‬‬ ‫وج��ودا في المخيلة‪.‬ويظل القناع إغ��واء يجرف‬ ‫أمامه الحقائق األولى‪ ،‬وهي ترتطم بوجود مغاير بحيرة عريضة جرفت معها الطيب إل��ى مسار‬ ‫في حيوات أخرى‪ ،‬إلى نهايات وحاالت وتجارب عكس بريقها باستمرار‪ ،‬بين الذاكرة والزمن في‬ ‫اتجاهين متناقضين‪،‬‬ ‫تبتعد عنها السماء‬ ‫وب �ط��ري �ق��ة ال تعين‬ ‫األول� � ��ى ف ��ي نقطة‬ ‫على تفكيك شفرتها‬ ‫متالشية في األفق‪.‬‬ ‫المعقدة التي قذفت‬ ‫إن � � � �ه� � � ��ا ح � ��ال � ��ة‬ ‫ب��ه ف��ي ال �م �ت��روب��ول‬ ‫االغتراب التي تقتلع‬ ‫اللندني‪.‬‬ ‫الذات من أعماقها‪،‬‬ ‫ولعلنا ال نجازف‬ ‫وه���ي ت ��واج ��ه ح�ي��اة‬ ‫ف� � ��ي ال� � � �ق � � ��ول‪ :‬إن‬ ‫ت� � �غ � ��ري ال� �م� �ص� �ي ��ر‬ ‫الطيب صالح حينما‬ ‫ال � � �ف� � ��ردي ل��ل��وع��ي‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫أيضا من تلك العالقات والوحدات التي حطمت‬ ‫البنية ال�س��ردي��ة‪ ،‬وجعلت م��ن صناعة الدهشة‬ ‫طاقة متجددة من المعجزات الصغيرة في مخيلة‬ ‫القاريء‪ ،‬شرقيا كان هذا القارئ أم غربيا‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫غمر مصطفى سعيد تحت مياه النيل‪ ،‬عند قرية‬ ‫ود حامد بعد حياة صاخبة في المتروبول‪ ،‬إنما‬ ‫أراد أن يرمم الشرخ الذي شطر ذاته مرة وإلى‬ ‫األب��د من أثر تلك العاصفة القاسية‪ .‬كان ذلك‬ ‫تعويضا مركبا في الخيال‪ ،‬لكنه كان مستحيال‬ ‫في الواقع؛ ذلك أن استحالة الواقع فاضت على‬ ‫وجود كاتبنا الكبير‪ ،‬وشكلت مع الزمن ما يشبه‬ ‫ع��ازال زجاجيا شفافا‪ ،‬يعكس باستمرار ذلك‬ ‫الشبح الرهيب الذي هجره الطيب صالح‪ ،‬وإن‬ ‫ظل معه قرينا عصيا على الفراق‪ ،‬فلم يستطع‬ ‫مفارقته إال عندما جعل منه طيفا يمسك به‬ ‫حياته المشطورة بكل تقاطعاتها الرهيبة‪.‬‬

‫عجزه بتلك التناقضات التي وقع فيها مصطفى‬ ‫سعيد بالضرورة؛ كان هو المظهر األسمى لمعنى‬ ‫االقتالع‪ .‬ومن هنا أيضا يرتبط ما هو شخصي‬ ‫بما هو موضوعي بطريقة مركبة‪.‬‬ ‫كانت الحيرة في قلب الحياة والمصير‪ ،‬وكان‬ ‫كل ذل��ك يمتح من إغ��واء متعالي يضمر بريقا‬ ‫خ�لاب��ا‪ ،‬تصاحبه ق�س��وة ع��ات�ي��ة‪ ،‬وب�ي��ن البريق‬ ‫والقسوة ك��ان مصير المواجهة المتكافئة أقل‬ ‫بكثير من إمكانات المصير الفردي‪ .‬ونجد ذلك‬ ‫واضحا في وصف وجه مصطفى سعيد (نظرت‬ ‫إلى فمه وعينيه فأحسست بالمزيج الغريب من‬ ‫القوة والضعف في وجه الرجل)‪.‬‬

‫وإذا ك��ان��ت (م��وس��م ال�ه�ج��رة إل��ى ال�ش�م��ال)‬ ‫تعبيرا عن ذلك الشرخ الذي ال يلتئم إال في حياة‬ ‫متخيلة؛ فإن سيرة الواقع في تلك الحياة كانت‬ ‫قد حسمت المعنى األكثر حضورا في تفاصيل ال‬ ‫متناهية‪ ،‬من أثر تلك العاصفة التي خمدت في‬ ‫حياة مصطفى سعيد‪ ،‬وهي الحياة التي تطهر‬ ‫منها الطيب صالح‪ ،‬عبر كتابة سردية استدعت‬ ‫كل التقاطعات الممكنة والمستحيلة‪ ،‬لكنها في‬ ‫فما ح��دث ف��ي المخيلة ج��رى نقيضه في‬ ‫ال��واق��ع ك��ان��ت الحياة ال��وح�ي��دة ف��ي المتروبول‬ ‫الواقع‪ ،‬لكن رغبة الكاتب والتناقضات الهائلة‬ ‫اللندني‪ ،‬وظ��ل بريقها هو األص��ل ال��ذي طمس‬ ‫التي هي أكبر بكثير من إمكان التحدي الفردي‪،‬‬ ‫حيوات السماء األولى وحولّها إلى أطياف في‬ ‫ت�ح�ي��ل ب��اس �ت �م��رار إل���ى خ �ي��ال خ�ل�اق ي �م��ارس‬ ‫الذاكرة البعيدة‪.‬‬ ‫فتوحات وانتصارات فردية‪ ،‬ليعكس أكبر قدر‬ ‫ما حدث للطيب صالح‪ ،‬بالطبع كان يجري من التناقض في الحياة الشخصية‪ .‬إنه ضرب‬ ‫في سياق تقاطعات غير متكافئة‪ ،‬وكانت طبيعة من التبديل الذي يعكس ضعف الكينونة الكلية‬ ‫التحدى أكبر من المصير الشخصي لـه‪ ،‬بما عبر م�ج��از ال �ق��وة ف��ي ال�س�ل��وك ال �ف��ردي لبطل‬ ‫يعني أن المصير الفردي في مواجهة المتروبول الرواية‪.‬‬ ‫الذي اقتلع أزمنة السماء األولى مرة وإلى األبد‪،‬‬ ‫ف �م �ج��ازات ال ��رواي ��ة ال �ت��ي ت�ت�ص��ل دالالت �ه��ا‬ ‫كان ا ٌعجز بكثير من قدرته على مواجهة تلك‬ ‫بالكثير من تيمات العالقة بين الشرق والغرب‪،‬‬ ‫الطاقة العاتية والمزلزلة‪.‬‬ ‫والعرب وأوربا‪ ،‬واإلسالم والمسيحية‪ ،‬والحداثة‬ ‫ول �ه��ذا ف��إن المصير ال �ف��ردي ح�ي��ن يعوض وم��ا قبلها؛ كانت تتجلى عبر تلك التعبيرات‬ ‫ولهذا أيضا كانت (موسم الهجرة إلى الشمال)‬ ‫المكان الوحيد ال��ذي يستقطب ذل��ك الشعور‬ ‫الذي يلحم انشطار النفس؛ إنه عمل المخيلة إذ‬ ‫توحي بالتماهي والخالص عبر اإلب��داع‪ ،‬لكنها‬ ‫بصورة أخرى تكشف عن معنى استحالة ذلك‬ ‫التماهي في الواقع بين تينك الحياتين‪ .‬إذ تعيد‬ ‫إنتاج المأزق وتصبح أكثر تعبيرا عنه‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫والحال أن ما جرى للطيب صالح وهو يرصد‬ ‫مصائر فردية مقذوفة في محيط يستدعي الكثير‬ ‫من تمثل الخيبات واجترار المرارات‪ ،‬كان يحتاج‬ ‫إلى مخيلة مبدعة‪ ،‬فالمخيلة وحدها يمكنها أن‬ ‫تستقطب تناقضات أكبر من الواقع‪ ،‬وتحديات‬ ‫أقل من الحقيقة‪ .‬أراد الطيب صالح أن يكتب‬ ‫عن مأزقه الشخصي فوجد نفسه منخرطا في‬ ‫مآزق تستدعي الكثير من التعقيدات والعالقات‬ ‫المتشابكة بين الذاتي والموضوعي‪ ،‬والخاص‬ ‫والعام‪.‬‬ ‫ب � ��دا ال� ��وض� ��ع أش� �ب ��ه ب �م �س��ار‬ ‫عوليس في األوديسة‪ ،‬لكن طريق‬ ‫العودة عند الطيب صالح لم يكن‬ ‫كمسار معبد (ج��ان��وس)؛ ال�ع��ودة‬ ‫المستحيلة هنا ال يمكن أن تظفر‬ ‫بوجودها إال في المخيلة‪ ،‬ولكنها‬ ‫إذ تتمثل في المخيلة‪ ،‬ال تتحول‬ ‫إل��ى ع��ودة عادية‪ ،‬فمجاز الكتابة‬ ‫ف��ي النص أعقد بكثير حتى من‬ ‫عالقات الواقع وتعقيداته؛ ولذلك‬ ‫حين أراد الطيب صالح أن يعود‬ ‫إل��ى «ود ح��ام��د»‪ ،‬أع��اد مصطفى‬ ‫س�ع�ي��د ب ��دال ع �ن��ه‪ ،‬وه���ذه ال �ع��ودة‬ ‫ه��ي ف��ي ت��أوي��ل م��ا‪ ،‬محض أمنية‬ ‫لجسر هوة عميقة بين عالم غادره‬ ‫م��رة وإل ��ى األب ��د‪ ،‬م��ع رغ�ب��ة قوية‬ ‫مستحيلة للعيش فيه‪ ،‬وبين عالم‬ ‫ال يستطيع منه فكاكا‪ ،‬على الرغم‬

‫العجائبية لحياة مصطفى سعيد‪ ،‬ففضال‬ ‫ع��ن طبيعة البنية ال��س��ردي��ة العجيبة لهذه‬ ‫الرواية‪ ،‬القائمة على خلخلة وتحطيم عالقات‬ ‫السرد الثابتة والمطردة بين الزمان والمكان‬ ‫والموضوع‪ ،‬نجد أن تلك البنية وه��ي ترسم‬ ‫س��رده��ا ع��ب��ر التقطيع واالس���ت���رج���اع‪ ،‬إنما‬ ‫ك��ان��ت تستجيب لعالقة جدلية خ�لاق��ة بين‬ ‫طبيعة المصير ال��م��رك��ب ل��س��ي��رة مصطفى‬ ‫س��ع��ي��د‪ ،‬وم���ا يصاحبه م��ن ت��داع��ي��ات رم��زي��ة‬ ‫قوية الداللة وعمقية القابلية للتأويل‪ ،‬وبين‬ ‫الحاجة القوية إلى تخليد ذلك‬ ‫المصير وف��ت��ح دالالت ال��س��رد‬ ‫ع��ل��ى ال��ك��ث��ي��ر م���ن االح��ت��م��االت‬ ‫المحايثة له‪ ،‬والمتصلة على نحو‬ ‫معقد بمصائر متشابكة ومرتدة‬ ‫باستمرار إل��ى سياقات أخ��رى‬ ‫تأتي كضرورة في بنية المعنى‪.‬‬

‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫التي جسد بها مصطفى سعيد رؤيته الفردية من كل تناقضاته وبريقه الذي تلمع فيه الرقة‬ ‫وإحساسه الملتبس بعالم االستعمار والمتروبول والقسوة كوجه مصطفى سعيد‪ ،‬حين شاهده‬ ‫الذي من حوله‪ ،‬لتكون بديال عن حقائق أخرى الراوي ألول مرة في «ود حامد»‪.‬‬ ‫أكبر من طاقته‪ ،‬وال يمكن أن تستوي لتحدي‬ ‫اس��ت��ع��ان ال��ط��ي��ب ص��ال��ح ب��ط��اق��ة حلمية‪/‬‬ ‫الكينونة إزاء ذلك اإلقتالع‪.‬‬ ‫صوفية لجسر التقاطعات ال��ح��ادة والوقائع‬

‫ف��ال��م��ص��ائ��ر ال��ت��ي ضفرتها‬ ‫ع���وال���م ال����رواي����ة ل���م ت��ك��ن ذات‬ ‫طبيعة زمنية منطفئة‪ ،‬أو تعبيرا‬ ‫عن حاالت تزول بزوال الحدث‪،‬‬ ‫ل���ق���د ك����ان����ت ت���ل���ك ال���م���ص���ائ���ر‬ ‫تتفاعل طرديا مع زمن الرواية‬ ‫ال��م��س��ت��ق��ب��ل��ي‪ ،‬أي ذل���ك ال��زم��ن‬ ‫ال�لاح��ق والممتد وال����دال على‬ ‫ن���ب���وءات ال���رواي���ة ورؤاه�����ا التي‬ ‫جسدتها كإحدى الكالسيكيات‬ ‫العالمية‪.‬‬ ‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫‪9‬‬


‫الطيب صالح‬ ‫ألوان من الصراع‬

‫ال روحه األصيلة وحبه لوطنه وللعالم!‬ ‫حام ً‬

‫نقلتني الدعابة إلى سنوات خلت عندما تلقّفنا‬ ‫> ظافر اجلبيري قصص (دومة ود حامد) والعم َل األشه َر (موسم‬ ‫الهجرة إلى الشمال) وغيرهما من قصص وروايات‬ ‫أبدعتها يد الرجل وخطها قلمه‪ ،‬وغ��ادر عالمنا‬ ‫الفاني مخلفاً وراءه رصيداً إبداعياً وتراثاً أدبياً‬ ‫وقلوباً حرّى لفراقه‪.‬‬

‫قبل أيام تحادثت مع‬ ‫صديق عزيز وصل إلى‬ ‫ب��ري �ط��ان �ي��ا م �ن��ذ وق��ت‬ ‫وجيز؛ الصديق القادم‬ ‫م � ��ن ب��ل ��اد ال ت �ج �ي��ز‬ ‫تدريس الفلسفة‪ ،‬كما‬ ‫ق ��ال ذاه ��ب إل ��ى ب�لاد‬ ‫ظافر الجبيري‬ ‫(ب� � ��رت� � ��ران� � ��د رس� � ��ل)‬ ‫لدراستها مبتعثاً في فورة االبتعاث التي نعيشها‪.‬‬

‫التقيت الرجل لقاء سريعا عابرا في احدى‬ ‫ليالي الجنادرية التي ك��ان ضيفها األث�ي��ر‪ ،‬وك��ان‬ ‫محاطاً بمحبيه الكثر‪ ،‬وليته أق��ام ف��ي الرياض‬ ‫كما في ال��دوح��ة‪ ،‬إذاً لصار اسمه صالح الطيب‬ ‫بديال عن الطيب صالح‪ ،‬كما اختار أحد األصدقاء‬ ‫تحدثنا كثيراً عن البالد التي وصلها للتو‪ ،‬وعن تعديل االسم لكونه بات وجها مألوفا على المكان‪،‬‬ ‫جامعاتها العريقة‪ ،‬وع��ن األهمية القصوى التي ومطلوبا للمشاركة‪ ،‬وحاضراً في الموعد السنوي‬ ‫يحتلها التعليم والتواصل المعرفي في ردم الهوة ألكثر من عشرين عاماً متتالية‪.‬‬ ‫بين الشعوب وإشاعة الحوار والتواصل اإلنساني‬ ‫أعمال الطيب صالح تالمس الحياة السودانية‪،‬‬ ‫بين الثقافات‪ ،‬وكان التأكيد الدائم على أن التعليم وشخوصه متجذرة ف��ي ال��واق��ع اليومي النابض‬ ‫هو أقوى عرى هذا التواصل والمثاقفة بين الدول ببساطة الناس‪ ،‬وعمق المجتمع المتعدد المشارب‬ ‫والحضارات‪ ،‬وع��ن حاجة «البالد والعباد» لمثل القبلية‪ ،‬والمستويات التعليمية‪ ،‬وإمكانات العيش‬ ‫ه��ذا التخصص ف��ي زم��ن ق ��ادم ن��ؤم��ل أن يكون المتفاوتة‪ ،‬وإن كانت أقرب إلى البساطة‪ ،‬بساطة‬ ‫أكثر انفتاحاً وتقب ً‬ ‫ال لآلخر‪ ،‬وأكثر تحفيزاً إلعادة نبض الحياة الريفية لقرية تقع شمالي السودان‪.‬‬ ‫االعتبار لعلم العلوم‪ :‬الفلسفة‪.‬‬ ‫ع �ب��ر ه� ��ذه ال �ب �ي �ئ��ة ال �م �ح �ل �ي��ة ال �م��وغ �ل��ة ف��ي‬ ‫ما دعاني لهذه المقدمة‪ ،‬أن الحوار مع الصديق ال �خ �ص��وص �ي��ة‪ ،‬اس �ت �ط��اع ال �ط �ي��ب ال ��وص ��ول إل��ى‬ ‫اختتم ب�ع�ب��ارة خاطفة موجهة للصديق م��ذ ِّك��راً العالمية‪ ،‬ما يعرف نقدياً باألصالة‪ ،‬أي الصدق‬ ‫ومحذِّراً ومداعباً بأن مبدع شخصية (مصطفى بنوعيه الفني والواقعي‪ ،‬واالنحياز إلى اإلنسان في‬ ‫سعيد) قد رحل‪ ،‬ولذا لن تجد ‪ -‬يا صديقي ‪ -‬من الدرجة األولى‪ ،‬االنحياز إلى الحياة التي خَ بَرها‬ ‫يكتب عن بطوالتك وفتوحاتك (المشرقية) في وتعشّ قها وت�ن� ّف��س تفاصيلها رج��ل ينطوي على‬ ‫بالد (الفرنجة)!‬ ‫هذه الروح العربية األصيلة‪ ،‬والنفس المتسامية‪،‬‬ ‫انتهى حديثُنا ضاحكيْن‪ ،‬لكن الضحكة لم تخف وال�ف�ك��ر المنفتح على ك��ل ال�ت�ج��ارب وال �ت �ي��ارات‪،‬‬ ‫ش �ع��وراً بالفقد ع��اودن��ي‪ ،‬وإن ظ��ل ح��اض��راً‪ ،‬منذ م��ا جعل أعماله تسافر لكل ال�ب�لاد عبر اللغات‬ ‫سماع نبأ رحيل المبدع الطيب صالح بعد ثمانين العالمية الحية‪.‬‬ ‫عاماً من السير على ظهر البسيطة مشرّقاً ومغّرباً‪،‬‬ ‫لقد فتحت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)‬

‫‪10‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫البطل مع العالم الخارجي‪ ،‬ومشكلته مع نفسه‪ ،‬أو‬ ‫عالقة (األن��ا) بـ (اآلخ��ر) وعالقة (األن��ا) بنفسها‪،‬‬ ‫كما يعبر ع��ن ه��ذه اإلشكالية ال��دك�ت��ور عبدالله‬ ‫إبراهيم‪.‬‬ ‫في مجمل أعماله غاص الطيب صالح بروحه‬ ‫الصوفية في وجدان اإلنسان عبر سبر أغوار التراث‬ ‫وال �ت��اري��خ وال� �ع ��ادات وال�م�ع�ت�ق��دات‬ ‫واألساطير‪ ..‬وظف األدب الشعبي‬ ‫والفصيح‪ ،‬عزف على أوتار النفس‬ ‫اإلن��س��ان��ي��ة‪ ،‬ف �ت �ج��اوب��ت م ��ع أدب ��ه‬ ‫النفوس في كل المعمورة‪ ..‬وقد ظل‬ ‫الطيب صالح في الكثير من أعماله‬ ‫مبشراً بالمشترك اإلنساني‪ ،‬وبدا‬ ‫في العديد من المواقف واإلحاالت‬ ‫ال �س��ردي��ة م��وزع �اً بين قيم القرية‬ ‫وحداثة المدينة‪ ،‬بل إننا يمكن أن‬ ‫نعد روايته الثانية األشهر من بين‬ ‫كل أعماله‪ ،‬تلك التي ص��درت في‬ ‫العام ‪1966‬م دعوة للمصالحة بين‬ ‫الشرق والغرب‪.‬‬ ‫فيما يخص الشخصيات العديدة‬ ‫في مؤلفاته نجد أنه بسط مالمحها‪،‬‬ ‫وعرّى ضعفها وانكساراتها‪ ،‬أفاض‬

‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫طوراً جديداً من العالقة بين الشرق‬ ‫في وصف عوالمها البرانية‪ ،‬وأبدع‬ ‫وال��غ��رب‪ ،‬ك�م��ا فتحت ع �ي��ون ق��رائ��ه‬ ‫ف��ي سبر أغ��واره��ا العميقة؛ عوالم‬ ‫عال‪،‬‬ ‫على تجربة ثرية‪ ،‬وأداء أدب��ي ٍ‬ ‫الرجال والنساء‪ .‬عبر سطوره تتمتع‬ ‫كما أبرزت سرداً حديثاً‪ ،‬يجمع بين‬ ‫بعمق آس��ر‪ ،‬وبساطة ال ح��دود لها‪،‬‬ ‫البساطة والعمق والبناء الكالسيكي‬ ‫م��ا ح ��دا ب��أح��ده��م أن ي�ش�ب��ه أح��د‬ ‫اآلسر‪.‬‬ ‫األشخاص بـ «كأنه خارج من إحدى‬ ‫ق �ص��ص ال �ط �ي��ب ص���ال���ح‪ ،»..‬وك��أن��ه‬ ‫تكمن روعة هذا العمل األثير لدى‬ ‫عبدالله إبراهيم‬ ‫يشير بهذا إلى التماهي الكبير بين‬ ‫غالبية قراء الطيب‪ ،‬في كونه يطرح‬ ‫مشكلة الهُوية بصورة غاية في العمق‪ ،‬أي مشكلة ما يعيشه الكاتب وبين ما يكتب عنه‪.‬‬ ‫ق��رأن��ا الطيب ص��ال��ح بالحب ال ��ذي يستحقه‬ ‫شخصه‪ ،‬وبالتوق الذي نراه جديراً به كمبدع‪ ،‬أنتج‬ ‫معظم أعماله في فترة الستينيات والسبعينيات‬ ‫التي كانت تمور بالكثير من الصراعات‪ ،‬ما جعل‬ ‫كاتبنا يعبر في نتاجه عن مكانين‪ ،‬ولو شئتُ لقلت‬ ‫فضاءين‪:‬‬ ‫األول‪ :‬ق �ص��ص وأع� �م ��ال ت��دور‬ ‫أحداثها في قرى شمالي السودان‬ ‫ مسقط رأسه‪.‬‬‫الثاني‪ :‬تلك األعمال التي تمثل‬ ‫ص� ��راع ال�� ُه��و ّي��ة ب �ي��ن م �س��اف��ر إل��ى‬ ‫ب�لاد الضباب بكل صخب حياتها‪،‬‬ ‫وبين عائد إل��ى ري��ف بسيط هادئ‬ ‫متقشف‪ ،‬كما ص��ورت ذلك (موسم‬ ‫الهجرة إلى الشمال)‪.‬‬ ‫ه ��ذان ال �ف �ض��اءان أوج ��دا أج ��وا ًء‬ ‫ث��ري��ة ت�ت�خ�ل�ل�ه��ا أش� �ك ��ال أخ� ��رى من‬ ‫ال �ص��راع‪ ،‬منها م��ا ص� �وّره ف��ي قصة‬ ‫(ن�خ�ل��ة ع�ل��ى ال��ج��دول) داخ ��ل نفس‬ ‫الفالح‪ ،‬ومنها ما ص��وره الكاتب في‬ ‫(دوم� ��ة ود ح��ام��د)‪ ،‬ص���راع داخ�ل��ي‬ ‫ت�خ�ت��زن��ه م�ش��اع��ر أه��ل ال �ق��ري��ة عبر‬ ‫ت�ف��اص�ي��ل ح�ي��ات�ه��م ال �ي��وم �ي��ة؛ ص��راع‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪11‬‬


‫تكشّ فت مالمحه إثر مساومة التاجر للفالح على‬ ‫النخلة‪ ،‬وكيف الم الفالح نفسه في النص األول‪.‬‬ ‫وص��راع بين التمسك بالقيم النمطية للحياة من‬ ‫قبل الناس‪ ،‬وبين محاولة الحكومة تطوير الريف‬ ‫وتغيير نمط حياة السكان‪ ،‬نجد كاتبنا ‪ -‬من خالل‬ ‫ال��راوي‪ -‬ينحاز بهدوء‪ ،‬دونما مزايدة أو ادعاء إلى‬ ‫الطرف الراغب في التحديث مع بقاء طقوس الريف‬ ‫و«دومته في أحالم الناس»‪ .‬ابن الراوي الذي يدرس‬ ‫في البندر في مدرسة «‪ِ ...‬ل َم ألحقه بها‪ ،‬لكنه هرب‪،‬‬ ‫سعى إليها» هنا يربط الكاتب بين التغيير المنتظر‬ ‫وبين غربة الروح؛ وسيكون التغيير ممكناً‪ ،‬بواسطة‬ ‫عنصر خارجي‪ ،‬يكمن في انتشار فئة المتعلمين!‬

‫وهنا يواصل الراوي القول‪:‬‬

‫أشكال الصراع‪ ..‬يبرز عبر االجتثاث لكل من يحاول‬ ‫ال القتالع‬ ‫التالعب بقلب البطل‪ ،‬وهنا يظهر القتل ح ً‬ ‫السلوك الغربي تجاه الجسد والقلب والروح القادمة‬ ‫من إفريقيا‪ ،‬من السودان‪ ..‬من األرض المستعمرة‬ ‫سابقاً‪ ..‬وم��ن هنا يبرز ق��رار مصطفى قتل (جين‬ ‫موريس) وهي المرأة التي أحبها‪ .‬يبرز قراره وكأنه‬ ‫يصب ف��ي ه��ذا االت �ج��اه؛ السيدة اإلنجليزية التي‬ ‫قبلت ال���زواج منه بعد م�ك��اب��رة‪ ،‬ل�ت��واص��ل سلوكها‬ ‫نحوه‪ ..‬أحبته دون أن تقر بذلك‪ ،‬أحبت فيه العنف‬ ‫اإلفريقي‪ ،‬كانت تشتهيه وتحتقره في الوقت نفسه‪،‬‬ ‫وتالعبت به لفترة من الوقت‪ ،‬إلى أن يقرر قتلها‪...‬‬ ‫وهكذا فشلت عالقات مصطفى سعيد النسائية في‬ ‫أوروب ��ا‪ ،‬فشلت إنسانياً‪ ،‬وانتهت بالقتل والسجن‪،‬‬ ‫لكونها كانت تقوم على الرغبات الجسدية‪ ،‬دون أي‬ ‫معنى إنساني‪.‬‬

‫«ح�ي��ن ي�خ��رج اب�ن��ي م��ن ال�م��درس��ة‪ ،‬ويكثر بيننا‬ ‫الفتيان ال�غ��رب��اء ال���روح‪ ،‬فلعلنا نقيم مكنة الماء‬ ‫وهل ننسى عبارة مصطفى سعيد أثناء محاكمته؟‬ ‫حينئذ تقف عندنا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫والمشروع الزراعي‪ ،‬لعل الباخرة‬ ‫العبارة التي ال تزال ترن في أذن كل من قرأ العمل‪،‬‬ ‫تحت دومة ود‪ .‬حامد»‬ ‫كما رن��ت في أرج��اء المحكمة ذات صباح لندني‪،‬‬ ‫إضافة إلى هاتين الصورتين من صور الصراع عندما وص��ف البطل نفسه بكل عمق وشفافية‬ ‫ال�ه��ادئ عبر ش��راء التاجر للنخلة‪ ،‬وإق��رار الفالح بأنه «رجل استوعب عقل ُه الحضارةَ الغربي َة لكنها‬ ‫بهزيمته‪ ،‬وانتظار أهالي القرية «للمشروع الزراعي‪ ،‬شطرتْ قلبَه!»‬ ‫وطلمبة الماء‪ ،‬ومحطة الباخرة» بهدوئه الذي وسم‬ ‫بعد صمت روائي – قصصي أطلت (مختاراته)‪:‬‬ ‫شخصيته‪ ،‬وبطرحه السلس‪ ،‬يقر الكاتب بإمكانية‬ ‫«منسي» التي ص��درت في التسعينيات من القرن‬ ‫التغيير عبر إدخال عنصر جديد إلى الحياة‪ ،‬وإحالله‬ ‫الميالدي الفائت‪ ،‬وبعد انقطاع طويل عن الكتابة‬ ‫م�ك��ان نمط معيشي س��اب��ق‪ ،‬حتى ول��و ب��دا موقف‬ ‫الروائية‪ ،‬ق��دم من خاللها شخصية محيّرة مثيرة‬ ‫الكاتب – ال��راوي ‪ -‬هادئاً مياالً إلى ترك التغيير‪،‬‬ ‫للجدل‪ ،‬تساءل القراء والنقاد كثيراً‪ :‬أهي حقيقية‬ ‫يسير بسالسة على طريقة التحوالت المتدرجة في‬ ‫أم متخيلة أم رمزية؟‬ ‫المدن والمجتمعات األوربية التي استوعب الكاتب‬ ‫تبدو الشخصية حقيقية ف��ي أبعادها الدينية‬ ‫تجاربها عن قرب!‬ ‫واالجتماعية‪ .‬وهي ليست سيرته الذاتية‪ ،‬إنها عمل‬ ‫ليس الصراع هادئاً دوم �اً‪ ،‬فما إن نتعرف على‬ ‫خفيف مدهش أقرب إلى السيرة‪ ،‬قدمها بأسلوب‬ ‫تفاصيل ح�ي��اة مصطفى سعيد ف��ي ب�لاد ال�غ��رب‪،‬‬ ‫سردي أقرب إلى المذكرات اليومية‪.‬‬ ‫و(سخونة اإلرث الشرقي – اإلفريقي) ال��ذي جاء‬ ‫ال �م��ؤل �ف��ات األخ� �ي ��رة ك��ان��ت ح�ص�ي�ل��ة م �ق��االت‬ ‫ال به حتى يتكشف لنا شك ٌل أقوى وأعنف من‬ ‫محم ً‬

‫‪12‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫مصدرها مقالته في الصفحة األخ�ي��رة في مجلة لكاتب ترجمت أعماله إل��ى أكثر من عشرين لغة‬ ‫(المجلة)‪ ،‬جُ معت بموافقة منه فقط‪ ،‬وظهرت في عالمية‪ ،‬ورشح مراراً لجائزة نوبل‪.‬‬ ‫تسعة أجزاء‪ ،‬عن أعالم أدبية‪ ،‬ومدن عرفها شرقاً‬ ‫صمتُ األع ��وام األخ �ي��رة‪ ..‬أه��و التواضع ال��ذي‬ ‫وغ��رب �اً‪ ،‬وع��ن ال �س��ودان‪ ،‬وع��ن المتنبي‪ ،‬وذك��ري��ات جعله ذات مرة يقول وعبر أحد حواراته‪« :‬أمي أكثر‬ ‫وخواطر‪ ،‬وعن مهرجاني الجنادرية في السعودية‪ ،‬إبداعاً مني»؟ أم هو التشبع المفضي إلى الكسل؟‬ ‫وأصيلة في المغرب‪ ،‬كانا من أكثر المهرجانات التي أم إن مر ّد ذلك إلى الشهرة المفضية إلى التشبع‬ ‫يدعى لها الطيب‪ ،‬وهذا يظهر من كتابه (مقاالته) والرغبة في االسترخاء الذي يشبه التقاعد المبكر‬ ‫عن هاتين النافذتين اللتين فتحتا ب��واب� ٍ‬ ‫�ات مثمر ًة للموظف؟‬ ‫للتواصل والحوار مع الذات ومع اآلخر‪.‬‬ ‫اآلن الرجل أفرغ مشروعه فيما أصدر من أعمال‬ ‫ل �م��اذا ل��م يستغل اب��ن ال��س��ودان ال �ب��ار شهرته يأتي على رأسها رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)!‬ ‫واس �م��ه‪ ،‬كما فعل ويفعل غ �ي��ره‪ ،‬ويكتب وي��واص��ل ربما يكون فعل ذل��ك‪ ،‬ثم تفرغ لتأمالته الصامتة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الكتابة ويقبض ثمن‬ ‫أعمال ما تزال تحت يده‪ ،‬ويدفع وت ��رك ال�خ�ل��ق ي�س�ه��رون ج ��راء ق��راءات �ه��م ألعماله‬ ‫بها للناشر‪ ،‬وستُسوق عبر اسم كاتبها وكفى؟ لماذا ويختصمون‪ ..‬أنصت مراقباً الناس واألح��داث من‬ ‫ا إل��ى أي م��دى وصل‬ ‫ال يظل حاضرا قابضاً‪ ،‬ويبقى الكاتبَ الذي يكتب ح��ول��ه ش��رق �اً وغ��رب �اً‪ ،‬م�ت��أم�ل ً‬ ‫دون توقف؟ تساؤالت مبررة‪ ،‬خصوصاً وقد صمت الصراع بين الشرق والغرب مع بزوغ األلفية الجديدة‬ ‫الرجل طويالً؟‬ ‫التي أخذ الصراع فيها أشكاالً أعنف واشد أثراً‪.‬‬ ‫صمت منشغ ً‬ ‫ال بأعمال إداري��ة عربية أو دولية‪ ،‬ال شك أنه رحل متحسراً على انحسار ما بشر به‬ ‫أو متجوالً بين المدن والعواصم‪ ،‬محفوفاً بمحبة عبر نتاجه وحواراته من تسامح وتعايش لكل الرؤى‬ ‫الداعين‪ ،‬ومحاطاً بحفاوة المسئولين والقائمين واألفكار وأنماط الحياة بين البشر والشعوب‪.‬‬ ‫على العديد من الفعاليات والمهرجانات العربية؛‬ ‫الطيب صالح‪..‬‬ ‫وللحقيقة‪ ،‬فقد كانت محبة أصدقائه تسبقه أينما‬ ‫منادمة في الحكي عنه ومعه‬ ‫ال عما تبثه في النفس شخصيتُه‬ ‫حل أو نزل‪ ،‬فض ً‬ ‫> خالد ربيع السيد‬ ‫اآلسرةُ وروح ُه المتسامحة‪.‬‬ ‫الكتابة ع��ن الطيب‬ ‫«كاتب كسول» كما وصفه الناشر رياض الريس‪،‬‬ ‫ص ��ال ��ح ب �ع��د رح �ي �ل��ه‪،‬‬ ‫«لكنه كسل جميل»‪ ،‬يعقب الريّس‪« ،‬يتهرب به من‬ ‫ت�ع�ن��ي إل ��ى ح��د كبير‬ ‫الكتابة ومتاعبها»‪.‬‬ ‫ال �ح �ف��ر ف��ي تفاصيل‬ ‫هذا ما تؤكده سيرته عموماً‪ ،‬فيظهر بوضوح تام ربما خاض فيها نقاد‬ ‫من خالل سيرته أن الرجل يحب القراءة أكثر من ودارس� ��ون وم�ت��ذوق��ون‬ ‫الكتابة!‬ ‫كثر‪ ،‬منذ بداية شهرته‬ ‫خالد ربيع السيد‬ ‫مهما يكن فقد ظل الطيب محمد صالح أحمد ب� �ع���د ن� �ش���ر رواي � �ت� ��ه‬ ‫البشير يكتب المقاالت‪ ،‬ويشارك في المهرجانات‪ ،‬التفجيرية «موسم الهجرة إلى الشمال» في العام‬ ‫ويتلقى الجوائز وك��اف��ة أش�ك��ال الحفاوة والتكريم ‪1966‬م‪ ،‬وق��د تعني اج�ت��راح موضوعات بحثية‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪13‬‬


‫كتاب طلحة جبريل (على ال ��درب‪ :‬م��ع الطيب‬ ‫صالح مالمح من سيرة ذاتية) ‪ -‬بسيطة‪ ،‬كتبتها‬ ‫ببساطة شديدة جداً‪ ..‬كانت القصة تعبيراً عن‬ ‫حنين للبيئة‪ ،‬ومحاولة الستحضار تلك البيئة»‪..‬‬ ‫ب�ع��ده��ا ان�ق�ط��ع ال�ط�ي��ب ع��ن ال�ك�ت��اب��ة م��دة سبع‬ ‫سنوات‪ ،‬ثم أنتج تباعاً «حفنة تمر»‪ ،‬و«دوم��ة ود‬ ‫ح� ��ام� ��د»‪ ..‬ع ��ن ق �ص �ت��ه األول�� ��ى ي� ��روي األدي� ��ب‬ ‫الديبلوماسي علي أبو عاقلة قائالً‪« :‬إن الطيب‬ ‫صالح ق��ال له ذات ي��وم إن��ه كتب قصة قصيرة‪،‬‬ ‫ويريد رأي��ه فيها‪ ،‬فأعجبته القصة‪ ،‬وطلب من‬ ‫الطيب صالح نشرها‪ ،‬لكنه رفض فكرة النشر‪،‬‬ ‫وح��اول ن��زع المُسودة من ي��ده‪ ،‬ولكن أب��و عاقلة‬ ‫رفض إعادة القصة إليه إال إذا وافق على نشرها‪،‬‬ ‫وبعد ثالثة أي��ام ج��اءه الطيب صالح ضاحكاً‪،‬‬ ‫وقال‪« :‬يا سيدي خالص أنا موافق‪ ،‬لكن منو اللي‬ ‫بينشرها لنا؟»‪.‬‬

‫تفضي إل��ى التوغل فيما ط��رح من قبل‪ ،‬بسبب‬ ‫اعتقاد خاطئ أن الكتّاب لن يغادروا من متردم‪،‬‬ ‫لكن ب��أي ح��ال من األح��وال ال يعني ذل��ك عجز‬ ‫ال�ن�ق��د وال�ك�ت��اب��ة اإلس�ت�ن�ب��اط�ي��ة والتحليلية في‬ ‫استكشاف مناطق غير مطروقة في أدبه الثري‪،‬‬ ‫بل يتأكد مع الوقت أن جاذبية أدبه ثالث روايات‬ ‫ومجموعة قصصية وسلسلة مختارات من مقاالت‬ ‫(تسعة كتب) وقابليته للبحث المتجدد ال تنتهي‪،‬‬ ‫ب �م��ا ي��رس��خ م��ن ط��اق �ت��ه ال �ت��ول �ي��دي��ة ل�ل�ت��أوي�لات‬ ‫وال �ق��راءات المتالحقة‪ .‬لكن ثمة متعة قرائية‬ ‫وفي العام نفسه‪ ،‬عام ‪1961‬م‪ ،‬حسب رواية‬ ‫خ��اص��ة‪ ،‬وت��أم �ل �ي��ة ض��اف �ي��ة‪ ،‬ت�ت�ح�ق��ق ل �م��ن تتبع رج��اء ال�ن�ق��اش‪ ،‬نشرت مجلة أص ��وات اللندنية‬ ‫محاورات الطيب وحكايا أصدقائه عنه وحكاياه «دوم ��ة ود ح��ام��د»‪ ،‬ث��م ت��رج��م دينيس جونسون‬ ‫عن أصدقائه‪.‬‬ ‫ديفيس النص العربي إل��ى اإلنجليزية‪ ،‬ونشره‬ ‫ف��ي مجلة إن�ك��ون�ت��ر (‪ )Encounter‬األدب �ي��ة‪،‬‬ ‫عن أول معرفته بالكتابة؟‬ ‫وكانت حادثة نشرها في هذه المرحلة الباكرة‬ ‫ل ��م ي �ح �ق��ق ال �ط �ي��ب‬ ‫م��ن ُع� ْم��ر الطيب‪ ،‬وم��ع ُك � َّت��اب مرموقين أمثال‬ ‫حلمه ب��اإلش�ت�غ��ال في‬ ‫الكاتب األم��ري�ك��ي ن��ورم��ان ملير‪ ،‬بمثابة ميالد‬ ‫الزراعة «فالحاً»‪ ،‬ألنه‬ ‫حقيقي للطيب‪ .‬وعندما شجعه «ديفيس» على‬ ‫اك �ت �ش��ف ‪ -‬ك �م��ا ك��ان‬ ‫مواصلة الكتابة قال له الطيب صالح في دعابته‬ ‫يقول ‪ -‬أنّ ذلك «مجرد‬ ‫المعهودة‪« :‬يعني أتحول إلى كاتب؟‪ ..‬هذه نكتة‪،‬‬ ‫حلم رومانسي»‪« ،‬فأنا‬ ‫طلحة جبريل‬ ‫لقد كتبتُ ما عندي‪ ..‬وخالص يا أخينا»‪.‬‬ ‫ال أص�ل��ح ل�ش��يء سوى‬ ‫عاش قريباً من أصدقائه‪ ،‬رفيقاً بضعيفهم‪،‬‬ ‫الكتابة»‪ .‬هكذا عرف عن نفسه بعدما كتب «نخلة‬ ‫على الجدول» كأول عمل أدبي كتبه عام ‪1953‬م‪ ،‬يحكي قصصهم ويتندر بلطائفهم‪ ،‬ي��روي عن‬ ‫سنة رحيله إلى عاصمة الضباب لندن‪ ،‬والقصة صديقه وزميله ف��ي هيئة اإلذاع ��ة البريطانية‬ ‫في مجملها ‪ -‬كما يصفها بنفسه كما ورد في منسي بسطاوروس فيقول «كنت بمثابة األب له‪،‬‬ ‫رغم أننا كنا من سن واح��دة‪ ،‬ربما ألن اآلخرين‬

‫‪14‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫بقيت قرية كرمكول في وجدانه‪،‬‬ ‫قريته التي ول��د بها سنة ‪1929‬م‪،‬‬ ‫طرف من هذا السؤال‬ ‫يجيب عن ٍ‬ ‫ك��ان��ت تسكنه ال�ق��ري��ة أينما ذه��ب‪،‬‬ ‫عباس بيضون فيقول كانت حدثاً‬ ‫يتذكّرها عندما سافر إل��ى إنكلترا‬ ‫مدوياً في الرواية العربية وقلما كان‬ ‫لمواصلة دراسته للشئون الدولية‪،‬‬ ‫لرواية سواها هذا الحظ‪ .‬ويرجح‬ ‫وم�� ��ن وح� �ي� �ه ��ا‪ ،‬ك� �ت ��ب م �ج �م��وع �ت��ه‬ ‫ذلك عبده وزان بقوله‪ :‬كانت بمثابة‬ ‫علي أبوعاقلة‬ ‫ال �ق �ص �ص �ي��ة «ود ح ��ام ��د» ورواي � ��ة‬ ‫الحدث الروائي العربي الذي كان‬ ‫«ع��رس ال��زي��ن»‪ ،‬إال أن��ه أحجم عن‬ ‫م�ن�ت�ظ��راً‪ ،‬لكنه ب ��دالً أن ي��أت��ي من‬ ‫نشر األخ �ي��رة ول��م يطلقها إال عام‬ ‫القاهرة‪ ،‬أو بغداد‪ ،‬أو بيروت‪ ،‬جاء‬ ‫‪1964‬م‪ ،‬حيث نُشرت الرواية ملحق ًة‬ ‫من الخرطوم الرمز‪.‬‬ ‫بمجلة الخرطوم الثقافية‪ ،‬ولكن لم‬ ‫إذأً اس�ت�ط��اع ال�ط�ي��ب ف��ي ه��ذه‬ ‫يحفل ال�ن��اس بها كثيراً‪ ،‬ث��م أردف‬ ‫ال��رواي��ة أن يقدم مشروعاً روائياً‬ ‫ذل��ك بعمله الخالد «موسم الهجرة‬ ‫جديداً‪ ،‬يحمل الكثير من عالمات‬ ‫إل��ى ال �ش �م��ال» ال ��ذي نشرته مجلة‬ ‫رجاء النقاش‬ ‫التحديث‪ ،‬شكالً‪ ،‬وتقنيةً‪ ،‬وأحداثاً‪،‬‬ ‫ح��وار البيروتية ع��ام ‪1966‬م‪ .‬وهنا‬ ‫ال عن أن إشكالية‬ ‫وشخصيات‪ .‬فض ً‬ ‫يقول الشاعر الدبلوماسي السوداني‬ ‫الرواية المحورية كانت تقوم على‬ ‫سيد أحمد ال�ح��اردل��و إن��ه ك��ان في‬ ‫جدلية الصراع بين الشرق والغرب‪،‬‬ ‫زي��ارة إل��ى القاهرة واش�ت��رى خمس‬ ‫أو بين الجنوب والشمال‪ .‬وكانت‬ ‫ن�س��خ م��ن م�ج�ل��ة ح ��وار ال�ب�ي��روت�ي��ة‪،‬‬ ‫ثمة أدبيات تناولت هذه اإلشكالية‬ ‫وأعطى منها نسخة لرجاء النقاش‬ ‫من زوايا مختلفة‪ ،‬تأتي في مقدمتها‬ ‫الذي قرأ رواية «موسم الهجرة إلى‬ ‫رواي ��ة ال�ك��ات��ب ال�ب��ول�ن��دي جوزيف‬ ‫الشمال» بعين فاحصة ناقدة‪ ،‬وكتب‬ ‫جابر عصفور‬ ‫كونراد (قلب الظالم) الصادرة عام‬ ‫عنها مقاالً بعنوان‪« :‬الطيب صالح‬ ‫‪1902‬م‪ ،‬والتي أش��ار إليها الطيب‬ ‫عبقري الرواية العربية»‪ .‬وعلى إثر‬ ‫صالح في ثنايا روايته‪ ،‬واستأنس‬ ‫تلك المقالة لقب الطيب بعبقري‬ ‫ببعض مفرداتها‪ ،‬ألنها تمثل ضرباً‬ ‫الرواية العربية‪ .‬وأيضاً بحسب جابر‬ ‫م��ن ض ��روب االس�ت�ع�م��ار األوروب ��ي‬ ‫عصفور وآخرين إن ذلك المقال هو‬ ‫وأنماطه االستغاللية في إفريقيا؛‬ ‫الذي وضع الطيب صالح على قمة‬ ‫وت��ل��ت ه� ��ذه ال � �ق� ��راءة ال �خ��ارج �ي��ة‬ ‫الروائيين العرب منذ عام ‪1968‬م‪،‬‬ ‫ق��راءة داخلية تصدى لها الكاتب‬ ‫عباس بيضون‬ ‫وجعل الناس يعودون الكرة لقراءة‬ ‫النيجري شنوا أشيبا ف��ي روايته‬ ‫أدبياته السابقة‪ ،‬ويتشوقون لمطالعة إسهاماته (تتساقط األشياء) الصادرة عام ‪1958‬م‪ ،‬والتي‬ ‫الالحقة‪.‬‬ ‫حاول أشيبا من خاللها أن يعطي قراءة داخلية‬

‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫كانوا يعاملونه بفظاظة‪.‬‬

‫ماذا فعلت «موسم الهجرة إلى‬ ‫الشمال« باألدبية العربية؟‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪15‬‬


‫لما هو سائد في مخيلة المستعمر‬ ‫األوروب��ي عن إفريقيا‪ ،‬منطلقاً من‬ ‫ف��رض�ي��ة م �ف��اده��ا أن المجتمعات‬ ‫اإلفريقية مجتمعات ذات حضارة‪،‬‬ ‫وليست بدائية صرفة‪ ،‬أو متخلفة‪،‬‬ ‫تخلفاً ال يالمس أط��راف آدميتها‪،‬‬ ‫كما يصورها المستعمر األوروب��ي‪،‬‬ ‫ليفرض عليها قيمه ال�م�س�ت��وردة‪،‬‬ ‫وي� �ف ��رغ م��وروث��ات��ه��ا ال �م �ح �ل �ي��ة من‬ ‫محتواها‪.‬‬

‫بحلوها ومرها‪.‬‬

‫رياض نجيب الريس‬

‫عند هذا المنعطف تبرز أهميتها‪،‬‬ ‫ال�ت��ي يصفها ال�ك��ات��ب ف�خ��ري صالح‬ ‫بأنها الرواية الوحيدة التي استطاعت‬ ‫أن تطرح أسئلة معقدة عن تجارب‬ ‫ال �ش �ع��وب ال �م �س �ت �ع � َم��رة‪ ،‬ومستقبل‬ ‫العالقات بين الشمال والجنوب أو‬ ‫الغرب والشرق‪ ،‬وبذلك أثارت «الكثير‬ ‫من الجدل واألسئلة التي جعلتها هدفاً‬ ‫للتحليل والتساؤل حول الرسالة التي‬ ‫تحملها‪ ،‬وطبيعة العالقة بين بنيتها‬ ‫الروائية ومحمول هذه البنية‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬تم اختيارها ضمن مائة‬ ‫أثر أدبي متميز في العام ‪2002‬م‪،‬‬ ‫فقد انتقاها م��ائ��ة أدي��ب وش��اع��ر‪،‬‬ ‫رشا األمير‬ ‫عن العودة من المهجر‬ ‫يمثلون ثقافات متنوعة‪ ،‬بينهم أربعة‬ ‫وعشق األرض‬ ‫من «النوبليين»‪ ،‬وه��م وول��ي سونيكا (نيجريا)‪،‬‬ ‫منصور خالد ال يطلق عليه صفة المهاجر‪ ،‬أو‬ ‫ونادين غولدمر (جنوب إفريقيا)‪ ،‬وف‪ .‬س‪ .‬نايبول‬ ‫(ت��ري �ن��داد)‪ ،‬وشيموس هيني (إي��رل �ن��دا)‪ .‬وعلى الالجئ‪ ،‬أو المنفي‪« ،‬ألن األوطان ليست ظواهر‬ ‫ضوء ذلك يثمّن منصور خالد ذلك االختيار بأنه جغرافية‪ ،‬فاألوطان ترحل في قلوب أصحابها‪».‬‬ ‫اختيار نخبة «ذات حس وزكانة»‪ ،‬ألنها استطاعت ويؤكد صدق هذه الفرضية قول الطيب نفسه رداً‬ ‫أن تنتقي هذه الرواية ضمن مائة أثر أدبي منذ على السؤال الذي طرحه عليه خالد األعيسر‬ ‫أن عرف اإلنسان الكتابة‪.‬‬ ‫في حوار تلفزيوني شهير‪« :‬ألم يحن وقت هجرة‬ ‫ف��ي ال �س �ي��اق ذات ��ه ج ��اءت «م��وس��م ال�ه�ج��رة» الطيب صالح جنوباً لالستمتاع بدفء العشيرة‬ ‫لتعكس إفرازات «نظرية ما بعد االستعمار»‪ ،‬تلك‬ ‫واألهل‪ ،‬بعيداً عن بالد تموت من البرد حيتانها‬ ‫النظرية التي وضع لبناتها فرانز فانون‪ ،‬وتناول‬ ‫كما وصفتها؟ فجاء رد الطيب عليه رداً حزيناً‪،‬‬ ‫بعض جوانبها متأثراً بقراءة إدوارد سعيد لموسم‬ ‫الهجرة في كتابه «االستشراق»‪ ،‬ووثق طرفاً من أبكى المجيب أوالً‪ ،‬قبل أن يبكي مستمعيه‪« :‬أنا‬ ‫مشاهد تلك النظرية وحيثياتها بيل اشكرفت دائماً أقول حين أواجه بهذا السؤال إنني أحمل‬ ‫وآخ��رون في كتابهم المعروف بـ «اإلمبراطورية السودان بين أضالعي‪ ..‬ولست في حاجة إلى‬ ‫ت��رد ك�ت��اب�ةً»‪ .‬وت�ج��ب االش ��ارة إل��ى أن مصطفى أن أعود إليه ألنني عايش فيه‪ ...‬في فترات كنت‬ ‫سعيد بطل الرواية ولد في العام الذي قضى فيه أزور السودان كثيراً‪ ،‬وكان الناس الذين أعزهم‬ ‫قصر‪،‬‬ ‫لورد كيتشنر على الدولة المهدية (‪1898‬م) ومات في السودان أحياء‪ ..‬فقلُّوا‪ ،‬الموت ما ّ‬ ‫غرقا في النيل عام ‪1956‬م؛ أي عام إستقالل‬ ‫أخذ كثيرين من األع��زاء‪ ،‬لكنني أحب ج��داً أن‬ ‫السودان‪ ،‬فحياته تمثل كل التجربة االستعمارية‬

‫‪16‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫أتمكن من زيارة السودان على فترات قصيرة‪ ،‬ب� �ل� �س ��ان ال� � � ��راوي‪:‬‬ ‫اآلن ال أستطيع أن أسافر‪ ،‬هذه العلة التي أعاني «ع � ��دتُ إل���ى أه�ل��ي‬ ‫منها‪ ،‬ألني أنا مرتبط بغسيل الكُلى ثالث مرات يا سادتي بعد غيبة‬

‫في األسبوع‪ ،‬وال أستطيع أن أسافر‪ ،‬لكن عندي طويلة‪ ،‬سبعة أعوام‬ ‫أمل قوي إن شاء الله قبل ما نودع هذه الدنيا‪ ،‬على وجه التحديد‪،‬‬ ‫نزور البلد‪ ،‬ونشم هواها‪ ،‬ونشم تربتها‪ ،‬ونرى ما ك�ن��تُ خاللها أتعلم‬ ‫ف��ي أوروب ��ا‪ .‬تعلمتُ‬ ‫بقى من األصحاب»‪.‬‬ ‫بمثل ه��ذا البيان ظ��ل الطيب م�ت�ج��ذراً في‬ ‫خصوصيته السودانية مع أنه عاش في عاصمة‬ ‫اإلم �ب��راط��وري��ة ال�ع�ظ�م��ى‪ ،‬وت� ��زوج منها جولي‬ ‫ماكلين (اسكتلندية) عام ‪1965‬م‪ ،‬وأنجب منها‬ ‫زينب وسميرة وس��ارة‪ ،‬وظ��ل يعتقد جازماً «أن‬ ‫الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع‪،‬‬ ‫يوجد طفل قابع في أعماقه‪ ،‬واإلبداع نفسه فيه‬ ‫البحث عن الطفولة الضائعة‪.‬‬

‫الكثير‪ ،‬وغ��اب عني الكثير‪ ،‬ول�ك��ن تلك قصة‬ ‫أخ ��رى‪ .‬المهم إن�ن��ي ع ��دتُ ‪ ،‬وب��ي ش��وق عظيم‬

‫إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى‬ ‫النيل‪ .‬سبعة أعوام وأنا أحنُّ إليهم وأحلم بهم‪،‬‬ ‫ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة‪ ،‬أن وجدتني‬ ‫حقيقة قائمة بينهم‪ ،‬فرحوا بي وضجوا حولي‪،‬‬ ‫ولم يمض وقت طويل حتى أحسستُ كأن ثلجاً‬ ‫يذوب في دخيلتي‪ ،‬فكأنني مقرور طلعت عليه‬ ‫الشمس‪ ،‬ذاك دفء الحياة والعشيرة‪ ،‬فقدته‬

‫وي�ق��ول «ح�ي��ن ك�ب��رتُ ودخ �ل��تُ ف��ي تعقيدات زماناً في بالد تموت من البرد حيتانها»‪.‬‬ ‫الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوساً‬ ‫والمشهد التالي يحكي عن موقف للراوي‬ ‫ع �ش��تُ خ�لال��ه م��ت��ح��رراً م ��ن ال��ه��م��وم‪ ،‬أس ��رح‬ ‫ال��ذي لم يكن قشة في مهب الريح‪ ،‬بل إنسان‬ ‫وأمرح كما شاء لي الله‪ ،‬وأعتقد أنه كان عالماً‬ ‫له مواقفه المرتبطة بجرس األرض التي ينتمي‬ ‫جميالً‪...‬وذلك هو العالم الوحيد الذي أحببته‬ ‫إليها‪ ،‬وعزة أهله الطيبين‪ ،‬وفي هذا يقول على‬ ‫دون تحفظ‪ ،‬وأحسست فيه بسعادة كاملة‪ ،‬وما‬ ‫لسان أحد شخصياته الروائية‪« :‬وقت طفح الكيل‪،‬‬ ‫حدث لي الحقاً كان كله مشوباً بالتوتر»‪.‬‬ ‫مشيت ألصحاب الشأن‪ ،‬قلت ليهم خالص‪ .‬مش‬ ‫يقول في زيارته األخيرة إلى السودان عام عاوز‪ ..‬رافض‪ ..‬أدوني حقوقي‪ ،‬عاوز أروّح لي‬ ‫‪2005‬م‪« :‬وعندما حلَّقت الطائرة فوق مروي‪ ،‬أهلي‪ ،‬دار جدي وأبوي‪ ..‬أزرع وأحرث زي بقية‬ ‫وشفتُ النيل والمزارع والنخيل‪ ،‬حدث لي شعور خلق الله‪ ،‬أشرب الموية من القلة‪ ،‬وآكل الكسرة‬ ‫عظيم‪ ».‬ويبدو أن ذلك الشعور كان أشبه بما بالويكة الخضرا من الجروف‪ ،‬وأرقد على قفاي‬

‫حدث له قبل خمسة عقود عندما زار قرية ود بالليل في حوش ال��دي��وان‪ ..‬أعاين السما فوق‬ ‫حامد (كرمكول) الرمز‪ ،‬وسطر تلك المشاعر صافية زي العجب‪ ،‬والقمر يلهلج زي صحن‬ ‫الجيَّاشة في فاتحة «موسم الهجرة إلى الشمال» الفضة‪ ..‬قلت ليهم ع��اوز أع��ود للماضي‪ ،‬أيام‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪17‬‬


‫وكيفية انعكاس النصوص على عينيّ ‪.‬‬

‫كان الناس ناس‪ ،‬والزمان زمان»‪.‬‬

‫أطياف مصطفى سعيد‪ :‬الحياة في‬ ‫مقلب آخر‬ ‫> مأمون التلب‬ ‫«لستُ معصوماً من جرثومة‬

‫من الغريب جداً أنني اعتقدت في معرفتي‬ ‫بسبب‬ ‫ٍ‬ ‫بك‪ ،‬يا أيها الطيب‪ ،‬وربما ترسّ خ اعتقادي‬ ‫م��ن ن�ج��اح بعض م �ح��اوالت التفسير وال�ت��أوي��ل‬

‫ال� �ع ��دوى ال �ت��ي ي �ت �ن �زّى بها‬

‫التي تُملّكك إل��ى العالم كامالً‪ ،‬ول��م أتنبّه لكل‬

‫ج� �س� � ُم ال � �ك� ��ون»‪( ،‬ال �ط �ي��ب‬

‫المحاوالت الصعبة والملتوية والمُضلِّلة التي‬

‫ص��ال��ح‪ ،‬موسم الهجرة إلى‬ ‫الشمال)‪.‬‬

‫رسالة‪:‬‬

‫مأمون التلب‬

‫بَ َذلْتَهَا لتؤكِّد أن��ك لست ج��زءاً من م��اء النهر‪،‬‬ ‫وأن اإلنسان يموت كما يُولد‪ ،‬دون إرادته‪ ،‬لذلك‬

‫إنسان‬ ‫ٍ‬ ‫ال أري��د بهذه الكتابة أن أحلل رواي��ة الطيب لن يُقبض على س �رّه‪ .‬ليس هنالك من‬ ‫ص��ال��ح ن �ق��د ّي �اً؛ أب�ت�ع��د‪ ،‬ت �ح��دي��داً‪ ،‬ع��ن م�ح��اوالت عميق وآخر سطحي‪ ،‬ليس من معق ٍّد وبسيط‪،‬‬

‫شمال وجنوب‪ .‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫اكتشاف عالقات الذات والعالم الخارجي‪ ،‬أعني ليس من فنان ومتلقٍّ ‪ ،‬ليس من‬ ‫خروج الذات إلى العالم‪ .‬سأتّجه إلى العكس‪ ،‬أي وجود لكل ذلك؛ الوجود يتفجّ ر من لحظة التمرّد‬

‫دخول العالم إلى الذات‪ ،‬ومن ثم خروج العالم في التي أَدْخَ ل ْتَ مصطفى سعيد إلى ِشعَا ِبهَا عدّ ة‬ ‫وجه الضحية التي ستشوَّه مالمحها بذلك النَفَس مرات‪ :‬مرة وهو يقابل التمرّد وجهاً لوجه ليُذلَّ‬ ‫ِ‬ ‫الملوّث بأحالمِ الجرثومة‬ ‫وكوابيسها التي لوّثت على يده‪ ،‬مر ًة وهو يحرّك مصائر كل الذين من‬ ‫الدّم تماماً؛ أعني الجرثومة التي ما انفكّ كاتبنا حوله ليدخلوا لحظات تمرّدهم بمعونته‪ ،‬ويظلّوا‬ ‫الكبير عن ذكرها‪ ،‬في كتبه ورواياته وقصصه‪،‬‬ ‫بكثير من الحبّ والكراهية‪ ،‬العنف والرحمة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كأنه وض��ع ه��دف حياته النهائي ب��أن يتتبع أثر‬ ‫فضل‪،‬‬ ‫هذه الجرثومة في الحياة والكتابة‪ .‬لكنه ّ‬ ‫في النهاية‪ ،‬أن وجودها في الحياة غنيّ ومؤثّر‬ ‫بطريقة إيجابي ٍّة ورحيمة على الروح والعقل أكثر‬ ‫ٍ‬ ‫من وجودها داخ��ل الكتابة؛ فهي داخ��ل الكتابة‬ ‫تبدو كس ٍّم ير ّج أنحاء الجسد منذ األزل‪.‬‬ ‫ناحية أخ��رى تبحث ه��ذه الكتابة حول‬ ‫ٍ‬ ‫م��ن‬

‫أس ��رى سلطته‪ .‬وم� ��ر ًة ب��أن ي �ك��ون ه��و ال�ت�م�رّد‬ ‫والبوصلة التي تقود العالم‪ ،‬في لحظة اختيار‬ ‫الموت‪ ،‬واختيار الحياة في ذات الوقت بعد أن‬ ‫يحت ّل كيان الراوي وجسده‪ .‬قل لي أيها الطيب‪:‬‬ ‫ألم ت َِحنّ على الرجل؟ ألم يؤنّبك ضميرك على‬ ‫ما أقدمت عليه؟‬

‫الحكاية‪َ :‬جرْ ثَ مَ ُة الذات‬ ‫وجه مطليٍّ‬ ‫أسود‪ٍ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أحمر‬ ‫ٍ‬ ‫أبيض‬ ‫ٍ‬ ‫أسمر‬ ‫ٍ‬ ‫رجل‬ ‫ٍ‬

‫فرضيّة البوصلة‪ ،‬التي ستتضح للقارئ بعد بألوان ال� َع�دَمِ كلها‪ ،‬ومشك ٍّل بما ن��اء عن حمل‬ ‫ال �ق��راءة‪ .‬إنها محاولة وقحة قلي ً‬ ‫ال للحياة مع جسده‪ .‬هذه الكتلة اللحميّة‪ ،‬البشرية‪ ،‬عَ رِ فت‪،‬‬ ‫أعوام من البحث والغزو والقتال‪ ،‬واجب ترك‬ ‫ٍ‬ ‫النص‪ ،‬وتأويله كما أملت عليّ حاالتي الداخليّة بعد‬

‫‪18‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫له‪ .‬فالنهر‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬سيتّجه شماالً‪ ،‬بوصلته‪.‬‬ ‫وأعماقه ستتجه جنوباً‪ ،‬وضفّتاه ستتمرّدا دوماً‬

‫ب�ه��ذا يكتمل ال�ب�ن��اء ال ��ذي أش ��رت إل�ي��ه في‬

‫على هذا االتجاه الواحد‪ ،‬وتنحرف ليتّجه النهر ال�ب��داي��ة‪ ،‬وه��و‪ :‬بحث قطب البوصلة المشير‬ ‫غرباً قادماً من الشرق‪ ،‬أو العكس‪ .‬في لحظة باتّجاه الشمال عن بقية أقطابه؛ لتكتمل حياة‬

‫التمرّد الكونية ه��ذه‪ ،‬متمثل ًة في تمرّد مجرى ه��ذا الشخص ال��واح��د‪ ،‬وال� ُم�ق��سّ ��م إل��ى أربعة‬ ‫النّهر‪ ،‬غَ رِ قت هذه الكتلة لتصبح بوصلة العالم أش��خ��اص‪ :‬ح�س�ن��ة م��ن ح�ي��ث ج ��اء ال �ن �ه��ر؛ من‬

‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫نهر لم تملك بدّ اً من االستسالم الجرثومة التي ستقود العالم بعد أن تصبح‬ ‫حياتها إلرادة ٍ‬

‫التي تشير دوم��اً باتجاه ال�ش�م��ال‪ ،‬غرقت في ال �ش��رق لتتجه ص ��وب ال� ��راوي وت�ت�ح��طّ ��م على‬ ‫المنتصف تماماً‪ ،‬ألنها لن تكون بوصل ًة إال في س��واح��ل اختياراته الخائبة‪ ،‬ومصطفى النهر‬

‫اللحظة التي تتمرّد فيها الضفاف داخل لحظة القادم من الجنوب ليتحطّ م على الجليد القاسي‬ ‫الموت المحاصر باالختيار والقدر؛ هناك كانت ال��ذي احتمل كل ش��يءٍ ليصل إلى غايته‪ .‬جين‬ ‫البلدة التي ن��ادت بوصلة العالم لتأتي إليها‪ ،‬مورس كانت الوحيدة التي استطاعت أن تختار‪،‬‬ ‫لتكتشف أقطابها األرب �ع��ة‪ :‬رج�ل�ان وام��رأت��ان وأن تصبح جزءاً من مياه النهر‪.‬‬ ‫يحتربون باستمرار‪.‬‬

‫دائماً ما نسمع أن الطيب صالح تخلّى عن‬

‫لقد كانت (حُ سنة بت محمود) تقليديّة جداً‪ ،‬الكتابة‪ ،‬وأنه يكتب فقط تحت ضغط أصدقائه‪،‬‬ ‫ولكن وجودها اآلخر‪ ،‬متم ّث ً‬ ‫ال في جين مورس‪ ،‬وفي العديد من المناسبات والحوارات ذكر إنه‬

‫ك��ان م �ت �م �رّداً ت �م��ام �اً؛ فيما ب��دت ج�ي��ن م��ورس اندفع إلى الحياة بعد كتابة رواياته التي هزّت‬ ‫(الشخصية التي ليست لها أي رواب� ٍ�ط عائلية العالم‪ .‬أو كما قال للروائية أسماء عثمان الشيخ‪:‬‬ ‫وكأنها «شهرزاد م�ش�رّدة») أي لقد كانت جين‬

‫م��ورس ه��ي قرينة حُ سنَة‪ ،‬ف��ي حياة مصطفى‬ ‫سعيد السابقة‪ ،‬تلك التي سعت بكل قوة إلى ما‬ ‫توصلت إليه‪ :‬أن يقتلها مصطفى سعيد‪.‬‬ ‫ك��ذل��ك م�ص�ط�ف��ى س �ع �ي��د‪ ،‬ال� ��ذي ال تربطه‬

‫(أنصحك أن تَجُ وبي هذي المطارات والعوالم‬ ‫والناس طالما سنحت الفرصة‪ .‬واقرئي الحياة‬ ‫من هناك‪ ،‬فهي ليست‪ ،‬كلها‪ ،‬بين غالفي كتاب؛‬ ‫هناك أغنى‪ ،‬صدقيني)‪.‬‬ ‫ذل��ك أن الحياة في موسم الهجرة‪ ،‬تصبح‪،‬‬

‫ج� ��ذو ٌر ب ��أي ش�خ��ص ك �ـ «ج �ي��ن م� ��ورس» تماماً ب�ك��ل ش � ّره��ا وخ �ي��ره��ا‪ ،‬م ��ادة ل�ج�ي��وش ال�ظ�لام‪،‬‬ ‫(حتى ارتباطه م��ع أم��ه ك��ان ارت�ب��اط�اً وظيفياً‪ ،‬وك��ان معناها بهذا االع�ت�ب��ار واض �ح �اً بالنسبة‬ ‫وكانت األم قد فهمت ذلك تماماً‪ ،‬أدّت دورها لمصطفى سعيد‪ :‬الحب يحوي بداخله الحقد‬ ‫ٍ‬ ‫كحاوية تُخرج مصطفى وتحرره) كذلك استطاع‪ ،‬كمكوّن أساسي‪ ،‬أو غريزة التدمير‪ ،‬كما يقول‬ ‫بكل قواه الظالمية الجميلة والفاتنة‪ ،‬أن يخلق ف��روي��د‪ ،‬ال�ت��ي يتمتّع ب�ه��ا ال � ُم� ِ�ح��ب؛ إن��ه يسعى‬

‫الراوي الذي بال اسم‪ .‬مصطفى سعيد هو روح لتدمير حبيبه في ذات الوقت الذي يسعى فيه‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪19‬‬


‫إلحيائه‪ ،‬نقرأ‪( :‬العالم فجأ ًة انقلب رأس�اً على‬

‫م ��ن ه �ن��ا‪ ،‬ن�س�ت�ط�ي��ع أن ن�لاح��ظ اس�ت �س�لام‬

‫عقب‪ ،‬الحب؟ الحب ال يفعل هذا؛ إنه الحقد‪ .‬مصطفى سعيد التام‪ ،‬طوال حياته‪ ،‬لسحر أقدار‬ ‫أنا حاقد وطالب ثأر وغريمي في الداخل وال بدّ الجرثومة‪ ،‬متأكداً وواثقاً من قيادتها مهما كان‬ ‫من مواجهته‪ ،‬ومع ذلك لم تزل في عقلي بقية االتّجاه‪ ،‬هذه الثقة هي التي كشفت له المستور‬ ‫ت��درك سخرية الموقف‪ .‬إنني أبتدئ من حيث (مثلما ك ُِش َف المستور لمحيميد في قصة «الرجل‬ ‫انتهى مصطفى سعيد‪ ،‬إال أنه اختار في نهاية القبرصي» ورأى الموت؛ يقول الرجل القبرصي»‬ ‫األم��ر‪ ،‬وأنا لم أختر شيئاً‪ .‬قرص الشمس ظ ّل ليس كل إنسان مدركاً‪ ،‬أنت يا صاحب السعادة‬

‫ساكناً فوق األف��ق الغربي زمناً ثم اختفى على ت��درك موضعك في ال��زم��ان وال�م�ك��ان»)‪ .‬إدراك‬ ‫عجل‪ .‬وجيوش الظالم المعسكرة أبداً غير بعيد الموضع في الزمان والمكان‪ :‬هو الجرثومة التي‬

‫لحظة واحتلت الدنيا)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وثبت في‬

‫أنكر مصطفى سعيد افتراض ال��راوي (أنه‬

‫اخ �ت��ار) بقوله (ت �ح��ددت عالقتي بالنهر أنني‬

‫طاف فوق الماء‪ ،‬ولكنني لست جزءاً منه‪ ،‬فكرت‬ ‫ٍ‬ ‫أنني إذا متّ في تلك اللحظة أكون قد مُتُّ كما‬

‫تأتي بأشكالها العديدة‪ .‬لم يختر مصطفى موته‪،‬‬ ‫ب��ل اختارته الجرثومة التي وس��وس��ت ف��ي أذن��ه‬

‫بأن يتّجه إلى تلك القرية‪ ،‬وعند ذاك المنحنى‬

‫النهريّ الذي يميّز القرية‪ ،‬المنحنى الذي يتمرّد‬ ‫على اتجاه النهر األبدي‪ :‬الشمال‪.‬‬

‫لقد كان مصطفى مُنفّذاً خاضعاً لمخطط‬

‫وُلدت‪ ،‬دون إرادتي)‪ .‬أعرف أن الجملة األخيرة‬ ‫أوضح هنا الجرثومة التي تريد‪ ،‬في اللحظة‪ ،‬أن تصبح‬ ‫لم يذكرها مصطفى سعيد‪ ،‬ولكنني ّ‬ ‫بوصلة الكون‪ ،‬ومركزه‪ .‬لذلك سعى مصطفى‪،‬‬ ‫أن ال��راوي‪ ،‬في اللحظة التي يطفو فيها على‬ ‫ببحثه عن آخر ليخضعه لسلطته التي منحته‬ ‫سطح النهر‪ ،‬ليس الراوي‪ ،‬وإنما مصطفى سعيد‬ ‫إياها الجرثومة‪ ،‬وأن يدفع بالراوي دفعاً لكتابة‬ ‫بمقوالت أخرى وجديدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وقد أعيد بعثه لينطق‬ ‫ح �ي��ات��ه‪ :‬أن ي�ع�ي��ش ال �ج��رث��وم��ة داخ���ل الكتابة‬ ‫لقد تشابهت (ح �ي��اة) «م��وس��م ال�ه�ج��رة إلى‬ ‫(االختيار ال��ذي رفضه الطيب صالح) بعد أن‬ ‫ال��ش��م��ال» م ��ع (م�� ��وت) «ال ��رج ��ل ال �ق �ب��رص��ي»‬ ‫اختار مصطفى أن يعيش الجرثومة في حياته‬ ‫ت �ش��اب �ه��ا ف ��ي ك��ون �ه �م��ا ي �م �ت �ل �ك��ان ح ��ق اخ �ت �ي��ار‬ ‫(االختيار الذي اختاره الطيب صالح)‪.‬‬ ‫مصائر الشخصيات‪ .‬ولكي أكون دقيقاً‪ ،‬فهذه‬

‫الشخصيات قد أصيبت كلها بعدوى الجرثومة غريمي في الداخل‪:‬‬ ‫واحد آلخر‪ ،‬وسوف يكون للحب‬ ‫ٍ‬ ‫التي انتقلت من‬

‫قال الراوي‪ :‬غريمي في الداخل‪ .‬لكن أين؟ هنا‬

‫والموت ‪ -‬حليفا جيوش الظالم ‪ -‬ق��در ًة على وصل الراوي إلى النقطة التي رسم خريطتها أمير‬ ‫اختيار مصائرها(الشخصيات)‪.‬‬ ‫جيوش ال�ظ�لام‪ ،‬مصطفى‪ ،‬الخاضعة لسلطات‬ ‫ال��ذي ل��ن يصاب بالجرثومة‪ ،‬أو يرفضها‪ ،‬الجرثومة الكبرى‪ :‬الغرفة الشمالية المغلقة في‬

‫فسوف تُحَ دِّ ُد مصائ َرهُ توافه األم��ور‪ ،‬وسيفوّت الجنوب‪ ،‬ولم يدخلها سوى األمير صاحب الكنوز‪:‬‬

‫المُتع الفردوسية للحياة داخل الكتابة‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫كتاب خالي الصفحات‪ ،‬والتطرّف‬ ‫قصة حياته في ٍ‬


‫ف��ي ال�ب��داي��ة‪ ،‬أقصى الشمال وأق�ص��ى الجنوب‪ ،‬راحت زغاريد عشرات األعراس وفيضانات النيل‬ ‫أقصى الشرق وأقصى الغرب‪ ،‬وفي نهاية ك ّل ٍ‬ ‫جهة وهبوب الريح صيفاً وشتا ًء من الشمال والجنوب؟‬ ‫م��وتٌ مختار‪ ،‬لهذا قام مصطفى سعيد‪ ،‬السهم الحب؟ الحب ال يفعل ه��ذا‪ .‬إنه الحقد‪ .‬ها أنا‬ ‫الشمالي للبوصلة‪ ،‬بكتابة هذا اإلهداء على كتابه ذا أقف اآلن في دار مصطفى سعيد‪ ،‬أمام باب‬ ‫ال��ذي لم يكتب‪( :‬إل��ى الذين ي��رون ٍ‬ ‫بعين واح��دة‪« ،‬الحديد»‪ ،‬باب الغرفة المستطيلة المثلثة السقف‬

‫م������������ل������������ف ال������������ع������������دد‬

‫الذي ميّز شخصيات الطيب صالح‪ ،‬الذي ذكرته الموت والحياة؟ ماذا حدث للقافلة والقبيلة؟ أين‬

‫ٍ‬ ‫ويتكلمون‬ ‫بلسان واحد‪ ،‬ويرون األشياء إما سوداء الخضراء النوافذ‪ .‬المفتاح في جيبي وغريمي في‬ ‫أو بيضاء‪ ،‬إما شرقية أو غربية)‪.‬‬

‫الداخل‪ ،‬على وجهه سعادة شيطانية ال شكّ ؟ أنا‬

‫دخل الراوي إلى داخل ذاته‪ ،‬الغرفة‪ ،‬الجزء الوصي‪ ،‬والعاشق‪ ،‬والغريم)‪.‬‬ ‫المظلم منه‪ ،‬القديم‪ ،‬الممتلئ بالمعارف والفنون‪،‬‬

‫ه ��ذه ال �غ��رف��ة ال�م�ظ�ل�م��ة ب��داخ �ل��ه‪ ،‬أشعلها‬

‫الشمال ال��ذي لم يعرف بوجوده داخله إال في مصطفى سعيد‪ ،‬كما أشعل مناطق مظلمة كثيرة‬ ‫تلك اللحظة‪ ،‬نسي ك ّل شيءٍ ؛ تاريخه‪ ،‬حضارته‪ ،‬داخل نساء كثيرات‪ .‬يقول عن إيزابيال سيمور‪:‬‬ ‫ذك��ري��ات��ه‪ ،‬وط�ن��ه‪ ،‬ات�ج��اه��ات العالم الجغرافية (كانت متزوجة من جراح ناجح‪ ،‬أماً لبنتين وابن‪.‬‬ ‫السطحية‪ ،‬تناقضات الشرق والغرب والشمال قضت أحد عشر عاماً في حياة زوجية سعيدة‪،‬‬ ‫والجنوب‪ ،‬القضايا‪ ،‬نسي عالمه الخارجي ودلف تذهب إل��ى الكنيسة صباح ك��ل أح��د بانتظام‪،‬‬ ‫إلى عالمه الداخلي‪ :‬ذاته‪ .‬الشمال ليس حضارة وتساهم في جمعيات البرّ‪ .‬ثم قابلته اكتشفت‬ ‫الغرب‪ ،‬وال برودته‪ ،‬إنه شمال الذات التي تقبع في أعماقها مناطق مظلمة كانت مغلق ًة من قبل)‬ ‫عندها الجرثومة‪.‬‬

‫ب��اب الحديد المغلق م��رة أخ��رى‪ .‬وي��ا لسخرية‬

‫نقرأ دخول الراوي إلى ذاته في هذا المقطع‪ :‬مصطفى سعيد من الحياة الناجحة والسعيدة‪.‬‬ ‫(خسرت الحرب ألنني لم أعلم ولم أختر‪ .‬ووقفت‬

‫لقد غزا مصطفى سعيد العالم‪ ،‬وليس الشمال‬

‫زمناً طوي ً‬ ‫ال أمام باب الحديد «الغرفة» أنا اآلن فقط‪ ،‬بجرثومته‪ ،‬ويريد أن تظ ّل صرختها مدوّية‬ ‫وحدي‪ ،‬ال مهرب ال مالذ‪ ،‬ال ضمان‪ .‬عالمي كان عبر الزمان والمكان‪ ،‬وإلى األب��د‪ ،‬باستخدامه‬ ‫عريضاً في الخارج‪ ،‬اآلن قد تقلّص وارت� ّد على ل�ل��راوي‪ ،‬وكاتب ال��رواي��ة الطيب صالح‪ ،‬لتنفيذ‬ ‫أعقابه حتى صرت العالم أنا‪ ،‬وال عالم غيري‪ .‬هذا المخطط‪ .‬لقد اكتشف الراوي وجود اآلخر‪:‬‬ ‫أين إذاً الجذور الضاربة في القدم؟ أين ذكريات لقد نظر في المرآة فرأى مصطفى سعيد‪.‬‬ ‫* ‬

‫(‪) 1‬‬ ‫(‪ )2‬‬ ‫(‪ )3‬‬

‫كاتب من السودان‪.‬‬ ‫كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫كاتب من السعودية‪.‬‬ ‫كاتب من السودان‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪21‬‬


‫التعايش واالندماج بني الشاعر والقارئ‬ ‫عند سعد سعيد الرفاعي‬

‫> د‪ .‬نادية لطفي ناصر*‬

‫م��ن ال��وه��ل��ة األول���ى ل��ق��راءة شعر سعد ال��رف��اع��ي‪،‬‬ ‫ت�لاح��ظ المصالحة بين ال��ش��اع��ر وال��ق��ارئ على كل‬ ‫مستوياته التي عددتها نظريات التلقي‪ ،‬إذ قسمت‬ ‫القارئ إلى قارئ ضمني وقارئ واقعي ومروي عليه‪.‬‬ ‫إن ه��ذه المصالحة ال تعني التسليم والسقوط‪،‬‬ ‫بل تعني انكماش احتماالت الداللة من قبل القارئ‬ ‫واتحاده مع قصد الشاعر وفكره‪ ..‬بل مشاعره أيضا‪.‬‬ ‫وم���ن خ�ل�ال تتبع ه���ذه ال��م��ص��ال��ح��ة‪ ،‬ات��ب��ع منهجا‬ ‫تكامليا إضافة إلى نظرية القراءة‪ ،‬إذ إن النص هو الذي‬ ‫حدد قراءته؛ كما أن هذه المناهج التي تحدد المنهج‬ ‫التكاملي تعد إضافة للنص فقط‪ ،‬ومنارات ومعالم‪..‬‬ ‫ولكن إذا قيدت حرية البحث فهي تفسد وتضر(‪.)1‬‬ ‫وق��د تناولت م��ن خ�لال ه��ذه ال��دراس��ة‬ ‫شعر الشاعر من حيث الزمان والمكان؛‬ ‫أما المكان‪ ..‬فللتأثر المعروف بين الشعراء‬ ‫بصفة ع��ام��ة وال �م �ك��ان‪ ..‬أض��ف إل��ى ذلك‬ ‫خصوصية المكان الذي نشأ فيه الشاعر‬ ‫وتردد عليه‪.‬‬

‫الكائنة فى هذا الزمان المعاصر‪.‬‬ ‫ث� ��م ب� �ع ��د ذل � ��ك ب ��ره� �ن ��ت ع� �ل ��ى ف �ك��رة‬ ‫المصالحة أو االندماج بين الشاعر الكاتب‬ ‫لهذه القصائد من حيث الفكرة والداللة‪،‬‬ ‫وال� �ق ��ارئ ال� �م ��درك ل �ه��ذه ال� � ��دالالت‪ ..‬أو‬ ‫بصياغة أخ ��رى حسب نظرية التلقي‪..‬‬

‫وكان الزمان للنزعة االجتماعية الغالبة الشاعر الضمني والقارىء الضمني‪.‬‬ ‫ع�ل��ى ال �ش��اع��ر‪ ،‬وت��أث��ره ب��األح��دات اآلن�ي��ة‬

‫‪22‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫كما تناولت الصورة الفنية عند الشاعر‬


‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫وس�م��ات�ه��ا ال�م�م�ي��زة ف��ى ش�ع��ر ش��اع��ر ال��دراس��ة‪،‬‬

‫وع��رج��ت على سمات أس�ل��وب الشاعر‪ ،‬إضافة‬

‫توضيح للنزعة أو االتجاه الذى ينتمي إليه‬ ‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫الشاعر‪.‬‬

‫وأدعو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الدراسة‬

‫لفتة مضيئة لقراءة شعر الشاعر السعودي سعد‬

‫سعيد الرفاعي‪ ..‬الذي تميز شعره بالقيم‪ ،‬سواء المجيد‪ ،‬وبقوة األمة اإلسالمية العظيمة‪ ،‬ليستمد‬ ‫على المستوى االجتماعي أو السياسي‪.‬‬

‫الشاعر زمانا ومكانا‬ ‫ولد الشاعر في ينبع‪ ،‬محافظة في المملكة‬

‫العربية السعودية‪ ..‬تتوسط المسافة بين مكة‬ ‫المكرمة والمدينة المنورة‪ ،‬وتميل قربا إلى مدينة‬

‫الرسول (صلى الله عليه وسلم)‪ ،‬تقع بينها وبين‬ ‫المدينة المنورة محافظة ب��در‪ ..‬حيث شهداء‬ ‫بدر‪.‬‬

‫نعم إن المكان مفعم بالقداسة وعبق اإلسالم‬

‫األول‪ ..‬سميت ينبع ألنها كانت تحتوى على ينابيع‬

‫للماء‪.‬‬

‫منها الوقود‪ ،‬ليستطيع أن يواصل تحديات العالم‬

‫المعاصر‪.‬‬

‫إن ال� �م ��وروث ال�ث�ق��اف��ي ي�ت�ح��ول إل ��ى خطاب‬

‫اجتماعي وثقافي‪ ،‬وربما سياسي أيضا‪ ،‬يشهره‬

‫الشاعر ضمن أسلحته األخ��رى في وجه القوى‬ ‫التي تهدد انتماءه(‪.)2‬‬

‫فشاعرنا يتعلق ت��ارة بأستار الكعبة‪ ..‬وت��ارة‬

‫بالروضة الشريفة‪ ..‬وأخ��رى بما وع��ى وحفظ‬

‫من عشرات الكتب‪ ،‬ليعينه على أه��وال العالم‬ ‫المعاصر‪ ،‬كما يستغيث بكل ه��ؤالء‪ .‬إن المكان‬ ‫عند سعد الرفاعي له مكانة عالية قوية وعظيمة‪،‬‬

‫كما أن��ه ركيزة الشاعر في االت�ك��اء على رم��وزه‬

‫ربما هذه الينابيع نضبت اآلن‪ ،‬ولكن الموروث وإسقاطات منه على هذا الزمان والمكان‪.‬‬ ‫الثقافي في هذا المكان قوي ومشاع دائما أبدا‬ ‫يقول فى قصيدة «الهوى األبدي» التي صدرها‬ ‫في نفوس المسلمين عامة‪ ،‬والشعراء خاصة‪،‬‬ ‫بتفسير للقصيدة‪« :‬قلتها لحظة مغادرتي المدينة‬ ‫واألخ ��ص ع��ن شاعرنا ص��اح��ب ال��دراس��ة سعد‬ ‫ال�م�ن��ورة إث��ر انتهاء دراس �ت��ي التكميلية لدرجة‬ ‫الرفاعي‪.‬‬ ‫البكالوريوس(‪.)3‬‬ ‫لقد انعكس ال �م��وروث الثقافي بشكل كبير أنت الهوى األبدي يسكن خافقي‬ ‫ومضخم أو مركز في شعر سعد الرفاعي‪ ،‬حيث‬

‫وي��خ��ط ف��ي سير ال��وف��اء عهودا‬

‫تالحظ االرتباط القوي للشاعر بالمكان ينبع‪ ،‬أنت الرؤى البيضاء ترسم للمنى‬ ‫والمكان األقوى المدينة على وجه الخصوص‪.‬‬ ‫درب��ا يفيض م��ن الخلود خلودا‬ ‫إن الشاعر يلجأ إلى موروثه الثقافي كجسر أو ت���ذك���ري���ن ل���ق���اءن���ا ف���ي ب��دئ��ه‬

‫زم��ان��ي وم�ك��ان��ي أي �ض��ا‪ ،‬يصله ب��ذل��ك الماضي‬

‫إذ ج��ئ��ت أه�����رع ل��ل��ق��اء س��ع��ي��دا‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪23‬‬


‫ح��ت��ى أع���ان���ق م��ق��ل��ت��ي��ك بنظرة‬

‫– حبك – ال��وداع – تأوها – أحاسيس – دمع‬

‫ف��ت��ع��ان��ق��ت ف��ي��ن��ا األم���ان���ي ال��ت��ي‬

‫إذاً‪ ..‬فحقل (ال �ح��ب) عبّر تعبيرا قويا عن‬

‫تحكي عن الشوق المنير قصيدا – العيون‪.)...‬‬

‫تهوى الوصال وال تريد محيدا ص��دق عاطفة الشاعر‪ ،‬وأظهر م��دى حبه لهذا‬ ‫وتعطلت لغة الحروف وأصبحت‬ ‫المكان العظيم المقدس‪.‬‬ ‫لغة الشفاه على الوصال ورودا‬

‫يا طيبة النور المشع قصيدتي‬ ‫نبضت بحبك غ���ردت تمجيدا‬ ‫أزف ال����وداع فحلقت بحروفها‬ ‫ت��ص��ف ال�������وداع ت���أوه���ا وس���ع���ودا‬

‫كما تميزت القصيدة بالتشخيص من المادي‬

‫الجمادي إلى اإلنساني؛ فالقصيدة كلها استعارة‬

‫مكنية كبرى‪ ،‬فهي ص��ورة كلية شبهت (المدينة‬

‫ال� �م� �ن ��ورة) ب��ال �م �ح �ب��وب��ة‪ ..‬وح ��ذف ��ت ال�م�ح�ب��وب��ة‬ ‫اإلنسانية‪ ..‬وعبر بصفاتها من الحب والحوار‬

‫تبرهن القصيدة بمعانيها القوية والرقيقة والفراق وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫معا على قوة وغزارة ذلك الحب األبدي للمدينة‬ ‫تَ��ع��ان��ق ف ��ي ال �ق �ص �ي��دة ال��ف��ع�ل�ان ال �م��اض��ي‬ ‫المنورة في قلب الشاعر‪ ،‬إنها ليست مكانا ماديا‬ ‫وال �م �ض��ارع‪ ،‬أك��د ال�ش��اع��ر ع�ل��ى اس �ت �م��رار حبه‬ ‫جماديا‪ ،‬بل هي قلب ينبض وروح وح�ي��اة‪ ،‬إنها‬ ‫(ال �م �ض��ارع) وأك ��ده ب��ال�م��اض��ي‪ ..‬فحبه مستمر‬ ‫تجسدت في عين الشاعر حتى صارت محبوبته‪،‬‬ ‫وخالد ودائم وباق‪.‬‬ ‫ولكن ترفعت عن البشر فصارت خالدة أبدية‬ ‫إن هذا اإلط��ار الذي يلف القصيدة الخاص‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫إنه يحاورها ويذكرها بالماضي الجميل وينوح‬

‫لفراقها القريب‪ .‬إن جمال المدينة المنورة وبهاءها‬

‫ورقتها جعلت كلمات الشاعر المعبرة عنها‪ ،‬فيها‬ ‫شيء من رقتها وبهائها‪ ،‬إن تعلق الشاعر بالمكان‬

‫ب��ال �ص��ورة ال�ك�ل�ي��ة م��دم��ج ب �ص��ور ج��زئ �ي��ة تشبه‬

‫ال�ت�ط��ري��ز‪ ،‬أو األرب �س �ك��ات ال�ص�غ�ي��رة ال��واض�ح��ة‬ ‫البسيطة التي تموج بالعاطفة القوية تجاه هذا‬ ‫المكان المعظم ومنها‪:‬‬

‫(ي �ن��أى ال��وص��ال – يسكن خ��اف�ق��ي – ترسم‬

‫يظهر جليا في هذه القصيدة التي تتمتع بقوة‬ ‫العاطفة وصدقها ورقة ألفاظها‪ ،‬فمعظم ألفاظها للمعنى دربا – تعانقت فينا األماني – تعطلت لغة‬ ‫الحروف – فسرت األحاديث‪ ..‬رعشة في القلب)‬ ‫تحكي عن حقل لفظة الحب وكل ما‬ ‫يتعلق بهذه اللفظة مثل‪:‬‬

‫(ه��واك – ال�ه��وى – ال��وص��ال –‬

‫خافقي – المنى – لقاء – أعانق‬

‫مقلتيك – ال �ش��وق – األم ��ان ��ي –‬ ‫الشفاه – القلب – شهد الوصال‬

‫– الهمس – المحب طيف – نبض‬

‫‪24‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫(ترسم للوجود – شهد الوصال –‬

‫قصيدتي نبضت بحبك – حلقت‬

‫بحروقها – فرح يكحل ناظري)‪.‬‬

‫إنها استعارات مكنية صور بها‬

‫ال�ش��اع��ر إح�س��اس��ه ورؤي �ت��ه للمكان‬ ‫ال��ج��م��ي��ل وال� �م� �ق���دس «ال��م��دي��ن��ة‬


‫ال�ت��ي ي �ح��اوره��ا وت� �ح ��اوره‪ ،‬وي��ذك��ره��ا بالماضي‬

‫لم تسعف اليوم جفت أحرفي بفمي‬

‫الجميل وبداية لقائه بها‪ ،‬وقد تمازجت نظراتنا عباءة النثر تكسو صوت قافيتي‬ ‫شوقا وحبا‪ ..‬كما تعانقت أحالمنا‪ ..‬فهي تبادله‬

‫وأعذب الشعر يبقى سابحا بدمي‬

‫الحب والشوق‪ ..‬وتتذكر معه الذكريات الجميلة‪.‬‬

‫ب��دأ الشاعر القصيدة بعدم طواعية الشعر‬

‫أما عناصر الصورة الكلية فتتضح في‪:‬‬ ‫الصوت في (أحكي)‬ ‫اللون في (بيضاء)‬ ‫الحركة في (أهرع – أعانق – يخط)‬ ‫ولم يعن الشاعر بالمدينة المنورة فقط‪ ،‬بل‬ ‫ذكر مكة المكرمة وجدة وينبع والقاهرة وبغداد‪،‬‬ ‫وه��ذا يدلل على تأثره بالمكان بشكل ظاهر‪..‬‬ ‫وهو معهود عند الشعراء‪.‬‬ ‫وكل هذه المدن لها من الثراء التراثي ما لها‪.‬‬

‫ل��ه أع��وام��ا طويلة‪ ،‬ي�ح��اول أن يخضع الحروف‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫المنورة»‪ .‬فقد شخص المدينة وجعلها محبوبته مدينة ال��ح��ب ع��ف��وا إن قافيتي‬

‫والقوافي فال يستطيع أن ينشد ما يليق ببهاء‬ ‫المكان والموضوع‪ ،‬ثم ينادي على مدينة النور‪،‬‬

‫وبذكر بعض صفاتها العظيمة‪ ،‬وبعض سماتها‬ ‫المقدسة‪.‬‬

‫ونرى االتفاق التام بين الشاعر الضمني وبين‬

‫القارئ الضمني والواقعي كما سنرى فيما بعد‪،‬‬ ‫وكذلك يوجد االتفاق الوجداني التام بين القارئ‬

‫المسلم والشاعر‪.‬‬

‫إن الشاعر يعيش في صراع نفسي بين هذا‬

‫كما يعاني الشاعر من المفارقة بين الزمنين المكان المقدس وإيحاءاته التي تربى عليها‪،‬‬ ‫من الناحية األخالقية واالجتماعية‪ .‬فيقول في ونشأ فيها م��ن م�ب��ادئ عليا وسير المسلمين‬ ‫قصيدة (مدينة النور)‬

‫(‪)4‬‬

‫(مدينة النور) يا إشراقة سطعت‬

‫األوائ ��ل‪ ،‬وبين ه��ذا ال��زم��ان ال��ذي انقلبت فيه‬

‫األوض��اع‪ ..‬وتغيرت فيه األح��وال‪ ..‬وتحول كل‬

‫شموسها بضياء الحق في القمم ش��يء‪ ..‬المبادئ في كثير من األحيان صارت‬ ‫(مدينة الطهر) يا ريحانة عبقت‬ ‫رجعية‪ ..‬وس��ار المذهب العالمي هو السائد‪،‬‬ ‫وحلقت في سماء الكون بالقمم وهو النفعية أو البرجماتية التي تملكت الكثير‬ ‫وس���اف���رت بعبير ال��خ��ي��ر تنشره‬ ‫م��ن ال�ن��اس‪ .‬والشاعر بحبه للمكان وقلقه به‬

‫سحائبا تغمر األك����وان بالنعم يحاول أال يقف على شفا ج��رف ه��ار‪ ،‬فينهار‬ ‫ت��راب��ك الطهر ك��ل الطهر زينه‬ ‫ب��ه ك�م��ا ان �ه��ار ب��ال�ك�ث�ي��ري��ن‪ ..‬ي�ع�ن��ي أن ��ه يتعلق‬ ‫م��ن السمو وش��اح باسق الشمم بالمكان المقدس (مكة والمدينة)‪ ،‬ليس بالشكل‬

‫خطى الرسول عليه األمس ملحمة‬

‫الحقيقي للمكان‪ ،‬بل بمعنى المكان وإشاراته‬

‫فشيدت فوق جفن الشمس أمتنا‬

‫للعالم‪ ..‬ومن هنا جاء التركيز على القيم عند‬

‫فشيد الدين صرحا راسخ الدعم إلى صدر اإلس�لام‪ ،‬وقوة المسلمين وسيادتهم‬ ‫دعائم المجد ما شيدت على وهم الشاعر‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪25‬‬


‫فالمكان يمده بالزاد والقوة‬

‫اإلس�ل��ام�� �ي� ��ة‪ ..‬رم � � ��زا ل �ق��وت �ه��ا‬

‫وك��ذل��ك يلجأ ال��ش��اع��ر للتعلق‬

‫والنهضة والعزم‪ ،‬والتراث الديني‪،‬‬

‫وعنفوانها هارون الرشيد‪ ،‬والعلم‬

‫ليواجه الزمان الحالي المتغير‪،‬‬

‫والعصر الذهبي ل�لإس�لام‪ ..‬كل‬

‫بكل ما هو تراثي في الشكل‬

‫ذلك تمثل في رمز بغداد‪.‬‬

‫العمودي والمفردات التراثية‬ ‫والتراكب‪ ..‬وإن حاول الخروج‬

‫فهو يتغنى من خاللها بالمجد‬

‫المبتكرة ال��م��ع��اص��رة‪ ..‬يكون‬

‫ويدعوها للعودة‪ ،‬والرجوع للمجد‬

‫ي �ش �ي��ر ال��ش��اع��ر إل� ��ى م ��ا آل‬

‫وتنتفض من هذا العالم المظلم‬

‫إل��ى شكل التفعيلة والتراكيب‬

‫والتاريخ المشرق ألمة اإلسالم‪..‬‬

‫الخروج بشكل مباشر‪.‬‬

‫والنهضة‪ ..‬يستفز األمة ألن تعود‬

‫إليه المسلمون في العصر الحالي‪ ..‬فيقول في الروح‪ ..‬أو الغائب الروح الذي يقوده الشر والظلم‬ ‫والعنصرية‪.‬‬

‫قصيدة (صرخة في وجه الطغاة)‪:‬‬ ‫ي���ا أم���ة اإلس��ل��ام ص��وت��ك م��ف��زع‬

‫وع��ل��ى ال��ش��ف��اه لكم ي��ح��ار س��ؤال‬ ‫أت��ظ��ل ت��ن��ش��د ن��ص��رة م���ن هيئة‬ ‫وس�لاح��ن��ا ي��ج��ت��اح��ه اإله���م���ال؟‬

‫لذا يتعلق الشاعر بالزمان والمكان معا‪.‬‬

‫تعايش القارئ والشاعر في الفكر واألسلوب‬ ‫إن ات �ك��اء ال�ش��اع��ر ع�ل��ى ال�م�ك��ان وق��داس�ت��ه‪،‬‬

‫وال �ت��راث ال��دي�ن��ي ال�م�ق��دس ل�ه��ذا ال�م�ك��ان‪ ،‬يعد‬

‫ح��ت��ام ن��رج��و هيئة األم���م التي‬

‫ب��ف��ن��ائ��ه��ا ع����دل ال����ق����رار م��ح��ال جسرا بين الشاعر والقارئ‪ ،‬يتيح له عملية الفهم‬ ‫ووضوح الداللة‪ ،‬حتى نالحظ أحيانا حالة التوحد‬ ‫ح����ت����ام ن����رج����و ه���ي���ئ���ة خ����وان����ة‬ ‫في نهجها سامي الشموخ يطال‬

‫(‪)5‬‬

‫الشديدة بين القارئ والكاتب‪ ،‬وفي أحيان أخرى‬ ‫ال يكِ ّد المتلقي ذهنه في الوصول إلى المعنى‪ ،‬ما‬

‫كما يقول في قصيدة «أمتي»‪:‬‬

‫يعطي إحساسا ما بالملل والتقليدية الشديدة‪..‬‬

‫أي������ه������ا ال������ب������اغ������ون إن���������ا أم�����ة‬ ‫م��ج��ده��ا م���ا ك����ان ي���وم���ا أس����ودا فالشاعر حين كتب القصيدة تخيل قارئا ما‪،‬‬ ‫وأجهد نفسه في تسيير ال��دالل��ة بل ما يحيط‬ ‫ه����ذه (ب����غ����داد) وال��م��ج��د ال���ذي‬

‫أن����ع����ش ال����ت����اري����خ ح���ت���ى غ����ردا بأخبار ح��ول القصيدة من أج��ل ال�ق��ارئ‪ ..‬وهي‬ ‫تسمى في نظرية القراءة القارئ الضمني‪.‬‬ ‫ه�����ذه (ب�����غ�����داد ه���������ارون) ال��ت��ي‬ ‫ب�������ددت ب���ال���ع���ل���م ل���ي�ل�ا س���رم���دا‬

‫فالقارئ الضمني كما ي��رى الناقد (ميشال‬

‫ريفاتير)‪ :‬يقدم تحليال للنص بحثا ع��ن معنى‬

‫أم���ت���ي ه���ي���ا أف���ي���ق���ي وان��ه��ض��ي‬ ‫ج��ددي العزم وأدن��ي الموعدا‬

‫(‪)6‬‬

‫يزيد أو يقل عن المعاني الصحيحة‪ ،‬فهو ما يراه‬

‫وه �ن��ا ت�غ�ن��ى ال �ش��اع��ر (ب �ب �غ��داد) رم ��ز األم��ة الشاعر الضمني الذي يكتب له ‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫‪26‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫استجابة‬ ‫ٍ‬ ‫في ذهن الشاعر‪ ..‬وهو شبكة من أبنيةِ‬

‫تعزونا إل��ى ال �ق��راءة بطرائق ذهنية بعينها أثناء‬ ‫عملية القراءة‪ ،‬ولكن هذه ال بد أن تتلون حتما بلون‬

‫مخزون التجربة الموجودة عند هذا القارئ(‪.)8‬‬

‫يقول الشاعر في قصيدة الزهور الذابلة‪:‬‬ ‫(ع �ن��دم��ا ن�ح�ت�ف��ي ب��ال �ش �ج��رة ف��إن �ن��ا ال نقصد‬

‫الشجرة ذاتها بقدر ما نقصد الشجرة الرمز‪ ،‬رمز‬ ‫العطاء‪ ..‬والوفاء‪ ..‬رمز الحياة وكم هو جميل أن‬

‫وق ��راءة األف ��راد خاضعة للتوجهات الفكرية نسعى لخضرة األرض‪ ..‬ولكن األجمل من ذلك أن‬ ‫(‪)9‬‬ ‫واأليديولوجية العامة لكل عصر على حدة‪،‬‬ ‫نسعى الخضرار المشاعر ورقة األحاسيس)‪.‬‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫وه��و ال �ق��ارئ ال��ذي يخلقه ال�ن��ص ن�ف�س��ه‪ ..‬أو منها ما يتوافق وإحساسه ونفسيته‪.‬‬

‫والفكرة البارزة عند سعد الرفاعي هي تطابق ذب���ل���ت ب���أف���ي���اء ال���ق���ل���وب زه����ور‬

‫القارئ الضمني مع القارئ الحقيقي أو الواقعي‬

‫ت���ص���ح���رت ش���م���س ب���ه���ا وش���ع���ور‬

‫ال��ذي يقرأ بالفعل‪ ،‬والقارئ الضمني هو القارئ ذبلت وم��ا ع��ادت تضوع عطرها‬

‫ال��ذي يتخيله الشاعر ويستوعب فكره وعقيدته‪،‬‬

‫ع��ب��ق��ا وال ف��ي��ه��ا ال��ج��م��ال بثير‬

‫وذلك وفق إج��راءات نظرية التلقي‪ .‬إذاً‪ ،‬فالفكرة لوال التصحر ما شهدنا عاجزا‬

‫التي اختطها الشاعر الضمني في كتابة القصيدة‪،‬‬

‫ي��س��ق��ي ال���ج���راح وق��ل��ب��ه مكسور‬

‫هى نفسها الفكرة التى أبلغها للقارئ الضمني ليس الحياة ب��أن تخضر أرضنا‬

‫بتفسيراته وش��رح��ه‪ ،‬وه��ى ك��ذل��ك ال�ف�ك��رة التي‬ ‫وصلت للقارئ الواقعي المتعدد؛ بمعنى أن القارئ‬

‫وق��ل��وب��ن��ا ب���االص���ف���رار ت���ج���ور‬

‫(‪)10‬‬

‫في هذه القصيدة نالحظ أن الشاعر يخاطب‬

‫الواقعي‪ ..‬ذلك القارئ الذي قد يكون أكاديميا أو ال �م��روي عليه ف��ي المقدمة النثرية‪ ،‬وي��وض��ح له‬ ‫طالبا أو مثقفا أو عامال أو غير ذل��ك‪ ..‬ويتضح الداللة‪ ،‬وكذلك يخاطبه من خالل الضمير وهو‬

‫ذلك من خالل الشواهد والتحليالت لنماذج شعر ‪ -‬نا ‪ -‬الفاعلين في (شهدنا)‪.‬‬ ‫الشاعر السعودي المعاصر‪ ،‬الذي اختط لنفسه‬ ‫أم��ا ال��راوي ف��إن الشاعر هنا ال يركز كعادته‬ ‫اتجاها اجتماعيا امتزج بالرومانسية في بعض‬ ‫عليه‪ ،‬بل يتجاهله‪ ..‬وذلك ألنه يذكر حكما يتنحى‬ ‫األحيان كما سيأتي‪:‬‬ ‫فيها عن ال��ذات والخصوصية متجها إلى اآلخر‬ ‫يفكر ال�ش��اع��ر كثيرا ف��ي المتلقي أو يشغله والعام‪.‬‬

‫القارئ الضمني ويخشى أال يفهم قصده الحقيقي‪،‬‬

‫فيضع ف��ي العديد م��ن قصائده مقدمة شعرية‬ ‫توضح المعنى الذي يرجع إليه الشاعر‪ ،‬والقصد‬

‫م��ن القصيدة أو مناسبة ال�ق�ص�ي��دة‪ ،‬وي�ع��د هذا‬ ‫حجرا على ذهن القارئ وحداً من خياله‪ ،‬فكان من‬

‫األفضل أال يفسر شيئا للقارئ ويترك القراءات‬ ‫العديدة والدالالت تتردد على ذهن القارئ‪ ،‬فيختار‬

‫أما القارئ الضمني فهو يشغل نفس الشاعر‬

‫بشكل كبير‪ ،‬وحادثه في المقدمة‪ ..‬وهو في ذهنه‬ ‫دائما‪ ،‬وهو يكتب محاوال إفهامه‪ ،‬ويفك له شفرة‬ ‫القصيدة ‪ -‬إن ج��از التعبير ‪ -‬ويشرح له معنى‬

‫ال��رم��وز‪ ..‬وعلى ذل��ك‪ ..‬ال�ق��ارئ الواقعي الحالي‬

‫يجد سهولة كبيرة في فهم نص سعد الرفاعي‪..‬‬ ‫ال�ش��اع��ر ال�س�ع��ودي الينبعي‪ ..‬وم��ن ث��م التعايش‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪27‬‬


‫معه‪ ،‬وذل��ك لتحقيق اللذة العقلية لمستوى معين واهتمام بالغ بالذات‪.‬‬

‫من القراء الواقعيين‪ ،‬الذين يجدون أو يشعرون‬ ‫بالخصومة بينهم وبين القصيدة المعاصرة‪ ،‬التى‬ ‫تمتلىء بالشفرات وال��رم��وز واألي�ق��ون��ات‪ ،‬التى ال‬

‫تصل إليها هذه الفئة من القراء‪ ..‬ومن هنا‪ ،‬يعي‬ ‫القارئ الواقعي تماما قصد الشاعر بال أي تعدد‬

‫لالحتماالت أو االفتراضات‪.‬‬

‫يقول في قصيدة (خيار)‬ ‫خيار‪ ..‬خيار‬ ‫وأي خيار؟‬ ‫ويطفو على شفتي السؤال‬ ‫عالم أحار؟‬ ‫ويصخب فكري بألف خيار‬

‫يقول في قصيدة مداعبة‪:‬‬

‫تعيش زمانا‬

‫تداعبني األم��ان��ي ف��ي حصاري‬

‫يموت الخيار على شفتيه‬

‫لتخنق ع��ن��وة رح���ب اص��ط��ب��اري‬ ‫ت����م����ر ك���ن���س���م���ة ت���ل���ه���و ب��ق��ل��ب��ي‬

‫تراءى‪..‬‬ ‫لنا اليأس في مقلتيه‬

‫ي��ع��م��ق ل��ه��وه��ا ي����أس ان��ك��س��ارى‬ ‫ت���ج���ئ ل���ت���دع���ي وص����ل����ى ب��ل��ي��ل‬

‫عن البذل يصرف وجها‬ ‫بكلتا يديه‬

‫وتصدح بالتجافي في نهاري‬

‫(‪)11‬‬

‫ت�لاح��ظ س�ي�ط��رة ال� ��ذات ع�ل��ى ه��ذه األب �ي��ات‪،‬‬

‫والتوقع داخلها‪ ،‬والعيش داخل أحزانها وآالمها‪..‬‬ ‫وذل��ك بالتأكيد على ال� ��راوي‪ ..‬وذل��ك م��ن خالل‬

‫الضمائر في تاء الفاعل – وياء المتكلم في (قلبي‬ ‫– انكساري – نهاري – اصطباري‪)...‬‬

‫‪ ..‬وإني ربيب لهذا الزمان‬ ‫رضعت المآسي‬ ‫بمنزع نفسي‬ ‫ألنمو برا بهذا الزمان ‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫التأكيد هنا أيضا على الذات من خالل االهتمام‬

‫بالراوى‪ ..‬كما تظهر سمات االتجاه الرومانسي في‬

‫إنه الراوي يتحدث عن آالمه وأمانيه‪ ،‬آالمه في الحيرة واأللم وشكوى الزمان ويظهر الراوى فى (إني‬ ‫سجن النفس الذي قود جهدها وألبسها ثوب اليأس – أنمو – لنا – شفتي – أحار – فكري – نعيش)‬ ‫واالنكسار‪ ..‬وأمانيه في االنطالق والحرية‪ ..‬إن‬

‫فهنا ال يهتم بالقارئ الضمني ال��ذي يتخيله‬

‫أحالمه تلمع أمامه كلمع آل تتراءى له في وقت‪ ..‬الشاعر في نفسه‪ ،‬فال يذكر مقدمة وال هامشا وال‬

‫وما إن يتلمسها حتى تنقضى مسرعة‪..‬‬

‫ضميرا‪ ،‬ولكن تراكيبه وألفاظه ودالالته التي جنحت‬

‫إن مسار الحركة في القصيدة دائري منغلق‪ ..‬نحو االتجاه الرومانسي‪ ..‬فيتضح القارئ الضمني‬ ‫تنغلق فيه المشاعر واألفكار ككوكب ي��دور حول بشكل ضمني من خالل تخير األلفاظ والتراكيب‬ ‫نفسه‪ ..‬ولكن تعاقب الليل وال�ن�ه��ار فيها يعادل والدالالت التي ال تتعدد فيها االحتماالت‪.‬‬

‫تعاقب اليأس واألمل‪..‬‬

‫وبذلك اتحد هنا القارئ الضمني مع القارئ‬

‫كما تظهر سمات النهج الرومانسي في القصيدة الواقعي‪ ،‬إذ إن الداللة التي تتراءى للقارئ الواقعي‬ ‫من حزن ويأس وانغالق نفس ورقة في التعبير‪ ..‬أياما‪ ..‬س��واء أك��ان طالبا أو مدرسا أو طبيبا أو‬

‫‪28‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ال��زم��ان وح �ي��رة ال �ش��اع��ر‪ ،‬ورغ�ب�ت��ه ف��ي اإلص�ل�اح‬

‫ل��ي��ن��ح��ر خ���اف���ق���ي أل�����م ال��ت��ج��ن��ي‬

‫االجتماعي‪ ،‬وذل��ك هو ما قصده الشاعر حينما ‪ ..‬أراك ت��ت��ي��ه ف��ي ب��ح��ر ال��ض��ي��اع‬

‫ك�ت��ب ق�ص�ي��دت��ه‪ ..‬وق �ص��د أن يفهم ذل��ك ال �ق��ارئ‬ ‫الضمني‪.‬‬

‫ف��ي��دم��ع خ��اف��ق��ي وي���ض���ج ح��زن��ي‬ ‫أي�����ا زه�����ر األم����ان����ي ف����ي ري���اض���ي‬ ‫ووردة ح����اض����ري ه��ل�ا ت��ج��ب��ن��ي‬

‫الصورة‬ ‫ليست ال�ص��ورة الشعرية حلى زائ�ف��ة‪ ،‬بل إنها‬

‫ق��ب��ي��ل ذب����ول زه����رك ف���ي ح��ي��ات��ي‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫موظفا أو متنورا فقط‪ ..‬فسوف يعي داللة شكوى أأب��������رأ م���ن���ك إذا أغ��������راك وه���م‬

‫ف��ي��ذب��ل م��ن ذب��ول��ك زه���ر غصني‬

‫جوهر في الشعر‪ ،‬فهي التي تحرر الشعر‪ ،‬وتحرر ف��ت��خ��ل��ع زائ�������ف األث���������واب ح���را‬ ‫الطاقة الشعرية الكامنة في العالم والتي يحتفظ‬ ‫وت��ن��س��ف ب��������اإلدارة س����ور سجني‬

‫بها النثر أسيرة لديه(‪.)13‬‬

‫كما أنها صورة حسية في كلمات استعارية إلى‬

‫وت��رس��م م��ن رحيق ال��ص��دق عهدا‬ ‫ب���أن ت��س��م��و خ��ط��اك ع��ن ال��ت��دن��ي‬

‫درج��ة م��ا‪ ،‬في سياقها نغمة خفيفة من العاطفة لننسج م��ن ش��م��وس ال��ع��زم ثوبا‬ ‫(‪)15‬‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ولكنها أيضا شحنة منطلقة إلى القارئ‬ ‫يعيد ل��خ��اف��ق��ي أل���ق ال��ت��م��ن��ي‬

‫عاطفيا‪ ،‬شعرية خالصة أو انفعالية(‪.)14‬‬

‫نالحظ تزاحم الصور الجزئية‪ ..‬وهي استعارة‬

‫والصورة الفنية عند سعد الرفاعي لها سمات مكنية مثل‪:‬‬ ‫خاصة وهي‪:‬‬ ‫(بحر الضياع)‪( ،‬أغراك وهم)‪( ،‬ينحر خافقى‬ ‫أوال‪ :‬‬ ‫تميل إلى الصورة الجزئية المفردة غير أل��م)‪( ،‬زه��ر األم��ان��ي)‪( ،‬وردة ح��اض��ري)‪( ،‬تنسق‬ ‫المسلسلة‪.‬‬

‫ب��اإلدارة س��ور سجنى)‪( ،‬رحيق ال�ص��دق)‪( ،‬ترسم‬

‫ثانيا‪ :‬ص��ورة سهلة في تركيبها وإبداعها‪ ،‬قد عهدا)‪( ،‬تنسج من شموس العزم شعرا)‪ ..‬نالحظ‬ ‫ف��ي ه��ذه ال �ص��ورة أن�ه��ا غير م�ت��وال��دة ب��ل مفردة‬ ‫يعهدها القارئ‪.‬‬ ‫ومعهودة‪ ..‬يميل فيها إلى سهولة التركيب للصورة‪..‬‬ ‫ثالثا‪ :‬يميل إلى االشتقاق أو االقتباس فيها من‬ ‫وقرب القرينة من ذهن القارئ‪.‬‬ ‫التراث‪.‬‬ ‫يقول في قصيدة (نهاية حلم قديم)‬ ‫رابعا‪ :‬يبتكر في بعض صوره‪ ،‬وال تقدم الصورة‬ ‫ع��ل��ى وج��ن��ت��ي��ه��ا ت������راءى ال��ق��م��ر‬ ‫الكلية عنده‪.‬‬ ‫ت�����راءى ال��ج��م��ال ب��أب��ه��ى ال��ص��ور‬ ‫خامسا‪ :‬حينما ي�ت�ن��اول ال�ف�ك��رة االجتماعية أو ت��������������راءت ب����ط����ل����ع����ت����ه����ا ص�������ورة‬ ‫ال��وط�ن�ي��ة‪ ،‬ينقل ال��ص��ورة‪ ،‬س ��واء كانت‬ ‫جزئية أم مركبة‪.‬‬

‫يقول في قصيدة «إلى بعض بعضي»‪:‬‬

‫ل����ح����ل����م ت�����وس�����دن�����ي واس����ت����ق����ر‬ ‫ل����ح����ل����م ق������دي������م ت������رب������ى م���ع���ي‬ ‫ف����ت����ي����ا ش����ب����اب����ا ع�����ت�����يَّ ال���ك���ب���ر‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪29‬‬


‫رح�������ل�������ت أف�������ت�������ش ع��������ن داره‬

‫وبداخله العديد من الصور المبدعة التي تكون‬

‫وأس�������������أل م�������ن أج������ل������ه ط�����ائ�����را‬

‫(رحلت – وأسأل – ركبت – فسرت)‪ ،‬ثم العقدة‬

‫رك�����ب�����ت ال�����ب�����ح�����ار ع����ل����ى زورق‬

‫(وجدتك – أجيبي – قالت)‪ ،‬ونالحظ أن صورة‬

‫ف���س���رت وم�����ا ع�����اد ف����ي س��اح��ت��ي‬

‫حيث أنه يفضل الحلم عن الواقع ال��ذي يرفضه‬

‫س���ئ���م���ت ال���ت���ن���ق���ل ف�����ي رح��ل��ت��ي‬

‫إلى العال‪ ..‬وهذا ما لم يره في الواقع‪.‬‬

‫ب��ق��اص��ي ال���ب�ل�اد ون���ائ���ي ال��ج��زر بعض صفات القصة من البداية‪ ،‬ثم تطور الحدث‬ ‫ي��ج��وب ال��ص��ح��اري وأرض المدر (سئمت)‪ ،‬ثم هبوط الحدث واالنفراج أو الحل في‬ ‫م���ن األم���ن���ي���ات أخ����وض ال��خ��ط��ر الحلم ترد كثيرا عند سعد الرفاعي‪ ..‬ولهذا داللته‪،‬‬ ‫م������ن األم������ن������ي������ات ب����ق����اي����ا أث����ر ليرى فيه ما يريد أن ي��راه من عزة وق��وة وطموح‬ ‫وم����ن ط��ول��ه��ا م���ل م��ن��ي ال��س��ف��ر‬ ‫ف��ج��ئ��ت إل���ى ال��ب��ح��ر أودع����ت فيه‬ ‫ج���راح���ي وك��ف��ن��ت ب��ع��ض ال��ك��در‬ ‫وج�����دت�����ك ح���ل���م���ا ع����ل����ى ش��ط��ه‬

‫األسلوب‬ ‫ويتميز أسلوبه بالسهولة‪ ،‬وأحيانا يميل إلى األصالة‬

‫في التركيب واللفظ‪ ..‬فيقول في قصيدة (رباه)‪:‬‬

‫ك������أج������م������ل ح������ل������م رآه ب���ش���ر إل�����ه ال����ك����ون ي����ا م���ل���ك ال���ب���راي���ا‬ ‫وب����اع����ث خ���ل���ق���ه ب���ع���د ال��م��ن��اي��ا‬ ‫ف����س����م����رت ع���ي���ن���ي م������ن ده���ش���ة‬ ‫وح���ام���ت ظ��ن��ون��ي ح����ول ال��ب��ص��ر أت���ي���ت���ك خ���ائ���ف���ا ه���م���ي ع��ظ��ي��م‬ ‫وذل ال���ذن���ب ي��ع��ص��ف ب��ال��ح��ن��اي��ا‬

‫ف����ن����د ال�������س�������ؤال ع����ل����ى ش��ف��ت��ي‬ ‫ل���ي���غ���ت���ال ص���م���ت���ي ح���ي���ن ج��ه��ر أت��ي��ت��ك ب��ان��ك��س��ار ال���ذن���ب أح��ب��و‬ ‫ف�����ذل ال���ن���ف���س أورث����ه����ا ال����رزاي����ا‬ ‫أج���ئ���ت م����ن ال���ب���ح���ر ي����ا م��ن��ي��ت��ي‬ ‫أم ال��ب��ح��ر س���ر ب��ل��ق��ي��ا ال��ق��م��ر؟! ت��س��ل��ك زي���ف���ه���ا رغ�����م اح���ت���راس‬ ‫(‪)17‬‬ ‫وذل����ل ف��ي غ��واي��ت��ه��ا ال��م��ط��اي��ا‬ ‫أج���ي���ب���ي ألم����ع����ن م�����ن ن��ظ��رت��ي‬ ‫وأن�����ي ص��ح��ي��ح ال���ق���وى وال��ن��ظ��ر‬

‫ت�ل�اح ��ظ ال �س �ه��ول��ة ف ��ي اس� �ت� �خ ��راج ال ��دالل ��ة‬

‫والتركيب‪ ..‬وهى تراكيب معهودة لدى القارئ‪ ..‬كما‬

‫ف���أل���ق���ت ع���ل���ى ل���ه���ف���ت���ي ن���ظ���رة‬

‫ف�������زاد ال���ل���ظ���ى ث�������ورة واس���ت���ع���ر تميل للتراثية في بعض األلفاظ مثل (المطايا)‪،‬‬ ‫ويميل التركيب أيضا إلى التراثية وعدم الجنوح‬ ‫وق����ال����ت‪ :‬أن����ا ال��ح��ل��م ي���ا س��ائ��ل��ي‬ ‫وذاك حبيبي ف��ك��ن ف��ي ح����ذر‬

‫(‪)16‬‬

‫تمثل هذه الصور الجمة المتزاحمة ص��ورة كلية‬

‫إلى الغموض كعادة الشعر المعاصر‪.‬‬ ‫ويقول في قصيدة (عجبا)‬

‫مبدعة ومعبرة‪ ،‬أبدع فيها الشاعر‪ ،‬وعبر عن أحاسيسه م���ا ب��ي��ن س��م��ع��ي��ه ال���ف���راغ م��غ��رد‬ ‫يشدو الصدى متماديا في صفحه‬ ‫بإطار رائع‪ ،‬وصور بداخله معبرة ومبدعة‪.‬‬ ‫إط��ار ال �ص��ورة ه��و ال�ح�ل��م‪ ..‬ون�س��ج م��ن خالله ي��ا واه���ب األق����وال سمعا ناشطا‬ ‫ودفنت فكرك تحت ناشط جمعه‬

‫‪30‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫أن��س��ي��ت إنَّ ال��ع��ق��ل أف�����رد ن��ع��م��ةً‬ ‫ف��اح التحرر م��ن أزاه���ر نبعه؟‬

‫(‪)18‬‬

‫ويتضح ذلك أيضا من العنوان‪( :‬مدينة النور)‪..‬‬

‫ي�لاح��ظ أن ال �ش��اع��ر ف��ي أك �ث��ر م��ن م��وض��ع النور مفردة تدل على اليقين الداخلي للشاعر‬ ‫ف��ي ش�ع��ره يهتم ب��أس�ل��وب ال��ن��داء‪( :‬ي��ا واه ��ب)‪ ،‬إلش��راق الحق ف��ي خضم ه��ذا ال�ظ�لام واألل��م‬ ‫واالستفهام‪( :‬أنسيت)‪ ..‬واهتمامه بالنداء يدل الواقعي‪.‬‬

‫على لجوئه لآلخر وإحساسه بالوحدة في هذا‬

‫واتضح من خالل قراءة شعر الشاعر انتماؤه أو‬

‫ال��واق��ع المرير‪ ،‬أم��ا االس�ت�ف�ه��ام‪ ..‬فيعبر ب��ه عن اهتمامه باالتجاه الوجداني الذي ظهر في الشعر‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫أل �ف��اظ الحلم – ال�غ�ن��اء ال��دال��ة على األم ��ل‪..‬‬

‫إح�س��اس��ه وإدراك� ��ه لصدقه ال��واق �ع��ي‪ ،‬وأسلوبه ال�س�ع��ودي ال �ح��دي��ث‪ ..‬وه��و االت �ج��اه ال ��ذي يعالج‬

‫بشكل ع��ام سهل متدفق‪ ،‬كتدفق عواطفه التي الشاعر من خالله العادات والتقاليد ذما أو مدحا‪..‬‬ ‫تطغى على الكلمة والفكرة والتركيب في مواضع أو يعالج فيه مظاهر الفساد ويقبحها‪ ..‬ويلومهم‬ ‫على ما يأتون من فاسد األخ�لاق وال�ع��ادات‪ ..‬أو‬

‫عديدة من شعره‪.‬‬

‫كما تسيطر عند الشاعر بعض األلفاظ التي يمدح العادات الحسنة ويثنى بها على أصحابها‪..‬‬ ‫ويحض المجتمع على األخذ بها(‪.)20‬‬ ‫لها داللة على شخصية الشاعر وفكره مثل‪:‬‬ ‫(الغناء – الحلم – األمل)‪ ..‬وغيرها وهي تدل‬

‫على تفاؤل الشاعر ويقينه باألمل‪.‬‬

‫يقول الشاعر في قصيدة «عجبا»‬

‫عجبا لمن ت��رك العنان لسمعه‬ ‫أل��غ��ى اإلرادة ك��ي ي���ذل بطوعه‬

‫يقول في مدينة النور‪:‬‬

‫واس����ت����ودع األذن���ي���ن ك���ل ح��ك��اي��ة‬

‫ت����أوه ال��ح��رف ح��ت��ى ض��ج ب��األل��م‬ ‫وغ��رد الصمت في إش��راق��ة القلم‬ ‫أس��ام��ر الليل ف��ي أح��ض��ان قافية‬ ‫فتنزوي عند صحو الفجر كالحلم‬ ‫أواه ي��ا ح��رف��ي ال��م��وءود تقلقني‬ ‫قصيدة في رح��اب الحب لم تقم‬ ‫قصيدة أينعت في القلب مقمرة‬ ‫ف�����أي�����ن ل�����س�����ان م�����ب�����دع ال���ك���ل���م‬ ‫ليخرج الفجر م��ن أعماقه ألقا‬ ‫تألق الفجر في محلولك الظلم‬

‫(‪)19‬‬

‫تالحظ في هذه األبيات ألفاظا تمتلئ تفاؤال‬

‫مثل‪( :‬إشراقة – أسامر – صحو – الفجر –‬

‫الحلم – الحب – أينعت – مقمرة – الفجر –‬

‫تألق)‪ ..‬كما تتمتع بإبداع الصورة ورقتها ووجود‬

‫ع��ب��ث��ي��ة ت��ل��ه��و ب���م���ح���زن وض��ع��ه‬ ‫ت��غ��ت��ال��ه س����ود ال��ح��ك��اي��ات ال��ت��ي‬ ‫نسجت لشرع عاجال في قطعه‬ ‫ي��ا واه��ب األق���وال سمعا ناشطا‬ ‫ودفنت فكرك تحت ناشط شمعه‬ ‫أن��س��ي��ت أن ال��ع��ق��ل أف����رد نعمة‬ ‫ف����اح ال���ت���ح���رر م���ن أزاه������ر نبعه‬ ‫ع��ق��د ال��ت��ف��رد روض ك���ل مفكر‬ ‫والقفر إمعة يسير بسمعه(‪.)21‬‬ ‫تظهرالداللة جلية فى األبيات االجتماعية التي‬

‫ترفض صفة ما في المجتمع رذيلة‪ ..‬فهذا الذي‬ ‫يسمع لآلخرين ويضيع وقته ويغيب عقله‪ ..‬يناشد‬

‫المجتمع أن يتخلى عن الصفات الرذيلة ويتحلى‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪31‬‬


‫التي يبتغيها الشاعر في تصوير عذابات األمة مثل‬

‫بالمكرمات‪.‬‬

‫كما اتضح ميل الشاعر إل��ى االتجاه الوطني ألفاظ (تبيد – عناء – هما – هب – الدم – لص –‬ ‫الذي ظهر في الشعر السعودي الحديث‪ ..‬يقول أسياف – العداء – يميت – أعراض – نار الحرب)‬ ‫محمد ب��ن حسين‪ :‬ألن وطننا ال�ع��زي��ز سلم من‬

‫ينتشر فى القصيدة حقول الموت – الخيانة‬

‫االستعمار خال شعر شعرائنا مما يشتمل على ‪ 0-‬استنهاض العزائم ف��ي تراكيب قوية ودالل��ة‬ ‫مدافعة االستعمار واستنهاض العزائم ض��ده‪ ..‬يتحد فيها الشاعر والقارئ اتحادا يتمناه الشاعر‬

‫وإن �م��ا ك ��ان دوران ش�ع��ره��م ح ��ول ال�م�ش��روع��ات لألمة العربية‪.‬‬ ‫العمرانية والثقافية واالقتصادية‪ ..‬وفي المناسبات‬ ‫فربما يكون هذا االتحاد‪ ..‬والقرب بين الشاعر‬ ‫الوطنية(‪.)22‬‬ ‫وال �ق��ارئ‪ ..‬واه�ت�م��ام الشاعر ال��زائ��د والملحوظ‬ ‫ولم تقتصر هذه النزعة االجتماعية اإلصالحية بالقارئ‪ ..‬سبب ذلك أمنية في نفس الشاعر ال‬ ‫والوطنية على الشعر فقط‪ ،‬بل جند الروائيون شعورية باتحاد األم��ة اإلسالمية جميعها‪ ،‬بدليل‬ ‫أيضا أقالمهم في الدفاع عنها(‪.)23‬‬ ‫تركيز الشاعر على االتجاه االجتماعي والوطني‪.‬‬ ‫يقول الشاعر في قصيدة «نداء الوطن»‬

‫كذلك ربما بشعور الشاعر بالوحدة والغربة‪..‬‬

‫ه��ت��ف ال����دم ال��وط��ن��ي ف��ي أب��ن��ائ��ه‬ ‫مستنهضا همما ت��ه��ب‪ ،‬ون��اص��را‬ ‫ي����ا أي���ه���ا ال����وغ����د ال������ذي أك��ب��رت��ه‬ ‫إن����ي أراك ال���ي���وم ل��ص��ا ص��اع��را‬

‫وميله إلى األنس باآلخر الوطن والمجتمع والحبيبة‬ ‫والولد – القارئ والقارئ الواقعي‪.‬‬ ‫اللغة الخطابية عالية عند الشاعر في شعره‬ ‫الوطني والمناسبات بخاصة‪ ..‬وهي ليست قليلة‬

‫أي���ن ال��ب��ص��ي��رة م��ن ف��ع��ال��ك ه��ذه‬ ‫ه��ل غ��اب ف��ك��رك أو ت��وق��ف حائرا في مجموع ش�ع��ره‪ ..‬وكذلك التقرير والبعد عن‬ ‫التصوير الفني‪.‬‬ ‫ح��ت��ى ت��ت��ي��ح دم ال���ع���روب���ة نعته‬ ‫وت��س��ل أس���ي���اف ال���ع���داء م��ف��اخ��را‬

‫كما يتضح من خالل استقراء شعره أن هذا‬ ‫االت�ح��اد بين الشاعر وال�ق��ارئ الواقعي‪ ..‬سواء‬

‫وت��م��ي��ت ط��ف�لا ل���م ي��ت��م ف��ط��ام��ه‬

‫وت��ب��ي��د ك��ه�لا ب��ال��ع��ن��اء م��ح��اص��را أكان في ذهن الشاعر أو القارئ الواقعي‪ ..‬قد‬ ‫وتبيح أع���راض ال��ن��س��اء مخالفا‬ ‫يتيح ال�ظ�ه��ور المباشر على مستوى اللفظ‪..‬‬ ‫دي��ن��ا ل���ه ض��ح��ى ال��ن��ب��ي وه��اج��را وك��ذل��ك على مستوى ال �ص��ورة‪ ..‬وكثيرا م��ا يقع‬ ‫وت��غ��ي��ر ب��ال��ج��ي��ش ال����ذي أغ��وي��ت��ه‬ ‫الشاعر في هذا‪.‬‬ ‫لتبيد شعبا ك��م أت���اك م����ؤازرا‬

‫(‪)24‬‬

‫وفي النهاية أذكر أن الشاعر تمتع بالعديد من‬

‫وتجد في هذه األبيات ميل الشاعر إلى االتجاه الصفات المميزة لبصمته األدبية‪ ،‬منها‪ :‬تميزه‬ ‫الوطني‪ ،‬وحمل هموم األمة جميعها والوطن‪.‬‬ ‫ف��ي التعبير ع��ن المكان وتعلقه ب��ه‪ ،‬وصدمته‬ ‫في أسلوب واضح وألفاظ قوية مناسبة للداللة ب��ال��واق��ع‪ ،‬وال�ل�ج��وء للحلم واآلخ ��ر‪ ،‬م��ع التفاؤل‬

‫‪32‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫المصالحة مع المتلقي‪ ،‬واالهتمام الكبير به‪ ،‬المتعة الفنية ب��إب��داع��ات ال�ش��اع��ر ف��ي ص��وره‬

‫فتصبح الفكرة ف��ي ذه��ن ال �ق��ارئ مباشرة مع وتراكيبه وألفاظه‪.‬‬

‫المراجع‬ ‫‪ -1‬د حميد لحمداني‪ ،‬القراءة وتوليد الداللة‪ ،‬المركز الثقافي‬ ‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪.‬‬ ‫‪ -2‬رامان سلدن‪ ،‬النظرية األدبية المعاصرة‪ ،‬ت جابر عصفور‪،‬‬ ‫الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬ط‪1995 ،2‬م‪.‬‬ ‫‪ -3‬د سعد البازعي‪ ،‬شفوية الكتابة‪.‬استعادة الموروث الشعبي‬ ‫في الشعر السعودي الحديث‪ ،‬مهرجان القراءة للشعر‬ ‫العربي ‪ 24-20‬أكتوبر‪ ،‬القسم األول‪1993 ،‬م‬ ‫‪ -4‬سعد سعيد الرفاعي‪ ،‬ديوان العشق ينبع‪ ،‬مطبوعات نادي‬ ‫المدينة المنورة األدبي‬ ‫‪ -5‬سعد سعيد الرفاعي‪ ،‬ديوان نزيف الجرح‪ ،‬نادي المدينة‬ ‫المنورة األدبي‪1418 ، ،‬هـ ‪1997-‬م‬ ‫‪ -6‬د‪ .‬سعد ظ�لام‪ ،‬مناهج البحث األدب��ى‪ ،‬دراس��ة تحليلية‬ ‫* ‬ ‫(‪) 1‬‬ ‫(‪ )2‬‬ ‫(‪ )3‬‬ ‫(‪) 4‬‬ ‫(‪ )5‬‬ ‫(‪ )6‬‬ ‫(‪ )7‬‬ ‫(‪ )8‬‬ ‫(‪ )9‬‬ ‫(‪ )10‬‬ ‫(‪ )11‬‬ ‫(‪ )12‬‬ ‫(‪ )13‬‬ ‫(‪ )14‬‬ ‫(‪ )15‬‬ ‫(‪ )16‬‬ ‫(‪ )17‬‬ ‫(‪ )18‬‬ ‫(‪ )19‬‬ ‫(‪ )20‬‬ ‫(‪ )21‬‬ ‫(‪ )22‬‬ ‫(‪ )23‬‬ ‫(‪ )24‬‬

‫تطبيقية‪ ،‬مكتبة نهضة الشرق‪ ،‬مصر‪1416 ،‬هـ ‪1996-‬م‬ ‫‪ -7‬د‪ ،‬ص�لاح فضل‪ ،‬النظرية البنائية ف��ي النقد األدب��ي‪،‬‬ ‫األنجلو المصرية‪1980 ،‬م‬ ‫‪ -8‬د‪ .‬محمد حسن عبدالله‪ ،‬الصورة والبناء الشعري‪ ،‬دار‬ ‫المعارف‪ ،‬القاهرة‪1981 ،‬م‬ ‫‪ -9‬د‪ .‬محمد ب��ن سعد ب��ن حسين‪ ،‬األدب الحديث تاريخ‬ ‫ودراسات‪1419 ،‬هـ – ‪1998‬م‪.‬‬ ‫‪ -10‬د‪ .‬محمد صالح الشنطى‪ ،‬في األدب السعودي فنونه‬ ‫واتجاهاته‬ ‫‪J A. CUDDONIL itrary termsand Diterary ATneory -11‬‬ ‫‪.four tn Edutation the penguin، piction Ary‬‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫واألم��ل واليقين في ع��ودة المجد العربي‪ ،‬مع بعض الشرح من الشاعر لمناسبة النص‪ ،‬مع‬

‫أستاذ األدب والنقد المساعد بجامعة طيبة فرع ينبع‪.‬‬ ‫د ظالم‪ :‬مناهج البحث األدبي‪ ،‬دراسة نحليلية تطبيقية‪ ،‬مصر‪ ،‬مكتبة نهضة الشرق ‪1416‬هـ‪1996 ،‬م‪ ،‬ص ‪.231‬‬ ‫سعد البازعي‪« :‬شفوية الكتابة» استعادة الموروث الشعبي في الشعر السعودي الحديث‪ ،‬مهرجان القراءة للشعر‬ ‫العربي‪ 24/20‬القسم األول اكتوبر ‪1993‬ص‪.12‬‬ ‫سعيد سعد الرفاعي‪« :‬ديوان العشق ينبع» مطبوعات نادي المدينة المنورة األدبي‪ ،‬ص ‪.12:13‬‬ ‫سعد سعيد الرفاعي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.47:48‬‬ ‫سعيد الرفاعي‪« :‬ديون نزيف الجرح»‪ ،‬نادي المدينة المنورة األدبي‪ ،‬ط‪1418 ،1‬هـ‪1997 ،‬م‪ ،‬ص‪27‬‬ ‫سعيد الرفاعي‪« :‬ديوان العشق ينبع‪ ،‬ص ‪ ،279‬ص ‪80‬‬ ‫‪.J A. CUDDONIL itrary termsand Diterary ATneory four tn Edutation the penguin، piction Ary، p 727‬‬ ‫رامان سلدية‪ »:‬النظرية األدبية»‪ ،‬ترجمة جابر عصفور‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬ط‪1995 ،2‬م‪ ،‬ص ‪.207‬‬ ‫حميد الحمداني‪« :‬القراءو زتزليد الداللة‪ ،‬المركز الثقافى العربى الدار البيضاء المغرب ص‪29‬‬ ‫سعد الرفاعي‪« :‬ديوان نزيف الجرح»‪ ،‬ص ‪53‬‬ ‫سعد الرفاعي‪« :‬مرجع سابق» ص ‪55‬‬ ‫سعد الرفاعي‪« :‬ديوان نزيف الجرح»‪ ،‬ص ‪32 :31‬‬ ‫د‪ .‬صالح فضل‪ ،‬النظرية البنائية فى النقد األدبى‪ ،‬األنجلو المصرية‪1980 ،‬م ص‪356‬‬ ‫د‪ .‬محمد حسن عبدالله‪ ،‬الصورة والبناء الشعرى‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1981 ،‬م‪ ،‬ص ‪12 ،11‬‬ ‫سعد سعيد الرفاعى‪ ،‬ديوان العشق ينبع‪ ،‬ص‪37‬‬ ‫سعد سعيد الرفاعى‪ ،‬ديوان نزيف الجرح‪ ،‬ص ‪36‬‬ ‫سعد سعيد الرفاعى‪ ،‬ديوان العشق ينبع‪ ،‬ص‪55‬‬ ‫السابق‪ ،‬ص ‪54‬‬ ‫السابق‪ ،‬ص‪47‬‬ ‫د‪ .‬محمد بن سعد بن حسين‪ ،‬األدب الحديث تاريخ ودراسات‪1419 ،‬هـ – ‪ 1998‬ص‪88‬‬ ‫سعد سعيد الرفاعى‪ ،‬ديوان العشق ينبع ص‪54‬‬ ‫د‪ .‬محمد بن سعد بن حسين‪ ،‬األدب الحديث تاريخ ودراسات ص ‪93‬‬ ‫د‪ .‬محمد صالح الشنطى‪ ،‬فى األدب السعودى فنونه واتجاهاته ونماذج منه‪ ،‬ص ‪503‬‬ ‫سعد سعيد الرفاعى‪ ،‬ديوان نزيف الجرح‪ ،‬ص‪16‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪33‬‬


‫روايات السفر‬

‫(دراسة لنماذج مختارة)‬ ‫> سيد الوكيل*‬

‫حظيت تجربة السفر بحضور الفت فى الرواية‬ ‫العربية‪ ،‬وهو حضور يبدو أكثر إلحاح ًا فى الرواية‬ ‫المصرية‪ ،‬بقدر نصيب المصريين فى خوض تجربة‬ ‫الهجرة المؤقتة إلى الشرق العربى منذ السبعينيات‪،‬‬ ‫بحثا عن فرص العمل المجزي في مجتمعات القت‬ ‫حظا واف��را من ال��ث��روة ومشاريع التنمية‪ .‬والشك‬ ‫أن الرصد األدب��ى لتجربة السفر فى ال��رواي��ة‪ ،‬كان‬ ‫األكثر حضورا بين األنواع األدبية‪ ،‬بقدر ما يتيحه‬ ‫بناء ال��رواي��ة وات��س��اع نطاقها الزمانى والمكانى؛ غير أن��ه يمكن مالحظة أن هذا‬ ‫الحضور تنامى بسرعة كبيرة منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين‪ ،‬متزامنا‬ ‫مع إرهاصات التجديد فى الرواية العربية التي عبرت عن نفسها بقوة ‪ -‬بداية من‬ ‫التسعينيات في القرن ذاته ‪ -‬بما يدلنا على أن رواية السفر شكلت جانب ًا من روافد‬ ‫التجديد الذى عرفته الرواية‪ ،‬أو على األقل أسهمت فيه‪ ،‬وبحيث يمكن القول إن‬ ‫السفر أصبح موضوع ًا روائيا متفرد ًا وجديد ًا على الرواية العربية‪ ،‬يذكرنا بموضوع‬ ‫الرحلة فى القصيدة العربية القديمة‪ ،‬الذى انتهى إلى تحديد مقوماته الجمالية‬ ‫واللغوية‪ ،‬فضال عن التقاليد البنائية وما أنتجتها من صور وتراكيب ظلت قرينة‬ ‫التجربة الشعرية حتى تخلصت من عمودها‪.‬‬ ‫ه ��ل ي�م�ك�ن�ن��ا ال��ع��ث��ور ع �ل��ى م �ق��وم��ات‬ ‫جمالية مميزة لتجربة السفر فى الرواية‬ ‫الجديدة؟ أم أنها تماهت فى السياقات‬ ‫العامة لمالمح الفن الروائى الذى يخضع‬

‫‪34‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫لتأثيرات فلسفية وثقافية كبرى تشتغل‬ ‫ع�ل��ى ال�ب�ع��د ال�ج�م��ال��ى واألس �ل��وب��ي‪ ،‬دون‬ ‫االلتفات إلى التأثيرات الموضوعية‪ ،‬وكأن‬ ‫الموضوع (المضمون) مادة محايدة‪ ،‬يمكن‬


‫وف��ى ه��ذا السياق‪ ،‬يمكن مالحظة أن أكثر‬ ‫الكتابات التى تناولت موضوعة السفر إن لم‬ ‫يكن كلها عبرت فى الوقت نفسه عن تجارب حية‬ ‫وحقيقية عاشها كتابها‪ ،‬نتيجة الرتحاالت قاموا‬ ‫بها مدفوعين بظروف‪ :‬بعضها سياسية‪ ،‬على‬ ‫نحو ما نجد فى رواية هالة كوثرانى (األسبوع‬ ‫األخ� �ي ��ر)‪ ،‬ح �ي��ث وج ��د ج �ي��ل م��ا ب �ع��د ال �ح��رب‬ ‫اللبنانبة نفسه محطماً نتيجة لسيناريوهات‬ ‫سياسية معقدة‪ ،‬وأكثرها اقتصادية تمثلت فى‬ ‫ط�ف��رات التحديث وإزده ��ار س��وق العمل حول‬ ‫مناطق الثروة النفطية‪ ،‬فى مقابل اضمحالل‬ ‫راح يأكل مناطق أخ��رى مثل وادى النيل وبالد‬ ‫الشام‪ ،‬ما أدى إلى ما يشبه الهجرات الجماعية‬ ‫من مناطق الفقر إلى مناطق الثراء‪ ،‬غيرت كثيراً‬ ‫من التركيب الثقافى واالجتماعى فى تأثيرات‬ ‫متبادلة شديدة الفاعلية‪ ،‬على نحو‬ ‫م��ا رصدتها ع��زة ب��در ف��ى رواي��ة‪:‬‬ ‫«في ثوب غزالة»‪.‬‬ ‫ولعل هذا الرصيد من التجربة‬ ‫ال��واق�ع�ي��ة ل��رواي��ة ال�س�ف��ر‪ ،‬يضعها‬ ‫جنباً إل��ى جنب مع رواي��ة السيرة‬ ‫الذاتية التى شهدت هى األخ��رى‬ ‫حضوراً متميزاً فى الفترة ذاتها‪،‬‬ ‫وم ��ن ث��م ي�م�ك��ن م�لاح �ظ��ة بعض‬ ‫ال �ت��أث �ي��رات ال �م �ت �ب��ادل��ة بينهما‪،‬‬ ‫كتلك التى نجدها في االعتماد‬ ‫على السرد من ضمير المتكلم‪،‬‬ ‫واق�ت��ران��ه ب��دواع��ي النوستالجيا‬ ‫واالس�� �ت� ��رج� ��اع� ��ات ال ��زم� �ن� �ي ��ة‪،‬‬ ‫ومقاربة المسافة الفاصلة بين‬ ‫ال � ��ذات وال� �م ��وض ��وع‪ ،‬ك�م�ح��اول��ة‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫معالجتها فى نُسق جمالية مختلفة؟‬

‫لدحض دواف��ع االغتراب‪ ،‬على نحو ماجسدته‬ ‫ال‬ ‫رواي��ة «األسبوع األخير «لهالة كوثراني‪ ،‬فض ً‬ ‫عن استضافة أساليب وتقنيات سردية توهم‬ ‫بحضور المؤلف فى النص‪ ،‬وما يستدعيه ذلك‬ ‫من نزوعات توثيقية عبر أبنية مثل‪ :‬اليوميات‬ ‫وال�ت�س�ج�ي�لات وال��رس��ائ��ل واالع��ت��راف��ات‪ .‬وق��د‬ ‫ج�س��دت رواي ��ة «أش �ج��ار قليلة عند المنحنى‬ ‫«لنعمات البحيرى‪ ،‬نموذجاً للطابع السير ذاتي‬ ‫لرواية السفر‪ .‬وهنا يمكن اإلشارة إلى أن اقتحام‬ ‫ال �م��رأة ل��رواي��ة السفر على نحو مانجد عند‬ ‫(حنان الشيخ نعمات البحيرى ع��زة ب��در هالة‬ ‫كوثرانى وغيرهن) مثّل إضافة لتلك التجربة‬ ‫من حيث سطوع الحس النسوى‪ ،‬ليضفي على‬ ‫تجربة االغتراب المكاني بعداً جديداً يتمثل فى‬ ‫االغتراب الذاتي‪.‬‬ ‫لكن المؤكد‪ ،‬أن التناول األدب��ي لموضوعة‬ ‫السفر فى الرواية‪ ،‬أعمق زمنا من‬ ‫ه��ذه ال�ف�ت��رة ال�ت��ي نتوقف عندها‬ ‫ف��ي ه��ذا ال�ب�ح��ث؛ فلدينا تجارب‬ ‫أول ��ى ب� ��ارزة‪ ،‬ت�ن��اول��ت ال�س�ف��ر إل��ى‬ ‫أوروب���ا على نحو م��ا يمثل لها بــ‬ ‫«ع �ص �ف��ور م ��ن ال� �ش ��رق» ل�ت��وف�ي��ق‬ ‫الحكيم‪ ،‬و«قنديل أم هاشم» ليحيى‬ ‫حقي‪ ،‬مروراً بــ «موسم الهجرة إلى‬ ‫الشمال» للطيب صالح‪ ،‬وغيرها‬ ‫من الروايات‪ .‬ومع ذلك‪ ..‬ال يمكننا‬ ‫اعتبار رواي��ة السفر التي نتحدث‬ ‫عنها اليوم‪ ،‬امتداداً طبيعيا لمثل‬ ‫هذه التجارب األولى‪.‬‬ ‫فالروايات األولى‪ ،‬التى سجلت‬ ‫تجارب السفر إل��ى أوروب ��ا‪ ،‬كانت‬ ‫م�ش�غ��ول��ة ب �ص��ورة اآلخ���ر كوسيلة‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪35‬‬


‫صورة المثقف المأزوم كما نراه فى رواية» الحب‬ ‫فى المنفى» لبهاء طاهر؛ فبطل بهاء طاهر فى‬ ‫الحب فى المنفى هو المثقف المأزوم نفسه‪،‬‬ ‫الذى أصبح حضوره عالمة مميزة فى كتابات‬ ‫بهاء طاهر‪.‬‬

‫إلدراكها لذاتها‪ ،‬كأن تجسد رغبتها فى البحث‬ ‫نقطة ال�ت�ق��اء م��ع اآلخ ��ر م��ن ح�ي��ث ه��و ن�م��وذج‬ ‫للحداثة والتفوق الحضارى والمعاصرة لتؤسس‬ ‫م��ن خاللها فهما ج��دي��داً لهوية م�ت��وازن��ة بين‬ ‫تطمينات األصالة‪ ،‬ومغامرات المعاصرة التى‬ ‫تطلع إليها المجتمع العربي في ذل��ك الوقت‪،‬‬ ‫أما رواية «شهرزاد على بحيرة جنيف» لجميل‬ ‫على نحو ما نجد عند توفيق الحكيم ويحيى عطية إبراهيم‪ ،‬فتشكل نقطة مفصلية فى تاريخ‬ ‫حقي‪.‬‬ ‫رواي��ة السفر إل��ى أوروب��ا‪ ،‬كما أنها تكاد تكون‬ ‫وفى مرحلة تالية‪ ،‬عبرت رواي��ة السفر عن مميزة بين روايات السفر بهذه الصفة (تجربة‬ ‫رغبتها فى فضح صورة اآلخر المستبد‪ ،‬وكشف السفر إلى أوروب��ا)‪ ،‬فهى تخط لنفسها طريقاً‬ ‫صور االستعالء التى مارسهاالغرب‪ ،‬كما نجد ج��دي��راً باالهتمام والنظر‪ ،‬على ض��وء مفاهيم‬ ‫ع�ن��د ال�ط�ي��ب ص��ال��ح ف��ى «م��وس��م ال�ه�ج��رة إل��ى الكونية ومعطيات العولمة‪ .‬وظني أن هذه الرواية‬ ‫الشمال»‪ ،‬والتي عُدت بداية ناضجة لرواية ما التى بدت للبعض مجرد تأمالت ساخرة لقضايا‬ ‫ال عن تنويعات هذه الصورة ساخنة‪ ،‬تحتوى كثيراً من مظاهر التجديد التى‬ ‫بعد االستعمار‪ .‬فض ً‬ ‫التى تناولت طابع االغتراب‪ ،‬وجسدت مالمح نزعت إليها رواية ما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫العالقة المتوترة بين الشرق والغرب‪ ،‬كما نجد‬ ‫فى حين ركزت الروايات التى سجلت تجربة‬ ‫فى الكثير من الروايات المغاربية التى سجلت السفر إل��ى دول المشرق ال�ع��رب��ي‪ ،‬على طابع‬ ‫تجربة السفر‪ ،‬أو الهجرة إلى الشمال األوروبي‪ ،‬النوستالجيا‪ ،‬فضال عن تنبيهات هينة ومقارنات‬ ‫وما تزال تجد أصداء من الفتنة لدى الكثير من يسيرة لطوابع ثقافية بين البيئات المختلفة‪ ،‬مع‬ ‫كتابها‪ .‬وفى هذا السياق‪ ،‬يمكن اإلشارة إلى أن نبرة تميز أو تفوق تمجد موقف الذات الساردة‬ ‫رواية السفر المغاربية‪ ،‬قد أسهمت إلى حد بعيد وتعلي من قيمة بيئتها الحضارية والثقافية‪،‬‬ ‫فى تشكيل نسق جمالي خاص بها‪ ،‬ويميزها عن على نحو ما نجد عند إبراهيم عبدالمجيد فى‬ ‫رواي ��ة السفر إل��ى المشرق العربى على نحو روايته المهمة «البلدة األخ��رى «‪ ،‬والتي تتميز‬ ‫م��ا نرصد لها هنا‪ .‬وذل��ك التمايز يظهر على بحضور واضح للذات الساردة‪ ،‬يقترب بها إلى‬ ‫نحو خاص فى موقف الذات الساردة‪ ،‬وتنامي ال�س�ي��رة ال��ذات �ي��ة‪ .‬وك��أن إب��راه�ي��م عبدالمجيد‬ ‫مشاعر االغ�ت��راب بمعناه الحضاري والثقافي لم يكن مشغوالً بتجربة السفر نفسها‪ ،‬بقدر‬ ‫الذي يتجسد في مأزق اللغة‪.‬‬ ‫انشغاله بتجربته هو مع السفر يما يمنح الذات‬

‫وهذا الخط‪ ،‬يمكن مالحظته بنسب متفاوته‬ ‫فى كل ال��رواي��ات التى سجلت لتجربة السفر‬ ‫إلى أوروب��ا‪ ،‬ولكننا نراه أكثر اشتباكاً بالقضايا‬ ‫ال�س�ي��اس�ي��ة‪ ،‬وأك �ث��ر ت�ع�ب�ي��راً ع��ن أزم ��ة المثقف‬ ‫العربى ذات��ه ال الثقافة العربية بحيث يجسد‬

‫‪36‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫ال� �س ��اردة درج���ة ك�ب�ي��رة م��ن ال��وع��ى بموقفها‪،‬‬ ‫وحساسية عالية بالمأزق الحضارى الذى تنزلق‬ ‫إليه المنطقة العربية فى تركيزات هادفة على‬ ‫المغايرات السلوكية والثقافية التى تهدد الذات‪،‬‬ ‫كما تظهر تجربة السفر على نحو ب��ارز عند‬


‫الروايات التى تناولت تجارب السفر إلى الدول‬ ‫العربية‪ ،‬غير أننا نظنها واسعة االنتشار والتعدد‪،‬‬ ‫س��واء ف��ي ط��رائ��ق تناولها للتجربة نفسها‪ ،‬أو‬ ‫بحسب البيئات التى تناولتها‪ ،‬وإن تركزت فى‬ ‫منطقة النفط (دول الخليج والسعودية والعراق)‪.‬‬ ‫وتحضرنا فى هذا الصدد رواية الفته على نحو‬ ‫بازغ‪ ،‬للروائى فتحى امبابي «مراعى‬ ‫ال� �ق� �ت ��ل»‪ .‬ال� �ت ��ي ح �ص��ل ب �ه��ا على‬ ‫جائزة الدولة التشجيعية‪ ،‬وكانت‬ ‫تتناول تجربة الرحلة إل��ى ليبيا‪،‬‬ ‫وما تعرضت له مجموعة الشباب‬ ‫المصرى الذين أنهوا حياة الجندية‬ ‫بعد عقد اتفاقية السالم حاولوا‬ ‫عبور الحدود فى متاهة صحراوية‬ ‫بال حدود‪.‬‬ ‫وفى سياق مجاور تكاد ترهص‬ ‫رواي � ��ة «ب� �غ ��داد ال أح� ��د» ل�ج�م��ال‬ ‫عبدالمعتمد‪ ،‬عن المأزق السياسي‬ ‫الذي أفضى إلى نفق مظلم تعيشه‬ ‫ال�ع��راق اآلن‪ .‬والجدير بالذكر أن‬ ‫ال��رواي��ة كتبت ف��ى أع �ق��اب ال�غ��زو‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫محمد عبدالسالم العمرى‪ ،‬الذى تناول تجربة العراقى للكويت‪ ،‬ومن ثم عكست المأزق العربي‪،‬‬ ‫إذ أصبح غ��زو الكويت بمثابة احتبار كاشف‬ ‫السفر إلى السعودية فى أكثر من عمل‪.‬‬ ‫غير أن هذا الحضور الكثيف للروايات التى للذهنية السياسية التى تدير الواقع العربي‪.‬‬ ‫أما رواية «دليل التائه» لمحمد غزالن‪ ،‬فقد‬ ‫تناولت تجارب السفر إلى الشرق العربى يفضي‬ ‫إلى تنوع جدير بالنظر‪ ،‬وهو تنوع يقوض نظرتنا عمقت دواع��ي االغ�ت��راب العربي على مستوى‬ ‫التصنيفية لها كمجرد رواية عن تجربة السفر تاريخي‪ ،‬يضعنا فى سياق سردي محكم البناء‪،‬‬ ‫وإن بدت في ظاهرها ذات مقومات موضوعية فى مواجهة مؤلمة مع مصير المنطقة العربية‬ ‫متشابهة نتيجة الش�ت�غ��ال�ه��ا ع�ل��ى التفاصيل فى غمار تناولها لتجربة أب سافر إلى العراق‬ ‫الصغيرة التى تسجل لمعطيات الحياة اليومية‪ ،‬بحثاً عن ابنه الذى اختفى بعد حرب العراق‪-‬‬ ‫ال عن االنعكاسات النفسية التى تجسدها‪ .‬إيران‪ ،‬ليعثر عليه فى النهاية داخل أحد السجون‬ ‫فض ً‬ ‫ول�ي�س��ت ل��دي�ن��ا ب�ي�ب�ل��وج��راف�ي��ا واض �ح��ة عن العراقية‪.‬‬ ‫على أى ح��ال‪ ،‬ف��إن نمو ه��ذا الخط (رواي��ة‬ ‫السفر) فى الرواية العربية صار أكثر وضوحاً‪،‬‬ ‫وتشكل بمنعطفات جمالية وفنية ع��دي��دة فى‬ ‫رحلته الطويلة؛ م��ا يعنى أن تتبع ه��ذا الخط‬ ‫يعمل مثل بطاقة جينية توقفنا على الكثير من‬ ‫مالمح الرواية وتطورها‪ ،‬والمكتسبات التقنية‬ ‫والجمالية التى جسدتها الروايات‬ ‫األخيرة منها‪.‬‬

‫د‪ .‬عزة بدر‬

‫وه� �ن ��ا‪ ،‬س���وف ن�ك�ت�ف��ى ب �ق��راءة‬ ‫روايتين اشتغلتا على تجربة السفر‬ ‫إلى المشرق العربى‪ ،‬حيث تميزت‬ ‫مجتمعات هذا الجزء الحيوى من‬ ‫العالم باصطخابات حادة وعنيفة‪،‬‬ ‫جعلته ف��ي ب ��ؤرة ال�ع��ال��م وهيئته‪،‬‬ ‫ليكون ميدانا تحسم على أرض��ه‬ ‫ص��ورة العالم الجديد‪ ،‬س��واء على‬ ‫المستوى االجتماعى ‪-‬كما يتمثل‬ ‫ف��ى ن��زع��ات التحديث واإلص�ل�اح‬ ‫السياسى واالج�ت�م��اع��ى م��ن جهة‬ ‫ أو ع��ل��ى م��س��ت��وى ال �ت �غ �ي��رات‬‫والطفرات الثقافية التى أحدثتها‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪37‬‬


‫أنماط االستهالك‪ ،‬وتباين دور الثروة فى تشكيل مضاف إلى اغترابها القديم‪.‬‬ ‫الوعى بكل من ال��ذات واآلخ��ر من جهة أخرى؛ السفر فى الذات‬ ‫فضال عن االستهدافات الدولية التى جعلت‬ ‫رواية «األسبوع األخير» للكاتبة اللبنانبة هالة‬ ‫من ه��ذه المنطقة ميدانا للعمليات السياسية‬ ‫كوثرانى‪ .‬رواي��ة تنجح بصفاء ن��ادر في إجالء‬ ‫والعسكرية‪ ،‬على نحو ما نرى فى العراق وإيران‪.‬‬ ‫التوترات المتباينة بين بطلة الرواية ومدينتها‬ ‫وال غرو أن رياح التغيير التى تهب على الذات‬ ‫بيروت‪ .‬يحدث هذا على نحو مكثف يجعل الرواية‬ ‫العربية اآلن هى رياح شرقية بالدرجة األولى؛‬ ‫مشحونة بالتفاصيل المضطربة في العالقة بين‬ ‫إنها في الضرورة ري��اح ح��ارة عاصفة‪ ،‬تختلف‬ ‫اإلنسان والمكان‪ ،‬عندما تتوحد ذاتهما على نحو‬ ‫فى طبائعها وأهدافها عن تلك النسائم الرطبة‬ ‫مصيري ومؤلم‪ ،‬كزوجين لم يعد التواصل بينهما‬ ‫التى نفختها مصر‪ ،‬منذ انفرادها بريادة مشروع‬ ‫الحداثة العربية فى عصر محمد على‪ ،‬وحتى ممكناً‪ ،‬ول��م يعد االن�ف�ص��ال وارداً‪ ،‬إن��ه مجرد‬ ‫تعبير استعاري يعكس حالة التوتر الدائم‪ ،‬وكأن‬ ‫انحسار هذا الدور إثر هزيمة ‪1967‬م‪.‬‬ ‫ثمة حرباً باردة تدور بين اإلنسان والمكان طوال‬ ‫ويبدو أن ه��ذا المعنى األخير يظل ملمحا‬ ‫الوقت‪ ،‬م��أزق الحياة الدافع للبحث عن شكل‬ ‫مطروقا فى كثير من الروايات المصرية التى‬ ‫جديد فى العالقة بين بطلة الرواية ومدينتها‬ ‫عالجت موضوعة السفر إل��ى الشرق العربي‪،‬‬ ‫بيروت‪ .‬هكذا تكتب هالة كوثرانى روايتها‪ ،‬وهى‬ ‫حيث تظهر النسائم المصرية القديمة كموقف‬ ‫تسترجع األسبوع األخير فى بيروت قبل الرحيل‬ ‫طللي يبكى على ال��زم��ن الجميل‪ ،‬ب�ش��يء من‬ ‫إلى دبي‪ ،‬لتجعل منها شحنة شعرية‪ ،‬محتشدة‬ ‫النوستالجيا المشفوعة ب��األل��م‪ .‬وف��ى المقابل‬ ‫بالتوترات والمخاوف والتفاصيل المضطربة‪،‬‬ ‫نجد اندفاعات مضادة نحو الرفض أو الهجوم‬ ‫ه��ذه التفاصيل ال�ت��ي ت�ح��دد دواع ��ي االرت�ب��اط‬ ‫غير المبرر على المجتمعات النفطية ورياحها‬ ‫بالمكان على نحو مصيري‪ ،‬لكن هذا االرتباط‬ ‫الحارة؛ لكننا ‪ -‬بالتأكيد ‪ -‬سنجد أعماال تتجاوز‬ ‫ال يعني أن العالقة مثالية‪ ،‬ومتناغمة على نحو‬ ‫ه��ذا ال�م��وق��ف ال�ن�ف�س��ي‪ ،‬وت��وس��ع م��ن نظرتها‪،‬‬ ‫رومانسي‪ ،‬بعكس ما يظهر فى كثير من روايات‬ ‫بحيث يمكنها رؤي��ة المشهد العربي كامال من‬ ‫المكان التى تعكس نوازع النوستالجيا العربية‪،‬‬ ‫خالل تجربة السفر؛ فثم روايات رأت فى السفر‬ ‫بل يكتنفها الكثير من الشد والجذب والشوق‬ ‫للشرق العربي حلما بالخالص‪ ،‬لكنه في الوقت‬ ‫وال �ه �ج��ر‪ ،‬وت�س�ت�غ��رق ب��ذك��ري��ات بعضها حميم‬ ‫نفسه محفوفاً بالمنغصات‪ ،‬حتى يكاد يتحول‬ ‫إلى كابوس‪ ،‬على نحو ما نجد فى رواي��ة هالة وعميق‪ ،‬وبعضها سطحي وعابر‪ ،‬وبعضها اآلخر‬ ‫كوثرانى «األسبوع األخير»‪ .‬وثم روايات اعتبرت موجع ومؤلم‪ .‬لكن كل هذا‪ ،‬هو ما يجعل االرتباط‬ ‫تجربة السفر فرصة إلع��ادة اكتشاف ال��ذات‪ ،‬بالمكان مصيري وقدري على نحو يظل يطاردنا‬ ‫والتطهر من الخطايا القديمة‪ ،‬على نحو ما نجد ويعيش فينا‪ ،‬حتى ونحن بعيدون عنه‪.‬‬ ‫بطلة ال��رواي��ة تقرر فجأة أن تترك بيروت‬ ‫فى رواية عزة بدر «في ثوب غزالة»‪ ،‬وقد قصدنا‬ ‫ال عند لتبدأ م��ن جديد الحياة ف��ي مكان آخ ��ر‪ ..‬في‬ ‫فى النموذجين السابقين‪ ،‬أن نتوقف قلي ً‬ ‫رؤية المرأة لتجربة السفر من حيث هى اغتراب دب��ي‪ ،‬عندما شعرت أن حياتها في بيروت قد‬

‫‪38‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫اآلن على بطلة ال��راوي��ة أن تمضي أسبوعاً‬ ‫أخيراً في بيروت قبل أن تغادر‪ ،‬إنه زمن الرواية‬ ‫كلها‪ ،‬لكنه وفقاً لإلسترجاعات يغطى أعوامها‬ ‫الثالثة والثالثين‪ .‬وه��ذه االسترجاعات‪ ،‬تمنح‬ ‫بطلة الرواية فرصة لربط سيرتها الذاتية بسيرة‬ ‫المكان‪ ،‬ما يعني أن المكان ليس موضوعاً للسرد‪،‬‬ ‫بقدر ما هو تمثيل جمالي للذات ال�س��اردة‪ ،‬أو‬ ‫معادل موضوعي لها؛ فإذا كانت سيرة المكان‬ ‫محتشدة بكثير من األخطاء ونوبات الفشل فى‬ ‫التحقق على نحو مثالى أو رومانسى؛ فإن سيرة‬ ‫الراوية نفسها تسير بالتوازى مع سيرة بيروت؛‬ ‫فنراها محتشدة بالعديد من الصور المأساوية‪،‬‬ ‫مثل‪:‬‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫توقفت‪ ،‬وأنها لم تعد قادرة على تحمل األوجاع‬ ‫التى سببتها لبيروت حروب أبيها وجيله‪ .‬علينا‬ ‫مالحظة هذا الموقف الضدي من جيل اآلباء‬ ‫الذى أشعل حروبا داخلية لم يخمد أوراها بعد‪،‬‬ ‫ال فى حرب أخرى بين اإلنسان‬ ‫ومن ثم نراه متمث ً‬ ‫والمكان‪ .‬كما علينا مالحظة هذا الربط العفوى‬ ‫ال‬ ‫بين أوج��اع المدينة وأوج��اع ال��ذات‪ ،‬وك��أن ك ً‬ ‫منهماً مرادف لآلخر‪.‬‬

‫عالقة الذات الساردة ببيروت‪ ،‬فإن استشرافاتها‬ ‫للرحلة إل��ى الخليج ال تمثل يوتوبيا‪ ،‬أو حلما‬ ‫بالخالص على طريقة األج��داد الذين هجروا‬ ‫لبنان إلى األميريكتين‪ .‬إن وعي األحفاد بالواقع‬ ‫أكثر حدة‪ ،‬وهم أكثر قدرة على مكاشفة الواقع‪،‬‬ ‫بحيث يدركون أن جنة الله ليست على األرض‪،‬‬ ‫فبطلة ال��رواي��ة مؤرقة بالمخاوف والتصورات‬ ‫التى نقلها آخ��رون عن تجربة السفر إلى بيئة‬ ‫تختلف كليا إلى حد التباين مع بيروت‪.‬‬ ‫مشكلة بطلة الرواية‪ ،‬هى وعيها العميق بهذا‬ ‫االرت �ب��اط المصيري ال��ذي يربط بين سيرتها‬ ‫الذاتية وسيرة المكان‪ ،‬فهى ت��درك فى الوقت‬ ‫ذات� ��ه‪ ،‬ال ��ذي ت�ع��د نفسها ل�ل��رح�ي��ل‪ ،‬أن لحظة‬ ‫خروجها من المكان‪ ،‬هى اللحظة ذاتها التى‬ ‫تتخلى فيها عن اإليمان بذاتها‪ ،‬أى أنها واعية‬ ‫بأنها ستبدأ رحلة اغتراب جديدة عن ذاتها‪.‬‬

‫إن حركة السرد فى الرواية مشدودة طوال‬ ‫الوقت‪ ،‬ومتوترة‪ ،‬يتجاذبها شعوران‪ ،‬كل منهما‬ ‫يمتلك من القوة ليجذب ال��ذات الساردة إليه‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فالرواية تتحرك على مستويين‪ ،‬يتناوبان‬ ‫لحظات من ال�ت��وازي أو التقاطع أو االشتباك‬ ‫إخفاقات التواصل مع خطيبها‪ ،‬موت األحبة والتداخل‪.‬‬ ‫واألص��دق��اء‪ ،‬مثل موت صديقتها (ليلى) الذى‬ ‫ولعل أحد التعبيرات التقنية لهذه الثنائية‪ ،‬أن‬ ‫ت��رك فيها جرحا ال يندمل م��ع ال��زم��ن‪ ،‬فض ً‬ ‫ال الرواية ال تعتمد فى رسم أبعادها الزمنية على‬ ‫عن األزم��ات االقتصادية الخانقة التى خلفتها استرجاعات ذاكرتية مجردة‪ ،‬يمكن أن تمحى‬ ‫سنوات الحرب‪ .‬وهكذا‪ ،‬تتعدد دواع��ى السفر من ال��ذاك��رة‪ ،‬أو يتطرق إليها الشك‪ ،‬بل تظهر‬ ‫وأسبابه وتلح في الظهور على سطع الوجدان بين الحين واآلخر بعض الصور الفوتوجرافية‬ ‫ال�ف��وار ف��ى ه��ذا األس�ب��وع األخ�ي��ر‪ ،‬وقبل رك��وب القديمة‪ ،‬التى تثبت الزمن فى لحظات خاصة‬ ‫الطائرة لمرة أخ�ي��رة‪ ،‬ألبعد نقطة ممكنة عن ومشتبكة بقوة مع الذات الساردة‪ ،‬فهذه الحرب‬ ‫هذا المكان‪.‬‬ ‫ال�ت��ى م��ا ت ��زال تحتفظ ببعض ص��وره��ا‪ ،‬تأتي‬

‫وإذا ك��ان��ت ن ��وازع النوستالجيا تتأكد عبر مشتبكة بسنوات الطفولة‪ ..‬الطفولة التى ينبغي‬ ‫رواب ��ط م��اض��اوي��ة متضاربة ح��د التناقض فى أن تكون سعيدة وبريئة‪ ،‬ولكنها ل��م تكن أب��داً‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪39‬‬


‫خالصة على هذا النحو المثالي‪ ،‬هكذا تتجاور الساردة على نفسها هو البدء من جديد‪.‬‬ ‫صورة العصفور وصورة الدم فى لحظة واحدة‪:‬‬ ‫حسن‪ ..‬ستنفصل بطلة الرواية عن خطيبها‪،‬‬ ‫«بعدما طالبت بكاميرا وحصلت عليها‪ ،‬صورت وت �ن �ه��ي ال�ل�ع�ب��ة ال �ت��ي ت��واط��أ ع�ل�ي�ه��ا ال�ج�م�ي��ع‪،‬‬ ‫شرفة المطبخ في بيتنا‪ ،‬حيث وقفت ألتلصص وستستقيل من عملها المتواضع غير نادمة‪،‬‬ ‫على م��وت المقاتل ودم��ه ال��ذى ل��وّن خ��زان��ات وستسهر مع األصدقاء لتودعهم‪ ،‬ولكي تخلص‬ ‫المياه‪ ..‬صورت الشرفة والعصفور في قفصه روح �ه��ا ت�م��ام�اً وال تصبح عالقة ف��ى المكان‪،‬‬ ‫في المطبخ»‪.‬‬ ‫ستموت صديقتها ليلى المريضة ط��وال زمن‬

‫سنرى أن للصورة تشكالت متعددة وناضجة‬ ‫في هذه الرواية‪ ،‬إنه نضج يتطور مع الشخصية‬ ‫ومع حركة السرد التى تعنى كثيراً بالمشهديات‬ ‫البصرية‪ ،‬التي تومض متجاوزة تراتبية الزمان‪،‬‬ ‫إنها تومض في الذاكرة عادة‪ ،‬تستضيئ بالمكان‬ ‫(بيروت) وتضيء معها جوانب مظلمة في الذات‬ ‫الساردة‪ ،‬فآلية التداعي الحر هو منطلق السرد‬ ‫ف��ي ال��رواي��ة‪ ،‬حتى لتبدو ال��رواي��ة كلها شحنة‬ ‫سردية واحدة بال فواصل من أى نوع‪ ،‬ال تقنية‬ ‫وال شكلية وال نفسية‪ ،‬إنها حالة واحدة سديمية‬ ‫من اإلقامة‪ ،‬وكأنها علقت في الزمان والمكان‪.‬‬ ‫تقول‪« :‬ولدت في بيروت‪ ،‬وأقول إننى أتوق اآلن‬ ‫إلى مغادرتها‪ .‬وبعد أن أتوق‪ ،‬أحاول أن اغادرها‪،‬‬ ‫ثم أص��ارع نفسي من أجل أن أغادرها‪ ،‬لكننى‬ ‫أبقى في غرفتي‪ ،‬واألسبوع األخير يتحول إلى‬ ‫الشهر األخ�ي��ر‪ ،‬واألس��اب�ي��ع األخ�ي��رة متشابهة‪.‬‬ ‫وليلى ل��م تمت ب�ع��د‪ ،‬لكنها ستموت‪ .‬وب�ي��روت‬ ‫ستتغير‪ ،‬وبين بيروت وبيروت ال تتغير غرفتي‬ ‫وال أتغير أنا فيها»‪.‬‬

‫الرواية‪ ،‬ستموت قبل أن يجيء األسبوع األخير‬ ‫لتتمكن من مغادرة بيروت بقلب مستريح‪ ،‬وسوف‬ ‫تلتقط الصور األخيرة‪ ،‬وتمأل عينيها وقلبها بكل‬ ‫التفاصيل التى سوف تكون ذخيرتها فى الغربة‪،‬‬ ‫ثم‪« :‬يجب أن أكتب كي تنجح خطتي في اختراع‬ ‫مكان لي‪ ..‬مكان أستطيع أن أقول إنه مكاني‪،‬‬ ‫وإنني انتمى إليه»‪.‬‬

‫صحيح أن الرواية تنتهي في سطورها األخيرة‬ ‫بصعود البطلة سلم الطائرة‪ ،‬ثم شعورها بخفة‬ ‫مباغتة عندما تطير وتحلق فوق بيروت؛ لكن‬ ‫المفارقات الزمنية التى تجيدها هالة كوثراني‪،‬‬ ‫والمتقابالت الشعورية التى تنسجها بمهارة عبر‬ ‫لغة شديدة اإليحاء‪ ،‬والبناء الترجيعي الغنائي‬ ‫ال��ذي يجعل من الرواية أنشوده تراجيدية فى‬ ‫ع�لاق��ة اإلن �س��ان ب��ال�م�ك��ان‪ ،‬ك��ل ه��ذه ال�م�ه��ارات‬ ‫واإلمكانات الجمالية لروائية تكتب كما تتنفس‪،‬‬ ‫وضعتنا أمام نص مفتوح الداللة متعدد المعاني‪،‬‬ ‫حتى يمكن ق��راءة النص عبر أكثر من مسار‪:‬‬ ‫ال�ح��رب‪ ،‬والفقد‪ ،‬وإرادة الحياة‪ ،‬واالغ �ت��راب‪.‬‬ ‫سيفيدنا المقطع األخير لغوياً في التعرف والكتابة بوصفها وطناً للذات‪.‬‬ ‫على الطاقة الشعورية التى تحتشد بها الذات‬ ‫إن الكتابة بوصفها وطنا للذات هو معنى‬ ‫ال �س��اردة‪ ،‬إنها ذات خ��ارج��ة لتوها م��ن تجربة يشيع فى الدراسات النسوية‪ ،‬ليشير إلى المأزق‬ ‫حرب‪ ،‬ومتجهة لتوها إلى حرب أخرى وهكذا‪ .‬الذى عاشته المرأة عندما عملت الثقافة طوال‬ ‫بين بيروت وبيروت‪ ..‬وبين حرب وحرب‪ ،‬ال شيء الوقت إلى تهميشها وتعميق اغترابها عن ذاتها؛‬ ‫يتغير‪ ،‬إن التغيير الملموس الذي تطرحه الذات لهذا‪ ،‬فإن الكتابة هي طريقة الستعادة الذات‬

‫‪40‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫وإذا ك��ان��ت ال�س�ط��ور األخ �ي��رة تنتهي بخفة‬ ‫الرحيل والخالص من عالقة معقدة مع بيروت‪،‬‬ ‫ف ��إن ال �س �ط��ور األول� ��ى ال ت�خ�ل��و م��ن ه��واج��س‬ ‫االغ �ت��راب‪ ،‬ول��واع��ج الحنين‪ ،‬وكأنما ت�ق��ول إن‬ ‫مفارقة لبنان ليست سوى سبي ًل لعودة أخيرة‪،‬‬ ‫وفرصة للبدء من جديد‪..‬‬ ‫«فى الغربة نموت أيضاً‪ ،‬نعيش لصباح ينتهي‬ ‫سريعاً‪ ،‬ونحتمل أوق��ات الظهيرة قبل أن يأتي‬ ‫االنهيار مساء‪ ،‬حين نشتاق إلى أهلنا‪ ،‬وشوارع‬ ‫تغيرت ولم نغيرها فى الصور‪ ،‬في الذاكرة‪ ،‬وفي‬ ‫البطاقات البريدية المنقرضة»‪.‬‬ ‫ف��ى ال��رواي��ة طابع سير ذات ��ي‪ ،‬يجعلنا نرى‬ ‫ت��وح��داً بين بطلة ال��رواي��ة وكاتبتها‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫الطابع السير ذات��ي يشير إل��ى ال��روح النسوية‬ ‫التي كتبت بها الرواية‪ ،‬سواء من حيث احتشادها‬ ‫بتفاصيل الحياة اليومية‪ ،‬أو من حيث قدرتها‬ ‫على ق��راءة ال��ذات فى الوقت نفسه الذي تقرأ‬ ‫فيه الواقع‪.‬‬ ‫وفى الرواية نجد هاجساً بحرب جديدة‪ ،‬من‬ ‫غير أن تندمل ج��راح الحروب السابقة‪ ،‬فبين‬ ‫حرب وحرب تظل بيروت عالقة فى سماء من‬ ‫(نار وبواريد)‪ ،‬هذا هو الشعور الذى صدرته لنا‬ ‫نهاية الرواية بمشهد الطائرة وهى تحلق بركابها‬ ‫فى سماء بيروت‪ ،‬وكأنما يعكس فى أحد معانيه‪،‬‬ ‫مجموعة من المصائر المعلقة التى تحدد هوية‬ ‫المكان‪.‬‬

‫التفاعل السسيو ثقافي‬ ‫بطبيعة الحال‪ ،‬فـإن نصيب المرأة المبدعة‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫وتثبيتها ف��ى ال�ت��اري��خ؛ وم��ن ناحية أخ��رى هى‬ ‫طريقة لتقويض التاريخانية الذكورية‪ ،‬وفضح‬ ‫ممارسات الرجال (صانعو الحروب)‪.‬‬

‫م��ن كتابة تجربة السفر قليل وم �ح��دود‪ ،‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬يمكن أن نرصد عدداً من األعمال الروائية‬ ‫لكاتبات من النساء أكسبن هذه التجربة طعماً‬ ‫جديداً ومميزاً‪ ،‬بل وبدت أعمالهن أكثر اقتراباً‬ ‫من واقع المجتمعات التى تناولنها‪ ،‬وأكثر قدرة‬ ‫على فهم ثقافتها وتقاليدها ومالبسات حياتها‬ ‫اليومية مما كتبه الرجال؛ ربما ألن الطبيعة تجعل‬ ‫المرأة أكثر اهتماماً بالتفاصيل وأكثر قدرة على‬ ‫مالحظة مفردات الحياة اليومية وأكثر عناية‬ ‫بالحراك االجتماعي والطبائع اإلنسانية‪ .‬ومن‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬فإن العالم المغلق للمرأة العربية‪،‬‬ ‫وهو العالم األكثر قدرة على تجسيد التأثيرات‬ ‫الثقافية للمجتمع‪ ،‬يصعب اختراقه واالقتراب‬ ‫منه بالنسبة للرجال‪ ،‬فيما يمكن للمرأة الكاتبة‬ ‫دخوله‪.‬‬ ‫فبطلة رواية (فى ثوب غزالة) لعزة بدر‪ ،‬فتاة‬ ‫مصرية متعلمة تحظى بقدر كبير من الثقافة‪،‬‬ ‫كان عليها وفق سياقات اقتصادية ومجتمعية‬ ‫مستحدثة أن ت��زف م��ن مطار القاهرة لتلحق‬ ‫بزوجها الشاب ال��ذي يعمل فى السعودية‪ ،‬إن‬ ‫ص��ورة ال�م��رأة التابع تطل علينا منذ البداية‪،‬‬ ‫وهى إشارة الغتراب تاريخي عانته المرأة فى‬ ‫المنظومة الثقافية‪ ،‬غير أن ه��ذا االغ �ت��راب‬ ‫�ا‪ ،‬ال يعفيها م��ن مواجهة أشكال‬ ‫القائم أص�ل ً‬ ‫االغ��ت��راب ال �ج��دي��دة ال�ت��ي لحقت بمجتمعها‪،‬‬ ‫ونعني بها ظاهرة الهجرة إلى دول النفط‪ ،‬وهو‬ ‫اغ �ت��راب مسئول عنه ال��رج��ل بوصفة مسئوال‬ ‫عن الوضعية االقتصادية للمرأة التابع‪ ،‬وفق‬ ‫سياسات الحكم الجنسي على نحو ما جسدته‬ ‫(نورا) بطلة «بيت الدمية» ألبسن‪ ،‬أما بطلة (فى‬ ‫ث��وب غ��زال��ة) فكانت ق��د ب��دأت رح�ل��ة اغ�ت��راب‬ ‫اجتماعي مركبة‪ ،‬عندما يتحتم عليها أن تخلع‬ ‫ثوب الفتاة‪ ،‬لترتدي ثوباً أكثر تعقيداً‪ ،‬هو ثوب‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪41‬‬


‫الزوجة واألم‪ ،‬بكل أبعاده االجتماعية والثقافية‪.‬‬ ‫غير أن السفر دفعها إلى أن تبدأ هذه التجربة‬ ‫في مجتمع ال تشعر أنها ج��زء من ثقافته‪ ،‬ما‬ ‫يعني تغيراً في مسرح األح��داث ال��ذي ستبدأ‬ ‫عليه حياتها الجديدة‪ ،‬ومن ثم تتغير كل قواعد‬ ‫اللعبة؛ فالفتاة التي تتحول إلى زوجة وأم‪ ،‬تقوم‬ ‫ب �ه��ذا ال���دور االج�ت�م��اع��ي ع�ب��ر م���وروث ثقافي‬ ‫وخبرات مخزونة‪ ،‬يباركها المجتمع ويدعمها‬ ‫لتقوم به على أكمل وج��ه‪ .‬وعندما تجد بطلة‬ ‫«فى ثوب غزالة» نفسها في عزلة عن أى محيط‬ ‫اجتماعي يعينها على حياتها الجديدة‪ ،‬تدخل‬ ‫حالة من العزلة‪ ،‬والرفض لوجودها هنا‪ ،‬حتى‬ ‫أن جسدها يرفض الحمل‪ ،‬بما يعنى اغترابا‬ ‫جديدا عن جسدها كأنثى‪ .‬لكن مشاعر األمومة‬ ‫واألنوثة تدفعها إلى أن تبدأ فى مراجعة تجربتها‬ ‫ك��ذات عالقة فى التاريخ‪ ،‬ثم ك��ام��رأة مصرية‪،‬‬ ‫وتقارنها بتجربة المرأة السعودية‪ ،‬كما لو كانت‬ ‫تبحث لنفسها عن مبرر أو سبب يفسر ما هى‬ ‫فيه ‪« :‬النساء هنا لم تصل إليهن ثورة ‪1919‬م‪،‬‬ ‫لم يتخرجن من مدرسة السنية‪ ،‬لم يجتمعن فى‬ ‫بيت األمة‪ ،‬لم يهتفن فى المظاهرات‪ ،‬ما حملن‬ ‫بذور ثورة تصبح شجرة‪.»...‬‬ ‫إنها ت��درك ذاتها تاريخياً على نحو يميزها‬ ‫عن النساء السعوديات‪ ،‬لكونها حاملة لتاريخ ال‬ ‫بأس به من الحداثة‪ ،‬يعضد الصورة النمطية‬ ‫التى كونتها عن المرأة السعودية التى ظنتها‬ ‫كما لو كانت ام��رأة حبيسة الخباء‪.‬إنها حاملة‬ ‫لبذور ث��ورة‪ ،‬يمكنها أن تصبح شجرة على حد‬ ‫تعبيرها لو قامت على رعايتها‪ ،‬ومن ثم تدرك‬ ‫أن خالصها كامن فى المعنى الثقافي‪ ،‬إذ عليها‬ ‫أوالً‪ ،‬أن تستكمل دراستها للماجستير التى كانت‬ ‫ق��د قطعتها بسبب السفر‪ ،‬وألن�ه��ا باحثة فى‬ ‫التاريخ االجتماعي على وجه التحديد‪ ،‬فإن هذا‬

‫‪42‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫سيعينها على الوقوف على العالمات الفارقة‬ ‫فى تجربة المرأة بين الهنا والهناك‪ ،‬ونتيجة‬ ‫لذلك أنها تتفهم خصوصية كل تجربة‪ ،‬ما يعني‬ ‫استعدادها لقبول هذا االختالف واحترامه‪.‬‬ ‫فنجد لدى بطلة (فى ثوب غزالة) سعياً إلى‬ ‫تفهم الخصوصيات الثقافية للمجتمع ال��ذى‬ ‫عليها أن تعيش فيه على ال��رغ��م م��ن إدراك�ه��ا‬ ‫لخصوصية تجربتها‪ ،‬تقول معبرة عن رغبتها‬ ‫فى امتالك معرفة كاملة بهذا المجتمع‪« :‬على‬ ‫أى حال‪...‬هنا‪ ،‬أو فى بالد واق الواق‪ ،‬ال بد أن‬ ‫أعيش‪ ،‬سأصنع عالمي‪ ..‬لن يردنى عن المعرفة‬ ‫سبب‪ ،‬لن يردنى حجاب»‪.‬‬ ‫لقد تفتق ذهنها عن حيلة الختراق حواجز‬ ‫االغتراب والعزلة التى ضربتها تقاليد المجتمع‬ ‫السعودي من ناحية‪ ،‬وباركها زوجها بحجة أنه‬ ‫يخشى عليها من السعوديين الرجال بما يعكس‬ ‫تبادل المخاوف‪ ،‬إذ كان عليها أن تستهلك الوقت‬ ‫البطيء لحين عودة زوجها من عمله مكدوداً غير‬ ‫قادر على فتح عينيه‪.‬‬ ‫كانت حيلتها أن تنطلق إلى مكتبة الجامعة‬ ‫ال�ق��ري�ب��ة لتحصل ع�ل��ى ب�ع��ض ال �م��راج��ع التى‬ ‫تعينها على استكمال بحثها‪ ،‬وه�ن��اك‪ ،‬نجحت‬ ‫فى التعرف على طالبات وموظفات سعوديات‪،‬‬ ‫وبهذه الطريقة‪ ،‬نجحت فى الوقت نفسه الذي‬ ‫تكسر فيه عزلتها أن تزرع نفسها شجرة مصرية‬ ‫فى قلب المجتمع النسوى السعودى‪ ،‬مستفيدة‬ ‫من دراستها لعلم االجتماع‪.‬‬ ‫ل�ه��ذا فهى ت�ب��دو منسجمة م��ع ذات �ه��ا‪ ،‬حين‬ ‫تحتفي برصد مظاهر ثقافية سعودية عديدة‪،‬‬ ‫تلمسها داخل بيوت السعوديات عندما تشاركهن‬ ‫فى حفالتهن ومناسباتهن‪ .‬وتقف عن قرب على‬ ‫مشاكلهن حتى العاطفية منها‪ .‬ومع الوقت تصبح‬


‫لكن ح��دث�اً ف��ارق �اً يقع ليجسد ذروة القمع‬ ‫الذكوري الواقع على النساء‪ ،‬عندما شب حريق‬ ‫فى بيت الطالبات السعوديات‪ ،‬راح ضحيته عدد‬ ‫م��ن صديقاتها ال�لات��ي منعن م��ن ال �ه��روب من‬ ‫الجحيم س��اف��رات ال��وج��وه وبمالبس ال�ن��وم‪ ،‬إن‬ ‫القصة مستوحاة من حكاية شعبية مصرية عن‬ ‫نساء احترق حمامهن والالتي خجلن الخروج‬ ‫م��ن الحمام ع��اري��ات احترقن‪ ،‬وص��رن مضربا‬ ‫لمثل شعبي مصري يقول‪« :‬اللى اختشوا ماتوا»‪.‬‬ ‫وهكذا يتشابه تاريخ ال�م��رأة بين المجتمعين‪:‬‬ ‫المصرى والسعودى‪.‬‬ ‫هذا الحدث‪ ،‬وإن أدخلها فى حالة من الرعب‬ ‫واالكتئاب‪ ،‬إال أنه يزيد من عمق إحساسها بمأساة‬ ‫ال�م��رأة العربية عموماً والسعودية خصوصاً؛‬ ‫ومن ثم تدرك أن اغتراب المرأة الحقيقي هو‬ ‫اغتراب ثقافي‪ ،‬كما أن الفروق بين وضعيات‬

‫دراس����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����ات‬

‫صديقة لكثيرات من السعوديات‪ ،‬بل وتتدخل‬ ‫لحل مشكلة عاطفية بين زوجين انفصال‪ ،‬ويتعين‬ ‫عليها أن تلتقى بالزوج فى مكان عام لتنقل له‬ ‫وجهة نظر طليقته‪ ،‬لكن الزوج يبدأ فى مغازلتها‬ ‫هى من منطلق شائع أن المرأة المصرية التى‬ ‫ج��اءت من مجتمع أكثر انفتاحاً الب��د أن تكون‬ ‫سهلة المنال‪ .‬هكذا تدرك أن الذهنية الذكورية‬ ‫هى التى تحدد صورة المرأة سواء فى مجتمعها‬ ‫أو المجتمع ال�س�ع��ودى‪ .‬وال��رج��ل يتعامل معها‬ ‫على أس��اس م��ن تلك ال�ص��ورة التى تدخل فى‬ ‫موروثاته الثقافية دونما اعتبار لما تكون عليه‬ ‫حقيقة ال�م��رأة‪ .‬هكذا تفهم بطلتنا‪ ،‬أن المرأة‬ ‫هنا‪ ،‬كما هى فى كل المجتمعات العربية‪ ،‬تعاني‬ ‫من وجودها المستمر تحت اختبارات ذكورية‬ ‫قاسية‪ ،‬ومن ثم يبدو انحيازها للمرأة السعودية‪،‬‬ ‫هو انحياز لذاتها فى نفس الوقت‪.‬‬

‫النساء فى مجتمعاتهن تكمن فى المعنى الثقافى‬ ‫لكل مجتمع‪ .‬لهذا تصر بطلة الرواية‪ ،‬على أن‬ ‫تندمج فى النسيج الثقافى للمرأة السعودية‪.‬‬ ‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬تصبح أكثر يقينا‪ ،‬بأن تجربة‬ ‫التحرر الثقافى التى بدأتها المرأة المصرية‬ ‫من مدرسة السنية هى البذرة األولى للشجرة‪،‬‬ ‫أو الخطوة األولى الصحيحة نحو طريق طويل‬ ‫لتحرير المرأة من ن��وازع االغتراب التاريخى‪،‬‬ ‫ومن ثم تحرير ذاتها كأنثى‪.‬‬ ‫إن حادث محرقة النساء‪ ،‬نقطة تحول هامة‪،‬‬ ‫ليس فقط فى البناء ال��درام��ى للألحداث‪ ،‬بل‬ ‫فى البناء الثقافى لبطلة ال��رواي��ة‪ ،‬ففى نفس‬ ‫الوقت‪ ،‬وم��ن خ�لال الرسائل التى تتبادلها مع‬ ‫أستاذها والمشرف على رسالتها العلمية (د‪.‬‬ ‫نزيه)‪ ،‬تكتشف خواء وزيف هذا الرجل المثقف‬ ‫الكبير‪ ،‬الذى يمثل فى نفس الوقت رمزاً للسموق‬ ‫األكاديمى والعقل العلمى المؤسس على أفكار‬ ‫ال ذك��وري��ا فجاً لخطاب‬ ‫بربجماتية‪ ،‬تعد تمثي ً‬ ‫الحداثة الملتبس بمعانى االستعالئية األوربية‪،‬‬ ‫بوصفه نموذجاً للترتيب الهيراركى للعالم على‬ ‫أساس من مركزية ثقافية تبدأ بأوربا‪ ،‬ثم تنطوى‬ ‫على مركزية النوع التى تبدأ بالرجل األبيض‪.‬‬ ‫إن ه��ذا المعنى المركب‪ ،‬يظهر فى عالقة‬ ‫الدكتور نزيه‪ ،‬بـ (كلود) المشرفة اإلداري��ة على‬ ‫المنحة األمريكية التى حصل عليها الدكتور‬ ‫نزيه إلقامة مركز أبحاثه االجتماعية والثقافية‪،‬‬ ‫فبرغم أن نزيه هو مدير المركز‪ ،‬وكلود مجرد‬ ‫سكرتيرة له‪ ،‬إال أنها تمارس استعالءاً جنسيا‬ ‫ف��ى عالقتهما ال �س��ري��ة‪ ،‬أى أن (ك �ل��ود) تضع‬ ‫الرجل الشرقى فى الهامش ليصبح مجرد فحل‬ ‫يرضي نهمها‪ .‬إنها ص��ورة االستعالء الجنسي‬ ‫في النظرة الغربية للشرق على نحو ما جسدها‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪43‬‬


‫الطيب صالح فى موسم الهجرة إلى الشمال‪ ،‬إل ��ى االس��ت��ق��رار‪ ،‬وك��أن �ن��ا إزاء ب �ش��ارة بميالد‬ ‫بما يكسب العالقة بين كلود والدكتور نزيه بعداً جديد‪ .‬كما تكتمل حلقة اندماجها مع المرأة‬ ‫سياسياً‪.‬‬ ‫السعودية‪ ،‬كعالمة على توحد المصير النسوي‬

‫أم��ا التحول الثانى ال��ذى ح��دث لبطلة (فى فى الثقافة العربية‪ ،‬من خالل مشهد دال‪ ،‬وهو‬ ‫ث��وب غ��زال��ة)‪ ،‬فهو رغبتها فى اختبار التجربة المشهد الذى منح الرواية اسمها‪ ،‬حيث أعدت‬ ‫ال خاصاً‪ ،‬يستدعى‬ ‫الدينية ع��ن ق��رب واالل�ت�ح��ام ب�ه��ا‪ ،‬وي��أت��ى هذا صديقاتها السعوديات حف ً‬ ‫ك��رد فعل لعلمانية الدكتور نزيه المفرطة من م��ن ت��راث س�ع��ودي‪ ،‬محتشد بطقوس وتقاليد‬ ‫ناحية‪ ،‬فرسائلة لها كانت تحمل سخرية من سعودية خالصة‪ ،‬وفيه ألبسنها ث��وب الغزالة‪،‬‬ ‫نزوعها الدينى‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن حادثة وع�ل��ى دق��ات موسيقى وغ�ن��اء س �ع��ودي‪ ،‬راح��ت‬ ‫بيت الطالبات التى أودت يحياة بعض صديقاتها ترقص بينهن وتغني‪ ،‬رقصات وأغ��ان سعودية‬ ‫أدخلتها فى حالة من الهلع واالكتئاب النفسى وج��دت فيها ع��ذوب��ة وج �م��االً ل��م تكن تتوقعه‪،‬‬ ‫تجاه التشدد الديني‪ ،‬وم��ن ثم تخوض تجربة ليصبح هذا المشهد المرسوم ببراعة‪ ،‬تدشينا‬ ‫الحج بنفسها لتفهم التجربة الدينية على نحو لتحالف نسوى ينهض على ثقافة جديدة‪ ،‬تحترم‬ ‫أعمق‪ ،‬وهناك رأت تالشى الفوارق االجتماعية خصوصية المرأة‪ ،‬وإعالناً صريحاً لتجاوز كل‬ ‫والجنسية‪ ،‬ورات ال �م��رأة جنبا إل��ى جنب مع حواجز االغتراب المكاني والنفسي لدى بطلة‬ ‫الرجل‪ ،‬فيعكس ذلك معنيين‪:‬‬ ‫ال��رواي��ة‪ ،‬فالغزالة ه��ى المعنى ال�ب��ري للمرأة‬ ‫األول تطهير روحها من االغتراب عبر رحلة العربية‪ ،‬والتمثيل الجمالى لها على نحو ما‬ ‫غمرتها بالسالم‪ ،‬عندما ذابت بين حشود النساء جسدته الثقافة العربية عبر تراثها الشعرى‪.‬‬ ‫بوصفها ذلك الكيان الجميل المغوى بالقنص‪.‬‬ ‫والرجال المسلمين فى الطواف حول الكعبة‪.‬‬

‫والمعنى الثانى‪ :‬تطهيرالثقافة الدينية نفسها‬ ‫من تهمة تهميش المرأة‪ .‬بعد أن أشعلت النار‬ ‫ف��ى بيت ال�ط��ال�ب��ات‪ .‬إن ال �ن��ار تظهر ف��ى أحد‬ ‫مستوياتها رم��زاً للتطهير‪ ،‬وكأننا نحتاج إلى‬ ‫ث��ورة تصحيح تاريخية نحرق فيها كل أنظمة‬ ‫القهر‪ .‬التى أبرزها فى هذه الرواية قهر الرجل‬ ‫للمرأة‪.‬‬

‫كما تتوقف الرواية عند أنماط لنساء ورجال‬

‫سعوديين‪ ،‬تتوقف أيضا عند أنماط لنساء ورجال‬

‫مصريين تعرفت عليهم فى السعودية‪ .‬تصهرهم‬ ‫تجربة السفر وتضعهم على المحك فتتكشف‬

‫مالمحهم عن ممارسات بعضها مخجل وبعضها‬ ‫مضيء‪ .‬بعضها يعانى انسحابا للداخل‪ ،‬وبعضها‬ ‫يقدم على انطالقات غير محسوبة بما يعني أن‬

‫وال غ��راب��ة ب�ع��د التطهير أن يكتمل حمل تجربة السفر هنا ليست مجرد رحلة فى المكان‬ ‫بطلة ال��رواي��ة بعد أن ع��ادت عالقتها بزوجها بقدر ماهي تجربة الختبار الذات أيضا‪.‬‬ ‫* كاتب وناقد من مصر‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪1‬ـ هالة كوثرانى‪ :‬األسبوع األخير (رواية) دار الساقى بيروت ‪2005‬م‪.‬‬ ‫‪2‬ـ عزة بدر‪ :‬فى ثوب غزالة (رواية) كتاب الحمهورية القاهرة ‪2006‬م‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ق���������ص���������ص ق������ص������ي������رة‬

‫جميل‪ ...‬ألنـه‪ ...‬بعيـــــد!‬

‫> حنان الرويلي*‬

‫ك ��ان ب ��درآ يحتجب خ�ل��ف س�ح��ب ال �ع �ب��اءات أعيننــا‪..‬‬ ‫السوداء تارة‪ ..‬وخلف سحب مالبس الممرضات‬ ‫البيضاء تارة أخرى‪..‬‬ ‫لكزت زميلتي هدى التي وجدتها قرب عيادة‬ ‫طبيب األسنان‪ ،‬وقلت لها‪ :‬أتصدقينني؟!‬ ‫أتمنى أن أتحول اآلن إلى قطعة حلوى‪!..‬‬ ‫سألتني متعجبة‪ :‬ولماذا يا مجنونه؟!‬ ‫قلت لها‪ :‬أري��د أن أك��ون قطعة حلوى‪ ..‬حتى‬ ‫تقطعني مالمح ذل��ك الرجل الوسيم إل��ى قطع‬ ‫صغييييييرة‪ ..‬يلتهمني بعدها كـطفل فَرِ ٍح في يوم‬ ‫عيد‪..‬‬

‫فأجبتها ساخطه‪ :‬لكنه ق�م��ر‪ ..‬وه��ل يخفى‬ ‫القمر على الناظرين!!‬ ‫وكان جوابها حاضراً عندما قالت لي‪ :‬تمعني‬ ‫هذا القمر جيدآ‪..‬‬ ‫ستجدينه مليئا ب��ال �ن �ت��وءات وال �ت �ش��وه��ات‪..‬‬ ‫ويعاني من النقص غالبية الشهر‪ ..‬وي��دور في‬ ‫األيدي‪ ،‬كمقبض الباب!‬ ‫أنت أيضآ؟؟‬ ‫سألتها مشدوهه‪ :‬وهل تمعنتيه ِ‬ ‫أجابتني بعد زفرة حرقه فى صدرها‪ :‬نـــعم‬

‫ضحكت وقالت‪ :‬وسيتبعك بكأس لبن يتجشأ‬

‫إني أتمعنه كل ليله‪ ..‬ألنه زوجــــي الذي أطالبه‬

‫قالت ساخره‪ :‬إنها أحلـااااااامنا‪ ..‬تُــزينـهم فى‬

‫جميل‪ ....‬ألنــه بـعـيـــد‪!! ..‬‬

‫ب �ع��ده‪ ..‬ث��م ي �ن��ام‪ ..‬وه��و يشخر وي�ن�خ��ر‪ ،‬لتتمني باإلنفصال منذ مدة!‬ ‫آنذاك لو أنك صماء ولست قطعة حلوى‪..‬‬ ‫‪...‬‬ ‫نهرتها من مغبة تشويه أحالمي التي لو قدر‬ ‫‪...‬‬ ‫لها أن تهبط من سماء خيالي‪ ..‬لسكنته بتفاصيله‪،‬‬ ‫‪...‬‬ ‫كما تسكن الروح الجسد‪..‬‬

‫* قاصة من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪45‬‬


‫الباب في مهمة خاصة‬ ‫> فهد املصبح‬

‫الكل في المدرسة يدرك مدى ذكائها‪ ،‬رغم حداثة سنها‪ ,‬طفلة في العاشرة‪ ,‬وهبها الله‬ ‫النبوغ وقراءة األفكار‪ ,‬لكنهم ال يتوقعونها بهذا الفقر المدقع‪ ,‬فسجاياها غطت كل بؤس‬ ‫طبع أسرتها‪ ,‬تود لو يحس أحد بحالها دون أن تفصح‪ ,‬فطلبات الدراسة أرهقت والدها‬ ‫الذي ال يتوانى عن توفيرها مضحيا بكل ما يملك‪.‬‬ ‫تمتلك الكثير من األجوبة‪ ,‬لكنها اليوم‬ ‫تسأل أباها بإلحاح عن باب بيتهم‪ ,‬فيخبرها‬ ‫أنه عند النجار ليصلحه‪ ,‬وتنتظر‪ ..‬وال يأتي‬ ‫الباب‪ ,‬ما جعل أباها يعمد إلى سد الفتحة‬ ‫بأعواد ولحاف سميك‪.‬‬ ‫لعوز مفاجئ‪ ،‬باع أبوها الباب دون أن‬ ‫يخبر أسرته بذلك‪ ،‬فأحدث ذلك فراغا في‬ ‫مخيلتها‪ ,‬فصارت يوميا ‪ -‬وقبل ذهابها إلى‬

‫‪46‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫المدرسة ‪ -‬تتوقف عند مدخل بيتهم لترى‬ ‫آث��اره وتتخيل شكله‪ ,‬فكتبت عنه سطورا‬ ‫ضمنتها خلجات عشق غريب‪ ,‬يشرح مكانة‬ ‫ال�ب��اب ف��ي حياة سكان ال ��دار‪ ,‬إن��ه الحرز‬ ‫والستر‪ ,‬إنه واجهة للمنزل‪ ..‬بداية النظام‬ ‫ونهايته‪ ,‬إنه االحترام لحق اآلخرين‪ ,‬ينوب‬ ‫عنهم ف��ي غيابهم‪ ,‬ويحرسهم ف��ي ليلهم‪,‬‬ ‫دون ملل أو كلل‪ ,‬ثابت في مكانه كجندي‬


‫ق���������ص���������ص ق������ص������ي������رة‬

‫مخلص‪ ,‬إن��ه الفم ال��ذي يلتهمهم ف��ي قدومهم‪,‬‬ ‫ويفرغهم عند رحيلهم‪ ,‬إن��ه ي �ش��ارك األب في‬ ‫الحروف نفسها‪.‬‬ ‫كانت كلمات المقال خارجة من قلب انتزع بابه‬ ‫بنكهة شوق محمرة‪ ,‬فنال المقال إعجاب األبلة‬ ‫فقدمته إلدارة المدرسة‪ ,‬التي رشحته للمسابقة‬ ‫الكبرى لمدارس المنطقة‪ ,‬وفاز بالمركز األول‬ ‫دون منافس‪.‬‬ ‫وص��ل إل��ى المدرسة خطاب شكر‪ ،‬مشفوعاً‬ ‫بدرع عن مسابقة المقالة‪ ،‬ومكافأة مالية للطفلة‬ ‫صاحبة المقال‪ ,‬تسلم لها في الحفل السنوي‪.‬‬ ‫جاء احتفال التكريم في مبنى كبير‪ ،‬أنشأه‬ ‫األهالي من تبرعاتهم العينية والنقدية‪ ,‬وهناك‬ ‫رأته‪ ..‬مغ ّي َر المعالم بدهان براق‪ ,‬فوقفت عنده أن تأخذه حين يحضر النجار القتالعه‪.‬‬ ‫تشمه‪ ,‬تتفحصه‪ ,‬فيتأكد لها أن��ه ه��و ه��و باب‬ ‫عادت إلى البيت وهي تبكي‪ ،‬وتذرف دموعا‬ ‫بيتهم الغائب‪ .‬اقتربت منه أكثر‪ ،‬والتصقت به‬ ‫ال تريد أن يراها أحد‪ ،‬فهي تدرك عوز والدها‬ ‫خاطفة منه قبلة سريعة لم يتنبّه لها أح��د‪ ,‬ثم‬ ‫وتضحيته‪ ,‬ل�ك��ن ال ب���اس‪ ..‬ستعيد ال �ب��اب كما‬ ‫مضت‪.‬‬ ‫وعدوها بذلك‪ ..‬وستفرح به والدها وأهلها‪.‬‬ ‫كانت المديرة والمدرسات يتجولن في أقسام‬ ‫أقبل والدها عليها‪ ..‬فقرأت في وجهه عوزا‬ ‫المركز مع الضيوف والطالبات المتفوقات‪ ,‬وهي‬ ‫يرتسم في تجاعيده‪ ,‬وقبل أن تبلغه بعودة الباب‪,‬‬ ‫تقسم على المأل أن الطفلة ال تفيها حقها هذه‬ ‫أخ�ب��ره��ا أن ال�ن�ج��ار يفضل إص�ل�اح ال �ب��اب مع‬ ‫الجائزة البسيطة‪ ,‬بل لو أخذت ما في المبني كله‬ ‫النوافذ دفعة واحدة‪ ,‬وأقل كلفة‪.‬‬ ‫لما وفاها حقها‪ ,‬لكنها‪ ..‬اختارت الباب‪ ,‬فنظروا‬ ‫فصمتت واتجهت إلى غرفتها‪ ,‬واستسلمت إلى‬ ‫إليها بدهشة‪ ,‬ولئن كان تصرف العباقرة غريبا‪..‬‬ ‫لكنه ال يصل إلى هذا الحد؛ فالباب مجرد خشب سريرها تبكي‪ ..‬إلى أن غلبها النوم‪ ,‬فرأت نجارا‬ ‫يعالج قلع نوافذ تصرخ مستغيثة‪ ..‬تلوح بذرفها‬ ‫ال يفيها حقها‪ ,‬ولكنها تصر عليه‪.‬‬ ‫نحو السماء‪ ,‬فتستمطرها بابا‪ ,‬يوقظ صريره‬ ‫ومر الحفل بسالسة ومرح‪ ,‬واستلمت مكافأتها‬ ‫ذاكرتها الصغيرة‪ ,‬فتندفع نحوه كفراشات حقل‬ ‫وشهادة التفوق‪ ,‬وعينها على الباب الذي وعدوها‬ ‫من الزهور‪.‬‬ ‫* قاص من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪47‬‬


‫قصص قصيرة جدا ً‬ ‫قيد‪..‬‬

‫> محمد صوانه*‬

‫بقاء‪! ..‬‬

‫توشّ حت قيدها‪ ،‬ورمت بمفتاحه ذات غفلة‪ ..‬ثم مكثَ يغاز ُل أحضا َن السحاب‪..‬‬ ‫شب عليه‪..‬‬ ‫سرمدي َّ‬ ‫ٍ‬ ‫انفالت‬ ‫ٍ‬ ‫قامت ترقص حتى أعياها النعاس‪ ..‬وعندما جاء يرنو إلى‬ ‫الصباح تعالى صراخها وهي تستنجد للنهوض‪!..‬‬ ‫�س على مقربة من ح��راس ِأس��راب الطيور‬ ‫هَ � َم� َ‬

‫نهاية‪!! ..‬‬

‫المهاجرة نحو الجنوب‪..‬‬

‫الشمس‪ ،‬ثم رميت جم َع بقاياهُ المتناثرة‪ ،‬وهو يتحشر ُج الهثاً‪..‬‬ ‫َ‬ ‫في األمس كنت تسابقين‬ ‫ِ‬ ‫نفسك معها بين أحضان الغسق‪ ..‬دون أن تدركي ثم ص َد َح لح َن البقاء‪! ..‬‬

‫أنها نهايتُك‪!!..‬‬

‫بركان!‬ ‫حجبتْ قرص الشمس‪..‬‬ ‫في ساعة غفلة‪..‬‬ ‫ذُهلوا‪..‬‬ ‫فزعوا‪..‬‬ ‫تلمسّ وا رؤوسَ هم‪..‬‬ ‫صرخوا‪:‬‬ ‫ليست غيمة‪!..‬‬ ‫تجمدوا في مخابئهم‪..‬‬ ‫مكثتْ ردحاً من نهار‪..‬‬ ‫لم تج ْد منهم صدى‪..‬‬ ‫لملمت أطرافها‪،‬‬ ‫ثم انفجرت كبركان‪!..‬‬

‫‪48‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫وح ��ده الفتى ظ��لَّ ف��ي س��اح ال��وغ��ى‪ ..‬يقاتل‬

‫بسيف عتيد‪..‬‬

‫وع�ن��دم��ا ف � َّر المعتدي‪ ،‬وه ��دأت العاصفة‪..‬‬

‫نصب خيمة النصر على أنقاض بيته‪ ..‬ثم احتفل‬ ‫بصالة الشكر وحيداً‪..‬‬

‫ق���������ص���������ص ق������ص������ي������رة‬

‫وحيداً‪..‬‬

‫كفن‬ ‫عندما سقطت قذيفة جديدة‪ ..‬انتزعوا علم‬

‫السارية ليكفنوا به رضيعاً كان يأوي مع ما تبقى‬

‫من أسرته بين مقاعد المدرسة‪..‬‬

‫مانشيت‪!!..‬‬ ‫تلقف جريدته التي اعتاد قراءتها كل صباح‪،‬‬

‫صورته‪! ..‬‬ ‫ال يرى أبعد من أرنبة أنفه‪..‬‬ ‫يحمل معه دائماً‬

‫أحس أن الجريدة ثقيلة بين يديه‪ ..‬دُهش‪..‬‬

‫زالت دهشته‪ ،‬عندما الحظ أن يديه تلطختا‬

‫بدماء نزفت من المانشيت الرئيس للجريدة‪،‬‬

‫لحظة مالمسته‪!!..‬‬

‫مرآة واحدة‪ ..‬يطالعها كل حين‪..‬‬ ‫ألصق عليها صورته يوم عرسه‪!..‬‬

‫شمعة‪! ..‬‬ ‫أشعل شمعته على طاولته المفضلة‪ ..‬في عتمة‬ ‫مقهى مقفر‪ ..‬يتأمل في ضيائها‪ ،‬ويسطِّ ر من نتاجه‬ ‫قرطاس يتلوى بين يديه من كثرة الطيّ ‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫أخذه النعاس بعيداً‪..‬‬ ‫وفجأة‪ ،‬تألألت شموع كثيرة‪ ..‬انتشر ضياؤها‬ ‫في أجواء المكان‪..‬‬ ‫شمعته‪ ..‬كانت تأوي إلى لحدها‪!..‬‬

‫يتيم‬ ‫الطفل الذي فقد أباه ذات صباح‪،‬‬

‫تجمع حوله في يوم الفقد خمسون‪..‬‬

‫أغدقوا عليه حزمة من حنان‪..‬‬ ‫وقميصاً وحذا ًء وبنطاالً‪،‬‬

‫وخمسين درهماً‪..‬‬

‫تخدّر الطفل أسبوعاً‪،‬‬

‫ونام في النهار!‬

‫تفرق الجمعُ‪..‬‬

‫بعد خمسين يوماً‪،‬‬

‫شوهد الطفل تائهاً‪!..‬‬

‫* قاص من األردن‪ ،‬مقيم في السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪49‬‬


‫قصص قصيرة جدا‬ ‫قمة التضحية‬ ‫قررت في آخر لحظة أن تموت ويبقى ابنها‬ ‫الوحيد على قيد الحياة‪ ..‬تم إجراء عملية نقل‬ ‫القلب منها إلى جسد ابنها‪ ،‬ولكنها لم تكن تعلم‬ ‫أنه قبل العملية قد فارق الحياة!‬

‫األخيرة‬ ‫كانت هذه آخر سيارة من أحدث الطرز التي‬ ‫سيمتلكها‪ ..‬ألنه عندما سار بها حدث خلل فني‬ ‫بسيط في المحرك أدى إلى انفجارها‪ ،‬ولم يبق‬ ‫لها أثر قط‪.‬‬

‫لوحة‬

‫> عبير املقبل*‬

‫بساعة‪ ..‬ذه��ب فجأة إل��ى المنزل فلم يجد لها‬ ‫أثراً‪.‬‬

‫طفل‬ ‫بعد حمل تسعة أش�ه��ر‪ ..‬قضتها باألمنيات‬

‫بقدوم المولود البكر‪ ...‬حانت لحظة والدتها‪...‬‬ ‫ولخطأ طبي أصبح معاقاً إلى األبد‪.‬‬

‫خيال‬ ‫كانت تلك مواصفات شريك حياتها‪ ..‬رفضت‬

‫الكثير الكثير بانتظاره‪ ..‬وعندما جاء نصيبها‪..‬‬ ‫لم تجد فيه أيا من المواصفات التي بنتها في‬

‫خيالها‪.‬‬

‫كل يوم تتأمل بها‪ ..‬ولساعات دون أن تشعر‬ ‫بمضي الوقت‪ ،‬وحينما اتسخت أرادت تنظيفها‬ ‫نظرت في مرآتها‪ ..‬فوجدت شيئا غريبا‪..‬‬ ‫لتكتشف أنها عبارة عن عدة لوح تشير إلى لغز‬ ‫وهو أن صورة قبحها تزيد عما هو في الواقع‪.‬‬ ‫مبهم‪.‬‬

‫مرآة عاكسة‬

‫قطع الشك باليقين‬

‫عمر‬ ‫أصيبت بمرض خبيث‪ ..‬أيقنت أن نهايتها‬

‫بعد انقضاء شهر العسل‪ ..‬وعودته للعمل‪..‬‬ ‫كلما حاول االتصال بها‪ ،‬وجد خط هاتف المنزل ستكون في لحظة‪..‬‬ ‫وف��ي لحظة‪ ..‬م��ات زوجها وابنها في حادث‬ ‫مشغوال‪ ..‬تكرر ذلك مرات عديدة‪ ..‬وأخيراً قرر‬ ‫حسم األمر وقطع الشك باليقين‪ ،‬بعد خروجه سير‪.‬‬ ‫* قاصة من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪50‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ق���������ص���������ص ق������ص������ي������رة‬

‫شتاء السارد‬ ‫مشهد ‪:1‬‬

‫> محمد النجيمي*‬

‫ورائحة النتن تقصي السارد عن المشهد!‬

‫الواحدة صباح ًا‬ ‫السارد يمزق كتابه األخير‪ ،‬يتناوش صفحاته‬ ‫بأظافره‪ ،‬ويوغل في تمزيق جسد الورق‪ .‬صاحبه‬ ‫يحتضن الكتب األخرى ويحول بينها وبين السارد‬

‫مشهد ‪:3‬‬ ‫قبل الفجر بقليل‬ ‫السارد أم��ام كومة حكاياه التي تعلوها كتب‬

‫ال�م�ج�ن��ون‪ .‬ص��راخ�ه�م��ا ي�ع�ل��و‪ ،‬وال �ك �ت��اب األخ�ي��ر متعددة العناوين‪ ،‬يوقد ع��ود الثقاب‪ ..‬ويرقب‬

‫خمدت أنفاسه‪.‬‬

‫مشهد ‪:2‬‬ ‫قبل ذلك‪ ..‬أول المساء‬ ‫ال�ش��اع��ر ال �ح��داث��ي يحضر للمشهد‪ ،‬ي��راود‬ ‫ال �ل �غ��ة ع ��ن األج� �س ��اد ال �غ �ض��ة‪ ،‬وي �ج �ت��ر ذاك� ��رة‬ ‫أجداده الجاهليين‪ .‬يموت الوعي على حد قلمه‬

‫الحريق وهو يكبر على عينه‪.‬‬ ‫بينه وبين اللهب‪ ..‬تتخلق صورهم؛ التوحيدي‬ ‫على يمينه يرمقه بحزن‪ ..‬والشاعر على يساره‬ ‫مرتديا نظارته الطبية‪ ،‬يمسّ د شاربه ويقذفه‬ ‫بنظرة شامته‪.‬‬ ‫جلس السارد منكسرا بجوار النار‪ ،‬وأغمض‬

‫المنتصب‪ ،‬تموت الحداثة على سرير القصيدة‪ ،‬عينيه‪ ،‬يتحسس بردها الذي جمد أضالعه‪.‬‬

‫* قاص من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪51‬‬


‫قصص قصيرة جدا ً‬ ‫محاضرة‬

‫الطمع‬

‫ألقى دكتور مثقل بكنوز المعرفة محاضرة‬ ‫قيّمة لمدة ساعتين أو أكثر‪ .‬كان يجلجل ويصول‬ ‫ويحرك يديه‪ ،‬ويرفع بعناء كبير صوته المتقطع‬ ‫ال �م �ب �ح��وح‪ .‬ن ��ام ال �ح��اض��رون وش� �خ ��روا‪ ،‬فخرج‬ ‫الدكتور غاضبا شاتما جمهور آخر الزمان؛ ألن‬ ‫الحاضرين ما زالوا نائمين في كهفهم‪!..‬‬

‫س��اف��ر ش��اب ع��اط��ل إل��ى ال �خ��ارج‪ ،‬ف �ت��زوج ع�ج��وزا‬ ‫نصرانية ث��ري��ة‪ ،‬تملك الكثير م��ن األب �ق��ار والخرفان‬ ‫والدجاج‪ ،‬ماتت المواشي كلها ولم تمت العجوز‪ ،‬فطلقها‬ ‫الشاب العاطل بالثالث ليبحث عن عجوز غنية أخرى‪.‬‬

‫قصص قصيرة جدا‬ ‫اح �ت��ج ال�ت�لام�ي��ذ داخ���ل ال �ف �ص��ل‪ ،‬وص��رخ��وا‬ ‫في وجه أستاذ اللغة العربية ال��ذي تخشب في‬ ‫المؤسسة أربعين عاما وما بدل تبديال‪ .‬احتج‬ ‫الطلبة صارخين يائسين‪ ،‬ف�ن��ددوا بالمقررات‬ ‫الدراسية الزائفة التي ال تنتهي‪ ،‬وقالوا بصوت‬ ‫مرتفع‪« :‬نحن في زم��ن العولمة‪ ،‬نحن في زمن‬ ‫الساندويتش والهامبورغ‪ ،‬نحن في زمن الثورة‬ ‫الرقمية‪ ،‬اتركونا من الكتب الورقية الصفراء‪،‬‬ ‫وأري�ح��ون��ا م��ن جنس ال��رواي��ة وق ��راءة النصوص‬ ‫ال�م�س�ت��رس�ل��ة‪ ،‬ال ن��ري��د س ��وى ق �ص��ص قصيرة‬ ‫جدا»‪.‬‬

‫الميراث‬ ‫ماتت أمهم منذ عقد من الزمن‪ ،‬فمنع األوالد‬ ‫أب��اه��م م��ن ال ��زواج ك��ي ي��رث��وا ع�ق��اره ومنقوالته‪.‬‬ ‫انتظروا موت أبيهم‪ ،‬فلم يمت‪ .‬مات األوالد كلهم‪،‬‬ ‫فورثهم أبوهم‪ ..‬وتزوج بعد ذلك بشابة يانعة ظلت‬ ‫تدلكه صباحا ومساء طمعا في موته وميراثه‪..‬‬ ‫* كاتب وناقد من المغرب‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪52‬‬

‫> د‪.‬جميل حمداوي*‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫الحمامة!‬

‫أسقط الذئب الحمامة‪..‬‬ ‫ونهش عظامها الطرية‪..‬‬ ‫فكفنها الجميع‪..‬‬ ‫ثم شيعوها بالحزن واألسى‪..‬‬ ‫وكان الثعلب أول المشيعين‪..‬‬

‫الساحرة‬

‫سحرته برموشها الوارفة‪..‬‬ ‫فارتمى بين أحضان الساحرة‪..‬‬ ‫فأفرغت كل جيوبه العامرة‪..‬‬ ‫وأرسلته إلى بلده بأيد فارغة‪..‬‬ ‫ووشمته بأمراض شائكة‪..‬‬

‫القصيدة‬

‫أهلكته العاشقة‪..‬‬ ‫بالقوافي المتعانقة‪..‬‬ ‫واألوزان الصافية‪..‬‬ ‫واالستعارات الشاردة‪..‬‬ ‫فطلق القصيدة العانسة‪..‬‬ ‫والرواية الساهرة‪..‬‬ ‫وتزوج القصة القصيرة اليانعة جداً‪..‬‬ ‫فأنجب من هذه الفاتنة‪..‬‬ ‫كتابات ساخرة‪..‬‬


‫> فيصل الدغماني*‬

‫مكتبه الصغير هناك منزويا في أقصى الغرفة‪ ..‬األوراق كنت أحسه وأراه‪!!..‬‬ ‫م�ت�ن��اث��رة‪ ..‬والحبر ج��ف م��ن ط��ول ال�غ�ي��اب‪ ..‬الغبار يعتري‬ ‫رجعت إل��ى ذاك الرصيف ‪ ،‬وجلست في مؤخرته عله‬ ‫المكان‪ ..‬إحساسي بالغرفة أنها تشتكي هجران صاحبها‪ ..‬يستأنس بي من وحشته‪ ..‬وأستأنس به من وحشتي‪ ..‬جلست‬ ‫الكتب كانت للفئران وجبة دسمة؛ تلعب على هذا وتنهش في أتأمل صورته‪ ..‬أفكاره الخالدة‪ ..‬حديثه الهامس‪ ..‬نظرته‬ ‫هذا‪ ..‬حرة طليقة‪!!..‬‬ ‫المتأملة‪..‬‬

‫ق���������ص���������ص ق������ص������ي������رة‬

‫وطن اخللود‪..‬‬

‫فتحت نافذة الغرفة‪ ..‬صافحتني السماء بالهواء الحار‪..‬‬ ‫نظرت إلى األرض فإذا بها تنضب من تحتي‪ ..‬رجعت للمكتب‬ ‫تذكرت نضاله‪ ..‬قوته‪ ..‬فضحكت‪!!..‬‬ ‫الصغير والذهول والدهشة كادا أن يقوداني للهوس‪ ..‬نظرت‬ ‫***‬ ‫علني أجد ورقة تدلني على صاحبها‪ ..‬لم أجد شيئا سوى‬ ‫ع�ج��وز ق��ادم��ة ن �ح��وي‪ ..‬أراه ��ا وك��أن�ه��ا تحمل األم��ل لي‬ ‫اليأس‪ ..‬ساءلت الباب‪ ..‬النافذة‪ ..‬ال��وردة التي كانت تعطر‬ ‫مجدداً‪ ..‬حدقت النظر بها‪ ..‬اقتربت مني؛ فإذا بها تحمل‬ ‫المكان‪ ..‬وال مجيب‪!!..‬‬ ‫خرجت مسرعا وجلست على الرصيف‪ ،‬ذاك المكان كوبا ساخنا من ال�ش��اي‪ ..‬اقتربت أكثر فأكثر حتى وقفت‬ ‫الهادئ ال��ذي يعصف بالذكريات عندما كنت أنا وصديقي أمامي‪ ..‬أعطتني كوب الشاي الساخن وذهبت وهي تتمتم‬ ‫نجلس عليه‪ ..‬نتجاذب أطراف الحديث‪ ..‬نجمع هموم الدنيا بكلمات جميلة حانية‪ ،‬ودع ��وات ص��ادق��ة‪ ..‬أخ��ذت أش��رب‬ ‫ونتداو لها في سهرتنا الليلية‪ ..‬بكيت على الرصيف‪ ..‬ندبت الشاي فإذا بي أفيق من سَ رَحاني‪..‬‬ ‫تذكرت كتاباته‪ ..‬فبكيت حتى سالت األرض من حولي‪..‬‬

‫فعلمت إن تلك العجوز ه��ي «ج��دت��ي» ب��ل وأن�ه��ا واق � ٌع‬ ‫حظي المتعثر لفترة غيابي‪ ,‬عندما أردت إتمام آخر مرحلة‬ ‫من مراحل دراستي‪ ..‬السؤال الوحيد ال��ذي كان يسامرني أنسجم مع ما كنت مشغوالً به‪ ..‬وحينها نهضت بعدما كنت‬ ‫مستلقيا على ظهري‪ ،‬وإذا بي أقرأ في كتاب «رحلة في وطن‬ ‫ويشاطرني حزني‪ ..‬هو‪ :‬ما الذي جرى أثناء غيابي‪..‬؟‬ ‫أخذت أسأل هنا وهناك‪ ..‬وال أحد يعلم‪ ..‬وجدت ذلك الخـلود»‪!!!..‬‬ ‫ونظرت إلى الكتاب بين ي��دي؛ ف��إذا بي قد وصلت إلى‬ ‫الشيخ الكبير ال��ذي يجلس دائما أم��ام المسجد‪ ..‬فسلمت‬ ‫علية‪ ،‬وسألته عن صديقي (جابر)‪ ..‬صد عني‪ ..‬وقال ‪ :‬ال ف�ه��رس��ه‪ ،‬ول�ك��ن خيالي م��ا ي ��زال مشتعال وم��ول�ع��ا وشغوفاً‬ ‫بالقراءة الحرة‪..‬‬ ‫أعلم‪!..‬‬ ‫ف �ه��ززت رأس ��ي مبتسما وق�ل��ت ‪ :‬ح �ق��ا‪ ..‬ال �ق��راءة وطن‬ ‫حينها تأكدت أنه رحل‪ ،‬ولكن‪ ..‬إلى أين؟!‬ ‫رجعت إلى غر فتة الموحشة بعد أن كانت منارا للعلم الخلود‪..‬؟!!!‬ ‫والفكر؛ تلك الغرفة التي كانت مجلساً ألرباب الفكر وصنوف‬ ‫المعرفة‪..‬‬

‫بأناملي المرتعشة ‪ :‬كتبتها‪.‬‬

‫أراها اآلن موحشة‪ ..‬يلفها الظالم‪ ..‬ويملؤها الغبار‪!!..‬‬ ‫يقيت على حالي شهوراً‪ ..‬أسأل‪ ..‬وال من مجيب‪ ..‬األرض‬ ‫قاحلة‪ ..‬والسماء شاحبة‪ ..‬والمياه تداعبها األمواج‪ ..‬هذا ما‬ ‫* سكاكا ‪ -‬الجوف‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪53‬‬


‫نحن‪ ...‬غربة وطــن!‬ ‫> املغيرة الهويدي‬ ‫كنت تف ّكّرين بيدي‬ ‫َّــك ِ‬ ‫لذلك أدرك��تُ جيّداً أن ِ‬ ‫فيك عن‬ ‫ِ‬ ‫بحثاً عن دفء‪ ،‬تماما كما كنت أبحثُ‬ ‫ف بها الزمن لتدوم تلك‬ ‫وطــن‪ ،‬وعن طريقة أوقِ ُ‬ ‫اللحظـة طويالً‪.‬‬ ‫***‬ ‫بين حقيبتي سفر كان لقاؤنــا‪.‬‬ ‫وكان الوطن مختصراً بمحطَّ ــة‬ ‫وكغريبين ق��دره�م��ا ال��رح�ي��ل أمضينا الليل‬ ‫باختراع المفاجآت‪ ،‬وارت��داء األقنعة التنكريَّة‪،‬‬ ‫لنخترق وجه الوداع بابتسامــة!‬ ‫وكغريبين قدرهما العشق أيضاً تحدثنا عن‬ ‫العابرين في محطّ ات القلب‪ ،‬وعن االنتظار!‬

‫خلف حقيبتَ​َي سفر كان وداعــنـا‪...‬‬ ‫وك ُّل ما في جَ عبَةِ الوداعِ وعــد مذ َّي ٌل بـ«سأبقى»‬ ‫وأمني ُة لو نبقى كشجرة في مهبِّ الخريف‪.‬‬ ‫من قال إنّ المحطَّ ـة وطــن؟!‬ ‫ها نحن نمضي في اتجاهين‪ ،‬والدروب التي‬ ‫جمعتنا تفرّقت‪.‬‬ ‫ما عاد في القلب متّسع لحلم!‬ ‫ها نحن نمضي‪ ،‬فينشطر األفق‬

‫وبقدر كبير من الثقة والخجل فتحنا حقائب‬ ‫والشمس التي تلوّح لك‪ ،‬ليست هي الشمس‬ ‫ال��ذك��ري��ات‪ ،‬وراح��ت نظراتنا تتجوَّل ف��ي أرج��اء‬ ‫قهر ال ينتهي‪.‬‬ ‫دروب وطئناها الّتي تلهبُ ظهري بسياط من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اآلخــر بحثا ًعن نقطة التقاءِ في‬ ‫حيناً‪ ،‬بحثا عن كلمة تكون كافي ًة الحتواء وع ٍــد‬ ‫***‬ ‫بلقاء آخــر!‬ ‫خلف حقيبتي سفر كان وداعنا‪..‬‬ ‫***‬ ‫والغربة التي رحلت بك لم تتركني وحيداً‪ ،‬بل‬ ‫وحدها الغربة تم ِّكنـنـا من قراءة اآلخـرين‪،‬‬ ‫مجهول آخــر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رحلت بي إلى‬ ‫تعطينا ال�ح��قَّ ف��ي أن ن�ك��ون أق ��رب‪ ،‬يجمعنا‬ ‫ولم يب َق هناك سوى الوطن لوحة بال مالمح‬ ‫الوجــع برباطــه‪،‬‬ ‫تواجه قدرهـا في معرض الريح والشتاء واأللم‪.‬‬ ‫* قاص من المغرب‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪54‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫الشمس التي رحلت‬ ‫> محمد عطيف‬

‫ف������ص������ل م���������ن رواي������������ة‬

‫فصل من رواية‪:‬‬

‫الكتـابة عندي‪ ..‬هي متعة‪..‬‬ ‫والكتابة في داخلي‪ ..‬إحساس بديع‪ ..‬وفن رفيع‪ ..‬ال أدّعيه‪..‬‬ ‫والكتابة عندي‪ ..‬هي البساطة‪ ..‬هي السهولة‪ ..‬هي اللفظ الجميل‪..‬‬ ‫والشعور الخالص‪ ..‬والعاطفـة الصادقة‪ .‬باختصار هي اللفظ المعبر من‬ ‫أول نظرة‪ ..‬هي التي ال تشعر بالحيرة‪ ..‬وال ترهق القلب والعقـل‪ .‬عندما‬ ‫أكتب فأنا أنظر حولي‪ ..‬مشاعرهم‪ ..‬أحزانهم‪ ..‬مكنونهم‪ ..‬وفي ذلك أجد‬ ‫ذاتي وكياني‪.‬‬ ‫من احترامي لقارئي ينبع اعتزازي بما أكتب‪ ..‬ومن تقديري لنظرته تأتلق خواطري‪.‬‬ ‫‪ ..‬وعندما أكتب فأنا ال أكتب لهم فقط‪ ..‬ولكن لكل البسـطاء‪ ..‬مثلي تماما‪..‬‬ ‫الفصل األول‬ ‫لشيء‪ ..‬إ ّال ألنني ابنتك‪ ..‬ولعل هذا س ّر شقائي‪..‬‬ ‫شقت تلك الصفعة سكون ذلك الليل المطبق‪ ،‬اضرب كما تريد‪ ،‬ولكن لن أرضخ لعصاك‪ ..‬فأنا‬ ‫عندما هوت على ذلك الجبين الغض‪ ،‬في حين لم أكن في يوم من األيام مثلما يدور في بالك‪..‬‬ ‫ويعتلج في داخلك‪.»..‬‬ ‫انطلق ذلك الصوت الغاضب قائالً‪:‬‬ ‫ثم صمتت قليال لتعكس دموعها بريقاً سريعاً‬ ‫معك‪ ..‬ولم أعد أحتمل‬ ‫ «لقد نفذ صبري ِ‬‫فعلت ذلك؟ أال عادت تقول بعده‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ما تفعلين‪ ..‬قولي لي بالله‪ :‬لماذا‬ ‫يكفي ما أعانيه بسببك ِ‬ ‫أنت ومن في هذا البيت ‪« -‬ل��م أف�ك��ر فيكم ي��وم��ا م��ا‪ ..‬ألن�ك��م جميعا لم‬ ‫من حقارة المهنة وشظف العيش‪..‬؟»‪.‬‬ ‫تشعروا بي‪ ،‬وال حسستموني لحظة أنني أعني‬

‫ثم صمت‪ ،‬وهو يزفر بشدة‪ ،‬في حين نهضت‬ ‫الفتاة بقامتها الممشوقة‪ ،‬وقد وضعت أناملها‬ ‫على جبينها تتحسس موقع الصفعة‪ ،‬وعلى غير‬ ‫المتوقع منها في مثل هذه األحوال‪ ،‬اقتربت من‬ ‫ضاربها‪ ،‬وفي عينيها تحد عجيب وقالت‪:‬‬ ‫‪« -‬أع��رف أنه يمكنك أن تفعل بي ما تشاء‪ ..‬ال‬

‫لكم شيئاً‪ ..‬لعل اإلنسان في نظرك ‪ -‬يا من تحمل‬ ‫لقب األب ‪ -‬مجرد حيوان يأكل ويشرب وينام‬ ‫فقط‪ !!..‬ال‪ ،‬ليس كذلك أبداً‪ ..‬لم أعتد منك إال‬ ‫الضرب والقسوة‪ ،‬ولم ألمس فيك الحنان يوماًَ‬ ‫ما‪ ..‬وتريد اآلن أن تصلح ما أفسدته في سنين‬ ‫بين يوم وليلة‪ ..‬نعم قد أكون مذنبة ولكنك أنت‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪55‬‬


‫من زرع فيّ الجرم وغرس في نفسي اإلثم‪.»..‬‬ ‫عينيها اللتين لم تكد تتبين المالمح التي أمامها‬ ‫ول��م تستطع أن تكمل إذ انخرطت في بكاء حتى قالت في قسوة‪:‬‬ ‫م��ري��ر‪ ،‬ف��ي ح�ي��ن وق��ف ذل��ك ال��رج��ل المتوسط ‪« -‬ابتعدي عني»‪.‬‬ ‫القامة يتحسس ذقنه المدببة وال ي��دري م��اذا‬ ‫وحاولت النهوض بنفسها‪ ،‬إال أنها ما لبثت أن‬ ‫يفعل‪..‬؟ إذ شعر بغضبه ي��ذوب ف��ي مصداقية تهاوت في إغماءتها من جديد‪..‬‬ ‫كالمها‪ ..‬تقدم نحو النافذة وفتحها ليتدفق منها‬ ‫***‬ ‫نسيم عذب تفيض به ليال الربيع الساحرة في‬ ‫مثل ذلك الوقت من السنة‪ ..‬ثم التفت نحو الفتاة‬ ‫أشرقت شمس الربيع في اليوم التالي وتسللت‬ ‫التي كانت قد تراجعت واستندت إل��ى الجدار أشعتها الدافئة إلى الغرفة ذات األثاث المتواضع‬ ‫وه��ي تنشج‪ ..‬ورغ��م ذل��ك ك��ان ي��رى أن الموقف والسرير الخشبي ال��ذي احتضن فتاة بدت في‬ ‫ال يحتمل التهاون‪ ..‬هكذا اعتاد أن يفعل‪ ..‬تقدم الخامسة عشرة من عمرها‪ ،‬وقد أوحى منظرها‬ ‫نحوها وأمسك بخصالت شعرها في غير قسوة أنها تغط في نوم عميق‪ ،‬في حين حملت تقاطيع‬ ‫ورفع ذقنها فراعته نظرات التحدي في عينيها وجهها خطوطا ح �م��راء وان�ت�ف��خ ط��رف شفتها‬ ‫رغم عبراتها الهاطلة‪ ..‬بادرته‪:‬‬ ‫السفلى بشكل واضح‪ ،‬بينما عند قدميها جلست‬ ‫ أتظن أنك في هذا الموقف تذلني‪ ..‬ال لم يعد‬‫يهمني أح��د‪ ..‬كل ليلة تعود كالغريب المروع‪..‬‬ ‫ال يشعرون بك‪ ..‬أنا فقط أشعر بك‪ ..‬في تلك‬ ‫الساعة التي تأتي فيها لتوقع العقاب على ابنتك‬ ‫اآلثمة‪ ..‬أبداً لم تكن في وعيك لحظة ما و‪.»..‬‬ ‫ودوّت الصفعة من جديد لتفقدها وعيها هذه‬ ‫المرة‪ ..‬وخرج الرجل من الغرفة وهو يتمتم‪:‬‬ ‫ «ف ��ي ال��م��رة ال �ق��ادم��ة س��أق�ت�ل�ه��ا وال ش��ك‪..‬‬‫سأقتلها‪.»..‬‬ ‫وما أن فتح الباب المقفل حتى اندفعت منه‬ ‫امرأة في العقد الرابع من عمرها‪ ،‬حلوة المالمح‪،‬‬ ‫وإن ك��ان وجهها قد ع�لاه من معالم الحزن ما‬ ‫يوحي بشقائها‪ ..‬اندفعت نحو ابنتها المسجاة‬ ‫ورفعتها وهي تتمتم‪:‬‬

‫المرأة نفسها‪ ،‬ترقب ابنتها وهي تكاد بين الفينة‬ ‫والفينة أن تسقط بفعل النعاس‪ ..‬وأخيراً نهضت‬ ‫بتثاقل‪ ،‬وق�ب��ل أن ت�غ��ادر الغرفة أش ��ارت لطفل‬ ‫صغير بدا في الرابعة من عمره كان يلهو بجانب‬ ‫السرير‪ ،‬أن يلتزم الهدوء‪ ،‬وأ ّال يزعج أخته‪ ،‬فكان‬ ‫رده أن نظر إليها غير عابئ‪ ،‬وم��ا ك��ادت تخرج‬ ‫حتى ارت �ق��ى ح��اف��ة ال�س��ري��ر وأق �ت��رب م��ن جسم‬ ‫الفتاة وهو يهتف‪:‬‬ ‫‪« -‬سمر‪ ..‬سمر‪.»..‬‬

‫وف �ع�لا ب ��دأت ال�ف�ت��اة تفتح عينيها ث��م تعيد‬ ‫اغالقهما‪ ،‬إال أن ال�ن��داء المتكرر نجح أخيراً‪،‬‬ ‫ليس في فتح عينيها فحسب‪ ،‬بل وفي مبادلتها‬ ‫للصبي ابتسامته‪ ..‬وفيما مال عليها احتضنته‬ ‫وهي تقول‪:‬‬

‫ «وح�ي��د‪ ..‬أخ��ي الحبيب‪ ..‬أن��ت الوحيد الذي‬‫ «رباه ارحمهـــا»‪.‬‬‫يبدو مصدر عزائي في هذا البيت‪ ..‬أنت الوحيد‬ ‫وشيعت الرجل الخارج بنظرات قاسية‪ ،‬عادت‬ ‫يا «وحيد»‪ ..‬لكم أحبك‪.» ..‬‬ ‫بعدها تحاول إفاقة ابنتها التي ما لبثت أن فتحت‬ ‫ث��م رفعته أمامها ون�ظ��رت ف��ي عينيه اللتين‬

‫‪56‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ «ستكبر غ��دا ي��ا «وح �ي��د» وت �ع��رف ل �م��اذا أنا‬‫حزينة‪ ..‬ولعلك ستحزن أنت أيضاً؛ فأنت ال تدري‬ ‫ماذا يحدث في بيتنا اآلن‪ ..‬الكل هنا ال يفكر إال‬ ‫في نفسه‪ ..‬وأبوك كم هو قاس‬ ‫علينا! ال أعتقد أن قلبه عرف‬ ‫الحب يوماً أو لعله لم يسمع‬ ‫به بعد‪ ..‬أما أمك فهي تحبنا‬ ‫ولكنها مثقلة بالمتاعب و‪.»..‬‬ ‫ق��ط��ع��ت ح ��دي� �ث� �ه ��ا ف��ج��أة‬ ‫عندما تذكرت أن الصبي لن‬ ‫يفهم شيئاً مما تقول‪ ..‬ولكنها‬ ‫أضافت في خفوت‪:‬‬ ‫ «م ��ن أج �ل��ك أن ��ت ف�ق��ط لن‬‫أغضب منهم‪ ..‬وستكون أنت‬ ‫نقطة ضعفي دائماً»‪.‬‬ ‫***‬ ‫كانت «سمر» تسكن مع أسرتها المكونة من‬ ‫سبعة أف ��راد وك��ان وال��ده��ا رج�ل�اً بسيطا‪ ً،‬يعمل‬ ‫موظفاً في إحدى الدوائر الحكوميــــة في وظيفة‬ ‫متدنية‪ ،‬ولكنها على أية حال كانت تكفيهم؛ أما‬ ‫أمها فكانت امرأة صبورة تقوم بكل شئون البيت‬ ‫دون أن تطلب المساعدة‪ ،‬حتى أن جمالها بدا يذوي‬ ‫سريعاً‪ ،‬رغم أنها ال تزال في بداية العقد الرابع‬ ‫من عمرها‪ ..‬وكان أشقاؤها األربعة يتدرجون في‬ ‫سنوات المرحلة االبتدائية ما عدا «وحيد» فهو لم‬ ‫ال بالفشل‪،‬‬ ‫ي��درس بعد‪ ..‬كان سجل إخوانها حاف ً‬ ‫وأس�ع��ده��م ح�ظ�اً ك��ان ق��د قضى ف��ي السنة التي‬ ‫هو فيها ما ال يقل عن السنتين‪ ..‬وتشعر «سمر»‬ ‫بأن أسرتها منكوبة‪ ،‬وتعاني من التفكك الشديد؛‬ ‫فوالدها ال يكاد يعيرهم ما يكفي من االهتمام‪،‬‬

‫ف������ص������ل م���������ن رواي������������ة‬

‫تشعان بالبراءة وعادت تقول‪:‬‬

‫وج � ّل همه أن يذهب إل��ى عمله‪ ،‬ث��م يعود لينام‪،‬‬ ‫وهذا من حقه‪ ،‬ولكن ليس من حقه أن يسهر الليل‬ ‫كله‪ ..‬ولذلك كان من النادر أن يجتمعوا معاً‪ ..‬ولم‬ ‫تكن تشعر أن لها أباً إال عندما تختصم مع أحد‬ ‫أشقائها فيشكوها إليه؛ فتكون‬ ‫حصتها من العقاب قاسية على‬ ‫يد والدها الذي يعتقد دوما أن‬ ‫العصا هي الحل األمثل دائماً‪،‬‬ ‫واألقدر على إعادة المذنب إلى‬ ‫صوابه بأسرع وقت‪ ..‬وعلى ذلك‬ ‫المنوال سار في تعامله معهم‪..‬‬ ‫كما أن اهتمامه ك��ان مقصوراً‬ ‫على األش �ي��اء ال�ت��ي يجد نفسه‬ ‫م �ج �ب��راً ع �ل��ى االل �ت �ف��ات إل�ي�ه��ا‪،‬‬ ‫وبذلك غدا كل فرد من األسرة‬ ‫أش�ب��ه م��ا ي�ك��ون بالمسئول عن‬ ‫ن�ف�س��ه ب�غ��ض ال�ن�ظ��ر ع��ن س�ن��ه‪..‬‬ ‫أم��ا «سمر» فقد كانت شديدة الشقاوة والعناد‪،‬‬ ‫لذا كانت حصتها من العقاب هي األوف��ر دائماً‪،‬‬ ‫وكان يغيظها كثيراً أن أمها لم تكن تتدخل لتشهد‬ ‫لصالحها مثال‪ ،‬بل كانت دائماً تأتي لتتفقد حال‬ ‫المخطئ بعد أن ينال ج ��زاءه‪ ،‬وه��ي تأسف لما‬ ‫حصل له‪ ..‬ومن األشياء التي تعرفها «سمر» عن‬ ‫نفسها أنها تملك ذكا ًء لماحاً أدركته من تصرفاتها‬ ‫وتعاملها مع زميالتها في المدرســـــة‪ ،‬رغم أنها‬ ‫غير متفوقة دراس�ي�اً‪ ،‬ال لشيء‪ ،‬إال إلهمالها ولو‬ ‫بحثت عن التفوق لحصلت عليه‪ ..‬إضافة إلى ذلك‬ ‫فهي لم تعبأ يوماً بما يقولونه عنها س��واء أهلها‬ ‫أو الجيران أو داخل نطاق المدرسة‪ .‬وكانت كثيراً‬ ‫ما تشعر بعدم ترابط أسرتها وأن ذلك كان وراء‬ ‫حالة التسيب أو الحرية الواسعة التي تنعم بها‪..‬‬ ‫وكان ديدنها أن تقول لمن ألمها على تصرف ما أن‬ ‫ثقتها في نفسها واعتزازها بكرامتها هي سالحها‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪57‬‬


‫وال تأبه لما يقولون‪ ،‬وعنها يرددون‪ ....‬تشعر أنها بقوله‪:‬‬ ‫متقلبة المزاج ج��داً‪ ،‬أو هكذا يحلو لها أن تسمع ‪« -‬آه لو تتركين شقاوتك وإهمالك فقط ألصبحت‬ ‫زميالتها يصفنها‪ ..‬وأتاح لها ذلك مرونة كبرى في شيئاً آخر‪.» ..‬‬ ‫تصرفاتها‪ ،‬متعللة بالسبب نفسه‪ ،‬وأحياناً كانت‬ ‫لم يطل األمر إذ في الليلة ذاتها حدثت مشادة‬ ‫تخالف كل التوقعات فتؤدي كل أعمالها المنزلية‬ ‫بينها وبين شقيقها «راضي» الذي كان يلعب الكرة‬ ‫بكل نشاط‪ ،‬وتؤدي واجباتها المدرسية بشكل يدفع‬ ‫ف��ي ساحة ال�م�ن��زل‪ ،‬وعندما ح��اول��ت أخ��ذ الكرة‬ ‫معلماتها إلى اإلشادة بها‪ ..‬وال تلبث غير قليل حتى‬ ‫منه ركلها بقوة فأصابت آنية زجاجية فحطمتها‪،‬‬ ‫تعود إلى سابق عهدها‪ ..‬هي نفسها تشعر بذلك‪،‬‬ ‫فقامت بتعنيفه واشتدت الخصومة بينهما وكانت‬ ‫وتحس أنها ال تملك القدرة على مسح ذلك الطبع‬ ‫النتيجة أن ضربته فاشتكاها إل��ى وال ��ده‪ ،‬ال��ذي‬ ‫فهو ج��زء منها‪ ..‬وحتى عندما صارحتها إحدى‬ ‫لم يعر حجتها أي اهتمام ولقنهما درس �اً قاسياً‬ ‫زميالتها بأنها تمتلك شخصية فريدة ابتسمت في‬ ‫من عصاه‪ ..‬وفيما قنع «راض��ي» بنصيبه شعرت‬ ‫سخرية وقالت‪:‬‬ ‫«سمر» بالغيظ الشديد من والدها‪ ،‬الذي لم يفرق‬ ‫ «ال أحب هذا النوع من المزاح»‪.‬‬‫بين المخطئ والمصيب‪ ..‬عبثا حاولت أن تفهم‬ ‫ول�ك��ن عندما أردف ��ت أن�ه��ا تخشى عليها من لماذا يقسو عليها‪ !!..‬وفي موقف آخر كانت تتطلع‬ ‫م��ن النافذة إل��ى ال�ش��ارع فلحظها أخ��وه��ا «زي��اد»‬ ‫المستقبل تجهمت «سمر» ولم تدرِ بمإذا ترد‪..‬‬ ‫وم��ن األش �ي��اء ال�ت��ي تفخر بها أي �ض �اً جمالها فقال في خبث‪:‬‬ ‫ال��رائ��ع‪ ..‬م��رة كتبت لها إح��داه��ن أنها إذا وقفت ‪« -‬هيــه‪ ..‬عم تبحثين؟ إنه لن يمر اليوم من هنا»‪.‬‬ ‫أم��ام ال�م��رآة فسترى لها ق��وام�اً رشيقاً‪ ،‬وعينان‬ ‫فقالت مغتاظة‪:‬‬ ‫بعمق المتناهٍ ‪ ،‬ووجه صغير بديع وشعر كلون الليل‬ ‫= «آخرس يا قذر»‪.‬‬ ‫ال��داج��ي‪ ،‬كما أنها تمتلك بياضاً ناصعاً ب��دا فيه‬ ‫فابتسم في هزء وقال وهو خارج من الغرفة‪:‬‬ ‫فمها كجرح صغير‪ ..‬انتشت بذلك كثيراً وشكرتها‬ ‫أكثر عندما أضافت أنها تذكرها بأميرة إحدى ‪ »-‬أنا القذر إذاً‪ !..‬أوليس صاحب السيارة السوداء‬ ‫الروايات الخيالية‪.‬‬ ‫بقذر أيضاً‪ ..‬أتمنى لك حظا سعيداً»‪.‬‬

‫وم��ا زال ��ت ت��ذك��ر ي��وم ن��ال��ت ش �ه��ادة المرحلة‬ ‫االب�ت��دائ�ي��ة ورغ��م أن معدلها ل��م يكن يشير إلى‬ ‫تفوقها‪ ،‬إال أنها كانت تعتقد أن ذلك كفيل بنيل‬ ‫رض��ا والدها ولعله يشعره بحنان األب��وة‪ ،‬فيجود‬ ‫به عليها ولو في هذا الموقف فقط‪ ..‬تذكر أنها‬ ‫عندما ع��ادت بشهادتها ذل��ك اليوم هنأتها أمها‬ ‫بسرور عميق وقبلتها‪ ،‬ما جعل شعورها المتعطش‬ ‫يدفعها إلى احتضانها كما لم تفعل من قبل‪ ،‬كما أن‬ ‫والدها ابتسم لها في حنان استغربته وهو يعقب‬

‫‪58‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫وقبل أن تتمكن من اإلمساك به كان قد عبر‬ ‫الباب بسرعة فائقة‪ ..‬فاصطدم بـ «وحيد» الذي‬ ‫كان يرقب الموقف عند الباب‪ ،‬وهو يلوك قطعة‬ ‫كبيرة من الحلوى فشغلت باللعب معه‪ ..‬كانت تحبه‬ ‫كثيراً لدرجة أن أمها كانت كلما رأتها متضايقة‬ ‫طلبت من «وحيد» أن يلهو معها فال تملك «سمر»‬ ‫إال االس�ت�ج��اب��ة‪ ..‬أم��ا ص��اح��ب ال�س�ي��ارة ال �س��وداء‬ ‫فقد ك��ان شاباً وسيمًا يمر في ال�ش��ارع المجاور‬ ‫باستمرار‪ ،‬كما يتوقف أحياناً أمام البيت ويتظاهر‬


‫‪« -‬أنا لست خادمة»‪.‬‬

‫فقالت األم في غضب‪:‬‬

‫ف������ص������ل م���������ن رواي������������ة‬

‫بالحديث مع أشقائها‪ ،‬الذين ظنوا أنه يطمح إلى ‪« -‬المسألة ليست أنك خادمة‪ ،‬ولكن يا ابنتي هذا‬ ‫كسب صداقتهم حتى ال يرموا سيارته بالحجارة‪ ،‬واجب عليك أن تساعديني في شئون المنزل»‪.‬‬ ‫كلما عبر شارعهم‪ ..‬وف��ي كثير من األحيان كان‬ ‫فقالت «سمر» متذمرة‪:‬‬ ‫يمنحهم ب�ع��ض ال �ه��داي��ا ال�ت��ي ال تلبث أن تأخذ ‪« -‬أنا متعبة اآلن كما أنني مشغولة بدروسي»‪.‬‬ ‫طريقها إلى يد «سمر» التي كانت تشعر أنها هي‬ ‫قالت ذلك‪ ،‬وأشاحت بيدها ما أثار غضب أمها‬ ‫المقصودة‪ ..‬ورغم أن شقيقها «راضي «لمحها غير‬ ‫مرة وهي تشير له من النافذة‪ ،‬إال أنه استجاب فصاحت في وجهها‪:‬‬ ‫لرغبتها في كتمان األم��ر مقابل بعض النقود‪ »- ..‬لقد أصبحت كسولة وقليلة األدب أيضاً»‪،‬‬ ‫تعتبر «سمر» األمر مجرد تسلية وإن كانت تعرف‬ ‫فانتفضت «سمر»‪ ،‬وقالت في حدة‪:‬‬ ‫أن هؤالء الفتيان يغلب على طبعهم الفساد‪ ،‬وأنهم‬ ‫ «لست قليلة األدب»‪.‬‬‫ك��ال��ذئ��اب‪ ،‬ال يهمهم إال تصيّد ال �غ��ري��رات‪ ..‬نعم‬ ‫كانت تحاول جذبهم‪ ،‬وسالحها في ذلك ثقتها في ‪« -‬بل قليلة األدب‪ ..‬ولكن الذنب ليس ذنبك»‪.‬‬ ‫نفسها‪ ،‬وتعرف أنها ربما دفعت في مقابل ذلك‬ ‫فابتمست «سمر»‪ ،‬وقالت في خبث‪:‬‬ ‫الكثير من سمعتها‪ ..‬كانت كثيراً ما تشير لبعضهم‬ ‫ «ذنب من إذاً؟»‪.‬‬‫ببعض الحركات التي تستثيرهم‪ ،‬ك��أن تقف في‬ ‫النافذة وتبتسم لهم‪ ،‬وما أن يتوقف أحدهم حتى ‪« -‬ذنبنا نحن أننا لم نعرف كيف نربيك‪ ..‬لقد‬ ‫تصفق النافذة في وجهه في عنف‪ ،‬أو كأن تلقي أطلقنا لك الحبل على الغارب‪ ،‬وسأدفع أنا ثمن‬ ‫ألحدهم ورقة فيسارع بالتقاطها حتى إذا فتحها ذلك‪ ..‬صحتي‪ ..‬أيتها الشقيــــــة»‪.‬‬ ‫فإذا هي مليئة بالسباب‪ ،‬بينما تضحك هي بملء‬ ‫‪ ..‬وفي ذلك اليوم نالت من عصا والدها ما أنكى‬ ‫فيها‪ ،‬ورغم أن الخبر طرق مسامع والدها أكثر من جسدها وشعرت بعده باألسى ورددت في نفسها‪:‬‬ ‫مرة‪ ،‬وما أنزله بها من عقاب‪ ،‬إال أن األمر بقي كما‬ ‫و«ما أشقاني بأبي هذا»‪.‬‬‫هو‪ ،‬وإن أخذت بعض الحذر فيه‪ ..‬ولكم فكرت لم‬ ‫إنها ال تريد أن تكون مثلما قالت عنها أمها‬ ‫تفعل ذلك‪..‬؟ لعلها الرغبة في تعذيب اآلخرين‪..‬‬ ‫أو االستهزاء بمشاعرهم‪ ..‬وفي كل‪ ،‬ليس لها الحق فعالً‪ ..‬إنها تحبها ولكن أحياناً تقوم بأعمال ال‬ ‫في ذلك‪ ..‬هي ال تريد ذلك في قرارة نفسها‪ ،‬فماذا ت��درك عواقبها‪ ،‬ثم تندم بعد ذل��ك متى ما خلت‬ ‫حدث لها‪..‬؟ تناقض في شخصيتها‪ ،‬عاد يداهمها بنفسها‪ ..‬وت�ج��د نفسها ف��ي ال �ي��وم ال�ت��ال��ي تلقي‬ ‫كثيراً‪ ..‬حاولت أن تتخلص منه أكثر‪ ،‬ولما عجزت بنفسها في أحضان أمها وهي تتمتم‪.‬‬ ‫وصفته بالمزاجية‪ ..‬يوم طلبت منها أمها أن تغسل ‪« -‬أه يا أمي لكم أنا آسفة‪ ..‬أبدا يا أمي لم أشعر‬ ‫ثياب أشقائها رفضت وقالت‪:‬‬ ‫بكياني يهتز إال كلما رايتك حزينة‪ ..‬وكلما كنت‬ ‫سبباً في ذلك‪ ..‬أمي‪ ..‬البارحة بكيت كثيراً‪ ..‬هل‬

‫تسامحينني؟»‪.‬‬

‫* كاتب وروائي من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪59‬‬


‫األرض املتخيلة‬ ‫> إبراهيم حسو*‬

‫كأنني‬

‫نلتقي كل عشر سنوات على ضفة ما‬ ‫غير موجودة إال في الشعر‬

‫األرض‬

‫نلتقي ونحكي عن الحيوانات الخرافية‬ ‫ونغامر في اإلمساك بها‪.‬‬

‫هذه‬ ‫التي تتركني باردا‬ ‫مطويا في طياتها باعتباط ال مثيل له‪.‬‬ ‫كأنني‬ ‫أتعثر‬ ‫باألرض‬ ‫بهذا العشب المؤلم الذي ال يالئمني‬ ‫فأغور في األعالي‬

‫وقليل من الحظ‬ ‫نتعانق ونلعب الوداع المر‪.‬‬ ‫لكن ال��وداع الذي ال يمل‪ ..‬يأخذ وقتي‬ ‫في التفكير بهذه الجاذبية‬ ‫وهذه الكثافة الضاحكة للهواء‪ ,‬فأسّ د‬ ‫الفجوة العميقة الموجودة في الشعر‬

‫في فضاء خشبي ال مثيل له‪.‬‬

‫أقصد الخريف وهو يموت وسط الباحة‬ ‫العامة لأللعاب الشعبية‪،‬‬

‫واألرض‬

‫أراه منطفئا وجسمه يشع وينكسر مثل‬ ‫الشمس األولى لدى خروجها من الفجر‪.‬‬

‫لكن‬ ‫كما هي‬ ‫وأنا كما هو‬

‫‪60‬‬

‫نفترق‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫كأنني‬


‫األرض‬

‫إل ��ى ص �ب��اح ي ��وم األرب� �ع���اء‪ ,‬ت��اري��خ ال �ن��اف��ذة‬

‫هنا‬ ‫أكثر من مرة‬ ‫دخلت الظل باتجاه أشجار خاطئة‬ ‫أو ماء خاطيء‪.‬‬ ‫لكنني تبعت الفضاء الشره وال��ذي سيتهدم‬ ‫قريبا عام ‪2015‬‬ ‫أو ربما بعد األربعاء القادم‪.‬‬ ‫كأنني‬

‫المكسورة‪ ,‬وآالت النفخ الكبرى‬ ‫في الساحة العامة لأللعاب الشعبية‪ ...‬أعود‬ ‫إلى أكياس قصب السكر‬ ‫أقصد الشعر ال��ذي يتلف المخيلة العاطلة‪,‬‬ ‫فيركض الشعراء ويموتون‬ ‫رويدا رويدا تحت أبطي‪.‬‬ ‫لكنني‬

‫أشبه الحجر البازلتي‬

‫أذكر ضياء الطيور وهي تصيح بغيظ‬

‫عندما يشتعل ويغور في األعالي‪.‬‬

‫الحيوانات الخرافية الراكضة نحو عالم خفي‬

‫وتبعت جسمي المفتت‪ ،‬خنقت يديّ ورميتني‬ ‫من أعلى جسمي‬ ‫وتهدمت في مكان مليء بالقصب وحيوانات‬ ‫تنير وتتداخل مثلنا‪.‬‬ ‫كأنني‬

‫بثقة القطارات نحو حتف مجهول‪.‬‬ ‫كأنني‬ ‫كنت مختفيا هنا‬ ‫ومنذ قرون عديدة‪،‬‬

‫هذه‬

‫كأنني منذ الفجر كتبت هذا وذهبت‪،‬‬

‫األرض‬

‫أو ليست ل��دي زه��ور البرتقال ك��ي أقدمها‬

‫ألول مرة‪.‬‬ ‫وكأن هذه األرض كانت جسمي تقريبا‬ ‫كأنني‬ ‫ولدت‬ ‫في سرير من العواصف أو ما شابه ذلك‬ ‫ومتّ في أرض تغمرها الخضرة دائما‪.‬‬ ‫فأعود‬ ‫إلى‬

‫ش������������������������������������ع������������������������������������ر‬

‫رأيت‬

‫األرض‬

‫لنفسي في عيد وهمي‬ ‫أو ليس جمالي أبهى مع تقدم عمري‬ ‫ورؤيتي للمسرح العبثي الذي ف ّر ممثلوه للتو‬ ‫فأمثّل أكثر من شجرة وأذوب‪.‬‬ ‫منذ األربعاء‬ ‫وقبل عام ‪2015‬‬ ‫رأيت نفسي قرب النافذة دون طيور تذكر‪!!..‬‬

‫* شاعر وناقد سوري‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪61‬‬


‫عاهدته‬ ‫> أحمد عكور*‬ ‫عاهدتُ ُه‬

‫أو جئتُ ُه‬

‫أال أبو َح لغير ِه‬

‫أحبو وتثقلني الخطا‬

‫بالحبِّ والشكوى معا‪..‬‬

‫إال سعى‪..‬‬

‫عاهدتُ ُه‬

‫رفَّتْ من السحر الجوان ُح‬

‫أنِّي إذا هجعوا‬

‫م ْذ عرجْ تُ إليهِ‬

‫أبوءُ إليهِ بالحسنى التي‬

‫أمتا ُح الرؤى‬

‫أحيا بها قلبي‬

‫من ِسدرة الطهر التي‬

‫وأرْوى األضل ُعا‪..‬‬

‫أسْ ـرى بروحي حسنُها‬

‫عاهدتُ ُه‬

‫المقدس‬ ‫ِ‬ ‫فيضا من الحب‬ ‫ً‬

‫أفرش األهدابَ آماالً‬ ‫َ‬ ‫أن‬

‫ما ألذَّ وأبدعا‪!!..‬‬

‫وأسقيها دمي واألدمُعا‪..‬‬

‫عاهدتُ ُه‬

‫ما جئْتُ ُه‬

‫الممات‬ ‫ِ‬ ‫حتى‬

‫أمشي إلى لُقْياهُ‬

‫أكو ُن‬

‫إال أسرعا‪..‬‬

‫عبدًا طَ يـِّـعا‪..‬‬

‫* شاعر من السعودية‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫> السيد موسى البدري‬

‫ش������������������������������������ع������������������������������������ر‬

‫حبيبي‪ ..‬وطني‬

‫�������������ي م��������ؤت��������ـَ��������م��������نُ‬ ‫���������ك أن�������������������تَ ل������������ي وط������������نُ وأن�������������������������تَ ع�������������ل ّ َ‬ ‫ف���������دي���������ت َ‬ ‫�����������������������واك غ������������د ًا ك����������م����������ا ب���������������األم���������������س م��������رت��������ه��������نُ‬ ‫َ‬ ‫وق��������ل��������ب��������ي ف������������ي ه‬ ‫��������������وس��������������ع ي��������������ا م��������������ك��������������انُ ل�����ن�����ا وأب���������������ط���������������ئْ أيّ�������������ه�������������ا ال�����������زم�����������نُ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫�����������ك ال�������ح�������سَ �������نُ‬ ‫وج�����������ه َ‬ ‫������ك م�������ن�������ذ ُ ت����ن����ش����ئ����ت����ي وأش����������������������رقَ ْ‬ ‫ع������ش������ق������ت������ـ ُ َ‬ ‫����������������دك ك��������ل��������ه حَ ����������������������������زَنُ ؟‬ ‫َ‬ ‫���������ك ك��������ي��������ف ت�������أس�������رن�������ي !وب����������������عْ‬ ‫ف���������دي���������ت���������ـ ُ َ‬ ‫�������ط�������نُ‬ ‫إذا م��������������ا ك������������ن������������تَ ق������������دّ ام������������ي ت�������������ش�������������وّقَ ش������������� ْوق�������������يَ ال�������ف ِ‬ ‫���������������اؤك م�������������ن ت�������ب�������اري�������ح�������ي وي���������ع���������ص���������ف ج������������� ّوه�������������ا األرنُ‬ ‫َ‬ ‫س���������������م‬ ‫أم������������ا ف���������ي ال���������ق���������دّ م���������ن مُ �������ل�������ح ٍ؟ ب�������ل�������ى ال����������غ����������اب����������ات و ال�����������م�����������دُ نُ‬ ‫����������������������������������دكَ م�������������ن رس���������وم���������ات���������ي وإع����������������������م����������������������اري ل�����������������ه ث�����������مَ �����������نُ‬ ‫ُّ‬ ‫وق‬ ‫��������ح��������رٌ ت�����������ح�����������اول ف���������هْ ���������مَ ���������ه ال�������س�������ف�������ـُ�������نُ‬ ‫�������ك ل������������ي ب ْ‬ ‫وف����������������ي ع�������ي�������ن�������ي َ‬ ‫ف������������أش������������رع������������ت������������ي ت������ب������ط������ئ������ن������ي وي�������ع�������ج�������لُ ف���������ي ال������ل������ق������ا ال���������زمَ ���������نُ‬ ‫�����������ك م������ف������ت������ت������ـَ������نُ‬ ‫�������ج�������ل�������هِ وأن���������������ـّ���������������ي ف�����������ي َ‬ ‫�����������������ب م��������������ن ت�������ع ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأع�����������������ج‬ ‫ّ����������������ك ه������������ل س����ت����م����ن����ح����ن����ي رب������������ي������������ع������������ ًا ك�����������ل�����������ه ف�����������ن�����������ـَ�����������نُ ؟‬ ‫َ‬ ‫أح���������������� ُب‬ ‫األس����������������������������نُ ؟‬ ‫وه����������������������ل ت�������������ت�������������ح�������������رّك األم�����������������ا ه��������������ل ي�����������ت�����������ج�����������دّ د ِ‬ ‫������������ب م�������ن�������ت�������ظ�������رٌ وب���������������ال���������������ودي���������������ان ل��������������ي سَ ���������ك���������نُ‬ ‫������������ح ّ‬ ‫أن���������������������ا ل������������ل ُ‬ ‫ع�������ل�������ى ال��������ج��������بَ��������ل األش��������������������مّ أرى م�����������س�����������اح�����������ات�����������ي وال أه�����������������نُ‬ ‫��������م��������نُ‬ ‫وأض��������������م��������������ن ي��������������ا ح�������ب�������ي�������ب�������ي ك�����ـ م������������ا ت�����������ص�����������ب�����������و‪..‬؛ أن����������������ا ق ِ‬ ‫�������ح�������ـ م�����������������ا ف�����������ي�����������ه ل�����������ن�����������ا م���������ن���������ـَ���������نُ‬ ‫ف�����������أس�����������دلْ م����������ن س��������ح��������اب ال ُ‬ ‫وأغ����������������������������دقْ ف������������ي رب������������وع������������ك ل����ي وص����������������������������االً؛ أن����������������ت ل������������ي ع����������������دَنُ‬ ‫ّ���������������ك ي����ا رب�����������ي�����������ع ال����������ع����������مْ ����������ر ي�������������ا وط�������������نُ‬ ‫َ‬ ‫ّ���������������ك ك������������م أح��������������� ُب‬ ‫َ‬ ‫أح��������������� ُب‬ ‫* شاعر من السعودية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪63‬‬


‫دروب الكرى‬ ‫> سماره غازي الفرطوسي‬ ‫غابت األزاهير‬

‫شموس الردى عجائز دفينة‬

‫ستار الرجوع يذوب في السهوب‬

‫في الوادي زهرة تائهة‬

‫أول صباح ضل في الطريق‬

‫ترتجف إلى نهار‬

‫نجمة النهر‬

‫لم نجوم مدينتي مساء؟‬

‫حزينة كاألقمار‬

‫ابعثني أمطارا ليذر الفراق‬

‫نفض الندى خياالً‬

‫أغنية تذوب في الوادي‬

‫على العشب ارتمت البذرة‬

‫ابتسامة صبح‬

‫حزينة‬

‫فالشمس في أذيالها ارتحال‬

‫تجوب دروب الكرى‬

‫تخفق الروح لنسمة‬

‫أوصدت الظلماء الضحى‬

‫الربيع يرتجف‬

‫فر النهر‬

‫أطلقوا الرصاص على الياسمين‬

‫* شاعرة من العراق‪.‬‬

‫‪64‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫وشَ رَعتُ أبحثُ في ُعيُون ِ​ِك‬ ‫بعيد عن وطن‬ ‫من ٍ‬ ‫امئات‬ ‫ِ‬ ‫يَهَبُ الرِّما َل الظَّ‬ ‫ُوب‬ ‫معانيَ الماءِ ال َعذ ِ‬ ‫على ِشفاهٍ من ظمأ‬ ‫ويَل ُ ُّم أشال َء الكرامةِ‬ ‫جوف الحُ فَر‬ ‫ِ‬ ‫من بطونِ ال ٍُّدودِ في‬ ‫أنفاس البراكينِ‬ ‫َ‬ ‫ويَ ُع ُّد‬ ‫التي ثارت حَ فِ يظتُها‬ ‫خواط ُر من عَ دَم‬ ‫ِ‬ ‫تبارِ كُها‬ ‫تَهَبُ الثَّكالى الدِّف َء‬ ‫من حُ مَمِ الَّلهيب‬ ‫وتُ َد ِث ُر المقرو َر‬ ‫بالرَّعدِ الرَّغيد‬

‫***‬ ‫عيونك‬ ‫ِ‬ ‫وشرعتُ أبحثُ في‬ ‫بعيد عن وطن‬ ‫من ٍ‬ ‫يشكو األما َن ِح َكاَي ًة‬ ‫والخوف ينشُ ُر حولَ ُه‬ ‫ُ‬ ‫الرُّعبَ الكئِيبَ قصي َد ًة‬ ‫ن ُِظمَت من البحرِ الذَّ ليل‬ ‫نَكِ رَت ُه أنغا ُم «الخليل»‬ ‫بح ٌر تمو ُج بِهِ دماءُ الرَّملِ‬ ‫صفراً قانيات‬ ‫ُ‬ ‫َات‬ ‫َاعي الحا ِني ِ‬ ‫يَهَبُ األف ِ‬ ‫الشَّ ه َد كأساً من دِ مَا ٍْه‬ ‫الس ِّم‬ ‫يَسقِ ي ر َِحي ُق ّ ُ‬ ‫مُهجتَ ُه حياهْ‬ ‫***‬

‫> د‪ .‬حافظ املغربي*‬

‫عيونك‬ ‫ِ‬ ‫وشرعتُ أبحثُ في‬ ‫بعيد عن وطن‬ ‫من ٍ‬ ‫ُض فيهِ‬ ‫األرض تَنب ُ‬ ‫ُ‬ ‫بالفكرِ الجديد‬ ‫تَهفُو وفي أحشَ ا ِئهَا‬ ‫ض عن وليد‬ ‫أَ َم ٌل تَمَخَّ َ‬ ‫عينَاهُ تل َم ُح في الحقائقِ‬ ‫صوتَنَا المَرهُو َن‬ ‫في حَ لقِ الغراب‬ ‫يشدُو على وَقعِ األَك ُِّف‬ ‫على شُ موخِ األَقفيَه‬ ‫َنتشالنِ‬ ‫ويَدَاهُ ت ِ‬ ‫ِسح َر الرُّوحِ‬ ‫فجر بهِ‬ ‫من ٍ‬ ‫تَسعَى الذِّئابُ‬ ‫أرضنَا‬ ‫إلى بَكَا َر ِة ِ‬

‫ش������������������������������������ع������������������������������������ر‬

‫رحلة‬

‫***‬ ‫قريب‬ ‫ٍ‬ ‫وشَ رَعتُ أبحثُ من‬ ‫في عيون ِ​ِك عن وطن‬ ‫إليك القلبُ شُ ريَاناً‬ ‫يخطو ِ‬ ‫الملهوف‬ ‫ِ‬ ‫يُحَ اكِ ي حُ ر َق َة‬ ‫في الزَّمنِ الغريبْ‬ ‫وصقِ ي َع وح َد ِتنَا ت َِحنُّ‬ ‫َ‬ ‫لشمس ِك المُلقَا ِة‬ ‫ِ‬ ‫في حضنِ الَّلهيبْ‬ ‫لك َّننِي‪ ..‬بل إ َّننِي‪..‬‬ ‫بَع َد ال َعنَاءِ ‪..‬‬ ‫ورحل َةِ األمَلِ الطَّ مُوح‬ ‫عينيك‬ ‫ِ‬ ‫مس في‬ ‫لم أدرِ أنَّ الشَّ َ‬ ‫ُوص َدةُ الَّلهِ يبْ ‪..‬‬ ‫م َ‬

‫* أستاذ النقد األدبي كلية اآلداب ‪ -‬جامعة الملك سعود‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪65‬‬


‫قصيدتان‬

‫> عبدالرحيم اخلصار*‬

‫ينادونني‪ :‬يا أبي خائفون‬ ‫اختالف‬ ‫ينادونني‪...‬‬ ‫تطي ُر‬ ‫أغنيات ِ‬ ‫ٍ‬ ‫نعو ُد بال‬ ‫ثم يبكون‬ ‫أفراحنا وتغنِّي‬ ‫ِ‬ ‫إلى عرش‬ ‫يبكون‬ ‫لتسحبَ أقدامُنا شج َر الحُ زن‬ ‫يبكون‬ ‫فوق شظايا الحرير‬ ‫والصب ُر يُمطرني حجَ را حجرا‬ ‫لنا قم ٌر يستح ُّم بأوتار ِه اللي ُل‬ ‫وهو اآلن بعد الذي كا َن‬ ‫والري ُح نافذة ٌ‬ ‫مالتْ له كِ فّة ُ الريح‬ ‫ال يُبخِّ ُر أنفاسَ ها الظ ُّل قبل العُبور‬ ‫فارتشف الكوثرا‬ ‫َ‬ ‫رحل ْنا ورا َء الشذى المُتدثر بالعُشب‬ ‫َص ُع جبهَته بالسماء‬ ‫وأتاني يُر ِّ‬ ‫والضوءُ يغشى الندَى‬ ‫وينث ُر في واحة الكِ بر والخيالءِ‬ ‫نتدفق في نهر المبتدا‬ ‫الهوى دفترا دفترا‬ ‫يتخلَّل ُنا ش َف ُق الحُ بِّ مُحتفال‬ ‫ويقولُ‪ :‬العُال عن يدي ال يميل‬ ‫إذ يهيمُ‪ُ ..‬ندي ُم تطلُّعَنا‬ ‫أنا المستحيل‬ ‫يغرس ال ُقربَ فينا النسيم‬ ‫ُ‬ ‫ربّما‬ ‫وال نمسكُ الفرحة األزلية من عُنقِ الوقت فكن لي مُريدا‬ ‫أك ْن لكَ رزقا جرَى‬ ‫نسقطُ في مطرِ الصمت‬ ‫ويقولُ‪ :‬احتواكَ األسى والذهول‬ ‫فوق رمادِ النجوم‬ ‫وأطفأ عينيك همٌّ يطول‬ ‫أفراحنا‬ ‫ِ‬ ‫أغنيات تطي ُر إلى عرش‬ ‫ٍ‬ ‫بال‬ ‫وبين يديك الهواءُ العليل‬ ‫نتركُ السُّ ف َن‬ ‫أمامك عم ُر الندى ال يزول‬ ‫الرحلة ُ اختلفتْ‬ ‫فال تلزمِ الحقَّ‬ ‫فالصحارى كتابُ الهموم!!‬ ‫فالحقُّ في زبَدِ السيل نار‬ ‫تمس ِك الصب َر‬ ‫وال ِ‬ ‫تَ ـحوُّ ر‬ ‫فالصب ُر بعد العطاء انتثار‬ ‫كان مِ ثلي حزينًا ومنكسرا‬ ‫تحضنِ الحُ لم‬ ‫ِ‬ ‫وال‬ ‫وأتانيَ يوما بشكواه‬ ‫فالحل ُم والصح ُو ِضدَّ ان حتى الفرار‬ ‫أ ْدمَى فؤاديَ َمبْكاه حتى بللتُ الثرى‬ ‫ق���ال‪ :‬أط �ف��ال��يَ ال �خ��ائ �ف��ون ي �ن��ام��ون تحت يقول‪...‬‬ ‫وقلبي تجُ ول به صو ٌر تتمز ُق‬ ‫قف‬ ‫السماء بال سُ ً‬ ‫ويقومون‪ ،‬بالجُ وع أقمارُهم تختفي‬ ‫يطحنها حجَ ٌر سهم ُه البرق‬ ‫وينادونني‪ :‬يا أبي جائعون‬ ‫رقات القَبول!!‬ ‫في طُ ِ‬

‫* شاعر من المغرب‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫> عبدالله الزماي*‬

‫أنا لست أنت‬ ‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫أنا لست أنت‬ ‫فهل أنت هذا الذي‬ ‫يجدف نحوي كل صباح؟‬ ‫يطيل التمعن في وجهي الغائم بالحزن‬ ‫يحمل ذاكرتي بيديه‬ ‫يحاول أن يؤثث يومي‬ ‫بأغنية‬ ‫ال تمر كعابرة تستطيب الحياة‬ ‫وال أنت ظلي‬ ‫وال أنت ذاك الذي‬ ‫يتعاظم بالقرب مني‬ ‫حين أكون وحيدا على ساحل الضوء‬ ‫ألوح للعابرين القدامى‬ ‫بنصف يد‬ ‫وبقايا حنين‬ ‫أنا لغة ال تجيد الخضوع لسيف الغزاة‬ ‫تشتهي أن تنام على صهوة الشعر يوما‬ ‫أو على صهوة الوهم‪..‬‬ ‫واللحظة الخالدة!‬

‫ش������������������������������������ع������������������������������������ر‬

‫على وشك االختباء‪! ..‬‬

‫أنا زمن ق َد من كبرياء وطيش‬ ‫أنا حجر سائغ في وريد الخيال‬ ‫أمنيات تجر طريق المآب‬ ‫وتوغل في النأي‬ ‫عن فارس يحتضر‬ ‫أنا لست أنت‬ ‫فال أنت تعرف‬ ‫شيئا يحاك وراء الضباب‬ ‫وال أنت تحمل سر البقاء‬ ‫رفات صرعتك الليالي‬ ‫فها أنت يشخر فيك الندم‬ ‫ويمتص بأسك هذا الخواء‬ ‫فدعني أنا‪ ..‬ويدي‬ ‫والعدم‬ ‫أصارع هذا الذي أجهله‬ ‫وأخطو نحو األبد المحتمل‬ ‫إن دروبي شوق وشوك‬ ‫وما أنت إال قدم!‬ ‫فأنا لست أنت‬ ‫‪..‬‬ ‫‪..‬‬ ‫أنا لست أنت‪.‬‬

‫* قاص وشاعر من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪67‬‬


‫من قصيدة‬

‫(خفقات قلب)‬

‫> دكتور عبدالرحيم مراشدة*‬

‫ط����ال ال����ف����راق وذوب������ت أح��داق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ي‬

‫���ص بدمعها المــهراق‬ ‫والص ـ ــدر غ َ‬

‫ت��م��ض��ي ال��س��ن��ون وج��م��ره��ا متوقــد‬

‫ب��ي��ن ال��ض��ـ��ـ��ل��وع وق��وده��ـ��ـ��ـ��ا أع��ـ��ـ��راق��ي‬

‫ي���ا ب��ـ��ـ��ـ��ن��ت ل���و ت��ع��ل��م��ي��ن فإننـ ـ ـ ـ ــي‬

‫دن����ف رق��ي��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ق ال��ق��ل��ب واألح����ـ����داق‬

‫ل���و ت��س��أل��ي��ن ع���ن ال����ه����وى‪ ،‬ص���ب أن��ا‬

‫ومناقبـ ـ ــي ت��ح��ك��ى ع��ل��ى العشـ ــاق‬

‫وص�ل�ات���ه‬ ‫ق��ي��د ال��ح��ب��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ي��ب ف���راق���ه‪ِ ،‬‬

‫ِص��ل��ة ال��ح��ب��ي��ب فيسـ ـ ـِّـري إعـتاقي‬

‫ف��ح��ب��ي��ب��ك ال��ط��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ي��ر ال�����ذي يشكو‬

‫ال���ش���ـ���ـ���راك‪ ،‬ك���م عَ ���ـ���نَّ ل�لإط��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ�لاق‬

‫ال ت��ع��ج��ب��ي ل��ش��ح��وب��ه وأن��ي��ن��ه م��رض‬

‫ال��ه��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��وى ي������ودي إل�����ى اإلره������اق‬

‫ف��ل��ك��م ي��س��اه��ر ل��ي��ل��ه يسـ ـ ـ ـ ــتمطر‬

‫اآلم�����ال تح ـ ــت س��ح��ائ��ب اإلش��ف��ـ��اق‬

‫ال ت��ح��س��ب��ي ص��م��ت��ي إل��ي��ك تجـاهال‬

‫خ���ـ���رس ال��ذه��ـ��ـ��ـ��ـ��ول‪ ،‬ف��ه��ات��ه إن��ط��ـ��اق‬

‫مذ سحر عينيك انتشى وبخاطـري‬

‫خ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ف��ق ال��ف��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ؤاد وأي���م���ا إخ��ف��ـ��اق‬

‫أذب����ول عينيك ال���ذي أرى م��ن أجله‬

‫رح��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ل ال���م���ن���ام وزارن�������ي إق��ـ�لاق��ي‬

‫أم رج��ف��ة ال��ش��ف��ت��ي��ن ت��س��ك��ب راح ــها‬

‫ف��ت��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ذي��ب��ن��ي ب����ح����رارة وع��ن��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��اق‬

‫ج��وري��ت��ان ب���دت ع��ل��ى ش��ف��ت��ي��ك كي ـ ـ‬

‫ف ت��ف��ت��ـ��ـ��ح��ت ب��رح��ي��ق��ه��ا ال��رق��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��راق‬

‫ع��ي��ن��اك أغ��ن��ي��ت��ي وأل��ح��ان��ي ورج��ـ��ـ��ـ��ـ��ع‬

‫ق���ص���ائ���دي وع��ب��ي��ره��ا ال��دف��ـ��ـ��ـ��ـ�� َـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��اق‬

‫ك��ـ��ـ��ـ��ـ��ح�لاء م���ذ ن��س��ج اإلل����ه جفونــها‬

‫ال ك��ح��ل��ة ال��م��ـ��ـ��س��ـ��ـ��ـ��ك��ار ف���ي األس���ـ���واق‬

‫ف���ي ط��ب��ع��ه��ا ه���ذي ال��م�لاح��ة كل ـ ــها‬

‫ال زي���ن���ة ال��م��ك��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ي��اج واألع��ل��اق‬

‫ف���دع���ي ال����ك��ل�ام… ف��إن��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ه��ا ع��ي��ن��اك‬

‫ل��غ��ة ال��ع��ي��ون كفـ ـ ـ ـ ــاية ال��م��ش��ت��اق‬

‫ل���و ك����ان ي��رس��م ل��ل��م�لاح��ة وجه ـ ــها‬

‫ل��رس��م��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ت��ه م���ن وح���ي���ك ال��خ��ـ�لاَق‬

‫* شاعر من األردن‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫الصمت‬

‫جبال يرن صداها‬ ‫وفي العمق يرتعش‬ ‫الماء‬ ‫تخضل أنسجة الرحم‬ ‫وظلي فراغ‬

‫> جاك صبري شماس*‬

‫ش������������������������������������ع������������������������������������ر‬

‫هواجس‬

‫الزمن‬

‫أيها المتسكع في مدن‬ ‫الحلم‬ ‫ترقب ضوء الصباح‬ ‫وتغفو هناك‬

‫الصدق‬

‫افترقنا بعد ليل متخم بالكربات‬ ‫ثم حل الليل‪..‬‬ ‫عدنا والقناع السر‬ ‫لم يخلع وجوده!!!!‬

‫كرة القدم‬

‫تطاردني فأحلم في طرائفها‬ ‫تؤرقني‪..‬‬ ‫فيهرب بوح أفراحي‬

‫القصيدة‬

‫مخاض في النخاع‪..‬‬ ‫ورعشة في الطلق‪..‬‬ ‫زغردة بأحشاء الحبيبة‬ ‫عاقر في الطلق‪..‬‬

‫* شاعر من سوريا‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪69‬‬


‫قراءة في مجموعة هالل احلجري الشعرية «هذا الليل لي»‬

‫كتابة الليل‪ ..‬ليل الكتابة‬

‫> إبراهيم احلجري*‬

‫فض َل الشاعر هالل الحجري من خالل مجموعته الشعرية «هذا الليل لي» أن يعزف‬ ‫َّ‬ ‫حزنه شعر ًا ليلكيا‪ ،‬قبل أن يتكدس نهار القصيدة في الطرقات‪ ،‬وقبل أن تفتنه لوعة‬ ‫الشروق؛ فطالما ظل الليل في القصيدة العربية مرادفا للحزن والبوح والشكوى‪ ،‬وطالما‬ ‫بات الزمن المناسب لمقارعة الذات ومراجعتها وتطهيرها أيضا‪ ،‬هذه المرة ليس مما‬ ‫علق بها من أدران الذات نفسها‪ ،‬بل مما علق بها من أوجاع الواقع المر وآالمه‪ .‬يتلفت‬ ‫الشاعر يمينا ويسارا في هذا العالم القذر‪ ،‬فما يلقى سوى السراب‪ ،‬وينظر في أعماق‬ ‫الكلمة الشفافة فما يجد إال الخراب‪ ،‬ويعود إلى نفسه فما يرى إال الدمار‪ ،‬فيعكف على‬ ‫ليله الطويل ال��ذي ال يشاركه فيه أح��د‪ ،‬الليل ال��ذي يحط بكلكله على كل ش��يء؛ فما‬ ‫تكاد ترى األشياء إال من خالل هذه العتمة الحالكة‪ ،‬ال أقصد هنا السواد الفيزيائي‬ ‫الذي تعودنا على رؤيته‪ ،‬بل أروم ما يتراءى في القصائد من حلكة مجازية تسيطر على‬ ‫األنفس‪ ،‬وتغشى األرواح‪ ،‬وتبث في الناس ذع��را غير مسبوق‪ ،‬هذا الليل ال��ذي يصبح‬ ‫الطوطم اللعين الذي ال محيد للذات الشاعرة عن الركوع تحت أعتاب قدميه الموغلتين‬ ‫في العدم‪.‬‬ ‫هذا الليل لي‬ ‫ولن يشاركني فيه أحد‬ ‫غير‬ ‫هذا النسر الجريح‬ ‫الذي‬ ‫يخفق بجوانحه بين رئتي‬ ‫من هنا تتناسل األسئلة‪ ،‬حيث طغيان‬ ‫الليل بوصفه موضوعة تتيه فيها ال��ذات‪،‬‬ ‫وتتسلطن ف�ي�ه��ا األح � ��زان‪ :‬ف�ع��ن أي ليل‬ ‫يتحدث ال�ن��ص ال�ش�ع��ري الكبير؟ ول�م��اذا‬

‫‪70‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫الليل بالتحديد؟ وه��ل هناك عالقة بين‬ ‫المحكي الشعري والمفترض الفكري لدى‬ ‫الشاعر‪ ،‬أم أن التمفصل حدث بالصدفة؟‬ ‫وإذا كان الليل قد شكل ثيمة قديمة قدم‬ ‫اإلنسان‪ ،‬تحضر دائما في الشعر بسلطتها‬ ‫العلوية القاهرة‪ ،‬لتدل على مأساة اإلنسان‬ ‫نفسه وضآلته‪ ،‬فهل استطاع الشاعر هالل‬ ‫الحجري أن يحين الظاهرة الليلية ويمنحها‬ ‫أب�ع��ادا ج��دي��دة‪ ،‬تنزاح بها عن االستعمال‬ ‫الشائع الذائع الصيت‪ ،‬أم أن��ه أسهم في‬


‫يختار الشاعر لمجموعته عنونة فاتنة‪ ،‬تبئر‬ ‫الليل وتجعله أميرا وسيدا في مقولة العتبات‬ ‫النصية‪ ،‬ويجيء هذا العنوان مثيرا للتساؤالت التي‬ ‫تنثال على ذهن القارئ مثل الشؤبوب‪ :‬أي عالقة‬ ‫تربط الشاعر بليله؟ وما طبيعة الليل الذي يسعى‬ ‫الشاعر لتملكه؟ وه��ل الليل بمجازيته الفارعة‬ ‫يأتي ليكرس عتمة في الذات تحيكها القصيدة‪،‬‬ ‫أم يأتي ليفضح عريا في الواقع يستضمره النص‬ ‫ضمنيا؟ المهم أن العنوان بوصفه مقولة داللية‬ ‫موازية يضعنا في سياق نفسي صعب‪ ،‬تفضحه‬ ‫الدالالت الرمزية المتعارفة في المتراكم النقدي‬ ‫العربي وسياقاته الثقافية‪ ،‬وس��واء أك��ان النص‬ ‫مرتبطا في وشائج متعالقة مع النص أم مستقال‬ ‫برمزياته‪ ،‬فهو ال بد أن يكرس سياقا معنويا ما‬ ‫يرد في النص بصيغة أو بأخرى‪ .‬ولهذا االختيار‬ ‫ما يبرره منطقيا‪ ،‬فعندما يسود الظالم العالم‬ ‫تبقى شمس القصيدة هي المالذ‪ ،‬وهي الفيصل‬ ‫ال��ذي يبث ف��ي هجنة القيم المخلخلة ل�ت��وازن‬ ‫الكون‪.‬‬ ‫وف���ي ال �ع �ت �ب��ة ال �ث��ان �ي��ة ال �ت��ي ي�م�ث�ل�ه��ا غ�لاف‬ ‫المجموعة‪ ،‬نستشف غموض الرموز المخروطية‬ ‫والدائرية والحلزونية التي ثؤثث فضاء اللوحة‬ ‫ال�ت��ي أب��دع�ه��ا ال�ف�ن��ان التشكيلي م��وس��ى عمر‪،‬‬ ‫واللوحة ف��ي نهاية المطاف‪ ،‬ه��ي ق��راءة معينة‬ ‫للنص الشعري الكبير الذي يلم شتات النصوص‪،‬‬ ‫ويوحد مفارقاتها؛ وهي تعكس الرؤيا المتعالقة‬ ‫بين الشعري والتشكيلي ف��ي أف��ق المتعاليات‬ ‫الجوهرية لإلبداع اإلنساني‪ ،‬ال��ذي يهدف إلى‬ ‫أن يكون اإلن �س��ان ف��وق ك��ل اع�ت�ب��ار‪ .‬وم��ؤش��رات‬ ‫هذه القيم ‪ -‬لألسف ‪ -‬تضيع في الواقع‪ ،‬كما‬ ‫تؤشر على ذلك النصوص الشعرية في عالم هذه‬

‫وتمتد المجموعة على مساحة بياض تقدر‬ ‫بأربع وعشرين ومائة صفحة‪ ،‬يملؤها زهاء سبعة‬ ‫وأربعين نصا شعريا‪ ،‬يتراوح بين الطول والقصر‪،‬‬ ‫والكثافة والتفصيل‪ ،‬والغموض والوضوح‪ ،‬والرؤية‬ ‫والرؤية‪ ،‬وتحتدم هذه المتناقضات والمفارقات‬ ‫إل��ى درج��ة ق��د يتحول فيها ال�ن��ص أحيانا إلى‬ ‫إشراقات صوفية عصية على القبض‪ ،‬وتتالقح‬ ‫حينا آخر الكائنات الشعورية والداللية إلى حد‬ ‫يصبح معه التداخل ميسما رمزيا‪ .‬لقد كان لليل‬ ‫الذي يحضر مشتبكا بمحموالته الرمزية والداللية‬ ‫أثر مهم في بلورة قيم المنجز‪ ،‬وخلق موضوعاته‬ ‫التي تتعدد وتتصادى حتى داخل النص الواحد‪،‬‬ ‫ومع ذلك فهي كلها تجتمع داخل بؤرة واحدة هي‬ ‫بؤرة التصدع في الذات‪ ،‬وعدم الرضا عن الواقع‬ ‫الذي يرفل في خيبات ليل دامس طويل‪ ،‬أشبه ما‬ ‫يكون بليل النابغة الذبياني حينما قال‪:‬‬ ‫ك��ل��ي��ن��ي ل��ه��م ي���ا أم��ي��م��ة ن��اص��ب‬ ‫ول��ي��ل أق��اس��ي��ه ب��ط��يء ال��ك��واك��ب‬ ‫تطاول حتى قليت غير منقض‬ ‫وليس الذي يرعى النجوم بآئب‬

‫ن�������������������������������������ق�������������������������������������د‬

‫تنميط هذا التداول الداللي لرمزية الليل؟ ذاك‬ ‫ما سنحاول مقاربته من خالل مشاكستنا لهذه‬ ‫النصوص‪.‬‬

‫المجموعة‪.‬‬

‫إن الليل بحجمه وأه��وال��ه‪ ،‬يصبح في اللغة‬ ‫المجازية ليال خاصا بالشاعر يعنيه وحده‪ ،‬وهو‬ ‫بهذا المعنى يضحى هو الديوان نفسه‪ ،‬الديوان‬ ‫الذي يعصف بالشاعر‪ ،‬ويعكس حربه الموجعة‬ ‫مع هذا الليل الذي يصبح مذوتا بمنطق الشاعر‪،‬‬ ‫وأح�لام��ه ومطامحه ال �م��رج��أة‪ ،‬الليل طاحونة‬ ‫تغتال‪ ،‬في بهاء القصيدة‪ ،‬ورد األحالم الجميلة‬ ‫وتحيلها كمشة أعواد وحطاما‪ .‬الليل الذي يتحداه‬ ‫الشاعر ويقف أمامه وجها لوجه‪ ،‬ليس سوى النار‬ ‫التي يصطلي بها الواقع العيني القاسي الذي ال‬ ‫يرحم حتى رهافة الكائن الشعري‪ ،‬وألن الشاعر‬ ‫ال يلين لزوابع هاته القسوة‪ ،‬وألنه ككل الشعراء‬ ‫الحقيقيين ال ي �ه��ادن ري��ح ال�ف�س��اد ف��ي األرض‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪71‬‬


‫فقد أس��رج خيول قوافيه ليصارع ك��ل طواحن بوصفه رمزا له ما يبرره سوسيوثقافيا‪.‬‬ ‫هذا الليل الصديق‪ .‬ولكي ينتصر على جبروت‬ ‫إن ال �ح��دي��ث ع��ن ال �ل �ي��ل ف��ي ه ��ذه ال�ت�ج��رب��ة‬ ‫الزمن الليلي فقد الذ بالكالم فرسا حرونا‪ ،‬واتكأ‬ ‫يحيلنا بالضرورة على الحديث عن‬ ‫على عصا الشعر السحرية‪ ،‬وصادق‬ ‫الزمن التراجيدي‪ ،‬فالليل يصاحبه‬ ‫الليل الذاتي الذي تشقى فيه األنا‪،‬‬ ‫انتهاء فجائعي للنهار‪ ،‬حيث تقبر‬ ‫وتتسربل بالخيبة على أمل أن تنعتق‬ ‫ال�ش�م��س وت �ن��ام ل�ت�ت��رك ال�ع��ال��م في‬ ‫من رعونة المعاش‪ ،‬وتنسل من وحله‬ ‫جحيم الظالم‪ ،‬والليل وجه من أوجه‬ ‫العنيد الذي يكبل خطوها ويسد في‬ ‫الزمن المعبرة عن اليأس والفشل‬ ‫وجهها اآلفاق‪:‬‬ ‫واالس �ت �س�لام ل�ل�أح�ل�ام‪ ،‬وم�ق��ارع��ة‬ ‫هذا الليل لي‬ ‫ال �ه �م��وم واألح�� ��زان‪ .‬وك�ل�م��ا تكاثف‬ ‫بكل زفيره وحرمانه‬ ‫ال �ظ�لام ك��ان الليل م �ع��ادال لصورة‬ ‫بكل صالته وتجديفه‬ ‫األستار التي تحجب الرؤية‪ ،‬وتنطق‬ ‫هلم أيها الليل الجريح‬ ‫بخاصية الموت والعدم؛ ألن الظالم مقرون في‬ ‫لدي‬ ‫الثقافة العربية بالموت والجهل والكفر‪ ،‬كما أن‬ ‫ما يؤويك هذا اليوم‬ ‫مفردة الظالم تؤكد ‪ -‬من جهتها ‪ -‬مدلول الحزن‬ ‫غربة نزقة‬ ‫واليأس والخيبة‪ .‬يكاد يكون الليل الزمن الذي‬ ‫وشفافة‬ ‫يغطي مساحة مهمة في هذا المنجز الشعري‪،‬‬ ‫كأول الخلق!‬ ‫الزمن الذي ال يقاس بالساعات واألي��ام أو فعل‬

‫وإذا كان الليل يحضر بصفته وذات��ه ولفظه‪،‬‬ ‫وشحمه ولحمه أحيانا؛ فإنه في أحيان كثيرة‬ ‫يتحول إلى سياقات أخ��رى‪ ،‬ويحضر عبر مرايا‬ ‫عاكسة جديدة تعززها المترادفات والمتضادات‬ ‫والمفارقات والمشتقات والمعادالت‪ ..‬وما أكثرها‬ ‫ف��ي ال�ن�ص��وص ال�ش�ع��ري��ة‪ ،‬حيث تتسع الحقول‬ ‫المعجمية والداللية التي تحيل على لفظة الليل‬ ‫بوصفه زمنا‪ ،‬أو بوصفه أثرا نفسيا‪ ،‬أو خطابا‬ ‫مجازيا‪ .‬إذ يحضر الليل كتجلٍّ ‪ ،‬ويحضر كأفعال‬ ‫وظيفية من خالل تأثيره على ال��ذات الشاعرة‪،‬‬ ‫ويحضر كسياقات ضمنية تستعرضها اللغة‬ ‫في قالب داللي فكري‪ .‬إننا هنا نميز بين كتابة‬ ‫تشتهي الليل مثل طقس لذيذ وتذمنه كشهادة‬ ‫ميالد‪ ،‬وكتابة تتخذه موضوعة للمحكي الشعري‪،‬‬ ‫واألمران يحضران هنا ألن التجربة تعشق الليل‬ ‫وجعا سخيا؛ وف��ي اآلن نفسه؛ تكتبه‪ ،‬وتعريه‬

‫‪72‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫ال �ت��اري��خ‪ ،‬ب�ق��در م��ا ي�ع��دو إط ��ارا دالل �ي��ا مرتبطا‬ ‫بالتحوالت القيمية والنفسية والمجتمعية‪ .‬لقد‬ ‫طال ليل الشاعر نفسيا‪ ،‬وتطاول أبعد مما تصوره‬ ‫القارئ الذي تصيبه عدوى الليل‪ ،‬فينقبض نفسيا‬ ‫ويحس باأللم‪ ،‬ويتولد في النفس ما يشبه الحالة‬ ‫الماسوشية‪ ،‬التي تستلذ العذاب وتألفه ليصير‪،‬‬ ‫م��ع ال �م��دة ش �ه��وة ش� ��اذة‪ ،‬تعلق ب��ال��ذات وت�ك��ون‬ ‫ميسمها الخاص‪.‬‬ ‫إن هروب الشاعر إلى الليل أو هروب الليل‬ ‫إليه‪ ،‬واختيار كليهما العزلة في اآلخر والتوحد‬ ‫معه‪ ،‬ليس هروبا من الواقع واأللم أو لوذا بغموضه‬ ‫تحت ذريعة التخفي‪ ،‬ولكنه اختالء صوفي بالذات‬ ‫قصد مراجعتها ومحاسبتها‪ ،‬في مساحة نفسية‬ ‫ال يوفرها إال ليل الشعر ذات��ه‪ ،‬وداخ��ل متاهات‬ ‫ال�ن�ف��س وع�ت�م��ات�ه��ا ي�ص�ب��ح األدب ن���ورا يضيء‬ ‫الذات ويرشد ضاللها اللحظي‪ ،‬فيتأتى للشاعر‬


‫ن�������������������������������������ق�������������������������������������د‬

‫أن يصغي إل��ى كونه ال�خ��اص الداخلي المفعم فلتذهب أيها العمالق األسود‬ ‫بسياقات العالم السفلي‪ ،‬فالعزلة ال تعني التخفي كيف لجسدي الضئيل‬ ‫عن الحياة وعن العالم‪ ،‬بل إن األشياء تتصاغر أن يقاوم طغيانك!!؟‬ ‫وتتدنى حتى تصبح بعيدة تتيح إمكانية مراقبتها‬ ‫لقد جعل المنجز الشعري من الليل ليال‪ ,‬قضية‪،‬‬ ‫من بعيد وتأملها‪ ،‬وذلك حينما فقد المجتمع كل الليل الشاسع الذي يمتص المتناقضات المختلفة‬ ‫أهمية ومعنى‪ ،‬وانزلق إلى هوة العدم‪ .‬هنا يعبر تحت إبطه األس��ود المخيف‪ ،‬يتأبطها ويخيم على‬ ‫الشاعر عتمة ال��ذات وعتمة العالم وسكونهما‪ ،‬العالم‪ ،‬الليل الذي له وجوه وجيوش وأفكار ومالحم‪،‬‬ ‫وقد انطفأت كل شعل الكون الجوانية والبرانية‪ ،‬الذي يصبح ذاتا خارجة من الزمن والمكان‪ ،‬الليل‬ ‫فيما يشبه التغور الباطني‪ ،‬باحثا ع��ن توحد الذي يصنع أبطاله وكائناته التي يتبرأ منها الشاعر‪،‬‬ ‫قاس مع حموالته الشعورية‪ ،‬حيث في الليل تتلع إذ يخاطبه الشاعر غاضبا‪:‬‬ ‫الهموم عبر الذكرى‪ ،‬ويغدو الشاعر كائنا خرافيا إني تركتك‬ ‫هجاسيا يندفع بجرأة في سديم اآلفاق المبهمة‪ ،‬للجواسيس والمثقفين‬ ‫محمال بأفكاره الملغزة‪ ،‬خاضعا لزمن لولبي للسماسرة والعباد‬ ‫قاهر ينطلق من الذات ليعود إليها‪ .‬تتعب الذات لكل مصارعيك القدامى!‬ ‫من ذاتها فتهرب إلى األنثى المتعددة‪ ،‬األنثى التي أما أنا سأذهب وأقبل‬ ‫تشكل المالذ والمأوى‪ ،‬نادلة كانت أو حبيبة‪:‬‬ ‫أول نجمة في قريتي‬ ‫النادلة‬ ‫وأغفو‬ ‫التي قلت لها ذات ليلة‪:‬‬ ‫كطفل يتيم!‬ ‫أشتهي أن أبكي بين نهديك‬ ‫لقد ص��ار الليل ال ��ذي ل��ن ينجلي‪ ،‬على األق��ل‬ ‫هجرت‬ ‫نصيا‪ ،‬بحكم طوله وجبروت عتمته‪ ،‬صديقا للذات‪،‬‬ ‫المدينة ورحلت‬ ‫تبادله التقدير بقدر ما تناصبه العداء‪ ،‬لقد صارت‬ ‫والنجمة‬ ‫كل العذابات التي تنضوي تحت هذا الليل المعتم‪،‬‬ ‫التي أغرتني بأول الليل‬ ‫لذات‪ ،‬لقد صار األلم شهوة أبدية من نوع خاص ال‬ ‫انطفأت‬ ‫تعرفه سوى الذات الشاعرة‪:‬‬ ‫في آخره!‬ ‫آه ما ألذ األلم‬ ‫وإذا ك ��ان ال �ش��اع��ر ف��ي كثير م��ن ال�م��واق��ف وسط زحام المرضى والمشوهين‬ ‫الشعورية أبان عن مقدرة كبيرة وعزم شديدين ألم لذيذ‬ ‫على مقارعة الليل‪ ،‬وتحمل ثقله إلى درجة الوله يدغدغ عظامي كالكهرباء‬ ‫والعشق‪ ،‬فهو لم يخف في مواقف أخرى ابتهاله يسافر‬ ‫لهذا الليل بأن يغادره ويرحمه‪:‬‬ ‫من الروح إلى العينين‬ ‫سأنطفئ الليلة‬ ‫مختزال كل لحظات الغربة والضياع‪.‬‬ ‫مبكرا‬ ‫بل وتغدو متابعة هذا األلم الذي آنسه الشاعر‬ ‫ما من شيء سيغريني‬ ‫ووجد فيه المالذ ديدنا تتسلى به الذات وتقشر به‬ ‫بمقارعة هذا الليل‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪73‬‬


‫وقتها البئيس‪ ،‬ال بل تتخذه هما مقيما من أجله‬ ‫تعيش وتستمر‪ .‬لقد ول��د القهر ف��ي ال ��ذات حب‬ ‫تعذيب األنا‪ ،‬واالنتقام منها كنوع من رد الفعل تجاه‬ ‫رداءة العالم وزمنه‪:‬‬ ‫سأصحو الليلة‬ ‫فقط‬ ‫من أجل أن أتتبع‬ ‫مسيرة ألمي المراوغ‬ ‫لن أتألم‬ ‫ولن أبكي‬ ‫بل سأعض على يأسي‪.‬‬ ‫تفاقم الزمن النصي في ذات ال��راوي الشعري‬ ‫إلى درجة أنه أصبح زمنا هيوليا منفتحا على اآلفاق‬ ‫الالنهائية للعدم‪ .‬ال ح��دود له وال مسافات‪ ،‬لذلك‬ ‫نلمح في النص ت��رددا كثيرا لألشياء األول��ى التي‬ ‫تحيل على العالم الطبيعي الفطري بنقائه وطهارته‪،‬‬ ‫قبل أن يفسده البشر‪( ،‬الخلق األول‪ -‬السفر األول‪-‬‬ ‫الفتح األول‪ -‬القضية األول ��ى‪ -‬الليل األول‪ -‬أول‬ ‫الليل‪ -‬أول العاشقين‪ -‬أول ال�ح��ب‪ -‬أول ك��أس)‪.‬‬ ‫كما أن التجربة نفسها تحيل على اآلتي الالمنتهي‬ ‫(الزمن الهالمي‪ ،‬القبلة األخيرة‪ -‬الزمن الذي لن‬ ‫ي �ج��يء‪ -‬آخ��ر رس ��ول‪ -‬ال �ك��أس األخ� �ي ��رة‪ .)...‬ه��ذا‬ ‫االستدعاء للزمن المنفلت يجيء كوسيلة لتناسي‬ ‫ه��م ال��زم��ن الحالي ال���رديء‪ .‬إن��ه ن��وع م��ن ال�ه��روب‬ ‫المجازي من جحيم الواقع النصي المحبط‪ ،‬الذي‬ ‫تصوره بيأس ال��ذات الشعرية‪ .‬فالنص كله شكوى‬ ‫وألم وضيق‪ ،‬وكتابة الشكوى هذه هي مالذ الذات‬ ‫وفرصتها للخروج من عنق الزجاجة ال��ذي ورطها‬ ‫فيه الواقع الضنك‪.‬‬

‫ف��ي ال�ت�ج��رب��ة‪ ،‬مجموعة م��ن ال��وس��ائ��ل البالغية‬ ‫والجمالية التي خصبت النصوص‪ ،‬وأثْرت فسائلها‬ ‫الداللية‪ ،‬ووضعت لها األس��س كي تتفجر بناها‪،‬‬ ‫وتنمو العالئق بين مكوناتها وعناصرها‪ .‬ومن هذه‬ ‫األساليب التي توسلها الشاعر نذكر‪ :‬التناص الذي‬ ‫حضر بكل عناصره‪ :‬استدعاء العلم (الخيام‪ -‬أبو‬ ‫ن��واس‪ -‬مالك اب��ن فهم‪ -‬إرم‪ -‬خالد الجلنداني‪-‬‬ ‫ل��ورد ك��رزن‪ -‬اب��ن خ�ل��دون‪ -‬المتنبي‪ -‬الماغوط‪-‬‬ ‫فرويد‪ -‬فيروز‪ -‬بلقيس‪ -‬جيفارا‪ -‬ياجوج وماجوج‪-‬‬ ‫المسيح‪ -)...‬استدعاء التاريخ «اإلحالة» (طروادة‪-‬‬ ‫الفينيقيين‪ -‬الغجر‪ -‬الفتح‪ -)...‬االقتباس من النص‬ ‫القرآني «ي��ا بني ارك��ب معنا»‪ -‬اإلح��ال��ة المكانية‬ ‫(ال �ص �ح��راء‪ -‬ع�م��ان‪ -‬الجبل األخ �ض��ر‪ -‬إرم‪.)...‬‬ ‫ونجد أيضا االنزياح بشتى أنواعه بالغيا وبيانيا‪،‬‬ ‫وت��زخ��ر ال�ن�ص��وص أي�ض��ا ب��إي�ق��اع منسجم داخليا‬ ‫وخارجيا‪ ،‬ال تسهم فيه الرنات الصوتية فحسب‪ ،‬بل‬ ‫تعززه المقاطع الداللية أيضا‪ ،‬هو إيقاع كلي ينسج‬ ‫بتواز مع النسيج التصويري العام للقصيدة‪ ،‬التي‬ ‫هي وحدة عضوية ال تقبل التقسيم‪ .‬إن القصائد‬ ‫تمثل لوحات منسجمة تتداخل فيها كل المكونات‬ ‫وتتعاضد‪.‬‬

‫ت�ت�ع��دد ال� ��دالالت وال � ��دوال ال �ت��ي تنسكب عبر‬ ‫المعطيات الشعورية والوجدانية التي يزخر بها‬ ‫الديوان الشعري‪ ،‬وتطفح فيه اإلشراقات الشعرية‬ ‫الرائعة التي تتمظهر من حين آلخر‪ ،‬غير أن الليل‬ ‫والنهاية والقهر موضوعات طاغية بامتياز‪ .‬وإذا كنا‬ ‫قد آثرنا المقاربة الموضوعاتية لهذه المجموعة؛‬ ‫ف��إن�ن��ا ن��ؤك��د ت �غ �وّل ال�م�ن�ج��ز ب��األش �ك��ال الجمالية‬ ‫واألسلوبية والبيانية‪ ،‬وال�ت��ي تحتاج إل��ى دراس��ات‬ ‫يتحول الليل عبر المنجز من زمن للكتابة إلى أكاديمية رصينة تغازل بناه الثرة‪ ،‬وتقتحم طريقة‬ ‫موضوعة‪ .‬ومن موضوعة إلى رؤي��ا فكرية كونية‪ ،‬نسج الصور الخالقة‪ ،‬وهو غير ما تأتى لنا في هذه‬ ‫وقد استلهم الشاعر‪ ،‬من أجل تحقيق هذا التحول الشرفة الضيقة التي فتحناها في خيمة الديوان‬ ‫العظيمة‪.‬‬ ‫* ناقد وروائي من المغرب‪.‬‬

‫‪74‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ن�������������������������������������ق�������������������������������������د‬

‫النقد وتنقية الواقع الشعري العربي‬ ‫> حسني محي الدين سباهي*‬

‫إذا كان في عالم الشعر وقضاياه ثمة ما يحظى بإجماع‪ ،‬فهو القول إن المساحة‬ ‫التي يمثلها اليوم في اهتمام القراء‪ ،‬باتت أصغر بكثير من أن تقارن مع مكانته السابقة‬ ‫عندهم‪ ،‬والتي عاشت قرون ًا طويلة‪ ،‬وتدهورت فجأة خالل العقود القليلة الماضية‪.‬‬ ‫وال بد هنا من تسليط الضوء على هذا التراجع‪ ،‬من خالل األزمة الشعرية العميقة‬ ‫التي يواجهها الشعر العالمي المعاصر‪ ،‬عندها سنركز الضوء على حالنا مع الشعر‬ ‫العربي‪ ،‬واألوجه الخاصة به‪ ،‬التي تميز هذا التراجع في مكانته‪.‬‏‬ ‫الشعر نخبوي بطبيعته‪ ،‬وفي كل العصور‪،‬‬

‫على أن طبيعة الشعر المعاصر قد زادت‬

‫أسالفهم شعراء السبعينيات والستينيات‬

‫ولهذا يشعر كل واحد منهم أنه ليس يتيماً‬

‫الهوة بين القصيدة والجمهور‪ ،‬بل بين ناقد فقط‪ ،‬وإنما تائهاً!‏‬ ‫الشعر والقارئ‪ ..‬هذا إضافة إلى التحول‬

‫وي�م�ك��ن ألي م�ت��اب��ع للمشهد الشعري‬

‫القرنين األخيرين‪ ،‬وهو تحول مادي غير‬

‫النظر إلى عدد محدود جداً من المتابعات‬

‫أن شعراء الثمانينيات والتسعينيات وما‬

‫الواحدة‪ ،‬دون الدخول في مدى فعاليتها‪.‬‬

‫ح��رك��ة ن�ق��دي��ة ق��ارئ��ة ل�ت�ج��ارب�ه��م‪ ،‬بخالف‬

‫بوجوده أو عدمه‪ ،‬إنما بقدرته على الغوص‬

‫االجتماعي الجذري الذي شهده العالم في‬

‫العربي المعاصر‪ ،‬تأكيد هذا الكالم مع لفت‬

‫شعري‪ ،‬وال باعث على الشعر والحقيقة‬

‫النقدية‪ ،‬ال يتجاوز ع��دده��ا أص��اب��ع اليد‬

‫بعد التسعينيات‪ ،‬أيضاً يشتكون من غياب‬

‫أقول هذا األصل منه إلى أن النقد ال يقاس‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪75‬‬


‫عميقاً ‪ -‬أفقياً‬

‫وع� � � �م � � ��ودي� � � �اً‬ ‫ ل� �ل���وص���ول‬‫إل� � � ��ى ال� �ب� �ن ��ى‬

‫المنتجة لهذا‬

‫األدب‪ ،‬لرسم‬

‫ص��ورة ال��زم��ان‬ ‫وال� �م� �ك ��ان بما‬ ‫ي�ت�ي��ح إمكانية‬

‫لتجاوزه‪.‬‏‬

‫ه��ذا الوجه‬

‫م� � � ��ن ال � �ن � �ق� ��د‬ ‫األدبي ال يلقن‬

‫في الجامعات‪ ..‬وال يتم تعلمه عبر الكتب خالل‬

‫بهذا الشكل ب��دالً م��ن الشكوى م��ن غيابه‪ ..‬إذ‬ ‫الشعر ‪ -‬كما يقال‪ -‬ليس وح��ده مهمشاً‪ ..‬لكن‬

‫فترة محدودة‪ ،‬إنما تنتجه منظومة متكاملة من األم ��ر نفسه ينطبق على معظم أش �ك��ال الفن‬ ‫ال��وع��ي ومناهج ال �ق��راءة‪ ،‬يجري ال �م��ران عليها الحديثة‪ ،‬من المسرح الجاد إلى الجاز‪.»..‬‏‬ ‫بدءاً من التربية المنزلية‪ ،‬وتنمى في كل تفصيل‬ ‫حياتي الحق‪ ،‬من المدرسة والجامعة والتلفزيون‬

‫والعالقات االجتماعية والسياسية واالقتصادية‪..‬‬ ‫ال��خ‪ ،‬لهذا سيبقى النقد مجرد ت�ج��ارب فردية‬

‫وأحادية الجانب‪ ..‬وبعيداً عن الفعالية كمؤسسة‬

‫مكونة للوعي‪.‬‏‬

‫لنتذكر ما فعله نقد سارتر بجان جينيه‪ ،‬بكل‬

‫بساطه أوقفه عن الكتابة لست سنوات قبل أن‬

‫يصدر كتاباً جديداً‪ ..‬ألنه كما يقول جينيه‪ :‬جعله‬

‫يبدو مكشوفاً أم��ام القراء أكثر مما ينبغي‪ ،‬ما‬

‫دفع جينيه إلعادة بناء نفسه من جديد طيلة ست‬ ‫سنوات قبل كتابة حرف واحد‪.‬‏‬

‫أعتقد أن��ه على الشعراء خصوصاً واألدب��اء‬

‫عموماً‪ ،‬أن يحسدوا أنفسهم لغياب نقد موضوعي‬

‫‪76‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫ع�ل��ى ال��رغ��م م��ن ه��ذه ال�خ�ص��وص�ي��ة‪ ..‬فقد‬ ‫المس قضايا مشتركة عالمية في أزمة الشعر‬ ‫المعاصرة‪ ،‬ويتضح أن المشكلة مشكلة تلق‪ ،‬ال‬ ‫مشكلة إن �ت��اج‪ ،‬وال�ح��دي��ث ال�ي��وم ه��و ع��ن غ��زارة‬ ‫ف��ري��دة ف��ي طباعة ال��دواوي��ن وم�ج�لات الشعر‪،‬‬ ‫وال�ن�ق��د ال�م�ط�ب��وع ال ��ذي ي�ع��ال��ج ق�ض��اي��ا الشعر‬ ‫ال�م�ع��اص��رة ي�م�لأ ص�ف�ح��ات ال ��دوري ��ات األدب �ي��ة‬ ‫والجرائد اليومية الجامعية‪ ..‬وإلى جانب أزمة‬ ‫التلقي هناك أزم��ة النقد‪ ،‬ورطانته األكاديمية‬ ‫وتحيزه أحيانا ض��د الشعر‪ ،‬وال��ذي ال أعتقد‬ ‫أنه مجرد مصادفة‪ .‬ومع تسليمنا بأهمية نقد‬ ‫الشعر في حركة الشعر‪ ،‬فإن دور النقد ظل تابعاً‬ ‫للشعر غالباً ال قائداً له‪ ،‬والنقد بصيرته الشعر‪،‬‬ ‫ال العكس‪ ،‬وال يمكن أن تلقى تبعة تردي الشعر‬


‫ال أن استجاب‬ ‫إل��ى أسبقية الشعر ف��ي كشف مغاليق رؤيوية اليوم؟ أم ان��ه ال محل له منه إ ّ‬ ‫ومعرفية‪ ،‬ال ينتظر في إنجازها نقداً وال علماً‪ ،‬لمآربه االستشهادية غير الشعرية في كثير من‬

‫بل النقد والعلم هما اللذان ينتظران ذلك منه‪ ،‬األحوال؟‏‬ ‫وذلك ما عبر عنه (سيجموند فرويد) على سبيل‬ ‫لقد تخلى النقد عن جديته في درس الشعر‪،‬‬ ‫المثال في مجال علم النفس‪ ،‬وابن سينا في كتابه‬ ‫بل جعلنا نستشعر رهاب بعض النقاد من صرامة‬ ‫«الشفاء» وأرسطو في جدلياته مع أفالطون عن‬ ‫العلم في مقاربة األعمال الشعرية‪ ،‬بعد ما كان‬ ‫أهمية الشعر‪ ،‬قياساً إلى المعرفة أو التاريخ‪،‬‬ ‫ذلك رهابة مسوغاً لدى الشعراء وحدهم في جو‬ ‫كما أن العرب قد عدوا الشاعر متنبئاً‪ ،‬إذ تخيلوا‬ ‫ألف المجاملة والتسوية بين صالح وطالح في‬ ‫كالمه يأتيه من عالم غيبي‪ ،‬ربطوه بعالم الجن‪،‬‬ ‫س��وق الشعر‪ ،‬ه��ذا إل��ى ان�ص��راف النقد إل��ى ما‬ ‫وبقي هذا التصور في مأثورنا الشعبي‪ ،‬فمهما‬ ‫سهل‪ ،‬وراج من فنون النثر‪ ،‬التي ألفى النقد فيها‬ ‫يكن من أم��ر ف��إن المراهنة على أن النقد هو‬ ‫«السرد» ضالته لمناقشة قضايا خارجية تمس‬ ‫ال��ذي سينهض بالشعر‪ ..‬ي�ب��دو م��ن قبل وضع‬ ‫المجتمع والثقافة على نحو مباشر ومكشوف‪..‬‬ ‫العربة أمام الحصان‪.‬‏‬ ‫حتى قامر القائلون بأن الرواية قد باتت «ديوان‬ ‫هذا ال يقلل من شأن النقد‪ ،‬بوصفه علماً‪ ،‬غير‬ ‫العرب المعاصر»‪.‬‏‬ ‫أن وظيفة النقد لم تعد توجيهية‪ ..‬لكنها وظيفة‬ ‫وم �م��ا ت �ق��دم ال ب��د م��ن ال �ق��ول أن الجمهور‬ ‫المحلل ال��دارس‪ ،‬الراصد للظواهر‪ ،‬المستنبط‬ ‫العريض وجمهور المثقفين ف��ي آن‪ ،‬ل��م يعودا‬ ‫منها دروسها المعرفية واألدبية الجمة‪.‬‏‬ ‫كذلك ال بد ها هنا من التمييز بين مفهوم‬ ‫ال�ن�ق��د ال �م��درس��ي المخصص للطلبة وش��داة‬

‫ن�������������������������������������ق�������������������������������������د‬

‫إذاً على النقد‪ ،‬بل لقد تنبه العلماء والفالسفة الشعري الحقيقي شيئاً مذكوراً فيما بقي منه‬

‫قادرين على التمييز بين الشعر وغيره‪.‬‏‬

‫ويبقى الشعر روح اللغة‪ ،‬وال سيما لغة شعرية‬

‫الشعر والنقد العلمي‪ ،‬الذي قد يضيء للمتلقي كالعربية‪ ،‬وفي انهياره مؤشر على انهيار اللغة‪..‬‬ ‫دروب النصوص‪ ،‬غير أنه ال يضيء بالضرورة ومن ينتمون إليها‪ ،‬فصعب جداً أن نتخيل كيف‬ ‫طريق شاعر حقيقي‪ ،‬بل هو الحري بأن يقتبس يعالج شعب ما صحة لغته ما دام متخلياً عن‬ ‫من إلهامات الشاعر‪.‬ثم عن أي نقد نتحدث؟ الشعر‪ ..‬ومما ال ش��ك فيه أن م��أزق القصيدة‬

‫وآي ن�ق��د ي��رج��ى أن ينقذ ال �ش �ع��ر‪ ،‬وق��د رف��ع العربية الحديثة يستدعي رؤى أصيلة ناضجة‪،‬‬ ‫بعض سدنته ال�ي��وم ش�ع��ار «م��وت ال�ن�ق��د» إلى تستمد جذورها من الشخصية الثقافية العربية‬

‫جوار الفتة «موت الشعر»؟! وإذا افترض وجود المستقلة غير مستلبة إلى خارجها‪ ،‬وال منغلقة‬ ‫النقد الشعري بمستوى م��ا‪ ،‬أم��ا زال المنجز على ذاتها‪.‬‏‬ ‫* كاتب وناقد من سوريا‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪77‬‬


‫وقوفا ً حيال غابة ذات مساء متجمد!‬

‫قصيدة للشاعر األمريكي‪ :‬روبرت فورست ‪Robert Force‬‬ ‫مع قراءة لها من قبل الناقد‪Laurence Perrine :‬‬ ‫لورنس بيرراين‬

‫> ترجمة‪ :‬خلف سرحان القرشي*‬ ‫من تكون هذه غابته؟‬ ‫أظن أني أعرفه‪.‬‬ ‫هناك في القرية مسكنه‪.‬‬ ‫لذا أنا في مأمن من منظره‪،‬‬ ‫إذ أرقب اآلن غابته‪.‬‬ ‫وقد كساها الجليد‪.‬‬ ‫مهرتي الصغيرة تظن أنه من الغريب‬ ‫أن تكون إلنسان هنا وقفة‪،‬‬ ‫بين الغابة والبحيرة المتجمدة‪،‬‬ ‫في أشد مساءات السنة عتمة‪،‬‬ ‫من غير ما يكون له‪،‬‬ ‫بيت قريب في المزرعة‪.‬‬ ‫إنها تقرع بجرس لجامها‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫ولسان حالها‪،‬‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫(هل هناك من خطأ؟)‪.‬‬ ‫وغير صوتها‪،‬‬ ‫ما هناك سوى‪...‬‬ ‫صوت صفير الريح البطيئة‪،‬‬ ‫تعصف باألوراق الرقيقة‪.‬‬ ‫حقا‪ ...‬إن الغابات فاتنة‪،‬‬ ‫لكنني وعدت أن أواصل المسيرة‪،‬‬ ‫فلدي التزامات وعهود‪،‬‬ ‫وورائي أميال وأميال قبل الركود‪،‬‬ ‫وأم��ام��ي أميال وأم��ي��ال قبل ذهابي عالم‬ ‫الخلود‪.‬‬


‫‪ :Perrine‬إن ه�ن��اك أك�ث��ر م��ن مقابلة ت��واج��ه مدعو من قبل هذه الغابات حتى يستسلم ويرتاح‪.‬‬ ‫القارئ في هذه القصيدة الغنائية لــ (فورست)‪ ،‬بعض القراء يذهب إلى أبعد من ذلك‪ .‬ويرون أن‬ ‫والتي هي بالتأكيد واحدة من أكثر قصائده إثارة جاذبية الغابة تمثل رغبة‪ ،‬ومضة خاطفة‪ ،‬تسبق‬ ‫للجدل‪ ،‬فللوهلة األول��ى‪ ،‬تبدو القصيدة وكأنها الموت‪ ..‬وهي أشبه ما تكون بـ (رقصة البجعة‬ ‫مجرد سرد بسيط يفتقد الجمالية لحدث عادي‪،‬‬

‫قد يكتفي به بعض القراء ويمنحهم خبرة مباشرة‬

‫قد ال تكون جديرة بالتذكر‪.‬‬

‫غير أن ق��راء آخ��ري��ن ي�ج��دون فيها أكثر من‬

‫ذلك‪ ،‬أكثر مما يوحي به ظاهرها‪ ،‬يجدون فيها‬

‫األخيرة)‪.‬‬

‫ن�������������������������������������ق�������������������������������������د‬

‫ي �ق��ول (ل��وي��رن��س ب� �ي ��رراي ��ن)‪Laurence :‬‬

‫ثمة فهم آخر يتمثل في أن الرجل يشعر أنه‬

‫في القصيدة‪ ..‬تكمن عدة أشياء توحي بأن‬ ‫الرجل في ن��وع من االرت �ح��ال‪ ،‬ولكن (فورست)‬ ‫ال يخبرنا بتاتا أي نوع من االرتحال يعيش فيه‬ ‫ويزاوله هذا الرجل‪ .‬لعله قصد بذلك أن يوحي‬

‫معان كثيرة تضمنتها هذه القصيدة‪ .‬فلو فكرت‬ ‫ٍ‬ ‫ل��وه�ل��ة ف��ي ال��رم��وز ال�ت��ي استخدمها ال�ش��اع��ر‪ ،‬إلى أي رحلة في الحياة‪ .‬يقوم بها أي وكل شخص‪،‬‬ ‫لوجدت شيئا من ذل��ك‪ ،‬ت��رى ما ال��ذي يرمز له وبذلك يترك المعنى على المستوى األوسع‪.‬‬

‫مالك الغابة‪ ،‬الذي ذكر في القصيدة؟ قد يرمز‬

‫نلحظ في القصيدة توقف الرجل أثناء رحلته‪،‬‬

‫للقرية وللحياة القروية‪ ،‬وقد يرمز للمسئوليات مبهورا بجزء من الغابة‪ ،‬توقف الرجل هنا‪ .‬ربما‬ ‫االجتماعية لحياة المدينة‪ ،‬مقارنة بعزلة ووحشة يتماهى مع ما يعيشه من صراع ذهني‪.‬‬

‫الغابات‪ .‬المهرة أيضا رمز يمثل نوعا من الحياة‪،‬‬

‫إنها ال تفهم‪ ،‬لماذا يتوقف إنسان عند جزء من‬ ‫الغابة ليراقب سقوط الثلج‪ .‬وفي مقابل هذا‪ ،‬ثمة‬ ‫عالم المدنيّة الممثل بمالك الغابة‪ ،‬مقابل المهرة‬ ‫الصغيرة التي تمثل البهيمية وعالم الحيوان‪.‬‬

‫(الغابة‪ .‬البرد‪ ،‬الظالم‪ ،‬البحيرة المتجمدة‪،‬‬

‫الثلج المتساقط) مفردات تكون وتشكل الرمز‬ ‫الثالث الذي يلمح للجاذبية المؤثرة لكل عناصر‬

‫وع��د الرجل أن يواصل مسيرته حتى نهاية‬ ‫رحلته هذه‪ .‬وفي هذا ملمح لكونه يريد أن يضع‬ ‫حدا لذلك الصراع‪ .‬من خالل تنفيذ القرار الذي‬ ‫اتخذه‪ ..‬وهو المواصلة‪ .‬لكن الملمح األهم هنا‪.‬‬ ‫قد يكون في وعي الرجل وإدراك��ه للمسؤوليات‬ ‫االجتماعية‪ .‬فكرة كون الغابة (ساحرة‪ .‬قاتمة‪،‬‬ ‫عميقة)‪ .‬تجعله يتوانى لبعض الوقت‪ ،‬ولكن قرار‬

‫الجمال‪( .‬الغابة ساحرة‪ ،‬قاتمة‪ ،‬عميقة)‪ ،‬تعبير الرجل النهائي هو أن يتحرر من ذل��ك الشعور‬ ‫قد يفسر منطقيا بجاذبية الجمال‪ ،‬ذلك الجمال اللحظي‪ .‬ويواصل رحلته‪ ،‬ويتمثل هذا في وعده‬

‫ال��ذي هو بالتأكيد أحد سمات المشهد‪ .‬ولهذا الذي قطعه على نفسه‪ ..‬وهو أن يواصل مسيرة‬ ‫فهو أحد معاني دالالت الرمز‪ .‬ولكن هذا التفسير رحلته‪ ،‬ويذهب ميال وأمياال قبل أن ينام‪ ،‬ومن‬ ‫اإليضاحي يتميز بأنه ال يستهلك معناه وداللته‪.‬‬

‫المؤكد أنه يشير هنا لنومته األبدية‪.‬‬

‫* كاتب ومترجم من السعودية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪79‬‬


‫مفلح العدوان‪ :‬األسطورة جعلت للغة قيمة عليا في‬

‫الكتابة واملنجز الكتابي ال يقابله حضور ابداعي متميز‬ ‫> حوار‪ :‬محمد محمود البشتاوي‬

‫أح��اول الموازنة لتكون قصتي تحمل في داخلها إيقاعها‬ ‫الذي يشد القارئ لها‪.‬‬ ‫كل مشاريعي الكتابية تخدم بعضها بعض ًا بتلقائية وبوعي أو‬ ‫ال وعي‪ ،‬هناك مساحة في روحي اإلبداعية للصورة وتداعياتها‬ ‫وتجلياتها‪ ،‬فكانت إبداعاتي في الفوتوغراف‪ ،‬هناك تقصير من‬ ‫جانب النقاد في متابعة الحاالت اإلبداعية ونقدها ومعاينتها‪.‬‬ ‫اتحاد كتاب االنترنت العرب يشكل تكام ًال مع االتحادات‬ ‫العربية األخرى‪.‬‬ ‫البحث في تفاصيل المكان؛ يسحبُكَ وص��والً إلى كتابة المكان وتوثيقه صحفياً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫دائم‬ ‫عالم خَ فيٍّ تكتشف فيه أن الصحرا َء فتحار من أين تبدأ؟‬ ‫إل��ى ٍ‬ ‫بجمال‬ ‫ٍ‬ ‫النائية في أقاصي البالد‪ ،‬مخبوءةٌ‬ ‫ضمن ه��ذه البيئة اإلب��داع�ي��ة المركبة‪،‬‬ ‫ِسحْ ريٍّ أخاذ‪ ،‬فيما القرى تعل ُن عن وجهها كان مفلح العدوان‪ ،‬األدي��ب األردن��ي‪َ ،‬معْلماً‬ ‫البهيِّ ‪ ،‬المشر ُق باألزهارِ والمعمارِ المتناسق‪ ،‬ب ��ارزاً‪ ،‬وال ي��زال‪ ،‬إل��ى ال�ي��وم يقدم م��ا يُثْري‬ ‫لوحة متكاملة األبعادْ‪.‬‬ ‫فنكون أمام ٍ‬ ‫األدب العربي‪ ،‬في القصة والمسرح‪ ،‬وفن‬ ‫التصوير‪.‬‬

‫تقرأه قاصاً ينه ُل الحكايات‪ ،‬وينحتها من‬ ‫جسد األسطورةِ‪ ،‬بعد أن تناثرت على يديهِ‬ ‫ون��ظ��راً إل ��ى م�ك��ان�ت��ه ال�م�ت�ق��دم��ة أدب �ي �اً‪،‬‬ ‫ش �ع��راً‪ ،‬وت�م��ازج��ت وتكاثفت‪ ،‬فكانت نسقاً ون �ش��اط��هِ ال�ث�ق��اف��ي ال�م�م�ت��د م��ن الصحافة‬ ‫مغايراً عما هو سائدْ‪.‬‬ ‫المكتوبة إل��ى الرقمية‪ ،‬تُ � ِّو َج م��ؤخ��راً ليكو َن‬ ‫ت��ت��اب��ع م� �ش ��روع ��ه اإلب � ��داع � ��ي‪ ،‬م �ت �ع��دد رئيس اتحاد كتاب اإلنترنت العرب‪.‬‬

‫األط��راف‪ ،‬من القصة‪ ،‬المرتكز األول‪ ،‬إلى‬ ‫ص ��در ل �ل �ع��دوان ف��ي ال�ق�ص��ة «ال��رح��ى»‪،‬‬ ‫ف��ن التصوير الفوتوغرافي‪ ،‬إل��ى المسرح‪ ،‬و«ال�� ��دواج»‪ ،‬و«م ��وت ع��زرائ �ي��ل»‪ ،‬و«م ��وت ال‬

‫‪80‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ومجلة «الجوبة»‪ ،‬إذ دخلت إلى عالم العدوان‬ ‫ال �ف��ائ��ض ب ��اإلب ��داع‪ ،‬ف�ه��ي ت �ح��اوره ح��ول القصة‪،‬‬ ‫األسطورة‪ ،‬ولغته التي تجانس بين القصة والشعر‪،‬‬ ‫إلى جانب محاور أخرى‪ ،‬فكان هذا الحوار‪..‬‬

‫< هل تخشى أن تتحول األسطورة إلى قيد‬ ‫خروجك من سجنه؟لتتحول‬ ‫َ‬ ‫يحول دون‬ ‫كتاباتك القصصية فيما بعد إلى نمطية‬ ‫وتكرار؟ أم أن األسطورة هي مصدر تنهل‬ ‫منه كل ما يتعلق بالتراث اإلنساني؟‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫أعرف شعائره»؛ أما في المسرح‪« :‬ظالل القرى»‪،‬‬ ‫و«آدم وح��ي��دا»‪« ،‬ع�ش�ي��ات ح �ل��م»‪ ،‬وف��ي تفاصيل‬ ‫األم�ك�ن��ة أص��در «م��وس��وع��ة ال�ق��ري��ة األردن �ي��ة‪/‬ب��وح‬ ‫القرى‪ /‬الجزء األول»‪ ،‬وله «عمان الذاكرة» وهي‬ ‫ن�ص��وص ن�ث��ري��ة‪ ،‬إل��ى ج��ان��ب ال�م�خ�ط��وط��ات‪ ،‬وهي‬ ‫«شجرة فوق رأس» (قصص)‪ ،‬و«موسوعة القرية‬ ‫األردنية‪ /‬بوح القرى‪ /‬الجزء الثاني»‪ ،‬ومسرحية‬ ‫بال عنوان‪ ،‬تتناول مدينة القدس المحتلة‪.‬‬

‫الواقع بل هي متورطة في هذه الحالة وتعبر‬ ‫عنها ومن صلبها العميق‪.‬‬

‫> المسألة ال تحتاج إلى وضع الحجة‪ ،‬أو عملية‬ ‫دفاع‪ ،‬أو محاولة اتقاء خطر أو شبهة تطرحها‬ ‫الكتابة في األسطورة‪ ،‬ألني في النهاية أنا ال‬ ‫أك�ت��ب بحثا أنثروبولوجيا‪ ،‬وال أوزع منشورا‬ ‫سياسيا‪.‬‬

‫< أرى أن األسطورة وظفت قديما وحديث ًا أن��ا ف��ي الحقيقة أك�ت��ب إب��داع��ا‪ ،‬وب�ك��ل صدق‬ ‫في األدب العربي‪ ،‬فهل تعتقد أنها ما تزال‬ ‫الصورة التي يخرج بها‪ ،‬وهو مشرّب بكل وعيي‬ ‫صالحة لنسقطها أو لنجسد بها اللحظة‬ ‫وتلقائيتي في‬ ‫الراهنة؟‬ ‫ذات ال��وق��ت‪،‬‬ ‫> تلك األساطير التي نتعامل معها هي جزء من‬ ‫وحين تتسلل‬ ‫ثقافتنا التي تشكل البنية العقلية لنا‪ ،‬واألرضية‬ ‫األس � � �ط� � ��ورة‬ ‫اإلبداعية لكثير مما ننجز في حقل األدب‪ ،‬وهي‬ ‫إلى ما أكتب‪،‬‬ ‫محفز مهم وتلقائي للخيال؛ كما أنها تحتوي على‬ ‫ف� �ه ��ذا ي��أت��ي‬ ‫موضوعات غاية في األهمية‪ ،‬وما زالت تالمس‬ ‫ألن��ي أت�ع��ام��ل ب�ص��دق م��ع كتابتي‪ ،‬وال أدع��ي‪،‬‬ ‫ال��واق��ع ال��ذي نعيش فيه‪ ،‬ونتعامل معه؛ ول��ذا‬ ‫فثقافتي زاخ ��رة بالجوانب األس�ط��وري��ة التي‬ ‫فإن العودة إليها‪ ،‬ليست مسألة ترف ثقافي‪،‬‬ ‫اكتسبتها من قراءاتي‪ ،‬وبحثي‪ ،‬وزيارتي لألمكنة‬ ‫وال تقديس عقائدي لها‪ ،‬بل على العكس من‬ ‫ال �ق��دي �م��ة‪ ،‬وع �م �ل��ي ف��ي م �ن��اج��م ال �ف��وس �ف��ات‪،‬‬ ‫كل هذا‪ ،‬فهناك حالة جرأة على‬ ‫وارتحالي في الصحراء‪ ،‬وأيضا هذه‬ ‫ع��ل��ي��ن��ا ت��ش��ج��ي��ع أي‬ ‫ال�م��وروث وعملية ه��دم وتكسير‬ ‫بمجملها جعلت لي عينا ترى األشياء‬ ‫لكثير من تلك الرموز األسطورية ج����ه����د ث����ق����اف����ي ف��ي ب�ط��ري�ق��ة مختلفة‪ ،‬وأذن� ��ا مسكونة‬ ‫بسكينة األساطير القديمة‪ ،‬وصخبها‬ ‫التي أجبر عليها العقل البشري‪ .‬ال�������وط�������ن ال����ع����رب����ي‬ ‫وهناك في المقابل أيضا إعادة‬ ‫أحيانا‪ ،‬وذهنا تتشكل المقاربات فيه‬ ‫بناء ألساطير أخرى من اإلبداع‬ ‫لتعطي دالالت وفق خيال مختلف‪،‬‬ ‫والقصة والمسرح؛ فهي بحد ذاتها خلق إلبداع‬ ‫وموجه نحو أساطير بت مسكونا فيها؛ فصارت‬ ‫جديد‪ ،‬رؤية أخرى للمحيط‪ ،‬وللجوهر‪ ،‬وبذلك‬ ‫لي فلسفتي في الواقع الذي أتعامل معه‪ ،‬حيث‬ ‫تصبح األسطورة ليست خارج سياق الكتابة أو‬ ‫أنني أراه يحمل في طياته أساطير موازية لتلك‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪81‬‬


‫ ‬

‫القديمة‪ ،‬وإن اختلفت األقنعة واألشكال التي‬ ‫تظهر فيها‪ ،‬وواح��دة منها ص��ورة التكنولوجيا‬ ‫الحديثة ال�ت��ي ت�ف��وق عند تأملها م��ا ك��ان من‬ ‫مبالغات في كثير من األساطير القديمة‪ ،‬وكذلك‬ ‫الحال في االت�ص��االت والسينما والكومبيوتر‬ ‫واألسلحة المدمرة‪ ،‬ووسائل الرفاه‪.‬‬ ‫ ‬

‫ل�ق��د بتنا نعيش أس��اط�ي��ر ال �ث��واب وال�ع�ق��اب‪،‬‬ ‫ونلمسها ون�ت�ع��اي��ش م�ع�ه��ا‪ ،‬ون�ح��ن ع�ل��ى أرض‬ ‫الواقع ووسط مجتمعاتنا التي تحولت ذهنيتها < ما ال��ذي دفع القاص إلى حقول مختلفة‬ ‫من اإلعداد البرامجي والمسرح‪ ،‬والكتابة‬ ‫األسطورية القديمة إلى واقع أسطوري‪ ،‬تعيشه‬ ‫الصحفية‪ ،‬والتصوير الفوتوغرافي؛ هل‬ ‫وه��ي متصالحة م�ع��ه‪ ،‬ولكنها تخجل م��ن أن‬ ‫هو خوض التجربة لخلق مساحة تعبير‬ ‫تضع له عنوانا أسطوريا‪ ،‬وكأنها تخاف من‬ ‫هاجس اإلبداع يشكل الدافع‬ ‫َ‬ ‫أوسع‪ ..‬أم أن‬ ‫تلك الكلمة‪ ،‬أو باتت تشكل واحدا من التابوات‬ ‫األول لهذا التنوع؟‬ ‫الجديدة‪.‬‬

‫< توقع لغة ال��ع��دوان القصصية القارئ في‬ ‫ح��ي��رةٍ تتعلق بشاعريتها‪ ،‬وقدرتها على‬ ‫تكثيف النص؛ فهل هي عملية «تجانس»‬ ‫بين القصة القصيرة والشعر؟ أم محاولة‬ ‫من القاص للوقوف على تخوم الشعر؟‬ ‫> إن طبيعة كتابتي التي تدخل فيها األسطورة‬ ‫بشكل ج��ذري وعميق جعلت للغة قيمة عليا‬ ‫ف��ي ال�ك�ت��اب��ة ال �ت��ي أب��دع �ه��ا‪ ،‬وف ��ي األس��اط�ي��ر ‬ ‫القديمة ي�ك��ون ال �س��رد متمازجا م��ع الشعر‪،‬‬ ‫وأغان‪ ،‬كلها يعبر عنها‬ ‫ٍ‬ ‫طقوساً وشعائر وتراتيل‬ ‫بلسان واحد يمزجها؛ فيخرج نمطا كتابيا هو‬ ‫مزيج م��ن ك��ل تلك الفنون‪ .‬وهنا ف��ي كتابتي‪،‬‬ ‫ربما بالالوعي تسلل هذا األسلوب إلى لغتي‬ ‫وقصصي والمسرح الذي أكتبه‪.‬‬

‫‪82‬‬

‫كما أن طبيعة قراءاتي فيها تعظيم للقراءات‬ ‫ال�ش�ع��ري��ة وال�ف�ك��ري��ة‪ ،‬وه ��ذه ال�ل�غ��ة ال�ت��ي باتت‬ ‫تميز قصصي وكتاباتي تحاول المواءمة بين‬ ‫الموضوع والشكل‪ ،‬فالقالب له فتنته والموضوع‬ ‫له غوايته‪ ،‬وبين االثنين أحاول الموازنة لتحمل‬ ‫قصتي في داخلها إيقاعها الذي يشد القارئ‬ ‫لها ولموضوعها وموسيقاها؛ في محاولة للبعد‬ ‫عن الرتابة‪ ،‬والدخول في تكوين الصور داخل‬ ‫أحداث القصة‪ ،‬وتشكيل األمكنة‪ ،‬وترجمة حتى‬ ‫الرائحة والصوت واللون بلغة عالية المستوى‪،‬‬ ‫تتعامل مع الكلمة بقداسة‪ ..‬فتموسقها وتقدمها‬ ‫كما ترتيلة أو أغنية‪ ،‬ولكنها تبقى محافظة على‬ ‫خطها الدرامي‪ ،‬وسردها التلقائي‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫> أن��ا ه��و أن��ا ف��ي ك��ل م��ا كتبت وأن �ج��زت‪ ،‬ول��ذا‬ ‫فهناك قصدية مترابطة في ما أب��دع وأكتب‪،‬‬ ‫وهنا تخطيط أنا أقصده عندما أريد أن أكتب‬ ‫قصة أو مسرحية‪ ،‬أو أبتعد قليال نحو اإلعداد‬ ‫للبرامج التلفزيونية‪ ،‬أو الكتابة ف��ي األمكنة‬ ‫والتحقيقات الصحفية‪ ،‬وحتى عند تعاملي مع‬ ‫الصورة الفوتوغرافية‪.‬‬ ‫أن��ا ‪ -‬في النهاية ‪ -‬أعبر عن ذات��ي‪ ،‬وأخ��دم‬ ‫مشروعي اإلبداعي الذي تتشكل بناه الحقيقية‬ ‫اتكاء على الفكرة والشكل وال�م��وض��وع؛ وهنا‬ ‫حتى أخدم الفكرة‪ ..‬أحاول أن أعبر عنها في‬ ‫القصة‪ ،‬ولكن أحيانا يكون الموضوع أعمق وله‬ ‫دالالت مختلفة ومتعددة‪ ،‬فأعمل بعد فترة على‬ ‫قصتي وأمسرحها وأضيف إليها شخصيات‬


‫ ‬

‫ووج ��وه وأح� ��داث لتكتمل ف��ي تعبيرها‪ ،‬وفي‬ ‫تشكلها‪ ،‬وهنا أرتاح قليال؛ وتخرج تلك القصة‬ ‫من ذهني بعد أن أرقتني سنوات طويلة‪ ،‬وهذا‬ ‫م��ا ح ��دث م�ع��ي ف��ي ق�ص��ة (م�ي�ش��ع ال يسجد‬ ‫للحبشة) التي مسرحتها بعد سنوات من كتابتها‬ ‫لتكون مسرحية (ظالل القرى)‪ ،‬وكذلك قصة > بالنسبة لي ف��إن كل مشاريعي الكتابية تخدم‬ ‫أخرى اسمها (بعد الخلق‪ ..‬قبل النزول)‪ ،‬التي‬ ‫بعضها بعضاً بتلقائية وبوعي أو ال وعي‪ ،‬وعندما‬ ‫مسرحتها على هيئة مونودراما عنوانها (آدم‬ ‫بدأت جوالتي في األردن من أجل توثيق القرية‬ ‫وحيدا)‪ ،‬وقصة (الخرابيش أوال) هي مسرحية‬ ‫األردن �ي��ة‪ ،‬وإع ��داد موسوعة القرية األردن �ي��ة‪،‬‬ ‫عشيات حلم‪.‬‬ ‫كنت مدركا أن ه��ذا المشروع سيثري كتابتي‬ ‫وتجربتي ومعرفتي باألبعاد المكانية والنفسية‬ ‫وهكذا عندما أنتقل إلى الكتابة في المكان‪،‬‬ ‫وال�ت��اري�خ�ي��ة وال�ث�ق��اف�ي��ة لتلك‬ ‫أن � �ب� ��ش ف � ��ي أس���اط� �ي���ره‬ ‫البقع التي أصلها‪ ،‬وسأكون‬ ‫وم��اض �ي��ه‪ ،‬وأل �ق��ي ال�ض��وء‬ ‫ش��اه��دا ح��اض��را ع �ل��ى كثير‬ ‫ع��ل��ى ح� ��اض� ��ره‪ ،‬وأك��ت��ب‬ ‫من القصص والحكايات التي‬ ‫قصته ع�ب��ر ك��ل األزم �ن��ة‪.‬‬ ‫تنتظرني‪ ،‬وتريد مني أن أدونها‬ ‫وه �ن��ا أن���ا أك �ت��ب ال�ق�ص��ة‬ ‫وأختار الشكل المناسب الذي‬ ‫ولكن بنمط مختلف‪ ،‬وهي‬ ‫أكتبها به؛ فكانت تجربة فريدة‬ ‫تخدم الهدف الذي وضعته‬ ‫ما زلت أستفيد منها‪ ،‬وأكررها‬ ‫ل� �م� �ش ��روع ��ي؛ وب �ط �ب �ي �ع��ة‬ ‫كل أسبوع‪ ،‬وأستخدم فيها كل‬ ‫ال�� �ح� ��ال‪ ،‬ف � ��إن ك �ت��اب��ات��ي‬ ‫خ�ب��رت��ي وتقنياتي ف��ي كتابة‬ ‫الصحفية ت��دور ف��ي ذات‬ ‫القصة‪ ،‬والحوار‪ ،‬والتصوير‪،‬‬ ‫اإلطار‪ ،‬وبعد فترة الحظت‬ ‫والبحث‪ ،‬والتحقيق الصحفي‪،‬‬ ‫أن ه� �ن ��اك م �س��اح��ة ف��ي‬ ‫كلها تتضافر لتكون الكتابة‬ ‫روح��ي اإلبداعية للصورة‬ ‫حول تلك األمكنة‪.‬‬ ‫وت��داع �ي��ات �ه��ا وتجلياتها‪،‬‬ ‫فكانت إبداعاتي في الفوتوغراف الذي أحاول وهناك بعد آخر متعلق بالتاريخ الشفوي الذي‬ ‫من خالله أن أق��رأ ال��واق��ع‪ ،‬والماضي‪ ..‬ولكن‬ ‫هو مختبئ في قلوب الكبار‪ ،‬ويسكن أرواحهم‪،‬‬ ‫ب ��أدوات مختلفة‪ ،‬وعملت على ال�م��واءم��ة بين‬ ‫وهم حين يعبرون عنه‪ ،‬يفشون بأسرار تاريخية‬ ‫الكلمة والصورة فيما اصطلحت على تسميته‬ ‫تريد إضافة إلى الباحث والجامع لها‪ ..‬من له‬ ‫بالنقش على ص ��ورة‪ ،‬وه��ذا فيه س��رد مكثف‬ ‫القدرة على صياغتها‪ ،‬بأرقى أساليب التعبير‪،‬‬ ‫لقصة الصورة التي ألتقطها‪ ،‬من وجهة نظري‪،‬‬ ‫وكتابتها بما يستوي مع قيمتها وثرائها‪.‬‬ ‫وب��ال��زاوي��ة التي أراه��ا فيها‪ ،‬وق��د الق��ت قبوال‬ ‫بصفتك باحث ًا مختص ًا في المكان‪ ،‬كيف‬ ‫َ‬ ‫< ‬ ‫طيبا‪ ،‬وحققت ما أردت��ه من عملية المزج بين‬ ‫تقيم طقوس االحتفاء السنوي بالمدن‬ ‫الصورة والكلمة‪.‬‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫< كثير ًا ما نقرأ جماليات المكان – في األردن‬ ‫يمنحك‬ ‫َ‬ ‫ من خالل تجوالك الدائم؛ فهل‬‫ه����ذا ال��ب��ح��ث وال���ت���ج���وال داف���ع��� ًا ل��ك��ت��اب��ة‬ ‫قصصية مغايرة؟ أم أن األمر يقتصر على‬ ‫كتابة صحفية ضمن إطار مهني؟‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪83‬‬


‫الثقافية في األردن؟‬

‫ ‬

‫وه��ذه ال�ك�ث��رة ف��ي المنجز الكتابي ال يقابله‬ ‫حضور لمنجز إبداعي متميز؛ لوجود كثيرين‬ ‫م��ن المتطفلين على ال�ح��ال��ة الثقافية وعلى‬ ‫اإلب��داع‪ ،‬ولسهولة عمليات النشر‪ ،‬بحيث صار‬ ‫من يملك دعما ماديا‪ ،‬بإمكانه أن ينشر ويجند‬ ‫من يلمعه ويقدمه‪ ..‬حتى وإن كان يشكل حالة‬ ‫ضحلة ورديئة بالنسبة لحاالت أخرى متقدمة‪..‬‬ ‫ولكنها لم تدخل في متاهات الفساد الثقافي‬ ‫واإلب ��داع ��ي‪ ،‬وه ��ذه معضلة بالنسبة ل�لإب��داع‬ ‫والثقافة‪.‬‬

‫رب �م��ا ك �ث��رة األع� �م ��ال اإلب��داع��ي��ة وال �ك �م �ي��ات ‬ ‫الكثيرة ل�لأع�م��ال ال�م�ن�ش��ورة وت �ع��دده��ا‪ ،‬جعل‬ ‫هناك صعوبة في متابعتها؛ وحتى يتم تصحيح‬ ‫الحالة‪ ،‬فهناك حاجة من الجامعات أل ْن تسهم‬ ‫في النقد‪ ،‬وكذلك الصحافة‪ ،‬والهيئات الثقافية‬ ‫المتخصصة‪ ..‬حتى تسهم كلها في خلق حالة‬ ‫نقدية‪ ،‬وتقديم اإلبداع بأبهى صوره‪.‬‬

‫وأن��ا سعيد بتشريفي ب��رئ��اس��ة ه��ذا االت�ح��اد‪،‬‬ ‫وآمل أن نتقدم من خالله‪ ..‬وبجهود المبدعين‬ ‫وال�ك�ت��اب لخلق ح��ال��ة ثقافة إب��داع�ي��ة عربية‪،‬‬ ‫تتماشى مع النقلة على مستوى كل مجاالت‬ ‫الحياة واإلبداع‪ ،‬والكتابة واحدة منها‪ ،‬وبحاجة‬ ‫إل��ى آل �ي��ات وأدوات ج��دي��دة تعبر ع��ن ذهنية‬ ‫جديدة في هذا اإلطار‪.‬‬

‫ > أرى أن��ه ف��ي ال��وط��ن ال�ع��رب��ي أي جهد ثقافي‬ ‫علينا أن نشجعه ون��دف�ع��ه إل��ى األم� ��ام‪ ،‬ألن��ه‬ ‫مضت سنوات طويلة من السبات على صعيد‬ ‫المشاريع الثقافية‪ ،‬وعلى صعيد اإلبداع‪ .‬وقد‬ ‫عانت المجتمعات العربية من ه��ذا‪ ،‬وانعكس‬ ‫عليها جهال وفقرا وقلة وعي؛ ولذا فإن فكرة‬ ‫االح �ت �ف��اء بمدينة ف��ي ك��ل ع��ام ل�ت�ك��ون مدينة‬ ‫للثقافة‪ ،‬تعطي فرصة ألبناء تلك المدن‪ ،‬خاصة‬ ‫البعيدة عن العاصمة التي تتركز فيها األنشطة‬ ‫الثقافية ف��ي ال �ع��ادة‪ ،‬وب��ذل��ك تتحقق فرصة < ف�����زت م����ؤخ����را ب���رئ���اس���ة ات����ح����اد ال��ك��ت��اب‬ ‫وص��ول المسرح والسينما والقصة والكتاب‬ ‫اإلن����ت����رن����ت ال�����ع�����رب؛ ف��ك��ي��ف ت���ج���د ه���ذا‬ ‫والمبدعين لتلك األمكنة‪ ،‬وتولد حالة تماس‬ ‫التكليف؟ وهل ثمة رؤية لتفعيل التواصل‬ ‫ربما تدفع بالوعي بالثقافة خطوة إلى األمام‬ ‫مع الكتابة الرقمية في الثقافة العربية؟‬ ‫في تلك األماكن‪ .‬وكذلك الحال بالنسبة لشارع‬ ‫> إن ات�ح��اد ك�ت��اب االن�ت��رن��ت ال�ع��رب يمثل حالة‬ ‫الثقافة‪ ،‬فأن يكون هناك مكان له عنوان ثقافي‬ ‫م�ت�ق��دم��ة ع�ل��ى صعيد ال�ت�خ�ص��ص وال�ت�ج��دي��د‬ ‫شيء إيجابي‪ ،‬إنما هناك مسئولية ثقافية على‬ ‫بالنسبة للهيئات الثقافية العربية‪ ،‬وهذا تأتّى له‬ ‫المبدعين والمثقفين ف��ي أن يستثمروا هذه‬ ‫ُلوجهِ مسارا‬ ‫لتخصصه في الثقافة الرقمية‪ ،‬و ِلو ِ‬ ‫المناسبات وتلك األمكنة لتحقيق حالة ثقافية‪،‬‬ ‫له عالقة بالكتابة عبر االنترنت‪ ،‬واإلب��داع في‬ ‫وبث الحياة فيها‪ ،‬وأال تبقى أماكن بال روح إن‬ ‫البيئة االف�ت��راض�ي��ة‪ ،‬فهو يمثل ح��ال��ة جديدة‬ ‫لم يتم االشتغال على شحنها بالعمل الثقافي‬ ‫تشكل ظاهرة فيها استكمال ألدوار اتحادات‬ ‫واإلبداع‪.‬‬ ‫الكتاب العربية األخ��رى‪ ،‬ولكنها تختلف عنها‬ ‫< ه���ل ي��ع��م��ل ال��ن��ق��د ع��ل��ى ت��ك��ري��س أس��م��اء‬ ‫بأنها متخصصة ف��ي الكتابة عبر االنترنت‪،‬‬ ‫بعينها؟ وماذا تقول في غياب منجز نوعي‬ ‫والنشر الرقمي‪ ،‬والكتابة الرقمية الجديدة‬ ‫في ظل زخم اإلنتاج األدبي؟‬ ‫التي ال تعتمد على الكلمة فقط في التعبير عن‬ ‫ذاتها‪ ،‬بل تتضافر الحالة مع المكونات األخرى‬ ‫> ه�ن��اك تقصير م��ن ج��ان��ب ال�ن�ق��اد ف��ي متابعة‬ ‫من صورة وصوت ومؤثرات وتقنيات أخرى‪.‬‬ ‫ال�ح��االت اإلبداعية ونقدها ومعاينتها‪ ،‬ولكن‬

‫‪84‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫النقاد بشعري مت ّيز ٌ أعتز به‪ ،‬وكون اإلبداع صادر‬ ‫عن أنثى ال بد أن يتأثر بجنسها ليكون صادقا‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫الشاعرة ثريا العريض‪ :‬و ُ ِ‬ ‫ت شاعرة‪ ،‬واحتفاء‬ ‫لد ُ‬

‫> حاورها‪ :‬محمد جنيم‬

‫ق��د نستغني ع��ن ك��ل��م��ات ال��ت��ق��دي��م أم���ام ال��ش��اع��رة‬ ‫الكبيرة الدكتورة ثريا العريض‪ ،‬يكفينا ما قاله في‬ ‫حقها الشاعر والكاتب السعودي د‪ .‬غ��ازي القصيبي‬ ‫الذي وصفها بـ «زرقاء الظهران»‪ ،‬ويكفينا قول الشاعر‬ ‫اليمني الكبير الراحل عبدالله البردوني‪« :‬هي أشهر‬ ‫ال��ش��واع��ر ال��م��ع��اص��رات»‪ ،‬كما ع��دَّ ه��ا الناقد المعروف‬ ‫محمد العباس‪« :‬صوتا أنثويا صافيا ضمن الخطاب‬ ‫ال��ن��س��وي ف��ي ال��خ��ل��ي��ج‪ ،‬ت��رس��م ع�لاق��ة ال��م��رأة العربية‬ ‫بالوطن المتناقض الوجوه»‪.‬‬ ‫< أنت ابنة الشاعر البحريني الكبير‬ ‫المرحوم إبراهيم العريض‪ ،‬حدثينا‬ ‫ع����ن ذك����ري����ات ال���ط���ف���ول���ة م����ع ه���ذا‬ ‫ال��ش��اع��ر الكبير ال���ذي ي��ع��د واح���د ًا‬ ‫م��ن أه��م رواد حركة الشعر العربي‬ ‫في المشرق‪ ،‬وأي تأثير لوالدك في‬ ‫صنع مخيلتك الشعرية؟‬ ‫> ولدت بعد ثالث سنوات من وفاة شقيقتي‬

‫هند‪ ،‬طفلة تحبو فكان استقبالي في‬

‫ال�ع��ائ�ل��ة ت��رح�ي�ب��ا وب �ت �ش��وق‪ ،‬خ��اص��ة من‬

‫وال��دي ال��ذي ك��ان متعلقا بي رغ��م أنني‬ ‫جئت الطفلة ال�س��ادس��ة بين أخ��وات��ي‪.‬‬

‫وقد ظل شعوري باألمان والثقة بالنفس‬ ‫مستمرا منذ والدت��ي‪ .‬ال أذك��ر متى بدأ‬ ‫وعيي بوالدي‪ ،‬ولكني شديدة التعلق به‪.‬‬ ‫الكل يعرفه شاعرا وأديبا‪ ،‬ونحن نعرفه‬ ‫وال��دا حبيبا‪ ..‬كانت عالقته بنا حميمة‬ ‫جدا‪ ،‬لم يكن ِليُفرق في معاملته للفتاة‬ ‫وال �ف �ت��ى‪ ..‬ولكنه ك��ان يحتفي ب��ال��ذك��اء‪،‬‬ ‫وي�ش�ج��ع ال�م��وه�ب��ة ب �ص��رف ال�ن�ظ��ر عن‬ ‫الجنس‪ .‬علمنا حب الجمال وتذوقه في‬ ‫كل ما حولنا‪ ،‬وله الفضل األول واألكبر‬ ‫في صنع مخيلتي األدبية‪ ،‬حيث فتحت‬ ‫لي مكتبته ب��واب��ات اإلط�لاع على روائ��ع‬ ‫األدب العالمي الروائي‪ ،‬ودواوين الشعر‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪85‬‬


‫بأكثر من لغة‪.‬‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫‪86‬‬

‫كما شجعني على الرسم‪ ،‬وعرفني على األدباء‬ ‫والمفكرين البحرينيين والعرب‪ ،‬إذ كنا نلتقي‬ ‫بهم في زياراتهم لمنزلنا‪ ،‬أو عندما يصحبني‬ ‫في السفر إلى المتاحف‪ ،‬والمسارح‪ ،‬وعروض‬ ‫األف�لام المتميزة‪ ،‬بعد انتهاء دوام عمله في‬ ‫الشركة‪ .‬ولم يصنع مخيلتي الشعرية فقط‪ ..‬بل‬ ‫أسس بنائي الثقافي كله‪ ،‬وشعوري بخليجيتي‬ ‫وقوميتي وتوجهاتي السياسية‪.‬‬

‫قرب إال بكل محبة واحترام‪.‬‬ ‫< هل نال والدك الشاعر إبراهيم العريض‬ ‫ما يستحق من تكريم يحفظ مكانته في‬ ‫تاريخ الشعر العربي؟‬

‫> أت �ص��ور أن ��ه ح�ظ��ي اح �ت �ف��اء ع��رب�ي��ا وعالميا‬ ‫كبيرا‪ .‬وقد عرف بين قمم المبدعين عربيا‪،‬‬ ‫إذ نشر قصائده في مجلة الرسالة المصرية‪،‬‬ ‫واألديب واآلداب اللبنانيتين‪ ،‬وكان ينظم الشعر‬ ‫بالعربية واإلنجليزية والفارسية والهندية‪ .‬ومثّل‬ ‫قد أك��ون الوحيدة بين قريناتي التي تعرفت‬ ‫البحرين في كثير من اللقاءات األدبية العالمية‬ ‫وه��ي طفلة على حكام المنطقة‪ ،‬وح��اوروه��ا‬ ‫وهو ما زال شابا يافعا؛ وحظي بتقدير وتكريم‬ ‫شخصيا وبكل حنان‪ ..‬ومنهم الشيخ سلمان‪،‬‬ ‫وأوشحة وأوسمة وميداليات من الحكومات‬ ‫والشيخ عيسى آل الخليفة‪ ..‬والشيخ راشد آل‬ ‫وال �م��ؤس �س��ات األدب��ي��ة وال�ث�ق��اف�ي��ة الرسمية‬ ‫مكتوم‪ ،‬والشيخ زايد آل نهيان‪ ،‬والشيخ سلطان‬ ‫وال� �ف ��ردي ��ة‪ .‬وق ��د ف��وج �ئ��ت ب��رس��ال��ة ‪ -‬ضمن‬ ‫آل ث��ان��ي‪ ،‬وك��ان��وا ي �ق��درون ال��وال��د ويحترمون‬ ‫الرسائل التي تبادلها مع األدباء والمؤسسات‬ ‫رأي��ه ويستشيرونه‪ ..‬وأذك��ر‬ ‫في عرض أقيم في بيت القرآن‬ ‫والدي من أوائل الشعراء‬ ‫أن الشيخ راش��د آل المكتوم‬ ‫في البحرين من ضمنهم نازك‬ ‫ال��ذي��ن كرمتهم د‪ .‬سعاد‬ ‫ط �ل��ب م �ن��ه أن ي�ن�ظ��م ج��ول��ة‬ ‫المالئكة‪ ،‬وعبد الله الفيصل‪،‬‬ ‫الصباح‪ ،‬وسعود البابطين‬ ‫تثقيفية البنه الشيخ محمد‬ ‫وال ��زم� �خ� �ش ��ري‪ ،‬ون�� ��زار ق�ب��ان��ي‬ ‫أث� �ن ��اء زي���ارت���ه ل �ب��ري �ط��ان �ي��ا‪ ،‬ال أه��رب إل��ى الشعر فهو وع �ش��رات م��ن ق�م��م المبدعين‬ ‫فأخذنا معا في رحلة نهرية جزء ال يتجزأ من كياني‪ ،‬العرب واألجانب ‪ -‬هذه الرسالة‬ ‫عبر نهر التايمز‪ ،‬وش��رح لنا وه�����و م���ع���ي أي���ن���م���ا ك��ن��ت ج��اءت��ه م��ن ال �م �ن��دوب السامي‬ ‫معالم لندن التاريخية حتى‬ ‫البريطاني في منطقة الخليج‬ ‫وصلنا إلى أوكسفورد‪ ،‬وزرنا‬ ‫تفيد بترشيحه لجائزة نوبل في‬ ‫الجامعة ومبانيها وح��دائ�ق�ه��ا‪ ،‬ث��م ع��دن��ا من‬ ‫األدب‪ ،‬ولم أكن أعلم عنها من قبل‪ ،‬وعرضت‬ ‫هناك بالقطار إلى لندن‪ .‬وقد ذكرني الشيخ‬ ‫بجانبها رسالة اع�ت��ذاره لكونه ال ي��رى نفسه‬ ‫محمد بن راشد بهذه التفاصيل عندما دعيت‬ ‫مؤهال لتلك الجائزة‪ .‬هكذا كان االحتفاء به‪،‬‬ ‫إل��ى دب��ي في مؤتمر اإلع�لام العربي مؤخرا‪،‬‬ ‫وهكذا كان تواضعه منذ البداية‪ ،‬فقد كان يرى‬ ‫وقلت له أن تلك الزيارة كانت عامال مهما في‬ ‫نفسه مبدعا‪ ..‬وليس استعراضيا لمؤهالته‪.‬‬ ‫صقل رؤيته لما تمنى أن تكون عليه دبي من < هل من نُ ��قّ ��اد ت��ذك��روه إلنصافه وتعريف‬ ‫التألق الحضاري والثقافي‪ ،‬ونجاحه في تحويل‬ ‫الجيل الجديد من الشعراء والدارسين‬ ‫تلك الرؤية إلى حقيقة ملموسة الحقا‪ .‬رحم‬ ‫بقيمته الفكرية واإلبداعية؟‬ ‫الله ال��وال��د فما يذكره أح��د ممن عرفوه عن‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫وال أستطيع القول إن كل امرأة عربية شاعرة‬ ‫تحن إلى اإلبداع‪ ،‬ولكنه عالم متسع يحوي من‬ ‫يحملن موهبة الشعر‪ ،‬ومن يتذوقنه‪ ،‬ومن ال‬ ‫يفهمن فيه شيئا وال يرينه مهما ال كإبداع وال‬

‫> طبعا يسرني أن يهتم النقاد بقصائدي‪ ،‬وأن‬ ‫يأتي ذلك بصورة إيجابية غالبا‪ ،‬ومن منطلق‬ ‫االه �ت �م��ام ال�م�ه�ن��ي ال�ت�خ�ص�ص��ي‪ ،‬ول �ي��س عبر‬ ‫معرفة شخصية ب��ي تحدوهم للكتابة عني‪.‬‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫> أك� �ث ��ر م� �م ��ا أس �ت �ط �ي��ع أن‬ ‫أح� �ص���ي وأع � � � � ّد ف� ��ي ه ��ذه‬ ‫المساحة الصغيرة‪ .‬وليس‬ ‫ال �ن �ق��اد ف �ق��ط م ��ن ت �ن��اول��وا‬ ‫أع�م��ال��ه الشعرية والنقدية‬ ‫ووض � �ع� ��وه� ��ا ف� ��ي إط���اره���ا‬ ‫التاريخي عربيا وخليجيا‪،‬‬ ‫ب��ل اح�ت�ف��ت ب��ه المؤسسات‬ ‫الثقافية الكبرى‪ ..‬فكان من‬ ‫أوائل الشعراء الذين كرمتهم‬ ‫الدكتورة سعاد الصباح وسعود البابطين‪ ،‬وفي‬ ‫البحرين احتفلوا ب��ه رسميا م��رات ع��دي��دة‪،‬‬ ‫وأطلق اسمه على أحد شوارع المنامة‪ ،‬وحولت‬ ‫وزارة اإلع�ل�ام منزلنا ف��ي ال �ح��ورة إل��ى دارة‬ ‫العريض للشعر‪ ،‬حيث تقام فيه لقاءات شعرية‬ ‫وثقافية‪ ،‬يدعى إليها كبار المبدعين المتميزين‪،‬‬ ‫ويحضرها الجمهور بصورة مستمرة‪.‬‬

‫كتعبير‪ .‬كوني شاعرة بالسليقة‬ ‫لم يكن من صنعي‪ ،‬وإنما ولدت‬ ‫شاعرة منذ البدء‪ ،‬واحتفاء النقاد‬ ‫والمتلقين بشعري تمي ٌز أعتز به‬ ‫جدا‪ ،‬ولكنني ال أرى نفسي مجرد‬ ‫ام��رأة تملك موهبة ق��ول الشعر‬ ‫وال �ت �ع �ب �ي��ر ب��أس��ل��وب ش ��اع ��ري‪،‬‬ ‫وتستجدي فرصة للوقوف على‬ ‫أي منبر لتلقي شعرها إل��ى أي‬ ‫ج �م �ه��ور ي�س�م�ع�ه��ا‪ ،‬ول ��و ب �ص��ورة‬ ‫ترفيه يهرب به من الجفاف والسأم المحيط‬ ‫بنا‪ ..‬أران��ي بالدرجة األه��م ام��رأة مثقفة إلى‬ ‫أعلى الدرجات‪ ،‬وليس بحمل الشهادة العليا‪،‬‬ ‫وإنما لمتابعتي الجادة مستجدات المجاالت‬ ‫التي تهمني‪ ،‬وعلى رأسها علم النفس‪ ،‬وعلم‬ ‫االجتماع‪ ،‬وتطوير دور المرأة في بناء المجتمع؛‬ ‫ولذلك يجتمع الشعر واالنفعال حين أعايش‬ ‫الضغوط التي تعانيها المرأة العربية والشرقية‬ ‫عموما؛ فتعبر قصائدي عن مشاعري األنثوية‪،‬‬ ‫وحين يأتي انفعالي من جهة مواطنتي القومية‪..‬‬ ‫تأتي قصائدي تفور بالحزن لما أعايشه من‬ ‫معاناتنا القومية‪.‬‬

‫ < أن�����ت ح���اص���ل���ة ع���ل���ى ش����ه����ادات ع��ل��ي��ا ف��ي‬ ‫التخطيط التربوي واإلدارة من جامعة‬ ‫عريقة ب��أم��ي��رك��ا‪ ،‬لكنك تكتبين الشعر‬ ‫ول���دي���ك دواوي������ن ش��ع��ري��ة ع���دي���دة‪ .‬أي��ن‬ ‫تجدين نفسك‪ ،‬وه��ل تهربين من ضغط‬ ‫ال��ع��م��ل واإلدارة إل���ى واح���ة ال��ش��ع��ر؟ وه��ل < ه��ل أن��ت م��رت��اح��ة لما كتبه ك��ب��ار النقاد‬ ‫المرأة العربية بطبيعتها شاعرة تحن إلى‬ ‫ح���ول ت��ج��رب��ت��ك ال��ش��ع��ري��ة‪ ،‬وأذك����ر منهم‬ ‫الجمال واإلب����داع والخلق ال��ذي يترجم‬ ‫على سبيل المثال الدكاترة واألس��ات��ذة‪:‬‬ ‫رق��ت��ه��ا‪ ،‬ورب���م���ا ت��ج��د ف��ي��ه م��ت��ن��ف��س��ا لما‬ ‫س��ع��د ال��ب��ازغ��ي‪ ،‬محمد ال��ع��ب��اس‪ ،‬محمد‬ ‫تتعرض له من قهر وظلم؟‬ ‫ال��ي��وس��ف��ي‪ ،‬عبدالله ال��غ��ذام��ي‪ ،‬إبراهيم‬ ‫ال��ح��ج��ري‪ ،‬معجب ال��زه��ران��ي‪ ،‬عبدالله‬ ‫> ال أه��رب إل��ى الشعر فالشعر ج��زء ال يتجزأ‬ ‫المعيقل‪ ،‬عبدالسالم المسدي؟‬ ‫من كياني‪ ،‬وه��و معي في موقعي وك��ل نفس‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪87‬‬


‫الذين ذكرتهم ‪ -‬وم��ن لم تذكر منهم تناولوا‬ ‫شعري بالدراسة ‪ -‬هم فعال من خيرة النقاد‬ ‫في ساحتنا العربية‪ ،‬وإل��ى جانب ذلك هناك‬ ‫أكثر من أطروحة للدراسات العليا في األدب‬ ‫تناولت جوانب من شعري بالتفصيل‪ ،‬تم اختياره‬ ‫كمحور لها بناء على اقتراح الباحث الدارس‪،‬‬ ‫أو الدكتور المشرف ف��ي جامعة سعودية أو‬ ‫مصرية أو أردن �ي��ة‪ ،‬أو حتى‬ ‫ب��ري �ط��ان �ي��ة‪ ،‬ل�ك��ون�ه��ا تجربة‬ ‫غنية وتقدم الجديد‪.‬‬

‫أن�ث��وي‪ ،‬وأج��د أن ذل��ك ه��و م��ا يجب أن يكون‬ ‫حين الصوت يأتي طبيعيا متفقا مع تفاصيل‬ ‫الشاعر الواقعية‪ .‬لست ضد مصطلح الشعر‬ ‫األنثوي‪ ،‬وال أج��ده متهما بالضعف‪ ،‬أو يحط‬ ‫مكانته مقارنة بإبداع الرجل‪ .‬صحيح أن اإلبداع‬ ‫إنساني بالدرجة األول��ي‪ ،‬ولكنه أيضا بشري‬ ‫تؤثر فيه مواصفات المبدع البشرية‪ ،‬ومنها‬ ‫ال �ج �ن��س‪ ،‬وت �ف��اص �ي��ل ال�م�ح�ي��ط‬ ‫ال �ب �ش��ري وال �ث �ق��اف��ي والطبيعي‬ ‫الذي يحيط بهذا المبدع‪ .‬هناك‬ ‫جوانب مشتركة في الشعر لكونه‬ ‫إنسانيا‪ ،‬وج��وان��ب خاصة تأتي‬ ‫من كونه بشريا أو فئويا‪ ،‬وكون‬ ‫اإلب ��داع ص��ادر ع��ن إم��رأة ال بد‬ ‫ليكون ص��ادق التعبير أن يتأثر‬ ‫بكونها أنثى‪ ،‬ولها في محيطها‬ ‫الخاص موقع ومعاناة ومشاعر‪،‬‬ ‫وحتى لغة خاصة بها‪ ،‬وجوانب ال يتعرض لها أو‬ ‫يشاركها فيها الرجل في هذا المحيط نفسه‪.‬‬

‫ال��م��رأة الشعري» بكتابة نسوية «يحط‬ ‫من مكانتها أم��ام إب��داع الرجل ال��ذي يرى‬ ‫أن أدب المرأة أو إبداعها ضعيف؟‬

‫> ش��ارك��ت ف��ي م�ل�ت�ق��ى ال��ش��اع��رات ال�ع��رب�ي��ات‬ ‫بمهرجان س��وس��ة‪ ،‬وك��ان تجربة لها أكثر من‬ ‫وج ��ه‪ ..‬حيث س�ع��دت بالتعرف على أص��وات‬ ‫عربية أنثوية مميزة‪ ،‬ومن المشرق والمغرب‪،‬‬ ‫وعلى رأسها فدوى طوقان وزليخة أبو ريشة‪،‬‬ ‫ووف��اء العمراني‪ ،‬كما قابلت النقاد والشعراء‬ ‫المغاربيين من المغرب وتونس الذين حضروا‬ ‫الملتقى‪ .‬ب�ع��ده��ا ل��م ي�ك��ن ه�ن��اك ت��واص��ل إال‬

‫ على أنني أضيف أن سعادتي‬ ‫الصادقة باهتمام الباحثين‬ ‫وال��ن��ق��اد ال ت�ج�ع�ل�ن��ي أغ�ي��ر‬ ‫شيئا في عالقتي بالشعر‪ ،‬أو‬ ‫بكيفية خروجه إلى النور‪ ..‬لم‬ ‫أحاول قط استيالد القصيدة‬ ‫قسريا‪ ،‬وال تجميل مالمحها‬ ‫إرض ��اء ألح ��د‪ ..‬يظل األم��ر عفويا وتلقائيا‪،‬‬ ‫ويعتمد على دافع االنفعال الذاتي‪ ،‬يأتي حين‬ ‫يشاء‪ ،‬وليس استجابة لدعاء االستسقاء لدعوة < ش��ارك��ت ف��ي ملتقى ال��ش��اع��رات العربيات‬ ‫م��ن مهرجان ف��ي مناسبة بعينها‪ ،‬أو إرض��اء‬ ‫بمهرجان سوسة‪ ،‬هل تتواصل الشاعرات‬ ‫لنظرية ناقد‪.‬‬ ‫المشرقيات مع الشاعرة المغاربية‪ ،‬وهل‬ ‫تصلكم الدواوين الشعرية التي تصدر في‬ ‫عد ِك الناقد محمد العباس «صوتا أنثويا‬ ‫< ّ‬ ‫بالد المغرب العربي‪ ،‬أم أن هناك تقصير ًا‬ ‫صافيا ضمن الخطاب النسوي» هل أنت‬ ‫من جانب دور النشر وشركات التوزيع؟‬ ‫م��ع ه��ذا التصنيف‪ ،‬وه��ل تصنيف إب��داع‬

‫> الناقد محمد العباس متميز بين النقاد في‬ ‫ال �س��اح��ة الخليجية‪ ،‬وه ��و ال يلقي األح �ك��ام‬ ‫ج��زاف��ا‪ ،‬وال يلجأ للتصنيفات دون م�ب��ررات‬ ‫حقيقية‪ .‬أوافقه أن صوتي في الشعر صوت‬

‫‪88‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫بالصدفة في مهرجانات مماثلة‪ ،‬ألبي دعوتها‬ ‫أحيانا حين أدعى إليها‪ .‬أتصور أن الدواوين > الشعر سيظل دائما موجودا كاستعداد فطري‬ ‫الشعرية والكتب النقدية متوافرة عن طريق‬ ‫طبيعي عند بعض األف��راد‪ .‬قد يكون شعبيا‪..‬‬ ‫معارض الكتاب التي تقام في القاهرة وبيروت‬ ‫وقد يكون فصيحا‪ ،‬سيظل هناك من يولدون‬ ‫والبحرين وم��ؤخ��را في ال��ري��اض‪ .‬وه��ل هناك‬ ‫وه��م يحملون ه��ذا االستعداد‪ .‬اليوم أج��د أن‬ ‫تقصير‪ ..‬ال أستطيع ال�ج��زم فمعظم الكتب‬ ‫الشعر الشعبي اجتاح الساحة العربية‪ ،‬وأصبح‬ ‫التي أبحث عنها أجدها دون صعوبة‪ ،‬وبعضها‬ ‫أحمد فؤاد نجم وشعبان عبدالرحيم أقرب إلى‬ ‫يأتيني ه��دي��ة م��ن المؤلفين أنفسهم أو من‬ ‫هموم الشارع وجمهور المتلقين من أدونيس‬ ‫األصدقاء‪.‬‬ ‫وم ��ن ي �ق �ل��ده‪ .‬وق ��د ي �ك��ون ال �س �ب��ب أن م��وج��ة‬ ‫التركيز على ض��رورة التجديد ف��ي األسلوب‬ ‫< م��ا رأي���ك ف��ي وف���رة اإلص�����دارات ال��روائ��ي��ة‬ ‫والصيغ الشعرية سممت العالقة بين الشاعر‬ ‫ال��س��ع��ودي��ة ال��ت��ي تكتبها ك��ات��ب��ات شابات‬ ‫الفصيح والمتلقي‪ ،‬في المجتمع الذي ال يهمه‬ ‫أذك����ر م��ن��ه��ن رج����اء ال��ض��اي��ع‪ ،‬ص��ب��ا ال��ح��رز‬ ‫الشعر الغرائبي‪ ،‬بقدر ما يهمه أن يعبّر الشعر‬ ‫وأخريات‪ .‬كيف تفسرين هذه الوفرة؟‬ ‫ببالغة عن همومه المشتركة أو هموم الشاعر‬ ‫> ول ��م ال‪ ..‬م��ا ي �ح��دث ت �ط��ور ط�ب�ي�ع��ي‪ ،‬ورب �م��ا‬ ‫الخاصة به‪( ،‬وهذا هو سبب جماهيرية نزار‬ ‫ج��اء م�ت��أخ��را بعض ال �ش��يء نتيجة الضغوط‬ ‫قباني في بداياته مثال)‪ .‬النتيجة اليوم أن باب‬ ‫المجتمعية ف��ي ال�ف�ت��رة األخ �ي��رة‪ .‬طبيعي أن‬ ‫الشعر الفصيح استعصى على المتلقي العام‪،‬‬ ‫ت�ش��ارك ال�م��رأة ف��ي ك��ل ج��وان��ب الحياة ومنها‬ ‫واقتصر على نخبة فئوية تكتفي بذاتها‪ ،‬ومن‬ ‫اإلبداع والجوانب الثقافية األخرى‪ .‬لقد نجحنا‬ ‫هنا تقاطر المتلقون إلى بوابة الشعر الشعبي‬ ‫في نشر التعليم العام حتى فاق عدد الطالبات‬ ‫التي ال تقصي أو ترفض أحدا‪.‬‬ ‫عدد الطالب‪ ،‬وانتشرت التقنية الحديثة مثل‬ ‫التواصل عبر اإلنترنت بآخر اإلصدارات ودور < هل سيعود المنبر للشعر الفصيح؟‬ ‫النشر في العالم‪ ،‬وليس فقط العالم العربي‪ > .‬حين يعود الشعر إل��ى التعبير القابل للفهم‬ ‫والرمزية المشتركة الجذور‪ ،‬وربما يأتي ذلك‬ ‫فلم االستغراب أن تغتنم الشابات المتعلمات‬ ‫حين تترك اإلذاع��ات وبرامج التلفزيون البث‬ ‫الموهوبات ه��ذه الفرص المتوافرة للتواصل‬ ‫باللهجات المحلية‪ ،‬فيضطر المستمع إلى‬ ‫ول �ن �ش��ر إب��داع��ات �ه��ن؟ وب �م��ا أن ال ��رواي ��ة هي‬ ‫تذكر لغة القرآن لكي يتواصل مع كل البرامج‪،‬‬ ‫الفن التعبيري ال��ذي اجتاح الساحة العربية‬ ‫وليس مع نشرة األخبار فقط‪.‬‬ ‫بعدما تسيد الساحة العالمية منذ منتصف‬ ‫القرن الماضي‪ ،‬فليس غريبا أن تبدأ فتياتنا < هل ت��راودك فكرة كتابة سيرة ذاتية لك‬ ‫الموهوبات بكتابة الرواية‪ ،‬وليس الشعر الذي‬ ‫تؤرخ لمسيرتك العلمية واإلبداعية؟‬ ‫يحتاج موهبة أخرى‪ ،‬أو القصة القصيرة التي > ح �ت��ى اآلن ال‪ .‬ول �ك��ن ك �ت��اب��ا س �ي �ص��در قريبا‬ ‫تزحلقت عن عرش الكتابة السردية‪.‬‬ ‫سيحتوي بعض م��ا كتب ع��ن شعري م��ن آراء‬ ‫< كيف ترين مستقبل الشعر في السعودية‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫ومنطقة الخليج العربي عموما؟‬

‫ودراسات‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪89‬‬


‫الدرعان ‪ :‬الفنون التعبيرية تتجاور كتوائم في شجرة اإلبداع‪،‬‬ ‫وقد شعرت باالحباط والعار النتمائي للوسط الثقافي يوما‬

‫> حاوره محمود عبدالله الرمحي‬

‫ق��اص وش��اع��ر س��ع��ودي متميز‪ ،‬مثقف متعدد المواهب‪..‬‬ ‫نقلنا إلى طفولته الناضجة من خالل نصوصه المعبرة‪..‬‬ ‫أقدم على حرق نصوصه الشعرية والقصصية األولى‪ ،‬ليصدر‬ ‫بعدها مجموعته القصصية الثانية (رائحة الطفولة)‪..‬‬ ‫وهو ال��ذي شق طريقه في مجال السرد القصصي بديال‬ ‫عن الشعر‪..‬‬ ‫هدوء ما بعده هدوء‪ ..‬واتزان يفوق التصور‪ ..‬وعقل تصعب‬ ‫قراءة أفكاره‪ ..‬بحر عميق حاولت الغوص في أعماقه‪ ،‬لعلي أصل إلى صدفاته فأكشف بعض‬ ‫أسراره وخباياه‪ ..‬معه كان لنا هذا الحوار‪..‬‬ ‫< بداية عبدالرحمن القاص أم الشاعر‬ ‫والمجالت التي كانت تصل تباعا‪ ،‬قضيت‬ ‫أيهما أق��رب إل��ى قلبك وم��ن أي��ن كانت‬ ‫وقتا أخ�ض��ر‪ ،‬وك��ان ي��ا للمفارقة الجميلة‬ ‫البداية؟‬ ‫ش�خ��ص ي��دع��ى ((ب �ن��در ال�س�ه�ي��ان)) ‪ -‬ما‬ ‫ي��زال اسمه طريا كأعواد النعناع ‪ -‬يرتاد‬ ‫> حين ألتف صوب البدايات‪ ،‬أكتشف أنني‬ ‫المكتبة آن� ��ذاك‪ ،‬ع�ل��ى ال��رغ��م م��ن أن��ه ال‬ ‫ك�ن��ت م�ح�ظ��وظ��ا‪ ،‬ف�ق��د ك�ن��ت أرت� ��اد مكتبة‬ ‫يحسن القراءة‪ ،‬ولكنه كان يدعوني ألقرأ‬ ‫ال �ث �ق��اف��ة‪ ،‬بمعية عمي‪-‬‬ ‫ل��ه بعض القصائد وحينما‬ ‫الذي كان يعمل أمينا لها م����ن ال���ب���دي���ه���ي أن‬ ‫تستحوذ على إعجابه قصيدة‬ ‫ف��ي أواخ��ر الثمانينيات‪ ،‬ي���ت���ن���ق���ل ال����م����ب����دع‬ ‫ما‪ ،‬يطلب مني أن أكتبها له‪..‬‬ ‫والتي كانت ن��واة لمكتبة‬ ‫دار ال �ج��وف ال�ح��ال�ي��ة ‪ -‬ب��������ي��������ن أغ��������ص��������ان وكنت أشعر بالفخر وأنا أقوم‬ ‫وه� �ن ��اك وج � ��دت ف �ض��اء ش�����ج�����رة اإلب����������داع‪ ،‬بتلك ال�م�ه�م��ة‪ ،‬ف��أدل��ل ذل��ك‬ ‫ه��ائ�لا ل��م ي�ت�س��ن ل��ي أن ول������ي������س ال����ع����ك����س‪ .‬الشيخ الذي أصبح فيما بعد‬ ‫صديقا حميما‪ ،‬يرحمه الله‪.‬‬ ‫أع �ث��ر ع �ل �ي��ه ف ��ي ال�ك�ت��ب‬ ‫ال �م��درس �ي��ة آن � ��ذاك‪ ..‬ف��ي ت�ل��ك ال�م�م��رات ‬ ‫الصغيرة المأهولة بالقصص وال��رواي��ات‬ ‫ودواوي � ��ن ال �ش �ع��ر‪ ،‬إض��اف��ة إل ��ى الصحف‬

‫‪90‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫أم��ا ع��ن ال�ش��ق الثاني م��ن ال �س��ؤال‪ ..‬فإن‬ ‫اإلن �س��ان ه��و األق���رب لنفسي‪ ،‬س ��واء في‬ ‫الشاعر ال��ذي ل��م يعد كذلك إال لماما‪..‬‬


‫ليت الفتى حجر‪ ..‬يا ليتني حجر‬ ‫< م��ن يقابل ال��درع��ان ي��ج��ده قريبا بعيدا‪..‬‬ ‫بحر عميق عميق‪ ..‬فماذا يخبئ هذا البحر‬ ‫في صدفاته؟‬ ‫> ت��رددت كثيرا إزاء ه��ذا ال�س��ؤال وأجلت اإلجابة‬ ‫عنه‪ ،‬ألنني ال أعرف هذا الشخص الذي تتحدث‬ ‫عنه‪ ..‬حقا كل ما أعرفه أن كل إنسان يضمر في‬ ‫داخله مقدار ما يظهر عليه‪ ،‬أنا هو مزيج أنت وهو‬ ‫في آن واحد‪.‬‬ ‫< ت��ح��دث ال��ك��ث��ي��رون ع��ن ح��رق��ك لقصـائدك‬ ‫ومجموعتك القصصية األول ــى (نصوص‬ ‫الطين)‪ ،‬لتصدر بعدها مجموعة (رائحة‬ ‫الطفولة)‪ .‬ما تفسيرك لذلك‪ ،‬وهل سببه‬ ‫تميز المجموعة الثانية عن األولى أم ماذا؟‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫أو في القاص ال��ذي ما ي��زال يؤمن بأن كل نص‬ ‫جديد هو بداية؛ اإلنسان بغريزته التي لم تتعرض‬ ‫لترويض األنظمة المغلقة‪ ،‬أو تخدعه الشعارات؛‬ ‫اإلن�س��ان ال��ذي ينحاز دون أن ي ��راوده أي شعور‬ ‫بالخجل إل��ى المهمشين والبسطاء والضائعين‬ ‫وش� �ح ��اذي ال��ط��رق��ات‪ ..‬ال �ش �خ��ص ال� ��ذي يلملم‬ ‫شظاياه كلما أوغل الليل‪ ..‬ويغني للحياة‪ ،‬والحب‪،‬‬ ‫واألشجار التي تتسامق وترفض أن تموت‪ ..‬وحين‬ ‫يستبد به القنوط‪ ،‬يردد مقولة الشاعر العربي‪:‬‬

‫ت�ل��ك ال�م��رح�ل��ة أن ط��ال��ت االن �ق �س��ام��ات ال �ش��ارع‬ ‫الثقافي‪ ،‬وت�ح�وّل كثير ممن كنت أعدهم رم��وزا‬ ‫للثقافة واألدب إل��ى كتائب م��أج��ورة‪ ،‬وطبالين‪،‬‬ ‫ودم��ى يقودها السياسي كقطعان ماشية؛ وكان‬ ‫ذل��ك بالنسبة ل��ي ص��دم��ة‪ ،‬فضحت هشاشتهم‪،‬‬ ‫بقدر لم يكن مبررا وال محتمال‪ .‬حدث ذلك في‬ ‫الوقت الذي كنت غرا أحمل في داخلي أحالما‬ ‫طوباوية‪ ،‬تهدمت قبيل أن تتشكل‪ ..‬األم��ر الذي‬ ‫أصبت معه بالخيبة واإلحباط‪ ،‬والشعور بالعار من‬ ‫أن أنتمي إلى هذا الوسط‪ ..‬أو إلى أي مجموعة‬ ‫فيما بعد‪ .‬فلم يكن في مقدوري أن أفعل شيئا‬ ‫أك�ث��ر م��ن ال �ي��أس واالن �ك �ف��اء‪ ،‬ال ��ذي ال أم�ل��ك أن‬ ‫أترجمه إال بحرق المجموعة‪ ،‬كطفل يفجر بالونه‬ ‫في حفلة عرس‪ ،‬احتجاجا! في الوقت الذي كان‬ ‫يقيني يتجه إلى العزوف عن إصدار أي عمل آخر‪،‬‬ ‫لكن المسألة لم تكن بهذه البساطة‪ ،‬إلى حد أنها‬ ‫تخضع لقرار شخصي‪.‬‬

‫> أصدرت مجموعة نصوص الطين في وقت مبكر‪ < .‬ق��رأن��ا ل��ك أش��ع��ارا ع��م��ودي��ة وأخ���رى نثرية‪،‬‬ ‫وحدث أن تزامنت مع صدورها في التسعينيات‬ ‫ومقاالت أدبية متنوعة في الصحف وعلى‬ ‫الميالدية انقسامات سياسية ال‬ ‫ش���ب���ك���ة االن�����ت�����رن�����ت‪ ،‬وق����ي����ل إن���ك‬ ‫مثيل لها في الوطن العربي‪ ،‬جراء‬ ‫ستصدر روايتك األولى قريبا في‬ ‫الغزو العراقي للكويت‪ ،‬ثم ما تال‬ ‫أي منها يجد الدرعان نفسه؟‬ ‫ذل��ك م��ن أح���داث‪ ..‬ن��زف��ت خاللها‬ ‫لدي يقين أن الفنون التعبيرية‬ ‫> ‬ ‫حصة هائلة من طاقتها في سبيل‬ ‫ت�ت�ج��اور ك�ت��وائ��م ف��ي ش �ج��رة اإلب� ��داع‪،‬‬ ‫تكريس الضغينة‪ ..‬وت�ف��اق��م حالة‬ ‫وم��ن البديهي أن يتنقل ال�م�ب��دع بين‬ ‫ال �ت �ش��رذم‪ ..‬ول�ك��ن أس ��وأ تداعيات‬ ‫أغصان هذه الشجرة‪ ،‬وليس العكس‪..‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪91‬‬


‫بالنسبة لي‪ ..‬ربما كتبت الشعر في مرحلة مبكرة‬ ‫من عمري بسبب ولعي بالقصيدة آنذاك‪ ..‬كانت‬ ‫موسيقى القصيدة تحديدا تضعني في حديقة‬ ‫الدهشة‪ ،‬وكنت أتساءل إن ك��ان يمكن أن يسود‬ ‫هذا الشكل الساحر من التعبير بدال من الكلمات < لم يطبع الدرعان سوى مجموعتي (نصوص‬ ‫ال �م �ك��ررة‪ ،‬وف��ي مرحلة الح�ق��ة اكتشفت أن في‬ ‫الطين) و(رائ��ح��ة الطفولة) ول��م يصدر أي‬ ‫داخل هذا اللون ثمة تكرار أيضا‪ ،‬بعد أن حاولت‬ ‫ديوان شعر أو أي عمل أدبي آخر رغم غزارة‬ ‫خوض التجربة‪ ،‬لكنني لست شاعرا‪ ..‬وليست تلك‬ ‫إنتاجه فلم هذا التوقف أو االنقطاع؟‬ ‫النصوص الشعرية التي يمكن عرضها ‪ -‬بوصفها‬ ‫> أت ��ردد ك�ث�ي��را ب��ل ل��م أف�ك��ر ع�ل��ى اإلط�ل�اق بجمع‬ ‫ت�م�ث��ل ت �ج��رب��ة ‪ -‬م�ك�ت�م�ل��ة وم� �ح ��ددة ال �م�لام��ح‪..‬‬ ‫النصوص الشعرية التي كتبتها في فترات متباعدة‪،‬‬ ‫الحالة الشعرية حينما تعتريني ‪ -‬ويحدث هذا‬ ‫وفي لحظات ال أعرف لماذا كانت‬ ‫في أحايين معينة وبشكل غير‬ ‫ال����ح����رك����ة ال���ث���ق���اف���ي���ة ف��ي القصيدة هي األكثر تعبيرا‪ ،‬بيد إن‬ ‫م��رت��ب ‪ -‬أستجيب ل�ه��ا بشكل‬ ‫ال��م��م��ل��ك��ة ع��م��وم�� ًا م���ا زال���ت مجمل النصوص ال تمثل بالنسبة لي‬ ‫تلقائي‪ ،‬بيد إنني لم أكن إال نادرا‬ ‫ت�����ع�����ان�����ي م�������ن االن�����ف�����ص�����ام كما أسلفت تجربة يمكن أن أقدمها‬ ‫ت��واق��ا أن أنشرها إال للخاصة‬ ‫وال����رك����ود‪ ،‬ع��ل��ى ال���رغ���م من للقارئ‪ .‬أعتقد أن عالقتي بالشعر‬ ‫واألص��دق��اء‪ ،‬الذين كانوا غالباً‬ ‫ال���م���ح���اوالت ال���ج���ادة ال��ت��ي عالقة خاصة وحميمية‪ ،‬لكن معظم‬ ‫يقومون بتسريبها خلسة‪ ،‬بشكل‬ ‫ت���ت���ص���دى ل���ه���ا ال��م��ؤس��س��ات ال �ن �ص��وص ف�ي�م��ا ع ��دا م��ا غ��ام��رت‬ ‫أو بآخر‪ ،‬هنا وهناك‪.‬‬ ‫ال��ث��ق��اف��ي��ة ب��ش��ت��ى أش��ك��ال��ه��ا‪ .‬مبكرا بنشره ف��ي بعض الصحف‬ ‫طبعت مجموعتين قصصيتين‬ ‫تسرب بشكل ما ‪ -‬كما ذك��رت قبل‬ ‫ول��دي بعض األعمال المؤجلة‪ ،‬أج����م����ل م�����ا ف�����ي ال���ك���ت���اب���ة‬ ‫قليل ‪ -‬ونشر في بعض الصحف أو‬ ‫ومن بينها رواي��ة أنهيت كتابتها أن�����ه�����ا م���خ���ات���ل���ة ك���وص���ل���ة‬ ‫المواقع اإللكترونية‪ .‬وهو ما جعل‬ ‫م�ط�ل��ع ع ��ام ‪2002‬م‪ ،‬إال أنني ال��رع��د التي ق��د تداهمك‬ ‫بعض القراء يتوهم أن ل��دي نتاجا‬ ‫ل��م أطبعها ب�ع��د‪ .‬رب�م��ا واتتني ف������ي أي��������ة ل����ح����ظ����ة‪ ،‬وف����ي‬ ‫شعريا يستحق النشر‪ .‬الوقوف على‬ ‫في بعض األحيان فكرة القيام أي م���ك���ان ب��ي��د أن أف��ض��ل‬ ‫المشهد الشعري الهائل على مدى‬ ‫بطباعتها ول�ك�ن�ن��ي أح �ج��م في أوق���ات���ه���ا س����اع����ات ال��ل��ي��ل‪.‬‬ ‫التاريخ العربي بحد ذات��ه يضاعف‬ ‫اللحظات األخ�ي��رة‪ .‬ولئال أق��ول إنني أع��رف أي‬ ‫مصير ينتظرها فإن مسألة العزوف عن طباعتها‬ ‫تل ّح عليّ بمرور الوقت أكثر مما يل ُّح عليّ نشرها‪،‬‬ ‫وهناك أكثر من مشروع أعمل عليه اآلن‪.‬‬

‫ ‬

‫ح��ال��ة ال�ح��ذر م��ن خ��وض المغامرة‬ ‫أكثر مما يغري بمحاكاة التجارب أو استنساخها‬ ‫كما يحدث اآلن‪ ،‬إال إذا استثنينا بعض الشعراء‬ ‫العظام‪ ،‬الذين ما زالوا يقدمون النص المتجاوز‪،‬‬ ‫وي �ض �خ��ون أك �س �ي��ر ال �ح �ي��اة ف��ي روح ال�ق�ص�ي��دة‬ ‫العربية‪.‬‬

‫< م����ا ت��ق��ي��ي��م ال�����درع�����ان ل���ل���ح���رك���ة األدب����ي����ة‬

‫‪92‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ > ل�س��ت م��ؤه�لا لتقييم ال�ح��رك��ة ال�ث�ق��اف�ي��ة على‬ ‫اإلط�لاق‪ ،‬وإذا كان ال بد من ذلك فإنني أقول‬ ‫بمنتهى الصراحة‪ :‬إن ق��راءة سريعة لألنشطة‬ ‫اإلنسانية في كل مناحي الحياة‪ ،‬هي المرآة‬ ‫التي أعتقد أنها تعبر بشكل مباشر عن الحياة‬ ‫الثقافية في داخ��ل أي مجتمع‪ ،‬وليس بعملية‬ ‫إحصائية لعدد الشعراء والكتاب والمثقفين‬ ‫ورب���ط���ه���ا ب���ث���ق���اف���ات ال���م���ن���اط���ق األخ�����رى‬ ‫واألك��ادي �م �ي �ي��ن؛ وب �ه��ذا ال�م�ع�ن��ى‪ ،‬ف��إن الحركة‬ ‫وت��راث��ه��ا‪ ،‬ف��ي رأي���ك‪ ،‬م��ا م��دى قيامها بهذا‬ ‫الثقافية في المملكة عموما ما زالت تعاني من‬ ‫ال���دور المنوط بها؟ وه��ل حققت الهدف‬ ‫االنفصام والركود‪ ،‬على الرغم من المحاوالت‬ ‫من تأسيسها؟‬ ‫الجادة التي تتصدى لها المؤسسات الثقافية‬ ‫بشتى أشكالها‪ .‬أقول هذا وأنا أضع في االعتبار > إشكالية األندية األدبية أنها تتجه كثيرا إلى‬ ‫استنساخ نشاطاتها من بعضها بعضا‪ ،‬لكن‬ ‫أن ال��ري��اض احتفلت ع��ام ‪2000‬م باختيارها‬ ‫ه��ذا الحكم ليس تعميما على كل األندية‪،‬‬ ‫ع��اص�م��ة للثقافة ال�ع��رب�ي��ة‪ ..‬ت��أم��ل م�ع��ي كيف‬ ‫فهناك تفاوت كبير بين هذه األندية‪ ،‬يتعذر‬ ‫تمارس الوصاية على المؤسسات الثقافية في‬ ‫معه أن تضعها في سلة واحدة‪ .‬ولإلنصاف‪،‬‬ ‫عاصمة ثقافية عام ‪2008‬م مثال؟!‬ ‫دع �ن��ي أع �ت��رف أن ت�ج��رب��ة ن ��ادي المنطقة‬ ‫< ما أفضل أوقات الكتابة لديك؟‬ ‫ال�ش��رق�ي��ة م�ث�لا م�ث�ي��رة وم �ت �م �ي��زة‪ ،‬وم��واك�ب��ة‬ ‫> ليس للكتابة مواعيد مسبقة‪ ،‬فأجمل ما في الكتابة‬ ‫لتطلعات المثقفين إلى حد بعيد في العهد‬ ‫أنها مخاتلة‪ ،‬كوصلة الرعد التي قد تداهمك في‬ ‫الجديد ل �ل��وزارة‪ ،‬أعني بعد انتقال األندية‬ ‫أية لحظة‪ ،‬وفي أي مكان؛ بيد إن أفضل األوقات‬ ‫إلى عهدتها‪ .‬هناك أيضا نادي حائل الذي‬ ‫التي أكون في ضيافتها هي ساعات الليل‪ ،‬حين‬ ‫ك��ان الف �ت��ا ح �ق��ا‪ ،‬واس �ت �ط��اع أن‬ ‫أل � ��وذ ب �م �ك �ت �ب �ت��ي‪ ..‬ف�ل�ا أح��د‬ ‫يثب وثبات فوق التوقعات خارج‬ ‫يقاطعني أو يبدد أف �ك��اري‪..‬‬ ‫ش��روط ال�م��دن المركزية؛ بيد‬ ‫أقرأ أو أكتب‪ ..‬ثم أقرأ حتى‬ ‫أن تحقيق األهداف يبقى أمرا‬ ‫مطلع الفجر‪ ،‬أقرأ إلى الحد‬ ‫م �ت �ع��ذرا‪ ،‬ف��أه��داف المؤسسة‬ ‫الذي معه أنسى الكتابة‪.‬‬ ‫الثقافية ليست جامدة‪ ..‬وإنما‬ ‫م �ت �ح � ّول��ة‪ ،‬ل �ك��ن ن �ج��اح ال �ن��ادي‬ ‫< ت���ع���د األن����دي����ة األدب���ي���ة‬ ‫مرهون بمالحقة هذه التحوالت‬ ‫ال�����واج�����ه�����ات ال���ث���ق���اف���ي���ة‬ ‫ومواكبتها بالشكل المتناغم مع‬ ‫ل����م����ن����اط����ق����ه����ا‪ ..‬وج������دت‬ ‫حركة المجتمع عموما‪.‬‬ ‫إلث���راء ثقافتها وتراثها‬

‫م������������������واج������������������ه������������������ات‬

‫والثقافية في منطقة الجوف خاصة وفي‬ ‫مناطق المملكة عامة؟‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪93‬‬


‫البعد السوسيولوجي للعوملة الثقافية‬ ‫> محمد علي قدس‬

‫ون��ح��ن نجمع أوراق��ن��ا‪ ،‬ونقلب ملفاتنا‪ ،‬نقف ف��ي حيرة‬ ‫نتأمل كل ش��يء‪ ،‬وتساورنا الشكوك في أفكارنا ومشاريعنا‪،‬‬ ‫وتأخذنا تأويالتنا بعد تخيالتنا‪ ،‬نحو خيال بعيد‪ .‬ونصطدم‬ ‫بواقع ما وصلت إليه رموزنا الثقافية‪ ،‬في تهاويها وسقوطها‬ ‫في أخطاء‪ ،‬وكأننا نتألم‪ ،‬وقد خاب أملنا في تلك النخب‪،‬‬ ‫التي وثقنا في تفكيرها وآمَ��نّ��ا بقدرتها على أن تصنع لنا‬ ‫نموذجا ثقافيا راقيا‪ ،‬نعتمد ونعوّل عليه في حوارنا وتعاطينا‬ ‫لمنجزات العولمة الثقافية؛ ولكن يبدو أنها فقدت البوصلة‪..‬‬ ‫ونحن ‪ -‬بدورنا ‪ -‬افتقدنا الهوية والمثال‪ ،‬وقد شغلتنا النخب‬ ‫بأسئلة تركت معلقة‪ ،‬ال نجد لها أجوبة محددة‪ ،‬رغم أننا اجتهدنا وحاولنا في حوارات‬ ‫وج��داالت مستميتة‪ .‬بحثنا خاللها عن المعنى الحقيقي للثقافة‪ ،‬واقتفينا أثر تلك‬ ‫البصمة الغائبة للمثقف‪ ،‬ودور المثقف في مجتمعاتنا!!‬ ‫ف�ه��ل أغ��رق�ن��ا أنفسنا ف��ي المفاهيم ف��ي اس �ت �ع��دادن��ا وت��أق�ل�م�ن��ا م��ع ت �ط��ورات‬ ‫العميقة لعولمة الثقافة ومتاهاتها؟ أم العالم الجديد‪ ،‬وأخذ منا ذلك الكثير من‬ ‫بالغنا ف��ي تعاطينا وتعاملنا م��ع المد‬ ‫المعلوماتي الجارف؟‬

‫التضحيات!! في وقت كنا مطالبين فيه‬ ‫كمثقفين وإعالميين ومفكرين للتعامل مع‬

‫ل�ق��د وق�ف�ن��ا م��ع ال �ع��ال��م ف��ي مواجهة النظام العالمي الجديد‪ ،‬والعولمة الثقافية‬ ‫ك��ل التحديات الكبيرة والخطيرة‪ ،‬منذ الجامحة‪ ،‬دون تردد أو تشكيك؛فاندفعنا‬ ‫مطلع ه��ذا القرن‪ ،‬وأخذنا وقتا وجهدا‬

‫‪94‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫ونحن متأثرون بكل اإلغ��راءات‪ ،‬ونسينا‬


‫بشكل ج �ي��د‪ ،‬م��ا يتناسب م��ع قناعاتنا ألبسناه ثوب الثقافة‪ ,‬ما يميزه من صفات‬ ‫ومعتقداتنا وخصوصياتنا‪ .‬فهل كنا حقا تعد من خصوصيات تركيبته االجتماعية‬ ‫غير حياديين في اختياراتنا؟ ولماذا لم ال �س �ل��وك �ي��ة واألخ�ل�اق� �ي ��ة ال �م �ث �ل��ى‪ ,‬أم��ا‬ ‫نفكر مليا في انتماءاتنا؟ أم أن انفتاحنا األشخاص الذين ليسوا مؤهلين بالقدر‬ ‫على ثقافة اآلخر لم نقدر له بشكل دقيق نفسه‪ ،‬بهذه الكيفية‪ ،‬غالبا ما يعدون‪،‬‬ ‫وكيفية مستشفة م��ن ال��واق��ع؟ وم��راع��اة طبقا لهذا المفهوم‪ ,‬غير مثقفين‪.‬‬ ‫ظ ��روف مجتمعنا وواق �ع��ه وخصوصية‬

‫وعلى الرغم من تحفظنا واختالفنا‬

‫خالل هويته الثقافية‪ ،‬له دوره االجتماعي‬

‫يمكن أن نتفق عليه م��ن زاوي ��ة أخ��رى‪,‬‬

‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫أنه كان يفترض أن نكون حذرين ومنتقين ال ب��د أن نجد ف��ي ذل��ك اإلن �س��ان ال��ذي‬

‫البيئة االجتماعية لشعوبنا؟ ونحن نعلم ع �ل��ى ب �ع��ض ال �ن �ق��اط ف ��ي ه���ذه ال��رؤي��ة‬ ‫أن المثقف قبل أن يكون مثقفا‪ ،‬بل ومن ‪-‬وهي جديرة بالبحث والتمحيص ‪ -‬وما‬ ‫واإلنساني‪.‬‬

‫أن��ه ليس ف��ي مقدورنا أن نضع معايير‬

‫ف� ��ي ب� �ح ��ث ي��ع��ك��س رؤي � � ��ة ج ��دي ��دة ال�ع�ل��م وال�ث�ق��اف��ة ف��ي م�ك�ي��ال واح� ��د‪ ،‬مع‬ ‫ومختلفة‪ ,‬ي��رى أح��د نقاد الفلسفة‪ ،‬أن إيماننا بأهمية توصيف عمليتي التعليم‬ ‫التعريف االجتماعي (السوسيولوجي) وال�ت�ث�ق�ي��ف؛ وه ��و م��ا دع ��ا ال�ب�ع��ض لكي‬ ‫للثقافة‪ ،‬يعد أكثر شمولية من معنى تلك يصنف المبدعين والصحفيين ليكونوا‬ ‫الكلمة المستهلكة‪ ،‬والتي تستخدم بصورة في مستوى ثقافي واحد‪ ،‬ألنهم من وجهة‬ ‫م�ت�لازم��ة م��ع الكثير م��ن المصطلحات‬

‫نظر خاصة‪ ,‬فئة آثرت أن تقتات ذهنياً‬

‫والمفردات اللفظية؛ مثال ذل��ك‪ :‬الغزو‬

‫من كتاباتها وإبداعاتها‪ ،‬بجهد عصامي‬

‫الثقافي‪ ،‬والمشهد الثقافي‪ ،‬والخصوصية ذاتي التلقي؛ بمعنى أن المثقف األنموذج‪،‬‬ ‫الثقافية‪ ،‬والخلفية الثقافية‪ ،‬وغيرها؛ ه��و اإلن �س��ان ال��ذي وص�ل��ت ب��ه ثقافته‪..‬‬ ‫ل��ذل��ك ن �ج��د أن ال �ث �ق��اف��ة ه��ي ال�م�ع�ي��ار‬

‫وثقافته وحدها إل��ى أن يتبنى المعايير‬

‫الحقيقي لكفاءة األفراد في تخصصاتهم‬

‫األخالقية السامية‪ ،‬وما يستعصى على‬

‫ال �ع �ل �م �ي��ة‪ ،‬وم��ؤه�لات �ه��م اإلب ��داع� �ي ��ة‪ ،‬أو طاقة الفرد العادي‪ ،‬شريطة أن تكون له‬ ‫تحصيلهم المعرفي‪ .‬فالمثقف كما يتفق رؤية فكرية غير عادية وأن تكون مواقفه‬ ‫الكثير من الفالسفة في نظرياتهم‪ ,‬هو‬

‫األخالقية والفكرية نبراساً يسير وفق‬

‫الشخص ال ��ذي اس�ت�ط��اع أن يصل إلى منهجه السليم ك��ل طالب علم وثقافة‪،‬‬ ‫درج��ة التمكّن واالح �ت��راف ف��ي مجاالت‬

‫فالمثقف ‪ -‬من وجهة النظر هذه ‪ -‬فرد‬

‫ال�م�ع��رف��ة المختلفة واإلب� � ��داع‪ ,‬ال�ف�ن��ون عادي‪ ،‬ذو ثقافة غير عادية‪ ،‬وهي تتطابق‬ ‫والموسيقى واألدب‪ ,‬وه��ذا ال يكفي؛ إذ بشكل أو بآخر مع وجهة النظر الفلسفية‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪95‬‬


‫التي أشرنا إليها‪ ،‬والتي تشير إلى أن المفهوم‬

‫ثقافة األفراد أو تشابه وعيهم بهيمنة فكرة‬

‫الشامل للثقافة يتم تعريفه اجتماعياً‪.‬‬

‫م��ا‪ ،‬أو رأي واح���د‪ ،‬وإال‪ ..‬ل�م��ا ك��ان هناك‬

‫وإذا أردنا أن نحدد مقياس الوعي الذي ح��وار تتالقى فيه األف�ك��ار‪ ،‬وتتناهى ال��رؤى‬ ‫يتمتع به كل مجتمع‪ ،‬نجد أنه يتحدد من خالل ف��ي سيمفونية هرمونية تشكل ال��وع��ي‪ ،‬أو‬

‫مستوى ذلك الوعي‪ ،‬وماهية (متكيفاته) على الوعاء الثقافي الذي يكوّن ثقافة المجتمع‪.‬‬ ‫حد تعبير الفالسفة‪ ,‬باعتبار أن لكل مجتمع‬

‫ومن هنا‪ ،‬كان علينا أن ندرك استحالة شيوع‬

‫ثقافته الخاصة‪ ،‬والفئة المعنية بالثقافة‪ ،‬الثقافة الواحدة في العالم‪.‬‬ ‫والتي يطلق عليها (النخبة)‪ ,‬يعدون الوعا َء‬

‫م��ن خ�ل�ال ه��ذا ال�م�ف�ه��وم‪ ،‬ووف �ق �اً لبعده‬

‫لثقافة المجتمع‪.‬‬

‫المعرفي للثقافة؛ فإن المثقفين هم الذين‬

‫ألفراد المجتمع‪ ،‬وتشكل الوعي العام واألساس‬

‫ونبض توهجاته وانطفاءاته؛ وهم المسئولون‬

‫ال �ث �ق��اف��ة ح �س��ب رأي أح� ��د ال �ف�لاس �ف��ة ي �ح �م �ل��ون ف ��ي أع �م��اق �ه��م ك ��ل م �ت �ن��اق �ض��ات‬ ‫االجتماعيين‪ ,‬تقوم بتنظيم الحاجات األولية مجتمعهم‪ ،‬وس�ل�ب�ي��ات��ه‪ ،‬وض �ع �ف��ه‪ ،‬وع�ي��وب��ه‪،‬‬

‫له‪ ،‬وما أسماه الفيلسوف الباحث (احتياجات)‪،‬‬ ‫إنما هو معطيات لحاجات المجتمع في إنتاج‬ ‫رواف��د ثقافته وإبداعها؛ فالمجتمع بحاجة‬ ‫إل��ى األف�ك��ار وال ��رؤى واآلراء والخطط‪ ،‬مع‬ ‫األخ��ذ بمؤثرات العادات والتقاليد وأنماط‬ ‫السلوك‪ ,‬واللغة بمصطلحاتها ومفرداتها‪-‬‬ ‫التي يتحدث الناس بها ويكتبون ويفهمون‪-‬‬

‫ع��ن ال� �ت ��وازن ال�م�ف�ت��رض ف��ي األخ���ذ بنمط‬ ‫العولمة الثقافية‪ ،‬واالنفتاح غير المقنن مع‬ ‫اآلخ��ر؛ وه��ذا ما يقودنا لتوقع ح��دوث أزمة‬ ‫ثقافية عالمية شبيهة ب��األزم��ة االقتصادية‬ ‫الرأسمالية الراهنة‪.‬‬ ‫تحضرني اآلن‪ ..‬مقولة لجان جاك روسو‬

‫وأن��واع الطعام والمالبس والطرز المعمارية مفادها‪ ،‬أنه «إذا كانت الحضارة هي المظهر‬ ‫واألنساق االجتماعية‪ .‬وتعمل الثقافة على ال�م��ادي للثقافة‪ ,‬ألنها تترجم الثقافة إلى‬ ‫تنظيم المعطيات وصياغة نمطها الهرموني ألوان مختلفة من اإلبداع في الفكر اإلنساني؛‬ ‫ال�م�ت�ن��اغ��م وال �م �ت �ن��اس��ق‪ .‬وي��أت��ي االخ �ت�لاف فإن هذه اآلداب والفنون تدل على أن الثقافة‬

‫الثقافي تبعاً لالختالفات الجغرافية والبيئة تبقى في كل أمة رم��زاً لتراث يخصها على‬ ‫االجتماعية واالقتصادية والسياسية‪ .‬إال أننا مدى تاريخها‪ ،‬ويخلد هذا التاريخ‪ ،‬صانعوها‬ ‫ال ب��د أن ن��درك أن ه��ذا التوحد أو التميز‬ ‫الذي تفرضه الظروف والبيئات على ثقافة‬

‫وم�ح��رك��و ديناميكيتها‪,‬الذين ه��م مثقفوها‬ ‫ال �ح �ق �ي �ق �ي��ون؛ وه���م أي �ض��ا ال � �ق� ��ادرون على‬

‫كل مجتمع ووعيه‪ ،‬ال يعني بالضرورة تناسخ إسقاطها وطمس معالمها‪ ،‬إن أرادوا‪.‬‬ ‫* كاتب من السعودية‪.‬‬

‫‪96‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫األعمال األدبية بني الترجمة والتعريب‬ ‫> محمود عبداحلافظ خلف الله‬

‫يجمع الباحثون بوجود عالقة بين النهضة العلمية واألدبية‬ ‫وبين الترجمة‪ .‬والتاريخ أثبت ذلك دون أن يدع مجالاً للشك؛‬ ‫فحلقة الوصل التي ربطت بين النهضة العربية اإلسالمية‪،‬‬ ‫والنهضة األورب��ي��ة ه��ي الترجمة‪ .‬لقد أعطى علماء اإلس�لام‬ ‫أيضا أن العلم العربي قد‬ ‫العلم األوربي قوة دفع هائلة‪ .‬والمؤكد ً‬ ‫اكتسب مادة أدت إلى ثرائه بدرجة ال نظير لها‪ ..‬بفضل التعريب‬ ‫والترجمات عن اإلغريق والفرس والرومان؛ الذي بدوره قد ترتب عليه إنتاج علمي هائل‬ ‫حققوه بأنفسهم ألول مرة في تاريخ اإلنسانية‪ ،‬وكان يحمل ذاتيتهم المستقلة وطابعهم‬ ‫الخاص‪.‬‬ ‫وي �ق��ودن��ا ذل��ك إل��ى التسليم ب��أن��ه من‬ ‫غير المعقول أن تحقق الترجمة أهدافها‪،‬‬ ‫وب�م�ع�ن��ى آخ ��ر أن ي �ك��ون ه �ن��اك ترجمات‬ ‫دقيقة تحقق النهضة سالفة الذكر‪ ،‬دون‬ ‫وجود مترجمين أكفياء قد صنعوا ذلك‪.‬‬ ‫فقد ذكر محمد عناني في كتابه «فن‬ ‫الترجمة» أن الترجمة من الفنون‪ ،‬وليست‬ ‫مجرد علم من العلوم»‪ ،‬فهي في رأيه تتطلب‬ ‫الموهبة إلى جانب المهارة واإلبداع(‪.)1‬‬ ‫وربما‪ ،‬نظرًا ألن مهارة المترجم شيء‬ ‫ال يقبل النقاش؛ فإن معظم الكتابات في‬

‫ه��ذا ال�م�ج��ال رك ��زت ع�ل��ى ع�ل��م الترجمة‬ ‫نفسه‪ ،‬ولم تركز على خصائص المترجم –‬ ‫على األقل ‪ -‬بالقدر الذي يصلح السكوت‬ ‫ب��ع��ده؛ م��ا ت��رت �ب��ت ع�ل�ي��ه م �ش �ك�لات جمة‬ ‫َضا؛ ألنها تحتاج إلى‬ ‫يصعب حصرها عَ ر ً‬ ‫دراس��ة خاصة‪ ،‬إال أن األستاذ العقاد في‬ ‫كتابه»أشتات مجتمعات بين اللغة واألدب»‬ ‫حصر هذه القضية في رؤية ‪ -‬أراها جامعة‬ ‫مانعة ‪ -‬مؤداها‪ :‬أن الترجمات الهزيلة أو‬ ‫المضللة – كما يراها ‪ -‬ناتجة عن كون‬ ‫ال�م�ت��رج��م طفيليًا ع�ل��ى ال�ل�غ��ة ال�ت��ي ينقل‬ ‫منها‪ ،‬واللغة التي ينقل إليها‪ .‬فليس العجز‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪97‬‬


‫ترجمتها ثانية إلى لغتها األصلية‪.‬‬

‫في ألفاظ العربية في وصف المعاني واألفكار‬ ‫واألحاسيس في اللغة األجنبية؛ إنما العجز في‬ ‫فأهم هذه اإلشكاليات التي يقع فيها بعض‬ ‫المترجم نفسه ال��ذي ال يستطيع أن يعبّر عنها المترجمين – وال سيما ف��ي ترجمة األع�م��ال‬ ‫بأي لغة من اللغات‪ ..‬أجنبية كانت أم وطنية‪ ،‬وال األدبية‪ -‬عدم الفصل بين مصطلحي الترجمة‬ ‫يستطيع من فهمها‪ ،‬ف��وق ما يستطيعه القارئ والتعريب‪ ..‬وما يترتب عليهما من تبعيات وشروط‬ ‫الشرقي أو الغربي‪ ،‬وهو يتصفح عملاً أدبيًا(‪.)2‬‬ ‫ومهارات‪ ..‬وخصائص يلتزم بها المترجم‪.‬‬ ‫وما يزيد القضية تعقيدًا أن الترجمة تكون‬ ‫وق��د أرج��ع بعض الباحثين ه��ذا الخلط إلى‬ ‫هزيلة في المجتمعات التي هي في أمس الحاجة الفروق الطفيفة التي صاحبت تطور علم الترجمة‬ ‫إليها‪ ،‬على عكس المجتمعات المتقدمة التي على مر العصور؛ فقد ع �رّف سيبويه التعريب‬ ‫يحسب إنتاجها المترجَ م من العلم واألدب بوحدة على أنه نقل اللفظ األعجمي إلى العربية‪ ،‬ويتم‬ ‫الثانية‪ ،‬والدليل على ذلك في واقعنا الذي نحياه‪ ،‬استعماله كما ه��و دون تغيير‪ .‬أم��ا الجوهري‪،‬‬ ‫ثابت بلغة العلم في كل الدول المتقدمة‪ ،‬وراسخ ف �ي��رى أن ال�ت�ع��ري��ب ه��و ن�ق��ل ال�ل�ف��ظ األعجمي‬ ‫في التاريخ؛ فالحضارة العربية اإلسالمية استقت إلى العربية شريطة صياغته على أوزان وأبنية‬ ‫رواف��ده��ا م��ن ت��رج�م��ة وت�ع��ري��ب ف��رز ح �ض��ارات وقياسات العربية(‪.)3‬‬ ‫اإلغريق والفرس‪ ..‬إلخ‪ ،‬كما سلف ذكره‪.‬‬ ‫ويستخلص مما سبق‪ ،‬أن سيبويه ال يشترط‬

‫وذل��ك يؤكد على ض��رورة إع��ادة النظر ف��ي بعض‬ ‫القضايا ذات الصلة بعلم الترجمة‪ ،‬مثل‪ :‬إعادة النظر‬ ‫في برامج الكليات التي تخرِّج المترجمين‪ ،‬واالطالع‬ ‫على برامج الترجمة التخصصية التي تتبناها بعض‬ ‫الجامعات في الغرب؛ فمن الصعب في واقعنا الذي‬ ‫نحياه أن يصير لدينا اآلن مترجمون موسوعيون – إن‬ ‫ج��از التعبير‪ -‬على نهج سلفنا إب��ان عصور النهضة‬ ‫العربية اإلسالمية‪ ،‬ولكن الخيار المتاح هواالطالع على‬ ‫تجارب من ينسب إليهم التقدم في هذا المجال اآلن‪.‬‬

‫في تعريب الكلمة أن تخضع ل�لأوزان العربية‪،‬‬ ‫إال أنه لم ير بأسً ا من أن تتخد الكلمة حروفًا‬ ‫غير حروفها‪ .‬وسار على نهجه كثير من العلماء‬ ‫لفترات زمنية متباعدة‪ .‬ولكن الجوهري يخالفه‬ ‫في ذلك‪ ،‬ويشترط أن تجيئ الكلمة المعربة على‬ ‫وزن الكلمة العربية‪ ،‬وتبعه ف��ي ذل��ك كثير من‬ ‫علماء النحو‪.‬‬ ‫وب� ��ذا‪ ،‬ف��إن ال�ت�ع��ري��ب يشمل ال�ت��رج�م��ة؛ ألن‬ ‫الثانية تعني نقل معاني األلفاظ واألساليب من‬ ‫لغة إلى أخرى؛ أي أنها عملية تحويل النص في‬ ‫إحدى اللغات إلى إنتاج لغوي في لغة أخرى‪ ،‬مع‬ ‫المحافظة على المعاني الثابتة؛ وعليه‪ ،‬فإنه إذا‬ ‫كان التعريب ينصرف إلى اللفظ‪ ،‬فإن الترجمة‬ ‫تنصرف إلى المعنى(‪.)4‬‬

‫ومن أشهر ما تبتلى به ترجماتنا في العالم‬ ‫العربي‪ ،‬عدم فهم بعض المترجمين لحدود هذا‬ ‫العلم وخصائصه‪ ..‬والفرق بين مصطلحاته وما‬ ‫يفرضه هذا المصطلح عن غيره من خصائص‬ ‫وشروط يلتزم بها المترجم‪ ،‬إذ يقتصر حدود علم‬ ‫بعض هؤالء المترجمين في هذا العلم على إتقان‬ ‫وقد أكد محمد المنجي على تطور داللة هذين‬ ‫لغة النص األصلي‪ ..‬واللغة التي سوف ينقل إليها اللفظين بقوله‪ :‬لقد ا ُستُخدم مصطلح التعريب‬ ‫هذا النص نفسه؛ فتخرج هذه النصوص مسوخً ا مرادفًا للترجمة في العصر العباسي‪ ،‬إال أن بعض‬ ‫مفقودة الهوية‪ ،‬تائهة المعالم‪ ،‬قد ال يستطيع المعاصرين قد توسعوا في فهم مدلول التعريب‪،‬‬ ‫مبدعها األص �ل��ي ال�ت�ع��رف عليها‪ ..‬ل��و أعيدت وأض��اف��وا إليه بعض المالمح ال��دالل�ي��ة؛ فحركة‬

‫‪98‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫إذ كان يقال‪ :‬أعرب األعجمي إعرابًا‬ ‫وتعّرب تعربًا‪ ،‬واستعرب استعرابًا إذا‬ ‫تكلم العربية وأفصح بها‪ ،‬كما يقال‬ ‫تعّرب األعجمي إذا تشبه بالعرب؛ أي‬ ‫تزيا بزيهم‪ ،‬وتصرف تصرفهم(‪.)6‬‬

‫وب �ن��ا ًء عليه فثمة س��ؤال يطرح‬ ‫نفسه‪ :‬ما مواصفات العمل األدبي‬ ‫ال �م �ت��رج��م ال� ��ذي ي �ن��أى ع��ن دالل��ة‬ ‫مصطلح ال�ت�ع��ري��ب ك�م��ا ورد ذك��ره‬ ‫آنفًا؟‬

‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫الفتح اإلس�لام��ي ك��ان��ت ‪ -‬ف��ي ن�ظ��ره��م‪ -‬تعريبًا وع��ادات��ه وت�ق��ال�ي��ده؛ ف�ي�ك��ون ب��ذل��ك ج�م� ًع��ا بين‬ ‫للشعوب – بكل ثقافاتها وآداب�ه��ا ‪ -‬التي دخلت األصالة والمعاصرة‪ .‬أما المصطلح الثاني‪ ،‬فهو‬ ‫الترجمة‪ ،‬ويعني نقل مفهوم أو نص معين من لغة‬ ‫اإلسالم وتكلمت العربية(‪.)5‬‬ ‫وي��رى محمد حسن عبدالعزيز أن مثل هذا أعجمية إلى العربية – مثالً‪ ،-‬مع المحافظة‬ ‫على داللته وخصائصه األصلية في‬ ‫التوسع في مفهوم المصطلح ينطلق‬ ‫اللغة التي نقل منها‪.‬‬ ‫من المفهوم اللغوي العرفي للكلمة‪،‬‬

‫يقول محمد عناني ف��ي كتابه‪،‬‬ ‫وم ��ن خ�ل�ال اس �ت �ق��راء ك��ل اآلراء‬ ‫عباس محمود العقاد‬ ‫«ف��ن ال�ت��رج�م��ة‪ :‬إن عمل المترجم‬ ‫ال�س��اب�ق��ة‪ ،‬ف��إن��ه يتضح ال�ت��داخ��ل بين‬ ‫مصطلحي التعريب والترجمة‪ ،‬إال أن مصطلح يتطلب إع��ادة بناء أفكار الكاتب األصلي‪ ،‬بما‬ ‫التعريب قد تطورت داللته بشكل ملحوظ‪ ،‬وال سيما يتسق مع نظام اللغة المترجم إليها‪ ،‬ومع نوعية‬ ‫في العصر الحديث‪ ..‬نظرًا لعدة عوامل تاريخية القراء الجدد دون تصرف في داللة ومضمون‬ ‫وثقافية وسياسية واجتماعية؛ حتى أضحى ينظر النص األصلي(‪.)10‬‬ ‫ل��ه على أن��ه عملية إب��داع�ي��ة تعتمد على الخلق‬ ‫وعليه‪ ،‬فإنه إذا كان األدي��ب يتمتع بالحرية‬ ‫والتفاعل السوي بين الواقع والمجتمع‪.‬‬ ‫الكافية ف��ي صياغة أف�ك��اره على النحو ال��ذي‬

‫وق��د ع�ب��ر ع��ن ذل��ك س�م��ر روح ��ي ب�ق��ول��ه‪ :‬إن يراه؛ فإن المترجم مقيد بقيود اللغة التي يترجم‬ ‫ال عن‬ ‫التعريب هو تمثل العمل األدبي في اللغة التي كُتب إليها‪ ،‬ونوعية القراء المستهدفين‪ ،‬فض ً‬ ‫بها‪ ،‬ثم التعبير عنه باللغة العربية‪ ..‬برؤية نابعة األفكار األصلية للمؤلف التي ينبغي الحفاظ‬ ‫من ثقافة هذه األمة(‪.)7‬‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫ويؤكد ذلك أنطوان مقدسي بقوله‪ :‬إن التعريب‬ ‫هو تعريب العقل‪ ،‬أي أن تكون لنا رؤيتنا المستقبلية‪،‬‬ ‫وأن نتمثل ح�ض��ارة اآلخ��ري��ن‪ ،‬ونمتصها‪ ،‬ونعيد‬ ‫فرزها بما يتالءم مع شخصيتنا الحضارية(‪.)8‬‬ ‫ويضيف علي مدكور إلى ما سبق‪ ..‬إذ يرى أن‬ ‫التعريب قراءة وترجمة نتاج الغير في ضوء رؤيتنا‬ ‫المتميزة لأللوهية‪ ،‬والكون‪ ،‬واإلنسان والحياة(‪.)9‬‬

‫ويؤكد ذلك األستاذ العقاد بقوله‪ :‬إن المترجم‬ ‫ت�ل��زم��ه ُع ��دة ك��ام�ل��ة م �ن � ّوع��ة تتجمع م��ن العلم‬ ‫باللغتين‪ ،‬وم��ن العلم بموضوع المعرفة ال��ذي‬ ‫ينقله من إح��دى اللغتين إلى األخ��رى‪ ،‬ومعرفة‬ ‫وافية بثقافة المجتمع الذي عاش فيه األديب‪.‬‬ ‫إض��اف��ة إل��ى حصة واف �ي��ة م��ن المعلومات في‬ ‫عصره‪ ،‬وإن لم تكن لها عالقة مباشرة بموضوع‬ ‫الكتاب المترجم(‪.)11‬‬

‫وت ��أس� �ي ��سً ��ا ع��ل��ى م� ��ا س� �ب ��ق‪ ،‬ف � ��إن ه �ن��اك‬ ‫وب� ��ذا‪ ،‬ف ��إن ال �ع �ق��اد ي�ق�ص��ر ال �ت��رج �م��ة على‬ ‫مصطلحين بداللتين مختلفتين‪ ،‬األول التعريب‪،‬‬ ‫ال مع النص‪ ،‬ينتج عنه خلق وإبداع المتخصصين في مجال المعرفة المراد الترجمة‬ ‫ويعني تفاع ً‬ ‫متسق مع أصالة المجتمع وتصوراته وعقيدته فيه‪ ،‬مع اإللمام باللغتين المنقول عنها والمنقول‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪99‬‬


‫إليها‪ ،‬إضافة إلى الفهم الجيد لثقافة المجتمع أو جرمانية؛ وذلك فقط ألنه أديب(‪.)12‬‬ ‫ال��ذي ينسب إليه األدي��ب أو ال�م�ب��دع؛ حتى ال‬ ‫إذاً‪ ،‬ف�لا يكفي لترجمة األع �م��ال األدب �ي��ة‬ ‫يلجأ المترجم إلى التأويل أو التخريج المبني‬ ‫حب األدب أو االنتساب إلى المتخصصين في‬ ‫على ثقافته المنطلقة من واقع مغاير‪ ،‬وعادات‬ ‫الترجمة العامة ممن يتقنون لغتين أو أكثر؛‬ ‫وتقاليد قد يصل االختالف بينها وبين ما يرمي‬ ‫فترجمة األعمال األدبية ال تحتاج إلى حفاظ‬ ‫إليه األدي��ب إلى حد التناقض‪ ،‬وعندئذ يخرج‬ ‫النص عن الترجمة إل��ى التعريب أو التغريب‪ ،‬قواميس فحسب‪.‬‬ ‫سيان بقصد أو دون قصد‪.‬‬ ‫وما ينطبق على الترجمة إلى العربية‪ ،‬ينطبق‬ ‫أيضا على العكس من المترجمين إلى اإلنجليزية‬ ‫ً‬ ‫من العرب أو العجم‪ .‬رحم الله األستاذ العقاد‬ ‫ال��ذي ق��ال‪ :‬كيف يستطيع مترجمًا أجنبياً أن‬ ‫يُفهِ م القارئ‪« :‬قمر على غصن على كثيب‪..‬؟»‪.‬‬

‫متخصصا‬ ‫ً‬ ‫وتأتي أهمية أن يكون المترجم‬ ‫ب �ش �ك��ل ع�� ��ام‪ ،‬وف� ��ي األع � �م� ��ال األدب � �ي� ��ة ع�ل��ى‬ ‫وج��ه ال�خ�ص��وص؛ ن �ظ �رًا ألن ترجمة المعاني‬ ‫واألح��اس �ي��س ال يشعر ب�ه��ا وي�ت�ص��وره��ا ويعبر‬ ‫عنها إال أديب حاذق؛ فاألديب نفسه قد يواجه‬ ‫إن ��ه ف��ي رأي� ��ه أغ� ��رب م��ن خ�ل�ي��ط ال��رس��وم‬ ‫بعض الصعوبات التي سببتها حواجز الزمان أو‬ ‫الكاريكاتورية؛ فالقمر عنده ف��ي لغة الفلك‪،‬‬ ‫المكان والثقافة المغايرة‪ ،‬فما بالنا بمن ال يمت‬ ‫والغصن في لغة النبات‪ ،‬والرمل في لغة طبقات‬ ‫لألدب بصلة إال صفة التطفل غالبًا!‬ ‫األرض؛ فأنى له أن يجمع هذا الشتات؛ ليعرف‬ ‫ويسوق األستاذ العقاد مثاالً على ذلك‪« :‬لعل‬ ‫أن المقصود به‪ :‬إشراق على اعتدال على فراهة‬ ‫األستاذ البستاني لم يزعم بينه وبين نفسه‪ ،‬أو‬ ‫يتحرك به قوام رشيق(‪.)13‬‬ ‫بينه وبين ق��رائ��ه أن��ه ي�ض��ارع ه��وم�ي��روس‪ ..‬إال‬ ‫أخيرًا ال يسعني إال أن أقول صدقت الحكمة‬ ‫أن��ه قد ترجم اإلل�ي��اذة من لغتها األصلية‪ ،‬كما‬ ‫ترجمها األوربيون إلى لغاتهم المختلفة التينية القائلة‪ :‬إن األخطاء ال يعجل إليها الموت‪.‬‬ ‫* ‬ ‫(‪ )1‬‬ ‫(‪ )2‬‬ ‫(‪ )3‬‬ ‫(‪ )4‬‬ ‫(‪ )5‬‬ ‫(‪) 6‬‬ ‫(‪ )7‬‬ ‫(‪ )8‬‬ ‫(‪ )9‬‬ ‫(‪) 10‬‬ ‫(‪ )11‬‬ ‫(‪ )12‬‬ ‫(‪ )13‬‬

‫أكاديمي بجامعة الجوف‪.‬‬ ‫محمد عناني‪« :‬فن الترجمة»‪ ،‬الشركة المصرية العلمية للنشر‪ ،‬لونجمان‪ ،1992 ،‬المقدمة‪.‬‬ ‫عباس محمود العقاد‪« ،‬أشتات مجتمعات في اللغة واألدب»‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪ ،6‬ص‪.7‬‬ ‫ابن جني‪« ،‬الخصائص»‪ ،‬الجزء األول»‪ ،‬ص‪.357‬‬ ‫محمد حسن عبدالعزيز‪« :‬التعريب بين القديم والحديث»‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،1990 ،‬ص‪.68 ،67 ،47 ،5‬‬ ‫محمد المنجي الصيادي‪« :‬التعريب في الوطن العربي»‪ ،‬ندوة التعريب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،1982 ،‬ص‬ ‫‪.29‬‬ ‫محمد حسن عبدالعزيز‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.268‬‬ ‫سمر روحي الفيصل‪« :‬المشكلة اللغوية العربية»‪ ،‬مجلة المعرفة‪ ،‬دمشق‪ ،‬السنة ‪ 36‬العدد ‪ ،413‬فبراير‪ ،1998 ،‬ص‪.154‬‬ ‫ال عن رشدي طعيمة وزميليه‪« :‬تعميم التعريب وتطوير الترجمة في سلطنة عمان»‪ ،‬دراسة ميدانية استطالعية‪ ،‬اللجنة‬ ‫نق ً‬ ‫الوطنية العمانية‪ ،‬والمنظمة العربية للتربية والثقافةوالعلوم‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة السلطان قابوس‪ ،1998 ،‬ص ‪.25‬‬ ‫علي أحمد مدكور‪« :‬معلم المستقبل نحو أداء أفضل»‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،2005 ،‬ص‪.280‬‬ ‫محمد عناني‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.111‬‬ ‫عباس محمود العقاد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫العقاد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫العقاد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪ 100‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫ظاهرة التمرد والعصيان عند املراهقني‬ ‫> خوله مناصرة*‬

‫يتكلم اآلباء واألمهات بمنتهى الحرقة واأللم‪ ،‬عن أبنائهم المراهقين‪ :‬ابني متمرد‪..‬ابني‬ ‫يدخن‪ ..‬ابني ال يسـتمع إلى كالمي‪ ،‬ويرفض نصائحي‪ ..‬يسـبب المشـاكل داخل البيت وخارجه‪.‬‬ ‫إنها ظـاهرة التمرد لدى المراهقين؛ مـا هي أسـبابها؟ وكيف نتعامل معها؟‬ ‫في مرحلة المراهقة‪ ،‬يتعرض الطفل لتغيرات‬ ‫ه��رم��ون�ي��ة وج �س��دي��ة ك �ب �ي��رة‪ ،‬فينتج ع�ن�ه��ا الكثير‬ ‫م��ن تقلبات ال �م��زاج‪ ،‬وت��ذب��ذب اآلراء واألحاسيس‬ ‫واالنفعاالت؛ فهو مشتت وحائر؛ يفتقر غالبا إلى‬ ‫الثقة بالنفس‪ ،‬ويشـعر بالخوف والتردد‪ ،‬كما يتصف‬ ‫المراهق في هذه المرحلة بالتمرد وعصيان األوامر‪،‬‬ ‫وي ��رف ��ض األوام � � ��ر م��دف��وع��ا‬ ‫برغبة ث�ب��ات ذات ��ه‪ ،‬وال�خ��روج‬ ‫على العادات والتقاليد‪.‬‬

‫واللباس‪ ،‬وقصة الشعر‪ ،‬ما يدفع االب��ن المراهق‬ ‫إلى التمرد ورفض االنصياع آلراء األهل وأوامرهم‪،‬‬ ‫ويعقد األم��ور أكثر‪ ،‬وح��دوث مواجهات ح��ادة بين‬ ‫اآلب��اء واألبناء‪ ،‬قد ت��ؤدي إلى انعدام االحترام بين‬ ‫الطرفين‪ ،‬أو تشرد األبناء؛ ومن ثم تفكك األسرة‪.‬‬

‫ول�� �ت�� �ج�� �ن� ��ب م� � �ث � ��ل ه � ��ذه‬ ‫ال �م��واج �ه��ات‪ ،‬ي�ج��ب التعامل‬ ‫م���ع ال� �م ��راه ��ق ب� � ��ود‪ ،‬وع �ل��ى‬ ‫أساس من الصداقة‪ ،‬ومنحه‬ ‫وفي المقابل؛ يمارس بعض‬ ‫مساحة من الحرية‪ ،‬واحترام‬ ‫اآلباء الديكتاتورية في تعاملهم‬ ‫عقله بتوضيح سـبب ما يطلب‬ ‫م��ع األب� �ن ��اء‪ ،‬وال يسـتوعبون‬ ‫منه أن يفعله‪ ،‬وليس بفرضه‬ ‫خ �ص��وص �ي��ة ال �م��رح �ل��ة ال �ت��ي‬ ‫ع�ل�ي��ه ف��رض��ا‪ ،‬وت �ع��زي��ز ثقته‬ ‫ي� �م ��رون ب �ه��ا وح �س �ـ��اس �ي �ت �ه��ا‪،‬‬ ‫ب�ن�ف�س��ه م ��ن خ�ل�ال إع �ط��ائ��ه‬ ‫وت �ق��ع ع �ل��ى اآلب � ��اء مسئولية‬ ‫بعض المسئوليات‪ ،‬وإشعاره‬ ‫ك��ب��ي��رة؛ ف �ي �ج��ب أن ي ��درك ��وا‬ ‫ب � ��األم � ��ان‪ ،‬وأن األه� � ��ل ه��م‬ ‫أن هذا التغيير في حياة المراهق يستلزم تغييرا المـالذ الذي يمكن أن يلجأ إليه في أي وقت‪ ،‬بحيث‬ ‫في أسلوب التعامل معه‪ ،‬فاالستمرار في منعه من يواجهون مشاكله ومعاناته بالتفهم والمساندة‪ ،‬وليس‬ ‫الكثير من التصرفات أو األفعال‪ ..‬وإصدار األوامر باللوم والتعنيف المستمرين‪.‬‬ ‫والنواهي‪ ..‬وانتقاده في كثير من أم��وره الخاصة‪:‬‬ ‫ولتربية الطفل وتعريفه بحقوق الوالدين‪ ،‬وآداب‬ ‫كالدراسة‪ ،‬والعمل‪ ،‬والتصرفات‪ ،‬واإلنفاق المالي‪ ،‬التعامل بين أفراد األس��رة‪ ،‬دور كبير في الحد من‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪101‬‬


‫مشكلة التمرد‪ ،‬والحد من أبعادها ونتائجها‪.‬‬ ‫وال يقل دور العالقة بين الوالدين على سلوك‬ ‫المراهق‪ ،‬فالعالقة القائمة على االحترام المتبادل‬ ‫بين األبوين ال بد أن تنعكس على سـلوك الطفل‪ ،‬أما‬ ‫العالقة السـيئة بين الوالدين‪ ..‬فلها عظيم األثر في‬ ‫تعميق المشكلة وتفاقمها‪.‬‬ ‫واله �ت �م��ام ال��وال��دي��ن ب��ال�ط�ف��ل‪ ،‬وإظ �ه��ار الحب‬ ‫واالح �ت��رام له منذ مراحل طفولته المبكرة‪ ..‬دور‬ ‫كبير في تحقيق التقارب‪ ،‬وإيجاد جسور التفاهم‬ ‫وح��ل م�ش�ك�لات س��ن ال �م��راه �ق��ة‪ ،‬ف��إه�م��ال الطفل‬ ‫واالنشغال عنه يوسع الشقة بينه وبين الوالدين‪ ،‬ولن‬ ‫تصبح العالقات متينة بين األبوين والطفل بين ليلة‬ ‫وضحاها‪ ،‬فيلجأ المراهق إليهما عند مواجهته أي‬ ‫مشـكلة‪ ،‬ويستمع إلى النصح واإلرشاد ويأخذ به‪.‬‬ ‫أما المدرسة فلها دور كبير في خلق روح التمرد‬ ‫لدى المراهقين‪ ،‬فطريقة التعامل التي يتم فيها تجاوز‬ ‫طموح الطالب وشخصيته‪ ،‬وعدم احترام رأيه‪ ،‬قد‬ ‫تؤدي إلى عدم انسجامه مع هذا الواقع‪ ،‬فيلجأ إلى‬ ‫تحدي النظام المدرسي‪ ،‬وافتعال المشاكل هدفها‬ ‫التمرد والعصيان‪ ،‬لذلك يجب أن تأخذ المدرسـة‬

‫* كاتبة من األردن‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪ 102‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫دورا متفهما لطبيعة ه��ذه المرحلة التي يمر بها‬ ‫الطالب‪ ،‬والعمل على حل المشاكل‪ ،‬بحيث تدرك‬ ‫المدرسة أنها ليست طرفا في المشاكل يبحث عن‬ ‫االنتقام وفرض العقوبات‪ ،‬بل هي الموجه والمربي‪،‬‬ ‫وال �ط��رف األك�ث��ر وع�ي��ا‪ ،‬وق��درة على ح��ل المشاكل‬ ‫واح �ت��وائ �ه��ا وم��واج�ه�ت�ه��ا بصبر وح��رف �ي��ة‪ .‬وتقديم‬ ‫الحلول الواقعية والجذرية‪.‬‬ ‫وأفضل الطرق الحتواء الطالب‪ ،‬هي إشغالهم‬ ‫بمشاريع تستهويهم‪ ،‬بحيث ينفسون عن طاقاتهم‬ ‫بوسائل مفيدة لمدرستهم وألنفسهم‪ ،‬أم��ا التذرع‬ ‫ب�ع��دم وج��ود ال��وق��ت للتخطيط وتنظيم مثل هذه‬ ‫المشـاريع فهو ليس صحيحا؛ فالوقت الذي يضيع‬ ‫في حل المشكالت وتبعاتها يستهلك وقتا وجهدا‬ ‫أكبر من التخطيط لمثل هذه البرامج‪.‬‬ ‫وتلعب طبيعة التكوين النفسي والسلوكي للمراهق‪،‬‬ ‫ومستوى التعليم والثقافة لديه دورا مهما جدا في‬ ‫اتجاهات تمرده؛ فالمراهق يشعر بالقوة والغرور‪،‬‬ ‫ويحس بالرغبة بتكوين ذاته المستقلة واالنفصال‬ ‫عن أسرته‪ ،‬وقد يأخذ هذا التمرد شكال إيجابيا‪..‬‬ ‫بحيث يوظف تمرده في تحقيق تغير إيجابي‪ ،‬أما‬ ‫التعسف واإلهمال‪ ..‬فقد يؤدي بالمراهق المتمرد‬ ‫إلى انحرافات سلوكية يصعب ضبطها والتحكم بها‪:‬‬ ‫كالالمباالة وعدم احترام اآلخرين واإلس��اءة إليهم‪،‬‬ ‫وق��د تتطور تلك االت �ج��اه��ات السلبية وتعبر عن‬ ‫نفسها بعدم احترام القوانين والنظام‪.‬‬


‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫«حلوة» اجلـوفــي‬ ‫> فواز بن صالح اجلعفر‬

‫ما يزال يرعاها ويحرسها‪ ..‬ويخاف عليها نسمة الهواء ولفحة البرد‪..‬‬ ‫وما تزال ترخص لعينيه كل غال عندها‪..‬‬ ‫أحب فيها العطاء‪ ..‬وأحبت فيه الوفاء‪..‬‬ ‫فكيف يكون اللقاء؟!‬ ‫يعاجلها‪ ..‬بضم خاصرتها‪..‬‬ ‫حتى إذا اقترب رأسه من رأسها‪ ..‬وهمسه من همسها‪ ..‬أذاقته ما يشتهي!‬ ‫«عسلٌ في لحاء‪ ..‬معلقٌ في الهواء»!‬

‫لديه قناعة تنامت مع الزمن‪ ..‬بأنها تجسيد لصفاته‬ ‫التي يحبها‪..‬‬ ‫وم��ا ي��زال ف��ي ك��ل ص�ب��اح ي��راه��ا بين أش�ع��ة الشمس‬ ‫الذهبية‪..‬‬ ‫فيرى الثبات‪ ..‬والعطاء‪..‬‬ ‫والشموخ‪ ..‬والنماء‪..‬‬ ‫حتى قرأ رواية ابن عمر لحديث المصطفى صلى الله‬ ‫عليه وسلم‪( :‬ما شجرة تشبه المؤمن)؟!‬ ‫فازداد إيمانا‪..‬‬

‫ثابت وفرعها في السماء»‬ ‫ٌ‬ ‫«أصلها‬ ‫***‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪103‬‬


‫تأمل يوماً‪..‬‬ ‫فوجد صبوحه من تمرِ ها‪..‬‬ ‫وحصيرته من سعفِ ها‪..‬‬ ‫وسقف داره‪ ..‬جذعُها‪..‬‬ ‫وبعض أوانيه‪ ..‬ليفُها‪..‬‬ ‫فعرف أن العطاء ليس له حدود‪..‬‬ ‫ّس من يومها الكرم!‬ ‫وتمر َ‬

‫«نفس تجود‪ ..‬بال حدود»‬ ‫ٌ‬

‫«جوف العطاء»‬

‫***‬

‫هو‪..‬‬

‫وهي‪..‬‬ ‫لم يؤلمها شيء‪ ..‬ألم بعد اليد الحانية عنها‪..‬‬ ‫ونسيا ُن أبنا ِء الكريم‪ ..‬كرمَها‪..‬‬ ‫وفقدُها صاحبَها‪..‬‬

‫لم يؤلمه شيء‪ ..‬كما آلمه نفرة بعض بنيه عنها!‬ ‫ون�ش��وء جيل يتلذذون بالحلوى‪ ..‬ويستنكفون رطباً لو سألتَ الجذعَ‪ ..‬لبثَّك الشوق!‬ ‫جنيا‪..‬‬ ‫وقد فعلها يوماً جذ ُع مسجدِ الرسول صلى الله عليه‬ ‫غاب عنهم طعم «حلوتها»‪ ..‬فلم يعرفوا طعم رعايتها! وسلم‪..‬‬ ‫ما عاد يساورهم حنين‪ ..‬وال يسمعون لها أنيناً!‬ ‫فلم يخب بكاؤُه‪ ..‬حتى ضمَّـــــ ُه الصدر الشريـــــــف!‬ ‫وال يرون فيها‪ ..‬سوى العرجون القديم‪..‬‬ ‫إلى الله أشكو هجمــ ًة هجريةً‪ ..‬تعاودها م ُّر السنين‬ ‫«جذعٌ ‪ ..‬يُ غالبُ ه البكاء»!‬ ‫الغوابر‪.‬‬ ‫فأضحت رزاي ��ا تحمل الطين ب�ع��دم��ا‪ ..‬ك��ان��ت غِ نىً‬ ‫***‬ ‫للمقترين المفاقر‬

‫ِعذق‬

‫حبي لها‪ ..‬ال يعني أني ال أحترم من يفضل غيرها!‬ ‫قد يستطعم أحدنا «السكري» أو «الخْ الص»‪ ..‬وآخر‬ ‫يرى في «الحلوة» الخَ الص‪..‬‬ ‫ولوال اختالف األذواق‪ ،‬لبارت السلع‪..‬‬ ‫الرقي‪ ..‬أن تبدي حبك للشيء‪..‬‬ ‫ثم تبدي حبك لآلخر باحترام رغباته‪« ..‬المشروعة»!‬ ‫* سكاكا ‪ -‬الجوف‪.‬‬

‫‪ 104‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫> نورا علي‬

‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫من روائع األدب األندلسي‬

‫ج�������ب�������ل�������ت ع��������ل��������ى ك���������������در وأن�������������������ت ت�������ري�������ده�������ا‬ ‫ص����������ف����������وا م������������ن اآلالم واألك��������ـ��������ـ��������ـ��������ـ��������ـ��������دار‬ ‫وم������ك������ل������ف األي������ـ������ـ������ـ������ـ������ام ض����ـ����ـ����ـ����ـ����ـ����د ط����ب����اع����ه����ا‬ ‫م�������ت�������ط�������ل�������ب ف�������������ي ال�������������م�������������اء ج���������������������ذوة ن���������ار‬ ‫خلق الله اإلنسان في كبد‪ ,‬حيث يعاني الشقاء في‬ ‫مكابدة وم��ج��اه��دة عيشه‪ ,‬ع�ل�اوة على م��ا يعتريه من‬ ‫أح��داث الدهر‪ ،‬وص��روف القدر‪ ،‬فالدنيا ال تستقر على‬ ‫ح��ال وتتأرجح بين إق��ب��ال وإدب���ار‪ ،‬وق��د يأنس اإلنسان‬ ‫بإقبال بعض األي���ام‪ ،‬ويأمن حيث ال مأمن‪ ،‬فال تلبث‬ ‫أن تنقلب‪ ،‬وتتجهّ م عليه وتثب‪ ،‬كما حصل مع الشاعر‬ ‫األندلسي (ابن زيدون)‪ ،‬هذا الشاعر المسكون بالوجع‬ ‫وال��ش��ج��ن‪ ،‬يشعل ال��ح��روف كلما حلك ال��س��واد‪ ،‬وكلما‬ ‫استبد به الليل واستطال؛ فهو يمثّل مدرسة شعرية في روعة أساليبه‪ ،‬وقدرته الشعرية‬ ‫في تصوير مكنون النفس وخلجاتها‪.‬‬ ‫سَ عِ د ونَعِ م بالوصل مع من أح��ب‪ ،‬وما ح��ظ‪ ،‬إذ ك��ان ال�ف��راق ال��ذي قصم الظهر‪،‬‬

‫لبثت يد القدر أن نزعت األن��س‪ ،‬وبدلت‬ ‫الحال‪ ،‬من قرب ووص��ال‪ ،‬إلى بعد ولوعة‬

‫وأدم��ى القلب‪ ،‬وكأنه صيّب أس��ال المآق‪،‬‬ ‫ف��أورق ال�ح��زن‪ ،‬وام�ت��دت ج��ذوره الرت��وائ��ه‬

‫ون �ك��ال‪ ،‬وك��ذا ال��دن�ي��ا ي��ا ص��اح س �ج��ال‪ ....‬وعدم جفافه حيث يقول‪:‬‬ ‫فيُخيّل لمن يقرأ قصيدته (أضحى التنائي)‬ ‫أن كل بيت سطّ ره بمداد قلبه‪ ،‬وجعل منه‬

‫لحروفه محبرة‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫أضحَ ى التّنائي بَدي ًال عنْ تَدانِ ينَا‬ ‫ْ‬ ‫طيب لُقْ يانَا تجافينَا‬ ‫ِ‬ ‫َونَ���ابَ عَ ��نْ‬ ‫أال ما أقساه من نائب‪ ،‬وما أتعسه من‬

‫بِ نْتُ م وَبِ ��نّ��ا‪ ،‬فَما اب َتل ّْت جَ وَانِ ُحنَا‬ ‫��ت مآقِ ينَا‬ ‫شَ �� ْوق�� ًا إ َل��ي��كُ ��مْ ‪ ،‬وَال جَ ��فّ ْ‬ ‫ويتابع قصيدته بأسلوب سلس رقيق‪،‬‬

‫ي�ث�ي��ر ف��ي ال�ن�ف��س ال �ش �ج��ن‪ ،‬ح�ي��ث يعاتب‬

‫معاتبة المحب الوامق‪ ،‬وكأنه الذليل أمام‬

‫ق��وة ج�ب��ارة‪ ،‬فيتلطف في لومه محبوبته‪،‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪105‬‬


‫إذ‪ ،‬كيف تق ّر عين حاسد‪ ،‬وتُبهج عدو متربص‬ ‫جاحد‪ ،‬فيقول بلغة استعطاف‪:‬‬ ‫ما حقّ نا أن ت ُِقرّوا عينَ ذي حَ سَ ٍد‬ ‫كاشح ًا فِ ينَا‬ ‫بِ نا‪ ،‬وال أن َت ُ��س��رّوا ِ‬ ‫ويصف حاله بعد البين‪ ,‬وهيجان الشوق‪ ،‬علّها‬ ‫ترأف وتحن‪ ،‬إذ يصبح القرب أثرا بعد عين‪ ،‬وال‬ ‫معين‪ ،‬إال الله‪ ،‬فقد ربط على قلبه‪ ،‬ثم الصبر‬ ‫الذي نفد‪ ،‬لكنه يجتره اجترارا بالتأسي‪ ،‬كما جاء‬ ‫في الحديث (من يتصبر يصبره الله) فيقول‪:‬‬ ‫َاجيكُ مْ َضمائرُ نا‪،‬‬ ‫نَكادُ ‪ِ ،‬حينَ ُتن ِ‬ ‫تأسينَا‬ ‫يَقضي علَينا األسَ ى َلوْال ّ‬

‫ويسترسل في الدعاء ويناجي وميض البرق‪،‬‬ ‫منزل‬ ‫ٍ‬ ‫وح�ب��ات المطر‪ ،‬يستحثهما ليغدقا على‬ ‫يسكنه الحبيب ال��ذي ك��ان يسقيه خالص ال��ود‪،‬‬ ‫وإن تبدّل وتغيّر‪،‬‬ ‫فهو ما زال يحمل‬ ‫ج� �م� �ي ��ل ص �ن �ع��ه‪،‬‬ ‫وي� � ��رج� � ��و ع� � ��وده‬ ‫فيقول‪:‬‬ ‫يا سارِ يَ ال َبر ِْق غادِ‬ ‫القص َر وَاس ِ���ق به‬

‫فيتجلد بالصبر إذ أي�ق��ن ب��ال �ف��راق‪ ،‬إذ شد‬ ‫الوثاق‪ ،‬وبلغت القلوب األعناق‪ ،‬فهو مكتوب وواقع‬ ‫مَ ن كانَ ِصرْف الهَوى وَالوُ َّد يَسقينَا‬ ‫ال محالة في ذلك أو شقاق‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ويناجي ويعابث حتى هبوب النسيم‪ ،‬ولذكرى‬ ‫إنّا قرَأنا األسَ ى‪ ،‬ي ْو َم النّوى‪ُ ،‬سو َر ًا‬ ‫الصب َر تلقينا سالم األحبة وتحياتهم يستنيم‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫مَ كتوبَة ً‪ ،‬وَأخَ ذْ نَا ّ‬ ‫��ص�� َب��ا ب��لّ��غْ تح ّي َتنَا‬ ‫َويَ���ا نسي َم ال َّ‬ ‫أبعد هذا الصبر صبرا‪...‬آه من زمن ال تؤمن‬ ‫مَ نْ َل ْو على البُعْ ِد حَ يّا كان يحيِ ينا‬ ‫بوائقه‪ ،‬يتلّون كتلون الحرباء‪ ،‬من البياض إلى‬ ‫ولكن هذا هو الزمان‪ ،‬والويل لمن يأمن تقلباته‬ ‫السواد‪ ،‬ويحيل الخضرة واالخضرار إلى يباس‬ ‫وأحداثه المفزعة‪ ،‬ويأنس ويركن أليامه السعيدة‬ ‫فيقول‪:‬‬ ‫المقنّعة‪ ،‬فها هو بعد الفرح واألنس يبكيه لوعة‬ ‫فقدكُ مُ أيّ��امُ ��ن��ا‪ ،‬ف��غَ��دَتْ‬ ‫حَ ��ا َل ْ��ت لِ ِ‬ ‫وكانت بكُ مْ بِ يض ًا َليَالِ ينَا على أطالل األمس‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُس��وداً‪،‬‬ ‫ضحكُ نا‬ ‫أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُ ِ‬ ‫وكأن األيام ضنّت عليهما واستكثرت‪ ,‬وساءها ما‬ ‫ُأن��س�� ًا بِ ��قُ ��ربِ ِ��ه��مُ قَ��د ع���ا َد يُ بكينا‬ ‫نااله من فنون الوصل‪ ،‬وعذب القُبل‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬ ‫ويذكرني حاله ببيت ابن زريق البغدادي الذي‬ ‫وَإ ْذ هَ َص ْرنَا فُ نُونَ الو َْص ِل دانيةً‬ ‫قِ طَ افُ ها‪ ،‬فَجَ َن ْينَا ِمنْهُ ما ِشينَا يقول فيه‪:‬‬ ‫قد كنت من ريب دهري جازعا فَرِ قا‬ ‫فتجول بخاطره الذكريات الجميلة‪ ،‬حيث لم‬ ‫فلم أوق ال��ذي ق��د كنت أجزعه‬ ‫يبق غيرها‪ ،‬فيتذكر لحظات الوصال الحميمة‪،‬‬ ‫ويستطرد ابن زيدون‪ ..‬ويبدو له كأن الزمان‬ ‫ويدعو ل��ذاك العهد‪ ،‬عهد الصفاء ويكاد يهلكه‬ ‫يتحالف ويتآمر مع أعدائه ضده‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫الحنين لعهد السرور والرياحين فيقول‪:‬‬ ‫يظ العِ دا ِمنْ تَساقِ ينا الهوَى فدعَ وْا‬ ‫ِغ َ‬ ‫السرُ ورِ فَما‬ ‫ليُ سقَ عَ هدُ كُ مُ عَ هدُ ّ‬ ‫َ��ص‪ ،‬فَ��ق��الَ ال��ده��ر آمينَا‬ ‫بِ ���أنْ َن��غ َّ‬ ‫َاح�� َن��‍��ا إ ّال رَياحي َ‍نـ ـ ــا‬ ‫كُ ��نْ��تُ ��مْ ألرو ِ‬ ‫‪ 106‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ويصور في البيت التالي لوعة الفقد والحرمان‪،‬‬ ‫بعد ال��وص��ل‪ ،‬وي��أس��ه م��ن اللقاء كيأس الليل من‬ ‫م �ص��اح �ب��ة ال��ن��ه��ار‪ ،‬وق� �ن ��وط ال �ش �م��س م ��ن سهر‬ ‫ليلة بجوار القمر‪ ،‬حيث ال رج��اء وال ج��دوى من‬ ‫المحاولة‪:‬‬ ‫َوقَ��دْ نَكُ ونُ ‪ ،‬وَمَ ��ا يُ خشَ ى َت َفرّقُ نا‪,‬‬ ‫فاليو َم نحنُ ‪ ،‬ومَ ا يُ رْجى تَالقينَا‬

‫آه‪ ..‬أي حياة هذه‪ ..‬أي عذاب‪ ..‬لكنه القدر‪،‬‬

‫أن يتعلق قلبك بمخلوق‪ ،‬فال يهنأ لك عيش بدونه‪،‬‬ ‫وال يطمئن لك مضطجع ببعده‪ ،‬وال تنتشي روحك‬

‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫وك��أن (ال��زم��ن) ق��د استجاب ل��دع��اء حلفائه‪ ،‬المرء مع من أحب‪ ،‬فيستسلم لقضاء الله وقدره‬ ‫فوجد «غراب البين» ضالته بفراق األحبة فيقول‪ :‬فيقول‪:‬‬ ‫فَانحَ لّ ما كانَ مَ عقُ ود ًا بأَنْفُ ِسنَا؛‬ ‫إنْ كان قد ع ّز في الدّ نيا اللّقاءُ بكمْ‬ ‫ْص��و ًال بأي ِْدينَا‬ ‫وَانْ�� َب ّ��ت ما ك��انَ مَ ��و ُ‬ ‫في مَ وْقِ ِف الحَ شرِ نَلقاكُ مْ َو َتلْقُ ونَا‬

‫الكئيبة إال بذكراه وطيفه‪.‬‬

‫لله در ذاك الشاعر الذي تمنى الموت والعدم‬

‫لحب كهذا‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫عدمتك من حب أما منك راحة‬

‫وبعد ك��ل ذاك ال��وج��ع‪ ،‬يرسل نغما جنائزيا‬ ‫يحرك وجدان الوله ويستعطف الحبيبة أن تدوم‬ ‫ومن طريف المتنبي في هذا الموضوع دعاؤه‬ ‫على عهدها‪ ،‬ويذكرها بصفات الحر المنصف‬ ‫على الحسان من النساء‪ ،‬إذ قال‪:‬‬ ‫فيقول‪:‬‬ ‫أال خ�����دد ال����ل����ه ورد ال����خ����دود‬ ‫العهد‪ ،‬ما دُمنا‪ ،‬مُ حافِ ظةً ‪،‬‬ ‫دومي على ِ‬ ‫وق����د ق�����دود ال��ح��س��ان ال���ق���دود‪.‬‬ ‫فالحرُّ مَ نْ دانَ إنْصاف ًا كما دينَا‬ ‫وم��ا ب��ك عني م��ن ت���وان وال فتر‬

‫ويطلب منها الوفاء له ولو على النأي والبعد‪،‬‬ ‫فهو يقنع منها بالذكر والطيف إن ع��ز اللقاء‬ ‫فيقول‪:‬‬ ‫أولي َوف��اءً ‪ ،‬وَإنْ لم َتبْذُ لي ِصلَةً ‪،‬‬ ‫َكفينَا‬ ‫يف يُ قْ نِ عُ نَا‪ ،‬وَالذّ كرُ ي ِ‬ ‫َالط ُ‬ ‫ف ّ‬

‫نهر عذب ف��رات‪ ..‬تدفق حبا ولوعة ووف��اء‪..‬‬

‫ع��اش على أم��ل التالقي بعد ال �ف��راق‪ ..‬وع��ودة‬ ‫المياه إلى مجاريها بعد تشتتها‪ ..‬فجاءت أشعاره‬

‫تعبر عن حاله‪ ..‬إنه ابن زيدون‪ ..‬الشاعر العاشق‬

‫الذي لم ينس أبدا ذكرى حبيبته وأيامه الجميلة‬

‫يذكرني وجعه واستسالمه واكتفاؤه بالذكرى معها‪ ..‬إنها والدة بنت المستكفي المحبوبة التي‬ ‫سحرته فعاش لحبها‪ ..‬ومات على ذكراها‪..‬‬ ‫وطيف الحبيبة بالبيت‪:‬‬ ‫وال���ن���ف���س راغ����ب����ة إذا رغّ ��ب��ت��ه��ا‬ ‫الصبَا بلّغْ تح ّي َتنَا‬ ‫أَيَ��ا نسـ ــي َم َّ‬ ‫وأن ت�������رد إل�������ى ق���ل���ي���ل ت��ق��ن��ع‬ ‫مَ نْ َل ْو على البُعْ ِد حَ يّا كان يحيِ ينا‬ ‫َعت بهِ‬ ‫َاب مَ تَاعٌ ‪ ،‬إنْ شَ ف ِ‬ ‫ويسترسل بمناجاة تهيّج الوجد‪ ،‬وتقطع نياط وَفي الجَ و ِ‬ ‫لت تُولينَا‬ ‫بيض األيادي‪ ،‬التي ما زِ ِ‬ ‫َ‬ ‫القلب‪ ،‬ويعترف أن��ه قد ال يلتقي مع من أحب‪،‬‬ ‫إليك منّا سَ ــالمُ اللَّهِ ما ب َِقي َْت‬ ‫ِ‬ ‫فيعزي نفسه بلقاء اآلخ��رة‪ِ ،‬عوضا عن الدنيا‪،‬‬ ‫َصبَابـ َة ٌ بِ ِك ن ُْخ ِفيهَا‪َ ،‬فت َْخ ِفينـ ـ َا‬ ‫فما عند الله أوسع وأسمح وأرحب‪ ،‬حيث يحشر‬ ‫* القريات ‪ -‬الجوف‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪107‬‬


‫موقع الشويحطية‬

‫اكتشاف أقدم موقع أثري في اجلزيرة العربية‬

‫د‪.‬خليل إبراهيم املعيقل*‬

‫الموقع‬ ‫ي��وج��د م��وق��ع ال �ش��وي �ح �ط �ي��ة ب��ال �ق��رب م ��ن ق��ري��ة‬ ‫الشويحطية الواقعة على مسافة ‪40‬كم إلى الشمال‬ ‫من مدينة سكاكا في منطقة الجوف‪.‬‬

‫قصة اكتشافه‬

‫تلك األدوات م��ن قبل‬ ‫عدد من المتخصصين‬ ‫ب��ال �ع �ص��ور ال �ح �ج��ري��ة‬ ‫القديمة‪ ،‬والذين أكدوا‬ ‫أن األدوات ربما تعود‬ ‫إل� ��ى ع� �ص ��ور ح �ج��ري��ة‬ ‫مبكرة ج��داً‪ ،‬وتحديداً‬ ‫لفترة األل ��دوان‪ ..‬وهي‬ ‫أقدم فترات االستيطان‬ ‫ف��ي العصور الحجرية‪،‬‬ ‫وتؤرخ لفترة تفوق المليون عام‪.‬‬

‫ف��ي ع ��ام ‪1396‬ه � � � �ـ‪1977/‬م ب ��دأت وك��ال��ة اآلث ��ار‬ ‫والمتاحف في المملكة العربية السعودية تنفيذ خطة‬ ‫شاملة للمسح األث��ري في أراض��ي المملكة‪ ،‬وتهدف‬ ‫ه��ذه الخطة إل��ى تسجيل المواقع األث��ري��ة المنتشرة‬ ‫فوق أراضي المملكة العربية السعودية‪ ،‬وذلك بهدف‬ ‫حمايتها وصونها من االن��دث��ار أو التخريب‪ ،‬وإج��راء‬ ‫ونظراً لما أب��داه العلماء من أهمية لهذا الموقع‪،‬‬ ‫ال��دراس��ات العلمية ح��ول�ه��ا‪ ،‬لتحقيق الفهم األعمق فقد قامت وكالة اآلثار والمتاحف بتشكيل فريق عمل‬ ‫لتاريخ وحضارة الجزيرة العربية‪ ،‬ودور اإلنسان العربي متخصص من علماء العصور الحجرية القديمة لدراسة‬ ‫الموقع‪ ،‬وقد قضى الفريق عام ‪1405‬هـ‪1985 /‬م مدة‬ ‫في بناء الحضارة اإلنسانية‪.‬‬ ‫وف ��ي ع ��ام ‪1397‬ه� � � � �ـ‪1977/‬م‪ ،‬زار ف��ري��ق علمي شهرين في الموقع‪ ،‬وقد جاءت نتائج العمل أكثر مما‬ ‫متخصص منطقة الجوف الستكمال أعمال المسح ك��ان متوقعاً‪ ،‬إذ تم تسجيل (‪ )16‬موقعاً تعود لفترة‬ ‫التي بدأت في العام الفائت‪ ،‬وخالل الموسم الثاني حضارية واح ��دة‪ ،‬جمع منها أكثر م��ن (‪ )1800‬أداة‬ ‫للمسح الشامل‪ ،‬زار الفريق العلمي وادي الشويحطية حجرية مختلفة؛ مثل السواطير‪ ،‬وأدوات منشوريه‬ ‫القريب من القرية‪ ،‬وقد لوحظ تركز مجموعات كبيرة وك��روي��ة ال�ش�ك��ل‪ ،‬وأق ��راص ذات وج�ه�ي��ن‪ ،‬ومكاشط‪،‬‬ ‫وأزام �ي��ل‪ ،‬وم�ط��ارق حجرية‪ ،‬ورق��ائ��ق‪ ..‬وم��ن بين تلك‬ ‫من األدوات الحجرية القديمة على ضفاف أحد روافد‬ ‫األدوات هناك (‪ )1517‬أداة تعود إلى عصر مبكر جداً‪،‬‬ ‫ال� ��وادي‪ ،‬وق��د ث��م جمع ع��دد م��ن األدوات‪ ،‬وسجلت‬ ‫تمثل فترة االستخدام األول للموقع‪ ،‬بينما(‪ )367‬أداة‬ ‫المعلومات األول �ي��ة ح��ول ال�م��واق��ع‪ ،‬وتبين ق��دم تلك‬ ‫تعود إلى عصر أحدث من السابق‪ ،‬وقد صنعت تلك‬ ‫األدوات‪ ،‬وعدم دقة صناعتها‪ ،‬وكبر حجمها‪ ،‬وكونها‬ ‫األدوات ‪ -‬بالنسبة القديمة منها ‪ -‬من حجر الكوارتز‪،‬‬ ‫تختلف عن األدوات التي جمعت من مواقع أخرى في‬ ‫وم��ن حجر ال�ك��وارت��ز وال �ص��وان‪ ،‬أو الحجر الجيري‬ ‫منطقة الجوف‪ .‬وقد صنفت مبدئياً على أنها تعود إلى‬ ‫لألدوات التي تعود لعصر أحدث‪.‬‬ ‫العصر األشولي األسفل‪ ،‬ولربما قبل األشولي‪ ..‬لكنها‬ ‫وقد توصلت نتائج دراسة المواقع واألدوات الحجرية‬ ‫بالتأكيد ترجع إلى العصر الحجري القديم األسفل‪.‬‬ ‫إلى أن موقع الشويحطية يعود لمرحلة عصر األلدوان‬ ‫بعد ثالثة أعوام من ذلك التاريخ‪ ،‬تم إعادة فحص‬ ‫‪ 108‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ن����������������������������������واف����������������������������������ذ‬

‫(ب) المتطور‪ ،‬وأن الفترة الزمنية التي يمثلها تراوح يستخدمها الجيولوجيون للتاريخ عن طريق القياس‬ ‫بين (‪ )1-1.3‬مليون سنة مضت‪ ،‬وه��ذا يجعل موقع اإلشعاعي لعنصر أرغ��ون البوتاسيوم واالنشطار‬ ‫الشويحطية أقدم موقع أثري يتم تسجيله في أراضي الذري‪.‬‬ ‫المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية‪ ،‬كما يعد‬ ‫عبور اإلنسان األول من أفريقيا إلى آسيا‬ ‫أق��دم ال�م��واق��ع األث��ري��ة ف��ي منطقة غربي ق��ارة أسيا‪،‬‬ ‫إن اكتشاف موقع الشويحطية يدعم النظريات التي‬ ‫ال الظهور األول لإلنسان في الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫مسج ً‬ ‫ترى أن اإلنسان األول عبر من شرق أفريقيا عبر مضيق‬ ‫إن طبوغرافية وادي الشويحطية مثلت بيئة مناسبة‬ ‫باب المندب‪ ،‬واتجه شماالً نحو بالد الشام‪ ،‬واستقرت‬ ‫الستيطان اإلنسان األول في هذا الجزء من الجزيرة جماعات منهم في وادي الشويحطية لفترة من الزمن‬ ‫العربية‪ ،‬وذلك لتوافر أحجار الكوارتز لصناعة أدواته ام � � �ت� � ��دت ل � �م � �ئ� ��ات م��ن‬ ‫الحجرية‪ ،‬وكذلك ف��إن ه��ذه البيئة ال بد أنها وفرت ال��س��ن��ي��ن‪ ،‬ث� ��م ه��اج��رت‬ ‫لسكانها مقومات العيش الذي يعتمد على توفر الصيد شماالً مرة أخ��رى بسبب‬ ‫والمنتجات النباتية البرية‪.‬‬ ‫تغيرات بيئية‪ ..‬دفعت تلك‬ ‫أن كثافة ان�ت�ش��ار األدوات الحجرية ف��ي مواقع الجماعات إلى البحث عن‬ ‫الشويحطية تشير إل��ى أن ه�ن��اك ن�ش��اط�اً صناعياً‬ ‫لألدوات الحجرية استمر لفترات زمنية طويلة‪.‬‬

‫تحديد تاريخ الموقع‬ ‫ربما يتساءل القارئ عن آلية تحديد تاريخ الموقع‬ ‫لهذه الفترة الموغلة في القدم‪ .‬وقد أش��ار دارسو‬ ‫الموقع إلى أن الدراسات المقارنة التي تم إجراؤها‬ ‫على أدوات الشويحطية‪ ،‬مع مواقع متشابهة خاصة‬ ‫مع موقع جادب في أثيوبيا‪ ،‬ومواقع العبيدية على‬ ‫بحيرة طبرية في فلسطين‪ ،‬وحيث أن تلك المواقع‬ ‫ق��د ج��رت فيها دراس���ات معمقة وأرخ ��ت أدوات �ه��ا‬ ‫لفترة االل� ��دوان (ب) ال�ت��ي ت�ع��ود ألك�ث��ر م��ن مليون‬ ‫ع��ام‪ ،‬فقد تطابقت أدوات الشويحطية مع أدوات‬ ‫موقع العبيدية‪ ،‬وقد استخدمت تقنيات القياسات‬ ‫اإلشعاعية لتحديد تاريخ تلك األدوات‪ ،‬وهي تقنية‬

‫م � �ك� ��ان أك � �ث� ��ر م�ل�اءم ��ة‬ ‫ل �ل �ع �ي��ش‪ ..‬ح �ي��ث يعتقد‬ ‫أن س �ك��ان الشويحطية‬ ‫ه��اج��روا إل��ى ب�لاد الشام‬ ‫ووادي الرافدين‪.‬‬

‫* عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود‪ ،‬عضو مجلس الشورى بالمملكة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫المراجع‪:‬‬ ‫ خليل إبراهيم المعيقل‪ ،‬بحوث في أثار منطقة الجوف‪1421 ،‬هـ‪ ،‬مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية‪.‬‬‫ حسن سندي ((ال��دراس��ات الجيولوجية األثارية للحياة البشرية القديمة خالل عصر ما قبل التاريخ في منطقة‬‫الشويحطية بالمملكة العربية السعودية)) أطالل‪ ،‬العدد العاشر‪1406 ،‬هـ‪1986 ،‬م ص ص ‪.133-127‬‬ ‫ عبدالرحمن السديري‪ ،‬الجوف وادي النفاخ‪ ،‬ط‪ ،2‬مراجعة د‪ .‬خليل المعيقل‪ ،‬الجوف‪ ،‬مؤسسة عبدالرحمن السديري‬‫الخيرية ‪1426‬هـ‪2005/‬م‪.‬‬ ‫ نورمان والين وآخرون‪(( ،‬تقرير عن موقع يعود للعصر الحجري الحديث األدنى (البليستوسيني)‪ ،‬قرية الشويحطية في‬‫شمال المملكة العربية السعودية))‪ ،‬أطالل‪ ،‬العدد العاشر‪1406 ،‬هـ‪1986/‬م ص ص ‪.123-115‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪109‬‬


‫علم وفن‪.‬‬ ‫التصوير الفوتوغرافي‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫> أمين السطام*‬

‫التصوير الفوتوغرافي‪ ..‬عالمً واسع تتباين فيه اآلراء وتختلف فيه وجهات النظر‬ ‫أكثر منها في أي مجال فني أو ثقافي آخر؛ فالنظرة من خالل العدسة تختلف باختالف‬ ‫األعين واألذواق‪ ،‬وكذلك كل ما يتعلق بالتصوير وخصائصه وميزاته وعدساته وأنواع أداة‬ ‫التصوير (الكاميرا)‪.‬‬ ‫على أن هذا االختالف دائماً ما تنتج‬ ‫عنه فوائد ال تحصى‪ ،‬يتمكن من خاللها‬ ‫المبتدئون وغيرهم م��ن استسقاء اآلراء‬ ‫خاصة بهم‪ ،‬بحيث يتم‬ ‫ٍ‬ ‫وتشكيل م��درس� ٍ�ة‬ ‫تجميع المعلومات ع��ن ط��ري��ق االستماع‬ ‫محترف لديه‬ ‫ٍ‬ ‫حوار ما‪ ،‬أو الحديث مع‬ ‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫خبرته الفوتوغرافية؛ لنصل بعد ذلك إلى‬ ‫الخالصة‪ ،‬وهي نتائج هذا االختالف في‬ ‫اآلراء‪.‬‬ ‫والغالب لدى محترفي وهواة التصوير‬ ‫أن يكون لديهم فك ٌر أو تصور معين تجاه‬ ‫‪ 110‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫وللتأكيد على حقيقة ما تناولته في البداية‪،‬‬ ‫نظر متباينة‪ ،‬يمكن تطبيقها‬ ‫سأعرض وجهات ٍ‬ ‫على جميع ما يتعلق بالتصوير وفنونه‪ .‬فالكاتب‬ ‫ع�ب��دال��رح�م��ن ال�ع�ن��زي ي�س��وق رؤي �ت��ه ف��ي أح��دى‬ ‫مقاالته(‪ )1‬فيقول‪« :‬وحيث أن بعض المشاهد كانت‬ ‫انتظار يصل إلى عدة أيام‪ ،‬وفي مواقع‬ ‫ٍ‬ ‫تحتاج إلى‬ ‫غير مؤكدة‪ ،‬فقد اعتمد تصوير المشهد أحياناً‬ ‫على عدة كاميرات مركبة في أماكن مختلفة تقوم‬ ‫بالتصوير تلقائياً م��ن خ�لال التحكم ع��ن بعد‪.‬‬ ‫والحقيقة أنه في جميع المشاهد تقريباً يكاد ال‬ ‫يكون لـ «فنية» المصور أي دور يذكر‪ ،‬بل يكفي أن‬ ‫تكون عدسة الكاميرا مصوبة باالتجاه الصحيح‬ ‫ف��ي ظ��روف إض ��اءة ج�ي��دة حتى ي�ك��ون المشهد‬ ‫الخالب قد تم التقاطه بالفعل»‪ ،‬ثم يختم قوله‬ ‫بأنه‪« :‬ال حرج في القول‬ ‫إن بعض أصحاب الرأي‬ ‫في التصوير الضوئي ال‬ ‫ي�ع��دون تصوير الطبيعة‬ ‫«ف� � �ن� � �اً ف���وت���وغ���راف� �ي� �اً»‬ ‫بالمعنى الفعلي للكلمة‪،‬‬ ‫حاالت يكون فيها‬ ‫ٍ‬ ‫إال في‬ ‫للمصوِّر تدخل واختيار‬ ‫ل� �ل� �ق� �ط ��ة ذات م�ل�ام ��ح‬ ‫واضحة وظاهرة»‪.‬‬ ‫وج� �ه���ة ال� �ن� �ظ ��ر ه ��ذه‬ ‫ق��د ت��واف��ق م��ا ي���دور في‬ ‫خلد الكثيرين تجاه هذه‬ ‫ال �ن �ق �ط��ة‪ ،‬وق���د ي�ع��ارض��ه‬

‫ف�����������������������������������ن�����������������������������������ون‬

‫التقاط الصور‪ ،‬وكيفية إعداد الكاميرا لاللتقاط‪،‬‬ ‫وهنا يكمن ال�ه��دف‪ ،‬وه��و االس �ت��زادة م��ن جعبة‬ ‫المحترفين والمتمكنين في هذا العلم‪.‬‬

‫آخ ��رون ب��رأي مغاير اكتسبوه ع��ن س��اب��ق خبرة‪،‬‬ ‫فتشكلت لديهم رؤي��ة أخ��رى‪ ،‬وق��د يجد الكاتب‬ ‫نفسه أيضاً يواجه تساؤالً مفاده‪ :‬كيف تنعدم فنية‬ ‫المصوِّر في أول المُقتبس‪ ،‬بينما نجدها جلي ًة‬ ‫�االت يكون فيها‬ ‫في آخره عندما قلت «إال في ح� ٍ‬ ‫للمصور تدخل واختيار ِللَقْطة معينة» والغالب في‬ ‫ه��ذا أن تدخل المصور واختياره هما المكونان‬ ‫الرئيسان للعمل‪.‬‬

‫وأسوق نموذجاً من اآلراء المعاكسة للمقطع‬ ‫األول من مقال العنزي‪ ،‬وهو تفسي ٌر منطقي إلى‬ ‫حد كبير‪ ،‬إذ يرى بعض الخبراء والمهتمين أنه‬ ‫ٍ‬ ‫في حال إيجاد العناصر المتكاملة (أشجار – نهر‬ ‫– شمس – أرض‪ )...‬يأتي هنا دور المصور وما‬ ‫حس فني وفوتوغرافي‪ ،‬بحيث يتمكن‬ ‫يملكه من ٍ‬ ‫وبكل مهارة ودق��ة من ترتيب وتكوين العناصر‬ ‫زاوية‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل مُبهر‪ ،‬واختيار‬ ‫ٍ‬ ‫المتوافرة «و إن قلّت»‬ ‫بعمل‬ ‫تتناسب مع ما تراه العين‪ ،‬ليخرج بعد ذلك ٍ‬ ‫يليق بالذائقة العامة‪.‬‬

‫بعدسة معتصم العوذه‬

‫وع � �ل� ��ى ض � � ��وء ب �ع��ض‬ ‫التوجهات األخرى في علم‬ ‫التصوير فإننا نجد أيضاً‬ ‫�ات أوس ��ع وأعمق‬ ‫اخ �ت�لاف� ٍ‬ ‫في ط��رق التصوير ذاتها‪،‬‬ ‫وتنحصر هذه االختالفات‬ ‫بأنواع التصوير المُـتعارف‬ ‫عليها والمتداولة‪ ،‬ولكنها‬ ‫ت �ت �س��ع وب��ش��ك� ٍ�ل م�ل�ح��وظ‬ ‫حين نصل إل��ى الطريقة‬ ‫والكيفية في االلتقاط‪.‬‬ ‫ون��ت��ي��ج�� ًة ل��م��ا س�ب��ق‬ ‫فإن عالم التصوير يظل‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪111‬‬


‫بعدسة عبدالله العتيق‬

‫بحراً ال شاطئ له‪ ،‬يتسع يوماً بعد يوم وت��زداد‬ ‫وخ�لاص��ة ال�ق��ول إن التصوير الفوتوغرافي‬ ‫مياهه بازدياد التجارب والخبرات الفوتوغرافية‪( ،‬ال�ض��وئ��ي) وسيل ٌة إلح�ي��اء مشاهد الحياة بكل‬ ‫ٍ‬ ‫والجميل في ه��ذا البحر‪ ،‬وج��ود‬ ‫معان سامية‬ ‫مساحة كبيرةٍ أشكالها‪ ،‬ورسال ٌة تحمل في طياتها ٍ‬ ‫وواس �ع��ة‪ ،‬وف��ي متناول اليد لكسب المزيد من ال يدركها كثيرون‪ ،‬إال من تشرّب حاسة تذوق‬ ‫الخبرة والمهارة‪.‬‬ ‫الصور والفنون البصرية بكل أنواعها‪.‬‬

‫بعدسة أيمن السطام‬ ‫* سكاكا ‪ -‬الجوف‪.‬‬ ‫(‪ )1‬مجلة القافة‪ :‬المجلد ‪ ،57‬العدد ‪.5‬‬

‫‪ 112‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫يخلو من اإلبداع ويعجز عن جتاوز أزمات املجتمع غير املتحول‬

‫أزمة املسرح جعلت كتّابا ً مسرحيني يهجرون‬ ‫الكتابة املسرحية لصالح فنون أخرى‬

‫م�������س�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������رح‬

‫النص املسرحي العربي‬

‫> حتقيق‪ :‬مهند صالحات‬

‫يرى مخرجون مسرحيون أردنيون أن تراجع المسرح في‬ ‫المنطقة العربية لحساب وسائل التعبير األخرى كالسينما‬ ‫والتلفزيون‪ ،‬م��رده مشكلة واقعية ف��ي النص المسرحي‬ ‫العاجز عن التطور‪ ،‬الذي يخلو من اإلبداع الحقيقي‪ ،‬كما‬ ‫يرى بعضهم أن التقدم يجري في مجاالت أخرى كالشعر‬ ‫الذي بنى مدارس شرقية عربية له‪ ،‬استطاع روادها مواكبة‬ ‫التطور فيها‪ ،‬بينما عجز الكتّاب المسرحيون العرب عن‬ ‫إيجاد مدارس مسرحية قادرة على التجاوز عن البطء في‬ ‫التحوالت االجتماعية التي هي ‪ -‬بحسبهم ‪ -‬شرط لتطور النص المسرحي‪.‬‬ ‫ف��ال�م�خ��رج ال�م�س��رح��ي ن�ب�ي��ل الخطيب‬ ‫ي��رى أن ش ��روط ك�ت��اب��ة ال�ن��ص المسرحي‬ ‫هي شروط متغيرة ومتطورة‪ ،‬ألن الشرط‬ ‫االج�ت�م��اع��ي ف��ي األص ��ل متغير ومتحول‪،‬‬ ‫وه � ��ذه ال� �ت� �ح ��والت ف ��ي أي م �ج �ت �م��ع هي‬ ‫بالنتيجة تنتج معايير أساسية يقوم عليها‬ ‫نص الكتابة المسرحية‪ ،‬وتصبح نمطية مع‬ ‫الزمن حتى تأتي عبقرية كاتب ينفي هذه‬ ‫المعايير ويبني نصوصه المسرحية بمرتكز‬ ‫أساسي هو الخلق‪ ،‬وهذا ما يدلل عليه تاريخ‬ ‫كتابة النص المسرحي كما في شكسبير‪،‬‬ ‫صموئيل بكت‪ ،‬برنارد شو وغيرهم‪.‬‬

‫الثقافية والسيسيولوجية‪ ،‬فمن الطبيعي أن‬ ‫ال تحدث تحوالت على صعيد الكتابة‪ ..‬ما‬ ‫يجعل الكتابة المسرحية التي هي جزء ال‬ ‫يتجزأ من الكتابة اإلبداعية رهينة العجز‬ ‫عن التطور‪.‬‬

‫وهنا نكون بحاجة لإلبداع الذي وصفه‬ ‫الخطيب بأنه القدرة على تجاوز المجتمع‬ ‫غير المتحول في الكتابة‪ .‬واإلب��داع إحدى‬ ‫أبرز مشاكل كتابة النص لدينا في األردن‬ ‫والمنطقة العربية‪ ،‬حيث لدينا نص مسرحي‬ ‫مكتوب‪ ..‬لكنه يفتقد إلى اإلب��داع‪ ،‬إضافة‬ ‫إل��ى مشكلة ال ت�ق��ل أه�م�ي��ة ع��ن اإلب���داع؛‬ ‫أما في مجتمعنا الذي اعتبره الخطيب وهي مشكلة أن شروط الكتابة المسرحية‬ ‫بطيئا وقليل التحول‪ ،‬وال تحدث فيه كل لدينا في جزء كبير منها متأثر بالضرورة‬ ‫ال‬ ‫ال�ت�ح��والت ال�ج��ذري��ة الحقيقية ف��ي البنية ب�م�ت�غ�ي��رات المجتمعات ال�غ��رب�ي��ة‪ ،‬فمث ً‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪113‬‬


‫ع��ام ع��رب�ي�اً؛ ول�ع��ل مشاكل ال�ن��ص المكتوب قد‬ ‫تكون أحد أبرز أسباب هذا التراجع‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫أنه أصبح كذلك أقل أهمية مقارنة مع وسائل‬ ‫التعبير األخرى كالسينما والتلفزيون‪.‬‬

‫«برخت» على سبيل المثال في أوروب��ا‪ ..‬جاء من‬ ‫بعده كتّاب تأثروا به وتبنوا تقنيته في الكتابة؛‬ ‫بينما نجد في منطقتنا العربية العديد من الكتاب‬ ‫يميلون لمدارس غربية في الكتابة المسرحية‪،‬‬ ‫وال نجد من يتبنى مدرسة عربية يعمل عليها‪،‬‬ ‫وهذا ما يعلل تفوق التقدم في الشعر على حساب‬ ‫المسرح في البلدان العربية‪.‬‬ ‫وف� ��ي س� �ي ��اق م �ت �ص��ل‪ ،‬اع��ت��ب��رت ال �م �خ��رج��ة‬ ‫المسرحية سوسن دروزة‪ ،‬أن المشكلة األساسية‬ ‫ف��ي ال �ن��ص ال �م �س��رح��ي اإلب ��داع ��ي ف��ي األردن‬ ‫والمنطقة العربية على حد س��واء‪ ..‬هي مشكلة‬ ‫وجود نص واقعي‪ ،‬يالمس محيطه بشكل حقيقي‪،‬‬ ‫فالنص المسرحي كما وصفته‪ ..‬هو فقط نص‬ ‫أدب��ي مجرد من الواقعية والرؤية أكثر من كونه‬ ‫نصاً مكتوباً للخشبة‪ ،‬وه��ذا ما يضطر المخرج‬ ‫إلع��ادة كتابة النص م��رة أخ ��رى‪ ..‬ليتناسب مع‬ ‫الواقع‪ ،‬ويبدو أكثر مواءمة للخشبة‪.‬‬

‫وفي األردن تحديداً‪ ،‬وبحسب دروزة‪ ،‬هنالك‬ ‫الكثير من المخرجين الذين يحملون كاميراتهم‬ ‫ويخرجون إلى الشارع للتصوير‪ .‬فهناك أكثر من‬ ‫‪ 200‬مخرج تلفزيوني وسينمائي‪ ،‬ومخرج أفالم‬ ‫وثائقية خ�لال السنتين األخيرتين؛ ف��ي مقابل‬ ‫أن ��ه م�ن��ذ خ�م��س س �ن��وات ل��م ي�ت��م ت�خ��ري��ج كاتب‬ ‫مسرحي واحد مبدع‪ ،‬وهذا يشير إلى معطيات‬ ‫خطيرة‪ .‬إضافة إلى أن هناك أزم��ة أخ��رى‪ ،‬هي‬ ‫أزمة التدريس؛ ففي جامعاتنا التي تخرج يومياً‬ ‫مخرجين وم�م�ث�ل�ي��ن‪ ،‬ال ي��وج��د أي ق�س��م للنقد‬ ‫المسرحي‪ ،‬أو لتدريس كتابة النص المسرحي‪ ،‬أو‬ ‫الدرامي أو السينمائي‪ ،‬بينما لدينا عدد كبير من‬ ‫المخرجين والممثلين؛ وفي المقابل ليس هناك‬ ‫من يكتب لهم‪.‬‬

‫وتستغرب دروزة من كيفية استمرار المسرح‬ ‫حتى ه��ذه اللحظة؛ فالمخرج إن ل��م يكن ملماً‬ ‫بكيفية كتابة النص المسرحي‪ ،‬كيف يمكنه أن يعيد‬ ‫صياغه النص الذي بين يديه؟ وبخاصة أن معظم‬ ‫النصوص المسرحية العربية الجيدة قد استنفذت‬ ‫مسرحيا لكتاب مبدعين من أمثال ممدوح عدوان‪،‬‬ ‫لكن المشكلة هنا في تمكّن المخرج ذات��ه من سعد الله ونوس‪ ،‬محمد الماغوط‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫القيام بإعادة صياغة النص‪ ،‬فالعديد من المخرجين‬ ‫وعملت مقارنة بسيطة بين الحالة العربية‬ ‫المسرحين الجدد‪ ،‬أو غير المتمكنين‪ ..‬يقعون في والنموذج األوروبي؛ فتقول‪ :‬إنه في ألمانيا وحدها‬ ‫هذه المشكلة‪ ،‬ما يمنعهم من الخروج بعمل مسرحي ظهر في العام الماضي أكثر من ‪ 20‬نصاً مسرحياً‬ ‫متكامل‪ ..‬من حيث النص والرؤية اإلخراجية؛ ما لكتّاب شباب تقل أعمارهم عن األربعين عاما‪.‬‬ ‫يضعف العمل المسرحي ويهبط في مستواه‪.‬‬ ‫وفي سياق مختلف‪ ..‬فإن الكاتب المسرحي‬ ‫كما ترى دروزة أن المشكلة هذه ال تكمن في األردن���ي ه��زاع ال �ب��راري ي��رى أن مشكلة النص‬ ‫النص وحده؛ فالمسرح ككل بدأ بالتراجع بشكل المسرحي األردن��ي والعربي‪ ،‬هي ذاتها إشكالية‬

‫‪ 114‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫فعلى صعيد اإلنتاج المسرحي‪ ،‬يرى البراري‬ ‫أن في األردن والمنطقة العربية عدد كبير من‬ ‫المخرجين األكاديميين ومخرجي الخبرة؛ لكن‬ ‫العدد الفاعل منهم محدود‪ ،‬في حين الكم األخر‬ ‫خامل أو غير فاعل‪ ،‬أو أنسحب باتجاه نشاطات‬ ‫أخرى غير المسرح‪.‬‬

‫م�������س�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������رح‬

‫المسرح‪ ،‬ألن المسرح ال يمكن أن يجزأ‪ ،‬فهو قائم‬ ‫بعناصره المختلفة من نص ومخرج وممثلين‪.‬‬

‫مشكلة التعامل معه‪ ،‬وهذه نتيجة قلة الخبرة لدى‬ ‫المخرجين المسرحيين؛ فكثير منهم يكون في ذهنه‬ ‫رؤية إخراجية معينة‪ ..‬لكن النص الذي تم إجازته‬ ‫من قبل وزارة الثقافة أو أمانة عمان‪ ،‬ال يتناسب مع‬ ‫الرؤية الموضوعة مسبقاً؛ فيحاول المخرج لَيَّ عنق‬ ‫النص ليتناسب مع رؤيته‪ ،‬رغم أن األجدر به كان‬ ‫إعادة االشتغال على رؤيته من جديد‪.‬‬ ‫ويتفق ال �ب��راري م��ع م��ا قالته دروزة ف��ي أن‬ ‫هنالك مشكلة أيضاً في تدريس النص المسرحي‬ ‫من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى حول قداسة وسطوة‬ ‫ال�ن��ص ال�م�س��رح��ي‪ ،‬حيث أن العمل المسرحي‬ ‫هو عمل جماعي‪ ،‬ولكن المخرج يفرض سطوته‬ ‫على النص وليس العكس‪ ،‬فيقوم هو ب��إع��داده‪،‬‬ ‫وإخراجه‪ ،‬ولعب أحد أدواره‪ ،‬ويصمم له الديكور‬ ‫واإلض��اءة‪ ،‬متجاوزاً بذلك العمل التشاركي‪ ،‬دون‬ ‫الرجوع للكاتب أحياناً‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى يقر البراري أن كتاب المسرح‬ ‫العرب قلة متناقصة مع األيام؛ فمن خالل تجربته‬ ‫الشخصية‪ ،‬وتجربة المسرح األردني الذي يعده‬ ‫األك�ث��ر نشاطاً عربياً‪ ،‬حمّل ال �ب��راري ج��زءا من‬ ‫المسئولية للمخرج المسرحي العربي‪ ..‬واألردني‬ ‫على وج��ه ال�خ�ص��وص‪ ،‬لكونه أس�ه��م بقصد أو‬ ‫م��ن غير قصد ف��ي تهجير الكاتب المسرحي؛‬ ‫ود ّل��ل على ذل��ك بكتاب مسرحيين مثل الدكتور‬ ‫وه��ن��اك م�ش�ك�ل��ة ال ب��د م��ن ال ��وق ��وف عليها‬ ‫وليد سيف‪ ،‬وهاشم غرايبة‪ ،‬وجمال أبو حمدان‬ ‫ب �ج��دي��ة‪ ..‬وه��ي مشكلة «ال ��درام ��ات ��ورك»‪ ،‬وه��ي‬ ‫وغيرهم؛ وه��ؤالء توقفوا عن الكتابة المسرحية‬ ‫معتمدة أوروبياً‪ ..‬لكن عليها إشكاالً عربياً‪ ،‬وهو‬ ‫أو امتنعوا عن إعطائها للمخرج األردني‪ ،‬ألسباب‬ ‫الوسيط بين الكاتب والمخرج والممثلين‪ ،‬الذي‬ ‫تعود لتجارب سابقة لديهم‪.‬‬ ‫يقيم التوازن بين النص والرؤية اإلخراجية‪ ..‬ولكن‬ ‫فالمخرج األردني حين يأخذ النص المسرحي لألسف عدم تفعيله‪ ،‬وعدم تدريسه عربياً‪ ..‬زاد‬ ‫األدب��ي لالشتغال عليه‪ ،‬ينسف النص‪ ..‬بدعوى من إشكالية التعاطي مع النص األدبي المسرحي‬ ‫تحويل النص األدب��ي إلى مسرحي‪ ،‬وهنا يطرح وتحويله بشكل منطقي مسرحاً‪.‬‬ ‫السؤال نفسه‪ :‬هل المخرج قادر على إعادة كتابة‬ ‫النص مرة أخرى دون أن يَحدث خلل في رؤيته‪،‬‬ ‫وبنية شخصياته؟ فالعديد من النصوص التي‬ ‫تم االشتغال عليها مسرحياً تم قتلها‪ ،‬بشكل أو‬ ‫بأخر‪ ،‬انتصاراً للشكل المسرحي‪.‬‬ ‫وبذلك يرى البراري أن المشكلة األساسية ال‬ ‫تكمن في النص المسرحي‪ ،‬رغ��م قلته‪ ،‬إنما هي‬ ‫* كاتب من األردن‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪115‬‬


‫ثالث حقائق غائبة يكشفها اإلقتصاد اإلسالمي‬

‫في ضوء األزمة املالية الراهنة‬

‫> أحمد محمد نصار*‬

‫كشفت الرؤية اإلسالمية لألزمة المالية الراهنة عن الكثير من الحقائق التي كان االقتصاد‬ ‫اإلسالمي يتحدث عنها صراحة‪ ،‬أو ضمن رؤيته للنظام االقتصادي؛ إال أن هناك ث�لاث حقائق‬ ‫أساسية غابت عن الكثيرين في م��داوالت األزم��ة؛ الحقيقة األول��ى‪ ،‬تغيير هيكلة النظام المالي‬ ‫والمصرفي؛ والثانية‪ ،‬ملكية النظام المالي لنفسه؛ أما الثالثة‪ ،‬فهي نظام شفافية ومصداقية‬ ‫المعلومات المالية‪.‬‬ ‫أما بالنسبة للحقيقة األول��ى‪ ،‬فإن هيكلية النظام‬ ‫المالي الحالي ال تساعد الحلول المقترحة للخروج من‬ ‫األزمة؛ ألن هناك إصالحات جوهرية يجب االعتراف‬ ‫بها أوال‪ ،‬وم��ن ثم اق�ت��راح بدائل مؤسسة تخدم تلك‬ ‫اإلصالحات‪ ،‬ألن الخلل في األزم��ة الحالية ال يمكن‬ ‫ت�ج��اوزه باقتراح حلول ط��ارئ��ة‪ ،‬وخطط ان�ق��اذ تعالج‬ ‫المشكلة في أعراضها‪ ،‬وال تعالج المشكلة من أسسها‬

‫الفلسفية والمؤسسية‪ .‬وهناك الكثير من المقترحات‬ ‫التي اقترحها علماء االقتصاد اإلسالمي بهذا الصدد‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬فصل النشاط المصرفي عن النشاط االستثماري‪،‬‬ ‫وإضعاف سلطة المصارف والحد من تأثيرها‪ .‬لكن‬ ‫هذه المقترحات لم تلق قبوالً في البداية‪ ،‬ألنها كانت‬ ‫تصطدم مع هيكلة النظام المالي الحالي‪ ،‬التي من‬ ‫النادر ما تجد أحداً ينتقدها في ذاتها؛ ألنها ترجمة‬ ‫ألسس وفلسفة الرأسمالية في فصل النظام المالي‬ ‫عن االقتصاد الحقيقي‪.‬‬ ‫أما الحقيقة الثانية التي تتحدث عن ملكية النظام‬ ‫المالي‪ ،‬فقد أشار إليها مؤخراً تقرير آفاق االقتصاد‬ ‫العالمي ال �ص��ادر ع��ن ص�ن��دوق النقد ال��دول��ي‪ ،‬وهو‬ ‫ض��رورة انسحاب القطاع المالي م��ن ملكية النظام‬ ‫المالي‪ .‬وهي إستراتيجية تحمل رؤية إسالمية ابتداءً‪،‬‬ ‫وال يستطيع أحد إنكار ذلك‪ ،‬ألن القطاع المالي في‬ ‫النظام االقتصادي اإلسالمي ال يملك نفسه‪ ،‬ويتحكم‬ ‫فيها اله�ث�اً وراء إش�ب��اع رغباته ال�خ��اص��ة‪ ،‬وتعويض‬ ‫ذل��ك‪ ،‬بما يسمى بتوليد أو اشتقاق النقود‪ ،‬كما هو‬ ‫معروف في النظام المصرفي ‪money creation‬؛‬ ‫وه��ذه الحقيقة أي�ض�اً ال يمكننا تجاهلها‪ ،‬وخاصة‬ ‫بعد وق��وع األزم��ة‪ ،‬ألن الفجوة بين المتداول النقدي‬ ‫وال�م�ت��داول السلعي كبيرة‪ .‬وم��ا يثبت ذل��ك أيضاً أن‬

‫‪ 116‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫م����������������ال واق��������ت��������ص��������اد‬

‫سياسات السلطات اإلشرافية والرقابية المصرفية‬ ‫تسعى دائما إلى الحد من اإلسراف في توليد النقود‬ ‫م��ن خ�ل�ال اإلئ�ت�م��ان ال�م�ص��رف��ي‪ .‬وإذا ترجمنا ه��ذه‬ ‫الرؤية على شكل سياسات‪ ،‬فهو اعتراف منا بأثرها‬ ‫السلبي حتى ولو تم تطبيقه بشكل جزئي؛ ولذلك تجد‬ ‫عقود التمويل اإلسالمي متنوعة‪ ،‬وشروطها مختلفة‪،‬‬ ‫وأحكامها مفصلة حسب وظيفة العملية من الناحية‬ ‫االق�ت�ص��ادي��ة‪ .‬وليس مقبوالً ف��ي النظام االقتصادي‬ ‫اإلسالمي أن تترجم كل األنشطة االقتصادية‪ ،‬ويتم‬ ‫اختزالها في نشاط ائتماني واح��د‪ ،‬بصيغة القرض‬ ‫بفائدة‪ ،‬ألن فيه سماح بتجاوز األه��داف االقتصادية‬ ‫للفرد والمجتمع على حد سواء‪.‬‬ ‫أما الحقيقة الثالثة واألخيرة‪ ،‬وهي نظام شفافية‬ ‫المعلومات ومصداقيتها‪ ،‬وقد سمعنا كثيراً عنها في‬ ‫م��داوالت األزم��ة‪ ،‬لكن أيضا كانت مقترحاتها تعالج‬ ‫المشكلة ف��ي أع��راض �ه��ا‪ ،‬وك��ان��ت ال��رؤي��ة اإلسالمية‬ ‫واضحة ومعالجة لجذور هذه المشكلة؛ فلم يتدخل‬ ‫اإلس�ل�ام أص�لا ف��ي آل�ي��ة ال �س��وق م��ن ع��رض وطلب‪،‬‬ ‫وه��ذا ما يثبته حديث التسعير ال��ذي رواه الترمذي‪،‬‬ ‫فيقول‪ :‬حدثنا أنس ابن مالك قال‪« :‬غال السعر على‬ ‫عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقالوا يا رسول‬ ‫ال�ل��ه‪ ،‬سعّر لنا‪ ،‬ف�ق��ال‪ :‬إن الله ه��و المسعّر القابض‬ ‫الباسط الرزاق‪ ،‬وإني ألرجو أن ألقى ربي وليس أحداً‬ ‫منكم يطلبني بمظلمة في دم وال مال»؛ وهو كما تقدم‬ ‫إثبات لحرية التعامل في األس��واق من حيث اآللية‪،‬‬ ‫ومراعاة وسائل تحصيلها‪ ،‬من حيث الكلفة والجهد‪.‬‬ ‫لكن اإلسالم تدخل وبشكل مباشر وأساسي في هيكل‬ ‫السوق وضوابطه المؤسسية‪ ،‬واألج�ه��زة التي تكفل‬ ‫تطبيق ذلك بالشكل المطلوب (جهاز الحسبة)‪.‬‬

‫معلوماتياً يتصف بالدقة والموضوعية والمصداقية‪،‬‬ ‫يساعد في كشف السوق ل��دى البائعين والمشترين‬ ‫التخاذ القرارات المناسبة من بيع وشراء؛ ألنه يضمن‬ ‫ع��دم التالعب والسيطرة غير المشروعة على آلية‬ ‫تكوين األسعار؛ وهذا بخالف الرؤية الرأسمالية التي‬ ‫تسرف في التنظير بحرية األس��واق‪ ،‬وض��رورة توافر‬ ‫الشفافية في المعلومات‪ ،‬دون تقديم هيكل يضمن‬ ‫ذلك‪ ..‬وفي المقابل التفريط في آليات التطبيق غير‬ ‫المعبّرة عن حقيقة السوق‪ ،‬والوصول في النهاية إلى‬ ‫نتيجة واحدة‪ ،‬وهي تجديد اآللية‪ ،‬مع عدم االعتراف‬ ‫بتجديد الهيكل الذي هو األساس في هذه العملية‪.‬‬

‫ال يمكن في ظل هذه الحقائق الثالث إال أن ندرك‬ ‫أن هذه األزمة جاءت في وقتها لتثبت للعالم أن ما يقوله‬ ‫االقتصاد اإلسالمي يجب أن ال يقابل باالستهتار‪ ،‬حتى‬ ‫لو لم يعجب ذلك أصحاب القرار والمستفيدين‪ ،‬وهذا‬ ‫إن هذه الرؤية اإلسالمية المتدخلة في هيكل السوق يعطينا نتيجة أن االقتصاد اإلسالمي أصبح خياراً ال‬ ‫وغير المتدخلة في آليته تعطينا بال محالة نظاماً بديل له بعد أن كان خياراً يمكننا قبوله‪.‬‬

‫* باحث في االقتصاد والمصارف االسالمية‪ ،‬منسق في المجموعة العالمية للباحثين في االقتصاد والمصارف االسالمية‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪117‬‬


‫الكتاب ‪« :‬كافكا»‪ ،‬في اجلزء األول من أعماله الكاملة‬ ‫(الدودة الهائلة)‪ :‬قصص استبطانية وسرد‬ ‫جهنمي عن إنسان في عالم مضطرب‬ ‫الناشر ‪ :‬الهيئة املصرية العامة لقصور الثقافة‪.‬‬

‫> عصام أبوزيد‬

‫قصص كافكا‪ ،‬باهرة‪ ..‬استبطانية‪ ،‬كالهبوط إلى القوى المظلمة‪ ،‬تصف العزلة‬ ‫وتغترب عن الواقع إلى حد االنشقاق؛ فتهرب إلى عدمية النبذ والصراع مع الرعب‪ ،‬في‬ ‫سرد غريب ال تدرك معه هل أنت في واقع أم كابوس؟ نقرأ‪ ...« :‬وبعد اجهاد عنيف‪ ،‬لم‬ ‫أعد قادر ًا على التفكير‪ ،‬فقد كان رأسي يتطوح‪ ،‬هبطت تارك ًا الباب مفتوح ًا في ذهولي‪.‬‬ ‫استلقيت أخيراً‪ ،‬فوق األتربة المصطبغة بدمائي‪ ،‬وصار في وسعي اآلن أن أحقق‬ ‫ُ‬ ‫وهكذا‬ ‫رغبتي في النوم»‪.‬‬ ‫كان كافكا يستعين في كالمه بأعضاء جسمه ووجهه‪ ،‬وإن استطاع أن يكتفي بحركة‬ ‫فعل‪ ،‬وكان بسيط ًا خجوالً‪ ،‬فكأنما يقول لمحدثه‪ :‬أرجوك‪ ،‬إنني أقل كثير ًا مما تظن‪،‬‬ ‫وإنك لتستطيع أن تُسدي لي خدمة كبرى إذا ما تجاهلتني‪.‬‬ ‫هو اليائس‪ ،‬الصامت‪ ،‬المعذّ ب‪ ،‬المريض‪ ،‬وأحيان ًا المجنون‪ .‬سمة حياته البارزة‬ ‫هي الغضب‪ ،‬الذي يولّده القلق‪ ،‬والذي يحيل نفسه إلى أبخرة سامة عند مالمستها‬ ‫الحياة‪.‬‬

‫األثر العميق‬

‫مقلق وج��د نفسه ف��ي س��ري��ره ق��د تحول‬

‫عندئذ أغلقت الكتاب‬ ‫ٍ‬ ‫ي �ق��ول غ��اب��ري �ي��ل غ��ارث �ي��ا م��ارك �ي��ز في إلى حشرة هائلة»‪،‬‬ ‫ال لنفسي «يا للهول هل يمكن‬ ‫ال�م�ح��ادث��ات ال�ت��ي أج��راه��ا معه صديقه مرتعداً قائ ً‬ ‫بلينو منيدوسا ونشرت عام ‪1982‬م‪ :‬لقد أن يحدث هذا‪« ،‬وفي اليوم التالي مباشرة‬ ‫بدأ اهتمامي بفن القصة ذات ليلة‪ ،‬كنت كتبت أول قصة ل��ي»(‪ .)1‬هكذا يتضح لنا‬

‫أقرأ فيها قصة (التحوّل) لكافكا‪ ،‬فقرأت مدى التأثير العميق الذي تركه كافكا في‬ ‫في أولها ه��ذه الجملة‪ :‬عندما استيقظ األجيال الكتابية التي جاءت من بعده‪.‬‬ ‫غ��ري�غ��ور س��ام�س��ا ذات ص �ب��اح‪ ،‬ب�ع��د حلم‬ ‫‪ 118‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬

‫وب �خ �ص��وص ال �ح��داث��ة وم��وق��ع كافكا‬


‫كافكا‪ .‬يهمه باألحرى‪ ،‬حسب الصيغة ال��واردة الجحر؛ في مستعمرة العقاب؛ الدودة الهائلة»‪.‬‬

‫في برنامجه الخاص‪ ،‬أن «يثير العالم ليجعله‬

‫ق �ص��ة «ال��ت��ح��ول» ت �ق��دم ح��ال��ة م��ن ح��االت‬

‫ي��رت��اد الحقيقي‪ ،‬ال �ط��اه��ر‪ ،‬ال �ث��اب��ت»‪ ،‬وه��و ما الفشل ت��ؤدي إل��ى ال �م��وت‪ ،‬وه��ي قصة تجسد‬ ‫أنجزه بالفعل باعتماده ال على فوضى الطليعة أزمة وجود‪ ،‬وتشير في وضوح إلى انقسام يقع‬ ‫ال�م�ع��اص��رة‪ ،‬وإن �م��ا على األش �ك��ال القديمة – نتيجة لتراكمات‪ ،‬فيفصل بين الوعي والالوعي‪.‬‬ ‫الخرافة‪ ،‬الحكمة‪ ،‬الحكاية‪ ،‬الملحمة – التي‬ ‫ويتمثل هذا االنقسام في بقاء الذات الحقيقية‬ ‫نقلتها إلينا الثقافة الكونية‪.‬‬ ‫(المنسحبة في عجز من المواجهة) في البيت‬ ‫وإذا كان قد انقاد بقوة األشياء‪ ،‬لكي يصور على هيئة حشرة هائلة الحجم تسترخي في‬

‫ق�������������������������������������������������������������راءات‬

‫بالنسبة منها‪« ،‬ف��إن الحداثة ه��ي آخ��ر هموم هي‪ :‬التحوّل؛ سور الصين العظيم؛ أبحاث كلب؛‬

‫بأمانة وضعيته الشخصية بكل تفردها‪ ،‬إلى رسم الفراش‪ .‬بينما الجسد الذي يرتدي مالبس تلك‬ ‫واقع مضطرب بكيفية حاذقة‪ ،‬فإنه يفعل ذلك «الذات» ‪،‬أي حرفياً تلك الواجهة الخارجية لتلك‬ ‫عبر محكي منظم بصرامة‪ ،‬مراعياً في تركيبه «ال ��ذات»‪ ،‬تترنح خارجة إل��ى اض�ط��راب الدنيا‬ ‫كما ف��ي أس�ل��وب��ه‪ ،‬أكثر م��ا يمكن م��ن االنتظام الخارجية‪ ،‬وتقوم بالعمل كبائع متجول‪.‬‬ ‫ال��دق�ي��ق‪ .‬وبسبب قِ ��ران ه��ذا (ال �ك��ل الجديد)‬ ‫ال�ن��ات��ج م��ن ح�ي��اة داخ�ل�ي��ة فريسة للتناقضات‬

‫والصراعات‪ .‬مع «ما سبقت رؤيته»‪ ،‬و«ما سبقت‬

‫قراءته «الموحي بالثابت‪ ،‬فإن كافكا‪ ،‬الحداثي‬

‫على الرغم منه بطريقة ما‪ ،‬هو كما قيل كثيراً‪،‬‬

‫الكاتب الذي يتأبى على المقوالت‪ .‬إنه‪ ،‬اذاً‪ ،‬غير‬ ‫قابل ألن يصنف ضمن أية حركة‪ ،‬بل هو‪ ،‬بمعنى‬

‫عميق خارج الزمن»(‪.)2‬‬

‫الترجمة العربية‬

‫وم��ن خ�لال «ال �ت �ح��ول» ال ��ذي يتأسس على‬

‫االغتراب عن الذات يكون هذا «االنقسام» هو‬ ‫المبدأ الذي يقوم عليه بناء القصة‪ .‬ويقوم مبدأ‬ ‫االنقسام كذلك‪ ،‬نتيجة لالغتراب أساساً في‬

‫قصص أخرى لكافكا تتفق مع قصة «التحول»‬ ‫ف��ي اتخاذها لموضوع «ال�ع�ق��اب» أرض�ي��ة لها‪،‬‬ ‫وهي قصة «في مستعمرة العقاب»‪.‬‬

‫أما «سور الصين العظيم» ففيها يعبر السور‬

‫عن إرادة إلقامة مملكة الرب‪ ،‬أو إرادة تتشوق‬

‫ومنذ فترة قصيرة ص��در ال�ج��زء األول من نحو االكتمال ال��دن�ي��وي‪ ،‬إال أن ه��ذا االكتمال‬ ‫أع �م��ال كافكا الكاملة تحت ع �ن��وان‪« :‬ال ��دودة ال ي�ت��اح ل��ه أن يتحقق م�ب��اش��رة‪ ،‬وإن�م��ا يتحقق‬

‫الهائلة»‪ ،‬بترجمة من الدسوقي فهمي – أول فقط ف��ي ص��ورة (أبنية أو إن �ش��اءات جزئية)‪.‬‬ ‫مترجمي كافكا عربياً في الستينيات – وعن ف�ه��ذه االن��ش��اءات الجزئية ه��ي (االك �ت �م��االت)‬ ‫الهيئة ال�م�ص��ري��ة ل�ق�ص��ور ال�ث�ق��اف��ة‪ ،‬ف��ي ‪ 296‬المنعزلة‪ ،‬االك �ت �م��االت ال�خ��اص��ة‪ ،‬والتحققات‬ ‫صفحة من القطع المتوسط‪ ،‬وضمن سلسلة النوعية الجزئية‪ .‬وأنه ليس لالنسان سوى أن‬ ‫«آفاق الترجمة»‪.‬‬

‫يحقق فقط أهدافاً فردية (شخصية‪ /‬خاصة)‬

‫يحتوي «ال ��دودة الهائلة» على ست قصص ومحدودة‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪119‬‬


‫عن الوجود البشري‬

‫أم��ا «الجحر» التي كتبها كافكا ف��ي السنة‬

‫ويبدو العالم في قصة «أبحاث كلب «عالماً األخ �ي��رة م��ن ح�ي��ات��ه‪ ،‬ف��ال��راوي (أن ��ا) ف��ي هذه‬ ‫بالياً‪ ،‬متكرراً على نحو ما‪ ،‬والمعنى المباشر ال �ق �ص��ة‪ ،‬ه��و ح �ي��وان م �ن �ع��زل‪ ،‬وح �ي��د‪ ،‬عصبي‬

‫لهذه القصة (األمثولة) هو العالم ال��ذي يتعلق ال �م��زاج‪ ،‬أسلوبه ف��ي الحياة والطابع النفسي‬ ‫بوجود (الكالب) كتشخيص – بين السطور – لشخصيته يذكر القارئ ب «الحفار» أو مايسمى‬ ‫يجد احتقاراً للذات‪ ،‬ويعكس إحساساً بالخزي ب «الغرير»‪ ،‬وهو حيوان ثديي يحفر لنفسه في‬ ‫من الوجود (البشري) وطبيعته التي لم تبلغ بعد باطن األرض أوك��اراً وممرات‪ .‬فهو في القصة‬ ‫مرتبة اإلنسانية‪ .‬وانسياقاً مع ذلك تبدو الكالب يعيش داخ��ل جحر يتألف من ممرات ممتدة‪،‬‬ ‫الحقيقية لكافكا‪ ،‬بعاداتها العتيقة التي تتشبث وم��خ��ازن وح��ف��رات ل�ل�ن��وم ون �ق��اط دف� ��اع‪ ،‬ك��ان‬

‫بها‪ ،‬وتلتصق بها في شغف زائد‪ ،‬وقد تضافرت حفرها كلها‪ ،‬عندما كان صغيراً‪ ،‬بعد أن قضى‬ ‫مع تلك العادات العتيدة‪ ،‬خياالت وأوهام غريبة‪ ،‬فترة تجوال بائسة‪.‬‬ ‫كأنما تجسد للقارئ صورة هنيئة‪ ،‬ربما تنعكس‬

‫وفي إحدى المناسبات‪ ،‬يسمع هذا الحيوان‬

‫على مرآتها أش�ك��ال أخ��رى للوجود البشري‪ ،‬ض��وض��اء تتكرر‪ ،‬ص ��ادرة‪ ..‬ال ب��د م��ن ع��د ِّو ما‪،‬‬ ‫تختلف عن صورته الحالية النكدة‪ .‬إن الجو ويتبدى له حينذاك عقم كل إج��راءات الدفاع‬

‫الذي تتحرك الكالب في إطاره‪ ،‬هو جو تصوره التي كان أعدها ضد هذا العدو المجهول‪.‬‬ ‫(القصة) على أنه عالم يخلو من الفرح‪ ،‬عالم‬ ‫و (الجحر) هو رم��ز لألمان عندما يتحقق‬ ‫تحكمه الغرائز‪ ،‬وتتسلط عليه العادة الروتينية‪.‬‬ ‫في الدنيا‪ .‬فهو ليس مجرد فجوة يمكن اللجوء‬ ‫كما أن ثمة خاصية تتمثل في قصص لكافكا‬ ‫اليها‪ ،‬بل هو التعبير عن طبيعته الخاصة (طبيعة‬ ‫اتخذ فيها السرد صيغة الجمع (نحن)‪ ،‬بدالً‬ ‫الجحر) التي ال يمكن فقدانها‪.‬‬ ‫من السرد من زاوية رؤية المفرد المتكلم (أنا)؛‬ ‫وب �ه��ذا يصبح ال �ص��راع ف��ي ال��دن�ي��ا جحيماً‬ ‫فهذه ال (نحن) تظهر في قصة «س��ور الصين‬ ‫العظيم» وهي صيغة صريحة حميمية مفتوحة‪ ،‬متحرك ال��زواي��ا‪ ،‬تتبادل فيه الحقائق أماكنها‬ ‫فقد أحس «الراوي» بحاجته إلى الحماية التي وأوضاعها‪ ،‬وتلتبس في كثافة حالكة مراوغة‪،‬‬

‫تكمن ف��ي ه��ذه ال �ـ (ن �ح��ن)‪ ،‬ف��ي غ�م��ار التوحد متسلحة بكلمات ملتبسة متشابهة‪ ..‬لهذا يصبح‬ ‫المنعزل ف��ي صيغة ال� ��راوي وال �س��رد بضمير الصراع صراعاً صلباً جهنمياً له منطق وحوار‬ ‫المتكلم الفرد‪.‬‬

‫الخنجر ذي الحدين‪.‬‬

‫* شاعر وقاص من مصر‪.‬‬ ‫ ‬ ‫(‪ )1‬من مقدمة ترجمة رواية «من قتل موليرو؟» لماريو فارجاس إيوسا‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬حامد أبو أحمد‪ ،‬الهيئة المصرية‬ ‫للكتاب ‪ – 1988‬ص ‪.9‬‬ ‫(‪ )2‬من «إعادة ابتكار الحداثة»‪ ،‬مارت روبير ‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد برادة ‪ ،‬مجلة «أدب ونقد»‪ ،‬العدد ‪ – 20‬مارس ‪ ،1986‬ص‬ ‫‪.140‬‬

‫‪ 120‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ق�������������������������������������������������������������راءات‬

‫الكتاب ‪ :‬مفاجآت قدمية في أغنية الشمس‬ ‫املؤلف ‪ :‬إبراهيم الزيد‬ ‫الناشر ‪ :‬نادي الطائف األدبي‬

‫> د‪ .‬علي محمد هنداوي‬

‫تتزاحم المفاجآت واالنطباعات والمشاعر‪ ،‬وتتنوع ردود الفعل لدى متصفح ديوان‬ ‫«أغنية الشمس» للشاعر إبراهيم الزيد؛ فالشمس التي يغنيها أو يغني لها فيجعلها‬ ‫عنوان ًا لديوانه وإلح��دى قصائده هي مصدر النور في ه��ذا الكون‪ ،‬بل مصدر ال��دفء‬ ‫والحياة؛ وهى كذلك رمز الكشف والوضوح‪ ،‬وفضح الزيف والضالل؛ وهي في ذات الوقت‬ ‫شمس اإلسالم والعروبة التي يحمل الجميع همّ غروبها‪ ،‬وإن كانت هناك دالئل متكاثرة‬ ‫على أنها تكاد تؤذن بالمغيب مع تداعي األمم علينا ظلم ًا واستضعافاً‪.‬‬ ‫ولعل اختيار الشاعر قصيدته «موكب‬ ‫النصر» ليفتتح بها ديوانه ما يدل بوضوح‬ ‫ص��ارخ ومفاجئ على أن��ه يعيش م��ع أمته‬ ‫أف��راح�ه��ا وأت��راح �ه��ا‪ ،‬مهما ن��أت ببالدها‬ ‫المسافات؛ فهو يوجه قصيدته إلى الجزائر‬ ‫الظافرة والى شعبها الحبيب‪ ..‬إلى األمة‬ ‫العربية وهى تعيش أفراح النصر‪ ..‬بانتصار‬ ‫الحرية في أرض األحرار‪ ..‬عبارات كادت‬ ‫تنسينا إي��اه��ا غ �ص��ص‪ ،‬ص��رن��ا نتجرعها‬ ‫صباح مساء‪ ،‬مما نعاني من عدوان وظلم‬ ‫وفرقة والتباس وحيرة‪ ،‬بخالف ما كانت‬ ‫تتسم ب��ه مرحلة تاريخية سابقة قريبة‬ ‫في عمر الزمن ك��ان الصراع فيها واضح‬ ‫الطرفين إلى حد كبير‪.‬‬

‫ال يلبث أن يطل علينا في قصائد أخر عن‪:‬‬ ‫«أحمدو بيلو»‪ ،‬و«جزيرة العرب»‪ ،‬و«المجد‬ ‫للعرب»‪ ،‬و«ي��ا فتية ال�ع��رب» و«ي��ا حزيران‬ ‫ش �ك��راً»‪ ،‬و«ص�لاة لشعب اليمن»‪ ،‬و«العام‬ ‫وش �ب��ح ي��ون �ي��و»‪ ،‬و«ال ��زاح� �ف ��ون»‪ ،‬و«ن�ش�ي��د‬ ‫بالدي»‪.‬‬ ‫ويتنوع الوعاء الموسيقى ال��ذي يصب‬ ‫فيه الشاعر قريضه بين قصيدة التراث‬ ‫األصيل العمودية‪ ،‬وبين شعر التفعيلة‪ ،‬أو‬ ‫السطر الشعري‪ ،‬وهو أمر يواكب به أقرانه‬ ‫من شعراء تلك المرحلة في العالم العربي‬ ‫ع��ام��ة‪ ،‬مثلما ت�ت�ق��ارب ال�ه�م��وم وت�ت��راس��ل‬ ‫المشاعر‪.‬‬

‫وعلى الرغم من النزعة الخطابية في‬ ‫وليست القصيدة االفتتاحية للديوان‬ ‫وحيدة في نوعها‪ ،‬فشعور صاحبنا باالندماج قصيدة االفتتاح‪ ،‬فإنها ال ينقصها الصدق‬ ‫في قضايا أمته بكل ما تعنيه كلمة األمة‪ ،‬والشعور الدافق‪ ،‬الذي ربما ترك أثره في‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪121‬‬


‫لجوء الشاعر إلى مخالفات لغوية مثل إسقاط «أنْ» في قوله‪ :‬وأبى يكون من األصاغر‪ ،‬واستعمال‬ ‫جمع المؤنث والمقصود المذكر في قوله الموت حوّم بالكوافر‪ ،‬واستعمال الثالثي غير المسموع في‬ ‫قوله‪ :‬ومناضل قحم المخاطر‪ ،‬بدل «اقتحم» وغير ذلك‪.‬‬ ‫ال في أكثر‬ ‫غير أن هذا وإن شاع مثله في سائر الديوان ال ينفي صدق الشعور الذي ولد نفساً طوي ً‬ ‫من قصيدة‪ ،‬ومنها قصيدة االفتتاح التي نختار منها قوله‪:‬‬ ‫ال�������ن�������ص�������ر أق���������ب���������ل ي�����������ا ج�������زائ�������ر‬

‫ال������ف������ج������ر ش�����ع�����ش�����ع ب�����ال�����ب�����ش�����ائ�����ر‬

‫ال�����������ن�����������ور أش������������������رق ف�����������ي ال��������دن��������ا‬

‫ف����������أم����������اط داج����������ي����������ة ال�����س�����ت�����ائ�����ر‬

‫وأط����������������ل م����������ن خ�������ل�������ف ال����ل����ه����ي����ب‬

‫ع������ل������ى ال�����������ب�����������وادي وال�������ح�������واض�������ر‬

‫ف������������ج������������ر ج���������������دي���������������د م���������ش���������رق‬

‫ع�������ه�������د ج���������دي���������د م�����������ن م�����ف�����اخ�����ر‬

‫أم���������������������ل ت�����������ق�����������دس�����������ه ال�������ش�������ع�������و‬

‫ب وت��������ف��������ت��������دي��������ه ب��������ك��������ل ث������ائ������ر‬

‫ع�����������رف�����������ت ف���������رن���������س���������ا ص������دق������ن������ا‬

‫ف���������ي ك���������ل س������������اح ف���������ي ال������ج������زائ������ر‬

‫ل��������������و ت�����������س�����������أل�����������ون ض������م������ي������ره������ا‬

‫إن ك������������ان ش������������يء م���������ن ض����م����ائ����ر‬

‫س������ب������ع������ون ش���������ه���������ر ًا ف���������ي ال����ك����ف����ا‬

‫ح ون�������ح�������ن ن�����ص�����م�����د أو ن����ص����اب����ر‬

‫ج�����������ي�����ل�����ا ق����������������وي���������������� ًا راس�����������خ�����������ا‬

‫ب�������ال�������م�������وت ب������������األع������������داء س�����اخ�����ر‬

‫وم���������������واك���������������ب ال������������ش������������ه������������داء را‬

‫ح��������ت ل�����ل�����خ�����ل�����ود إل����������ى ال����م����ق����اب����ر‬

‫أب����������������������ت ال�������������ح�������������ي�������������اة ب���������ذل���������ة‬

‫وب���������م���������وط���������ن ي������ح������م������ي������ه غ������������ادر‬

‫وتحمل قصيدة العبقرية المظلومة ضرباً آخر من ضروب اندماج الشاعر في قضايا أمته‪ ،‬إذ‬ ‫ينبري فيها مدافعاً عن أهل الفكر وحملة اليراع‪ ،‬ويذكّر بفضلهم الذي ال تعدله مكافأة‪ ،‬وأي مكافأة‬ ‫توفي مَن يقدم بعض روحه ورحيق فكره ألمته؟ فيقول‪:‬‬ ‫مَ ��������ن ل���ل��أدي������ب ال����ع����ب����ق����ري ي����ك����رم؟‬

‫مَ �����ن ل��ل��م��ف��ك��ر ف����ي ال���ح���ي���اة ي��ع��ظ��م؟‬

‫مَ ����������ن ل�����ل�����ن�����ب�����وغ ي�������ع�������زه وي�����ج�����ل�����ه؟‬

‫أو ل���ي���س ح���ق��� ًا م����ا أق�������ول؟ ت��ك��ل��م��وا!‬

‫�����اع��ل��ا ف������ي ظ��ل��م��ة‬ ‫ً‬ ‫ال�����راف�����ع�����ي�����ن م�����ش‬

‫ال�����ذائ�����دي�����ن ال����ش����ر ع����ن����ا مَ �������ن هُ �������مُ ؟‬

‫ال������ن������اذري������ن ح����ي����ات����ه����م ِم��������ن أج���ل���ن���ا‬

‫وألج����ل����ن����ا ت���ل���ق���ى ال����ص����ع����اب ف��ت��ب��س��م‬

‫ال�����واق�����ف�����ي�����ن م������ش������اع������ر ًا م���ش���ح���ون���ة‬

‫وم����واه����ب���� ًا ج����ل����ي‪ ..‬ت��ج��ي��ش وت��خ��ض��م‬

‫وع���������واط���������ف��������� ًا ح�������اس�������ة وره�����ي�����ف�����ة‬

‫ه����ي‪ -‬ال أق������ول‪ -‬ك���ري���م���ة‪ ..‬ب���ل م��ره��مُ‬

‫وتكشف عبارات الشاعر ‪ -‬مع صدق حسه ونبل مقصده‪ -‬مآخذ لغوية مثلما سبق أن أشرنا‪،‬‬ ‫ومنها هنا ما نحسه من قلق تركيبي وفى المعنى في الشطر الثاني من البيت الثالث‪ ،‬وكذلك في‬ ‫لفظ «جلي»‪ ،‬والفعل «تخضم» إذ الخضم نوع من مضغ طعام فيه ليونة‪ ،‬وهو معنى غير مراد بطبيعة‬ ‫ضمّ» كانت في ذهن الشاعر‬ ‫«خ َ‬ ‫الحال‪ ،‬بل المقصور لفظ يؤدي معنى التأجج أو االجتماع‪ ،‬ولعل كلمة ِ‬ ‫ال غير مستعمل بهذا المعنى؛ وقد أحسن الشاعر في قوله‪:‬‬ ‫فاشتق منها فع ً‬ ‫‪ 122‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ال ي����ح����م����ل����ون م������داف������ع������ ًا رش������اش������ةً‬

‫ب���ال���ل���ي���ن ب���ال���ح���س���ن���ى ح����دي����ث ي��ف��ه��م‬

‫وس��واء كان الفعل «يفهم» مبنياً للمعلوم أم للمجهول فإنه يؤدي المعنى المقصود أدا ًء حسَ نا؛‬ ‫ويفيض الشاعر في تبيان اآلثار الحميدة للمفكرين واألدباء والشعراء‪ ،‬وهو يستلهم التراث في حديثه‬ ‫عنهم‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ه���������ذا ي�����ن�����اف�����ح ف�������ي ص������م������ود ه����ائ����ل‬

‫و ف����ي ال���س���ي���اس���ة ‪-‬ال أق��������ول‪ -‬م��ع��ل��م‬

‫رزق ال�����ب�����راع�����ة ف�����ي ح�����دي�����ث س���ائ���غ‬

‫ال���س���ح���ر ك�����ل ال���س���ح���ر ف���ي���م���ا ي��ل��ه��مُ‬

‫وأخ���������وه ف�����ي دن����ي����ا ال����م����ع����ارف ح��ج��ة‬

‫ف����ي ال���ش���ع���ر ف����ي ن���ث���ر ال���ب���ي���ان ي��ن��غّ ��م‬

‫إن ك�����ن ح����رب����ا ف����ال����ص����واع����ق ل��ف��ظ��ه‬

‫ن��������ار ع����ل����ى األع�������������داء دوم���������ا ت���رج���م‬

‫ه�������و ل�����ل�����س��ل��ام ح�����م�����ام�����ة م���ح���ب���وب���ة‬

‫ب���ي���ض���اء ت���س���ج���ع ب���ال���ه���دي���ل وت��ب��س��م‬

‫أو غ����ص����ن زي������ت������ون ي����ع����ان����ق ص���ن���وه‬

‫أم���������ل ت�����ق�����دس�����ه ال�����ش�����ع�����وب وت���ل���ث���م‬

‫ق�������������������������������������������������������������راءات‬

‫ب��س��وى ال���رص���اص دف��اع��ه��م ون��ض��ال��ه��م‬

‫خ����س����يء ال�����رص�����اص ش���ري���ع���ة ت��ت��ك��ل��م‬

‫ويبين صاحبنا أثر الشعر في هدهدة المشاعر وتهدئة الخواطر‪:‬‬ ‫ك������م م����ه����ج����ة ح��������ري ت����������ذوب م��������رارة‬

‫وج����������دت ب����ظ����ل����ك ب����س����م����ةً ال ت���ه���رم‬

‫ك����م أك����ب����د ك�������ادت ت����م����وت م����ن األس����ى‬

‫أن�����ق�����ذت�����ه�����ا م�������ن هُ ��������������وّة ال ت����رح����م‬

‫ك�������م ف����ت����ي����ة ك�����������ادت ت����ت����ي����ه ب����درب����ه����ا‬

‫ف����ه����دي����ت����ه����ا ف����ي����م����ا ن������������راك ت����ق����دم‬

‫وال يمنعنا االسترسال هاهنا من التنبيه إلى هنات لغوية للشاعر كاستعمال الفعل «تتيه» بدل‬ ‫«تتوه» ولو استعمل «تضيع» ألفاد المعنى وهذا لفظ سائغ في الفصحى شائع في العامية السعودية‬ ‫وفي غيرها؛ ويختم الشاعر بقوله‪:‬‬ ‫ل������ك ي������ا أدي����������ب م����ك����ان����ة م����رم����وق����ة‬

‫ع����ن����دي وإن ج������ار ال�����زم�����ان ال��م��ع��ت��م‬

‫ل����ك ي����ا م���ف���ك���ر م����ا ت����ش����اء ف��م��ه��ج��ت��ي‬

‫ل����ك ب����ال����والء ال���م���ح���ض دوم������ا ت��ف��ع��مُ‬

‫وتبدو قصيدة شراع أشبه شيء بحديث من الشاعر إلى نفسه‪ ،‬بما يضطرب فيها من أفكار ورؤى‬ ‫يرضى عنها حينا ويأنس بها‪ ،‬وتعصف به حينا آخر‪ ،‬فيكاد يغرق؛ وهو مع ذلك يخرج نفسه من نفسه‬ ‫ليجرد منها إنساناً آخر‪ ،‬يراه يكافح الموج‪ ،‬وال يظهر منه إال شراع يتجه إلى أعلى‪ ،‬محاوالً الوصول‬ ‫إلى السماء‪ ،‬ولكن أنّى له ذلك؟‬ ‫وجلست في الشط القريب‪..‬‬ ‫على الصخور‪..‬‬ ‫والموج من تحتي يمور‪..‬‬ ‫وسحبت في المد الكبير‪..‬‬ ‫وقد ترفق في دالل‪..‬‬ ‫والموجة النشوى تميس على الرمال‪..‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪123‬‬


‫ومن بعيد‪..‬‬ ‫دوى النداء‪..‬‬ ‫إني لفي شك‪ ..‬ولكن ال محال‪..‬‬ ‫إني سمعت نداء قلب‪ ..‬يستغيث‪..‬‬ ‫في اللجة الزرقاء‪..‬‬ ‫في لج المحيط‪..‬‬ ‫بين الرياح‪..‬‬ ‫زآّرة مثل األسود‪..‬‬ ‫هدّ ارة مثل الرعود‪..‬‬ ‫وهناك في الجو الرهيب‪..‬‬ ‫ومن بعيد‪..‬‬ ‫الح الشراع‪..‬‬ ‫وأتى يشق طريقه‪..‬‬ ‫ويغالب الموج المرير‪..‬‬ ‫نحو السماء‪..‬‬ ‫أنّى يطير‪( ..‬في الديوان‪ :‬أنا يطير)‬ ‫حتى تدانى للحضيض‪..‬‬ ‫إن شاعرنا تداعبه بل تؤرقه فكرة الموت التي يخرجها من داخله ليراها ويعرضها‪ ،‬فيقول في‬ ‫آخر القصيدة‪ /‬المعركة‪ /‬المرحلة‪:‬‬ ‫ومضى القدر‪..‬‬ ‫بالزورق المكدود‪..‬‬ ‫يدفعه سريع ًا للخطر‪..‬‬ ‫وأتى المساء‪..‬‬ ‫والبحر ممتلئ دماء‪..‬‬ ‫فاهتز قلبي بالشجن‪..‬‬ ‫والليل يومئ بالكفن‪..‬‬ ‫وجيوشه السوداء ترقص في الفضاء‪..‬‬ ‫أال مناص من الفناء‪..‬‬ ‫فشرقت بالدمع الغزير‪ ..‬وقد همر‪..‬‬ ‫أال أراه إلى األبد‪! ..‬‬ ‫‪ 124‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫أن يعبر من خاللها عن نفس تكابد ما تكابد أمتها من ضيق‪ ،‬ويصير الضباب معادالً موضوعياً لهذا‬ ‫الضيّق‪ ،‬بل يحاول الشاعر أن يستعين به على دفع ما تقاسيه أمته‪:‬‬ ‫زد ف��������ي ض�����ب�����اب�����ك ‪ -‬ي��������ا ض����ب����اب‬

‫وام������������������دد رواق������������������ك ك�����ال�����س�����ح�����اب‬

‫ان�����������������ث�����������������ره ف����������������������وق س��������ن��������اب��������ل‬

‫ت�����������������وج ب�������������ه ه�����������������ام ال�������ه�������ض�������اب‬

‫ان��������ف��������ث��������ه ف�����������ي وج���������������ه ال�����ف�����ض�����ا‬

‫وان����������ث����������ره ف���������ي ج������������وف ال�����ع�����ب�����اب‬

‫ظ������ل������م������ة‬

‫ك������������������ادت ت�����ج�����ن�����ب�����ن�����ا ال���������ص���������واب‬

‫وأزح‬

‫ب��������������م��������������دك‬

‫ق�������������������������������������������������������������راءات‬

‫ويبدو عنوان مقطوعته القصيرة «ضباب» موحياً‪ ،‬فبرغم كونها أبياتاً وصفية‪ ،‬فإن الشاعر ال يلبث‬

‫ثم يختم بما يجب أن تكون عليه أمته‪:‬‬ ‫واج������������ع������������ل رب������������وع������������ي ص����ف����ح����ة‬

‫ب�������ي�������ض�������اء ان���������ص���������ع م����������ن ك�����ت�����اب‬

‫إن�����������������ي ل�������ي�������ح�������زن�������ن�������ي ال���������وج���������و‬

‫د وق����������������د ت����������دث����������ر ب������اك������ت������ئ������اب‬

‫إن�������������������ي ألخ������������ج������������ل م��������������ن ح�����ي�����ا‬

‫ةٍ ‪ ،‬ال ي��������������زال ب������ه������ا اض�������ط�������راب‬

‫ومثلما يحلم برفع ضبابات الحزن واالنكسار عن أمته‪ ،‬يدعو ابنة وطنه في المقطوعة التالية‬ ‫«بنت الجزيرة» إلى االنطالق إلى آفاق العلم والنور الحق‪ ،‬وان تنزع عنها لباس الجهل والتخلف عن‬ ‫الركب‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫أن‬

‫ت����������������ت����������������رددي‬

‫«ب��������ن��������ت ال����������ج����������زي����������رة» أس�������رع�������ي‬

‫إي�������������������������������اك‬

‫ه���������ل���������ا ن����������������ظ����������������رت ل���������ع���������ال���������م‬

‫م���������ن���������ه ال�����������ج�����������ه�����������ول ب�������ل������ا غ�����د‬

‫ف�������������ت�������������ي�������������ان�������������ه ف���������ت���������ي���������ات���������ه‬

‫ي�������������ت�������������داف�������������ع�������������ون ل������م������ع������ه������د‬

‫وبعد أن يقارن تخلف امتنا بتقدم غيرها يعود مستحثاً ابنة وطنه‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫م�����������ن ج���������������اء ن���������ح���������وك داع���������ي��������� ًا‬

‫ل�������ل�������ج�������ه�������ل‪ ..‬دون�����������������ك ف�����������������اردده‬

‫ي��������ك��������ف��������ي ض���������ي���������اع���������ك ح�����ق�����ب�����ة‬

‫ف�����������������ي ظ�����������������ل ل������������ي������������ل أس�����������������ود‬

‫ي������ك������ف������ى ان�������������دح�������������ارك أع��������ص��������ر ًا‬

‫خ���������ل���������ف ال����������������ج����������������دار األن���������ك���������د‬

‫ويبدو أن طبيعة المناسبة التي صاغ فيها الشاعر قصيدته لم تمهله وقتاً يراجع فيه لغتها‪ ،‬فندت‬ ‫منه هنات منها استعماله الفعل «يطل» بدل «يطال»‪ ،‬وترك نصب الحال وصفتها في قوله‪:‬‬ ‫إني رأيت نديهم ‬

‫بالعام مخضر ندي‬

‫وكذلك ترك نصب لفظ «مبلد» الذي وقع نعتاً منصوباً للمفعول به المنصوب «فكراً»‪ ،‬ويبدو أن‬ ‫انشغال الشاعر بالقافية ورويها المكسور جعله يهمل مراعاة القاعدة النحوية‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪125‬‬


‫الكتاب ‪ :‬مجلس الشورى ‪ -‬قراءة في جتربة حتديثه‪.‬‬ ‫املؤلفون ‪ :‬زهير السباعي‪ ،‬زياد السديري‪ ،‬صالح املالك‪،‬‬ ‫عبدالرحمن اجلعفري‪ ،‬عبدالرحمن الشبيلي‪،‬‬ ‫عبدالعزيز النعيم‪ ،‬فالح الفالح‪ ،‬محمد الشريف‪،‬‬ ‫عبدالرحمن الشبيلي‪.‬‬ ‫احملرر ‪ :‬د‪ .‬عبدالرحمن الشبيلي‪.‬‬ ‫> د‪ .‬نواف بن ذويبان الراشد*‬

‫مَن يستعرِ ض كتاب «مجلس الشورى‪ :‬قراءة في تجربة تحديثه»‪- ،‬‬ ‫الصادر في ديسمبر ‪2008‬م‪ ،‬في (‪ )238‬صفحة من الحجم المتوسط‪،‬‬ ‫وتضمن مقدمة وسبعة فصول؛ ش��ارك في إع��داده ثمانية من أعضاء‬ ‫يالحظ تدرج تشكيل‬ ‫المجلس الذين استمروا ثالث دورات متتالية ‪ِ -‬‬ ‫المجلس منذ بدايته وحتى وقتنا الحالي‪ ..‬فقد كانت البداية عام‬ ‫‪1943‬ه��ـ بمجلس استشاري‪ ،‬ثم بمجلس أهلي‪ ،‬ثم بمجلس شورى عام‬ ‫‪1346‬هـ ‪ ،‬والذي تشكل من ثمانية أعضاء‪ ،‬ثم وصل عددهم إلى ‪ 20‬عضو ًا في‬ ‫عهد الملك عبد العزيز رحمه الله‪ ،‬ثم ‪25‬عضوا في عهد الملك سعود‪ ،‬ثم تناقص تدريجي ًا بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬وظل جامدا‪ ،‬حتى أمر الملك خالد بتشكيل لجنة عام ‪1400‬هـ لوضع نظام جديد للمجلس‪،‬‬ ‫وعندما صدرت حزمة من األنظمة الرئيسة للبالد‪ ،‬في عهد الملك فهد رحمهم الله جميعا‪ ،‬كان‬ ‫منها نظام مجلس الشورى‪.‬‬ ‫وع��ى ال��رغ��م م��ن إي ��راد بعض التفصيالت عن المجلس‪ ،‬وآل �ي��ات العمل ف �ي��ه‪ ..‬كما ي ��ورد تجربة‬ ‫م�س�ي��رة المجلس م�ن��ذ ع��ام ‪ 1343‬ه �ـ وح �ت��ى ع��ام المشاركين فيه‪ .‬ويتكون الكتاب من سبعة محاور‪،‬‬ ‫‪1412‬ه��ـ‪ ،‬إال أن األه��م فيها ك��ان األنظمة الرئيسة هي‪:‬‬ ‫الصادرة عام ‪1412‬هـ؛ ومن أبرز موادها نص المادة‬ ‫ال�م�ح��ور األول‪ :‬السلطة التنظيمية‪ ،‬فوظيفة‬ ‫الثامنة من النظام األساسي للحكم وهو‪( :‬يقوم الحكم المجلس شورية‪ ،‬إذ يطالب المشاركون بالمجلس بأنه‬ ‫في المملكة على أساس العدل والشورى والمساواة لكي تتحقق حكمة الشورى ومقاصد الديمقراطية‪ ،‬ال‬ ‫وفق الشريعة اإلسالمية)‪ .‬كما نصت المادة الرابعة بد من أن تكون قرارات المجلس إلزامية‪ ،‬وأن يعطى‬ ‫واألربعون على أن تتكون السلطات في الدولة من سلطة الرقابة السابقة والالحقة على أداء الحكومة‪،‬‬ ‫السلطة القضائية‪ ،‬والسلطة التنفيذية‪ ،‬والسلطة وع�ل��ى ميزانية ال��دول��ة؛ وه��م يطالبون ب��أن يعطى‬ ‫التنظيمية‪ ،‬وان تتعاون في أداء وظائفها‪ ..‬وأن الملك مجلس الشورى السلطة التنظيمية (التشريعية)‪ ،‬وان‬ ‫هو مرجع هذه السلطات‪.‬‬ ‫يكون لمجلس الوزراء السلطة التنفيذية‪.‬‬ ‫كما أوضح الكتاب آرا ًء متباينة ألعضاء المجلس‪،‬‬ ‫المحور الثاني‪ :‬نظام المجلس ولوائحه‪ ..‬فقد تم‬ ‫واخ�ت�لاف��ا ف��ي وج �ه��ات النظر ب�ش��أن مستوى أداء زيادة عدد أعضائه من ستين إلى تسعين ثم إلى مائه‬ ‫‪ 126‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


‫ويرى بعض األعضاء انه بعد مرور تلك السنوات‬ ‫الطويلة‪ ..‬فإن المجلس بحاجة إلى تعزيز بأن تكون‬ ‫قراراته إلزامية‪ ،‬وأن ال تصدر أي أنظمة إال عبر‬ ‫مجلس الشورى‪.‬‬ ‫المحور الثالث‪ :‬عضوية المجلس‪ ..‬يبلغ عدد‬ ‫أع �ض��اء المجلس ‪ 150‬ع �ض��واً ب�م��ن فيهم النائب‬ ‫والمساعد‪ ،‬إضافة إل��ى ص��وت الرئيس‪ ،‬وجميعهم‬ ‫يعيّنون م�ب��اش��رة‪ .‬ويعتقد بعض أع �ض��اء المجلس‬ ‫ب �ض��رورة م �ج��ارات بعض دول الخليج بالمزج بين‬ ‫التعيين واالن �ت �خ��اب‪ ،‬وي��ؤك��د بعض األع �ض��اء أن ال‬ ‫م�ح��اذي��ر تجلبها عملية االن�ت�خ��اب لنصف أعضاء‬ ‫المجلس‪ ،‬فتجربة االنتخابات البلدية كانت ناجحة‪،‬‬ ‫وأن��ه ال بد من تمثيل جميع فئات المجتمع وجميع‬ ‫مناطق المملكة‪ ،‬ويطالب بعضهم بتمثيل المرأة في‬ ‫مجلس الشورى ألنها نصف المجتمع‪.‬‬

‫ال�م�ح��ور ال �خ��ام��س‪ :‬المجلس وال�م�ج�ت�م��ع‪ ،‬ي��رى‬ ‫األعضاء تفاوت نظرة المجتمع السعودي إلى مجلس‬ ‫ال �ش��ورى‪ ،‬فمنهم م��ن ي��رى نجاحه ف��ي أداء ال��دور‬ ‫المطلوب منه‪ ،‬ومنهم من عقد عليه آم��اال واسعة‬ ‫تفوق إمكاناته‪.‬‬

‫ق�������������������������������������������������������������راءات‬

‫وعشرين‪ ..‬وأخيرا إلى مائه وخمسين عضوا‪ ،‬وكان‬ ‫نظام المجلس يعالج مسألة عدم توافق رأي مجلس‬ ‫الوزراء مع ما يصدر من مجلس الشورى‪ ..‬بأن األمر‬ ‫يعود إلى تقدير الملك وقراره‪ ،‬وتم تعديل ذلك بأن‬ ‫يعاد طرح األمر بين مجلس الشورى ومجلس الوزراء‪،‬‬ ‫فإذا استمر الخالف بينهما يرفع ألنظار الملك‪ ،‬وكان‬ ‫النظام في بداياته ينص على أن مجلس الشورى ال‬ ‫يبحث في اقتراح أي نظام جديد‪ ،‬أو تعديل نظام‬ ‫قائم إال بعد استئذان مسبق من الملك‪ ،‬ثم أعطيت‬ ‫الصالحية للمجلس دون استئذان‪.‬‬

‫بسب عدم كفاءة النسب‪ ،‬في حين نجح في دراسة‬ ‫تداعيات أحداث ‪ 11‬سبتمبر والتعامل معها‪ ،‬ودراسة‬ ‫قضايا اإلره��اب‪ ،‬ودراس��ة تعزيز النزاهة ومحاربة‬ ‫الفساد‪.‬‬

‫المحور ال�س��ادس‪ :‬المجلس والهيئات المحلية‬ ‫والخارجية‪ ،‬ويرى األعضاء باختصار نجاح المجلس‬ ‫في مد جسور التعاون مع الهيئات الخارجية‪ ،‬وضعف‬ ‫ال�ع�لاق��ة م��ع مجالس المناطق ك��اف��ة‪ ،‬وي��رى بعض‬ ‫المشاركين ض��رورة التنسيق بين اللجان والهيئات‬ ‫التنظيمية ف��ي ال�ب�لاد م��ع مجلس ال �ش��ورى‪ .‬وي��رى‬ ‫بعضهم ض ��رورة أن ي�ك��ون رئ�ي��س مجلس ال�ش��ورى‬ ‫ع�ض��وا ف��ي هيئة البيعة م �ث�لاً‪ ،‬وي��ؤك��د الجميع أن‬ ‫ال��زي��ارات المتبادلة لمجلس الشورى مع المجالس‬ ‫البرلمانية في العالم منحت المجلس نافذة لالطالع‬ ‫على تجارب العالم‪.‬‬

‫المحور السابع‪ :‬ت�ج��ارب شخصية لثمانية من‬ ‫أعضاء المجلس وه��م د‪ .‬زهير السباعي‪ ،‬د‪ .‬زياد‬ ‫السديري‪ ،‬د‪ .‬صالح المالك‪ ،‬د‪ .‬عبدالرحمن الجعفري‬ ‫‪ ،‬د‪ .‬عبدالرحمن الشبيلي‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز النعيم‪ ،‬د‪.‬‬ ‫فالح الفالح‪ ،‬واألس�ت��اذ محمد الشريف‪ ،‬وق��د أورد‬ ‫المحور ال��راب��ع‪ :‬أداء المجلس‪ ،‬قيادة المجلس السادة األعضاء بعض تجاربهم وآرائهم الشخصية‬ ‫رباعية تتمثل في الرئيس ونائبة ومساعده واألمين في المجلس حول المحاور المذكورة آنفا‪.‬‬ ‫العام‪ ،‬وقد نجحت هذه القيادة في جميع الجوانب‬ ‫وينتهي المؤلفون إلى أن المجلس ‪ -‬بال شك ‪-‬‬ ‫لتحقيق الكفاءة اإلدارية والفنية وحسن األداء‪ ،‬ويعتقد قام بدور فاعل على مستوى الوطن‪ ،‬وأن األنظمة التي‬ ‫بعض األعضاء أن المجلس أدى وظيفته المطلوبة صدرت عنه كانت جيدة‪ ،‬وأن أداءه أسهم في ترسيخ‬ ‫منه بنجاح‪ .‬وأشار الكتاب إلى إن المجلس اخفق في قواعد الحكم واألنظمة‪ ،‬كما أن دوره كان كبيراً في‬ ‫تقديم حلول لبعض المشاكل االجتماعية مثل قضية تحسين األداء لمعظم األجهزة الحكومية‪ ،‬وأن أثره‬ ‫قيادة المرأة للسيارات‪ ،‬وقضية الفصل بين األزواج واضح على الصعيدين الداخلي والخارجي‪.‬‬ ‫* سكاكا الجوف‪.‬‬

‫اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ ‪127‬‬


‫األنشطة الثقافية باملؤسسة‬

‫> كتب عماد املغربي‬

‫وثائق الجوف وأهمية المحافظة عليها‬ ‫اس �ت��ؤن �ف��ت األن �ش �ط��ة ال �ث �ق��اف �ي��ة ل �ل�م��ؤس �س��ة (ل �ل �ع��ام‬ ‫‪1430/1429‬ه� �ـ) بمحاضرة عن‪« :‬وثائق الجوف وأهمية‬ ‫المحافظة عليها»‪ ،‬ألقاها األستاذ الباحث فائز بن موسى‬ ‫الحربي‪ ،‬ف��ي قاعة ال�ع��رض والمحاضرات ب��دار الجوف‬ ‫للعلوم يوم االثنين ‪1430/3/26‬هـ‪ ،‬قدم لها األستاذ أحمد‬ ‫اب��ن ناصر الشمري‪ ،‬حضرها جمع من أهالي المنطقة‬ ‫ومنسوبو اإلدارات الحكومية‪ ..‬وقد تم نقلها إلى القسم النسائي عبر الدائرة التليفزيونية المغلقة‪.‬‬

‫الترجمة ودورها في تواصل الحضارات ونقل التقنية‬ ‫أقيمت يوم األربعاء ‪1430/04/19‬ه�ـ في قاعة العرض‬ ‫والمحاضرات ب��دار الجوف للعلوم ن��دوة ع��ن‪« :‬الترجمة‬ ‫ودورها في تواصل الحضارات ونقل التقنية‪ ،‬شارك فيها‬ ‫الدكتور عبدالله إبراهيم المهيدب‪ ،‬وكيل كلية الهندسة‬ ‫للدراسات العليا وضبط ال�ج��ودة بجامعة الملك سعود‪،‬‬ ‫وال��دك �ت��ور أح�م��د عبدالله ال�ب�ن�ي��ان‪ ،‬رئ�ي��س مجلس إدارة‬ ‫الجمعية العلمية السعودية للغات والترجمة‪ ،‬والدكتور ميجان حسين الرويلي‪ ،‬عضو هيئة التدريس‬ ‫بقسم اللغة االنجليزية بجامعة الملك سعود‪ ،‬وأدارها الدكتور عاطف أبو المعاطي‪ ،‬المحاضر بقسم‬ ‫اللغة اإلنجليزية بجامعة الجوف‪.‬حضرها عدد من أهالي المنطقة والمثقفين فيها‪ .‬وقد تم نقلها‬ ‫للقسم النسائي عبر الدائرة التليفزيونية المغلقة‪.‬‬

‫أهمية أدب الطفل وتحديات الكتابه له‬ ‫أقيمت يوم الثالثاء ‪1430/5/17‬ه��ـ في قاعة العرض‬ ‫والمحاضرات بدار الجوف للعلوم محاضرة عن‪« :‬أهمية‬ ‫أدب الطفل وتحديات الكتابه له»‪ ،‬ألقاها األستاذ األديب‬ ‫يوسف بن إبراهيم المحيميد‪ ،‬وقدم لها األستاذ قبيل بن‬ ‫تركي ب��داي الشمري‪ ،‬المعلم بثانوية اليرموك‪ ،‬حضرها‬ ‫عدد من أهالي المنطقة ومثقفيها‪.‬‬

‫
‬

‫وقد تم نقلها للقسم النسائي عبر الدائرة التليفزيونية المغلقة‪.‬‬ ‫‪ 128‬اجلوبة ‪ -‬ربيع ‪1430‬هـ‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.