مجلة سورمَي العدد 11 القسم العربي

Page 1

‫سور َمي‬ ‫خميرة الواقع‪ ..‬نشوة الحقيقة‬ ‫سور َمي‬ ‫مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬ ‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬ ‫ملف العدد‪( :‬األدب‪ /‬نبضا للحياة‪...‬نبضا لأللم)‬ ‫المدير العام‪ :‬نهاد إسكان‬ ‫هيئة التحرير‪ :‬عباس علي موسى‪ ،‬عبدهللا شيخو‪،‬‬ ‫سوز حج يونس‪ ،‬بهار مراد‪.‬‬ ‫تحرير وتدقيق القسم العربي‪ :‬عباس علي موسى‬ ‫تحرير وتدقيق القسم الكردي‪ :‬عبدهللا شيخو‬ ‫تصميم الغالف‪ ،‬واإلخراج الفني‪ :‬شفان ديركي‬ ‫تلفون‪- )+963( 0938408206 :‬‬ ‫‪)+963( 0999656125‬‬

‫البريد اإللكتروني‬ ‫‪E-Mail: kovara.sormey@gmail.com‬‬ ‫‪Facebook: Sormey magazine‬‬ ‫‪twitter: Kovara Sormeyê‬‬ ‫‪Google plus: Kovara Sormey‬‬

‫حقوق النشر محفوظة لمجلة سور َمي‪.‬‬ ‫الكاتب مسؤول عن محتوى مادته‪.‬‬ ‫ترتيب المواد يخضع العتبارات فنية‪.‬‬

‫مجلة فكرية – ثقافية‪ ،‬تصدر كل شهرين‬ ‫من منشورات مؤسسة جارجرا للثقافة‬ ‫العدد‪ / 11 :‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫المحتوى‬ ‫مقدمة ‪ -‬األدب نبضا للحياة نبضا لأللم ‪2/‬‬ ‫هل يُغيّرنا األدب؟ ‪ -‬خناف كانو ‪4/‬‬ ‫التفويض االدبي للسّياسة ‪ -‬عفاف خليفي‪14/‬‬ ‫ي الرَّا ِهن – جوان‬ ‫ب السور ِّ‬ ‫النزوحْ ‪ :‬ثي َمةُ األد ِ‬ ‫تتر‪17/‬‬ ‫صندوق بريد العصافير – وائل الناصر‪20/‬‬ ‫هل يشكل األدب السالح األكثر أهمية للدعاية؟‬ ‫ نِيك روميو‪24/‬‬‫تأثير الحرب والتاريخ على األدب‪ /‬كولين‬ ‫كليني بوكس و دوستين ماكسام ‪28/‬‬ ‫في الجهادية السلفيّة! ‪ -‬محمد باقي محمد‪34/‬‬ ‫نافذة ‪ -‬دانوك وذاكرة المكان والطفولة ‪37/‬‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪2‬‬

‫األدب نبضا للحياة نبضا لأللم‬ ‫‪P‬‬ ‫لطالما كان الحديث عن األدب حديثا عن‬ ‫الجمال والرقي بالروح اإلنسانية‪ ،‬لذا تركت‬ ‫البشرية إلى جانب صروح البناء نصوصا خالدة‬ ‫نقشوها على الحجارة أو كتبوها على الجلود‪،‬‬ ‫وأوراق البردي‪ ،‬أو تركوها محفوظة في الصدور‬ ‫وتناقلوها شفاها‪ ،‬وكان من تأثير األدب وقداسته‬ ‫المقدس في الكتب‬ ‫أن صار السبيل في نقل‬ ‫ّ‬ ‫السماوية إلى الناس‪.‬‬ ‫المقدس والجميل‪،‬‬ ‫كان األدب وال يزال حامل‬ ‫ّ‬ ‫حامل وعود الراحة األبدية إلى جانب العذاب‬ ‫والنكال أيضا‪.‬‬

‫إو�ن كانت النصوص األدبية‪ /‬الدينية‪ ،‬أو التي‬ ‫تحمل صفة القداسة وهالتها‪ ،‬في السابق تحمل تلك‬ ‫القدسية عبر تنسيبها إلى اآللهة أو أشباه اآللهة‪،‬‬ ‫فإن األدب صار يكتب بأيد األدباء البشريين دون‬ ‫ّ‬ ‫أن يتحولوا بأنفسهم إلى آلهة‪ ،‬إو�نما حملوا النار‬ ‫المقدسة وأشعلوا بها موقد المأدبة للناس البسطاء‬ ‫ّ‬ ‫األبرياء وقود الحروب ونيرانها‪ ،‬فاألدب‪ /‬المأدبة‬ ‫مدونا آن الحروب‪ ،‬يتجاوزها‬ ‫تلك‪ ،‬تغدو ألما ّ‬ ‫أحيانا ليصير نابضا بالحياة أيضا‪.‬‬

‫سورمي األدب في ملف هذا العدد تحت‬ ‫تتناول‬ ‫َ‬ ‫عنوان (األدب نبضا للحياة نبضا لأللم)‪ ،‬فكان‬ ‫أن تم تناول الموضوع من زوايا متعددة‪ ،‬فكان‬ ‫خريطة هذا العدد تحتوي الرسم البياني التالي‬ ‫تتحدث‬ ‫غيرنا األدب؟ لـ خناف كانو‪ ،‬وفيه ّ‬ ‫(هل ُي ّ‬ ‫كانو عن األدب والحرب واألدب والقراءة والبيئة‬ ‫ٍ‬ ‫النص‬ ‫النص والجسد‬ ‫كرمز في ّ‬ ‫والمكان في ّ‬ ‫األدبي‪ ،‬الموت كرمز في األدب‪ ،‬متنقلة من‬ ‫الذاتي االنطباعي إلى الموضوعي‪ ،‬فتقول في‬ ‫معرض حديثها عن األدب والحرب (الحرب‬ ‫أيضا تصبح في العديد من الحاالت بيئة للكاتب‪،‬‬ ‫الدمار وال ّشهداء‪،‬‬ ‫بالرصاص والجوع والدماء و ّ‬ ‫ّ‬ ‫أدب الحرب الذي أصبح واقعا خالل الحربين‬ ‫العالميتين وما شهده العالم في تلك الفترة من‬

‫كوارث بشرية‪ ،‬أودت بحياة الماليين من البشر‪،‬‬ ‫انعكست على األدب)‪ ،‬أما في «التفويض‬ ‫َ‬ ‫للسياسة» لـ عفاف خليفي فنجد العالقة‬ ‫االدبي‬ ‫ّ‬ ‫الشائكة بين السياسة واألدب‪ ،‬هذه العالقة التي‬ ‫تصفها عبر سرد تاريخ األدب وكيفية بروز‬ ‫السياسة في طياته‪ ،‬ف ـ (األدب ما يضمن ُحرمتنا‬ ‫الوجودية واألخالقية بينما السياسة اليوم تسعى‬ ‫إلى تجريدنا من ملكاتنا إو�عادتنا إلى حيوانيتنا‬ ‫أن النتيجة المؤلمة ستتلخص في‬ ‫السياسية) إال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشروخ التي ستتركها السياسة فتقول (من اليسير‬ ‫إدراك إخفاق السياسة في إرضاخ األدب وجعله‬ ‫الدائر‬ ‫أن الجدل ّ‬ ‫الخادم المطيع للدولة‪ ،‬صحيح ّ‬ ‫بين األدب والسياسة لم ينته بتطويع األدب للحكم‪،‬‬ ‫ولم يحسم سمو هذا األخير عن الفعل السياسي‪،‬‬ ‫لكنه خلّف شروخا في الذات والحضارة)‪ ،‬في‬ ‫ّ‬ ‫أدب النزوح يكتب جوان تتر ما عنوانه النزو ْح ‪:‬‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ‬ ‫متحدثا عن التجربة‬ ‫اهن‪،‬‬ ‫األدب السور ِّ‬ ‫ي َّ‬ ‫ثيمةُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ي إن جاز التعبير‪ ،‬حيث‬ ‫الجديدة لألدب السور ّ‬ ‫صار النزوح الحالة اإلنسانية األصعب المرافقة‬ ‫للدمار الذي صارت إليه البالد‪ ،‬فآلة الحرب‬ ‫تدمر المنازل‪ ،‬والتي تعني االستقرار والحياة‬ ‫يدمر األنفس أيما‬ ‫بينما النزوح الذي هو نتيجته ّ‬ ‫يمكن استخالصه من هكذا‬ ‫تدمير يقول تتر (ما ُ‬ ‫التمعن في الكلمات المبثوثة‪،‬‬ ‫ولمجرد‬ ‫كتابات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن النزوح ال يمكنه فقط أن يجعل من‬ ‫هو ّ‬ ‫َّ‬ ‫طبيعية»‪ ،‬بل‬ ‫متشردا وضائعا «كحالة‬ ‫السوري‬ ‫ّ‬ ‫أيضا بإمكان هذا النزوح أن يمنح أفقا جديدة‬ ‫الكتاب ِة نزوحا‬ ‫للكتابة‪ ،‬تتبلور من خالل ممارسة‬ ‫َ‬ ‫وانصها ار وتأقلما مع سوريا الجديدة‪ ,‬ك ّل بقاع‬ ‫األرض باتت سوريا‪ ،‬من خالل الكتابات التي‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اإللهية والتي يمكن‬ ‫يوميات النزوح‬ ‫َنق أر عن‬ ‫َّ‬ ‫الحقيقية‪ ،‬ال بل‬ ‫تسميتها بـ التغريبة السورَّية‬ ‫َّ‬ ‫حقيقيةً في عصرنا الحديث)‪.‬‬ ‫األكثر‬ ‫في صندوق بريد العصافير لـ وائل الناصر‪،‬‬ ‫يكون الوضع مختلفا فهي عبارة عن أحد هذه‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪3‬‬

‫المدونات في الحرب والتي تناولها اآلخرون في‬ ‫كتاباتهم‪ ،‬فهو نص قابل ليكون جزء من مدونة‬ ‫األلم‪ ،‬وعبر ذاتية تنتقل من الذاتي كألم جمعي‬ ‫على مستوى بالد برمتها فنراه يقول َّ‬ ‫(إن نظرتي‬ ‫أمي لي حين ولدتني في ٍ‬ ‫حقل‬ ‫لوطني‪ ،‬هي نظرة ِّ‬ ‫للبطاطا‪ ،‬هكذا ِّ‬ ‫بكل سهولة ويسر‪َّ ،‬‬ ‫وكأنها تقول‬ ‫َّ‬ ‫لي‪ :‬هنا الجذر واتجاهاتك كلها أغصان وحين‬ ‫البد أن تعود‪َّ ،‬‬ ‫ُيقلِّمها األدب‪َّ ،‬‬ ‫البد أن تنظر‬ ‫خلفك طويال‪ ،‬لتدرك حجم ما فقدت‪ ،‬لتضغط‬ ‫َّ‬ ‫بالكيفية التي تريد‪ ،‬ولتخرج البيئة المناسبة‬ ‫نفسك‬ ‫لألفكار التي َّ‬ ‫البد أن تعود إلى منبعك)‪.‬‬

‫أما عن استخدام األدب كسالح في الحرب‬ ‫فيحدثنا نيك روميو عن تجربة وكالة االستخبارات‬ ‫األمريكية الـ ‪ CIA‬مع رواية «دكتور زيفاكو»‬ ‫تحت عنوان هل يشكل األدب السالح األكثر‬ ‫أهمية للدعاية؟ فيبدو أن وكالة االستخبارات‬ ‫األمريكية قد جربت األدب لتحرف بمساره ليكون‬ ‫أن الروائي باسترناك‬ ‫أداة سياسية بطريقة ما إال ّ‬ ‫مؤلف «دكتور زيفاكو» (لم ينظر إلى روايته‬ ‫بأنها‬ ‫كسالح في الحرب الثقافية‪ ،‬فقد أشار إليها ّ‬ ‫«كانت سعادته وجنونه األخيرين» كلمات قاسية‬ ‫قالها شخص بات يرى الكتاب كقنبلة ثقافة‪ ،‬لقد‬ ‫بأن عمله أكثر من كونه عجلة لتوصيل‬ ‫اعتقد ّ‬ ‫رسالة معينة‪ ،‬وكان محبطاً من الطريقة التي‬ ‫وكأنه‬ ‫اتبعتها الوسائل اإلعالمية الدولية ليظهر ّ‬ ‫عامل كتابه كرواية‬ ‫ناقد للنظام‪ ،‬فقد أراد أن ُي َ‬ ‫وليس كرسول لتوصيل الرسالة)‪.‬‬

‫في الترجمات نجد دراستين مترجمتين عن‬ ‫اإلنكليزية‪ ،‬واحدة بعنوان تأثير الحرب والتاريخ‬ ‫على األدب للكاتبين كولين كليني بوكس‪،‬‬ ‫ودوستين ماكسام‪ ،‬واألخرى بعنوان هل يشكل‬ ‫األدب السالح األكثر أهمية للدعاية؟ لـ نِيك‬ ‫روميو‪ ،‬تتناول األولى موضوع األدب والحرب‬ ‫أن األدب كان له‬ ‫األهلية األمريكية‪ ،‬وكيف ّ‬ ‫التأثير الكبير في الحياة األمريكية‪ ،‬لدرجة ّأنه‬ ‫بات متهما في إثارة حرب أهلية‪ ،‬فضال عن‬ ‫توثيق هذه الحرب يقول بوكس (فأدب الحرب‬ ‫يصور كذلك الطريقة التي اختبر بها الناس‬ ‫ّ‬ ‫هذه الحرب‪ ،‬كما و ّأنه يؤثر أيضا على األحداث‬ ‫السياسية‪ ،‬حيث كتب راندال قصيدة ‪Maryland‬‬ ‫‪ )My Maryland‬التي تحولت إلى نشيد وطني‬ ‫لوالية ماري الند)‪ ،‬كما يتناول دوستين ماكسام‬ ‫«تأثير الحرب والتاريخ على األدب الياباني»‬ ‫بأنه األدب األكثر تأث ار بالحرب‪،‬‬ ‫واصفا إياه ّ‬ ‫(أن‬ ‫حيث األدب الذي ينكسف‪ ،‬يقول ماكسام ّ‬ ‫األدب إنما هو شيء حسي‪ ،‬ويمكن أن تؤثر فيه‬ ‫أمور عدة ومن أكثر األمور المؤثرة في األدب‬ ‫وبشكل كبير هي الحرب‪ ،‬ففي أوقات الحروب‬ ‫كالحروب األهلية فإن األدب يتأثر ويتغير في‬ ‫أغلب األحيان‪ ،‬حيث يتحول هذا األدب إلى‬ ‫مذكرات وسرد لألحداث التي جرت‪ ،‬كما ّأنه‬ ‫يظهر كعامل مساعد لتأييد وجهة نظر الحكومة‬ ‫المتعلقة بالحرب‪ ،‬وبعد الحرب يعود األدب إلى‬ ‫االزدهار‪ ،‬ويصبح واعدا مجددا ليؤكد على‬ ‫األثر العميق الذي تركته الحرب فيه)‪.‬‬

‫أما أخي ار فيتناول محمد باقي محمد فيتعقّب‬ ‫تاريخ السلفية وذلك تحت عنوان‪ :‬في الجهادية‬ ‫الحساس راهنا‪ ،‬والذي‬ ‫السلفية! هذا الموضوع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم يكن ليضير الخوض والحديث فيه بل‬ ‫والتمثل به في سابق التاريخ‪ ،‬يبدأ الكاتب‬ ‫الحديث بالتساؤل ذاته حيث يقول‪( :‬نحن في‬ ‫أن هذا الحقل يفضى بنا‬ ‫حقل التأريخ إذا‪ ،‬بيد ّ‬ ‫إلى انزياح في المصطلح‪ ،‬ليشير إلى سلف‬ ‫أن ظ ّل القداسة ‪ -‬ذاك‬ ‫أصولي ومتزمت‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬ ‫يستمد مشروعيته من الدين‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية‪،‬‬ ‫الدولة‬ ‫يخ‬ ‫ر‬ ‫تأ‬ ‫على‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫سحب‬ ‫‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على نحو بدت فيه جريمة كقتل المأمون لشقيقه‬ ‫األمين حدثا اعتياديا!)‪ ،‬وينتهي الكاتب سرده‬ ‫التاريخي للسلفية ليخلص إلى تساؤل يحمل في‬ ‫طياته تحليال خارج السياق الذي يتناول السلفية‬ ‫الجهادية الجديدة‪ ،‬حيث يقول (هل كان للغرب‬ ‫ بريطانيا بداية‪ ،‬والواليات المتحدة فيما بعد‬‫ دور في تخلق تلك التيارات‪ ،‬وذلك إلرباك‬‫الوطنية ‪ -‬التي كانت قيد التش ّكل ‪ -‬أو‬ ‫الدولة‬ ‫ّ‬ ‫فإن ما يحدث‬ ‫منعها!؟ حيثما توضعت اإلجابة‪ّ ،‬‬ ‫في اليمن والعراق وسوريا وليبيا والصومال ‪-‬‬ ‫اليوم ‪ -‬جدير بالتوقف والدراسة والتمحيص)‪.‬‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪4‬‬

‫هل يُغيّرنا األدب؟‬ ‫‪P‬‬ ‫خُناف كانو‬

‫الكاتب‬ ‫جسد بال روح»قالَها‬ ‫«بيت بال كتاب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫عتبر نموذجا‬ ‫ي‬ ‫الذي‬ ‫«شيشرون»‬ ‫وماني‬ ‫الر‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫مرجعيا للتعبير الالتيني الكالسيكي‪ ،‬هذه المقولة‬ ‫ّ‬ ‫وتبين‬ ‫التي تمثّل قيمة الكتاب أفضل تمثيل‪ّ ،‬‬ ‫القيمة الحقيقية والعليا للكتاب متمثّال بك ّل أنواع‬ ‫اإلبداع بما فيها الفلسفة واألدب‪ ،‬للكتاب قيمة‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫أي بيت‪ْ ،‬‬ ‫أي ركن من ّ‬ ‫جمالية وتعبيرّية في ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وتطل مكتبةٌ متواضعةٌ من‬ ‫تدخل بيتا من طين‬ ‫َ‬ ‫غر ٍ‬ ‫وكأنه‬ ‫البيت‬ ‫هذا‬ ‫تجاه‬ ‫احة‬ ‫بالر‬ ‫تشعر‬ ‫عليك‪،‬‬ ‫فة‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫مرةً في‬ ‫بيتك‪ ،‬روى‬ ‫ُ‬ ‫الكاتب التّركي»عزيز نيسن» ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اجتماعية‬ ‫مكانة‬ ‫له‬ ‫شخص‬ ‫عن‬ ‫قصصه‬ ‫إحدى‬ ‫ّ‬ ‫يدعي ذلك‬ ‫و‬ ‫كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫اقتصادية في مجتمعه‪ ،‬وقد َ‬ ‫ال ّشخص ‪ -‬بحكم الديكور االجتماعي واإلتيكيت‬ ‫العالميين والمعروفين‬ ‫إن العديد من ال ُكتّاب‬ ‫ّ‬ ‫ ّ‬‫هم أصدقائه‪ّ ،‬إل ّأنه في الحقيقة لم يكن كذلك‪،‬‬ ‫وقد كان وزوجه يكذبان على ضيفهما المثقف‪،‬‬ ‫القصة ربما هي المرآة األكثر وضوحا‬ ‫هذه‬ ‫ّ‬ ‫لواقع األدب في الشرق األوسط عامة والمنطقة‬ ‫إن الفوضى‬ ‫الكردية في سوريا‬ ‫خاصة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫ياسية جلبت معها‬ ‫الس ّ‬ ‫الساحة ّ‬ ‫الموجودة على ّ‬ ‫فوضى كار ّثية متمثّلة بالكتابة‪ ،‬فأصبح األدب‬

‫بنظر العديد ُم ْه َرة سهلة ورخيصة يركبها ك ّل من‬ ‫أن األحداث‬ ‫شاء دون أي ثوابت‬ ‫ّ‬ ‫أخالقية‪ ،‬كما ّ‬ ‫ياسية واللغة أصبحت الوسيلة األكثر تملّقا‬ ‫الس ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان اللقمة‬ ‫عر‬ ‫ش‬ ‫ال‬ ‫أدبيا‪،‬‬ ‫قين‬ ‫ل‬ ‫المتس‬ ‫بعض‬ ‫لدى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫المستساغة لدى العديد‪ ،‬فنجد أشخاصا وهم‬ ‫في العقد الخامس أو السادس من أعمارهم‪،‬‬ ‫خلق في اآلونة‬ ‫أصبحوا فجأة شعراء‪ ،‬مما‬ ‫َ‬ ‫األخيرة عند البعض مفهومين خاطئين‪ ،‬األول‪:‬‬ ‫النصوص المكتوبة باللغة‬ ‫متمثّال في بعض ّ‬ ‫حيث أصبحت ظاهرة الكتابة بها عند‬ ‫الكردية‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مكررة بمعاني ال‬ ‫ألفاظ‬ ‫وتنسيق‬ ‫تيب‬ ‫ر‬ ‫بت‬ ‫البعض‬ ‫ّ‬ ‫تخلق أي صورة شعرية أو حالة واقعية أو حتى‬ ‫القراء‬ ‫مما خلق نظرة مسبقة لمعظم ّ‬ ‫خيالية‪ّ ،‬‬ ‫نص مكتوب باللغة الكردية‪،‬‬ ‫أي‬ ‫عن‬ ‫باالبتعاد‬ ‫ّ ٍّ‬ ‫كون الفكرة واضحة وال تستحق قراءتها‪ ،‬وقد‬ ‫لبية مشكلتين كبيرتين‪،‬‬ ‫جلبت هذه ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫النظرة ّ‬ ‫األولى‪ :‬االبتعاد عن قراءة األدب المكتوب‬ ‫بالضرر‬ ‫انية‪ :‬التي تعود‬ ‫باللغة‬ ‫ّ‬ ‫الكردية‪ ،‬والثّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫على اللغة نفسها‪ ،‬فباللهجة الكرمانجية ُيكتّب‬ ‫وتركيا باإلضافة إلى‬ ‫الكردي في سوريا‬ ‫األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مناطق أخرى من كردستان‪ ،‬إذا فقراءة األدب‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪5‬‬

‫الكردي ال تقتصر على بعض الكتابات الكردية‬ ‫تتمدد إلى تاريخ وثقافة‬ ‫السورية المحلية‪ ،‬إو�ّنما ّ‬ ‫متبحرتين في األدب الكردي‪.‬‬

‫في خلق وعي اجتماعي إو�نساني يجعل من‬ ‫ٍ‬ ‫إنسان‬ ‫الرئيسة لتحديد جهة أي‬ ‫األدب البوصلة ّ‬ ‫أن األدب الحقيقي‬ ‫يبحث عن‬ ‫ّ‬ ‫إنسانيته‪ ،‬كما ّ‬ ‫المبني على أساس الفكرة الجديدة والقريبة من‬ ‫ك أث ار ودو ار‬ ‫الفني واللغوي يتر ُ‬ ‫المتلقي واألداء ّ‬ ‫في حياة أي قارئ‪ ،‬يقول فرانس كافكا‪« :‬يجب‬ ‫المتجمد فينا»‪.‬‬ ‫أن يكون الكتاب فأسا للبحر‬ ‫ّ‬

‫المفهوم الثّاني‪ :‬متمثّال بالكتابة باللغة العر ّبية‪،‬‬ ‫والتي هي عند بعض الكتّاب مجرد انعكاسات‬ ‫النصوص ال تمتاز‬ ‫لقراءات سابقة‪ ،‬معظم ّ‬ ‫الكالسيكية التي بات‬ ‫بخصوصيتها‪ ،‬والطريقة‬ ‫ّ‬ ‫إن المواضيع‬ ‫حيث‬ ‫الحديث‪،‬‬ ‫يرفضها ال ّشعر‬ ‫ّ‬ ‫المحددة في ال ّشعر أصبحت بعيدة ك ّل البعد عن‬ ‫يؤسس لقاعدة اندماج‬ ‫مفاهيم ال ّشعر الحر‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫النص «تميزت‬ ‫المشاعر‬ ‫اإلنسانية في ذات ّ‬ ‫ّ‬ ‫قصيدة الشعر الحر بخصائص أسلوبية متعددة‪،‬‬ ‫فقد اعتمدت على الوحدة العضوية‪ ،‬فلم يعد‬ ‫البيت هو الوحدة إو�ّنما صارت القصيدة تشكل‬ ‫كالما متماسكا‪ ،‬وتزاوج الشكل والمضمون‪،‬‬ ‫فالبحر والقافية والتفعيلة والصياغة ِ‬ ‫ت كلها‬ ‫وض َع ْ‬ ‫في خدمة الموضوع وصار الشاعر يعتمد على‬ ‫«التفعيلة « وعلى الموسيقا الداخلية المناسبة‬ ‫بين األلفاظ”‪.)1(« .‬‬ ‫ِ‬ ‫أدبيا‬ ‫أضف إلى ذلك قلّة عدد‬ ‫المتخصصين ّ‬ ‫ّ‬ ‫فأصبح األدب‬ ‫واألكاديميين في هذا المجال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تسلية وذلك بفضل الكوارث والحروب المستمرة‬ ‫ّ‬ ‫النقد‬ ‫أن‬ ‫كما‬ ‫منطقتنا‪،‬‬ ‫في‬ ‫ما‬ ‫السي‬ ‫األرض‬ ‫على‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصا‬ ‫وعلما‬ ‫ثاقبة‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫نظ‬ ‫اآلخر‬ ‫يحتاج هو‬ ‫الذي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫القاصي والداني‬ ‫بها‬ ‫يمسح‬ ‫قة‬ ‫خر‬ ‫بات‬ ‫به‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫أحذيتهم المهترئة‪ .‬من المؤلم حقّا ما وصل إليه‬ ‫األدب‪ ،‬هذا المفهوم الذي جاء عر ّبيا من كلمة‬ ‫العامة‪ ،‬والتينيا من‬ ‫األدب اآلتية من األخالق‬ ‫ّ‬ ‫كلمة الحرف‪.‬‬ ‫لألدب مكانة عليا في أي مجتمع راق‪ ،‬وهو ‪-‬‬ ‫أي األدب – وبكافه أجناسه وأنواعه ضرورة‬ ‫ٍ‬ ‫مكان وزمان‪ ،‬كون األدب من العلوم‬ ‫أي‬ ‫في ّ‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬التي تؤثّر في العالم نظريا‪ ،‬واألدباء‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬إو�ن كانت‬ ‫هم حاملو ألوية العدالة‬ ‫ّ‬ ‫إن االلتزام‬ ‫تلك األلوية مكتوبة في الكتب‪ ،‬كما ّ‬ ‫في األدب أو األدب الملتزم هو الطريق األمثل‬ ‫أن األدب الملتزم‬ ‫القراء‪ ،‬حيث ّ‬ ‫واألكثر تأثي ار في ّ‬ ‫العامة ودور األديب‬ ‫اإلنسانية‬ ‫من ناحية الثقافة‬ ‫ّ‬

‫أذكر في سنوات مراهقتي وأنا في المرحلة الثانوية‬ ‫كيف كنت أزور المركز الثقافي باستمرار‪ ،‬وقراءاتي‬ ‫كانت لكتّاب مثل نجيب محفوظ ودوستوفسكي وجبران‬ ‫الرواية المصرية التي يكتبها نجيب‬ ‫خليل جبران‪ ،‬كانت ّ‬ ‫محفوظ بخصوصيتها وطابعها المحلّي تجذبني‪ ،‬ربما‬ ‫كون الواقعية والحديث عن الطبقة الفقيرة ومقارنتها مع‬ ‫َ‬ ‫الطبقة البرجوازية كانا المقود لعربة الرواية التي يكتبها‬ ‫الناجح هو الذي يجعلك تق أر أكثر من‬ ‫«محفوظ»‪ ،‬الكاتب ّ‬ ‫نتاج‪ ،‬الذي يق أر نجيب محفوظ كان البد أن يبحث عن‬ ‫ٍ‬ ‫كتب أخرى أو حتى ينجذب نحو الرواية كجنس أدبي‪،‬‬ ‫األدبية تؤثّر في المتلقي بطريقتها‪،‬‬ ‫إن األجناس‬ ‫ّ‬ ‫كما ّ‬ ‫فالقصيدة تؤثّر من خالل رؤية المتلقي لمشاعره في‬ ‫يتقبلها الفكر البشري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النص ووصفها بصورة شعرّية ّ‬ ‫ينقش نفسه‬ ‫الحقيقي‬ ‫ص‬ ‫الن‬ ‫و‬ ‫أطفاال‪،‬‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ليس‬ ‫األدب‬ ‫اء‬ ‫فقر‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ينقش الع ّشاق حروف أسمائهم‬ ‫في ذهن المتلقي‪ ،‬كما ُ‬ ‫خصيات في‬ ‫إن العديد من ال ّش ّ‬ ‫على جذوع ال ّشجر‪ ،‬كما ّ‬ ‫خاص‬ ‫ووقع‬ ‫تأثير‬ ‫لها‬ ‫يكون‬ ‫الرواية والقصة والمسرحية‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫على ذهن المتلقي وعقله وقلبه‪ ،‬فال ّشعر فيه تكثيف إو�يحاء‬ ‫الرموز والدالالت الباطنية‬ ‫شديدين‪ ،‬وهو يقوم على قاعدةَ ّ‬ ‫الرمزي والحديث‪ ،‬له رواده الجدد‪ ،‬فبدر‬ ‫والعميقة‪ ،‬ال ّشعر ّ‬ ‫السياب ونازك المالئكة طرحا ال ّشعر الحر في‬ ‫شاكر ّ‬ ‫النصوص بعد‬ ‫معظم‬ ‫أصبحت‬ ‫وبذلك‬ ‫بي‪،‬‬ ‫ر‬ ‫الع‬ ‫األدب‬ ‫ّ‬ ‫إن التأثّر باألدب‬ ‫كما‬ ‫جديدا‪،‬‬ ‫منحى‬ ‫خذ‬ ‫تت‬ ‫‪1947‬‬ ‫عام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربي بكتّابه الحداثويين مثل بودلير وأراغون والمارتين‬ ‫إو�ليوار‪ ،‬أصبح يترجم في تلك الفترة بقصائد شعراء عرب‬ ‫البياتي وأمل دنقل وخليل حاوي وسعيد‬ ‫مثل عبد الوهاب ّ‬ ‫عقل وغيرهم‪ ،‬إذا فاألدب له مقومات تأثيرية وتعبيرية‬ ‫تغير في ثقافات أمم‪ ،‬وربما في طريقة تفكيرها أيضا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المكتَشفة أخي ار‬ ‫يقول بروست‪« :‬الحياة الحقيقية‪ ،‬الحياة ُ‬ ‫المتميزة‪ ،‬الحياة الوحيدة التي ِعي َشت بشكل حقيقي‪،‬‬ ‫و ّ‬ ‫هي األدب»‪.‬‬

‫ألن ال ّشعر‬ ‫فنشأة الشعر المنثور والحر جاءت ّ‬ ‫يعب ار‬ ‫الموزون والمقفّى لم يعودا يستطيعان أن ّ‬ ‫عن الحياة الجديدة والعصرّية التي اجتاحت‬ ‫وتحرر ال ّشاعر من القافية جعل من‬ ‫العالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القصيدة أكثر تعبي ار ومعنى‪ ،‬هذا الموضوع‬ ‫ينطبق على ال ّشعر الكردي أيضا‪ ،‬فشعراء الكرد‬


‫‪6‬‬

‫القدماء كانوا يكتبون شع ار مقفّى وموزون‪ ،‬مؤخ ار‬ ‫فإن ال ّشعر الكردي ابتعد عن القوافي وتأثّر أيضا‬ ‫ّ‬ ‫الحر والمنثور‪،‬‬ ‫عر‬ ‫ش‬ ‫ال‬ ‫وحركة‬ ‫العالمي‬ ‫باألدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مرجعية في‬ ‫لقاعدة‬ ‫يؤسس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكنه لم يستطع أن ّ‬ ‫إن‬ ‫كما‬ ‫الموزون‪،‬‬ ‫عر‬ ‫ش‬ ‫ال‬ ‫فعل‬ ‫كما‬ ‫الكردي‬ ‫األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتأسس وفق قواعد صادقة ونابعة‬ ‫القصيدة التي ّ‬ ‫من عواطف ال ّشاعر ورؤاه اليومية هي ثورة‪ ،‬فهي‬ ‫حقيقية بطريقة تعبيرية حديثة وبأدوات حديثة‪،‬‬ ‫مثال؛ كتابة شاعر ما لقصيدة عن المعارك أو‬ ‫حتى عن الحياة البدوية وهو يعيش في مدينة‪،‬‬ ‫ألن‬ ‫تجلب معنى مستهلكا وال تجذب أي قارئ‪ّ ،‬‬ ‫أما إن‬ ‫منمقة مزخرفة‪ّ ،‬‬ ‫ال ّشاعر يكذب بطريقة ّ‬ ‫يتحدث‬ ‫قرأنا قصيدة أخرى لذات ال ّشاعر وهو‬ ‫ّ‬ ‫يتأمل‬ ‫وهو‬ ‫الصباح‪،‬‬ ‫عن ركوبه الحافلة في ّ‬ ‫ّ‬ ‫المدينة كيف تركض عكس مسيره‪ ،‬فهذا سيكون‬ ‫أقرب بالتأكيد‪ ،‬وسيعكس حالة شعورّية عاشها‬ ‫المتلقي دون أن يعرف ذلك إال عند قراءته‬ ‫الصدق هو ما يجب أن يتواجد في أي‬ ‫لألدب‪ّ ،‬‬ ‫نص‪ ،‬حيث تصاغ تلك المشاعر بصورة شعرّية‬ ‫بلغة سهلة ومعنى عميق‪.‬‬ ‫هل ما يتركه األدب عند المتلقي هو ذاته عند‬ ‫الكاتب؟‬ ‫الكتابة هي فعل يومي ومعقّد‪ ،‬يحتاج لمقومات‬ ‫مثل الموهبة‪ ،‬الثقافة‪ ،‬الذكاء اللغوي‪ ،‬البيئة‪..‬‬ ‫الخ‪ ،‬الكاتب بدوره يتأثّر بك ّل ما حوله ويبقى‬ ‫ٍ‬ ‫شيء ما في حياته كنقطة حبر سوداء على‬ ‫أثر‬ ‫ورقة بيضاء ال تمحى أبدا‪ ،‬الطفولة هي الحاكم‬ ‫الرئيس لخلق أي كاتب‪ ،‬فاألحداث التي يشهدها‬ ‫ّ‬ ‫أي مؤلّف في طفولته‪ ،‬تنعكس على أدبه وعلى‬ ‫شخصيات نصوصه‪ ،‬تتفاوت تلك األحداث من‬ ‫حيث أهميتها ووجودها في ذاكرة الكاتب‪ ،‬فالموت‬ ‫الذي يراه الكاتب في طفولته أول مرة ومعاناته‬ ‫من الفقر أو فقدانه ألحد أفراد أسرته أو معايشته‬ ‫البد لهذه الوقائع أن تنسلخ أدبيا وهي‬ ‫لحرب ما‪ّ ،‬‬ ‫الروسية مارينا‬ ‫تتلوى من نار األلم‪ ،‬الشاعرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تسفيتاييفا؛ شاعرة القدر المأساوي والتي انتحرت‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫شنقا‪ ،‬حيث «بدأت الكتابة وهي في السادسة من‬ ‫عمرها‪ ،‬ونشرت ديوانها األول وهي في السادسة‬ ‫عشرة‪ ،‬عرف عنها ثورتها على التقاليد الالمثالية‪،‬‬ ‫فعاشرت في الثامنة عشرة‪ ،‬فتاة سحاقية شهيرة‪،‬‬ ‫ولتزيد في كيد أهلها ولتصدمهم‪ ،‬وبخاصة أنها‬ ‫ابنة أرثوذكسي معاد لليهود»(‪ )2‬عانت مارينا‬ ‫من فقر شديد خالل فترة الحربين العالميتين‪ ،‬وقد‬ ‫انعكست هذه المعاناة على قصائدها‪ ،‬فهي في‬ ‫ٍ‬ ‫بأن الكلمة‬ ‫حرب مستمرة تحاول إقناع القارئ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫شيء‬ ‫بأي‬ ‫أسمى من المال‪ ،‬و ّ‬ ‫أن الفقر ال ُيقارن ّ‬ ‫يدمر ك ّل شيء « أرتدي نها ار‬ ‫في الحياة ّ‬ ‫ألنه ّ‬ ‫ومساء ثوب البزان البني عينه الذي خاطته لي‬ ‫آسيا في ربيع العام ‪ 1917‬في ألكسندروف‪،‬‬ ‫والذي ضاق‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬بشكل فظيع‪ .‬أصبح‬ ‫مثقوبا من جميع الجهات بسبب الجمرات‬ ‫والسجائر التي تتساقط عليه‪ .‬أما أكمامه ‪ -‬التي‬ ‫كانت‪ ،‬في ما مضى‪ ،‬مشدودة بالمطاط ‪ -‬فقد‬ ‫صارت مشمرة كبوق ومثبتة بدبوس أمان‪ ،‬إيرينا!‬ ‫لو كنت ما زلت على قيد الحياة‪ ،‬لكنت أطعمتك‬ ‫من الصباح حتى المساء‪ .‬قليال ما نأكل أليا وأنا!‬ ‫إيرينا ثمة شيء تعرفينه‪ :‬لم أرسلك إلى الميتم‬ ‫ألتخلص منك‪ ،‬بل ألنهم وعدوني بأنك ستجدين‬ ‫هناك األ َُرز والشوكوال»(‪)3‬‬ ‫الموت كرمز في األدب‪:‬‬ ‫يغير في الفكر وفي الالوعي‬ ‫بقوته وجبروته ّ‬ ‫الموت ّ‬ ‫الذي يبنى عليه عماد كل إنسان‪ ،‬فالعديد من‬ ‫الكتّاب كان الموت هو مالذهم المريح‪ ،‬وربيعهم‬ ‫الذي يتخلّصون من خالله من عبثية العالم‬ ‫وفوضاه الالمتناهية‪ ،‬األلم الذي تسببه المراسيم‬ ‫الجنائزية للموت‪ ،‬كالكفن والتابوت والقبر ومالبس‬ ‫السوداء‪ ،‬كلّها صور من الحياة تصبح‬ ‫ّ‬ ‫المشيعين ّ‬ ‫يغير الموت‬ ‫ة‪،‬‬ ‫األدبي‬ ‫النصوص‬ ‫في‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫وصو‬ ‫مرايا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من إيقاع ك ّل نص‪ ،‬وهو العنصر األكثر تواجدا‬ ‫يغير الموت في السيكولوجية ونظرة‬ ‫في األدب‪ّ ،‬‬ ‫الهولندية ريناتا دروستين‬ ‫الكاتب للحياة‪ ،‬الكاتبة‬ ‫ّ‬ ‫غير هذا التأثّر‬ ‫تأثّرت بموت أختها كثيرا‪ ،‬وقد ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪7‬‬

‫من مجرى حياتها األدبية‪« ،‬كنت في السابعة‬ ‫والعشرين من عمري عندما أتصل بي أبي في‬ ‫بأن أختي‬ ‫الساعة السادسة صباحا‪ ،‬ليخبرني ّ‬ ‫قد قفزت من إحدى البنايات‪ .‬ردة فعلي األولى‬ ‫كانت‪ :‬عدت إلى الفراش‪ ،‬تدثرت باألغطية حتى‬ ‫رأسي‪ ،‬ونمت‪ ،‬نمت فعال‪ .‬موتها كان صفعة‪ ،‬لم‬ ‫أتمكن من تقبلها‪ ،‬وبفضل عدم إنقاذها والشعور‬ ‫القاتل بالذنب بقيت أكتب‪ ،‬حوالي سنة كاملة‪،‬‬ ‫أجلس صباحا في وقت مبكر جدا قبل ذهابي‬ ‫إلى عملي خلف مكتبي لكتابة رواية حيث سألت‬ ‫فيها‪ ،‬وبدون وعي‪ ،‬عن ما هو جنون وما هو‬ ‫طبيعي‪ ،‬ولم أترك فيها أختي لوحدها‪ .‬بعد كل تلك‬ ‫الكتب الفاشلة نجحت أخي ار في كتابة كتاب جيد‬ ‫“الغرباء”‪ ،‬صدر عام ‪ ،1983‬وكانت أصداؤه‬ ‫لدي مع موت‬ ‫رائعة‪ ،‬نضجت موهبة التأليف ّ‬ ‫أختي‪ ،‬لقد أهدتني ثيمات عظيمة‪ ،‬لكن هناك‬ ‫المزيد‪ .‬كانت أختي تريد أن تصبح كاتبة أيضا‪،‬‬ ‫بأن موهبتها في الكتابة قد انتقلت لي بعد‬ ‫أشعر ّ‬ ‫موتها‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ولهذا فقط‪ ،‬حققت نجاحي»(‪.)4‬‬

‫موت‬ ‫تتعدد أنواع الموت في األدب‪ ،‬فهناك‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وموت ثائر‪ ،‬وموت الفداء والموت‬ ‫فلسفي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫أن عنصر‬ ‫الشخصي والموت الحضاري‪ ،‬إال ّ‬ ‫الموت في ال ّشعر يختلف عن األجناس األدبية‬ ‫األخرى في القصة والرواية والمسرحية‪ ،‬فالموت‬ ‫في القصيدة هو حياة جديدة‪ ،‬فهو موت‬ ‫ي نابعٌ من إنسانية اإلنسان‪ ،‬وليس‬ ‫حضار ٌّ‬ ‫من انتهاء حياته في الحياة الواقعية‪ ،‬وأحيانا‬ ‫يصوغ الشاعر انتهاء حياته بتعابير إنسانية‬ ‫تثير ألما لدى المتلقي‪ ،‬فالعناصر اآلنفة ال ّذكر‬ ‫والتي تمثل تعابير الموت الجنائزية‪ ،‬وهي تمثّل‬ ‫اإلنسان الذي ينتظر الموت المحتّم عليه‪ ،‬وذلك‬ ‫بصور متعددة‪ ،‬فال ّشاعر اللبناني خليل حاوي‬ ‫(‪ )1919-1982‬استطاع أن يجعل من الموت‬ ‫إن‬ ‫العنصر األساسي في نصوصه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حيث ّ‬ ‫النص األدبي‪،‬‬ ‫يغير من مجرى وسياق ّ‬ ‫الموت ّ‬ ‫فتتّشح الكلمات سوادا‪ ،‬وينبع من األلفاظ موسيقا‬ ‫جنائزية‪ ،‬يقول ال ّشاعر خليل حاوي في قصيدته‬ ‫التي تحمل عنوان» حفرة بال قاع»‪:‬‬

‫يختلف تأثير الموت وكينونته عند ك ّل كاتب‪،‬‬ ‫عمق الحفرةَ يا حفّار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيمكن أن يكون هو الذي يكشف حقيقة خيانة‬ ‫لقاع ال قرار‬ ‫عمقها ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الحبيبة للشاعر‪ ،‬هو معنى غريب على ك ّل‬ ‫خلف مدار ال ّشمس‬ ‫لكن ال ّشاعر «جان كوكتو» هكذا نظر يرتمي َ‬ ‫حال‪ّ ،‬‬ ‫إليه‪ ،‬الموت هو المنقذ وهو العالم‬ ‫الخفي الذي ليال من رماد‬ ‫ّ‬ ‫الضياء دوما‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫يبعث ّ‬ ‫وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار‬ ‫ِ‬ ‫أحالمك إذا ُّ‬ ‫مت أوال‬ ‫«سأدخ ُل‬ ‫ٍ‬ ‫آه ال تلق على جسمي‬ ‫كنت أنام‬ ‫حين ُ‬ ‫سأرى كيف ُ‬ ‫حيا طري‬ ‫ترابا أحم ار ّ‬ ‫ويدي فوق بطنك‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫حنطه‪ ،‬و اطمره‬ ‫لف جسمي‪ ،‬لفّه‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫تستبدلين العشيق‬ ‫كنت‬ ‫َ‬ ‫بكلس مالح‪ ،‬صخر من الكبريت‬ ‫أستطيعُ أن أرى ال ّشمس قبالتي‬ ‫فحم حجري(‪)6‬‬ ‫وال تستطيع عينك ذلك‬ ‫وهناك موت الفداء أيضا‪،‬‬ ‫ي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هذا موت حضار ّ‬ ‫لن ننزل في المغطسة نفسها‬ ‫ينطبق على ال ّشهداء‪ ،‬وعلى التضحية‬ ‫وهو‬ ‫ُ‬ ‫قويا‪ ،‬وال يحمل‬ ‫وال في البحر نفسه‬ ‫أمة‪ ،‬فهو يأتي ّ‬ ‫في ضمير كل ّ‬ ‫معاني جنائزية كالموت الشخصي أو الموت‬ ‫ستجدين رفيقا آخر‬ ‫الحضاري‪ ،‬إو�ّنما يكون ثائ ار على الموت نفسه‪،‬‬ ‫مقر الموتى‪)5(..‬‬ ‫وكأن ال ّشاعر يغلب الموت بشخوصه النضالية‬ ‫ّ‬ ‫في ّ‬


‫‪8‬‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫ألنه خلدها في شعره‪،‬‬ ‫والفدائية‪ ،‬فيخلق تحوال جذريا في معنى الموت بعثت رغم اندثارها‪ّ ،‬‬ ‫من انتهاء الحياة إلى بداية التحرر من االستبداد ومنحها وجودا ال يبيد»(‪)8‬‬ ‫والظلم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويحول من جسده المهترئ وأوصاله شعراء العصر الجاهلي في األدب العربي –‬ ‫المقطّعة‪ ،‬إلى شوارع مدينته‪ ،‬التي سيمشي فيها‬ ‫يتغنون دائما بالصحراء واألطالل‬ ‫األطفال وهم ذاهبون إلى مدارسهم في الصباح مثال ‪ -‬كانوا ّ‬ ‫ّ‬ ‫أما‬ ‫(‪ -1940‬والمعارك‪ ،‬كون البدو كانوا دائمي التنقل‪ّ ،‬‬ ‫بحرّية‪ ،‬فال ّشاعر المصري أمل دنقل‬ ‫ّ‬ ‫فإن الوجدانية والتشاؤمية كانتا‬ ‫‪ )1983‬كتب عن الموت بعدة حاالت‪ ،‬فتارة شعراء الغرب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫األكثر وجودا في نصوصهم‪ ،‬متمثّلة بالبحر‬ ‫ثاء حزين وتارةً ر ٌ‬ ‫هو ر ٌ‬ ‫ثاء شخصي‪ ،‬وفي والغروب والمدينة‪ ،‬الوضع المعيشي واالقتصادي‬ ‫قصيدته»كلمات سبارتاكوس األخيرة» يتجلّى‬ ‫جليا في نصوص األدباء‪ ،‬مثال في بعض‬ ‫يظهر ّ‬ ‫هذا الموت لدى الفدائي الذي ال يموت‪:‬‬ ‫السيما الكالسيكية منها‬ ‫القصص والنصوص‬ ‫ّ‬ ‫ماديا وغنية فكريا‪ ،‬والعكس‬ ‫الصباح‬ ‫معلَّ ٌ‬ ‫نرى شخصيات فقيرة ّ‬ ‫ق أنا على مشانق ّ‬ ‫فإن األدب هو‬ ‫مع الطبقة الغنية اقتصاديا‪ ،‬إذا ّ‬ ‫محنية‬ ‫وجبهتي ‪ -‬بالموت ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫حيث ّإنه يخلق ثورتين‪ ،‬األولى‪:‬عند‬ ‫الثّورة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أحنها‪..‬حية!(‪)7‬‬ ‫ألنني لم‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب والثّانية‪ :‬عند المتلقي‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫البيئة والمكان في ال ّنص‪:‬‬ ‫البيئة التي يحيا فيها ك ّل كاتب هي التي تغير‬ ‫الريف‬ ‫أي ّ‬ ‫في مجرى ّ‬ ‫نص أدبي‪ ،‬فهناك أدب ّ‬ ‫أسست‬ ‫وأدب المدينة‪ ،‬كما ّ‬ ‫إن الطبيعة هي التي ّ‬ ‫يسخر ك ّل ما‬ ‫لفكرة األدب الوجداني‪ ،‬فالكاتب ّ‬ ‫أهم‬ ‫من‬ ‫هي‬ ‫بأن البيئة‬ ‫حوله لينعكس أدبا‪ ،‬أعتقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتغير في بنية‬ ‫العناصر التي تتواجد في األدب ّ‬ ‫النص‪ ،‬فالوصف الذي يتبع حالة ك ّل إنسان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هي بيئته التي يحيا فيها‪ ،‬المقصود بالبيئة هنا‬ ‫السيما‬ ‫طبعا المكان الذي يعيش فيه ك ّل كاتب‪ّ ،‬‬ ‫الرأس الذي‬ ‫الغربة‪ ،‬والمكان القديم يبقى مسقط ّ‬ ‫الجنة التي ال تنتهي‪ ،‬فال ّشاعر العراقي بدر‬ ‫هو ّ‬ ‫السّياب كان يكتب عن قريته التي ولد فيها‬ ‫شاكر ّ‬ ‫دائما‪ ،‬قرية «جيكور» وهو اسم كردي ويعني‬ ‫بالعربية «الجدول األعلى»‪ « ،‬وأما السياب فإنه‬ ‫لم يستطع أن ينسجم مع بغداد‪ ،‬ألنها عجزت‬ ‫أن تمحو صورة جيكور أو تطمسها في نفسه‬ ‫(ألسباب متعددة) فالصراع بين جيكور وبغداد‪،‬‬ ‫جعل الصدمة مزمنة‪ ،‬حتى حين رجع السياب‬ ‫إلى جيكور ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن‬ ‫يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها‪ ،‬وظ ّل يحلم‬ ‫البد أن تبعث من خالل ذاته‪( ،‬وقد‬ ‫أن جيكور ّ‬

‫البيئة التي يعيش فيها الكاتب تنعكس على‬ ‫النص‪ ،‬وتصبح‬ ‫تغير في ّ‬ ‫نصوصه‪ ،‬وهي التي ّ‬ ‫مؤثّ ار رئيسا‪ ،‬يلعب بمشاعر القارئ‪ ،‬ويثيرها‬ ‫من خالل المواد الجامدة التي تحيط بالكاتب‪،‬‬ ‫يتحول‬ ‫وتنعكس إلى أدوات إبداعية في ّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ص‪ّ ،‬‬ ‫كل ما يحيط بالكاتب إلى رفاق لحزنه وحاله‪،‬‬ ‫كما ذكرت آنفا عن شاعرة القدر المأساوي‬ ‫تتحدث‬ ‫مارينا تسفياتييفا التي عانت من الفقر‪ّ ،‬‬ ‫عادية‪ ،‬دون‬ ‫ال ّشاعرة عن بيئتها ببساطة ولغة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أن تستخدم أي مؤثّرات لغوية أو حزن ملموس‪،‬‬ ‫كرصاصة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن المعنى يخترق جدار القارئ ّ‬ ‫(نهاري‪ :‬أنهض ‪ -‬النافذة باألعلى بالكاد بيضاء‬ ‫ برد ‪ -‬برك مياه ‪ -‬غبار نثارة ‪ -‬دالء ‪ -‬جرار‬‫ مماسح ‪ -‬أثواب األطفال وقمصانهم في كل‬‫مكان‪ ،‬أنشر الخشب‪ ،‬أشعل النار‪ ،‬أغسل بمياه‬ ‫مثلجة حبات البطاطا التي أضعها لتغلي في‬ ‫مياه السماور‪ ،‬أضع تحت السماور الحطب‬ ‫المشتعل‪ ،‬ألعود وأضع فوقها المقالة) (‪)9‬‬

‫الحرب أيضا تصبح في العديد من الحاالت‬ ‫الدمار‬ ‫بالرصاص والجوع والدماء و ّ‬ ‫بيئة للكاتب‪ّ ،‬‬ ‫وال ّشهداء‪ ،‬أدب الحرب الذي أصبح واقعا خالل‬ ‫الحربين العالميتين وما شهده العالم في تلك‬ ‫الفترة من كوارث بشرية‪ ،‬أودت بحياة الماليين‬ ‫انعكست على األدب‪ ،‬فالكاتب‬ ‫من البشر‪،‬‬ ‫َ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪9‬‬

‫الروسي ال ّشهير تولستوي (‪)1910-1828‬‬ ‫ّ‬ ‫«استطاع بكتابه الذي يحمل عنوان «مملكة‬ ‫الرب داخلك» التأثير على مشاهير القرن‬ ‫ّ‬ ‫العشرين مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر‬ ‫كينغ في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة‬ ‫السلمية التي تنبذ العنف»‪)10(.‬‬

‫تُ ْشَبعُ بدقائق‪ ،‬بل هو يمثّل كينونة اإلنسان وكافة‬ ‫المخلوقات األخرى‪ ،‬أدب العصر الجاهلي يمثّل‬ ‫األدب األكثر جرأةً في تاريخ األدب العربي‪،‬‬ ‫ال ّذكاء الثقافي الذي كان عند شعراء ذلك العصر‬ ‫إن الوصف‬ ‫الذين كانوا بعيدين عن العلم‪ ،‬حيث ّ‬ ‫جليا‪ ،‬يعود ذلك إلى الثورة‬ ‫ّ‬ ‫الدقيق للجسد كان ّ‬ ‫التي يريد الكاتب بدوره أن يخلقها في نفسه وفي‬ ‫إن فكرة الجنس‬ ‫القارئ والمجتمع أيضا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حيث ّ‬ ‫جدا تعود إلى التناسل البشري‬ ‫وهي فكرة قديمة ّ‬ ‫والمتعة والضرورة اإلنسانية الملحة‪ ،‬فالجسد في‬ ‫النص يجعل من القارئ يعرف قيمة جسده‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫طبيعي كالعناصر األخرى التي‬ ‫إن الجسد هو‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫حداثيا‪ ،‬فهو‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫عنص‬ ‫وليس‬ ‫األدب‪،‬‬ ‫بها‬ ‫ى‬ ‫يتغن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫طبيعي كالشمس والمطر والزرع والموت‪ ،‬وليس‬ ‫من الضرورة أن ترتبط فكرة الجسد بالجنس‬ ‫النحت واألدب معنى‬ ‫الرسم و ّ‬ ‫دائما‪ ،‬فهو يمثّل في ّ‬ ‫اقعية‪ ،‬فالجسد هو المثال والعفّة‬ ‫مغاي ار لداللته الو ّ‬ ‫والديمومة وليس المتعة وحدها‪ ،‬وهو المعنى‬ ‫الحقيقي للطبيعة‪ ،‬األدب الجاهلي في األدب‬ ‫العربي كان بارعا وشفّافا في وصف الجسد‪ ،‬فقد‬ ‫علم‬ ‫كان بحسب بعض النقّاد أدبا فاحشا‪ّ ،‬‬ ‫لكنه ٌ‬ ‫السماء وهو‬ ‫إنساني‪ ،‬فاألدب يطلق راياته في ّ‬ ‫حر باستخدامه الرموز الطبيعية واإلنسانية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يقول ال ّشاعر امرؤ القيس في معلقته الشهيرة‪:‬‬ ‫ت ومر ِ‬ ‫فَ ِم ْث ِ‬ ‫ض ٍع‬ ‫لك ُحبلَى قَ ْد َ‬ ‫ط َرْق ُ ُ ْ‬ ‫فألهيتُها عن ِذي تمائم م ِ‬ ‫حول‬ ‫َ ُ‬

‫يختلف أدب الحرب عن األدب الثّوري‪ ،‬فمعنى‬ ‫ويعكس دوما‬ ‫الحرب منبوذ ومكروه في األدب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أما األدب الثوري‬ ‫الضياع و ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدمار والحيرة والقلق‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ألنه‬ ‫العدو‪،‬‬ ‫تجاه‬ ‫شيء‬ ‫بأي‬ ‫القيام‬ ‫على‬ ‫فيبعث‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫القراء في‬ ‫ُيعتَبر دفاعا عن ّ‬ ‫النفس‪ ،‬ويؤثّر في ّ‬ ‫الفترة التي ُكتِب فيها‪ ،‬وأحيانا بعد ذلك بكثير‪،‬‬ ‫ويصبح واقعا لل ّشعوب‪،‬‬ ‫حتّى يخلّد هذا األدب‬ ‫َ‬ ‫فقصيدة «‪ »Ey reqîb‬أي «أيها الرقيب» التي‬ ‫الراحل»دلدار يونس»‬ ‫كتبها ال ّشاعر الكردي ّ‬ ‫النشيد‬ ‫السجن عام ‪،1938‬‬ ‫أصبحت ّ‬ ‫َ‬ ‫وهو في ّ‬ ‫الوطني الكردي‪ ،‬واستطاعت هذه القصيدة أن‬ ‫مصطلح‬ ‫تخلق ثورة في األدب الكردي‪ ،‬وهناك‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫آخر في األدب يخالف أدب الحرب واألدب‬ ‫الثوري ويحاول تشويه األدب‪ ،‬وهو تجنيد األدب‬ ‫الذي انتشر في القرن التّاسع عشر وبداية القرن‬ ‫تمرد ضد هذا‬ ‫العشرين في إنكلترا‪ ،‬فقد»حدث ُ‬ ‫أنصار‬ ‫وجه‬ ‫االستغالل السيء لألدب‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫«الفن من أجل الفن» انتقاداتهم ألتباع سان‬ ‫سيمون واالشتراكيين والجمهوريين الذين منحوا‬ ‫لألدب ُمهمة قيادة الشعب»(‪)11‬‬ ‫الجسد ٍ‬ ‫كرمز في ال ّنص األدبي‪:‬‬ ‫الرمز األكثر تأثي ار في األدب‪ ،‬فهو‬ ‫الجسد يمثّل ّ‬ ‫أدبي منه‪، ،‬‬ ‫عنصر مهم ّ‬ ‫جدا وال يخلو ّ‬ ‫نص ّ‬ ‫لماذا الجسد هو الجغرافية التي ينثر عليه األدب‬ ‫النص‬ ‫يغير رمز الجسد في ّ‬ ‫وروده‪ ،‬تُرى هل ّ‬ ‫شيئا ؟‬

‫األدب لهُ باعٌ طويل في ذكر تفاصيل الجسد‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل تفصيلي‪ ،‬وهذا الوصف والعنصر ال يأتي‬ ‫مادة فقط‪ ،‬أو غريزة جسدية‬ ‫من كون الجسد ّ‬

‫ت له‬ ‫إذا ما بكى من خلفها‬ ‫انصرفَ ْ‬ ‫َ‬ ‫بِ َش ٍّ‬ ‫ـق وتَحـْتي ِشـقُّهَا لَ ْم ُيحـَ​َّو ِل(‪)12‬‬

‫رمز الجسد يخلق تغيي ار كبي ار في األدب‪ ،‬فهو‬ ‫ي ينبع من ثقافة اإلنسانية وحضاراتها‪،‬‬ ‫اسطور ٌّ‬ ‫وقد استخدم بدالالت عديدة‪َّ ،‬‬ ‫لكن استخدامه‬ ‫تامة بات‬ ‫النص األدبي‬ ‫كرمز في ّ‬ ‫ّ‬ ‫بسطحية ّ‬ ‫اختالف‬ ‫هناك‬ ‫جماحها‪،‬‬ ‫ح‬ ‫كب‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ٌ‬ ‫مشكلة يجب ُ َ‬ ‫يسمي‬ ‫جوهري بين الواقع والخيال‪ ،‬األدب الذي ّ‬ ‫األشياء بمسمياتها بدون أي دالالت ال ُيعتبر‬ ‫أدبا‪ ،‬فعليه أن يدور حول المعنى ويأخ ُذ ّلبه‬ ‫النصوص‬ ‫وليس كلّه‪ ،‬والشرح المرافق لبعض ّ‬ ‫َ‬


‫‪10‬‬

‫كأنه‬ ‫األدبية ووجود عنصر الجسد يأتي‬ ‫إباحيا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وليس اسطورّيا‪ ،‬مثال‪ ،‬ذكر تفاصيل‬ ‫تجاري‬ ‫َ‬ ‫النص األدبي دون أي دالالت‬ ‫الجسد بدقّة في ّ‬ ‫شاعر جسد حبيبته بذكر نهديها‬ ‫كأن يذكر‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وخصرها ‪...‬الخ بدون أي تشابيه أو معاني‬ ‫ك‬ ‫خفية هو تَ ِع ٍّد على حرمة الجسد العاري‪ ،‬فهنا ٌ‬ ‫ّ‬ ‫فرق بين األدوات اإلبداعية واستخدامها‪ ،‬مثال‬ ‫ٌ‬ ‫السّياب» طرح فكرة‬ ‫شاكر‬ ‫«بدر‬ ‫اقي‬ ‫ر‬ ‫الع‬ ‫اعر‬ ‫ال ّش‬ ‫ّ‬ ‫جديدة في رمز الجسد‪ ،‬وهو اشتهاء العذ اروات‬ ‫َّ‬ ‫الغضة العارّية وهي‬ ‫أجسادهن‬ ‫وتخيل‬ ‫ّ‬ ‫الميتات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫في القبر‪ ،‬ومحاكمته لنفسه كيف ّإنه لم يكن‬ ‫فارسا لتلك الفتيات‪ ،‬وكان الموت بينهما‪ ،‬يقول‬ ‫في ذلك‪:‬‬ ‫و ِ‬ ‫كأن ِك الكواكب البعيدة‬ ‫أنت يا ضجيعتي ّ‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫الجسد هو الخطيئة التي عاش بفضلها اإلنسان‪،‬‬ ‫يربط األدب بين صورتين مختلفتين هما واحدة‬ ‫في الطبيعة‪ ،‬فالشاعر هو اإلنسان‪ ،‬والجسد هو‬ ‫الخطيئة‪ .‬استطاع بودلير أن يكتب هذه النظرية‬ ‫ويغير من الصورة النمطية للجسد‬ ‫في األدب‪ّ ،‬‬ ‫السيما المرأة في األدب‪،‬‬ ‫األدب‪،‬‬ ‫التي يعالجها‬ ‫ّ‬ ‫فهي الزوجة التي تضطر لممارسة الجنس‪،‬‬ ‫وهي األم‪ ،‬وهي الزوجة التي تنتقم من ال ّشاعر‪،‬‬ ‫يقول في قصيدته»مباركة»‪:‬‬ ‫عندما يظهر ال ّشاعر في هذا العالم الملول‬

‫بقرار من القوى العلوية‬

‫أمه المذعورة بقبضتيها المتشنجتين‬ ‫تلوح ّ‬ ‫ّ‬ ‫الراثي لحالها هائجة‬ ‫في وجه اللّه ّ‬ ‫وضعت وك ار من األفاعي‬ ‫وتقول‪ :‬ليتني‬ ‫ُ‬

‫كأن بيننا من الكرى جدار‬ ‫ّ‬ ‫اليدان تعصر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان جثّةً بليدة‬ ‫تضمك‬ ‫ّ‬ ‫معانق دمي على ِحجار‬ ‫كأنني‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬

‫ارضع هذا الطفل التّائه‬ ‫بدال من أن‬ ‫َ‬ ‫الزائلة التي حملته فيها‬ ‫ملعونة هي ليلة المتعة ّ‬

‫فتستحي ُل سور‬ ‫و ِ‬ ‫أنت في القرار من بحارك العميقة‬

‫العامة قائلة‪:‬‬ ‫وزوجته تصرُخ في ّ‬ ‫الساحات ّ‬ ‫بما ّإنه يجدني جميلة حتى العبادة‬

‫نون بيننا دما ونار‬ ‫ام ْ‬ ‫الس ُ‬ ‫ت ّ‬ ‫تر َ‬ ‫أمدها جسور‬ ‫ّ‬

‫أمسها تص ّكني الصخور‬ ‫أغوص ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫العروق في يدي‬ ‫تقطّع‬ ‫َ‬ ‫أستغيث ٍ‬ ‫آه يا وفيقة‬ ‫ُ‬ ‫إلي أنت يا رفيقة‬ ‫يا َ‬ ‫أقرب الورى ّ‬ ‫للدود والظالم‪..‬‬

‫النساء جميعا‬ ‫بما إنك يا رب اخترتني من بين ّ‬ ‫قرف لزوجي البائس‪.‬‬ ‫ألكون موضع َ‬

‫لذلك سأفعل ما فعلته األوثان القديمة‬

‫سأجعله يعيد طالئي بال ّذهب‬

‫ألعرف إن كنت أستطيع أن أزاحم الوالء‬ ‫اإللهي‪)13(..‬‬

‫الصوت الغيبي‬ ‫السوري» أدونيس» َ‬ ‫كان ّ‬ ‫ال ّشاعر ّ‬ ‫لهذا الجسد‪ ،‬وقد كان لمجموعاته ال ّشعرّية في‬ ‫فلسفية بطريقة شعرّية‪ ،‬فهو‬ ‫هذا المجال بحوث‬ ‫ّ‬ ‫الرجل وعلى وجود‬ ‫يتمرد على ّ‬ ‫الدين وعلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحياة على األرض وعلى الجسد أحيانا‪ ،‬حيث‬ ‫ٍ‬ ‫صور‬ ‫كمنبع للحياة‪ ،‬ويتكلّم في‬ ‫يمجد الجسد‬ ‫ٍ‬ ‫إّ​ّنه ّ‬ ‫عديدة بلسان المرأة‪ ،‬يقول في ذلك‪:‬‬

‫الجسد كان قبل ظهور األديان يمثّل حقيقة البشرية‬ ‫والوجود‪ ،‬فالتماثيل واآلثار الباقية من األزمنة‬ ‫المتالحقة قبل الميالد ترسل رسالة إلى البشرية‬ ‫بأن اإلنسان كان في ذلك الوقت حضارّيا‪ ،‬ولم‬ ‫ّ‬ ‫فالدين‬ ‫األديان‬ ‫تكن‬ ‫تشوه صورة الجسد خارجها‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫المحرمات خارج إطاره وفي‬ ‫من‬ ‫يجعل الجسد‬ ‫ّ‬ ‫سأفيء إليك‪ ،‬تُراني أصبحت عذراء‬ ‫ذات الوقت يدفع اإلنسان إلى ممارسة الجنس‬ ‫ُ‬ ‫الدين‪ ،‬وربما كان‬ ‫خلف الشرائع التي ينشرها ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫إليك‪،‬‬ ‫الحب فيك؟‬ ‫من نعمة‬ ‫أفيء َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫فيك إلى ال قرار‪.‬‬ ‫و أهبطُ َ‬

‫أحس بجسمي‬ ‫أحس بنفسي‪ ،‬ال ُّ‬ ‫ال ُّ‬

‫بأني أحيا إذا لم أعانق‬ ‫ال ُّ‬ ‫أحس ّ‬ ‫جسدا آخر‪.‬‬ ‫أستَ ِشفّ َك‪ُّ ،‬‬ ‫أنهد فيك‪ ،‬متاهي ولقائي بنفسي‬ ‫أنت ‪ ،‬وحريتي(‪)14‬‬ ‫َ‬ ‫خاتمة‪:‬‬ ‫الحال التي وصل إليها األدب مؤخ ار حا ٌل‬ ‫جنائزية وحزينة للغاية‪ ،‬فاإللكترونيات التي‬ ‫سوداويا‬ ‫اجتاحت دول العالم‪ ،‬وأصبحت واقعا‬ ‫ّ‬ ‫يعوض‬ ‫الناس‪ ،‬ليس هناك‬ ‫يضيق عقول ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫شيء ّ‬ ‫عن القراءة‪ ،‬القراءة فقط للقراءة‪ ،‬وليس لمصالح‬ ‫اقتصادية وغيرها‪ ،‬كيف لنا أن نكون شعوبا‬ ‫ّ‬ ‫نقدس‬ ‫حضارّيين ودارسين لألدب ونحن ال ّ‬ ‫القراءة؟ ما معنى القوقعة التي ِ‬ ‫أدخل إليها األدب‬ ‫مرميا على رفوف المكتبات وهو‬ ‫قس ار ُليصبح‬ ‫ّ‬ ‫يختنق من غبار التهميش؟‬

‫لم أصبح األدب يرتبط دائما بأوقات الفراغ‬ ‫سلية وبعض الكتب التجارّية التي ال تثير‬ ‫والتّ ّ‬ ‫العاطفية؟‬ ‫الجنسية و‬ ‫القراء سوى غرائزهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شيئا في ّ‬ ‫لم ينظر المجتمع إلى األدباء كمنبوذين‬ ‫اجتماعيا‪ ،‬أو عاطلين عن العمل أو مرضى‬ ‫نفسيين؟‬ ‫ٍ‬ ‫بصفحات تقليدية عفا‬ ‫لم عدد المنظّرين أدبيا‪،‬‬ ‫القراء؟‬ ‫عليها األدب‪ ،‬أكثر من عدد ّ‬

‫يتحول األدب من القراءة والتأثير النظري‬ ‫عندما ّ‬ ‫في المتلقي‪ ،‬إلى مجرد شعارات وتصفيق في‬ ‫المهرجانات واألمسيات المشوبة بالسياسة في‬ ‫يجيا‪،‬‬ ‫أغلب األحيان‪ ،‬لصالح سلطة ما‬ ‫يموت تدر ّ‬ ‫ُ‬ ‫يجند في الجيوش‪ ،‬األدب‬ ‫ليس اإلنسان وحده ّ‬ ‫األمي‬ ‫أيضا أصبح كذلك‪ّ ،‬‬ ‫فتقبل الحضور ّ‬

‫‪11‬‬

‫ٍ‬ ‫لشويعر ما‪ ،‬وهو يذكر اسم قائد أو مدينة‪،‬‬ ‫ياسية بطريقة‬ ‫الس‬ ‫اء‬ ‫القر‬ ‫أيديولوجيات‬ ‫إلى‬ ‫ليتقرب‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تافهة ومخزية تجعل من األدب سلعة رخيصة‬ ‫السوداء‪.‬‬ ‫تباعُ في األسواق ّ‬ ‫الفوضى العارمة في سوريا خلقت فوضى مرعبة‬ ‫في األدب‪ ،‬هل نشهد مرحلة نعي فيه األدب‬ ‫الخلق الجوهري؟‬ ‫ّ‬ ‫الدمار في‬ ‫النزوح والموت و ّ‬ ‫ونحن نعيش مرحلة ّ‬ ‫إن‬ ‫أم‬ ‫ة‪،‬‬ ‫الثقافي‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫األدبي‬ ‫السوري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بنية المجتمع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مخاض منذ خمس سنوات‬ ‫األدب هناك في‬ ‫ميتا؟!‬ ‫ينتظر جنينا جديدا كالبالد‪ ،‬ربما يلد ّ‬ ‫من الضروري أن يكون األدب محطما للصورة‬ ‫النمطية للحياة‪ ،‬وعليه أيضا أن يكون طرحا‬ ‫ّ‬ ‫يعبر عن الواقع من وجهة نظر‬ ‫يئا‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫جديدا‬ ‫ّ‬ ‫الشخصية والتي تمثّل نظرة المجتمع ككل‬ ‫الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫أو ٍ‬ ‫فئة معينة تتشارك المشاعر والواقع نفسه‪،‬‬ ‫تحدثنا عنها لها أهميتها‪،‬‬ ‫بعض العناصر التي ّ‬ ‫الرموز‬ ‫وهناك عناصر أخرى كالتّاريخ والفلكلور و ّ‬ ‫أمة‪،‬‬ ‫الدينية واألسطورية‪ ،‬األدب يمثّل ّ‬ ‫ّ‬ ‫هوية كل ّ‬ ‫البد من ذكر‬ ‫ألمانيا‬ ‫عن‬ ‫الحديث‬ ‫يتم‬ ‫حين‬ ‫فمثال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫البد‬ ‫إسبانيا‬ ‫عن‬ ‫أو‬ ‫«غوته»‪،‬‬ ‫هير‬ ‫األديب ال ّش‬ ‫ّ‬ ‫من المرور بالشاعر فدريكو لوركا‪ ،‬وعن ال ُكرد‬ ‫البد من ذكر المبدع» أحمدي خاني»‪ ،‬وروسيا‬ ‫ّ‬ ‫تعدد كتّابها وخلقَت أدبا تُرجم إلى العديد‬ ‫التي‬ ‫ّ‬ ‫من اللغات البد وأن تذكر «تولستوي»‪ ،‬ما من‬ ‫ٍّ‬ ‫يغير في تاريخ األمم‪ ،‬ال يعني‬ ‫إن األدب ّ‬ ‫شك ّ‬ ‫هذا ّإنه يحمي أسقف المنازل من السقوط على‬ ‫إن األدب‬ ‫رؤوس مالكيها من هول المدافع‪ ،‬كما ّ‬ ‫لكنه‬ ‫للقراء وأحيانا للكتّاب أنفسهم‪ّ ،‬‬ ‫ال يمنح خب از ّ‬ ‫خفية وغيبية عن الواقع‪ ،‬يلمسها‬ ‫يمنح عوالم ّ‬ ‫حبا لنفسه وللحياة‪،‬‬ ‫القارئ‪ ،‬وربما تخلق لديه ّ‬ ‫اإلنسان‬ ‫يقول فرانسيس بيكون‪« :‬القراءةُ تجعل‬ ‫َ‬ ‫المحاورة تجعل اإلنسان نشيطا‪ ،‬والكتابة‬ ‫كامال‪ ،‬و‬ ‫َ‬ ‫تجعل اإلنسان دقيقا‪ .‬لهذا السبب إذا ق أر اإلنسان‬ ‫قليال فإنه سيتوفر على ذاكرة جيدة‪ ،‬إو�ذا تحدث‬ ‫قليال‪ ،‬فإنه سيمتلك عقال نشيطا‪ ،‬إو�ذا ق أر قليال‪،‬‬ ‫فإنه سيتوفر على كثير من الحيلة‪ ،‬حتى يبدو‬ ‫وكأنه يعرف ما ال يعرفه»‪.‬‬


‫‪12‬‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫ال ّشاعر اإليراني أحمد شاملو الذي يعتبر أحد أو ربما نراها هكذا لقلّة اإلنتاجات األدبية في‬ ‫أعالم الشعر الفارسي الحديث‪ ،‬والذي أحدث الرواية خصوصا‪.‬‬ ‫تغيي ار في الشعر اإليراني الحديث‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مستوحيا تشويه األدب ليس إال تشويها لواقع األمم‬ ‫إبداعه من اللغة الفارسية القديمة وتجربة‬ ‫أدبيا كمن‬ ‫فإن من يتسلّق ّ‬ ‫اإلنسان المعاصر هو مثال لألدب المؤثر ولحضاراتها‪ ،‬وبرأيي ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ يقتل‪ٌّ ،‬‬ ‫نص رديء يقتل قارئا جديدا‪ ،‬وكل‬ ‫فكل ّ‬ ‫«يعتبر‬ ‫حيث‬ ‫مجتمعه‬ ‫تغيي ار في‬ ‫والذي خلق ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كتاب هزيل يكسر قلما حديثا‪ ،‬ربما ما قاله‬ ‫الناقدون أحمد شاملو محطما لألصنام في الكاتب» عزيز نيسن» في مجموعته القصصية‬ ‫إيران‪ ،‬حيث لم يسلم حتى الشعراء الفرس العظام «خصيصا للحمير» يمثّل واقع األدب المخزي‪،‬‬ ‫من انتقاداته؛ إذ انتقد سعدي الشيرازي لمواقفه حيث قال‪« :‬ماذا بوسع العاطل عن العمل القيام‬ ‫المحقرة للمرأة والفردوسي لمغالطته التاريخية في‬ ‫مغنيا وال قدمان‬ ‫قصة «كاوا الحداد والضحاك»‪ .‬وقد جلبت هذه به؟ ال صوت جميل كي يصبح ّ‬ ‫قويتان كي يكون العب كرة قدم‪ ،‬إذن لم يبق‬ ‫االنتقادات وخاصة الموجهة للفردوسي الذي أمامه سوى إمكانية واحدة‪ ،‬أن يصبح كاتبا‪.‬‬ ‫يعتبره القوميون الفرس محيي اللغة الفارسية‬ ‫فإن ك ّل من أمسك قلما بين‬ ‫بعد الفتح العربي االسالمي إليران ونبيا لهم‪ ،‬وكما تعرفون ّ‬ ‫أما من ال‬ ‫جلبت لشاملو المزيد من الشتائم والهجمات إبهامه وسبابته ووسطاه يصبح كاتبا‪ّ .‬‬ ‫عاما على مناهل المياه‬ ‫المتعصبة من هؤالء القوميين‪ ،‬وكان أحمد يستطيع فيصبح مشرفا ّ‬ ‫العامة في البلد‪»..‬‬ ‫شاملو طموحا في القضايا السياسية مؤمنا‬ ‫ّ‬ ‫بالديمقراطية وحقوق الشعوب اإليرانية غير سننتظر جميعا ما سينجبه الواقع من هذه‬ ‫الفارسية‪ ،‬حيث خصص في أوائل الثمانينيات المرحلة االنتقالية في عمر األدب‪ ،‬وسنتطلّع‬ ‫صنف هذا‬ ‫المزيد من صفحات مجلته األسبوعية « كتاب بعد موتنا إلى التّاريخ لنراه كيف ّ‬ ‫جمعة» لثقافة وأدب هذه الشعوب‪ ،‬حيث كان‬ ‫مجمال لواقع ما‪ ،‬بل هو‬ ‫ليس ِّ‬ ‫الوقت‪ ،‬األدب َ‬ ‫يعتبر النظام الفيدرالي إطا ار مناسبا إليران‪ ،‬ولم الواقع نفسه مع جميع تناقضاته وتغيراته‪ ،‬وقد‬ ‫تسمح و ازرة اإلرشاد بطبع دواوينه وسائر آثاره كان لكتاب جان بول سارتر( ما األدب؟) شرٌح‬ ‫حيث يقول فيه‪ »:‬يكون‬ ‫إال عقب مجيء خاتمي‪ ،‬حيث تم الحظر على طويل في هذا المجال‪ُ ،‬‬ ‫كتبه لمدة ‪ 16‬عاما»(‪)15‬‬ ‫اتية لمجتمع في ثورة‬ ‫األدب في جوهره هو ال ّذ ّ‬ ‫األدب هو الذي يغير في النفوس والعقول دون دائمة‪ ،‬وفي هذا المجتمع يتجاوز األدب التناقض‬ ‫ّ‬ ‫نار ودم وشهداء‪ ،‬برأيي فإن التجربة ال ّشخصية بين القول والعمل‪ ،‬حقا لن يكون األدب ‪ -‬في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫في األدب مهمةٌ جدا‪ ،‬وهي التي تعيش واقع أية حال من األحوال ‪ -‬مساويا للعمل‪ :‬فغير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن المؤلف يؤثّر في قرائه عمال‪ ،‬إو�ّنما‬ ‫أدبا‬ ‫اقع‬ ‫و‬ ‫ال‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫الكاتب وتخلق‬ ‫وفنا‪ّ ،‬مما صحيح ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعكس تلك التجربة على اإلنسانية ويحقّق يتوجه بدعوته إلى حرياتهم‪ ،‬إو�ّنما يكون التأليف‬ ‫ّ‬ ‫األدب بذلك نجاحه‪ ،‬فهو يختلف عن التّاريخ األدبي هو الشرط الجوهري العملي في جماعة‬ ‫والرسم والموسيقا‪ ،‬ألن التّاريخ هو حفظ للوقائع متحولة متجددة بال انقطاع‪ ،‬وحاكمة لنفسها‬ ‫ّ‬ ‫دون أي إبداع‪ ،‬والرسم واأللحان كما يعتبرها بنفسها»(‪.)16‬‬ ‫ّ‬ ‫األدب‬ ‫ألن‬ ‫األدب‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫حض‬ ‫سارتر أبكمان في‬ ‫يتحدث اآلباء واألجداد عن كتب الشعر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫ر‬ ‫تعب‬ ‫التي‬ ‫و‬ ‫لصالحه‬ ‫يستخدم اللغة‬ ‫المخبئة‬ ‫لـ»جكرخوين» الشاعر الكردي المعروف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الموسيقا والرسم‪ ،‬ما يتطلّب اآلن في الواقع تحت مالبسهم‪ ،‬والتي كانت ممنوعة قبل الثورة‬ ‫يستخف ِ‬ ‫الموجود في سوريا‬ ‫ُّ‬ ‫بخاصة هو قدرة األدب أن في سوريا‪َّ ،‬‬ ‫به البعض اآلن‬ ‫فإن ما‬ ‫ّ‬ ‫االنتهاكات‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫كل‬ ‫وسط‬ ‫يته‬ ‫يحافظ على عذر‬ ‫ون‬ ‫كانت السلطات تخاف منه‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫الوطني َ‬ ‫األدبية تعيش مرحلة بائسة‬ ‫إن األجناس‬ ‫وي َع ّرضون حياتهم للخطر في‬ ‫ّ‬ ‫كما ّ‬ ‫يبحثون عنه ُ‬ ‫َ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪13‬‬ ‫السابق‪.‬‬ ‫(‪ )6‬ذات المصدر ّ‬

‫سبيله‪ ،‬هكذا كانت قيمة األدب‪ ،‬من المحزن‬ ‫رؤية غرف الطالب بال ٍ‬ ‫المدرسية‬ ‫كتب غير‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫المحزن أيضا ابتعاد البعض‬ ‫الجامعية‪ ،‬ومن‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ضمن دائرة األدباء‬ ‫عن قراءة األدب وقوقعته‬ ‫َ‬ ‫الضيقة‪ ،‬هناك بعض الكتّاب الذين تألموا لهذا‬ ‫ّ‬ ‫الواقع وقرروا االنعزال عن هذه الفوضى‪ ،‬لكن‬ ‫ما من َّ‬ ‫إن األدب أكبر من هذا الخلط‪،‬‬ ‫شك فيه ّ‬ ‫مجددا‪...‬‬ ‫بعد هذا‬ ‫الضباب ّ‬ ‫وستشرق شمسه َ‬ ‫ّ‬

‫الحرة‬ ‫(‪ )10‬ليو تولستوي‪ ،‬ويكيبديا‪/‬الموسوعة ّ‬ ‫(‪ )11‬األدب من أجل ماذا‪ ،‬دراسة عن األدب الفرنسي‬ ‫منشورة في مجلة نزوى‪.‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫(‪)12‬منشورات جامعة الفرات‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬األدب الجاهلي‪ ،‬مكتبة الفرات‪.‬‬

‫(‪ )1‬الشعر الحر ‪ /‬قراءة في أغاني مهيار الدمشقي‬ ‫ألدونيس – بحث لخير الفؤاد جامعة جاكرتا‪.‬‬

‫(‪ )2‬مارينا تسفيتاييفا شاعرة القدر المأساوي‪ ،‬اسكندر‬ ‫حبش‪ ،‬موقع جهة ال ّشعر‪.‬‬

‫(‪)3‬من دفاتر تسفيتاييفا‪ ،‬جهة ال ّشعر‪.‬‬

‫(‪ )4‬الكاتبة الهولندية ريناتا دورستين بين الماضي‬ ‫والحاضر والمستقبل‪ ،‬ترجمة‪:‬ميادة خليل‪ ،‬صحيفة العالم‬ ‫الجديد‪.‬‬

‫(‪ )5‬منشورات جامعة الفرات‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ال ّشعر الحديث‪ ،‬مكتبة الفرات‪.‬‬ ‫ّ‬

‫(‪ )7‬ذات المصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )8‬د‪.‬إحسان عباس‪ ،‬اتجاهات ال ّشعر العربي المعاصر‪،‬‬ ‫عالم المعرفة ‪.1978‬‬ ‫(‪)9‬من دفاتر تسفيتاييفا‪ ،‬جهة ال ّشعر‪.‬‬

‫حنا الطيار‪،‬‬ ‫(‪ )13‬بودلير‪ ،‬أزهار ال ّشر‪ ،‬ترجمة‪ّ :‬‬ ‫جورجيت الطيار‪.‬‬ ‫الساقي‬ ‫(‪)14‬أدونيس‪ ،‬تاريخ ّ‬ ‫يمتزق في جسد امرأة‪ ،‬دار ّ‬ ‫‪.2007‬‬ ‫(‪ )15‬احمد شاملو‪ ،‬أعظم شعراء الرعيل األول في‬ ‫إيران‪ ،‬يوسف عزيزي‪ ،‬عن كتاب « إيران الحائرة بين‬ ‫الشمولية والديمقراطية» ليوسف عزيزي الصادر عن دار‬ ‫الكنوز األدبية في بيروت‪.‬‬ ‫(‪)16‬جان بول سارتر‪ ،‬ما األدب؟‪ ،‬ترجمة وتقديم‬ ‫وتعليق‪ :‬الدكتور محمد غنيمي هالل‪ ،‬دار نهضة مصر‬ ‫النشر‪.‬‬ ‫للطباعة و ّ‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪14‬‬

‫التفويض األدبي للسّياسة‬ ‫‪P‬‬ ‫عفاف خليفي‬

‫مجرد‬ ‫التّاريخ ليس نظريات متماسكة‬ ‫ّ‬ ‫منهجية‪ ،‬هو ّ‬ ‫آمال‪ ،‬خليط من األفكار تصيغها «الروح» في‬ ‫المتشظّي‬ ‫أشكال رمزّية‪ ،‬كمحاولة لتحويل العالم ُ‬ ‫موحدة‪ .‬يمنحنا األدب وحدة الحدس‬ ‫إلى رؤية ّ‬ ‫ويكشف عالم من الصور؛ هي قدرة األدب‬ ‫لتبصر‬ ‫النفس‬ ‫على استبطان المعنى وتهذيب ّ‬ ‫ّ‬ ‫السديمية التي تحجبنا‬ ‫الوجود إو�زاحة السحب ّ‬ ‫عن الحقيقة‪.‬‬

‫نحن إزاء نظام رمزي متعلّق بالوجدان والفضيلة‬ ‫والمعنى‪ ،‬غايته الوصول إلى «المقصودات‬ ‫اإلنسانية»‪ .‬هو تأسيس للوجود بالكلمة ولعلّها‬ ‫ّ‬ ‫الحرية‪ ،‬خارج‬ ‫ج‬ ‫خار‬ ‫د‬ ‫تفس‬ ‫التي‬ ‫القصوى‬ ‫السعادة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫بحرية الفكر‪ّ :‬إننا ككائنات بشرّية‬ ‫اإليماني‬ ‫الفعل‬ ‫ّ‬ ‫ثمة‬ ‫ال ندين ألحد بقدرتنا على التفكير‪ ،‬ومن ّ‬ ‫لقية ألفعالنا ولمصيرنا الخاص‪.‬‬ ‫إعطاء قيمة ُخ ّ‬ ‫األدب كك ّل أشكال التمثّل الجمالي للعالم ال‬ ‫قوة تحاول‬ ‫ُ‬ ‫يجب أن يخضع إلى أي جهة أو ّ‬

‫بسط هيبتها وسطوتها على عقولنا‪ ،‬لكون األدب‬ ‫الفن بشكل عام تكثيفا لالنفعال اإلنساني في‬ ‫و ّ‬ ‫ثمة تحويل االنفعال من‬ ‫شكل فعل رمزي‪ ،‬ومن ّ‬ ‫يائية للجسد)‬ ‫ز‬ ‫في‬ ‫(انفعاالت‬ ‫مجرد سلوك بيولوجي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قوة دافعة وأعمال‬ ‫يصبح‬ ‫ي‬ ‫رمز‬ ‫تعبير‬ ‫إلى‬ ‫ّ‬ ‫مسرحية‪ ،‬رواية‪)... ،‬؛ ّإنه‬ ‫موثّقة (قصيد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫السياسية‬ ‫و‬ ‫االجتماعية‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫الوجداني‬ ‫نِتاج التجربة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعبر عنه «هيجل» بروح الثقافة التي‬ ‫أيضا‪ ،‬ما ّ‬ ‫الفنان وهو أسمى أشكال التعبير‬ ‫ينتمي إليها ّ‬ ‫فإن‬ ‫عن أسمى حاجات الفكر ومتطلّباته‪ ،‬لهذا ّ‬ ‫جماليا فحسب‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫تتم مقاربتهُ‬ ‫سؤال األدب ال ّ‬ ‫متأصل في حكم القيمة‪.‬‬ ‫الحكم الجمالي‬ ‫لع ّل ُ‬ ‫ّ‬ ‫من هذا المنطلق ال مناص من الخوض في‬ ‫السياسة وأفعالها‪،‬‬ ‫السياسة‪ ،‬ال فكاك من أوامر ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكونها ال تنفصل عن وجودنا‪ ،‬بل هي المبدأ‬ ‫األساسي الذي يخضع له الكلّي‪ .‬أليست الدولة‬ ‫نموذج للعالم الكلّي؟ أوامرها ونواهيها‪ ،‬سطوتها‪،‬‬ ‫هرميتها‪ ،‬ومقاصدها‪.‬‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪15‬‬

‫األدبية لمجتمع ما متج ّذرة داخل‬ ‫إن البنية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التركيبة السياسية لذات المجتمع‪ ،‬والفكرة‬ ‫الثقافية واألدبية‬ ‫السياسية منوطة باالتّجاهات‬ ‫ّ‬ ‫لتلك المجموعة‪ .‬ال يقتصر األمر على األزمة‬ ‫ياسية‬ ‫الس ّ‬ ‫نمر بها اليوم في حياتنا ّ‬ ‫العنيفة التي ّ‬ ‫الكونية‬ ‫الحرب‬ ‫طبعا‬ ‫نقصد‬ ‫واالجتماعية؛‬ ‫ّ‬ ‫الدولة وما بعد‬ ‫والعنف الهووي المعلن‪ ،‬زمن ّ‬ ‫تأملنا في تاريخية الخطاب األدبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدولة‪ .‬لو ّ‬ ‫األدبية‬ ‫األشكال‬ ‫بتداخل‬ ‫الفور‬ ‫على‬ ‫سنشعر‬ ‫نا‬ ‫فإن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسي‪ ،‬أليس التّاريخ اإلغريقي‬ ‫مع العقل ّ‬ ‫النموذجية التي قامت عليها‬ ‫بمثابة القاعدة ّ‬ ‫األزمنة الالّحقة‪ ،‬متمثال في شعر العبقري‬ ‫هوميروس‪ ،‬ملحمتي اإللياذة واألوديسة بذور‬ ‫ال ّشعر الملحمي األصيل‪ ،‬تاريخ طروادة‪،‬‬ ‫ويرسخ‬ ‫هوميروس ُينشد الفضيلة اإلغريقية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فكرة المثل األعلى‪ :‬بطولة هيكتور في دفاعه‬ ‫الهمجية؛‬ ‫عن طروادة مقابل بطولة أخيليوس‬ ‫ّ‬ ‫البطولة المرتبطة بالشرف والفضيلة والدفاع‬ ‫الطبقية في‬ ‫عن الوطن‪ ،‬يطرح هوميروس فكرة‬ ‫ّ‬ ‫شعره‪ ،‬الفوارق السافرة بين الطبقات الثالث (‬ ‫عامة الشعب ‪ /‬النبالء‪ /‬اآللهة) ومحاولة كسر‬ ‫هذه الفوارق‪.‬‬

‫تستمد منه السياسة ديمومتها وأخالقياتها‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬ ‫يتغنى ثيوجنيس‬ ‫ألم‬ ‫أزماتها‪،‬‬ ‫و‬ ‫اتها‬ ‫ر‬ ‫تغي‬ ‫أحيانا‬ ‫و‬ ‫ّ‬ ‫بالتضحية والبطولة من أجل مدينته عندما قال‬ ‫تدق رأسي هذه‬ ‫« ليت السماء النحاسية الهائلة ّ‬ ‫الساعة‪ ،‬ليتها تزرع الرعب في قلب ك ّل رجل من‬ ‫أبناء األرض‪ ،‬إن أنا تخاذلت في مد يد العون‬ ‫ألحبائي‪ ،‬أو لم أسبب األلم والحزن ألعدائي «‬ ‫حتّى ِعداء أفالطون ‪ُ -‬منظّر الجمهورية العادلة‬ ‫– هو ِعداء زائف لل ّشعر واألدب‪ ،‬فأغلب‬ ‫محاوراته كالمأدبة وجورجياس وغيرها من أعظم‬ ‫الفن‪.‬‬ ‫منجزات اليونان في ّ‬ ‫قد نصادف عكس هذا االرتباط القبلي بين‬ ‫يوجه األدب فكرة‬ ‫األدب والسياسة بدل أن ّ‬ ‫الحكم ويصوغ أخالقيات وأدبيات السياسة‪ ،‬قد‬ ‫الرمزية وسائل‬ ‫تنقلب المواضع وتصبح الذخائر ّ‬ ‫أيديولوجية‪ ،‬وذلك بتحويل األفكار‬ ‫وتبريرات‬ ‫ّ‬ ‫األيديولوجية إلى الوجود في شكل قصائد‬ ‫ّ‬ ‫جندت الفكرة النازية والفاشية‬ ‫ما‬ ‫مثل‬ ‫وروايات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أساطير وأدبيات‪ ،‬وحاكت منها األشعار كتبرير‬ ‫لممارساتها األيديولوجية واالستعمارية أحيانا‪،‬‬ ‫“الماساده» ملحمة إسرائيلية حيث يموت‬ ‫«اليهودي» موتا بطوليا على مذبح الدولة‪،‬‬ ‫هذه القلعة األخيرة حسب أدبيات األيديولوجيا‬ ‫الصهيونية‪ ،‬التي أقامها الحاكم اليهودي هيرود‪،‬‬ ‫حصنا من كليوبات ار ومن خطر الرومان‪ ،‬وبعد‬ ‫حصار الروم للقلعة‪ ،‬انتحر يهود القلعة انتحا ار‬ ‫جماعيا بدل الوقوع في األسر‪ ،‬وهذا ما يلهم‬ ‫األدب اإلسرائيلي بمعاني البطولة‪ ،‬لترسيخ فكرة‬ ‫وحدة الشعب والتضحية (تجدر اإلشارة هنا إلى‬ ‫أن القصة‬ ‫أن العديد من الباحثين اليهود‪ ،‬أكدوا ّ‬ ‫مجرد أسطورة حيكت لغايات أيديولوجية وأنه‬ ‫تاريخيا ال وجود لهذه القلعة)‪.‬‬

‫األدب الهوميري بأساليبه التعبيرية العبقرية كان‬ ‫الرهان األيديولوجي في تأسيس فكرة المدينة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأخالق البطولة في تحقيق الواجب إزاء‬ ‫الدولة‪ /‬المدينة وترسيخ الفضيلة في الضمائر‬ ‫كأنها مقاالت‬ ‫والسلوكيات‪ .‬قصائد سولون أيضا ّ‬ ‫سياسية‪ ،‬مفعمة بعقيدة الفرد كذات في خدمة‬ ‫المدينة‪ ،‬تطويرها وتنظيمها وتنميتها بتحصيل‬ ‫العلوم والصناعة والمعرفة‪ .‬القرنان السابع‬ ‫والسادس بالنسبة لإلغريق‪ ،‬عندما بدأت الطبقة‬ ‫العامة التعبير عن عدم الرضى ورغبتها في‬ ‫ّ‬ ‫المشاركة في الحكم‪ ،‬ارتبطت الفكرة بظهور‬ ‫تيارات أدبية مختلفة تطرح فكرة الصراع‬ ‫والنزاعات الواقعة بين طبقات المجتمع الواحد‬ ‫ومسألة الصراع بين اإلغريق واألجانب‪.‬‬

‫أن الحركة األيديولوجية‬ ‫نحن ندرك تاريخيا ّ‬ ‫الصهيونية ال تُمانع بتاتا في دفن اليهود‪ ،‬ثم‬ ‫إعالن انتحارهم كما حصل في سفينة باتريا‬ ‫وغيرها‪ ،‬وفكرة يهود الشتات (ك ّل الحركات‬ ‫األدب اإلغريقي بك ّل رموزه ( هوميروس‪ ،‬الفاشية ال تتوانى في وضع األدب واجهة لتبرير‬ ‫المادة الخام التي أفعالها وشرعنة الممارسة السياسية لهذا الفكر)‬ ‫هيسودوس‪ ،‬سولون‪ )...‬مثّل‬ ‫ّ‬ ‫تورط األدب في الممارسة السياسية ال‬ ‫تجسد البطولة والمالحم‪ ،‬والمخزون األيديولوجي واضح ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن ّ‬


‫‪16‬‬

‫يعود إلى مدى هشاشة هذا األدب‪ ،‬بل إلى غلبة‬ ‫الفعل السياسي‪ ،‬ليس هذا دفاعا عن األدب بقدر‬ ‫ماهي مالحظة تترتب عن المعطى التاريخي‪،‬‬ ‫وسلسلة االنتهاكات التي مارستها السياسة على‬ ‫األدب‪ ،‬عندما أحرق النازيون ك ّل كتب األدب‬ ‫الحديث العتباره أدبا مريضا ومتخاذال‪ ،‬ال يحث‬ ‫على ِ‬ ‫القتال من أجل الفكرة النازية (محرقة‬ ‫العاشر من أيار‪ /‬مايو ‪ 1933‬احراق اآلالف‬ ‫من الكتب التي اعتبرها النازيون ال تمت للروح‬ ‫الجرمانية بصلة)‪.‬‬ ‫كما سيق الشعراء واألدباء إلى مسالخ الدولة‬ ‫صلب الحالّج بعشقه‪ ،‬وأعدم لوركا‬ ‫وأعدموا‪ُ .‬‬ ‫على خلفية صراعات سياسية متوارثة‪ ،‬واغتيل‬ ‫الشاعر األمازيغي «لوناس المعطوب» حين‬ ‫صعد على ظهر إله التكفيريين في الجزائر‬ ‫ورفض أن ُيسكت الشاعر داخله‪ ،‬النهاية التي‬ ‫تهرول إلى أرواح األدباء لم تنهي الفكرة األدبية‪،‬‬ ‫النرجس الراقص في فم ال ّشاعر‪،‬‬ ‫ولم توقف ّ‬ ‫مالحم هوميروس وكلمات لوركا وقصائد الحالّج‬ ‫ترسـّخ خلود األدب‪.‬‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫من اليسير إدراك إخفاق السياسة في إرضاخ‬ ‫أن‬ ‫األدب وجعله الخادم المطيع للدولة‪ ،‬صحيح ّ‬ ‫الدائر بين األدب والسياسة لم ينته بتطويع‬ ‫الجدل ّ‬ ‫األدب للحكم‪ ،‬ولم يحسم سمو هذا األخير عن‬ ‫لكنه خلّف شروخا في الذات‬ ‫الفعل السياسي‪ّ ،‬‬ ‫الناس مؤمنين باألدب وما‬ ‫والحضارة‪ .‬لم يعد ّ‬ ‫السرديات العريقة كمرجع‬ ‫عادوا يحتكمون إلى ّ‬ ‫التدبر‪.‬‬ ‫لفكرة الوجود والممارسة السياسية و ّ‬ ‫ما اآلن؟ ماذا عن غد؟ نقتبس صيغة سؤال‬ ‫داريدا عما سيكون عليه األدب في ظ ّل الكائن‬ ‫المتأزم‪ ،‬هل يستطيع األدب اليوم إصالح ما‬ ‫أعطبته الصراعات اإليديولوجية؟ هل مازلنا‬ ‫بأن الشعراء ال يموتون إذ قُتلوا؟ هل انتهى‬ ‫نؤمن ّ‬ ‫األفق الوجودي لألدب وبتنا أمام تدوينات حر ّفية‬ ‫لفظائع ما نعيشه؟ األدب ما يضمن ُحرمتنا‬ ‫الوجودية واألخالقية بينما السياسة اليوم تسعى‬ ‫إلى تجريدنا من ملكاتنا إو�عادتنا إلى حيوانيتنا‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪17‬‬

‫النزوح‬ ‫السوري الراهِن‬ ‫ِّ‬ ‫ثيمَة األدب‬ ‫‪P‬‬ ‫جوان تتر‬

‫ ‬

‫ المنفى من أكثر المصائر إثارة للحزن»‪ ,‬يقول‬‫إدوار سعيد في إحدى كتبه‪ ,‬دون أن يعلم بالتأكيد‬ ‫المرجح أنها تنطبق على العهد‬ ‫أن العبارة من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫السوري الجديد في نظرة أولية للنزوح السوري‬ ‫تحول إلى منفى لذلك النازح التائه‪َّ ,‬‬ ‫ثنائية‬ ‫الذي َّ‬ ‫األدبي الكبير في‬ ‫النزوح والمنفى‪ ,‬اإلعجاز‬ ‫ّ‬ ‫نعت األدب ٍ‬ ‫بعقار‬ ‫أن َ‬ ‫بما من المعقول ّ‬ ‫العالم‪ ,‬ور ّ‬ ‫مهدئ من شأنه أن يعطي انطباعا متوات ار ما‬ ‫ّ‬ ‫ك ويقين‪ ,‬فرؤى الكتابة نائية على الدوام‬ ‫ش‬ ‫بين ّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫وتبدو غير متّزنة على صنف بعينه‪ ,‬بعيدة‬ ‫ٍ‬ ‫تدون على الورق‬ ‫ثم َّ‬ ‫ألّنها تُ َ‬ ‫رسم في عقول ومن ّ‬ ‫(النازح) هو اآلخر‪ ,‬خليطٌ معجون ومتشابك ما‬ ‫ّ‬ ‫تأرجح في الزمن الماضي والنزوح الحاضر‪,‬‬ ‫بين‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫شيء نازح‪ ,‬المساحة الالمنتهية للبياض‬ ‫كل‬ ‫واليراع األسود كطالع السوريين في السنوات‬

‫الخمس األخيرة‪ ,‬فـ( َّ‬ ‫أدبيات الثورة السورَّية)‪,‬‬ ‫مح للعالم أن يستخدم هذا االصطالح‪,‬‬ ‫إن ُس َ‬ ‫ُّ‬ ‫الخيم واإلغاثة واالعتقال‪ ,‬ناهيك‬ ‫تضج بعبارات َ‬ ‫ٍ‬ ‫ألي سلطة‪,‬‬ ‫عن االحتجاج على فعل‬ ‫سياسي ّ‬ ‫ّ‬ ‫بما الزمن كفي ٌل بإظهار التناقضات البعيدة‬ ‫ولر ّ‬ ‫في الكتابات السورَّية الدالَّة على النزوح‪ ,‬أعني‬ ‫يتحول ك ّل سوري‪ ,‬نازح عن مدينته وبيته‬ ‫حين َّ‬ ‫أو حتى مقيم فيهما‪ ,‬إلى نازٍح بداخله من خالل‬ ‫الكتابة‪ ,‬حتّى المقيم يبدو نازحا وهو يعبِّر‪ ,‬أو‬ ‫يدون‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سيتّفق العالم قريبا على ٍ‬ ‫أن التسميات‬ ‫أمر مفادهُ ّ‬ ‫المتعارف عليها في سوريا تختلف‬ ‫والمفاهيم‬ ‫َ‬ ‫ثمت‬ ‫عما عليه الحال في كل بقاع األرض‪َّ ,‬‬ ‫ّ‬ ‫ي‪,‬‬ ‫السور‬ ‫لدى‬ ‫التصنيف‬ ‫أو‬ ‫التعبير‬ ‫في‬ ‫خطب‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬


‫‪18‬‬

‫إن َّ‬ ‫قلق‬ ‫تمعنا في ك ّل أجناس الكتابة السورَّية‪ٌ ,‬‬ ‫غضب وكآبة إزاء كل عناصر الحياة‬ ‫يجاوره‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ونحدده‬ ‫ب ما ال يمكن أن نصفه‬ ‫وبالتالي َع َ‬ ‫طٌ‬ ‫في خانة الخطأ‪ ,‬فمن أكثر مصائب البشرَّية‬ ‫ٍ‬ ‫جار معه‬ ‫كجدول ينساب َّا‬ ‫شيء ما‬ ‫التحديد‪,‬‬ ‫ٌ‬ ‫تدون في الصحافة أو بين‬ ‫التي‬ ‫ات‬ ‫ر‬ ‫العبا‬ ‫آالف‬ ‫ّ‬ ‫طيات الكتب أو على األوراق البيضاء التي‬ ‫ّ‬ ‫النازحون في ترحالهم‪.‬‬ ‫فها‬ ‫ل‬ ‫يخ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ األرقام والتواريخ لغ ًة ‪:‬‬‫في ِّ‬ ‫جل الكتابات السورَّية (لنقل بعد الثورة)‬ ‫األهم أثناء الكتابة‪,‬‬ ‫الرف‬ ‫تتموضع األرقام في‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫أهميتها للوهلة‬ ‫دون أن يعي المتلقّي اآلخر‬ ‫َ‬ ‫األولى‪ ,‬ولكن سرعان ما يتّضح األمر بالنسبة‬ ‫للسوري اآلخر الـ( غير كاتب) الذي يق أر ٍ‬ ‫بثقة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وشعور‬ ‫ي بسالسة‬ ‫وشجاعة ما كتبه نظيره السور ّ‬ ‫ِ‬ ‫بغبن كل القوى في أرجاء العالم‪ ,‬تلك األرقام التي‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وسجل في المقبل من اللحظات‪,‬‬ ‫َّ‬ ‫تتحول إلى سند ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫يوضع له‬ ‫نص‬ ‫وكل‬ ‫خ‬ ‫يؤر‬ ‫البلد‬ ‫من‬ ‫ج‬ ‫خرو‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫األهمية في توثي ٍ‬ ‫َّ‬ ‫تتضح‬ ‫رقم‪ ,‬وال تكمن‬ ‫ق ما‪ّ ,‬إنما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫دال في‬ ‫في‬ ‫تخليد لما هو مكتوب كي يكون ّ‬ ‫ِ‬ ‫وضع الحرب ألوزارها‪ّ ,‬إنه‬ ‫ب‬ ‫األزمان التي تعق ُ‬ ‫َ‬ ‫التاريخ إذا؟‪ ,‬هذا ما يمكن استخالصه‪ ,‬وبمعنى‬ ‫ي َّ‬ ‫حاليا من التاريخ‬ ‫أقرب‪ ,‬يدنو األدب السور ّ‬ ‫َّ‬ ‫اليونانية كانت األرقام‬ ‫بخطى واثقة‪ ,‬في المالحم‬ ‫ً‬ ‫مهمة‪ ,‬عدد األحصنة‪ ,‬عدد القتلى وعدد اآللهة‬ ‫ّ‬ ‫المتنازعة أيضا ما يضفي الرونق األزلي على‬ ‫المكتوب في الوقت عينه الذي يضفي غموضا‬ ‫إبهام‬ ‫ما‪ ,‬وفي ملحمة النزوح السور ّ‬ ‫ي كذلك ّ‬ ‫ثمت ٌ‬ ‫ورونق في ٍ‬ ‫يسوران تلك الكتابات‪ ,‬وعلى‬ ‫آن معا ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫أهمية تلك األرقام ّإل ّأنها لم تحظ‬ ‫الرغم من‬ ‫بأي ذي ٍ‬ ‫ي‬ ‫ِّ‬ ‫بال من ُ‬ ‫الب َّحاث في النزوح السور ّ‬ ‫ِ‬ ‫سوى في طلب يد العون من منظمات اإلغاثة‬ ‫استنادا إلى تلك األرقام والتواريخ المبهمة‪,‬‬ ‫والسؤال الذي َيثِب إلى الذهن‪ ,‬هل تلك األرقام‬ ‫يمكن النظر إليها على ّأنها شيء ما من األدب‬ ‫أن تلك‬ ‫ي؟‪ ,‬سيجتمع النقّاد يوما ما على ّ‬ ‫السور ّ‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫النصوص َّ‬ ‫يخ وأعداد‪ ،‬هي خالصة‬ ‫المذيلة بتوار َ‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسانية التي ُكتبت خالل األزمة‬ ‫النصوص‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسانية في سوريا‪« ,‬غرق ما يقارب الـ ‪320‬‬ ‫شخص سوري في بحر إيجة»‪ّ ,‬إنها حداثةُ‬ ‫َّ‬ ‫الجلية‪( ,‬على األق ّل في‬ ‫الراهنة‬ ‫لغة النصوص ّ‬ ‫المتوفّ ِر من النصوص َّ‬ ‫حاليا)‪ ,‬هنا تكمن اللغة‬ ‫النازحة والمهاجرة‪ ,‬وكذلك «في صباح الجمعة‬ ‫ّ‬ ‫الشعبي «‪ ,‬فقط هكذا‬ ‫اك‬ ‫ر‬ ‫الح‬ ‫بدء‬ ‫من‬ ‫‪10‬‬ ‫الـ‬ ‫ّ‬ ‫يدون النزو ُح نفسه بعيدا عن التصنيف والتنميق‬ ‫ّ‬ ‫الذي يحطّ من شأن األدب في ك ّل األحوال‪.‬‬ ‫ مصائر الكتابة والوهم ‪:‬‬‫اقيون فيما مضى نزوحهم في قالب‬ ‫دون العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يمنع‬ ‫كان‬ ‫ديكتاتور‬ ‫بسبب‬ ‫ح‬ ‫النزو‬ ‫اية‪,‬‬ ‫و‬ ‫الر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الرقص واألدب‪ ,‬الشكل األكثر‬ ‫الغناء والكتابة و ّ‬ ‫َّ‬ ‫اح‬ ‫شعبية آنذاك كانت الحكاية‪ ,‬ومنهم من ز َ‬ ‫تم كتابته عن النزوح‬ ‫عن الخطّ‬ ‫َ‬ ‫وترجم ما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بما‪ .‬سعدي يوسف مثاال‪ ،‬بترجماته‬ ‫ر‬ ‫كتعويض ّ‬ ‫لـ كافافيس وريتسوس وأونغاريتي والذين يمكن‬ ‫نما‬ ‫نعتهم بالغار َ‬ ‫قين في عمق النزوح‪ ,‬نزوٌح إو� ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أبهر الكتابةَ‬ ‫بطريقة مغايرة‪ّ ,‬إل أن السور ّ‬ ‫ي َ‬ ‫تصوٍر مسبق‪,‬‬ ‫ذاتها بالنزوح!!‪ ,‬بعيدا عن ك ّل‬ ‫ّ‬ ‫أن الكتابة أو ما يقال عنه‬ ‫يمكن فعال القول ّ‬ ‫جمعا بـ األدب في سوريا‪ ،‬معادلة ال يمكن حلّها‬ ‫بات الحديث‬ ‫أو تفسيرها بقوالب جاهزة‪ ,‬فالنزو ُح َ‬ ‫ِ‬ ‫أن الكتابات تلك‬ ‫األول في ك ّل كتابة سورَّية‪ّ ,‬إل ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهم شديد غائر في األعماق‪ ,‬على ذات الدرجة‬ ‫ٌ‬ ‫صفت‪ .‬إذا كيف يمكن‬ ‫من ّ‬ ‫شدة النزوح التي َع َ‬ ‫نصنف تلك الرسائل التي كتبها ذات يومٍ‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫أليس ذلك‬ ‫اهلل؟‬ ‫إلى‬ ‫ح‬ ‫ناز‬ ‫ي‬ ‫سور‬ ‫طفل‬ ‫مضى‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بعد ويحتاج‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ك‬ ‫ست‬ ‫م‬ ‫ليس‬ ‫بما‪ ,‬ولكن‬ ‫ُ َ َ​َ ُ‬ ‫أدبا؟‪ ,‬ر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يتم تعرية الشيء‬ ‫إلى‬ ‫دهور طويلة‪ ,‬فعادةً ما ّ‬ ‫بعد أن يمضي الزمن نحو المستقبل البعيد ريثما‬ ‫َّ‬ ‫األولون‪:‬‬ ‫تتوضح تلك المعاناة‪ ,‬التي َ‬ ‫باح بها ّ‬ ‫كنا نعتقد هذا الشيء‬ ‫«المعاناة نبع الكتابة»‪ّ ,‬‬ ‫كم المبالغات التي نعيشها‬ ‫مغاالةً تُزاد على ّ‬ ‫َّ‬ ‫حقيقي وجوهري‪,‬‬ ‫األمر‬ ‫أن‬ ‫يوميا‪ ،‬ولكن يبدو ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهم‪ ,‬الوهم الذي يمكن أن نتلقَّفه‬ ‫جوهر التدوين ٌ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪19‬‬

‫من خالل انسياب الكلمات‪ ,‬وعلى الجانب‬ ‫أساس ك ّل كتابة؟‪,‬‬ ‫الوهم ذاته‬ ‫أليس‬ ‫َ‬ ‫اآلخر أيضا َ‬ ‫ُ‬ ‫أن وهما ما يتح ّكم بمصائر السوريين‬ ‫ّ‬ ‫البد و ّ‬ ‫خفي‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫ل‬ ‫لع‬ ‫أو‬ ‫يقة‪,‬‬ ‫ر‬ ‫الط‬ ‫بهذه‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ينزح‬ ‫حتى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الكتاب ِة‬ ‫التوجه نحو‬ ‫ي على ّ‬ ‫َ‬ ‫ُيغص ُ‬ ‫ب الكاتب السور ّ‬ ‫َّ‬ ‫عالميا (نازحا)‪.‬‬ ‫بعد أن يغدو لقبهُ‬

‫في األدب السوري المكتوب منذ اندالع الثورة‬ ‫وخللها‪ ,‬يا تُرى هل تلك الكتابات حقيقةً تندرج‬ ‫ضمن إطار البحث عن الذات؟ وأين هي تلك‬ ‫الذات أساسا؟ وهل تركت الديكتاتورَّيات المتعاقبة‬ ‫مجاال للذات‪ ،‬لتتيقَّن بهدوء ّأنها فعال ذات؟ هكذا‬ ‫هي الكتابة عن النزوح أيضا‪ ,‬فشبح الديكتاتور‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫جسمانيةَ‬ ‫ي حقيقةً‬ ‫يالحق أينما ح ّل النازح السور ّ‬ ‫التواجد أم َّ‬ ‫كتابية‪ ،‬ال فرق‪.‬‬

‫ النزوح والبحث عن الذات‪:‬‬‫أن الغوص في عمق األدب بك ّل أجناسه‬ ‫ّ‬ ‫البد و ّ‬ ‫أن األدب مرآة‬ ‫وهو‬ ‫وحيدا‪,‬‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫تصو‬ ‫سيعطي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن (الكتابة ماهي ّإل بحث عن‬ ‫الشعوب‪ ،‬أو ّ‬ ‫جدا_‬ ‫الذات)‪_ ,‬ذاك‬ ‫تصوٌر كالسيكي وقديم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بنسب‬ ‫غير ّأنه معمو ٌل به حتّى اللحظة‪ ،‬ولكن‬ ‫متواترة وفقا الختالف َّ‬ ‫خلفيات الكتابة أساسا‪ ،‬إن‬ ‫ألم فَ ْق ٍد‪ ..‬إلخ‪ ,..‬ما كتبه الماغوط‬ ‫كان معاناة أو َ‬ ‫سابقا (كأنموذج) كان يمكن أن يقال عنه (أدب‬ ‫الممحوة‬ ‫البحث عن الذات)‪ ,‬البحث عن الذات‬ ‫َّ‬ ‫بفعل تر ٍ‬ ‫اكمات خلّفها الطواغيت‪ ,‬هذا إن نظرنا‬ ‫إلى مراتب األدب وأجناسه نظرة اختيارَّية بعيدة‬ ‫عن القوالب المصوغة مسبقا من حيث ال يعلم‬ ‫أحد!!‪ ,‬وما تم تدوينه َخلل سنو ٍ‬ ‫ات خمس من‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫بحث عن‬ ‫هو ّإل‬ ‫ما‬ ‫القائم‪،‬‬ ‫ي‬ ‫السور‬ ‫اع‬ ‫ر‬ ‫الص‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بأنها ليست‬ ‫الذات في وسط النزاعات التي تتّسم ّ‬ ‫نما عسكرية‪ ،‬وما تجلبه مفردة‬ ‫نزاعات‬ ‫ّ‬ ‫سياسية إو� ّ‬ ‫َّ‬ ‫(عسكرة) من خراب على كافة الصُّعد وعلى‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسانية‪ ,‬الحالة هذه‬ ‫األخص من الناحية‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الكتابية‬ ‫تجبرنا على إعادة مراجعة الصياغات‬

‫النزوح ِس َم ًة‪:‬‬ ‫‬‫ُ‬ ‫النزوح بات سمة الكتابة السورَّية‪ ,‬ذلك النزوح‬ ‫الذي كان فيما مضى سرَّيا من خالل هجرة‬ ‫ممن كانوا خارجين على القانون‬ ‫بعض الكتّاب‪َّ ،‬‬ ‫البعثي من خالل الكتابة‪ ,‬النزو ُح كتابة‪ ,‬واآلن‬ ‫ّ‬ ‫(النازحة) متوفَّرة وبكثرة في األوساط‬ ‫الكتابة ّ‬ ‫يمكن استخالصه‬ ‫األدبية السورَّية‪ ,‬ولكن ما‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫التمعن في الكلمات‬ ‫د‬ ‫ولمجر‬ ‫كتابات‬ ‫هكذا‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن النزوح ال يمكنه فقط أن يجعل‬ ‫المبثوثة‪ ،‬هو ّ‬ ‫َّ‬ ‫طبيعية»‪،‬‬ ‫متشردا وضائعا «كحالة‬ ‫من السوري‬ ‫ّ‬ ‫بل أيضا بإمكان هذا النزوح أن يمنح أفقا جديدة‬ ‫الكتاب ِة نزوحا‬ ‫للكتابة‪ ،‬تتبلور من خالل ممارسة‬ ‫َ‬ ‫وانصها ار وتأقلما مع سوريا الجديدة‪ ,‬ك ّل بقاع‬ ‫األرض باتت سوريا‪ ،‬من خالل الكتابات التي‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اإللهية والتي يمكن‬ ‫يوميات النزوح‬ ‫َنق أر عن‬ ‫َّ‬ ‫الحقيقية‪ ،‬ال بل‬ ‫تسميتها بـ التغريبة السورَّية‬ ‫َّ‬ ‫حقيقيةً في عصرنا الحديث‪.‬‬ ‫األكثر‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪20‬‬

‫صندوق بريد العصافير‬ ‫‪P‬‬ ‫وائل الناصر‬

‫أعددت قهوتي‪،‬‬ ‫استيقظت في السادسة صباحا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أنظر إلى الشجرة‬ ‫تماما‪،‬‬ ‫النافذة‬ ‫خلف‬ ‫وجلست‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحليقة‪ ،‬تحمل في داخلها صندوق بريد‬ ‫يمتد أمامي مثل صلعة وطن‪.‬‬ ‫للعصافير‪ ،‬والنهر ّ‬

‫يحين موسم التكاثر‪ ،‬تعود أُنثى البعوض إلى‬ ‫َّ‬ ‫ثم تقوم‬ ‫النهر موطنها‬ ‫األصلي الذي ُو َلدت فيه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بضغط نفسها بطريقة ما‪ ،‬فيخرج منها سائل‪،‬‬ ‫يجف‪ ،‬حين ُيالمس الهواء‪ ،‬تصنع‬ ‫سرعان ما‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫فيه‬ ‫بيوضها‬ ‫وتضع‬ ‫با‬ ‫ر‬ ‫قا‬ ‫البعوض‬ ‫منه أنثى‬ ‫ّ‬ ‫تلقيه فوق سطح الماء وتموت‪.‬‬

‫أكتب‬ ‫بط يقيس برودة الماء‪ ،‬هذا حالي حين‬ ‫ُ‬ ‫أود‬ ‫عن الوطن‪ ،‬غالبا ما تخونني يدي‪ ،‬حين ّ‬ ‫عما‬ ‫أحب‪ ،‬أشعر بورطة الكلمة‪ ،‬نظرتي إلى الوطن‪ ،‬تُشبه نظرة تلك البعوضة‬ ‫ّ‬ ‫أن أكتب ّ‬ ‫ويالئم الوطن‬ ‫ببرودتها‪ ،‬دون أن أجد لها لحافا‪.‬‬ ‫إلى وطنها‪ّ ،‬إنها لكي تستمر ُ‬ ‫تخلق من نفسها بيئة مناسبة تحفظها‬ ‫فإنه يصنعها من خالل وجودها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكاتب حين يصنع أفكاره َّ‬ ‫عالقته بالخارج‪ ،‬ومقدار ما يتركه هذا الخارج من الهالك‪ ،‬وتصنع من وعورة الوطن ثوبا‬ ‫في داخله من نكت أسود يحفر القلب‪ ،‬أستطيع صالحا لتُلقي فيه بأغلى ما تملك‪ ،‬فالوطن‬ ‫َ​َ‬ ‫خالل مشهد عصفور يتغوط‪ ،‬أن فرصتنا للنجاة مهما بدا لنا األمر عويصا‪.‬‬ ‫ككاتب‪ ،‬من‬ ‫حي‪،‬‬ ‫أختزل وجودي في الوطن كلّه‪ ،‬وأستطيع من في المهجر‪ ،‬حين أجدني أمام مشهد ّ‬ ‫تجف‬ ‫خالل نافذة‪ ،‬أن أصنع وطنا‪ ،‬ال شجرة حليقة فيه‪ .‬أضغط نفسي ألخرج فكرة‪ ،‬سرعان ما‬ ‫ّ‬ ‫منذ مدة‪ ،‬قرأت في أحد الكتب في علم الطبيعة‪ ،‬حين تالمسني‪ ،‬وأرتبك‪ ،‬فأنا ال أستطيع أن‬ ‫ّ‬ ‫يمر أوال من هناك‪ ،‬من الوطن‪،‬‬ ‫أن هناك نوع من أنواع البعوض الكبير‪ ،‬عندما أضع ّ‬ ‫نصا ال ّ‬ ‫ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪21‬‬

‫علي في المهجر‪ ،‬ولوال هذا المرور‬ ‫ومن ثم ّ‬ ‫يمر ّ‬ ‫لفقدت سهولة المشي‪.‬‬

‫قوقعته ويستعمرون عباءة القاضي‪ ،‬وحين‬ ‫تصل األمور إلى هذا الحد‪ ،‬يجب على الكاتب‬ ‫الم َّ‬ ‫أن يقول كلمته التي‬ ‫هجر خصوصا‪ْ ،‬‬ ‫والكاتب ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُيقاس بها حجم انتمائه لوطنه وشعبه‪ ،‬إو�ل َّ‬ ‫فإن‬ ‫ُّ‬ ‫الشعوب ال ترحم خائنا‪.‬‬

‫هذه العالقة بين فكرتي هناك وفكرتي هنا‪ ،‬هي‬ ‫النهر الدائم الجريان الذي أضع فيه قوارب‬ ‫تحمل ما ال أكون إال به‪ ،‬حين يتعلَّق األمر‬ ‫الحي الذي‬ ‫إذن‪ ،‬في الحرب‪ ،‬يصبح المشهد‬ ‫بموضوعية وال‬ ‫بالوطن‪ ،‬ال أستطيع أن أتكلَّم‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ويثير فضولي ويزرع في داخلي بذور‬ ‫بعيدا عن العاطفة‪ ،‬مهما أجهدت نفسي‪ ،‬هذه أراه‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن أضغط نفسي‪،‬‬ ‫على‬ ‫ني‬ ‫ر‬ ‫جب‬ ‫وي‬ ‫هشة‪،‬‬ ‫الد‬ ‫علي أن أعترف بها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫حقيقة يجب ّ‬ ‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإن نظرتي تجاه الوطن البد ألُخرج من سائل الفطرة داخلي‪ ،‬فكرةً‪ ،‬سرعان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أستطيع ما تقتلها يدي‪َّ ،‬‬ ‫مهزوز‬ ‫ك‬ ‫ألنني‬ ‫كيان مرتب ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أن تحمل ُبعدين أساسيين‪ ،‬دونهما ال‬ ‫و‬ ‫أنْ أضع األمور في نصابها‪ ،‬وال أن أكون والفكرة تأتي مخنوقةً‪ ،‬مولودا س ْقطا‪ ،‬فيه شكل‬ ‫ْ‬ ‫أي تلك الفكرة‪ ،‬حين‬ ‫صادقا مع نفسي أوال قبل اآلخرين‪ ،‬وبدون هذين الحياة وال حياة‪ ،‬إو�َّنها؛ ْ‬ ‫البعدين ال أستطيع أن أضع تأصيال أنطولوجيا تضع نفسها في القارب‪ ،‬لتُبحر في نهر العالقة‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫بخجل أمام‬ ‫الدائم الجريان‪ ،‬تجدها وحيدةً‪ ،‬تُبحر‬ ‫وسيكولوجيا لحياة الكاتب في المهجر ونظرته‬ ‫ّ‬ ‫المحملة‬ ‫هول عدد القوارب المبحرة من الوطن و َّ‬ ‫تجاه وطنه كإنسان أوال وثانيا ككاتب‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫بكل أنواع الموت‪.‬‬ ‫أوال في حالة السِّلم‪ :‬وفيه تكون العالقة بين‬ ‫حاولت‬ ‫هجر ووطنه‪ ،‬هي عالقة حنين وشوق‪ ،‬أنا كشخص خارج الوطن‪ ،‬مهما‬ ‫ُ‬ ‫الم َّ‬ ‫ُ‬ ‫أن أكون دقيقا في نظرتي لوطني من حيث‬ ‫أصدقاء وتحمل المعاناة طرفا واحدا ْ‬ ‫و‬ ‫أهل‬ ‫و‬ ‫هجر ٌهو طرفها الرئيس بما تمثِّله تلك التوصيف‪ ،‬فلن أكون دقيقا كما لو َّ‬ ‫أن األمر في‬ ‫الم َّ‬ ‫يكون‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫خالفية‪ ،‬دائما من هو خارج المشكلة‬ ‫َّأي ِة مسألة‬ ‫المعاناة من قل ٍ‬ ‫ق واغتراب وما إلى هنالك‪.‬‬ ‫أدق‪ ،‬لكن‬ ‫يرى األمور بطريقة أوضح وأعمق و ّ‬ ‫مختلف تماما‪ ،‬خاصَّة‬ ‫إذن‪ ،‬في حالة السِّلم تكون نظرته إلى وطنه‪ ،‬في حالة الوطن فاألمر‬ ‫ٌ‬ ‫نظرة من خرج من َّ‬ ‫الرحم ِّ‬ ‫فصل بقسوٍة عن في عصرنا هذا الذي ُيعتبر بال منازع (عصر‬ ‫األم ُلي َ‬ ‫الجذر الذي ُّ‬ ‫كانت دوافع‬ ‫يشده إلى األرض مهما‬ ‫كل شيء‪ٌّ ،‬‬ ‫التقية) في ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫كل يريد إظهار خالف‬ ‫هجرته‪ ،‬فاألهل واألصدقاء والمجتمع وأماكن ما ُيبطن‪.‬‬ ‫األول كل ذلك يمثِّل‬ ‫اللَّعب والطُّفولة والبيت َّ‬ ‫الم َّ‬ ‫هجر ونظرته‬ ‫بين‬ ‫العالقة‬ ‫تختم‬ ‫السياسة‬ ‫‪،‬‬ ‫إذن‬ ‫الوطن بكلِّيته‪ ،‬فيهم ُيختصر الوطن ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫كل الوطن‪.‬‬ ‫إلى وطنه‪ ،‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬ ‫ثانيا‪ :‬في حالة الحرب‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬األمر فهي التي تختم العالقة بينه وبين بلد الهجرة‬ ‫الم َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫وطن تحكمه‬ ‫مهج ار خرج من‬ ‫هجر هو الذي أيضا‪ ،‬بصفته‬ ‫مختلف تماما‪ ،‬وفيها ُيصبح ُ‬ ‫المعاناة‪،‬‬ ‫طرف‬ ‫هو‬ ‫الوطن‬ ‫و‬ ‫حم‪،‬‬ ‫الر‬ ‫حالة‬ ‫ُيمثِّل‬ ‫َّ‬ ‫سياسةٌ َّ‬ ‫تنوع تلك السِّياسات تبقى‬ ‫معينةٌ‪ ،‬وأمام ُّ‬ ‫األهل‪ ،‬األصدقاء‪ ،‬المجتمع‪ ،‬أماكن لعب‬ ‫َّ‬ ‫الم َّ‬ ‫شمولية وبذات الوقت تأخذ صفة‬ ‫هجر‬ ‫كل نظرة ُ‬ ‫األول واألخير‪ُّ ،‬‬ ‫الطفولة والطفولة‪ ،‬البيت َّ‬ ‫الخصوصية لكونها نظرة َّ‬ ‫َّ‬ ‫ذاتية محكومة بزاوية‬ ‫أولئك ُيصبحون جزءا من الوطن‪ ،‬من ترابه‪ ،‬ضيِّقة ممثَّلة بمصادر المعلومات ودرجة قربها‬ ‫من أنهاره‪ ،‬جباله‪ ،‬بحاره وسهوله ووديانه‪ ،‬وأمام‬ ‫هجر على المستوى الخاص َّ‬ ‫الم َّ‬ ‫جدا‪َّ ،‬إنها‬ ‫هجر رحمة‪ ،‬من ُ‬ ‫الم َّ‬ ‫َّ‬ ‫شمولية باعتبارها نظرة من هو في الخارج‬ ‫معاناة الوطن‪ ،‬تُصبح معاناة ُ‬ ‫وبعضهم قد يعتبرها خيانة‪.‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬والذي رَّبما ُيمثِّل طرفا في معاناة وطنه‪،‬‬ ‫وسطية إلى َّ‬ ‫ِّ‬ ‫بغض‬ ‫الداخل الذي يعيش تلك المعاناة‬ ‫َّ‬ ‫في الحرب ال رحمة في األحكام‪ ،‬وال‬ ‫فيها وال اعتدال‪ ،‬في الحرب يخرج ُّ‬ ‫الكل من النظر عن انتمائه‪.‬‬


‫‪22‬‬

‫خاصةٌ‪ ،‬حين تأخذ تلك المعاناة حالة‬ ‫َّ‬ ‫وهي نظرةٌ‬ ‫صراع بين شعب وطاغية‪ ،‬بين من يصدق ومن‬ ‫الشر‪ ،‬بين من يجد الحرب‬ ‫يكذب‪ ،‬بين الخير و ِّ‬ ‫فرصته لفرض ما يريد‪ ،‬وبين من يجد الحرب‬ ‫كارثةً َّ‬ ‫البد منها لنيل الحقوق‪.‬‬ ‫أنا كمتابع لألدب السوري في ِّ‬ ‫ظل (الثورة‬ ‫أجد من اإلجحاف التَّعامل مع األدب‬ ‫السُّورَّية)‪ُ ،‬‬ ‫السُّوري معاملة أدب المعاناة‪ ،‬و َّ‬ ‫أن المعاناة هي‬ ‫خلقت أدبا جميال‪ ،‬إو�عطاء الكاتب دور‬ ‫التي‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫لشخصية الكاتب‪.‬‬ ‫امتالك األدوات فقط‪ ،‬هو قتل‬

‫ذلك َّ‬ ‫ألن األدب هو نتاج شعب له حضارة‪،‬‬ ‫وقصيدة النثر التي أنتمي إليها‪ ،‬هي ابنة أدب‬ ‫هذا َّ‬ ‫الشعب‪ ،‬تحمل روحه‪ ،‬ومن هنا َّ‬ ‫فإن الكاتب‬ ‫المؤرخ الثابت لمنجز‬ ‫عموما يحمل صفة‬ ‫ِّ‬ ‫حضاري له سمته‪ ،‬نحن عرفنا تاريخ اليونان في‬ ‫حقبة من أحقابه من خالل المنجز األدبي لكتَّابه‬ ‫أمثال‪ ،‬هوميروس‪ ،‬وأرسطو فانز‪ ،‬وكذلك األمر‬ ‫ِّ‬ ‫جرا‪.‬‬ ‫وهلم َّ‬ ‫بالنسبة لألدب الجاهلي َّ‬

‫َّ‬ ‫الجمالية الخاصة التي خلقتها‬ ‫فأنا لو قلت‪ :‬هل‬ ‫قصيدة النثر نابعة من و َّ‬ ‫نمر به؟‬ ‫اقعية ما ُّ‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫هذا الكالم وضوحا‪ ،‬أنقل قول إبراهيم بن هانئ‬ ‫الذي نقله الجاحظ عنه في كتابه ( البيان‬ ‫والتبيين) يقول‪َّ ( :‬‬ ‫القص‪ ،‬أن‬ ‫إن من تمام آلة‬ ‫ِّ‬ ‫القاص أعمى‪ ،‬إو� َّن من تمام آلة الشعر‪،‬‬ ‫يكون‬ ‫ّ‬ ‫أن يكون الشاعر أعر َّ‬ ‫ابيا)‪.‬‬

‫َّ‬ ‫اإلنسانية‬ ‫ومعنى هذا الكالم هو جعل الفطرة‬ ‫القاص وعمل الشاعر‪ ،‬فلو حاولنا‬ ‫مقياسا لعمل‬ ‫ّ‬ ‫أن نقيس قول الشاعر بشار بن برد‪:‬‬

‫(إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم‬ ‫يحيين قتالنا)‬

‫َّ‬ ‫أقرها‪،‬‬ ‫على مقياس الفطرة‬ ‫اإلنسانية التي َّ‬ ‫أقرها أيضا عبد القاهر‬ ‫(الجاحظ في كتابه‪ ،‬و َّ‬ ‫الجرجاني في أسرار البالغة‪ ،‬وأبو علي‬ ‫جني في الخصائص‪ ،‬و َّ‬ ‫الفارسي‪ ،‬وابن ِّ‬ ‫السكاكي‬ ‫والخطَّابي والزمخشري)‪ ،‬فيمكننا القول‪:‬‬ ‫إن شعر َّ‬ ‫بشار بن برد هذا‪ ،‬جميل‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫لكنه ليس‬ ‫َّ‬ ‫قويا بالنسبة للشعراء الذين عاصروه‪ ،‬هم أقوى‬ ‫منه بكثير‪ ،‬والذي أراه هو َّ‬ ‫أن شعر بشار بن‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫لشاعر أكمه‪ُ ،‬ول َد أعمى‪،‬‬ ‫قوي بالنسبة‬ ‫برد‪ ،‬هو ٌّ‬ ‫َّ‬ ‫ولكن شعره بالنسبة لغيره يعتبر جميال وليس‬ ‫َّ‬ ‫قويا‪ ،‬لذا َّ‬ ‫فإن معاناة الشاعر بشار بن برد‬ ‫َّ‬ ‫جمالية خاصة بالنسبة ألولئك‬ ‫أكسبت شعره‬ ‫الذين ينظرون إلى شعره من منظور معاناته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الجمالية بالنسبة ألولئك الذين ينظرون‬ ‫وفقد تلك‬ ‫إلى شعره بوصفه شاع ار يمتلك أدواتا‪.‬‬

‫َّ‬ ‫أجبت بنعم‪ ،‬فهذا يعني َّ‬ ‫الجمالية الخاصة‬ ‫أن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫عرضية وحادثة وليست‬ ‫في قصيدة النثر هي‬ ‫لتطور قصيدة النثر‪َّ ،‬‬ ‫ألن‬ ‫جوهرَّية‪ ،‬وهذا مخالف ِّ‬ ‫ض من أعراض الحضارة وليست‬ ‫عر ٌ‬ ‫الحرب َ‬ ‫العرض‪ ،‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن‬ ‫الحضارة هي َ‬ ‫ٍ‬ ‫ناحية أخرى َّ‬ ‫ألن قصيدة النثر َّ‬ ‫تطو ْ‬ ‫رت وفق من هذا المنظور‪َّ ،‬‬ ‫فإن الشاعر بشار بن برد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مسار تاريخي حضاري طويل‪،‬‬ ‫القاص وحاول أن ُيبين عن نفسه‪،‬‬ ‫وجماليتها امتلك فطرة‬ ‫ّ‬ ‫الخاصَّة يخلقها الكاتب َّ‬ ‫اء‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫به‪،‬‬ ‫ة‬ ‫خاص‬ ‫ألنها‬ ‫َّ ٌ‬ ‫ٌ بفطرة الشاعر‪ ،‬وهذا ضعف في اإلبانة‪.‬‬ ‫يمر به حربا أو غير ذلك‪.‬‬ ‫أكان ما ُّ‬ ‫فإن َّ‬ ‫اللُّغة لها استدعاءات‪ ،‬لذلك َّ‬ ‫بياني‬ ‫عمل‬ ‫كل‬ ‫ّ‬ ‫نعم‪ ،‬المعاناة لها تأثيرها‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫تخلق‬ ‫لكنها ال‬ ‫ْ‬ ‫جمالية تسبقه حواضن لها دالالتها البليغة فيه‪ ،‬ولها‬ ‫خاصَّة في قصيدة النثر أو األدب عموما‪ ،‬إو�ال استدعاءاتها المجسَّدة ألحوالها جميعا‪َّ ،‬‬ ‫ألن‬ ‫فمعنى هذا‪ ،‬إذا انتهت المعاناة َّ‬ ‫فإن قصيدة‬ ‫قوة‬ ‫قوة انتمائه لما يكتب‪ ،‬وفي َّ‬ ‫قوة الكاتب في َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫العامة‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫المكر‬ ‫جماليتها المعتادة‬ ‫النثر تعود إلى‬ ‫َّ‬ ‫استدعاءاته تلك‪ ،‬وال أُنكر َّ‬ ‫أن جيل الثمانينات‬ ‫إجحاف ِّ‬ ‫قبل المعاناة‪ ،‬وهذا‬ ‫ٌ‬ ‫بحق األدب عموما وما بعد‪ ،‬هو جي ٌل َّ‬ ‫شك في انتمائه‪َّ ،‬‬ ‫ألنه كان‬ ‫والكاتب كذلك‪.‬‬ ‫وارثا ِّ‬ ‫لكل النكبات السابقة لوجوده‪ ،‬وأيضا َّ‬ ‫ألنه‬ ‫َّ‬ ‫إن البيان في األدب‪ ،‬كلَّما اقترب من الفطرة‪ ،‬عايش الظُّلم في جميع أدواره‪ ،‬فجاء انتماؤه‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اقترب من الكمال‪ ،‬وكلما ابتعد عنها‪ ،‬أصبح هشا‪ ،‬وهذا ما نراه َّ‬ ‫جليا واضحا في المنجز‬ ‫َّ‬ ‫هشا وغير مفصح في اإلبانة عن نفسه‪ ،‬وألزيد األدبي لذاك الجيل والذي صبغ منجز األجيال‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪23‬‬

‫ُّ‬ ‫لدي‬ ‫التشبث بالتفاصيل هذه الهشاشة في االنتماء للوطن‪،‬‬ ‫الالحقة عليه من خالل‬ ‫خلقت َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫كنت‬ ‫ى‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ش‬ ‫انتماءات‬ ‫االنتماء‪،‬‬ ‫من‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫الن‬ ‫هذا‬ ‫اآلني‬ ‫ِّي‬ ‫الحس‬ ‫و‬ ‫اليومي‬ ‫الصغيرة الممثَّلة في‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أخلطها لتوائم حالتي َّ‬ ‫المفككة‪ ،‬وحياتي المرتبكة‪.‬‬ ‫المغرق في عفويته‪ ،‬السَّاكن في لحظته‪.‬‬

‫ُّ‬ ‫التشبث زلزل لدى الكاتب مخاض الكتابة هذه االنتماءات‪ ،‬األوطان الصغيرة‪ ،‬من فرط‬ ‫هذا‬ ‫الشديد‪ ،‬ليلد أوطانا صغيرةً في ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫لت إلى عادات‪ ،‬وكان يؤلمني‬ ‫كل تفصيل تكون‬ ‫تشبثي بها‪َّ ،‬‬ ‫تحو ْ‬ ‫َّ‬ ‫أن تُ ْك َسر ولو ٍ‬ ‫بأمر خارج إرادتي‪.‬‬ ‫سببا في استم ارره ودافعا ألن يكتب‪.‬‬ ‫أشد األلم ْ‬

‫اآلن في زمن التغييرات العظيمة والثورات‪َ ،‬كُب َر‬ ‫انتماء الكاتب لوطنه‪ ،‬وقوي هذا االنتماء وحاول‬ ‫َّ‬ ‫اليومية الصغيرة‪ ،‬تلك التي‬ ‫من خالل التفاصيل‬ ‫كانت تمثِّل له أوطانا ينتمي لها‪ ،‬حاول جمعها‬ ‫وتوجيهها صوب نبع االنتماء الكبير‪ ،‬الذي‬ ‫فأصبحت‬ ‫جرى جريانا عظيما في قلب الكاتب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫هذه االنتماءات الصغيرة‪ ،‬هي جذور الكاتب‬ ‫الممزوجة بانتمائه الكبير‪.‬‬ ‫في مرحلة من مراحل حياتي‪ ،‬كانت تُمثِّل لي‬ ‫بقرات َّ‬ ‫لكن‬ ‫أن تضحكوا‪ْ ،‬‬ ‫جدتي حالة انتماء‪ ،‬لكم ْ‬

‫أخي ار يمكنني القول‪َّ :‬‬ ‫إن نظرتي لوطني‪ ،‬هي‬ ‫ٍ‬ ‫أمي لي حين ولدتني في حقل للبطاطا‪،‬‬ ‫نظرة ِّ‬ ‫هكذا ِّ‬ ‫بكل سهولة ويسر‪َّ ،‬‬ ‫وكأنها تقول لي‪ :‬هنا‬ ‫الجذر واتجاهاتك كلَّها أغصان وحين ُيقلِّمها‬ ‫البد أن تعود‪َّ ،‬‬ ‫األدب‪َّ ،‬‬ ‫البد أن تنظر خلفك‬ ‫طويال‪ ،‬لتدرك حجم ما فقدت‪ ،‬لتضغط نفسك‬ ‫َّ‬ ‫بالكيفية التي تريد‪ ،‬ولتخرج البيئة المناسبة‬ ‫لألفكار التي َّ‬ ‫البد أن تعود إلى منبعك‪.‬‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪24‬‬

‫هل يشكل األدب السالح األكثر أهمية للدعاية؟‬ ‫‪P‬‬ ‫الكاتب‪ :‬نِيك روميو‬ ‫عن اإلنكليزية‪ :‬ليالف اليوسف‬

‫مشهد من فيلم عن الدكتور زيفاكو‪ ،‬في العام ‪1965‬‬ ‫هل يشكل األدب السالح األكثر أهمية للدعاية؟!‬ ‫هذا ما اعتقد به ستالين‪ ,‬وكذلك الـ سي آي إي‪/‬‬ ‫‪ CIA‬على ما يبدو‪ ,‬وفقا لتقرير جديد يبين كيفية‬ ‫قيام الواليات المتحدة س ار بتوزيع رواية «دكتور‬ ‫زيفاكو‪ »Doctor Zhivago /‬في االتحاد‬ ‫السوفياتي‪.‬‬

‫وصف الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الكتّاب‬ ‫ذات مرة «بمهندسي الروح البشرية» حيث‬ ‫ادعى « أن انتاج األرواح أكثر أهمية من انتاج‬ ‫الدبابات»‪.‬‬

‫بأن األدب كان وسيلة‬ ‫آمن ستالين بوضوح ّ‬ ‫سياسية فعالة‪ ,‬لذا كان راغبا بإعدام الكتّاب‬ ‫المناهضين بأعمالهم لالتحاد السوفياتي‪ .‬شعور‬ ‫ستالين تجاه األدب كان يبدو كتضليل مرتبك‬ ‫من قبل ديكتاتور‪ ،‬ولكن كان هناك تعليق مشابه‬ ‫إبان الحرب الباردة‪ ،‬من قبل رئيس العمليات‬

‫بأن‬ ‫السرية في الـسي آي إي والذي يقول ّ‬ ‫(الكتب تختلف عن باقي الوسائل اإلعالمية‬ ‫ألن كتابا واحدا يمكن أن يغير بشكل‬ ‫الرئيسية‪ّ ،‬‬ ‫كبير مواقف وأفعال القارئ‪ ،‬لدرجة ال يمكن‬ ‫الوصول إليها بتأثير وسائل األعالم األخرى)‪.‬‬ ‫وقدم استخدم ستالين الثقافة كمجاز حربي‬ ‫وسمى الكتاب (السالح األكثر أهمية في‬ ‫الدعاية االستراتيجية)‪ ،‬وبالرغم من البيان‬ ‫المشترك (الرؤية المشتركة)‪ ,‬فإن الـ سي آي إي‬ ‫لم تستخدم تكنيكات السوفييت إلضعاف الكتّاب‬ ‫هددين‪.‬‬ ‫والذين اعتبروا ُم ّ‬ ‫اهتمت الحكومة األمريكية وعلى األخص‬ ‫الـسي آي إي بشغف باستغالل األدب لتعزيز‬ ‫األيديولوجيات األمريكية والحد من الشيوعية في‬ ‫الخارج‪ .‬ربما أفضل دراسة توضح غزو الـ سي‬ ‫آي إي للثقافة األدبية هي قصة رواية «دكتور‬ ‫زيفاكو»‪.‬‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪25‬‬

‫بعض وثائق الـ سي آي إي ذات الصلة‬ ‫بالموضوع أُزيلت عنها السرية مؤخرا‪ ،‬والقت قد ار‬ ‫ولكن‬ ‫من االنتباه اإلعالمي الشهر الماضي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الموضوع طرح بشكل أكثر شمولية في الكتاب‬ ‫الرائع لـ بيتر فين‪ peter Finn/‬وبيت ار كوفي‪/‬‬ ‫‪ ،Petra Couvee‬بعنوان‪( :‬قضية زيفاكو‪:‬‬ ‫الكرملين والـ سي آي إي والحرب على الكتاب‬ ‫المحظور)‪ ،‬حيث يخبرنا الكتاب بالكامل كيف‬ ‫أن رواية «دكتور زيفاكو» ساعدت في تفكيك‬ ‫ّ‬ ‫االتحاد السوفياتي واحتوت على توريطات تآمرية‬ ‫على حاضر ومستقبل الصراع الثقافي‪.‬‬

‫وقد قام مؤلفان سوفيتيان بتزوير توقيعه‪ ،‬وأرسال‬ ‫رسائل إلى الناشر االيطالي تطالبه بإعادة‬ ‫المخطوطة‪ ,‬لكن باسترناك كان قد أرسل إنذا ار‬ ‫خاصا بالفرنسية إلى الزائر االيطالي يخبره‬ ‫بتجاهل االتصاالت بأية لغة أخرى‪ ،‬لقد أراد أن‬ ‫يتم نشر الكتاب مهما كانت االنعكاسات‪.‬‬

‫في كتاب «دكتور زيفاكو» يسرد كل من فين‬ ‫وكوفي رحلة نشر الكتاب الشاقة‪ ،‬وقد صان‬ ‫أن‬ ‫دار النشر اإليطالي حقوق الرواية‪ ,‬كما ّ‬ ‫باسترناك أعطى نسخ إلى أصدقاء زاروه من‬ ‫فرنسا وبريطانيا‪.‬‬

‫مزدوج للواليات المتحدة والسوفيت‪ ،‬وقد تمكنت‬ ‫بيدفورد من أن توصل ما يقارب من مليون‬ ‫كتاب إلى قراء سوفيتيين على مدى ‪ 15‬عام‪،‬‬ ‫من خالل تهريب الكتب إلى االتحاد السوفيتي‬ ‫في علب الطعام إلى صناديق تامباكس‪ ،‬واستمر‬

‫لم يمر وقت طويل حتى انتشرت الرواية‬ ‫ألول مرة ‪ 1957‬حيث كانت الـ سي آي إي‬ ‫متورطة بقصة النشر‪ ،‬عندما تم انشاء الوكالة‬ ‫عام ‪ 1947‬فإن الكونغرس منحها السلطة للقيام‬ ‫بكافة األعمال والواجبات التي تؤثر على األمن‬ ‫بدأ بوريس باستيرناك‪ Boris Pasternak /‬القومي‪ ،‬وكان هذا إلى حد ما انتدابا غامضا‬ ‫بكتابة قصة «دكتور زيفاكو» حوالي العام سمح للوكالة بأن تتطرق وتتوسع في تدخلها‬ ‫‪ 1945‬على ورق أسود كان قد ورثه من صديقه بالمجاالت الثقافية‪.‬‬ ‫المتوفي الشاعر الجورجي الذي تم تعذيبه فين وكوفي يرسمان صورة مثيرة لالهتمام‬ ‫واعدامه من قبل النظام السوفيتي‪ ،‬أرسلت أرملة لألعمال األدبية في سي آي إي في فترة‬ ‫الشاعر الورق إلى باسترناك والذي احترم التحدي الخمسينات‬ ‫األدبي لدى صديقه بكتابة رواية يتجاهل فيها‬ ‫المطالب الرسمية المتعلقة باألدب‪ ،‬والقاضية فعلى سبيل المثال‪ ,‬غادر عضو من الوكالة‬ ‫ليصبح محر ار روائيا في بالي بو‪/‬ي‪play�/‬‬ ‫بتمجيد الرجل السوفيتي والثورة الشيوعية‪.‬‬ ‫بأن رئيسه السابق في الوكالة‬ ‫ليسمع‬ ‫‪،‬‬ ‫‪boy‬‬ ‫ّ‬ ‫كان العمل النهائي إلى حد ما احتفاال للرأسمالية يمكن أن ينشر قصة تحت اسم مستعار‪ ،‬وقد‬ ‫أو «أسلوب الحياة الغربية» ولكنه في بعض تمكنت الوكالة بنجاح عن طريق مجموعة من‬ ‫المقاطع شكك صراحة‪ ،‬بما يتعلق بتسويغ إراقة المنظمات المتقدمة مثل شركة نشر بيدفورد‪/‬‬ ‫دماء الثورة‪ ،‬و ّ‬ ‫أن االمتدادات الكبيرة للثورة لم ‪ Bedford‬في نيويورك من أن تشتري وتطبع‬ ‫السياسة»‪.‬‬ ‫إلى‬ ‫تماما‬ ‫تكن منحازة‬ ‫وتوزع‪ ،‬وأن تستخدم بعض الكتب بهدف تعزيز‬ ‫أن تفشل في تمجيد النظام‪ ،‬كان كخطورة أن الفهم الروحي للقيم الغربية‪ ،‬وقد تضمن هذا‬ ‫تكون على استعداد لمساءلته‪ ,‬ومسؤولو الحزب األمر روايات لمؤلفين متنوعين مثل جورج‬ ‫الشيوعي المكلفون باإلشراف على األمور أورويل ‪ ,George Orwell /‬ألبير كامو‪Al� /‬‬ ‫األدبية والثقافية كانوا قلقين من أن تمنع رواية ‪ ,bert Camuss‬فالديمير نابوكوف‪Vlad� /‬‬ ‫«دكتور زيفاكو» من النشر‪ ،‬وقد تم هذا بسهولة ‪ imir Nabokov‬جيمس جويس‪James/‬‬ ‫من قبل االتحاد السوفيتي‪ ،‬لكن باسترناك تمكن ‪.Joyce‬‬ ‫من تمرير نسخة من المخطوطة إلى زائر‬ ‫بأن أحد الكتب التي أوكلت‬ ‫ويكشف فين وكوفي ّ‬ ‫ايطالي ذات صلة بالنشر‪.‬‬ ‫إلى دار نشر بيدفورد كان مذكرة مزيفة لعميل‬


‫‪26‬‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫برنامج سي آي إي لنشر األدب حتى انهيار من جيوب بناطيلكم) فقد كان باسترناك ُي ِ‬ ‫هاجم‬ ‫الجمهوريات االشتراكية السوفيتية‪.‬‬ ‫غطرسة العقيدة الرسمية‪ ,‬واإليمان المطلق‬ ‫المعدة‬ ‫كانت الحكومة األمريكية تحاول مساعدة مدنيي بالعموميات التي كانت تشكل النهايات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حكومتهم لها‪.‬‬ ‫االتحاد السوفييتي ليتعرفوا على أخطار‬ ‫أن طباعة الـ سي آي إي لنسخ صغيرة‬ ‫والتي تتالعب بثقافتهم وال غرابة بأن الـ سي آي وكما ّ‬ ‫بأنها متورطة بقصة بحجم الجيب لرواية «دكتور زيفاكو»‪ ،‬كان‬ ‫إي لم ترد ألحد أن يعرف ّ‬ ‫النشر تلك‪.‬‬ ‫تماما ما أرادته الوكالة‪« :‬شيء يمكن أن ينتقل‬ ‫مع ذلك فإن الـ سي آي إي رأت في رواية من جيب بنطال أحدهم ليشكل بدوره اآلراء‬ ‫«دكتور زيفاكو» قيمة دعائية كبيرة وباالشتراك العامة»‪.‬‬ ‫مع شركاء هولنديين أذكياء خططوا لطباعة لم ينظر باسترناك إلى روايته كسالح في‬ ‫نسخة غير قانونية لتلك الرواية‪ ،‬مكتوبة باللغة‬ ‫بأنها «كانت‬ ‫الحرب الثقافية‪ ،‬فقد أشار إليها ّ‬ ‫الروسية والتي وزعت في معرض بروكسل سعادته وجنونه األخيرين» كلمات قاسية قالها‬ ‫العالمي ‪ ،1958‬كما أن الـ سي آي إي شخص بات يرى الكتاب كقنبلة ثقافة‪ ،‬لقد اعتقد‬ ‫استخدمت إعالمها الخاص ليتم طباعة نسخ‬ ‫بأن عمله أكثر من كونه عجلة لتوصيل رسالة‬ ‫ّ‬ ‫صغيرة الحجم للرواية‪ ،‬مما يسهل عملية تهريبها‪،‬‬ ‫معينة‪ ،‬وكان محبطاً من الطريقة التي اتبعتها‬ ‫وقد حققت هذه العملية التأثير المطلوب تماما‪،‬‬ ‫وكأنه ناقد‬ ‫إيجابا وسلبا‪ ،‬فقد كان السعر المقرر للطبعة الوسائل اإلعالمية الدولية ليظهر ّ‬ ‫ّ‬ ‫عامل كتابه كرواية وليس‬ ‫الروسية في السوق السوداء في موسكو قريبا للنظام‪ ،‬فقد أراد أن ُي َ‬ ‫كرسول لتوصيل الرسالة‪.‬‬ ‫من راتب أسبوعي‪.‬‬ ‫روجت‬ ‫ومن ناحية أخرى ّ‬ ‫فإن الـ سي آي إي ّ‬ ‫ِ‬ ‫للكتاب في وسائل اإلعالم كمناهض للشيوعية‪،‬‬ ‫إيبأن رمزية هذا‬ ‫وقد اعترفت الـ سي آي‬ ‫ّ‬ ‫الموقف‪ ،‬جعل من االتحاد السوفييتي يبدو على‬ ‫األقل بذات السوء الذي أظهرته الرواية‪.‬‬

‫عندما فاز مؤلف الرواية باسترناك بجائزة‬ ‫فإن المسؤولين‬ ‫نوبل عام ‪ 1958‬لعمله هذا‪ّ ،‬‬ ‫السوفييت هاجموه بشراسة‪ ،‬واعتبروه خائن يتودد‬ ‫إلى محبيه الغربيين‪ ،‬على أية حال فإن الكتّاب‬ ‫حول العالم احتشدوا للدفاع عنه‪ ،‬ولم تحقق‬ ‫السمعة السيئة للكتاب سوى مزيد من المبيعات‪ .‬بعد قبول باسترناك لجائزة نوبل‪ ,‬عاد ليرفضها‬ ‫إن الجهود األمريكية في الهندسة الثقافية كانت بعدما وضع مسؤولو الحزب ضغوط ال تطاق‬ ‫ّ‬ ‫بشكل عام أكثر ذكاء من جهود السوفييت‪ ،‬فقد عليه وعلى أحبائه‪.‬‬ ‫تعزز أكثر من أن تمنع‬ ‫أرادت الـ سي آي إي أن ّ‬ ‫إن صورة جائزة نوبل حيث يبدو فيها الكاتب‬ ‫الوكالة بتهديد الكتاب أو ّ‬ ‫نشر الكتب كما لم تقم‬ ‫ّ‬ ‫مضطهدا وناقدا سياسيا للنظام‪ ،‬خلقت موضوعا‬ ‫إجبارهم لدعم فكرة معينة‪.‬‬ ‫دسما وعظيما للصحافة‪ ،‬وكان بمثابة إعالن‬ ‫أن بعض الفتن تستمر نتيجة‬ ‫مروع ضد االتحاد السوفييتي‪.‬‬ ‫فيمكن القول ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتدخالت الثقافية لقوتي الحربين الباردتين‬ ‫وكما ذكر في كتاب قضية زيفاكو‪Zhivayo /‬‬ ‫العظيمتين‪ ،‬يصف فين وكوفي االجتماع مع‬ ‫فإن الحادثة الكاملة تُعطي درسا عن‬ ‫‪،Affair‬‬ ‫ّ‬ ‫الحزب البيروقراطي‪ ،‬والذي فقد فيه باسترناك‬ ‫لشن حرب ثقافية‪،‬‬ ‫ات‬ ‫ر‬ ‫االستخبا‬ ‫وكالة‬ ‫الت‬ ‫و‬ ‫محا‬ ‫ّ‬ ‫أعصابه واستشاط غضبا بقوله‪( :‬لديكم الجانب‬ ‫أي من األعمال التي أوكلت إلى‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫تق‬ ‫ال‬ ‫فاليوم‬ ‫ّ‬ ‫اإلنساني‪ ,‬يمكنني رؤية ذلك‪ ،‬لكن لماذا تطلقون‬ ‫أن الكتّاب‬ ‫هذه العبارات الالذعة «الشعب‪...‬الشعب!» الـ سي آي إي بشكل واسع‪ ،‬كما ّ‬ ‫هل تعتقدون أنه شيء يمكن لكم أن تنتجوه السوفييت والذي يحتفلون باأليديولوجية الرسمية‬ ‫ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪27‬‬

‫فإن رواية االعتماد على الفن واألفكار أكثر من القوة‪،‬‬ ‫قد تم نسيانهم‪ ،‬لكن على أية حال ّ‬ ‫«دكتور زيفاكو» تبقى أسما حاض ار في الذاكرة‪ .‬للدفع باألهداف األمنية الى األمام‪.‬‬

‫هل قاموا برشوة كاتب روسي لتأليف كتاب‬ ‫مناهض للسوفييت‪ ,‬هذا األمر لن يكون أدبا‬ ‫عالميا أو صيحة إعالمية على اإلطالق‪ ,‬فإنتاج‬ ‫األدب األصيل أكثر قوة من الجهود الحكومية‬ ‫في الهندسة الثقافية‪.‬‬

‫يستحق هذا االسم‬ ‫أن السبيل لجعل الفن‬ ‫ّ‬ ‫وكما ّ‬ ‫ّأيا كان نوعه‪ ،‬يجب أن يكون أكثر من كونه‬ ‫«إنه‬ ‫صرح باسترناك ّ‬ ‫محركا للسياسية‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫بأن الناس يعطون قيمة‬ ‫القول‬ ‫حقيقيا‬ ‫ليس‬ ‫ّ‬ ‫للرواية بسبب السياسة فقط ‪ ،‬إنها كذبة‪ ,‬فهم‬ ‫ألنهم يحبونها»‪.‬‬ ‫يقرؤونها ّ‬ ‫العنوان األصلي للمقالة‪:‬‬

‫في الوقت الذي يبدو فيه أن وكاالت‬ ‫االستخبارات مهووسة بجمع البيانات‪ ,‬ووسائل‬ ‫المراقبة وطيارات بدون طيار‪ّ ،‬‬ ‫فإن توزيع رواية ‪Is Literature ‘the Most Important‬‬ ‫لكنها‬ ‫بدت نقلة غريبة لوكالة االستخبارات‪ّ ،‬‬ ‫›?‪Weapon of Propaganda‬‬ ‫عكست استراتيجية مختلفة تماما‪ ،‬أال وهي‬ ‫‪Nick Romeo - JUN 17, 2014 \ The‬‬ ‫‪Atlantic‬‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪28‬‬

‫تأثير الحرب والتاريخ على األدب‬ ‫‪P‬‬ ‫عن اإلنكليزية‪ :‬سوز حج يونس‬ ‫حرب الكلمات‬ ‫كولين كليني بوكس‬

‫إن الهجوم على قلعة سمتر لم تكن هي السبب التاريخية‪ ،‬والتي ترسخت وبشكل كبير في‬ ‫ّ‬ ‫المباشر في الحرب األهلية في العام ‪ ،1861‬أذهان القراء األمريكيين في الواليات الشمالية‪.‬‬ ‫إو�نما هذه الحرب بدأت قبل نحو عشر سنوات‪ّ ,‬إنه لمن المثير للضحك أن تظهر لنا اليوم مثل‬ ‫مع نشر رواية هارييت بيتشر ستيو عن العبيد هكذا مالحظات‪ ,‬وهذا األمر مرتبط بالطريقة‬ ‫في (كوخ العم توم)‪ ،‬وكان هذا ما ّ‬ ‫صرح به التي اختبر فيها لنكولن ومعاصروه العالقة بين‬ ‫عند‬ ‫لنكولن‬ ‫على األقل الرئيس األمريكي ابراهام‬ ‫األدب والتاريخ‪ ,‬فالرئيس ابراهام لنكولن كثي ار ما‬ ‫استقباله للكاتبة ستيو في العام ‪ 1862‬ورحب كان يقتبس من األشعار خالل اللقاءات التي‬ ‫بها بالقول «ها هي المرأة الصغيرة التي كتبت‬ ‫مقره‪ ,‬وكما أنه كتب الكثير‬ ‫الكتاب الذي تسبب بهذه الحرب الكبيرة» وبعد كانت تجرى في ّ‬ ‫من الرسائل واألحاديث التي كانت داللة على‬ ‫نحو عقدين من الزمن‪ ،‬اتهم مارك توين كاتبا البالغة األمريكية‪ ،‬والتي أثرت وبشكل كبير‬ ‫آخر بالتسبب بهذه الحرب‪ ,‬حيث نسب سبب على مسرح األحداث خالل الحرب‪.‬‬ ‫هذه الحرب إلى روايات السير والتر سكوت‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪29‬‬

‫فعلينا اليوم أن نميز بين األدب والتاريخ‪ ,‬حيث‬ ‫يظهر لنا أنهما متناقضان‪ ,‬عندما نصر على‬ ‫التفريق بين الحقيقة والخيال‪ ,‬وعندما نريد‬ ‫أن نفهم أوال كيف اختبر األمريكيون الحرب‬ ‫األهلية‪ ,‬فنحن بحاجة إلى أن نفهم أوال كيف قام‬ ‫األدب بصياغة تاريخ الحروب األهلية‪.‬‬

‫األمريكيين ذوي األصول األفريقية‪ ،‬لم تكن لديهم‬ ‫حرية الوصول نفسها إلى اإلعالم والصحافة‬ ‫والمجالت‪ ,‬كتلك التي تمتع بها أقرانهم من‬ ‫أن بعض‬ ‫الكتاب األمريكيين البيض‪ ,‬إال ّ‬ ‫الصحف كصحيفة ‪New York Angelo‬‬ ‫‪ African‬قدمت تسجيالت هامة لألحداث‬ ‫على الساحة السياسية من خالل أعمال شعرية‬ ‫وقصصية روائية‪.‬‬

‫نقدر‬ ‫ومن الصعب علينا كقراء معاصرين أن ّ‬ ‫ألنه ال يتطابق مع‬ ‫مدى قوة هذا األدب‪ّ ،‬‬ ‫بأننا لم‬ ‫القول‬ ‫نستطيع‬ ‫توقعاتنا‪ ،‬أو بعبارة أخرى‬ ‫ّ‬ ‫نعلم كيفية قراءة هذا األدب؛ أي أدب الحرب‬ ‫نوه الباحث ريتشارد سلوتكين‪،‬‬ ‫األهلية‪ ،‬وكما ّ‬ ‫فإن مجريات األحداث رتبت وفق تسلسل زمني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحد الفاصل بين‬ ‫ولعبت الحرب األهلية دور ّ‬ ‫الجزء األول واألخير‪ ,‬ولكننا نجد ّأنه تم تغيير‬ ‫المناهج الدراسية خالل الثمانينات‪ ،‬لتضمن‬ ‫مزيدا من أدب الكاتبات النساء‪ ،‬وكتّاب من‬ ‫األقليات‪ ,‬ووجود فجوة لما يسمى بأدب الحرب‬ ‫االهلية‪ ,‬هي فجوة ليس من الصعب ملؤها‪ ،‬وهذا‬ ‫األمر ُيبقي الباب مفتوحا على السؤال التالي‪,‬‬ ‫هل ينبغي للمؤلف أن يخوض تجربة الحرب‬ ‫في أعماله‪ ،‬حتى تعتبر هذه األعمال من أدب‬ ‫الحرب االهلية؟‬ ‫لم ينخرط أي من المؤلفين األمريكيين في أية‬ ‫أعمال عسكرية خالل تلك الحرب‪ ,‬وهذا ما دفع‬ ‫بالناقد دانييل آرون إلى اإلشارة إلى هذه الحرب‬ ‫أن هذه الحرب‬ ‫بـ ( الحرب غير المكتوبة)‪ ،‬غير ّ‬ ‫لم تنته مطلقا في مخيلة المؤلفين واألدباء‬ ‫األمريكيين‪ ،‬حيث سجل وولت ويتمان مقابالته‬ ‫مع الجنود الجرحى في «األيام المختارة»‬ ‫قدم في المجالت والصحف تسجيالت‬ ‫حيث ّ‬ ‫عن أحداث ومجريات تلك الحرب‪ ،‬وأصبحت‬ ‫الصورة أكثر تعقيدا عندما قامت كاتبات نساء‬ ‫بالكتابة أيضا عن هذا الموضوع‪ ,‬فقامت الكاتبة‬ ‫ماري جينسوت بتحويل كتابة مذكراتها إلى شكل‬ ‫عمل فني عندما قامت بتسجيل تلك المذكرات‬ ‫ونشرها أخيرا‪.‬‬

‫أن سنوات الحرب‬ ‫إن هذه األمثلة تشير إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫تثمر عن تدفق كبير لألدب واألعمال األدبية‪,‬‬ ‫حيث يتحول الناس العاديون والمؤلفون على‬ ‫حد سواء إلى الكتابة كطريقة للتعايش مع هذه‬ ‫الحرب والتغلب عليها‪ ,‬وهذا النتاج األدبي‬ ‫خالل فترة الحرب األهلية والذي وصل إلينا‬ ‫على صورة دراسات بحثية ومقتطفات أدبية‪,‬‬ ‫أن قراءة أدب الحرب يتطلب منا أن نضع‬ ‫وكما ّ‬ ‫جانبا كل معاييرنا وتوقعاتنا عنها‪ ,‬حيث أننا‬ ‫نتوقع من هذا األدب أن يخبرنا وبمصطلحات‬ ‫واقعية عن التدمير الذي يحصل خالل الحرب‪,‬‬ ‫بأن األدب‬ ‫لكن علينا أن نأخذ بعين االعتبار ّ‬ ‫الذي يكتبه ويقرأه الناس في النزاع‪ ,‬ال ترسم‬ ‫فقط صورة كاملة لهذه الحرب إو�نما تغير فهمنا‬ ‫للحرب األهلية «الحقيقية» التي يختبرها أولئك‬ ‫الناس‪ ،‬فالطبيعة غير الواقعية ألدب الحرب‬ ‫تعتبر فشال بمعاييرنا‪ ،‬ولكن األمر مختلف‬ ‫بالنسبة إلى قراء القرن التاسع عشر ‪ ,‬حيث‬ ‫اعتبر هذا األمر دليل نجاح كما أشار المؤرخ‬ ‫درو فوست في كتابه «هذه جمهورية المعاناة»‬ ‫يقدم السلوى‬ ‫أن هذا األدب ّ‬ ‫حيث أشار إلى ّ‬ ‫أن الخيال القصصي‬ ‫والمواساة في الحرب‪ ،‬و ّ‬ ‫يعطي معاني بطرق أخرى للحقائق المبهمة‬ ‫كأسلوب الموت‪ ،‬والجنود الذين يموتون بعيدا‬ ‫عن منازلهم ويعشقون مرات عدة‪ ,‬هذه القصص‬ ‫وتحولها بطريقة دافئة‬ ‫التي ّ‬ ‫تقيد مخاوف الحرب ّ‬ ‫إلى مبعث راحة للناس‪ ،‬وهذا يساعدهم على‬ ‫التغلب على خسائرهم في هذه الحرب‪.‬‬

‫كما أن لوسيا ماري ألكوت أفرغت تجاربها فأدب الحرب ال يوفّر فقط العزاء والسلوى‪ ،‬إو�نما‬ ‫يصور كذلك الطريقة التي اختبر بها الناس‬ ‫ّ‬ ‫كممرضة في المشفى إلى قالب قصصي‬ ‫في «سكيتشات المشفى»‪ ،‬وكما أن الكتاب هذه الحرب‪ ،‬كما و ّأنه يؤثر أيضا على األحداث‬ ‫ّ‬


‫‪30‬‬

‫السياسية‪ ،‬كما حدث مثال في قصيدة جيمس‬ ‫راندال الذي كان أستاذا جامعيا ولديه تجارب‬ ‫كتابية سابقة ومحدودة‪ ،‬حيث كتب القصيدة التي‬ ‫تحولت إلى نشيد وطني لوالية ماري الند وكانت‬ ‫بعنوان (‪ )Maryland My Maryland‬وقد‬ ‫كتب راندال هذه القصيدة كردة فعل على الهجوم‬ ‫الذي قام به الفوج العسكري السادس على الناس‬ ‫في شوارع بالتيمور أثناء تظاهرة قاموا بها‪ ،‬وهذه‬ ‫القصيدة التي كتبت أعطت صوتا وزخما لمؤيدي‬ ‫االنفصال‪ ،‬عندما دعاهم راندال في قصيدته (‬ ‫لالنتقام لتلك الدماء الوطنية التي أريقت في‬ ‫شوارع بالتيمور) وأجبرت حكومة توماس هيكس‬ ‫على دعوة البرلمان لالنعقاد للتصويت على‬ ‫االنفصال‪ ،‬وقد نشرت هذه القصيدة في صحيفة‬ ‫نيو أورليانز دلتا وفي السادس والعشرين من‬ ‫نيسان عام ‪ ،1862‬وقد طبعت هذه القصيدة‬ ‫مرات عدة في البالد‪ ،‬وأصبحت هذه القصيدة‬ ‫نشيدا وطنيا قوميا للجنوبيين‪ ،‬وكتبت ماري‬ ‫شيسنوت هذه القصيدة في مذكراتها في كانون‬ ‫الثاني من العام ‪ ،1862‬وبعدها قام أحد طالب‬ ‫الحربية من معهد فيرجينيا الحربي بكتابة هذه‬ ‫القصيدة في دفتره الخاص بمرحلة الحرب‪.‬‬ ‫إننا عادة ما نميل إلى التفكير باألدب على أنه‬ ‫مجرد نص مكتوب‪ ،‬ونقوم بتصنيفه إلى أنواع‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن وخالل الحرب سرعان ما تتحول النصوص‬ ‫وبحرية من شكل إلى آخر‪ ،‬كأن تتحول من‬ ‫تقارير صحفية إلى نظم شعرية‪ ,‬أو تتحول‬ ‫إلى قصائد شعرية مغناة‪ ,‬أو يتم تحويلها إلى‬ ‫نص فكاهي‪ ،‬ويتم عرضه على خشبة المسرح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فعلى سبيل المثال قصيدة (‪Maryland My‬‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪ )Maryland‬أضيفت لها الموسيقى‪ ،‬وتحولت‬ ‫إلى نشيد وطني لكونفدرالية الجنوب‪ ،‬قد وصف‬ ‫بأنها رمز للجنوب‬ ‫أوليفر هولمز هذه القصيدة ّ‬ ‫األمريكي‪ ,‬و ّأنها أصبحت ترنيمة خالل المعركة‬ ‫يغنيها الجنود‪ ,‬حيث أنها كانت تغني على‬ ‫ّ‬ ‫موسيقى أغاني الميالد‪ ,‬والجذب العاطفي الذي‬ ‫مارسته هذه القصيدة‪ ،‬لم تكمن فقط في كلماتها‪،‬‬ ‫إو�نما كذلك في موسيقاها التي كانت تدغدغ‬ ‫مشاعر الناس‪ ,‬فعندما توجهت قوات «لي»‬ ‫باتجاه فريدريك في السادس من أيلول العام‬ ‫فإن الجنود كانوا يغنون (‪Maryland‬‬ ‫‪ّ 1862‬‬ ‫‪ )My Maryland‬كأغنية للنصر‪.‬‬ ‫وكما ظهر خالل فترة الحرب األهلية نوع من‬ ‫أن الحرب ترتبط‬ ‫األدب الساخر‪ ,‬وهذا ال يعني ّ‬ ‫بالفكاهة أو السخرية‪ ,‬ولكن هكذا هو األدب‪،‬‬ ‫فهو ال يصور للناس فقط مجريات األحداث‬ ‫كما وقعت‪ ،‬إو�نما يتالعب بها ويمزج بين الجد‬ ‫والسخرية‪.‬‬

‫كمغير لمجرى‬ ‫إننا غالبا ما ال ننظر لألدب‬ ‫ّ‬ ‫ألننا إذا نظرنا إليه بهذا الشكل فالبد‬ ‫التاريخ‪ّ ,‬‬ ‫أن نخوض في السبب والتأثير‪ ,‬ولكننا يمكن أن‬ ‫نعتبر األدب خالل الحرب كجدال ونقاش يحفّز‬ ‫على الفعل في لحظتها‪ ،‬فنحن لن نستطيع فهم‬ ‫الحرب إذا ما نظرنا إليها فقط من خالل وصف‬ ‫األحداث الحقيقية التي جرت فيها‪ ,‬أو من خالل‬ ‫البد من قراءة األثنين‬ ‫عدسة األدب فقط‪ ,‬لذا ّ‬ ‫معا‪ ,‬فقصيدة (‪)Maryland My Maryland‬‬ ‫ربما لم تُسلٍّط الضوء على األحداث التي جرت‪,‬‬ ‫ولكنها قدمت لنا مشهدا فريدا حول كيفية اختبار‬ ‫ّ‬ ‫األمريكيين لتلك الحرب األهلية‪.‬‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪31‬‬

‫تأثير الحرب والتاريخ على األدب الياباني‬ ‫‪P‬‬ ‫دوستين ماكسام‬

‫تغير شكل‬ ‫إن الحرب تؤثّر على العالم‪ ،‬فالحرب ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالم‪ ،‬وتعيد صياغة الناس واألمكنة لتتكيف‬ ‫بأن شيئا‬ ‫معها‪ ،‬ولكن هل توقف أحد منا للتفكير ّ‬ ‫بسيطا كرواية لكاتب ما‪ ،‬أو قصيدة شعرية ما‬ ‫يمكن أن تتأثر أيضا بالحرب‪.‬‬

‫أشداء سموا‬ ‫أدت الحرب إلى ظهور مقاتلين ّ‬ ‫بـالساموراي؛ الذين تميزوا بالقوة واالنضباط‬ ‫العسكري‪ ،‬وبالدخول في مرحلة الـ كاماكو ار بدأ‬ ‫تغير في االدب الياباني‪ ،‬حيث تم استبعاد‬ ‫أول ّ‬ ‫المرأة عن مجال الكتابة «فكان بالكاد أن نجد‬ ‫امرأة كاتبة بين القرنين الثالث عشر والتاسع‬ ‫أن الحكومة كانت تنظر نظرة‬ ‫عشر» حيث ّ‬ ‫دونية إلى المرأة‪ ،‬وبالمقابل فقد برز الرجال‬ ‫بشكل أكبر في مجال الكتابة‪ ،‬حيث أصبحوا‬ ‫كتابا مشهورين في تلك الفترة‪.‬‬

‫يعتبر األدب الياباني األكثر تأث ار بالحرب‪ ،‬وكما‬ ‫تغيرات ملحوظة خالل فترة الحرب‬ ‫ّأنه شهد ّ‬ ‫هذه‪ ،‬ولك ّل أدب بداياته الخاصة‪ ،‬حيث كانت‬ ‫الـ كوجيكي‪ّ Kojiki /‬أول قصة كتبت باليابانية‬ ‫يتحدث مثل هذا النوع‬ ‫في العام ‪712‬م‪ ،‬حيث ّ‬ ‫من القصة عن الميثولوجيا واألساطير اليابانية‪ ،‬هذه الفترة لم تحدث تغيي ار فقط في مجال ظهور‬ ‫ولم ترد فيها أية أحداث متعلقة بالحرب أو سفك الكتاب وبروزهم‪ ،‬بل ساهمت أيضا في ظهور‬ ‫أحد أكثر أنواع الكتابة شهرة والذي سمي ب ـ‬ ‫الدماء‪.‬‬ ‫وفي القرن الثاني عشر برز الرأس البشع غونكي مونوغتاري‪ Gunki monogatari /‬و‬ ‫للحرب في األدب الياباني‪ ،‬فبدأت الكتابات قصص الحرب التي بدأت تكتب خالل هذه‬ ‫التي كانت حاضرة في بداية الثقافة اليابانية الفترة‪ ،‬وهذا النوع من قصص الحرب كانت‬ ‫بالتغير‪ ،‬فسميت أول فترة أثرت فيها الحرب عبارة عن سرد حقيقي ألحداث وقعت فعال‪،‬‬ ‫على األدب ّوالمجتمع بشكل متطرف بمرجلة وبذلك يمكننا القول بأن الـ غونكي مونوغتاري‬ ‫كاماكورا‪ Kamakura /‬وكان ذلك بين عامي كانت عبارة عن كتب تاريخية بسيطة تتضمن‬ ‫تاريخ البالد وماضيه‪ ،‬وكانت هذه القصص‬ ‫(‪.)1333-1192‬‬


‫‪32‬‬

‫تكتب عادة في البالط الملكي‪ ،‬لذا كانت تعتبر‬ ‫أن أشهر قصة تم‬ ‫بمثابة وثيقة رسمية‪ ،‬وكما ّ‬ ‫كتابتها خالل هذه الفترة كانت قصة الـ هايك‪/‬‬ ‫‪ ،Heike‬وقد كتبت القصة حوالي ‪1220‬م من‬ ‫قبل أحد النبالء‪ ،‬والذي حصل على المعلومات‬ ‫المتعلقة بأحداث هذه القصة من خالل الروايات‬ ‫التي سردها بعض الكهنة في المنطقة‪ ،‬حيث‬ ‫تتحدث هذه القصة عن الصراع الذي وقع بين‬ ‫عائلتي هايك‪ Heike/‬وجينجي‪ Genji /‬خالل‬ ‫فترة ظهور وسقوط العائلة األولى‪.‬‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫يكن هذا األسلوب مقنعا في العديد من األعمال‬ ‫التي كتبت خالل هذه الفترة الزمنية‪ ،‬إال ّأنها‬ ‫تعطينا فكرة عن كيفية استخدام األدب من قبل‬ ‫الكهنة ورجال الدين في سعيهم لنشر رسالتهم‪.‬‬

‫أن الحرب ألجل الدين لم تكن‬ ‫يمكننا القول ّ‬ ‫حربا دموية‪ ،‬إو�نما كانت حربا مع األخذ بعين‬ ‫االعتبار مدى التأثير الذي أحدثه دخول الكهنة‬ ‫ورجال الدين عالم الكتابة والكلمات‪.‬‬

‫دعنا نقفز إلى األمام إلى فترة أكثر حداثة وهي‬ ‫الفترة التي تسبق الحرب العالمية الثانية‪ ،‬حيث‬ ‫ازدهرت دور النشر اليابانية‪ ،‬وكانت هناك‬ ‫معدالت عالية للثقافة واألدب في اليابان خالل‬ ‫هذه الفترة‪ ،‬حيث ارتفعت معدالت القراءة‪ ،‬وبدأ‬ ‫المؤلفون والكتاب بإصدار منشوراتهم ووضعها‬ ‫أن هذا االزدهار أصيب‬ ‫يدي القراء‪ ،‬إال ّ‬ ‫بين ّ‬ ‫بنكسة مع بداية الحرب العالمية الثانية التي‬ ‫أصبحت اليابان جزءا أساسيا منها‪ ،‬وكان لها‬ ‫حضور هام في هذه الحرب (بدأت الحكومة‬ ‫بتضييق الخناق وسعت إلى تجييش الحشود‬ ‫للفوز بهذه الحرب) (‪)154Kawana‬‬

‫كما ظهر نوع آخر من الحرب خالل نفس الفترة‬ ‫الزمنية‪ ،‬وهي الحرب الدينية‪ ،‬وكلمة حرب هنا‬ ‫ال تعني الحرب بين معتقدين مختلفين من شأنه‬ ‫أن يخلق الضغينة بين الناس ويؤدي إلى إراقة‬ ‫الدماء‪ ،‬إنما الحرب هنا كانت عبارة عن صراع‬ ‫ألن‬ ‫بين العديد من المعتقدات المختلفة‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫الدين في اليابان كان متنوعا بدرجة كبيرة‪ ،‬وكل‬ ‫تقدم العبادة إللهها‬ ‫منطقة في اليابان كانت ّ‬ ‫الخاص بها‪ ،‬وقد طغى هذا النوع من الصراع‬ ‫على الروايات واألعمال الكتابية خالل تلك‬ ‫فإن هذا النزاع بين الطوائف‬ ‫الفترة‪ ،‬وكما نوهنا ّ‬ ‫لم يكن نزاعا دمويا‪ ،‬إو�نما كانت أشبه بباقة من أي أن الحكومة أدركت أنه من المهم الحصول‬ ‫على الدعم الشعبي في هذه الحرب‪ ،‬وسعت‬ ‫األزهار المتنوعة والمجتمعة مع بعضها‪.‬‬ ‫إلى التحكم في زمام األمور‪ ،‬فكان األدب‬ ‫لقد عملت طوائف معينة من مختلف األديان‪ ،‬النقطة األهم التي ركزت عليها الحكومة‪ ،‬فبدأ‬ ‫على استدراج الناس ودفعهم إلى اتباع دياناتها‪ ،‬ما يسمى بـ ـ الرقابة على المطبوعات‪ ،‬حيث‬ ‫فهناك من عمل منهم كمب ّشرين جوالين يسيرون مارست الحكومة رقابة كبيرة على األعمال‬ ‫على خطا القرى القديمة‪ ،‬ويقدمون عروضا الكتابية في تلك الفترة‪ ،‬وأبقت عينها مفتوحة‬ ‫للناس‪ ،‬وكانت هذه العروض عبارة عن سرد على أية كتابات من شأنها أن تنشر آراء كتلك‬ ‫شفهي للقصص كما يفعلها الراوي‪ /‬الحكواتي‪ ،‬التي تتعلق بالحرب كالقول (أن الحرب خطأ‬ ‫ِّ‬ ‫المبشر بالتمجيد والتسبيح في محاولة‬ ‫حيث يقوم‬ ‫أن الرقابة مورست‬ ‫منهم لدفع الناس على تقديم الصدقات إلى ينبغي تصحيحه)‪ ،‬وكما ّ‬ ‫على المؤلفين والكتاب وبشكل كبير جدا‪ ،‬حيث‬ ‫المعبد‪ ،‬لصالح طائفتهم‪ ،‬كما ّ‬ ‫أن هؤالء كانوا كان يتم حظر بعض المنشورات والسماح بنشر‬ ‫يستخدمون في بعض األحيان تكتيكات أخرى بعضها اآلخر بعد إجراء تعديالت عليها من‬ ‫كرواية قصص مخيفة عن الجحيم بقصد إخافة الحكومة‪ ،‬فأدرك المؤلفون والكتّاب مع الوقت‪،‬‬ ‫الناس‪ ،‬إو�لى جانب هذه المعارك الشفاهية‬ ‫أن معايير الرقابة التي كانت تمارس من قبل‬ ‫لعبت الكتب دو ار في هذا المجال‪ ،‬فمثال كتاب ّ‬ ‫الحكومة باتت غير مقبولة‪.‬‬ ‫كوجيكي الذي كتب في العام ‪1212‬م من قبل‬ ‫بأن الحرب قد‬ ‫القول‬ ‫يمكننا‬ ‫ى‬ ‫أخر‬ ‫ناحية‬ ‫من‬ ‫كامو جومي‪ ،Kamo Chomi /‬ويتحدث فيها‬ ‫ّ‬ ‫عن رحلته الدينية التي قام بها للتبشير‪ ،‬وربما لم أثرت بشكل إيجابي على األدب‪ ،‬فانتشرت‬


33

‫ مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬- ‫سور َمي‬

:‫ وفي ثبت المصادر والمراجع‬،‫تمجد الحرب والحكومة‬ ّ ‫الكتابات التي‬ ‫ع‬ ‫النو‬ ‫هذا‬ ‫مثل‬ ‫تشجع‬ ‫كانت‬ ‫الحكومة‬ ‫فإن‬ ّ ‫الحقيقة‬ Sources: Joan Hedrick, “Harriet Beecher Stowe: A Life”; Mark Twain, “Life on ‫ ألنها ستساعدها‬،‫من الكتابات واألعمال األدبية‬ the Mississippi”; Drew Gilpin Faust, “This ‫بأن ما تقوم به في هذه‬ ّ ،‫في إثبات وجهة نظرها‬ Republic of Suffering”; Richard Slotkin, ‫أن هذا‬ ّ ‫ وقد رأى النقاد‬،‫الحرب إنما هو الصحيح‬ “What Shall Men Remember? Recent ‫النوع من األعمال الكتابية خالل الحرب العالمية‬ Work on the Civil War”; Daniel Aaron, ‫الثانية يعتبر نوعا من البروبوغاندا (ووجد هؤالء‬ “The Unwritten War”; James McPherson, ‫النقاد أن هذه األعمال األدبية خالل فترة الحرب‬ “The Negro’s Civil War: How American .)155 Kawana( )‫تفتقر إلى الغنى والتنوع‬ Blacks Felt and Acted During the War for the Union”; James McPherson, “Battle Cry of Freedom: The Civil War Era”; Alice Fahs, “The Imagined Civil War: Popular Literature of the North & South”; Shira Wolosky, “Emily Dickinson: A Voice of War”; Christanne Miller and Faith Barrett, “Words for the Hour”; Edmund Wilson, “Patriotic Gore”; Matthew Page Andrews, “Introduction,” “The Poems of James Ryder Randall”; “Harper’s Weekly “Japanese Literature.” Wikipedia. Wikimedia Foundation, 04 Feb. 2012. Web. 02 Apr. 2012. Kawana, Sari. “Reading beyond the Lines: Young Readers and Wartime Japanese Literature.” Book History 13.1 (2010): 154-184. Web. 12 Mar. 2012. Kimbrough, Keller and Glassman, Hank. “Vernacular Buddhism and Medieval Japanese Literature” Japanese Journal of Religious Studies 36.2 (2009): 201-208. Web. 12 Mar. 2012. “Medieval Literature: Kamakura, Muromachi, and Azuchi-Momoyama Periods (1192-1600).” Encyclopedia Britannica Online. Encyclopedia Britannica.Web. 02 Apr 2012.

‫حيث استخدم هذا األدب كوسيلة لتبرير هذه‬ ‫ فعلى‬،‫ وال يوجد تنوع في هذا األدب‬،‫الحرب‬ ،‫الرغم من العدد الكبير من المؤلفين والكتاب‬ ‫يعبرون عن ذات الفكرة ويقولون‬ ّ ‫فقد كانوا‬ .‫الشيء ذاته‬

‫بأن األدب إنما هو‬ ّ ‫في الخاتمة يمكننا القول‬ ‫ ويمكن أن تؤثر فيه أمور عدة‬،‫شيء حسي‬ ‫ومن أكثر األمور المؤثرة في األدب وبشكل‬ ‫ ففي أوقات الحروب‬،‫كبير هي الحرب‬ ‫كالحروب األهلية فإن األدب يتأثر ويتغير في‬ ‫ حيث يتحول هذا األدب إلى‬،‫أغلب األحيان‬ ‫ كما ّأنه‬،‫مذكرات وسرد لألحداث التي جرت‬ ‫يظهر كعامل مساعد لتأييد وجهة نظر الحكومة‬ ‫ وبعد الحرب يعود األدب إلى‬،‫المتعلقة بالحرب‬ ‫ ويصبح واعدا مجددا ليؤكد على‬،‫االزدهار‬ .‫األثر العميق الذي تركته الحرب فيه‬


‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫‪34‬‬

‫في الجهادية السلفيّة!‬ ‫‪P‬‬ ‫محمد باقي محمد‬

‫سنذهب بالجهادية جهات المسلمين األوائل‪،‬‬ ‫الذين خرجوا من شبه جزيرة العرب لنشر الدين‬ ‫فيفترض بها أن تحيلنا‬ ‫أما‬ ‫ّ‬ ‫السلفية ُ‬ ‫اإلسالمي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى «السلف الصالح»؛ أي أولئك المسلمين‬ ‫األوائل الذين جئنا عليهم!‬

‫أن هذا الحقل‬ ‫نحن في حقل التأريخ إذا‪ ،‬بيد ّ‬ ‫يفضى بنا إلى انزياح في المصطلح‪ ،‬ليشير إلى‬ ‫أن ظ ّل القداسة ‪-‬‬ ‫سلف‬ ‫أصولي ومتزمت‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬ ‫يستمد مشروعيته من الدين‬ ‫ذاك الذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية‪،‬‬ ‫ سحب ظلّه على تأريخ الدولة‬‫ّ‬ ‫على نحو بدت فيه جريمة كقتل المأمون لشقيقه‬ ‫األمين حدثا اعتياديا!‬ ‫على هذا قد نستعرض قراءتين في اإلسالم‪،‬‬ ‫األولى تبدأ بالرسول محمد‪ُ ،‬مستشهدين بوثيقة‬ ‫تنظمت العالقة بموجبها بين‬ ‫المدينة‪ ،‬تلك التي‬ ‫ّ‬ ‫المهاجرين واألنصار ويهود يثرب‪ ،‬ما يشي‬ ‫بتسامح ليس له حدود‪ ،‬تسامح سيصل إلى العفو‬ ‫تد بعد أن أسلم‪ ،‬فأشار‬ ‫عن مرتد‪ ،‬كان قد ار ّ‬ ‫أصحاب الرسول محمد بقتله‪ ،‬إالّ ّأنه عفا عنه‪،‬‬

‫يتعرض له بسوء‪ ،‬على نحو يؤ ّكد ما جاء‬ ‫ولم ّ‬ ‫في اآلية الكريمة أن «ال إكراه في الدين قد‬ ‫الغي ‪ .....‬البقرة ‪ ،‬آ ‪256‬‬ ‫تبين الرشد من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتمر‬ ‫‬‫إذا‬ ‫‬‫محمد‬ ‫بالرسول‬ ‫تبدأ‬ ‫اءة‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫«‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قرر قتال‬ ‫بأبي بكر أول خلفاء المسلمين‪ ،‬إذ ّ‬ ‫المشركين‪ ،‬فأوصى بأالّ تقتلع شجرة وأالّ ُيقتل‬ ‫طفل أو شيخ أو امرأة حامل‪ ،‬فعمر بن الخطاب‬ ‫مرة ؛ إذ‬ ‫الذي أوقف أكثر من ّ‬ ‫حد ألكثر من ّ‬ ‫حد السرقة في عام الرمادي على سبيل‬ ‫أوقف ّ‬ ‫التمثيل‪ ،‬فلم يقطع يد من سرق‪ ،‬وألغى سهم‬ ‫«المؤلفة قلوبهم» في الزكاة‪ ،‬وذلك في حادثة‬ ‫شهيرة تتلخص في إلغاء إقطاعة ‪ -‬كان أبو‬ ‫لعيينة بن الحصن واألقرع بن‬ ‫بكر قد أقطعها ُ‬ ‫حابس درءا ألذيتهم على اإلسالم والمسلمين‬ ‫نهائي‪ ،‬معلال منح الرسول للسهم‬ ‫ بشكل‬‫ّ‬ ‫أن‬ ‫بضعف اإلسالم في بداياته‪ ،‬ذاهبا إلى ّ‬ ‫ِ‬ ‫ترسخ الدين‪ ،‬وما‬ ‫األسباب‬ ‫الموجبة انتفت‪ ،‬إذ ّ‬ ‫فعلي ابن‬ ‫القوم!‬ ‫الء‬ ‫ؤ‬ ‫ه‬ ‫من‬ ‫عليه‬ ‫خوف‬ ‫ثمة‬ ‫عاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫حمال أوجه‪،‬‬ ‫بأن‬ ‫أبي طالب الذي رأى ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص ّ‬ ‫تعددة في تأويله‪ ،‬على‬ ‫ما يتيح لنا قراءات ُم ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪35‬‬

‫نحو يسمح بالوقوف بمعضالت ما كانت قد‬ ‫انطرحت على المسلمين األوائل‪ ،‬وذلك بهدف‬ ‫النص!‬ ‫إيجاد حلول لها داخل‬ ‫ّ‬ ‫السلطوي‬ ‫تطورات الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم تعالوا نالحظ ّ‬ ‫في اإلسالم عبر محطات ثالث‪ ،‬تبدأ بأمير‬ ‫المؤمنين عمر بن الخطاب‪ ،‬إذ قال‪ :‬أيها‬ ‫في ‪....‬‬ ‫المسلمون ‪ ..‬من رأى منكم اعوجاجا ّ‬ ‫بدوي من عرض الصحراء قائال‪:‬‬ ‫‪ ،‬ولينبري له‬ ‫ّ‬ ‫يا أمير المؤمنين واهلل لو رأينا فيك اعوجاجا‬ ‫بحد سيوفنا! وليتنهّد عمر قائال‪ :‬الحمد‬ ‫لقومناه ّ‬ ‫يقوم اعوجاجه!‬ ‫هلل الذي جعل في أمة عمر من ّ‬ ‫ألن الشيء بالشيء يذكر ها هو رجل من علية‬ ‫و ّ‬ ‫القوم يقول لمعاوية‪ :‬واهلل يا بن أبي سفيان لو‬ ‫لقومناه‪ .‬فيتساءل معاوية‪:‬‬ ‫رأينا فيك اعوجاجا ّ‬ ‫بماذا !؟ لقد وصلت الرسالة‪ ،‬واستوعبها الطرف‬ ‫لكن تساؤل صاحب‬ ‫اآلخر في المعادلة‪ّ ،‬‬ ‫فرد ‪ :‬بالخشب ‪ -‬على نحو‬ ‫السلطان أربكه‪ّ ،‬‬ ‫يشي بتراجعه مخافة غضب السلطان غالبا‪ ،‬ما‬ ‫حول المسألة إلى مزاح ‪ -‬ليقول معاوية ‪ :‬أما‬ ‫ّ‬ ‫ثم ها هو عبد الملك بن‬ ‫فنقوم! ّ‬ ‫إذا كان بالخشب ّ‬ ‫مروان ‪ -‬المعروف بتقواه وورعه ‪ -‬يغلق القرآن‬ ‫سدة الخالفة مطلقا قولته‬ ‫حين يتبلغ قرار تبوئه ّ‬ ‫ثم ليذهب بعيدا‬ ‫بك!‬ ‫عهدنا‬ ‫الشهيرة ‪ :‬هذا آخر‬ ‫ّ‬ ‫في عالقة الحاكم بالمحكوم إذ قال ‪ :‬من أراد‬ ‫أن يحاور فليحاور سيفي هذا‪ ،‬واضعا الشورى‬ ‫كثيمة خلف ظهره!‬

‫مع ابن رشد ‪ ، 1198 - 1126‬لينتهي عند‬ ‫المال صدر الدين الشيرازي ‪ -‬صاحب نظرية‬ ‫األعراض في الجوهر ‪ -‬في الدولة الصفوية‪،‬‬ ‫العقالني في‬ ‫وليتمثل في ابن رشد ذروة التيار‬ ‫ّ‬ ‫لكن هذا التيار سيضمحل‬ ‫الفلسفة‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية‪ّ ،‬‬ ‫اجيدي‪ ،‬ليتبلور ‪ -‬بالمقابل ‪ -‬تيار‬ ‫ر‬ ‫الت‬ ‫بمقتله‬ ‫ّ‬ ‫الي‬ ‫آخر‪ ،‬تيار ُم ّ‬ ‫تشدد سيتز ّ‬ ‫عمه أبو حامد الغز ّ‬ ‫في ‪ « -‬إحياء علوم الدين « و» المنقذ من‬ ‫بأنه‬ ‫ننوه ّ‬ ‫الضالل « ‪ -‬فهل ّ‬ ‫ثمة حاجة إلى أن ّ‬ ‫صاحب الكتاب الشهير « تهافت الفالسفة «‬ ‫الذي عارضه ابن رشد ‪ -‬إذاك ‪ -‬بـ « تهافت‬ ‫أن هذا‬ ‫ثمة حاجة لإلشارة إلى ّ‬ ‫التهافت «‪ ،‬وهل ّ‬ ‫تتوج باإلمام ابن تيمية!‬ ‫التيار ّ‬ ‫أن قطعا سيطال تاريخ األمة ‪ -‬بدءا‬ ‫ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫العباسية ‪ -‬فتنقسم‪ ،‬وتستق ّل‬ ‫للدولة‬ ‫الثاني‬ ‫بالدور‬ ‫ّ‬ ‫األطراف عنها‪ ،‬وتشهد األصقاع النائيات تش ّكل‬ ‫دويالت على حساب الدولة المركزية ‪ -‬إذا‬ ‫جاز التعبير ‪ -‬وسيطال هذا القطع السياسة‬ ‫واالقتصاد والمجتمع‪ ،‬ولن تنجو منه السلسلة‬ ‫ؤسسة على الشعر أساسا‪،‬‬ ‫الثقافية‬ ‫ّ‬ ‫الم ّ‬ ‫التقليدية‪ُ ،‬‬ ‫الفني‪ ،‬ذاك الذي أوثر عن‬ ‫فيغيب عنها النثر‬ ‫ّ‬ ‫الجاحظ في بيانه وتبيينه ‪ -‬مثال ‪ -‬أو أبي حيان‬ ‫التوحيدي في المقابسات أو اإلمتاع والمؤانسة‬ ‫أو الذخائر والبصائر‪ ،‬ناهيك عن « ألف ليلة‬ ‫وليلة « درة النثر العربي القديم‪ ،‬وتغيب المقامة‬ ‫في نماذجها الرفيعة‪ ،‬تلك التي عرفناها عند‬ ‫بديع الزمان الهمذاني أو الحريري‪ ،‬كما ستغيب‬ ‫تأسست على يد ابن‬ ‫الجغرافية الوصفية التي ّ‬ ‫بطوطة وابن جبير‪ ،‬ويندثر فن الخطابة أو فن‬ ‫التراسل‪ ،‬الذي شهدنا نماذجه الرفيعة عند الوزير‬ ‫الفلسفي‪ ،‬فال‬ ‫عبد الحميد الكاتب‪ ،‬ويتراجع الفكر‬ ‫ّ‬ ‫يتبقى من تلك السلسلة إالّ الشعر‪ ،‬رّبما لقابليته‬ ‫للتواتر شفاها‪ ،‬أو لتشبهه جزئيا بآيات من القرآن‬ ‫الكريم!‬

‫لن نأتي طويال على الشورى التي ُوضعت‬ ‫جانبا‪ ،‬حتى ّأنها لن تذكر إالّ لماما‪ ،‬وسنعتسف‬ ‫العباسية‪ ،‬فنقول‬ ‫الزمن قليال لنتوقف بالدولة‬ ‫ّ‬ ‫تطو ار غير‬ ‫ّ‬ ‫بأنها؛ أي الدولة العباسية‪ ،‬شهدت ّ‬ ‫مسبوق في مناحي الحياة كافة‪ ،‬ولذلك راحت‬ ‫تتمور بتيارات فكرّية ال تحصى‪،‬‬ ‫أبنيتها الفوقية ّ‬ ‫علم الكالم ‪ -‬الذي راده الحسن البصري ‪-‬‬ ‫مثالّ‪ ،‬واخوان الصفا في رسائلهم الشهيرة‪،‬‬ ‫المعتزلة الذين تزعمهم واصل بن عطاء‪ ،‬القدرية‬ ‫والجبرية ‪ -‬صفوان بن الجهم ‪ -‬وما بينهما‬ ‫لتتوج‬ ‫فيما تعارف عليه بالمنزلة بين المنزلتين! ّ‬ ‫الفلسفي‪ ،‬الذي يبدأ بأبي يعقوب‬ ‫بوالدة الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الكندي ‪ 879 - 800‬للهجرة ‪ -‬ويصل ذروته‬

‫بأن المسلمين إذ‬ ‫هل نختصر المسألة لنقول ّ‬ ‫أُخرجوا من األندلس في العام ‪ 1492‬على يد‬ ‫ملوك قشتالة في اتحادهم ‪ -‬إيزابيل وفرديناند ‪-‬‬ ‫أن ديار‬ ‫ّإنما كانوا يخرجون من التاريخ !؟ ذلك ّ‬ ‫ثم‬ ‫اإلسالم راحت تنقسم بشكل غير مسبوق‪ّ ،‬‬


‫‪36‬‬

‫العثماني بين عامي ‪1516‬‬ ‫خضعت لالحتالل‬ ‫ّ‬ ‫ احتالل السلطان سليم األول لبالد الشام بعد‬‫معركة موج دابق ‪ -‬و‪ ،1916‬وثم تحت حكم‬ ‫االنتدابين الفرنسي واإلنكليزي‪.‬‬

‫كان مركز الحضارة العالمية قد انتقل إلى‬ ‫أوروبا الناهضة مع نهايات القرن الخامس‬ ‫عشر وبدايات القرن السادس عشر بالتوازي مع‬ ‫خروج المسلمين من األندلس‪ ،‬الذي تصادف مع‬ ‫اكتشاف كريستوف كولومبوس للعالم الجديد‪،‬‬ ‫فتوافق الدارسون على اعتبار الحدثين بداية‬ ‫للعصور التاريخية الحديثة!‬

‫العدد ‪ / 11‬آذار‪ ،‬نيسان ‪2016 -‬‬

‫الحرية والوحدة واالشتراكية‪ ،‬ال سيما إثر هزيمة‬ ‫بي‪،‬‬ ‫‪ ،1967‬التي عرت النظام‬ ‫الرسمي العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني‬ ‫ليعيش هذا المواطن نكوصا جهات‬ ‫ّ‬ ‫القبلي؛ أي جهات ما قبل‬ ‫المذهبي و‬ ‫و‬ ‫الطائفي و ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أسها ‪ -‬العميق‬ ‫الوطني‪ّ ،‬‬ ‫لكن تلك التيارات‪ -‬في ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسية‪ ،‬وتنافح‬ ‫السلطة‬ ‫تروم‬ ‫ات‬ ‫كانت تيار‬ ‫ّ‬ ‫التحصل عليها‪ ،‬وها هم اإلخوان‬ ‫في سبيل‬ ‫ّ‬ ‫المسلمون ‪ -‬في هذا السياق ‪ -‬يحاولون اغتيال‬ ‫شر‬ ‫عبد الناصر‪ُ ،‬لين ّكل األخير بهم‪ّ ،‬‬ ‫ويمزقهم ّ‬ ‫ممزق‪ ،‬حتى ّأنه لم يتورع عن إعدام سيد قطب‪،‬‬ ‫أما بقية التيارات فهي تنويعات على هذا التيار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المل عمر‬ ‫التي‬ ‫طالبان‪،‬‬ ‫حال‬ ‫هو‬ ‫هذا‬ ‫سيؤسسها ّ‬ ‫ّ‬ ‫أسسها‬ ‫التي‬ ‫القاعدة‪،‬‬ ‫في أفغانستان الحقا‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫أسامة بن الدن‪ ،‬أو بوكو حرام في نيجيريا‪ ،‬أو‬ ‫أن هذا‬ ‫جماعة أبي ّ‬ ‫سياف في الفيليبين‪ ،‬بل ّ‬ ‫يذهب بنا إلى تش ّكل دولة باكستان ذاتها‪ ،‬ذلك‬ ‫تقد َم من‬ ‫عما ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن انقسامها عن الهند ال يخرج ّ‬ ‫أطر كثيرا‪ ،‬وها نحن نقف اليوم بأحد أكثر تلك‬ ‫تشددا‪ ،‬حتى راحت التيارات األخرى‬ ‫التيارات ّ‬ ‫أن الدولة اإلسالمية‬ ‫تستلهمه في ّ‬ ‫تشددها‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫في العراق وبالد الشام « داعش « أوغلت في‬ ‫دماء العباد ‪ -‬مسلمين وغير مسلمين ‪ -‬على‬ ‫نحو غير مسبوق!‬

‫أن مشروع النهضة الثانية ‪ -‬ذاك التي‬ ‫ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ش ّكل طه حسين ولطفي السيد وعلي عبد الرازق‬ ‫أهم أقطابه ‪ -‬كان قد أخفق أيضا لغير سبب‬ ‫ّ‬ ‫ تماما كما أخفق مشروع النهضة األول‪ ،‬ذاك‬‫الذي راده األفغاني ومحمد عبده ‪ -‬ولع ّل أبرز‬ ‫المؤسساتية‬ ‫تلك األسباب تتلخص في غياب‬ ‫ّ‬ ‫عنه‪ ،‬ناهيك عن هيمنة االتجاه الليبرالي على‬ ‫المحلي‬ ‫فكر أقطابه‪ ،‬وتشتت دعواتهم بين‬ ‫ّ‬ ‫والخارجي‪ ،‬إضافة إلى غياب النسق الفكري‬ ‫تشدد‪ ،‬خطاب لم‬ ‫الواضح!‬ ‫فتسي َد خطاب ُم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ير ضي ار في تكفير اآلخر‪ ،‬ومث ّل سيد قطب‬ ‫هذا الخطاب خير تمثيل‪ ،‬وذلك بالتوازي مع‬ ‫هل كان للغرب ‪ -‬بريطانيا بداية‪ ،‬والواليات‬ ‫مستبدة‪ ،‬تسنمت‬ ‫اطية‬ ‫ّ‬ ‫ترسخ حكومات أوتوقر ّ‬ ‫ّ‬ ‫عسكرية‪ ،‬وذلك المتحدة فيما بعد ‪ -‬دور في تخلق تلك التيارات‪،‬‬ ‫سدة السلطة عبر انقالبات‬ ‫ّ‬ ‫الوطنية ‪ -‬التي كانت قيد‬ ‫في أعقاب هزيمة البلدان العربية أمام إسرائيل وذلك إلرباك الدولة‬ ‫ّ‬ ‫التش ّكل ‪ -‬أو منعها!؟ حيثما توضعت اإلجابة‪،‬‬ ‫‪!1948‬‬ ‫فإن ما يحدث في اليمن والعراق وسوريا وليبيا‬ ‫ّ‬ ‫بتأثير ذلك الخطاب ‪ -‬إذا ‪ -‬برزت تيارات والصومال ‪ -‬اليوم ‪ -‬جدير بالتوقف والدراسة‬ ‫تشددة‪ ،‬كان اإلخوان المسلمون ‪-‬‬ ‫أصولية ُم ّ‬ ‫هدد كيانات‬ ‫ّ‬ ‫أن ما يحدث ُي ّ‬ ‫والتمحيص‪ ،‬ذلك ّ‬ ‫ها‪،‬‬ ‫أبرز‬ ‫‬‫مصر‬ ‫في‬ ‫البنا‬ ‫حسن‬ ‫أسسه‬ ‫الذي‬ ‫تام‪ ،‬ما قد‬ ‫بانهيار‬ ‫يشي‬ ‫نحو‬ ‫وعلى‬ ‫بأكملها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مستغلة المناخ العام‬ ‫المتدين لجموع البشر‪ ،‬يقتضي ليس التنويه فحسب‪ ،‬بل إو�طالق صفارة‬ ‫ّ‬ ‫بي في‬ ‫ثمة وقت بعد!‬ ‫ناهيك عن انكسار أحالم المواطن العر ّ‬ ‫اإلنذار أيضا‪ ،‬هذا إذا كان ّ‬


‫سور َمي ‪ -‬مجلة فكرية – ثقافية تصدر كل شهرين‬

‫‪37‬‬

‫دانوك وذاكرة المكان والطفولة‬ ‫‪P‬‬

‫الدانوك طقس مزوبوتامي قديم‪ ،‬حيث يتم سلق‬ ‫القمح في وعاء كبير «نقري» على النار في‬ ‫نهاية الصيف وبداية الخريف تحضي ار للشتاء‪،‬‬ ‫من ثم يحفظ القمح للطحن بعد الغلي ليصبح‬ ‫برغال وما إلى ذلك من مشتقات‪.‬‬

‫الدانوك هو الذاكرة الجمعية لألطفال في‬ ‫مزوبوتامية‪ ،‬هو المتعة التي كانت تجمع الك ّل‬ ‫حول نار الخريف الدافئة‪ ،‬القصص واألغاني‪،‬‬ ‫رائحة وطعم الدانوك وفرحة وصور من ذاكرة‬ ‫الطفولة‪ ،‬من هناك كان جاء اسم دانوك ليكون‬ ‫اسما للفرقة‪.‬‬

‫عزف مع دانوك العديد من األصدقاء بآالت‬ ‫موسيقية مختلفة من دول وثقافات متعددة‪ ،‬هذا‬ ‫الدمج والتوزيع الجديد بخلط آالت موسيقية‬ ‫مع اآلالت الفلكلورية الكردية خلق لون فرقة‬ ‫دانوك‪ .‬شاركت دانوك العديد من األنشطة‬ ‫والمهرجانات الموسيقية بأماكن مختلفة في‬ ‫اسطنبول وشوارعها‪.‬‬

‫اختارت دانوك الموسيقا الفلكلورية الكردية‬ ‫كمشروع ألبوم أول لها‪ ،‬لما للموسيقا الفلكلورية‬ ‫الكردية من طاقة وقوة أداء‪ ،‬تتميز بتعدد طقوسها‬ ‫واختالف أنماطها وهي غنية جدا بمقاماتها‬ ‫إو�يقاعاتها‪ ،‬وتناقلت اللغة والتاريخ هذا الغناء‬ ‫كيف تشكلت دانوك؟‬ ‫بين األجيال عن الحروب واألساطير ورسائل‬ ‫أسسها فرهاد وهوزان صديقا الطفولة من مدينة األمراء وقصص الحب وأغاني األطفال‪.‬‬ ‫حسكة‪ ،‬كب ار معا في حي واحد‪ ،‬التقيا مجددا في‬ ‫كلية الموسيقا في حمص‪ ،‬فرهاد يعزف» كيتار» مشروع دانوك؛ هو محاولة طرح األغاني‬ ‫وهوزان يعزف «بزق»‪ .‬هناك بدءا دراسة الموسيقا الفلكلورية الكردية بلون فرقة دانوك‪ ،‬بتوزيعات‬ ‫أكاديميا‪ ،‬بعد بدء الثورة و�فضائها إلى الحرب‪ ،‬خرجا وآالت موسيقية مختلفة وتعريف الناس باألغاني‬ ‫من سوريا إلى تركيا إوبدءا بالعزف في ساحات الفلكلورية الكردية‪ ،‬ومشاركة العالم الحب‬ ‫وشوارع إسطنبول‪ ،‬وبدء فرهاد بالغناء هناك‪ .‬عمال والسالم الموجودين في هذا الفلكلور‪.‬‬ ‫مع الكثير من الفرق في موسيقا الشارع‪ ،‬التقيا مشروع دانوك يقوم بالتحضير أللبومه األول‪،‬‬ ‫بكل من «فيصل مجيد» عازف عربانة‪ /‬دف من ليطرحه في السوق‪ ،‬حامال معه رؤيتهم للعالم‬ ‫باتمان‪ ،‬و»كول تميز» عازفة «مي» من مالتاليا‪ ،‬عبر الموسيقا كحامل للرسائل الخالدة بين‬ ‫جمعهم حب األغاني الفلكلورية الكردية‪ ،‬وذاكرة البشر‪.‬‬ ‫األغاني المشتركة بينهم‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.