Hira Magazine 34

Page 1

‫‪34‬‬

‫طائر السعد َ‬ ‫حول قلوبنا يحوم‪،‬‬ ‫وفي آفاق أرواحنا يحلّق‪...‬‬ ‫أتُرانا نحلم؟ أم نتخيّل؟‬ ‫ووهما‪...‬‬ ‫حلما ً‬ ‫ليكن ما نشعر به خياالً‪ ،‬أو ً‬ ‫وعزما‪...‬‬ ‫فما أجدر أن نستمد من هذا الخيال قوًة وطاقة‪ ،‬و ِه َّم ًة ً‬ ‫وإذا كان ماضينا قد واتته رياح السعد‪ ،‬فعاش أعلى المثاليات‪...‬‬ ‫َم ْن قال َّ‬ ‫تهب نحو حاضرنا من جديد‪،‬‬ ‫إن هذه الريح لن َّ‬ ‫فَ‬ ‫فنسعد‪ ،‬وآمالَنا نحقق؟!‬ ‫***‬

‫تركيا‪ 6 :‬لريات • أوروبا‪ 3,5 :‬يورو • أمريكا‪ 5 :‬دوالر • اململكة العربية السعودية‪ 12 :‬ريال سعودي • اليمن‪ 350 :‬ريال ميني • املغرب‪ 20 :‬درهم • الجزائر‪ 250 :‬دينار‬

‫طائر السعد‬


‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا‬ ‫ •كتاب غاية في اإلمتاع‪...‬‬ ‫ •قلم محب يجري في مسارب فكر‪...‬‬ ‫ •سيرة وحياة‪ ...‬ومجاري أقدار‪...‬‬ ‫ •عبقرية فرد‪ ...‬وعبقرية أمة‪...‬‬ ‫ •إشراقات حكمة على أرض الخدمة‪...‬‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪+20226134402-5 :‬‬

‫الهاتف الجوال ‪+201004871038 :‬‬

‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫شروط النشر‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال رِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@hotmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬ ‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫صاحب االمتياز ‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫املشرف العام‬ ‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬

‫لالشرتاك من كل أحناء العامل‬ ‫‪pr@hiramagazine.com‬‬


‫محطات علمية‬ ‫نور الدين صواش*‬

‫اليعسوب‪..‬‬

‫وتقنية طائرات الهيلوكبتر‬

‫أج���رى العلماء أبحا ًثا حول حش���رة "اليعس���وب"‪ ،‬فاندهش���وا عندم���ا رأوها تتمتع‬ ‫بتصاميم مبهرة في جس���مها وجناحها‪ ،‬وبتقنية عالية في طريقة طيرانها‪ ...‬وجدوا‬ ‫أن ه���ذه الطائ���رة الحية تمتلك أنظمة طيران مذهلة‪ ،‬ولديها حيوية كبيرة وس���رعة‬ ‫معين���ة‪ ...‬إنها تقف في اله���واء‪ ،‬وتطير نحو الخلف‪،‬‬ ‫فائق���ة ف���ي المناورة والطي���ران واتخاذ طريق ّ‬ ‫وتملك قدرة الهبوط والصعود العمودي‪ ،‬وتتحلى بنظام رؤية خارقة‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬حشرة اليعسوب تتحلى بزوجين من األجنحة الغشائية التي تتحرك باستقاللية تامة عن‬ ‫بعضها البعض‪ ،‬األمر الذي ُي ِ‬ ‫نظام طيران مدهش‪ .‬تطير حشرة اليعسوب بسرعة تصل إلى ‪50‬‬ ‫كسبها َ‬ ‫كم في الساعة الواحدة‪ .‬وقابلية المناورة لديها تفوق أحدث المروحيات المتطورة لدى اإلنسان‪،‬‬ ‫حيث تتمكن بواسطة هذه القابلية من التخلص بنفسها من الطيور والحيوانات األخرى بكل سهولة‪.‬‬ ‫جدا تغطي معظم رأسها‪ ،‬وبين هذه العيون يوجد ‪ 30‬ألف عين‬ ‫هذه الحشرة لها عيون كبيرة ًّ‬ ‫ال عن أن هذه الحشرة تملك موهبة خارقة في رؤية الكائنات‬ ‫دقيقة كل منها ترى نقطة معينة‪ ،‬فض ً‬ ‫الساكنة على ُبعد مترين‪ ،‬ورؤية الكائنات المتحركة على ُب ٍ‬ ‫عد يعادل ثالثة أضعاف هذه المسافة‪.‬‬ ‫يمكنها من إبقاء رأسها‬ ‫موازيا سطح‬ ‫أيضا أمام عيونها بنظام ّ‬ ‫هذا وقد ُز ّودت حشرة اليعسوب ً‬ ‫ً‬ ‫س���تخدم في الطائرات‪ ،‬لتحدي���د خط أفق اصطناعي‬ ‫تمام���ا مثل الـ"جراس���كوب" الذي ُي‬ ‫َ‬ ‫األرض‪ً ،‬‬ ‫خط األفق الحقيق���ي ويحدد موقع الطائ���رة بعد المناورة وف ًقا لس���طح‬ ‫يع���رف‬ ‫الطي���ار من خالل���ه ّ‬ ‫ُ‬ ‫اليابسة وينجو من السقوط‪.‬‬ ‫تغير في موضع جسم اليعسوب‪ ،‬فسرعان ما يتم تنبيه الشعيرات‬ ‫والالفت للنظر أنه إذا وقع ّ‬ ‫أي ّ‬ ‫الكائنة بين رأسها وجسمها؛ فتقوم الخاليا العصبية في جذور هذه الشعيرات‪ ،‬بإرسال اإلنذارات‬ ‫إلى عضالت اليعسوب إلخبارها عن موضعها في الهواء‪ ،‬عندها تقوم عضالت األجنحة ببرمجة‬ ‫أوتوماتيكيا‪ ...‬وهذا يساعدها على التحكم بجسمها‪ ،‬ويحفظ لها توازنها‬ ‫سرع ِة وعدد رفرفة األجنحة‬ ‫ًّ‬ ‫بحد ذاته أمر خارق في هندسة الطيران‪.‬‬ ‫ووجهة طيرانها حتى في أصعب المناورات‪ ...‬وهذا النظام ّ‬ ‫قام العلماء بعد كل ما توصلوا إليه من اكتش���افات حول حش���رة اليعس���وب‪ ،‬بتصميم مروحية‬ ‫تعد األولى في العالم‪ ،‬محاولين بها محاكاة حشرة اليعسوب الصغيرة‪.‬‬ ‫"سيكورسكي" التي ّ‬ ‫(*) كاتب وباحث تركي‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫إثرها أس���رى بنا األس���تاذ "مصطفى أوزجان" المستشار لمجلة‬

‫اهلل"‪ ،‬وش��� ّفت َع َب���رات الدكت���ور "مدك���ور" خ�ل�ال حديثه‪ ،‬عن‬

‫يس���تقيم إال بعجن طينة "إنسان جديد" ُيشرق بيديه فجر وليد؛‬

‫مح���ورا للدين والحضارة‪،‬‬ ‫باباعم���ي إلى س���ماء الخلق الحليم‬ ‫ً‬

‫مؤك���دا أن ُبنيانه ال‬ ‫ح���راء‪ ،‬إل���ى مع���ارج "الفك���ر الحض���اري"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وف���ي هذا المس���لك الس���ديد يجتمع الش���يخ "عب���د الحميد بن‬

‫باديس"‪ ،‬والش���يخ "محمد البش���ير اإلبراهيمي"‪ ،‬واألستاذ "فتح‬

‫اهلل كول���ن"‪ ...‬ول���م تنقض أنفاس الجلس���ة العلمية األولى قبل‬ ‫حية للدكتور عم���ار طالبي رئيس المجلس‬ ‫أن تفيض بش���هادة ّ‬

‫معب ًرا عن رفقة طيبة للمفكر مالك‬ ‫العلم���ي للجزائر العاصمة‪ّ ،‬‬

‫ش���خصية العال���م األواه الحليم‪ ...‬كما حملن���ا الدكتور محمد‬

‫في ورقة عنونها بـ"محورية األخالق في البناء الحضاري‪ ،‬عند‬ ‫مالك بن ني وفتح اهلل كولن"‪ ...‬وقد أمتع بدوره الدكتور "سمير‬

‫الحضور‬ ‫بودين���ار" م���ن جامع���ة "محمد الخام���س" بالمغ���رب‬ ‫َ‬ ‫بحديث���ه عن تقفي أثر الحكمة الحضارية ف���ي فكر الع َلمين‪...‬‬ ‫وتط���رق الدكت���ور "س���ليمان الدق���ور" إلى موض���وع "الصالت‬ ‫والعالق���ات" وأثرها في البناء الحضاري‪ ،‬متحد ًثا عن محورية‬ ‫مواجهة "الجهل"‪ ،‬و"الفقر"‪ ،‬و"الفرقة" في فكر األستاذ "مالك‬

‫وفتح اهلل"‪ ...‬وقد نقشت مداخلة األستاذ "رشيد َه ْيلماز" ذاكرة‬ ‫المؤتمرين حين أ ِلق بحديثه عن موقع الس���يرة النبوية في فكر‬ ‫األستاذ "فتح اهلل"‪ ،‬وكيف أن "األستاذ" يؤكد على دراسة "فلسفة‬

‫الس���يرة" قصد اس���تنباط "القواعد الكلية" ف���ي البناء الحضاري‬ ‫ع���وض اإلخ�ل�اد إل���ى ق���راءة س���يرة "المصطف���ى" ‪ ‬بمنه���ج‬

‫بن نبي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في س���نوات خلت‪ ،‬ترس���مت من خاللها‬ ‫فكرا‪ ،‬الس���امي َجنا ًنا رغم‬ ‫تقاس���يم ومالمح ذاك الرجل المتقد ً‬ ‫انتكاسات الزمان والمكان‪ ،‬وضعف اإلمكان‪.‬‬ ‫توال���ت الكلم���ات واألوراق البحثية خالل اليومين تترى‪،‬‬ ‫تس���يح في ملك���وت الفكر‪ ،‬وتج���ول في س���لطنة القلوب‪ ،‬من‬ ‫مقارب���ة مقارِ ن��� ٍة بي���ن األس���تاذ "مالك بن نب���ي" والمفك���ر "ابن‬ ‫خل���دون" للبروفيس���ور "ب���روس لورون���س" م���ن "الوالي���ات‬ ‫المتح���دة األمريكية"‪ ...‬إث���ر هذه المداخل���ة تحدثت الدكتورة‬ ‫"فري���دة بلف���راق" من جامع���ة "الجزائ���ر" عن اله���م الحضاري‬ ‫والتوتر الذي صبغ فكر األستاذ "مالك بن نبي"‪...‬‬ ‫ورفل بالحضور الدكتور "عبد الحميد مدكور" من "مصر"‬ ‫حي���ن تحدث عن أثر العقيدة في فكر العا ِلـمين "ابن نبي وفتح‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪62‬‬

‫س���ردا ألحاديث ووقائع تاريخية متناثرة‪...‬‬ ‫وصفي‪ ،‬واعتبارها‬ ‫ً‬ ‫ش���رف المؤتم���ر حض���ور ع���دد م���ن كب���ار العلم���اء‬ ‫وق���د ّ‬

‫والمرش���دين‪ ،‬وحاملي ل���واء العلم والحلم‪ ،‬م���ن أقطار ممتدة‬ ‫من المعمورة‪ ،‬من "البوس���نة والهرس���ك" إلى "السودان"‪ ،‬ومن‬

‫"نيجيريا" إلى "أربيل" العراق‪.‬‬

‫لق���د كان مؤتمر "فلس���فة البن���اء الحضاري"‪ ،‬م���رآة تعكس‬ ‫في���ض المحب���ة في القلوب وتناغم العق���ول‪ ،‬وي ِن ُّم ‪-‬في الوقت‬ ‫نفسه‪ -‬عن فجر جديد يلوح في األفق‪.‬‬

‫لق���د خ ّل���ف اختت���ام المؤتم���ر وحش���ة وغربة ف���ي األنفس‬

‫وسندسا بدوام‬ ‫روضا‬ ‫واأللباب‪ ،‬إال أنها ستستحيل ‪-‬ال ريب‪ً -‬‬ ‫ً‬ ‫االزدياد المعرفي‪ ،‬وتوجيه الطاقة‪ ،‬وترشيد الفكر والفعل‪.‬‬

‫(*) كاتب وصحفي جزائري‪ .‬إعداد المادة العلمية‪ :‬هيئة التحرير بفيكوس‪.‬‬


‫د‪ .‬سليمان الدقور‬

‫د‪ .‬سليمان عشراتي‬

‫والذي استكشف بنظره الثاقب "هندسة الحضارة"‪ ،‬و"تجليات‬ ‫ونظم ب ُل ّب���ه وعقله مقومات‬ ‫العم���ران في فك���ر فتح اهلل كولن"‪َ ،‬‬ ‫"االنبع���اث الحض���اري ف���ي فكر األس���تاذ فت���ح اهلل"‪ ،‬فانتظمت‬ ‫كتابين َوليدين نش���رتهما "دار النيل"‬ ‫هاتان القراءتان الفكريتان َ‬ ‫في القاهرة‪ ،‬فكان اللقاء فرصة للتعريف بالكاتب والمكتوب‪.‬‬ ‫وعز اإلس�ل�ام‪ ،‬أطل األستاذ "فؤاد‬ ‫أس الحضارة ّ‬ ‫من " َتعز" ّ‬ ‫بث أش���جانه وحب���ه لوطنه الثاني‬ ‫البنا" إطاللة فكرية َس���نية‪ ،‬إذ ّ‬ ‫آخذا الحضور في س���باحة معرفية‪ ،‬ومالحة وجدانية‬ ‫الجزائر‪ً ،‬‬ ‫في؛ عبقرية األستاذ فتح اهلل‪ ..‬بين قوارب "الحكمة" وشواطئ‬

‫ندوة "سياحة معرفية في عالم األستاذ فتح اهلل كولن"‬

‫وفتن الحضور بحبه ولبه‪...‬‬ ‫"الخدم���ة"‪ ،‬فأخذ األلباب بحلمه‪َ ،‬‬

‫أتب���ع الدكتور "محم���د باباعمي" المدير الع���ام لمعهد المناهج‬

‫قاصا حكاية كتابين‪ ،‬وفكرتين‪،‬‬ ‫بالجزائ���ر هذه العبر والعبرات‪ًّ :‬‬ ‫وجد لفجرٍ وليد ألمته‪،‬‬ ‫وآهتين‪ ،‬وأنتين‪ :‬أنة حب لوطنه‪ ،‬وآهة ْ‬ ‫وفك���رة انبع���اث لجيله‪ ،‬باح ًث���ا عن عصارة التري���اق‪ ،‬وخالصة‬

‫د‪ .‬عمار طالبي‬

‫د‪ .‬طاهر حجار‬

‫معرفي في فكر األس���تاذ فتح اهلل كولن"‪ ...‬فكانت "ندوة حراء‬

‫مواليد‪ ،‬تعانق‬ ‫لكت ٍب‬ ‫َ‬ ‫" في الجزائر بذلك عقيق ًة معرفية دس���مة ُ‬

‫فيها العقل واإليمان‪ ،‬والفكر والوجدان في سماء "الجزائر"‪.‬‬

‫"فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح اهلل كولن"‬

‫متبصر أصيل فرشها عالمان صنوان‪ ،‬ومفكران‬ ‫على مائدة فكر ّ‬

‫لكنهما‬ ‫معين القرآن تش���ربا‪،‬‬ ‫أخ���وان‪ ،‬ل���م يلتقيا ولم يجتمع���ا‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ومن ج���ذوة الحبيب المصطفى اصط َلي���ا‪ ،‬ومن فيض الحكمة‬ ‫غرف���ا‪ ...‬إنهما عالمان غريبان ع���ن بعضهما‬ ‫موطنا‬ ‫الحضاري���ة ِ‬ ‫ً‬

‫ملتقى "فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح اهلل كولن‬

‫وجس���دا‪ ،‬إال أنهما يمث�ل�ان في ذاكرة األم���ة ِ‬ ‫والح َرم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الح ْصن َ‬

‫والم ْعلم‪ ،‬وفي ساح ترشيد‬ ‫وفي صرح البناء الحضاري الشامة َ‬ ‫الفكر والفعل الهامة والع َلم‪ ...‬على هذه المائدة ِ‬ ‫فكهت أرواح‬ ‫وقلوب كانت عطشى‪ ،‬وأفئدة لغد أفضل صارت ظمأى‪ ،‬فكان‬ ‫لها محراب األس���تاذ "مالك بن نبي" وجذوة األس���تاذ "فتح اهلل‬

‫المعن���ى ف���ي طري���ق الحض���ارة والتمكي���ن‪ .‬فانس���ابت المعاني‬ ‫رقراق���ة في ِقمط���ر أول عنوانه "البراديم كول���ن"‪ ،‬وانجلت بعد‬

‫افتت���ح الدكت���ور "طاه���ر حج���ار" رئي���س جامع���ة الجزائ���ر‬

‫وخصائصه���م ف���ي كتاب���ه الثان���ي؛ "أرباب المس���توى‪ ..‬حضور‬

‫ف���ي فهم فكر األس���تاذين "مالك بن نبي" و"فت���ح اهلل كولن"‪...‬‬

‫و"جن���د اإلدراك" وش���روطهم‬ ‫"أطب���اء المعنى" ُ‬ ‫ذل���ك أم���ارات ّ‬

‫كولن" "الصفا والمروة" والمروى‪.‬‬

‫المؤتمر بكلمة ترحيبية بضيوف "الجزائر"‪،‬‬ ‫معتبرا المؤتمر لبنة‬ ‫ً‬

‫‪61‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫أنشطة ثقافية‬ ‫طه كوزي*‬

‫"فلسفة البناء الحضاري"‬ ‫بين يدي "مالك بن نبي" و"فتح اهلل كولن"‬

‫س���طعت أن���وار البـــِش���ر بالجزائر المس���لمة ًّلبا‬ ‫وتاريخ���ا‪ ،‬والعثمانية‬ ‫وروح���ا‪ ،‬الثائ���رة ذاك���رة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وتلظت بذل���ك ندوة "ح���راء" الفكرية‬ ‫وأف���كاره به���ذه ال���روح‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬

‫بجذوة اإليمان الوازع‪ ،‬والعلم النافع‪ ،‬والعمل الرافع‪.‬‬

‫ن َف ًس���ا وعب ًق���ا‪ ،‬فانبلج بها فجر ص���ادق بعد أن ندوة حراء بالجزائر‪ :‬عقيقة فكرية وسياحة معرفية‬

‫ح���ل بها ثلة من أعالم اله���دى‪ ،‬قادمين إليها من أفق ممتد من‬ ‫ّ‬

‫في قاعة "كوس���موس" برياض الفتح بالجزائر العاصمة أمسية‬

‫"ج���اوة" إلى "مراكش" ومن "طنج���ة" إلى "جاكرتا"‪ ...‬حاملين‬

‫غصت القاعة بالحاضرين‪،‬‬ ‫"الثامن عش���ر" من نوفمبر ‪ّ ،2012‬‬

‫يعبون بفيض علمهم‬ ‫وأحالمها‪ ،‬بأش���واقهم القلبي���ة والروحية؛ ّ‬ ‫ِ‬ ‫والباحث ع���ن الحقيقة‬ ‫طال���ب العلم‬ ‫وطي���ب حلمهم‪،‬‬ ‫توجيها‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬

‫مصطل من‬ ‫الحكم���ة والفطنة‪ ،‬متعلمة ومتتلم���ذة‪ :‬لنتاج فكري‬ ‫ٍ‬

‫ومن ّقبين عن‬ ‫قبس األستاذ "فتح اهلل" دارسين ومحللين‪ ،‬مق ّلبين ُ‬

‫الحض���اري" عن���د "مالك بن نب���ي" و"فتح اهلل كول���ن" وأورا ُقه‬

‫مع الدكتور "س���ليمان عش���راتي" من جامعة وهران (الجزائر)‪،‬‬

‫إل���ى "الجزائ���ر" أفكارهم وإش���راقاتهم‪ ،‬مش���اركين إياها آمالها‬

‫وتعليم���ا‬ ‫وترش���يدا‪ ...‬فاصطبغ���ت أي���ام مؤتم���ر "فلس���فة البناء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪60‬‬

‫الجموع في س���ماء الفكر وال���روح‪ ،‬وألقت في أفالك‬ ‫ورفل���ت ُ‬

‫أسباب االنطالق‪ ،‬وقواعد االنعتاق؛ فكانت سياحة فكرية ح َّقة‬


‫د‪ .‬صالح سليمان‬

‫"القضية الكبرى ألمتنا‪ :‬من اإلنسان األفق إلى المجتمع المثالي"‬

‫الوفي المرحوم عبد الوهاب المس���يري‪ ،‬عليه شآبيب الرحمة‪.‬‬ ‫وجاء مدير "مجلة حراء"‪ ،‬األس���تاذ ن���وزاد صواش ليحمل‬ ‫الناس في رحلة بالصور الموحية‪ ،‬وبالتعليق اللطيف الخفيف‪،‬‬ ‫إل���ى مدارس "الخدمة" في تركيا وفي ش���تى بالد العالم‪ .‬فكان‬ ‫ال للناس‬ ‫ق���رر‪ ،‬وحم ً‬ ‫ُ‬ ‫عرض���ه مصادق���ة لما قيل‪ ،‬وتصدي ًق���ا لما ِّ‬ ‫تردد‪،‬‬ ‫عل���ى التفكي���ر‬ ‫ِّ‬ ‫الجدي ف���ي اقتحام العقبة بال خ���وف وال ُّ‬ ‫ِ‬ ‫األمة بال مواربة وال‬ ‫ودفعهم إلى الثقة بالنفس‬ ‫َّ‬ ‫وبمقدرات هذه َّ‬ ‫المثال‪ ،‬ال‬ ‫مخاتل���ة‪ ...‬ومم���ا قاله‪" :‬إن مدارس الخدم���ة تصوغ‬ ‫َ‬ ‫لتس���تأثر به لنفسها‪ ،‬ولكن لتعرضه على مصر وعلى باقي بالد‬ ‫ويطوروه‪ ...‬فهي بذلك‬ ‫ويقوموه‬ ‫ِّ‬ ‫العالم والمسلمين‪ ،‬لينظروا فيه ِّ‬ ‫س���تنفق مما رزقها اهلل من خبرة ومعرفة بس���خاء دون حدود‪...‬‬ ‫وقانون ثابت ضمن‬ ‫بليغ من معاني الخدمة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا بعينه معنى ٌ‬ ‫القواني���ن والمقاصد التي س���طرها "فت���ح اهلل" بفكره ومهجته"‪.‬‬ ‫ال على‬ ‫وبع���د الح���وار واألس���ئلة التي بلغ���ت المئ���ات‪ ،‬دلي ً‬ ‫وتنبيها إلى المقام المنيف‪ ،‬وعنوا ًنا على‬ ‫االهتمام الحصي���ف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بلدا‬ ‫الهم الملتهب بين ثنايا القلوب الضارعة‪ ،‬المتع ِّلقة بمصر ً‬ ‫ِّ‬ ‫ودين���ا‪ ...‬بعد هذا الحوار‬ ‫األمة حضارة ً‬ ‫وش���عبا‪ ،‬وبمصير هذه َّ‬ ‫ً‬ ‫تبادل الطرفان الهدايا السخية وكلمات الشكر الندية‪.‬‬ ‫مري(‪ )12‬يص ِّفق بأجنة سوداء‬ ‫ثم ما لبث‬ ‫سرب من طيور ال ُق ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫مذهب‪ ،‬ويعلن للعالمين ُبش���رى تعلُّق‬ ‫وبني���ة وبعضها‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ج���وزي َّ‬ ‫وروح بروح؛ وأعج���ب لفر ٍد ِمن‬ ‫قل���ب بقل���ب‪ ،‬وف���ؤا ٍد بف���ؤاد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫السرب مكث مني غير بعيد‪ ،‬وهو يتر َّنم بصوت عذب ال أزال‬ ‫أج���د رجع���ه في أذن���ي‪ ...‬ويتغنى بآي ٍة م���ن آي الكريم الحكيم‬ ‫ف َب ْي َن ُق ُلوب ِ​ِه ْم‬ ‫ين ‪َ ‬و َأ َّل َ‬ ‫تاليا‪ُ :‬‬ ‫﴿ه َو ا َّل ِذي َأ َّي َدكَ ب َِن ْص ِر ِه َوبِا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هلل‬ ‫َل ْو أ ْن َف ْق َت َما في األ ْر ِ‬ ‫ض َجم ًيعا َما أ َّل ْف َت َب ْي َن ُق ُلوبِهِ ْم َو َلك َّن ا َ‬ ‫ف َبي َن ُهم ِإ َّن ُه َع ِز ٌ ِ‬ ‫َ‬ ‫يم﴾(األنفال‪.)63-62:‬‬ ‫يز َحك ٌ‬ ‫أ َّل َ ْ ْ‬ ‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪)1‬‬

‫جم���ال حم���دان‪ :‬ه���و أحد أبرز أع�ل�ام البحوث الجغرافي���ة والحضارية في‬ ‫كتابا‪ ،‬و‪79‬‬ ‫العالم‪ ،‬ولد سنة ‪ ،1928‬وتوفي سنة ‪ ،1993‬وترك حوالي ‪ً 29‬‬

‫بح ًث���ا ومق���االً‪ ،‬وه���و رمز من رم���وز الفكر في مص���ر المعاصرة‪ .‬أم���ا كتابه‬

‫"ش���خصية مصر‪ ،‬دراس���ة في عبقرية المكان"‪ ،‬فهو أش���هر كتاب عن تاريخ‬

‫مصر وعن عالقة اإلنس���ان بالحضارة؛ نش���ر عدة مرات في أربع مجلدات‪،‬‬ ‫وهو يتجاوز العرض المعلوماتي الوصفي التقليدي إلى التحليل الحضاري‬ ‫المستقبلي النماذيجي‪.‬‬ ‫ال لألس���تاذ فتح اهلل كولن‬ ‫(‪ )2‬ف���ي كت���اب "ونحن نقي���م صرح الروح" نطالع مقا ً‬ ‫بعنوان "القضية الكبرى لش���عبنا"‪ ،‬منه استقينا عنوان الندوة التي أقيمت في‬ ‫مكتبة اإلسكندرية‪.‬‬ ‫(‪ )3‬حف���ل الحفل ثلة من العلماء ورجال السياس���ة ووجوه البلد؛ على رأس���هم‬ ‫مفتي الديار المصرية األس���تاذ الدكتور علي جمعة‪ ،‬وكذا الس���ادة األفاضل‬ ‫األس���تاذ مصطفى أوزجان‪ ،‬والدكت���ور عبد الحميد مدكور‪ ...‬وغيرهم كثير‬ ‫اسما‪.‬‬ ‫اسما ً‬ ‫يضيق المقام من حصرهم ً‬

‫(‪ )4‬مدرسة صالح الدين الدولية‪ :‬هي أول مدرسة من مدارس الخدمة ُفتحت‬ ‫ف���ي مص���ر‪ ،‬وذلك ع���ام ‪ .2009‬وهي اآلن م���ن الثالثة األوائ���ل في ترتيب‬

‫الخاص���ة في مصر‪ ،‬موقعها في مدين���ة "مصر الجديدة"‪،‬‬ ‫الم���دارس الدولية‬ ‫َّ‬

‫وهي تحفة في الجودة والعمارة‪ ،‬وآية في اإلتقان والجمال‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫بغناء َأو غيره‪.‬‬ ‫وح‪ :‬رفع صوته‬ ‫(‪ )5‬صدح‬ ‫ُ‬ ‫الرجل‪ ،‬وهو َّ‬ ‫صداح َ‬ ‫وص ُد ٌ‬

‫(‪)6‬‬ ‫خاصة‪.‬‬ ‫الموضع الذي يقام فيه زمن الربِيع‬ ‫ّ‬ ‫الم ْر َبع‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫(‪)7‬‬ ‫الم ْنزِ ُل الذي َغ ِني به ْأه ُله ثم ظَ َع ُنوا‪.‬‬ ‫الم ْغ َنى‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(‪ )8‬حفل الحفل ثلة من العلماء ورجال السياسة ووجوه البلد؛ على رأسهم مفتي‬

‫الديار المصرية األستاذ الدكتور علي جمعة وغيرهم من االسادة األفاضل‪.‬‬

‫(‪َ )9‬‬ ‫وع ْز ُم َك عليه‪.‬‬ ‫ريم‪ُ :‬م ْع َت َز ٌم؛‬ ‫كامك َأ ْم ًرا َ‬ ‫والصريم ُة ْ‬ ‫َّ‬ ‫إح ُ‬ ‫أمر َص ٌ‬

‫كل ش���ي ٍء"‪ ،‬أي‬ ‫يان ِّ‬ ‫(‪ )10‬من���ه حدي���ث نبينا محمد ‪َ " :‬أعطاكَ ا ُ‬ ‫هلل التورا َة فيها ِت ْب ُ‬ ‫وإيضاحه‪.‬‬ ‫كش ُفه‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫(‪)11‬‬ ‫يد﴾(ق‪ ،)22:‬أي فر ْأيك‬ ‫الحديد هو النافذ‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ف َب َص ُركَ ال َْي ْو َم َح ِد ٌ‬ ‫اليوم نافذ‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬ ‫مري‪ :‬من أشهر الطيور في مصر‪ ،‬وهي مضرب للمثل‪.‬‬ ‫ال ُق ّ‬

‫‪59‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫مصطفى أوزجان‬

‫د‪ .‬محمد عبد اهلل الشرقاوي‬

‫خريتا‪ ...‬فأشار‬ ‫ومرشدا‬ ‫أمينا‪،‬‬ ‫شاهدا صاد ًقا‪،‬‬ ‫الناصع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وناصحا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ٍ‬ ‫ومعامالت وحركي��� ًة‪ ...‬أي في‬ ‫وخل ًقا‪،‬‬ ‫دين���ا وعقيد ًة‪ ،‬وعب���ادة ُ‬ ‫ً‬

‫إلى أرض الواقع‪ ،‬وهو َّيتس���م بأعل���ى معايير الجودة وااللتزام‬

‫مدي���ر معه���د المناه���ج‬ ‫وذك���ر الدكت���ور محم���د باباعم���ي‬ ‫ُ‬

‫الـمثل اإلس�ل�امية‬ ‫إلى أن مش���روع "فتح اهلل" اس���تطاع أن ُي ْنزل ُ‬

‫والتنظي���م‪ ،‬ثم ع���رج إلى مدل���ول "التلطُّف" في فكر األس���تاذ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وما له من آثار حميدة على اإليقاع وضبط المس���ير‪ .‬من ذلك‬

‫نموذج منطل ُقه الفهم‬ ‫يس���تفزه‪ ،‬فهو‬ ‫اآلخر وال‬ ‫أنه ال يس���تعدي َ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ومصبه اإلدراكُ البصير لحقيقة اإلنسان‪.‬‬ ‫الصواب لإلسالم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ثم كان الدور لألس���تاذ مصطفى أوزجان المستشار لمجلة‬ ‫حراء؛ ال���ذي عالج بذهنية الطبيب الح���اذق‪ ،‬وبروح المجاهد‬ ‫والقاط���ع لما‬ ‫الواص���ل لم���ا أم���ر اهلل ب���ه أن يوص���ل‪،‬‬ ‫المجته���د‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫بحب���ل وثيق بين القل���ب والعقل‪،‬‬ ‫ليش���د‬ ‫أم���ر اهلل ب���ه أن ُيقطع؛‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫وينذر من أن‬ ‫وليربط بميثاق غليظ بين العلم والعمل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وليحذر ُ‬ ‫النهضات والحضارات ال تبدأ من السياسة وال من االقتصاد‪...‬‬ ‫لكنها ‪-‬كما هو مأثور عن رس���ول اهلل ‪ -‬تنطلق من "األغوار‬

‫الس���حيقة للقلوب"‪ ،‬وتضمن النفاذ باعتماد "تأشيرة الوجدان"‬ ‫ال غير‬ ‫س���فيرا ورس���و ً‬ ‫ال‪ ...‬ثم إنه ‪ ‬تناول اإلس�ل�ام ك ًّ‬ ‫ال متكا ِم ً‬ ‫ً‬ ‫مش���تت‪ ،‬وله���ذا كان النصر حلي َفه ف���ي ٍ‬ ‫أمد قصير‪،‬‬ ‫وال‬ ‫ق‬ ‫مم���ز‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أي‬ ‫وبل���غ‬ ‫الدي���ن الحنيف على يديه الش���ريفتين آفا ًقا لم يبلغها ُّ‬ ‫ُ‬ ‫قبل‪ ،‬ولن‬ ‫دين آخر‪ ،‬ولم تحلم بها فلسف ٌة وال أيديولوجية من ُ‬ ‫تحلم بها من بعد‪.‬‬

‫ال‪.‬‬ ‫الدين حين يكون ُك ًّ‬ ‫ال‪ ،‬ال حين يكون َك ًّ‬

‫يعرض‬ ‫بالجزائ���ر‬ ‫وباح���ث بأكاديمية البحوث في تركي���ا؛ وهو ِ‬ ‫ٌ‬

‫قصت���ه ف���ي تألي���ف كتابي���ن اثنين عن األس���تاذ "فت���ح اهلل" وعن‬ ‫َّ‬ ‫نموذج "الخدم���ة"‪" :‬البراديم كولن"‪ ،‬و"أرباب المس���توى" من‬

‫مقاما سام ًقا‬ ‫األمة ً‬ ‫نشر دار النيل‪ ،‬ذكر أن لـ"مصر" في جغرافية َّ‬

‫ومكا ًنا رائ ًقا‪ ،‬فهي بمثابة القلب من الجس���د‪ ،‬فإن تسارع إيقاع‬ ‫قدر‬ ‫األمة من عقالها‪ ،‬وإن تباطأ أو خ ُفت ‪-‬ال َّ‬ ‫نبضها نش���طت َّ‬

‫عفريت الكس���ل والخمول‬ ‫األمة قاطب ًة‬ ‫ُ‬ ‫اهلل‪َّ -‬‬ ‫دب عل���ى أطراف َّ‬ ‫ِ‬ ‫س���ؤال األزمة‪ ،‬الذي بس���ببه‬ ‫المحاضر‬ ‫والتخلف‪ ...‬ثم عرض‬ ‫َ‬

‫ال‪ ،‬وهو‪:‬‬ ‫كانت "الخدمة"‬ ‫نموذجا بدي ً‬ ‫ً‬

‫يتحول إلى واقع‪ ،‬ولماذا واقعنا ال يضرب‬ ‫فكرنا ال‬ ‫َّ‬ ‫"لماذا ُ‬ ‫ِ‬ ‫نفس���ر كون فكر "فت���ح اهلل" يغمر‬ ‫بس���بب ف���ي فكرنا؟ ث���م كيف ّ‬ ‫مؤسسات‬ ‫المجتمع ويصير حقيقة وعيا ًنا؟ وبماذا نعلل ارتباط ّ‬ ‫ومش���اريع "الخدم���ة" بالفك���ر‪ ،‬وانطالقه���ا من أرضي���ة اإليمان‬ ‫واإلتق���ان واإلحس���ان‪ ،‬تح���ت مظ َّل���ة العقل والقلب والش���عور‬

‫والفيوضات والوجدان؟"‪.‬‬

‫فكان���ت محاولة الجواب عن س���ؤال األزم���ة ِمن قبل "فتح‬ ‫تحو ٍل في "البراديم‪/‬النموذج"‪،‬‬ ‫اهلل" ومشروع "الخدمة"‪ ،‬بمثابة ُّ‬

‫ولق���د ابتلي���ت البش���رية لق���رون ثالث���ة متوالية ‪-‬كما أش���ار‬

‫تشكلت على صورة "النموذج البديل" وهو بديل‬ ‫ثم مع الوقت َّ‬

‫والمادي���ة والعنصري���ة والنفعي���ة والوضعي���ة‪ ...‬كلُّه���ا َح َلب���ت‬

‫هذا بتا ًتا أنه نموذج ناقم أو منتقم من التجارب األخرى‪ ،‬وإنما‬

‫األس���تاذ مصطف���ى‪ -‬بنزعات ون���زوات‪ ،‬مثل األناني���ة والفردية‬

‫وورث���ت البش���رية حربي���ن عالميتين ُقتل‬ ‫للعا َل���م ًّ‬ ‫س���ما زعا ًف���ا‪َّ ،‬‬ ‫عد له وال حصر‪ .‬ولذلك‪،‬‬ ‫فيهما مئات الماليين‪،‬‬ ‫وش���رد ما ال َّ‬ ‫ِّ‬

‫تقف اإلنس���انية اليوم على مفت���رق الطرق‪ ،‬وتبحث عن المنقذ‬ ‫النصوح والمرشد الصدوح‪ ،‬وسوف لن تجده إال في اإلسالم‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪58‬‬

‫عن "النموذج المهيمن" بمختلف أش���كاله وألوانه‪ ...‬وال يعني‬

‫نموذج يعترف أنه مرحلة في حلقة‪ ،‬ولبنة في صرح‪ ،‬وذرة‬ ‫هو‬ ‫ٌ‬ ‫في شمس‪ ...‬و"الخدمة" بهذا‪ ،‬تؤمن بالتراكم ال باإلقصاء؛ فهذه‬

‫وأدق صورة من‬ ‫أكبر خاصية من خصائصها الفكرية والحركية‪،‬‬ ‫ُّ‬

‫ص���ور "نماذجها اإلدراكية التفس���يرية الكامنة" بتعبير ابن مصر‬


‫حدود وال قيود‪ ،‬وسأاله عن "التفاؤل والتشاؤم"‪ ،‬وعن "المرحلة‬

‫ولم تغب عن الحفل الجهات الرسمية الوطنية والمحلية‪،‬‬

‫األمة أوان فجرها الصادق‪ ،‬وحين نهضتها المنشودة‪ ...‬فما كان‬ ‫َّ‬

‫عل���ى التربي���ة والتعليم في مصر بنوعيه الخ���اص والعام؛ كلُّهم‬

‫وال���د ْور"‪ ،‬وع���ن "المنطلق والغاية"‪ ...‬س���أاله عن كل ما يعني‬ ‫َّ‬ ‫من "فتح اهلل" إال أن أجاب ببيان‪ ،‬وكشف بتبيان‪ )10(،‬ومما قاله‪:‬‬ ‫األم���ة إل���ى األم���ام أو تراجعه���ا إل���ى ال���وراء‬ ‫"إن ُّ‬ ‫تق���دم َّ‬ ‫مرتب���ط بالتربية والروح والش���عور الذي تتش���ربه‬ ‫وانحطاطه���ا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫دوما أمام األمم التي ِ‬ ‫تع ُّد‬ ‫أجيالها الشابة‪ .‬فطريق‬ ‫ُّ‬ ‫التقدم مفتوح ً‬

‫وبخاص���ة ممثلو وزارة التربي���ة‪ ،‬واإلدارات المحلية المش���رفة‬

‫ملحا‪:‬‬ ‫وقلبا‬ ‫ش���اكرا‪ ،‬وأم ً‬ ‫ال مش���ر ًقا‪ ،‬ودع���اء ًّ‬ ‫ذاكرا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫كان لس���ا ًنا ً‬ ‫يمكن لهذه‬ ‫أن يحف���ظ اهلل مصر وس���ائر ب�ل�اد المس���لمين‪ ،‬وأن ِّ‬ ‫بخاصة ما‬ ‫التجربة المحيِية من االنتشار في سائر المحافظات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كان منها في الجنوب‪.‬‬

‫ش���بابها‬ ‫إعدادا ً‬ ‫ً‬ ‫جيدا‪َّ .‬أما األمم التي تهمل شبابها‪ ،‬فال تستطيع القضية الكبرى ألمتنا‪ :‬ندوة في مكتبة اإلسكندرية‬ ‫أن تخطو خطوة واحدة إلى األمام"‪.‬‬

‫مكتوبا على الفتة‬ ‫في المدخل الرئيس لمكتبة اإلسكندرية نقرأ‬ ‫ً‬

‫فهل يا شباب محمد ‪ ،‬ويا أمل الغد السعيد‪ ...‬هل أنت‬ ‫مستعد متح ِّفز متو ِّفز؟! ذاك ما يثبته مستقبل األيام أو ينفيه‪ ،‬وال‬ ‫ٌّ‬

‫عريضة‪" :‬ندوات حراء‪ ،‬اإلسكندرية"‪ ،‬ثم يجذبنا عنوان الندوة‬ ‫ألمتنا‪ :‬من اإلنس���ان األفق إلى‬ ‫ٍّ‬ ‫بخط عريض‪" :‬القضية الكبرى ّ‬

‫فتح مدرسة "صالح الدين" في "بني سويف"‬

‫مهيب���ا‪ ،‬اس���تغرقت فعاليا ُته أزيد من ثالث س���اعات‬ ‫والح���دث ً‬

‫ثبتا‪.‬‬ ‫نخاله بحول اهلل إال ُم ً‬

‫ج���اء ال���دور الحض���اري العبق���ري الذي يرتس���م عالم��� ًة فارق ًة‬ ‫س���جلة عل���ى جبي���ن "الخدم���ة"‪ ،‬ف���ي أكثر م���ن مائة‬ ‫ومارك��� ًة ُم َّ‬

‫بليغا‪،‬‬ ‫المجتمع المثالي"‪ .‬ولقد كان الحضور كثي ًفا‪ ،‬واالهتمام ً‬ ‫بإدارة وفية من قبل األس���تاذ الدكتور صالح س���ليمان مستشار‬

‫مدي���ر المكتبة‪ ،‬الذي أرش���د ونب���ه وقال فيما ق���ال‪" :‬لقد قرأت‬ ‫جمي���ع م���ا وصل بي���ن يدي من كتب األس���تاذ فت���ح اهلل كولن‪،‬‬

‫حصن‬ ‫فتح‬ ‫ٍ‬ ‫وس���تين دول���ة من دول الش���مال والجنوب‪ ...‬إنـ���ه ُ‬ ‫للتربي���ة جديد‪ ،‬وإع�ل�ان معقل للخير حديد‪ )11(.‬هي "مدرس���ة‬

‫متين���ا للغد المرتقب"‪.‬‬ ‫فألفيته���ا عالمة في الحضارة‪،‬‬ ‫وأساس���ا ً‬ ‫ً‬

‫لـ"ص�ل�اح الدين" األولى ف���ي القاهرة‪ ...‬ولق���د تناقلت الوفود‬

‫اإلصالح���ي ف���ي كل مناحي الحي���اة‪ ،‬من العل���م والمعرفة إلى‬

‫تتمة‬ ‫ص�ل�اح الدين" الثانية في محافظة "بني س���ويف"‪ ،‬جاءت َّ‬

‫له���ن‪ :‬في س���وهاج‪ ،‬وماريوتي‪،‬‬ ‫ُبش���رى اقت���راب بزوغ أخوات‬ ‫َّ‬ ‫واإلسكندرية‪ ...‬وغيرها‪.‬‬

‫ثم أشار إلى أن "مكتبة اإلسكندرية تأخذ على عاتقها الجانب‬ ‫الثقاف���ة المس���ؤولة وبن���اء اإلنس���ان‪ ،‬م���ن خالل ع���دد كبير من‬

‫خاص على الشباب"‪.‬‬ ‫البرامج والمشروعات‪ ،‬وبالتركيز بشكل‬ ‫ٍّ‬

‫الحفل البهيج‪ ،‬مفت���ي الديار المصرية‬ ‫وم���رة أخرى حض���ر‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الم���ة عل���ي جمع���ة‪ ،‬وألق���ى كلمة مما ج���اء فيه���ا‪" :‬إن هذه‬ ‫الع َّ‬ ‫س���يمتد بحول اهلل نحو اآلفاق‪...‬‬ ‫المدرس���ة بؤرة جديدة لنورٍ ‪،‬‬ ‫ُّ‬

‫ث���م إن الدكت���ور محم���د عب���د اهلل الش���رقاوي رئيس قس���م‬

‫اهلل‪ -‬س���تكون عش���ر ًة‪ ،‬بل عش���رين‪ ...‬وما ذلك على اهلل بعزيز‪،‬‬

‫وفضل أن يضع التحليل‬ ‫المنبر في القاعة الكبرى من المكتبة‪َّ ،‬‬

‫فهي اليوم واحد ٌة‪ ،‬ثم اثنتان‪ ...‬وهي بعد أمد قريب ‪-‬بعون من‬ ‫همة الرجـال بمستحيل"‪.‬‬ ‫وال على َّ‬

‫وف���ي هذا اإلطار تأتي هذه الندوة‪ ،‬وبه���ذا النفس ُتعقد اآلمال‬

‫في تجربة "فتح اهلل كولن" الرائدة‪.‬‬

‫هز عتبات‬ ‫الفلسفة اإلسالمية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة‪َّ ،‬‬ ‫جانبا‪ ،‬ليلوذ بالتعبي���ر الوجداني الب َّلوري‬ ‫الفلس���في‬ ‫المدرس���ي ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫‪57‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫نوزاد صواش ‪ -‬د‪ .‬محمد باباعمي‬

‫ندوة "أجيال األمل والفجر الجديد‪ :‬محاورة صادقة مع األستاذ فتح اهلل كولن"‬

‫ُعس���ر‬ ‫المهمة وصعوبته���ا‪ ،‬ثم هو يؤكد عل���ى وجوب اإليمان حفل تكريم األستاذ الدكتور محمد عمارة‬ ‫َّ‬

‫أجرا‪:‬‬ ‫واليقي���ن ف���ي تحقي���ق ُنصرته���ا‪ ،‬ويق���ول ال أضاع اهلل ل���ه ً‬ ‫"ولي���س المقص���ود من ه���ذا الق���ول أ َّنن���ا عاجزون ع���ن انتزاع‬ ‫اللوثي���ات الالصقة بأرواحن���ا في القرون األخي���رة‪ ،‬بل اإلفاد َة‬ ‫بأن بلوغ ِّبر األمان‬ ‫كأمة من‬ ‫عس���ير غاي َة العس���ر ما لم نتخ َّلص َّ‬ ‫ٌ‬ ‫أس���باب ودواعي انهيارنا وانحاللن���ا الحقيقية‪ ،‬مثل‪ :‬الحرص‪،‬‬ ‫والكس���ل‪ ،‬وطلب الشهرة‪ ،‬وشهوة الس���لطة‪ ،‬واألنانية‪ ،‬والميل‬ ‫َ‬

‫إلى الدنيا‪...‬‬ ‫نتوجه‬ ‫ِ‬ ‫وغيرها من األحاسيس والمشاعر‪ ،‬وما لم َّ‬ ‫ع���د جوه���ر اإلس�ل�ام وحقيقته كاالس���تغناء‪،‬‬ ‫إل���ى الح���ق بم���ا ُي ُّ‬

‫والجسارة‪ ،‬ونكران الذات‪ ،‬واالهتمام ب َِه ّم اآلخر‪ ،‬والروحانية‪،‬‬ ‫تتم تصفيتنا بمش���اعر الحق ثم‬ ‫نصب في‬ ‫َّ‬ ‫والرباني���ة‪ ...‬وما ل���م َّ‬

‫لكن العسر الشديد ال يعني المحال"‪.‬‬ ‫قالبه‪ّ ...‬‬

‫وجه إليه حمدان‪،‬‬ ‫فما هو الشرط وما هو السبب لتحقيق ما َّ‬

‫بش���ر به فتح اهلل؟ الش���رط‬ ‫األس���اس والس���بب الرئيس‪ ،‬هو‬ ‫وما َّ‬ ‫ُ‬ ‫أن "ال‬ ‫تخل���و الس���احة ِمن ش���جعان‪ ،‬مالكي���ن إلرادة تجديدية‬ ‫َ‬ ‫تحتض���ن العص���ر‪ ،‬م���ع الحف���اظ عل���ى الجوه���ر‬ ‫والل���ب"‪ .‬وما‬ ‫ّ‬ ‫ه���ي الصبغة األمث���ل‪ ،‬والصوت األفصح‪،‬‬ ‫القمي���ن بهذا التغيير‬ ‫ُ‬ ‫المرتقب‪ ،‬والفجر المنتظر؟‬

‫فف���ي القاه���رة‪ ،‬عن���د الحرم المبارك لمدرس���ة "ص�ل�اح الدين"‬

‫ويوم سعيد؛ كرمت‬ ‫عرس بديع‪،‬‬ ‫الرائدة‪ )4(،‬كان لـ"مجلة حراء"‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫كبيرا على صفحات‬ ‫ال‪ ،‬وعا ِلما‬ ‫ال جب ً‬ ‫في���ه رج ً‬ ‫ً‬ ‫ش���هما‪ ،‬وعنوا ًن���ا ً‬ ‫العق���ل‬ ‫رج�ل�ا جم���ع إل���ى العل���م الرصي���ن‬ ‫األم���ة الناصع���ة‪...‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الخلق الحميد‪ ،‬ثم إنـه‬ ‫الحصيف‪ ،‬وأضاف إلى الفهم الس���ديد‬ ‫َ‬ ‫شد القلوب إليه قبل العقول‪ ،‬ولقد كان ‪-‬وا ِ‬ ‫رشدا‬ ‫هلل‪ -‬للعقول ُم ً‬ ‫َّ‬ ‫صدوحا‪.‬‬ ‫وللحق داعية‬ ‫نصوحا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫(‪)5‬‬

‫المتف���رغ‬ ‫إنـ���ه األس���تاذ المفك���ر الدكت���ور محم���د عم���ارة‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫للتفكير والتأليف لعدة سنوات‪ ،‬الناشر لما يقرب من ثالثمائة‬ ‫ٍ‬ ‫"وليد‬ ‫عنوان في مختلف الفنون‪ ...‬كلُّ عنوان ‪-‬حسب تعبيره‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫"مولود سعيد"‪.‬‬ ‫جديد"‪ ،‬وكلُّ كتاب‬ ‫ٌ‬

‫مناسب للسياق‬ ‫َّأما مناس���بة التكريم‪ ،‬فهي صدور كتاب له‬ ‫ٍ‬

‫متناغم مع الواقع والمأمول‪ ،‬يكفي أن يكون عنوانه‪:‬‬ ‫والظرف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫منشورا بعناية‪،‬‬ ‫"روح الحضارة اإلسالمية"‪ ،‬ثم يكفي أن يكون‬ ‫ً‬

‫ال في مجلة حراء لس���نوات متوالي���ة متتالية‪ ،‬وها هو‬ ‫ال مقا ً‬ ‫مق���ا ً‬

‫(‪)6‬‬ ‫ومغنى‪.‬‬ ‫مرب ًعا َ‬ ‫اليوم يكتمل مبنى ومعنى‪ ،‬ويهلُّ على الناس َ‬

‫(‪)7‬‬

‫غير منقوص‬ ‫ال ري���ب أن هذا التج���دد وذلكم التغيير‪ ،‬البد أن يكون "ذا وللشباب‬ ‫ٌ‬ ‫نصيب ُ‬

‫أبعاد قرآنية‪ ،‬وسجايا فطرية"‪ ،‬ال يكفر باألولى مهما ُف ِتن‪ ،‬وال‬ ‫امتحن‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يتنكر للثانية مهما ُ‬

‫(‪)3‬‬

‫(‪)8‬‬

‫عل���ى جان���ب الحدث الكبي���ر وف���ي ذات القاعة البديع���ة ُقبيل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وجامعات مصر العديدة‪،‬‬ ‫ساعات‪ ،‬كان لطلبة األزهر الشريف‬

‫به���ذه المعاني‬ ‫حطت‬ ‫الوضاء‪َّ ،‬‬ ‫الصداحة‪ ،‬وألجل هذا الغد َّ‬ ‫َّ‬

‫لقاء حميم‬ ‫من شتى بالد العالم اإلسالمي الفسيح‪ ...‬كان لهم ٌ‬

‫تن َّقلت خاللها ما بين القاهرة واإلس���كندرية‪ ،‬وزارت محافظة‬

‫األس���تاذ نوزاد ص���واش‪ ،‬وقد اختير له عنوا ًن���ا‪" :‬أجيال األمل‪،‬‬

‫"ح���راء المعن���ى" رحا َلها ألي���ام معدودات‪ ،‬عل���ى أرض مصر‪،‬‬ ‫ُ‬

‫"بن���ي س���ويف" على إثرهما‪ ،‬ذل���ك أن مفه���وم "المنطقة النائية‬ ‫المعزول���ة" قد ُنس���خ من قاموس "الخدم���ة" منذ أمد بعيد‪ ...‬إذ‬

‫قريب وال َغرو‪...‬‬ ‫بعيد والبد‪ ...‬وكلُّ خير‬ ‫شر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كلُّ ٍّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪56‬‬

‫وح���وار صري���م؛ أداره الدكت���ور محمد باباعمي بتنش���يط من‬ ‫(‪)9‬‬

‫والفجر الجديد‪ :‬محاورة صادقة مع األستاذ فتح اهلل كولن"‪.‬‬

‫كان فح���وى ه���ذه المداخلة المفتوح���ة أن "صالح الدين"‬

‫الرمز‪ ،‬و"صالح الدين" الجيل‪ ،‬حاورا األستاذ فتح اهلل كولن بال‬


‫أنشطة ثقافية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫حفل تكريم األستاذ الدكتور محمد عمارة‬

‫مصر‪ ..‬ومصير األمة المرتقب‬ ‫من جمال حمدان إلى فتح اهلل كولن‬ ‫األول‬ ‫هم���ا َع ْق���دان من الزم���ان‪ ،‬ما بين وف���اة َّ‬

‫ذمة‪" :‬إن ما تحتاجه‬ ‫ً‬ ‫ومبتدءا يلحقه الخبر‪ ،‬فقال ال خفر اهلل له َّ‬

‫"حمدان" لم يمت‪ ،‬وإنما غادر المكان بجسده‬

‫والـمثل‬ ‫تغيير‬ ‫ثانيا‪ ،‬أي‬ ‫أو ً‬ ‫ٌّ‬ ‫َّ‬ ‫جذري في العقلية ُ‬ ‫ال‪ ،‬وعلى نفسيتها ً‬ ‫ٌ‬

‫رأي‬ ‫لك���ن روحه‬ ‫اليوم ُترفرف على س���فوح الني���ل‪ ،‬وإ َّنا لنراها َ‬ ‫َ‬ ‫عين اليقين‪.‬‬ ‫العين ونتم َّلى جمالها وجاللها َ‬

‫ومصيره���ا‪ ...‬ثور ٌة في الش���خصية المصرية‪ ،‬وعلى الش���خصية‬

‫والح���ق أن‬ ‫ش���اهدا؛‬ ‫ش���هيدا‪ ،‬وزي���ارة الثان���ي‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫لي���س إال‪ ،‬والتحقيق أن "فت���ح اهلل" لم يطأ أرض مصر برجليه‪،‬‬

‫ولق���د كت���ب "جم���ال حمدان" في "ش���خصية مص���ر" وعن‬

‫ُّ‬ ‫يخ���ط كلمات���ه اآلن والس���اع َة‪ ،‬ال‬ ‫"ش���خصية مص���ر"‪ )1(،‬لكأ َّن���ه‬

‫المتن‪،‬‬ ‫لألم���ة يعقبه‬ ‫لـ"مص���ر البلد" وح���ده‪ ،‬بل‬ ‫ُ‬ ‫لـ"مصر" عنوا ًنا َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫أساس���ا إنما هو ث���ور ٌة نفس���ي ٌة‪ ،‬بمعنى ثورة على نفس���ها‬ ‫مص���ر‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها‬ ‫وأيديولوجي���ة الحياة‪ ،‬قبل ِّ‬ ‫المصري���ة‪ ...‬ذلك هو الش���رط المس���بق لتغيير ش���خصية مصر‬ ‫وكيان مصر ومستقبل مصر"‪.‬‬

‫ث���م إن "فت���ح اهلل كول���ن" وه���و يعال���ج "القضي���ة الكب���رى‬

‫ألمتن���ا"(‪ )2‬معالج َة الطبي���ب الماهر الفطن‪ ،‬يحرص على إظهار‬ ‫َّ‬

‫‪55‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫ومن أش���هر التلسكوبات الفضائية‪ ،‬تلسكوب "هابل" الذي‬

‫بقطر ‪100‬م‪ ،‬وبالتالي يكون من الممكن تصوير كواكب شبيهة‬

‫‪1990‬م بواسطة المكوك الفضائي دسكفري األمريكي‪ ،‬ويبلغ‬

‫أكث���ر‪ ،‬ودراس���ة غالفه���ا الجوي للكش���ف عن إمكاني���ة وجود‬

‫ينس���ب إل���ى العال���م الفلك���ي "أدوين هاب���ل"‪ .‬أطلق ف���ي أبريل‬

‫طول���ه ‪15.9‬م‪ ،‬عرض قطر مرآت���ه ‪4.2‬م‪ ،‬ووزنه ‪11.110‬كغ‪،‬‬

‫باألرض خارج المجموعة الشمس���ية تبعد ‪ 75‬س���نة ضوئية أو‬ ‫الحياة عليها‪ .‬وهذا التلس���كوب سيس���اعد في اكتش���اف نجوم‬

‫قريبا ترميم‬ ‫والعم���ر االفتراض���ي ل���ه ‪ً 20‬‬ ‫عاما‪ ،‬وق���د أجري ل���ه ً‬

‫تبع���د أكثر من ‪ 12‬بليون س���نة ضوئي���ة‪ ،‬ومراقبة والدة مجرات‬

‫بطاق���ة مقداره���ا ‪2400‬واط‪ُ ،‬يت���م دورة كامل���ة ح���ول األرض‬

‫أبواب للمعرفة عندما يتحقق هذا الحلم‪.‬‬

‫بواسطة المكوك األميركي أتالنتيس‪ ،‬ويعمل بالطاقة الشمسية‬

‫تبعد حوالي ‪ 10‬باليين س���نة ضوئية‪ .‬وكم س���تفتح للبشرية من‬

‫في ‪ 97‬دقيقة‪ ،‬وس���رعته ‪28000‬كم في الس���اعة‪ ،‬ويدور على ألسالفنـا دور‬ ‫ارتف���اع ‪569‬ك���م ف���وق س���طح األرض‪ ،‬ينتج م���ن ‪ 10‬إلى ‪15‬‬

‫غيغ���ا باي���ت من الصور والبيانات العلمي���ة كل يوم‪ ،‬وقد التقط‬

‫���حب ضخم���ة من الغاز‬ ‫لس ُ‬ ‫أكث���ر م���ن ‪ 700‬ألف صورة خالبة ُ‬ ‫المض���يء ومجموع���ة متنوع���ة من المج���رات واألجس���ام غير‬

‫المألوف���ة‪ ،‬ول���والدة النجوم وموتها‪ .‬وق���د كان له أثر كبير على‬ ‫أفكارنا ونظرتنا إلى الكون‪ ،‬خاصة بعد اكتش���اف "هابل" ‪-‬بعد‬ ‫مراقبته للمجرات قرابة نصف قرن‪ -‬تم اكتشاف أن المجرات‬ ‫تتباعد عن بعضها البعض‪ ،‬وهذا ما يعني أن الكون في تمدد‪.‬‬

‫وإثبات تمدد الكون ليس باألمر السهل‪ ،‬ولكن مع األيام تبنى‬ ‫ُ‬ ‫جزءا من الحقائق‬ ‫أكثر العلماء هذا االكتش���اف‪ ،‬وأصب���ح اآلن ً‬

‫العلمية‪ .‬وهذا الكش���ف أدى إلى تبين نظرية االنفجار العظيم‪،‬‬

‫التي يعكف علماء العصر الحديث على دراس���تها‪ .‬وكل ذلك‬ ‫أدى إلى تغير النظرة إلى الكون من كون ساكن أبدي إلى كون‬

‫ب���دأ خلق���ه من زمن بعي���د‪ .‬وهذا ما أخبرنا ب���ه اهلل ‪ ‬في قوله‬ ‫اها ِب َأ ْي ٍد َو ِإ َّنا َلم ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪.)47:‬‬ ‫وس ُع َ‬ ‫الس َم َاء َب َن ْي َن َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬ ‫ُ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫وهناك تلس���كوبات أخرى أطلقتها كل من روسيا وأوروبا‬ ‫الن" العمالق‪،‬‬ ‫ال بناء تلسكوب "ماجـ ِ ّ‬ ‫واليابان‪ ،‬كما سيتم مستقب ً‬ ‫وهو تلس���كوب أرضي س���وف يتم االنتهاء من إنش���ائه في عام‬ ‫‪2018‬م‪ .‬وه���و يتكون من س���بع قطاعات رئيس���ية بقطر ‪8.4‬م‬

‫(‪27.6‬ق) بدقة تصوير مرآة رئيسية قطرها ‪24.5‬م (‪80.4‬ق)‪،‬‬ ‫وإجمالي مس���احة س���طحها ‪21.4‬م (‪ 70.2‬ق)‪ .‬ومن المتوقع‬

‫أن تصل قدرة التلسكوب الجديد‪ ،‬أربع أضعاف التلسكوبات‬ ‫حاليا‪ ،‬يعمل على إعداد‬ ‫القائمة ًّ‬ ‫حاليا‪ .‬وفي وكالة الفضاء ناسا ًّ‬ ‫وتجهيز منظ���ار "جيمس ويب" الفضائي العمالق إلطالقه في‬

‫‪2013‬م‪ ،‬ليج���ري متابع���ة واختب���ارات للك���ون المحيط بنا من‬

‫وراء القمر‪.‬‬

‫وم���ع تقدم العلم‪ ،‬راح يحلم كل فلكي بتكوين تلس���كوب‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪54‬‬

‫نموا في الحضارة اإلسالمية وباألخص‬ ‫ش���هد العصر العباسي ًّ‬ ‫تط���ور عل���م الفل���ك‪ .‬فإب���ان ه���ذا العص���ر‪ ،‬تم إنش���اء ع���دد من‬

‫المراصد األرضية في دمشق ومصر وسمرقند‪ ،‬كما طور علماء‬ ‫المس���لمين أداة "األس���طرالب"؛ وه���ي آلة دقيق���ة تصور عليها‬ ‫حركة النجوم في الس���ماء حول القطب الس���ماوي‪ .‬وتستخدم‬ ‫ه���ذه اآلل���ة لحل مش���كالت فلكية عدي���دة‪ ،‬كما تس���تخدم في‬

‫المالح���ة وف���ي مج���االت المس���احة‪ .‬وتس���تخدم ‪-‬إضافة إلى‬

‫ونهارا‪ .‬وق���د اهتم بها‬ ‫لي�ل�ا‬ ‫ذل���ك‪ -‬ف���ي تحديد الوق���ت بدقة‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫كبيرا‪ ،‬واس���تخدموها ف���ي تحديد مواقيت‬ ‫المس���لمون‬ ‫ً‬ ‫اهتماما ً‬ ‫الصالة‪ ،‬كما استخدموها في تحديد مواعيد فصول السنة‪.‬‬

‫ووجه األس���طرالب يحتوي على خريطة القبة الس���ماوية‪،‬‬

‫كم���ا يحت���وي على أداة تش���ير إل���ى الج���زء المنظور م���ن القبة‬

‫الس���ماوية في وقت معين‪ .‬وقد رس���مت القب���ة المنظورة على‬ ‫وج���ه األس���طرالب المس���طح بطريق���ة حس���ابية دقيق���ة‪ ،‬وه���ي‬ ‫الطريقة ذاتها التي اس���تخدمت في رس���م خريطة العالم (الكرة‬

‫األرضية) على مس���احة مسطحة‪ .‬وهذه الطريقة تسمح بتحول‬

‫الدوائر من أش���كال ُكروية إلى أش���كال مسطحة دون أي تغيير‬ ‫للقيمة الحقيقية للزاوية‪ ،‬التي ترس���م بين خطين على الش���كل‬ ‫الك���روي‪ .‬وقد اش���تهر بصناعة األس���طرالبات‪ ،‬علماء فلكيون‬

‫كثي���رون‪ ،‬منه���م‪ :‬حام���د ب���ن محم���د األصفهان���ي‪ ،‬وأحمد بن‬ ‫حسين بن باسو‪ ،‬وأبو حامد أحمد بن محمد الصاغاني‪ .‬وكل‬ ‫م���ا ت���م ذكره ي���دل على أن عل���م الفلك‪ ،‬تمتع بمكان���ة مرموقة‬

‫بي���ن العلوم األخرى‪ ،‬وح���از اهتمام اإلنس���ان ‪-‬وما يزال‪ -‬في‬ ‫مختلف العصور واألزمان بشكل كبير‪.‬‬

‫(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل ‪ /‬السودان‪.‬‬


‫التلسكوبات‬

‫عيون على السماء‬

‫إن ع���ام ‪2009‬م‪ ،‬س���نة فلكية تعيد لنا ذكرى ‪ 400‬س���نة من���ذ أن وجه "جاليليو" منظاره‬

‫إل���ى الس���ماء‪ ،‬والت���ي أحدثت ثورة علمية ف���ي الفلك ال نزال نعي���ش آثارها حتى يومنا‬

‫ه���ذا‪ .‬فقد عرف اإلنس���ان منذ القدم ‪-‬بحب���ه لمعرفة ما حوله رغم اختالف الدوافع في‬

‫ذلك‪ -‬دافع المعرفة وتسخيرها لخدمة البشرية‪ ،‬أو دوافع حب جمال األجرام السماوية في قبة السماء‪.‬‬

‫ولكن "جاليليو" أحد مؤسس���ي علم الفلك الحديث والذي أهدى إلى البش���رية ما يتس���ع للخيال‪،‬‬

‫كان أسير اإلقامة الجبرية في منزله لمعارضته أفكار الكنيسة وقتذاك؛ في أن الشمس هي مركز الكون‬ ‫ولي���س األرض‪ ،‬وأن األرض ت���دور ح���ول الش���مس‪ ،‬وهذا قب���ل أن يصاب ‪-‬بعد ذل���ك‪ -‬بالعمى رغم‬

‫أنه أول من ش���اهد الجبال والفوهات على س���طح القمر‪ ،‬وأول من اكتش���ف أربعة من أقمار المش���تري‬

‫وعددا من النجوم التي ال ترى بالعين المجردة‪ .‬وقد قال "جاليليو" واص ًفا حالته تلك‪" :‬إن هذا الكون‬ ‫ً‬ ‫وهذه األرض وهذه السماء التي كبرت أبعادها مئات ألوف المرات‪ ،‬أكثر مما اعتقده حكماء العصور‬

‫مقصورا ‪-‬بالنس���بة لي‪ -‬على الفضاء‬ ‫الس���ابقة‪ ،‬بفضل اكتش���افاتي العجيبة وبراهيني الواضحة‪ ،‬قد بات‬ ‫ً‬ ‫الصغير الذي تملؤه حواسي الجسيمة"‪.‬‬

‫ولد جاليليو في "بيزا" اإليطالية عام ‪1564‬م‪ ،‬قام خالل حياته بأعمال علميه قيمة حتى وفاته عام ‪1682‬م‪.‬‬

‫ومن هذه االنطالقة بدأ تس���ابق العلماء في اكتش���اف الطرق التي يس���تطيعون من خاللها سبر أغوار‬

‫الك���ون‪ ،‬فتع���ددت أس���اليب الرصد وطرق استكش���اف الفض���اء؛ فهناك المراص���د المرئي���ة والراديوية‪،‬‬

‫والمراص���د باألش���عة المتعددة في الطيف الكهرومغناطيس���ي‪ ،‬باإلضافة إل���ى مراصد فضائية تنطلق في‬

‫الفضاء الخارجي الستكشاف األجرام الدقيقة في الفضاء الفسيح‪.‬‬

‫التلسكوبات الفلكية‬

‫ج���اءت الحاج���ة إلى التلس���كوبات‪ ،‬لتلبي رغبة اإلنس���ان في تطلعه للكمال واكتش���اف أس���رار الكون‪.‬‬ ‫فمن المعلوم أنه ال يمكن لقزحية العين أن تتسع أكثر من ‪ 8‬مم‪ ،‬وبالتالي ال يستطيع اإلنسان أن يرى‬

‫األجرام الس���ماوية البعيدة أو يرى بعضها بضوء خافت‪ ،‬لذلك تتطلب التلس���كوبات الفلكية أن تكون‬ ‫ذات قدرة عالية لتجميع الضوء‪ ،‬ومن ثم أن تكون بأقطار كبيرة‪ .‬فالتلسكوب الذي قطر مرآته ‪ 78‬مم‪،‬‬

‫قدرا من الضوء يزيد ‪ 100‬مرة عن القدر الذي تس���تطيع العين البش���رية أن تجمعه‪.‬‬ ‫يس���تطيع أن يجمع ً‬

‫وبالتالي يستطيع هذا التلسكوب أن يقوم برصد النجوم التي يقل ضوؤها ‪ 100‬مرة عن ضوء أضعف‬

‫النج���وم والت���ي يمك���ن أن تراها العين البش���رية‪ .‬ويبلغ قطر التلس���كوب الموجود ف���ي "مونت بالومار"‬

‫بوالية كاليفورنيا األمريكية خمس���ة أمتار‪ ،‬ويس���تطيع هذا التلس���كوب تجميع ما يزيد على عدة ماليين‬ ‫من المرات على ما تستطيع العين البشرية تجميعه‪.‬‬

‫وقد تم تصنيف التلسكوبات إلى نوعين وف ًقا لطريقة تجميعها للضوء الصادر من األجرام السماوية؛‬

‫شيوعا اآلن‪ ،‬والتلسكوب االنكساري صاحب‬ ‫فتم تصنيفها إلى التلسكوب العاكس وهو النوع األكثر‬ ‫ً‬ ‫التكلفة العالية‪ ،‬كما هناك تلسكوبات أرضية وأخرى فضائية‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫علوم‬

‫محمد هاشم البشير*‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪52‬‬


‫شعر‬

‫ليلى السبيعي*‬

‫جمال الفكر‬ ‫جمال الفكر لدينا‬ ‫يسمو بالروح حينا‪،‬‬ ‫ونقاء القلب في طهر‬ ‫من نور اهلل فينا‪...‬‬ ‫نحن اللذينا‪،‬‬ ‫آمنا برب العالمينا‪،‬‬ ‫والتقينا على درب الهدى‬ ‫ننثر الخير والتقى‪،‬‬ ‫وبرا‪،‬‬ ‫ننثر‬ ‫ً‬ ‫صالحا ّ‬ ‫وبشرا ورياحينا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫من نور اهلل فينا‪...‬‬ ‫يشرق القلب يقينا‪،‬‬ ‫فتسمو الحياة‪،‬‬ ‫ويحلو الثبات‪،‬‬ ‫على هدى‬ ‫خير المرسلين‪...‬‬ ‫نحن الهدى‪،‬‬ ‫خط مساره فينا‪...‬‬

‫وقلنا للدنيا الدنية‪،‬‬ ‫بمفاتنها وهواها‪:‬‬ ‫نحن جيل يوسف‬ ‫شباب استعصم‬ ‫بالصالح عرفنا‪،‬‬ ‫غرفنا من التقوى‬ ‫حتى ما عاد للشيطان‬ ‫نصيب فينا‪...‬‬ ‫نمأل األرض إيمانًا‪،‬‬ ‫نملؤها يقينًا‪،‬‬ ‫نحب في اهلل فالحب‬ ‫شيمة كل المسلمينا‪...‬‬ ‫منكرا‪،‬‬ ‫ال نرتضي ً‬ ‫وال نحمل ضغينًا‪،‬‬ ‫نكد ونعمل في جهد واجتهاد‪،‬‬ ‫ونحن موقنينا‬ ‫أن اهلل هو خير الرازقينا‪...‬‬ ‫(*) كاتبة وأديبة مغربية‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫خاتمة في المقترحات‬

‫خدمة لما نحن فيه‪ ،‬سبعة‪:‬‬ ‫وأحسب أن أهمها ْ‬ ‫يخ���زن فيه كل ما‬ ‫‪ -1‬إنش���اء "بنك األم���ة" للمعلومات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعض���ا‪ ،‬ف���ي الداخ���ل والخ���ارج‪ ،‬ذا ًتا‬ ‫يتعل���ق باألم���ة ُك ًّ‬ ‫ال أو ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫وظر ًفا ومجا ً‬ ‫‪ -2‬إنشاء "مركز األمة" للتوثيق‪ ،‬يخصص لجمع الوثائق‬ ‫ال‪.‬‬ ‫عن األمة وتصنيفها وتيسيرها للباحثين‪ ،‬ذا ًتا وظر ًفا ومجا ً‬ ‫‪ -3‬إنش���اء "مكت���ب األم���ة" للتنس���يق‪ ،‬يخص���ص لرب���ط‬ ‫أف���رادا‬ ‫العالق���ات بي���ن الباحثي���ن والمهتمي���ن بواق���ع األم���ة‬ ‫ً‬ ‫ومؤسس���ات‪ ،‬وتنس���يق جهودهم‪ ،‬ودفعهم إلى التكامل فيما‬ ‫بينهم في خططهم ومشاريعهم وإنجازاتهم‪.‬‬ ‫‪ -4‬إنش���اء "مجم���ع األمة" الفقهي‪ ،‬يخص���ص للنظر في‬ ‫"فقه واقع األمة"‪ ،‬وما يلزم للتمكن منه واالنتفاع به‪.‬‬ ‫ويكون‬ ‫ّ‬ ‫من أئمة األمة في فقه الدين وفقه الواقع وفقه التنزيل‪.‬‬ ‫‪ -5‬إنش���اء مجل���ة "لس���ان األم���ة"‪ ،‬تخص���ص للبح���وث‬ ‫العلمية المنهجية المتخصصة في فقه واقع األمة‪.‬‬ ‫‪ -6‬إنش���اء "دار األمة"‪ ،‬تخصص لنش���ر البحوث القيمة‬ ‫المتعلقة بفقه واقع األمة‪.‬‬ ‫‪ -7‬إنش���اء "جائزة األم���ة"‪ ،‬تخصص ألكثر الناس خدمة‬ ‫نفعا في فقه واقع األمة‪.‬‬ ‫لألمة‪ ،‬وأكثر البحوث ً‬ ‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬مف���ردات ألف���اظ الق���رآن‪ ،‬للراغ���ب األصفهاني‪ ،‬تحقيق صف���وان عدنان‬ ‫داوودي‪ ،‬ط‪1412 ،1‬هـ‪1992 -‬م‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمش���ق‪ ،‬والدار الس���امية‪،‬‬ ‫بيروت‪.‬‬ ‫(‪ )2‬تفسير المنار‪ ،‬لمحمد رشيد رضا‪ ،‬ط‪1999 ،1‬م‪ ،‬منشورات دار الكتب‬ ‫العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫(‪ )3‬نحو منهج لدراسة مفاهيم األلفاظ القرآنية‪ ،‬بحث قدم في ندوة "القرآن‬ ‫المجي���د وخطاب���ه العالمي"‪ ،‬كلية اآلداب بأكادي���ر بالمغرب‪ ،‬بتعاون مع‬ ‫المعه���د العالم���ي للفكر اإلس�ل�امي‪ ،‬ف���ي تاري���خ ‪1418/1/19-14‬هـ‪،‬‬ ‫الموافق ‪1997/5/26-21‬م‪.‬‬ ‫(‪ )4‬البح���ث العلم���ي ف���ي الت���راث ومعضل���ة الن���ص‪ ،‬عرض ألقي ف���ي ندوة‬ ‫"تحقي���ق الت���راث المغربي األندلس���ي‪ :‬حصيلة وآف���اق"‪ ،‬المنظمة بكلية‬ ‫تكريما لألستاذ محمد بن شريفة‪ ،‬في تاريخ ‪11-10-9‬‬ ‫اآلداب بوجدة‬ ‫ً‬ ‫نوفمبر ‪.1995‬‬ ‫(‪ )5‬نظرات في المصطلح والمنهج للشاهد البوشيخي‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬فاس‪.‬‬ ‫(‪ )6‬مش���كلة المنه���ج في دراس���ة مصطلح النقد العرب���ي القديم‪ ،‬ضمن ندوة‬ ‫"المصطلح النقدي وعالقته بمختلف العلوم"‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪50‬‬

‫بشائر عالم جديد‬ ‫َ�ن َق َف الولي ُد ِقشر الوجود‪،‬‬ ‫وجناحيه على ُّ‬ ‫الدنيا نشر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ال وارتفع‪...‬‬ ‫ثُ َّم ع َ‬ ‫ِّ‬ ‫بشرى نب ٍّـي‪،‬‬ ‫مصدقًا َ‬ ‫وصالح وولِ ّي‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫***‬


‫كثيرا م���ن األموال واألوقات والطاقات‬ ‫العناي���ة والرعاية‪ ،‬وأن ً‬

‫المقدمات‪ ،‬فإن المنهجية تحل إش���كال ضبط المراحل لضبط‬

‫ف���إن البح���ث العلم���ي ال ينبغي أن يكون من ذل���ك بحال‪ ،‬ألنه‬

‫األعمال إلى اهلل أدومها وإن قل‪.‬‬

‫تضي���ع بس���بب فس���اد المنهج‪ .‬وإذا ج���از الترخص في ش���يء‪،‬‬

‫بمثابة القلب من جسد األمة‪ ،‬إذا صلح صلح الجسد كله وإذا‬ ‫دائما بخير م���ا دام فيها بعث‬ ‫فس���د فس���د الجس���د كله‪ .‬واألم���ة ً‬ ‫علم���ي ح ًّقا‪ ،‬ينير ويش���ق لها الطريق‪ ،‬ويحق���ق ويؤكد لها ذاتها‬

‫ال‪ .‬وبغير المنهج القويم ال‬ ‫ماضيا‬ ‫التاريخية‪،‬‬ ‫وحاضرا ومس���تقب ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يمكن أن يستقيم للبحث العلمي سير‪.‬‬

‫األولويات‪ ،‬ومن أصول المنهج الصبر وانتظار الفرج‪ ،‬وأحب‬ ‫‪-3‬غياب التكاملي�������ة‪ :‬التكاملية مصدر صناع���ي كالعلمية‬

‫والمنهجي���ة‪ .‬والمقص���ود به���ا أن يك���ون وض���ع الباحثين وهم‬

‫مؤس ًس���ا عل���ى أن‬ ‫يبحث���ون‪ ،‬والمش���تغلين وه���م يش���تغلون‪َّ ،‬‬ ‫أفرادا كانوا‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫أفقيا‬‫جهوده���م‬ ‫وعموديا‪ -‬يكمل بعضه���ا ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫أم مجموع���ات‪ ،‬ومراك���ز كانوا أم منظم���ات‪ ،‬ومجامع كانوا أم‬

‫إن الح���ال العلمية عندنا‪ ،‬تش���كو م���ن عديد من األمراض‪،‬‬

‫جامع���ات… وهذه التي بحضورها يحضر خير كثير‪ ،‬وبغيابها‬

‫والجم���ع بدل البح���ث‪ ،‬واالرتجال ب���دل التخطي���ط‪ ،‬والفردية‬

‫فإن لم يكن التأسيس السابق فليكن التنسيق الالحق‪ ،‬وإن‬

‫منه���ا التكدي���س ب���دل البن���اء‪ ،‬واالس���تهالك ب���دل التصدي���ر‪،‬‬

‫بدل الجماعية‪ ،‬والتس���رع بدل التأن���ي‪ ،‬والتعميم بدل التدقيق‪،‬‬

‫والفوض���ى في عدد من المج���االت بدل الضبط‪ ...‬ومرد ذلك‬ ‫كله ‪-‬عند التأمل‪ -‬إلى فساد المنهج‪.‬‬

‫فهل ستولى هذه المسألة حظها من االهتمام؛ فنفكر ‪-‬قبل‬

‫الس���ير‪ -‬في الهدف من الس���ير‪ ،‬ومراحل السير‪ ،‬وكيفية السير؟‬

‫أم سنظل سائرين وكفى؟ وحسبنا أننا نسير"‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬مش���كلة المنهج هي مش���كلة أمتن���ا األولى‪ ،‬ولن يتم‬

‫إقالعن���ا العلم���ي وال الحض���اري إال بعد االهت���داء في المنهج‬

‫إلى التي هي أقوم‪.‬‬

‫ينفتح باب للتبذير كبير‪.‬‬

‫لم يكن التنسيق في كل فليكن التنسيق في بعض‪ ،‬وإن لم يكن‬ ‫التنس���يق الدائ���م فليكن التنس���يق المؤقت‪ ...‬لك���ن أن ال يكون‬ ‫���رر ما فعلت‬ ‫تنس���يق ق���ط‪ ،‬وتقع الحواف���ر على الحواف���ر‪ ،‬و ُت َك ِّ‬ ‫األواخر‪ ،‬ويش���تغل بالموضوع الواحد عش���رات‪ ،‬وال‬ ‫األوائ���ل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يش���تغل أي واحد بعشرات المواضيع أو مئات‪ ...‬فذلك منكر‬

‫ف���ي الدين والعلم والمنهج ُك َّب���ار‪ ،‬يجب على الواقع فيه التوبة‬ ‫منه‪ ،‬وعلى رائيه التغيير بحسب االستطاعة له‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬إن غياب "العلمية" أو ضعفها‪ ،‬عائق من أكبر العوائق‪،‬‬

‫وغي���اب "المنهجية" أو ضعفه���ا كذلك عائق من أكبر العوائق‪،‬‬

‫ومن ذلك االهتداء‪ ،‬أن ال نقدم ما حقه التأخير‪ ،‬وال نؤخر‬

‫ولك���ن غي���اب التكاملي���ة أو ضعفه���ا ليس فقط عائ ًق���ا من أكبر‬

‫ومن ذلك االهتداء‪ ،‬أن ال نقدم فقه الواقع على فقه الدين‪،‬‬

‫ضربا من "الش���ورى" في الطريق‪،‬‬ ‫ذلك بأن التنس���يق يمثل‬ ‫ً‬

‫وم���ن ذل���ك االهت���داء‪ ،‬أن ال نش���تغل ب���درس الن���ص قب���ل‬

‫لألقل‪ ،‬بحكم الرفقة العادية في الطريق‪ ،‬والتالقي المتكرر في‬

‫وم���ن ذلك االهت���داء‪ ،‬أن ال نقدم الدراس���ة التاريخية على‬

‫ثمارا س���تكون في‬ ‫متكاملة‪ -‬كفيل أن يثمر في نابتة األمة اليوم ً‬

‫وم���ن ذلك االهتداء‪ ،‬أن ال نش���تغل باألحكام عن ِ‬ ‫الحكم‪،‬‬

‫إلى االهتداء للتي هي أقوم‪ ،‬ومن الكالم عن العلم إلى الكالم‬

‫كثيرا من المفس���دات‬ ‫ع���ن الفرائض‪ ...‬إلى غير ذلك مما يدرأ ً‬

‫الجماعي المنس���ق المتكامل‪ ،‬وم���ن المواجهة االنفعالية اآلنية‬

‫ما حقه التقديم‪.‬‬

‫لتوقف الفقه األول على الفقه الثاني‪.‬‬ ‫اإلعداد العلمي للنص‪.‬‬ ‫الدراسة الوصفية‪.‬‬

‫وبالقواعد عن المقاصد‪ ،‬وبالس���طوح عن األعماق‪ ،‬وبالنوافل‬ ‫كثي���را من الموازنات بين الثوابت‬ ‫لس���لم األولويات‪ ،‬ويصحح‬ ‫ً‬ ‫والمتغيرات‪.‬‬

‫وأم العوائق‪.‬‬ ‫العوائق‪ ،‬بل هو رأس العوائق ّ‬

‫آليا تصحيح األعلم للعالم‪ ،‬وترش���يد األكثر منهجية‬ ‫فينتج عنه ًّ‬ ‫التنسيق‪" .‬والجهد إذا أحسن صرفه ‪-‬وفق خطة علمية منهجية‬

‫ثمارا تخرجها من الحيرة واالضطراب المنهجي‬ ‫غاية النضج‪ً ،‬‬ ‫مؤسسيا‪ -‬إلى السير‬ ‫فرديا كان أو‬‫بعلم‪ ،‬ومن السير الفرداني‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫الت���ي ال ينقصها حس���ن الظن‪ -‬إلى التوجهات اإلس���تراتيجية‬‫الش���املة الت���ي ال يش���وبها ‪-‬وإن بع���دت الش���قة‪ -‬س���وء الظن‪.‬‬

‫غدا‪ ،‬إال بعد االهتداء‬ ‫وال سبيل إلى فقه واقع األمة اليوم أو ً‬

‫المعول‪ :‬أن يؤثروا‬ ‫وعلى الناش���ئة من الباحثين بع���د اهلل تعالى‬ ‫َّ‬

‫وإذا كان���ت العلمي���ة تح���ل إش���كال صح���ة النتائ���ج لصحة‬

‫محتسبين"‪.‬‬

‫في المنهج للتي هي أقوم‪.‬‬

‫اآلجلة على العاجلة‪ ،‬ويس���لكوا الطريق على وعورته صابرين‬

‫‪49‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫المنطلقات‪ ،‬وصحة المقدمات‪ ،‬ومن ثم صحة النتائج"‪.‬‬

‫أي درس‪ -‬ينطلق من النص بمفهومه‬‫ذل���ك بأن ال���درس ّ‬

‫الع���ام للن���ص‪ ،‬أي من الم���ادة الخام التي يق���وم عليها البحث‪،‬‬

‫شترط فيها‪:‬‬ ‫وهذه ُي َ‬

‫وللمحدثي���ن في هذا‬ ‫أ‪ -‬الصح���ة‪ ،‬وإال انه���ار البن���اء كل���ه‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وم���ن حذا حذوهم قصب الس���بق‪ .‬وف���ي اإلعالم اليوم‬ ‫الب���اب َ‬

‫وه���و المصدر األول للمعلومات‪ ،‬فس���اد كبير واختالل عظيم‬

‫ال يسلم من شر سلطانه إال الراسخون في العلم‪.‬‬

‫تحقيق الهدف موجب‪.‬‬

‫ه���ذه المعالم الكب���رى للعلمية في الن���ص والدرس‪ ،‬غائبة‬

‫أو كالغائب���ة ف���ي معظ���م م���ا خبرته من دراس���ات ف���ي مختلف‬

‫المجاالت‪.‬‬

‫وال حل ش���امل قبل حل "معضلة النص"‪ ،‬وال حل س���ليم‬

‫قب���ل ح���ل "معضل���ة ق���راءة الن���ص"‪ ،‬وال حل حاس���م قبل حل‬

‫"معضلة المنهج"‪.‬‬

‫والخط���ر كل الخطر‪ ،‬أن يس���تمر البح���ث أو يقدم عليه من‬

‫ب���ـ‪ -‬الكفاية‪ ،‬وإال تعذرت األح���كام كلها أو بعضها‪ ،‬وكان‬

‫جديد في واقع األمة لفقهه‪ ،‬في غيبة مثل هذه المعالم‪.‬‬

‫أي ن���ص‪ -‬بالمفه���وم الع���ام للن���ص‪ ،‬ال‬‫ث���م إن الن���ص ّ‬

‫فيس���تمر تبذير األموال واألوقات والطاقات‪ ،‬وما أحوج األمة‬

‫األنس���ب للنص‪ .‬وتتنوع المناهج لتن���وع النصوص والمناهج‪،‬‬

‫‪-2‬ضعف المنهجية‪ :‬منذ س���ت عش���رة سنة خلت‪ُ ،‬رفع ما‬

‫النقصان في النتائج بقدر النقصان في المعطيات‪.‬‬

‫يس���تخرج من���ه ما فيه إال بع���د الدرس‪ ،‬وفق منه���ج خاص هو‬

‫جميعا تقوم على‪:‬‬ ‫ولكن علميتها‬ ‫ً‬

‫والخ���وف كل الخ���وف أن ال تح���دث توب���ة علمية نصوح‬

‫إلى أي قدر من األموال واألوقات والطاقات!‬

‫يمك���ن تس���ميته بـ"نداء المنه���ج"‪ ،‬وألن زمن األمة ش���به واقف‬

‫• إخض���اع المادة المحكوم عليها كلها للدرس‪ ،‬للس�ل�امة‬

‫وفي آذانها َو ْق ًرا أو شبه َو ْقر‪ ،‬فإن النداء ما زال بحاجة إلى أن‬

‫كافي���ا يس���مح ب���اإلدراك‬ ‫• تحلي���ل تل���ك الم���ادة تحلي�ل� ً‬ ‫ا ً‬

‫"مشكلة المنهج هي مشكلة أمتنا األولى‪ ،‬ولن يتم إقالعنا‬

‫من البحث‪ .‬ومعلوم أن ذلك يتطلب أدوات وأدوات‪ ،‬حس���ب‬

‫أق���وم‪ ،‬وبمقدار تفقهنا في المنهج ورش���دنا فيه يكون مس���توى‬

‫من آفات التعميم‪.‬‬

‫التفصيل���ي للجزئي���ات والعناصر المكونة لها بحس���ب الهدف‬ ‫طبيع���ة الم���ادة ونوع اله���دف‪ ،‬بدونها يتعذر النف���وذ إلى خاليا‬

‫المادة الستخالص المراد‪.‬‬

‫وم���ا ل���م يتم ذلك فس���تظل الم���ادة المبحوثة‪ ،‬ف���ي الظرف‬

‫نفسه‪ ،‬بحاجة إلى بحث‪.‬‬

‫عاليا‪ ،‬وذلكم هو‪:‬‬ ‫يرفع ً‬

‫العلم���ي وال الحضاري‪ ،‬إال بعد االهتداء في المنهج للتي هي‬ ‫ال في‬ ‫كم���ا وكي ًفا‪ .‬وألمر ما ألزم اهلل ‪ ‬اإلنس���ان ممث ً‬ ‫انطالقن���ا ًّ‬ ‫اط‬ ‫الص َر َ‬ ‫المسلم بهذا الدعاء‪ ،‬سبع عشرة مرة في اليوم‪ِ ﴿ :‬ا ْه ِد َنا ِّ‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(الفاتحة‪.)6:‬‬ ‫ا ْل ُم ْس َتق َ‬ ‫إن حرصنا على اس���تقامة المنهج في كل ش���يء‪ ،‬ينبغي أن‬

‫• إلق���اء األس���ئلة المحتمل���ة على كل الظواهر التي كش���ف‬

‫يك���ون ف���وق كل ح���رص‪ ،‬وإن المجهود ال���ذي نبذله من أجل‬

‫لم���اذا كان ه���ذا هك���ذا؟ وذل���ك لتحصي���ل الفق���ه التعليلي بعد‬

‫‪-‬كم���ا هو معلوم‪ -‬لي���س هو القناطير المقنطرة من المعلومات‬

‫عنه���ا التحلي���ل ومحاول���ة اإلجاب���ة عنه���ا‪ ،‬والس���يما الس���ؤال‪:‬‬

‫العل���م التفصيل���ي‪ ،‬والتمهيد للتركيب االبت���كاري بعد التحليل‬

‫المختبري‪.‬‬

‫وه���ذه الخطوة في ال���درس‪ ،‬هي مناط فقه النص‪ ،‬وبدونها‬

‫يقال للباحث‪ :‬اذهب بسالم‪ ،‬فليس معك حتى اآلن كالم‪.‬‬

‫تقوي���م المنهج‪ ،‬ينبغي أن يكون أكبر من كل مجهود‪ ،‬إذ العلم‬ ‫يتم تكديس���ها وخزنها في أدمغة بني آدم‪ ،‬وإنما هو صفة تقوم‬

‫قادرا‬ ‫بالشخص نتيجة منهج معين في التعلم والتعليم‪ ،‬تجعله ً‬ ‫عل���ى عل���م م���ا ل���م يعل���م‪ .‬والعا ِلم ليس ه���و ال���ذي يحمل في‬

‫رأس���ه خزائن ومكتب���ات‪ ،‬ولكنه الذي يع���رف كيف يوظف ما‬

‫• تجمي���ع م���ا نجح في االختبار من نتائج جزئية‪ ،‬وما صح‬

‫في رأس���ه وما في الخزائن والمكتبات‪ ،‬من أجل إضافة بعض‬

‫البحث والهدف منه في قضايا كلية‪ ،‬ثم بناء النس���ق العام منها‬

‫ح ًّقا إنه البد من االستيعاب أوال ‪-‬وهو جزء من المنهج‪-‬‬

‫في���ه بغي���ر دليل‪ ،‬وال حك���م بدون حجة‪ ،‬وال ذك���ر وال حذف‪،‬‬

‫والناظ���ر ف���ي أح���وال األمة عام���ة‪ ،‬والح���ال العلمي���ة منها‬

‫تبعا إلش���كال‬ ‫من إجابات وثبت من فروض أولية‪ ،‬ثم تركيبها ً‬

‫منطقيا ال دعوى‬ ‫الذي هو حل اإلش���كال وفصل المق���ال‪ ،‬بناء‬ ‫ًّ‬ ‫وال إيجاز وال إطناب‪ ،‬إال وله في حل اإلش���كال نصيب ومن‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪48‬‬

‫اإلضافات‪.‬‬

‫ولكن المهم هو ما بعد ذلك من تحليل وتعليل وتركيب‪.‬‬

‫لما تع���ط حظها من‬ ‫خاص���ة‪ ،‬يلح���ظ بيس���ر أن مس���ألة المنه���ج ّ‬


‫ِ َ‬ ‫���اس‬ ‫ي���ز َ‬ ‫���اب َوا ْل ِم َ‬ ‫���وم َّ‬ ‫���م ا ْل ِك َت َ‬ ‫ان ِل َي ُق َ‬ ‫الن ُ‬ ‫بِا ْل َب ِّي َن���ات َوأ ْن َز ْل َن���ا َم َع ُه ُ‬ ‫بِا ْل ِقس ِ‬ ‫���ط﴾(الحديد‪ُ ،)25:‬م ْن َز ٌل كالكتاب مع الكتاب لضبط األمور‬ ‫ْ‬

‫ووزنها بالقسطاس المستقيم؛ إذ البد لقياس كل شيء من ميزان‪،‬‬

‫والب���د لقي���اس أي حق أنه حق‪ ،‬من مي���زان للحق هو الميزان‪،‬‬

‫وج َّل ْته الس���نة البيان‪ ,‬ولم ُيقبض‬ ‫وذلك الذي أنزل مع القرآن‪َ ،‬‬ ‫رس���ول اهلل ‪ ‬إال وقد اتضح الميزان وثبت‪ ،‬ولم يبق للبش���رية‬

‫إال أن ت���دع جهلها وأهواءها لتذع���ن للميزان‪ ،‬وتزن بالميزان‪.‬‬ ‫البد من ذلك الميزان ليقوم فقه واقع األمة بالقس���ط؛ البد‬

‫م���ن ذلك الميزان إلح���كام األداة وإال اختل الفهم‪ ،‬والبد منه‬

‫للتمك���ن من الوض���ع وإال اضطرب األمر‪ ،‬والبد منه لرصد ما‬ ‫يج���ري ويتفاعل ف���ي الظرف المعيش والمج���ال المحيط وإال‬ ‫كان إخسار في الميزان أو طغيان‪ ،‬وكالهما مانع من فقه واقع‬

‫���م َاء َر َف َع َها َو َو َض َع‬ ‫األمة في ميزان الميزان‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫الس َ‬ ‫﴿و َّ‬ ‫ال َت ْط َغوا ِفي ا ْل ِم َيز ِ ‪ِ ‬‬ ‫ال‬ ‫يموا ا ْل َو ْز َن بِا ْل ِق ْس ِط َو َ‬ ‫ان ‪َ ‬أ َّ‬ ‫ا ْل ِم َيز َ‬ ‫ان َو َأق ُ‬ ‫ْ‬ ‫ان﴾(الرحمن‪.)9-7:‬‬ ‫ُت ْخ ِس ُروا ا ْل ِم َيز َ‬ ‫وذل���ك يعني أن الطاقم البش���ري ‪-‬على س���عته‪ -‬والس���يما‬ ‫النخب���ة المرجع‪ ،‬والدم���اغ المفكر المنظر‪ ،‬والجه���از المح ِّلل‬ ‫المع ِّلل‬ ‫المركب‪ ،‬أي مختلف األطر‬ ‫المش���غلة في مشروع فقه‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫واق���ع األم���ة‪ ،‬البد أن يكونوا ممن اس���تقام لديهم أمر الميزان‪،‬‬ ‫وإال ضاع���ت األموال واألوقات والطاق���ات ولم ُت ْف َقه أم ٌة وال‬

‫واقع وال فقه‪ ،‬وتلك خسارة ما أفدحها من خسارة‪.‬‬

‫���ر ُق في لس���ان العرب م���داره على‬ ‫‪-3‬ش�������رط الفرقان‪ :‬ال َف ْ‬

‫"وفرق���ت بين الش���يئين‪ :‬فصل���ت بينهما‪...‬‬ ‫الفص���ل والتميي���ز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر أو بفصل تدركه البصيرة‪.‬‬

‫وال ُفرق���ان أبلغ من ال َف ْرق‪ ،‬ألنه يس���تعمل ف���ي الفرق بين الحق‬ ‫هلل‬ ‫آم ُن���وا إ ِْن َت َّت ُقوا ا َ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫والباط���ل‪ ...‬وقول���ه تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ن���ورا وتوفي ًقا على قلوبكم‬ ‫َي ْج َع ْ‬ ‫���ل َل ُك ْم ُف ْر َقا ًنا﴾(األنفال‪ْ ،)29:‬‬ ‫أي ً‬ ‫���ر ُق ب���ه بين الح���ق والباط���ل‪ .‬ف���كان الفرقان هنا كالس���كينة‬ ‫ُي ْف َ‬

‫والروح في غيره"‪ .‬ذلك فرقان من الفرقان الذي أوتيه المحقق‬

‫"الراغب"‪.‬‬

‫وم���ن الفرقان ال���ذي أوتيه صاحب المن���ار قوله عن اآلية‪:‬‬

‫"وكلم���ة الفرق���ان فيها كلمة جامعة ككلم���ة التقوى في مجيئها‬

‫والتفريق بين األشياء واألمور في العلم‪ ،‬هو الوسيلة للخروج‬ ‫م���ن حي���ز اإلجمال إلى حي���ز التفصيل‪ ،‬وإنم���ا العلم الصحيح‬ ‫ه���و العل���م التفصيل���ي الذي يمي���ز بي���ن األجن���اس‪ ،‬واألنواع‪،‬‬ ‫واألصن���اف‪ ،‬واألش���خاص‪ ،‬وإن ش���ئت قل���ت بي���ن الكلي���ات‬ ‫والجزئي���ات‪ ،‬والبس���ائط والمركب���ات‪ ،‬والنس���ب بي���ن أج���زاء‬ ‫ويبين كل ش���يء من‬ ‫المركب���ات‪ ،‬من الحس���يات والمعنويات‪ّ ،‬‬ ‫ذل���ك ويعطي���ه حقه ال���ذي يكون ب���ه‬ ‫ممتازا من غي���ره‪ ...‬وكما‬ ‫ً‬ ‫يكون الفرقان في مس���ائل العل���وم وموادها‪ ،‬وفي الموجودات‬ ‫الت���ي اس���تنبطت العل���وم منه���ا‪ ،‬يكون ف���ي األحكام والش���رائع‬ ‫واألدي���ان وفي الحكم بين الناس ف���ي المظالم والحقوق وفي‬ ‫هلل‬ ‫آم ُن���وا إ ِْن َت َّت ُقوا ا َ‬ ‫﴿يا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الح���روب‪ ...‬فقول���ه تعالى‪َ :‬‬ ‫���م ُف ْر َقا ًنا﴾ معن���اه‪ :‬إن تتقوا اهلل ف���ي كل ما يجب أن‬ ‫َي ْج َع ْ‬ ‫���ل َل ُك ْ‬ ‫يتقى‪ ،‬بمقتضى دينه وش���رعه‪ ،‬وبمقتضى س���ننه في نظام خلقه‪،‬‬ ‫يجع���ل لك���م بمقتضى ه���ذه التقوى ملكة م���ن العلم والحكمة‬ ‫تفرق���ون بها بين الحق والباطل‪ ،‬وتفصلون بين الضار والنافع‪،‬‬ ‫وتميزون بين النور والظلمة‪ ،‬و ُت َز ِّي ُلون بين الحجة والش���بهة‪...‬‬ ‫وه���ذا الن���ور ف���ي العلم الذي ال يص���ل إليه طالب���ه إال بالتقوى‬ ‫���اء‬ ‫﴿ي ْؤ ِت���ي ا ْل ِح ْك َم َة َم ْن َي َش ُ‬ ‫ه���و الحكم���ة الت���ي ق���ال اهلل فيه���ا‪ُ :‬‬ ‫���ؤ َت ا ْل ِح ْك َم َة َف َق ْد ُأو ِت‬ ‫ال ُأو ُلو‬ ‫���ي َخ ْي ًرا َك ِث ًيرا َو َم���ا َي َّذ َّك ُر ِإ َّ‬ ‫���ن ُي ْ‬ ‫َو َم ْ‬ ‫َ‬ ‫ا َ‬ ‫اب﴾(البقرة‪.")269:‬‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫ه���ذه "الملك���ة" "من العل���م والحكمة"‪ ،‬التي ه���ي "الثمرة"‬ ‫ين‬ ‫﴿ي���ا أ َُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫لش���جرة التق���وى‪ ،‬وهي النور في آي���ة الحديد‪َ :‬‬ ‫هلل َوآ ِم ُنوا ب َِر ُسو ِل ِه ُي ْؤ ِت ُك ْم ِك ْف َل ْي ِن ِم ْن َر ْح َم ِت ِه َو َي ْج َع ْل‬ ‫آم ُنوا َّات ُقوا ا َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم﴾(الحديد‪،)28:‬‬ ‫���ون ِبه َو َي ْغف ْر َل ُك ْم َوا ُ‬ ‫ورا َت ْم ُش َ‬ ‫هلل َغ ُف ٌ‬ ‫َل ُك ْم ُن ً‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫وه���ي التي بها يكون الفص���ل والتمييز والتزيي���ل‪ ،‬والفرقان‪...‬‬ ‫هذه الملكة هي الفرقان الش���رط‪ ،‬والش���رط الفرقان‪َ ،‬من أوتيه‬ ‫كبيرا‪ .‬وال‬ ‫خيرا ً‬ ‫فق���د أوت���ي ً‬ ‫كثيرا‪ ،‬ومن حرمه فقد حرم حرما ًنا ً‬ ‫ينتظ���ر م���ن المحرومين المنطفئي���ن المظلمي���ن المختلطين أن‬ ‫يأتوا في فقه واقع األمة بشيء‪ .‬وكيف يزيل الظلمة َمن ال نور‬ ‫له؟ أم كيف يبصر َمن ال بصيرة له؟‬ ‫إن واق���ع األم���ة لي���ل س���ادف‪ ،‬وإن فقه���ه يحت���اج إل���ى نور‬ ‫ورا َف َما َل ُه ِم ْن ُنورٍ ﴾(النور‪.)40:‬‬ ‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْج َع ِل ا ُ‬ ‫كاشف‪َ :‬‬ ‫هلل َل ُه ُن ً‬

‫هن���ا مطلقة‪ ،‬فالتقوى هي الش���جرة‪ ،‬والفرق���ان هو الثمرة‪ ،‬وهو دراسة في العوائق‬ ‫صيغ���ة مبالغة من مادة الف���رق‪ ،‬ومعناها في أصل اللغة الفصل‬ ‫بين الش���يئين أو األش���ياء‪ .‬والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح‬

‫والحكم الحق فيها‪ ،‬ولذلك فس���روه بالنور‪ ،‬وذلك أن الفصل‬

‫‪-1‬ضعف العلمية‪ :‬العلمية مصدر صناعي من العلم‪ ،‬ويقصد‬ ‫علمي���ا ح ًّقا‪ ،‬أي‬ ‫به���ا هن���ا؛ ما يجع���ل البحث ف���ي موضوع م���ا‬ ‫ًّ‬ ‫مس���توفيا للش���روط الالزمة "في البحث التي تتمثل في‪ :‬صحة‬ ‫ً‬

‫‪47‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫فقه واقع األمة ‪2-‬‬ ‫دراسة في الشروط والعوائق‬

‫م���ا هي الش���روط الالزمة لمش���روع فق���ه واقع‬

‫األمة؟ وما هي العوائق التي تقف في الطريق؟‬

‫دراسة في الشروط‬

‫‪-1‬ش�������رط الشهود‪ :‬الشهود في لسان العرب ضد الغياب‪ ،‬وال‬ ‫يمك���ن لغائب عن الواقع أن يش���هد بل���ه أن يفقه‪ .‬ومن ثم البد‬

‫لتحقيق الشهود والحضور من أمور‪:‬‬

‫أ‪ -‬الرصد لما يجري بمختلف الحواس‪ ،‬ش���رط س�ل�امتها‬

‫عبر مراصد كافية مجهزة معدة لذلك‪.‬‬

‫بـ‪ -‬التوثيق األمين الدقيق المنظم لكل ما حقه التوثيق‪.‬‬

‫هـ‪ -‬المشاركة الفعلية فيما يجري كلما أمكن ذلك‪.‬‬

‫ذل���ك ومثل���ه‪ ،‬من أجل إع���داد المادة الالزمة للش���روع في‬

‫الدراسة الالزمة لتحصيل الفقه‪ ،‬وذلك بـ‪:‬‬

‫أ‪ -‬التحليل الدقيق العميق المتنوع للمعطيات‪.‬‬

‫ب���ـ‪ -‬والتعلي���ل الراج���ح للظواه���ر ف���ي مختل���ف الص���ور‬

‫واالحتماالت‪.‬‬

‫جـ‪ -‬ثم التركيب المحكم للكليات من الجزئيات‪.‬‬ ‫د‪ -‬ثم البناء العام للمراد حسب الحاجات‪.‬‬

‫ال جرم أن هذا الش���هود يحتاج إلى جهود وجهود‪ .‬ولكن‬

‫ج���ـ‪ -‬التكش���يف األمي���ن الدقي���ق الش���امل ل���كل م���ا حق���ه‬

‫ه���ل يتص���ور فقه لواقع األمة وهي عل���ى ما هي عليه دون بذل‬

‫د‪ -‬إع���داد قواعد لمختل���ف المعطيات‪ ،‬وبنوك لما يلزم له‬

‫‪-2‬ش�������رط الميزان‪ :‬الميزان في لس���ان العرب آل���ة الوزن‪.‬‬

‫التكشيف‪.‬‬

‫ذلك من المعلومات‪.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪46‬‬

‫لمثل تلك الجهود؟‬

‫ويس���تعار للع���دل‪ ،‬وهو ف���ي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ل َق ْد َأ ْر َس��� ْل َنا ُر ُس��� َل َنا‬


‫نفس مبدأ عمود الكامات في المحركات والضاغطات الحديثة‪.‬‬ ‫تطويرا للس���اقية‪ ،‬إذ إن‬ ‫اآلل���ة الثالث���ة للجزري كانت أكث���ر‬ ‫ً‬ ‫الس���اقية تدور هنا بقوة الماء وليس الحيوان‪ .‬وصف الجزري‬ ‫هن���ا آلة على مقياس صغير إلقناع المتفرجين‪ ،‬يرى المش���اهد‬ ‫منش���أة ظاه���رة للعيان مركبة إلى جانب مص���در الماء‪ ،‬وتحت‬ ‫المنش���أة برك���ة ينزل إليها الم���اء من المصدر بواس���طة أنابيب‪،‬‬ ‫هناك سلس���لة دالء ترفع الماء من البركة‪ ،‬وتحت البركة يوجد‬ ‫ح���وض مخف���ي يحتوي على اآلالت المحرك���ة‪ ،‬ويمتد ضمن‬ ‫ه���ذا الح���وض المخفي عمود أفق���ي‪ ،‬مثبت عل���ى أحد طرفيه‬ ‫دوالب ذو كفات شبيه بالمغارف (دوالب عنفة)‪ ،‬وفي أرضية‬ ‫البركة ثقب يندفع منه الماء ويصطدم بالمغارف‬ ‫مس���ببا تدوير‬ ‫ً‬ ‫الدوالب‪ ،‬وعلى الطرف اآلخر للمحور يوجد مس���نن رأس���ي‬ ‫يتعش���ق م���ع مس���نن أفقي يمت���د مح���وره األعلى نحو المنش���أة‬ ‫الظاه���رة‪ ،‬وف���ي أعل���ى ه���ذا المح���ور األخير يوج���د زوج من‬ ‫المس���ننات‪ ،‬ويرك���ب الدوالب الحامل لسلس���لة ال���دالء على‬ ‫المحور األفقي للمسنن الرأسي‪ ،‬وتصب الدالء ماءها إلى قناة‬ ‫تنق���ل الماء إلى مصدره‪ ،‬وتبقى سلس���لة ال���دالء دائمة الحركة‬ ‫م���ا دام الماء يتدفق من أرض البرك���ة‬ ‫مرتطما بالمغارف‪ .‬ومن‬ ‫ً‬ ‫أج���ل إمتاع الناظرين‪ ،‬ربط بالمحور الرأس���ي نموذج لبقرة من‬ ‫الخش���ب تدور مع المحور فوق مبيضة ثابتة مس���تديرة دون أن‬ ‫تلم���س أرجله���ا المنصة‪ ،‬ويب���دو للناظر ال���ذي ال يعلم مصدر‬ ‫الحركة وكأن البقرة هي التي تدير الساقية‪.‬‬ ‫اآللة الرابعة للجزري شبيهة باآللة األولى‪ ،‬إال أنه استخدم‬ ‫فيه���ا ألول م���رة ف���ي تاريخ الهندس���ة الميكانيكية آلي���ة المرفق‬ ‫والكتل���ة المنزلقة (‪ )Scotchyoke Mechanism‬التي تحول الحركة‬ ‫الدورانية إلى حركة ترددية خطية‪.‬‬

‫وفي اآللة الخامس���ة‪ ،‬خرج الج���زري عن نطاق آالت رفع‬ ‫الماء التقليدية‪ ،‬إذ استخدم في هذه الحالة‪ ،‬مضخة ماصة كابسة‬ ‫ذات أس���طوانتين متقابلتي���ن‪ ،‬تكون الواحدة في ش���وط المص‬ ‫عندم���ا تك���ون الثانية في ش���وط التصريف‪ .‬واس���تخدم هنا آلية‬ ‫المرف���ق والكتلة المنزلقة‪ ،‬من أجل تحوي���ل الحركة الدورانية‬ ‫إلى حركة ترددية‪ ،‬وأعطى أس���لوبين للق���وة المحركة أحدهما‬ ‫باستخدام دوالب عنفي ذي أجنحة‪ ،‬والثاني باستخدام دوالب‬ ‫ذي مجاديف يدور كما تدور الناعورة‪.‬‬ ‫أدخل الجزري في هذه اآللة عدة ابتكارات‪ ،‬فهنا نجد أقدم‬ ‫تطبيق لمبدإ المفعول المزدوج في اآلالت المكبسية‪ ،‬وكذلك‬ ‫أيضا أول‬ ‫مبدأ تحويل الحركة الدورانية إلى ترددية‪ ،‬ونجد هنا ً‬ ‫استخدام حقيقي ألنابيب االمتصاص في المضخات‪.‬‬ ‫وف���ي مهرجان العالم اإلس�ل�امي الذي عق���د ببريطانيا عام‬ ‫‪1976‬م‪ ،‬عرضت نماذج من وسائل الري التي استخدمت في‬ ‫بغ���داد في الق���رن الرابع للهجرة‪ ،‬كما ع���رض نموذج لمقياس‬ ‫الني���ل عن���د الروض���ة في وق���ت الفيض���ان اس���تعمل على عهد‬ ‫الخليفة العباس���ي المت���وكل‪ ،‬وعرض نموذج آخ���ر لرفع الماء‬ ‫صنعت حسب إرشادات بديع الزمان الجزري في كتابه سالف‬ ‫الذكر‪ .‬فقد اخترع الجزري عدة آالت وأجهزة ‪-‬كما رأينا‪ -‬وقد‬ ‫عرض���ت له آلة لقياس كمية الدم التي تؤخذ من المريض‪ .‬أما‬ ‫اختراعه الذي أثار إعجاب المشاهدين ودهشتهم‪ ،‬فهو الساعة‬ ‫الدقاقة‪ ،‬وهي س���اعة مائية تحدد الوقت وتقدم إشارات ‪-‬تقوم‬ ‫بأدائه���ا ُدمى‪ -‬لدوران دائرة البروج‪ ،‬وتعاقب الش���مس والقمر‬ ‫في فلكهما الس���رمدي الدائم الذي ال انقضاء له وال انتهاء‪.‬‬ ‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫بالمكابس أو األسطوانات المتداخلة‪.‬‬

‫ابتكاراته المتميزة‬

‫ووصف الجزري العديد من أنواع الس���اعات المائية والرملية‪،‬‬

‫ومن بينها س���اعات مائية تقوم فك���ر ُة عملها على تعبئة وتفريغ‬

‫الم���اء م���ن وعاء آلخ���ر بمعدل ثاب���ت‪ .‬وبعض هذه الس���اعات‬ ‫جدا تعتمد في عملها على حركة الماء في‬ ‫مزود بآليات معقدة ًّ‬

‫دورة مغلقة‪ ،‬وينتج عنها مؤثرات خالبة‪ ،‬مثل صدور أصوات‬

‫موس���يقية ف���ي أوق���ات معين���ة‪ ،‬أو ب���روز ُدمية لت���ؤدي حركات‬ ‫طريفة بغرض التنبيه إلى أوقات الساعة‪.‬‬ ‫عددا من الساعات المعروفة في زمانه‬ ‫لقد اخترع الجزري ً‬

‫باس���م"البنكامات" أو "الفنكام���ات"‪ ،‬ومن بين هذه الس���اعات؛‬ ‫ساعة الطبالين وهي ساعة بها طبالون يدقون طبولهم بعد كل‬ ‫ساعة تمضى‪ ،‬ليعرف الناس كم مضى من الساعات‪ ،‬ومن بينها‬

‫س���اعة على ش���كل زورق توضع للزينة في قاعات االستقبال‪،‬‬

‫وتحدد للضيوف األوقات‪ ،‬ومن بينها س���اعة مس���توية‪ ،‬بها فيل‬ ‫يرفع خرطومه مرة أو عدة مرات كلما مضت من الزمن ساعة‬

‫أو عدة س���اعات‪ ،‬ومن بينها س���اعة مائية م���ن تصميم الجزري‬ ‫ميكانيكيا بحركة الماء‪.‬‬ ‫وتنفيذه‪ ،‬وتعمل‬ ‫ًّ‬

‫أم���را حيويًّ���ا ف���ي الب�ل�اد العربية واإلس�ل�امية؛ لم‬ ‫والصناعي���ة‪ً ،‬‬ ‫تك���ن هناك أمط���ار غزيرة وأنهار وجداول كثيرة كما هو الحال‬

‫ف���ي ش���مال أورب���ا‪ ،‬والمناطق الت���ي كانت تهطل فيه���ا األمطار‬ ‫بكميات وفيرة تكفي للزراعة دون الحاجة إلى الري‪ .‬ومن هنا‬

‫تحتاج عمليات الري في كثير من األحيان‪ ،‬إلى وس���ائل لرفع‬

‫الماء لتلبية الحاجات األساس���ية كالش���رب والطبخ‪ ،‬أو لتزويد‬ ‫األراضي الزراعية بالمياه الالزمة للزراعة‪.‬‬

‫لق���د ح���اول المهندس���ون الع���رب والمس���لمون‪ ،‬تحس���ين‬

‫واضحا لدى كل من الجزري‪،‬‬ ‫وس���ائل رفع الماء‪ .‬ونجد ذلك‬ ‫ً‬ ‫وتق���ي الدي���ن‪ ،‬إذ وصف كل منهم���ا آالت لرف���ع الماء حاوال‬

‫فيه���ا تطوير األنواع المعروفة‪ .‬وقد خصص الجزري في كتابه‬

‫ال‬ ‫"الجام���ع بي���ن العلم والعمل النافع ف���ي صناعة الحيل"‪ ،‬فص ً‬ ‫خاصا آلالت رفع الماء وصف فيه خمس���ة أنواع يحتوي كل‬ ‫ًّ‬ ‫منها على تحسينات وابتكارات‪.‬‬

‫فاآلل���ة األولى‪ ،‬فيها تحس���ين كبير لعمل الش���ادوف‪ ،‬وهي‬

‫آل���ة تدور بق���وة الحيوان كما ه���و الحال في الس���اقية‪ ،‬والجزء‬ ‫ال���ذي يغ���رف الماء عبارة ع���ن مغرفة لها ذن���ب طويل أجوف‬ ‫كالمي���زاب‪ ،‬والمغرف���ة مربوطة عن���د نهاية ذنبه���ا بمحور أفقي‬ ‫ترسا‬ ‫بحيث إنها تتحرك معه‪ ،‬ويحمل المحور عند أحد طرفيه ً‬

‫عددا م���ن النوافير أو الفوارات‬ ‫كم���ا ابتك���ر الجزري ً‬ ‫أيضا‪ً ،‬‬

‫ويوج���د بمح���اذاة هذا الترس ترس جزئ���ي يحمله محور مواز‬

‫أيضا‬ ‫الج���زري‬ ‫ع���ددا م���ن آالت التحري���ك لألش���ياء‪ ،‬وابتك���ر ً‬ ‫ً‬

‫رأس���ي يديره ترس أفقي‪ ،‬وهذا الت���رس األخير يديره الحيوان‬

‫ذراعا‬ ‫بين ابتكارات الجزري‪ ،‬آلة ترفع الماء إلى نحو عشرين ً‬

‫هو الحال في الس���اقية‪ ،‬ويدير زوج دواليب المسننة ‪-‬بالتالي‪-‬‬

‫لحدائ���ق القص���ور ف���ي زمان���ه بش���مال الع���راق‪ ،‬كذل���ك ابتكر‬

‫دوالي���ب ترف���ع المياه م���ن البحيرات واآلب���ار واألنهار‪ ...‬ومن‬ ‫بواس���طة دوالب م���ن الماء الس���ريع الجري���ان‪ .‬وابتك���ر زور ًقا‬

‫متحركا يوضع في بركة في مجالس الس���مر الليلية‪ .‬وابتكر آلة‬ ‫ً‬ ‫ترف���ع الماء من بئر أو نهر بواس���طة دابة تديرها لتمد األراضي‬

‫الزراعي���ة بالمياه‪ .‬وابتكر ف���وارة ذات عوامتين‪ ،‬تتبادالن العمل‬ ‫وهبوط���ا دون توق���ف أو انقط���اع‪ ،‬فيس���تمر الم���اء في‬ ‫صع���ودا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫التدفق إلى أعلى‪ .‬وابتكر تمثال بقرة على قرص عمود مجوف‬

‫دوالبا يرفع الماء‬ ‫موضوع في وس���ط بركة‪ ،‬وتدير هذه البق���رة‬ ‫ً‬

‫م���ن البرك���ة إل���ى ارتفاع يصل إل���ى أكثر من متري���ن‪ .‬وقد أبدع‬ ‫الجزري في رس���م أشكال هندس���ية رائعة الجمال كان الصناع‬

‫ينفذونها ويزينون بها أبواب المساجد والقصور‪.‬‬

‫الجزري والهندسة الميكانيكية‬

‫كان تأمين الماء من أجل الش���رب والري ولألغراض المنزلية‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪44‬‬

‫لمحور المغرفة‪ .‬وفي الطرف اآلخر لهذا المحور الثاني ترس‬ ‫المرب���وط بعم���ود الج���ر‪ ،‬يدور الحي���وان في مس���ار دائري كما‬

‫المس���نن الجزئي‪ ،‬وتتعشق أسنان هذا األخير بالمسنن المقابل‬

‫وتدي���ره‪ ،‬وترتف���ع المغرفة إل���ى األعلى وتف���رغ محتوياتها من‬ ‫الماء إلى القناة‪ ،‬وعندما ينتهي تعشق األسنان الجزئي‪ ،‬تسقط‬ ‫المغرف���ة ثاني���ة إلى الم���اء لتمتلئ وتتك���رر العملية باس���تمرار‪.‬‬

‫جزئيا‪،‬‬ ‫ونجد أن الجزري يصف ألول مرة الدوالب المس���نن‬ ‫ًّ‬ ‫وقد اس���تخدم هذا النوع من المس���ننات ف���ي أوربا بعد حوالي‬

‫مائتي عام من تاريخ كتاب الجزري‪.‬‬

‫واآللة الثانية للجزري مماثلة لألولى‪ ،‬إال أنها مزودة بأربع‬

‫مغ���ارف‪ ،‬ويح���رك كل مغرفة مس���نن جزئي‪ ،‬وكانت األس���نان‬

‫الجزئي���ة موزع���ة بالتس���اوي على محي���ط الدائ���رة بحيث تقوم‬ ‫المغارف بعملها في مس���افات زمنية متساوية‪ .‬ويقول الجزري‬

‫هدوءا‪ ،‬ونحن هنا أمام‬ ‫إن ه���ذا التوزيع يجعل عمل اآللة أكثر‬ ‫ً‬


‫جدا ف���ي تاريخ العلم والتكنولوجيا‬ ‫اللذي���ن قاما بأبحاث هامة ًّ‬

‫عن���د العرب‪ .‬كما ص���درت ترجم���ة كاملة باللغ���ة اإلنجليزية‪،‬‬ ‫ق���ام به���ا "دونالد هي���ل" (‪ )Donald Hall‬المتخص���ص في "تاريخ‬

‫التكنولوجيا العربية"‪.‬‬

‫ومن دراس���ة فصول الكتاب ندرك في الحال‪ ،‬أن الجزري‬

‫ملما بكل الفنون الميكانيكية‬ ‫كان راسخ القدم في فنه‪ ،‬وأنه كان ًّ‬

‫قويا‪ .‬ونفهم من مقدمة الكتاب أنه قد ألفه‬ ‫والهيدروليكية‬ ‫إلماما ًّ‬ ‫ً‬

‫بطل���ب من ملك "ديار بكر" المل���ك "الصالح ناصر الدين أبي‬ ‫الفتح محمود بن َق َر أرسالن بن داود بن سكان بن راتق" الذي‬ ‫تول���ى الحكم ما بين عامي (‪619-597‬هـ)‪ .‬يذكر الجزري أنه‬ ‫كان قب���ل ذل���ك في خدم���ة والد هذا الملك وف���ي خدمة أخيه‪،‬‬

‫ونش���ر دراس���ات عن الرسوم الهندسية واألش���كال التوضيحية‬ ‫الت���ي حفلت بها إحدى مخطوطات الكتاب‪ ،‬وهي المخطوطة‬ ‫المحفوظة بالمكتبة الس���ليمانية بجامع "أياصوفيا" بإس���طنبول‪.‬‬ ‫وألهمي���ة الكت���اب الكبي���رة ف���ي نظ���ر الغ���رب‪ ،‬ق���ال عن���ه‬ ‫المستشرق المهندس التكنولوجي اإلنجليزي الدكتور "دونالد‬ ‫هي���ل"‪" :‬لم تصلنا حتى العصور الحديثة وثيقة من أية حضارة‬ ‫أخ���رى ف���ي العالم‪ ،‬فيه���ا ما يناظر م���ا في كت���اب الجزري من‬ ‫ث���راء ف���ي التصميم���ات والش���روح الهندس���ية الخاص���ة بط���رق‬ ‫صناع���ة وتجميع اآلالت"‪ .‬ويقول مؤرخ العلم الكبير "جورج‬ ‫س���ارتون"‪" :‬ه���ذا الكتاب ه���و أكثر الكتب م���ن نوعه‬ ‫وضوحا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ويمكن اعتباره الذروة في هذا النوع من إنجازات المسلمين"‪.‬‬

‫وأن خدمت���ه تلك ب���دأت في عام (‪570‬ه���ـ‪1174-‬م)‪ ،‬وأنه قد أهمية كتاب "الجامع" ومحتوياته‬ ‫عاما في خدمتهم‪.‬‬ ‫قضى خمسة وعشرين ً‬

‫وم���ن المؤس���ف أن النص العرب���ي الكامل له���ذا الكتاب‪،‬‬

‫ل���م ينش���ر إال بعد نقله إل���ى األلمانية واإلنجليزي���ة‪ ،‬وقام معهد‬

‫الت���راث العلم���ي العربي بإص���دار نصه العرب���ي الكامل‪ ،‬حيث‬

‫قام بتحقيقه الدكتور المهندس أحمد يوسف الحسن بالتعاون‬ ‫اعتمادا على صورة‬ ‫م���ع الدكت���ور عماد غانم ومالك ملوح���ي‪،‬‬ ‫ً‬

‫كافة مخطوطات الجزري المعروفة والموجودة في المكتبات‬ ‫العالمية المختلفة‪ ،‬وأفضلها مخطوطات إس���طنبول (مخطوطة‬ ‫طوب قابي َسرايِي‪ ،‬رقم ‪.)3472‬‬

‫ويعتب���ر كثير م���ن الباحثين وعلماء التكنولوجي���ا التطبيقية‪،‬‬

‫أن ه���ذا الكت���اب أه���م مؤلف هندس���ي وصل إلين���ا من جميع‬ ‫الحضارات القديمة والوس���يطة الت���ي عرفها العالم حتى عصر‬

‫النهضة األوربية‪ .‬وال ترجع هذه األهمية فقط الشتمال الكتاب‬

‫على أوصاف مهمة لآلالت الميكانيكية التي ابتكرها ووصفها‬ ‫أيضا إلى اشتماله على طرائق صنعها؛ فقد‬ ‫الجزري‪ ،‬بل ترجع ً‬

‫وصف���ت هذه الطرق بتفاصي���ل وافية وإرش���ادات دقيقة أمكن‬ ‫معه���ا صنعها في عصرنا بأيدي الفنيين‪ .‬وكل ذلك قد أكس���ب‬

‫كتاب الجزري شهرة واسعة‪ ،‬وظفر له باهتمام كبير في الغرب‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أن الباحث والمستشرق "دونالد هيل"‪،‬‬

‫نال عن ترجمته لكتاب الجزري إلى اإلنجليزية‪ ،‬وكتابة رسالة‬ ‫شاملة عن "بديع الزمان الجزري وتاريخ التكنولوجيا اإلسالمية"‬

‫جائ���زة "دكس���تر" الدولي���ة الت���ي تمن���ح ألصح���اب اإلنجازات‬ ‫المتمي���زة في مجاالت التكنولوجيا‪ .‬وهناك باحث ياباني اهتم‬ ‫بالجانب التش���كيلي في كت���اب الجزري وتوفر على دراس���ته‪،‬‬

‫يق���ع الكت���اب في خمس���ة أج���زاء يخت���ص كل منها بقس���م من‬ ‫أقس���ام الحي���ل أو تكنولوجي���ا الصناع���ات‪ ،‬ويجمع بي���ن دفتيه‬ ‫الموضوع���ات التالي���ة‪ :‬الس���اعات المائي���ة‪ ،‬الس���فن‪ ،‬أح���واض‬ ‫القي���اس‪ ،‬الناف���ورات‪ ،‬آالت رفع المياه التي تعمل بقوة جريان‬ ‫الم���اء‪ ،‬بعض اآلالت المفي���دة كاألبواب واألقفال‪ ...‬وقد ركز‬ ‫الج���زري ف���ي كتابه‪ ،‬عل���ى أهمية التجري���ب وأهمية المالحظة‬ ‫أساسا لالستنتاجات العملية‪.‬‬ ‫الدقيقة للظواهر التي تكون‬ ‫ً‬ ‫ويلخص الكتاب معظم المعارف المتراكمة عن الهندس���ة‬ ‫الميكانيكي���ة حت���ى ذل���ك الوق���ت‪ ،‬م���ع تطوي���رات وإبداع���ات‬ ‫للجزري نفس���ه‪ ،‬وتكمن أهميته‬ ‫جزئيا فيما يتضمنه من وصف‬ ‫ًّ‬ ‫آلالت ومكون���ات وأفكار‪ .‬وبالقدر نفس���ه م���ن األهمية‪ ،‬تبدو‬ ‫حقيق���ة أن الجزري صن���ف كتابه مع إصرار ُمعلن على تمكين‬ ‫الصن���اع م���ن بع���ده من إع���ادة تركيب آالته‪ ،‬حيث ق���دم وص ًفا‬ ‫مدق ًق���ا ل���كل من الخمس���ين آلة يتضم���ن صناعته���ا‪ ،‬وتركيبها‪،‬‬ ‫واألجزاء المكونة لها‪ ...‬وكما يقول المستشرق "دونالد هيل"‪:‬‬ ‫"فقد زودنا بثروة هائلة من المعلومات المتعلقة بطرق ومناهج‬ ‫المهندسين الميكانيكيين في العالم اإلسالمي"‪.‬‬ ‫ومم���ا حف���ل به الكت���اب‪ :‬وص���ف الجزري خم���س آالت‬ ‫لرف���ع المياه تعمل بقوة جريان الم���اء في مجراه الطبيعي‪ .‬وقد‬ ‫جعلها الجزري ذات تصميمات مختلفة لتناس���ب االرتفاعات‬ ‫المتباين���ة التي يلزم نق���ل الماء إليها‪ ...‬وقد تركت هذه اآلالت‬ ‫بصمة واضحة على تاريخ صناعة اآلالت في العالم‪ .‬وكذلك‬ ‫وصف الج���زري النموذج األول للمضخة المائية التي مهدت‬ ‫الس���بيل البتكار المح���رك البخاري وآالت الض���خ التي تعمل‬

‫‪43‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫الجزري‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫اختراعاته العلمية وتطبيقاته الميكانيكية‬ ‫ه���و بدي���ع الزم���ان أب���و العز أب���و بكر إس���ماعيل بن ال���رزاز"‪،‬‬ ‫الملق���ب بــ"الجزري" نس���بة إلى موطن���ه "أرض الجزيرة" بين‬

‫نه���ري دجل���ة والف���رات بالع���راق‪ .‬ال يعرف الكثي���ر من حياة‬

‫الج���زري‪ ،‬حي���ث تخلو كت���ب التراجم من ذك���ره‪ ،‬ومن المعتقد أن���ه ولد عام‬

‫(‪561‬ه���ـ‪1165-‬م) ف���ي أرض الجزي���رة‪ ،‬وتوفى عام (‪607‬ه���ـ‪1210-‬م) وإن‬ ‫كانت بعض المصادر تشير إلى وفاته عام (‪602‬هـ‪1206-‬م)‪.‬‬

‫وم���ن الثابت أنه خدم في بالط مل���وك "ديار بكر" التركمانيين الذين‬

‫كان���وا تابعين للدولة األيوبية في عهد مؤسس���ها "صالح الدين"‪ .‬وقد‬ ‫رفعت���ه خبرته العلمية وقدراته االبتكارية في االختراع واإلنش���اء إلى‬ ‫مرتبة "ريس األعمال" أي كبير مهندسي الدولة‪.‬‬

‫وال تتوافر تفاصيل كثيرة عن مرحلة الدراس���ة في حياة بديع‬

‫الزم���ان الجزري‪ ،‬لكن م���ن المقطوع به أن���ه درس الرياضيات‬ ‫وم���ا تواف���ر ف���ي عص���ره م���ن معلوم���ات فزيائي���ة ومعلوم���ات‬ ‫دائما يقرن الدراس���ة‬ ‫خاص���ة بالتطبيقات الصناعية‪ ،‬وأنه كان ً‬ ‫النظري���ة بالتجري���ب‪ ،‬وال يث���ق بالنظري���ات الهندس���ية م���ا لم‬ ‫تؤكده���ا التج���ارب العملي���ة‪ .‬وكذل���ك تق���ع إنجازات���ه ف���ي‬ ‫دائ���رة االختراع���ات الميكانيكي���ة وصناع���ة اآلالت‪ ،‬وكان‬ ‫معنيا ‪-‬بصفة خاصة‪ -‬باس���تخدام‬ ‫ه���ذا المهن���دس الب���ارع ًّ‬ ‫الحقائ���ق العلمي���ة والخبرة التكنولوجي���ة في صناعة ما‬ ‫ينفع المجتمع من آالت مبتكرة‪.‬‬

‫إنجازاته العلمية وكتابه القيم‬

‫وتتض���ح إنج���ازات الج���زري العلمي���ة من كتاب���ه الهام‬ ‫"الجام���ع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"‪،‬‬

‫وه���و كت���اب ف���ي الهندس���ة الميكانيكية‪ ،‬يع���د‬ ‫بحق‪-‬‬‫ٍّ‬ ‫أروع م���ا كت���ب ف���ي الق���رون القديم���ة والوس���طى عن‬ ‫اآلالت الميكانيكية والهيدروليكية‪.‬‬

‫كثيرا في العالم الغربي‪،‬‬ ‫وقد اشتهر هذا الكتاب ً‬

‫وترجم���ت فصول كثي���رة منه في الرب���ع األول من‬

‫القرن العشرين إلى اللغة األلمانية‪ ،‬وقام بالترجمة‬ ‫كل من "فيدمان" (‪ )Wiedmann‬و"هاوسر" (‪)Hawser‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪42‬‬


‫‪ -‬شيء آخر! مثل ماذا؟‬

‫متجها إلى البيت األبيض المتميز بتلك الشجرة المثمرة‪ .‬وقبل‬ ‫ً‬

‫‪ -‬نعم أوصاني بأن أحضره والبندقية‪.‬‬

‫خبر موت أخيها‪ ...‬طرق الباب وهو ما يزال يفكر‪ُ .‬فتح الباب‬

‫نظر إلى البندقية ومد يده ليأخذها وهو يقول‪:‬‬

‫في منتصف الطريق‪ ،‬ودفعت إليه تلك المجموعة من الكعك‪.‬‬

‫فردت عليه العجوز هادئة غير مبالية‪:‬‬

‫هذه المرأة الفقيرة‪ ،‬التي دفعت إليه ما كان في حوزتها وذهبت‬

‫نظر النقيب إليها‪ ،‬وتأمل وجهها المتجعد وهو غير مصدق‬

‫بهذا الحس الوطني‪ ،‬فقبل أن تدفع الكعك دفعت أخاها وهو‬

‫ِ‬ ‫ ال يب���دو أن���ه حفي���دك‪ ،‬لو كان حفيدك لم���ا‬‫وقفت هكذا‬

‫نظ���رت الم���رأة نحوه وأدركت س���بب قدوم���ه‪ ،‬أدركت أن‬

‫ال‪.‬‬ ‫ خاتم فضي مث ً‬‫‪ -‬أين هو إذن؟‬

‫أن يطرق الباب فكر لحظة بأمر األخت‪ ...‬كيف س���ينقل إليها‬ ‫وخرجت منه امرأ ٌة شابة‪ ...‬إنها تلك المرأة التي أوقفت سيارته‬

‫‪ -‬بأي صفة تريدين مني أن أسلمك الخاتم؟‬

‫وتقديرا‬ ‫ال‬ ‫واحتراما لشخص‬ ‫ارتعد النقيب خو ًفا ودهشة وذهو ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪ -‬إنه حفيدي‪.‬‬

‫وه���ي تبك���ي‪ .‬كاد النقي���ب أن يفقد وعيه وهو يق���ف أمام امرأة‬

‫أن ذلك الصغير حفيدها‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫مبتسمة‪.‬‬

‫قالت العجوز‪:‬‬

‫‪ -‬وم���اذا تريدن���ي أن أعم���ل؟! لق���د م���ات وس���وف نموت‬

‫كلن���ا‪ ...‬م���ات‬ ‫ش���هيدا وس���يدخل الجن���ة‪ ،‬وعل���ي أن أفرح ألن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حفيدي دخل الجنة وفاز بها رغم صغر سنه‪.‬‬

‫صغيرا‪ ،‬للدفاع عن الوحدة والوطن‪.‬‬ ‫ما يزال‬ ‫ً‬

‫أخاها قد استش���هد‪ ...‬فارتفع صوته���ا‬ ‫مزغردا‪ ...‬وقف النقيب‬ ‫ً‬

‫يتأمل فرحة هذه المرأة‬ ‫حائرا‪ ،‬يكاد ال يصدق ما تس���معه أذناه‬ ‫ً‬ ‫وما تشاهده عيناه‪ ،‬إن أمر هذه األسرة غريب؛ ابتسمت العجوز‬

‫وه���ي تس���أل ع���ن مصي���ر الصغير وم���ا إذا كان قد م���ات أو أنه‬

‫على قيد الحياة‪ ،‬وهذه المرأة الشابة عبرت عن فرحتها بموت‬

‫كاد النقي���ب أن يق���ع عل���ى األرض وهو يس���مع منطق هذه‬

‫أخيها وهي تطلق الزغاريد لتجلجل في الس���ماء‪ .‬تذكر النقيب‬

‫دمع���ة واح���دة‪ ،‬ولم تس���أل حتى ع���ن الجثة‪ ،‬بل إنها مش���غولة‬

‫"إن ُكتب���ت ل���ك الحي���اة وعدت إل���ى القرية التي أس���كن فيها‪،‬‬

‫في ذهن النقيب الذي أخذ البندقية وترك العجوز‬ ‫متوجها نحو‬ ‫ً‬

‫أدرك النقيب أنه يقف أمام أسرة نموذجية‪.‬‬

‫العج���وز التي تف���رح لموت حفيدها‪ ،‬إذ ل���م تحزن ولم تذرف‬

‫الكلم���ات األخي���رة التي همس بها الصغي���ر وهو يودع الحياة‪:‬‬

‫بالخاتم الفضي‪ ،‬إنها ليست كما ادعت‪ .‬كل ذلك كان يجوب‬

‫أختا لي هن���اك تنتظر عودتي‬ ‫منتصرا لتش���يع جثماني"‪.‬‬ ‫س���تجد ً‬ ‫ً‬

‫القرية‪ ،‬دعته العجوز أن يتوقف فتجاهل دعوتها‪ ،‬فقالت له‪:‬‬

‫فمن منا س���وف يعيش إلى األبد؟ وإذا كنا س���نموت فلماذا‬

‫بيتا أبيض بجانب شجرة‬ ‫‪ -‬عند وصولك إلى القرية ستجد ً‬

‫ال نم���وت ش���هداء؟ فلي���س هناك أعظ���م من أن نم���وت ونحن‬

‫الباب فس���تفتح لك امرأة ش���ابة هي حفيدتي وأخت الش���هيد‪،‬‬

‫المسلمين هي التضحية الكبرى التي ناضل من أجلها البسطاء‬

‫القرية يجلس فيه رجل عجوز يقوم بخياطة المالبس‪ ،‬أرجوك‬

‫ضميرا ال‬ ‫أدرك النقيب أن‬ ‫إراديا يحرك النزعة الوطنية عند‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫عن���ب مثمرة‪ ،‬تلك الش���جرة لن���ا‪ ،‬وذلك المن���زل منزلنا‪ ،‬اطرق‬

‫ندافع عن قضية وطنية وإنس���انية‪ ...‬ألن الوحدة بالنس���بة ألبناء‬

‫وأثناء طريقك إلى البيت س���تجد دكا ًنا‬ ‫صغيرا عند مدخل هذه‬ ‫ً‬

‫ال‪ ،‬واعتبروها قضية وطنية وإنسانية وفكرية‪...‬‬ ‫طوي ً‬

‫أن تع���رج إلي���ه وتقول ل���ه‪ ،‬إن الصغير قد م���ات وال داعي ألن‬

‫البس���طاء الذين يهبون الحياة رخيصة في س���بيل قضاياهم وال‬

‫يخيط مالبس���ه لهذا العيد‪ ،‬فنحن فقراء وال نريد أن ندفع ثمن‬

‫مالبس ال نجد من يرتديها بعد موت الصغير‪.‬‬

‫اش���تعل النقي���ب‬ ‫غضب���ا وقال في نفس���ه‪" :‬يا ل���ك من امرأة‬ ‫ً‬

‫حمقاء! حفيدك فارق الحياة وأنت غير مبالية‪ ،‬وكل ما تفكرين‬

‫فيه هو المالبس وثمن المالبس ومن سيرتديها‪.‬‬

‫عابئ بما كانت تقوله العجوز‪ ...‬وعند‬ ‫وسار في طريقه غير ٍ‬

‫وصول���ه القرية‪ ،‬نظ���ر إلى دكان الخياط فلم يعرج إليه‪ ،‬وس���ار‬

‫ثمنا لما بذلوه‪.‬‬ ‫ينتظرون ً‬

‫م���د النقي���ب يده إل���ى كتفيه وانت���زع الرتبة العس���كرية التي‬

‫دفاعا عن قضي���ة عظيمة‪.‬‬ ‫منح���ت ل���ه ً‬ ‫ثمنا ل���دور عظيم قام ب���ه ً‬

‫فالنقيب أراد أن يكون‬ ‫بس���يطا كهؤالء الساكنين في هذا البيت‬ ‫ً‬ ‫األبيض‪.‬‬

‫(*) كاتب وأديب يمني‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫أم���ر مه���م‪ ،‬لما وقفت في مثل ه���ذا الوقت في ه���ذا المكان"‪،‬‬

‫عتادا‬ ‫عسكريا حدي ًثا‪ ...‬وبينما هما يتحدثان‬ ‫التي كانت تواجه ً‬ ‫ًّ‬

‫وكان ش���ديد الحذر والحرص‪ .‬تقدمت المرأة نحوه‪ ،‬فأش���عل‬

‫"ميج ‪ "21‬المس���اندة لقوات األع���داء‪ ،‬بقصف الجنود بالقنابل‬

‫وهدأ من س���رعة سيارته العسكرية ليتوقف حيث كانت تقف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عود الكبريت ليتسنى له معرفة شخص هذه المرأة على ضوء‬ ‫خافت‪ ،‬وقبل أن يس���ألها عن بغيتها ومن تكون‪ ،‬تحدثت قائلة‬ ‫بعد أن أقرأته السالم‪:‬‬

‫في صمت‪ ،‬كلٌّ يشعر بما يدور في ذهن اآلخر‪ ،‬بدأت الطائرة‬

‫لتس���قط قنبل���ة بالقرب م���ن م���كان النقيب والجن���دي الصغير‪،‬‬ ‫ليصاب األخير بش���ظية في رأس���ه تلقيه عل���ى األرض‪ .‬النقيب‬ ‫أيضا أصابته ش���ظية في رجله اليس���رى‪ ،‬لم يش���عر بها ألنه كان‬ ‫ً‬

‫‪ -‬وجدتك في القرية تدعو الناس وتحثهم على الدفاع عن‬

‫مهتم���ا بما آل إليه مصير الصغير‪ .‬وقبل أن يموت هذا الصغير‬ ‫ًّ‬

‫لي على القتال وال أملك ما أبذله في سبيل الوطن والواجب‪،‬‬

‫تبت لك الحياة‬ ‫وعدت إلى القرية التي أس���كن بها‪،‬‬ ‫ إن ُك ْ‬‫َ‬

‫الوح���دة‪ ،‬وتطلب منهم العون والمس���اندة‪ ،‬وأن���ا امرأة ال قدرة‬ ‫وها أنا ذا قد أتيتك بمجموعة من الكعك الناشف صنعته بكل‬ ‫م���ا تبق���ى من دقيق القمح‪ ،‬ولو كان بوس���عي أن أحضر المزيد‬

‫لم���ا تأخ���رت‪ ،‬خذه لعله يس���د رمق جائع ال يج���د ما يأكله في‬ ‫خندق القتال‪.‬‬

‫أدركه النقيب ليسمع ما كان يهمس به‪:‬‬

‫منتصرا لتشيع حثماني‪...‬‬ ‫أختا لي هناك تنتظر عودتي‬ ‫فستجد ً‬ ‫ً‬

‫وقبل أن يموت الصغير دفع إليه بندقيته‬ ‫فضيا كان‬ ‫ً‬ ‫وخاتما ًّ‬

‫ال هناك‬ ‫ف���ي يده‪ ،‬وأوص���اه بإيصالهما إلى منزلهم‪ ،‬لع���ل مناض ً‬ ‫ينتظر دوره في الموت واالستشهاد في سبيل اهلل والوطن‪.‬‬

‫دفع���ت إليه ما كان في حوزتها وذهبت وهي تبكي‪ .‬احتار‬

‫كان���ت هذه العب���ار َة األخيرة التي تلفظ به���ا البطل الصغير‬

‫المش���اركة في مس���اندة جنود الوحدة‪ .‬تحركت السيارة باتجاه‬

‫لفق���دان ه���ذا الصغي���ر الذي يجس���د معنى الكفاح والش���جاعة‬

‫النقي���ب في أمر هذه المرأة‪ ،‬فهي فقي���رة ولم يمنعها فقرها من‬ ‫مقد ًرا‬ ‫المعس���كر مس���رعة‪ .‬كان النقيب يفكر بأمر هذه المرأة‪ّ ،‬‬ ‫لها هذا الحس الوطني النبيل تجاه الوطن‪ ...‬الشيء الذي رفع‬

‫قبل أن يستش���هد ويف���ارق الحياة‪ .‬ذرفت عين���ا النقيب الدموع‬

‫والحب والوالء هلل والوطن‪...‬‬

‫وبع���د أن خ���رج النقيب من المستش���فى‪ ،‬توج���ه إلى القرية‬

‫ال البندقية والخاتم‪.‬‬ ‫حيث تس���كن أخت الش���هيد الصغير‪ ،‬حام ً‬

‫عظيما يقف وراء قيادته‬ ‫ش���عبا‬ ‫مدركا أن‬ ‫م���ن معنوياته‬ ‫مضحيا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫غ���ال ونفيس‪ ،‬وليس���ت هذه الم���رأة إال‬ ‫ب���كل‬ ‫نموذج���ا للمرأة‬ ‫ً‬

‫وبينم���ا كان يس���ير عل���ى قدمي���ه وقد بدا ش���ديد التعب بس���بب‬

‫له���م الع���ون والمس���اندة‪ .‬وعند وصول���ه إلى المعس���كر‪ ،‬تلقى‬

‫فس���ألها م���ا إذا كان���ت تعرف البيت الذي تس���كنه تل���ك المرأة‬

‫المس���لمة التي وقفت بش���جاعة وف���داء‪ ،‬تؤازر الجن���ود وتقدم‬ ‫األوام���ر أن يواصل الس���ير حتى جبهات القت���ال ليأخذ للجنود‬ ‫م���ا كان يحمل من تبرعات تلك القرية‪ .‬وعند وصوله خطوط‬

‫المواجه���ة‪ ،‬أوق���ف س���يارته وحمل بعض الكع���ك وتوجه إلى‬ ‫بعضا‬ ‫الجن���ود المرابطين في جبه���ات القتال‪ ،‬وأخذ يدفع لهذا ً‬

‫ال‬ ‫صغيرا‬ ‫م���ن الكعك وذلك بش���يء مماثل‪ ...‬فإذا ب���ه يجد طف ً‬ ‫ً‬

‫يحم���ل بندقي���ة قديم���ة‪ ،‬إذا أطلق بها‬ ‫ناري���ا تركها لتبرد‪،‬‬ ‫عي���ارا ًّ‬ ‫ً‬

‫عيارا آخر وتركها لتبرد مرة أخرى‪...‬‬ ‫وحتى إذا ما بردت أطلق ً‬ ‫فأش���فق عليه وخش���ي أن تصيبه نيران األعداء‪ ،‬فأمره أن يعود‬

‫إل���ى الخط���وط الخلفي���ة‪ ...‬فطلب منه الصغي���ر أن يتركه يقاتل‬ ‫ويقتح���م التحصينات الت���ي كان يتمترس فيه���ا األعداء‪ ...‬نظر‬

‫ال بش���جاعة هذا الطفل‪ ،‬الذي كاد يلتهم األعداء‬ ‫النقيب مذهو ً‬ ‫بعيني���ه الصغيرتي���ن يري���د أن يحطمه���م ويقتح���م تحصيناتهم‪.‬‬ ‫ونظ���رة أخرى برزت تتأمل في ابتس���امة عريض���ة تلك البندقية‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪40‬‬

‫اإلصاب���ة‪ ،‬وقع���ت عيناه على امرأة عج���وز تهش على أغنامها‪،‬‬

‫الش���ابة‪ ،‬التي استشهد أخوها في المعركة منذ أمد غير بعيد‪...‬‬ ‫ال‪ ،‬متأملة البندقية وقالت وهي تبتسم‪:‬‬ ‫نظرت العجوز إليه طوي ً‬ ‫‪ -‬هل استشهد الصغير؟‬

‫‪ -‬نعم‬

‫‪ -‬متأكد؟‬

‫ نعم‪ ...‬وكنت إلى جواره‪ ،‬وأنا الذي أحمل وصيته‪.‬‬‫‪ -‬الحمد هلل‪.‬‬

‫واقتربت منه ومدت يدها لتأخذ البندقية‪ ،‬فيما كان النقيب‬

‫غار ًقا في دهشته وذهوله شارد الحس‪ ،‬يفكر بأمر تلك العجوز‬ ‫التي تبتسم وهي تسأل عن موت الصغير قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬هل أوصاك بإحضار شيء آخر غير البندقية؟‬

‫نظ���ر إليها النقيب وقد زادت دهش���ته وذهول���ه‪ ،‬فتلعثم في‬

‫إجابته‪:‬‬


‫قصة‬

‫محمد قاسم الهندي*‬

‫الجندي الصغير‬ ‫يقود اللي���ل أجنحته الس���وداء ليحتضن العالم‬

‫مس���رعة باتجاه المعس���كر‪ ،‬محملة بما أمكن تجميعه من عتاد‬

‫أن غربت الش���مس الواهنة‪ ،‬التي كانت تسلط‬

‫في الجبهة‪ ،‬وجد النقيب امرأة شابة تشير إليه أن يتوقف‪.‬‬

‫بعباءة س���وداء‪ ،‬مبرقعة بنقاط بيضاء المعة بعد‬

‫أشعتها الفاترة على إحدى القرى الملتهبة بنار الحرب‪.‬‬

‫حربي‪ ،‬وزاد للجن���ود الذين يخوضون غمار المعارك الضاربة‬ ‫اعتلت الدهش���ة وجهه‬ ‫المتجهم الذي اش���تعل بموجة من‬ ‫ِّ‬

‫في هذا الوقت توجه النقيب إلى معسكر حمزة الذي كان‬

‫األس���ئلة‪" ...‬من تكون هذه المرأة؟ وماذا تريد؟ ولماذا وقوفها‬

‫ض���د ال���ردة واالنفص���ال‪ .‬توج���ه إلى المعس���كر بع���د أن التقى‬

‫في رأس���ه بعض الظنون ووج���د أن األمر ال يعدو كونه مكيدة‬ ‫يكت ضده من قبل بعض العمالء الذين يس���اندون األعداء‪،‬‬ ‫ِح ْ‬

‫يخ���وض غم���ار المعركة مع ق���وات الوحدة ف���ي جبهة الضالع‬ ‫بس���كان تلك القرية‪ ،‬وح ّثهم على الدفاع عن الوحدة الوطنية‪،‬‬ ‫وطلب منهم العون والمساعدة‪ ،‬ليتسنى لهم صد كيد األعداء‬

‫المتآمرين على وحدة الشعب‪ .‬وبينما كانت السيارة العسكرية‬

‫ف���ي منتص���ف الطريق في هذا الوقت وقد حل الظالم؟ ودارت‬

‫إال أن���ه ط���ارد هذه الظنون ووجد أن���ه البد من التوقف لمعرفة‬

‫بغي���ة هذه المرأة وماذا تريد‪ .‬قال في نفس���ه‪" :‬لو لم يكن هناك‬

‫‪39‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫تقدم إلى‬ ‫أضعها بين أيديكم‪ .‬ألن المعلومات التي َّ‬ ‫أكيدة عنها ُ‬ ‫أيضا أن‬ ‫الدول���ة ينبغ���ي أن تعلو على الش���بهات‪ .‬كما أنن���ا نرى ً‬ ‫ش���د اهتمام س���يدنا س���ليمان ‪‬‬ ‫َج ّدي الهدهد عندما حاول ّ‬ ‫بالحدي���ث ع���ن غنى بلقيس ملكة س���بأ وثرائها‪ ،‬وعن عرش���ها‬ ‫أي اهتمام بذلك‪ ،‬حتى إذا شرع في‬ ‫وعظمته‪ ،‬فإنه ‪ ‬لم ُي ْب ِد ّ‬ ‫الحديث عن ش���ركهم وعبادتهم للش���مس‪ ،‬راح س���ليمان ‪‬‬ ‫يس���تمع إليه بدقة ويبدي اهتمامه باألمر‪ ،‬ألن تبليغ المتمرغين‬ ‫بأوح���ال الش���رك والكفر واالنح���راف‪ ،‬ودعوتهم إل���ى الهداية‬ ‫واإليمان باهلل واتباع أمره‪ ،‬هي مهمة األنبياء األولى‪.‬‬ ‫يصدق سيدنا سليمان ‪َ ‬ج ّدي الهدهد مباشرة‪،‬‬ ‫ولكن لم ّ‬ ‫بل عامله كالمتهم ووضعه تحت االختبار؛ حيث لم يعتمد على‬ ‫أن تكون كذبة من الهدهد‬ ‫األخبار التي جاء بها‪ ،‬ووضع‬ ‫َ‬ ‫احتمال ْ‬ ‫ِين﴾‪.‬‬ ‫لتبري���ر غيابه‪َ ﴿ ،‬ق َ‬ ‫ال َس َ���ن ْن ُظ ُر َأ َص َد ْق َت َأ ْم ُك ْن َ‬ ‫���ت ِم َن ا ْل َكا ِذب َ‬ ‫جليا التركي���ز على وجوب التريث في الحكم على‬ ‫ويب���دو هنا ًّ‬ ‫بناءا على خبر واحد‪ .‬ثم أراد س���يدنا س���ليمان‬ ‫مجتم���ع بأكمله ً‬ ‫‪ ‬استكش���اف الموق���ف‪ ،‬فاس���تعمل َج ّدي الهدهد كس���اعي‬ ‫ِ ِ‬ ‫﴿اذ َه ْ ِ‬ ‫���و َّل َع ْن ُه ْم َفا ْن ُظ ْر‬ ‫بري���د‪ْ :‬‬ ‫���ب بِك َتابِ���ي َه َذا َف َأ ْلق���ه ِإ َل ْيهِ ْم ُث َّم َت َ‬ ‫ون﴾‪ ،‬لكنه لم يكن كالحمام الزاجل الذي يستخدم‬ ‫َما َذا َي ْر ِج ُع َ‬ ‫لتبليغ الرسائل فقط؛ ألن سيدنا سليمان ‪ ‬طلب من َج ّدي‪،‬‬ ‫ال وانتظار ما س���يحدث‪ ...‬فهي مهمة اس���تطالعية‬ ‫االبتع���اد قلي ً‬ ‫يريد من خاللها أن يعرف ردود أفعال مملكة سبأ لألوامر التي‬ ‫تحمله���ا الرس���الة‪ ،‬وعليها يتوقف تصرفه معهم وإس���تراتيجيته‬ ‫بم���ا يقتضي���ه واج���ب األم���ر بالمع���روف والنهي ع���ن المنكر؛‬ ‫فإما أن يختار االس���تعداد للحرب‪ ،‬وإما أن يبادئهم بالحس���نى‬ ‫ويرس���ل لهم الهدايا لعلهم يتعظ���ون‪ .‬ولذلك كان يولي أهمية‬ ‫كبيرة لما س���يقوم به َج ّدي من استش���عارٍ عن ُب ْعد واس���تطالع‪.‬‬ ‫أيه���ا اإلنس���ان المحت���رم‪ ،‬كن���ت أن���وي ‪-‬كباق���ي أصدقائي‬ ‫���ن ِ‬ ‫الخ ْلقة‬ ‫الحيوانات التي تحدثت قبلي‪ -‬أن أتحدث عن ُح ْس ِ‬ ‫التي فطرني عليها ربي‪ ،‬وتجليات أس���مائه الحسنى في بنياني‪،‬‬ ‫لكن���ي وج���دت القرآن الكري���م يتحدث عني في ه���ذه القصة‪،‬‬ ‫فارتأيت الوقوف عندها وتقديم وجهات نظري حول معانيها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبي���ان الق���رآن الكريم المعجز‪ ،‬البد من تفس���يره في كل عصرٍ‬ ‫قدر‬ ‫ورق���ي‪ .‬وقد ّ‬ ‫ث���ت ْ‬ ‫تحد ُ‬ ‫بم���ا يحمل���ه ذلك العص���ر من علم ُ‬ ‫فهم���ي وبمنط���ق الطي���ر لدي‪ .‬لعله يخ���رج منكم َمن هو أش���د‬ ‫إقناعا‪.‬‬ ‫علم���ا من���ي‪ ،‬ويق���دم لكم‬ ‫تفس���يرا أق���رب للفهم وأكث���ر ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فأن���ا ال أدعي الحقيقة‪ ،‬بل أح���اول االقتراب منها‪ ،‬والموضوع‬ ‫مفتوح للمكتشفات الجديدة‪ ،‬وربما استطعتم أن تفهموا ألسنة‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪38‬‬

‫الحيوانات كسيدنا سليمان ‪ ‬وتفهموا عنها الكثير‪ .‬هذا وإن‬ ‫بديع الزمان سعيد النورسي يشير إلى االستفادة من طير الزرزور‬ ‫في مكافحة الجراد‪ .‬وكذلك يوجد في الطيور األخرى طاقات‬

‫س���بل االس���تفادة منها مع مرور األيام‪.‬‬ ‫فطرية‪ ،‬لعلكم تجدون ُ‬

‫ومم���ا يجدر ذكره هنا‪ ،‬أنه ورد ذكري في "التلمود" باس���م‬

‫"ديك البيان"‪ ،‬وورد ذكري في التوراة بين الطيور التي ال يؤكل‬ ‫رف باس���م جاويش الطيور بس���بب عرف���ي الطويل‬ ‫لحمه���ا‪ُ .‬أ ْع ُ‬

‫الذي يعلو رأسي‪ .‬وعالوة على مجرى التنفس‪ ،‬أستطيع تنفس‬

‫اله���واء من مجرى الطعام من منقاري بس���بب ش���كله األنبوبي‬ ‫الخ���اص‪ ،‬وبذل���ك أتمكن من إص���دار أمواج صوتية ُمر ِ‬ ‫تعش���ة‬ ‫ْ‬ ‫كأنه���ا تصدر من ِ‬ ‫الم ْرن���ان‪ .‬أعيش في مصر والحبش���ة (أريتريا‬ ‫والصومال وإثيوبيا) وأنغوال والشرق األوسط وتركيا وجنوب‬

‫أوربا الشرقية‪ .‬أقوم بهجرات موسمية قصيرة‪ .‬أحتضن (‪)8-5‬‬ ‫يوما‪.‬‬ ‫بيضات أضعها في نهايات الربيع في مدة (‪ً )17-15‬‬

‫وعلى الرغم من أني ال أبدو مختل ًفا في مظهري الخارجي‬

‫عن سائر الطيور إال بشكل منقاري وعرفي فوق رأسي وألواني‪،‬‬

‫فإنني أعتقد بأنه ينبغي عليكم البحث في قدراتي على السمع‬ ‫ال عن‬ ‫والبص���ر والش���م والق���درات المودع��� ِة في دماغ���ي‪ ،‬فض ً‬ ‫الدراس���ات البيولوجي���ة والبيئية‪ ،‬وذل���ك انطال ًقا من قصتي في‬

‫الق���رآن الكريم‪ .‬وه���ذه وظيفتكم باعتباركم‬ ‫عب���ادا منحكم اهلل‬ ‫ً‬ ‫نعم���ة التفكي���ر والتدبر‪ .‬لذا عليكم أن تفك���روا في الحكمة من‬ ‫ذك���ر قصتي في الق���رآن الكريم‪ ،‬وأن تتأملوا وتفكروا في خلق‬

‫السماوات واألرض في كتاب الكون المنظور‪.‬‬

‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬


‫���ر﴾ أن على رجل الدولة أن يقوم‬ ‫﴿و َت َف َّق َد َّ‬ ‫قوله س���بحانه‪َ :‬‬ ‫الط ْي َ‬ ‫بتفتيش الجيش وكافة مؤسس���ات الدولة حتى أصغر فر ٍد فيها‪.‬‬ ‫ال َأ َرى‬ ‫ال َما ِل َي َ‬ ‫ويعترين���ي العجب حين أقرأ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف َق َ‬ ‫ِين﴾‪ ،‬كيف عرف س���ليمان ‪ ‬أفراد‬ ‫ا ْل ُه ْد ُه َد َأ ْم َك َ‬ ‫ان ِم َن ا ْل َغا ِئب َ‬ ‫جيشه العظيم بهذه الدقة‪ ،‬وكيف انتبه إلى غياب َج ِّدي الهدهد‬ ‫بنظر ٍة واحد ٍة في هذا الجيش الجبار!؟ ربما كان سيدنا سليمان‬ ‫‪ ‬ين���وي أن يكلف َج ِّدي بمهمة‪ ،‬وعندما افتقده س���أل عنه‪.‬‬ ‫وربما كان س���ليمان ‪ ‬قد أدرك أن اهلل سبحانه وهبنا القدرة‬ ‫على كشف مواطن الماء‪ ،‬فأراد أن يكلف َج ِّدي بالكشف عن‬ ‫هذه المواطن‪ .‬فكما نقل الطبري والبيضاوي من علمائكم؛ أن‬ ‫ٍ‬ ‫قريب من صنعاء‬ ‫مكان‬ ‫س���ليمان ‪ ‬كان قد نزل بجيش���ه في‬ ‫ٍ‬ ‫ماء‪ ،‬فبحث عن َج ِّدي الهدهد ليستكش���ف له‬ ‫اليمن‪ ،‬فلم يجد ً‬ ‫مواطن الماء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫قابليتي في الكش���ف‬ ‫ولعلكم اآلن ستس���ألونني عن حقيقة ّ‬ ‫أجبتكم‪ ،‬أن أفسد "سر التكليف"‬ ‫عن مواطن الماء؟ أخشى ْ‬ ‫إن ُ‬ ‫َّ‬ ‫ف���ي هذا األم���ر‪ .‬فعندكم المختب���رات والمعاه���د والجامعات‪،‬‬ ‫ويمكنكم البحث والدراس���ة في ه���ذه القابلية حتى تصلوا إلى‬ ‫أن أقول لكم‪ ،‬إنه من‬ ‫الجواب الش���افي والوافي‪ .‬ولكن يكفي ْ‬ ‫ال‪-‬‬ ‫أجل البحث عن الماء في باطن األرض‪ ،‬ينبغي عليكم ‪-‬أو ً‬ ‫أن تدرسوا هيكلية سطح األرض‪ ،‬وتطلعوا على شكل انحدار‬ ‫وإن س���ألتم عن الس���بب في اختيار س���يدنا‬ ‫طبقاته���ا من الجو‪ْ .‬‬ ‫س���ليمان ‪َ ‬ج ّدي من بين جمي���ع الطيور‪ ،‬أقول‪ :‬ألنه يملك‬ ‫ق���درة خاصة في الكش���ف ع���ن الماء في باط���ن األرض‪ .‬وهو‬ ‫أم���ر عظيم يهتم ب���ه اليوم علماء "الجيولوجي���ا المائية" من بين‬ ‫بجد في هذا المجال‪.‬‬ ‫علمائكم في الجيولوجيا ويعملون ٍّ‬

‫حكمة اآليات‬

‫عندما افتقد سيدنا سليمان ‪َ ‬ج ّدي الهدهد قال‪﴿ :‬لأَ ُ َع ِّذ َب َّن ُه‬ ‫َع َذ ًاب���ا َش ِ‬ ‫يدا َأ ْو لأَ َ ْذ َب َح َّن ُه َأ ْو َلي ْأ ِتي ِّني بِس��� ْل َط ٍ‬ ‫ِين﴾؛ وأعتقد‬ ‫ان ُمب ٍ‬ ‫���د ً‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫أن المقص���ود م���ن ذل���ك‪ ،‬وج���وب االس���تئذان م���ن القائد عند‬ ‫مفارق���ة الجماع���ة ول���و كان ذلك في س���بيل عم���ل نافع صالح‬ ‫لها‪ ،‬باإلضافة إلى أن التسيب والخروج عن الطاعة يستوجب‬ ‫العقوبة في س���بيل بقاء الجماعة متماس���كة‪ .‬ويس���تفاد من هذه‬ ‫أيض���ا‪ ،‬أنه يمكن للف���رد أن يتصرف بغي���ر إذن قائده‪،‬‬ ‫الحادث���ة ً‬ ‫اغتنام���ا لفرص��� ٍة ال يمكن معه���ا االنتظار‪ ،‬وأن عل���ى القائد أن‬ ‫ً‬ ‫يتص���رف بما تقتضيه العدال���ة وينصت إلى األعذار التي يبديها‬ ‫المخال���ف قب���ل إن���زال العقوب���ة ب���ه‪ .‬أم���ا عقوبة "الذب���ح" ‪-‬في‬ ‫اعتق���ادي‪ -‬يمكن أن تن ّفذ عند الخيانة العظمى التي تس���تهدف‬ ‫األمة كلها‪ ،‬أو تستهدف النيل من قوتها مع جيشها‪ ،‬كالتجسس‬ ‫وإفشاء األسرار العسكرية للعدو‪ ،‬والفرار من الزحف‪ ،‬والنفير‬ ‫العام للجيش‪ .‬وهذا التهديد في رواية أخرى‪ ،‬س���ببه أن َج ّدي‬ ‫كان قد تخلف عن نوبته في الحراسة‪.‬‬ ‫وف���ي اآليات (‪ )26-22‬ن���رى َج ّدي الهدهد في دفاعه عن‬ ‫الهام الذي شاهده ووقف‬ ‫يبين لرئيس الدولة الموضوع‬ ‫ّ‬ ‫نفسه‪ّ ،‬‬ ‫وعبر ينبغي لنا الوقوف عندها‪ ،‬فنرى‬ ‫عليه‪ .‬وهنا ً‬ ‫أيضا دروس َ‬ ‫في البداية‪ ،‬تصرف سيدنا سليمان ‪ ‬العادل مع رعيته‪ ،‬فكل‬ ‫فرد يمكن أن يتحدث معه في راحة تامة‪ ،‬وبهذا العدل استطاع‬ ‫طت ب َِم���ا َل ْم ُت ِح ْط ِب ِه َو ِج ْئ ُت َك‬ ‫ج���دي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الهدهد أن يقول له‪َ ﴿ :‬أ َح ُ‬ ‫ين﴾؛ فهو يري���د أن يقول له "عل���ى الرغم من‬ ‫���ن َس َ���ب ٍإ ب َِن َب��� ٍإ َي ِق ٍ‬ ‫ِم ْ‬ ‫أن���ك رئي���س دولة‪ ،‬فإن لقوتك وقدرتك‬ ‫ح���دودا‪ ،‬فهناك بلدان‬ ‫ً‬ ‫بعد‪ ...‬لقد اكتشفت‬ ‫ش���يئا ُ‬ ‫لم يبلغها س���لطانك‪ ،‬ولم تعلم عنها ً‬ ‫بلدة سبأ وأمعنت البحث في واقعها‪ ،‬وتوصلت إلى معلومات‬

‫‪37‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫بعد ش���رح طويل أن‬ ‫"المن ِطق"‬ ‫يازِ ير" (‪1942-1877‬م)‪ ،‬يذكر َ‬ ‫ْ‬ ‫م���ن "ال ُّن ْط���ق" وه���و لغ���ة الطي���ر‪ ،‬ولكن ه���ذه اللغ���ة ال تنحصر‬ ‫باألص���وات التي تخرج من الفم فحس���ب‪ ،‬ب���ل هي لغة تعرب‬ ‫معا‪ ...‬ثم يضيف منطل ًقا من هذا‬ ‫عنه���ا األصوات والتصرفات ً‬ ‫المفه���وم فيقول‪" :‬إن س���ليمان ‪ ‬لم يتوقف في معرفته بلغة‬ ‫الطير عند حدود األصوات والتصرفات فحسب‪ ،‬بل تجاوزها‬ ‫إلى المنطق الذي يش���كل أس���اس تلك الحواس"‪ .‬وهذا الفهم‬ ‫في حقيقة األمر‪ ،‬ال ينحصر بسيدنا سليمان ‪ ‬وحده‪ ،‬فنحن‬ ‫مهيؤون لفهمه واستيعابه‪ ،‬ولكن بشرط أن ندرسه بحق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا ّ‬ ‫ونبحث عنه بجدية المتناهية‪.‬‬

‫ِين ‪ْ ‬اذ َه ْب ب ِ​ِك َتابِي َه َذا َف َأ ْل ِق ِه ِإ َل ْيهِ ْم ُث َّم َت َو َّل َع ْن ُه ْم َفا ْن ُظ ْر منطق الطير‬ ‫ا ْل َكا ِذب َ‬ ‫ون﴾(النمل‪.)28-20:‬‬ ‫َما َذا َي ْر ِج ُع َ‬

‫ي���ا له���ا من صورة مبه���رة وبيان معجز! ُت���رى لماذا تحدث‬

‫كت���اب مق���دس كالق���رآن الكري���م ع���ن الطي���ور‪ ،‬واختارني أنا‬

‫باألخص في الحديث مع نبي عظيم كس���ليمان ‪‬؟! ما دمنا‬

‫نؤمن بأن هلل حكمة في كل ش���يء‪ ،‬إذن يجب أن نفكر ونتدبر‬ ‫ف���ي هذه اآليات ونس���تخرج منها الجوانب الت���ي تتعلق بيومنا‬ ‫الحظتم‪،‬‬ ‫الحاض���ر أو مس���تقبلنا اآلت���ي‪ .‬إذا‬ ‫اس���تخدمت تعبير‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫"أن نفك���ر"‪ ،‬وذل���ك ألن األح���كام القطعية‪ُ ،‬يحتم���ل أن تكون‬ ‫عائ ًق���ا ف���ي الوصول إل���ى المعلومات األكثر صح���ة ودقة‪ ،‬كما‬

‫سببا في ا ْنخداعنا بعلمنا البسيط‬ ‫يمكن أن تكون هذه األحكام ً‬ ‫الضح���ل‪ .‬ألنه إذا اتضح مع األي���ام أن القرآن الكريم المعجز‬

‫ب���كل كلماته‪ ،‬يش���ير إل���ى علوم ومكتش���فات جدي���دة أكثر دقة‬

‫وأشد التصا ًقا بالواقع‪ ،‬أكون قد‬ ‫وضعت نفسي في موقع حرج‬ ‫ُ‬

‫بإط�ل�اق أح���كام قطعية‪ ،‬لذا يجب في هذا المقام أن أس���تخدم‬

‫"منطق الطير" بدقة فائقة‪.‬‬

‫و"منطق الطير" مصطلح ورد في مطلع القصة التي ذكرتها‬ ‫اس‬ ‫ود َو َق َ‬ ‫﴿و َورِ َث ُس��� َل ْي َم ُ‬ ‫ال َيا َأ ُّي َها َّ‬ ‫ان َد ُاو َ‬ ‫اآليات الس���ابقة‪َ :‬‬ ‫الن ُ‬ ‫ع ِلمن���ا من ِط���ق الطير و ُأو ِتينا ِمن كل ش‬ ‫���ذا َل ُه َو ا ْل َف ْض ُل‬ ‫���ي ٍء إ َِّن َه َ‬ ‫ُ ّ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ِ َ َ ْ ُ ِّ َ ْ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫الط ْي ِر‬ ‫���ن َوا ِ‬ ‫س َو َّ‬ ‫إل ْن ِ‬ ‫���ر ِل ُس��� َل ْي َم َ‬ ‫ان ُج ُن ُ‬ ‫ود ُه ِم َن ا ْل ِج ِّ‬ ‫ا ْل ُمب ُ‬ ‫ِين َو ُحش َ‬ ‫ون﴾(النمل‪.)17-16:‬‬ ‫وز ُع َ‬ ‫َف ُه ْم ُي َ‬ ‫على الرغم من أن بعض التفاسير ذكرت بأن سليمان ‪‬‬

‫كان يع���رف جمي���ع لغات الطيور‪ ،‬فإنه م���ن الملفت لالنتباه أن‬ ‫���ر﴾ دون "لغة‬ ‫الط ْي ِ‬ ‫﴿من ِط َق ّ‬ ‫الق���رآن الكريم اس���تعمل مصطل���ح ْ‬ ‫الطير"‪ .‬فالمفسر الكبير العالمة التركي " َأ ْلما ِل ِلي محمد حمدي‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪36‬‬

‫بمنطق الطير لدي‪ ،‬يمكن أن أتناول المعاني التي اس���تخرج ُتها‬ ‫من العبارات والتحاليل أعاله من عدة زوايا‪:‬‬ ‫ال‪ ،‬ت���م التركيز على أن "الطي���ران" أمر يحتاج إلى تعمق‬ ‫أو ً‬ ‫في العلم ودقة في الدراسة والبحث‪ ،‬وأن سيدنا سليمان ‪‬‬ ‫يمكننا م���ن الطيران‪،‬‬ ‫ُوه���ب عل���م المب���ادئ الميكانيكي ال���ذي ّ‬ ‫وعرف كذلك قدرة الرياح على الرفع في الهواء‪ ،‬والخصائص‬ ‫أساسيا في الطيران‬ ‫دورا‬ ‫الفس���يولوجية والتشريحية التي تلعب ً‬ ‫ًّ‬ ‫والتحلق في السماء‪.‬‬ ‫���ن ُك ِّل َش���ي ٍء﴾‪ ،‬إش���ارة‬ ‫﴿و ُأو ِت َين���ا ِم ْ‬ ‫ثاني���ا‪ ،‬أعتق���د أن ف���ي‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫إل���ى أهمي���ة الثروة البالغة في الدول؛ فوج���ود الطير مع اإلنس‬ ‫ف���ي جيش س���ليمان ‪ ،‬لف���ت انتبا ٍه إلى الق���وات الجوية أي‬ ‫الطائ���رات‪ .‬وجميعك���م يعرف م���دى أهمية المراقب���ة من الجو‬ ‫والتحرك السريع في التجسس واالستطالع‪.‬‬ ‫أما القسم الذي يتعلق بي في السورة؛ فيمكن أن نفهم من‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫الهدهد‬

‫الطائر الذكي‬

‫طي���ورا كثيرة‬ ‫عزيزي اإلنس���ان‪ ...‬ال ش���ك أن‬ ‫ً‬ ‫حدثتك عن قدرة اهلل تعالى‬ ‫من بنات جنس���ي‬ ‫َ‬ ‫في خلقه‪ ،‬ومن ثم عن عجائب صنعه وبدائع‬ ‫أول‬ ‫حكمت���ه التي تجلت في أجس���امها‪ .‬كان ينبغ���ي أن أكون ّ‬ ‫واحدا م���ن الطيور التي‬ ‫المتحدثي���ن في هذا الش���أن‪ ،‬لكون���ي‬ ‫ً‬ ‫ذكرها اهلل تعالى في قرآنه‪ .‬نعم‪ ،‬تم ذكري في القرآن الكريم‬ ‫ال َأ َرى‬ ‫ال َم���ا ِل َي َ‬ ‫الط ْي َر َف َق َ‬ ‫���د َّ‬ ‫﴿و َت َف َّق َ‬ ‫م���ع النبي س���ليمان ‪َ :‬‬ ‫���ه َع َذ ًاب���ا َش ِ‬ ‫يدا َأ ْو‬ ‫���د َأ ْم َك َ‬ ‫���د ً‬ ‫ا ْل ُه ْد ُه َ‬ ‫ِي���ن ‪ ‬لأَ ُ َع ِّذ َب َّن ُ‬ ‫���ن ا ْل َغا ِئب َ‬ ‫ان ِم َ‬ ‫ِين ‪َ ‬فم َك َث َغي���ر َب ِع ٍ‬ ‫���ه َأ ْو َلي ْأ ِتي ِّن���ي بِس��� ْل َط ٍ‬ ‫ال‬ ‫يد َف َق َ‬ ‫ان ُمب ٍ‬ ‫لأَ َ ْذ َب َح َّن ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ي���ن ‪ِ ‬إ ِّني‬ ‫���م ُت ِح ْط ِب��� ِه َو ِج ْئ ُت َك ِم ْن َس َ���ب ٍإ ب َِن َب ٍإ َي ِق ٍ‬ ‫َأ َح ُ‬ ‫ط���ت ب َِم���ا َل ْ‬ ‫���د ُت ْام َ ِ‬ ‫ش‬ ‫���م َوأُو ِت َي ْت ِم���ن كل ش‬ ‫���ي ٍء َو َل َها َع ْر ٌ‬ ‫َو َج ْ‬ ‫���رأ ًة َت ْمل ُك ُه ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ِّ َ ْ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ون ا ِ‬ ‫���ن ُد ِ‬ ‫هلل‬ ‫���م ِ‬ ‫���ج ُد َ‬ ‫ون ِل َّ‬ ‫س ِم ْ‬ ‫ي���م َو َج ْد ُت َه���ا َو َق ْو َم َها َي ْس ُ‬ ‫لش ْ‬ ‫َعظ ٌ‬ ‫الش���ي َط ُ َ‬ ‫ال‬ ‫ِيل َف ُه ْم َ‬ ‫الس���ب ِ‬ ‫َو َز َّي َ‬ ‫ان أ ْع َما َل ُه ْ‬ ‫���ن َل ُه ُ‬ ‫���م َّ ْ‬ ‫���م َف َص َّد ُه ْم َع ِن َّ‬ ‫لهلِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫ون ‪َ ‬أ َّ‬ ‫َي ْه َت ُد َ‬ ‫الس َم َ‬ ‫ال َي ْس ُج ُدوا ا َّلذي ُي ْخ ِر ُج ا ْل َخ ْب َء في َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ال ُه َو‬ ‫هلل َ‬ ‫ال ِإ َل َه ِإ َّ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���ون ‪ ‬ا ُ‬ ‫ون َو َما ُت ْع ِل ُن َ‬ ‫���م َم���ا ُت ْخ ُف َ‬ ‫ض َو َي ْع َل ُ‬ ‫���ت ِم َن‬ ‫ي���م ‪َ ‬ق َ‬ ‫���ر ِ‬ ‫ش ا ْل َع ِظ ِ‬ ‫���ت َأ ْم ُك ْن َ‬ ‫���ال َس َ���ن ْن ُظ ُر َأ َص َد ْق َ‬ ‫َر ُّب ا ْل َع ْ‬

‫‪35‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫بالحاجة إلى االهتداء بها وإتيان أفعاله على وفقها‪.‬‬

‫أن يوفر لإلنس���ان الراحة النفس���ية والس���لوى والرضا‪ ،‬ألنه في‬

‫والح���ال أنه ليس ف���ي األطوار التي تقلب���ت فيها الحضارة‬

‫عالما للكفاءة والفعالية والقياس والتنبؤ‪،‬‬ ‫الوقت الذي وفر فيه ً‬

‫هذا الميل الفطري لدى اإلنسان مخالفة الواقع الكوني له‪ ،‬فهو‬

‫الروح���ي كما يؤكد "ماكس فيب���ر"‪ .‬إنه عالم بارد غير مضياف‪،‬‬

‫اإلنس���انية كم���ا يذهب الدكتور طه عب���د الرحمن "طور خالف‬

‫يق���ر بوج���ود القيم‪ ،‬لكنه ال يقر بوج���ود اآليات‪ ،‬وال يخفى أن‬ ‫الفصل بين اآلية والقيمة إجراء تجريدي صناعي‪ ،‬بل تصنعي‪،‬‬

‫ذلك أن اآليات ال تعدو كونها الظواهر عينها وقد تلبست بها‬ ‫القيم‪ ،‬والظواهر إنما هي اآليات وقد انتزعت منها هذه القيم‪،‬‬

‫فه���ذا االنتزاع يؤدي إلى تجريد القيم من المواد التي تتجس���د‬ ‫فيها أو من الموضوعات التي تحملها‪ ،‬ثم وضعها في عالم ال‬

‫وج���ود ل���ه إال في األذهان‪ ،‬قد يزع���م بعضهم أنه عالم المثال‪،‬‬ ‫أي عالم ال يأوي إال الصور المجردة"‪.‬‬

‫حريص���ا عل���ى تعلي���م تالمذته‬ ‫لق���د كان اإلم���ام النورس���ي‬ ‫ً‬

‫ومحبي���ه أن كل عل���م من العلوم الت���ي يقرءونها يبحث عن اهلل‬ ‫ويعرف بالخالق الكريم بلغته الخاصة‪.‬‬ ‫دوما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫من موجبات اش���تغال العقل اإليماني المؤيد‪ ،‬أن ال تنفك‬

‫أي علم عن معرفة اهلل تعالى فيه‪ ،‬فكل معرفة‬ ‫معرف���ة موض���وع ّ‬

‫مفتاحا من مفاتيح االهتداء إلى طريق اهلل‬ ‫عقلية كاملة‪ ،‬تشكل‬ ‫ً‬

‫بقدر ما هي علمك بالموضوع الذي تختص ببحثه وبالكشف‬ ‫ع���ن قوانين���ه‪ .‬فالموضوع���ات أو الموجودات الت���ي تنظر فيها‬

‫العل���وم‪ ،‬هي ‪-‬على التحقيق‪ -‬مجلى ق���درة اهلل ومظهر صنعه‪،‬‬

‫عالم���ا‬ ‫فاق���دا للمعنى الخف���ي‪ ،‬وال يهتم باإلش���باع‬ ‫ق���دم ً‬ ‫ً‬ ‫أيض���ا ً‬ ‫الحقيقة فيه ليس���ت الجم���ال أو الفضيلة أو ما هو نافع ويخدم‬

‫غاي���ات نبيل���ة‪ ،‬إن القيمة والعاطفة واألمل والمخاوف ليس���ت‬ ‫من اهتماماته‪.‬‬

‫وإذا ل���م تك���ن ه���ذه القيم اإلنس���انية من انش���غاالت العقل‬

‫الم���ادي واهتمامات���ه‪ ،‬ف���إن النورس���ي يل���ح بالج���واب على أن‬

‫اإليم���ان ه���و الذي يقي���م بين القل���ب والعقل‪ ،‬وه���و الحارس‬ ‫المعن���وي األمي���ن ال���ذي يراق���ب مي���والت النف���س وتطلعاتها‬

‫عبدا هلل الواحد األح���د‪ ،‬متخل ًقا‬ ‫الفاس���دة حت���ى يبقى اإلنس���ان ً‬

‫باألخ�ل�اق المحمدية‪ ،‬ف���ي زمن بات الخطر الكبير الذي يهدد‬

‫حاضر ومس���تقبل الغرب‪ ،‬هو الصعود المأس���اوي لنوع جديد‬

‫من األزمات؛ أزمة اإلنسان‪.‬‬ ‫(*) أكاديمي ومفكر مغربي‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬كليات رس���ائل النور (المكتوبات‪ ،‬اللمعات‪ ،‬الكلمات‪ ،‬إشارات اإلعجاز‪،‬‬ ‫الش���عاعات‪ ،‬س���يرة ذاتية‪ ،‬الخطبة الش���امية)‪ ،‬لبديع الزمان سعيد النورسي‪،‬‬

‫ترجمة‪ :‬إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫(‪ )2‬إمامة األمة‪ ،‬لياسين عبد السالم‪ ،‬ط‪ ،2009 ،1‬دار لبنان للطباعة‪.‬‬

‫وكل من سرح فيها فكره وكان ذا عقل كامل‪ ،‬وجب أن يدركه‬

‫(‪ )3‬المواقف والمخاطبات‪ ،‬لـ"النفري عبد الجبار"‪ ،‬تحقيقآرثر أربري‪ ،‬تقديم وتعليق‬

‫ف���ي اس���تعارة رائع���ة يقول النورس���ي‪" :‬إن الق���رآن الحكيم‬

‫الجم���ع بي���ن القراءتين‪ ،‬قراءة الوحي وق���راءة الكون‪ ،‬لـ"العلواني طه جابر"‪،‬‬

‫اقترابا منه‪.‬‬ ‫فيها وأن يزداد‬ ‫ً‬

‫بمثابة عقل األرض وفكرها الثاقب‪ ،‬فلو خرج القرآن ‪-‬والعياذ‬ ‫لج ّن���ت األرض"‪ .‬وإن جنون األرض‪،‬‬ ‫ب���اهلل‪ -‬من هذه األرض ُ‬

‫(‪)4‬‬

‫عبد القادر محمود‪ ،‬مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،1985 ،‬القاهرة‪.‬‬

‫ط‪ ،2006 ،1‬مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫(‪ )5‬تهافت الفالس���فة‪ ،‬للغزالي أبو حامد‪ ،‬تعليق محمد السعيد محمد‪ ،‬المكتبة‬ ‫التوفيقية ‪ ،2003‬مصر‪.‬‬

‫ه���و جملة األم���راض واألزمات التي تنبأ بها النورس���ي عندما‬

‫(‪ )6‬العم���ل الدين���ي وتجديد العق���ل‪ ،‬للدكتور طه عبد الرحم���ن‪ ،‬ط‪،1997 ،2‬‬

‫الت���ي تطحنهم في رحاها‪ ،‬ف�ل�ا يعيش إال القوي‪ ،‬وال يتأمر إال‬

‫الح���ق اإلس�ل�امي في االختالف الفك���ري‪ ،‬للدكتور طه عبد الرحمن‪ ،‬ط‪،1‬‬

‫تنفصل اآليات عن القيم‪ ،‬فتتحكم في دنيا الناس القيم المادية‬

‫ال أعلى إال الفارغ الغوي‪.‬‬ ‫المحتال الذكي‪ ،‬وال يكون مث ً‬

‫إن الغاي���ة م���ن إعم���ال العق���ل عند اإلم���ام النورس���ي‪ ،‬هي‬

‫تحقيق التفكر واالعتبار‪ ،‬ومقتضى االعتبار ‪-‬كما يقول طه عبد‬ ‫الرحمن‪ -‬هو العبور من أحكام النظر إلى أسرار العبر‪ ،‬فيكون‬

‫المعتبِر حقيقة هو م���ن يرى الظواهر على أنها آيات‪،‬‬ ‫اإلنس���ان ُ‬ ‫وينسب السيادة على الكون والوجود إلى صاحب هذه اآليات‪.‬‬ ‫ه���ذا وإن العل���م بمعناه الم���ادي‪ ،‬قد فش���ل ‪-‬بالتأكيد‪ -‬في‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪34‬‬

‫(‪)7‬‬

‫المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء ‪ -‬بيروت‪.‬‬

‫‪ ،2005‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء ‪ -‬بيروت‪.‬‬

‫(‪ )8‬روح الحداثة‪ ،‬المدخل إلى تأس���يس الحداثة اإلس�ل�امية‪ ،‬للدكتور طه عبد‬ ‫(‪)9‬‬

‫الرحمن‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء ‪ -‬بيروت‪.‬‬

‫سؤال األخالق‪ ،‬مساهمة في النقد األخالقي للحداثة الغربية‪ ،‬للدكتور طه‬ ‫عبد الرحمن‪ ،‬ط‪ ،2000 ،1‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء ‪ -‬بيروت‪.‬‬

‫‪John F. Haught. Science and Religion, Paulist press, New‬‬

‫)‪(10‬‬

‫‪York, 1995, p15.‬‬ ‫‪Philipe Saint Marc. L’Economie Barbare, Frison Roche,‬‬

‫)‪(11‬‬

‫‪1994, p15.‬‬


‫واإليجاد إلى الوس���ائط‪ ،‬ويسندون إليها‬ ‫التأثير‪ ،‬ويري���دون بلوغ حقيقة الحقائق‪،‬‬

‫ومعرفة اهلل ‪ ‬عن طريق العقل والفكر‬

‫وحده‪ ،‬كالحكماء المشائيين‪.‬‬

‫كما اجتهد اإلمام النورس���ي ‪-‬رحمه‬

‫اهلل‪ -‬ف���ي ال���رد عل���ى حج���ج فالس���فة‬ ‫الحتمي���ة الس���ببية بمنط���ق يش���ي بمعرفة‬ ‫واس���عة بمذاهبه���م‪ ،‬وف���ي الوق���ت ذات���ه‬

‫باطالع واس���ع على أدبي���ات المتكلمين‬ ‫والفالس���فة المس���لمين‪ .‬كم���ا يظه���ر‬ ‫للق���ارئ أن مناقش���ته للحتميين‪ ،‬ش���بيهة‬ ‫بمناقش���ة اإلم���ام الغزال���ي ف���ي تهاف���ت‬ ‫الفالس���فة في إبطال قولهم في استحالة‬

‫وحينم���ا يقارن النورس���ي بين منطق‬

‫الإن�سان �إذا تدارك غفلته‪ ،‬فتاب‬ ‫عقله عن عنجهيت��ه ومترده على‬ ‫خالقه‪ ،‬و�سجد بني يديه �سبحانه‬ ‫معرتفً��ا بالتق�ص�ير وال�ض��عف‬ ‫والتناه��ي‪ ،‬تداركته ي��د العناية‪،‬‬ ‫فيتح��ول العقل اجلام��د �إىل عقل‬ ‫ح��ي‪ ،‬وينقلب العق��ل املحبو�س‬ ‫�إىل عقل منطلق‪ ،‬ويرتفع الإن�سان‬ ‫م��ن وه��دة البهيمي��ة الراتعة �إىل‬ ‫مراقي الت�رشيف والتكرمي‪.‬‬

‫خ���رق الع���ادات‪ ،‬وهو مبح���ث خصصه‬

‫لنفي رجوع االقتران لمنطق السببية‪ ،‬بل لما سبق من تقدير اهلل‬

‫سبحانه‪ ،‬يخلقها على التساوق ال لكونه‬ ‫ضروريا في نفسه غير‬ ‫ًّ‬ ‫وأي َو ْهم!‬ ‫"أي هذرٍ هذا‪ّ ،‬‬ ‫قابل للفرق‪ .‬يقول اإلمام النورسي‪ّ :‬‬ ‫بعيدا كل البعد عن سالمة العقل؟ فالذين‬ ‫أليس الذي يتفوه به ً‬ ‫يحيل���ون أم���ر الخل���ق واإليج���اد في ه���ذا الكون البدي���ع‪ ،‬إلى‬

‫األس���باب وإلى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا‪،‬‬ ‫وذل���ك ألن مظاهر اإلب���داع واضحة على األس���باب والطبيعة‬

‫نفسها‪ ،‬فهي مخلوقة كسائر المخلوقات‪ .‬فالذي خلقها ‪-‬على‬ ‫أيضا‬ ‫ه���ذه الصورة البديعة‪ -‬هو الذي يخل���ق آثارها ونتائجها ً‬

‫معا"‪.‬‬ ‫ويظهرها ً‬

‫ضعت "لتبقى عز ُة‬ ‫ويوضح النورس���ي أن األس���باب إنما ُو َ‬ ‫القدرة مصون ًة من جهة نظر العقل الظاهري؛ إذ إن لكل شيء‬ ‫"الملك" الش���بيهة‬ ‫جهتي���ن ‪-‬كوجه���ي المرآة‪ -‬إحداهم���ا جهة ُ‬

‫بالوج���ه المطلي‬ ‫المل���ون للمرآة‪ ،‬الذي يك���ون موضع األلوان‬ ‫ّ‬ ‫والح���االت المختلف���ة‪ ،‬واألخرى جه���ة "الملكوت" الش���بيهة‬

‫الملك‪-‬‬ ‫بالوجه الصقيل للمرآة‪ .‬ففي الوجه الظاهر ‪-‬أي جهة ُ‬ ‫هن���اك ح���االت منافية‬ ‫ظاهرا لعزة الق���درة الصمدانية وكما ِلها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرجعا لتلك الحاالت‬ ‫األس���باب كي تكون‬ ‫ضعت‬ ‫ووسائل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫فو َ‬ ‫ُ‬ ‫له���ا‪ .‬أم���ا جه ُة الملك���وت والحقيقة‪ ،‬فكلُّ ش���يء فيها‬ ‫ش���فاف‬ ‫ٌ‬ ‫وجمي���ل ومالئم لمباش���ر ِة ِ‬ ‫يد الق���درة لها بذاتها ولي���س‬ ‫منافيا‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫لعزتها‪ .‬لذا فاألسباب ظاهرية بحتة‪ ،‬وليس لها التأثير الحقيقي‬ ‫ّ‬ ‫في الملكوتية أو في حقيقة األمر"‪.‬‬

‫الق���رآن ومنطق المتكلمي���ن‪ ،‬يفصح عن‬ ‫صورة تقدم الوحي وترفعه فال توازيه في‬

‫منزلت���ه اإلقناعية منزل���ة المتكلمين مهما‬ ‫تفنن���وا وبرعوا‪ ،‬فيقول‪" :‬فمن هذا الس���ر‬

‫يتبي���ن أن علم���اء ال���كالم‪ ،‬وإن تتلم���ذوا‬ ‫على القرآن الكريم وأ ّلفوا ألوف الكتب‬

‫‪-‬بعضها عش���رات المجلدات‪ -‬إال أنهم‬

‫لترجيحهم العقل على النقل كالمعتزلة‪،‬‬

‫عش���ر‬ ‫عج���زوا عن أن يوضحوا ما تفيده‬ ‫ُ‬ ‫آي���ات من الق���رآن الكري���م وتثبت���ه إثبا ًتا‬ ‫قاطع���ا بما ي���ورث القناع���ة واالطمئنان‪،‬‬ ‫ً‬

‫ذل���ك ألنه���م يحفرون عيو ًنا في س���فوح‬ ‫جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء إلى أقصى‬

‫العالم بوساطة أنابيب‪ ،‬أي بسلسلة األسباب‪ ،‬ثم يقطعون تلك‬ ‫السلسلة هناك‪ ،‬فيثبتون وجود واجب الوجود والمعرفة اإللهية‬

‫التي هي كالماء الباعث على الحياة! أما اآليات الكريمة‪ ،‬فكل‬ ‫تـفــج���ر المـــاء أينما‬ ‫واح���دة منها كــعصا موس���ــى تس���تــطيع أن ّ‬

‫ضربت‪ ،‬وتفــتــح من كل شـــيء نافذ ًة تــدل على الصانع"‪.‬‬

‫إن النورسي من خالل هذا الكالم التمثيلي الرائع‪ ،‬يوضح‬

‫حاجزا‬ ‫كيف يمضي تفس���ير القرآن للس���ببية من غي���ر أن تصير‬ ‫ً‬ ‫ع���ن إدراك العقل للوجود في كليت���ه‪ ،‬للوجود المتمكن بقدرة‬

‫اهلل التي تفعل فيه وبه ما تش���اء‪ .‬كما يبين في الوقت ذاته كيف‬ ‫أن الس���ببية الجامدة تش���ل حركية العقل المادي وتأسره‪ ،‬فهي‬

‫خارجا عن قانون‬ ‫ش���يئا‬ ‫تح���د من طاقته اإلبداعية‪ ،‬فال يتصور‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وس َك َن في قفصه إلى األبد‪.‬‬ ‫َو َض َع ُه َ‬

‫العقل والجمع بين اآليات والقيم‬

‫العقل المؤيد بالوحي واإليمان عقل يصل بين اآليات والقيم‪.‬‬

‫ومعل���وم أن أحد أس���باب التردي واالنهي���ار في الواقع الكوني‬

‫اليوم‪ ،‬هو س���يطرة فلسفات ومناهج معرفية تفصل بين اآليات‬ ‫والقي���م‪ .‬والحقيق���ة أنه ال ن���زاع في أن الكائن اإلنس���اني يميل‬

‫بفطرت���ه التي خلقه اهلل تعالى عليها‪ ،‬إلى أن يجد في األحداث‬ ‫الت���ي تجري م���ن حوله دالالت تجاوز واقعه���ا‪ .‬وهو يرى في‬

‫حصولها إشارات تتعدى الظواهر‪ ،‬وتحمل إليه هذه الدالالت‬ ‫قيما عليا يش���عر‬ ‫الدقيق���ة واإلش���ارات الخفية‪ ،‬معاني بعيدة أو ً‬

‫‪33‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫ناتجا من عدم اإليمان‪ ،‬ب���ل من غلبة الهوى العقل مفتاح الكنـوز الخالدة‬ ‫ارت���كاب الكبائ���ر ً‬

‫وغ َلبة‬ ‫وسيطرة الوهم‬ ‫والحس المادي‪ ،‬وانهزام العقل والقلب َ‬ ‫ّ‬

‫مفتاحا للكنوز عند اإلمام النورسي ‪-‬رحمه‬ ‫حتى يكون العقل‬ ‫ً‬

‫واإلنس���ان إذا ت���دارك غفلت���ه‪ ،‬فت���اب عقل���ه ع���ن عنجهيته‬

‫يتح���دث أول األم���ر ع���ن العق���ل بما ه���و فعل القل���ب‪ ،‬وليس‬

‫والضعف والتناهي‪ ،‬تداركته يد العناية‪ ،‬فيتحول العقل الجامد‬

‫من هذا المنطلق الرباني إشعاعات قلبية مهتدية بهداية القرآن‪،‬‬

‫ويرتفع اإلنس���ان من وه���دة البهيمية الراتعة بال مس���ؤولية وال‬

‫فال إشعاع للعقل حتى يكون القلب مصدره الذي يخرجه‬

‫النورس���ي رضي اهلل عنه‪" :‬وانظر إلى اإلنس���ان كيف تر َّقى من‬

‫في س���هولة ويسر وانس���جام ووئام؛ قراءة كتاب اهلل المسطور‪،‬‬

‫ألحزان الماضي ومخاوف المس���تقبل‪ ،‬تر ّقى إلى أوج الخالفة‬

‫أش���كالها ومعانيه���ا‪ ...‬كت���اب من���زل متلو معجز وه���و القرآن‪،‬‬

‫كل أولئك عليهم"‪.‬‬

‫اهلل‪ -‬ينبغي أن يرتبط بالقرآن الكريم‪ ،‬وبتصوره الشمولي الذي‬

‫وتمرده على خالقه‪ ،‬وسجد بين يديه سبحانه معتر ًفا بالتقصير‬

‫ال عنه‪ .‬بل الممارس���ة العقلية ف���ي أجلى صورها تكون‬ ‫مفص���و ً‬

‫إل���ى عق���ل حي‪ ،‬وينقل���ب العقل المحبوس إل���ى عقل منطلق‪،‬‬

‫وهذا معنى قول النورسي‪" :‬نور العقل يشع من القلب"‪.‬‬

‫رقاب���ة أخالقية إل���ى مراقي التش���ريف والتكريم‪ ،‬يق���ول اإلمام‬

‫إيمانيا‪ ،‬حيث يجمع العق���ل المؤمن آنئذ بين قراءتين‬ ‫مخرج���ا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫حضيض الحيوانية الذي هوى إليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل‬

‫وق���راءة كت���اب اهلل المنظ���ور "للخ���روج م���ن إس���ار األمية بكل‬

‫أس���باب‬ ‫بتنور ذلك العقل والعجز والفقر‪ .‬فانظر كيف صارت‬ ‫ُ‬ ‫أسباب صعوده بسبب تنورها‬ ‫سقوطه ‪-‬من عجز وفقر وعقل‪-‬‬ ‫َ‬

‫وكت���اب مخلوق مفت���وح وهو هذا الخلق والك���ون والتجارب‬

‫بنور هذا الشخص النوراني"‪.‬‬

‫وحقيق���ة ارتقاء العقل ال تكون إال بأخذه باإليمان وبالقيم‬

‫منف���ردا إل���ى ضرب‬ ‫األخالقي���ة‪ ،‬وإال اس���تحال أم���ر تحكيم���ه‬ ‫ً‬ ‫م���ن التأليه ال���ذي يودي بالحياة اإلنس���انية إلى أت���ون الفوضى‬

‫واالقتتال‪ ،‬يقول النورسي‪" :‬القلب اإلنساني إذا انتزع منه الرأفة‬ ‫والرحم���ة واالحت���رام‪ ،‬فإن العقل والذكاء يس���يطران ‪-‬عندئذ‪-‬‬

‫عل���ى زم���ام اإلنس���ان‪ ،‬ويجع�ل�ان أولئ���ك الن���اس كالوح���وش‬ ‫الضارية والكالب المسعورة"‪.‬‬

‫وهكذا فإن الترتيب الفطري لإلنسان يرفع القلب إلى مقام‬

‫وزيرا له والحواس َخ َد َمة‪ ،‬فإذا فسدت‬ ‫اإلمارة‪ ،‬ويجعل العقل‬ ‫ً‬ ‫الفط���رة َت َأ َّمر العق���ل‪ ،‬وتمرد على القلب ومعانيه‪ ،‬وهذا فس���اد‬

‫العقل الفلسفي العبثي‪ ،‬فإن فسدت الفطرة الفساد التالي للفساد‬ ‫���خ َر‬ ‫المالزم له‪،‬‬ ‫األول‪،‬‬ ‫وس َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الناتج عنه‪َ ،‬ت َأ َّم َر الهوى بش���هواته‪َ ،‬‬ ‫العقل ألغراضه‪ ،‬وطرد معاني القلب من القيم اإليمانية العالية‪.‬‬ ‫وق���د اس���تمر النورس���ي ط���وال حيات���ه‪ ،‬يداف���ع ع���ن العقل‬

‫األخالق���ي ال���ذي يرج���ح القي���م اإلنس���انية النبيل���ة عل���ى القيم‬ ‫اإلنس���انية المنحطة‪ ،‬ويذكر في كل مناس���بة أن قيمة العقل من‬

‫قيم���ة األخالق التي يدافع عنها‪ ،‬يق���ول‪" :‬فلئن كانت المداهنة‬ ‫والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في س���بيل المصـلحة‬

‫تعد من مقتضى العقل‪ ...‬فاش���هدوا أني أقدم براءتي‬ ‫الخاصة‪ّ ،‬‬

‫البشرية فيه"‪.‬‬

‫والعق���ل المفت���اح عند النورس���ي‪ ،‬عقل متجاوز باس���تمرار‬

‫لقشور الحكم إلى لب الحكمة‪ ،‬فهو مفتاح رائع‪" ،‬بحيث يفتح‬

‫م���ا ال يعد من خزائن الرحمة اإللهي���ة وكنوز الحكمة الربانية‪،‬‬ ‫فأينم���ا ينظ���ر صاحبه وكيفم���ا يفكر‪ ،‬يرى الحكم���ة اإللهية في‬ ‫كل ش���يء وكل موجود وكل حادثة‪ ،‬ويش���اهد الرحمة اإللهية‬ ‫ٍ‬ ‫مرش���د‬ ‫متجلية على الوجود كله‪ ،‬فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة‬ ‫رباني يهيئ صاحبه للسعادة الخالدة"‪.‬‬

‫ويش���ترط النورس���ي حتى يك���ون العقل مفت���اح الكنوز‪ ،‬أن‬

‫يتحلى بالتوحيد‪ ،‬حتى يخرج من الوحشة والخوف والضعف‪،‬‬ ‫ذلك أن "التوحيد هو نفس���ه أوضح برهان وأس���طع دليل على‬

‫الكم���ال والجم���ال اإلله���ي‪ ،‬ألن���ه إذا ُع���رف أن صان���ع الكون‬

‫المشاهدة‬ ‫فسيعرف جميع أنواع الكمال والجمال‬ ‫َ‬ ‫واحد أحد‪ُ ،‬‬ ‫في الوج���ود‪ ،‬بأنها ظالل وتجليات وعالم���ات ألنواع الكمال‬

‫المنزه لذلك الصانع الواحد األحد‪،‬‬ ‫المقدس وأنماط الجمال‬ ‫ّ‬

‫لذل���ك الكمال المق���دس والجمال المنزه‪ .‬بينم���ا إذا لم ُيعرف‬

‫الصانع الواحد‪ ،‬فس���تحال تلك الكماالت وأنواع الجمال إلى‬ ‫ُ‬

‫األس���باب التي ال ش���عور لها وإلى مخلوقات عاجزة‪ ،‬وعندها‬ ‫يحار العقل البشري أمام خزائن الكمال والجمال السرمديين‪،‬‬

‫ألنه َف َق َد مفتاح تلك الكنوز الخالدة"‪.‬‬

‫مفتخرا بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبة منطق السببية والعقل الملكي‬ ‫من هذا العقل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫من مراتب البراءة"‪.‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫يتحدث النورس���ي عن َع َبدة األسباب‪ ،‬والذين يحيلون الخلق‬

‫‪32‬‬


‫المطلق أو في سبيل اهلل ‪-‬كما يرى النورسي‪" -‬فإنه يتحول إلى‬

‫الح���س‪ ،‬يتلقفه���ا العق���ل اإليمان���ي المؤيد لمعات ال يس���تقيم‬

‫يحملك آالم الماضي الحزينة‬ ‫عضو مشؤوم مزعج وعاجز‪ ،‬إذ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وأهوال المستقبل المخيفة‪ ،‬فينحدر‬ ‫عندئذ إلى درك آلة ضارة‬

‫تضيق فال تتس���ع للتعبي���ر عن هذه الحقائ���ق المتوارية‪ ،‬و"عدم‬

‫في اللهو أو الس���كر إنقا ًذا لنفسه من إزعاجات عقله؟"‪ .‬وليس‬

‫م���ا يتقاصر ع���ن أن يترجم عن دقائق ما ف���ي تصورات العقل‪،‬‬

‫مشؤومة‪ .‬أال ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس‬

‫هذا الهروب س���وى قطع للعقل‪ ،‬بما هو آلة إدراك للعالم عن‬ ‫الفعل النبيل والبناء في هذا العالم‪ ،‬بما هو الفعل نفس���ه إدراك‬

‫للغاي���ة الت���ي من أجلها خل���ق الكائن اإلنس���اني وألجلها ُك ِّرم‪:‬‬ ‫ال ِلي ْعب ُد ِ‬ ‫ون﴾(الذاريات‪ ،)56:‬حيث‬ ‫﴿و َم���ا َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ‬ ‫َ‬ ‫إل ْن َ‬ ‫���س ِإ َّ َ ُ‬ ‫ال يستقيم وجود عبادة بدون عقل‪ ،‬وال عقل بدون عبادة‪.‬‬

‫مراتب الوجود ومراتب العقول‬

‫تناوله���ا بمي���زان العق���ل المج���رد وقوانينه‪ ،‬بل إن اللغة نفس���ها‬ ‫كثيرا‬ ‫التعبي���ر لي���س َع َل ًما عل���ى عدم الوجود‪ .‬فكما أن اللس���ان ً‬ ‫كذل���ك ق���د ال يت���راءى ب���ل يتغامض ع���ن العقل س���رائر ما في‬

‫الوجدان‪ ،‬فكيف يترجم عن كل ما فيه؟"‪.‬‬

‫وإذا كان هذا في س���رائر الوجدان‪ ،‬فكيف بس���رائر األكوان‬

‫مم���ا ه���و كائ���ن أو كان‬ ‫خصوص���ا إذا تفاعل���ت النف���س به���ذه‬ ‫ً‬

‫اللمع���ات‪ ،‬يقول النورس���ي‪" :‬لقد مازج هذه اللمعة ش���يء من‬ ‫األذواق والمشاعر‪ ،‬فأرجو عدم تقييمها بموازين علم المنطق‪،‬‬

‫يذهب النورسي إلى أن "أهل الحكمة وأهل الدين وأصحاب‬

‫ألن م���ا تجي���ش به المش���اعر ال يراعي‬ ‫كثي���را قواعد العقل وال‬ ‫ً‬

‫في عالم الشهادة هذا‪ ،‬وأن عالم الشهادة الظاهر الجامد الذي‬

‫إنها حقائق الوجود حين تتأبى على الوصف‪ ،‬وتخرج عن‬

‫العقل والنقل‪ ،‬متفقون‬ ‫ضمنيا على أن الموجودات ال تنحصر‬ ‫ًّ‬

‫ال يكاد يتفق مع إقامة األرواح وتش���كلها‪ ،‬قد تزين بهذا العدد‬ ‫الهائل من ذوي األرواح واألنس���ام‪ ،‬لذا فالوجود ال يمكن أن‬

‫سمعا إلى موازين الفكر"‪.‬‬ ‫يعير‬ ‫ً‬

‫طوق الترسيم كما قال النفري صاحب المواقف والمخاطبات‪:‬‬

‫"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"‪.‬‬

‫منحصرا فيه‪ ،‬بل هناك طبقات أخرى كثيرة من الوجود‪ ،‬ارتقاء العقل‬ ‫يكون‬ ‫ً‬

‫ستارا‬ ‫بحيث يصبح عالم الشهادة بالنسبة لها‬ ‫مزركشا‪ .‬وما دام‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫لقد أبان النورسي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬على أن منهج التربية في القرآن‬

‫لألسماك‪ -‬فالبد أنهما يزخران بأرواح مالئمة لهما"‪.‬‬

‫وصناع���ة تطلعات���ه ف���ي الحياة‪ ،‬وبم���ا يمنحه من ق���درات على‬

‫عالم الغيب وعالم المعنى مالئمين لألرواح ‪-‬كمالئمة البحار‬

‫كما يعلي من قيمة العقل بما هو حاكم وسبب في رقي اإلنسان‬

‫أيضا فوق بعض‪،‬‬ ‫عوالم بعضها فوق بعض‪ ،‬وعقول بعضها ً‬

‫االبتكار واإلبداع في دنيا االبتالءات‪ ،‬فإنه في مسيس الحاجة‬

‫في ظلمات الكون المادي وما أودع اهلل فيه من أس���باب‪ ،‬حتى‬

‫إذ العق���ل عند اإلمام النورس���ي‪ ،‬في مس���يس الحاجة لنفحات‬

‫ومنزلة العقل المادي فيها ال تعدو منزلة خفاش "جيد اإلبصار‬

‫إذا خرج من كهفه ذاك إلى حيث تسطع شمس حقائق الغيب‬

‫عم���ي عم���ى مطب ًقا‪ ،‬وأنك���ر أن يكون في الوج���ود غير ما وقع‬

‫عليه حسه الكليل"‪.‬‬

‫لنفحة اإليمان تحفظه من المهالك وتجعله على أقوم المسالك‪.‬‬ ‫الرحمن واالتصال بالمطلق (اهلل) حتى يجد معنى‬ ‫حقيقيا لهذه‬ ‫ًّ‬ ‫الحياة‪ ،‬ويبقى على خط البناء والعمران ال الهدم والخس���ران‪.‬‬ ‫صراعا‬ ‫والبقاء على خط االستقامة والبناء‪ ،‬يستلزم‬ ‫مستمرا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫ولم���ا تعددت مراتب الوج���ود وطبقاته‪ ،‬حتى كان الوجود‬

‫مع خصوم اإلنسان وأعدائه في الداخل والخارج على محور‬

‫أيضا مرات���ب يوافق منها كل واح���د مرتبة من مراتب‬ ‫العق���ول ً‬

‫أحاسيس اإلنسان‪ ،‬ال ترضخ لموازين‬ ‫والغفلة‪" ،‬وعندما تهيج‬ ‫ُ‬

‫ش���يئا أمام عظم الوجود عامة‪ ،‬كانت‬ ‫الحس���ي أدناها وال يمثل ً‬ ‫الوج���ود‪ .‬فعل���ى قدر تحقق اإلنس���ان بواحد من ه���ذه العقول‪،‬‬

‫كان له االطالع الالئق بالمرتبة المطلوبة من الوجود المتواري‬ ‫خل���ف الح���س‪ .‬وه���ذه العق���ول تتدرج ف���ي القوة حت���ى يكون‬ ‫أضعفها هو العقل الحسي المجرد وأقواها هو العقل اإليماني‬ ‫المؤيد‪ ،‬وبينهما مراتب من العقل الشرعي المسدد‪.‬‬

‫وإن مع���ارف المرات���ب العالي���ة من الوج���ود الخارجة عن‬

‫االبت�ل�اء‪ ...‬وله���ذا كان اإلنس���ان دائ���م المراوح���ة بي���ن الذكر‬

‫العقل‪ ،‬بل الهوى هو الذي يتحكم‪ ،‬فيرجح عندئذ لذ ًة حاضر ًة‬ ‫جدا على ثواب عظيم في العقبى‪ ،‬ويتجنب ضي ًقا‬ ‫جزئيا‬ ‫ضئيلة ًّ‬ ‫ًّ‬

‫ال‪ .‬ولما كانت الدوافع‬ ‫أليما مؤج ً‬ ‫حاضرا أكثر من تجنبه ً‬ ‫عذابا ً‬ ‫ً‬ ‫حثا‬ ‫النفس���انية ال ترى المس���تقبل بل قد تنكره ‪-‬وإن كان هناك ًّ‬ ‫له���ا من النف���س وعو ًنا‪ -‬فإن القلب والعق���ل اللذين هما محل‬

‫اإليم���ان‪ ،‬يس���كتان ُفيغلب���ان عل���ى أمرهم���ا‪ .‬فال يك���ون عندئذ‬

‫‪31‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إدريس مقبول*‬

‫العقل المؤيد باإليمان عند النورسي‬ ‫أو اتصال اآليات والقيم‬

‫يع���رف اإلم���ام النورس���ي العق���ل بأنه آل���ة تابعة‬ ‫ّ‬ ‫إلرادة اإلنس���ان بع���د أن ُت َع ّي���ن ل���ه الح���ق م���ن‬

‫الباط���ل والخير من الش���ر‪ ،‬فإنها ‪-‬أي اآللة‪ -‬ال‬ ‫مدخ���ل لها في الفعل من حيث االختيار‪ .‬فاإلنس���ان قد يعرف‬ ‫الش���ر بعقل���ه ويأتي���ه مع علمه بض���رره الالحق ل���ه أو لغيره في‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪30‬‬

‫العاج���ل أو ف���ي اآلجل‪ ،‬ويعرف الخي���ر ويتركه مع علمه بنفعه‬ ‫كافيا‬ ‫وهو سر االبتالء‪ .‬ولهذا لم يكن امتالك هذه اآللة وحده ً‬ ‫ليحق���ق ماهية اإلنس���ان وس���عادته‪ ،‬ما لم يؤي���د باإليمان الذي‬

‫الخ ّير (فعل االستخالف)‪.‬‬ ‫يحمل الكائن اإلنساني على الفعل َ‬

‫ب���ل إن العقل اآللة‪ ،‬ما لم يس���تعمله اإلنس���ان ف���ي طريق الخير‬


‫بالمعطي���ات العلمي���ة أض���اءت ميادي���ن أوربا المظلم���ة آنذاك‪.‬‬

‫ولن���ا ف���ي المنج���ز اإلس�ل�امي الحض���اري مث���ال ش���اخص‬

‫عل���ى ما ُذك���ر‪ ،‬إذ منح الن���ص الكريم مفاتيح اش���تغال للعلماء‬

‫المسلمين‪ ،‬ورسم لهم خصوصية تتسم بالموسوعية واالبتكار‬ ‫وع���دم الرك���ون إل���ى التقلي���د‪ ،‬والح���ث عل���ى النظر المس���تمر‬ ‫والس���ياحة في األرض‪ ،‬ودراس���ة حال األقوام الس���الفة‪ ،‬ألخذ‬

‫العب���ر‪ ،‬وتحفيز العقل عل���ى التفكر والتدب���ر والتأمل‪ ،‬وتقليب‬ ‫قدم المنجز‬ ‫األم���ور على أوجهها حت���ى يتبين الحق‪ .‬وبذل���ك ّ‬

‫اإلس�ل�امي للعال���م ك ّله أس���ماء أس���همت في خدمة اإلنس���انية‬ ‫جمع���اء‪ ،‬وأوضح���ت جوان���ب علمية كثيرة كان���ت غائبة عنها‪،‬‬

‫والقائمة في هذا الس���ياق تطول ف���ي الجانب الديني‪ ،‬والطبي‪،‬‬ ‫والهندس���ي‪ ،‬والفلك���ي‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬والتأريخي‪ ،‬والنفس���ي‪،‬‬

‫والجغرافي‪ ،‬واللغوي‪ ،‬والبالغي‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫• مش���روع النهض���ة اإلس�ل�امية م���ن وجه���ة نظ���ر طائفي���ة‪.‬‬

‫ويق���ود هذا األمر إلى نق���ص في البناء الفكري‪ ،‬وعوز في بيان‬

‫المقدمات‪ ،‬وفساد في استخالص النتائج‪ ،‬ولنا في الطروحات‬ ‫الطائفية مثال أكبر شاهد‪.‬‬

‫مثلبا يعوق مشروع‬ ‫• تعد قضية استيراد الحلول الجاهزة‪ً ،‬‬

‫النهضة اإلس�ل�امية ويؤخر قيامها‪ ،‬ألن���ه يعتمد على جاهزيات‬ ‫الفكر عند اآلخر‪ ،‬وهي غير مناسبة بالضرورة للفكر اإلسالمي‬ ‫لتباين خصوصية الطرح في كال التوجهين‪.‬‬

‫• ال يمكن تقديم الدعوة إلى والدة هذا المشروع أو إحيائه‬

‫جملة واحدة‪ ،‬بل البد من االحتكام إلى فقه األولويات‪ ،‬وبيان‬ ‫مسارات الحاجة المعرفية‪ ،‬وتقديم األهم على المهم‪ ،‬والعمل‬

‫وفق تدرج علمي مدروس‪.‬‬

‫• تباين األساليب الداعية إلى هذا المشروع بين المسلمين‬

‫إن الحدي���ث ع���ن النهض���ة اإلس�ل�امية المعاص���رة وبي���ان‬

‫ف���ي الش���رق وف���ي الغ���رب‪ ،‬ويع���ود س���بب ذل���ك إل���ى تباي���ن‬

‫الظواه���ر والمعطي���ات عل���ى الصعيدين اإلس�ل�امي والعالمي‪.‬‬

‫• تباي���ن الط���رح النهض���وي ل���دى النخ���ب اإلس�ل�امية‬ ‫المعاص���رة‪ ،‬ويرجع س���بب ذلك إلى التبن���ي الفكري القصدي‬

‫آني���ا‪ ،‬إنما ه���و حديث متج���دد بتجدد‬ ‫مفاهيمه���ا لي���س حديث���ا ًّ‬

‫وق���د ب���رزت جه���ود طيبة في ه���ذا المجال خ�ل�ال نهاية القرن‬

‫المشكالت واختالفها‪.‬‬

‫التاس���ع عش���ر والق���رن العش���رين‪ ،‬ون���ادت مح���اوالت محمد‬

‫والموج���ه بمس���ار حزبي ضي���ق‪ ،‬أو مذهبي مح���دد‪ ،‬أو طائفي‬ ‫ّ‬

‫ب���ن نبي‪ ...‬وغيرهم‪ ،‬ن���ادت الجهود المخلص���ة المحبة لدينها‬

‫وفي الختام‪ ،‬نأمل أن نكون قد أس���همنا في بيان ما يعتري‬

‫جدي���د للنص الدين���ي ينطلق من قاعدة "ثب���ات النص وحركية‬

‫توجيهي���ة تقضي بض���رورة إحياء الماضي واس���تلهام الدروس‬

‫وتعظيم���ا للدور اإلس�ل�امي الحض���اري الذي بات‬ ‫اإلنس���انية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العال���م أجم���ع بحاج���ة ماس���ة لحلوله الت���ي تنتظر َم ْن ُي ِ‬ ‫حس���ن‬

‫بها أو تقليدها‪ ،‬ألنها نتاجات إنس���انية تخطئ وتصيب‪ .‬وتؤكد‬

‫هذه الرؤية احتضان الحاضر واالنتفاع من طروحاته‪ ،‬وتحليل‬

‫لكن مش���روع النهضة اإلس�ل�امية محف���وف بمطبات عدة‪،‬‬

‫وبس���نة النب���ي الكري���م ‪ ،‬م���ع تحفي���ز العقل على االش���تغال‬

‫وأخرت‬ ‫وباتت هذه المطبات عوائق منعت المسار النهضوي‪ّ ،‬‬

‫بأن الرس���الة‬ ‫المس���تقبل وصياغة مفاهيمه‪ ،‬انطال ًقا من اإليمان ّ‬

‫عبده‪ ،‬ومحمد رش���يد رضا‪ ،‬وحسن البنا‪ ،‬وسيد قطب‪ ،‬ومالك‬

‫مقيت‪ ،‬أو ذاتي متضخم‪.‬‬

‫والمتجهة لرضا ربها‪ ،‬وحفزت الهمم المبدعة في س���بيل فهم‬

‫مفاهيم مشروع النهضة اإلسالمية‪ ،‬من خالل تقديم رؤية نقدية‬

‫المعن���ى"‪ ،‬ويتجه نحو احترام س���يادة العقل ومعطياته‪ ،‬وخدمة‬

‫من���ه‪ ،‬وفحص منجزاته بش���كل علمي ومنهج���ي‪ ،‬وعدم التقيد‬

‫تقديمها ويبلور نتائجها‪.‬‬

‫معطيات���ه وفق األس���س العقدية المتمثلة بن���ص القرآن العظيم‬

‫نظ���را التس���اع تن���وع الفكر اإلس�ل�امي وتش���عبه بي���ن معتنقيه‪.‬‬ ‫ً‬

‫واالبت���كار واإلب���داع‪ .‬كم���ا تتج���ه ه���ذه الرؤية إلى استش���راف‬

‫بدوره���ا ممكنات القيام بهذا العمل بش���كل جماعي ال فئوي‪.‬‬

‫اإللهي���ة صالحة ل���كل زمان ومكان‪ ،‬وأن المش���روع النهضوي‬

‫ويمكن الحديث عن أهم المطبات التي تعتري مسيرة مشروع‬

‫المنبث���ق منه���ا‪ ،‬جدير بخدمة اإلنس���انية وتقديم م���ا يصلح لها‪.‬‬

‫• من أخطر إش���كاليات مشروع النهضة اإلسالمية هو بعد‬

‫وتجاوزت المطبات التي تعتري مسيرتها‪ ،‬فإنها ستعيد مجدها‬

‫النهضة اإلسالمية من خالل اآلتي‪:‬‬

‫منظري المش���روع أو المش���تغلين عليه‪ ،‬عن العلم���اء العاملين‬

‫أصح���اب الفتوى واالجتهاد‪ .‬ويؤدي ه���ذا البعد إلى تباين في‬ ‫ِ‬ ‫المواقف وضعف في التأثير‪.‬‬

‫وإذا ازدانت الرؤية االشتغالية في هذا المشروع بما تقدم آن ًفا‪،‬‬ ‫الحضاري المتواري طيلة عصور خلت‪.‬‬

‫(*) عميد كلية اللغات بجامعة المدينة العالمية ‪ /‬ماليزيا‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫فه ْم وإن أس���هموا ف���ي البناء المعرف���ي الحضاري‬ ‫واألج���داد‪ُ .‬‬

‫كما ستضطلع هذه المصفوفة بمهمة إعادة ترتيب األفكار‬

‫الدراس���ون عبر عصور خلت‪ ،‬إال أنها أصبحت غير منس���جمة‬

‫مل���كا ألحد‪،‬‬ ‫االس���تهالك‪ ،‬وبي���ان أن العص���ور العلمية ليس���ت ً‬

‫اإلس�ل�امي وقدموا ثمارهم العلمية التي تل���ذذ بها وانتفع منها‬

‫ومتطلبات العصر وتنوعاته وتش���عباته‪ .‬وأؤكد أن حديثي هنا‪،‬‬ ‫منص���ب بش���كل أس���اس عل���ى النتاج���ات اإلنس���انية الخاضعة‬

‫دوم���ا للتنمي���ة والتطوي���ر‪.‬‬ ‫للتغيي���ر‪ ،‬وعل���ى الفك���ر المع���رض ً‬ ‫لزاما على أولي الفكر واالجتهاد‪ ،‬أن ينظروا من‬ ‫ل���ذا ب���ات ً‬

‫خالل عندياتهم‪ ،‬وأن يس���هموا في البناء الحضاري اإلسالمي‬

‫المعاصر وفي مش���روع نهضت���ه‪ ،‬انطال ًقا من احتياجات العصر‬ ‫مع االس���تئناس واالنتف���اع من معطيات اآلب���اء واألجداد على‬

‫س���بيل التحليل والنقد وبيان المكاسب والمزالق‪ ،‬وليس على‬ ‫سبيل التسليم والتقليد‪.‬‬

‫وبه���ذا المنطل���ق‪ ،‬ستكتس���ب مفاهي���م النهضة اإلس�ل�امية‬

‫جريئ���ا ف���ي مناقش���ة قضاي���ا ع���دة‪ ،‬أخ���ذ منه���ا الخالف‬ ‫ميدا ًن���ا‬ ‫ً‬

‫مس���احة زمنية اس���تهلك الجهود واس���تنفر الطاقات‪ .‬ومن تلك‬ ‫القضاي���ا‪ ،‬مزية األح���كام التي ُتطلق على المنجز التاريخي بين‬

‫والمس���ارات المعرفي���ة‪ ،‬والتبش���ير بثقاف���ة اإلنت���اج ونب���ذ ثقافة‬ ‫وبهذا يمكن غربلتها بما يتفق مع توجهات مشروع النهضة‪.‬‬

‫وجدي���ر ذك���ره أن التطلع لبناء مش���روع نهضوي إس�ل�امي‬

‫معاصر من هذه الجهة أو تلك‪ ،‬ال يعني مطل ًقا اكتسابه الحقيقة‬

‫كلها وامتالكه أسس الصحة في الفعل والعمل‪ ،‬إنما يشير إلى‬ ‫اجته���اد فك���ري قد يصيب في إجراءات���ه وقد يخطئ وهذه هي‬

‫مزية العمل اإلنس���اني‪ ،‬واالدعاء باكتس���اب الحقيقة ك ّلها يوقع‬ ‫في َش َر ِك النقص واالنتقاد والشطط‪.‬‬ ‫أن االشتغال في مفاهيم المشروع‬ ‫وعلينا االنتباه كذلك إلى ّ‬ ‫النهض���وي اإلس�ل�امي المعاص���ر‪ ،‬ال يعن���ي مطل ًق���ا االنفت���اح‬ ‫المفتعل على العالم على حساب ما ُع ِلم من الدين بالضرورة‪.‬‬

‫س���ببا للتنازل ع���ن الوصايا والتعاليم‬ ‫بمعنى أن يكون االنفتاح‬ ‫ً‬ ‫الدينية كما حصل عند بعض الدعاة الجدد‪ ،‬الذين رفعوا شعار‬

‫التنمية والنهضة اإلسالمية المعاصرة‪ ،‬لكنهم وفي الوقت نفسه‬

‫أن الت���راث هو خير ك ّله‬ ‫موضوعيته���ا وتحيزاته���ا‪ ،‬ومعرفة هل ّ‬

‫ح���دودا ما كان ينبغي لهم تخطيه���ا‪ ،‬ود ّقوا بخيارهم‬ ‫تج���اوزوا‬ ‫ً‬

‫شرطا للنشاط العقلي‪ ،‬وأن األصالة شرط‬ ‫تعد المعاصرة ً‬ ‫وهل ّ‬

‫أن االش���تغال في هذه المفاهيم‪ ،‬يجب أن يتسم‬ ‫فض ً‬ ‫ال عن ّ‬

‫أيضا‪،‬‬ ‫وأن الحداثة هي ش���ر ك ّلها‪ ،‬والس���ؤال العكس���ي صحيح ً‬

‫لصدقي���ة الفك���ر وصالحية العمل‪ ،‬ثم بيان مس���ارات االئتالف‬

‫واالخت�ل�اف بين األقوال واألفعال للجهود التاريخية المبذولة‬ ‫في البناء المعرفي الحضاري اإلس�ل�امي‪ ،‬الستثمار منجزاتها‪،‬‬

‫ال عن دراسة ظاهرة "التوافق في الرؤية"‬ ‫ولتجاوز عثراتها‪ ،‬فض ً‬ ‫التي اتس���مت به���ا نتاجات الحضارة اإلس�ل�امية‪ .‬وتش���ير هذه‬

‫الظاهرة إلى التوافق على تحديد الهدف المنش���ود من اإلبداع‬ ‫العلم���ي في ش���تى مجاالت���ه‪ ،‬والمحدد بوضع لبن���ة معرفية في‬

‫البن���اء الكلي للحضارة اإلس�ل�امية‪ .‬بمعن���ى أن ظواهر اإلبداع‬ ‫كانت جمعية ولم تكن فئوية أو شخصية‪.‬‬

‫وعلين���ا معرف���ة أن ثنائي���ات مفاهي���م المش���روع النهض���وي‬

‫هذا أسفين الخالف في مشروعية تبني العمل في هذا اإلطار‪.‬‬ ‫بالخصوصي���ة والوس���طية النابعة من الفه���م القرآني والقاضي‬

‫بك���ون الرؤي���ة اإلس�ل�امية وأسس���ها العقدي���ة ه���ي المرجع في‬ ‫معرف���ة الص���واب وتمييزه‪ ،‬وتأش���ير الخطأ والتنبي���ه من الوقوع‬

‫فيه‪ .‬وعندما يتحقق االشتغال الفكري من خالل هذا المفهوم‪،‬‬

‫عندئذ تكتسب الرؤية صفة المرجع والشاهد والقدوة الحسنة‪،‬‬ ‫اك ْم ُأ َّم ًة‬ ‫﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ‬ ‫انطال ًقا م���ن قول الحق تبارك وتعالى‪َ :‬‬ ‫���ول َع َل ْي ُك ْم‬ ‫���طا ِل َت ُكو ُن���وا ش���هداء على الن���اس ويكون‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫َو َس ً‬ ‫ُ َ َ َ َ َ َّ ِ َ َ ُ َ َّ‬ ‫يدا﴾(البقرة‪.)143:‬‬ ‫َشهِ ً‬ ‫وجدي���ر ذك���ره أن مفاهيم المش���روع النهضوي اإلس�ل�امي‬ ‫تتجاذبه���ا أط���راف ع���دة‪ ،‬تب���دأ م���ن إش���كالية مناقش���ة المنجز‬

‫اإلس�ل�امي ال تشتغل لوحدها‪ ،‬إذ هي مصفوفة في نظام ثقافي‬

‫ال إلى قضية تحيزات المدونة التاريخية نفسها‬ ‫التاريخي‪ ،‬وصو ً‬

‫عيانيا‬ ‫واقعا‬ ‫الشعبي‪ ،‬والمنجز االقتصادي‪ .‬فالنهضة لن تتجسد ً‬ ‫ًّ‬ ‫ٍ‬ ‫تقارب‪ -‬بين الخطابين السياس���ي‬ ‫توح���د ‪-‬أو على األقل‬ ‫دون‬ ‫ٍ‬

‫الفكري���ة بوصفها ضرورات حداثية يقتضيه���ا الواقع المعيش‪.‬‬

‫حيات���ي متكامل يش���مل التوجه السياس���ي‪ ،‬والنت���اج الجماعي‬

‫والثقاف���ي‪ ،‬ألن انفصالهما يؤدي إل���ى انفصام الطرح التنظيري‬ ‫لمشروع النهضة عن الممارسة التطبيقية على أرض الواقع بسبب‬ ‫الحاجز السياسي‪ ،‬وما أشد وقعه وتأثيره في البالد اإلسالمية‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪28‬‬

‫وليس انتهاء بمسارات العقالنية المعاصرة التي تفرض أنماطها‬

‫ويمكن االنتفاع في هذا السياق ‪-‬ومن باب حديث األمين‬ ‫ِ‬ ‫أحق الناس‬ ‫وجدها فهو ُّ‬ ‫كم ُة ضال ُة المؤمن أ ّنى َ‬ ‫المصطفى ‪" :‬الح َ‬ ‫بها" (رواه الترمذي)‪ -‬من ميراث الحضارات والش���عوب األخرى؛‬

‫ونبعا متدف ًقا‬ ‫فكانت الحضارة اإلسالمية في األندلس ً‬ ‫ثرا‪ً ،‬‬ ‫معينا ًّ‬


‫األرض وم���ن عليها‪ ،‬وما عدا‬ ‫الخل���ود إل���ى أن يرث اهلل تعالى‬ ‫َ‬

‫في تناول القضايا الفكرية ومناقشتها‪.‬‬

‫زمني���ة تاريخي���ة‪ ،‬صنعته���ا أجي���ال متعاقبة في ظ���روف معينة ال‬

‫المعاص���ر‪ ،‬ألاّ نغفل التوجه نحو الكلي���ات في الفهم المعرفي‬ ‫الدقيق‪ ،‬الداعي إلى ممارسة التحليل والنقد‪ ،‬وبيان المكاسب‬

‫مع���رض للدرس النقدي‪ .‬فالت���راث منجزات‬ ‫ذل���ك فهو تراث‬ ‫ّ‬ ‫تؤخ���ذ عل���ى س���بيل اإلل���زام والل���زوم‪ ،‬إنما تؤخذ على س���بيل‬

‫النصح واإلرش���اد‪ ،‬وعلى سبيل الفائدة واالنتفاع‪ ،‬وتدخل في‬ ‫البناء المعرفي لهذه األمة‪.‬‬

‫وعلينا في مناقش���ة مفاهيم المش���روع النهضوي اإلسالمي‬

‫ال عن عدم التوجه‬ ‫وتنميته���ا وتحديد المزال���ق وتجاوزها‪ ،‬فض ً‬

‫نح���و الجزئي���ات في الحك���م المعرف���ي القاض���ي بالتقوقع في‬

‫وعلين���ا االنتب���اه إل���ى أن لكل عص���ر ميزاته في إش���كالياته‬

‫المعاصرة وقطع أواص���ر مرجعيات النصوص الحضارية التي‬

‫الماضية الجاهزة لمعالجة المس���تجدات الحاضرة دون إعمال‬

‫تتجه مفاهيم المش���روع النهضوي اإلسالمي المعاصر إلى‬

‫وعمليا اس���تدعاء الحلول‬ ‫علميا‬ ‫أيضا‪ ،‬وال يصح‬ ‫وف���ي حلوله ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫فكر وتوجيه إصالح‪ ،‬إذ أحيطت اإلشكاليات المعاصرة بهالة‬ ‫م���ن التنوع والتعقي���د‪ ،‬التي ال يصلح معها اس���تعارة جاهزيات‬ ‫اآلخري���ن‪ ،‬مع وج���ود إمكانية االنتفاع من تل���ك الحلول على‬

‫سبيل االستئناس والمعرفة بالشيء‪.‬‬

‫وانطال ًق���ا من س���نة الكون ف���ي التطور والتغي���ر‪ ،‬فإن العقل‬

‫اإلنس���اني منظوم���ة فكرية متكامل���ة تتعرض للتغيي���ر وللتطوير‬

‫المس���تمرين‪ ،‬وه���ي متج���ددة بتق���ادم الزم���ان وتن���وع المكان‪،‬‬ ‫وتكتسب النضج في ترتيب األولويات‪ ،‬واالبتكار المتواصل‪،‬‬ ‫ورس���م الممارس���ات المناس���بة في إطار ما ُيعرض وما ُيستجد‬

‫من قضايا‪.‬‬

‫رسمت لها شموخها‪ ،‬ومنحتها مزية ومكانة بين األمم آنذاك‪.‬‬ ‫بي���ان أجندتها في مناقش���ة أس���باب التقدم الحض���اري الماضي‬ ‫والتراجع المعاصر‪ ،‬وتضع في برنامجها أولوية النظر في قضية‬ ‫أطرا مفتوحة‬ ‫الميزان الزمني للمعطى العلمي‪ ،‬الذي سيمنحها ً‬

‫بعي���دا عن عقدتي "تضخم األن���ا‪ ،‬والدونية"‬ ‫للعم���ل والتحليل‬ ‫ً‬

‫التي اصطبغت بها معظم نصوص المفكرين المعاصرين‪.‬‬

‫وتتناول قضية الميزان الزمني للمعطى العلمي مسائل عدة‪،‬‬

‫تبدأ مع خصوصية النتاجات العلمية لعقلية تنتمي لزمنها‪ ،‬وال‬

‫تنته���ي عند عمومية الفكر العابر للحدود والمتجاوز للذوات‪.‬‬ ‫إنها قضية تملك حساس���ية بالغة في الطرح والتناول‪ ،‬وتتس���م‬

‫بمعطيات تشخص الداء وتمنح الدواء‪.‬‬

‫إن ثنائي���ات؛ "األصال���ة والمعاصرة"‪ ،‬و"التقلي���د واإلبداع"‪،‬‬

‫وإذا م���ا ُكت���ب له���ذه المفاهيم أن تش���تغل في ه���ذا اإلطار‬

‫مث���ل؛ التأصيل والتغريب‪ ،‬والتمي���ز والتحيز‪ ،‬واإلبداع واالتباع‪،‬‬

‫التش���كيل الحضاري في المس���تقبل‪ ،‬وتعين ف���ي إعادة صياغته‬

‫و"الت���راث والحداثة"‪ ،‬مرتبطة بحش���د منوع م���ن ثنائيات أخرى‬ ‫واالنفت���اح واالنغ�ل�اق‪ ،‬واإلنتاج واالس���تهالك‪ ،‬والنص المبدع‬

‫والن���ص المجت���ر‪ ،‬التطاب���ق والتناق���ض‪ ،‬العقالني���ة واالتباعي���ة‪،‬‬ ‫االفتعال واالعتدال‪ ،‬التشكيل والتفكيك‪ ،‬الثوابت والمتغيرات‪،‬‬

‫الخطاب التش���ددي والخط���اب التجددي‪ ...‬إل���خ‪ .‬وهي تعمل‬ ‫بشكل منهجي في بيان مسارات الممارسة والتطبيق‪ ،‬وفي تحديد‬ ‫المناطق المعرفية في التضايف واالتصال‪ ،‬والتجاوز واالنفصال‪.‬‬ ‫يتج���ه التضاي���ف إل���ى إمكانيات الرب���ط بين تفعي���ل النص‬

‫التراث���ي وتش���كيل النص الحداثي‪ ،‬انطال ًقا م���ن نقاط التواصل‬

‫متسلسل‬ ‫منتج‬ ‫بينهما‪ ،‬والمحددة بفكرة أن‬ ‫ٌ‬ ‫المنتج اإلنساني هو ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫متوال يخضع لمس���يرة تاريخية ال تنقطع‪ ...‬أما التجاوز فيتجه‬

‫الفك���ري‪ ،‬فإنن���ا س���نحصد إمكانيات معرفية تس���هم ف���ي بلورة‬ ‫بم���ا يخ���دم التوجه���ات العقالني���ة المعاصرة واالس���تقبالية بما‬ ‫ينس���جم م���ع رس���الة الوح���ي‪ ،‬وس���يظهر أث���ر ذلك في مس���يرة‬ ‫النهضة اإلس�ل�امية الوس���طية المنشودة بش���كل عياني تطبيقي‪،‬‬

‫بع���د أن مورس���ت بحقه���ا ف���ي زمن‪ ،‬خ�ل�ا تنظيرات لمش���اريع‬ ‫تبنت شعار النهضة ومارست إجراءات التقليد واالتباع‪ ،‬فظهر‬

‫جليا التناقض بين الفعل والممارس���ة والتطبيق‪ ،‬واتجهت إلى‬ ‫ًّ‬

‫أرشيف اإلنسانية بعد أن عفا عنها الزمن والفكر‪.‬‬

‫وال يتس���ع البح���ث هنا لس���رد تل���ك التجارب فه���ي ممتدة‬

‫وكثي���رة ش���ملت معظم أصق���اع البالد اإلس�ل�امية م���ن العراق‬

‫إل���ى بالد الش���ام إل���ى بالد المغ���رب العرب���ي‪ ،‬لكنها وبش���كل‬

‫إل���ى قط���ع العالقات واإلرس���اليات كاف���ة بين المنت���ج التراثي‬

‫ع���ام حمل���ت ب���ذور اإلص�ل�اح وني���ة التغيي���ر‪ ،‬وأرادت أن‬

‫كلي���ا! وه���ذا مدعاة للنق���د والتقييم‬ ‫لتن���وع البعدي���ن وتباينهم���ا ًّ‬

‫تغاف���ل أو تناس���ي م���ا أش���رنا إليه في مراع���اة "المي���زان الزمني‬

‫والحداثي بدعوة اختالف التوجهين وعطب آليات االس���تقبال‬ ‫والنقض عندنا‪ ،‬انطال ًقا من الوس���طية اإلس�ل�امية التي ننتهجها‬

‫كمنت في‬ ‫تس���هم ف���ي إحياء ن���ص وبناء فع���ل‪ ،‬لكن المش���كلة ُ‬ ‫فض�ل�ا عن مش���كلة النظ���ر بعق���ول اآلباء‬ ‫للمعط���ى العلم���ي"‪،‬‬ ‫ً‬

‫‪27‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد سالم سعد اهلل*‬

‫مفاهيم المشروع النهضوي اإلسالمي المعاصر‬ ‫إن التوجه الفكري القاضي بوصف النتاجات‬ ‫الماضية بـ"الس���لبية" وإطالق "اإليجابية" على‬ ‫النتاج���ات المعاص���رة‪ ،‬ه���و توج���ه يحتاج إلى‬ ‫إعادة الفحص ثم النقد والتقييم‪ ،‬الس���يما وأن الفكر المعرفي‬ ‫تحده‬ ‫والحض���اري ال يتج���زأ‪ ،‬وهو ال ينتمي لوط���ن معين وال ّ‬ ‫حدود مرسومة‪.‬‬ ‫تعالج ثنائيات "األصال���ة والمعاصرة"‪" ،‬التقليد واإلبداع"‪،‬‬ ‫"التراث والحداثة" إشكاليات معرفية عدة‪ ،‬ومن خاللها تنوعت‬ ‫التوجهات الفكرية‪ ،‬وأصبح الحديث عن "الماضي والحاضر"‬ ‫فاص�ل�ا لتصني���ف المفكري���ن بي���ن مقل���د وحداث���وي!‬ ‫معي���ارا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والحقيقة تشير إلى غير ذلك‪ ،‬إذ ال ُيس ّلم الفكر الحاذق مطل ًقا‬ ‫بالنتاج���ات ‪-‬س���واء أكانت تراثية أو حداثي���ة‪ -‬دون فحصها ثم‬ ‫تحدي���د مواط���ن الخطأ والزلل فيها ويؤش���ر عل���ى بؤر الخلل‪،‬‬ ‫ال عن تحديد مواطن الصحة وبيان اإلبداع وس���ماته فيها‪.‬‬ ‫فض ً‬ ‫وتكمن اإلش���كالية الكبرى في بيان ماهية "النص التراثي"‬ ‫وتحدي���د معالم���ه‪ .‬وف���ي هذا الس���ياق‪ ،‬جنح بع���ض المفكرين‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪26‬‬

‫جزءا من التراث‬ ‫ّ‬ ‫لع���د القرآن الكريم ونص���وص المصطفى ‪ً ‬‬ ‫اإلسالمي المتنوع بنصوصه الفقهية واألدبية والفنية والسياسية‬ ‫وغيره���ا‪ ،‬وأطلق���وا األحكام بش���كل عام على ه���ذه النصوص‬ ‫جميعها‪ .‬ويقتض���ي التحليل العلمي وضع الفروق الدقيقة بين‬ ‫هذه النصوص ألنها ليست واحدة‪ ،‬إذ تنقسم إلى قسمين‪:‬‬ ‫األول‪ :‬النص المقدس (القرآن الكريم وسنة الرسول ‪.)‬‬ ‫الثاني‪ :‬النص المدنس (النتاجات البشرية في ُص ُع ٍد شتى)‪.‬‬ ‫ونقص���د بـ"النص المق���دس"؛ النص اإللهي ال���ذي ال يأتيه‬ ‫الباط���ل من بي���ن يديه وال من خلف���ه‪ ،‬وأحاديث المصطفى ‪‬‬ ‫المتف���ق على صحته���ا‪ .‬وال نقصد بـ"الن���ص المدنس" اإليحاء‬ ‫بسلبيتها أو عدم نجاعتها‪ ،‬إنما يتجه القصد إلى بيان أنها نتاج‬ ‫إنساني قابل للنقض والنقد والتحليل‪ ،‬وخاضع للتعليل وتعدد‬ ‫اآلراء وترجيح ما يقترب من الصواب ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ونش���ير إلى مس���ألة مهمة‪ ،‬وهي أن النص المقدس ال ُيعد‬ ‫ترا ًث���ا البت���ة‪ ،‬إنما هو نص اكتس���ب أهمي���ة وخصوصية صالحة‬ ‫ورث‪ ،‬هو ن���ص ُم ِنح صفة‬ ‫ّ‬ ‫ل���كل زم���ان ومكان وليس ُم ً‬ ‫نج���زا ُي ّ‬


‫النبي ‪" :‬أفال تتقي اهلل في هذه البهيمة التي م ّلكك اهلل إياها‪،‬‬

‫فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فكما أن تحميل الحيوان فوق طاقته منكر قد حاربه اإلسالم‬

‫واس���تنكره‪ ،‬نجده كذلك قد ح���رم ‪-‬في إطار حقوق الحيوان‪-‬‬

‫إجاعت���ه وتعريضه لله���زال والضعف والتلف‪ .‬فقد مر رس���ول‬

‫اهلل ‪ ‬ببهيم���ة ق���د لصق ظهرها ببطنها‪ ،‬فهاله ما رأى من خرق‬ ‫غاضبا وقال‪" :‬اتقوا اهلل في هذه‬ ‫لحقوق هذا الحيوان‪ ،‬فانتفض‬ ‫ً‬

‫البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة" (رواه أبو داود)‪.‬‬ ‫ومم���ا يس���تفاد من ه���ذا الحدي���ث أن النفقة عل���ى الحيوان‬

‫واجب���ة على صاحبه‪ ،‬ومما اس���تخلصه الفقهاء كذلك بدورهم‬ ‫أنه يجبر كل من امتنع عن إطعام الحيوان على بيعه أو اإلنفاق‬ ‫عليه أو ذبحه‪.‬‬

‫ويذكر التاريخ كذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب ‪ ‬كان‬

‫ال يسحب شاة‬ ‫يوما وهو يتفقد أحوال الرعية‪ ،‬فرأى رج ً‬ ‫يس���ير ً‬

‫برجله���ا ليذبحه���ا‪ ،‬فهاله ما رأى من إس���اءة بالغة في حق ش���اة‬

‫ال‪.‬‬ ‫قودا جمي ً‬ ‫بكماء فقال له‪ :‬ويلك‪ ،‬قدها إلى الموت ً‬

‫ومما قرره فقهاؤنا من حقوق للحيوان‪ ،‬أنه إذا لجأت هرة‬

‫عمياء إلى بيت ش���خص‪ ،‬وجبت نفقتها عليه إذ لم تقدر على‬ ‫االنصراف‪.‬‬

‫بل إن المرء ليحار وهو يسمع لإلمام أبي إسحاق الشيرازي‬ ‫ال���ذي كان يمش���ي في طريقه ومعه بع���ض أصحابه‪ ،‬فعرض له‬ ‫ا له‪ :‬أم���ا علمت أن‬ ‫كل���ب فزج���ره صاحب���ه فنهاه الش���يخ قائ�ل� ً‬ ‫الطريق مشترك بيننا وبينه؟‬

‫ال‬ ‫وإن تس���تغرب‪ ،‬فالغراب���ة كلها في أن تج���د‬ ‫صحابيا جلي ً‬ ‫ًّ‬

‫وه���و ع���دي بن حاتم الذي تعود أن يفت الخبز للنمل ويقول‪:‬‬ ‫إنهن جارات لنا ولهن علينا حق‪.‬‬ ‫وتتويج���ا ألخالق الرحمة والرفق بالحيوان‪ ،‬انتش���رت في‬ ‫ً‬

‫بق���اع العالم اإلس�ل�امي أوقاف تخص الحي���وان وتهتم برعايته‬ ‫وتطبيبه‪ ،‬كما وجدت أوقاف لرعي من عجز منها وكبرت سنة‬ ‫"مروجا خضراء"‪ .‬وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على‬ ‫فسميت‬ ‫ً‬ ‫سبق هذه األمة إلى الرفق بالحيوان قبل أن تدعو أي أمة لذلك‪.‬‬ ‫يقينا‪ ،‬فليصغ إلى رس���ول اهلل ‪ ‬وهو‬ ‫ولم���ن أراد أن ي���زداد ً‬

‫نهارا إلى اإلنس���انية جمع���اء‪ ،‬عن حق من حقوق‬ ‫يعل���ن‬ ‫جهارا ً‬ ‫ً‬

‫الحيوان حين قال‪" :‬ال تتخذوا ظهور دوابكم كراسي" (رواه اإلمام‬

‫ال على ظهر البعير وهو واقف‪ ،‬حرام في‬ ‫أحمد)‪ .‬فالجلوس طوي ً‬

‫دي���ن اهلل تعالى‪ ،‬ألنه اعتداء عل���ى بهيمة تحس لكنها ال تنطق‪.‬‬

‫ه���ذا غيض من فيض مبادئ الرفق بالحي���وان في تاريخنا‪،‬‬

‫كذلك يحرم التلهي بالبهيمة والطير في الصيد عب ًثا‪ ،‬مصدا ًقا‬

‫ب���ه ومنع األذى عنه‪ ،‬حت���ى صار قانو ًنا بين الناس عدم تحميل‬

‫يقول‪ :‬يا رب إن فال ًنا قتلني عب ًثا ولم يقتلني منفعة" (رواه النسائي)‪.‬‬

‫وتل���ك أمثلة على ذلك كواق���ع تطبيقي لرعايته وعدم اإلضرار‬ ‫ال���دواب ف���وق ما تطي���ق‪ ،‬أو تعذيبه���ا وضربها أثناء الس���ير‪ ،‬أو‬

‫إيقافها في العراص وعلى ظهورها أحمالها‪ ،‬كما منع السماح‬ ‫ألصحاب الدواب بإلجامها بلجام ثقيل أو نخسها بمقرعة من‬ ‫حديد في أسفلها‪.‬‬

‫الرفق بالحيوان عنوان حضارتنا‬

‫فه���ل تج���د أم���ة م���ن األم���م بلغت ه���ذا المس���توى م���ن الرفق‬

‫والرحم���ة بالحيوان في غابر األزمان غير أمة اإلس�ل�ام؟ ولعل‬ ‫أرق وأصدق مثال يدلك على سمو تلك الروح لدى حضارتنا‬ ‫صحابيا جليل القدر كأب���ي الدرداء الذي كان له بعير‬ ‫أن نج���د‬ ‫ًّ‬ ‫فيق���ول ل���ه عند موته‪" :‬يا أيه���ا البعير ال تخاصمن���ي إلى ربك‪،‬‬

‫فإن���ي ل���م أك���ن أحملك ف���وق طاقت���ك"‪ .‬وأن نج���د كذلك في‬ ‫منظوم���ة القتال والحرب في اإلس�ل�ام‪ ،‬أنه يح���رم حرق الزرع‬

‫وقلع الشجر وعقر الدواب إال ما كان لحاجة‪.‬‬

‫عصفورا عب ًثا عج إلى اهلل يوم القيامة‬ ‫لقول النبي ‪" :‬من قتل‬ ‫ً‬ ‫إن���ه دي���ن كل���ه رحم���ة ورأف���ة ش���ملت اإلنس���ان والحيوان‬

‫والجم���اد وكل ش���يء‪ .‬ب���ل إننا نج���د مصطلح الرحم���ة يغطي‬ ‫القرآن الكريم كله باش���تقاقاته المتنوعة‪ ،‬إذ ال تكاد صفحة من‬ ‫لفظا فداللة‪ .‬وهذا إن دل‬ ‫القرآن الكريم تخلو منه‪ ،‬إن لم يكن ً‬

‫على ش���يء فإنما يدل على أن المنظومة األخالقية لهذا الدين‬

‫���ع ْت‬ ‫تق���وم على مبدإ الرحمة‪ .‬يقول اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫﴿و َر ْح َم ِتي َو ِس َ‬ ‫﴿ك َت َب َع َلى َن ْف ِس ِه الر ْح َم َة َل َي ْج َم َع َّن ُك ْم‬ ‫ُك َّل َش ْي ٍء﴾(األعراف‪َ ،)156:‬‬ ‫َّ‬ ‫���ز ُل ِم َن ا ْل ُقر ِ‬ ‫آن‬ ‫ِإ َل���ى َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة َ‬ ‫﴿و ُن َن ِّ‬ ‫ال َر ْي َ‬ ‫���ب ِفي ِه﴾(األنعام‪َ ،)12:‬‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫﴿و َما َأ ْر َس ْل َناكَ ِإ َّ‬ ‫َما ُه َو ِش��� َف ٌاء َو َر ْح َم ٌة ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ين﴾(اإلس���راء‪َ ،)82:‬‬ ‫ين﴾(األنبياء‪ ...)107:‬وغيرها من اآليات كثير‪.‬‬ ‫َر ْح َم ًة ِل ْل َعا َل ِم َ‬

‫(*) كلية اآلداب و العلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة عبد المالك السعدي ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫عامرا‪ ،‬وال تقطعوا شجرة يستظل بها‬ ‫بئرا‪ ،‬وال تخربوا‬ ‫ً‬ ‫تغوروا ً‬

‫‪" :‬من ُأعطي الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا واآلخرة"‬

‫بهذه القيم واألخالق الرحيمة التي س���ادت عالم اإلنس���ان‬

‫هك���ذا نج���د خل���ق الرحم���ة بالحي���وان عن���وان حضارتن���ا‬

‫حدوده���م‪ ،‬فدان���ت له���م الدني���ا طواعي���ة‪ ،‬حت���ى ق���ال المفكر‬

‫تشريعنا في هذا المجال لوقفت على تراث زاخر عظيم ينطق‬

‫ابن السبيل‪ ،‬وال تذبحوا بهيمة لغير مأكلة" (رواه أبو داود)‪.‬‬

‫والحيوان على حد س���واء‪ ،‬فتح المس���لمون قل���وب العباد قبل‬ ‫الفرنس���ي "غوس���فان لوبون" ف���ي "حضارة الع���رب" بعد قراءة‬ ‫فاتحا أعدل من‬ ‫متأنية دقيقة لتاريخ اإلسالم‪" :‬ما عرف التاريخ ً‬

‫العرب المس���لمين"‪ .‬ولندع ‪-‬اللحظة‪ -‬شواهد من هذا التاريخ‬ ‫اإلسالمي تنطق بنفسها وتشهد على سمو أخالقنا مع الحيوان‪.‬‬

‫رحمة النبي ‪ ‬بالحيوان‬

‫(رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫اإلسالمية التي كان لها قدم السبق في ذلك‪ ،‬بل إنك لو اتبعت‬

‫رف ًقا ورحمة‪ ،‬فها هو ذا نبي اهلل سليمان ‪ ‬تستوقفه نملة بواد‬ ‫ضاحكا‪ ،‬ويجلس إليها تحاوره ويحاورها بوحي‬ ‫فيتبس���م إليها‬ ‫ً‬

‫من اهلل ‪ ،‬ألنها ‪-‬وأمتها‪ -‬خلق من خلق اهلل‪ ،‬بل أنه س���بحانه‬ ‫س���مى ‪-‬كما س���بقت اإلش���ارة‪ -‬س���ورة باس���مها ليخلد ذكرى‬

‫متعبدا به إلى يوم القيامة‪.‬‬ ‫ه���ذه النملة وأمته���ا‪ ،‬ويجعل كالمها‬ ‫ً‬

‫قال عبد اهلل بن مس���عود ‪ :‬كنا مع رس���ول اهلل ‪ ‬في س���فر‪ ،‬القسوة على الحيوان موجبة لعذاب اهلل‬

‫فرأينا حمرة (طير يشبه العصفور) معها فرخان لها‪ ،‬فأخذناهما‬

‫وإذا كانت الرحمة بالحيوان خل ًقا يوجب المغفرة ‪-‬كما سبق‪-‬‬

‫‪ ‬قال‪" :‬من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" (رواه أبو داود)‪.‬‬

‫قائ�ل�ا‪" :‬دخل���ت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم‬ ‫‪‬‬ ‫ً‬

‫فجاءت الحمرة تعرش (ترفرف بجناحيها)‪ ،‬فلما جاء رسول اهلل‬ ‫لقد أحس رس���ول اهلل ‪ ‬بما أحس���ت ب���ه تلك الحمرة من‬

‫حرق���ة ولوع���ة‪ ،‬فدعا إلى الرفق بها بإرج���اع فرخيها إليها حتى‬

‫تس���كن ويهدأ روعها‪ ،‬إنها من أم���ة الطيور لها حقها من الرفق‬ ‫والرحم���ة كح���ق اإلنس���ان‪ .‬وإن الرحم���ة لخلق عظي���م يدخل‬

‫صاحبه الجنة كما أخبر بذلك رسول اهلل ‪ ‬حين قال لصحابته‬

‫يوما وهو يحثهم على الرحمة بالحيوان‪" :‬بينما رجل يمشي‬ ‫‪ً ‬‬

‫بئرا فنزل فيها‪ ،‬فشرب ثم‬ ‫بطريق إذ اشتد عليه العطش‪ ،‬فوجد ً‬

‫فإن القسوة عليه في المقابل تدخل النار‪ .‬فقد أخبر رسول اهلل‬ ‫تدعها تأكل من خشاش األرض" (رواه البخاري)‪.‬‬

‫قديما وحدي ًثا‪ -‬أذاقت وما تزال تذيق‬‫فإذا كانت البشرية‬ ‫ً‬

‫الناس ألوان التعذيب والتقتيل والمهانة‪ ،‬فإن اإلس�ل�ام قد كرم‬

‫هذا اإلنسان أحسن تكريم‪ ،‬بل إنه لم يقف عند هذا‪ ،‬بل نجده‬

‫موجبا م���ن موجبات‬ ‫ق���د حرم تعذي���ب الحيوان وجع���ل ذلك‬ ‫ً‬ ‫عذاب اهلل تعالى له‪ .‬فهذا رسول اهلل ‪ ‬حين رأى قرية نمل قد‬

‫مس���تنكرا‪" :‬من أحرق هذه؟" قلنا‪:‬‬ ‫أحرقها بعض الصحابة قال‬ ‫ً‬

‫خرج‪ ،‬فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش‪ ،‬فقال الرجل‪،‬‬

‫نح���ن‪ ،‬ق���ال‪" :‬إنه ال ينبغي أن يعذب بالن���ار إال رب النار" (رواه‬

‫فمأل خفه ماء‪ ،‬ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب‪ ،‬فشكر‬

‫للذبح قبل أن يعد المرء ش���فرته‪ ،‬قس���وة في دين اهلل ال تجوز‪.‬‬

‫لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني‪ ،‬فنزل البئر‬

‫اهلل تعالى له فغفر له"‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رس���ول اهلل‪ ،‬وإن لنا في البهائم‬ ‫ألجرا؟ فقال ‪" :‬في كل ذات كبد رطبة أجر" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ً‬

‫ق���د يحتق���ر الواحد منا ه���ذا الصنيع وال يولي���ه كبير اهتمام‬

‫ف���ي زح���ام الحي���اة‪ ،‬لكن اهلل س���بحانه ق���دره وخل���د ذكر ذلك‬

‫فرحا بما صنع‪ .‬وكيف ال يلتفت سبحانه لهذه الرحمة‬ ‫الرجل ً‬ ‫﴿و َر ْح َم ِتي‬ ‫من بش���ر وه���و س���بحانه الرحيم الرحم���ن القائ���ل‪َ :‬‬ ‫���ع ْت ُك َّل َشي ٍء﴾(األعراف‪ ،)156:‬بل إنه وصف نبيه المصطفى‬ ‫َو ِس َ‬ ‫ْ‬ ‫ال َر ْح َم ًة‬ ‫﴿و َم���ا َأ ْر َس��� ْل َناكَ ِإ َّ‬ ‫الكري���م بكون���ه رحم���ة للعالمي���ن‪َ :‬‬ ‫يذكر أصحابه‬ ‫ين﴾(األنبياء‪ .)107:‬لذا وجدناه ‪ ‬في كل مرة ّ‬ ‫ِل ْل َعا َل ِم َ‬

‫بخل���ق الرحمة‪" :‬الراحمون يرحمهم الرحمن" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫وفي حديث آخر شديد الصلة بالرحمة والرأفة يقول النبي‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪24‬‬

‫الطبري والحاكم)‪ .‬بل إنك لتعجب حين تعلم أن إضجاع الحيوان‬

‫فق���د قام رج���ل بين يدي رس���ول اهلل ‪ ‬وأضجع ش���اته للذبح‬

‫وشرع يحد شفرته‪ ،‬فقال له النبي ‪" :‬أتريد أن تميتها موتات؟‬ ‫هال أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟" (رواه الطبري والحاكم)‪.‬‬

‫ال ورحمة‪ ،‬ما عرف التاريخ‬ ‫إنها لمش���اعر إنسانية تفيض نب ً‬

‫ال لها إال في ظل ش���ريعتنا الغراء التي تحس بكل ما يحس‬ ‫مثي ً‬ ‫جميعا‬ ‫يقين���ا‪ ،‬أدعوك لنصغ���ي‬ ‫ب���ه أي مخل���وق‪ .‬ولك���ي ت���زداد ً‬ ‫ً‬

‫س���لوكا منحر ًفا أس���اء إل���ى حيوان‬ ‫لرس���ول اهلل ‪ ‬وه���و يق���وم‬ ‫ً‬ ‫أبك���م أرهق���ه صاحب���ه فوق ما يطيق؛ فقد دخل رس���ول اهلل ‪‬‬

‫بس���تا ًنا لرجل من األنصار‪ ،‬فإذا فيه جمل‪ ،‬فلما رأى النبي حن‬ ‫َّ‬ ‫وذرفت عيناه‪ ،‬فأتاه رس���ول اهلل ‪ ‬فمس���ح دموعه ثم قال‪" :‬من‬

‫صاحب هذا الجمل؟" فقال صاحبه‪ :‬أنا يا رسول اهلل‪ ،‬فقال له‬


‫�إذا كان��ت الب�رشي��ة ‪-‬قدميً��ا‬ ‫وحديثً��ا‪ -‬ذاق��ت وم��ا تزال‬ ‫تذي��ق النا�س �أل��وان التعذيب‬ ‫والتقتي��ل واملهان��ة‪ ،‬ف���إن‬ ‫الإ�سالم قد كرم هذا الإن�سان‬ ‫�أح�س��ن تكرمي‪ ،‬بل �إنه مل يقف‬ ‫عند ه��ذا‪ ،‬بل جن��ده قد حرم‬ ‫تعذيب احلي��وان وجعل ذلك‬ ‫موجبً��ا من موجب��ات عذاب‬ ‫اهلل تعاىل له‪.‬‬

‫ال خل ًقا من‬ ‫س���بحانه انتباهنا إلى االهتمام بالحي���وان‪ ،‬لكونه أو ً‬

‫من حقوقه حين قال‪ :‬لو أن بغلة عثرت بش���ط العراق لخشيت‬

‫وق���د أعلن رس���ول اهلل ‪ ‬هذه الحقيق���ة الكبرى حين قال‪:‬‬

‫إن���ه لس���بق حض���اري رفيع أن نج���د من ينادي به���ذا الحق‬

‫وثانيا ألنه مصدر من مصادر رزق اهلل لنا‪.‬‬ ‫مخلوقات اهلل‪،‬‬ ‫ً‬

‫"ل���وال أن ال���كالب أمة من األمم ألمرت بقتله���ا" (رواه الترمذي)‪.‬‬ ‫فالحي���وان ‪-‬حس���ب منط���وق الحديث الش���ريف‪ -‬ال ينبغي أن‬ ‫يب���اد أو يقت���ل أو يعت���دى عليه وإن كان يؤذي اإلنس���ان أحيا ًنا‪.‬‬

‫والرسول الكريم ‪ ‬يشير هنا إلى الحقيقة القرآنية التي سجلها‬ ‫���ن َد َّاب ٍة ِفي‬ ‫﴿و َم���ا ِم ْ‬ ‫الق���رآن ف���ي قوله تعال���ى الس���الف الذكر‪َ :‬‬ ‫ا َ‬ ‫ال ُأ َم ٌم َأ ْم َثا ُل ُك ْم﴾(األنعام‪.)38:‬‬ ‫ض َو َ‬ ‫اح ْي ِه ِإ َّ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ال َطا ِئرٍ َي ِط ُير ب َِج َن َ‬

‫الطريق السوي حق من حقوق الحيوان‬

‫وم���ن من���ا لم يس���مع بقولة الف���اروق عمر ‪ ‬وهو يش���رع فيها‬

‫واجبا‬ ‫لحقوق الحيوان حتى جعل الطريق المعبد السوي ح ًّقا‬ ‫ً‬

‫أن يسألني اهلل عنها ل َِم ل َْم تصلح لها الطريق يا عمر‪.‬‬

‫للحيوان في هذه األمة منذ خمس���ة عش���ر قر ًنا‪ ،‬أما حق األكل‬ ‫والشراب والرعاية فمكفول بكل تأكيد‪.‬‬

‫وإن تعج���ب‪ ،‬فعج���ب كله أن هذا الن���داء من الفاروق ‪،‬‬

‫عاليا في وقت كان اإلنس���ان ُيس���تعبد وتداس كرامته‬ ‫صدح به ً‬

‫عن���د األمم األخ���رى كالفرس وال���روم وغيره���م‪ ...‬وال يتمتع‬

‫كرم���ه اهلل تعالى‪:‬‬ ‫بأدن���ى حقوقه الت���ي تليق بكرامت���ه كمخلوق ّ‬ ‫آد َم﴾(اإلس���راء‪ .)70:‬بل إن رس���ول اهلل ‪ ‬ساعة‬ ‫﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ‬ ‫َ‬ ‫خيرا‪،‬‬ ‫القتال كان يستوصي أصحابه بالناس والحيوان والنبات ً‬ ‫يقول ‪" :‬اغزوا باس���م اهلل وال تقتلوا‬ ‫عابدا‬ ‫ً‬ ‫هرما‪ ،‬وال ً‬ ‫ش���يخا ً‬

‫صبي���ا وال ام���رأة‪ ،‬وال تهدموا‬ ‫ج���دارا‪ ،‬وال‬ ‫ً‬ ‫ف���ي صومعت���ه‪ ،‬وال ًّ‬

‫‪23‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬عبد الواحد بوشداق*‬

‫من حقوق الحيوان في اإلسالم‬ ‫هل ي���ا ت���رى كان للحيوان موقع ف���ي منظومة‬

‫يوم���ا؟ وه���ل ن���ال م���ن‬ ‫األخ�ل�اق اإلس�ل�امية ً‬ ‫نصيبا يليق ب���ه باعتباره‬ ‫الحق���وق والرحمة ب���ه‬ ‫ً‬

‫مخلو ًقا من مخلوقات اهلل في األرض؟‬

‫جواب���ا عن هذه األس���ئلة‪ ،‬تتق���دم آية عجيبة م���ن كتاب اهلل‬ ‫ً‬

‫تماما بتمام‪،‬‬ ‫‪ ‬لتخبرنا أو ً‬ ‫ال أن عالم الحيوان كعالم اإلنس���ان ً‬ ‫﴿و َما ِم ْن َد َّاب ٍة ِف���ي ا َ‬ ‫ال َطا ِئرٍ َي ِط ُير‬ ‫ض َو َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫يق���ول ع���ز من قائل‪َ :‬‬ ‫ال ُأ َم ٌم َأ ْم َثا ُل ُك ْم﴾(األنعام‪.)38:‬‬ ‫اح ْي ِه ِإ َّ‬ ‫ب َِج َن َ‬ ‫يق���ول س���يد قطب ‪-‬رحم���ه اهلل‪ -‬معل ًقا على ه���ذه اآلية في‬

‫خل���ق حي في هذه األرض كله���ا إال وهو ينتظم في أمة‪ ،‬ذات‬ ‫خصائ���ص واح���دة وذات طريقة ف���ي الحياة واح���دة كذلك‪...‬‬ ‫شأنها في هذا شأن أمة الناس"‪ .‬من هنا نعلم أن للحيوان حق‬ ‫الرحم���ة كحق اإلنس���ان‪ ،‬وذل���ك لما له م���ن خصائص وطبائع‬ ‫وشعور ال تقل عما لدى اإلنسان‪ ،‬وإال فال معنى لكالم رسول‬ ‫خي���را حتى ولو‬ ‫اهلل ‪- ‬وحاش���اه‪ -‬وه���و يس���توصي بالحيوان‬ ‫ً‬ ‫كنت قائده للموت حين قال‪" :‬إن اهلل كتب اإلحسان على كل‬ ‫شيء‪ ،‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‪،‬‬ ‫وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" (رواه مسلم)‪.‬‬

‫"في ظالل القرآن"‪" :‬إنه ما من دابة تدب على األرض ‪-‬وهذا تسمية سور القرآن بأسماء الحيوان‬

‫يش���مل كل األحياء من حش���رات وهوام وزواحف وفقريات‪-‬‬ ‫وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء ‪-‬وهذا يش���مل كل طائر‬ ‫م���ن طير وحش���رة أو غير ذلك م���ن الكائنات الطائ���رة‪ -‬ما من‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪22‬‬

‫وفي إش���ارة لطيفة بموضوعنا هذا‪ ،‬نجد القرآن الكريم يحمل‬ ‫س���ورا بأس���ماء الحيوان؛ وذلك كالبق���رة واألنعام‬ ‫فيم���ا يحمل‬ ‫ً‬ ‫والنمل‪ ،‬ولم تكن هذه التسميات عب ًثا‪ ،‬وإنما سميت بها ليلفت‬


‫فللس���لطة س���لطانها عل���ى النف���وس الضعيف���ة‪ ،‬وال يوج���د‬ ‫أضعف ممن يرفع‬ ‫ش���عارا دون أن يصبح ذلك الش���عار حقيقة‬ ‫ً‬ ‫ماثلة في ذهنه‪ ،‬ممتزجة بخلجات ضميره‪ ،‬متماهية مع سلوكه‪،‬‬ ‫يترب عليه؟!‬ ‫وأنى له ذلك إن لم‬ ‫َّ‬ ‫فتأخي���ر الحديث عن "الدولة" إل���ى أن تكتمل التربية على‬ ‫المبدأ‪ ،‬درس آخر بليغ تنبهنا إليه الهجرة حتى ال تقفز الحركات‬ ‫فراغ‪ ،‬ث���م ترتد إلى‬ ‫اإلس�ل�امية ‪-‬وق���د فعل البع���ض ذلك‪ -‬في ٍ‬ ‫أرض الواق���ع بتج���ارب مش���وهة وعناصر أفس���دتهم الس���لطة‪،‬‬ ‫وباعدت بينهم وبين الش���عارات التي عرضوا أنفس���هم بها أول‬ ‫م���رة على الناس‪ ،‬وال يزالون ‪-‬وه���ذه من غرائبهم‪ -‬يرفعونها‪.‬‬ ‫‪-3‬الهجرة ف�������ي بعدها األخالقي والرمزي‪ :‬وه���ذا ّمعلم ال‬ ‫ينفك في حقيقته عن المعلمين السابقين‪ ،‬حينما نجد الرسول‬ ‫‪ ‬ينبه بش���كل واضح على اس���تمرار الهجرة من خالل سلوك‬ ‫المسلم في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫فلئ���ن كانت الهجرة األولى انته���ت بفتح مكة فقال ‪" ‬ال‬ ‫هج���رة بع���د الفت���ح ولكن جه���اد ونية" (متف���ق عليه) ففاز بش���رف‬ ‫الوص���ف بالمهاج���ر م���ن فاز‪ ،‬ف���إن الهجرة في بعده���ا الرمزي‬ ‫واألخالق���ي ذي الصل���ة بالمنهج‪ ،‬باقية مس���تمرة ما دام هنالك‬ ‫مسلم يسعى في كل زمان ومكان للتحرك وف ًقا لذلك المنهج‪.‬‬ ‫الر ْج َز‬ ‫وه���ي الهج���رة الت���ي يش���ير إليه���ا قول���ه تعال���ى‪َ :‬‬ ‫﴿و ُّ‬ ‫اه ُج ْر﴾(المدثر‪ ،)5:‬ويؤكدها النبي ‪ ‬بش���كل صريح‪" :‬المس���لم‬ ‫َف ْ‬ ‫من س���لم المس���لمون من لس���انه ويده‪ ،‬والمهاجر من هجر ما‬ ‫نهى اهلل عنه" (متفق عليه)‪ .‬فهي حركة دائبة لالبتعاد عن كل سلوك‬ ‫وأيا‬ ‫منهي عنه‪ ،‬إن على مستوى حركة الفرد أم حركة المجتمع‪ًّ ،‬‬ ‫كان مجال تلك الحركة دعوة أم سياسة‪ ،‬سلطة أم معارضة‪...‬‬ ‫ولع���ل البع���د الرمزي واألخالقي في عالقة المس���لم بالمنهج‪،‬‬ ‫ه���و الذي نستش���فه من رب���ط الحديث عن نصرة الرس���ول ‪/‬‬ ‫ال‬ ‫منهج���ه‪ ،‬بحادث���ة الهجرة في اآلية الت���ي ذكرناها من قبل‪ِ ﴿ :‬إ َّ‬ ‫هلل﴾(التوبة‪.)40:‬‬ ‫وه َف َق ْد َن َص َر ُه ا ُ‬ ‫َت ْن ُص ُر ُ‬

‫ثالثًا‪ -‬القراءة على مستوى االعتبار‬

‫ونعن���ي به���ذا‪ ،‬كي���ف نجعل من الهج���رة نقطة انط�ل�اق جديدة‬ ‫لألمة؟ وهذا هو مس���توى االعتبار ال���ذي دعانا إليه القرآن كي‬ ‫نقرأ من خالله األحداث‪.‬‬ ‫والفرق بينه وبين المس���توى الثاني‪ ،‬أننا في هذا المس���توى‬ ‫نح���اول أن ننظ���ر إل���ى الح���دث من زاوي���ة ربط���ه بحركة األمة‬ ‫ككل‪ ،‬وهي تحاول اس���تئناف حركتها واستعادة حضورها مرة‬

‫أخرى في التاريخ‪.‬‬

‫ففي هذا المستوى تنبهنا الهجرة إلى عنصرين مهمين‪:‬‬

‫‪ -1‬أن تكون حركتنا استئنا ًفا ال بداية صفرية؛ فكما كانت‬

‫تغييرا‬ ‫الهج���رة خط���وة غير منقطعة عما س���بقها‪ ،‬وإن أحدث���ت‬ ‫ً‬

‫عمي ًقا في مسيرة التاريخ اإلسالمي‪ ،‬فحري بمن يسعى إلعادة‬ ‫األم���ة أن ال يفك���ر في البدايات الصفرية‪ ،‬وإنما عليه أن ينطلق‬ ‫من مفهوم االستئناف‪.‬‬

‫‪ -2‬أن نتعم���ق ف���ي معرفة المنهج الذي نس���عى للتغيير من‬

‫متكافئ���ا م���ع أزمة األم���ة؛ ذلك أن‬ ‫تمث�ل�ا‬ ‫خالل���ه‪ ،‬وأن نتمثل���ه‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ربى أصحاب���ه الكرام على‬ ‫الهج���رة تعلمن���ا كيف أن النب���ي ‪ّ ‬‬

‫ال‪ ...‬معرفة بحيث ُس���بقت الهجرة بإرس���اء‬ ‫المنهج معرفة وتمث ً‬ ‫األس���س العقدية والمعالم الكبرى لإلس�ل�ام من خالل القرآن‬

‫المك���ي‪ ،‬والعقي���د ُة ه���ي روح المنهجي���ة اإلس�ل�امية أو ‪-‬إذا‬ ‫ش���ئنا‪ -‬جوهر المشروع اإلسالمي الذي طرحه النبي ‪ ‬بديال ً‬ ‫للواق���ع الجاهلي‪ .‬فكانت المعال���م العقدية واضحة في عقول‬

‫ونف���وس الصف���وة األولى من هذه األمة‪ ،‬ث���م كان التمثل لتلك‬ ‫التص���ورات الجدي���دة في الواقع بحيث أنش���أت إنس���ا ًنا آخر‪،‬‬

‫قادرا على مواجهة التحديات‪.‬‬ ‫حام ً‬ ‫ال للمشروع‪ً ،‬‬

‫فالح���ركات التي تدعو إلى النه���وض باألمة وتغيير واقعها‬

‫الي���وم من منطلق المرجعية اإلس�ل�امية‪ ،‬عليها أن تعمق فهمها‬ ‫له���ذه المرجعية حت���ى تكتمل لديها الرؤية الواضحة‪ ،‬ثم عليها‬ ‫‪-‬في المقام الثاني‪ -‬أن تبني اإلنسان الجديد القادر على منازلة‬

‫اإلنس���ان‬ ‫الواق���ع بتحديات���ه‪ ،‬أي إنزال تلك الرؤية على الواقع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الذي يحقق في نفس���ه الهجرة ب���كل أبعادها حتى يحدث نقلة‬ ‫ال بين مرحلة التخلف‬ ‫فاصلة في حياة األمة‪ ،‬تكون بالفعل فاص ً‬ ‫ومرحل���ة االنطالق من جديد‪ ،‬كما كانت الهجرة نقطة انطالق‬

‫لألمة نحو آفاقها التأسيسية‪.‬‬ ‫(*) كاتب وباحث جزائري‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬فق���ه الس���يرة‪ ،‬دار الش���هاب للطباع���ة والنش���ر‪ ،‬باتن���ة (الجزائ���ر)‪ ،‬دت‪ ،‬دط‪،‬‬ ‫ص‪.150:‬‬

‫(‪ )2‬عن جابر بن سمرة قال‪ :‬كانوا يسمون المدينة يثرب‪ ،‬فسماها رسول اهلل ‪‬‬ ‫"طيبة" (أخرجه مسلم)‪.)121/4( ،‬‬

‫(‪ )3‬فقه السيرة‪ ،‬ص‪.188:‬‬

‫‪21‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫ش���يئا ما لم‬ ‫الش���عارات ال يغنيان في حركة التغيير االجتماعي‬ ‫ً‬

‫ضعيف���ة الصل���ة بالفكرة والمنه���ج‪ ،‬فيرومون اختص���ار الطريق‬

‫المش���كلة المراد تغييرها‪ ،‬ومراحل الطري���ق التي ينبغي قطعها‬

‫وينتهي ببندقية عمياء وفتنة تحصد األبرياء‪ ،‬وترس���خ س���لطان‬

‫يصحبهم���ا فك���ر س���ديد ورؤية واضح���ة ووعي عمي���ق بطبيعة‬

‫ك���ي نص���ل إلى الحل‪ ،‬وه���ذا ما تـوف���ره لنا الدراس���ـة الحكيمة‬ ‫لمسـلك النبي ‪ ‬في الحركة والتغيير‪.‬‬

‫"جهادا"‬ ‫بانته���اج العنف للوصول إلى الس���لطة‪ ،‬فيب���دأ عملهم‬ ‫ً‬ ‫أهل الباطل والفساد‪ ،‬إذ تعطيهم حجة جديدة لتسويق أنفسهم‬ ‫وأصحاب المش���اركة‬ ‫في الداخل وإدامة دعمهم من الخارج‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وح���دث الهجرة يضع أمامنا معال���م بارزة‪ ،‬هي لكل متدبر‬

‫الذي���ن تبهره���م معرفته���م الجدي���دة بآلي���ات الحك���م وط���رق‬

‫وتشعب المسالك والمناهج‪ .‬فقراءة الهجرة من زاوية المنهج‬

‫إلى س���لطتهم وط���رق بقائهم فيها‪ ،‬فيحاول���ون ‪-‬بوعي أو بغير‬

‫منارات هادية‪ ،‬تعصمه من الضالل والزلل عند اختالط السبل‬ ‫التغييري تعطينا المعالم التالية‪:‬‬

‫جزءا منها‬ ‫الوصول‪ ،‬أصحاب الس���لطة التي صاروا في الظاهر ً‬

‫وع���ي‪ -‬تقليدهم واقتفاء آثارهم‪ ،‬وإن أضفوا على ذلك صبغة‬

‫‪-1‬التكوين واإلع�������داد قبل التمكين‪ :‬فق���د مكث النبي ‪‬‬

‫"التأصي���ل"‪ ،‬متخذي���ن من مقولة "فقه الواق���ع" آلية لتبرير ما ال‬

‫أحدا منهم‬ ‫فكرا وممارسة‪ .‬وما أظن أن ً‬ ‫َح َمل َة المنهج الجديد ً‬

‫وإن وق���ع ه���ؤالء وأولئ���ك في ه���ذا الخل���ل كان اإلفالس‬

‫ويعدهم ليكونوا‬ ‫أكث���ر من عقد في مكة‪ ،‬يربي الصفوة األولى ّ‬

‫يوما من مكة ليبني دولة في المدينة‪،‬‬ ‫طاف بخاطره أنه سيخرج ً‬ ‫أو أنه سيعيش ليرى ثمرة تضحياته ومعاناته‪.‬‬

‫فتكوين الصف���وة القادرة على أن تتحرك إلحداث التغيير‪،‬‬

‫أم���ر جوهري ي���كاد يكون من الس���نن االجتماعي���ة الثابتة التي‬ ‫تحك���م حرك���ة كل المجتمعات عبر التاريخ‪ .‬فم���ا من ثورة أو‬

‫تغيير إال وكان الدور األساس فيها لصفوة أو نخبة آمنت بمبدإ‬ ‫التغيير‪ ،‬وتمثلت الفكرة دون تفكير في مغنم أو مكسب‪.‬‬

‫وم���ن هن���ا ال يمكن أن نفص���ل حدث الهجرة عما س���بقه‪،‬‬

‫فه���و كالنتيجة له‪ ،‬إذ كان باإلم���كان أن تتم الهجرة في اللحظة‬ ‫ك���ذب فيها أهل مكة بالحق دون حاجة إلى تلك‬ ‫األول���ى التي ّ‬ ‫السنوات من العذاب واآلالم‪ ،‬ولكن األمر لم يكن عب ًثا‪ ،‬وإنما‬ ‫مقدما‬ ‫اقتضت���ه حكم���ة اهلل تعالى ف���ي جعل التكوين واإلع���داد‬ ‫ً‬

‫على التمكين‪.‬‬

‫يبرر في أكثر األحيان‪.‬‬

‫أحدا‪.‬‬ ‫وكان الفشل‪ ،‬ألن السنن ال تحابي ً‬

‫تش���وف اإلنسان إلى التمكين قبل التكوين‪ ،‬إن هو إال‬ ‫فإن‬ ‫ُّ‬

‫ضرب من العبث وش���كل من أش���كال الهزل في موطن الجد‪.‬‬

‫والحي���اة ال يصنعه���ا العابث���ون وال يقوده���ا م���ن يختلط عليهم‬

‫الجد مع الهزل‪.‬‬

‫‪-2‬رج�������ال المبدإ قب�������ل رجال الدولة‪ :‬وه���و درس آخر من‬

‫دروس الهج���رة عل���ى مس���توى منه���ج التغيي���ر‪ ،‬يتعل���ق بطبيعة‬

‫اإلنسان الذي ُك ّون لتقوم على كاهله أعباء الدولة الناشئة‪.‬‬

‫أساس���ا على مركزية‬ ‫فإذا كانت المنهجية اإلس�ل�امية‪ ،‬تقوم‬ ‫ً‬

‫اإلنس���ان من حيث كونه هو المخاط���ب بالمنهج وهو المطبق‬

‫له في الواقع‪ ،‬فإن الهدف السياسي من حركة التغيير واالنتقال‬ ‫م���ن ط���ور الجماعة إلى ط���ور الدولة‪ ،‬يجعل م���ن التركيز على‬ ‫اإلنسان مسألة غاية في األهمية والخطورة‪.‬‬

‫ل���درس بليغ للحركات اإلس�ل�امية الت���ي تريد التغيير‬ ‫وإن���ه‬ ‫ٌ‬

‫والهـج���رة تنبهن���ا إلى ه���ذا المعلم المه���م‪ ،‬إذ يتضح ‪-‬من‬

‫الس���ير‪ ،‬تغف���ل عن ه���ذا المعل���م الخطير فتتش���وف إلى تمكين‬

‫أن يفك���ر ف���ي رج���ل الدولة‪ .‬وم���ا النماذج ‪-‬من رج���ال الدولة‬

‫من منطلق االقتداء بالمنهج النبوي‪ ،‬ثم في لحظة من لحظات‬ ‫عد ُع ّد َته‪ ،‬إذ ُيتعبها ط���ول الطريق أو يغريها بريق‬ ‫لم���ا ُت َع َّد ل���ه َب ُ‬ ‫ّ‬ ‫مكس���ب سياس���ي عارض‪ ،‬فتندف���ع ضارب ًة بهذه الس���نة عرض‬

‫الحائ���ط‪ ،‬فتك���ون النتيج���ة تج���ارب هزيل���ة أو مش���وهة‪ ،‬تكون‬ ‫في أغلب األحي���ان‪ -‬حجة يعترض بها العلمانيون واألنظمة‬‫المس���تبدة على فشل المشروع اإلسالمي من الناحية المبدئية‪،‬‬ ‫منهجا يقود الحياة‪.‬‬ ‫وعلى عدم صالحية اإلسالم ليكون‬ ‫ً‬

‫أصح���اب المغالبة‬ ‫وه���ذا الخلل يس���توي ف���ي الوقوع في���ه‬ ‫ُ‬

‫الذين ال يصبرون على معاناة الطريق‪ ،‬أو تغرهم قوة جماهيرية‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪20‬‬

‫خالله���ا‪ -‬كي���ف أن النبي ‪ ‬ركز على تكوين رجل المبدإ قبل‬ ‫األف���ذاذ‪ -‬الذين ظهروا بعد ذلك على امت���داد المرحلة النبوية‬ ‫ث���م مرحل���ة الخالفة الراش���دة‪ ،‬إال ثمرة لهذا المس���لك النبوي‬ ‫الحكيم‪ .‬فهل كان باإلمكان أن يعلن النبي ‪ ‬عن تكوين دولة‬

‫ف���ي المدين���ة‪ ،‬قبل أن يتمكن م���ن إعداد الرج���ال الذين رباهم‬ ‫على المبادئ في مكة؟‬

‫فالدول���ة بما له���ا من مغريات الس���لطة‪ ،‬تتحول على أيدي‬

‫م���ارس من خاللها كلُّ‬ ‫م���ن لم تتمكن المبادئ منهم س���اح ًة ُت َ‬ ‫أشكال المفاسد السياسية واالقتصادية وحتى الدينية‪.‬‬


‫صراط يوعدون‪ ،‬ويصدون عن س���بيل اهلل من آمن به ويبغونها‬

‫عوج���ا"‪ )1(،‬ف���كان الخروج من "القرية الظال���م أهلها" إلى قرية‬ ‫ً‬

‫كانت "يث���رب"‪ ،‬فصارت "المدينة المن���ورة" و"طيبة الطيبة"‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫والمـكان الجديد إنما كان باختيار رباني ال باجتهاد بشري‪،‬‬

‫ولق���د ح���اول الرس���ول ‪ ‬أن يتدب���ر أم���ر الم���كان فذهب إلى‬ ‫الطائ���ف ‪-‬وه���ي إحدى القريتين العظيمتي���ن في ذلك الزمان‪-‬‬

‫مقتصرا على التجارة‬ ‫ولكن يبدو أن تنافس���ها مع مكة لم يكن‬ ‫ً‬ ‫وتكدي���س الم���ال‪ ،‬وإنما تع���دى ذلك إلى التباري في القس���وة‬

‫ورد الحق‪ ،‬فكان ما كان من صدود أهل الطائف وجحودهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكان ما كان من أحداث مهدت الطريق إلى المدينة‪.‬‬

‫واالنتق���ال من مكة إلى المدين���ة‪ ،‬لم يكن مجرد انتقال من‬

‫مكان إلى آخر‪ ،‬وإنما انتقال من بنية اجتماعية إلى بنية أخرى‪.‬‬

‫وه���ذا كان ل���ه تجلياته في تش���ريعات الوحي التالي���ة على هذا‬

‫االنتقال‪.‬‬

‫أساس���ا من المؤمني���ن وهم األقلية‬ ‫ش���كلة‬ ‫فـ"مك���ة" كانت ُم َّ‬ ‫ً‬

‫الذي���ن اس���تجابوا لدع���وة الرس���ول ‪ ،‬ومن المش���ركين وهم‬ ‫األغلبي���ة الذي���ن ناصب���وه العداء‪ .‬أم���ا المدينة فكان���ت األغلبية‬

‫وأنصارا‪ ،‬معهم طائفة تظهر‬ ‫الخ ّلص "مهاجرين‬ ‫فيها للمؤمنين ُ‬ ‫ً‬

‫ألول مرة على مسرح األحداث وهم "المنافقون"‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫وتع���ال ثقافي بما لهم‬ ‫جماع���ات يهودي���ة ذات نفوذ اقتصادي‪،‬‬ ‫من تحكم في األس���واق‪ ،‬وبما بقي لديهم من ميراث النبوات‬ ‫السابقة وسط مجتمع عربي أمي‪.‬‬

‫وه���ذا التغي���ر ف���ي طبيع���ة المجتمعين‪ ،‬يتجل���ى في حديث‬

‫الق���رآن بعد الهجرة ع���ن المنافقين‪ ،‬وفصول كيدهم للحق من‬ ‫داخ���ل الص���ف اإلس�ل�امي‪ ،‬وك���ذا الحديث عن أه���ل الكتاب‬

‫الق���درة على التحمل والمواجهة‪ ،‬فإن هذا اإليمان أضيف إليه‬ ‫ف���ي المرحل���ة المدنية ق���و ُة التضامن األخ���وي والمنعة المادية‬ ‫وف���اء بـما عاهدوا‬ ‫الت���ي وفرها األنص���ار إلخوانهم المهاجرين‬ ‫ً‬ ‫عليه الرسـول ‪ ‬في بيعة العقبة الثانية‪.‬‬ ‫• انتقال من الجماعة إلى الدولة‪ :‬وهذا كان له أثر بالغ في‬ ‫الس���لوك السياس���ي للفرد العربي‪ ،‬فألول مرة‪ ،‬تنش���أ في تاريخ‬ ‫العرب دولة تقارب في مفهومها األش���كال الحضارية للدولة‪،‬‬ ‫ال باهتة للدولة‪ ،‬ال تعدو‬ ‫بعد أن عرف في تاريخه القديم أشكا ً‬ ‫أن تكون تابعة إلحدى القوى األجنبية‪.‬‬ ‫• االنتقال من أف�������ق القبيلة إلى أفق المجتمع واألمة‪ :‬وهي‬ ‫نقل���ة جب���ارة في ميزان األمم والش���عوب‪ ،‬فأن يخرج اإلنس���ان‬ ‫العرب���ي م���ن س���جن القبيل���ة وتقاليده���ا وقوانينه���ا‪ ،‬ال ليك���ون‬ ‫صعلوكا ‪-‬كما فعل بعض ش���عراء الع���رب‪ -‬وإنما ليبني ما هو‬ ‫ً‬ ‫أرق���ى من القبيل���ة وروابطها‪ .‬فه���ذا يتطلب‬ ‫تغيي���را عمي ًقا على‬ ‫ً‬ ‫مس���توى األف���كار والتصورات‪ ،‬بل على مس���توى األحاس���يس‬ ‫أيض���ا‪ .‬وبكلمة موج���زة‪ ،‬يتطلب إنس���ا ًنا‬ ‫جديدا ال‬ ‫والعواط���ف ً‬ ‫ً‬ ‫صل���ة له بإنس���ان الجاهلية‪ ،‬وهذا ما فعل���ه النبي ‪ ‬ودأب عليه‬ ‫منذ لحظة نزول الوحي؛ بناء اإلنسان الجديد‪.‬‬ ‫وه���ذا االنتق���ال البني���وي بمظاه���ره الثالثة‪ ،‬يجس���ده‬ ‫رمزيا‬ ‫ًّ‬ ‫م���ا فعله الرس���ول ‪ ‬س���اعة مقدمه إل���ى المدينة‪ ،‬إذ ب���ادر إلى‬ ‫بناء المس���جد‪ ،‬والمؤاخاة بي���ن المهاجرين واألنص���ار‪ ،‬وكتابة‬ ‫الوثيقة‪ ،‬وهي إجراءات ثالثة تترجم األسس التي أرساها عليه‬ ‫الصالة والس�ل�ام للمجتمع اإلس�ل�امي؛ "صلة األمة باهلل‪ ،‬صلة‬ ‫بعض���ا بالبعض اآلخر‪ ،‬صلة األم���ة باألجانب عنها ممن‬ ‫األم���ة ً‬ ‫(‪)3‬‬ ‫ال يدينون دينها"‪.‬‬

‫وصفاته���م وصن���وف كيدهم وخداعهم الدين���ي (إخفاء حقيقة ثانيًا‪ -‬القراءة على مستوى المنهج‬

‫النب���وة وأح���كام الش���ريعة الموس���وية)‪ ،‬ومكره���م السياس���ي‬ ‫والعس���كري (تآمره���م عل���ى قت���ل الرس���ول ‪ ‬وتحالفه���م مع‬

‫المشركين والمنافقين)‪.‬‬

‫جـ‪-‬انتقال في البنية االجتماعية‪ :‬ونعني بالبنية االجتماعية؛‬

‫تركيب���ة المجتم���ع اإلس�ل�امي بم���ا له���ا م���ن خصائ���ص مادي���ة‬

‫ومعنوية‪ .‬فالهجرة غيرت مالمح الجماعة اإلس�ل�امية األولى‪،‬‬ ‫وطبيع���ة عالقته���ا بذاتها وبما يحيط به���ا‪ ،‬ويمكن أن نتبين هذا‬ ‫التغيير من خالل المظاهر التالية‪:‬‬

‫• االنتق�������ال من الضعف إل�������ى القوة‪ :‬فلئن كان���ت المرحلة‬

‫المكي���ة اعتم���دت عل���ى اإليم���ان قو ًة وحي���دة تمن���ح صاحبها‬

‫الس���نة ‪-‬والسيرة جزء منها‪ -‬تش���كل الجانب التطبيقي للمنهج‬ ‫ال���ذي أنزل���ه اهلل تعال���ى ف���ي كتابه‪ ،‬ف�ل�ا مناص للمس���لم الذي‬ ‫يبتغ���ي االس���تهداء به���دي النبوة‪ ،‬م���ن ضرورة اقتفاء المس���لك‬ ‫ان َل ُكم ِفي َر ُس ِ‬ ‫���ول‬ ‫النب���وي‪ ،‬اس���تـجابة ألمر اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬ل َق ْد َك َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬ ‫���ر َو َذ َك َر ا َ‬ ‫���ن َك َ‬ ‫ان َي ْر ُج���و ا َ‬ ‫���و ٌة َح َس َ���ن ٌة ِل َم ْ‬ ‫اهلل ُأ ْس َ‬ ‫هلل َوا ْل َي ْو َم اآلخ َ‬ ‫َك ِث ًيرا﴾(األحزاب‪.)21:‬‬ ‫واالقتداء يصبح أكثر ضرورة بالنسبة للحركات التي تبتغي‬ ‫ومنهجا‪ ،‬وتطمح للوصول‬ ‫التغيير رافعة ش���عار اإلس�ل�ام فكرة‬ ‫ً‬ ‫إلى ما وصل إليه النبي ‪ ‬قبل قرون بفكرته ومنهجه‪.‬‬ ‫فالتاريخ والواقع‪ ،‬كل منهما يعلمنا أن حس���ن النية وجمال‬

‫‪19‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫"النصوص‬ ‫حك َم ْتها قاعد ُة‪:‬‬ ‫كل األدوار التالية على هذه المرحلة َ‬ ‫ُ‬ ‫متناهية والوقائع غير متناهية"‪ ،‬وهذا هو تأسيس���ها التش���ريعي‪.‬‬

‫أخرى مهدت له‪ ،‬وأحداث نتجت عنه‪ .‬وهذه قراءة تس���تهدي‬

‫بالع���رب من ط���ور القبيلة إلى طور المجتمع واألمة‪ ،‬ومن أفق‬

‫وبما صح من روايات في كتب الحديث والسير‪.‬‬

‫• وه���ي المرحل���ة الت���ي وضع���ت فيه���ا القيم الت���ي انتقلت‬

‫الب���داوة إلى أفق الحضارة‪ .‬فكل ثم���رة حضارية أتت من بعد‪،‬‬ ‫إنما هي من ش���جرة بذورها األولى ُغرس���ت في تربة المرحلة‬

‫النبوية‪ ،‬وهذا هو تأسيسها الحضاري‪.‬‬

‫بشخصيات س���اهمت في صناعته‪ ،‬وكان ضمن سياق أحداث‬

‫بما ورد من إش���ارات في الق���رآن الكريم حول حادثة الهجرة‪،‬‬ ‫وف���ي ه���ذا المس���توى‪ ،‬نج���د تعلي���ق الق���رآن ع���ن الحدث‬

‫موج���زا‪،‬‬ ‫معج���زا كعادته‪ ،‬يمزج ف���ي كلمات قالئ���ل بين البعد‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫التاريخي للحادثة وجذورها اإليمانية وتجلياتها التشريعية في‬

‫فالسيرة النبوية بأحداثها‬ ‫شكل‬ ‫خصوصا المفصلية منها‪ُ -‬ت ّ‬‫ً‬

‫بيان عالقة المس���لـم ‪-‬في كـل زمان ومكان‪ -‬بصاحب الهجرة‬

‫ال‪ .‬وهذا‬ ‫فهم���ا وتنزي ً‬ ‫ه���ي أرادت أن تتعام���ل مع هداية الوحي ً‬

‫الوق���ت ذاته‪ ،‬يخاطب أجيال المس���لمين ف���ي كل وقت إلى أن‬

‫كم���ال التجربة اإلس�ل�امية‪ ،‬واألفق الذي ترن���و إليه العقول إن‬

‫في اعتقادنا‪ ،‬هو التصور العميق لمفهوم "اتباع الس���نة النبوية"‪،‬‬ ‫ال ذاك ال���ذي يق���ف عند ح���دود التجرب���ة النبوية في مس���توى‬

‫تعامالتها م���ع جزئيات الواقع دون االرتفاع إلى األصل الذي‬ ‫ينتظم تلك الجزئيات‪.‬‬

‫به���ذه الرؤي���ة‪ ،‬رؤي���ة التاريخ من زاوية الوع���ي الحضاري‪،‬‬

‫ورؤية الس���يرة النبوية من زاوي���ة اإلدراك الواضح لخصائصها‬ ‫التأسيس���ية‪ ،‬س���يكون وقوفنا م���ع حدث قد يك���ون ثاني حدث‬

‫"مفصلي" في تاريخ اإلس�ل�ام بعد حادث���ة نزول الوحي‪ ،‬أعني‬ ‫بذلك حدث الهجرة النبوية‪.‬‬

‫هلل‬ ‫تنته���ي ه���ذه الدنيا‪ ،‬يقول تعال���ى‪ِ ﴿ :‬إ َّ‬ ‫���د َن َص َر ُه ا ُ‬ ‫وه َف َق ْ‬ ‫ال َت ْن ُص ُر ُ‬ ‫ول‬ ‫���روا َثا ِن َي ا ْث َن ْي ِن إ ِْذ ُه َما ِف���ي ا ْل َغارِ إ ِْذ َي ُق ُ‬ ‫إ ِْذ َأ ْخ َر َج ُ‬ ‫���ه ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن َك َف ُ‬ ‫ِل َص ِ‬ ‫هلل َم َع َنا﴾(التوبة‪.)40:‬‬ ‫اح ِب ِه َ‬ ‫ال َت ْح َز ْن إ َِّن ا َ‬

‫فاآلي���ة في ُبعدها التاريخي‪ ،‬ت���ؤرخ لفعل "اإلخراج" الذي‬

‫َتع���رض له النبي ‪ ،‬فهي تتحدث ع���ن "انتقال" طبع المرحلة‬ ‫َّ‬ ‫التي أتت بعد ذلك الحدث‪ ،‬يمكن تلمسه في الجوانب التالية‪:‬‬ ‫أ‪-‬انتقال في الزمان‪ :‬إذ فصل الحدث بين زمنين‪ ،‬زمن امتد‬

‫من بعثة الرسول ‪ ‬إلى لحظة اإلذن له بالهجرة‪ ،‬وهي مرحلة‬ ‫الدع���وة المكية بم���ا لها من مقدمات وإرهاص���ات‪ ،‬بدأت منذ‬

‫والدته ‪ ‬وانتهت‬ ‫زمانيا على مشارف المدينة المنورة‪ .‬وزمن‬ ‫ًّ‬

‫الهجرة ومستويات القراءة‬

‫أش���رنا إل���ى أن حدث الهجرة قد ترتفع به الق���راءة الواعية إلى‬

‫مس���توى حدث نزول الوحي‪ ،‬ومما يع���زز هذا الزعم أننا نجد‬

‫خاصية التأسيس تنطبق على الحدثين‪ ،‬باعتبار أن األول دشن‬ ‫مرحلة البدء لرس���الة اإلس�ل�ام ف���ي آخر تجلياته���ا‪ ،‬وأن الثاني‬

‫دش���ن مرحل���ة جدي���دة م���ن مراح���ل الدع���وة اإلس�ل�امية وهي‬

‫المرحلة المدنية‪.‬‬

‫وكم���ا أن التاري���خ لم يبق على ما هو عليه منذ لحظ ِة تل ُّفظ‬

‫أيضا ل���م يبق على ما‬ ‫جبري���ل ‪ ‬بكلم���ة "اق���رأ"‪ ،‬فإن التاريخ ً‬ ‫ه���و عليه منذ لحظة وصول س���يدنا محم���د ‪ ‬إلى المدينة مع‬

‫صاحبه أبي بكر الصديق ‪.‬‬

‫وأهمية الهجرة تجليها قراءة الحدث من خالل المستويات‬

‫التالية‪ :‬مستوى الحدث التاريخي‪ ،‬ومستوى المنهج‪ ،‬ومستوى‬

‫االعتبار (استشراف المستقبل)‪.‬‬

‫أوالً‪ -‬القراءة على مستوى الحدث التاريخي‬

‫بأن ننظر للهجرة كحدث وقع في زمان ومكان محددين‪ ،‬وتم‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫متعاليا عليه في‬ ‫موجودا في الزمان‪،‬‬ ‫‪ ‬ودين���ه‪ ،‬فيبدو الح���دث‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪18‬‬

‫امت���د م���ن لحظ���ة وصوله علي���ه الصالة والس�ل�ام إل���ى المدينة‬

‫وانته���ى بالتحاقه بالرفيق األعلى‪ ،‬وهي مرحلة الدعوة المدنية‬

‫بم���ا فيه���ا من مالحم وأح���داث‪ .‬فصرنا بعدها نق���ول‪" :‬ما قبل‬

‫الهجرة وما بعد الهجرة"‪.‬‬

‫وهذا انتقال كان له أثره البالغ في طبيعة التشريع ومضامين‬

‫اآليات والس���ور التي انقس���مت إلى قرآن مك���ي تمحور حول‬ ‫أصول اإلس�ل�ام عقيدة وش���ريعة وخل ًقا‪ ،‬وقرآن مدني تمحور‬ ‫ح���ول توفي���ر األرضي���ة التش���ريعية لبن���اء المجتم���ع واألم���ة‬ ‫والحضارة‪ ،‬فكان التوس���ع في كل ما يحتاج إليه اإلنس���ان من‬

‫تش���ريعات مبينة للعبادة أو ضابطة للس���لوك أو مقننة لش���ؤون‬

‫المجتمع في السلم والحرب‪.‬‬

‫بـ‪-‬انتقال في المكان‪ :‬وه���و الخروج من مكة "أم القرى"‪،‬‬

‫رغدا من كل م���كان ببركة البيت‬ ‫تل���ك الت���ي كان يأتيه���ا رزقها ً‬

‫وردت الحق في عناد‬ ‫العتيق‪ ،‬ولكنها كذبت صاحب الرسالة ‪ّ ‬‬ ‫وتكبر‪ ،‬فكانت العقوبة كما يقول الشيخ الغزالي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬أن‬

‫"حرم مشركو مكة الخير كله مذ جحدوا الرسالة وقعدوا بكل‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬عبد الوهاب بوخلخال*‬

‫الهجرة‬ ‫نقطة انطالق األمة‬

‫من أعظ���م األحداث المفصلية في تاريخ‬

‫أم���ة م���ا‪ ،‬بعث���ة نبي‪ ،‬ون���زول الوح���ي‪ ،‬فهي‬

‫لحظ���ة فاصل���ة تفص���ل بي���ن مرحلتي���ن من‬

‫ال أخطر من أي حدث تاريخي آخر‪...‬‬ ‫مراحل التاريخ فص ً‬ ‫م���ن أجل هذا‪ ،‬وجدنا عناية القرآن الكريم "بتاريخ النبوة"‪،‬‬

‫نقاطا مفصلية في مسيرة البشرية‪.‬‬ ‫وجعلها ً‬

‫فالتاريخ بالمنظور القرآني‪ ،‬مقسم إلى حقب بحسب بعثة‬

‫األنبي���اء‪،‬‬ ‫والفعل اإلنس���اني يمت���د من���ذ آدم ‪ ‬على خطين؛‬ ‫ُ‬

‫خ���ط النبوة‪ ،‬وخط مناهض���ي النبوة‪ ،‬أو بتعبير القرآن "الصراط‬

‫المستقيم" و"سبل الضالل"‪.‬‬

‫وم���ن هن���ا تأت���ي أهمي���ة الحقبة الت���ي تظللها نب���وة نبي من‬

‫األنبياء‪ ،‬ألنها ‪-‬بشكل أو بآخر‪ -‬تلخص قصة البشرية ومشاهد‬

‫التدافع بين الحق والباطل‪.‬‬

‫ذل���ك أنه���ا تش���كل مرحل���ة التأس���يس بمختل���ف تجليات���ه‬

‫االجتماعية والمعرفية والتشريعية والحضارية‪.‬‬

‫• فالمرحل���ة النبوي���ة ه���ي منطل���ق التأس���يس للمجتم���ع‬ ‫اإلسالمي األول‪ ،‬فهذا تأسيسها االجتماعي‪.‬‬ ‫• وه���ي أول تجرب���ة بش���رية ف���ي أدوار تاريخنا اإلس�ل�امي‬

‫ونحن كمسلمين‪ ،‬ينبغي أن نعي هذه الحقيقة حال تعاملنا‬

‫تعام���ل فيه���ا العقل مع النص لفهمه وتنزيله على الواقع‪ ،‬وهذا‬

‫اإلس�ل�ام العام‪ ،‬فإنه���ا تمتاز بما ال نجده ف���ي غيرها من أدوار‬

‫• وهي المجال الزمني الذي كانت فيه النصوص مس���اوقة‬

‫جزءا م���ن تاريخ‬ ‫مـ���ع س���يرة رس���ـول اهلل ‪ .‬فه���ي وإن كان���ت ً‬ ‫ذلك التاريخ‪.‬‬

‫تأسيسها المنهجي والمعرفي‪.‬‬

‫للواقع‪ ،‬متفاعلة بشكل مباشر مع أحداثه وأنشطة أصحابه‪ ،‬بينما‬

‫‪17‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫حي���ث حجيته���ا‪ ،‬داخ���ل ذات اإلنس���ان‪ .‬وف���ي إط���ار كل ه���ذه‬ ‫الوح���دات المكون���ة ل���ه حين يتدخل ه���ذا الق���ول الثقيل‪ ،‬فإن‬

‫ب���رد اليقي���ن يح���ل بقل���ب الم���رء وال يبق���ى‪ ،‬كما ق���ال اهلل ‪:‬‬ ‫﴿ ِفي��� ِه ُش���ر َك ُاء ُم َت َش ِ‬ ‫"س��� َل ًما" هلل‬ ‫اك ُس َ‬ ‫���ون﴾(الزمر‪ ،)29:‬وإنما يصبح َ‬ ‫َ‬ ‫رب العالمي���ن‪ ،‬ويصب���ح أقدر على أن يدخل في الس���لم كافة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ان َن ْز ٌغ َفاس َ���ت ِع ْذ بِ���ا ِ‬ ‫الش���ي َط ِ‬ ‫هلل ِإ َّن ُه‬ ‫ق���ال ‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫﴿وإ َِّم���ا َي ْن َز َغ َّن َك م َن َّ ْ‬ ‫���م ٌ ِ‬ ‫���هم َطا ِئ ٌ ِ‬ ‫َس ِ‬ ‫الش���ي َط ِ‬ ‫ان‬ ‫يم ‪ ‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫يع َعل ٌ‬ ‫ين َّات َق ْوا ِإ َذا َم َّس ُ ْ‬ ‫ف م َن َّ ْ‬ ‫ص���ر َ ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫���م ِفي ا ْل َغ ِي‬ ‫ون َوإ ِْخ َوا ُن ُه ْم َي ُم ُّدو َن ُه ْ‬ ‫���روا َف��� ِإ َذا ُه ْ‬ ‫���م ُم ْب ُ‬ ‫َت َذ َّك ُ‬ ‫ّ‬ ‫ص���ر َ ‪‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُث���م َ ِ‬ ‫اج َت َب ْي َت َها ُق ْل‬ ‫���و َ‬ ‫ال ْ‬ ‫���م َت ْأتهِ ْم ب َِآية َقا ُلوا َل ْ‬ ‫ون َو ِإ َذا َل ْ‬ ‫َّ‬ ‫ال ُي ْق ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ���ع‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫���ا‬ ‫م‬ ‫���ذا َب َصا ِئ ُر ِم ْن َر ِّب ُك ْم َو ُه ًدى‬ ‫وحى ِإ َل َّي ِم ْن َر ِّبي َه َ‬ ‫ِإ َّن َ َّ ُ َ ُ َ‬ ‫اس َت ِم ُعوا َل ُه َو َأ ْن ِص ُتوا‬ ‫ون ‪َ ‬و ِإ َذا ُق ِر َئ ا ْل ُق ْر ُ‬ ‫َو َر ْح َم ٌة ِل َق ْو ٍم ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫آن َف ْ‬ ‫ون﴾(األعراف‪.)204-200:‬‬ ‫َل َع َّل ُك ْم ُت ْر َح ُم َ‬

‫الثقل من حيث التحدي‬

‫أختم هذا القول عن القول الثقيل‪ ،‬باإلشارة إلى أن من معاني‬ ‫أيض���ا‪ ،‬ثقل هذا القول العظيم م���ن حيث التحدي الذي‬ ‫الثق���ل ً‬ ‫﴿وإ ِْن ُك ْن ُت ْم ِف���ي َر ْي ٍب‬ ‫ق���د تح���دى اهلل ‪ ‬ب���ه الج���ن واإلن���س‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫���ه َد َاء ُك ْم‬ ‫���ور ٍة ِم ْن ِم ْث ِل ِه َو ْاد ُعوا ُش َ‬ ‫م َّم���ا َن َّز ْل َنا َع َلى َع ْبد َنا َف ْأ ُتوا ب ُِس َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ين﴾(البق���رة‪ .)23:‬ه���ذا التحدي قائم‬ ‫���م َصا ِد ِق َ‬ ‫ِم ْ‬ ‫���ن ُدون اهلل إ ِْن ُك ْن ُت ْ‬ ‫منذ أربعة عش���ر قر ًنا‪ ،‬وقد ش���هد التاريخ ما وقع للذين سولت‬ ‫له���م أنفس���هم أن يزاحم���وا في ه���ذا المضمار‪ ،‬أو أن ينافس���وا‬ ‫ه���ذا الق���ول الثقيل‪ .‬ولذلكم فإن ه���ذا الثقل ينصرف لكل هذه‬ ‫المعاني وزيادة‪ ،‬فهو الدواء‪ ،‬وهو البلس���م‪ ،‬وهو الش���فاء‪ ،‬وهو‬ ‫الرقي���ة المبارك���ة الت���ي حين تدخل ذات اإلنس���ان فإنه���ا لثقلها‬ ‫ين‬ ‫���و ِل َّل ِذ َ‬ ‫تقض���ي عل���ى األدواء وعلى األم���راض كلها‪ُ ﴿ :‬ق ْل ُه َ‬ ‫آم ُنوا ُه ًدى َو ِش َف ٌاء﴾(فصلت‪.)44:‬‬ ‫َ‬ ‫نس���أل اهلل ج���ل وعز أن يش���فينا بهذا الق���ول الثقيل من كل‬ ‫أدوائنا و َأ ْض ُرب ُض ِّرنا الظاهرة والباطنة‪ .‬آمين‪.‬‬ ‫(*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫وح ْولَها س���بعون‬ ‫(‪ )1‬ع���ن اب���ن عب���اس‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫"نزلت س���ورة األنعام جمل��� ًة بمك َة ل َْيال َ‬ ‫ٍ‬ ‫���رون حوله���ا بالتس���بيح"‪ .‬أخرج���ه الطبران���ي ف���ي المعج���م‬ ‫َ‬ ‫أل���ف م َل���ك َي ْج ُ‬ ‫الكبير(‪.)215/12‬‬ ‫(‪ )2‬قال سفيان الثوري‪ ،‬عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد‪ :‬نزلت‬ ‫سورة األنعام على النبي ‪ ‬جملة [واحدة] وأنا آخذة بزمام ناقة النبي ‪ ،‬إن‬ ‫كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة‪ .‬انظر تفسير سورة األنعام عند ابن كثير‪.‬‬

‫(‪ )3‬حديث مرفوع أورده السيوطي في باب فضائل القرآن‪.‬‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪16‬‬

‫عا َلم الطفولة‬ ‫البراءة ُّ‬ ‫كلها‪،‬‬ ‫في طفولة األطفال‪،‬‬ ‫في ربيع ابتساماتهم‪،‬‬ ‫في نضارة عيونهم‪...‬‬ ‫إنهم ربيعنا القادم‪،‬‬ ‫وبالبل أرواحنا على أفنان األيام‪...‬‬ ‫غردوا‪ ،‬أشاعوا السرور‪،‬‬ ‫إذا َّ‬ ‫واستفتحوا نافذة على الغد المأمول‪،‬‬ ‫والوصال اآلتي‪...‬‬ ‫***‬


‫القط���ع؛ حي���ن يك���ون الن���اس مختلفين‪،‬‬ ‫يتناقش���ون ويتباحث���ون ويتدارس���ون‬

‫ويتجادلون‪ ،‬ثم يأتي قول اهلل ‪ ،‬فيقطع‬ ‫ق���ول كل قائ���ل آخ���ر‪ ،‬لثقل���ه ولبنائيت���ه‪،‬‬

‫ولكون���ه يس���تدرج كل ه���ذه المحددات‬

‫قادرا على القطع‬ ‫المنهاجية التي تجعله ً‬ ‫والبتر مع كل خطإ ومع كل بهرج‪.‬‬

‫وم���ن معاني الثقل ف���ي هذه البصيرة‬

‫الجليل���ة‪ ،‬ثق���ل ه���ذا الق���ول م���ن حي���ث‬

‫حر ًفا‬ ‫الحس���نات‪ ،‬لقول���ه ‪" :‬م���ن ق���رأ ْ‬

‫من كتاب اهلل؛ فله به حس���نة‪ ،‬والحس���نة‬ ‫���ر أمثاله���ا‪ ،‬ال أقول‪( :‬ال���م) حرف‪،‬‬ ‫بعش ِ‬ ‫ْ‬ ‫ولك���ن ألف ح���رف‪ ،‬والم حرف‪ ،‬وميم‬

‫�إن اهلل ‪� ‬سمى كتاب مو�سى‬ ‫وه��ارون عليهم��ا ال�س�لام‬ ‫بالكتاب امل�س��تبني‪ ،‬و�س��مى‬ ‫القر�آن املجيد بالكتاب املبني‪،‬‬ ‫ولذل��ك كان هذا القر�آن �إمام‬ ‫الكت��ب‪ ،‬وكان املر�س��ل ب��ه‬ ‫عليه ال�ص�لاة وال�س�لام لثقل‬ ‫القول الذي �أن��زل عليه‪ ،‬هو‬ ‫الإم��ام ال��ذي �أكرمه اهلل ‪‬‬ ‫جميعا‪.‬‬ ‫ب�إمامة الأنبياء ً‬

‫ح���رف" (رواه البخ���اري)‪ ،‬ويقال لقارئ هذا‬

‫الثقل من حيث تمكين اإلنس�������ان من‬ ‫االعتبار‬

‫ثقي���ل ه���ذا الق���ول كذلك���م م���ن حي���ث‬ ‫اع َتب ُِروا‬ ‫تمكينه اإلنسان من االعتبار‪َ ﴿ :‬ف ْ‬ ‫َيا ُأو ِلي ا َ‬ ‫أل ْب َصارِ ﴾(الحش���ر‪ ،)2:‬فس���فينته ال‬

‫يمك���ن أن تعترضها أس���اطيل الش���بهات‬ ‫وال المغالط���ات‪ ،‬إذ عنده���ا القدرة على‬ ‫ش���ق طريقها من عدوة إل���ى أخرى‪ ،‬من‬ ‫عدوة الجهل إلى عدوة العلم‪ ،‬من عدوة‬

‫الحي���رة إل���ى ع���دوة الهداية‪ ،‬م���ن عدوة‬

‫الش���ك إلى ع���دوة اليقين‪ ...‬إنها س���فينة‬ ‫ق���ادرة ‪-‬بإذن العل���ي الكريم‪ -‬على مخر‬

‫المياه الفاصلة بين هذه العدوات لثقلها‪،‬‬

‫القول الثقيل يوم القيامة‪" :‬اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في‬

‫والس���فينة كلما كانت أثق���ل‪ ،‬كانت أقدر‬ ‫يح َط ِّي َب ٍة﴾(يونس‪.)22:‬‬ ‫﴿و َج َر ْي َن بِهِ ْم ب ِ​ِر ٍ‬ ‫على مخر عباب البحر َ‬

‫متبوؤه من الجنة حيث يشاء‪ ،‬قال تعالى‬ ‫وأما من عمل به فذاك ّ‬

‫كم���ا أن م���ن معان���ي الثقل ف���ي هذه البصي���رة الكريم���ة‪ ،‬الثقل‬

‫الدني���ا‪ ،‬ف���إن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأ به���ا" (رواه أبو داود)‪.‬‬

‫﴿و َقا ُلوا‬ ‫ف���ي حق العاملي���ن بهذا القول الثقيل وعلى لس���انهم‪َ :‬‬ ‫���د ُه َو َأ ْو َر َث َنا ا َ‬ ‫ض َن َت َب َّو ُأ ِم َن ا ْل َج َّن ِة‬ ‫أل ْر َ‬ ‫���د لهلِ ِ ا َّل ِذي َص َد َق َنا َو ْع َ‬ ‫ا ْل َح ْم ُ‬ ‫ين﴾(الزم���ر‪ .)74:‬فهو قول ثقيل في‬ ‫َح ْي ُ‬ ‫���اء َف ِن ْع َم َأ ْج ُر ا ْل َعا ِم ِل َ‬ ‫���ث َن َش ُ‬ ‫���ن َث ُق َل ْت َم َوازِ ُين ُه‬ ‫���و ْز ُن َي ْو َم ِئ ٍذ ا ْل َح ُّق َف َم ْ‬ ‫ميزان الحس���نات‪َ :‬‬ ‫﴿وا ْل َ‬ ‫ين‬ ‫َف ُأو َل ِئ َ‬ ‫���ك ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫ون ‪َ ‬و َم ْن َخ َّف ْ‬ ‫���ت َم َوازِ ُين ُه َف ُأو َل ِئ َك ا َّل ِذ َ‬ ‫َخ ِس ُروا َأ ْن ُف َس ُه ْم﴾(األعراف‪ ،)9-8:‬قول ثقيل في ميزان رب العزة‪،‬‬ ‫حي���ث ترجح كفة من ُأكرم بهذا القول واس���تدرجه بين جنبيه‪،‬‬ ‫ثم عمل به من حيث الحسنات ومن حيث األجر العظيم‪.‬‬

‫الثقل من حيث قدرته على شفاء ما في القلوب‬

‫أيض���ا ثقي���ل من حي���ث قدرت���ه على ش���فاء ما في‬ ‫ه���ذا الق���ول ً‬ ‫ِ‬ ‫���ن ا ْل ُقر ِ‬ ‫آن َما ُه َو ِش��� َف ٌاء َو َر ْح َم ٌة‬ ‫القل���وب وإحيائه���ا‪َ :‬‬ ‫﴿و ُن َن ِّز ُل م َ ْ‬ ‫ين﴾(اإلس���راء‪ ،)82:‬فحي���ن يس���تقر ه���ذا الق���ول الكريم في‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫قل���ب المؤمن أو المؤمنة‪ ،‬فإن���ه ال يمكن أن يتزاحم معه هناك‬ ‫لثقله ش���يء آخر‪ ،‬من ش���بهة أو ش���هوة أو نزغة أو نفثة أو غير‬

‫ذل���ك‪ ،‬حي���ث يمأل هذا الق���ول المبارك القل���ب فيخبت له وال‬ ‫﴿و ِل َي ْع َل َم‬ ‫يت���رك مكا ًنا لس���واه أو لغيره‪ ،‬مصدا ًقا لق���ول اهلل ‪َ :‬‬ ‫ِت َل ُه‬ ‫���ن َر ِّب َك َف ُي ْؤ ِم ُنوا بِ��� ِه َف ُت ْخب َ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫ي���ن ُأو ُت���وا ا ْل ِع ْل َم َأ َّن ُه ا ْل َح ُّق ِم ْ‬ ‫وب ُه ْم﴾(الحج‪.)54:‬‬ ‫ُق ُل ُ‬

‫الثقل والرجحان حين المقارنة مع الكتب السابقة‬

‫والرجحان حين المقارنة مع الكتب الس���ابقة‪ ،‬فاهلل ‪ ‬س���مى‬

‫كت���اب موس���ى وه���ارون عليهما الس�ل�ام بالكتاب المس���تبين‪:‬‬ ‫ِين﴾(الصافآت‪ ،)117:‬وس���مى القرآن‬ ‫﴿وآ َت ْي َن ُ‬ ‫اب ا ْل ُم ْس َ���تب َ‬ ‫اه َم���ا ا ْل ِك َت َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ات ا ْل ُق���ر ِ‬ ‫اب‬ ‫آي‬ ‫���ك‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫﴿طس‬ ‫المبين‪:‬‬ ‫بالكت���اب‬ ‫المجي���د‬ ‫آن َو ِك َت ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِين﴾(النم���ل‪ ،)1:‬ولذل���ك كان ه���ذا القرآن إم���ام الكتب‪ ،‬وكان‬ ‫ُمب ٍ‬

‫المرسل به عليه الصالة والسالم لثقل القول الذي أنزل عليه‪،‬‬

‫جميعا‪ ،‬كما ثبت‬ ‫ه���و اإلمام الذي أكرمه اهلل ‪ ‬بإمامة األنبياء‬ ‫ً‬ ‫في حادثة اإلس���راء والمعراج المباركة‪ .‬فقد أخرج مس���لم من‬ ‫رأي ُت ِني في جماع ٍة من األنبياء‬ ‫حديث اإلس���راء قوله ‪" :‬وقد ْ‬

‫(‪ )...‬فحان���ت الص�ل�اة ف َأمم ُت ُه���م" (رواه‬ ‫َْ ْ‬

‫مس���لم)‪ ،‬فه���و قول ثقيل‬

‫بالمقارنة مع النبوات السابقة والسالفة‪.‬‬

‫الثقل في حوار اإلنسان مع ذاته‬

‫أيضا في حوار اإلنس���ان مع ذاته‪ ،‬فاإلنس���ان‬ ‫ثقي���ل ه���ذا القول ً‬ ‫���ن جمل���ة م���ن الوحدات‬ ‫لي���س وح���دة مف���ردة‪ ،‬وإنم���ا ه���و ُي ِك ُّ‬ ‫األخ���رى‪ ،‬فهناك الروح‪ ،‬وهناك النفس‪ ،‬وهناك الملك‪ ،‬وهناك‬

‫القرين‪ ،‬وهناك شياطين الجن واإلنس‪ ،‬وهناك المحيط العام‪،‬‬ ‫وإيح���اءات هذه األصوات الش���تى التي تؤثث باطن اإلنس���ان‬ ‫تظه���ر وتل���وح كما ل���و كانت متس���اوية من حي���ث وزنها ومن‬

‫‪15‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫معين كقول‬ ‫أو ذات التجرب���ة ف���ي مجال ّ‬

‫س���ورة األنعام(‪ )1‬كان رسول اهلل ‪ ‬فوق‬ ‫وس���معت لعظامها‬ ‫غير ذي أو ذات التجربة في هذا المجال‬ ‫راحلت���ه فبرك���ت ب���ه ُ‬ ‫القول الثقيل نزل على ر�سول اهلل‬ ‫طقطقة‪ )2(.‬وعن زيد بن ثابت أن رس���ول‬ ‫نفس���ه‪ ،‬فكي���ف باهلل ‪ ‬خالق كل ش���يء‬ ‫‪ ‬ليَ ْع� رُ​ُب� منه �إىل العاملني‪ .‬فمرور‬ ‫ال َيس َت ِوي ا ْل َق ِ‬ ‫ون‬ ‫جل وعال‬ ‫اع ُد َ‬ ‫وربه سبحانه ومليكه‪ .‬إن قوله ّ‬ ‫اهلل ‪ ‬أملى عليه‪ْ َ ﴿ :‬‬ ‫ه��ذا الق��ول الثقيل م��ن الذات‬ ‫ي���ن َوا ْلم َج ِ‬ ‫ِيل‬ ‫ون ِفي َس���ب ِ‬ ‫ثقي���ل بهذا االعتب���ار المعن���وي‪ ،‬كما أنه‬ ‫اه ُد َ‬ ‫���ن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ِم َ‬ ‫ُ‬ ‫النبوية ال�رشيفة التي كانت تعاين‬ ‫ا ِ‬ ‫هلل﴾(النس���اء‪ ،)95:‬قال فجاءه ابن ّأم مكتوم‬ ‫قول حين ُيتم ّلك‬ ‫ثقيل باعتبار قيمته‪ ،‬إنه ٌ‬ ‫�أميا معان��اة من تنزل ه��ذا القول‬ ‫وه���و ُي ِملُّها علي‪ ،‬فقال يا رس���ول اهلل لو‬ ‫وي ْس َت ْد َر ُج منه بين‬ ‫َّ‬ ‫من قبل هذا اإلنسان‪ُ ،‬‬ ‫الثقي��ل‪ ،‬لطَّف��ه ب���إذن اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫ال‬ ‫أستطيع الجهاد‬ ‫لجاهدت ‪-‬وكان رج ً‬ ‫الجنبين‪ ،‬كما قال عليه الصالة والسالم‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ف�أ�ص��بحنا نح��ن مبحدودياتن��ا‬ ‫أعم���ى‪ -‬فأن���زل اهلل تب���ارك وتعالى على‬ ‫اس َ���ت ْد َر َج النبو َة‬ ‫َ‬ ‫"م ْن قرأ الق���رآن فكأنما ْ‬ ‫متع ّددة الأبعاد و�أ�رضب ال�ضعف‬ ‫(‪)3‬‬ ‫لت‬ ‫رس���وله ‪ ‬و َف ِخ ُذه على َف ِخذي‪ ،‬فث ُق ْ‬ ‫غي���ر أنه ال يوح���ى إليه"‪،‬‬ ‫َب ْي���ن َج ْن َبي���ه‪َ ،‬‬ ‫التي تعتورنا‪ ،‬قادرين على تل ّقيه‪،‬‬ ‫ض ِ‬ ‫فخذي ثم‬ ‫عل���ي حت���ى‬ ‫ت���ر ّ‬ ‫ُ‬ ‫تعل���و قيمت���ه‪ ،‬وق���د كان الصحابة ‪ ‬إذا‬ ‫خفت أن ُ‬ ‫َّ‬ ‫�سماعه‪.‬‬ ‫على‬ ‫وقادرين‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫���ر‬ ‫ي‬ ‫﴿غ‬ ‫‪:‬‬ ‫اهلل‬ ‫فأن���زل‬ ‫عنه‬ ‫ي‬ ‫���ر َ‬ ‫حف���ظ الرجل منه���م الزهراوي���ن (البقرة‬ ‫َْ ُ‬ ‫ُس ِّ‬ ‫���ررِ ﴾ (رواه البخاري)‪ ،‬مما يدل على أن‬ ‫َّ‬ ‫وآل عمران) يجل في أعينهم‪ .‬ويس���تفاد‬ ‫الض َ‬ ‫هذه الذات النبوية الشريفة كانت تعاني‬ ‫ذل���ك م���ن حديث أن���س ب���ن مالك ‪:‬‬ ‫حس���ا ومعن���ى من ثق���ل هذا الق���ول المبارك الكري���م‪ .‬لقد كان‬ ‫ال كان َي ْك ُتب للنبي ‪ ،‬وقد كان قرأ‪ :‬البقرة‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫"عن أنس‪ ،‬أن رج ً‬ ‫ً‬ ‫وإن‬ ‫القر‪،‬‬ ‫الش���ديد‬ ‫اليوم‬ ‫في‬ ‫والس�ل�ام‬ ‫الصالة‬ ‫عليه‬ ‫إليه‬ ‫يوحى‬ ‫وآل عمران‪َ ،‬ج َّد‬ ‫وآل عم���ران‪ ،‬وكان الرج���ل إذا قرأ‪ :‬البق���رة‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫جبين���ه‬ ‫ّ‬ ‫ليتفص���د ع���ن مثل الجم���ان‪ ،‬أي إن عرقه ‪ ‬كان يش���به فين���ا ‪ -‬يعن���ي َع ُظ َم" (رواه اإلمام أحم���د)‪ .‬ألن هذه الحكمة التي في‬ ‫اللؤل���ؤ في كبر حجمه بأبي هو وأمي ‪ .‬قالت عائش���ة رضي‬ ‫الق���رآن المجيد‪ ،‬وه���ذه العصارة‪ ،‬وهذه القابلي���ة للهداية للتي‬ ‫ِ‬ ‫الش���ديد البرد‬ ‫رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم‬ ‫اهلل عنها‪":‬ولقد ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويستدرج بين الجنبين‪ ،‬فإن‬ ‫هي أقوم‪ ،‬حين ُيستدمج كل ذلك ُ‬ ‫عر ًقا" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫َف َي ْف ِص ُم عنه‪ ،‬وإن َ‬ ‫قيمة المس���تد ِ‬ ‫جبينه َل َي َت َف َّص ُد َ‬ ‫والمستدرِ ج تعلو‪ ،‬ويصبح جليال ً سواء أدرك‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الثقل المعنوي‬ ‫الن���اس ذل���ك أم ل���م يدركوه‪ .‬كم���ا أن الثقل في ه���ذه البصيرة‬ ‫فمفه���وم الثق���ل ف���ي ه���ذه البصي���رة المبارك���ة‬ ‫يتضم���ن الثق���ل المبارك���ة يفيد الثقل من حيث الفاعلية‪ ،‬حيث ّيتس���م بالفاعلية‬ ‫ّ‬ ‫علما‪ ،‬ف���ي فتح الس���بل‪ ،‬وإنارة ال���دروب‪ ،‬واألخذ بيد اإلنس���ان نحو‬ ‫المعن���وي‪ ،‬إذ إن ه���ذا القول قول من أحاط بكل ش���يء ً‬ ‫ص َع َل ْي َك َأ ْح َس َن ا ْل َق َص ِ‬ ‫ص ب َِما َأ ْو َح ْي َنا األكثر نجاعة ونحو األكثر إنتاجية واألكثر حكمة‪.‬‬ ‫يقول سبحانه‪َ ﴿ :‬ن ْح ُن َن ُق ُّ‬ ‫هلل َن َّز َل‬ ‫���ك َه َ‬ ‫ِإ َل ْي َ‬ ‫آن﴾(يوس���ف‪ ،)3:‬كم���ا يقول س���بحانه‪﴿ :‬ا ُ‬ ‫���ذا ا ْل ُق ْر َ‬ ‫الثقل في القدرة على الدحض‬ ‫���ن ا ْل َح ِد ِ‬ ‫يث ِك َت ًابا ُم َت َشا ِب ًها َم َثا ِني﴾(الزمر‪ ،)23:‬ويقول عز من‬ ‫َأ ْح َس َ‬ ‫َ‬ ‫أيضا‪ ،‬الثقل في‬ ‫وم���ن معان���ي الثقل في هذه البصيرة المبارك���ة ً‬ ‫���ن َر ِّب ُك ْم﴾(الزمر‪،)55:‬‬ ‫���ن َما ُأ ْن ِ‬ ‫﴿و َّاتب ُِعوا َأ ْح َس َ‬ ‫���ز َل ِإ َل ْي ُك ْم ِم ْ‬ ‫قائ���ل‪َ :‬‬ ‫القدرة على الدحض‪ ،‬لذلك سمى اهلل ‪ ‬الحجج دون حجة‬ ‫فه���ذا الق���ول منتق���ى عص���ارة ما في ه���ذا الوجود م���ن حكمة‪.‬‬ ‫���ون ِف���ي ا ِ‬ ‫���ن َب ْع ِد َما‬ ‫اج َ‬ ‫ي���ن ُي َح ُّ‬ ‫﴿وا َّل ِذ َ‬ ‫هلل ِم ْ‬ ‫فصيغة التفضيل "أحسن" فيها‪ ،‬أن رب العزة الذي عنده خزان كتاب���ه بـ"الداحض���ة"‪َ :‬‬ ‫يب َل ُه ُح َّج ُت ُهم َد ِ‬ ‫اح َض ٌة﴾(الش���ورى‪ ،)16:‬أي أنها مدحوضة‬ ‫اس ُ‬ ‫���ت ِج َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الوج���ود وم���ا هو فيه‪ ،‬وما كان فيه‪ ،‬وما ل���و كان فيه كيف كان‬ ‫يتنزل ه���ذا القول الثقيل على التلبيس‬ ‫حيث‬ ‫القول‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫لثق���ل‬ ‫ّ‬ ‫سيكون‪ ،‬ما كان وما سوف يكون في المستقبل‪ ،‬رب العزة ‪‬‬ ‫وعل���ى التموي���ه‪ ،‬وعل���ى الباطل وعلى الفس���اد‪ ،‬وعل���ى الخطأ‬ ‫ينتقي لنا أحس���ن ما في هذا الخزان‪ ،‬ينتقي لنا أحس���ن اآليات‪،‬‬ ‫فيدحض كل ذلك‪ ،‬ويخلص منه ويبدده‪ ،‬فالثقل في هذه اآلية‬ ‫أحس���ن األمث���ال‪ .‬ولالس���تبصار بدقة ه���ذا الملمح نس���تعرض‬ ‫الكريمة وارد بهذا المعنى كذلك‪.‬‬ ‫شخصا ذا خبرة‬ ‫المثال اآلتي‪ ،‬وهلل المثل األعلى‪ :‬فحين ُتكلم‬ ‫ً‬ ‫معي���ن‪ ،‬فإن قول���ه يكون‬ ‫متس���ما بالتركي���ز‪ ،‬ويكون الثقل من حيث القطع والحسنات‬ ‫ً‬ ‫ف���ي مج���ال ّ‬ ‫متس���ما بالدسامة‪ ،‬وبالتبع يكون‬ ‫متسما بالثقل‪ .‬فليس قول ذي كم���ا أن م���ن تجليات الثقل في ه���ذه البصيرة‪ ،‬الثقل من حيث‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪14‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد عبادي*‬

‫"إنا سنلقي عليك قوال ثقيال"‬ ‫تبصر‬ ‫هذه بصي���رة من بصائر الق���رآن الكريم‪ّ ،‬‬

‫﴿ب ْل َن ْق ِ‬ ‫���ذ ُف بِا ْل َح ِّق َع َلى‬ ‫ال���ذي من ش���أنه أن يدم���غ كل باطل‪َ :‬‬ ‫ا ْلب ِ‬ ‫���و َز ِاه ٌق﴾(األنبياء‪ .)18:‬مفهوم اإللقاء إذن‪،‬‬ ‫اط ِ‬ ‫���ل َف َي ْد َم ُغ ُه َف ِإ َذا ُه َ‬ ‫َ‬ ‫في���ه معن���ى التحلية ومعن���ى الدمغ‪ ،‬غير أن اإللقاء على س���يدنا‬

‫﴿ي َح َّل ْو َن ِف َيها ِم ْن َأ َساوِ َر ِم ْن َذ َه ٍب‬ ‫للتحلية مصدا ًقا لقوله ‪ُ :‬‬ ‫���ؤا َو ِلباس ُ ِ‬ ‫ير﴾(الحج‪ .)23:‬كذل���ك يبرز "اإللقاء"‬ ‫َو ُل ْؤ ُل ً َ ُ‬ ‫���ه ْم ف َيها َح ِر ٌ‬ ‫وس���ى َأ ْن َألْقِ َع َص���اكَ َف ِإ َذا‬ ‫مفهوم���ا للدم���غ‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫﴿و َأ ْو َح ْي َن���ا ِإ َل���ى ُم َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ون﴾(األع���راف‪ ،)117:‬فاإللقاء هن���ا هو ذاكم‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫���ا‬ ‫م‬ ‫���ف‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ِه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫���ي َ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬

‫لطفه ب���إذن اهلل تعالى‪ ،‬فأصبحنا نحن‬ ‫تن���زل ه���ذا القول الثقيل‪َّ ،‬‬

‫اإلنس���ان بقيمة وثق���ل هذا الق���ول الملقى إليه‬

‫وعز‪:‬‬ ‫م���ن رب العالمي���ن ‪ ،‬وهي قول���ه ّ‬ ‫جل ّ‬ ‫ال﴾(المزمل‪.)5:‬‬ ‫﴿ ِإ َّنا َس ُن ْل ِقي َع َل ْي َك َق ْو ً‬ ‫ال َث ِقي ً‬ ‫محوريا ه���و مفهوم‬ ‫مفهوما‬ ‫تتضم���ن ه���ذه اآلي���ة المبارك���ة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإللق���اء؛ واإللقاء ف���ي القرآن المجي���د يبرز باعتب���اره للتحلية‪:‬‬ ‫ال ِئ َك ُة‬ ‫﴿فل���وال ُأل ِق‬ ‫���ي َع َل ْي��� ِه َأ ْس ِ‬ ‫���و َر ٌة ِم ْن َذ َه ٍ‬ ‫���ه ا ْل َم َ‬ ‫���ب َأ ْو َج َاء َم َع ُ‬ ‫َ​َ ْ َ ْ َ‬ ‫ين﴾(الزخ���رف‪ ،)53:‬واألس���اورة كم���ا ه���و معلوم تس���تعمل‬ ‫ُم ْق َت ِر ِن َ‬

‫رس���ول اهلل ‪ ‬يس���تبطن معنى آخر مفاده‪ ،‬أن هذا القول الثقيل‬ ‫آن َع َلى َج َب ٍل‬ ‫ال���ذي ق���ال اهلل ‪ ‬في حقه‪َ ﴿ :‬ل ْو َأ ْن َز ْل َنا َه َ‬ ‫���ذا ا ْل ُق ْر َ‬ ‫���عا ُم َت َص ِّد ًع���ا ِم ْن َخ ْش���ي ِة ا ِ‬ ‫���ه َخ ِ‬ ‫هلل﴾(الحش���ر‪ ،)21:‬نزل على‬ ‫َل َر َأ ْي َت ُ‬ ‫اش ً‬ ‫َ‬ ‫رسول اهلل ‪ِ ‬ل َي ْع ُبر منه إلى العالمين‪ .‬فمرور هذا القول الثقيل‬ ‫م���ن ال���ذات النبوية الش���ريفة التي كانت تعاني أيم���ا معاناة من‬ ‫متعددة األبعاد وأضرب الضع���ف التي تعتورنا‪،‬‬ ‫بمحدودياتن���ا‬ ‫ّ‬ ‫شدة‬ ‫قادرين على تل ّقيه‪ ،‬وقادرين على س���ماعه‪ .‬ومن تجليات ّ‬ ‫وطأة القول الثقيل على الذات النبوية الشريفة‪ ،‬أنه حين نزلت‬

‫‪13‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫وقت���ل األنع���ام وتلوي���ث المياه وقطع األش���جار لغي���ر مصلحة‬

‫فس���ادا واهلل ال يحب الفس���اد وال المفسدين‪ ،‬يقول‬ ‫عامة‪ ،‬يعتبر‬ ‫ً‬ ‫���اد ِف���ي ا َ‬ ‫ال ُي ِح ُّب‬ ‫هلل َ‬ ‫﴿و َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض إ َِّن ا َ‬ ‫ال َت ْب ِغ ا ْل َف َس َ‬ ‫تب���ارك وتعالى‪َ :‬‬ ‫هلل َوار ُجوا ا ْليو َم ِ‬ ‫اآلخ َر‬ ‫ا ْل ُم ْف ِس ِد َ‬ ‫ين﴾(القصص‪َ ،)77:‬‬ ‫﴿يا َق ْو ِم ْاع ُب ُدوا ا َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ض ُم ْف ِس ِ‬ ‫���وا ِفي ا َ‬ ‫���دوا‬ ‫﴿و َ‬ ‫َو َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ال ُت ْف ِس ُ‬ ‫���د َ‬ ‫ين﴾(العنكبوت‪َ ،)36:‬‬ ‫ال َت ْع َث ْ‬ ‫ِفي ا َ‬ ‫ال ِح َها َذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر َل ُك ْم﴾(األعراف‪.)85:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َب ْع َد إ ِْص َ‬ ‫إن اإلفس���اد في البيئ���ة يحدث عندما ينفك رب���اط العبودية‬

‫هلل تعالى‪ ،‬عندئذ ينس���لخ اإلنس���ان عن هداية اهلل فيضل ويشقى‬

‫ويخاف ويحزن‪ .‬وهي س���لوكيات تحول حركته إلى تغير غير‬ ‫وتجعل حم���اة البيئة ينكرون عليه س���لوكه‬ ‫ممت���زج بالعبودي���ة‪،‬‬ ‫َ‬

‫المفس���د الذي أح���دث وال يزال يحدث مش���كالت في البيئة‪،‬‬ ‫صدق عليه القول بأنه مشكلة البيئة‪.‬‬ ‫حتى أصبح َي ُ‬

‫أم���ا اإلس���راف فه���و ضد التوس���ط واالعت���دال‪ ،‬إذ يريد اهلل‬

‫عبادا متوسطين معتدلين ال ُهم بمعسرين وال مسرفين‪،‬‬ ‫تعالى ً‬

‫���ر ُفوا ِإ َّن ُه‬ ‫ويقول تعالى في ذم اإلس���راف‬ ‫والمس���رفين‪﴿:‬و َ‬ ‫ال ُت ْس ِ‬ ‫َ‬ ‫ين﴾(األنعام‪ .)141:‬وق���د نهى الرس���ول ‪ ‬عن‬ ‫َ‬ ‫���ب ا ْل ُم ْس ِ‬ ‫ال ُي ِح ُّ‬ ‫���ر ِف َ‬

‫اإلسراف في األكل‪ ،‬ألنه مضر بصحة اإلنسان من جهة‪ ،‬ومن‬ ‫جه���ة أخرى فاإلس���راف في األكل يحجب اإلنس���ان المس���لم‬

‫عن الش���عور بمن حوله من الفقراء والمساكين؛ فقد روي عن‬

‫ش���را من بطنه‪ ،‬بحس���ب‬ ‫الرس���ول ‪ ‬قوله‪" :‬ما مأل آدمي‬ ‫ً‬ ‫وعاء ًّ‬ ‫ابن آدم أكالت يقمن صلبه‪ ،‬فإن كان ال محالة فثلث لطعامه‪،‬‬

‫وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث َلن َفسه" (رواه الترمذي)‪.‬‬

‫فموقف اإلس�ل�ام من البيئة هو موق���ف إيجابي‪ ،‬فال يجوز‬

‫لإلنس���ان إفس���اد البيئة بإخراجه���ا عن طبيعته���ا المالئمة لحياة‬ ‫اإلنس���ان وق���راره فيه���ا‪ ،‬كم���ا ال يجوز اس���تثمار تل���ك الموارد‬

‫أو االنتفاع بها‪ ،‬بش���كل مس���رف وغير رش���يد يفسد أو يعرض‬

‫أقواتها ومواردها للفساد والتشويه‪.‬‬ ‫(*) كاتب وباحث جزائري‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬أبو عبيدة القاس���م ابن س�ل�ام‪ ،‬تحقيق محمد حامد الفقي‪ :‬األموال‪ ،‬المكتبة‬ ‫التجارية الكبرى‪ ،‬القاهرة‪1353 ،‬هـ‪.‬‬

‫(‪ )2‬الفلس���فة التربوي���ة البيئية‪ ،‬لس���عدون س���لمان نجم الحلبوس���ي‪ ،‬دار الهدى‪،‬‬ ‫مالطا ‪.2002‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪12‬‬

‫الكون شعر منظوم‬ ‫في الكون تد�َّب ْر‪،‬‬ ‫وفي الطبيعة تَفكَّ ْر‪،‬‬ ‫نشا ًزا لن تـجد‪،‬‬ ‫واختال ًال لن ترى‪...‬‬ ‫َموزو ٌن ُك ُّل شيء؛‬ ‫كقصيد ِة ِشعر‪،‬‬ ‫وسمفوني ٍة رائعة اللحن‪...‬‬ ‫فأظنّك تعلم‪،‬‬ ‫أن ّ‬ ‫التفكر من أعظم العبادات‪...‬‬ ‫***‬


‫تدمير أو تخريب‪ .‬عن س���عد بن زيد ‪‬‬ ‫أرضا‬ ‫قال‪ :‬قال الرس���ول ‪" :‬م���ن أحيا ً‬

‫ميت���ة فهي ل���ه" (رواه الترم���ذي)‪ ،‬ويروى عن‬

‫الخليف���ة عمر بن الخطاب ‪ ‬قوله‪ :‬من‬

‫كان���ت ل���ه أرض ثم تركها ثالث س���نين‬ ‫ول���م يعمرها فعمرها ق���وم آخرون فهم‬

‫أحق بها‪.‬‬

‫فالك���ون هو أمانة اهلل ‪ ‬لإلنس���ان‪،‬‬

‫ولذا يجب أن يتصرف في حدود األمانة‬

‫�إن �إ�ص�لاح احلي��اة الإن�س��انية‬ ‫والطبيعي��ة‪ ،‬واملحافظ��ة عل��ى‬ ‫النظ��ام احليوي ومنع �إف�س��اده‪،‬‬ ‫ينبغ��ي �أن يتحقق وف��ق القواعد‬ ‫الكلي��ة ال�ش��املة لإ�ص�لاح‬ ‫تبع��ا ملبادئ‬ ‫احلي��اة‪ ،‬وت�س��يريها ً‬ ‫اال�س��تخالف املرتك��ز عل��ى‬ ‫الإمي��ان والعب��ادة‪ ،‬والأخ�لاق‬ ‫بو�صفها جوهر الإ�سالم وروحه‬ ‫الفاعل��ة يف جمي��ع جوانب��ه‪.‬‬

‫مراعي���ا ف���ي ذلك‬ ‫الت���ي وهب���ه اهلل إياه���ا‬ ‫ً‬ ‫قول���ه تعالى‪ِ ﴿ :‬إ َّن���ا َعر ْض َن���ا ا َ‬ ‫أل َما َن َة َع َلى‬ ‫َ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض َوا ْل ِجب ِ‬ ‫ال َف َأ َب ْي َن َأ ْن‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ان‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫إل‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َي ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ال﴾(األح���زاب‪.)72:‬‬ ‫وم���ا َج ُهو ً‬ ‫���ه َك َ‬ ‫ِإ َّن ُ‬ ‫ان َظ ُل ً‬ ‫أساس���ا الختبار اإلنس���ان‪ ،‬فهو‬ ‫وف���ي هذا اإلط���ار تصبح البيئة‬ ‫ً‬

‫وق���د بين اهلل تعالى ما هو حالل وما‬

‫هو حرام‪ ،‬ليكون خليفته في األرض على‬

‫ّبينة في تعامله مع نفس���ه ومع اآلخرين‪،‬‬

‫يأم���ر بالمع���روف وينه���ى ع���ن المنك���ر‪،‬‬ ‫���م َخ ْي َر ُأ َّم��� ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت‬ ‫ق���ال تعال���ى‪ُ :‬‬ ‫﴿ك ْن ُت ْ‬ ‫ون بِا ْلم ْع���ر ِ‬ ‫ِل َّلن ِ ْ‬ ‫وف َو َت ْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫���اس َتأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫���ون بِ���ا ِ‬ ‫هلل﴾(آل عم���ران‪.)110:‬‬ ‫ا ْل ُم ْن َك ِ‬ ‫���ر َو ُت ْؤ ِم ُن َ‬ ‫وإذا أمعن���ا النظر في بعض آيات القرآن‬ ‫الكري���م الت���ي تذكر الطيب���ات‪ ،‬وجدناها‬

‫كأنه���ا موجه���ة لل���رد عل���ى من يس���تهين‬

‫ش���يئا ال‬ ‫به���ذا المتاع الطيب ويرى منها‬ ‫ً‬

‫وم���ن منطلق خالفة اإلنس���ان على األرض‪ ،‬فهو مس���ؤول‬

‫معنى ل���ه وال أهمية‪ ،‬حيث ق���ال تعالى‪:‬‬ ‫ال ُت َح ِر ُموا َط ِيب ِ‬ ‫ات‬ ‫﴿ي���ا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫آم ُن���وا َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫هلل َ‬ ‫���م َو َ‬ ‫َم���ا أ َح َّ‬ ‫���دوا إ َِّن ا َ‬ ‫���ل ا ُ‬ ‫ال َت ْع َت ُ‬ ‫هلل َل ُك ْ‬ ‫ال َط ِّي ًبا َو َّات ُقوا‬ ‫�ل�ا ً‬ ‫هلل َح َ‬ ‫ي���ن ‪َ ‬و ُك ُلوا ِم َّما َر َز َق ُك ُم ا ُ‬ ‫ُي ِح ُّ‬ ‫���ب ا ْل ُم ْع َت ِد َ‬ ‫ا َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ون﴾(المائدة‪ .)88-87:‬وقد نهى الرس���ول‬ ‫���م بِ��� ِه ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫هلل ا َّل���ذي أ ْن ُت ْ‬ ‫‪ ‬ع���ن األذى‪ ،‬واعتبره من المحرمات؛ عن حذيفة بن أس���يد‬

‫والس���ير في دروب الكون ومناكبه‪ ،‬ومطالب بالسعي واإلبداع‬

‫وجب���ت عليه لعنتهم" (رواه الطبران���ي)‪ .‬فالتعدي على حق الطريق‬

‫مكلف بأن يفهم الطبيعة ودورها‪.‬‬

‫دعو إلى العمل‬ ‫وم ٌّ‬ ‫عن تسخير الكون والكائنات بما فيه النفع‪َ ،‬‬ ‫واإلعم���ار باعتباره ‪-‬من منطلق الخالفة‪ -‬هو صاحب الش���أن‬ ‫والكلم���ة ف���ي الكون‪ ،‬كما ج���اء في قول���ه تعالى‪َ ﴿ :‬أ َف َح ِس ْ���ب ُت ْم‬ ‫َ‬ ‫ون﴾(المؤمن���ون‪،)115:‬‬ ‫���م ِإ َل ْي َن���ا َ‬ ‫َأ َّن َم���ا َخ َل ْق َن ُ‬ ‫ال ُت ْر َج ُع َ‬ ‫���م َع َب ًثا َوأ َّن ُك ْ‬ ‫اك ْ‬ ‫﴿و َيس َت ْخ ِل َف ُكم ِفي ا َ‬ ‫ون﴾(األعراف‪.)129:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َف َي ْن ُظ َر َك ْي َ‬ ‫ف َت ْع َم ُل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬

‫‪ -2‬اعتبار الحلية والحرمة‬

‫إن الح�ل�ال والح���رام مفهومان يحكمان البيئة من وجهة النظر‬ ‫اإلسالمية‪ .‬فالحالل يشمل كل ما هو نافع لإلنسان ولمجتمعه‬

‫ولبيئت���ه ولألجي���ال القادم���ة‪ ،‬والحرام يش���مل كل ما من ش���أنه‬ ‫���ر ُبوا ِم ْن رِ ْز ِق‬ ‫تدمير اإلنس���ان وبيئته‪ ،‬لقوله تعالى‪ُ :‬‬ ‫﴿ك ُلوا َو ْ‬ ‫اش َ‬ ‫ض ُم ْف ِس ِ‬ ‫ا ِ‬ ‫���وا ِف���ي ا َ‬ ‫ين﴾(البقرة‪ ،)60:‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫هلل َو َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���د َ‬ ‫ال َت ْع َث ْ‬ ‫الت ْه ُل َك ِة﴾(البقرة‪ .)195:‬فكلما س���لك‬ ‫﴿و َ‬ ‫ال ُت ْل ُق���وا ِب َأ ْي ِد ُ‬ ‫���م ِإ َل���ى َّ‬ ‫َ‬ ‫يك ْ‬ ‫بعيدا عن الس���لوكيات التي رس���مها اهلل ‪ ،‬حصلت‬ ‫اإلنس���ان ً‬ ‫﴿ظ َه َر ا ْل َف َس ُاد ِفي ا ْل َب ِّر َوا ْل َب ْح ِر‬ ‫الكوارث والمآسي‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫أدى‬ ‫الن ِ‬ ‫ب َِما َك َس َ���ب ْت َأ ْي ِدي َّ‬ ‫اس﴾(الروم‪ .)41:‬والقاعدة الفقهية "ما ّ‬ ‫إلى الحرام فهو حرام"‪ ،‬قاعدة تحذرنا من مغبة السعي إلى أي‬ ‫صورة من صور اإلفساد والتدمير والتخريب لبيئتنا‪.‬‬

‫‪ ‬ق���ال‪ :‬ق���ال رس���ول اهلل ‪" :‬من آذى المس���لمين في طريقه‬ ‫إلش���غاله أو تضييقه أو وضع الفضالت والمعوقات في طريق‬

‫الم���ارة أو مضايقته���م من قبل الجالس���ين عل���ى قارعة الطريق‬

‫باأللفاظ الجارحة‪ ،‬أمر يتنافى مع جوهر اإلس�ل�ام وس���ماحته‪،‬‬

‫فه���و الذي وض���ع للطريق قانو ًنا وش���رع له عل���ى الناس ح ًّقا‪،‬‬

‫وجعل إماطة األذى عنه صدقة‪ ...‬فعن معاذ بن جبل ‪ ‬قال‪:‬‬ ‫قال رسول اهلل ‪" :‬اتقوا المالعن الثالثة"‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‬

‫وم���ا هي‪ ،‬ق���ال‪" :‬البراز في الموارد وعل���ى قارعة الطريق وفي‬ ‫أماكن الظل"‪( .‬رواه أبو داود)‪ .‬وقد اقترن الخير باألمر بالمعروف‬ ‫ون ِإ َلى‬ ‫﴿و ْل َت ُك ْن ِم ْن ُك ْم ُأ َّم ٌة َي ْد ُع َ‬ ‫والنهي عن المنكر‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫ون بِا ْلم ْع���ر ِ‬ ‫ا ْل َخي ِ ْ‬ ‫���ر َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِ‬ ‫ْ‬ ‫���ر َو َيأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫ون﴾(آل عمران‪.)104:‬‬ ‫ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫ولع���ل اقتران الحالل بالح���رام يعطي هذه الداللة في قوله‬ ‫﴿و ُي ِحلُّ َل ُه ُم‬ ‫﴿و َأ َح َّل ا ُ‬ ‫الر َبا﴾(البقرة‪َ ،)275:‬‬ ‫تعالى‪َ :‬‬ ‫هلل ا ْل َب ْي َع َو َح َّر َم ِّ‬ ‫الط ِيب ِ‬ ‫ات َو ُي َح ِّر ُم َع َل ْيهِ ُم ا ْل َخ َبا ِئ َث﴾(األعراف‪.)157:‬‬ ‫َّ ّ َ‬

‫‪ -3‬النهي عن اإلفساد واإلسراف‬

‫إن كل م���ا ي���ؤدي إلى فس���اد الحياة من إت�ل�اف مكونات البيئة‬

‫‪11‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫أصيل يدخل في صلب رسالة اإلنسان في‬

‫هذه الحياة‪ ،‬باعتبار اإلنسان وسيلة وغاية‪،‬‬ ‫وبوصف���ه أح���د مكون���ات الك���ون الفاعل‬

‫ف���ي النظام األيكولوجي‪،‬‬ ‫والمس���ؤول عن‬ ‫َ‬ ‫إدارته���ا وحمايتها واس���تثمارها على وفق‬

‫الموجهات األساس���ية ال���واردة في القرآن‬ ‫الكريم‪.‬‬

‫وصيان���ة البيئ���ة والمحافظ���ة عليه���ا‪،‬‬

‫واج���ب مق���دس م���ن واجب���ات اإلنس���ان‬

‫موق��ف الإ�س�لام البيئ��ة ه��و‬ ‫موق��ف �إيجاب��ي‪ ،‬ف�لا يج��وز‬ ‫للإن�س��ان �إف�س��اد البيئ��ة‬ ‫ب�إخراجه��ا ع��ن طبيعته��ا‬ ‫املالئم��ة حلياة الإن�سان وقراره‬ ‫فيها‪ ،‬كم��ا ال يج��وز ا�ستثمار‬ ‫تلك امل��وارد �أو االنتف��اع بها‬ ‫ب�ش��كل م�رسف وغري ر�ش��يد‬ ‫يف�س��د �أو يعر���ض �أقواته��ا‬ ‫ومواردها للف�س��اد والت�شويه‪.‬‬

‫وف���رض عي���ن عل���ى كل مؤم���ن‪ ،‬لقول���ه‬ ‫هلل َس َّخ َر َل ُك ْم َما ِفي‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬أ َل ْم َت َر ْوا َأ َّن ا َ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو َما ِفي ا َ‬ ‫ض َوأ َْس َب َغ َع َل ْي ُك ْم‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫الس َم َ‬ ‫َّ‬ ‫اه���ر ًة َو َب ِ‬ ‫���ه َظ ِ‬ ‫م‬ ‫اط َن ًة﴾(لقم���ان‪ .)20:‬وح���ذر‬ ‫ِن َع َ ُ‬ ‫َ‬ ‫اهلل تعالى من اإلس���اءة في استخدام البيئة‬ ‫���ن ُيب ِّد ْل ِن ْعم َة ا ِ‬ ‫���ن َب ْع ِد َما‬ ‫هلل ِم ْ‬ ‫وإفس���ادها ف���ي قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫﴿و َم ْ َ‬ ‫اب﴾(البقرة‪.)211:‬‬ ‫يد ا ْل ِع َق ِ‬ ‫َج َاء ْت ُه َفإ َِّن ا َ‬ ‫هلل َش ِد ُ‬ ‫فالعالقة بين اإلنس���ان وس���ائر المكونات‪ ،‬هي عالقة محبة‬ ‫متبادل���ة ال عالق���ة ع���داء واس���تئثار وإهمال واس���تعباد لآلخر‪.‬‬

‫والرس���ول الكري���م ‪ ‬ف���ي حديثه الش���ريف يق���ول‪" :‬هذا جبل‬

‫هنيئا وأنت مصلح غير‬ ‫عل���ي ‪ُ :‬ك ْل ً‬ ‫مفسد ومعمر غير مخرب‪.‬‬

‫إن إص�ل�اح الحي���اة اإلنس���انية‬

‫والطبيعي���ة‪ ،‬والمحافظ���ة عل���ى النظ���ام‬ ‫الحي���وي ومن���ع إفس���اده‪ ،‬ينبغ���ي أن‬ ‫يتحق���ق وف���ق القواعد الكلية الش���املة‬ ‫تبع���ا‬ ‫إلص�ل�اح الحي���اة‪ ،‬وتس���ييرها ً‬ ‫لمب���ادئ االس���تخالف المرتك���ز على‬

‫اإليم���ان والعب���ادة والقواع���د الفقهي���ة‬ ‫وأصوله���ا وأحكامه���ا‪ ،‬وعل���ى وف���ق‬ ‫األخ�ل�اق بوصفه���ا جوه���ر اإلس�ل�ام‬ ‫وروح���ه الفاعل���ة ف���ي جمي���ع جوانب���ه‬

‫بعثت ألتم���م مكارم‬ ‫لقول���ه ‪" :‬إنم���ا‬ ‫ُ‬

‫األخالق" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫ولتحدي���د الرؤي���ة اإلس�ل�امية للبيئ���ة وعالقة اإلنس���ان بها‪،‬‬

‫تبدو الحاجة إلى أهمية توضيح المبادئ والمفاهيم األساس���ية‬ ‫المنبثقة من القرآن الكريم‪ ،‬والتي تشكل في مجموعها مالمح‬ ‫الفلسفة اإلسالمية للثقافة اإلسالمية‪ ،‬يمكن إيجازها كالتالي‪:‬‬

‫‪ -1‬االستخالف‬

‫يحبنا ونحبه" (رواه البخاري)‪ ،‬هذا الحديث الشريف يصلح‬ ‫شعارا‬ ‫ً‬

‫االس���تخالف ه���و خالف���ة اإلنس���ان ف���ي األرض (البيئ���ة)‪ ،‬قال‬ ‫ال ِئ َك��� ِة ِإ ِّن���ي َج ِ‬ ‫اع ٌل ِف���ي ا َ‬ ‫ض‬ ‫﴿وإ ِْذ َق َ‬ ‫���ال َر ُّب َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫���ك ِل ْل َم َ‬ ‫تعال���ى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫﴿و َيس َ���ت ْخ ِل َف ُكم ِفي ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ْ‬ ‫َخلي َف ًة﴾(البق���رة‪ ،)30:‬وقول���ه تعال���ى‪ْ َ :‬‬ ‫ون﴾(األعراف‪.)129:‬‬ ‫َف َي ْن ُظ َر َك ْي َ‬ ‫ف َت ْع َم ُل َ‬ ‫فه���ي إذن خالفة رعاية وإعمار وإدارة وتس���خير أصبحت‬

‫م���ن فوقه���م فقالوا لو أن���ا خرقنا في نصيبنا خر ًق���ا ولم نؤذ من‬

‫به���ا ف���ي موض���وع الوصاي���ة والنيابة ع���ن اهلل ‪ ‬ف���ي التصرف‬

‫وإطارا لعالقة اإلنسان بالبيئة‪.‬‬ ‫ً‬

‫ويحمل اإلسالم اإلنسانية مسؤولية المحافظة على البيئة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ويظه���ر ذلك م���ن قوله ‪" :‬مثل القائم عل���ى حدود اهلل كمثل‬

‫قوم اس���تهموا على س���فينة في البحر فأص���اب بعضهم أعالها‬

‫وبعضهم أسفلها‪ ،‬فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على‬ ‫فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا‬ ‫جميعا‪ ،‬وإن أخذوا على‬ ‫ً‬

‫أيديهم نجوا ونجوا‬ ‫جميعا" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ً‬

‫إن موق���ف اإلس�ل�ام م���ن البيئة وم���وارد الحياة وأس���بابها‪،‬‬

‫موقف إيجابي‪ ،‬فكما يقوم على الحماية ومنع اإلفس���اد‪ ،‬يقوم‬

‫أيض���ا عل���ى البن���اء والعم���ارة والتنمية‪ ،‬وهذا يتجل���ى في فكرة‬ ‫ً‬

‫إحي���اء الموات وعمارة األرض بالزراعة والغرس والبناء‪ ،‬قال‬ ‫﴿ه َو َأ ْن َش��� َأ ُكم ِم َن ا َ‬ ‫اس َ���ت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(هود‪،)61:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫تعالى‪ُ :‬‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ْ‬ ‫ويقول ‪" :‬إذا قامت الس���اعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع‬

‫أن ال تقوم حتى يغرس���ها فليفعل" (رواه اإلمام أحمد)‪ ،‬وقال اإلمام‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪10‬‬

‫قائما‬ ‫به���ا الخالئق والكائنات في إمرة اإلنس���ان‪ ،‬حيث أصبح ً‬

‫ف���ي الك���ون وف���ي البيئ���ة بم���ا فيه���ا؛ ألن اإلنس���ان أرق���ى هذه‬

‫المخلوق���ات‪ ،‬وألن اهلل ‪ ‬خص���ه بنعمة العقل التي ُحرم منها‬ ‫آد َم‬ ‫﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ‬ ‫بقية المخلوقات وفضله عليها في قوله‪َ :‬‬ ‫اه���م ِفي ا ْلب ِر َوا ْلب ْح ِر َور َز ْق َن ُ ِ‬ ‫الط ِيب ِ‬ ‫اه ْم‬ ‫ات َو َف َّض ْل َن ُ‬ ‫َ‬ ‫َو َح َم ْل َن ُ ْ‬ ‫اه ْم م َن َّ ّ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ال﴾(اإلسراء‪ .)70:‬واالستخالف يعني‬ ‫َع َلى َك ِثيرٍ ِم َّم ْن َخ َل ْق َنا َت ْف ِضي ً‬ ‫أن اإلنس���ان وص���ي عل���ى األرض (البيئة)‪ ،‬ال مال���ك لها‪ ،‬فمن‬ ‫المعروف أنه ليس هناك ملكية مطلقة لإلنس���ان‪ .‬فالملكية في‬ ‫اإلس�ل�ام محددة بضوابط وش���روط حددها اهلل ‪ ،‬ومن هذه‬

‫الش���روط حسن اس���تغاللها وتنميتها والمحافظة عليها من أي‬


‫تربية‬

‫فيصل ذيب*‬

‫ع ِّل ْم نفسك ثم ع ِّل ْم غريك تكنْ إنسان ًّيا واضح اإلنسانية‪ ...‬فالذي ال يسعى لتجديد نفسه‬ ‫بالتعلم الدائم يو ًما بعد يوم وإنْ بدا إنسا ًنا يف صورته‪ ،‬غري أن رسيرته تبقى غارقة يف‬ ‫جهالته‪ ،‬بعيدة عن معاين إنسانيته‪.‬‬ ‫(املوازين)‬ ‫***‬

‫التربية البيئية‬

‫في ضوء توجيهات التربية اإلسالمية‬ ‫إن الحرك���ة الذاتية لمكون���ات وعناصر البيئة‪،‬‬

‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ِين﴾(الدخ���ان‪ .)38:‬ويع���د‬ ‫ض َو َم���ا َب ْي َن ُه َم���ا َ‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ال ِعب َ‬ ‫���م َ‬ ‫الس َ‬ ‫َّ‬

‫نظام غاي���ة في الدق���ة تحكم���ه النواميس‬ ‫ظ���ل ٍ‬

‫بعض���ا‪ ،‬وله موق���ع خاص بين أجزائه‪ .‬وصلة اإلنس���ان بالكون‬ ‫ً‬

‫حرك���ة توافقية ينس���جم بعضها م���ع بعض في‬

‫الكونية اإللهية‪ ،‬وهو ما يطلق عليه في عصرنا الحالي بــ"النظام‬

‫األيكولوج���ي" (‪ .)Ecosystem‬وإذا ح���دث تغي���ر مقصود أو غير‬ ‫مقص���ود في أي عنصر من عناصر البيئة ‪-‬س���واء في خصائصه‬ ‫الكمي���ة أو النوعي���ة‪ -‬فإن���ه ي���ؤدي إل���ى تدهور مظاه���ر الحياة‪،‬‬

‫﴿و َما َخ َل ْق َنا‬ ‫تماما‪ ،‬يق���ول تعالى‪َ :‬‬ ‫وربم���ا تختفي مظاهر الحياة ً‬

‫متميزا من هذا الكون الذي ُتكمل عناصره بعضها‬ ‫جزءا‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان ً‬

‫كم���ا وصفه���ا الق���رآن الكريم‪ ،‬هي صل���ة االس���تثمار واالنتفاع‬ ‫والس���كن والتعمير والمتعة وتذوق الجمال والتس���خير‪ ...‬هي‬ ‫صل���ة االعتبار والتأمل والتفكير بالكون وما فيه‪ ...‬وعلى ذلك‬

‫فعم���ارة األرض وإص�ل�اح الك���ون وتذلي���ل كل الصعاب فيه‪،‬‬

‫والحفاظ على بيئة اإلنس���ان ‪-‬جميل ًة ونظيف ًة‪ -‬مطلب إسالمي‬

‫‪9‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫ال مؤاخذة! ولكن هذا ما حدث بالفعل‪ ،‬وهو ما دفعني بالفعل‬

‫إلى هذا السؤال‪.‬‬

‫ورأيت أن أزيل الكلفة بيننا فقلت له‪:‬‬

‫‪ -‬س���أجيبك على تس���اؤلك‪ ،‬ولكن ليس هنا ونحن وقوف‬

‫م���ن رصي���دي في المص���رف عدة مرات؟ كان يعل���م أنني أحبه‬

‫وأني لن أعاقبه‪ .‬وقد غضبت منه وقتها‪ ،‬ولكنني لم أستمر في‬ ‫غضبي ألنني بالرغم من كل شيء أحبه‪ ،‬والمشكلة أنه يعرف‬

‫ذل���ك‪ ...‬لق���د خدمت في الش���رطة زهرة ش���بابي حتى وصلت‬

‫عل���ى باب المنزل‪ ،‬أرجو أن تتفضل وتش���رب معي فنجا ًنا من‬

‫إل���ى رتبة جي���دة‪ ،‬واآلن أعيش وحدة قاتلة‪ .‬ولو كانت زوجتي‬

‫‪ -‬أن���ا حري���ص عل���ى وقتك‪ ...‬ربم���ا ال تعلم أنن���ي متقاعد‬

‫بالطالق منذ عدة س���نوات‪ ،‬وعاش كل منا وحده‪ .‬ال أدري ما‬

‫القهوة‪.‬‬

‫ولدي وقت فراغ أكثر منك بكثير‪ ..‬وأكثر مما أريد‪ ..‬وال أريد‬

‫أن أضايقك‪.‬‬

‫حدث لها بعدي‪ ...‬آسف!‬

‫ثم أضافة بلهجة حزينة‪...‬‬

‫أبدا‪.‬‬ ‫‪ -‬ال مضايقة ً‬

‫ودخل معي إلى المنزل‪ ،‬وبينما كنا نرتشف القهوة‪ ،‬رحت‬

‫أجيبه عن تساؤله الذي أفضى به إلي‪ ،‬وأخبرته أنها أمي‪ ،‬وأنني‬ ‫أخدمه���ا ب���دون نقود‪ ،‬بل إنني أنفحها في كل ش���هر بمصروف‬

‫خ���اص تنفق منه ما تري���د‪ ،‬مع تغطية جميع ما تحتاج إليه بكل‬ ‫معنى الكلمة‪ .‬ذهل وهو يسمع هذه المعلومات‪ ...‬قلت‪:‬‬ ‫‪ -‬ليس هذا هو المهم‪.‬‬

‫نظر إلي بتعجب وقال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬وهنالك ما هو أهم من ذلك؟‬

‫‪ -‬نع���م‪ ،‬إنن���ي أق���وم بكل ذلك في س���عادة غام���رة‪ ،‬ورضى‬

‫يغمر قلبي بالحب والس���رور‪ ،‬إنني ال أش���عر أنها مش���كلة على‬

‫اإلط�ل�اق‪ ،‬بل نعمة موف���ورة أتاحها القدر لي‪ .‬وهنالك ش���يء‬ ‫ُأومن به وهو أن ما س���أقدمه لوالدتي س���وف أجده من أبنائي‪،‬‬

‫واألمر األعظم من ذلك كله أنني أريد رضى اهلل تعالى‪ .‬ولدينا‬ ‫إيم���ان نح���ن المس���لمون‪ ،‬بأن رض���ى اهلل من رض���ى الوالدين‪،‬‬

‫وسخطه من سخطهما‪ ،‬فهما أو أحدهما سبيل لنعيم خالد‪ ،‬أو‬ ‫لعذاب خالد مستمر بعد الموت‪ ،‬هذا أمر اهلل تعالى ويجب أن‬

‫نمتثله وال نعارضه‪.‬‬

‫‪ -‬لقد أشغلتك بأمور ال تعنيك‪.‬‬

‫أبدا‪ ...‬أنا سعيد أن تختارني بالذات لتكشف لي عن‬ ‫‪ -‬ال‪ً ،‬‬

‫كثيرا‪.‬‬ ‫معاناتك‪ ...‬وهذه ثقة أعتز بها‪ ،‬أعتز بها ً‬ ‫‪ -‬ح ًّقا‪ ...‬أنت تبالغ في مجاملتي‪.‬‬

‫‪ -‬هذا ما أعتقده‪ ...‬أنا ال أجاملك‪.‬‬

‫هانئا‪ ،‬ث���م تجدد اللق���اء بعد ذلك‪،‬‬ ‫وس���ار الحدي���ث هاد ًئ���ا ً‬

‫حي���ث دعان���ي إلى منزله ع���دة مرات‪ ...‬وحين ع���رف أن ديني‬

‫اإلسالم هو الذي يجعلني أحترم والدتي وأحبها وأبذل الكثير‬ ‫إلس���عادها‪ ،‬رأيته يطلب مني أن أحدثه عن اإلسالم‪ ...‬قال إنه‬ ‫ال يعرف إال القليل عنه‪ ،‬وأن هذا القليل ال يشجع مطل ًقا على‬

‫الدخول فيه‪.‬‬

‫وجدتها فرصة‪ ...‬قلت له‪:‬‬

‫‪ -‬لماذا ال تتعامل مع المصدر األصلي لتعاليم اإلسالم؟‬

‫‪ -‬ما هو؟‬

‫‪ -‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫وناولته في اليوم التالي نس���خة م���ن القرآن الكريم‪،‬‬ ‫وعددا‬ ‫ً‬

‫من الكتب اإلسالمية المتميزة‪ ،‬وتركته يقرأ على مهل‪ ،‬ويفكر‬ ‫بهدوء‪ ،‬وأنا أدعو من صميم قلبي أن يهديه اهلل على يدي‪ .‬ولم‬

‫قال بلهجة ونبرة فيها تأسف‪:‬‬

‫‪ -‬أنا ال أصدق أن مثل ذلك يحدث لوال أن رأيتك بعيني!‬

‫وتنهد بحسرة بالغة وهو يقول‪:‬‬

‫‪ -‬لقد أحلت إلى المعاش منذ ثالث سنوات‪ ،‬ولو لم يكن‬

‫ل���دي هذا المنزل ورات���ب المعاش لرمى بي ولدي وابنتي إلى‬

‫دار المس���نين‪ ،‬ألني ال أجد عندهم���ا أي عاطفة نحوي‪ ...‬لقد‬

‫كثيرا في تربيتهما وتعليمهما‪ ،‬ومع ذلك فقد نس���يا‬ ‫أنفقت ما ً‬ ‫ال ً‬ ‫ذلك كله‪ ...‬ثم توقف ليقول‪:‬‬

‫زور توقيعي عدة مرات وس���حب‬ ‫ أتص���دق أن ابن���ي ق���د ّ‬‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫بجانب���ي اآلن ربم���ا كانت المش���كلة أقل‪ ،‬لكننا كنا ق���د افترقنا‬

‫‪8‬‬

‫يخيب اهلل رجائي‪ ،‬إذ لم تمض ثالثة أشهر‪ ،‬إال وهو يأتي إلي‬ ‫ّ‬ ‫يعلن فيه رغبته في اعتناق اإلسالم‪ ...‬هذه الرغبة التي َأ ْش َع ْلتها‬ ‫في نفس���ه ‪-‬بع���د توفيق اهلل‪ -‬رؤيت���ه لرعاية والدت���ي بكل حب‬ ‫وحنان‪ .‬لقد جاءت به المش���اهد الت���ي رآها لمعاملتي لوالدتي‬ ‫ليك���ون من المس���لمين من غير أن أكلم���ه وقتها بأي كلمة عن‬

‫اإلسالم‪.‬‬

‫(*) عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫وعل���ى الرغم م���ن ذلك الجف���اف والبرود ال���ذي صاحب‬

‫قب���ول االبتع���اث‪ ،‬إال أنني أش���عر داخل نفس���ي ب���أن االبتعاث‬ ‫س���يكون م���ن ورائه خير ما‪ ،‬ال أدري م���ا هو‪ ،‬لكنني أحس بأنه‬

‫جوا ون���زداد خبرة ومكافأة"‪.‬‬ ‫س���يحدث‪ .‬قلت لوالدت���ي‪" :‬نغير ًّ‬ ‫قال���ت بس���ماحة نف���س‪" :‬اهلل يدبرنا وإي���اك للخي���رة المباركة"‪.‬‬ ‫واعتبرت هذا القول منها موافقة ثمينة‪.‬‬

‫وفي األيام التي س���بقت الس���فر‪ ،‬زرت م���ع والدتي الطبيب َة‬ ‫الت���ي تتاب���ع عالجه���ا‪ ،‬وأخ���ذت كمية كبي���رة من األدوي���ة التي‬ ‫تتناولها‪ ،‬وكذلك كل ما أتوقع أنها تحبه وستفتقده في السفر‪.‬‬ ‫وصلن���ا إلى "كول���ون" بألمانيا‪ ،‬المدينة التي س���وف أدرس‬

‫فيها‪ .‬وأس���رعت في البحث عن س���كن مريح فوجدته في حي‬

‫ج���دا‪ .‬لم يك���ن يعنيني ف���ي الدرجة األول���ى إال الراحة‬ ‫ه���ادئ ًّ‬

‫النفسية لوالدتي ولزوجتي وأطفالي الثالثة‪.‬‬

‫س���يرا حثي ًثا مع حرصي أال تستأثر‬ ‫وس���ارت أمور الدراسة‬ ‫ً‬

‫بوقت���ي جميع���ه‪ ،‬ول���ذا ل���م أضغ���ط على نفس���ي ف���ي الجدول‬ ‫الدراس���ي‪ ،‬لك���ي يكون ل���ي وقت مع أس���رتي ووالدت���ي‪ .‬ولم‬

‫أجد صعوبة تذكر بالنس���بة لعائلتي‪ ،‬إذ كانت هنالك مرونة في‬ ‫التالؤم مع الظروف الجديدة‪ ،‬فسارت األمور على خيرما يرام‪.‬‬ ‫أما بالنس���بة لوالدتي المريضة المقعدة‪ ،‬فالبد أن تلقى مني‬

‫ومن األس���رة عناية مضاعفة‪ ،‬وإن كن���ت على يقين أنها ‪-‬حتى‬

‫شيئا من ذلك‪ ،‬حتى ال‬ ‫وإن لم ترتح في الغربة‪ -‬فلن‬ ‫تبدي لي ً‬ ‫َ‬ ‫جهدا في‬ ‫س���ببا في إرباكي أو مضايقت���ي‪ .‬ولذا لم أدخر ً‬ ‫تك���ون ً‬

‫بذل سبل الراحة لها‪.‬‬

‫قريب���ا من باب‬ ‫واش���تريت س���يارة مناس���بة‪ ،‬فكن���ت أوقفها ً‬

‫المن���زل‪ ،‬ث���م أدف���ع بالكرس���ي المتح���رك ال���ذي تجل���س عليه‬ ‫إلى الس���يارة ف���إذا حاذيت الب���اب فتحته‪ ،‬وحملته���ا برفق بالغ‬

‫ووضعتها على الكرس���ي المجاور لكرس���ي السائق‪ ،‬ولم أنس‬

‫في كثير من األحيان أن أمازحها بكلمة تشجيع أو مجاملة‪.‬‬

‫وكلم���ا خط���ر ف���ي ذهن���ي ش���يء م���ن التضاي���ق أو التعب‪،‬‬

‫اس���تحضرت قصة ذلك الرجل ال���ذي حمل والدته وطاف بها‬ ‫ش���يئا من حقها؟ فقال‬ ‫البيت وس���أل عمر ‪ ‬هل أدى حقها أو ً‬ ‫ل���ه عم���ر‪ :‬وال طلقة م���ن طلقاتها‪ ،‬إنك تحمله���ا وتتمنى موتها‬ ‫حتى تستريح‪ ،‬وحملتك وهي تتمنى لك الحياة‪.‬‬

‫تكاد األرض تسعني من الفرح حين أرى مخايل الرضى على‬ ‫قس���مات وجهها‪ ،‬وأس���مع منه���ا الدعاء الص���ادق الندي الذي‬ ‫أجده يعطر األجواء حولي أينما ذهبت‪.‬‬

‫كن���ت رفي ًق���ا به���ا‪ ،‬حنو ًنا عليه���ا كلم���ا أنزلتها من الس���يارة‬

‫ووضعته���ا على الكرس���ي المتح���رك‪ ،‬أو عند التج���ول بها في‬ ‫الحديق���ة أو الس���وق‪ .‬وق���د عرف���ت زوجتي أن ه���ذا األمر من‬ ‫مهمات���ي‪ ،‬فتولت العناية بأطفالي واإلمس���اك بهم في مثل تلك‬

‫التجوالت‪.‬‬

‫كان���ت هنالك عينان ترقبانني في كثير من األحيان دون أن‬

‫أشعر‪ ،‬وكانت تبهرهما العناية المدهشة وسعة صدري في هذه‬

‫الرعاية التي أقوم بها ألمي‪.‬‬

‫وفي إح���دى األيام وعقب المجيء من جولة من جوالت‬

‫قادما‬ ‫التن���زه م���ع والدتي وزوجت���ي وأطفالي‪ .‬وجدت ج���اري ً‬

‫نحوي وأنا في طريقي إلنزال بعض األغراض من السيارة‪.‬‬

‫إنني أعرفه معرفة خفيفة‪ ،‬فطالما تبادلت وإياه تحايا عابرة‬

‫قريبا من منزلنا‪ ،‬أو في الس���وق المركزي الصغير‬ ‫حينما نلتقي ً‬

‫للحي الذي نسكن فيه‪.‬‬

‫طوي�ل�ا‪ ،‬ضخ���م الجث���ة‪ ،‬أش���يب الش���عر‪ ،‬ت���دل‬ ‫رج�ل�ا‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫س���حنته على ش���يخوخة وكبر في الس���ن‪ ،‬وإن بدا وافر النشاط‬ ‫أبدا ال يس���تطيع إخفاء أعراض الش���يخوخة‬ ‫جم الحيوية‪ ،‬لكنه ً‬ ‫الت���ي تبدي زحفها الق���وي على بدنه وتترك بصماتها الواضحة‬

‫في انحناء ظهره‪ ،‬وتجعد بشرته‪ ،‬وضعف بصره‪ ...‬لكن روحه‬

‫بالفع���ل كانت ش���ابة‪ ،‬تتجلى ف���ي نظراته المتفائلة‪ ،‬وابتس���امته‬ ‫الصافية البسيطة التي ال يتكلفها‪ ،‬يحيي بها كل قادم حتى ولو‬ ‫غريبا مثلي‪ .‬قال لي‪:‬‬ ‫كان ً‬

‫‪ -‬لقد تعارفنا منذ مدة أليس كذلك؟‬

‫سعدت بذلك‪.‬‬ ‫‬‫ُ‬

‫‪ -‬ال أح���ب الفض���ول أو التدخ���ل ف���ي ش���ؤونك الخاصة‪،‬‬

‫كثيرا‪ ...‬هذه العجوز‬ ‫ولكن هنالك ش���يء يثيرني وأتعجب منه ً‬

‫الت���ي تعتن���ي بها‪ ،‬كم تدف���ع لك من األجرة مقاب���ل هذه العناية‬ ‫الشديدة بها؟ البد أنها تجزل لك المكافأة؟!‬ ‫ثم أضاف‪:‬‬

‫‪ -‬لق���د رأيت���ك تعتني بها عناية فائقة‪ ،‬وذهلت الس���تمرارك‬

‫أتذك���ر ه���ذه الحادث���ة فأس���تحي‪ ،‬وأبع���د كل غ���رور يطيف‬

‫دائما تحملها في السيارة ثم تنزلها منها‪،‬‬ ‫على هذا المس���توى‪ً ،‬‬

‫س���عيدا ال‬ ‫وم���ع ذل���ك ال أذكر أنني تعم���دت إغضابها‪ ،‬وكنت‬ ‫ً‬

‫كثيرا‬ ‫يوم من األيام متضاي ًقا من خدمتها‪ .‬لقد أثار هذا فضولي ً‬

‫شيئا من الواجب نحوها‪.‬‬ ‫بأرجاء نفسي في أن أكون قد أديت ً‬

‫وتقب���ل رأس���ها ويدها‪ ،‬وتتجول بها وترفه عنه���ا‪ ...‬لم أرك في‬

‫‪7‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫قصة‬

‫د‪ .‬عبد اهلل بن صالح العريني*‬

‫أرشف ما عرفته األرض من علم‪ ،‬هو ذلك العلم الذي يغوص يف ماهية اإلنسان وغايات‬ ‫وجوده‪ ،‬وأرسار أكوانه وعوامله‪ ،‬وكل علم دون ذلك فهو إىل الجهالة أقرب‪ ،‬ويف العامء أبعد‪.‬‬ ‫***‬ ‫(املوازين)‬

‫من جمال اإلسالم‬

‫ل���م أكن بحاج���ة لتذكي���ري أن الب���ر بالوالدين‬

‫ه���ذا الظ���رف المهم في مجتمعنا‪ ،‬وم���ع ذلك فأنا من كل قلبي‬

‫أص���ررت عل���ى أن أصح���ب مع���ي أس���رتي‬

‫وثق أنني ال أقبل المساومة على هذا الشرط‪.‬‬

‫فرص���ة ذهبي���ة ال تعوض لدخ���ول الجنة‪ ،‬ولذا‬

‫أخب���رك أن���ه ال رغبة لي في االبتع���اث إال باصطحاب والدتي‪،‬‬

‫وبخاص���ة والدت���ي المريض���ة‪ ،‬وأن يكون ذلك ش���رطي األول‬

‫وانتهى النقاش عند هذا الحد بيني وبين المدير‪ ،‬ونس���يت‬

‫واألخي���ر لقب���ول االبتع���اث إل���ى ألمانيا ف���ي دورة مدتها س���نة‬

‫تمام���ا‪ .‬فل���م أكن أطم���ح إلى االبتع���اث ألن دبلوم‬ ‫الموض���وع ً‬

‫أك���د ل���ي المدي���ر أن ال يمكن ابتعاث���ي بهذا الش���رط‪ ،‬وأن‬

‫كل ه���ذا العن���اء‪ ،‬ولذا ش���عرت حين أخبرن���ي المدير بعد ذلك‬

‫وبضعة أشهر‪ ،‬لدراسة مواد تخصصية في مجال عملي‪.‬‬

‫هناك ثالثة موظفين ليس عندهم ظرفي الذي يس���توجب ذلك‬ ‫الشرط‪ .‬سألته‪:‬‬

‫االبتعاث يحتاج إلى معاناة‪ ،‬ثم إن مردوده الوظيفي ال يستحق‬ ‫مريحا‪...‬‬ ‫بقرار ابتعاثي أني أقدم على شيء ليس‬ ‫ً‬

‫ِ‬ ‫كثيرا بخبر هذا السفر‪ ،‬ولم‬ ‫تخف والدتي‬ ‫لم تفرح زوجتي ً‬

‫‪ -‬هل تراني أكفأ المتقدمين أم ال؟‬

‫ضيقها وإن كانت ال تبدي أي اعتراض‪ ،‬وذلك من طيبة ودها‬

‫‪ -‬ألي���س ف���ي نظام االبتعاث ش���يء بخص���وص ظرف مثل‬

‫ع���ن اإلحراج‪ ،‬ألنها تع���رف أن أي وجهة نظر منها‪،‬‬ ‫س���أعدها‬ ‫ّ‬

‫قال‪ :‬بصراحة‪ ،‬نعم‪.‬‬ ‫ظرفي مع والدتي؟‬ ‫‪ -‬أظن‪.‬‬

‫ ال‪ ..‬ب���ل في���ه‪ ..‬أنا متأكد أن واض���ع النظام قد راعى مثل‬‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪6‬‬

‫بعيدا‬ ‫ولطفه���ا ب���ي‪ .‬فهي تلقي وجه���ة نظرها بأس���لوب خفيف ً‬

‫أمرا أمتثله مهما كان‪ .‬ولذا لم تكن تتضجر أو تبدي تأف ًفا ألي‬ ‫ً‬ ‫أم���ر تراني ُم ِ‬ ‫قد ًما عليه أو ف���ي مصلحتي‪ ،‬وكانت تثق كل الثقة‬

‫باختياري ورأيي‪ ،‬وهو شيء أعتز به‪ ،‬وتوفيق من اهلل أشكره عليه‪.‬‬


‫عدما فأوجدتنا‪ ،‬ونحن مستمرون في الحياة بفضلك وبلطفك‬ ‫ً‬ ‫وبجودك وإحسانك‪ ،‬محاطون على الدوام بجودك وبإحسانك‬ ‫وكرم���ك‪ .‬أنت يـ���ا رب من يمنح النور لعقولن���ا‪ ،‬ولذ َة اإليمان‬

‫لقلوبن���ا‪ .‬كان العق���ل ف���ي تش���وش وتخبط حتى وص���ل إليك‪،‬‬ ‫مرشدا‬ ‫جعلت العقل‬ ‫وكانت النفس تعدو وراء البغي‪ .‬وعندما‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫وهاديا لجمت به أهواء النفس وفتحت أمامها أفق االطمئنان‪.‬‬ ‫ً‬

‫لقد َوجدنا أنفس���نا بفضلك‪ ،‬وتخلصنا م���ن الضياع هنا وهناك‬ ‫في الدروب بلطفك‪.‬‬

‫وصلت قلوبنا إلى االطمئنان إال بمعرفتك‪ .‬وما تخلصت‬ ‫ما‬ ‫ْ‬

‫أفكارنا من الهذيان القاتل وانس��� ّلت منه إال باالستس�ل�ام لك‪.‬‬

‫أتين���ا إلى باب���ك وطرقناه بذلة وخضوع‪ ،‬ندع���وك أن تديم هذه‬ ‫اس���مك على الدوام على ش���فاهنا‬ ‫الذل���ة لك إلى أبد اآلبدين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عن���د دعائ���ك‪ ،‬ننتظر ب َِر ْهبة وخش���ية جوابك‪ .‬لم َيس���ـمعنا حتى‬

‫يربت بش���فقة على رؤوس���ـنا أو ينظر أحد‬ ‫الي���وم س���ـواك‪ ،‬ولم ّ‬ ‫س���ـواك إل���ى وجوهن���ا‪ .‬كل ما وجدناه كان م���ن عندك وحدك‪.‬‬ ‫وبفض���ل اإليم���ان ب���ك تخ َّل ْصن���ا م���ن مش���اعر الغرب���ة والحيرة‬ ‫والذهول‪ ،‬ومن آالم الوحدة والوحش���ة‪ ،‬ل���ذا نتوجه إليك مرة‬

‫أخرى بكل كياننا نطلب منك العفو والعافية‪.‬‬

‫نعوذ بك من قساوة القلب‪ ،‬ومن االستناد إلى غيرك‪ ،‬ومن‬

‫الغفل���ة وم���ن اإلهانة واله���وان‪ ،‬ومن المس���كنة والجهل‪ ،‬ومن‬ ‫عل���م ال ينف���ع‪ ،‬وقل���ب ال يخش���ع‪ ،‬وعي���ن ال تدم���ع‪ ،‬ونفس ال‬

‫تش���بع‪ ،‬وم���ن دعاء ال يس���تجاب ل���ه‪ ،‬ومن زوال النع���م‪ ،‬وتغير‬

‫القلب شاطئ أمواج الماوراء‬ ‫اجا‪،‬‬ ‫مو ً‬ ‫حرا بالشوق ّ‬ ‫يا بَ ً‬ ‫موارا‪...‬‬ ‫ويا ً‬ ‫موجا بالعشق ً‬ ‫فالشاطئ الهيمان‪،‬‬ ‫إليك يرنو‪،‬‬ ‫و َهداياك ينتظر؛‬ ‫الناعم المغسول‪،‬‬ ‫ْرملَك‬ ‫َ‬ ‫وماءك الصافي الطهور‪...‬‬ ‫َ‬ ‫فشوقه إليك ال ينطفئ‪،‬‬ ‫وحبّه لك ال يبلَى‪...‬‬ ‫***‬

‫األلطاف‪ ،‬ومن عذاب عاجل وغضب ماحق‪.‬‬

‫خاش���عا‪ .‬اقبل منا‬ ‫وقلبا‬ ‫ندعوك أن تهب لنا لس���ا ًنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضارعا‪ً ،‬‬

‫ي���ا رب توبتنا‪ ،‬ونقنا م���ن خطايانا كما ينقى الثوب األبيض من‬ ‫وألـزم ألس���ـنتنا‬ ‫الدنس‪ ،‬واس���تجب دعاءنا‪ ،‬وافتح آفاق قلوبنا‪ِ ،‬‬ ‫كلمة الصدق‪ ،‬وطهر قلوبنا من الدنس يا رب! وهب لنـا يا رب‬

‫وقرارا في طريق القرآن‪ ،‬وحساس���ية‬ ‫وعزما‬ ‫ثبا ًت���ا ف���ي أعمالنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫خائبا‪ ،‬وتفضل‬ ‫تج���اه نعم���ك‪ .‬ال ُترج ْع يـا رب من يـ���دق بابك ً‬ ‫بنعم���ك وألطاف���ك عل���ى عب���ادك الطائعين‪ ،‬واهد م���ن عصاك‬

‫وزي ِْن دعاء المضطرين باالس���ـتجابة لهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وضل عن س���بيلك‪ّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫وعال���ج أصحاب القلوب المريضة‬ ‫وس���اع ْد أصحاب الكرب‪،‬‬ ‫ْ‬

‫وه���ب لهم الش���فاء‪ ،‬وأظهر ن���ورك للذين يتخبط���ون في ظلمة‬ ‫الكفر واإللحاد كي ال تبقى فيهم أي نقطة أو ركن مظلم‪.‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬أورخان محمد علي‪( .‬رحمه اهلل)‬

‫‪5‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫والمستجيب لها‪،‬‬ ‫والعارف بحاجاتنا ورغباتنا‬ ‫من حال لحال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وصاحب الرحمة الواس���عة الذي ال ي���دع أمورنا لغيره‪ ،‬وذلك‬ ‫َ‬ ‫مقاب���ل عجزن���ا وفقرنا وضعفنا وحاجتنا‪ ،‬ل���ذا كان من األهمية‬ ‫قيامنا بتعيير سلوكنا وتصرفاتنا تجاهه بكل دقة وعناية‪.‬‬ ‫بمكانٍ ُ‬ ‫نحن عاجزون وضعفاء ومحتاجون‪ ،‬بينما هو الحاكم المطلق‬ ‫على كل ش���يء‪ .‬لذا نحس على الدوام بمدى صغرنا‪ ،‬وبمدى‬ ‫عظمته‪ ،‬وال نتوجه عند طلباتنا الفعلية والحالية إال إليه وحده‬ ‫دون غي���ره‪ ،‬ونعل���م أن الظهور بمظهر المس���تغني عنه ليس إال‬ ‫س���وء أدب‪ .‬كما َن ُع ّد أي تصرف يتس���م بالالمباالة عند عبادتنا‬ ‫أي تصرف يفتقر إلى الجدية‪،‬‬ ‫له أو عند توجهنا له بالدعاء أو ّ‬ ‫ع���دم احت���رام وعدم توقي���ر‪ .‬لذا نعتني غاية االعتن���اء أن نتوجه‬ ‫َ‬ ‫إليه على الدوام بمش���اعر الخوف واإلشفاق والمهابة‪ .‬وعندما‬ ‫نش���عر بمدى قربه منا وبأنـه سيس���تجيب لدعائنا‪ ،‬نشعر بعظمته‬ ‫جنبا إلى جنب مع س���ـعة رحمته وش���ـفقته ولطفه‪...‬‬ ‫وكبريائ���ه ً‬ ‫فنرتج���ف م���ن خش���يته ونرتع���ش‪ ،‬ونعي���د النظر ف���ي تصرفاتنا‬ ‫وس���لوكنا وأعمالنا‪ ،‬وحتى في درجة ارتفاع أصواتنا‪ ،‬و ُن َع ِّيرها‬ ‫من جديد‪ ،‬ألننا سنكون في جو من الشـعور بأننا تحت مراقب ِة‬ ‫َمن ال يغيب عنه ش���يء‪ ،‬وتحت نظره‪ .‬فبجانب أذواقنا ال ندع‬ ‫االحتي���اط والتدبي���ر‪ .‬وبه���ذا المعنى فالدع���اء أصفى مظهر من‬ ‫لب التوجه إلى‬ ‫مظاهر العبودية وأصدقها في كل حين‪ ،‬لكونه ّ‬ ‫وأفضل إعالن للعبودية‪.‬‬ ‫الحق تعالى بالطلب‬ ‫َ‬ ‫والحقيقة أن كل الموجودات تدعوه وحده ‪ ‬على الدوام‬ ‫بلسان حالها‪ ،‬وبنوع قابلياتها‪ ،‬وبلسان حاجاتها الفطرية‪ ،‬فيقوم‬ ‫بال���رد واالس���تجابة لها ضم���ن إطار من الحكمة‪ ،‬ويس���مع كل‬ ‫صوت ويستجيب له‪.‬‬ ‫ولك���ن لي���س م���ن الصحيح توقع االس���تجابة ل���كل أدعيتنا‬ ‫كم���ا ه���ي‪ ،‬ألنن���ا ال نأخذ بنظ���ر االعتب���ار إال رغباتن���ا وطلباتنا‬ ‫فنضيق بهذا‪ ،‬إطار طلباتنا‪ ،‬وننس���ى‬ ‫المتعلق���ة بأيامن���ا الحالي���ة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو نهم���ل المس���تقبل أو األمور األخ���رى المتعلقة بنا عن قرب‬ ‫وال نأخذه���ا بنظر االعتبار‪ .‬ولكن���ه تعالى يرى حالنا الحاضر‪،‬‬ ‫وكذلك مس���تقبلنا القريب والبعيد في اللحظة نفس���ها‪ ،‬فيوسع‬ ‫م���ا ضيقن���اه حتى يجعل أدعيتنا ب َِس���ـعة الدارين ف���ي الدنيا وفي‬ ‫العقب���ى‪ ،‬ويس���تجيب لها ضمن أبعاد متعددة حس���ب موجبات‬ ‫رحمت���ه وحكمت���ه‪ .‬أجل‪ ،‬فهو عندما يني���ر أوضاعنا الحالية‪ ،‬ال‬ ‫يحول أضـواء أيامن���ا الحالية إلى ظلمات‬ ‫يفس���د مس���تقبلنا وال ّ‬ ‫ف���ي المس���تقبل‪ .‬وعندم���ا يقوم باإلنع���ام علينا‪ ،‬ال َيس���حب من‬ ‫اآلخريـ���ن نعمه وال يحرمهم من فضله‪ ،‬بل يس���تجيب للجميع‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪4‬‬

‫ولكل ش���يء اس���تجابات عميق���ة‪ ،‬ليظهر لنا أنه س���مع أدعيتنا‪،‬‬

‫وأخ���ذ طلباتن���ا بنظ���ر االعتبار‪ ،‬فيه���ب قلوبنا بقرب���ه وحضوره‬

‫انشراحا وبهجة وراء كل خيال وتصور‪.‬‬ ‫ً‬

‫الدعاء مفتاح القلوب إلى الماورائيات‬

‫والقل���ب المتفتح على هذه المعان���ي عندما يفتح كف التضرع‬ ‫والدع���اء‪ ،‬يعل���م بوجود من يراه ويحس حتى بأنفاس���ه‪ ،‬ويعلم‬ ‫س���ـره ونجواه‪ ،‬ويشهد أنينه وبكاءه‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪،‬‬

‫وحاكم ومس���يطر على كل ش���يء‪ ،‬يعمل ما يشاء وكيفما يشاء‪،‬‬ ‫واستنادا إلى رحمته‬ ‫وأن هناك ِحكَ ًما مختلفة في كل ما يفعله‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وإرادته ومش���يئته‪ ،‬يرى الداعي بأنه يس���تطيع التغلب على كل‬ ‫توترا‪،‬‬ ‫صعب من الصعاب‪ ،‬ويحس بالطمأنينة في أكثر أوقاتـه ً‬ ‫وف���ي أصعب وأحلك الحوادث التي يجابهها‪ ،‬وال يتخلى عن‬

‫أبدا‪ ،‬وال يلفه اليأس مطل ًقا‪ .‬وكم من معان عميقة تكمن‬ ‫أمل���ه ً‬

‫يومي���ا ضمن هذا اإلطار‪،‬‬ ‫ف���ي توجهه نح���وه تعالى عدة مرات ًّ‬

‫ال أن ي���رى ويس���مع بقلبه م���ا وراء هذا العال���م المادي‪.‬‬ ‫مح���او ً‬

‫فضل مثل هذا التوجه ونعم َته‪ ،‬ال يس���تطيع ترك‬ ‫وال���ذي يذوق‬ ‫َ‬ ‫تماما‬ ‫مالزمة عتبة بابه تعالى‪ .‬وحتى وإن لم نس���تطع الوصول ً‬

‫إل���ى مثل هذا الفضل‪ ،‬نتوجه للمرة األخيرة نحو باب حضرته‬

‫العلية‪ ،‬ونلمس مطرقة الباب لنتضرع وندعو بقلب يئن‪:‬‬ ‫ّ‬

‫س���ـبب وجودنـ���ا وعلته‪،‬‬ ‫أيه���ا الموج���ود األزل���ي الذي هو‬ ‫ُ‬

‫وروح أرواحن���ا! يا من نوره ضياء أعيننا وأبصارنا! لو لم تنفخ‬ ‫الروح في أبداننا لبقينا حم ًأ مسنو ًنا‪ ،‬ولو لم تهب النور ألعيننا‬ ‫وتقيي���م الكون ِمن حولن���ا‪ ،‬وكيف كنا‬ ‫فهم‬ ‫َ‬ ‫كي���ف كنا نس���تطيع َ‬ ‫أوجد َتنا مرتين؛ م���رة عندما خلقتنا‪...‬‬ ‫نس���ـتطيع معرفت���ك؟ لقد‬ ‫ْ‬ ‫وم���رة عندم���ا وهبت لنا اإليم���ان والعرفان‪ .‬ول���و قمنا بحمدك‬ ‫والثناء عليك بعدد ذرات الكون‪ ،‬لما و ّفينا حقك من الشكر‪.‬‬

‫ي���ا أجم���ل م���ن كل جميل! ويا أبه���ى من كل به���ي! يا من‬

‫قبيحا‬ ‫ُتظه���ر ص���ور الجمال في كل آن وحين‪ ،‬وتس���تر ما يبدو ً‬

‫حت���ى تضفي عليه مس���حة من الجمال! نتض���رع إليك أن تمأل‬

‫تبصرنا بطرق الجمال‬ ‫قلوبنا بمشاعر الجمال وأحاسيسه‪ ،‬وأن ّ‬

‫ومسالكه على الدوام‪.‬‬

‫فورا‪،‬‬ ‫ي���ا أرح���م من كل رحيم! ي���ا من ال تعاقب المس���يء ً‬

‫ح���ده‪ ،‬وتترك ل���ه فرصة‬ ‫ب���ل تمه���ل وتتغاض���ى عم���ن يتج���اوز ّ‬

‫لتنقي���ة قلبه م���ن الذنوب واآلثام المعنوي���ة! احفظنا يـا رب من‬ ‫التل���وث باآلث���ام وبالذنوب‪ ،‬واغفر لنا عندم���ا نتلوث ببعضها‪،‬‬

‫وال تحرمن���ا م���ن مغفرتك ومن رحمت���ك وال تبعدنا عنها‪ .‬كنا‬


‫تعالى مـع االحتفاظ بالتوسل باألسباب‪،‬‬

‫ونقول كما قال الشاعر‪:‬‬

‫أحوالنا معلومة يا رب من ِقبلك‪،‬‬

‫ما الدعاء إال تضرع من عبيدك‪...‬‬

‫وأحيـا ًن���ا نقتب���س أدعيتنا م���ن القرآن‬

‫الكري���م أو م���ن أدعي���ة س���ـيد البلغ���اء‬

‫واألنبي���اء ‪ ،‬ونفت���ح ي���د الضراعة أمام‬

‫بـاب الرحمن الذي هـو محرابنا األبدي‬ ‫لنش���رح ونش���كو أحوالنا وما يجول في‬

‫أعم���اق أرواحنـ���ا‪ .‬ورعاي��� ًة من���ا ألدب‬ ‫تماما وننتقل‬ ‫المثول أمامه نغلق أفواهنا ً‬

‫إلى مراقبة صامتة‪ .‬وهذه الحال حس���ب‬

‫�أيها املوج��ود الأزيل الذي هو‬ ‫�سـبب وعلة وجودنـا‪ ،‬وروح‬ ‫�أرواحن��ا! ي��ا من ن��وره �ضياء‬ ‫�أعينن��ا و�أب�صارنا! ل��و مل تنفخ‬ ‫ال��روح يف �أبدانن��ا لبقينا حم�أ‬ ‫م�سنونً��ا‪ ،‬ول��و مل ته��ب النور‬ ‫لأعينن��ا كي��ف كن��ا ن�ستطيع‬ ‫فهم وتقييم الكون من حولنا‪،‬‬ ‫وكيف كنا ن�سـتطيع معرفتك؟‬

‫بعضه���م ‪-‬وبدرجة الص���دق المصاحب‬

‫أبلغ من كل كالم‪ ،‬وأفضل من كل‬ ‫لها‪ُ -‬‬ ‫بيـان‪ ،‬وأحسن من كل تضرع‪.‬‬

‫ولم���ا كان اهلل تعالى على عل���م بكل أحوالنا‪ ،‬الظاهرة منها‬

‫والخفي���ة‪ ،‬فـإن المهم هنا في الدعـاء ه���و اللب والجوهر أكثر‬

‫م���ن الكلمات نفس���ها‪ .‬واهلل تعال���ى يقول لرس���وله الكريم ‪:‬‬ ‫اع ِإ َذا‬ ‫الد ِ‬ ‫ي���ب َد ْع َو َة َّ‬ ‫يب ُأ ِج ُ‬ ‫﴿و ِإ َذا َس��� َأ َل َك ِع َب���ا ِدي َع ِّني َف ِإ ِّني َق ِر ٌ‬ ‫َ‬ ‫َد َع ِ‬ ‫ان﴾(البق���رة‪ ،)186:‬إذن فهو من ناحيـة معرفة طلباتنا ورغباتنا‪،‬‬ ‫أق���رب إلين���ا منـا‪ .‬لذا َف َح َس���ب هذه المعرف���ة بالحضور اإللهي‬

‫وبالق���رب اإللهي‪ ،‬فـ���إن األدعية الصامتة ه���ي عين األدب مع‬

‫نابعا من‬ ‫ذلك المس���توى المتميز من العباد‪ .‬وس���واء أكان هذا ً‬

‫مفه���وم الغي���ب أو من مفهوم الحضور اإلله���ي‪ ،‬فإن اهلل تعالى‬ ‫جب َل ُكم﴾(غافر‪)60:‬‬ ‫﴿و َق َ‬ ‫���ال َر ُّب ُك ْم ْاد ُعو ِن���ي َأ ْس َ���ت ِ ْ‬ ‫ال���ذي يقول‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫يش���وقنا إلى الدع���اء‪ .‬لذا ُيعد عدم الدعاء اس���تغناء ال معنى له‬ ‫وبعدا عن اهلل تعالى‪.‬‬ ‫وانقطاعا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الدعاء سمو وندو‬

‫وضارع���ا م���ن كل قلبه‪،‬‬ ‫داعي���ا‬ ‫ً‬ ‫إن م���ن يس���تطيع فت���ح يدي���ه هلل ً‬ ‫ويتوج���ه لـ���ه‪ ،‬يس���تطيع تج���اوز البع���د الموجود بين���ه وبين ربه‬ ‫والناب���ع من وضعه‬ ‫الـ���ذي ه���و أقرب إليه من حب���ل الوريد‪-‬‬‫ِ‬

‫المادي والجسماني‪ .‬وباحترامه لهذا القرب يستطيع الخالص‬ ‫من وحش��� ِة ُبعده عنه‪ .‬ويش���اء اهلل تعالى إس���ماعه ما يجب أن‬ ‫وينطقه بما يجب عليه أن‬ ‫َيسمع‪ُ ،‬‬ ‫ويريه ما يجب عليه أن َيرى‪ُ ،‬‬

‫َينطق‪ ،‬ويوفقه لعمل ما يجب عليه أن يعمله‪ .‬وهـذه المرتبة من‬

‫القرب‪ ،‬مرتبة خاصة يمكن الوصول إليها عن طريـق النوافل‪،‬‬

‫شاهد‪ ،‬ويسمع ما‬ ‫الم َ‬ ‫حيث َيرى ما وراء ُ‬ ‫وراء األصوات‪ ،‬وتكون قابلياته األخرى‬ ‫أيض���ا غي���ر اعتيادي���ة‪ ،‬وتتج���اوز قدراتـه‬ ‫ً‬ ‫السابقة ليصبح ‪-‬في َه َّبة واحدة‪ -‬إنسا ًنا‬ ‫في ُبعد آخر‪ ،‬وليرتفع إلى مستوى آخر‪،‬‬ ‫ويك���ون‬ ‫عب���دا دائم التض���رع هلل‪ ،‬يتضرع‬ ‫ً‬ ‫إلي���ه ويدع���وه ويج���د منه االس���تجابة‪...‬‬ ‫يتمس���ك بالدع���اء والتض���رع كتعبير عن‬ ‫إيمان���ه بالق���درة غي���ر المح���دودة لرب���ه‪،‬‬ ‫ويس���ند ظهره إل���ى قوت���ه الالنهائية‪ ،‬فال‬ ‫ُ‬ ‫تفتر ش���ـفتاه عن الدعاء ف���ي كل أمر من‬ ‫األمور وإن بدا أبعد ش���يء عن التحقق‪.‬‬

‫الدعاء لذة إيمان‬

‫ولهذا فإن األرواح التي وصلت لمستوى‬ ‫أبدا في‬ ‫تقص���ر ً‬ ‫ت���ذوق لـ���ذة اإليمان‪ ،‬وس���مت بالعب���ادات‪ ،‬ال ّ‬ ‫الدعـاء‪ .‬على العكس من هذا‪ ،‬فهي تدرك أن العبادات هي غاية‬ ‫الموجودات وسـبب خلقها‪ ،‬لـذا تعطي للدعاء أهمية قصوى‪.‬‬ ‫وبجانب قيـام أصحاب هذه األرواح برعاية األس���ـباب المادية‬ ‫والمعنوية‪ ،‬يس���ارعون إلى فتح ي���د الدعاء والتضرع لربهم من‬ ‫أعماق قلوبهم‪ ،‬ويرون أن األدعية وسائل ُت َق ِّر ُبهم إلى خالقهم‪،‬‬ ‫وه���ي منب���ع آمالهم ورجائهم‪ .‬وفي مثل ه���ذا الجو من القرب‬ ‫���س بجو م���ن المهابة والقل���ق إلى جانب الش���عور بالبهجة‬ ‫ُي َح ّ‬ ‫و َتوقُّع تحقيق اآلمال‪ .‬وعندما ينظر اإلنسان إلى كل شيء من‬ ‫خالل تأمله في أزليته وأبديته سبحانه‪ ،‬يحس وكأنه يستمع إلى‬ ‫دقات قلب���ه المرتعش‪ ،‬وينتقل إلى حالة من اليقظة والتمكين‪.‬‬ ‫وهات���ان الحالتان اللتان تترافقان ع���ادة عند الدعاء وتتداخالن‬ ‫ببعضهما‪ ،‬تتسعان وتتطوران بنسبة طردية مع سعة أفق المعرفة‬ ‫اإللهي���ة عن���د اإلنس���ان‪ .‬والقرآن يش���ير إلى ح���ال المؤمن عند‬ ‫الدعاء وإلى حالته الروحية عندما يقول‪ُ ﴿ :‬ا ْد ُعوا َر َّبكُ ْم َت َض ُّر ًعا‬ ‫َو ُخ ْف َي ًة﴾(األعراف‪ .)55:‬وهذه اآلية تشير إلى أن المؤمن ال يمكن‬ ‫أبدا أن يستغني عن الدعاء وعن االلتجاء إلى اهلل‪ ،‬وإلى أن اهلل‬ ‫ً‬ ‫تعالى بجانب عظمته وكبريائه وجبروته ال يسد أبواب رحمته‬ ‫يذكر اإلنس���ان بأن أبواب رحمته مفتوحة للجميع‬ ‫وعنايته‪ ،‬بل ّ‬ ‫عل���ى ال���دوام عل���ى مصاريعه���ا‪ ،‬ويؤكد عل���ى أهمي���ة الدعاء‪.‬‬

‫لب التوجه إلى اهلل‬ ‫الدعاء‪ّ ،‬‬

‫ومطعمنا ومطورنا‬ ‫وموجدن���ا ُ‬ ‫ونظ���را لكونه هو وح���ده خالقنا ُ‬ ‫ً‬

‫‪3‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫الدعاء‬ ‫الدع���اء نداء وتضرع‪ ،‬وتوج���ه من الصغير إلى‬ ‫الكبير‪ ،‬ومن األس���فل إل���ى األعلى‪ ،‬ولهفة من‬

‫األرض وم���ن س���ـكان األرض نح���و م���ا وراء‬

‫الس���ماوات‪ ،‬وطل���ب ورغبة وطرح لما ف���ي الصدور من آالم‪.‬‬ ‫أوالً‪ ،‬وبعظمة صاح���ب الباب الذي‬ ‫والداع���ي يش���عر بضآلت���ه ّ‬ ‫ثانيا‪ ،‬لذا يكون‬ ‫ج���دا‪ .‬وعندما يرفع يديه‬ ‫متواضعا ًّ‬ ‫ً‬ ‫يتوج���ه إلي���ه ً‬

‫بالدع���اء مؤم ًنا باالس���تجابة‪ ،‬يتحول هو وم���ن حولـه إلى عالم‬

‫روحاني وسماوي‪ ،‬وكأنه يسمع تسبيحات وأذكار الروحانيين‬ ‫وأدعيته���م‪ .‬والمؤم���ن به���ذا التوجه وبه���ذا الدع���اء‪ ،‬ال يطلب‬

‫آمالنا وخشيتنا ‪-‬في كل حين‪ -‬وعزمنا وقرارنا أمارة من أمارات‬ ‫ذلك القدر‪ ،‬ونعد دعواتنا القولية والفعلية والحالية وسيلة من‬ ‫وس���ائل هذا القدر في مستوى الش���رط العادي‪ ،‬ألننا نعلم من‬ ‫بيان النبي الصادق المصدوق ‪ ‬أن النتيجة التي يحصل عليها‬ ‫كل واحد س���تتحقق‪ ،‬بمقياس كبير‪ ،‬حس���ب س���لوكه وأعماله‪.‬‬ ‫غي���ر أن���ه ليس من الصحيح عند التوجه إلى اهلل تعالى بالدعاء‪،‬‬ ‫أن نق���دم رغباتن���ا ومطالبن���ا‪ ،‬ونرب���ط أدعيتنا بها‪ ،‬ب���ل الصحيح‬ ‫ه���و أن نتوج���ه إلى الح���ق تعال���ى‪ ،‬و َنعرض عليه حالن���ا َبن َفس‬ ‫العبودية‪ ،‬وبشعور من التواضع والفناء‪ ،‬وبلسان الفقر والعجز‪.‬‬

‫م���ا ي���وده وما يطم���ح إليه فقط‪ ،‬بل يس���تغيث ً‬ ‫أيض���ا مما يخافه الدعاء تعبير عن الثقة باهلل‬ ‫ويخشاه‪ ،‬وهو يعلم بأن الدعاء حصنه الحصين الذي يلجأ إليه‪.‬‬ ‫آمالنا ورغباتنا هي دوافع نجاحنا وتوفيقنا‪ ،‬أما قلقنا وخشيتنا‬

‫فوسيلة من وسائل يقظتنا وانتباهنا تجاه تصرفاتنا السلبية‪ .‬ومع‬ ‫قدره اهلل تعالى لنا ولمس���ـتقبلنا من أمور‪َ ،‬ن ُع ّد‬ ‫أننا ال نعرف ما ّ‬ ‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد (‪2013 )34‬‬

‫‪2‬‬

‫والحقيقة أننا بأدعيتنا نظهر ثقتنا واعتمادنا وتوقيرنا لربنا‪ ،‬وبأنه‬ ‫ق���ادر على كل ش���يء‪ ،‬ويجب أن تتوج���ه أدعيتنا إلى هذا‪ ،‬أكثر‬ ‫ونصل أحيا ًنا في‬ ‫م���ن توجهها لطلب تحقيق رغباتن���ا الدنيوية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الدعاء إلى نقطة نس���كت فيها ونصمت‪ ،‬ونكل كل ش���يء إليه‬


‫المحتويات‬

‫ الدعاء  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬

‫‪2‬‬

‫القلب شاطئ أمواج الماوراء  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫‪5‬‬

‫ من جمال اإلسالم  ‪ /‬د‪ .‬عبد اهلل بن صاحل العريين (قصة) ‬

‫‪6‬‬

‫التربية البيئية في ضوء توجيهات التربية اإلسالمية  ‪ /‬فيصل ذيب (تربية) ‬ ‫ الكون شعر منظوم  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫"إنا سنلقي عليك قوال ثقيال"  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬أمحد عبادي (قضايا فكرية) ‬ ‫ عالَم الطفولة ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫الهجرة‪ ..‬نقطة انطالق األمة  ‪ /‬د‪ .‬عبد الوهاب بوخلخال (قضايا فكرية )‬ ‫ من حقوق الحيوان في اإلسالم  ‪ /‬د‪ .‬عبد الواحد بوشداق (قضايا فكرية) ‬ ‫مفاهيم المشروع النهضوي اإلسالمي المعاصر ‪ /‬د‪ .‬حممد سامل سعد اهلل (قضايا فكرية) ‬ ‫ العقل المؤيد باإليمان عند النورسي  ‪ /‬د‪ .‬إدريس مقبول (قضايا فكرية) ‬ ‫الهدهد‪ ..‬الطائر الذكي ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫ الجندي الصغير  ‪ /‬حممد قاسم اهلندي (قصة) ‬

‫‪9‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪39‬‬

‫الجزري‪ ..‬اختراعاته العلمية وتطبيقاته الميكانيكية ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬

‫‪42‬‬

‫ فقه واقع األمة ‪ ..2-‬دراسة في الشروط والعوائق  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬

‫‪46‬‬

‫بشائر عالم جديد ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫ جمال الفكر  ‪ /‬ليلى السبيعي (شعر) ‬

‫‪50‬‬ ‫‪51‬‬

‫التلسكوبات‪ ..‬عيون على السماء  ‪ /‬حممد هاشم البشري (علوم) ‬

‫‪52‬‬

‫ مصر‪ ..‬ومصير األمة المرتقب  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (أنشطة ثقافية) ‬

‫‪55‬‬

‫"فلسفة البناء الحضاري" بين يدي "مالك بن نبي" و"فتح اهلل كولن"  ‪ /‬طه كوزي (أنشطة ثقافية) ‬ ‫ اليعسوب‪ ..‬وتقنية طائرات الهيلوكبتر  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات علمية) ‬

‫‪60‬‬ ‫‪63‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫إكسير الدعاء‬

‫يوما ما‪ ،‬عند مواطن فكرية معينة ال تتجاوزها‪ ...‬فقد جعلت من‬ ‫لم تقف "حراء" ً‬

‫االنفتاح على الساحات الفكرية بتنوعها واختالف توجهاتها‪ ،‬قضية جوهرية معتمدة‬

‫عل���ى إرس���اء خطها الفك���ري والثقافي في العال���م‪ ،‬وهو دليل احت���رام المجلة لعقول‬

‫قرائها وتنوع ثقافاتهم واهتماماتهم‪ .‬فهذا العدد من "حراء"‪ ،‬يمثل خير تمثيل مصداق‬ ‫ما نقوله ونؤمن به؛ فهو طافح بقمم فكرية عالية المستوى‪ ،‬وامتدادات ثقافية في شتى‬

‫العدد‪34:‬‬ ‫السنة الثامنة‬ ‫(يناير ‪ -‬فبراير) ‪2013‬‬

‫ال ومضمو ًنا‪.‬‬ ‫االتجاهات تتنوع شك ً‬

‫فالمق���ال الرئي���س لـ"فت���ح اهلل كولن" ال���ذي يتحدث من خالله عن فلس���فة الدعاء‬

‫والتضرع إلى اهلل تعالى‪ ،‬إنما هو صرخة اس���تغاثة تنبئ عن العجز والفقر اإلنس���انيين‪،‬‬ ‫وعن افتقار األقالم واألفكار مهما بلغت من القوة والس���مو إلى االس���تمداد من قلم‬

‫وأش���ر موازين الع���دل والحق والخير‬ ‫القدرة األعظم الذي َّ‬ ‫خط س���طور الس���ماوات‪َّ ،‬‬

‫والجم���ال‪ ...‬فمهم���ا أبدع���ت هذه األقالم فإنها تظ���ل ترنو إلى قلم الق���درة المطلقة‪،‬‬ ‫وتستمد منه طاقات إبداع ما تسطره من فكر‪ ،‬و ُتنشئه من ثقافة وعلم‪.‬‬

‫أما "القول الثقيل" والمس���ؤولية العظمى التي أش���فقت األرض والسماء والجبال‬

‫وحم َلها اإلنس���ان‪ ،‬فإنها تتجلى واضحة من خ�ل�ال مقال "أحمد عبادي"‬ ‫حملها‬ ‫َ‬ ‫م���ن ْ‬ ‫ال"‪.‬‬ ‫الموسوم "إنا سنلقي عليك قو ً‬ ‫ال ثقي ً‬

‫وللنورسي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬نصيب في هذا العدد‪ ،‬حيث يكتب "إدريس مقبول" عن‬

‫"العقل المؤيد باإليمان عند النورسي" فيقول‪" :‬ولما تعددت مراتب الوجود وطبقاته‪،‬‬ ‫ش���يئا أمام ِع َظ ِم الوجود عامة"‪ ...‬إلى أن‬ ‫حتى كان الوجود الحس���ي أدناها‪ ،‬وال يمثل ً‬

‫يقول‪" :‬لقد أبان النورسي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬أن منهج التربية في القرآن كما يعلي من قيمة‬ ‫العق���ل‪ ...‬فإنه في مس���يس الحاجة إل���ى نفحة اإليمان لتحفظه م���ن المهالك وتجعله‬

‫على أقوم المسالك"‪.‬‬

‫و"الش���اهد البوشيخي" بقلمه العلمي الرصين‪ ،‬يكتب عن "فقه واقع األمة" فيقول‬

‫حفظ���ه اهلل‪" :‬أج���ل‪ ،‬إن مش���كلة المنه���ج هي مش���كلة ّأمتن���ا األولى‪ ،‬ولن يت���م إقالعنا‬

‫العلمي والحضاري إال بعد االهتداء في المنهج إلى التي هي أقوم"‪.‬‬

‫وفي األنش���طة الثقافي���ة التي أقامتها مجلة حراء في بل���دان مختلفة‪ ،‬نقرأ لـ"محمد‬

‫باباعم���ي" "مص���ر‪ ..‬ومصير األمة المرتق���ب‪ ،‬من جمال حمدان إل���ى فتح اهلل كولن"‪،‬‬ ‫كالم���ا لفت���ح اهلل كولن يقول فيه‪" :‬الش���رط األس���اس والس���بب الرئيس هو أن‬ ‫في���ورد ً‬ ‫ال تخل���و الس���احة من ش���جعان مالكي���ن إلرادة تجديدية تحتضن العص���ر مع الحفاظ‬ ‫عل���ى الجوه���ر اللب"‪ .‬ويجدر في خاتمة هذا االس���تعراض لمواد هذا العدد‪ ،‬أن ننوه‬ ‫للقراء‪.‬‬ ‫بالقصص والشعر في ثنايا هذا العدد وهو ما ّ‬ ‫يشكل واحة ممتعة ومريحة ّ‬


‫العدد‪ / 34 :‬السنة الثامنة ‪( /‬يناير ‪ -‬فرباير) ‪2013‬‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m‬‬

‫النور المحمدي‬ ‫بنور محمد ‪ ‬ت ْ‬ ‫أل َأل العالم وأضاء‪...‬‬ ‫أما صوته‪ ...‬فما من أذن وعته‪،‬‬ ‫إالَّ ودبَّ ْت في صاحبها الحياة‪...‬‬ ‫وها نحن اليوم‪،‬‬ ‫على عتبات الموت واقفون‪...‬‬ ‫لعل بعض أنفاسه ‪ ‬تَ َم ُّسنا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فتبعث فينا إرادة "اإلحياء" من جديد‪...‬‬ ‫***‬

‫الدعاء‬

‫"إنا سنلقي عليك قوال ثقيال"‬

‫مصر‪ ..‬ومصير األمة المرتقب‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.