34
طائر السعد َ حول قلوبنا يحوم، وفي آفاق أرواحنا يحلّق... أتُرانا نحلم؟ أم نتخيّل؟ ووهما... حلما ً ليكن ما نشعر به خياالً ،أو ً وعزما... فما أجدر أن نستمد من هذا الخيال قوًة وطاقة ،و ِه َّم ًة ً وإذا كان ماضينا قد واتته رياح السعد ،فعاش أعلى المثاليات... َم ْن قال َّ تهب نحو حاضرنا من جديد، إن هذه الريح لن َّ فَ فنسعد ،وآمالَنا نحقق؟! ***
تركيا 6 :لريات • أوروبا 3,5 :يورو • أمريكا 5 :دوالر • اململكة العربية السعودية 12 :ريال سعودي • اليمن 350 :ريال ميني • املغرب 20 :درهم • الجزائر 250 :دينار
طائر السعد
أ.د .فؤاد البنا •كتاب غاية في اإلمتاع... •قلم محب يجري في مسارب فكر... •سيرة وحياة ...ومجاري أقدار... •عبقرية فرد ...وعبقرية أمة... •إشراقات حكمة على أرض الخدمة...
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20226134402-5 :
الهاتف الجوال +201004871038 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
التصور العام
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
شروط النشر
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. تعب عن آراء ُكتَّاهبا ،وال رِّ • النصوص اليت تنشر يف اجمللة رِّ مجا إىل أي لغة أخرى، • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصلاً أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com
YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@hotmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 SYRIA GSM: +963 955 411 990
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن: Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
صاحب االمتياز
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
املشرف العام نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
مدير التحرير أجري أشيوك
املخرج الفين مراد عرباجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش الربامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20226134402-5 : اهلاتف اجلوال +201004871038 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة
رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
محطات علمية نور الدين صواش*
اليعسوب..
وتقنية طائرات الهيلوكبتر
أج���رى العلماء أبحا ًثا حول حش���رة "اليعس���وب" ،فاندهش���وا عندم���ا رأوها تتمتع بتصاميم مبهرة في جس���مها وجناحها ،وبتقنية عالية في طريقة طيرانها ...وجدوا أن ه���ذه الطائ���رة الحية تمتلك أنظمة طيران مذهلة ،ولديها حيوية كبيرة وس���رعة معين���ة ...إنها تقف في اله���واء ،وتطير نحو الخلف، فائق���ة ف���ي المناورة والطي���ران واتخاذ طريق ّ وتملك قدرة الهبوط والصعود العمودي ،وتتحلى بنظام رؤية خارقة. نعم ،حشرة اليعسوب تتحلى بزوجين من األجنحة الغشائية التي تتحرك باستقاللية تامة عن بعضها البعض ،األمر الذي ُي ِ نظام طيران مدهش .تطير حشرة اليعسوب بسرعة تصل إلى 50 كسبها َ كم في الساعة الواحدة .وقابلية المناورة لديها تفوق أحدث المروحيات المتطورة لدى اإلنسان، حيث تتمكن بواسطة هذه القابلية من التخلص بنفسها من الطيور والحيوانات األخرى بكل سهولة. جدا تغطي معظم رأسها ،وبين هذه العيون يوجد 30ألف عين هذه الحشرة لها عيون كبيرة ًّ ال عن أن هذه الحشرة تملك موهبة خارقة في رؤية الكائنات دقيقة كل منها ترى نقطة معينة ،فض ً الساكنة على ُبعد مترين ،ورؤية الكائنات المتحركة على ُب ٍ عد يعادل ثالثة أضعاف هذه المسافة. يمكنها من إبقاء رأسها موازيا سطح أيضا أمام عيونها بنظام ّ هذا وقد ُز ّودت حشرة اليعسوب ً ً س���تخدم في الطائرات ،لتحدي���د خط أفق اصطناعي تمام���ا مثل الـ"جراس���كوب" الذي ُي َ األرضً ، خط األفق الحقيق���ي ويحدد موقع الطائ���رة بعد المناورة وف ًقا لس���طح يع���رف الطي���ار من خالل���ه ّ ُ اليابسة وينجو من السقوط. تغير في موضع جسم اليعسوب ،فسرعان ما يتم تنبيه الشعيرات والالفت للنظر أنه إذا وقع ّ أي ّ الكائنة بين رأسها وجسمها؛ فتقوم الخاليا العصبية في جذور هذه الشعيرات ،بإرسال اإلنذارات إلى عضالت اليعسوب إلخبارها عن موضعها في الهواء ،عندها تقوم عضالت األجنحة ببرمجة أوتوماتيكيا ...وهذا يساعدها على التحكم بجسمها ،ويحفظ لها توازنها سرع ِة وعدد رفرفة األجنحة ًّ بحد ذاته أمر خارق في هندسة الطيران. ووجهة طيرانها حتى في أصعب المناورات ...وهذا النظام ّ قام العلماء بعد كل ما توصلوا إليه من اكتش���افات حول حش���رة اليعس���وب ،بتصميم مروحية تعد األولى في العالم ،محاولين بها محاكاة حشرة اليعسوب الصغيرة. "سيكورسكي" التي ّ (*) كاتب وباحث تركي.
63
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
إثرها أس���رى بنا األس���تاذ "مصطفى أوزجان" المستشار لمجلة
اهلل" ،وش��� ّفت َع َب���رات الدكت���ور "مدك���ور" خ�ل�ال حديثه ،عن
يس���تقيم إال بعجن طينة "إنسان جديد" ُيشرق بيديه فجر وليد؛
مح���ورا للدين والحضارة، باباعم���ي إلى س���ماء الخلق الحليم ً
مؤك���دا أن ُبنيانه ال ح���راء ،إل���ى مع���ارج "الفك���ر الحض���اري"، ً وف���ي هذا المس���لك الس���ديد يجتمع الش���يخ "عب���د الحميد بن
باديس" ،والش���يخ "محمد البش���ير اإلبراهيمي" ،واألستاذ "فتح
اهلل كول���ن" ...ول���م تنقض أنفاس الجلس���ة العلمية األولى قبل حية للدكتور عم���ار طالبي رئيس المجلس أن تفيض بش���هادة ّ
معب ًرا عن رفقة طيبة للمفكر مالك العلم���ي للجزائر العاصمةّ ،
ش���خصية العال���م األواه الحليم ...كما حملن���ا الدكتور محمد
في ورقة عنونها بـ"محورية األخالق في البناء الحضاري ،عند مالك بن ني وفتح اهلل كولن" ...وقد أمتع بدوره الدكتور "سمير
الحضور بودين���ار" م���ن جامع���ة "محمد الخام���س" بالمغ���رب َ بحديث���ه عن تقفي أثر الحكمة الحضارية ف���ي فكر الع َلمين... وتط���رق الدكت���ور "س���ليمان الدق���ور" إلى موض���وع "الصالت والعالق���ات" وأثرها في البناء الحضاري ،متحد ًثا عن محورية مواجهة "الجهل" ،و"الفقر" ،و"الفرقة" في فكر األستاذ "مالك
وفتح اهلل" ...وقد نقشت مداخلة األستاذ "رشيد َه ْيلماز" ذاكرة المؤتمرين حين أ ِلق بحديثه عن موقع الس���يرة النبوية في فكر األستاذ "فتح اهلل" ،وكيف أن "األستاذ" يؤكد على دراسة "فلسفة
الس���يرة" قصد اس���تنباط "القواعد الكلية" ف���ي البناء الحضاري ع���وض اإلخ�ل�اد إل���ى ق���راءة س���يرة "المصطف���ى" بمنه���ج
بن نبي -رحمه اهلل -في س���نوات خلت ،ترس���مت من خاللها فكرا ،الس���امي َجنا ًنا رغم تقاس���يم ومالمح ذاك الرجل المتقد ً انتكاسات الزمان والمكان ،وضعف اإلمكان. توال���ت الكلم���ات واألوراق البحثية خالل اليومين تترى، تس���يح في ملك���وت الفكر ،وتج���ول في س���لطنة القلوب ،من مقارب���ة مقارِ ن��� ٍة بي���ن األس���تاذ "مالك بن نب���ي" والمفك���ر "ابن خل���دون" للبروفيس���ور "ب���روس لورون���س" م���ن "الوالي���ات المتح���دة األمريكية" ...إث���ر هذه المداخل���ة تحدثت الدكتورة "فري���دة بلف���راق" من جامع���ة "الجزائ���ر" عن اله���م الحضاري والتوتر الذي صبغ فكر األستاذ "مالك بن نبي"... ورفل بالحضور الدكتور "عبد الحميد مدكور" من "مصر" حي���ن تحدث عن أثر العقيدة في فكر العا ِلـمين "ابن نبي وفتح السنة الثامنة -العدد (2013 )34
62
س���ردا ألحاديث ووقائع تاريخية متناثرة... وصفي ،واعتبارها ً ش���رف المؤتم���ر حض���ور ع���دد م���ن كب���ار العلم���اء وق���د ّ
والمرش���دين ،وحاملي ل���واء العلم والحلم ،م���ن أقطار ممتدة من المعمورة ،من "البوس���نة والهرس���ك" إلى "السودان" ،ومن
"نيجيريا" إلى "أربيل" العراق.
لق���د كان مؤتمر "فلس���فة البن���اء الحضاري" ،م���رآة تعكس في���ض المحب���ة في القلوب وتناغم العق���ول ،وي ِن ُّم -في الوقت نفسه -عن فجر جديد يلوح في األفق.
لق���د خ ّل���ف اختت���ام المؤتم���ر وحش���ة وغربة ف���ي األنفس
وسندسا بدوام روضا واأللباب ،إال أنها ستستحيل -ال ريبً - ً االزدياد المعرفي ،وتوجيه الطاقة ،وترشيد الفكر والفعل.
(*) كاتب وصحفي جزائري .إعداد المادة العلمية :هيئة التحرير بفيكوس.
د .سليمان الدقور
د .سليمان عشراتي
والذي استكشف بنظره الثاقب "هندسة الحضارة" ،و"تجليات ونظم ب ُل ّب���ه وعقله مقومات العم���ران في فك���ر فتح اهلل كولن"َ ، "االنبع���اث الحض���اري ف���ي فكر األس���تاذ فت���ح اهلل" ،فانتظمت كتابين َوليدين نش���رتهما "دار النيل" هاتان القراءتان الفكريتان َ في القاهرة ،فكان اللقاء فرصة للتعريف بالكاتب والمكتوب. وعز اإلس�ل�ام ،أطل األستاذ "فؤاد أس الحضارة ّ من " َتعز" ّ بث أش���جانه وحب���ه لوطنه الثاني البنا" إطاللة فكرية َس���نية ،إذ ّ آخذا الحضور في س���باحة معرفية ،ومالحة وجدانية الجزائرً ، في؛ عبقرية األستاذ فتح اهلل ..بين قوارب "الحكمة" وشواطئ
ندوة "سياحة معرفية في عالم األستاذ فتح اهلل كولن"
وفتن الحضور بحبه ولبه... "الخدم���ة" ،فأخذ األلباب بحلمهَ ،
أتب���ع الدكتور "محم���د باباعمي" المدير الع���ام لمعهد المناهج
قاصا حكاية كتابين ،وفكرتين، بالجزائ���ر هذه العبر والعبراتًّ : وجد لفجرٍ وليد ألمته، وآهتين ،وأنتين :أنة حب لوطنه ،وآهة ْ وفك���رة انبع���اث لجيله ،باح ًث���ا عن عصارة التري���اق ،وخالصة
د .عمار طالبي
د .طاهر حجار
معرفي في فكر األس���تاذ فتح اهلل كولن" ...فكانت "ندوة حراء
مواليد ،تعانق لكت ٍب َ " في الجزائر بذلك عقيق ًة معرفية دس���مة ُ
فيها العقل واإليمان ،والفكر والوجدان في سماء "الجزائر".
"فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح اهلل كولن"
متبصر أصيل فرشها عالمان صنوان ،ومفكران على مائدة فكر ّ
لكنهما معين القرآن تش���ربا، أخ���وان ،ل���م يلتقيا ولم يجتمع���اّ ، َ َّ ومن ج���ذوة الحبيب المصطفى اصط َلي���ا ،ومن فيض الحكمة غرف���ا ...إنهما عالمان غريبان ع���ن بعضهما موطنا الحضاري���ة ِ ً
ملتقى "فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح اهلل كولن
وجس���دا ،إال أنهما يمث�ل�ان في ذاكرة األم���ة ِ والح َرم، ً الح ْصن َ
والم ْعلم ،وفي ساح ترشيد وفي صرح البناء الحضاري الشامة َ الفكر والفعل الهامة والع َلم ...على هذه المائدة ِ فكهت أرواح وقلوب كانت عطشى ،وأفئدة لغد أفضل صارت ظمأى ،فكان لها محراب األس���تاذ "مالك بن نبي" وجذوة األس���تاذ "فتح اهلل
المعن���ى ف���ي طري���ق الحض���ارة والتمكي���ن .فانس���ابت المعاني رقراق���ة في ِقمط���ر أول عنوانه "البراديم كول���ن" ،وانجلت بعد
افتت���ح الدكت���ور "طاه���ر حج���ار" رئي���س جامع���ة الجزائ���ر
وخصائصه���م ف���ي كتاب���ه الثان���ي؛ "أرباب المس���توى ..حضور
ف���ي فهم فكر األس���تاذين "مالك بن نبي" و"فت���ح اهلل كولن"...
و"جن���د اإلدراك" وش���روطهم "أطب���اء المعنى" ُ ذل���ك أم���ارات ّ
كولن" "الصفا والمروة" والمروى.
المؤتمر بكلمة ترحيبية بضيوف "الجزائر"، معتبرا المؤتمر لبنة ً
61
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
أنشطة ثقافية طه كوزي*
"فلسفة البناء الحضاري" بين يدي "مالك بن نبي" و"فتح اهلل كولن"
س���طعت أن���وار البـــِش���ر بالجزائر المس���لمة ًّلبا وتاريخ���ا ،والعثمانية وروح���ا ،الثائ���رة ذاك���رة ً ً
وتلظت بذل���ك ندوة "ح���راء" الفكرية وأف���كاره به���ذه ال���روحّ ، ُ
بجذوة اإليمان الوازع ،والعلم النافع ،والعمل الرافع.
ن َف ًس���ا وعب ًق���ا ،فانبلج بها فجر ص���ادق بعد أن ندوة حراء بالجزائر :عقيقة فكرية وسياحة معرفية
ح���ل بها ثلة من أعالم اله���دى ،قادمين إليها من أفق ممتد من ّ
في قاعة "كوس���موس" برياض الفتح بالجزائر العاصمة أمسية
"ج���اوة" إلى "مراكش" ومن "طنج���ة" إلى "جاكرتا" ...حاملين
غصت القاعة بالحاضرين، "الثامن عش���ر" من نوفمبر ّ ،2012
يعبون بفيض علمهم وأحالمها ،بأش���واقهم القلبي���ة والروحية؛ ّ ِ والباحث ع���ن الحقيقة طال���ب العلم وطي���ب حلمهم، توجيها َ ً َ
مصطل من الحكم���ة والفطنة ،متعلمة ومتتلم���ذة :لنتاج فكري ٍ
ومن ّقبين عن قبس األستاذ "فتح اهلل" دارسين ومحللين ،مق ّلبين ُ
الحض���اري" عن���د "مالك بن نب���ي" و"فتح اهلل كول���ن" وأورا ُقه
مع الدكتور "س���ليمان عش���راتي" من جامعة وهران (الجزائر)،
إل���ى "الجزائ���ر" أفكارهم وإش���راقاتهم ،مش���اركين إياها آمالها
وتعليم���ا وترش���يدا ...فاصطبغ���ت أي���ام مؤتم���ر "فلس���فة البناء ً ً السنة الثامنة -العدد (2013 )34
60
الجموع في س���ماء الفكر وال���روح ،وألقت في أفالك ورفل���ت ُ
أسباب االنطالق ،وقواعد االنعتاق؛ فكانت سياحة فكرية ح َّقة
د .صالح سليمان
"القضية الكبرى ألمتنا :من اإلنسان األفق إلى المجتمع المثالي"
الوفي المرحوم عبد الوهاب المس���يري ،عليه شآبيب الرحمة. وجاء مدير "مجلة حراء" ،األس���تاذ ن���وزاد صواش ليحمل الناس في رحلة بالصور الموحية ،وبالتعليق اللطيف الخفيف، إل���ى مدارس "الخدمة" في تركيا وفي ش���تى بالد العالم .فكان ال للناس ق���رر ،وحم ً ُ عرض���ه مصادق���ة لما قيل ،وتصدي ًق���ا لما ِّ تردد، عل���ى التفكي���ر ِّ الجدي ف���ي اقتحام العقبة بال خ���وف وال ُّ ِ األمة بال مواربة وال ودفعهم إلى الثقة بالنفس َّ وبمقدرات هذه َّ المثال ،ال مخاتل���ة ...ومم���ا قاله" :إن مدارس الخدم���ة تصوغ َ لتس���تأثر به لنفسها ،ولكن لتعرضه على مصر وعلى باقي بالد ويطوروه ...فهي بذلك ويقوموه ِّ العالم والمسلمين ،لينظروا فيه ِّ س���تنفق مما رزقها اهلل من خبرة ومعرفة بس���خاء دون حدود... وقانون ثابت ضمن بليغ من معاني الخدمة، ٌ وهذا بعينه معنى ٌ القواني���ن والمقاصد التي س���طرها "فت���ح اهلل" بفكره ومهجته". ال على وبع���د الح���وار واألس���ئلة التي بلغ���ت المئ���ات ،دلي ً وتنبيها إلى المقام المنيف ،وعنوا ًنا على االهتمام الحصي���ف، ً بلدا الهم الملتهب بين ثنايا القلوب الضارعة ،المتع ِّلقة بمصر ً ِّ ودين���ا ...بعد هذا الحوار األمة حضارة ً وش���عبا ،وبمصير هذه َّ ً تبادل الطرفان الهدايا السخية وكلمات الشكر الندية. مري( )12يص ِّفق بأجنة سوداء ثم ما لبث سرب من طيور ال ُق ِّ ٌ مذهب ،ويعلن للعالمين ُبش���رى تعلُّق وبني���ة وبعضها ُّ ّ ج���وزي َّ وروح بروح؛ وأعج���ب لفر ٍد ِمن قل���ب بقل���ب ،وف���ؤا ٍد بف���ؤاد، ٍ ٍ السرب مكث مني غير بعيد ،وهو يتر َّنم بصوت عذب ال أزال أج���د رجع���ه في أذن���ي ...ويتغنى بآي ٍة م���ن آي الكريم الحكيم ف َب ْي َن ُق ُلوب ِِه ْم ين َ و َأ َّل َ تالياُ : ﴿ه َو ا َّل ِذي َأ َّي َدكَ ب َِن ْص ِر ِه َوبِا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ ً ِ ِ ِ َ َ َ هلل َل ْو أ ْن َف ْق َت َما في األ ْر ِ ض َجم ًيعا َما أ َّل ْف َت َب ْي َن ُق ُلوبِهِ ْم َو َلك َّن ا َ ف َبي َن ُهم ِإ َّن ُه َع ِز ٌ ِ َ يم﴾(األنفال.)63-62: يز َحك ٌ أ َّل َ ْ ْ (*) مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
الهوامش ()1
جم���ال حم���دان :ه���و أحد أبرز أع�ل�ام البحوث الجغرافي���ة والحضارية في كتابا ،و79 العالم ،ولد سنة ،1928وتوفي سنة ،1993وترك حوالي ً 29
بح ًث���ا ومق���االً ،وه���و رمز من رم���وز الفكر في مص���ر المعاصرة .أم���ا كتابه
"ش���خصية مصر ،دراس���ة في عبقرية المكان" ،فهو أش���هر كتاب عن تاريخ
مصر وعن عالقة اإلنس���ان بالحضارة؛ نش���ر عدة مرات في أربع مجلدات، وهو يتجاوز العرض المعلوماتي الوصفي التقليدي إلى التحليل الحضاري المستقبلي النماذيجي. ال لألس���تاذ فتح اهلل كولن ( )2ف���ي كت���اب "ونحن نقي���م صرح الروح" نطالع مقا ً بعنوان "القضية الكبرى لش���عبنا" ،منه استقينا عنوان الندوة التي أقيمت في مكتبة اإلسكندرية. ( )3حف���ل الحفل ثلة من العلماء ورجال السياس���ة ووجوه البلد؛ على رأس���هم مفتي الديار المصرية األس���تاذ الدكتور علي جمعة ،وكذا الس���ادة األفاضل األس���تاذ مصطفى أوزجان ،والدكت���ور عبد الحميد مدكور ...وغيرهم كثير اسما. اسما ً يضيق المقام من حصرهم ً
( )4مدرسة صالح الدين الدولية :هي أول مدرسة من مدارس الخدمة ُفتحت ف���ي مص���ر ،وذلك ع���ام .2009وهي اآلن م���ن الثالثة األوائ���ل في ترتيب
الخاص���ة في مصر ،موقعها في مدين���ة "مصر الجديدة"، الم���دارس الدولية َّ
وهي تحفة في الجودة والعمارة ،وآية في اإلتقان والجمال.
ٍ بغناء َأو غيره. وح :رفع صوته ( )5صدح ُ الرجل ،وهو َّ صداح َ وص ُد ٌ
()6 خاصة. الموضع الذي يقام فيه زمن الربِيع ّ الم ْر َبعَ : َ َّ ()7 الم ْنزِ ُل الذي َغ ِني به ْأه ُله ثم ظَ َع ُنوا. الم ْغ َنىَ : َ َ ( )8حفل الحفل ثلة من العلماء ورجال السياسة ووجوه البلد؛ على رأسهم مفتي
الديار المصرية األستاذ الدكتور علي جمعة وغيرهم من االسادة األفاضل.
(َ )9 وع ْز ُم َك عليه. ريمُ :م ْع َت َز ٌم؛ كامك َأ ْم ًرا َ والصريم ُة ْ َّ إح ُ أمر َص ٌ
كل ش���ي ٍء" ،أي يان ِّ ( )10من���ه حدي���ث نبينا محمد َ " :أعطاكَ ا ُ هلل التورا َة فيها ِت ْب ُ وإيضاحه. كش ُفه ْ ُ
()11 يد﴾(ق ،)22:أي فر ْأيك الحديد هو النافذ ،قال تعالىَ ﴿ :ف َب َص ُركَ ال َْي ْو َم َح ِد ٌ اليوم نافذ. ()12 مري :من أشهر الطيور في مصر ،وهي مضرب للمثل. ال ُق ّ
59
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
مصطفى أوزجان
د .محمد عبد اهلل الشرقاوي
خريتا ...فأشار ومرشدا أمينا، شاهدا صاد ًقا، الناصع، ً ً وناصحا ً ً ً
ٍ ومعامالت وحركي��� ًة ...أي في وخل ًقا، دين���ا وعقيد ًة ،وعب���ادة ُ ً
إلى أرض الواقع ،وهو َّيتس���م بأعل���ى معايير الجودة وااللتزام
مدي���ر معه���د المناه���ج وذك���ر الدكت���ور محم���د باباعم���ي ُ
الـمثل اإلس�ل�امية إلى أن مش���روع "فتح اهلل" اس���تطاع أن ُي ْنزل ُ
والتنظي���م ،ثم ع���رج إلى مدل���ول "التلطُّف" في فكر األس���تاذ، َّ وما له من آثار حميدة على اإليقاع وضبط المس���ير .من ذلك
نموذج منطل ُقه الفهم يس���تفزه ،فهو اآلخر وال أنه ال يس���تعدي َ ّ ٌ ومصبه اإلدراكُ البصير لحقيقة اإلنسان. الصواب لإلسالم، ُّ ثم كان الدور لألس���تاذ مصطفى أوزجان المستشار لمجلة حراء؛ ال���ذي عالج بذهنية الطبيب الح���اذق ،وبروح المجاهد والقاط���ع لما الواص���ل لم���ا أم���ر اهلل ب���ه أن يوص���ل، المجته���د ِ ِ
بحب���ل وثيق بين القل���ب والعقل، ليش���د أم���ر اهلل ب���ه أن ُيقطع؛ ٍ َّ وينذر من أن وليربط بميثاق غليظ بين العلم والعمل، ِّ وليحذر ُ النهضات والحضارات ال تبدأ من السياسة وال من االقتصاد... لكنها -كما هو مأثور عن رس���ول اهلل -تنطلق من "األغوار
الس���حيقة للقلوب" ،وتضمن النفاذ باعتماد "تأشيرة الوجدان" ال غير س���فيرا ورس���و ً ال ...ثم إنه تناول اإلس�ل�ام ك ًّ ال متكا ِم ً ً مش���تت ،وله���ذا كان النصر حلي َفه ف���ي ٍ أمد قصير، وال ق مم���ز َّ َّ ُ أي وبل���غ الدي���ن الحنيف على يديه الش���ريفتين آفا ًقا لم يبلغها ُّ ُ قبل ،ولن دين آخر ،ولم تحلم بها فلسف ٌة وال أيديولوجية من ُ تحلم بها من بعد.
ال. الدين حين يكون ُك ًّ ال ،ال حين يكون َك ًّ
يعرض بالجزائ���ر وباح���ث بأكاديمية البحوث في تركي���ا؛ وهو ِ ٌ
قصت���ه ف���ي تألي���ف كتابي���ن اثنين عن األس���تاذ "فت���ح اهلل" وعن َّ نموذج "الخدم���ة"" :البراديم كولن" ،و"أرباب المس���توى" من
مقاما سام ًقا األمة ً نشر دار النيل ،ذكر أن لـ"مصر" في جغرافية َّ
ومكا ًنا رائ ًقا ،فهي بمثابة القلب من الجس���د ،فإن تسارع إيقاع قدر األمة من عقالها ،وإن تباطأ أو خ ُفت -ال َّ نبضها نش���طت َّ
عفريت الكس���ل والخمول األمة قاطب ًة ُ اهللَّ - دب عل���ى أطراف َّ ِ س���ؤال األزمة ،الذي بس���ببه المحاضر والتخلف ...ثم عرض َ
ال ،وهو: كانت "الخدمة" نموذجا بدي ً ً
يتحول إلى واقع ،ولماذا واقعنا ال يضرب فكرنا ال َّ "لماذا ُ ِ نفس���ر كون فكر "فت���ح اهلل" يغمر بس���بب ف���ي فكرنا؟ ث���م كيف ّ مؤسسات المجتمع ويصير حقيقة وعيا ًنا؟ وبماذا نعلل ارتباط ّ ومش���اريع "الخدم���ة" بالفك���ر ،وانطالقه���ا من أرضي���ة اإليمان واإلتق���ان واإلحس���ان ،تح���ت مظ َّل���ة العقل والقلب والش���عور
والفيوضات والوجدان؟".
فكان���ت محاولة الجواب عن س���ؤال األزم���ة ِمن قبل "فتح تحو ٍل في "البراديم/النموذج"، اهلل" ومشروع "الخدمة" ،بمثابة ُّ
ولق���د ابتلي���ت البش���رية لق���رون ثالث���ة متوالية -كما أش���ار
تشكلت على صورة "النموذج البديل" وهو بديل ثم مع الوقت َّ
والمادي���ة والعنصري���ة والنفعي���ة والوضعي���ة ...كلُّه���ا َح َلب���ت
هذا بتا ًتا أنه نموذج ناقم أو منتقم من التجارب األخرى ،وإنما
األس���تاذ مصطف���ى -بنزعات ون���زوات ،مثل األناني���ة والفردية
وورث���ت البش���رية حربي���ن عالميتين ُقتل للعا َل���م ًّ س���ما زعا ًف���اَّ ، عد له وال حصر .ولذلك، فيهما مئات الماليين، وش���رد ما ال َّ ِّ
تقف اإلنس���انية اليوم على مفت���رق الطرق ،وتبحث عن المنقذ النصوح والمرشد الصدوح ،وسوف لن تجده إال في اإلسالم السنة الثامنة -العدد (2013 )34
58
عن "النموذج المهيمن" بمختلف أش���كاله وألوانه ...وال يعني
نموذج يعترف أنه مرحلة في حلقة ،ولبنة في صرح ،وذرة هو ٌ في شمس ...و"الخدمة" بهذا ،تؤمن بالتراكم ال باإلقصاء؛ فهذه
وأدق صورة من أكبر خاصية من خصائصها الفكرية والحركية، ُّ
ص���ور "نماذجها اإلدراكية التفس���يرية الكامنة" بتعبير ابن مصر
حدود وال قيود ،وسأاله عن "التفاؤل والتشاؤم" ،وعن "المرحلة
ولم تغب عن الحفل الجهات الرسمية الوطنية والمحلية،
األمة أوان فجرها الصادق ،وحين نهضتها المنشودة ...فما كان َّ
عل���ى التربي���ة والتعليم في مصر بنوعيه الخ���اص والعام؛ كلُّهم
وال���د ْور" ،وع���ن "المنطلق والغاية" ...س���أاله عن كل ما يعني َّ من "فتح اهلل" إال أن أجاب ببيان ،وكشف بتبيان )10(،ومما قاله: األم���ة إل���ى األم���ام أو تراجعه���ا إل���ى ال���وراء "إن ُّ تق���دم َّ مرتب���ط بالتربية والروح والش���عور الذي تتش���ربه وانحطاطه���ا، ٌ َّ دوما أمام األمم التي ِ تع ُّد أجيالها الشابة .فطريق ُّ التقدم مفتوح ً
وبخاص���ة ممثلو وزارة التربي���ة ،واإلدارات المحلية المش���رفة
ملحا: وقلبا ش���اكرا ،وأم ً ال مش���ر ًقا ،ودع���اء ًّ ذاكراً ، ً كان لس���ا ًنا ً يمكن لهذه أن يحف���ظ اهلل مصر وس���ائر ب�ل�اد المس���لمين ،وأن ِّ بخاصة ما التجربة المحيِية من االنتشار في سائر المحافظات، َّ كان منها في الجنوب.
ش���بابها إعدادا ً ً جيداَّ .أما األمم التي تهمل شبابها ،فال تستطيع القضية الكبرى ألمتنا :ندوة في مكتبة اإلسكندرية أن تخطو خطوة واحدة إلى األمام".
مكتوبا على الفتة في المدخل الرئيس لمكتبة اإلسكندرية نقرأ ً
فهل يا شباب محمد ،ويا أمل الغد السعيد ...هل أنت مستعد متح ِّفز متو ِّفز؟! ذاك ما يثبته مستقبل األيام أو ينفيه ،وال ٌّ
عريضة" :ندوات حراء ،اإلسكندرية" ،ثم يجذبنا عنوان الندوة ألمتنا :من اإلنس���ان األفق إلى ٍّ بخط عريض" :القضية الكبرى ّ
فتح مدرسة "صالح الدين" في "بني سويف"
مهيب���ا ،اس���تغرقت فعاليا ُته أزيد من ثالث س���اعات والح���دث ً
ثبتا. نخاله بحول اهلل إال ُم ً
ج���اء ال���دور الحض���اري العبق���ري الذي يرتس���م عالم��� ًة فارق ًة س���جلة عل���ى جبي���ن "الخدم���ة" ،ف���ي أكثر م���ن مائة ومارك��� ًة ُم َّ
بليغا، المجتمع المثالي" .ولقد كان الحضور كثي ًفا ،واالهتمام ً بإدارة وفية من قبل األس���تاذ الدكتور صالح س���ليمان مستشار
مدي���ر المكتبة ،الذي أرش���د ونب���ه وقال فيما ق���ال" :لقد قرأت جمي���ع م���ا وصل بي���ن يدي من كتب األس���تاذ فت���ح اهلل كولن،
حصن فتح ٍ وس���تين دول���ة من دول الش���مال والجنوب ...إنـ���ه ُ للتربي���ة جديد ،وإع�ل�ان معقل للخير حديد )11(.هي "مدرس���ة
متين���ا للغد المرتقب". فألفيته���ا عالمة في الحضارة، وأساس���ا ً ً
لـ"ص�ل�اح الدين" األولى ف���ي القاهرة ...ولق���د تناقلت الوفود
اإلصالح���ي ف���ي كل مناحي الحي���اة ،من العل���م والمعرفة إلى
تتمة ص�ل�اح الدين" الثانية في محافظة "بني س���ويف" ،جاءت َّ
له���ن :في س���وهاج ،وماريوتي، ُبش���رى اقت���راب بزوغ أخوات َّ واإلسكندرية ...وغيرها.
ثم أشار إلى أن "مكتبة اإلسكندرية تأخذ على عاتقها الجانب الثقاف���ة المس���ؤولة وبن���اء اإلنس���ان ،م���ن خالل ع���دد كبير من
خاص على الشباب". البرامج والمشروعات ،وبالتركيز بشكل ٍّ
الحفل البهيج ،مفت���ي الديار المصرية وم���رة أخرى حض���ر َ َّ الم���ة عل���ي جمع���ة ،وألق���ى كلمة مما ج���اء فيه���ا" :إن هذه الع َّ س���يمتد بحول اهلل نحو اآلفاق... المدرس���ة بؤرة جديدة لنورٍ ، ُّ
ث���م إن الدكت���ور محم���د عب���د اهلل الش���رقاوي رئيس قس���م
اهلل -س���تكون عش���ر ًة ،بل عش���رين ...وما ذلك على اهلل بعزيز،
وفضل أن يضع التحليل المنبر في القاعة الكبرى من المكتبةَّ ،
فهي اليوم واحد ٌة ،ثم اثنتان ...وهي بعد أمد قريب -بعون من همة الرجـال بمستحيل". وال على َّ
وف���ي هذا اإلطار تأتي هذه الندوة ،وبه���ذا النفس ُتعقد اآلمال
في تجربة "فتح اهلل كولن" الرائدة.
هز عتبات الفلسفة اإلسالمية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرةَّ ، جانبا ،ليلوذ بالتعبي���ر الوجداني الب َّلوري الفلس���في المدرس���ي ً َّ َّ
57
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
نوزاد صواش -د .محمد باباعمي
ندوة "أجيال األمل والفجر الجديد :محاورة صادقة مع األستاذ فتح اهلل كولن"
ُعس���ر المهمة وصعوبته���ا ،ثم هو يؤكد عل���ى وجوب اإليمان حفل تكريم األستاذ الدكتور محمد عمارة َّ
أجرا: واليقي���ن ف���ي تحقي���ق ُنصرته���ا ،ويق���ول ال أضاع اهلل ل���ه ً "ولي���س المقص���ود من ه���ذا الق���ول أ َّنن���ا عاجزون ع���ن انتزاع اللوثي���ات الالصقة بأرواحن���ا في القرون األخي���رة ،بل اإلفاد َة بأن بلوغ ِّبر األمان كأمة من عس���ير غاي َة العس���ر ما لم نتخ َّلص َّ ٌ أس���باب ودواعي انهيارنا وانحاللن���ا الحقيقية ،مثل :الحرص، والكس���ل ،وطلب الشهرة ،وشهوة الس���لطة ،واألنانية ،والميل َ
إلى الدنيا... نتوجه ِ وغيرها من األحاسيس والمشاعر ،وما لم َّ ع���د جوه���ر اإلس�ل�ام وحقيقته كاالس���تغناء، إل���ى الح���ق بم���ا ُي ُّ
والجسارة ،ونكران الذات ،واالهتمام ب َِه ّم اآلخر ،والروحانية، تتم تصفيتنا بمش���اعر الحق ثم نصب في َّ والرباني���ة ...وما ل���م َّ
لكن العسر الشديد ال يعني المحال". قالبهّ ...
وجه إليه حمدان، فما هو الشرط وما هو السبب لتحقيق ما َّ
بش���ر به فتح اهلل؟ الش���رط األس���اس والس���بب الرئيس ،هو وما َّ ُ أن "ال تخل���و الس���احة ِمن ش���جعان ،مالكي���ن إلرادة تجديدية َ تحتض���ن العص���ر ،م���ع الحف���اظ عل���ى الجوه���ر والل���ب" .وما ّ ه���ي الصبغة األمث���ل ،والصوت األفصح، القمي���ن بهذا التغيير ُ المرتقب ،والفجر المنتظر؟
فف���ي القاه���رة ،عن���د الحرم المبارك لمدرس���ة "ص�ل�اح الدين"
ويوم سعيد؛ كرمت عرس بديع، الرائدة )4(،كان لـ"مجلة حراء" ٌ ٌ َّ كبيرا على صفحات ال ،وعا ِلما ال جب ً في���ه رج ً ً ش���هما ،وعنوا ًن���ا ً العق���ل رج�ل�ا جم���ع إل���ى العل���م الرصي���ن األم���ة الناصع���ة... ً َ َّ الخلق الحميد ،ثم إنـه الحصيف ،وأضاف إلى الفهم الس���ديد َ شد القلوب إليه قبل العقول ،ولقد كان -وا ِ رشدا هلل -للعقول ُم ً َّ صدوحا. وللحق داعية نصوحا، ِّ ً ً
()5
المتف���رغ إنـ���ه األس���تاذ المفك���ر الدكت���ور محم���د عم���ارة، ِّ
للتفكير والتأليف لعدة سنوات ،الناشر لما يقرب من ثالثمائة ٍ "وليد عنوان في مختلف الفنون ...كلُّ عنوان -حسب تعبيره- ٌ "مولود سعيد". جديد" ،وكلُّ كتاب ٌ
مناسب للسياق َّأما مناس���بة التكريم ،فهي صدور كتاب له ٍ
متناغم مع الواقع والمأمول ،يكفي أن يكون عنوانه: والظرف، ٍ منشورا بعناية، "روح الحضارة اإلسالمية" ،ثم يكفي أن يكون ً
ال في مجلة حراء لس���نوات متوالي���ة متتالية ،وها هو ال مقا ً مق���ا ً
()6 ومغنى. مرب ًعا َ اليوم يكتمل مبنى ومعنى ،ويهلُّ على الناس َ
()7
غير منقوص ال ري���ب أن هذا التج���دد وذلكم التغيير ،البد أن يكون "ذا وللشباب ٌ نصيب ُ
أبعاد قرآنية ،وسجايا فطرية" ،ال يكفر باألولى مهما ُف ِتن ،وال امتحن. َّ يتنكر للثانية مهما ُ
()3
()8
عل���ى جان���ب الحدث الكبي���ر وف���ي ذات القاعة البديع���ة ُقبيل ٍ ِ وجامعات مصر العديدة، ساعات ،كان لطلبة األزهر الشريف
به���ذه المعاني حطت الوضاءَّ ، الصداحة ،وألجل هذا الغد َّ َّ
لقاء حميم من شتى بالد العالم اإلسالمي الفسيح ...كان لهم ٌ
تن َّقلت خاللها ما بين القاهرة واإلس���كندرية ،وزارت محافظة
األس���تاذ نوزاد ص���واش ،وقد اختير له عنوا ًن���ا" :أجيال األمل،
"ح���راء المعن���ى" رحا َلها ألي���ام معدودات ،عل���ى أرض مصر، ُ
"بن���ي س���ويف" على إثرهما ،ذل���ك أن مفه���وم "المنطقة النائية المعزول���ة" قد ُنس���خ من قاموس "الخدم���ة" منذ أمد بعيد ...إذ
قريب وال َغرو... بعيد والبد ...وكلُّ خير شر ٌ ٌ كلُّ ٍّ السنة الثامنة -العدد (2013 )34
56
وح���وار صري���م؛ أداره الدكت���ور محمد باباعمي بتنش���يط من ()9
والفجر الجديد :محاورة صادقة مع األستاذ فتح اهلل كولن".
كان فح���وى ه���ذه المداخلة المفتوح���ة أن "صالح الدين"
الرمز ،و"صالح الدين" الجيل ،حاورا األستاذ فتح اهلل كولن بال
أنشطة ثقافية
د .محمد باباعمي*
حفل تكريم األستاذ الدكتور محمد عمارة
مصر ..ومصير األمة المرتقب من جمال حمدان إلى فتح اهلل كولن األول هم���ا َع ْق���دان من الزم���ان ،ما بين وف���اة َّ
ذمة" :إن ما تحتاجه ً ومبتدءا يلحقه الخبر ،فقال ال خفر اهلل له َّ
"حمدان" لم يمت ،وإنما غادر المكان بجسده
والـمثل تغيير ثانيا ،أي أو ً ٌّ َّ جذري في العقلية ُ ال ،وعلى نفسيتها ً ٌ
رأي لك���ن روحه اليوم ُترفرف على س���فوح الني���ل ،وإ َّنا لنراها َ َ عين اليقين. العين ونتم َّلى جمالها وجاللها َ
ومصيره���ا ...ثور ٌة في الش���خصية المصرية ،وعلى الش���خصية
والح���ق أن ش���اهدا؛ ش���هيدا ،وزي���ارة الثان���ي ُّ ً ً
لي���س إال ،والتحقيق أن "فت���ح اهلل" لم يطأ أرض مصر برجليه،
ولق���د كت���ب "جم���ال حمدان" في "ش���خصية مص���ر" وعن
ُّ يخ���ط كلمات���ه اآلن والس���اع َة ،ال "ش���خصية مص���ر" )1(،لكأ َّن���ه
المتن، لألم���ة يعقبه لـ"مص���ر البلد" وح���ده ،بل ُ لـ"مصر" عنوا ًنا َّ َ َ
أساس���ا إنما هو ث���ور ٌة نفس���ي ٌة ،بمعنى ثورة على نفس���ها مص���ر ً ُ أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها وأيديولوجي���ة الحياة ،قبل ِّ المصري���ة ...ذلك هو الش���رط المس���بق لتغيير ش���خصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر".
ث���م إن "فت���ح اهلل كول���ن" وه���و يعال���ج "القضي���ة الكب���رى
ألمتن���ا"( )2معالج َة الطبي���ب الماهر الفطن ،يحرص على إظهار َّ
55
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
ومن أش���هر التلسكوبات الفضائية ،تلسكوب "هابل" الذي
بقطر 100م ،وبالتالي يكون من الممكن تصوير كواكب شبيهة
1990م بواسطة المكوك الفضائي دسكفري األمريكي ،ويبلغ
أكث���ر ،ودراس���ة غالفه���ا الجوي للكش���ف عن إمكاني���ة وجود
ينس���ب إل���ى العال���م الفلك���ي "أدوين هاب���ل" .أطلق ف���ي أبريل
طول���ه 15.9م ،عرض قطر مرآت���ه 4.2م ،ووزنه 11.110كغ،
باألرض خارج المجموعة الشمس���ية تبعد 75س���نة ضوئية أو الحياة عليها .وهذا التلس���كوب سيس���اعد في اكتش���اف نجوم
قريبا ترميم والعم���ر االفتراض���ي ل���ه ً 20 عاما ،وق���د أجري ل���ه ً
تبع���د أكثر من 12بليون س���نة ضوئي���ة ،ومراقبة والدة مجرات
بطاق���ة مقداره���ا 2400واطُ ،يت���م دورة كامل���ة ح���ول األرض
أبواب للمعرفة عندما يتحقق هذا الحلم.
بواسطة المكوك األميركي أتالنتيس ،ويعمل بالطاقة الشمسية
تبعد حوالي 10باليين س���نة ضوئية .وكم س���تفتح للبشرية من
في 97دقيقة ،وس���رعته 28000كم في الس���اعة ،ويدور على ألسالفنـا دور ارتف���اع 569ك���م ف���وق س���طح األرض ،ينتج م���ن 10إلى 15
غيغ���ا باي���ت من الصور والبيانات العلمي���ة كل يوم ،وقد التقط
���حب ضخم���ة من الغاز لس ُ أكث���ر م���ن 700ألف صورة خالبة ُ المض���يء ومجموع���ة متنوع���ة من المج���رات واألجس���ام غير
المألوف���ة ،ول���والدة النجوم وموتها .وق���د كان له أثر كبير على أفكارنا ونظرتنا إلى الكون ،خاصة بعد اكتش���اف "هابل" -بعد مراقبته للمجرات قرابة نصف قرن -تم اكتشاف أن المجرات تتباعد عن بعضها البعض ،وهذا ما يعني أن الكون في تمدد.
وإثبات تمدد الكون ليس باألمر السهل ،ولكن مع األيام تبنى ُ جزءا من الحقائق أكثر العلماء هذا االكتش���اف ،وأصب���ح اآلن ً
العلمية .وهذا الكش���ف أدى إلى تبين نظرية االنفجار العظيم،
التي يعكف علماء العصر الحديث على دراس���تها .وكل ذلك أدى إلى تغير النظرة إلى الكون من كون ساكن أبدي إلى كون
ب���دأ خلق���ه من زمن بعي���د .وهذا ما أخبرنا ب���ه اهلل في قوله اها ِب َأ ْي ٍد َو ِإ َّنا َلم ِ ون﴾(الذاريات.)47: وس ُع َ الس َم َاء َب َن ْي َن َ تعالىَ : ُ ﴿و َّ وهناك تلس���كوبات أخرى أطلقتها كل من روسيا وأوروبا الن" العمالق، ال بناء تلسكوب "ماجـ ِ ّ واليابان ،كما سيتم مستقب ً وهو تلس���كوب أرضي س���وف يتم االنتهاء من إنش���ائه في عام 2018م .وه���و يتكون من س���بع قطاعات رئيس���ية بقطر 8.4م
(27.6ق) بدقة تصوير مرآة رئيسية قطرها 24.5م (80.4ق)، وإجمالي مس���احة س���طحها 21.4م ( 70.2ق) .ومن المتوقع
أن تصل قدرة التلسكوب الجديد ،أربع أضعاف التلسكوبات حاليا ،يعمل على إعداد القائمة ًّ حاليا .وفي وكالة الفضاء ناسا ًّ وتجهيز منظ���ار "جيمس ويب" الفضائي العمالق إلطالقه في
2013م ،ليج���ري متابع���ة واختب���ارات للك���ون المحيط بنا من
وراء القمر.
وم���ع تقدم العلم ،راح يحلم كل فلكي بتكوين تلس���كوب السنة الثامنة -العدد (2013 )34
54
نموا في الحضارة اإلسالمية وباألخص ش���هد العصر العباسي ًّ تط���ور عل���م الفل���ك .فإب���ان ه���ذا العص���ر ،تم إنش���اء ع���دد من
المراصد األرضية في دمشق ومصر وسمرقند ،كما طور علماء المس���لمين أداة "األس���طرالب"؛ وه���ي آلة دقيق���ة تصور عليها حركة النجوم في الس���ماء حول القطب الس���ماوي .وتستخدم ه���ذه اآلل���ة لحل مش���كالت فلكية عدي���دة ،كما تس���تخدم في
المالح���ة وف���ي مج���االت المس���احة .وتس���تخدم -إضافة إلى
ونهارا .وق���د اهتم بها لي�ل�ا ذل���ك -ف���ي تحديد الوق���ت بدقةً ، ً كبيرا ،واس���تخدموها ف���ي تحديد مواقيت المس���لمون ً اهتماما ً الصالة ،كما استخدموها في تحديد مواعيد فصول السنة.
ووجه األس���طرالب يحتوي على خريطة القبة الس���ماوية،
كم���ا يحت���وي على أداة تش���ير إل���ى الج���زء المنظور م���ن القبة
الس���ماوية في وقت معين .وقد رس���مت القب���ة المنظورة على وج���ه األس���طرالب المس���طح بطريق���ة حس���ابية دقيق���ة ،وه���ي الطريقة ذاتها التي اس���تخدمت في رس���م خريطة العالم (الكرة
األرضية) على مس���احة مسطحة .وهذه الطريقة تسمح بتحول
الدوائر من أش���كال ُكروية إلى أش���كال مسطحة دون أي تغيير للقيمة الحقيقية للزاوية ،التي ترس���م بين خطين على الش���كل الك���روي .وقد اش���تهر بصناعة األس���طرالبات ،علماء فلكيون
كثي���رون ،منه���م :حام���د ب���ن محم���د األصفهان���ي ،وأحمد بن حسين بن باسو ،وأبو حامد أحمد بن محمد الصاغاني .وكل م���ا ت���م ذكره ي���دل على أن عل���م الفلك ،تمتع بمكان���ة مرموقة
بي���ن العلوم األخرى ،وح���از اهتمام اإلنس���ان -وما يزال -في مختلف العصور واألزمان بشكل كبير.
(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل /السودان.
التلسكوبات
عيون على السماء
إن ع���ام 2009م ،س���نة فلكية تعيد لنا ذكرى 400س���نة من���ذ أن وجه "جاليليو" منظاره
إل���ى الس���ماء ،والت���ي أحدثت ثورة علمية ف���ي الفلك ال نزال نعي���ش آثارها حتى يومنا
ه���ذا .فقد عرف اإلنس���ان منذ القدم -بحب���ه لمعرفة ما حوله رغم اختالف الدوافع في
ذلك -دافع المعرفة وتسخيرها لخدمة البشرية ،أو دوافع حب جمال األجرام السماوية في قبة السماء.
ولكن "جاليليو" أحد مؤسس���ي علم الفلك الحديث والذي أهدى إلى البش���رية ما يتس���ع للخيال،
كان أسير اإلقامة الجبرية في منزله لمعارضته أفكار الكنيسة وقتذاك؛ في أن الشمس هي مركز الكون ولي���س األرض ،وأن األرض ت���دور ح���ول الش���مس ،وهذا قب���ل أن يصاب -بعد ذل���ك -بالعمى رغم
أنه أول من ش���اهد الجبال والفوهات على س���طح القمر ،وأول من اكتش���ف أربعة من أقمار المش���تري
وعددا من النجوم التي ال ترى بالعين المجردة .وقد قال "جاليليو" واص ًفا حالته تلك" :إن هذا الكون ً وهذه األرض وهذه السماء التي كبرت أبعادها مئات ألوف المرات ،أكثر مما اعتقده حكماء العصور
مقصورا -بالنس���بة لي -على الفضاء الس���ابقة ،بفضل اكتش���افاتي العجيبة وبراهيني الواضحة ،قد بات ً الصغير الذي تملؤه حواسي الجسيمة".
ولد جاليليو في "بيزا" اإليطالية عام 1564م ،قام خالل حياته بأعمال علميه قيمة حتى وفاته عام 1682م.
ومن هذه االنطالقة بدأ تس���ابق العلماء في اكتش���اف الطرق التي يس���تطيعون من خاللها سبر أغوار
الك���ون ،فتع���ددت أس���اليب الرصد وطرق استكش���اف الفض���اء؛ فهناك المراص���د المرئي���ة والراديوية،
والمراص���د باألش���عة المتعددة في الطيف الكهرومغناطيس���ي ،باإلضافة إل���ى مراصد فضائية تنطلق في
الفضاء الخارجي الستكشاف األجرام الدقيقة في الفضاء الفسيح.
التلسكوبات الفلكية
ج���اءت الحاج���ة إلى التلس���كوبات ،لتلبي رغبة اإلنس���ان في تطلعه للكمال واكتش���اف أس���رار الكون. فمن المعلوم أنه ال يمكن لقزحية العين أن تتسع أكثر من 8مم ،وبالتالي ال يستطيع اإلنسان أن يرى
األجرام الس���ماوية البعيدة أو يرى بعضها بضوء خافت ،لذلك تتطلب التلس���كوبات الفلكية أن تكون ذات قدرة عالية لتجميع الضوء ،ومن ثم أن تكون بأقطار كبيرة .فالتلسكوب الذي قطر مرآته 78مم،
قدرا من الضوء يزيد 100مرة عن القدر الذي تس���تطيع العين البش���رية أن تجمعه. يس���تطيع أن يجمع ً
وبالتالي يستطيع هذا التلسكوب أن يقوم برصد النجوم التي يقل ضوؤها 100مرة عن ضوء أضعف
النج���وم والت���ي يمك���ن أن تراها العين البش���رية .ويبلغ قطر التلس���كوب الموجود ف���ي "مونت بالومار"
بوالية كاليفورنيا األمريكية خمس���ة أمتار ،ويس���تطيع هذا التلس���كوب تجميع ما يزيد على عدة ماليين من المرات على ما تستطيع العين البشرية تجميعه.
وقد تم تصنيف التلسكوبات إلى نوعين وف ًقا لطريقة تجميعها للضوء الصادر من األجرام السماوية؛
شيوعا اآلن ،والتلسكوب االنكساري صاحب فتم تصنيفها إلى التلسكوب العاكس وهو النوع األكثر ً التكلفة العالية ،كما هناك تلسكوبات أرضية وأخرى فضائية.
53
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
علوم
محمد هاشم البشير*
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
52
شعر
ليلى السبيعي*
جمال الفكر جمال الفكر لدينا يسمو بالروح حينا، ونقاء القلب في طهر من نور اهلل فينا... نحن اللذينا، آمنا برب العالمينا، والتقينا على درب الهدى ننثر الخير والتقى، وبرا، ننثر ً صالحا ّ وبشرا ورياحينا، ً من نور اهلل فينا... يشرق القلب يقينا، فتسمو الحياة، ويحلو الثبات، على هدى خير المرسلين... نحن الهدى، خط مساره فينا...
وقلنا للدنيا الدنية، بمفاتنها وهواها: نحن جيل يوسف شباب استعصم بالصالح عرفنا، غرفنا من التقوى حتى ما عاد للشيطان نصيب فينا... نمأل األرض إيمانًا، نملؤها يقينًا، نحب في اهلل فالحب شيمة كل المسلمينا... منكرا، ال نرتضي ً وال نحمل ضغينًا، نكد ونعمل في جهد واجتهاد، ونحن موقنينا أن اهلل هو خير الرازقينا... (*) كاتبة وأديبة مغربية.
51
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
خاتمة في المقترحات
خدمة لما نحن فيه ،سبعة: وأحسب أن أهمها ْ يخ���زن فيه كل ما -1إنش���اء "بنك األم���ة" للمعلومات، ّ بعض���ا ،ف���ي الداخ���ل والخ���ارج ،ذا ًتا يتعل���ق باألم���ة ُك ًّ ال أو ً ال. وظر ًفا ومجا ً -2إنشاء "مركز األمة" للتوثيق ،يخصص لجمع الوثائق ال. عن األمة وتصنيفها وتيسيرها للباحثين ،ذا ًتا وظر ًفا ومجا ً -3إنش���اء "مكت���ب األم���ة" للتنس���يق ،يخص���ص لرب���ط أف���رادا العالق���ات بي���ن الباحثي���ن والمهتمي���ن بواق���ع األم���ة ً ومؤسس���ات ،وتنس���يق جهودهم ،ودفعهم إلى التكامل فيما بينهم في خططهم ومشاريعهم وإنجازاتهم. -4إنش���اء "مجم���ع األمة" الفقهي ،يخص���ص للنظر في "فقه واقع األمة" ،وما يلزم للتمكن منه واالنتفاع به. ويكون ّ من أئمة األمة في فقه الدين وفقه الواقع وفقه التنزيل. -5إنش���اء مجل���ة "لس���ان األم���ة" ،تخص���ص للبح���وث العلمية المنهجية المتخصصة في فقه واقع األمة. -6إنش���اء "دار األمة" ،تخصص لنش���ر البحوث القيمة المتعلقة بفقه واقع األمة. -7إنش���اء "جائزة األم���ة" ،تخصص ألكثر الناس خدمة نفعا في فقه واقع األمة. لألمة ،وأكثر البحوث ً (*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) /المغرب.
المراجع
( )1مف���ردات ألف���اظ الق���رآن ،للراغ���ب األصفهاني ،تحقيق صف���وان عدنان داوودي ،ط1412 ،1هـ1992 -م ،دار القلم ،دمش���ق ،والدار الس���امية، بيروت. ( )2تفسير المنار ،لمحمد رشيد رضا ،ط1999 ،1م ،منشورات دار الكتب العلمية ،بيروت. ( )3نحو منهج لدراسة مفاهيم األلفاظ القرآنية ،بحث قدم في ندوة "القرآن المجي���د وخطاب���ه العالمي" ،كلية اآلداب بأكادي���ر بالمغرب ،بتعاون مع المعه���د العالم���ي للفكر اإلس�ل�امي ،ف���ي تاري���خ 1418/1/19-14هـ، الموافق 1997/5/26-21م. ( )4البح���ث العلم���ي ف���ي الت���راث ومعضل���ة الن���ص ،عرض ألقي ف���ي ندوة "تحقي���ق الت���راث المغربي األندلس���ي :حصيلة وآف���اق" ،المنظمة بكلية تكريما لألستاذ محمد بن شريفة ،في تاريخ 11-10-9 اآلداب بوجدة ً نوفمبر .1995 ( )5نظرات في المصطلح والمنهج للشاهد البوشيخي ،ط ،2002 ،1فاس. ( )6مش���كلة المنه���ج في دراس���ة مصطلح النقد العرب���ي القديم ،ضمن ندوة "المصطلح النقدي وعالقته بمختلف العلوم". السنة الثامنة -العدد (2013 )34
50
بشائر عالم جديد َ�ن َق َف الولي ُد ِقشر الوجود، وجناحيه على ُّ الدنيا نشر، َ ال وارتفع... ثُ َّم ع َ ِّ بشرى نب ٍّـي، مصدقًا َ وصالح وولِ ّي.. ٍ ***
كثيرا م���ن األموال واألوقات والطاقات العناي���ة والرعاية ،وأن ً
المقدمات ،فإن المنهجية تحل إش���كال ضبط المراحل لضبط
ف���إن البح���ث العلم���ي ال ينبغي أن يكون من ذل���ك بحال ،ألنه
األعمال إلى اهلل أدومها وإن قل.
تضي���ع بس���بب فس���اد المنهج .وإذا ج���از الترخص في ش���يء،
بمثابة القلب من جسد األمة ،إذا صلح صلح الجسد كله وإذا دائما بخير م���ا دام فيها بعث فس���د فس���د الجس���د كله .واألم���ة ً علم���ي ح ًّقا ،ينير ويش���ق لها الطريق ،ويحق���ق ويؤكد لها ذاتها
ال .وبغير المنهج القويم ال ماضيا التاريخية، وحاضرا ومس���تقب ً ً ً يمكن أن يستقيم للبحث العلمي سير.
األولويات ،ومن أصول المنهج الصبر وانتظار الفرج ،وأحب -3غياب التكاملي�������ة :التكاملية مصدر صناع���ي كالعلمية
والمنهجي���ة .والمقص���ود به���ا أن يك���ون وض���ع الباحثين وهم
مؤس ًس���ا عل���ى أن يبحث���ون ،والمش���تغلين وه���م يش���تغلونَّ ، أفرادا كانوا بعضا، أفقياجهوده���م وعموديا -يكمل بعضه���ا ً ً ًّ ًّ أم مجموع���ات ،ومراك���ز كانوا أم منظم���ات ،ومجامع كانوا أم
إن الح���ال العلمية عندنا ،تش���كو م���ن عديد من األمراض،
جامع���ات… وهذه التي بحضورها يحضر خير كثير ،وبغيابها
والجم���ع بدل البح���ث ،واالرتجال ب���دل التخطي���ط ،والفردية
فإن لم يكن التأسيس السابق فليكن التنسيق الالحق ،وإن
منه���ا التكدي���س ب���دل البن���اء ،واالس���تهالك ب���دل التصدي���ر،
بدل الجماعية ،والتس���رع بدل التأن���ي ،والتعميم بدل التدقيق،
والفوض���ى في عدد من المج���االت بدل الضبط ...ومرد ذلك كله -عند التأمل -إلى فساد المنهج.
فهل ستولى هذه المسألة حظها من االهتمام؛ فنفكر -قبل
الس���ير -في الهدف من الس���ير ،ومراحل السير ،وكيفية السير؟
أم سنظل سائرين وكفى؟ وحسبنا أننا نسير".
أجل ،مش���كلة المنهج هي مش���كلة أمتن���ا األولى ،ولن يتم
إقالعن���ا العلم���ي وال الحض���اري إال بعد االهت���داء في المنهج
إلى التي هي أقوم.
ينفتح باب للتبذير كبير.
لم يكن التنسيق في كل فليكن التنسيق في بعض ،وإن لم يكن التنس���يق الدائ���م فليكن التنس���يق المؤقت ...لك���ن أن ال يكون ���رر ما فعلت تنس���يق ق���ط ،وتقع الحواف���ر على الحواف���ر ،و ُت َك ِّ األواخر ،ويش���تغل بالموضوع الواحد عش���رات ،وال األوائ���ل ُ ُ يش���تغل أي واحد بعشرات المواضيع أو مئات ...فذلك منكر
ف���ي الدين والعلم والمنهج ُك َّب���ار ،يجب على الواقع فيه التوبة منه ،وعلى رائيه التغيير بحسب االستطاعة له.
نعم ،إن غياب "العلمية" أو ضعفها ،عائق من أكبر العوائق،
وغي���اب "المنهجية" أو ضعفه���ا كذلك عائق من أكبر العوائق،
ومن ذلك االهتداء ،أن ال نقدم ما حقه التأخير ،وال نؤخر
ولك���ن غي���اب التكاملي���ة أو ضعفه���ا ليس فقط عائ ًق���ا من أكبر
ومن ذلك االهتداء ،أن ال نقدم فقه الواقع على فقه الدين،
ضربا من "الش���ورى" في الطريق، ذلك بأن التنس���يق يمثل ً
وم���ن ذل���ك االهت���داء ،أن ال نش���تغل ب���درس الن���ص قب���ل
لألقل ،بحكم الرفقة العادية في الطريق ،والتالقي المتكرر في
وم���ن ذلك االهت���داء ،أن ال نقدم الدراس���ة التاريخية على
ثمارا س���تكون في متكاملة -كفيل أن يثمر في نابتة األمة اليوم ً
وم���ن ذلك االهتداء ،أن ال نش���تغل باألحكام عن ِ الحكم،
إلى االهتداء للتي هي أقوم ،ومن الكالم عن العلم إلى الكالم
كثيرا من المفس���دات ع���ن الفرائض ...إلى غير ذلك مما يدرأ ً
الجماعي المنس���ق المتكامل ،وم���ن المواجهة االنفعالية اآلنية
ما حقه التقديم.
لتوقف الفقه األول على الفقه الثاني. اإلعداد العلمي للنص. الدراسة الوصفية.
وبالقواعد عن المقاصد ،وبالس���طوح عن األعماق ،وبالنوافل كثي���را من الموازنات بين الثوابت لس���لم األولويات ،ويصحح ً والمتغيرات.
وأم العوائق. العوائق ،بل هو رأس العوائق ّ
آليا تصحيح األعلم للعالم ،وترش���يد األكثر منهجية فينتج عنه ًّ التنسيق" .والجهد إذا أحسن صرفه -وفق خطة علمية منهجية
ثمارا تخرجها من الحيرة واالضطراب المنهجي غاية النضجً ، مؤسسيا -إلى السير فرديا كان أوبعلم ،ومن السير الفرداني ًّ ًّ
الت���ي ال ينقصها حس���ن الظن -إلى التوجهات اإلس���تراتيجيةالش���املة الت���ي ال يش���وبها -وإن بع���دت الش���قة -س���وء الظن.
غدا ،إال بعد االهتداء وال سبيل إلى فقه واقع األمة اليوم أو ً
المعول :أن يؤثروا وعلى الناش���ئة من الباحثين بع���د اهلل تعالى َّ
وإذا كان���ت العلمي���ة تح���ل إش���كال صح���ة النتائ���ج لصحة
محتسبين".
في المنهج للتي هي أقوم.
اآلجلة على العاجلة ،ويس���لكوا الطريق على وعورته صابرين
49
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
المنطلقات ،وصحة المقدمات ،ومن ثم صحة النتائج".
أي درس -ينطلق من النص بمفهومهذل���ك بأن ال���درس ّ
الع���ام للن���ص ،أي من الم���ادة الخام التي يق���وم عليها البحث،
شترط فيها: وهذه ُي َ
وللمحدثي���ن في هذا أ -الصح���ة ،وإال انه���ار البن���اء كل���ه، ّ
وم���ن حذا حذوهم قصب الس���بق .وف���ي اإلعالم اليوم الب���اب َ
وه���و المصدر األول للمعلومات ،فس���اد كبير واختالل عظيم
ال يسلم من شر سلطانه إال الراسخون في العلم.
تحقيق الهدف موجب.
ه���ذه المعالم الكب���رى للعلمية في الن���ص والدرس ،غائبة
أو كالغائب���ة ف���ي معظ���م م���ا خبرته من دراس���ات ف���ي مختلف
المجاالت.
وال حل ش���امل قبل حل "معضلة النص" ،وال حل س���ليم
قب���ل ح���ل "معضل���ة ق���راءة الن���ص" ،وال حل حاس���م قبل حل
"معضلة المنهج".
والخط���ر كل الخطر ،أن يس���تمر البح���ث أو يقدم عليه من
ب���ـ -الكفاية ،وإال تعذرت األح���كام كلها أو بعضها ،وكان
جديد في واقع األمة لفقهه ،في غيبة مثل هذه المعالم.
أي ن���ص -بالمفه���وم الع���ام للن���ص ،الث���م إن الن���ص ّ
فيس���تمر تبذير األموال واألوقات والطاقات ،وما أحوج األمة
األنس���ب للنص .وتتنوع المناهج لتن���وع النصوص والمناهج،
-2ضعف المنهجية :منذ س���ت عش���رة سنة خلتُ ،رفع ما
النقصان في النتائج بقدر النقصان في المعطيات.
يس���تخرج من���ه ما فيه إال بع���د الدرس ،وفق منه���ج خاص هو
جميعا تقوم على: ولكن علميتها ً
والخ���وف كل الخ���وف أن ال تح���دث توب���ة علمية نصوح
إلى أي قدر من األموال واألوقات والطاقات!
يمك���ن تس���ميته بـ"نداء المنه���ج" ،وألن زمن األمة ش���به واقف
• إخض���اع المادة المحكوم عليها كلها للدرس ،للس�ل�امة
وفي آذانها َو ْق ًرا أو شبه َو ْقر ،فإن النداء ما زال بحاجة إلى أن
كافي���ا يس���مح ب���اإلدراك • تحلي���ل تل���ك الم���ادة تحلي�ل� ً ا ً
"مشكلة المنهج هي مشكلة أمتنا األولى ،ولن يتم إقالعنا
من البحث .ومعلوم أن ذلك يتطلب أدوات وأدوات ،حس���ب
أق���وم ،وبمقدار تفقهنا في المنهج ورش���دنا فيه يكون مس���توى
من آفات التعميم.
التفصيل���ي للجزئي���ات والعناصر المكونة لها بحس���ب الهدف طبيع���ة الم���ادة ونوع اله���دف ،بدونها يتعذر النف���وذ إلى خاليا
المادة الستخالص المراد.
وم���ا ل���م يتم ذلك فس���تظل الم���ادة المبحوثة ،ف���ي الظرف
نفسه ،بحاجة إلى بحث.
عاليا ،وذلكم هو: يرفع ً
العلم���ي وال الحضاري ،إال بعد االهتداء في المنهج للتي هي ال في كم���ا وكي ًفا .وألمر ما ألزم اهلل اإلنس���ان ممث ً انطالقن���ا ًّ اط الص َر َ المسلم بهذا الدعاء ،سبع عشرة مرة في اليومِ ﴿ :ا ْه ِد َنا ِّ ِ يم﴾(الفاتحة.)6: ا ْل ُم ْس َتق َ إن حرصنا على اس���تقامة المنهج في كل ش���يء ،ينبغي أن
• إلق���اء األس���ئلة المحتمل���ة على كل الظواهر التي كش���ف
يك���ون ف���وق كل ح���رص ،وإن المجهود ال���ذي نبذله من أجل
لم���اذا كان ه���ذا هك���ذا؟ وذل���ك لتحصي���ل الفق���ه التعليلي بعد
-كم���ا هو معلوم -لي���س هو القناطير المقنطرة من المعلومات
عنه���ا التحلي���ل ومحاول���ة اإلجاب���ة عنه���ا ،والس���يما الس���ؤال:
العل���م التفصيل���ي ،والتمهيد للتركيب االبت���كاري بعد التحليل
المختبري.
وه���ذه الخطوة في ال���درس ،هي مناط فقه النص ،وبدونها
يقال للباحث :اذهب بسالم ،فليس معك حتى اآلن كالم.
تقوي���م المنهج ،ينبغي أن يكون أكبر من كل مجهود ،إذ العلم يتم تكديس���ها وخزنها في أدمغة بني آدم ،وإنما هو صفة تقوم
قادرا بالشخص نتيجة منهج معين في التعلم والتعليم ،تجعله ً عل���ى عل���م م���ا ل���م يعل���م .والعا ِلم ليس ه���و ال���ذي يحمل في
رأس���ه خزائن ومكتب���ات ،ولكنه الذي يع���رف كيف يوظف ما
• تجمي���ع م���ا نجح في االختبار من نتائج جزئية ،وما صح
في رأس���ه وما في الخزائن والمكتبات ،من أجل إضافة بعض
البحث والهدف منه في قضايا كلية ،ثم بناء النس���ق العام منها
ح ًّقا إنه البد من االستيعاب أوال -وهو جزء من المنهج-
في���ه بغي���ر دليل ،وال حك���م بدون حجة ،وال ذك���ر وال حذف،
والناظ���ر ف���ي أح���وال األمة عام���ة ،والح���ال العلمي���ة منها
تبعا إلش���كال من إجابات وثبت من فروض أولية ،ثم تركيبها ً
منطقيا ال دعوى الذي هو حل اإلش���كال وفصل المق���ال ،بناء ًّ وال إيجاز وال إطناب ،إال وله في حل اإلش���كال نصيب ومن السنة الثامنة -العدد (2013 )34
48
اإلضافات.
ولكن المهم هو ما بعد ذلك من تحليل وتعليل وتركيب.
لما تع���ط حظها من خاص���ة ،يلح���ظ بيس���ر أن مس���ألة المنه���ج ّ
ِ َ ���اس ي���ز َ ���اب َوا ْل ِم َ ���وم َّ ���م ا ْل ِك َت َ ان ِل َي ُق َ الن ُ بِا ْل َب ِّي َن���ات َوأ ْن َز ْل َن���ا َم َع ُه ُ بِا ْل ِقس ِ ���ط﴾(الحديدُ ،)25:م ْن َز ٌل كالكتاب مع الكتاب لضبط األمور ْ
ووزنها بالقسطاس المستقيم؛ إذ البد لقياس كل شيء من ميزان،
والب���د لقي���اس أي حق أنه حق ،من مي���زان للحق هو الميزان،
وج َّل ْته الس���نة البيان ,ولم ُيقبض وذلك الذي أنزل مع القرآنَ ، رس���ول اهلل إال وقد اتضح الميزان وثبت ،ولم يبق للبش���رية
إال أن ت���دع جهلها وأهواءها لتذع���ن للميزان ،وتزن بالميزان. البد من ذلك الميزان ليقوم فقه واقع األمة بالقس���ط؛ البد
م���ن ذلك الميزان إلح���كام األداة وإال اختل الفهم ،والبد منه
للتمك���ن من الوض���ع وإال اضطرب األمر ،والبد منه لرصد ما يج���ري ويتفاعل ف���ي الظرف المعيش والمج���ال المحيط وإال كان إخسار في الميزان أو طغيان ،وكالهما مانع من فقه واقع
���م َاء َر َف َع َها َو َو َض َع األمة في ميزان الميزان ،قال تعالىَ : الس َ ﴿و َّ ال َت ْط َغوا ِفي ا ْل ِم َيز ِ ِ ال يموا ا ْل َو ْز َن بِا ْل ِق ْس ِط َو َ ان َ أ َّ ا ْل ِم َيز َ ان َو َأق ُ ْ ان﴾(الرحمن.)9-7: ُت ْخ ِس ُروا ا ْل ِم َيز َ وذل���ك يعني أن الطاقم البش���ري -على س���عته -والس���يما النخب���ة المرجع ،والدم���اغ المفكر المنظر ،والجه���از المح ِّلل المع ِّلل المركب ،أي مختلف األطر المش���غلة في مشروع فقه ِّ َّ
واق���ع األم���ة ،البد أن يكونوا ممن اس���تقام لديهم أمر الميزان، وإال ضاع���ت األموال واألوقات والطاق���ات ولم ُت ْف َقه أم ٌة وال
واقع وال فقه ،وتلك خسارة ما أفدحها من خسارة.
���ر ُق في لس���ان العرب م���داره على -3ش�������رط الفرقان :ال َف ْ
"وفرق���ت بين الش���يئين :فصل���ت بينهما... الفص���ل والتميي���ز، ُ سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر أو بفصل تدركه البصيرة.
وال ُفرق���ان أبلغ من ال َف ْرق ،ألنه يس���تعمل ف���ي الفرق بين الحق هلل آم ُن���وا إ ِْن َت َّت ُقوا ا َ ﴿يا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ ين َ والباط���ل ...وقول���ه تعال���ىَ : ن���ورا وتوفي ًقا على قلوبكم َي ْج َع ْ ���ل َل ُك ْم ُف ْر َقا ًنا﴾(األنفالْ ،)29: أي ً ���ر ُق ب���ه بين الح���ق والباط���ل .ف���كان الفرقان هنا كالس���كينة ُي ْف َ
والروح في غيره" .ذلك فرقان من الفرقان الذي أوتيه المحقق
"الراغب".
وم���ن الفرقان ال���ذي أوتيه صاحب المن���ار قوله عن اآلية:
"وكلم���ة الفرق���ان فيها كلمة جامعة ككلم���ة التقوى في مجيئها
والتفريق بين األشياء واألمور في العلم ،هو الوسيلة للخروج م���ن حي���ز اإلجمال إلى حي���ز التفصيل ،وإنم���ا العلم الصحيح ه���و العل���م التفصيل���ي الذي يمي���ز بي���ن األجن���اس ،واألنواع، واألصن���اف ،واألش���خاص ،وإن ش���ئت قل���ت بي���ن الكلي���ات والجزئي���ات ،والبس���ائط والمركب���ات ،والنس���ب بي���ن أج���زاء ويبين كل ش���يء من المركب���ات ،من الحس���يات والمعنوياتّ ، ذل���ك ويعطي���ه حقه ال���ذي يكون ب���ه ممتازا من غي���ره ...وكما ً يكون الفرقان في مس���ائل العل���وم وموادها ،وفي الموجودات الت���ي اس���تنبطت العل���وم منه���ا ،يكون ف���ي األحكام والش���رائع واألدي���ان وفي الحكم بين الناس ف���ي المظالم والحقوق وفي هلل آم ُن���وا إ ِْن َت َّت ُقوا ا َ ﴿يا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ ين َ الح���روب ...فقول���ه تعالىَ : ���م ُف ْر َقا ًنا﴾ معن���اه :إن تتقوا اهلل ف���ي كل ما يجب أن َي ْج َع ْ ���ل َل ُك ْ يتقى ،بمقتضى دينه وش���رعه ،وبمقتضى س���ننه في نظام خلقه، يجع���ل لك���م بمقتضى ه���ذه التقوى ملكة م���ن العلم والحكمة تفرق���ون بها بين الحق والباطل ،وتفصلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة ،و ُت َز ِّي ُلون بين الحجة والش���بهة... وه���ذا الن���ور ف���ي العلم الذي ال يص���ل إليه طالب���ه إال بالتقوى ���اء ﴿ي ْؤ ِت���ي ا ْل ِح ْك َم َة َم ْن َي َش ُ ه���و الحكم���ة الت���ي ق���ال اهلل فيه���اُ : ���ؤ َت ا ْل ِح ْك َم َة َف َق ْد ُأو ِت ال ُأو ُلو ���ي َخ ْي ًرا َك ِث ًيرا َو َم���ا َي َّذ َّك ُر ِإ َّ ���ن ُي ْ َو َم ْ َ ا َ اب﴾(البقرة.")269: أل ْل َب ِ ه���ذه "الملك���ة" "من العل���م والحكمة" ،التي ه���ي "الثمرة" ين ﴿ي���ا أ َُّي َها ا َّل ِذ َ لش���جرة التق���وى ،وهي النور في آي���ة الحديدَ : هلل َوآ ِم ُنوا ب َِر ُسو ِل ِه ُي ْؤ ِت ُك ْم ِك ْف َل ْي ِن ِم ْن َر ْح َم ِت ِه َو َي ْج َع ْل آم ُنوا َّات ُقوا ا َ َ ِ ِ ِ يم﴾(الحديد،)28: ���ون ِبه َو َي ْغف ْر َل ُك ْم َوا ُ ورا َت ْم ُش َ هلل َغ ُف ٌ َل ُك ْم ُن ً ور َرح ٌ وه���ي التي بها يكون الفص���ل والتمييز والتزيي���ل ،والفرقان... هذه الملكة هي الفرقان الش���رط ،والش���رط الفرقانَ ،من أوتيه كبيرا .وال خيرا ً فق���د أوت���ي ً كثيرا ،ومن حرمه فقد حرم حرما ًنا ً ينتظ���ر م���ن المحرومين المنطفئي���ن المظلمي���ن المختلطين أن يأتوا في فقه واقع األمة بشيء .وكيف يزيل الظلمة َمن ال نور له؟ أم كيف يبصر َمن ال بصيرة له؟ إن واق���ع األم���ة لي���ل س���ادف ،وإن فقه���ه يحت���اج إل���ى نور ورا َف َما َل ُه ِم ْن ُنورٍ ﴾(النور.)40: ﴿و َم ْن َل ْم َي ْج َع ِل ا ُ كاشفَ : هلل َل ُه ُن ً
هن���ا مطلقة ،فالتقوى هي الش���جرة ،والفرق���ان هو الثمرة ،وهو دراسة في العوائق صيغ���ة مبالغة من مادة الف���رق ،ومعناها في أصل اللغة الفصل بين الش���يئين أو األش���ياء .والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح
والحكم الحق فيها ،ولذلك فس���روه بالنور ،وذلك أن الفصل
-1ضعف العلمية :العلمية مصدر صناعي من العلم ،ويقصد علمي���ا ح ًّقا ،أي به���ا هن���ا؛ ما يجع���ل البحث ف���ي موضوع م���ا ًّ مس���توفيا للش���روط الالزمة "في البحث التي تتمثل في :صحة ً
47
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
قضايا فكرية
أ.د .الشاهد البوشيخي*
فقه واقع األمة 2- دراسة في الشروط والعوائق
م���ا هي الش���روط الالزمة لمش���روع فق���ه واقع
األمة؟ وما هي العوائق التي تقف في الطريق؟
دراسة في الشروط
-1ش�������رط الشهود :الشهود في لسان العرب ضد الغياب ،وال يمك���ن لغائب عن الواقع أن يش���هد بل���ه أن يفقه .ومن ثم البد
لتحقيق الشهود والحضور من أمور:
أ -الرصد لما يجري بمختلف الحواس ،ش���رط س�ل�امتها
عبر مراصد كافية مجهزة معدة لذلك.
بـ -التوثيق األمين الدقيق المنظم لكل ما حقه التوثيق.
هـ -المشاركة الفعلية فيما يجري كلما أمكن ذلك.
ذل���ك ومثل���ه ،من أجل إع���داد المادة الالزمة للش���روع في
الدراسة الالزمة لتحصيل الفقه ،وذلك بـ:
أ -التحليل الدقيق العميق المتنوع للمعطيات.
ب���ـ -والتعلي���ل الراج���ح للظواه���ر ف���ي مختل���ف الص���ور
واالحتماالت.
جـ -ثم التركيب المحكم للكليات من الجزئيات. د -ثم البناء العام للمراد حسب الحاجات.
ال جرم أن هذا الش���هود يحتاج إلى جهود وجهود .ولكن
ج���ـ -التكش���يف األمي���ن الدقي���ق الش���امل ل���كل م���ا حق���ه
ه���ل يتص���ور فقه لواقع األمة وهي عل���ى ما هي عليه دون بذل
د -إع���داد قواعد لمختل���ف المعطيات ،وبنوك لما يلزم له
-2ش�������رط الميزان :الميزان في لس���ان العرب آل���ة الوزن.
التكشيف.
ذلك من المعلومات.
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
46
لمثل تلك الجهود؟
ويس���تعار للع���دل ،وهو ف���ي قوله تعالىَ ﴿ :ل َق ْد َأ ْر َس��� ْل َنا ُر ُس��� َل َنا
نفس مبدأ عمود الكامات في المحركات والضاغطات الحديثة. تطويرا للس���اقية ،إذ إن اآلل���ة الثالث���ة للجزري كانت أكث���ر ً الس���اقية تدور هنا بقوة الماء وليس الحيوان .وصف الجزري هن���ا آلة على مقياس صغير إلقناع المتفرجين ،يرى المش���اهد منش���أة ظاه���رة للعيان مركبة إلى جانب مص���در الماء ،وتحت المنش���أة برك���ة ينزل إليها الم���اء من المصدر بواس���طة أنابيب، هناك سلس���لة دالء ترفع الماء من البركة ،وتحت البركة يوجد ح���وض مخف���ي يحتوي على اآلالت المحرك���ة ،ويمتد ضمن ه���ذا الح���وض المخفي عمود أفق���ي ،مثبت عل���ى أحد طرفيه دوالب ذو كفات شبيه بالمغارف (دوالب عنفة) ،وفي أرضية البركة ثقب يندفع منه الماء ويصطدم بالمغارف مس���ببا تدوير ً الدوالب ،وعلى الطرف اآلخر للمحور يوجد مس���نن رأس���ي يتعش���ق م���ع مس���نن أفقي يمت���د مح���وره األعلى نحو المنش���أة الظاه���رة ،وف���ي أعل���ى ه���ذا المح���ور األخير يوج���د زوج من المس���ننات ،ويرك���ب الدوالب الحامل لسلس���لة ال���دالء على المحور األفقي للمسنن الرأسي ،وتصب الدالء ماءها إلى قناة تنق���ل الماء إلى مصدره ،وتبقى سلس���لة ال���دالء دائمة الحركة م���ا دام الماء يتدفق من أرض البرك���ة مرتطما بالمغارف .ومن ً أج���ل إمتاع الناظرين ،ربط بالمحور الرأس���ي نموذج لبقرة من الخش���ب تدور مع المحور فوق مبيضة ثابتة مس���تديرة دون أن تلم���س أرجله���ا المنصة ،ويب���دو للناظر ال���ذي ال يعلم مصدر الحركة وكأن البقرة هي التي تدير الساقية. اآللة الرابعة للجزري شبيهة باآللة األولى ،إال أنه استخدم فيه���ا ألول م���رة ف���ي تاريخ الهندس���ة الميكانيكية آلي���ة المرفق والكتل���ة المنزلقة ( )Scotchyoke Mechanismالتي تحول الحركة الدورانية إلى حركة ترددية خطية.
وفي اآللة الخامس���ة ،خرج الج���زري عن نطاق آالت رفع الماء التقليدية ،إذ استخدم في هذه الحالة ،مضخة ماصة كابسة ذات أس���طوانتين متقابلتي���ن ،تكون الواحدة في ش���وط المص عندم���ا تك���ون الثانية في ش���وط التصريف .واس���تخدم هنا آلية المرف���ق والكتلة المنزلقة ،من أجل تحوي���ل الحركة الدورانية إلى حركة ترددية ،وأعطى أس���لوبين للق���وة المحركة أحدهما باستخدام دوالب عنفي ذي أجنحة ،والثاني باستخدام دوالب ذي مجاديف يدور كما تدور الناعورة. أدخل الجزري في هذه اآللة عدة ابتكارات ،فهنا نجد أقدم تطبيق لمبدإ المفعول المزدوج في اآلالت المكبسية ،وكذلك أيضا أول مبدأ تحويل الحركة الدورانية إلى ترددية ،ونجد هنا ً استخدام حقيقي ألنابيب االمتصاص في المضخات. وف���ي مهرجان العالم اإلس�ل�امي الذي عق���د ببريطانيا عام 1976م ،عرضت نماذج من وسائل الري التي استخدمت في بغ���داد في الق���رن الرابع للهجرة ،كما ع���رض نموذج لمقياس الني���ل عن���د الروض���ة في وق���ت الفيض���ان اس���تعمل على عهد الخليفة العباس���ي المت���وكل ،وعرض نموذج آخ���ر لرفع الماء صنعت حسب إرشادات بديع الزمان الجزري في كتابه سالف الذكر .فقد اخترع الجزري عدة آالت وأجهزة -كما رأينا -وقد عرض���ت له آلة لقياس كمية الدم التي تؤخذ من المريض .أما اختراعه الذي أثار إعجاب المشاهدين ودهشتهم ،فهو الساعة الدقاقة ،وهي س���اعة مائية تحدد الوقت وتقدم إشارات -تقوم بأدائه���ا ُدمى -لدوران دائرة البروج ،وتعاقب الش���مس والقمر في فلكهما الس���رمدي الدائم الذي ال انقضاء له وال انتهاء. (*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع ،كلية التربية ،جامعة عين شمس /مصر.
45
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
بالمكابس أو األسطوانات المتداخلة.
ابتكاراته المتميزة
ووصف الجزري العديد من أنواع الس���اعات المائية والرملية،
ومن بينها س���اعات مائية تقوم فك���ر ُة عملها على تعبئة وتفريغ
الم���اء م���ن وعاء آلخ���ر بمعدل ثاب���ت .وبعض هذه الس���اعات جدا تعتمد في عملها على حركة الماء في مزود بآليات معقدة ًّ
دورة مغلقة ،وينتج عنها مؤثرات خالبة ،مثل صدور أصوات
موس���يقية ف���ي أوق���ات معين���ة ،أو ب���روز ُدمية لت���ؤدي حركات طريفة بغرض التنبيه إلى أوقات الساعة. عددا من الساعات المعروفة في زمانه لقد اخترع الجزري ً
باس���م"البنكامات" أو "الفنكام���ات" ،ومن بين هذه الس���اعات؛ ساعة الطبالين وهي ساعة بها طبالون يدقون طبولهم بعد كل ساعة تمضى ،ليعرف الناس كم مضى من الساعات ،ومن بينها
س���اعة على ش���كل زورق توضع للزينة في قاعات االستقبال،
وتحدد للضيوف األوقات ،ومن بينها س���اعة مس���توية ،بها فيل يرفع خرطومه مرة أو عدة مرات كلما مضت من الزمن ساعة
أو عدة س���اعات ،ومن بينها س���اعة مائية م���ن تصميم الجزري ميكانيكيا بحركة الماء. وتنفيذه ،وتعمل ًّ
أم���را حيويًّ���ا ف���ي الب�ل�اد العربية واإلس�ل�امية؛ لم والصناعي���ةً ، تك���ن هناك أمط���ار غزيرة وأنهار وجداول كثيرة كما هو الحال
ف���ي ش���مال أورب���ا ،والمناطق الت���ي كانت تهطل فيه���ا األمطار بكميات وفيرة تكفي للزراعة دون الحاجة إلى الري .ومن هنا
تحتاج عمليات الري في كثير من األحيان ،إلى وس���ائل لرفع
الماء لتلبية الحاجات األساس���ية كالش���رب والطبخ ،أو لتزويد األراضي الزراعية بالمياه الالزمة للزراعة.
لق���د ح���اول المهندس���ون الع���رب والمس���لمون ،تحس���ين
واضحا لدى كل من الجزري، وس���ائل رفع الماء .ونجد ذلك ً وتق���ي الدي���ن ،إذ وصف كل منهم���ا آالت لرف���ع الماء حاوال
فيه���ا تطوير األنواع المعروفة .وقد خصص الجزري في كتابه
ال "الجام���ع بي���ن العلم والعمل النافع ف���ي صناعة الحيل" ،فص ً خاصا آلالت رفع الماء وصف فيه خمس���ة أنواع يحتوي كل ًّ منها على تحسينات وابتكارات.
فاآلل���ة األولى ،فيها تحس���ين كبير لعمل الش���ادوف ،وهي
آل���ة تدور بق���وة الحيوان كما ه���و الحال في الس���اقية ،والجزء ال���ذي يغ���رف الماء عبارة ع���ن مغرفة لها ذن���ب طويل أجوف كالمي���زاب ،والمغرف���ة مربوطة عن���د نهاية ذنبه���ا بمحور أفقي ترسا بحيث إنها تتحرك معه ،ويحمل المحور عند أحد طرفيه ً
عددا م���ن النوافير أو الفوارات كم���ا ابتك���ر الجزري ً أيضاً ،
ويوج���د بمح���اذاة هذا الترس ترس جزئ���ي يحمله محور مواز
أيضا الج���زري ع���ددا م���ن آالت التحري���ك لألش���ياء ،وابتك���ر ً ً
رأس���ي يديره ترس أفقي ،وهذا الت���رس األخير يديره الحيوان
ذراعا بين ابتكارات الجزري ،آلة ترفع الماء إلى نحو عشرين ً
هو الحال في الس���اقية ،ويدير زوج دواليب المسننة -بالتالي-
لحدائ���ق القص���ور ف���ي زمان���ه بش���مال الع���راق ،كذل���ك ابتكر
دوالي���ب ترف���ع المياه م���ن البحيرات واآلب���ار واألنهار ...ومن بواس���طة دوالب م���ن الماء الس���ريع الجري���ان .وابتك���ر زور ًقا
متحركا يوضع في بركة في مجالس الس���مر الليلية .وابتكر آلة ً ترف���ع الماء من بئر أو نهر بواس���طة دابة تديرها لتمد األراضي
الزراعي���ة بالمياه .وابتكر ف���وارة ذات عوامتين ،تتبادالن العمل وهبوط���ا دون توق���ف أو انقط���اع ،فيس���تمر الم���اء في صع���ودا ً ً
التدفق إلى أعلى .وابتكر تمثال بقرة على قرص عمود مجوف
دوالبا يرفع الماء موضوع في وس���ط بركة ،وتدير هذه البق���رة ً
م���ن البرك���ة إل���ى ارتفاع يصل إل���ى أكثر من متري���ن .وقد أبدع الجزري في رس���م أشكال هندس���ية رائعة الجمال كان الصناع
ينفذونها ويزينون بها أبواب المساجد والقصور.
الجزري والهندسة الميكانيكية
كان تأمين الماء من أجل الش���رب والري ولألغراض المنزلية السنة الثامنة -العدد (2013 )34
44
لمحور المغرفة .وفي الطرف اآلخر لهذا المحور الثاني ترس المرب���وط بعم���ود الج���ر ،يدور الحي���وان في مس���ار دائري كما
المس���نن الجزئي ،وتتعشق أسنان هذا األخير بالمسنن المقابل
وتدي���ره ،وترتف���ع المغرفة إل���ى األعلى وتف���رغ محتوياتها من الماء إلى القناة ،وعندما ينتهي تعشق األسنان الجزئي ،تسقط المغرف���ة ثاني���ة إلى الم���اء لتمتلئ وتتك���رر العملية باس���تمرار.
جزئيا، ونجد أن الجزري يصف ألول مرة الدوالب المس���نن ًّ وقد اس���تخدم هذا النوع من المس���ننات ف���ي أوربا بعد حوالي
مائتي عام من تاريخ كتاب الجزري.
واآللة الثانية للجزري مماثلة لألولى ،إال أنها مزودة بأربع
مغ���ارف ،ويح���رك كل مغرفة مس���نن جزئي ،وكانت األس���نان
الجزئي���ة موزع���ة بالتس���اوي على محي���ط الدائ���رة بحيث تقوم المغارف بعملها في مس���افات زمنية متساوية .ويقول الجزري
هدوءا ،ونحن هنا أمام إن ه���ذا التوزيع يجعل عمل اآللة أكثر ً
جدا ف���ي تاريخ العلم والتكنولوجيا اللذي���ن قاما بأبحاث هامة ًّ
عن���د العرب .كما ص���درت ترجم���ة كاملة باللغ���ة اإلنجليزية، ق���ام به���ا "دونالد هي���ل" ( )Donald Hallالمتخص���ص في "تاريخ
التكنولوجيا العربية".
ومن دراس���ة فصول الكتاب ندرك في الحال ،أن الجزري
ملما بكل الفنون الميكانيكية كان راسخ القدم في فنه ،وأنه كان ًّ
قويا .ونفهم من مقدمة الكتاب أنه قد ألفه والهيدروليكية إلماما ًّ ً
بطل���ب من ملك "ديار بكر" المل���ك "الصالح ناصر الدين أبي الفتح محمود بن َق َر أرسالن بن داود بن سكان بن راتق" الذي تول���ى الحكم ما بين عامي (619-597هـ) .يذكر الجزري أنه كان قب���ل ذل���ك في خدم���ة والد هذا الملك وف���ي خدمة أخيه،
ونش���ر دراس���ات عن الرسوم الهندسية واألش���كال التوضيحية الت���ي حفلت بها إحدى مخطوطات الكتاب ،وهي المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الس���ليمانية بجامع "أياصوفيا" بإس���طنبول. وألهمي���ة الكت���اب الكبي���رة ف���ي نظ���ر الغ���رب ،ق���ال عن���ه المستشرق المهندس التكنولوجي اإلنجليزي الدكتور "دونالد هي���ل"" :لم تصلنا حتى العصور الحديثة وثيقة من أية حضارة أخ���رى ف���ي العالم ،فيه���ا ما يناظر م���ا في كت���اب الجزري من ث���راء ف���ي التصميم���ات والش���روح الهندس���ية الخاص���ة بط���رق صناع���ة وتجميع اآلالت" .ويقول مؤرخ العلم الكبير "جورج س���ارتون"" :ه���ذا الكتاب ه���و أكثر الكتب م���ن نوعه وضوحا، ً ويمكن اعتباره الذروة في هذا النوع من إنجازات المسلمين".
وأن خدمت���ه تلك ب���دأت في عام (570ه���ـ1174-م) ،وأنه قد أهمية كتاب "الجامع" ومحتوياته عاما في خدمتهم. قضى خمسة وعشرين ً
وم���ن المؤس���ف أن النص العرب���ي الكامل له���ذا الكتاب،
ل���م ينش���ر إال بعد نقله إل���ى األلمانية واإلنجليزي���ة ،وقام معهد
الت���راث العلم���ي العربي بإص���دار نصه العرب���ي الكامل ،حيث
قام بتحقيقه الدكتور المهندس أحمد يوسف الحسن بالتعاون اعتمادا على صورة م���ع الدكت���ور عماد غانم ومالك ملوح���ي، ً
كافة مخطوطات الجزري المعروفة والموجودة في المكتبات العالمية المختلفة ،وأفضلها مخطوطات إس���طنبول (مخطوطة طوب قابي َسرايِي ،رقم .)3472
ويعتب���ر كثير م���ن الباحثين وعلماء التكنولوجي���ا التطبيقية،
أن ه���ذا الكت���اب أه���م مؤلف هندس���ي وصل إلين���ا من جميع الحضارات القديمة والوس���يطة الت���ي عرفها العالم حتى عصر
النهضة األوربية .وال ترجع هذه األهمية فقط الشتمال الكتاب
على أوصاف مهمة لآلالت الميكانيكية التي ابتكرها ووصفها أيضا إلى اشتماله على طرائق صنعها؛ فقد الجزري ،بل ترجع ً
وصف���ت هذه الطرق بتفاصي���ل وافية وإرش���ادات دقيقة أمكن معه���ا صنعها في عصرنا بأيدي الفنيين .وكل ذلك قد أكس���ب
كتاب الجزري شهرة واسعة ،وظفر له باهتمام كبير في الغرب. ومن الجدير بالذكر أن الباحث والمستشرق "دونالد هيل"،
نال عن ترجمته لكتاب الجزري إلى اإلنجليزية ،وكتابة رسالة شاملة عن "بديع الزمان الجزري وتاريخ التكنولوجيا اإلسالمية"
جائ���زة "دكس���تر" الدولي���ة الت���ي تمن���ح ألصح���اب اإلنجازات المتمي���زة في مجاالت التكنولوجيا .وهناك باحث ياباني اهتم بالجانب التش���كيلي في كت���اب الجزري وتوفر على دراس���ته،
يق���ع الكت���اب في خمس���ة أج���زاء يخت���ص كل منها بقس���م من أقس���ام الحي���ل أو تكنولوجي���ا الصناع���ات ،ويجمع بي���ن دفتيه الموضوع���ات التالي���ة :الس���اعات المائي���ة ،الس���فن ،أح���واض القي���اس ،الناف���ورات ،آالت رفع المياه التي تعمل بقوة جريان الم���اء ،بعض اآلالت المفي���دة كاألبواب واألقفال ...وقد ركز الج���زري ف���ي كتابه ،عل���ى أهمية التجري���ب وأهمية المالحظة أساسا لالستنتاجات العملية. الدقيقة للظواهر التي تكون ً ويلخص الكتاب معظم المعارف المتراكمة عن الهندس���ة الميكانيكي���ة حت���ى ذل���ك الوق���ت ،م���ع تطوي���رات وإبداع���ات للجزري نفس���ه ،وتكمن أهميته جزئيا فيما يتضمنه من وصف ًّ آلالت ومكون���ات وأفكار .وبالقدر نفس���ه م���ن األهمية ،تبدو حقيق���ة أن الجزري صن���ف كتابه مع إصرار ُمعلن على تمكين الصن���اع م���ن بع���ده من إع���ادة تركيب آالته ،حيث ق���دم وص ًفا مدق ًق���ا ل���كل من الخمس���ين آلة يتضم���ن صناعته���ا ،وتركيبها، واألجزاء المكونة لها ...وكما يقول المستشرق "دونالد هيل": "فقد زودنا بثروة هائلة من المعلومات المتعلقة بطرق ومناهج المهندسين الميكانيكيين في العالم اإلسالمي". ومم���ا حف���ل به الكت���اب :وص���ف الجزري خم���س آالت لرف���ع المياه تعمل بقوة جريان الم���اء في مجراه الطبيعي .وقد جعلها الجزري ذات تصميمات مختلفة لتناس���ب االرتفاعات المتباين���ة التي يلزم نق���ل الماء إليها ...وقد تركت هذه اآلالت بصمة واضحة على تاريخ صناعة اآلالت في العالم .وكذلك وصف الج���زري النموذج األول للمضخة المائية التي مهدت الس���بيل البتكار المح���رك البخاري وآالت الض���خ التي تعمل
43
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
تاريخ وحضارة
الجزري
أ.د .بركات محمد مراد*
اختراعاته العلمية وتطبيقاته الميكانيكية ه���و بدي���ع الزم���ان أب���و العز أب���و بكر إس���ماعيل بن ال���رزاز"، الملق���ب بــ"الجزري" نس���بة إلى موطن���ه "أرض الجزيرة" بين
نه���ري دجل���ة والف���رات بالع���راق .ال يعرف الكثي���ر من حياة
الج���زري ،حي���ث تخلو كت���ب التراجم من ذك���ره ،ومن المعتقد أن���ه ولد عام
(561ه���ـ1165-م) ف���ي أرض الجزي���رة ،وتوفى عام (607ه���ـ1210-م) وإن كانت بعض المصادر تشير إلى وفاته عام (602هـ1206-م).
وم���ن الثابت أنه خدم في بالط مل���وك "ديار بكر" التركمانيين الذين
كان���وا تابعين للدولة األيوبية في عهد مؤسس���ها "صالح الدين" .وقد رفعت���ه خبرته العلمية وقدراته االبتكارية في االختراع واإلنش���اء إلى مرتبة "ريس األعمال" أي كبير مهندسي الدولة.
وال تتوافر تفاصيل كثيرة عن مرحلة الدراس���ة في حياة بديع
الزم���ان الجزري ،لكن م���ن المقطوع به أن���ه درس الرياضيات وم���ا تواف���ر ف���ي عص���ره م���ن معلوم���ات فزيائي���ة ومعلوم���ات دائما يقرن الدراس���ة خاص���ة بالتطبيقات الصناعية ،وأنه كان ً النظري���ة بالتجري���ب ،وال يث���ق بالنظري���ات الهندس���ية م���ا لم تؤكده���ا التج���ارب العملي���ة .وكذل���ك تق���ع إنجازات���ه ف���ي دائ���رة االختراع���ات الميكانيكي���ة وصناع���ة اآلالت ،وكان معنيا -بصفة خاصة -باس���تخدام ه���ذا المهن���دس الب���ارع ًّ الحقائ���ق العلمي���ة والخبرة التكنولوجي���ة في صناعة ما ينفع المجتمع من آالت مبتكرة.
إنجازاته العلمية وكتابه القيم
وتتض���ح إنج���ازات الج���زري العلمي���ة من كتاب���ه الهام "الجام���ع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"،
وه���و كت���اب ف���ي الهندس���ة الميكانيكية ،يع���د بحق-ٍّ أروع م���ا كت���ب ف���ي الق���رون القديم���ة والوس���طى عن اآلالت الميكانيكية والهيدروليكية.
كثيرا في العالم الغربي، وقد اشتهر هذا الكتاب ً
وترجم���ت فصول كثي���رة منه في الرب���ع األول من
القرن العشرين إلى اللغة األلمانية ،وقام بالترجمة كل من "فيدمان" ( )Wiedmannو"هاوسر" ()Hawser
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
42
-شيء آخر! مثل ماذا؟
متجها إلى البيت األبيض المتميز بتلك الشجرة المثمرة .وقبل ً
-نعم أوصاني بأن أحضره والبندقية.
خبر موت أخيها ...طرق الباب وهو ما يزال يفكرُ .فتح الباب
نظر إلى البندقية ومد يده ليأخذها وهو يقول:
في منتصف الطريق ،ودفعت إليه تلك المجموعة من الكعك.
فردت عليه العجوز هادئة غير مبالية:
هذه المرأة الفقيرة ،التي دفعت إليه ما كان في حوزتها وذهبت
نظر النقيب إليها ،وتأمل وجهها المتجعد وهو غير مصدق
بهذا الحس الوطني ،فقبل أن تدفع الكعك دفعت أخاها وهو
ِ ال يب���دو أن���ه حفي���دك ،لو كان حفيدك لم���اوقفت هكذا
نظ���رت الم���رأة نحوه وأدركت س���بب قدوم���ه ،أدركت أن
ال. خاتم فضي مث ً -أين هو إذن؟
أن يطرق الباب فكر لحظة بأمر األخت ...كيف س���ينقل إليها وخرجت منه امرأ ٌة شابة ...إنها تلك المرأة التي أوقفت سيارته
-بأي صفة تريدين مني أن أسلمك الخاتم؟
وتقديرا ال واحتراما لشخص ارتعد النقيب خو ًفا ودهشة وذهو ً ً ً
-إنه حفيدي.
وه���ي تبك���ي .كاد النقي���ب أن يفقد وعيه وهو يق���ف أمام امرأة
أن ذلك الصغير حفيدها ،قال: مبتسمة.
قالت العجوز:
-وم���اذا تريدن���ي أن أعم���ل؟! لق���د م���ات وس���وف نموت
كلن���ا ...م���ات ش���هيدا وس���يدخل الجن���ة ،وعل���ي أن أفرح ألن ً ّ حفيدي دخل الجنة وفاز بها رغم صغر سنه.
صغيرا ،للدفاع عن الوحدة والوطن. ما يزال ً
أخاها قد استش���هد ...فارتفع صوته���ا مزغردا ...وقف النقيب ً
يتأمل فرحة هذه المرأة حائرا ،يكاد ال يصدق ما تس���معه أذناه ً وما تشاهده عيناه ،إن أمر هذه األسرة غريب؛ ابتسمت العجوز
وه���ي تس���أل ع���ن مصي���ر الصغير وم���ا إذا كان قد م���ات أو أنه
على قيد الحياة ،وهذه المرأة الشابة عبرت عن فرحتها بموت
كاد النقي���ب أن يق���ع عل���ى األرض وهو يس���مع منطق هذه
أخيها وهي تطلق الزغاريد لتجلجل في الس���ماء .تذكر النقيب
دمع���ة واح���دة ،ولم تس���أل حتى ع���ن الجثة ،بل إنها مش���غولة
"إن ُكتب���ت ل���ك الحي���اة وعدت إل���ى القرية التي أس���كن فيها،
في ذهن النقيب الذي أخذ البندقية وترك العجوز متوجها نحو ً
أدرك النقيب أنه يقف أمام أسرة نموذجية.
العج���وز التي تف���رح لموت حفيدها ،إذ ل���م تحزن ولم تذرف
الكلم���ات األخي���رة التي همس بها الصغي���ر وهو يودع الحياة:
بالخاتم الفضي ،إنها ليست كما ادعت .كل ذلك كان يجوب
أختا لي هن���اك تنتظر عودتي منتصرا لتش���يع جثماني". س���تجد ً ً
القرية ،دعته العجوز أن يتوقف فتجاهل دعوتها ،فقالت له:
فمن منا س���وف يعيش إلى األبد؟ وإذا كنا س���نموت فلماذا
بيتا أبيض بجانب شجرة -عند وصولك إلى القرية ستجد ً
ال نم���وت ش���هداء؟ فلي���س هناك أعظ���م من أن نم���وت ونحن
الباب فس���تفتح لك امرأة ش���ابة هي حفيدتي وأخت الش���هيد،
المسلمين هي التضحية الكبرى التي ناضل من أجلها البسطاء
القرية يجلس فيه رجل عجوز يقوم بخياطة المالبس ،أرجوك
ضميرا ال أدرك النقيب أن إراديا يحرك النزعة الوطنية عند ًّ ً
عن���ب مثمرة ،تلك الش���جرة لن���ا ،وذلك المن���زل منزلنا ،اطرق
ندافع عن قضية وطنية وإنس���انية ...ألن الوحدة بالنس���بة ألبناء
وأثناء طريقك إلى البيت س���تجد دكا ًنا صغيرا عند مدخل هذه ً
ال ،واعتبروها قضية وطنية وإنسانية وفكرية... طوي ً
أن تع���رج إلي���ه وتقول ل���ه ،إن الصغير قد م���ات وال داعي ألن
البس���طاء الذين يهبون الحياة رخيصة في س���بيل قضاياهم وال
يخيط مالبس���ه لهذا العيد ،فنحن فقراء وال نريد أن ندفع ثمن
مالبس ال نجد من يرتديها بعد موت الصغير.
اش���تعل النقي���ب غضب���ا وقال في نفس���ه" :يا ل���ك من امرأة ً
حمقاء! حفيدك فارق الحياة وأنت غير مبالية ،وكل ما تفكرين
فيه هو المالبس وثمن المالبس ومن سيرتديها.
عابئ بما كانت تقوله العجوز ...وعند وسار في طريقه غير ٍ
وصول���ه القرية ،نظ���ر إلى دكان الخياط فلم يعرج إليه ،وس���ار
ثمنا لما بذلوه. ينتظرون ً
م���د النقي���ب يده إل���ى كتفيه وانت���زع الرتبة العس���كرية التي
دفاعا عن قضي���ة عظيمة. منح���ت ل���ه ً ثمنا ل���دور عظيم قام ب���ه ً
فالنقيب أراد أن يكون بس���يطا كهؤالء الساكنين في هذا البيت ً األبيض.
(*) كاتب وأديب يمني.
41
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
أم���ر مه���م ،لما وقفت في مثل ه���ذا الوقت في ه���ذا المكان"،
عتادا عسكريا حدي ًثا ...وبينما هما يتحدثان التي كانت تواجه ً ًّ
وكان ش���ديد الحذر والحرص .تقدمت المرأة نحوه ،فأش���عل
"ميج "21المس���اندة لقوات األع���داء ،بقصف الجنود بالقنابل
وهدأ من س���رعة سيارته العسكرية ليتوقف حيث كانت تقف، ّ عود الكبريت ليتسنى له معرفة شخص هذه المرأة على ضوء خافت ،وقبل أن يس���ألها عن بغيتها ومن تكون ،تحدثت قائلة بعد أن أقرأته السالم:
في صمت ،كلٌّ يشعر بما يدور في ذهن اآلخر ،بدأت الطائرة
لتس���قط قنبل���ة بالقرب م���ن م���كان النقيب والجن���دي الصغير، ليصاب األخير بش���ظية في رأس���ه تلقيه عل���ى األرض .النقيب أيضا أصابته ش���ظية في رجله اليس���رى ،لم يش���عر بها ألنه كان ً
-وجدتك في القرية تدعو الناس وتحثهم على الدفاع عن
مهتم���ا بما آل إليه مصير الصغير .وقبل أن يموت هذا الصغير ًّ
لي على القتال وال أملك ما أبذله في سبيل الوطن والواجب،
تبت لك الحياة وعدت إلى القرية التي أس���كن بها، إن ُك َْ
الوح���دة ،وتطلب منهم العون والمس���اندة ،وأن���ا امرأة ال قدرة وها أنا ذا قد أتيتك بمجموعة من الكعك الناشف صنعته بكل م���ا تبق���ى من دقيق القمح ،ولو كان بوس���عي أن أحضر المزيد
لم���ا تأخ���رت ،خذه لعله يس���د رمق جائع ال يج���د ما يأكله في خندق القتال.
أدركه النقيب ليسمع ما كان يهمس به:
منتصرا لتشيع حثماني... أختا لي هناك تنتظر عودتي فستجد ً ً
وقبل أن يموت الصغير دفع إليه بندقيته فضيا كان ً وخاتما ًّ
ال هناك ف���ي يده ،وأوص���اه بإيصالهما إلى منزلهم ،لع���ل مناض ً ينتظر دوره في الموت واالستشهاد في سبيل اهلل والوطن.
دفع���ت إليه ما كان في حوزتها وذهبت وهي تبكي .احتار
كان���ت هذه العب���ار َة األخيرة التي تلفظ به���ا البطل الصغير
المش���اركة في مس���اندة جنود الوحدة .تحركت السيارة باتجاه
لفق���دان ه���ذا الصغي���ر الذي يجس���د معنى الكفاح والش���جاعة
النقي���ب في أمر هذه المرأة ،فهي فقي���رة ولم يمنعها فقرها من مقد ًرا المعس���كر مس���رعة .كان النقيب يفكر بأمر هذه المرأةّ ، لها هذا الحس الوطني النبيل تجاه الوطن ...الشيء الذي رفع
قبل أن يستش���هد ويف���ارق الحياة .ذرفت عين���ا النقيب الدموع
والحب والوالء هلل والوطن...
وبع���د أن خ���رج النقيب من المستش���فى ،توج���ه إلى القرية
ال البندقية والخاتم. حيث تس���كن أخت الش���هيد الصغير ،حام ً
عظيما يقف وراء قيادته ش���عبا مدركا أن م���ن معنوياته مضحيا ً ً ً ً ٍ غ���ال ونفيس ،وليس���ت هذه الم���رأة إال ب���كل نموذج���ا للمرأة ً
وبينم���ا كان يس���ير عل���ى قدمي���ه وقد بدا ش���ديد التعب بس���بب
له���م الع���ون والمس���اندة .وعند وصول���ه إلى المعس���كر ،تلقى
فس���ألها م���ا إذا كان���ت تعرف البيت الذي تس���كنه تل���ك المرأة
المس���لمة التي وقفت بش���جاعة وف���داء ،تؤازر الجن���ود وتقدم األوام���ر أن يواصل الس���ير حتى جبهات القت���ال ليأخذ للجنود م���ا كان يحمل من تبرعات تلك القرية .وعند وصوله خطوط
المواجه���ة ،أوق���ف س���يارته وحمل بعض الكع���ك وتوجه إلى بعضا الجن���ود المرابطين في جبه���ات القتال ،وأخذ يدفع لهذا ً
ال صغيرا م���ن الكعك وذلك بش���يء مماثل ...فإذا ب���ه يجد طف ً ً
يحم���ل بندقي���ة قديم���ة ،إذا أطلق بها ناري���ا تركها لتبرد، عي���ارا ًّ ً
عيارا آخر وتركها لتبرد مرة أخرى... وحتى إذا ما بردت أطلق ً فأش���فق عليه وخش���ي أن تصيبه نيران األعداء ،فأمره أن يعود
إل���ى الخط���وط الخلفي���ة ...فطلب منه الصغي���ر أن يتركه يقاتل ويقتح���م التحصينات الت���ي كان يتمترس فيه���ا األعداء ...نظر
ال بش���جاعة هذا الطفل ،الذي كاد يلتهم األعداء النقيب مذهو ً بعيني���ه الصغيرتي���ن يري���د أن يحطمه���م ويقتح���م تحصيناتهم. ونظ���رة أخرى برزت تتأمل في ابتس���امة عريض���ة تلك البندقية السنة الثامنة -العدد (2013 )34
40
اإلصاب���ة ،وقع���ت عيناه على امرأة عج���وز تهش على أغنامها،
الش���ابة ،التي استشهد أخوها في المعركة منذ أمد غير بعيد... ال ،متأملة البندقية وقالت وهي تبتسم: نظرت العجوز إليه طوي ً -هل استشهد الصغير؟
-نعم
-متأكد؟
نعم ...وكنت إلى جواره ،وأنا الذي أحمل وصيته. -الحمد هلل.
واقتربت منه ومدت يدها لتأخذ البندقية ،فيما كان النقيب
غار ًقا في دهشته وذهوله شارد الحس ،يفكر بأمر تلك العجوز التي تبتسم وهي تسأل عن موت الصغير قائلة:
-هل أوصاك بإحضار شيء آخر غير البندقية؟
نظ���ر إليها النقيب وقد زادت دهش���ته وذهول���ه ،فتلعثم في
إجابته:
قصة
محمد قاسم الهندي*
الجندي الصغير يقود اللي���ل أجنحته الس���وداء ليحتضن العالم
مس���رعة باتجاه المعس���كر ،محملة بما أمكن تجميعه من عتاد
أن غربت الش���مس الواهنة ،التي كانت تسلط
في الجبهة ،وجد النقيب امرأة شابة تشير إليه أن يتوقف.
بعباءة س���وداء ،مبرقعة بنقاط بيضاء المعة بعد
أشعتها الفاترة على إحدى القرى الملتهبة بنار الحرب.
حربي ،وزاد للجن���ود الذين يخوضون غمار المعارك الضاربة اعتلت الدهش���ة وجهه المتجهم الذي اش���تعل بموجة من ِّ
في هذا الوقت توجه النقيب إلى معسكر حمزة الذي كان
األس���ئلة" ...من تكون هذه المرأة؟ وماذا تريد؟ ولماذا وقوفها
ض���د ال���ردة واالنفص���ال .توج���ه إلى المعس���كر بع���د أن التقى
في رأس���ه بعض الظنون ووج���د أن األمر ال يعدو كونه مكيدة يكت ضده من قبل بعض العمالء الذين يس���اندون األعداء، ِح ْ
يخ���وض غم���ار المعركة مع ق���وات الوحدة ف���ي جبهة الضالع بس���كان تلك القرية ،وح ّثهم على الدفاع عن الوحدة الوطنية، وطلب منهم العون والمساعدة ،ليتسنى لهم صد كيد األعداء
المتآمرين على وحدة الشعب .وبينما كانت السيارة العسكرية
ف���ي منتص���ف الطريق في هذا الوقت وقد حل الظالم؟ ودارت
إال أن���ه ط���ارد هذه الظنون ووجد أن���ه البد من التوقف لمعرفة
بغي���ة هذه المرأة وماذا تريد .قال في نفس���ه" :لو لم يكن هناك
39
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
تقدم إلى أضعها بين أيديكم .ألن المعلومات التي َّ أكيدة عنها ُ أيضا أن الدول���ة ينبغ���ي أن تعلو على الش���بهات .كما أنن���ا نرى ً ش���د اهتمام س���يدنا س���ليمان َج ّدي الهدهد عندما حاول ّ بالحدي���ث ع���ن غنى بلقيس ملكة س���بأ وثرائها ،وعن عرش���ها أي اهتمام بذلك ،حتى إذا شرع في وعظمته ،فإنه لم ُي ْب ِد ّ الحديث عن ش���ركهم وعبادتهم للش���مس ،راح س���ليمان يس���تمع إليه بدقة ويبدي اهتمامه باألمر ،ألن تبليغ المتمرغين بأوح���ال الش���رك والكفر واالنح���راف ،ودعوتهم إل���ى الهداية واإليمان باهلل واتباع أمره ،هي مهمة األنبياء األولى. يصدق سيدنا سليمان َ ج ّدي الهدهد مباشرة، ولكن لم ّ بل عامله كالمتهم ووضعه تحت االختبار؛ حيث لم يعتمد على أن تكون كذبة من الهدهد األخبار التي جاء بها ،ووضع َ احتمال ْ ِين﴾. لتبري���ر غيابهَ ﴿ ،ق َ ال َس َ���ن ْن ُظ ُر َأ َص َد ْق َت َأ ْم ُك ْن َ ���ت ِم َن ا ْل َكا ِذب َ جليا التركي���ز على وجوب التريث في الحكم على ويب���دو هنا ًّ بناءا على خبر واحد .ثم أراد س���يدنا س���ليمان مجتم���ع بأكمله ً استكش���اف الموق���ف ،فاس���تعمل َج ّدي الهدهد كس���اعي ِ ِ ﴿اذ َه ْ ِ ���و َّل َع ْن ُه ْم َفا ْن ُظ ْر بري���دْ : ���ب بِك َتابِ���ي َه َذا َف َأ ْلق���ه ِإ َل ْيهِ ْم ُث َّم َت َ ون﴾ ،لكنه لم يكن كالحمام الزاجل الذي يستخدم َما َذا َي ْر ِج ُع َ لتبليغ الرسائل فقط؛ ألن سيدنا سليمان طلب من َج ّدي، ال وانتظار ما س���يحدث ...فهي مهمة اس���تطالعية االبتع���اد قلي ً يريد من خاللها أن يعرف ردود أفعال مملكة سبأ لألوامر التي تحمله���ا الرس���الة ،وعليها يتوقف تصرفه معهم وإس���تراتيجيته بم���ا يقتضي���ه واج���ب األم���ر بالمع���روف والنهي ع���ن المنكر؛ فإما أن يختار االس���تعداد للحرب ،وإما أن يبادئهم بالحس���نى ويرس���ل لهم الهدايا لعلهم يتعظ���ون .ولذلك كان يولي أهمية كبيرة لما س���يقوم به َج ّدي من استش���عارٍ عن ُب ْعد واس���تطالع. أيه���ا اإلنس���ان المحت���رم ،كن���ت أن���وي -كباق���ي أصدقائي ���ن ِ الخ ْلقة الحيوانات التي تحدثت قبلي -أن أتحدث عن ُح ْس ِ التي فطرني عليها ربي ،وتجليات أس���مائه الحسنى في بنياني، لكن���ي وج���دت القرآن الكري���م يتحدث عني في ه���ذه القصة، فارتأيت الوقوف عندها وتقديم وجهات نظري حول معانيها. ُ وبي���ان الق���رآن الكريم المعجز ،البد من تفس���يره في كل عصرٍ قدر ورق���ي .وقد ّ ث���ت ْ تحد ُ بم���ا يحمل���ه ذلك العص���ر من علم ُ فهم���ي وبمنط���ق الطي���ر لدي .لعله يخ���رج منكم َمن هو أش���د إقناعا. علم���ا من���ي ،ويق���دم لكم تفس���يرا أق���رب للفهم وأكث���ر ً ً ً فأن���ا ال أدعي الحقيقة ،بل أح���اول االقتراب منها ،والموضوع مفتوح للمكتشفات الجديدة ،وربما استطعتم أن تفهموا ألسنة السنة الثامنة -العدد (2013 )34
38
الحيوانات كسيدنا سليمان وتفهموا عنها الكثير .هذا وإن بديع الزمان سعيد النورسي يشير إلى االستفادة من طير الزرزور في مكافحة الجراد .وكذلك يوجد في الطيور األخرى طاقات
س���بل االس���تفادة منها مع مرور األيام. فطرية ،لعلكم تجدون ُ
ومم���ا يجدر ذكره هنا ،أنه ورد ذكري في "التلمود" باس���م
"ديك البيان" ،وورد ذكري في التوراة بين الطيور التي ال يؤكل رف باس���م جاويش الطيور بس���بب عرف���ي الطويل لحمه���اُ .أ ْع ُ
الذي يعلو رأسي .وعالوة على مجرى التنفس ،أستطيع تنفس
اله���واء من مجرى الطعام من منقاري بس���بب ش���كله األنبوبي الخ���اص ،وبذل���ك أتمكن من إص���دار أمواج صوتية ُمر ِ تعش���ة ْ كأنه���ا تصدر من ِ الم ْرن���ان .أعيش في مصر والحبش���ة (أريتريا والصومال وإثيوبيا) وأنغوال والشرق األوسط وتركيا وجنوب
أوربا الشرقية .أقوم بهجرات موسمية قصيرة .أحتضن ()8-5 يوما. بيضات أضعها في نهايات الربيع في مدة (ً )17-15
وعلى الرغم من أني ال أبدو مختل ًفا في مظهري الخارجي
عن سائر الطيور إال بشكل منقاري وعرفي فوق رأسي وألواني،
فإنني أعتقد بأنه ينبغي عليكم البحث في قدراتي على السمع ال عن والبص���ر والش���م والق���درات المودع��� ِة في دماغ���ي ،فض ً الدراس���ات البيولوجي���ة والبيئية ،وذل���ك انطال ًقا من قصتي في
الق���رآن الكريم .وه���ذه وظيفتكم باعتباركم عب���ادا منحكم اهلل ً نعم���ة التفكي���ر والتدبر .لذا عليكم أن تفك���روا في الحكمة من ذك���ر قصتي في الق���رآن الكريم ،وأن تتأملوا وتفكروا في خلق
السماوات واألرض في كتاب الكون المنظور.
(*) جامعة 9أيلول /تركيا .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
���ر﴾ أن على رجل الدولة أن يقوم ﴿و َت َف َّق َد َّ قوله س���بحانهَ : الط ْي َ بتفتيش الجيش وكافة مؤسس���ات الدولة حتى أصغر فر ٍد فيها. ال َأ َرى ال َما ِل َي َ ويعترين���ي العجب حين أقرأ قوله تعالىَ ﴿ :ف َق َ ِين﴾ ،كيف عرف س���ليمان أفراد ا ْل ُه ْد ُه َد َأ ْم َك َ ان ِم َن ا ْل َغا ِئب َ جيشه العظيم بهذه الدقة ،وكيف انتبه إلى غياب َج ِّدي الهدهد بنظر ٍة واحد ٍة في هذا الجيش الجبار!؟ ربما كان سيدنا سليمان ين���وي أن يكلف َج ِّدي بمهمة ،وعندما افتقده س���أل عنه. وربما كان س���ليمان قد أدرك أن اهلل سبحانه وهبنا القدرة على كشف مواطن الماء ،فأراد أن يكلف َج ِّدي بالكشف عن هذه المواطن .فكما نقل الطبري والبيضاوي من علمائكم؛ أن ٍ قريب من صنعاء مكان س���ليمان كان قد نزل بجيش���ه في ٍ ماء ،فبحث عن َج ِّدي الهدهد ليستكش���ف له اليمن ،فلم يجد ً مواطن الماء. ِ قابليتي في الكش���ف ولعلكم اآلن ستس���ألونني عن حقيقة ّ أجبتكم ،أن أفسد "سر التكليف" عن مواطن الماء؟ أخشى ْ إن ُ َّ ف���ي هذا األم���ر .فعندكم المختب���رات والمعاه���د والجامعات، ويمكنكم البحث والدراس���ة في ه���ذه القابلية حتى تصلوا إلى أن أقول لكم ،إنه من الجواب الش���افي والوافي .ولكن يكفي ْ ال- أجل البحث عن الماء في باطن األرض ،ينبغي عليكم -أو ً أن تدرسوا هيكلية سطح األرض ،وتطلعوا على شكل انحدار وإن س���ألتم عن الس���بب في اختيار س���يدنا طبقاته���ا من الجوْ . س���ليمان َ ج ّدي من بين جمي���ع الطيور ،أقول :ألنه يملك ق���درة خاصة في الكش���ف ع���ن الماء في باط���ن األرض .وهو أم���ر عظيم يهتم ب���ه اليوم علماء "الجيولوجي���ا المائية" من بين بجد في هذا المجال. علمائكم في الجيولوجيا ويعملون ٍّ
حكمة اآليات
عندما افتقد سيدنا سليمان َ ج ّدي الهدهد قال﴿ :لأَ ُ َع ِّذ َب َّن ُه َع َذ ًاب���ا َش ِ يدا َأ ْو لأَ َ ْذ َب َح َّن ُه َأ ْو َلي ْأ ِتي ِّني بِس��� ْل َط ٍ ِين﴾؛ وأعتقد ان ُمب ٍ ���د ً ُ َ َ أن المقص���ود م���ن ذل���ك ،وج���وب االس���تئذان م���ن القائد عند مفارق���ة الجماع���ة ول���و كان ذلك في س���بيل عم���ل نافع صالح لها ،باإلضافة إلى أن التسيب والخروج عن الطاعة يستوجب العقوبة في س���بيل بقاء الجماعة متماس���كة .ويس���تفاد من هذه أيض���ا ،أنه يمكن للف���رد أن يتصرف بغي���ر إذن قائده، الحادث���ة ً اغتنام���ا لفرص��� ٍة ال يمكن معه���ا االنتظار ،وأن عل���ى القائد أن ً يتص���رف بما تقتضيه العدال���ة وينصت إلى األعذار التي يبديها المخال���ف قب���ل إن���زال العقوب���ة ب���ه .أم���ا عقوبة "الذب���ح" -في اعتق���ادي -يمكن أن تن ّفذ عند الخيانة العظمى التي تس���تهدف األمة كلها ،أو تستهدف النيل من قوتها مع جيشها ،كالتجسس وإفشاء األسرار العسكرية للعدو ،والفرار من الزحف ،والنفير العام للجيش .وهذا التهديد في رواية أخرى ،س���ببه أن َج ّدي كان قد تخلف عن نوبته في الحراسة. وف���ي اآليات ( )26-22ن���رى َج ّدي الهدهد في دفاعه عن الهام الذي شاهده ووقف يبين لرئيس الدولة الموضوع ّ نفسهّ ، وعبر ينبغي لنا الوقوف عندها ،فنرى عليه .وهنا ً أيضا دروس َ في البداية ،تصرف سيدنا سليمان العادل مع رعيته ،فكل فرد يمكن أن يتحدث معه في راحة تامة ،وبهذا العدل استطاع طت ب َِم���ا َل ْم ُت ِح ْط ِب ِه َو ِج ْئ ُت َك ج���دي ُ ّ الهدهد أن يقول لهَ ﴿ :أ َح ُ ين﴾؛ فهو يري���د أن يقول له "عل���ى الرغم من ���ن َس َ���ب ٍإ ب َِن َب��� ٍإ َي ِق ٍ ِم ْ أن���ك رئي���س دولة ،فإن لقوتك وقدرتك ح���دودا ،فهناك بلدان ً بعد ...لقد اكتشفت ش���يئا ُ لم يبلغها س���لطانك ،ولم تعلم عنها ً بلدة سبأ وأمعنت البحث في واقعها ،وتوصلت إلى معلومات
37
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
بعد ش���رح طويل أن "المن ِطق" يازِ ير" (1942-1877م) ،يذكر َ ْ م���ن "ال ُّن ْط���ق" وه���و لغ���ة الطي���ر ،ولكن ه���ذه اللغ���ة ال تنحصر باألص���وات التي تخرج من الفم فحس���ب ،ب���ل هي لغة تعرب معا ...ثم يضيف منطل ًقا من هذا عنه���ا األصوات والتصرفات ً المفه���وم فيقول" :إن س���ليمان لم يتوقف في معرفته بلغة الطير عند حدود األصوات والتصرفات فحسب ،بل تجاوزها إلى المنطق الذي يش���كل أس���اس تلك الحواس" .وهذا الفهم في حقيقة األمر ،ال ينحصر بسيدنا سليمان وحده ،فنحن مهيؤون لفهمه واستيعابه ،ولكن بشرط أن ندرسه بحق، ً أيضا ّ ونبحث عنه بجدية المتناهية.
ِين ْ اذ َه ْب ب ِِك َتابِي َه َذا َف َأ ْل ِق ِه ِإ َل ْيهِ ْم ُث َّم َت َو َّل َع ْن ُه ْم َفا ْن ُظ ْر منطق الطير ا ْل َكا ِذب َ ون﴾(النمل.)28-20: َما َذا َي ْر ِج ُع َ
ي���ا له���ا من صورة مبه���رة وبيان معجز! ُت���رى لماذا تحدث
كت���اب مق���دس كالق���رآن الكري���م ع���ن الطي���ور ،واختارني أنا
باألخص في الحديث مع نبي عظيم كس���ليمان ؟! ما دمنا
نؤمن بأن هلل حكمة في كل ش���يء ،إذن يجب أن نفكر ونتدبر ف���ي هذه اآليات ونس���تخرج منها الجوانب الت���ي تتعلق بيومنا الحظتم، الحاض���ر أو مس���تقبلنا اآلت���ي .إذا اس���تخدمت تعبير ْ ُ
"أن نفك���ر" ،وذل���ك ألن األح���كام القطعيةُ ،يحتم���ل أن تكون عائ ًق���ا ف���ي الوصول إل���ى المعلومات األكثر صح���ة ودقة ،كما
سببا في ا ْنخداعنا بعلمنا البسيط يمكن أن تكون هذه األحكام ً الضح���ل .ألنه إذا اتضح مع األي���ام أن القرآن الكريم المعجز
ب���كل كلماته ،يش���ير إل���ى علوم ومكتش���فات جدي���دة أكثر دقة
وأشد التصا ًقا بالواقع ،أكون قد وضعت نفسي في موقع حرج ُ
بإط�ل�اق أح���كام قطعية ،لذا يجب في هذا المقام أن أس���تخدم
"منطق الطير" بدقة فائقة.
و"منطق الطير" مصطلح ورد في مطلع القصة التي ذكرتها اس ود َو َق َ ﴿و َورِ َث ُس��� َل ْي َم ُ ال َيا َأ ُّي َها َّ ان َد ُاو َ اآليات الس���ابقةَ : الن ُ ع ِلمن���ا من ِط���ق الطير و ُأو ِتينا ِمن كل ش ���ذا َل ُه َو ا ْل َف ْض ُل ���ي ٍء إ َِّن َه َ ُ ّ ْ َ َ ْ َ َّ ْ ِ َ َ ْ ُ ِّ َ ْ ِ الط ْي ِر ���ن َوا ِ س َو َّ إل ْن ِ ���ر ِل ُس��� َل ْي َم َ ان ُج ُن ُ ود ُه ِم َن ا ْل ِج ِّ ا ْل ُمب ُ ِين َو ُحش َ ون﴾(النمل.)17-16: وز ُع َ َف ُه ْم ُي َ على الرغم من أن بعض التفاسير ذكرت بأن سليمان
كان يع���رف جمي���ع لغات الطيور ،فإنه م���ن الملفت لالنتباه أن ���ر﴾ دون "لغة الط ْي ِ ﴿من ِط َق ّ الق���رآن الكريم اس���تعمل مصطل���ح ْ الطير" .فالمفسر الكبير العالمة التركي " َأ ْلما ِل ِلي محمد حمدي السنة الثامنة -العدد (2013 )34
36
بمنطق الطير لدي ،يمكن أن أتناول المعاني التي اس���تخرج ُتها من العبارات والتحاليل أعاله من عدة زوايا: ال ،ت���م التركيز على أن "الطي���ران" أمر يحتاج إلى تعمق أو ً في العلم ودقة في الدراسة والبحث ،وأن سيدنا سليمان يمكننا م���ن الطيران، ُوه���ب عل���م المب���ادئ الميكانيكي ال���ذي ّ وعرف كذلك قدرة الرياح على الرفع في الهواء ،والخصائص أساسيا في الطيران دورا الفس���يولوجية والتشريحية التي تلعب ً ًّ والتحلق في السماء. ���ن ُك ِّل َش���ي ٍء﴾ ،إش���ارة ﴿و ُأو ِت َين���ا ِم ْ ثاني���ا ،أعتق���د أن ف���يَ : ً ْ إل���ى أهمي���ة الثروة البالغة في الدول؛ فوج���ود الطير مع اإلنس ف���ي جيش س���ليمان ،لف���ت انتبا ٍه إلى الق���وات الجوية أي الطائ���رات .وجميعك���م يعرف م���دى أهمية المراقب���ة من الجو والتحرك السريع في التجسس واالستطالع. أما القسم الذي يتعلق بي في السورة؛ فيمكن أن نفهم من
علوم
أ.د .عرفان يلماز*
الهدهد
الطائر الذكي
طي���ورا كثيرة عزيزي اإلنس���ان ...ال ش���ك أن ً حدثتك عن قدرة اهلل تعالى من بنات جنس���ي َ في خلقه ،ومن ثم عن عجائب صنعه وبدائع أول حكمت���ه التي تجلت في أجس���امها .كان ينبغ���ي أن أكون ّ واحدا م���ن الطيور التي المتحدثي���ن في هذا الش���أن ،لكون���ي ً ذكرها اهلل تعالى في قرآنه .نعم ،تم ذكري في القرآن الكريم ال َأ َرى ال َم���ا ِل َي َ الط ْي َر َف َق َ ���د َّ ﴿و َت َف َّق َ م���ع النبي س���ليمان َ : ���ه َع َذ ًاب���ا َش ِ يدا َأ ْو ���د َأ ْم َك َ ���د ً ا ْل ُه ْد ُه َ ِي���ن لأَ ُ َع ِّذ َب َّن ُ ���ن ا ْل َغا ِئب َ ان ِم َ ِين َ فم َك َث َغي���ر َب ِع ٍ ���ه َأ ْو َلي ْأ ِتي ِّن���ي بِس��� ْل َط ٍ ال يد َف َق َ ان ُمب ٍ لأَ َ ْذ َب َح َّن ُ َ ُ َ َ ْ َ ي���ن ِ إ ِّني ���م ُت ِح ْط ِب��� ِه َو ِج ْئ ُت َك ِم ْن َس َ���ب ٍإ ب َِن َب ٍإ َي ِق ٍ َأ َح ُ ط���ت ب َِم���ا َل ْ ���د ُت ْام َ ِ ش ���م َوأُو ِت َي ْت ِم���ن كل ش ���ي ٍء َو َل َها َع ْر ٌ َو َج ْ ���رأ ًة َت ْمل ُك ُه ْ َ ْ ُ ِّ َ ْ ِ ون ا ِ ���ن ُد ِ هلل ���م ِ ���ج ُد َ ون ِل َّ س ِم ْ ي���م َو َج ْد ُت َه���ا َو َق ْو َم َها َي ْس ُ لش ْ َعظ ٌ الش���ي َط ُ َ ال ِيل َف ُه ْم َ الس���ب ِ َو َز َّي َ ان أ ْع َما َل ُه ْ ���ن َل ُه ُ ���م َّ ْ ���م َف َص َّد ُه ْم َع ِن َّ لهلِ ِ ِ ِ او ِ ات ون َ أ َّ َي ْه َت ُد َ الس َم َ ال َي ْس ُج ُدوا ا َّلذي ُي ْخ ِر ُج ا ْل َخ ْب َء في َّ َوا َ ال ُه َو هلل َ ال ِإ َل َه ِإ َّ أل ْر ِ ���ون ا ُ ون َو َما ُت ْع ِل ُن َ ���م َم���ا ُت ْخ ُف َ ض َو َي ْع َل ُ ���ت ِم َن ي���م َ ق َ ���ر ِ ش ا ْل َع ِظ ِ ���ت َأ ْم ُك ْن َ ���ال َس َ���ن ْن ُظ ُر َأ َص َد ْق َ َر ُّب ا ْل َع ْ
35
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
بالحاجة إلى االهتداء بها وإتيان أفعاله على وفقها.
أن يوفر لإلنس���ان الراحة النفس���ية والس���لوى والرضا ،ألنه في
والح���ال أنه ليس ف���ي األطوار التي تقلب���ت فيها الحضارة
عالما للكفاءة والفعالية والقياس والتنبؤ، الوقت الذي وفر فيه ً
هذا الميل الفطري لدى اإلنسان مخالفة الواقع الكوني له ،فهو
الروح���ي كما يؤكد "ماكس فيب���ر" .إنه عالم بارد غير مضياف،
اإلنس���انية كم���ا يذهب الدكتور طه عب���د الرحمن "طور خالف
يق���ر بوج���ود القيم ،لكنه ال يقر بوج���ود اآليات ،وال يخفى أن الفصل بين اآلية والقيمة إجراء تجريدي صناعي ،بل تصنعي،
ذلك أن اآليات ال تعدو كونها الظواهر عينها وقد تلبست بها القيم ،والظواهر إنما هي اآليات وقد انتزعت منها هذه القيم،
فه���ذا االنتزاع يؤدي إلى تجريد القيم من المواد التي تتجس���د فيها أو من الموضوعات التي تحملها ،ثم وضعها في عالم ال
وج���ود ل���ه إال في األذهان ،قد يزع���م بعضهم أنه عالم المثال، أي عالم ال يأوي إال الصور المجردة".
حريص���ا عل���ى تعلي���م تالمذته لق���د كان اإلم���ام النورس���ي ً
ومحبي���ه أن كل عل���م من العلوم الت���ي يقرءونها يبحث عن اهلل ويعرف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. دوما، ً ّ
من موجبات اش���تغال العقل اإليماني المؤيد ،أن ال تنفك
أي علم عن معرفة اهلل تعالى فيه ،فكل معرفة معرف���ة موض���وع ّ
مفتاحا من مفاتيح االهتداء إلى طريق اهلل عقلية كاملة ،تشكل ً
بقدر ما هي علمك بالموضوع الذي تختص ببحثه وبالكشف ع���ن قوانين���ه .فالموضوع���ات أو الموجودات الت���ي تنظر فيها
العل���وم ،هي -على التحقيق -مجلى ق���درة اهلل ومظهر صنعه،
عالم���ا فاق���دا للمعنى الخف���ي ،وال يهتم باإلش���باع ق���دم ً ً أيض���ا ً الحقيقة فيه ليس���ت الجم���ال أو الفضيلة أو ما هو نافع ويخدم
غاي���ات نبيل���ة ،إن القيمة والعاطفة واألمل والمخاوف ليس���ت من اهتماماته.
وإذا ل���م تك���ن ه���ذه القيم اإلنس���انية من انش���غاالت العقل
الم���ادي واهتمامات���ه ،ف���إن النورس���ي يل���ح بالج���واب على أن
اإليم���ان ه���و الذي يقي���م بين القل���ب والعقل ،وه���و الحارس المعن���وي األمي���ن ال���ذي يراق���ب مي���والت النف���س وتطلعاتها
عبدا هلل الواحد األح���د ،متخل ًقا الفاس���دة حت���ى يبقى اإلنس���ان ً
باألخ�ل�اق المحمدية ،ف���ي زمن بات الخطر الكبير الذي يهدد
حاضر ومس���تقبل الغرب ،هو الصعود المأس���اوي لنوع جديد
من األزمات؛ أزمة اإلنسان. (*) أكاديمي ومفكر مغربي.
المراجع
( )1كليات رس���ائل النور (المكتوبات ،اللمعات ،الكلمات ،إشارات اإلعجاز، الش���عاعات ،س���يرة ذاتية ،الخطبة الش���امية) ،لبديع الزمان سعيد النورسي،
ترجمة :إحسان قاسم الصالحي ،دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )2إمامة األمة ،لياسين عبد السالم ،ط ،2009 ،1دار لبنان للطباعة.
وكل من سرح فيها فكره وكان ذا عقل كامل ،وجب أن يدركه
( )3المواقف والمخاطبات ،لـ"النفري عبد الجبار" ،تحقيقآرثر أربري ،تقديم وتعليق
ف���ي اس���تعارة رائع���ة يقول النورس���ي" :إن الق���رآن الحكيم
الجم���ع بي���ن القراءتين ،قراءة الوحي وق���راءة الكون ،لـ"العلواني طه جابر"،
اقترابا منه. فيها وأن يزداد ً
بمثابة عقل األرض وفكرها الثاقب ،فلو خرج القرآن -والعياذ لج ّن���ت األرض" .وإن جنون األرض، ب���اهلل -من هذه األرض ُ
()4
عبد القادر محمود ،مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1985 ،القاهرة.
ط ،2006 ،1مكتبة الشروق الدولية ،القاهرة.
( )5تهافت الفالس���فة ،للغزالي أبو حامد ،تعليق محمد السعيد محمد ،المكتبة التوفيقية ،2003مصر.
ه���و جملة األم���راض واألزمات التي تنبأ بها النورس���ي عندما
( )6العم���ل الدين���ي وتجديد العق���ل ،للدكتور طه عبد الرحم���ن ،ط،1997 ،2
الت���ي تطحنهم في رحاها ،ف�ل�ا يعيش إال القوي ،وال يتأمر إال
الح���ق اإلس�ل�امي في االختالف الفك���ري ،للدكتور طه عبد الرحمن ،ط،1
تنفصل اآليات عن القيم ،فتتحكم في دنيا الناس القيم المادية
ال أعلى إال الفارغ الغوي. المحتال الذكي ،وال يكون مث ً
إن الغاي���ة م���ن إعم���ال العق���ل عند اإلم���ام النورس���ي ،هي
تحقيق التفكر واالعتبار ،ومقتضى االعتبار -كما يقول طه عبد الرحمن -هو العبور من أحكام النظر إلى أسرار العبر ،فيكون
المعتبِر حقيقة هو م���ن يرى الظواهر على أنها آيات، اإلنس���ان ُ وينسب السيادة على الكون والوجود إلى صاحب هذه اآليات. ه���ذا وإن العل���م بمعناه الم���ادي ،قد فش���ل -بالتأكيد -في السنة الثامنة -العدد (2013 )34
34
()7
المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء -بيروت.
،2005المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء -بيروت.
( )8روح الحداثة ،المدخل إلى تأس���يس الحداثة اإلس�ل�امية ،للدكتور طه عبد ()9
الرحمن ،ط ،2006 ،1المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء -بيروت.
سؤال األخالق ،مساهمة في النقد األخالقي للحداثة الغربية ،للدكتور طه عبد الرحمن ،ط ،2000 ،1المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء -بيروت.
John F. Haught. Science and Religion, Paulist press, New
)(10
York, 1995, p15. Philipe Saint Marc. L’Economie Barbare, Frison Roche,
)(11
1994, p15.
واإليجاد إلى الوس���ائط ،ويسندون إليها التأثير ،ويري���دون بلوغ حقيقة الحقائق،
ومعرفة اهلل عن طريق العقل والفكر
وحده ،كالحكماء المشائيين.
كما اجتهد اإلمام النورس���ي -رحمه
اهلل -ف���ي ال���رد عل���ى حج���ج فالس���فة الحتمي���ة الس���ببية بمنط���ق يش���ي بمعرفة واس���عة بمذاهبه���م ،وف���ي الوق���ت ذات���ه
باطالع واس���ع على أدبي���ات المتكلمين والفالس���فة المس���لمين .كم���ا يظه���ر للق���ارئ أن مناقش���ته للحتميين ،ش���بيهة بمناقش���ة اإلم���ام الغزال���ي ف���ي تهاف���ت الفالس���فة في إبطال قولهم في استحالة
وحينم���ا يقارن النورس���ي بين منطق
الإن�سان �إذا تدارك غفلته ،فتاب عقله عن عنجهيت��ه ومترده على خالقه ،و�سجد بني يديه �سبحانه معرتفً��ا بالتق�ص�ير وال�ض��عف والتناه��ي ،تداركته ي��د العناية، فيتح��ول العقل اجلام��د �إىل عقل ح��ي ،وينقلب العق��ل املحبو�س �إىل عقل منطلق ،ويرتفع الإن�سان م��ن وه��دة البهيمي��ة الراتعة �إىل مراقي الت�رشيف والتكرمي.
خ���رق الع���ادات ،وهو مبح���ث خصصه
لنفي رجوع االقتران لمنطق السببية ،بل لما سبق من تقدير اهلل
سبحانه ،يخلقها على التساوق ال لكونه ضروريا في نفسه غير ًّ وأي َو ْهم! "أي هذرٍ هذاّ ، قابل للفرق .يقول اإلمام النورسيّ : بعيدا كل البعد عن سالمة العقل؟ فالذين أليس الذي يتفوه به ً يحيل���ون أم���ر الخل���ق واإليج���اد في ه���ذا الكون البدي���ع ،إلى
األس���باب وإلى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا، وذل���ك ألن مظاهر اإلب���داع واضحة على األس���باب والطبيعة
نفسها ،فهي مخلوقة كسائر المخلوقات .فالذي خلقها -على أيضا ه���ذه الصورة البديعة -هو الذي يخل���ق آثارها ونتائجها ً
معا". ويظهرها ً
ضعت "لتبقى عز ُة ويوضح النورس���ي أن األس���باب إنما ُو َ القدرة مصون ًة من جهة نظر العقل الظاهري؛ إذ إن لكل شيء "الملك" الش���بيهة جهتي���ن -كوجه���ي المرآة -إحداهم���ا جهة ُ
بالوج���ه المطلي المل���ون للمرآة ،الذي يك���ون موضع األلوان ّ والح���االت المختلف���ة ،واألخرى جه���ة "الملكوت" الش���بيهة
الملك- بالوجه الصقيل للمرآة .ففي الوجه الظاهر -أي جهة ُ هن���اك ح���االت منافية ظاهرا لعزة الق���درة الصمدانية وكما ِلها، ً مرجعا لتلك الحاالت األس���باب كي تكون ضعت ووسائل َ ُ ً فو َ ُ له���ا .أم���ا جه ُة الملك���وت والحقيقة ،فكلُّ ش���يء فيها ش���فاف ٌ وجمي���ل ومالئم لمباش���ر ِة ِ يد الق���درة لها بذاتها ولي���س منافيا ٌ ٌ ً لعزتها .لذا فاألسباب ظاهرية بحتة ،وليس لها التأثير الحقيقي ّ في الملكوتية أو في حقيقة األمر".
الق���رآن ومنطق المتكلمي���ن ،يفصح عن صورة تقدم الوحي وترفعه فال توازيه في
منزلت���ه اإلقناعية منزل���ة المتكلمين مهما تفنن���وا وبرعوا ،فيقول" :فمن هذا الس���ر
يتبي���ن أن علم���اء ال���كالم ،وإن تتلم���ذوا على القرآن الكريم وأ ّلفوا ألوف الكتب
-بعضها عش���رات المجلدات -إال أنهم
لترجيحهم العقل على النقل كالمعتزلة،
عش���ر عج���زوا عن أن يوضحوا ما تفيده ُ آي���ات من الق���رآن الكري���م وتثبت���ه إثبا ًتا قاطع���ا بما ي���ورث القناع���ة واالطمئنان، ً
ذل���ك ألنه���م يحفرون عيو ًنا في س���فوح جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء إلى أقصى
العالم بوساطة أنابيب ،أي بسلسلة األسباب ،ثم يقطعون تلك السلسلة هناك ،فيثبتون وجود واجب الوجود والمعرفة اإللهية
التي هي كالماء الباعث على الحياة! أما اآليات الكريمة ،فكل تـفــج���ر المـــاء أينما واح���دة منها كــعصا موس���ــى تس���تــطيع أن ّ
ضربت ،وتفــتــح من كل شـــيء نافذ ًة تــدل على الصانع".
إن النورسي من خالل هذا الكالم التمثيلي الرائع ،يوضح
حاجزا كيف يمضي تفس���ير القرآن للس���ببية من غي���ر أن تصير ً ع���ن إدراك العقل للوجود في كليت���ه ،للوجود المتمكن بقدرة
اهلل التي تفعل فيه وبه ما تش���اء .كما يبين في الوقت ذاته كيف أن الس���ببية الجامدة تش���ل حركية العقل المادي وتأسره ،فهي
خارجا عن قانون ش���يئا تح���د من طاقته اإلبداعية ،فال يتصور ً ً
وس َك َن في قفصه إلى األبد. َو َض َع ُه َ
العقل والجمع بين اآليات والقيم
العقل المؤيد بالوحي واإليمان عقل يصل بين اآليات والقيم.
ومعل���وم أن أحد أس���باب التردي واالنهي���ار في الواقع الكوني
اليوم ،هو س���يطرة فلسفات ومناهج معرفية تفصل بين اآليات والقي���م .والحقيق���ة أنه ال ن���زاع في أن الكائن اإلنس���اني يميل
بفطرت���ه التي خلقه اهلل تعالى عليها ،إلى أن يجد في األحداث الت���ي تجري م���ن حوله دالالت تجاوز واقعه���ا .وهو يرى في
حصولها إشارات تتعدى الظواهر ،وتحمل إليه هذه الدالالت قيما عليا يش���عر الدقيق���ة واإلش���ارات الخفية ،معاني بعيدة أو ً
33
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
ناتجا من عدم اإليمان ،ب���ل من غلبة الهوى العقل مفتاح الكنـوز الخالدة ارت���كاب الكبائ���ر ً
وغ َلبة وسيطرة الوهم والحس المادي ،وانهزام العقل والقلب َ ّ
مفتاحا للكنوز عند اإلمام النورسي -رحمه حتى يكون العقل ً
واإلنس���ان إذا ت���دارك غفلت���ه ،فت���اب عقل���ه ع���ن عنجهيته
يتح���دث أول األم���ر ع���ن العق���ل بما ه���و فعل القل���ب ،وليس
والضعف والتناهي ،تداركته يد العناية ،فيتحول العقل الجامد
من هذا المنطلق الرباني إشعاعات قلبية مهتدية بهداية القرآن،
ويرتفع اإلنس���ان من وه���دة البهيمية الراتعة بال مس���ؤولية وال
فال إشعاع للعقل حتى يكون القلب مصدره الذي يخرجه
النورس���ي رضي اهلل عنه" :وانظر إلى اإلنس���ان كيف تر َّقى من
في س���هولة ويسر وانس���جام ووئام؛ قراءة كتاب اهلل المسطور،
ألحزان الماضي ومخاوف المس���تقبل ،تر ّقى إلى أوج الخالفة
أش���كالها ومعانيه���ا ...كت���اب من���زل متلو معجز وه���و القرآن،
كل أولئك عليهم".
اهلل -ينبغي أن يرتبط بالقرآن الكريم ،وبتصوره الشمولي الذي
وتمرده على خالقه ،وسجد بين يديه سبحانه معتر ًفا بالتقصير
ال عنه .بل الممارس���ة العقلية ف���ي أجلى صورها تكون مفص���و ً
إل���ى عق���ل حي ،وينقل���ب العقل المحبوس إل���ى عقل منطلق،
وهذا معنى قول النورسي" :نور العقل يشع من القلب".
رقاب���ة أخالقية إل���ى مراقي التش���ريف والتكريم ،يق���ول اإلمام
إيمانيا ،حيث يجمع العق���ل المؤمن آنئذ بين قراءتين مخرج���ا ً ًّ
حضيض الحيوانية الذي هوى إليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل
وق���راءة كت���اب اهلل المنظ���ور "للخ���روج م���ن إس���ار األمية بكل
أس���باب بتنور ذلك العقل والعجز والفقر .فانظر كيف صارت ُ أسباب صعوده بسبب تنورها سقوطه -من عجز وفقر وعقل- َ
وكت���اب مخلوق مفت���وح وهو هذا الخلق والك���ون والتجارب
بنور هذا الشخص النوراني".
وحقيق���ة ارتقاء العقل ال تكون إال بأخذه باإليمان وبالقيم
منف���ردا إل���ى ضرب األخالقي���ة ،وإال اس���تحال أم���ر تحكيم���ه ً م���ن التأليه ال���ذي يودي بالحياة اإلنس���انية إلى أت���ون الفوضى
واالقتتال ،يقول النورسي" :القلب اإلنساني إذا انتزع منه الرأفة والرحم���ة واالحت���رام ،فإن العقل والذكاء يس���يطران -عندئذ-
عل���ى زم���ام اإلنس���ان ،ويجع�ل�ان أولئ���ك الن���اس كالوح���وش الضارية والكالب المسعورة".
وهكذا فإن الترتيب الفطري لإلنسان يرفع القلب إلى مقام
وزيرا له والحواس َخ َد َمة ،فإذا فسدت اإلمارة ،ويجعل العقل ً الفط���رة َت َأ َّمر العق���ل ،وتمرد على القلب ومعانيه ،وهذا فس���اد
العقل الفلسفي العبثي ،فإن فسدت الفطرة الفساد التالي للفساد ���خ َر المالزم له، األول، وس َّ َ َ الناتج عنهَ ،ت َأ َّم َر الهوى بش���هواتهَ ، العقل ألغراضه ،وطرد معاني القلب من القيم اإليمانية العالية. وق���د اس���تمر النورس���ي ط���وال حيات���ه ،يداف���ع ع���ن العقل
األخالق���ي ال���ذي يرج���ح القي���م اإلنس���انية النبيل���ة عل���ى القيم اإلنس���انية المنحطة ،ويذكر في كل مناس���بة أن قيمة العقل من
قيم���ة األخالق التي يدافع عنها ،يق���ول" :فلئن كانت المداهنة والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في س���بيل المصـلحة
تعد من مقتضى العقل ...فاش���هدوا أني أقدم براءتي الخاصةّ ،
البشرية فيه".
والعق���ل المفت���اح عند النورس���ي ،عقل متجاوز باس���تمرار
لقشور الحكم إلى لب الحكمة ،فهو مفتاح رائع" ،بحيث يفتح
م���ا ال يعد من خزائن الرحمة اإللهي���ة وكنوز الحكمة الربانية، فأينم���ا ينظ���ر صاحبه وكيفم���ا يفكر ،يرى الحكم���ة اإللهية في كل ش���يء وكل موجود وكل حادثة ،ويش���اهد الرحمة اإللهية ٍ مرش���د متجلية على الوجود كله ،فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة رباني يهيئ صاحبه للسعادة الخالدة".
ويش���ترط النورس���ي حتى يك���ون العقل مفت���اح الكنوز ،أن
يتحلى بالتوحيد ،حتى يخرج من الوحشة والخوف والضعف، ذلك أن "التوحيد هو نفس���ه أوضح برهان وأس���طع دليل على
الكم���ال والجم���ال اإلله���ي ،ألن���ه إذا ُع���رف أن صان���ع الكون
المشاهدة فسيعرف جميع أنواع الكمال والجمال َ واحد أحدُ ، في الوج���ود ،بأنها ظالل وتجليات وعالم���ات ألنواع الكمال
المنزه لذلك الصانع الواحد األحد، المقدس وأنماط الجمال ّ
لذل���ك الكمال المق���دس والجمال المنزه .بينم���ا إذا لم ُيعرف
الصانع الواحد ،فس���تحال تلك الكماالت وأنواع الجمال إلى ُ
األس���باب التي ال ش���عور لها وإلى مخلوقات عاجزة ،وعندها يحار العقل البشري أمام خزائن الكمال والجمال السرمديين،
ألنه َف َق َد مفتاح تلك الكنوز الخالدة".
مفتخرا بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبة منطق السببية والعقل الملكي من هذا العقل، ً من مراتب البراءة".
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
يتحدث النورس���ي عن َع َبدة األسباب ،والذين يحيلون الخلق
32
المطلق أو في سبيل اهلل -كما يرى النورسي" -فإنه يتحول إلى
الح���س ،يتلقفه���ا العق���ل اإليمان���ي المؤيد لمعات ال يس���تقيم
يحملك آالم الماضي الحزينة عضو مشؤوم مزعج وعاجز ،إذ ّ ٍ وأهوال المستقبل المخيفة ،فينحدر عندئذ إلى درك آلة ضارة
تضيق فال تتس���ع للتعبي���ر عن هذه الحقائ���ق المتوارية ،و"عدم
في اللهو أو الس���كر إنقا ًذا لنفسه من إزعاجات عقله؟" .وليس
م���ا يتقاصر ع���ن أن يترجم عن دقائق ما ف���ي تصورات العقل،
مشؤومة .أال ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس
هذا الهروب س���وى قطع للعقل ،بما هو آلة إدراك للعالم عن الفعل النبيل والبناء في هذا العالم ،بما هو الفعل نفس���ه إدراك
للغاي���ة الت���ي من أجلها خل���ق الكائن اإلنس���اني وألجلها ُك ِّرم: ال ِلي ْعب ُد ِ ون﴾(الذاريات ،)56:حيث ﴿و َم���ا َخ َل ْق ُت ا ْل ِج َّن َوا ِ َ إل ْن َ ���س ِإ َّ َ ُ ال يستقيم وجود عبادة بدون عقل ،وال عقل بدون عبادة.
مراتب الوجود ومراتب العقول
تناوله���ا بمي���زان العق���ل المج���رد وقوانينه ،بل إن اللغة نفس���ها كثيرا التعبي���ر لي���س َع َل ًما عل���ى عدم الوجود .فكما أن اللس���ان ً كذل���ك ق���د ال يت���راءى ب���ل يتغامض ع���ن العقل س���رائر ما في
الوجدان ،فكيف يترجم عن كل ما فيه؟".
وإذا كان هذا في س���رائر الوجدان ،فكيف بس���رائر األكوان
مم���ا ه���و كائ���ن أو كان خصوص���ا إذا تفاعل���ت النف���س به���ذه ً
اللمع���ات ،يقول النورس���ي" :لقد مازج هذه اللمعة ش���يء من األذواق والمشاعر ،فأرجو عدم تقييمها بموازين علم المنطق،
يذهب النورسي إلى أن "أهل الحكمة وأهل الدين وأصحاب
ألن م���ا تجي���ش به المش���اعر ال يراعي كثي���را قواعد العقل وال ً
في عالم الشهادة هذا ،وأن عالم الشهادة الظاهر الجامد الذي
إنها حقائق الوجود حين تتأبى على الوصف ،وتخرج عن
العقل والنقل ،متفقون ضمنيا على أن الموجودات ال تنحصر ًّ
ال يكاد يتفق مع إقامة األرواح وتش���كلها ،قد تزين بهذا العدد الهائل من ذوي األرواح واألنس���ام ،لذا فالوجود ال يمكن أن
سمعا إلى موازين الفكر". يعير ً
طوق الترسيم كما قال النفري صاحب المواقف والمخاطبات:
"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".
منحصرا فيه ،بل هناك طبقات أخرى كثيرة من الوجود ،ارتقاء العقل يكون ً
ستارا بحيث يصبح عالم الشهادة بالنسبة لها مزركشا .وما دام ً ً
لقد أبان النورسي -رحمه اهلل -على أن منهج التربية في القرآن
لألسماك -فالبد أنهما يزخران بأرواح مالئمة لهما".
وصناع���ة تطلعات���ه ف���ي الحياة ،وبم���ا يمنحه من ق���درات على
عالم الغيب وعالم المعنى مالئمين لألرواح -كمالئمة البحار
كما يعلي من قيمة العقل بما هو حاكم وسبب في رقي اإلنسان
أيضا فوق بعض، عوالم بعضها فوق بعض ،وعقول بعضها ً
االبتكار واإلبداع في دنيا االبتالءات ،فإنه في مسيس الحاجة
في ظلمات الكون المادي وما أودع اهلل فيه من أس���باب ،حتى
إذ العق���ل عند اإلمام النورس���ي ،في مس���يس الحاجة لنفحات
ومنزلة العقل المادي فيها ال تعدو منزلة خفاش "جيد اإلبصار
إذا خرج من كهفه ذاك إلى حيث تسطع شمس حقائق الغيب
عم���ي عم���ى مطب ًقا ،وأنك���ر أن يكون في الوج���ود غير ما وقع
عليه حسه الكليل".
لنفحة اإليمان تحفظه من المهالك وتجعله على أقوم المسالك. الرحمن واالتصال بالمطلق (اهلل) حتى يجد معنى حقيقيا لهذه ًّ الحياة ،ويبقى على خط البناء والعمران ال الهدم والخس���ران. صراعا والبقاء على خط االستقامة والبناء ،يستلزم مستمرا ً ًّ
ولم���ا تعددت مراتب الوج���ود وطبقاته ،حتى كان الوجود
مع خصوم اإلنسان وأعدائه في الداخل والخارج على محور
أيضا مرات���ب يوافق منها كل واح���د مرتبة من مراتب العق���ول ً
أحاسيس اإلنسان ،ال ترضخ لموازين والغفلة" ،وعندما تهيج ُ
ش���يئا أمام عظم الوجود عامة ،كانت الحس���ي أدناها وال يمثل ً الوج���ود .فعل���ى قدر تحقق اإلنس���ان بواحد من ه���ذه العقول،
كان له االطالع الالئق بالمرتبة المطلوبة من الوجود المتواري خل���ف الح���س .وه���ذه العق���ول تتدرج ف���ي القوة حت���ى يكون أضعفها هو العقل الحسي المجرد وأقواها هو العقل اإليماني المؤيد ،وبينهما مراتب من العقل الشرعي المسدد.
وإن مع���ارف المرات���ب العالي���ة من الوج���ود الخارجة عن
االبت�ل�اء ...وله���ذا كان اإلنس���ان دائ���م المراوح���ة بي���ن الذكر
العقل ،بل الهوى هو الذي يتحكم ،فيرجح عندئذ لذ ًة حاضر ًة جدا على ثواب عظيم في العقبى ،ويتجنب ضي ًقا جزئيا ضئيلة ًّ ًّ
ال .ولما كانت الدوافع أليما مؤج ً حاضرا أكثر من تجنبه ً عذابا ً ً حثا النفس���انية ال ترى المس���تقبل بل قد تنكره -وإن كان هناك ًّ له���ا من النف���س وعو ًنا -فإن القلب والعق���ل اللذين هما محل
اإليم���ان ،يس���كتان ُفيغلب���ان عل���ى أمرهم���ا .فال يك���ون عندئذ
31
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
قضايا فكرية
د .إدريس مقبول*
العقل المؤيد باإليمان عند النورسي أو اتصال اآليات والقيم
يع���رف اإلم���ام النورس���ي العق���ل بأنه آل���ة تابعة ّ إلرادة اإلنس���ان بع���د أن ُت َع ّي���ن ل���ه الح���ق م���ن
الباط���ل والخير من الش���ر ،فإنها -أي اآللة -ال مدخ���ل لها في الفعل من حيث االختيار .فاإلنس���ان قد يعرف الش���ر بعقل���ه ويأتي���ه مع علمه بض���رره الالحق ل���ه أو لغيره في السنة الثامنة -العدد (2013 )34
30
العاج���ل أو ف���ي اآلجل ،ويعرف الخي���ر ويتركه مع علمه بنفعه كافيا وهو سر االبتالء .ولهذا لم يكن امتالك هذه اآللة وحده ً ليحق���ق ماهية اإلنس���ان وس���عادته ،ما لم يؤي���د باإليمان الذي
الخ ّير (فعل االستخالف). يحمل الكائن اإلنساني على الفعل َ
ب���ل إن العقل اآللة ،ما لم يس���تعمله اإلنس���ان ف���ي طريق الخير
بالمعطي���ات العلمي���ة أض���اءت ميادي���ن أوربا المظلم���ة آنذاك.
ولن���ا ف���ي المنج���ز اإلس�ل�امي الحض���اري مث���ال ش���اخص
عل���ى ما ُذك���ر ،إذ منح الن���ص الكريم مفاتيح اش���تغال للعلماء
المسلمين ،ورسم لهم خصوصية تتسم بالموسوعية واالبتكار وع���دم الرك���ون إل���ى التقلي���د ،والح���ث عل���ى النظر المس���تمر والس���ياحة في األرض ،ودراس���ة حال األقوام الس���الفة ،ألخذ
العب���ر ،وتحفيز العقل عل���ى التفكر والتدب���ر والتأمل ،وتقليب قدم المنجز األم���ور على أوجهها حت���ى يتبين الحق .وبذل���ك ّ
اإلس�ل�امي للعال���م ك ّله أس���ماء أس���همت في خدمة اإلنس���انية جمع���اء ،وأوضح���ت جوان���ب علمية كثيرة كان���ت غائبة عنها،
والقائمة في هذا الس���ياق تطول ف���ي الجانب الديني ،والطبي، والهندس���ي ،والفلك���ي ،واالجتماعي ،والتأريخي ،والنفس���ي،
والجغرافي ،واللغوي ،والبالغي ...إلخ.
• مش���روع النهض���ة اإلس�ل�امية م���ن وجه���ة نظ���ر طائفي���ة.
ويق���ود هذا األمر إلى نق���ص في البناء الفكري ،وعوز في بيان
المقدمات ،وفساد في استخالص النتائج ،ولنا في الطروحات الطائفية مثال أكبر شاهد.
مثلبا يعوق مشروع • تعد قضية استيراد الحلول الجاهزةً ،
النهضة اإلس�ل�امية ويؤخر قيامها ،ألن���ه يعتمد على جاهزيات الفكر عند اآلخر ،وهي غير مناسبة بالضرورة للفكر اإلسالمي لتباين خصوصية الطرح في كال التوجهين.
• ال يمكن تقديم الدعوة إلى والدة هذا المشروع أو إحيائه
جملة واحدة ،بل البد من االحتكام إلى فقه األولويات ،وبيان مسارات الحاجة المعرفية ،وتقديم األهم على المهم ،والعمل
وفق تدرج علمي مدروس.
• تباين األساليب الداعية إلى هذا المشروع بين المسلمين
إن الحدي���ث ع���ن النهض���ة اإلس�ل�امية المعاص���رة وبي���ان
ف���ي الش���رق وف���ي الغ���رب ،ويع���ود س���بب ذل���ك إل���ى تباي���ن
الظواه���ر والمعطي���ات عل���ى الصعيدين اإلس�ل�امي والعالمي.
• تباي���ن الط���رح النهض���وي ل���دى النخ���ب اإلس�ل�امية المعاص���رة ،ويرجع س���بب ذلك إلى التبن���ي الفكري القصدي
آني���ا ،إنما ه���و حديث متج���دد بتجدد مفاهيمه���ا لي���س حديث���ا ًّ
وق���د ب���رزت جه���ود طيبة في ه���ذا المجال خ�ل�ال نهاية القرن
المشكالت واختالفها.
التاس���ع عش���ر والق���رن العش���رين ،ون���ادت مح���اوالت محمد
والموج���ه بمس���ار حزبي ضي���ق ،أو مذهبي مح���دد ،أو طائفي ّ
ب���ن نبي ...وغيرهم ،ن���ادت الجهود المخلص���ة المحبة لدينها
وفي الختام ،نأمل أن نكون قد أس���همنا في بيان ما يعتري
جدي���د للنص الدين���ي ينطلق من قاعدة "ثب���ات النص وحركية
توجيهي���ة تقضي بض���رورة إحياء الماضي واس���تلهام الدروس
وتعظيم���ا للدور اإلس�ل�امي الحض���اري الذي بات اإلنس���انية، ً العال���م أجم���ع بحاج���ة ماس���ة لحلوله الت���ي تنتظر َم ْن ُي ِ حس���ن
بها أو تقليدها ،ألنها نتاجات إنس���انية تخطئ وتصيب .وتؤكد
هذه الرؤية احتضان الحاضر واالنتفاع من طروحاته ،وتحليل
لكن مش���روع النهضة اإلس�ل�امية محف���وف بمطبات عدة،
وبس���نة النب���ي الكري���م ،م���ع تحفي���ز العقل على االش���تغال
وأخرت وباتت هذه المطبات عوائق منعت المسار النهضويّ ،
بأن الرس���الة المس���تقبل وصياغة مفاهيمه ،انطال ًقا من اإليمان ّ
عبده ،ومحمد رش���يد رضا ،وحسن البنا ،وسيد قطب ،ومالك
مقيت ،أو ذاتي متضخم.
والمتجهة لرضا ربها ،وحفزت الهمم المبدعة في س���بيل فهم
مفاهيم مشروع النهضة اإلسالمية ،من خالل تقديم رؤية نقدية
المعن���ى" ،ويتجه نحو احترام س���يادة العقل ومعطياته ،وخدمة
من���ه ،وفحص منجزاته بش���كل علمي ومنهج���ي ،وعدم التقيد
تقديمها ويبلور نتائجها.
معطيات���ه وفق األس���س العقدية المتمثلة بن���ص القرآن العظيم
نظ���را التس���اع تن���وع الفكر اإلس�ل�امي وتش���عبه بي���ن معتنقيه. ً
واالبت���كار واإلب���داع .كم���ا تتج���ه ه���ذه الرؤية إلى استش���راف
بدوره���ا ممكنات القيام بهذا العمل بش���كل جماعي ال فئوي.
اإللهي���ة صالحة ل���كل زمان ومكان ،وأن المش���روع النهضوي
ويمكن الحديث عن أهم المطبات التي تعتري مسيرة مشروع
المنبث���ق منه���ا ،جدير بخدمة اإلنس���انية وتقديم م���ا يصلح لها.
• من أخطر إش���كاليات مشروع النهضة اإلسالمية هو بعد
وتجاوزت المطبات التي تعتري مسيرتها ،فإنها ستعيد مجدها
النهضة اإلسالمية من خالل اآلتي:
منظري المش���روع أو المش���تغلين عليه ،عن العلم���اء العاملين
أصح���اب الفتوى واالجتهاد .ويؤدي ه���ذا البعد إلى تباين في ِ المواقف وضعف في التأثير.
وإذا ازدانت الرؤية االشتغالية في هذا المشروع بما تقدم آن ًفا، الحضاري المتواري طيلة عصور خلت.
(*) عميد كلية اللغات بجامعة المدينة العالمية /ماليزيا.
29
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
فه ْم وإن أس���هموا ف���ي البناء المعرف���ي الحضاري واألج���دادُ .
كما ستضطلع هذه المصفوفة بمهمة إعادة ترتيب األفكار
الدراس���ون عبر عصور خلت ،إال أنها أصبحت غير منس���جمة
مل���كا ألحد، االس���تهالك ،وبي���ان أن العص���ور العلمية ليس���ت ً
اإلس�ل�امي وقدموا ثمارهم العلمية التي تل���ذذ بها وانتفع منها
ومتطلبات العصر وتنوعاته وتش���عباته .وأؤكد أن حديثي هنا، منص���ب بش���كل أس���اس عل���ى النتاج���ات اإلنس���انية الخاضعة
دوم���ا للتنمي���ة والتطوي���ر. للتغيي���ر ،وعل���ى الفك���ر المع���رض ً لزاما على أولي الفكر واالجتهاد ،أن ينظروا من ل���ذا ب���ات ً
خالل عندياتهم ،وأن يس���هموا في البناء الحضاري اإلسالمي
المعاصر وفي مش���روع نهضت���ه ،انطال ًقا من احتياجات العصر مع االس���تئناس واالنتف���اع من معطيات اآلب���اء واألجداد على
س���بيل التحليل والنقد وبيان المكاسب والمزالق ،وليس على سبيل التسليم والتقليد.
وبه���ذا المنطل���ق ،ستكتس���ب مفاهي���م النهضة اإلس�ل�امية
جريئ���ا ف���ي مناقش���ة قضاي���ا ع���دة ،أخ���ذ منه���ا الخالف ميدا ًن���ا ً
مس���احة زمنية اس���تهلك الجهود واس���تنفر الطاقات .ومن تلك القضاي���ا ،مزية األح���كام التي ُتطلق على المنجز التاريخي بين
والمس���ارات المعرفي���ة ،والتبش���ير بثقاف���ة اإلنت���اج ونب���ذ ثقافة وبهذا يمكن غربلتها بما يتفق مع توجهات مشروع النهضة.
وجدي���ر ذك���ره أن التطلع لبناء مش���روع نهضوي إس�ل�امي
معاصر من هذه الجهة أو تلك ،ال يعني مطل ًقا اكتسابه الحقيقة
كلها وامتالكه أسس الصحة في الفعل والعمل ،إنما يشير إلى اجته���اد فك���ري قد يصيب في إجراءات���ه وقد يخطئ وهذه هي
مزية العمل اإلنس���اني ،واالدعاء باكتس���اب الحقيقة ك ّلها يوقع في َش َر ِك النقص واالنتقاد والشطط. أن االشتغال في مفاهيم المشروع وعلينا االنتباه كذلك إلى ّ النهض���وي اإلس�ل�امي المعاص���ر ،ال يعن���ي مطل ًق���ا االنفت���اح المفتعل على العالم على حساب ما ُع ِلم من الدين بالضرورة.
س���ببا للتنازل ع���ن الوصايا والتعاليم بمعنى أن يكون االنفتاح ً الدينية كما حصل عند بعض الدعاة الجدد ،الذين رفعوا شعار
التنمية والنهضة اإلسالمية المعاصرة ،لكنهم وفي الوقت نفسه
أن الت���راث هو خير ك ّله موضوعيته���ا وتحيزاته���ا ،ومعرفة هل ّ
ح���دودا ما كان ينبغي لهم تخطيه���ا ،ود ّقوا بخيارهم تج���اوزوا ً
شرطا للنشاط العقلي ،وأن األصالة شرط تعد المعاصرة ً وهل ّ
أن االش���تغال في هذه المفاهيم ،يجب أن يتسم فض ً ال عن ّ
أيضا، وأن الحداثة هي ش���ر ك ّلها ،والس���ؤال العكس���ي صحيح ً
لصدقي���ة الفك���ر وصالحية العمل ،ثم بيان مس���ارات االئتالف
واالخت�ل�اف بين األقوال واألفعال للجهود التاريخية المبذولة في البناء المعرفي الحضاري اإلس�ل�امي ،الستثمار منجزاتها،
ال عن دراسة ظاهرة "التوافق في الرؤية" ولتجاوز عثراتها ،فض ً التي اتس���مت به���ا نتاجات الحضارة اإلس�ل�امية .وتش���ير هذه
الظاهرة إلى التوافق على تحديد الهدف المنش���ود من اإلبداع العلم���ي في ش���تى مجاالت���ه ،والمحدد بوضع لبن���ة معرفية في
البن���اء الكلي للحضارة اإلس�ل�امية .بمعن���ى أن ظواهر اإلبداع كانت جمعية ولم تكن فئوية أو شخصية.
وعلين���ا معرف���ة أن ثنائي���ات مفاهي���م المش���روع النهض���وي
هذا أسفين الخالف في مشروعية تبني العمل في هذا اإلطار. بالخصوصي���ة والوس���طية النابعة من الفه���م القرآني والقاضي
بك���ون الرؤي���ة اإلس�ل�امية وأسس���ها العقدي���ة ه���ي المرجع في معرف���ة الص���واب وتمييزه ،وتأش���ير الخطأ والتنبي���ه من الوقوع
فيه .وعندما يتحقق االشتغال الفكري من خالل هذا المفهوم،
عندئذ تكتسب الرؤية صفة المرجع والشاهد والقدوة الحسنة، اك ْم ُأ َّم ًة ﴿و َك َذ ِل َك َج َع ْل َن ُ انطال ًقا م���ن قول الحق تبارك وتعالىَ : ���ول َع َل ْي ُك ْم ���طا ِل َت ُكو ُن���وا ش���هداء على الن���اس ويكون الر ُس ُ َو َس ً ُ َ َ َ َ َ َّ ِ َ َ ُ َ َّ يدا﴾(البقرة.)143: َشهِ ً وجدي���ر ذك���ره أن مفاهيم المش���روع النهضوي اإلس�ل�امي تتجاذبه���ا أط���راف ع���دة ،تب���دأ م���ن إش���كالية مناقش���ة المنجز
اإلس�ل�امي ال تشتغل لوحدها ،إذ هي مصفوفة في نظام ثقافي
ال إلى قضية تحيزات المدونة التاريخية نفسها التاريخي ،وصو ً
عيانيا واقعا الشعبي ،والمنجز االقتصادي .فالنهضة لن تتجسد ً ًّ ٍ تقارب -بين الخطابين السياس���ي توح���د -أو على األقل دون ٍ
الفكري���ة بوصفها ضرورات حداثية يقتضيه���ا الواقع المعيش.
حيات���ي متكامل يش���مل التوجه السياس���ي ،والنت���اج الجماعي
والثقاف���ي ،ألن انفصالهما يؤدي إل���ى انفصام الطرح التنظيري لمشروع النهضة عن الممارسة التطبيقية على أرض الواقع بسبب الحاجز السياسي ،وما أشد وقعه وتأثيره في البالد اإلسالمية. السنة الثامنة -العدد (2013 )34
28
وليس انتهاء بمسارات العقالنية المعاصرة التي تفرض أنماطها
ويمكن االنتفاع في هذا السياق -ومن باب حديث األمين ِ أحق الناس وجدها فهو ُّ كم ُة ضال ُة المؤمن أ ّنى َ المصطفى " :الح َ بها" (رواه الترمذي) -من ميراث الحضارات والش���عوب األخرى؛
ونبعا متدف ًقا فكانت الحضارة اإلسالمية في األندلس ً ثراً ، معينا ًّ
األرض وم���ن عليها ،وما عدا الخل���ود إل���ى أن يرث اهلل تعالى َ
في تناول القضايا الفكرية ومناقشتها.
زمني���ة تاريخي���ة ،صنعته���ا أجي���ال متعاقبة في ظ���روف معينة ال
المعاص���ر ،ألاّ نغفل التوجه نحو الكلي���ات في الفهم المعرفي الدقيق ،الداعي إلى ممارسة التحليل والنقد ،وبيان المكاسب
مع���رض للدرس النقدي .فالت���راث منجزات ذل���ك فهو تراث ّ تؤخ���ذ عل���ى س���بيل اإلل���زام والل���زوم ،إنما تؤخذ على س���بيل
النصح واإلرش���اد ،وعلى سبيل الفائدة واالنتفاع ،وتدخل في البناء المعرفي لهذه األمة.
وعلينا في مناقش���ة مفاهيم المش���روع النهضوي اإلسالمي
ال عن عدم التوجه وتنميته���ا وتحديد المزال���ق وتجاوزها ،فض ً
نح���و الجزئي���ات في الحك���م المعرف���ي القاض���ي بالتقوقع في
وعلين���ا االنتب���اه إل���ى أن لكل عص���ر ميزاته في إش���كالياته
المعاصرة وقطع أواص���ر مرجعيات النصوص الحضارية التي
الماضية الجاهزة لمعالجة المس���تجدات الحاضرة دون إعمال
تتجه مفاهيم المش���روع النهضوي اإلسالمي المعاصر إلى
وعمليا اس���تدعاء الحلول علميا أيضا ،وال يصح وف���ي حلوله ً ًّ ًّ فكر وتوجيه إصالح ،إذ أحيطت اإلشكاليات المعاصرة بهالة م���ن التنوع والتعقي���د ،التي ال يصلح معها اس���تعارة جاهزيات اآلخري���ن ،مع وج���ود إمكانية االنتفاع من تل���ك الحلول على
سبيل االستئناس والمعرفة بالشيء.
وانطال ًق���ا من س���نة الكون ف���ي التطور والتغي���ر ،فإن العقل
اإلنس���اني منظوم���ة فكرية متكامل���ة تتعرض للتغيي���ر وللتطوير
المس���تمرين ،وه���ي متج���ددة بتق���ادم الزم���ان وتن���وع المكان، وتكتسب النضج في ترتيب األولويات ،واالبتكار المتواصل، ورس���م الممارس���ات المناس���بة في إطار ما ُيعرض وما ُيستجد
من قضايا.
رسمت لها شموخها ،ومنحتها مزية ومكانة بين األمم آنذاك. بي���ان أجندتها في مناقش���ة أس���باب التقدم الحض���اري الماضي والتراجع المعاصر ،وتضع في برنامجها أولوية النظر في قضية أطرا مفتوحة الميزان الزمني للمعطى العلمي ،الذي سيمنحها ً
بعي���دا عن عقدتي "تضخم األن���ا ،والدونية" للعم���ل والتحليل ً
التي اصطبغت بها معظم نصوص المفكرين المعاصرين.
وتتناول قضية الميزان الزمني للمعطى العلمي مسائل عدة،
تبدأ مع خصوصية النتاجات العلمية لعقلية تنتمي لزمنها ،وال
تنته���ي عند عمومية الفكر العابر للحدود والمتجاوز للذوات. إنها قضية تملك حساس���ية بالغة في الطرح والتناول ،وتتس���م
بمعطيات تشخص الداء وتمنح الدواء.
إن ثنائي���ات؛ "األصال���ة والمعاصرة" ،و"التقلي���د واإلبداع"،
وإذا م���ا ُكت���ب له���ذه المفاهيم أن تش���تغل في ه���ذا اإلطار
مث���ل؛ التأصيل والتغريب ،والتمي���ز والتحيز ،واإلبداع واالتباع،
التش���كيل الحضاري في المس���تقبل ،وتعين ف���ي إعادة صياغته
و"الت���راث والحداثة" ،مرتبطة بحش���د منوع م���ن ثنائيات أخرى واالنفت���اح واالنغ�ل�اق ،واإلنتاج واالس���تهالك ،والنص المبدع
والن���ص المجت���ر ،التطاب���ق والتناق���ض ،العقالني���ة واالتباعي���ة، االفتعال واالعتدال ،التشكيل والتفكيك ،الثوابت والمتغيرات،
الخطاب التش���ددي والخط���اب التجددي ...إل���خ .وهي تعمل بشكل منهجي في بيان مسارات الممارسة والتطبيق ،وفي تحديد المناطق المعرفية في التضايف واالتصال ،والتجاوز واالنفصال. يتج���ه التضاي���ف إل���ى إمكانيات الرب���ط بين تفعي���ل النص
التراث���ي وتش���كيل النص الحداثي ،انطال ًقا م���ن نقاط التواصل
متسلسل منتج بينهما ،والمحددة بفكرة أن ٌ المنتج اإلنساني هو ٌ َ ٍ متوال يخضع لمس���يرة تاريخية ال تنقطع ...أما التجاوز فيتجه
الفك���ري ،فإنن���ا س���نحصد إمكانيات معرفية تس���هم ف���ي بلورة بم���ا يخ���دم التوجه���ات العقالني���ة المعاصرة واالس���تقبالية بما ينس���جم م���ع رس���الة الوح���ي ،وس���يظهر أث���ر ذلك في مس���يرة النهضة اإلس�ل�امية الوس���طية المنشودة بش���كل عياني تطبيقي،
بع���د أن مورس���ت بحقه���ا ف���ي زمن ،خ�ل�ا تنظيرات لمش���اريع تبنت شعار النهضة ومارست إجراءات التقليد واالتباع ،فظهر
جليا التناقض بين الفعل والممارس���ة والتطبيق ،واتجهت إلى ًّ
أرشيف اإلنسانية بعد أن عفا عنها الزمن والفكر.
وال يتس���ع البح���ث هنا لس���رد تل���ك التجارب فه���ي ممتدة
وكثي���رة ش���ملت معظم أصق���اع البالد اإلس�ل�امية م���ن العراق
إل���ى بالد الش���ام إل���ى بالد المغ���رب العرب���ي ،لكنها وبش���كل
إل���ى قط���ع العالقات واإلرس���اليات كاف���ة بين المنت���ج التراثي
ع���ام حمل���ت ب���ذور اإلص�ل�اح وني���ة التغيي���ر ،وأرادت أن
كلي���ا! وه���ذا مدعاة للنق���د والتقييم لتن���وع البعدي���ن وتباينهم���ا ًّ
تغاف���ل أو تناس���ي م���ا أش���رنا إليه في مراع���اة "المي���زان الزمني
والحداثي بدعوة اختالف التوجهين وعطب آليات االس���تقبال والنقض عندنا ،انطال ًقا من الوس���طية اإلس�ل�امية التي ننتهجها
كمنت في تس���هم ف���ي إحياء ن���ص وبناء فع���ل ،لكن المش���كلة ُ فض�ل�ا عن مش���كلة النظ���ر بعق���ول اآلباء للمعط���ى العلم���ي"، ً
27
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
قضايا فكرية
د .محمد سالم سعد اهلل*
مفاهيم المشروع النهضوي اإلسالمي المعاصر إن التوجه الفكري القاضي بوصف النتاجات الماضية بـ"الس���لبية" وإطالق "اإليجابية" على النتاج���ات المعاص���رة ،ه���و توج���ه يحتاج إلى إعادة الفحص ثم النقد والتقييم ،الس���يما وأن الفكر المعرفي تحده والحض���اري ال يتج���زأ ،وهو ال ينتمي لوط���ن معين وال ّ حدود مرسومة. تعالج ثنائيات "األصال���ة والمعاصرة"" ،التقليد واإلبداع"، "التراث والحداثة" إشكاليات معرفية عدة ،ومن خاللها تنوعت التوجهات الفكرية ،وأصبح الحديث عن "الماضي والحاضر" فاص�ل�ا لتصني���ف المفكري���ن بي���ن مقل���د وحداث���وي! معي���ارا ً ً والحقيقة تشير إلى غير ذلك ،إذ ال ُيس ّلم الفكر الحاذق مطل ًقا بالنتاج���ات -س���واء أكانت تراثية أو حداثي���ة -دون فحصها ثم تحدي���د مواط���ن الخطأ والزلل فيها ويؤش���ر عل���ى بؤر الخلل، ال عن تحديد مواطن الصحة وبيان اإلبداع وس���ماته فيها. فض ً وتكمن اإلش���كالية الكبرى في بيان ماهية "النص التراثي" وتحدي���د معالم���ه .وف���ي هذا الس���ياق ،جنح بع���ض المفكرين السنة الثامنة -العدد (2013 )34
26
جزءا من التراث ّ لع���د القرآن الكريم ونص���وص المصطفى ً اإلسالمي المتنوع بنصوصه الفقهية واألدبية والفنية والسياسية وغيره���ا ،وأطلق���وا األحكام بش���كل عام على ه���ذه النصوص جميعها .ويقتض���ي التحليل العلمي وضع الفروق الدقيقة بين هذه النصوص ألنها ليست واحدة ،إذ تنقسم إلى قسمين: األول :النص المقدس (القرآن الكريم وسنة الرسول .) الثاني :النص المدنس (النتاجات البشرية في ُص ُع ٍد شتى). ونقص���د بـ"النص المق���دس"؛ النص اإللهي ال���ذي ال يأتيه الباط���ل من بي���ن يديه وال من خلف���ه ،وأحاديث المصطفى المتف���ق على صحته���ا .وال نقصد بـ"الن���ص المدنس" اإليحاء بسلبيتها أو عدم نجاعتها ،إنما يتجه القصد إلى بيان أنها نتاج إنساني قابل للنقض والنقد والتحليل ،وخاضع للتعليل وتعدد اآلراء وترجيح ما يقترب من الصواب ونحو ذلك. ونش���ير إلى مس���ألة مهمة ،وهي أن النص المقدس ال ُيعد ترا ًث���ا البت���ة ،إنما هو نص اكتس���ب أهمي���ة وخصوصية صالحة ورث ،هو ن���ص ُم ِنح صفة ّ ل���كل زم���ان ومكان وليس ُم ً نج���زا ُي ّ
النبي " :أفال تتقي اهلل في هذه البهيمة التي م ّلكك اهلل إياها،
فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" (رواه اإلمام أحمد). ّ فكما أن تحميل الحيوان فوق طاقته منكر قد حاربه اإلسالم
واس���تنكره ،نجده كذلك قد ح���رم -في إطار حقوق الحيوان-
إجاعت���ه وتعريضه لله���زال والضعف والتلف .فقد مر رس���ول
اهلل ببهيم���ة ق���د لصق ظهرها ببطنها ،فهاله ما رأى من خرق غاضبا وقال" :اتقوا اهلل في هذه لحقوق هذا الحيوان ،فانتفض ً
البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة" (رواه أبو داود). ومم���ا يس���تفاد من ه���ذا الحدي���ث أن النفقة عل���ى الحيوان
واجب���ة على صاحبه ،ومما اس���تخلصه الفقهاء كذلك بدورهم أنه يجبر كل من امتنع عن إطعام الحيوان على بيعه أو اإلنفاق عليه أو ذبحه.
ويذكر التاريخ كذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب كان
ال يسحب شاة يوما وهو يتفقد أحوال الرعية ،فرأى رج ً يس���ير ً
برجله���ا ليذبحه���ا ،فهاله ما رأى من إس���اءة بالغة في حق ش���اة
ال. قودا جمي ً بكماء فقال له :ويلك ،قدها إلى الموت ً
ومما قرره فقهاؤنا من حقوق للحيوان ،أنه إذا لجأت هرة
عمياء إلى بيت ش���خص ،وجبت نفقتها عليه إذ لم تقدر على االنصراف.
بل إن المرء ليحار وهو يسمع لإلمام أبي إسحاق الشيرازي ال���ذي كان يمش���ي في طريقه ومعه بع���ض أصحابه ،فعرض له ا له :أم���ا علمت أن كل���ب فزج���ره صاحب���ه فنهاه الش���يخ قائ�ل� ً الطريق مشترك بيننا وبينه؟
ال وإن تس���تغرب ،فالغراب���ة كلها في أن تج���د صحابيا جلي ً ًّ
وه���و ع���دي بن حاتم الذي تعود أن يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات لنا ولهن علينا حق. وتتويج���ا ألخالق الرحمة والرفق بالحيوان ،انتش���رت في ً
بق���اع العالم اإلس�ل�امي أوقاف تخص الحي���وان وتهتم برعايته وتطبيبه ،كما وجدت أوقاف لرعي من عجز منها وكبرت سنة "مروجا خضراء" .وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فسميت ً سبق هذه األمة إلى الرفق بالحيوان قبل أن تدعو أي أمة لذلك. يقينا ،فليصغ إلى رس���ول اهلل وهو ولم���ن أراد أن ي���زداد ً
نهارا إلى اإلنس���انية جمع���اء ،عن حق من حقوق يعل���ن جهارا ً ً
الحيوان حين قال" :ال تتخذوا ظهور دوابكم كراسي" (رواه اإلمام
ال على ظهر البعير وهو واقف ،حرام في أحمد) .فالجلوس طوي ً
دي���ن اهلل تعالى ،ألنه اعتداء عل���ى بهيمة تحس لكنها ال تنطق.
ه���ذا غيض من فيض مبادئ الرفق بالحي���وان في تاريخنا،
كذلك يحرم التلهي بالبهيمة والطير في الصيد عب ًثا ،مصدا ًقا
ب���ه ومنع األذى عنه ،حت���ى صار قانو ًنا بين الناس عدم تحميل
يقول :يا رب إن فال ًنا قتلني عب ًثا ولم يقتلني منفعة" (رواه النسائي).
وتل���ك أمثلة على ذلك كواق���ع تطبيقي لرعايته وعدم اإلضرار ال���دواب ف���وق ما تطي���ق ،أو تعذيبه���ا وضربها أثناء الس���ير ،أو
إيقافها في العراص وعلى ظهورها أحمالها ،كما منع السماح ألصحاب الدواب بإلجامها بلجام ثقيل أو نخسها بمقرعة من حديد في أسفلها.
الرفق بالحيوان عنوان حضارتنا
فه���ل تج���د أم���ة م���ن األم���م بلغت ه���ذا المس���توى م���ن الرفق
والرحم���ة بالحيوان في غابر األزمان غير أمة اإلس�ل�ام؟ ولعل أرق وأصدق مثال يدلك على سمو تلك الروح لدى حضارتنا صحابيا جليل القدر كأب���ي الدرداء الذي كان له بعير أن نج���د ًّ فيق���ول ل���ه عند موته" :يا أيه���ا البعير ال تخاصمن���ي إلى ربك،
فإن���ي ل���م أك���ن أحملك ف���وق طاقت���ك" .وأن نج���د كذلك في منظوم���ة القتال والحرب في اإلس�ل�ام ،أنه يح���رم حرق الزرع
وقلع الشجر وعقر الدواب إال ما كان لحاجة.
عصفورا عب ًثا عج إلى اهلل يوم القيامة لقول النبي " :من قتل ً إن���ه دي���ن كل���ه رحم���ة ورأف���ة ش���ملت اإلنس���ان والحيوان
والجم���اد وكل ش���يء .ب���ل إننا نج���د مصطلح الرحم���ة يغطي القرآن الكريم كله باش���تقاقاته المتنوعة ،إذ ال تكاد صفحة من لفظا فداللة .وهذا إن دل القرآن الكريم تخلو منه ،إن لم يكن ً
على ش���يء فإنما يدل على أن المنظومة األخالقية لهذا الدين
���ع ْت تق���وم على مبدإ الرحمة .يقول اهلل تعالىَ : ﴿و َر ْح َم ِتي َو ِس َ ﴿ك َت َب َع َلى َن ْف ِس ِه الر ْح َم َة َل َي ْج َم َع َّن ُك ْم ُك َّل َش ْي ٍء﴾(األعرافَ ،)156: َّ ���ز ُل ِم َن ا ْل ُقر ِ آن ِإ َل���ى َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة َ ﴿و ُن َن ِّ ال َر ْي َ ���ب ِفي ِه﴾(األنعامَ ،)12: ْ ال ﴿و َما َأ ْر َس ْل َناكَ ِإ َّ َما ُه َو ِش��� َف ٌاء َو َر ْح َم ٌة ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ ين﴾(اإلس���راءَ ،)82: ين﴾(األنبياء ...)107:وغيرها من اآليات كثير. َر ْح َم ًة ِل ْل َعا َل ِم َ
(*) كلية اآلداب و العلوم اإلنسانية ،جامعة عبد المالك السعدي /المغرب.
25
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
عامرا ،وال تقطعوا شجرة يستظل بها بئرا ،وال تخربوا ً تغوروا ً
" :من ُأعطي الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا واآلخرة"
بهذه القيم واألخالق الرحيمة التي س���ادت عالم اإلنس���ان
هك���ذا نج���د خل���ق الرحم���ة بالحي���وان عن���وان حضارتن���ا
حدوده���م ،فدان���ت له���م الدني���ا طواعي���ة ،حت���ى ق���ال المفكر
تشريعنا في هذا المجال لوقفت على تراث زاخر عظيم ينطق
ابن السبيل ،وال تذبحوا بهيمة لغير مأكلة" (رواه أبو داود).
والحيوان على حد س���واء ،فتح المس���لمون قل���وب العباد قبل الفرنس���ي "غوس���فان لوبون" ف���ي "حضارة الع���رب" بعد قراءة فاتحا أعدل من متأنية دقيقة لتاريخ اإلسالم" :ما عرف التاريخ ً
العرب المس���لمين" .ولندع -اللحظة -شواهد من هذا التاريخ اإلسالمي تنطق بنفسها وتشهد على سمو أخالقنا مع الحيوان.
رحمة النبي بالحيوان
(رواه اإلمام أحمد).
اإلسالمية التي كان لها قدم السبق في ذلك ،بل إنك لو اتبعت
رف ًقا ورحمة ،فها هو ذا نبي اهلل سليمان تستوقفه نملة بواد ضاحكا ،ويجلس إليها تحاوره ويحاورها بوحي فيتبس���م إليها ً
من اهلل ،ألنها -وأمتها -خلق من خلق اهلل ،بل أنه س���بحانه س���مى -كما س���بقت اإلش���ارة -س���ورة باس���مها ليخلد ذكرى
متعبدا به إلى يوم القيامة. ه���ذه النملة وأمته���ا ،ويجعل كالمها ً
قال عبد اهلل بن مس���عود :كنا مع رس���ول اهلل في س���فر ،القسوة على الحيوان موجبة لعذاب اهلل
فرأينا حمرة (طير يشبه العصفور) معها فرخان لها ،فأخذناهما
وإذا كانت الرحمة بالحيوان خل ًقا يوجب المغفرة -كما سبق-
قال" :من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" (رواه أبو داود).
قائ�ل�ا" :دخل���ت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم ً
فجاءت الحمرة تعرش (ترفرف بجناحيها) ،فلما جاء رسول اهلل لقد أحس رس���ول اهلل بما أحس���ت ب���ه تلك الحمرة من
حرق���ة ولوع���ة ،فدعا إلى الرفق بها بإرج���اع فرخيها إليها حتى
تس���كن ويهدأ روعها ،إنها من أم���ة الطيور لها حقها من الرفق والرحم���ة كح���ق اإلنس���ان .وإن الرحم���ة لخلق عظي���م يدخل
صاحبه الجنة كما أخبر بذلك رسول اهلل حين قال لصحابته
يوما وهو يحثهم على الرحمة بالحيوان" :بينما رجل يمشي ً
بئرا فنزل فيها ،فشرب ثم بطريق إذ اشتد عليه العطش ،فوجد ً
فإن القسوة عليه في المقابل تدخل النار .فقد أخبر رسول اهلل تدعها تأكل من خشاش األرض" (رواه البخاري).
قديما وحدي ًثا -أذاقت وما تزال تذيقفإذا كانت البشرية ً
الناس ألوان التعذيب والتقتيل والمهانة ،فإن اإلس�ل�ام قد كرم
هذا اإلنسان أحسن تكريم ،بل إنه لم يقف عند هذا ،بل نجده
موجبا م���ن موجبات ق���د حرم تعذي���ب الحيوان وجع���ل ذلك ً عذاب اهلل تعالى له .فهذا رسول اهلل حين رأى قرية نمل قد
مس���تنكرا" :من أحرق هذه؟" قلنا: أحرقها بعض الصحابة قال ً
خرج ،فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ،فقال الرجل،
نح���ن ،ق���ال" :إنه ال ينبغي أن يعذب بالن���ار إال رب النار" (رواه
فمأل خفه ماء ،ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب ،فشكر
للذبح قبل أن يعد المرء ش���فرته ،قس���وة في دين اهلل ال تجوز.
لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني ،فنزل البئر
اهلل تعالى له فغفر له" ،قالوا :يا رس���ول اهلل ،وإن لنا في البهائم ألجرا؟ فقال " :في كل ذات كبد رطبة أجر" (رواه البخاري). ً
ق���د يحتق���ر الواحد منا ه���ذا الصنيع وال يولي���ه كبير اهتمام
ف���ي زح���ام الحي���اة ،لكن اهلل س���بحانه ق���دره وخل���د ذكر ذلك
فرحا بما صنع .وكيف ال يلتفت سبحانه لهذه الرحمة الرجل ً ﴿و َر ْح َم ِتي من بش���ر وه���و س���بحانه الرحيم الرحم���ن القائ���لَ : ���ع ْت ُك َّل َشي ٍء﴾(األعراف ،)156:بل إنه وصف نبيه المصطفى َو ِس َ ْ ال َر ْح َم ًة ﴿و َم���ا َأ ْر َس��� ْل َناكَ ِإ َّ الكري���م بكون���ه رحم���ة للعالمي���نَ : يذكر أصحابه ين﴾(األنبياء .)107:لذا وجدناه في كل مرة ّ ِل ْل َعا َل ِم َ
بخل���ق الرحمة" :الراحمون يرحمهم الرحمن" (رواه اإلمام أحمد).
وفي حديث آخر شديد الصلة بالرحمة والرأفة يقول النبي السنة الثامنة -العدد (2013 )34
24
الطبري والحاكم) .بل إنك لتعجب حين تعلم أن إضجاع الحيوان
فق���د قام رج���ل بين يدي رس���ول اهلل وأضجع ش���اته للذبح
وشرع يحد شفرته ،فقال له النبي " :أتريد أن تميتها موتات؟ هال أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟" (رواه الطبري والحاكم).
ال ورحمة ،ما عرف التاريخ إنها لمش���اعر إنسانية تفيض نب ً
ال لها إال في ظل ش���ريعتنا الغراء التي تحس بكل ما يحس مثي ً جميعا يقين���ا ،أدعوك لنصغ���ي ب���ه أي مخل���وق .ولك���ي ت���زداد ً ً
س���لوكا منحر ًفا أس���اء إل���ى حيوان لرس���ول اهلل وه���و يق���وم ً أبك���م أرهق���ه صاحب���ه فوق ما يطيق؛ فقد دخل رس���ول اهلل
بس���تا ًنا لرجل من األنصار ،فإذا فيه جمل ،فلما رأى النبي حن َّ وذرفت عيناه ،فأتاه رس���ول اهلل فمس���ح دموعه ثم قال" :من
صاحب هذا الجمل؟" فقال صاحبه :أنا يا رسول اهلل ،فقال له
�إذا كان��ت الب�رشي��ة -قدميً��ا وحديثً��ا -ذاق��ت وم��ا تزال تذي��ق النا�س �أل��وان التعذيب والتقتي��ل واملهان��ة ،ف���إن الإ�سالم قد كرم هذا الإن�سان �أح�س��ن تكرمي ،بل �إنه مل يقف عند ه��ذا ،بل جن��ده قد حرم تعذيب احلي��وان وجعل ذلك موجبً��ا من موجب��ات عذاب اهلل تعاىل له.
ال خل ًقا من س���بحانه انتباهنا إلى االهتمام بالحي���وان ،لكونه أو ً
من حقوقه حين قال :لو أن بغلة عثرت بش���ط العراق لخشيت
وق���د أعلن رس���ول اهلل هذه الحقيق���ة الكبرى حين قال:
إن���ه لس���بق حض���اري رفيع أن نج���د من ينادي به���ذا الحق
وثانيا ألنه مصدر من مصادر رزق اهلل لنا. مخلوقات اهلل، ً
"ل���وال أن ال���كالب أمة من األمم ألمرت بقتله���ا" (رواه الترمذي). فالحي���وان -حس���ب منط���وق الحديث الش���ريف -ال ينبغي أن يب���اد أو يقت���ل أو يعت���دى عليه وإن كان يؤذي اإلنس���ان أحيا ًنا.
والرسول الكريم يشير هنا إلى الحقيقة القرآنية التي سجلها ���ن َد َّاب ٍة ِفي ﴿و َم���ا ِم ْ الق���رآن ف���ي قوله تعال���ى الس���الف الذكرَ : ا َ ال ُأ َم ٌم َأ ْم َثا ُل ُك ْم﴾(األنعام.)38: ض َو َ اح ْي ِه ِإ َّ أل ْر ِ ال َطا ِئرٍ َي ِط ُير ب َِج َن َ
الطريق السوي حق من حقوق الحيوان
وم���ن من���ا لم يس���مع بقولة الف���اروق عمر وهو يش���رع فيها
واجبا لحقوق الحيوان حتى جعل الطريق المعبد السوي ح ًّقا ً
أن يسألني اهلل عنها ل َِم ل َْم تصلح لها الطريق يا عمر.
للحيوان في هذه األمة منذ خمس���ة عش���ر قر ًنا ،أما حق األكل والشراب والرعاية فمكفول بكل تأكيد.
وإن تعج���ب ،فعج���ب كله أن هذا الن���داء من الفاروق ،
عاليا في وقت كان اإلنس���ان ُيس���تعبد وتداس كرامته صدح به ً
عن���د األمم األخ���رى كالفرس وال���روم وغيره���م ...وال يتمتع
كرم���ه اهلل تعالى: بأدن���ى حقوقه الت���ي تليق بكرامت���ه كمخلوق ّ آد َم﴾(اإلس���راء .)70:بل إن رس���ول اهلل ساعة ﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ َ خيرا، القتال كان يستوصي أصحابه بالناس والحيوان والنبات ً يقول " :اغزوا باس���م اهلل وال تقتلوا عابدا ً هرما ،وال ً ش���يخا ً
صبي���ا وال ام���رأة ،وال تهدموا ج���دارا ،وال ً ف���ي صومعت���ه ،وال ًّ
23
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
قضايا فكرية
د .عبد الواحد بوشداق*
من حقوق الحيوان في اإلسالم هل ي���ا ت���رى كان للحيوان موقع ف���ي منظومة
يوم���ا؟ وه���ل ن���ال م���ن األخ�ل�اق اإلس�ل�امية ً نصيبا يليق ب���ه باعتباره الحق���وق والرحمة ب���ه ً
مخلو ًقا من مخلوقات اهلل في األرض؟
جواب���ا عن هذه األس���ئلة ،تتق���دم آية عجيبة م���ن كتاب اهلل ً
تماما بتمام، لتخبرنا أو ً ال أن عالم الحيوان كعالم اإلنس���ان ً ﴿و َما ِم ْن َد َّاب ٍة ِف���ي ا َ ال َطا ِئرٍ َي ِط ُير ض َو َ أل ْر ِ يق���ول ع���ز من قائلَ : ال ُأ َم ٌم َأ ْم َثا ُل ُك ْم﴾(األنعام.)38: اح ْي ِه ِإ َّ ب َِج َن َ يق���ول س���يد قطب -رحم���ه اهلل -معل ًقا على ه���ذه اآلية في
خل���ق حي في هذه األرض كله���ا إال وهو ينتظم في أمة ،ذات خصائ���ص واح���دة وذات طريقة ف���ي الحياة واح���دة كذلك... شأنها في هذا شأن أمة الناس" .من هنا نعلم أن للحيوان حق الرحم���ة كحق اإلنس���ان ،وذل���ك لما له م���ن خصائص وطبائع وشعور ال تقل عما لدى اإلنسان ،وإال فال معنى لكالم رسول خي���را حتى ولو اهلل - وحاش���اه -وه���و يس���توصي بالحيوان ً كنت قائده للموت حين قال" :إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء ،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" (رواه مسلم).
"في ظالل القرآن"" :إنه ما من دابة تدب على األرض -وهذا تسمية سور القرآن بأسماء الحيوان
يش���مل كل األحياء من حش���رات وهوام وزواحف وفقريات- وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء -وهذا يش���مل كل طائر م���ن طير وحش���رة أو غير ذلك م���ن الكائنات الطائ���رة -ما من السنة الثامنة -العدد (2013 )34
22
وفي إش���ارة لطيفة بموضوعنا هذا ،نجد القرآن الكريم يحمل س���ورا بأس���ماء الحيوان؛ وذلك كالبق���رة واألنعام فيم���ا يحمل ً والنمل ،ولم تكن هذه التسميات عب ًثا ،وإنما سميت بها ليلفت
فللس���لطة س���لطانها عل���ى النف���وس الضعيف���ة ،وال يوج���د أضعف ممن يرفع ش���عارا دون أن يصبح ذلك الش���عار حقيقة ً ماثلة في ذهنه ،ممتزجة بخلجات ضميره ،متماهية مع سلوكه، يترب عليه؟! وأنى له ذلك إن لم َّ فتأخي���ر الحديث عن "الدولة" إل���ى أن تكتمل التربية على المبدأ ،درس آخر بليغ تنبهنا إليه الهجرة حتى ال تقفز الحركات فراغ ،ث���م ترتد إلى اإلس�ل�امية -وق���د فعل البع���ض ذلك -في ٍ أرض الواق���ع بتج���ارب مش���وهة وعناصر أفس���دتهم الس���لطة، وباعدت بينهم وبين الش���عارات التي عرضوا أنفس���هم بها أول م���رة على الناس ،وال يزالون -وه���ذه من غرائبهم -يرفعونها. -3الهجرة ف�������ي بعدها األخالقي والرمزي :وه���ذا ّمعلم ال ينفك في حقيقته عن المعلمين السابقين ،حينما نجد الرسول ينبه بش���كل واضح على اس���تمرار الهجرة من خالل سلوك المسلم في كل زمان ومكان. فلئ���ن كانت الهجرة األولى انته���ت بفتح مكة فقال " ال هج���رة بع���د الفت���ح ولكن جه���اد ونية" (متف���ق عليه) ففاز بش���رف الوص���ف بالمهاج���ر م���ن فاز ،ف���إن الهجرة في بعده���ا الرمزي واألخالق���ي ذي الصل���ة بالمنهج ،باقية مس���تمرة ما دام هنالك مسلم يسعى في كل زمان ومكان للتحرك وف ًقا لذلك المنهج. الر ْج َز وه���ي الهج���رة الت���ي يش���ير إليه���ا قول���ه تعال���ىَ : ﴿و ُّ اه ُج ْر﴾(المدثر ،)5:ويؤكدها النبي بش���كل صريح" :المس���لم َف ْ من س���لم المس���لمون من لس���انه ويده ،والمهاجر من هجر ما نهى اهلل عنه" (متفق عليه) .فهي حركة دائبة لالبتعاد عن كل سلوك وأيا منهي عنه ،إن على مستوى حركة الفرد أم حركة المجتمعًّ ، كان مجال تلك الحركة دعوة أم سياسة ،سلطة أم معارضة... ولع���ل البع���د الرمزي واألخالقي في عالقة المس���لم بالمنهج، ه���و الذي نستش���فه من رب���ط الحديث عن نصرة الرس���ول / ال منهج���ه ،بحادث���ة الهجرة في اآلية الت���ي ذكرناها من قبلِ ﴿ :إ َّ هلل﴾(التوبة.)40: وه َف َق ْد َن َص َر ُه ا ُ َت ْن ُص ُر ُ
ثالثًا -القراءة على مستوى االعتبار
ونعن���ي به���ذا ،كي���ف نجعل من الهج���رة نقطة انط�ل�اق جديدة لألمة؟ وهذا هو مس���توى االعتبار ال���ذي دعانا إليه القرآن كي نقرأ من خالله األحداث. والفرق بينه وبين المس���توى الثاني ،أننا في هذا المس���توى نح���اول أن ننظ���ر إل���ى الح���دث من زاوي���ة ربط���ه بحركة األمة ككل ،وهي تحاول اس���تئناف حركتها واستعادة حضورها مرة
أخرى في التاريخ.
ففي هذا المستوى تنبهنا الهجرة إلى عنصرين مهمين:
-1أن تكون حركتنا استئنا ًفا ال بداية صفرية؛ فكما كانت
تغييرا الهج���رة خط���وة غير منقطعة عما س���بقها ،وإن أحدث���ت ً
عمي ًقا في مسيرة التاريخ اإلسالمي ،فحري بمن يسعى إلعادة األم���ة أن ال يفك���ر في البدايات الصفرية ،وإنما عليه أن ينطلق من مفهوم االستئناف.
-2أن نتعم���ق ف���ي معرفة المنهج الذي نس���عى للتغيير من
متكافئ���ا م���ع أزمة األم���ة؛ ذلك أن تمث�ل�ا خالل���ه ،وأن نتمثل���ه ً ً
ربى أصحاب���ه الكرام على الهج���رة تعلمن���ا كيف أن النب���ي ّ
ال ...معرفة بحيث ُس���بقت الهجرة بإرس���اء المنهج معرفة وتمث ً األس���س العقدية والمعالم الكبرى لإلس�ل�ام من خالل القرآن
المك���ي ،والعقي���د ُة ه���ي روح المنهجي���ة اإلس�ل�امية أو -إذا ش���ئنا -جوهر المشروع اإلسالمي الذي طرحه النبي بديال ً للواق���ع الجاهلي .فكانت المعال���م العقدية واضحة في عقول
ونف���وس الصف���وة األولى من هذه األمة ،ث���م كان التمثل لتلك التص���ورات الجدي���دة في الواقع بحيث أنش���أت إنس���ا ًنا آخر،
قادرا على مواجهة التحديات. حام ً ال للمشروعً ،
فالح���ركات التي تدعو إلى النه���وض باألمة وتغيير واقعها
الي���وم من منطلق المرجعية اإلس�ل�امية ،عليها أن تعمق فهمها له���ذه المرجعية حت���ى تكتمل لديها الرؤية الواضحة ،ثم عليها -في المقام الثاني -أن تبني اإلنسان الجديد القادر على منازلة
اإلنس���ان الواق���ع بتحديات���ه ،أي إنزال تلك الرؤية على الواقع، َ الذي يحقق في نفس���ه الهجرة ب���كل أبعادها حتى يحدث نقلة ال بين مرحلة التخلف فاصلة في حياة األمة ،تكون بالفعل فاص ً ومرحل���ة االنطالق من جديد ،كما كانت الهجرة نقطة انطالق
لألمة نحو آفاقها التأسيسية. (*) كاتب وباحث جزائري.
الهوامش
( )1فق���ه الس���يرة ،دار الش���هاب للطباع���ة والنش���ر ،باتن���ة (الجزائ���ر) ،دت ،دط، ص.150:
( )2عن جابر بن سمرة قال :كانوا يسمون المدينة يثرب ،فسماها رسول اهلل "طيبة" (أخرجه مسلم).)121/4( ،
( )3فقه السيرة ،ص.188:
21
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
ش���يئا ما لم الش���عارات ال يغنيان في حركة التغيير االجتماعي ً
ضعيف���ة الصل���ة بالفكرة والمنه���ج ،فيرومون اختص���ار الطريق
المش���كلة المراد تغييرها ،ومراحل الطري���ق التي ينبغي قطعها
وينتهي ببندقية عمياء وفتنة تحصد األبرياء ،وترس���خ س���لطان
يصحبهم���ا فك���ر س���ديد ورؤية واضح���ة ووعي عمي���ق بطبيعة
ك���ي نص���ل إلى الحل ،وه���ذا ما تـوف���ره لنا الدراس���ـة الحكيمة لمسـلك النبي في الحركة والتغيير.
"جهادا" بانته���اج العنف للوصول إلى الس���لطة ،فيب���دأ عملهم ً أهل الباطل والفساد ،إذ تعطيهم حجة جديدة لتسويق أنفسهم وأصحاب المش���اركة في الداخل وإدامة دعمهم من الخارج. ُ
وح���دث الهجرة يضع أمامنا معال���م بارزة ،هي لكل متدبر
الذي���ن تبهره���م معرفته���م الجدي���دة بآلي���ات الحك���م وط���رق
وتشعب المسالك والمناهج .فقراءة الهجرة من زاوية المنهج
إلى س���لطتهم وط���رق بقائهم فيها ،فيحاول���ون -بوعي أو بغير
منارات هادية ،تعصمه من الضالل والزلل عند اختالط السبل التغييري تعطينا المعالم التالية:
جزءا منها الوصول ،أصحاب الس���لطة التي صاروا في الظاهر ً
وع���ي -تقليدهم واقتفاء آثارهم ،وإن أضفوا على ذلك صبغة
-1التكوين واإلع�������داد قبل التمكين :فق���د مكث النبي
"التأصي���ل" ،متخذي���ن من مقولة "فقه الواق���ع" آلية لتبرير ما ال
أحدا منهم فكرا وممارسة .وما أظن أن ً َح َمل َة المنهج الجديد ً
وإن وق���ع ه���ؤالء وأولئ���ك في ه���ذا الخل���ل كان اإلفالس
ويعدهم ليكونوا أكث���ر من عقد في مكة ،يربي الصفوة األولى ّ
يوما من مكة ليبني دولة في المدينة، طاف بخاطره أنه سيخرج ً أو أنه سيعيش ليرى ثمرة تضحياته ومعاناته.
فتكوين الصف���وة القادرة على أن تتحرك إلحداث التغيير،
أم���ر جوهري ي���كاد يكون من الس���نن االجتماعي���ة الثابتة التي تحك���م حرك���ة كل المجتمعات عبر التاريخ .فم���ا من ثورة أو
تغيير إال وكان الدور األساس فيها لصفوة أو نخبة آمنت بمبدإ التغيير ،وتمثلت الفكرة دون تفكير في مغنم أو مكسب.
وم���ن هن���ا ال يمكن أن نفص���ل حدث الهجرة عما س���بقه،
فه���و كالنتيجة له ،إذ كان باإلم���كان أن تتم الهجرة في اللحظة ك���ذب فيها أهل مكة بالحق دون حاجة إلى تلك األول���ى التي ّ السنوات من العذاب واآلالم ،ولكن األمر لم يكن عب ًثا ،وإنما مقدما اقتضت���ه حكم���ة اهلل تعالى ف���ي جعل التكوين واإلع���داد ً
على التمكين.
يبرر في أكثر األحيان.
أحدا. وكان الفشل ،ألن السنن ال تحابي ً
تش���وف اإلنسان إلى التمكين قبل التكوين ،إن هو إال فإن ُّ
ضرب من العبث وش���كل من أش���كال الهزل في موطن الجد.
والحي���اة ال يصنعه���ا العابث���ون وال يقوده���ا م���ن يختلط عليهم
الجد مع الهزل.
-2رج�������ال المبدإ قب�������ل رجال الدولة :وه���و درس آخر من
دروس الهج���رة عل���ى مس���توى منه���ج التغيي���ر ،يتعل���ق بطبيعة
اإلنسان الذي ُك ّون لتقوم على كاهله أعباء الدولة الناشئة.
أساس���ا على مركزية فإذا كانت المنهجية اإلس�ل�امية ،تقوم ً
اإلنس���ان من حيث كونه هو المخاط���ب بالمنهج وهو المطبق
له في الواقع ،فإن الهدف السياسي من حركة التغيير واالنتقال م���ن ط���ور الجماعة إلى ط���ور الدولة ،يجعل م���ن التركيز على اإلنسان مسألة غاية في األهمية والخطورة.
ل���درس بليغ للحركات اإلس�ل�امية الت���ي تريد التغيير وإن���ه ٌ
والهـج���رة تنبهن���ا إلى ه���ذا المعلم المه���م ،إذ يتضح -من
الس���ير ،تغف���ل عن ه���ذا المعل���م الخطير فتتش���وف إلى تمكين
أن يفك���ر ف���ي رج���ل الدولة .وم���ا النماذج -من رج���ال الدولة
من منطلق االقتداء بالمنهج النبوي ،ثم في لحظة من لحظات عد ُع ّد َته ،إذ ُيتعبها ط���ول الطريق أو يغريها بريق لم���ا ُت َع َّد ل���ه َب ُ ّ مكس���ب سياس���ي عارض ،فتندف���ع ضارب ًة بهذه الس���نة عرض
الحائ���ط ،فتك���ون النتيج���ة تج���ارب هزيل���ة أو مش���وهة ،تكون في أغلب األحي���ان -حجة يعترض بها العلمانيون واألنظمةالمس���تبدة على فشل المشروع اإلسالمي من الناحية المبدئية، منهجا يقود الحياة. وعلى عدم صالحية اإلسالم ليكون ً
أصح���اب المغالبة وه���ذا الخلل يس���توي ف���ي الوقوع في���ه ُ
الذين ال يصبرون على معاناة الطريق ،أو تغرهم قوة جماهيرية السنة الثامنة -العدد (2013 )34
20
خالله���ا -كي���ف أن النبي ركز على تكوين رجل المبدإ قبل األف���ذاذ -الذين ظهروا بعد ذلك على امت���داد المرحلة النبوية ث���م مرحل���ة الخالفة الراش���دة ،إال ثمرة لهذا المس���لك النبوي الحكيم .فهل كان باإلمكان أن يعلن النبي عن تكوين دولة
ف���ي المدين���ة ،قبل أن يتمكن م���ن إعداد الرج���ال الذين رباهم على المبادئ في مكة؟
فالدول���ة بما له���ا من مغريات الس���لطة ،تتحول على أيدي
م���ارس من خاللها كلُّ م���ن لم تتمكن المبادئ منهم س���اح ًة ُت َ أشكال المفاسد السياسية واالقتصادية وحتى الدينية.
صراط يوعدون ،ويصدون عن س���بيل اهلل من آمن به ويبغونها
عوج���ا" )1(،ف���كان الخروج من "القرية الظال���م أهلها" إلى قرية ً
كانت "يث���رب" ،فصارت "المدينة المن���ورة" و"طيبة الطيبة".
()2
والمـكان الجديد إنما كان باختيار رباني ال باجتهاد بشري،
ولق���د ح���اول الرس���ول أن يتدب���ر أم���ر الم���كان فذهب إلى الطائ���ف -وه���ي إحدى القريتين العظيمتي���ن في ذلك الزمان-
مقتصرا على التجارة ولكن يبدو أن تنافس���ها مع مكة لم يكن ً وتكدي���س الم���ال ،وإنما تع���دى ذلك إلى التباري في القس���وة
ورد الحق ،فكان ما كان من صدود أهل الطائف وجحودهم، ّ وكان ما كان من أحداث مهدت الطريق إلى المدينة.
واالنتق���ال من مكة إلى المدين���ة ،لم يكن مجرد انتقال من
مكان إلى آخر ،وإنما انتقال من بنية اجتماعية إلى بنية أخرى.
وه���ذا كان ل���ه تجلياته في تش���ريعات الوحي التالي���ة على هذا
االنتقال.
أساس���ا من المؤمني���ن وهم األقلية ش���كلة فـ"مك���ة" كانت ُم َّ ً
الذي���ن اس���تجابوا لدع���وة الرس���ول ،ومن المش���ركين وهم األغلبي���ة الذي���ن ناصب���وه العداء .أم���ا المدينة فكان���ت األغلبية
وأنصارا ،معهم طائفة تظهر الخ ّلص "مهاجرين فيها للمؤمنين ُ ً
ألول مرة على مسرح األحداث وهم "المنافقون" ،إضافة إلى ٍ وتع���ال ثقافي بما لهم جماع���ات يهودي���ة ذات نفوذ اقتصادي، من تحكم في األس���واق ،وبما بقي لديهم من ميراث النبوات السابقة وسط مجتمع عربي أمي.
وه���ذا التغي���ر ف���ي طبيع���ة المجتمعين ،يتجل���ى في حديث
الق���رآن بعد الهجرة ع���ن المنافقين ،وفصول كيدهم للحق من داخ���ل الص���ف اإلس�ل�امي ،وك���ذا الحديث عن أه���ل الكتاب
الق���درة على التحمل والمواجهة ،فإن هذا اإليمان أضيف إليه ف���ي المرحل���ة المدنية ق���و ُة التضامن األخ���وي والمنعة المادية وف���اء بـما عاهدوا الت���ي وفرها األنص���ار إلخوانهم المهاجرين ً عليه الرسـول في بيعة العقبة الثانية. • انتقال من الجماعة إلى الدولة :وهذا كان له أثر بالغ في الس���لوك السياس���ي للفرد العربي ،فألول مرة ،تنش���أ في تاريخ العرب دولة تقارب في مفهومها األش���كال الحضارية للدولة، ال باهتة للدولة ،ال تعدو بعد أن عرف في تاريخه القديم أشكا ً أن تكون تابعة إلحدى القوى األجنبية. • االنتقال من أف�������ق القبيلة إلى أفق المجتمع واألمة :وهي نقل���ة جب���ارة في ميزان األمم والش���عوب ،فأن يخرج اإلنس���ان العرب���ي م���ن س���جن القبيل���ة وتقاليده���ا وقوانينه���ا ،ال ليك���ون صعلوكا -كما فعل بعض ش���عراء الع���رب -وإنما ليبني ما هو ً أرق���ى من القبيل���ة وروابطها .فه���ذا يتطلب تغيي���را عمي ًقا على ً مس���توى األف���كار والتصورات ،بل على مس���توى األحاس���يس أيض���ا .وبكلمة موج���زة ،يتطلب إنس���ا ًنا جديدا ال والعواط���ف ً ً صل���ة له بإنس���ان الجاهلية ،وهذا ما فعل���ه النبي ودأب عليه منذ لحظة نزول الوحي؛ بناء اإلنسان الجديد. وه���ذا االنتق���ال البني���وي بمظاه���ره الثالثة ،يجس���ده رمزيا ًّ م���ا فعله الرس���ول س���اعة مقدمه إل���ى المدينة ،إذ ب���ادر إلى بناء المس���جد ،والمؤاخاة بي���ن المهاجرين واألنص���ار ،وكتابة الوثيقة ،وهي إجراءات ثالثة تترجم األسس التي أرساها عليه الصالة والس�ل�ام للمجتمع اإلس�ل�امي؛ "صلة األمة باهلل ،صلة بعض���ا بالبعض اآلخر ،صلة األم���ة باألجانب عنها ممن األم���ة ً ()3 ال يدينون دينها".
وصفاته���م وصن���وف كيدهم وخداعهم الدين���ي (إخفاء حقيقة ثانيًا -القراءة على مستوى المنهج
النب���وة وأح���كام الش���ريعة الموس���وية) ،ومكره���م السياس���ي والعس���كري (تآمره���م عل���ى قت���ل الرس���ول وتحالفه���م مع
المشركين والمنافقين).
جـ-انتقال في البنية االجتماعية :ونعني بالبنية االجتماعية؛
تركيب���ة المجتم���ع اإلس�ل�امي بم���ا له���ا م���ن خصائ���ص مادي���ة
ومعنوية .فالهجرة غيرت مالمح الجماعة اإلس�ل�امية األولى، وطبيع���ة عالقته���ا بذاتها وبما يحيط به���ا ،ويمكن أن نتبين هذا التغيير من خالل المظاهر التالية:
• االنتق�������ال من الضعف إل�������ى القوة :فلئن كان���ت المرحلة
المكي���ة اعتم���دت عل���ى اإليم���ان قو ًة وحي���دة تمن���ح صاحبها
الس���نة -والسيرة جزء منها -تش���كل الجانب التطبيقي للمنهج ال���ذي أنزل���ه اهلل تعال���ى ف���ي كتابه ،ف�ل�ا مناص للمس���لم الذي يبتغ���ي االس���تهداء به���دي النبوة ،م���ن ضرورة اقتفاء المس���لك ان َل ُكم ِفي َر ُس ِ ���ول النب���وي ،اس���تـجابة ألمر اهلل تعالىَ ﴿ :ل َق ْد َك َ ْ ِ ِ هلل ���ر َو َذ َك َر ا َ ���ن َك َ ان َي ْر ُج���و ا َ ���و ٌة َح َس َ���ن ٌة ِل َم ْ اهلل ُأ ْس َ هلل َوا ْل َي ْو َم اآلخ َ َك ِث ًيرا﴾(األحزاب.)21: واالقتداء يصبح أكثر ضرورة بالنسبة للحركات التي تبتغي ومنهجا ،وتطمح للوصول التغيير رافعة ش���عار اإلس�ل�ام فكرة ً إلى ما وصل إليه النبي قبل قرون بفكرته ومنهجه. فالتاريخ والواقع ،كل منهما يعلمنا أن حس���ن النية وجمال
19
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
"النصوص حك َم ْتها قاعد ُة: كل األدوار التالية على هذه المرحلة َ ُ متناهية والوقائع غير متناهية" ،وهذا هو تأسيس���ها التش���ريعي.
أخرى مهدت له ،وأحداث نتجت عنه .وهذه قراءة تس���تهدي
بالع���رب من ط���ور القبيلة إلى طور المجتمع واألمة ،ومن أفق
وبما صح من روايات في كتب الحديث والسير.
• وه���ي المرحل���ة الت���ي وضع���ت فيه���ا القيم الت���ي انتقلت
الب���داوة إلى أفق الحضارة .فكل ثم���رة حضارية أتت من بعد، إنما هي من ش���جرة بذورها األولى ُغرس���ت في تربة المرحلة
النبوية ،وهذا هو تأسيسها الحضاري.
بشخصيات س���اهمت في صناعته ،وكان ضمن سياق أحداث
بما ورد من إش���ارات في الق���رآن الكريم حول حادثة الهجرة، وف���ي ه���ذا المس���توى ،نج���د تعلي���ق الق���رآن ع���ن الحدث
موج���زا، معج���زا كعادته ،يمزج ف���ي كلمات قالئ���ل بين البعد ً ً
التاريخي للحادثة وجذورها اإليمانية وتجلياتها التشريعية في
فالسيرة النبوية بأحداثها شكل خصوصا المفصلية منهاُ -ت ًّ
بيان عالقة المس���لـم -في كـل زمان ومكان -بصاحب الهجرة
ال .وهذا فهم���ا وتنزي ً ه���ي أرادت أن تتعام���ل مع هداية الوحي ً
الوق���ت ذاته ،يخاطب أجيال المس���لمين ف���ي كل وقت إلى أن
كم���ال التجربة اإلس�ل�امية ،واألفق الذي ترن���و إليه العقول إن
في اعتقادنا ،هو التصور العميق لمفهوم "اتباع الس���نة النبوية"، ال ذاك ال���ذي يق���ف عند ح���دود التجرب���ة النبوية في مس���توى
تعامالتها م���ع جزئيات الواقع دون االرتفاع إلى األصل الذي ينتظم تلك الجزئيات.
به���ذه الرؤي���ة ،رؤي���ة التاريخ من زاوية الوع���ي الحضاري،
ورؤية الس���يرة النبوية من زاوي���ة اإلدراك الواضح لخصائصها التأسيس���ية ،س���يكون وقوفنا م���ع حدث قد يك���ون ثاني حدث
"مفصلي" في تاريخ اإلس�ل�ام بعد حادث���ة نزول الوحي ،أعني بذلك حدث الهجرة النبوية.
هلل تنته���ي ه���ذه الدنيا ،يقول تعال���ىِ ﴿ :إ َّ ���د َن َص َر ُه ا ُ وه َف َق ْ ال َت ْن ُص ُر ُ ول ���روا َثا ِن َي ا ْث َن ْي ِن إ ِْذ ُه َما ِف���ي ا ْل َغارِ إ ِْذ َي ُق ُ إ ِْذ َأ ْخ َر َج ُ ���ه ا َّل ِذ َ ي���ن َك َف ُ ِل َص ِ هلل َم َع َنا﴾(التوبة.)40: اح ِب ِه َ ال َت ْح َز ْن إ َِّن ا َ
فاآلي���ة في ُبعدها التاريخي ،ت���ؤرخ لفعل "اإلخراج" الذي
َتع���رض له النبي ،فهي تتحدث ع���ن "انتقال" طبع المرحلة َّ التي أتت بعد ذلك الحدث ،يمكن تلمسه في الجوانب التالية: أ-انتقال في الزمان :إذ فصل الحدث بين زمنين ،زمن امتد
من بعثة الرسول إلى لحظة اإلذن له بالهجرة ،وهي مرحلة الدع���وة المكية بم���ا لها من مقدمات وإرهاص���ات ،بدأت منذ
والدته وانتهت زمانيا على مشارف المدينة المنورة .وزمن ًّ
الهجرة ومستويات القراءة
أش���رنا إل���ى أن حدث الهجرة قد ترتفع به الق���راءة الواعية إلى
مس���توى حدث نزول الوحي ،ومما يع���زز هذا الزعم أننا نجد
خاصية التأسيس تنطبق على الحدثين ،باعتبار أن األول دشن مرحلة البدء لرس���الة اإلس�ل�ام ف���ي آخر تجلياته���ا ،وأن الثاني
دش���ن مرحل���ة جدي���دة م���ن مراح���ل الدع���وة اإلس�ل�امية وهي
المرحلة المدنية.
وكم���ا أن التاري���خ لم يبق على ما هو عليه منذ لحظ ِة تل ُّفظ
أيضا ل���م يبق على ما جبري���ل بكلم���ة "اق���رأ" ،فإن التاريخ ً ه���و عليه منذ لحظة وصول س���يدنا محم���د إلى المدينة مع
صاحبه أبي بكر الصديق .
وأهمية الهجرة تجليها قراءة الحدث من خالل المستويات
التالية :مستوى الحدث التاريخي ،ومستوى المنهج ،ومستوى
االعتبار (استشراف المستقبل).
أوالً -القراءة على مستوى الحدث التاريخي
بأن ننظر للهجرة كحدث وقع في زمان ومكان محددين ،وتم السنة الثامنة -العدد (2013 )34
متعاليا عليه في موجودا في الزمان، ودين���ه ،فيبدو الح���دث ً ً
18
امت���د م���ن لحظ���ة وصوله علي���ه الصالة والس�ل�ام إل���ى المدينة
وانته���ى بالتحاقه بالرفيق األعلى ،وهي مرحلة الدعوة المدنية
بم���ا فيه���ا من مالحم وأح���داث .فصرنا بعدها نق���ول" :ما قبل
الهجرة وما بعد الهجرة".
وهذا انتقال كان له أثره البالغ في طبيعة التشريع ومضامين
اآليات والس���ور التي انقس���مت إلى قرآن مك���ي تمحور حول أصول اإلس�ل�ام عقيدة وش���ريعة وخل ًقا ،وقرآن مدني تمحور ح���ول توفي���ر األرضي���ة التش���ريعية لبن���اء المجتم���ع واألم���ة والحضارة ،فكان التوس���ع في كل ما يحتاج إليه اإلنس���ان من
تش���ريعات مبينة للعبادة أو ضابطة للس���لوك أو مقننة لش���ؤون
المجتمع في السلم والحرب.
بـ-انتقال في المكان :وه���و الخروج من مكة "أم القرى"،
رغدا من كل م���كان ببركة البيت تل���ك الت���ي كان يأتيه���ا رزقها ً
وردت الحق في عناد العتيق ،ولكنها كذبت صاحب الرسالة ّ وتكبر ،فكانت العقوبة كما يقول الشيخ الغزالي -رحمه اهلل -أن
"حرم مشركو مكة الخير كله مذ جحدوا الرسالة وقعدوا بكل
قضايا فكرية
د .عبد الوهاب بوخلخال*
الهجرة نقطة انطالق األمة
من أعظ���م األحداث المفصلية في تاريخ
أم���ة م���ا ،بعث���ة نبي ،ون���زول الوح���ي ،فهي
لحظ���ة فاصل���ة تفص���ل بي���ن مرحلتي���ن من
ال أخطر من أي حدث تاريخي آخر... مراحل التاريخ فص ً م���ن أجل هذا ،وجدنا عناية القرآن الكريم "بتاريخ النبوة"،
نقاطا مفصلية في مسيرة البشرية. وجعلها ً
فالتاريخ بالمنظور القرآني ،مقسم إلى حقب بحسب بعثة
األنبي���اء، والفعل اإلنس���اني يمت���د من���ذ آدم على خطين؛ ُ
خ���ط النبوة ،وخط مناهض���ي النبوة ،أو بتعبير القرآن "الصراط
المستقيم" و"سبل الضالل".
وم���ن هن���ا تأت���ي أهمي���ة الحقبة الت���ي تظللها نب���وة نبي من
األنبياء ،ألنها -بشكل أو بآخر -تلخص قصة البشرية ومشاهد
التدافع بين الحق والباطل.
ذل���ك أنه���ا تش���كل مرحل���ة التأس���يس بمختل���ف تجليات���ه
االجتماعية والمعرفية والتشريعية والحضارية.
• فالمرحل���ة النبوي���ة ه���ي منطل���ق التأس���يس للمجتم���ع اإلسالمي األول ،فهذا تأسيسها االجتماعي. • وه���ي أول تجرب���ة بش���رية ف���ي أدوار تاريخنا اإلس�ل�امي
ونحن كمسلمين ،ينبغي أن نعي هذه الحقيقة حال تعاملنا
تعام���ل فيه���ا العقل مع النص لفهمه وتنزيله على الواقع ،وهذا
اإلس�ل�ام العام ،فإنه���ا تمتاز بما ال نجده ف���ي غيرها من أدوار
• وهي المجال الزمني الذي كانت فيه النصوص مس���اوقة
جزءا م���ن تاريخ مـ���ع س���يرة رس���ـول اهلل .فه���ي وإن كان���ت ً ذلك التاريخ.
تأسيسها المنهجي والمعرفي.
للواقع ،متفاعلة بشكل مباشر مع أحداثه وأنشطة أصحابه ،بينما
17
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
حي���ث حجيته���ا ،داخ���ل ذات اإلنس���ان .وف���ي إط���ار كل ه���ذه الوح���دات المكون���ة ل���ه حين يتدخل ه���ذا الق���ول الثقيل ،فإن
ب���رد اليقي���ن يح���ل بقل���ب الم���رء وال يبق���ى ،كما ق���ال اهلل : ﴿ ِفي��� ِه ُش���ر َك ُاء ُم َت َش ِ "س��� َل ًما" هلل اك ُس َ ���ون﴾(الزمر ،)29:وإنما يصبح َ َ رب العالمي���ن ،ويصب���ح أقدر على أن يدخل في الس���لم كافة، ِ ان َن ْز ٌغ َفاس َ���ت ِع ْذ بِ���ا ِ الش���ي َط ِ هلل ِإ َّن ُه ق���ال َ : ْ ﴿وإ َِّم���ا َي ْن َز َغ َّن َك م َن َّ ْ ���م ٌ ِ ���هم َطا ِئ ٌ ِ َس ِ الش���ي َط ِ ان يم إ َِّن ا َّل ِذ َ يع َعل ٌ ين َّات َق ْوا ِإ َذا َم َّس ُ ْ ف م َن َّ ْ ص���ر َ ِ ���م ِفي ا ْل َغ ِي ون َوإ ِْخ َوا ُن ُه ْم َي ُم ُّدو َن ُه ْ ���روا َف��� ِإ َذا ُه ْ ���م ُم ْب ُ َت َذ َّك ُ ّ ص���ر َ ٍ ِ ُث���م َ ِ اج َت َب ْي َت َها ُق ْل ���و َ ال ْ ���م َت ْأتهِ ْم ب َِآية َقا ُلوا َل ْ ون َو ِإ َذا َل ْ َّ ال ُي ْق ُ َ ي ا م ِ���ع ب ت أ ���ا م ���ذا َب َصا ِئ ُر ِم ْن َر ِّب ُك ْم َو ُه ًدى وحى ِإ َل َّي ِم ْن َر ِّبي َه َ ِإ َّن َ َّ ُ َ ُ َ اس َت ِم ُعوا َل ُه َو َأ ْن ِص ُتوا ون َ و ِإ َذا ُق ِر َئ ا ْل ُق ْر ُ َو َر ْح َم ٌة ِل َق ْو ٍم ُي ْؤ ِم ُن َ آن َف ْ ون﴾(األعراف.)204-200: َل َع َّل ُك ْم ُت ْر َح ُم َ
الثقل من حيث التحدي
أختم هذا القول عن القول الثقيل ،باإلشارة إلى أن من معاني أيض���ا ،ثقل هذا القول العظيم م���ن حيث التحدي الذي الثق���ل ً ﴿وإ ِْن ُك ْن ُت ْم ِف���ي َر ْي ٍب ق���د تح���دى اهلل ب���ه الج���ن واإلن���سَ : ِ ِ ���ه َد َاء ُك ْم ���ور ٍة ِم ْن ِم ْث ِل ِه َو ْاد ُعوا ُش َ م َّم���ا َن َّز ْل َنا َع َلى َع ْبد َنا َف ْأ ُتوا ب ُِس َ ِ ِ ين﴾(البق���رة .)23:ه���ذا التحدي قائم ���م َصا ِد ِق َ ِم ْ ���ن ُدون اهلل إ ِْن ُك ْن ُت ْ منذ أربعة عش���ر قر ًنا ،وقد ش���هد التاريخ ما وقع للذين سولت له���م أنفس���هم أن يزاحم���وا في ه���ذا المضمار ،أو أن ينافس���وا ه���ذا الق���ول الثقيل .ولذلكم فإن ه���ذا الثقل ينصرف لكل هذه المعاني وزيادة ،فهو الدواء ،وهو البلس���م ،وهو الش���فاء ،وهو الرقي���ة المبارك���ة الت���ي حين تدخل ذات اإلنس���ان فإنه���ا لثقلها ين ���و ِل َّل ِذ َ تقض���ي عل���ى األدواء وعلى األم���راض كلهاُ ﴿ :ق ْل ُه َ آم ُنوا ُه ًدى َو ِش َف ٌاء﴾(فصلت.)44: َ نس���أل اهلل ج���ل وعز أن يش���فينا بهذا الق���ول الثقيل من كل أدوائنا و َأ ْض ُرب ُض ِّرنا الظاهرة والباطنة .آمين. (*) األمين العام للرابطة المحمدية للعلماء /المغرب.
الهوامش
وح ْولَها س���بعون ( )1ع���ن اب���ن عب���اس: ْ "نزلت س���ورة األنعام جمل��� ًة بمك َة ل َْيال َ ٍ ���رون حوله���ا بالتس���بيح" .أخرج���ه الطبران���ي ف���ي المعج���م َ أل���ف م َل���ك َي ْج ُ الكبير(.)215/12 ( )2قال سفيان الثوري ،عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد :نزلت سورة األنعام على النبي جملة [واحدة] وأنا آخذة بزمام ناقة النبي ،إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة .انظر تفسير سورة األنعام عند ابن كثير.
( )3حديث مرفوع أورده السيوطي في باب فضائل القرآن. السنة الثامنة -العدد (2013 )34
16
عا َلم الطفولة البراءة ُّ كلها، في طفولة األطفال، في ربيع ابتساماتهم، في نضارة عيونهم... إنهم ربيعنا القادم، وبالبل أرواحنا على أفنان األيام... غردوا ،أشاعوا السرور، إذا َّ واستفتحوا نافذة على الغد المأمول، والوصال اآلتي... ***
القط���ع؛ حي���ن يك���ون الن���اس مختلفين، يتناقش���ون ويتباحث���ون ويتدارس���ون
ويتجادلون ،ثم يأتي قول اهلل ،فيقطع ق���ول كل قائ���ل آخ���ر ،لثقل���ه ولبنائيت���ه،
ولكون���ه يس���تدرج كل ه���ذه المحددات
قادرا على القطع المنهاجية التي تجعله ً والبتر مع كل خطإ ومع كل بهرج.
وم���ن معاني الثقل ف���ي هذه البصيرة
الجليل���ة ،ثق���ل ه���ذا الق���ول م���ن حي���ث
حر ًفا الحس���نات ،لقول���ه " :م���ن ق���رأ ْ
من كتاب اهلل؛ فله به حس���نة ،والحس���نة ���ر أمثاله���ا ،ال أقول( :ال���م) حرف، بعش ِ ْ ولك���ن ألف ح���رف ،والم حرف ،وميم
�إن اهلل � سمى كتاب مو�سى وه��ارون عليهم��ا ال�س�لام بالكتاب امل�س��تبني ،و�س��مى القر�آن املجيد بالكتاب املبني، ولذل��ك كان هذا القر�آن �إمام الكت��ب ،وكان املر�س��ل ب��ه عليه ال�ص�لاة وال�س�لام لثقل القول الذي �أن��زل عليه ،هو الإم��ام ال��ذي �أكرمه اهلل جميعا. ب�إمامة الأنبياء ً
ح���رف" (رواه البخ���اري) ،ويقال لقارئ هذا
الثقل من حيث تمكين اإلنس�������ان من االعتبار
ثقي���ل ه���ذا الق���ول كذلك���م م���ن حي���ث اع َتب ُِروا تمكينه اإلنسان من االعتبارَ ﴿ :ف ْ َيا ُأو ِلي ا َ أل ْب َصارِ ﴾(الحش���ر ،)2:فس���فينته ال
يمك���ن أن تعترضها أس���اطيل الش���بهات وال المغالط���ات ،إذ عنده���ا القدرة على ش���ق طريقها من عدوة إل���ى أخرى ،من عدوة الجهل إلى عدوة العلم ،من عدوة
الحي���رة إل���ى ع���دوة الهداية ،م���ن عدوة
الش���ك إلى ع���دوة اليقين ...إنها س���فينة ق���ادرة -بإذن العل���ي الكريم -على مخر
المياه الفاصلة بين هذه العدوات لثقلها،
القول الثقيل يوم القيامة" :اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في
والس���فينة كلما كانت أثق���ل ،كانت أقدر يح َط ِّي َب ٍة﴾(يونس.)22: ﴿و َج َر ْي َن بِهِ ْم ب ِِر ٍ على مخر عباب البحر َ
متبوؤه من الجنة حيث يشاء ،قال تعالى وأما من عمل به فذاك ّ
كم���ا أن م���ن معان���ي الثقل ف���ي هذه البصي���رة الكريم���ة ،الثقل
الدني���ا ،ف���إن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأ به���ا" (رواه أبو داود).
﴿و َقا ُلوا ف���ي حق العاملي���ن بهذا القول الثقيل وعلى لس���انهمَ : ���د ُه َو َأ ْو َر َث َنا ا َ ض َن َت َب َّو ُأ ِم َن ا ْل َج َّن ِة أل ْر َ ���د لهلِ ِ ا َّل ِذي َص َد َق َنا َو ْع َ ا ْل َح ْم ُ ين﴾(الزم���ر .)74:فهو قول ثقيل في َح ْي ُ ���اء َف ِن ْع َم َأ ْج ُر ا ْل َعا ِم ِل َ ���ث َن َش ُ ���ن َث ُق َل ْت َم َوازِ ُين ُه ���و ْز ُن َي ْو َم ِئ ٍذ ا ْل َح ُّق َف َم ْ ميزان الحس���ناتَ : ﴿وا ْل َ ين َف ُأو َل ِئ َ ���ك ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ ون َ و َم ْن َخ َّف ْ ���ت َم َوازِ ُين ُه َف ُأو َل ِئ َك ا َّل ِذ َ َخ ِس ُروا َأ ْن ُف َس ُه ْم﴾(األعراف ،)9-8:قول ثقيل في ميزان رب العزة، حي���ث ترجح كفة من ُأكرم بهذا القول واس���تدرجه بين جنبيه، ثم عمل به من حيث الحسنات ومن حيث األجر العظيم.
الثقل من حيث قدرته على شفاء ما في القلوب
أيض���ا ثقي���ل من حي���ث قدرت���ه على ش���فاء ما في ه���ذا الق���ول ً ِ ���ن ا ْل ُقر ِ آن َما ُه َو ِش��� َف ٌاء َو َر ْح َم ٌة القل���وب وإحيائه���اَ : ﴿و ُن َن ِّز ُل م َ ْ ين﴾(اإلس���راء ،)82:فحي���ن يس���تقر ه���ذا الق���ول الكريم في ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ قل���ب المؤمن أو المؤمنة ،فإن���ه ال يمكن أن يتزاحم معه هناك لثقله ش���يء آخر ،من ش���بهة أو ش���هوة أو نزغة أو نفثة أو غير
ذل���ك ،حي���ث يمأل هذا الق���ول المبارك القل���ب فيخبت له وال ﴿و ِل َي ْع َل َم يت���رك مكا ًنا لس���واه أو لغيره ،مصدا ًقا لق���ول اهلل َ : ِت َل ُه ���ن َر ِّب َك َف ُي ْؤ ِم ُنوا بِ��� ِه َف ُت ْخب َ ا َّل ِذ َ ي���ن ُأو ُت���وا ا ْل ِع ْل َم َأ َّن ُه ا ْل َح ُّق ِم ْ وب ُه ْم﴾(الحج.)54: ُق ُل ُ
الثقل والرجحان حين المقارنة مع الكتب السابقة
والرجحان حين المقارنة مع الكتب الس���ابقة ،فاهلل س���مى
كت���اب موس���ى وه���ارون عليهما الس�ل�ام بالكتاب المس���تبين: ِين﴾(الصافآت ،)117:وس���مى القرآن ﴿وآ َت ْي َن ُ اب ا ْل ُم ْس َ���تب َ اه َم���ا ا ْل ِك َت َ َ ِ ات ا ْل ُق���ر ِ اب آي ���ك ل ت ﴿طس المبين: بالكت���اب المجي���د آن َو ِك َت ٍ ْ َ َ ُ ْ ِين﴾(النم���ل ،)1:ولذل���ك كان ه���ذا القرآن إم���ام الكتب ،وكان ُمب ٍ
المرسل به عليه الصالة والسالم لثقل القول الذي أنزل عليه،
جميعا ،كما ثبت ه���و اإلمام الذي أكرمه اهلل بإمامة األنبياء ً في حادثة اإلس���راء والمعراج المباركة .فقد أخرج مس���لم من رأي ُت ِني في جماع ٍة من األنبياء حديث اإلس���راء قوله " :وقد ْ
( )...فحان���ت الص�ل�اة ف َأمم ُت ُه���م" (رواه َْ ْ
مس���لم) ،فه���و قول ثقيل
بالمقارنة مع النبوات السابقة والسالفة.
الثقل في حوار اإلنسان مع ذاته
أيضا في حوار اإلنس���ان مع ذاته ،فاإلنس���ان ثقي���ل ه���ذا القول ً ���ن جمل���ة م���ن الوحدات لي���س وح���دة مف���ردة ،وإنم���ا ه���و ُي ِك ُّ األخ���رى ،فهناك الروح ،وهناك النفس ،وهناك الملك ،وهناك
القرين ،وهناك شياطين الجن واإلنس ،وهناك المحيط العام، وإيح���اءات هذه األصوات الش���تى التي تؤثث باطن اإلنس���ان تظه���ر وتل���وح كما ل���و كانت متس���اوية من حي���ث وزنها ومن
15
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
معين كقول أو ذات التجرب���ة ف���ي مجال ّ
س���ورة األنعام( )1كان رسول اهلل فوق وس���معت لعظامها غير ذي أو ذات التجربة في هذا المجال راحلت���ه فبرك���ت ب���ه ُ القول الثقيل نزل على ر�سول اهلل طقطقة )2(.وعن زيد بن ثابت أن رس���ول نفس���ه ،فكي���ف باهلل خالق كل ش���يء ليَ ْع� رُُب� منه �إىل العاملني .فمرور ال َيس َت ِوي ا ْل َق ِ ون جل وعال اع ُد َ وربه سبحانه ومليكه .إن قوله ّ اهلل أملى عليهْ َ ﴿ : ه��ذا الق��ول الثقيل م��ن الذات ي���ن َوا ْلم َج ِ ِيل ون ِفي َس���ب ِ ثقي���ل بهذا االعتب���ار المعن���وي ،كما أنه اه ُد َ ���ن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ ِم َ ُ النبوية ال�رشيفة التي كانت تعاين ا ِ هلل﴾(النس���اء ،)95:قال فجاءه ابن ّأم مكتوم قول حين ُيتم ّلك ثقيل باعتبار قيمته ،إنه ٌ �أميا معان��اة من تنزل ه��ذا القول وه���و ُي ِملُّها علي ،فقال يا رس���ول اهلل لو وي ْس َت ْد َر ُج منه بين َّ من قبل هذا اإلنسانُ ، الثقي��ل ،لطَّف��ه ب���إذن اهلل تعاىل، ال أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان رج ً الجنبين ،كما قال عليه الصالة والسالم: ُ ف�أ�ص��بحنا نح��ن مبحدودياتن��ا أعم���ى -فأن���زل اهلل تب���ارك وتعالى على اس َ���ت ْد َر َج النبو َة َ "م ْن قرأ الق���رآن فكأنما ْ متع ّددة الأبعاد و�أ�رضب ال�ضعف ()3 لت رس���وله و َف ِخ ُذه على َف ِخذي ،فث ُق ْ غي���ر أنه ال يوح���ى إليه"، َب ْي���ن َج ْن َبي���هَ ، التي تعتورنا ،قادرين على تل ّقيه، ض ِ فخذي ثم عل���ي حت���ى ت���ر ّ ُ تعل���و قيمت���ه ،وق���د كان الصحابة إذا خفت أن ُ َّ �سماعه. على وقادرين ِ ُ ي ل و أ ���ر ي ﴿غ : اهلل فأن���زل عنه ي ���ر َ حف���ظ الرجل منه���م الزهراوي���ن (البقرة َْ ُ ُس ِّ ���ررِ ﴾ (رواه البخاري) ،مما يدل على أن َّ وآل عمران) يجل في أعينهم .ويس���تفاد الض َ هذه الذات النبوية الشريفة كانت تعاني ذل���ك م���ن حديث أن���س ب���ن مالك : حس���ا ومعن���ى من ثق���ل هذا الق���ول المبارك الكري���م .لقد كان ال كان َي ْك ُتب للنبي ،وقد كان قرأ :البقرة، ًّ "عن أنس ،أن رج ً ً وإن القر، الش���ديد اليوم في والس�ل�ام الصالة عليه إليه يوحى وآل عمرانَ ،ج َّد وآل عم���ران ،وكان الرج���ل إذا قرأ :البق���رةَ ، َ جبين���ه ّ ليتفص���د ع���ن مثل الجم���ان ،أي إن عرقه كان يش���به فين���ا -يعن���ي َع ُظ َم" (رواه اإلمام أحم���د) .ألن هذه الحكمة التي في اللؤل���ؤ في كبر حجمه بأبي هو وأمي .قالت عائش���ة رضي الق���رآن المجيد ،وه���ذه العصارة ،وهذه القابلي���ة للهداية للتي ِ الش���ديد البرد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم اهلل عنها":ولقد ُ ُ ويستدرج بين الجنبين ،فإن هي أقوم ،حين ُيستدمج كل ذلك ُ عر ًقا" (رواه البخاري). َف َي ْف ِص ُم عنه ،وإن َ قيمة المس���تد ِ جبينه َل َي َت َف َّص ُد َ والمستدرِ ج تعلو ،ويصبح جليال ً سواء أدرك ج م ُ ُ الثقل المعنوي الن���اس ذل���ك أم ل���م يدركوه .كم���ا أن الثقل في ه���ذه البصيرة فمفه���وم الثق���ل ف���ي ه���ذه البصي���رة المبارك���ة يتضم���ن الثق���ل المبارك���ة يفيد الثقل من حيث الفاعلية ،حيث ّيتس���م بالفاعلية ّ علما ،ف���ي فتح الس���بل ،وإنارة ال���دروب ،واألخذ بيد اإلنس���ان نحو المعن���وي ،إذ إن ه���ذا القول قول من أحاط بكل ش���يء ً ص َع َل ْي َك َأ ْح َس َن ا ْل َق َص ِ ص ب َِما َأ ْو َح ْي َنا األكثر نجاعة ونحو األكثر إنتاجية واألكثر حكمة. يقول سبحانهَ ﴿ :ن ْح ُن َن ُق ُّ هلل َن َّز َل ���ك َه َ ِإ َل ْي َ آن﴾(يوس���ف ،)3:كم���ا يقول س���بحانه﴿ :ا ُ ���ذا ا ْل ُق ْر َ الثقل في القدرة على الدحض ���ن ا ْل َح ِد ِ يث ِك َت ًابا ُم َت َشا ِب ًها َم َثا ِني﴾(الزمر ،)23:ويقول عز من َأ ْح َس َ َ أيضا ،الثقل في وم���ن معان���ي الثقل في هذه البصيرة المبارك���ة ً ���ن َر ِّب ُك ْم﴾(الزمر،)55: ���ن َما ُأ ْن ِ ﴿و َّاتب ُِعوا َأ ْح َس َ ���ز َل ِإ َل ْي ُك ْم ِم ْ قائ���لَ : القدرة على الدحض ،لذلك سمى اهلل الحجج دون حجة فه���ذا الق���ول منتق���ى عص���ارة ما في ه���ذا الوجود م���ن حكمة. ���ون ِف���ي ا ِ ���ن َب ْع ِد َما اج َ ي���ن ُي َح ُّ ﴿وا َّل ِذ َ هلل ِم ْ فصيغة التفضيل "أحسن" فيها ،أن رب العزة الذي عنده خزان كتاب���ه بـ"الداحض���ة"َ : يب َل ُه ُح َّج ُت ُهم َد ِ اح َض ٌة﴾(الش���ورى ،)16:أي أنها مدحوضة اس ُ ���ت ِج َ ْ ْ الوج���ود وم���ا هو فيه ،وما كان فيه ،وما ل���و كان فيه كيف كان يتنزل ه���ذا القول الثقيل على التلبيس حيث القول، هذا لثق���ل ّ سيكون ،ما كان وما سوف يكون في المستقبل ،رب العزة وعل���ى التموي���ه ،وعل���ى الباطل وعلى الفس���اد ،وعل���ى الخطأ ينتقي لنا أحس���ن ما في هذا الخزان ،ينتقي لنا أحس���ن اآليات، فيدحض كل ذلك ،ويخلص منه ويبدده ،فالثقل في هذه اآلية أحس���ن األمث���ال .ولالس���تبصار بدقة ه���ذا الملمح نس���تعرض الكريمة وارد بهذا المعنى كذلك. شخصا ذا خبرة المثال اآلتي ،وهلل المثل األعلى :فحين ُتكلم ً معي���ن ،فإن قول���ه يكون متس���ما بالتركي���ز ،ويكون الثقل من حيث القطع والحسنات ً ف���ي مج���ال ّ متس���ما بالدسامة ،وبالتبع يكون متسما بالثقل .فليس قول ذي كم���ا أن م���ن تجليات الثقل في ه���ذه البصيرة ،الثقل من حيث ً ً السنة الثامنة -العدد (2013 )34
14
قضايا فكرية
أ.د .أحمد عبادي*
"إنا سنلقي عليك قوال ثقيال" تبصر هذه بصي���رة من بصائر الق���رآن الكريمّ ،
﴿ب ْل َن ْق ِ ���ذ ُف بِا ْل َح ِّق َع َلى ال���ذي من ش���أنه أن يدم���غ كل باطلَ : ا ْلب ِ ���و َز ِاه ٌق﴾(األنبياء .)18:مفهوم اإللقاء إذن، اط ِ ���ل َف َي ْد َم ُغ ُه َف ِإ َذا ُه َ َ في���ه معن���ى التحلية ومعن���ى الدمغ ،غير أن اإللقاء على س���يدنا
﴿ي َح َّل ْو َن ِف َيها ِم ْن َأ َساوِ َر ِم ْن َذ َه ٍب للتحلية مصدا ًقا لقوله ُ : ���ؤا َو ِلباس ُ ِ ير﴾(الحج .)23:كذل���ك يبرز "اإللقاء" َو ُل ْؤ ُل ً َ ُ ���ه ْم ف َيها َح ِر ٌ وس���ى َأ ْن َألْقِ َع َص���اكَ َف ِإ َذا مفهوم���ا للدم���غَ : ً ﴿و َأ ْو َح ْي َن���ا ِإ َل���ى ُم َ ِ ْ ون﴾(األع���راف ،)117:فاإللقاء هن���ا هو ذاكم ك ف أ ي ���ا م ���ف ق ل ت ِه ُ ْ َ ���ي َ َ ُ َ َ َ
لطفه ب���إذن اهلل تعالى ،فأصبحنا نحن تن���زل ه���ذا القول الثقيلَّ ،
اإلنس���ان بقيمة وثق���ل هذا الق���ول الملقى إليه
وعز: م���ن رب العالمي���ن ،وهي قول���ه ّ جل ّ ال﴾(المزمل.)5: ﴿ ِإ َّنا َس ُن ْل ِقي َع َل ْي َك َق ْو ً ال َث ِقي ً محوريا ه���و مفهوم مفهوما تتضم���ن ه���ذه اآلي���ة المبارك���ة ً ً اإللق���اء؛ واإللقاء ف���ي القرآن المجي���د يبرز باعتب���اره للتحلية: ال ِئ َك ُة ﴿فل���وال ُأل ِق ���ي َع َل ْي��� ِه َأ ْس ِ ���و َر ٌة ِم ْن َذ َه ٍ ���ه ا ْل َم َ ���ب َأ ْو َج َاء َم َع ُ ََ ْ َ ْ َ ين﴾(الزخ���رف ،)53:واألس���اورة كم���ا ه���و معلوم تس���تعمل ُم ْق َت ِر ِن َ
رس���ول اهلل يس���تبطن معنى آخر مفاده ،أن هذا القول الثقيل آن َع َلى َج َب ٍل ال���ذي ق���ال اهلل في حقهَ ﴿ :ل ْو َأ ْن َز ْل َنا َه َ ���ذا ا ْل ُق ْر َ ���عا ُم َت َص ِّد ًع���ا ِم ْن َخ ْش���ي ِة ا ِ ���ه َخ ِ هلل﴾(الحش���ر ،)21:نزل على َل َر َأ ْي َت ُ اش ً َ رسول اهلل ِ ل َي ْع ُبر منه إلى العالمين .فمرور هذا القول الثقيل م���ن ال���ذات النبوية الش���ريفة التي كانت تعاني أيم���ا معاناة من متعددة األبعاد وأضرب الضع���ف التي تعتورنا، بمحدودياتن���ا ّ شدة قادرين على تل ّقيه ،وقادرين على س���ماعه .ومن تجليات ّ وطأة القول الثقيل على الذات النبوية الشريفة ،أنه حين نزلت
13
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
وقت���ل األنع���ام وتلوي���ث المياه وقطع األش���جار لغي���ر مصلحة
فس���ادا واهلل ال يحب الفس���اد وال المفسدين ،يقول عامة ،يعتبر ً ���اد ِف���ي ا َ ال ُي ِح ُّب هلل َ ﴿و َ أل ْر ِ ض إ َِّن ا َ ال َت ْب ِغ ا ْل َف َس َ تب���ارك وتعالىَ : هلل َوار ُجوا ا ْليو َم ِ اآلخ َر ا ْل ُم ْف ِس ِد َ ين﴾(القصصَ ،)77: ﴿يا َق ْو ِم ْاع ُب ُدوا ا َ ْ َْ ض ُم ْف ِس ِ ���وا ِفي ا َ ���دوا ﴿و َ َو َ أل ْر ِ ال ُت ْف ِس ُ ���د َ ين﴾(العنكبوتَ ،)36: ال َت ْع َث ْ ِفي ا َ ال ِح َها َذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر َل ُك ْم﴾(األعراف.)85: أل ْر ِ ض َب ْع َد إ ِْص َ إن اإلفس���اد في البيئ���ة يحدث عندما ينفك رب���اط العبودية
هلل تعالى ،عندئذ ينس���لخ اإلنس���ان عن هداية اهلل فيضل ويشقى
ويخاف ويحزن .وهي س���لوكيات تحول حركته إلى تغير غير وتجعل حم���اة البيئة ينكرون عليه س���لوكه ممت���زج بالعبودي���ة، َ
المفس���د الذي أح���دث وال يزال يحدث مش���كالت في البيئة، صدق عليه القول بأنه مشكلة البيئة. حتى أصبح َي ُ
أم���ا اإلس���راف فه���و ضد التوس���ط واالعت���دال ،إذ يريد اهلل
عبادا متوسطين معتدلين ال ُهم بمعسرين وال مسرفين، تعالى ً
���ر ُفوا ِإ َّن ُه ويقول تعالى في ذم اإلس���راف والمس���رفين﴿:و َ ال ُت ْس ِ َ ين﴾(األنعام .)141:وق���د نهى الرس���ول عن َ ���ب ا ْل ُم ْس ِ ال ُي ِح ُّ ���ر ِف َ
اإلسراف في األكل ،ألنه مضر بصحة اإلنسان من جهة ،ومن جه���ة أخرى فاإلس���راف في األكل يحجب اإلنس���ان المس���لم
عن الش���عور بمن حوله من الفقراء والمساكين؛ فقد روي عن
ش���را من بطنه ،بحس���ب الرس���ول قوله" :ما مأل آدمي ً وعاء ًّ ابن آدم أكالت يقمن صلبه ،فإن كان ال محالة فثلث لطعامه،
وثلث لشرابه ،وثلث َلن َفسه" (رواه الترمذي).
فموقف اإلس�ل�ام من البيئة هو موق���ف إيجابي ،فال يجوز
لإلنس���ان إفس���اد البيئة بإخراجه���ا عن طبيعته���ا المالئمة لحياة اإلنس���ان وق���راره فيه���ا ،كم���ا ال يجوز اس���تثمار تل���ك الموارد
أو االنتفاع بها ،بش���كل مس���رف وغير رش���يد يفسد أو يعرض
أقواتها ومواردها للفساد والتشويه. (*) كاتب وباحث جزائري.
المراجع
( )1أبو عبيدة القاس���م ابن س�ل�ام ،تحقيق محمد حامد الفقي :األموال ،المكتبة التجارية الكبرى ،القاهرة1353 ،هـ.
( )2الفلس���فة التربوي���ة البيئية ،لس���عدون س���لمان نجم الحلبوس���ي ،دار الهدى، مالطا .2002
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
12
الكون شعر منظوم في الكون تد�َّب ْر، وفي الطبيعة تَفكَّ ْر، نشا ًزا لن تـجد، واختال ًال لن ترى... َموزو ٌن ُك ُّل شيء؛ كقصيد ِة ِشعر، وسمفوني ٍة رائعة اللحن... فأظنّك تعلم، أن ّ التفكر من أعظم العبادات... ***
تدمير أو تخريب .عن س���عد بن زيد أرضا قال :قال الرس���ول " :م���ن أحيا ً
ميت���ة فهي ل���ه" (رواه الترم���ذي) ،ويروى عن
الخليف���ة عمر بن الخطاب قوله :من
كان���ت ل���ه أرض ثم تركها ثالث س���نين ول���م يعمرها فعمرها ق���وم آخرون فهم
أحق بها.
فالك���ون هو أمانة اهلل لإلنس���ان،
ولذا يجب أن يتصرف في حدود األمانة
�إن �إ�ص�لاح احلي��اة الإن�س��انية والطبيعي��ة ،واملحافظ��ة عل��ى النظ��ام احليوي ومنع �إف�س��اده، ينبغ��ي �أن يتحقق وف��ق القواعد الكلي��ة ال�ش��املة لإ�ص�لاح تبع��ا ملبادئ احلي��اة ،وت�س��يريها ً اال�س��تخالف املرتك��ز عل��ى الإمي��ان والعب��ادة ،والأخ�لاق بو�صفها جوهر الإ�سالم وروحه الفاعل��ة يف جمي��ع جوانب��ه.
مراعي���ا ف���ي ذلك الت���ي وهب���ه اهلل إياه���ا ً قول���ه تعالىِ ﴿ :إ َّن���ا َعر ْض َن���ا ا َ أل َما َن َة َع َلى َ او ِ ات َوا َ ض َوا ْل ِجب ِ ال َف َأ َب ْي َن َأ ْن أل ْر ِ ���م َ الس َ َ َّ ِ ِ َ ان س ن إل ا ا ه ل م ح و ا ه ن م ن ق ف ش أ و ا ه ن ل م ح ِ َ ْ َ ْ َ ُ َي ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ ال﴾(األح���زاب.)72: وم���ا َج ُهو ً ���ه َك َ ِإ َّن ُ ان َظ ُل ً أساس���ا الختبار اإلنس���ان ،فهو وف���ي هذا اإلط���ار تصبح البيئة ً
وق���د بين اهلل تعالى ما هو حالل وما
هو حرام ،ليكون خليفته في األرض على
ّبينة في تعامله مع نفس���ه ومع اآلخرين،
يأم���ر بالمع���روف وينه���ى ع���ن المنك���ر، ���م َخ ْي َر ُأ َّم��� ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ق���ال تعال���ىُ : ﴿ك ْن ُت ْ ون بِا ْلم ْع���ر ِ ِل َّلن ِ ْ وف َو َت ْن َه ْو َن َع ِن ���اس َتأ ُم ُر َ َ ُ ���ون بِ���ا ِ هلل﴾(آل عم���ران.)110: ا ْل ُم ْن َك ِ ���ر َو ُت ْؤ ِم ُن َ وإذا أمعن���ا النظر في بعض آيات القرآن الكري���م الت���ي تذكر الطيب���ات ،وجدناها
كأنه���ا موجه���ة لل���رد عل���ى من يس���تهين
ش���يئا ال به���ذا المتاع الطيب ويرى منها ً
وم���ن منطلق خالفة اإلنس���ان على األرض ،فهو مس���ؤول
معنى ل���ه وال أهمية ،حيث ق���ال تعالى: ال ُت َح ِر ُموا َط ِيب ِ ات ﴿ي���ا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ين َ َ َّ آم ُن���وا َ ّ َ ال هلل َ ���م َو َ َم���ا أ َح َّ ���دوا إ َِّن ا َ ���ل ا ُ ال َت ْع َت ُ هلل َل ُك ْ ال َط ِّي ًبا َو َّات ُقوا �ل�ا ً هلل َح َ ي���ن َ و ُك ُلوا ِم َّما َر َز َق ُك ُم ا ُ ُي ِح ُّ ���ب ا ْل ُم ْع َت ِد َ ا َ ِ َ ون﴾(المائدة .)88-87:وقد نهى الرس���ول ���م بِ��� ِه ُم ْؤ ِم ُن َ هلل ا َّل���ذي أ ْن ُت ْ ع���ن األذى ،واعتبره من المحرمات؛ عن حذيفة بن أس���يد
والس���ير في دروب الكون ومناكبه ،ومطالب بالسعي واإلبداع
وجب���ت عليه لعنتهم" (رواه الطبران���ي) .فالتعدي على حق الطريق
مكلف بأن يفهم الطبيعة ودورها.
دعو إلى العمل وم ٌّ عن تسخير الكون والكائنات بما فيه النفعَ ، واإلعم���ار باعتباره -من منطلق الخالفة -هو صاحب الش���أن والكلم���ة ف���ي الكون ،كما ج���اء في قول���ه تعالىَ ﴿ :أ َف َح ِس ْ���ب ُت ْم َ ون﴾(المؤمن���ون،)115: ���م ِإ َل ْي َن���ا َ َأ َّن َم���ا َخ َل ْق َن ُ ال ُت ْر َج ُع َ ���م َع َب ًثا َوأ َّن ُك ْ اك ْ ﴿و َيس َت ْخ ِل َف ُكم ِفي ا َ ون﴾(األعراف.)129: أل ْر ِ ض َف َي ْن ُظ َر َك ْي َ ف َت ْع َم ُل َ ْ َ ْ
-2اعتبار الحلية والحرمة
إن الح�ل�ال والح���رام مفهومان يحكمان البيئة من وجهة النظر اإلسالمية .فالحالل يشمل كل ما هو نافع لإلنسان ولمجتمعه
ولبيئت���ه ولألجي���ال القادم���ة ،والحرام يش���مل كل ما من ش���أنه ���ر ُبوا ِم ْن رِ ْز ِق تدمير اإلنس���ان وبيئته ،لقوله تعالىُ : ﴿ك ُلوا َو ْ اش َ ض ُم ْف ِس ِ ا ِ ���وا ِف���ي ا َ ين﴾(البقرة ،)60:وقوله تعالى: هلل َو َ أل ْر ِ ���د َ ال َت ْع َث ْ الت ْه ُل َك ِة﴾(البقرة .)195:فكلما س���لك ﴿و َ ال ُت ْل ُق���وا ِب َأ ْي ِد ُ ���م ِإ َل���ى َّ َ يك ْ بعيدا عن الس���لوكيات التي رس���مها اهلل ،حصلت اإلنس���ان ً ﴿ظ َه َر ا ْل َف َس ُاد ِفي ا ْل َب ِّر َوا ْل َب ْح ِر الكوارث والمآسي ،قال تعالىَ : أدى الن ِ ب َِما َك َس َ���ب ْت َأ ْي ِدي َّ اس﴾(الروم .)41:والقاعدة الفقهية "ما ّ إلى الحرام فهو حرام" ،قاعدة تحذرنا من مغبة السعي إلى أي صورة من صور اإلفساد والتدمير والتخريب لبيئتنا.
ق���ال :ق���ال رس���ول اهلل " :من آذى المس���لمين في طريقه إلش���غاله أو تضييقه أو وضع الفضالت والمعوقات في طريق
الم���ارة أو مضايقته���م من قبل الجالس���ين عل���ى قارعة الطريق
باأللفاظ الجارحة ،أمر يتنافى مع جوهر اإلس�ل�ام وس���ماحته،
فه���و الذي وض���ع للطريق قانو ًنا وش���رع له عل���ى الناس ح ًّقا،
وجعل إماطة األذى عنه صدقة ...فعن معاذ بن جبل قال: قال رسول اهلل " :اتقوا المالعن الثالثة" ،قالوا :يا رسول اهلل
وم���ا هي ،ق���ال" :البراز في الموارد وعل���ى قارعة الطريق وفي أماكن الظل"( .رواه أبو داود) .وقد اقترن الخير باألمر بالمعروف ون ِإ َلى ﴿و ْل َت ُك ْن ِم ْن ُك ْم ُأ َّم ٌة َي ْد ُع َ والنهي عن المنكر ،قال تعالىَ : ون بِا ْلم ْع���ر ِ ا ْل َخي ِ ْ ���ر َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِ ْ ���ر َو َيأ ُم ُر َ َ ُ ون﴾(آل عمران.)104: ا ْل ُم ْف ِل ُح َ ولع���ل اقتران الحالل بالح���رام يعطي هذه الداللة في قوله ﴿و ُي ِحلُّ َل ُه ُم ﴿و َأ َح َّل ا ُ الر َبا﴾(البقرةَ ،)275: تعالىَ : هلل ا ْل َب ْي َع َو َح َّر َم ِّ الط ِيب ِ ات َو ُي َح ِّر ُم َع َل ْيهِ ُم ا ْل َخ َبا ِئ َث﴾(األعراف.)157: َّ ّ َ
-3النهي عن اإلفساد واإلسراف
إن كل م���ا ي���ؤدي إلى فس���اد الحياة من إت�ل�اف مكونات البيئة
11
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
أصيل يدخل في صلب رسالة اإلنسان في
هذه الحياة ،باعتبار اإلنسان وسيلة وغاية، وبوصف���ه أح���د مكون���ات الك���ون الفاعل
ف���ي النظام األيكولوجي، والمس���ؤول عن َ إدارته���ا وحمايتها واس���تثمارها على وفق
الموجهات األساس���ية ال���واردة في القرآن الكريم.
وصيان���ة البيئ���ة والمحافظ���ة عليه���ا،
واج���ب مق���دس م���ن واجب���ات اإلنس���ان
موق��ف الإ�س�لام البيئ��ة ه��و موق��ف �إيجاب��ي ،ف�لا يج��وز للإن�س��ان �إف�س��اد البيئ��ة ب�إخراجه��ا ع��ن طبيعته��ا املالئم��ة حلياة الإن�سان وقراره فيها ،كم��ا ال يج��وز ا�ستثمار تلك امل��وارد �أو االنتف��اع بها ب�ش��كل م�رسف وغري ر�ش��يد يف�س��د �أو يعر���ض �أقواته��ا ومواردها للف�س��اد والت�شويه.
وف���رض عي���ن عل���ى كل مؤم���ن ،لقول���ه هلل َس َّخ َر َل ُك ْم َما ِفي تعالىَ ﴿ :أ َل ْم َت َر ْوا َأ َّن ا َ او ِ ات َو َما ِفي ا َ ض َوأ َْس َب َغ َع َل ْي ُك ْم أل ْر ِ الس َم َ َّ اه���ر ًة َو َب ِ ���ه َظ ِ م اط َن ًة﴾(لقم���ان .)20:وح���ذر ِن َع َ ُ َ اهلل تعالى من اإلس���اءة في استخدام البيئة ���ن ُيب ِّد ْل ِن ْعم َة ا ِ ���ن َب ْع ِد َما هلل ِم ْ وإفس���ادها ف���ي قوله تعالىَ : َ ﴿و َم ْ َ اب﴾(البقرة.)211: يد ا ْل ِع َق ِ َج َاء ْت ُه َفإ َِّن ا َ هلل َش ِد ُ فالعالقة بين اإلنس���ان وس���ائر المكونات ،هي عالقة محبة متبادل���ة ال عالق���ة ع���داء واس���تئثار وإهمال واس���تعباد لآلخر.
والرس���ول الكري���م ف���ي حديثه الش���ريف يق���ول" :هذا جبل
هنيئا وأنت مصلح غير عل���ي ُ :ك ْل ً مفسد ومعمر غير مخرب.
إن إص�ل�اح الحي���اة اإلنس���انية
والطبيعي���ة ،والمحافظ���ة عل���ى النظ���ام الحي���وي ومن���ع إفس���اده ،ينبغ���ي أن يتحق���ق وف���ق القواعد الكلية الش���املة تبع���ا إلص�ل�اح الحي���اة ،وتس���ييرها ً لمب���ادئ االس���تخالف المرتك���ز على
اإليم���ان والعب���ادة والقواع���د الفقهي���ة وأصوله���ا وأحكامه���ا ،وعل���ى وف���ق األخ�ل�اق بوصفه���ا جوه���ر اإلس�ل�ام وروح���ه الفاعل���ة ف���ي جمي���ع جوانب���ه
بعثت ألتم���م مكارم لقول���ه " :إنم���ا ُ
األخالق" (رواه اإلمام أحمد).
ولتحدي���د الرؤي���ة اإلس�ل�امية للبيئ���ة وعالقة اإلنس���ان بها،
تبدو الحاجة إلى أهمية توضيح المبادئ والمفاهيم األساس���ية المنبثقة من القرآن الكريم ،والتي تشكل في مجموعها مالمح الفلسفة اإلسالمية للثقافة اإلسالمية ،يمكن إيجازها كالتالي:
-1االستخالف
يحبنا ونحبه" (رواه البخاري) ،هذا الحديث الشريف يصلح شعارا ً
االس���تخالف ه���و خالف���ة اإلنس���ان ف���ي األرض (البيئ���ة) ،قال ال ِئ َك��� ِة ِإ ِّن���ي َج ِ اع ٌل ِف���ي ا َ ض ﴿وإ ِْذ َق َ ���ال َر ُّب َ أل ْر ِ ���ك ِل ْل َم َ تعال���ىَ : ِ ﴿و َيس َ���ت ْخ ِل َف ُكم ِفي ا َ ض أل ْر ِ ْ َخلي َف ًة﴾(البق���رة ،)30:وقول���ه تعال���ىْ َ : ون﴾(األعراف.)129: َف َي ْن ُظ َر َك ْي َ ف َت ْع َم ُل َ فه���ي إذن خالفة رعاية وإعمار وإدارة وتس���خير أصبحت
م���ن فوقه���م فقالوا لو أن���ا خرقنا في نصيبنا خر ًق���ا ولم نؤذ من
به���ا ف���ي موض���وع الوصاي���ة والنيابة ع���ن اهلل ف���ي التصرف
وإطارا لعالقة اإلنسان بالبيئة. ً
ويحمل اإلسالم اإلنسانية مسؤولية المحافظة على البيئة، ّ
ويظه���ر ذلك م���ن قوله " :مثل القائم عل���ى حدود اهلل كمثل
قوم اس���تهموا على س���فينة في البحر فأص���اب بعضهم أعالها
وبعضهم أسفلها ،فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على فوقنا ،فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ،وإن أخذوا على ً
أيديهم نجوا ونجوا جميعا" (رواه البخاري). ً
إن موق���ف اإلس�ل�ام م���ن البيئة وم���وارد الحياة وأس���بابها،
موقف إيجابي ،فكما يقوم على الحماية ومنع اإلفس���اد ،يقوم
أيض���ا عل���ى البن���اء والعم���ارة والتنمية ،وهذا يتجل���ى في فكرة ً
إحي���اء الموات وعمارة األرض بالزراعة والغرس والبناء ،قال ﴿ه َو َأ ْن َش��� َأ ُكم ِم َن ا َ اس َ���ت ْع َم َر ُك ْم ِف َيها﴾(هود،)61: أل ْر ِ تعالىُ : ض َو ْ ْ ويقول " :إذا قامت الس���اعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع
أن ال تقوم حتى يغرس���ها فليفعل" (رواه اإلمام أحمد) ،وقال اإلمام السنة الثامنة -العدد (2013 )34
10
قائما به���ا الخالئق والكائنات في إمرة اإلنس���ان ،حيث أصبح ً
ف���ي الك���ون وف���ي البيئ���ة بم���ا فيه���ا؛ ألن اإلنس���ان أرق���ى هذه
المخلوق���ات ،وألن اهلل خص���ه بنعمة العقل التي ُحرم منها آد َم ﴿و َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني َ بقية المخلوقات وفضله عليها في قولهَ : اه���م ِفي ا ْلب ِر َوا ْلب ْح ِر َور َز ْق َن ُ ِ الط ِيب ِ اه ْم ات َو َف َّض ْل َن ُ َ َو َح َم ْل َن ُ ْ اه ْم م َن َّ ّ َ َّ َ ال﴾(اإلسراء .)70:واالستخالف يعني َع َلى َك ِثيرٍ ِم َّم ْن َخ َل ْق َنا َت ْف ِضي ً أن اإلنس���ان وص���ي عل���ى األرض (البيئة) ،ال مال���ك لها ،فمن المعروف أنه ليس هناك ملكية مطلقة لإلنس���ان .فالملكية في اإلس�ل�ام محددة بضوابط وش���روط حددها اهلل ،ومن هذه
الش���روط حسن اس���تغاللها وتنميتها والمحافظة عليها من أي
تربية
فيصل ذيب*
ع ِّل ْم نفسك ثم ع ِّل ْم غريك تكنْ إنسان ًّيا واضح اإلنسانية ...فالذي ال يسعى لتجديد نفسه بالتعلم الدائم يو ًما بعد يوم وإنْ بدا إنسا ًنا يف صورته ،غري أن رسيرته تبقى غارقة يف جهالته ،بعيدة عن معاين إنسانيته. (املوازين) ***
التربية البيئية
في ضوء توجيهات التربية اإلسالمية إن الحرك���ة الذاتية لمكون���ات وعناصر البيئة،
او ِ ات َوا َ ِين﴾(الدخ���ان .)38:ويع���د ض َو َم���ا َب ْي َن ُه َم���ا َ أل ْر َ ال ِعب َ ���م َ الس َ َّ
نظام غاي���ة في الدق���ة تحكم���ه النواميس ظ���ل ٍ
بعض���ا ،وله موق���ع خاص بين أجزائه .وصلة اإلنس���ان بالكون ً
حرك���ة توافقية ينس���جم بعضها م���ع بعض في
الكونية اإللهية ،وهو ما يطلق عليه في عصرنا الحالي بــ"النظام
األيكولوج���ي" ( .)Ecosystemوإذا ح���دث تغي���ر مقصود أو غير مقص���ود في أي عنصر من عناصر البيئة -س���واء في خصائصه الكمي���ة أو النوعي���ة -فإن���ه ي���ؤدي إل���ى تدهور مظاه���ر الحياة،
﴿و َما َخ َل ْق َنا تماما ،يق���ول تعالىَ : وربم���ا تختفي مظاهر الحياة ً
متميزا من هذا الكون الذي ُتكمل عناصره بعضها جزءا ً اإلنسان ً
كم���ا وصفه���ا الق���رآن الكريم ،هي صل���ة االس���تثمار واالنتفاع والس���كن والتعمير والمتعة وتذوق الجمال والتس���خير ...هي صل���ة االعتبار والتأمل والتفكير بالكون وما فيه ...وعلى ذلك
فعم���ارة األرض وإص�ل�اح الك���ون وتذلي���ل كل الصعاب فيه،
والحفاظ على بيئة اإلنس���ان -جميل ًة ونظيف ًة -مطلب إسالمي
9
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
ال مؤاخذة! ولكن هذا ما حدث بالفعل ،وهو ما دفعني بالفعل
إلى هذا السؤال.
ورأيت أن أزيل الكلفة بيننا فقلت له:
-س���أجيبك على تس���اؤلك ،ولكن ليس هنا ونحن وقوف
م���ن رصي���دي في المص���رف عدة مرات؟ كان يعل���م أنني أحبه
وأني لن أعاقبه .وقد غضبت منه وقتها ،ولكنني لم أستمر في غضبي ألنني بالرغم من كل شيء أحبه ،والمشكلة أنه يعرف
ذل���ك ...لق���د خدمت في الش���رطة زهرة ش���بابي حتى وصلت
عل���ى باب المنزل ،أرجو أن تتفضل وتش���رب معي فنجا ًنا من
إل���ى رتبة جي���دة ،واآلن أعيش وحدة قاتلة .ولو كانت زوجتي
-أن���ا حري���ص عل���ى وقتك ...ربم���ا ال تعلم أنن���ي متقاعد
بالطالق منذ عدة س���نوات ،وعاش كل منا وحده .ال أدري ما
القهوة.
ولدي وقت فراغ أكثر منك بكثير ..وأكثر مما أريد ..وال أريد
أن أضايقك.
حدث لها بعدي ...آسف!
ثم أضافة بلهجة حزينة...
أبدا. -ال مضايقة ً
ودخل معي إلى المنزل ،وبينما كنا نرتشف القهوة ،رحت
أجيبه عن تساؤله الذي أفضى به إلي ،وأخبرته أنها أمي ،وأنني أخدمه���ا ب���دون نقود ،بل إنني أنفحها في كل ش���هر بمصروف
خ���اص تنفق منه ما تري���د ،مع تغطية جميع ما تحتاج إليه بكل معنى الكلمة .ذهل وهو يسمع هذه المعلومات ...قلت: -ليس هذا هو المهم.
نظر إلي بتعجب وقال: ّ -وهنالك ما هو أهم من ذلك؟
-نع���م ،إنن���ي أق���وم بكل ذلك في س���عادة غام���رة ،ورضى
يغمر قلبي بالحب والس���رور ،إنني ال أش���عر أنها مش���كلة على
اإلط�ل�اق ،بل نعمة موف���ورة أتاحها القدر لي .وهنالك ش���يء ُأومن به وهو أن ما س���أقدمه لوالدتي س���وف أجده من أبنائي،
واألمر األعظم من ذلك كله أنني أريد رضى اهلل تعالى .ولدينا إيم���ان نح���ن المس���لمون ،بأن رض���ى اهلل من رض���ى الوالدين،
وسخطه من سخطهما ،فهما أو أحدهما سبيل لنعيم خالد ،أو لعذاب خالد مستمر بعد الموت ،هذا أمر اهلل تعالى ويجب أن
نمتثله وال نعارضه.
-لقد أشغلتك بأمور ال تعنيك.
أبدا ...أنا سعيد أن تختارني بالذات لتكشف لي عن -الً ،
كثيرا. معاناتك ...وهذه ثقة أعتز بها ،أعتز بها ً -ح ًّقا ...أنت تبالغ في مجاملتي.
-هذا ما أعتقده ...أنا ال أجاملك.
هانئا ،ث���م تجدد اللق���اء بعد ذلك، وس���ار الحدي���ث هاد ًئ���ا ً
حي���ث دعان���ي إلى منزله ع���دة مرات ...وحين ع���رف أن ديني
اإلسالم هو الذي يجعلني أحترم والدتي وأحبها وأبذل الكثير إلس���عادها ،رأيته يطلب مني أن أحدثه عن اإلسالم ...قال إنه ال يعرف إال القليل عنه ،وأن هذا القليل ال يشجع مطل ًقا على
الدخول فيه.
وجدتها فرصة ...قلت له:
-لماذا ال تتعامل مع المصدر األصلي لتعاليم اإلسالم؟
-ما هو؟
-القرآن الكريم.
وناولته في اليوم التالي نس���خة م���ن القرآن الكريم، وعددا ً
من الكتب اإلسالمية المتميزة ،وتركته يقرأ على مهل ،ويفكر بهدوء ،وأنا أدعو من صميم قلبي أن يهديه اهلل على يدي .ولم
قال بلهجة ونبرة فيها تأسف:
-أنا ال أصدق أن مثل ذلك يحدث لوال أن رأيتك بعيني!
وتنهد بحسرة بالغة وهو يقول:
-لقد أحلت إلى المعاش منذ ثالث سنوات ،ولو لم يكن
ل���دي هذا المنزل ورات���ب المعاش لرمى بي ولدي وابنتي إلى
دار المس���نين ،ألني ال أجد عندهم���ا أي عاطفة نحوي ...لقد
كثيرا في تربيتهما وتعليمهما ،ومع ذلك فقد نس���يا أنفقت ما ً ال ً ذلك كله ...ثم توقف ليقول:
زور توقيعي عدة مرات وس���حب أتص���دق أن ابن���ي ق���د ّالسنة الثامنة -العدد (2013 )34
بجانب���ي اآلن ربم���ا كانت المش���كلة أقل ،لكننا كنا ق���د افترقنا
8
يخيب اهلل رجائي ،إذ لم تمض ثالثة أشهر ،إال وهو يأتي إلي ّ يعلن فيه رغبته في اعتناق اإلسالم ...هذه الرغبة التي َأ ْش َع ْلتها في نفس���ه -بع���د توفيق اهلل -رؤيت���ه لرعاية والدت���ي بكل حب وحنان .لقد جاءت به المش���اهد الت���ي رآها لمعاملتي لوالدتي ليك���ون من المس���لمين من غير أن أكلم���ه وقتها بأي كلمة عن
اإلسالم.
(*) عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية /المملكة العربية السعودية.
وعل���ى الرغم م���ن ذلك الجف���اف والبرود ال���ذي صاحب
قب���ول االبتع���اث ،إال أنني أش���عر داخل نفس���ي ب���أن االبتعاث س���يكون م���ن ورائه خير ما ،ال أدري م���ا هو ،لكنني أحس بأنه
جوا ون���زداد خبرة ومكافأة". س���يحدث .قلت لوالدت���ي" :نغير ًّ قال���ت بس���ماحة نف���س" :اهلل يدبرنا وإي���اك للخي���رة المباركة". واعتبرت هذا القول منها موافقة ثمينة.
وفي األيام التي س���بقت الس���فر ،زرت م���ع والدتي الطبيب َة الت���ي تتاب���ع عالجه���ا ،وأخ���ذت كمية كبي���رة من األدوي���ة التي تتناولها ،وكذلك كل ما أتوقع أنها تحبه وستفتقده في السفر. وصلن���ا إلى "كول���ون" بألمانيا ،المدينة التي س���وف أدرس
فيها .وأس���رعت في البحث عن س���كن مريح فوجدته في حي
ج���دا .لم يك���ن يعنيني ف���ي الدرجة األول���ى إال الراحة ه���ادئ ًّ
النفسية لوالدتي ولزوجتي وأطفالي الثالثة.
س���يرا حثي ًثا مع حرصي أال تستأثر وس���ارت أمور الدراسة ً
بوقت���ي جميع���ه ،ول���ذا ل���م أضغ���ط على نفس���ي ف���ي الجدول الدراس���ي ،لك���ي يكون ل���ي وقت مع أس���رتي ووالدت���ي .ولم
أجد صعوبة تذكر بالنس���بة لعائلتي ،إذ كانت هنالك مرونة في التالؤم مع الظروف الجديدة ،فسارت األمور على خيرما يرام. أما بالنس���بة لوالدتي المريضة المقعدة ،فالبد أن تلقى مني
ومن األس���رة عناية مضاعفة ،وإن كن���ت على يقين أنها -حتى
شيئا من ذلك ،حتى ال وإن لم ترتح في الغربة -فلن تبدي لي ً َ جهدا في س���ببا في إرباكي أو مضايقت���ي .ولذا لم أدخر ً تك���ون ً
بذل سبل الراحة لها.
قريب���ا من باب واش���تريت س���يارة مناس���بة ،فكن���ت أوقفها ً
المن���زل ،ث���م أدف���ع بالكرس���ي المتح���رك ال���ذي تجل���س عليه إلى الس���يارة ف���إذا حاذيت الب���اب فتحته ،وحملته���ا برفق بالغ
ووضعتها على الكرس���ي المجاور لكرس���ي السائق ،ولم أنس
في كثير من األحيان أن أمازحها بكلمة تشجيع أو مجاملة.
وكلم���ا خط���ر ف���ي ذهن���ي ش���يء م���ن التضاي���ق أو التعب،
اس���تحضرت قصة ذلك الرجل ال���ذي حمل والدته وطاف بها ش���يئا من حقها؟ فقال البيت وس���أل عمر هل أدى حقها أو ً ل���ه عم���ر :وال طلقة م���ن طلقاتها ،إنك تحمله���ا وتتمنى موتها حتى تستريح ،وحملتك وهي تتمنى لك الحياة.
تكاد األرض تسعني من الفرح حين أرى مخايل الرضى على قس���مات وجهها ،وأس���مع منه���ا الدعاء الص���ادق الندي الذي أجده يعطر األجواء حولي أينما ذهبت.
كن���ت رفي ًق���ا به���ا ،حنو ًنا عليه���ا كلم���ا أنزلتها من الس���يارة
ووضعته���ا على الكرس���ي المتح���رك ،أو عند التج���ول بها في الحديق���ة أو الس���وق .وق���د عرف���ت زوجتي أن ه���ذا األمر من مهمات���ي ،فتولت العناية بأطفالي واإلمس���اك بهم في مثل تلك
التجوالت.
كان���ت هنالك عينان ترقبانني في كثير من األحيان دون أن
أشعر ،وكانت تبهرهما العناية المدهشة وسعة صدري في هذه
الرعاية التي أقوم بها ألمي.
وفي إح���دى األيام وعقب المجيء من جولة من جوالت
قادما التن���زه م���ع والدتي وزوجت���ي وأطفالي .وجدت ج���اري ً
نحوي وأنا في طريقي إلنزال بعض األغراض من السيارة.
إنني أعرفه معرفة خفيفة ،فطالما تبادلت وإياه تحايا عابرة
قريبا من منزلنا ،أو في الس���وق المركزي الصغير حينما نلتقي ً
للحي الذي نسكن فيه.
طوي�ل�ا ،ضخ���م الجث���ة ،أش���يب الش���عر ،ت���دل رج�ل�ا كان ً ً
س���حنته على ش���يخوخة وكبر في الس���ن ،وإن بدا وافر النشاط أبدا ال يس���تطيع إخفاء أعراض الش���يخوخة جم الحيوية ،لكنه ً الت���ي تبدي زحفها الق���وي على بدنه وتترك بصماتها الواضحة
في انحناء ظهره ،وتجعد بشرته ،وضعف بصره ...لكن روحه
بالفع���ل كانت ش���ابة ،تتجلى ف���ي نظراته المتفائلة ،وابتس���امته الصافية البسيطة التي ال يتكلفها ،يحيي بها كل قادم حتى ولو غريبا مثلي .قال لي: كان ً
-لقد تعارفنا منذ مدة أليس كذلك؟
سعدت بذلك. ُ
-ال أح���ب الفض���ول أو التدخ���ل ف���ي ش���ؤونك الخاصة،
كثيرا ...هذه العجوز ولكن هنالك ش���يء يثيرني وأتعجب منه ً
الت���ي تعتن���ي بها ،كم تدف���ع لك من األجرة مقاب���ل هذه العناية الشديدة بها؟ البد أنها تجزل لك المكافأة؟! ثم أضاف:
-لق���د رأيت���ك تعتني بها عناية فائقة ،وذهلت الس���تمرارك
أتذك���ر ه���ذه الحادث���ة فأس���تحي ،وأبع���د كل غ���رور يطيف
دائما تحملها في السيارة ثم تنزلها منها، على هذا المس���توىً ،
س���عيدا ال وم���ع ذل���ك ال أذكر أنني تعم���دت إغضابها ،وكنت ً
كثيرا يوم من األيام متضاي ًقا من خدمتها .لقد أثار هذا فضولي ً
شيئا من الواجب نحوها. بأرجاء نفسي في أن أكون قد أديت ً
وتقب���ل رأس���ها ويدها ،وتتجول بها وترفه عنه���ا ...لم أرك في
7
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
قصة
د .عبد اهلل بن صالح العريني*
أرشف ما عرفته األرض من علم ،هو ذلك العلم الذي يغوص يف ماهية اإلنسان وغايات وجوده ،وأرسار أكوانه وعوامله ،وكل علم دون ذلك فهو إىل الجهالة أقرب ،ويف العامء أبعد. *** (املوازين)
من جمال اإلسالم
ل���م أكن بحاج���ة لتذكي���ري أن الب���ر بالوالدين
ه���ذا الظ���رف المهم في مجتمعنا ،وم���ع ذلك فأنا من كل قلبي
أص���ررت عل���ى أن أصح���ب مع���ي أس���رتي
وثق أنني ال أقبل المساومة على هذا الشرط.
فرص���ة ذهبي���ة ال تعوض لدخ���ول الجنة ،ولذا
أخب���رك أن���ه ال رغبة لي في االبتع���اث إال باصطحاب والدتي،
وبخاص���ة والدت���ي المريض���ة ،وأن يكون ذلك ش���رطي األول
وانتهى النقاش عند هذا الحد بيني وبين المدير ،ونس���يت
واألخي���ر لقب���ول االبتع���اث إل���ى ألمانيا ف���ي دورة مدتها س���نة
تمام���ا .فل���م أكن أطم���ح إلى االبتع���اث ألن دبلوم الموض���وع ً
أك���د ل���ي المدي���ر أن ال يمكن ابتعاث���ي بهذا الش���رط ،وأن
كل ه���ذا العن���اء ،ولذا ش���عرت حين أخبرن���ي المدير بعد ذلك
وبضعة أشهر ،لدراسة مواد تخصصية في مجال عملي.
هناك ثالثة موظفين ليس عندهم ظرفي الذي يس���توجب ذلك الشرط .سألته:
االبتعاث يحتاج إلى معاناة ،ثم إن مردوده الوظيفي ال يستحق مريحا... بقرار ابتعاثي أني أقدم على شيء ليس ً
ِ كثيرا بخبر هذا السفر ،ولم تخف والدتي لم تفرح زوجتي ً
-هل تراني أكفأ المتقدمين أم ال؟
ضيقها وإن كانت ال تبدي أي اعتراض ،وذلك من طيبة ودها
-ألي���س ف���ي نظام االبتعاث ش���يء بخص���وص ظرف مثل
ع���ن اإلحراج ،ألنها تع���رف أن أي وجهة نظر منها، س���أعدها ّ
قال :بصراحة ،نعم. ظرفي مع والدتي؟ -أظن.
ال ..ب���ل في���ه ..أنا متأكد أن واض���ع النظام قد راعى مثلالسنة الثامنة -العدد (2013 )34
6
بعيدا ولطفه���ا ب���ي .فهي تلقي وجه���ة نظرها بأس���لوب خفيف ً
أمرا أمتثله مهما كان .ولذا لم تكن تتضجر أو تبدي تأف ًفا ألي ً أم���ر تراني ُم ِ قد ًما عليه أو ف���ي مصلحتي ،وكانت تثق كل الثقة
باختياري ورأيي ،وهو شيء أعتز به ،وتوفيق من اهلل أشكره عليه.
عدما فأوجدتنا ،ونحن مستمرون في الحياة بفضلك وبلطفك ً وبجودك وإحسانك ،محاطون على الدوام بجودك وبإحسانك وكرم���ك .أنت يـ���ا رب من يمنح النور لعقولن���ا ،ولذ َة اإليمان
لقلوبن���ا .كان العق���ل ف���ي تش���وش وتخبط حتى وص���ل إليك، مرشدا جعلت العقل وكانت النفس تعدو وراء البغي .وعندما ً َ وهاديا لجمت به أهواء النفس وفتحت أمامها أفق االطمئنان. ً
لقد َوجدنا أنفس���نا بفضلك ،وتخلصنا م���ن الضياع هنا وهناك في الدروب بلطفك.
وصلت قلوبنا إلى االطمئنان إال بمعرفتك .وما تخلصت ما ْ
أفكارنا من الهذيان القاتل وانس��� ّلت منه إال باالستس�ل�ام لك.
أتين���ا إلى باب���ك وطرقناه بذلة وخضوع ،ندع���وك أن تديم هذه اس���مك على الدوام على ش���فاهنا الذل���ة لك إلى أبد اآلبدين. ُ عن���د دعائ���ك ،ننتظر ب َِر ْهبة وخش���ية جوابك .لم َيس���ـمعنا حتى
يربت بش���فقة على رؤوس���ـنا أو ينظر أحد الي���وم س���ـواك ،ولم ّ س���ـواك إل���ى وجوهن���ا .كل ما وجدناه كان م���ن عندك وحدك. وبفض���ل اإليم���ان ب���ك تخ َّل ْصن���ا م���ن مش���اعر الغرب���ة والحيرة والذهول ،ومن آالم الوحدة والوحش���ة ،ل���ذا نتوجه إليك مرة
أخرى بكل كياننا نطلب منك العفو والعافية.
نعوذ بك من قساوة القلب ،ومن االستناد إلى غيرك ،ومن
الغفل���ة وم���ن اإلهانة واله���وان ،ومن المس���كنة والجهل ،ومن عل���م ال ينف���ع ،وقل���ب ال يخش���ع ،وعي���ن ال تدم���ع ،ونفس ال
تش���بع ،وم���ن دعاء ال يس���تجاب ل���ه ،ومن زوال النع���م ،وتغير
القلب شاطئ أمواج الماوراء اجا، مو ً حرا بالشوق ّ يا بَ ً موارا... ويا ً موجا بالعشق ً فالشاطئ الهيمان، إليك يرنو، و َهداياك ينتظر؛ الناعم المغسول، ْرملَك َ وماءك الصافي الطهور... َ فشوقه إليك ال ينطفئ، وحبّه لك ال يبلَى... ***
األلطاف ،ومن عذاب عاجل وغضب ماحق.
خاش���عا .اقبل منا وقلبا ندعوك أن تهب لنا لس���ا ًنا ً ً ضارعاً ،
ي���ا رب توبتنا ،ونقنا م���ن خطايانا كما ينقى الثوب األبيض من وألـزم ألس���ـنتنا الدنس ،واس���تجب دعاءنا ،وافتح آفاق قلوبناِ ، كلمة الصدق ،وطهر قلوبنا من الدنس يا رب! وهب لنـا يا رب
وقرارا في طريق القرآن ،وحساس���ية وعزما ثبا ًت���ا ف���ي أعمالنا، ً ً ِ خائبا ،وتفضل تج���اه نعم���ك .ال ُترج ْع يـا رب من يـ���دق بابك ً بنعم���ك وألطاف���ك عل���ى عب���ادك الطائعين ،واهد م���ن عصاك
وزي ِْن دعاء المضطرين باالس���ـتجابة لهم، َّ وضل عن س���بيلكّ . ِ وعال���ج أصحاب القلوب المريضة وس���اع ْد أصحاب الكرب، ْ
وه���ب لهم الش���فاء ،وأظهر ن���ورك للذين يتخبط���ون في ظلمة الكفر واإللحاد كي ال تبقى فيهم أي نقطة أو ركن مظلم.
(*) الترجمة عن التركية :أورخان محمد علي( .رحمه اهلل)
5
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
والمستجيب لها، والعارف بحاجاتنا ورغباتنا من حال لحال، َ َ وصاحب الرحمة الواس���عة الذي ال ي���دع أمورنا لغيره ،وذلك َ مقاب���ل عجزن���ا وفقرنا وضعفنا وحاجتنا ،ل���ذا كان من األهمية قيامنا بتعيير سلوكنا وتصرفاتنا تجاهه بكل دقة وعناية. بمكانٍ ُ نحن عاجزون وضعفاء ومحتاجون ،بينما هو الحاكم المطلق على كل ش���يء .لذا نحس على الدوام بمدى صغرنا ،وبمدى عظمته ،وال نتوجه عند طلباتنا الفعلية والحالية إال إليه وحده دون غي���ره ،ونعل���م أن الظهور بمظهر المس���تغني عنه ليس إال س���وء أدب .كما َن ُع ّد أي تصرف يتس���م بالالمباالة عند عبادتنا أي تصرف يفتقر إلى الجدية، له أو عند توجهنا له بالدعاء أو ّ ع���دم احت���رام وعدم توقي���ر .لذا نعتني غاية االعتن���اء أن نتوجه َ إليه على الدوام بمش���اعر الخوف واإلشفاق والمهابة .وعندما نش���عر بمدى قربه منا وبأنـه سيس���تجيب لدعائنا ،نشعر بعظمته جنبا إلى جنب مع س���ـعة رحمته وش���ـفقته ولطفه... وكبريائ���ه ً فنرتج���ف م���ن خش���يته ونرتع���ش ،ونعي���د النظر ف���ي تصرفاتنا وس���لوكنا وأعمالنا ،وحتى في درجة ارتفاع أصواتنا ،و ُن َع ِّيرها من جديد ،ألننا سنكون في جو من الشـعور بأننا تحت مراقب ِة َمن ال يغيب عنه ش���يء ،وتحت نظره .فبجانب أذواقنا ال ندع االحتي���اط والتدبي���ر .وبه���ذا المعنى فالدع���اء أصفى مظهر من لب التوجه إلى مظاهر العبودية وأصدقها في كل حين ،لكونه ّ وأفضل إعالن للعبودية. الحق تعالى بالطلب َ والحقيقة أن كل الموجودات تدعوه وحده على الدوام بلسان حالها ،وبنوع قابلياتها ،وبلسان حاجاتها الفطرية ،فيقوم بال���رد واالس���تجابة لها ضم���ن إطار من الحكمة ،ويس���مع كل صوت ويستجيب له. ولك���ن لي���س م���ن الصحيح توقع االس���تجابة ل���كل أدعيتنا كم���ا ه���ي ،ألنن���ا ال نأخذ بنظ���ر االعتب���ار إال رغباتن���ا وطلباتنا فنضيق بهذا ،إطار طلباتنا ،وننس���ى المتعلق���ة بأيامن���ا الحالي���ة، ّ أو نهم���ل المس���تقبل أو األمور األخ���رى المتعلقة بنا عن قرب وال نأخذه���ا بنظر االعتبار .ولكن���ه تعالى يرى حالنا الحاضر، وكذلك مس���تقبلنا القريب والبعيد في اللحظة نفس���ها ،فيوسع م���ا ضيقن���اه حتى يجعل أدعيتنا ب َِس���ـعة الدارين ف���ي الدنيا وفي العقب���ى ،ويس���تجيب لها ضمن أبعاد متعددة حس���ب موجبات رحمت���ه وحكمت���ه .أجل ،فهو عندما يني���ر أوضاعنا الحالية ،ال يحول أضـواء أيامن���ا الحالية إلى ظلمات يفس���د مس���تقبلنا وال ّ ف���ي المس���تقبل .وعندم���ا يقوم باإلنع���ام علينا ،ال َيس���حب من اآلخريـ���ن نعمه وال يحرمهم من فضله ،بل يس���تجيب للجميع السنة الثامنة -العدد (2013 )34
4
ولكل ش���يء اس���تجابات عميق���ة ،ليظهر لنا أنه س���مع أدعيتنا،
وأخ���ذ طلباتن���ا بنظ���ر االعتبار ،فيه���ب قلوبنا بقرب���ه وحضوره
انشراحا وبهجة وراء كل خيال وتصور. ً
الدعاء مفتاح القلوب إلى الماورائيات
والقل���ب المتفتح على هذه المعان���ي عندما يفتح كف التضرع والدع���اء ،يعل���م بوجود من يراه ويحس حتى بأنفاس���ه ،ويعلم س���ـره ونجواه ،ويشهد أنينه وبكاءه ،وهو على كل شيء قدير،
وحاكم ومس���يطر على كل ش���يء ،يعمل ما يشاء وكيفما يشاء، واستنادا إلى رحمته وأن هناك ِحكَ ًما مختلفة في كل ما يفعله. ً وإرادته ومش���يئته ،يرى الداعي بأنه يس���تطيع التغلب على كل توترا، صعب من الصعاب ،ويحس بالطمأنينة في أكثر أوقاتـه ً وف���ي أصعب وأحلك الحوادث التي يجابهها ،وال يتخلى عن
أبدا ،وال يلفه اليأس مطل ًقا .وكم من معان عميقة تكمن أمل���ه ً
يومي���ا ضمن هذا اإلطار، ف���ي توجهه نح���وه تعالى عدة مرات ًّ
ال أن ي���رى ويس���مع بقلبه م���ا وراء هذا العال���م المادي. مح���او ً
فضل مثل هذا التوجه ونعم َته ،ال يس���تطيع ترك وال���ذي يذوق َ تماما مالزمة عتبة بابه تعالى .وحتى وإن لم نس���تطع الوصول ً
إل���ى مثل هذا الفضل ،نتوجه للمرة األخيرة نحو باب حضرته
العلية ،ونلمس مطرقة الباب لنتضرع وندعو بقلب يئن: ّ
س���ـبب وجودنـ���ا وعلته، أيه���ا الموج���ود األزل���ي الذي هو ُ
وروح أرواحن���ا! يا من نوره ضياء أعيننا وأبصارنا! لو لم تنفخ الروح في أبداننا لبقينا حم ًأ مسنو ًنا ،ولو لم تهب النور ألعيننا وتقيي���م الكون ِمن حولن���ا ،وكيف كنا فهم َ كي���ف كنا نس���تطيع َ أوجد َتنا مرتين؛ م���رة عندما خلقتنا... نس���ـتطيع معرفت���ك؟ لقد ْ وم���رة عندم���ا وهبت لنا اإليم���ان والعرفان .ول���و قمنا بحمدك والثناء عليك بعدد ذرات الكون ،لما و ّفينا حقك من الشكر.
ي���ا أجم���ل م���ن كل جميل! ويا أبه���ى من كل به���ي! يا من
قبيحا ُتظه���ر ص���ور الجمال في كل آن وحين ،وتس���تر ما يبدو ً
حت���ى تضفي عليه مس���حة من الجمال! نتض���رع إليك أن تمأل
تبصرنا بطرق الجمال قلوبنا بمشاعر الجمال وأحاسيسه ،وأن ّ
ومسالكه على الدوام.
فورا، ي���ا أرح���م من كل رحيم! ي���ا من ال تعاقب المس���يء ً
ح���ده ،وتترك ل���ه فرصة ب���ل تمه���ل وتتغاض���ى عم���ن يتج���اوز ّ
لتنقي���ة قلبه م���ن الذنوب واآلثام المعنوي���ة! احفظنا يـا رب من التل���وث باآلث���ام وبالذنوب ،واغفر لنا عندم���ا نتلوث ببعضها،
وال تحرمن���ا م���ن مغفرتك ومن رحمت���ك وال تبعدنا عنها .كنا
تعالى مـع االحتفاظ بالتوسل باألسباب،
ونقول كما قال الشاعر:
أحوالنا معلومة يا رب من ِقبلك،
ما الدعاء إال تضرع من عبيدك...
وأحيـا ًن���ا نقتب���س أدعيتنا م���ن القرآن
الكري���م أو م���ن أدعي���ة س���ـيد البلغ���اء
واألنبي���اء ،ونفت���ح ي���د الضراعة أمام
بـاب الرحمن الذي هـو محرابنا األبدي لنش���رح ونش���كو أحوالنا وما يجول في
أعم���اق أرواحنـ���ا .ورعاي��� ًة من���ا ألدب تماما وننتقل المثول أمامه نغلق أفواهنا ً
إلى مراقبة صامتة .وهذه الحال حس���ب
�أيها املوج��ود الأزيل الذي هو �سـبب وعلة وجودنـا ،وروح �أرواحن��ا! ي��ا من ن��وره �ضياء �أعينن��ا و�أب�صارنا! ل��و مل تنفخ ال��روح يف �أبدانن��ا لبقينا حم�أ م�سنونً��ا ،ول��و مل ته��ب النور لأعينن��ا كي��ف كن��ا ن�ستطيع فهم وتقييم الكون من حولنا، وكيف كنا ن�سـتطيع معرفتك؟
بعضه���م -وبدرجة الص���دق المصاحب
أبلغ من كل كالم ،وأفضل من كل لهاُ - بيـان ،وأحسن من كل تضرع.
ولم���ا كان اهلل تعالى على عل���م بكل أحوالنا ،الظاهرة منها
والخفي���ة ،فـإن المهم هنا في الدعـاء ه���و اللب والجوهر أكثر
م���ن الكلمات نفس���ها .واهلل تعال���ى يقول لرس���وله الكريم : اع ِإ َذا الد ِ ي���ب َد ْع َو َة َّ يب ُأ ِج ُ ﴿و ِإ َذا َس��� َأ َل َك ِع َب���ا ِدي َع ِّني َف ِإ ِّني َق ِر ٌ َ َد َع ِ ان﴾(البق���رة ،)186:إذن فهو من ناحيـة معرفة طلباتنا ورغباتنا، أق���رب إلين���ا منـا .لذا َف َح َس���ب هذه المعرف���ة بالحضور اإللهي
وبالق���رب اإللهي ،فـ���إن األدعية الصامتة ه���ي عين األدب مع
نابعا من ذلك المس���توى المتميز من العباد .وس���واء أكان هذا ً
مفه���وم الغي���ب أو من مفهوم الحضور اإلله���ي ،فإن اهلل تعالى جب َل ُكم﴾(غافر)60: ﴿و َق َ ���ال َر ُّب ُك ْم ْاد ُعو ِن���ي َأ ْس َ���ت ِ ْ ال���ذي يقولَ : ْ يش���وقنا إلى الدع���اء .لذا ُيعد عدم الدعاء اس���تغناء ال معنى له وبعدا عن اهلل تعالى. وانقطاعا ً ً
الدعاء سمو وندو
وضارع���ا م���ن كل قلبه، داعي���ا ً إن م���ن يس���تطيع فت���ح يدي���ه هلل ً ويتوج���ه لـ���ه ،يس���تطيع تج���اوز البع���د الموجود بين���ه وبين ربه والناب���ع من وضعه الـ���ذي ه���و أقرب إليه من حب���ل الوريد-ِ
المادي والجسماني .وباحترامه لهذا القرب يستطيع الخالص من وحش��� ِة ُبعده عنه .ويش���اء اهلل تعالى إس���ماعه ما يجب أن وينطقه بما يجب عليه أن َيسمعُ ، ويريه ما يجب عليه أن َيرىُ ،
َينطق ،ويوفقه لعمل ما يجب عليه أن يعمله .وهـذه المرتبة من
القرب ،مرتبة خاصة يمكن الوصول إليها عن طريـق النوافل،
شاهد ،ويسمع ما الم َ حيث َيرى ما وراء ُ وراء األصوات ،وتكون قابلياته األخرى أيض���ا غي���ر اعتيادي���ة ،وتتج���اوز قدراتـه ً السابقة ليصبح -في َه َّبة واحدة -إنسا ًنا في ُبعد آخر ،وليرتفع إلى مستوى آخر، ويك���ون عب���دا دائم التض���رع هلل ،يتضرع ً إلي���ه ويدع���وه ويج���د منه االس���تجابة... يتمس���ك بالدع���اء والتض���رع كتعبير عن إيمان���ه بالق���درة غي���ر المح���دودة لرب���ه، ويس���ند ظهره إل���ى قوت���ه الالنهائية ،فال ُ تفتر ش���ـفتاه عن الدعاء ف���ي كل أمر من األمور وإن بدا أبعد ش���يء عن التحقق.
الدعاء لذة إيمان
ولهذا فإن األرواح التي وصلت لمستوى أبدا في تقص���ر ً ت���ذوق لـ���ذة اإليمان ،وس���مت بالعب���ادات ،ال ّ الدعـاء .على العكس من هذا ،فهي تدرك أن العبادات هي غاية الموجودات وسـبب خلقها ،لـذا تعطي للدعاء أهمية قصوى. وبجانب قيـام أصحاب هذه األرواح برعاية األس���ـباب المادية والمعنوية ،يس���ارعون إلى فتح ي���د الدعاء والتضرع لربهم من أعماق قلوبهم ،ويرون أن األدعية وسائل ُت َق ِّر ُبهم إلى خالقهم، وه���ي منب���ع آمالهم ورجائهم .وفي مثل ه���ذا الجو من القرب ���س بجو م���ن المهابة والقل���ق إلى جانب الش���عور بالبهجة ُي َح ّ و َتوقُّع تحقيق اآلمال .وعندما ينظر اإلنسان إلى كل شيء من خالل تأمله في أزليته وأبديته سبحانه ،يحس وكأنه يستمع إلى دقات قلب���ه المرتعش ،وينتقل إلى حالة من اليقظة والتمكين. وهات���ان الحالتان اللتان تترافقان ع���ادة عند الدعاء وتتداخالن ببعضهما ،تتسعان وتتطوران بنسبة طردية مع سعة أفق المعرفة اإللهي���ة عن���د اإلنس���ان .والقرآن يش���ير إلى ح���ال المؤمن عند الدعاء وإلى حالته الروحية عندما يقولُ ﴿ :ا ْد ُعوا َر َّبكُ ْم َت َض ُّر ًعا َو ُخ ْف َي ًة﴾(األعراف .)55:وهذه اآلية تشير إلى أن المؤمن ال يمكن أبدا أن يستغني عن الدعاء وعن االلتجاء إلى اهلل ،وإلى أن اهلل ً تعالى بجانب عظمته وكبريائه وجبروته ال يسد أبواب رحمته يذكر اإلنس���ان بأن أبواب رحمته مفتوحة للجميع وعنايته ،بل ّ عل���ى ال���دوام عل���ى مصاريعه���ا ،ويؤكد عل���ى أهمي���ة الدعاء.
لب التوجه إلى اهلل الدعاءّ ،
ومطعمنا ومطورنا وموجدن���ا ُ ونظ���را لكونه هو وح���ده خالقنا ُ ً
3
السنة الثامنة -العدد (2013 )34
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
الدعاء الدع���اء نداء وتضرع ،وتوج���ه من الصغير إلى الكبير ،ومن األس���فل إل���ى األعلى ،ولهفة من
األرض وم���ن س���ـكان األرض نح���و م���ا وراء
الس���ماوات ،وطل���ب ورغبة وطرح لما ف���ي الصدور من آالم. أوالً ،وبعظمة صاح���ب الباب الذي والداع���ي يش���عر بضآلت���ه ّ ثانيا ،لذا يكون ج���دا .وعندما يرفع يديه متواضعا ًّ ً يتوج���ه إلي���ه ً
بالدع���اء مؤم ًنا باالس���تجابة ،يتحول هو وم���ن حولـه إلى عالم
روحاني وسماوي ،وكأنه يسمع تسبيحات وأذكار الروحانيين وأدعيته���م .والمؤم���ن به���ذا التوجه وبه���ذا الدع���اء ،ال يطلب
آمالنا وخشيتنا -في كل حين -وعزمنا وقرارنا أمارة من أمارات ذلك القدر ،ونعد دعواتنا القولية والفعلية والحالية وسيلة من وس���ائل هذا القدر في مستوى الش���رط العادي ،ألننا نعلم من بيان النبي الصادق المصدوق أن النتيجة التي يحصل عليها كل واحد س���تتحقق ،بمقياس كبير ،حس���ب س���لوكه وأعماله. غي���ر أن���ه ليس من الصحيح عند التوجه إلى اهلل تعالى بالدعاء، أن نق���دم رغباتن���ا ومطالبن���ا ،ونرب���ط أدعيتنا بها ،ب���ل الصحيح ه���و أن نتوج���ه إلى الح���ق تعال���ى ،و َنعرض عليه حالن���ا َبن َفس العبودية ،وبشعور من التواضع والفناء ،وبلسان الفقر والعجز.
م���ا ي���وده وما يطم���ح إليه فقط ،بل يس���تغيث ً أيض���ا مما يخافه الدعاء تعبير عن الثقة باهلل ويخشاه ،وهو يعلم بأن الدعاء حصنه الحصين الذي يلجأ إليه. آمالنا ورغباتنا هي دوافع نجاحنا وتوفيقنا ،أما قلقنا وخشيتنا
فوسيلة من وسائل يقظتنا وانتباهنا تجاه تصرفاتنا السلبية .ومع قدره اهلل تعالى لنا ولمس���ـتقبلنا من أمورَ ،ن ُع ّد أننا ال نعرف ما ّ السنة الثامنة -العدد (2013 )34
2
والحقيقة أننا بأدعيتنا نظهر ثقتنا واعتمادنا وتوقيرنا لربنا ،وبأنه ق���ادر على كل ش���يء ،ويجب أن تتوج���ه أدعيتنا إلى هذا ،أكثر ونصل أحيا ًنا في م���ن توجهها لطلب تحقيق رغباتن���ا الدنيوية. ُ الدعاء إلى نقطة نس���كت فيها ونصمت ،ونكل كل ش���يء إليه
المحتويات
الدعاء /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس)
2
القلب شاطئ أمواج الماوراء /حراء (ألوان وظالل)
5
من جمال اإلسالم /د .عبد اهلل بن صاحل العريين (قصة)
6
التربية البيئية في ضوء توجيهات التربية اإلسالمية /فيصل ذيب (تربية) الكون شعر منظوم /حراء (ألوان وظالل) "إنا سنلقي عليك قوال ثقيال" /أ.د .أمحد عبادي (قضايا فكرية) عالَم الطفولة /حراء (ألوان وظالل) الهجرة ..نقطة انطالق األمة /د .عبد الوهاب بوخلخال (قضايا فكرية ) من حقوق الحيوان في اإلسالم /د .عبد الواحد بوشداق (قضايا فكرية) مفاهيم المشروع النهضوي اإلسالمي المعاصر /د .حممد سامل سعد اهلل (قضايا فكرية) العقل المؤيد باإليمان عند النورسي /د .إدريس مقبول (قضايا فكرية) الهدهد ..الطائر الذكي /أ.د .عرفان يلماز (علوم) الجندي الصغير /حممد قاسم اهلندي (قصة)
9 12 13 16 17 22 26 30 35 39
الجزري ..اختراعاته العلمية وتطبيقاته الميكانيكية /أ.د .بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة)
42
فقه واقع األمة ..2-دراسة في الشروط والعوائق /أ.د .الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية)
46
بشائر عالم جديد /حراء (ألوان وظالل) جمال الفكر /ليلى السبيعي (شعر)
50 51
التلسكوبات ..عيون على السماء /حممد هاشم البشري (علوم)
52
مصر ..ومصير األمة المرتقب /د .حممد باباعمي (أنشطة ثقافية)
55
"فلسفة البناء الحضاري" بين يدي "مالك بن نبي" و"فتح اهلل كولن" /طه كوزي (أنشطة ثقافية) اليعسوب ..وتقنية طائرات الهيلوكبتر /نور الدين صواش (حمطات علمية)
60 63
االفتتاحية إكسير الدعاء
يوما ما ،عند مواطن فكرية معينة ال تتجاوزها ...فقد جعلت من لم تقف "حراء" ً
االنفتاح على الساحات الفكرية بتنوعها واختالف توجهاتها ،قضية جوهرية معتمدة
عل���ى إرس���اء خطها الفك���ري والثقافي في العال���م ،وهو دليل احت���رام المجلة لعقول
قرائها وتنوع ثقافاتهم واهتماماتهم .فهذا العدد من "حراء" ،يمثل خير تمثيل مصداق ما نقوله ونؤمن به؛ فهو طافح بقمم فكرية عالية المستوى ،وامتدادات ثقافية في شتى
العدد34: السنة الثامنة (يناير -فبراير) 2013
ال ومضمو ًنا. االتجاهات تتنوع شك ً
فالمق���ال الرئي���س لـ"فت���ح اهلل كولن" ال���ذي يتحدث من خالله عن فلس���فة الدعاء
والتضرع إلى اهلل تعالى ،إنما هو صرخة اس���تغاثة تنبئ عن العجز والفقر اإلنس���انيين، وعن افتقار األقالم واألفكار مهما بلغت من القوة والس���مو إلى االس���تمداد من قلم
وأش���ر موازين الع���دل والحق والخير القدرة األعظم الذي َّ خط س���طور الس���ماواتَّ ،
والجم���ال ...فمهم���ا أبدع���ت هذه األقالم فإنها تظ���ل ترنو إلى قلم الق���درة المطلقة، وتستمد منه طاقات إبداع ما تسطره من فكر ،و ُتنشئه من ثقافة وعلم.
أما "القول الثقيل" والمس���ؤولية العظمى التي أش���فقت األرض والسماء والجبال
وحم َلها اإلنس���ان ،فإنها تتجلى واضحة من خ�ل�ال مقال "أحمد عبادي" حملها َ م���ن ْ ال". الموسوم "إنا سنلقي عليك قو ً ال ثقي ً
وللنورسي -رحمه اهلل -نصيب في هذا العدد ،حيث يكتب "إدريس مقبول" عن
"العقل المؤيد باإليمان عند النورسي" فيقول" :ولما تعددت مراتب الوجود وطبقاته، ش���يئا أمام ِع َظ ِم الوجود عامة" ...إلى أن حتى كان الوجود الحس���ي أدناها ،وال يمثل ً
يقول" :لقد أبان النورسي -رحمه اهلل -أن منهج التربية في القرآن كما يعلي من قيمة العق���ل ...فإنه في مس���يس الحاجة إل���ى نفحة اإليمان لتحفظه م���ن المهالك وتجعله
على أقوم المسالك".
و"الش���اهد البوشيخي" بقلمه العلمي الرصين ،يكتب عن "فقه واقع األمة" فيقول
حفظ���ه اهلل" :أج���ل ،إن مش���كلة المنه���ج هي مش���كلة ّأمتن���ا األولى ،ولن يت���م إقالعنا
العلمي والحضاري إال بعد االهتداء في المنهج إلى التي هي أقوم".
وفي األنش���طة الثقافي���ة التي أقامتها مجلة حراء في بل���دان مختلفة ،نقرأ لـ"محمد
باباعم���ي" "مص���ر ..ومصير األمة المرتق���ب ،من جمال حمدان إل���ى فتح اهلل كولن"، كالم���ا لفت���ح اهلل كولن يقول فيه" :الش���رط األس���اس والس���بب الرئيس هو أن في���ورد ً ال تخل���و الس���احة من ش���جعان مالكي���ن إلرادة تجديدية تحتضن العص���ر مع الحفاظ عل���ى الجوه���ر اللب" .ويجدر في خاتمة هذا االس���تعراض لمواد هذا العدد ،أن ننوه للقراء. بالقصص والشعر في ثنايا هذا العدد وهو ما ّ يشكل واحة ممتعة ومريحة ّ
العدد / 34 :السنة الثامنة ( /يناير -فرباير) 2013 مجلة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين من إسطنبول
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
النور المحمدي بنور محمد ت ْ أل َأل العالم وأضاء... أما صوته ...فما من أذن وعته، إالَّ ودبَّ ْت في صاحبها الحياة... وها نحن اليوم، على عتبات الموت واقفون... لعل بعض أنفاسه تَ َم ُّسنا، َّ فتبعث فينا إرادة "اإلحياء" من جديد... ***
الدعاء
"إنا سنلقي عليك قوال ثقيال"
مصر ..ومصير األمة المرتقب