Hira Magazine 41

Page 1

‫الحامم رسول وبشري‬ ‫إنْ طار الحامم‪ ،‬والمس بجناحه الغامم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫جناحه‪ ،‬وهدل صوتُه‪...‬‬ ‫ورف فوق اآلكام‪ ،‬وص ّفق ُ‬ ‫أمن وأمان‪،‬‬ ‫فاعلم أنه صاحب برشى ورسول ٍ‬ ‫وإمياءة فرج من ضيق‪ ،‬وعالمة لعالَم طليق‪،‬‬ ‫س ُيق ِدم عن قريب‪...‬‬ ‫***‬

‫‪Mart - Nisan 2014 Sayı: 41 Fiyatı: 7,5 TL.‬‬


‫الرواية األخيرة لفقيد األمة فريد األنصاري‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪ +20226134402-5 :‬الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ يف ما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص‬ ‫منفصل أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫مكتب حراء للنشر والتوزيع‬ ‫شارع بغداد‪ ،‬مقابل بريد بغداد‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‬ ‫‪Phone: +967 1 214774‬‬ ‫‪Fax: +967 1 204494‬‬ ‫‪GSM: +967 736027560‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪LİBYA‬‬ ‫دار الرواد‪ ،‬ذات العماد‪ ،‬برج ‪-4‬طرابلس‪-‬ليبيا‪.‬‬ ‫هاتف‪daralrowdooks@gmail.com - 00218213350332 :‬‬ ‫هاتف‪hiralibya@gmail.com - 00218916125579 :‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫ل ْجر ِ‬ ‫ويحســنون الســلوك والعمل َ َ َ‬ ‫ين‬ ‫اآلخ َر ِة َخ ْي ٌر ِل َّل ِذ َ‬ ‫‪‬و ُ‬ ‫ون‪.‬‬ ‫آم ُنوا َو َكا ُنوا َي َّت ُق َ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ِْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم‪(‬يوســف‪،)83:‬‬ ‫يــم ا ْل َحك ُ‬ ‫ــم َجم ًيعــا ِإ َّن ُــه ُه َــو ا ْل َعل ُ‬ ‫َيأت َينــي بِهِ ْ‬

‫جامعــا بيــن االفتقــار وحســن التــوكل‪ِ  :‬إ َّن َمــا‬ ‫ثــم يقــول‬ ‫ً‬ ‫هلل َو َأ ْع َلم ِم َن ا ِ‬ ‫ــكو َب ِّثــي َو ُح ْز ِني ِإ َلــى ا ِ‬ ‫ون‬ ‫هلل َمــا َ‬ ‫َأ ْش ُ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫‪ ‬يــا ب ِن‬ ‫ــف َو َأ ِخيــ ِه َو َ‬ ‫وس َ‬ ‫ــي ْاذ َه ُبــوا َف َت َح َّس ُســوا ِم ْ‬ ‫ــن ُي ُ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــن ر ْو ِح ا ِ‬ ‫ــن ر ْو ِح ا ِ‬ ‫ال ا ْل َق ْو ُم‬ ‫هلل ِإ َّن ُــه َ‬ ‫هلل ِإ َّ‬ ‫ــس م ْ َ‬ ‫َت ْي َئ ُســوا م ْ َ‬ ‫ال َي ْي َئ ُ‬ ‫ون‪(‬يوســف‪ .)87-86:‬هكــذا هو إيمان األنبياء ويقين‬ ‫ا ْل َكا ِف ُر َ‬

‫وهــذا من أســرار تكــرار وصف اهلل العلــي لذاته بأنه‪:‬‬

‫مــن روح اهلل ولــو أحاط بهم الكرب واشــتد بهم الضيق‪،‬‬

‫فــي ترتيــب األســباب والنتائــج‪ ،‬ويعلم األحــوال‪ ،‬ويعلم‬

‫طمأنينــة من ثقتهم بموالهــم‪ ،‬موصولة قلوبهم بخالقهم‪،‬‬

‫وفــي ختــام الســورة يتكــرر التثبيــت للطائفــة المؤمنة‬

‫نبيــه الكريــم ‪ ‬عــن المحنة التي‬ ‫فقــد ّ‬ ‫عــوض اهلل ‪ّ ‬‬

‫ظــل يكابدهــا‪ ،‬مكانة ورفعة فــي األرض جزاء وفا ًقا على‬

‫اإليمان والصبر واإلحسان‪.‬‬

‫الحنفــاء‪ ،‬وهكــذا هــم المؤمنون على الدوام‪ ،‬ال ييأســون‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم‪(‬التحريــم‪ )2:‬الــذي تتحقــق حكمته‬ ‫َ‬ ‫يــم ا ْل َحك ُ‬ ‫‪‬و ُه َــو ا ْل َعل ُ‬

‫وهــم علــى الــدوام فــي أنــس مــن صلتهــم بربهــم‪ ،‬وفــي‬

‫ما وراء األحداث واالبتالءات‪ ،‬ويأتي بكل أمر في وقته‪.‬‬

‫ندية أرواحهم بروحه‪ ،‬يأنسون بنفحاته الرضية وإن كانوا‬

‫ســنة اهلل عندما يســتيئس‬ ‫بمكــة‪ ،‬ويعــود التذكيــر بمجــرى ّ‬

‫إشراقات اليقين‬

‫ٍ‬ ‫المرغــوب‪.‬‬ ‫معــان تدركهــا القلــوب المؤمنــة‪ ،‬فيغمرهــا‬

‫في مضايق الشدة ومخانق الكروب‪.‬‬

‫الرســل‪ ،‬والتلميــح بالمخــرج المكــروه الذي يليــه الفرج‬

‫ــل َه ِ‬ ‫ــذ ِه َســبِي ِلي‬ ‫اإليمــان واليقيــن‪ ،‬والصبــر والثبــات‪ُ  :‬ق ْ‬

‫رحمــة اهلل تعالــى بعبــاده المؤمنيــن تظهــر فــي تدبيــره‬ ‫واالبتــاءات‪ ،‬إذ اقتضــى علمــه ورحمتــه أن يختبر عباده‬ ‫ليعلم صدقهم وثباتهم‪ ،‬فإذا اجتازوا ع َقبة اليأس باليقين‪،‬‬

‫ودرجــوا في مســالك الكروب بالثبــات والصبر الجميل‪،‬‬

‫والعزة في الدنيا‪ ،‬والدرجات‬ ‫رفعهم إلى درجات التمكين‬ ‫ّ‬ ‫العــا يــوم القيامــة‪ .‬وهذا ما آل إليه حال نبي اهلل يوســف‬ ‫ُ‬

‫‪ ،‬فقــد انتقــل من ظلمات الســجن إلى عرش الملك‪،‬‬ ‫عزيزا بيده خزائن مصر‪ ،‬يتخذ منها المنازل‬ ‫وأصبح م ِل ًكا‬ ‫ً‬ ‫الضيق المظلــم‪ ،‬ويتن ّقل في‬ ‫الجــب‬ ‫التــي يريــد فــي مقابل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫يحســنون اإليمــان بــاهلل‪ ،‬والتــوكل عليــه‪ ،‬واالتجــاه إليــه‪،‬‬

‫ال‬ ‫ال رِ َجا ً‬ ‫ين ‪َ ‬و َما َأ ْر َس ْل َنا ِم ْن َق ْب ِل َك ِإ َّ‬ ‫َو َما َأ َنا ِم َن ا ْل ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫ِ‬ ‫ــل ا ْل ُقــرى َأ َف َلم َي ِســيروا ِفــي ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــن َأ ْه ِ‬ ‫ــم ِم ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُنوحــي ِإ َل ْيهِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ين ِم ْن َقب ِلهِ ــم َو َل َدار ِ‬ ‫اآلخ َر ِة‬ ‫َف َي ْن ُظ ُــروا َك ْي َ‬ ‫ــف َك َ‬ ‫ان َعا ِق َبــ ُة ا َّل ِذ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫الر ُس ُل‬ ‫ين َّات َق ْوا َأ َف َ‬ ‫ال َت ْع ِق ُل َ‬ ‫َخ ْي ٌر ِل َّل ِذ َ‬ ‫ون ‪َ ‬ح َّتى ِإ َذا ْ‬ ‫س ُّ‬ ‫اس َت ْي َئ َ‬

‫ال‬ ‫ــاء َو َ‬ ‫َو َظ ُّنوا َأ َّن ُه ْم َق ْد ُك ِذ ُبوا َج َاء ُه ْم َن ْص ُر َنا َف ُن ِّج َي َم ْن َن َش ُ‬ ‫ان ِفي َق َص ِصهِ ْم‬ ‫ين ‪َ ‬ل َق ْد َك َ‬ ‫ُي َر ُّد َب ْأ ُس َــنا َع ِن ا ْل َق ْو ِم ا ْل ُم ْج ِر ِم َ‬ ‫ألو ِلي ا َ‬ ‫ِعبــر ٌة ُ‬ ‫يق‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫ــاب َما َك َ‬ ‫ان َح ِدي ًثا ُي ْف َت َرى َو َل ِك ْن َت ْص ِد َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ا َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ء‬ ‫ــي‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫يل‬ ‫ص‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ــن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ــدى َو َر ْح َم ًة ِل َق ْو ٍم‬ ‫ــذ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ِّ َ ْ َ ُ ً‬ ‫ون‪(‬يوسف‪.)111-108:‬‬ ‫ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫يوما من الدهر‪ ،‬فالبد‬ ‫وتلك ُس ّنة اهلل التي لم تتخ ّلف ً‬ ‫مــن الشــدائد‪ ،‬والبــد من الكــروب‪ .‬و ُقبيــل مرحلة اليأس‬ ‫يتنــزل النصــر‬ ‫نصــرا مــن اهلل وحــده‪ ،‬ينجــو بــه المؤمنــون‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫الصابرون‪،‬‬ ‫ويحق بأســه على الظالمين المتجبرين‪ ،‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫المــآالت التــي تتكــرر علــى الــدوام فــي أحــداث الكــون‬

‫المنظور‪ ،‬وفي آيات الكتاب المسطور‪.‬‬

‫(*) إمــام وخطيــب المســجد الحــرام‪ ،‬مكــة المكرمــة ‪ /‬المملكــة العربيــة‬ ‫السعودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ّأبهة الملك برفقة الحرس والحاشية بعد سنوات الخوف‬ ‫ِ‬ ‫والغربــة والســجن‪ ،‬قــال تعالــى‪ِ َ :‬‬ ‫ــف‬ ‫وس َ‬ ‫‪‬و َك َذل َك َم َّك َّنا ل ُي ُ‬ ‫ِفــي ا َ‬ ‫يــب ب َِر ْح َم ِت َنا َم ْن‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــو ُأ ِم ْن َهــا َح ْي ُ‬ ‫ــاء ُن ِص ُ‬ ‫ــث َي َش ُ‬ ‫ض َي َت َب َّ‬ ‫ل ْجــر ِ‬ ‫ين ‪َ ‬و َ َ‬ ‫اآلخ َــر ِة‬ ‫ــاء َو َ‬ ‫يــع َأ ْج َــر ا ْل ُم ْح ِســ ِن َ‬ ‫َن َش ُ‬ ‫ال ُن ِض ُ‬ ‫ُ‬ ‫ون‪(‬يوســف‪ .)57-56:‬واألمر‬ ‫آم ُنــوا َو َكا ُنــوا َي َّت ُق َ‬ ‫َخ ْي ٌــر ِل َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫يــب ب َِر ْح َم ِت َنا َم ْن‬ ‫هلل مــن قبــل ومــن بعد‪ ،‬ولــذا قــال‪ُ  :‬ن ِص ُ‬ ‫فرجا‪ ،‬ومن‬ ‫يسرا‪ ،‬ومن الضيق ً‬ ‫َن َش ُ‬ ‫ــاء‪ ،‬فنبدله من العســر ً‬ ‫حريــة‪ ،‬ومن الهوان على الناس‬ ‫الخــوف ً‬ ‫أمنــا‪ ،‬ومن القيد ّ‬ ‫ين‪ ‬الذين‬ ‫عــزا‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ًّ‬ ‫يــع َأ ْج َــر ا ْل ُم ْح ِســ ِن َ‬ ‫عليــا َ‬ ‫ً‬ ‫ال ُن ِض ُ‬ ‫ومقامــا ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ســبحانه ولطفــه‪ ،‬وهــي أجلــى ما تكون فــي عاقبة المحن‬

‫ِ‬ ‫ان ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هلل‬ ‫يــر ٍة َأ َنا َو َم ِ‬ ‫ــن َّات َب َع ِني َو ُس ْــب َح َ‬ ‫أ ْد ُعــو ِإ َلــى اهلل َع َلــى َبص َ‬

‫‪63‬‬


‫وال عجــب أن تكــون هــذه الســورة بما احتــوت عليه‬

‫الشــديد الــذي يــأوي إليــه‪ ،‬خالقــه‪ ،‬وهــذا ما ظل يوســف‬

‫يثنــي بــه علــى ربه فــي عاقبــة التمكيــن والظفر حيــن قال‬ ‫اي ِم ْن َق ْب ُل َق ْد َج َع َل َها َر ِّبي‬ ‫‪‬يا َأ َب ِت َه َذا َت ْأوِ ُ‬ ‫يل ُر ْؤ َي َ‬ ‫ألبيه‪َ :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ــج ِن َو َج َاء ب ُِك ْم‬ ‫َح ًّقــا َو َق ْد َأ ْح َس َ‬ ‫الس ْ‬ ‫ــن بِــي إ ِْذ أ ْخ َر َجني م َن ّ‬ ‫ان َب ْي ِني َو َب ْي َن إ ِْخ َو ِتي إ َِّن‬ ‫الش ْــي َط ُ‬ ‫ــن ا ْل َب ْــدوِ ِم ْن َب ْع ِد َأ ْن َن َز َغ َّ‬ ‫ِم َ‬ ‫يف ِلما ي َشاء ِإ َّن ُه ُهو ا ْلع ِليم ا ْلح ِكيم‪(‬يوسف‪.)100:‬‬ ‫َر ِّبي َل ِط ٌ َ َ ُ‬ ‫َ َ ُ َ ُ‬ ‫وهذا هو درس الوحدانية األكبر في عام الحزن‪ ،‬فما‬

‫مــن قصــة هــذا النبــي الكريــم‪ ،‬ومــن التعقيبــات الربانيــة‬

‫وتنزلها على رســول اهلل ‪ ‬والمســلمين معه بمكة‬ ‫عليها‪ّ ،‬‬ ‫فــي هــذه الفتــرة بالــذات‪ ...‬ال عجــب أن تكــون أعظــم‬

‫تســلية وتســرية وتطميــن وتثبيــت للمؤمنيــن‬ ‫المطارديــن‬ ‫َ‬

‫المضطهديــن‪ .‬كأنهــم يقرؤون فيهــا‬ ‫تلميحا باإلخراج من‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫حضنهــم الدافــئ (مكــة) ُمكرهيــن إلــى دار أخــرى يكون‬

‫يتمسكوا بربهم سبحانه‪،‬‬ ‫على عباد اهلل المخ َلصين إال أن ّ‬

‫فيها النصر والتمكين‪ ،‬كما ُأخرج يوســف من حضن أبيه‬

‫ويخلصوا العبادة له وحده دون سواه‪ ،‬ويستغيثوا به وحده‬ ‫ُ‬

‫ليواجــه االبتــاءات العظــام‪ ،‬ثــم تكون له الرفعــة والنصر‬

‫وال يع ّلقوا آمالهم ببشــر مهما كانت درجته‪ ،‬وأن ُيسلموا‬

‫ِ‬ ‫والتمكيــن‪ِ َ :‬‬ ‫ــف ِفي ا َ‬ ‫ض َو ِل ُن َع ِّل َم ُه‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫وس َ‬ ‫‪‬و َك َذل َك َم َّك َّنا ل ُي ُ‬ ‫أل َحا ِد ِ‬ ‫يــل ا َ‬ ‫ــب َع َلى َأ ْم ِــر ِه َو َل ِك َّن َأ ْك َث َر‬ ‫ــن َت ْأوِ ِ‬ ‫يــث َوا ُ‬ ‫ِم ْ‬ ‫هلل َغا ِل ٌ‬

‫لــه وحــده قيادهم كما أســلموا له أمرهــم من قبل‪ .‬وحين‬ ‫يعجــزون بســبب ضعفهم البشــري في أول األمــر‪ ،‬فإنهم‬

‫ون‪(‬يوســف‪ .)21:‬لقــد جــاءت آيــة التمكين‬ ‫ــاس َ‬ ‫الن ِ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫َّ‬

‫هــذه فــي ثنايا الحديث عن يوســف وهو ُيبــاع بين الرقيق‬

‫يتفضــل عليهم بمنازل التســليم‬ ‫يلجــؤون إليــه وحــده بأن ّ‬

‫التــي واجهها يوســف حيــن أجمع إخوته علــى أن ُيلقوه‬

‫ويتفضــل عليهم بلطفه‬ ‫يتنــزل عليهــم مــدد ربهم ســبحانه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫لــه والثقــة بــه والرضــا عنــه‪ .‬وفــي لحظــة االفتقــار هــذه‪،‬‬

‫فــي أرض مصــر‪ .‬وفــي أشــد حــاالت الضعــف البشــري‬

‫هلل َغا ِل ٌب َع َلى أ َْم ِر ِه‬ ‫‪‬وا ُ‬ ‫األخوة‪ ،‬يأتي قول الحق سبحانه‪َ :‬‬ ‫ون‪ .‬نعم‪ ،‬إن اهلل غالب على‬ ‫ــاس َ‬ ‫الن ِ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫ــن َأ ْك َث َــر َّ‬ ‫َو َل ِك َّ‬

‫نسمات اليقين تطفئ لفحات اليأس‬

‫أمــرا آخــر‪،‬‬ ‫أمــره‪ ،‬فقــد أراد إخوتــه لــه ً‬ ‫أمــرا وأراد لــه اهلل ً‬

‫وســكنة مــن خلقــه فقــد نفذ أمــره وهم كارهــون‪ .‬ثم جاء‬

‫وتصد عنه‪.‬‬ ‫واستصغار لشأن كل قوة تضاده‬ ‫تقطع عنه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬

‫وتحرر من كل قيــم األرض المادية التي‬ ‫وتجــرد لــه‪،‬‬ ‫بــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫التعقيب البديع‬ ‫تعريضا بحال من سيعمد إلى طرد النبي‬ ‫ً‬

‫وحين نعرض لحديث اليقين في قصة يوســف ‪،‬‬

‫وأن أمره هو الذي يكون‪.‬‬ ‫ال يعلمون أن ُس ّنة اهلل ماضية‪ّ ،‬‬

‫والســام؛ المؤمــن الموقــن‪ ،‬والصابــر الواثــق الــذي لــم‬

‫لإليمان واليقين‪،‬‬ ‫وترسيخا لمبدأ الثقة وحسن الظن برب‬ ‫ً‬

‫ّ ْ‬ ‫َ‬ ‫لمــا كاد يركــن إليــه مــن إخبار الســاقي بأن يذكــر مظلمته‬ ‫ّ‬

‫هلل‬ ‫حنو ورحمة‪ ،‬في كل لحظة وداع‪َ  :‬فا ُ‬ ‫يقول لبنيه بكل ّ‬ ‫َخير َحا ِف ًظا َو ُهو َأر َحم الر ِ‬ ‫‪‬و َما ُأ ْغ ِني‬ ‫اح ِم َ‬ ‫ين‪(‬يوسف‪َ ،)64:‬‬ ‫ٌْ‬ ‫َ ْ ُ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل َع َل ْيــ ِه َت َو َّك ْل ُت‬ ‫إ‬ ‫ــم‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫إ‬ ‫ء‬ ‫ــي‬ ‫ش‬ ‫ــن‬ ‫م‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ــن‬ ‫م‬ ‫ــم‬ ‫ك‬ ‫ْ ُ ْ ُ ِ َّ‬ ‫َع ْن ُ ْ َ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ون‪(‬يوســف‪ .)67:‬ويبلــغ األلــم‬ ‫َو َع َل ْيــ ِه َف ْل َي َت َــو َّك ِل ا ْل ُم َت َو ِّك ُل َ‬ ‫البشــري منتهــاه‪ ،‬ويصــل المشــهد إلــى ذروته حيــن يفقد‬

‫وليجعــل قضــاء حاجتــه بيــد خالقــه جــل جاللــه ال علــى‬

‫وابيضــت عيناه‪ ،‬ولذا‬ ‫ثابــت الفؤاد وإن تضعضع جســده‬ ‫ّ‬

‫ون‪‬؛‬ ‫ــاس َ‬ ‫الن ِ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫ــن َأ ْك َث َر َّ‬ ‫‪‬و َل ِك َّ‬ ‫الهاشــمي وأصحابــه‪َ :‬‬

‫وهكذا تواترت بشائر السورة في جميع مراحلها‪،‬‬ ‫تأكيدا‬ ‫ً‬ ‫العالميــن‪ ،‬وبيا ًنا للعاقبة الحســنى للمتقيــن‪.‬‬ ‫وتأكيدا لهذه‬ ‫ً‬ ‫الصلة الوثيقة باهلل تعالى‪ ،‬قص اهلل تعالى خبر نبيه الكريم‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫حبا وشو ًقا‪.‬‬ ‫شهد الرضا والتسليم‪ًّ ،‬‬

‫اليقين في حقيقته اعتزاز باهلل تعالى‪ ،‬واطمئنان إليه‪ ،‬وثقة‬

‫غالبــا علــى أمره‬ ‫ومســيطرا علــى كل حركة‬ ‫ولمــا كان اهلل ً‬ ‫ً‬

‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ــب‪ ،‬وهــو يســتعطفهم‬ ‫ويذكرهــم بوشــائج‬ ‫ّ‬ ‫الج ّ‬ ‫فــي غيابــة ُ‬

‫ويتذوقون‬ ‫وإحســانه‪ ،‬حتــى لكأنهــم يجــدون عبق اليقيــن‬ ‫ّ‬

‫ِث ِفي ِ‬ ‫ين‪(‬يوسف‪)42:‬‬ ‫يوسف‪ ،‬وكيف ‪َ ‬لب َ‬ ‫السج ِن ب ِْضع ِس ِن َ‬

‫عند الملك‪ ،‬كل ذلك ليقطع عنه األسباب البشرية كلها‪،‬‬ ‫تمســكه بالركن‬ ‫يــد بشــر‪ ،‬بــل جعل نجاتــه وســبب رفعته ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تعبــق مواقف الصبر الجميــل ليعقوب النبي عليه الصالة‬ ‫والحزن‬ ‫تضعف ثقته بربه‪ ،‬إذ ظل في أشد حاالت الكرب ُ‬

‫أوالده الثالثــة دفعــة واحــدة‪ ،‬ولكنــه مــع كل ذلــك يظــل‬

‫هلل َأ ْن‬ ‫تــراه يقــول بكل ثقــة وثبات‪َ  :‬ف َص ْب ٌر َج ِم ٌ‬ ‫يل َع َســى ا ُ‬


‫تضمنت ســورة يوســف يف ط ّياتها مشاهد األمل‬ ‫ّ‬

‫قصــص القــرآن الكريــم فيهــا مــا يبعــث‬

‫واألمــل‪ ،‬ومرارة الفراق وحــاوة اللقاء‪ ،‬كام عرضت‬

‫علــى األمــل والتفــاؤل الــذي تحيــا بــه‬

‫لقصــة اليأس واليقــن والظلم والقهــر واالبتالء‬ ‫ّ‬

‫وســنة اهلل‬ ‫النفــوس ويزكــو بــه اإليمــان‪.‬‬ ‫ّ‬

‫والصرب‪ ،‬ثم النجاح والنرص‪.‬‬

‫تعالى اقتضت أن تتو ّلد اآلمال مع اشتداد الكروب‪ ،‬وأن‬ ‫تبــزغ خيــوط الصبــاح من ظلمــة الليل البهيــم‪ ،‬وأن تحلو‬

‫ورحمة من اهلل تعالى وسلوا ًنا‪.‬‬

‫حكايــات الســلوان فــي غمــرة األحــزان ومن ثنايــا اآلالم‬

‫قصة يوسف وبشائر التمكين والفرج‬ ‫ّ‬

‫والخطوب‪ .‬وهذا ما نجده في حديث القرآن عن األنبياء‬ ‫الكرام عليهم الصالة والسالم‪.‬‬

‫أخ لــه كريــم‪،‬‬ ‫نبيــه األميــن قصــة ٍ‬ ‫ّ‬ ‫قــص اهلل تعالــى علــى ّ‬ ‫هــو يوســف بــن يعقــوب بن إســحاق بــن إبراهيــم عليهم‬

‫الحزن واألمل القادم‬ ‫عام ُ‬

‫صلــوات اهلل وســامه أجمعين‪ ،‬وعــرض له ما كان يعاني‬

‫لعــل أحــرج فترات الســيرة العطرة وأشــ ّقها مــا كان بمكة‬

‫مــن صنــوف المحــن واالبتــاءات‪ :‬محنــة كيــد اإلخــوة‪،‬‬

‫قبيل الهجرة بثالث سنين‪ ،‬حين ماتت زوجه ‪ ‬خديجة‬

‫الج ّب‪ ،‬والترويــع والخوف‪ ،‬ومحنة‬ ‫ومحنــة الوحــدة في ُ‬

‫‪ ،‬إذ كانت له وزير صدق على اإلســام؛ يشــكو إليها‪،‬‬

‫ظل يتن ّقل بسببها من يد إلى يد على غير إرادة‬ ‫الر ّق التي ّ‬ ‫ِّ‬

‫ويستشيرها‪ ،‬ويأوي إليها في ختام يومه الدعوي الحافل‪.‬‬

‫منــه وال حمايــة ورعايــة من أبويه وأهلــه‪ ،‬ومحنة االبتالء‬

‫ثــم مــات عمه أبو طالــب بعد ذلك بقليــل‪ ،‬وكان منعة له‬ ‫أكثــر النــاس‪ ،‬وكذبــوا‪ ،‬وارتــد البعض‪ ،‬وانكفــأت الدعوة‬

‫وتجرأت قريش على‬ ‫حتى ما كاد يدخل في اإلسالم أحد‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وناصرا على قومه‪ .‬ثم وقعت حادثة اإلســراء؛ فاستغرب‬ ‫ً‬

‫واإلغــراء والشــهوة‪ ،‬ومحنــة الفتنــة بكيــد امــرأة العزيــز‬

‫ِ‬ ‫الســجن بعد رغد العيــش وطراوته في‬ ‫ِّ‬ ‫والنســوة‪ ،‬ومحنــة ّ‬ ‫قصــر العزيــز‪ ،‬ومحنــة الرخــاء والســلطان المطلــق حيــن‬ ‫َّ‬ ‫وأخيرا محنة‬ ‫ال عن أرزاق الناس و ُقوتهم‪،‬‬ ‫أصبح مســؤو ً‬ ‫ً‬

‫النبي ‪ ،‬ونالت من شخصه الشريف ما لم تنل من قبل‪.‬‬ ‫ســمى النبــي ‪ ‬ذلــك العــام بـ"عــام الحــزن" ِلمــا كان‬ ‫ّ‬ ‫يعاني فيه من الوحشة والغربة‪ ،‬و ِلما عانت معه الجماعة‬

‫الجب وكانوا الســبب الظاهر‬ ‫لســلطانه‪ ،‬بعد أن أل َق ْوه في‬ ‫ّ‬

‫تعالــى أربــع ســور كريمــات‪ :‬ســورة اإلســراء‪ ،‬وســورة‬

‫طياتهــا مشــاهد األلــم‬ ‫ّ‬ ‫تضمنــت ســورة يوســف فــي ّ‬

‫المســلمة مــن الكربــة والشــدة‪ .‬في هــذه الفتــرة‪ ،‬أنزل اهلل‬

‫والمتأمل في هذه‬ ‫الفرقان‪ ،‬ثم سورة ُيونس‪ ،‬وسورة هود‪.‬‬ ‫ّ‬

‫والحنــو‪ ،‬والتثبيت‬ ‫بخاصة‪ ،‬يجد فيها من التســلية‬ ‫الســور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأيــام ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫والتســرية‪ ،‬ومــن أخبــار األنبيــا ِء مــع أقوامهــم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يقوي عــزم النبي‬ ‫تعالــى فيهــم‪ ،‬وإدالــة الحــق وأهلــه‪ ،‬مــا ّ‬ ‫وعصب ِته المؤمنة‪ ،‬ويبعث على الثبات رغم الشــدائد‪.‬‬ ‫‪ُ ‬‬

‫بلســما وحنا ًنــا‬ ‫األحــداث‪ ،‬تنــزل ســورة يوســف لتكــون‬ ‫ً‬

‫تعرض لها‪.‬‬ ‫لهذه المحن واالبتالءات التي ّ‬

‫واألمــل‪ ،‬ومــرارة الفــراق وحــاوة اللقــاء‪ ،‬كمــا عرضــت‬ ‫لقصــة اليأس واليقيــن والظلم والقهــر واالبتالء والصبر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثــم النجــاح والنصر‪ .‬واقترنت فيها القــدرة على االنتقام‪،‬‬ ‫والرجــاء بالدعــاء‪ ،‬والتمكيــن بعــد‬ ‫بالعفــو والصفــح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫االبتــاء‪ ،‬وظهــرت من خاللهــا العاقبة الحســنى للمتقين‬

‫الصابريــن‪ ،‬كمــا تج ّلــت فيهــا حكمــة اهلل تعالــى وأقــداره‬ ‫وتدبيــره وأســراره‪ ،‬فــي نظــم قصصــي لــم تســمع الدنيــا‬

‫ِين‬ ‫ات ا ْل ِك َت ِ‬ ‫اب ا ْل ُمب ِ‬ ‫بمثلــه‪ ،‬قــال اهلل تعالى‪ :‬الر ِت ْل َك َآي ُ‬ ‫ص َع َل ْي َك‬ ‫ِإ َّنا َأ ْن َز ْل َن ُاه ُق ْرآ ًنا َع َرب ًِّيا َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُل َ‬ ‫ون ‪َ ‬ن ْح ُن َن ُق ُّ‬ ‫آن َوإ ِْن ُك ْن َت‬ ‫ــن ا ْل َق َص ِ‬ ‫ــص ب َِمــا َأ ْو َح ْي َنا ِإ َل ْي َك َه َذا ا ْل ُق ْــر َ‬ ‫َأ ْح َس َ‬ ‫ين‪(‬يوسف‪.)3-1:‬‬ ‫ِم ْن َق ْب ِل ِه َل ِم َن ا ْل َغا ِف ِل َ‬ ‫‪‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫صرح الحق سبحانه بهذا المقصد العظيم في خاتمة‬ ‫وقد ّ‬ ‫ص َع َل ْي َك ِم ْن َأ ْن َبا ِء‬ ‫سورة هود بقوله ّ‬ ‫﴿و ُك ًّل َن ُق ُّ‬ ‫جل شأنه‪َ :‬‬ ‫الر ُس ِل َما ُن َث ِّب ُت ِب ِه ُف َؤ َادكَ َو َج َاءكَ ِفي َه ِذ ِه ا ْل َح ُّق َو َم ْو ِع َظ ٌة‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين‪(‬هود‪.)120:‬‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ى‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫َو ِ ْ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫خضم تلك‬ ‫وفــي أعقــاب هذه الســور الكريمة‪ ،‬وفــي ّ‬

‫صــراع المشــاعر البشــرية وهــو يلقــى إخوتــه خاضعيــن‬

‫‪61‬‬


‫دراسات إسالمية‬

‫صالح بن محمد آل طالب*‬

‫التفاؤل واألمل‬

‫في قصة يوسف‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫‪‬‬

‫‪60‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫األساســي لتجمــل اإلنســان‪ ،‬إذ يخــرج الحريــر مــن بطن‬

‫وعلــى هــذا األســاس قــد يكون االنكســار هــو طريق‬

‫دودة القــز‪ ،‬وتصنــع أفخم أنواع الصوف من بعض أنواع‬

‫سببا لدوام االتصال‪ ،‬وقد‬ ‫االنتصار‪ ،‬وقد يكون االنفصال ً‬

‫األنعام‪.‬‬

‫للوحدة‪ ،‬وقد يكون االختالف مقدمة‬ ‫سببا ُ‬ ‫تكون الوحدة ً‬

‫وفــي كثير مــن األنعام والــدواب ِن َعــم عظيمة تتخفى‬

‫لالئتالف‪.‬‬

‫وراء مــا يكرهــه اإلنســان منهــا‪ ،‬حتــى ينطبــق عليهــا قول‬

‫وكما قال الشاعر العربي‪:‬‬

‫الشاعر‪:‬‬ ‫ ‬

‫كم نعم ٍة ال ُيستقل بشكرها‬

‫ ‬

‫هلل في طي المكاره كامنة‬

‫قد ُينعم اهلل بالبلوى وإن عظمت‬

‫بعض القوم بالنعم‬ ‫ويبتلي اهلل َ‬

‫منحا‪،‬‬ ‫وتشــير فلســفة المحنة إلى أن المنع قد يصير ً‬

‫ومــا ينطبــق فــي مجال الحيــاة المادية ينطبــق أكثر في‬

‫يســرا‪ ،‬وأن الــداء قد يصبــح دواء‪،‬‬ ‫وأن العســر قــد يصيــر ً‬

‫كثيرا مــن المحبوبات‪،‬‬ ‫المكروهــات التــي تخفــي وراءها ً‬

‫والمرض عين العافية‪ ،‬والنقصان ذات الكفاية‪ ،‬واإلساءة‬

‫مجــال الحيــاة المعنوية‪ ،‬حيث يفر اإلنســان مــن كثير من‬ ‫كما قال الشاعر‪:‬‬

‫ُر ّب أمــــــــر تــتــــــقـــيه ‬ ‫خفي المحبوب منه ‬

‫قربا‪ ،‬وقد يكون الغلــق عين الفتح‪،‬‬ ‫البعــد قــد يصيــر ً‬ ‫وأن ُ‬ ‫عين اإلحسان‪.‬‬

‫أمــرا تـرتجيه‬ ‫جــر ً‬

‫مدحا‪ ،‬والمحــق برك ًة‪ ،‬والضعف‬ ‫وقــد يصبح القــدح ً‬

‫وبدا المكروه فيه‬

‫غنى‪ ،‬والدمار‬ ‫عمارا‪ ،‬إذ إن العاقل يســتطيع‬ ‫قو ًة‪ ،‬والفقر ً‬ ‫ً‬

‫وقــوى توكلــه علــى اهلل كما قــال أحد‬ ‫اســتثمار األســباب ّ‬

‫الزلة إلى دخول بيت الذلة بين يدي ربه فيص ُلح ويف َلح‪.‬‬ ‫َّ‬

‫رســائل اهلل المتضمنــة لمــا يحبــه اإلنســان‪ ،‬إذا أحســن‬

‫الشعراء‪:‬‬

‫ولكل حال ُمع ِقب ولربما‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كأن المكروهــات هي المظــروف الذي يخفي داخله‬

‫أن يســتخرج مــن حفــرة العثــرة جوهــرة العبرة‪ ،‬ويســتغل‬ ‫الخطوب لتمحيص النفوس وتصفية القلوب‪ ،‬وقد تقوده‬

‫وقــد ســاعدنا علــى فهــم ذلــك‬ ‫الحكيــم الفارســي‬ ‫ُ‬ ‫حــل تــرى بــه مــا ال تــراه‬ ‫"أزدشــير" الــذي قــال‪ :‬الشــدة ُك ٌ‬

‫ ‬ ‫حمد‬ ‫عما ُي ُ‬ ‫أجلى لك المكروه ّ‬ ‫وتصيِر‬ ‫توهج "المكارم"‪،‬‬ ‫وهكذا فإن "المكاره" تبرز َ‬ ‫ّ‬

‫إلى وجود مشــكلة‪ ،‬ويســتفز فيه جهازه المناعي ويستنفر‬

‫هذه المقالة‪.‬‬

‫خير للمؤمن الحق‪.‬‬

‫جسرا للعبور إلى المنح‪ ،‬وهذا ما سنجعله مسك‬ ‫المحن‬ ‫ً‬

‫‪" -4‬المحن" جسر العبور إلى "المنح"‬

‫بالنعمــة‪ .‬ومــن هنا يصبح األلم نعمــة‪ ،‬إذ إنه ينبه صاحبه‬ ‫طاقــات التحــدي الكامنــة فيــه‪ ،‬ممــا يعنــي أن المحنة هي‬ ‫وكما أن قوة الظلمة تؤذن باالنبالج‪ ،‬فإن قوة الشــدة‬

‫يؤكد التدبر في آيات القرآن‪ ،‬والتفكر في آيات األكوان‪،‬‬

‫تؤذن باالنفراج‪ ،‬كما قال أحد الشعراء‪:‬‬

‫"المحــن" فــي حياة األفراد والكيانات‪ ،‬جســر للعبور إلى‬ ‫استثمارها على الوجه األمثل‪.‬‬ ‫"المنح"‪ ،‬إذا ُأ ْحسِ ن‬ ‫ُ‬

‫ ‬ ‫قريب‬ ‫فموصول بها فرج‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وزبــدة القــول‪ :‬أن الشــدائد توقــد فــي المــرء طاقــة‬

‫والتبصــر فــي آيــات الكائنات وعلى رأســها اإلنســان‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬

‫إن فقــه االبتــاء يثبــت أن "المنحــة" تتســلل فــي كثير‬

‫مــن األحيــان من بيــن براثــن "المحنــة"‪ ،‬و"النعمة" تخرج‬

‫و"اآلمــال" تنشــق من صخــور "اآلالم"‪ ،‬و"األفراح" تتولد‬ ‫بيــن أكــوام "األتــراح"‪ ،‬ويثبــت أن أشــجار ِ‬ ‫العبــرات ال‬ ‫"العبرات" وأن "األشواق" ال تضطرم إال‬ ‫تطيب إال بمياه َ‬

‫باضطراب "األشواك"‪.‬‬

‫التــذرع والتضــرع‪ ،‬التــذرع باألســباب‪ ،‬والتضــرع إلــى‬

‫مالــك األســباب‪ ،‬وعندهــا تكتمــل معادلة الفــوز والنصر‬

‫والتمكين‪.‬‬

‫واآلن حــان أن نتســاءل‪ :‬كيــف يمكــن أن نصنــع من‬

‫جسورا للعبور إلى السرور؟‬ ‫الشرور‬ ‫ً‬

‫(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫تتكون في بطون "الرزايا"‪،‬‬ ‫مــن رحــم "النقمة"‪ ،‬و"المزايا" ّ‬

‫وكل الحادثات وإن تناهت‬

‫‪59‬‬


‫وتهزهــا وتحدث فيها تشــققات‪َ  :‬فــ ِإ َذا َأ ْن َز ْل َنا َع َل ْي َها ا ْل َم َاء‬ ‫يج‪(‬الحج‪.)5:‬‬ ‫ْاه َت َّز ْت َو َر َب ْت َو َأ ْن َب َت ْت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج َبهِ ٍ‬ ‫وتخــرج تلــك النباتات المنيرة التــي ُتعد كائنات حية‬ ‫في كثير من الوجوه‪ ،‬من بين طبقات األرض الغبراء التي‬

‫الصناعــات البتروكيماويــة‪ ،‬التــي توفر لإلنســان عشــرات‬

‫ومن تلك الدالئل أن األزهار الجميلة تخرج من بين‬

‫وحــول األرض توجــد سلســلة مــن األخاديــد التــي‬

‫ال يأتــي إال مــن رحم الشــتاء المحفــور بكثير من القبائح‬

‫وألول وهلــة تبــدو كنــدوب تشــوه وجــه األرض‪ ،‬لكــن‬

‫وســائل المواصــات‪ ،‬ويدير شــتى ماكينــات الصناعات‪،‬‬ ‫ويوقد الكهرباء التي تنير دروب الحياة وتحمل لإلنســان‬

‫عشــرات الفوائــد‪ ،‬ومــن مــواد النفــط تشــكل مــا يســمى‬ ‫السلع التي تحتاج إليها حياة التر ّفه اإلنسانية‪.‬‬

‫هي ميتة في األصل‪.‬‬

‫يتــراوح عمقهــا ما بين ‪ 60‬و‪ 150‬كــم كما يقول العلماء‪،‬‬

‫األشــواك القبيحة‪ ،‬والربيع الزاهي بكل مشــاهد الجمال‬

‫فوائدهــا المرتبطة بامتصــاص درجة الحرارة الزائدة على‬

‫ومآتم الموت لمليارات األزهار واألشجار والحشائش‪.‬‬

‫حاجــة اإلنســان ال تقــدر بثمــن‪ ،‬ولوالهــا لظلــت درجــة‬

‫وفــي دائــرة النباتات‪ ،‬فــإن النار التي تحرقها تكشــف‬

‫حــرارة األرض فــي ارتفــاع مــع مــا ســيحدثه ذلــك مــن‬

‫عــن معادنهــا األصيلة والنفيســة‪ ،‬فإن أغلــى أنواع البخور‬

‫تداعيات إلى أن تنفجر مثل القنبلة النووية‪.‬‬

‫والروائح الطيبة هو العود‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬

‫أمــا البراكيــن التي تبدو كبثور في ناصية األرض‪ ،‬وال‬

‫لوال اشتعال النار في ما جاورت‬

‫ما كان ُيعرف طيب َع ْرف العو ِد‬

‫ســيما فــي المناطــق االســتوائية الجميلــة بتربتهــا الخصبة‬

‫شــاعر آخر‪ ،‬وهو يشــير إلى هذا المخاض الجميل وهذه‬

‫بعــض النــاس‪ ،‬بــل هي مــن أهم أســرار الحيــاة والجمال‬

‫ ‬

‫محضــا كمــا يظن‬ ‫شــرا‬ ‫ً‬ ‫وأمطارهــا الغزيــرة‪ ،‬فإنهــا ليســت ًّ‬

‫ومن الضروري أن يسبق الدخان عبير العود كما قال‬

‫مهذبا ال عيب فيه‬ ‫تريد َّ‬

‫ ‬

‫عود يفوح بال دخان؟!‬ ‫وهل ٌ‬

‫ومــن المعلــوم فــي هــذا الكتــاب الكوني الهائــل‪ ،‬أن‬

‫الفجــر تســبقه دياجيــر حالكــة‪ ،‬كأن خيوط الفجر تتســلل‬

‫من بين أطباق الظالم الدامس‪.‬‬

‫تنبعــث مــن باطــن األرض عبــر فوهات البراكيــن‪ ،‬ثم في‬

‫ظروف وأسباب يصنعها اهلل ‪ ‬تتحول إلى أمطار تحيي‬ ‫األرض بعد موتها‪ ،‬وتحمل الحياة لكل الكائنات فيها‪.‬‬

‫‪ -3‬قرائن كتاب الكائنات‬

‫وغالبــا مــا يكون كســوف الشــيء قرينة على نفاســته‪،‬‬ ‫ً‬

‫نجوم ال عداد لها‬ ‫وفي السماء‬ ‫ٌ‬

‫النقــم‪ ،‬وتتبرقــع "المفاتن" بنقاب "الفتن"‪ ،‬وتتســور ثمار‬

‫ ‬

‫والقمر!‬ ‫الشمس‬ ‫وليس يكسف إال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫بارزة كالشــمس في كبد الســماء‪ ،‬إذ تتغطى النعم بأثواب‬ ‫الكائنــات اليانعــة بأشــواكها المؤلمــة وتتســلح بســمومها‬

‫أبدييــن‪ ،‬بــل همــا‬ ‫لكــن الكســوف أو الخســوف ليســا ّ‬

‫الناقعة‪.‬‬

‫وفــي إطــار التــراب الميــت ذي المنظــر القبيــح‪ ،‬فإنه‬

‫رمــزا‬ ‫يســتخرج تريــاق الحيــاة‪ ،‬لذلــك صــارت األفعــى ً‬

‫والطاقات الحيوية لحياة اإلنسان كالنفط والغاز والحديد‬

‫ومــن جلود الثعابين والتماســيح تصنع أرقى وأغلى‬ ‫الدببــة تصنــع أثمــن‬ ‫الحقائــب واألحذيــة‪ ،‬ومــن فــرو ِّ‬

‫مؤقتان ليعقبهما مزيد من التوهج واالنبالج‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫علــى األرض كل عــام‪ ،‬التــي تأتــي علــى شــكل غــازات‬

‫لق نظرة على كتاب الكائنات‪ ،‬فسيجد هذه الحقيقة‬ ‫من ُي ِ‬

‫كما أشار إلى ذلك الشاعر‪:‬‬

‫‪58‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النسبية السننية‪:‬‬

‫في هذه األرض‪ ،‬إذ إنها مصدر ‪ %71‬من األمطار النازلة‬

‫كثيرا من المعادن الجميلة والجواهر النفيسة‪،‬‬ ‫يخفي تحته ً‬ ‫والذهــب الــذي تســتخرج مادته األولية "التبر" من وســط‬

‫أركمة "التراب"‪.‬‬

‫أما النفط األســود ذو الرائحة الخانقة والطعم القاتل‬

‫واألثــر الحــارق‪ ،‬فإنــه يدير عجلة الحياة‪ ،‬إذ يحرك ســائر‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومــن المعلــوم في هذا الســياق‪ ،‬أنه من ســم األفاعي‬

‫للصيدلة والدواء‪.‬‬

‫المعاطــف النســائية‪ ،‬ومــن بعض أنــواع الغزال ُيســتخرج‬ ‫أرقى العطور الذكية وهو المسك‪.‬‬

‫وفــي ذات الدائــرة‪ ،‬فــإن الحيوانــات هــي المصــدر‬


‫إن العاقل يســتطيع أن يســتخرج من حفرة العرثة‬

‫‪ -1‬آيات كتاب الوحي‬

‫جوهرة العربة‪ ،‬ويستغل الخطوب لتمحيص النفوس‬

‫تتنزل آية القرآن من صاحب العلم الكامل ومالك القدرة‬

‫وتصفيــة القلوب‪ ،‬وقد تقوده الزلة إىل دخول بيت‬

‫المطلقة‪ ،‬لذلك فهي تحمل إضاءات تســاعد المستضيء‬

‫الذلة بني يدي ربه فيصلُح ويفلَح‪.‬‬

‫بهــا عبــر مفاتيح التدبــر على رؤية بعض المســاحات في‬ ‫عالــم مــا وراء المــادة‪ ،‬حيث تتلفع فــي كثير من األحيان‬

‫ذات‬ ‫وأورد القرآن أن الرياح التي يراها الناس‬ ‫عذابا ُ‬ ‫ً‬ ‫فوائد جليلة على حياة اإلنسان‪ ،‬ابتداء من تلقيح الشجر‬ ‫‪‬و َأ ْر َســ ْل َنا‬ ‫لكــي تثمــر‪ ،‬وتلقيــح الســحب لكــي تمطــر‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ــاح َل َوا ِق َ َ‬ ‫وه َو َما‬ ‫ــاء َف َأ ْســ َق ْي َن ُ‬ ‫اك ُم ُ‬ ‫ــما ِء َم ً‬ ‫الر َي َ‬ ‫الس َ‬ ‫ِّ‬ ‫ــح َفأ ْن َز ْل َنــا م َن َّ‬ ‫ين‪(‬الحجر‪.)22:‬‬ ‫َأ ْن ُت ْم َل ُه ب َِخازِ ِن َ‬ ‫ال إلــى دور الريــاح فــي تســيير جميع الســفن‬ ‫ووصــو ً‬

‫"المنــح" بأثــواب "المحــن"‪ ،‬وتتنكــر "النعــم" فــي صــور‬

‫"النقــم"‪ ،‬وتتخفــى "األنــوار" فــي بطون "الظلمــات"‪ ،‬وقد‬ ‫تأتــي "العطايــا" على أقــدام "الباليا"‪ ،‬ويأتي "اليســر" على‬

‫مطايا "العسر"‪ ،‬و ُتقبل "األفراح" على ظهور "األتراح"‪.‬‬

‫وإشــارة إلــى هــذا المكــر اإللهــي بأعدائــه‪ ،‬والنصــر‬

‫الخفــي ألوليائــه‪ ،‬ومن أجــل التأهل لتنــزل المدد اإللهي‬

‫أراد بــه المنافقــون واليهود إطفاء أنــوار النبوة‪ ،‬وكان فتنة‬

‫ــل ُه َو َخ ْي ٌر‬ ‫عظيمــة فقال تعالى‪َ  :‬‬ ‫وه َش ًّــرا َل ُك ْم َب ْ‬ ‫ال َت ْح َس ُــب ُ‬ ‫َل ُك ْم‪(‬النور‪.)11:‬‬ ‫دروسا عميقة‬ ‫ومن يتمعن في آيات الفرقان‪ ،‬فسيجد‬ ‫ً‬ ‫وكثيرة في هذا السياق‪ .‬فإن اهلل "يخرج الحي من الميت"‪،‬‬ ‫ويخرج اللبن ‪-‬وهو من أهم األغذية لحياة اإلنسان‪ -‬من‬ ‫بيــن فــرث ودم‪ ،‬ويخــرج العســل مــن بطن حشــرة حقيرة‬

‫وضمن هذا الدرس في‬ ‫وصغيرة مع أن فيه شفاء للناس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سورة سميت باسم هذه الحشرة وهي "النحل"‪.‬‬

‫وأشــار القــرآن إلى أن مبدأ اإلنســان مــن نطفة حقيرة‬

‫تخرج من َم ْب َو َلي الرجل والمرأة‪ ،‬ويستقر في رحم المرأة‬ ‫إلــى أن يخــرج منه بعد تســعة أشــهر من العيــش في قرار‬

‫مكين داخل هذا المكان المهين‪.‬‬

‫ــت‬ ‫‪‬مــا َع ِل ْم ُ‬ ‫مــن الرســل‪ ،‬أمــا اآلخــر فقــد تفــرد بزعــم‪َ :‬‬ ‫َل ُكــم ِم ْ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ــم‬ ‫ــن ِإ َلــه َغ ْي ِري‪(‬القصــص‪ ،)38:‬ومقولــة‪ :‬أ َنــا َر ُّب ُك ُ‬ ‫ْ‬ ‫اآلخــرةِ‬ ‫ال ِ‬ ‫ا َ‬ ‫أل ْع َلى‪(‬النازعــات‪ ،)24:‬لذلــك أخــذه اهلل‪َ  :‬ن َ‬ ‫ــك َ‬ ‫َ‬ ‫َوا ُ‬ ‫ألو َلى‪(‬النازعات‪.)25:‬‬

‫فــإن هــذه األنــواع مــن الطاقــة ال تحترق لتديــر محركات‬ ‫هــذه الســفن‪ ،‬إال عبــر األكســيجين الــذي تتضمنــه الريح‬

‫كمــا يقــول العلمــاء‪ ،‬وهــذا ما أشــارت إليه اآليــة القرآنية‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ــن َر َو ِاك َد َع َلى‬ ‫يح َف َي ْظ َل ْل َ‬ ‫الر َ‬ ‫التــي تقول‪ :‬إ ِْن َي َشــأ ُي ْســك ِن ِّ‬ ‫َظ ْه ِر ِه إ َِّن ِفي َذ ِل َك َل َي ٍ‬ ‫ات ِل ُك ِّل َص َّبارٍ َش ُكورٍ ‪(‬الشورى‪.)33:‬‬ ‫وألن آيــة القــرآن تتجــاور فــي ثناياها الفوائــد المادية‬ ‫‪‬ل َي ٍ‬ ‫والمعنويــة‪ ،‬فــإن فاصلــة اآليــة‪َ :‬‬ ‫ــك ِّل َصبــارٍ‬ ‫ــات ِل ُ‬ ‫َّ‬ ‫ــكورٍ ‪ ،‬تشــير إلــى هــذا المعنــى الــذي اســتدللنا عليــه‬ ‫َش ُ‬ ‫هنــا‪ ،‬ففــي ظــل الصبــر والشــكر تتحــول النقــم إلــى نعم‪،‬‬ ‫الســموم إلى وســائل لتسيير السفن التي‬ ‫كما تتحول رياح َّ‬ ‫تحمل الناس وتوصل المنافع إليهم‪.‬‬

‫‪ -2‬دالئل كتاب الكون‬

‫ومــن يقــرأ آيــات الكــون فســيجد دالئل ال حــد لها تؤكد‬

‫إمكانيــة توليــد الشــر للخيــر‪ ،‬ومجــيء الهدايــا على صور‬

‫باليا‪ ،‬وخروج المنافع من أكمام المضار‪.‬‬

‫ومــن هــذه الدالئل أن الميــاه تتفجر من بين الصخور‬

‫الصماء‪ ،‬وتنبعث من بين أطباق التراب الصلد المتحجر‪،‬‬ ‫وأن األمطار تتصبب من عيون الغيوم السود‪ ،‬وأن السماء‬ ‫ال تمطــر إال بعــد أن تتلبــد بالغيوم التي تحجب الشــمس‬ ‫ثــم تدمدم فتبــرق وترعد‪ ،‬وبعد ذلك ينزل الغيث الهطال‬

‫والماء المدرار‪.‬‬

‫أمــا األرض فإنهــا ال تنبــت إال بعــد أن تغرقها المياه‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫وذكــر أن كليــم اهلل موســى ‪ ‬تربــى فــي بيــت عدو‬ ‫اهلل فرعــون بــل في ِح ْجره‪ ،‬مــع أن األول من أولي العزم‬

‫على الفحم الحجري أو النفط أو الغاز أو الطاقة النووية‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والعــون الســبحاني‪ ،‬والنصر الرباني‪ ،‬نجــد القرآن يقول‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ــم َو َع َســى َأ ْن‬ ‫َ‬ ‫‪‬و َع َســى أ ْن َت ْك َر ُهــوا َش ْــي ًئا َو ُه َــو َخ ْي ٌــر َل ُك ْ‬ ‫ُت ِح ُّبوا َش ْــي ًئا َو ُه َو َش ٌّــر َل ُك ْم‪(‬البقرة‪ ،)216:‬ويقول‪َ  :‬ف َع َســى‬ ‫هلل ِفي ِه َخ ْي ًرا َك ِث ًيرا‪(‬النساء‪.)19:‬‬ ‫َأ ْن َت ْك َر ُهوا َش ْي ًئا َو َي ْج َع َل ا ُ‬ ‫وفــي ســورة النور أشــار اهلل إلى إعصــار اإلفك الذي‬

‫الشــراعية‪ ،‬وهــذا واضــح‪ ،‬والســفن البخارية التــي تعتمد‬

‫‪57‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫أفراح األتراح‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫عندما تخرج األنوار من أرحام الظلمات‬

‫‪56‬‬

‫آالمــا كثيــرة ومآتــم‬ ‫تعانــي أمتنــا اليــوم ً‬ ‫عديدة‪ ،‬إذ تتكاثف في ســمائها ســحب‬ ‫الظلمــات وتتضافــر عليهــا الدياجــى‬ ‫الحالــكات‪ ،‬لتضيــق الخنــاق علــى مســاحات الضــوء‬ ‫وتكسر قناديل النور ومصابيح االستنارة‪.‬‬ ‫ويصاحــب هجــوم الظــام عواصــف مــن اإلعــام‬ ‫األهــوج وأعاصيــر التحريــض "األعمــى" وزوابــع‬ ‫اإلرجاف والتيئيس واإلقناط التي تسعى إلطفاء شموع‬ ‫العقول وأشعة القلوب‪ ،‬بحيث يصبح أبناء األمة قوالب‬ ‫وأشــباحا دون أرواح‪ ،‬وبحيــث يصيــرون‬ ‫دون قلــوب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أعجــاز نخــل خاويــة يفقــدون كل قــدرة علــى صناعــة‬ ‫ال وال يملكون أي فاعلية‪.‬‬ ‫الحياة وال يهتدون سبي ً‬ ‫هــذه الفتن العمياء المدعومة بمكر خارجي مســلح‬ ‫بــكل اإلمكانــات القــادرة علــى إســقاط ســقف األمــة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫علــى رؤوس أبنائهــا‪ ،‬وهــذا التصاعد الرهيــب في هذا‬ ‫االتجــاه‪ ،‬ينبــئ عن أن مرحلــة الحمل قد اكتملت‪ ،‬وأن‬ ‫أوان الميــاد قــد آن‪ ،‬وأن الكتلــة الحرجة القادرة على‬ ‫صناعــة التغييــر قــد أوشــكت على االكتمــال‪ ،‬وأن هذه‬ ‫اآلالم ‪-‬من ثم‪ -‬ما هي إال آالم المخاض‪.‬‬ ‫هذه الحقيقة يمكن أن يقرأها من يفتح كتب الهداية‬ ‫التــي حــض هــذا الدين علــى قراءتهــا واالســتفادة منها‬ ‫فــي كل نواحــي العمارة‪ ،‬وفي شــتى مراحــل النهوض‪،‬‬ ‫وفي شتى مساحات الفكر‪ ،‬بما في ذلك هذه المساحة‬ ‫التــي يقتــرن فيها المادي بالمعنوي‪ ،‬ويتعانق فيها عالما‬ ‫الغيب والشهادة‪.‬‬ ‫إن كل كتب الهداية تقول بأن "الجمال" قد يتفجر من‬ ‫بطون "القبح" و أن عيون "الخير" قد تنبجس من صخور‬ ‫"الشر"‪ ،‬وهذا ما ستبرزه هذه المقالة في عناوينها األربعة‪:‬‬


‫كنت أعتقد أن المسيحية وحدها هي دين المحبة‪.‬‬

‫عليــه مــا عملتــه بالكامــل‪ ..‬وأن زجاجــات الحليــب قــد‬

‫مألت ثالجتي‪ ...‬فضحك ضحكة صافية‪ .‬ثم قال‪:‬‬

‫معقبا‪ :‬هذا جيد‪...‬‬ ‫قال سميث‬ ‫ً‬

‫فعلت هذا حقيقة؟‬ ‫ ولماذا‬‫َ‬

‫ثم نظر إلى ماري وإلي وهو يقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إذا‬ ‫هل ســتغضب ماري‬‫طلبت من جارنا معلومات‬ ‫ُ‬ ‫تصورنا‬ ‫أكثــر عــن دينــه الذي ّ‬ ‫حد َثنا عنه؟ يبدو لــي أن في ّ‬ ‫عن اإلسالم خط ًأ‪.‬‬

‫قلت لك؛ كنت خائ ًفا على منزلك من السرقة‪.‬‬ ‫ كما ُ‬‫‪ -‬هذا عمل عظيم أشكرك عليه‪.‬‬

‫ســببا فــي كســر الحائــط‬ ‫كانــت حادثــة الزجاجــات ً‬ ‫الجليــدي بينــي وبيــن جــاري‪ ،‬إذ دعانــي إلــى منزلــه أكثر‬

‫قالت‪ :‬بكل سرور‪ ،‬هذا يرجع إليك‪.‬‬

‫ا إنها راهبة في‬ ‫وعرفنــي إلى زوجته ماري قائــ ً‬ ‫مــن مــرة‪ّ ،‬‬

‫نظــرت إلــى تغير وجهها‪ ،‬وصعوبة هــذا األمر عليها‪،‬‬ ‫ُ‬

‫مدرسة القديس يوحنا‪.‬‬

‫فحمدت اهلل تعالى على نعمة اإلســام‪ ،‬ألن تقبل عقيدة‬

‫شــعرت بانقبــاض شــديد فــي نفســي‪ ،‬ال أدري لماذا‪،‬‬

‫ال على النفس‪ .‬ووعدت بإحضار‬ ‫أمرا ســه ً‬ ‫أخرى ليســت ً‬

‫أكون وجها لوجه مع راهب أو راهبة‪ ،‬لم تكن بي رغبة‬

‫فــي اليــوم التالــي وفــي طريــق عودتي مــن الكلية إلى‬

‫ولكــن هــذا ما حــدث‪ ...‬فأنا مــا تعودت طيلــة حياتي أن‬

‫ما طلبه سميث وماري‪.‬‬

‫فــي ذلــك‪ ،‬ولم أضطــر حتى جاء هذا اليــوم‪ ...‬قالت بعد‬

‫عددا من‬ ‫المنزل‪ ،‬مررت على مركز إســامي وأحضرت ً‬

‫ورحبت بي‪:‬‬ ‫حي ْتني ّ‬ ‫أن َّ‬

‫الكتــب المبســطة لإلســام‪ .‬كنت أعتقد أن لــدى المركز‬

‫خيرا أيها األخ العزيز‪.‬‬ ‫ لقد‬‫َ‬ ‫فعلت ً‬

‫يأمرنــا بذلــك‪ ...‬يأمرنــا أن نحتــرم الجــار‪ ،‬ونتعــاون معه‪،‬‬ ‫ونكــف األذى عنــه‪ ،‬ونســاعده بقــدر مــا نســتطيع‪ ...‬لقد‬ ‫خشــيت حقيقــة مــن أن يدخل لص مــن اللصوص بيتكم‬

‫ويسرق ما فيه‪ .‬التفتت زوجته الراهبة إليه قائلة‪:‬‬ ‫‪ -‬إنها غلطتك يا سميث‪.‬‬

‫‪ -‬دعينا من اللوم في مسألة انتهت دون مشكلة‪ ،‬لقد‬

‫نســيت أن أطلــب مــن الشــركة أن تقــف االشــتراك طيلــة‬

‫غيابنا‪ ،‬هذا كل ما في األمر‪.‬‬

‫رحت‬ ‫وحين توقف سيل االتهامات المتبادلة بينهما‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أذكــر مــا أحفظه عن حب الجار والعناية به وإكرامه‪ ،‬مما‬ ‫حــدث فــي عهد الرســول ‪ ‬والقــرون الفاضلــة األولى‪،‬‬

‫وطوال حديثي كنت أحس منهما إصغاء غير عادي شجعني‬

‫علــى االســتمرار‪ ،‬فوجدتهــا فرصــة أن أشــرح لهمــا قــول‬ ‫هلل ال يؤمن‪ ،‬وا ِ‬ ‫هلل ال يؤمن‪ ،‬وا ِ‬ ‫الرسول ‪" :‬وا ِ‬ ‫هلل ال يؤمن"‪،‬‬ ‫تصورتماه‬ ‫وختمــت حديثــي بقولــي‪ :‬وبعــد هــذا فمــا‬ ‫ُ‬ ‫مدهشــا‪ ،‬فإنــه أمــر عادي نمارســه بتلقائيــة وعفوية‪.‬‬ ‫شــيئا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أثــار ذلــك دهشــة الزوجين وبخاصــة مــاري الراهبة التي‬

‫صرخت قائلة‪ :‬أوه‪ ...‬هذا رائع‪ ...‬هذا غير عادي‪ ...‬لقد‬ ‫ْ‬

‫حينما ذهبت وجدت أن أكثر الكتب قد نفد‪ ،‬بل إن نسخ‬

‫ترجمات القرآن الكريم قد نفدت من المراكز اإلسالمية‬ ‫والمســاجد لكثــرة الطلــب عليها‪ ،‬فاســتعرت مــن الكتب‬

‫الخاصــة بالمكتبــة ووعــدت بإعادتها على مســؤوليتي‪...‬‬ ‫قدمتها لجاري وزوجته‪ ،‬وأعطيتهما رقم المركز إذا رغبا‬ ‫ّ‬

‫في معلومات أكثر‪.‬‬

‫بعــد فتــرة‪ ،‬كان أحــد األصدقاء فــي المركز يتصل بي‬

‫كل مــن ســميث ومــاري‬ ‫ويقــول إن لدينــا حفلــ َة‬ ‫إســام ٍّ‬ ‫ِ‬

‫حدثتنــا عنهما‪ ،‬ونريدك أن تســاعدنا في‬ ‫جار ْيــك اللذيــن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إعداد الحفلة وتوفير ما نحتاج إليه‪ ،‬فأنت تعرف ظروف‬ ‫المركــز‪ .‬دمعــت عينــاي مــن الفرحــة‪ ،‬شــعرت بأطيــاف‬ ‫الســعادة تحــوم حولــي‪ ،‬اعتقدت أنني محظــوظ أن أكون‬

‫شيئا‬ ‫سببا في الدعوة إلى اهلل‪ ،‬رغم أني لم أبذل في ذلك ً‬ ‫ً‬

‫جدا‪ ،‬انتهى بتوفيق اهلل‬ ‫ُيذكر‪ ،‬لقد قمت بأمر بسيط‪ ،‬بسيط ًّ‬ ‫إلى هذه الغاية النبيلة‪.‬‬

‫قلت له‪ :‬سوف أتكفل أنا بكل شيء في هذه الحفلة‪،‬‬

‫أعد لهما‬ ‫ســوف أســتأذن من الكلية ذلك اليوم‪ ،‬وســوف ّ‬

‫بنفسي حفلة مناسبة‪.‬‬

‫(*) عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫قيــل مــن يا رســول اهلل؟ قــال‪" :‬من ال يأمن جــاره بوائقه"‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪ -‬هــذا واجبــي‪ ...‬إن الجــار لــه حق عندنــا‪ ،‬ألن ديننا‬

‫مكتبة غنية بكتب التعريف باإلسالم والدعوة إليه‪ ،‬لكني‬

‫‪55‬‬


‫قصة‬

‫د‪ .‬عبد الله بن صالح العريني*‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫زجاجة حليب‬

‫‪54‬‬

‫لفــت نظــري أن زجاجــات الحليب التي‬ ‫تضعها شــركة الحليب كل يوم عند باب‬ ‫جــاري‪ ،‬بدأت تتكاثر لدرجــة الفتة لنظر‬ ‫المارة‪ .‬شــعرت بحيرة شــديدة‪ ،‬ألن بقاء تلك الزجاجات‬ ‫ّ‬ ‫دائمــا أمام بــاب المنزل‪ ،‬يعني دعوة ألي لص‬ ‫ووجودهــا‬ ‫ً‬ ‫ال غيبة صاحبه عنه‪.‬‬ ‫من اللصوص لدخول المنزل مستغ ًّ‬ ‫مضت األيام على خير‪ ،‬وســتر اهلل المنزل‪ ،‬ولكن من‬ ‫ذا يضمن أنها لن تكون في عين أحد المجرمين فينتهزها‬ ‫فرصــة ويســرق مــن البيــت ما شــاء؟! فقد غــدت الفرصة‬ ‫سانحة أكثر من أي وقت سابق‪.‬‬ ‫كنت أحاول أن أطرد مســألة التفكير في ما ســيحدث‬ ‫لمنــزل جــاري‪ ،‬ومــا شــأني أنــا بالموضــوع من أولــه إلى‬ ‫آخــره؟ والرجــل ال يعرفنــي وال أعرفــه‪ ،‬وحتــى لو ُســرق‬ ‫أبــدا‪ ...‬ولكــن ســرعان ما‬ ‫شــيئا ً‬ ‫منزلــه فلــن يضرنــي هــذا ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫شيئا‪،‬‬ ‫أستبعد ذلك من ذهني‪ ،‬وأرى من واجبي أن أعمل ً‬ ‫شــخصا ال أعرفه‪ ،‬ولكنه على األقل‬ ‫فليكــن ذلك الرجل‬ ‫ً‬ ‫ووضعتها عندي‪،‬‬ ‫جــاري‪ .‬ثــم إن أخذت هذه الزجاجات‬ ‫ُ‬ ‫شــيئا‪ ،‬فإن جاء وهي جيدة‪ ،‬اســتفاد منها‪ ،‬وإن‬ ‫لن أخســر ً‬ ‫جاء وهي منتهية الصالحية‪ ،‬فال ذنب لي في الموضوع‪.‬‬ ‫ومضى نحو أســبوعين‪ ،‬وأنــا آخذ زجاجات الحليب‬ ‫مــن أمــام منــزل جــاري وأضعهــا عنــدي‪ ...‬ولكــن عندما‬ ‫أخذت أنتقي‬ ‫بــدأت تتكــدس في ثالجة منزلــي الصغيرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التــي انتهــت مدة صالحيتها لكي يتســع المــكان لغيرها‪.‬‬ ‫لقــد تضايقــت زوجتــي وأبنائــي بعــض الشــيء‪ ،‬إال أننــي‬ ‫شــعرت أنه البد من إكمال المشــوار‪ ،‬فأخبرتهم الحقيقة‬ ‫ال في هــذا العمل‬ ‫التــي ال مفــر منهــا‪ ،‬وهــي أنني جــاد فع ً‬ ‫حتى أصل إلى ما أريد‪.‬‬ ‫وحيــن عــاد جــاري إلى منزلــه ذهبت إليــه وقصصت‬


‫على أنفســكم فحســب‪ ،‬بل خو ًفا على ّأمتكم‪ ،‬هذه األمة‬

‫التي تشكلون فيها قوة دافعة إلى األمام‪ ..‬إ ّنهم روح األمة‬ ‫اإلبداعيــة‪ ،‬وعقلهــا المفكــر‪ ..‬فمــن دونهــم يخشــى على‬

‫الضمائر من االنحالل‪ ،‬وعلى العقول من الضياع‪ ،‬وعلى‬ ‫األخالقية العالية من التدهور واالنحطاط‪ ..‬ال أدري أين‬

‫نجد العظمة الحقيقية في هذه األمة إذا نحن شطبنا على‬

‫وجودهــم‪ ،‬وعملنــا علــى انحاللهــم وت َف ّككهــم؟! فكيــان‬ ‫هــذه األمــة "روحــي" ســواء أردنــا ذلــك أم لــم نــرد‪ ،‬فهو‬

‫واقــع يــكاد يفقأ كل عين ال تبصر هذه الحقيقة‪ ..‬فهؤالء‬

‫وشــبابا وفتيا ًنــا‪ -‬انعــكاس‬ ‫ونســاء‬ ‫ال‬ ‫أبنــاء الخدمــة ‪-‬رجــا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫خلــت األمة‬ ‫لهــذا الكيــان الروحــي‪ ،‬وامتــداد لــه‪ ،‬فــإذا ما‬ ‫ْ‬ ‫من مرآة ينعكس عليها شــيء من كيانها األصيل اختفت‬

‫ذاتهــا وضاعــت هويتها‪ ،‬وذابت بين أمــم األرض‪ ..‬فهذه‬

‫"الخدمة" غدت اليوم قضية األمة األساس‪ ،‬وهي حريصة‬ ‫عليهــا حرصهــا على روحها‪ ،‬ألنها شــيء انبثق من أعمق‬

‫عمــودا‬ ‫أعمــاق وجدانهــا‪ ،‬وهــي تشــكل بفكرهــا الرشــيد‬ ‫ً‬

‫وغدا‪...‬‬ ‫مــن أعمــدة البنــاء الحضاري لهــذا الوطن‬ ‫اليــوم ً‬ ‫َ‬ ‫إنهــا نبــض الحقيقــة المنســاب صداه في قلب كل إنســان‬

‫وفي قلب كل عا َل ٍم من عوالم األكوان‪ ..‬فأقصى طاقات‬

‫الحيــاة اإليمانيــة يمكــن أن نجد ما يدل عليهــا في أبنائها‬ ‫وهم يمارسون أبسط أعمالهم المهنية والحرفية‪.‬‬

‫إن دالئــل تبــدل روحــي نلمحــه في أبناء هــذا الوطن‬ ‫ّ‬ ‫بفضــل جهــود هــؤالء األبنــاء‪ ..‬إنهــم روح َج ّــوال ُي ِظــلُّ‬ ‫النــاس في أســواقهم ومكاتبهم ومدارســهم وجامعاتهم‪،‬‬

‫وفي كل مكان من أرض الوطن‪ ..‬إنهم يعيشون للخلود‪،‬‬ ‫ويعملــون فــي ســبيل الخلــود‪ ،‬فــا يمكــن لــكل شــرور‬ ‫األرض مجتمعــة أن تحرفهــم عــن هدفهــم‪ ،‬أو تمنعهــم‬ ‫حقهم في العمل من أجل ذلك‪.‬‬

‫اذهبوا يا "أبناء الخدمة" حيثما شــئتم وأنتم محاطون‬

‫بالنــور والحكمــة والعقــل والبصيــرة‪ ،‬فأنتــم القــوة التــي‬

‫ســتوطد أركان الحقيقــة الكبــرى علــى هــذه األرض‪،‬‬ ‫جميعــا ثم تتجــاوز حدود‬ ‫حيــث تتالقــى تخــوم األفــكار‬ ‫ً‬ ‫المتناقضــات لتتحــد بعد ذلك في فكــر واحد هو الطريق‬

‫إلى الخلود وإلى اهلل تعالى‪.‬‬ ‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪53‬‬

‫طارِقو األبواب‬

‫طارق األبواب‪ ،‬يا َ‬ ‫يا له ًبا يف الروح‪ ،‬يا َ‬ ‫خارق األسباب‪!..‬‬ ‫متى يأيت النداء‪ ،‬و ُت َفـ َّت ُح يف وجوهنا األبواب‪..‬؟‬ ‫"هل ّموا ادخلوا‪،‬‬ ‫و ِمن وراء الغيب نُنا َدى‪َ :‬‬ ‫فقد ُأذن لكم‪...‬‬ ‫ففزتم بالقبول‪ ،‬وحظيتم باملثول‪"!..‬‬ ‫ويف اآلذان تتساكب اللحون‪،‬‬ ‫واألغاين ال ِعذاب؛ فتـرقص القلوب‪،‬‬ ‫عىل ألحان الخلود‪...‬‬ ‫***‬


‫أدب‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫أبناء الخدمة‬ ‫ــون َعلَــى‬ ‫يــن َي ْم ُش َ‬ ‫الر ْح َم ِ‬ ‫‪‬وعِ َب ُ‬ ‫ــن الَّذِ َ‬ ‫َ‬ ‫ــاد َّ‬ ‫ا َ‬ ‫اهِ‬ ‫ُــون‬ ‫ل‬ ‫ْج‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ــم‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫خ‬ ‫َا‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ــا‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫اطَ‬ ‫َ‬ ‫أل ْ ِ َ ْ ً َ ِ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ــم‬ ‫يــن َي ِبي ُت َ‬ ‫َقالُــوا َســا ًَما ‪َ ‬والَّذِ َ‬ ‫ــون ل َِر ِّب ِه ْ‬

‫اب‬ ‫ين َي ُقول َ‬ ‫ــج ًدا َوق َِي ًامــا ‪َ ‬والَّذِ َ‬ ‫اص ِر ْف َع َّنا َعذَ َ‬ ‫ُون َر َّب َنــا ْ‬ ‫ُس َّ‬ ‫ان َغ َر ًاما‪(‬الفرقان‪.)65-63:‬‬ ‫َج َه َّن َم ِإ َّن َعذَ َاب َها َك َ‬ ‫قــد ال نتجــاوز الحقيقــة إذا قلنــا إن "رجــال الخدمــة"‬

‫تع ّلمــوا مــن "عبــاد الرحمــن" ومــن صفاتهــم كمــا وردت‬ ‫فــي اآليــات الكريمــة اآلنفــة‪ ،‬حتــى ليمكننا القــول ‪-‬دون‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫مبالغة‪ -‬إنهم امتداد لهم وانعكاس عنهم‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫مالئكيون‪..‬‬ ‫هو ًنا على األرض تمشــون‪ ..‬مسالمون‪..‬‬ ‫ّ‬

‫تعنفون وال تصخبون‪ ..‬على ســهام الغدر عصيون‪ ،‬وعن‬ ‫قــوارص الــكالم تصمــون‪ ..‬عــن هويتكم ال تنســلخون‪..‬‬

‫بأنفســكم تســمون‪ ..‬وبأخالقكــم تتعالــون‪ ..‬واعــون غيــر‬

‫أبدا وال تسفلون‪!..‬‬ ‫ساهين‪ ..‬متيقظون ال تنامون‪ ..‬تعلون‪ً ،‬‬ ‫تهــدد‪،‬‬ ‫حتــى إذا بكــم األخطــار حاقــت‪ ،‬ووجودكــم َّ‬

‫ولبقائكــم‬ ‫يــراد لــه الفنــاء؛ تحــرك قلقكــم‪ ،‬وتصارخــت‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫شــم ْرتم‪،‬‬ ‫أرواحكــم‪ ،‬وتحافــزت قواكم‪ ،‬وعن ســواعدكم َّ‬ ‫وعلــى الحفــاظ علــى شــرفكم تداعيتــم‪..‬‬ ‫فاجتمعــت‬ ‫ْ‬ ‫الســواعد‪،‬‬ ‫وتشــابكت األيــدي‪ ،‬وتســاندت األكتــاف‪،‬‬ ‫ْ‬

‫وتزاحمــت المناكــب‪ ،‬وتدفقــت النخــوات‪ ،‬واشــتدت‬

‫وترابها ال ُت ِ‬ ‫وأحدا‬ ‫وجعون‪..‬‬ ‫ظهر األرض ال تخدشون‪..‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫العزائــم‪ ،‬وقويــت اإلرادات‪ ،‬وتفتحــت ميازيــب العقول‪،‬‬

‫ســاما‬ ‫أقدامكــم تحــاذرون‪ ..‬وإذا خاطبكــم الجاهلــون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تنبهــون‪ ..‬ال‬ ‫تهبــون‪ِّ ،‬‬ ‫والنيــام ّ‬ ‫تقولــون‪ ..‬كنســائم الفجــر ّ‬

‫حيث ال تعلمون‪!..‬‬ ‫ال تؤ َتون‪ ،‬من‬ ‫تنون‪ ،‬وتجهدون أ ّ‬ ‫ُ‬

‫أن تطأها‬ ‫والدواب ْ‬ ‫من خلق اهلل ال ْتؤذون‪ ..‬وحتى الهوام ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واجتمعــت المــدارك‪ ،‬ووقفتم على الثغور‪ ،‬تحرســون ال‬ ‫ْ‬ ‫وأنفســكم مــن الفناء والــزوال تحصنــون‪ ،‬ليس خو ًفا‬


‫التــوراة وقــال له "أمتهوكــون فيها يا ابن الخطاب‪ ،‬والذي‬

‫وراء سعادة اإلنسان‪.‬‬

‫شــيء فيخبروكــم بحــق فتكذبــوا بــه‪ ،‬أو بباطــل فتصدقوا‬

‫وفلســفة المدنيــة الغربيــة ذاتهــا‪ ،‬فاألســاس الــذي قامــت‬

‫نفســي بيده‪ ،‬لقد جئتكم بها بيضاء نقية‪ ،‬ال تســألوهم عن‬

‫هنــا نقــول إن كل هــذه الظواهــر‪ ،‬ناشــئة مــن طبيعــة‬

‫حيا‪ ،‬ما وســعه‬ ‫به‪ ،‬والذي نفســي بيده‪ ،‬لو أن موســى كان ًّ‬

‫عليــه هــذه المدنية أســاس مادي بعيد عــن البعد الروحي‬

‫إال أن يتبعنــي" (رواه اإلمــام أحمــد)‪ ،‬لهــذا اقتصــر المســلمون‬

‫الــذي هو روح الحضارة‪ .‬فــإذا كانت المجتمعات‪ ،‬تمثل‬

‫في تشريعاتهم وقوانينهم على الشريعة اإلسالمية‪ .‬وعلى‬

‫فيها جمال البنية وجمال الطبيعة وجمال اللباس وجمال‬

‫واحدا من القانون الروماني رغم‬ ‫نصا‬ ‫ً‬ ‫فإنهم لم يترجموا ًّ‬

‫الخلق‪.‬‬ ‫جمال الروح وجمال الذوق الفطري وجمال ُ‬

‫الرغــم مــن أنهــم ترجمــوا الكتــب األجنبيــة إلــى العربية‪،‬‬

‫أيضــا‪ ،‬فإنها ف َقدت‬ ‫المــدن وجمــال البيت وجمال المرأة ً‬

‫شهرته في ذلك التاريخ‪ ،‬ال للعمل وال العلم به‪.‬‬

‫فالحضــارة البــد أن يتحقــق فيهــا التوازن بيــن الحياة‬

‫فمــا يســمى بالحضــارة الغربية هو فــي الواقع مدنية‪،‬‬

‫الروحيــة والحيــاة المادية‪ ،‬وهما طرفــا المعادلة في معنى‬

‫ألنهــا اهتمــت بالجانــب المــادي فــي اإلنســان وغفلــت‬

‫الحضــارة‪ ،‬وال يمكــن أن يتحقــق هــذا إال فــي المجتمع‬

‫عــن الجانــب الروحــي‪ ،‬واختلــت فيهــا موازيــن القيــم‪،‬‬

‫المســلم الــذي يملــك عقيــدة هــي أســمى العقائــد‪ ،‬وهي‬

‫فحضــرت الوســيلة وغابــت الغايــة‪ .‬فالتطــور والتقدم هو‬

‫األســاس الرئيســي للحضــارة بمفهومهــا الحقيقــي‪ ،‬ألنها‬

‫وسيلة لتوحيد اهلل تعالى وعبادته حق العبادة‪ ،‬وهي الغاية‬

‫عقيــدة روحانيــة إيجابيــة بنــاءة‪ ،‬تنقــل اإلنســان مــن ُرقــي‬

‫مــن وجــود اإلنســان وبنــاء الحضــارة علــى األرض‪ ،‬وقد‬

‫تحدث‬ ‫المعاصر‪ ،‬كما يشهد علماء الغرب أنفسهم‪ ،‬وقد ّ‬ ‫"ألكســيس كاريــل" فــي كتابه "اإلنســان ذلــك المجهول"‬ ‫عــن هــذه الوضعيــة بقولــه "إن الحضــارة لــم تفلــح فــي‬

‫خلق بيئة مناســبة للنشــاط العقلي‪ ،‬وترجع القيمة العقلية‬ ‫والروحية المنخفضة ألغلب بني اإلنســان إلى حد كبير‪،‬‬ ‫إلــى النقائــص الموجــــودة في جـــوهم الســيكولوجي‪ ،‬إذ‬ ‫إن تفــوق المــادة ومبــادئ ديــن الصناعــة حطمــت الثقافة‬

‫والجمال واألخالق"‪.‬‬

‫فرغــم التطــور الهائــل فــي العلــوم والتكنولوجيــا‬

‫واالختراعــات التــي يعتبرها البعض مقومــات الحضارة‪،‬‬ ‫نــرى اإلنســان يعيــش حيــاة قلقــة بشــكل عــام‪ ،‬ويقــف‬

‫علمــاء النفــس واالجتمــاع واألطباء حيارى تجــاه ازدياد‬

‫أعــداد المصابيــن باألمــراض النفســية والعصبيــة‪ ،‬وكلمــا‬

‫تيســرت وســائل الرفاهيــة لإلنســان‪ ،‬كثــرت حــوادث‬

‫اإلحصائيــات‪ .‬إذن فمــا الجــواب للســؤال الــذي يطــرح‬ ‫نفســه علــى اإلخصائيين من علماء االجتماع والفالســفة‬

‫جوابــا‪ .‬الجــواب‬ ‫واألطبــاء وغيرهــم‪ .‬إنهــم ال يجــدون‬ ‫ً‬ ‫يتمثــل في تحديد مقومات الحضارة والســر الذي يكمن‬

‫ومــن جهل إلى علــم‪ .‬ونحن أقدر على التحكم في زِ مام‬

‫الحضــارة فــي أي عصــر من العصور‪ ،‬ألننــا لن نتخذ من‬

‫الوصول إلى الفضاء وسيلة لالستعالء والزهو والتجسس‬ ‫علــى اآلخرين‪ ،‬ولن نتخذ مــن الصواريخ عابرة القارات‬

‫وســيلة لتهديــد األمــم والشــعوب ونهــب خيراتهــا‪ ،‬ولــن‬ ‫نتخذ من وسائل اإلعالم وسيلة للتضليل والسيطرة على‬ ‫الشــعوب‪ .‬فحضارتنــا‬ ‫تصــدر الســعادة للشــعوب والخير‬ ‫ِّ‬

‫‪‬ك ْن ُت ْم‬ ‫والرحمة واألخوة والتعايش السلمي‪ ،‬قال تعالى‪ُ :‬‬ ‫ون بِا ْلم ْعر ِ‬ ‫َخيــر ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ ْ‬ ‫وف َو َت ْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫اس َتأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ان َخ ْي ًرا‬ ‫آم َن أ ْه ُل ا ْلك َت ِ‬ ‫ــاب َل َك َ‬ ‫ا ْل ُم ْن َك ِــر َو ُت ْؤم ُن َ‬ ‫ــون بِــاهلل َو َل ْــو َ‬ ‫ون َو َأ ْك َثر ُهم ا ْل َف ِ‬ ‫ون‪(‬ال عمران‪.)110:‬‬ ‫اس ُق َ‬ ‫َل ُه ْم ِم ْن ُه ُم ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫(*) باحث في الدراسات اإلسالمية واإلعجاز ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪)1‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫المقدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬دار الكتاب‪ ،‬بيروت ‪ ،2005‬ص‪.169:‬‬ ‫قصة الحضارة‪ ،‬وول ديورانت‪ ،‬ص‪.3:‬‬

‫(‪ )3‬الحضارة اإلنسانية‪ ،‬عمر فروخ‪ ،‬دار لبنان‪ ،‬بيروت ‪ ،1983‬ط‪ ،3‬ص‪.8:‬‬ ‫(‪ )4‬تاريخ الخلفاء‪ ،‬السيوطي‪ ،‬ص‪.157:‬‬

‫(‪ )5‬مفاهيــم النهضــة اإلســامية‪ ،‬نجــاح يوســف‪ ،‬دار اإلســراء‪ ،‬األردن‬ ‫‪ ،2004‬ط‪ ،1‬ص‪.218:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫االنتحار في الشعوب التي تعتبر متحضرة كما تدل على‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فشــلت هــذه المدنيــة في تنظيم حيــاة المجتمع البشــري‬

‫إلــى ُرقــي‪ ،‬ومن كمال إلى كمال‪ ،‬ومن تخلف إلى تقدم‪،‬‬

‫‪51‬‬


‫فــان‪ .‬كل مفكــر يقتــدي بمفكــر آخــر ســابق علــى زمنه‪،‬‬

‫وازدهارها"(‪.)2‬‬

‫وعند المفكر مالك بن نبي أن الحضارة‪ :‬فعل تركيبي‬

‫شــيئا‬ ‫وكل مختــرع هــو فــي الحقيقة شــخص يزيد في آلة ً‬

‫اجتماعيــا‪ ،‬والتــراب باعتبــاره ضــرورة فنيــة معينــة‪،‬‬ ‫كائنــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫ذات العجالت‪ ،‬والفضل يرجع إلى ذلك اإلنسان الذي‬

‫جديدا‪ .‬فالطائرة تطورت من السيارة‪ ،‬والسيارة من الناقلة‬ ‫ً‬

‫قوامــه "اإلنســان‪ ،‬والتــراب‪ ،‬والزمــن"‪ ،‬فاإلنســان باعتباره‬

‫خطــر لــه في ســاعة من ظلمــات التاريخ في بــاد ما بين‬

‫والزمــن بإدماجه ضمن العمليــات االقتصادية والصناعية‬

‫النهرين‪ ،‬أن يقطع من جذع شــجرة شــبه دوالب يدحرج‬

‫واالجتماعية‪ ،‬ومن هذه العناصر الثالثة تتحقق الحضارة‬

‫ال احتاج إلى نقلها من مكان إلى آخر ‪.‬‬ ‫عليه أحما ً‬

‫عنــد ابــن نبي‪ ،‬فيعتقد أن الحضارة هي مجموع الشــروط‬

‫(‪)3‬‬

‫فالمدنيــة الناتجــة عــن العلــم يجــوز أخذهــا‪ ،‬كعلــوم‬

‫األخالقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يتقدم‪.‬‬

‫الفيزيــاء والكيميــاء والطــب والصيدلــة والرياضيــات‬

‫ويــرى ســيد قطــب أن اإلســام هــو الحضــارة‪ ،‬وال‬

‫والهندســة والفلك والحاســوب لعموم األدلة التي أمرت‬

‫يمكن أن يطلق على أي جهد مرتبط بغير منهج اإلسالم‬

‫بالعلــم‪ ،‬وكذلــك المدنيــة الناتجة عن الصناعة‪ ،‬كوســائل‬

‫مصطلح الحضارة‪.‬‬

‫وضمن هذه المفاهيم تبدو أفكار كل من ابن خلدون‪،‬‬

‫االتصــال ووســائل المواصــات واألجهــزة الكهربائيــة‬

‫فكرة هامة هي أســاس الحضارة‪ ،‬وهي اإليمان وضرورة‬

‫الصحابــة ‪ ‬إلــى اليمــن ليتعلمــا صناعــة الســيوف‪ ،‬كمــا‬

‫وصناعــة األســلحة‪ ...‬فقــد بعــث الرســول ‪ ‬اثنيــن مــن‬

‫ومالــك بــن نبــي‪ ،‬وديورانــت‪ ،‬وســيد قطــب‪ ،‬متقاربــة في‬

‫كان عليــه الصــاة والســام يســتخدم الدنانيــر والدراهــم‬

‫حصينا‬ ‫بناء‬ ‫ً‬ ‫توافــر العقيــدة التي تحفز على بناء الحضــارة ً‬ ‫لهــا المجتمــع المتحضــر‪ ،‬وتتباعــد أفكارهــم فــي ماهيــة‬

‫الحضارة وعواملها‪.‬‬

‫المدنيــة والحضــارة أن المدنيــة تتعلــق‬ ‫والفــرق بيــن‬ ‫ّ‬

‫بالجانــب المــادي فــي اإلنســان‪ ،‬وهــي األشــكال المادية‬

‫المحسوســة‪ ،‬مثــل اختــراع القطــار والطائرة والحاســوب‬ ‫معينــة‪،‬‬ ‫والســيارة وغيرهــا‪ .‬فالمدنيــة ليســت خاصــه بأمــة ّ‬

‫فاليهودي والمسلم والنصراني وغيرهم‪ ،‬كلهم يحتاجون‬ ‫يحرم اإلســام‬ ‫إلــى المخترعــات والعلــوم الطبيعية‪ .‬ولم ّ‬ ‫أخذ هذه العلوم من أي مصدر كان‪ ،‬ألن العلوم صنعت‬

‫بمجهود كل البشــر من الســابقين والمحدثين من العرب‬

‫وغيــر العــرب‪ .‬أمــا الحضــارة فهــي خاصة‪ ،‬فعندمــا نقول‬ ‫الحضــارة اإلســامية‪ ،‬فهــي مبنيــة علــى مبــادئ اإلســام‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫وأركانــه وعقيدتــه‪ ،‬وال يمكــن أن يشــترك مــع اآلخر في‬

‫‪50‬‬

‫هــذه المبــادئ التــي تخصه‪ ،‬فالحضــارة خاصــة والمدنية‬

‫عامة‪.‬‬

‫ومن المدارك الخاطئة في تاريخ الحضارة ما يزعمه‬

‫نفر من الناس من أن فال ًنا أول من صنع كذا‪ ،‬وأن فال ًنا‬ ‫آخــر أول مــن اختــرع الشــيء الفالنــي إلى غيــر ذلك‪ .‬إن‬

‫تطــور ابتــداع يقع عليــه فالن أو‬ ‫الحضــارات والثقافــات ُّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ورصينــا‪ ،‬يقــف في وجه الهــزات العنيفة التي قد يتعرض‬ ‫ً‬

‫الفارســية والرومانيــة‪ ،‬وبقي المســلمون علــى هذا الحال‬

‫حتــى ضــرب عبد الملك بن مــروان دنانير كتب فيها "قل‬

‫هــو اهلل أحــد" وفــي الوجــه اآلخــر "ال إلــه إال اهلل" وطوقه‬

‫"ضرب بمدينة كذا" وكتب خارج‬ ‫بطوق فضة وكتب فيه ُ‬ ‫الطوق "محمد رسول اهلل أرسله بالهدى ودين الحق"(‪.)4‬‬

‫كمــا يبــاح أخــذ المدنيــة الناتجة عن الحاجــة كالمالبس‪،‬‬ ‫فمالبــس الرجــال أو مالبــس المــرأة داخــل بيتهــا تعتمــد‬ ‫على الحاجة‪ ،‬فالرجال في السعودية والخليج يحتاجون‬

‫إلــى لبس الدشــداس الرتفاع درجة الحــرارة هناك‪ ،‬بينما‬

‫ال يســتطيع المســلم األوروبــي أو األمريكــي فــي بــاد‬ ‫الصقيــع والضبــاب إال أن يلبس البنطــال لتدني درجات‬ ‫لباســا‬ ‫الحــرارة هنــاك‪ ،‬ولهــذا لم يحدد اإلســام للرجال ً‬ ‫معينــا اللهم إال اشــتراط ســتر العورة‪ ،‬والمــرأة كذلك لم‬ ‫ً‬

‫يحــدد لهــا اإلســام شــكل اللبــاس الــذي تلبســه‪ ،‬ولكنه‬

‫ســاترا للعــورة‪ ،‬وأن يكون‬ ‫شــروطا لــه كأن يكون‬ ‫وضــع‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فضفاضــا ال يصــف وال يشــف‬ ‫ســاترا لــكل الجســم عدا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوجه والكفين خارج البيت(‪.)5‬‬

‫أمــا المدنيــة الناتجــة عــن الحضــارة غيــر اإلســامية‬

‫فينبغــي عــدم أخــذ تشــريعاتها وقوانينهــا‪ ،‬وقــد غضــب‬

‫الرســول ‪ ‬عندمــا رأى عمــر بــن الخطــاب ‪ ‬يقــرأ في‬


‫ثقافة وفن‬

‫د‪ .‬العطري بن عزوز*‬ ‫‪İmanın kültürü ve ilmin medeniyeti‬‬

‫حضارة اإليمان ومدنية العلم‬ ‫تعد الحضارة من أكثر المفاهيم التي ثار‬ ‫حولها الجدل بشأن تعريفها وبيان معناها‬

‫وتحديد مجال استعمالها ومداها‪ ،‬لتعدد‬

‫اآلراء واختالف وجهات النظر في توضيح مصطلحها‪.‬‬

‫فعرفهــا ابــن خلــدون بأنهــا "تفنن في التــرف وإحكام‬ ‫ّ‬

‫الصنائــع المســتعملة فــي وجوهه ومذاهبه مــن المطابخ‬ ‫والمالبــس والمبانــي والفــرش واألبنيــة وســائر عوائــد‬ ‫وعرفهــا "ول ديورانــت" (‪ )Will Durant‬مؤلــف "قصــة‬ ‫ّ‬

‫الروحية والحياة املاديــة‪ ،‬وهام طريف املعادلة‬ ‫يف معنــى الحضارة‪ ،‬وال ميكــن أن يتحقق هذا إال‬ ‫يف املجتمع املســلم الذي ميلــك عقيدة هي‬ ‫أســمى العقائد‪ ،‬وهي األساس الرئييس للحضارة‬ ‫مبفهومها الحقيقي‪.‬‬

‫والتقاليــد الخ ُلقيــة‪ ،‬ومتابعــة العلــوم والفنــون‪ .‬وهــي‬ ‫تبــدأ حيــث ينتهــي االضطــراب والقلــق‪ ،‬ألنــه إذا مــا أ ِم َن‬

‫الحضارة" بقوله‪" :‬الحضارة نظام اجتماعي يعين اإلنسان‬

‫اإلنســان مــن الخــوف تحررت في نفســه دوافــع التطلع‬

‫من عناصر أربعة‪ :‬الموارد االقتصادية‪ ،‬والنظم السياسية‪،‬‬

‫للمضــي فــي طريقــه إلى فهــم الحياة‬ ‫الطبيعيــة تســتنهضه ُ‬

‫علــى الزيــادة من إنتاجــه الثقافي‪ ،‬وإنما تتألــف الحضارة‬

‫وعوامــل اإلبــداع واإلنشــاء‪ ،‬وبعدئــذ ال تنفــك الحوافــز‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫المنزل وأحواله"(‪.)1‬‬

‫الحضارة البــد أن يتحقق فيها التــوازن بني الحياة‬

‫‪49‬‬


‫جيــدا وطبقوها‬ ‫بعــض النظريــات عــن اليونــان وفهموهــا‬ ‫ً‬

‫‪ -1‬توافــر الجــو المناســب لعمــل هــؤالء العلمــاء‪،‬‬

‫على حاالت كثيرة مختلفة‪ ،‬ثم أنشؤوا من ذلك نظريات‬

‫مــن رعايــة الحــكام أو الخلفاء لهم وإلى اســتقرار الحياة‬

‫جديــدة وبحو ًثــا مبتكرة‪ ،‬فهم بذلك قد أســدوا إلى العلم‬

‫السياسية‪.‬‬

‫خدمــات ال تقل عن الخدمــات التي أتت من مجهودات‬

‫‪ -2‬عمل هؤالء العلماء بشــكل جماعي‪ ،‬مما ســاعد‬

‫نيوتن وفاراداي ورونتجن وغيرهم‪.‬‬

‫في انتشار هذين العلمين وتوارثهما‪.‬‬

‫ومــن أعــام الفيزيــاء نجــد ابــن الهيثــم (ت ‪430‬هـ)‪:‬‬

‫‪ -3‬حاجة المجتمع المسلم إلى الفلك والرياضيات‬

‫لقــب ببطليمــوس الثانــي‪ ،‬وكان إلى جانــب أفذاذ آخرين‬

‫كأدوات لحــل المشــكالت الســائدة؛ مثــل المواريــث‪،‬‬

‫كالبيرونــي‪ ،‬وابــن ســينا‪ ،‬وهــو الــذي اســتحدث آراء مــن‬

‫ورصد أهلة الشهور القمرية‪.‬‬

‫الفكر العلمي‪ ،‬ومن أهم مؤلفاته‪:‬‬

‫‪ -‬لــه فــي البصريــات مــا يقــرب مــن أربعــة وعشــرين‬

‫محدودا‬ ‫أمــا الفيزيــاء والكيميــاء‪ ،‬فعــدد العلمــاء كان‬ ‫ً‬

‫‪ -‬كتــاب المناظــر الــذي يتضمــن آراء مبتكــرة جزئيــة‬

‫‪ -1‬عامــل خارجــي يتمثــل فــي الظــروف المحيطــة‬

‫األســاس لهذا العلم حتى القرن الســابع عشــر الميالدي‬

‫يورث‬ ‫‪ -2‬عامــل ذاتي يتمثل في العمل الفردي‪ ،‬فلم َّ‬

‫ويرجع ذلك إلى‪:‬‬

‫موضوعا بين كتاب ورسالة ومقالة‪.‬‬ ‫ً‬

‫في علم الضوء‪ ،‬وهو في سبعة أجزاء‪ ،‬وقد ظل المرجع‬

‫بالعالم كعدم االستقرار وعدم توافر اإلمكانيات‪.‬‬

‫بعد ترجمته إلى الالتينية‪.‬‬

‫المحرقة بالقطوع والكرة المحرقة‪.‬‬

‫‪ -4‬توزيع العلماء المسلمين في التخصصات العلمية‬

‫من خالل إحصائية واضحة‪ ،‬استطعنا معرفة عدد العلماء‬

‫نســبيا فــي الفلك والعلوم الطبيعيــة للفترة بين‬ ‫المســلمين‬ ‫ًّ‬

‫القرنيــن األول والتاســع الهجرييــن‪ ،‬كمــا هــو مبيــن فــي‬ ‫المخطط‪.‬‬

‫ونســتدل بذلــك علــى كثــرة الفلكيــن والرياضييــن‬

‫المســلمين فــي الحضــارة اإلســامية العربية‪ ،‬وهــذا يدل‬

‫على اســتمرار هذيــن العلمين وتطورهمــا‪ ،‬ويرجع ذلك‬

‫إلى ثالثة أسباب رئيسية‪:‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫‪9‬‬

‫‪48‬‬

‫‪6‬‬

‫‪3‬‬

‫‪9‬‬

‫‪8‬‬

‫‪7‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫االستنتاج‬

‫• توارث الحضارات يسهم في ازدهار العلوم وتطورها‪.‬‬ ‫• يعتبــر اإلســام مــن أهــم المؤثــرات التي أســهمت في‬ ‫ازدهار الحضارة اإلسالمية العربية‪.‬‬

‫• ظهــرت إبداعــات المســلمين وابتكاراتهــم فــي شــتى‬ ‫العلوم‪.‬‬ ‫• ِلنجاح مشــاريع البحوث العلمية‪ ،‬البد لها من التكفل‬ ‫المعنــوي والمادي‪ ،‬وهذا ما نلمســه مــن خالل اهتمام‬ ‫الحــكام أو الخلفــاء المســلمين بالعلمــاء والتكفــل‬ ‫بأبحاثهم‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫‪6‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪ -‬مقــاالت فــي المرايــا المحرقــة بالدوائــر والمرايــا‬

‫هذا العلم إلى غيره وبالطبع لم يتطور‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫‪4‬‬

‫‪3‬‬

‫‪2‬‬

‫‪1‬‬

‫• تعتبــر الترجمــة من وإلى العربية حلقــة مهمة في تطور‬ ‫العلوم وتناقلها‪.‬‬ ‫• العمــل الجماعــي فــي البحــوث يســهم فــي حفظهــا‬ ‫وتناقلها‪.‬‬ ‫• وجــوب إنشــاء فرق بحثية تهتهــم بإبراز تراثنــا العلمي‬ ‫وإخراجه إلى النور‪.‬‬

‫‪0‬‬

‫(*) أستاذ مشارك في جامعة برليس ‪ /‬ماليزيا‪.‬‬


‫اجتهد علامء املســلمني من خالل البحث والتجربة‬

‫اســتخدامها األول فــي األقطــار المشــرقية وصــار يطلــق‬

‫واالنفتاح عىل معــارف الحضارات األخرى (كالفرس‬

‫عليهــا األرقــام الهنديــة‪ ،‬بينما عرفت األرقــام الغبارية في‬

‫والهند واليونان) يف إثراء ما تحويه هذه العلوم‬

‫أقطــار المغــرب العربي واألندلــس‪ ،‬ويعود الفضل األول‬

‫من نظريات واكتشافات وقوانني عديدة‪.‬‬

‫إلى العرب في نقل األرقام الغبارية إلى أوروبا عن طريق‬ ‫انتقــال طلبــة العلــم إلــى األندلــس‪ ،‬حتــى صــارت تعرف‬ ‫فــي أوروبــا باألرقــام العربيــة‪ .‬ومــن المتعــارف عليه عند‬

‫‪ -2‬الكيمياء‬

‫أهــل الرياضيــات دور قيمــة الصفر في تســهيل العمليات‬

‫يعــود الفضــل إلــى العلماء المســلمين في تنظيــم أبحاث‬

‫حسابيا عند الهنود‪ ،‬لكن‬ ‫فراغا‬ ‫الحسابية بعد أن كان يعد ً‬ ‫ًّ‬

‫الكيميــاء ونقلهــا مــن التنظير إلى التجريــب وإبعادها عن‬

‫العــرب بشــكل علمي‪ ،‬اســتنبطوا البديل المناســب الذي‬

‫دائــرة الســحر والشــعوذة‪ ،‬بفعــل جملــة مــن التفاعــات‬

‫أضحــى اســتخدامه واســع اآلفــاق‪ ،‬ومنهــم العالــم الفــذ‬ ‫محمــد بن موســى الخوارزمي ِ‬ ‫واضــع أصول علم الجبر‬

‫الكيميائيــة مثــل التقطيــر والتصعيــد والتذويــب‪ .‬إن‬

‫الدراســات المكثفــة التــي أجراهــا العلمــاء المســلمون‬

‫ال عن الحساب‪ ،‬ومن إسهاماته‪:‬‬ ‫الذي جعله مستق ًّ‬

‫جعلتهــم يعمــدون إلــى تقســيم المــواد إلــى أربعة أقســام‬

‫هــو أول مــن اســتعمل كلمــة الجبــر للعلــم المعروف‬

‫رئيســية‪ :‬المعدنيــة والنباتية والحيوانية والمشــتقة‪ .‬ويعتبر‬

‫بهذا االسم‪ ،‬وعنه أخذ األوربيون هذه الكلمة "‪."Algebra‬‬

‫العالم المسلم جابر بن حيان (ت ‪200‬هـ) أول من أسس‬

‫‪ -‬تقسيم األعداد إلى ثالثة أنواع جذر أي (س) ومآل‬

‫‪ -‬تقســيم المعــادالت علــى أشــكال وأنــواع ســتة‬

‫وتوضيــح حلولهــا‪ ،‬فقد عــرف حلول معــادالت الدرجة‬

‫األولى والدرجة الثانية المستخدمة اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬تبيــان كيفيــة ضــرب الجــذور بعضهــا فــي بعــض‪،‬‬

‫منفردة أو مع عدد آخر‪.‬‬

‫ البرهنة على نظرية فيثاغورس حول المثلث القائم‪.‬‬‫وقــد تعــددت اهتمامــات المعرفــة لــدى العلمــاء‬

‫المسلمين ومن أهم ما قدموه‪:‬‬ ‫‪ -‬إنهاء العا ِلـم أبو كامل شجاع الذي عاش في القرن‬

‫التاســع الميــادي‪ ،‬العمــل الــذي بــدأه ديوفانتــوس فــي‬

‫مجال المعادالت ذات المجهوالت الخمسة‪.‬‬

‫‪ -‬نجــاح عمــر الخيــام فــي فــك المقــدار الجبري ذي‬

‫الحديــن المرفــوع إلــى أ س‪ ،2‬أو ‪ ،3‬أو ‪ ،4‬أو‪ ...‬أو ن‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الجذر أي (س‪ )2‬ومفرد وهو الخلي من "س"‪.‬‬

‫المنهج العلمي الصحيح والدقيق لعلم الكيمياء العربي‪،‬‬ ‫وتبرز أهميته في نقل علم الكيمياء وفرزها عن السيمياء‪،‬‬

‫ومن أهم أعمال جابر بن حيان في مجال الكيمياء نجد‪:‬‬ ‫‪ -‬تحضيــر مركبــات حامــض الكبريتيــك مــن الــزاج‬

‫األزرق ودعاه بزيت الزاج‪.‬‬

‫‪ -‬اكتشاف الصودا الكاوية وتحضير حامض النيتريك‬

‫والهيدروكلوريك‪.‬‬

‫‪ -‬إدخــال تحســينات علــى طــرق التبخيــر والتصفيــة‬

‫واالنصهار والتقطير والتبلور كما جاء في كتابه "الخواص‬

‫الكبير" في ستة أجزاء‪ .‬كما يعد خالد بن يزيد بن معاوية‬

‫(ت ‪85‬هـــ) مــن أبرز البادئين في االهتمام بعلم الكيمياء‪،‬‬ ‫ويقــال إنــه أول من تكلــم في صيغة الكيميــاء‪ ،‬لكن ليس‬

‫بالشكل الحديث الذي تناوله جابر بن حيان‪.‬‬

‫‪ -3‬الفيزياء‬

‫‪ -‬تســهيل العمليــات الرياضيــة التــي مهــدت لظهــور‬

‫لهــم الفضــل فــي ترجمتــه إلــى العربيــة وشــرحه وتهذيبه‬

‫إدعاء مؤرخي العلوم في الغرب بأن هذا االكتشاف يعود‬

‫أصليــة بمنهــج علمــي ســليم‪ .‬ويعتــرف "ويدمــان" بهــذه‬

‫هي على صيغة‪ :‬أ س‪ + 2‬ب س = هـ‪.‬‬

‫اللوغاريتــم مــن طــرف العالــم ابــن حمــزة المغربي رغم‬ ‫إلى العالم الرياضي "نابيير"‪.‬‬

‫األوليــة لعلم الفيزياء‪ ،‬فإن أبناء الحضارة اإلســامية كان‬

‫وإيضاحــه‪ ،‬وكذلك أضافوا إليه زيادات هامة وابتكارات‬ ‫الحقيقــة التاريخيــة الناصعــة فيقــول‪" :‬إن العــرب أخــذوا‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫كثيرا من المعــادالت ذات الدرجة الثانية‪ ،‬التي‬ ‫كمــا حــل ً‬

‫إذا كان لعلمــاء اليونــان الفضل األول في وضع المبادئ‬

‫‪47‬‬


‫وشــرحه وتهذيبــه وإيضاحــه‪ ،‬كابــن الهيثــم الــذي ألــف‬

‫فــي البصريات والضوء‪ ،‬ومســائل مراكــز األثقال وصنع‬ ‫الميزان وغيرها‪ .‬كل هذا أسهم بنهضة أوروبا الحضارية‬

‫بالثــروة التــي خلفتهــا الحضــارة العربيــة اإلســامية‪.‬‬

‫المسلمون في علم الفلك‬

‫يعتبــر علــم التنجيــم بدايــة علم الفلــك عند العــرب تأ ّث ًرا‬

‫بالحضــارات القديمــة علــى الرغــم مــن رفــض اإلســام‬

‫التنجيــم‪ .‬وإذا كان العباســيون قــد ُعــرف عنهــم عنايتهــم‬

‫بتطوير علم الفلك‪ ،‬فإن األصول التي استندوا إليها كانت‬ ‫تعــود إلــى بعــض الترجمات التــي ظهرت خــال العصر‬

‫األمــوي‪ .‬فلقــد ارتبــط اهتمــام المســلمين بعلــم الفلــك‬ ‫بالترجمــة ‪-‬وبخاصــة مــا ترجــم عــن اليونانيــة والهندية‪-‬‬

‫ال ســيما شــروحات بطليمــوس ذات األصــول الثابتــة‬ ‫والواضحــة‪ ،‬وتمكنــوا مــن إدخــال كثيــر من التحســينات‬

‫علــى هذا النظام في مجال دائرة البروج ومتوســط حركة‬ ‫أن يقدمــوا دراســات دقيقــة ووافيــة فــي هــذا المجال من‬

‫خــال االســتناد إلــى الحســابات الرياضية‪ ،‬حتــى ُليمكن‬

‫قدمــوا نظريــات بطليمــوس الفلكية‬ ‫القــول إن المســلمين ّ‬ ‫مرصدا في دمشــق‬ ‫بشــكل جديــد ودقيــق‪َ .‬بنــى األمويون‬ ‫ً‬ ‫عــام ‪829‬هـــ‪ ،‬واعتبــره بعــض الدارســين أول مرصــد في‬

‫اإلســام‪ ،‬وأنشأ الفاطميون المرصد الحاكمي على جبل‬ ‫المقطم بالقاهرة‪ ،‬إذ أسهمت هذه المراصد في الوصول‬

‫إلــى حقائــق علميــة جديدة‪ ،‬ســاعدت في عهــد المنصور‬ ‫علــى قيــاس الدرجــة األرضيــة لتحديــد حجــم األرض‬

‫ومحيطها على أساس أن األرض دائرية الشكل‪.‬‬

‫واهتم المسلمون بأدوات الرصد ومنها اإلسطرالب‪،‬‬

‫وهــي كلمــة يونانية األصــل معناها قياس النجــوم‪ ،‬وأول‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫مــن طــور اإلســطرالب عنــد المســلمين هــو إبراهيــم بن‬

‫‪46‬‬

‫حبيــب الفــزاري (القــرن ‪2‬هـــ) ومن خــال كتابــه "العمل‬

‫تعرف طريق صنعه‪ .‬واإلسطرالب‬ ‫باإلســطرالب" يمكن ُّ‬

‫أنــواع‪ ،‬منهــا‪ :‬المســطح أو ذو الصفائــح‪ ،‬وهــو أداة مــن‬ ‫المعــدن علــى صورة قرص يتراوح قطره من ‪ 10‬إلى ‪20‬‬

‫ســم‪ ،‬وله عروة اســمها "الحبس" متصلة بحلقة أو عالقة‬

‫تصلح في تعليق األداة بحيث تكون رأسية الوضع‪ .‬وله‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الكواكــب الســيارة ودراســة االعتداليــن‪ ،‬وقيــض لهــم‬

‫استعماالت عديدة نذكر منها‪:‬‬ ‫ تحديد أوقات الصالة وتعيين اتجاه القبلة‪.‬‬‫ مســح األراضــي كتعييــن المواقــع واســتخراج‬‫االرتفاعات وعمق اآلبار‪.‬‬ ‫ أخــذ ارتفــاع الكواكــب‪ ،‬وإيجــاد محيــط الكــرة‬‫األرضية‪ ،‬ومعرفة درجات الطول والعرض‪.‬‬ ‫ حساب الشهور والتواريخ‪.‬‬‫من أشهر العلماء الذين برعوا في هذا المجال نجد‪:‬‬ ‫الطوســي (‪663-591‬هـــ) وهــو مــن الذيــن َبرعــوا‬ ‫فــي البحــث واالبتــكار‪ ،‬وكان لــه شــأن كبيــر فــي الفلــك‬ ‫مرصدا‬ ‫والرياضيات‪ ،‬أنشأ‬ ‫عظيما في "مراغة" كان يشتمل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫على آالت كثيرة بعضها لم يكن معرو ًفا عند الفلكيين في‬ ‫زمانه‪ ،‬وقد جمع فيه جماعة من كبار الحكماء وأصحاب‬ ‫النيرة من األنحاء كافة‪ ،‬ليقوموا بالرصد والبحث‬ ‫العقول ّ‬ ‫في مســائل علوم الفلك والنجوم‪ .‬وللطوســي الفضل في‬ ‫ابتكار اإلســطرالب الخطي‪ .‬اتســم أســلوبه بالتعقيد‪ ،‬مما‬ ‫جعــل نتاجــه الفكــري‬ ‫حكرا علــى الخاصة مــن الباحثين‬ ‫ً‬ ‫والمشتغلين في مجال الفلك‪.‬‬ ‫البيرونــي (‪438-363‬هـ) ترك ما يقارب مئة وثمانين‬ ‫كتابا نشر هو مئة وثالثة منها‪ ،‬أما الباقي فنشره أصدقاؤه‬ ‫ً‬ ‫بعد وفاته‪ .‬وقد شملت مؤلفاته حقول التاريخ والجغرافيا‬ ‫والطــب‪ ،‬والصيدلــة والكيميــاء والفلســفة والرياضيــات‬ ‫والفيزيــاء‪ ،‬وعلــوم في الظواهر الجويــة واآلالت العلمية‬ ‫والمذنبــات‪ ،‬مــن مؤلفاته كتــاب "التفهيــم ألوائل صناعة‬ ‫التنجيــم"‪ ،‬وكتــاب "التطبيق إلى تحقيق حركة الشــمس"‪،‬‬ ‫وكتــاب "رؤية األهلــة"‪ ،‬وكتاب "التطبيق إلى تحقيق منار‬ ‫القمر"‪ ،‬وكتاب "العمل باإلسطرالب"‪.‬‬

‫المسلمون في العلوم الطبيعية‬

‫اجتهــد علمــاء المســلمين مــن خــال البحــث والتجربــة‬ ‫واالنفتــاح علــى معــارف الحضارات األخــرى (كالفرس‬ ‫والهنــد واليونــان) فــي إثــراء مــا تحويــه هــذه العلــوم مــن‬ ‫نظريات واكتشافات وقوانين عديدة‪.‬‬

‫‪ -1‬الرياضيات‬

‫كان للعلمــاء المســلمين اإلســهام المباشــر فــي مجــال‬ ‫الرياضيــات بتطويــر اســتعمال األرقــام‪ ،‬حيــث تــم‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫الدوري*‬ ‫د‪ .‬يعرب قحطان ُّ‬

‫إنجازات المسلمين‬ ‫في الفلك والعلوم الطبيعية‬ ‫ازدهــرت الحضــارة اإلســامية‬

‫األرقام‪ .‬كذلك إســهامات الخوارزمي واضحة‬

‫العلماء المســلمين في مجاالت‬

‫الحســاب‪ ،‬وأعمــال عمــر الخيــام فــي فــك‬

‫نورها بإســهامات‬ ‫وأضاء‬ ‫َ‬ ‫الكون ُ‬

‫عدة؛ كعلم الفلك الذي كان لعلماء المســلمين‬

‫ال عــن علم‬ ‫فــي علــم الجبــر الــذي جعله مســتق ًّ‬

‫المقــدار الجبــري ذي الحديــــن‪ ،‬باإلضافــة إلى‬

‫البــاع األكبــر‪ ،‬حيــث أدخلــوا‬ ‫فيــه‬ ‫كثيــرا مــن‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫التحســينات علــى نظــام بطليمــوس فــي مجــال‬

‫المخطوطــات الموجــودة فــي متاحــف أوروبا‪،‬‬

‫هــذه النظرية الفلكية بشــكل جديد ودقيق‪ .‬كما‬

‫أمــا الكيميــاء فكان لهم من خــال أعمال جابر‬

‫دائرة البروج ومتوسط حركة الكواكب‪ ،‬فقدموا‬

‫مبكــر‪ ،‬ممــا أســهم فــي الوصــول إلــى حقائــق‬ ‫علميــة جديــدة‪ ،‬إضافــة إلــى إنجــازات العلمــاء‬

‫المســلمين في العلوم الطبيعية كالرياضيات‪ ،‬إذ‬ ‫كان لهم اإلســهام المباشــر في تطوير استعمال‬

‫مثــل أعمــال الخوارزمــي والبيرونــي وغيرهــم‪.‬‬

‫بــن حيــان الــذي يعتبــر أول مــن أســس علــم‬

‫الكيميــاء‪ ،‬كتطويــره طــرق التبخــر والتصفيــة‬ ‫واالنصهــار والتقطيــر والتبلــور‪ .‬أمــا الفيزيــاء‬ ‫فشــهدت إســهامات واضحــة في حفــظ التراث‬

‫اليونانــي فــي الفيزيــاء وترجمتــه إلــى العربيــة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫كان لهــم الفضــل في إنشــاء المراصد في وقت‬

‫أعمــال هامة قدمها علماء آخرون تشــهد عليها‬

‫‪45‬‬


‫التنويه بالعقل واالعتداد بالعلم‪.‬‬

‫واقتصادية‪.‬‬

‫فكر‪ -‬يتجاوز‬ ‫لم يكن تفكير اإلنسان العربي ‪-‬إن هو ّ‬

‫التنويه بالتعلم واكتساب أدواته‪.‬‬

‫سقف القبيلة وما تفرضه عليه من قيم‪ ،‬تجعله في أغلب‬

‫االحتــكام إلــى العقليــة العلميــة والبعــد عــن العقليــة‬

‫ال‪ ،‬حتــى قال قائلهم‪:‬‬ ‫ســلما‬ ‫فــي فلكهــا‬ ‫وحربا‪ ،‬ح ًّقا وباط ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫معرفيا بين مجاالت الوحي ومجاالت العقل‪.‬‬ ‫التمييز‬ ‫ًّ‬

‫فكاكا من الدوران‬ ‫تابعا ال يملك ً‬ ‫األحيان ‪-‬إن لم نقل كلها‪ً -‬‬

‫الخرافية‪.‬‬

‫ومــا أنــا إال مــن غزيــة إن غــوت غويــت‪ ،‬وإن ترشــد‬

‫وفــي المجــال الســلوكي تبــرز مســائل اآلداب التــي‬

‫غزية أرشد‪.‬‬

‫ال عن الواجبات فــي العبادات وغيرها‪،‬‬ ‫أشــرنا إليهــا ففض ً‬

‫لم يكن لإلنسان العربي قبل اإلسالم كتاب يهديه في‬

‫وما تحمله لإلنســان من ســلوكيات حضارية‪ ،‬تبرز آداب‬

‫يشــكل ثقافته كمــا هو الحال‬ ‫مرجعا‬ ‫حياتــه‪ ،‬أو يكــون له‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫األكل والشــرب والنظافــة واللبــاس‪ ،‬واتخــاذ الزينــة‪،‬‬

‫سابحا‬ ‫عند اليهود والنصارى في جزيرة العرب‪ ،‬بل كان‬ ‫ً‬

‫والتعامل مع البيئة نبا ًتا وحيوا ًنا‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫الخاطر ال عن رؤية وتفكير وتفلسف‪.‬‬

‫عشــرات األحاديث والمواقف من ســيرة المصطفى ‪،‬‬

‫مع تهويمات الشعراء‪ ،‬حكمته في ذلك فلتات تأتي عفو‬

‫ويمكــن أن نــورد عــن كل واحــدة مــن هذه المســائل‬

‫لــم يكــن بــه طمــوح إلــى بنــاء كيــان سياســي يجمــع‬

‫وســعنا دائرة النظر‪ ،‬وحررنا تلك النصوص‬ ‫ً‬ ‫خصوصا إذا ّ‬

‫شــتات القبائل المتناثرة‪ ،‬تناثــر حبات الرمل في صحرائه‬

‫مــن القــراءة الفقهيــة الضيقة التي ُتعنى فقــط بالبحث عن‬

‫القاحلة‪.‬‬

‫مظاهرهــا الماديــة أو بناهــا االجتماعيــة والثقافيــة‪ .‬وقــد‬ ‫كانــت "الخميــرة" التــي اســتخدمت بعــد ذلــك لتعطينــا‬

‫حضــارة ناضجــة‪ ،‬ظلت لقرون تقود العالم وتؤســس لما‬ ‫يأتي بعدها من تقدم إنساني‪.‬‬

‫وقــد اســتطاع النبــي ‪ ‬فــي رســالته أن يحــول تلــك‬

‫اإلمكانــات فــي ظــرف قصيــر إلــى عطــاء جديــد‪ ،‬وينقــل‬

‫اإلنســان العربــي من بداوتــه إلى آفاق حضارية مدهشــة‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫بحق من أبرز مظاهر صدق نبوته ‪.‬‬ ‫حتى ُع َّد ذلك ٍّ‬

‫‪44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وكانــت حياتــه كلهــا مصوغــة وفــق بداوتــه‪ .‬إن فــي‬

‫الحكم الفقهي بالمفهوم الخاص‪ ،‬لنقرأها قراءة تستخرج‬

‫البعد الحضاري أو اإلعداد له فيها‪.‬‬

‫فــكل هــذه المســائل معرفيــة أو ســلوكية‪ ،‬جــاءت في‬

‫شرحا لما ورد في القرآن الكريم‪.‬‬ ‫تأكيدا أو‬ ‫السنة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وهي إن تأملناها من زاوية اإلعداد الحضاري‪ ،‬نجدها‬

‫تجســيدا للخطاب القرآني الذي يريد من خالله اهلل‬ ‫كلها‬ ‫ً‬

‫تعالــى بنــاء إنســان جديــد بإمكانــه أن يبني حضــارة‪ ،‬وأن‬

‫يحمــل حضــارة لآلخر مهما كان هذا اآلخــر مختل ًفا عنه‬ ‫عقيدة وعر ًقا ولغة وجغرافية‪.‬‬

‫وإذا شــئنا أن نختــم كالمنــا بفكرة جامعــة فإننا نقول‪:‬‬

‫ومــا يشــدنا فــي الفعــل النبــوي هنــا‪ ،‬هــو تهيئتــه ‪‬‬

‫مكر ًما‬ ‫إن حديــث اإلســام عــن اإلنســان يبــرزه مخلو ًقــا ّ‬

‫حضــارة‪ ،‬وال يكتفــي بذلــك‪ ،‬بل ســيحمل الحضــارة إلى‬

‫وحديث اإلسالم عن اإلنسان‪ ،‬يدعوه إلى أن يلتفت‬

‫اإلنســان العربي في ذلك الزمن ليكون إنســا ًنا آخر‪ ،‬يبني‬

‫ال لصناعة الحضارة‪.‬‬ ‫مؤه ً‬

‫وجغرافيا‪.‬‬ ‫معرفيا‬ ‫غيره ويخرج من آفاق القبيلة‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫إلى مؤهالته ووظيفته كي يبني الحضارة‪.‬‬

‫بــارزا فــي توجيهــات الرســول ‪،‬‬ ‫فــكان اإلعــداد‬ ‫ً‬

‫فجــاءت أحــكام اإلســام منســجمة مــع المكانــة‬

‫النــاس علــى أنهــا توجيهات أخالقية‪ ،‬أو آداب تســتهدف‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬وأسهمت في مقاصدها الكبرى أو حتى‬

‫واللبــاس والنظافــة والحديــث والطريــق‪ .‬وكان ذلــك‬

‫إنسان الحضارة اإلسالمية‪.‬‬

‫حتــى فــي المســائل البســيطة التــي عادة مــا يتعامــل معها‬

‫تعديل الســلوك الفردي‪ ،‬كتلك التي تناولت آداب األكل‬

‫اإلعداد ذا ُبعدين‪ ،‬أحدهما "معرفي" واآلخر "سلوكي"‪.‬‬ ‫البعد المعرفي تبرز المسائل التالية‪:‬‬ ‫وفي ُ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المعطــاة لإلنســان من جهة‪ ،‬ومــع الوظيفة التي كلف بها‬ ‫عنــد مقاصدهــا الجزئية في إحــداث التفاعل الذي صنع‬

‫(*) كاتب وباحث جزائري‪.‬‬


‫اإلســام يف مقاصــده الكــرى أو عنــد املقاصد‬

‫ســبحانه هو األكرم‪ ،‬وقد تجلت أكرميته زيادة على خلق‬

‫الجزئيــة املرتبطــة بتفاصيل أحكامــه‪ ،‬ينطلق من‬

‫اإلنسان‪ ،‬بأن ع ّلمه بالقلم‪ ،‬وع ّلمه ما لم يعلم‪.‬‬

‫نقطة واحدة‪ ،‬هي تكليف اإلنســان بتحقيق الحياة‬

‫وشــتان بيــن مــن ينطلــق فــي آفاق الكــون يقرأ باســم‬

‫الالئقــة به ككائن مك َّرم‪ ،‬وال يكون ذلك إال بالتحقق‪،‬‬

‫ربــه‪ ،‬ومــن ينطلق فيها يقرأ وهو غافل عن خالقه‪ ،‬يســائل‬

‫بوصف الخالفة يف نطاق العبادة والعامرة‪.‬‬

‫المــادة ولكنــه ال يســأل عن مصيره وال عــن معنى الحياة‬

‫التــي يحياهــا يقــرأ‪ ،‬وقــد يكتشــف أســرار الكــون وســننه‬

‫الضيق والحرج‪ُ -‬بعدها الجمالي‪.‬‬

‫التــي أودعهــا اهلل فيــه‪ ،‬وقــد يســتغلها ويطوعهــا‪ ،‬ولكــن‬

‫ونحــن نــرى تفــاوت األمــم فــي درجــات التحضــر‪،‬‬

‫منتهــى علمــه وقراءته يقف بــه عند حدود الظاهر ال يكاد‬

‫انخفاضــا وفــق هــذه‬ ‫ارتفاعــا و‬ ‫حســب تفــاوت ســقفها‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫يتجــاوزه‪ .‬وأصحــاب هــذه القــراءة هــم الذيــن قــال فيهم‬ ‫ــون َظ ِ‬ ‫الد ْن َيــا َو ُه ْم َع ِن‬ ‫‪‬ي ْع َل ُم َ‬ ‫ــن ا ْل َح َيا ِة ُّ‬ ‫اه ًــرا ِم َ‬ ‫اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ون‪(‬الروم‪.)7:‬‬ ‫اآلخ َر ِة ُه ْم َغا ِف ُل َ‬ ‫إذن فاإلنسان خوطب بأن "يقرأ" ليتمكن من استيعاب‬

‫ببعض الضروريات‪ ،‬وقد أخرج الحاجيات والتحسينيات‬

‫ُبنيت عليها الشــريعة؛ الشــريعة ‪-‬كما قلنا‪ -‬في مقاصدها‬

‫ورب أمــة أخــرى‪ ،‬يــرى اإلنســان فيهــا كل حديــث‬

‫المصالح الثالث‪.‬‬

‫فرب أمة ال يزال اإلنســان فيها يلهث من أجل الظفر‬

‫منهاج الخالفة‪ ،‬هذا هو المنطلق‪ ،‬وهذه هي القاعدة التي‬

‫ال عن دائرة تفكيره‪.‬‬ ‫من دائرة أحالمه‪ ،‬فض ً‬

‫وتفاصيلها‪ ...‬أن يكون اإلنســان وقد هيئت له األســباب‬

‫عمليا ما‬ ‫قادرا على أن يســلك‬ ‫ُســخر له من موجودات)‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫بعيدا عن الفســاد‬ ‫قريبــا مــن الصــاح واإلصالح‪ً ،‬‬ ‫يجعلــه ً‬

‫واإلفســاد‪ ...‬ويتســع الصالح المطلوب تحصيله ليشمل‬ ‫حياته في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويتسع الفساد المطلوب البعد‬ ‫أيضا في الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫عنه ليشمل حياته ً‬

‫لهــذا‪ ،‬عندمــا ُبحــث عــن المقصــد العام من الشــريعة‬

‫اإلســامية التــي هــي خطــاب اهلل لإلنســان‪ُ ،‬وجــد أنــه‬ ‫يتلخص في مراعاة مصالح اإلنسان في العاجل واآلجل‪.‬‬ ‫وإنمــا تكــون مصالحــه مرعيــة بتشــريع مــا يحفــظ هــذه‬

‫وحاجية‬ ‫المصالح اإلنسانية بمستوياتها الثالثة‪ :‬ضرورية‬ ‫َّ‬

‫وتحســينية‪ ،‬وعلى هذه المصالح الثالث تقوم الحضارة‪.‬‬

‫إذ بالضروريات يتحقق لإلنســان المســتوى األســاس من‬ ‫متطلبات الحياة الالئقة به كإنسان‪.‬‬

‫‪-‬وقــد تحققــت أساســياتها‪ -‬بعيدة عن الحــرج والضيق‪،‬‬

‫اللذيــن إن لم يعــودا على الحياة باإلزالة‪ ،‬فإنهما يعطالن‬ ‫حركتها ويعيقان تقدمها‪.‬‬

‫ثــم تأتي التحســينيات في المقــام الثالث لتضفي على‬

‫الحيــاة ‪-‬بعــد أن اســتكملت أساســياتها ونأينــا بهــا عــن‬

‫هــذه األمــور منــذ أمــد بعيــد‪ ،‬وهو اآلن يســبح فــي دائرة‬ ‫الجماليات‪.‬‬

‫من هنا‪ ،‬عندما جعل اإلســام هذه المصالح الثالث‬

‫أساســيا للشــريعة‪ ،‬إنمــا كانــت غايتــه أن ينقــل‬ ‫مقصــدا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫اإلنســان إلى ســقف الحضارة الذي يستوعب أسياسيات‬ ‫ِ‬ ‫وميسراتها وجمالياتها‪ ...‬وهو ما تحقق في مرحلة‬ ‫الحياة‬ ‫ّ‬ ‫ما من تاريخ المسلمين‪.‬‬

‫الرسول ‪ ‬وتجسيد الخطاب الحضاري‬

‫ولــن نجــد إذا نحــن بحثنــا فــي تاريــخ المســلمين مرحلة‬ ‫تجســد فيهــا الخطــاب القرآنــي لإلنســان بما هــو خطاب‬

‫بانيــا‬ ‫حضــاري‪ ،‬أو علــى األقــل ُيعِ ّ‬ ‫ــد اإلنســان ليكــون ً‬ ‫تجســد في المرحلــة النبوية‪ .‬ذلك أن هذه‬ ‫للحضــارة كما ّ‬

‫المرحلــة هي مرحلة التأســيس الفعلي لإلنســان الجديد‪،‬‬ ‫وفقا للرؤية الجديدة التي جاء بها الوحي الخاتم‪.‬‬

‫فقــد نــزل القرآن في بيئة بدويــة بعيدة عن كل مظاهر‬

‫التحضر التي عرفتها بالد الروم أو بالد الفرس‪ ،‬أو حتى‬ ‫الحضــارات القديمــة البائدة‪ ،‬فكان العربي ال يزال يعيش‬ ‫حياة قريبة في بســاطتها إلى الطبيعة الســاذجة في األفكار‬

‫والســلوك‪ ،‬ومــا يتبعهمــا مــن عالقــات أســرية واجتماعية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫الحاجيــات لتضيــف إليــه مــا يجعــل الحياة‬ ‫ثــم تأتــي‬ ‫َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الذاتيــة (مــا ركــب فيــه مــن مواهــب)‪ ،‬والموضوعيــة (مــا‬

‫أمــرا يثير التعجــب‪ ،‬ألنه تجاوز‬ ‫عــن ضــروري أو حاجي ً‬

‫‪43‬‬


‫ال‪ ،‬لنــا أن نقــول إن القــرآن خاطــب اإلنســان‬ ‫وإجمــا ً‬

‫غريبــا‪ ،‬ولــن يكــون‪ ،‬فالقــرآن‬ ‫أساســا‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ،‬لــم يكــن ذلــك ً‬

‫وهذه قضية تدرك من النظر إلى الشــريعة اإلســامية‬

‫الخطوات ويحدد المطلوب بدقة‪.‬‬

‫صانعا للحضارة أو مك ّل ًفا بصناعتها‪.‬‬ ‫باعتباره‬ ‫ً‬

‫نــزل‬ ‫منهجا لإلنســان‪ ،‬ومــن مقتضيات المنهج أن يرســم‬ ‫ً‬

‫فــي كلياتهــا ومقاصدهــا كمــا فــي جزئياتهــا وتفاصيلهــا‪،‬‬

‫فكان أول ما نزل ســورة "العلق"‪ ،‬بها ابتدأ اهلل خطابه‬

‫فنحن نجد اإلسالم في مقاصده الكبرى أو عند المقاصد‬

‫لإلنسان في مرحلة نضجه المتوافقة مع الوحي الخاتم‪،‬‬

‫الجزئيــة المرتبطــة بتفاصيــل أحكامــه‪ ،‬ينطلــق مــن نقطــة‬

‫فجاء أول خطاب في آخر حلقات الوحي‬ ‫مرتبطا مع أول‬ ‫ً‬ ‫خطــاب ُأعلــن فيــه عن إرادة اهلل في إيجــاد هذا المخلوق‬

‫واحــدة‪ ،‬هــي تكليــف اإلنســان بتحقيــق الحيــاة الالئقة به‬ ‫ككائــن مكــرم‪ ،‬وال يكــون ذلــك إال بالتحقــق‪ ،‬بوصــف‬ ‫َّ‬ ‫الخالفة في نطاق العبادة والعمارة‪.‬‬

‫الجديــد‪ .‬فــآدم ‪ ‬الخليفة المعلن عنه في بداية الخلق‪،‬‬ ‫ال في‬ ‫رقيا وتكام ً‬ ‫تقلب أبناؤه في مراحل تاريخ اإلنسانية ًّ‬

‫فاإلنســان خوطــب مــن قبــل أن يوجــد علــى األرض‬

‫مفهــوم آدميتهم التي تؤهلهم لحقيقة الخالفة التي وســم‬

‫بخطــاب يدعــوه إلــى أن يكون‬ ‫معمــرا لها‪ ،‬بــل هوية هذا‬ ‫ً‬

‫لزامــا أن يأتي‬ ‫بهــا أبوهــم فــي بداية قصــة حياتهم‪ .‬فــكان ً‬

‫الموجــود الجديــد تحــددت أول مــا تحــددت بوظيفتــه‪،‬‬

‫الوحي الخاتم‬ ‫منسجما مع هذا الرقي الذي بلغه اإلنسان‪.‬‬ ‫ً‬

‫حتــى مــن قبــل أن يخــرج مــن العــدم إلــى الوجــود حيــن‬ ‫أعلــن الحــق تعالــى للمالئكة‪ِ ﴿ :‬إ ِّنــي َج ِ‬ ‫اع ٌل ِفــي ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫َخ ِلي َف ًة﴾(البقرة‪.)30:‬‬ ‫تحقيقهــا ضمــن "العمــارة والعبادة"‪ ،‬هي التــي دار حولها‬ ‫الخطــاب القرآنــي لإلنســان‪ ،‬مطلــق اإلنســان‪ ،‬كــي يعمــر‬ ‫األرض وال يخربهــا‪ ،‬ويعبــد اهلل وال يتنكــر لــه‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫مفهومــا‬ ‫يعطــي لحركتــه في هــذه الدنيا‬ ‫إيجابيا للتعمير ال‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫مجــرد تكديــس للمنتجــات‪ ،‬يــؤدي باإلنســان البعيــد عن‬

‫اهلل المنقطعــة صلتــه بعبوديتــه إلــى مفهــوم الطغيــان‪ ،‬ألنه‬

‫في لحظات الغرور تلك‪ ،‬حين يرى نفســه‬ ‫ممســكا بزمام‬ ‫ً‬ ‫الطبيعة‪ ،‬يســكنه وهم االســتغناء عن الخالق تعالى فيقع‬ ‫في رذيلة الطغيان‪ ،‬والطغيان يقوده إلى الفساد واإلفساد‪.‬‬

‫والفســاد واإلفســاد يتناقضــان مــع طبيعة الكــون وطبيعة‬ ‫الحياة الكريمة التي يريدها اهلل تعالى لإلنسان‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫غريبــا بعــد هــذا‪ ،‬أن يتــازم تكليــف اهلل‬ ‫فهــل يكــون ً‬

‫‪42‬‬

‫تعالى لإلنســان بتعمير األرض‪ ،‬مع تحذيره من إفســادها‬ ‫ــدوا ِفــي‬ ‫وقــد خلقهــا اهلل علــى هيئــة صالحــة‪ :‬و َ‬ ‫ال ُت ْف ِس ُ‬

‫ا َ‬ ‫ال ِح َها‪(‬األعراف‪.)56:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َب ْع َد إ ِْص َ‬

‫غريبا أن يفتتح اهلل وحيه لإلنســان بأن‬ ‫بــل هــل يكون ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وهــذه الخالفــة التــي ُطلــب من اإلنســان ‪-‬كمــا قلنا‪-‬‬

‫فكانت آيات "العلق" فاتحة للخطاب اإللهي األخير‬

‫ــان‬ ‫ــم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق ‪َ ‬خ َل َق ْ ِ‬ ‫ال ْن َس ُ‬ ‫ِاس ِ‬ ‫لإلنســان‪ :‬ا ْق َر ْأ ب ْ‬ ‫أل ْكــرم ‪ ‬ا َّل ِذي ع َّلــم بِا ْل َق َلم ‪‬‬ ‫ــن َع َلــقٍ ‪ ‬ا ْق َــر ْأ َو َر ُّب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْ‬ ‫ــك ا َ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ان َما َل ْم َي ْع َل ْم‪(‬العلق‪.)5-1:‬‬ ‫َع َّل َم ْ ِ‬ ‫ال ْن َس َ‬ ‫إنها القراءة‪ ،‬مفتاح كل رقي إنساني شريطة أن تكون‬ ‫قــراءة باســم الرب الذي خلــق‪ ،‬أي تكون قراءة في نطاق‬

‫القيم التي تحفظ اإلنســان من التيه والضياع إن هو "قرأ"‬ ‫بعيــدا عــن الخالــق ســبحانه‪ ،‬ألنــه بذلك ســيعمر األرض‬ ‫ً‬ ‫وينســى ربــه‪ ،‬فتكــون النتيجــة الخــراب بــدل العمــران‪،‬‬ ‫والضــال بــدل الهدايــة‪ ،‬بــل وانحطاط اإلنســان عن أفق‬

‫اإلنسانية المطلوب تحصيلها وفق الكرامة التي منحها له‬ ‫اهلل تعالــى‪ ،‬فتتحــول ثمــرات ذلك العمــران الظاهري إلى‬

‫أدواء قاتلــة‪ ،‬تدفــع اإلنســان كلمــا انغمس فيها مســته َل ًكا‬

‫إلــى مزيــد مــن االغتراب عن ذاته‪ ...‬كلمــا امتألت حياته‬

‫باألشــياء ازداد فراغها من المعنى‪ ،‬وفي أحوال الحضارة‬ ‫الغربية اآلن خير شاهد على هذه الحقيقة‪.‬‬

‫فالقراءة باسم اهلل إذن هي الضامن ألن يستقيم اإلنسان‬

‫على المنهاج الحق‪ ،‬ليكون بحق خليفة عن اهلل في أرضه‪،‬‬ ‫يصلحهــا وال يفســدها‪ ،‬يعمرهــا دون أن يضيــع ذاتــه‪.‬‬

‫يرســم لــه خطــوات المنهــج الــذي يحقق بــه الخالفة في‬

‫أيضــا‪ ،‬إشــارة إلى حقيقــة ال تقل أهمية‬ ‫وفــي اآليــات ً‬

‫وظيفته الوجودية‪ ،‬وينبهه إلى مصيره وعودته إلى خالقه؟‬

‫اإلنســان باب كرم اهلل الواســع‪ ،‬فيعلمه ما لم يعلم‪ ،‬ألنه‬

‫بعيدا عن‬ ‫األرض‪ ،‬ويحذره من المرض الذي قد ينأى به ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عن الحقيقة األولى‪ ،‬هي أن القراءة باسم اهلل‪ ،‬تفتح أمام‬


‫قضايا فكرية‬

‫عبد الوهاب بوخلخال*‬

‫اإلسالم دين اإلنسان‬ ‫ال شك أن الخطاب القرآني مع اإلنسان‪،‬‬ ‫منســجما مع خطابه عنــه‪ ،‬بمعنى‬ ‫ســيأتي‬ ‫ً‬ ‫أن اهلل تعالــى ســيتحدث إلــى اإلنســان‬

‫انطال ًقا من الصورة التي تحدث بها عنه‪.‬‬

‫وكذلــك كان‪ ،‬فقــد جــاءت شــريعة اهلل تعالــى إلــى‬

‫اإلنســان‪ ،‬في صورتها الخاتمة مع النبي ‪ ‬متناســبة مع‬ ‫الصورة التي ُرسمت لهذا اإلنسان‪.‬‬

‫والقرآن يشير إلى هذه الحقيقة‪ ،‬عندما يقص علينا مسيرة‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫اإلنســان مــن خالل قصــص األنبياء‪ ،‬تلــك القصص التي‬

‫تأريخا‬ ‫نفى عنها اهلل تعالى العبث والكذب‪ ،‬فكانت بذلك‬ ‫ً‬ ‫لمراحل الترقي التي قطعها اإلنسان‪ ،‬من سذاجته األولى‬

‫إلى نضجه‪ ،‬هذا النضج الذي ال تعرف آفاقه وال حدوده‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪41‬‬


‫النــوم علــى القفــا ‪-‬الظهــر‪ -‬أو علــى اليمين والشــمال أو‬ ‫َّ‬

‫والح َّمى‪.‬‬ ‫في األمراض العارضة‬ ‫َّ‬ ‫كالضعف ُ‬

‫النــوم واليقظــة وأثرها على‬ ‫ســماها ابــن ســينا "موجبــات َّ‬

‫المع َّقــدة التــي تختلــف اختال ًفا ّبي ًِنا بين األشــخاص‪ ،‬فهو‬ ‫حاجــة وظيفيــة فســيولوجية ُم ِل َّحــة‪ ،‬فنحــن نقضــي ثلــث‬

‫ستح ّب‪ ،‬وقد‬ ‫ستح ُّب َّ‬ ‫النوم ومتى ال ُي َ‬ ‫وب َّي ُنوا متى ُي َ‬ ‫الوجه‪َ ،‬‬

‫النوم أحد الوظائف البيولوجية‬ ‫وفي الطب الحديث‪َّ ،‬‬

‫جســم اإلنســان"‪ ،‬وكانــت القاعــدة العامة في هــذا أن من‬

‫السبع األخير‬ ‫رغب‬ ‫َّ‬ ‫الصحة فعليه أن يقوم من فراشه في ُّ‬

‫أيضا ظاهرة دماغية‪ ،‬أي إنه ضرورة‬ ‫والنوم ً‬ ‫عمرنا نائمين‪َّ .‬‬

‫من الليل‪.‬‬

‫للدمــاغ ‪-‬ذلك الحاســوب‪ -‬الخارق الفريد الذي نطل به‬

‫والنوم فــي كتابه "أدب‬ ‫يقــول المــاوردي عــن الراحــة َّ‬

‫علــى العالــم عبــر نوافــذ العيــن واألذن واألنــف واللمس‬

‫تصــرف إن َأر ْح َتهــا فيها‬ ‫حرم َتهــا إياهــا ك َّلــت‪ ،‬وحالــة‬ ‫إن ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َت َخ َّلــت‪ ..‬فا َ‬ ‫أل ْولــى باإلنســان تقديــر حا َليــه‪ :‬حــال نومــه‬

‫النــوم دائــر ُة معــارف الكتــاب العالمــي‪:‬‬ ‫وتقــول عــن َّ‬

‫الدنيا والدين"‪" :‬واعلم أن للنفس حالتين‪ :‬حالة استراحة‬

‫والتذوق‪.‬‬

‫النــوم أكثــر من‬ ‫النوم تحدث‬ ‫َّ‬ ‫مجرد فترة راحة‪ ،‬ففــي أثناء َّ‬ ‫َّ‬ ‫تغيرات في الجســم تؤ ِّثر في جهاز المناعة‪ ،‬فقد اكتشــف‬ ‫ُّ‬ ‫ارتباطا‬ ‫العلماء‬ ‫والنوم‬ ‫ً‬ ‫واضحا بين استجابة جهاز المناعة َّ‬ ‫ً‬ ‫والنوم يقدم فرصة ألجزاء الجســم كي تسترخي‬ ‫العميق‪َّ ،‬‬ ‫ُم ِ‬ ‫بطل ًة مفعول االســتهالك من النشــاط اليومي‪ ،‬ومن أكثر‬ ‫النوم أهمي ًة‬ ‫السماح للجهاز العصبي بأن يتعافى‬ ‫وظائف َّ‬ ‫ُ‬

‫محدودا‪،‬‬ ‫قــدرا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫تصرفــه ويقظته‪ ،‬فإن لهما ً‬ ‫ود َعتــه‪ ،‬وحــال ُّ‬

‫وتغير‬ ‫مخصوصا‪،‬‬ ‫وزما ًنــا‬ ‫ً‬ ‫يضــر بالنفس مجاوزة أحدهما ُّ‬ ‫ُّ‬

‫النبي ‪ ‬أنه قال‪" :‬نومة الصبحة‬ ‫زمانهمــا‪ .‬فقــد ُروي عــن‬ ‫َّ ّ‬ ‫ُم ِ‬ ‫عجــزة منفخــة مكســلة مورمــة مفشــلة منســأة للحاجة"‪.‬‬ ‫النــوم ثالثــة "نــوم خــرق‬ ‫وقــال عبــد اهلل بــن عبــاس ‪َّ :‬‬

‫وهــو العشــى"‪ .‬وقــد روى محمــد بــن يزداد‪ ،‬عــن ميمون‬ ‫بن مهران‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪" :‬نوم‬

‫الضحــى خــرق‪ ،‬والقيلولــة خلــق‪ ،‬ونــوم العشــى حمــق"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الم َراد‬ ‫وقيــل فــي منثــور الحكــم‪َ :‬‬ ‫الرقــاد‪َ ،‬عــد َم ُ‬ ‫"مــن َل ِــز َم ُّ‬ ‫والدعــة‪ ،‬واســتوفى‬ ‫النــوم َّ‬ ‫فــإذا أعطــى النفــس ح َّقهــا مــن َّ‬ ‫بالتصــرف واليقظة‪َ ،‬خ ُلص باالســتراحة من عجزها‬ ‫حقــه‬ ‫ُّ‬ ‫وح ِكي‬ ‫وســ ِلم بالرياضة من بالدتها وفســادها"‪.‬‬ ‫وكاللها‪َ ،‬‬ ‫ُ َ‬ ‫أن عبــد الملــك بــن عمــر بن عبــد العزيز دخل علــى أبيه‬ ‫فوجــده نائمــا‪ ،‬فقال‪" :‬يا ِ‬ ‫أبت‪ ،‬أتنام والناس بالباب؟ فقال‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫مطيتي‪ ،‬وأكره أن أتع َبها‪ ،‬فال تقوم بي"‪.‬‬ ‫يا ُب َن َّي‪ ،‬نفسي َّ‬ ‫المهم‬ ‫تصرفــه ويقظتــه علــى‬ ‫وينبغــي أن يقســم حالــة ُّ‬ ‫ّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫يقر عن‬ ‫من حاجاته‪ ،‬فإن حاجة اإلنســان الزمة‪ ،‬والزمان ّ‬

‫‪40‬‬

‫بمهِ ّم‪،‬‬ ‫اســتيعاب‬ ‫المهم‪ ،‬فكيف به إن تجاوز إلى ما ليس ُ‬ ‫ّ‬ ‫وملبِس ٍة َب َ ُ‬ ‫خرى‬ ‫هل يكون إال كتارك ٍة َ‬ ‫بيضها بالعراء‪ُ ،‬‬ ‫يض أ َ‬ ‫جناحا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ــدوا للنــوم فوائد‪ ،‬منها ســكون الجــوارح وراحتها‬ ‫وع‬ ‫َ ُّ‬ ‫الحواس مــن َن َصب‬ ‫ِم َّمــا َي ْع ِــرض لهــا مــن التعب فيريــح‬ ‫ّ‬ ‫وي ِزيــل اإلعيــاء والــكالل‪ ،‬ويخ ِّلص الجســم من‬ ‫اليقظــة‪ُ ،‬‬ ‫بالنوم‪ ،‬بخاصة‬ ‫ونص ُحوا المريض َّ‬ ‫السموم المتراكمة فيه‪َ .‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وهــي الصبحــة‪ ،‬ونــوم خلــق وهــي القائلــة‪ ،‬ونــوم حمــق‬

‫بسبب استعماله خالل النهار‪.‬‬

‫َم َض ُّار عدم النَّوم‬

‫ظهرت عليه عالمات اإلعياء والتعب‪،‬‬ ‫إذا لم ي َنم اإلنسان َ‬

‫وتضاءلــت كميــة عملــه ونوعــه ودقتــه و َق َّل تركيــزه‪ ،‬كما‬ ‫ينقــص وزنــه‪ ،‬ألنــه لم ُت َتح الفرصة للجســم لكي ُيعيد ما‬

‫اس ُتهلك منه في أثناء العمل اليومي‪ ،‬وقد ُيصاب اإلنسان‬ ‫سيئة قد تصل به إلى الجنون‪.‬‬ ‫في النهاية بحاله نفسية ِّ‬

‫كم وكيف ينام اإلنسان؟‬

‫أهم من‬ ‫إن َّ‬ ‫النــوم الهنــيء ضروري لإلنســان‪ ،‬والنــوع هنا ُّ‬

‫فالنــوم بيــن ‪ 6‬و‪ 8‬ســاعات عميقــة متواصلــة خيــر‬ ‫ــم‪َّ ،‬‬ ‫الكَ ّ‬ ‫ا هــو الطبيعي‬ ‫والنــوم ليــ ً‬ ‫النــوم المتقطــع المزعــج‪َّ ،‬‬ ‫مــن َّ‬ ‫ال‬ ‫صح ًّيــا‪ ،‬مــع أننــا نــرى البعــض يقلب نهــاره لي ً‬ ‫المفيــد ِّ‬

‫وليلــه‬ ‫فالنــوم فــي عتمــة الليــل ُم ِريــح‪ ،‬بينما ضوء‬ ‫نهــارا‪َّ .‬‬ ‫ً‬ ‫النهار يؤ ّثِر على الدماغ والغدد الصنوبرية‪ ،‬ويجعل نومنا‬

‫قل ًقــا وحياتنــا‬ ‫جحيمــا‪ .‬يقــول الحق ‪ ‬في كتابــه العزيز‪:‬‬ ‫ً‬

‫اســا ‪َ ‬و َج َع ْل َنا‬ ‫َ‬ ‫‪‬و َج َع ْل َنا َن ْو َمكُ ْم ُس َــبا ًتا ‪َ ‬و َج َع ْل َنا الليل ل َِب ً‬

‫اشا‪(‬النبأ‪.)11-9:‬‬ ‫ار َم َع ً‬ ‫َّ‬ ‫الن َه َ‬

‫(*) باحث في التراث العربي واإلسالمي‪ /‬مصر‪.‬‬


‫إن النَّــوم عىل الجانب األمين‪ ،‬مينــع الضغط عىل‬

‫وخمســمئة شــخص تتراوح ِســ ُّنهم بين ‪ 18‬و‪ 25‬سنة من‬

‫املعدة ويســاعدها عىل تفريــغ محتوياتها‪ ،‬كام‬

‫الشــعب األلمانــي‪ ،‬فكانــت النتائج أن نســبة تســعة عشــر‬

‫يســهل عمل القلب فيمنع ضغط املعدة والحجاب‬ ‫ِّ‬

‫النوم‪،‬‬ ‫بالمئــة مــن هذه الفئة العمرية يعانون‬ ‫اضطرابا أثناء َّ‬ ‫ً‬ ‫ِم َّمــا يجعلهــم ُم َنهكين خالل النهار‪ ،‬وأن ثالثين في المئة‬ ‫أقل خطورة في نومهم‪.‬‬ ‫يعانون مشكالت ّ‬

‫الحاجز عليه‪.‬‬

‫وكل يــوم نطالــع نصائــح االختصاصييــن والخبــراء‬

‫الجانب األيسر‪.‬‬

‫الطبييــن مــن أنحــاء عديــدة مــن العالــم ألجل نــوم هادئ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫أهمهــا مســاعدة الجســم على اكتســاب نظام‬ ‫عميــق‪ ،‬مــن ّ‬ ‫ثابت للنوم واالستيقاظ‪ .‬والمعجز هنا عند االطالع على‬

‫النوم على الجانب األيســر‪،‬‬ ‫كمــا أثبتــت التجارب أن َّ‬

‫يجعــل الرئــة اليمنــى تضغط علــى القلب وتقلل نشــاطه‪.‬‬

‫والرئــة اليمنــى ‪-‬كما هو معلوم‪ -‬أكبر من الرئة اليســرى‪،‬‬

‫النبي ‪ ‬وهديه‪ .‬وال‬ ‫هذه النصائح‪َ ،‬توا ُفقها مع تعليمات‬ ‫َّ ّ‬ ‫يدل على‬ ‫النوم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بوي إلى أهمية َّ‬ ‫شك أن التفات الطب َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫صحته‬ ‫حكمة بالغة وإلمام شامل بما يحفظ على اإلنسان َّ‬

‫إلى جانب كون الكبِد التي هي أثقل األحشاء مع َّلق ًة عند‬ ‫االســتلقاء علــى الجانب األيســر‪ .‬هذا بعينــه ما دعت إليه‬ ‫بوية في هدي الرسول ‪.‬‬ ‫السنة َّ‬ ‫الن َّ‬

‫وســعادته وقدراته الجســدية والعقلية والنفســية‪ .‬فقد جاء‬

‫كمــا أكــدت الدراســات الطبية الحديثــة أن أردأ أنواع‬

‫أن ينام اإلنســان على‬ ‫فــي الحديــث الشــريف ّ‬ ‫أن األفضل ْ‬

‫النــوم علــى‬ ‫َ‬ ‫الرســول ‪ ‬حيــن اكتشــف أن الحكمــة مــن َّ‬

‫الجانب األيمن ترجع إلى‪:‬‬

‫النــوم علــى الجانــب األيمــن‪ ،‬يمنــع الضغط على‬ ‫أن َّ‬

‫يســهل‬ ‫المعــدة ويســاعدها علــى تفريــغ محتوياتهــا‪ ،‬كما ِّ‬

‫عمــل القلــب فيمنــع ضغــط المعــدة والحجــاب الحاجز‬ ‫عليــه‪ ،‬وهــذا مــا يجعــل بعــض من ينامــون علــى الجانب‬ ‫النــوم وهــم ُي ِح ُّســون كأن‬ ‫األيســر يســتيقظون فجــأة مــن َّ‬ ‫قلوبهم توشك أن تتوقف عن العمل‪ ،‬وسبب اإلحساس‬

‫في الغالب هو امتالء المعدة‪.‬‬

‫وال يفوتنــا كذلــك أن كثــرة الغــازات فــي المعــدة قد‬

‫تؤدي إلى اإلحساس نفسه بسبب الضغط على الحجاب‬ ‫ِّ‬

‫الحاجز ومن َث َّم على القلب‪.‬‬

‫وقــد أثبتــت التجــارب التــي أجراهــا عديد مــن أطباء‬

‫ونصــف‪ ،‬إذا كان النائــم علــى الجانــب األيمــن‪ ،‬وال يتــم‬ ‫ذلــك إال فــي مــدة تتــراوح بيــن خمــس ســاعات وثماني‬ ‫ســاعات (أي نحــو ضعــف المــدة) إذا كان النائــم علــى‬

‫وبهــذا يعرقــل وصول الدم من هــذه المناطق إلى القلب‪،‬‬ ‫ِم َّما يق ِّلل كمية الدم الواصلة إلى المخ‪ ،‬لهذا تكثر األحالم‬ ‫النــوم علــى الظهــر بعــد األكل مباشــرة‪.‬‬ ‫المزعجــة أثنــاء َّ‬ ‫النوم في الشمس‪ ،‬والدراسات‬ ‫ومن ْ‬ ‫هديِه ‪ْ ‬نه ُيه عن َّ‬ ‫يؤدي إلى اإلصابة‬ ‫الحديثة‪ ،‬أكدت أن َّ‬ ‫النوم في الشــمس ِّ‬ ‫الجــو‬ ‫بأمــراض‬ ‫الحار المعروفة‪ ،‬وهي اإلنهاك الحراري‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫واالنهيار الحراري‪ ،‬وضربة الشمس‪ ،‬وتقلُّص العضالت‬

‫المؤلم‪ ،‬واإلصابة بسرطان الجلد في األماكن المكشوفة‬ ‫نتيجة اإلشعاع‪.‬‬

‫النَّوم في التُّراث العربي‬

‫الحــواس عــن‬ ‫النــوم بأنــه رجــوع‬ ‫عــرف األطبــاء العــرب َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫الحركة‪ ،‬وسكون النفس وانقباضها مع الحرارة الغريزية‬ ‫مــن الدمــاغ إلى داخل الجــوف‪ ،‬وبخارات معتدلة تصعد‬

‫من الجوف إلى الدماغ‪.‬‬

‫رطــب البــدن‬ ‫ويســكن اإلعيــاء‬ ‫ِّ‬ ‫النــوم ُي ِّ‬ ‫وعندهــم أن َّ‬ ‫النوم‬ ‫كتابا فيه‪ :‬هذا هو َّ‬ ‫والقلق‪ ،‬وقد وضع قسطا بن لوقا ً‬ ‫وينحف‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫ويضر بالدماغ ًّ‬ ‫الطبيعي‪ ،‬أما السهر فيج ِّفف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫حتى إنه ربما خلط العقل وجلب األمراض‬ ‫الحادة‪ .‬ولم‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫يكتف‬ ‫النوم‪ ،‬مثل‬ ‫األطباء العرب بهذا‪ ،‬بل درسوا أشكال َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫يتم‬ ‫الغــرب‪ ،‬أن مــرور الطعــام مــن المعــدة إلى األمعــاء‪ّ ،‬‬ ‫فــي مــدة تتــراوح بين ســاعتين ونصــف‪ ،‬وأربع ســاعات‬

‫امتــاء المعدة بالطعــام يضغط على الشــرايين واألوردة‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النبي ‪ ‬قال‪" :‬إذا‬ ‫شــقه األيمن‪ ،‬فعن البراء بن عازب أن‬ ‫َّ ّ‬ ‫وضوءك للصــاة‪ ،‬ثم اضطجع‬ ‫أتيــت مضجعــك فتوضــأ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫علــى ِشــ ّقك األيمن" (رواه أبــو داود)‪ .‬وقد َّأيد الطب حديث‬

‫الظهــر أو بعد تنــاول الطعام‪ ،‬إذ إن‬ ‫النــوم على ّ‬ ‫النــوم هــو َّ‬ ‫َّ‬

‫‪39‬‬


‫علوم‬

‫صالح عبد الستار الشهاوي*‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫النوم على ِّ‬ ‫الشق األيمن‬

‫‪38‬‬

‫النــوم غريــزة أو ظاهــرة عجيبــة فــي حياة‬ ‫َّ‬

‫مع الفارق في بقاء الخاليا حية‪.‬‬

‫فقــد عجــز العلمــاء عــن إعطــاء التفســير‬

‫النوم‪،‬‬ ‫ربــع الراشــدين َ‬ ‫الكندييــن يعانــون مشــكالت فــي َّ‬ ‫ويقــدر الخبــراء أن مئة مليون أمريكــي ال يحصلون على‬ ‫ِّ‬

‫اإلنسان ومعظم المخلوقات‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فالنوم أشبه ما يكون بحالة الموت‬ ‫الدقيق لهذه الظاهرة‪َّ ،‬‬ ‫من حيث انقطاع النائم عن العالم الخارجي المحسوس‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الكنديــة أن‬ ‫أظهــرت دراســة حديثــة لهيئــة اإلحصــاء َ‬

‫جر َي استطالع على ألف‬ ‫النوم‪ .‬وفي ألمانيا ُأ ِ‬ ‫كفايتهم من َّ‬


‫وأتمهم ِذ ْكرا‪ ،‬وأعظمهم شكرا وأكملهم َم ِ‬ ‫اه َّية وأجملهم‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ص‪،‬‬ ‫المخلوقات األخرى التي لها بالبلها كما يوضح َّ‬ ‫الن ّ‬

‫وأبهاهم صورة"‪.‬‬

‫تــؤدي ألحا ًنا مســتمرة‪،‬‬ ‫فــكأن الكــون مجموعة موســيقية ِّ‬ ‫َّ‬ ‫يؤدي دوره المنوط به في بناء هذه األلحان‪.‬‬ ‫وكل واحد ِّ‬ ‫يقول ســعيد الن‬ ‫ور ِســي‪" :‬وعندئذ يبدأ الجميع ‪-‬كلٌّ بلغته‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫الخاصــة وعلــى قــدر حالــه‪ -‬بذكــر اهلل ‪‬‬ ‫والتوجــه إليــه‬ ‫ُّ‬ ‫بالشكر والمحبة والتعظيم والخشوع"‪.‬‬

‫أيضــا إلــى إعطــاء أســلوبه حــرارة‬ ‫ويلجــأ النور ِس‬ ‫ــي ً‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫خاصــة بفعــل األمــر الــذي يســتعمله فــي حواره فــي هذا‬

‫اســكب حنــان‬ ‫ــن يــا عاشــق األزهــار‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ــص فيقــول‪َ " :‬ت َغ َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ْ‬ ‫قلبــك‪ ،‬فاعتصــر لــذاذات عملــك مــن جمــال األزاهيــر‪،‬‬ ‫واب ُث ْث ما شئت من أحزان"‪.‬‬ ‫وتناول أذواق قلبك‪ْ ،‬‬

‫ص أقــدر المخلوقات للتعبير‬ ‫وقــد اختــار صاحب َّ‬ ‫الن ّ‬

‫يقــدم لك‬ ‫أيضــا إلــى التصويــر‬ ‫إنــه يلجــأ ً‬ ‫الحــي الذي ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ال عن‬ ‫صــورة ديناميــة عن العنصر‬ ‫المصــور‪ ،‬فهو يقول مث ً‬ ‫َّ‬ ‫البلبــل‪" :‬تنتقــل مــن فنــن إلــى فنــن وتطيــر من زهــرة إلى‬

‫عــن األفــكار التــي يريــد أن يوصلهــا للقــارئ‪ ،‬فهنــاك‬

‫البلبــل وهــو عنــده َم ِلــك اللحــن‬ ‫وصناجة الطيــر‪ ،‬وهناك‬ ‫َّ‬

‫الك َرم‬ ‫ال َن‬ ‫أخــرى َج ْــذ َ‬ ‫منتشــيا‪ ،‬فيســتخ ُّفك الفرح ويهــ ُّزك َ‬ ‫ً‬ ‫الصغيرين"‪.‬‬ ‫اإللهي العميم فتص ِّفق بجناحيك‬ ‫َ‬ ‫ص أنه َّبين عجز المخلوقات‬ ‫ومما ســعى إليه هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ومنها اإلنسان الذي كرمه اهلل تعالى بالعقل‪ -‬عن إدراك‬‫َّ‬ ‫أســرار هــذا الكــون‪ ،‬لهــذا يقــول بعــد حديثــه عــن ألحان‬

‫المبثوثــون فــي أرجــاء الكــون‪ ،‬فإنهــم أقــدر علــى فهم ما‬ ‫تقــول‪ ،‬وعلــى إدراك مــا تعنــي‪ ،‬وهــم بدورهــم يرفعــون‬

‫رسائلك‪،‬وينقلون أحاديثك إلى اهلل ‪."‬‬ ‫ِ‬ ‫نستشــ ُّفه‪ ،‬وهناك إذن كثيــر ِم َّما ال‬ ‫فقــد قــال بعــض ما‬ ‫ص‬ ‫نعرفــه مــن دالالت التغريد والغناء‪ ،‬ولكن في هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫التدرج في فهم أســرار هذا‬ ‫إشــارة إلى مســألة أخرى هي‬ ‫ُّ‬ ‫الكــون‪ ،‬من البلبل إلى اإلنســان إلــى المالئكة التي ترفع‬ ‫بدورهــا هــذه األلحــان إلــى اهلل ‪ ،‬وهــو العليــم الخبيــر‬ ‫باألسرار كلها‪ ،‬وال يشاركه في ذلك مخلوق‪ ،‬ويريد هذا‬

‫يســبِح عن كل‬ ‫بفيــض حبــه ُ‬ ‫ومذاب عشــقه‪ ،‬وهــذا البلبل ّ‬ ‫ِ‬ ‫مقسم األرزاق‪،‬‬ ‫زهرة ويذكر "بلســان كل وردة على عتبة ّ‬ ‫ومالك الملك"‪.‬‬ ‫وممــا ال شــك فيــه أن الصــوت الحنون الشــجي لهذا‬

‫ــس كل الكائنــات المحيطــة بــه‪ ،‬وهــذا أمر كل‬ ‫الطائــر َ‬ ‫يم ّ‬

‫يركز‬ ‫وقــد قــال إن لــكل الكائنــات بلبلها‪ ،‬بمعنى أنــه ِّ‬

‫علــى الجانــب الجميــل فيهــا‬ ‫والقــوي‪ ،‬وكان هــذا يخــدم‬ ‫ّ‬

‫ــص‬ ‫وتدرجه‪ ،‬ألنه في آخر المطاف ســيتحدث‬ ‫تنامــي َّ‬ ‫ُّ‬ ‫الن ّ‬

‫عن أجمل خلق اهلل تعالى وأفضلهم منزل ًة عنده سبحانه‪،‬‬ ‫وهو الرسول الكريم ‪.‬‬

‫ص‪ ،‬أنه يدفع القارئ المسلم‬ ‫لمس في هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ومما ُي َ‬

‫بخاصــة إلــى التفكُّ ــر في ملكــوت اهلل تعالــى‪ ،‬وفي قدرته‬

‫ســبحانه علــى التحكُّ ــم في الكون وتدبيره بكل انســجام‪،‬‬

‫يبيِــن لنــا أن جمــال الخالــق وجاللــه أمامنــا في كثير‬ ‫كمــا ّ‬ ‫ِم َّما حولنا‪.‬‬

‫ويالحــظ أن أســلوب هــذا الرجل يســعى إلى اإلقناع‬ ‫َ‬

‫وبســط القــول فــي أي موضــوع ُيــراد معالجتــه‪ ،‬واللجوء‬ ‫إلى الحوار والتمثيل والوصف واإلشارة الخاطفة يرتبط‬

‫بأســلوبه‬ ‫العام في كتاباته‪ ،‬ألنه صاحب رســالة ويريد أن‬ ‫ّ‬ ‫يبيِن للخصوم ولغيرهم صدق ما يقوله‪.‬‬ ‫ّ‬

‫(*) جامعــة محمــد األول‪ ،‬كليــة اآلداب والعلــوم اإلنســانية‪ ،‬وجــــــدة ‪/‬‬ ‫المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪ )1‬الكلمــات‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمــة إحســان قاســم‬ ‫الصالحي‪ ،‬ط‪1412 ،1‬هـ‪1992/‬م‪ ،‬دار سوزلر‪ ،‬إستانبول‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫يبيِــن لنــا أن الحيــاة من حولنا فــي حركة دائبة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الن ُّ‬ ‫ــص أن ّ‬ ‫تســتحق مــن عنايــة وفهــم و َت َب ُّصــر‪،‬‬ ‫ولكننــا ال ُن ِع ُيرهــا مــا‬ ‫ُّ‬ ‫يســبِح وله عالقة من الوردة والزهرة‪ ،‬إذ يغمرها‬ ‫فالبلبل ّ‬

‫والغابات"‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫البلبــل‪" :‬هــذا ما نستشــ ُّفه مــن ألحانك أيها البلبــل العزيز‬ ‫وبعض ما َن ْح ِد ُســه من تغاريدك‪ ،‬وربما أنت تقول أشــياء‬ ‫والروحانيون‬ ‫أخــرى ال نرقــى إلــى فهمها‪ ،‬أمــا المالئكــة ُّ‬

‫الزهــرة وهــي‪" :‬ملكــة النبات وأميــرة الحقول والبســاتين‬

‫‪37‬‬


‫منا ومنك على فهم ما تقول‪ ،‬وعلى إدراك ما تعني‪،‬‬ ‫أقدر َّ‬

‫ال ب ِ​ِذ ْك ِــر ا ِ‬ ‫وبالقــرآن‬ ‫ــن‬ ‫تطمئــن القلــوب‪َ  :‬أ َ‬ ‫هلل َت ْط َم ِئ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫وب‪(‬الرعد‪.)28:‬‬ ‫ا ْل ُق ُل ُ‬

‫‪ -4‬تقريــر أن لــكل مخلوقــات اهلل ‪" ‬بالبلها"‪" :‬وال‬

‫ج َّلــت قدرتــه تتبعــه هدايــا‪ ،‬فهــذه البالبــل ‪-‬والبالبــل هنا‬

‫أنواعا أخــرى من مخلوقات‬ ‫لعالــم الطيــور وحدها‪ ،‬وأن‬ ‫ً‬

‫وتغــرد "لهــا هداياها التي تحصــل عليها من‬ ‫تســبِح‬ ‫التــي ّ‬ ‫ِّ‬

‫وهم بدورهم يرفعون رسائلك وينقلون أحاديثك إلى اهلل‬ ‫سبحان وتعالى"‪.‬‬

‫ص األدبي‪ ،‬أن التسبيح للمولى‬ ‫ونستخلص من هذا َّ‬ ‫الن ّ‬

‫يذه َبن بك الوهم أيها اإلنسان فتحسب أن "البالبل" هي‬ ‫َ‬

‫لمخلوقات أخرى إلى جانب الطيور كما سبقت اإلشارة‪-‬‬

‫اهلل ال تعــرف مــن يســبح باســمها ويرفــع آيــات الشــكر‬

‫الم َتــع الذوقية والجمالية التي تدفعها‬ ‫خــال عملها‪ ،‬من ُ‬

‫والحمــد لبارئهــا‪ ،‬فلــكل صنــف ونــوع بلبله الخــاص به‪،‬‬ ‫تلحن‬ ‫وحتى العناكب والنمل والنحل‪ ...‬لها بالبلها التي ِّ‬

‫الجــد فــي أداء واجبهــا في خدمــة الصنعــة الربانية"‪.‬‬ ‫إلــى‬ ‫ّ‬

‫ومــن التقنيــات األســلوبية التــي يلجــأ إليهــا ســعيد‬ ‫ور ِســي‪ ،‬أنــه يقــارن بين هــذه المخلوقات والمرشــدين‬ ‫الن‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫مــر بنــا‪ ،‬كمــا أنــه يم ِّثــل عمــل هــذه‬ ‫واألقطــاب كمــا ّ‬ ‫المخلوقات في أداء واجبها وحصولها على هدايا ربانية‬

‫تسابيحها"‪.‬‬

‫وقــد َقــر َن ال ُّن ِ‬ ‫ــي هــذه العوالم وما يــدور فيها من‬ ‫ْ‬ ‫ورس ُّ‬ ‫َ‬

‫تســبيح‪ ،‬كلٌّ بلغتــه‪ ،‬إلــى فعــل المرشــدين واألقطــاب‪،‬‬ ‫فقــال‪" :‬وقســم من هــذه البالبل ليلية التغريد‪ ،‬فهي تنشــد‬

‫"م َثلهــا فــي ذلــك َم َثل القبطــان الذي يقود ســفينة‬ ‫بقولــه‪َ :‬‬

‫ومشاعر األرواح‪،‬‬ ‫في هدوات الليالي مكنونات القلوب‪،‬‬ ‫َ‬

‫ويلتذ بما يشاهد‬ ‫يتقاضاه من خزانة الدولة‪ ،‬فهو يستمتع‬ ‫ّ‬

‫فتحرك بهذا النشيد‬ ‫قصائدها في دواوين الليل الســاجي‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫وتحرك العقل‬ ‫النفس والروح والوجدان‪،‬‬ ‫وتطهر القلب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬

‫بخاصة أنها نابعة من فطرة سليمة‪.‬‬

‫ــص أن يبيــن لنــا كذلــك أن لهــذه‬ ‫ويريــد صاحــب َّ‬ ‫الن ّ‬

‫ومســي ًِرا لها فــي ألحانها وتســبيحها‪:‬‬ ‫رئيســا‬ ‫المخلوقــات ً‬ ‫ّ‬ ‫"فلكل نوع من أنواع الموجودات وحتى األفالك والنجوم‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫لهــا رئيســها الــذي يقــود حلقــة الذكــر فيها وبلبلهــا الذي‬ ‫يلحن في عتمة الفضاء الواسع أنوارها ويغرد أضواءها"‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪36‬‬

‫والعبرة من هذا التناسق والتدبير الدقيق‪ ،‬أن كل شيء‬ ‫تامين‪ِ ،‬مما ُي ِ‬ ‫فضي إلى‬ ‫يســبِح هلل تعالى في نظام و ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫تناســق َّ ْ‬ ‫خــاص بهذا الكــون من عناصــره الدقيقة الصغيرة‬ ‫جمــال‬ ‫ّ‬ ‫إلى العناصر الكبيرة الضخمة‪ ،‬فسبحان اهلل العظيم!‬ ‫محمدا‬ ‫ور ِســي إلى أن الرســول الكريم‬ ‫وقد أشــار الن‬ ‫ً‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫"المغرد بالقرآن"‪ ،‬والتغريد‬ ‫المسبِحين وهو‬ ‫‪ ‬هو أفضل‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بالقــرآن تســتجيب لــه كل المخلوقــات لمــا يحملــه مــن‬ ‫جمال وجالل‪ ،‬أليس القرآن كالم اهلل ‪‬؟‬ ‫آن َع َلى‬ ‫يقــول ســبحانه وتعالــى‪َ  :‬ل ْــو َأ ْن َز ْل َنا َه َذا ا ْل ُق ْــر َ‬ ‫ــل َلر َأ ْي َت ُــه َخ ِ‬ ‫اش ًــعا ُم َت َص ِّد ًعا ِم ْن َخ ْش َــي ِة اهلل‪(‬الحشــر‪،)21:‬‬ ‫َج َب ٍ َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تمامــا كمــا يفعــل األقطــاب والمرشــدون فــي تحريــك‬ ‫ً‬ ‫عنا ما‬ ‫تدبِج قصائد ‪-‬وال يخفى َّ‬ ‫الذاكرين"‪ .‬وهذه البالبل ّ‬ ‫س‬ ‫تم ُّ‬ ‫تحمله القصائد من أبعاد جمالية ودالالت عميقة‪َ -‬‬

‫سلطانية في ُع ْرض الب َِحار‪ ،‬فإنه زيادة على المرتب الذي‬

‫من مناظر جمالية تعرض له في أثناء إبحاره وتطوافه بين‬

‫الضفاف والشواطئ"‪.‬‬

‫كمــا يجعــل البلبــل مثــل "الســاعة تشــير إلــى الزمــن‪،‬‬

‫وتعلمنا الوقت ولكنها ال تعلم هي ما تفعل"‪.‬‬

‫ص كذلك نجد‬ ‫ومن التقنيات‬ ‫المســتعملة في هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫َ‬

‫ص والبلبل‬ ‫الحــوار‬ ‫المبني على المســألة بيــن صاحب َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو البالبــل كقولــه‪" :‬هــذا بعــض ما نستشــ ُّفه مــن ألحانك‬ ‫أيهــا البلبــل العزيــز‪ ،‬وربمــا أنت نفســك ال تفهــم مقاصد‬ ‫تؤديــه‪ ،‬فجهلك يــا بلبلي العزيز بهذه الغايات ال يعني‬ ‫مــا ِّ‬

‫عدم وجودها"‪.‬‬

‫كمــا يســتعمل تقنية الوصــف الجميل الــذي يجعلك‬

‫ِ‬ ‫ــص‬ ‫ــص‪ ،‬وكل َّ‬ ‫ــس بجمــال مــا يحكيــه صاحــب َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ُتح ُّ‬ ‫وصــف بارع في مواقف مختلفة‪ ،‬ولكن ســنعرض بعض‬ ‫ٌ‬ ‫ص ونهايته من أجل تبيان أهمية‬ ‫ذلك من خالل بداية َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ص‪ .‬يقول في بداية‬ ‫الوصف الفاعل والوظيفي في هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫عملــه‪" :‬أيهــا البلبــل ِ‬ ‫الغ ِّريــد‪ ،‬يــا ملــك اللحن والغنــاء‪ ،‬يا‬ ‫صناجة الطير وقيثارة الغاب"‪ ،‬كما أنه يقول عن الرسول‬ ‫الكريــم ‪" :‬إنــه أفضــل بالبل الكون وأشــرفها‪ ،‬وأعذبها‬ ‫مشــاعر‪ ،‬وألطفهــا ِح ًّســا‪،‬‬ ‫وأرقهــا‬ ‫نــداء‬ ‫صو ًتــا وأعالهــا‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫نورا‪،‬‬ ‫ألم ُع بالبل البشــرية مــن األنبياء والمرســلين ً‬ ‫وهــو َ‬


‫محمدا‬ ‫س إىل أن الرســول الكريــم‬ ‫أشــار النُّو ْر ِ ّ‬ ‫ً‬

‫َت َز ُّين األحجارِ من تدبيره‪ ،‬تصويره‪...‬‬ ‫َت َب ُّسم األزهارِ من تزيينه‪ ،‬تحسينه‪...‬‬

‫‪ ‬هــو أفضل املســ ِّبحني وهو "املغــ ِّرد بالقرآن"‪،‬‬

‫والتغريد بالقرآن تســتجيب لــه كل املخلوقات ملا‬

‫ظاهر‬ ‫جميل‬ ‫حمــد‬ ‫َت َب ُّــرج األثمــار من إنعامــه‪ ،‬إكرامه‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫للفاطر‪.‬‬

‫يحمله من جامل وجالل‪ ،‬أليس القرآن كالم الله ‪‬؟‬

‫َت َس ُّج ِع األطيارِ من إنطاقه‪ ،‬إرفاقه‪...‬‬ ‫َت َه ُّز ِج األمطارِ من تنزيله‪ ،‬تفضيله‪...‬‬

‫ور ِســي وهو التســبيح هلل ‪ ،‬إذ يقول‬ ‫تبليغهــا فــي نص الن‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫ــن َشــي ٍء إ َِّل ُيســ ِب ُح ب َِحم ِ‬ ‫ال‬ ‫ــن َ‬ ‫ــد ِه َو َل ِك ْ‬ ‫‪‬وإ ِْن ِم ْ‬ ‫اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ور ِسي‬ ‫ِيح ُه ْم‪(‬اإلسراء‪ ،)44:‬وقد وقف سعيد الن‬ ‫َت ْف َق ُه َ‬ ‫ون َت ْسب َ‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫يهمنا من هذه اآلية بخاصة‬ ‫مع هذه اآلية كذلك‪ ،‬والذي ُّ‬ ‫هــو أن كل شــيء يســبح بحمــد اهلل تعالــى بمــا فــي ذلــك‬

‫َت َح ُّــرك األقمــارِ من تقديــره‪ ،‬تدويره تســبيح ٌة فصيح ٌة‬ ‫للقادر‪ ،‬بل آي ٌة ّنيرة للقاهر‪.‬‬ ‫ولـ"ســبحان اهلل العظيــم" شــفاء مــن األلــم والحســرة‬

‫التي يعيشها اإلنسان‪ ،‬كيف ال تكون شفاء وهذا اإلنسان‬

‫يتوجــه بهــا إلــى الغنــي خالق الكون ويســبحه؟‬ ‫الضعيــف َّ‬ ‫ور ِسي‪" :‬اعلم! أن َمن في قلبه حياة إذا َت َو َّجه إلى‬ ‫يقول الن‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫الكائنــات يــرى من عظائم األمور مــا ال يحيط به ويعجز‬ ‫عن إدراكه‬ ‫ويتحير فيه‪ ،‬فللتش ِّفي من ألم الحيرة يشتاق إلى‬ ‫َّ‬ ‫"ســبحان اهلل" كتعطُّ ــش العليل الغليل إلــى الماء الزالل"‪.‬‬

‫لــك‪ ،‬بلســان نظامهمــا وميزانهمــا وصنعتهمــا ونقوشــهما‬ ‫وزينتهما‪ ،‬كمـا تناديان إحسانك‪ ،‬وتصيحان على نعمتك‬

‫بإظهــار شــكرك فــي وقــت تلذُّ ذاتهمــا بثمــرات نعمتــك‪،‬‬ ‫تسبِح بحمدك الحشرات‬ ‫ُّ‬ ‫وتنعماتهما بآثار رحمتك‪ ،‬كما ّ‬

‫فــي قرارهــا بدمدمتهــا‪ ،‬والوحــوش في قفارهــا بغمغمتها‬ ‫بألســنة نظاماتهمــا وموازينهمــا وصورهمــا وأشــكالهما‬

‫وتنعماتهما الكريمة وتقلُّباتهما الحكيمة"‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫الطيــر داللــ ٌة علــى أنــه‬ ‫ــص‬ ‫وفــي اختيــار صاحــب َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫َ‬

‫يتحدث عن عوالم قائمة الذات بما حباها به اهلل من قوة‬

‫محصــورة قليلــة‪ ،‬مهمــا بلــغ هــذا اإلنســان مــن العلــم‬

‫معنــى مــن المعانــي المــراد‬ ‫والمعرفــة‪،‬‬ ‫خصوصــا فــي ً‬ ‫ً‬

‫شــك‪ -‬إلــى التفكُّ ــر فــي خلــق الســماوات واألرض كمــا‬ ‫ّ‬

‫دعانــا إلــى ذلك ســبحانه وتعالــى‪ ،‬وهذا مــا كان ينبه إليه‬ ‫ور ِسي من خالل اآليات التي تدور في هذا المحور‪.‬‬ ‫الن‬ ‫ُّ ْ ّ‬

‫أسلوب الحوار مع البلبل‬

‫وقــد لجــأ المؤ ّلِــف إلــى أســلوب الحــوار مــع البلبل في‬

‫هــذه القطعــة األدبية‪ ،‬ومن جملة األفــكار التي يبينها هذا‬

‫الحوار‪:‬‬

‫‪ -1‬أن هــذا البلبــل ربمــا يقــول أشــياء ال نرقــى إلــى‬

‫فهمهــا‪" :‬وربمــا أنــت تقــول أشــياء أخــرى ال نرقــى إلــى‬ ‫فهمهــا‪ ،‬و ُتــو ِدع ُأ ُذن الكــون رســائل ال نــدرك كنهها‪ ،‬وال‬ ‫نعلم سرها"‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ -2‬ربما ال يفهم البلبل مقاصد ما ِّ‬ ‫يؤديه‪" :‬وربما أنت‬ ‫تؤديه‪ ،‬وال تــدرك مغازي ما‬ ‫نفســك ال تفهــم مقاصــد مــا ِّ‬ ‫تفعله‪ ،‬ولكنك رغم ذلك سعيد بعملك"‪.‬‬

‫يوجــد َمــن هو أقدر على فهم هذه الرســائل التي‬ ‫‪َ -3‬‬

‫تنقــل إلــى العزيــز القديــر عا َلــم األســرار‪" :‬أمــا المالئكــة‬ ‫والروحا ِن ُّيــون المبثوثــون فــي أرجــاء هــذا الكــون‪ ،‬فإنهم‬ ‫ُّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫وجمــال وتدبيــر‪ .‬ولعل المراد بالحديث عن هذه العوالم‬ ‫ُي ِحي ُلنــا إلــى مســألة مهمــة‪ ،‬هــي أن هــذه المخلوقات أمم‬ ‫ِ‬ ‫ــن َد َّاب ٍة ِفــي ا َ‬ ‫ال َطا ِئرٍ َي ِط ُير‬ ‫ض َو َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫‪‬و َمــا م ْ‬ ‫كمــا قــال ‪َ :‬‬ ‫اح ْي ِه إ َِّل ُأ َم ٌم َأ ْم َثا ُل ُك ْم‪(‬األنعام‪.)38:‬‬ ‫ب َِج َن َ‬ ‫شــك فيــه أن معرفــة اإلنســان بهــذه األمــم‬ ‫وممــا ال‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومســألة التســبيح عامــة لــكل المخلوقــات‪ .‬قــال‬ ‫الهــوام في‬ ‫ور ِســي‪" :‬ســبحانك يــا َمــن تســبح بحمــدك‬ ‫الن‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫والطيور‬ ‫الهــواء عنــد دورانهــا بزمزمــة َه َزجاتها بشــكرك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شــكرا‬ ‫فــي أوكارهــا مــع أفراخهــا بســجعاتها ونغماتهــا‬ ‫ً‬

‫ال َم َع ُه‬ ‫ــخ ْر َنا ا ْل ِج َب َ‬ ‫الجماد‪ .‬يقول ســبحانه وتعالى‪ِ  :‬إ َّنا َس َّ‬ ‫ِ‬ ‫إل ْشر ِ‬ ‫اق‪(‬ص‪.)18:‬‬ ‫ُي َس ِّب ْح َن بِا ْل َعش ِّي َوا ِ َ‬ ‫هلل ُي َس ِّب ُح َل ُه َم ْن ِفي‬ ‫كما يقول ّ‬ ‫جل شأنه‪َ  :‬أ َل ْم َت َر َأ َّن ا َ‬ ‫الطير َصا َّف ٍ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ال َت ُه‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ات ُكلٌّ َق ْد َع ِل َم َص َ‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫ض َو َّ ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫هلل َع ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ِيح‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ون‪(‬النور‪.)41:‬‬ ‫ُ‬ ‫يم ب َِما َي ْف َع ُل َ‬ ‫َو َت ْ َ ُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫إن مسألة التسبيح من أعظم المعاني التي يغفل عنها‬ ‫ون‬ ‫د َ‬‫التدبر ِّ‬ ‫يؤدي ُ‬ ‫كثير من الناس‪ ،‬والنظر إليها بنوع من ُّ‬

‫‪35‬‬


‫ســواه مــن الطيــر لمــا لــه مــن دالالت عميقــة فــي محــور‬

‫خامســتها‪ :‬تقديــم ألطــف تســبيح إلــى ديــوان رحمــة‬

‫المعنى الذي أراد أن يقدمه لنا‪ ،‬هي الشكر هلل والثناء عليه‬

‫مالــك الملــك ذي الجــال واإلكــرام فــي ألطــف شــوق‬

‫والتســبيح له‪ ،‬وتبيان مكانة محمد رســول اهلل ‪ ‬في هذا‬

‫ووجد‪ ،‬وفي ألطف وجه وهو الورد‪.‬‬

‫الصداح‬ ‫وشاكرا لنعمه‪ ،‬باعتباره‪" :‬ذلك‬ ‫مسب ًِحا هلل‬ ‫َّ‬ ‫الوجود ّ‬ ‫ً‬

‫أهم المعاني‬ ‫وقد سبقت اإلشارة إلى أن التسبيح من ّ‬

‫بنغمــات جميــع الموجــودات في األرض والســماوات‪،‬‬

‫ص يؤكد قيمة‬ ‫ص‪ ،‬وكان صاحــب َّ‬ ‫الــواردة فــي هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫الن ّ‬

‫والصــداح بآيــات اهلل"‪.‬‬ ‫إلــى بارئهــا‪ ،‬المغــرد بالقــرآن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫النبي الكريــم محمد ‪ ‬جاء في آخر‬ ‫والحديــث عــن‬ ‫َّ ّ‬ ‫النــص‪ ،‬وكان تقديــم الحديــث عــن البلبــل وعــن بالبــل‬ ‫َّ‬ ‫يبيِــن لنــا أن أحســنها‬ ‫الكائنــات قبــل ذلــك‪ ،‬ألجــل أن ّ‬

‫ليســمع مــن تر ُّنمات هبوب‬ ‫الســمع‬ ‫اإلعجاز‪" :‬حتى إن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫ربانيــا‪ ،‬ويفهم‬ ‫المطــر‪ ،‬ومــن ســجعات غنــاء الطيــر ً‬ ‫كالما ًّ‬

‫والمقــدم عليها عند‬ ‫ال ألنــه خا َتمها‬ ‫األنبيــاء والرســل‪ ،‬أو ً‬ ‫َّ‬

‫ور ِســي عند مســألة التســبيح وقفات‬ ‫ويقف ســعيد الن‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫لــه دالالتهــا الكبيــرة في إعطاء التســبيح قيمتــه في حياتنا‬

‫باعــث األشــواق إلــى اهلل‪ ،‬وحــادي القلــوب واألرواح‬

‫ال في إشارات‬ ‫التسبيح في مناسبات أخرى‪ ،‬فهو يقول مث ً‬

‫الريــح‪ ،‬ومــن نعــرات رعــد الغيــم‪ ،‬ومــن نغمــات أمــواج‬ ‫البحر‪ ،‬ومن صرخات دقدقة الحجر‪ ،‬ومن هزجات نزول‬

‫النبي الكريم ‪.‬‬ ‫وأجملها هو هذا‬ ‫َّ ّ‬ ‫وفــي هــذا األمــر إظهــار لمكانــة الرســول الكريم بين‬

‫علويا"‪.‬‬ ‫تسبيحا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫اهلل تعالــى‪ ،‬وإظهــار لمكانــة هــذا الرســول ‪ ‬وســط هذه‬

‫ص في خاتمته‪.‬‬ ‫األخيرة التي آل إليها َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ور ِســي (رحمه اهلل) الغايات التي‬ ‫ويحدد لنا ســعيد الن‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫يستعمل اهلل ‪ ‬فيها هذا الطائر العجيب فيقول‪" :‬فمث ً‬ ‫البلبــل المعــروف بعاشــق الــورود واألزهــار‪ ،‬يســتخدم‬

‫الفاطــر الجليــل ذلــك الحيــوان الصغيــر ويســتعمله فــي‬ ‫ُ‬

‫خمس غايات‪:‬‬

‫أُوالَها‪ :‬أنه مأمور ومك َّلف ‪-‬باســم القبائل الحيوانية‪-‬‬ ‫بإعالن ِش َّدة العالقة تجاه طوائف النباتات‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫موظــف بإعــان الفــرح والســرور‪،‬‬ ‫ثانيتهــا‪ :‬أنــه‬ ‫َّ‬ ‫والترحيــب بالهدايــا المرســلة مــن ِق َبــل الــرزاق الكريــم‪،‬‬ ‫رباني يســأل بتغريده أرزاق الحيوانات‬ ‫حيــث إنه خطيب َّ‬ ‫‪-‬ضيوف الرحمن‪ -‬المحتاجين إلى الرزق‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫ثالثتها‪ :‬إظهار حسن االستقبال على رؤوس النباتات‬

‫إمدادا لبني جنسه من‬ ‫تعبيرا عن إرســال النباتات‬ ‫جميعا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الطير والحيوان‪.‬‬

‫رابعتها‪ :‬بيان ِش َّدة حاجة الحيوانات إلى النباتات التي‬

‫حد العشق تجاه الوجوه المليحة للنباتات وإعالنها‬ ‫تبلغ ّ‬ ‫على رؤوس األشهاد‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫سيِدها‪.‬‬ ‫المخلوقات على أشكالها وأنواعها وأنه ّ‬ ‫ــص طريقــة االنتقــال مــن األدنى إلى‬ ‫وبهــذا َّاتخــذ َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫خادمــا للفكــرة‬ ‫ــص‬ ‫األعلــى‪ ،‬وكان البلبــل وغيــره فــي َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫ً‬

‫الخاصة والعامة‪ ،‬وقد جاء في المثنوي العربي النوري‪:‬‬

‫ات‬ ‫ــم َو ُ‬ ‫الس َ‬ ‫هــذه َنــور ُة مــن شــجرة آيــة‪ُ  :‬ت َســ ِّب ُح َل ُــه َّ‬ ‫الســب ُع َوا َ‬ ‫ــن َشــي ٍء إ َِّل ُي َســ ِّب ُح‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ــن َوإ ِْن ِم ْ‬ ‫ض َو َم ْ‬ ‫ــن ِفيهِ َّ‬ ‫َّ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ب َِح ْم ِد ِه‪(‬اإلســراء‪ )44:‬رأيتهــا وقــت انكشــاف األزهــار مــن‬ ‫فتفكرت في‬ ‫فهيجــت جذبتي‬ ‫ُ‬ ‫األشــجار فــي زمن الربيع‪ّ ،‬‬

‫تســبيحاتها‪ ،‬فتكلمت "أنا" لي ال لغيري بهذه التسبيحات‬

‫الفكريــة‪ ،‬فظهــرت هكذا فــي بعضها رقــص الجذبة بنوع‬ ‫وزن يشبه الشعر وليس بشعر‪ ،‬بل قافية ِذ ْكر في جذبة ِف ْكر‪.‬‬ ‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫يســبِح لــه كلُّ شــيء بكلماتــه‬ ‫الحمــد هلل الــذي‬ ‫ّ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫المخصوصة المبصرة كالمسموعة‪ ،‬مث ً‬

‫كلمــات الضيــاء والماء‬ ‫واألنهــار واإلعصــار‬ ‫األنــوار‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫س‪.‬‬ ‫والهواء فق ْ‬ ‫سبحان َمن يحمده‪:‬‬ ‫الضياء باألنوار‪ ،‬والماء والهواء باألنهار واإلعصار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والترب والنبات باألحجار واألزهار‪...‬‬ ‫والجو واألشجار باألطيار واألثمار‪...‬‬ ‫ّ‬

‫والسحب والسماء باألمطار واألقمار‪...‬‬ ‫تأللؤ الضيا ِء من تنويره‪ ،‬تشهيره‪...‬‬ ‫ُ‬

‫تموج الهوا ِء من تصريفه‪ ،‬توظيفه‪...‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫بليــغ ّبي ٌِن‬ ‫مــدح‬ ‫َت َف ُّج ُــر الميــاه مــن تســخيره‪ ،‬تدخيــره‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫للقادر‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إسماعيل إسماعيلي علوي*‬

‫الجمال المعنوي‬ ‫والفني من خالل‬

‫"البلبل"‬

‫ــي (رحمــه اهلل‬ ‫لقــد كتــب ســعيد ال ُّن ْ‬ ‫ورسِ ّ‬

‫ص "البلبل"(‪ )1‬للتعبير عن معنى‬ ‫تعالــى) َن ّ‬ ‫من أجمل المعاني في الوجود‪ ،‬واستطاع‬

‫يقــدم ذلــك فــي ُحلَّــة فنية رائعة‪ ،‬وهــذه القطعة األدبية‬ ‫أن ِّ‬ ‫مصــاف األدباء اإلســاميين الكبار‪،‬‬ ‫ترقــى بصاحبهــا إلى‬ ‫ِّ‬ ‫فهــو فــي هذه القطعة يرتفــع إلى القمة التــي ارتفع إليها‬

‫شاعر الصوفية األكبر موالنا جالل الدين الرومي"‪.‬‬

‫ــص اإلبداعــي ضمــن المقالــة‬ ‫ويمكــن إدراج هــذا َّ‬ ‫الن ّ‬

‫الفنية التي استطاع بها صاحبها أن يطرح أمامنا جملة من‬

‫تم‬ ‫المعاني ساقها في حديثه عن البلبل ومحاورته إياه‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ذلك في صورة تجلب القارئ إليها‪ ،‬وتستدعيه للمشاركة‬ ‫ٍ‬ ‫ص من أفكار‬ ‫ومعان ســامية‪.‬‬ ‫فــي مــا احتوى عليــه هذا َّ‬ ‫الن ّ‬ ‫يقــول فــي الكلمــة الســابعة عشــرة من الكلمــات عن‬

‫قطعــة مــن قطعه الفنية وفيها ذكــر للبلبل ولألزهار‪" :‬هذه‬ ‫القطعة الواردة في المقام الثاني جاءت بما يشــبه الشــعر‬

‫إال أنهــا ليســت‬ ‫شــعرا‪ ،‬ولــم يقصــد نظمهــا بــل إن كمــال‬ ‫ً‬ ‫القطعة كالتالي‪:‬‬

‫إنما الشكوى بالء‪.‬‬

‫بل بالء في بالء‪ ،‬وآثام في آثام وعناء‪.‬‬ ‫وجدت َمن ابتالك‪،‬‬ ‫إذا‬ ‫َ‬

‫وصفاء في صفاء‪.‬‬ ‫عطاء في عطاء‪،‬‬ ‫عاد البالء‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫بهجة عاشقها البلبل‪.‬‬

‫فبغيــر اهلل دنيــاك آالم وعــذاب‪ ،‬وفنــاء وزوال‪ ،‬وهبــاء‬

‫في هباء‪.‬‬

‫وكان هــذا الرجــل (رحمــه اهلل) يســعى فــي كتاباتــه‬

‫جميعهــا إلــى الوقــوف علــى المعانــي التي من شــأنها أن‬

‫تقربنــا إلــى اهلل‪ ،‬ويقول ســمير رجب محمد في كلمة عن‬ ‫ِّ‬

‫مكانــة المعنى في األســلوب األدبي‪" :‬يــرى بديع الزمان‬

‫ضــرورة ترجيح المعنى علــى اللفظ‪ ،‬وهنا نرى أن بديع‬ ‫يبيِن أهمية المعنى في الكالم‪ ،‬لدرجة أنه يعتبر أن‬ ‫الزمان ّ‬

‫الكالم الخالي من المعنى كجسد بال روح"‪.‬‬ ‫النــص "البلبــل" دون‬ ‫وقــد اختــار النور ِس‬ ‫ــي فــي هــذا َّ‬ ‫ُّ ْ ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ال شبيها بالنظم"‪ ،‬وهذه‬ ‫انتظام الحقائق جعلها تتخذ شــك ً‬

‫َد ِع الشــكوى‪ ،‬واغنــم الشــكر‪ ،‬فاألزهــار تبتســم مــن‬

‫‪33‬‬


‫فــي مثــل هذه التجربة يلزم أن يزيــد الوزن بقدر جزء‬

‫من مئة من الرطل‪ ،‬ولكن المجريطي لم يلحظ ذلك‪ ،‬وال‬

‫جزءا من الزئبق قد َت َب َّخر‪،‬‬ ‫شك أن السبب راجع إلى أن ً‬

‫ال للزيادة الناشئة‬ ‫وكان نقص الوزن الناتج من ذلك معاد ً‬ ‫من اتحاد باقي الزئبق باألكسيجين‪ ،‬وإنه من الجحود أن‬

‫نســب ‪-‬كما يقول الدكتور محسن مصطفى‪ -‬أمثال هذه‬ ‫ُت َ‬

‫التجــارب التاريخيــة إلى علماء من اإلفرنج‪ ،‬من دون أن‬ ‫ُيشــار إلــى البادئيــن بها من العــرب والمســلمين‪ .‬وجدير‬ ‫بالذكــر أن قاعــدة بقــاء‬ ‫المــادة تقــول إن "مجمــوع كتــل‬ ‫َّ‬ ‫المــواد الداخلــة فــي أي تفاعل كيميائي‪ ،‬مســاوٍ لمجموع‬ ‫ّ‬ ‫كتــل‬ ‫وي ِضيــف الدكتــور‬ ‫ِّ‬ ‫المــواد الناتجــة عــن التفاعــل"‪ُ .‬‬ ‫السمري‪" ،‬وليس ثمة شك في أن قاعدة بقاء‬ ‫المادة التي‬ ‫َّ‬

‫إنجــازا‬ ‫ــد‬ ‫مبتك ًــرا‪ ،‬ال َج َرم‬ ‫علميا َ‬ ‫وضعهــا المجريطــي‪ُ ،‬ت َع ُّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫ومــن أتــى بعدهمــا مــن علمــاء‬ ‫أن بريســتلي والفوازييــه‪َ ،‬‬ ‫الكيميــاء‪ ،‬قــد اســتفادوا منهــا وارتكــزوا عليهــا لالنطالق‬

‫نحو آفاق جديدة في علم الكيمياء"‪.‬‬

‫غريبــا أن نجــد الدكتــور علــي عبد‬ ‫مــن هنــا ال يكــون ً‬ ‫يؤكــد أن كتــاب "غايــة الحكيــم" للمجريطــي‬ ‫اهلل الدفــاع‪ِّ ،‬‬ ‫ال يســتغني عنــه باحــث فــي تاريــخ الحضــارة اإلســامية‬

‫خــال القــرون الوســطى‪ ،‬فهــو ال يحتــوي علــى تاريــخ‬ ‫الكيميــاء فقــط‪ ،‬بــل على كثير مــن االســتنتاجات العلمية‬

‫التي َت َو َّص َلت إليها األمم السابقة لأل َُّمة العربية اإلسالمية‬ ‫فــي كل من الكيميــاء والفلك والرياضيــات وعلم ِ‬ ‫الح َيل‬ ‫(الميكانيكا) والتاريخ الطبيعي‪.‬‬ ‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬الفلك عند العرب والمســلمين‪ ،‬للدكتور زين العابدين متولي‪ ،‬ج‪،2‬‬ ‫الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1997‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬العلــوم البحتــة فــي الحضــارة العربية‪ ،‬للدكتور علي عبــد اهلل الدفاع‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت ‪1983‬م‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫(‪ )3‬عمالقــة العلــوم التطبيقيــة‪ ،‬لســليمان فيــاض‪ ،‬الهيئــة المصريــة العامة‬ ‫للكتاب ‪2001‬م‪.‬‬

‫(‪ )4‬العلــوم والهندســة في الحضارة اإلســامية‪ ،‬لدونالــد ر‪.‬هيل‪ ،‬ترجمة‬ ‫د‪.‬أحمــد فــؤاد باشــا‪ ،‬عالــم المعرفــة‪ ،‬العــدد‪ ،305:‬الكويــت‪ ،‬يوليــو‬ ‫‪2004‬م‪.‬‬

‫(‪ )5‬أبو القاسم المجريطي كيمياوي العرب والمسلمين‪ ،‬للدكتور محمد‬ ‫مصطفى السمري‪ ،‬منار اإلسالم‪ ،‬العدد ‪ ،375‬أبريل ‪2006‬م‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الرصاخ ال يجدي!‬ ‫صارخً ا ت َ​َظ ُّل‪ ،‬باك ًيا تبقى‪،‬‬ ‫بال َويل وال ّثبور وعظائم األمور تنادي‪...‬‬ ‫والنريان زاحفة‪ ،‬والحرائق آتية‪،‬‬ ‫تح َّر ْك! ابتعث عزماتك‪،‬‬ ‫رس سالسل إرادتك‪..‬‬ ‫وا ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ألف عام لو‬ ‫رصخت‪،‬‬ ‫ما‬ ‫انطفأت نار‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وال خمد ُس َعار‪...‬‬ ‫***‬


‫ومــن أشــهر هــؤالء التالميــذ أبــو القاســم الغرناطــي‬

‫الكيمياء في الحضارة العربية اإلسالمية على أن المعادن‬

‫السمح‪ ،‬والزهراوي‪ ،‬وابن خلدون‪ ...‬وقد استقى األخير‬

‫األربعــة التي هي أســاس لــكل الكائنــات والموجودات‪،‬‬

‫االجتماع‪ ،‬ومص ّن ًفا لمختلف العلوم اإلسالمية واإلنسانية‪.‬‬

‫علم الكيمياء‪.‬‬

‫(ت‪1035‬م)‪ ،‬وأبــو بكــر الكرمانــي (ت‪1066‬م)‪ ،‬وابــن‬

‫تختلف‪ ،‬ولكن هذا االختالف راجع إلى نســبة الطبائع‬

‫كتابيــه "رتبــة الحكيــم" و"غايــة الحكيم" بعــض مادة‬ ‫مــن َ‬ ‫مؤس ًسا لعلم‬ ‫مقدمته الشهيرة‪ ،‬التي اع ُتبر بها ابن خلدون ِّ‬

‫كمــا وافقــه على أن باإلمــكان تحويل المعــادن الرخيصة‬ ‫إلى معادن نفيســة بواســطة اإلكسير‪ ،‬الذي تو ِّفره تجارب‬

‫ولقــد عكــف المجريطــي علــى التصنيــف فــي فــروع‬

‫وقد اشتهر المجريطي شهرة كبيرة بتحضيره "أوكسيد‬

‫المعرفــة المختلفــة‪ ،‬مثــل الفلــك والكيميــاء والحيــوان‬

‫الزئبــق"‪ ،‬إذ لم يســبقه أحد فــي وصف التجربة التي َّأدت‬ ‫بالذ ْكر أن‬ ‫إلى تحويل الزئبق إلى أوكسيد الزئبق‪ .‬وجدير ِّ‬

‫بالتعمق في العلوم‬ ‫والرياضيــات‪ ،‬وقد اصطبغت مؤ َّلفاته‬ ‫ُّ‬

‫امتدت إلى‬ ‫األساســية البحتة‪ ،‬وفي جوانبها النظرية‪ ،‬كما َّ‬

‫ال من بريستلي والفوازييه استفاد من هذه التجربة‪ ،‬ولم‬ ‫ك ًّ‬

‫العلــوم التطبيقيــة والعمليــة‪ .‬ويذكــر خير الديــن الزركلي‬

‫طورا التجربة المعملية‬ ‫يذكر دوره العلمي في ذلك‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ِ‬ ‫المس ِلم الجليل‪.‬‬ ‫التي أجراها هذا العالم ُ‬ ‫وقــد اعتــرف الغــرب حدي ًثــا بفضــل المجريطي على‬

‫صنفها‬ ‫فــي موســوعته "األعــام" بعــض المؤ َّلفــات التــي َّ‬ ‫عــرف‬ ‫المجريطــي ككتــاب ثمــار العــدد فــي الحســاب ُ(ي َ‬

‫بـ"المعامالت")‪ ،‬وكتاب "اختصار تعديل الكواكب من زيج‬

‫علم الكيمياء في العصر الحديث حين قال هولميارد في‬

‫البتاني"‪ ،‬وكتاب "رتبة الحكيم" في الكيمياء‪ ،‬وكتاب "غاية‬

‫المجريطي والكيمياء‬

‫لتفوقه‬ ‫ُل ّقِــب المجريطــي بكيميــاوي العــرب والمســلمين ُّ‬

‫فــي علــم الكيميــاء‪ ،‬إذ لــم يتوقــف فــي هــذا العلــم علــى‬

‫المتوارثــة مــن الحضارات‬ ‫المعــارف والحقائــق النظريــة‬ ‫َ‬ ‫خصوصــا الحضــارة اإلغريقيــة‪ ،‬بــل إنــه اشــتغل‬ ‫القديمــة‬ ‫ً‬ ‫مرس بخبراته العلميــة داخل المعامل‬ ‫بعلــم الكيميــاء‪ ،‬و َت َّ‬ ‫العربية واإلســامية‪ .‬وقد ألَّــف فيه كتابين صارا مرجعين‬

‫لعلمــاء الكيمياء في الشــرق والغــرب هما "رتبة الحكيم"‬ ‫أهم المصادر‬ ‫و"غاية الحكيم"‪ُ .‬‬ ‫ويعتبر الكتاب األول من ِّ‬

‫التــي ُيعتمــد عليهــا فــي تاريخ الكيمياء في بــاد المغرب‬ ‫واألندلس‪ .‬وقد اعتمد ابن خلدون في بعض موضوعات‬ ‫خصوصا حين َّأرخ‬ ‫مقدمتــه على بحوث هذين الكتابين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لعلــوم الكيميــاء والســيمياء والحكمة والفالحــة‪ .‬كما أن‬

‫المــادة أو الكتلــة التي لم‬ ‫فخــرا أنــه انتبــه إلــى قاعدة بقاء‬ ‫َّ‬ ‫ً‬

‫ينتبــه إليهــا أحــد َق ّط مــن الكيميائيين الســابقين له"‪ ،‬وبعد‬ ‫ــي ســتة قــرون َط َّور كل من بريســتلي والفوازييه هذه‬ ‫م ِض‬ ‫ُ ِّ‬ ‫مهمــا عبــر التاريــخ‪ ،‬و ُت َع ُّد من‬ ‫دورا ًّ‬ ‫القاعــدة التــي لعبــت ً‬ ‫خاصا‬ ‫صمم المجريطــي فر ًنا ًّ‬ ‫ُأ ُســس علــم الكيميــاء‪ .‬وقد َّ‬ ‫اســا بخمــس صفــات‬ ‫حس ً‬ ‫للتقطيــر اآللــي‪ ،‬وأبــدع ميزا ًنــا َّ‬

‫(ك َّفــات) تطفو فوق ســطح الماء‪ ،‬من أجــل إثبات الوزن‬ ‫واهتــم‬ ‫النوعــي لمــادة كان يريــد وضعهــا قيــد االختبــار‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫خاصا بتجارب االحتراق والتفاعالت التي تنتج‬ ‫اهتماما ًّ‬ ‫ً‬ ‫عــن هــذا االحتــراق‪ ،‬والتغيــرات التــي تحدث فــي أوزان‬ ‫المواد التي تحترق‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫لقــد وصــف المجريطــي تجربــة أجراها بنفســه فقال‪:‬‬

‫"أخذت الزئبق الرجراج الخالي من الشــوائب‪ ،‬ووضعته‬ ‫ُ‬

‫في قارورة زجاجية على شكل بيضة‪ ،‬وأدخلتها في وعاء‬ ‫نــارا هادئة بعــد أن غطيته‪،‬‬ ‫يشــبه أوانــي الطهو‪ ،‬وأشــعلت ً‬

‫لتطــور الكيميــاء فــي القرون الوســطى‬ ‫فــي هــذا الكتــاب‬ ‫ُّ‬

‫يوما وليلــة مع مراعاة أن ال تزيد‬ ‫وتركتــه يســخن أربعين ً‬ ‫الحد الذي أستطيع معه أن أضع يدي على‬ ‫الحرارة على‬ ‫ِّ‬

‫العالَم القديم‪ ،‬وفي أزمنة اليونانيين والمصريين القدماء‪.‬‬

‫وزنــه فــي األصل ربع رطل صار جميعه مســحو ًقا أحمر‬

‫نجزات األمم السابقة في الكيمياء في‬ ‫السابقة له‪،‬‬ ‫وسجل ُم َ‬ ‫َّ‬ ‫وقد اتفق المجريطي مع جابر بن حيان مؤسس علم‬

‫الوعاء الخارجي‪ .‬بعد ذلك الحظت أن الزئبق الذي كان‬

‫أملس‪ ،‬وأن وزنه لم يتغير"‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫رج َم إلى الالتينية بأمر من الملك‬ ‫كتاب "غاية الحكيم" ُت ِ‬ ‫بالذكر أن المجريطي َّأرخ‬ ‫ألفونسو عام ‪1252‬م‪ .‬وجدير ِّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحكيم" في الكيمياء‪ ،‬و"رســالة في اإلســطرالب"‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫كتابــه "الكيمياء حتى عصــر دالتون"‪" :‬ويكفي المجريطي‬

‫‪31‬‬


‫نســب‪ .‬وانتقــل إلــى قرطبــة حيــث عــاش و ُت ُو ِّفــي‬ ‫وإليهــا ُي َ‬ ‫َ‬ ‫هنــاك فــي أوج ازدهــار الحضــارة العربيــة اإلســامية في‬

‫المجريطــي ال يكتفــي بتحريــر زيــج الخوارزمــي بــل إنــه‬

‫ولقــد اعتمــد المجريطــي فــي بحوثــه الكيميائية على‬

‫به العرب والمســلمون‪ ،‬ويختصر جداول البتاني الفلكية‬

‫ومــا تنتجــه من صور وتفاعــات كيميائية جديدة‪ .‬كذلك‬ ‫مبكر إلى قاعدة كيميائية أصيلة‬ ‫انتبه المجريطي منذ وقت ِّ‬

‫أه ِّم مصادر‬ ‫العربــي إلــى بالد األندلس‪ ،‬حيث بق َِيــت من َ‬

‫عب َرها‬ ‫المعرفة هناك‪ ،‬وحيث ُو َ‬ ‫جدت لها مسارب ومنافذ َ‬

‫مــن الكيميائييــن قبلــه‪ ،‬ولم ينتبــه إليها أحد بعــده إال بعد‬

‫الالتينيــة‪ .‬لذلــك نجد رســالته عن اإلســطرالب يترجمها‬

‫وطوراهــا‪ ،‬و ُت َع ُّد قاعدة‬ ‫اإلنجليــزي والفوازييه الفرنســي‪َّ ،‬‬ ‫المادة من ُأ ُسس الكيمياء الحديثة‪.‬‬ ‫بقاء‬ ‫َّ‬

‫بطليمــوس‪ ،‬يترجمــه رودلف أوف برجــس إلى الالتينية‪،‬‬

‫إضافة إلى كتاب "الحساب التجاري"‪.‬‬

‫اشــتغال مــن يريــد دراســة علــم الكيميــاء بدراســة العلوم‬

‫ال ُّتراث اإلسالمي" أن المجريطي اختصر جداول البتاني‬

‫قديمــا‪ ،‬لذلــك وجدنــا‬ ‫هــذا العلــم مــن العلــوم الرياضيــة ً‬ ‫يغير تاريخه الفارســي إلــى التاريخ الهجري‪ ،‬الذي يأخذ‬ ‫ِّ‬

‫بالد األندلس‪.‬‬

‫وينقلهــا مــع كثير مــن العلــوم التي يأخذها من المشــرق‬

‫التجربــة المخبريــة‪ ،‬والمالحظــة للتفاعــات الكيميائيــة‪،‬‬

‫إلــى أوروبــا عصــر النهضــة بعــد أن ُترجمــت إلــى اللغــة‬

‫المــادة"‪ ،‬وهي التــي لم ينتبــه إليها أحد‬ ‫هــي قاعــدة "بقــاء‬ ‫َّ‬

‫جــون هبالينيــس إلى الالتينية‪ ،‬وكذلــك تعليقه على إنتاج‬

‫أكثــر من ســبعة قــرون‪ ،‬حين انتبه إليها العالمان بريســتلي‬

‫ويذكــر نفيــس أحمد في كتاب "الفكــر الجغرافي في‬

‫وقــد دعــا المجريطي ‪-‬ربما ألول مــرة‪ -‬إلى ضرورة‬

‫مرجعــا لعلمــاء الفلــك‪،‬‬ ‫المختصــر‬ ‫الفلكيــة‪ ،‬فصــار هــذا‬ ‫َ‬ ‫ً‬

‫وتفهــم أصولها‪ ،‬ليس لهذا فحســب َت َع َّمق‬ ‫الرياضيــة أو ً‬ ‫ال ُّ‬ ‫بأهميــة الدقــة والضبط التي تتصف بهــا العلوم الرياضية‪،‬‬

‫تمتد إلى بقية العلوم الطبيعية المشــتبهة‬ ‫والتــي يمكــن أن َّ‬

‫بها أو المرتبطة بها‪ ،‬كأنه كان يتنبأ بأهمية استخدام العلوم‬

‫وعندمــا درس المجريطــي إنتــاج علمــاء اليونــان فــي‬

‫لز ًمــا بالتعليــق عليهــا‪،‬‬ ‫حقــل الرياضيــات‪ ،‬وجــد نفســه ُم َ‬

‫القاضي صاعد األندلسي في كتابه "طبقات األمم"‪ ،‬أن أبا‬

‫وأيضا‬ ‫النشــأة والبيئــة على تكوين‬ ‫ونمــو الكائنات الحية‪ً ،‬‬ ‫ّ‬

‫وبقيت‬ ‫التجاري‪ ،‬المعروف آنذاك بحســاب المعامالت‪َ ،‬‬

‫بتاريــخ تطور الحضارات البشــرية‪ .‬وقد ن َّقح المجريطي‬ ‫زيــج "الســند هنــد" للخوارزمــي فــي قرطبــة نحــو عــام‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫والعمل على اإلسطرالب‪.‬‬

‫خصوصــا الفلــك والكيمياء بالمنهــج الرياضي‬ ‫الطبيعيــة‬ ‫ً‬ ‫الك ِّمــي الــذي ســوف تتبنــاه العلــوم الطبيعيــة فــي العصــر‬ ‫َ‬ ‫الحديث للتعبير عن ظواهرها وحقائقها بأساليب ورموز‬ ‫ِ‬ ‫ال من األلفــاظ والمصطلحــات الكيفية‬ ‫كميــة رياضيــة بــد ً‬ ‫ّ‬ ‫قديما تلك العلوم‪.‬‬ ‫والذاتية التي كانت تستخدمها ً‬ ‫أيضــا بعلــم‬ ‫وال يمكــن أن ُنغ ِفــل اهتمــام المجريطــي ً‬ ‫اهتم بأثر‬ ‫الحيــل أو الميكانيــكا‪ ،‬وبالتاريخ الطبيعي‪ ،‬وقد ّ‬

‫‪30‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المجريطي في العلوم الرياضية والهندسية‪ ،‬بل إلحساسه‬

‫إضافــة إلى كتبه فــي ثمار علم العدد‪ ،‬وتعديل الكواكب‪،‬‬

‫ثــم التأليــف فــي هــذا المجــال الجديــد علــى العــرب‬

‫طوروا‬ ‫والمســلمين‪ ،‬فــكان بهذا من علماء العــرب الذين َّ‬ ‫نظريــات األعــداد وهندســة إقليــدس التي ســادت العصر‬ ‫ال‪ .‬ثم كتب ُك ُت ًبا في الحســاب التجاري‪،‬‬ ‫زمنا طوي ً‬ ‫القديم ً‬ ‫ال في جميع أنحاء العالم‪ .‬لذلك يذكر‬ ‫الــذي صــار متداو ً‬

‫رائعا يبحث في الحساب‬ ‫القاسم المجريطي َّ‬ ‫كتابا ً‬ ‫صنف ً‬

‫ــد َّرس في جميع‬ ‫نظريــات المجريطــي فــي الرياضيــات ُت َ‬ ‫جامعات الغرب والشرق على السواء‪.‬‬

‫‪390‬هـــ‪1000/‬م‪ ،‬وقد ترجم من بعده أديالرد الباثي هذا‬ ‫ّ‬ ‫تطور علم‬ ‫الزيــج المن َّقــح إلــى الالتينية‪ِ ،‬م َّما ســاعد على ُّ‬ ‫الفلك في بداية النهضة األوربية‪.‬‬

‫كانت مدرسة المجريطي في قرطبة عبارة عن معهد علمي‬

‫المجريطي بين الرياضيات والفلك‬

‫التكنولوجيــة والمعاهــد الحديثــة)‪ ،‬وقــد أنجــب تالميــذ‬

‫لــم يبــرع المجريطــي في علــوم الرياضيات فحســب‪ ،‬بل‬

‫أيضــا في علــم الفلــك‪ ،‬وقد كان‬ ‫بــرزت موهبتــه العلميــة ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مدرسة المجريطي ومؤلَّفاته‬

‫يضــم العلــوم البحتــة والتطبيقيــة (علــى غــرار الجامعات‬ ‫ُّ‬ ‫كثيريــن‪ ،‬أنشــأ بعضهم مدارس علميــة في جميع أطراف‬

‫خصوصــا بــاد المغــرب واألندلس‪.‬‬ ‫العالــم اإلســامي‪،‬‬ ‫ً‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫المجريطي‬

‫بين الكيمياء وعلم الفلك‬ ‫ُيعتبــر أبــو القاســم المجريطــي (‪338‬هـــ‪950/‬م) مــن نوابــغ علمــاء العــرب‬

‫والمسلمين في األندلس‪ ،‬إذ كان موسوعة زمانه في جميع فروع المعرفة‪،‬‬ ‫يقــول ديفيــد يوجين ســميث في كتابــه "تاريخ الرياضيات"‪" :‬إن َأبا القاســم‬

‫المتحابة‪،‬‬ ‫غر ًما باألعداد‬ ‫ومشــهورا بتفوقه على غيره من‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫مســلمة بن أحمد المجريطي كان ُم َ‬ ‫علمي الفلك والهندســة"‪ .‬ويضيف ســيد حســين‬ ‫علماء العرب والمســلمين في األندلس في َ‬

‫من علَّق على الخريطة الفلكية لبطليموس ورسائل إخوان الصفا والجداول الفلكية لمحمد‬

‫بن موسى الخوارزمي من علماء العرب والمسلمين في األندلس‪ .‬كان له شهرة عظيمة في‬ ‫الرياضيات والفلك‪ ،‬إضافة إلى ما ناله من احترام وتقدير لمجهوداته الجيدة في علم الكيمياء"‪.‬‬ ‫ــد في مجريط (مدريد عاصمة إســبانيا اليوم)‬ ‫وقــد ُع ِــر َف المجريطــي بهذا االســم ألنه ُو ِل َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫أول‬ ‫نصــر فــي كتابه "العلوم والحضارة في اإلســام"‪ُ :‬‬ ‫"ع ِــر َف المجريطي عند األوربيين بأنه َّ‬

‫‪29‬‬


‫وم ِ‬ ‫واط ِنيه من غير أهل ِم َّلته‪.‬‬ ‫ُ‬

‫والخ ّط والرمل‪،‬‬ ‫التقليــد والتبعيــة‪ ،‬ومن الكهانة والعرافــة َ‬ ‫ضد كل ما‬ ‫وكيف بنى الحواجز النفسية في عقول أتباعه ّ‬

‫الحكــم اإلســامي عبــر العصــور‪ ،‬حفــظ الطوائــف‬ ‫ــن نســيجه االجتماعــي‪ ،‬ولــم‬ ‫والمذاهــب المختلفــة ِض ْم َ‬

‫الجاهلية"‪" ،‬حكم‬ ‫"حمية‬ ‫الجاهلية"‪،‬‬ ‫"جاهلية"‪" :‬تبرج‬ ‫هو‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫الجاهلية"‪ ...‬حتى‬ ‫الجاهلية"‪" ،‬عصبيــة‬ ‫الجاهليــة"‪" ،‬فخــر‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫يفــرض عليهــم تغييــر مذاهبهــم‪ ،‬وإن كان يجادلهم بالتي‬

‫جاهلية" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫قال ‪ ‬ألبي َذ ّر ‪" :‬إنك امرؤ فيك‬ ‫َّ‬

‫هي أحسن‪.‬‬

‫لــم يهادن الوثنية طرفــة عين مهما كانت التضحيات‪،‬‬

‫تغذيهــا‬ ‫حيــن يتهتــك هــذا النســيج بســبب صدامــات ِّ‬ ‫السياسة‪ ،‬وتح ِّفز عليه الجهالة ويضرمها‬ ‫التعصب وضيق‬ ‫ُّ‬

‫صنمــا فلــم يهدمهــا‪ ،‬ألن إعــادة‬ ‫الكعبــة ثالثمئــة وســتون ً‬

‫بويــة بحســن الجوار حتى مــع الخصوم‪ ،‬وقد‬ ‫الوصيــة َّ‬ ‫الن َّ‬

‫وســعى لهدمهــا فــي عقــول النــاس ومشــاعرهم‪ ،‬وبنــاء‬

‫التوحيــد‪ ،‬ولكنــه دخــل مكــة فــي عمــرة القضــاء وحــول‬

‫ا ُ‬ ‫أل ُفــق‪ ،‬تقــع المصادمــات بيــن الجيــران‪ ،‬وينســى الناس‬

‫بنائهــا ســهلة وبطريقــة أفضل لدى مــن ال يزالون يؤمنون‬

‫النبي ‪ ‬مع جاره اليهودي‪.‬‬ ‫تعامل‬ ‫الس َّنة عن ُ‬ ‫حكت لنا ُّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫عنــد الصــدام يتراجــع مســتوى الوعــي والعقــل‪،‬‬

‫بهــا‪ ،‬ويملكــون فعــل ذلــك‪ ،‬ولــم يهدمها حتــى فتح مكة‬

‫ومن عليها‪ ،‬وصنع القناعة الراســخة‬ ‫ودانــت لــه األرض َ‬

‫الظن باآلخر واالســتعداد ألســوأ‬ ‫هرع الناس إلى ســوء ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وي َ‬ ‫ِ‬ ‫األولي البدائي‪.‬‬ ‫االحتماالت فيعودون للوعي‬ ‫َّ ّ‬ ‫العقالء يدركون أن هذا األمر طارئ وقابل للتراجع‬ ‫حيــن تضــع الحروب أوزارها‪،‬‬ ‫ويفكــر الناس بالمصالح‬ ‫ِّ‬

‫ببطالنهــا لــدى القاعــدة العريضــة مــن النــاس حتــى قــال‬ ‫شيئا ما خذلتنا"‪.‬‬ ‫قائلهم‪" :‬لو كانت ُتغ ِني ً‬ ‫يظهــر صبــره ‪ ‬فــي التعايــش مــع الوثنييــن بمكــة‪،‬‬

‫عليهــم مــع صدودهــم وأذاهــم وعدوانهــم عليــه وعلــى‬

‫أصحابه من الرجال والنساء‪.‬‬

‫ســاك َن اليهــود والوثنييــن مــن‬ ‫ــم فــي المدينــة حيــث َ‬ ‫ُث َّ‬

‫األوس والخــزرج والمنافقيــن وضعفــاء اإليمــان الذيــن‬

‫ظلُّــوا موجوديــن إلــى آخــر حياتــه‪ ،‬فقــد نزلــت ســورة‬ ‫الحجــرات ســنة تســع‪ ،‬وفيهــا التحذيــر من ســوء األدب‬

‫معــه‪ ،‬ورفــع الصــوت‪ ،‬ومن التنابــز باأللقاب والســخرية‬ ‫وختمت بقوله ‪َ  :‬قا َل ِ‬ ‫ــت ا َ‬ ‫آم َّنا‬ ‫وســوء‬ ‫الظــن‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أل ْع َر ُ‬ ‫اب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان ِفي‬ ‫ِيم ُ‬ ‫ُق ْل َل ْم ُت ْؤم ُنوا َو َلك ْن ُقو ُلوا َأ ْس َل ْم َنا َو َل َّما َي ْد ُخ ِل اإل َ‬ ‫ِ‬ ‫هلل َورســو َل ُه َ ِ‬ ‫ــم ِم ْن أ َْع َما ِل ُك ْم‬ ‫ــم َو ِإ ْن ُتط ُيعــوا ا َ َ ُ‬ ‫ال َيل ْت ُك ْ‬ ‫ُق ُلوب ُِك ْ‬ ‫ِ‬ ‫يم‪(‬الحجرات‪.)14:‬‬ ‫َش ْي ًئا إ َِّن ا َ‬ ‫هلل َغ ُف ٌ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫يهودي‬ ‫ولقد مات رســول اهلل ‪ ‬ودرعه مرهونة عند‬ ‫ٍّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫علــى طعــام اشــتراه ألهلــه‪ ،‬لقــد كان الشــراء بالنســبة إليه‬

‫‪28‬‬

‫خيرا‪ ،‬وهذا أســاس‬ ‫خيــرا‪ ،‬والبيــع بالنســبة إلــى اليهودي ً‬ ‫ً‬ ‫التعايــش‪ ،‬أن تــدرك أن مصلحتــك قــد تكــون مصلحــة‬ ‫أيضا والعكس بالعكس‪.‬‬ ‫اآلخرين ً‬

‫بوية‬ ‫درســا‬ ‫عمليــا لألجيــال أن تكــون المدينــة َّ‬ ‫كان ً‬ ‫الن َّ‬ ‫ًّ‬ ‫عاصمــة اإلســام ا ُ‬ ‫ألو َلــى حافلــة بهــذا التنــوع‪ ،‬ليتعلــم‬ ‫الناس أســلوب الداعية العظيم في التعامل مع ُم ِ‬ ‫ســاك ِنيه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واســتنفاد الوســائل كا َّفــ ًة فــي مصابرتهــم وســعة الصــدر‬

‫ساكنة‪.‬‬ ‫والم َ‬ ‫المشتركة والعيش ُ‬

‫الروم بأنهم "أســرع‬ ‫لهــذا مدح عمــرو بن العاص ‪ُّ ‬‬

‫الناس إفاقة بعد مصيبة"‪.‬‬

‫الجمعي لهم‪،‬‬ ‫هــو هنــا يتحــدث عن صفة فــي العقــل َ‬

‫وأنهم يتجاوزون فترات التوتر والحرب واالحتقان‪ ،‬إلى‬

‫ميدان الحوار والبحث عن‬ ‫المشــترك‪ ،‬وهذا ما شــاهدناه‬ ‫َ‬

‫فــي أوروبــا بعــد الحربين العالميتين‪ ،‬إذ اتجهت شــعوبها‬ ‫إلــى العولمــة واالتحــاد فــي الســوق األوروبيــة‪ ،‬ثــم فــي‬

‫االتحاد األوروبي‬ ‫يظل بعض‬ ‫بمؤسســاته الضخمة‪ ،‬بينما ّ‬ ‫َّ‬

‫القبائــل العربيــة ‪-‬بســبب عــادة الثــأر‪-‬‬ ‫محتفظــا بعداوتــه‬ ‫ً‬ ‫القديمــة‪ ،‬يلقنهــا ألجيالــه الشــابة ويعيــد إنتــاج قصصــه‬ ‫وأشعاره كأنها حدثت البارحة‪.‬‬

‫طابعا‬ ‫مذهبيا أو صفة حزبية‪،‬‬ ‫وقد يأخذ هذا االحتقان ً‬ ‫ًّ‬ ‫في ِ‬ ‫النــاس‬ ‫قحــم‬ ‫المذهب أو االنتماء السياســي أو الفكري‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫في عالقاتهم‪ ،‬وتجد هذا لدى اإلسالمي والعلماني‪ِ ،‬م َّما‬ ‫يــدل علــى أن الفكــر لــم يفلــح فــي تهذيب هــذه النزعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشمال‪.‬‬ ‫وجهها ذات اليمين أو ذات ِّ‬ ‫ولكنه َّ‬

‫(*) عالم ومفكر وداعية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬سلمان العودة*‬

‫تغيير نبوي‬ ‫ســلميا‬ ‫أعمــق تغييــر فــي التاريــخ كان‬ ‫ًّ‬

‫غيــر‬ ‫وهاد ًئــا‪ ،‬ولكنــه حاســم وعميــق‪َّ .‬‬ ‫النبي ‪ ‬المعتقدات والسلوك والعادات‬ ‫َّ ّ‬ ‫االجتماعيــة باإلقناع والرفق والرحمة واللين‪ ،‬واســتخدم‬

‫القوة في أضيق نطاق‪.‬‬

‫ثالث عشرة سنة في مكة كانت مرحلة استضعاف‪.‬‬ ‫معركــة بدر كانت مــن غير ترتيب‪ ،‬معركة ُأ ُحد كانت‬

‫دفاعا‪ ،‬صلح الحديبية كان ميثا ًقا‬ ‫دفاعــا‪ ،‬األحزاب كانت ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫مكة لم ُي َرق‬ ‫فتــح‬ ‫دينهم‪،‬‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫المســلمين‬ ‫بعــض‬ ‫ــه‬ ‫ظن‬ ‫ُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫فيه إال قليل من الدماء و ُأع ِل َن فيه‪" :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء"‬ ‫(رواه البخاري)‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫أنصــف المظلوميــن‪ ،‬وحــرر العبيــد‪ ،‬ورفــع قيمــة‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫والمستبدين‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وكرم المرأة‪ ...‬أزال ُأ َّبهة المتن ِّفذين‬ ‫َّ‬ ‫بأقل الخسائر‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫النبــي ‪ ‬على عــادات الثأر في‬ ‫تعجــب كيــف قضــى‬ ‫َّ ّ‬ ‫الجاهلية العربية‪ ،‬وكيف بنى العقلية الواعية المنعتقة من‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪27‬‬


‫ين ِص ْد ُق ُه ْم‪.‬‬ ‫الصا ِد ِق َ‬ ‫َي ْن َف ُع َّ‬

‫فأين ّ‬ ‫الحل إذن؟‬

‫أخــي وحبيبــي‪ ،‬يحلــو لــي أن ُأ ِ‬ ‫هــدي إليــك وإلى كل‬

‫صــدق َّأمتنا‬ ‫صــدق دي َننــا و َن ُ‬ ‫ربنــا و َن ُ‬ ‫الحــلُّ هــو أن َن ُ‬ ‫َ‬ ‫صــدق َّ‬ ‫ال‬ ‫أيامــا طــوا ً‬ ‫و َن ُ‬ ‫أنفســنا‪ ...‬ثــم نغلــق علــى أنفســنا ً‬ ‫صــدق َ‬ ‫ا للتنفيــذ مع‬ ‫لنصــوغ "مخطَّ طً ــا‬ ‫اســتراتيجيا شــامالً" قابــ ً‬ ‫ًّ‬

‫ــص الــذي أشــدت بــه فــي‬ ‫صــادق أميــن مــن أمثالــك‪َّ ،‬‬ ‫الن َّ‬

‫رســالتك‪ ،‬وهــو جوهــر ٌة من جواهر "النــور الخالد"‪ ،‬ففيه‬

‫َّنيــة التنفيــذ‪ ،‬مخطَّ طً ــا يجمــع إلــى الغايــة الوســيل َة‪ ،‬وإلى‬

‫تحت عنوان "يا براعم األمل" نقرأ‪:‬‬

‫األهداف الواقعي َة‪ ،‬وإلى التوكُّ ل واالستســام المطلق هلل‬ ‫والعمل بمقتضى سننه وشِ رعته‪.‬‬ ‫االمتثالَ ألمره‬ ‫َ‬

‫"أجــل‪ ،‬ســتقومون أنتم بإهداء حقائــق الدين وإقامتها‬

‫في الدنيا مرة أخرى‪ ،‬فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم‬

‫تتبــدل جراء هذا االختيار‬ ‫لعــل المناصب والوظائف َّ‬ ‫َّ‬ ‫كثيرا من المكتسبات المادية والدنيوية‬ ‫الصعب‪ ،‬بل لعل ً‬ ‫والمعنويــة ُي َض َّحــى بهــا‪ ،‬ولعل ما يشــبه التوجيــه النظامي‬ ‫ــدر يجمع بين ُث َّلــة ِم َّنا في‬ ‫المحــدد‪،‬‬ ‫يكــون هــو‬ ‫ّ‬ ‫ولعل ال َق َ‬ ‫ِّ‬ ‫"مركز ‪-‬أو مراكز‪ -‬للتفكير الدائم المتواصل"‪.‬‬

‫أضــاء أطــراف العا َلــم الغــارق في الظالم‪ ،‬وأنشــأ شــجرة‬

‫إيمــان وارفــة الظــال كشــجرة طوبــى ظ َّللــت بأوراقهــا‬

‫كل األرجاء‪.‬‬ ‫وأزهارها َّ‬

‫كانت كلُّ كلمة ُ‬ ‫أل َّمتنا في المباحثات الدولية في تلك‬

‫العهــود الزاهــرة بمثابة أمر‪ ،‬وســتقومون أنتــم ‪-‬بإذن اهلل‪-‬‬

‫قد نجوع في هذا السبيل‪ ،‬ولكنا ال نغادر‪ ،‬وقد نغرق‬

‫سريعا من هذا‬ ‫باستعادة تلك العهود الزاهرة‪ ،‬والتخلُّص‬ ‫ً‬

‫فيه ولكنا ال نساوم‪.‬‬

‫بال نموذج سابق مع عجز مني حقيق‪ ،‬الذي كنت أبحث‬

‫ال في الواقع‪،‬‬ ‫هائما عاش ًقا‪ ...‬ها اليوم أجده‬ ‫عمليا ماث ً‬ ‫عنه ً‬ ‫ًّ‬

‫أجــده فــي نهضــة تجديدية جــادة ضمن دوحــة "الخدمة"‬ ‫وجنتهــا‪ ،‬نهضــ ٍة ال تعــرف العفويــة وال تؤمــن باألشــباه‬ ‫َّ‬

‫رب األســباب‬ ‫واألمثــال والنظائر‪ ،‬هي إلى الســماء وإلى ِّ‬ ‫متوجهــة قاصدة حثيثة‪ ،‬وهــي على األرض وضمن دائرة‬ ‫أن ذلك‬ ‫منظومــة األســباب عاملة ناصبة كادحــة‪ ،‬معتقدة َّ‬ ‫"الر َّبانية"‬ ‫التوكل على اهلل‪ِ ،‬س َــم ُتها‬ ‫من تمام‬ ‫ُّ‬ ‫"الر َّباني ُة" مع ُّ‬ ‫َّ‬ ‫"الض ّم"‪.‬‬ ‫مقترنتين بـ"الفتح" ثم َّ‬ ‫ْ‬

‫فهل نحن كذلك؟‬

‫مؤهلــون لذلك في دائرتنــا القريبة والبعيدة‪،‬‬ ‫ال شــك أننــا َّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ولكن وا حسرتاه‪ ،‬نحن كذلك بالقوة ال بالفعل‪ ،‬بالتم ّنِي‬ ‫أمــل ُيرتجى من‬ ‫والرجــاء ال بالعــزم والحــزم‪ ...‬لــذا‪ ،‬فال َ‬

‫‪26‬‬

‫نقــص وتقصيــر مــع القــدرة علــى الكمــال والتمــام‪ .‬هذا‬ ‫‪-‬وال ريــب‪ -‬مــا تجــده في قلبــك أخي وحبيبــي‪ ،‬وهو ما‬

‫طلع كل شمس ومغرب كل شمس‪.‬‬ ‫أجده َم َ‬

‫لنكن‬ ‫فلنكن إذن صادقين‪" ،‬واهلل‬ ‫يحب الصادقين"‪ ،‬ثم ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫هلل َو ُكو ُنوا َم َع‬ ‫آم ُنوا َّات ُقوا ا َ‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫مع الصادقين‪َ :‬‬ ‫هلل َه َذا َي ْو ُم‬ ‫ين‪ ،‬وذلك هو ال َفالح المبين‪َ  :‬ق َ‬ ‫ال ا ُ‬ ‫الصا ِد ِق َ‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫منكــم‪ ،‬يأملــه مــن يعيــش فــوق ال ُّتــراب ومــن هــو مدفون‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ٍ‬ ‫بصوت‬ ‫أخــي‪ ،‬مــا كنــت أدعــو إليه لســنوات مضــت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نظريا‬ ‫مبحوح‬ ‫خافت قاصر لقصوري‪ ،‬ما كنت أنادي إليه ًّ‬

‫العهــد المظلــم الذي نعيشــه‪ .‬فهــذا هو ما يأملــه الجميع‬ ‫تحتــه‪ .‬بــل هذا ما يأمله منكم رســول اهلل محمد ‪ ،‬وهو‬

‫يتجــول بروحانيتــه بينكــم‪ ،‬ويربت على أكتافكم ويبتســم‬ ‫تحسون به‪.‬‬ ‫لكم وإن كنتم ال ترونه أو ُّ‬

‫أنتم تســتطيعون نشــر األمن والطمأنينة في ما حولكم‬

‫إن بقيتــم أمنــاء ولــم تنحرفــوا عــن االســتقامة‪ .‬أجــل‪ ،‬إن‬

‫اســتطعتم تحقيق هذا‪ ،‬انفتح لكم قلب اإلنســانية جمعاء‬ ‫علــى مصراعيــه‪ ،‬وســتتربعون فــي هــذا القلب كمــا َت َر َّبع‬

‫أن شرط الوصول‬ ‫أبدا َّ‬ ‫أجدادكم من قبل‪ .‬ولكن ال تنسوا ً‬ ‫إلــى هــذه النتيجة وإلى هذه الذروة‪ ،‬مرتبط بكونكم أمناء‬

‫لألمانة الملقاة على عاتقكم‪.‬‬

‫فإن كنا نريد أن نكون َّأمة لها وزنها وكلمتها في الشؤون‬

‫بارزا في تأســيس‬ ‫التوازن‬ ‫دورا ً‬ ‫ُ‬ ‫الدوليــة المهمــة‪ ،‬ونلعــب ً‬

‫الدولــي ‪-‬حيــث إننا مضطرون أن نكــون كذلك‪ -‬فيجب‬ ‫أن نكــون ممثليــن للحق وللعدالة ولالســتقامة ولألمن"‪.‬‬

‫أخــي و ُقــرة عيني‪ ،‬تحياتي إليك وإلــى المرابطين من‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫أح َّبتــي وأســاتذتي ورفقائي‪ ،‬من يعرفنــي ومن ال يعرفني‬ ‫جميعا‪.‬‬ ‫ِم َّمن معك‪ ،‬والسالم عليك وعليهم‬ ‫ً‬ ‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬


‫نكون‪ ،‬هذه هي عقدة المسألة‪.‬‬

‫خيرا‪،‬‬ ‫سعى في رأب الصدع‬ ‫ِ‬ ‫وجمع الكلمة‪ ،‬فجزاكم اهلل ً‬

‫لكل خير‪ ...‬والسالم"‪.‬‬ ‫وجعلكم مفاتيح ِّ‬ ‫الرحمن هو‬ ‫ِــي قاصرٍ ِمثلي‪ ...‬وربــي‬ ‫الجــواب من عي‬ ‫ُ‬ ‫َ ٍّ‬ ‫األعلم واألحكم‪:‬‬

‫الر ْجــل هنــا ونصفها هنالــك‪ ،‬ونصف اليد‬ ‫إن نصــف ِّ‬

‫هنــا ونصفهــا اآلخــر هنالك‪ ،‬ونصف العقــل لهذا ونصفه‬

‫الثانــي لذلــك‪ ،‬وبعــض القلب لهــؤالء والبعــض المتبقي‬

‫تقصــر عــن حملهــا‬ ‫أســتاذي وحبيبــي‪ ،‬ســام وتحيــة ُ‬ ‫الرواســي‪ِ ...‬مــن أخ لــك لــم تلــده ُّأمــك‪ ،‬وصديــقٍ لــك‬

‫ألولئك‪ ...‬ال يصنع التغيير وال ُيرتجى من شــطره بزوغ‬ ‫الفجر الجديد‪.‬‬

‫مقصر في ح ِّقك‪ ...‬أخيك األصغر محمد‪.‬‬ ‫معترف بقدرك ِّ‬ ‫ــل وترحــال مسترســل مــن تونس إلى ســلطنة‬ ‫بعــد ِح ٍّ‬

‫سألت عنك أين أجدك؟ فإني ‪-‬وال‬ ‫أخي وحبيبي‪ ،‬لو‬ ‫ُ‬

‫ريب‪ ،‬وهذا من أمارات كرمك وســخائك وحبك للخير‬

‫متجولين بين‬ ‫عمــان‪ ،‬ثم إلــى المغرب الجار ذي القربى‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫سألت عنك‪ ،‬فسأجدك في‬ ‫وابتغائك الرضا والقبول‪ -‬إذا‬ ‫ُ‬

‫وتنفســت‬ ‫حططت الرحال‪،‬‬ ‫مدنه العديدة الجميلة‪ ،‬ها قد‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫جلست ُ‬ ‫جوابا‬ ‫ألو ِفي بوعدي لك‪ ،‬أن أكتب‬ ‫الصعداء‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ال لطفه وسنده ورحمته‪.‬‬ ‫لكتابك السالف‪،‬‬ ‫مستعينا باهلل سائ ً‬ ‫ً‬ ‫سألت عن "أمر عظيم" في "أمر عظيم"‬ ‫أخي اللبيب‪،‬‬ ‫َ‬

‫أي مكان‪ ،‬فأنت في‬ ‫كل مكان‪ ،‬لكن لألسف لن أجدك في ِّ‬

‫الجامعة وأنت في الجمعية‪ ،‬وأنت في المدرســة أو أنت‬ ‫متجول‬ ‫في الشركة‪ ،‬وأنت في الحي وفي الحزب‪ ،‬وأنت‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫عبر المدن والبلدان‪ ،‬وأنت حامل َه ِّم القريب والبعيد‪...‬‬ ‫وايــم اهلل‪ -‬صبــر واجتهــاد وأجــر ومثوبــة‪.‬‬‫وهــذا كلــه‬ ‫ْ‬

‫هــو حــال أمتنــا هنالــك فــي َر ْبع مــن ربوع بالد اإلســام‬ ‫الفســيحة‪ ،‬وهــو ذات الحــال فــي أكثــر من ُق ْطــر وبلد من‬

‫الرخيصة‪ ،‬واأليادي الخفية‪ ،‬واألحالم الخفيفة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تشرب‬ ‫ولـي في ذلك ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬م َّما أنا فيه‪ ،‬ومن بعد ُّ‬ ‫فكر األســتاذ فتح اهلل‪ ،‬ومعايشــة أنفاس "الخدمة" مشــر ًقا‬

‫بعض الصواب‪ ،‬وإال‬ ‫رأي‪َّ ،‬‬ ‫لعل فيه َ‬ ‫ومغربا‪ ،‬لي في ذلك ٌ‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أقطار المســلمين وبالدهم‪ ،‬ال ُفرقة‪ ،‬وضيق األفق‪ ،‬والفتن‬

‫لكن أين الخلل؟‬

‫الخلل هو أنك لم ُت ِ‬ ‫ومســتح َّقها‪ ،‬ولم‬ ‫أي َم َه َّمة َح َّقها‬ ‫عط َّ‬ ‫َ‬

‫جميع َملَكاتك ومواهبك وطاقاتك‪...‬‬ ‫ألي رســالة‬ ‫َت َه ْب َّ‬ ‫َ‬ ‫فــا العلــم والتحقيــق العلمــي وجــد منــك "الباحــث‬ ‫والمؤسســات وجــدت منــك‬ ‫المرت َقــب"‪ ،‬وال المجتمــع‬ ‫َّ‬

‫أن إدارة األمم‪،‬‬ ‫أبــدا‪ ،‬وهو َّ‬ ‫أرضا وال تلتفت إليه ً‬ ‫فــار ِم بــه ً‬ ‫ْ‬

‫"المتفرغ الدائم"‪ ،‬أي إن منطق "إطفاء الحرائق" بات هو‬ ‫ِّ‬

‫ال تكون إال في مستوى المسؤولية‪ ،‬والخطورة واألهمية‬

‫جميعا‪.‬‬ ‫وفيه‪ ،‬وفينا‬ ‫ً‬

‫والمؤسســات‪ ،‬والهيئات‪...‬‬ ‫والمجتمعات‪ ،‬والجماعات‪،‬‬ ‫َّ‬

‫فإن نحن أمددناها ُبع ْشــر وقتنا وطاقتنا‬ ‫التــي نعطيهــا لها‪ْ ،‬‬ ‫لــم ُت ِ‬ ‫الع ْشــر‪ ،‬وإن نحن ســ َّلمناها النصــف قاب َلتنا‬ ‫عطنــا إال ُ‬ ‫بالنصــف‪ ،‬وإن ُجدنــا بالــكل فإننــا ‪-‬بحــول اهلل‪ -‬نجدهــا‬

‫تسخو علينا بكل ثمارها وال غرو‪.‬‬

‫تحتم علينــا مجتمع ًة‪،‬‬ ‫الصراحــة والصــواب والنصح ِّ‬

‫والعمل الجماعي‪ ،‬والبحث المنهجي‪.‬‬

‫المهــم هو أن نكون‪ ،‬ال أن نكون كما يجب أن‬ ‫لــكأن‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫حيِزك وفي‬ ‫َّأما ما وصفته بالمشكالت والقالقل‪ ،‬في ّ‬

‫كثيــر مــن حــوز بــاد المســلمين اليــوم‪ ،‬فهــو جــرح غائر‬ ‫عميــق ال شــفاء منــه إال علــى ٍ‬ ‫أيــد متوضئــة خبيــرة تصــل‬

‫وتنفيذا‪ ،‬لتأتــي بما يلزم‬ ‫وتخطيطــا‬ ‫جلوســا‬ ‫الليــل بالنهــار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المخية أو القلبية"‪.‬‬ ‫في إجراء ما يشبه "العملية الجراحية ِّ‬ ‫المهمة‬ ‫العام أن يقود هذه‬ ‫فهل يا ترى يتسنى للطبيب‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫الشا َّقة الخطيرة؟!‬

‫وره ًبــا‪ ،‬وبفعــل‬ ‫أال تجــد أخــي أننــا‬ ‫ُ‬ ‫اضط ِررنــا َ‬ ‫رغ ًبــا َ‬

‫كره أخاك ال َب َطل"‪،‬‬ ‫"م ٌ‬ ‫جريــان األحداث فينا‪ ،‬على وقــع ُ‬

‫اضطررنــا إلــى أن نتحــول إلــى "أطباء"‪ ،‬لكن فــي "الطب‬ ‫ُ‬ ‫الخريتيــة‬ ‫المتخصــص‪ ،‬وعجزنــا عــن تحقيــق‬ ‫العــام" ال‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الضرورية للنهوض باألمم والمجتمعات‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ومصيــرا‬ ‫أن نعتــرف أننــا نديــر اليــوم وضعيــة مع َّقــدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ويســرة‪،‬‬ ‫مجهو ً‬ ‫مــوارة َتر َّن ُح بها األمواج َيمنة َ‬ ‫ال‪ ،‬وســفينة َّ‬ ‫ومجتم ٍ‬ ‫عــات تفــور وتغلــي‪ ،‬وهيئــات شــاخت واهترأت‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مــن‬ ‫بكثير‬ ‫يبدو‪-‬‬ ‫مــا‬ ‫في‬ ‫نقودهــا‬ ‫كأننــا‬ ‫أو‬‫قودهــا‬ ‫َن‬ ‫الهم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وببعض الجهد‪ ،‬وبقليل من التخطيط والتنظيم‪ ،‬والتوافق‬

‫في‪ ،‬وفيك‪،‬‬ ‫ســيد الموقــف‪ ،‬وهــو صاحب القول الفصــل َّ‬

‫‪25‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫من سياسة إطفاء الحرائق‬

‫إلى التخطيط اإلستراتيجي المؤ َّيد‬ ‫مما جاء فيه‪:‬‬ ‫سؤال من أخي الباحث عن الحقيقة‪َّ ،‬‬

‫"قــد وصلنــا فــي قــراءة "النور الخالــد" إلى فصل "األمانــة" من صفات‬

‫رائعــا فــي اســتجالء جوانــب األمانــة والحث على‬ ‫الرســول ‪ ،‬وكان ً‬

‫تم ُّثلها في حياة المؤمنين المعاصرين‪ ،‬وشباب "الخدمة"‪ ،‬وبخاصة في الفقرة األخيرة‬ ‫دوما بأهمية هذه التوجيهات‪،‬‬ ‫بحق ديدن المسلم‬ ‫ونتصور أنها لو كانت ٍّ‬ ‫نشعر ً‬ ‫منه‪ .‬وإ َّنا َل ُ‬ ‫َّ‬

‫نهرا من الخيرات ال ينقطع‪ ،‬و َل َتع َّلم العالمون العاملون من‬ ‫الســتمر نور الرســول ‪ً ‬‬ ‫َّ‬ ‫كل ما يزيح هذه األباطيل واألضاليل التي نتخبط فيها"‪.‬‬ ‫المسلمين َّ‬

‫ذمة‪:‬‬ ‫ثم قال‪ ،‬وهو من أرباب َ‬ ‫الهمة‪ ،‬ال خفر اهلل له َّ‬ ‫اله ِّم وأصحاب َّ‬ ‫قدمه األســتاذ فتح اهلل‪ٍ -‬‬ ‫"لقد‬ ‫كاف ألن ُيســهم بقوة‬ ‫أحسســت َّ‬ ‫أن فقه األمانة ‪-‬كما َّ‬ ‫ُ‬

‫حل هذه اإلشــكاالت‪ ،‬ويحمل المســلمين إلى تم ُّثل دينهم‪ ،‬ويرقى إلى المطلوب‬ ‫في ِّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫منهم أن ينجزوه للعا َلم وألنفسهم‪ ،‬نسأل اهلل أن يلهمنا ذلك"‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫"أقول هذا أخي محمد ونحن نعيش ‪-‬واألسى يمأل‬ ‫الجوانح‪ -‬خالفات وشقاقات‬ ‫َ‬ ‫وقالقل ُتد ِمي القلوب‬ ‫وتقض المضاجع‪ ،‬ذلك مع عجزنا عن احتواء أزمة التعايش في‬ ‫ُّ‬

‫أوطاننا‪ ...‬فال نزال في حيرة من أمرنا‪ :‬كيف ُنق ِنع األطراف بالتفطُّ ن إلى المكايد‪ ،‬ليتجنبوا‬

‫الوقوع في الفخاخ‪ ،‬ويقفوا في وجه المتربصين؟! فالكل يرى الحق إلى جنبه‬ ‫مقصورا"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫"أخي محمد‪ ،‬معذرة وقد‬ ‫بد من الســعي‬ ‫شــغلتك بهذا‪ ،‬ولكنه واقع ُأ َّمتنا‪ ،‬وما لنا ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫فــي إصالحــه قــدر مســتطاعنا‪ ،‬ولــن نصل إلــى ذلــك إال بال ُّنصــح‬ ‫والتناصح‪ ،‬فاشــفوا‬ ‫ُ‬

‫ال ممن‬ ‫ــن عم ً‬ ‫الغليــل بــرأي منكــم حصيــف‪َّ ،‬‬ ‫أحس ُ‬ ‫ســببا للفــاح‪َ ،‬‬ ‫ومن َ‬ ‫يدخــره اهلل لكم ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫النبي‬ ‫والتهاون في حق المعارف واألصدقاء؛ قال‬ ‫اإليذاء‬ ‫ُ‬ ‫َّ ّ‬ ‫حــدث الرجــل بالحديــث ثــم التفت فهــي أمانة"‬ ‫‪" :‬إذا ّ‬ ‫(رواه الترمذي)‪ ،‬وقال‪" :‬الحديث بينكم أمانة"‪.‬‬ ‫الخ ُلقية التي‬ ‫د‪ -‬مــن األســاليب الخاطئــة فــي التربيــة ُ‬

‫تتبعهــا األمهــات مــع األطفــال‪ ،‬التهديــد والترهيب باهلل‪،‬‬

‫كأن تقــول لطفلهــا‪ :‬إن‬ ‫كذبــت‪ ،‬يدخلك ربنــا النار‪ ..‬وفي‬ ‫َ‬ ‫هــذه الفتــرة العمريــة‪ ،‬يجــب االبتعــاد عن هذا األســلوب‬

‫ألن نتائجه عكسية‪ ،‬إذ سيرى الطفل في اهلل صورة تجعله‬

‫ال يقتــرب مــن اهلل‪ ،‬بــل يبتعــد عنــه‪ ..‬والواجــب أن نربــط‬ ‫الطفل بخالقه عن طريق الوعد ال الوعيد‪.‬‬ ‫والخ ُلقية لأل ُّم‪ ،‬لها‬ ‫يتضح ِم َّما سبق أن الثقافة الدينية ُ‬ ‫وخ ُل ِق ًّيا‪ ،‬ومن َث َّم تصبح‬ ‫دينيــا ُ‬ ‫ضرورتهــا فــي تربية األبناء ًّ‬ ‫ضرورة لتثقيف المرأة‬ ‫تربويا‪ ،‬حتى تســتطيع أداء دورها‬ ‫ًّ‬

‫في تربية األبناء‪.‬‬ ‫ِم َّما سبق يتضح أن الثقافة التربوية لأل ُّم لها ضرورتها‬ ‫من أجل تربية سوية لألبناء‪ ،‬تنعكس آثارها في المجتمع‬ ‫سهم في تقدمه‪.‬‬ ‫و ُت ُ‬

‫(*) أستاذ مساعد أصول تربية ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬فاطمة علي جمعة‪ ،2004 ،‬ص‪.19:‬‬

‫(‪ )2‬مجدي محب الدين‪ ،1999 ،‬ص‪.11:‬‬

‫(‪ )3‬فاطمة علي جمعة‪ ،2004 ،‬ص‪.22-21:‬‬ ‫الصحة العالمية‪ ،2005 ،‬ص‪.81:‬‬ ‫(‪ )4‬منظمة‬ ‫َّ‬

‫ُ‬ ‫أحامل‪،‬‬ ‫حني آدتك‬ ‫عىل ظهرك الـ َم ّ‬ ‫ع َر ًقا جبي ُن َك يتص َّبب‪،‬‬ ‫ولِـحي َت َك ال َبيضا َء ُيخَ ضِّ ب‪...‬‬ ‫متـرنـحا متيش‪ ،‬وبخطوك ّ‬ ‫تتعث‪...‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫آ ٍه يا جدي‪َ ،‬ه َّال‬ ‫اسرتحت‪،‬‬ ‫والصع َدا َء تن ّف َ‬ ‫ست‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ومن العمر عت ًّيا قد بلغت‪..‬؟!‬ ‫فأجابني‪" :‬ال حيلة يل يا ولدي‪،‬‬ ‫وحدي مشيت‪،‬‬ ‫ودليال يرشدين ما وجدت‪،‬‬ ‫فشاب شعري‪ ،‬وانحنى ظهري‪،‬‬ ‫فال ملجأ إليه ألتجئ‪،‬‬ ‫وال عروة وثقى عليها أعتمد‪...‬‬ ‫***‬

‫(‪ )5‬مجدي محب الدين‪ ،1999 ،‬ص‪.11:‬‬

‫الصحة العالمية‪ ،2005 ،‬ص‪.224:‬‬ ‫(‪ )6‬منظمة‬ ‫َّ‬

‫(‪ )7‬محمود محمد مصطفى‪ ،‬وشاكر شحاتة رزق‪ ،2007 ،‬ص‪.16-15:‬‬

‫(‪ )8‬محمود محمد مصطفى‪ ،‬وشاكر شحاتة رزق‪ ،2007 ،‬ص‪.24:‬‬ ‫(‪ )9‬عبد اللطيف محمد خليفة‪ ،1992 ،‬ص‪.168:‬‬ ‫(‪ )10‬محمد أحمد بيومي‪ ،1997 ،‬ص‪.88:‬‬ ‫(‪ )11‬عبد اهلل الخريجي‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ‪.37‬‬

‫‪Richard T. Schaefer andRobert P.Lamm, 1995, p:396‬‬

‫)‪(12‬‬

‫(‪ )13‬موالي محمد علي‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.12:‬‬

‫(‪ )14‬أحمد مختار مكي‪ ،2006 ،‬ص‪.29:‬‬ ‫‪Cuff. C & Others, 1994, p:33‬‬

‫)‪(15‬‬

‫(‪ )16‬محمد عطية األبراشي‪ ،2003 ،‬ص‪.70-69:‬‬ ‫(‪ )17‬نادية رضوان‪ ،1997 ،‬ص‪.73:‬‬

‫(‪ )18‬مواهب عياد‪ ،‬وليلي الحضري‪ ،1995 ،‬ص‪.68:‬‬ ‫(‪ )19‬محمد عماد الدين إسماعيل‪ ،1986 ،‬ص‪.254:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يا ّ‬ ‫حمل!‬

‫‪23‬‬


‫بعض من الباحثين‪ ،‬وترى نادية رضوان‬ ‫التي لفتت أنظار ٍ‬ ‫"أن بعــض األفــراد يلجــؤون إلى ِ‬ ‫ش وســيل ًة للحصول‬ ‫الغ ّ‬

‫آخــر"(‪ ،)11‬كمــا أن للديــن وظائف عديدة فــي المجتمع‪،‬‬

‫"فالدين منذ القدم شامل للثقافة‪ ،‬وهو ذو وظيفة جوهرية‬ ‫للمجتمــع اإلنســاني‪ ،‬وإن كان األفــراد يختلفــون فــي ما‬

‫معينة دون ما يلزم من جهد‪ ،‬إذ يبغون الوصول‬ ‫على أشياء َّ‬ ‫جهــدا‪ .‬فالغش هو‬ ‫إلــى ما يريدون بأســهل الطرق وأق ِّلها‬ ‫ً‬

‫بينهم في درجة تعلقهم بالدين"(‪.)12‬‬

‫محاولــة الحصول على شــيء ما بوســائل غير مشــروعة‪،‬‬ ‫وتبــدأ العالمــات ا ُ‬ ‫ألو َلى لهذه الظاهرة الســلبية التي يلجأ‬ ‫يد ِعي‬ ‫إليهــا األطفــال أحيا ًنا مــن تحايل على اآلبــاء‪ ،‬كأن َّ‬

‫مــن هنــا تأتــي أهميــة الديــن‪ ،‬ومن ثــم التربيــة الدينية‬ ‫والثقافــة الدينيــة لــدى ا ُ‬ ‫لتربِــي األبنــاء تربيــة دينيــة‬ ‫أل ّم‪ّ ،‬‬ ‫صحيحــة‪ ،‬وال تتوقــف عنــد تعليمهــم تأديــة العبــادات‬

‫فحسب‪.‬‬

‫ســمح له‬ ‫الطفــل أنــه قــد أنهــى واجباتــه المدرســية حتى ُي َ‬ ‫باللعــب أو مشــاهدة التلفــاز‪ ،‬أو أن يلجــأ إلــى ِ‬ ‫ــش في‬ ‫الغ ِّ‬

‫أهــم عوامــل نجاحهــم‬ ‫التربيــة الدينيــة لألطفــال مــن ِّ‬

‫تســتخف بذلك‬ ‫االمتحانــات مــع علــم األســرة‪ ،‬التي قد‬ ‫ّ‬

‫فــي حياتهــم المســتقبلية‪ ،‬وهــي التــي ســوف تميزهم من‬ ‫غيرهــم‪ ،‬بخاصــة في وقت "بدأت فيــه قوة الدين تضعف‬ ‫المادية ونمائها‪ ،‬األمر‬ ‫تدريجيــا في أوروبا نتيجة ازدهــار‬ ‫ِّ‬ ‫ًّ‬ ‫الــذي أطلــق العنــان لألنانيــة والحقــد واســتغالل النفــوذ‬

‫األقل مستوى من طفلهم‬ ‫االتجاه َبز ْعم أن بعض التالميذ‬ ‫ّ‬

‫يحصلون على درجات أكثر عن طريق الغش"(‪ ،)17‬وهذا‬

‫الخ ُلقية‪.‬‬ ‫هد ًما للقيم ُ‬ ‫األسلوب من األسرة ُي َع ُّد ْ‬ ‫التصرفــات الخاطئــة مــن ا ُ‬ ‫أل ّم يؤثُّر في أخالق‬ ‫بعــض‬ ‫ُّ‬

‫والكراهية"(‪.)13‬‬

‫الفــرد فــي تلــك المجتمعــات بالغربة والضيــاع‪ِ ،‬م َّما َّأدى‬ ‫إلــى ارتفــاع نســبة االنتحــار‪ -‬هــو نتيجــة لغيــاب الجانب‬ ‫الر ِ‬ ‫والخ ُلقــي فــي التربيــة بهــذه المجتمعــات‪ .‬وإن‬ ‫وحــي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫مصيــرا مثــل هــذا متو َّقــع للمجتمعــات اإلســامية إذا ما‬ ‫ً‬ ‫جرفهــا تيــار اســتيراد األفــكار والنظريــات االجتماعيــة‬

‫والتربوية‪ ،‬ومفاهيم الغرب ومضامينه تحت اسم العصرية‬

‫الخ ُلقية أهميتها ألنها ال تنفصل‬ ‫والحداثة"(‪ .)14‬إن للتربية ُ‬

‫شــب َهها دوركايم‬ ‫عــن الديــن‪ ،‬وهــي ّ‬ ‫تميِز المجتمع‪ ،‬حتى َّ‬ ‫الخ ُلقيــة للمجتمعــات‪ ،‬مــن‬ ‫بالــز ّي‬ ‫المميــز‪" :‬إن األنظمــة ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬

‫أكثر األنظمة التي تميز المجتمع من غيره‪ ،‬ألنها بالنسبة‬

‫المميــزة"(‪ .)15‬إال أن البعض‬ ‫الس ْــترة‬ ‫إلــى المجتمع تشــبه ُّ‬ ‫ّ‬ ‫هملة في‬ ‫يــرى أن "التربيــة ُ‬ ‫هملــة في البيــت‪ُ ،‬‬ ‫وم َ‬ ‫الخ ُلقيــة ُم َ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫هملــة في المجتمــع‪ ،‬في الوقت الذي يرى‬ ‫المدرســة‪ُ ،‬‬ ‫وم َ‬

‫‪22‬‬

‫والمصلحون أن سعادة األمم ال تتوقف على‬ ‫الم َر ُّبون ُ‬ ‫فيه ُ‬

‫كثــرة َد ْخلهــا‪ ،‬وال علــى قــوة حصونها أو جمــال مبانيها‪،‬‬ ‫المهذبين من أبنائها"(‪.)16‬‬ ‫ولكنها تتوقف على عدد‬ ‫ّ‬

‫حدثــت تغييــرات فــي المجتمع نتيجــة عديد من‬ ‫قــد َ‬

‫الخ ُلقية‪،‬‬ ‫العوامــل التــي أثرت فــي بنيــة المجتمع وقيمــه ُ‬ ‫الخ ُلقيــة‪ ،‬ظاهرة ِ‬ ‫ش‬ ‫ومــن بيــن الظواهــر المنافية للقيم ُ‬ ‫الغ ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫"وإن مــا أصــاب المجتمعــات الغربيــة ‪-‬مــن انتشــار‬ ‫وض ْعف الروابط األســرية وشــعور‬ ‫المخدرات والرذائل‪َ ،‬‬ ‫ِّ‬

‫األبناء‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫الخ ُلقية التي تصدر من ا ُ‬ ‫إن‬ ‫أ‪ -‬من‬ ‫أل ّم ْ‬ ‫التصرفات غير ُ‬ ‫ُّ‬ ‫جهدة أو ال تريد محادثة المتصلة بها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رن الهاتف وهي ُم َ‬

‫أن تطلب من أبنائها أن يقولوا إنها نائمة أو غير موجودة‪،‬‬ ‫وبهــذا تع ِّلــم األبناء الكذب‪" ،‬والكذب من أقبح الظواهر‬

‫فــي نظر اإلســام‪ ،‬وعلــى‬ ‫المربِين أن ين ِّفــروا أبناءهم منه‬ ‫ّ‬ ‫مضاره وأخطاره"(‪.)18‬‬ ‫وينهوهم عنه‪ ،‬ويكشفوا لهم‬ ‫َّ‬ ‫وعلــى ا ُ‬ ‫تطابــق العمــل مــع‬ ‫أل ّم أن تعــرف أن عــدم ُ‬ ‫الخ ُلقية‪،‬‬ ‫يؤدي إلى فشــل محاوالتها فــي التربية ُ‬ ‫الســلوك ِّ‬ ‫الخ ُلقية‪،‬‬ ‫فالطفــل يحتــاج إلــى قدوة يتأســى بها في القيــم ُ‬

‫وليس في حاجة إلى الوعظ والنصح واإلرشاد‪.‬‬ ‫ب‪ -‬لجــوء ا ُ‬ ‫أل ّم إلــى الثواب والعقاب إلحداث تربية‬

‫خلقيــة؛ "إن الثــواب والعقاب ال يكفيان وحدهما‪ ،‬فهناك‬

‫قــدر كبيــر ال ُيكتســب عــن هــذا الطريــق‪ ،‬بــل عــن طريق‬ ‫المالحظــة لســلوك اآلخريــن"(‪ .)19‬فالقــدوة الحســنة هــي‬

‫طريق إحداث تربية ُخ ُلقية‪.‬‬ ‫ج‪ -‬تســعى ا ُ‬ ‫أل ّم إلــى إتاحة الفرصــة ألبنائها ‪-‬بخاصة‬

‫اعتقادا‬ ‫البنات‪ -‬للحديث عن أسرار الزمالء واألصدقاء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫منها أنها وسيلة لتوجيههم لالبتعاد عن السيئ من هؤالء‬

‫الزمــاء واألصدقــاء‪ ،‬ولكــن الحقيقة أنهــا تدفع بهم إلى‬ ‫الســر؛ "وهو منهي عنه‪ ،‬لما فيه من‬ ‫عادة ســيئة هي إفشــاء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫إن الثقافــة الدينية والخلقية لــأم‪ ،‬لها رضورتها‬

‫الص ِّحيــة التــي ُتســهِ م فــي الوقاية من‬ ‫للص َّحــة والعــادات ِّ‬ ‫ِّ‬

‫يف تربيــة األبنــاء دين ًّيــا وخلق ًّيا‪ ،‬ومن ثــم تصبح‬

‫تعرض أحد‬ ‫المــرض‪ ،‬وكيفية‬ ‫التصرف الســليم فــي حالة ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫أل ّم أن ُت ِ‬ ‫األبنــاء للمــرض‪" ،‬وعلــى ا ُ‬ ‫كســب األبناء الطريقة‬

‫رضورة لتثقيف املرأة تربو ًّيا‪ ،‬حتى تستطيع القيام‬

‫بدورها يف تربية األبناء‪.‬‬

‫لتنــاول الطعــام‪ ،‬والنظافــة الشــخصية والبيئية‪،‬‬ ‫الصحيحــة‬ ‫ُ‬ ‫النوم واليقظة"(‪ .)3‬وال تســتطيع ا ُ‬ ‫أل ّم أن‬ ‫وتكويــن عــادات َّ‬ ‫يؤهلها لهذا‬ ‫تفعل هذا إذا لم تمتلك من الثقافة التربوية ما ِّ‬

‫عمرهــا التســويقي‪ .‬وعلــى ســبيل المثــال‪" :‬إن اســتعمال‬ ‫يؤدي إلى‬ ‫النتــرات والنيتريت في اللحــوم ومنتجاتها‪ ،‬قد ِّ‬

‫الدور‪ .‬ومعرفة ا ُ‬ ‫أل ّم بالطاقة أو السعرات الحرارية الالزمة‬ ‫كثيرا من األســر ُين ِفق‬ ‫لــكل فتــرة عمريــة لها أهميتها‪ ،‬ألن ً‬ ‫الكثير من دخلها على الغذاء‪ ،‬ومع ذلك ُيصاب أفرادها‬ ‫بأمراض ســوء التغذية‪ ،‬لعدم معرفة ربة المنزل بالشــروط‬

‫وينتج‬ ‫تفاعــل النيتريــت مــع بعض األحمــاض األمينيــة‪َ ،‬‬

‫يســبِب ســرطان‬ ‫عــن ذلــك مركــب النيتروزاميــن الــذي ّ‬ ‫المعــدة"(‪ .)7‬واأللــوان الصناعيــة التي تضاف إلــى ِ‬ ‫الغذاء‪،‬‬ ‫بخاصــة أغذية األطفال‪،‬‬ ‫"تســبِب حساســية أو تق ِّلل قدرة‬ ‫ّ‬ ‫(‪)8‬‬ ‫الجسم على احتمال الغذاء" ‪ .‬وتتعدد األخطار الناجمة‬ ‫ِ‬ ‫محسنات الطعم واللون‬ ‫عن اســتخدام‬ ‫والمواد الحافظة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِممــا يســتدعي أن يكــون لــدى ا ُ‬ ‫أل ّم ثقافة بهــذه األخطار‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كــي تحمي أفراد أســرتها من األمــراض الناجمة عن هذه‬

‫الواجب َتوا ُفرها في الغذاء الصحي‪ ،‬والتي تتم َّثل في "أن‬ ‫يحــوي كل العناصــر الغذائيــة الضرورية بكميــات كافية‪،‬‬ ‫وأن يحــوي كميــة كافيــة مــن الســوائل‪ ،‬وأن يكون ســهل‬ ‫بالصحة‪،‬‬ ‫المــواد الضــارة‬ ‫خاليــا مــن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الهضــم‪ ،‬وأن يكــون ً‬

‫ومقبــول الشــكل"(‪.)4‬‬ ‫وفاتحــا للشــهِ َّية‬ ‫متنو ًعــا‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫وأن يكــون ِّ‬ ‫كل‬ ‫النامية‪،‬‬ ‫ويعرف سوء التغذية بأنه "الحالة الناتجة عن ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫ِمــن اإلفــراط والنقص في التغذية لمدة طويلة من الزمن‪،‬‬ ‫والنقــص فــي التغذيــة ينجــم عــن الحــاالت الناتجــة عــن‬

‫اســتهالك غذاء ال يوفي باحتياجات الجســم لمدة طويلة‬

‫أه ِّم مظاهرها الهــزال واألنيميا والعمى‬ ‫مــن الزمــن‪ ،‬ومن َ‬ ‫(‪)5‬‬ ‫يترتــب على ســوء التغذية‪،‬‬ ‫الليلــي" ‪ .‬وكثيــر مــن اآلثــار َّ‬

‫الســبب الرئيس‬ ‫جهــل المــرأة بعلــوم التغذية‪،‬‬ ‫ــد‬ ‫ُ‬ ‫الــذي ُي َع ُّ‬ ‫َ‬

‫خصوصا أنه‬ ‫فــي انتشــاره بيــن أفــراد األســرة واألطفــال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫"مــن الســنة الثالثــة حتى السادســة‪ ،‬يؤ ِّثر ســوء التغذية في‬

‫ســليما‪،‬‬ ‫نمــو الطفــل بشــكل واضــح بحيــث يبــدو الطفل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫ولكــن وزنــه أقــل مــن الــوزن الطبيعي لمن هــم في نفس‬ ‫كبيــرا‬ ‫ِس ِّــنه‪ ،‬ويبــدو جســمه غيــر متناســق فيكــون الــرأس‬ ‫ً‬ ‫بالنســبة إلى الجسم‪ ،‬والســاقان نحيفتين‪ ،‬وحجم القفص‬

‫المواد‬ ‫متعمــدة ألغــراض التصنيع والحفظ‪ ،‬مثــل إضافة‬ ‫ّ‬ ‫الحافظــة كالنتــرات والنيتريــت إلــى اللحــوم ومنتجاتهــا‪،‬‬

‫والمواد المضادة لألكســدة إلى الزيوت والدهون إلطالة‬ ‫ّ‬

‫رغــم أهمية ثقافة الغذاء‬ ‫والصحة لأل ُّم للقيام بدورها‬ ‫َّ‬

‫تجــاه األبنــاء‪ ،‬فإن هنــاك الكثير من العوامل التي تؤثر في‬

‫هذا الدور مثل‪ :‬المستوى التعليمي لأل ُّم‪ ،‬ومستوى َد ْخل‬

‫األسرة‪ ،‬والعادات المجتمعية المتعلقة بالغذاء‪.‬‬

‫والخ ُلقية‬ ‫الثقافة الدينية ُ‬

‫إلمام ا ُ‬ ‫الخلُقية له أهميته‪ ،‬فإن‬ ‫أل ّم بالثقافة الدينية والتربية ُ‬

‫الخلُقيــة والتوجهات الدينية بشــكل معتدل‬ ‫"تنميــة القيــم ُ‬

‫بعيدا عن‬ ‫التعصب‪ ،‬من أهم الجوانب التي يجب اتباعها‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬

‫في تربية األبناء"(‪ .)9‬يرى البعض‬ ‫الدين "ظاهرة اجتماعية‬ ‫َ‬ ‫تدخــل فــي عالقــة تفاعليــة مــع الوحــدات االجتماعيــة‬

‫تؤكــد‬ ‫األخــرى المكونــة للمجتمــع"(‪ ،)10‬وهــذه الرؤيــة ِّ‬

‫أي‬ ‫الوجــه االجتماعــي للدين‪ ،‬وهي رؤيــة صحيحة‪ ،‬ألن ّ‬ ‫ديــن يدخل فــي تفاعالت مع عادات وتقاليد المجتمع‪،‬‬

‫بخاصــة فــي المناســبات االجتماعيــة كالزفــاف والوفــاة‬ ‫وغيرهــا‪ ،‬ويدخل فــي تفاعالت مع قيم المجتمع ويؤثر‬

‫فيهــا‪ .‬لهــذا فــإن الديــن يمثــل "حاجــة ضروريــة لإلنســان‬ ‫يتح َّقــق بقضائهــا معرفتــه حقيقــة مكانتــه في هــذه الحياة‪،‬‬ ‫يؤدِيــه مــع أي إنســان‬ ‫ورســالته ودوره الــذي يجــب أن ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫صغيرا بالنسبة إلى البطن"(‪.)6‬‬ ‫الصدري‬ ‫ً‬ ‫يجب أن تدرك ا ُ‬ ‫المواد‬ ‫تسبِبها‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫أل ّم ً‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫األضرار التي ّ‬ ‫الحافظــة واأللــوان علــى صحــة األفراد‪" ،‬هنــاك إضافات‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وتنتشــر أمــراض ســوء التغذية بخاصة بيــن أطفال الدول‬

‫المأكوالت‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬أحمد مختار مكي*‬

‫أطفالنا وثقافةُ ا ُ‬ ‫م التربوية‬ ‫أل ّ‬ ‫قصــد بالثقافــة التربويــة لــ ُ‬ ‫الجوانــب‬ ‫أ ّم‬ ‫ُي َ‬ ‫ُ‬ ‫تصوراتها‬ ‫التربوية التي تكتسبها‪ ،‬وتشكّ ل ُّ‬

‫ومفاهيمها لدورها التربوي تجاه األبناء‪.‬‬

‫بالصحة‬ ‫وتتعــدد جوانــب هــذه الثقافــة‪ ،‬فمنهــا مــا َّيتصــل‬ ‫َّ‬

‫وأســاليب التغذيــة الســليمة‪ ،‬ومــا َّيتصل بالتربيــة الروحية‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫والخلُقية أو األســاليب التربويــة الصحيحة لتربية األبناء‪،‬‬ ‫ُ‬

‫‪20‬‬

‫وغير ذلك م َِّما َّيتصل بفنون األمومة ومهاراتها‪.‬‬

‫َّ‬ ‫والصحة‬ ‫ثقافة التغذية‬

‫هــذه الثقافــة مكانة خاصة في جميــع دول العالم الثالث‬ ‫الص ِّحية السليمة‪ ،‬حيث تغلب ا ُ‬ ‫أل ّم َِّية‬ ‫التي تفتقر إلى البيئة ِّ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫الص ِّحية والغذائية" ‪.‬‬ ‫والجهل على أسس الحياة ِّ‬ ‫مــن َثــم يصبــح مــن الضــروري رفــع مســتوى ثقافــة‬ ‫ا ُ‬ ‫أل ّم فــي التغذيــة‬ ‫والصحــة وإلمامها بعلــوم التغذية "التي‬ ‫َّ‬ ‫تهتــم بعالقــات الغــذاء ِ‬ ‫بص َّحــة اإلنســان أو المجتمــع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبالعمليــات الحيويــة التــي بواســطتها يســتعمل اإلنســان‬

‫ونموه وحيويتــه‬ ‫الغــذاء للمحافظــة على حياتــه‬ ‫والفاعلية‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫ــم جوانــب الثقافــة‬ ‫ــد ثقافــة الغــذاء‬ ‫ُت َع ُّ‬ ‫والصحــة أحــد َ‬ ‫َّ‬ ‫أه ِّ‬

‫الكاملة ألعضاء جسمه"(‪.)2‬‬ ‫يجــب علــى ا ُ‬ ‫أل ّم معرفــة المكونات الرئيســية للغذاء‪،‬‬

‫المباشــر في الجانب الجسمي والصحي لألبناء‪" ،‬وتمثل‬

‫فــي مراحــل العمــر المختلفــة‪ ،‬واإللمــام بالقواعــد العامة‬

‫التربويــة لــ ُ‬ ‫أهمي َتــه‪ ،‬من أثره‬ ‫أ ّم‪ .‬ويكتســب هــذا‬ ‫ُ‬ ‫الجانــب ِّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والكميــات المطلوبــة إلحــداث‬ ‫النمــو الطبيعــي لألبنــاء‬ ‫ّ‬


‫منهمــا بتعريف المرض وماهيته ومظاهره الســريرية‪ ،‬كما‬

‫كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف" أشار إلى قواعد‬

‫يشــير إلــى ســبب المرض الناتــج عن فقــدان محبوب ما‬

‫التربيــة وإلــى مفاهيم العــادة والطبيعة عنــد الصبي‪ ،‬وإلى‬ ‫ّ‬ ‫تبعا لما جبل اهلل ذلك الصبي عليه‪.‬‬ ‫صعوبة أو ُي ْسر التأديب ً‬ ‫ولقد كتب األديب‬ ‫والمؤرخ الفقيه والفيلسوف اإلمام‬ ‫ِّ‬

‫أو شيء مرغوب فيه برؤية ُتشبِه نظرية التحليل النفسي‪.‬‬

‫أما الفصل الثاني من ذلك الكتاب‪ ،‬فيعرض مختلف‬

‫الوسائل العالجية التي نعرفها اليوم‪ ،‬والتي يمكن ترتيبها‬

‫أبــو محمــد بــن حــزم الظاهــري فــي علــم النفــس وماهية‬

‫كما يأتي‪:‬‬

‫متأثرا بالعوامل الطبيعية واالجتماعية‪،‬‬ ‫األمزجة والسلوك‪ً ،‬‬ ‫وأبــرز بشــكل َج ِلــي دور الديــن فــي توجيــه أفعــال الفرد‬ ‫ّ‬ ‫لقــد‬ ‫مشــاعره‪.‬‬ ‫والتأثيــر علــى‬ ‫قــدم العلمــاء المســلمون‬ ‫َّ‬ ‫مصنفــات تجــاوزت فــي عددها‬ ‫نظرياتهــم وآراءهــم فــي َّ‬ ‫ٍ‬ ‫مئــات‪ ،‬ولــم يصل إلينا في العصر الحاضر إال قليل منها‪.‬‬

‫‪ -1‬العــاج بالوســائل النفســية واالعتنــاء بالمريــض‬

‫حتــى تــزول ظنونــه‪ ،‬وذلــك باأللفــاظ الجميلــة األنيقــة‬ ‫ِ‬ ‫وبالح َيــل المنطقيــة والمواســاة والتنــ ُّزه في الهــواء الطلق‬ ‫والغابات والبساتين الزاهرة‪.‬‬ ‫رجــى تعديــل‬ ‫‪ -2‬العــاج بالتغذيــة‬ ‫والح ِم َّيــة‪ ،‬إذ ُي َ‬ ‫َ‬ ‫األســباب الرئيســية المشــتركة في‬ ‫الصحة والمرض‪ .‬كما‬ ‫َّ‬ ‫والك ِّم لتكون‬ ‫ُص ِّنف عديد من األطعمة من حيث الكيف َ‬ ‫دائما لذيذة صالحة‪.‬‬ ‫ً‬

‫ومــن المعلــوم أن الحضــارة اإلســامية فــي كثير من‬

‫جــدا مــن حضــارة اإلغريــق‪.‬‬ ‫جوانبهــا العلميــة اســتفادت ًّ‬

‫يكن الديــن في الحضارة‬ ‫التنبــه له‪ ،‬أنه لم ُ‬ ‫لكــن مــا ينبغي ُّ‬

‫‪ -3‬العــاج باالســتحمام والمراهــم واألدهــان بمثــل‬

‫كله‪.‬‬

‫‪ -4‬العــاج باألدويــة والعقاقيــر التي قد ُتســتخدم في‬ ‫العالج‬ ‫الك ِّلي أو العالج الجزئي لكل صنف من أصناف‬ ‫ُ ّ‬ ‫والمليِنات‪.‬‬ ‫المرض‪ ،‬مثل الجوارش والسقوف‬ ‫ّ‬ ‫عــد أبــو جعفــر الجــزار مــن أعظــم علمــاء زمانــه‬ ‫وي ّ‬ ‫ُ‬ ‫يؤمن‬ ‫بالتفاعل القوي الذي‬ ‫ُ‬ ‫بالمغــرب العربــي‪ ،‬ولقد كان َ‬ ‫يحصل بين الجسم والنفس‪ ،‬كما أن له رسالة في النفس‬ ‫ذكر فيها اختالف األوائل حولها‪.‬‬

‫وبعــد اندثــار عصر بيت الحكمــة بـ"القيــروان"‪َ ،‬ت َو َّلى‬

‫التطبيــب بإفريقيــا عائلــة األطبــاء الصقلييــن المشــهورة‪،‬‬

‫وذلــك فــي أواخــر القــرن الحــادي عشــر الميــادي حتى‬ ‫خصوصا في عهد‬ ‫نهاية القرن الخامس عشــر الميالدي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الدولة الحفصية المزدهرة‪ .‬وقد نبغ أطباء تلك المدرسة‬ ‫في البحث والمداواة‪ ،‬ومنهم أحمد الصقلي‪ ،‬ومحمد بن‬

‫كمــا عالــج مــرض الصــرع وكذلــك عــوارض الهلــع‪.‬‬

‫ورغم شــهرة الجراح الشــهير أبي القاســم الزهراوي‬ ‫َّ‬ ‫فــي عا َلــم الجراحــة والصيدلــة‪ ،‬فإنه في مقالتــه الثانية في‬

‫مــا كان ُيط َلق عليه "علــم‬ ‫اإللهيات" أو "الميتافيزيقيا" (ما‬ ‫َّ‬

‫وراء الطبيعــة)‪ .‬مــن ذلــك نســتنتج أنه ربما يكــون إغراق‬ ‫الع َق ِد َّية‬ ‫بعــض العلماء المســلمين ممن تنقصهم المناعــة َ‬ ‫الكافيــة فــي دراســة حضــارة اإلغريــق‬ ‫فــوس‬ ‫وتشــرب ُن ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫يفســر لنا‬ ‫بعضهم ُن َ‬ ‫فوس بعض من انحرافاتها الفلســفية‪ّ ،‬‬ ‫الع َق ِد َّية‪.‬‬ ‫وقوع بعضهم في شيء من األخطاء َ‬ ‫العجيب في األمر أنه في مقابل ذلك االزدهار منقطع‬ ‫النظيــر فــي العالم اإلســامي‪ ،‬كان بعض دول أوروبا في‬

‫تلــك الفتــرة من الزمــن يحرق المرضى النفســيين‪ ،‬ألنهم‬ ‫لتلب ِسهم بالشياطين!‬ ‫كما يظنون‪ -‬ال يمكن عالجهم ُّ‬‫وقــد ُي َف َّســر اندثــار محاولــة البحث فــي أوروبا داخل‬ ‫تطــور وتعزيز هذا المنحى‪،‬‬ ‫عقــل المريض ونفســه وعدم ُّ‬ ‫بــأن اإلنســان األوروبــي لم يكــن مهي ًأ علميا بقــدر ٍ‬ ‫كاف‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬ ‫ليستمر في محاولته فحص االضطراب النفسي والبحث‬

‫في مســبباته النفســية والعضوية‪ ،‬الذي ربما كان للكنيســة‬ ‫النصيب األكبر في تخلفه‪.‬‬

‫(*) المشــرف العــام ومؤســس مركز مطمئنــة الطبي بالريــاض ‪ /‬المملكة‬ ‫العربية السعودية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫عثمان الصقلي الذي درس في كتابه‬ ‫ال‬ ‫المختصر الفارسي ك ًّ‬ ‫َ‬ ‫والنوم واألحالم والفزع والكابوس واألوهام‪،‬‬ ‫من اليقظة َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫زيــت الكتــان وزيت اللوز‪ ،‬إذ ُيد َّلك بها الرأس والجســد‬

‫اإلغريقية مثلما هو في الحضارة اإلسالمية‬ ‫أساسا للعلوم‬ ‫ً‬ ‫ونبراســا‬ ‫ومرجعا لها‪ ،‬لذلــك فإنك تجد العا ِلم اإلغريقي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫جنبا إلى جنب مع غيره من العلوم‪ ،‬في‬ ‫ُمل ًّما بعلم الدين ً‬

‫‪19‬‬


‫عاليا من‬ ‫يقدم‬ ‫فــي القاهــرة ُتتيح للمستشــفى أن ِّ‬ ‫ً‬ ‫مســتوى ً‬

‫وهــو أســلوب اتبعــه المعالجون النفســانيون الســلوكيون‬

‫إلى حياته الطبيعية‪.‬‬

‫الخوف والقلق‪.‬‬

‫الرعاية الطبية ومتابعة المريض في فترة نقاهته حتى يعود‬

‫حدثون في عالج بعض االضطرابات الســلوكية‪ ،‬مثل‬ ‫الم َ‬ ‫ُ‬

‫وفي تلك المستشفيات مالحظتان تثيران االهتمام‪:‬‬

‫الس ْــبق في اكتشاف عديد‬ ‫ولقد كان البن ســينا َق َصب َّ‬

‫عام‪ ،‬ســبق‬ ‫• معالجة المرضى العقليين في مستشــفى ّ‬

‫مــن النظريــات التــي لــم يدركهــا العلمــاء إال فــي العصــر‬

‫• اشتراك المجتمع في رعاية المرضى‪.‬‬ ‫يخصــص لــكل مريــض مرا ِفقــان وعدد من‬ ‫وقــد كان َّ‬

‫المعلومــات‪ ،‬وهــذا التفســير لم يصل إليــه العلماء إال في‬

‫المسلمون به االتجاه الحديث بما يقرب من ستة قرون‪.‬‬

‫فســر ابن ســينا حــدوث النســيان بتداخل‬ ‫الحديــث‪ ،‬فقــد َّ‬ ‫أوائــل القــرن العشــرين بعــد تلــك الدراســة التــي أجراها‬

‫األطبــاء اختيــروا بعنايــة مــن مختلف دول الشــرق‪ .‬وكان‬ ‫النوم في غرف‬ ‫ُي َ‬ ‫عــزل المرضــى الذين يعانون صعوب ٍة في َّ‬

‫جينكنــز عــام ‪1924‬م‪ ،‬والتــي أوضحــت أن النســيان ال‬

‫ويج َلب لهــم بعض ال ُق َّصاص المهرة فيســردون‬ ‫خاصــة‪ُ ،‬‬ ‫عليهــم الحكايــات ِم َّمــا يســاعدهم علــى االســتغراق فــي‬ ‫صرف لكل مريض خمس قطع‬ ‫َّ‬ ‫النــوم بهدوء‪ .‬كمــا كان ُي َ‬ ‫ذهبية عند خروجه من المستشفى‪.‬‬

‫الدوافع والرغبات‪.‬‬

‫ولعــل مــن يدقــق النظــر يــدرك أن القــرآن الكريم في‬

‫الخمرقــد ســبق الجميــع في تقرير مبــدأ‬ ‫تحريمــه‬ ‫التدرج‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬

‫وكان مستشفى السلطان سليمان القانوني أبدع مستشفى‬

‫‪ -2‬النظريات والمصنَّفات‬

‫"إحيــاء علــوم الديــن" بشــكل‬ ‫خــاص‪ ،‬مباحــث ّقيِمــة في‬ ‫ّ‬

‫ولقــد قــدم أبــو حامــد الغزالي (رحمــه اهلل) فــي كتابه‬

‫بعض العلماء المسلمين السابقين‪ ،‬مثل الكِ ْندي‬ ‫لقد سبق ُ‬

‫دراســة الســلوك والدوافــع واالنفعــاالت والعواطــف‬

‫الجوزِ َّيــة‪ ،‬ســبقوا‬ ‫الديــن الــرازي وابــن تيميــة وابــن ِّقيــم َ‬

‫النفس عن طريق تكوين العادات الصالحة‪.‬‬

‫وأبــي بكــر الرازي ومســكويه وابن حــزم والغزالي وفخر‬ ‫حدثين من أتباع مدرسة العالج‬ ‫الم َ‬ ‫المعالجين النفسانيين ُ‬

‫المعرفــي الســلوكي‪ ،‬فــي تركيــز االهتمــام فــي العــاج‬ ‫النفســاني علــى تغييــر أفــكار الفــرد ومعت َقداته الســلبية أو‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫الرمزيــة لألحــام وكذلــك إلــى دور األحــام في إشــباع‬

‫في التعلُّم‪.‬‬

‫نفسي في العالم في ذلك الحين‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وفــي عهــد الدولــة الســلجوقية ومــن بعدهــا الدولــة‬ ‫العثمانيــة‪ُ ،‬ب ِنــي عديــد مــن المجتمعــات العالجيــة حــول‬ ‫َ‬ ‫ــمى "التكايا"‪ ،‬وقد اســتمرت لعدة‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫وكانت‬ ‫المســاجد‪،‬‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫الص ِّحية العقلية‬ ‫قرون‪ ،‬وهي تماثل إلى ٍّ‬ ‫حد كبير المراكز ِّ‬ ‫نش َئت حدي ًثا في أمريكا‪ .‬كما ُبني عديد‬ ‫االجتماعية التي ُأ ُ‬ ‫َ‬ ‫مــن المستشــفيات فــي مختلــف أنحــاء الدولــة العثمانية‪،‬‬

‫يحــدث بســبب مرور الزمــن دون اســتخدام المعلومات‪،‬‬ ‫يؤدي‬ ‫وإنما بســبب انشغال اإلنســان وازدياد نشاطه‪ِ ،‬م َّما ِّ‬ ‫إلى التداخل‬ ‫والتعارض بين معلوماته الجديدة والسابقة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ابن ســينا والفارابي‬ ‫حدثين في‬ ‫الم َ‬ ‫وقد ســبق ُ‬ ‫َ‬ ‫العلمــاء ُ‬ ‫فذكــرا أن األحالم‬ ‫أهــم أســباب حــدوث األحــام‪،‬‬ ‫ذكــر ِّ‬ ‫َ‬ ‫تحدث بســبب تأثير بعض المؤثرات ِ‬ ‫الح ِّس َّية التي تصدر‬ ‫مــن خــارج البــدن أو من داخله‪ ،‬كما أشــارا إلــى المعاني‬

‫الخاطئــة‪ ،‬علــى اعتبار أن أفكار الفرد ومعتقداته هي التي‬

‫تؤ ّثِر في سلوكه‪.‬‬

‫لذلك فإن هؤالء العلماء المسلمين السابقين‪ ،‬هم في‬

‫الحقيقة ُر َّواد العالج المعرفي السلوكي الحديث‪.‬‬ ‫وع ِنــي ابــن حــزم والغزالــي وابــن تيميــة وابــن القيــم‬ ‫ُ َ‬ ‫فــي عــاج الســلوك المذمــوم أو الخ ُلــق الســيئ بضــده‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اهتم بإعالء الدوافع ومجاهدة‬ ‫ودورهــا في التربية‪ ،‬كمــا َّ‬ ‫ممــن ســبقه مــن العلمــاء‬ ‫ويتميــز الغزالــي مــن كثيــر َّ‬

‫المســلمين‪ ،‬باجتمــاع قــوة العقــل والديــن عنــده فــي آن‬

‫واحــد‪ ،‬كمــا أنــه لــم يــدرس النفــس كمــا درســها كثيرون‬ ‫باعتبارهــا‬ ‫موضوعــا مــن موضوعــات الفلســفة‪ ،‬وإنمــا‬ ‫ً‬ ‫ال إلى زيادة معرفته بعظمة خالقه‪.‬‬ ‫درسها باعتبارها سبي ً‬ ‫كما ازدهرت في القيروان مدرسة طبية رائدة كان من‬ ‫أول روادها إسحاق بن عمران‪ ،‬الذي ألف إحدى عشرة‬ ‫مخطوطة لم يصل إلينا منها سوى كتابه في الماليخونيا‪.‬‬ ‫ويحتــوي هــذا الكتــاب علــى فصليــن‪ ،‬يتعلــق األول‬


‫الس ْبق يف اكتشاف عديد‬ ‫صب َّ‬ ‫لقد كان البن سينا قَ َ‬

‫يقــول جــورج مــورا واص ًفــا مرحلــة ازدهــار الطــب‬

‫مــن النظريــات التــي مل يدركها العلــاء إال يف‬

‫النفســي‪" :‬لقــد كان موقــف العــرب أكثــر إنســانية نحــو‬ ‫شيئا من التأثير على نظرة‬ ‫المرضى العقليين‪ِ ،‬م َّما أحدث ً‬ ‫دول أوروبا الغربية تجاه المرضى العقليين‪ ،‬وفي الواقع‬

‫فس ابن ســينا حدوث النسيان‬ ‫العرص الحديث‪ ،‬فقد َّ‬ ‫بتداخــل املعلومات‪ ،‬وهذا التفســر مل يصل إليه‬

‫العلامء إال يف أوائل القرن العرشين‪.‬‬

‫فــإن فــي المعلومــات المو ّثقــة حول موقــف العرب تجاه‬ ‫المرضــى العقليين قلة نســبية‪ ،‬لكن علــى الرغم من ذلك‬

‫ُيعــرف كثيــر من القوى الدينيــة واألخالقية والعلمية التي‬

‫وبين‬ ‫آياتــه ّ‬ ‫البيِنــات علــى اإلحســان للمرضى والســفهاء‪َّ ،‬‬ ‫التصــرف بأموالهــم‪ ،‬وأوصــى بإســعافهم واألخــذ‬ ‫كيفيــة‬ ‫ُّ‬ ‫بأيديهــم‪ .‬وتحــت ظــال العقيدة اإلســامية التي حر َرت‬ ‫َّ‬ ‫والمفكرون واألطباء العرب أن‬ ‫الفكر اســتطاع الحكماء‬ ‫ِّ‬ ‫كثيرا‬ ‫ِّ‬ ‫يطوروا علوم اإلغريق وفلسفتهم‪ ،‬وأن يضيفوا إليها ً‬ ‫مــن االبتــكارات‪ ،‬وأن ُيدخلــوا عليهــا صبغتهم األخالقية‬ ‫والتطبيقية واالجتماعية والدينية الخاصة"‪.‬‬ ‫وقد تمثلت معالم تلك الفترة بالمستشفيات العقلية‪،‬‬ ‫والمصنفات‪.‬‬ ‫والنظريات‬ ‫َّ‬

‫ُيفتــرض أن هــذه االتجاهات قد نشــأت عنها‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫ُِ‬ ‫س عديد من المستشفيات العقلية في بغداد‬ ‫ذلك فلقد أ ّس َ‬ ‫في القرن الثامن الميالدي‪ ،‬وكذلك في دمشق في القرن‬ ‫التاســع الميــادي‪ ،‬وفــي القاهرة في القرن الثالث عشــر‬

‫الميــادي‪ ،‬ولقــد وصــف الرحالــة العائــدون إلــى أوروبا‬ ‫مــن بــاد العــرب في القــرن الثاني عشــر الميــادي ذلك‬ ‫العــاج المســتنير الــذي يتلقــاه المرضــى النفســانيون في‬

‫جو االسترخاء في تلك‬ ‫تلك المراكز العالجية‪ ،‬ووصفوا َّ‬ ‫الغ َّنــاء‪ ،‬ووصــف كذلــك الطــرق العالجيــة التــي تشــمل‬ ‫َ‬

‫وعطورا‪ ...‬إلخ"‪.‬‬ ‫وجبات خاصة وحمامات وأدوية‬ ‫ً‬ ‫ثم ُي ِضيف‪" :‬كانت هناك عيادة خارجية ومدرسة طبية‬ ‫لحقــة بــكل مستشــفى‪ ،‬وقد كانت اإلمكانــات العالجية‬ ‫ُم َ‬

‫ُمتاحة للمرضى األغنياء والفقراء على حد ســواء‪ ،‬ويبدو‬ ‫اله َوس واالكتئاب"‪.‬‬ ‫أن معظمهم كان يعاني ذهان َ‬

‫ويقــول د‪ .‬ســليم عمــار‪" :‬جــاء اإلســام فــي بقعــة‬

‫مفتر ًقا للحضارات القديمــة‪ ،‬فأحيا ال ُّتراث العلمي‬ ‫ُتعتبــر َ‬

‫والفلســفي اليونانــي والبيزنطــي والفارســي والساســاني‬ ‫والســرياني‪ ...‬واســتطاع بفضل قيمه األخالقية والروحية‬

‫الر َّحــل يعبــدون‬ ‫الســامية‪ ،‬أن‬ ‫يحــول ً‬ ‫ِّ‬ ‫قومــا مــن البــدو ُّ‬ ‫يد ُعــون إلــى طهــارة النفس وســامة‬ ‫األصنــام‪ ،‬إلــى قــوم ْ‬ ‫الروحاني انطالقة‬ ‫الحيــاة‪ .‬وفــي هذا اإلطار أخــذ‬ ‫ُّ‬ ‫الطــب ُّ‬

‫(‪ .)Psychosomatic‬ولقد كان القرآن الكريم هو الحافز لهذه‬

‫جذريــا‬ ‫تغي ًــرا‬ ‫ًّ‬ ‫الحركــة االنبعاثيــة الحضاريــة‪ ،‬إذ أحــدث ُّ‬ ‫حــث كثير من‬ ‫فــي كل مياديــن الحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬كمــا َّ‬

‫أســس الخليفــة‬ ‫ُي َ‬ ‫ــروى أنــه فــي نحــو عــام ‪ 93‬للهجــرة‪َّ ،‬‬ ‫ا ُ‬ ‫أل َم ِــو ُّي الوليــد بــن عبــد الملك بدمشــق أول بيمارســتان‬ ‫تخصــص لهم جرايات ُتن َفق‬ ‫للمرضــى العقليين‪ ،‬وكانت‬ ‫َّ‬ ‫عليهم للعيش داخل المأوى وخارجه‪.‬‬ ‫أسس العباسيون في بغداد أول‬ ‫وفي سنة ‪ 151‬للهجرة َّ‬ ‫متخصص لألمراض العقلية‪ ،‬ثم ُن ِس َجت على منواله‬ ‫قسم‬ ‫ِّ‬ ‫أقسام أخرى في جميع العواصم اإلسالمية في المشرق‬ ‫والمغــرب‪ ،‬كان أشــهرها مستشــفى "قــاوون" بمصــر‪.‬‬ ‫ولقــد كانــت القيروان في المغــرب العربي في أواخر‬ ‫القــرن التاســع الميــادي‪ ،‬عاصمــة العلــم واإلشــعاع‬ ‫شــيدوا البيمارســتانات‪،‬‬ ‫الحضــاري زمــن األغلبيــة الذين َّ‬ ‫شــيدوا أمثالها في سوســة وصفاقس وتونس‪ ،‬وكانت‬ ‫ثم َّ‬ ‫وتقدم لهم في المواســم‬ ‫الصدقــات ُتن َفق على المرضى‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أطيب المآكل والحلويات‪.‬‬ ‫وفــي القــرن الرابــع عشــر الميــادي كان مستشــفى‬ ‫مدهشــا للرعايــة النفســية‪،‬‬ ‫ال‬ ‫قــاوون فــي القاهــرة مثــا ً‬ ‫ً‬ ‫فقــد كان يحــوي أربعــة أقســام منفصلــة للجراحة‪ ،‬وطب‬ ‫األعين‪ ،‬واألمراض الباطنية‪ ،‬واألمراض العقلية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الهِ‬ ‫ــخية التــي يدفعهــا األغنيــاء‬ ‫الس‬ ‫بــات‬ ‫كانــت‬ ‫ولقــد‬ ‫َّ َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫األطباء العرب شــديدي التعلُّق‬ ‫عمالقــة خاصة‪ ،‬وأصبح‬ ‫َّ‬ ‫بالممارســة والتجربة‪ِ ،‬م َّما جعلهم ماهرين في المعاينات‬ ‫والنظريات الشــاملة‪ ،‬ومنها "النظريات النفسية الجسمية"‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المراكــز العالجيــة المحاطة بالنوافير الســاحرة والحدائق‬

‫‪ -1‬المستشفيات العقلية‬

‫‪17‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬طارق الحبيب*‬

‫تاريخ الطب النفسي‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫في بالد المسلمين‬

‫‪16‬‬

‫ال‬ ‫لقــد ظل علم النفــس لفترة طويلة مجا ً‬ ‫الجتهــاد الفالســفة والحكمــاء ورجــال‬ ‫فرعا من فروع علم‬ ‫الكنيســة‪ ،‬ثم أصبــح ً‬ ‫يســتقل عنه إال بعد أن أصبح له موضوعه‬ ‫الفلســفة‪ ،‬ولم‬ ‫ّ‬ ‫ومنهجه الخاص به‪ ،‬وقد أسهم اإلسالم بنظامه المتكامل‬ ‫المنظم للحياة النفسية واالجتماعية واالقتصادية‬ ‫الشــامل‬ ‫ِّ‬ ‫والسياســية وغيرهــا‪ ،‬فــي تقويــم نظــرة الناس إلــى النفس‬ ‫البشرية‪ ،‬وأشار إلى شيء من أسرارها وخباياها‪.‬‬ ‫موجــز‬ ‫ولقــد احتــوى القــرآن الكريــم علــى وصــف َ‬ ‫لطبائع النفوس ووســائل عالجها‪ ،‬وكشــف لإلنسان عن‬ ‫بعض أســرار نفســه وأســرار الكون من حوله‪ ،‬ودعاه إلى‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫دراسة هذه وتلك‪ ،‬ليعرف ويتع َّلم‪ ،‬و ِمن َث َّم يتجه االتجاه‬ ‫وفصلت ما‬ ‫بوية‬ ‫الس َّــنة َّ‬ ‫كثيــرا‪َّ ،‬‬ ‫الن َّ‬ ‫الصحيــح‪ ،‬كما أضافت ُّ‬ ‫ً‬ ‫ال في هذا المجال‪.‬‬ ‫جم ً‬ ‫ذكره القرآن ُم َ‬ ‫لقــد أســهم العلمــاء المســلمون الســابقون إســهامات‬ ‫تحظ من‬ ‫هامــة في الدراســات النفســانية‪ ،‬لكنها لم َ‬ ‫كثيــرة َّ‬ ‫قبــل باهتمــام الباحثيــن‬ ‫ومؤرخــي الدراســات النفســانية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫فهــم يغفلــون عن ذكــر إســهامات العلماء المســلمين في‬ ‫الدراســات النفســية‪ ،‬رغــم أنــه قــد ُترجم عديــد منها إلى‬ ‫المفكريــن‬ ‫كبيــرا فــي آراء‬ ‫تأثيــرا‬ ‫اللغــة الالتينيــة‪ ،‬وأ َّث َــرت‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األوروبييــن أثنــاء العصــور الوســطى حتــى بدايــة عصــر‬ ‫النهضة األوروبية الحديثة‪.‬‬


‫علم يــدور يف هذا الكون عــى يد هذا‬ ‫فــا ِمن‬ ‫ٍ‬

‫وجوب معرفة "العربية" لفهم القرآن‬

‫أصلُه من الله ‪،‬‬ ‫اإلنســان كاف ًرا كان أو مؤمنًــا‪ ،‬إال ْ‬

‫إذا لم نفهم المراد من هذه الرسالة فلن نستطيع االستفادة‬ ‫منها‪ ،‬وهذا ُي ِ‬ ‫وجب على كل مسلم أن يعرف لسان القرآن‬ ‫ألنه نزل ‪ِ ‬ب ِلس ٍ‬ ‫ِين‪(‬الشــعراء‪ ،)195:‬وأي حيلولة‬ ‫ــان َع َرب ٍِّي ُمب ٍ‬ ‫َ‬ ‫بين المسلمين ومعرفة هذا اللسان وإتقانه لمعرفة المراد‬

‫مــن الهدى النازل من عنده َّ‬ ‫جل ذُ ك ُره‪ ،‬ومن الهدى‬

‫املودع يف اإلنسان‪.‬‬ ‫َ‬

‫ــارا‪ .‬فعلــى‬ ‫مــن القــرآن‪ُ ،‬يعتبــر جريمــ ًة كبــرى‬ ‫ومنكــرا ُك َّب ً‬ ‫ً‬

‫حسوا بهذا األمر اإلحساس الذي ينبغي له‪،‬‬ ‫المسلمين أن ُي ُّ‬

‫فالملهِ يات بجميع أشكالها ُتلهِ ي عن‬ ‫من تطبيق القرآن‪ُ ،‬‬ ‫ــن َي ْش َــت ِري َل ْهو ا ْل َح ِد ِ‬ ‫يــث ِل ُي ِض َّل‬ ‫الن ِ‬ ‫ــن َّ‬ ‫‪‬و ِم َ‬ ‫اس َم ْ‬ ‫القــرآن‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫ِيل ا ِ‬ ‫هلل ب َِغ ْي ِر ِع ْل ٍم‪(‬لقمان‪ ،)6:‬هناك من يشــتري " َل ْه َو‬ ‫َع ْن َســب ِ‬ ‫ا ْل َح ِد ِ‬ ‫يوزعــه‪ ،‬ومــن ُين ِتجــه‪...‬‬ ‫يــث"‪ ،‬ومــن‬ ‫يصــدره‪ ،‬ومــن ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫أيضا تأتي مســؤولية وزارات اإلعالم في العالم‬ ‫وهــا هنــا ً‬

‫عظــم مســؤولية‬ ‫عظــم مســؤولية رجــال التعليــم‪ ،‬و َت ُ‬ ‫و َت ُ‬ ‫عظم المســؤوليات‬ ‫المشــرعين للتعليــم والمن ِّفذيــن له‪ ،‬و َت ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ال‬ ‫عامــة‪ .‬وإنــه َلواجــب ُّأيمــا‬ ‫ٍ‬ ‫واجــب أن ُيجتهد فع ً‬ ‫بصفــة َّ‬

‫ومن‬ ‫التي ينبغي أن تنشر الخير‪ ،‬ومسؤوليات َمن يحاضر َ‬ ‫موز ٍع للعلم وناشرٍ للثقافة‪.‬‬ ‫ينتدي‪ ،‬و ِمن كل ِّ‬

‫فيجتهــدوا فــي تعلُّم هذه العربية وتعليمها وتذويق الناس‬

‫أسرارها‪ ،‬ألنها المدخل األساسي لمعرفة كتاب اهلل ‪.‬‬

‫واجب وزارات التعليم في العالم اإلسالمي‬

‫عظــم واجــب وزارات التعليــم فــي العالــم‬ ‫وهــا هنــا َي ُ‬ ‫المؤسســات التعليميــة‪،‬‬ ‫عظــم مســؤولية‬ ‫اإلســامي‪ ،‬و َت ُ‬ ‫َّ‬

‫إلــى تطبيــق القرآن‪ ،‬وتطبيق القرآن هــو الهدف من إنزال‬

‫عمل بالقــرآن فكيف‬ ‫القــرآن‪ ،‬إذا لــم ُي َ‬ ‫فهــم القــرآن ولــم ُي َ‬ ‫كم َثل شخص‬ ‫تتصور االستفادة من القرآن؟ إن َم َثل ذلك َ‬ ‫َّ‬

‫المرجوة لـ"نفخ" روح القرآن في األمة‬ ‫اآلثار‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال‬ ‫فــي اإللحــاح على جعل هــذا التعليم‬ ‫قرآنيــا‪ ،‬ينطلق أو ً‬ ‫ًّ‬ ‫فهم القرآن‪،‬‬ ‫مــن القــرآن‪ُ :‬يع َّلم القــرآن‪ُ ،‬يح َّفظ القــرآن‪ُ ،‬ي َّ‬ ‫ســبك هــؤالء األطفــال الذيــن ُف ِطــروا‬ ‫حــرص علــى أن ُي َ‬ ‫ُي َ‬ ‫سبكوا على مضمون‬ ‫على اإلسالم على مراد القرآن‪ ،‬أن ُي َ‬ ‫القــرآن‪ُ ،‬كلٌّ يفعــل مــن ذلــك مــا ُي ِطيــق ويدفــع فــي هــذا‬ ‫االتجاه بما ُي ِطيق‪ ،‬ألن فهم المراد من القرآن هو السبيل‬

‫اإلســامي‪ ،‬وتأتي مســؤولية الجمعيات الناشرة للخير أو‬

‫بمثل هذه الجهود المتواصلة المتساندة المتكاملة‪ ،‬يمكن‬ ‫إن شاء اهلل تعالى‪ -‬أن ُتن َفخ في هذه ا ُ‬‫روح القرآن‪،‬‬ ‫أل َّمة ُ‬ ‫ــخ فيهــا من ُروحــه (القرآن) ظهرت فيهــا أمارات‬ ‫فــإذا ُن ِف َ‬ ‫الحيــاة‪ ،‬ومــن أمارات الحياة "اإلحســاس"‪ ،‬أي إحســاس‬ ‫مصر أو‬ ‫سليما‪ ،‬فإذا اشتكى منها‬ ‫إحساسا‬ ‫بعضها ببعض‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬

‫ســائر األمصار واألقطار بالعون وال ُّنصرة‬ ‫ُق ْط ٌر‪َ ،‬تداعى له‬ ‫ُ‬ ‫والتأييد‪ ،‬ولم ي ُقل قائل منهم‪ :‬ما لنا ولكشمير وبيننا وبين‬

‫الهنــد آالف الكيلومتــرات؟ مــا لنــا وألوزبكســتان وهــي‬

‫فــي شــمال األرض ونحــن فــي جنوبهــا؟ إن ُروح القرآن‬

‫للتــه داللــة‬ ‫جــاءك يطلــب أن تد َّلــه علــى مــكان بعينــه‪َ ،‬‬ ‫فد َ‬ ‫رســما دقي ًقا‬ ‫الموصل‬ ‫مصو ًرا الطريق‬ ‫ورســمت له‬ ‫دقيقة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬

‫فخــت فــي ا ُ‬ ‫كل تلــك الوظائف التي‬ ‫أل َّمــة أثمــر فيهــا ّ‬ ‫إذا ُن َ‬

‫مســتحيل أن تصل إليه‬ ‫فهــل يســتفيد هــذا الشــخص؟ ال‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫ووظيفــة الهدايــة‪ ،‬ووظيفــة الخــروج مــن الظلمــات إلــى‬

‫ال من أن يتبع ذلك ليصــل أعرض عنه‪،‬‬ ‫جــدا‪ ،‬ولكنــه بــد ً‬ ‫ًّ‬

‫أمــا مــن لــم َّيتبــع فــا ســبيل لــه إليــه‪ .‬لذلك يجــب إزالة‬ ‫هــذه الحواجــز الكثيــرة المتراكمــة بيننــا وبيــن القــرآن‪:‬‬

‫حاجــز اللغــة‪ ،‬وحاجــز القــراءة‪ ،‬وحاجــز الفهــم‪ ،‬وحاجز‬

‫التطبيــق‪ ...‬كما ينبغي إزاحة الصوارف التي هي ضروب‬

‫مــن العوائــق‪ .‬إن الصوارف عن تطبيق القرآن هي موانع‬

‫النور‪ ،‬ووظيفة الشــفاء‪ ،‬ووظيفــة الرحمة‪ ...‬لذلك وجب‬ ‫أن نعمــل علــى إزالــة الحواجــز بيننــا وبيــن القــرآن‪ ،‬وأن‬ ‫قــدر طاقتنــا في‬ ‫نجتهــد فــي فهمــه ْ‬ ‫وتفهيمــه‪ ،‬وأن نجتهــد َ‬

‫ُمصاحبة القرآن‪ ،‬هذه المصاحبة التي ال أجرؤ أن أسميها‬ ‫وص ْحبة له‪.‬‬ ‫تفسيرا‪ ،‬وإنما هي ِع ْشرة للقرآن ُ‬ ‫ً‬ ‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدرسات العلمية (مبدع) ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ال‬ ‫نتائــج ذلك اإلرشــاد وتلــك الداللة‪ .‬فالقــرآن ُه ًدى فع ً‬ ‫ُ‬ ‫ــع رِ ْض َوا َن ُه‪(‬المائدة‪،)16:‬‬ ‫لمــن اتبعــه‪َ :‬‬ ‫‪‬ي ْه ِدي ِب ِه اهلل َم ِن َّات َب َ‬

‫ســبق الحديث عنها‪ ،‬وهي وظيفة الحياة‪ ،‬ووظيفة النور‪،‬‬

‫‪15‬‬


‫"خرجت للناس" ولكن قال ‪ُ ‬أ ْخ ِر َج ْت‪ ،‬هناك َمن‬ ‫ي ُقل َ‬

‫األكثر شهادة‪.‬‬

‫االجتمــاع المســلمين أنــه ينبغــي أن يضــاف فــي تعريــف‬

‫أدخــل هــذه الصفــة‪ ،‬أي "صفــة الدعــوة" فــي تعريــف‬ ‫المســلم ِ‬ ‫نفســه‪ ،‬وأنه ال يكون‬ ‫مســلما على الحقيقة حتى‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫يكــون مب ِّل ًغــا لهــذا الخيــر‪،‬‬ ‫ال في ســبيله ما َكتب اهلل‬ ‫متحم ً‬ ‫ّ‬

‫ُخرجــت للناس‪،‬‬ ‫أخرجهــا ولــم َتخــرج لذاتهــا‪ ،‬ثــم إنهــا أ َ‬ ‫فهــي بطبيعتهــا إذن ُأ َّمة الدعوة‪ .‬لذلــك رأى بعض علماء‬

‫أحــد علمــاء االجتمــاع المســلمين فــي هــذا العصــر‪،‬‬

‫المســلم أنــه داعيــة‪ .‬فحينمــا نقــول "المســلم"‪ ،‬فمعناه هو‬

‫ذلك اإلنسان المؤمن باهلل الداعي إليه‪ ،‬ألن صفة اإلسالم‬

‫منا‪ ،‬وعلى المســلمين‬ ‫لــه‪ ،‬لذلــك يجــب علــى كل واحــد ّ‬

‫مرتبطــة فــي صميمها ‪-‬من حيث التطبيــق التاريخي ومن‬

‫فضل اهلل‬ ‫نعمــة اإليمــان؟ جميع من آمن‪ ،‬آمــن بمحض َت ُّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫‪ ‬ورحمتــه‪ ،‬حتــى األنبيــاء عليهم الصالة والســام إنما‬

‫‪14‬‬

‫اســتح ُّقوا مــا اســتحقوا بمحــض فضــل اهلل ‪ ‬ورحمتــه‪:‬‬ ‫َ‬ ‫‪‬وإ ِْن ُك ْن ُتم ِم ْن َقب ِلهِ‬ ‫ــدكَ َضــا ًّ‬ ‫‪‬و َو َج َ‬ ‫ال َف َه َدى‪(‬الضحــى‪َ ،)7:‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ين‪(‬البقرة‪ .)198:‬فبمحض الرحمة الخالصة كان‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الض‬ ‫ن‬ ‫َل ِم َ َّ ّ َ‬ ‫‪‬و َج ِ‬ ‫اه ُدوا‬ ‫هــذا اإليمــان وكان هذا الخير على كل أحد‪َ ،‬‬ ‫ِفــي ا ِ‬ ‫ــم ِفي‬ ‫ــم َو َمــا َج َع َ‬ ‫اج َت َب ُ‬ ‫هلل َح َّ‬ ‫ــق ِج َهــا ِد ِه ُه َــو ْ‬ ‫ــل َع َل ْي ُك ْ‬ ‫اك ْ‬ ‫ِ‬ ‫ين‬ ‫ين ِم ْن َح َر ٍج ِم َّل َة َأب ُ‬ ‫الد ِ‬ ‫يم ُه َو َس َّم ُ‬ ‫ِّ‬ ‫اك ُم ا ْل ُم ْس ِل ِم َ‬ ‫ِيك ْم إ ِْب َراه َ‬ ‫يدا‪(‬الحج‪ ،)78:‬وهذا‬ ‫ِم ْن َق ْب ُل َو ِفي هذا ِليكون‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫ول َشهِ ً‬ ‫َ َ َ ُ َ َّ‬ ‫يدا َع َل ْي ُك ْم َو َت ُكو ُنوا‬ ‫هــو المقصود‪ِ  :‬ليكون‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫ــول َشــهِ ً‬ ‫َ ُ َ َّ‬ ‫ــاس‪ ،‬مــا الوظيفــة؟ هــي وظيفة رســول‬ ‫الن ِ‬ ‫ُش َــه َد َاء َع َلــى َّ‬ ‫ون‬ ‫اهلل ‪ ‬نفســها‪ ،‬هــي وظيفــة أتباع رســول اهلل ‪ِ  ،‬ل َي ُك َ‬ ‫ــن ُك ِّل ُأ َّم ٍة‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫ــم‪َ  ،‬ف َك ْي َ‬ ‫ــول َشــهِ ً‬ ‫ف ِإ َذا ِج ْئ َنا ِم ْ‬ ‫يدا َع َل ْي ُك ْ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِ‬ ‫ــهِ‬ ‫يدا‪(‬النســاء‪ ،)41:‬وأنتم‬ ‫ش‬ ‫ء‬ ‫ال‬ ‫ــؤ‬ ‫ه‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ِــك‬ ‫ب‬ ‫ــا‬ ‫ن‬ ‫ئ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫يد‬ ‫ِش‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بَ‬ ‫َ ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫اس‪(‬البقــرة‪ ،)143:‬وكلُّ‬ ‫الن ِ‬ ‫ً‬ ‫أيضــا ‪ِ ‬ل َت ُكو ُنــوا ُش َــه َد َاء َع َلــى َّ‬ ‫جيل َيشــهد على الجيل الذي يليه‪ ،‬وكلٌّ َح َســب مستواه‪،‬‬

‫فاألع َلــم األكثــر حظًّ ــا مــن ميــراث رســول اهلل ‪ ،‬وهــو‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جميعا‪ ،‬وهو أن نصير‬ ‫الــذي نحلــم به‬ ‫جميعا ‪-‬من أقصى‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الكرة األرضية إلى أقصاها‪ُ -‬أ َّمة واحدة كما أراد اهلل لنا‪،‬‬

‫بالروح الواحدة التي تجمعنا‪ ،‬روح‬ ‫ولن نصير كذلك إال ُّ‬ ‫تح ّل في األفراد وفي المجموعات‬ ‫القرآن التي يجب أن ُ‬

‫بعد في الجسم كله‪.‬‬ ‫واألقطار‪،‬‬ ‫ولتح ّل ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حيــث واقــع النصــوص‪ -‬بالدعــوة إلــى اهلل ‪ .‬نحــن‬ ‫آم ُنــوا ْار َك ُعوا‬ ‫ُأ َّمــة َّ‬ ‫‪‬يــا َأ ُّي َهــا ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫الشــهادة علــى الناس‪َ :‬‬ ‫ــدوا َر َّب ُك ْم َوا ْف َع ُلــوا ا ْل َخ ْير‪(‬الحج‪ ،)77:‬هذه‬ ‫ــج ُدوا َو ْاع ُب ُ‬ ‫اس ُ‬ ‫َو ْ‬ ‫‪‬و َج ِ‬ ‫اه ُدوا ِفي ا ِ‬ ‫ــق ِج َها ِد ِه‪(‬الحج‪ .)78:‬هنا‬ ‫هلل َح َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ممهــدات‪َ ،‬‬ ‫تدئ‪ -‬بجهاد الدعوة‪:‬‬ ‫تدئ‬ ‫ُ‬ ‫أول مــا َي ْب ُ‬‫دخلنــا‪ ،‬والجهاد َي ْب ُ‬ ‫َ ِ‬ ‫أي بـ"القــرآن"‬ ‫ِيرا‪(‬الفرقــان‪ْ ،)52:‬‬ ‫ــم بِــ ِه ِج َه ً‬ ‫‪‬و َجاه ْد ُه ْ‬ ‫ــادا َكب ً‬ ‫‪‬و َج ِ‬ ‫اه ُدوا ِفي ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬ ‫‪‬ج َه ً‬ ‫ِيــرا‪ ،‬ها هنا يبتدئ األمر‪َ ،‬‬ ‫ــادا َكب ً‬ ‫َح َّ ِ ِ ِ‬ ‫اك ْم‪ ‬فهذه‬ ‫اج َت َب ُ‬ ‫الســنام‪ُ ،‬‬ ‫‪‬ه َــو ْ‬ ‫ــق ج َهــاده‪ ‬حتــى ذروة َّ‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫نقطــة اإلخــراج‪ ،‬هــو الذي اختاركــم‬ ‫اختيارا لهــذا ِّ‬ ‫ً‬ ‫ا هــل آمن أحد ِم َّنا أو اهتــدى إلى اإليمان بمحض‬ ‫وفعــ ً‬ ‫فيســتحق بها‬ ‫مؤمنا‬ ‫ف قبل أن يكون‬ ‫أي نعم ٍة أســ َل َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عمله؟ َّ‬

‫ــل هذه‬ ‫لتح َّ‬ ‫جميعــا‪ ،‬أن يجتهــدوا فــي إشــاعة هــذا الخيــر ُ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ــواهم‪،‬‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫وح‬ ‫الر‬ ‫ولتح ّل في كل المســلمين بإذن‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫اهلل تعالــى‪َ ،‬فيصيــروا بذلك في وضــع جديد هو الوضع‬

‫ضرورة فهم "رسالة" القرآن‬

‫ال‬ ‫إذا شــعرنا بذلــك تمــام الشــعور‪ ،‬فإن الواجــب يتجه أو ً‬ ‫إلــى َتفهيــم المــراد بهــذا الديــن وبهــذا القــرآن‪ ،‬ذلك بأن‬

‫مرســلة على يــد رســول اهلل ‪ُ ‬يبلغها إلى‬ ‫القــرآن رســالة َ‬ ‫ــذا ا ْل ُقــر ُ ُ ِ‬ ‫‪‬و ُأ ِ‬ ‫وحــي ِإ َل‬ ‫ــن‬ ‫ــي َه َ‬ ‫ــم بِــ ِه َو َم ْ‬ ‫النــاس‪َ :‬‬ ‫آن أل ْنذ َر ُك ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َب َل َغ‪(‬األنعــام‪ .)19:‬هــذه الرســالة آتية من رب الناس‪ ،‬ملك‬ ‫النــاس‪ ،‬إلـــه النــاس‪ ...‬وإذا لــم نعــرف هذه الرســالة ولم‬ ‫نقرأها كلها‪ ،‬فكيف سنفهم المراد؟ فكيف سنطبق المراد؟‬

‫وكيف سيحصل لنا المراد من المراد؟ وإذا اكتفينا بقراءة‬ ‫هذه الرســالة ولم نفهمها حصل إشــكال كبير‪ .‬لذا يجب‬ ‫أن نقــرأ ونفهــم‪ ،‬ألننا إذا لم نفهم المراد فكيف ســنجيب‬

‫عــن المــراد يــوم لقــاء اهلل ‪ ،‬وكيــف نســتطيع فــي هذه‬ ‫الحياة الدنيا أن نستفيد من هذا المراد؟ ألن اهلل ‪َ ‬أرسل‬

‫هــذا الخيــر إلســعاد البشــرية‪ ،‬وليحيــا النــاس حيــاة طيبــة‬ ‫ال ِئ َكــ ُة َط ِّيبِين‪(‬النحل‪،)32:‬‬ ‫ــم ا ْل َم َ‬ ‫ليصيــروا طيبيــن‪َ  :‬ت َت َو َّف ُ‬ ‫اه ُ‬ ‫وتعبيــرا‪،‬‬ ‫شــربا‪،‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫وتفكيــرا‪ ،‬وأعمــا ً‬ ‫طعمــا‪َ ،‬‬ ‫وم ً‬ ‫طابــوا َم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ا ٌم َع َل ْي ُك ْم‬ ‫وأحــوا ً‬ ‫‪‬ســ َ‬ ‫طيبين فيقال لهم‪َ :‬‬ ‫ال حتــى صاروا ّ‬ ‫ِ‬ ‫الطيِبة‬ ‫ط ْب ُت ْم‪(‬الزمر‪)73:‬؛ طبتم في الدنيا فادخلوا إلى الدار ّ‬ ‫بالطيبــات األخرويــة‪ ،‬ادخلــوا إلــى دار الســام‪:‬‬ ‫لتتمتعــوا‬ ‫ّ‬ ‫ين‪(‬الزمر‪.)73:‬‬ ‫‪‬س َ‬ ‫ال ٌم َع َل ْي ُك ْم ِط ْب ُت ْم َف ْاد ُخ ُل َ‬ ‫وها َخا ِل ِد َ‬ ‫َ‬


‫إذا ن ُِفخَ يف األمــة روح القرآن‪ ،‬ظهرت فيها أمارات‬

‫الحي على قدر‬ ‫وإذا كان الميت ال َحول له وال َطول‪ ،‬فإن‬ ‫َ َّ‬ ‫نوعيــة كينونتــه تكون تأثيراته في الكون‪ .‬واإلنســان طراز‬ ‫وي ِ‬ ‫شعر بذلك أنه ‪ ‬استخلفه في‬ ‫ّ‬ ‫خاص من المخلوقات‪ُ ،‬‬

‫الحياة‪ ،‬ومن أمارات الحياة "اإلحساس"‪ ،‬أي إحساس‬ ‫ً‬ ‫ســليم‪ ،‬فإذا اشتىك منها‬ ‫إحساسا‬ ‫بعضها ببعض‬ ‫ً‬ ‫مــر أو قُ ْ‬ ‫ط ٌر‪ ،‬تَداعى له ســائ ُر األمصــار واألقطار‬ ‫ٌ‬

‫ال ِئ َك ِة ِإ ِّني َج ِ‬ ‫اع ٌل ِفي ا َ‬ ‫ض‬ ‫‪‬وإ ِْذ َق َ‬ ‫ال َر ُّب َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــك ِل ْل َم َ‬ ‫أرضــه‪َ :‬‬ ‫مالئكته وجعلهم‬ ‫ــج َد له‬ ‫َ‬ ‫َخ ِلي َف ًة‪(‬البقرة‪ ،)30:‬وأنه تعالى َأ ْس َ‬ ‫هلل َس َّخ َر‬ ‫وس ّخر له كل ما سواه‪َ  :‬أ َل ْم َت َر ْوا َأ َّن ا َ‬ ‫َح َفظة له‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو َمــا ِفي ا َ‬ ‫ض‪(‬لقمــان‪ .)20:‬فهو‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫َل ُك ْ‬ ‫ــم َما في َّ‬ ‫جــدا‪ .‬ومن‬ ‫مخلــوق مــن طــراز‬ ‫خاص‪ ،‬ذو قــدرات عالية ًّ‬ ‫ّ‬ ‫لفظ الخليفة‪ ،‬نشــعر بتكامل األجيال الذي شــرحته آيات‬ ‫ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــن َب ْع ِد ُك ْم‬ ‫ــم َو َي ْس َــت ْخ ِل ْف ِم ْ‬ ‫كثيــرة‪ ،‬منهــا‪ :‬إ ْن َي َشــأ ُي ْذه ْب ُك ْ‬ ‫ين‪(‬األنعام‪.)133:‬‬ ‫ــن ُذرِّ َّي ِة َق ْــو ٍم َ‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫ــاء َك َما َأ ْن َشــأ َُك ْم ِم ْ‬ ‫َما َي َش ُ‬ ‫الكائــن الــذي َيخ ُلــف بعضــه‬ ‫فـ"الخليفــة" مــن معانيهــا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بعضــا‪ ،‬أي الخالفــة الماديــة العاديــة نتيجــة الكبيــر الــذي‬ ‫ً‬ ‫تــداول أمر‬ ‫يمــوت والصغيــر الــذي يأتــي‪ ،‬والخالفــة فــي‬ ‫ُ‬

‫واألجيــال الالحقــة ُت ِ‬ ‫تكن تخطــر َق ّط على‬ ‫نجــز أشــياء لم ُ‬

‫خاطــر األجيــال الســابقة‪ ،‬وبتكامل األجيال مــن لدن آدم‬

‫ال‪ -‬على‬ ‫تتم رســالة اإلنسان ‪-‬فع ً‬ ‫‪ ‬حتى قيام الســاعة‪ُّ ،‬‬

‫وتؤ َّدى الخالفة‪ .‬فاإلنســان‬ ‫وتتم الخالفة‪َ ،‬‬ ‫وجه األرض‪ّ ،‬‬ ‫استخلف في األرض‬ ‫نوع يخ ُلف بعضه ً‬ ‫بعضا‪ ،‬وإن الذي ُ‬

‫ليــس هــو آدم وحده‪ ،‬وإنما جنس آدم‪ ،‬وهو المســتخ َلف‬ ‫تراكــم هــذه‬ ‫َح َســب نظــام االســتخالف‪ ،‬وهــذا يقتضــي ُ‬

‫وتكامل العلم اإلنســاني الذي أصله من اهلل ‪‬‬ ‫المعرفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫علم يدور في هــذا الكون على يد‬ ‫ال مــن ســواه‪ .‬فمــا ِمن ٍ‬

‫الــروح ينبغــي أن نجتهــد فــي أن ُن ِح َّلهــا فينــا‪ ،‬وال‬ ‫فهــذه ُّ‬ ‫يكــون ذلــك إال باإلقبال على كتــاب اهلل ‪ ‬تالو ًة‬ ‫وفهما‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫كل إنسان‪ -‬ال سبيل‬‫وعم ً‬ ‫وتبليغا‪ ،‬ألن نجاة اإلنسان ِّ‬ ‫ً‬

‫‪‬وا ْل َع ْصــر‬ ‫إليهــا إال إذا قــام بهــذه الوظائــف األربــع‪َ :‬‬ ‫ــان َل ِفي ُخ ْســرٍ ‪(‬العصر‪)2-1:‬؛ ُخســر دائم‬ ‫مســتمر‪،‬‬ ‫إ َِّن ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ّ‬ ‫ــن َت ْق ِويمٍ "‪ ،‬ثــم َر ُّده اهلل‬ ‫"خ ِل َق ِفي َأ ْح َس ِ‬ ‫دائمــا تحــت ُ‬ ‫ينــزل ً‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ات‬ ‫إلى أسفل سافلين‪ ،‬إ َِّل ا َّل ِذ َ‬ ‫آم ُنوا َو َع ِم ُلوا َّ‬ ‫ين َ‬ ‫‪‬‬

‫ِالص ْبر‪(‬العصــر‪ .)3:‬إذا قــام‬ ‫اص ْــوا بِا ْل َح ِّ‬ ‫ــق َو َت َو َ‬ ‫َو َت َو َ‬ ‫اص ْــوا ب َّ‬ ‫(آم ُنوا)‪ ،‬ولكن لم يعملوا الصالحات‬ ‫الناس فقط بواحدة َ‬ ‫ولم‬ ‫بالح ِّق ولم يتواصوا بالصبر‪ ،‬فلن َي ْن ُجوا من‬ ‫َ‬ ‫يتواص ْوا َ‬ ‫أبدا‪ ...‬فاآلية ترفض ذلك وال تقبل به‪ ،‬والواقع‬ ‫الخسران ً‬

‫شع‬ ‫كذلك يرفضه‪ .‬إن اإلنسان إذا لم يتحول إلى عنصر ُم ٍّ‬ ‫حتما‬ ‫وإلــى َن ْبــع َف َّيــاض‪ ،‬فإنه ً‬ ‫ســي َد َّنس في يــوم ما‪ً ،‬‬ ‫حتما ُ‬ ‫ســيمكن للنجاسة أن‬ ‫الصور‪ .‬لكن‬ ‫تســتقر فيه بصورة من ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫إذا كان باســتمرار يرســل الخير‪ ،‬يفيض منه الخير‪ ،‬يدعو‬ ‫إلــى الخيــر‪ ،‬يفعــل الخير‪ ،‬فإنــه يصير غير قابل الســتقبال‬

‫الش ِّــر‪ ،‬ألن القابلية فيه تنعدم‪ ،‬ألنه مشــغول ‪-‬باســتمرار‪-‬‬ ‫َّ‬ ‫بدفــع الخيــر إلــى الغيــر‪ .‬إنــه كالمــاء إذا لم يتحرك ِ‬ ‫ــن‬ ‫أس َ‬ ‫ظل‬ ‫و َن ِتــن‪ ،‬أمــا إذا كان يجــري فإنــه َي ْطهــر‪ ،‬والمؤمــن إذا ّ‬ ‫وص‬ ‫فقــط يؤمــن ويعمــل الصالحات في عمومهــا‪ ،‬ولم ُي ِ‬ ‫بالحــق ولــم يب ّلغ الحق‬ ‫ويتحمــل تكاليف تبليغه‪ ،‬فإنه ال‬ ‫َّ‬ ‫جاريا‪ ،‬وال يكون كالماء الجاري‬ ‫يكون‬ ‫طاهرا‪ ،‬لذلك ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مما ليس منه ُب ٌّد‪.‬‬ ‫بد َّ‬

‫أمة "الشهادة" على الناس‬

‫نحــن ُأ َّمــ ٌة ليســت كا ُ‬ ‫خاص‪ ،‬اهلل‬ ‫أل َمم‪ ،‬نحن ُأ َّمة مــن طراز‬ ‫ّ‬ ‫‪‬ك ْن ُت ْم َخ ْي َــر ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت‪(‬آل عمــران‪ ،)110:‬ولم‬ ‫أخرجهــا‪ُ :‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫أص ُلــه مــن اهلل‬ ‫كافــرا كان أو‬‫هــذا اإلنســان‬ ‫ً‬ ‫مؤمنــا‪ -‬إال ْ‬ ‫ً‬ ‫‪ ،‬مــن الهــدى النازل من عنــده َّ ِ‬ ‫كره‪ ،‬ومن الهدى‬ ‫جل ذ ُ‬ ‫المــودع فــي اإلنســان الذي تشــير إليه اآليــة‪َ  :‬أ ْع َطى ُك َّل‬ ‫َ‬ ‫َشي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َه َدى‪(‬طه‪ ،)50:‬واهلل هو الذي ع َّلم اإلنسان‬ ‫ْ‬ ‫ما لم يعلم ‪-‬بالوحي وبغير الوحي‪ -‬وإن كان العلم الذي‬ ‫ِ‬ ‫الميــزان‪َ  :‬ل َق ْد‬ ‫علم‬ ‫جــاء بــه الوحي هو علــم‬ ‫ِ‬ ‫العلم‪ ،‬ألنه ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ان‬ ‫ــاب َوا ْل ِم َيز َ‬ ‫ــم ا ْل ِك َت َ‬ ‫أ ْر َســ ْل َنا ُر ُســ َل َنا بِا ْل َب ِّي َنــات َوأ ْن َز ْل َنــا َم َع ُه ُ‬ ‫اس بِا ْل ِق ْسط‪(‬الحديد‪.)25:‬‬ ‫وم َّ‬ ‫ِل َي ُق َ‬ ‫الن ُ‬

‫"روح" القرآن؟‬ ‫كيف تَحل فينا ُ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الدنيــا والســيادة علــى الدنيــا كما قال رســول اهلل ‪" :‬إن‬ ‫فينظر كيف‬ ‫الدنيا ُح ْلوة َخ ِضرة‪ ،‬وإِن اهلل ُمستخ ِل ُفكم فيها‬ ‫ُ‬ ‫تعملون" (رواه مســلم)‪ .‬وبهذا االمتداد في الخالفة يســتطيع‬ ‫اإلنســان أن ُي ِ‬ ‫نجــز أشــياء عظيمــة ال تخطــر علــى بــال‪،‬‬

‫بالعون والنُّرصة والتأييد‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫ِ‬ ‫أعطته كل تلك‬ ‫الــروح هي التــي َ‬ ‫بعضــه مــن بعــض‪ ،‬تلك ُّ‬

‫النور‪ ،‬ضاربة في أقاصي الغرب وأقاصي الشرق‪.‬‬

‫النموذج الثاني هو عمر بن الخطاب ‪ .‬ماذا كان ُع َم ُر‬ ‫قبل القرآن؟ ماذا كان قبل أن ُينفخ فيه روح القرآن؟ كان‬ ‫راعي إبِل‪ ،‬إنسا ًنا مثل جميع الناس‪ .‬لكن بمجرد أن ُنفخ‬ ‫َ‬ ‫مكن القرآن من‬ ‫فيه روح القرآن وسرى فيه نور القرآن‪ ،‬و َت َّ‬ ‫قلبه وعقله ِ‬ ‫وكيانه‪ ،‬نجده‬ ‫ضرب‬ ‫َّ‬ ‫يتحول إلى طاقة كبيرة‪ُ ،‬ت َ‬ ‫بهــا األمثــال في القدرة علــى اإلدارة ومواجهة‬ ‫التحد َيات‬ ‫ِّ‬ ‫وتنوع‬ ‫والمستجدات‪ ،‬على اتساع المكان وامتداد الزمان ُّ‬

‫اإلحساسات‪ ،‬وكل تلك القدرات‪.‬‬

‫نفــس األمــر ُيقــال عــن الجماعــة المؤمنــة أو ا ُ‬ ‫أل َّمــة‬

‫اإلســامية‪ ،‬وإن تمثلــت فــي صــورة صغيــرة‪ .‬إنهــا عندما‬ ‫ِ‬ ‫مكوناتها من أفراد وأســر‬ ‫الروح (أي في ِّ‬ ‫تحــلُّ فيهــا هــذه ُّ‬ ‫وجماعات) تتحول من حيث الطاقة ومن حيث‬ ‫الفاعلية‬ ‫َّ‬

‫ومن حيث التأثير‪ ،‬إلى َخلق آخر‪ .‬وإن رســول اهلل ‪ ‬ما‬

‫اســتطاع أن يفعــل ما فعل في الجزيــرة العربية إال بهؤالء‬ ‫الذيــن ح َّلــت فيهم روح القرآن َفت َج َّمعوا في صورة ِكيان‬ ‫"م َثــل المؤمنين‬ ‫موحــد َع َّبــر عنه رســول اهلل ‪ ‬بالجســد‪َ :‬‬ ‫َّ‬ ‫في ِّ‬ ‫وتعاطفهم‬ ‫وتراحمهم‬ ‫هم‬ ‫تواد‬ ‫كم َث ِل الجســد الواحد؛‬ ‫َ‬ ‫الجســد‬ ‫ســائر‬ ‫عضــو تداعــى لــه‬ ‫إذا اشــتكى منــه‬ ‫بالس َــهر‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬

‫شــيئا مــن ذلــك أو‬ ‫اإلنســان‪ ،‬فهــل كان عمــر ‪ُ ‬يطيــق ً‬ ‫يحلــم بالقــدرة علــى شــيء مــن ذلــك لــوال روح القرآن؟‬

‫وقصته معلومة عند الجميع‪ ...‬وهكذا‪.‬‬

‫كل تلك األحوال التي أصبحت لهؤالء الرجال‪ ،‬إنما‬

‫ــل فيهم‪ ،‬معنى‬ ‫هــي بســبب ذلــك المعنى الجديد الذي َح َّ‬ ‫القــرآن الــذي لــه خاصيــة الروح الــذي به يتحــول ِ‬ ‫الكيان‬ ‫ُّ‬ ‫آخــر‪ ،‬كما تحولــت ِطينة آدم ‪‬‬ ‫المــاد ُّي الطينــي َخل ًقــا َ‬ ‫ِّ‬ ‫السجود له بعد أن نفخ اهلل فيه من روحه‪.‬‬ ‫حق‬ ‫فاست َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫أثر روح القرآن في "اإلنسان الجماعة"‬

‫ويحدث‪ -‬في‬‫حدث هذا في األفراد‪ ،‬ومثل ذلك حدث َ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫أيضا في‬ ‫الجماعــة والجماعات‪ ،‬والقرآن الكريم ُيحدث ً‬ ‫ِ‬ ‫فيو ِّحد‬ ‫الكيــان الجماعــي‬ ‫الروح ً‬ ‫ِّ‬ ‫أيضا‪َ ،‬‬ ‫تأثيرا كتأثيــر ُّ‬ ‫العام ً‬ ‫جزئياته‬ ‫ويضمها َض ًّما‪ِ .‬لنقارن حال الميت عندما تغادره‬ ‫ُّ‬ ‫األولية الترابية‬ ‫ال كام ً‬ ‫الروح‪ ،‬إذ يتحلل تح ُّل ً‬ ‫ال إلى عناصره َّ‬ ‫ُّ‬

‫‪12‬‬

‫وغيرهــا‪ ،‬وتتبــدد تلــك العناصر‪ ،‬ويذهــب كل عنصر إلى‬

‫جهته َليلتحم بعنصره الطبيعي في األرض‪ .‬ما الذي غادر‬ ‫هــذا ِ‬ ‫يــان بالموت؟ يموت الشــخص ونحن ننظر إليه‪،‬‬ ‫الك َ‬ ‫غيــر فيه كل شــيء‪ .‬مــا الذي‬ ‫مــا َتغيــر فيــه شــيء‪ ،‬ولكــن َت َّ‬

‫الــروح إذن هي التي‬ ‫غــادره؟ غادره شــيء اســمه ُّ‬ ‫الــروح‪ُّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫وتبرؤ‬ ‫َو َّحــدت كيانه وكانــت تمنعه من التحلُّل والتج ُّزؤ‪ُّ ،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والح َّمــى" (رواه مســلم)؛ َش َّــبه جميــع المؤمنيــن فــي عالقــة‬ ‫ُ‬

‫بعضهم ببعض بالجســد‪ ،‬وإنه ‪-‬وأيم اهلل‪ -‬ال يوجد مثال‬ ‫شــخص فيه اإلنســان معنى االلتحــام الكامل‪،‬‬ ‫يمكــن أن ُي ِّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النمــوذج الثـ ــالث هــو عبــد اهلل بــن مســعود ‪ ،‬هــذا‬ ‫ــخ‬ ‫حــول بعــد أن ُن ِف َ‬ ‫الراعــي الصغيــر النحيــف‪ ،‬كيــف َت َّ‬ ‫حــول فأصبــح‬ ‫يتحــدى جميع‬ ‫َّ‬ ‫فيــه روح القــرآن؟ كيــف َت َّ‬ ‫ال ُق َر ِش ّــيِين‪ ،‬ويقــرأ عليهم القــرآن‬ ‫يكن‬ ‫جهارا في وقت لم ُ‬ ‫ً‬ ‫القرآن على المأل؟‬ ‫يستطيع فيه أحد أن ُيعلن‬ ‫َ‬ ‫النمــوذج الراب ـ ــع هــو بــال بــن ربــاح الحبشــي ‪،‬‬

‫التــام‪ ،‬والتضامــن‪ ،‬والتالحــم والتراحــم‬ ‫والتوحــد‬ ‫التــام‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كمثــال الجســد الواحــد‪ .‬ودونــك هذا المثال‪ :‬أنت تســير‬

‫بسرعة كبيرة‪ ،‬فتبصر عينك ‪-‬فجأة‪ُ -‬ه َّوة سحيقة أمامك‪،‬‬ ‫تنقــل‬ ‫الخ َب َر إلى مركــز التحليل في الدماغ‪،‬‬ ‫العين بســرع ٍة َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الرجل وإلى‬ ‫فيعطــي الجواب بســرعة ُفيصــدر أوامره إلى ِّ‬ ‫ِ‬ ‫الكيــان كلــه‪ ،‬فيتحــول إلــى وجهــة أخــرى‪ .‬هــذا التســا ُند‬ ‫والتكامــل والبنــاء بهذا‬ ‫والتالحــم‬ ‫التفاعــل بهذه الصورة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫ال سبيل إلى تصويره بغير الجسد الواحد‪.‬‬ ‫فما الذي ُي ِحيل هذه األجسام المنفصلة المتفرقة إلى‬

‫جســم واحد له هذه اإلحساســات‪ ،‬وهذا االلتحام‪ ،‬وهذا‬

‫النــوع مــن العالقــة فــي أجزائــه‪ ،‬وفي نــوع األجهــزة التي‬

‫يتكــون منهــا‪ ،‬وفــي عالقــة هــذه األجهزة بعضهــا ببعض‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تخصصاتها‪ ،‬وتكامل‬ ‫في‬ ‫تخصصاتها‪ ،‬وسيرها َع ْبر مركز‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬

‫يوجهها؟‬ ‫كبير ِّ‬ ‫كل ذلــك إنمــا كان بفضــل ُروح القرآن‪ ،‬لذلك يجب‬ ‫وح القــرآن َلنحيا‪ ،‬لننتقل من‬ ‫العمــل علــى أن ُن ِح َّ‬ ‫ــل فينا ُر َ‬ ‫حالــة المــوت إلــى حالــة الحيــاة‪ ،‬من حالــة التشــر ُذم إلى‬ ‫ُ‬ ‫الحية الملتحمة‪.‬‬ ‫حالة األ َّمة َّ‬

‫أثر روح القرآن في "اإلنسان النوع"‬


‫إن ُروح القــرآن إذا نُفخَ ت يف ا ُ‬ ‫أل َّمــة أمثر فيها ُّ‬ ‫كل‬

‫ــك‬ ‫ــك َأ ْو َح ْي َنــا ِإ َل ْي َ‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫قــال اهلل ‪َ :‬‬ ‫ــت َت ْــدرِ ي َمــا‬ ‫ــن َأ ْم ِر َنــا َمــا ُك ْن َ‬ ‫وحــا ِم ْ‬ ‫ُر ً‬ ‫ورا‬ ‫ــاب َو َ‬ ‫ال ا ِ‬ ‫يم ُ‬ ‫ــان َو َل ِك ْ‬ ‫ا ْل ِك َت ُ‬ ‫ــن َج َع ْل َن ُ‬ ‫ــاه ُن ً‬ ‫إل َ‬ ‫ــدي ِإ َلى ِصر ٍ‬ ‫ــاء ِم ْن ِعبا ِد َنــا َو ِإ َّن َك َل َت ْه ِ‬ ‫َن ْه ِ‬ ‫اط‬ ‫ــدي بِــ ِه َم ْن َن َش ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يم‪(‬الشورى‪.)52:‬‬ ‫ُم ْس َت ِق ٍ‬

‫تلــك الوظائــف التي ســبق الحديــث عنها‪ ،‬وهي‬ ‫وظيفة الحياة‪ ،‬ووظيفــة النور‪ ،‬ووظيفة الهداية‪،‬‬ ‫ووظيفة الخــروج من الظلامت إىل النور‪ ،‬ووظيفة‬ ‫الشفاء‪ ،‬ووظيفة الرحمة‪.‬‬

‫القرآن روح‬

‫ســر‬ ‫ُّ‬ ‫الــروح هــا هنــا هــي كتــاب اهلل ‪ ،‬هــي التعبيــر عن ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المشــعر بأنه ُيحدث في اإلنســان من الخصائص‪،‬‬ ‫الوحي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِــره َخل ًقا‬ ‫مــا ُتحدثــه ُّ‬ ‫الــروح حيــن ُتن َفخ في اإلنســان ُلت َص ّي َ‬ ‫يوما‬ ‫َ‬ ‫جمع َخل ُقه في بطن ُأ ِّمه أربعين ً‬ ‫آخر‪ .‬فإن اإلنسان ُي َ‬ ‫مثل‬ ‫مثل ذلــك‪ ،‬ثم يكون مضغــ ًة َ‬ ‫ُن ْطفــ ًة‪ ،‬ثــم يكــون ع َلقــ ًة َ‬ ‫وح‪ ،‬فيصير‬ ‫الــر َ‬ ‫ذلــك‪ ،‬ثــم ُي َ‬ ‫رســل إليــه الم َلــك ُفتن َفخ فيــه ُّ‬

‫يستمد‬ ‫يستمد الحكمة‪ ،‬ومن اسمه "الرحمــــن" "الرحيم"‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يــض اهلل عليــه ‪-‬بفضله ورحمتــه‪ -‬من أنوار‬ ‫الرحمــة‪ُ ...‬ي ِف ُ‬ ‫أســمائه ســبحانه وتعالــى‪َ ،‬فيشــيع فــي ِكيانــه مــا َيشــيع‪،‬‬ ‫قبــل‪.‬‬ ‫عاديــة إذا ُقــورِ َن بمــا كان عليــه ُ‬ ‫َ‬ ‫ويصيــر طاقــة غيــر َّ‬ ‫ولنستحضر النماذج األولى على سبيل المثال‪:‬‬ ‫النموذج األول وهو النموذج األكمل‪ ،‬رسول اهلل ‪،‬‬

‫األول‪.‬‬ ‫بذلك َخل ًقا َ‬ ‫غير الخلق َّ‬ ‫آخ َر َ‬

‫مــاذا كان ‪ ‬بغيــر القــرآن؟ ومــاذا صــار بالقــرآن؟ خــال‬

‫معا‪ -‬يصيــر بالقرآن‬ ‫إن اإلنســان ‪-‬الفــرد والمجتمــع ً‬

‫ِاس ِم َر ِّب َك‪(‬العلق‪،)1:‬‬ ‫أربعين سنة قبل أن َتنزل عليه ‪‬ا ْق َر ْأ ب ْ‬

‫الروح‬ ‫َخل ًقا آخر‪ ،‬لكون هذا القرآن ذا طبيعة تشبه طبيعة ُّ‬

‫أثر ُروح القرآن في "اإلنسان الفرد"‬

‫بـ"الروح" إشارة إلى هذه الوظيفة التي‬ ‫هذا الكتاب ُع ّبِر عنه ُّ‬

‫سر َي ماء القرآن‬ ‫يقوم بها في اإلنسان‪ .‬فاإلنسان قبل أن َي ِ‬ ‫فــي عروقــه ِ‬ ‫وكيانه‪ ،‬يكــون َم ًيتــا بصريح القــرآن‪َ  :‬أ َو َم ْن‬ ‫اس‬ ‫الن ِ‬ ‫َك َ‬ ‫ــورا َي ْم ِشــي ِب ِه ِفــي َّ‬ ‫ان َم ْي ًتــا َف َأ ْح َي ْي َن ُ‬ ‫ــاه َو َج َع ْل َنــا َل ُــه ُن ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ج ِم ْن َها‪(‬األنعام‪.)122:‬‬ ‫س ب َِخارِ ٍ‬ ‫َك َم ْن َم َث ُل ُه في الظُّ ُل َمات َل ْي َ‬ ‫وتصوراته وأفــكاره وقدراته‬ ‫آخــر من حيــث طاقاته‬ ‫شــيئا َ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬

‫نجزاتــه‪ ...‬ألنــه بالقــرآن يهتــدي إلــى ربــه‬ ‫وم َ‬ ‫وإمكاناتــه ُ‬ ‫التوكل‬ ‫ويعرف مواله ســبحانه وتعالى‪ ،‬فيتوكل عليه حق‬ ‫ُّ‬ ‫القوة‪،‬‬ ‫"القوي"‬ ‫ويستمد منه كل شيء‪ .‬فمن اسمه‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يستمد ّ‬

‫يســتمد العلم‪ ،‬ومن اســمه "الحكيم"‬ ‫ومن اســمه "العليم"‬ ‫ّ‬

‫أن يفعــل فــي النفوس‪ ،‬فــي الرجال‪ ،‬فــي الجماعات‪ ،‬في‬ ‫بطون العشائر والتاريخ؟‬

‫لكــن بابتــداء نــزول القــرآن‪ ،‬بابتــداء َتنــ ُّزل هــذه‬

‫آخ َــر‬ ‫تمامــا‪ .‬كان َ"ب َش ًــرا" فــازداد‬ ‫الــروح‪ ،‬صــار َخل ًقــا َ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫علــى ذلــك ‪ُ ‬نوحــي ِإ َل ْيه‪(‬األنبيــاء‪ ،)25:‬وحيــن أوحــي إليه‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫يــرا‪ِ  :‬إ َّنــا َأ ْر َســ ْل َناكَ‬ ‫هــذا القــرآن صــار هــو نفســه ً‬ ‫نــورا ُمن ً‬ ‫َش ِ‬ ‫ــاه ًدا َو ُمب ِّشــرا َو َن ِذيــرا ‪َ ‬و َد ِاعيــا ِإ َلى ا ِ‬ ‫اجا‬ ‫هلل ِبإ ِْذ ِن ِه َو ِس َــر ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ ً‬ ‫ُم ِن ًيرا‪(‬األحزاب‪َ ،)46-45:‬ت َن َّور ‪ ‬بنور القرآن‪َ  :‬ق ْد َج َاء ُك ْم‬ ‫ِم َ ِ‬ ‫ِين‪(‬المائدة‪ )15:‬فصار‬ ‫منيرا‪.‬‬ ‫اب ُمب ٌ‬ ‫ــور َو ِك َت ٌ‬ ‫ً‬ ‫ــن اهلل ُن ٌ‬ ‫ســراجا ً‬ ‫ِ‬ ‫نــورا‬ ‫وكل مســلم َي ِ‬ ‫ســري فــي كيانــه القــرآن‪ ،‬ســيكون لــه ً‬

‫ــب االســتعداد ونــوع الطينــة‬ ‫لكــن ٍّ‬ ‫قطعــا‪ّ ،‬‬ ‫نــورا َح َس َ‬ ‫ً‬ ‫لــكل ً‬ ‫الــروح‬ ‫والمعــدن‪ .‬إذن صــار الرســول الكريــم ‪ ‬بهــذه ُّ‬

‫مولــودا‬ ‫جديــدا فأحــدث مــا أحدث في التاريــخ إلى قيام‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫آخــر‪،‬‬ ‫وجمــع‬ ‫عجنــا َ‬ ‫الســاعة‪َ ...‬عجــن الجزيــرة العربيــة ً‬ ‫َ‬ ‫شتت‬ ‫إنسانها الم‬ ‫جمعا‪ ،‬ثم صاغه صياغة جديدة‬ ‫الم َّ‬ ‫ً‬ ‫فرق ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫تجمع بشــري عالي المســتوى‪ ،‬عالي الكيف‪،‬‬ ‫في صورة ُّ‬ ‫بــه أنجــز العــرب المســلمون ما أنجــزوا عبــر التاريخ من‬ ‫ســرت فــي الكرة األرضية مســرى‬ ‫تلــك الفتوحــات التي َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ويســري منه كما‬ ‫َّأمــا عندمــا يخالط هــذا‬ ‫ُ‬ ‫قلبه‪َ ،‬‬ ‫القرآن َ‬ ‫الــد ُم فــي مجمــوع ِ‬ ‫ا‪-‬‬ ‫الكيــان‪ ،‬فإنــه يصيــر ‪-‬فعــ ً‬ ‫َيســري َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الــروح‪ ،‬ففي‬ ‫ً‬ ‫تمامــا‪ ،‬لذلــك كان التعبيــر فيــه كالتعبيــر في ُّ‬ ‫َ‬ ‫وح‬ ‫‪‬و َي ْســأ ُلو َن َك َع ِ‬ ‫وح ُق ِ‬ ‫الر ِ‬ ‫الــروح قــال اهلل ‪َ :‬‬ ‫الر ُ‬ ‫ــل ُّ‬ ‫ــن ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال‪(‬اإلســراء‪،)85:‬‬ ‫ــن أ ْم ِــر َر ِّبي َو َمــا أوت ُيت ْم م َن ا ْلع ْل ِم إ َِّل َقلي ً‬ ‫ِم ْ‬ ‫وحا ِم ْن‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َك َأ ْو َح ْي َنــا ِإ َل ْي َك ُر ً‬ ‫وهــا هنــا قال ســبحانه‪َ :‬‬ ‫تقريبا فــي اآليتين‪ ،‬روح‬ ‫َأ ْم ِر َنا‪(‬الشــورى‪ ،)52:‬نفــس اللفــظ‬ ‫ً‬ ‫والروح هي من أمر اهلل‪.‬‬ ‫من أمر اهلل‪ُّ ،‬‬

‫ماذا استطاع ‪ ‬أن يفعل في الجزيرة العربية؟ ماذا استطاع‬

‫‪11‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫القرآن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ر‬ ‫و‬ ‫ح األ‬

‫‪10‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مة اإل‬

‫ية‬ ‫سالم‬


‫وتتبــادل هذه الخاليا اإلشــارات العصبيــة في ما بينها‪ ،‬إذ‬

‫اإلشارات العصبية‪.‬‬

‫فــي مرحلة وكيميائية فــي المرحلة النهائية‪ ،‬ويعتمد عمل‬

‫مــن أقــرب‬ ‫شــبها بها‪ ،‬ثــم تنتقل من جســم الخلية‬ ‫ّ‬ ‫المــواد ً‬

‫تكــون اإلشــارات مزدوجــة فــي وســيلة االنتقــال؛ كهربية‬

‫ال تخليــق‬ ‫المادة الناقلة داخــل الخلية العصبية‬ ‫يتــم أو ً‬ ‫َّ‬

‫المخ على نقل المعلومات بين خلية وأخرى وكل خلية‬

‫إلــى نهايات األعصــاب‪ ،‬حيث تختزن داخل حويصالت‬

‫ال منها تمتلك ‪-1000‬‬ ‫تماما‪ ،‬ألن ك ًّ‬ ‫عصبية مؤهلة لذلك ً‬

‫خاصــة تحميهــا مــن فعــل األنزيمات المحللــة‪ ،‬وتحتوي‬

‫‪ 10,000‬نقطــة اتصــال تســمح لهــا بنقــل مــا تملكــه من‬

‫كل حويصلــة على نحــن ‪ 100,000‬من هذه الجزيئات‪،‬‬

‫علــى تلقــي معلومــات مــن ‪ 1000‬خليــة عصبيــة أخرى‪،‬‬

‫وينتــج عــن ذلــك أعظــم مــا يميز مخ اإلنســان مــن غيره‬

‫إلــى نهايــات األعصــاب تنتــج كميــة كبيــرة مــن أيونــات‬ ‫الكالســيوم‪ِ ،‬م َّما يؤدي إلى إطالق جزيئات‬ ‫المادة الناقلة‬ ‫َّ‬ ‫فــي الفــراغ بيــن نقطــة اتصال الخاليــا بالقرب من غشــاء‬

‫مــن األكســيجين يزيــد علــى ‪ %20‬مــن اســتهالك الجســم‬

‫الناقلــة مــع بعض مواقع االســتقبال (جزئيــات بروتينية)‬

‫الحصــول علــى الطاقة إال مــن الجلوكوز فإن انقطاع تيار‬

‫تصــل الرســاله مــن خليــة إلى أخرى‪ .‬وليســت فــي األمر‬

‫معلومــات إلــى غيرها مــن الخاليا العصبيــة‪ ،‬ولها القدرة‬

‫وعنــد وصــول نبضــة عصبية ‪-‬علــى هيئة إشــارة كهربية‪-‬‬

‫مــن الكائنــات وهو القدرة على التعلم والتذكر‪ .‬وبســبب‬

‫تعقيد عمل المخ الشــديد وعمله الدؤوب فإن استهالكه‬

‫الخليــة‪ ،‬حيــث تتلقى النبضة أو اإلشــارة فتتفاعــل‬ ‫المادة‬ ‫َّ‬

‫ونهارا‪ ،‬وألنه ال يستطيع‬ ‫ال‬ ‫الكلي‪ ،‬كما أن ذلك ثابت لي ً‬ ‫ً‬

‫الموجــودة بغشــاء الخليــة المســتقبلة للنبضــة‪ ،‬وبذلــك‬

‫الدم الحامل لألكسيجين عن المخ ُيفقد الشعور في ‪10‬‬ ‫يصاب اإلنسان بغيبوبة‪.‬‬

‫ولحساســية خاليــا المــخ الشــديدة فهــو معــزول عن‬

‫الدورة الدموية العامة بنظام يعرف بـ"حاجز الدم‪-‬المخ"‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أضرارا بالغــة بالمخ‪ ،‬وعند غياب الجلوكوز‬ ‫مســببا‬ ‫ثوان‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫المــواد الناقلة موقع‬ ‫أي عشــوائية‪ ،‬فلــكل نوع من‬ ‫خاص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تســتطيع أن تتداخــل فيــه جزيئاتهــا مثل القفــل ومفتاحه‪،‬‬

‫هــذا التداخل ُيغير الشــكل الفراغي للبروتين المســتقبل‪،‬‬ ‫ِم َّمــا ينتــج عنــه نبضة أو إشــارة منشــطة للخليــة أو مثبطة‬ ‫أو قابضــة لعضلــة مــا أو مفرزة لهرمون معيــن‪ ...‬إلخ‪ ،‬إذ‬

‫وهــذا الحاجز َيســمح بدخول ما تحتــاج إليه الخاليا من‬

‫تترجــم شــفرة النبضــة وينتج رد الفعل الذي قد يســتغرق‬ ‫َ‬

‫أي جزيئات ســامة أو غير مرغوب فيها إلى خاليا المخ‬

‫مــدى الدقــة التي يتم بها هذا االتصال اللحظي‪ ،‬كي يعاد‬

‫إلى وجود جدار من الخاليا يسمى "‪."Glial Cells‬‬

‫تأثير النبضة العصبية‪.‬‬

‫المــواد الناقلــة لإلشــارات العصبيــة (جزيئــات‬ ‫إن أغلــب‬ ‫ّ‬

‫أن نكــون علــى يقيــن تــام وقناعــة راســخة بأننــا لــن نبلغ‬

‫نهايــات األعصــاب‪ ،‬وتنقســم هــذه الناقــات مــن حيــث‬

‫المتناهية الدقة أن تكون أعظم شبكة اتصاالت بيولوجية‬

‫أكســيجين وجلوكــوز ومــواد أخــرى‪ ،‬لكن يمنــع دخول‬ ‫لحمايتهــا والمحافظــة عليهــا‪ ،‬وتعــود كفاءة هــذا الحاجز‬

‫إذن كيف يقوم المخ بمهامه؟‬

‫كيمائيــة صغيــرة تحتــوي علــى النيتروجيــن) تتركــز فــي‬

‫فعلها إلى مجموعتين‪ :‬األولى ذات أثر منشــط واألخرى‬ ‫ذات أثر مثبط‪ ،‬وقد ينقلب المثبط إلى منشط‪ ،‬وبالعكس‪.‬‬

‫ويعرف بـ"جابا" (‪ )GABA‬وهو حمض‬ ‫جاما أمينوبيوتيريك ُ‬ ‫ال ُيصنــع إال فــي المــخ أو الحبــل الشــوكي وينجــز هذا‬

‫الحمــض ‪ %30‬مــن عمليــات نقــل اإلشــارات العصبيــة‪،‬‬

‫وهنــاك حمــض الجلوتاميك‪ ،‬وله أثر منشــط ويقوم بنقل‬

‫اســتخدام جزيئــات‬ ‫المــواد الناقلة ثانية‪ ،‬أو عدم اســتمرار‬ ‫ّ‬ ‫جميــل أن نحاكــي خلــق اهلل ونتعلــم منــه‪ ،‬لكن يجب‬

‫هــذا اإلبــداع اإللهــي‪ .‬فكيــف لخاليا مجهريــة وأعصاب‬

‫علــى اإلطــاق‪ ،‬غايــة فــي الدقــة‪ ،‬تنفــذ آالف األوامر في‬ ‫جــزء مــن ألــف جزء من الثانيــة‪َ ،‬ت ِ‬ ‫نعدم فيها نســبة الخطأ‪،‬‬ ‫الســبل‪ ،‬يتحكــم فيهــا جهاز ال‬ ‫ويســتحيل اختراقهــا بــكل ُّ‬

‫يتعــدى وزنــه ‪ 1.2‬كيلوجرام‪ ،‬ال تتعجــب‪ ،‬إنها صنع اهلل‬ ‫الذي أتقن كل شيء‪ ،‬إنه خبير بما تفعلون‪.‬‬

‫(*) باحث في معهد بحوث تكنولوجيا األغذية ‪ /‬مصر‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫أهــم الناقــات ذات األثــر المثبــط هــو الحمــض األميني‬

‫جزءا من الثانية أو دقائق أو عدة ساعات‪ .‬ولك أن تتخيل‬ ‫ً‬

‫‪9‬‬


‫تتصف به المراكز العصبية في اإلنسان‪.‬‬

‫أنه حالة تتعلق بالمخ ذاته أو النخاع الشوكي‪ ،‬وال ترتبط‬ ‫بالعصــب‪ ،‬ولكــن يلزم تدفق الــدم في العصب لكي يقوم‬

‫كيف تنتقل النبضات داخل األعصاب؟‬

‫بعمله‪ ،‬وال يرجع ما نشــعر به من تنميل في الســاق عند‬

‫لعــل مــا قام بــه العلماء يجيب عن هذا الســؤال‪ ،‬إذ ُفصل‬

‫عصــب حيــوان "الحبــار البحــري"‬

‫(‪)Maritime Squid‬‬

‫وضــع ســاق علــى أخرى إلى قلــة تدفق الدم فــي القدم‪،‬‬

‫ذو‬

‫لكــن الحقيقــة أن التنميــل يحدث بســبب الضغط الواقع‬

‫واحدا‪ ،‬أي مئات‬ ‫ملليمتــرا‬ ‫الس ْــمك الضخــم (يبلغ قطره‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫وو ِضــع فــي مــاء البحر‬ ‫أضعــاف قطــر عصــب اإلنســان) ُ‬

‫علــى العصــب الواقــع فــي الناحيــة الخارجية من الســاق‬

‫أســفل الركبــة مباشــرة بين عظمــة الفيبيوال وركبة الســاق‬

‫وو ِّصل الســائل‬ ‫‪-‬موصــل للكهربــاء لوجــود األمالح به‪ُ -‬‬

‫الســفلي‪ ،‬وال تحتــاج عــودة اإلحســاس إلــى العصب إال‬

‫بداخــل العصــب بمــاء البحــر خارجــه فــي دائــرة كهربيــة‬

‫إلى دقائق معدودة‪ ،‬ألن الضغط على العصب ال يســبب‬

‫تبيــن أنــه فــي الحالــة العاديــة يكون هنــاك فارق‬ ‫حساســة ّ‬

‫لــه أي تشــوهات وإال احتــاج األمر إلى أســابيع‪ .‬لكن ما‬

‫فــي الجهــد الكهربي بيــن داخل العصــب وخارجه يصل‬

‫يؤثــر علــى األعصاب هــو انقطــاع األكســيجين عنها فقد‬

‫إلــى ‪ 20/1‬مــن الفولت‪ .‬ويوجــد داخل تجويف العصب‬

‫مؤقتا للعصب لـ ‪ 15‬دقيقة‪ ،‬بينما غيابه‬ ‫ُيسبب ذلك شل ً‬ ‫ال ً‬

‫البروتوبــازم الــذي يحتــوي علــى أطــراف عديدة ســالبة‬

‫فورا‪ ،‬والســبب في ذلك أن احتياج‬ ‫يصيب المخ بالشــلل ً‬

‫الشحنة تربط في أطرافها عنصر البوتاسيوم ذا الشحنات‬

‫جدا‪ ،‬فعصب الضفدع‬ ‫األعصاب إلى األكســيجين ضئيل ًّ‬

‫الموجبــة‪ ،‬وهــذا ما يفســر دخــول عنصر البوتاســيوم عبر‬

‫(ينقــل ‪ 250‬نبضــة عصبيــة فــي الثانيــة) يحتــاج إلــى قــدر‬

‫غشــاء العصب شــبه المنفــذ من التركيــز المنخفض ‪-‬ماء‬

‫تركيز أيونات البوتاسيوم أكثر من ‪ 30‬مرة في ماء البحر)‪،‬‬

‫وهذا عكس ظاهرة الضغط األسموزي‪.‬‬

‫الغريــب فــي األمر أنــه ال يمكن مرور تيار كهربي في‬

‫العصــب إال إذا وصــل إلــى قــدر معيــن‪ ،‬وتظل اســتجابة‬

‫العصــب ثابتــة مهمــا تغيــرت شــدة التيــار الكهربــي المار‬ ‫فيــه‪ ،‬وبالتالي فــإن النبضة العصبية الناتجة تكون ثابتة في‬

‫المقــدار‪ ،‬مثــل لفافــة التبــغ ال يمكــن أن تحتــرق إال إذا‬ ‫ذاتيا‬ ‫وصلت حرارتها إلى درجة االشتعال‪ ،‬وتظل مشتعلة ًّ‬

‫مــع إهمــال مصدر االشــتعال‪ ،‬وقــد يصل زمن اســتجابة‬ ‫العصــب للمؤثــر الخارجــي إلــى جزء من ألــف جزء من‬

‫كيلومترا‪/‬‬ ‫الثانيــة‪ ،‬وتصل ســرعة النبضة العصبيــة إلى ‪72‬‬ ‫ً‬ ‫ساعة وهي سرعة محسوسة‪ .‬وبالتالي فاإلحساس ينتقل‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫مــن اليــد إلى المخ في نحو ‪ 20/1‬من الثانية‪ .‬ويســتطيع‬

‫‪8‬‬

‫العصــب نقــل ‪ 1000‬نبضــة عصبيــة فــي الثانيــة الواحــدة‬

‫ملل‪ ،‬وتتأثر حساسية‬ ‫كلل أو ٍ‬ ‫تحت الظروف العادية دون ٍ‬ ‫األعصاب بالبرودة فيقل عدد النبضات المنقولة‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫البحــر‪ -‬إلــى داخــل العصــب ذي التركيــز األعلــى َ(يب ُلغ‬

‫حجمه من األكســيجين ‪-‬حجم غاية في الضآلة‪ -‬ليعمل‬ ‫بكفاءة لمدة ثالثة أيام‪.‬‬

‫ولعــل ما يفســر وقوع األرنــب بين فكي كلب يطارده‬

‫ليس انفجار قلب األرنب كما كان ُيعتقد‪ ،‬بل تلف خاليا‬ ‫مخ األرنب نتيجة تدفق الدم الشــرياني الساخن إليه‪ ،‬في‬

‫نظاما لتبريد‬ ‫حيــن أن الكلــب‬ ‫وكثيرا من الثدييات تمتلك ً‬ ‫ً‬

‫الدم قبل تدفقه للمخ‪ ،‬وما نلجأ إلى عمل كمادات على‬ ‫رأس مريــض الحمــى‪ ،‬إال لخفــض درجــة حــرارة المــخ‬ ‫للحفاظ على وظائف المخ التي تختل إذا زادت حرارته‬ ‫‪ 4‬درجــات مئويــة علــى الطبيعــي‪ .‬ولقــد منــح اهلل معظــم‬ ‫الثدييــات وســيلة لتبريــد المــخ إمــا له ًثــا وإمــا عر ًقا فمخ‬

‫الغــزالن تقــل حرارته درجة واحدة فــي الوضع الطبيعي‬

‫و‪ 3‬درجــات عــن حــرارة أجســامها فــي أثناء العــدو‪ ،‬ألن‬

‫نظــام تبريــد المــخ ال يعمــل إال تحــت ظــروف اإلجهــاد‬ ‫الشديد‪.‬‬

‫المــخ عضــو فريــد ال مثيل له في الكــون‪ ،‬فهو ُي ِ‬ ‫حك ُم‬ ‫رقابتــه علــى كل شــيء‪ ،‬وهــو اآلمــر الناهــي فــي جســم‬

‫وال عالقة بين اإلرهاق الذي يصيب اإلنسان وكفاءة‬

‫الكائــن الحــي‪ ،‬ويتكــون مــن أكثر مــن ‪ 100‬ألــف مليون‬

‫بت‬ ‫لساعات طويلة تحت ظروف اإلرهاق الشديد الذي َث َ‬

‫يســمى األكســون‪ ،‬وعدة فروع ثانوية تســمى "‪،"Dendrites‬‬

‫العصــب إذ يســتطيع العصــب نقل ‪ 100‬نبضــة في الثانية‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫خلية قطر كل منها ‪ 0.1‬ملليمتر وتتكون من فرع رئيسي‬


‫مثاليــا إذا كانــت رســائله خاصــة بالنمــو أو‬ ‫الهرمونــي‬ ‫ًّ‬ ‫ضررا‬ ‫بالهضم أو التوازن الكيميائي‪ ،‬فلن ُيسبب تأخيرها‬ ‫ً‬ ‫ال ويشترك فيها‬ ‫وقتا طوي ً‬ ‫للجسم‪ ،‬فهي عمليات تستغرق ً‬ ‫ماليين الخاليا‪.‬‬ ‫ونظرا إلى العالقة الموجبة بين ســرعة ودقة اســتجابة‬ ‫ً‬

‫الكائــن الحــي للمؤثــرات الخارجية في بيئتــه وبين بقائه‪،‬‬

‫نجــد أن النظام الهرموني ال يوفر ذلك‪ ،‬فبطء االســتجابة‬ ‫(‪ 10‬ثــوان) قــد يكلفــه حياتــه‪ ،‬فالبــد مــن وجــود جهــاز‬

‫تخصصــا وأســرع اســتجاب ًة للمؤثــرات الخارجيــة‪،‬‬ ‫أكثــر‬ ‫ً‬ ‫إنــه الجهــاز العصبــي ومركــزه المخ ومالييــن األعصاب‬

‫بكل منهما‪.‬‬ ‫الخاصة ٍّ‬

‫التــي تصلــه بجميــع أجزاء الجســم‪ ،‬التي تتميز بســرعتها‬ ‫الهائلــة فــي نقل الرســائل بدقــة فائقة ولمســافات قصوى‬

‫كيفية نقل النبضات العصبية‬

‫قــدرا ال ُيذكر من الطاقة‪،‬‬ ‫دون انتقــال للمادة‪ ،‬وتســتهلك ً‬

‫تنتقــل النبضــات العصبيــة‪ ،‬عبــر األليــاف العصبيــة‪ ،‬مثــل‬ ‫ذاتيا ُمط ِلق ًة‬ ‫انتقال الحرارة عند اشتعال لفافة تبغ؛ تشتعل ًّ‬ ‫بذلــك طاقتهــا الكامنــة‪ ،‬وال يتأثــر اشــتعال اللفافة بمقدار‬

‫تكون‬ ‫إذ تستقبل مجموعة الخاليا فائقة التخصص ‪-‬التي ِّ‬ ‫فيمــا بينهــا عضــو الحس مثل العيــن أو األذن أو األنف‪-‬‬ ‫فورا إشــارات عصبية إلى‬ ‫نبضات عصبية‪ ،‬فيرســل المخ ً‬ ‫فورا لهذه اإلشارات‪،‬‬ ‫العضالت أو الغدد التي تســتجيب ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فورا إلى المــخ على هيئة‬ ‫المؤثــر الخارجــي التي ترســله ً‬

‫أو حــرارة مصــدر الحــرارة‪ ،‬علــى عكــس انتقــال نبضات‬ ‫الصــوت فــي أســاك البــرق التــي تشــبه ‪-‬إلى حــد كبير‪-‬‬ ‫انتقال الحرارة في قضيب مسخن بمصدر حراري تقل فيه‬

‫كلٌّ بطريقته‪.‬‬ ‫نالحظ أن الجهاز العصبي يشبه شبكات االتصاالت؛‬

‫درجــة حــرارة عنــد المصدر وأقلهــا عند الطــرف اآلخر‪.‬‬

‫إلــى مركــز الشــبكة أو القمــر الصناعي الــذي يقوم بدوره‬

‫ال‪ ،‬ثم تنتقل بعد ذلك وحدها نتيجة‬ ‫المؤثــر الخارجــي أو ً‬

‫ليس بينها وبين العضالت أو الغدد المطلوب استجابتها‬

‫أن يتغيــر حجــم النبضــة أو طبيعتها أو قوتهــا مهما كانت‬

‫مباشــرة بالمــخ الذي يرســل بــدورة إشــارات عصبية إلى‬

‫تحمــل داللتهــا علــى طول الطريق حتى تصــل إلى المخ‬

‫تدريجيــا متأثرة بمقــدار الحرارة‪ ،‬إذ تكون أعلى‬ ‫الحــرارة‬ ‫ًّ‬

‫فاألشــخاص ال يتواصلــون مباشــرة‪ ،‬لكــن يصــل الطلب‬

‫وتبــدأ مســيرة النبضــات فــي األعصــاب تحــت تأثيــر‬

‫بتنبيه الشــخص المطلوب الحديث معه‪ .‬فأعضاء الحس‬

‫انطــاق جهــد كهربــي محلــي من نقطــة إلى أخــرى دون‬

‫أي اتصال‪ ،‬لكــن أعضاء الحس تتصل‬ ‫لإلشــارة العصبيــة ّ‬

‫المســافة التــي تقطعهــا داخــل العصــب‪ .‬وبالتالــي فهــي‬

‫فورا‪ ،‬وهذا األسلوب قمة‬ ‫العضالت أو الغدد فتستجيب ً‬ ‫في التنظيم‪ .‬فاتصال أعضاء الحس مباشرة بالعضالت أو‬

‫الغــدد‪ ،‬قــد ُيحدث عدم تناســق بين مختلف األحاســيس‬

‫بنفس القوة والمقدار الذي أثر به المؤثر الخارجي‪.‬‬

‫المدهش أنه ال يوجد اختالف بين اســتجابة األلياف‬

‫العصبية داخل الكائن الحي واستجابتها خارجه‪ ،‬وال بين‬

‫هــذا مــا خلص إليــه بعض التجارب فــي هذا الصدد‪،‬‬

‫واألذن قمــة التخصص في اســتقبال المؤثرات الخارجية‬

‫الحيــوان‪ ،‬اللهــم إال التعقيــد والتخصــص الشــديد الــذي‬

‫لالتجــاه العام للمؤثــرات الخارجيــة‪ .‬والحقيقة أن العين‬

‫بعــد موت الكائن‪ ،‬بدليل حركــة َذ َنب البرص بعد قطعه‪،‬‬ ‫أو حركة الحيوان بعد ذبحه‪.‬‬

‫كما لوحظ انعدام الفرق بين أعصاب اإلنسان وأعصاب‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫واألوامــر والتعليمــات القادمــة من مراكــز الحس‪ ،‬وذلك‬ ‫ارتبــاكا‬ ‫لكثرتهــا واختالفهــا وتداخلهــا‪ِ ،‬م َّمــا قــد يحــدث‬ ‫ً‬ ‫شــديدا للكائــن الحــي‪ ،‬لكــن المــخ يتلقــى كل النبضات‬ ‫ً‬ ‫العصبيــة وينظــر إليهــا نظرة عامة‪ ،‬ثم يعطــي األوامر طب ًقا‬

‫اإلنســان والحيــوان‪ ،‬حتــى إن العصــب يظــل يعمل حتى‬

‫‪7‬‬


‫علو ‬ ‫م‬ ‫د‪ .‬إبراهيم أبو عيانة*‬

‫أعظم شبكة اتصاالت بيولوجية‬ ‫إذا افترضنــا أن الكائــن الحــي الــذي يتكــون مــن بالييــن الخاليــا‬

‫يمثل عالمنا المترامي األطراف‪ ،‬فكان البد من وســيلة اتصال بين‬ ‫هــذه الخاليــا للتنســيق بيــن وظائفها ونقــل المؤثــرات والتعليمات‬

‫المختلفة بين أجزائه‪.‬‬

‫االتصال الهرموني‬

‫نظــام االتصــال الهرمونــي هو الذي يســمح بنقل الهرمونات ‪-‬عبر تيــار الدم‪ -‬التي‬

‫تحمــل جميــع األوامــر والتعليمــات من وســط الكائن إلــى جميع أطرافــه‪ ،‬ولكن‬

‫يعــاب عليــه ُبطــؤه‪ ،‬ألنــه مرهــون بســرعة تدفق الــدم الــذي يحمله من منابــع إنتاج‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫الهرمــون إلــى مناطــق تأثيــره‪ ،‬والــذي تســتغرق نحو ‪ 10‬ثــوان (نصف زمــن دوران‬

‫‪6‬‬

‫الــدم حــول الجســم)‪ .‬وهــذا زمــن طويــل قد يمثــل خطورة علــى الكائــن إذا كانت‬

‫األوامــر تحتــاج إلــى رد فعل ســريع‪ ،‬كما أنــه نظام غير موجــه؛ فالهرمون المحمل‬ ‫بالتعليمــات‪ ،‬يمــر علــى جميع مناطق الجســم‪ ،‬فيتجاهله مــن ال حاجة به إلى تلك‬

‫ويعــد النظام‬ ‫التعليمــات‪ ،‬ويســتجيب لــه الجــزء الــذي ُو ِّج َهــت إليــه هــذه الرســالة‪ُ .‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المركزيــة فــي المجتمع وهو دورها فــي "صناعة القيم"‪.‬‬

‫القيم وجدلية الفرد والمجتمع والمستقبل‬

‫بتلك المؤسسات ذات المهام الخطيرة‪.‬‬

‫إيجابيــا مع هــذا المجتمع نفســه‪،‬‬ ‫قــادرة علــى التعاطــي‬ ‫ًّ‬

‫مــا يســتدعي وقفة ‪-‬ولو عابرة‪ -‬مع هــذه القيم وعالقتها‬

‫حيــن تنطبــع شــخصية الفــرد بقيــم المجتمــع‪ ،‬تكــون‬

‫كيف يتحقق "الخلود الوظيفي" للقيم؟‬

‫وعلــى التأثيــر الب ّنــاء في مســاره من خــال دوافع الترقي‬

‫المحكومــة بالميــزان القيمــي الجامع القائــم على قاعدة‬

‫ثمــة خاصيــة أساســية للقيــم بوصفهــا العنصــر األهــم في‬

‫"القرب للصالح والبعد عن الفساد" بالعبارة الشهيرة‪.‬‬

‫عمليــة البنــاء التربــوي وبالتالــي الثقافــي لمجتمــع مــا‪.‬‬

‫نسبيا‪ -‬إلى‬ ‫خلودا‬‫فحاجة المجتمع الخالدة‬ ‫ً‬ ‫إنسانيا ًّ‬ ‫ًّ‬

‫تلــك هــي خاصيــة "الخلــود الوظيفــي"‪ ،‬فالقيــم أهــداف‬

‫القيــم إذن‪ ،‬تســتتبع قــدرة مؤسســاته علــى إعــادة إنتاجها‬

‫غيــر قابلة لإلشــباع كيفما كان نوعهــا‪ ،‬فكرية أو أخالقية‪،‬‬

‫باســتمرار لالســتجابة لتلــك الحاجة‪ ،‬وهــي حقيقة تمكن‬

‫فنشــدان الحــق وحــده‪ ،‬واالحتــكام إلــى الدليــل األقطع‬

‫مــن إدراك حجــم األخطار التي تهدد مســتقبل مجتمعاتنا‬

‫مثلــه مثل الصدق والوفــاء‪ ،‬واحترام الواجبات‪ ،‬وااللتزام‬

‫المســلمة بالنظــر إلــى التحديــات الهائلــة التــي تواجــه‬

‫األخالقــي مع الغير‪ ،‬واإليجابيــة‪ ،‬وروح المبادرة‪ ..‬كلها‬

‫بقــاء منظومــة القيــم فــي المجتمــع مــن خــال مــا يواجه‬

‫قيــم يحتاجهــا المجتمــع فــي أي مرحلة مــن مراحله بال‬

‫المؤسسات التي تسهم على إعادة إنتاجها باستمرار ‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫اســتثناء‪ ،‬وليــس فــي دائرة االحتمال بلوغــه مرحلة يحقق‬

‫وهــو أمــر يؤكد أن بقاء منظومة القيم مســددة لمســار‬

‫إشباعا أو "اكتفاء" من أي تلك القيم‪ ،‬بحيث ال يعود‬ ‫فيها‬ ‫ً‬

‫ال‪،‬‬ ‫المجتمع رهن ببقاء المؤسسات التي تنتجها قائمة أو ً‬

‫لها دور وال إليها حاجة‪.‬‬

‫وجود مؤسسات تقوم بمهمة إعادة إنتاج هذه القيم‪ ،‬بما‬

‫يحقــق االســتجابة لمطلــب المجتمع في اكتســاب القيم‬ ‫واالستفادة منها بشكل مستمر‪.‬‬

‫ولعــل العالقــة الشــرطية التــي تربــط بيــن مؤسســتي‬

‫األســرة والمدرســة في مجال األدوار والوظائف‪ ،‬تجلي‬

‫هذه المهمة‪ .‬فإذا كانت األسرة هي أول مجاالت اكتساب‬ ‫اإلنســان لقيم الجماعة التي ينمو داخلها (المجتمع)‪ ،‬أو‬ ‫هي المجال الذي تتشــكل فيه شــخصية اإلنســان بالقوة‪،‬‬

‫فإن المدرســة هي المؤسســة التي تبني شــخصية اإلنسان‬

‫"بالفعل" وتســمها بالسمات الثقافية للمجتمع‪ ،‬وتكسبها‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذه الخاصيــة التي تميز القيم‪ ،‬تدعــو بالضرورة إلى‬

‫ثانيا‪.‬‬ ‫وآخذة عن مصادر ثقافة المجتمع نفسه ً‬

‫إن هــذه الحقيقــة تعيــد طــرح ســؤال اإلطــار الثقافــي‬

‫للتربيــة‪ ،‬ســواء كانــت المؤسســة التــي تؤديهــا أســرة أو‬

‫مدرســة أو غيرهمــا‪ ،‬الســؤال الــذي يتجه صــوب "المدد‬

‫المعنوي" لمدرستنا في مجتمعاتنا المسلمة المنطلق من‬ ‫تربي ٍة تقدر تلك القيم‪ ،‬وتحرص على استدامة دورها في‬ ‫صناعة األجيال‪ ،‬أجيال المستقل‪.‬‬

‫(*) مديــر مركــز الدراســات والبحوث اإلنســانية واالجتماعية ‪ -‬وجدة ‪/‬‬ ‫المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬الحــظ أن المرحلــة التــي بــدأت مــع تســعينيات القــرن الميــادي‬

‫قيمــه‪ ،‬وبالتالي توفر لإلنســان المنظومــة التي تؤطر فكره‬

‫الماضي وال زالت ممتدة إلى اآلن‪ ،‬قد عرفت نقاشــات واســعة امتدت‬

‫فــي مســار الحيــاة‪ ،‬مــع كل مــا يطــرح عليــه مــن قضايــا‬

‫األدوار التي ينبغي لها أن تؤديها (األســرة‪ ،‬المدرســة‪ ،‬وســائط المعرفة‬

‫وســلوكه‪ ،‬وتــزوده بــاألدوات المعياريــة التــي يحتاجهــا‬

‫إلــى مبــدأ تكــون تلــك المؤسســات وطبيعتهــا‪ ،‬ومحــاوالت لحصــر‬

‫وإشكاالت‪.‬‬

‫واالتصــال (مؤسســة اإلعــام)‪ ،‬الخطــاب الدينــي (مؤسســة المســجد‬

‫بقيــم المجتمــع عبر قناتي األســرة فالمدرســة ابتداء قبل‬

‫العولمــة) هــي تلك التي تخاض على مســتوى منظومات القيم الخاصة‬

‫بالمجتمعــات المختلفــة في العالم‪،‬‬ ‫تحديــدا‪ :‬المجتمعات غير الغربية‪،‬‬ ‫ً‬

‫غيرهما من القنوات‪ ...‬فيأخذ الفرد عن المجتمع وتستمر‬

‫وبشــكل أخــص‪ ،‬المجتمعــات الموصوفــة بأنهــا تحمل عناصــر مقاومة‬

‫الرؤيــة المعرفية‪ ،‬والتســديد إذ تبنى المنظومة األخالقية‪.‬‬

‫والمؤسسات التي تنتج تلك القيم‪.‬‬

‫القيــم بيــن أجياله مؤدية رســالتها في التفســير‪ ،‬إذ تشــكل‬

‫عاليــة فــي ذواتهــا الثقافية لـ"قيــم العولمــة"‪ ،‬أي المجتمعات المســلمة‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫وبهــذا تكون شــخصية الطفل متصلــة من حيث البناء‬

‫والتعليم الشــرعي‪ )...‬ما يؤكد أن أشــرس معارك هذه المرحلة (مرحلة‬

‫‪5‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬سمير بودينار*‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫التربية وسؤال القيم‬

‫‪4‬‬

‫علــى أي أســاس تقــوم التربيــة؟ وهــل‬ ‫هــذا األســاس مــن جنس المــادة التربوية‬ ‫نفســها‪ ،‬أو هــل يمكــن لمناهــج التربيــة‬ ‫ووسائطها وطرائقها وتقنياتها مهما بلغ مستوى جودتها‬ ‫وجدتهــا؟ وكيفمــا كانــت طبيعــة اآلليــات الحضارية التي‬ ‫تنتجهــا‪ ،‬أن تقــوم بنفســها دون الحاجة إلى هذا األســاس‬ ‫فــي عمليــة التربيــة‪ ،‬بوصفهــا عملية مســتمرة علــى امتداد‬ ‫مسار المجتمع في الزمن‪.‬‬ ‫أساســيا يقوم أمام الباحث‬ ‫ال‬ ‫بعبارة أخرى؛ إن تســاؤ ً‬ ‫ًّ‬ ‫فــي مجــال ‪-‬بــل مجــاالت‪ -‬التربيــة‪ ،‬خاصــة مــن مقترب‬ ‫"اإلطــار الناظــم" لهذه التربية‪ ،‬والمعرفة التي تســددها أو‬ ‫توجهها على األقل‪.‬‬ ‫ذلك هو ســؤال "المدد المعنــوي للتربية"‪ .‬لقد أثبتت‬ ‫تجــارب البنــاء التربــوي فــي مجتمعاتنــا المســلمة خــال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النصــف الثانــي مــن القــرن الميــادي الماضــي ‪-‬مرحلــة‬ ‫كبيــرا صاحــب عمليــة‬ ‫ا‬ ‫االســتقالالت الوطنيــة‪ -‬أن خلــ ً‬ ‫ً‬ ‫التفكيــر و"البنــاء" فــي مجــال التربية‪ ،‬إذ فــي الوقت الذي‬ ‫منصبــا علــى الوســائل التربويــة األنجــح‪،‬‬ ‫كان االهتمــام‬ ‫ًّ‬ ‫والمناهــج التعليمية األصلح‪ ،‬ووســائط التربية األنجع‪،‬‬ ‫والوســائل التعليميــة األقــدر على إخــراج الجيل المتعلم‬ ‫الذي يجمع بين االستيعاب الواعي والمتبصر للمعارف‪،‬‬ ‫وبيــن القــدرة علــى الفعــل اإليجابــي (الفعاليــة) في ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬كانت مؤسسات كاملة‪ ،‬يفترض أنها المؤسسات‬ ‫"القاعديــة" فــي المجتمــع‪ ،‬وبما فيها مؤسســة المدرســة‬ ‫نفسها‪ ،‬تعرف حالة من اإلفراغ المتسلسل من المضمون‬ ‫الحامــل للمعنــى أو القــادر علــى إعطائــه‪ ،‬فعرفت بذلك‬ ‫مجتمعاتنــا المســلمة ‪-‬وهــي تعــرف اليــوم بدرجــة أكبر‪-‬‬ ‫حالــة مــن التهميش لدور أساســي من أدوار المؤسســات‬


‫ٍ‬ ‫بمكان‬ ‫وغروا هذه األمة‪ ،‬فإنهم لم يحظوا قط‬ ‫الحقيقين ّ‬

‫كان "ديوجين" قد بلغ به اليأس مبلغه من مجتمعه‪،‬‬

‫وال يفتأ يذكر قحط عصره من الرجال‪ .‬وال أدري هل‬

‫في قلوب الشعوب‪ ،‬ولم ينالوا مرتبة اإلنسان المرتقب‬ ‫من ِقبلها‪.‬‬

‫تقبل هذه‬ ‫لمجتمعنا مستوى من النضج يمكنه من ُّ‬ ‫الحقيقة؟ نحن أمة في أشد الظمأ لشيء‪ ...‬ظامئون‬

‫إن اإلنسان الذي‬ ‫ظمئت إليه هذه األمة هو رجل‬ ‫ْ‬ ‫لب المعاني وجوهرها‪،‬‬ ‫فكر تميز بتأمله العلمي‪ ،‬و َق َطف َّ‬ ‫وسما إلى عالم المالئكة‬ ‫متحدا مع ذاته وجوهره‪،‬‬ ‫ً‬

‫إلى إنسان عظيم يضمنا إلى صدره‪ ،‬يخفف عنا آالمنا‪،‬‬

‫ويبدل ما أصابنا من عادات سيئة‪.‬‬

‫إن مآسينا في ماضينا وحاضرنا‪ ،‬ترجع إلى فقدان‬

‫ال من ذرة إلى شمس‪ ،‬ومن قطرة إلى بحر‪ ،‬ومن‬ ‫متحو ً‬

‫نفسه في سبيل إحياء غيره‪ ...‬ذلك السامق قامة كالجبال‪،‬‬

‫يقرأ ويفهم‪ ...‬متضلع بالمعرفة‪ ،‬مكتشف سر السمو‬

‫مثل ذلك اإلنسان المنتظر‪ ...‬ذلك الذي ينسى حظوظ‬

‫كل‪ ،‬متخ ّل ًصا من ثنائية الشعور والمادة‪ ...‬رجل‬ ‫جزء إلى ٍّ‬

‫ذلك الذي يحمل آالم أمته في حنايا صدره وأغوار فؤاده‪.‬‬

‫باإليمان ومستنزل بأذواقه الروحية جنات النعيم إلى قلبه‪.‬‬

‫فردا من هذا النمط ظهر في تاريخنا القريب؟‪..‬‬ ‫كم ً‬

‫إن ذلكم اإلنسان المرتقب الذي زين قلبه بكل هذه‬

‫بل كم إنسا ًنا يدرك أسرار خلقه وغايته؟‪ ..‬كم إنسا ًنا‬ ‫أدرك السر الدقيق في خالفة اإلنسان هلل في أرضه؟‪..‬‬

‫أيضا كما هو مع الحق‬ ‫المعاني السامية مع الخلق ً‬

‫تصرف يسلكه صد ًقا‬ ‫تعالى‪ ،‬ترى في كل‬ ‫وإخالصا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وفي كل نغمة يصدرها أ ّنة من أنين الشعب‪.‬‬

‫أجل!‪ ..‬إن من نبحث عنه يجب أن يكون إنسان‬

‫قلب في المرتبة األولى‪ ...‬يستوضح في كل لحظة من‬ ‫كل جزء من أجزاء الوجود ويحاول أن يستلهم الجواب‬

‫دائما بالسماء‪...‬‬ ‫من أفق الغيب‪ .‬بطل القلب هذا متعلق ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حياته كل ما ينغلق عليه من ألغاز‪ ...‬يستوضحها من‬

‫ليس لديه أنانية تسيطر على شعوره‪ ،‬وال غرور‬

‫حال النجاح‪ ،‬وال صرخة فرح عند الظفر‪ .‬مشاعره‬ ‫يصيبه َ‬

‫أصيلة صافية مهما بلغ الذرى وكان في أوج االنتصار‪.‬‬

‫ال يسمح للمنافع الشخصية أو الفئوية أن تلوث أفقه‬

‫يعب‬ ‫يبحث عن الحقيقة وكأنه يبحث عن ماء الحياة‪ ،‬ثم ّ‬ ‫منه بعد العثور عليه لكي يترقى إلى مراتب الخلود‪،‬‬

‫تكدر صفاء نظرته‪ .‬الحب والعفو والصفح والصبر على‬

‫والعرفان التي أنشأها في عالمه الداخلي‪ .‬إنه رجل‬

‫ينثني أو يتراجع عن تحقيقها‪.‬‬

‫الرحب الفسيح‪ .‬وال يستطيع الحقد والكراهية أن‬

‫ومن ثم يؤسس عالم اإليمان والحب في خاليا المعرفة‬

‫المشاكل التي ترد من محبيه‪ ،‬من أهم األهداف التي ال‬

‫سماوي نحو الخارج فاتح لآلفاق‪ ،‬ولدني نحو الداخل‬ ‫ّ‬ ‫مكتشف لألنفس‪.‬‬

‫أما أولئك الذين يريدون بلوغ السعادة التي وعدوا‬

‫اإلنسانية بها عبر دروب الدماء والحرائق‪ ،‬فهم من‬

‫الطبيعة والكائنات المعبر عنها‪ ...‬إنه بطل الحقيقة الذي‬

‫عقول العصافير‪ ،‬بحيث سمحوا ألنفسهم أن يدخلوا في‬

‫إنه ترجمان الوجدان‪ ،‬ولسان الروح‪ ،‬والناطق باسم‬

‫الوضاعة في السلوك والسخافة في العقول التي تشبه‬

‫و ّفى العقل واإلرادة حقهما‪ ،‬فانفتحت أمامه أبواب‬ ‫واحدا تلو اآلخر‪.‬‬ ‫الجنان‬ ‫ً‬

‫طريق ترفضه كل الكتب السماوية وجميع الديانات‪.‬‬

‫وكم تمنينا لو أدرك شعبنا ما يصنعه هؤالء األقزام‬

‫وال المحرومون من معرفة أعماق عالمهم الداخلي‬

‫بعيدا‬ ‫الشعب لم يبلغ ُ‬ ‫بعد مثل هذا الوعي‪ ،‬بل ال يزال ً‬

‫الحقيقة‪ ،‬وال النكدون الذين ال يقرأون كتاب الكون‪،‬‬

‫ال‪" :‬هيا ارحلوا "‪ ،‬ولكن هيهات!‪ ..‬إن‬ ‫يصرخ بهؤالء قائ ً‬

‫وساحة إرادتهم‪ ،‬أن يشغلوا مكان ذلك البطل الذي‬

‫عنه‪.‬‬

‫نتهلف له ونتوق إليه‪.‬‬

‫أما هؤالء الممثلون الزائفون الذين ظهروا في عهود‬

‫متفاوتة أمام شعوبنا مستغلين فراغ الساحة من األبطال‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬أورخان محمد علي‪ُ .‬نشر هذا المقال في مجلة‬ ‫سيزنتي (‪ )Sızıntı‬التركية‪ ،‬العدد‪( ١٣ :‬فبراير ‪.)١٩٨٠‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫ال يستطيع الجهال الذين ال يأبهون بالبحث عن‬

‫المتثاقفون من تمثيل أدوار زائفة؛ عندها يستطيع أن‬

‫‪3‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫اإلنسان الذي نتوق إليه‬ ‫رأيت إيمان ُأمتي في عافية‪،‬‬ ‫إذا‬ ‫ُ‬

‫ســيما فــي أيــام كهــذه‪ ،‬اكفهرت فيهــا األجــواء‪ ،‬وأطبقت‬ ‫علينــا الدنيــا بظلماتهــا‪ ،‬وتعقدت الطرق أمــام أعيننا‪ .‬لقد‬

‫راض بأن أحترق في النيران‪،‬‬ ‫فأنا ٍ‬

‫إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في النعيم‪.‬‬

‫(سعيد النورسي)‬

‫نمــل مــن تف ّقــده ومحاولة‬ ‫المحبــوب المنتظــر الــذي لــن ّ‬

‫اإلنســان الذي ينقذنــا‪ ،‬ويضمد جراحنا‪،‬‬

‫ســيظل محبوبنا ونشــيدنا الذي نتر ّنم به حتى لو يئسنا من‬

‫ســنين وســنين ونحــن فــي تــوق إلــى‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )41‬‬

‫بلســما‬ ‫ويكــون‬ ‫شــافيا لعللنــا وأدوائنــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪2‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫غــدت حاجتنــا إليه كالهــواء والضياء وإكســير الحياة‪ .‬إنه‬ ‫العثور عليه في كل مكان‪ ،‬والتحري عنه من كل إنســان‪.‬‬

‫وصاله وفقدنا أملنا في لقائه‪.‬‬


‫المحتويات‬

‫‪2‬‬ ‫ اإلنسان الذي نتوق إليه  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫‪٤‬‬ ‫التربية وسؤال القيم  ‪ /‬د‪ .‬مسري بودينار (تربية) ‬ ‫‪6‬‬ ‫ أعظم شبكة اتصاالت بيولوجية  ‪ /‬د‪ .‬إبراهيم أبو عيانة (علوم) ‬ ‫‪10‬‬ ‫القرآن روح األمة اإلسالمية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬ ‫‪16‬‬ ‫ تاريخ الطب النفسي في بالد المسلمين  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬طارق احلبيب (تاريخ وحضارة) ‬ ‫‪20‬‬ ‫أطفالنا وثقافة األم التربوية  ‪ /‬د‪ .‬أمحد خمتار مكي (تربية) ‬ ‫‪23‬‬ ‫ يا ح ّمال!  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫من سياسة إطفاء الحرائق إلى التخطيط اإلستراتيجي المؤيَّد  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (قضايا فكرية) ‪24‬‬ ‫‪27‬‬ ‫ تغيير نبوي  ‪ /‬د‪ .‬سلمان العودة (قضايا فكرية )‬ ‫‪29‬‬ ‫المجريطي بين الكيمياء وعلم الفلك  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬ ‫‪32‬‬ ‫ الصراخ ال يجدي!  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫الجمال المعنوي والفني من خالل "البلبل"  ‪ /‬د‪ .‬إمساعيل إمساعيلي علوي (قضايا فكرية) ‪33‬‬ ‫‪38‬‬ ‫ النوم على الشق األيمن  ‪ /‬صالح عبد الستار الشهاوي (علوم) ‬ ‫‪41‬‬ ‫اإلسالم دين اإلنسان  ‪ /‬عبد الوهاب بوخلخال (قضايا فكرية) ‬ ‫ إنجازات المسلمين في الفلك والعلوم الطبيعية  ‪ /‬د‪ .‬يعرب قحطان ُّالدوري (تاريخ وحضارة ) ‪45‬‬ ‫‪49‬‬ ‫حضارة اإليمان ومدنية العلم  ‪ /‬د‪ .‬العطري بن عزوز (ثقافة وفن) ‬ ‫‪52‬‬ ‫ أبناء الخدمة  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬ ‫‪53‬‬ ‫طارِقو األبواب  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫‪54‬‬ ‫ زجاجة حليب  ‪ /‬د‪ .‬عبد اهلل بن صاحل العريين (قصة) ‬ ‫‪56‬‬ ‫أفراح األتراح‪ ..‬عندما تخرج األنوار من أرحام الظلمات  ‪ /‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬ ‫‪60‬‬ ‫ التفاؤل واألمل في قصة يوسف ‪ /  ‬صاحل بن حممد آل طالب (دراسات إسالمية) ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫قيل أليوب ‪ ‬نبي الصابرين وسيد المبتلين أن‬ ‫اب‪(‬ص‪ ،)42:‬أي‬ ‫‪‬ار ُك ْ‬ ‫ض ب ِ​ِر ْج ِل َك َه َذا ُم ْغ َت َس ٌل َبارِ ٌد َو َش َر ٌ‬ ‫ْ‬ ‫اضرب‪ ،‬وفي المكان الذي ضرب برجله األرض‪ ،‬تدفق‬

‫وهذا األمل الذي عشنا به وعشنا له‪ ،‬ابتعثه فينا‬

‫وغرسه في عقولنا وقلوبنا رجل األمل الكبير "فتح اهلل‬

‫ارا ينبوع الشفاء الذي اغتسل به وشرب منه‪ ،‬فإذا‬ ‫ّ‬ ‫زخ ً‬ ‫بأوجاعه وأوصابه وآالمه تنزاح عنه وتغادره إلى غير‬

‫األمة وشبابها وفتيانها‪ ،‬وهو على يقين بأن رجل اإلنقاذ‬

‫"أيوب" ذاك الوجيع المبتلى من قبل‪...‬‬

‫حاضر شديد الحضور في مخليتنا وذاكرتنا ووجداننا‪،‬‬

‫رجعة وهو في غاية من الصحة والعافية‪ ،‬وكأنه لم يكن‬ ‫وأمتنا ‪-‬منذ عدة قرون‪ -‬غدت عشيقة مشتهاة‬

‫لألزمات والكوارث والمصيبات‪ ،‬تالزمنا مالزمة‬ ‫العاشق الولهان‪ ،‬وكأننا من دون أمم األرض ُكتب علينا‬

‫أن نكون " أيوب" هذا الزمان‪ ،‬نتجرع اآلالم ونعايش‬ ‫األحزان‪ ،‬وننتهي من مأساة لنقع في األخرى‪ ،‬ونطلع‬ ‫أشد وأمر‪ ،‬فنصبر ونصبر‬ ‫من فجيعة لنعاني من فجائع ّ‬ ‫ونحن ننتظر أن تنبجس ينابيع الشفاء من تحت أرجلنا‬ ‫لنشرب ونغتسل‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )٤١‬‬

‫وينقذها مما تعانيه من بالءات وأوجاع ومصائب وآالم‪.‬‬

‫كولن"‪ ،‬فهو يأخد بأيدينا لنفتش عنه في مكانه من رجال‬ ‫غائبا بجسمانيته إال أنه‬ ‫هذا قادم ال محال‪ ،‬وهو وإن كان ً‬

‫نعيش معه‪ ،‬ونعيش له‪ ،‬ونترقب قدومه بلحمه وعظمه‬ ‫وبكل كيانه بين يوم وآخر‪ ،‬وربما بين ساعة وأخرى‪.‬‬

‫وها هي األمة تفتش عنه في عمق أعماق نفسها‪ ،‬وفي‬

‫ضميرها وذاتها وتاريخها‪ ،‬وفي قرآنها وسنة نبيها‪ ،‬وقد‬ ‫أخيرا أنها كلما استثارت إيمانها‪ ،‬وفجرت‬ ‫أدركت‬ ‫ً‬ ‫طاقاتها‪ ،‬وحركت قدراتها‪ ،‬وشحذت إرادتها‪ ،‬اقتربت‬

‫أكثر من رجلها المؤمل‪ ،‬وربما التقته في أي فرد من‬

‫مل الصبر‬ ‫ال وطوي ً‬ ‫وإذا كنا قد صبرنا طوي ً‬ ‫جدا حتى ّ‬ ‫ال ًّ‬

‫بأبر األبناء‬ ‫أفرادها‪ ،‬فليالي هذه األمة حبلى على الدوام ّ‬

‫ننتظر أن يأتي يوم الخالص على يد رجل منا قد صهرته‬

‫من رحمها الخصب بين وقت وآخر وال شك أنها اليوم‬

‫منا‪ ،‬غير أننا لم نفقد األمل‪ ،‬ولم نقنط أو نيأس‪ ،‬وبقينا‬

‫صهرا‪ ،‬وعجنته‬ ‫المآسي‬ ‫ال عظيم‬ ‫عجنا حتى استوى رج ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستوعبا لعصره‬ ‫الهامة‪ ،‬واسع اإلدراك‪،‬‬ ‫متفهما لمشاكل‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أمته‪ ،‬فيندفع إلى األمام ليقود هذه األمة من جديد‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وأصدقهم من رجال الروح والقلب‪ ،‬حيث تقذف بهم‬ ‫حبلى بهذا الرجل المرتقب وهي على وشك أن تضع‬ ‫حملها‪ ،‬وترسل رجلها للمهمة التي قدر له أن ينجزها‬

‫لهذه األمة في هذا العصر العصيب‪.‬‬


‫‪41‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة التاسعة ‪( /‬مارس ‪ -‬أبريل) ‪2014‬‬

‫ترنيمة وتسبيحة‬ ‫ْ‬ ‫وح َّد نظرك‪،‬‬ ‫أرهف سمعك‪ُ ،‬‬ ‫حسك وح ْد َسك‪...‬‬ ‫واستنطق َّ‬ ‫ت َر "هو" على شفاه الوجود‪ ،‬ترنيم ًة وسجو ًدا‪،‬‬ ‫ورس ًما موجو ًدا على الحياة المشدودة‪...‬‬ ‫ويفتح للخلود األبواب‪...‬‬ ‫يشقُّ األستار‬ ‫ُ‬ ‫واإللحا ُد المهزو ُز‬ ‫كم ًدا يذوب‪ ،‬وعد ًما يصير‪.‬‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫اإلنسان الذي نتوق إليه‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪10‬‬

‫القرآن روح األمة اإلسالمية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي‬

‫‪52‬‬

‫أبناء الخدمة‬ ‫أديب إبراهيم الدباغ‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.