Hira Magazine 46

Page 1

‫الكتاب‬ ‫واس ُم‪،‬‬ ‫اعتنق الكتاب‪ ،‬وكالفراش ُ‬ ‫المت ّيم ح ِّلقْ ْ‬ ‫اكس ْر ُحبوس أصدافك‪ ،‬وابلغْ ُذرى األرواح‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫قمم األسرار‪ ،‬وا ْد ُل ْف إلى حظيرة األقداس‪،‬‬ ‫وص ْل َ‬ ‫تكن دو ًما موضع نظر السماء‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫***‬


‫ليست السعادة الدائمة منحة توهب بال ثمن‪ ،‬وليست النعم الممتدة َ‬ ‫لق ً‬ ‫طة على قارعة الطريق ملقاة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والنعم ال يحظى بها إال من صمد حتى‬ ‫فالسعادة ال ينالها إال من عبر الفيافي واجتاز شواهق الجبال‪.‬‬ ‫المحطة األخيرة في الطريق الطويل الذي له مئات المحطات‪.‬‬

‫دار النيل ‪ 22 :‬جـ‪ -‬جنوب األكاديمية‪ -‬التسعين الشمالي – التجمع الخامس‪ -‬القاهرة الجديدة – مصر‬ ‫تليفون وفاكس ‪ +20226134402-5 :‬الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫‪daralnile@daralnile.com‬‬ ‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون‬ ‫الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ يف ما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية‬ ‫مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫شروط النشر‬

‫• أن يكون النص املرسل جدي ًدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة‬ ‫املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• للمجلة حق نشر املادة املرسلة إليها يف موقعها على اإلنرتنت دون إذن من كاتبها ما مل يؤكد الكاتب أثناء اإلرسال على‬ ‫علما بأن ما ينشر يف املوقع إلكرتونيًّا ال يرتتب عليه مكافأة مالية‪.‬‬ ‫رغبته يف النشر يف اجمللة املطبوعة‪ً .‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم بإبداء‬ ‫أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفص ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪ ،‬دون‬ ‫ال أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫مكتب حراء للنشر والتوزيع‬ ‫شارع بغداد‪ ،‬مقابل بريد بغداد‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‬ ‫‪Phone: +967 1 214774‬‬ ‫‪Fax: +967 1 204494‬‬ ‫‪GSM: +967 736027560‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 22‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪LİBYA‬‬ ‫دار الرواد‪ ،‬ذات العماد‪ ،‬برج ‪-4‬طرابلس‪-‬ليبيا‪.‬‬ ‫هاتف‪daralrowdooks@gmail.com - 00218213350332 :‬‬ ‫هاتف‪hiralibya@gmail.com - 00218916125579 :‬‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬ ‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬ ‫‪HİRA DERGİSİ‬‬ ‫‪İlim Düşünce ve Kültür Dergisi‬‬

‫صاحب االمتياز ‬ ‫فكرت يشار‬

‫املشرف العام‬ ‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Bulgurlu Mah. Bağcılar Cad.‬‬ ‫‪No:1 Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Phone: +902165221144‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬

‫دار النيل للطباعة والنشر‬ ‫‪ 22‬جـ‪ -‬جنوب األكادميية ‪ -‬التسعني الشمايل ‪ -‬التجمع‬ ‫اخلامس ‪ -‬القاهرة اجلديدة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬

‫جملة دورية دولية‬ ‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪2 Aylık-Arapça-Yaygın-Süreli,‬‬ ‫‪İlmi, Kültürel‬‬

‫الطباعة‬

‫رﻗﻢ اﻹﻳﺪاع‬ ‫‪1879-1306‬‬


‫ال‪ -‬تعدد وتداخل وســائل التلقي عند الناشــئة اليوم‪ ،‬فالمعلومة‬ ‫مث ً‬‫المحدود بين‬ ‫المعروضــة مجا ًنــا على اإلنترنت مؤثــرة‪ ،‬والتواصل ال ّ‬ ‫جميــع التيــارات الفكريــة واأليديولوجيــة عبر اإلنترنــت دون ضبط‬ ‫وتوجيه‪ ،‬له األثر البالغ كذلك‪.‬‬

‫الجلسة العلمية األخيرة‬

‫ترأس الجلســة األخيرة الدكتور عثمان قاشــقجي من تركيا‪ ،‬وشارك‬ ‫فيهــا كل مــن الدكاتــرة عبــد اهلل الصيفــي من األردن‪ ،‬وعبــد الحكيم‬ ‫يوجه‪ ،‬وعلي بوداق من تركيا‪.‬‬ ‫تنــاول الدكتــور علي الصيفــي موضوع "دور أئمــة المذاهب في‬ ‫أحدا شــرف‬ ‫وبيــن مــن خاللــه أن األنبيــاء لــم َيمنحوا ً‬ ‫فهــم الديــن"‪ّ ،‬‬ ‫غيــر العلماء الربانيين‪ ،‬فمن البديهي توقيرهم واحترامهم‪..‬‬ ‫وراثتهــم َ‬ ‫ثــم اســتعرض الدكتــور الصيفي عديــد المواقف والقصــص الواردة‬ ‫فــي التــراث اإلســامي‪ ،‬عــن مظاهــر توقيــر أئمــة المذاهــب األربعة‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ألساتذتهم وأئمتهم‪ ،‬ولبعضهم البعض ً‬ ‫هــذا وقــد بين الدكتــور عبد الحكيــم يوجه فــي مداخلته "موقع‬ ‫اإلرشــاد الروحــي فــي اإلســام وأهميتــه"‪ ،‬أن األمــة فــي حاجــة‬ ‫معنويــا قيادة حكيمة رشــيدة‪ ،‬فقد افتقدت‬ ‫ماســة اليــوم لمــن يقودها‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫المفرقة التي تعمل على المتوافق‬ ‫غير‬ ‫الجامعة‬ ‫المتوازنة‬ ‫لألصوات‬ ‫ّ‬ ‫فــي اإلســام ال علــى المختلــف فيــه‪ ،‬قــادة روحييــن يأخــذون بيــد‬ ‫بــر التســامح والتآخــي والعيــش المشــترك‪.‬‬ ‫البشــرية الحائــرة إلــى ّ‬ ‫وفــي المداخلة األخيــرة انتقل الدكتور علي بــوداق بالحاضرين‬ ‫إلــى "ضوابــط المناظرة وآدابها"‪ ،‬ووضح أن المناظرة أمر ال مناص‬ ‫منضبطا بالضوابط التي وضعها اإلســام‬ ‫منــه‪ ،‬وال ِش َــي َة فيــه إذا كان‬ ‫ً‬ ‫للمناظــرة والنقاش‪ ،‬وعلى رأســها قــول اهلل تعالى في محكم تنزيله‪:‬‬ ‫‪‬و َجا ِد ْل ُه ْم بِا َّل ِتي ِهي َأ ْح َس ُن‪(‬النحل‪ ،)125:‬فالمناظرة البناءة تعتمد على‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫االحترام المتبادل وتقبل اآلخر‪ ،‬واالبتعاد عن ّادعاء الحق المطلق‪،‬‬ ‫أقرها اإلســام‪.‬‬ ‫والتواضــع‪ ،‬وكل هــذا من األخالق اإلنســانية التي ّ‬ ‫وبانتهــاء المحاضــرة األخيــرة فــي المؤتمــر‪ ،‬يكــون الحاضــرون‬ ‫والمشــاركون قــد جمعــوا وأحاطــوا بموضــوع تعظيــم الشــعائر‬ ‫والمقدســات مــن مختلــف جوانبــه ونواحيــه‪ ،‬وقــد ّأكــد علــى هــذا‪،‬‬ ‫الدكتــور أركــون جابــان رئيــس تحريــر مجلة َينــي أميــت التركية في‬ ‫نوه إلى الخطــوات العمليــة والتوصيات التي‬ ‫كلمتــه الختاميــة‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫خرج بها المؤتمر‪ ،‬وشــكر كل القائمين على إنجاحه وتنظيمه على‬

‫فضيلة الشيخ عبد اهلل بن مدني ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫فضيلة الشيخ طاهر فال ‪ /‬السنغال‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬خليل النحوي ‪ /‬موريتانيا‪.‬‬

‫أحسن ما يرام‪ .‬واهلل الموفق والمستعان‪.‬‬

‫(*) كاتب وصحفي جزائري‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪63‬‬

‫موالنا حميد اهلل لونه ‪ /‬الهند‪.‬‬


‫الجلسة العلمية الثانية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سعاد يلدريم ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫د‪ .‬سليمان الدقور ‪ /‬األردن‪.‬‬

‫د‪ .‬علي بوداق ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫د‪ .‬محيي الدين أق كول ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫في الفترة المســائية للمؤتمر‪ ،‬انطلقت الجلســة العلمية الثانية والتي‬ ‫ترأســها الدكتــور حســن المناعــي مــن تونس‪ ،‬وشــارك فيهــا كل من‬ ‫الدكاتــرة جنيــد أرن مــن تركيــا‪ ،‬ومحمــد خروبــات مــن المغــرب‪،‬‬ ‫وسليمان الدقور من األردن‪.‬‬ ‫اســتهل الجلســة الدكتــور جنيــد أرن بمداخلــة بعنــوان "القــرآن‬ ‫فبين أن العالقة بين الجمرة وقابضها ‪-‬في‬ ‫وتعظيمه في اإلســام"‪ّ ،‬‬ ‫الفتة الرسمية للمؤتمر والتي تشير إلى حديث من أحاديث النبي‬ ‫ال ّ‬ ‫‪ -‬عالقــة حمايــة وتوفيــر أمن‪ ،‬فالجمرة في الصــورة بمثابة الدين‬ ‫الصــاف الصحيح‪ ،‬واليد الممســكة بها تعتبر يــد المؤمن المخلص‬ ‫وجوبا‪ -‬حماية الدين من التشــوية والتلبيس‬‫الــذي يعتقــد أنه عليه‬ ‫ً‬ ‫خطيرا ومحر ًقا ومؤلمـا‪ ،‬فإن القيام‬ ‫والتزييف‪ ،‬فمهما كان هذا الدور‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بــه أمــر ال منــاص منه‪ .‬ثــم بين الدكتور "أرن" أن المفتاح األساســي‬ ‫لفهم كالم رب العالمين مقترن بعملية التحول من القراءة المجردة‬ ‫للقــرآن الكريــم إلــى قراءته قراءة عــرض وتكليف‪ ،‬أي أن المســلم‬ ‫مك ّلــف بــأن يعــرض نفســه وأعمالــه علــى تعاليــم القــرآن الكريــم‬ ‫دوما‪ ،‬وأن يكلف نفسه بتأديتها وااللتزام بها في حياته‪.‬‬ ‫وأوامره ً‬ ‫هــذا وقــد تعــرض الدكتــور محمــد خروبــات مــن المغــرب‬ ‫فــي مداخلتــه "مكانــة الرســول ‪ ‬والصحابــة الكــرام" إلــى ظاهــرة‬ ‫وو َصفهــا أنهــا أصبحــت ديدن‬ ‫االســتهزاء بالمقدســات اإلســامية‪َ ،‬‬ ‫وبين كذلك أن تعظيم الشعائر واحترام‬ ‫المغرضين طوال التاريخ‪ّ ..‬‬ ‫المقدســات اإلســامية ال يحتاج إلى كثير من علم ومعرفة‪ ،‬بل إلى‬ ‫وتقبلــه واحترامه‪ .‬ثم لفت‬ ‫تربيــة وتنشــئة على أخــاق تقدير اآلخر ّ‬ ‫المحاضــر االنتبــاه إلــى أن ظاهــرة االســتهزاء والتنقيــص التي تطال‬ ‫الشعائر والمقدسات اإلسالمية‪ ،‬ال تقتصر على أعداء اإلسالم من‬ ‫المشــركين فحســب‪ ،‬بل تجاوزتهم إلى أبناء المســلمين‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫جلل وخطير ينم عن نقص في تربية األجيال المسلمة وتعليمها‪.‬‬ ‫ومــن المغــرب إلــى األردن‪ ،‬إذ تنــاول الدكتور ســليمان الدقور‬ ‫موضــوع "مكانــة العا ِلــم فــي اإلســام"‪ ،‬وبــدأ مــن حيــث انتهى منه‬ ‫ســابقه الدكتــور خروبــات‪ ،‬حيث أكد على أهميــة التربية في احترام‬ ‫المقدســات والشــعائر‪ ،‬وعلــى أن غيــر المســلمين يربــون أبناءهــم‬ ‫وينشــؤونهم علــى احتقار المقدســات اإلســامية والتشــكيك فيها‪،‬‬ ‫فعلينا أن ننشــئ أبناءنا على التمســك بشعائرهم وتعظيم مقدساتهم‬ ‫لئال تجرفهم التيارات الفكرية المعادية‪.‬‬ ‫ومن المداخل التربوية التي على المعلمين والمربين اعتمادها‪،‬‬ ‫معرفة أسباب عدم توقير وتعظيم الشعائر والمقدسات‪ ،‬فمن أهمها‬ ‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫تقليل احترام وتقدير اسم الجاللة "اهلل" الذي يعتبر أقدس مقدسات‬ ‫عظيما؛‬ ‫اإلســام‪ ،‬ولفــت االنتبــاه إلــى أمر تقني بســيط لكنــه اعتبــره‬ ‫ً‬ ‫وهــو مــا هــو مألــوف فــي كتابــة اســم الجاللــة فــي الكمبيوتــر‪ ،‬فمن‬ ‫المالحــظ أنــه ك ّلمــا ُكتبت كلمــة "اهلل" في جهــاز الكمبيوتر تضاءلت‬ ‫الحــروف‪ ،‬وكلمــا أضيــف أي حرف للفظ الجاللــة عادت الحروف‬ ‫‪‬و َت ْح َس ُبو َن ُه َه ِّي ًنا َو ُه َو‬ ‫إلى حجمها الطبيعي‪ ،‬وختم بقول اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم‪(‬النور‪ ..)15:‬وأردف الدكتور خليل النحوي قائال‪" :‬إن‬ ‫ع ْن َد اهلل َعظ ٌ‬ ‫مــن أهــم المقدســات التــي أهملناهــا وال نؤديهــا حق النصــرة‪ ،‬بيت‬ ‫المقدس الذي يدنســه الصهاينة اليوم‪ ،‬ويشــوهون صورته التاريخية‬ ‫اإلســامية"‪ .‬وأضــاف أن االحتــرام في اإلســام يتعدى المقدســات‬ ‫إلــى جميــع المخلوقــات‪ ،‬فالرســول ‪ ‬جعل حرمة الشــجر بحرمة‬ ‫النساء واألطفال في نصيحته لجيوشه الفاتحة‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬حسن مكي ‪ /‬السودان‪.‬‬

‫الجلسة العلمية األولى‬

‫تــرأس الجلســة العلميــة األولــى الدكتــور ســعاد يلديريم مــن تركيا‪،‬‬ ‫وشــارك فيهــا كل مــن الدكتور محيط مرت‪ ،‬والدكتــور محيي الدين‬ ‫أق كــول‪ ،‬والدكتــور علــي إحســان ييتيــك مــن تركيــا‪ .‬ابتــدأ الدكتور‬ ‫بالبعد التربوي الحترام الشعائر والمقدسات‪،‬‬ ‫محيط مرت مداخلته ُ‬ ‫ودعا إلى وجوب إدراج ما يدعو إلى احترام الذات اإللهية والمقام‬ ‫النبــوي‪ ،‬وغيرهمــا من المقدســات ضمــن المناهــج التعليمية‪ ،‬وأكد‬ ‫مهمة‬ ‫وتعليــم‬ ‫علــى أن نشــر‬ ‫ِ‬ ‫تعظيــم المقدســات اإليمانية والعقديــة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وأنموذجا لذلك العلماء الربانيين‬ ‫ال‬ ‫تربوية جليلة وواجبة‪ ،‬وضرب مث ً‬ ‫ً‬ ‫محمدا‬ ‫ســي َد األنام‬ ‫الذيــن إذا أوردوا فــي حديثهــم‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫الــذات اإللهية أو ّ‬ ‫‪ ‬خشــعوا ووجلــوا واســتحضروا كل معانــي االحتــرام والتعظيــم‪.‬‬ ‫وضــح‬ ‫وفــي المداخلــة الثانيــة مــن الجلســة العلميــة األولــى‪ّ ،‬‬ ‫الدكتــور محــي الديــن أق كول‪ ،‬أن منهج القــرآن الكريم واضح في‬ ‫ذكره لألنبياء‪ ،‬فهو يحترمهم أثناء ذكرهم ويبجلهم‪ ،‬فوجب التدقيق‬ ‫دومــا فــي تأويــل اآليــات المتعلقــة بمقام النبــوة في القــرآن الكريم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الئــق تفســيرها بما ال يرتقــي إلى المقام العلــي لألنبياء‬ ‫فليــس مــن ال ّ‬ ‫والرســل عليهــم الســام‪ ،‬وهذا يقــع على عاتق العلمــاء والمعلمين‬ ‫عظم‬ ‫الذيــن عليهــم أن يرســموا الطريق الموصل للناشــئة لتعظيم ما ّ‬ ‫ويقدروه حق قدره‪.‬‬ ‫اهلل‪َ ،‬‬ ‫عــرض‬ ‫وفــي مداخلــة بعنــوان "احتــرام اآلخــر فــي اإلســام"‪َ ،‬‬ ‫الدكتــور علــي إحســان ييتيــك بشــكل عــام‪ ،‬مقارنــة بين األديــان في‬ ‫موضوع اإلنســان من حيث قيمته وجزاؤه وعقابه‪ ،‬ثم اســتخلص أن‬ ‫الدين اإلسالمي أرقى األديان في نظرته وتعامله مع اإلنسان‪ ،‬فقيمة‬ ‫اإلنسان فيه مرتبطة بمدى تقواه وارتباطه بتعاليم المولى ‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪61‬‬

‫د‪ .‬محمد خروبات ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫د‪ .‬حسن المناعي ‪ /‬تونس‪.‬‬

‫د‪ .‬علي الصيفي ‪ /‬األردن‪.‬‬


‫د‪ .‬أركون جابان ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫علي بوالج ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫د‪ .‬جنيد أرن ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫أحيلت الكلمة للكاتب التركي علي بوالج في مســتهل الكلمات‬ ‫عموما‪،‬‬ ‫االفتتاحيــة‪ ،‬فتحــدث عن األزمات التي يعيشــها العالــم اليوم‬ ‫ً‬ ‫والعالــم اإلســامي بالخصــوص‪ ،‬حيــث بيــن بــوالج أن "العالــم‬ ‫اإلســامي اليــوم يدفــع فاتــورة النــزاع الموجــود في العالم بأســره"‪..‬‬ ‫وأكــد فــي هــذا الصدد علــى وجوب اعتماد المســلمين على أنفســهم‬ ‫حل إشــكاالتهم وحلحلة قضاياهم الشــائكة بالرجوع إلى تراثهم‬ ‫في ّ‬ ‫وموضوعا‪.‬‬ ‫منهجا‬ ‫األصيل‪ ،‬ويش ِّفعوا ذلك بقوة العلم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واعتمــد المفكــر الســوداني الدكتــور حســن مكي فــي كلمته التي‬ ‫ألقاها‪ ،‬على وصف مشروع الخدمة على أنه الشمعة التي تقهر ظالم‬ ‫الفتنة والطائفية المنتشــرة اليوم في العالم اإلســامي انتشــار النار في‬ ‫الهشــيم‪ ،‬فمشــروع الخدمة ‪-‬تحت لواء األستاذ فتح اهلل كولن‪ -‬يوقد‬ ‫شــموع األمــل والتفــاؤل بدل أن يلعن ظالم اليأس والقنوط‪ ،‬فشــباب‬ ‫وتنويرا‬ ‫تعليمــا للناس‬ ‫الخدمــة يرفعــون كلمة "اهلل أكبر" في ســبيل اهلل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لهم‪ ،‬ال مقاتلة لهم وفتنة‪.‬‬ ‫هــذا وقــد أكــد فضيلــة الشــيخ طاهــر فــال مــن الســنغال‪ ،‬أن فكــر‬ ‫األســتاذ فتح اهلل كولن ع ّلم الناس الحب واالحترام‪" ،‬وإنا لنرســل له‬ ‫كل تقديرنا واحترامنا نيابة عن كل السنغاليين"‪.‬‬ ‫وفي كلمة ألقاها الشــيخ عبد اهلل بن مدني من المغرب‪ ،‬بين فيها‬ ‫أن األمــة اإلســامية بحاجة ماســة اليــوم إلى االلتفات نحو شــعائرها‬ ‫تطور قدراتهــا الذاتية‬ ‫ومقدســاتها ألنهــا روح األمــة‪ ،‬لذلك عليهــا أن ّ‬ ‫لتكــون ح ًّقــا خيــر أمــة أخرجــت للنــاس‪ ،‬ولتتمكن من إخــراج الناس‬ ‫والعالمين من وطأة التخبط من أيديولوجية إلى أخرى‪ .‬وفي ما تعلق‬ ‫بموضــوع المؤتمــر‪ّ ،‬بيــن الشــيخ بن مدنــي أن لتعظيم الشــعائر ثالث‬ ‫خصائــص؛ وهــي اســتعادة أشــواق الفطــرة‪ ،‬وحمايــة المقدســات من‬ ‫حماية البشرية‪ ،‬وإدراك الرؤية الجمالية في الحياة‪.‬‬ ‫ومن الهند ِ‬ ‫قدم موالنا "حميد اهلل ُلو َنه" الذي اســتفاض في كلمته‬ ‫حــول موضــوع إحياء القيم اإلســامية وبعثها من جديــد لتغدو ديدن‬ ‫الناس؛ بها يتعاملون ووفقها يعيشون‪ ،‬وأكد أن هذا اإلحياء يقع على‬ ‫عاتق الشــباب والجيل الجديد فهم ثروة األمة وكنزها الثمين‪ ،‬يجب‬ ‫أن ال نفلتها وال نضيعها بأفكار متطرفة‪ ،‬بل بالســام والحب والعلم‬ ‫نستثمرها‪.‬‬

‫المحاضرة االفتتاحية‬

‫د‪ .‬عبد الحكيم يوجه ‪ /‬تركيا‪.‬‬

‫المحاضــرة االفتتاحيــة قدمهــا الدكتــور خليــل النحوي مــن موريتانيا‪،‬‬ ‫نوه فيها إلى أن المؤتمرات العالمية التي يعقدها أبناء مشــروع‬ ‫حيث ّ‬ ‫الخدمة‪ ،‬هي بمثابة عالم مصغر؛ ففيه تجتمع كل الجنسيات واألعراق‬ ‫وتلتقي في جو إنساني أخوي‪ .‬ثم تطرق الدكتور النحوي إلى مظاهر‬ ‫‪60‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫أنشطة ثقافية‬

‫عبد العزيز بن عمر*‬

‫تعظيم الشعائر‬ ‫واحرتام املقدسات يف اإلسالم‬ ‫إن من بين أهم شــعب الدين اإلسالمي‪،‬‬ ‫عظمهــا اهلل تعالى من فوق ســبع‬ ‫شــعائر ّ‬ ‫ســماوات‪ ،‬ومقدســات زمانيــة ومكانيــة‬ ‫ارتباطا وثي ًقا‪ ،‬احترمها اإلسالم وعظمها وقدرها‬ ‫مرتبطة به‬ ‫ً‬ ‫حق قدرها‪ ..‬لكن ‪-‬ومع مرور الزمن‪ -‬ظهرت بين الفينة‬ ‫وســمعت أصوات ناشزة تستنقص‬ ‫واألخرى آراء شــاذة‪ُ ،‬‬ ‫مــن قدر تلك الشــعائر‪ ،‬وتحط من قيمة مقدســات الدين‬ ‫استنادا إلى دعاوى واهية وتأصيالت وهمية‪.‬‬ ‫اإلســامي‬ ‫ً‬ ‫ومــا ذلــك إال من أجل المســاس باإلســام وتصغيره في‬ ‫عيــون الخلــق وتشــويه صورتــه الناصعــة الحقيقيــة‪ ..‬إلى‬ ‫أن ظهــرت فــي أيامنا هذه اعتداءات علــى القرآن الكريم‬ ‫ا‪ ،‬وعلــى رســول الرحمــة محمــد ‪ ‬بشــتى‬ ‫ً‬ ‫لفظــا وفعــ ً‬ ‫الطرق واألساليب‪ ،‬وعلى غيرهما من مقدسات اإلسالم‬ ‫وشعائره‪.‬‬ ‫وفــي ظــل تعــدد اإلســاءات وتكاثرهــا‪ ،‬وبغيــة التنويه‬

‫والتنبيــه لخطــورة األمــر وفداحتــه‪ ،‬نظمــت مجلتــا َ"ينــي‬ ‫ُأ ِميــت" (‪ )Yeni Ümit‬التركية‪ ،‬وحــراء ‪-‬ذات المنبع التركي‬ ‫دوليــا تحــت عنــوان‪" :‬تعظيــم‬ ‫الناطقــة بالعربيــة‪-‬‬ ‫مؤتمــرا ًّ‬ ‫ً‬ ‫الشــعائر واحتــرام المقدســات فــي اإلســام"‪ ،‬وذلك يوم‬ ‫الســبت ‪ 6‬صفــر ‪ 1436‬يوافقــه ‪ 29‬نوفمبر ‪ 2014‬بمركز‬ ‫فرات الثقافي بإسطنبول تركيا‪.‬‬ ‫بــدأت فعاليــات المؤتمــر بتــاوة آيــات بينــات مــن‬ ‫الذكــر الحكيــم‪ ،‬بصوت القارئ مصطفى يغيت‪ ،‬ثم أتبعه‬ ‫الدكتــور أركــون جابــان رئيــس تحريــر مجلــة َينــي أميت‬ ‫شــرفوا المؤتمر‬ ‫التركيــة‪ ،‬بكلمة ترحيب بالضيوف الذين ّ‬ ‫وزينــوه بحضورهــم‪ ،‬والذيــن قدمــوا مــن مختلــف دول‬ ‫العالــم؛ مــن تركيــا والهنــد وتونــس والمغــرب واألردن‬ ‫عــرج علــى تبييــن‬ ‫والســودان والســنغال وموريتانيــا‪ ..‬ثــم ّ‬ ‫المواضيــع والمحــاور الرئيســية التــي ســيتناولها العلماء‬ ‫واألساتذة المشاركون في المؤتمر‪.‬‬


‫أدب‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫الخروج من زمن التيه‬

‫‪58‬‬

‫ين َس َــن ًة‬ ‫‪َ ‬ق َ‬ ‫ــم َأ ْر َب ِع َ‬ ‫ــال َف ِإ َّن َهــا ُم َح َّر َمــ ٌة َع َل ْيهِ ْ‬ ‫ون ِفي ا َ‬ ‫ض‪(‬المائدة‪.)26:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫َي ِت ُيه َ‬ ‫وقفــر وجــدب‪،‬‬ ‫هــذا زمــن التيــه؛ يبــاب‬ ‫ٌ‬ ‫ســرابات إثــر ســرابات‪ ..‬أيام خاويــات‪ ،‬وليــال كالحات‪،‬‬ ‫ونجــوم غائرات‪ ،‬ووجوه مصفدات‪ ،‬شــاحبات حزينات‪،‬‬ ‫باكيــات ســاجيات‪ ..‬وريــاح ســافيات عاصفــات‪ ،‬وأزهار‬ ‫مصوحات‪ ،‬وآمال محبطات‪ ،‬وأعشــاب هشيمات‪ ..‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫الــروح جراحات داميــات‪ ،‬وفي القلب زفرات وغصات‪،‬‬ ‫وفــي العيــن أدمع حارقــات كاويات‪ ،‬وفــي الكبد أوجاع‬ ‫وآهــات‪ ..‬ونســاء نائحــات‪ ،‬كاســيات عاريــات‪ ،‬وعيــون‬ ‫شاخصات في أجسادهن غائصات‪.‬‬ ‫سريت‪ ،‬طري ًقا‬ ‫فسررت ونحوه‬ ‫أبصرت‪،‬‬ ‫ويوما طري ًقا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫للخــروج حســبته حتــى إذا جئتــه‪ ،‬وفيــه مشــيت‪ ،‬وشــو ًطا‬ ‫وتعبا‬ ‫قطعــت‪،‬‬ ‫كابدت‪ ..‬فإذا أنا‪ ،‬من حيث‬ ‫ُ‬ ‫ونصبــا لقيت‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫رجعت‪ ،‬وكأنني ما مشــيت وال طري ًقا ســلكت‪،‬‬ ‫أتيت إليه‬ ‫ُ‬ ‫فمنه الذي هربت‪ ،‬من جديد إليه عدت‪.‬‬ ‫نمشي‪ ،‬نهرول‪ ،‬نلهث‪ ،‬نبهر‪ ،‬وإلى كل ناعق نتسمع‪،‬‬ ‫ال أخرى‪ ،‬وفــي مدائن‬ ‫نشــرق‬ ‫يمينــا تارة وشــما ً‬ ‫ونغــرب‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربــة نتســكع‪ ،‬نــذل‪ ،‬نخضــع‪ ،‬نركع‪ ،‬وعلــى األعتاب‬ ‫نتمرغ‪ ،‬عســى باب من الغرب ُيشــرع‪ ،‬أو قبســة ضوء من‬ ‫ّ‬ ‫ونتصبــر‪ ،‬فما التقينا‬ ‫الشــرق تلمــع‪ ..‬نقف وننتظــر‪ ،‬نصبر‬ ‫ّ‬ ‫الــذي مــن أجله خرجنا‪ ،‬بل انتكســنا وإلى التيه من جديد‬ ‫عدنا‪.‬‬ ‫اجا‬ ‫بمجرات األفكار‪ ،‬يا‬ ‫مو ً‬ ‫أنت يا سماوي الذهن‪ ،‬يا ّ‬ ‫ّ‬ ‫مفجر الطاقات الهامدات‪ ،‬يا‬ ‫نافخ الحياة في األموات‪ ،‬يا ّ‬ ‫الهمات‪ ،‬يا مشعل اإلرادات‪ ،‬يا جوهري النظرات‪،‬‬ ‫باعث ّ‬ ‫تكســر‪،‬‬ ‫يــا عميــق اإلدراكات‪ ..‬متــى تأتــي‪ ،‬وســجن التيــه ّ‬ ‫هلمــوا يا أبنائي‪ ،‬فقد‬ ‫وأغاللــه تح ّطــم‪ ،‬وبالجموع تهتف‪ّ :‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وضــح الطريــق‪ ،‬واســتبان الــدرب‪ ،‬وأضاء الســبيل‪ِ ،‬‬ ‫فمن‬ ‫كوابيســكم اســتيقظوا‪ ،‬وتحفــزوا‪ ،‬وإلــى القــرآن بــادروا‪،‬‬ ‫فهــو للموتــى روح وقيام‪ ،‬ومن التيه منجاة‪ ،‬ولعمى العين‬ ‫ري وشــفاء‪،‬‬ ‫ضيــاء‪ ،‬وللوهــن قوة وانبعاث‪ ،‬ولقفر الزمان ٌّ‬ ‫ولجدبه خضرة وخصب ومراع‪.‬‬ ‫يا زمن التيه‪ ،‬يا رماد األزمنة‪ ،‬يا ضالالت الســنين‪ ،‬يا‬ ‫مديرا للعقول‪ ،‬يا‬ ‫أغاليط الواهمين‪ ،‬يا نديم الذاهلين‪ ..‬يا‬ ‫ً‬ ‫مدو ًخا للرؤوس‪ ،‬يا مســدل العتمات على منافذ العقول‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يــا مغشــي العيــون بســواد الظنــون‪ ،‬يــا مطفــئ مصابيــح‬ ‫الفهــوم‪ ،‬يــا حــادي التائهيــن‪ ،‬يا هــوة للضائعين‪ ،‬يــا مال ًذا‬ ‫للهائميــن‪ ،‬يــا‬ ‫صــدرا للضجريــن الســئمين‪ ،‬الســاخطين‬ ‫ً‬ ‫اليائسين المحبطين‪.‬‬ ‫انهزاما‪ ،‬وللعقل‬ ‫كن كما شــئت‪ ،‬للتيه زما ًنــا‪ ،‬وللروح‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ..‬أما نحن فقد كســرنا قيدك‪ ،‬وتحررنا من غلك‪،‬‬ ‫إضال ً‬ ‫واســتحد ْت‬ ‫وإلــى خارجــك خطونا؛ تفتحت منا العقول‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منــا األبصــار‪ ،‬والطريق‬ ‫الالحــب أبصرنــا‪ ،‬ودروب الحق‬ ‫ّ‬ ‫اعا‬ ‫سلكنا‪ ،‬ومنارة الهدى قصدنا‪ُ ..‬عميا ًنا لن نكون‪،‬‬ ‫وضي ً‬ ‫ّ‬ ‫لــن نظــل‪ ،‬نحــن الصــح علــى أغاليطــك‪ ،‬والحــق علــى‬ ‫أباطيلك‪ ،‬والنور على ظلماتك‪ ،‬والهدى على ضالالتك‪،‬‬ ‫والعقل على جنونك‪ ،‬والميزان على جنوحك‪ ،‬واإليمان‬ ‫على جحودك‪.‬‬ ‫يــا زمــان التيه‪ ،‬أنت بــدع بين األزمنة‪ ،‬واســتثناء بينها‪،‬‬ ‫خرقت‪ ،‬وعنه صددت وازدريت‪،‬‬ ‫ناموس األزمان األكبر‬ ‫َ‬ ‫ابتليــت‪ ،‬ونحن بك ابتلينا‪،‬‬ ‫نحــن الشــهود عليك‪ ،‬بنا أنت ُ‬ ‫وامتحنا عسانا من هذه المحنة نخرج ونحن على إيماننا‬ ‫َّ‬ ‫محافظون‪ ،‬وعلى طريق اهلل سائرون‪.‬‬

‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬


‫شــعث‪ ،‬ثم ســرت تلك النفخة الروحية في أوصال ســائر‬

‫األمطار إلى سحائبها‪ ،‬والحركة إلى كائناتها‪ ،‬والمياه إلى‬

‫لقد ظل ُيقدم الحجج ألصحابه على قضايا اإليمان‪،‬‬

‫العصافيــر‪ ،‬والخريــر يفضح هدوء المياه‪ ،‬فتبتهج الطبيعة‬

‫"المحجة‬ ‫علــى متــن اليقين‪ ،‬وإلــى أن وقفوا على مرســاة‬ ‫َّ‬

‫ميــادا لربيع‬ ‫لقــد كان ميــاد محمــد ‪ ‬فــي الربيــع‬ ‫ً‬

‫رد ًحا من الزمن‪.‬‬ ‫األمم‪ ،‬فانبعثت من موتها الذي استمر ْ‬

‫ِ‬ ‫ضمخ األزهار‪ ،‬والتغريد يحدو‬ ‫مجاريها‪ ،‬ويعود األريج ُي ّ‬

‫ويرتقــي بهــم فــي ُســ َّلم البراهيــن إلــى أن اســتقر معهــم‬

‫وتبتسم الحياة ويسعد اإلنسان‪.‬‬

‫البيضاء"‪ ،‬لم َيزغ عنها إال الهلكى من المنافقين وعديمي‬

‫بأســرها‪ ،‬فبمولده ولدت الفضائل‪ ،‬وانبجســت‬ ‫اإلنســانية ْ‬

‫اإليمان‪.‬‬

‫السجايا‪ ،‬وانبثقت الكماالت التي صنعت "خير أمة"‪ ،‬تلك‬

‫اســتطاع ‪ ‬اســتنقاذ كل فــرد مــن الكفــر األعمى إلى‬

‫األمة الذهبية التي قامت على أكتاف ذلك الجيل الماسي‬

‫الفكر المبصر‪ ،‬ومن الشرك األسود إلى الشكر النوراني‪،‬‬

‫من الناس‪ ،‬والذي امتأل بالعباقرة‪ ،‬وح ِفل بالنوادر‪ ،‬وتميز‬

‫ومــن الشــك الشــيطاني إلــى الكشــف الربانــي‪ ،‬ونقل كل‬

‫بالنوابــغ‪ ،‬وازدان باألفذاذ‪ ،‬وتزين بالعظماء‪ ،‬مما جعلهم‬

‫الوحدة‪ ،‬ومن النار إلى النور‪ ،‬ومن‬ ‫الوحدة إلى ُ‬ ‫عربي من َ‬

‫يزدحمون عند الواجبات ويؤثرون بعضهم عند الحقوق‪.‬‬

‫الحرمان إلى الحرية‪ ،‬ومن األثرة إلى اإليثار‪.‬‬

‫لقــد اجتمــع لهــذا الركــب العظيــم مــن النــاس‪ ،‬مــن‬

‫لقــد صنــع ‪ ‬المعجزة الباهرة التي تجلت في تربيته‬

‫الخالئــل والخالئــق ما لــم يجتمع ألي جيل في التاريخ‬

‫ــم العدوانيــة الزعاف‬ ‫وتجســدت فــي دعوتــه‪ ،‬إذ َّ‬ ‫حــول ُس ّ‬

‫اإلنساني كله‪ ،‬بفضل التربية المحمدية واإلكسير النبوي‪.‬‬

‫عند األعراب إلى ترياق ناجع للناس‪ ،‬وأحال أعاصيرهم‬ ‫الغيث الهنيء والخير العميم لسائر مخلوقات اهلل‪.‬‬

‫وألن الفرد هو مضغة األمة‪ ،‬والعقل هو مضغة الفرد‪،‬‬

‫فقد ركز ‪ ‬على بناء الفرد المؤمن المؤتلف مع الخلق‪،‬‬ ‫المنقــاد للحــق‪ ،‬المنفعل باإليمــان‪ ،‬الفاعــل للصالحات‪،‬‬ ‫ولهــذا ج َّفــف مياه الجبرية اآلســنة‪ ،‬وأطلق عيون "القدر"‬

‫ــث الحيــاة في‬ ‫السلســبيل التــي اســتحالت إلــى إكســيرٍ َب َع َ‬ ‫هوامد الناس‪ ،‬بإطالق القوى من عقالها‪ ،‬واإلرادات من‬

‫أغاللها‪ ،‬والعزائم من أصفادها‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يبابــا‪ -‬إلى ريــاح لواقح‪ ،‬حملت‬ ‫‪-‬التــي جعلــت أرضهــم ً‬

‫ومــن ذلــك مزجهــم الدقيــق بين بواعــث الخوف من‬

‫اهلل ومشــاعر الرجــاء بمــا عنــده‪ ،‬فإنهــم َيلتاعــون لجمــال‬

‫اهلل ويرتاعــون مــن جالله‪ ،‬وال يزالــون جامعين بين إقدام‬

‫الرغبــة فــي الجنــة وإحجــام الرهبة من النــار‪ ،‬بين الطمع‬ ‫بوعــد اهلل والفــزع مــن وعيــده‪ ،‬بين رجاء ســحائب فضله‬

‫والت َو ِّقي‬ ‫الت ْوق للثــواب َّ‬ ‫والحــذر مــن موازيــن عدله‪ ،‬بيــن َّ‬ ‫من العقاب‪.‬‬

‫تج ّــرد للمحامــد‬ ‫ا‬ ‫لقــد أوجــد محمــد ‪ ‬جيــ ً‬ ‫ً‬ ‫فريــدا َ‬

‫لقــد ع ّلــم صحابتــه ‪ ‬التــدرع بالقــدر ال التــذرع‪،‬‬

‫وتذهبــت‬ ‫أفــكاره‪،‬‬ ‫ــجدت‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫تعس َ‬ ‫ُ‬ ‫وتأهــل للعظائــم‪ ،‬حيــث ْ‬ ‫قوالبهــم تعمــل للمعــاش وقلوبهــم تهفــو إلــى‬ ‫مشــاعره‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫التــواكل‪ ،‬وبهــذا صــار الواحــد منهم بأمة كاملــة أو بألف‬

‫إلــى آمــاد اآلخــرة تنفــذ‪ ،‬أقدامهــم تمشــي علــى األرض‪،‬‬

‫والتوســل باألســباب دون الركــون إليهــا‪ ،‬واســتكمال‬

‫مشاعر التوكل على اهلل دون أن تخالطها أي من شوائب‬ ‫رجل‪ ،‬وفي المتوســط العام فاقت فاعلية المســلم عشــرة‬ ‫أضعاف فاعلية غيره في سائر مناحي الحياة‪.‬‬

‫مــن تدابيــر القدر الربانــي واللطائف الســبحانية أن والدة‬

‫محمــد ‪ ‬كانــت فــي فصــل الربيــع‪ ،‬وهو الفصــل الذي‬ ‫قضــى اهلل أن تحيــا فيــه األرض بعــد موتهــا‪ ،‬وتخضر بعد‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫تســم بعــد َت َق ُّتمها‪ ،‬لتعود‬ ‫زهــر بعــد َت َت ُّربِها‪ ،‬و َت ْب َ‬ ‫َت َر ُّمدهــا‪ ،‬و ُت َ‬

‫وأرواحهم نحو السماء تطير‪.‬‬

‫وهكــذا‪ ،‬فقــد نجح محمد ‪ ‬أيمــا نجاح في تحويل‬

‫األمارة" بالسوء إلى "إمارات" تفيض بالنفائس‪،‬‬ ‫"النفوس ّ‬

‫وإلى لبنات متينة انبنت منها "خير أمة أخرجت للناس"‪،‬‬ ‫فماذا يا ترى يستحق منا محمد ‪‬؟‬

‫(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي‪ ،‬جامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫الربيع ميالد للمحامد المحمدية‬

‫المعــاد‪ ..‬أبصارهــم تكتشــف آفــاق الدنيــا وبصائرهــم‬

‫‪57‬‬


‫ســائر قرارتــه وتقريراته‪ ،‬وفي جميع مناشــطه وتحركاته‪،‬‬

‫الناس أشياءهم‪.‬‬

‫كانــوا رائقــي الطبــاع تائقــي العزائــم‪ ،‬أنيقيــن فــي‬

‫ومــن ذلك بل وأهــم ذلك‪ ،‬نجاحه المنقطع النظير الذي‬

‫الجميلــة بعنايــة غيــر متكلفــة‪ ،‬وينتقــون ألفاظهــم العذبــة‬ ‫متقعر‪.‬‬ ‫باصطفاء غير ِّ‬

‫خاللهــا إلــى ســريرته العظيمــة إلى يومنا هــذا‪ ،‬وذلك في‬ ‫جعل قبائل األعاريب أمة األعاجيب‪.‬‬

‫دعواتهم يزاوجون بين الترغيب والترهيب‪ ،‬وفي سيرهم‬

‫ماديا‬ ‫الموتــى‪ ،‬فقــد أحيــا محمــد ‪ ‬أمــة بكاملها‪ ،‬إحيــاء ًّ‬

‫ومبهــرا لــكل من عرف ســيرته‪ ،‬ونفذ من‬ ‫مدهشــا‬ ‫مــا زال‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫مظاهرهــم مشــرقين فــي جواهرهــم‪ ،‬يختــارون ثيابهــم‬

‫فــي خطابهــم يمزجــون بيــن اإلقنــاع واإلمتــاع‪ ،‬وفــي‬

‫وإذا كانــت أعظــم معجــزات عيســى ‪ ‬إحيــاء‬

‫جهادهــم بيــن‬ ‫يجمعــون بيــن الوعــي والســعي‪ ،‬ويــوازن‬ ‫ُ‬

‫ومعنويــا‪ ،‬إذ صنــع مــن َز َبــد النــاس ُزبدة األمــم‪ ،‬وصنع‬ ‫ًّ‬

‫مــن هواة االختالف ُعشــاق ائتالف‪ ،‬وجعل من عصائب‬

‫إرهــاب المعتديــن والرحمــة بالمتعبيــن‪ ،‬وبالجملة فإنهم‬ ‫يعتدلون وال يعتدون‪.‬‬

‫الترويع ُص َّناع روائع‪.‬‬

‫منحازا على الدوام إلى الحق والحقيقة‪،‬‬ ‫ولقد كان ‪‬‬ ‫ً‬

‫لقــد ســ ّلط ُع ّبــاد األصنــام علــى منظومــات الصنمية‪،‬‬

‫الســاح الفتاك‪ ..‬فقد اســتعان على تراكم أطباق الضالل‬

‫ورمادا‬ ‫بســيوفهم وســنانهم‪ ،‬حتــى صــارت غثــاء أحــوى‪،‬‬ ‫ً‬

‫ومــا واجــه كل أصحاب الباطل وأزهق األباطيل إال بهذا‬

‫استخراج "خير أمة" من بين فرث ودم "القبائل"‬

‫الفذة‪ِ ،‬‬ ‫وه َّمته العالية‪ ،‬ورحمته الســابغة‪ ،‬وســعيه‬ ‫بعبقريته ّ‬ ‫الــدؤوب‪ ،‬وجهاده العظيم‪ ،‬اســتطاع ‪ ‬اســتنقاذ البشــرية‬ ‫مــن الغــرق فــي بحــار الظلمــات أوالفنــاء فــي محيطــات‬

‫العــدم‪ ،‬ونجح في اســتخراج "خير أمــة أخرجت للناس"‬

‫من بين فرث القبائل ودم العشائر‪ ،‬حيث نقاها من أكدار‬ ‫سائغا للشاربين‪.‬‬ ‫لبنا‬ ‫ً‬ ‫الطين وأقذار الفرث وجعل منها ً‬

‫مخرجا إياهم من عماية الغواية‬ ‫الناس من أوكار الشرك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إلــى بصائــر الهداية‪ ،‬وع َّلم األعــراب كيف يعبرون القفار‬ ‫المتصحــرة حتــى تعمــر‬ ‫الجدبــاء ألجــل زراعــة القلــوب‬ ‫ِّ‬ ‫بالخيــرات‪ ،‬وإحياء الشــعوب التي ماتت في بطون الفكر‬

‫العدمــي‪ ،‬واختنقــت فــي ســجون التقاليــد الســقيمة وفــي‬ ‫ــت الجبابرة آراء‬ ‫زنازيــن االســتعباد الصنمــي‪ ،‬بعــد أن َك َب َ‬

‫وأمموا حقــوق اآلدمية‪،‬‬ ‫النــاس‪ ،‬وكتمــوا أنفــاس الحرية‪َّ ،‬‬

‫وسمموا نسائم الكرامة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫لقــد اســتجمع مــن بيــن أشــواك النفــوس أزهارهــا‪،‬‬

‫صانعا منه عســل‬ ‫بطــن نحلتــه التربوية بمقاديــر منضبطة‪،‬‬ ‫ً‬

‫وطبقات الضالل المبين‪ ،‬فصارت العسل الشافي للناس‬

‫"خيــر أمة" بعد أن ص ّفــاه المصطفى بيديه وروحه‪ ،‬فصار‬

‫شــفاء لإلنســانية من أســقامها‪ ،‬حيث خ ّلــص القلوب من‬ ‫تقلباتهــا الزائغــة‪ ،‬وأنقــذ العقــول مــن أوهامهــا الضاللية‪،‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫وع َّلم ُق ّطاع الطرق كيف "يقطعون" الفيافي الســتنقاذ‬

‫مذكيا أســرارها‬ ‫لقــد أطلــق ‪" ‬خير أمة" من أســرها‪،‬‬ ‫ً‬

‫مازجا إياه في‬ ‫واستخلص من بين أكمام القبائل رحيقها‪،‬‬ ‫ً‬

‫‪56‬‬

‫تذروه الرياح!‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وتراكــب طبقــات الباطــل بقذيفــة اهلل النافــذة فيــه وهــي‬ ‫‪‬ب ْل َن ْق ِذ ُف بِا ْل َح ِّق َع َلى ا ْلب ِ‬ ‫اط ِل‬ ‫الحق‪ ،‬ألم يقل اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫َف َي ْد َم ُغ ُه َف ِإ َذا ُه َو َز ِاه ٌق‪(‬األنبياء‪)18:‬؟‬

‫فمزقوهــا بعلومهــم ومعارفهــم‪ ،‬بســننهم وأســنانهم‪،‬‬

‫ون ّقــى األكبــاد مــن ُك َبدهــا القاتلــة‪ ،‬وعالــج النفــوس مــن‬

‫آالمهــا المبرحــة‪ ،‬وداوى الحلوق مــن غصصها الخانقة‪،‬‬ ‫وحــرر األجســاد مــن أغاللهــا التــي أوجعتهــا وشــ َّلت‬ ‫حركتهــا‪ ،‬وجعلتهــا مجــرد أشــياء فــي أســواق النخاســة‬

‫وحظائر الطغاة‪.‬‬

‫تتجلــى عظمــة محمــد ‪ ‬في كل أقوالــه وأفعاله‪ ،‬في‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المخبــوءة ونفائســها المطمــورة تحــت أركمــة التخلــف‬

‫من أســقام االســتبداد واالســتعباد‪ ،‬حيث كرســت نفســها‬ ‫َّ‬ ‫لخدمة المستضعفين وتحرير المأسورين‪ ،‬واستمرت في‬ ‫جهادها حتى لم تكن فتنة‪ ،‬وكان الدين كله هلل‪ ،‬وصارت‬ ‫األرض جميعها لسائر البشر‪.‬‬

‫"أنفاس النبي" تصنع "نفائس الناس"‬

‫كانــت أنفــاس النبــي ‪ ‬ذلــك اإلكســير الذي أخذ شــكل‬

‫ال‪ ،‬فأحياهم‬ ‫النســيم الســاحر‪ ،‬والذي سرى بين العرب أو ً‬

‫وبصرهــم مــن عمى‪ ،‬وأســمعهم مــن صمم‪،‬‬ ‫مــن مــوات‪َّ ،‬‬ ‫وجمعهم من‬ ‫ونظمهم من انتثــار‪،‬‬ ‫وأي َقظهــم مــن ُســبات‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬


‫إذا كانت أعظم معجزات عيىس ‪ ‬إحياء املوىت‪،‬‬

‫للديــن القيم‪ ،‬وأكرمــه بقيم االئتالف‪ ،‬ولذلك امتن اهلل به‬ ‫ين إ ِْذ َب َع َث‬ ‫على المؤمنين فقال‪َ  :‬ل َق ْد َم َّن ا ُ‬ ‫هلل َع َلى ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ال ِم ْن َأ ْن ُف ِسهِ ْم‪(‬آل عمران‪.)164:‬‬ ‫ِفيهِ ْم َر ُسو ً‬ ‫لقــد أجــاد ‪ ‬تشــبيك العالئــق وتمزيــق العوائــق‪،‬‬

‫فقــد أحيــا محمــد ‪ ‬أمــة بكاملهــا إحيــاء ماد ًّيا‬

‫ومعنو ًّيــا‪ ،‬إذ صنع من َز َبد الناس زُبدة األمم‪ ،‬وصنع‬ ‫من هواة االختالف ُعشاق ائتالف‪ ،‬وجعل من عصائب‬

‫صنَّاع روائع‪.‬‬ ‫الرتويع ُ‬

‫وأحســن توشــيج أواصر األلفة وتقطيع أواصر التكلف‪،‬‬ ‫واســتطاع ‪-‬رغــم أميتــه األبجدية‪ -‬كتابة همــزات الوصل‬

‫بين الناس وطمس همزات القطع ومحو ثقافة القطيع‪.‬‬

‫غيــر موضوعيــة‪ ،‬ودون اســتدعاء ألي عصبيــات طينيــة‪،‬‬

‫اســتطاع ‪ ‬بمقــدرة فريــدة تربيط العالقــات‪ ،‬وتمتين‬

‫تكوم في أجســامهم‬ ‫وبحيــث ال يعميهــم غبــار التراب ُ‬ ‫الم ّ‬

‫الصــات‪ ،‬وتأســيس المشــتركات‪ ،‬وتفعيــل األرحــام‪،‬‬

‫عن رؤية الحقيقة واالعتراف بالحق‪.‬‬

‫وتقويــة جســور التكامــل‪ ،‬وبنــاء قناطــر العبــور المتبادل‪،‬‬

‫وع َّلمهــم االنكســار أمــام إخــوان المبــادئ والقيــم‬

‫ــوات وغلــق الفجــوات‪ ،‬وحــرق حطــب الفتنــة‬ ‫وردم ُ‬ ‫اله َّ‬

‫الســامية‪ ،‬واالنتصــار علــى أعــداء الحــق والحقيقــة‪ ،‬حا ًّثا‬

‫والحقد‪ ،‬ومحاربة التنافس المحموم والتنابذ المسموم‪.‬‬

‫إياهم على الصدع بالحق في وجوه المبطلين‪ ،‬وتصديع‬

‫لقــد بــرزت عظمته ‪ ‬فــي تأليف القلــوب المتنافرة‪،‬‬

‫رؤوس أهل الباطل بمطارق الحق‪.‬‬

‫وتلقيــح العقول المتناحــرة‪ ،‬وتجميع األرواح المتدابرة‪،‬‬

‫ال مــن هجير الفرقــة والتمزق‪،‬‬ ‫دفء الوعــي الجمعــي بــد ً‬

‫جســما‬ ‫ورغبتهــم فــي التقــارب واالئتــاف حتــى صاروا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪.‬‬ ‫اجتماعيا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫وبفضــل محمد ‪ ‬الذي هــو تفضل الرحمن عليهم‪،‬‬

‫صاروا متفوقين في هندسة جسور االئتالف‪ ،‬وفي كيمياء‬

‫التفاعــل الخــاق‪ ،‬وفــي فيزيــاء االنصهــار ضمــن بوتقــة‬

‫األمة‪ ،‬وفي رياضيات التجمع تحت راية اإلســام الذي‬ ‫"يطــرح" الخالفــات‪ ،‬و"يزيــد" المشــتركات‪ ،‬و"يضخــم"‬ ‫و"يص ِّفر" األحقاد والضغائن‪.‬‬ ‫القواسم المشتركة‪ُ ،‬‬ ‫ولهــذا مضــوا في بنــاء جســور التآلف وهــدم قواطع‬

‫وتفريــغ طاقة العز في الخارج‪ ،‬وعلى االســتكانة ألخوة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بدفــع الجميــع لالســتظالل تحت أفيــاء دوحــة التوحيد‬ ‫الج ِنيــة‪ ،‬وأشــاعت في أوســاطهم‬ ‫التــي أســقطت ثمارهــا َ‬

‫ورباهــم ‪ ‬علــى تصريــف طاقــة الــذل إلــى الداخــل‬ ‫َّ‬

‫الرايــة وإن اختلفــت اآلراء‪ ،‬وعلــى الســكينة عند مواجهة‬ ‫المتخندقين تحت رايات الضالل المبين‪.‬‬ ‫رباهم على استشعار أنهم صغار بجانب إخوانهم‪،‬‬ ‫لقد َّ‬ ‫كبــار أمــام أعدائهم‪ ،‬بحيــث يســتحيل أن تحضرهم أدنى‬

‫الص َغــار‪ ،‬إذ علمهــم ‪ ‬كيف يصنعــون بالضعفاء‬ ‫مشــاعر َّ‬ ‫وكيف يصفعون المتكبرين‪.‬‬

‫لقــد أبعدهــم ‪ ‬عــن أجــواء التكبــر والتجبــر‪ ،‬ونــأى‬

‫بهــم عــن مهــاوي الفواحــش والفواســق‪ ،‬فصــاروا أماثيل‬ ‫فــي األخــاق‪ ،‬عجائب في اإلنجاز‪ ،‬خوارق في الحركة‪،‬‬ ‫يتزيدون‪ ،‬يطولون‬ ‫نمــاذج فــي التوازن‪ ،‬إذ يســتزيدون وال ّ‬

‫فــي ذواتهــم وال يســتطيلون علــى غيرهــم‪ ،‬يكبــرون وال‬

‫وتطيروا من أشــواك‬ ‫التخالــف‪ ..‬طــاروا بأشــواق التوحــد‬ ‫ّ‬

‫يتكبرون‪ ،‬يسيرون في األرض دون أن يتيهوا في الوديان‬

‫مغزرين لعيــون االئتالف‬ ‫ألســباب ْ‬ ‫االزورار‪ ..‬ومــا فتئــوا ِّ‬

‫أعطاهم اهلل‪.‬‬

‫التفــرد‪ ..‬ولم يزالــوا واصلين لمفردات التــزاور‪ ،‬قاطعين‬

‫ومجففيــن لمنابــع االختالف‪ ..‬فارضين لرايات التوحد‪،‬‬ ‫والود وممزقين لحبائل الفتنة والحقد‪.‬‬ ‫مادين لحبال الحب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫االنحناء للحقائق واالستعالء على األحقاد‬

‫لقــد علمهــم النبي ‪ ‬أن يســتمعوا للجميع‪ ،‬وحيثما كان‬

‫الحق ذهبوا إليه وساروا معه‪ ،‬دون نظر إلى أي اعتبارات‬

‫كانــوا يصنفــون النــاس لكنهم ينصفون وال ينســفون‪،‬‬ ‫وكانــوا ينتقــدون المخالفيــن لكنهــم ال َي ِســ ّفون وال‬ ‫ُيســ ّفهون‪ ،‬يعدلــون فــي قــول الحــق وال يعدلــون عنــه أو‬ ‫شيئا‪.‬‬ ‫يعدلون به ً‬

‫يتحققون في البحث عن الحقيقة ويدققون في إدراك‬ ‫الحــق‪ ،‬ال يبخلــون بأفيائهــم علــى الخلــق وال َيبخســون‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫ورافضيــن آلراء التفــرد التــي تســاهم فــي تشــظي األمة‪..‬‬

‫أو تتيــه بهــم الســبل‪ ،‬ودون أن تركبهــم مشــاعر التيــه بمــا‬

‫‪55‬‬


‫ــق ‪ ‬عقولهــم بكــؤوس التفكــر‪ ،‬وأ ْتــرع‬ ‫لقــد ْأد َه َ‬ ‫قلوبهم بأواني التدبر‪ ،‬وغمر أرواحهم بمســاكب التبصر‪،‬‬

‫وتر َيقة القروح‪.‬‬ ‫بلسمة الجروح‪ ،‬وشفاء الندوب‪ْ ،‬‬ ‫وســكب الصحابــة ‪-‬ب َِدورِ هــم‪ -‬اإلكســير المحمــدي‬ ‫علــى األجســاد الهامــدة واألرواح الميتــة‪ ،‬فاســتحالت‬ ‫وتضــج بالحركــة‪،‬‬ ‫أجســاما تنبــض بالحياة‬ ‫وأرواحا تطير‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫في العاللي وتسمو نحو المعالي‪.‬‬ ‫صبت ســحائب تربيتــه النبوية أمطــار غيثها على‬ ‫لقــد َّ‬ ‫العقــول فأنبتت َأ ْســمق األفكار‪ ،‬وعلــى القلوب فأورقت‬ ‫أســمى المشــاعر‪ ،‬وعلى األفئدة فأينعت أقوى اإلرادات‪،‬‬ ‫وعلــى األرواح فأثمــرت أرقى المعــارج‪ ،‬وعلى النفوس‬ ‫تبوأت اإليمان ليخرج من رحمها كل زوج بهيج‪.‬‬ ‫التي ّ‬ ‫ومن العقول "الضيقة األفق" شــيد ‪ ‬مراقي للصعود‬ ‫إلــى "اآلفــاق الواســعة"‪ ،‬وجعــل مــن القلــوب المص ّفــدة‬ ‫معارج للسموق في األنحاء الفسيحة‪ ،‬وجعل من األرواح‬ ‫للتحليق في أجواء السعادة وللتسامي في‬ ‫الضنكة أجنحة ّ‬ ‫قمم اإلنسانية الشاهقة وذرى القيم الباسقة‪.‬‬

‫التوق‬ ‫فانطلقــت ذواتهــم موحــدة وفاعلة‪ ،‬تطيــر بجناحي ْ‬ ‫والشــوق‪ ،‬ال ينســون ربهــم فــي الخلــوة والجلــوة‪ ،‬وهــم‬ ‫ْ‬

‫يســيرون فــي دروب إعمــار األرض وصناعــة الحيــاة‪،‬‬

‫الرق وتعبيد الناس للحق‪.‬‬ ‫دروب تحرير الخلق من ِّ‬

‫غيث السحائب المحمدية‬

‫ــق صــدر نبينــا محمد ‪‬‬ ‫مــن المعلــوم أن جبريــل ‪َ ‬ش َّ‬

‫ماديا من آثار التراب التي تسمح‬ ‫في طفولته‪ ،‬لينقي قلبه ًّ‬ ‫للشــيطان بأخــذ حظــه منــه‪ ..‬وبالمثــل قــام النبي ‪ ‬بشــق‬ ‫معنويــا‪ ،‬وذلــك بمبضــع تربيته‬ ‫صــدور أصحابــه‪ ،‬ولكــن‬ ‫ًّ‬

‫الذهبيــة‪ ،‬فأخالهــا مــن أغــال الجهــل وآصــار الغفلــة‪،‬‬ ‫وحطــم الطبــع الذي أحاط بها والــران الذي حجبها عن‬

‫ودمــر ما اســتوطن فيهــا من قســوة وزيغ‪ ،‬ومن‬ ‫فاطرهــا‪َّ ،‬‬

‫أكدار وسواد‪.‬‬

‫أثمرت وأينعت‪ ،‬وذلك من خالل مساكب عدة أهمها‪:‬‬ ‫ــوب‬ ‫آن َأ ْم َع َلــى ُق ُل ٍ‬ ‫• التدبــر‪َ  :‬أ َفــ َ‬ ‫ون ا ْل ُق ْــر َ‬ ‫ا َي َت َد َّب ُــر َ‬ ‫َأ ْق َفا ُل َها‪(‬محمد‪.)24:‬‬ ‫ان َل ُــه‬ ‫• التذكــر‪ :‬إ َِّن ِفــي َذ ِل َ‬ ‫ــن َك َ‬ ‫ــك َل ِذ ْك َــرى ِل َم ْ‬ ‫َق ْل ٌب‪(‬ق‪.)37:‬‬ ‫• التفكــر‪َ  :‬أ َف َلــم َي ِســيروا ِفــي ا َ‬ ‫ــم‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َف َت ُك َ‬ ‫ــون َل ُه ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ون ب َِه ِا‪(‬الحج‪.)46:‬‬ ‫وب َي ْع ِق ُل َ‬ ‫ُق ُل ٌ‬ ‫ــم‪‬‬ ‫يــن ِإ َذا ُذ ِك َــر ا ُ‬ ‫•‬ ‫هلل َو ِج َل ْ‬ ‫ُّ‬ ‫التوجــل‪ :‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ــت ُق ُل ُ‬ ‫وب ُه ْ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫(الحج‪.)35:‬‬

‫‪54‬‬

‫ــن ُي َع ِّظــم َش َــعا ِئر ا ِ‬ ‫ــن‬ ‫• التو ِّقــي‪َ  :‬ذ ِل َ‬ ‫هلل َف ِإ َّن َهــا ِم ْ‬ ‫ــك َو َم ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وب‪(‬الحج‪.)32:‬‬ ‫َت ْق َوى ا ْل ُق ُل ِ‬ ‫‪‬و َم ْن ُي ْؤ ِم ْن بِا ِ‬ ‫هلل َي ْه ِد َق ْل َب ُه‪(‬التغابن‪.)11:‬‬ ‫• االستهداء‪َ :‬‬ ‫يم ِ‬ ‫ان‪(‬النحــل‪.)106:‬‬ ‫ــن بِا ِ‬ ‫‪‬و َق ْل ُب ُــه ُم ْط َم ِئ ٌّ‬ ‫• الطمأنينــة‪َ :‬‬ ‫إل َ‬ ‫وبهذا‪ ،‬ولج الرســول ‪ ‬إلى القلوب من أبواب متفرقة‪،‬‬ ‫فســكنت‬ ‫فأثلــج الصــدور‪ ،‬وأقر األعين‪ ،‬وســقى األكباد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ســواكب تربيتــه ‪ ‬الثوائــر‪ ،‬وأطفــأت األحقــاد‪ ،‬وبــددت‬ ‫غيــوم الشــر األســود‪ ،‬وبذلــك فــرت الليالــي الحالكات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وأقبلــت قناديــل الفجــر‪ ،‬معلنــة للدنيــا كلها ابتداء مســيرة‬ ‫تمــت‬ ‫إســعاد البشــر ومهرجــان إبهــاج الكائنــات‪ ،‬حيــث ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بصب شالل القرآن عليها فأورقت وأزهرت ثم‬ ‫وقام‬ ‫ّ‬

‫الكون الذي ذاب في محمد ‪‬‬

‫بشر من لحم ودم‪ ،‬وكان يأكل الطعام‬ ‫مع أن‬ ‫ً‬ ‫محمدا ‪ٌ ‬‬ ‫ويمشــي فــي األســواق ويتــزوج النســاء‪ ،‬إال أن‬ ‫كثيــرا من‬ ‫ً‬ ‫هيامــا‪ ،‬حيث صــار كو ًنا في‬ ‫الظواهــر الكونيــة ذابــت فيــه ً‬ ‫ٍ‬ ‫ربتــه فأحســنت‬ ‫ذات بشــرية بفعــل ُ‬ ‫"كــن" اإللهيــة التــي ّ‬ ‫وأدبته فأجادت تأديبه‪ ،‬حتى صار حياة للكائنات‪،‬‬ ‫تربيته‪َّ ،‬‬ ‫تمامــا‪ ،‬فــإن المــاء هــو محمــد‬ ‫وإكســيرا لألحيــاء كالمــاء ً‬ ‫ً‬ ‫للحياة المادية‪ ،‬ومحمد ‪ ‬هو ماء للحياة المعنوية‪.‬‬ ‫ــق َر ْتــق الســماوات واألرض‪،‬‬ ‫وإذا كان اهلل ‪ ‬قــد َف َت َ‬ ‫الفتق الذي‬ ‫فقد ر َت َق بمحمد ‪ ‬فتوق البشــر‪ ،‬حيث رتق ْ‬ ‫قائمــا بيــن المــادة والــروح فــي تكويــن الفــرد‪ ،‬ورتق‬ ‫كان ً‬ ‫الفتق القائم في تركيب األسرة بين الذكر واألنثى‪ ،‬ورتق‬ ‫الفتق القائم في تكوين المجتمع بين الحاكم والمحكوم‪.‬‬ ‫وإن تعجــب‪،‬‬ ‫فعجــب حــال المســلمين الذيــن تمتلئ‬ ‫ٌ‬ ‫حياتهــم اليــوم بالفتــوق وهــم ال يرتقونهــا باتبــاع منهــج‬ ‫محمد ‪.‬‬

‫توحيد الخلق تحت راية التوحيد للخالق‬

‫وجســرا للربــط بيــن‬ ‫ألنــه ‪ ‬صــار رت ًقــا لــكل الفتــوق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الثنائيــات المتناقضــة والنواحــي المتباعــدة‪ ..‬فقــد كان‬ ‫موحــدا للنــاس تحت راية وحدانيــة اهلل تعالى الذي هداه‬ ‫ً‬


‫للنبي محمد ‪ ‬عشرات المعجزات‪ ،‬بل‬

‫وصــل بهــا بعضهــم إلــى المئــات‪ ،‬حيث‬ ‫ذكــر بديــع الزمــان النورســي أنهــا تصل‬

‫إلــى ألــف معجــزة‪ ،‬أورد ثالثمائة منها في إحدى رســائل‬

‫النور‪.‬‬

‫وسأذكر في هذه المقالة واحدة من إنجازاته العظمى‬

‫َق َرتْق الساموات واألرض‪ ،‬فقد‬ ‫إذا كان الله ‪ ‬قد فَ ت َ‬

‫َــق مبحمد ‪ ‬فتوق البرش‪ ،‬حيث رتق الفتْق الذي‬ ‫رت َ‬

‫ً‬ ‫كان‬ ‫قامئــا بني املــادة والروح يف تكويــن الفرد‪،‬‬

‫ورتق الفتــق القائم يف تركيــب األرسة بني الذكر‬ ‫واألنثى‪ ،‬ورتــق الفتق القائم يف تكوين املجتمع‬ ‫بني الحاكم واملحكوم‪.‬‬

‫‪ ‬والتــي ترقــى إلــى صفــوف المعجــزات بل هــي أعظم‬

‫منها‪ ،‬باستثناء معجزة القرآن الكريم‪ ،‬وهي عبقريته الفذة‬ ‫"األمــارة بالســوء" إلــى "إمــارات‬ ‫فــي تحويــل "النفــوس"‬ ‫َّ‬

‫نفيســة" مــن القيــم النبيلــة والمبــادئ الســامية واألخــاق‬

‫الرفيعة‪.‬‬

‫ومن يعرف ما كان عليه األعراب قبل اإلسالم‪ ،‬يدرك‬

‫"نفوســا َّأمارة" بذواتهــم‪ ،‬حيث كانوا مضرب‬ ‫أنهــم كانوا‬ ‫ً‬

‫المثل في التخلف والتفرق وقطع الطرق والتقاتل ألتفه‬

‫األســباب‪ ،‬وصــاروا بمحمــد ‪" ‬إمــارات نفيســة" تزخــر‬

‫وتتزيــن‬ ‫بالمآثــر‪ ،‬وتحفــل بالمــكارم‪ ،‬وتطفــح بالعظائــم‪،‬‬ ‫ّ‬

‫بالمحامد‪ ،‬وتتعلق بالجالئل‪ ،‬وتهفو إلى المعالي‪.‬‬

‫من الغرق في القيعان إلى الطيران فوق القمم‬

‫لقــد ع َّلــم ‪ ‬أصحابــه كيــف يرتفعــون مــن القيعــان نحو‬

‫القمــم‪ ،‬وكيــف يترفعــون عــن األســافل والسفاســف إلى‬ ‫المعالــي والعظائــم‪ ،‬وكيــف يتحررون مــن حبائل الجهل‬

‫وآثــار التــردي في حفــر األنانية إلى آفاق العلم ومســامق‬ ‫والب ْخس إلى‬ ‫العرفان‪ ،‬وكيف يصعدون من هاوية َ‬ ‫الجور َ‬

‫سماوات القسط واإلنصاف‪.‬‬

‫األمــارة بالســوء‪،‬‬ ‫لقــد حررهــم مــن نــوازع النفــوس َّ‬

‫ومن نوازغ أبالســة الشــيطنة الرجيمية‪ ،‬الداعية إلى الشــر‬ ‫المستطير‪ ،‬والمتنكبة للصراط المستقيم‪ ،‬والدافعة بالناس‬

‫نحو أبواب الجحيم‪.‬‬

‫في "مملكة االتفاق"‪.‬‬

‫وجعل من كل فرد منهم إمارة تذخر بالنفائس‪ ،‬حيث‬

‫صــارت نفوســهم تأمر بالعدل‪ ،‬وتتحــرى الصدق‪ ،‬وتتبع‬

‫الحــق‪ ،‬وتأنس بالخير‪ ،‬وتســمو بالنصــح‪ ،‬وتهفو إلى كل‬ ‫ســامق‪ ،‬وتســتمتع بــكل جميــل‪ ،‬وتأمــر بــكل معــروف‪،‬‬

‫معادالت الرجولة‬

‫اســتطاع ‪ ‬اجتثــاث أوضــار التــراب وأوزار الطيــن مــن‬ ‫االزوِ رار‪،‬‬ ‫تركيبــة تالميذه حتى صاروا رجــا ً‬ ‫ال ال يعرفون ْ‬ ‫أصحابا ورفقــاء له في العروج نحو الرحمن‪.‬‬ ‫بــل صاروا‬ ‫ً‬ ‫فقــد اهتــدى إلــى تركيب معادالت الرجولــة التي جعلت‬ ‫كل واحد منهم قمة سامقة تطاول السماء‪ ،‬وقامة شامخة‬ ‫تعانــق المالئكــة‪ ،‬ممــا أدى إلى إخراج جيــل من الرجال‬ ‫العظمــاء الذيــن أ ْترعــوا الحيــاة بالروائــع‪ ،‬وغمروهــا‬ ‫االت الســام التــي أطفأت‬ ‫بالخيــرات‪ ،‬ســاكبين فيها شــ ّ‬ ‫الحرائــق‪ ،‬وأخمــدت الفتــن‪ ،‬وجلبــت األمــن ووفــرت‬ ‫وأمنت الروعات‪.‬‬ ‫السكينة‪ّ ،‬‬ ‫لقــد اســتأصل مــن القلــوب أدرانهــا‪ ،‬ومــن األفئــدة‬ ‫أضغانها‪ ،‬ومن النفوس أوشابها‪ ،‬ومن العقول أوضارها‪،‬‬ ‫ومن األرواح أكدارها‪ ،‬حيث خ ّلى من نفوســهم ســخائم‬ ‫حــرر قلوبهم من مكاره‬ ‫األخــذ‪ ،‬وح ّ‬ ‫الها بســخاء العطاء‪ّ ،‬‬ ‫وزينها بمكارم اإليثار‪.‬‬ ‫األثرة َّ‬ ‫وصب عليها‬ ‫ومــن أرواحهم انتزع أكــدار الخرافات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الب ْر َهنة والعرفان‪ ،‬وأخلى‬ ‫مياه العلوم الصافية الجامعة بين َ‬ ‫مبقيــا الخطــوط‬ ‫مــن قلوبهــم أوشــاب التــراب الســوداء‪ً ،‬‬ ‫التبريــة التــي جعلــت تلــك القلــوب تلمع بالحــق وتبرق‬ ‫ِّ‬ ‫بالحقيقة‪ ،‬وسمحت لها بأن تشرق باألنوار وتشرئب إلى‬ ‫المالئكية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫ال‬ ‫ولقد اســتأصل من نفوســهم نوازع الشــر‪ ،‬وزرع بد ً‬ ‫عنها أوازع الخير‪ ،‬انتزع منهم "م َلكة االفتراق" ووضعهم‬

‫وتحرص على كل نفع‪ ،‬وتشيد بكل صالح‪ ،‬وتستفيد من‬ ‫كل مفيــد‪ ،‬وتهتم بإســعاد الورى‪ ،‬وتبتهــج بخدمة األنام‪.‬‬ ‫وبالجملــة‪ ،‬فقــد ع ّلمهم ‪ ‬اجتراح العظائم وأبعدهم‬ ‫عــن اقتــراف الكبائــر‪ ،‬دفعهــم إلــى اجتــرار المآثــر دون‬ ‫ارتكاب اآلثام‪ ،‬وحضهم على التل ُّفع بالمزاين واالنبتات‬ ‫عن المشاين‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫سمو الدعوات وعظمة الحقائق تبقى سرمدية ال تموت إذا ما َع َّز َز وجو َدها وأدار محركات‬ ‫عزم المنتسبين إليها وجهدهم وإخالصهم ووفاؤهم‪ ،‬فعلى صخرة صالبتهم تتحطم‬ ‫استمراريتها ُ‬ ‫سهام األعداء وشراسات أحقادهم‪ ..‬أما إذا تهاون أصحابها‪ّ ،‬‬ ‫وقل إخالصهم‪ ،‬وعزّت تضحياتهم‬ ‫ومات الوفاء فيهم‪ ،‬فإنهم يكتبون على دعوتهم ّ‬ ‫صك الزوال واالندثار والنسيان‪.‬‬ ‫املوازين‬

‫النفاسة املحمدية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫األمارة" إىل "إمارات نفيسة"‬ ‫يف تحويل "النفوس َّ‬

‫‪52‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫ســقطت أرض معراجــك المباركــة فــي ب َِــرك مــن دمــاء‬ ‫تباعــا‪ ،‬فالمصائــب ال‬ ‫شــهدائها‪ ..‬وتوالــت االنكســارات ً‬ ‫تأتــي فــرادى‪ ،‬ورحــت أهتــف وأصــرخ أيــن المفــر؟ أيــن‬ ‫الســبيل اآلمــن؟ أ ُترانــا نضيــع؟ أهكــذا بعــد كل جهــدك‬

‫وصبــرك لتبنــي فينــا األمــة والحضــارة‪ ،‬ننكســر ونضيع؟‬

‫فأتذكــر أنــك نبــي اهلل‪ ،‬والذيــن معك أشــداء علــى الكفار‬

‫ــدي‪،‬‬ ‫رحمــاء بينهــم‪،‬‬ ‫فأشــمر يــا ســيدي عــن ســواعد ِج ّ‬ ‫ّ‬ ‫عمــا يحيينــا مــن جديد‪..‬آه‪ ..‬لقــد أنهكني‬ ‫و َأ ُروح أبحــث ّ‬

‫كنزا مغطى بجبال‬ ‫وأعيانــي البحث والتعب‪ ،‬ثــم وجدت ً‬ ‫مــن الغفلــة‪ ..‬نعــم يــا ســيدي‪ ..‬لقــد عرفــت أنــه إن يبقــى‬ ‫اإليمــان يبقــى كل شــيء‪ ،‬ويعــاد بنــاء كل شــيء‪ ،‬فيجبــر‬

‫الكسر‪ ،‬وتلتئم الجراح‪.‬‬

‫لقــد عرفــت أنــك لــم تكــن تبنــي القصــور والمبانــي‬

‫بآج ّــر اإليمــان‬ ‫الفخمــة كمــا البقيــة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كنــت تبنــي اإلنســان ُ‬ ‫الســماوي‪ .‬فزلــزال واحــد يقضي على الصروح الشــاهقة‬

‫وشــروخا‪ ،‬لكن روح المؤمن الســماوية‬ ‫أنقاضا‬ ‫فيجعلها‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أبدا‪ ..‬لقد عرفت يا حبيب القلوب‬ ‫التي بنيتها لن تنكسر ً‬ ‫حيا نورثه‬ ‫المؤمنة إن انكسر كل شيء وبقي اإليمان فينا ًّ‬

‫حليبــا مــن أول صرخــة‪ ،‬فــإن كل‬ ‫ألبنائنــا‪ ،‬نرضعــه لهــم‬ ‫ً‬ ‫كســورنا أكيد ستجبر‪ ،‬ستجبر أكيد‪ ،‬وأن كل شيء فقدناه‬ ‫في سبيلك يؤجر‪.‬‬

‫رســول اهلل‪ ..‬علمتنــا كيــف نقــوى بالرحمــة واإليمان‬

‫وتقبل منا‬ ‫فــي هــذا الوجود‪ ،‬مألت بهما قلوبنا َّ‬ ‫فترح ْم بنا ّ‬

‫حبا ينفجر براكين كلمات وأحرف من هياكل‬ ‫حبنــا لــك؛ ًّ‬ ‫ّ‬

‫شــوق وعشــق ســرمدي‪ ..‬وبالحــب والخير الــذي مألت‬ ‫بــه صدورنــا نحــن عائدون مــن جديد‪ ،‬أمة حــب ورحمة‬ ‫بالخيــر تفيض علــى األكوان والعوالم‪ ،‬لنلقى بكل ما في‬

‫ربــا عنا راض غير‬ ‫قلوبنــا مــن حــب وخير وعطاء وإيمان ًّ‬ ‫غضبــان‪ ..‬وبســمة وجهــك المشــرقة علينــا تمــأ األمكنة‬

‫مبشــرة من تمنى رؤياك بأنا عنك‬ ‫وتجاوز الســبع الطباق ّ‬ ‫وعن حوضك ال فراق‪.‬‬

‫(*) كاتبة وأديبة مغربية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪51‬‬

‫يف انتظار قدومك‬ ‫شجر ٌة خرضاء ِ‬ ‫أنت؛‬ ‫ظاللك وارفة‪،‬‬ ‫وأغصانك رائقة‪...‬‬ ‫من ق ْلب الصخرة َّ‬ ‫ِ‬ ‫انبثقت‪،‬‬ ‫الصمء‬ ‫وبال َّنامء والحياة تن ّع ِ‬ ‫مت‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫لست وحيدة وال غريبة‪،‬‬ ‫إذا ما بذورك ِ‬ ‫نثـرت‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫سعيت‪..‬‬ ‫وإىل االنتشار‬ ‫اقيض عىل عهد االغتـراب‪،‬‬ ‫تشبعي باإلميان‪ ،‬فلن يخيبك‪،‬‬ ‫فأنت يف عني الله‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يكلؤك‬ ‫ويرعاك‪...‬‬ ‫***‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬ليلى محمد السبيعي*‬

‫شوق العاشقني‬ ‫يا شوق العاشقين ترفق بي‪ ،‬كبدي أمست‬

‫من الحنين أشالء متناثرة على ُربى دمعي‬

‫الحزين‪ ،‬وخافقي باسمه ما يزال يهتف؛آه‬

‫بلهفــة من أهلكه الشــوق وأضناه الجــوى يهتف ويهتف‪:‬‬

‫يــا رب ارزقنــي نظرة في وجه حبيبــي‪ ،‬فمن رآه فقد رآه‪.‬‬ ‫ــول‬ ‫‪‬م َح َّم ٌد َر ُس ُ‬ ‫وأفتــح المصحــف فأقــرأ من جديــد ُ‬

‫اهلل‪(‬الفتــح‪ .)29:‬آه‪ ..‬ويمتــد الوجــع‪ ،‬وتكبــر اآلهــات‬

‫أمواجا عاتية‪ .‬وأهيم‪،‬‬ ‫الكاويــة لتصيــر على خلجان قلبــي‬ ‫ً‬

‫أهيــم فــي بســاتين عشــقي اليانعــة وبيــن جنبــات حقــول‬ ‫وجــدي الخضــراء‪ ،‬أنثــر أزاهيــر شــوقي‪ ،‬ومــا جمعته من‬

‫أسرار األنوار المحمدية في الطريق‪ ،‬فتجثوا البالبل على‬ ‫كتفــي منشــدة "محمــد رســول اهلل"‪ ..‬آه يــا رســول اهلل مــا‬

‫أكرم من بعثك‪ ،‬آه ما أكرمه‪ ،‬آه ما أجوده‪ ..‬نحن أحبابك‬

‫الذيــن أتــوا مــن بعــدك وصدقنــاك‪ ،‬أحببناك حــد البكاء‪..‬‬ ‫ِه ْمنا على وجوهنا بح ًثا عنك‪ ،‬فهل يا رســول اهلل لألحبة‬ ‫مــن لقــاء معــك؟ كل خطــوة نخطوهــا أنت فيهــا الهدف‪،‬‬

‫فهكــذا خطى األحباب تســير‪ ،‬ع ّلها تقتفــي األثر العظيم‪،‬‬ ‫أثرك يا خير الخلق كلهم‪.‬‬ ‫َ‬

‫يــا من هز أســاريرنا بأســرار الوجــود‪ ،‬دموعنــا أعياها‬

‫البــكا واالنتظــار‪ ،‬وأكبادنــا تــكاد تحترق‪ ..‬أ ُتــراك حجبت‬

‫عنــا بأســرار أنــوار خلقــك الكريــم أم بظلمــات غفلتنــا؟‬ ‫نناشــدك البارئ خال َقك‪ُ :‬جد علينا بوصال‪ ،‬فمهما كانت‬

‫ذنوبنا ســنبقى أحبابك بنو أصحابك‪ ..‬رســول اهلل‪ ،‬ببابك‬

‫نحن واقفون ننتظر‪ ،‬حاملين أعباء اللقاء‪ ..‬بغيتنا حوضك‬ ‫وصحبتك يا ســيد ولد آدم‪ ..‬آه‪ ..‬لكن الكلمات تســتحي‬

‫ال‬ ‫منك‪ ،‬فتنمحي األحرف كما كل مرة لتهب الدموع إزمي ً‬ ‫أســطرا علــى الخدود‪ ..‬نقــوش كلمات‬ ‫ينقــر آيات حبك‬ ‫ً‬ ‫شــوق ووجــد‪ ،‬أملها األوحد الكبيــر أن تقرأها يوم نلقاك‬ ‫يــا نبــي الرحمــة‪ ..‬لكــن مهمــا كانــت ‪-‬يا ســيدي‪ -‬حرارة‬

‫الدموع‪ ،‬ومهما خالطها من شــوق وصدق‪ ،‬ســنبقى نحن‬ ‫ا منــك‪ ،‬أو نقــدر على إرجــاع قليل من‬ ‫المتــوارون خجــ ً‬ ‫دينك الكبير؟ فأنت دافق الهدايا والعطايا وروائع الكرم‪.‬‬ ‫كلمــا أحسســت بالغربة فــي عالمي‪ ،‬أتذكــر صبرك يا‬

‫كنت‬ ‫دواء قلبي وبلسم كل العوالم‪ ،‬فأهتف في فرح‪ :‬إن ُ‬ ‫علــى خطاك أســير فال أبالي‪ ..‬وكيف أبالــي‪ ،‬وبمن أبالي‬

‫وحيدا في‬ ‫وأنــت القــدوة وأنــت المعلــم‪ ..‬حتى لو كنــت‬ ‫ً‬ ‫الطريــق‪ ،‬ال ولــن أبالــي‪ ،‬فــكل خطــى قدمــي أنــت فيها يا‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫ســيدي الهدف‪ ،‬لهذا أحث الخطى إليك‪ ..‬أســري بالليل‬

‫‪50‬‬

‫ال‬ ‫ونــور وســحر اســمك يــرش الطريق‬ ‫أنــوارا إليــك جاع ً‬ ‫ً‬ ‫نهــارا إليــك‪ ،‬فهــل تصــد قــارع بابــك يــا مبعــوث‬ ‫ســفري‬ ‫ً‬ ‫الرحمن الرحيم؟‬

‫انكســرت يــا ســيدي مــرات‪ ،‬كان أول انكســاري لمــا‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫النمل والنبات‬

‫العالقــة مــا بين النمل والنبات‪ ،‬من بيــن أنماط العالقات‬ ‫جغرافيــا على ســطح األرض‪ ،‬فبعض النباتات‬ ‫المنتشــرة‬ ‫ًّ‬

‫تقــدم مــأوى وغــذاء للنمل فــي مقابل قيــام النمل بحماية‬

‫النبات أو نثر البذور أو الحد من منافسة النباتات األخرى‬

‫أو اإلصحاح أو تقديم المكمالت الغذائية‪ .‬وهناك ثالثة‬ ‫من أنماط العالقات الشــائعة بين النبات والنمل تعد هي‬

‫شيوعا وأهمية‪.‬‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬

‫• تجاويــف الحمايــة (‪ :)Domatia‬وهــي أشــبه بمســاكن‬

‫ســابقة التجهيــز تقدمهــا النباتــات للنمــل‪ ،‬ومنهــا جــذوع‬

‫النبــات وأعناقــه وأشــواكه ذات التجاويــف‪ ،‬أو األوراق‬ ‫تكــون تجاويف‬ ‫المتكــورة على نفســها‪ .‬وقد تم تســجيل ّ‬ ‫حمايــة مخصصــة للنمــل فــي أكثــر مــن ‪ 100‬جنــس مــن‬ ‫النباتات االستوائية على سبيل المثال‪.‬‬

‫الغذائيــة المنتجــة على أطــراف وريقات النبــات‪ ،‬وقد تم‬

‫وصفها في ‪ 20‬أسرة على األقل من النبات‪.‬‬

‫• الغــدد الرحيقيــة خــارج األزهــار (‪:)Extrafloral Nectarians‬‬

‫تحــدث فــي ‪ 66‬أســرة علــى األقــل مــن النباتــات كاســية‬ ‫البــذور فــي كل مــن المناطــق المعتدلــة واالســتوائية‪،‬‬ ‫وكذلــك بعــض السرخســيات‪ ،‬لكنهــا غائبــة فــي جميــع‬ ‫عاريــات البــذور واألكثــر وفرة فــي المناطق االســتوائية‪.‬‬

‫وألن تلــك الغدد تكــون خارج األزهار‪ ،‬فال يتم توظيفها‬ ‫فــي التلقيــح‪ ،‬ومن ثم يكــون الغرض األساســي منها هو‬

‫الجــذب والحفــاظ على النمل‪ ،‬لكــن العديد من النباتات‬ ‫تستطيع التحكم في تدفق الرحيق إلى تلك الغدد‪ ،‬بحيث‬ ‫يتغيــر ذلــك التدفــق وفــق دورات يوميــة أو فصلية‪ .‬وألن‬

‫اهلل وهــب النمــل القــدرة علــى االســتجابة الســريعة لتغير‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫• األجســام الحزاميــة (‪ :)Beltian Bodies‬وهــي تقــدم‬ ‫مصــادر للغــذاء عاليــة الطاقــة للنمــل في شــكل الكريات‬

‫أن تقدم كل االحتياجات الغذائية لمستعمرة نمل كاملة‪.‬‬ ‫في مقابل تقديم الســكن والغــذاء للنمل‪ ،‬يقوم النمل‬ ‫بحمايــة النبــات مــن الحيوانــات العشــبية‪ ،‬ومــن أفضــل‬ ‫النمــاذج علــى عالقة تبادل المنافــع والمصالح تلك بين‬ ‫النبــات والنمــل‪ ،‬هــي التــي تقدمهــا أشــجار ســنط البــوق‬ ‫(‪ )Bullhorn Acacias‬والنمل المعروف باسم سودوميرمكس‬ ‫(‪ )Pseudomyrmex‬فــي أمريكا الوســطى‪ ،‬وهــي العالقة التي‬ ‫درســها "دان جانزن" في ســتينيات القرن العشرين‪ ،‬وقدم‬ ‫فيها الدليل العلمي على تقليل النمل لهجمات الحشرات‬ ‫اآلكلــة للنبــات والحيوانــات الثدييــة العشــبية علــى ذلــك‬ ‫النــوع من أشــجار الســنط بشــكل كبير‪ ،‬في مقابــل تقديم‬ ‫تلــك األشــجار لثالثيــة التجاويــف الحاميــة واألجســام‬ ‫الحزامية والغدد الرحيقية خارج األزهار‪.‬‬ ‫مــن بيــن الخدمــات األخــرى التــي يقدمهــا النمــل‬ ‫للنبــات‪ ،‬الخدمة اإلصحاحيــة‪ ،‬حيث يحافظ بعض أنواع‬ ‫النمل على أسطح األوراق نظيفة ومعافاة من األمراض‪،‬‬ ‫كما تقدم الدفاع ضد مسببات األمراض الفطرية‪ ،‬كذلك‬ ‫يشيع تقليم النمل للنباتات المتسلقة والكروم والنباتات‬ ‫الطفيليــة عــن النبــات الــذي يؤويهــا‪ ،‬بمــا يقلل المنافســة‬ ‫البينيــة بيــن النباتات على المســاحة والضــوء والمغذيات‬ ‫أيضــا‪ ،‬مــا أثبتته الدراســات‬ ‫والمــاء‪ .‬مــن بيــن الخدمــات ً‬ ‫مــن عالقــات غذائيــة متبادلــة بيــن النمل والنبــات‪ ،‬حيث‬ ‫أثبتــت إحــدى الدراســات أن ‪ %90‬مــن النيتروجيــن فــي‬ ‫أشــجار الســيكروبيا (‪ )Cecropia Trees‬ناتــج مــن بقايــا نمــل‬ ‫األزتيــكا (‪ )Azteca‬الــذي يحصــل فــي المقابــل علــى ‪%80‬‬ ‫مــن احتياجاتــه من الكربــون‪ .‬وفي ضوء تلــك الخدمات‬ ‫فإن إيالف النبات للنمل يمكن أن يكون غاية في اإلفادة‬ ‫لحياة النبات والنجاح البيئي(‪ ،)3‬فانظر ‪-‬حفظك اهلل‪ -‬إلى‬ ‫آثار رحمة اهلل‪ ،‬وقل "الحمد هلل رب العالمين"‪.‬‬

‫أوقات ذروة نشــاط الكائنات العشــبية مما يقلل من كلفة‬

‫الجواهــر فــي تفســير القــرآن الكريــم‪ ،‬لطنطاوي جوهــري‪ ،‬مصطفى‬ ‫البابي الحلبي وأوالده بمصر‪ ،‬ج‪ ،1‬ب ت‪ ،‬ص‪.4:‬‬ ‫(‪ )2‬أضواء على األبحاث‪ Nature ،‬الطبعة العربية‪ 9 ،‬أكتوبر ‪.2014‬‬ ‫(‪ )3‬في ســبيل موســوعة علمية‪ ،‬ألحمد زكي‪ ،‬دار الشــروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ب‬

‫هي اآللية التي يستحث بها النبات النمل على النشاط في‬

‫إنتــاج الرحيــق‪ .‬مجمل الناتج الغذائي لكل من األجســام‬ ‫الحزامية والغدد الرحيقية خارج األزهار‪ ،‬يمكن أن يمثل‬

‫وجبــة غذائية معتبرة للنمل‪ ،‬وفي بعض الحاالت يمكنها‬

‫الهوامش‬ ‫(‪)1‬‬

‫ت‪ ،‬ص‪.8:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫مســتوى تدفــق الرحيــق إلى تلك الغدد‪ ،‬ربمــا تكون هذه‬

‫(*) باحث وكاتب مصري‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫الكائنــات؛ كالنباتات والمفصليــات والفطريات والقائمة‬ ‫فــي األغلب علــى التعايش والمنفعــة المتبادلة‪ ،‬لكنها قد‬ ‫أيضا على التطفل‪.‬‬ ‫تقوم ً‬

‫قد تكون للكائنات أليفة النمل هذه‪ ،‬وظائف مختلفة‬

‫في مســاكن النمل المضيفة‪ ،‬فبعضها يقوم بمهمة تنظيف‬ ‫تلك المســاكن من النفايــات مثل النمل الميت واليرقات‬

‫الميتــة‪ ،‬كمــا توفر بعض تلك المســاكن مكا ًنا لنمو بعض‬

‫أنــواع الفطريــات‪ ،‬بينمــا يتغــذى بعــض الكائنــات علــى‬ ‫الطعــام المخــزن مــن قبــل النمــل‪ ،‬ويقــوم البعــض اآلخر‬

‫بافتــراس بيــض النمــل أو يرقاتــه أو العــذارى‪ ،‬وعلــى‬

‫عنــوان "اكتشــاف أقــدم أليــف نمــل مدفو ًنــا" نشــر موقــع‬

‫العكس من ذلك تقوم بعض تلك الكائنات بتوفير مصادر‬ ‫ــن ُك ِّل َشــي ٍء َخ َل ْق َنا‬ ‫‪‬و ِم ْ‬ ‫لغــذاء النمــل‪ ،‬وســبحان القائل‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫َز ْو َج ْي ِن‪(‬الذاريــات‪ ،)49:‬وكأن تلــك الوظائــف المتضــادة‬ ‫نموذجا لهذه الزوجية‪ ،‬كما أنها‬ ‫لتلــك الكائنــات تقدم لنا‬ ‫ً‬

‫تطمــر نفســها في مســتعمرات النمل منــذ أن ُوجد عائلها‬

‫فــا يطغــى بعضهــا على بعض‪ .‬وفي ذلــك يقول الدكتور‬

‫نموذجا للتوازن الطبيعي بين الكائنات في الكون‬ ‫تقدم لنا‬ ‫ً‬

‫‪ Nature‬الطبعــة العربيــة(‪ :)2‬لطالما ُوجدت الحشــرات التي‬

‫ســنة‪ ،‬ووجــدت مدفونة في الكهرمان‪ ،‬وهــي أقرب مثال‬ ‫معــروف ألليــف النمــل "‪"Myrmecophile‬؛ وهو النوع الذي‬

‫ــد النوع‬ ‫هويته‬ ‫وي َع ّ‬ ‫َّ‬ ‫يعتمــد فــي بقائه على النمل‪ُ .‬‬ ‫المحددة َّ‬

‫حدي ًثــا "‪ ،"Protoclaviger trichodens‬ســل ًفا‬ ‫منقرضــا للخنافس‬ ‫ً‬

‫المعاصــرة‪ ،‬ولديه ســمات مميزة‪ ،‬كالشــعر الــذي ينقل به‬ ‫إفرازات حلوة إلى شغاالت النمل‪.‬‬

‫إيالف النمل‬

‫فمن عجائب تربية اهلل لخلقه في إطار رحمانيته سبحانه‪،‬‬ ‫مــا ينشــأ بين الخالئق من عالقــات تكافل وتعايش‪ ،‬ومن‬ ‫ذلــك مــا ينشــأ بين النمــل وأنــواع مختلفة مــن الكائنات‪.‬‬

‫وتقــدر أنــواع النمل فــي العالم بما يقارب العشــرة آالف‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫نــوع يعيــش أغلبهــا فــي المناطــق المداريــة‪ .‬لكــن النمــل‬

‫‪48‬‬

‫يتواجــد فــي كل النظــم اإليكولوجيــة فــي العالــم‪ ،‬بل إنه‬ ‫يمثل النوع الســائد‬ ‫وبيئيا بين الالفقاريات الرئيســة‬ ‫ًّ‬ ‫عدديا ًّ‬

‫علميا‬ ‫حــول العالــم‪ .‬أمــا إيــاف النمل أو مــا يطلق عليــه‬ ‫ًّ‬

‫"الميرمكوفيلــي" (‪ ،)Myrmecophily‬فهــي تلــك الحالــة مــن‬ ‫العالقــة اإليجابيــة بيــن النمــل ومجموعــة متنوعــة مــن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تقريبــا‪ ،‬ومنهــا الخنفســاء التــي عاشــت منــذ ‪ 52‬مليــون‬ ‫ً‬

‫أحمــد زكــي‪ :‬فــي عالــم األحيــاء‪ ،‬كل يقتــل‪ ،‬وكل يأكل‪،‬‬

‫وكل مقتول هو في دوره قاتل‪ ،‬وكل مأكول هو في دوره‬ ‫آكل‪ ،‬ولو عشــب األرض‪ ،‬فال خالل العشب من الحياة‪.‬‬

‫إنه قانون الحياة‪ ،‬ليس إلى إنكاره سبيل‪ ،‬وهو بين قوانين‬ ‫الحيــاة أصدق قانون وأشــمل قانون‪ ،‬وهــو القانون الذي‬

‫إذا تعطل تعطلت معه الحياة كما نعرفها"‪ .‬وصدق القائل‬ ‫‪‬و َأ ْنب ْت َنا ِف َيها ِم ْن ُك ِّل َشي ٍء َم ْو ُز ٍ‬ ‫ون‪(‬الحجر‪.)19:‬‬ ‫سبحانه‪َ َ :‬‬ ‫ْ‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬مجدي سعيد*‬

‫وحسن تصرفك مداخل إلى قلوب اآلخرين‪ ..‬فإذا أح ّبك اآلخرون‬ ‫اتخذ من سلوكك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وهفت إليك األرواح‪ ..‬واجعل جوهرك اإلنساني يشع دو ًما ألبعد‬ ‫انفتحت لك القلوب‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الناس وأقربهم‪ ..‬فإنْ‬ ‫واستخف بك اآلخرون‪.‬‬ ‫غفلت عن ذلك‪ ،‬ساءت حالك وهبط شأنك‪،‬‬ ‫املوازين‬

‫إيالف النباتات للنمل‬ ‫قال العالمة الشــيخ طنطاوي جوهري ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في تفســيره‬ ‫لســورة الفاتحــة‪" :‬لمــا كان أكثــر النــاس ال يلحظــون العجائــب‬ ‫الكامنــة فيهــم‪ ،‬وال يعــرف نفســه إال قليــل منهــم وهــم أكابــر‬ ‫الحكماء واألولياء‪ ،‬وجب أن أبين في هذا المقام بعض رحمة اهلل ‪ ‬في العالم‬ ‫المشــاهد (‪ )...‬ومــن هــذه العجائــب ما شــاهده العلماء الباحثون فــي أمر النحل‬ ‫والنمــل والعنكبــوت (‪ )...‬وأمــا النمــل فمن عجائب الرحمــة الخاصة به‪ ،‬أن اهلل‬ ‫خلق له حشــر ًة تســمى "افس" باللســان اإلفرنجي‪ ،‬يحاربها النمل ويغلبها‪ ،‬ومتى‬ ‫غلبهــا أخــذ يســتولدها ويربيهــا ويســيمها فــي ورق الورد‪ ،‬ومتى أكلت وشــبعت‬ ‫أقبل النمل عليها وامتص منها مادة حلوة‪ ،‬فكأنه بقر له يشــرب لبنه"(‪ ،)1‬وتحت‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪47‬‬


‫ً‬ ‫فهم وقراءة‬ ‫أبــرت َمن يصل القلب بالعقــل‪،‬‬ ‫إذا‬ ‫َ‬

‫ريا لكالم الله ســبحانه‪ ،‬ثم‬ ‫إحساسا ووجدانًا‬ ‫ً‬ ‫وتفس ً‬ ‫ومت ُّثال ًوإدامة‬ ‫وصل بكالم الله جل شأنه‪ ،‬فاعلم أنه‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫"الكمل"‪ ،‬وهو محســوب يف عداد "املؤ َّيدين"‬ ‫َّ‬ ‫ُح َّ‬ ‫وإماما"‪ ،‬وهو عند‬ ‫"رائدا‬ ‫ق له أن يكون للمتقــن‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الله محبو ًبا‪.‬‬

‫الكذاب‪،‬‬ ‫على وقع المواســم والتقلبات‪ ،‬فذاك المخادع َّ‬ ‫وذلك هو األ َّفاك المبين‪.‬‬

‫أحب القرآن الكريم؟‬ ‫أسأل نفسي‪ :‬هل‬ ‫اآلن‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬

‫يحبني هذا الكتاب العظيم؟‬ ‫ثم أسألها ثانية‪ :‬وهل ُّ‬ ‫باردا دون تفكُّ ر‪:‬‬ ‫قد أســتعجل الجواب‪ ،‬وقد ألقي به ً‬

‫شك في ذلك‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬ال َّ‬

‫وقــد أســوق بعض األدلــة وبعض األمثلــة على قربي‬

‫من كالم ربي وارتباطي به‪.‬‬

‫وفــي أغــوار وجدانــي‪،‬‬ ‫واضــح لــي وضوح الشــمس في‬ ‫ٌ‬ ‫رابعــة النهــار‪ ،‬صريــح عندي صراحة القمــر حين اكتماله‬

‫بدرا‪ ،‬ال تخفى الشمس وال يخفى القمر إال لمن أغمض‬ ‫ً‬ ‫عينيه أو أدار ظهره لمصدر النور‪.‬‬

‫خفيــة مكنونــة‪،‬‬ ‫ولذلــك‪ ،‬كانــت حقيقــة الحــب ذاتيــ ًة َّ‬

‫احا‪.‬‬ ‫وكان أثر الحب‬ ‫احا‪ ،‬بل ّ‬ ‫ظاهرا ّبي ًنا ّ‬ ‫فض ً‬ ‫صد ً‬ ‫ً‬

‫لــو أنك‬ ‫وضعت نســخة من المصحف الشــريف بين‬ ‫َ‬

‫شــيئا إال ما‬ ‫يــدي عجــوز أعجميــة ال تعــرف مــن العربيــة ً‬

‫تضمه إلــى صدرها‬ ‫تص ّلــي بــه‪ ،‬ثــم َ‬ ‫رأيتها جالســة بوقــار‪ُّ ،‬‬ ‫وهــي تبكــي بعيــون منهمــرة‪ ،‬ال تلوي على أحــد وال تأبه‬

‫تتفنن في‬ ‫لمــا حولهــا وال لمــن حولهــا‪ ،‬تي َّق َ‬ ‫نت أن المــرأة َّ‬

‫معانــي الحــب للكتــاب الحكيــم‪ ،‬وتمارس لــوازم الحب‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫لهذا الكتاب الكريم‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫ّأمــا إذا رأيــت‬ ‫منغمســا فــي تفريــع ألفــاظ القــرآن‬ ‫ً‬ ‫إعرابــا وبالغــة وبيا ًنا‪ ،‬أو َمــن يحيط به بعلوم مختلفة مما‬ ‫ً‬ ‫يتحرك‬ ‫ال‬ ‫ذلــك‪-‬‬ ‫مــع‬‫هــو‬ ‫ثــم‬ ‫فيــه‪،‬‬ ‫ــص‬ ‫تخص‬ ‫قلبــه قيد‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫يعبِر عن هواه هنيهة‪،‬‬ ‫ابتلي‬ ‫َ‬ ‫فهمت أن المسكين ُ‬ ‫أنملة وال ّ‬ ‫زم بجفاف الوجدان‪.‬‬ ‫بجفاء القلب ُ‬ ‫وه َ‬ ‫لكن‪ ،‬إذا‬ ‫فهما وقراءة‬ ‫َ‬ ‫أبصرت َمن يصل القلب بالعقل ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مخبــ ٌأ هنالك‪ ،‬في قــرارة قلبي‪،‬‬ ‫غيــر أن الخبــر اليقيــن َّ‬

‫وتفســيرا لكالم اهلل سبحانه‪ ،‬ثم‬ ‫إحساسا ووجدا ًنا وتم ُّثالً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإدامــة‬ ‫وصــل بكالم اهلل جل شــأنه‪ ،‬فلم يقطع ما أمر اهلل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يفرق بين‬ ‫بــه أن يوصــل‪ ،‬ولم يجعل القــرآن عضين‪ ،‬ولم ِّ‬ ‫قــول وفعــل‪ ،‬وال بين فهم وحــب‪ ،‬وهو فوق ذلك يحمل‬ ‫كالم اهلل إلــى مفاصــل الحيــاة لينيرهــا ويرشــدها‪ ،‬وهــو‬ ‫ِ‬ ‫كل حركية ومشــروع وفكرة‬ ‫مــع ذلــك‬ ‫ومؤسســة‬ ‫ِّ‬ ‫يجــذر َّ‬ ‫ّ‬ ‫وكل إقــدام أو إحجــام‪ ،‬بجــذور غائــرة في تربة‬ ‫واختيــار‪َّ ،‬‬ ‫الحية المحيية المعطاء‪ ..‬إذا رأيت‬ ‫كالم اهلل تعالــى ّ‬ ‫الطيِبة َّ‬ ‫أحــدا مــن هؤالء فاعلم أنه من‬ ‫"الكمل"‪ ،‬وهو محســوب‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫"المؤيديــن"‪ُ ،‬ح َّق لــه أن يكون للمتقيــن‬ ‫فــي عــداد‬ ‫"رائدا‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫وإماما"‪ ،‬وهو ‪-‬وال شك‪ -‬عند اهلل‬ ‫محبوبا‪ُ  :‬ق ْل إ ِْن ُك ْن ُت ْم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫هلل‪(‬آل عمران‪)31:‬‬ ‫ا‬ ‫ــم‬ ‫ك‬ ‫ِب‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ِع‬ ‫ب‬ ‫ات‬ ‫ف‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ــون‬ ‫‪‬ي ِح ُّب ُه ْم‬ ‫ُ‬ ‫ُْ ْ ُ ُ‬ ‫ُت ِح ُّب َ َ َ َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َو ُي ِح ُّبو َن ُه‪(‬المائدة‪.)54:‬‬ ‫حاجتنــا اليوم‪ ،‬إلى الســمو بالقــرآن نحو مقام الحب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال بالفكــر الصريح‬ ‫والعلــو بــه إلــى مقام العشــق‪ ،‬موصــو ً‬ ‫منعميــن‬ ‫والفهــم الصحيــح‪ ،‬أي إن الحاجــة ّ‬ ‫ماســة إلــى َّ‬ ‫اج َت َب ْي َنــا ِإ َذا ُت ْت َلى‬ ‫‪‬و ِم َّم ْ‬ ‫ــن َه َد ْي َنــا َو ْ‬ ‫يصــدق فيــه قولــه ‪َ :‬‬ ‫عليهِ م آي‬ ‫ات الر ْح َم ِن َخ ُّروا ُس َّج ًدا َو ُب ِك ًّيا‪(‬مريم‪.)58:‬‬ ‫َ َ ْ ْ َ ُ َّ‬ ‫اج َت َب ْي َنا‪ ‬هو شــطر التوفيق والتمكين‬ ‫‪‬و ِم َّم ْن َه َد ْي َنا َو ْ‬ ‫َ‬ ‫والعمارة والعقبى فيهم‪.‬‬ ‫ــج ًدا َو ُب ِك ًّيــا‪ ‬هــو شــطر الحــب والعشــق‬ ‫َ‬ ‫‪‬خ ُّــروا ُس َّ‬ ‫والصدق والعرفان في حقهم‪.‬‬ ‫أمــا ‪‬إذا تتلــى عليهِ ــم آيــات‬ ‫ــن‪ ‬فهــو عنــوان‬ ‫الر ْح َم ِ‬ ‫ّ ِ َ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ ُ َّ‬ ‫المنهــج‪ ،‬ودليــل الطريــق‪ ،‬ووصفــة االنعتــاق مــن الدائرة‬ ‫المغلقــة‪ ،‬ومــن أســباب الوهــم واالدعــاء المعرفــي‬ ‫والوجودي على السواء‪.‬‬ ‫فــا يقــوم معنــى من هذه اآليــة مقام آخــر‪ ،‬وإنما هي‬ ‫الحب صد ًقا ال ادعاء‪:‬‬ ‫شروط ثالثة حتى يواتينا‬ ‫ُّ‬ ‫ تالوة ومداومة‬‫ اهتداء واجتباء‬‫ سجود وبكاء‬‫وحــب كتابــك‪،‬‬ ‫اللهــم ارزقنــا حبــك‪،‬‬ ‫وحــب نبيــك‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يحبــك‪،‬‬ ‫تحبه‪ ،‬يا عزيــز يا حليم‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وحــب مــن ُّ‬ ‫وحب عمــل ُّ‬ ‫يا حكيم‪.‬‬

‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫بالحق التزم‪ ،‬وعال ًيا ارفعه‪ ،‬وابحث عن الوسائل التي توصل إليه‪.‬‬ ‫املوازين‬

‫في حب كالم الله‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أحب كالمه‪،‬‬ ‫أحب المرء‬ ‫ً‬ ‫شــخصا َّ‬ ‫إذا َّ‬ ‫أحبــه‬ ‫أحــب كالم شــخص‬ ‫وإذا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫بالضرورة‪ّ .‬أما َمن فصل بين الشــجرة‬ ‫وثمرهــا‪،‬‬ ‫هوى‬ ‫وفرق بين اإلنســان ومنطقه‪ ،‬ثم ّادعى ً‬ ‫َّ‬ ‫لألصل دون الفرع أو للفرع دون األصل‪ ،‬فقد ناسب‬ ‫"حبيبا"‪.‬‬ ‫"دعيا" ال‬ ‫يسمى‬ ‫أن ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫القرآن الكريم كالم اهلل تعالى‪ ،‬هذه حقيقة بديهية‬ ‫ال غبار عليها وال تحتاج إلى دليل‪ .‬والمسلم السوي‬ ‫بطبعــه يحــرص علــى إظهــار معانــي حــب اهلل لينــال‬ ‫أن قلــة من الناس‬ ‫رضــاه ورضوانــه‪ ،‬غيــر أن المفارقة َّ‬ ‫َمــن يرتبــط بكالم اهلل برابطة "الحب والعشــق"؛ فكثير‬ ‫ومنا َمن يحاول فهمه‬ ‫منا يتلوه‪ ،‬ويص ّلي به‪ ،‬ويختمه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتدبره وتفسيره‪ ،‬وقد يغوص في معنى من معانيه‪ ،‬أو‬ ‫ُّ‬ ‫قد ُينجز بح ًثا أو بحو ًثا تحوم حوله‪ ..‬غير أن كل هذا‬ ‫قد ال يعني بالضرورة أننا نرتبط بهذا الكتاب "بقلوبنا‬ ‫ووجداننــا" ارتبــاط الحبيب بمحبوبه‪ ،‬ونتع َّلق به تعلُّق‬ ‫العاشق بمعشوقه‪.‬‬ ‫أمامه‪ ،‬وإذا‬ ‫هائم‬ ‫إذا غابت محبوب ُة ٍ‬ ‫َّ‬ ‫اسودت الدنيا َ‬ ‫تمنعــت‬ ‫رحبت‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫وهجــرت ضاقــت عليه األرض بمــا ُ‬ ‫ِ‬ ‫وضجر من الحياة‪،‬‬ ‫بدلــت به غيره تمنــى الموت‬ ‫وإذا َّ‬ ‫َ‬ ‫بكيا؛‬ ‫باكيا ُم ًّ‬ ‫وإذا ماتت وانتقلت إلى باريها الزم قبرها ًّ‬ ‫قلبــه‬ ‫وهــو ال يهجرهــا وال يتنكــر لهــا إال إذا انصــرف ُ‬ ‫حبِه األول‪ ،‬أو إذا وجد‬ ‫عنهــا وصــادف ًّ‬ ‫حبا آخر غيــر ّ‬ ‫مــن ُينســيه في حبيبــه المألوف ويغريــه بتجربة جديدة‬ ‫صاحبنــا تغييــر الحبيــب‬ ‫وأمــل حقيــق‪ّ .‬أمــا إذا اعتــاد‬ ‫ُ‬

‫‪45‬‬


‫صغيــرة‪ ،‬أن يجعــل فــي بيتــه مــن الهــواء مــا يكفيــه للبقاء‬

‫أيضــا‪ ،‬يعمد الضفدع "الحــداد"‪ ،‬و"صانع الفخار" لعمل‬ ‫ً‬

‫إناء من الطين على مدى ‪ 3-2‬ليالي‪ ،‬ومن ثم ينادي أنثاه‬

‫تحت الماء لمدة ‪ 45‬دقيقة‪.‬‬

‫الذ َكر من‬ ‫لتضــع البيــض فــي آمــان داخلــه‪ .‬وقــد يصنــع َ‬

‫سلوك غريزي‬

‫وواســعا لتضع أنثاه فيه‬ ‫مريحا‬ ‫عشــا‬ ‫ســمك "أبو شــوكة" ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫هــل تشــييد هذه المســاكن واألعشــاش "ســلوك غريزي"‬

‫نحو ‪ 300‬بيضة‪.‬‬

‫لهــذه الكائنــات الحيــة؟ إن الكائنــات الحية مــن ثدييات‪،‬‬

‫عمارة الحشرات‬

‫وطيــور‪ ،‬وزواحــف‪ ،‬وبرمائيــات‪ ،‬وأســماك‪ ،‬وحشــرات‪،‬‬

‫تتضــح قوانيــن الهندســة المعماريــة ونظــام العمــل‬

‫ال‬ ‫تقوم بالتخطيط قبل الشروع في تنفيذ البناء؛ فتختار أو ً‬

‫االجتماعي التعاوني في الحشــرات االجتماعية؛ كالنحل‬ ‫ٍ‬ ‫بيوت‬ ‫قدرة‪ ،‬ومهارة فائقة في بناء‬ ‫والنمــل‪ ،‬وتبــرز براعة ُم ّ‬

‫أمنــا لبنائهــا‪ ،‬ثم تنتقــي من مواد‬ ‫المــكان األمثــل واألكثــر ً‬

‫البناء المتوافر والمناسب للظروف البيئية‪ ،‬مما يوفر راحة‬

‫معقــدة اإلنشــاء‪ ،‬بالغــة الدقة‪ ،‬رائعة األشــكال الهندســية‪،‬‬

‫طيرا يبني عشه ألول‬ ‫وسكينة داخلية وخارجية‪ .‬حتى إن ً‬

‫ذات غرف ودهاليز ومخازن وممرات وأنفاق متشــابكة‪.‬‬

‫مرة‪ ،‬يملك قدرة عجيبة في البناء وينجز مهمته دون خبرة‬

‫هذا وقد يصل ارتفاع عش النمل األبيض إلى سبعة أمتار‪،‬‬

‫ال عن أن العديد من أنواع الحيوانات عبر‬ ‫ســابقة له‪ .‬فض ً‬

‫ألن عــدد البيــض قــد يصــل إلى ‪ 30‬ألف بيضــة في اليوم‬

‫الواحد‪ ،‬وما سيتتبعه من بناء غرف جديدة‪ ،‬لتسع هؤالء‬

‫العالم تبني مساكنها بالكيفية العمرانية والنسق المعماري‬

‫القادميــن الجــدد مــن النمــل‪ .‬وكذلــك حشــرة "الترميت"‬

‫ال منــه الهواء البــارد من‬ ‫الســاخن إلــى األعلــى ليحــل بــد ً‬ ‫أســفل‪ .‬إنهــا طريقة رائعة مــن حيث تكييف الهواء‪ ،‬أليس‬ ‫كذلك؟‬

‫دعونا‪ ،‬وفق ما يحث عليه األستاذان "بديع الزمان سعيد‬

‫النورســي"‪ ،‬و"فتــح اهلل كولــن" أن "نتأمل في بســتان هذه‬

‫الكائنــات‪ ،‬وننظــر إلــى جنــان هــذه األرض"‪ .‬وفــي هــذا‬

‫ويعتبــر إنتــاج الحريــر فــي العناكــب عمليــة روتينيــة‬

‫البيــض من الجفــاف والعوامل الجويــة‪ ،‬ولصيد الفرائس‬

‫أمام تصرف القدرة اإللهية‪ ،‬ألن العزة والعظمة تقتضيان‬

‫في عبادة األســباب‪ ،‬ليعلم أن األســباب ليســت إال ستائر‬

‫معا‪ .‬فهناك نوع ينصب الشــباك للفرائس الطائرة‪،‬‬ ‫في آن ً‬

‫الفاعل الحقيقي فهو القــدرة الصمدانية"‪.‬‬ ‫الحجــاب‪ ،‬أمــا‬ ‫ُ‬

‫أنواعا‬ ‫لزجة قابلة للصق الفرائس عليها‪ .‬وتنسج العناكب‬ ‫ً‬

‫البعض ما قد يشعر به من مظاهر الدهشة مما يرد في هذه‬

‫فخه‪ ،‬حيث تكون الخيوط‬ ‫ونــوع آخر يحفر فــي األرض ّ‬

‫ال مختلفة من األنســجة؛ فمنها ما هو على شــكل‬ ‫وأشــكا ً‬ ‫مثلث أو دائرة أو نســيج متشــابك أو على شــكل أنابيب‪.‬‬

‫أما عناكب الماء فتكيفت لتســتطيع العيش بالماء‪ ،‬فتبني‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫والخالصة‬

‫التأمــل اإليمانــي والنظــر المعرفــي "تنبيــه للغافــل الغارق‬

‫تســتعمل فيها العديد من أنواع الخيوط الحريرية لحماية‬

‫‪44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اإلفريقيــة‪ ،‬تبنــي بيو ًتــا كالقبــاب والتــال والمســات‪،‬‬ ‫وتزودهــا بقنــوات وفتحــات خاصــة‪ ،‬كــي يرتفــع الهــواء‬

‫ذاته‪.‬‬

‫مقنطرا بيــن النباتات تحت المــاء‪ .‬وطريقتها‬ ‫حريريــا‬ ‫بيتــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫فــي التنفــس؛ حمل فقاعة هواء من ســطح المــاء تجعلها‬ ‫قرب معدتها بواسطة رجليها الخلفيتين‪ ،‬بينما تنحدر بها‬ ‫إلــى بيتهــا‪ ،‬وهنــاك تطلقها فيصعد الهــواء إلى قنطرة بيتها‬

‫آخــذا محــل بعض الماء‪ .‬وباســتطاعة العنكبــوت الصياد‬ ‫ً‬ ‫الذي يعيش في مياه أميركا الشمالية والمكسو بشعيرات‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولعــل المقولة األخيرة لألســتاذ "النورســي" تـــذهب عن‬

‫الســطور وأمثالها‪ .‬وليس من شــك في أن التفكر والتدبر‬

‫وتعليميا‬ ‫علميــا‬ ‫نهجا وبرها ًنــا‬ ‫فــي "آيــات اآلفــاق" تمثــل ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫وفلســفيا يــؤدي إلى تبين الحق والرشــد‬ ‫وفكريــا‬ ‫وتربويــا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫‪‬س ُــن ِريهِ ْم َآيا ِت َنا ِفي اآل َف ِ‬ ‫اق َو ِفي‬ ‫والشــهود‪ ،‬يقول تعالى‪َ :‬‬

‫َ ِ‬ ‫ــن َل ُهم َأ َّن ُــه ا ْل َح ُّق َأ َو َلم َي ْك ِ‬ ‫ــف ب َِر ِّب َك َأ َّن ُه‬ ‫ْ‬ ‫أ ْن ُفســهِ ْم َح َّتــى َي َت َب َّي َ ْ‬ ‫يد‪(‬فصلت‪.)53:‬‬ ‫َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َشهِ ٌ‬

‫(*) كاتب وأكاديمي ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫وفــي الحفــر والتنقيــب يبــرع "الغريــر" األوربي‪ ،‬وهو‬

‫األكــوام والديــوك البريــة‪ ،‬وطيــور الســنونو‪ ،‬والرفــراف‪،‬‬

‫والزواحــف‪ ،‬وأرجلــه مــزودة بمخالــب طويلــة تســاعده‬

‫وســمان الغابــة‪ ،‬وماســك الذبــاب ذو العــرف وغيرهــم‪،‬‬

‫مــن الثدييــات البرية الالحمــة التي تقتات علــى الجرذان‬

‫وعصفــور الجنــة‪ ،‬وطيــور الحــب‪ ،‬والطائــر األزرق‪،‬‬

‫علــى الحفــر والصيــد‪ ،‬لذا يعيــش في "شــبكة" طويلة من‬

‫بارعــون فــي بناء وإنشــاء المســاكن بمواصفــات "إبداعية‬

‫األوجــار (األنفــاق)‪ ،‬وحجــرات النــوم المبطنــة بالتبــن‬

‫جماليــة"‪ ،‬ومعاييــر "تميز وأمان وتأميــن"‪ ،‬وحرفية عالية‪.‬‬

‫وأوراق الشــجر‪ .‬ومــا يرثــه مــن جحور عــن آبائه يضيف‬

‫ال‪ -‬تبدع عشــها بالنقر في جذوع‬ ‫فثاقبات األخشــاب ‪-‬مث ً‬

‫إليهــا دهاليــز جديــدة وبعــض الحجرات‪ .‬وقــد يعيش في‬

‫األخشاب أو األعمدة الخشبية‪ ،‬وتبطنها بنشارة الخشب‬

‫الجحــر نحو ‪ 35‬حيوا ًنــا‪ ،‬ويبني في الجحر منافذ إضافية‬

‫المتســاقطة أثنــاء النقــر‪ .‬كمــا تعيــش البومــة والراقــون‬

‫لتمكنــه مــن الهــروب الســريع‪ .‬وقــد ُعثــر علــى جحر له‬

‫والســنجاب‪ ،‬داخــل جــذوع األشــجار الجوفــاء أو داخل‬

‫ا‪ ،‬ويتكــون من ‪ 50‬حجــرة‪ ،‬ويربط فيما بينها‬ ‫‪ 178‬مدخــ ً‬

‫األشجار العجفاء‪.‬‬

‫مترا‪،‬‬ ‫نظــام دهاليــز تصــل فــي مجموعهــا إلى طــول ‪ً 880‬‬

‫وتنتقي الطيور مواد بناء أعشاشها بكل عناية واعتبار‪،‬‬

‫أفرادا من عائلته‬ ‫بعيدا عن الجحر‪ .‬وهناك شواهد "لدفنه"‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫التعامــل معهــا بدقــة واقتــدار‪ .‬فتســتخدم الطيــور البحرية‬

‫ويهتم بشدة بنظافة جحره‪ ،‬حيث يبني "مراحيض" للتبرز‬

‫كمــا يبــرع كل نوع من الطيور ‪-‬علــى كثرتها الهائلة‪ -‬في‬

‫عاما‪ ،‬لكن يكثر‬ ‫بعــد نفوقهــم‪ .‬ويمكن ُ‬ ‫للغ َرير العيش ‪ً 15‬‬

‫األعشــاب البحرية الطافية والمقاومة لحركة األمواج في‬

‫طمعا بجلده ووبره الجميل‪.‬‬ ‫اصطياده ً‬

‫ونشــأت فيها؛ فال يبتعد "األرنب ثلجي القبقاب" لمسافة‬ ‫أكثــر مــن نصف كلم من مــكان ميالده‪ ،‬فإذا طارده ثعلب‬

‫جرى ليدخل حدود منطقته ومســكنه‪ .‬وتتنقل الخفافيش‬ ‫إذا ُأزعجــت مــن كهــف آلخــر‪ ،‬ولكنها تعــود للعيش في‬ ‫مسكنها األصلي مرة أخرى‪.‬‬

‫عمارة الطيور‬

‫تخصــص الطيــور "مســاكنها" لوضــع البيــض ورعايــة‬

‫أفراخهــا‪ ،‬وتبنــي األعشــاش علــى األشــجار أو داخلهــا‪،‬‬ ‫أو فــي شــقوق صخريــة أو على ســطح األرض‪ ،‬أو على‬ ‫نباتــات عائمــة‪ ،‬أو فــي أماكــن أخــرى غيــر معتــادة‪ .‬وعبر‬

‫فصول العام‪ ،‬ما زالت مثيرة للدهشة هجر ُة الطيور ‪-‬أكبر‬

‫المهاجرين في الكائنات الحية‪ -‬إلى حيث بناء األعشاش‬

‫والــدفء والغذاء‪ ،‬ثم عودتها أو عودة صغارها بمفردهم‬ ‫فــي أقصــى شــمال أوربا وأمريــكا‪ ،‬وتهاجر فــي الخريف‬

‫جنوبــا إلــى أســتراليا وإفريقيــا‪ ،‬حيــث تبقى حتــى فبراير‪-‬‬ ‫ً‬ ‫أبريل‪ ،‬ومن ثم تعود إلى موطنها في رحلة عجيبة‪ ،‬وتبلغ‬ ‫نحو ‪ 35.500‬كلم في السنة الواحدة‪.‬‬

‫والطيور ثاقبات األخشــاب‪ ،‬والطائر الخياط‪ ،‬وطيور‬

‫الطويلة‪ ،‬فتنشــئ‬ ‫أعشاشــا عميقة واســعة لتفادي السقوط‬ ‫ً‬ ‫عنــد هبــوب الرياح‪ .‬فــي حين تشــيد الطيــور الصحراوية‬

‫أوكارهــا علــى قمــم األشــجار حيــث انخفــاض درجــة‬ ‫حرارتها بنحو ‪ 10‬درجات عن درجة المحيط‪ ،‬وإال فإن‬

‫درجــة حرارة اليابســة (تربو علــى ‪ 45‬درجة مئوية) تؤدي‬ ‫إلى موت األجنة داخل البيض‪.‬‬

‫وبعد عناء البناء والتشــييد يتم توفير ســبل "الحراســة‬

‫والتأمين" قدر المســتطاع‪ ،‬كي ال يتم "ســرقة البيض"‪ ،‬أو‬ ‫زوج طائر أبي‬ ‫سرقة كل البيت حتى من األقرباء‪ ،‬فيطارد ُ‬

‫الحنــاء‬ ‫طيور أبــي الحناء األخرى‪ ،‬ويمنعها من االقتراب‬ ‫َ‬ ‫من الشــجرة التي اتخذها‬ ‫مســكنا له‪ .‬ويقوم الطير الواحد‬ ‫ً‬ ‫بمئــات مــن رحالت الطيران إلنشــاء عــش للتمويه فقط‪،‬‬ ‫حيــث ال يســتطيع منقاره إال حمل قطعــة أو قطعتين من‬

‫لوازم بناء العش‪.‬‬

‫مساكن الزواحف واألسماك‬

‫مــن الســاحل البرازيلي تهاجر ســاحف البحر الخضراء‬ ‫للتكاثــر‪ ،‬قاطعــة مســافة ‪ 2500‬كلــم‪ ،‬عابــرة المحيــط‬ ‫األطلسـ�ي نحـ�و السـ�واحل اإلفريقيـ�ة‪ ،‬وعنـ�د جزيـ�ر ة‬

‫"�‪As‬‬

‫‪ "cension‬تضــع بيضهــا فــي مســاكن رمليــة‪ ،‬ثــم تعــود إلى‬ ‫موطنهــا دون أن تضــل طريقهــا‪ .‬وفــي "أمريــكا الجنوبية"‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫فخرشــنة القطب الشمالي تتواجد‬ ‫إلى موطنهم األصلي‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وترتبط الحيوانات بمســاكنها التي شــيدتها أو ولدت‬

‫بناء أعشاشها‪ .‬أما الطيور التي تعيش في مناطق األعشاب‬

‫‪43‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬ناصر أحمد سنه*‬

‫مهندسون‬ ‫يف عامل الحيوان‬

‫ــدس" مهنــدس بــارع‬ ‫ال شــك أن "ال ُق ْن ُ‬ ‫فــي عالــم الحيــوان‪ ،‬ينتمــي للقــوارض‬

‫المائية فيشيد ‪-‬بأسنانه الحادة التي تشبه‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫الســدود والمســاكن مــن أخشــاب األشــجار‪.‬‬ ‫اإلزميــل‪-‬‬ ‫َ‬

‫‪42‬‬

‫يتراوح عرض السد ‪-‬الذي يقيمه زوج القندس‪ -‬من متر‬

‫ا مدخله‬ ‫إلــى مائــة متــر‪ ،‬ثــم يبني بيته وســط البركة جاعــ ً‬ ‫تحــت ســطح المــاء لحمايتــه من األعــداء‪ .‬ويبلــغ طول‬ ‫أمتــارا‪ ،‬إذ تؤدي النهايــة العليا‬ ‫األنفــاق المؤديــة لمســكنه‬ ‫ً‬

‫للنفــق إلــى غرفــة تتســع إليــواء أســرته مغطــاة بطبقة من‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الجيــد الصــرف لوجود أعواد خشــبية‬ ‫الطيــن المتماســك ّ‬

‫بأســفله‪ .‬إنــه يبني مســكنه عبــر تكديس األعواد الخشــبية‬ ‫تــاركا فتحــة تهويــة علويــة‪ ،‬ثم يحفر بفمــه التربة‬ ‫والطيــن‬ ‫ً‬

‫يكــون الطيــن‬ ‫ليكــون األنفــاق والغرفــة الرئيســية‪ ،‬وقــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتساقط من بين األعواد الخشبية أرضي َة الغرفة‪ .‬وعادة‬ ‫مــا تحصــل القنــادس على المــواد الالزمة للبناء بإســقاط‬

‫ال‪ ،‬ويمكن قرض جذع شجرة قطرها ‪ 30‬سم‬ ‫األشجار لي ً‬ ‫فــي ليلتيــن مع العمــل الدؤوب‪ .‬ومن ثــم ُتفصل الفروع‬

‫قدما‪.‬‬ ‫عن الجذع و ُت َّ‬ ‫جزأ إلى قطع يبلغ طول كل منها ً‬


‫إن أي تعامل مع ظاهرة العنف ال يأخذ بعني االعتبار‬

‫التربويــة واإلعالميــة‪ ،‬وســوء الفهــم والتفســير الخاطــئ‬ ‫ألمــور الشــرع والديــن‪ ..‬والمشــكلة أن الجيــل الحالــي‬ ‫يفتقــد العمــق الثقافي بعد أن فشــلت المؤسســة األســرية‬ ‫والتربويــة والتعليميــة فــي دورهــا التوجيهي والترشــيدي‬ ‫وأصبــح التليفزيــون واإلنترنــت هــو الموجــه والمربــي‪،‬‬ ‫فأصبــح عند المتلقي اســتعداد فطــري لتقبل كل ما تمليه‬ ‫عليــه هــذه الوســائل مــن ألــوان الفكــر العبثــي الســطحي‬ ‫التمييعــي لمدركاتــه ومعارفــه‪ ،‬أو الفكــر األيديولوجــي‬ ‫الموجه لتعبئة وشحن العقول بأفكار متطرفة‪.‬‬

‫عوامله األساسية‪ ،‬ســيكون تعام ً‬ ‫ال ُمجتزَأ ال يؤدي‬

‫العالج املطلوب‪ ،‬ورمبا أطال عمر الفريوس الحامل‬ ‫َ‬

‫ملامنعة املودة وجذره‪.‬‬

‫يظهر في التغطيات اإلعالمية لبعض الحوادث اإلرهابية‬ ‫التــي تقــوم بها بعــض الجماعات المتطرفــة‪ ،‬حيث تقارن‬

‫وسائل اإلعالم بمبالغة مفرطة بين أفراد تلك الجماعات‬ ‫وبقيــة أفــراد المجتمــع‪ ،‬وتصويــر الدولــة والمجتمع في‬

‫األسباب السياسية‬

‫وسائل اإلع ــالم‬

‫منحر ًفــا مضــا ًّدا‪ ،‬وفجــوة هائلــة بيــن الواقــع والمثــال‪،‬‬ ‫يســتغله أصحاب الفكر المنحــرف من متطرفين وغيرهم‬

‫في برنامجهم القائم في األساس على المقارنة بين مثال‬ ‫خيالــي والواقــع الموجــود‪ ،‬وهــي مقارنــة تثيــر اإلحبــاط‬

‫واليأس واالستفزاز عند بعض األفراد‪.‬‬

‫وتنمــي بعــض وســائل اإلعــام مشــاعر الكراهيــة‬

‫أفكارا تبــرر العنف وتكفر‬ ‫والعدوانيــة التــي تولد بدورها‬ ‫ً‬ ‫اآلخر وتحرض على االنتقام‪ ،‬وذلك عندما تستفز بعض‬ ‫تلــك الوســائل المشــاعر الدينيــة لألمــة بتجــاوز الثوابــت‬

‫العقدية‪ ،‬واالستهانة باألحكام الفقهية الراسخة‪ ،‬أو تزييف‬

‫وتحريــف النصــوص الشــرعية لغايــات معينــة‪ ،‬وكذلــك‬ ‫اســتهداف األشــخاص باتهام النوايا والتهكم والسخرية‪.‬‬ ‫ومن جانب آخر‪ ،‬ساعدت شبكة المعلومات العالمية‬

‫(اإلنترنــت) كوســيلة إعالميــة عالميــة‪ ،‬فــي نشــر األفــكار‬ ‫واأليديولوجيــات المتطرفــة والمنحرفــة‪ ،‬من خالل بروز‬

‫فقه جديد عبر هذه الشــبكة وهو ما يســمى فقه اإلنترنت‪،‬‬

‫بما يحتويه من فتاوى فردية مشحونة باالنفعال والكراهية‬ ‫والتحريض على العنف‪.‬‬

‫ويحدونــا األمل باتجاه أن تتبنى المؤسســات الثقافية‬

‫واإلعالمية الوطنية هذه المسألة‪ ،‬وتقود الحملة اإلعالمية‬ ‫والتثقيفية لتأكيد خيار االعتدال والوسطية في األمة‪.‬‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫دورا ال يســتهان بــه فــي تكويــن‬ ‫تلعــب وســائل اإلعــام ً‬ ‫االتجاهات واألفكار والتطرف‪ ،‬فهي تؤثر بما تقدمه من‬ ‫برامج وأفالم وأخبار عن األشخاص واألحداث‪ .‬وتنبع‬ ‫أهميــة المؤسســات اإلعالمية من أنهــا أصبحت الصوت‬ ‫المســموع لــدى جميــع أفــراد المجتمــع‪ .‬واألثــر الــذي‬ ‫تتركــه المؤسســات اإلعالميــة ال يقتصر فقط على ما تبثه‬ ‫خالل ســاعات البث‪ ،‬بل يتعدى ذلك إلى ممارســة دور‬ ‫الموجــه‪ ،‬حيث تحــاول كل جهة غرس قيمها ومفاهيمها‬ ‫ال إلى‬ ‫وأفكارهــا ونظرياتهــا فــي عقــول المتلقيــن‪ ،‬وصــو ً‬ ‫غريبــا أن يكــون من بين‬ ‫أهــداف مبرمجــة ســل ًفا‪ ..‬وليــس ً‬ ‫تلــك األهــداف‪ ،‬اإلضــرار ببعــض األنظمــة والــدول عبر‬ ‫برامــج ســافرة أو مســتترة تســعى إلــى تقويــض األمــن‬ ‫واألمان واالستقرار االجتماعي بها‪.‬‬ ‫وتبــرز مســاهمة وســائل اإلعــام فــي تكويــن‬ ‫االنحرافــات الفكريــة عنــد األفــراد والجماعــات فــي مــا‬

‫أخطــاء أفــراد الجماعــات المعتديــة‪ ،‬ممــا يحــدث‬ ‫فكــرا‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تقــف البواعــث السياســية خلــف الكثيــر مــن العمليــات‬ ‫اإلرهابيــة وأعمــال العنف التي ترتكب فــي أنحاء عديدة‬ ‫مــن بلــدان العالــم‪ ،‬من بينهمــا الحصول على حــق تقرير‬ ‫المصيــر لشــعب‪ ،‬أو مقاومــة االحتــال‪ ،‬أو تنبيــه الــرأي‬ ‫العــام العالمــي إلــى مشــكلة سياســية أو اجتماعيــة‪ ،‬أو‬ ‫االحتجــاج علــى سياســة يتبعهــا بلــد مــا‪ ،‬أو الرغبــة فــي‬ ‫إنــزال الضــرر بمصالــح دولــة معينــة وإرباك وســائل نقله‬ ‫الخارجــة‪ ،‬أو الرغبة فــي إنقاذ حياة بعض المناضلين من‬ ‫الرفاق المعتقلين‪.‬‬

‫"صــورة مالئكية" وإنــكار أخطاء أفراد المجتمع وتعظيم‬

‫‪41‬‬


‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫األسباب االقتصادية‬

‫‪40‬‬

‫تنتشــر فــي بعــض دول العالــم اليــوم‪ ،‬حالــة مــن انعــدام‬ ‫العدالــة فــي توزيــع الثــروات االقتصاديــة‪ ،‬فتظهــر فئة أو‬ ‫فئات من المجتمع تنهج سياســة االحتكار‪ ،‬األمر الذي‬ ‫يولد العديد من المشكالت االقتصادية المسببة لألعمال‬ ‫العدوانيــة بقصــد تحقيــق غايــات اقتصاديــة‪ ،‬وإشــباع‬ ‫حاجات مادية ونفســية‪ ،‬فتفشــي البطالــة‪ ،‬وتدهور القدرة‬ ‫الشــرائية لسوء األوضاع االقتصادية‪ .‬وانخفاض مداخيل‬ ‫مرتعا‬ ‫خصبا لكل األفكار‬ ‫الدولة‪ ،‬تجعل نفوس الشــباب ً‬ ‫ً‬ ‫المغريــة‪ ،‬وعرضــة لــكل إغــراء مــادي يســتعمل مصيــدة‬ ‫لهــؤالء لتوريطهــم فــي أعمــال العنــف بطعــم إخراجهــم‬ ‫مــن وضعيتهــم الصعبــة‪ ،‬التــي تتطلــب منهــم أحيا ًنــا بيع‬ ‫أعضائهم بأثمنة بخسة‪ ،‬أو القبول بدخول سوق االتجار‬ ‫بهم في مزاد النخاسة العالمي‪.‬‬

‫األسباب االجتماعية واإلحباط النفسي‬

‫يترتــب عــن األســباب االقتصادية الســالفة الذكر أســباب‬ ‫اجتماعيــة‪ ،‬إذ بتدهــور االقتصــاد تتدهــور األوضــاع‬ ‫االجتماعيــة‪ ،‬وتفكك األواصر األســرية نتيجة اســتفحال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫االجتماعــي والمحســوبية والرشــوة والفســاد اإلداري‪،‬‬

‫فيجــد الشــباب نفســه ‪-‬فــي عمــر العطــاء‪ -‬يفقد إنســانيته‬ ‫وكرامتــه‪ ،‬ويحــرم مــن فــرص تقديــم كفاءاتــه‪ ،‬ويخنــق‬

‫إبداعه‪ ..‬فيجد الشباب نفسه في الثالثين من العمر يعيش‬ ‫مرحلــة التقاعــد المبكر‪ ،‬لكن من دون شــروطه‪ ،‬ال عمل‬

‫وال أسرة وال أطفال وال استقرار مادي ونفسي‪.‬‬

‫ومــن هنــا يتكــون الشــعور بالتهميــش وفقــدان الثقــة‪،‬‬

‫ويزداد قوة بعد طول انتظار‪ ،‬فتصبح النفوس مهيأة لتقبل‬

‫أي فكرة تنادي لتغيير األوضاع ‪-‬مهما كانت وسائل هذا‬ ‫التغييــر‪ -‬ألن الهــدف هــو تحطيم األوضــاع التي فرضت‬

‫عليــه العيــش فــي هــذه الظــروف القاســية وجعلتهم طبقة‬

‫مهمشــة‪ ،‬فتكون االســتجابة تلقائيــة لدعوة التغيير‬ ‫منبوذة ّ‬

‫بالعنــف‪ .‬ومــن أهــم نظريــات علــم النفــس االجتماعــي‪،‬‬ ‫نظرية تفسر السلوك العدواني وتربطه باإلحباط‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أمراض نفســية ّفتاكة تتحول بفعل الزمن إلى ممارســات‬ ‫عدوانيــة‪ ،‬إذ تعــد األســرة النــواة األساســية للمجتمــع‪،‬‬ ‫والتي في أحضانها ينعم الطفل بالعناية والرعاية والحب‬ ‫واألمــان‪ .‬فهــي الوعــاء الطبيعــي الذي يحتضــن الفرد في‬ ‫طفولتــه وحتــى شــبابه‪ ،‬بحيــث يتــم تزويــده إمــا بالعطف‬ ‫ســليما‬ ‫نموا‬ ‫صحيحا يتميز بالقدرة على‬ ‫ً‬ ‫واالحترام فينمو ًّ‬ ‫ً‬ ‫التكيــف مــع محيطــه‪ ،‬أو بالقســوة واإلحبــاط أو التدليل‬ ‫الزائــد‪ ،‬ممــا يعرقــل نمــوه الطبيعــي ويخلــق لديه مشــاعر‬ ‫القلق وعدم الطمأنينة‪.‬‬ ‫فاألســرة كالجســر الــذي تعبر عليه خصائــص الثقافة‬ ‫أليــة أمــة إلــى أفرادهــا‪ ،‬فــي حيــن أن أســاليب المعاملــة‬ ‫والتنشــئة األســرية هــي تلــك العربــة التي تســير على هذا‬ ‫الجسر‪ ،‬وتنتقل القيم واالتجاهات والمعتقدات لألفراد‪.‬‬ ‫وإضافــة إلــى ســوء المعاملــة األســرية اتجاه األبنــاء‪ ،‬فإن‬ ‫المشــكالت األســرية كالطــاق والغيــاب الطويــل لألب‬ ‫عــن البيــت‪ ،‬والمعاناة االقتصادية لألســرة‪ ،‬لها عالقة في‬ ‫انحرافات األبناء الفكرية والسلوكية العدوانية‪.‬‬

‫مشــكل األميــة والبطالــة والفقــر والفاقــة والتهميــش‬

‫ففي حالة اليأس واإلحباط من تغيير الواقع‪ ،‬يتعرض‬

‫الفــرد إلــى تغيــرات ســلبية فــي التفكيــر والشــعور‪ .‬ففــي‬

‫مجــال التفكير‪ ،‬تقل أمام العقــل الخيارات والمحاوالت‬

‫والحلــول للتغلــب علــى العوائق‪ ،‬أما في جانب الشــعور‬

‫واإلحســاس‪ ،‬فــإن الفــرد فــي حالــة اليــأس واإلحبــاط‪،‬‬ ‫يغلب عليه التشاؤم والشعور بنقص الكفاءة واالنهزامية‪،‬‬

‫فينخفــض مســتوى الــروح المعنويــة‪ ،‬وينعــدم األمــل في‬ ‫المستقبل‪ ،‬وقد يتجه الفرد ‪-‬بناء على ذلك‪ -‬إلى التفكير‬

‫العدواني المنحرف لعالج المشكالت‪.‬‬

‫األسباب الفكرية‬

‫تعــود األســباب الفكرية لإلرهــاب والعنف والتطرف في‬

‫أغلبها‪ ،‬إلى معاناة العالم اإلســامي اليوم من انقســامات‬

‫فكريــة حــادة بيــن تيــارات مختلفــة‪ ،‬فمــن تيــار علمانــي‬ ‫يدعو إلى بناء الحياة على أســاس مفاهيم حداثية دنيوي‬ ‫وغيــر مرتبــط باألصول الشــرعية وال بالتقاليــد والعادات‬

‫والموروثــات االجتماعيــة األصيلــة‪ ،‬إلــى تيــار متعصــب‬ ‫منغلــق يعــارض المدنيــة الحديثــة وكل ما يتصــل بالتقدم‬

‫الحضــاري‪ .‬ومــن األســباب الفكريــة األخــرى‪ ،‬تشــويه‬

‫صــورة اإلســام والمســلمين‪ ،‬وضآلــة االهتمــام بالتفكير‬ ‫الناقــد والحــوار البنــاء مــن قبــل المربيــن والمؤسســات‬


‫إن الجيل الحــايل يفتقد العمــق الثقايف بعد أن‬

‫عنف كل حيوانات الطبيعة والبحار‪ .‬وتتجلى هذه القدرة‬

‫فشلت املؤسســة األرسية والرتبوية والتعليمية‬

‫بصــورة فرديــة وجماعيــة عبــر التاريخ البشــري الذي هو‬

‫يف دورهــا التوجيهــي والرتشــيدي وأصبــح‬

‫فــي جانب منه سلســلة جرائم ومحــاوالت لتفجير الكرة‬

‫التليفزيون واإلنرتنت هو املوجه واملريب‪.‬‬

‫نهائيا‪ ،‬كما يكتســب قوة خارقة‬ ‫األرضيــة وإفنــاء اإلنســان ًّ‬

‫إلعادة بناء ما دمرته الحرب في الطبيعة واإلنسان نفسه‪.‬‬

‫وهكــذا يلبــث يــدور بيــن ثنائيــة الخيــر والشــر‪ ،‬الدمــار‬

‫للمعالجــة‪ ،‬ذلــك أن اإلجــراءات األمنيــة تحــاول منــع‬

‫والعمار؛ الشر المتمثل بالجانب األبرز منه في الحروب‬

‫العنــف المدفــوع بالكثيــر مــن العوامل‪ .‬ولمــا كان العنف‬

‫الفرديــة والجماعيــة‪ ،‬العالميــة واإلقليمية‪ ،‬الســيكولوجية‬

‫ســلوكا‪ ،‬فإنه يحتــاج لضمان تواصله واســتمراريته‪ ،‬طاق ًة‬ ‫ً‬ ‫تكمــن فــي دوافعــه‪ .‬ومــن ثــم فــإن أي تعامل مــع ظاهرة‬

‫والميتافيزيقية‪ ،‬والخير المتمثل في صناعة كل وسائل البناء‪.‬‬ ‫أمــا التصــور اإلســامي للظاهــرة‪ ،‬فإنــه مــن الوضوح‬

‫العنف ال يأخذ بعين االعتبار عوامله األساســية‪ ،‬سيكون‬

‫بمــكان كبيــر أن الكائــن يــرث بـ"القــوة" مبــادئ "الشــهوة‬

‫العــاج المطلــوب‪ ،‬وربما أطال‬ ‫جتــزأ ال يــؤدي‬ ‫تعامــ ً‬ ‫ا ُم َ‬ ‫َ‬

‫والعقل" أو "الذات والموضوع" أو "الخير والشر"‪ ،‬وإلى‬

‫عمر الفيروس الحامل لممانعة المودة وجذره‪.‬‬

‫أن عملية "التأجيل" التي يمارسها في بحثه عن اللذة هي‬

‫فلــم يكن اإلنســان عني ًفا يوم ولدتــه أمه‪ ،‬بل إن عنف‬

‫التــي تترجــم "القــوة" إلى "فعل" إيجابي هو "المســالمة"‪،‬‬

‫الطبيعــة وعســر الحيــاة والتربيــة وعنف اآلبــاء‪ ،‬هو الذي‬

‫وعدمــه (أي عــدم التأجيــل) هو الذي يترجــم "القوة" إلى‬ ‫وبإمكاننــا أن نتعــرف علــى هــذه الحقيقــة إذا أدركنــا‬

‫بروزا لكل ســلوك‬ ‫أن إيــذاء اآلخريــن هو المظهر األشــد ً‬

‫"شــهوي"‪ .‬فالممارسات "الشــهوية" الفردية مثل الشراهة‬ ‫فــي الطعــام‪ ،‬أو المال‪ ،‬أو الجنــس‪ ،‬أو اللهو‪ ...‬إلخ‪ ،‬إنما‬ ‫تعكــس آثارهــا علــى "الــذات" الشــخصية دون أن تمتــد‬

‫إلــى إيــذاء اآلخريــن‪ .‬أما الممارســات الشــهوية المرتبطة‬

‫أمــرا من الوضوح‬ ‫باآلخريــن‪ ،‬فإن انعكاســها عليهم يظل ً‬

‫بمكان كبير‪ .‬فالقتل‪ ،‬أو التجريح‪ ،‬أو الســب‪ ،‬أو اإلهانة‪،‬‬ ‫أنماطا‬ ‫بــل والحقــد علــى اآلخرين بعامة والحســد‪ ،‬تظــل‬ ‫ً‬

‫بــروزا مــن األنمــاط األخــرى المتصلــة‬ ‫"عدوانيــة" أشــد‬ ‫ً‬

‫بالبحث عن "التفوق" أو "االستطالع"‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫جذور العنف‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫"فعل" سلبي هو "العدوان"‪.‬‬

‫يغــرز العنــف فــي خاليــا الدمــاغ حتــى حملتــه صبغياتــه‬

‫الوراثية فكاد أن يكون مورو ًثا‪.‬‬

‫وهنــا تظهــر أهميــة دروس التربيــة لتعريــف النــشء‬

‫بالمبادئ اإلنسانية النبيلة التي تحث على الود والتواصل‪،‬‬ ‫والعدالــة واألخــوة‪ ،‬والتفتــح علــى الــرأي اآلخــر‪ ،‬وعدم‬

‫نصــب العــداء للمعتقــدات األخــرى‪ ..‬وبذلــك نصــون‬

‫المراهقين والشباب‪ ،‬ونحصنهــم ضد المفاهيم المتطرفة‬ ‫التــي تزرع الكراهية لــكل من يخالفنا الرأي والمعتقد‪-‬‬‫وبــذور الفتنة والقســوة والعنــف‪ .‬ويرى الباحثون في هذا‬ ‫المجــال أن أســباب هــذه الظاهــرة عديــدة نلخصهــا فــي‬

‫األنواع اآلتية‪:‬‬

‫األسباب التربوية‬

‫نفسيا أو‬ ‫ضررا‬ ‫قد تحدث بعض المشكالت التي تسبب‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫يــرى الدارســون أن العنــف ظاهــرة لهــا جــذور سياســية‬

‫ماديا على أفراد المجتمع‪ ،‬أو جماعة محددة منه‪ ،‬فيتولد‬ ‫ًّ‬

‫مثــل أي ظاهرة أخــرى‪ -‬بالعديد مــن العوامل المتداخلة‬

‫طريق اســتخدام العنف‪ .‬ويعد التفكك األســري من أبرز‬

‫واقتصاديــة واجتماعيــة ونفســية‪ ،‬وهــي ترتبــط ‪-‬مثلهــا‬

‫لهــذه العوامل‪ ،‬ســتبقى كل المعالجــات قاصرة وال تمثل‬

‫ال ناجعة لها‪ ،‬ومهما تم من تغطية أمنية مكثفة ‪-‬على‬ ‫حلو ً‬ ‫أهميتهــا‪ -‬فإنهــا ســتبقى دون تحقيــق النتائــج المطلوبــة‬

‫تلك المشكالت االجتماعية‪ ،‬ألن التفكك األسري يعني‬

‫انهيــار الــدور األساســي لألســرة‪ ،‬الــذي من أبــرز معالمه‬ ‫التنشــئة االجتماعيــة الســليمة‪ ،‬وتقويــة أواصــر العالقات‬

‫االجتماعية المهمة‪ .‬فاألســرة تشــكل تلقيــح ممانعة ضد‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫والمتشــابكة مــع بعضها البعض‪ .‬وبــدون قراءة صحيحة‬

‫من خالل ذلك شــعور باإلحباط‪ ،‬ورغبة في االنتقام عن‬

‫‪39‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫على قدر ما تعطي من قلبك تكن منزلتك عند خ ّالق القلوب‪ .‬أما منزلتك عند الناس‬ ‫ففي مرآة تصرفك معهم تجدها‪ْ ،‬‬ ‫الناس كأنك واحدٌ من سوادهم‪،‬‬ ‫خالط َ‬ ‫وليكن نظرك دائ ًما بالحق معل ًقا‪ ،‬وإليه ناظ ًرا‪ ،‬ولمرضاته مبتغ ًيا‪.‬‬

‫العنف‬

‫املوازين‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫مسبباته ودوافعه‬

‫‪38‬‬

‫لقــد ُعنــي علمــاء النفــس االجتماعــي‬ ‫منــذ أمــد بعيد‪ ،‬بقضية األســباب الكامنة‬ ‫وراء "العــدوان" بيــن الناس (أو العدوان‬ ‫البيــن الشــخصي ‪ .)Interpersonal Aggression‬ويــدور الجدل‬ ‫منــذ ســنين حــول دور الوراثــة مقارنــة بــدور البيئــة فــي‬ ‫العــدوان‪ ،‬وفيمــا إذا كان الســلوك العدوانــي لــدى البشــر‬ ‫بيولوجيا‪ ،‬أم أنه ينشــأ عن التعلم ويتأثر بمؤثرات‬ ‫يتحــدد‬ ‫ًّ‬ ‫"مسالما" في طبيعة‬ ‫بيئية‪ .‬فثمة اتجاه يرى الكائن اآلدمي‬ ‫ً‬ ‫تركيبــه‪ ،‬كل مــا فــي األمر أن "البيئة" ‪-‬بما فيها من "ثقافة"‬ ‫تنمي لديه نزعة العدوان‪.‬‬ ‫منحرفة‪ -‬هي التي ّ‬ ‫وثمــة اتجــاه ثان يرى الكائــن اآلدمي "صفحة بيضاء"‬ ‫تحولها "التنشئة" إلى "مسالم أو عدواني"‪.‬‬ ‫من الممكن أن ّ‬ ‫واتجــاه ثالــث يــرى أن "اإلحبــاط" هــو الســبب فــي‬ ‫إنماء النزعة "العدوانية"؛ فما دامت حاجات اإلنســان لم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫"تشــبع" بشــكل يحقــق توازنه الداخلي‪ ،‬فإنــه مضطر إلى‬ ‫أن يســتجيب للظواهر اســتجابة "عدوانية" ما دامت تقف‬ ‫ال دون اإلشباع‪.‬‬ ‫حائ ً‬ ‫ويواكــب هــذا االتجــاه‪ ،‬اتجــاه ال يقصــر األمــر علــى‬ ‫اإلحبــاط أو عدمــه أو درجتــه وصلــة ذلك بالعــدوان‪ ،‬بل‬ ‫أساســا‪ -‬أن عجــز اإلنســان عن إشــباع حاجته في‬‫يجــد‬ ‫ً‬ ‫التخلــص مــن حالــة "اإلحبــاط"‪ ،‬يضطــره إلــى العــدوان‬ ‫بصفته استجابة حتمية لإلحباط‪ .‬على أن أشد االتجاهات‬ ‫مفارقة‪ ،‬هو االتجاه الذاهب إلى أن العدوان يمثل حاجة‬ ‫فطريــا يرثــه الكائــن اآلدمــي بـ"الفعــل"‪ .‬وهــذا‬ ‫دافعــا‬ ‫ًّ‬ ‫أو ً‬ ‫يعنــي أن اإلنســان يعيــش في عالــم متغير‪ ،‬ويســيطر على‬ ‫ســلوكياته مــن خالل أفعالــه ومن خالل تعرفــه بمحيطه‪،‬‬ ‫وهــو قابــل بصــورة إيجابيــة للتغيــرات المذهلــة‪ ،‬بحيــث‬ ‫يكتســب اإلنســان قوة خارقة تؤهله لممارسة عنف يفوق‬


‫ٍ‬ ‫هلــم بنــا نتعلــم مــن حكيــم‬ ‫إيــه يــا مالكــي الصغيــر‪ّ ،‬‬

‫الجميل‪" :‬هلل ما أعذبه من شعور! أحسست يا فلذة كبدي‬

‫أســخاه‪ ..‬يعيــش فــي أحشــائه الدولفين والقرش فيتســع‬

‫إلــى جوفــي‪ ،‬فكل ما فــي مصنع الحياة قد تعاون إلعداد‬

‫ســمى بالبحــر‪ ..‬هلل ما‬ ‫الم ّ‬ ‫الــدروس الزرقــاء‪ ،‬ذاك الكريــم ُ‬

‫وأنــا أشــرب هــذه القطرات‪ ،‬بأني أدخلت الحياة بأســرها‬

‫قلبه لإلثنين على السواء‪ ..‬يمخر أفالكه المؤمن والكافر‬ ‫مرحبــا بهــذا وال يعبــس بوجــه ذاك‪ ..‬يحمــل‬ ‫فــا ينحنــي ِّ‬

‫هــذا الكــوب الصغيــر من عصيــر الفراولة‪ ،‬األيــادي التي‬

‫بــذرت‪ ،‬والتربــة التــي احتضنت‪ ،‬والســحب التي أمطرت‬

‫ســاطين الناس كعبيدهــم‪ ،‬وأحياءهــم كأمواتهم‪ ،‬ويأكل‬

‫لسقيا األرض‪ ،‬بل‬ ‫فأنبتت‪ ،‬والريح التي ساقت السحاب ُ‬

‫مــن راحتيه الزرقاء؛ اإلنســان والحيــوان والنبات بال فرق‬

‫إن هــذا الغمــام‬ ‫المحمل بالطهر والبركة والعذوبة‪ ،‬ما هو‬ ‫ّ‬

‫فاغرا فاه‪،‬‬ ‫الحب والعطاء"؟ أصغى االبن إلى حديث أمه ً‬

‫البحــر المالحة‪ .‬إنه االبن الشــرعي للشــمس والبحر‪ ،‬لذا‬

‫وشــال الحيرة ينســكب من‬ ‫في عذوبة منطقها الجميل‪،‬‬ ‫ُ‬

‫إنها لعمري مدرسة عظيمة‪ ،‬وعائلة كريمة‪ ،‬ومستودع‬

‫وال حســاب‪ ..‬أفــا ســألته يــا صغيــري عــن دســتوره فــي‬

‫أشــعة الشــمس الالفحة بمياه‬ ‫فــي الحقيقــة إال ثمرة قران ّ‬

‫متفكرا‬ ‫محمل ًقــا في عينيها الســوداويتين بدهشــة البــراءة‪،‬‬ ‫ً‬

‫كريما معطاء كوالديه‪.‬‬ ‫سخيا‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫عينيه الصغيرتين‪.‬‬

‫عجيــب‪ ،‬هــذه الحيــاة المغلفــة باألســرار والمعجــزات‪.‬‬

‫تابعــت األم الحكيمــة حديثها العــذب وهي تنظر في‬

‫إنمــا أنــا وأنت ‪-‬يا ضيائي‪ -‬نشــرب اآلن نتاج المســكونة‬

‫وتشــد على كلتا يديه قائلة‪:‬‬ ‫محبوبهــا بعينين محمومتين‪،‬‬ ‫ّ‬

‫بأكملهــا؛ ســواعد بشــرية زرعــت وحصــدت وعصــرت‪،‬‬

‫"أواه يــا طائــري الصغيــر‪ ،‬مــا بال هــذي األرض تؤرجح‬ ‫ّ‬

‫والطــود والحصــاة‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬واألبيض واألســود‪،‬‬ ‫والعا ِلم والجاهل‪ ،‬دون تذمر وال تقصير‪.‬‬ ‫أمــا بناتهــا األشــجار‪ ،‬فمــا أشــبههن بأمهــن األرض؛‬

‫الحســن‪ ،‬أميــرات الجمال‪..‬‬ ‫لهــف قلبــي عليهــن فاتنــات ُ‬

‫شهيا‬ ‫إنهن يمألن أياديهن بالثمار‪ ،‬ويقدمنها بسخاء غذاء ًّ‬ ‫طعاما لهــن‪ ..‬أال ما‬ ‫لألحيــاء‪ ،‬فــي حيــن يكتفين بالتــراب‬ ‫ً‬

‫أجمــل األرض‪ ،‬ثــم مــا أجمل ما تحمل فــوق ظهرها من‬

‫وعظ وتقى"‪.‬‬

‫حرصا على أن ال‬ ‫كان االبن يحتضن وجه أمه بعينيه‬ ‫ً‬

‫الملهِ ــم وتفاصيل حديثها‬ ‫يفوته شــيء مــن تعابير وجهها ُ‬

‫عظيما على فطرته‬ ‫المتــرع بالشــهد‪ ،‬إن لكلماتها ســلطا ًنا‬ ‫ً‬ ‫السليمة‪ .‬وقد الحظت األم بفطنتها خشوع بطلها الواعد‪،‬‬ ‫وهــي تغــذي الســير باتجــاه بائــع العصيــر لشــراء بعــض‬

‫المرطبــات‪ .‬ومــا إن جلســا علــى مقعد الحديقة وارتشــفا‬

‫بضــع قطــرات مــن عصيــر الفراولــة‪ ،‬حتى أســدلت األم‬ ‫أجفانها‪ ،‬وبابتســامة ســاخنة وعاطفة متدفقة تابعت البوح‬

‫تربة وسواعد سحب وسواعد ريح وسواعد شمس"‪.‬‬

‫ارتعشت شفتي الفتى واخض ّلت عيناه من شدة التأثر‬ ‫ِ‬ ‫"أماه!‬ ‫رويدك‪ ..‬رف ًقا بقلبي الصغير‪ ..‬فلقد‬ ‫فصاح منفع ً‬ ‫ال‪ّ :‬‬

‫ال‬ ‫وعطرا‪..‬‬ ‫عت رئتاي جمــا ً‬ ‫ُ‬ ‫تشــب ْ‬ ‫تنفســت هــذا اليوم حتى ّ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫بوركت من أم مؤمنة حكيمة في كلماتها‬ ‫الشفاء والعافية‪..‬‬ ‫ُ‬

‫أثري ِت روحي يا‬ ‫كم صالحتيني مع نفسي ومع الطبيعة‪ْ ..‬‬ ‫ِ‬ ‫فداك روحي"‪.‬‬ ‫أمي‪،‬‬

‫تفجــر الرجولــة المبكرة في‬ ‫تهللــت أســارير األم مــن ّ‬

‫فقبلتــه بيــن عينيــه بحنــان وهــي‬ ‫كلمــات بطلهــا الصغيــر‪ّ ،‬‬

‫تــردد‪" :‬بــل فــداك أمــك يــا روحهــا"‪ّ .‬أمــا هو فمــا تمالك‬ ‫نفســه بعــد درس الجمال‪ ،‬فحمــل طائرته الورقية وانطلق‬ ‫مســرعا صــوب الطفلــة الحزينــة يقدم لها الطائرة بســخاء‬ ‫ً‬

‫نفــس وطيب خاطر‪ ..‬شــكرته الطفلــة وعائلتها‪ ،‬ووعدوه‬

‫أصر‬ ‫أن يعيدوا له طائرته قبل ما يغادروا المكان‪ ،‬إال أنه ّ‬ ‫علــى أن تحتفــظ الصغيــرة بها وتعتبرهــا هدية من صديق‬

‫تماما كأستاذته الطبيعة‬ ‫يحلم بأن يصير من عظماء الغد‪ً ..‬‬ ‫وعائلتها الكونية البديعة‪.‬‬

‫(*) أديبة إماراتية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫فراحــت تسترســل في العــزف على قيثــارة الفكر والتأمل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بلطــف وحنــان جميــع عيالهــا بيــن ذراعيهــا دون انتظــار‬ ‫ِ‬ ‫ــم تعتنــي بــكل أبنائهــا دون تمييــز؟ إنهــا ترضع‬ ‫مقابــل؟ ل َ‬ ‫الذئــب والخروف‪ ،‬والنحلة والذبابة‪ ،‬والنخلة والحنظلة‪،‬‬

‫وســواعد كائنــات ســاهمت فــي تلقيح النبات‪ ،‬وســواعد‬

‫‪37‬‬


‫أدب‬

‫مرام البار*‬

‫الحب عطاء‬

‫فــي بقعــة مــن األرض جــوادة بالخيــر‬ ‫والبــركات‪ ،‬حيــث تتمتــم شــفاه الســماء‬

‫وتشع عيونها الزرقاء بالسالم‪،‬‬ ‫بالرحمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وحيــث العصافيــر متكئــة علــى أذرع األشــجار ُت ِ‬ ‫رســل‬

‫زغاريدهــا وترانيمها وبهجتها للحياة‪ ..‬وقفت األم ترقب‬ ‫ابنها وهو يلهو حولها بطائرته الورقية الملونة‪.‬‬

‫ا بــأن يكــون غــد األمة به‬ ‫رمقتــه بعينيــن تفيضــان أمــ ً‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تماما‬ ‫أجمل‪ ،‬وأن يمتد نمو غرستها في االتجاه الصحيح ً‬

‫‪36‬‬

‫تتوعد فتى الطائرة الورقية وتهدده بأن تشكوه لوالدها‪.‬‬

‫توا إلى ابنها لتستفســر منه عن سبب‬ ‫ســارت أم الفتى ًّ‬

‫بــكاء الطفلــة‪ ،‬فأخبرهــا بأنهــا طلبــت منــه طائرتــه الورقية‬ ‫لتلعب بها‪ ،‬لكنه رفض منحها الطائرة دون مقابل‪.‬‬

‫أصغــت األم لحديــث ابنهــا باهتمــام‪ ..‬التفتــت إليــه‬

‫وحنوا‪ ،‬وقالت واالبتســامة الوديعة‬ ‫بعينيــن طافحتيــن رقة‬ ‫ًّ‬ ‫محياهــا‪" :‬إيــ ٍه ُبنــي‪ ،‬يــا أملي األخضــر‪ ،‬هات يدك‬ ‫تكســو ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجنبا إلــى جنب‪ ،‬كم أشــتاق أن‬ ‫يــدا بيــد‬ ‫وتعــال ّ‬ ‫نتمشــى ً‬ ‫ً‬ ‫معا على بســاط التأمل الســحري‪ ،‬نتتلمذ سوية في‬ ‫نحلق ً‬

‫ال‬ ‫نحو الشمس‪ ..‬تريده‬ ‫طبيبا للقلب‪ ،‬وبط ً‬ ‫ً‬ ‫مهندسا للروح‪ً ،‬‬ ‫عظيمــا في دنيا األخالق‪ .‬وبينما تنســكب اآلمال الوردية‬ ‫ً‬

‫هيــا‪ ..‬تعال راقب معي هــذي األزهار‬ ‫مدرســة الطبيعــة‪ّ ..‬‬

‫بأنفاس الزهر على وجهها الحالم‪ ،‬فتنفســت بعمق حتى‬

‫أجاب الفتى ببراءة‪" :‬ال شيء أسمع يا أمي"‪ ..‬قالت‬

‫مشــبعة‬ ‫التواق‪ ،‬تدفقت نســمة ناعســة‬ ‫على قلب األمومة ّ‬ ‫ّ‬ ‫اســترواحا‪..‬‬ ‫تنكــس عينيها‬ ‫لكأنهــا تحتســي الهــواء وهــي ّ‬ ‫ً‬

‫ولكــن أفاقهــا مــن شــرودها صــوت بــكاء مفاجــئ لفتــاة‬ ‫صغيــرة تعــدو باندفاع غاضب صوب أفراد أســرتها وهي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بم توشوش آلذان قلبك الصغير"‪.‬‬ ‫وخبرني َ‬ ‫ّ‬

‫كثيــرا‪،‬‬ ‫األم برفــق‪" :‬أمــا أنــا فأســمعها تقــول إنهــا تحبنــا‬ ‫ً‬

‫تقــدم لنــا قلوبهــا العطــرة مجا ًنــا ودون مقابــل‪،‬‬ ‫ولذلــك ّ‬ ‫عربو ًنا لمحبتها‪.‬‬


‫الرضاعة الطبيعية من حيث تعرض المرأة لمجموعة من‬

‫علــى المــرأة إرضــاع المولــود في شــهوره األولى مع أو‬

‫وخصوصا الكالسيوم‪ ،‬مما ينتج عنه مرض َتر ُّقق العظام‬ ‫ً‬

‫تكمــن فــي مــدة اإلرضــاع التــي ذكرهــا القــرآن الكريــم‪،‬‬

‫الــدم‪ ،‬ونقــص العناصــر المعدنية‬ ‫المضاعفــات؛ مــن فقــر ّ‬

‫بــدون الرضاعــة االصطناعيــة‪ .‬ولكــن المفارقــة العجيبــة‬

‫السن‪ ،‬حتى إن بعضهم ربط‬ ‫التقدم في‬ ‫(‪ )Oestéoporose‬عند ّ‬ ‫ّ‬

‫وحددهــا بحوليــن كامليــن لمــن أراد إكمــال الرضاعــة‪:‬‬ ‫ال َد ُه َّن َح ْو َل ْي ِن َكا ِم َل ْي ِن ِل َم ْن َأ َر َاد َأ ْن‬ ‫ات ُي ْر ِض ْع َن َأ ْو َ‬ ‫‪‬وا ْل َوا ِل َد ُ‬ ‫َ‬ ‫ي ِتم‬ ‫اع َة‪(‬البقرة‪ .)233:‬بينت النتائج أن النســاء الالئي‬ ‫الر َض َ‬ ‫ُ َّ َّ‬ ‫يتعرضــن لنفس‬ ‫يرضعــن أوالدهــن أقــل من ســتة أشــهر‪ّ ،‬‬

‫لألم‪.‬‬ ‫خطر اإلصابة بســرطان الثدي‪ ،‬بالرضاعة المتكررة ّ‬ ‫مؤخــرا بعض البحــوث لتؤكد أن قيــام المرأة‬ ‫ثــم جــاءت‬ ‫ً‬

‫ضد‬ ‫بدورها الطبيعي من حمل وإرضاع‪ ،‬هو بمثابة لقاح ّ‬ ‫ا للرضاعة هذا‬ ‫اإلصابــة بســرطان‬ ‫الغــدة ال ّلبنية‪ .‬فهل فعــ ً‬ ‫ّ‬ ‫الدور المصيري؟‬

‫لــم يســبق لهــن اإلرضــاع‪ ،‬إال أن خطر اإلصابة بســرطان‬

‫الغــدة‬ ‫فيهــا ‪ 114‬حالــة ذات تشــخيص مؤكــد لســرطان‬ ‫ّ‬

‫ينمــو الثــدي عنــد المــرأة عنــد بداية بلوغهــا وهو من‬

‫نســبة خطــر اإلصابــة بســرطان الثــدي عند النســاء الالئي‬

‫أجريت دراســة ميدانية في الجزائر‪ ،‬كان حجم العينة‬

‫الثــدي ينخفــض كلمــا ازدادت المــدة عــن الســتة أشــهر‪.‬‬

‫اللّبنية‪ ،‬تخضع لمختلف العالجات‪ ،‬وذلك بالمستشــفى‬

‫الصفــات األنثويــة‪ ،‬وبالتالــي يتكون الثــدي المكتمل من‬

‫الجامعي لوالية سيدي بلعباس‪.‬‬ ‫ــمت العينــة المتكونــة مــن ‪ 114‬مريضــة‪ ،‬علــى‬ ‫ُق ِّس ْ‬ ‫مجــاالت عمريــة مختلفــة تتــراوح مــا بيــن العقــد الثانــي‬ ‫علمــا بــأن‬ ‫‪ 59‬ســنة‪ ،‬نســب َة ‪ %70‬مــن العينــة المدروســة‪ً .‬‬

‫الســن هو أول عامل خطير يســبب اإلصابة بســرطان‬ ‫هذا‬ ‫ّ‬

‫الثــدي‪ ،‬لــذا يلزم على المرأة إجــراء الفحوصات الدورية‬ ‫الكتشــاف المــرض في أول مراحله‪ .‬وهــذه النتيجة ّبينت‬ ‫سن اليأس‪.‬‬ ‫أن خطر اإلصابة يزداد عند بلوغ المرأة ّ‬

‫بعــد ذلــك تــم تصنيــف المريضــات وفــق عمــر بداية‬ ‫اإلنجاب أو ما يدعى (‪ ،)Parité‬مما جاء بنتيج ٍة هي أن أكثر‬

‫ال ّلبنيــة‪ ،‬والنســيج الشــحمي الــذي يعطــي للثــدي شــكله‬ ‫وحجمه‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والعقــد الثامــن‪ ،‬بحيــث يمثل المجال العمــري بين ‪-40‬‬

‫نســيجين اثنيــن‪ ،‬همــا النســيج‬ ‫الغدة‬ ‫ّ‬ ‫الغــدي الــذي يمثــل ّ‬

‫الغدي من مسالك ناقلة ل ّلبن تبدأ من‬ ‫يتكون النسيج ّ‬

‫تجويف محاط بخاليا مفرزة‪ ،‬حيث‬ ‫يتجمع الحليب في‬ ‫ّ‬ ‫هذه التجاويف‪ ،‬ثم يتم تحويله عبر المسالك مباشرة إلى‬ ‫الحلمة‪ .‬يتم إفراز الحليب‬ ‫اعتمادا على التنبيه الممارس‬ ‫ً‬ ‫علــى الحلمــة مــن ِقبــل المولــود بعمليــة الرضاعــة‪ ،‬ممــا‬

‫يجعل الخاليا ال ّلبنية تستنفر لتوفير أكبر كمية من الغذاء‪.‬‬

‫إن عمــل‬ ‫الغــدة اللبنيــة ال يتحقــق إال أثنــاء الــوالدة‬ ‫ّ‬

‫والرضاعة‪ ،‬أما في معظم األوقات من حياة المرأة‪ ،‬تبقى‬

‫مــن ‪ %35‬مــن المريضــات أنجبن ألول مــرة بعد الثالثين‬

‫الغدة في حالة سكون‪ ،‬ولكن هذا ال يمنع من تأ ّثرها‬ ‫هذه ّ‬

‫وما أثبتته الدراســات التي ّبينت أن إنجاب الطفل األول‬

‫إفرازات دورية من هرموني األستروجين والبروجسترون‬

‫من العمر‪ ،‬مما يتيح لنا فرصة المقارنة بين ما وصلنا إليه‬ ‫قبل الثالثين من العمر‪ ،‬يقلل من خطر اإلصابة بســرطان‬

‫الثــدي نســبة ‪ ،%25‬فــي حيــن يزيــد الخطــر بنفس النســبة‬

‫(‪ )%25‬عند النساء الالئي لم يسبق لهن اإلنجاب‪.‬‬

‫الــدورة الجنســية‪ ،‬إذ تتلقــى‬ ‫بالتغيــرات الهرمونيــة خــال ّ‬ ‫اللذيــن يؤديــان إلى نشــاط مؤقــت يتبعه عــودة للخمول‪.‬‬ ‫الدم‪ ،‬يؤدي‬ ‫كمــا أن ارتفاع نســبة الهرمونــات األنثوية في ّ‬

‫الغدية‬ ‫تتحول بعــد ذلك إلى‬ ‫إلــى انقســام متتــال للخاليــا ّ‬ ‫ّ‬

‫الرضاعــة علــى الســرطان أو منعــه‪ ،‬باعتبارهــا الوظيفــة‬

‫المرضية وانخفاض لكمية الهرمونات األنثوية في بالزما‬

‫هــو الرضاعــة الطبيعيــة‪ ،‬وذلــك بهــدف معرفــة تأثير هذه‬

‫سببا في إضعاف انقسام الخاليا‬ ‫تعمل بنشاط‪ ،‬مما يكون ً‬

‫األساســية للثــدي‪ .‬كانــت النتيجــة مفاجئــة؛ حيــث قامت‬

‫الدم‪.‬‬ ‫ّ‬

‫أبنائهــن‪ ،‬ألن تقاليد المجتمــع الجزائري ال تزال تفرض‬

‫(*) كاتبة وباحثة جزائرية‪.‬‬

‫حوالــي ‪ %61‬مــن المريضــات باإلرضــاع بعــد إنجــاب‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أهم مقياس تم االعتماد عليه في مساءلة المريضات‬

‫الغدة‬ ‫ســرطان‪ ،‬بينما في حالة اإلرضاع لمدة كافية‪ ،‬تظل ّ‬

‫‪35‬‬


‫علوم‬

‫مرازي زهرة*‬

‫وحصنها من أن يدخلها َمن هو من غير أهلها‪،‬‬ ‫مرضاة الخالق غايتك‪ ..‬ط ِّه ْر ساحة ق ْل ِبك ّ‬ ‫وإال تزاحمت على األبواب عشرات األصنام وظهر الباطل ب َلبوس الحق‪ ..‬وبلباس الفكر‬ ‫تل ّب َس ْت األهواء والشهوات‪ ،‬وباسم الجهاد اقت ْ‬ ‫ُرفت الجرائم وار ُتكبت الحماقات‪.‬‬ ‫املوازين‬

‫رسطان الثدي‬

‫خطر قد متنعه الرضاعة‬

‫ان ب َِوا ِل َد ْي ِه‬ ‫‪‬و َو َّص ْي َنا ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫قال اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫ــن َو ِف َصا ُل ُه ِفي‬ ‫َح َم َل ْت ُــه ُأ ُّم ُــه َو ْه ًنا َع َلى َو ْه ٍ‬ ‫ــك ِإ َلــي‬ ‫اش ُ‬ ‫ــك ْر ِلــي َو ِل َوا ِل َد ْي َ‬ ‫َع َام ْي ِ‬ ‫ــن َأ ِن ْ‬ ‫َّ‬ ‫ا ْل َم ِص ُير‪(‬لقمــان‪ .)14:‬أثبتــت الدراســات حجــم المعانــاة‬

‫الحقيقية للمرأة أثناء الحمل والوضع من إرهاق الجملة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫األم مولودهــا تقوم‬ ‫العضليــة والعظــام‪ .‬وإذا مــا وضعــت ّ‬

‫‪34‬‬

‫ال بتغذيتــه عــن طريــق الرضاعــة الطبيعيــة التــي ال تفتأ‬ ‫أو ً‬ ‫الدراســات تؤكــد أهميتهــا بالنســبة للمولود؛ مــن تزويده‬ ‫بالعناصــر الضروريــة لبناء جســمه من عظــام وعضالت‪،‬‬

‫باإلضافة إلى وقايته من مختلف األمراض والتشــوهات‪.‬‬

‫األم ال يــزال موضع‬ ‫ولكــن أثــر الرضاعــة الطبيعيــة على ّ‬ ‫جــدل بيــن الباحثين‪ ،‬فمنهم من يؤكد األثر الســلبي لهذه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫أيضــا‪ ،‬وهــذا بطبيعــة الحال جاء بتقييمــات خاطئة خيالية‬ ‫ً‬ ‫ال تمــت إلــى الحقيقــة بصلــة‪ .‬أما الحقيقة التــي ال تتغير‪،‬‬

‫فهــي أن كل خطــوة تخطــى فــي الحريــم‪ ،‬كانــت مقيــدة‬

‫أبدا باإلفراط‬ ‫بأنظمة منضبطة وقوانين صارمة ال تســمح ً‬

‫في الترف والبذخ‪ .‬بل إن حفالت تلك األيام التي كانت‬ ‫تقــام فــي الحديقــة الخاصــة في حريــم قصر تــوب قابي‪،‬‬

‫كانت منضبطة بقواعد أخالقية‪ ،‬وكان المحتفلون ملزمين‬

‫بتطبيق هذه القواعد األخالقية بحذافيرها‪ .‬وقد استمرت‬ ‫هــذه العــادة المحمــودة بعد انتقــال الســاطين العثمانيين‬ ‫إلــى قصــر "دولمه باهشــه" و"تشــيراغان" و"يلديز" وقصر‬

‫"بشــكتاش" حتــى في األعــراس‪ ،‬واألعياد‪ ،‬والمناســبات‬ ‫أيضا‪ ،‬وظلت مســتمرة‬ ‫الدينيــة وغيرهــا مــن االحتفــاالت ً‬ ‫علــى هــذه الوتيــرة حتــى نهايــة عهــد الدولــة العثمانيــة‪.‬‬ ‫يمكن أن نجد كل ما ذُكر آن ًفا‪ ،‬في الكتب والذكريات‬

‫دونتها بعض السلطانات في أواخر العهد العثماني‪،‬‬ ‫التي ّ‬

‫ويمكــن كذلــك أن نجــده فــي كتــب الباحثيــن المنصفين‬ ‫والموضوعييــن الذيــن درســوا الحريــم العثمانــي دراســة‬

‫دقيقــة‪ ..‬ولعلنــا إذا انتبهنــا إلى اآليات القرآنية المنقوشــة‬ ‫علــى جــدران قاعــة االســتراحة للســلطان والتــي تتعلــق‬

‫بالحيــاة األســرية والتربيــة واألخالقية‪ ،‬نتي ّقــن أن ما ُكتب‬ ‫تماما‪.‬‬ ‫عن الحريم من قِبل الغربيين مناف للحقيقة ً‬

‫إذن‪ ،‬إن الحريــم العثمانــي ‪-‬بعكــس مــا ُوصــف‪-‬‬

‫مدرســة أصيلة تقوم على المبادئ والقيم اإلســامية؛ من‬

‫أخالق وتعليم وســلوك وأدب ومعاملة‪ ..‬هذه المدرســة‬ ‫اســتطاعت أن تحافــظ علــى هويتهــا األصيلــة ومنهجهــا‬ ‫المصبــوغ بصبعــة اإلســام ســتة قــرون‪ ..‬لــذا‪ ،‬يجــب أن‬

‫تناول الحديث حول الحياة في الحريم العثماني باحترام‬ ‫ُي َ‬

‫وبدون المســاس بحرمته وكرامتــه‪ ،‬وبالتالي َن ْقل الصورة‬

‫الحقيقيــة لــه دون التوغــل فــي الفانتزيــات والتحريــف‪.‬‬

‫واجب علينا أن نشــعر بالمســؤولية تجاه تاريخنا‪ ،‬ونوفي‬ ‫ضحــوا بــكل غــالٍ ونفيس‬ ‫حــق أجدادنــا األوفيــاء الذيــن ّ‬

‫دون تردد من أجل الرسالة العالمية اإلنسانية السمحاء‪..‬‬

‫ونعرفهم إلى العالم بأجمل‬ ‫البد أن ِ‬ ‫نعرف أجدادنا بحق‪ِّ ،‬‬

‫الصور واألشكال‪.‬‬ ‫(*)‬

‫كاتب وباحث تركي‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬ماهر جلقمة‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪33‬‬

‫إذا دام الربيع‬ ‫بني الزهرات زهرتان؛‬ ‫بالحبور م ْفعمتان‪،‬‬ ‫نارضتان ر ّيانتان‪،‬‬ ‫للخلود مرصودتان‪...‬‬ ‫إنْ مل تعصف العواصف‪،‬‬ ‫وتقصف القواصف‪،‬‬ ‫فالربيع سيدوم‪،‬‬ ‫واملوىت من جديد س ُيبعثون‪...‬‬ ‫***‬


‫الحريم جامعة حصينة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تــم تربيــة المئــات مــن الجواري فــي الحريم خــال فترة‬ ‫االزدهــار‪ ،‬بيــد أن نســبة ‪ %90‬منهــن كــن‬ ‫المتفوقات‬ ‫يعملــن كخادمات‪ ..‬أما‬ ‫ّ‬ ‫من بيــن هذه الجــواري فكانت‬ ‫تعمــل في خدمة الحريم وأهل‬ ‫الســلطان فقــط مقابــل راتــب‬ ‫مخصــص لهــن‪ ،‬كمــا لــم يكن‬

‫‪32‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذا النظــام دليــل علــى أن ترقية الجــواري كانت تتحقق‬ ‫وف ًقا للكفاءات‪ ،‬وليس وف ًقا للشكل والجمال كما يزعم‬ ‫المتفوقة في التعليم‪ ،‬الكاتبة‬ ‫الكثير من الناس‪ .‬بل الجارية‬ ‫ّ‬ ‫جيدا‪ ،‬صاحبــة الكالم الطيب والمؤدب‪ ،‬هي َمن‬ ‫القارئــة ً‬ ‫كانــت تســتحق الترقيــة‪ .‬والبــد أن نلفت االنتبــاه هنا إلى‬ ‫جــدا بنظام "األندرون"‬ ‫أن نظــام الحريم هذا‪ ،‬كان‬ ‫شــبيها ًّ‬ ‫ً‬ ‫ال أك ّفــاء موثوقيــن قادريــن علــى تق ُّلــد‬ ‫الــذي ينشــئ رجــا ً‬ ‫المناصــب اإلداريــة المهمة فــي أجهزة الدولــة العثمانية‪.‬‬ ‫كانــت بعــض الجــواري ُتحــرر ويتــم تســريحها مــن‬ ‫َّ‬ ‫ــد َجهازها‬ ‫ويقــدم لها وثيقة التســريح‬ ‫الحريــم؛ حيــث ُي َع ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ربــى وتع ّلــم ونشــأ ‪-‬مثلهــا‪-‬‬ ‫لتتــزوج برجــل "أندرونــي" َت ّ‬ ‫َّ‬ ‫فــي القصــر الســلطاني‪ .‬كان الســلطان بنفســه يهتم بزواج‬ ‫األندرونييــن مــع جــواري الحريــم‪ ،‬حيــث كانــت هــذه‬ ‫المبــادرة مــن الســلطان‪ ،‬تعزز ثقة األندرني بــه وتزيد من‬ ‫صدقه ووفائه تجاه دولته‪ .‬وال شك أن هذا األمر يبين لنا‬ ‫مدى قوة المركزية وعمق جذورها لدى الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫كان يطلــق علــى الجــواري المســرحات من القصر اســم‬ ‫َّ‬ ‫"أهل القصور"‪ .‬هذا وقد كان القصر السلطاني يخصص‬ ‫تتيسر أمور حياتهن‬ ‫الرواتب وكل التسهيالت‪ ،‬للواتي لم ّ‬ ‫ترم ْلن‪ ..‬أمــا اللواتي لم يرغبن‬ ‫خــارج القصــر‪ ،‬أو للواتي َّ‬ ‫فــي مغــادرة القصــر‪ ،‬كن ينلــن الحمايــة الكاملــة والحياة‬ ‫الكريمة في الحريم طيلة حياتهن‪.‬‬

‫أبدا‪ ،‬إنما كان الســلطان يهتم‬ ‫لهن أية صلة مع الســلطان ً‬ ‫المتفوقات‬ ‫فقــط ببعــض الجــواري المتع ّلِمات الذكيــات‬ ‫ّ‬ ‫اللواتــي تــم اختيارهــن مــن قبــل والــدة الســلطان أو‬ ‫المشرف‪ ،‬ولم يكن يعلم شي ًئا عن غيرهن ولم يكن يرى‬ ‫من األخريات واحدة‪.‬‬ ‫إن التخطيــط المعمــاري للحريــم تــم تصميمــه علــى‬ ‫شــكل جامعة حصينة ال تسمح بالدخول العشوائي إليها‬ ‫حتــى للســلطان‪ ..‬ولعــل هــذا األمــر‪ ،‬يكفــي ألن ُيضحــد‬ ‫بصف‬ ‫كل االدعاءات التي تقول بأن الســلطان كان يقوم‬ ‫ّ‬ ‫مئات الجواري ويختار منهن من يريد‪ .‬لقد كان للحريم‬ ‫تخطيــط معمــاري خــاص يمنــع رؤيــة ما يجــري داخله‪،‬‬ ‫ويمنح لسكانه الحرية التامة في ممارسة الحياة اليومية‪.‬‬ ‫مهما‬ ‫أمرا ًّ‬ ‫اســتمرارية الذُ ِّرية بالنســبة آلل عثمان كان ً‬ ‫للغايــة‪ ..‬ومــع ذلــك كان ُيتو َّفــى بعــض أوليــاء العهد في‬ ‫ســن مبكّ ــر بســبب أو بآخــر‪ ،‬أو لــم تكــن تنجــب بعــض‬ ‫ّ‬ ‫الجــواري األوالد‪ ،‬أو تلــد بعضهــا اآلخــر للســطان إنا ًثــا‬ ‫فقــط‪ ..‬كل هــذه األمور‪ ،‬كانت من ضمن األســباب التي‬ ‫دفعت الســاطين العثمانييــن إلى الزواج المتعدد‪ .‬والبد‬ ‫أن نشــير في هذا المقام‪ ،‬إلى أن كل زوجات الســاطين‬ ‫وجوارٍ ‪ -‬كانت سواسية أمام السلطان‬ ‫العثمانيين‬ ‫أحرارا َ‬‫ً‬ ‫وأمــام الشــرع والقانــون‪ .‬بمعنــى أدق؛ كان كل ما يجري‬ ‫فــي الحريــم عبــارة عــن حياة شــريفة ومنضبطــة تحكمها‬ ‫الشريعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫والجديــر بالذكــر أن أغلــب المعلومــات التــي دارت‬ ‫حــول الحيــاة اليوميــة فــي مؤسســة "الحريــم"‪ ،‬تعــود إلى‬ ‫القــرن التاســع عشــر الميــادي‪ ،‬أي إلــى الفتــرة التي بدأ‬ ‫النفــوذ الغربــي يتوغــل في القصر العثماني وال ســيما في‬ ‫الحريم منــه‪ ..‬وهذا دفع المؤرخين‬ ‫إلــى تعميــم مــا كتبــوه عــن حيــاة‬ ‫القصــر فــي القرن التاســع عشــر‪،‬‬ ‫علــى مراحــل االزدهــار‬


‫عــدم تدخــل النســاء في شــؤون الدولــة والسياســة‪ ..‬وقد‬

‫يفعل على أرض الواقع‪.‬‬ ‫مؤسســة الحريم‪ ،‬وهذا ما كان َّ‬

‫تدخــل بعــض أمهــات‬ ‫العثمانيــة‪ .‬والبــد أن ننــوه هنــا‪ ،‬أن ُّ‬

‫العثمانية‪ ،‬أقامت لها حضارة راقية ال نظير لها في مسرح‬

‫اســتمرت هــذه التربيــة المحمودة حتى نهايــة عهد الدولة‬

‫السالطين في الحكم‪ ،‬كان خو ًفا منهن على زوال الدولة‬ ‫العليــة‪ ،‬فذلــك أدى إلــى تدعيــم أركان الدولــة فــي وقت‬

‫ال‪ ،‬توجيهات الســلطانة "كوسم" والسلطانة‬ ‫الضعف‪ .‬فمث ً‬

‫وال شــك أن هــذه القيــم اإلســامية التــي ن ّفذتهــا الدولــة‬ ‫خــرج هــذه الحضــارة مــن‬ ‫التاريــخ‪ ..‬وليــس بغريــب أن ُت ِّ‬ ‫جــواري الحريــم؛ "الســلطانة الوالدة" أي والدة الســلطان‬ ‫التــي تعنــي "‪( "First Lady‬الســيدة األولــى) فــي أيامنا هذه‪.‬‬

‫"تورهــان" التــي أبدينهــا فــي الشــؤون اإلداريــة‪ ،‬ربما كان‬

‫الحريم مدرسة قيم وأخالق‬

‫الخطأ والصواب فيما يخص اإلدارة‪ .‬يســكن في الحريم‬

‫في كونها مؤسسة تعليم تطبيقي تسعى إلى تربية الجواري‬

‫الســلطة والصالحيــات التامــة داخــل جنــاح الحريم فهي‬

‫فــي الحريم على األخالق اإلســامية الســامية‪ ،‬ويتعلّمن‬

‫ا علــى أنهمــا تمتلــكان المعرفــة الكافيــة للتمييز بين‬ ‫دليــ ً‬

‫إن الوظيفة األساسية التي يتقلّدها الحريم‪ ،‬كانت تتجلى‬

‫أهل الســلطان مع‬ ‫الخدام من الجواري‪ ..‬أما َمن يمتلك‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫يتعرفن‬ ‫اللواتــي َ‬ ‫ســي ُقمن بخدمة القصر‪ .‬كانت الجــواري ّ‬

‫والــدة الســلطان‪ .‬وأمــا المشــرف علــى‬ ‫الخــدم والعمــال‬ ‫َ‬

‫القراءة والكتابة‪ ،‬ثم يتل ّقين العلوم الدينية واالجتماعية من‬

‫إن مــن أهــم المســائل التــي يــدور النقــاش حولها في‬ ‫هذه األيام عن الحريم والتي تم تفسيرها خط ًأ‪ ،‬هي مسألة‬

‫القصر واألدب في الحديث والمعاملة‪ ..‬ووف ًقا للقابليات‬

‫ال‪ ،‬فهــو شــخص يســمى "آغــا الحريــم"‪.‬‬ ‫نســاء ورجــا ً‬

‫جانــب‪ ،‬ومــن جانب آخر يتعلّمن كيفية التعامل مع أهل‬

‫كــن يتعلّمــن كذلك فــن الموســيقى أو مهنة‬ ‫والمواهــب‪ّ ،‬‬

‫الجــواري‪ ..‬مــن المعلــوم أن الجــواري هــن مــن أســرى‬

‫الخياطــة أو مهنــة التطريــز وغيرهــا من المهــن‪ ..‬ومن ثم‬

‫التعرض‬ ‫معاملة األســرى والرفق بهــم‪ ،‬وعدم إيذائهم أو‬ ‫ُّ‬

‫كن يرتقين إلى مرتبة "نائب المشرف"‪،‬‬ ‫المتفوقات منهن‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫بحســن‬ ‫الحــروب‪ ،‬ومــن المعلــوم ً‬ ‫أيضــا أن اإلســام أمر ُ‬

‫العثمانية وتعاملت مع األســرى برفق‪ ،‬وسعت إلى تربية‬ ‫النســاء منهــم تربيــة إســامية‪ ،‬وبذلــت الجهــود لهدايتهن‬

‫إلــى اإلســام‪ ،‬ثــم مــن بعــد استئناســهن باإلســام قامت‬

‫أحرارا‪ ..‬نعم‪ ،‬هذا ما كان يوصي به العلماء في‬ ‫بإطالقهن‬ ‫ً‬

‫ومن ثم يتم تعيينهن إما إلى دائرة السلطان أو دائرة والدة‬ ‫السلطان‪ ،‬وإما إلى دائرة زوجة السلطان أو دائرة فرد من‬

‫أهلــه‪ ..‬وأمــا الماهرات الذكيات منهــن‪ ،‬كان يتم ترقيتهن‬ ‫درجــة درجــة مــن خــال تقييم أدائهــن‪ ،‬وفــي نهاية األمر‬

‫ُيل ََّق ْبن بـ"المعلّمة" ليقمن بخدمة الســلطان مباشــرة‪ .‬ولعل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫لما يجرح كرامتهم‪ ..‬فعلى هذا األســاس ســارت الدولة‬

‫كان يتــم توظيفهــن في القصر وف ًقــا الختصاصهن‪ ..‬وأما‬

‫‪31‬‬


‫تاريخ وحضارة‬ ‫مراد دومان*‬

‫حقيقة حريم السلطان‬ ‫فــي مرحلــة توطيــد أركان الدولــة‪ ،‬كان‬

‫سكان الحريم‪ ،‬ويتعاملوا معهم ضمن قواعد‬ ‫بينهم وبين ّ‬

‫حكام الدول المجاورة أو بنات األعيان‬

‫أيضا‪ ،‬هــو أن التاريخ‬ ‫وممــا يجــب لفــت االنتباه إليــه ً‬

‫الســاطين العثمانيــون يتزوجــون ببنات‬ ‫واألشــراف‪ ،‬ولكــن مــا إن ح ّلــت مرحلــة االزدهــار حتى‬ ‫تغيــرت هــذه الحالــة؛ حيث بــدأ الســاطين يكتفون ‪-‬في‬

‫غالــب األحيــان‪ -‬بالــزواج ببعــض جــواري القصــر فقط‪،‬‬

‫وذلك ليمنعوا‬ ‫حتمل أن يقوم بها‬ ‫ّ‬ ‫التدخالت السيئة التي ُي َ‬ ‫األصهار مستغلين قرابتهم من السلطانة زوجة السلطان‪.‬‬

‫وفــي المراحــل الالحقة‪ ،‬بدأ الســلطان يعيــش مع عائلته‬

‫داخــل القصــر في‬ ‫جناح يســمى "حريم الســلطان"‪ ،‬الذي‬ ‫ٍ‬ ‫أعيدت تنظيم هيكلته من جديد في عهد السلطان محمد‬

‫الفاتح‪ .‬وبعد فتح إسطنبول في النصف الثاني من القرن‬ ‫الســادس عشــر الميالدي‪ُ ،‬ن ِقل حريم السلطان الذي كان‬ ‫فــي قصــر "العتيق" في حي "بيازيد"‪ ،‬إلى قصر توب قابي‬ ‫ّ‬ ‫ال‪.‬‬ ‫زمنا طوي ً‬ ‫الذي أقام فيه السالطين العثمانيون ً‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫البــد أن نشــير بدايــ ًة إلــى أن حريــم الســلطان ‪-‬الذي‬

‫‪30‬‬

‫صارمة ومعايير منضبطة‪.‬‬

‫ســجل الكثيــر مــن مكائــد النســاء فــي القصــور األوربية‪،‬‬

‫ولكــن ال نــرى ‪-‬فــي المقابــل‪ -‬إال القليــل مــن قبيل هذه‬ ‫األحــداث فــي قصور الدولــة العثمانية؛ مــن مثل ما وقع‬ ‫فــي أيــام الســلطانة مــن الجواري‬ ‫"هــرم" زوجة الســلطان‬ ‫ُ َّ‬ ‫ســليمان القانونــي‪ ،‬وأيــام الســلطانة "نــور بانــو"‬ ‫و"صفية"‬ ‫ّ‬

‫وســم"‪ .‬وال شــك أن أهــم ســبب أدى إلــى هــذه‬ ‫ُ‬ ‫و"ك َ‬ ‫التدخــات من ِقبل النســاء العثمانيــات‪ ،‬هو جلوس جل‬ ‫ّ‬

‫الص َغر‪ ،‬وذلك منذ‬ ‫الســاطين على ســدة الحكم في سن ِّ‬ ‫عهــد الســلطان أحمــد األول وطيلة معظم القرن الســابع‬

‫عشــر الميــادي‪ ..‬أدى هــذا األمــر إلــى صعوبة الســيطرة‬

‫على الدولة‪ ،‬ومن ثم إلى غياب السلطة في التنظيم‪ ،‬كما‬ ‫تأثيرا‬ ‫ســلبيا؛‬ ‫ًّ‬ ‫أ ّثــر ‪-‬بطبيعــة الحال‪ -‬على مؤسســة الحريم ً‬ ‫حيث بدأت أمهات السالطين بالتدخل في شؤون الدولة‬

‫ُنقشــت جدرانــه ومداخلــه باآليــات القرآنيــة واألحاديث‬ ‫النبويــة واألدعيــة المأثــورة‪ُ -‬وصفــت الحياة فيــه من ِقبل‬

‫ســابق فــي الدولــة العثمانيــة‪ .‬اســتمر هــذا الوضــع حتــى‬

‫مــن كل تلــك األوصــاف الزائفــة‪ ،‬ظــل الحريــم‬ ‫محافظــا‬ ‫ً‬

‫فــي الســابعة مــن العمــر‪ ،‬حيــث قامــت والدتــه الســلطانة‬

‫الغربيين بشكل خيالي مجاف للحقيقة‪ .‬ولكن على الرغم‬ ‫علــى حرمتــه وأصالته فلم تتلطخ فيه قدســية العائلة التي‬

‫هــي مهــد األخــاق اإلســامية واألصالــة التركيــة‪ ،‬ألن‬

‫السالطين حرصوا أشد الحرص على أن يضعوا حواجز‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وفــرض نفوذهــن علــى الحكــم بشــكل لــم يكن لــه مثيل‬ ‫عهــد الســلطان محمــد الرابــع الــذي تربع علــى العرش‬

‫"خديجــة تورهــان" بمســاعدة وتوجيــه ابنها الســلطان في‬ ‫النصف األول من حكمه‪ ،‬ثم تركته ليحكم البالد بنفسه‪،‬‬ ‫وراحت هي تنشــغل بتربية نســاء الحريم وترســيخ فكرة‬


‫‪" -6‬األهلة‪-‬اإلشارة إلى اتجاه القبلة"‬

‫ربمــا ال تنفرد المســاجد العثمانية بهذا المشــهد الكوني‪،‬‬

‫ونقصد وضع األه ّلة فوق القباب وأعلى نهايات المآذن‬ ‫مواجهــة لمكــة المكرمــة كــي تشــير إلــى اتجــاه القبلــة‪.‬‬

‫فاستخدام األهلة النحاسية أو البرونز وغيره من المعادن‪،‬‬ ‫تقريبا في كل المساجد القديمة والحديثة‪.‬‬ ‫منتشرة‬ ‫ً‬

‫رمــزا‬ ‫ولكــن وجــود تلــك األهلــة‪ ،‬والتــي أصبحــت ً‬

‫لإلسالم بصفة عامة وللمساجد بصفة خاصة‪ ،‬ربما يؤكد‬

‫فكــر اســتخدام المشــاهد واآليــات الكونيــة فــي عناصــر‬ ‫المســاجد بصفة عامة والمســاجد العثمانية بصفة خاصة‪،‬‬

‫وهو ما أكدته المشاهد السابقة التي أشرنا إليها‪.‬‬

‫‪ -7‬استخدام اآليات القرآنية‬

‫تعتبر كل المشــاهد الكونية الســابقة والتي استخدمت في‬

‫تعبيرا غير مباشر‬ ‫عمارة المساجد العثمانية بصفة خاصة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عن فكرة "المسجد كون صغير"‪ ،‬كما توضح تأثر الفنان‬

‫والمعمــاري المصمــم بما أورده القرآن الكريم من آيات‬

‫اآلفاق واألنفس وأهمية تدبرها وفهمها‪.‬‬

‫أيضا أنــه عادة ما يتــم التعبير عن هذا‬ ‫ولكــن يالحــظ ً‬

‫المفهــوم بطريقــة مباشــرة‪ ،‬تتمثل في كتابــة بعض اآليات‬

‫تعبر عن آية كونيــة معينة على رقبة القبة‬ ‫القرآنيــة‪ ،‬والتــي ّ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫الرئيســية من الداخل‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬ا ُ‬ ‫ــم َ‬ ‫هلل ُن ُ‬ ‫الس َ‬ ‫ور َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ض‪(‬النــور‪ )35:‬فــي إشــارة إلــى أهميــة النــور بشــقيه‬ ‫أل ْر ِ‬

‫المعنــوي والمــادي لحيــاة اإلنســان الروحيــة والماديــة‪.‬‬

‫ونلحظ اســتخدام هذه اآلية في رقبة قبة مســجد السلطان‬ ‫أحمــد علــى ســبيل المثــال‪ ،‬وهو تقليد انتشــر فــي أغلب‬ ‫المساجد اإلسالمية على اختالف طرزها‪.‬‬

‫إن ربــط القــرآن الكريــم للعبــادة والدعــاء والذكــر‬

‫والتســبيح بأوقــات معينة كالغداة والعشــي كقوله تعالى‪:‬‬ ‫ون َر َّب ُه ْم بِا ْل َغ َدا ِة َوا ْل َع ِش ِي‬ ‫ين َي ْد ُع َ‬ ‫اصب ِْر َن ْف َس َك َم َع ا َّل ِذ َ‬ ‫‪‬و ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يــد زِ َينــ َة ا ْل َح َيا ِة‬ ‫ون َو ْج َه ُــه َو َ‬ ‫يــد َ‬ ‫ــم ُت ِر ُ‬ ‫ال َت ْع ُ‬ ‫ُي ِر ُ‬ ‫ــد َع ْي َنــاكَ َع ْن ُه ْ‬ ‫الد ْن َيا‪(‬الكهــف‪ ،)28:‬أو الصبــاح والمســاء كقولــه تعالــى‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ان ا ِ‬ ‫ون‪(‬الروم‪،)17:‬‬ ‫ين ُت ْصب ُِح َ‬ ‫ين ُت ْم ُس َ‬ ‫‪َ ‬ف ُس ْــب َح َ‬ ‫ــون َو ِح َ‬ ‫هلل ِح َ‬

‫أو ربــط مواقيــت الصــاة بظواهــر فلكيــة معينــة كقولــه‬ ‫ا َة ِل ُد ُل ِ‬ ‫س ِإ َلــى َغ َســقِ ال َّل ْي ِل‬ ‫الش ْــم ِ‬ ‫الصــ َ‬ ‫ــوك َّ‬ ‫تعالــى‪َ  :‬أ ِق ِ‬ ‫ــم َّ‬ ‫ودا‪(‬اإلســراء‪..)78:‬‬ ‫آن ا ْل َف ْج ِر َك َ‬ ‫آن ا ْل َف ْج ِر إ َِّن ُق ْر َ‬ ‫َو ُق ْــر َ‬ ‫ان َم ْش ُه ً‬ ‫كل هــذا‪ ،‬كان الهــدف منــه ربــط اإلنســان المؤمــن العابد‬ ‫الذاكــر‪ ،‬بالعديــد مــن اآليــات الكونيــة الدالــة على وجود‬ ‫اهلل وقدرته‪ ،‬مما أرســى مفهوم العبادة بمفهومها الواســع‬

‫والــذي ال يقتصر فقــط على الصالة أو الحج أو الصوم‪،‬‬ ‫ليشمل التفكر في ملكوت السماوات واألرض‪.‬‬

‫إن وجــود العديــد من المشــاهد واإلشــارات الكونية‬

‫فــي المســاجد العثمانيــة أو فــي غيرها من مســاجد الطرز‬ ‫مســتبعدا‪ ،‬ألنــه‬ ‫غريبــا أو‬ ‫ً‬ ‫األخــرى‪ ،‬ال يعتبــر بذلــك ً‬ ‫شــيئا ً‬

‫فــي ذلــك الوقت والزمن‪ ،‬كانت األمة اإلســامية مرتبطة‬

‫ارتباطا عمي ًقا‪ ،‬أدى إلى إفراز تلك‬ ‫وبسنة نبيها ‪‬‬ ‫بقرآنها‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫الرؤية لدى المعماري والفنان المســلم‪ ،‬والتي انعكســت‬ ‫بتلقائيــة ِ‬ ‫وح َرفيــة فــي تصميــم العمــران اإلســامي وفــي‬ ‫صدارتــه المســجد بيــت اهلل‪ ،‬أو لــو شــئت فلتقــل صــورة‬ ‫مصغــرة مــن الكــون الكبيــر‪ ،‬أو هكذا البــد أن يكون وأن‬

‫نفهم ونعي‪.‬‬

‫(*) كلية اآلثار‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪29‬‬


‫المنبــر‪ .‬واإلبــداع فــي ذلــك يظهر في أن المســافات بينها‬

‫الطبيعة التي هي خلق وإبداع المولى ‪ ،‬فيجمع العابد‬

‫المجموعــة الشمســية التــي تطــوف حولهــا‪ ،‬وبالطبــع‬

‫رؤية تلك الزخارف النباتية‪.‬‬

‫تماما المســافات الحقيقية بين الشــمس وكواكب‬ ‫تحاكي ً‬

‫بمقياس رسم أصغر‪.‬‬

‫‪" -5‬الظل‪-‬السجود"‬

‫شــواهد وأدلــة الفكــرة مــا زالــت تتجمــع وتتســاند‬

‫الظالل هو أحد الظواهر الطبيعية التي أشــار إليها القرآن‬

‫آلخــر‪ ،‬ومــن مدينة ألخرى‪ ،‬أو حتى من زمن آلخر‪ ..‬إنه‬

‫العديد من تلك اآليات إلى سجود الظالل كقوله تعالى‪:‬‬ ‫ال ُل ُه َع ِن‬ ‫‪َ ‬أولــم يــروا إلــى ما خلــق اهلل ِمن ش‬ ‫ــي ٍء َي َت َف َّيــ ُأ ِظ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ َِ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ‬ ‫ل َو ُهم َد ِ‬ ‫ــج ًدا ِ ِ‬ ‫ون‪(‬النحل‪ ،)48:‬أو‬ ‫ا ْل َي ِم ِ‬ ‫اخ ُر َ‬ ‫ين َو َّ‬ ‫ــما ِئ ِل ُس َّ‬ ‫الش َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬و ِ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ل َي ْس ُ‬ ‫كقوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫ــج ُد َم ْن في َّ‬ ‫اآلص ِ‬ ‫ال‪(‬الرعد‪.)15:‬‬ ‫َط ْو ًعا َو َك ْر ًها َو ِظ َ‬ ‫ال ُل ُه ْم بِا ْل ُغ ُدوِّ َو َ‬ ‫ومــن عجائــب مــا تــم رصــده بمســجد ديفريجــي‬

‫معــا مــا يعــرف بمصطلــح "األرابيســك" أو‬ ‫ويمثــان ً‬ ‫"العربسة"‪.‬‬

‫يص ّلــي" علــى الباب الغربي للمســجد‪ ،‬يبلــغ طوله أربعة‬

‫لتؤكد الرؤية المطروحة‪ ،‬والتي تتأكد وتتنوع من مســجد‬

‫إحســاس وعلم الفنان والمصمم المســلم الذي تشــكلت‬ ‫دائما على األمر‬ ‫عقليتــه نتيجــة الرؤية القرآنية التي تحث ً‬

‫بالنظر في الطبيعة‪ ،‬وملكوت السماوات واألرض‪.‬‬

‫‪" -4‬الطبيعة‪-‬الزخارف النباتية"‬

‫تنقســم الزخــارف اإلســامية بصفــة عامــة إلــى قســمين‬

‫أساســيين‪ :‬الزخــارف الهندســية‪ ،‬والزخــارف النباتيــة‪،‬‬

‫ولكن يالحظ أن الزخارف النباتية هي المسيطرة في‬

‫تزيين عناصر المساجد العثمانية على اختالفها‪ ،‬تلمح ذلك‬

‫في حوائط المسجد وعقوده وسقفه وقبابه‪ ،‬حتى النوافذ‬

‫دائما الزخارف‬ ‫الملونة وربما البسط والسجاجيد‪ ،‬تلمح ً‬ ‫النباتيــة وزهــرة "التوليــب" المنتشــرة فــي البيئــة التركيــة‪.‬‬ ‫وكأن المعمــاري التركــي يحــاول أن ينقــل الطبيعــة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫بأشــجارها وأزهارها إلى داخل المسجد‪ ،‬فال يفتقد تلك‬

‫‪28‬‬

‫داخل المسجد بين ذكر اللسان وذكر األبصار من خالل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الكريم في العديد من السور واآليات القرآنية‪ ،‬وقد نبهت‬

‫الكبير في مدينة ســيواس التركية‪ ،‬هو ظهور "ظل إنســان‬

‫قائمــا حتى انقضاء صــاة العصر ثم يغيب‬ ‫أمتــار‪ ،‬ويبقــى ً‬ ‫ويختفي‪ ..‬فمن أين أتت تلك الفكرة المدهشة للمصمم؟‬ ‫وهــل هــي تطبيق مباشــر لمــا ورد في القــرآن الكريم عن‬

‫سجود الظالل؟‬

‫ســواء أكانت تلك الفرضية صحيحة أم ال‪ ،‬فما يهمنا‬

‫هنا أن نســجل احتواء مدخل المســجد على فكرة التعبير‬ ‫عــن الصــاة باســتخدام الظــل كأحــد الظواهــر الطبيعيــة‪،‬‬ ‫والتي نبه القرآن الكريم ألهمية تأملها وتتبعها وفهمها‪.‬‬


‫المســجد فــي العمــارة اإلســامية‪ ،‬هــو‬

‫والقبــة هنــا إلــى جانــب أنها حــل وظيفي إنشــائي لتغطية‬

‫ويقيمــون الصــاة‪ ،‬ويذكــرون اهلل بالغدو‬

‫على أطراف القبة نفسها‪ -‬فإنها من جهة أخرى ترمز إلى‬

‫أكبــر مســاحة مــن قاعــة الصالة بــدون أعمــدة ‪-‬اللهم إال‬

‫المبنى الرئيس الذي يتعبد فيه المسلمون‪،‬‬

‫تعــد آية من اآليات الكونيــة الدالة على‬ ‫قبــة الســماء التي ّ‬

‫واآلصــال‪ ..‬لذلــك حظــي بنــاء المســجد فــي الحضــارة‬

‫قدرة الخالق العظيم الذي رفع السماء بغير عمد ترونها‪.‬‬

‫اإلسالمية بمكانة كبيرة‪ ،‬فكان أول بناء يبنى في األمصار‬ ‫والمــدن المفتوحــة‪ ،‬وظل هــو النواة التــي يلتف ويطوف‬

‫‪" -2‬الشمس‪-‬الثريا"‬

‫حولها المعمار في المجتمعات اإلسالمية‪.‬‬

‫إن إشارة القبة في عمارة المساجد العثمانية إلى السماء‪،‬‬

‫واختلفــت أشــكال المســاجد مــن حضــارة وبيئــة‬

‫ربمــا يؤكــده هذا المشــهد الــذي أثار انتباهي في مســجد‬

‫المختلفــة‪ ،‬وهــو ما يمكن مالحظته بســهوله في اختالف‬

‫فخــال زياراتــي المتعددة لمســجد الســلطان أحمد‪،‬‬

‫ولكــن يكمــن وراء العديــد مــن تلــك العناصــر‬

‫بقاعة الصالة الرئيسة‪ ،‬فأساس تصميمها عبارة عن دائرة‬

‫ألخــرى‪ ،‬فــكل طراز له ســمات انعكســت علــى عناصره‬

‫السلطان أحمد بإسطنبول وغيره من المساجد األخرى‪.‬‬

‫أشكال المآذن والقباب والزخارف وغيرها‪.‬‬

‫لفــت نظــري تصميم الثريات التي تتدلى من ســقف القبة‬

‫والمفــردات المعماريــة التــي احتوتهــا المســاجد‪ ،‬الكثيــر‬

‫متوســطة يخرج منها العديد من الخطوط المتعرجة التي‬

‫مــن اإلشــارات والرموز التي تحتــاج إلى التأمل والتفكير‬

‫تماثل أشعة الشمس‪.‬‬

‫والمعايشة إلدراك معانيها واستجالء مراميها‪.‬‬

‫إســطنبول وبورصــة وأنقــرة ‪-‬المرة تلــو األخرى‪-‬العديد‬

‫مــن األفــكار والتســاؤالت والتأمــات التــي كانــت تنمــو‬ ‫وتتبلــور مــع الوقــت‪ ،‬ممــا جعلنــي أســتنتج أن المصمم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لقد أثارت زياراتي ومشاهداتي للمساجد القديمة في‬

‫وفي مساجد أخرى كـ"المسجد الجديد" ْ(ي ِني جامع)‪،‬‬

‫الشكل الدائري (وربما‬ ‫تأخذ الثريا الرئيسية بقاعة الصالة‬ ‫َ‬

‫تتعــدد الدوائــر)‪ ،‬حيث تتدلــى منها المصابيــح والقناديل‬

‫فــي منظــر يوحي إلى مصابيح الســماء‪ ،‬فالفكــرة والرؤية‬

‫واحــدة‪ ،‬فالثريــا إمــا هي رمز للشــمس‪ ،‬أو رمز لمصابيح‬

‫المعمــاري الــذي قام بإبداع تلك المســاجد‪ ،‬كان يتعامل‬

‫السماء‪ .‬هنا تكتمل الرؤية والفكرة‪ ،‬قبة المسجد ترمز إلى‬

‫عبــر عنها بمفــردات معمارية وبتشــكيالت‬ ‫الكونيــة التــي ّ‬

‫(أو مصابيح السماء)‪ ،‬وكلها إشارات كونية رمزية تنسج‬

‫تنقــش على حوائط المســجد‪ ،‬ليبث رســالة مباشــرة لمن‬

‫أو صورة مصغرة لهذا الكون الرحيب‪.‬‬

‫معها وكأنها كون مصغر ينعكس فيه العديد من المشاهد‬

‫السماء‪ ،‬والثريا ترمز إلى الشمس بأشعتها الدافئة الحنونة‬

‫زخرفيــة وفنيــة‪ ،‬وربمــا فــي بعض األحيــان بآيــات قرآنية‬

‫مالمح الفكرة الرئيسية‪ ،‬وتؤكد أن "المسجد كون صغير"‬

‫لــم يســتطع فهــم الرســائل الرمزيــة األخــرى التــي تدعو‬ ‫‪-‬كذلك‪ -‬إلى التأمل والتدبر‪.‬‬

‫دعونــا نبــدأ تلك الرحلة التدبرية من خالل المشــاهد‬

‫الكونية التي حوتها العديد من المساجد العثمانية‪:‬‬

‫‪" -1‬السماء‪-‬القبة"‬

‫‪" -3‬المجموعة الشمسية‪-‬المنبر"‬

‫سريعا إلى المسجد الكبير في مدينة بورصة‪،‬‬ ‫فإذا ما انتقلنا‬ ‫ً‬ ‫عبر عنــه الفنــان والمصمم في‬ ‫رأينــا‬ ‫ً‬ ‫مشــهدا ًّ‬ ‫كونيــا آخــر‪ّ ،‬‬ ‫هذه المرة على ريشة المنبر الخشبي للمسجد‪.‬‬

‫فعندمــا تنظــر لهذا المنبر‪ ،‬ألول وهلة يبدو لك كغيره‬

‫ات والمجنبات‪ .‬ثم تطورت‬ ‫األســاس الذي أحيط بالظُّــ ّ‬

‫علــى الجانب الشــرقي للمنبر‪ ،‬تم التعبير بطريقة مباشــرة‬

‫بالمدينة المنورة‪ ،‬حيث كان الفناء المكشوف هو العنصر‬ ‫وتنوعت طرز المســاجد إلى أن ظهر طراز المســجد ذي‬

‫القبة المسيطرة‪ ،‬وهو ما امتاز به طراز المساجد العثمانية‪.‬‬

‫يتبيــن أنه منبــر غير تقليــدي؛ حيث‬ ‫ولكــن بإمعــان النظــر ّ‬

‫عــن المجموعــة الشمســية عبــر أنصــاف مــن الكــرات‬ ‫البــارزة وضعت خالل األطباق النجمية التي تزين ريشــة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫سار تصميم المساجد األولى على نهج المسجد النبوي‬

‫مــن منابــر المســاجد المنتشــرة فــي كل مســاجد العالــم‪،‬‬

‫‪27‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫د‪ .‬يحيى وزيري*‬

‫‪26‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫التــي جــاء فيها؛ إن إجــراء مكالمة مــدة دقيقتين فقط عبر‬

‫هاتف جوال‪ ،‬كفيلة بتغيير النشاط الكهربائي للدماغ مدة‬ ‫ساعة كاملة‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬االعتماد على استخدام الهاتف‬ ‫ومما ينصح به ً‬

‫المنزلــي ذي الخــط األرضــي‪ ،‬وعــدم اســتخدام الجــوال‬ ‫داخــل المنــزل فــي حــال وجــود خــط هاتفــي أرضي‪ ،‬ال‬

‫ســيما وأن األخيــر قــد ثبتــت ســامته وخلوه مــن أضرار‬

‫اإلشعاعات‪.‬‬

‫أيضــا إبعــاد الجــوال عــن الجســم فــي حــال‬ ‫ويجــب ً‬

‫أكد بحث روسي علمي أن استخدام األطفال للهاتف المحمول‪ ،‬يضعف وظائف‬ ‫أيضــا على الوظائف‬ ‫العقــل لديهــم لمــدة ســاعة تقريبًــا بعد اســتعماله‪ ،‬مما ينعكس ً‬ ‫الحيوية للجسم‪.‬‬

‫عــدم اســتخدامه‪ ،‬وليس مــن الصواب جعلــه بالقرب منا‬

‫في المنزل أو العمل‪ .‬كما يجب إبعاده عن الجســم أثناء‬ ‫أيضا إلى تســبيب موجات الجوال‬ ‫النوم‪ ،‬إذ ثمة ما يشــير ً‬

‫اســتخدامه أثنــاء ركــوب األجســام المتحركــة بســرعة‪،‬‬

‫الضطرابات النوم‪ ،‬كاإلصابة باألرق والنوم المتقطع‪.‬‬

‫كالسيارات والطائرات والقطارات‪ ،‬ألن الحركة السريعة‬

‫ويجــب كذلــك عــدم وضع الجــوال مــدة طويلة في‬

‫تزيد من إنتاج طاقة الجوال وبثـه لألشعة‪ ،‬ولذلك ُينصح‬

‫جيــب مــا نرتديه مــن ثياب‪ ،‬أو في حزام الخصر‪ .‬وتشــير‬ ‫األجهزة التناسلية في الجسم لمخاطر أشعة الجوال‪.‬‬

‫وأثبتــت نظريــة أخــرى‪ ،‬أن إبعــاد جهــاز الجــوال عن‬

‫الــرأس مســافة خمســة ســنتيمترات‪ ،‬تخفــض مــا يقــرب‬

‫مــن ‪ %75‬مــن موجات اإلشــعاعات الواصلــة إلى الرأس‬ ‫والعنــق‪ ،‬ويشــجعنا ذلــك علــى اســتخدام الســماعات‬ ‫السلكية‪ ،‬ومكبـر الصوت (‪ )Speaker‬التي يمكن معها إبعاد‬ ‫الجهاز عن أذن مستمعه ورأسه‪.‬‬

‫كما يجب الحرص على عدم استعمال الجوال داخل‬

‫األماكن المعدنية المغلقة‪ ،‬كالســيارة والطائرة والمصعد‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫دراسات إلى زيادة احتمال اإلصابة بالعقم‪ ،‬نتيجة تعرض‬

‫بعدم إجراء مكالمات أثناء استخدام وسائل النقل تلك‪.‬‬

‫األطفال والسيدات الحوامل‬

‫يجــب تحجيــم اســتخدام األطفــال للهاتف الجــوال قدر‬

‫اإلمــكان‪ ،‬واالقتصــار علــى ذلــك حيــن الضــرورة‪ .‬ومــن‬

‫المؤلــم مــا نــراه من منظــر الكثير مــن أبنائنا وهــم يعبثون‬ ‫معظــم أوقاتهــم بهواتفهــم الجوالــة‪ ،‬وليت األســرة تدرك‬

‫خطــر ذلــك‪.‬‬ ‫وعمومــا فــإن جمجمة األطفــال ‪-‬من ناحية‬ ‫ً‬ ‫تشريحية‪ -‬أرق مما هي عليه لدى الكبار‪ ،‬كما أن محتوى‬

‫دماغ الطفل من الســوائل أكبر‪ ،‬وهذان عامالن يســمحان‬

‫بمــرور موجات وإشــعاعات أكثر نحو دمــاغ الطفل‪ ،‬مما‬

‫قد يزيد من المخاطر المحتملة‪.‬‬

‫علــى امتصــاص كميــة أكبــر مــن هــذه األشــعة‪ ،‬ولذلــك‬

‫جــدا للمؤثــرات الخارجيــة‪ ،‬ال ســيما‬ ‫الرحــم حساســة ًّ‬

‫ومــن المهــم كذلــك‪ ،‬عــدم إجــراء مكالمــات الهاتف‬

‫علــى تقليــل اســتخدام الجــوال بعد الــوالدة أثنــاء حملها‬

‫داخــل الحيـــز المعدنــي‪ ،‬وهــذا يعني أن الجســم سيـــجبر‬

‫لألجهــزة الجوالــة؛ فأعضــاء الجنيــن الــذي تحمله داخل‬

‫يـُنصح بإغالق الجوال داخل تلك األمكنة المغلقة‪.‬‬

‫أيضا‬ ‫الموجــات التــي تبثها الهواتف الجوالة‪ .‬كما تـــحث ً‬

‫الجوال إن كانت إشارة البث ضعيفة‪ ،‬وذلك ألن ضعف‬

‫اإلشــارة يجبر الجهاز على زيادة قوته وإنتاج طاقة أكبر‪،‬‬ ‫وفــي ذلــك مزيــد مــن تعريــض الجســم لمخاطر األشــعة‬

‫والموجات‪.‬‬

‫كمــا تزيــد مخاطــر إشــعاعات الجــوال فــي حــال‬

‫لوليدهــا؛ فأنســجة جســمه الرخوة تســتقبل هــي األخرى‬ ‫مزيدا من اإلشعاعات الضارة‪.‬‬ ‫ً‬

‫(*) اختصاصــي جراحــة التجميــل بالمدينــة المنــورة ‪ /‬المملكــة العربيــة‬ ‫السعودية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫وســبب ذلك أن األشــعة تميل إلى حبس جزء كبير منها‬

‫أيضــا بتخفيــف اســتعمالها‬ ‫وتنصــح الســيدة الحامــل ً‬

‫‪25‬‬


‫تدهــور مســتوى الســمع لديــه مــع اســتمراره باســتعمال‬

‫التــي تقــول‪ :‬إن لقوقعــة األذن‬

‫اقتــرح الطبيب أن يســتخدم المريض أذنه اليســرى لتلقي‬

‫المغناطيســي‪ ،‬مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة أنســجة‬

‫هاتفــه الجــوال وفــق نظامــه الســابق‪ .‬وفــي زيــارة الحقــة‬

‫المكالمــات الهاتفيــة‪ ،‬وإيقــاف اســتخدام األذن اليمنــى‪،‬‬ ‫واســتمر ذلك ســتة أشــهر‪ ،‬تم بعدها إجــراء تقويم جديد‬ ‫معا‪.‬‬ ‫للحالة الصحية لألذنين ً‬

‫تحســنت حالــة األذن‬ ‫وجــاءت النتائــج مدهشــة‪ ،‬إذ ّ‬

‫اليمنى بصورة ملحوظة‪ ،‬بينما بدأت حالة األذن اليسرى‬

‫صحة‬ ‫ســلبا في ّ‬ ‫تلــك القوقعــة ومــا جاورها‪ ،‬وهذا يؤثــــر ً‬

‫الخاليا الشــعرية (‪ ،)Hair cells‬مما يضعف حاســة الســمع‬ ‫تدريجية ملحوظة‪.‬‬ ‫بصورة‬ ‫ّ‬

‫كيف نخفف أضرار الهاتف الجوال؟‬

‫إن جســم اإلنســان أمانة لديه‪ ،‬وعليه مسؤولية كبيرة تجاه‬

‫تدريجيــا لتصاب بأعراض َف ْقد الســمع الحســي‬ ‫تتدهــور‬ ‫ًّ‬

‫إلى مريضه‪ ،‬مفادها ضرورة الحد من اســتخدام الجوال‪،‬‬

‫حيــن قــال‪" :‬إن لجســدك عليك ح ًّقا" (رواه البخــاري)‪ ،‬وقوله‬ ‫‪" :‬ال ضرر وال ِضرار" (رواه ابن ماجة)‪.‬‬

‫ومكب ًرا للصوت‪ ،‬فقلـــل بذلك من مدة التعرض المباشر‬ ‫ّ‬

‫من تعرض الجســم لمخاطر اإلشعاع الصادرة عن جهاز‬

‫فاســتجاب لذلــك‪ ،‬فلم يتجاوز مجمــل مكالماته الهاتفية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫امتصــاص جــزء كبيــر مــن موجــات الحقــل الكهربائــي‬

‫الحفاظ على صحته‪ ،‬وصونه عما قد يحدق به من خطر‬

‫العصبــي ســابق الذكــر‪ ،‬فأصدر الطبيــب تعليمات جديدة‬

‫‪24‬‬

‫(‪)Cochlea‬‬

‫مقــدرة علــى‬

‫يوميــا‪ ،‬واســتخدم ســماعة خاصــة‬ ‫خمــس عشــرة دقيقــة ًّ‬ ‫للجوال‪ ،‬باإلضافة إلى إبعاد المسافة الفاصلة بين جسمه‬ ‫والهاتف‪ ،‬ولوحظ بعدها تحسن وظيفة السمع لدى أذنه‬ ‫من جديد‪.‬‬

‫أما التفســير العلمي لذلك فقد أوضحتـــه الدراســات‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وضرر‪ ،‬ويدخل ذلك ضمن االلتزام بوصية رسول اهلل ‪‬‬

‫وثمة العديد من أساليب الوقاية التي تساعد في الحد‬

‫الهاتــف الجــوال‪ ،‬ومن ذلك تقليل اســتخدام هذا الجهاز‬

‫قــدر المســتطاع بتقليل مــدة المكالمة واقتصار اســتعماله‬

‫أثناء الحاجة إليه‪ ،‬فكلما زادت مدة المكالمة زاد احتمال‬ ‫ظهــور الخطــر‪ .‬ونشــير هنا إلــى نتائج إحدى الدراســات‬


‫وتنــص كتــب فيزيــاء األشــعة علــى أن هنــاك عالقــة‬ ‫إرســال واســتقبال بيــن الهاتــف الجوال وأبــراج تقوية ب ّثه‬ ‫الخاصــة بــه‪ .‬وتنشــأ فــي البيئــة المحيطــة بنــا والتــي تكثر‬ ‫فيهــا أعــداد أجهــزة الجوال وأبراج تقوية إرســاله‪ ،‬حقول‬ ‫مغناطيسية كهربائية من أشعة الراديو والموجات الصغيرة‬ ‫المعروفــة بموجــات الميكروويــف‪ ،‬وهي المســؤولة عن‬ ‫المرضية التي قد تشــاهد في من يتعرض لتلك‬ ‫التأثيرات َ‬ ‫طردا مع مدة‬ ‫الموجات‪ ،‬وتتناســب شــدة تلك التأثيرات ً‬ ‫التعــرض لإلشــعاع‪ ،‬فكلمــا زادت هــذه المــدة زاد األثــر‬ ‫ّ‬ ‫السلبي الناتج عنها‪.‬‬

‫إشعاعات الجهاز الجوال‬

‫تمت في جامعة الملك عبد العزيز‪ ،‬دراسة دقيقة تناولت‬ ‫أبعــاد األضــرار المتعلـــقة بــاألذن نتيجة تعرضهــا للحقل‬ ‫الكهربائــي المغناطيســي الصــادر عــن أجهــزة الهواتــف‬ ‫ودرســت حالــة مريــض فــي‬ ‫الجوالــة وأبــراج التقويــة‪ُ ،‬‬

‫الثانيــة واألربعيــن مــن عمــره‪ ،‬وكانت الشــكوى الرئيســة‬ ‫لديــه‪ ،‬ضعف حاســة الســمع في األذن اليمنــى منذ ثالثة‬

‫أشهر‪ ،‬والشعور ببعض األلم داخل األذن وحولها عقب‬

‫الجوال‪ ،‬باإلضافة إلى بعض األعراض‬ ‫استخدام الهاتف‬ ‫ّ‬ ‫التحسسية في األنف‪ ،‬ونوبات من الصداع المتتالي‪.‬‬

‫وذكر المريض أن تلك األعراض تبدأ بعد اســتخدام‬

‫الجوال بدقائق‪ ،‬وقد تستمر في بعض األحيان مدة ساعة‬

‫كاملــة‪ ،‬كمــا الحظ أن اســتخدامه لهاتف المنــزل العادي‬ ‫ال يســبب لــه فــي العــادة مثل تلــك الشــكاوى المزعجة‪.‬‬

‫وأفــاد بأنــه اعتــاد اســتخدام الجــوال مدة تقارب ســاعتين‬

‫تحديــدا لســماع صوت‬ ‫يوميــا‪ ،‬واســتخدام األذن اليمنــى‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫المكالمات‪.‬‬

‫وتــم إجــراء فحص طبي‪ ،‬والتركيز على فحص األذن‬

‫حــدة حاســة الســمع‪،‬‬ ‫المصابــة‪ ،‬وأجــري تقويــم لقيــاس ّ‬

‫مرضية تـُــعرف‬ ‫مشــخصة لحدوث حالة‬ ‫فجــاءت النتائج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بـ"فقــد الســمع الحســي العصبــي" (‪Sensorineural Hearing‬‬

‫‪ )Loss‬فــي األذن اليمنــى التــي يســتخدمها المريــض أثنــاء‬ ‫مكالماته عبر جهازه الجوال‪.‬‬

‫وتــم متابعــة تطــور حالة المريــض الصحيــة‪ ،‬فلوحظ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أضرار في األذن‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال تزال الدراســات حول ضرر الجهاز الجوال محدودة‪،‬‬ ‫ولــم يتــم حتــى اآلن إعطــاء الموضــوع حقــه مــن جهــد‬ ‫البحــث‪ ،‬فذلــك يحتاج إلــى مدة طويلة وإلــى المزيد من‬ ‫التنقيــب‪ ..‬وقــد تكشــف قادمــات األيام‬ ‫أضــرارا ثابتة في‬ ‫ً‬ ‫هذا المجال‪ ،‬إال أن أصابع اتـهام قوية أخذت في اآلونة‬ ‫األخيــرة تصــف جهــاز الجــوال‪ ،‬بالخطــر الكامــن الــذي‬ ‫شرعت آثاره السلبية تـتـضح شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬ ‫وتقتــرح بعــض التقاريــر الطبية الحديثــة‪ ،‬وجود رابط‬ ‫بيــن اســتخدام الهاتــف الجــوال وإصابــة الجســم ببعــض‬ ‫ضيــة العابــرة‪ ،‬وبخاصــة فــي مســتوى‬ ‫المر ّ‬ ‫االضطرابــات َ‬ ‫الجهــاز العصبــي؛ مثــل الشــعور باإلرهــاق والصــداع‬ ‫والــدوار‪ ،‬واضطرابــات النــوم‪ ،‬وخلل في وظيفــة الذاكرة‬ ‫ــدر والتنميــل‬ ‫وضعــف التركيــز‪ ،‬واإلحســاس ببعــض َ‬ ‫الخ َ‬ ‫والشعور بالغثيان‪.‬‬ ‫إال أن تقاريــر أخــرى أخــذت ُتظهــر بعــض التخــوف‬ ‫والقلــق بشــأن توقعــات بوجود عالقة بين كثرة اســتخدام‬ ‫الهاتــف الجــوال وظهور بعض األعــراض الخطيرة‪ ،‬مثل‬ ‫اإلصابــة بــأورام الدمــاغ وارتفاع ضغط الــدم‪ ،‬والتعرض‬ ‫لنوبات الصرع لدى األطفال‪.‬‬

‫حــذرت مجموعــة دوليــة مــن ‪ 23‬باحثًــا وخبيـ ًـرا بــارًزا من أخطار الهاتــف الجوال‬ ‫فــي حــدوث أورام فــي المــخ‪ .‬وقــال العلماء في بيان "إن أحدث الدراســات التي‬ ‫شملت أفرا ًدا ظلوا يستخدمون الهاتف الجوال على مدى ‪ 10‬سنوات متتالية‪،‬‬ ‫تشــير إلى احتمال حدوث بعض األورام الحميدة‪ ،‬وبعض ســرطانات الدماغ في‬ ‫المناطق التي توضع فيها السماعة على الرأس"‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬حذيفة أحمد الخراط*‬

‫الهاتف الجوال‬

‫َّ‬ ‫املتوقعة‬ ‫وأخطاره‬ ‫غــدت االتصــاالت الحديثــة بأشــكالها‬

‫صغيــرا ســهل الحمــل‪ ،‬يصلنــا بالعالــم كلـــه خــال ثــوان‬ ‫ً‬

‫يتجزأ من حياتنا اليومية‪ ،‬وأصبح ما كان‬

‫المســتمر لهــذا الجهــاز الجــوال‪ .‬ولفــت األمــر األنظــار‬

‫االتصاالت بخطوات متســارعة أخذت تكتشــف الجديد‬

‫التقديــرات إلــى زيادة عدد مســتخدمي هــذا الهاتف فوق‬

‫جــزءا ال‬ ‫المختلفــة وصورهــا المتباينــة‪،‬‬ ‫ً‬

‫واقعا‬ ‫ملموسا‪ .‬إذ تقدم العلم في مجال‬ ‫حلما في األمس ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫والمفيــد‪ ،‬وتتــرك بصماتها الواضحات التي أســقطت بها‬ ‫الحواجز بين الشعوب‪ ،‬وأسهمت في تالقي الحضارات‬

‫المختلفــة وتالقــح أفكارهــا‪ ،‬دون أن تعرقلـــها فروقــات‬ ‫التوقيــت أو اختــاف الفصــول‪ ،‬أو تعيقـــها جغرافيــة البر‬

‫والبحر‪.‬‬

‫غنيــة عــن التعريــف‬ ‫وفــي وقتنــا الراهــن تظهــر طفــرة ّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫ويســـرت أوعية‬ ‫قربت البعيد‪ّ ،‬‬ ‫فــي عالــم االتصاالت التي ّ‬

‫‪22‬‬

‫المعرفة‪ ،‬واختزلت الوقت‪،‬‬ ‫وحولت المقولة المشــهورة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫"العالــم قريــة صغيــرة" إلــى حقيقة مشــاهدة َيـــسهل معها‬

‫تداول األخبار والمستجدات عبر وسائل متنوعة وعديدة‬

‫بدأت على استحياء‪ ،‬وسرعان ما تطورت لتـشهد‬ ‫حضورا‬ ‫ً‬ ‫يوما بعد يوم‪.‬‬ ‫قويا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وجريئا ما يزال ينمو ً‬

‫وطفــرة االتصــاالت تلــك‪ ،‬جعلــت بين أيدينــا‬ ‫جهازا‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معدودات‪ ،‬وال تكاد دولة حول العالم تنجو من الزحف‬ ‫إلــى دخــول أجهــزة الجوال إلــى كل منزل‪ ،‬كما أشــارت‬

‫فشــيئا‬ ‫شــيئا‬ ‫ً‬ ‫المليارات‪ ،‬وال شــك في أن هذا العدد يزيد ً‬ ‫وسنة بعد سنة‪.‬‬

‫كمــا يشــهد مجــال االســتثمار فــي عالــم االتصــاالت‬

‫مالح ًظــا‪ ،‬وقــد نجحــت وســائل الدعايــة في جذب‬ ‫نمــوا‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫المستهلكين الجدد‪ ،‬وهي تح ّثهم على الدخول إلى عالم‬

‫االتصاالت الفسيح‪.‬‬

‫أبراج في كل مكان‬

‫وقــد أحاطــت بنــا‬ ‫بــث الهاتف الجــوال من‬ ‫أبــراج تقويــ ِة ِّ‬ ‫ُ‬ ‫العلماء إلى‬ ‫جميــع الجهات‪ ،‬ودعا هــذا الحضور القوي‬ ‫َ‬

‫دراســة التأثيــرات الحيويــة الناتجــة عــن تعــرض الجســم‬ ‫لمــا ينبعــث مــن جهــاز الجــوال وأبراجــه مــن إشــعاعات‬ ‫كامنــا يحتمل أن يتم‬ ‫خطرا‬ ‫قــد تحمــل بيــن طياتها‬ ‫صحيا ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫اكتشافه في القريب العاجل‪.‬‬


‫والزينــة‪ .‬وقــد كان االهتمام بالمكتبات الشــخصية خالل‬

‫عليــه‪ ،‬كتــب مــن دواويــن العلــم ودفاتــره مــا ال يحصــى‬

‫مــدن العدوتيــن‪ .‬وقــد حفظــت لنا كتــب التراجم أســامي‬

‫بخطــه الرائــق‪ ،‬فاجتمع له بذلك مكتبــة طافحة بالذخائر‬

‫أمــرا ملحوظً ــا فــي ســائر‬ ‫الحقبــة المرابطيــة والموحديــة‪ً ،‬‬

‫كثرة‪ ،‬وكان يقتني من الكتب جملة وافرة سوى ما ينسخ‬

‫بعضهــا‪ ،‬منهــا مكتبــة محمــد بن يحيــى الغافقــي القرطبي‬

‫والنفائــس‪ ،‬نكــب فيهــا مــرات بضــروب مــن الجوائــح‬

‫المعــروف بابــن الموصل (ت‪433‬هـــ)‪ ،‬وكان هذا الرجل‬

‫كالغرق والنهب‪.‬‬

‫ْيؤثــر جمــع الكتب على كل لذة‪ ،‬وقد اجتمع عنده منها‬

‫فهذه بعض من أنواع المكتبات التي برزت بالمغرب‬

‫مــا لــم يجتمــع مثلــه ألحد بعــد الحكم المســتنصر‪ ،‬وقد‬

‫األقصى واألندلس خالل عصري المرابطين والموحدين‬

‫بيعــت هــذه الكتب فــي تركته‪ ،‬وأغلي فيهــا حتى تقدمت‬

‫مــع جملة من نماذجهــا‪ ،‬قصدت بها التمثيل ال الحصر‪،‬‬

‫الورقة في بعضها بربع مثقال‪.‬‬

‫ذلــك أن تتبــع أخبــار المكتبــات أمــر يطــول‪ ،‬ولعــل هذه‬

‫ومنهــا مكتبــة عمــر بــن عبيد اهلل بن يوســف بن حامد‬

‫أمثلــة دالــة علــى القصــد‪ ،‬ويكفــي مــن القــادة مــا أحاط‬

‫معتنيا‬ ‫الذهلــي (ت‪454‬هـــ)‪ ،‬فقد جاء في ترجمته‪" :‬وكان‬ ‫ً‬

‫بالعنق‪.‬‬

‫بنقــل الحديــث وروايتــه وســماعه من الشــيوخ فــي وقته‪،‬‬

‫مكثــرا في الروايــة (‪ )...‬وعن أبي مروان‬ ‫جامعــا للكتــب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫(*)‬

‫أي عمر بــن عبيد اهلل‬ ‫الطبنــي قــال‪ :‬أخبرنــي أبــو‬ ‫ٍ‬ ‫حفــص‪ْ ،‬‬

‫المراجع‬

‫قال‪ :‬شددت في داري بالربض الغربي ثمانية أحمال من‬

‫انتهبها البربر"‪.‬‬

‫ومنهــا مكتبــة علــي بــن أبي بكــر بن عبــد الرحمن بن‬

‫أشــياخا جلة‬ ‫علــي بــن ســمجون (ت‪599‬هـــ)‪ ،‬فقــد "لقي‬ ‫ً‬

‫(‪)1‬‬

‫نفح الطيب‪ ،‬للمقري‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحســان عباس‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪1988‬م‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كتــب إلخراجهــا إلى مكان غيره‪ ،‬ولم يتم لي العزم حتى‬

‫كاتب وباحث مغربي‪.‬‬

‫(‪ )2‬المعجم في أصحاب القاضي اإلمام أبي علي الصدفي‪ ،‬البن األبار‪،‬‬ ‫دار الكتاب العربي للطباعة والنشر‪1967 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )3‬المســتملح مــن كتاب التكملــة‪ ،‬لإلمام الذهبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬بشــار عواد‬ ‫معروف‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫ا ذا مــروءة كاملة‬ ‫فقيهــا عار ًفــا جليــ ً‬ ‫وأخــذ عنهــم‪ ،‬وكان ً‬

‫(‪ )4‬صلــة الصلــة‪ ،‬ألبــي جعفــر بــن الزبير‪ ،‬تحقيــق‪ :‬عبد الســام الهراس‬

‫ومنهــا مكتبــة عبــد الرحيم بــن الملجــوم (ت‪604‬هـ)‬

‫(‪ )5‬المعجــب فــي تلخيــص أخبــار المغــرب‪ ،‬لعبــد الواحــد المراكشــي‪،‬‬

‫حسن‪ ،‬وكانت له خزانة كتب حافلة"‪.‬‬ ‫وخلُق َ‬

‫جماعة‬ ‫التــي كونهــا مــن مكتبــة والــده عيســى الــذي كان ّ‬

‫للدواوين العتيقة والدفاتر النفيسة‪ ،‬ومن مكتبة أستاذه أبي‬ ‫عبــد اهلل محمــد بــن أحمد الخزرجي‪ ،‬وممــا أضاف لهذه‬

‫وتلك حيث صارت مكتبة حافلة بالنفائس والذخائر‪.‬‬

‫ومنهــا مكتبــة قرابتــه عبــد الرحمــن بــن يوســف بــن‬

‫الملجــوم (ت‪605‬هـــ)‪ ،‬التــي "جمــع لهــا مــن الكتــب‬ ‫مــا لــم يجمعــه أحــد مــن أهــل بالمغــرب‪ ،‬وخزانــة كتبــه‬

‫كانــت مشــهورة فــي المغــرب"‪" ،‬وقد ذكر غيــر واحد من‬ ‫متفرقة‪ ،‬بستة آالف دينار"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ومنهــا مكتبــة ابن أبي الصقر بمراكــش‪ ،‬وهو الحافظ‬

‫المكثــر أبــو العبــاس أحمد بــن عبد الرحمــن األنصاري‪،‬‬ ‫حريصــا‬ ‫نزيــل مراكــش (ت‪569‬هـــ)‪ ..‬كان كل ًفــا بالعلــم‬ ‫ً‬

‫تحقيــق‪ :‬صــاح الديــن الهــواري‪ ،‬المكتبــة العصرية‪ ،‬صيــدا‪ ،‬الطبعة‬

‫األولى‪2006 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )6‬لمحــة عــن تاريــخ الخزائــن الملكيــة بالمغــرب األقصــى‪ ،‬لمحمــد‬ ‫المنوني‪ ،‬منشور بمجلة دعوة الحق‪ ،‬ع‪.288:‬‬

‫(‪ )7‬الكتــب والمكتبــات فــي األندلــس‪ ،‬حامد الشــافعي ديــاب‪ ،‬دار قباء‪،‬‬ ‫الطبعة األولى‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )8‬تاريــخ المكتبــات اإلســامية ومــن ألــف فــي الكتــب‪ ،‬لعبــد الحــي‬ ‫الكتانــي‪ ،‬ضبــط وتعليــق‪ :‬أحمــد شــوقي بنبيــن‪ ،‬وعبد القادر ســعود‪،‬‬ ‫المطبعة والوراقة الوطنية‪ ،‬مراكش‪ ،‬الطبعة الثانية‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )9‬مســالك األبصــار‪ ،‬البــن فضــل اهلل العمــري‪ ،‬تحقيــق‪ :‬حمــزة أحمــد‬ ‫عباس‪ ،‬وآخرون‪ ،‬المجمع الثقافي‪ ،‬أبو ظبي‪2001 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )10‬وصــف إفريقيــا‪ ،‬ليــون اإلفريقــي‪ ،‬ترجمــة‪ :‬محمــد حجــي‪ ،‬ومحمد‬ ‫األخظر‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثانية‪1983 ،‬م‪.‬‬

‫(‪ )11‬الصلة‪ ،‬البن بشكوال‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم األبياري‪ ،‬دار الكتاب المصري‪،‬‬

‫القاهــرة‪ ،‬دار الكتــاب اللبنانــي‪ ،‬بيــروت‪ ،‬الطبعــة األولــى‪1989 ،‬م‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫المؤرخيــن أنــه بيعت أوراق كتبه التي هي غير مجلّدة بل‬

‫وآخرون‪ ،‬منشورات وزارة األوقاف المغربية‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫مصحــف يرفعــه رجــان لثقلــه‪ ،‬فيــه أربــع أوراق مــن‬ ‫مصحــف عثمــان بــن عفــان ‪ ‬الذي خطــه بيمينــه‪ ،‬وفيه‬ ‫نقطــة مــن دمــه‪ ،‬وقد نقــل من الجامــع أيام عبــد المؤمن‬ ‫الموحــدي إلــى مراكــش"‪ .‬فهذا النص من الروض يشــير‬ ‫إلــى وجــود مخــزن بالجامــع‪ ،‬وأن مــن محتويــات هــذا‬ ‫يتيما‬ ‫المخــزن مصحــف‪ .‬فهــل يــا تــرى أكان المصحــف ً‬ ‫بهــذا المخــزن مــع مــا عــرف بــه الجامــع مــن عطــاء في‬ ‫مجال التعليم والتدريس؟‬

‫قبلــه ممــن ملــك المغــرب"‪ .‬ومعلــوم أن مكتبــة الحكــم‪،‬‬ ‫تنيــف محتوياتهــا عــن أربعمائــة ألــف مجلــد‪ .‬بنــاء علــى‬

‫هــذه الشــهادة يمكــن القــول‪" :‬إن يوســف الموحــدي هو‬ ‫المؤسس ألول مكتبة ملكية عظيمة بالمغرب"‪.‬‬

‫َــف أبــي يعقــوب علــى عمــارة هــذه‬ ‫وقــد حــرص خل ُ‬

‫المكتبــة بجديــد المقتنيات ونفيس المنتســخات‪ ،‬إال أنها‬ ‫ســتتعرض لنكبــة مؤســفة عند خلع الخليفــة عبد الواحد‬

‫األول الموحدي‪ ،‬فنهبت أكثر كتبها واختل نظام سيرها‪،‬‬ ‫حتى استقر األمر لعبد اهلل العادل ‪-‬الذي خلف السلطان‬

‫مكتبات المدارس‬

‫المخلــوع‪ -‬فعمــل علــى تنظيــم ما بقــي من كتبهــا وتمييز‬

‫الكامل منها‪ ،‬ثم سار على االهتمام بها خ َل ُفه أبو حفص‬ ‫عمر المرتضى‪ ،‬إلى أن آل أمرها إلى بني مرين‪.‬‬

‫مكتبات المساجد والجوامع‬

‫هي المكتبات التي كانت تؤثث بها المساجد والجوامع‪،‬‬ ‫وهــي أقــدم أنــواع المكتبات اإلســامية‪ ،‬وقــد برزت إلى‬

‫خلــو المســاجد الصغيــرة من المشــرق أو المغــرب على‬ ‫األقــل مــن بعــض الكتــب ‪-‬التــي تصلــح أن تكــون نــواة‬ ‫مكتبــة‪ -‬كالمصاحــف وبعــض كتــب التفســير والحديــث‬

‫وغيرها‪ ،‬بله المســاجد الجامعة؛ كجامع قرطبة وطليطلة‬

‫وألمرية وإشــبيلية والقرويين والكتبية وغيرها وإن كانت‬ ‫المصــادر التاريخية ال تســعفنا فــي تأكيد هذا المعطى إال‬

‫في القرن الثامن الهجري وما بعده‪ .‬ويزداد هذا الرأي قوة‬

‫إذا علمنا أن هذه المساجد ‪-‬خاصة الجامعة منها‪ -‬كانت‬ ‫معاهد للتعليم منذ تأسيسها‪ ،‬وأكيد أن هذا الدور يقتضي‬ ‫عددا من الكتب والمصاحف التي‬ ‫أن تحــوي بيــن ثناياها ً‬

‫يحتاجهــا الطلبة الــواردون عليها على األقل‪ .‬وهذا الذي‬

‫ذكر ُتــه‪ ،‬تذهــب إليه بعض المصادر األجنبيــة وغيرها‪ ،‬إذ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تؤكد احتواء بعض المساجد للمكتبات؛ كجامع طليطلة‬

‫‪20‬‬

‫الذي ُوصف بأنه كان يتضمن مكتبة غنية وحافلة بالكتب‪،‬‬

‫قد استولت عليها القوات النصرانية حين دخول طليطلة‬

‫سنة (‪478‬هـ‪1085-‬م)‪.‬‬

‫أيضــا في بعــض المصادر العربية إشــارات‬ ‫وقــد ورد ً‬

‫يمكنها تأكيد هذا الطرح‪ ،‬منها ما ورد عند الحميري في‬

‫وصــف مخزن جامــع قرطبة‪ ،‬يقول‪" :‬وفــي هذا المخزن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الوجــود مــع ظهور المســاجد‪ .‬ففي نظري إنــه ال ُيتصور‬

‫وهي الخزائن التي كانت تلحق بمعاهد العلم والتدريس‪،‬‬ ‫والظاهــر أنهــا وجــدت بوجــود المــدارس نفســها‪ ،‬ولعل‬ ‫أشــهرها فــي هــذه المرحلة التاريخية‪ ،‬مكتبة أبي الحســن‬ ‫الشــاري (‪649-579‬هـــ) التــي وصفــت بأنهــا أول خزانة‬ ‫وقفــت بالمغــرب علــى أهل العلم‪ ،‬وقد شــيدها الشــاري‬ ‫وجعلها ملحقة بمدرســته الشــهيرة بـ"سبتة"‪ ،‬إال أن الفقيه‬ ‫محمــد المنونــي ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬علــق علــى هــذه اإلشــارة‬ ‫التاريخيــة فقــال‪" :‬نســتبعد أن يتأخــر تأســيس المكاتــب‬ ‫العامة بالمغرب إلى العهد األخير من الدولة الموحدية‪،‬‬ ‫مــن غيــر أن يكــون علــى األقــل فــي أولهــا‪ ،‬ومــن غير أن‬ ‫يكــون لعبــد المؤمن وأبنائه أثر في هذا الميدان‪ ،‬لما علم‬ ‫من اهتمامهم بهذا الشأن‪ ،‬واشتهر من ابتنائهم بيت الطلبة‬ ‫وتأســيس الكثير من المــدارس بالمغرب وغير المغرب‪،‬‬ ‫وكل هذه المؤسسات ال تستغني عن الكتب والمكتبات‬ ‫تكــون بجانبهــا مباحة للعموم"‪ .‬وهذا الــرأي الذي ذهب‬ ‫إليــه المنونــي ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬وجيــه‪ ،‬وقــد أكدتــه بعــض‬ ‫المصادر كـ"مسالك األبصار" لـ"العمري"‪ ،‬فقد أورد أثناء‬ ‫حديثه عن القصر الذي بناه يعقوب المنصور إشــارة قال‬ ‫فيهــا‪" :‬وفــي رحبــة القصــر دارِ الكرامــة واألضيــاف (‪)...‬‬ ‫وفــي هذه الرحب ِة المدرســ ُة‪ ،‬وهــي مكان جليل به خزائن‬ ‫الكتــب"‪ .‬بنــاء على هذا أقول إن فرضية وجود هذا النوع‬ ‫من المكتبات بوجود المدارس نفسها‪ ،‬تكاد تفرض ذاتها‬ ‫وإن كانت تعوزنا األدلة التاريخية في إثبات ذلك‪.‬‬

‫المكتبات الخاصة‬

‫هي الخزائن التي أسسها األفراد من المجتمع ألنفسهم‪،‬‬ ‫علميــا‪ ،‬أو بقصــد التباهــي‬ ‫إمــا بقصــد االســتفادة منهــا‬ ‫ًّ‬


‫خالل الحقبة المرابطية والموحدية إلى ما يلي‪:‬‬

‫والعجيــب أن هــذه العنايــة بالكتــب والمكتبــات‬

‫بالعدوتيــن لم تكن قاصــرة على أهل العلم وطلبته فقط‪،‬‬

‫الملكية‬ ‫المكتبات َ‬

‫وإنمــا تحولــت إلــى ثقافــة شــعبية تحــرص جميــع فئات‬

‫يعتبــر هــذا النــوع مــن المكتبات‪ ،‬مــن الظواهر التــي َتمِ ُيز‬ ‫الحضــارة اإلســامية علــى امتداد تاريخهــا‪ .‬وقد حفظت‬

‫التعييــن والرياســة‪ ،‬يقول "المقري" يصــف قرطبة‪" :‬وهي‬

‫المغاربــة‪ ،‬الذيــن عنــوا باقتنــاء الكتب وتشــييد المكتبات‬

‫الكتــب‪ ،‬صــار ذلــك عندهم مــن آالت التعين والرياســة‪،‬‬

‫أميــر "بطليــوس" المظفر بن األفطــس (ت‪460‬هـ)‪ ،‬الذي‬

‫المجتمــع علــى اإلســهام فيهــا‪ .‬إذ صار التعلــق بالكتاب‬

‫ووجها من أوجه‬ ‫مظهرا للرفعة والحظوة‪،‬‬ ‫وإنشاء خزائنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫لنا كتب التاريخ والتراجم بعض أسامي الملوك واألمراء‬

‫وأشــد النــاس اعتنــاء بخزائــن‬ ‫كتبــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أكثــر بــاد األندلــس ً‬

‫خــال المرحلــة التاريخيــة التــي نحــن بصددهــا‪ ،‬منهــم‬

‫حتى إن الرئيس منهم الذي ال تكون عنده معرفة‪ ،‬يحتفل‬

‫جماعــة للكتــب‪ ،‬ذا خزانــة عظيمة‪ ،‬لم‬ ‫وصــف بأنــه "كان ّ‬

‫إال ألن يقــال‪ :‬فــان عنده خزانــة كتب‪ ،‬والكتاب الفالني‬

‫ومنهــم األميــر المرابطي المنصور بن محمد بن أبي داود‬

‫حصله وظفر به"‪.‬‬ ‫قد ّ‬

‫راغبــا فــي العلم‪،‬‬ ‫األدوات‪ ،‬ســامي الهمــة‪ ،‬نزيــه النفــس‪ً ،‬‬

‫فــي أن تكــون فــي بيتــه خزانــة كتــب‪ ،‬وينتخــب فيها ليس‬

‫يكن في ملوك األندلس من يفوقه في األدب والمعرفة"‪،‬‬

‫ليــس هــو عنــد أحد غيره‪ ،‬والكتاب الــذي هو بخط فالن‬

‫اللمتوني (ت‪550‬هـ)‪ ،‬الذي قيل في ترجمته "كان ملوكي‬

‫ومــن األخبــار الطريفــة المؤكــدة لهــذا األمــر مــا نقل‬

‫منافســا فــي الدواويــن العتيقــة واألصول النفيســة‪ ،‬جمع‬ ‫ً‬

‫والزمــت ســوق كتبها مــدة أترقب فيها وقــوع كتاب كان‬

‫ياسين المرابطي (ت‪530‬هـ)‪ ،‬الذي وصفه مترجموه بأنه‬

‫عــن اإلمــام الحضرمــي أنــه قــال‪" :‬أقمــت مــرة بقرطبــة‪،‬‬

‫مليــح‪ ،‬ففرحــت بــه أشــد الفــرح‪ ،‬فجعلت أزيد فــي ثمنه‬ ‫حده‪،‬‬ ‫علي إلى أن بلغ فوق ّ‬ ‫إلي المنادي بالزيادة ّ‬ ‫فيرجع ّ‬

‫فقلــت لــه‪ :‬يــا هــذا‪ ،‬أرني مــن يزيد في هــذا الكتاب حتى‬

‫شــخصا عليه لباس‬ ‫بلّغه إلى ما ال يســاوي‪ ..‬قال‪ :‬فأراني‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لــي بطلبــه اعتنــاء‪ ،‬إلــى أن وقــع وهو بخط جيد وتســفير‬

‫مــن ذلــك ما أعجز أهل زمانــه"‪ .‬ومنهم األمير ميمون بن‬

‫معتنيــا باآلثــار"‪" ،‬ذا همــة رفيعــة في‬ ‫صالحــا‬ ‫ا‬ ‫"كان رجــ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اقتنــاء الكتــب"‪ ،‬ومن ذلك أنه اشــترى حين حجه نســخة‬

‫مــن صحيــح مســلم مشــرقية الخــط في تســعة وعشــرين‬ ‫جــزءا‪ ،‬وكان ال يبالــي بمــا ينفق في ذلك‪ ،‬فقد أثر عنه أنه‬ ‫ً‬ ‫أيضا أصل أبي ذر الهروي من صحيح البخاري‬ ‫اشــترى ً‬

‫ســيدنا الفقيه‪ ،‬إن‬ ‫رياســة‪ ،‬فدنــوت منــه وقلت لــه‪ :‬أعز اهلل ّ‬

‫بمال جسيم‪.‬‬

‫بــه الزيــادة بيننــا فــوق حده‪ ..‬قــال‪ :‬فقال لي‪ :‬لســت بفقيه‬

‫عمرهــا بالكتــب التي جلبها‬ ‫تاشــفين لخزائــن بـ"لمتونــة"‪َّ ،‬‬

‫كان لــك غــرض فــي هذا الكتــاب تركته لــك‪ ،‬فقد بلغت‬

‫وال أدري مــا فيــه‪ ،‬ولك ّني أقمت خزانــة كتب‪ ،‬واحتفلت‬

‫فيهــا ألتجمــل بهــا بيــن أعيــان البلــد‪ ،‬وبقي فيهــا موضع‬ ‫جيد التجليد‬ ‫يســع هذا الكتاب‪ّ ،‬‬ ‫فلما رأيته حســن الخط ّ‬

‫استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه‪ ،‬والحمد هلل على ما أنعم‬ ‫به من الرزق‪ ،‬فهو كثير"‪.‬‬

‫كما تذكر المصادر إشــارات عن تأســيس يوســف بن‬

‫مــن خــال رحالتــه إلــى األندلــس‪ ،‬وعلى دربه ســار ابنه‬ ‫علي فجمع مكتبة عديمة النظير‪.‬‬ ‫ٌّ‬

‫ومــن أشــهر مــن عــرف بعدهمــا مــن الموحديــن‪ ،‬أبو‬

‫يعقوب يوســف بن عبد المؤمــن الموحدي‪ ،‬الذي عرف‬ ‫بشــغفه الشــديد بالعلــم وجمــع مظانــه‪ ،‬حتــى بــذل فــي‬

‫التــي اســتجمعت فــي رحمهــا مئــات اآلالف مــن الكتب‬

‫غصبــا؛ وبذلــك جمــع مــن الكتــب ما لــم يجمعــه غيره‪،‬‬ ‫ً‬

‫بــروز عــدد مــن الخزائــن العامــرة والمكتبــات الحافلــة‬ ‫والمخطوطــات فــي مختلــف فروع العلــم والتخصصات‬

‫المعرفية‪.‬‬

‫عموما‪ ،‬يمكن تصنيف المكتبات التي كانت موجودة‬ ‫ً‬

‫إلــى اســتعمال القــوة فــي جمعهــا وانتزاعهــا مــن أهلهــا‬ ‫قــال المراكشــي‪" :‬ولــم يــزل يجمــع الكتــب مــن أقطــار‬

‫األندلــس والمغــرب ويبحــث عــن العلمــاء وخاصة أهل‬ ‫علــم النظــر‪ ،‬إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫لقــد نتج عــن هذا الوله بالكتاب والشــغف بامتالكه‪،‬‬

‫ذلــك التعويضــات الســنية‪ ،‬بــل قد بلــغ به الولــه بالكتب‬

‫‪19‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫الميلود كعواس*‬

‫مكتبات جمعت تراث األمة‬

‫شــهد المغــرب األقصــى واألندلس خالل عصــري المرابطين‬ ‫ونبوغــا‬ ‫علميــا‬ ‫ازدهــارا‬ ‫والموحديــن ‪-‬وقبــل ذلــك وبعــده‪-‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫فكريــا‪ ،‬كان مــن تجلياته العناية الكبيــرة بصناعة الكتاب تألي ًفا‬ ‫ًّ‬ ‫وتسفيرا‪ ،‬وكذا االهتمام البالغ بتشييد الخزائن التي تحضنه‪ ،‬وعمارتها‬ ‫ونسخا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مظهرا من مظاهــر الحركية العلمية والفعل الثقافي بتلك‬ ‫وتنظيمهــا‪ ،‬باعتبارهــا‬ ‫ً‬ ‫الربوع من العالم اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫يهــيء المســتقبل لإلســام‪ ،‬فالتقدم الغربي ومســتلزمات‬ ‫ا يعيــق مســيرته‪ ،‬فــي حين أن‬ ‫عبئــا ثقيــ ً‬ ‫مدنيتــه أصبحــت ً‬ ‫العالم اإلسالمي ال زال في طور شباب المدنية‪ .‬لذا فإننا‬ ‫"سنلحق بهم‪ ،‬بل نسبقهم إن حالفنا التوفيق اإللهي‪ ،‬ألن‬ ‫حملهم ثقيل وحملنا خفيف"‪.‬‬

‫خــاتم ــة‬

‫واحــدا مــن مجددي المائة الرابعة عشــرة‪.‬‬ ‫كان النورســي‬ ‫ً‬ ‫عظيما في‬ ‫هيــأه اهلل تعالــى إلنقــاذ إيمــان أمــة كان دورهــا‬ ‫ً‬ ‫نصرة اإلسالم والدفاع عن حرماته‪ ،‬لكن مكر االستعمار‬ ‫الشيطاني استطاع أن يغرر بالكثير من أبنائها ليقذفهم في‬ ‫حمأة اإللحاد وإنكار جواهر هذا الدين‪.‬‬ ‫وقد استطاع النورسي‪ ،‬من خالل تجذر إيمانه بحقيقة‬ ‫اإلسالم‪ ،‬ووعيه بمتغيرات العصر وتحوالته العميقة‪ ،‬أن‬ ‫يبلور‬ ‫مشروعا ن ّفذه بكل حزم وصبر رغم جسامة المحن‬ ‫ً‬ ‫وعظم البالء‪.‬‬ ‫طبعا‪ -‬حدة‬ ‫نعتقــد أنــه لــوال ‪-‬بعد توفيــق اهلل وتأييــده ً‬ ‫وعيــه التاريخــي ونفــاذ بصيرته لفهم التحوالت الســريعة‬ ‫التي كان يمر بها العالم عامة وبالد المسلمين خاصة‪ ،‬لما‬ ‫استطاع أن يقوم بهذا الدور العظيم في بعث أمة من موتها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفي‬ ‫سياق موازٍ ‪ ،‬فإن النورسي بلور "فلسفة تاريخية"‬ ‫تمتح من روح القرآن الكريم‪ ،‬وتستلهم دروسه الكثيرة‪.‬‬ ‫وقامــت هــذه الفلســفة علــى النظــر إلــى التاريــخ كمجال‬ ‫لحركة اإلنســان وإبداعه في ظل الرعاية الربانية المتمثلة‬ ‫فــي التوجيــه والهدايــة عبــر السلســلة النورانيــة لألنبيــاء‬ ‫والرســل‪ .‬ومن ثم فإن هذا اإلنســان يص ُلح تاريخه كلما‬ ‫ويظلم مساره كلما غرق‬ ‫اقترب من هذه الرحمة اإللهية‪ُ ،‬‬ ‫في الكفر وابتعد عن مصدر النور‪.‬‬

‫(*) كاتب وباحث مغربي‪.‬‬

‫المراجع‬ ‫(‪ )1‬صيقــل اإلســام‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان‬ ‫قاسم الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2010‬‬

‫(‪ )2‬الكلمــات‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان قاســم‬ ‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2008‬‬

‫(‪ )3‬المكتوبات‪ ،‬لبديع الزمان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان قاســم‬ ‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2008‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪17‬‬

‫ْاحذ ْر العنكبوتيات!‬

‫الشِّ ُ‬ ‫باك عىل الطريق منصوبة‪...‬‬ ‫إنْ‬ ‫َ‬ ‫اعترصتك‪،‬‬ ‫سقطت فيها‬ ‫َ‬ ‫أكلت‪...‬‬ ‫وروح َك َم َّص ْت‪ ،‬وقل َب َك ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫من ريقها نسجت‬ ‫العنكبوت نسيجها‪،‬‬ ‫وأوترت ِشباكها‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫والعنكبوتات البرشية‪،‬‬ ‫بكالمها املعسول تنسج ألف ِشاك‪،‬‬ ‫وتنصب ألف فخ‪...‬‬ ‫فحاذ ْر من السقوط‪،‬‬ ‫أوهن البيوت لبيت العنكبوت!"‬ ‫"وإن َ‬ ‫***‬


‫الحدث التاريخــي من فعل اإلنســان‪ ،‬لكن يد القدر‬

‫ال خدمة القضية‪ ،‬فجاء الخذالن من فساد النية‪ .‬ثم ينتقل‬

‫ومهام كان اإلنسان فاع ً‬ ‫ال ذا اختيار‪ ،‬إال أن املشيئة‬

‫ســبحانه كان يهيئهم لتسنم ســلطنة األولياء المعنوية بدل‬

‫اإللهــي موجودة بوضــوح يف كل حادثة تاريخية‪،‬‬

‫مبي ًنــا أن اهلل‬ ‫الكتشــاف الحكمــة مــن زاوية القــدر اإللهي ّ‬

‫اإللهية هي األصل‪ ،‬والقدر اإللهي حاكم مهيمن‪،‬‬

‫السلطنة الدنيوية الفانية‪ ،‬فأراد أن يطهرهم من هذه الدنيا‬

‫واملشيئة اإللهية ترد املشيئة اإلنسانية‪.‬‬

‫ومــا علــق في قلوبهم منها‪ .‬فكان هــذا الحدث الذي نراه‬ ‫فتحا وترقية في عالم الوالية‪.‬‬ ‫بأبصارنا الحاســرة مصيبة‪ً ،‬‬ ‫ال عن األسباب المادية الفاعلة‬ ‫لم يكن النورسي غاف ً‬

‫مســؤول‪ ،‬أنت مك َّلف"‪ .‬إن القدر اإللهي يصرف في كل‬

‫في حركة التاريخ‪ ،‬إال أنه كان ينظر إليها كنواميس كونية‬

‫شــيء‪ ،‬غير أنه منزه عن القبح أو الظلم‪ ،‬فاهلل ســبحانه ال‬

‫متممــة لخطــة القــدر‪ .‬وتبرز التفســيرات الماديــة في كثير‬

‫يفعل إال ما فيه خير اإلنسان‪ ،‬إال أن هذا اإلنسان ال يفهم‬

‫من األحداث التاريخية التي أوردها النورسي‪ ،‬ويكفي أن‬

‫كثيرا مخفيــة عن إدراكه‪.‬‬ ‫ســر الحكمــة اإللهية التــي تظل ً‬

‫نذكر هنا تفسيره لمعضلة العصر؛ رقي أوربا إلى األعلى‬

‫مســير في أفعاله‪ ،‬كما ال يعني‬ ‫وهذا ال يعني أن اإلنســان‬ ‫َّ‬

‫ال يبرز قوة‬ ‫وتدني المسلمين إلى أسفل‪ .‬حيث يقدم تحلي ً‬

‫موجه في حركيته التاريخية بشكل‬ ‫أن المجتمع البشري َّ‬

‫الفكر التاريخي عند النورسي وقدرته على ربط األسباب‬

‫خارج عن اختياره‪ ،‬بل إنه يملك المساحة الكافية للفعل‬

‫والعلل وفق منظور علمي دقيق‪.‬‬

‫التاريخي الحر القائم على االختيار بين مسارات متعددة‪.‬‬

‫إن التفــاوت بيــن أوربــا والعالــم اإلســامي‪ ،‬راجــع‬

‫تقــف الرؤية النورســية للحدث التاريخي بين رؤيتين‬

‫التاريخ وتجعل األمر جبرية صارمة ال يملك اإلنسان إال‬ ‫تغيب القدر اإللهي‬ ‫أن يخضع لها‪ ،‬والنظرة المادية التي ّ‬

‫وتلصــق باإلنســان صفــة الهيمنــة واالنفــراد بالتصــرف‪.‬‬ ‫الحــدث التاريخــي من فعل اإلنســان‪ ،‬لكــن يد القدر‬

‫اإللهــي موجــودة بوضــوح فــي كل حادثــة تاريخيــة؛ "إنه‬

‫ا ذا اختيــار‪ ،‬إال أن المشــيئة‬ ‫مهمــا كان اإلنســان فاعــ ً‬ ‫اإللهيــة هــي األصــل‪ ،‬والقــدر اإللهــي حاكــم مهيمــن‪،‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫حياتهــا؛ فهــي ضيقــة جميلــة تملــك الحديــد متعرجــة‬

‫السواحل تلتف فيها األنهار والبحار‪ ،‬مناخها بارد‪ .‬وهذا‬ ‫جعلها تستقطب ربع البشرية رغم مساحتها الصغيرة‪.‬‬

‫ولكــون إنتــاج األرض ال يســتوعب تلــك الحاجــات‬

‫التــي تتزايــد باســتمرار‪ ،‬تصبــح الحاجــة إلــى االختــراع‬ ‫والصناعــة ضروريــة‪ ،‬كما يغدو حب االســتطالع والميل‬

‫بابا للعلم والتقدم‪.‬‬ ‫إلى المعرفة ً‬

‫ثــم إن كثــرة البحــار واألنهــار تتيــح التعــارف وتطور‬

‫والمشــيئة اإللهية ترد المشــيئة اإلنســانية‪ ،‬بمضمون قوله‬ ‫هلل َك َ ِ‬ ‫يما‬ ‫ون ِإ َّ‬ ‫ــاء َ‬ ‫هلل إ َِّن ا َ‬ ‫ــاء ا ُ‬ ‫ال َأ ْن َي َش َ‬ ‫‪‬و َمــا َت َش ُ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ان َعل ً‬ ‫ِ‬ ‫يما‪(‬اإلنسان‪.)30:‬‬ ‫َحك ً‬ ‫يترتــب عــن ذلــك أن كل حــدث تاريخــي هــو حدث‬

‫التنافــس صناعــة األســلحة التــي أثقلت كفــة أوربا‪ .‬ومن‬

‫حــدث يحمــل حكمــة ورحمــة ربانيتين تســعيان إلســعاد‬

‫استناد قوية تعزز قوة أبنائها المعنوية وتبعث فيهم الحياة‪.‬‬

‫إيجابــي مهمــا تبيــن لنــا فيه مــن ألم أو مصائــب‪ ،‬ألن كل‬

‫‪16‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تغيب الفعل البشري في حركة‬ ‫م َف ّرطتين‪ :‬النظرة الغيبية التي ّ‬

‫ألســباب ملحوظة أهمها الوضــع الفطري ألوربا ومنبع‬

‫هذا اإلنسان وتطهيره من النقائص‪.‬‬

‫في جواب عن سؤال حول فاجعة اإلمام الحسين ‪‬‬

‫يقدم النورسي قراءة عميقة لهذا الحدث التاريخي‪ ،‬الذي‬ ‫ِ‬ ‫مؤس ًســا النقســام األمة اإلســامية‪ .‬تبدأ‬ ‫يمكن ّ‬ ‫عده حد ًثا ّ‬ ‫القــراءة بإبــراز دور الفعــل البشــري‪ ،‬حيــث إن المحيطين‬ ‫باإلمام ‪-‬باستثناء المقربين‪ -‬كان يوجههم التعصب القومي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التجارة‪ ،‬والتعاون واالشــتراك في األعمال‪ ،‬مثلما يحقق‬ ‫تالحــق األفــكار والمنافســة والتســابق‪ .‬ونتــج عــن هــذا‬ ‫أيضــا قوة الكنيســة التي تشــكل نقطة‬ ‫األســباب األخــرى ً‬ ‫أمــا مــن جهــة المســلمين‪ ،‬فــإن ابتعادهــم عــن نقطــة‬

‫ارتكازهــم (وهــي اإلســام والقــرآن الكريــم)‪ ،‬وإشــاحة‬ ‫وجههــم عــن قــراءة كتــاب اهلل المنظــور (نواميــس الكون‬ ‫وقوانينه) هي أسباب هزيمتهم‪.‬‬

‫غير أن كل هذه العلل والقوانين ‪-‬في نظر النورسي‪-‬‬

‫ال تخــرج عــن فاعليــة القــدر اإللهــي وحكمــه‪ .‬إن القــدر‬


‫إن النوريس بلور "فلســفة تاريخية" متتح من روح‬

‫وضــده‪ .‬ومــا تزعم المدنية الغربية لنفســها مــن تقدم فهو‬

‫القرآن الكريم‪ ،‬وتســتلهم دروسه الكثرية‪ .‬وقامت‬

‫على وجهين‪ :‬جزء هو شر ووبال على اإلنسانية كصناعة‬

‫هــذه الفلســفة عىل النظــر إىل التاريــخ كمجال‬

‫األســلحة المدمــرة والســفاهة األخالقيــة والصراعــات‬

‫لحركة اإلنســان وإبداعه يف ظــل الرعاية الربانية‬

‫القومية‪ ،‬وجزء إيجابي يخدم اإلنسانية هو في األصل من‬

‫املتمثلــة يف التوجيــه والهداية عرب السلســلة‬

‫تأثيرات الشــرائع الســماوية‪ ،‬كالنظام والقانون والشورى‬

‫النورانية لألنبياء والرسل‪.‬‬

‫والعدل‪ .‬إن التقدم هنا ال يكفي نفســه بنفســه‪ ،‬بل يحتاج‬ ‫لشــيء متعــال يقــرر حقيقته‪ ،‬وليس هناك ســوى الشــريعة‬

‫تحكــم واســتبداد‪ ،‬ومداخلــة االلتــزام والتعصب‪،‬‬ ‫عامــة‪ّ -‬‬

‫معيارا لمحاكمة حقيقته‪.‬‬ ‫ً‬

‫واالنحيــاز المانع عن كشــف الحقيقــة"‪ .‬يصبح الماضي‬

‫يعتبــر النورســي أن غايــة التاريــخ إيجابيــة تتمثــل في‬

‫رمــزا للمعصيــة واالبتعــاد عــن الشــريعة‪ .‬فمتى ســاد‬ ‫هنــا ً‬

‫تحقيــق الحريــة والعدالــة لإلنســان؛ الحريــة ممــا ســوى‬

‫الباطل وتقهقر الحق فثمة الماضي‪.‬‬

‫العبوديــة هلل ســبحانه‪ .‬وانطال ًقــا مــن ذلــك فإن المشــروع‬

‫‪-2‬أمــة الخيريــة واألفضليــة‪ :‬تمثــل القــرون الثالثــة‬

‫الحضاري لكل الشــرائع الســماوية يســعى لبلوغ الحرية‬

‫األولــى بعــد النبوة‪ ،‬فتر َة الخيرية بداللــة النص الحديثي‪.‬‬

‫والعدالــة‪ ،‬حيث هما شــرطان لتحقق التكليف الشــرعي‪.‬‬

‫إنها المرحلة التاريخية الوحيدة في تاريخ اإلنسانية التي‬

‫ورغم قوة الباطل وجبروته‪ ،‬فإن التاريخ يســير في اتجاه‬

‫جمعــت هذا العــدد الهائل من أهل الصالح والخير‪ .‬لقد‬

‫"التقــدم" أي تحقيــق الشــريعة‪ ،‬ولــذا فــإن المســتقبل هــو‬

‫مراحل التاريخ‬

‫جــاء فــي كتــاب "صيقــل اإلســام"‪" :‬وأقصــد مــن أبنــاء‬

‫الماضــي أوالً؛ القــرون األولى والوســطى لما قبل القرن‬ ‫العاشر لغير المسلمين‪ ،‬أما األمة اإلسالمية فهي خير أمة‬

‫فــي القرون الثالث األولــى‪ ،‬وأمة فاضلة عامة إلى القرن‬ ‫أعبــر عنه‬ ‫الخامــس‪ ،‬ومــا بعــده حتــى القــرن الثاني عشــر ّ‬

‫بالماضي‪ ،‬أما المستقبل فأعده ما بعد القرن الثاني عشر"‪.‬‬ ‫تلخــص هذه الجملة التحقيــب الجديد الذي يقترحه‬

‫النورســي للتاريــخ‪ .‬والمالحــظ أنــه تحقيــب ال يراعــي‬

‫اســتمرارية الزمن وتواصله‪ ،‬بل ينبني على معايير إيمانية‬

‫وأخالقيــة وحضارية‪ .‬وهو تحقيب يشــمل ثالث مراحل‬ ‫تارخية‪ :‬الماضي‪ ،‬أمة الخيرية واألفضلية‪ ،‬المستقبل‪.‬‬

‫‪-1‬الماضــي‪ :‬يدخــل ضمــن الماضــي تاريــخ غيــر‬

‫المســلمين‪ ،‬وتاريخ المســلمين في عصور االنحطاط (ما‬ ‫يجمع بين هذه األزمنة والمجتمعات المختلفة؟‬

‫هو الحق والبرهان والعقل والشورى‪ ،‬ولم يكن للشكوك‬ ‫والشــبهات موضــع"‪ .‬أمــا بعــد هــذه القــرون الثالثــة فقد‬

‫تراجــع الحــق والعدل‪ ،‬إال أن األمــة حافظت على مرتبة‬ ‫األفضلية بما بقي فيها من صالح وطاعات‪.‬‬

‫‪-3‬المســتقبل‪ُ :‬يدخــل النورســي المســتقبل ضمــن‬ ‫بعــد‪ ،‬إال أن‬ ‫التاريــخ باعتبــاره مرحلــة رغــم أنهــا لم تأت ُ‬ ‫حقيقتهــا أصبحــت معلومــة لديه؛ "المســتقبل لإلســام"‪،‬‬

‫هذه حقيقة كان يراها النورسي رأي العين‪ ،‬وقد تحقق له‬ ‫ذلك بالبراهين العقلية والكشــوفات الرحمانية‪ ،‬وال يمل‬

‫مــن تكــرار هــذه الحقيقة وتقديم الحجــج المقنعة خالل‬ ‫كل كتاباتــه‪ ،‬ثــم إن هذا المســتقبل الموعود هــو االمتداد‬ ‫الطبيعي ألمة الخيرية‪.‬‬

‫التاريخ والقدر‬

‫خصــص النورســي رســالة خاصــة فــي القــدر (الكلمــة‬

‫ال حل أســرار مســألة "القدر‬ ‫السادســة والعشــرون) محاو ً‬ ‫اإللهي والجزء االختياري"‪.‬‬

‫فــي الماضــي "كان الســائد فــي األغلــب هــو القــوة‬

‫يرى النورسي أن "المؤمن يعطي هلل كل شيء‪ ،‬ويحيل‬

‫ســيئاته أنه كان هناك في كل أمر من أموره ‪-‬ولو بصورة‬

‫ال له‪ :‬أنت‬ ‫والمســؤولية يبــرز أمامــه الجزء االختيــاري قائ ً‬

‫والهوى والطبائع والميول واألحاسيس‪ ،‬لذا فإن إحدى‬

‫إليــه كل أمــر‪ ،‬ولكــي ال ينجــو فــي النهايــة مــن التكليــف‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫بيــن القرنيــن الخامــس والثاني عشــر الهجــري)‪ .‬ما الذي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لإلسالم ال لغيره‪.‬‬

‫"كان المهيمن في خير القرون وعصور السلف الصالح‪،‬‬

‫‪15‬‬


‫قضايا فكرية‬ ‫محمد بكور*‬

‫تفسري التاريخ‬ ‫عند النوريس‬ ‫إن فكرة غاية التاريخ أو معنى التاريخ‪،‬‬

‫تســتمد جذورهــا مــن جوهــر اإلســام‪.‬‬ ‫فعالقــة الدنيــا باآلخــرة تنتــج "معنــى‬

‫الوجــود"‪ ،‬ومــن هــذا المفهــوم المركــزي صاغ النورســي‬

‫رؤيته للتاريخ‪.‬‬

‫إن اهلل تعالــى لــم يخلــق هــذا الكــون عب ًثــا‪ ،‬ولما كان‬

‫اإلنســان هــو مركــز هــذا الكــون و"ثمرتــه"‪ ،‬فــإن وجــوده‬ ‫وحركيتــه لهمــا معنى ومغزى‪ .‬فحياة اإلنســان هي اختبار‬

‫خيرا أو غير ذلك‪.‬‬ ‫وامتحان‪ ،‬وبعد موته يتلقى جزاءه إما ً‬ ‫إن إيماننا بحياة أخرى نفضي إليها بعد موتنا ‪-‬وهي حياة‬

‫أبديــة خالــدة ال نهايــة لهــا‪ -‬يضفي على التاريــخ معنى‪..‬‬

‫فال تعود أحداث التاريخ أشتا ًتا ال ناظم لها‪ ،‬كما ال يعود‬ ‫الزمــن التاريخــي بــا هــدف‪ ،‬بــل إن زمن بدايتــه معروفة‬ ‫ونهايتــه معلومــة‪ .‬يبــدأ هــذا التاريــخ منــذ أراد اهلل خلــق‬ ‫اإلنســان وحقــق إرادته بخلــق آدم‪ ،‬وينتهي بيــوم القيامة‪.‬‬ ‫وهــو تاريــخ ال يســير في طريق مســتقيم نحــو التقدم كما‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫يعتقــد الوضعانيــون‪ ،‬بــل هــو صــراع مســتمر بيــن الحــق‬

‫‪14‬‬

‫والباطل‪ ،‬بين اإليمان والكفر‪ ،‬بين العدل والظلم‪.‬‬

‫كثيرا كلمة التقدم‪ ،‬لكنه ال يقصد‬ ‫يســتعمل النورســي ً‬

‫المفهــوم المــادي الــذي ينظــر إلــى التقــدم كقيمــة مطلقة‬ ‫تتحقــق بالضــرورة مــع مــرور الزمــن؛ إن التقــدم يعنــي‬

‫تحقيق اإلنســان لحقيقة االســتخالف في األرض وإقامة‬ ‫الشريعة‪ ،‬ومن ثم فإن مسيرة اإلنسان تتأرجح بين التقدم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫تمكنــت مــن التفكيــر ومــن اســتخدام اآلالت وأصبحت‬ ‫لــكل حيــوان مــا يلزمه مــن هذا‬ ‫إنســا ًنا! لقــد وهــب ربــي ِّ‬

‫الدماغ المعقد‪ ..‬خلق مليارات الخاليا العصبية وجمعها‬

‫فــي ترتيــب خــاص علــى شــكل مراكــز‪ ،‬وهــذه المراكــز‬

‫تقوم بما تحتاجه من ســمع وبصر وشــم وإحســاس‪ .‬ثم‬ ‫إنــه ســبحانه ميزكــم بمشــاعر ذات أبعــاد روحيــة معنوية‪،‬‬

‫وزودكــم بدمــاغ وف ًقــا لهــذه األبعــاد‪ ،‬وجعــل فيــه مراكــز‬ ‫للذاكرة‪ ،‬والتعلم والنطق والكالم‪ .‬إنه ‪-‬باختصار‪ -‬جعل‬ ‫متميزا عن دماغنا بما ال يقبل المقارنة والتشــابه‬ ‫دماغكم‬ ‫ً‬

‫تطور دماغي‬ ‫يصر بعضكم علــى ّ‬ ‫والقيــاس‪ .‬ورغــم ذلــك ّ‬ ‫وتحوله إلى دماغ إنسان‪ ..‬يا له من جهل أعمى‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ويتوقف بعضكم عند نهاية "عجب الذنب" واألمعاء‬

‫ويدعــون بأنهمــا من البقايا غيــر الضرورية التي‬ ‫العــوراء‪ّ ،‬‬

‫انتقلت مني إليكم! وأرى أن هذه االدعاءات التي طرحت‬ ‫قبل خمسين سنة‪ ،‬أكل الدهر عليها وشرب‪ .‬وإذا أصغيتم‬

‫الذنــب والوظيفة التي يؤديهــا في عملية التبرز‪ ،‬وأهميتها‬ ‫الحياتيــة ‪-‬كذلــك‪ -‬فــي الــوالدة لــدى نســائكم‪ .‬كمــا أن‬ ‫اللمفاويات‬ ‫األمعــاء العــوراء بمثابــة معمــل مهــم إلنتــاج‬ ‫ّ‬

‫الضروريــة فــي جهــاز المناعة في نظام الهضــم‪ ،‬وله دور‬ ‫ال‪.‬‬ ‫مهــم فــي التهابــات األمعــاء ال يلقــي الكثيــرون لهــا با ً‬ ‫ال مــن أن تبحثــوا عــن‬ ‫نعــم‪ ،‬إنــه يترتــب عليكــم بــد ً‬

‫األعضــاء التــي ال عمل لها في أجســامكم‪ ،‬أن تبحثوا في‬

‫أسرار التناغم واالنسجام والتكامل العظيم بين األعضاء‬ ‫وزينكم بها‪ ،‬وأن تبحثوا عن حكمة‬ ‫التــي خلقهــا اهلل لكم ّ‬

‫إن فعلتم ذلك تحققت ‪-‬عندئذ‪ -‬على أيديكم‬ ‫وجودها‪ْ ..‬‬ ‫اكتشــافات كثيــرة مفيــدة لإلنســانية‪ ،‬ترفعكــم بيــن النــاس‬

‫وتقربكم إلى اهلل العلي القدير صاحب األكوان‪.‬‬ ‫ّ‬

‫بشرا‬ ‫حتى نكون ً‬

‫كنــت أنــوي أن أحدثكــم عــن ِ‬ ‫الحكــم التــي تتجلــى فــي‬

‫وأوغلــت فــي الحديــث‬ ‫أســر ْتني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فيــه‪ ،‬غيــر أن عاطفتــي َ‬ ‫عــن شــبهات التشــابه بينــي وبينكم‪ ،‬واســتطردت في بيان‬

‫أعــد أتحمــل‬ ‫حقيقتهــا علــى غيــر إرادة منــي‪ ..‬فأنــا لــم ْ‬

‫إصرار بعضكم على مثل هذه النظرية الباطلة‪ ،‬وتشويش‬

‫أبدا‪.‬‬ ‫وال تتخلوا عن إنسانيتكم ً‬

‫(*) أستاذ بجامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫خلقــي‪ ،‬وأتك ّلــم عــن تجليــات أســمائه الحســنى البديعــة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫للباحثيــن فــي علــم التشــريح‪ ،‬فســتدركون أهميــة عجب‬

‫أذهــان النــاس بالخرافــات‪ ،‬وتجاهلهــم عــن خصائصكم‬ ‫اإلنســانية التي ترفعكم على ســائر المخلوقات‪ ..‬يا أســ ًفا‬ ‫علــى ما تفعلــون‪ ..‬أرجوكم ن ِّقبوا عــن الحقائق‪ ،‬واعلموا‬ ‫قــدر نبيكــم ‪ ‬الذي ُأرســل إليكــم‪ ،‬وتبحروا فــي القرآن‬ ‫فهرست الوجود والكائنات وتفكروا في آياته‪ ..‬فإن كان‬ ‫َث َّمة طريق للهداية‪ ،‬فإنها في تلك اآليات الجليلة‪.‬‬ ‫إياكم ثم إياكم أن تعقدوا قرابة بيني وبينكم‪ ،‬فتكونوا‬ ‫من الخاسرين‪ ..‬والندامة بعد فوات األوان ال تنفع‪ .‬فأنا‬ ‫أشــبع بطنــي بكمية مــن الموز‪ ،‬وأتســلى بالتدلــي والقفز‬ ‫مــن شــجرة إلى أخرى‪ ،‬وأجد متعتــي بقضاء وقتي ضمن‬ ‫أســرتي وعائلتــي والحمــد هلل‪ ..‬لكنكــم لــن تســتطيعوا‬ ‫إســكات ضمائركــم الملحــة علــى إظهــار الحقيقــة‪ ،‬وال‬ ‫إخماد أرواحكم المتعطشــة إلى العبودية‪ ،‬وال االطمئنان‬ ‫فــي قلوبكــم‪ ،‬وال الراحــة في تفكركــم‪ ..‬إال باإليمان باهلل‬ ‫ربكم‪ ،‬وبغير هذا اإليمان لن تعيشوا إال التعاسة والشقاء‪.‬‬ ‫ألن ندامة الماضي وهموم الحاضر ومخاوف المســتقبل‬ ‫ســتالزمكم فــي كل حيــن ولحظة‪ ،‬ولن تمنحكــم الراحة‬ ‫التشــبه بالحيوانــات والخــروج عــن‬ ‫أبــدا‪ ..‬لــن ينفعكــم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إنســانيتكم‪ ..‬ففــي ذلك جحــود هلل وإنكار لنعمــه وآالئه‪.‬‬ ‫حذار ثم حذار من هذا الجهل المظلم‪ ..‬كونوا كما أنتم‪،‬‬

‫‪13‬‬


‫ولنفتــرض أنهــم أثبتوا ذلك‪ ،‬فما الذي ســيجنونه من هذا‬

‫الكيميائيــة التصادفيــة‪ ،‬انتقلــت إلــى إثبــات أن جميــع‬

‫إلى مقام أشــرف المخلوقــات‪ ،‬فلماذا هذا اإلصرار على‬

‫قــاس ال يرحم‪ ،‬انقرضت‬ ‫أي باصطفــاء طبيعــي عشــوائي ٍ‬

‫الكائنــات الحية تطورت عن بعضها بالتكيف التصادفي؛‬

‫اإلثبــات؟! لقــد جعلكــم اهلل خلفــاء فــي أرضــه‪ ،‬ورفعكم‬

‫االنحدار؟! نعم البد من ســبب دافع إلى ذلك‪ ..‬وأعتقد‬

‫أنوع من المخلوقات كانت تعيش على األرض‪ ،‬ونشأت‬

‫أن الســبب هو الهروب من مســؤولية التكليف بالعبودية‬

‫بالطفــرة الوراثيــة المســتقلة ‪-‬التــي ال تحتــاج لتقديــر أو‬

‫أجيال أشــد مالئمــة للحياة! إذن‪ ،‬ال مكان‬ ‫تحكــم إلهي‪-‬‬ ‫ٌ‬

‫هلل ‪ .‬إذ يظنــون بأنهــم إن أثبتــوا انحدارهــم مــن ســالة‬

‫القــرود‪ ،‬فإنهم ســينجون من مســؤولية العبوديــة والعبادة‬

‫فــي هــذه النظريــة لخالــق مبــدع حكيــم‪ ،‬بــل هنــاك طبيعة‬

‫هم األخالق‪ ،‬وال يشعرون‬ ‫سيصبحون مثلنا؛ ال يحملون َّ‬

‫التكيــف واالصطفــاء والطفــرات التصادفيــة‪ ،‬وردود‬

‫قاســية عمياء ال ترحم‪ ،‬مســتقلة بنفســها‪ ،‬وتعمل بأدوات‬

‫هلل ســبحانه‪ .‬يظنون بأنهم إن أســكتوا أصوات ضمائرهم‬

‫ممو ًها بالعلمية‬ ‫األفعــال! نعم‪ ،‬يتخذ هؤالء‬ ‫ً‬ ‫خفيا ّ‬ ‫أســلوبا ًّ‬

‫جزاء‪ ،‬ويعيشون حياتهم وفق‬ ‫بأعباء الحياء‪ ،‬وال يخشون‬ ‫ً‬

‫ال مــن اإلنكار‬ ‫والمنهــج العلمــي فــي ســبيل اإللحــاد‪ ،‬بد ً‬

‫أهوائهــم فــي حريــة مطلقة ال قيد لها‪ ..‬ثــم إنهم يعتقدون‬ ‫أن الطريق إلى تلك الحرية والتخلص من قيود األخالق‬

‫الصريح لوجود اهلل سبحانه‪.‬‬

‫والعبادة والدين‪ ،‬يبدأ من هنا؛ أي من إنكار الخالق وتبني‬

‫لكــن اهلل ‪ ‬غنــي عــن االختبــار والتجريــب الــذي‬

‫يحتاجه اإلنسان العاجز‪ ،‬بل هو سبحانه الغني المطلق‪..‬‬

‫اإللحــاد‪ ،‬ولذلــك يضعــون نظرياتهــم بخــاف األبحــاث‬ ‫البيولوجية وقوانينها‪ ،‬ويتشدقون بالعلم من ِّقبين عن أقصر‬ ‫رجــال متقدمون‪ ،‬ويلقون علــى اآلخرين عباءة الالعلمية‬ ‫والتخلف والرجعية!‬

‫وعلــى الرغــم مــن كل األبحــاث العلميــة التــي تبيــن‬

‫ا عن كائن‬ ‫اســتحالة وجــود جزيئــة بروتين واحدة ‪-‬فضــ ً‬ ‫حــي متكامــل‪ -‬عن طريق الصدفة‪ ،‬فإن كل طرق اإللحاد‬

‫واالدعــاءات الباطلــة حــول التقــدم العلمــي‪ ،‬تنطلــق مــن‬

‫أزليــة الطبيعــة وأنهــا خلقــت نفســها بنفســها عــن طريــق‬

‫الصدفة! نعم‪ ،‬إنهم يعتمدون الحقائق التي تبينها اآلليات‬ ‫البيولوجيــة‪ ،‬كالتكيــف واالصطفــاء والطفرات في مجال‬

‫بعيدا‬ ‫األبحاث البيئية والجينية الوراثية‪،‬‬ ‫ويؤولونها تأوي ً‬ ‫ال ً‬ ‫ّ‬

‫يتجــاوز طاقتهــا وأهدافهــا البحثية‪ .‬وإن ســأل ســائل‪ :‬أال‬

‫ال من‬ ‫يمكــن أن يكــون اهلل ســبحانه قد أخرج اإلنســان فع ً‬ ‫القــرد بمــا يتوافق مــع نظرية التطور؟ هذا الســؤال يمكن‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫أن يوقع صاحبه في أفكار خاطئة دون شــعور منه يؤدي‬

‫‪12‬‬

‫بــه إلــى اإللحــاد وإنــكار الخالــق ســبحانه؛ ألن اآلليــات‬ ‫البيولوجية التي تشكل أساس "نظرية التطور"‪ ،‬تقوم على‬

‫قاعدة الصدفة وعلى الطبيعة البعيدة عن الشعور والعقل‬

‫واإلدراك‪ .‬وإذا ما نجحت هذه النظرية في إثبات إمكانية‬ ‫وجــود خليــة بروتينيــة واحــدة عــن طريــق ردود األفعــال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ويســوقون أنفســهم وكأنهم‬ ‫طريــق مفــض إلــى اإللحاد‪..‬‬ ‫ّ‬

‫وهــو ســبحانه بعلمــه المديد وقدرتــه الواســعة‪ ،‬منزه عن‬ ‫أن يخلــق خل ًقــا ال يعرفــه‪ ،‬أو أن يخلــق خل ًقــا ال يعجبــه‬ ‫فيســعى إلــى التطويــر في خلقه بالتجريــب واالختبار‪ ،‬بل‬

‫إنه ‪ ‬الخالق كل شيء بقدر‪ .‬إننا إذا قمنا بدراسة حول‬

‫قصورا‬ ‫ا أو‬ ‫مالييــن الكائنــات‪ ،‬فهــل يمكــن أن نرى خلــ ً‬ ‫ً‬ ‫أي واحــدة منهــا؟ إذا نظرنــا بتمعــن‪ ،‬فهــل يمكــن أن‬ ‫فــي ّ‬

‫ندعي ظهور عضو بالصدفة؟ إن الذين ال يدركون حكمة‬ ‫الطفــرات الضــارة التــي تبــدو وكأنهــا بــرزت صدفــة فــي‬ ‫يدعــون أن هــذه الطفرات تراكمــت مع مرور‬ ‫الجينــات‪ّ ،‬‬

‫الزمــن أو ظهــرت فجــأة‪ ،‬وأوجــدت بالصدفــة األعضــاء‬

‫نوعا من األحياء إلى نوع آخر!‬ ‫الكاملة‬ ‫لتحول ً‬ ‫ّ‬

‫فــا يغرنكــم األســلوب "العلمــي" الــذي يلجــأ إليــه‬

‫أصحاب نظرية التطور الفاســدة في تعليل الوجود‪ ،‬ألنها‬ ‫نظرية غير قابلة للتجربة والتكرار في المختبرات‪ ،‬لذلك‬

‫دائما خارج مجال البحث العلمي‪.‬‬ ‫ستظل ً‬

‫ولــو توقفــت عند مشــيتي ومشــيتكم فقط؛ الســتغرق‬

‫بيان الفروق التشريحية بيننا في الظهر والفخذين ساعات‬

‫طويلــة‪ ،‬فكيــف األمر لو بحثنا في توزع الشــعر وأشــكال‬ ‫اليديــن والقدميــن والفم واألنــف والجبهة واألذنين؟! إنه‬ ‫كثيــرا َمــن يدعــي بأن بعــض أنواعنــا كان لها‬ ‫ليضحكنــي‬ ‫ً‬

‫ذيــل‪ ،‬ثــم ضمــرت منهــا الذيــول‪ ،‬وتضخم دماغهــا حتى‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫القرد يحيك قصته‬ ‫عزيــزي اإلنســان‪ ،‬اعلــم أن جميــع‬

‫وإن تصــدى لهــم أحــد وقــال‪:‬‬ ‫فــي الماضــي الســحيق"‪ْ ..‬‬

‫خلقها لشــروط فيزيائية وكيميائية كســائر‬

‫بالكــذب والرجعيــة‪ ..‬ليــس هذا فحســب‪ ،‬بــل ذهب بهم‬

‫الحيوانــات والنباتــات‪ ،‬تخضــع فــي‬ ‫معجــزات اهلل التــي تختفــي وراء ســتائر األســباب‪ .‬ولكن‬ ‫بعــض النــاس قامــوا بحصــر اهتمامهم في هذه األســباب‬

‫والشــروط الظاهــرة؛ تجاهلــوا عمــق العلم الكامــن فيها‪،‬‬ ‫والقدرة التي تتجلى في حقيقتها‪ ،‬ثم انحدروا إلى مهالك‬

‫اإلنكار واإللحاد باسم "العلم" و"العلمية"‪.‬‬

‫مســتحاثات ألنــواع منقرضة من القــرود"‪ ،‬وصموه‬ ‫"هــذه‬ ‫ٌ‬

‫الحــد إلــى أن زرعــوا فــي أخاديد األســنان فــي فكي قرد‬ ‫يتمكنوا من إثبات‬ ‫من األورانغوتان‪،‬‬ ‫أسنان اإلنسان لكي ّ‬ ‫َ‬

‫وســموا هذه المســتحاثة البائسة المسكينة‬ ‫ادعاءاتهم‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫رجــل "البيلــداون" (‪ .)Piltdown‬ولكــن مــاذا كانت النتيجة؟‬

‫لقــد ظهــر الزيف وســقط االســتدالل‪ .‬يعثــر أحدهم على‬

‫ومــن ثــم يدهشــني حماس البعض منكــم على إيجاد‬

‫ســن مفــرد وحيــد‪ ،‬ويقدمــه علــى أنــه مــن بقايا‬ ‫مســتحاثة ّ‬

‫جملة من األكاذيب والتحليالت المستحيلة التي تتجاوز‬

‫الســن صــورة لذلك األصل ويرســمه‪ ،‬ثم يغرب في‬ ‫هــذا‬ ‫ّ‬

‫َقرابــة بيني وبينهــم‪ ،‬ويحيرني ‪-‬كذلك‪ -‬لجوء هؤالء إلى‬ ‫العقــل‪ .‬كانــت بعــض أنواعنــا تعيــش فــي عصور مــا قبل‬ ‫التاريــخ ثــم انقرضــت‪ ،‬وكان فيهــا أنواع كبيــرة وعمالقة‬

‫بحجــم الغوريــا والشــامبانزي واألورانغوتــان‪ ،‬كما كان‬ ‫اهلل ‪ ،‬واســتمر بعضهــا اآلخــر بإذنــه وإرادتــه ســبحانه‪.‬‬

‫وعندما يعثر البعض منكم على ُم ْســتحاثات هذه األنواع‬

‫أجدادنــا الذيــن‬ ‫المنقرضــة‪ ،‬يصيــح بــكل قوتــه‪" :‬هــا هــم‬ ‫ُ‬

‫انحدرنــا منهــم‪ ..‬وهــا هــو الشــكل التــي يجمعنــا بالقرود‬

‫الخيـ�ال أكثـ�ر ويرسـ�م صورة زوجة لـ�ه يسـ�ميه ا‬

‫"�‪Hespero‬‬

‫‪ ،"pithecus Haroldcooki‬ولكــن تظهر البحوث الالحقة على‬

‫أن ذلك الســن ســن خنزير فقط‪ ..‬وكم من المســتحاثات‬

‫الكثيــرة غيــر المكتملــة‪ ،‬وهيــاكل األنــواع المنقرضة التي‬

‫تقارب الهياكل البشرية‪ ،‬يسعى وراءها في َه َوس عجيب‬ ‫َمن يبحث عن قرابة تربط بين القرد وبني اإلنسان!‬

‫فمــاذا يقصــد هــؤالء مــن وراء هــذه البحــوث‪ ،‬وهــذا‬

‫اإلصــرار العجيــب علــى عقــد المقارنــة بينــي وبينكــم؟!‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫فيهــا أنــواع صغيــرة كالليمــور‪ ..‬انقرضــت بعضهــا بتقدير‬

‫يكــون مــن‬ ‫جــد اإلنســان القديــم‪ ،‬وال يكتفــي بذلــك بــل ّ‬

‫‪11‬‬


‫ال ُن ِ‬ ‫وحــي ِإ َل ْيهِ ْم‬ ‫ال رِ َجا ً‬ ‫ــك ِإ َّ‬ ‫ــن َق ْب ِل َ‬ ‫‪‬و َمــا َأ ْر َســ ْل َنا ِم ْ‬ ‫بقولــه‪َ :‬‬ ‫ون ‪ ‬بِا ْلب ِي َن ِ‬ ‫ات َوال ُّز ُب ِر‬ ‫الذ ْك ِر إ ِْن ُك ْن ُت ْم َ‬ ‫اس َأ ُلوا َأ ْه َل ِّ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ‬ ‫َف ْ‬ ‫َّ‬ ‫ــم َو َل َع َّل ُه ْم‬ ‫ــك ِّ‬ ‫َو َأ ْن َز ْل َنــا ِإ َل ْي َ‬ ‫ــن ِل َّلن ِ‬ ‫الذ ْك َــر ِل ُت َب ِّي َ‬ ‫اس َمــا ُن ِّز َل ِإ َل ْيهِ ْ‬

‫‪‬هــو ا َّل ِ‬ ‫ــذي َأ ْن َــز َل‬ ‫المتشــابه الــذي ّ‬ ‫حــذر اهلل تعالــى منــه‪َ ُ :‬‬ ‫اب َو ُأ َخ ُر‬ ‫ات ُه َّن ُأ ُّم ا ْل ِك َت ِ‬ ‫َع َل ْي َ‬ ‫ات ُم ْح َك َم ٌ‬ ‫ــاب ِم ْن ُه َآي ٌ‬ ‫ــك ا ْل ِك َت َ‬ ‫ــاب َه‬ ‫ين ِفي ُق ُلوبِهِ ْم َز ْي ٌغ َف َي َّتب ُِع َ‬ ‫ُم َت َشــاب َِه ٌ‬ ‫ات َف َأ َّما ا َّل ِذ َ‬ ‫ون َما َت َش َ‬ ‫هلل‬ ‫ــاء َت ْأوِ ي ِل ِه َو َمــا َي ْع َل ُم َت ْأوِ ي َل ُــه ِإ َّ‬ ‫ال ا ُ‬ ‫ــاء ا ْل ِف ْت َنــ ِة َو ْاب ِت َغ َ‬ ‫ِم ْن ُــه ْاب ِت َغ َ‬ ‫َوالر ِ‬ ‫ــن ِع ْن ِد َر ِّب َنا‬ ‫ون ِفــي ا ْل ِع ْل ِ‬ ‫ــم َي ُقو ُل َ‬ ‫ــخ َ‬ ‫اس ُ‬ ‫آم َّنا ِب ِه ُك ٌّل ِم ْ‬ ‫ــون َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اب‪(‬آل عمران‪.)7:‬‬ ‫ال أُو ُلو األ ْل َب ِ‬ ‫َو َما َي َّذ َّك ُر ِإ َّ‬

‫ون‪(‬النحل‪.)44-43:‬‬ ‫َي َت َف َّك ُر َ‬

‫حملة هذه اآلالت‬ ‫الم َّرة أننا في عصر َّ‬ ‫والحقيقة ُ‬ ‫قل فيه َ‬ ‫مجتمعــة‪ ،‬ممــا أضعف مــن قدراتنا علــى مواجهة الواقع‬

‫وهذه اآلية كما أنها دليل هذه المسألة‪ ،‬فإنها أوضح‬

‫بما يناســبه من أحكام على أســاس اســتنباط األحكام من‬

‫األمثلــة عليهــا‪ ،‬فهنــاك من يســتدل بها علــى تفويض علم‬ ‫ال‬ ‫القــرآن هلل ‪ ،‬لقولــه تعالى‪َ  :‬ت ْأوِ ي ِل ِه َو َما َي ْع َل ُم َت ْأوِ ي َل ُه ِإ َّ‬ ‫هلل‪ ..‬على اعتبار أن الوقف هنا‪ ،‬ولو قرأوا القرآن قراءة‬ ‫ا ُ‬

‫اســتفراغ للوســع فــي دراســتها كما هو المفتــرض فيهم‪،‬‬

‫وقــوع مــا أخبــر بــه اهلل تعالــى‪ ،‬وهــو أحــد معانــي التأويل‬

‫ضغــط الواقــع‪ ،‬أو الخــوف مــن الواقــع‪ ،‬وهمــا مؤثــران‬

‫الكتاب والســنة‪ ،‬فحتــى الكثير من المتخصصين في هذه‬

‫العلوم ‪-‬كما نشاهد‪ -‬ال يصدرون في إبداء األحكام عن‬

‫كاملة وردوا بعضه إلى بعض‪ ،‬لعلموا أن المراد بالتأويل‬

‫إليــه واالنصياع التــام له‪ ،‬مع أن الفريقين مؤمن بحاكمية‬ ‫النــص ومرجعيته‪ ،‬لكنهم ‪-‬أي أفراد الفريقين‪ -‬يضطرون‬

‫إما إلى الحكم مباشرة من منطلق ما يحملونه من مشاعر‬ ‫اتجاه واقعهم دون البحث عن النصوص‪ ،‬أو إلى اختزال‬

‫فيمــا يســتجد فيــه مــن مســائل‪ .‬وهــذا األمــر ‪-‬أي الفهم‪-‬‬

‫والمتاشبه‪ ،‬والمجمل والمبين‪ ،‬والعام والخاص‪ ،‬والمطلق‬

‫بعيدون عنه‪ ،‬وهذا ُيرجعنا إلى ما ذكرناه آن ًفا من اشتراط‬

‫والمقيد‪ ،‬والناســخ والمنســوخ‪ ،‬وفائدة كل قسم من هذه‬ ‫األقســام مــن حيــث داللته على أحكام الشــرع‪ ..‬كما أنها‬

‫مســؤولة عــن دالالت األلفاظ ومعانــي الحروف‪ ،‬ومدى‬ ‫تعلق األحكام بأسباب النزول‪ ،‬وأسباب ورود الحديث‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫وآراء‪ ،‬حيث يحوالن دون النظر إلى النص بروح التجرد‬

‫القرآن بينهم على أساس قدراتهم على استنباط األحكام‬ ‫ــت آ َن َاء ال َّلي ِل َس ِ‬ ‫ــاج ًدا‬ ‫ــن ُه َو َقا ِن ٌ‬ ‫منــه‪ ،‬فقــال تعالــى‪َ  :‬أ ْم َم ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ــذر ِ‬ ‫اآلخ َــر َة َو َي ْر ُجو َر ْح َم َة َر ِّب ِه ُق ْل َه ْل َي ْس َــتوِ ي‬ ‫َو َقائ ًمــا َي ْح َ ُ‬ ‫ــون ِإ َّن َمــا َي َت َذ َّك ُــر ُأو ُلــو‬ ‫يــن َ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫يــن َي ْع َل ُم َ‬ ‫ــون َوا َّل ِذ َ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫ا َ‬ ‫اب‪(‬الزمــر‪ .)9:‬والعلــم الــذي يتفــاوت النــاس فيه في‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫استنباط األحكام هو العلم بطرائق هذا االستنباط‪ ،‬وهي‬ ‫مجموعــة مــن العلوم مســؤولة عــن التمييز بيــن المحكم‬

‫‪10‬‬

‫جــدا علــى مكانــة مــا يصــدر عنهــم مــن فتــاوى‬ ‫خطيــران ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ــل‬ ‫الــواردة فــي الشــرع‪ ،‬وذلــك‬ ‫ً‬ ‫‪‬ه ْ‬ ‫أخــذا مــن قولــه ‪َ :‬‬ ‫ــوه‬ ‫ال َت ْأوِ ي َل ُــه َي ْــو َم َي ْأ ِتــي َت ْأوِ ي ُل ُــه َي ُق ُ‬ ‫ون ِإ َّ‬ ‫َي ْن ُظ ُــر َ‬ ‫ــول ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َن ُس ُ‬ ‫ــل َر ِّب َنا بِا ْل َح ِّق َف َه ْل َل َنا ِم ْن ُشــ َف َع َاء‬ ‫ــل َق ْد َج َاء ْت ُر ُس ُ‬ ‫ــن َق ْب ُ‬ ‫ِم ْ‬ ‫َف َي ْش َف ُعوا َل َنا َأ ْو ُن َر ُّد َف َن ْع َم َل َغ ْي َر ا َّل ِذي ُك َّنا َن ْع َم ُل َق ْد َخ ِس ُروا‬ ‫ون‪(‬األعراف‪.)53:‬‬ ‫َأ ْن ُف َس ُه ْم َو َض َّل َع ْن ُه ْم َما َكا ُنوا َي ْف َت ُر َ‬ ‫وكمــا أن كل المؤمنيــن مطالبــون بالتدبــر‪ ،‬فقــد فــرق‬

‫بــل يقعــون فــي أحكامهــم تحــت تأثير أحــد أمرييــن؛ إما‬

‫فمــن األمــور التــي يتفاضــل فيهــا الناس في اســتنباط‬

‫األحــكام مــن مصــادره‪ ،‬مــدى إحاطتهــم بهــذه العلــوم‪.‬‬

‫فكلما كانت آلة اإلنســان من هذه العلوم أكبر‪ ،‬كان أقدر‬ ‫على استنباط األحكام‪ ،‬ومن لم يحمل هذه اآللة فهو من‬ ‫الذين ال يعلمون‪ ،‬وهم ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬من َع َناهم ســبحانه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫داللة النص إلى مساحة ال ظالل عليها من ضغط الواقع‬

‫أو الخوف منه‪.‬‬

‫والحــق فــي هــذا الســياق أن يكــون التأنــي فــي فهــم‬

‫تقديرا‬ ‫الواقــع وتقدير حاجاته‬ ‫بعيدا عن ضغطه‬ ‫صحيحا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أو الخــوف منــه‪ ،‬هــو المرحلــة األولى في إعطــاء الحكم‬ ‫يدعيه‪ ،‬لكن الشــواهد تشــير إلى أن الكثير‬ ‫وإن كان الكل ّ‬

‫صحــة التصــورات‪ ،‬ومــن ثم صحــة التصديقــات‪ ،‬ويليها‬

‫صحة الجمع بين هذه التصديقات للوصول إلى المعرفة‬ ‫الصحيحــة‪ .‬ومــا نالحظــه فــي هذه المســألة أن ما أشــرنا‬ ‫إليــه مــن وســائل المعرفــة الصحيحــة‪ ،‬ال يســتخدم‬ ‫كثيــرا‬ ‫ً‬

‫لدى أكثر القراء والكتاب‪ ،‬مما يؤكد أنهم لم ُيعوا حقيقة‬

‫الواقع وإن زعموا أنهم في كل ما يقولونه صادرون عن‬ ‫استيعابه‪.‬‬

‫(*) أستاذ في أصول الفقه‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫إن كل األمــة ‪-‬مجتمعة‪ -‬مخاطبــة بالوحي‪ ،‬فإن كل‬

‫‪-‬وهــو االســتعباد الخالــص هلل‪ -‬إلــى مصطلــح ملفق من‬

‫فرد من أفراد الناس مخاطب عىل حدة بهذا الوحي‪،‬‬

‫مصطلحا‬ ‫نتاج الماســونية ومشــاعرنا الدينية‪ ،‬ونحن نريد‬ ‫ً‬

‫والكل مطالب بتدبره وتأمل أوامره ونواهيه‪ ،‬ليس‬

‫صريحا إسالمي األصل والمنشأ والوالدة‪.‬‬ ‫ً‬

‫ذلك ألحد دون أحد‪ ،‬العلامء والعامة عىل حد سواء‪.‬‬

‫وحيــن نرســخ مفهوم االســتعباد التــام هلل تعالى‪ ،‬فإننا‬

‫أيضا واجب التسليم هلل ‪ ‬وألمره ونهيه‪ ،‬والرضا‬ ‫نرسخ ً‬

‫وقدر‪.‬‬ ‫بما أمر كتسليمنا بما قسم ّ‬

‫فالتســليم هلل تعالــى هــو وحــده الكفيــل بالقضاء على‬

‫كل مطالبــة تخالف النص وتســتند إلــى ما يعرف بحقوق‬

‫ا فــي مقاصــد‬ ‫اإلنســان‪ ،‬ويجــد المتحمســون لهــا أصــ ً‬ ‫الشــريعة العامة‪ ،‬ألن عدم التســليم الحق هو الذي يؤدي‬

‫ــي أعنــاق النصــوص أو تعطيلهــا من أجل‬ ‫إلــى محاولــة ل‬ ‫َ ِّ‬ ‫موافقة الهوى دون أن يكون هناك داع للتأويل أو التعطيل‪.‬‬ ‫ومــن تتمــة الحديــث عــن عظيــم االبتــاء بمصطلــح‬

‫الحريــة‪ ،‬تطــرف البعــض فــي اســتخدامه؛ ومــن ذلــك أن‬

‫مقصدا من مقاصد الشــريعة ينضاف إلى‬ ‫منهم من جعله‬ ‫ً‬ ‫ال نجد هذا المصطلح في نصوص الشريعة وال في اللغة‬ ‫العربيــة بأســرها يطلــق إال على ما يقابل الرق‪ ،‬والشــريعة‬

‫تحيط اإلنسان بأحكامها الخمسة من الوجوب والتحريم‬

‫والكراهة والندب‪ ،‬وليس ثم خيار مطلق إال في اإلباحة‪،‬‬ ‫وحتــى هــذه نجد أن الخيــار فيها غير مطلــق؛ فإن المباح‬

‫مباحا إال باعتبارات ربما تكون متعددة؛‬ ‫الواحد ال يكون ً‬

‫فالنســاء مباحــات للرجل ما عــدا المحارم منهن‪ ،‬وال تتم‬ ‫اإلباحــة إال بعقــد ومهر‪ ،‬وحين يضم الرجل أربعة نســوة‬ ‫تحــرم عليــه جميــع نســاء العالميــن‪ ،‬وتحــرم مــع المرأة‬ ‫الواحدة أمها وأخواتها وخاالتها وعماتها‪.‬‬

‫مخدرا‪ ،‬أو‬ ‫مسكرا‪ ،‬أو‬ ‫واألكل كله مباح‪ ،‬إال إذا كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫مفترا‪ ،‬أو غير مذبوح‪ ،‬وغير مذكور اسم اهلل عليه‪ ،‬وليس‬ ‫ً‬ ‫خنزيرا‪ ،‬أو دخل في تركيبه‬ ‫سب ًعا‪ ،‬أو ذا ناب‪ ،‬أو خبي ًثا‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫شيء من ذلك‪.‬‬

‫حيلة على بيع المال بالمال‪ ،‬أو بيع مجهول‪ ،‬أو غائب‪،‬‬

‫أو غيــر مقــدور علــى تســليمه‪ ،‬أو غير موصــوف بوصف‬ ‫جلبا متل ًّقى‬ ‫منضبــط‪ ،‬وال بيــع منابــذة‪ ،‬وال مالمســة‪ ،‬وال ً‬

‫من الركب‪ ،‬إلى آخر ما يذكر هناك‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫والبيــع كلــه حــال‪ ،‬إال إذا كان بيــع مــال بمــال‪ ،‬أو‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حفــظ الديــن والنفس والمال والعقــل والعِ رض‪ ،‬مع أننا‬

‫نعــم‪ ،‬نحــن نشــعر بكفايــة اإلســام‪ ،‬وبالراحــة فــي‬ ‫تعاطينــا ألمــور الحيــاة وفــق تعاليمــه‪ ،‬لكــن ذلــك ليــس‬ ‫للحريــة‪ ،‬بــل لمــا في شــرف العبودية هلل تعالــى من الفرج‬ ‫واليسر‪ ،‬وصالح أمر الدنيا بصالح الدين‪.‬‬ ‫وقــل مثــل ذلك فــي الفكر‪ ،‬فإن المــرء مطالب بالنظر‬ ‫إلــى الكــون والوجــود بجملتــه وتفاصيلــه وفــق الرؤيــة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وبالمنظار الشرعي ال غير‪.‬‬ ‫وممــن تطــرف فــي الحرية‪ ،‬من جاء بهــذا االصطالح‬ ‫الغربي نفسه فطالب بالليبرالية اإلسالمية‪ ،‬والغالب على‬ ‫هــؤالء أنهــم غيــر متحمســين للتســليم لإلســام‪ ،‬وإنمــا‬ ‫يحاولــون ترويــج معاناتهــم الهوائيــة ‪-‬نســبة للهــوى ال‬ ‫للهواء‪ -‬بإضافة اإلســام كتذكرة عبور إلى مجتمعاتنا ال‬ ‫أكثر من ذلك‪.‬‬ ‫الوحــي بنوعيــه ‪-‬الكتــاب والســنة‪ -‬نزل على رســول‬ ‫اهلل ‪‬‬ ‫مخاطبــا كل النــاس وكل المؤمنيــن به‪ ،‬وكما أنهم‬ ‫ً‬ ‫ا‪ ،‬فــإن خطابــه تعالــى لهــم‬ ‫يؤمنــون بــه إجمــا ً‬ ‫ال وتفصيــ ً‬ ‫ال‪ ،‬وكما أن كل األمة ‪-‬مجتمعة‪ -‬مخاطبة‬ ‫إجما ً‬ ‫ال وتفصي ً‬ ‫بالوحــي‪ ،‬فــإن كل فــرد مــن أفــراد النــاس مخاطــب على‬ ‫حــدة بهــذا الوحي‪ ،‬والــكل مطالب بتدبــره وتأمل أوامره‬ ‫ونواهيــه‪ ،‬ليــس ذلــك ألحــد دون أحــد‪ ،‬العلمــاء والعامة‬ ‫على حد سواء‪ ،‬يقول تعالى‪ِ :‬‬ ‫اركٌ‬ ‫‪‬ك َت ٌ‬ ‫اب َأ ْن َز ْل َن ُاه ِإ َل ْي َك ُم َب َ‬ ‫ِلي َّد َّبــروا َآيا ِتــ ِه َو ِلي َت َذ َّكــر ُأو ُلــو ا َ‬ ‫ا‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫ــاب‪(‬ص‪َ  ،)29:‬أ َفــ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــدوا ِفيهِ‬ ‫ِ‬ ‫آن َو َل ْــو َك َ‬ ‫ون ا ْل ُق ْــر َ‬ ‫َي َت َد َّب ُــر َ‬ ‫ــن ع ْنــد َغ ْي ِر اهلل َل َو َج ُ‬ ‫ان م ْ‬ ‫ال ًفا َك ِث ًيرا‪(‬النساء‪.)82:‬‬ ‫اخ ِت َ‬ ‫ْ‬ ‫وتدبر القرآن ال يكون‬ ‫ورد‬ ‫صحيحا إال بقراءته كام ً‬ ‫ال ّ‬ ‫ً‬ ‫بعضــه إلــى بعض وتفســير بعضــه ببعض‪ ،‬وكذلك الســنة‬ ‫برد بعضها إلى بعض وإلى القرآن‪.‬‬ ‫ال يكون تدبرها إال ّ‬ ‫وعكس ذلك‪ ،‬اجتزاء بعض آيات القرآن وعزلها عن‬ ‫بقيتــه‪ ،‬أو أخــذ بعــض األحاديث وترك تفســيرها بالقرآن‬ ‫أو تفســيرها ببعضهــا‪ ،‬فــإن ذلــك مــن اتباع الهــوى واتباع‬

‫‪9‬‬


‫نحن نشــعر بكفاية اإلســام وبالراحة يف تعاطينا‬

‫ِ‬ ‫يم‪(‬آل عمران‪ ،)31:‬ويقول ‪:‬‬ ‫وب ُك ْم َوا ُ‬ ‫َل ُك ْم ُذ ُن َ‬ ‫هلل َغ ُف ٌ‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــج َر َب ْي َن ُه ْم‬ ‫ــك َ‬ ‫ا َو َر ِّب َ‬ ‫‪َ ‬فــ َ‬ ‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫يما َش َ‬ ‫ون َح َّتى ُي َح ّك ُموكَ ف َ‬ ‫ــدوا ِفــي َأ ْن ُف ِســهِ ْم َح َر ًجا ِم َّمــا َق َض ْي َت َو ُي َســ ِّل ُموا‬ ‫ــم َ‬ ‫ال َي ِج ُ‬ ‫ُث َّ‬ ‫ِ‬ ‫ــن ِد ًينا ِم َّم ْن َأ ْســ َل َم َو ْج َه ُه‬ ‫‪‬و َم ْن َأ ْح َس ُ‬ ‫يما‪(‬النســاء‪َ ،)65:‬‬ ‫َت ْسل ً‬ ‫ِ‬ ‫ــن َو َّاتب َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫هلل‬ ‫يــم َح ِني ًفــا َو َّات َخ َ‬ ‫ــذ ا ُ‬ ‫ــع م َّلــ َة إ ِْب َراه َ‬ ‫ل َو ُه َــو ُم ْحس ٌ َ‬ ‫ِ‬ ‫ان‬ ‫يــم َخ ِلي ً‬ ‫‪‬و َمــا َك َ‬ ‫ال‪(‬النســاء‪ ،)125:‬وقولــه ســبحانه‪َ :‬‬ ‫إ ِْب َراه َ‬ ‫ون‬ ‫ــن َو َ‬ ‫ِل ُم ْؤ ِم ٍ‬ ‫ال ُم ْؤ ِم َنــ ٍة ِإ َذا َق َضــى ا ُ‬ ‫هلل َو َر ُســو ُل ُه َأ ْم ًــرا َأ ْن َي ُك َ‬ ‫هلل َو َر ُســو َل ُه َف َق ْد َض َّل‬ ‫َل ُه ُم ا ْل ِخ َي َر ُة ِم ْن َأ ْم ِر ِه ْم َو َم ْن َي ْع ِ‬ ‫صا َ‬ ‫‪‬و َر ُّب َك َي ْخ ُل ُق‬ ‫ا ً‬ ‫َضــ َ‬ ‫ال ُمب ًِينا‪(‬األحــزاب‪ ،)36:‬ويقول تعالى‪َ :‬‬ ‫ان ا ِ‬ ‫هلل َو َت َعا َلى‬ ‫ــم ا ْل ِخ َي َر ُة ُس ْــب َح َ‬ ‫ــار َما َك َ‬ ‫َمــا َي َش ُ‬ ‫ــاء َو َي ْخ َت ُ‬ ‫ان َل ُه ُ‬ ‫ون‪(‬القصص‪.)68:‬‬ ‫َع َّما ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫كما أن حياة اإلنسان اليومية مضبوط ٌة بخطاب الشرع‬

‫ألمور الحياة وفق تعاليمه‪ ،‬لكن ذلك ليس للحرية‪،‬‬ ‫بل ملا يف رشف االســتعباد لله تعــاىل من الفرج‬

‫‪8‬‬

‫مثالبهــا‪ ،‬كمــا نســتحضر أن كل تكتــل على أســاس يؤدي‬ ‫محرم‪ ،‬فال‬ ‫إلى الضرر على النسيج اإلسالمي للمجتمع ّ‬ ‫نطالب بأي تكتالت على أســس َقبلية محضة ما لم يكن‬ ‫ذلك لدعم م ُثل إســامية‪ .‬حين نســتحضر هذه الضوابط‬ ‫ال يبقى أمامنا إال المحافظة على القبيلة باعتبارها وسيلة‬ ‫للتواصــل االجتماعــي بيــن أبناء األمة‪ ،‬والقيــام مع الفرد‬ ‫مــن أبنائهــا في المعونة على نوائب الحق وحســب‪ ،‬وهو‬ ‫جــدا يجــرد القبيلــة مــن كل ما من شــأنه أن‬ ‫نطــاق ضيــق ًّ‬ ‫تفجر نفسها وتتحطم عليها كل‬ ‫يجعل منها قنبلة موقوتة ّ‬ ‫المكاسب‪ ،‬وعليه فال يقبل أي فكر َقبلي ال يسير في هذا‬ ‫القبلية‪.‬‬ ‫النطاق المحدود لدعم َ‬ ‫جــدا‬ ‫وقــد اختــرت هــذا المثــال العتقــادي أن قليــ ً‬ ‫ا ًّ‬ ‫مــن القــراء ســيختلف معــي فيــه‪ ،‬وإال فاألمثلــة كثيــرة‬ ‫فــي مجــاالت التعليــم واإلعــام والتنميــة واالقتصــاد‬ ‫والخدمــات والعمــل والسياســة والســياحة والعالقــات‬ ‫الدوليــة واالجتمــاع والدعوة والفنون‪ ،‬وكل ما يتفرع عن‬ ‫أيضا‪ ،‬كلها نطاقات‬ ‫هــذه العناوين‪ ،‬بل والبيئــة والتصنيع ً‬ ‫ال ككل ما‬ ‫شــملها الوحــي بالضبــط وبالتحديد؛ إمــا إجما ً‬ ‫ال ككل ما يتعلق بالفرد وعالقته‬ ‫يتعلق باألنظمة‪ ،‬أو تفصي ً‬ ‫بالخالق والمخلوقين‪.‬‬ ‫وهــذا مــا أعنيــه بالشــمول فــي خطــاب الوحــي‪ ،‬وهو‬ ‫شــمول عرفنــاه باســتقراء نصــوص الوحــي مــن الكتــاب‬ ‫والســنة‪ ،‬يجعلنا اإليمان به نتحرى أال نجتهد في صياغة‬ ‫أي فكــرة قبــل أن نبحــث عــن الضوابط الشــرعية لها‪ ،‬أو‬ ‫للنوع الذي تندرج فيه‪.‬‬ ‫وحين نصل إلى هذه الضوابط فال مناص من التسليم‬ ‫‪‬ب َلى َم ْن‬ ‫التــام لمــا ثبــت بالشــرع‪ ،‬ألن اهلل تعالــى يقــول‪َ :‬‬ ‫َأس َلم َو ْج َه ُه ِ ِ‬ ‫ال َخ ْو ٌف‬ ‫ل َو ُه َو ُم ْح ِس ٌن َف َل ُه َأ ْج ُر ُه ِع ْن َد َر ِّب ِه َو َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ون‪(‬البقــرة‪ ،)112:‬ويقــول ســبحانه‪:‬‬ ‫ــم َو َ‬ ‫ــم َي ْح َز ُن َ‬ ‫ال ُه ْ‬ ‫َع َل ْيهِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫هلل َو َي ْغ ِف ْــر‬ ‫‪ُ ‬ق ْ‬ ‫ــم ا ُ‬ ‫ــون ا َ‬ ‫ــم ُت ِح ُّب َ‬ ‫هلل َف َّاتب ُِعونــي ُي ْحب ِْب ُك ُ‬ ‫ــل إ ِْن ُك ْن ُت ْ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫طيلة يومه وليلته؛ حيث ال يخرج عمل من أعماله عن أن‬ ‫يكــون له حكم في الشــريعة اإلســامية‪ ،‬وهــذا ما يجعلنا‬

‫نعيــد النظــر فيمــا يقال "إن اإلســام دين حريــة"‪ .‬وأعتقد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫واليرس‪ ،‬وصالح أمر الدنيا بصالح الدين‪.‬‬

‫أن هذه العبارة ليســت أصيلة في تراثنا اإلســامي‪ ،‬وإنما‬ ‫الرد على الحملة العلمانية الماسونية‬ ‫جاءت في ِ‬ ‫معرض ّ‬

‫التي جعلت شعارها العدل والحرية والمساواة‪.‬‬

‫فجــاء جوابنــا‪ :‬إن اإلســام يك ُفــل للمســلم حريــة‬ ‫منضبطة بضوابط الشرع‪ .‬لكننا حين نتأمل ضوابط الشرع‬

‫جدا‪ ،‬بحيث ال يمكن‬ ‫نجدها ‪-‬والحمد هلل‪ -‬كثيرة وكثيرة ًّ‬ ‫أحرارا‪.‬‬ ‫إقناع أحد أننا معها يمكن أن نكون‬ ‫ً‬

‫كنــت أتمنــى لــو كان جوابنــا علــى دعــاوى الحريــة‪:‬‬

‫إن الحريــة فــي النهايــة هــي عبــادة النفس وتأليــه الهوى‪،‬‬ ‫ــن َّات َخ َذ ِإ َل َه ُه َه َو ُاه َأ َف َأ ْن َت‬ ‫كمــا فــي قوله تعالى‪َ  :‬أ َر َأ ْي َت َم ِ‬ ‫ال‪(‬الفرقان‪ .)43:‬واإلســام أمرنا بالخروج‬ ‫ــون َع َل ْي ِه َو ِكي ً‬ ‫َت ُك ُ‬ ‫من ذلك إلى الدخول في عبوديته سبحانه‪ ،‬تلك العبودية‬ ‫حــرا مطل ًقا‪ ،‬وال‬ ‫التــي ال يمكــن لإلنســان معهــا أن يكون ًّ‬

‫حــرا بضوابــط ولــو كانت ضوابــط الشــريعة؛ ألن الحرية‬ ‫ًّ‬ ‫مصطلح له أبعاده الفلســفية‪ ،‬وهو بهذه األبعاد ال يمكن‬

‫أن يتوافــق مــع ضوابط الشــريعة إال مــن حيث داللته في‬ ‫لغتنــا العربيــة‪ ،‬وال يخفــى أن المصطلحــات غيــر مرتهنــة‬

‫بداللتهــا األصليــة فــي لغاتهــا‪ .‬وحين نقول‪ :‬إن اإلســام‬

‫أعطانا الحرية المنضبطة بضوابط الشرع‪ ،‬فإننا نتنازل عن‬ ‫تأثيرا في النفوس‬ ‫المصطلح األشرف واألسمى واألكثر ً‬


‫منهجا متكام ً‬ ‫ال للحياة‪ ،‬يؤسسه عىل‬ ‫الوحي يقدم‬ ‫ً‬

‫ولمــاذا‪ ،‬وهــي إشــكاالت عــن الخلــق وســر الوجــود في‬

‫حقيقة أن اإلنسان عبد لله اضطرا ًرا‪ ،‬ويجب أن يكون‬

‫شكلت عصب‬ ‫هذه الحياة‪ ،‬موروثة عن فالسفة اليونان‪ّ ،‬‬

‫ً‬ ‫عبدا لله اختيا ًرا‪ .‬واالســتعباد ليس‬ ‫تحكم إله ًّيا يف‬ ‫ً‬

‫الفلسفة القديمة والوسطى والحديثة‪.‬‬

‫األفعال فقط‪ ،‬بل يف األقــوال واألفعال الظاهرة‬

‫وإن كانــت طبيعــة النقــاش الفلســفي المعتمــد علــى‬

‫والباطنة التي منها الفكر‪.‬‬

‫طرح األســئلة المســتنبطة من أســئلة ســابقة‪ ،‬دون ارتباط‬ ‫الســائل بحصوله على جواب مقنع عن الســؤال األول‪،‬‬

‫كثيــرا أن يكون التقارب هو بتأثير من‬ ‫أضــع فــي االعتبار‬ ‫ً‬

‫أقــول‪ :‬إن طبيعــة النقــاش هــذه‪ ،‬قــد أســهمت ‪-‬وليســت‬

‫دواعي الفطرة التي أظن أن ديكارت وكينت كانا أول من‬

‫وحدهــا‪ -‬في أن تكون الفلســفة منطل ًقــا لكثير من العلوم‬

‫أدخالها (أي الفطرة) في الفكر األوربي‪.‬‬

‫النظرية والتجريبية؛ كالرياضيات‪ ،‬والطب‪ ،‬وعلم النفس‪،‬‬

‫أتكلــم هكــذا ألنني أجــزم بأن من التهالــك الفكري‪،‬‬

‫والجغرافيــا‪ ،‬والفيزيــاء‪ ،‬واألحيــاء‪ ،‬والميكانيــكا‪ ..‬إال أننا‬

‫الرجــوع بالعقــل إلــى الــوراء فــي محاولــة مناقشــة قضايا‬

‫ال يمكــن أن نعــزو الفضــل في والدة هــذه العلوم النافعة‬

‫قرآنيا بشكل قطعي‪ ،‬وذلك في دعوات نسمعها‬ ‫محسومة‬ ‫ًّ‬ ‫تتصاعــد هنا وهناك مطا ِلبة بدراســة الفلســفة وتدريســها‪.‬‬

‫إلــى الحيــرة في أصــل الكون والحياة كمــا يحب البعض‬

‫يصــور لنــا‪ ،‬بــل الحقيقــة أن تلــك العلــوم نشــأت عــن‬ ‫أن‬ ‫ِّ‬

‫بــل إن هنــاك مشــاريع قائمــة اآلن إلحيــاء الفلســفة فــي‬

‫مهيــأة للتفكيــر‪ ،‬ولــو أن تلــك البيئــة توقفــت‬ ‫بيئــة علميــة ّ‬

‫بالدنــا‪ ،‬هــذه الفلســفة التــي قامت بدورها المشــكور قبل‬

‫عنــد اإلجابــات الفطريــة إلشــكاالت الكــون والحيــاة‪،‬‬

‫تلــك العلــوم التــي ظلــت أكثر مــن ألف ســنة متوقف ًة عند‬ ‫شكلها النظري الذي تركها عليه كل من أبقراط وأرسطو‬

‫وأرشميدس‪ ،‬حتى انتقلت عند المسلمين نقل ًة نوعية من‬ ‫العلــم النظــري إلــى العلم التجريبي‪ ،‬ومــن ثم ح ّققت في‬

‫تقدم نتيجة اشتراك‬ ‫ظل الحضارة الغربية ما نراه اليوم من ّ‬ ‫المحــرك‬ ‫شــكلت‬ ‫العديــد مــن العوامــل المؤثــرة‪ ،‬والتــي ّ‬ ‫ّ‬

‫الرئيس لتسارعها‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التقدم بشــكل أســرع بكثير في سبيل إنضاج‬ ‫الســتطاعت ّ‬

‫ألفي عام‪ ،‬ولم تعد اآلن قادرة على أن تقدم لإلنسانية أي‬ ‫شيء مفيد بعد أن استقلت عنها جميع العلوم التجريبية‪،‬‬

‫إضافــة إلى علم النفس واالجتماع والجغرافيا والتاريخ‪،‬‬ ‫ولــم يبــق فــي فنائهــا ســوى القضايــا المتعلقــة بالالهوت‬ ‫وعالــم الغيــب‪ ،‬وهي قضايا يجب علينا التســليم بأنها قد‬

‫قدم القرآن‬ ‫انفصلــت عنهــا منذ ألــف وأربعمائة عام حين ّ‬

‫أجوبة قاطعة لجميع مشكالتها‪.‬‬

‫ال للحياة؛ يؤسســه‬ ‫أيضــا يقــدم‬ ‫منهجــا متكام ً‬ ‫الوحــي ً‬ ‫ً‬

‫وفــي تقديــري‪ ،‬إن تباطــؤ حركــة اإلبــداع العلمــي‬

‫اضطــرارا‪ ،‬ويجــب أن‬ ‫علــى حقيقــة أن اإلنســان عبــد هلل‬ ‫ً‬

‫مــن تأثيــر تعلق فالســفتهم بالحيــرة اليونانية‪ ،‬وانشــغالهم‬

‫إلهيــا فــي األفعال فقط‪ ،‬بل في األقوال واألفعال الظاهرة‬ ‫ًّ‬

‫عنــد المســلمين رغــم ابتكارهــم للمنهــج التجريبي‪ ،‬كان‬

‫بمعالجة قضاياها في غفلة غير مبررة عن الهدي القرآني‬ ‫فــي حــل تلك اإلشــكاالت‪ .‬بينمــا كان لتأثر آبــاء النهضة‬ ‫الحديثــة ‪-‬ديــكارت وكينت‪ -‬باإلجابات اإلســامية عما‬

‫وراء الطبيعــة‪ ،‬دور كبيــر فــي تســارع التقــدم األوربــي‪،‬‬

‫تحكمــا‬ ‫اختيــارا‪ .‬واالســتعباد هنــا ليــس‬ ‫عبــدا هلل‬ ‫يكــون ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫محدودا‬ ‫والباطنة التي منها الفكر‪ .‬فالفكر ينبغي أن يكون‬ ‫ً‬ ‫أيضــا ينبغــي أال‬ ‫بمســاحة مــا ســكت الشــرع عنــه‪ ،‬وهــذا ً‬

‫ا حين نتحدث عن‬ ‫يتجــاوز الفكــر فيه قيود الشــرع؛ فمثــ ً‬ ‫قيد ينبغــي أن ال نتجاوزه‬ ‫إلــى القبيلــة مباح‬ ‫شــرعا‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫ً‬

‫باإلضافــة إلــى عوامــل كثيرة أخرى لعلها قد درســت من‬ ‫ِقبــل مختصيــن فــي تاريــخ النهضــة‪ .‬وهنــا أحــب أن أنبــه‬

‫للمطالبــة بالقضــاء علــى هــذا االنتماء‪ ،‬كما نســتحضر أن‬

‫بالفكر اإلسالمي‪ ،‬سوى ما أجده بينهما وبينه من تقارب‬

‫محــرم وهو‬ ‫محــرم‪ ،‬ونســتحضر أن الطعــن في األنســاب‬ ‫ّ‬

‫إلــى أننــي ال أملك معطيات علمية لتأثر ديكارت وكينت‬ ‫فــي بعــض مســائل األلوهية ومصــادر المعرفــة‪ ،‬مع أنني‬

‫القبلــي علــى أســاس مــن التفاضــل فــي النســب‬ ‫االنتمــاء َ‬ ‫قيد آخر‪ ،‬فال يصح اســتهداف أي قبيلة من القبائل بذكر‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫القبلــي‪ ،‬يجــب علينــا أن نســتحضر أن االنتمــاء‬ ‫االنتمــاء َ‬

‫‪7‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد بن إبراهيم السعيدي*‬

‫الوحي والحرية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫إن مــن الطــرق الصحيحــة إلحــداث النســبة‬ ‫بين التصــورات‪" ،‬العقل"؛ باعتبــاره المجهود‬ ‫ثانيــا بعده‬ ‫الذهنــي البشــري الصــرف‪ ،‬ويأتــي ً‬ ‫"الوحــي" المنــزل على محمــد ‪ ‬بنوعيه‪ .‬فهمــا كما يحتويان‬ ‫أيضا علــى مجموعة كبيرة‬ ‫علــى أوامــر ونوا ٍه إلهية‪ ،‬يشــتمالن ً‬ ‫تقدم‬ ‫ًّ‬ ‫جــدا مــن التصديقات حســب اصطالح المناطقــة‪ ،‬وهي ّ‬ ‫لإلنســان مــا ينبغــي أن يعتنقــه مــن رؤى يقينية للكــون بعا َلميه‬ ‫الغيب والشهادة‪ ،‬وذلك بإعطاء أجوبة ربانية لجميع األسئلة‬ ‫التــي ال تــزال عنــد َمــن ال يملكــون إيما ًنــا‬ ‫حقيقيــا بالوحــي‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫تعبــر عــن مشــكالت بــل معضــات فلســفية يســميها بعضهم‬ ‫ّ‬ ‫ماديــا‪ ،‬ومنها‬ ‫ا‬ ‫مــدرك‬ ‫ليــس‬ ‫مــا‬ ‫كل‬ ‫عــن‬ ‫تتحــدث‬ ‫الميتافيزيقــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫األســئلة الخمســة الشــهيرة‪َ :‬مــن‪ ،‬وكيــف‪ ،‬ومتــى‪ ،‬ومــن أيــن‪،‬‬

‫‪6‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المــواد ذات البنيــة النانومتريــة علــى تركيــز مكثــف مــن‬

‫والتركيــز علــى الفضــة‪ ،‬كونهــا تعمــل ضــد طيف واســع‬

‫خصائصهــا الفيزيائيــة والكيميائية الفريــدة على حجمها‪.‬‬

‫منخفضة إلى خاليا الثدييات‪.‬‬

‫الباحثيــن ‪-‬خاصــة فــي العقــود األخيــرة‪ -‬بســبب اعتمــاد‬

‫وبمــا أنــه أصبح من الســهل بناء جســيمات نانوية (من ‪1‬‬ ‫نانومتر إلى ‪ 100‬نانومتر)‪ ،‬فقد تسابق العلماء والباحثون‬ ‫في ابتكار طرق مختلفة للسيطرة على حجم وبنية المواد‬ ‫فــي مســتوى النانــو‪ .‬وبالتالــي اســتغالل خصائــص هــذه‬

‫المــواد المختلفة‪ ،‬وأهمية دراســة أثر المواد النانوية على‬ ‫البكتريــا‪ ،‬تأتــي في إطــار األبحاث حــول توفير مضادات‬ ‫فعالة‪ .‬وقد أثبتت أيونات الفضة ‪-‬وخاصة بحجم‬ ‫حيوية ّ‬

‫وفعالة في مكافحة الجراثيم‪.‬‬ ‫النانو‪ -‬أنها تكون مفيدة ّ‬

‫ــمية‬ ‫من البكتيريا بشــكل اســتثنائي‪ ،‬في حين أنها تظهر ُس ّ‬ ‫وتعتبــر تقنيــة النانــو فضة‪ ،‬بمثابة فتــح طبي جديد؛ إذ‬

‫تستطيع الفضة المصنعة عند هذا الحجم الصغير للغاية‪،‬‬

‫نوعــا من البكتريا بتحطيم‬ ‫أن تقضــي علــى أكثر من ‪ً 630‬‬ ‫جــدران الخليــة البكتيريــة‪ ،‬وعلــى العديــد مــن الفطريات‬

‫والفيروسات‪ ،‬كما ُتستخدم هذه المادة في تعقيم أدوات‬

‫أيضــا‪ .‬وهنــاك دراســة علمية نشــرت فــي مجلة‬ ‫الجراحــة ً‬ ‫تقنيــة النانــو األمريكيــة عــام ‪ ،2005‬أجراهــا باحثــون‬

‫مــن جامعتــي تكســاس ومكســيكو األمريكيتيــن‪ ،‬تؤكــد‬

‫لذلــك تســابق الباحثــون فــي مختلــف دول العالــم‪،‬‬

‫علــى أن النانــو فضــة عنــد مقيــاس ‪ 10-1‬نانومتــر‪ ،‬قادرة‬

‫يطبقوها في مجاالت عديدة‬ ‫وأشكال متعددة استطاعوا أن ّ‬ ‫علميــ ٍة وتكنولوجيــ ٍة وصحيــ ٍة‪ .‬وكانــت حبيبــات الفضــة‬

‫اإلنسان‪ ،‬أال وهو فيروس األيدز (‪ .)HIV-1‬وطب ًقا لما جاء‬

‫فــي البحث المشــار إليه‪ ،‬فإن الفضــة النانوية قضت على‬

‫فــي مجــاالت عــدة‪ ،‬وعــادة مــا تكون فضــة عاليــة النقاء‪.‬‬

‫مــن بــدء التجربــة عند درجة حــرارة ‪ 37‬درجة مئوية‪ ،‬أي‬

‫وتفننــوا فــي تحضيــر مــواد نانويــة ذات تراكيــب مختلفــة‬

‫ُعرفت الفضة‬ ‫واســتخدمت على‬ ‫كمطهر لعدة قرون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬

‫نطــاق واســع فــي عــاج األمــراض الســريرية وجــروح‬

‫الحروق الموضعية‪ .‬ومما يشجع الباحثين على االهتمام‬

‫‪ %100‬مــن فيروســات األيدز خالل ثالث ســاعات فقط‬ ‫درجة حرارة جسم اإلنسان‪.‬‬

‫(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل ‪ /‬السودان‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫نظــرا لتطبيقاتهــا المحتملة‬ ‫النانويــة مــن أهــم هذه المــواد ً‬

‫علــى القضــاء علــى أحــد أخطــر الفيروســات على صحة‬

‫‪5‬‬


‫علوم‬

‫محمد هاشم البشير*‬

‫الفضة النانوية‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫يف مكافحة البكرتيا‬

‫‪4‬‬

‫ذكــر اهلل تعالــى الفضــة في محكــم تنزيله‬ ‫فــي ســتة مواضــع مختلفــة بالتعريــف‬ ‫(الفضة)‪ ،‬وبــدون التعريف (فضة) كقوله‬ ‫الش َــهو ِ‬ ‫ين‬ ‫ــن ِل َّلن ِ‬ ‫تعالــى‪ُ :‬‬ ‫‪‬ز ِّي َ‬ ‫ات ِم َن ال ِّن َســا ِء َوا ْل َب ِن َ‬ ‫اس ُح ُّب َّ َ‬ ‫َوا ْل َق َن ِ‬ ‫الذ َه ِب َوا ْل ِف َّض ِة َوا ْل َخ ْي ِل ا ْل ُم َس َّو َم ِة‬ ‫اط ِير ا ْل ُم َق ْن َط َر ِة ِم َن َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫هلل ِع ْن َد ُه ُح ْس ُن‬ ‫الد ْن َيا َوا ُ‬ ‫اع ا ْل َح َيا ِة ُّ‬ ‫أل ْن َع ِ‬ ‫ام َوا ْل َح ْر ِث َذ ِل َك َم َت ُ‬ ‫اف َع َل ْيهِ ْم بِآ ِن َي ٍة‬ ‫ا ْل َم ِ‬ ‫‪‬و ُي َط ُ‬ ‫آب‪(‬آل عمران‪ ،)14:‬وقوله تعالى‪َ :‬‬ ‫خص‬ ‫ــن ِف َّضــ ٍة َو َأ ْك َو ٍ‬ ‫اب َكا َن ْ‬ ‫ِم ْ‬ ‫ــت َق َوارِ َير‪(‬اإلنســان‪)15:‬؛ لقد ّ‬ ‫اهلل ‪ ‬فــي هــذا الموضع أهل الجنــة بأكواب الفضة‪ .‬ثم‬ ‫‪‬عا ِل َي ُه ْم‬ ‫في موضع آخر من نفس السورة يقول تعالى‪َ :‬‬ ‫ــن ِف َّض ٍة‬ ‫ــاب ُس ْــن ُد ٍ‬ ‫س ُخ ْض ٌــر َوإ ِْس َــت ْب َر ٌق َو ُحلُّوا َأ َســاوِ َر ِم ْ‬ ‫ِث َي ُ‬ ‫ورا‪(‬اإلنســان‪)21:‬؛ وهنــا إشــارة‬ ‫َو َســ َق ُ‬ ‫ــم َش َــر ًابا َط ُه ً‬ ‫اه ْم َر ُّب ُه ْ‬ ‫لطيفة تربط بين أكواب الفضة والشراب الطهور‪ ،‬وتؤكد‬ ‫هــذه اإلشــارة وتصدقهــا البحــوث العلميــة الحديثــة التي‬ ‫وكشــفت هذه الدراســات أن‬ ‫ُأجريت على معدن الفضة‪َ .‬‬ ‫الفضة من أنجع الوسائل لمكافحة البكتريا والجراثيم‪.‬‬ ‫الفضة عنصر يرمز له باألحرف "‪"Ag‬‬ ‫اختصارا للكلمة‬ ‫ً‬ ‫الالتينية (‪ ،)Argentum‬ونســبت إليه دولة األرجنتين (أرض‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الفضــة)؛ حيــث ُوجدت فيها الفضة بكميات كبيرة‪ ،‬وهي‬ ‫معدن أبيض ويمكن صقله وتلميعه‪ .‬ويأتي معدن الفضة‬ ‫فــي المجموعــة االنتقاليــة رقم ‪ II‬من الجــدول الدوري‪،‬‬ ‫الــذري ‪ ،47‬ووزنهــا‬ ‫ورقمهــا‬ ‫الــذري ‪ ،107.868‬ويبلغ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وزنهــا النوعــي ‪ .10.5‬تنصهــر الفضــة عند درجــة حرارة‬ ‫‪ 962‬درجــة مئويــة‪ ،‬وتصل إلى مرحلة الغليان عند درجة‬ ‫حرارة ‪ 2212‬درجة مئوية‪.‬‬ ‫اســتخدمت الفضــة منــذ القــدم فــي مكافحــة البكتريا‬ ‫نظرا لقدرتها على قتل الكائنات الدقيقة والطحالب‪ .‬وقد‬ ‫ً‬ ‫استخدمها المسلمون في تنقية الماء؛ حيث قاموا بوضع‬ ‫المــاء فــي ال ِقــرب المصنوعــة من جلد الشــاة‪ ،‬حتى امتأل‬ ‫ما يقرب من ثالثة أرباعها وظل الباقي هواء‪ ،‬ثم وضعوا‬ ‫قطعــا معدنيــة من عمــات الفضة لتهتــز ال ِقربة‬ ‫فــي المــاء ً‬ ‫أثنــاء الرحــات الطويلة فتحتك القطــع ببعضها البعض‪،‬‬ ‫مما يؤدي إلى ذوبان جزء بسيط من الفضة في الماء في‬ ‫جدا يكون وسيلة في قتل البكتريا‬ ‫صورة مسحوق ناعم ًّ‬ ‫وتطهير الماء‪.‬‬ ‫فــي العصــر الحديث بعــد ظهور علــم النانو‪ ،‬حظيت‬


‫الحزن‬ ‫تــذوب الجبال لهم قيعانًا مســتوية‪ ،‬ويصري َ‬ ‫أمامهم ســهالً‪ ،‬ويجتــازون لجج الدمــاء والصديد‬

‫برسعة الربق‪ ،‬وينطفئ فَ يح جهنم إذا م ُّروا بها‪.‬‬

‫آ ٍه لــو أمعنتــم النظــر فــي هــذه الســحابة المركومــة‪،‬‬ ‫وفــي أ َّنــات األم تعاني آالم المخــاض‪ ،‬وانتبهتم إلى هذه‬ ‫العصفــورة تبني عشــها في جهــد حثيث وتلك العنكبوت‬ ‫تنسج بيتها بألف صعوبة وصعوبة!‬ ‫وهكــذا روح اإلنســان‪ ..‬فمنــذ اليــوم الــذي هبــط‬ ‫وانتكــس إلــى قلــب المادة لــم يزل يتقلب مــن قالب إلى‬ ‫ســمع‬ ‫وي‬ ‫آخــر أمــ ً‬ ‫ا أن يعــود إلــى أصله؛ َفيــرى المعانا َة‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويعاشــر المعاناة‪ ،‬ويتوحد مع المادة في ســبيل‬ ‫المعاناة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نسج سعادته األبدية‪.‬‬ ‫مكابد‪ ،‬ينتظره‬ ‫إن اإلنسان ُخلق للمحن‪ ،‬وهو ابن سبيل‬ ‫ٌ‬ ‫وبطولته الحقيقية‬ ‫في طريقه‬ ‫ٌ‬ ‫ســيل من المحــن والمعاناة‪ُ .‬‬ ‫منوطــة بتخطيــه لهــذه المصاعــب التــي تعتــرض طريقــه‪.‬‬ ‫فآ ٍه ثم آه! ليتنا اســتطعنا أن ُن ِ‬ ‫ســمع كل هذه الحقائق‬ ‫حد ْثنــا لــه عن الطرق الشــائكة التي‬ ‫لــروح إنســاننا‪ ،‬ليتنــا َت َّ‬ ‫والجور والوحوش‬ ‫ســتقابله‪ ،‬وك ّلمناه عن أنواع المظالم َ‬ ‫الكاسرة التي ستقطع طريقه‪ ،‬وعن صنوف الوحشة التي‬ ‫سيالقيها‪ ،‬حتى ُن ْطلعه على الوجه الحقيقي لواقع األمر‪.‬‬ ‫نعــم‪ ،‬لــن يكــون مــن قبيــل المجــاز قولنــا‪ :‬ال منــاص‬ ‫للعشــاق المتيميــن ســالكي الطريــق من الباليــا والمحن‪،‬‬ ‫فذلــك للمهموميــن المغموميــن أســاس فــي طري ِقهــم‪.‬‬ ‫وضروري أن نج ّلي تلك الحقيقة لمن يســعون جاهدين‬ ‫فــي ســبيل خدمــة أمتهم‪ .‬ومــا لم يدركوا كنهها فال ســائر‬ ‫هناك وال طريق‪.‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬أجير أشيوك‪ .‬نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي‬ ‫التركية في العدد‪ ،31:‬سنة ‪.1981‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫طرقهــا بــل يطيــرون‪ ،‬نظر ُتهم إلــى الموت نظــرة الحبيب‬ ‫ســاعتها وال يحزنون‪،‬‬ ‫إلــى الحبيــب‪ ،‬فــا خــوف عليهــم‬ ‫َ‬ ‫يدخلــون قبورهــم وهم فرحــون مستبشــرون‪ ..‬ال يهابون‬ ‫قطعا‪ ،‬وال ينظرون إليه كأنه دار وحشة أو معبر إلى‬ ‫القبر ً‬ ‫وبرزخا‬ ‫بابا للرحمــة‬ ‫ً‬ ‫العــدم أو ّتنيــن فاغــر فــاه‪ ،‬بل يرونــه ً‬ ‫للنــور وقنطــرة للحــق يفضــي إلــى "لقــاء األحبــة"‪ ..‬فــا‬ ‫يترددون‪ ،‬وال يستسلمون للشكوك وال يرتبكون‪.‬‬ ‫وفي المقابل هناك بؤساء تخ ّلوا عن الهدف وتراجعوا‪،‬‬ ‫أو ض ّلــوا الطريــق فــي نــور الضحــى‪ ،‬أو تعثــروا بشــوكة‬ ‫واحدة عرضت لهم‪ ،‬أو عجزوا عن تخطي ربوة صغيرة‪.‬‬ ‫إن هؤالء التعساء الذين ُحرموا إدراكَ لذة المسير في‬ ‫الطريق‪ ،‬وظنوا أن "دار المحن" هذه أبدي ٌة‪ ،‬فأزمعوا على‬ ‫اإلقامــة فيهــا‪ ..‬هــؤالء لو ُفرشــت‬ ‫النجوم تحــت أقدامهم‬ ‫ُ‬ ‫شيئا‪.‬‬ ‫ليسلكوا الطريق فلن َيعني ذلك لهم ً‬ ‫أيضــا وعثــاءه ومحنتــه‪،‬‬ ‫إن لــكل طريــق لذتــه‪ ،‬ولــه ً‬ ‫خصوصا مثل ذلك الطريق الذي يعانق الخلود ويتداخل‬ ‫ً‬ ‫مع األبدية‪.‬‬ ‫ليست السعادة الدائمة منحة توهب بال ثمن‪ ،‬وليست‬ ‫النعــم الممتــدة ل َقط ًة على قارعة الطريق ملقاة‪ .‬فالســعادة‬ ‫ال ينالهــا إال مــن عبــر الفيافــي واجتــاز شــواهق الجبــال‪.‬‬ ‫والنعم ال يحظى بها إال من صمد حتى المحطة األخيرة‬ ‫ُ‬ ‫في الطريق الطويل الذي له مئات المحطات‪.‬‬ ‫نعــم‪ ،‬إنمــا تنمــو النعمــة في طــرق تغدو فيهــا‬ ‫المحن‬ ‫ُ‬ ‫وتروح‪ ،‬وتتأتى الســعادة بعد ســيل من صنوف الحرمان‪.‬‬ ‫فــإذا كان ُملــك مصــر يتطلــب اإللقــاء فــي غيابــة الجــب‬ ‫والزج‬ ‫والتجــوال فــي أســواق العبيد كاألرقــاء‪،‬‬ ‫كالــدالء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫فــي الســجون كالمجرمين األشــقياء‪ ،‬فلن يكــون بمقدور‬ ‫أحد أن يبدل ذلك‪ ،‬وليس له أن يحقق الغاية دون تذوق‬ ‫هذه الغصص وتجرعها‪.‬‬ ‫فمن ذا الذي َي ْق ِدر على تغيير الطريق الذي شقته "يد‬ ‫الحكمــة"؟! إن محاولــة ذلــك َتعنــي إعــان الحرب ضد‬ ‫الفطرة وضد طبيع ِة األشياء‪.‬‬

‫الدرب بعشق واشــتياق خلف دليلهم‪،‬‬ ‫الســالكون‬ ‫َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪3‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫الطـ ُرق‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫تعــرج والتــواء تمتــد الطــرق نحــو‬ ‫فــي ّ‬ ‫األبــد‪ ..‬وعلــى هــذه الطــرق ســائرون‬ ‫كمياه هدارة أو كســحب بكاءة مدرارة‪..‬‬ ‫مســرعا نحو المحيط‪،‬‬ ‫مندفعون كماء ينســاب‬ ‫ناطحا كل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صخر يعترض مسيره‪.‬‬ ‫هــرع‬ ‫إن الطــرق بعــدد أنفــاس الخالئــق‪ ،‬وكل كائــن ُي َ‬ ‫مســرعا بــدأب فــي طريقــه نحــو هدفــه المنشــود؛ فالدود‬ ‫ً‬ ‫يقطــع طريقــه زح ًفــا‪ ،‬والســاحف فــي تــؤدة‪ ،‬والخيــول‬ ‫طيا‪ ،‬والطيور تقطعها ســابحة في الفضاء‪،‬‬ ‫تطــوي الطــرق ًّ‬ ‫وللصواعــق ســياحة مختلفة‪ ،‬وللشــموس حيــن تدور في‬ ‫أفالكها جريان من لون آخر‪.‬‬ ‫لكــن الطريــق الحقيقي ظهر مع اإلنســان‪ ،‬وبشــعوره‬ ‫نوره‪ ،‬واكتسب بأفكاره وأحاسيسه صف َة "األبدية"‪.‬‬ ‫استمد َ‬ ‫أيضا نشــأ بل لم ُيفلته ولو‬ ‫والعجيب أن "الالطريق" معه ً‬ ‫لحظة‪ ،‬مع ما عليه من معرف ٍة للطريق‪.‬‬ ‫رحــال متجول في‬ ‫لــم‬ ‫ُ‬ ‫يخــل عصــر من العصــور دون ّ‬ ‫متنكب بح ًثا عن‬ ‫اآلفاق بين النجوم والمجرات‪ ،‬أو دون ِّ‬ ‫الطرق في المستنقعات‪.‬‬ ‫والحقيقــة أن الطريــق‪ ،‬لمــن يشــق الطريــق ويعــرف‬ ‫فالطريــق وعدمه لمن تمر به األيام‬ ‫آدابــه وســلوكه‪ ..‬وإال‬ ‫ُ‬ ‫ان‪ .‬وأول الشــروط‬ ‫وهــو فــي هذيــان يتجــدد كل يــوم ِس ّــي ٌ‬ ‫إلحــراز األمــان وبلــوغ الغايــة المنشــودة أن تبــادر إلــى‬

‫‪2‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السلوك‪ .‬فالسلوك بهذا االعتبار لذيذ وباعث لألمل‪ ،‬بيد‬ ‫أن الطريــق نفســه قد تعتوره ألوان مــن الصعود والنزول‪،‬‬ ‫والح َفــر‪ ،‬وأشــكال مــن المصاعــب‬ ‫وأنــواع مــن الروابــي ُ‬ ‫وخصوصا طريقنا الذي نسعى فيه‪.‬‬ ‫والمصائب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هذا الطريق طويل بعيد‪،‬‬ ‫كثير عديد‪،‬‬ ‫قليل‬ ‫ّ‬ ‫ال َ‬ ‫المحاط بل ٌ‬ ‫عديم المنافذ عديم المعابر‪،‬‬ ‫وماؤه للسالكين عميق وغائر‪( ...‬يونس َأ ْم َره)‬ ‫الــدرب بعشــق واشــتياق خلــف دليلهم‪،‬‬ ‫فالســالكون‬ ‫َ‬ ‫الحزن أمامهم‬ ‫تذوب الجبال لهم قيعا ًنا مســتوية‪ ،‬ويصير َ‬ ‫ال‪ ،‬ويجتــازون لجج الدماء والصديد بســرعة البرق‪،‬‬ ‫ســه ً‬ ‫مروا بها‪ ..‬ال مجال للحديث عن‬ ‫وينطفئ َفيح جهنم إذا ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ونكوصهم عنه‬ ‫تع ُّثرهم في الطرق‪ ،‬أو ك ِّفهم عن المســير‬ ‫أو رجوعهم القهقرى‪ ،‬بل يســيرون من الخلق إلى الحق‬ ‫ال يحيــدون‪ ،‬ال تطــأ أقدامهــم األشــواكَ حيــن يســلكون‬


‫المحتويات‬

‫الطرق  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫ُ‬

‫ الفضة النانوية في مكافحة البكتريا  ‪ /‬حممد هاشم البشري (علوم) ‬ ‫الوحي والحرية  ‪ /‬د‪ .‬حممد بن إبراهيم السعيدي (قضايا فكرية) ‬

‫ القرد يحكي قصته  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫تفسير التاريخ عند النورسي  ‪ /‬حممد بكور (قضايا فكرية) ‬

‫ ْاحذ ْر العنكبوتيات!  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫مكتبات جمعت تراث األمة  ‪ /‬امليلود كعواس (تاريخ وحضارة) ‬

‫َّ‬ ‫المتوقعة  ‪ /‬د‪ .‬حذيفة أمحد اخلراط (علوم) ‬ ‫ الهاتف الجوال وأخطاره‬ ‫مشاهد كونية في مساجد عثمانية  ‪ /‬د‪ .‬حيىي وزيري (تاريخ وحضارة) ‬

‫ حقيقة حريم السلطان  ‪ /‬مراد دومان (تاريخ وحضارة) ‬ ‫إذا دام الربيع  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ سرطان الثدي خطر قد تمنعه الرضاعة  ‪ /‬مرازي زهرة (علوم) ‬ ‫الحب عطاء  ‪ /‬مرام البار (أدب) ‬

‫ العنف‪ ..‬مسبباته ودوافعه  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (تربية) ‬ ‫مهندسون في عالم الحيوان  ‪ /‬د‪ .‬ناصر أمحد سنه (علوم) ‬

‫ في حب كالم اهلل  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (أدب) ‬ ‫إيالف النباتات للنمل  ‪ /‬د‪ .‬جمدي سعيد (علوم) ‬

‫ شوق العاشقين  ‪ /‬د‪ .‬ليلى حممد السبيعي (أدب) ‬ ‫في انتظار قدومك  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ النفاسة المحمدية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬ ‫الخروج من زمن التيه  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬ ‫تعظيم الشعائر واحترام المقدسات في اإلسالم  ‪ /‬عبد العزيز بن عمر (أنشطة ثقافية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪38‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪45‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪52‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪59‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2015 )46‬‬

‫الواصلون والمنقطعون‬ ‫يكتب "فتح اهلل كولن" في هذا العدد من "حراء" عن‬ ‫الطــرق التــي تزدحم بهــا الدنيا‪ ،‬وعن فجاجها وشــعابها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وعــن اســتقاماتها واعوجاجاتهــا‪ ،‬وعن نورهــا وظلمائها‪،‬‬ ‫وينبــه المشــائين والســالكين المدلجين فــي الظُّ َلم من أن‬ ‫تنزلــق أقدامهــم علــى حيــن غفلــة فتأخذهــم إلــى الطرق‬ ‫الظالميــة المرعبــة ليتوهــوا بيــن شــعابها فتكــون نهايتهــم‬ ‫مهلكــة‪ ،‬فتهلــك أرواحهم وتقودهم إلى حمأة االنحطاط‬ ‫والرذيلــة والتــردي فــي وديــان األهــوال‪ ،‬فتنقطــع بهــم‬ ‫الســبل وتصدهــم عــن هــدف الوصــول إلــى الدرجــات‬ ‫العــا التــي تســمو بهم إلى عالــم األبديــة والخلود‪ ،‬وفي‬ ‫الوقــت نفســه يهلــل ألولئــك الــرواد مــن ســالكي طريــق‬ ‫ال ألصحاب‬ ‫النــور‪ ،‬ويــرى فــي مســلكهم‬ ‫أنموذجــا ومثــا ً‬ ‫ً‬ ‫الرســاالت اإلصالحيــة التــي تــرى فــي خدمــة اإلنســان‬ ‫وتقويــم اعوجاجــه وهدايتــه إلــى الطريــق المســتقيم مــن‬ ‫أوجــب واجباتها الدينية واألخالقية‪ ،‬وقد يغدو اإلنســان‬ ‫المســتقيم نفســه هــو إحــدى الطــرق التــي يبحــث عنهــا‬ ‫الضالــون‪ ،‬فيتخذونه طري ًقا يســيرون على هداه‪ ،‬ويقتفون‬ ‫أثره ويمشون في ركابه‪.‬‬ ‫وفي مقال "الوحي والحرية" يكتب "محمد بن إبراهيم‬ ‫مبينا أن‬ ‫ال‬ ‫السعيدي" مقا ً‬ ‫فكريا ثقي ً‬ ‫ال في معانيه ومغازيه‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫الحريــة مهمــا قلنــا فيهــا‪ ،‬فهي فــي خاتمة المطــاف قضية‬ ‫أخالقيــة مرتبطــة بالديــن وبالوحــي قبــل أن تكــون قضية‬ ‫اجتماعيــة أو سياســية‪ ..‬و"يحيــى وزيــري" يلفــت انتباهنا‬ ‫إلــى الرابــط المعنــوي بيــن المســجد والكــون‪ ،‬وأكثــر ما‬ ‫يتجلى ذلك في المساجد العثمانية التراثية التي صممت‬ ‫بناياتها للتعبير عن هذا الرابط بين الكون بمشاهده الرائعة‬ ‫والمســجد المقــام للصــاة‪ ،‬فيرى المســلم في المشــاهد‬ ‫الكونيــة آيــات بينــات على الخالــق العظيم الذي يســجد‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لــه ويقــوم بعبادته‪ .‬وعــن "العنف" مــرض العصر الخطير‬ ‫المتفشــي فــي أرجــاء كثيــرة مــن الكــرة األرضيــة‪ ،‬تكتب‬

‫"مريم آيت أحمد" عن مســبباته ودوافعه وجذوره البيئية‬ ‫والنفســية واالجتماعية‪ .‬أما "محمد باباعمي" فيكتب في‬ ‫مقالــه "فــي حــب كالم اللـــه" عــن فعل الحــب إذا المس‬ ‫شــغاف القلــب واســتولى علــى أرجــاء النفــس والعقــل‪،‬‬

‫فعندئذ يصبح كل ما يأتي من المحبوب‬ ‫محبوبا كذلك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وســاما‪،‬‬ ‫بردا‬ ‫وال ســيما كالمــه الــذي ينــزل علــى القلب ً‬ ‫ً‬

‫وهكذا ‪-‬وال مشاحة في المثال‪ -‬كالم اللـه نحبه ونعشقه‬ ‫ونهيــم بــه ألننــا نحب اللـــه‪ ،‬وكلما طفحــت لذتنا بكالمه‬

‫ا علــى عظــم حبنــا لــه ســبحانه‪.‬‬ ‫تعالــى كان ذلــك دليــ ً‬

‫و"مجدي ســعيد" يكتب اإللفــة بين النباتات والنمل‪،‬‬

‫مستشــهدا بكالم عظيم للمفســر العالمة الشيخ طنطاوي‬ ‫ً‬ ‫مبينا الرعاية اإللهية لهذا المخلوق الصغير وعن‬ ‫جوهري‪ً ،‬‬

‫إحــدى عجائب تكوينــات ارتزاقه‪ .‬و"فؤاد البنا" يذكر في‬ ‫مقاله "النفاسة المحمدية" وقدراتها على اختراق النفوس‬

‫وتغييرها واالســتعالء بها إلى مقام النفاســة‪ ،‬والســمو بها‬

‫إلى مقامات عالية‪ ،‬واالرتفاع بها من القيعان إلى القمم‪،‬‬

‫حيث رفع أصحابه فترفعوا عن السفاسف واألسافل‪.‬‬

‫أما "أديب الدباغ" فيكتب‬ ‫متوجعا في مقاله "الخروج‬ ‫ً‬

‫مــن زمن التيه"‪ ،‬واص ًفــا إياه بأنه بدع من األزمان بافتقاده‬ ‫لقيــم الحــق والعدل والجمال‪ ،‬وأنه زمــان التيه والضالل‬ ‫عن حقائق الحياة والوجود ومعرفة اللـــه تعالى واللجوء‬

‫إليه والســجود بين يديه‪ .‬هذا ما اســتطاعت هذه الســطور‬

‫مــن إشــارات إلى مقاالت البعــض من كتاب المجلة‪ ،‬أما‬

‫تفهمهم وتقديرهم‪ ،‬واهلل‬ ‫اآلخــرون فنحن طامعون بكــرم ّ‬ ‫تعالى من وراء القصد‪.‬‬


‫‪46‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة العارشة ‪( /‬يناير ‪ -‬فرباير) ‪2015‬‬

‫وتبصر‬ ‫انظ ْر َّ‬

‫في األشياء قدراته ظاهرات‪ ،‬وآياته باهرات‪،‬‬ ‫للمتبصرين غير خافيات‪..‬‬ ‫ُمتحن ونُف َتن‪..‬‬ ‫واألسباب أستار‪ ،‬بها ن َ‬ ‫عسير الفهم كيف َيفهم؟!‬ ‫مي القلب كيف َيعلم؟!‬ ‫و َع ّ‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫الطرق‬ ‫ُ‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪52‬‬

‫النفاسة المحمدية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا‬

‫‪59‬‬

‫تعظيم الشعائر في اإلسالم‬ ‫عبد العزيز بن عمر‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.