Hira Magazine 45

Page 1

‫المضحون‬ ‫ّ‬ ‫تتوان‪ ،‬وأقوا ًما من النيران ِ‬ ‫سار ِْع وال َ‬ ‫انتشل‪..‬‬ ‫ُم َّد يديك‪ ،‬وضُ ّمهم إليك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اشتويت‪..‬‬ ‫ألقيت‪ ،‬وبالنار‬ ‫حتى ولو بنفسك‬ ‫أنت ُسلوان المع َّذبين‪ ،‬وعزاء المتألمين‪..‬‬ ‫سبيلك سبيل الرائد األعظم‪،‬‬ ‫ورجل اإلنسانية األكرم ‪.‬‬ ‫***‬

‫‪Kasım - Aralık 2014 Sayı: 45 Fiyatı: 7,5 TL.‬‬


‫نور وفتح‬

‫قراءة يف فكر سعيد النوريس وفتح الله كولن‬

‫ّ‬ ‫يشكل رحلة إلى آفاق اإلشراق‬ ‫هذا الكتاب‬ ‫الوجداني والفكري‪ ،‬واإلبهار الجمالي‪ ،‬في‬ ‫كتابات َه َرمَ ين من أهرام الفكر والدعوة‬ ‫في العصر الحديث؛ ممن يحملون في‬ ‫طواياهم هموم األمة وأمانيها‪ ،‬في يومها‬ ‫وغدها؛ األستاذ بديع الزمان سعيد النورسي‪،‬‬ ‫األستاذ محمد فتح اهلل كولن‪.‬‬

‫دار النيل ‪ 22 :‬جـ‪ -‬جنوب األكاديمية‪ -‬التسعين الشمالي – التجمع الخامس‪ -‬القاهرة الجديدة – مصر‬ ‫تليفون وفاكس ‪ +20226134402-5 :‬الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫‪daralnile@daralnile.com‬‬ ‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون‬ ‫الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ يف ما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية‬ ‫مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫شروط النشر‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة‬ ‫املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• للمجلة حق نشر املادة املرسلة إليها يف موقعها على اإلنرتنت دون إذن من كاتبها ما مل يؤكد الكاتب أثناء اإلرسال على‬ ‫علما بأن ما ينشر يف املوقع إلكرتونيًّا ال يرتتب عليه مكافأة مالية‪.‬‬ ‫رغبته يف النشر يف اجمللة املطبوعة‪ً .‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم بإبداء‬ ‫أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفص ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪ ،‬دون‬ ‫ال أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫مكتب حراء للنشر والتوزيع‬ ‫شارع بغداد‪ ،‬مقابل بريد بغداد‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‬ ‫‪Phone: +967 1 214774‬‬ ‫‪Fax: +967 1 204494‬‬ ‫‪GSM: +967 736027560‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 22‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪LİBYA‬‬ ‫دار الرواد‪ ،‬ذات العماد‪ ،‬برج ‪-4‬طرابلس‪-‬ليبيا‪.‬‬ ‫هاتف‪daralrowdooks@gmail.com - 00218213350332 :‬‬ ‫هاتف‪hiralibya@gmail.com - 00218916125579 :‬‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬ ‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬ ‫‪HİRA‬‬ ‫‪İlim Düşünce ve Kültür Dergisi‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫املشرف العام‬ ‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬

‫دار النيل للطباعة والنشر‬ ‫‪ 22‬جـ‪ -‬جنوب األكادميية‪ -‬التسعني الشمايل ‪-‬‬ ‫التجمع اخلامس‪ -‬القاهرة اجلديدة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫منهجيــة فــي مختلــف أعمالهــم‪ ،‬يقــول‪" :‬عندمــا نلمــس‬

‫الروحــي مــن قبضــة المشــاعر واألهــواء التــي تقلــل مــن‬

‫كثيرا قد ال تراه العيون أول وهلة!‪..‬‬ ‫ً‬

‫يقدر على هذا‪ ،‬بل لو قدر له ‪-‬على فرض مستحيل‪ -‬أن‬

‫خيرا‬ ‫الجانــب الطيــب فــي نفــوس النــاس‪ ،‬نجد أن هنــاك ً‬

‫مســتوى اإلنســان وتخفــض من قيمته‪ ،‬فهــو أعجز من أن‬

‫لقــد جربت ذلك‪ ..‬جربته مع الكثيرين‪ ..‬حتى الذين‬

‫يمر من جنات الفردوس لكان من المحتمل أن يفســدها‬

‫شــيء من العطــف على أخطائهم وحماقاتهم‪ ،‬شــيء‬

‫حــذر منه األســتاذ فتــح اهلل كولن وال‬ ‫وال ملجــأ ممــا ّ‬

‫باهتماماتهم وهمومهم‪ ..‬ثم ينكشف لك النبع الخير في‬

‫النفســي المتمثــل في تصفيــة الوجدان وتنقيتــه وتخليصه‬

‫مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك متى أعطيتهم‬

‫بــأن تتحــول قاعــدة "إبــراء الذمــة من ســلوك النقمــة" إلى‬

‫النفــس اإلنســانية إلى الحد الذي نتصــوره أحيا ًنا‪ ،‬إنه في‬

‫وقيــم حاكمــة لســلوك األفــراد والجماعــات داخــل البيئة‬

‫فــإذا آمنوا تكشــفت تلك القشــرة الصلبة عــن ثمرة حلوة‬

‫عن الصورة النمطية التي أركســت األمة بجميع طاقاتها‬

‫يبدون في أول األمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور‪..‬‬

‫ويشوهها ويقلبها إلى سجون"(‪.)10‬‬

‫مــن الود الحقيقي لهم‪ ،‬شــيء من العنايــة غير المتصنعة‪،‬‬

‫منجــى مــن ذلــك‪ ،‬كمــا أنــه ال ســبيل إلــى ذلــك الشــرط‬

‫نفوســهم‪ ،‬حيــن يمنحونــك حبهــم ومودتهــم وثقتهم في‬

‫مــن كــوادر الحقــد والكراهيــة واألحــكام المرســلة‪ ،‬إال‬

‫إياه في صدق وصفاء وإخالص‪ .‬إن الشر ليس عمي ًقا في‬

‫مقررات دراســية‪ ،‬وبرامج تدريبية‪ ،‬ومعســكرات حياتية‪،‬‬

‫تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء‪،‬‬

‫اإلسالمية‪ ،‬عسى أن تقدم تلك البيئة للعالم صورة مغايرة‬

‫شهية‪ ..‬هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن‬

‫ومكوناتهــا‪ ،‬فــي مهــاوي التخلــف والفرقــة واالحتــراب‪،‬‬

‫الحقيقي على أفراحهم وآالمهم‪ ،‬وعلى أخطائهم وعلى‬

‫حماقاتهم كذلك‪ ،‬وشــيء من ســعة الصدر في أول األمر‬ ‫كفيل بتحقيق ذلك كله"(‪.)9‬‬

‫إن منطــق الربــح والخســارة‪ ،‬وعقليــة المســاحات‬

‫المتحصــل عليهــا أو المفقــودة (عقليــة الكــر والفر)‪ ،‬هما‬

‫الــداء الــذي يحيــل واقــع العمــران اإلنســاني إلى ســاحة‬ ‫حروب باردة وســاخنة‪ ،‬لكن منطق تســويق "رحمة اهلل"‪،‬‬ ‫والوعــي بدور المســلم فــي الحياة‪ ،‬وأنه دور يتلخص في‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يشعر الناس باألمن من جانبه‪ ،‬بالثقة في مودته‪ ،‬بالعطف‬

‫وجعلــت إنســانها ‪-‬إال برحمــة مــن اهلل وفضلــه‪ -‬يمتلــك‬ ‫القــدرة الخارقــة علــى تحويــل األرض وليــس الجنــان‪،‬‬ ‫إلــى أقبــح من الســجون وأردأ من الطغيــان‪ .‬واهلل الموفق‬ ‫للفالح في ما يفوه به اللسان أو يخطه البيان‪.‬‬

‫(*) مستشار بوزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة الكويت‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪ )1‬انظر‪" :‬مجلة حراء‪ ،‬عدد‪( 33:‬ديســمبر ‪ ،)2012‬مقال بعنوان‪" :‬نحو‬ ‫تأصيل الفقه الهاروني في مسألة الوحدة"‪.‬‬

‫أن يكــون تاجــر رحمــة ال تاجــر نقمة‪ ،‬همــا الكفيالن بأن‬

‫(‪ )2‬انظر تفسير الماتريدي‪.‬‬

‫ومآلهــا‪ ،‬وعالقاتهــا العمرانيــة بفعــل ضعــف القلــوب‬

‫(‪ )4‬التســهيل لعلــوم التنزيــل‪ ،‬البــن جزي‪ ،‬ت‪ :‬د‪ .‬عبــد اهلل الخالدي‪ ،‬دار‬

‫يقلــا مــن حجــم القبــح الذي يهدد البشــرية في معاشــها‬

‫وعلــوق الــران عليهــا‪ ،‬ران الحقــد والصــراع والفرقــة‪،‬‬ ‫وتغذيــة المشــاعر التــي تضعــف مــن إنســانية اإلنســان‪،‬‬

‫األرقم‪ ،‬ج‪ ،2:‬ص‪.463:‬‬

‫(‪)5‬‬

‫انظر الجزء األخير من‪" :‬مفاتيح الغيب"‪ ،‬للفخر الرازي‪.‬‬

‫(‪ )6‬فتح البيان في مقاصد القرآن‪ ،‬للقنوجي صديق حسن خان‪.‬‬

‫(‪ )7‬في ظالل القرآن‪ ،‬لسيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ج‪ ،6:‬ص‪.3861:‬‬

‫موضحا هذا الشــرط النفســي‬ ‫يقول محمد فتح اهلل كولن‬ ‫ً‬

‫(‪ )8‬فيــض القديــر‪ ،‬للمنــاوي‪ ،‬ضبــط وتصحيــح‪ :‬أحمــد عبــد الســام‪،‬‬

‫المطلــوب هــو تحويل هذا البلد إلى جنــة وارفة الظالل‪،‬‬

‫(‪ )9‬أفراح الروح‪ ،‬لسيد قطب‪ ،‬ط‪ ،1988 ،3:‬ص‪.13-11:‬‬

‫فــي صياغــة إنســان األمن واألمــان واالســتقرار‪" :‬إذا كان‬

‫فــا ينجــح في هذا وال يســتطيعه إال من أقــام هذه الجنة‬ ‫ال‪ ،‬فمــن لــم يســتطع تخليــص قلبــه وعالمــه‬ ‫فــي قلبــه أو ً‬

‫دارالكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،2012:‬ج‪ ،2:‬ص‪.611:‬‬

‫(‪ )10‬ترانيــم روح وأشــجان قلــب‪ ،‬لمحمــد فتــح اهلل كولــن‪ ،‬دار النيــل‬ ‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪ ،2010‬ط‪ ،6:‬ص‪.158:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫وتحــول كوكبــه األرضــي إلــى ســاحة للدماء بــدل البناء‪.‬‬

‫(‪ )3‬انظر الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬للقرطبي‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫ومنبــع ذلــك النفــور أنــه مــا دام القرآن يســتنكر على‬

‫علــى قــدر منازلهــم عنده‪ .‬فمنهم من أعطــاه منها واحدة‪،‬‬

‫بغيرهــم‪ ،‬فــإن المســلم أولــى بــأن يبــرئ ذمتــه مــن ذلــك‬

‫زاد منهــا ظهــر منــه حســن معاملــة الخلــق والخالــق على‬

‫الكفــار إهمالهــم لنفوســهم واشــتغالهم‪ ،‬فــي المقابــل‪،‬‬

‫وعشــرا وأكثــر أو أقــل‪ .‬فمــن‬ ‫ومنهــم مــن أعطــاه خمســة‬ ‫ً‬

‫قــدر تلــك األخــاق‪ ،‬ومن نقصــه منها ظهر عليــه بقدره‪.‬‬

‫وتقويما‪ ،‬وإن‬ ‫إصالحــا‬ ‫الســلوك‪ ،‬وأحــق بأن يهتم بنفســه‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فهــذه أخــاق وأكثرهــا ممــا ســمي بــه والذي لم يســم به‬

‫مــن مقتضيــات صفــة "الرحمــة" التــي تمثــل علــة إرســال‬

‫داخــل فيمــا ســمي بــه‪ ،‬ألن الليــن والرزانــة مــن الحلــم‬

‫محمد ‪ ‬إلى العالمين‪ ،‬أن تنعكس على ســلوك المسلم‬

‫والرأفــة والرحمــة مــن النزاهــة‪ ،‬فمنحــه اهلل إيــاه واحــدة‬

‫المقتــدي بهــدي النبــي الكريــم‪ ،‬فيكــون هــو اآلخــر مــن‬

‫مــن هــذه األخــاق أن يعطيــه نــور ذلــك االســم فيشــرق‬

‫الســاعين إلــى تســويق رحمــة اهلل ورحمــة الرســول فــي‬

‫نــوره علــى قلبه وفــي صدره‪ ،‬فيصير لنفســه بذلك الخلق‬

‫مــدركا بأنهــا سلســلة كريمــة مــن‬ ‫محيطــه االجتماعــي‪،‬‬ ‫ً‬

‫بصيــرة فيعتادهــا ويتخلــق بهــا‪ .‬فحقيق بمــن أكرمه بذلك‬

‫ومؤمنــا بأنه مدعو إلى أن يكون حلقة تســهم‬ ‫الرحمــات‪،‬‬ ‫ً‬

‫أن يهــب لــه مســاويه ويســتره بعفــوه ويدخلــه جنتــه‪ ،‬وقد‬

‫في جمالية تلك السلسلة‪.‬‬

‫ا‪ ،‬من‬ ‫إن المســلم اليــوم محتــاج إلــى أن يطامــن قليــ ً‬

‫عــد فــي بعــض الروايات من تلــك األخالق كظــم الغيظ‬

‫تدينــه واســتقامته‪ ،‬كمــا أنــه محتاج إلــى أن ال يتعامل مع‬

‫الســفه‪ ،‬والوقــار عند الطيش‪ ،‬ووفــاء الحق عند الجحود‪،‬‬

‫والعفــو عنــد القــدرة‪ ،‬والصلة عند القطيعــة‪ ،‬والحلم عند‬

‫اســتعالئه اإليمانــي وطهرانيتــه ومشــاعره العارمة بســبب‬ ‫التزامه وتدينه على أنه اصطفاء تفضيلي تمييزي‪ ،‬بل لعل‬

‫العديــد مــن االعتبــارات النفســية‪ ،‬واالتصــاف بأخالقيــة‬

‫خدمــة العبــاد واإلنســانية جمعاء‪ ،‬علــى تفلتهــا وابتعادها‬ ‫عن القيم الحاكمة لتدينه والتزامه‪ ،‬أو على تعارضها مع‬

‫منهجه الفكري ومســلكه المذهبي واختياراته السياســية‪.‬‬

‫وال يتحقــق ذلــك إال بتجديــد النظــر فــي مفهــوم التديــن‬ ‫وااللتــزام والفضيلــة‪ ،‬واإليمــان بــأن كل إنســان أودع فيه‬

‫الحق سبحانه واحدة من الفضائل واألخالقيات الحميدة‬ ‫َق ّلت أو كثرت‪.‬‬

‫يقــول اإلمــام المنــاوي‪" :‬إن هلل تعالــى مئــة ُخ ُلق" (أي‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫عنــد اإلفســاد‪ ،‬والتجــاوز عــن المســيء‪ ،‬والعطــف علــى‬

‫الظالــم‪ ،‬وقبــول المعــذرة‪ ،‬واإلنابة للحــق‪ ،‬والتجافي عن‬ ‫دار الغرور‪ ،‬وترك التمادي في الباطل‪ .‬فإذا أراد اهلل بعبد‬

‫شــرا خ ّلى بينه‬ ‫خيــرا وفقــه لتلــك األخــاق‪ ،‬وإن أراد بــه ًّ‬ ‫ً‬ ‫وبيــن أخــاق إبليــس التــي منهــا أن يغضــب فــا يرضى‪،‬‬

‫ويسمع فيحقد‪ ،‬ويأخذ في شره‪ ،‬ويلعب فيلهو"(‪.)8‬‬

‫وهــذا التوزيــع الرباني لألخالق إنمــا هو دليل عدله‬

‫وفضله‪ ،‬كما أنه مؤشــر على أصل الفطرة في اإلنســانية‪،‬‬ ‫على اختالف مذاهبها وفلسفاتها وسلوكاتها في الحياة‪.‬‬

‫وهــي أخــاق محتاجــة إلــى خبــراء نفســانيين‬

‫وصــف) "وســبعة عشــر"‪ ،‬وفــي رواية "ســتة عشــر"‪ ،‬وفي‬

‫واجتماعييــن الكتشــافها ورعايتها وتنميتهــا‪ ،‬وخاصة في‬

‫بخ ُلق منهــا‪( ،‬أي واحد)‬ ‫"مــن أتــاه يــوم القيامة ُ‬ ‫"شــريع ًة"‪َ ،‬‬

‫واألحــكام واألوصــاف القدحيــة فــي حــق المخالــف‬

‫أخــرى "بضعــة عشــرة ُخ ُل ًقــا"‪ ،‬وفــي روايــة بــدل ُخ ُل ًقــا‪،‬‬

‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الصــواب أن يتعامــل معــه علــى أنه مســؤولية للتنازل عن‬

‫واإلطعــام عند الجــوع‪ ،‬والقطيعة عند المنع‪ ،‬واإلصالح‬

‫ســياق كالحات الغيوم الداكنة المهيمنة بفعل التصنيفات‬

‫وحزبــا‪ ،‬وبفعل الحروب‬ ‫ومذهبا وطائفة‬ ‫للــذات‪ ،‬عقيــدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫بخ ُلق‬ ‫دخــل الجنــة"‪ .‬قال الحكيــم‪ :‬كأنه يريد أن مــن أتاه ُ‬ ‫وغفر له ســائر ذنوبه‪.‬‬ ‫واحد منها ُو ِهب له‬ ‫جميع ســيئاته ُ‬ ‫ُ‬

‫الكالمية والدموية الناشبة بين الحين واآلخر‪.‬‬

‫المفرط فــي دينه المضيع‬ ‫منحــه ُخ ُل ًقــا منهــا‪ ،‬أال ترى أن‬ ‫ِّ‬

‫وصمت‪ ،‬على إزاحة تلك الســحب التي تحاكي ظلمات‬

‫خيرا‬ ‫وفي خبرٍ أن األخالق في الخزائن‪ ،‬فإذا أراد اهلل بعبد ً‬ ‫لحقوقــه يمــوت وهــو صاحــب ُخ ُلــق مــن هــذه األخالق‬

‫فتنطلــق األلســنة بالثناء عليه‪ .‬فأخــاق اهلل أخرجها لعباده‬ ‫وقسمها بينهم‬ ‫من باب القدرة وخزنها لهم في الخزائن‪ّ ،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إن دور المســلم الحكيــم يتمثــل فــي العمــل بجــد‬

‫الهوى والحقد والحسد والكراهية التي تفترس القلوب‪،‬‬ ‫تعبيرا يحتــاج من قيادات‬ ‫عبــر عن ذلك ســيد قطب‬ ‫وقــد ّ‬ ‫ً‬

‫الفكــر والدعــوة واإلصــاح إلــى أن يحولــوه إلــى قواعد‬


‫إن منطــق تســويق "رحمــة الله" والوعــي بدور‬

‫أمروا بإصالح أنفسهم"(‪.)5‬‬

‫املسلم يف الحياة وأنه دور يتلخص يف أن يكون‬

‫ويقــول صديــق حســن خــان‪" :‬أي والحــال أنهــم‬

‫تاجــر رحمة ال تاجــر نقمة‪ ،‬هام الكفيــان بأن يقلال‬

‫لــم يرســلوا علــى المســلمين مــن جهــة اهلل موكليــن بهــم‬

‫من حجم القبح الذي يهدد البرشية يف معاشــها‬

‫يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم ويشــهدون برشدهم‬

‫ومآلهــا‪ ،‬وعالقاتها العمرانية بفعل ضعف القلوب‬

‫وضاللهم‪ ،‬بل أمروا بإصالح أنفسهم‪ ..‬فاشتغالهم بذلك‬

‫وعلوق الران عليها‪ ،‬وتغذية املشاعر التي تضعف‬

‫أولــى بهــم من تتبــع عورات غيرهــم وتســفيه أحالمهم‪،‬‬

‫من إنسانية اإلنسان‪.‬‬

‫وهــذا تهكم بهم وإشــعار بــأن ما اجترؤوا عليه من القول‬ ‫من وظائف الرسل من جهته تعالى"(‪.)6‬‬

‫ويقــول ســيد قطــب‪" :‬والقــرآن ال يقــف ليجــادل عن‬

‫ســلوكات ومواقف تضاعف من حــدة الصراع واإلقصاء‬

‫ســخرية عالية من القوم الذين يدســون أنوفهم فيما ليس‬

‫إن هذه القيم العمرانية تغيب في الساحة االجتماعية‬

‫ومــا وكلــوا بشــأن هــؤالء المؤمنيــن‪ ،‬ومــا أقيمــوا عليهــم‬

‫أني حاضرت في هذه المســألة بين يدي أزيد من ثمانين‬

‫وهذا الوصف وهذا التقرير"(‪.)7‬‬

‫والعلــوم اإلنســانية بالربــاط خــال الموســم الجامعــي‬

‫الذيــن آمنــوا‪ ،‬وال ليناقــش طبيعــة الفريــة‪ ،‬ولكنــه يســخر‬

‫واالحتراب‪.‬‬

‫مــن شــأنهم‪ ،‬ويتطفلون بال دعــوة من أحد في هذا األمر‪،‬‬

‫اليــوم‪ ،‬بــل إنها تغيب في بيئة العلمــاء والباحثين‪ ..‬وأذكر‬

‫رقبــاء‪ ،‬وال كلفــوا وزنهــم وتقديــر حالهــم‪ ..‬فمــا لهم هم‬

‫باح ًثــا فــي مرحلــة الماســتر والدكتــوراه بكليــة اآلداب‬

‫• ليــس مــن اختصــاص النــاس أن يصنــف بعضهــم‬

‫بعضا‪.‬‬ ‫ً‬

‫أحدا بمهمة تصنيــف الناس والحكم‬ ‫• لــم يــوكل اهلل ً‬

‫عليهم‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إن اآلية الكريمة تحدد القيم العمرانية اآلتية‪:‬‬

‫‪ ،2014-2013‬واعتــرض علــى تحليلــي هــذا باحــث‬

‫محتــرم‪ ،‬ورد علــي بقوله‪" :‬كيف تجرد المســلم من مهمة‬ ‫ّ‬ ‫تصنيف الناس والحكم عليهم‪ ،‬والقرآن مليء بالشواهد‬ ‫الدالــة علــى الحكــم على الناس‪ ،‬وســورة البقــرة تصنف‬

‫البشرية إلى مسلم وكافر ومنافق؟"‪.‬‬

‫• األولــى أن يشــتغل كل فــرد بإصالح حالــه ومراقبة‬

‫بدا من أن أجيبه بقولي‪" :‬صحيح أن القرآن‬ ‫ولم أجد ًّ‬

‫• العالقــة بيــن الصالحيــن والراشــدين مــع بعضهــم‬

‫الــذي يغفــل عنــه العقــل المســلم تحــت تأثيــر اســتعالئه‬

‫أعماله‪.‬‬

‫البعض ومع غيرهم‪ ،‬هي عالقة تواصل وتعاون وإصالح‬ ‫وترشيد‪ ،‬وليست عالقة تصنيف وأحكام ومواقف‪.‬‬

‫• ال تعــارض بيــن القيــم العمرانية لآليــة وبين مفهوم‬ ‫الشــهادة علــى النــاس الــوارد في قولــه تعالــى‪ِ  :‬ل َت ُكو ُنوا‬

‫اس‪(‬البقــرة‪ ،)143:‬إذ الشــهادة ال تعنــي‬ ‫الن ِ‬ ‫ُش َــه َد َاء َع َلــى َّ‬ ‫تصنيــف النــاس والحكــم عليهــم‪ ،‬وإنما تعنــي االنخراط‬ ‫حاالت االبتعاد عن ســواء الفطرة التي أمرت بها جميع‬ ‫الرساالت السماوية و َأ ِلفتها العقول السليمة‪ .‬إن الشهادة‬

‫اإليمانــي وطهرانيته وارتباك مهمته في الحياة بين النزوع‬ ‫القضائي ‪-‬نسبة إلى القضاء‪ -‬والنزوع الهدائي ‪-‬نسبة إلى‬

‫الهداية‪ -‬اإلشــكال الذي يغفل عنه العقل المســلم هو أن‬ ‫تصنيــف النــاس والحكــم عليهــم إنما هو مــن اختصاص‬

‫اهلل ‪ ،‬المتســاوق مــع كبريائــه وجبروتــه وعدله‪ ،‬وليس‬

‫في القرآن دليل واحد على أن اهلل منح هذا االختصاص‬

‫ألحد‪ ،‬أو فوضه لممارسته بين الناس"‪.‬‬

‫قيما نفســية ترتبط بالحلم والمغفرة‬ ‫على الناس تســتبطن ً‬

‫‪‬و َما‬ ‫بــل إن الظــال المعنويــة الحافــة بقوله تعالــى‪َ :‬‬ ‫ذاتيا لدى المسلم‬ ‫ُأ ْر ِس ُلوا َع َل ْيهِ ْم َحا ِف ِظ َ‬ ‫ين‪ ،‬تنشئ ً‬ ‫نفورا ًّ‬ ‫تجاه تصنيف اآلخرين ومالحقتهم باألحكام واألوصاف‬

‫واالســتعالء والتصنيفــات القاســية ومــا يترتــب عليها من‬

‫واجتماعيا‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫والسماحة والرحمة‪ ،‬وال عالقة لها بنفسية الحقد والنقمة‬

‫نفســيا‬ ‫الســلبية المســيئة إلــى مشــاعرهم‪ ،‬والمؤذيــة لهــم‬ ‫ًّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫الصــادق فــي التواصــل معهــم والتعــاون علــى تجــاوز‬

‫ملــيء بالحكــم علــى النــاس وتصنيفهــم‪ ،‬لكن اإلشــكال‬

‫‪61‬‬


‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ُّــون ‪َ ‬و َمــا‬ ‫ــم َقا ُلــوا إ َِّن َه ُــؤ َ‬ ‫ال ِء َل َضال َ‬ ‫َف ِكهِ َ‬ ‫يــن َو ِإ َذا َرأ ْو ُه ْ‬ ‫ين‪(‬المطففين‪ ،)33-29:‬كما أن مجموع‬ ‫ُأ ْر ِس ُلوا َع َل ْيهِ ْم َحا ِف ِظ َ‬ ‫القيم القرآنية تشكل الظالل الحافة والبيئة المناسبة لنمو‬

‫التمدد السرطاني المتمثل في التنابز باأللقاب والهويات‬ ‫والمرجعيــات‪ ،‬والحرص على نســبة الصالح والطهرانية‬ ‫إلــى الــذات‪ ،‬وقذف اآلخر المخالف في االتجاه والرؤية‬ ‫والمنهج بأقدح الصفات وأقبح النعوت؟‬

‫تلك القاعدة‪.‬‬

‫إن القــرآن الكريــم يرصد في ســياق اآليات الســالفة‪،‬‬

‫‪60‬‬

‫وحججــا علــى تــردي‬ ‫ومهمــا حاولنــا أن نقــدم أدلــة‬ ‫ً‬ ‫المجتمعــات العربيــة اإلســامية‪ ،‬فــإن حالــة األمــة اليــوم‬ ‫تقــدم أقــوى دليــل على فقدانهــا بوصلة الوجهة الســديدة‬ ‫ّ‬ ‫فــي تدبيــر اجتماعهــا القائــم علــى التنــوع واالختــاف‬ ‫والتعدد الثقافي والعرقي والمذهبي والطائفي‪ ،‬وليس من‬ ‫الوجدانيات في شيء االعتراف بأنه حال يدمي القلوب‪،‬‬ ‫ويدمر أعصاب النخبة التي تسعى إلى التنوير واإلصالح‬ ‫فــي محيطهــا الثقافــي واالجتماعــي‪ ،‬وقد يــودي بالبعض‬ ‫إلى حاالت من اليأس واإلحباط‪.‬‬ ‫لقد شكلت "األقومية" التي يهدي إليها القرآن الكريم‬ ‫عنصــر شــحذ وتحفيــز الســتخالص القواعــد القرآنيــة‬ ‫َ‬ ‫الحاكمة للعمران اإلنســاني‪ ،‬فتوصل البحث‪ ،‬في دراســة‬ ‫سابقة إلى صياغة قاعدة "يثبت للوحدة ما يثبت للتوحيد‬ ‫وعدما"‪ ،‬وذلك من خالل التأمل في قصة موسى‬ ‫وجودا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ول َفر ْق َت‬ ‫وهــارون فــي قوله تعالــى‪ِ  :‬إ ِّني َخ ِشــيت َأن تق‬ ‫ُ ْ َ ُ َ َّ‬ ‫يل َو َل ْم َت ْر ُق ْب َق ْو ِلي‪(‬طه‪.)1()94:‬‬ ‫َب ْي َن َب ِني إ ِْس َرا ِئ َ‬ ‫وفي دراستنا هاته‪ ،‬نسعى إلى أن نقدم صياغة لقاعدة‬ ‫عمرانيــة جديــدة وهــي "إبــراء الذمة مــن ســلوك النقمة"‪،‬‬ ‫ومعناها أن المســلم ‪-‬بهدي القــرآن األقوم‪ -‬مطا َلب بأن‬ ‫يبرئ ذمته من أي مشــاعر أو ســلوكات أو مواقف يشــتم‬ ‫ّ‬ ‫منهــا نقمتــه علــى النــاس وكراهيتــه لهــم وتصنيفهــم لهم‬ ‫التجاهــات وطوائــف ومذهبيــات وإيديولوجيــات‪ ،‬ألن‬ ‫رسالته في الحياة تقوم‬ ‫وتتقوم على أساس أنه تاجر رحمة‬ ‫ّ‬ ‫وليــس تاجــر نقمة‪ ،‬وأنه معني بالقصــد األصلي والتبعي‪،‬‬ ‫بتحــري طريــق التواصــل مــع مختلف النــاس ورحمتهم‬ ‫وتقديــم العــون لهم وتجاوز أخطائهم ومواقفهم الســلبية‬ ‫تجاهه وتجاه تدينه واستقامته‪.‬‬ ‫والراجــح أن هــذه القاعــدة تســتمد مــن قولــه تعالى‪:‬‬

‫ون‬ ‫آم ُنــوا َي ْض َح ُك َ‬ ‫‪‬إ َِّن ا َّل ِذ َيــن َأ ْج َر ُمــوا َكا ُنــوا ِم َن ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫ون ‪َ ‬و ِإ َذا ا ْن َق َل ُبوا ِإ َلى َأ ْه ِلهِ ُم ا ْن َق َل ُبوا‬ ‫َو ِإ َذا َم ُّروا بِهِ ْم َي َت َغ َام ُز َ‬ ‫‪‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ظاهــرة مرضيــة تلبســت مواقــف المكذبيــن والكافريــن‬ ‫بدعوة محمد ‪ ،‬ظاهرة اســتحقت من القرآن أن ينســبها‬

‫إلى "اإلجرام"‪ ،‬وأن يعرض أصحابها إلى ســياط التوبيخ‬ ‫والتعنيــف واالســتهزاء‪ ،‬أال وهــي ظاهــرة تتبــع اآلخرين‬

‫وترصدهم والسعي إلى تصنيفهم ومالحقتهم باألوصاف‬ ‫الســلبية والنعوت القدحية واألحكام الجاهزة التي توغر‬

‫الصــدور وتؤلــم النفوس وتــزرع األحقــاد والضغائن في‬ ‫القلوب‪ ،‬وتهيئ األجواء للشنآن والصراع والتنابز‪.‬‬

‫صنعا حيــن وصفوا‬ ‫لقــد ظــن الكفــار بأنهــم أحســنوا ً‬

‫المؤمنين بأنهم ضالون‪ ،‬ولم يشــتغل القرآن باالســتدالل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫قاعدة قرآنية‪" :‬إبراء الذمة من سلوك النقمة"‬

‫المنطقــي البرهانــي علــى بطــان دعواهــم‪ ،‬بــل أبــان لهم‬

‫أصــل الــداء وعلــة الخلــل‪ ،‬بــأن نفــى عنهم أن يكــون اهلل‬

‫‪ ‬قد منحهم سلطة الحكم على الناس وتتبع بواطنهم‬ ‫تفويضا بتوزيع األلقاب‬ ‫وترصد ســلوكاتهم‪ ،‬أو أعطاهم‬ ‫ً‬

‫واألوصــاف واألحــكام علــى العبــاد‪ ،‬وهــذا واضــح فــي‬ ‫ين‪ ،‬وهو‬ ‫‪‬و َما ُأ ْر ِس ُلوا َع َل ْيهِ ْم َحا ِف ِظ َ‬ ‫الجملة االعتراضية َ‬ ‫المعنى الذي وقف عليه العديد من المفسرين‪.‬‬ ‫يقــول الماتريــدي‪" :‬أي لــم يرســلوا لحفــظ أعمــال‬

‫المســلمين‪ ،‬فيكــون فــي ذكر هــذا تســفيه أحالمهم‪ ،‬وهو‬ ‫أنهــم تركــوا النظــر فــي أحوال أنفســهم‪ ،‬وجعلــوا يعدون‬

‫علــى المســلمين عيوبهــم ‪-‬كأنهــم‪ -‬أرســلوا عليهــم‬ ‫(‪)2‬‬ ‫"‪‬و َما ُأ ْر ِســ ُلوا‬ ‫ً‬ ‫حفاظا‪ ،‬وما أرســلوا" ‪ ،‬ويقول القرطبي‪َ :‬‬ ‫يــن‪ ‬ألعمالهــم‪ ،‬موكليــن بأحوالهــم‪ ،‬رقباء‬ ‫ــم َحا ِف ِظ َ‬ ‫َع َل ْيهِ ْ‬ ‫عليهــم"(‪ ،)3‬ويقــول ابن جزي‪" :‬ما أرســل الكفار حافظين‬ ‫على المؤمنين‪ ،‬يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو‬ ‫ضاللهم وكأنه قال كالمهم بالمؤمنين فضول منهم"(‪.)4‬‬

‫وإلى هذا المعنى ذهب الفخر الرازي في قوله‪" :‬يعني‬

‫أن اهلل تعالى لم يبعث هؤالء الكفار رقباء على المؤمنين‬ ‫يحفظون عليهم أحوالهم ويتفقدون ما يصنعونه من حق‬

‫ال‪ ،‬بــل إنما‬ ‫أو باطــل فيعيبــون عليهــم مــا يعتقدونــه ضــا ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد إقبال عروي*‬

‫من قواعد الهدي القرآين يف العمران اإلنساين‬

‫إبراء الذمة من سلوك النقمة‬

‫غيب التناول الفردي لألخالق اإلسالمية‬ ‫طابعهــا المجتمعــي‪ ،‬فبــدت أخال ًقــا فردية‬ ‫ال ألوامــر اهلل‬ ‫يتصــف بهــا المــرء امتثــا ً‬ ‫وتلمســا لطهرانيــة ذاتيــة تتعالــى عــن‬ ‫واجتنابــا لنواهيــه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مصائد النفس ومكائد الشــيطان‪ ،‬فضمر البعد المجتمعي‬ ‫فــي منهجيــة تمثــل القيم واألخــاق اإلســامية‪ ،‬وانتهت‬ ‫األمــة‪ ،‬فــي العديــد مــن عالقــات أفرادهــا األســرية‬ ‫والمجتمعيــة وفي حياتها السياســية والحزبية والمذهبية‪،‬‬ ‫إلــى حصــاد ُم ٍّر من الحســد والكراهيــة والغبن واألحكام‬ ‫الجائــرة وســوء الظــن والغيبــة والنميمة وتصيــد األخطاء‬ ‫والبغض الدفين والمعلن‪ ،‬مع أن قرآنها يهدي للتي هي‬

‫أقوم في األخالق والقيم‪ ،‬وينهى عن شرها وسيئها‪.‬‬ ‫وممــا يؤســف لــه‪ ،‬أن هــذه الظاهرة لم تحــظ بالعناية‬ ‫الالزمــة‪ ،‬ولــم تنل نصيبهــا من البحث والدراســة النظرية‬ ‫علميا‪:‬‬ ‫جوابا‬ ‫والميدانيــة‪ ،‬ولم يجب على األســئلة اآلتيــة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫كيــف انحصــرت القيــم واألخالقيــات التي يحــث عليها‬ ‫القــرآن الكريــم فــي قالب ذاتــي ضيق‪ ،‬فلم تــؤت ثمارها‬ ‫تعايشــا وتآل ًفــا وتواف ًقــا‬ ‫المجتمعيــة‬ ‫وتســامحا؟ وكيــف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أمعــن األفــراد والجماعــات ‪-‬فــي الغالــب األعــم‪ -‬فــي‬ ‫ســلوك الحســد والبغــض والتدابــر واالتهــام‪ ،‬ولم تســلم‬ ‫ال‪ -‬من فيروســات هذه األدواء‬ ‫البيئــات المتدينــة ‪-‬إال قلي ً‬ ‫القاتلــة؟ ومــا هــي األســباب التــي ســاعدت علــى هــذا‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪59‬‬


‫ــال َبل َر ُّب ُك ْم‬ ‫قــال تعالــى‬ ‫حاكيــا عن نبيه إبراهيم ‪َ  :‬ق َ‬ ‫ً‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ــن َو َأ َنا َع َلى َذ ِل ُك ْم‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض ا َّل ِــذي َف َط َر ُه َّ‬ ‫الس َــم َ‬ ‫َر ُّب َّ‬ ‫الش ِ‬ ‫ين‪(‬األنبياء‪.)56:‬‬ ‫ِم َن َّ‬ ‫اه ِد َ‬ ‫ولتثبيــت صحــة هــذا المنهــاج ‪-‬منهــاج التيقــن‬

‫يم‪.‬‬ ‫‪‬و ْاع َل ْم َأ َّن ا َ‬ ‫كمــا قــال إلبراهيــم ‪َ :‬‬ ‫هلل َع ِزيــ ٌز َحكِ ٌ‬

‫بالمالحظــة والفرضيــة والتجربــة‪ -‬ولتفصيــل مقاصــده‪،‬‬

‫سبحانه معطوفة على تلك التي حاج فيها الملك إبراهيم‬

‫طلــب إبراهيــم ‪ ‬رؤيــة كيفيــة إحيــاء اهلل الموتــى‪ .‬فقد‬

‫جاءنا ربنا الكريم في سياق اآليات بقصة أخرى‪ ،‬جعلها‬

‫جاءت في ســياق اآليات ممهدة الســتيعاب المقصد من‬

‫والتــي ُبهــت فيهــا الملــك بحجــة "اليقينيــة الكونيــة" التي‬ ‫أقامهــا عليــه إبراهيــم ‪ ‬فقال عز من قائل‪َ  :‬أ ْو َكا َّل ِذي‬

‫ذكــر ابــن كثيــر ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬فــي معــرض تفســيره لقــول‬ ‫ــف ُت ْح ِيــي‬ ‫يــم َر ِّب َأرِ نِــي َك ْي َ‬ ‫اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫‪‬و ِإذْ َقــالَ ِإ ْب َراهِ ُ‬ ‫ال َْم ْو َتــى‪‬؛ "أن إبراهيــم بعــد مــا قــال لنمــرود ربــي الذي‬ ‫يحيــي ويميــت‪ ،‬أراد ‪ ‬أن يترقى بذلك من علم اليقين‬

‫صــدر عــن أحــد أنبيــاء بنــي إســرائيل كما جــاء في بعض‬

‫التفاســير‪ ،‬إال أنــه جــاء مــن قبيل االفتــراض بعد مالحظة‬

‫الخــراب المهــول الــذي حــل بالقريــة‪ .‬فهــو إذن من باب‬ ‫االستبعاد الظني‪ ،‬ألن إعادة البلدة إلى ما كانت عليه من‬

‫العمــارة بعــد فجائيــة الخــراب‪ ،‬يتطلــب مــن الوقت ما ال‬ ‫يمكــن تصــوره‪ .‬وإلثبــات خطــأ الرجل في تقديــره لقدرة‬

‫اهلل‪ ،‬أجرى اهلل له‬ ‫اختبارا على نظير البعد الذي أخطأ منه‬ ‫ً‬ ‫التقدير وهو الزمن؛ فأماته مائة عام‪ ،‬ثم سأله بعد أن بعثه‬

‫ليجعله يكتشف بالمعاينة التجريبية التي أجراها اهلل على‬

‫طعامه وشرابه وحماره أن ظنه الذي استبعد به إحياء اهلل‬ ‫القريــة الخاويــة كان‬ ‫تماما كما هو خاطئ اآلن في‬ ‫ً‬ ‫خاطئا ً‬

‫كاذبا؛‬ ‫تقديــره للمــدة التي لبثهــا ً‬ ‫ميتا وإن لم يكــن الرجل ً‬ ‫ال َب ْل َل ِب ْث َت‬ ‫ال َك ْم َل ِب ْث َت َق َ‬ ‫‪َ ‬ق َ‬ ‫ض َي ْو ٍم َق َ‬ ‫ال َل ِب ْث ُت َي ْو ًما َأ ْو َب ْع َ‬ ‫ام‪.‬‬ ‫ِم َئ َة َع ٍ‬ ‫وقــال القرطبــي ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬فــي تفســير معنــى قوله‬ ‫تعالى‪َ  :‬فل ََّما َت َب َّي َن ل َُه َقالَ َأ ْعل َُم‪‬؛ "أي لما اتضح له عيا ًنا‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إلــى عيــن اليقيــن وأن يرى ذلك مشــاهدة"‪ .‬فأراد بســؤاله‬

‫ف ُت ْح ِيي ال َْم ْو َتى‪ ‬أن يرى الكيفية‪ ،‬أي الطريقة التي‬ ‫‪‬ك ْي َ‬ ‫َ‬ ‫تمكنــه معاينــ ُة تفاصيلهــا مــن طمأنــة نفســه بعدمــا الحظ‬

‫قــدرة اهلل على اإلحياء وافتــرض افتراضات لذلك‪ .‬فكان‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫محدوديــة علــم اإلنســان ونزوعه إلى الخطــأ‪ .‬فحتى ولو‬ ‫كان هــذا الســؤال‪َ  :‬أ َّنــى ُي ْحيِي َه ِ‬ ‫ــد َم ْو ِت َها‪ ‬قد‬ ‫ــذ ِه ا ُ‬ ‫هلل َب ْع َ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫على معاينة فتيقن ذلك بالمشاهدة"‪ .‬وقال ابن كثير ‪-‬رحمه‬ ‫اهلل‪ -‬أن آخرين قرأوا ‪َ ‬قالَ َأ ْعل َُم‪ ‬على أنه أمر له بالعلم‬

‫وهكــذا فقصــة هذا الــذي أماته اهلل مائة عــام ثم بعثه‪،‬‬

‫َمــر َع َلــى َقر َي ٍة َو ِهي َخاوِ َي ٌة َع َلى ُعر ِ‬ ‫ــال َأ َّنى ُي ْحيِي‬ ‫وش َــها َق َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ــه‬ ‫ث‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ــام‬ ‫ع‬ ‫ة‬ ‫ــ‬ ‫ئ‬ ‫م‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ــه‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ــا‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ــد‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ــذ‬ ‫َه‬ ‫ال َك ْم‬ ‫ُ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ ُ َ َ َ ٍ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫ام‬ ‫ض َي ْو ٍم َق َ‬ ‫ــت َق َ‬ ‫ال َب ْل َل ِب ْث َت ِم َئ َة َع ٍ‬ ‫ــت َي ْو ًما َأ ْو َب ْع َ‬ ‫ــال َل ِب ْث ُ‬ ‫َل ِب ْث َ‬ ‫َفا ْن ُظ ْر ِإ َلى َط َعا ِم َك َو َش َــراب َِك َل ْم َي َت َس َّن ْه َوا ْن ُظ ْر ِإ َلى ِح َمارِ َك‬ ‫ف ُن ْن ِش ُــز َها ُث َّم‬ ‫َو ِل َن ْج َع َل َك َآي ًة ِل َّلن ِ‬ ‫ام َك ْي َ‬ ‫اس َوا ْن ُظ ْر ِإ َلى ا ْل ِع َظ ِ‬ ‫ــن َل ُــه َق َ َ‬ ‫هلل َع َلى ُك ِّل‬ ‫ــم َأ َّن ا َ‬ ‫َن ْك ُس َ‬ ‫ــوها َل ْح ًمــا َف َل َّمــا َت َب َّي َ‬ ‫ــال أ ْع َل ُ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ير‪(‬البقرة‪.)259:‬‬ ‫َش ْيء َقد ٌ‬ ‫هــذه القصة كما يظهر مــن مضمونها‪ ،‬جاءت إلظهار‬

‫‪58‬‬

‫قال أعلم أن هذا الضرب‪ ،‬من العلم الذي لم أكن أعلمه‬

‫أن هيأ اهلل تعالى له ذلك المختبر الطبيعي الذي ســتكون‬ ‫فيــه التجربــة العلمية هذه المرة على نطاق البعد المكاني‬

‫بصر الطير وتوزيع أجزائهن على قمم الجبال المتباعدة‬ ‫ّ‬

‫ثــم دعوتهــن‪ ،‬حتى يوصلــه عن طريق المعاينــة التجريبية‬ ‫حسا ومضمو ًنا‪.‬‬ ‫بالبرهان إلى اإلحاطة بحقيقة اإلحياء ًّ‬

‫مــن خــال هــذه االستشــهادات يتضــح أن القــرآن‬

‫يقــر المنهــاج التجريبــي كأســاس لبلوغ اليقيــن‪ .‬فهو عين‬ ‫المنهاج ونبع االســتقامة العلمية؛ إذ يستوعب بتوجيهاته‬

‫كل وســائل المالحظة والفرضيــة واالختبار‪ ،‬بل ويهيمن‬ ‫عليها بالتوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث‪ ،‬حتى‬

‫يفضــي مــن خــال حقائــق الكــون النســبية إلــى الحقيقــة‬ ‫المطلقة التي ليست بعدها إال الضالل‪.‬‬

‫وهــذا مــا ينبغــي أن يســتوعبه كل متطلــع لبنــاء فكــر‬

‫علمــي‪ ،‬وكل باحــث فــي حقــل العلــوم التجريبيــة‪ ،‬ألن‬ ‫القــرآن آيــات تهــدي إلــى الحــق‪ ،‬والكون بصائــر تعصم‬

‫الناس من الخطأ‪ ،‬فمن لم يستدل بها على الحق بمنهاج‬ ‫علمي حكيم ُحجبت عنه كل الحقائق‪.‬‬

‫(*) كلية العلوم‪ ،‬جامعة ابن طفيل ‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫يجب أن تكون الوحدة التكاملية بني القرآن والكون‪،‬‬

‫والحســاب) والمــكان (األرض التــي هــي البســاط الــذي‬

‫املدخل لــكل قراءة علميــة تهــدف إىل اإلحاطة‬

‫عليــه يقــع الظل)‪ .‬وهــذا يعني أن المعالجــة ال يصير لها‬

‫بحقائق األشــياء وفق منهاج القرآن الذي يرســم‬

‫مدلــول إال مــن خــال هذه الوحــدة الزمكانيــة التي تقوم‬

‫للعقــل البــري الطريــق الواضح الــذي يجب أن‬

‫عليها نسبية كل من الزمان والمكان بعضهما لبعض‪.‬‬

‫يسلكه يف بناء الفكر العلمي واإلدراك املنطقي‪.‬‬

‫تجريبيا‬ ‫منهاجا‬ ‫فــكان التوجيــه الربانــي في هذه اآليــة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫ال ســ ّطر الحــق ســبحانه فيــه مجــال البحــث وفــق‬ ‫شــام ً‬ ‫محوريــن متالزميــن‪ :‬محــور أفقــي وهــو المــكان الــذي‬ ‫تــدل فيــه عبــارة ‪ِ ‬فــي ا َ‬ ‫ض‪ ‬علــى شــمولية المجــال‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫الن ُطــق التي ترتفع أو تنخفض عن مســتوى ســطح‬ ‫لــكل ُ‬ ‫األرض‪ ،‬ومحــور عمــودي وهــو الزمــان الــذي تــدل فيــه‬

‫ومــن خاللهــا إلــى الحقيقــة المطلقــة التي جــاءت مقررة‬ ‫فــي قولــه تعالــى على لســان نبيــه إبراهيم‪ِ  :‬إ ِّنــي َو َّج ْه ُت‬ ‫ِ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض َح ِني ًفا َو َما َأ َنا ِم َن‬ ‫أل ْر َ‬ ‫الس َــم َ‬ ‫َو ْجهِ َي ل َّلذي َف َط َر َّ‬ ‫ين‪(‬األنعام‪ .)79:‬وهذا إن دل على شيء فإنما يدل‬ ‫ا ْل ُم ْش ِر ِك َ‬ ‫إيمانيا‪ ،‬ألنه ما اســتدل‬ ‫على أن إبراهيم ‪ ‬كان منطلقه‬ ‫ًّ‬

‫عبارتا ْبدء الخلق ونشــأته اآلخرة على فعل الزمان كأداة‬ ‫يغير اهلل بها خصائص الخلق ويرتب بها أطواره وفق سنة‬

‫بالكوكب الذي رآه‪ ،‬وال بالقمر‪ ،‬وال بالشــمس على اهلل‪،‬‬

‫التطــور التــي خلقه عليها‪ .‬وعلى ســكة هاذين المحورين‬

‫وإنما اســتدل باهلل عليها بدليل قوله ‪ ‬كما حكى عليه‬ ‫ين‪(‬األنعــام‪ .)76:‬فمــا جعل ‪‬‬ ‫ربــه ‪َ  :‬‬ ‫ال ُأ ِح ُّ‬ ‫ــب اآل ِف ِل َ‬

‫الحقيقة المطلقة الكامنة خلف كل هذه الحقائق النسبية‪،‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ير‪ ‬كما جاء في‬ ‫وهي اليقين بأن ‪‬ا َ‬ ‫هلل َع َلى ُك ِّل َش ْيء َقد ٌ‬ ‫آخر اآلية‪.‬‬

‫علــى قومــه‪ ،‬حتــى يوصلهــم ‪-‬عــن طريــق العقــل‪ -‬إلــى‬

‫نــزل قاطــرة البحــث لتســير بخطى حثيثة تطلب بوســائل‬ ‫ُت ّ‬ ‫البرهنــة واالســتدالل الحقائــق العلميــة المفضيــة إلــى‬

‫غالبا ما تأتي اآليات بها في ســياقات مهيأة للتعامل‬ ‫التي ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وهذا ما تستبطنه اإلشارات الكونية في القرآن الكريم‪،‬‬

‫هــذه الظواهــر الكونيــة إال حقائــق نســبية أقام بهــا الحجة‬ ‫الحقيقة المطلقة التي جاءت مقررة في خطابه كما رأينا‪.‬‬ ‫وبذلــك يتضــح أن عالــم الشــهادة الــذي نعيشــه‬

‫بحواســنا‪ ،‬هــو مــادة خصبة للعقل من أجــل الخوض في‬ ‫عالم الغيب النســبي‪ .‬فإذا أحســن اإلنســان التعامل معه‪،‬‬

‫مــع المنهاج التجريبي بالدعوة إلى النظر‪ ،‬أي المالحظة‬

‫ارتقــى باالطمئنــان القلبي في عالم الغيــب المطلق فكان‬

‫واالختبــار‪ .‬والغايــة مــن كل ذلــك تحريك عقل اإلنســان‬

‫إبراهيــم ‪ ‬مــن ربــه رؤيــة كيفيــة إحيــاء الموتــى‪ ،‬يقول‬ ‫ِ‬ ‫ف ُت ْحيِي ا ْل َم ْو َتى‬ ‫‪‬وإ ِْذ َق َ‬ ‫يــم َر ِّب َأرِ ِني َك ْي َ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ــال إ ِْب َراه ُ‬ ‫َق َ َ‬ ‫ال َف ُخ ْذ‬ ‫ــن ِل َي ْط َم ِئ َّن َق ْلبِــي َق َ‬ ‫ــن َق َ‬ ‫ال َب َلى َو َل ِك ْ‬ ‫ــم ُت ْؤ ِم ْ‬ ‫ــال أ َو َل ْ‬ ‫ــل َع َلى ُك ِّل َج َب ٍل‬ ‫ــن َّ‬ ‫اج َع ْ‬ ‫َأ ْر َب َعــ ًة ِم َ‬ ‫الط ْي ِــر َف ُص ْر ُه َّ‬ ‫ــن ِإ َل ْي َك ُث َّم ْ‬ ‫ِْ‬ ‫يز‬ ‫ــم َأ َّن ا َ‬ ‫ِم ْن ُه َّ‬ ‫هلل َع ِز ٌ‬ ‫ــم ْاد ُع ُه َّن َيأت َين َك َس ْــع ًيا َو ْاع َل ْ‬ ‫ــن ُج ْــز ًءا ُث َّ‬ ‫ِ‬ ‫يم‪(‬البقرة‪.)260:‬‬ ‫َحك ٌ‬

‫وافتــراض التســاؤالت إلخضــاع الظاهــرة للتجربــة‬ ‫لســبر أغوار الكون والكشــف عن أسراره من أجل تقويم‬ ‫فكــره علــى درب االســتقامة الكونية التي هــو جزء منها‪.‬‬ ‫ونستشهد على هذا النهج بدعوة سيدنا إبراهيم ‪،‬‬

‫قــر فــي قلبــه اليقين ســلك به ســبحانه‬ ‫إذ لمــا أراد اهلل أن ُي ّ‬

‫مــن الموقنيــن‪ ،‬وهــو ما نستشــفه من حقيقة طلب ســيدنا‬

‫منهاج المالحظة والفرضية واالختبار فقال‬ ‫هذا المنهاج؛‬ ‫َ‬ ‫عز من قائل‪ِ َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات‬ ‫يم َم َل ُك َ‬ ‫الس َم َ‬ ‫‪‬و َك َذل َك ُن ِري إ ِْب َراه َ‬ ‫وت َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ين‪(‬األنعــام‪ ،)75:‬وذلــك بأن‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َو ِل َي ُك َ‬ ‫ــن ا ْل ُمو ِق ِن َ‬ ‫ــون ِم َ‬ ‫مالحظا عظمة‬ ‫َج َعلــه يجــول بخاطــره بين أجــرام الكــون‬ ‫ً‬ ‫مكوناته ودقة نظمها‪ .‬فوضع ‪ ‬فرضية تأليه الكوكب‪،‬‬

‫يكــن إبراهيم ‪ ‬شــا ًّكا في إحيــاء اهلل الموتى قط‪ ،‬وإنما‬

‫وجدهــا كلهــا تأفــل‪ ،‬فخلــص بعقلــه من خــال ذلك إلى‬

‫تمكن من تثبيت اليقين‬ ‫بمنهاج المشــاهدة والمعاينة‪ ،‬لما ّ‬

‫حقائق نســبية تفيد عدم استحقاق هذه المكونات التأليه‪،‬‬

‫القرطبي رحمه اهلل‪" :‬اختلف الناس في هذا السؤال‪ ،‬هل‬

‫صــدر مــن إبراهيــم عــن شــك أم ال؟ فقال الجمهــور‪ :‬لم‬

‫طلــب المعاينــة"‪ ،‬وذلــك ألنــه لو لــم يؤت العلــم من ربه‬ ‫فــي مواجهة التحديــات الفكرية والعقديــة لذلك الزمان‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ثــم بعــده القمــر‪ ،‬ثــم الشــمس‪ .‬فلمــا أخضعهــا لالختبــار‬

‫وقد يختلف الناس حول مغزى هذا السؤال كما قال‬

‫‪57‬‬


‫البشــري الطريــق الواضــح الــذي يجــب أن يســلكه فــي‬

‫وعليه فلما كان اهلل في كل شيء ‪-‬يراه اإلنسان أو ال‬

‫متجليا نوره في كل مكونات الكون‬ ‫يراه‪ -‬وكان هو الكل‬ ‫ً‬

‫بنــاء الفكــر العلمــي واإلدراك المنطقي‪ .‬فالقــرآن لما دعا‬ ‫ــل ا ْن ُظ ُــروا َمــا َذا ِفــي‬ ‫اإلنســان إلــى النظــر فــي الكــون‪ُ  :‬ق ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض‪(‬يونــس‪)101:‬؛ اختــزل في ذلك النظر‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫َّ‬ ‫‪-‬كمــا رأينــا‪ -‬كل المنهــاج التجريبــي الــذي وصــل إليــه‬

‫وجه ســبحانه المتعرفين عليه إلى النظر والتفكر في هذه‬ ‫ّ‬

‫المكونات العاكسة لنور ضيائه‪ .‬لعل هذا اإلنسان المكرم‬ ‫بالعقــل إذا نفــذ إليه ذلك الشــعاع الســاطع مــن نور هذه‬

‫المكونــات‪ ،‬ارتقــى من خالل تلــك المدارك في درجات‬

‫العقــل البشــري مــن مالحظــة وفرضية وتجربــة‪ .‬وال أدل‬

‫الكمال الموصلة إلى االنســجام مع كمال الكون‪ .‬فجاء‬

‫علــى ذلــك ممــا جاءت به اآلية األخرى فــي قوله تعالى‪:‬‬ ‫ــف ُيب ِ‬ ‫َ‬ ‫ــك‬ ‫يــد ُه إ َِّن َذ ِل َ‬ ‫ــد ُئ ا ُ‬ ‫هلل ا ْل َخ ْل َ‬ ‫ــم ُي ِع ُ‬ ‫‪‬أ َو َل ْ‬ ‫ــق ُث َّ‬ ‫ــم َي َــر ْوا َك ْي َ ْ‬ ‫َع َلى ا ِ‬ ‫هلل َي ِسير ‪ُ ‬ق ْل ِسيروا ِفي ا َ‬ ‫ف َب َد َأ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َفا ْن ُظ ُروا َك ْي َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫الن ْش َــأ َة ِ‬ ‫هلل َع َلى ُك ِّل َشــي ٍء‬ ‫اآلخ َر َة إ َِّن ا َ‬ ‫ا ْل َخ ْل َق ُث َّم ا ُ‬ ‫شــئ َّ‬ ‫هلل ُي ْن ِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ير‪(‬العنكبوت‪ )19:‬التي تســتوعبت كل المنهاج التجريبي‬ ‫َقد ٌ‬ ‫بيــن كلمتــي "انظروا" و"كيف" اللتيــن تجمعان خصائص‬

‫موجهــا اإلنســان إلى‬ ‫الخطــاب القرآنــي مــن أجــل ذلــك‬ ‫ً‬ ‫الجمــع بين القراءتين؛ قراء ِة المســطور وقراء ِة المنظور‪،‬‬ ‫علــى اعتبــار أن الكتــاب المســطور يقدم لإلنســان قواعد‬

‫العالقــة التفاعليــة بينــه وبيــن الكــون‪ ،‬وأن الكــون الــذي‬

‫هــو الكتــاب المنظور يشــكل المرجــع التجريبي لوضع‬ ‫النمــاذج التفســيرية لهــذه العالقــة فــي ظــل وحــدة بنائيــة‬

‫المالحظــة والفرضيــة والتجربة‪ ،‬بــل وتتجاوزها إلى حد‬

‫فــإذا انطلقــت معرفة اإلنســان العلميــة من وحدة هذه‬

‫البعــد المكانــي‪ ،‬والفارق‬ ‫فــي األرض كعنصــر دال علــى ُ‬

‫متكاملة تتكامل فيها عناصر الواقع والعقل والوحي‪.‬‬

‫الغيــب‪ ،‬فترقــى بذلك في مراتب الكمــال التي من أجلها‬

‫خلق‪ .‬أما إذا انطلقت معرفته من قراءة تجزيئية ال تعتمد‬ ‫النظــرة التكامليــة الجامعــة بين المســطور والمنظور‪ ،‬فإن‬

‫بعيدا عن هذا المنال وال يمكن له أن يصل‬ ‫اإلنسان يبقى ً‬ ‫إلــى كمــال المعنى المراد من اإلشــارات الكونية بقدر ما‬

‫يقــع فــي توظيف اللفظ القرآنــي أو الظاهرة الكونية فيما‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫بيــن بــدء الخلــق ونشــأته اآلخــرة كعنصر دال علــى البعد‬

‫الزمانــي‪ .‬وذلــك إلضفاء صفــة الدراســة المقارناتية على‬

‫ظواهر الخلق بالتنقل بين أرجاء األرض‪ ،‬ثم الربط الزمني‬ ‫مؤثرا في تطورها‪.‬‬ ‫بيــن مراحلهــا على اعتبار عامل الزمن ً‬ ‫عــدي‬ ‫فاآليــة بإقرارهــا لعالقــة التــازم القائمــة بيــن ُب َ‬

‫أقرت‬ ‫المكان والزمان في موضوع النظر هذا‪ ،‬إنما تكون‬ ‫ْ‬ ‫بنســبية كل واحــد منهمــا لآلخــر‪ ،‬إذ ال يصيــر ألحدهمــا‬

‫شاء من تأويل‪ .‬فالقرآن والكون بوحدتهما التكاملية بين‬

‫مدلول إال إذا أخذ من مفهوم وحدته مع اآلخر‪ .‬وهو ما‬

‫التــازم القائمــة مع اآلخر‪ ،‬إذ ال يمكن فهم أحدهما إال‬

‫أينشــتاين" في نظريته للنســبية التي أصبحت اليوم‬ ‫أساســا‬ ‫ً‬

‫عالم‬ ‫متناظرا مع بناء الكون المنظور في العوالم الثالثة؛ ِ‬ ‫ً‬ ‫الشهادة وهو الواقع المشهود مما نلمس ونحس‪ ،‬وعالم‬

‫مبادئ النســبية‪" :‬إن المكان في حد ذاته والزمان في حد‬

‫يذكر كل منهما القارئ بعالقة‬ ‫الواقــع والعقل والوحــي‪ّ ،‬‬

‫كشــفت عنه حدي ًثا دراســات الفيزيائــي األلماني "ألبيرت‬

‫من خالل حسن قراءة اآلخر‪ .‬فكان بناء الكتاب المسطور‬

‫لــكل الدراســات العلميــة الدقيقــة‪ ،‬حيــث قــال فــي كتابه‬

‫ذاتــه‪ ،‬هما متغيران محكوم على كل منهما باالضمحالل‬

‫الغيب النســبي وهو المغيــب المدرك بقوة العقل‪ ،‬وعالم‬

‫كما يضمحل الظل‪ .‬وال يمكن ألحدهما أن ُيبقي حقيقته‬ ‫َ‬ ‫إال مــن خــال توحــده مــع اآلخــر"‪ .‬ونحــن نعــرف أن‬

‫الوحدة التكاملية بين القرآن والكون‬

‫أي مــن الزمــان أو‬ ‫مــادي متغيــر مــع الزمــان‪ .‬فــإذا غــاب ٌّ‬

‫الغيــب المطلــق وهــو الوحــي الــذي نزل بعلــم اهلل وحده‬

‫‪56‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫العناصــر الثالثــة تكامل في يقينه عالم الشــهادة مع عالم‬

‫التوثيق الزماني والمكاني لموضوع البحث بإقرار الســير‬

‫وليس لنا إال أن نؤمن به‪.‬‬

‫ماديــا‪ ،‬بل مجرد أثر في المكان لجســم‬ ‫الظــل ليس ً‬ ‫شــيئا ًّ‬

‫ومــن هنــا يجــب أن تكــون الوحــدة التكاملية بيــن القرآن‬

‫المــكان‪ ،‬زال مفهــوم الظــل الذي تبقى نســبيته من نســبية‬

‫بحقائــق األشــياء وفــق منهــاج القرآن الذي يرســم للعقل‬

‫الضــوء المحدث للظل‪ ،‬واللذين بهما نعلم عدد الســنين‬

‫والكــون‪ ،‬المدخــل لكل قراءة علمية تهدف إلى اإلحاطة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بعــدي الزمــان (الشــمس والقمــر اللذيــن همــا مصــدر‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح*‬

‫أين تكمن حكمة املنهاج العلمي يف‬

‫القرآن الكريم‬

‫الظواهــر الكونيــة هــي يقينيــات علميــة أي تثبيتــات إيمانيــة‬ ‫للقلب يخاطب اهلل تعالى بها العقل من خالل أمثال يضربها‬ ‫لإلنســان في نفســه أو في آفاق الظواهر الطبيعية المحيطة به‪،‬‬ ‫لعلــه بــكل يقينيــة تســتقر فــي قلبه يترقى في مراتب الخشــية مــن اهلل كما جاء‬ ‫هلل ِم ْن ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َم ُاء‪(‬فاطر‪ .)28:‬والعلماء‬ ‫ذلك في قوله تعالى‪ِ  :‬إ َّن َما َي ْخ َشى ا َ‬ ‫كما قال ابن عباس ‪ ‬في تفسيره لهذه اآلية‪" :‬هم الذين يعلمون أن اهلل على‬ ‫كل شيء قدير"‪ .‬فهؤالء كما يتضح من سياق الوصف القرآني السابق لهذه‬ ‫ليثبتوا في يقينهم آيات‬ ‫اآلية‪ ،‬هم الذين ينطلقون من مراجع الكون المنظور ّ‬ ‫الكتاب المســطور‪ .‬حتى إذا تكونت الصورة في عقل الناظر‪ ،‬نفذت أنوارها‬ ‫إلى القلب فحصل هنالك اليقين بأن اهلل على كل شيء قدير‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪55‬‬


‫رفع كفاءة جهاز المناعة‬

‫تالحم البكتيريا المعوية النافعة مع األنســجة الليمفاوية‬ ‫بجــدار األمعاء‪ ،‬يحفز هذه األنســجة على العمل ويبقيها‬ ‫علــى أهبة االســتعداد لمقاومة الجراثيــم المرضية‪ ،‬وتبدأ‬ ‫هــذه العمليــة مــن البدايــات األولــى لتكويــن البكتيريــا‬ ‫المعويــة فــي حديثي الوالدة‪ ،‬ومن طريــف األمر أن هذه‬ ‫البكتيريــا تقــوم بدور "ملطف" يجعل من رد فعل الجهاز‬ ‫وســطيا‬ ‫المناعــي على االقتحام الجرثومي المرضي‪ ،‬ر ًّدا‬ ‫ًّ‬ ‫ال عين ًفا أو إصابة شديدة بأنسجة‬ ‫بعيدا عن أن يحدث فع ً‬ ‫ً‬ ‫الجسم أثناء المواجهة‪.‬‬

‫ضبط الوزن‬

‫قد يؤدي حدوث اختالل في التكوين البكتيري الداخلي‬ ‫إلى حدوث سمنة أو زيادة في الوزن حين تتكاثر بكتيريا‬ ‫"فيرمــي كيوتيس" على حســاب أنواع الـــ "باكتيرويدس"‪،‬‬ ‫وعلــى العكــس إن تصحيح هذا الخلــل يكون في العادة‬ ‫مصحوبا بالعودة إلى الوزن الطبيعي‪.‬‬ ‫ً‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫حارس البوابة عصيات "دودرالين" المهبلية‬

‫‪54‬‬

‫اكتشف العالم األلماني "دودر الين" ‪1892‬‬ ‫نوعــا من الجراثيــم العصويــة بالمهبل ‪-‬التي‬ ‫ً‬ ‫ســميت فيما بعد باســمه‪ -‬يقوم بتحويل النشا‬ ‫الحيوانــي (الجاليكوجيــن) الموجود بخاليا‬ ‫جــدار المهبــل إلى ســكر اللبن‪ ،‬مما‬ ‫أعطــى هذه البكتيريا االســم التالي‬ ‫لهــا "العصيات اللبنيــة"‪ .‬ويترتب‬ ‫علــى هــذا التفاعــل‪ ،‬تحــول‬ ‫الوســط المهبلــي إلــى وســط‬ ‫شديد الحموضة غير قابل لنمو‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الجراثيم الممرضة‪ ،‬مع إطالق فوق أكسيد الهيدروجين‬ ‫أيضــا مــن خصائــص مضــادة لهــذه الجراثيــم‬ ‫بمــا لــه ً‬ ‫المرضيــة‪ .‬ومن عجــب أن تركيز هــذا التفاعل الكيميائي‬ ‫الدفاعــي وتكاثر عــدد العصيات اللبنية‪ ،‬يكونان في أدنى‬ ‫مســتوياتهما أثناء فترة الحيض‪ ،‬مما يجعل المهبل أنذاك‬ ‫أكثــر مــا يكون ضع ًفا أمــام أي اجتياح جرثومي خارجي‪،‬‬ ‫ويكونان في أعلى مستوياتهما أثناء قمة النشاط الهرموني‬ ‫األنثوي وفترة اإلباضة منتصف الدورة الشهرية‪ ،‬في آلية‬ ‫عجيبــة تحفــظ للجهــاز اإلنجابــي أعلى درجــات التعقيم‬ ‫والحماية أثناء فترة الخصوبة واالستعداد للحمل‪.‬‬

‫اإلفادة العالجية والصيدلية الحيوية‬

‫أمكن لإلنسان استخدام هذه البكتيريا النافعة فيما يسمى‬ ‫بالمحفــزات الحيويــة (‪ )Probiotics‬وخاصــة "العصيــات‬ ‫اللبنية"‪ ،‬التي تســتخدم كعالج حيوي إلعادة التوازن إلى‬ ‫بكتيريــا األمعــاء أو إلــى المهبــل فــي حــاالت عديــدة من‬ ‫االلتهابات المعوية والمهبلية‪.‬‬

‫(*) أستاذ أمراض النساء والتوليد‪ ،‬كلية الطب‪ ،‬جامعة سوهاج ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫توالــي األم هــذا "الدعــم البكتيــري " لطفلهــا عــن طريــق‬

‫النقــل المباشــر أثنــاء اإلرضــاع واالحتضــان والتواصــل‪،‬‬ ‫وتشــكل أنــواع الســبحيات الكريــة واإليشريشــيا الــرواد‬

‫األوائل المستوطنة للوليد‪ ،‬ويقوم هؤالء الرواد بعمليات‬ ‫اختــزال كيميائيــة تمهد المكان الســتيطان األجيال التالية‬

‫الهوائيــة كـ"البيفيدوباكتيريــا"‪ ..‬ومع تقدم‬ ‫مــن األنــواع ال ّ‬ ‫المولــود فــي العمر وتوالي اعتمــاده على أطعمة خارجية‬ ‫تدريجيا‬ ‫غير لبن األم‪ ،‬تتحول البكتيريا مستوطنة األمعاء‬ ‫ًّ‬ ‫إلى النمط البكتيري ألمعاء اإلنسان البالغ‪.‬‬

‫تقريبــا على أســطح جلودنا باإلضافــة إلى ما‬ ‫هــذا الرقــم‬ ‫ً‬

‫المعمل الكيميائي‬

‫التعــرف علــى العديــد مــن أنواعهــا بواســطة التقنيــات‬

‫كثيرا‬ ‫اإلفــادة من مــواد الطعام الكربوهيدراتيــة‪ ،‬حيث إن ً‬

‫يعتبــر المعمــل البكيتــري الداخلــي ذا أهميــة كبــرى فــي‬

‫يقطــن منهــا بالعيــن والفم واألنف والمهبــل‪ ..‬وقد أمكن‬

‫مــن هــذه البكتيريا يفــرز الخمائر (اإلنزيمات) المســاعدة‬

‫الوراثية الحديثة المعتمدة على الحمض النووي (‪،)DNA‬‬

‫على تحليل الســكريات العديدة في ما يســمى بـ"التخمير‬

‫لكــن الكثيــر مــن هــذه األنــواع لــم يمكــن بعد اســتزراعه‬

‫في أمعائنا‬

‫البكتيريا مصنع هائل وعضو طي النســيان‪ .‬بينما يحتوي‬ ‫الجســد البشــري علــى نحــو ‪ 10‬تريليــون خليــة بشــرية‪،‬‬

‫فــإن أمعاءنــا تحــوي مــن البكتيريــا المتعايشــة نحــو ‪10‬‬ ‫أمثــال هــذا العــدد (‪ )1014‬موزعــة علــى أكثــر مــن ‪500‬‬

‫نــوع‪ .‬ويمثــل النشــاط التحويلي الغذائــي (األيضي) لهذه‬ ‫الجمهريــة البكتيريــة فعــل مصنــع هائــل أو مــا يعــادل‬ ‫منســيا" مــن الجســم‪ .‬وتشــكل أجنــاس البكتيريا‬ ‫"عضــوا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫المســماة بـ"الباكتيرويــد" أكبــر نســبة مــن أنــواع البكتيريــا‬ ‫المعوية‪ ،‬إضافة إلى "اإليشيريشــيا وبعض الكوليستيريديا‬ ‫والعصيات اللبنية" وغيرها‪.‬‬

‫ا ُأل ّم‪ :‬الينبوع األول‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــي المعمــل لدراســة خصائصــه علــى نحــو ّبيــن‪ ،‬وال‬ ‫زال الكثيــر مــن الغمــوض يكتنــف ســلوكها وفوائدهــا‪.‬‬

‫الســكري"‪ ،‬والــذي يؤدي إلى تكويــن األحماض الدهنية‬

‫قصيرة السلســلة كحمــض "الخليك" الــاّزم للعضالت‪،‬‬ ‫و"البروبيونيك" المساعد لعمل الكبد في إطالق مركبات‬

‫الطاقــة ثالثيــة الفوســفور‪ ،‬و"البيوتريــك" الــذي يســاعد‬ ‫فــي إمــداد خاليــا األمعــاء ذاتهــا بالطاقــة‪ ،‬كذلك تســاعد‬ ‫هــذه األحمــاض علــى نمــو الخاليــا الطالئية واألنســجة‬

‫الليمفاويــة لألمعــاء‪ .‬ومــن ناحيــة أخــرى فــإن للبكتيريــا‬

‫دورا بالــغ األهميــة فــي امتصــاص فيتاميــن "ك"‬ ‫المعويــة ً‬ ‫مــن جــدار األمعــاء والــذي يمثــل أهمية خاصــة لآلليات‬ ‫آخرا مــا لهذه‬ ‫تخثــر الــدم ومنــع النــزف‪.‬‬ ‫وأخيــرا وليــس ً‬ ‫ً‬

‫الميكروبــات الحميــدة مــن األثــر "المانــع الحائــل" فــي‬

‫إحبــاط نمو األنــواع الممرضة مــن الميكروبات األخرى‬

‫في األمعاء مثل أنواع الخمائر وجراثيم الكوليســتيريديا‪،‬‬ ‫وذلــك لمــا تتمتع به البكتيريا المعويــة النافعة من تكيف‬ ‫أكثــر مــع موطنها مــن حيث القدرة على التشــبث بجدار‬

‫واســتقرارا في حــال الوالدة‬ ‫هــذا االكتســاب أكثر ســرعة‬ ‫ً‬

‫هــذه الميكروبــات الحميــدة بواســطة تنــاول المضــادات‬

‫البكتيريا التي سرعان ما يكتسبها من جسد األم‪ ،‬ويكون‬

‫الطبيعيــة عنــه فــي حــال الــوالدة بالجراحــة القيصريــة‪،‬‬ ‫حيــث يكــون الوليد في الحالة األولى في تعرض مباشــر‬

‫طبيعيا في مهبل األم‪ ،‬وعقب الوالدة‬ ‫للبكتيريا المتواجدة‬ ‫ًّ‬

‫جليا عند إحباط‬ ‫مكة أدرى بشعابها)‪ ،‬وهذا األثر يتضح ًّ‬ ‫الحيويــة‪ ،‬ممــا يــؤدي إلــى إزديــاد تكاثــر ونمــو الجراثيــم‬ ‫الممرضــة دون كابح‪ ،‬مســببة األمــراض المعوية بما فيها‬

‫اإلسهال والتسمم‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫خاليا من‬ ‫يخــرج الوليــد من بطن أمــه معقم األمعــاء‪ً ،‬‬

‫األمعاء‪ ،‬واإلفادة من الغذاء المحيط في تلك البيئة (أهل‬

‫‪53‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬أحمد عبد الحفيظ*‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫صديق يف داخيل‬

‫‪52‬‬

‫تعرف عليها اإلنســان‬ ‫البكتيريــا‪ ..‬تلــك الكائنــات المجهريــة الدقيقة التي ّ‬ ‫حدي ًثا كمسبب لألمراض وذات السمعة السيئة في هذا المجال‪ .‬ربما لم‬ ‫جميعا بهذه العداوة وهذا اإلضرار‪،‬‬ ‫منا أنها ليست‬ ‫يخطر على بال الكثير ّ‬ ‫ً‬ ‫بعضا منها ربما يكون ذا نفع جليل في الوقاية من عديد من األمراض‪ ،‬بل وفي رفع‬ ‫وأن ً‬ ‫مناعة أجسادنا بصفة عامة‪ ،‬حتى إنه ليشكل صدي ًقا وحلي ًفا في معركة اإلنسان والمرض‪.‬‬

‫في داخل أجسادنا‬

‫يمكــن تعــداد أكثــر مــن ‪ 500‬إلــى ‪ 1000‬نوع مــن البكتيريا المتعايشــة فــي أمعائنا‪ ،‬ومثل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫النقــدي فــي هذا النوع مــن الكتابات والبحــوث الخاصة‬ ‫بهــذه المرحلــة مــن تاريــخ الصيدلــة في األندلــس‪ ...‬من‬ ‫ذلــك مــا نجــده عنــد ابــن البيطــار الــذي قــام بنقــد كتاب‬

‫"منهــاج البيــان فيمــا يســتعمله اإلنســان"‪ ،‬وهــو الكتــاب‬ ‫الــذي جمع فيه ابن جزلة (ت ‪493‬هـ) األدوية واألغذية‬

‫واألشــربة‪ ،‬فقــام ابــن البيطار ونبه علــى أخطائه وما غلط‬ ‫فيــه مــن أســماء األدوية‪ ،‬وذلك في كتابــه الذي رتبه على‬

‫حــروف المعجــم‪ ،‬وجعلــه بعنــوان "اإلبانــة واإلعالم بما‬ ‫فــي المنهــاج من الخلل واألوهــام"‪ .‬وإذا كان ابن البيطار‬

‫أيضا‬ ‫قــد اســتطاع أن يرســي قواعد المنهج النقــدي‪ ،‬فإنه ً‬

‫قــد وضــع أســس المنهــج العلمي‪ ،‬وحددها فــي أهداف‬ ‫ســتة هي‪ :‬اســتيعاب القول في األدوية المفردة واألغذية‬

‫المســتعملة علــى الــدوام واالســتمرار؛ والمقصود بذلك‬

‫جمــع مادتــه العلمية الطبيــة الخاصة بلغاتهــا المختلفة‪..‬‬ ‫واألمانــة العلمية عند النقل‪ ،‬والتحقق من صحة األدوية‪،‬‬ ‫التجــارب الالزمــة لألدويــة التــي اســتعان بها فــي عالجه‬ ‫لألمــراض‪ ،‬ووصــف األعشــاب والنباتات‪ ..‬كمــا أنه قام‬

‫بتحضيــر األدويــة واســتخدم النســبة والكميــة فــي إعــداد‬ ‫الكميــات الالزمــة للعــاج‪ ،‬وحــذر من اإلفــراط في أخذ‬ ‫العالج أو االبتعاد عن أخذ الكمية المحددة‪.‬‬

‫ومــن خالل المقارنة بين طريقة ابن البيطار والطريقة‬

‫التــي يســير عليهــا العلمــاء المحدثــون‪ ،‬نجــد أنــه توجــد‬

‫جوانب مشــتركة بين ابن البيطار والعلماء الذين اعتمدوا‬ ‫علــى المنهــج التجريبي الذي يقوم على المالحظة‪ ..‬لقد‬

‫اســتخدم ابــن البيطــار "التجربــة" وكان يطلــق عليها اســم‬

‫"االختبار"‪ ..‬فقد قام بممارســتها عند اختباره لألعشــاب‬ ‫والنباتــات‪ ،‬لكــي يســتخرج منهــا العقاقيــر الالزمة لعالج‬

‫األمــراض‪ .‬وكانــت التجربة عنده مرتبطــة بالفرض الذي‬ ‫ولقــد أدرك ابــن البيطــار أهميــة الفــرض ودوره الهام‬

‫هاما من عناصر المنهج التجريبي‪ ،‬حيث‬ ‫واعتبره‬ ‫عنصرا ًَّ‬ ‫ً‬

‫حيويا في مجال البحث العلمي ومعرفة تركيب‬ ‫دورا‬ ‫ًّ‬ ‫إن له ً‬

‫األدويــة والعقاقيــر‪ ،‬وكيفيــة اســتخالصها مــن النباتــات‬ ‫واألعشــاب‪ ،‬والوصول إلــى التحقق منها وكيفية صحتها‬

‫الصيدلة فيما بعد‪.‬‬

‫(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ُيعد أبرز صور اإلبداع العلمي‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واالعتماد على المالحظة والمشاهدة‪ ،‬واالختبار وإجراء‬

‫وأهميتهــا لعــاج األمــراض‪ .‬بــل إن ابــن البيطــار يبين لنا‬ ‫منافع األدوية‪ ،‬وأهميتها لعالج األمراض‪ ،‬ويحدد القدر‬ ‫المناســب منها ويحذر من اإلفراط في اســتخدامها‪ ،‬ألنه‬ ‫قــد يــؤدي إلــى الضرر باإلنســان‪ ،‬كما يبحث عــن البديل‬ ‫منها للدواء األصلي إذا كان غير متوفر‪ ،‬فليس من الضرر‬ ‫من االستعانة بغيره إذا لم يتيسرالحصول عليه‪.‬‬ ‫ولــم يقتصــر ابــن البيطــار علــى االســتعانة بالنباتــات‬ ‫واألعشاب ذات األصول النباتية‪ ،‬بل هو قد استعان بذات‬ ‫األصول الحيوانية‪ ،‬والتي يتخذ منها العقاقير‪ ،‬مثل حديثه‬ ‫عــن "ابــن عرس"‪ ،‬وأصنــاف من الطير‪ ،‬وبعــض األرانب‬ ‫البريــة‪ ،‬وبعــض الحيوانــات البحرية‪ ..‬وهو فــي كل ذلك‬ ‫يعرض لتشريح بعضها ويعتمد على الوصف والمالحظة‬ ‫الدقيقــة‪ ،‬إضافــة إلى إجراء التجارب عليها واســتخالص‬ ‫عددا من‬ ‫أدوية من بعضها‪ .‬كما تناول بالوصف والشرح ً‬ ‫األدوية والعقاقير ذات األصول المعدنية‪ ،‬واألحجار التي‬ ‫عالجيا‪،‬‬ ‫يمكن االســتفادة منها في اســتخراج مــواد فعالة‬ ‫ًّ‬ ‫فيذكر اآلبار وهو الرصاص ومعادن وأحجار أخرى‪.‬‬ ‫ولم تقتصر جهود ابن البيطار على ذكر مئات األدوية‬ ‫والعقاقير‪ ،‬وإضافة عشــرات من األصناف ذات األصول‬ ‫النباتيــة والحيوانيــة والمعدنيــة التــي لم تكــن معروفة من‬ ‫قبــل‪ ،‬ويســاهم فــي تأســيس الصيدلــة العربية على أســس‬ ‫علمية وتجريبية‪ ،‬بل هو قد ساهم في استقرار المصطلح‬ ‫الطبي العربي اإلسالمي‪ ،‬وأثرى معجمه الذي أصبح من‬ ‫ثريا لكل أطباء أوربا والغرب‪.‬‬ ‫بعده‬ ‫مصدرا ًّ‬ ‫ً‬ ‫وهكذا كانت لبحوث ابن البيطار في عالم األعشاب‬ ‫والنباتات الطبية‪ ،‬وكذلك تجاربه الدوائية‪ ،‬واعتماده على‬ ‫المالحظــات الدقيقــة والتجــارب العميقــة في هــذا العلم‬ ‫التجريبي‪ ،‬أثره الذي ال ينكر في تقدم هذا العلم وتطوره‬ ‫علــى يــد العــرب والمســلمين‪ ،‬خاصــة وأن المســلمين‬ ‫تمكنــوا من صياغة المصطلحات الطبية المناســبة وقاموا‬ ‫بتعريــب كثير منها وتطوير مشــتقاتها اللغوية‪ ،‬مما ســاعد‬ ‫مصدرا‬ ‫علــى تكويــن المعجم الطبي العربي الذي أصبح‬ ‫ً‬ ‫علميــا دقي ًقــا ألطبــاء العالــم‪ ،‬ســاعدهم علــى تطوير علم‬ ‫ً‬

‫‪51‬‬


‫كمــا تأثــر ابــن البيطــار بالغافقــي النباتــي المشــهور‬

‫مســتقلة فــي كتاباتهــم عــن تصنيــف األدويــة‪ .‬فنــرى هــذا‬

‫أخــذ منــه أجزاء غير قليلة من كتابه فــي األدوية المفردة‪.‬‬

‫إلــى األدويــة واألغذية وأهميتها لبدن اإلنســان‪ ،‬ويوضح‬

‫واضحا في كتاب "الدرة البهية" البن البيطار‪ ،‬حيث يشير‬ ‫ً‬

‫الــذي يعــد مــن أعظــم الصيدلييــن العــرب أصالــة‪ ،‬حيث‬

‫اختالف الدواء باختالف المرضى والمرض‪.‬‬

‫كمــا ال يمكــن إغفــال تأثر ابــن البيطار بكثير مــن العلماء‬ ‫العرب والمســلمين والصيادلة والعشــابين‪ ،‬والذين تظهر‬

‫ابن البيطار بين األسلوب العلمي والنقد المنهجي‬

‫بكر الرازي‪ ،‬وابن سمحون‪ ،‬وثابت بن قرة‪ ،‬وماسرجويه‪،‬‬

‫وأعمقــه‪ ،‬بــل أهــم كتــاب ألفــه هــو "الجامع فــي األدوية‬

‫البيطــار مــن االســتفادة منــه وتوظيفــه فــي تأســيس علــم‬

‫فــي األدويــة المفردة" األهــداف التي اختارهــا فيه‪ ،‬ومنها‬

‫أســماؤهم فــي مؤلفاتــه مثــل الزهاوي‪ ،‬وابــن جزلة‪ ،‬وأبو‬

‫لقد ألف ابن البيطار أوسع كتبه‪ ،‬في موضوع علم النبات‬

‫ضخمــا‪ ...‬تمكــن ابــن‬ ‫وابــن العــوام‪ ،‬الذيــن كتبــوا ترا ًثــا‬ ‫ً‬

‫المفــردة"‪ .‬وقــد أوضــح ابــن البيطــار فــي كتابــه "الجامع‬

‫الصيدلة وتأصيله عند العرب والمسلمين‪.‬‬

‫يتجلــى أســلوبه فــي البحــث‪ ،‬وأمانته العلمية عنــد النقل‪،‬‬

‫تصنيف األمراض واألدوية والعالجات‬

‫واستناده على التجربة كمعيار لصحة األحكام‪.‬‬

‫ومــن مظاهــر التقــدم العلمــي الطبــي عنــد العــرب‬

‫أبجديا‬ ‫ترتيبــا‬ ‫ًّ‬ ‫وقــد رتــب ابــن البيطار مفــردات كتابــه ً‬

‫والمســلمين تصنيفهم لألمراض‪ ،‬وذلك للتســهيل عليهم‬

‫علــى طريقتهــم المتبعــة وقــت ذاك‪ ،‬مــع ذكــر أســمائها‬

‫فــي عالجهــا‪ ،‬فكانــوا يعرضــون لألمــراض وأســبابها‬

‫باللغات المتداولة في موطنها‪.‬‬

‫وأعراضهــا وعالماتهــا وطــرق عالجهــا‪ .‬وقــد ظهــرت‬

‫قبل‬ ‫عــاش فيهــا ابــن البيطــار ظاهــرة لم يلتفــت إليها مــن ُ‬ ‫دارســو تاريــخ العلــوم‪ ،‬أال وهي "الجــداول الطبية"‪ .‬وقد‬ ‫ظهــرت هــذه الطريقــة المنهجيــة عنــد ابــن التلميــذ (ت‬ ‫‪560‬هـــ) فــي مخطوطــه "المغنــي فــي الطــب" حيث نرى‬

‫واضحــا لألمراض‪ ،‬فهو يعــرض في أول‬ ‫منهجيــا‬ ‫عرضــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫الجــدول للمــرض‪ ،‬وفي منتصفه للســبب الــذي أدى إلى‬

‫هــذا المــرض‪ ،‬وفــي األخيــر لألعــراض المصاحبــة له‪...‬‬

‫وهــذا واضــح في كثير من األمــراض‪ ،‬وخاصة األمراض‬ ‫الحادثــة في الجفــن ومداواتها‪ ،‬واألمــراض العارضة في‬

‫ملتحمــة العيــن ومداواتهــا‪ ،‬وفــي أمــراض ثقــب الحدقــة‬ ‫ومداواتهــا وفــي الشــبكية والغشــاء المســتبطن لألضــاع‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫والعضل المحركة للصدر وعلل الحجاب‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لــدى أطبــاء العــرب والمســلمين في هــذه المرحلــة التي‬

‫ولقد تناول مؤرخو العلوم كتاب ابن البيطار السابق‪،‬‬

‫وعلقــوا عليــه تعليقــات ممتــازة تــدل على قيمتــه ومكانة‬

‫المؤلــف فــي مجال علم األدوية (الصيدلة)‪ ،‬يقول محمد‬

‫زهيــر البابــا في كتابه "تاريخ وتشــريع وآداب الصيدلة"‪:‬‬ ‫"يعتبــر كتــاب الجامــع فــي األدوية المفردة البــن البيطار‬

‫أهم مؤلف في العقاقير ظهر في اللغة العربية حتى زمنه‪،‬‬ ‫عقــارا‪ ،‬منها ‪ 300‬عقار‬ ‫وصــف فيــه مــا ينوف عن ‪1400‬‬ ‫ً‬ ‫لم يرد ذكرها في المؤلفات األخرى‪.‬‬

‫وذلك ليســهل على الطالب بطلبه من غير مشــقة وال‬

‫عناء وال تعب‪ .‬واتسم أسلوبه العلمي بالنزعة النقدية‪ ،‬مع‬

‫التزام الموضوعية والنزاهة العلمية‪ .‬وذلك يتضح لنا من‬

‫خالل مناقشــته آلراء الســابقين عليه من العلماء واألطباء‬

‫والعشــابين‪ .‬فلقــد نقدهم في عدة أمــور‪ ،‬وكان نقده بناء‪،‬‬ ‫فهــو يرفــض اآلراء التــي يثبــت أن ناقلها قــد انحرف عن‬

‫وقــد ازداد النــزوع نحو تصنيــف األمراض عن طريق‬

‫ســواء الســبيل ومنهج العلماء الســليم‪ ،‬أو ألنها لم تبثت‬

‫تقويــم األبــدان" هــو عبارة عن جداول طبيــة فقط‪ ،‬ويبدو‬

‫برفضها‪ ،‬بل إنه يتجاوز الرفض إلى توجيه النقد الشــديد‬

‫الجــداول‪ ،‬حتــى إن كتــاب ابن البيطار "قانــون الزمان في‬ ‫ابــن البيطــار فــي هذا الكتاب في صــورة "الطبيب" وليس‬ ‫"العشاب"‪ ،‬ذلك اللقب الذي اشتهر به‪.‬‬

‫أيضا‬ ‫ومثلما اهتم األطباء بتصنيف األمراض‪ ،‬اهتموا ً‬

‫ال‬ ‫بوضــع مصنفــات لألدويــة والعالجات وعقــدوا فصو ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أمام مقاييســه العلمية التي يعتمد عليها‪ ...‬وهو ال يكتفي‬ ‫إلى الناقل أو القائل‪ ،‬ألنه افتلى على الحق"‪.‬‬

‫وهكذا يتبين لنا أن علة نقده للسابقين لم تقتصر على‬

‫أيضا في علم الصيدلة‪.‬‬ ‫الطــب بمعنــاه الضيق‪ ،‬وإنما ظهر ً‬

‫وهنــاك العديــد مــن الشــواهد التــي تــدل علــى النــزوع‬


‫كانــت لبحــوث ابــن البيطــار يف عامل األعشــاب‬

‫النبــات وتحقيقــه واختبــاره"‪ .‬لقــد اســتطاع أن يخرج من‬

‫والنباتات الطبية‪ ،‬وكذلك تجاربه الدوائية‪ ،‬واعتامده‬

‫دراســته للنبــات واألعشــاب بمســتحضرات ومركبــات‬

‫عىل املالحظات الدقيقــة والتجارب العميقة يف‬

‫تعــد ذخيرة للصيدلــة العالمية‪ .‬وقد شــهد‬ ‫وعقاقيــر طبيــة ّ‬

‫هذا العلم التجريبــي‪ ،‬أثره الذي ال ينكر يف تقدم‬

‫لــه تلميــذه النجيــب ابــن أبــي أصيبعــة وحكــى فــي مؤلفه‬

‫هذا العلم وتطوره عىل يد العرب واملسلمني‪.‬‬

‫عــن رحالته العلمية‪ ،‬حيــث يخبرنا أنه كان كثيرالترحال‪،‬‬ ‫فرحــل إلــى شــمال إفريقيــا ومراكــش والجزائــر وتونــس‬

‫ومصر لدراسة النبات‪ ،‬وعندما وصل إلى مصر كان على‬

‫لــم يكتــف فقــط بترجمتــه ونقــل نصوصــه‪ ،‬ولكنــه امتــاز‬

‫عرشها الملك الكامل األيوبي الذي التحق بخدمته معي ًنا‬

‫بعمــق المعرفــة والدقــة في تناوله‪ ،‬حيــث جمع المصادر‬

‫رئيســا على ســائر العشــابين‪ ،‬ولما توفي الملك الكامل‪،‬‬ ‫ً‬

‫الهامــة لمــادة البحــث‪ ،‬ولــم يكتــف بمصدر واحــد فقط‪،‬‬

‫اســتبقاه في خدمته ابنه الملك الصالح نجم الدين الذي‬

‫بــل رجــع إلى عدة مصادر‪ ،‬وعقد بعــض المقارنات بين‬

‫كان يقيم في دمشــق‪ ،‬وبدأ ابن البيطار في دمشــق يدرس‬

‫ديســيقوريدس‪ ،‬وجالينــوس‪ ،‬وعلمــاء العــرب الســابقين‪.‬‬

‫عشابا‪.‬‬ ‫طبيبا‬ ‫ً‬ ‫النبات في الشام وآسيا الصغرى‪ ،‬بصفته ً‬

‫حريصا على نقل أسماء النباتات بدقة‪ ،‬وأضاف‬ ‫وقد كان‬ ‫ً‬

‫درس ابــن البيطــار كتــب ديســيقوريدس (ت‪370‬م)‪،‬‬

‫العديد من التعليقات على هوامش الكتاب "الحشــائش"‬

‫واإلدريسي‪ ،‬وأبي العباس النباتي‪ ،‬دراسة مستفيضة حتى‬

‫وقد استفاد ابن البيطار من أبي حنيفة الدينوري الذي‬

‫إلــى حــد كبير من مؤلفات الســابقين‪ ،‬ورغــم ذلك كانت‬

‫تحدث عن النبات وأوصافه‪ ،‬أصله وساقه وورقه وزهره‬

‫تمامــا‪ ،‬وشــرح النقــاط الغامضة فيها‪ ،‬وقد اســتفاد‬ ‫أتقنهــا ً‬

‫نباتيا‪،‬‬ ‫عشابا‬ ‫لغويا‪ ،‬بينما كان ابن البيطار‬ ‫نباتيا ًّ‬ ‫ً‬ ‫وطبيبا ًّ‬ ‫كان ًّ‬ ‫ً‬

‫مؤلفاتهم موضع تصحيحاته ونقده في كثير من األحيان‪.‬‬ ‫وهــذا مــا دعــا "رام النــدو" فــي كتابــه "إســهام علماء‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وجالينــوس‪ ،‬وأبقــراط‪ ،‬وأوريبازيــوس‪ ،‬وابــن ســينا‪،‬‬

‫للزيادة في اإليضاح وتوصل إلى نتائج جديدة‪.‬‬

‫وثمــره‪ ،‬حتــى ال يخلــط بيــن نبــات نافع وآخــر ضار‪ ،‬ثم‬ ‫يقــف علــى ذلك بذكره ما يســتخلص منه مــن عقار مفيد‬

‫العرب في الحضارة األوربية" إلى القول بأن "إسهام ابن‬

‫يعد‬ ‫في العالج‪ ،‬وكيف يؤخذ كدواء ومتى يؤخذ‪ ،‬وكيف ّ‬ ‫وكيف يتم تعاطيه ومقدار الجرعة‪.‬‬

‫مؤلفات ابن البيطار وتميزه العلمي‬

‫ابن ســينا الذي اســتقصى نســبة كبيرة من النباتات‪ ،‬والتي‬

‫البيطــار فــي مجال علــم النبات يفوق إنتاج الســابقين من‬

‫ديسيقوريدس إلى القرن العاشر الهجري"‪.‬‬

‫كما استفاد ابن البيطار من العالم الطبيب والفيلسوف‬

‫لقــد ســاهم المنــاخ العلمــي والفكــري المالئــم وازدهار‬

‫كانت معروفة في عصره‪ ،‬فأورد في كتابه "القانون" طائفة‬

‫العلمي‪ ،‬وهذا ما يبدو في المؤلفات العديدة التي تركها‪،‬‬

‫والطحلبيــة‪ ،‬وبيــن األجنــاس المختلفــة مــن النباتــات‬

‫العلــم الطبــي الذي عــاش ابن البيطار في كنفه‪ ،‬في نبوغه‬ ‫ومــن أهمهــا‪ :‬كتــاب ميــزان الطــب‪ ،‬كتــاب شــرح أدويــة‬ ‫ديسيقوريدس‪ ،‬كتاب األفعال الغريبة والخواص العجيبة‪،‬‬ ‫كتــاب المغنــي فــي األدويــة المفــردة‪ ،‬كتــاب الجامع في‬

‫واألنــواع المختلفــة مــن الجنــس الواحــد وذكر المتشــابه‬ ‫وغيــر المتشــابه‪ ،‬وعنــى بذكر مواطن النبــات والتربة التي‬

‫ينمو فيها إن كانت ملحة أو غير ملحة‪.‬‬

‫ولكــن نجــد تميــز ابــن البيطار عــن ابن ســينا في كثير‬

‫ومــن الجديــر بالذكــر أن ابــن البيطــار قــد اســتفاد من‬

‫من المواضع‪ ،‬فبينما نجد ابن ســينا يهتم بدراســة النبات‬

‫مؤلفــات هامــة مــن بينهــا كتــاب "الحشــائش" الــذي قــام‬

‫تميــزه عــن غيره وذكر منابتــه‪ ،‬نجد ابن البيطار يركز على‬

‫اإلســهامات التــي قدمهــا ديســيقوريدس‪ ،‬والــذي كان لــه‬

‫ابــن البيطــار بترجمته ونقل منه الكثيــر في كتابه "الجامع‬ ‫لألدويــة المفــردة"‪ .‬وعندمــا قــام ابــن البيطــار بترجمتــه‬

‫عامــا مــن حيــث أوصافــه الدقيقــة التــي‬ ‫ويتناولــه تنــاو ً‬ ‫ال ًّ‬ ‫الخصائص الطبية وفوائده في العالج ومداواة األمراض‪،‬‬ ‫ويوجه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫األدوية المفردة‪.‬‬

‫كبيرة من النباتات الشــجرية والعشبية والزهرية والعطرية‬

‫‪49‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫ابن البيطار‬

‫عالم الصيدلة وشيخ العشابين في األندلس‬ ‫هــو ضيــاء الديــن أبو محمد عبــد اهلل ابن‬

‫يدرس النبات في منابته‪ ،‬بل يدرس التربة والحجر الذي‬

‫المعــروف بـ"ابــن البيطــار"‪ ،‬والملقــب‬

‫عليه‪ ،‬حتى إذا جمع خبرة طويلة مستندة على المالحظة‬

‫أحمــد المالقــي النباتــي (‪646-593‬هـ)‪،‬‬

‫بـ"العشــاب"‪ .‬ولــد فــي مدينة "مالقــا" (‪ )Malaga‬األندلســية‪،‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫الدقيقــة‪ ،‬ألــف كتابيــه المشــهورين "المغنــي فــي األدويــة‬

‫وتوفي في دمشق‪ .‬تتلمذ على األستاذ الكبير أبي العباس‬

‫المفــردة" و"الجامــع لمفردات األدويــة واألغذية"‪ .‬ومن‬

‫صاحب الشهرة العظيمة في علم النبات‪.‬‬

‫أصيلة تميل إلى التجربة‪ ،‬وتؤمن بالمشــاهدة والمالحظة‬

‫أحمد ابن محمد بن فرج النباتي المعروف بـ"ابن الرومية"‬

‫‪48‬‬

‫ينمو فيه واألرض التي تنبته‪ ،‬والعوامل المختلفة المتركزة‬

‫يقرأ هذين الكتابين‪ ،‬يجد ابن البيطار يمتاز بعقلية علمية‬

‫كان ابــن البيطــار كثير الرحلة إلى بالد اليونان والروم‬

‫واالستنباط‪ ،‬وتحري الدقة واألمانة العلمية في النقل‪ .‬إذ‬

‫تلك البالد ويدارسهم في أنواع النبات‪ ،‬وخواصه وفوائده‬

‫أو الفارماكولوجــي‪ ،‬ولذلــك يقــول عنــه معاصــروه‪" :‬إنــه‬

‫وجميع بالد العالم اإلســامي‪ ..‬كان يجتمع مع علماء‬ ‫غير مكتف بقراءة الكتب والمصنفات‪ .‬وكان في ترحاله‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كان لمالحظاتــه القيمــة أثــر كبيــر في تقدم علــم الصيدلة‬

‫األجــل‪ ،‬العالــم النباتي‪ ،‬وعالمــة وقته في معرفة‬ ‫الحكيــم‬ ‫ّ‬


‫وألنــه منهــج‪ ،‬فإن صوابه ســرمدي ودوامه أبدي‪ ،‬أما‬

‫زيِــن أيدي العطــاء‪ ،‬وإلبراز‬ ‫ولصناعــة "األســورة " التــي ُت ّ‬

‫بـ‪ -‬ستظل الخالفة الراشدة التي أعقبت النبوة مخزن‬

‫تمنع من الوقوع في أي َض ْير‪.‬‬

‫إمكاناته فأزلية وثماره غير متناهية‪.‬‬

‫الدوافع التي تسوق إلى كل خير‪ ،‬وتحليل العوامل التي‬

‫الرشــد العميــم‪ ،‬وخزانــة المنهج القويم‪ ،‬ومســقط وحيي‬

‫ولهــذا فــإن الرشــد يضبــط إيقاع األمة وســاعتها على‬

‫الكتــاب والســنة‪ ،‬ومجمع أصلي النقــل والعقل‪ ،‬ومنجم‬

‫توقيــت "المدينة المنورة"‪ ،‬ويســتخدم "البوصلة" القرآنية‬

‫الذخائــر والخبــرات‪ ،‬وملتقــى العباقــرة والنــوادر‪ ،‬وكنانة‬ ‫أســباب القــوة‪ ،‬ومعمــل المعــادالت النهضويــة‪ِ ،‬‬ ‫وجراب‬

‫توجــه األمــة نحــو "مكــة المكرمــة"‪ ،‬ومــن‬ ‫التــي تضبــط ُّ‬

‫الس ُــر َج التــي تنيــر دروب الحيــاة‪،‬‬ ‫أشــعة القــرآن يصنــع ُّ‬

‫الكماالت البشرية‪.‬‬

‫ومــن ثنايــا القرآن يســتنبط الضوابط التي تســتر العورات‬

‫ا‬ ‫جـــ‪ -‬كان الحكــم الراشــد فــي هــذه األمــة حافــ ً‬ ‫ا بالمزاييــن‪ُ ،‬م ْت َر ًعــا‬ ‫بالمنجــزات‪،‬‬ ‫زاخــرا بالمآثــر‪ ،‬رافــ ً‬ ‫ً‬

‫و ُت َؤ ِّمن الروعات‪ ،‬ويتولى تركيب المعادالت التي تصنع‬ ‫َّ‬ ‫الروائع‪.‬‬

‫طافحــا باألمجــاد‪ ،‬ومزدا ًنــا‬ ‫مشــبعا بالعظائــم‪،‬‬ ‫بالجالئــل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وزاخما بكل مبهر‪،‬‬ ‫وعامرا ببدائع الصنائــع‪،‬‬ ‫بالمفاخــر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫جـــ‪ -‬يتــذرع أهــل الرشــد بالوســائل‪ ،‬ويتوســلون‬

‫ومزهرا بكل مبهج‪.‬‬ ‫ً‬

‫باألســباب‪ ،‬ويتســلحون بالذرائــع‪ ..‬يواجهــون أمــواج‬

‫د‪ -‬خلــق فكر الرشــد أمــة العطاء المــادي والروحي‪،‬‬

‫الليالي بقوراب الضياء‪ ،‬ويقارعون ُس َد َف الظالم بوميض‬

‫فقد كانت الغالبية من أبنائه تعطي من إمالق وتمنح من‬ ‫انتصارا‬ ‫وردعا للباطل‪،‬‬ ‫صدعا بالحق‬ ‫هـ‪ -‬ظل الرشد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وكبحا لجماح الطغاة‬ ‫وانكسارا أمام المساكين‪،‬‬ ‫للضعفاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وكســرا ألنــوف المتغطرســين‪ ،‬وســيظل كذلــك مــا بقيت‬ ‫ً‬ ‫عين تطرف وقلب ينبض‪.‬‬

‫الرشد يتسلح بالمنظومة السببية‬

‫اقتضت مشــيئة اهلل بأن من يه ُّز جذع الرشــد فإنه يســاقط‬ ‫جنيا‪ ،‬ومنهج الرشــد نفســه يتســلح بالمنظومة‬ ‫رطبا ًّ‬ ‫عليه ً‬ ‫ويتوســل بكافــة الذرائــع الشــرعية ســواء كانت‬ ‫الســببية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫مادية أو معنوية‪.‬‬

‫وحكما يســتضيء بشــموس‬ ‫ومنهجا‬ ‫فكرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أ‪ -‬الرشــد ً‬

‫القــرآن‪ ،‬ويســتنير بقناديــل األكــوان‪ ،‬ويســتعبر بآيــات‬

‫اإلنسان‪.‬‬

‫وإذا كانــت منظومة الرشــد تنهض على مقومات فإن‬

‫أصفــى الســنن‪ ،‬وترتــوي من آيات األنفس‪ ،‬وتســتقي من‬

‫آيات اآلفاق‪.‬‬

‫بـ‪ -‬الرشد في ُل ّبِه المعرفي هو بحث في جوهر القرآن‬

‫غوص فــي أعماق "الســور" القرآنية‬ ‫عــن جواهــره‪ ..‬فهــو‬ ‫ٌ‬

‫الستخراج أحجار "األسوار" التي تحرس كليات الناس‪،‬‬

‫ويجتثــون أشــواك العبوديــة بأشــواق الحريــة‪ ..‬يصارعون‬

‫أوجاع الفســاد بمعاقرة أســباب الصالح‪ ،‬ويدافعون آالم‬ ‫الضعف بمداعبة آمال القوة‪.‬‬

‫د‪ -‬من اســتقراء منهج الرشــد يبدو أن َن َوا َت ُه المعرفة‪،‬‬

‫وبذرتــه القــراءة‪ ،‬وخميرتــه الخبــرة‪ ،‬وذروتــه الحريــة‪،‬‬ ‫وصميمــه العدالــة‪ ،‬ودافعه اإليمان‪ ،‬وجوهره االســتقامة‪،‬‬ ‫وثمرته الفاعلية‪ ،‬وغايته العروج الحضاري‪.‬‬

‫ذاتيــا‪ ،‬انطال ًقــا من‬ ‫هـــ‪ -‬منهــج الرشــد يجعــل التغييــر ًّ‬

‫ال ُي َغ ِّي ُــر َمــا ِب َق ْــو ٍم َح َّتــى ُي َغ ِّي ُــروا َمــا‬ ‫هلل َ‬ ‫قولــه تعالــى‪ :‬إ َِّن ا َ‬

‫ِب َأ ْن ُف ِســهِ ْم‪(‬الرعد‪)11:‬؛ لكــن هذه اآليــة تختصر وال تختزل‬

‫التغييــر فــي الــذات ألنــه العنــوان‪ .‬ولهــذا فــإن للعوامــل‬

‫الخارجية فاعلية‪ ،‬لكن فاعليتها منوطة بالعامل الداخلي‪.‬‬ ‫فهيــا لنتفاكــر حــول كيفيــة تحصيــن الداخــل بحيــث‬

‫يســتعصي علــى عواصــف الفتنــة وأعاصيــر الغــزو القادم‬

‫من الخارج‪ ،‬ليكون قاعدة الوصول إلى المتن الحضاري‬ ‫المنشود عبر مراكب الرشد‪.‬‬

‫(*) أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ــع مــن‬ ‫هــذه المقومــات تنهــل مــن أعــذب اآليــات‪ ،‬و َت ْم َت ُ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إدقاع‪ ،‬وكانوا يؤثرون غيرهم ولو كان بهم خصاصة‪.‬‬

‫اآلمــال‪ ..‬يقاومــون كتائــب النوائــب بألويــة المغاويــر‪،‬‬

‫‪47‬‬


‫بأصلــه الربانــي في إقامتــه لدولة اإليمان ودولــة القانون‪،‬‬

‫وحــل أصعــب األحاجــي‪ ،‬اســتنقذ الحيــارى مــن شــباك‬

‫فعطايــاه تمنــح المــرء الدهشــة‪ ،‬و ُت َح ُفه تصيبــه باالنبهار‪،‬‬

‫وشعوذة المتخرصين‪.‬‬

‫التحير ومن ضوانك التيه‪ ،‬وأنقذهم من سحر‬ ‫المتهوكين‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬

‫وفــي كلتا الدولتيــن يمتلك إمكانات هائلة وذخائر جمة‪،‬‬

‫و‪ -‬إطالقــه لحريــات اإلنســان وقدراتــه وملكاتــه‬

‫وأمداؤه ُتشعره بالذهول‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫وفاعلياتــه فــي عمــارة األرض وصناعــة الحيــاة وخدمــة‬

‫أ‪ -‬نجاحــه المنقطــع النظيــر فــي تحريــر العربــي مــن‬

‫خنق‬ ‫الخلــق‪ .‬ويــرى الحكم الرشــيد فــي هذا الســياق أن ْ‬

‫شــلل التخلــف‪ ،‬حيــث اقتلع قيــود التقليد التــي كان فيها‬ ‫ومــزق ثياب الجهل التــي كان بها يأتزر‪ ،‬وقطع‬ ‫ْير ِســف‪ّ ،‬‬ ‫سالسل ال ُفرقة التي كان بها يتمزق‪.‬‬

‫رميا‬ ‫واالســتبداد‬ ‫ً‬ ‫اســتعبادا واإلكــراه ً‬ ‫تأليها‪ ،‬ويعتبــر َ‬ ‫الج ْبر ً‬

‫الخلــق وأفذاذ البشــر حيث أثمر عباقــرة العلوم وفطاحلة‬

‫الحكم الراشــد يتم اســتخراج المخبوء من كنوز األرض‬

‫تفرعنا‬ ‫وي ُع ُّد التفرد‬ ‫حريــة الفرد‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫خرق لســفينة المجتمــع‪َ ،‬‬

‫لإلنســان في غيابة التخلف وغياهب الســلبية‪ ..‬وفي ظل‬

‫بـ‪ -‬إخراجه في عصر الضياء لميامين الناس وعظماء‬

‫واستظهار المطمور من نفائس اإلنسان‪ .‬ويمتلك قدرات‬

‫ورواد الفقه وحكماء الفلســفة‬ ‫الفكــر وعمالقــة التصــوف َّ‬

‫هائلة على تثقيل سنابل المعروف وتغزير شالالت الخير‬

‫ودواهي السياسة ومغاوير العسكرية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الســلم وبواســل فــي الحــرب‪،‬‬ ‫لقــد كانــوا أفــذا ًذا فــي ّ‬ ‫وكانــوا فطاحلــة في القيــادة وفطناء في الجنديــة‪ ..‬ولماذا‬

‫وإقامة موازين الحق‪.‬‬

‫وعندمــا يضــرب الرشــد بعصــاه علــى القلــوب‬

‫المتحجرة‪ ،‬تنفجر فيها منابع الخير‪ ،‬وتنبجس منها عيون‬

‫ال يكونون كذلك وقد خرجوا من مشكاة الرشد القرآني‬ ‫أمتنا في عصر الراشدين انسكاب سحائب الرشد‪ ،‬فكان‬

‫مــدرارا‪ ،‬وصــارت جداولهــا مليئــة‬ ‫ال وغيثهــا‬ ‫خيرهــا زال ً‬ ‫ً‬ ‫بالخيــر الرقــراق‪ ،‬وعيونهــا طافحــة بالمعــروف المتدفــق‬

‫ال‪.‬‬ ‫فرا ًتا سلسبي ً‬

‫جـ‪ -‬امتالكه لحدائق مزدانة بالرجال‪ ،‬وبساتين مزهوة‬

‫بــكل ما يخلب العقول ويســبي القلوب ويأســر النفوس‪،‬‬

‫مــن قيــم حضارية وأخــاق بانية ونظم راقيــة ومعامالت‬

‫الوهاد‬ ‫سامية وأذواق رفيعة‪ ..‬ومن ذلك رفعه للناس من ِ‬ ‫اله ّــوات إلى‬ ‫إلــى اآلفــاق‪ ،‬ومــن الحفــر إلى القمــم‪ ،‬ومن ُ‬

‫الشــواهق‪ ..‬إذ يمتلــك منظومــة متكاملــة لتعليــم النــاس‬ ‫وتدريبهــم علــى االرتفــاع عــن األســافل والترفــع عــن‬

‫السفاسف‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫الخ ْلــق‪،‬‬ ‫د‪ -‬امتالكــه لخارطــة األمــة القائمــة علــى َ‬

‫‪46‬‬

‫الشــاهدة على الناس‪ ،‬فهي في خارطة الرشــد‪ :‬ممشــوقة‬

‫الفكــر‪ ،‬منتصبــة القلــب‪ ،‬شــامخة الــروح‪ ،‬ســامقة الفؤاد‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الــذي يــكاد يضــيء ولــو لــم تمسســه نــار‪ .‬ولقد شــهدت‬

‫المعروف ليجد كل أناس مشربهم‪.‬‬

‫ز‪ -‬امتالكــه لمنهــج التــآزر وفقــه االئتــاف‪ ..‬وألن‬

‫الحكــم الراشــد منهــج شــامل في ارتيــاد األرض وجلب‬ ‫الريادة لإلنسان‪ ،‬فإنه يربي أهله على قيم التآزر والتضافر‪،‬‬

‫ويســلحهم بأفعال‬ ‫ويحليهم بأخالق التســاعد والتســاند‪ُ ،‬‬ ‫التعاون والتضامن‪ ،‬ويمنحهم مفردات التجانس والتآنس‪،‬‬

‫وي َه ُبهم مشاعر التغافر والتحابب‪.‬‬ ‫َ‬

‫يجمــع مكونــات األمــة عامــة تحــت رايــة التآلــف‬

‫والتحالــف‪ ،‬ويمدهــم بأســباب االتســاق واالنســجام‪،‬‬ ‫ويمنحهم عوامل السالسة واالنسياب‪.‬‬

‫وفي ظل الفكر الراشــد يتربى المواطنون على توطئة‬

‫األكنــاف لبعضهــم وتعضيــد األكتاف‪ ،‬وطأطــأة الرؤوس‬

‫وإسالس القياد‪ ،‬ووضع جناح الذل إلخوانهم‪.‬‬

‫يســعدون بحبــور الطاعــة‪ ،‬ويعيشــون أفــراح الــروح‪،‬‬

‫ويتر ّفهــون فــي بحبوحــة الجماعــة‪ ،‬ويبتهجــون بمتعــة‬ ‫األخوة ورفاهية االئتالف‪.‬‬

‫لي للبناء المتكامل‬ ‫منهج أز ٌّ‬ ‫الرشد ٌ‬

‫ــرئبة اآلمــال‪ ،‬معانقــ ًة‬ ‫باســقة اإلرادة‪ ،‬شــاهقة العــزة‪ُ ،‬م ْش َّ‬ ‫لسحائب الغيث وغيوم العطاء‪.‬‬

‫أ‪ -‬الرشد منهج ال برنامج‪ ،‬وراية ال آراء‪ ،‬ولذلك سيظل‬

‫فك أعقد األلغاز‬ ‫أوضح المبهمات وكشــف الغوامــض‪َّ ،‬‬

‫للنهوض إلى نهاية اآلباد‪.‬‬

‫هـــ‪ -‬إزالتــه لإلشــكاالت وحلــه للمشــاكل‪ ،‬حيــث‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ودافعا‬ ‫قاعــدة لالنطــاق الحضــاري في مختلف اآلمــاد‪،‬‬ ‫ً‬


‫إن املجتمع الراشــد الذي ينهل من السامء وهو‬

‫إنما تدل على ضعف الفقه الرشيد لسنن اهلل وحقائق هذا‬

‫يعمــر األرض ويســتهدف فــردوس اآلخــرة وهو‬

‫الدين‪ ،‬مما يؤكد أن أزمة األمة في األساس أزمة فكرية‪.‬‬

‫س الدنيا فيستمد الهداية من النقل ويستحث‬ ‫ُيفَ ْر ِد ُ‬

‫فإن الحكم الراشــد الذي يقترب من نموذج الخالفة‬

‫العقل عىل العمل‪ ،‬يدرك أنه خليفة الله يف أرضه‬

‫الراشدة‪ ،‬هو ذروة سنام الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬وثمرة‬

‫فيكون واع ًيا بتعاليم االســتخالف حــارضًا حيث أمر‪،‬‬

‫بناء راشد يبدأ من الفرد الراشد الذي يوازن بين حاجات‬

‫غائ ًبا حيث نهى‪.‬‬

‫الروح ومتطلبات التراب‪ ،‬ثم األســرة الراشــدة التي تطير‬

‫الذكر واألنثى‪ ،‬ثم المجتمع الراشد الذي ينهل‬ ‫بجناحي َّ‬ ‫من السماء وهو يعمر األرض ويستهدف فردوس اآلخرة‬ ‫س الدنيا فيســتمد الهداية من النقل ويســتحث‬ ‫وهــو ُي َف ْر ِد ُ‬ ‫العقل على العمل‪ ،‬يدرك أنه خليفة اهلل في أرضه فيكون‬ ‫غائبا حيث‬ ‫واعيا بتعاليم االستخالف‬ ‫حاضرا حيث أمر‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫نهى‪.‬‬

‫والوصول إلى هذا المجتمع ما يزال بحاجة إلى بذل‬

‫وإن‬ ‫المزيد من الجهود الضخمة وإن كان الركب يســير‪ّ ،‬‬ ‫اشــتداد المؤامــرات الداخليــة والخارجيــة يؤكــد أن قافلة‬ ‫عرقلــة المســيرة برمي أحجار العثــرة وتفجير قنابل الفتنة‬

‫الموقوتــة التــي زرعوهــا لمثــل هــذه الظــروف‪ ،‬ويريد اهلل‬

‫أن يمحــص النفــوس وينقي الصفوف بهــذه الزلزلة حتى‬

‫ال تبقــى إال األرقــام الصحيحة التي تتحمل أعباء الحكم‬

‫الوطني الراشد‪ ،‬توطئ ًة إلعادة األمة الراشدة إلى مكانتها‬

‫المستحقة كخير أمة أخرجت للناس‪.‬‬

‫فالرشــد إذن‪ ،‬هــو منهج متكامل يبــدأ بالعقل الفردي‬

‫الراشــد وانتهــاء بالحاكــم الراشــد الــذي هــو عقــل األمــة‬

‫ومضغة المجتمع‪.‬‬

‫هــذه المقالــة هي حواشــي على متن الحكم الراشــد‪،‬‬

‫تلتزم المنهج العلمي وتتوسل باألسلوب األدبي‪ ،‬مشير ًة‬ ‫إلى إمكاناته الهائلة التي صنعت أعظم مكانة ألمتنا التي‬ ‫تبوأت مكانة الشهود الحضاري بين سائر األمم‪.‬‬ ‫وذلك العتبارات عديدة‪ ،‬وأهمها أنه‪:‬‬

‫لســم التخلــف الناقــع‪،‬‬ ‫أ‪ -‬يمتلــك الــدواء الناجــع‬ ‫ّ‬ ‫وب ْلســمة المواجع‪ ،‬ويمتلك‬ ‫ويســتطيع تضميــد الجروح َ‬ ‫أعطيــات اهلل القادرة على إحياء األموات بإكســير الحياة‪،‬‬

‫وإبراء المصابين بداء الغثائية عبر ترياق الفاعلية‪.‬‬ ‫ْ‬

‫"إمكانات" الرشد تصنع "مكانة" األمة‬

‫أمة المسلمين هي خير أمم الناس بشهادة اهلل‪ ،‬وهي أفراد‬ ‫ودول انضمــوا تحــت رايــة الحكــم اإلســامي الراشــد‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫الحكم الراشد فريضة الزمة وضرورة الزبة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األمــة تســير في االتجاه الصحيــح‪ ،‬حيث يحاول األعداء‬

‫بـ‪ -‬يمثل بيئة خصبة الستزراع أشجار "طوبى" الوارفة‬ ‫نارا محرقة ألشــجار "الزقــوم" الوافرة‬ ‫ِّ‬ ‫الظــال‪ ،‬ويمتلــك ً‬ ‫الضــال! فــإن أحكامــه تجلــب األمــن والســام؛ ألنهــا‬ ‫َّ‬ ‫حرب على الحروب و"الحرابة"‪ ،‬واســترقاق لـ"الســرقة"‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وقتــل لدوافع "القتل"‪ ،‬وقــذف بأبابيل التخويف لجريمة‬ ‫"القذف"‪ ،‬وتجفيف لمنابع "الزنا" ودوافعه‪.‬‬ ‫جـ‪ -‬يجســد حقيقة االعتصام بحبل اهلل المتين وكتابه‬ ‫مد حبال الود مع الخلق وقطع‬ ‫المبيــن‪ ،‬ويحرص علــى ِّ‬ ‫حبائــل الفتنــة والخــرق‪ ..‬فــإن مــن واجباته ربــط العالئق‬ ‫ورتــق الفتــوق ومــداواة النــدوب‪ ،‬وتشــييد الجســور بيــن‬ ‫الكيانــات‪ ،‬وحتــى بالنســبة للفرد فإن الرشــد يمثل جســر‬ ‫العبور من األثرة إلى اإليثار‪ ،‬ومن الشح إلى اإلحسان‪..‬‬ ‫ومــن هنــا يبــدأ تحول اإلنســان من فرد إلى شــخص‪ ،‬أي‬ ‫إلــى كائــن اجتماعي تتجســد فيــه كل إمكانــات االئتالف‬ ‫مع اآلخرين تحت سقف القواسم المشتركة‪.‬‬ ‫د‪ -‬يحفــظ األمــة مــن مصائــد الشــيطان ووساوســه‬ ‫وحبائلــه ونزغه ونفثه‪ ،‬حيث تصبح الدولة ســفينة النجاة‬ ‫لألفــراد‪ ،‬والشــيطان ‪-‬كمــا هــو معلــوم‪ -‬هو ذئب البشــر‪،‬‬ ‫الذئب من الغنم القاصي َة‪.‬‬ ‫وإنما يأكل‬ ‫ُ‬ ‫وببركــة الوحــدة وتحــت رايــة الدولــة ال يســتطيع‬ ‫الشــيطان االســتحواذ علــى الكبــار وال احتنــاك الذُّ ِّريــة‬ ‫ِ ِ‬ ‫س َل َك َع َل ْيهِ ْم‬ ‫الصغار‪ ،‬ألم يقل اهلل تعالى‪ :‬إ َِّن ع َبادي َل ْي َ‬ ‫ين‪(‬الحجر‪)42:‬؛ والغاوون‬ ‫ان ِإ َّ‬ ‫ُســ ْل َط ٌ‬ ‫ال َم ِن َّات َب َع َك ِم َن ا ْل َغاوِ َ‬ ‫هم عكس الراشــدين‪ ..‬فالراشــدون بمنجاة من الشــيطان‬ ‫لتحصنهم بدولتين‪ :‬الدولة اإليمانية‪ ،‬والدولة القانونية‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫"إمكانات" الحكم الراشد‬

‫وصناعة "مكانة" الشهود الحضاري لألمة‬ ‫يتعجــب كثيــرون مــن مــآالت "الربيــع"‬ ‫العربــي وكيف تكالبت عليــه المؤامرات‬ ‫حتى كادت أن تحيله إلى "شــتاء" قارس‬

‫ليس فيه إال حرارة التفرق واالحتراب‪.‬‬

‫ويشعر كثيرون باإلحباط‪ ،‬ألنهم اعتقدوا بأن الخالفة‬

‫ســتعم األرض قد حان‬ ‫بشــر النبي ‪ ‬بأنها‬ ‫الراشــدة التي َّ‬ ‫ّ‬

‫أوانها و َأزِ َف زما ُنها‪ ،‬ولذلك هالتهم التراجعات الحادثة‪.‬‬

‫وبــرزت اآلمــال الكبيرة بخالفة راشــدة معتقدين أنها‬

‫كانت قاب قوســين أو أدنى من التحقق‪ ،‬وشــعر بعضهم‬ ‫باإلحباط الشديد نتيجة انقسام "الثوار" وتصاعد "الثورات‬

‫المضــادة" واشــتداد المؤامرات الخارجيــة‪ .‬ويبدو أن كل‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫تلك المشــاعر الطيبة ‪-‬مع احترامي الشــديد ألصحابها‪-‬‬

‫‪44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المعنــى والمــآل‪ ،‬وإننــا لألســف مســتمرون "فــي ابتــكار‬

‫في أم ٍة ما بمدى وضوح هذا الســؤال‪ ،‬وبمدى االشــتغال‬

‫نشــأت أجيــال عديــدة بــا مســتند َو َفلك وعرفــان وفكر‪،‬‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ربــان‪ ،‬في ظل األهــواء والرغبات‬ ‫وبدهــي بــا م ْقــود وال َّ‬ ‫وخيــاالت األحــام‪ ...‬فاقــد ًة مالحظاتهــا الميتافيزيقيــة‪،‬‬

‫المتوخاة من‬ ‫الملحــة‪ ،‬وبالغاية‬ ‫النظــام التربوي لمتطلباته‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬

‫معضــات عبثيــة مــن العدم والفراغ‪ ...‬ولكــن إبان ذلك‪،‬‬

‫به‪ ،‬وبحقيقة األجوبة التي تحوم حوله‪ ،‬وبمدى اســتجابة‬ ‫الفعال‪.‬‬ ‫كل سياسة حيال هذا السؤال الديناميكي َّ‬

‫يحــرك فينــا هــذه الطاقــة‬ ‫وصــدق اهلل العظيــم‪ ،‬وهــو‬ ‫ِّ‬

‫مرا في‬ ‫غائب ًة عن صورتها وشخصيتها "الذاتية"‪ ،‬هائم ًة ُع ً‬

‫صريحا‪ ،‬بقوله في‬ ‫واضحا‪،‬‬ ‫ملحــا‪،‬‬ ‫أمرا ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الكامنــة‪ ،‬ويأمرنــا ً‬ ‫ات َب ْي ِن ُك ْم َو َأ ِط ُيعوا‬ ‫محكم تنزيله‪َ  :‬ف َّات ُقوا ا َ‬ ‫هلل َو َأ ْص ِل ُحوا َذ َ‬ ‫ين‪(‬األنفال‪.)1:‬‬ ‫ا َ‬ ‫هلل َو َر ُسو َل ُه إ ِْن ُك ْن ُت ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬

‫جوابــا عن ســؤال‪" :‬من أنا؟" في األســمال‬ ‫وهــم أن تجــد‬ ‫ً‬

‫التــي اســتجدتها مــن ســبع عوالــم‪ ،‬فبقيــت مضطربــة في‬ ‫مــد المــادة وجزرِ ها‪ ،‬وعاشــت بال لســان وال قلب‪،‬‬ ‫أســر ِّ‬ ‫وخلطــت أحيا ًنا الدين باألســاطير‪ ،‬وفــدت األخالقية في‬ ‫الفن بلون‬ ‫مراســيم الترحيب باإلباحية‪ ،‬وصبغت ت َل ِّقيات ِّ‬

‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫وحولت الشــعر والموســيقى إلى رضاب يسيل‬ ‫الشــهوة‪،‬‬ ‫َّ‬

‫(‪ )1‬جمعــت مــادة كبيــرة مــن مصــادر األســتاذ‪ ،‬تعالــج "المصطلحــات‬

‫مــن فــم البــذاءة‪ ...‬ثم وجدت نفســها في وســط الســاحة‬

‫والمفاهيــم" الحضاريــة‪ ،‬وطبــع بعنــوان‪" :‬الزمــن والوقــت‪ :‬النصــوص‬

‫نوعا من هذه األغالط‪.‬‬ ‫القاتلة التي يتصارع فيها خمسون ً‬

‫والمفاهيم المؤسسة للرؤية الكونية لفكر األستاذ فتح اهلل كولن"‪.‬‬

‫(‪ )2‬طــرق اإلرشــاد فــي الفكــر والحيــاة؛ ص‪ .5‬وينبغي في نفس الســياق‬

‫وبدهي أال تكون النتيجة إال كهذه"(‪.)11‬‬

‫التذمر والتشاؤم والوصف والحيرة‪ ،‬ليس من طبيعة‬ ‫عتبة‬ ‫ُّ‬

‫األســتاذ‪ ،‬وال يالئــم "نماذجــه اإلدراكية والتفســيرية"(‪)12‬؛‬ ‫فهــو فــي أســوء األحــوال متفائــل‪ ،‬واثــق فــي اهلل‪ ،‬متح ِّفــز‬

‫متو ِّفــز‪ ،‬وهــو فــي أحســنها‪ِ ،‬‬ ‫حــذر‪ ،‬خائف من اهلل‪ ،‬ســائل‬ ‫عــن حقيقــة النصر والفوز‪ ،‬هل هــو لالبتالء أم هو جائزة‬

‫من اهلل سبحانه‪.‬‬

‫بناء على هذا التوازن في الفكر والفعل‪ ،‬بين التفاؤل‬

‫اســتدراكا‬ ‫المفــرط والتشــاؤم المقنــط‪ ،‬نقــرأ لألســتاذ‬ ‫ً‬

‫أن نفخ الحياة في هذه‬ ‫معقــو ً‬ ‫ال‪ ،‬ممــا جاء فيه‪" :‬والواقــع َّ‬

‫غريبا‬ ‫الجنازة الحية عســير؛ َّ‬ ‫ألن مثل هذا الجيل قد صار ً‬ ‫عن حياة من نوع حياتنا‪ ،‬ومخال ًفا لقيمه الذاتية‪ .‬ومع كل‬

‫ومن ثم كان السؤال عن "ذاتنا الحضارية" بذر ًة لكل‬ ‫خــط الزمن وعلى ســفوح المكان‪.‬‬ ‫حركيــة إيجابيــة علــى ِّ‬

‫بتــدأ الســقوط‬ ‫وأمــا اإلغفــال عنــه فهــو الحالقــة‪ ،‬وهــو ُم َ‬ ‫َّ‬

‫واالنحسار‪ ..‬ولقد ُيقاس منسوب "الحضارة أو التخلف"‬

‫(‪ )3‬يقــول علي شــريعتي فــي كتابه المعنون بـ"العــودة إلى الذات"‪" :‬على‬

‫منا نحن المفكرين عندما نقول‪" :‬فلنعد إلى ذواتنا" وكلنا مشتركون‬ ‫ٍّ‬ ‫كل َّ‬

‫أي‬ ‫فــي هــذا‪ ،‬علــى كل واحــد ّ‬ ‫منــا أن يطــرح أمــام نفســه هــذا الســؤال‪َّ :‬‬ ‫ذات؟"‪ ،‬نسخة مكتبة اإلسكندرية‪ ،‬ص‪.93:‬‬

‫(‪ )4‬ونحن نبني حضارتنا‪ ،‬دار النيل‪ ،‬القاهرة ‪ ،2013‬ص‪.11:‬‬ ‫(‪ )5‬ونحن نقيم صرح الروح؛ دار النيل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.58:‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫ونحن نبني حضارتنا‪ ،‬دار النيل‪ ،‬القاهرة ‪ ،2013‬ص‪.189:‬‬

‫(‪ )7‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫(‪ )8‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.66-65:‬‬

‫(‪ )9‬قــال إســماعيل فــي "تفســير روح البيــان" وهــو يشــرح قولــه تعالــى‪:‬‬

‫هلل َو َأ ْص ِل ُحــوا َذ َ ِ‬ ‫"ذات‬ ‫‪َ ‬ف َّات ُقــوا ا َ‬ ‫ــم‪ ‬مــن أوائــل ســورة األنفــال‪ُ :‬‬ ‫ات َب ْينكُ ْ‬ ‫أن ذات الصدور هي‬ ‫البيــن هــي األحــوال التــي تقــع بيــن النــاس‪ ،‬كمــا َّ‬ ‫مالبسا له‪ ،‬قيل‬ ‫المضمرات الكائنة فيها‪ ...‬ولما كان ما حل في الشيء‬ ‫ً‬

‫إنه صاحب مح ّله وذوه"‪.‬‬ ‫(‪)10‬‬

‫اآلخــر وعالقته‬ ‫للمفكــر طــارق رمضــان‪ ،‬كتــاب عالــج فيــه مفهــوم َ‬

‫بالـ"أنــا"‪ ،‬وهــو باللغة الفرنســية بعنوان "اآلخر في النحن‪ :‬ألجل فلســفة‬ ‫للتعددية" (‪.)L'autre en nous. Pour une philosophie du pluralisme‬‬

‫(‪ )11‬ونحــن نقيــم صــرح الــروح؛ ص‪139‬؛ مقــال بعنــوان‪" :‬ونحن نولي‬ ‫وجوهنا شطر أنفسنا"‪.‬‬

‫(‪ )12‬انظــر المصطلــح عنــد عبــد الوهــاب المســيري‪ ،‬موســوعة اليهــود‬ ‫واليهودية‪ ،‬الجزء األول‪.‬‬

‫(‪ )13‬ونحن نقيم صرح الروح‪ ،‬ص‪.140:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫فإن واجب النهوض به ملقى على عواتقنا‪ .‬ونحن‬ ‫ما فيه‪َّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫نؤمــن بأنــه ســينتفض على قدميه كســامع نفخــة الصور‪،‬‬ ‫"إقبــال وجــو ِده" كرة أخــرى‪ ،‬عندما‬ ‫علنــا‬ ‫َ‬ ‫ويهتــف ب ٍّ‬ ‫ِجــد ُم ً‬ ‫َّ‬ ‫تحيي المشيئة اإللهية إرادتنا"(‪.)13‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أن الوقــوف علــى‬ ‫والمتمــرس لفكــر فتــح اهلل َّ‬ ‫يتأكــد َّ‬ ‫ِّ‬

‫معالجة مفهوم "تأشيرة الوجدان"‪ ،‬دار النيل‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫آم ُنوا‬ ‫‪‬و َع َد ا ُ‬ ‫هلل ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫حســب وعــد اهلل تعالى الصــادق‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ات َليس َــت ْخ ِل َف َّن ُهم ِفي ا َ‬ ‫ض َك َما‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــم َو َع ِم ُلــوا َّ‬ ‫ْ‬ ‫م ْن ُك ْ‬ ‫َْ‬ ‫يــن ِم ْ ِ‬ ‫ــن َل ُه ِ‬ ‫ــم ا َّل ِذي‬ ‫اس َــت ْخ َل َ‬ ‫ف ا َّل ِذ َ‬ ‫ــم َو َل ُي َم ِّك َن َّ‬ ‫ْ‬ ‫ــم د َين ُه ُ‬ ‫ْ‬ ‫ــن َق ْبلهِ ْ‬ ‫ْار َت َضى َل ُه ْم‪(‬النور‪.)55:‬‬ ‫والســنة" يقول‬ ‫وفــي كتــاب "القــدر في ضــوء الكتاب‬ ‫َّ‬

‫الفــرد أم المجمــوع‪ .‬وهــو يــرى أن األســباب الخارجيــة‬

‫مــا هــي إال "مؤثــرات ثانويــة" ال تعمــل وال تؤثــر إال إذا‬ ‫"األســباب الداخليــة الذاتيــة" ضعيفــ ًة مهــزوزة‬ ‫َوجــدت‬ ‫َ‬

‫قابلة للتأثر‪ .‬وهو في ذلك ينحو منحى مالك بن نبي في‬

‫يصرح بذلك في كتاب‬ ‫مفهــوم "القابلية لالســتعمار"‪ ،‬بل ِّ‬

‫شــرحا لهــذه اآلي الحكيــم‪ ،‬وبيا ًنــا لهــذا الوعــد‬ ‫األســتاذ‬ ‫ً‬ ‫المتيــن‪" :‬إن اهلل ُس ْــب َحانه ِيعــد الذيــن آمنــوا وعملــوا‬ ‫الصالحــات‪ ،‬وإن هــذا وعد اهلل‪ ،‬ووعده صادق بال ريب‪،‬‬

‫"ونحــن نبنــي حضارتنــا" فيقــول‪" :‬ولكــن جمــوع البشــر‬

‫لــم َت ُعــد َتقبــل أن تقع ‪-‬كــرة أخرى‪ -‬في موقــع "القابلية‬ ‫َّ‬ ‫لالســتعمار" بعدما بــدأت ُتدرِ ك ذا َتها بذاتهــا وبمقوماتها‬

‫ألنــه محــال أن ُيخلــف وعــده‪ ،‬وهــو القادر علــى أن يفي‬

‫الداخلية الذاتية"(‪.)4‬‬

‫وحيــن اســتعراض "أهم مميزات الحركية اإلســامية‬

‫بــه‪ ،‬فهــو الحاكــم على كل شــيء‪ .‬وال شــك أنه ســيحقق‬

‫ذاتنا‪ ،‬وأن نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته‪ ،‬ثم نجد‬

‫وعملــوا الصالحــات فــي األرض‪ .‬وعندهــا ســتكون دفــة‬

‫مجرانــا الخاص ضمن مجريات عموم الكائنات‪ ،‬ويعني‬ ‫الخــاص إذ نتكامــل مــع الكائنــات‬ ‫خطنــا‬ ‫الحفــاظ علــى ِّ‬ ‫ِّ‬

‫نظام جديد"(‪.)8‬‬

‫وجودنا‬ ‫والفكــر اإلســامي" يشــترط األســتاذ "أن يكــون‬ ‫ُ‬

‫مــا وعــده مــن االســتخالف‪ ،‬وسيســتخلف الذيــن آمنــوا‬

‫مجــرى حركــة لنــا في عمــوم الوجــود‪ ،‬ونســيل بذاتنا في‬

‫أن "الواجب علينا ‪-‬نحن المسلمين‪-‬‬ ‫ومن ثم‬ ‫فالمقرر َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن َنعــود إلــى أنفســنا وقيمنــا‪ ،‬ونعــزم علــى البقــاء بذاتنا‪،‬‬ ‫ونتغذى من مصادرنا بأقصى قدراتنا"‪.‬‬

‫ولكن السؤال هو‪" :‬ما هي مصادرنا إذن؟"‬

‫(‪)6‬‬

‫ال يملــك الواصــف لواقــع المســلمين البارحــ َة واليــوم‪،‬‬

‫يجــرد عشــرات األســئلة حــول "الــذات واآلخــر"‪،‬‬ ‫إال أن‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫"ذات بيننا"(‪ ،)9‬ثم يستتبع‬ ‫وعن العالقة فيما بيننا‪ ،‬أي عن‬ ‫(‪)10‬‬ ‫ومنهجــا وتطبي ًقا‬ ‫مفهوما‬ ‫"اآلخــر"‬ ‫هــذا الســؤال تعيين‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أن "مصدر الدين اإلسالمي‬ ‫يأتي الجواب من األستاذ َّ‬

‫طبعا‪ ،‬أن نستغني عن االستفادة ما استطعنا من‬ ‫يعني هذا ً‬

‫وعمــاً‪ ،‬فغمرنا بهــذا الوابل من األســئلة العميقة‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫" ِمــن أيــن نفذ فينــا الحقد والبغض والعــداء والبرم ما دام‬

‫ال يهمل قيمه‬ ‫"يلزم‬ ‫المصادر األخرى‪ ،‬ومن ثم‬ ‫المسلم أ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫البتة‪ ،‬وأن يحاول االستفادة من المصادر األجنبية‬ ‫الذاتية َّ‬

‫بشرط استئذان ال ُّن ُظم والقواعد األساسية الذاتية‪ ،‬وتنقيتها‬ ‫بالترشيح في تلك المصافي"(‪.)7‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫واآلخر‬ ‫َمن أنا؟ سؤال عن الذات َ‬

‫تعجــب‬ ‫بمختلــف مســتوياته وأشــكاله وأنواعــه؛ ولــذا َّ‬

‫ومنبعه هو القرآن والسنة‪ ،‬فهو فائض من صدرهما"‪ ،‬وال‬

‫‪42‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ك ِّلها"(‪.)5‬‬

‫الحيــاة االجتماعيــة بأيديكــم‪ ،‬وتنتظم الحيــاة االقتصادية‬ ‫بتنظيمكــم أنتــم‪ ،‬وســتدخل التربيــة الفردية وا ُ‬ ‫ألســرية في‬

‫فكرا‬ ‫ال‬ ‫يشــرح جســم األمة داخ ً‬ ‫ً‬ ‫وخارجا‪ً ،‬‬ ‫األســتاذ‪ ،‬وهو ِّ‬

‫بريئــا مــن هــذه األمــراض؟ لمــاذا يبغــض بعضنا‬ ‫تاريخنــا ً‬

‫بعضــا‪ ،‬وننصب الفخاخ لبعضنا‪ ،‬ونفترس بعضنا افتراس‬ ‫ً‬

‫الذئــب؟ بــل لمــاذا نحرم الحيــاة بعضنا علــى بعض؟ مع‬

‫والعب‬ ‫وفي سبيل تحقيق هذه الذات‪ ،‬والعودة إليها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بمقوماتها‪ ،‬واالســتظالل تحت‬ ‫مــن مصادرهــا‪،‬‬ ‫والتقــوي ِّ‬ ‫ِّ‬

‫وأخيرا لليابان؟ أم أننا مصابون بمرض‬ ‫وإنكلترا وأمريكا‪،‬‬ ‫ً‬

‫أمامنــا إشــكاالت أكيــدة‪ ،‬وال نملــك إال البحث عن مثل‬

‫وإال‪ ،‬لمــاذا نقــول بلســان الحال‪ :‬ال خيــر فينا! فنلجأ‬

‫ملحــة‪ ،‬وتقــف‬ ‫كنفهــا‪ ...‬فــي ســبيل ذلــك‪ ،‬تو َلــد أســئلة َّ‬ ‫هــذه األســئلة فــي فكر األســتاذ فتح اهلل‪ ،‬ســائلين المولى‬

‫فهــم وعلــم‪ ،‬وســبب حركيــة‬ ‫الجليــل أن يجعلهــا فاتحــة ٍ‬ ‫واجتهاد‪ ،‬ينتهيان بالتمكين لألمة في مختلف مستوياتها‪،‬‬

‫ويكتمــان بالنصــرة واالســتخالف لإليمــان والمؤمنين‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وحبا عمي ًقا لفرنســا وألمانيا‬ ‫نكــن‬ ‫أننــا منــذ قرنين ّ‬ ‫ً‬ ‫إعجابا ًّ‬ ‫في "الشخصية"؟‬

‫إلــى األرواح األجنبيــة! نطرح القيم التاريخية أللف ســنة‬ ‫في ال ِقمة كطرح ا ُلقمامة ضحية لألحالم والتخيالت؟"‪.‬‬ ‫ونتيجــة لتهويماتنــا وأوهامنا كانــت الثمرة نتنة‪ ،‬وكان‬

‫نكدا‪ ،‬وكان الجيل على شفا جرف هار من هاوية‬ ‫الواقع ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫ليكن صدرك عمي ًقا كالبحر‪ ،‬واس ًعا كالفضاء‪ ،‬مفع ًما اإليمان‪ ،‬متر ًعا بمحبة اإلنسان‪..‬‬ ‫بيدك الحانية امسح قلوب الحزانى‪ ،‬وكن بلس ًما وعزا ًءا لجراحات النفوس‪ ،‬وأوجاع‬ ‫األرواح‪.‬‬

‫املوازين‬

‫سؤال عن ذاتنا الحضارية‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫فــي التعبيــر عــن "الــذات الحضاريــة‬ ‫يصــرف األســتاذ فتــح اهلل كولــن‬ ‫لألمــة"‬ ‫ِّ‬ ‫المصطلحــات والمفاهيــم(‪ ،)1‬والمعانــي‬ ‫متوخيا‬ ‫والدالالت حســب الســياق مع اعتبار المناســبة‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ِ‬ ‫مخاط ًبــا قلــب المســتمع‬ ‫فــي ذلــك الوضــوح والصــدق‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وحواســه ومداركه‪،‬‬ ‫جنبــا إلــى جنب مع عقلــه‬ ‫ّ‬ ‫والقــارئ ً‬ ‫الحضاري" هو الغاية المنشودة‪،‬‬ ‫أن "العمل أو الفعل‬ ‫ذلك َّ‬ ‫َّ‬ ‫وهو المقصد المرغوب‪.‬‬ ‫مدرســية‬ ‫تخصصيــة‬ ‫ولــذا ال نقــرأ مقــاالت تحليليــة‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫فيمــا نقــرأ مــن كتابات األســتاذ فتح اهلل؛ ذلــك أنه يصدر‬ ‫أن الــكالم الــذي ال يصــدر مــن‬ ‫مــن معنــى‬ ‫كلــي‪ ،‬وهــو َّ‬ ‫ّ‬ ‫القلــب مــع االحتــراق هو مجــرد لغو‪ ،‬وفي ذلــك يقول‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫عذابا‪ ،‬والذهن‬ ‫والــروح‬ ‫ا‪،‬‬ ‫"عندمــا ال يحترق القلب شــو ًق‬ ‫ً‬ ‫أحــدا يصغي إليك‪...‬‬ ‫ال فلن تجد‬ ‫همــا‪ ،‬فــا تتك َّلــم‪ ...‬وإ ّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫وعندمــا تصــاب الــروح بالفتور‪ ،‬وتنخفــض درجة حرارة‬ ‫روحيا‪ ،‬فعليك‬ ‫متوعك‬ ‫أوار الفكر‪ ،‬فأنت‬ ‫ِّ‬ ‫القلب‪ ،‬ويخبو ُ‬ ‫ًّ‬ ‫كل كالم ميــت‬ ‫أن تصمــت؛ ألن الصمــت هنــا أبلــغ مــن ّ‬ ‫تقوله"(‪.)2‬‬ ‫نســجل‬ ‫ومــن األلفــاظ التــي تــدل علــى هذه الــذات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫للتمثيــل ما يلي‪ :‬أنفســنا‪ ،‬وقيمنا الذاتيــة‪ ،‬والفلك الذاتي‪،‬‬ ‫وعالمنــا‪ ،‬وعالمنا الذاتي‪ ،‬وعندنا‪ ،‬وتاريخنا‪ ،‬وحضارتنا‪،‬‬ ‫ووجودنــا‪ ،‬وذاتيتنــا الخاصة‪ ،‬وكينونتنــا الذاتية‪ ،‬ونحن‪...‬‬ ‫مضم ًنا‬ ‫ومــن هــذه المصطلحات ما ورد عنوا ًنا لمقال‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫ضمــن عنــوان لكتاب‪ ،‬مثال ذلــك‪" :‬ونحن نولي وجوهنا‬ ‫شــطر أنفســنا"‪ ،‬و"نحــو عالمنا الذاتــي"‪ ،‬و"نحــو عالمنا"‪،‬‬ ‫"ونحن نبني حضارتنا"‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫معيارا‬ ‫واألســتاذ فتح اهلل يتخذ "الــذات الحضارية"‬ ‫ً‬ ‫لــكل حضــارة أو تخلُّــف‪ ،‬ســواء فــي ذلك على مســتوى‬

‫‪41‬‬


‫‪ -‬اســتغفر ربك يا شــيخ‪ ،‬لو أصبت بهذا المرض ما‬

‫نفعك وال مئات الماليين‪.‬‬

‫‪ -‬آه لو قبل أن أموت أملك مليون‪.‬‬

‫وانفعلت الزوجة‪ ،‬وقامت تستغفر اهلل من شر ما نطق‬

‫دوى صوت القضاء والقدر من ضمير الغيب‬ ‫به‪ ..‬وكأنما ّ‬ ‫ُ‬ ‫غاليا‪ ،‬وستكتشــف أن‬ ‫أن أجيب طلبك‪ ،‬وســتدفع الثمن ً‬ ‫كل نعمــة مــن نعــم اهلل عليــك أعظــم مــن أمــوال األرض‬ ‫كلهــا‪ ،‬وســتعلم هــذا بعد فــوات األوان‪ ،‬ووجــدت أمنيته‬

‫مفتوحا فاســ ُتجيب له‪ ..‬في ســاعة ال‬ ‫بابــا إلــى اهلل‬ ‫ً‬ ‫الســيئة ً‬ ‫يرد فيها سؤال سائل‪.‬‬

‫ومــا هــي إال ســنوات‪ ،‬ســنوات معــدودة‪ ،‬إال وكانت‬

‫الحــال قــد تغيــرت بــه‪ ،‬وبعــد نشــاط ودأب فــي التجــارة‬ ‫والعمــل‪ ،‬فتــح عينيه ذات يوم على مليون ريال في يده‪..‬‬

‫أملــه الــذي طالما تمنــاه‪ ،‬والذي ظل يحلم بــه في اليقظة‬

‫ونهــارا حتــى أمكنــه‬ ‫ا‬ ‫والمنــام‪ ..‬حلمــه الــذي ســعى ليــ ً‬ ‫ً‬ ‫كانت الفرحة قد أنسته الجزء اآلخر من األمنية‪ ..‬وما‬

‫نســيا‪ ..‬وفــي ذات يــوم كان الطبيــب يتحســس‬ ‫كان ربــك ًّ‬

‫جســده‪ ..‬كشــف ُروتِينــي دوري تطلبــه منــه المؤسســة‬ ‫التــي مــا زال يعمــل فيها‪ .‬كان الكشــف الــدوري في غاية‬ ‫الســهولة‪ ،‬حتى إن الطبيب ســرعان ما يوقع تحت عبارة‬

‫"الئق صحي"‪.‬‬

‫ركز نظره عليه‪،‬‬ ‫فــي هذه المرة شــيء ما أثار انتباهــه‪ّ ،‬‬

‫ارتعــش وهــو يضــع يــده علــى ذلك الجــزء المتــورم من‬

‫صدر مريضه‪ ..‬كان لديه إحساس أنه هو‪ ..‬هو‪ ..‬بشحمه‬

‫ولحمه‪ ..‬الورم الخبيث‪ ..‬ولكن لم يكن من حقه أن يقول‬ ‫شي ًئا‪ ،‬فلعل األمر ال يكون كما توقع‪ ،‬ثم إن الحكم بهذا‬

‫المــرض يحتــاج إلــى تحليــات أكثــر‪ ،‬واستشــاري أعلى‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫منــه‪ ،‬وحتــى لــو كان كما توقع فال يجوز أن يبث الرعب‬

‫‪40‬‬

‫في قلب مريضه‪.‬‬

‫ال مــن أن يختــم‬ ‫أخــذ الفحــص بعــض الوقــت‪ ..‬وبــد ً‬

‫صحيا" وجــده قد كتب‬ ‫الطبيــب بالختــم التقليــدي "الئق‬ ‫ًّ‬

‫ُ"يحــال إلــى استشــاري إلجــراء مزيــد مــن الفحوصات"‪،‬‬ ‫ال يدخــل فــي حديــث مــع مريضــه‪ ،‬خشــية أن‬ ‫وحــاول أ ّ‬ ‫يبوح له بما في خاطره‪ ،‬ولذا فناول الورقة وهو يقول‪:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحصول عليه‪.‬‬

‫لــو ســمحت‪ ..‬ادع المريــض الــذي بعدك بســرعة‪..‬‬‫أنــا مضطــر إلى أن أنهي حاالت اليوم بســرعة ألن عندي‬ ‫مهما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫موعدا ًّ‬ ‫وخرج ويده تحمل اإلحالة الطبية‪ ،‬واألخرى تتســلل‬ ‫بين ثوبه ومالبسه الداخلية يتحسس بها ذلك الموضع‪..‬‬ ‫هل يستحق األمر كل هذا االهتمام من الطبيب؟‬ ‫ومن فوره ذهب إلى الطبيب االستشاري‪ ،‬وهو يغالط‬ ‫نفســه فــي أنــه البــد من إنهــاء اإلجــراءات الصحيــة‪ ،‬وأنه‬ ‫ســينهيها هــذا اليــوم حتــى ال يتأخر عن أعماله ومشــاغله‬ ‫ومواعيده‪.‬‬ ‫وحيــن ذهب إلى الطبيب االختصاصي‪ ،‬وجده يأخذ‬ ‫األمر مأخذ الجد‪ ،‬ويبالغ في فحص الموضع‪ ،‬ثم يتصل‬ ‫بزميــل لــه‪ ،‬فإذا بهما يتكلمــان بمصطلحاتهما الطبية التي‬ ‫ال يعرف منها شي ًئا‪ ،‬ولكن إحساسه الداخلي بدأ يقول له‬ ‫كل شيء‪ ..‬قطع خياالته صوت الطبيب يقول له‪:‬‬ ‫ ســتبقى عندنا حتى الســاعة الخامسة إلجراء بعض‬‫وغــدا تأتــي لنكمــل لــك‬ ‫الفحوصــات الضروريــة اليــوم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الباقــي من األشــعة والتصويــر والتحليــل‪ ..‬ولكي يطمئنه‬ ‫قال له مهد ًئا‪:‬‬ ‫ فحوصــات ضروريــة‪ ،‬وإجــراء احتياطــي ال أكثــر‪.‬‬‫ومضــى أكثــر مــن شــهر فــإذا بــه يشــعر بــآالم مبرحــة في‬ ‫ذلــك الموضــع مــن بدنــه‪ ،‬وكأن ســكي ًنا حــادة تقطــع‬ ‫جســمه فيبكي‪ ..‬ويبكي‪ ..‬المرض يمنعه الراحة والنوم‪..‬‬ ‫وتســاقط شــعر وجهه من الــدواء الكيمــاوي الذي يأخذه‬ ‫في عالجه‪ ،‬وأصبح أحد المراجعين الدائمين للمستشفى‬ ‫التخصصي بالرياض‪.‬‬ ‫وكان ينــزل مــن قســم األورام فــي الطابــق الرابع من‬ ‫المستشــفى التخصصــي بالريــاض يتحســس بيــده اليمنى‬ ‫موضــع األلم فــي صدره‪ ،‬وبنفس تلك اليد يســتطيع أن‬ ‫يوقع على شيك بمليون ريال‪ ،‬ومع أن دعوته بالحصول‬ ‫علــى المليــون قــد تحققــت‪ ،‬إال أنــه كان في داخل نفســه‬ ‫يعيــش أشــد حــاالت النــدم‪ ..‬ودمعــت عيناه وهــو يتذكر‬ ‫العافيــة التــي كان فيهــا‪ ،‬وأنه ال يعادلها شــيء‪ ،‬ال يعادلها‬ ‫شيء وال كل الماليين التي على هذه األرض‪.‬‬

‫(*) عضو رابطة األدب اإلسالمي العالمية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬


‫رغما عنك‪.‬‬ ‫‪ -‬ها أنت تعترفين ً‬

‫كلماتــه مطمئنــة‪ ..‬وهــي تعــرف أنه ال يكــذب‪ ،‬لكنها‬

‫‪ -‬بأن المال هو الدنيا‪.‬‬

‫وذات يــوم كانــا يشــاهدان برامج التلفزيــون‪ ،‬وكانت‬

‫تشعر أنها البد أن تنبهه قبل فوات اآلوان‪.‬‬

‫‪ -‬بماذا؟‬

‫‪ -‬لكنني مع ذلك أدعو ّأل يكون أكبر همي‪.‬‬

‫الفقــرات الدعائيــة تعــرض مــواد اســتهالكية كعادتهــا‪،‬‬

‫‪ -‬ومــا رأيــك إذن بقولــه ‪" :‬نعــم المــال الصالــح‬

‫وتقدمها بأسلوب مثير كأنه سوط يلهب الظهور للمبادرة‬

‫سكت برهة ثم أضاف‪..‬‬

‫الدعاية‪.‬‬

‫للرجل الصالح"‪.‬‬

‫فورا إلى الشراء‪ ،‬ألن الفرصة الذهبية ستفوت كما تقول‬ ‫ً‬

‫‪ -‬أنا رجل صالح إن شاء اهلل‪ ،‬وأريده ألشياء صالحة‪.‬‬

‫كانــا يتابعــان الدعايــات الجديــدة‪ ،‬ثــم ينصرفــان عند‬

‫‪ -‬أعــوذ بــاهلل من الشــيطان الرجيم‪ ،‬وليــس من المال‬

‫وظهــرت دعاية مــن الدعايات تعلن عن جوائز ّقيمة؛‬

‫‪ -‬عندك كل خير‪ ،‬ولكنك ال تشبع‪ ..‬أعوذ باهلل‪.‬‬

‫تكرار دعاية من الدعايات القديمة‪.‬‬

‫الصالح‪.‬‬

‫ونقدا‪..‬‬ ‫األولــى منهــا مليون ريال‪ ..‬نعم مليــون ريال ًّ‬ ‫عدا ً‬

‫‪ -‬أعوذ باهلل من نفس ال تشبع‪.‬‬

‫ولكــي تكــون اإلثارة أكثر‪ ،‬انهمرت في شاشــة التلفزيون‬

‫مثــل هــذا الحــوار أمــر عــادي متكــرر فــي أكثــر أيــام‬

‫آاللــف األوراق النقديــة‪ ،‬ثم تراصت بشــكل بياني بديع‬

‫درجــة اليقيــن أن زوجهــا مفتــون ح ًّقــا بالمال إلــى درجة‬

‫وفتح فمه من الدهشــة وهو يرى هذا المشــهد الذي‬

‫األســبوع بينــه وبيــن زوجتــه‪ ..‬وارتفــع بعدهــا الظــن إلى‬

‫ســببا ألن يحصل‬ ‫مــا يقــول‪ ،‬فتخــاف أن يكــون جنونــه به ً‬ ‫عليه من طرق محرمة‪ .‬وكم أنهت حديثها معه بأن يعصم‬

‫حتما‬ ‫نفســه عــن الشــراهة المتناهية للمــال التي ستســوقه ً‬ ‫محرمــا‪ ،‬كانت‬ ‫إلــى أن يكتســبه بــأي طريــق حتى لــو كان‬ ‫ً‬

‫تقول‪:‬‬

‫‪ -‬يــا شــيخ‪ ..‬اهلل اهلل فيمــا تحضــره لنــا‪ ..‬ال تكــن‬

‫ســببا أن تغمض‬ ‫هواجســك التي تعلنها بصوت مســموع ً‬ ‫عينيــك وتأتــي بالمال الحــرام‪ ..‬المال الحــرام ال نريده‪..‬‬

‫أبــدا‪ ..‬ربــي أغنانــا عنــه‪ ،‬نتحمــل كل نقــص في‬ ‫ال نريــده ً‬ ‫المعيشــة أو اللباس‪ ،‬ولكن ال نتحمل أن تنبت أجســامنا‬

‫مــن مال حــرام‪ ..‬قادرين أن نصبر على الجوع‪ ،‬ولكننا ال‬ ‫نستطيع الصبر على النار‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المــرض‪ ..‬كانــت تضع يدها علــى صدرها كلما تذكرت‬

‫لترسم العدد مليون‪.‬‬

‫ال وعظمة وروعة‪.‬‬ ‫ال وجال ً‬ ‫يعده أعظم مشاهد الدنيا جما ً‬ ‫شعوريا‪:‬‬ ‫صرخ ال‬ ‫ًّ‬

‫‪ -‬يا ليت أكون صاحب المليون‪.‬‬

‫قالت له‪:‬‬

‫‪ -‬اهــدأ قليــاً‪ ..‬تــرى كلها دعايــات‪ ..‬أنت متحمس‪،‬‬

‫كأنك تشاهد حلقة من حلقات المصارعة الحرة‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫‪ -‬مليون ريال يا بنت الناس‪ ،‬هل ترين ما أرى؟‬

‫وهم‪ ..‬وحتى لو صار حقيقة فال‬ ‫‪ -‬نعــم أرى‪ ،‬ولكنــه ٌ‬

‫يستحق هذا االنفعال‪.‬‬

‫‪ -‬ما يستحق؟ كيف ال يستحق!؟‬

‫واســتفزه برودهــا وعــدم تأثرهــا‪ ..‬فــإذا به يفتــح يديه‬

‫بالدعاء‪:‬‬

‫أبــدا تأكــدي أن كل قــرش أتيــت به إلــى هذا البيت‬ ‫‪ً -‬‬

‫‪ -‬ما معنى ما تقول؟‬

‫ويطمئنها‪:‬‬

‫بعد ذلك ما يكون‪.‬‬

‫ال بعــرق جبينــي‪ ..‬تأكــدي أن الــكالم شــيء‬ ‫كان حــا ً‬

‫‪ -‬وليكن معها أي شــيء؛ وجع‪ ..‬ألم‪ ..‬أي مشــكلة‪،‬‬

‫إلى من يخبرني عن ضرر المال الحرام‪ ..‬أنا أعرف ذلك‬

‫‪ -‬مرض السرطان؟!‬

‫تماما‪ ..‬لســت بحاجة‬ ‫والواقــع شــيء مختلف‪ ،‬مختلــف ً‬ ‫وال أريد من يعرفني به‪.‬‬

‫حتى ولو مرض السرطان‪.‬‬ ‫‪ -‬نعم‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫وكانــت تجهــش بالبــكاء فــي نهاية كالمهــا‪ ،‬فيرق لها‬

‫‪ -‬يــا رب‪ ..‬ترزقنــي مليون ريــال‪ ،‬مليون ريال وليكن‬

‫‪39‬‬


‫قصة‬

‫د‪ .‬عبد الله بن صالح العريني*‬

‫ط‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫با‬

‫مل‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ن‬

‫‪ -‬ومن ذا الذي ال يحب المال؟‬

‫‪ -‬المعقــول‪ ،‬معقــول‪ ..‬أمــا أنــت فغــارق‬

‫فيه ليل نهار‪.‬‬

‫إلى أذنيك من كثرة ما تتكلم عنه وتفكر‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫‪ -‬لكنه مهم‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫‪ -‬يبدو أنك تهذي‪.‬‬

‫‪ -‬لســت فــي وعيــي فــي وقــت مــن األوقات كمــا أنا‬

‫اآلن‪ ..‬أحلــم باقتنــاء ســيارة‪ ،‬منزل‪ ،‬أثــاث جديد‪ ،‬رغبات‬ ‫كثيــرة تحتــاج إلــى المال‪ ..‬هل أالم علــى حبه بعد ذلك؟‬

‫معذورا؟‬ ‫ألست‬ ‫ً‬

‫‪ -‬في الحياة أشياء مهمة والمال واحد منها فقط‪.‬‬

‫‪ -‬حــب المــال فطرة‪ ،‬لكن الجنون بــه مرض وبينهما‬

‫‪ -‬فليكن‪ ..‬لكن معه أشياء مهمة جديرة أن تهتم بها‪.‬‬

‫‪ -‬أنا واقعي وأنت فيلسوفة‪.‬‬

‫‪ -‬أنا أراه أهمها‪.‬‬

‫‪ -‬في هذه الفترة‪ ،‬المال هو كل شــيء‪ ،‬المال عصب‬

‫الحياة‪ ،‬المال عافية األفراد واألمم والشعوب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جدا‪.‬‬ ‫خيط رفيع ًّ‬

‫‪ -‬أليــس مــن الدعــاء المأثور‪" :‬اللهــم ال تجعل الدنيا‬

‫أكبر همنا وال مبلغ علمنا"؟‬


‫العراق والشــام وتركيا وأواســط آســيا‪ ،‬والحنبلية في شبه‬ ‫الجزيــرة العربيــة في الصيغة الوهابية‪ ،‬وفي الســودان مع‬

‫المهدية‪ .‬وحكماء اإلسالم عرب وعجم؛ الكندي عربي‪،‬‬

‫والفارابي تركي‪ ،‬وابن سينا والرازي من فارس؛ "لو كان‬ ‫العلــم فــي الثريا لناله رجال من أهــل فارس"‪ .‬والتصوف‬

‫والطــرق الصوفيــة وحدت األمة بين مصر والمغرب مثل‬

‫أبي العباس المرسي والسيد البدوي‪ ،‬وبين مصر والشام‬

‫صورة بال تعليق‬

‫النقشــبندي‪ ،‬وبيــن إيــران والغــرب فــي المولويــة‪ ،‬وبيــن‬

‫حاممة بيضاء كالثلج‪،‬‬ ‫رقيقة وادعة كالزهر‪..‬‬ ‫رش وأرشار‪،‬‬ ‫وحولها ٌّ‬ ‫ومخلب وناب‪..‬‬ ‫فيا ويل الحامم‪،‬‬ ‫من نيوب كاملنشار‪،‬‬ ‫ترشب الدم‪ ،‬وتزدرد اللحم‪،‬‬ ‫بال ضمري ِ‬ ‫يحاسب‪،‬‬ ‫رشع ِ‬ ‫يؤاخذ‪.‬‬ ‫وال ٍ‬

‫مثل عبد الغني النابلســي‪ ،‬وبين تركيا وأواســط آســيا مثل‬

‫الســودان وأفريقيــا فــي التيجانيــة والميرغنيــة والمهديــة‪.‬‬

‫حلقات الذكر منتشرة في كل مكان توحد روح مجتمعاتنا‬ ‫اإلســامية بعــد تفتيت أوطانها واحتــال أراضيها وعجز‬ ‫شــعوبها‪ .‬مجتمعــات ال زالــت حاضــرة بعلومهــا النقلية‪،‬‬

‫ممثلــة فــي القــرآن والحديث والتفســير والســيرة والفقه‪،‬‬

‫وثقافــة دينيــة عالميــة وشــعبية فــي كل مكتبــات األمــة‬ ‫ومساجدها وبرامج تعليمها ونشرها وتجديدها‪ .‬كما هي‬ ‫حاضــرة بعلومهــا العقليــة والطبيعية الخالصــة‪ ،‬تزخر بها‬

‫مكتبــات العالــم اإلســامي وتفخر بفالســفتها ومفكريها‬

‫وعلمائهــا؛ الــرازي والخوارزمــي وابن حيــان من فارس‪،‬‬ ‫والحســن بــن الهيثــم من مصــر‪ ،‬والغافقي مــن األندلس‪،‬‬

‫وأولــوغ بــك صاحــب المراصــد مــن ســمرقند‪ ،‬والطــب‬ ‫والصيدلــة للــرازي وابــن ســينا وابــن رشــد وابــن البيطار‬ ‫يوحــد علــم األمــة‪ .‬وبالتالــي فمنهــج التدافــع ينبغــي أن‬

‫يأخذ مكانه الذي يليق به في تشــييد مشــاريع بناء نهضة‬

‫مجتمعاتنا‪ ،‬تدافع قائم على التنافس في الخير والتعاون‬ ‫بالخيــر والعطــاء بالصبر وباحتــرام وحدة خيمة األوطان‪،‬‬ ‫رحمــ ًة باإلنســان الــذي يعمرهــا‪ ،‬وحمايــة ألمنــه الفكري‬ ‫والروحي واالقتصادي والسياســي‪ .‬وكلما اشــتد التمزق‬

‫المجتمعي في أوطاننا وعظم علينا داء التفتيت‪ ،‬استدعينا‬

‫طبيــب عقولنــا وقلوبنــا ليصــف لنــا دواء علــة الفرقة التي‬ ‫تســري فــي دمائنــا‪ ..‬دواء تركيبته؛ وحدة جنســنا البشــري‬

‫ووحــدة عقيدتنــا‪ ،‬وثقافتنــا وعلومنــا وإبداعنــا التاريخــي‬ ‫المشترك في شتى الميادين‪.‬‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪37‬‬

‫***‬


‫االســتخالف لعمــارة المجتمعــات بالتنميــة المعرفيــة‬

‫ومفاهيم التدافع والتنافس والتسابق والمسارعة تبني‬

‫المجتمعات وال تهدمها‪ ،‬تحفز على المشاركة الحضارية‬

‫والفكريــة واالقتصاديــة والثقافية التي تســتحق في ســاحة‬

‫العالميــة واإلنســانية وال تلغيهــا‪ ،‬تجمــع بين أفــراد األمة‬

‫المنافسات الحضارية العالمية‪.‬‬

‫االتجــاه الثانــي‪ :‬يؤســس مقولته على مفهــوم التكامل‬

‫وال تفرقهــم‪ ،‬توحدهــم وال تشــتتهم‪ ،‬ذلــك ألنهــا تعتمــد‬

‫أساسا للتقارب والتعارف‬ ‫المشتركة بين الشعوب واألمم‬ ‫ً‬

‫واألعمــال واألفــكار ضمــن دائــرة الديــن والمجتمــع‬

‫علــى أســس منهجيــة تنبني على تنــوع وتعدد المشــاريع‬

‫والتعايــش والتقريــب‪ ،‬وجعــل المبــادئ والقيــم الدينيــة‬

‫والحضــارة‪ .‬فالتطلعــات واألهداف مهمــا كانت مبرمجة‬

‫اإلنســاني‪ .‬وهــذا االتجــاه يتبنــاه المصلحــون والحكماء‪،‬‬

‫في عقل اإلنســان‪ ،‬فإنه ال يســتطيع إنجازها بمفرده دون‬ ‫تكامل وتنافس وتدافع وتعاون مع اآلخرين‪ .‬ف ِلم يغيب‬

‫والمؤمنــون بالعدالــة مــن كل االتجاهــات المذهبيــة‬

‫والفكرية والسياسية‪ ،‬ويتفقون على ضرورة الحفاظ على‬

‫هــذا المنهــج الراقي في التدافع اإلنســاني عن مشــاريع‬ ‫اإلنجــازات ًّأيــا كانــت وفــي كل المجــاالت؟ و ِلــم يغيب‬

‫تاريخيا‪ ،‬مؤكدين‬ ‫النتاج الحضاري اإلنســاني المكتســب‬ ‫ًّ‬

‫على أن دائرة الخالف بين أهل الدين الواحد والمجتمع‬

‫التدافــع فــي دعــم الجمعيات الخيرية واإلنســانية بعضها‬ ‫لبعض؟ ِلم ال يحضر هذا المنهج التدافعي في المعارضة‬

‫وتنوعا في ظل غيــاب حرية التنوع‪،‬‬ ‫ثــراء‬ ‫ً‬ ‫الواحــد ليســت ً‬ ‫وآليــات الحــوار الســلمي المجتمعي‪ ،‬والجــدل المعرفي‬ ‫وتدافعا‪ ،‬إن هي‬ ‫وتنوعــا‬ ‫ثــراء‬ ‫ً‬ ‫واالســتداللي‪ ،‬ولــن تكون ً‬ ‫ً‬

‫السياســية فيحــل محــل النــزاع‪ ،‬وتبنــى نهضــة مجتمعاتنــا‬

‫تحولــت للعــدوان والمصــادرة واإللغاء وترويع ســامة‬ ‫ال ســيما وإن اإلســام رفض مقولة الصراع المسوقة‬

‫ال لحل التناقضات والخالفات التي تحدث‬ ‫عالميا‪ ،‬ســبي ً‬ ‫ًّ‬ ‫بيــن فرقــاء التعددية‪ ،‬وذلــك ألن غاية الصــراع ومآله إلى‬

‫نفي وإلغاء اآلخر‪ ،‬وبالتالي نفي وإلغاء التعددية واحترام‬ ‫الخصوصيــات الثقافيــة لألمــم ككل‪ .‬وفــي ذلــك إلغــاء‬

‫لمفهــوم التدافــع والجدال بالتي هي أحســن‪ ،‬الذي ذكره‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫في البحث العلمي والمعرفي الجماعي؟ فيســتبدل النزاع‬

‫الفردي األنوي على المشاريع‪ ،‬إلى كتلة وحزمة معرفية‬

‫مــن العقول‪ ،‬تخدم مشــاريع األوطان لهندســة مشــاريع‬ ‫تنمية حقيقية لمجتمعاتنا‪ِ ...‬لم تتصارع المذاهب وتتنازع‬

‫الطوائــف واألديان مع تغييب ‪-‬في لحظة الـ"أنا"‪ -‬منهج‬ ‫الرحمــة العالمية اإلنســانية‪ ،‬فتصل إلــى منحدرات درجة‬

‫ال َت ْس َــت ِوي ا ْل َح َس َــن ُة‬ ‫‪‬و َ‬ ‫المولــى تعالــى في كتابه الحكيم‪َ :‬‬ ‫ــن َف ِإ َذا ا َّل ِذي َب ْي َن َك َو َب ْي َن ُه‬ ‫َو َ‬ ‫الس ِّــي َئ ُة ْاد َف ْع بِا َّل ِتي ِه َي َأ ْح َس ُ‬ ‫ال َّ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم‪(‬فصلــت‪ .)34:‬والتدافع الذي يأمر‬ ‫َع َ‬ ‫ــد َاو ٌة َكأ َّن ُه َول ٌّي َحم ٌ‬ ‫بــه القــرآن ال يلغــي المختلف أو اآلخر وإنما يســعى إلى‬

‫عشــناه بكل فخر في مســار تاريخنا اإلســامي المشترك‪،‬‬

‫تحقيق النجاح الدنيوي واألخروي‪.‬‬

‫والمســارعة والمنافســة فــي إطــار المقومــات الدينيــة‬

‫ترشيده من موقع الخطأ إلى صوابية التوجه والسداد في‬

‫‪36‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اآلمنيين‪.‬‬

‫ُبرقــي اإلبــداع التنويــري مــع اختــاف أســاليب األداء‬ ‫السياســي وتنــوع البرامــج؟ ِلــم ال يؤخذ بمنهــج التدافع‬

‫وباإلضافــة إلــى التدافــع‪ ،‬ركز اإلســام علــى مفهوم‬ ‫ــون‪‬‬ ‫‪‬و ِفــي َذ ِل َ‬ ‫ــك َف ْل َي َت َنا َف ِ‬ ‫ــس ا ْل ُم َت َنا ِف ُس َ‬ ‫التنافــس فقــال‪َ :‬‬ ‫(المطففين‪ ،)26:‬وحث على اإلقبال بالمسارعة والتسابق إلى‬ ‫‪‬و َسارِ ُعوا ِإ َلى َم ْغ ِف َر ٍة ِم ْن َر ِّب ُك ْم َو َج َّن ٍة َع ْر ُض َها‬ ‫الخيرات‪َ :‬‬ ‫ات َوا َ‬ ‫يــن‪(‬آل عمــران‪،)133:‬‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ض أ ُِع َّ‬ ‫ــم َو ُ‬ ‫ــد ْت ِل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫الس َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ونوا‬ ‫اس َت ِب ُقوا ا ْل َخ ْي َرات أ ْي َن َما َت ُك ُ‬ ‫َ‬ ‫‪‬ول ُك ٍّل وِ ْج َه ٌة ُه َو ُم َو ّل َيها َف ْ‬ ‫هلل َع َلى ُك ِّل َشي ٍء َق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ير‪(‬البقرة‪.)148:‬‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫يع‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِك‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫َي ْأ ُ ُ ُ َ ً َّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أحياء؟‬ ‫أمر األتباع بقتل وذبح وحرق المختلفين‬ ‫ً‬

‫وقد ننتقل من هذا الطرح العام الذي يحتل المشــهد‬ ‫السياســي العالمي في النزاع‪ ،‬إلى تبني طرح ٍ‬ ‫راق واقعي‬

‫وهــو يفنــد تطبيقــات عمليــة وواقعيــة لمفاهيــم التدافــع‬ ‫والثقافية الواحدة‪ ،‬التي حافظت ‪-‬وال زالت‪ -‬على وحدة‬ ‫مجتمعاتنا ضد مخاطر التجزئة والفرقة والتفتيت‪ .‬فال ِفرق‬ ‫اإلســامية منتشــرة فــي كل مــكان ُس ّــنة وشــيعة وإباضيــة‬

‫ودرزيــة‪ ،‬بــل وأحمديــة فــي أفريقيــا وبهائيــة فــي الغرب‪،‬‬ ‫وإماميــة وإســماعيلية فــي آســيا وفي الغــرب‪ .‬والمذاهب‬ ‫الفقهيــة واحــدة منتشــرة فــي كل ربوع األمــة المالكية في‬ ‫المغــرب العربــي‪ ،‬والشــافعية فــي مصــر‪ ،‬والحنفيــة فــي‬


‫إن التدافع والتنافس والتســابق واملسارعة تبني‬

‫الحال إذا رغب كل إنسان عن أسباب التنازع في الحياة‪،‬‬

‫املجتمعــات وال تهدمهــا‪ ،‬تحفز عىل املشــاركة‬

‫معرضــا عــن التنافس في متاعها والســعي لتعمير األرض‬ ‫ً‬

‫الحضاريــة العاملية واإلنســانية وال تلغيها‪ ،‬تجمع‬

‫فيها كالرهبان في األديرة؟ هذه الخلفية للتدافع والتنازع‬

‫بني أفراد األمة وال تفرقهم‪ ،‬توحدهم وال تشتتهم‪،‬‬

‫هــي التــي دفعــت بعــض الباحثين إلــى الميل نحــو إثبات‬

‫ذلك ألنها تعتمد عىل أســس منهجية تنبني عىل‬

‫وظائف إيجابية للتدافع في إطار المجتمع البشري‪ .‬من‬

‫تنــوع وتعدد املشــاريع واألعامل واألفــكار ضمن‬

‫أهمهــا أنــه يدفــع المجتمعــات والــدول إلى إعــادة تقييم‬

‫دائرة الدين واملجتمع والحضارة‪.‬‬

‫رسالتها وأهدافها‪ ،‬ومنها أنه يدفع إلى التغيير االجتماعي‬

‫من أجل إزالة الظلم وتحقيق العدل والسلم‪.‬‬

‫في إطار تنظيم الوجود االجتماعي لإلنسان وتحديد‬

‫فهو يتدرج في هذه المســألة فيضع مبدأ اإليثار والتطوع‬

‫صــور التفاعــل االجتماعــي‬ ‫واضحــة وبشــكل دقيــق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فــي المجتمــع البشــري فــي ســائر أوضاعــه وفــي جميع‬

‫التباغض والحقد الطبقي بالتوزيع العادل للثروة وجعل‬ ‫جــزء مــن مال األغنياء حق واجب للفقراء ال منة فيه وال‬

‫"التنــازع" للتعبيــر عــن التفاعل االجتماعي بين البشــر في‬

‫الضروريــة؛ النفــس والديــن والعقــل والمــال والنســب‪،‬‬

‫بيــن مــن تربطهم عروة اإليمان‪ ،‬أو أبنــاء الوطن واإلقليم‬ ‫هلل‬ ‫‪‬و َأ ِط ُيعوا ا َ‬ ‫نظــرا لمآالته الخطيرة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫الواحــد ً‬ ‫اصب ُِروا‬ ‫َو َر ُســو َل ُه َو َ‬ ‫ال َت َن َ‬ ‫يح ُك ْم َو ْ‬ ‫از ُعوا َف َت ْف َشــ ُلوا َو َت ْذ َه َب رِ ُ‬ ‫ين‪(‬األنفــال‪ .)46:‬فالتنازع وفق المنطوق‬ ‫إ َِّن ا َ‬ ‫الصاب ِ​ِر َ‬ ‫هلل َمــع َّ‬ ‫قرينــا للضعــف والفشــل فحســب‪ ،‬وإنمــا‬ ‫القرآنــي ليــس ً‬

‫التعامل في المعامالت والتفاعل االجتماعي‪ .‬أما األمور‬

‫تجــاذب اتجاهيــن متناقضيــن فــي الرؤيــة االستشــرافية‬

‫جامعا لــكل صور‬ ‫مصطلحــا‬ ‫وفــي هــذا يســتخدم القــرآن‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫االتجــاه األول‪ :‬يقــوم علــى أســاس الصــراع وحتميــة‬

‫معالم لمجتمع االستخالف‪ّ ،‬بين القرآن الكريم بعبارات‬

‫في قاعدة التفاعل االجتماعي‪ ،‬ثم يزيل األحقاد وأسباب‬

‫مســتوياته المحلــي والدولي‪ .‬فالقرآن يســتخدم مصطلح‬

‫صدقــة‪ ،‬ثــم إحاطــة كل ذلــك بضمــان حفــظ الحاجــات‬

‫صــورة صــراع مــادي‪ ،‬وهــو األمر الذي ال يجــوز حدوثه‬

‫ورعاية األمور الحاجية وجعل عنصر "الرضا" هو أساس‬

‫يعبر عن‬ ‫التفاعــل االجتماعــي‪ ،‬وهو لفظ "التدافع" الذي ّ‬

‫المشــيئة اإللهيــة وســنته العامة فــي المجتمــع‪ ،‬والتي بها‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يــؤدي إلى فقدان الهوية وضياع الكيان الذاتي للجماعة‪،‬‬

‫التحســينية فمباحــة وهــي مجــال للتنافــس المطلوب بين‬

‫سائر الناس‪.‬‬

‫واليوم تشهد مجتمعاتنا بأطيافها وأحزابها ومذاهبها‪،‬‬

‫المستقبلية آلفاق الحضارة واإلنسان محور الكون‪.‬‬

‫الصــدام والتناحــر بيــن مكونــات المجتمــع الداخلــي‪،‬‬ ‫ويتعــداه إلــى المجتمــع الخارجــي فــي رفــض الحــوار‬

‫تتحــرك عجلــة التاريــخ وتتحقق حركة األمــم الحضارية‬ ‫ال َد ْف ُع ا ِ‬ ‫ض َل َف َس َــد ِت‬ ‫‪‬و َل ْو َ‬ ‫اس َب ْع َض ُه ْم ب َِب ْع ٍ‬ ‫ً‬ ‫هلل َّ‬ ‫نهوضا‪َ :‬‬ ‫الن َ‬ ‫ا َ‬ ‫ين‪ .‬غاية التدافع‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ض َو َل ِك َّن ا َ‬ ‫هلل ُذو َف ْض ٍل َع َلى ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫إذن فــي نظــر القــرآن‪ ،‬هــي صالح األرض‪ ،‬ليــس بإظهار‬

‫واألعــراق والثقافــات والعــادات‪ .‬وهــذا الطــرح يزكيــه‬

‫بالتعمير واستخراج كنوزها وخيراتها‪ ،‬فهو ابتالء اإلنسان‬

‫القائــم علــى االنفعــال واالنفعــال المضــاد‪ ،‬التعصــب‬

‫أيضا بالســعي فيها‬ ‫الحق ودحض الباطل فحســب‪ ،‬وإنما ً‬

‫بكل صوره‪ .‬ومن هنا نفهم المنهج الفريد للقرآن الكريم‬ ‫فــي تنظيــم التدافع في المجتمع البشــري؛ وذلك بتقرير‬

‫المســاواة والتكافــؤ بيــن الجنــس البشــري في اإلنســانية‪،‬‬ ‫وباســتيفاء الحاجات الضرورية لإلنســان بصورة مرضية‪.‬‬

‫واألجنــاس‪ ،‬وتغييــب منهــج اإليمــان بمبــدأ التعايــش‪،‬‬ ‫واحتــرام التعددية‪ ،‬واالختالف بين الشــعوب واألجناس‬ ‫ويلتحــم حــول مضامينــه‪ ،‬اتجــاه يحمل الفكــر الصراعي‬

‫والتعصــب المضــاد‪ ،‬الســب والســب المضــاد‪ ،‬فيتميــز‬ ‫المشــهد بتناقضــات تنــوع مجتمعــي قائــم علــى تلــون‬

‫النــزاع بتلــون االنتمــاءات الدينية واالتجاهات السياســية‬ ‫والمذهبيــة والطائفيــة‪ ،‬ويعــم الخالف محــل االختالف‪،‬‬ ‫والتصــادم محــل التدافــع والتنافــس‪ ،‬واإلقصــاء محــل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ألن يتدافــع على مســتوى التفاعل الثقافــي واالجتماعي‬

‫بيــن الحضــارات وأتبــاع األديــان والمذاهــب والطوائــف‬

‫‪35‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫التدافع أم التنازع‬

‫متى ننظم منهج االختالف يف مجتمعاتنا؟‬ ‫عبر التاريخ البشــري كان الصراع تجربة‬

‫إنســانية مالزمــة‪ ،‬اتخــذت بيــن الحــوار‬

‫صــو ًرا‬ ‫والتنــازع وبيــن اإلعمــار والدمــار َ‬

‫مختلفــة‪ .‬فرغــم أن اإلنســان فــي تطور وتغير مســتمر من‬

‫الناحية الفكرية والمعرفية‪ ،‬إال أن الجانب الثابت فيه هو‬ ‫قدرته على التنازع والتدمير‪ .‬وهذه خاصية في اإلنســان‪،‬‬

‫فرغم مخاطرها الظاهرية يبدو أن ثمة حكمة إلهية جليلة‬

‫تكمــن فيهــا‪ .‬إذ إن القــرآن ّبيــن لنــا أن النفــس اإلنســانية‬ ‫مفطورة على ال ُف ُجور والتقوى‪ ،‬وهي الســمة التي لوالها‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫كريما‪ ،‬ولكــن جعل اهلل تعالى مهمة‬ ‫لصــار اإلنســان ً‬ ‫ملكا ً‬

‫‪34‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تكييــف تلــك النفــس وتهذيبهــا لإلنســان لتتخــذ موقعهــا‬

‫ال َد ْف ُع‬ ‫‪‬و َل ْو َ‬ ‫بإرادتــه ال بالجبــر واإلكــراه‪ ،‬إذ قال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ا ِ‬ ‫ض َل َفس َــد ِت ا َ‬ ‫هلل ُذو‬ ‫اس َب ْع َض ُه ْم ب َِب ْع ٍ‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ض َو َل ِك َّن ا َ‬ ‫هلل َّ‬ ‫الن َ‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫‪‬و َل ْو َ‬ ‫َف ْض ٍ‬ ‫ــل َع َلــى ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫ين‪(‬البقرة‪ ،)251:‬وقولــه تعالى‪َ :‬‬ ‫ــع ا ِ‬ ‫ع‬ ‫ــم ب َِب ْع ٍ‬ ‫هلل َّ‬ ‫ــع َوب َِي ٌ‬ ‫ــض َل ُه ِّد َم ْت َص َوا ِم ُ‬ ‫َد ْف ُ‬ ‫الن َ‬ ‫ــاس َب ْع َض ُه ْ‬ ‫اج ُد ُي ْذ َكر ِف َيها اسم ا ِ‬ ‫ات َو َم َس ِ‬ ‫هلل َك ِث ًيرا‪(‬الحج‪.)40:‬‬ ‫َو َص َل َو ٌ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وهــذه المجاهــدة التهذيبيــة التنظيمية المســتمرة‪ ،‬هي‬ ‫وتبيــن طبيعــة‬ ‫التــي تعكــس رســالة اإلنســان فــي الحيــاة‪ّ ،‬‬

‫الصــراع اإلنســاني فــي أصولــه التــي بهــا تتحــرك عجلــة‬

‫التاريــخ وبهــا تقــوم الحضــارة والعمــران‪ .‬فكيــف يكــون‬


‫ِ‬ ‫المنعكــس على‬ ‫ومــن أجــل االحتمــاء مــن أشــعة الضــوء‬

‫األصوات ذات الترددات العالية ما ال يمكنكم سماعها‪،‬‬

‫شــكل ثقب ضيق للغاية‪ ،‬وبذلك تنخفض قابلية انكســار‬

‫إن الشــعيرات الطويلــة التــي تعلــو فمنا وتنتشــر على‬

‫تلقائيا حتى تتخذ‬ ‫قزحية العين لدينا َتضيــق‬ ‫الجليــد‪ ،‬فــإن‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬

‫وفي البر نسمع كما تسمعون على وجه التقريب‪.‬‬

‫الضوء ودرجة الحسر (قصر النظر) إلى حدودهما الدنيا‪.‬‬ ‫حــد وتتحقق‬ ‫وفــي العتمــات تتوســع الحدقــة إلى أقصى ٍّ‬

‫أطرافــه‪ ،‬حساســة للغايــة‪ ..‬فهــذه الشــعيرات التــي تبــدو‬ ‫وكأنهــا مجرد شــارب بســيط‪ ،‬هــي مصدر هــام لحصولنا‬

‫بشكل سهل‪ .‬وبالتالي إن طبقاتنا الشبكية الصبغية‬ ‫الرؤية‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا بعد ٍد كبير من اللواقط الحساسة التي تستطيع‬ ‫مزودة ً‬

‫نتعرف على‬ ‫الدمويــة واألعصاب والعضــات‪ ،‬وبفضلها ّ‬

‫ضبطا دقي ًقا‬ ‫هــذه اللواقــط التي تشــبه القضيب‪ ،‬مضبوطــة ً‬

‫ونكتشــف مواطــن الثقــوب علــى الســطوح الجليديــة‪،‬‬

‫علــى المعلومــات؛ إنها محاطة بأعــداد كبيرة من األوعية‬

‫التقــاط أضعــف نســبة ضوئيــة‪ ،‬كما أن كميــة األصباغ في‬

‫األجســام المتحركــة فــي المــاء‪ ،‬ونحدد مواضــع الصيد‪،‬‬

‫جــدا‪ .‬فعنــد الفقمات التــي تعيش قرب الســواحل‪ ،‬تزداد‬ ‫ًّ‬

‫بعد‪ ..‬هذا وقد تتصل‬ ‫باإلضافة إلى أمور كثيرة ال نعرفها ُ‬

‫األصباغ الحساسة للون األخضر‪ ،‬أما عند الفقمات التي‬

‫جدا من األعصاب‪.‬‬ ‫هذه الشعيرات بدماغنا بشبكة معقدة ًّ‬

‫تغوص في األعماق فتزداد لديها األصباغ الحساسة للون‬

‫يسد الماء أنفي فال أقوى‬ ‫وعليه فإنني عندما أغوص‪ّ ،‬‬

‫ليتحول منها إلى خاليا اللواقط‬ ‫ينعكس على هذه الطبقة‬ ‫ّ‬

‫ألن الجــزء المخصــص للشــم فــي دماغي صغير بالنســبة‬

‫مرة ثانية ويتم الحصول على أضعف نسبة ضوئية‪ .‬ولق ّلة‬ ‫ِ‬ ‫اللواقــط مخروطيــ ِة الشــكل عندنا‪ ،‬تضيق مســاحة‬ ‫خاليــا‬

‫مكنني من الشــم‬ ‫أن ّ‬ ‫لغيــري‪ ،‬ولكنــه يكفينــي هذا الدمــاغ ْ‬

‫كثيرا‪.‬‬ ‫الرؤية الملونة ً‬

‫اآلذان ذات التصميم المميز‬

‫تتميــز آذاننا بتصميم نتمكن مــن خالله التقاط األصوات‬

‫علما بأن األصوات تصل في‬ ‫فــي أعماق المياه بســهولة‪ً .‬‬

‫الماء إلى مسافات تبلغ خمسة أضعاف ما تصل إليه في‬ ‫الهــواء‪ ،‬األمــر الــذي يتطلــب ميكانيكية دقيقــة في تحديد‬

‫وبعــده فــي المــاء‪ .‬لــذا فصيــوان األذن‬ ‫مصــدر الصــوت ُ‬ ‫لع ْظم‬ ‫الداخليــة التــي تســتقر داخــل التجويــف الصدغــي َ‬

‫معينــة‪ ،‬وتنفصل‬ ‫الــرأس‪ ،‬تتصــل بهــذه العظمة عبــر نقطة ّ‬ ‫عن العظام األخرى إلتمام عملية عزل الصوت‪ .‬وبفضل‬ ‫هذه المكانيكية الحساســة تصبح األذن الداخلية معزولة‬

‫وتتحدد‬ ‫عــن الضجيج الــذي يصدر من العظــام األخرى‬ ‫َّ‬ ‫جهة الصوت بشكل صحيح‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المــار مــن الطبقــة الشــبكية في العين‬ ‫األزرق‪ .‬إن الضــوء‬ ‫ّ‬

‫الشــم في البر؛‬ ‫على الشــم‪ ..‬هذا ال يعني أنني أقوى على‬ ‫ّ‬ ‫لمعرفة الزوجة والتكاثر والعناية بالصغار‪.‬‬

‫إن شــكل جســمي األســطواني الرفيــع الطويــل‪ ،‬هــو‬

‫عنصــر مهــم فــي تقليل فقــدان الحــرارة خالل الســباحة‪،‬‬

‫وهــذا مــا يوفــر لــي البقــاء على قيــد الحيــاة‪ .‬يوجد تحت‬

‫جلــدي دهون تتراوح ســماكتها ‪ 10-7‬ســم‪ ،‬األمر الذي‬ ‫ٍ‬ ‫يــؤدي إلــى عــدم وجــود‬ ‫عــازل فــي زعانفــي‪ ،‬وإنمــا يتــم‬ ‫التحكــم بكميــة الدمــاء التي تصل إلى تلــك الزعانف ثم‬ ‫ُ‬

‫بضبــط الحــرارة‪ ،‬عبر نظام دقيق خاص يمتد بين األوردة‬

‫والشرايين‪.‬‬

‫ولكــن ‪-‬لألســف‪ -‬أصبــح معظــم أنواعنا علــى حافة‬

‫االنقراض نتيجة صيدكم الجائر أنتم البشــر‪ ..‬فمنكم َمن‬ ‫يقتلنا من أجل أن يصنع منا الفراء‪ ،‬ومنكم َمن يقتلنا من‬

‫أجــل أن يــأكل لحمنا‪ ،‬أو يحصــل على دهوننا‪ ..‬إلى متى‬ ‫ســتظلون علــى هــذا القتــل والتدميــر؟ أمــا آن الوقت ألن‬

‫لدينا‪ ،‬مكســوة بطبقة نســيجية خاصة‪ ،‬وبفضلها تتم ضبط‬

‫أن يكــون حديثــي هــذا وســيلة ليقظتكــم وصحوتكم من‬

‫يؤثــر فينــا‪ ،‬ألن تجويف األذن الوســطى والقناة الســمعية‬ ‫ونتمكن مــن التأقلم‬ ‫الضغــط الداخلــي لــأذن الوســطى‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ض ألي أذى وضــرر فــي‬ ‫تعــر ٍ‬ ‫بالوســط المحيــط بنــا دون ّ‬

‫قويا‪ ،‬ونسمع من‬ ‫سمعا ًّ‬ ‫السمع‪ .‬فنحن نملك تحت الماء ً‬

‫أيضا نملك هــذا الحق؟ آمل‬ ‫تملكــون حــق الحيــاة فنحن ً‬ ‫الذهول‪.‬‬

‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫يفجــر ســمعكم فــي األعمــاق فال‬ ‫أمــا الضغــط الــذي ّ‬

‫ترحموننــا نحــن الحيوانــات؟ ألســنا كلنا خلــق اهلل؟ فكما‬

‫‪33‬‬


‫ذات األذنين ربما تحمل قبل أن ُت ِت ّم األســبوع األول من‬

‫إرضــاع وليدهــا الصغيــر‪ ،‬ويبقى الجنين في ســبات حتى‬ ‫ينفطم أخوه الرضيع‪.‬‬

‫إن فيل بحر الشمال يغوص في عمق يصل إلى ‪-250‬‬

‫يوما في البحر‬ ‫‪ 550‬إبــان الهجــرة‪ ،‬فتمضي الذكور ‪ً 250‬‬ ‫ويقطعون خاللها مسافة ‪ 21.000‬ميل‪ ،‬في حين تمضي‬

‫يوما وتقطع خاللها ‪ 18.000‬ميل‪ ،‬وذلك‬ ‫اإلنــاث ‪ً 300‬‬ ‫ألنها تحتاج إلى غذاء أكثر لتتمكن من العناية بصغارها‪.‬‬ ‫وهــذه األرقــام المذكــورة تشــكل أطــول رقم قياســي بين‬

‫الثدييــات المهاجــرة‪ .‬فالفقمات التي تتزاوج في الشــمال‬ ‫الباســيفيكي‪ ،‬تعــود إلى موطنها األصلــي بعد رحل ٍة تبلغ‬

‫ثمانيــة أشــهر فــي البحر لتعيــش أربعة أشــهر أخرى على‬ ‫البــر‪ .‬كمــا تملــك فيلة البحر الشــمالي القــدرة على النوم‬

‫تحــت ســطح المــاء ‪ 25‬دقيقة مــن غير تنفــس‪ ،‬حتى إنها‬ ‫تصعــد إلــى ســطح الماء وتتنفس ثم تغطــس وهي نائمة‪.‬‬

‫اليوم الواحد ســباح ًة وإيجاد أمهاتها بسهولة‪ .‬وإن األنثى‬

‫جيــدا ولنواصــل حياتنــا فــي‬ ‫لنتمكــن مــن رؤيــة محيطنــا‬ ‫ً‬

‫البــر والبحــر‪ .‬كمــا أن قرنيــة العيــن لدينــا وال ســيما لدى‬

‫فقمــات الجليــد‪ُ ،‬تصان بشــكل خاص لكــي ال تتأ ّذى من‬

‫لحمــل مبكر والتي ال تقوى على‬ ‫الصغيــرة التــي تتعرض‬ ‫ٍ‬

‫تتمكن مــن العنايــة بصغيرها خالل‬ ‫ســنة واحــدة‪ .‬وحتــى ّ‬

‫للدمــوع‪ ،‬وذلــك لتبقــى عيوننــا محفوظــة من أمــاح مياه‬

‫األقــل ‪ 300‬كجــم‪ ،‬والبــد أن تبلغ األمهــات ‪ 380‬كجم‬

‫القناة الدمعية‪ ،‬لتسربت السوائل الدمعية عبرها إلى أنوفنا‬ ‫حد كبير‪ ..‬لذا‬ ‫وأفواهنــا‪ ،‬وانخفضــت فاعلية الصيانــة إلى ٍّ‬

‫عند اإلنجاب بنســبة ‪ ،%14‬أما هذه النســبة عند الفقمات‬

‫بشكل دائم‪.‬‬

‫شهرا‪ ،‬ولكن النمو الجيني في هذه‬ ‫الحمل نحو ‪ً 11-10‬‬

‫الميــاه‪ .‬وعليــه فإن قرينة انكســار الضوء بيــن قرنية عيوننا‬ ‫تماما‪ ،‬وهذا يساعد‬ ‫الخارجية وقرنية انكسار الماء‪ ،‬متساوٍ ً‬

‫الرعاية‪ُ ،‬تسقط فرخها لتنضج أكثر وتحمل مرة ثانية بعد‬

‫الجليــدي‪ .‬فمــن ثــم لــم يضــع اهلل العليــم لعيوننــا قنــاة‬

‫فترة الحمل‪ ،‬البد ألنثى فيل بحر الجنوب أن تبلغ على‬

‫البحــار وذرات الرمــال الصغيــرة‪ .‬ولو كانــت لعيوننا هذه‬

‫هــذا الــوزن‪ ،‬تلد إنا ًثا‪ .‬فوزن الذكر يزيد على وزن األنثى‬ ‫الرماديــة تتســاوى بين الذكور واإلنــاث‪ .‬هذا وقد تحمل‬ ‫ٍ‬ ‫جديد عند اقتراب موعد الفصام‪ ،‬كما يستمر‬ ‫األمهات من‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ِ‬ ‫صممت عيوننا بشكل متميز عن باقي الحيوانات‪ ،‬وذلك‬ ‫ّ‬

‫شــدة األشــعة فوق البنفســجية التي تنعكس على السطح‬

‫علمــا بــأن األمهــات التــي تحمل دون‬ ‫حتــى تلــد‬ ‫ً‬ ‫ذكــورا‪ً ،‬‬

‫‪32‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مســافة ‪ 100‬كــم‪ ،‬تملــك القــدرة علــى قطــع ‪ 40‬كم في‬

‫تبعا للحاجة‬ ‫عيون ً‬

‫تبعــا لغــذاء األم وإرضــاع صغيرها الســابق‪.‬‬ ‫الفتــرة يتغيــر ً‬ ‫فالجنيــن الجديــد ينتظــر في رحم األم فتــرة تقارب أربعة‬ ‫أشــهر دون تطــور‪ ،‬وذلك الســترداد األم قوتهــا‪ ،‬وبالتالي‬

‫النمو الحقيقي للجنين يستغرق ‪ 8-6,5‬أشهر‪ .‬أما الفقمة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نحتــاج إلــى هــذه الدمــوع لكــي نغســل عيوننــا وننظفهــا‬

‫أيضــا كرويــة الشــكل كعيــون‬ ‫إن عدســات عيوننــا ً‬ ‫األســماك‪ ،‬وهــذا الشــكل يتيح لنــا رؤية قوية فــي أعماق‬

‫عدســة عيوننــا الداخليــة علــى التركيز والدقة فــي الرؤية‪.‬‬ ‫ولكي ال تنقلب ميزتنا في الرؤية هذه داخل الماء إلى‬ ‫حالة ســلبية في البر‪ ،‬فإن عيوننا تتح ّلى بآلية ِق َصر النظر‪.‬‬


‫مبكــرا‪ ..‬وبذلــك تــم تعويــض انخفــاض عددنــا‪.‬‬ ‫البلــوغ‬ ‫ً‬

‫تنخفــض االســتقالبات الداخليــة فــي هــذه المرحلــة إلى‬

‫غذائهــا‪ ،‬وإذا مــا آن أوان التكاثــر‪ ،‬عــادت إلــى مواطنهــا‬

‫كل جهودهــا لتغذيــة صغارهــا فقــط‪ُ .‬ت َع ّد الطبقــة الدهنية‬

‫تهاجــر أنــواع كثيــرة منــا مــن منطقــة إلى أخــرى بح ًثا عن‬

‫خصصت المرضعات‬ ‫أدنى مستوياتها‪ ،‬وبذلك تكون قد‬ ‫ْ‬

‫األصليــة فــي رحلة تبلغ مئــات الكيلومتــرات‪ .‬إنها تقوم‬ ‫برحلتهــا هــذه دونما حاجة إلــى خارطة أو بوصلة أو ها ٍد‬

‫هاما يحفظ الحرارة الداخلية للجسم‬ ‫من جانب‪ ،‬وعاز ً‬ ‫ال ًّ‬

‫صغارنا‬

‫الفقمــة الحقيقيــة أســمك مما عنــد الفقمــة ذات األذنين‪.‬‬

‫والسوق اإللهي‪.‬‬ ‫إال الفطرة َّ‬

‫خزا ًنا للطاقة‬ ‫السميكة ‪-‬كما عند سائر الثدييات البحرية‪ّ -‬‬ ‫مــن جانــب آخــر‪ .‬وقد تكــون الطبقة الدهنيــة تحت جلد‬

‫تتــراوح فتــرة الرضاعــة لدينا من ‪ 4-3‬إلى ‪ 6-5‬أســابيع‬

‫زودنــا بنظــام اســتقالب يســاعدنا علــى‬ ‫الحمــد هلل الــذي ّ‬

‫‪ 3-2,5‬أضعا ًفــا‪ ،‬إال أن فقمــة بايــكال ترضــع صغارهــا‬

‫اإلنــاث ‪-‬التــي تصوم لكي تحافظ على نســبة البروتينات‬

‫حسب أنواعنا‪ ،‬ويتضاعف وزن الرضيع خالل هذه المدة‬ ‫مــن ‪ 8‬إلى ‪ 10‬أســابيع‪ ،‬إذ يتضاعــف وزن صغارها ‪5,5‬‬

‫أضعا ًفــا‪ .‬ولكــي ال تمــوت هــذه الصغــار مــن البــرد‪ ،‬فقد‬ ‫ِ‬ ‫وصاحب الرحمة الواســعة‬ ‫زود الــرزاق الكريم‬ ‫األمهات‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫تخزين هذه الطبقة من الدهون المفيدة‪ .‬هذا وقد تنحف‬ ‫والدهون والماء في حليبها‪ -‬بعد فترة الرضاعة‪ ،‬إذ تفقد‬ ‫‪ %33‬مــن دهونهــا و‪ %15‬من بروتيناتهــا‪ ،‬و‪ %40‬من وزن‬

‫جســمها‪ .‬وعنــد فيــل البحــر الجنوبــي‬

‫(‪)Mirounga Leonina‬‬

‫الحوامــل بآليــة تنتج الدهن بكميــات كثيرة تحت الجلد‪،‬‬

‫الــذي يبلــغ وزنــه أربعة أطنان‪ ،‬يشــكل الماء في الحليب‬

‫الصغيــر‪ .‬فعلــى ســبيل المثــال‪ ،‬تبلــغ نســبة الدهــون فــي‬

‫تنخفض هذه النسبة إلى ‪ ،%33‬وترتفع فيه نسبة الدهون‬

‫وبعــد الــوالدة يتحــول هــذا الدهــن إلــى حليــب َيرضعــه‬

‫إلــى ‪ .%50‬فــي حين يكون وزن صغار فيل بحر الشــمال‬

‫اإلرضاع ‪ ،%23‬ثم ترتفع هذه النســبة في نهاية اإلرضاع‬

‫عنــد الــوالدة ‪ 42‬كجــم‪ ،‬ولكــن بعــد أربعــة أســابيع مــن‬

‫بالتــوازي‪ .‬ولذلــك تقوم اإلنــاث المرضعات بالصيام في‬

‫أمــا صغارنــا التــي تنفصــل عــن أمهاتهــا بســبب مــن‬

‫إلــى ‪ ،%40‬كمــا تنخفــض نســبة المــاء فــي هــذا الحليــب‬ ‫فتــرة اإلرضــاع لتمنــع دخــول المــاء إلــى جســمها‪ .‬وقــد‬

‫اإلرضاع يصل وزنه إلى ‪ 127‬كجم‪.‬‬

‫األســباب ‪-‬كالعواصــف‪ -‬وتضطــر إلــى االبتعــاد عنهــا‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫حليب األم من فقمة الـ"‪ "Pagophilus Groenlandicus‬في بداية‬

‫يوما من اإلرضاع‬ ‫في بداية اإلرضاع ‪ ،%70‬وبعد عشرين ً‬

‫‪31‬‬


‫الك َبع‪ ،‬فــإن بعضنا اآلخر‬ ‫بأنيابــه الكبيــرة الشــبيهة بأنياب ُ‬

‫البحر الجنوبي تقدر على البقاء في األعماق ‪ 120‬دقيقة‬

‫اآلخــر بأذنــه‪ ..‬كمــا يتميــز بعضنا بالبنيــة التشــريحية التي‬

‫زودت عدسة عيوننا بآلية نستطيع‬ ‫كافيا للرؤية لدينا‪ ،‬لذا ِّ‬ ‫ً‬ ‫من خاللها أن نصطاد حتى في أضعف ِن َسب الضوء‪.‬‬ ‫يقتــات معظمنــا علــى األغذية الصغيــرة الطرية‪ ،‬ومن‬

‫مــن الفقمــات تشــتهر بفروهــا الوبــري الكثيــف‪ ،‬وبعضنا‬

‫بال تن ّفس‪ .‬وقد ال يكون الضوء في هذا المدى من العمق‬

‫تؤثــر علــى طريقة ســباحتها‪ ..‬وعلــى الرغم مــن الفوارق‬ ‫البســيطة فــي إســتراتيجيات الغطــس والســباحة والصيد‪،‬‬ ‫جميعا تشبه بعضها البعض‪.‬‬ ‫فإن حركاتنا‬ ‫ً‬

‫والهرس وهبنا خالقنا أســنا ًنا صغيرة وكبيرة‬ ‫أجل ال َق ْطع‬ ‫ْ‬

‫فنحن الذين ننتمي إلى عائلة الفقمات األصلي ة‬ ‫جدا ومتحركة تســاعدنا‬ ‫‪ُ ،)cidae‬ز ِّودنا بفقرات قطنية قوية ًّ‬

‫تناســب حجمنــا‪ ،‬حيــث يصــل عددهــا فــي الغالــب إلــى‬

‫(�‪Pho‬‬

‫خمســة أســنان‪ .‬وهكــذا نتغــذى علــى األســماك الصغيرة‬

‫علــى المشــي‪ ،‬وقد أســتطيع تحريــك رج َلــي العريضتين‬ ‫َّ‬ ‫المســطحتين فــي نهايــة الســاقين الخلفيتيــن بســرعة‬ ‫فائقــة‪ ،‬حيــث تعمل هاتــان الرجالن ِ‬ ‫كم ْروحــة تو ِّلد طاقة‬ ‫كبيــرة دافعــة إلــى األمــام وإلــى الخلــف‪ .‬بينمــا ال تصلح‬

‫ســباحتي في الماء‪ ،‬ثم تســاعدني في الصعود إلى البر أو‬

‫إلــى البقــع الجليديــة‪ .‬أمــا أنواعنا المعروفة بــذات األذن‬ ‫والمنتســبة إلى فصيلــة الـ"‪ ،"Otariidae‬فــإن فقرات صدرها‬

‫الملتحيــة‬

‫(‪)Erignathus Barbatus‬‬

‫علــى الرخويــات كجــراد‬

‫البحر والقريدس‪ ،‬فإن فقمة ويديل تعيش على األسماك‬ ‫التي تصطادها بين الجليد الذائب‪ ،‬في حين تتغذى فقمة‬

‫آكلــة الســرطان (‪ )Lobodon Carcinophagus‬علــى الســرطان‪،‬‬

‫وفقمــة الفهــد‬ ‫البطريق‪.‬‬

‫(‪)Hydrurga Leptonyx‬‬

‫تفضــل فــي طعامهــا‬

‫بديعا‬ ‫إن خالقنــا العظيــم القدير العليم‪ ،‬وضــع ً‬ ‫نظاما ً‬

‫نحافــظ مــن خاللــه علــى نســلنا ونتكاثــر وننمــو‪ .‬فبعض‬

‫ورقبتهــا أقــوى مــن فقرات صــدر األنواع األخــرى‪ ،‬فهي‬

‫واألسفل‪ ،‬كما أن القوة الدافعة لذراعيها األماميتين أكبر‬

‫كثــر‪ ،‬لذلــك تصل إلى ســن البلــوغ في وقــت مبكر‪ ،‬وقد‬

‫الغوص في األعماق‬

‫حيــث تدخــل غمــار الحياة في وقت مبكــر هي األخرى‪.‬‬

‫تعتمد في سباحتها على حركة منطقة الورك نحو األعلى‬

‫(‪ )Phoca Vitulina‬تعيــش بالقــرب مــن الشــواطئ وأعداؤهــا‬

‫بكثير مما عند الفقمات األخرى‪.‬‬

‫أيضا‪،‬‬ ‫يكــون بلــوغ الفقمــة الرماديــة‪ ،‬وفيلــة البحر‬ ‫مبكــرا ً‬ ‫ً‬

‫أكبــر خاصيــة تميزنا عن باقي الحيوانات هي قدرتنا على‬

‫ســن البلــوغ لــدى هــذه الفقمــات‪،‬‬ ‫وإذا تجاوزنــا فــارق ّ‬

‫المــاء‪ ،‬والبقــاء فــي األعمــاق مــدة طويلــة دون تن ّفــس‪..‬‬

‫ــت أعدادنــا بســبب عــدو أو وبــاء‪ ،‬تســارع النمــو‬ ‫فــإذا ق ّل ْ‬

‫أبــدا‪ .‬وما هذه‬ ‫وهــذا أمــر ال تقــدر عليــه الثدييــات البريــة ً‬

‫الخاصية الفطرية إال آلية فيزيولوجية بديعة لنظام التنفس‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ا بينما تقتــات الفقمة‬ ‫مــن أنواعنــا بغــذاء خــاص به؛ فمثــ ً‬

‫أنواعنــا كالفقمــة المطوقــة (‪ ،)Pusa Hispida‬وفقمــة المينــاء‬

‫والتحمل على ضغوط عالية تحت‬ ‫الغوص في األعماق‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪30‬‬

‫الحفــاظ علــى التوازن البيئي في البحــار‪ ،‬يتغذى كل نوع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أبــدا علــى الســير علــى اليابســة‪ .‬وألن ذراعــي األماميتين‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫جــدا إلــى بعضهــا البعض‪،‬‬ ‫لقــت بشــكل قريــب ًّ‬ ‫ويــدي ُخ ْ‬ ‫َّ‬ ‫دفــع كبيرة‪ .‬ولكن‬ ‫فــإن‬ ‫ســاقي األماميتيــن ال تملكان قوة ٍ‬ ‫َّ‬ ‫هاتين الساقين األماميتين تعمالن عمل دفة التوجيه أثناء‬

‫الحبــار‪ .‬مــن أجل‬ ‫والالفقاريــات القشــرية وعلــى ســمك َّ‬

‫زودنا بها صاحب القدرة المطلقة والعلم‬ ‫والدوران لدينا ّ‬

‫الواســع الالنهائي‪ .‬ففقمــة َو ّدال‬

‫(‪)Leptonychotes Weddellii‬‬

‫تستطيع الغوص في عمق ‪ 600‬متر‪ ،‬وأما مركز الصدارة‬ ‫فـ�ي هـ�ذا المجال فلفقمة الفيل في الشـ�ما ل‬

‫(�‪Mirounga An‬‬

‫‪ .)gustirostris‬فشــقيقتنا هذه‪ ،‬تســتطيع الغوص بسهولة في‬

‫عمــق ‪ 1,5‬كــم‪ ،‬كما أن فقمة الفيل (‪ )Mirounga Leonina‬في‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فإننــا نجــد أن ذلــك يــزداد وينقــص وف ًقــا لكثافــة العــدد‪،‬‬ ‫ال‪،‬‬ ‫عنــد البقيــة وبلغــت ســن بلوغها فــي وقت مبكــر‪ .‬فمث ً‬

‫فــي عــام ‪ 1945‬كان ســن البلــوغ لــدى فقمــة الســرطان‪،‬‬ ‫فــي عامهــا الرابع‪ ،‬ولكــن عندما أصبح العــدد ينخفض‪،‬‬

‫راحت صغارها ‪-‬في عام ‪ -1965‬تبلغ في سن السنتين‬ ‫أو الســنتين والنصــف‪ .‬وعليــه فــإن اصطيادكــم المفــرط‬ ‫للحيتــان فــي المنطقــة‪ ،‬أدى إلــى ازدياد قشــريات الكريل‬

‫التي تتغذى عليها هذه الحيتان‪ ،‬وهذا األمر و ّفر لصغارنا‬ ‫فراحــت تنمــو بســرعة وتصــل إلــى ســن‬ ‫الغــذاء الكثيــر‪،‬‬ ‫ْ‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫الفقمة‬

‫أمرية الغواصني‬ ‫ولذلك ال تقوم بالغوص في البحر ما لم تضطر إلى ذلك‪.‬‬

‫وطننــا‪ ،‬لذا نقوم فيه بالغطس‬ ‫أمــا نحــن الفقمات‪ ،‬فالبحر ُ‬

‫كبيــرة؛ كوننــا ال نخــرج إليه إال من أجــل الوالدة والعناية‬

‫يدعي بعــض الوراثيين أننــا نزلنا إلى‬ ‫بصغارنــا‪ .‬فــي حين ّ‬ ‫كنا‬ ‫البحــر قبــل ‪ 25‬مليون ســنة‪ ،‬ويزعمون ‪-‬كذلــك‪ -‬أننا ّ‬

‫كالدببــة والذئــاب‪ ،‬ثم مــع الزمن‬ ‫حيوانــات ّبريــة كاســرة ّ‬ ‫تمكننا من العيش في البر‪ ،‬ثم حصلنا‬ ‫فقدنــا مواهبنــا التي ِّ‬ ‫ْ‬ ‫مكانها‬ ‫بالتدرج‪ -‬على صفاتنا التي تتوافق وحياة البحر!‬‫ُّ‬

‫وال يسعني ‪-‬أنا كفقمة‪ -‬إال الضحك على هذه العبارات‬ ‫يتفوهون بها دون معرف ٍة أو تفكيرٍ بســماتنا‬ ‫الجاهلــة التــي ّ‬ ‫التشريحية والفيزيولوجية المتكاملة البديعة‪.‬‬

‫فريق كبير‬

‫نحن الفقمات‪ ،‬و ُأ ُســود البحر‪ ،‬وزعنفيات األقدام‪ ،‬وفيلة‬

‫نشكل‬ ‫جميعا عائلة بحرية كبيرة‪ .‬لقد أظهر صانعنا‬ ‫البحر‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫العظيم بديع صنعه في أجســامنا؛ فكما أن بعضنا ُيعرف‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫عزيزي اإلنســان‪ ..‬أنا ال ُفقمة‪ ..‬لقد ســبق‬ ‫وكشفت لك‬ ‫حيوانات أخرى‬ ‫حد ْثتك‬ ‫أن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫بدائع الصنعة وشتى ِ‬ ‫الحكم في خلقها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ثــم قامــت بدورهــا بالــرد علــى الطبيعييــن الذيــن حاولوا‬ ‫تفسير الخلق من خالل نظرية التطور وتنميط الحيوانات‬ ‫ببعــض المفاهيــم البيولوجية كالطفــرة واالنتقاء الطبيعي‪.‬‬ ‫وها أنا ذا أقف بين يديك منتهجة نهج شقيقاتي في الرد‬ ‫ومقدمة إليك ال ِنعم ِ‬ ‫والحكم التي‬ ‫على هؤالء الطبيعيين‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وهبنيها خالقي‪.‬‬ ‫بــري يغــوص فــي البحــر إلــى‬ ‫هــل ســمعتم بحيــوان ّ‬ ‫عمــق ‪ 600‬متــر‪ ،‬ويبقــى هنــاك ســاع ًة كاملــة دون تن ّفس؟‬ ‫أعتقد أنكم ما ســمعتم بحيوان ِّبري من هذا القبيل؛ ألن‬ ‫جميــع الثديــات البريــة ال تملــك الخصائص التشــريحية‬ ‫والفيزيولوجيــة التــي نملكهــا نحــن الثديــات البحريــة‪،‬‬

‫والقفز واالصطياد وشــتى الحركات بكل يســرٍ وســهولة‪.‬‬ ‫ولكــن حركاتنــا هــذه تكــون في البــر محــدودة إلى درجة‬

‫‪29‬‬


‫محققين بذلك بعض النجاح في هذا المجال‪.‬‬

‫وعبــر دراســة الجســيمات المختلفــة وقريناتهــا مــن‬

‫ال منهما‬ ‫األجســام المضادة‪ ،‬تتنبأ النظريــات العلمية أن ك ًّ‬ ‫يجــب أن يتبــع القوانيــن الفيزيائيــة ذاتها‪ .‬ويأمــل العلماء‬ ‫عنــد الحصــول على عدد كاف من الــذرات المضادة‪ ،‬أن‬

‫يــروا مــا إذا كانــت ذرة الهدروجيــن المضــادة يمكــن أن‬

‫تماما بالترددات نفسها‪ ،‬كما هو‬ ‫ُتصدر أو تمتص الضوء ً‬ ‫األمر بالنسبة إلى ذرة الهدروجين‪.‬‬

‫طاقة هائلة‬

‫نظير‬ ‫فــي رحلــة البحث عن جســيمات مضادة‪ ،‬اســتخدم ُ‬ ‫الصوديــوم ‪22‬‬ ‫مصــدرا للبوزترونــات‪ .‬إذ تطلق قطعة من‬ ‫ً‬ ‫الصوديــوم وزنهــا غرام واحد ‪ 200‬تريليون بوزترون كل‬ ‫ثانية‪ .‬ولكن هذه البوزترونات تنطلق وطاقتها تبلغ ‪550‬‬ ‫كيلــو إلكتــرون ڤولــط‪ ،‬تكافــئ درجــة حــرارة قدرها ســتة‬

‫بالييــن درجــة مئويــة وتتحرك بنحو تســعة أعشــار ســرعة‬ ‫الضــوء‪ ،‬وهــذه الطاقــة يفكــر العالَم اليوم في اســتغاللها‪،‬‬

‫حيــث إن ‪ 42‬ملّيغــرام مــن الپروتونــات المضــادة‬ ‫تمتلــك طاقــة تســاوي ‪ 750‬ألــف كيلوغــرام مــن الوقــود‬

‫والمؤكسِ ــدات‪ .‬ولكــن البد من التغلــب على العديد من‬ ‫متاحــا‪ ،‬حيث إن‬ ‫الصعوبــات قبــل أن يصبح هــذا الوقود ً‬

‫إنتاج ‪ 10‬بيكوغرامات من البروتونات المضادة‪ ،‬يتطلب‬

‫من مركز سيرن عمل ‪ 24‬ساعة كل يوم‪ ،‬وسبعة أيام كل‬ ‫أسبوع لمدة عام كامل‪.‬‬

‫أين اختفت المادة المضادة؟‬

‫إن واحــدة مــن عجيــب دالئــل قــدرة اهلل تعالــى‪ ،‬أن تظل‬ ‫المــادة فــي ظــل وجــود المــادة المضــادة‪ ،‬أي مــع وجود‬

‫أســباب فنائهــا‪ .‬فوف ًقــا للنظريــات‪ ،‬فــإن المــادة المضــادة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫كانــت موجــودة بكميــات متســاوية للمادة عنــد اإلنفجار‬

‫‪28‬‬

‫العظيــم‪ ،‬ووفــق هــذه النظريــة كان ينبغــي أن يفني بعضها‬

‫تقريبا لوجــود الكون‪ .‬لكن‬ ‫تمامــا فــي أول ثانيــة‬ ‫البعــض ً‬ ‫ً‬

‫بالرغم من ذلك وبقدرة اهلل نحن هنا‪ ،‬وكذلك الكواكب‬

‫والنجوم والمجرات‪.‬‬

‫(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل ‪ /‬السودان‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اإلميان واللسان‬ ‫إذا فرغ القلب من اإلميان‪،‬‬ ‫وخوى من اليقني؛‬ ‫طال اللسان واستطال‪،‬‬ ‫وتح ّول إىل ح ّية ل َّداغة َن ّهاشة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وألسنة أخرى‪،‬‬ ‫ل َعجزها‪ ،‬بالصمت تلوذ‪،‬‬ ‫وإىل الخ َرس تَصري‪.‬‬ ‫***‬


‫لتفســير هــذه النتيجــة‪ ،‬افتــرض "ديــراك" أنه مــن الممكن‬

‫يســمى‬ ‫اعتبــار الفضــاء كبحــر مــن الطاقــة الســلبية ‪-‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫بحــر ديــراك‪ -‬وأن اإللكترونــات ال يســعها إال أن تطفــو‬ ‫علــى ســطح هذا البحر‪ .‬بعد تفكيــر أبعد اقترح ديراك أن‬

‫أي ثقــب فــي هــذا البحر يجب أن تكون شــحنته موجبة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وتصــور في البدايــة أن هذه الثقوب قد تكون بروتونات‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ثقبا كهذا يجب‬ ‫ولكن العالِم "هرمان وايل" أشار إلى أن ً‬

‫وسميت هذه الثقوب‬ ‫أن تكون له نفس كتلة اإللكترون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫معمليا في عام ‪.1935‬‬ ‫المقترحة بالبوزترون وتم رصدها‬ ‫ًّ‬

‫الميالد العملي‬

‫عقــب أربــع ســنوات علــى تنبــؤ ديــراك المحيــر‪ ،‬ولــد‬ ‫أول جســم مضــاد علــى يد العالِم "أندرســون"؛ جســم له‬

‫كتلــة اإللكتــرون وعكس شــحنته (أي موجب الشــحنة)‪،‬‬

‫وأطلــق علــى هــذا الجســيم المضــاد لإللكتــرون اســم‬

‫احتــواء المــادة المضــادة التــي تتكــون من جســيمات غير‬

‫"البوزيتــرون"‪ .‬كمــا وجد جســيم مضاد للشــق اآلخر من‬ ‫(معجــل) الجســيمات فــي مختبر لورانــس بيركلي‪ .‬وبعد‬ ‫ّ‬ ‫ذلــك اســتطاع المختبر األوروبي لفيزياء الجســيمات في‬

‫العام نفسه تركيب أول ذرة مضادة وهي ذرة الهيدروجين‬

‫المضــادة‪ ،‬وذلــك بدمــج البوزيترونــات والبروتونــات‬ ‫المضادة في مسرع للجسيمات‪.‬‬

‫فــي عــام ‪ 1995‬نجــح العلماء في إنتاج تســع ذرات‬

‫مــن الهيدروجين المضاد‪ .‬لكنها كانت نشــطة للغاية ولم‬

‫تماما للدراســة‪ .‬لحل هذه العقبة ومن أجل‬ ‫تكن مناســبة ً‬ ‫التوصــل إلى فهم أفضــل للهيدروجين المضاد‪ ،‬تم إنتاج‬

‫نشــاطا وأكثر مالئمة للدراســة في‬ ‫هيدروجين مضاد أقل‬ ‫ً‬ ‫السنوات القليلة الماضية‪.‬‬

‫ولكــن مــن أكبر القضايا العملية التي يمكن أن تواجه‬

‫إنتــاج المــادة المضادة هي قضة التخزين‪ ،‬حيث ال يمكن‬ ‫ألن المــادة المضــادة تتفاعــل مــع أي مادة نفســها‪ ،‬وتبيد‬ ‫نفســها والحاويــة‪ .‬ولكن وبما أن المــادة المضادة تتكون‬

‫مــن جســيمات مشــحونة‪ ،‬فيمكــن احتواؤهــا مــن خــال‬ ‫مزيــج مــن حقــل كهربائــي وحقل مغناطيســي فــي جهاز‬ ‫يعــرف بـــ"‪ ."Penning trap‬وهــذا الجهــاز ال يمكن مع ذلك‬

‫رحلة البحث عن المادة المضادة‬

‫توفــر األشــعة الكونيــة كميــات قليلــة مــن الجســيمات‬ ‫المضــادة‪ ،‬إال أن المــادة المضــادة موجــودة فــي الكــون‬ ‫وبشــكل واضــح وقابــل للقيــاس‪ ،‬فهــي تتكــون فــوق‬

‫رؤوسنا‪ .‬ففي السنوات الماضية سجل تلسكوب الفضاء‬

‫حزمــا مــن المــادة المضادة في الغــاف الجوي‬ ‫"فيرمــي" ً‬ ‫لــأرض داخــل الســحب المطيــرة والعواصــف الرعديــة‬

‫تحــدث نتيجــة للبــرق‪ .‬ورصــد العلماء حــدوث أكثر من‬ ‫‪ 500‬وميــض يومــي ألشــعة "غاما" في الغــاف الجوي‪.‬‬

‫وهــذه الومضات من أشــعة "جاما" تعطــي دالالت أكيدة‬

‫علــى أن العواصــف الرعديــة تنتــج‬ ‫حزمــا مــن المــادة‬ ‫ً‬ ‫المضــادة؛ حيــث إن اصطــدام أشــعة "غامــا" التــي تتمتع‬ ‫ُ‬ ‫نهائيا لها‪،‬‬ ‫بطاقــة محــدودة بجزيئات الهــواء‪ ،‬يضع ًّ‬ ‫حــدا ًّ‬

‫كمــا تنتقــل طاقتهــا إلــى زوج مــن الجســمين المتضادين‬ ‫اإللكترون والبوزترون‪.‬‬

‫إن دراســة الجســيمات المضادة أو الذرات المضادة‪،‬‬

‫يمكــن أن يســهم بفعاليــة في تعميق فهــم قوانين الفيزياء‪،‬‬

‫ولذلــك بــدأ العلماء بمحاولة تصنيع مواد مضادة خاصة‬ ‫بهــم‪ ،‬فابتدعــوا فــي الســنوات األخيــرة تقنيــات متطــورة‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫تخزين المادة المضادة في وعاء مصنوع من مادة عادية‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مســرع‬ ‫الــذرة (البروتونــات) فــي العام ‪ 1955‬باســتعمال‬ ‫ّ‬

‫مشحونة‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫علوم‬

‫محمد هاشم البشير*‬

‫املادة املضادة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫كيف ولدت؟ وأين اختفت؟‬

‫‪26‬‬

‫"إذا أردنــا أن نــرى التجلــي األعظــم‬ ‫الســم اهلل "القيــوم"‪ ،‬فمــا علينــا إال أن‬ ‫جــدا بحيث يمكنه‬ ‫نجعــل خيالنا‬ ‫واســعا ًّ‬ ‫ً‬ ‫أن يشــاهد الكــون بأســره‪ ،‬فنجعل منه نظارتيــن إحداهما‬ ‫ترى أبعد المســافات كالمرصد‪ ،‬واألخرى تشــاهد أصغر‬ ‫الذرات"‪( .‬سعيد النورسي)‬ ‫فــي عام ‪ 1928‬ولدت قضية فيزيائية جديدة مدهشــة‬ ‫اكتشــف أن لــكل مادة نقيضها‪،‬‬ ‫تدعــو إلــى الحيرة؛ حيث ُ‬ ‫ويعنــي ذلــك وجــود ذرات مضــادة يمكــن أن تجمــع‬ ‫هــذه الذرات المضادة‪ ،‬لتشــكل أشــياء مقابلة لكل شــيء‬ ‫نجوما مضــادة ومجرات مضادة‪ .‬إن‬ ‫موجــود فــي الكون؛‬ ‫ً‬ ‫المادة المضادة هي كالتوأم لمقابالتها من المادة في كل‬ ‫شــيء‪ ،‬إال أن لها شــحنة معاكسة‪ .‬وهي تبشر بفناء عنيف‬ ‫إذا حــدث والتقــى الزوجــان مــن المــادة العاديــة والمادة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معا‪ ،‬ألنه عندما يصطدم جسم بجسمه المضاد‪،‬‬ ‫المضادة ً‬

‫يفنــى كالهما وينشــأ حريق هائــل‪ .‬فعند دمج غرام واحد‬

‫مــن المــادة مــع قرينــه من المــادة المضــادة‪ ،‬يطلــق طاقة‬

‫تكافــئ نحــو ‪ 40‬ألــف طــن مــن مــادة التفجيــر (‪ ،)TNT‬أو‬ ‫طاقة تكفي ‪ 5000‬منزل لمدة عام كامل‪.‬‬

‫الميالد النظري‬

‫َت ّنبــأ الفيزيائــي "بــول ديــراك" بوجود نقيــض المادة حين‬

‫جســما مضا ًّدا ذا‬ ‫قال‪" :‬إن لكل جســيم من المادة العادية‬ ‫ً‬ ‫كتلة مساوية لكتلة الجسم‪ ،‬ولكنه يحمل شحنة كهربائية‬

‫مختلفة اإلشارة"‪ .‬توصل "ديراك" إلى هذه النتيجة عندما‬ ‫خرج بحلول سالبة القيمة لمعادلة اإللكترون النسبية إلى‬

‫عريضا‬ ‫ال‬ ‫جانــب الحلول موجبة القيمة‪ ،‬مما شــكل ســؤا ً‬ ‫ً‬

‫وهــو كيــف تكون هنالك قيم ســلبية للطاقة؟ في محاولته‬


‫كلمة اهلل ونصر دينه وغيظ عدوه‪.‬‬

‫والمذمــوم منــه‪ ،‬مــا كان للدنيــا والرياســة والفخــر‬

‫والخيــاء والتوســل إلــى الشــهوات‪ ،‬وأن يكــون هو غاية‬

‫المــرء وأقصــى مطلبــه‪ ،‬فــإن‬ ‫كثيــرا مــن النفــوس ليس لها‬ ‫ً‬

‫همة إال ذلك‪.‬‬

‫وأمــا مــا ال ُيحمــد وال يــذم‪ ،‬فهــو مــا خال عــن هذين‬

‫القصدين‪ ،‬وتجرد عن الوصفين‪.‬‬

‫من خالل هذا‪ ،‬يتبين أن الحكم الجمالي يعتمد على‬

‫مســايرا للخط‬ ‫عــدد مــن العوامــل‪ ،‬في مقدمتهــا أن يكون‬ ‫ً‬

‫العــام للمنهــج‪ ،‬ومنهــا مــا هــو مرتبــط بالوضــع النفســي‬ ‫لإلنســان‪ ،‬ومنهــا مــا هــو مرتبــط بالحــال والمناســبة التي‬

‫يجري فيها الحكم‪.‬‬

‫إن اللبــاس إذا اتخــذ للتجمــل وإظهــار نعمة اهلل على‬

‫اإلنسان فهو محمود‪ ،‬وهذا اللباس نفسه إذا اتخذ بدافع‬

‫الخيــاء والتعالــي فهــو مذمــوم‪ ،‬وهــو مــا يؤكــد علــى أن‬ ‫العامل النفسي هو المؤطر األساس لهندام اإلنسان‪ ،‬كما‬

‫أن الفطــرة قــادرة على التمييــز بين الحالين‪ ،‬ولكن وجود‬

‫الضابط يمنحنا فرصة في إصدار الحكم‪.‬‬

‫أمــا الحديــث عــن البنيــة الســيميائية للبــاس فتأخــذ‬

‫وظيفيــا‪ ،‬وليس مــن المنهج‬ ‫جماليــا وآخــر‬ ‫بعــدا‬ ‫بعديــن؛ ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫تغليــب أحــد البعديــن علــى اآلخــر‪ ،‬لمــا يــؤدي ذلك من‬ ‫خلل في المظهر اإلنســاني‪ ،‬أو في الغاية الوقائية المناطة‬

‫باللبــاس‪ ،‬وعليه فالبد من مراعاة عنصر الجمال وعنصر‬ ‫الوقاية في اختيار الهندام المناسب‪.‬‬

‫وعلــى العمــوم يمكن أن نقــول‪ :‬إن الظاهرة الجمالية‬

‫بعضا في تناســق‬ ‫في هذا الدين‪ ،‬بناء متكامل يشــد بعضه ً‬

‫وتنظيــم بديــع‪ ..‬إنهــا ليســت فلســفة فرديــة استحســنها‬

‫اآلخــرون فأصبحــت‬ ‫مذهبــا‪ ،‬بل هي كيان قائــم في ذاتية‬ ‫ً‬ ‫هــذا الديــن تدخــل فــي لحمتــه وعمقــه‪ ،‬يظهــر أثرهــا من‬ ‫خــال اللــون والشــكل‪ ،‬ومــن خــال التناســق والتنظيم‪،‬‬

‫ومــن خــال المواءمــة والتعاون‪ ،‬فكل مــا يرغب فيه هذا‬ ‫الدين أو يأمر به يوصل إلى الجمال‪.‬‬

‫(*) كاتب وباحث مغربي‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪25‬‬

‫يا قاد ًما من بعيد‬

‫َش َّوا َق ٌة إليك قلو ُبنا‪،‬‬ ‫افات عليك أرواحنا‪،‬‬ ‫لَ َّه ٌ‬ ‫سئَّالة عنك عيوننا‪..‬‬ ‫متى نَطوي أزمان االنتظار؟!‬ ‫ولِم ْقدمك ور ًدا نفرش الطريق‪،‬‬ ‫وعط ًرا نرشها؟!‬ ‫متى تُبعث حياتُنا من جديد‪،‬‬ ‫وبأنفاسك تحيا وبنورك تستنري؟!‬ ‫***‬


‫إن الظاهرة الجامليــة يف هذا الدين‪ ،‬بناء متكامل‬

‫نقيــس الجمــال؟ أو كيف نتأكد من مدى واقعية المقياس‬

‫ليست فلسفة فردية استحسنها اآلخرون فأصبحت‬

‫إن الحــس ال يهتــدي إال بهــاد يهديــه‪ ،‬وإن العقــل ال‬

‫ً‬ ‫يشد بعضه‬ ‫بعضا يف تناســق وتنظيم بديع‪ ..‬إنها‬

‫الجمالي وصحته في اإلنتاج؟‬

‫مذه ًبا‪ ،‬بل هــي كيان قائم يف ذاتيــة هذا الدين‬

‫يسترشــد إال بمرشــد يرشــده ومن الزلل يحميــه‪ ،‬ولذلك‬

‫تدخــل يف لحمتــه وعمقه‪ ،‬يظهر أثرهــا من خالل‬

‫كان البد للحس من معالم يرجع إليها لضبط سلوكه في‬

‫اللون والشكل‪ ،‬ومن خالل التناسق والتنظيم‪.‬‬

‫التصــور الجمالي‪ .‬فــإن للصورة مفاهيم متباينة تســتدعي‬

‫مــن الحــس الناقــد تقليبها علــى أوجهها وســبر مكوناتها‬

‫المؤديــة إلــى النتيجة‪ ،‬حتى ال يزيــغ الحس الجمالي في‬

‫ُِ‬ ‫ِخ ْن ِزيــرٍ َف ِإ َّن ُه رِ ْج َ ِ‬ ‫ــل ِل َغي ِر ا ِ‬ ‫هلل ِب ِه‪(‬األنعام‪)145:‬؛‬ ‫ٌ‬ ‫س أ ْو ف ْســ ًقا أه َّ ْ‬ ‫س‪ ‬في اآليتين العظيمتين تشــير بوضوح‬ ‫إن كلمــة ‪‬رِ ْج ٌ‬

‫اإلنتاج‪.‬‬

‫وقــد أدى انعــدام ضوابط القياس الجمالي وانحرافها‬

‫إلى علة التحريم‪ ،‬والرجس هو القذر والنجس والقبيح‪،‬‬

‫في عالم الفن إلى فســاد عظيم في مفهوم الجمال‪ ،‬حتى‬

‫وبذلك يكون هو الوجه المقابل للجمال‪.‬‬

‫ال أو كاد‪ ،‬كما هو مالحظ في إنتاجات‬ ‫أصبح القبح جما ً‬

‫دينــا يجعــل الجمال والقبح علــة في التحريم‬ ‫أرأيــت ً‬

‫بعض المدارس الفنية‪ ،‬حيث وصل بها الفساد في الذوق‬

‫والتحليــل أو حكمــة؟ إنــه اإلســام‪ ،‬فهــل بعــد ذلــك من‬

‫الجمالــي إلــى فقــدان التمييــز بيــن األلــوان اإلبداعيــة في‬

‫عنايــة بأمــر الجمــال؟ ولم ينحصــر هذا في نطــاق التنظير‬

‫عالم الذوق الجمالي الهادف‪.‬‬

‫والتحليــل‪ ،‬بــل تجــاوز ذلــك إلــى واقــع النــاس ومجــال‬ ‫ال متنوعــة‬ ‫الهنــدام وأولــوه عنايــة كبيــرة‪ ،‬فاتخــذ أشــكا ً‬ ‫وأســامي متعــددة بحســب األعــراف والعــادات الموا ِفقــة‬ ‫َ‬ ‫لفحــوى رســالة اإلســام فــي العناية بهذا األمــر في إطار‬ ‫التوجيه القرآني والبيان النبوي في هذا الموضوع‪.‬‬

‫إنه تدريب وتربية للمســلم من خالل النص القرآني‪،‬‬

‫أن يســتعين بالمقيــاس الجمالــي فــي إتيــان األشــياء أو‬

‫االبتعــاد عنهــا‪ .‬ألم يطلب القرآن الكريم من المســلم أال‬

‫يرفــع صوتــه بغير ضرورة؟ فكان التعليــل لذلك بالقبح‪،‬‬ ‫ض ِم ْن َص ْو ِت َك‬ ‫‪‬وا ْق ِص ْد ِفي َم ْشــي َ‬ ‫ِك َو ْاغ ُض ْ‬ ‫فقــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫أل ْصــو ِ‬ ‫ات َل َص ْــو ُت ا ْل َح ِم ِير‪(‬لقمــان‪ ،)19:‬وهــذا‬ ‫إ َِّن َأ ْن َك َــر ا َ َ‬ ‫التركيــب يفيــد ِع ّليــة النهــي‪ .‬يقــول المفســرون فــي مثــل‬ ‫"إن" ومــا بعدهــا في مقــام التعليــل‪ ،‬وهكذا‬ ‫هــذا المقــام‪ّ :‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫يكون التحريم بالقبح وهو تعليل بمقياس جمالي‪ .‬أليس‬

‫‪24‬‬

‫هــذا تربية على اســتعمال المقاييس الجمالية واالســتعانة‬

‫بالحس الجمالي؟‬

‫المعيار الجمالي‬

‫عــول‬ ‫خــط‬ ‫القلــم فيمــا تقــدم‪ ،‬كيــف أن القــرآن الكريــم ّ‬ ‫ُ‬ ‫علــى الحــس الجمالي كدليل‪ ،‬واآلن يتســاءل القلم كيف‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التنزيــل‪ .‬فقــد عنــي المســلمون منــذ الزمــن األول بأمــر‬

‫حك ًمــا في هذه‬ ‫إن الفطــرة الســليمة يمكــن أن تكــون َ‬

‫القضيــة‪ ،‬وقــد أتــاح لهــا اإلســام أن تأخذ دورهــا الكبير‬

‫في تحديد استقامة هذا الحس‪ ،‬بيد أنه لما كان انحرافها‬ ‫متوقعا نتيجة للعوامل الكثيرة التي تحيط بها‪ ،‬فقد وضع‬ ‫ً‬

‫المنهج اإلسالمي قواعد عامة يرجع إليها في الحاالت‬ ‫التــي يشــتبه بهــا‪ ،‬أو فــي الحاالت التي يفســد فيها الذوق‬ ‫إلغاء لدور الفطرة وإنما التوجيه‬ ‫ويتبلــد الحــس‪ .‬إنه ليس‬ ‫ً‬

‫لهــا واألخــذ بيدها‪ ،‬حيث تتاح لهــا حرية العمل في إطار‬ ‫المنهــج اإلســامي العــام؛ ألن الفطــرة تنســاق مســاق‬

‫العوامل الخارجية المحيطة بها‪.‬‬

‫وفــي ميــدان التربيــة الجماليــة يحــدد لنــا المنهــج‬

‫المقاييــس العامــة لتصرفاتنــا الجماليــة‪ ،‬وقــد لخــص ابن‬ ‫القيــم الجوزيــة ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬الخطوط العامة للمنهج في‬

‫هذا الميدان‪ ،‬فجعل الجمال في الصورة واللباس والهيئة‬

‫ثالثــة أنــواع؛ منــه ما ُيحمد ومنه ما ُيذم‪ ،‬ومنه ما ال يتعلق‬ ‫به مدح وال ذم‪.‬‬

‫فالمحمــود منــه‪ ،‬ما كان هلل وأعــان على طاعته وتنفيذ‬

‫أوامره واالستجابة له‪ ،‬كما كان النبي ‪ ‬يتجمل للوفود‪،‬‬

‫وهــو نظيــر لباس آلــة الحرب للقتال‪ ،‬ولبــاس الحرير في‬

‫الحرب والخيالء فيه‪ ،‬فإن ذلك محمود إذا تضمن إعالء‬


‫تربية‬

‫صهيب مصباح*‬

‫الرتبية عىل حب الجامل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫اإلسالم هو دين جعل من قضية الجمال‬ ‫جديرا باالهتمام مؤ َّط ًرا ضمن‬ ‫موضوعــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مواضيــع الدين‪ ،‬فقرر لــه مكانته وجعله‬ ‫ضمن الواجبات التي ينبغي على المسلم السعي من أجل‬ ‫صريحا ضد‬ ‫تحقيقهــا‪ ،‬بــل إن القرآن الكريم وقف موق ًفا‬ ‫ً‬ ‫الحامليــن علــى قضية الجمــال اإلنســاني‪ ،‬فأضاف الحق‬ ‫‪ ‬الزينة لنفســه إضافة تشــريف وتكريم‪ ،‬وفتح لإلنسان‬ ‫واســعا مــن مجــاالت بناء اإلنســان‪ ،‬فقــال تعالى‪:‬‬ ‫ال‬ ‫مجــا ً‬ ‫ً‬ ‫ــن َحــر َم ِز َين َة ا ِ‬ ‫هلل ا َّل ِتي َأ ْخر َج ِل ِعبــا ِد ِه َوال َّط ِيب ِ‬ ‫ات ِم َن‬ ‫‪‬قــل م‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ ْ َّ‬ ‫الد ْن َيا َخا ِل َص ًة َي ْو َم‬ ‫الــر ْز ِق ُق ْ‬ ‫آم ُنوا ِفي ا ْل َح َيــا ِة ُّ‬ ‫ــل ِه َي ِل َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫ِّ‬ ‫عاما في المنهج‬ ‫ال ِق َي َام ِة‪(‬األعــراف‪)32:‬؛ إنهــا آيــة تقرر مبدأ ًّ‬ ‫اإلسالمي مفاده أن التجمل أمر يطلبه المنهج لكونه من‬ ‫الفضائل المقصودة‪.‬‬ ‫ولــم يقــف القــرآن الكريم عند هــذا الحد بخصوص‬

‫موضوع الجمال‪ ،‬بل تذهب اآلية الكريمة إلى مدى أبعد‬ ‫مــن ذلــك‪ ،‬فتجعــل الجمــال والقبــح أو الطيــب والخبث‬ ‫ال على‬ ‫ا للتحريــم أو التحليــل‪ ،‬ليصبــح الجمــال دلي ً‬ ‫علــ ً‬ ‫ومعينا على تمييز‬ ‫ال على التحريم‪،‬‬ ‫التحليــل والخبــث دلي ً‬ ‫ً‬ ‫الخبيــث مــن الطيــب والغــث من الســمين‪ ،‬ومــا الخبيث‬ ‫فــي ميــدان األطعمة إال القبيح والســيء‪ ،‬ومــا الطيب إال‬ ‫الجميل‪.‬‬ ‫ويتأكــد هــذا المعنــى فيمــا بثــه اهلل تعالــى فــي القــرآن‬ ‫الكريــم مــن ومضات جماليــة دلت عليها إشــارات بيانية‬ ‫آم ُنوا‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َهــا ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫آليــات القــرآن الكريم‪ ،‬قــال تعالى‪َ :‬‬ ‫ــاب َوا َ‬ ‫ِإ َّن َمــا ا ْل َخ ْمــر َوا ْل َمي ِســر َوا َ‬ ‫ــن‬ ‫أل ْز َ‬ ‫ــس ِم ْ‬ ‫أل ْن َص ُ‬ ‫ال ُم رِ ْج ٌ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون‪(‬المائــدة‪،)90:‬‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ــم‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ــوه‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫اج‬ ‫ف‬ ‫ان‬ ‫ط‬ ‫الش ْــي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َع َم ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ ُ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ــل َّ‬ ‫ال َأ ِج ُد ِفي َما ُأ ِ‬ ‫وحــي ِإ َلي ُم َحر ًما َع َلى‬ ‫أيضــا‪ُ  :‬ق ْل َ‬ ‫وقــال ً‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫َط ِ‬ ‫وحا َأ ْو َل ْح َم‬ ‫ــم َي ْط َع ُم ُــه ِإ َّ‬ ‫ال َأ ْن َي ُك َ‬ ‫اع ٍ‬ ‫ون َم ْي َت ًة َأ ْو َد ًما َم ْســف ُ ً‬

‫‪23‬‬


‫نســبيا‪ ،‬وتخــزن المعلومــات ألوقات قصيرة تتــراوح بين‬ ‫ًّ‬

‫يكن للشــافعي شــيء آخر غير العقل الذي خلقه اهلل لكل‬

‫من الذاكرة الحسية إلى الذاكرة قصيرة المدى‪.‬‬

‫فقدان الذاكرة‬

‫‪ 0.5-0.1‬مــن الثانيــة‪ ،‬حيث يتم نقل بعــض المعلومات‬

‫الناس‪ ،‬ولكن كان له قلب ملؤه اإليمان والثقة باهلل ‪.‬‬

‫‪-2‬الذاكــرة قصيــرة المــدى‪ :‬هــي المرحلــة مــا بيــن‬

‫ذاكــرة المــرء كتــاب تســ َّطر صفحاتــه علــى مــر األيــام‪،‬‬

‫الذاكرة الحســية والذاكرة طويلة المدى‪ ،‬وتشــمل إدراكنا‬

‫فهــي أشــبه بالمفكــرة التــي يســجل فيهــا اإلنســان يومياته‬

‫لــكل اإلحساســات والمشــاعر واألفكار التــي واجهناها‪،‬‬

‫ويكتــب فيهــا األحداث التي مرت عليه‪ ،‬ليرجع إليها في‬

‫وتســمى أحيا ًنــا بـ"الذاكــرة العاملــة"‪ .‬وال تتالشــى‬ ‫المعلومــات فــي هــذه الذاكرة بســرعة كما هــو الحال في‬

‫منا فهي‬ ‫المســتقبل عنــد الحاجة‪ .‬كذلــك ذاكرة كل واحد ّ‬ ‫ُت ّثبِت وتمحو؛ ُت ّثبِت ما يهمنا و ُتغ ِفل ما ال نحفل به‪ .‬وكما‬ ‫تصــاب اليوميات بآفــات فتتآكل منها ويبهت الحبر الذي‬

‫الذاكــرة الحســية‪ ،‬حيث تســتمر فترة ‪ 30‬إلــى ‪ 40‬ثانية ما‬ ‫لم يتم تجهيزها في مرحلة أخرى‪.‬‬

‫تكتــب بــه الصفحــات ثم تضيــع بعضها‪ ،‬كذلــك الذاكرة‬

‫‪-3‬الذاكــرة طويلــة المــدى‪ :‬هــي الذاكــرة القويــة التي‬

‫اإلنسانية تصيبها مثل هذه اآلفات فتضيع منها صفحات‬

‫تحتفــظ بالمعلومــات والخبــرات مهمــا كانــت بعيــدة أو‬

‫ويبهــت منها صفحات ويمحــى البعض اآلخر‪ ،‬كل ذلك‬

‫قديمة‪ ،‬وتسترجعها في سهولة ويسر وبكفاءة عالية‪ ،‬وهي‬

‫فــي صفحــات الماضي الذي ســجله المرء خالل الحياة‪.‬‬

‫ذاكــرة تقاوم النســيان عامة‪ .‬وكمــا ذكرنا فإن التخزين في‬

‫يعبــر عنهــا بأمــراض الذاكرة أو‬ ‫وهــذه اآلفــات هــي التــي َّ‬

‫الذاكــرة الحســية والذاكــرة قصيرة المدى له ســعة ووقت‬

‫لكــن الذاكــرة طويلــة المــدى تقــوم بتخزيــن المعلومــات‬ ‫لفترة غير محددة ولها سعة تخزينية أكبر‪.‬‬

‫أوهام ضعف الذاكرة‬

‫ليســت هنــاك ذاكــرة قويــة وأخــرى ضعيفــة كمــا يعتقــد‬

‫البعــض‪ ،‬لكــن الحقيقــة أن هــؤالء األشــخاص يملكــون‬ ‫مدربة؛ فالمعلومات التي يبدو أن اإلنســان قد‬ ‫ذاكرة غير ّ‬

‫طــوى صفحاتها‪ ،‬ما زالت موجودة بالذاكرة‪ ،‬ولكن لكي‬ ‫تظهر يلزمها إظهار (استرجاع)‪ .‬وكيف تمحى المعلومات‬

‫وهي شاهد لإلنسان أو عليه‪ ،‬ومرتبطة بسجل عمله الذي‬

‫ــان‬ ‫ســيجده‬ ‫‪‬ي ْــو َم َي َت َذ َّك ُــر ا ِ‬ ‫إل ْن َس ُ‬ ‫حاضــرا يــوم القيامــة‪ْ ،‬‬ ‫أي َ‬ ‫ً‬ ‫َمــا َس َــعى‪(‬النازعات‪ ،)35:‬وتتضمــن المعلومــات المتعلقــة‬ ‫بالماضــي القريب والماضي البعيد‪ ،‬وهي األرســخ وهي‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫التي تقاوم وتعمل مع وجود تلفيات في المخ وتســتمر‬

‫‪22‬‬

‫طوال الحياة‪.‬‬

‫كان اإلمــام الشــافعي ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬يقــرأ الصفحــة‬

‫فيحفظهــا عــن ظهر قلب‪ ،‬بل ويضــع يديه على الصفحة‬ ‫المقابلــة لكــي ال يتداخــل محتواها في عقله مع محتوى‬ ‫ســابقتها‪ .‬فكــم عــدد الترابطــات بيــن النيورونــات التــي‬ ‫ذكرناهــا عــن الشــافعي لتتمتــع ذاكرتــه بهذه القــدرة؟ لم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫محدديــن‪ ،‬ممــا يعنــي أن المعلومــة متاحة لوقــت محدد‪،‬‬

‫فقدان الذاكرة‪.‬‬

‫فاإلنســان يملــك مليــارات الخاليــا الدماغيــة‪ ،‬ولكن‬

‫مــع التقــدم فــي الســن يمــوت معظمهــا مــن دون أن يتم‬ ‫اســتبدالها‪ ،‬كمــا يأخــذ الجســد بإنتــاج كميــات أقــل مــن‬

‫الكيميائيات التي يحتاجها الدماغ ليعمل بشــكل طبيعي‪.‬‬ ‫وبالرغــم مــن أن الذاكرتين القصيرة األمد والبعيدة األمد‬

‫ال تتأثران بهذه العملية عادة‪ ،‬إال أن الذاكرة القريبة العهد‬ ‫من شأنها أن تتدهور مع التقدم في السن‪.‬‬

‫واآلن بعــد هــذه الجولــة الســريعة التــي خضناهــا بين‬

‫ســطور القــدرة اإللهيــة‪ ،‬أدركنــا أن الذاكرة ليســت ســوى‬

‫شــجرة متواصلــة النمــو تتغــذى بالمعلومــات الجديــدة‪،‬‬

‫فقط على اإلنسان أن يحاول ‪-‬من وقت آلخر‪ -‬تشذيب‬

‫فروعهــا‪ ،‬وإزالــة بعــض أغصانهــا الجافة والهشــة التي ال‬ ‫حاجة لها‪.‬‬

‫إذن ال يكفي أن يكون لك عقل ممتاز‪ ،‬بل األهم أن‬

‫صحيحا‪ ...‬حكمــة قالها‬ ‫ال‬ ‫تســتعمل هــذا العقــل اســتعما ً‬ ‫ً‬

‫الفيلســوف "ديكارت"‪ :‬ولكن كيف نســتخدم هذا العقل؟‬ ‫تلك المنحة الربانية‪ ..‬سؤال يحتاج إلى إجابة‪.‬‬

‫(*) استشاري في طب وجراحة العيون‪ ،‬وعضو الجمعية الرمدية المصرية‪.‬‬


‫األحــداث والتجــارب والمرائــي والمشــاهدات؟ حــاول‬

‫بشرية إلى اللغة الثنائية‪.‬‬

‫مــن قديــم الزمــان بوضع بعــض النظريــات منهــا‪ :‬نظرية‬

‫عنــد الحاجــة كمــا يتم تخزيــن المعلومات علــى القرص‬

‫التخزيــن‪ :‬يتــم حفظ المعلومات من أجل الرجوع لها‬

‫العلماء الرد على هذه األســئلة التي تشــغل بال اإلنســان‬ ‫األثـ�ر للفيلسـ�وف "أرسـ�طو"‪ ،‬والنظريـ�ة المائيـ�ة‬

‫الصلب‪.‬‬

‫(�‪Hydrau‬‬

‫االســترجاع‪ :‬يتــم إعــادة المعلومــات المرمــزة مســب ًقا‪،‬‬

‫‪ )licTheory‬للفيلســوف الشــهير "رنييــه ديــكارت"‪ ،‬ونظريــة‬

‫تقريبا‪ ،‬كما يتم‬ ‫وإعادتها لنفس الطبيعة التي استقبلت بها‬ ‫ً‬

‫تحور االشتباكات العصبية (‪ ،)Synaptic Modification‬ونظرية‬

‫الحامــض النــووي (‪ ،)DNA‬ونظريــة "المجــال التكوينــي"‬

‫في الحاسوب إعادة المعلومات باللغة الثنائية إلى أصلها‬

‫شــيلوريك"‪ .‬لكن هــذه النظريات وغيرها لم تتوصل إلى‬

‫جيدا أن مراحل تكوين الذاكرة‬ ‫إذن‪ ،‬ما ينبغى أن نعيه ً‬

‫فمــن عجائــب القــدرة اإللهيــة فــي الخلــق والتقديــر‪،‬‬

‫مــن مرحلــة الذاكــرة المؤقتة إلى مرحلــة الذاكرة الدائمة‪،‬‬

‫ال‪.‬‬ ‫كالنصوص مث ً‬

‫(‪ )Theory of Morphogenic Field‬للعالــم األمريكــي "روبــرت‬

‫تتلخــص فــي تخزيــن المعلومة‪ ،‬ثم االحتفــاظ بها ونقلها‬

‫مكان الذاكرة في المخ‪.‬‬

‫ثــم المرحلــة األخيــرة وهــي مرحلــة اســترجاع المعلومــة‬

‫هــذه الذاكــرة البالغــة التعقيد والمتناهية الدقــة والمترامية‬

‫واستدعائها في الوقت الذي نحتاجها فيه‪.‬‬

‫الشــمول‪ ،‬ومــا يجعلهــا مذهلــة ح ًّقــا كونهــا ال يوجــد لها‬

‫فالعقــل البشــري يمتلــك خصائــص ومميــزات هائلة‬

‫وتخزن فيه‬ ‫مــكان محــدد في المــخ توضع فيه الملفــات‬ ‫ّ‬

‫وقــوة عظيمــة على التخزيــن والتذكر والربــط والتحليل‪.‬‬

‫األرشيفات‪.‬‬

‫ثــم علــى اإلنســان‪َ -‬ت َّبيــن مــن خاللهــا بــأن أهــم المراكز‬ ‫العصبيــة فــي الدمــاغ للذاكرة هــي المنطقــة الصدغية من‬

‫القشــرة الدماغيــة (‪ ،)temporal area‬واألجســام الحلميــة في‬

‫منطقــة الهيبوتالمــوس (‪ ،)Mamillary‬والجهــاز الطرفــي‬

‫أو الحافــي (‪ ،)Limbic System‬كمــا يضــاف إلــى ذلــك دور‬ ‫التكوين الشبكي في الدماغ (‪.)Reticular Formation‬‬

‫وقــد ثبــت بــأن الجهــاز الطرفــي ‪-‬وأبرز األجــزاء فيه‬

‫المســمى بـ"حصــان البحــر" (‪ -)Hippocampus‬هو أهم جزء‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إال أنه قد أجريت حدي ًثا عدة دراسات ‪-‬على الحيوان‬

‫ال‪ -‬قادر ٌة على االحتفاظ بحوالي‬ ‫هل تعلم أن عقولنا ‪-‬مث ً‬ ‫‪ 100‬بليــون معلومــة؟ وهذا الرقم يعادل ما تتضمنه دائرة‬

‫معارف‪ ،‬وأنها تمتلك ‪ 200‬بليون خلية؟ أي ما يعادل عدد‬ ‫النجوم في بعض المجرات الكونية‪ .‬ومع عجائب خلق‬

‫فعليا ال نستخدم سوى واحد بالمائة من‬ ‫اهلل فينا‪ ،‬إال أننا ًّ‬ ‫قدرات عقولنا‪ ،‬بينما تظل تســعة وتســعون بالمائة مهملة‬ ‫دون استخدام‪ .‬يقول وليام جيمس‪" :‬إننا نستخدم أقل من‬

‫‪ %10‬من قوانا العقلية"‪ ..‬كيف لو استطعنا استخدام ‪%20‬‬ ‫مــن طاقــة عقولنا‪ ،‬فكيف ســتكون حياتنا عندئــذ يا ترى؟‬

‫عصبي يقوم بوظيفة الذاكرة‪ .‬كما ثبت بأن القشرة المخية‬

‫أنواع الذاكرة‬

‫القشــرة المخيــة الجبهيــة‪ ،‬يــؤدي إلــى نســيان المعلومات‬

‫منهــا مــا هــو قائــم على طــول الذاكــرة أو نــوع الذاكرة أو‬

‫هامــا فــي الذاكــرة‪ ،‬وأن إصابــة هذه‬ ‫دورا ًّ‬ ‫الجبهيــة تلعــب ً‬

‫قسم العلماء الذاكرة إلى العديد من التقسيمات المختلفة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫اآلنية‪.‬‬

‫قــوة الذاكــرة‪ ،‬إلى غير ذلك من التقســيمات العلمية التي‬

‫كيف تعمل الذاكرة البشرية؟‬

‫والتخزين واالسترجاع‪.‬‬

‫الترميز‪ :‬يتم تغيير المعلومات التي نستقبلها من البيئة‬

‫المحيطــة بنــا إلــى شــكل آخــر مــن المعلومــات‪ ،‬بحيــث‬

‫يمكن للدماغ التعامل معها‪ ،‬وهي طريقة شبيهة بالطريقة‬ ‫التــي يتــم تغييــر النصــوص المدخلــة للحاســوب من لغة‬

‫شــيوعا‪-‬‬ ‫ال أو‬ ‫يتســع المقام لذكرها‪ ،‬إال أن أكثرها ‪-‬قبو ً‬ ‫ً‬ ‫هــو ذلــك التقســيم الــذي يصنــف الذاكــرة الصريحة إلى‬

‫ثالثة أنواع وهي‪:‬‬

‫‪-1‬الذاكــرة الحســية‪ :‬وهــي الذاكرة التــي يتم تخزين‬

‫كافة المعلومات المســتقبلة عن طريق الحواس الخمســة‬ ‫بشكل فوري‪ ،‬وتمتلك هذه الذاكرة مساحة تخزين واسعة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫هنــاك ثالثة مراحل رئيســية تمر بهــا الذاكرة وهي الترميز‬

‫تدخــل القارئ في دوامــة المصطلحات العلمية والتي ال‬

‫‪21‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬ممد السقا عيد*‬

‫ما هي الذاكرة؟‬ ‫اتفق العلماء على تعريف بســيط للذاكرة‬

‫تمييــز عشــرة آالف صــورة مــن بين عشــرين أل ًفــا كان قد‬

‫والمعلومــات‬

‫"صورا فوتوغرافية"‪،‬‬ ‫العلمية بأن ذكريات اإلنسان ليست‬ ‫ً‬

‫أو مفقــودة‪ ،‬يتعــذر أن نعــرف مــن نكــون‪ ،‬ونصبح تحت‬

‫خاطئا‪ ،‬فليس هناك أية مكتبة مهما بلغت‬ ‫تشبيها‬ ‫ليس إال‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فقالــوا‪ :‬هــي القدرة على تذكــر التواريخ‬ ‫والوجــوه‬

‫والحقائــق‬

‫واألشــكال والمعطيــات‪ .‬وعندمــا تكــون الذاكــرة فارغــة‬ ‫رحمــة أي مؤثــر خارجي‪ .‬وإذا علمت بأن مخك يحتوي‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫علــى ‪ 100‬مليــار من الخاليا العصبية يربط بينها تريليون‬

‫‪20‬‬

‫وصلــة فــي كل ســنتمترٍ مكعــب واحــد تطلــق ‪ 10‬مليــون‬ ‫نبضــة كل ثانيــة‪ ،‬عرفــت بــأن ذاكرتــك عبارة عــن مصنع‬ ‫معقــد موجود في عضــو ال يزيد وزنه‬ ‫كهربائــي كيمــاوي ّ‬ ‫تقريبا‪.‬‬ ‫عن ‪ 1.5‬كجم‬ ‫ً‬

‫لقد أظهر عدد من االختبارات أن اإلنســان يســتطيع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫شــاهدها قبــل أســبوع مــن الزمــن‪ .‬وتوضــح األبحــاث‬

‫وأن تشــبيه الذاكــرة بـ"مكتبــة" أو "خزانــة المحفوظــات"‬ ‫مــن الضخامــة‪ ،‬وال أي مــخ حتــى لو كان مــخ فيل‪ ،‬قادر‬ ‫الكم الهائل من المعلومات‪.‬‬ ‫على احتواء هذا ّ‬

‫أين توجد الذاكرة؟‬

‫تخــزن الذكريــات؟ أيــن يوجــد ذلــك الحشــد الهائل‬ ‫أيــن‬ ‫َّ‬

‫مــن بصمات الماضي وعالمات الزمن؟ وكيف يســتطيع‬

‫مخزن الذكريات أن يســتوعب ذلك الســجل الحافل من‬ ‫ِّ‬


‫وجد نفســه خســر الكثيــر من العالقــات فوقه وتحته‪،‬‬

‫بعــض كالمــي‪ :‬يــا أبا عبد اهلل عليك عيــال‪ ،‬ولك صبيان‪.‬‬

‫الخسارة في نهاية المطاف‪ ،‬ألنه يرى نفسه قد كسب في‬

‫كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد‬

‫استرحت"‪( .‬طبقات الحنابلة)‬

‫وســع دائــرة المنطقة‬ ‫ال يدعــي أنه كســب نفســه ح ًّقا‪ ،‬بل ّ‬

‫القلب‬ ‫اســترق‬ ‫فــي الحقيقة هو رق القلب وعبوديته‪ ،‬فما‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫واستعبده فهو عبده‪ ،‬ولهذا يقال‪:‬‬

‫وخســر الكثيــر مــن الفــرص الثمينــة وهــو راض عن هذه‬

‫أســهل عليــه اإلجابة‪ ،‬فقــال لي‪ :‬إن‬ ‫وأنــت معــذور‪ ،‬كأني ّ‬

‫مقابلها الشيء الكثير‪ ،‬كسب مساحات أوسع من نفسه‪.‬‬

‫في كتاب العبودية البن تيمية يقول‪" :‬الرق والعبودية‬

‫المحــررة مــن نفســه‪ ،‬والتي صبر فيها علــى مطاردة فلول‬ ‫األصدقــاء والمحبيــن والداعميــن والمشــجعين‪ ،‬وظــل‬

‫العبد الحر ما َق ِنع ‬

‫يمشطها مرة بعد األخرى ليتمكن من سماع صوت نفسه‪..‬‬

‫وقال القائل‪:‬‬

‫تعود أن يتجرع بعض المرارات‪ ،‬وأن يتوقع المفاجآت‪،‬‬ ‫َّ‬

‫أطعت مطامعي فاستعبدتني‬ ‫ُ‬

‫وأن يتعامل بروح رياضية مع خيبات األمل‪ ..‬من المؤكد‬

‫ ‬

‫تطبع‬ ‫أن النفــس بطبعهــا‪ ،‬تكره مثل هــذه المعاني‪ ،‬ولكنه ّ‬

‫الغل من العنق زال القيد من الرجل"‪.‬‬

‫لــدى المــرء العاقل قدر من "الحكمة" تعني الحصافة‬

‫القناعــة حتى فــي برامجنا ومشــاريعنا‪ ،‬واعتدال حتى‬

‫والمجاملة المعتدلة‪ ،‬وحسن التعامل ولطف القول وحسن‬

‫قــدرا من الحرية‬ ‫فــي طموحاتنــا وتطلعاتنا‪ ،‬فذلك يحفظ ً‬

‫اإلعــراض‪ ،‬وقــدر آخــر يتعلــق برؤية الصواب فــي أقوال‬

‫ــد مناقضــة‬ ‫تعم َ‬ ‫ليســت الحريــة هــي التبجــح‪ ،‬أو ُّ‬ ‫واحتــراف المعارضة لمجرد المخالفة لفرد أو‬ ‫اآلخريــن‪،‬‬ ‫َ‬

‫جهة أو تيار أو شيء مألوف ألنه مألوف‪ ،‬أو شيء جديد‬

‫البحث‬ ‫ألنــه جديــد‪ ،‬أو حكومــة ألنها حكومــة‪ ..‬وال هي‬ ‫َ‬ ‫عــن مواطــن الزلل والخطل ومحاصــرة الناس بها‪ ،‬وكأنه‬ ‫كثيرا من البشر‬ ‫ظفر بكنز ثمين‪ ..‬بيد أن التجربة تعطي أن ً‬ ‫ال يتوقــف األمــر عندهــم علــى موقــف واحــد أو مواقف‬

‫دائما‬ ‫عــدة‪ ،‬هــم يريدونك ُكلّك بغير اســتثناء‪ ،‬ويريدونك ً‬ ‫وأبدا بغير توقيت‪.‬‬ ‫ً‬

‫قيــد الزوجيــة‪ ،‬وقيــد العمل‪ ،‬وقيــد المدرســة العلمية‬

‫أو الفكريــة أو الدعويــة‪ ،‬وقيــد المجتمــع‪ ،‬وقيد التيارات‬

‫المتخالفــة‪ ،‬وقيد الســلطة‪ ،‬وقيد األتبــاع‪ ،‬وقيد الجمهور‪،‬‬ ‫أكثرهــا‪ ،‬ومــا أشــق الخــاص منهــا وأصعــب اكتشــافها‪،‬‬ ‫ون‪(‬الحشر‪.)9:‬‬ ‫وق ُش َّح َن ْفسِ ِه َف ُأو َلئ َ‬ ‫‪‬و َم ْن ُي َ‬ ‫ِك ُه ُم ال ُْم ْفل ُِح َ‬ ‫َ‬

‫تبجحــا بالحرية هــم أقل الناس‬ ‫يبــدو أن أكثــر النــاس‬ ‫ً‬

‫حظًّا منها‪ ،‬وقد قال أحمد بن داوود‪" :‬دخلت على اإلمام‬ ‫أحمــد بــن حنبــل في الحبــس قبل الضــرب‪ ،‬فقلت له في‬

‫الذاتيــة التــي نعيــش بها‪ ،‬ويصبح لحياتنــا معنى‪ .‬من دون‬ ‫العالقــة مــع اآلخريــن وإحكامهــا مــن فوقنــا ومــن تحتنا‬ ‫ومــن ُيســاوينا لــن يتحقــق إنجــاز ولــن يكون نجــاح‪ .‬فال‬ ‫َ‬ ‫عالقــة مــع اآلخريــن بغير تواصل وتفاهــم وحوار وأخذ‬

‫وعطاء وأخالق وإغضاء‪ .‬وبهذا ســتحصل على قدر من‬ ‫النجاح والتميز يفوق ما تحلم به‪.‬‬

‫وهــذا ســيضعك فــي مواقــف ومنعطفــات ومِحكّ ات‬

‫مت‬ ‫طلبا للمزيد دون شروط ولو ّ‬ ‫قد َ‬ ‫اختبار‪ ..‬هل تمضي ً‬ ‫عب َدك من‬ ‫نفســك قربا ًنــا‪ ،‬أو َت‬ ‫ُ‬ ‫حفــظ مــا اختصك اهلل بــه و َت ّ‬

‫المســؤولية الذاتيــة والرؤيــة الخاصــة‪ ،‬وإن َف ّــو َت ذلــك‬ ‫بعض ما تأمل وترجو؟!‬ ‫عليك َ‬

‫الحديث هنا ليس عن موقف خاص يخطئ المرء فيه‬

‫أو يصيــب‪ ،‬والخطــأ ذاتــه صواب إذا تعلمنــا منه‪ ،‬بل هي‬ ‫مســيرة الحياة الممتدة وحصيلة التجربة والمالحظة التي‬

‫ال ليتحقق مــن صوابيتها‪ ،‬ثم يحاول‬ ‫يرصدهــا المــرء طوي ً‬ ‫رســما وتدوي ًنا دون أن يكون َث ّم جديد في‬ ‫اإلمســاك بها‬ ‫ً‬

‫عالمه الخاص‪.‬‬

‫(*) عالم ومفكر وداعية ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫وقيــد الشــركاء‪ ..‬ومن دونها قيود النفــس من داخلها وما‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫صوابيتــه دون أن يتجاهــل اختالفــه مــع بعــض جوانبــه‪.‬‬

‫حرا‬ ‫ولو أني‬ ‫ُ‬ ‫قنعت لكنت ًّ‬

‫قيد في الرجل‪ ،‬فإذا زال‬ ‫ويقال‪ :‬الطمع غِ لٌّ في العنق ٌ‬

‫معها‪ ،‬فذلك أرحم من أن يفقد صلته بنفسه وتعبيره عنها‪.‬‬

‫النــاس وأفعالهم؛ ليلتقطه ويبني عليه ويثني عليه ويكمل‬

‫عبد ما طمع‬ ‫والحر ُ‬ ‫ُّ‬

‫‪19‬‬


‫أدب‬

‫د‪ .‬سلمان العودة*‬

‫العلم عند الجا ّدين من رجال العلم كمنشور زجاجي لتحليل الحوادث وإضاءة ظلمات‬ ‫النفس والكون والحياة وما وراء الطبيعة‪ ..‬فقيمة هؤالء الرجال كقيمة سموهم في‬ ‫هذه األجواء‪.‬‬

‫املوازين‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫مثن الحرية‬

‫‪18‬‬

‫طيورا فــي قفص وظل‬ ‫اشــترى صغيــري‬ ‫ً‬ ‫الحب والماء ويعتني بها‪ ..‬نسي‬ ‫يضع لها َ‬ ‫ذات مــرة أن يغلق البــاب‪ ،‬فوجد الطيور‬ ‫والحــب والمــاء‪ ،‬وخرجت تستنشــق‬ ‫قــد تركــت القفــص َ‬ ‫عبيــر الحريــة وكأنهــا تقــول لــه إن الحريــة عندهــا أغلــى‬ ‫مــن الحيــاة‪ .‬التحرر النفســي من ســطوة المعاني الســلبية‬ ‫فــي أطــوار النفــس‪ ،‬ومــن ســطوة المؤثــرات والضغــوط‬ ‫الخارجيــة التــي تعمل على تغييب اإلنســان عن ذاته‪ .‬من‬ ‫ادعــى أنــه يتمتــع بكامــل حريتــه فهــو واهــم‪ ،‬فثم أســوار‬ ‫وقيــود مرئيــة وغيــر مرئية تكبــل حركة اإلنســان باختياره‬ ‫ــم مــن الناس مــن يدركها‬ ‫حي ًنــا‪ ،‬وبغيــر اختيــاره أحيا ًنــا‪َ .‬ث ّ‬ ‫ويتعامل معها بيقظة ووعي‪ ،‬و َث ّم من َيغفل عنها أو يتغافل‪.‬‬ ‫الحريــة شــيء نســبي‪ ،‬والفــارق الجوهــري هــو بيــن‬ ‫يعبرون عن أنفسهم‬ ‫الساعين لتحصيلها وتحقيقها‪ ،‬بحيث ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــي مواقفهــم وكلماتهــم وآرائهــم وليــس عــن اآلخرين‪،‬‬ ‫دورا ُرسِ ــم لهــم‪ ،‬أو يســلكون طري ًقــا‬ ‫وبيــن مــن يــؤدون ً‬ ‫وجدوه أمامهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال "هل‬ ‫تلبســته وهو يتحدث‬ ‫هــو المتحــدث‪ ،‬أم إن ً‬ ‫روحــا أخرى ّ‬ ‫على لسانها أو هي تتحدث على لسانه؟"‪.‬‬ ‫في الناس من يعشق القيود ويستسلم لها ويغني لها‪،‬‬ ‫الحسن وتحسين القبيح‪.‬‬ ‫وال تعجز لغته الغنية عن تقبيح َ‬ ‫قيــود العالقــات والقربــات والصداقــات والمصالــح‬ ‫والذكريــات واآلمــال والتطلعــات والمــال والوظيفــة‬ ‫والســلطة والحاجــة‪ ،‬هي دوائــر تحيط بالمــرء في حياته‪،‬‬ ‫مزيــدا من المراعاة‬ ‫وتضيــق نطــاق حركته‪ ،‬وتفرض عليه‬ ‫ً‬ ‫تماما‪ ،‬هم‬ ‫والمواربــة‪ .‬الذين يتحررون من هذه الضغوط ً‬ ‫أولئك الذين رحلوا عن هذه الدار‪ ،‬أما األحياء فمســتقل‬ ‫ومسثكثر‪.‬‬


‫مدعوون إىل تصحيح مســرة األدب‪ ،‬واالنتقال‬ ‫نحن‬ ‫ّ‬

‫ونزهه عن العبث‪ ،‬وتلك خصيصة‬ ‫فجعل األدب‬ ‫رســاليا ّ‬ ‫ًّ‬

‫مــن حضــارة األدب إىل أدب الحضــارة‪ ،‬مــن أجل أن‬

‫مــن خصائص اإلســام التي تشــمل الوجــود كله‪ ،‬فكيف‬

‫ً‬ ‫مســاهم حقيق ًّيا يف البناء الحضاري‬ ‫نجعل األدب‬

‫إذا تعلق األمر بالكلمة التي جعلها اإلســام مدار الحياة‬

‫الــذي ال يســتكمل رشوطه اإلنســانية إال بالعناية‬

‫فــي الدنيــا وبهــا تتأكد المنـــزلة في األخــرى‪ ،‬إذ ال مجال‬

‫بالروح‪ ،‬ومن أعظــم تجليات تلــك العناية الروحية‬

‫للفــوز والنجــاة إال بتكريــم الكلمــة التــي أعالهــا كلمــة‬

‫العناية باألدب والفن‪.‬‬

‫التوحيد‪.‬‬

‫ولــم تكــن توجيهــات رســول اهلل ‪ ‬للشــعراء غيــر‬

‫تأكيــد لهــذا التوجــه الرســالي للكلمة الجامعــة بين الحق‬

‫التــي أرادهــا اهلل تعالــى حيــاة قويمــة تحقق االســتخالف‬

‫مؤازرا له‬ ‫نقيضا للحق‪ ،‬بــل‬ ‫والجمــال‪ ،‬فلــم يعــد الجمال ً‬ ‫ً‬

‫اإلنســاني في صورته المثلى‪ ،‬إنما تقوم على الزوجية ال‬

‫ا إال مع الحق‪ .‬وكذلك انتهت‬ ‫ومتممــا‪ ،‬فال جمال أصــ ً‬ ‫ً‬

‫على الثنائية التي تفرض االنتصار لعنصر من العنصرين‪،‬‬ ‫‪‬و ِم ْن‬ ‫الثنائيــة تضــاد والزوجيــة تكامل‪ ،‬وقد قــال تعالى‪َ :‬‬

‫تلــك الثنائيــة المجحفة النكدة التي تتســاءل‪ :‬أيهما أولى‪،‬‬

‫المتعة أم الفائدة‪ ،‬الحق أم الجمال؟‬

‫ون ‪َ ‬ف ِف ُّــروا ِإ َلى‬ ‫كل ش‬ ‫ــي ٍء َخ َل ْق َنــا َز ْو َج ْي ِ‬ ‫ــم َت َذ َّك ُــر َ‬ ‫ــن َل َع َّل ُك ْ‬ ‫ُ ِّ َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫هلل ِإ ِّنــي َل ُك ِ‬ ‫ا ِ‬ ‫ِين‪(‬الذاريــات‪ .)50-49:‬وهــذا‬ ‫يــر ُمب ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ــم م ْن ُــه َنذ ٌ‬ ‫ــن ُك ِّل َشــي ٍء‪ ‬خليــق بأن يبصرنــا بحقائق‬ ‫‪‬و ِم ْ‬ ‫اإلطــاق َ‬ ‫ْ‬ ‫األمور المادية والمعنوية على السواء‪ ،‬كما أن من مظاهر‬

‫ولكــن األدب العربــي أصابته بعد ذلــك ‪-‬في مراحل‬

‫معينــة مــن تاريخــه‪ -‬مظاهــر مــن االنحــراف‪ ،‬إمــا بفعــل‬ ‫التــآكل الداخلــي وإمــا بفعــل العوامــل الخارجيــة نتيجــة‬ ‫واليوم وفي هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر‪ ،‬وفي‬

‫ظــل العولمــة وآثارهــا والتجاذب بين الحــوار الحضاري‬ ‫وصــراع الحضــارات‪ ،‬ومــا ينتــج عــن ذلــك كله مــن آثار‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫االستضعاف الحضاري‪.‬‬

‫الفــرار إلى إقامة ســننه‪ .‬ونحن إنما وقعت نكســتنا‬ ‫ذلــك‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وعطلنا ســنن الخالق‬ ‫األدبية يوم غفلنا عن هذه الحقيقة‪ّ ،‬‬ ‫ال من‬ ‫فــي الخلــق‪ ،‬فجنــح بعضنا إلــى الثنائية المانويــة بد ً‬

‫االستعانة بقانون الزوجية‪ ،‬ورحم اهلل أبا الطيب القائل‪:‬‬

‫وإيجابــا علــى كياننــا الحضــاري‪ ،‬نحــن‬ ‫ســلبا‬ ‫تنعكــس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدعــوون إلــى تصحيــح مســيرة األدب‪ ،‬واالنتقــال مــن‬ ‫ّ‬

‫ ‬

‫حقيقيــا فــي البنــاء الحضــاري الــذي ال‬ ‫مســاهما‬ ‫األدب‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫المفاضلــة بيــن المنظــوم والمنثــور‪ ،‬والمعنــى والمبنــى‪،‬‬

‫حضــارة األدب إلــى أدب الحضــارة‪ ،‬مــن أجل أن نجعل‬ ‫يســتكمل شــروطه اإلنســانية إال بالعنايــة بالــروح‪ ،‬ومــن‬

‫أعظــم تجليــات تلــك العنايــة الروحيــة العنايــة بــاألدب‬

‫والفن‪.‬‬

‫وال بــأس مــن االســتعانة مــرة أخــرى بــكالم لـ"كو ِلن‬

‫ولســن" وهــو يتحــدث مــن داخــل المدنية الغربيــة ويرى‬

‫آثارهــا المدمــرة‪ ،‬ويبحــث عــن مالذ في الشــعر الذي هو‬ ‫اإلنســان نظرة عصفورية على الحياة؛ أي حين ينســحب‬

‫ال من‬ ‫قــدرا أكبر بد ً‬ ‫منهــا ولــو للحظــة واحدة‪ ،‬فيــرى منها ً‬

‫محصورا ضمن البــؤرة الضيقة بؤرة نظرته الدودية‬ ‫بقائــه‬ ‫ً‬ ‫المعتادة"‪.‬‬

‫إن التــوازن فــي كل شــيء شــرط حضــاري‪ ،‬فالحيــاة‬

‫تخبر أن المانوية تكذب‬

‫وعلــى أســاس تلــك المانويــة المختفيــة‪ ،‬ظهــرت‬

‫والشــكل والمضمــون‪ ،‬والوضــوح والغمــوض‪ ،‬والمتعــة‬

‫والفائــدة‪ ،‬والحــق والجمــال‪ ،‬والذاتيــة والموضوعيــة‪،‬‬ ‫والفرديــة والجماعية‪ ،‬والحرية وااللتزام‪ ...‬وما إلى ذلك‬

‫مــن الثنائيــات التــي انعكســت علــى األدب ومجاالتــه‪.‬‬

‫ال مــن البحــث عــن خصائــص كل عنصــر‬ ‫وهكــذا‪ ،‬بــد ً‬ ‫ووظيفتــه وضرورتــه وعالقته بطبيعة القول األدبي‪ ،‬جنح‬

‫الجانحــون إلــى إثارة المعــارك الوهمية التــي ألهتهم عن‬ ‫تحديــد عناصــر المعركــة الحقيقيــة المتمثلــة فــي طبيعــة‬ ‫األدب ورسالته ودوره في البناء الحضاري‪.‬‬

‫(*) رئيس تحرير مجلة المشكاة ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫قريــن التصــوف‪" :‬إن الرؤيــا الصوفيــة تتــم حيــن يــزاول‬

‫وكم لظالم الليل عندك من يد‬

‫‪17‬‬


‫عر ما َد َرى‬ ‫ولوال ِخ ٌ‬ ‫الل َس َّنها ِّ‬ ‫الش ُ‬

‫ا َ‬ ‫ون‪(‬غافر‪.)82:‬‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َف َما َأ ْغ َنى َع ْن ُه ْم َما َكا ُنوا َي ْك ِس ُب َ‬

‫وأالن اهلل لــه الحديــد وصنــع حضــارة ماديــة خارقــة‪..‬‬

‫ ‬ ‫كارم‬ ‫الم ُ‬ ‫ُبنا ُة ُ‬ ‫العال من أين ُتؤ َتى َ‬ ‫كانــت الحضــارة العربية قبل اإلســام حضارة أدب‪،‬‬

‫ملكا ال‬ ‫ما لم يؤت أحد من العالمين؛ لقد آتاه اهلل تعالى ً‬

‫ابن رشيق القيرواني عن منزلة الشعر خاصة والبيان بعامة‬

‫عظيما‪،‬‬ ‫ملكا‬ ‫لقــد أوتــي داوود ‪ ‬وذريته من بعــده ً‬ ‫ً‬

‫يحتفــل العربي بالبيــان ويحتفي به احتفاء‬ ‫عظيما‪ .‬يحدثنا‬ ‫ً‬

‫وكذلــك حــال ولده ســليمان ‪ ،‬بل لقد أوتي ســليمان‬

‫عنــد العــرب فيقــول‪" :‬العــرب أفضــل األمــم‪ ،‬وحكمتهــا‬

‫ينبغي ألحد من بعده‪ ،‬وبلغت حضارته ما ال يمكن تصوره‬

‫مبينا‬ ‫أشــرف الحكــم‪ ،‬لفضــل اللســان علــى اليــد"‪ ،‬وقــال ً‬

‫اليــوم علــى الحقيقــة‪ ،‬ال فــي ســرعة االتصــال المســموع‬

‫مكانة الشاعر العربي في قومه‪" :‬كانت القبيلة من العرب‬

‫أيضــا‪ ،‬وتشــهد على ذلك‬ ‫والمرئــي فحســب‪ ،‬بــل العينــي ً‬

‫إذا نبــغ فيها شــاعر أتت القبائــل فهنأتها بذلك" إلى آخر‬ ‫مــا ذكــر من مظاهر االحتفاء‪ .‬وما ذلــك إال ِلما كان يقوم‬

‫‪-‬إن كان األمــر بحاجــة إلــى شــهادة‪ -‬قصتــه مــع بلقيس‬

‫ملكــة ســبأ صاحبــة العــرش العظيــم بالوصــف القرآنــي‪.‬‬

‫بــه الشــاعر من دفــاع عن قبيلته ونشــر لمحامدها وتخليد‬

‫ومــع ذلــك كانــت مزاميــر داوود ‪ ‬رمــز الــروح‬

‫كانت صورته المتداولة اليوم ال يجوز أن تنسب إلى نبي‬

‫من أنبياء اهلل تعالى‪ .‬وكل ذلك دليل على ضرورة تضافر‬ ‫أشــواق الــروح وصرامــة المــادة مــن أجــل بنــاء حضــارة‬ ‫إنسانية متزنة ومتوازنة‪.‬‬

‫ال على صاحبه‪،‬‬ ‫األخضر واليابس‪ .‬وقد يكون الشــعر وبا ً‬

‫أيضا‬ ‫عــددا من الشــعراء الذين كان‬ ‫وقــد ذكــر ابن رشــيق ً‬ ‫ً‬ ‫سببا في مصرعهم‪.‬‬ ‫شعرهم ً‬

‫ولكــون حضارة العــرب في الجاهليــة حضارة أدب‪،‬‬

‫لــم يكــن يعنيهــا الحــق بقــدر مــا كان يعنيها الدهشــة وما‬

‫"كو ِلــن ولســن" الواقــع الحضــاري‬ ‫هــذا ويصــف ُ‬

‫فــي هــذا العالــم بفضل كونــه أكثــر المخلوقــات عدوانية‬

‫والشر‪ .‬وارتبط كثير من البيان بالكهانة والسحر‪ ،‬وكانت‬

‫وعشــ ًقا للمغامرة في األرض‪ .‬وها هو اآلن بعد أن خلق‬ ‫لنفسه حضارة يسرت له الرفاهية‪ ،‬يواجه مشكلة لم يكن‬

‫يتوقعها‪ .‬فالحياة المريحة تنقص من قدرته على المقاومة‬ ‫مترديــا في حمــأة تنعدم‬ ‫والصمــود‪ ،‬وبالتالــي يجــد نفســه‬ ‫ً‬

‫فيها البطولة"‪.‬‬

‫ال لهذا‬ ‫ويتحدث عن الشــعر الذي يمكن أن يكون ح ًّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫حربا‬ ‫ضروســا تأتي على‬ ‫أن قصيدة من شــعره قد تشــعل ً‬ ‫ً‬

‫يحمله األدب في نفسه من صفات تدعو إلى اإلعجاب‪،‬‬

‫المعاصر فيقول‪" :‬لقد بلغ اإلنسان مركزه الحالي الرفيع‬

‫‪16‬‬

‫ال‬ ‫مــن قبيلتــه جل مظاهر االحتفاء‪ ،‬قد يتحول فيصبح وبا ً‬ ‫شــيئا‬ ‫كثيــرا‪ .‬كما‬ ‫عليهــا ولعنــة يجــر عليهــا مــن المخازي ً‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واألدب والفــن وكان إعجازهــا الباهــر‪ ،‬فقــال تعالــى‪:‬‬ ‫الط ْي َــر َو ُك َّنــا‬ ‫ود ا ْل ِج َب َ‬ ‫ــال ُي َســ ِّب ْح َن َو َّ‬ ‫‪‬و َس َّ‬ ‫ــع َد ُاو َ‬ ‫َ‬ ‫ــخ ْر َنا َم َ‬ ‫ِ‬ ‫َف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ال َيا ج َب ُ‬ ‫ود م َّنا َف ْض ً‬ ‫‪‬و َل َق ْــد آ َت ْي َنا َد ُاو َ‬ ‫اعل َ‬ ‫ين‪(‬األنبيــاء‪َ ،)79:‬‬ ‫الط ْي َر‪(‬ســبأ‪ .)10:‬وبقــي علــى الدهــر من عهد‬ ‫َأوِّ بِــي َم َع ُــه َو َّ‬ ‫سليمان ‪ ‬نشيد اإلنشاد‪ ،‬أو بقي ذكره على األقل‪ ،‬إذا‬

‫لذكراهــا فــي الصالحيــن‪ .‬ولكن الشــاعر الــذي كان يجد‬

‫الواقــع المتــردي فيقول‪" :‬والشــعر يجلب راحــة عاطفية‬

‫فــي طريــق التخييــل‪ ،‬وهــو يع ّلــم اإلنســان الثنــاء‪ ،‬ال عــن‬ ‫طريــق اإلشــارة إلى عجائب الكون كمــا يفعل العلم‪ ،‬بل‬ ‫بفضل خلق خياالت تحقق رغباته"‪.‬‬

‫هذه الرســالة التعليمية هــي التي أكدها تراثنا العربي‪،‬‬

‫وقد قال أبو تمام‪:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال لقيم الباطل واالنحراف‬ ‫فــكان بعــض ذلك األدب حام ً‬ ‫وجها من أوجه ذلك‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫زمزمة الكاهن‬ ‫ً‬

‫صحح هذه العالقة؛ عالقة األدب‬ ‫ولما جاء اإلسالم ّ‬

‫بالحضــارة‪ ،‬فاســتنكر رســول اهلل ‪ ‬ســجع الكهــان لمــا‬ ‫يحملــه مــن قيــم الباطــل وما يســقطه مــن أهــل البيان من‬

‫الحــق‪ ،‬ونعــى القــرآن الكريــم علــى فئــة مــن أهــل البيان‬

‫زخــرف القــول‪ ،‬وجعلــه مرتب ًطا بالشــياطين‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬ ‫ــك َج َع ْل َنــا ِل ُك ِّل َنب ٍِي َع ُد ًّوا َشــي ِ‬ ‫س َوا ْل ِج ِّن‬ ‫ين ا ِ‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫إل ْن ِ‬ ‫اط َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُي ِ‬ ‫ــاء‬ ‫وحي َب ْع ُض ُه ْم ِإ َلى َب ْع ٍ‬ ‫ورا َو َل ْو َش َ‬ ‫ض ُز ْخ ُر َف ا ْل َق ْو ِل ُغ ُر ً‬ ‫ون ‪َ ‬و ِل َت ْص َغى ِإ َل ْي ِه َأ ْف ِئ َد ُة‬ ‫َر ُّب َ‬ ‫وه َف َذ ْر ُه ْم َو َما َي ْف َت ُر َ‬ ‫ــك َمــا َف َع ُل ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ــم‬ ‫يــن َ‬ ‫ال ُي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫ــون بِاآلخ َــرة َول َي ْر َض ْــو ُه َول َي ْق َت ِر ُفــوا َمــا ُه ْ‬ ‫ون‪(‬األنعام‪.)113-112:‬‬ ‫ُم ْق َت ِر ُف َ‬

‫ا أدب الحضــارة‪،‬‬ ‫وقــد أســس اإلســام قــو ً‬ ‫ال وفعــ ً‬


‫أدب‬

‫أ‪.‬د‪ .‬حسن األمراني*‬

‫من حضارة األدب‬

‫إىل أدب الحضارة‬ ‫هــل أدركــت الحير ُة األدب ح ًّقا في عصر العلم ‪-‬كما يرى عثمان‬

‫ُن َويــه‪ -‬وهل ف َقد األدب رســالته أمام هــذه الثورات العلمية الهائلة‬

‫التــي تــكاد ُت ِ‬ ‫ذهــل اإلنســان عــن نفســه؟ أم أن اإلنســان اليــوم صار‬

‫ِ‬ ‫وهاجرتها؟ وهل َتو ّقف األدب‬ ‫بحاجــة أكثــر إلى ظــل يأوي إليه من ألواء المدينــة‬

‫عــن رســالته فــي الحضــارات الســابقة‪ ،‬وهي حضــارات بلغت ما بلغــت من الرقي‬

‫ال حتى‬ ‫الذي يكاد يقف اإلنسان اليوم في نهاية القرن العشرين من منجزاته مذهو ً‬ ‫يتوقــف عــن رســالته اليــوم؟ ويحدثنــا القــرآن الكريم عــن حضارات ســالفة بلغت‬

‫مــن اآلثــار والقــوة والرســوخ ما لم نبلغه‪ ،‬فقــال تعالى‪َ  :‬أ َف َلم َي ِســيروا ِفي ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫يــن ِم ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ارا ِفي‬ ‫ث‬ ‫آ‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ــو‬ ‫ق‬ ‫ــد‬ ‫ش‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َف َي ْن ُظ ُــروا َك ْي َ‬ ‫ــف َك َ‬ ‫ان َعا ِق َبــ ُة ا َّل ِذ َ‬ ‫ــن َق ْبلهِ ْم َكا ُنوا َأ ْك َث َر م ْن ُه ْم َ َ َّ ُ َّ ً َ َ ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪15‬‬


‫ووجبــت‪ .‬فنحن بحاجــة اآلن إلى‬ ‫اشــتدت الحاجــة اآلن‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬

‫أعدت بها مادة السنة‪ ،‬فاختلفتا‪.‬‬

‫الفقهي باطمئنان‪.‬‬ ‫ستنبط منه االستنباط‬ ‫قاب ً‬ ‫ال ألن ُي َ‬ ‫ُّ‬

‫مرحلــة الجمــع والتوثيــق وتكون طويلة وكثيــرة ومهمة‪،‬‬

‫صحيحــا‪،‬‬ ‫منهــاج حقيقــي نــراه فــي تجربــة رســول اهلل ‪‬‬ ‫ً‬

‫هــذه المصــادر بصفــة عامة هــي المراحل األساســية‪:‬‬

‫ألنــه البــد من حصر المدونة وحصــر الكتب التي تدخل‬

‫هل يمكن اليوم كتابة "السيرة السنّة"؟‬

‫الســنة"؟ أزعم أن " َن َع ْم"‪..‬‬ ‫هل يمكن اليوم كتابة "الســيرة‬ ‫ّ‬

‫شك‪،‬‬ ‫ويرجع إليها‪ ..‬وستواجهنا َعقب ُة المخطوطات وال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ــد المشــروع انطال ًقــا مــن المطبوع‬ ‫ولكــن علــى األقــل ُنع ُّ‬

‫إبراهيــم العلــي‪ ،‬وجهــود الدكتــور ناصــر الديــن األلبانــي‬

‫ليســت في الســيرة‬ ‫بـ"معضلــة النــص"‪ ،‬وهــي قضيــة كبيرة‬ ‫ْ‬

‫وقــد كانــت محــاوالت لألفــراد وللمؤسســات؛ ويعــرف‬

‫ِ‬ ‫أســميه‬ ‫ونر ِّت ُ‬ ‫ــب األمــر للمخطوط‪ ،‬و ُنع ُّد العدة لمســألة ما ّ‬

‫الجميــع جهــود الدكتــور أكــرم ضيــاء العمــري‪ ،‬وجهــود‬ ‫وغيــر هــؤالء‪ ..‬ولكنها جهود حتى الســاعة لم تســر وفق‬

‫وحدها‪ ،‬بل في مختلف العلوم اإلسالمية‪.‬‬

‫أساسا؟‬ ‫السيرة جملة‪ :‬أي لماذا ُنعيد كتابة السيرة‬ ‫ً‬

‫فحتــى الســاعة لــم َي َت َي َّســر‪ ،‬ونســأل اهلل تيســير أســبابه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فالجمع فالتوثيق‪ ،‬ثم التحقيق والتدقيق للجزء والكليات‬

‫المنهــج العلمــي الدقيــق والرؤيــة الشــاملة للهــدف مــن‬

‫للنــص‪،‬‬ ‫العلمــي‬ ‫"إشــكال النــص"‪ ،‬أي اإلعــداد‬ ‫أمــا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬

‫فالسيرة اآلن ‪-‬في الصحيحين وفي غير الصحيحين‪-‬‬

‫ـتخالص ال عالقة لــه باألبــواب والموضوعات‬ ‫تحتــاج إلــى اسـ‬ ‫ٍ‬

‫والجزئيــات‪ ،‬ثــم التصنيــف والتأليــف‪ ..‬هــذه المراحــل‬

‫كمــا هــي اآلن في الصحيحين‪ ،‬بل علــى القارئ أن يعود‬

‫واضح ٌة كبيرة‪.‬‬

‫إلــى كل نــص ليســتخلص مــا يتعلق بشــخصية أو بحادثة‬ ‫أخــرى لتلتقــي فــي النهاية ‪-‬بعد جهود كبيــرة من الجمع‬ ‫والتصنيف والتوثيق والتحقيق‪-‬ولنحصل في النهاية على‬

‫مادة كبيرة فيها األمور الكبيرة وفيها الدقائق والجزئيات‪،‬‬ ‫نسق بدقة‪.‬‬ ‫ولكن تحتاج إلى أن ُت ّ‬

‫متخصصــون فــي هــذه العلــوم‬ ‫ويســهم فــي العمليــة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬

‫أساســا‪ ،‬فــي القــرآن الكريم وفي الحديث الشــريف وفي‬ ‫ً‬ ‫السيرة النبوية؛ وإذا قلت السيرة‪ ،‬دخل معنا أهل التاريخ‪،‬‬

‫يهتمــون بالســيرة‪ .‬لكــن نحــن بالدرجــة‬ ‫ال ســيما الذيــن ّ‬ ‫قصــة رســول اهلل ‪‬؛ كل مــا ُكتــب فيهــا‬ ‫األولــى تعنينــا ّ‬ ‫بأشــكال مختلفــة ُي ْســتخلص منه ما له عالقــة ثم يخضع‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫سند فالسند يدرس‬ ‫لمنهج أهل الحديث‪ ،‬يعني إذا كان له ٌ‬

‫‪14‬‬

‫ســند‬ ‫خــرج الحديــث ونر ّتِــب ُرتب َتــه‪ ،‬وإذا لــم يكــن لــه‬ ‫ٌ‬ ‫ف ُن ّ‬ ‫عضده أم ال؟‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫فكيف ُيتعامل معه؟ وهل يوجد ما ُي ِّ‬ ‫ولكــن الجهود تتكامــل وتتضافر من ِق َبل أهل القرآن‬ ‫مجازا‪،‬‬ ‫وأهل الحديث وأهل السيرة‪ ،‬وأقول "أهل السيرة"‬ ‫ً‬ ‫وإال فأهل الســنة هم ُ ِ‬ ‫وأه ُل الســيرة هم أهل‬ ‫الســيرة‪ْ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أهل ّ‬ ‫نفســها الســير ُة معزولة عن‬ ‫هي‬ ‫ة‬ ‫الموجود‬ ‫ة‬ ‫فالســن‬ ‫الســنة؛‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الســن ُة معزول ًة عن‬ ‫الزمن‪ ،‬والســيرة الموجودة هي نفســها ُّ‬

‫الموضوعــات‪ ،‬لكــن لــم ُت َع َّد الســيرة بنفــس الطريقة التي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أو بفعــل أو بقــول‪ ،‬ويربطــه كقطعــة صغيــرة مــع قطــع‬

‫خاتمة القول‬

‫ال نحتاج‬ ‫الس َّــنة"‪ ..‬أو ً‬ ‫يجب الشــروع في مشــروع "السيرة ُّ‬

‫إلــى َب ْل َــورة لهــذا المشــروع بوضوح‪ ،‬ثــم إننا نحتــاج إلى‬ ‫رجــال يحترقــون َغ ْيــر ًة علــى األمــة وعلى واقعهــا وعلى‬

‫مســتقبلها‪ ..‬ونحتــاج إلــى رجــال يحملــون األمانــة إلــى‬ ‫رســاليِين ح ًّقــا‪ ،‬إلــى أ ْتبــاع محمــد ‪ ‬ح ًّقــا؛ ليــس الذيــن‬ ‫ّ‬

‫ويدعــون أيديهــم فــي‬ ‫يزخرفــون الــكالم فــي محمــد ‪‬‬ ‫ُ‬

‫الماء‪ ،‬بل نحن بحاجة إلى أتباع الرسول ‪ ‬ح ًّقا‪.‬‬

‫فهــذا المشــروع يمكــن أن ُي َب ْل َــور ب ُِي ْســرٍ ‪-‬إن شــاء اهلل‬ ‫تعالــى‪ -‬إن ُوجــد َمــن ينهــض بهذا األمر‪ ،‬وما أحســن أن‬

‫تتخصــص كلُّ جهــة في قضية من قضايا األمة لتســتطيع‬

‫مبني‬ ‫تضيع الوقــت‪ .‬وذلك التخصص ٌّ‬ ‫النهــوض بها وال ّ‬ ‫علــى التكامــل مــع تخصصــات أخــرى فــي قضايــا األمة‬

‫فــي جهــات أخــرى‪ .‬والبد مــن هيئة لإلشــراف على هذا‬

‫المشــروع تكــون واعيــة وصابــرة ومحتســبة ومســتعدة‬

‫للتضحية‪ ...‬إلى غير ذلك‪ ،‬والبد من جمهرة من الباحثين‬ ‫الصابرين العلماء القادرين بإذن اهلل ‪.‬‬

‫(*) األمين العام لمؤسسة البحوث والدرسات العلمية (مبدع) ‪ /‬المغرب‪.‬‬


‫حاجة البرشية اليوم إىل منوذج "ابن آدم" املثايل‬

‫ِ‬ ‫ــم كان االهتمــام بالســنة أكثــر مــن االهتمــام‬ ‫األول‪ .‬إذن ل َ‬

‫جدا‪ ،‬ألن "صورة املســلم"‬ ‫الكامل هي حاجةٌ قوية ًّ‬

‫دائما‬ ‫بالســيرة؟ الســبب هو "حاجة األمة"؛ فاألمة والعقل ً‬

‫تعــد موجــودة عىل الوجه الصحيــح يف الكرة‬ ‫مل‬ ‫ْ‬

‫يقتضيان الكياســة‪ ،‬والكياســة تقتضي أن تســتجيب األمة‬

‫األرضيــة‪ .‬والحاجة إىل الســرة النبويــة الصحيحة‬

‫للحاجــات الضاغطــة بــأي أمــر‪ ..‬واألمــة ‪-‬بالعــوارض‬

‫لتحلّ هذا اإلشــكال‬ ‫الشــاملة الكاملة‪ ،‬حاجة قوية ُ‬

‫والنــوازل التــي َتنــزل‪ -‬تحتاج إلــى االجتهــادات التي بها‬

‫للبرشيــة اليوم؛ لتحلَّه عندنا نحن املســلمني أوالً‪،‬‬

‫تابعا للقضايا الجديدة النازلة باألمة‬ ‫تواجه ذلك؛ فما كان ً‬

‫ثم لتحلّه عند غرينا‪.‬‬

‫واالجتهاد‬ ‫االعتناء به‬ ‫توســعها وتنوع أجناســها‪ ،‬وقع‬ ‫ُ‬ ‫في ُّ‬ ‫ُ‬ ‫فيه‪ ،‬إلظهار اإلســام في ُص َوره النقية النموذجية الكاملة‬ ‫الموضوعية‪.‬‬

‫ا‪ -‬تستشــير‬ ‫ببســاطة‪ -‬هــل وزارة التعليــم عندنــا ‪-‬مثــ ً‬‫الكتــاب والســنة؟! أو تستشــير اإلســام؟! وهــل وزارة‬

‫هــذه "النظــرة األفقية" للدين‪ ،‬كانت حاج ُة األمة إليها‬

‫جــدا‪ ،‬وتــزداد كل يــوم فــي تفاصيلهــا وجزئياتها‪..‬‬ ‫كبيــرة ًّ‬

‫اإلعالم تستشــير اإلسالم؟ وهل وزارة التجهيز والفالحة‬

‫الســنة فــي القيــاس عليها الســتنباط‬ ‫فكانــت تحتــاج إلــى‬ ‫ّ‬

‫شــيئا‬ ‫تستشــير اإلســام؟ ُّ‬ ‫وأي وزارة كانــت‪ ،‬هــل تفعــل ً‬

‫األحــكام التــي بهــا تعالــج مشــكالتها الجديــدة النازلــة‪.‬‬

‫مــن هــذا؟ بل لها استشــارات قانونية وتســير وفق قوانين‪،‬‬

‫استجابت األمة لهذا األمر‪ ،‬فر ّتبت له عبر القرون الثالثة‪،‬‬

‫ولكن هذه القوانين مستقاة من الغرب‬ ‫أساسا‪ ..‬إذن نحن‬ ‫ً‬

‫والقرون الثالثة تعني‬ ‫وأنهت قصة الغربلة الشاملة للسنة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫االهتمام‪ ،‬لكن بالنسبة للسيرة لم يستمر بهذا الشكل ً‬ ‫‪-2‬انعــدام الداعــي‪ :‬األمــر اآلخــر فــي هــذه النقطــة‬

‫(أي األســباب التــي جعلــت األمــة ال تكتب الســيرة بهذا‬ ‫الشــكل)‪ ،‬هــو انعدام الداعي من هاته القرون الســابقة أو‬

‫ضع ُفه‪ ،‬وهو الســبب األهم؛ فالقرون الســابقة أي ما قبل‬ ‫القرنيــن األخيريــن ‪-‬ألن هذيــن األخيريــن الرابــع عشــر‬

‫والخامــس عشــر الهجرييــن همــا مــن صميم مــا يجري‪-‬‬ ‫حيث ما زلنا في المرحلة التاريخية المتشابهة‪ ،‬بمعنى أن‬

‫بد ٌع‪،‬‬ ‫األمة إذ ذاك كانت تعيش اإلسالم فيه ُخروق‪ ،‬وفيه َ‬ ‫أشكال‬ ‫السير الطبيعي‪ ،‬وبه‬ ‫عادت َت ِسير‬ ‫أمور‪ ،‬أي ما‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫وفيه ٌ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أشــكال من المعاصي ومن الفسوق‬ ‫من المخالفات‪ ،‬وبه‬ ‫ٌ‬ ‫دائمــا‬ ‫التديــن وليــس فــي "الديــن"‪ ،‬ألن هــذا‬ ‫فــي ُّ‬ ‫األخيــر ً‬ ‫َ‬

‫تديــن النــاس لم يبق كمــا كان أول‬ ‫ٌ‬ ‫ثابــت مســتقر‪ ،‬ولكــن ّ‬

‫الوضوح‪.‬‬

‫حيــن حــدث هذا‪ ،‬بدأ الغيورون على حال هذه األمة‬

‫يتلمســون الطريــق‪ ،‬وهــذا مــا يقــف وراء ظهــور بعــض‬

‫المحــاوالت فــي القــرن األخيــر لتفســير القــرآن الكريــم‬

‫دروزة‪،‬‬ ‫وحبنكة‬ ‫وفــق ترتيــب النــزول كحال محمــد ّ‬ ‫َّ‬ ‫عــزة ْ‬ ‫الميداني وحال غيرهما‪ ..‬سواء عند السنة أو عند الشيعة‬ ‫األم‪ ،‬قصة‬ ‫س الطريــق نحو القصة ّ‬ ‫فهنــاك محاوالت َّ‬ ‫تتلم ُ‬

‫رســول اهلل ‪‬؛ قصــة كيــف أخــرج‬ ‫النــاس مــن الظلمــات‬ ‫َ‬ ‫ســتهدى به؟ ألن تلك‬ ‫إلى النور؟ يعني كيف كان األمر ُلي َ‬ ‫صنعها القرآن‪ ،‬وصنعها تن ُّزل القرآن خطوة خطوة‪.‬‬ ‫السير َة َ‬

‫إن انعدام هذا الداعي جعل القرون السابقة ال تلتمس‬

‫هــذا‪ ،‬فكانــت حاجــة التبــرك بالســيرة أحيا ًنــا‪ ،‬والتأســي‬

‫بالسيرة أحيا ًنا‪ ،‬وللدالئل والشمائل أحيا ًنا‪ ...‬إلخ‪ .‬ولكن‬ ‫الحاجة إلى أن ُنعيد البناء من األساس لم َت ْأ ِت من قبل‪،‬‬

‫اهتموا مع ذلك‬ ‫أحسوا بالخطر أو ببعض الخطر ُّ‬ ‫والذين ّ‬

‫والناس‬ ‫المرجعية‪،‬‬ ‫المرجعية هي‬ ‫والفسوق‪ ،‬ولكن بقيت‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اســتنبط منهما‬ ‫يعترفون في النهاية أن القرآن والســنة وما ُ‬ ‫إليه يرجعون في شؤونهم العامة عند االختصام‪.‬‬

‫القيِم في "زاد المعاد" في مســألة فقه الســيرة الذي عنده‪،‬‬ ‫ّ‬

‫جديــدا‪ ،‬أي إننــا نعيش "التنكُّ ــر للمرجعية"‪ ..‬اآلن‬ ‫وضعــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫األمــر فــي زمانــه إلــى مــا وصــل إليه فــي زماننــا‪ ،‬ولذلك‬

‫لكــن فــي هذيــن القرنيــن األخيريــن بدأنــا نعيــش‬

‫زلــت أذكر‬ ‫مبكــر‪ ،‬وما‬ ‫جهــد ابن‬ ‫بفقــه الســيرة فــي و ْقــت ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫فتلــك الوقفــات عنــده فــي غايــة األهميــة‪ ،‬لكن لــم يصل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫أشــكال مــن المعاصي‬ ‫مــرة يــكاد ُيطابــق النص‪ .‬فحدثت‬ ‫ٌ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بعــد على نفس‬ ‫منتصــف المائــة الثالثة‪ ..‬ثم اســتمر األمر ُ‬

‫لنــا مرجعيــة غيــر إســامية فــي حقيقتها‪ ،‬واألمــر في غاية‬

‫‪13‬‬


‫ــاس َع َلــى ُم ْك ٍث‬ ‫الن ِ‬ ‫ــاه ِل َت ْق َــر َأ ُه َع َلــى َّ‬ ‫‪‬و ُق ْرآ ًنــا َف َر ْق َن ُ‬ ‫مفر ًقــا‪َ :‬‬ ‫َّ‬ ‫ال‪(‬اإلســراء‪ ،)106:‬ثــم ُجمــع فــي النهايــة فــي‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ــاه‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫َو َن َّ ْ َ ُ َ ْ ِ ً‬ ‫كتــاب علــى الصورة التي هو عليهــا في المصحف اآلن‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫العرض َت ْيــن األخيرتيــن في رمضــان األخير من حياة‬ ‫وفــي‬ ‫َ‬

‫المغــازي وفــي الكتــب المختلفــة للســيرة‪ ..‬ولكــن بهــذا‬ ‫المعنــى الــذي أتحــدث عنــه ال َن ِج ُدهــا؛ بمعنــى أن ُك َّل‬ ‫مــا فيهــا صحيــح‪ ،‬وال َت ْق َتصــر علــى جانب بعينــه من أمر‬

‫وســننه وأيامــه‪ ،‬بــل تشــمل كل ذلــك منــذ‬ ‫رســول اهلل ‪ُ ‬‬ ‫ُولــد‪ ..‬وذلــك يدخل في منهاج اإلعــداد‪ ،‬حيث ُأ ِع َّد ثلثي‬ ‫وين ِّفذ في ُث ُلث الوقت‪ ،‬أي أربعون سنة من‬ ‫الوقت ُلي ْنجز ُ‬ ‫اإلعداد‪ ،‬وعشرون سنة من اإلنجاز‪.‬‬

‫وبالمكان والزمان‪.‬‬

‫ســتون ســنة‪ ،‬أربعون منها قبل البعثة‪ ،‬وعشــرون‬ ‫النبي ‪ّ ‬‬

‫الواقــع هــو مقتضــى ترتيــب نــزول القــرآن الكريــم‪ ،‬ولم‬

‫الرســول ‪ ،‬الصــور ُة التــي بقــي عليها الكتــاب كما هو‪،‬‬

‫النص القرآني بالتاريخ‬ ‫كانت لها صورة أخرى في عالقة ّ‬ ‫المنهــج الــذي اختــاره اهلل ‪ُ ‬لي ِّحــل بــه الوحــي فــي‬ ‫ُ‬

‫توجــد نصــوص كثيــرة صحيحــة صريحــة بــأن عمــر‬

‫بعدها‪ ،‬عشــرة بمكة‪ ،‬وعشــرة بالمدينة‪ .‬وهناك المعروف‬

‫يبــق لنــا بغايــة الدقة كما كان أول مــرة‪ ،‬ألن تلك الصورة‬

‫للص ْــدع‬ ‫الســرية‪،‬‬ ‫الثــاث هــي مرحلــة الدعــوة‬ ‫ْ‬ ‫وعش ٌــر َّ‬ ‫ّ‬ ‫للص ْدع بالدعوة بالمدينة‪.‬‬ ‫بالدعوة بمكة‪ْ ،‬‬ ‫وعش ٌر َّ‬

‫والمــكان واإلنســان‪ ،‬فيحتــاج األمــر إلــى اجتهــاد‪ ،‬لكــن‬

‫لتغيــر الزمان‬ ‫بذلــك الشــكل ال يمكــن أن ُت ْل َــزم بهــا األم ُة ُّ‬

‫والمشــهور‪ ،‬وهــو ثــاث وســتون ســنة علــى أســاس أن‬

‫جدا وهــي باقية‪ ..‬القــرآن ‪-‬وهو‬ ‫المعالــم الكبــرى مهمــ ٌة ًّ‬

‫ينزل على نبيه‪ -‬ذلك البيان‪ ،‬حين ُعزل عن التاريخ صار‬

‫أوله إلــى آخره‪ -‬هو‬ ‫إذن هــذا النمــوذج بكاملــه ‪-‬من َّ‬

‫قصــ ٌة‪ .‬ولنــا نمــوذج فــي ال َقصــص القرآنــي‪ ،‬ومنهــا قصــة‬ ‫مبكر‪،‬‬ ‫ُص ْنع اهلل له على عينه وهو في بطن ّأمه في وقت ّ‬

‫وسورة طه اهتمت بالقسم الثاني‪ ،‬وسورة األعراف بنهاية‬ ‫القصة‪ .‬هذه السور بهذا الترتيب كافية لرؤية قصة موسى‬

‫أن صار إلى ما صار إليه مع قومه‪.‬‬ ‫‪ ‬منذ ُولد إلى ْ‬

‫فسيرة صحيحة شاملة كاملة لرسول اهلل ‪ ‬ال نملكها‬

‫اليوم‪ ،‬والسنة الموجودة اآلن في الكتب والتي تحتاج هي‬ ‫ويؤسســوا‬ ‫نفســها إلــى أن يجتهــد أهل الحديث وعلماؤه‬ ‫ّ‬ ‫عالميــا كمجمــع الفقــه‪ ،‬إلخــراج مدونة‬ ‫حديثيــا‬ ‫مجمعــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫مصنفــة‪ ..‬وكل الكتــب تدخل‬ ‫الحديــث الصحيــح مر ّتبــة ّ‬

‫عبر شــورى علميــة من ذوي‬ ‫غربلتهــا ْ‬ ‫فــي الحســاب بعــد ْ‬ ‫االختصاص في كتاب جامع‪ ،‬وتبقى الكتب القديمة في‬

‫مح ّلهــا‪ ،‬وال َيســتغني عنها ذوو االختصــاص‪ ،‬لكن األمة‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫والع ْودة إلــى التاريخ‬ ‫فــي مرحلــة االســتئناف الحضــاري َ‬

‫‪12‬‬

‫واضحا قد خرج من‬ ‫واحدا‬ ‫شيئا‬ ‫ً‬ ‫في حاجة إلى أن تواجه ً‬ ‫ً‬

‫العلمية‪.‬‬ ‫أيدي العلماء بالشورى‬ ‫َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫موســى ‪ ‬فــي ســورة القصــص؛ لقــد بــدأت بحديــث‬

‫بعد ُمرتب ًة‬ ‫وص ّنفت‪ ،‬وصــارت ُ‬ ‫ّ‬ ‫وجمعــت النصوص ُ‬ ‫ســنة‪ُ ،‬‬ ‫رتبهــا علــى طريقتــه‪ ..‬وعلــى‬ ‫علــى الموضوعــات‪ُ ،‬‬ ‫وكلٌّ َّ‬ ‫الترتيب‬ ‫مشــهورا بعد ذلك هو‬ ‫ُك ٍّل‪ ،‬فالترتيب الذي صار‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫أردت أن تعرف اإلســام عن‬ ‫حســب الموضوعات‪ ،‬فإذا‬ ‫َ‬

‫الســنة تجد هذه المواضيع أمامك‪ ..‬لكن الترتيب‬ ‫طريق‬ ‫ّ‬ ‫ينطق بها أو‬ ‫الس ّــنة َن ْف ِســها والرســول ‪‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي كان لتلك ُّ‬ ‫قرها‪ ،‬كان ينبغي على ذلك الترتيب أن يكون‬ ‫َيفعلها أو ُي ّ‬ ‫ِ‬ ‫الســيرة‪ ،‬ولكنــه بتلــك الصــورة الصحيحــة الشــاملة‬ ‫فــي ّ‬ ‫ِ‬ ‫الســنة"‪ ،‬أي‬ ‫يكــن‪ ..‬وهو ما أ ْق ِص ُده‬ ‫الكاملــة لــم ُ‬ ‫بـ"الســيرة ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫زمنيــة في صورة‬ ‫الســيرة التــي ُت َم ّثل الســنة‪ ،‬لكــن بصورة َّ‬ ‫ــق‬ ‫تاريخــي دقيق؛ ُكلُّ‬ ‫مرتبطــة بالمــكان والزمان‪ ،‬وفي ِش ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫نــص من النصوص‬ ‫حادثــة بعــد التي تليهــا بالضبط‪ُّ ..‬‬ ‫أي ّ‬

‫الــواردة‪ ،‬ينبغــي أن نلتمــس لــه بدقــة‪ ،‬مكانــه فــي النســق‬ ‫التاريخــي لزمــن الســيرة‪ ،‬لنحصــل فــي النهايــة على هذه‬ ‫القصة الكاملة النموذجية ألكمل نبي وأعظم رسول ‪.‬‬

‫لِ َم لَ ْم تُكتب هذه "السيرة السنّة" قبل؟‬

‫هناك أسباب عدة لعدم االهتمام بـ"السيرة السنة" من ق َِبل‬

‫هــذه الســنة الموجــودة اآلن فــي الصحيحيــن وفــي‬ ‫غيرهما إذا قورنت مع السيرة‪ ،‬نجد هناك النظرة ا ُ‬ ‫أل ُفقية‬

‫‪-1‬انفصال الســيرة عن الســنة‪ :‬واضح مما ســبق أنها‬

‫منج ًما‬ ‫الزمنيــة التاريخيــة‪ ..‬إن القــرآن نــزل أول ما نــزل‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬

‫متقاربــة متكاملــة‪ ،‬لكــن ليســت هي هي‪ ،‬وهــذا هو األمر‬

‫الموضوعية‪ ،‬والنظرة‬ ‫الع ُمودية‪ ،‬والنظرة‬ ‫للديــن‪ ،‬والنظرة َ‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األمة‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫في أصل االنطالق انطلقت منفصلة عن الســنة‪ ،‬وسارت‬


‫إننــا نحتــاج إىل رجال يحرتقــون غَ ْيةً عــى األمة‬

‫‪ -1‬الحاجــة العامة للبشــرية إلــى النموذج الكامل في‬

‫وعىل واقعها وعىل مستقبلها‪ ..‬ونحتاج إىل رجال‬

‫"اآلدمية"‪ ،‬ليس في "اإلنسانية" بل في اآلدمية‪ ،‬ألن أغلب‬

‫يحملون األمانة إىل رسال ِّيني حقًّ ا‪ ،‬إىل أتْباع محمد‬

‫الش ّر‪ ،‬وفي سياق‬ ‫ذكر اإلنسان في القرآن يأتي في سياق َّ‬

‫‪ ‬حقًّ ــا؛ ليس الذين يزخْ رفــون الكالم يف محمد ‪‬‬

‫والحــاالت التــي ذكــر فيها في ســياق المــدح قليلة‬ ‫الــذم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬

‫ويدعــون أيديهــم يف املاء‪ ،‬بل نحــن بحاجة إىل‬ ‫ُ‬

‫جدا‪ ،‬فكلنا إذن أبناء آدم النبي ‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫أتباع الرسول ‪ ‬حقًّ ا‪.‬‬

‫وحاجــة البشــرية اليوم إلى نموذج "ابــن آدم" المثالي‬

‫جــدا‪ ،‬ألن "صورة المســلم" لم‬ ‫الكامــل هــي حاجــ ٌة قوية ًّ‬

‫تعــد موجــودة علــى الوجه الصحيح في الكــرة األرضية‪،‬‬ ‫ْ‬

‫دفعا إلى أن ينخرطوا‬ ‫الموجبــات التــي تدفع َ‬ ‫أهــل َ‬ ‫الغ ْيرة ً‬ ‫ِ‬ ‫السنة"‪.‬‬ ‫في المشروع‬ ‫ً‬ ‫"السيرة ُّ‬ ‫انخراطا ك ّل ًّيا إلنجاز ّ‬

‫أشــكال مــن التشــوه لآلدميــة‪.‬‬ ‫و"صــورة غيــر المســلم"‬ ‫ٌ‬ ‫ســمون‬ ‫فالبشــرية تتخبط‪ ،‬والمســؤولون األوائل هم َمن ُي َّ‬

‫ما المقصود بـ"السيرة السنة"؟‬

‫الحق بأشــكال‬ ‫بـ"المســلمين"‪ ،‬ألنهــم َح َجبــوا عــن الناس‬ ‫َّ‬

‫"الســير" واســم هيئــة؛ أي الكيفيــة التي‬ ‫الســيرة ِف ْع َلــ ٌة مــن‬ ‫ْ‬

‫متعــددة مــن الحجــب‪ ،‬ســواء فــي الفهــم الســيئ أم فــي‬

‫الســير‪ ،‬وهي‬ ‫الس ْــير‪ ،‬أي الحالة التي كان عليها‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫تم عليها َّ‬ ‫هاهنــا بالنســبة للرســول ‪ِ ‬ق َّص ُتــه كقصــة بقيــة األنبيــاء‪.‬‬

‫التدين البالغ السوء‪ .‬إنهم منعوا‬ ‫الممارسة السيئة‪ ،‬أم في ّ‬ ‫الناس من رؤية الحق في الصورة البهية النقية‪.‬‬

‫ِ‬ ‫أســميه بـ"الهــدى المنهاجي" في‬ ‫س ما ّ‬ ‫ونحــن عندمــا نلتم ُ‬

‫والحاجــة إلــى الســيرة النبويــة الصحيحــة الشــاملة‬

‫ال‪ ،‬ثم لتح ّله عند غيرنا‪.‬‬ ‫لتح َّله عندنا نحن المسلمين أو ً‬

‫‪ -2‬حاجــة األمــة إلــى المنهــاج األمثــل للخــروج من‬

‫الظلمــات إلــى النور‪ ،‬وإلخراج الناس مــن الظلمات إلى‬ ‫النــور‪ .‬ونحــن مــا زلنا لم نســتطع الخــروج‪ ،‬ويوم نخرج‬ ‫ِ‬ ‫الس ّــر‪ ،‬أي‬ ‫نســتطيع اإلخراج بإذن اهلل تعالى‪ .‬الســيرة فيها ّ‬ ‫السيرة النبوية الصحيحة الكاملة الشاملة‪.‬‬ ‫‪ -3‬حاجــة العلمــاء إلى ســيرة صحيحة شــاملة كاملة‬

‫واضحة يروونها‪.‬‬

‫وجمع وصــار في مصحف‪،‬‬ ‫لقــد نــزل كتــاب اهلل ‪ُ ‬‬

‫سنة رسول اهلل ‪ ‬على مراحل‪ ،‬ثم بدأ َج ْم ُع‬ ‫ثم ُجمعت ّ‬ ‫السيرة‪ ،‬قصة رسول اهلل ‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لتح ّل هذا اإلشــكال للبشــرية اليوم؛‬ ‫الكاملة‪ ،‬حاجة قوية ُ‬

‫ال فــي القصص القرآنــي‪ ،‬أي في‬ ‫هــذا الديــن‪ ،‬نلتمســه أو ً‬ ‫هلل َفب ُِه َد ُاه ُم ا ْق َت ِد ِه‪(‬األنعام‪،)90:‬‬ ‫ين َه َدى ا ُ‬ ‫ِس َــير ‪ُ ‬أو َل ِئ َك ا َّل ِذ َ‬ ‫أي ِس َير الرسل واألنبياء‪ .‬فهناك‬ ‫منهاج إخراج الناس من‬ ‫ُ‬ ‫الظلمات إلى النور كامن‪ ،‬وقد اقتدى به الرسول ‪ ‬كما‬ ‫جدا‪:‬‬ ‫أمره اهلل ‪ ‬في عدة مناسبات واضحة ًّ‬

‫• في مناســبة فتح مكة قال كما يقول يوســف ‪:‬‬ ‫هلل َل ُك ْم‪(‬يوسف‪.)92:‬‬ ‫‪َ ‬‬ ‫يب َع َل ْي ُك ُم ا ْل َي ْو َم َي ْغ ِف ُر ا ُ‬ ‫ال َت ْث ِر َ‬ ‫وســى َق ْو َم ُه‬ ‫‪‬و ْ‬ ‫• ثــم في مناســبة بيعــة العقبة‪َ :‬‬ ‫اخ َت َ‬ ‫ار ُم َ‬ ‫ال ِل ِمي َقا ِت َنا‪(‬األعراف‪.)155:‬‬ ‫ين َر ُج ً‬ ‫َس ْب ِع َ‬ ‫ــص عليــه فــي‬ ‫فــي مناســبات متعــددة ِائتســى بمــا ُق َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــل‬ ‫الر ُس ِ‬ ‫‪‬و ُك ًّل َن ُق ُّ‬ ‫القصــص القرآنــي‪َ :‬‬ ‫ــص َع َل ْي َك م ْن َأ ْن َباء ُّ‬ ‫َما ُن َث ِّب ُت ِب ِه ُف َؤ َادكَ ‪(‬هود‪.)120:‬‬

‫الســ َّلم؛ العناي ُة بكتاب‬ ‫فالعنايــة ّ‬ ‫تدرجت حســب هــذا ُّ‬

‫ولكن القصة األكبر واألضخم‪ ،‬والتي ُتم ّثل النموذج‬ ‫األكبر للتجربة األعظم؛ التجرب ِة الخاتمة الكاملة الشاملة‪،‬‬

‫رســول اهلل ‪ ،‬ومــن بعدهــا العنايــة بســيرته ‪ ‬ولم َت ْحظ‬ ‫ســنته ‪ ،‬فليــس بين‬ ‫بمســتوى العنايــة التــي َح ِظيــت بهــا ّ‬

‫اإلنســان الفــرد أو حياة اإلنســان الجماعــة‪ .‬ولكن تجرب ٌة‬ ‫كاملــ ٌة إلخــراج أمــة بكاملهــا مــن الظلمــات إلــى النــور‪،‬‬

‫ال لــه الصــدارة‪ ،‬ولذلــك بيــن أيدينــا كتــاب اهلل‬ ‫اهلل ‪ ‬أو ً‬

‫صحيحــي البخاري‬ ‫أيدينــا فــي موضــوع الســيرة ما يشــبه‬ ‫َ‬

‫تسترشد به‬ ‫أســاس للبشــرية حتى قيام الســاعة‪،‬‬ ‫وتأســيس‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬

‫لهذه األمة‪ ،‬إلى جانب الحاجة العامة للبشــرية‪ُ ،‬كلُّها من‬

‫نجدهــا فــي ســيرة ابــن إســحاق‪ ،‬وابــن هشــام‪ ،‬فــي‬

‫ومســلم‪ .‬فالحاجة العلمية إلــى جانب الحاجة الحضارية‬

‫وتستهدي به‪ ..‬هذه التجربة أين نجدها موثقة؟‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫بســنة‬ ‫‪ ‬بالتواتــر اللفظــي‪ .‬ثــم هنــاك بعــد ذلــك العنايــ ُة ّ‬

‫التجربــة التــي لــم تقتصــر علــى مرحلــة بعينهــا مــن حيــاة‬

‫‪11‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫حاجة األمة إىل‬

‫"السرية السنّة"‬

‫‪10‬‬

‫أس َم ْي ُته بـ"السيرة‬ ‫لم تكن األمة في ظرف من ظروفها التي مرت‪ ،‬بحاجة إلى ما ْ‬ ‫الس َّــنة" كمــا هي بحاجــة إليه اليوم‪ ،‬ألنها وصلت في عالقتها باإلســام إلى‬ ‫ُّ‬ ‫وع َّوضت‬ ‫حــد خرج اإلســام فيهــا من مرجعية األمة مــن الناحية الواقعيــة‪َ ،‬‬ ‫المرجعي ُة األوروبية البشــري ُة مرجعي َة الوحي في جميع شــؤون األمة‬ ‫تقريبا‪ .‬و"األمة" َن ْف ُســها‬ ‫ً‬ ‫مأموما‬ ‫للج ْمع كله‬ ‫إنمــا َن ْنطــق بهــا اليوم‬ ‫ً‬ ‫ي َــؤ ُّم" وال إمام َي ّ‬‫ؤم‪ ،‬وال وجود َ‬ ‫ً‬ ‫مجازا‪ ،‬وإال فال " َأ َّم ُ‬ ‫موحدا يقــوم على الوحي‪ .‬هذا ال وجود له في العالم اإلســامي اليوم‪،‬‬ ‫قصــدا‬ ‫ــؤم‬ ‫مــن ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إمــام َي ّ‬ ‫وإنما ِق َط ُع غيارٍ متناثرة في أماكن شتى من العالم‪ ،‬وبقايا من هذه األمة‪.‬‬ ‫حجته‬ ‫والحق‬ ‫لكن ال تزال طائف ٌة قائمة بالحق‪ ،‬لن تزول ولن تنتهي حتى تقوم الساعة‪...‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫باقية في األرض‪ ،‬قد يضعف ولكنه ال يزول ولن يزول‪.‬‬ ‫ما يحدث اآلن هو بمثابة سماد للحق وبمثابة تقوية لهذا الحق‪ ،‬حيث جعله ينطلق على‬ ‫المسلم األول في الجيل‬ ‫جديدا‪ ،‬يشابه من جوانب متعدد ٍة‬ ‫أساس متين ويعيد بناء اإلنسان بناء‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫محصون فيه‬ ‫الراشد في َخ ْير القرون‪ .‬ولكن مسلمي اليوم لن يبلغوا ذلك اليوم إال بعد بالء عظيم ُي َّ‬ ‫تمحيصا بأشكال مختلفة من البالء‪ ،‬ولكن الخير كل الخير في ذلك لألفراد ولألمة في النهاية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫اإلعداد العلمي ْقب ُل َليحل اإلشكال‬ ‫الس ُّر‪ ،‬ولكنه لم ُي َع َّد‬ ‫َ‬ ‫إن ما نسميه بـ"السيرة النبوية" فيه ّ‬ ‫َّ‬ ‫عد‪ .‬ومن ثم يمكن تلخيص الموجبات اليوم باختصار في ثالثة‪:‬‬ ‫بسرعة َب ُ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫أدب‬

‫محمد صديق*‬

‫صوت مؤمن‬ ‫ربمــا يعانــي البعــض من علــة وجوده في‬ ‫بيئــة غيــر صالحــة‪ ،‬أو ضمــن جــو تنتشــر‬

‫فيــه أوبئــة الفســاد والجهل‪ ،‬فيتعــذر بهذه‬

‫األمــور ويبــرر بهــا فســاده وانجرافــه مــع التيــار‪ ،‬وينتظــر‬ ‫صــاح الجماعــة حتــى يصلــح نفســه ويلقي اللــوم على‬ ‫البيئة التي أكسبته المرض‪.‬‬

‫لكن المجتمع هو نتاج أفراد متكررين في المضمون‬

‫وهــو نتيجة تشــابههم فــي التفكير والســلوك‪ ،‬وإذا حدث‬

‫ول‬ ‫ال َأ ْن َي ُق َ‬ ‫ون َر ُج ً‬ ‫إلــى تحكيــم منطق العقل قائ ً‬ ‫ال‪َ  :‬أ َت ْق ُت ُل َ‬ ‫هلل َو َق ْــد َج َاء ُكــم بِا ْلب ِي َن ِ‬ ‫ــك َكا ِذ ًبا‬ ‫ر ِب‬ ‫ــن َر ِّب ُك ْم َوإ ِْن َي ُ‬ ‫ــي ا ُ‬ ‫ــات ِم ْ‬ ‫ْ َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ــض ا َّل ِذي َي ِع ُد ُك ْم‬ ‫َف َع َل ْيــ ِه َك ِذ ُب ُــه َوإ ِْن َي ُ‬ ‫ــك َصا ِد ًقا ُي ِص ْب ُك ْم َب ْع ُ‬ ‫وذكرهم‬ ‫هلل َ‬ ‫اب‪(‬غافر‪ّ ،)28:‬‬ ‫إ َِّن ا َ‬ ‫ال َي ْه ِدي َم ْن ُه َو ُم ْس ِر ٌف َك َّذ ٌ‬ ‫ــل َي ْو ِم‬ ‫ــم ِم ْث َ‬ ‫‪‬يــا َق ْــو ِم ِإ ِّنــي َأ َخ ُ‬ ‫بماضــي أيامهــم‪َ :‬‬ ‫ــاف َع َل ْي ُك ْ‬ ‫ا َ‬ ‫ين ِم ْن‬ ‫أل ْح َــز ِ‬ ‫اب ‪ِ ‬م ْث َ‬ ‫ــل َد ْأ ِب َق ْو ِم ُن ٍ‬ ‫وح َو َعا ٍد َو َث ُم َ‬ ‫ود َوا َّل ِذ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وخوفهم‬ ‫يد ُظ ْل ًمــا ِل ْل ِع َبا ِد‪(‬غافر‪،)31-30:‬‬ ‫ــم َو َما ا ُ‬ ‫هلل ُي ِر ُ‬ ‫ّ‬ ‫َب ْعده ْ‬ ‫اف‬ ‫‪‬و َيا َق ْو ِم ِإ ِّني َأ َخ ُ‬ ‫مــن عذاب اهلل في مســتقبل أيامهــم‪َ :‬‬

‫اختــاف فــي هــذا االجتمــاع فــإن البيئــة تميــل للتغيــر‬

‫ين َمــا َل ُكم ِم َن ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫الت َنــا ِد ‪َ ‬ي ْو َم ُت َول َ‬ ‫ــم َي ْــو َم َّ‬ ‫ُّــون ُم ْدب ِ​ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َع َل ْي ُك ْ‬ ‫ــن َع ِ‬ ‫ــن َها ٍد‪(‬غافر‪.)33-32:‬‬ ‫اص ٍ‬ ‫ــم َو َم ْن ُي ْض ِل ِل ا ُ‬ ‫هلل َف َما َل ُه ِم ْ‬ ‫ِم ْ‬ ‫إن هــذا الرجــل دليــل واضح على أن الفرد مســؤول‬

‫المجتمــع"‪ ،‬فعــن حذيفــة ‪ ‬قــال‪ :‬قــال رســول ‪" :‬ال‬

‫والنهي عن الشر‪ ،‬وأنه ال يجوز إلنسان أن يلقي بأخطائه‬

‫والتبــدل‪ ،‬بحكــم أن الجــزء يؤثر فــي المجموع مهما كان‬ ‫بطيئا‪.‬‬ ‫التأثير ً‬

‫ودعــا النبــي ‪ ‬إلــى عــدم االنجــرار وراء "جهالــة‬

‫عــن ذاتــه وإصالحها‪ ،‬كما هو مســؤول عــن األمر بالخير‬

‫أحســنا وإن ظلموا‬ ‫الناس‬ ‫أحســن‬ ‫إن‬ ‫تكونوا ّإمعة تقولون ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الناس أن ُتحس ِنوا‬ ‫أحسن‬ ‫إن‬ ‫ظلمنا‪ ،‬ولكن و ّطنوا أنفسكم ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وإن أســاؤوا فــا تظلموا" (رواه الترمــذي)‪ .‬فاإلصالح يحتاج‬

‫علــى اآلخريــن‪ ،‬وأن ال ينتظــر اإلصــاح علــى طبــق مــن‬

‫لمبادرة ذاتية عنوانها "عدم التقليد األعمى"‪.‬‬

‫أفرادا في‬ ‫ورجــال اإلصــاح علــى مر التاريخ‪ ،‬كانــوا‬ ‫ً‬

‫ذهــب‪ ،‬بــل عليــه أن يســعى إليــه رغــم كل الصعوبــات‬ ‫والظروف غير الصالحة‪.‬‬

‫وعــم ســلوك‬ ‫ومتــى تكاثــرت أصــوات اإلصــاح‬ ‫َّ‬ ‫اإلصــاح وأفعــال المصلحيــن بيــن النــاس‪ ،‬فــإن هــذا‬

‫كل مريــض‪ ،‬لكنهم بدأوا‬ ‫بيئــة معلولــة وكانــوا أجــزاء من ٍّ‬

‫المجتمع يميل نحوهم وتبدأ الكفة بالرجحان لصالحهم‪.‬‬

‫بعضه بروابط مادية واجتماعية ومعنوية‪.‬‬

‫تصــارع األضــداد حتى يبقى األجدر بالبقاء‪ ،‬ومتى خ َفت‬

‫الــكل المترابط مع‬ ‫بتغييــر ذاتهم‪ ،‬حتى انتشــر التغيير في‬ ‫ّ‬

‫إن "التدافع" الذي هو من ســنن اهلل في أرضه‪ ،‬معناه‬

‫تص ّلــب عقــول قومه‪ ،‬وأوجعه َص ْم ُتهم عن الفســاد الذي‬

‫ال‬ ‫قوقعته الذاتية وبدأ يمشي في األرض‬ ‫رائعا وقو ً‬ ‫ً‬ ‫سلوكا ً‬

‫الحالــة التــي ذكر ُتهــا‪ ،‬إنــه مؤمــن آل فرعــون الــذي آلمــه‬

‫ضده الباطل سيعلو ويغلب‪ ،‬لكن متى خرج اإلصالح من‬

‫يرزحــون تحــت ظاللــه‪ ..‬لكنــه لــم يتأثــر ببيئتــه الفاســدة‬

‫حسنا‪ ،‬فإن الناس تتأثر به‪ ،‬ذلك أن اإلصالح فعل متعد‪.‬‬ ‫ً‬

‫منفــذا إلــى تفكيــره وعقله‪ ،‬بل‬ ‫ولــم يجعــل لجــو الجهــل‬ ‫ً‬

‫انبــرى يحاورهــم بالحكمــة والموعظة الحســنة‪ ،‬فدعاهم‬

‫(*) كاتب وباحث في التربية اإلسالمية ‪ /‬سوريا‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫وفــي القــرآن الكريــم يحضــر مثــال قــوي عــن هــذه‬

‫صــوت اإلصــاح وانقلب إلى صوت داخلــي ذاتي‪ ،‬فإن‬

‫‪9‬‬


‫وذلك لعدم وجود تلك الميزات‪.‬‬ ‫أيضــا التــي يمكــن أن‬ ‫إن مــن صفــات "المســكن" ً‬ ‫متســعا يفــي بالوظائف‬ ‫يتميــز بهــا عــن "البيت"‪ ،‬هو كونه‬ ‫ً‬ ‫والحاجــات المتعــددة لســاكنيه‪ .‬فقــد ذكــر النبــي ‪ ‬فــي‬ ‫الحديــث الصحيــح الــذي رواه البخــاري‪" :‬مــن ســعادة‬ ‫المرء المســكن الواســع"‪ ،‬فكأن صفة االتســاع هي صفة‬ ‫لصيقة بالمسكن وال يشترط وجودها في البيت‪ ،‬وهو ما‬ ‫ينطبق على مساحات وأبعاد ِ‬ ‫ومساكن النمل مقارن ًة‬ ‫غرف‬ ‫ِ‬ ‫جدا‪.‬‬ ‫بأحجام النمل الصغيرة ًّ‬ ‫كما أن البيت يمكن أن يكون فقط من حجرة واحدة‪،‬‬ ‫بدليــل قولــه تعالــى‪ :‬إ َِّن َأ َّو َل َبي ٍ‬ ‫ــاس َل َّل ِذي‬ ‫ــع ِل َّلن ِ‬ ‫ــت ُو ِض َ‬ ‫ْ‬ ‫يــن‪(‬آل عمــران‪)96:‬؛ فوصــف‬ ‫ــار ًكا َو ُه ً‬ ‫ــدى ِل ْل َعا َل ِم َ‬ ‫ب َِب َّكــ َة ُم َب َ‬ ‫الكعبة المشــرفة ‪-‬والتي تتكــون من حجرة واحدة‪ -‬بأنها‬ ‫بيــت‪ ،‬أمــا المســكن يتميــز عــن البيــت بتعــدد الحجــرات‬ ‫وتنوعها من ناحية الحجم والشكل والوظيفة‪ ،‬إلى جانب‬ ‫توفــر وســائل االتصال بين هذه الحجــرات والتي تمثلت‬ ‫في األنفاق الرأسية واألفقية بمساكن النمل‪.‬‬ ‫لقد ربط القرآن الكريم بين وجود الجنات والحدائق‬ ‫ان ِل َس َب َأ ِفي‬ ‫وذكرِ "المسكن"‪ ،‬حيث يقول تعالى‪َ  :‬ل َق ْد َك َ‬ ‫ــك ِنهِ م َآيــ ٌة َج َّن َت ِ‬ ‫يــن َو ِش َم ٍ‬ ‫ال‪(‬ســبأ‪ ،)15:‬وكأن‬ ‫ــن َي ِم ٍ‬ ‫ــان َع ْ‬ ‫َم ْس َ ْ‬ ‫وجود الحديقة صفة تميز المسكن عن البيت‪ .‬وهو ما تم‬ ‫اكتشافه في مساكن النمل تحت األرض‪ ،‬حيث تخصيص‬ ‫غــرف متعــددة ومتســعة تســتعمل الســتزراع الفطــر وهو‬ ‫الغــذاء الرئيســي للنمــل من نوع قاطعات األشــجار‪ .‬وقد‬ ‫أطلقــت كل الدراســات واألبحاث على كل تلك الغرف‬ ‫اسم "‪ ،"Gardens‬أي "حدائق" باللغة العربية‪.‬‬ ‫كمــا أن ذكــر المســاكن بصيغــة الجمــع فــي اآليــة‬ ‫‪‬اد ُخ ُلوا َمس ِ‬ ‫ــاك َن ُك ْم‪(‬النمل‪ )18:‬ال بصيغة األفراد‬ ‫الكريمة‪ْ :‬‬ ‫َ‬ ‫فيه إعجاز وسبق قرآني لعدم إمكانية رؤية تلك المساكن‬ ‫والغــرف المتعــددة تحــت األرض وقــت نــزول القــرآن‬ ‫الكريــم‪ ،‬ولكــن الدراســات الحديثة أثبتــت أنها تصل في‬

‫الغرف واألنفاق الموجودة تحت سطح األرض للنمل‪.‬‬

‫بعض الحاالت إلى اآلالف من الغرف والمساكن‪.‬‬

‫ال‬ ‫أمــا إذا تأملنــا قــول النملــة فــي اآليــة الكريمــة‪َ  :‬‬ ‫ون‪(‬النمل‪،)18:‬‬ ‫ود ُه َو ُه ْم َ‬ ‫ال َي ْش ُــع ُر َ‬ ‫َي ْح ِط َم َّن ُك ْم ُســ َل ْي َم ُ‬ ‫ان َو ُج ُن ُ‬ ‫يتضــح مــن قولهــا الثقــة المتناهيــة فــي قــوة ومتانــة تلــك‬ ‫المســاكن‪ ،‬حيــث إن النملــة كانــت واثقــة أن بدخولهــا‬ ‫هــي وباقي النمل لتلك المســاكن‪ ،‬لن يســتطيع ســليمان‬ ‫وجنوده أن يدمروها‪ ،‬وبالتالي فلن تتحطم تلك النمالت‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬أن‬ ‫لقد أوضحت الدراسات واألبحاث الحديثة ً‬

‫أشــكال الغرف واألنفاق تتراوح ما بين الشــكل الكروي‬

‫أو البيضــاوي لكليهمــا‪ ،‬ومــن المعــروف مــن الناحيــة‬ ‫الهندســية أن األشــكال البيضاويــة والدائريــة المقطــع‬

‫والكرويــة‪ ،‬تتحمــل الضغوط أو األحمــال من فوقها أكثر‬

‫من الغرف أو األنفاق ذات األسقف المستوية‪ ،‬وهو مما‬ ‫يفســر ثقــة النملة في متانة وقوة مســكنها‪ ،‬فهــي بما أودع‬

‫اهلل فيها من غريزة فطرية ســليمة التخاذ أفضل األشــكال‬ ‫لمســكنها‪ ،‬ووجــوده تحت األرض‪ ،‬كانــت مطمئنة لقوته‬ ‫ومتانته وعدم إمكانية تدميره فتتحطم هي بالتالي‪.‬‬

‫(*) كلية اآلثار‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫نقطة من القرية (العش) عند ‪ 4‬أمتار‪ ،‬تســتخدم كمســكن‬

‫بعض األنفاق المركزية للتل خالل فصل الصيف‪ ،‬لتهوية‬

‫فالنظــام الحــراري للمنطقــة يجعــل عامــات النمــل‬

‫غاز ثاني أكسيد الكربون من داخل العش‪ .‬كما لوحظ أن‬

‫العــش والمســاكن الواقعــة أســفل التل‪ ،‬وكذلــك لخروج‬

‫الب ْرد‪.‬‬ ‫شــتوي لجميــع أفــراد النمــل والفطــر خــال فتــرة َ‬

‫النمل يقوم بتغطية فتحات األنفاق في التل بأبراج صغيرة‬

‫تتجه إلى المسكن الشتوي في نهاية الخريف ‪-‬مع بداية‬

‫(‪ )Turrets‬كــي تســاعد علــى دخول الهواء إلــى العش‪ .‬كما‬

‫الفتــرة الباردة‪ -‬لبنــاء حدائق جديدة من الفطر‪ ،‬كما تتجه‬

‫الب ْرد في فصل الخريــف‪ ،‬يقوم النمل‬ ‫أنــه مــع بداية فتــرة َ‬

‫نحــو الغــرف العلويــة مــع بدايــة الربيع إلنشــاء الحدائق‬

‫بغلــق حوالــي ‪ %90‬مــن فتحات األنفاق فــي التل لتجنب‬

‫أيضا الستزراع الفطر‪.‬‬ ‫ً‬

‫دخول الهواء البارد إلى العش‪.‬‬

‫أما عش النمل من نوع (‪ ،)Atta Leavigata‬فيتكون من تل‬

‫ظاهر فوق ســطح األرض من التربة غير المتماســكة‪ ،‬به‬

‫كيف يذكر القرآن قرى ومساكن النمل‬

‫ســطح األرض يحتــوي علــى مســاكن مختلفــة األحجام‬

‫مــن امتــداد مســتعمرات النمــل إلــى آالف الكيلومتــرات‬ ‫فــي بعــض المناطــق‪ ،‬مما يجعل تســمية وا ٍد باســم النمل‬

‫الستزراع الفطريات بيضاوية الشكل‪ ،‬بينما غرف القمامة‬

‫مســاحة مســتعمرات النمــل التي تشــغلها‪ ،‬إلــى جانب أن‬

‫أيضا‪.‬‬ ‫شكل الغرف‬ ‫كرويا ً‬ ‫ًّ‬

‫(القرى)‪ ،‬والتي بينها ترابط واتصال‪.‬‬

‫العديــد من الفتحــات والمداخل‪ ،‬وجزء غير ظاهر تحت‬

‫لقد تطابق ذكر مســمى "وادي النمل" مع ما تم اكتشــافه‬

‫واألشكال ترتبط مع بعضها بشبكة من األنفاق‪.‬‬

‫وقــد وجــد أن المســاكن المخصصــة كحدائــق‬

‫مطابــق للواقــع لكبــر مســاحة األودية بصفة عامــة‪ِ ،‬‬ ‫وكبر‬

‫والفضــات علــى شــكل مخروطــي‪ ،‬ويمكــن أن يكــون‬

‫كل مستعمرة عمالقة تتكون من مجموعة من األعشاش‬

‫الغــرف مــع وجــود حوائــط ملســاء مــن الداخــل‪ ،‬وربما‬ ‫فــي بعــض الحاالت علــى قاعدة المســكن‪ .‬وقد وجدت‬

‫غرف في عمق يصل إلى سبعة أمتار‪ ،‬وهو أكبر عمق تم‬ ‫تحديده لتلك النوعية من األعشاش‪.‬‬

‫كمــا أن األنفــاق إمــا بيضاويــة وإمــا دائريــة المقطع‪،‬‬

‫يتــراوح ارتفاعهــا مــا بيــن ‪ 2.9‬ســم إلــى ‪ 5.5‬ســم‪ .‬أمــا‬

‫األنفــاق البيضاويــة فعرضها يكون أكبــر بأربع مرات من‬

‫ارتفاعها‪ ،‬وأما األنفاق الرئيسية تتميز بطولها لتعبر امتداد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وفي بعض األعشــاش يســيطر الشــكل الكروي على‬

‫كمــا أن إطــاق مســمى "قريــة النمــل" كمــا ورد فــي‬

‫بعــض األحاديــث النبويــة الصحيحــة‪ ،‬فيــه ســبق علمــي‬ ‫أيضــا‪ ،‬حيــث إن تعريــف القريــة كما ورد ببعــض معاجم‬ ‫ً‬

‫اللغــة هــو "ما تقاربت فيه األبنية المتخذة للســكن"‪ ،‬وهو‬ ‫أيضا من دراسات أعشاش النمل المقامة تحت‬ ‫ما اتضح ً‬

‫سطح األرض في أعماق مختلفة‪ ،‬والتي أوضح تقارب‬ ‫وتركــز مســاكن النمــل بها فــي أعماق محــددة‪ ،‬وبخاصة‬

‫الثالثة أمتار األولى تحت سطح األرض‪.‬‬

‫إن الدراســات الحديثــة التــي أجريــت علــى التركيب‬

‫دائريا‬ ‫نظاما‬ ‫ًّ‬ ‫العــش كــي تتصل باألنفــاق األخرى لتشــكل ً‬

‫والتصميــم الداخلي ألعشــاش النمل‪ّ ،‬بينــت احتواء هذه‬

‫لقــد اهتمــت بعــض الدراســات بالتــال الترابيــة التي‬

‫الشكل والحجم والموقع‪ ،‬وبالتالي ّبينت وجود وظائف‬

‫تهويــة ومناخ تلك األعشــاش (القرى) تحتها‪ .‬وبناء على‬

‫للفضالت وغيرها‪ ،‬وكذلك تناسب عدد أفراد النمل مع‬

‫(‪ ،)Atta Vollenweideri‬فقــد لوحــظ وجــود ‪ 169‬فتحــة نفــق‬

‫لتهوية تلك المســاكن فــي الصيف‪ ،‬وأبرزت وجود غرفة‬

‫(الطريق الدائري)‪.‬‬

‫تعلو بعض أعشاش النمل من نوع (‪ ،)Atta‬وبتأثيرها على‬

‫مترا‬ ‫موزعــة بانتظــام علــى ســطح هذا التــل الذي يرتفــع ً‬

‫مترا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واحدا عن سطح األرض ويساوي قطره ‪ً 3.1‬‬

‫وقــد وجــد أن الريــاح الســطحية‪ ،‬تندفــع مــن خــال‬

‫متعــددة لتلــك الغــرف مــا بيــن حدائــق ومخــازن وغرف‬ ‫بعض األساليب‬ ‫حجم ومساحة كل عش‪ ،‬كما أوضحت َ‬ ‫شــتوية في األســفل في فترات البرد‪ ،‬مما يجعل الوصف‬

‫القرآنــي لهــا بـ"المســاكن" هــو فــي غايــة الدقــة‪ ،‬في حين‬ ‫وصــف (القــرآن الكريم) النحل والعناكــب بأن لها بيو ًتا‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫دراسة أجريت على أحد تالل النمل باألرجنتين من نوع‬

‫األعشــاش علــى طــرق رئيســية وفرعيــة وغــرف متعــددة‬

‫‪7‬‬


‫قرية النمل المنتظمة‬

‫اتضــح مــن بعــض الدراســات الحديثــة أن كل مســتعمرة‬ ‫مــن مســتعمرات النمــل تتكــون مــن العديــد مــن القــرى‬

‫(األعشــاش)‪ .‬هــذه القــرى مبنيــة تحــت ســطح األرض‪،‬‬ ‫وفــي بعض أنــواع النمل (قاطعات األشــجار) يعلوها تل‬

‫دائــري صغيــر بارتفــاع حوالــي متــر واحد في المتوســط‪.‬‬ ‫وقــد أوضحــت دراســات متعددة أنه يمكــن وصول عدد‬

‫المســاكن في قرية من قرى النمل إلى اآلالف‪ .‬هذا وقد‬ ‫قــام العا ِلــم البرازيلــي "لويــس كارلــوس فورتي" بدراســة‬ ‫ثالثــة أنــواع من األعشــاش والتي كانت أعداد المســاكن‬

‫مســكنا بالترتيــب‪ ،‬فوجــد‬ ‫فيهــا ‪ 1149‬و‪ 1567‬و‪7864‬‬ ‫ً‬

‫أن المســاكن والغرف في هذه القرى تختلف في شــكلها‬

‫ووظيفتها وعمقها تحت األرض‪.‬‬

‫كمــا أوضحــت دراســة حديثــة أخرى حول أعشــاش‬

‫(قــرى) النمــل‪ ،‬أن أبعــاد القريــة المتوســطة الحجــم لنوع‬ ‫عرضا‪،‬‬ ‫مترا ً‬ ‫النمل قاطع األشجار (‪ ،)Atta Texana‬هي ‪ً 4.5‬‬

‫مربعا)‪،‬‬ ‫و‪ 6‬أمتار طو ً‬ ‫مترا ً‬ ‫ال (أي بمساحة تعادل حوالي ‪ً 25‬‬ ‫كما أكدت الدراسة على التقارب والتركز الكبير ألعداد‬

‫المساكن (الغرف) بجانب بعضها البعض‪ ،‬فمن بين ‪169‬‬ ‫غرفــة بالقريــة (العــش)‪ ،‬وجــد حوالــي ‪ 161‬غرفــة ترتكز‬

‫في األمتار الثالثة العلوية تحت ســطح األرض مباشــرة‪.‬‬

‫وقــد أوضحت دراســة أخــرى حديثة أجريــت بوالية‬

‫فلوريــدا بأمريــكا علــى نــوع (‪ ، Camponotus Socius‬تركــز‬ ‫)‬

‫وتقارب المساكن داخل العش بالقرب من المنطقة العلوية‬ ‫أيضا عند‬ ‫تحــت ســطح األرض مباشــرة‪ ،‬وهــو ما يتأكــد ً‬

‫دراســة العديد من قرى (أعشــاش) النمل ألنواع مختلفة‪.‬‬

‫مساكن النمل المتينة‬

‫أوضحــت الدراســات المتعــددة الحديثــة التــي أجريــت‬ ‫حــول أعشــاش وقرى النمــل‪ ،‬أن هذه األعشــاش تتكون‬ ‫من جزأين أساســيين‪ ،‬األول هو عدد من األنفاق األفقية‬ ‫والرأســية‪ ،‬والثانــي هــو مجموعة من الغرف (المســاكن)‬ ‫األفقيــة الوضــع‪ .‬كمــا أوضحــت الدراســة أن عــدد‬ ‫العامالت في العش يتناســب مع حجم العش ومســاحة‬ ‫الغرف المنشــأة‪ ،‬فعلى ســبيل المثال‪ ،‬فإن مساحة الغرف‬ ‫بالنســبة لعــش النمل من نــوع (‪ )Camponotus Socius‬يتراوح‬ ‫مربعــا‪ ،‬وكل زيــادة بالنســبة لعدد‬ ‫مــن ‪ 26‬إلــى ‪ 467‬ســم ً‬ ‫عاملــة واحــدة يقابلهــا زيــادة في مســاحة الغرفة تســاوي‬ ‫مربعا‪.‬‬ ‫‪ 0.70‬سم ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬أن شــكل الغــرف‬ ‫وقــد أوضحــت الدراســة ً‬ ‫يختلــف حســب حجمهــا وموضعها في أي مســتوى من‬ ‫العمــق‪ ،‬إذ إن الغــرف القريبــة مــن الســطح ضيقــة وأكثر‬ ‫ســمكا‬ ‫ال‪ ،‬أمــا الغــرف األكثــر عم ًقــا فتكــون أكثــر‬ ‫طــو ً‬ ‫ً‬ ‫واســتدارة فــي شــكلها الخارجــي‪ ،‬أما ارتفــاع الغرف فال‬ ‫يختلــف باختــاف المســاحة‪ ،‬وهــو يتــراوح بيــن ‪ 1‬ســم‬ ‫و‪ 1.50‬سم‪ ،‬والمسافة بين الغرف تتراوح من ‪ 2‬سم إلى‬ ‫ال مع العمق‪.‬‬ ‫‪ 14‬سم‪ ،‬وتزداد قلي ً‬ ‫أمـ�ا التصميم المعمـ�اري لعش النمل من نو ع (�‪Pogno‬‬ ‫‪ )myrmex Badius‬تتميز فيه األنفاق (الممرات أو الشوارع)‬ ‫بأنهــا بيضاويــة المقطــع وبقطر يتراوح من ‪ 4‬ســم إلى ‪6‬‬ ‫ســم‪ ،‬ويميــل بزاويــة مقدارها ‪ 15‬إلــى ‪ 20‬درجة بالقرب‬ ‫مــن الســطح‪ ،‬ويزداد الميــل إلى ‪ 70‬درجة عند عمق ‪50‬‬ ‫ســم تحــت ســطح األرض‪ ،‬وال يزيــد عــدد األنفــاق عن‬ ‫أربعة في المستعمرات الكبيرة‪.‬‬ ‫كما أوضحت دراسة على مستعمرة متوسطة الحجم‬ ‫للنمــل مــن نــوع (‪ )Atta Texana‬بشــمال واليــة لويزيانــا‬ ‫األمريكية‪ ،‬احتواءها على ‪ 169‬غرفة (مسكن)‪ ،‬منها ‪97‬‬ ‫حديقــة الســتزراع الفطــر الــذي يعتبــر الغذاء األساســىي‬ ‫لتلك النملة قاطعة األشجار‪ ،‬و‪ 27‬غرفة للعامالت‬ ‫(‪ ،)Dormancy‬و‪ 45‬غرفــة للفضالت والقمامة‪،‬‬ ‫مترا‬ ‫كما وجدت غرفة كبيرة ًّ‬ ‫نسبيا مقياسها ً‬ ‫ال في أخفض‬ ‫عرضا ومثلها طو ً‬ ‫واحدا ً‬ ‫ً‬ ‫‪6‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬يحيى وزيري*‬

‫مساكن وقرى‬

‫النمل‬

‫يعيــش النمــل ضمــن مســتعمرات يقــوم‬

‫دراســة حديثــة أخــرى باألرجنتيــن‪ ،‬تم دراســة مســتعمرة‬

‫واديــا للنمــل كمــا‬ ‫مكو ًنــا ً‬ ‫المســتعمرات ِّ‬

‫‪ 5‬مليــون نملــة‪ ،‬وتلــك المســتعمرة تحتوي علــى العديد‬

‫ببنائهــا‪ ،‬وقــد يتجــاور عــدد كبيــر مــن‬ ‫ســماه القــرآن الكريــم‪ .‬إن حجم المســتعمرات العمالقة‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )Super Colonies‬التي تم قياسها في العديد من الدراسات‬

‫مربعا‪ ،‬ويسكنها من ‪ 1‬إلى‬ ‫مترا ً‬ ‫تصل مساحتها إلى ‪ً 650‬‬

‫من أعشــاش (قرى) النمل المتجاورة‪ ،‬والتي تشــكل كتلة‬

‫(‪ )Cluster‬متقاربة من األعشاش‪.‬‬

‫العلميــة‪ ،‬تغطــي اآلالف مــن الكيلومتــرات المربعــة فــي‬

‫وقد اقترحت تلك الدراســة أن يتم تعريف مســتعمرة‬

‫المســتعمرات الكبرى في الجنوب الشرقي من الواليات‬

‫ينتقل النمل فيما بينها ويتشــارك الطعام‪ ،‬وأن الترابط بين‬

‫كاليفورنيــا وأوروبــا ونيوزيالند وأســتراليا‪ .‬كما أن بعض‬

‫مربــع‪ ،‬وهــي تضاهــي حجــم المســتعمرات الموجــودة‬

‫باألرجنتين‪ .‬وقد أوضحت دراســة حديثة أن كثافة النمل‬ ‫يكــون مــن ‪ 25‬إلــى ‪ 30‬ألــف نملة لكل متــر مربع‪ ،‬وفي‬

‫مكانيا‪ ،‬حيث ال تتحرك العامالت‬ ‫أعشــاش النمل محدد‬ ‫ًّ‬ ‫عبــر الممــرات أو تتشــارك الطعــام بيــن األعشــاش علــى‬

‫مترا من محطة القياس المحددة‬ ‫مسافة أكثر من خمسين ً‬

‫بالدراسة‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫المتحــدة األمريكيــة‪ ،‬واليابان‪ ،‬تغطــي أقل من ‪ 2500‬متر‬

‫النمــل على أنها مجموعة من األعشــاش (القرى)‪ ،‬والتي‬

‫‪5‬‬


‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫تترقب البشرية اليوم درب قافلة هؤالء السعداء‪ ..‬هؤالء‬ ‫الذيــن أدركــوا الحياة بكل جمالهــا‪..‬‬ ‫وتمكنوا من صياغة‬ ‫ّ‬ ‫"حقيقة" ظ ّلوا يرعونها في أرواحهم بصبر كصبر المرجان‪،‬‬ ‫متقدين شــو ًقا‬ ‫وهدوء كهدوئه حتى اختمرت‪ ..‬وانطلقوا ّ‬ ‫وحماســة لتلقيــح بقــاع األرض كلهــا بهــذه "الحقيقــة"‪.‬‬ ‫هــؤالء األخيــار‪ ،‬فــي مســيرتهم الســامية تلــك‪ ،‬ال‬ ‫يقعــون أســرى المقامــات والمناصب‪ ،‬وال يســقطون في‬ ‫رمزا للصــدق واألمانة‬ ‫هــوة الشــهرة والمجــد‪ ،‬بل يبقــون ً‬ ‫والشــعور بالمســؤولية والفكر القويم والعفة واالستغناء‪.‬‬ ‫متأوهين‬ ‫ال يترددون في محاســبة النفس لدى أي تقصير ّ‬ ‫نادميــن‪ ،‬أمــا إذا كان األمــر متعل ًقــا بأخطــاء اآلخريــن‪،‬‬ ‫يوســعون دائرة المســامحة ويستخدمون حق العفو‬ ‫فإنهم ّ‬ ‫الممنوح لهم من الباري ‪ ‬إلى أبعد مدى‪.‬‬ ‫اس‬ ‫حر ُ‬ ‫وحر ُ‬ ‫هؤالء ُحماة القضية ّ‬ ‫اس المبدأ ال الثروة‪ّ ،‬‬ ‫المبــدأ ال المــال‪ُ ،‬يعلون الحقيقة فــوق المنفعة‪ ،‬ويؤثرون‬ ‫ويرجحون الرفق ِ‬ ‫التواضع على التباهي األجوف‪،‬‬ ‫والحلم‬ ‫ّ‬ ‫واألناة على الشــدة والغلظة والجفاء‪،‬‬ ‫ويوظفون طاقاتهم‬ ‫ّ‬ ‫ال‪،‬‬ ‫كلها لالرتقاء إلى الحياة الحقيقية في ذوات أنفسهم أو ً‬ ‫ِ‬ ‫كملــون‬ ‫ويكملون‪ .‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ثانيــا‪َ ،‬في ُ‬ ‫ثــم علــى صعيد البشــرية ً‬ ‫ويفرون‬ ‫يتركــون فــي أرواحهم مجــا ً‬ ‫ال لكذب أو خــداع‪ّ ،‬‬ ‫فرارهــم مــن العقــارب واألفاعــي‪.‬‬ ‫مــن األنانيــة والكبــر َ‬ ‫وإذ يســير هــؤالء األطهــار نحــو غاياتهــم الســامية‬ ‫ورؤاهــم المعقولــة مرفوعــي الهامات منتصبــي القامات‪،‬‬ ‫يعدون كل مانع يعترض طري َقهم أو عقبة تقف ُقبالتهم؛‬ ‫ّ‬ ‫تشــد مــن عضدهــم‪،‬‬ ‫وســائل‬ ‫وأســبابا ُتحيلهــم فــوال ًذا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫خالصــا‪ ..‬أولئــك لن يســقطوا في مهــاوي اإلحباط‪ ،‬ولن‬ ‫ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫يجد االنكسار إلى قلوبهم سبي ً‬ ‫نفســا وأنانية‪ ..‬هناك‪..‬‬ ‫ويــوم َيبلغون منــز ً‬ ‫ال َي َ‬ ‫فنون فيه ً‬ ‫وفــي تلــك اللحظــة‪ ..‬ومــن ذلــك المنــزل ذاتــه ســتنطلق‬ ‫هتافات أجيال الغد مه ِّللة بقدوم الربيع‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬هيئة حراء للترجمة‪ .‬نشر هذا المقال في مجلة‬ ‫سيزنتي التركية في العدد‪ ،67:‬سنة ‪.1984‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪)1‬‬ ‫وسحب فضائية تتكون من تكاثف‬ ‫تجمعات ُ‬ ‫جمع َسديم وهي ّ‬ ‫ُس ُدم ْ‬

‫ذرات الغاز والغبار في الفضاء وتستمد ضوءها من النجوم القريبة منها‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حياة الروح‬ ‫إلهي‪..‬‬ ‫خ ّفاقة ر َ‬ ‫ايتك فوق السواري‪..‬‬ ‫كمك يف األشياء‪،‬‬ ‫نا ِفذ ُح ُ‬ ‫وسا ٍر أ ْم ُرك يف األكوان‪،‬‬ ‫وبني يديك البرشي ُة تـجثو‪،‬‬ ‫وب ُنورك تَحيا‬ ‫األرواح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتقتات‬ ‫األنفس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫***‬


‫وتقد َمه ‪-‬بعد ذلــك‪ -‬لألنظار‬ ‫ا بديعــة األلــوان‪،‬‬ ‫منــه ُحلــ ً‬ ‫ّ‬

‫أخاذ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫المشوقة في معرض جميل ّ‬

‫الرحــال ‪-‬مثل النحل‪ -‬إلى أرجاء‬ ‫القلوب‬ ‫تلك‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫تشــد ّ‬

‫عروشــا علــى أوراق األزهــار التي‬ ‫األرض كلهــا‪ ،‬وتقيــم‬ ‫ً‬

‫بســر التحــول إلــى عســل‬ ‫تلتقيهــا‪ ،‬وتهمــس فــي آذانهــا‬ ‫ّ‬ ‫حينا‪،‬‬ ‫خالــص‪ .‬وهــي في مهمتها تلك تحبو على األرض ً‬

‫حينا آخر‪ ،‬يرافقها ألم عميق ال َيبرح‬ ‫وتح ّلق في األعالي ً‬

‫أســابيع‬ ‫صدرهــا‪ ،‬وصــداع شــديد يهــز رأســها‪َ ..‬تمضــي‬ ‫ُ‬ ‫وشــهور ال تعــرف فيها معنى‬ ‫ال تــذوق فيهــا طعــم النوم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الراحــة‪ ،‬وأعوام ال تجد فيها فرصة لالســترخاء‪ ..‬وهكذا‬ ‫أيــام العمــر ِ‬ ‫وس ُــنو الحيــاة بســرعة الريــح واحــدة‬ ‫تذهــب ُ‬

‫تلــو األخــرى‪ ،‬لكنهــا ال تنتبــه إليها الســتغراقها في القيام‬

‫دائمــا ‪-‬على نهج جــال الدين الرومي‪-‬‬ ‫بمهمتهــا‪ .‬فهــي ً‬ ‫جــزء منهــا مــع "الخلــق"‪ ،‬وجــزء آخــر‬ ‫مثــل "الفرجــار"؛‬ ‫ٌ‬

‫مــع "الحــق" ســبحانه‪ .‬تمتلئ بالدهشــة إزاء آثــار الخالق‬

‫وبدائعــه التي يفرشــها أمامنا كل حيــن‪ ،‬وتفيض باالنبهار‬ ‫وتخر بين يديه سبحانه ساجدة خاشعة‪..‬‬ ‫مرة بعد أخرى‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ثم تعود إلى "الخلق" بهذه المعاني الروحية السامية التي‬ ‫ذاقــت حالوتهــا وظ ّلت تنهــل منها حتى ارتــوت‪ ،‬لتح ّلق‬ ‫مشحونة بشعور عميق بالمسؤولية‪.‬‬

‫ترتقب البرشية اليوم درب قافلة هؤالء السعداء‪..‬‬ ‫هؤالء الذين أدركوا الحياة بــكل جاملها‪ ..‬ومتكنّوا‬ ‫من صياغة "حقيقة" ظلّــوا يرعونها يف أرواحهم‬ ‫بصرب كصرب املرجان‪ ،‬وهدوء كهدوئه حتى اختمرت‪..‬‬ ‫وانطلقــوا متّقدين شــوقً ا وحامســة لتلقيح بقاع‬ ‫األرض كلها بهذه "الحقيقة"‪.‬‬

‫ويركضــون فيــه ركــض جــواد أصيــل جــرى مــع فارســه‬ ‫أنفاسه‪.‬‬ ‫المقدام حتى انبهرت‬ ‫ُ‬

‫أولئك الذين بلغوا منزلة "السعداء" لدى "الحق" ‪،‬‬

‫حمالــون لــدى "الخلــق" يتطوعون لحمــل الهموم عنهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ــاء رحمــاء يعيشــون آالم األمــة فــي قرارة نفوســهم‪،‬‬ ‫وأطب ُ‬ ‫ّ‬

‫ورموز للتســليم إلى اهلل ســبحانه‪ ..‬رموز يكتشــفون اللذ َة‬ ‫في األلم‪ ،‬والسعاد َة في المكابدة‪.‬‬

‫أجــل‪ ،‬إن كل شــيء فــي هــذا الكــون الفســيح الــذي‬

‫يعجــز العقــل عن تصور بدايته ونهايته‪ ،‬من وميض البرق‬

‫إلــى هزيــم الرعــد‪ ،‬ومــن ألالء الشــمس بأبهــى األلــوان‬

‫يلــف‬ ‫أفكارهم‬ ‫إلــى رقــة النســيم ونعومته‪ ..‬إن كل شــيء ّ‬ ‫َ‬

‫بأذرعه النورانية المشرقة‪ ،‬فيغدو‬ ‫الربيع بأزهاره العطرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والصيــف بفواكهــه اليانعــة‬ ‫"موائــد فكريــة" بيــن أيديهــم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫يحركــون‬ ‫إننــا بفضــل جيــش‬ ‫ّ‬ ‫القدســيين هــؤالء حيــن ّ‬

‫تأملــوه فأدركوا حقيقته‪ ،‬وفيمــا ذاقوه فعرفوا‬ ‫فيــرون فيما ّ‬

‫مضيفيــن إلــى أطلــس قلوبهــم فــي كل مــرة ألوا ًنــا قشــيبة‬

‫بهمســات منــه ســبحانه‪ .‬ففي أفــق فكرهم الذي اســتحال‬

‫مــرارا‪،‬‬ ‫"مكــوك الفكــر" فــي اليــوم بيــن األرض والســماء‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫نطهــر عقو َلنا من األفكار‬ ‫ً‬ ‫وأبعــادا جديــدة‪ ..‬بفضل هؤالء ّ‬ ‫الع ِفنــة التــي عشعشــت فيهــا‪ ،‬ونن ّقي قلوبنا مــن الطحالب‬

‫التــي غشــيتها ونتذكــر "إنســانيتنا" مــن جديــد‪ .‬إن ســعداء‬ ‫مشــرعة على‬ ‫"حضــرة الحــق" هــؤالء‪ ،‬نوافذهم وأبوابهم‬ ‫َ‬ ‫مصاريعهــا إزاء آفــاق الغيــب الالنهائيــة متفاعلين معها‪..‬‬

‫ويئنون مع الشــجر في‬ ‫ُي ُ‬ ‫صغــون إلــى الطيــر فــي تغريــده‪ّ ،‬‬

‫أثارا ومالمح من "ســلطان الجمال"‪ ،‬ويرتعشــون‬ ‫جوهره ً‬ ‫عرفا ًنــا بــاهلل‬ ‫محضــا‪ ،‬يشــدو النظام الســائد فــي كل مكان‬ ‫ً‬

‫بلســانه الخــاص‬ ‫أعــذب المعانــي‪ ،‬وتتعانــق األشــعة مــع‬ ‫َ‬

‫شــتى األلــوان‪ ،‬وتحــوم الــروح حــول هــذا الفضــل حــوم‬ ‫ِ‬ ‫النجوم‬ ‫حين تغدو فيه‬ ‫ذرات‬ ‫الفــراش حــول النور‪ .‬ويأتي ٌ‬ ‫ُ‬

‫غبار تحت أقدامهم‪ ،‬ويصبح الغبار الذي تحت أقدامهم‬ ‫ِ‬ ‫ذرات ُس ُدم نجمية(‪.)1‬‬

‫واألمطــار فــي تهاطــل قطراتهــا‪ ،‬والطيــور فــي رفرفــة‬

‫جراء مــا َيلقون فيه‬ ‫شــوقهم‪ ،‬وال يتراجعــون عــن الــدرب ّ‬

‫الهمــوم مــع البحــار‪ ،‬ينصتــون إلــى النســائم فــي هبوبها‪،‬‬ ‫أجنحتهــا‪ ،‬واألشــجار فــي تســاقط أوراقهــا‪ ..‬فيجدونهــا‬ ‫تحمل إليهم رسائل من الحق ‪ ،‬فيسرعون إلى مناجاته‬

‫بلســان قلوبهم‪ ،‬ويهتفون بمــلء فيهم‪" :‬هذا هو الطريق"‪،‬‬

‫تخمــد جــذوة حماســهم وال تنطفــئ شــعلة‬ ‫بالخلــود ‪،‬ال ُ‬ ‫مــن عنــاء‪ .‬ففي كل صباح ومع طلوع الشــمس يشــرقون‬ ‫ويهــدون قلوبنــا معاني‬ ‫علينــا بأمــل ّ‬ ‫نــدي وشــوق جديد‪ُ ،‬‬

‫نادرة من عوالم الماوراء‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫تســبيحه‪ ،‬يناجــون النجوم في صفحة الســماء‪ ،‬ويتبادلون‬

‫وبفضــل ِ‬ ‫الجنــان التي أقاموها فــي قلوبهم المصطبِغة‬

‫‪3‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫مكابدة الفكر‬ ‫وخطط فاعلة تقوم‬ ‫وصفات ناجعة ُ‬ ‫إن الجميع يفتش اليوم باح ًثا عن ْ‬

‫عليهــا المعمــور ُة في المســتقبل‪ .‬ونحن ‪-‬بدورنا‪ -‬ســنضرب بريشــتنا‬

‫المؤرقة‬ ‫علــى أوتــار قلوبنا مرة أخرى لنبعث بأ ّناتنــا المث َقلة بالهموم‪،‬‬ ‫َّ‬

‫منبهيــن إلــى "مكابــدة الفكــر"‪ .‬وال أدري هــل ســيكون لهــذا التنبيــه تأثير في‬ ‫بــاآلالم‪ّ ،‬‬ ‫القلــوب الخاليــة مــن الهم‪ ،‬أو الرؤوس التي لــم ُت ِ‬ ‫عان صداع الفكر وضرباته المتوالية‬ ‫ّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫قط‪ ،‬أو النفوس التي أ ِلفت الراحة واســتكانت إلى االســترخاء‪ ..‬لكن مع ذلك نقول‬

‫‪2‬‬

‫إن ســعادة إنســاننا الحقيقية‪ ،‬لن تتأ ّتى إال إذا ســ ّلم نفسه إلى رؤى مشرقة وأفكار ّنيرة‬ ‫متصدعة" نضجت بنار الفكر ومكابداته‪.‬‬ ‫تنبثق من "قلوب‬ ‫ّ‬

‫ندفــه فــي أعماقها‬ ‫تلــك القلــوب المكابــدة الصافيــة التــي تحتــوي الكــون كلــه و ُت ّ‬

‫طرز‬ ‫خيطا ً‬ ‫صباح مساء‪ ،‬فتحلله ً‬ ‫خيطا‪ ،‬ثم تمرره عبر زخارف متنوعة ونقوش شتى ُلت ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المحتويات‬

‫‪2‬‬ ‫ مكابدة الفكر  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫‪4‬‬ ‫حياة الروح  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫‪5‬‬ ‫ مساكن وقرى النمل  ‪ /‬د‪ .‬حيىي وزيري (علوم) ‬ ‫‪9‬‬ ‫صوت مؤمن  ‪ /‬حممد صديق (أدب) ‬ ‫‪10‬‬ ‫ حاجة األمة إلى "السيرة السنّة"  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬ ‫‪15‬‬ ‫من حضارة األدب إلى أدب الحضارة  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬حسن األمراين (أدب) ‬ ‫‪18‬‬ ‫ ثمن الحرية  ‪ /‬د‪ .‬سلمان العودة (أدب) ‬ ‫‪20‬‬ ‫ما هي الذاكرة؟  ‪ /‬د‪ .‬حممد السقا عيد (علوم )‬ ‫‪23‬‬ ‫ التربية على حب الجمال  ‪ /‬صهيب مصباح (تربية) ‬ ‫‪25‬‬ ‫يا قاد ًما من بعيد  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫‪26‬‬ ‫ المادة المضادة‪ ..‬كيف ولدت؟ وأين اختفت؟  ‪ /‬حممد هاشم البشري (علوم) ‬ ‫‪28‬‬ ‫اإليمان واللسان  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫‪29‬‬ ‫ الفقمة‪ ..‬أميرة الغواصين  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫‪34‬‬ ‫التدافع أم التنازع  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (قضايا فكرية) ‬ ‫‪37‬‬ ‫ صورة بال تعليق  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫‪38‬‬ ‫طالب المليون  ‪ /‬د‪ .‬عبد اهلل بن صاحل العريين (قصة) ‬ ‫‪41‬‬ ‫ سؤال عن ذاتنا الحضارية  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (قضايا فكرية) ‬ ‫‪44‬‬ ‫"إمكانات" الحكم الراشد  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا (قضايا فكرية) ‬ ‫‪48‬‬ ‫ ابن البيطار‪ ..‬عالم الصيدلة وشيخ العشابين  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬ ‫‪52‬‬ ‫صديق في داخلي  ‪ /‬د‪ .‬أمحد عبد احلفيظ (علوم) ‬ ‫ أين تكمن حكمة المنهاج العلمي في القرآن الكريم  ‪ /‬د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح (قضايا فكرية) ‪55‬‬ ‫‪59‬‬ ‫إبراء الذمة من سلوك النقمة  ‪ /‬د‪ .‬حممد إقبال عروي (قضايا فكرية) ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫القلوب المتصدعة‬ ‫فــي مفتتــح هــذا العدد من "حــراء" نقرأ عــن "مكابدة‬

‫يكاد يقف اإلنســان في نهاية القرن العشــرين من منجزاته‬

‫بها أصحاب الفكر العالي‪ ،‬ورجال الرســاالت الكبرى‪..‬‬

‫ا‪ -‬أدب الحضــارة‪،‬‬ ‫"وقــد أســس اإلســام ‪-‬قــو ً‬ ‫ال وفعــ ً‬

‫الفكر" لألستاذ فتح اهلل كولن؛ هذه المكابدة التي ُي ْمتحن‬ ‫فعلــى الرغــم مما يتعرضون له من محن وأهوال تعترض‬

‫ونزهه عن العبث‪ ،‬وتلك خصيصة‬ ‫فجعل األدب‬ ‫رســاليا ّ‬ ‫ًّ‬

‫مســاراتهم‪ ،‬غيــر أنهــم يســتعذبون العــذاب‪ ،‬ويســتمرئون‬ ‫الصعــاب‪ ،‬فــا َت ُف ُّت في عضدهــم‪ ،‬وال ُتخ ِف ُت من جذوة‬

‫وفي مقاله "ثمن الحرية" يكتب "ســلمان العودة" عن‬

‫الركين بأنهم يمثلون مطامح اإلنسانية في أسمى معانيها‪،‬‬

‫مستعبدا لبعض‬ ‫أغلى وأسخى منها‪ ،‬ولكن اإلنسان يبقى‬ ‫ً‬

‫حماســهم عن الهدف النبيل الذي يســعون إليه‪ ،‬إليمانهم‬ ‫والفكــر في قدس أقداســه‪ ،‬فال يرتاحون وال يســترخون‪،‬‬ ‫ش‪ ،‬ويجافيهــم‬ ‫وال ينعســون أو يتثاءبــون‪ ،‬تنكرهــم ال ُف ُــر ُ‬

‫النــوم‪ ..‬فهــم في حراك ال يتوقــف‪ ،‬وعمل دؤوب‪ ،‬تنتهي‬

‫أعمارهــم وال ينتهــي‪ ..‬أيامهم ســاعات‪ ،‬وأشــهرهم أيام‪،‬‬ ‫يعدون‪ ،‬ويتساءلون؛‬ ‫وســنواتهم أشهر‪ ،‬فال يحســبون وال ُّ‬

‫َأ ُه ْم من هذا الزمان‪ ،‬أم هم مرصودون لآلتي من األزمان؟!‬ ‫ثــم "الحاجــة العامــة للبشــرية إلــى النمــوذج الكامــل‬

‫فــي اآلدميــة‪ ،‬ليــس في اإلنســانية"‪ ،‬هكذا يكتب "الشــاهد‬ ‫الســنة"؛‬ ‫البوشــيخي" فــي مقالــه "حاجة األمة إلى الســيرة‬ ‫ّ‬

‫من خصائص اإلسالم التي تشمل الوجود كله"‪.‬‬

‫الحريــة التي يتعشــقها اإلنســان‪ ،‬والتي ال يجــد في حياته‬ ‫عاداتــه‪ ،‬فهــو يــرى أن اإلنســان محــاط بكثيــر مــن القيود‬ ‫ومنها قيد الزوجية‪ ،‬وقيد العمل‪ ،‬وقيد المدرســة العلمية‬

‫أو الفكريــة أو الدعويــة‪ ،‬وقيــد المجتمــع‪ ،‬وقيد التيارات‬ ‫المتخالفــة‪ ،‬وقيد الســلطة‪ ،‬وقيد األتبــاع‪ ،‬وقيد الجمهور‪،‬‬ ‫وقيد الشركاء"‪.‬‬

‫مهمــا تعنونه‬ ‫وتكتــب "مريــم آيــت أحمــد"‬ ‫ً‬ ‫موضوعــا ًّ‬

‫ال‬ ‫‪‬و َل ْو َ‬ ‫بـ"التداقــع أم التنازع" مستشــهدة باآليــة الكريمة َ‬ ‫ــع ا ِ‬ ‫ــد ِت ا َ‬ ‫ض َو َل ِك َّن‬ ‫ــم ب َِب ْع ٍ‬ ‫أل ْر ُ‬ ‫ض َل َف َس َ‬ ‫هلل َّ‬ ‫َد ْف ُ‬ ‫الن َ‬ ‫ــاس َب ْع َض ُه ْ‬ ‫ين‪ ،‬ومثل هذا التدافع مطلوب‬ ‫ا َ‬ ‫هلل ُذو َف ْض ٍل َع َلى ا ْل َعا َل ِم َ‬

‫فيــرى أنــه لم تكن األمة في ظرف من ظروفها التي مرت‬

‫ومرغوب به‪ ،‬ألنه يحرك األفكار‪ ،‬ويثير العقول ويحفزها‬

‫فهــو يــرى أن مــن أوجــب الواجبــات اليــوم أن يتصــدى‬

‫ونود أن ننوه بمقاالت ُك ٍّل من األساتذة يحيى وزيري‪،‬‬

‫الســنة" كما هي اليوم‪،‬‬ ‫بها بحاجة إلى ما أســماه "الســيرة‬ ‫ّ‬ ‫الســنة" لتصبــح‬ ‫مفكــرو األمــة للكتابــة فــي هــذه "الســيرة‬ ‫ّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )45‬‬

‫ال‪ ،‬حتــى يتوقف عن رســالته اليوم؟" إلى أن يقول‪:‬‬ ‫مذهــو ً‬

‫مرجعية لكل َمن يريد الكتابة في اإلسالم‪.‬‬

‫للنهوض نحو األفضل واألحسن‪.‬‬

‫وفؤاد البنا‪ ،‬ومحمد الســقا عيد‪ ،‬ومحمد باباعمي‪ ،‬وعبد‬

‫اهلل بن صالح العريني‪ ،‬وبركات محمد مراد‪ ،‬وأحمد عبد‬

‫أمــا المبــدع "حســن األمرانــي" فإنه يتســاءل في مقاله‬

‫الحفيــظ‪ ،‬محمــد هاشــم البشــير‪ ،‬وعبد اإلله بــن مصباح‪،‬‬

‫و"هــل توقــف األدب ح ًّقــا عــن رســالته فــي الحضــارات‬

‫وعرفــان يلمــاز‪ ،‬دون اإلشــارة إلــى مضاميــن مقاالتهــم‬

‫الموســوم "مــن حضــارة األدب إلــى أدب الحضــارة"‪:‬‬ ‫السابقة‪ ،‬وهي حضارات بلغت ما بلغت من الرقي الذي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومحمــد إقبال عــروي‪ ،‬محمد صديق‪ ،‬وصهيب مصباح‪،‬‬ ‫القيمة‪ ،‬محيلين القراء األكارم إليها‪ ،‬وباهلل التوفيق‪.‬‬


‫‪45‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة العارشة ‪( /‬نوفمرب ‪ -‬ديسمرب) ‪2014‬‬

‫مشيئة القدر‬ ‫صغي ًرا ال تستصغ ْر‪ ،‬وضعي ًفا ال تَح ِقر‪..‬‬ ‫فالصغير غ ًدا كبي ًرا سيغدو‪ ،‬والضعيف قو ًّيا سيكون‪..‬‬ ‫تَن َّبه وحاذر!‬ ‫فأكوانٌ قامت‪ ،‬وعوالم نهضت‪ ،‬من بذرة إذا‬ ‫اندثرت‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫بهذا كن مؤم ًنا‪ ،‬ولِ َلغو الحديث تار ًكا‪.‬‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫مكابدة الفكر‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪10‬‬

‫حاجة األمة إلى "السيرة السنّ ة"‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي‬

‫‪59‬‬

‫إبراء الذمة من سلوك النقمة‬ ‫د‪ .‬محمد إقبال عروي‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.