Hira Magazine 42

Page 1

‫بطل األحالم‬ ‫أيا بطل األحالم الحلوة‪ ...‬يا فاريس املحبوب!‪ ..‬يف هذه‬ ‫األيام السود التعسة التي يسعى فيها الرياء والشهرة‬ ‫وحب املنصب والجاه إىل تشويه آمالنا املرشقة‪...‬‬ ‫نرجوك‪ ،‬نرجوك أال ترتك القلوب الظامئة إىل إكسريك‬ ‫الباعث للحياة تعاين مزي ًدا من شقاء االنتظار‪.‬‬ ‫***‬

‫‪Mayıs - Haziran 2014 Sayı: 42 Fiyatı: 7,5 TL.‬‬


‫‪h t t p : / / w w w. h e r k u l . o r g‬‬

‫‪http://fgulen.com/ar‬‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪ +20226134402-5 :‬الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ يف ما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص‬ ‫منفصل أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫مكتب حراء للنشر والتوزيع‬ ‫شارع بغداد‪ ،‬مقابل بريد بغداد‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‬ ‫‪Phone: +967 1 214774‬‬ ‫‪Fax: +967 1 204494‬‬ ‫‪GSM: +967 736027560‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪LİBYA‬‬ ‫دار الرواد‪ ،‬ذات العماد‪ ،‬برج ‪-4‬طرابلس‪-‬ليبيا‪.‬‬ ‫هاتف‪daralrowdooks@gmail.com - 00218213350332 :‬‬ ‫هاتف‪hiralibya@gmail.com - 00218916125579 :‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201098325549 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫باإلكراه من أعلى بتلقين فوقي أو بضغط ســلطوي‪ .‬ففي‬ ‫ّ‬ ‫بدايــة القــرن العشــرين كان بديع الزمان ســعيد النورســي‬

‫يقــول‪" :‬الغلبــة علــى المدنييــن تتــم عــن طريــق اإلقنــاع‪،‬‬

‫تمــارس‬ ‫ال اإلكــراه"‪ .‬ومــن ثــم فــإن الضغوطــات التــي‬ ‫َ‬ ‫علــى المجتمعــات ال يمكــن أن تثمــر نتائــج باقيــة‪ .‬علينا‬ ‫وتبصر وفراســة‪.‬‬ ‫وتــرو ويقظة‬ ‫أن نعالــج المشــاكل بصبــر‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬

‫س‪ :‬مــا توصياتكــم لمــن يحبكــم إزاء هــذه االفت ـراءات‬ ‫والمضايقات؟ ماذا ينبغي أن يفعلوا برأيكم؟‬ ‫أقــول إلخوانــي إنكــم إذا تعاملتــم مــع األزمــة الراهنــة‬ ‫بالرزانــة والجديــة التــي تليــق بأدبكــم‪ ،‬وصمدتــم أمــام‬

‫العواصــف صابرين متوكليــن‪ ،‬فالبد أن يحل اليوم الذي‬

‫نادما‬ ‫ينتصر فيه العقل الســليم‪ .‬وحينئذ ســيأتيكم بعضهم ً‬

‫ألم بنا‪ ،‬بل علينا أن نتحرى مرضاة‬ ‫في قرارة نفوســنا لما ّ‬

‫ال‬ ‫ألنــه اقتــرف إثم الغيبة في حقكم‪ ،‬والبعض اآلخر ِ‬ ‫خج ً‬ ‫ألنــه كان مــع المتورطيــن فــي االفتراء عليكــم‪ ،‬ولكنكم‬

‫اهلل فــي قيامنــا وقعودنــا علــى الــدوام‪ .‬والمصائــب مؤقتة‬ ‫المحــن وجرفتنا‬ ‫تمضــي وتــزول‪ .‬ولكن حتــى لو جاءت‬ ‫ُ‬

‫ســتقولون لهم "ال تثريب عليكم اليوم"‪ ،‬وســتفتحون لهم‬ ‫مرارا‪.‬‬ ‫الذنــب الذي ارتكبوه‪ .‬لقد حصل هذا في التاريخ ً‬ ‫ينبغــي أن يكــون شــغلنا الشــاغل ‪-‬فــي هــذه الفتــرة‪ -‬أن‬

‫نواصــل فــي خدماتنــا‪ ،‬وأن نزيد مــن ســرعتنا‪ ،‬وأال نفكر‬ ‫بشــيء آخر ونكتفي بالقول‪" :‬ســتمضي هذه المحنة كما‬

‫مضت شقيقاتها"‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫قلوبكــم على مصاريعها‪ ،‬ولن تتركوهم يشــعرون بخجل‬

‫مثل تســونامي وأودت بحياتنا‪ ،‬فإذا كانت عالقتنا مع اهلل‬

‫وثيقــة‪ ،‬فســنكون قــد فزنا بآخرتنا في نهايــة المطاف‪ .‬وال‬ ‫عشــاق هــذه الدعــوة المباركة‪ ،‬ما لــم يكونوا قد‬ ‫شــك أن ّ‬

‫أبديا في‬ ‫غرضــا‬ ‫دنيويــا‪ ،‬فســينالون ً‬ ‫اســتهدفوا منهــا ً‬ ‫ملــكا ًّ‬ ‫ًّ‬

‫العالــم اآلخــر‪ .‬لــذا يجب علــى الجميع أن يثبــت مكانه‪،‬‬

‫لحوا على الســير‬ ‫ويراعــوا األوضــاع والظــروف‪ ،‬وأن ال ُي ّ‬

‫حل بنــا من ابتالءات‪،‬‬ ‫علينــا أن نلتــزم بالصبــر إزاء ما ّ‬

‫ــدت الطــرق الرئيســية‪،‬‬ ‫فــي درب بعينــه؛ بــل حتــى إذا ُس ّ‬

‫كثيــرون هــم مــن تعرضــوا أللــوان شــتى مــن المحــن في‬

‫طــرق أخــرى‪ .‬أمــا المرتجــى فهو خدمــة القيم اإلنســانية‬

‫الشــاذلي‪ ،‬موالنــا خالــد البغــدادي وأمثالهــم مــن األفذاذ‬

‫أبــدا‪ ،‬وعلينــا أن ال نقــع كذلــك‪ ،‬علينــا أن ال‬ ‫فــي اليــأس ً‬

‫وعلينــا أن ال نتخلــى عــن نزاهــة أســلوبنا مهمــا حصــل‪.‬‬

‫عليهــم أن يعملــوا مــن أجــل الوصول إلــى المرتجى عبر‬

‫فتــرات مختلفــة من التاريــخ‪ .‬اإلمام الرباني‪ ،‬أبو الحســن‬

‫الســامية وغرســها فــي القلــوب‪ .‬هــؤالء الــرواد لــم يقعوا‬

‫تعرضــوا لمحــن كبيــرة‪ .‬أمــا محنــة األســتاذ بديــع الزمان‬

‫أبدا‪ .‬نحن على يقين بأن هذه األجواء الكئيبة‬ ‫نفقد األمل ً‬

‫ســعيد النورســي فهي ملحمة من مالحم التاريخ‪ .‬لم يبق‬ ‫أذى إال ذاقــه وال مــرارة إال عانــى منها‪ .‬مقارنة مع هؤالء‬

‫منهجا لكم‪،‬‬ ‫ال لكم‪ ،‬ومنهجهم‬ ‫أنكم اتخذتم سبيلهم سبي ً‬ ‫ً‬

‫فعليكم أن تستعدوا لكافة ألوان المحن واالبتالءات‪ .‬ال‬ ‫يحق لنا أن نشكو أو نتذمر‪ ..‬بل علينا أن نهتف ليل نهار‬

‫دينا‪ ،‬وبسيدنا محمد‬ ‫ربا‪ ،‬وباإلســام ً‬ ‫ونقول‪" :‬رضينا باهلل ًّ‬ ‫القدر‬ ‫نبيــا ورســو ً‬ ‫ال"‪ ..‬علينــا أن ال نشــكو وال نعاتــب َ‬ ‫‪ًّ ‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪)1‬‬ ‫روج الســيد أردوغان وبعض المنحازين المتطرفين أن األســتاذ‬ ‫لقد ّ‬

‫عندما يفكر بالعودة فسيعود مثل عودة الخميني إلى إيران أيام الثورة‬ ‫اإليرانية‪( .‬حراء)‬

‫(‪ )2‬هذا المسجد في مدينة أدرنة‪ ،‬حيث تولى األستاذ وظيفة اإلمامة ألول‬ ‫مرة أيام شــبابه‪ ،‬ويشــير األستاذ إلى نكران الذات والتواضع‪( .‬حراء)‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫قطميرا لهم‪ .‬وبما‬ ‫ال إال أن نكون‬ ‫العظام‪ ،‬ال نســتحق أص ً‬ ‫ً‬

‫سوف تزول وتمضي بإذن اهلل وعنايته‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫العســكرية‪ ،‬ثم تعرضت الفتراءات وتشــويه‪ .‬في الحقيقة‬

‫مرأى ومسمع من المجتمع والدولة‪ .‬فلو كان لدى إنسان‬

‫توجه إلــي اليوم‬ ‫لألســف الشــديد االفتــراءات نفســها َّ‬ ‫ّ‬ ‫أفضل‬ ‫عن طريق اإلعالم‪ .‬ومن ثم في مثل هذه الظروف ّ‬

‫مــن دون أن تتســرب ولــو عــن طريــق اإليمــاء واإلشــارة‬

‫عاما‬ ‫حسابات سرية‪ ،‬فهل يستطيع إخفاءها طيلة خمسين ً‬

‫كانت اتهامات ال أصل لها وال سند وال دليل‪.‬‬

‫والتعبير الضمني؟‬

‫علمت أن موتي‬ ‫ال عند نصحية األطباء‪ .‬لو‬ ‫البقاء هنا نزو ً‬ ‫ُ‬

‫وفيما يتعلق بموضوع عودتي‪ ،‬فإنني سأقرر ذلك بعد‬

‫ال لمشــاكل تركيا الخترت أن أموت في اليوم‬ ‫ســيكون ح ًّ‬

‫التشاور مع إخواني الذين أثق بصدقهم وأمانتهم‪ ،‬وليس‬ ‫شيئا‬ ‫بناء على أفكارِ َمن كان باألمس ً‬ ‫شيئا‪ ،‬وأصبح اليوم ً‬ ‫ً‬

‫مبررا لمن يريد أن يغتال أمن‬ ‫ألــف مــرة‪ .‬ولكي ال أعطي ً‬ ‫تركيا وســامها واســتقرارها‪ ،‬فسأدفن أشواقي في أعماق‬

‫قلــت ســاب ًقا‪ ،‬إذا‬ ‫قــررت العــودة‪ ،‬فلن تكون‬ ‫آخــر‪ .‬وكمــا ُ‬ ‫ُ‬

‫مزيدا من الوقت‪.‬‬ ‫قلبي وأبقى هنا ً‬

‫س‪ :‬سبق أن ُوجهت إليكم دعوة من رئيس الوزراء لكي‬ ‫تعودوا إلى تركيا‪ ،‬فهل كنتم تتوجسون من الدعوة؟‬

‫عــان ‪ ،‬بــل ســتكون عــودة تليق‬ ‫عودتــي مثــل فــان أو ّ‬ ‫إماما في‬ ‫بابن رامز أفندي‪ ..‬ابنه البســيط الذي كان يعمل ً‬ ‫وج َش َر َف ِلي"(‪.)2‬‬ ‫مسجد " ُأ ْ‬

‫ال عن النوايا‬ ‫أكن غاف ً‬ ‫مرارا من ُ‬ ‫قبل‪ .‬يومها لم ْ‬ ‫طُ لب ذلك ً‬

‫فــي مثــل هــذه الفتــرات‪ ،‬يجب اللجــوء إلــى المولى ‪،‬‬

‫(‪)1‬‬

‫س‪ :‬كيف تخرج تركيا من األزمة الحالية؟‬

‫حاولــت أن أحســن الظــن بمن طلب منــي أن أعود‪ .‬وقد‬

‫فمن ال يخشى‬ ‫وطر ُق بابه‪،‬‬ ‫خشى‬ ‫عاقبته‪ُ ،‬ي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫والتضرع إليه‪َ .‬‬ ‫ْ‬

‫يوما عن أدب‬ ‫الحقيقية لهؤالء الطالبين‪ .‬ولكن لم أتخل ً‬

‫من عاقبته‪ .‬إن الذين يحسبون أنفسهم قد ضمنوا آخرتهم‬

‫اللياقة وحسن الظن بأهل اإليمان‪ .‬قبل كل شيء‪ ،‬أنا فرد‬ ‫كنت أمشي ‪-‬كأي إنسان عادي‪ -‬على األرض بتواضع‪.‬‬

‫أمضيت جميع حياتي على هذا النحو‪ .‬حاولت أن أكون‬

‫مقام العبودية بأي مقام آخر‪ ،‬وأرجو‬ ‫عبدا هلل‪ .‬وال أستبدل َ‬ ‫أن ألقــى اهلل علــى هــذه الحــال‪ .‬ليس لي أدنــى عالقة مع‬

‫أي جهة خارجية‪ ،‬ويستحيل أن يكون ذلك‪ .‬ولكن الذين‬ ‫يلهثون وراء الجاه والسلطة والمقام والمناصب الدنيوية‬ ‫ال‪.‬‬ ‫الفانيــة هــم الواقعــون في شــباك القــوى الخارجية أص ً‬ ‫هــؤالء الذيــن يحملــون فــي دواخلهــم روح االســتبداد‬

‫والتشــبث بالســلطة إلى حد‬ ‫وهــوس الهيمنــة على الدولة‬ ‫ّ‬ ‫الجنون‪ ،‬عندما قويت شوكتهم وازدادت سطوتهم‪ ،‬بدأوا‬ ‫كل مجموعة ‪-‬ليس لها حســابات ســلطوية‪ ،‬بل‬ ‫يرون في ّ‬ ‫تفــر مــن تلك الحســابات إلى التفكير بكســب مرضاة اهلل‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫خطرا على أنفســهم وعلى ســلطانهم‪.‬‬ ‫والفــوز باآلخــرة‪-‬‬ ‫ً‬

‫‪134‬‬

‫ومهما حاولوا أن يقنعوا الرأي العام بأن تلك المجموعات‬

‫خطر على الدولة‪ ،‬ولكن غرضهم األساســي أنهم يرونها‬ ‫تهديدا لمخططاتهم الشخصية‪.‬‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أبدا‪ ،‬بل‬ ‫عاليا ً‬ ‫مــن النــاس‪ ،‬مؤمن مــن المؤمنين‪ .‬لم أحلّق ً‬

‫واطمأنــوا إلى عاقبتهم بينما يشــككون في إيمان غيرهم‪،‬‬ ‫إن هؤالء قد أوقعوا أنفســهم في خطر كبير‪ .‬فســيدنا عمر‬

‫‪ ‬كان يرتجــف خو ًفــا علــى عاقبته‪ ،‬وعندمــا كان يوازن‬ ‫بين حســناته وســيئاته كان يقول‬ ‫مت من‬ ‫ُ‬ ‫"وددت أني ســ ِل ُ‬

‫الخالفة َكفا ًفا‪ ،‬ال علي وال لي"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن تركيــا اليــوم فــي أمــس الحاجــة إلــى منــاخ جديــد‬ ‫يســاعدها علــى اجتيــاز األزمــة التــي تعانــي منهــا‪ .‬وإنــه‬

‫جــدا إعداد دســتور مدنــي جديد يضمن‬ ‫لمــن الضــروري ًّ‬ ‫الحقوق والحريات األساسية للجميع‪ .‬ومن أجل تحقيق‬ ‫هــذا الغــرض‪ ،‬يجــب أن تــزداد المطالبــات المجتمعيــة‪،‬‬ ‫كمــا يجــب علــى الشــخصيات المســؤولة والمؤسســات‬

‫المعنيــة أن تزيــد مــن إلحاحهــا في إخراج دســتور يتوافق‬ ‫مــع مبــادئ الحقوق العالمية‪ .‬ولكن مع األســف الشــديد‬ ‫يبدو أن مبادئ الدولة الديمقراطية وســيادة القانون اليوم‬

‫قــد أصيبــت بجــروح بالغــة‪ .‬وإن العديــد مــن المثقفيــن‬ ‫والمفكريــن ذهبــوا فــي تحليالتهــم إلــى مــا ذهبــت إليــه‪.‬‬ ‫وإذا مــا ابتعــدت تركيــا عن جوهرها وقيمهــا الذاتية وعن‬

‫حكم على‬ ‫إنــه حتــى في أشــد البلــدان تخ ّل ًفا عندمــا ُي َ‬

‫مجتمعها‪ ،‬فإن ذلك سيؤدي بها إلى عزلة فادحة عن العالم‪.‬‬

‫عاما قد تم على‬ ‫قلته وما ُ‬ ‫وجميع ما ُ‬ ‫فعلته طيلة خمســين ً‬

‫دور الدولة نفسها‪ .‬وإنه لمن المستحيل أن تنفذوا‬ ‫مشروعا‬ ‫ً‬

‫النــاس فإنمــا يحكم عليهم بنــاء على أقوالهــم وأفعالهم‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إن دور األفراد والمجتمعات اليوم‪ ،‬ال يقل أهمية عن‬


‫ان‪ ،‬بــل اشــملوها برعايتكــم؛ أي خذوهــا‪ ،‬لتكــن‬ ‫أو ِعــ ّ‬

‫أعتبــر الجفــاء الصــادر مــن الجــال‪ ،‬والوفــاء الــوارد من‬

‫فكمــا أن العســاكر لــم يعــودوا بجواب إيجابــي قبل نحو‬

‫ووصيتــي لجميــع إخواننــا الذيــن يبذلــون الغالــي‬

‫واحدا‪.‬‬ ‫شيئا‬ ‫ً‬ ‫الجمال ً‬

‫عيِنــوا أنتم‬ ‫المــدرس والمدير‪ ،‬ولتواصل نشــاطها‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫لكــم‪ّ ،‬‬

‫والنفيس في المدارس المنتشــرة في كل أنحاء العالم أال‬

‫‪ 17‬ســنة‪ ،‬لم ُيعد مســؤولو اليوم بجواب إيجابي كذلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فنحــن منفتحون للخيارات كاف ًة‪ ..‬هذه الخدمات واجب‬

‫اليأس قلوبهم‪ .‬وإن هذه‬ ‫يهِ نــوا‪ ،‬وال يحزنــوا‪ ،‬وال يخالــط‬ ‫ُ‬

‫الخدمــات الحيويــة التــي يقدمونها في ســبيل هذه األمة‪،‬‬

‫وأيا كان القائم‬ ‫ينبغــي القيــام به‬ ‫إكراما للمعنى اإلنســاني‪ًّ ،‬‬ ‫ً‬

‫في سبيل راهنها ومستقبلها‪ ،‬بل في سبيل كافة اإلنسانية‪،‬‬

‫بذورها األولى هؤالء‬ ‫طيِبة نثر‬ ‫بها‬ ‫َ‬ ‫فمرحبا به‪ .‬هذه خدمة ّ‬ ‫ً‬ ‫والم ِح ُّبــون والمتعاطفــون‪ .‬وهي هــي رؤيتنا‪ ،‬لم‬ ‫اإلخــو ُة ُ‬ ‫تتغيــر‪" :‬انثــر البذور أنت‪ ،‬ثم اذهــب‪ ،‬ودع ًّأيا كان يقطف‬ ‫ثمارها‪ًّ ،‬أيا كان يجني الثمرة‪ .‬هذه هي فلسفتنا‪ .‬ال نحمل‬

‫تقدمها بإذن اهلل وعنايته‪ ،‬وســوف تســتمر‬ ‫ســوف تواصل ّ‬ ‫القافلة في مسيرتها إلى األمام‪ .‬وال يمكن أن يوقف قافل َة‬ ‫األخيــار ‪-‬التــي تســير بلطــف اهلل وكرمــه‪ -‬ال االفتــراءات‬ ‫صافيا‬ ‫قلبــا‬ ‫ً‬ ‫وال محــاوالت التشــويه‪ .‬وكل إنســان يحمــل ً‬

‫سوى غاية واحدة؛ القيام بما ينبغي إلقامة عالقات طيبة‬ ‫بيــن ُأ َّمتنــا والبشــرية كافــة‪ .‬ولــن نتخلــف عن الســير نحو‬

‫نقيا في أعماقه‪ ،‬سوف يرى ببصيرته حقيقة تلك‬ ‫وضميرا ًّ‬ ‫ً‬

‫االفتراءات‪.‬‬

‫إكراما ُ‬ ‫أل َّمتنا‬ ‫هذه "الغاية الحلم"‪ ،‬سنواصل السعي ُق ُد ًما‪،‬‬ ‫ً‬

‫إنــي أرى خطــورة كبيــرة فــي حــدة خطــاب أعضــاء‬

‫وإكراما لإلنسانية‪.‬‬ ‫ً‬

‫الحكومة؛ حيث يؤدي إلى التفريق بين شــرائح المجتمع‬

‫الملحة للقضاء على‬ ‫إنــه َليحزننــي أن أرى المســاعي‬ ‫َّ‬

‫أمام العالم‪ .‬ولكن رغم كل شــيء سنســتمر في احترامنا‬ ‫للجميع‪ ،‬ألن هذا هو أدبنا وهذه هي أخالقنا‪ ،‬هكذا كنا‪،‬‬

‫أحــدا ابتغــاء مكاســب دنيوية‬ ‫وهكــذا ســنبقى‪ .‬لــن نؤذي‬ ‫ً‬ ‫فانيــة ولــن نجــرح قلــب أحــد‪ ،‬بــل ســندعو الجميــع إلى‬

‫رحاب المحبة؛ ســندعو‪ ،‬وســنبقى متمســكين في عالقتنا‬ ‫مع أمتنا بكالم األستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي‬ ‫ســببا‬ ‫ســامحت‬ ‫يقــول ‪" :‬لقــد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وصفحــت عن كل من كان ً‬

‫فيمــا عانيــت منه من أذى وإهانة وتعذيب‪ .‬لم أذق طوال‬ ‫شــيئا مــن لذائــذ الدنيا‪.‬‬ ‫عمــري البالــغ ني ًفــا وثمانين ســنة ً‬ ‫قضيت حياتي في ميادين الحروب وزنزانات األســر‪ ،‬أو‬ ‫ســجون الوطن ومحاكم البالد‪ .‬لم يبق صنف من اآلالم‬

‫والمصاعــب لــم أتجرعه‪ .‬عوملــت معاملة المجرمين في‬

‫دت في أرجاء‬ ‫فيت ُ‬ ‫وش ّــر ُ‬ ‫المحاكم العســكرية العرفية‪ ،‬و ُن ُ‬ ‫تعرضت إلهانات متنوعة‪ .‬مع ذلك‬ ‫في زنزانات البالد‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫أعلن أنني سامحت وصفحت عمن فعل بي ذلك"‪ .‬نعم‪،‬‬

‫كمؤمــن‪ ،‬أن أحمــل هذه المشــاعر؛‬ ‫عاهــدت نفســي‬ ‫لقــد‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أحــدا‪ ،‬ولــن أحمــل ضغينــة في قلبــي ألحد‪..‬‬ ‫لــن أقاطــع‬ ‫ً‬

‫باســما‪ ،‬عاهــدت نفســي أن‬ ‫عاهــدت أن أســتقبل المــوت‬ ‫ً‬

‫األب أفراد أســرته ضد بعضهم بســبب رؤاهم المختلفة؟‬

‫نحــن أســرة كبيــرة تمتــد جذورهــا إلــى مئــات الســنين‪،‬‬ ‫ال يليــق بنــا أن نتخــذ مــن أفكارنــا المتعــددة وانتماءاتنــا‬ ‫المتنوعــة ذريعــة لتفجير صراعات فيمــا بيننا‪ .‬ينبغي على‬

‫أبــدا احتكار‬ ‫الجميــع أن يحتــرم آراء اآلخريــن‪ .‬ال يصــح ً‬ ‫حرية الرأي والتعبير في فئة بعينها ألنها تمتلك الســلطة‪.‬‬

‫فكما يحظى صوت األغلبية باالحترام والتقدير‪ ،‬فكذلك‬

‫يجب أن تنال كل فئة شعبية ‪-‬مهما كان عددها‪ -‬نصيبها‬ ‫ضيقتم الخنــاق على المجتمع‪،‬‬ ‫مــن االحتــرام عينــه‪ .‬وإذا ّ‬

‫فهــذا يعنــي أنكــم تعملــون علــى تفجيــر أحزمــة الــزالزل‬

‫المجتمعيــة وتغتالون وحــدة المجتمع‪ ،‬وهذا ثمن باهظ‪،‬‬ ‫يعز علينا انجرار البعض إليه مقابل مصالح سياسية آنية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫س‪ :‬هل ستعودون إلى تركيا؟ هل من مخاوف؟‬

‫أشــعر بأن بقائي هنا أفضل من الناحية الصحية‪ .‬وأخشــى‬ ‫مــن أن تســتغل بعض األوســاط عودتي إلــى تركيا ذريعة‬

‫حاليا إلى أســوء مما هي عليه‬ ‫لرفع حدة التوتر الســائدة ًّ‬

‫اآلن‪ .‬لقــد تعرضــت آلالم كثيــرة فــي انقــاب ‪ ٢٨‬فبرايــر‬ ‫‪ ،١٩٩٧‬تعرضــت لمظالــم عديــدة علــى يــد الســلطات‬

‫القضائيــة التــي كانــت تعمــل بتوجيــه مــن الســلطات‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫شــهورا‬ ‫وحرمت من مخالطة الناس‬ ‫البــاد كالمجرميــن‪ُ .‬‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذه الخدمــات الطيبة‪ ،‬أو تشــويه صورة هــذه الخدمات‬

‫يحرض‬ ‫ويزرع الكراهية‪ ..‬فهذا لعب بالنار‪ ..‬فهل يعقل أن ّ‬

‫‪133‬‬


‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫‪132‬‬

‫ألما‪،‬‬ ‫صــورة الخدمــة في كافة أرجــاء العالم‪ ،‬تفطّ ــر قلبي ً‬ ‫هت إلى الحق ‪ ‬باالســتغاثة‪ .‬مع األســف‪ ،‬شهوة‬ ‫وتوج ُ‬ ‫ّ‬ ‫التخريــب تجــاوزت حــدود اإلنصاف‪ .‬هذه المؤسســات‬ ‫أنشئت بتضحيات أهالي األناضول الجسيمة‪ .‬وقد شاهد‬ ‫معظــم فئــات الشــعب التركــي هــذه المــدارس؛ اليميني‪،‬‬ ‫واليســاري‪ ،‬والقومــي‪ ،‬والمتديــن‪ ،‬والالدينــي‪ ...‬مؤيــدو‬ ‫حــزب العدالــة والتنميــة‪ ،‬وحــزب الشــعب الجمهــوري‪،‬‬ ‫وحــزب الحركــة القومية‪ ،‬وأنصار حــزب االتحاد الكبير‪،‬‬ ‫وحزب الســعادة‪ ...‬معظم شــرائح المجتمــع‪ ...‬تابعوها‬ ‫يومــا َمــن يقــول مِــن هــؤالء‪:‬‬ ‫بــأم أعينهــم‪ ،‬ولــم أســمع ً‬ ‫مضــرة‪ ،‬ويجــب إغالقهــا"‪ .‬إن محاربــة‬ ‫"هــذه المــدارس‬ ‫ّ‬ ‫يمــت إلى المنطق بشــيء ال من حيث‬ ‫هــذه المــدارس ال‬ ‫ّ‬ ‫المعايير السياسية وال الوطنية‪.‬‬ ‫إخواننا الذين أسســوا تلك المدارس‪ ،‬أسســوها دون‬ ‫رغبــة فــي منفعة ماديــة أو معنوية‪ .‬اســتصحبوا معهم إلى‬ ‫حب أهل األناضول وسخاءهم‪ ..‬استصحبوا‬ ‫تلك البالد َّ‬ ‫تسامحهم‪ ..‬استصحبوا قيمنا اإلنسانية وأخالقنا السامية‪.‬‬ ‫تجاهل خدمات هؤالء الناس الذين حملوا قيمنا‪،‬‬ ‫لذا فإن‬ ‫ُ‬ ‫وإيماننــا‪ ،‬ولغتنــا‪ ،‬وثقافتنا إلى كل أرجاء العالم‪ ،‬ليس إال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وإنكارا للجميل‪ .‬وإن السالم العالمي‬ ‫جحودا للمعروف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ال يمكن أن يتحقق إال من خالل تعارف الشعوب وفهم‬ ‫بعضها البعض‪.‬‬ ‫فــي العــام الماضــي ذكــروا ‪ 160‬دولــة ُفتحــت فيهــا‬ ‫مدارس‪ ،‬أي أقيمت معها جسور الصداقة وصلة المحبة‪.‬‬ ‫ورأينــا ذلــك فــي أولمبيــاد اللغــة التركــة والثقافــة بصورة‬ ‫باهــرة‪ ،‬وال أحــد يرفض هذه الخدمات‪ ،‬بــل يقولون إنها‬ ‫رائعة‪ .‬نصحيتي للمسؤولين هو ال تغلقوا هذه المدارس‪،‬‬ ‫المدرســين‬ ‫بل خذوها واعتنوا بها‪ ،‬وإذا أردتم فاســحبوا‬ ‫ِّ‬ ‫الحاليين منها‪ .‬سبق أن قلت الشيء نفسه لـلجنرال "جويك‬ ‫بيــر" فــي انقــاب ‪ ،1997‬كمــا أرســلت إلى المســؤولين‬ ‫ِ‬ ‫رارا‪ .‬هذه المدارس‬ ‫الذين يحكمون اليوم‬ ‫أخبارا مماثلة م ً‬ ‫ً‬ ‫رمز انفتاح تركيا على العالم‪ ،‬وقد ســبق ُ‬ ‫أل َّمتنا في عهود‬ ‫مختلفــة أن انطلقــت في مثــل هذه المبادرات لكي تنشــر‬ ‫القيم اإلنسانية النبيلة‪ ،‬وهذه واحدة من تلك المبادرات‪.‬‬ ‫بلدا يفعلون ما تفعله‬ ‫هــا قد نشــأ أفراد في أكثر مــن ‪ً 160‬‬ ‫الســفارات وممثلــو الدول‪ .‬هذه قضايــا في غاية األهمية‪،‬‬ ‫ال سيما في عا َلم العولمة اليوم‪ .‬فال تغلقوا هذه المدارس‬ ‫بدافــع الغيــرة والحســد‪ ،‬أو ألن البعض ينســبها إلى فالن‬


‫أبديت قناعتي تلك حتى‬ ‫إخوتنا وإنساننا‪ .‬ولكن ال‪ ،‬إنما‬ ‫ُ‬

‫ال تحــدث مشــكالت أخــرى‪ .‬ولــو حــدث الشــيء نفســه‬ ‫اليــوم ألبديــت نفــس المالحظــات‪ .‬فــي رأيــي ينبغــي أن‬

‫خدم الديبلوماســية حتى النهاية‪ ،‬وينبغي أن ال ُيد َفع‬ ‫ســت َ‬ ‫ُت َ‬

‫أرواحهم‪ .‬هذا‬ ‫زهق‬ ‫الناس إلى الجبهة ُلتس َفك دماؤهم و ُت َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أردت أن أقوله حينئذ‪.‬‬ ‫ما‬ ‫ُ‬

‫س‪ :‬يتهمــون حركــة الخدمــة بأنهــا عصابــة إجراميــة‪،‬‬ ‫بــل هنــاك ادعــاءات بــأن المســؤولين يســتعدون للقيــام‬ ‫بتحقيقات ومداهمات ضد مؤسسات الخدمة‪.‬‬

‫مع األسف‪ ،‬تقال أشياء كثيرة ضد الخدمة بغضب وعنف‬ ‫وكراهية‪ .‬أعتقد‪ ،‬لم تبق إهانة في هذا الصدد إال وقيلت‪،‬‬

‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬تم توجيه اتهامات جائرة وغير منصفة‬

‫عطى التوجيهات في‬ ‫على شاكلة تنظيم‪ ،‬عصابة‪ ،‬ثم بعدها ُت َ‬

‫ذلك معلوم في القانون‪ ،‬إذ يعا َقب الموظف ضمن نطاق‬

‫محاولة للتأثير على القضاء‪ .‬وقد صار هذا من الوضوح‬

‫القانون‪ .‬ولكن إذا ُح ِّرف الموضوع عن مجراه القانوني‪،‬‬

‫بحيــث تــم التصريح في المياديــن االنتخابية بتحضيرات‬ ‫ا‪ ،‬وإذا لــم يثبــت وجــود جريمــة رغــم لجوئهم إلى‬ ‫أصــ ً‬

‫كافة الوسائل للكشف عنها‪ ،‬فهل يمكن أن نتوقع عدالة‬ ‫فــي ظــل حالة مــن التعســف الجائر لدفع ســلطة القانون‬ ‫إلــى اختالق جريمــة وأدلة لجريمــة؟ إن االدعاء الوهمي‬ ‫يوجه إلى كل‬ ‫والغامض بوجود "دولة موازية"‪ ،‬يمكن أن َّ‬ ‫شــريحة أو طبقــة في المجتمع‪ .‬أعنــي‪ ،‬أن توجيه االتهام‬

‫إلــى أفــراد يعملــون فــي أجهــزة الدولــة بســبب انتمائهــم‬

‫العقــدي‪ ،‬أو األيدولوجــي‪ ،‬أو الطرائقــي‪ ،‬أو الحزبــي‪،‬‬ ‫عمل ال نهاية له‪ .‬فإن أعلنتم اليوم جماع ًة من الجماعات‬ ‫ٌ‬

‫أنها "موازية" ووصمتموها بـ"العصابة"‪ ،‬فســيظهر في يوم‬ ‫آخر شخص آخر‪ ،‬ويدعي نفس االدعاءات على شرائح‬

‫جميع‬ ‫يوما‬ ‫حتمل أن ُي َّت َهم ً‬ ‫ُ‬ ‫أخــرى من المجتمع‪ .‬نعــم‪ُ ،‬ي َ‬ ‫الموظفين في الدولة بـ"الدولة الموازية"‪ ،‬بسبب تعاطفهم‬ ‫الموضــوع بكثرة اليــوم‪ ،‬ربما‬ ‫ألســنتهم هــذا‬ ‫الذيــن تلــوك‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ســيتعرضون إلى اتهامات مماثلــة‪ ،‬ال ضمان لذلك‪.‬‬ ‫غــدا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إذا ُترك الناس تحت الشــبهة بمثل هذه االتهامات‪ ،‬فعند‬

‫ذلــك لــن يبق نظام‪ ،‬ولن تبق عدالة‪ .‬وأؤكد وأقول إذا لم‬ ‫الموظــف فــي الدولة إلــى كالم مديره‪ ،‬فــإن جزاء‬ ‫صــغ‬ ‫َّ‬ ‫ُي ِ‬

‫ظلما‪،‬‬ ‫على قوائم ســوداء زائفة‪ ،‬ثم ُرفعت قضايا ضدهم ً‬ ‫فهذا أمر ال يغفره التاريخ‪.‬‬

‫قســرا‪ ،‬ظلم‬ ‫إن الضغط على القضاء‪ ،‬وفتح الدعاوى‬ ‫ً‬

‫مضاعف لن يتركه الضمير المجتمعي بدون حساب‪ .‬ثم‬

‫جدا‪ ،‬أنه ال يمكن الحصول على نتيجة‬ ‫إنه َلمن الواضح ًّ‬

‫قانونية من قضية مل ّفقة‪ .‬أضف إلى ذلك‪ ،‬إذا اتهمتم أبناء‬ ‫هــذا الوطن ‪-‬الذين جعلوا احترام القانون نمط حياتهم‪-‬‬

‫بالعصابة‪ ،‬حينئذ ُتسألون‪ :‬منذ ‪ 12‬سنة وأنتم تعملون مع‬ ‫هــؤالء النــاس و َت ِصفونهــم بالطيبين‪ ..‬فمــاذا حصل حتى‬ ‫انقلبــوا فــي نظركم فجأة بعد تحقيقات الفســاد والرشــوة‬

‫إلى أناس مجرمين؟ يجب أن ال ننسى قوله تعالى والذي‬

‫أي‬ ‫يتردد كل جمعة في الخطبة‪" :‬إن اهلل يأمر بالعدل‪ْ ،"...‬‬ ‫حــق العبــاد‪ ،‬يأمر بــأن ال ُيعتدى على‬ ‫يأمــر بــأن ال َ‬ ‫يــؤكل ُّ‬

‫حقوق الناس‪.‬‬

‫س‪ :‬في مؤتمر عقده رئيس الوزراء في أنقرة مع السفراء‬ ‫ا‪" :‬اذهبــوا وبيّنــوا حقيقــة هــذه‬ ‫األت ـراك خاطبهــم قائ ـ ً‬ ‫العصابــة للعالــم"‪ ،‬وصــدرت أوامر للقيام بتشــويه صورة‬ ‫مدارس الخدمة المنتشرة خارج تركيا‪ .‬فما تعليقكم؟‬ ‫كلمــا تــردد إلــى مســامعي شــيء مــن محــاوالت تشــويه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫مــع مجموعــة اجتماعيــة‪ ،‬سياســية أو دينيــة‪ .‬حتى هؤالء‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حســنا‪ ،‬إذا لــم يكن هنــاك جريمة‬ ‫لفتــح دعــوى قضائيــة‪.‬‬ ‫ً‬

‫وتــم تصنيــف آالف النــاس و َن ْف ُيهــم إلــى هنا وهنــاك بناء‬

‫‪131‬‬


‫المنطقــة (جنوبــي شــرقي تركيــا) تلــك قــد تراكمــت عبــر‬

‫عــن هــذه المشــاكل؛ اليــأس‪ ،‬والحيلــة‪ ،‬والغــدر‪ ،‬وعــدم‬

‫كبرت المشكلة وتفاقمت‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فقد‬ ‫وبطبيعة الحال‪ُ ،‬‬

‫منتــدى مشــترك وأرضية توافقيــة‪ ،‬وال يمكن للمعالجات‬

‫الثقــة‪ .‬وبالتالــي يجــب أن نتنــاول كل هــذه المشــاكل في‬

‫دائمــا‪،‬‬ ‫عقــود‪ ،‬وقــد كان الســعي لحلّهــا يتــم بالســاح ً‬

‫صلح وتهدئة‪ ،‬ويجب أن ال نعطل هذه‬ ‫دخلنا في مرحلة‬ ‫ٍ‬

‫أبدا‪.‬‬ ‫التكبريــة أو النظــر مــن َع ٍ‬ ‫ــل أن تحــل هذه المشــاكل ً‬ ‫ّ‬

‫األخطاء التي ار ُتكبت‪ ،‬وينسوا العداوة فيما بينهم‪.‬‬

‫ذلــك إال عبــر مقاربة توافقية تشــمل برعايتهــا كافة أجزاء‬

‫وإذا كانــت هنــاك رغبــة فــي إيجاد حل وســط‪ ،‬فلن يتأتى‬

‫المرحلــة‪ ،‬ألنهــا فرصة كبيرة لكي يعيد الطرفان النظر في‬

‫المنطقــة وكافــة أبنائها مهما كانــت أفكارهم واتجاهاتهم‬

‫نحــن كمجتمــع مدنــي دعمنــا عمليــة الســام قبــل‬

‫وانتماءاتهــم‪ .‬يجــب أن ال نمــارس اإلقصــاء علــى أحــد‪،‬‬

‫الحكومــة بزمــن طويــل‪ .‬مــا يقــوم بــه هــذا الفقيــر مجــرد‬ ‫َّ‬ ‫مقترحــات مكتوبة‪،‬‬ ‫تشــجيع‪ .‬ســبق أن قدمــت للحكومــة َ‬ ‫بســط أجنحة الرعايــة على المنطقة؛‬ ‫ُ‬ ‫قلــت فيهــا إنه يجب ْ‬ ‫يجــب رعايــة المنطقــة علــى الصعيــد التربــوي والصعيــد‬

‫ينبغي أن نلتقي على أرضية توافقية مشتركة مع الجميع‪،‬‬ ‫السياســي منهــم وغيــر السياســي‪ .‬علينــا أن نتيــح الفرصة‬

‫حل مشــاكلهم‬ ‫‪-‬ألبنــاء تلــك المنطقــة‪ -‬لكي يتمكنوا من ّ‬

‫بأنفســهم‪ .‬وإذا مــا وقــع تباطؤ أو تهاون فــي هذه األمور‪،‬‬

‫الصحــي والصعيــد الدينــي والصعيــد الثقافــي‪ ...‬إلــخ‪.‬‬

‫فأخشــى أن تتوقــف مســيرة الحــل وتثــور المشــاكل مــن‬

‫عليكم أن تشملوهم برعايتكم‪ ،‬ألن الناس هناك َتعرضوا‬ ‫َّ‬ ‫فسيضخمون المشاكل هناك‪،‬‬ ‫لمظالم كثيرة‪ ،‬با ِد ُروا‪ ،‬وإال‬ ‫ِّ‬ ‫اإلخــوة واألصدقاء والمحبين والمتعاطفين على العمل‪،‬‬ ‫فأسســوا مــدارس عديــدة ومعاهد كثيرة إلعــداد الطالب‬ ‫َّ‬

‫للجامعــات والثانويــات‪ ،‬وحاولــوا أن يقطعــوا طريــق‬ ‫الصعــود إلــى الجبــال عبــر إقامــة أنشــطة تربويــة‪ .‬هــذا ما‬ ‫ال‪.‬‬ ‫حدث فع ً‬

‫ولكــن الغريــب أنــه لجــأ البعض إلى تشــويه ســمعتنا‬

‫أبدا‪ ،‬ولكن مقاربتنا‬ ‫ضد عملية السالم‪ .‬ك َّ‬ ‫ال‪ً ،‬‬ ‫وروجوا أننا َّ‬ ‫َّ‬ ‫لحــل المســألة كانــت مختلفــة‪ ،‬فنحــن ارتأينــا أن يكــون‬

‫الحــل مــن خــال التربيــة والتعليــم‪ ،‬ومن خالل تأســيس‬ ‫ّ‬ ‫روح التوافــق واالتفــاق‪ ،‬وكذلــك من خالل اســتثمارات‬

‫اقتصاديــة تســاعد علــى إزالة الفقر في المنطقة‪ ،‬وســارت‬ ‫األنشــطة فــي ذلــك االتجــاه بالفعــل‪ .‬ولــم تقتصــر هــذه‬ ‫األعمــال علــى الداخــل التركــي‪ ،‬بــل انتقلــت إلى شــمال‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫العــراق كذلــك‪ ،‬واإلخوة أقاموا هنالــك نفس الخدمات‪.‬‬

‫‪130‬‬

‫تم‬ ‫أنــا لــم أذهــب ولــم َأر المنجزات‬ ‫ًّ‬ ‫شــخصيا‪ ،‬ولكــن ما َّ‬ ‫بحق‪.‬‬ ‫هناك عمل‬ ‫ملحمي ّ‬ ‫ّ‬ ‫إننــا كأمــة نعاني من ثالث مشــاكل كبرى‪ ،‬وقد أشــار‬ ‫إليهــا األســتاذ بديــع الزمــان ســعيد النورســي قبــل قــرن‬

‫مــن الزمــان‪ ،‬وهــي‪ :‬الجهل‪ ،‬والفقــر‪ ،‬والتفرقــة‪ .‬وقد نتج‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والســعادة واالســتقرار في نفوس أبناء المنطقة‪ .‬علينا أن‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ويورثونهــا األجيــال القادمة‪ .‬ولكن لألســف لــم ُي ِ‬ ‫أي‬ ‫ول ٌّ‬ ‫ِّ‬ ‫اهتمامــا‪ .‬وعند ذلك شــجع هــذا الفقير‬ ‫منهــم الموضــوع‬ ‫ً‬

‫جديــد‪ .‬ينبغــي أن نعمــل علــى إدخــال الطمأنينــة واألمن‬ ‫نسعى إلى توفير مناخ آمن يتيح إمكانية التعايش السلمي‬ ‫وعربيها‬ ‫وعلويها‬ ‫وســنيها‬ ‫لجميــع أبناء المنطقــة‪ ،‬بكردها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وسريانيها كأنهم أعضاء أسرة واحدة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حدث‬ ‫لصــق بالخدمة‪ ،‬و َت ُ‬ ‫حقيقــة األمــر أن افتراءات ُت َ‬

‫تجــاوزات واعتــداءات‪ ،‬ورغــم ذلــك فالصــواب الــذي‬

‫آمنــا بــه وارتأينــاه‪ ،‬هــو أن نقــف كمــا وقف جــال الدين‬ ‫َّ‬

‫الرومي؛ إذ كانت إحدى رج َلينا في قلب عا َلمنا الفكري‬ ‫والر ْجل األخرى فتحناها‬ ‫ُ‬ ‫وص ْلب ثوابتنا وغايتنا السامية‪ِّ ،‬‬

‫واحتض َّنا الجميع‪ .‬هذه هي الفلســفة التي‬ ‫لإلنســانية كاف ًة‬ ‫َ‬

‫نؤمــن بهــا‪ ،‬هــذا ُخ ُلقنــا وهــذه هــي رؤيتنــا إزاء الجميــع‪،‬‬ ‫الفقير عن ُقرب يشــهد‬ ‫يعــرف هــذا‬ ‫جميــع النــاس‪ .‬ومــن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يقينا‪.‬‬ ‫على ذلك ً‬

‫لو وقعت "ماوي مرمرة" اليوم ألبديت الموقف نفسه‬

‫فع ِق َب حوار‬ ‫فيما يتعلق ِّ‬ ‫بادعاءات سفينة "ماوي مرمرة"‪َ ،‬‬ ‫جــر َي معــي ســألوني‪" :‬مــا تقييمكــم للموضــوع؟" قلت‪:‬‬ ‫ُأ ِ‬ ‫اســت ِ‬ ‫حدهــا األخيــر‬ ‫خد َمت الدبلوماســي ُة إلــى ِّ‬ ‫"حبــذا لــو ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ســيؤدي إلى مشــكالت‬ ‫لجــ ْأ إلى العنف‪ ،‬ألن ذلك‬ ‫ي‬ ‫ولــم‬ ‫ُ َ‬ ‫اجتماعيــة ومضاعفــات أخــرى"‪ .‬ال أدري كيــف َرفعــت‬ ‫الجريــدة كلماتي إلى المانشــيت‪ ،‬فكانت التفســيرات في‬

‫وقفت إلــى جانب آخرين ضد‬ ‫تركيــا مختلفــة‪ ،‬أي كأنني‬ ‫ُ‬


‫نحــن حاولنا وبإخالص تقديم الدعــم الالزم لتطوير‬

‫منظمة ضدها‪.‬‬ ‫وحملة تكفيرٍ َّ‬ ‫هؤالء الذين يهتفون في وجوهنا أن "ال تثيروا فتنة"‪،‬‬

‫الدميقراطية‪ ،‬والحقوق والحريات األساســية وما‬ ‫شــاكل ذلك‪ً ،‬‬ ‫علم بأننا ندعم كل حزب يســعى إىل‬

‫سدوا النصيحة نفسها إلى القائمين‬ ‫أليس من واجبهم أن ُي ُ‬

‫إنهاء املامرســات غري الدميقراطية وإحالل ثقافة‬

‫على أمر الحكومة والذين اعتادوا إمطار األبرياء بالشــتم‬

‫الدميقراطية التعددية‪ .‬لذا نقول‪ :‬إن التحزّب األعمى‬

‫أناسا ال يجرؤون على‬ ‫واإلهانة في الساحات العامة؟ إن ً‬

‫يشء‪ ،‬ومؤازرة اإلجراءات الدميقراطية يشء آخر‪.‬‬

‫إسداء أدنى نصيحة‪ ،‬بل ال يجرؤون حتى على أن يومئوا‬ ‫إيمــاءة نصح لرجال الحكومــة‪ ،‬ناهيك عن توجيه انتقاد‪،‬‬ ‫ال تعنــي أقوالهــم ســوى ضربــات مدمــرة لهــذه الحركــة‬

‫المباركــة‪ ،‬التــي أصبــح ‪-‬لألســف‪ -‬تحقيرهــا وإهانتهــا‬ ‫أرخص بضاعة وأسهل عمل‪.‬‬

‫س‪ :‬لقــد دعمتــم حكومــة العدالــة والتنميــة ســنوات‬ ‫عديــدة‪ ،‬البعــض يــرى أن نزاعكــم يعــود إلــى خالفــات‬ ‫فــي حـ ّـل األزمــة الكرديــة‪ ،‬هــل أنتم ضد عملية الســام‬ ‫فــي المســألة الكرديــة؟ وكذلــك موضــوع ســفينة "ماوي‬ ‫مرمرة"‪ ،‬فما تعليقكم؟‬ ‫حزب سياسي في أي وقت من األوقات‪ ،‬مهما كان ذلك‬

‫أيا‬‫الحــزب‪ .‬لقــد اعتبرنــا تأييــد اإلجــراءات الصحيحــة ًّ‬ ‫إنســانيا‪ .‬بناء على ذلك في اســتفتاء‬ ‫واجبا‬ ‫كان صاحبها‪-‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫أدليــت بكلمــات لــم يســبق أن قل ُتهــا حتى ذلك‬ ‫(‪)2010‬‬ ‫ُ‬ ‫اليــوم؛ قلــت إنــه اســتفتاء مــن أجــل الديمقراطيــة‪ ،‬وعلى‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫خــط واحد بالكامــل مع أي‬ ‫قلــت لــم نكُ ــن في ّ‬ ‫ســبق أن ُ‬

‫والمعقولية من الناحية الديمقراطية‪ ،‬والمعقولية من ناحية‬ ‫خدمــة ا ُ‬ ‫أل َّمــة‪ ،‬واإليجابيــة في بناء عالقــات طيبة مع دول‬ ‫الجــوار‪ ،‬فقــد نبــدو متشــاركين معهم في هــذه المواقف‪،‬‬ ‫يكن‬ ‫معا في نفس الصورة‪ .‬أما األصل‪ ،‬فإنه لم ُ‬ ‫وقد نظهر ً‬ ‫لنــا أي صلة مع أي حزب سياســي مــا عدا التصويت في‬ ‫االنتخابات‪ ،‬ولم يكن لنا أطماع في السلطة‪ ،‬ولم ندخل‬ ‫أبدا‪ ،‬وإال فلو أردنا ذلك‬ ‫في مســاومات سياســية مع أحد ً‬ ‫ولشكلوا العمود الفقري‬ ‫أناسا في ذلك االتجاه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫لوج ْهنا ً‬ ‫لذلــك الحــزب‪ ،‬ولكانت هناك أصــوات أخرى‪ ،‬لكننا لم‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫نرغب في ذلك َق ّط‪ ،‬لم يكن لنا طموح سياسي ً‬

‫عملية السالم في المسألة الكردية‬

‫دائما‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أكدت ً‬ ‫مرارا أن مكان المســلم إلى جانب الصلح ً‬ ‫فالمســلم رمــز الصلــح والســام‪ .‬الحقيقــة أن مشــاكل‬

‫الجميــع أن يقــول "نعــم" للتغييــر‪ ،‬أي إن مجلس القضاء‬ ‫والمدعِ ين العموميين ينبغي أن يتشكل وفق إطار‬ ‫األعلى‬ ‫َّ‬ ‫ديمقراطي‪.‬‬

‫أجــل‪ ،‬لكــن لم ُأكــن أقول تلك العبــارات ألول مرة‪،‬‬

‫عامــا ســبق أن قلــت "الديمقراطيــة مرحلــة‬ ‫بــل قبــل ‪ً 20‬‬ ‫ينبغــي أن ال نرجــع عنهــا"‪ ،‬فثــاروا فــي وجهــي وأقامــوا‬ ‫فاحتجوا‬ ‫ضدي‪،‬‬ ‫قيامــة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬هؤالء الذيــن يكتبون اليوم ِّ‬ ‫ُّ‬

‫قائليــن‪" :‬مــا معنــى هــذا الــكالم؟ وهــل مــن صلــة بيــن‬ ‫اإلســام والديمقراطيــة"؟ ولكــن فيما بعد قالــوا أكثر مما‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫بعيدا‪ ،‬وقالوا إنه يمكن التفكير في‬ ‫قلت وذهبوا في ذلك ً‬ ‫أنماط أخرى كذلك‪.‬‬

‫فتشابه المواقف مع حزب ما‪ ،‬ال يعني أننا في‬ ‫من ثم‬ ‫ُ‬ ‫خــط واحــد‪ ،‬ولكن إذا رأينــا أنهم يم ِّثلون فــي إجراءاتهم‬ ‫جــزءا مــن المعقوليــة‪ ،‬المعقوليــة مــن الناحيــة الحقوقية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪129‬‬


‫الدعــم الالزم لتطويــر الديمقراطية‪ ،‬والحقوق والحريات‬

‫االختــاف فــي مجال اجتهادي أمر طبيعي للغاية‪ .‬وليس‬

‫يســعى إلــى إنهاء الممارســات غيــر الديمقراطية وإحالل‬

‫أن يفكــروا بنفــس النمط من التفكير فــي موضوع واحد‪،‬‬

‫علما بأننا ندعــم كل حزب‬ ‫األساســية ومــا شــاكل ذلــك‪ً ،‬‬

‫ثقافــة الديمقراطيــة التعددية‪ .‬من هــذا المنطلق نقول‪ ،‬إن‬ ‫التحزب األعمى شيء‪ ،‬ومؤازرة اإلجراءات الديمقراطية‬ ‫ّ‬ ‫شيء آخر‪ .‬نحن نقف اليوم في المكان نفسه الذي وقفنا‬ ‫بدل مكانه فهو َمن يجب النظر إليه‪.‬‬ ‫فيه باألمس‪ .‬أما من ّ‬

‫تركيا مع األســف‪ ،‬بدأت تنفصم عن العالم وتنعزل‪ .‬إن‬

‫إذا كنتــم تعيشــون فــي نظــام ديمقراطي‪ ،‬فلكــم الحق في‬

‫أن تعبــروا عــن وجهــة نظركم بكل حريــة‪ ،‬وإال فإنه نظام‬ ‫ال يتوفــر فيــه الحــد األدنى من شــروط الديمقراطية‪ .‬وإن‬ ‫اســتنادا إلى مفاهيــم دينية‪،‬‬ ‫ممارســة ضغوطــات ســلطوية‬ ‫ً‬

‫دولــ ًة كتركيــا‪ ،‬إذا فقــدت ثراءهــا الديمقراطــي وانكفــأت‬

‫مثاليا له‪ ،‬وع ّلق عليها آماله‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نموذجا ًّ‬

‫بعــد يــوم‪ ،‬أضف إلى أنه يمارس ضغوطــات على الناس‬

‫س‪ :‬هنــاك مــن يقــول إن "الخدمة" خرقت الطاعة لولي‬ ‫األمر‪ ،‬فما تعليقكم؟‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ويتحركوا بنفس النمط من التحرك في قضية واحدة‪ .‬أما‬

‫حمــد عقباها‪.‬‬ ‫قــد يــؤدي إلــى نتائج سياســية وقانونية ال ُت َ‬

‫كل َمن اعتبرها‬ ‫تضر َّ‬ ‫تضر شعبها فقط؛ بل ُّ‬ ‫على ذاتها‪ ،‬ال ُّ‬

‫‪128‬‬

‫بالضــرورة لجماعــات خدميــة أو ألبنــاء جماعــة واحــدة‬

‫الطاعــة ألولــي األمــر‪ ،‬ال تعنــي الســكوت حيــال أخطــاء‬

‫اإلدارييــن والتخلــي عــن الحــق والحقيقــة‪ .‬ثــم إن مهمــة‬ ‫تمــارس على‬ ‫"األمــر بالمعــروف والنهي عــن المنكر" ال‬ ‫َ‬

‫المواطن العادي الذي يمشي في الشارع فقط‪ ،‬بل تشمل‬ ‫الجميع‪ .‬إن مجال سياســة الشــأن العام مجال اجتهادي‪،‬‬ ‫وليس من أصول الدين الثابتة التي ال تقبل االجتهاد‪ ،‬وإن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يوما‬ ‫فــي واقــع تركيا‪ ،‬هناك نمط سياســي يزداد ســلطوية ً‬

‫ويغلّف هذه الممارسات بأغلفة "دينية"‪.‬‬

‫لألســف الشــديد كانــت القضيــة في منتهى البســاطة‪،‬‬

‫حيــث ُطرحــت للنقــاش‬ ‫بعــض التصرفــات الســلبية التي‬ ‫ُ‬

‫بــدت فــي جانــب الســلطة التنفيذيــة‪ ،‬وكان باإلمــكان‬ ‫مناقشــتها وتالفيهــا‪ ،‬ولكن ُض ّخمت المســائل‪ ،‬و ُف ّســرت‬

‫وح ّملــت مــن المعانــي مــا ال تحتمل‪ ،‬وتــم إعالن‬ ‫خطــأ‪ُ ،‬‬ ‫حــرب عقدية ضــد جماعة معينة وأعلن نفير عام ضدها‪،‬‬

‫حتــى إنهــم أوصلــوا الموضوع إلــى حملة إبــادة جماعية‬


‫علمت أن مويت سيكون ح ًّ‬ ‫ال ملشاكل تركيا الخرتت‬ ‫لو‬ ‫ُ‬

‫"صوتوا حســب قناعتكــم الوجدانية"‪.‬‬ ‫يقــول منذ القديم‪:‬‬ ‫ِّ‬

‫أن أموت يف اليوم ألف مرة‪ .‬وليك ال أعطي مرب ًرا‬

‫تصوتوا للحزب الفالني"‬ ‫ذلــك ألنــي أعتبر َ‬ ‫قول "البد أن ِّ‬

‫ملن يريد أن يغتال أمن تركيا وسالمها واستقرارها‪،‬‬

‫نوعا من ممارســة اإلكراه والضغط النفســي على الناس‪،‬‬ ‫ً‬

‫فسأدفن أشــواقي يف أعامق قلبي وأبقى هنا‬

‫نوعــا مــن االنفصــال‬ ‫كمــا أعتبــر االرتبــاط بحــزب معيــن ً‬

‫مزيدا من الوقت‪.‬‬ ‫ً‬

‫واالبتعــاد عــن شــرائح المجتمــع األخــرى‪ .‬أمــا موقفنــا‬

‫الواضــح والصريح الذي أبديناه في اســتفتاء ‪ 12‬ســبتمبر‬ ‫دعما‬ ‫‪ ،2010‬فلــم يكــن‬ ‫ً‬ ‫انحيــازا لحــزب بعينه‪ ،‬إنمــا كان ً‬

‫الــذي دعــم التعديــات الدســتورية لســنة ‪ 2010‬برفعــه‬

‫"أيدوا من ســيقف‬ ‫وإن كان البــد مــن قــول شــيء فأقول‪ّ :‬‬

‫تراجع التقدم الديمقراطي في العامين األخيرين‪.‬‬

‫للمكتسبات الديمقراطية التي كان ينص عليها االستفتاء‪.‬‬

‫شــعار "هذا جيد‪ ،‬لكنه غير كاف" ُمســتاء اليوم لمالحظة‬

‫الحق والحريات األساســية‬ ‫وقفــة رجولــة في الدفــاع عن‬ ‫ّ‬

‫كو ّنــا‬ ‫أكــرر مــرة أخــرى فأقــول إننــا لــم يســبق لنــا أن ّ‬

‫والقانــون والشــفافية وروح التوافــق والديمقراطية‪ّ ،‬أيدوا‬ ‫ســديدا‪ّ ،‬أيــدوا مــن كان مو ِّقــرا‬ ‫مخلصــا‬ ‫مــن كان صاد ًقــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فدعمنا‬ ‫أي تحالــف أو شــراكة مــع أي حزب أو مرشــح‪.‬‬ ‫ُ‬

‫دائمــا مــن أجــل القيــم والمبــادئ‪ .‬ومثــل‬ ‫أو انتقادنــا كان ً‬

‫للديمقراطيــة‪ّ ،‬أيــدوا مــن يحســن التعامــل مــع الجــوار‪،‬‬

‫أحدا على أن‬ ‫كل شيء بوضوح‪ ،‬لذلك ال يمكن أن ُأ ِ‬ ‫كره ً‬

‫حزبا بعينه‪.‬‬ ‫يختار ً‬

‫س‪ :‬بعــد اتهامــات رئيــس الــوزراء "الخدمــة" بالمنظمــة‬ ‫اإلجراميــة‪ ،‬هــل يمكــن أن نقــول إن تحالفكــم قــد بلــغ‬ ‫نهايته؟‬

‫إن تحالفنــا كان حــول القيم اإلنســانية والمبادئ الكونية‪،‬‬ ‫ولقد دعمنا اإلصالحات الديمقراطية التي قام بها حزب‬

‫العدالــة والتنميــة طوال مــدة حكمه‪ ،‬لكننا كذلــك انتقدنا‬

‫وعارضنــا اإلجــراءات الالديمقراطيــة‪ .‬ففــي ســنة ‪2005‬‬

‫مثالً‪ ،‬انتقدنا مشروع قانون مكافحة اإلرهاب‪ ،‬الذي كان‬ ‫غيــر واضــح في تعريفه بجرائم اإلرهاب‪ ،‬وكان ســيلحق‬

‫ضررا ببعض الحريات‪.‬‬ ‫ً‬

‫فــي المجتمــع المدنــي‪ ،‬مــن الواجــب علينــا أن نبقــى‬ ‫مكونــات المجتمــع‪ .‬والمهــم أن‬ ‫منفتحيــن علــى جميــع ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫صوتوا لمن يحمل هذه األوصاف‪ ،‬أي إن المعيار عندنا‬ ‫ِّ‬ ‫هــي األوصــاف"‪ .‬أمــا تعييــن حزب ما باســمه‪ ،‬فإنــي َأ ُع ّد‬ ‫مني لفراســة النــاس وعقولهــم‪ .‬الجميع يرى‬ ‫ذلــك إهانــة ِّ‬

‫أيضــا‪ .‬وكفاعلين‬ ‫هــذا التحالــف لن يكون في المســتقبل ً‬

‫قيمنــا واضحــة؛ الديمقراطيــة‪ ،‬حقــوق اإلنســان الكونيــة‪،‬‬

‫الحريات‪ ،‬الحكومة الشــفافة والمســؤولة أمام الجميع‪...‬‬

‫إلخ‪ ،‬وعندما تتسنى الفرصة لهم‪ ،‬فسيقوم أفراد "الخدمة"‬ ‫كأي مواطن آخر باختيار األنسب بناء على قيمهم‪.‬‬ ‫ّ‬

‫س‪ :‬يقولــون لمــاذا تعارضــون اآلن حزبًــا تحالفتــم معــه‬ ‫طيلة ‪ 12‬سنة؟ ألم تكن بينكما مصلحة مشتركة؟‬

‫لم نتحالف مع أي حزب سياســي على أساس مصلحي‬

‫دائمــا علــى اســتغنائنا‪ ،‬ألن الــدروس التــي‬ ‫ً‬ ‫أبــدا‪ .‬حافظنــا ً‬

‫دائما ما‬ ‫أفدناهــا مــن القرآن والســنة كانت تقتضــي ذلك‪ً .‬‬

‫اعتبرت السعي إلى المناصب والمساومة من أجلها خيانة‬ ‫ُ‬ ‫شــيئا حــول اجتهادات‬ ‫للمبــادئ التــي آمنــا بهــا‪ .‬ال أقــول ً‬

‫دائما‬ ‫اآلخريــن وأفكارهم‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫فلــكل رأيه واجتهــاده‪ ،‬ولكن ً‬

‫لقــد كان توجــه حــزب العدالــة والتنميــة العــام خالل‬

‫نظــرت إلى طلب الدنيــا ورغبة الحصول على اإلعجاب‬

‫شرائح واسعة من الشعب‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬وقد ّأيدت ذلك‬ ‫ُ‬

‫منصــب محافــظ‪،‬‬ ‫نحــن لــم نطلــب قــط إدارة عامــة‪ ،‬وال‬ ‫َ‬

‫المــدة مــا بيــن ‪ 2003‬و‪ 2010‬ينحــو نحــو اإلصالحــات‬

‫وال وزارة‪ ...‬وإذا كان بيننــا مــن طلبــوا ذلــك ‪-‬إال أنــي‬

‫نموا‬ ‫حصل على موافقة ‪ .%58‬وبالفعل فقد حققت تركيا ًّ‬

‫وإن ُوجدوا‬ ‫منــا‪ْ ،‬‬ ‫ال أتذكــر ً‬ ‫شــيئا من هذا القبيل‪ -‬فليســوا ّ‬

‫استمرار هذه اإلصالحات الديمقراطية‪ .‬فالشعب التركي‬

‫مرارا‪ .‬نحن حاولنا وبإخالص تقديم‬ ‫هــذه لرجال الدولة ً‬

‫وديمقراطيا خالل السنوات الماضية‪ ،‬لكننا نود‬ ‫اقتصاديا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫نــت رؤيتي‬ ‫ســاب ًقا فلــم يبــق أحــد منهم بيننا اليــوم‪ ،‬وقد ّبي ُ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫واضحا في استفتاء ‪ 2010‬الذي‬ ‫التركي‪ .‬كما أن هذا بدا‬ ‫ً‬

‫والشــهرة على أنها خطر علــى آخرتي‪ ،‬وكذلك إخواني‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫بلغت نسبة من يشربون الكحول من الطالب ‪ .%32‬ووف ًقا‬

‫ــن يتلقون العالج‬ ‫لتصريحــات طبيــة نفســية‪ ،‬ارتفع ُ‬ ‫عدد َم ْ‬ ‫جــراء تعاطــي المخدرات ‪ 17‬ضع ًفا فــي ‪ 10‬أعوام‪ .‬هذه‬

‫وقيمه‪.‬‬ ‫جــدا تهــدد‬ ‫َ‬ ‫المعطيــات مخيفــة ًّ‬ ‫أخــاق المجتمــع َ‬ ‫تفســروا‬ ‫وإن كان الواقــع هكــذا‪َ ،‬ف ّ‬ ‫بــأي شــيء يمكنكم أن ّ‬

‫وتبــرروا إنقاذ التعليم بإغــاق المعاهد التحضيرية‪ ،‬بينما‬ ‫ّ‬ ‫تهدد نظام‬ ‫ّ‬ ‫تشــكل هذه المشــاكل الضخمة مخاطر كبيــرة ّ‬

‫التعليــم وحتــى مســتقبل البــاد؟ هل ســيمنعون ‪-‬بإغالق‬

‫التشوه والتح ّلل؟‬ ‫حدوث هذا‬ ‫المعاهد التحضيرية‪-‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫مؤسســات تعليميــة تمــارس إلى‬ ‫وإن هــذه المعاهــد‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫التشــوه‬ ‫دورا فــي مكافحــة هــذا‬ ‫جانــب دورهــا التعليمــي ً‬ ‫ّ‬ ‫يتفطر عندما‬ ‫ا عن ذلك‪ ،‬فإن قلبــي ّ‬ ‫أيضــا؛ فضــ ً‬ ‫والتح ّلــل ً‬ ‫أفكــر فــي الفراغ المحتمل الــذي يمكن أن يحدث نتيجة‬ ‫ّ‬

‫‪126‬‬

‫المعاهد‪ ،‬يمتثلون للمبادئ األساسية لرؤية الخدمة؛ مثل‬ ‫اإليجابيــة واالســتقامة والصــدق والعمل الجــاد واحترام‬ ‫إيجابيــا لــدى طالبهــم؛‬ ‫أثــرا‬ ‫ًّ‬ ‫اآلخــر‪ ..‬األمــر الــذي يتــرك ً‬ ‫ومــن ثــم نســتطيع أن نقــول إن هذه المعاهــد قد نجحت‬ ‫فــي مكافحــة العــادات الســيئة لدى هؤالء الطــاب‪ ،‬مثل‬ ‫التدخيــن‪ ،‬وإدمــان الكحول‪ ،‬وحتى تعاطــي المخدرات‪،‬‬ ‫التحديات الكبيرة التــي تواجهها المدارس‬ ‫التــي تعــد من‬ ‫ّ‬ ‫الحكومية في تركيا‪.‬‬ ‫فإغــاق هــذه المعاهد التي لم تخــرق القانون والقيم‬ ‫يوما ما‪ ،‬ولم تخالف مبادئ الديمقراطية والقيم‬ ‫األخالقية ً‬ ‫الكونيــة؛ ودون طلــب مــن الــرأي العــام أو حتى مناقشــة‬ ‫ســيؤدي بالضرورة‬ ‫كافيا‪،‬‬ ‫نقاشــا‬ ‫قــرار اإلغالق ً‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫مجتمعيــا ً‬ ‫إلى إهدار كل المكتسبات التي تح ّققت حتى اليوم‪.‬‬ ‫ال‪ ..‬ينبغي على الحكومة‬ ‫واسمحوا لي أن أستطرد قلي ً‬ ‫تركــز على مشــاكل وقضايا أكثر جديــ ًة وخطور ًة‪ .‬لقد‬ ‫أن ّ‬ ‫ال لواحد مــن أصدقائنــا األكاديميين‬ ‫قــرأت منــذ مدة مقــا ً‬ ‫ُ‬ ‫يقــول فيــه إن حــاالت االنتحار زادت بنســبة ‪ %36‬خالل‬ ‫عاما‪ .‬كما أن انتشــار عدوى تعاطي المخدرات على‬ ‫‪ً 12‬‬ ‫نطاق واسع في المدارس الثانوية آخذ في التزايد‪ ،‬حيث‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫إغــاق تلــك المعاهد فــي المناطق الجنوبية الشــرقية من‬

‫البــاد‪ .‬ويصعــب علــي أن أفهــم إقبــال المســؤولين بهذه‬ ‫ّ‬ ‫الســهولة علــى تعريــض وحــدة البــاد للخطــر في ســبيل‬ ‫جدا‪.‬‬ ‫تحقيق مصالح صغيرة ًّ‬

‫وجهون‬ ‫س‪ :‬هل سبق أن ص ّوتم في االنتخابات؟ وهل تُ ّ‬ ‫محبيكم لكي يص ّوتوا لحزب بعينه؟‬ ‫شــخصيا لــم ُيك َتــب لي نصيب للتصويــت إال مرة واحدة‬ ‫ًّ‬

‫مطار ًدا‪،‬‬ ‫وإما‬ ‫َ‬ ‫طــوال حياتــي‪ ،‬ألنني كنت َّإما في الســجن‪َّ ،‬‬

‫محرومــا مــن اســتخدام حقوقــي الشــخصية‪ ،‬لذلك‬ ‫وإمــا‬ ‫ً‬

‫ضــد االنتخابــات أو‬ ‫صــو ُّت مــرة واحــدة فقــط‪ .‬لــم ُأكــن َّ‬ ‫َّ‬ ‫التصويــت قــط‪ ،‬ولم أقصد مقاطعتهــا ُمط َل ًقا‪ ،‬بل إن ذلك‬

‫حــق ديمقراطــي‪ ،‬وأحــث الجميــع على أن يمــارس هذا‬ ‫ّ‬

‫الحق‪.‬‬

‫غلــو فــي الحديــث عــن‬ ‫مــن جهــة أخــرى هنــاك‬ ‫ّ‬ ‫االنتخابات‪ .‬إن اإلكثار من الحديث عن االنتخابات إلى‬ ‫حد الهوس‪ ،‬واختزال معنى الحياة في صندوق االقتراع‪،‬‬

‫حالــة ال أراهــا تليــق بالمؤمن‪ .‬بالتأكيد صنــدوق االقتراع‬ ‫مهــم مــن أجــل مســتقبل البلــد‪ ،‬ولكنــه ليــس كل شــيء‪.‬‬

‫جانبــا‪ ،‬واالنشــغال بصندوق‬ ‫إن إلقــاء "صنــدوق العمــل" ً‬ ‫االقتراع فقط‪ ،‬مآله خروج البعض عن الجادة وانحرافهم‬

‫عن الطريق‪ ،‬وهذا ما نشاهده اليوم‪.‬‬

‫فــي موضــوع التصويــت فــي االنتخابات‪ ،‬هــذا الفقير‬


‫الطاعة ألويل األمر‪ ،‬ال تعني الســكوت حيال أخطاء‬

‫الموظف‬ ‫مــن ِقبــل الدولــة‪ .‬واألصــل في ذلــك أن يــؤدي‬ ‫ُ‬ ‫وأيا كانت األفكار التي يعتنقونها‪،‬‬ ‫مهامه في إطار القانون‪ًّ .‬‬

‫اإلداريــن والتخــي عن الحــق والحقيقــة‪ .‬ثم إن‬ ‫مهمــة "األمر باملعــروف والنهي عــن املنكر" ال‬

‫فــإن تصنيــف هــؤالء الموظفين أثناء عملهم في مؤسســة‬

‫متا َرس عىل املواطــن العادي الذي مييش يف‬

‫الدولــة حســب أفكارهــم وانتماءاتهــم في قوائم ســوداء‪،‬‬

‫الشارع فقط‪ ،‬بل تشمل الجميع‪.‬‬

‫تجــاوزا في حقهــم واعتداء‬ ‫واتهامهــم دون دليــل‪ ،‬يمثــل‬ ‫ً‬

‫علــى حقوقهــم‪ .‬وفي حــال عدم وجــود أي جريمة ثابتة‪،‬‬

‫بأنه يمكن لحركة الخدمة أن َتحول دون ذلك‪ ،‬فخطّ طت‬

‫وادعائكم وجود دولة موازية‪ ،‬فإن أوهامكم هذه ستضع‬

‫كحائــل أمام األمواج القادمــة إليها عبر ابتزازها‬ ‫لوضعهــا‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬

‫ســتعرضون‬ ‫أمامكــم ألــف دولــة موازية‪ .‬وفي هذه الحال‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا من األبرياء للظلم‪.‬‬ ‫ً‬

‫وشن حرب نفسية ضدها‪.‬‬ ‫عن طريق المعاهد التحضيرية‬ ‫ِّ‬ ‫ليتهــم أعلنــوا عن نيتهــم هذه وقالوا‪" :‬ال نريــد أن تعملوا‬

‫س‪ :‬اتخــذت الحكومــة التركيــة ق ـرا ًرا بإغــاق المعاهــد‬ ‫التحضيريــة للخدمــة؟ فهــل تعتقــدون أن خطــة اإلغالق‬ ‫جديدة أم كان يخطط لها من قبل؟‬

‫فــي مجــال المعاهد التحضيرية" حتى ال يظلموا المعاهد‬

‫األخرى التي ال صلة لها بـ"الخدمة"‪ .‬ألن اإلنسان يحزن‬

‫مــن أجــل هــؤالء النــاس الذين بنــوا تلك المعاهــد بعرق‬

‫واضحا ‪-‬بعد البيانات التي صدرت على لسان رئيس‬ ‫بدا‬ ‫ً‬

‫جبينهــم ومحض أموالهم‪ .‬وكمــا تعلمون إن ثالثة آالف‬

‫الحكومــة‪ -‬أن جــذور قضيــة إغالق المعاهــد التحضيرية‬

‫مــن تلــك المعاهد البالغ مجمــوع عددها حوالي ‪3800‬‬

‫ال تعــود إلــى مــا قبل شــهرين أو ثالثة أشــهر؛ حيث قالوا‬

‫"هــذا لــم يســتطع إغالقها‪ ،‬وهــذا لم يســتطع‪ ،‬وذلك لم‬

‫يســتطع‪ ...‬أمــا الوزيــر الجديد فســيح ّقِق ذلــك" وما إلى‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــي تلــك األيام مــع ذكر أســماء وزراء التربيــة والتعليم‪:‬‬

‫ليــس لهــا أي عالقة مع رؤيــة الخدمة‪ .‬ثم من الضروري‬

‫معرفة األمور التالية‪:‬‬

‫أوالً؛ إن المعاهد التحضيرية ظهرت نتيج ًة للعديد من‬

‫جوانب القصور في النظام التعليمي التركي‪ .‬فهي مؤسسات‬

‫تم‬ ‫هــذا من األقوال المشــابهة‪ ،‬مما يعنــي أن هذه القضية ّ‬ ‫التخطيــط لهــا منذ فتــرة طويلة‪ ،‬ولعلها وعــد قطعوه على‬

‫ومؤسســة‬ ‫أنــاس ملتزمين بالقانون‪،‬‬ ‫خاصــة تــدار من قبل‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬

‫اإلعــام مزاعــم بوجــود مثل هذا الوعد لحســاب جهات‬

‫ثانيًــا؛ هــذه المعاهــد ال تتبــع الخدمــة بشــكل مباشــر‪،‬‬

‫معينــة‪ .‬إذ وردت فــي وســائل‬ ‫أنفســهم لحســاب جهــات ّ‬ ‫تبين اليــوم بصورة أكثر من الســابق‪ ،‬أنهم لم‬ ‫معينــة‪ .‬لقــد ّ‬ ‫ّ‬ ‫يغلقوا تلك المعاهد انطال ًقا من نية رفع مستوى التعليم‬

‫في المدارس إلى مســتويات أعلى؛ إذ ظهر بشــكل جلي‬ ‫أن النيــة هــي م ْنــع النشــاطات التعليمية لحركــة الخدمة‪.‬‬ ‫أن "ال ترســلوا أوالدكم إلى‬ ‫هــا هــم ينادون فــي الميادين ْ‬

‫أي إن نيتهم كانت‬ ‫مدارســهم ومعاهدهم‪ ،‬بل قاطعوها"‪ْ ،‬‬ ‫البــدء مــن إغــاق المعاهــد ثــم االنتقــال إلى المــدارس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فــي كافــة أنحاء العالم‪ .‬والمالحظات التي أبدتها الســيدة‬

‫"نازلــي إيليجــاك" فــي هــذا المضمــار‪ ،‬يبــدو أنهــا تفســير‬ ‫منطقــي لهــذ األمر؛ حيث قالت إنه من الممكن أن تكون‬

‫الحكومــة قــد اطلعت على التحضيــرات الجارية إلجراء‬ ‫تحقيقات الفســاد تلك‪ ،‬وبحكم مســبق من عندها فكّ رت‬

‫وإنمــا تــدار عــن طريق عدد من شــركات القطاع الخاص‬ ‫المملوكة لرجال أعمال يؤمنون بأفكار الخدمة‪ .‬وتخضع‬ ‫هــذه المعاهــد لرقابــة الدولــة من حيــث مواردهــا المالية‬

‫تســدد الضرائب المســتح ّقة‬ ‫والمقــررات الدراســية‪ ،‬كمــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫عليها للدولة‪ ،‬شأنها شأن المؤسسات األخرى‪ .‬باإلضافة‬

‫إلى أن هذه المعاهد المحسوبة على الخدمة‪ ،‬تمثل نسبة‬ ‫صغيرة فقط من عموم المدارس التحضيرية في تركيا‪.‬‬

‫ملحة‬ ‫تلبي حاجة ّ‬ ‫ثم إن هذه المعاهد منذ عقود وهي ّ‬

‫لــدى الطلبــة فــي مجالــي الرياضيات والعلــوم على وجه‬

‫بناء على طلب أولياء األمور في إطار القوانين‬ ‫الخصوص‪ً ،‬‬

‫بقــوة الدولــة ضربــة لقطــاع النشــاط‬ ‫المرعيــة‪ ،‬فإغالقهــا ّ‬

‫الحر‪ ،‬وحرمان للطالب من الحصول على تعليم أفضل‪.‬‬ ‫ومــن جهــة أخــرى‪ ،‬فالقائمــون على التعليــم في هذه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ومن ثم االنتهاء بالسعي إلى إغالق المدارس الموجودة‬

‫الحريــات الخاصــة التــي كفلهــا الدســتور‪.‬‬ ‫طب ًقــا لمبــادئ ّ‬

‫‪125‬‬


‫التــي ســيصاب بهــا هــؤالء الذين ع ّلقــوا آمالهــم عليكم‪.‬‬

‫س‪ :‬هــل يمكــن أن نقــول بــأن ثمــة صرا ًعــا بيــن حــزب‬ ‫العدالة والتنمية‪ ،‬و"الخدمة"؟‬

‫المســألة ليســت قضية صراع بين حزب العدالة والتنمية‪،‬‬ ‫والخدمــة‪ .‬فــي الســنوات األخيــرة بــدأ موضــوع الحقوق‬ ‫والحريــات األساســية فــي تركيــا يتقلــص بشــكل خطيــر‪.‬‬

‫فلغة السياسة الهدامة المف ّتِتة باتت تهدد وحدة المجتمع‬ ‫حــدة‪ .‬وخــال أحــداث‬ ‫وتدفعــه نحــو االســتقطاب بــكل ّ‬

‫"كيــزي"‬ ‫اعترضت على تســمية المتظاهريــن بـ"األوباش"‬ ‫ُ‬ ‫وقلــت "ينبغــي أال ُيتل َّفــظ بذلــك"‪ .‬ونفــس الشــيء ينطبق‬ ‫ُ‬

‫أيضــا‪ ،‬وهذا طبيعي في ظل عدم الســعي‬ ‫العلوييــن ً‬ ‫علــى َ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫إلى إيجاد حلول ديمقراطية تدافع عن حقوقهم الطبيعية‪،‬‬

‫‪124‬‬

‫بــل وربمــا عدم الرغبة في إيجاد تلك الحقوق‪ .‬لقد ّأيدنا‬

‫الج ْمع"‪ ،‬ولكنه القى انتقادات‬ ‫"مشــروع المســجد وبيت َ‬

‫حادة مِن جهات غير متو َّقعة‪.‬‬

‫حزبــا‬ ‫سياســيا ولــن‬ ‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬نحــن لســنا ً‬ ‫ًّ‬ ‫أي‬ ‫نكــون ً‬ ‫أبــدا‪ .‬بنــاء على ذلك فلســنا بصدد منافســ ٍة مع ّ‬ ‫حــزب‪ ،‬ونقــف مــن الجميــع على مســافة واحــدة‪ .‬وعلى‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الرغــم مــن ذلك‪ ،‬نتشــاطر مــع الرأي العــام قل َقنــا وآمالنا‬ ‫فيمــا يتعلــق بمســتقبل بالدنــا‪ .‬أعتقــد أن هذا أمــر طبيعي‬ ‫نمارســه بموجب حقوقنا الطبيعية والديمقراطية‪ .‬ولذلك‬ ‫أجــد غرابــة فيمــن ينزعجون مــن ذلك‪ ،‬فهل صــار القول‬ ‫"لــدي فكــرة كــذا‪ "...‬تهمــة؟ إن األفــراد فــي‬ ‫للمســؤولين‬ ‫ّ‬ ‫الديمقراطيــات المتقدمــة وكذلــك مؤسســات المجتمــع‬ ‫المدني التي تتشــكل من هؤالء األفراد‪ ،‬يحق لهم توجيه‬ ‫االنتقادات وإبداء اآلراء وتبادلها مع الرأي العام دون أن‬ ‫إزعاجا ألي أحد‪.‬‬ ‫يسبب ذلك‬ ‫ً‬ ‫إضافــة إلــى أن كل المؤسســات التــي أقامهــا إخواننا‬ ‫تعمــل وفــق القوانيــن‪ ،‬وهــي خاضعــة لرقابــة الدولــة‬ ‫وتفتيشــها‪ ،‬ممــا يعنــي أننا نتحدث عن عمل شــفاف بكل‬ ‫وإن اتهام‬ ‫معنى الكلمة‪ .‬مشــروع الخدمة عماده التطوع‪ّ ،‬‬ ‫أحــدا ولــو نملــة واحــدة‪،‬‬ ‫أنــاس لــم يــؤذوا فــي حياتهــم‬ ‫ً‬ ‫ويراعون القوانين رعاية كاملة‪ ،‬بـأنهم "منظمة سرية" أمر‬ ‫باعث لألسف‪.‬‬ ‫وال يخفــى عليكــم أن مؤسســات الدولــة فيهــا كل‬ ‫األطيــاف واألفــكار؛ يميني‪ ،‬يســاري‪ ،‬ع َلوي‪ُ ،‬س ّــني‪ ،‬غير‬ ‫مســلم‪ ،‬كردي‪ ،‬تركي‪ ...‬كلٌّ يقوم بوظيفته التي ُك ّلف بها‬


‫ال شــك أن التعــرض أللوان شــتى مــن االفرتاءات‬

‫نت ســل ًفا‪ ،‬فإن هؤالء المشــرفين على هــذه التحقيقات‬ ‫ّبي ُ‬

‫واملؤامرات‪ ،‬هو قدر السائرين يف هذا الدرب يف‬

‫أي صلــة بهــم‪ .‬وقد‬ ‫ال أعرفهــم‬ ‫شــخصيا‪ ،‬ولــم يكــن لــي ّ‬ ‫ًّ‬

‫كل عرص‪ ،‬وســيبقى كذلك إىل أن يــرث الله األرض‬

‫واحــدا فــي األلف‬ ‫وقلــت "ال أعــرف‬ ‫مــرارا‬ ‫دت ذلــك‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫رد ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫ومن عليها‪ .‬وحينام تسود البصرية والفراسة‪ ،‬فإن‬

‫منهــم‪ ،"...‬إال أنهــم اســتمروا فــي ربط هؤالء بشــخصي‪.‬‬

‫الغبش والضبابية وكافة السلبيات ستزول تلقائ ًّيا‪.‬‬

‫ال‪،‬‬ ‫حز في نفســي وأشــعرني باإلحبــاط أص ً‬ ‫أمــا الذي ّ‬

‫شــرفاء صادقين‪.‬‬ ‫عرفتهم‬ ‫َفهــو صمــت السياســيين الذيــن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كنــت أتو ّقــع مــن هــؤالء الذيــن أعرفهــم منــذ القديــم‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫إشــاعات‪ ..‬وال يمكن‬ ‫إلنســان انتشرت في حقه إشاعات‬

‫وأعتقــد بصالحهــم وعــدم مخالفتهــم لضمائرهــم‪ ،‬أن ال‬

‫واليــا‪ ،‬ألن الناس لن يســمعوا لــه ولن يطيعوه‪.‬‬ ‫أن يكــون ً‬

‫رد‬ ‫علــى الرشــوة‪.‬‬ ‫كنــت ّ‬ ‫أظنهم هكــذا‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت أنتظــر منهم ّ‬ ‫الفعــل الــذي أبــداه المرحــوم "تورغــوط أوزال" الرئيــس‬

‫ومحســوبية‪ ،‬وممارســة فســاد فــي المناقصــات‪ ،‬وأمــور‬

‫يبقــوا صامتيــن أمــام أعمــال الفســاد والعالقــات المبنيــة‬

‫بنــاء علــى ذلك‪ ،‬فإن كانت هناك رشــوة وجرائم ترتكب‪،‬‬

‫التركي األســبق ‪-‬أســكنه اهلل فســيح جناته‪ -‬إزاء مثل هذه‬

‫التســتر عليها‪،‬‬ ‫ويتم‬ ‫ّ‬ ‫أخــرى تتعــارض مــع مصالح األمــة‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫سيحاسب عليها ال محالة‪.‬‬ ‫فإن اهلل جل وعال‬

‫ســكت هؤالء‬ ‫األعمال القبيحة‪ ،‬ولكنهم لم يفعلوا‪ .‬ولما‬ ‫َ‬

‫يســمي مثــل هــذه الممارســات‬ ‫إن القــرآن الكريــم‬ ‫ّ‬ ‫الفاســدة بـ"الغلــول"‪ .‬وهــو يأتــي بمعنــى االســتيالء علــى‬

‫ال من إطــاق حملة ضد‬ ‫تاريــخ الجمهوريــة التركيــة‪ .‬فبد ً‬

‫مــن المــال العــام‪ ،‬وخيانــة األمانــة ومــا إلــى ذلــك‪ .‬كمــا‬

‫ارتــكاب "ألف‬ ‫ــن ارتكبــوا "جريمة واحدة"‬ ‫لــم ّ‬ ‫يتجنــب َم ْ‬ ‫َ‬ ‫ســبق إليهــا طوال‬ ‫جريمــة" أخــرى‪ ،‬وابتدعــوا طريقــة لم ُي َ‬

‫أولئك القائمين على تحقيقات الفساد‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الضالعيــن فــي ممارســات الفســاد‪ ،‬أطلقــوا حملــة ضــد‬

‫شــيء دون وجــه حــق‪ ،‬واالنتفــاع بــه‪ ،‬واختــاس شــيء‬ ‫ذنبــا وجريمة من هذا‬ ‫ُت َع ّ‬ ‫ــد إســاءة اســتعمال أموال الدولة ً‬ ‫النــوع‪ .‬وقد تكون إســاءة االســتعمال هــذه ببضعة قروش‬

‫حــرم أعمــال الفســاد وفــرض عليهــا‬ ‫إن اإلســام ّ‬ ‫وحض‬ ‫عقوبــات زاجرة‪ ،‬واعتبرها من مســاوئ األخالق‬ ‫ّ‬ ‫أي نوع‬ ‫علــى االبتعــاد عنها‪ .‬فال يمكن تســويغ وتصويب ّ‬

‫منصب عبر الوســاطة والمحســوبية ال بالكفاءة والجدارة‬ ‫ٍ‬

‫أضراره راجعة‬ ‫فرديا‪ ،‬ولم تكن‬ ‫فالذنب أو الخطأ إن كان ًّ‬ ‫ُ‬

‫وكذلــك كل إمــكان حصــل عليــه من خالل وســائل غير‬

‫مرتكبه دون عقاب‪.‬‬ ‫من أنواع الفساد‪ ،‬وال يمكن أن ُيترك‬ ‫ُ‬

‫حينــا‪ ،‬وبأكيــاس مليئــة بالنقــود المملوكــة لخزينــة الدولة‬ ‫ً‬

‫أحيا ًنــا أخــرى‪ ...‬وقــد تكــون عــن طريــق الحصــول على‬ ‫واألهليــة‪ .‬فــكل شــيء تم ّلكــه اإلنســان دون وجــه حــق‪،‬‬

‫التجاوز‬ ‫إلــى المجتمع‪ ،‬فاإلســام في هذه الحالــة َيطلب‬ ‫َ‬ ‫أبــدا بالتالعب‬ ‫والصفــح عــن ذلك اإلنســان‪ ،‬وال َيســمح ً‬

‫جرحا‬ ‫والطامــة الكبــرى هــي أننــا بأحوالنا هذه نفتــح‬ ‫ً‬

‫يحث على إبداء حساسية فائقة‬ ‫أي إن اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫النقطتين؛ ْ‬

‫قيم الصدق واإلخالص في حياتنا الشــخصية‪ ،‬نكون قد‬

‫بكرامتــه وشــرفه‪ .‬لــذا ينبغــي عــدم الخلــط بيــن هاتيــن‬

‫للغاية‪ ،‬ويضع عقوبات محددة إن كانت المســألة متعلقة‬ ‫بــأكل حقــوق النــاس أو متعلقــة بأعمــال فســاد مختلفة‪..‬‬

‫فعلى ســبيل المثال‪ ،‬عزل عمر بن خطاب ‪ ‬عياض بن‬

‫واحدا مــن الوالة‬ ‫بــن العــاص مــن منصبــه‪ .‬كذلــك عــزل‬ ‫ً‬

‫وفاتحا في غزوة القادســية ضد‬ ‫غازيا‬ ‫ً‬ ‫المشــهورين‪ ،‬وكان ً‬ ‫المنــورة‪ .‬في‬ ‫اإليرانييــن‪ ،‬عزلــه ثــم اســتدعاه إلــى المدينة‬ ‫ّ‬ ‫أي ذنــب‪ ،‬ولكــن ذاعــت فــي حقه‬ ‫يكــن لــه ّ‬ ‫الحقيقــة‪ ،‬لــم ْ‬

‫غائــرا فــي قلــب اإلســام دون أن نشــعر‪ .‬فــإذا مــا خرقنــا‬ ‫ً‬ ‫يشــكل قناعته عن‬ ‫أحدثنا شــرخا في الدين وفي فكر من‬ ‫ّ‬

‫أظن أن الرغبة في‬ ‫اإلســام من خالل ســلوكنا ومواقفنا‪ّ .‬‬ ‫مصدرا لمثل‬ ‫تشكل‬ ‫نظرا ألنها ّ‬ ‫ً‬ ‫المناصب السياسية تزداد ً‬

‫هــذه الغنائم والعموالت‪ .‬أجــل‪ ،‬إذا لم تنتبهوا إلى تزكية‬ ‫قلوبكــم علــى الــدوام‪ ،‬فقــد تجــدون أنفســكم تائهين في‬

‫ال‪ -‬مع إخوانكم في‬ ‫متاهات مظلمة حتى لو انتشرتم ‪-‬أص ً‬ ‫أنحاء العالم بقصد نشــر قيم اإلســام الســامية من صدق‬ ‫واألمــر هو خيبــة األمل‬ ‫وإخــاص‪ .‬واألدهــى مــن ذلــك‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫أيضا عمرو‬ ‫وحاكم‬ ‫واليا‪،‬‬ ‫إقليــم‪ ،‬وعزل ً‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫غانــم‪ ،‬كــذا عزل ً‬

‫مشروعة‪ ،‬فهو غلول‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫أصدقك القول بأن‬ ‫نتجــه وإياهــم إلى قبلة واحدة‪ ،‬لذلك ُ‬

‫إحساســي باأللم مضاعف هذه المرة‪ .‬ولكن ما باليد من‬ ‫حيلة سوى أن نقول "فصبر جميل"‪ ،‬البد لهذه الكربة أن‬

‫تزول كما زالت شقيقاتها األخرى‪ ،‬والسالم‪.‬‬

‫اعم في بعض وسائل اإلعالم المحسوبة‬ ‫س‪ :‬لقد وردت مز ُ‬ ‫علــى الحكومــة‪ ،‬بــأن الخدمة هي التــي نفّذت عمليات‬ ‫الفساد في ‪ ١٧‬ديسمبر ‪ .٢٠١٣‬كيف تقيّمون ذلك؟‬

‫يصــر علــى اتهــام "الخدمــة" علــى الرغــم من‬ ‫إن البعــض‬ ‫ّ‬

‫مرارا العديد من البيانات للتكذيب والتوضيح‬ ‫أننا نشرنا ً‬ ‫العامين‬ ‫قلت ساب ًقا‪ ،‬فإن بعض‬ ‫ِ‬ ‫والتصحيح‪ .‬وكما ُ‬ ‫النواب ّ‬ ‫ِ‬ ‫وقــوات الشــرطة المكلّفة بتنفيــذ القانون‪ ،‬قد ّأدوا المهمة‬

‫ترصــد‬ ‫التــي يطلبهــا‬ ‫ُ‬ ‫القانــون منهــم دون أن يعلمــوا أن ّ‬ ‫ومطــاردة المجرميــن صــار ُيعتبــر جريمــة! أي إنهــم لــم‬ ‫أضــرارا ســتلحق بهــم جــراء أداء وظائفهــم‪.‬‬ ‫يتخيلــوا أن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والــذي حصــل أن الذيــن أشــرفوا علــى تحقيقــات ‪17‬‬

‫ديســمبر‪ ،‬بــل اآلالف مــن الموظفيــن الذين لــم يكن لهم‬ ‫تعرضــوا للنفــي والتشــريد‬ ‫ّ‬ ‫أي صلــة بتلــك التحقيقــات‪ّ ،‬‬

‫أبــدا‪ .‬ثم‬ ‫دون مراعــاة حقوقهــم وحقــوق أفــراد عائالتهم ً‬ ‫بــادر أعضــاء الحكومــة إلى اتهــام "الخدمــة" ومهاجتمها‬ ‫فســادا لم يقع‪ .‬وعمدوا إلى‬ ‫وكأن شــي ًئا لم يحدث وكأن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫أكاذيب ونشــرها واحدة تلــو األخرى‪ ،‬وما زالوا‬ ‫اختــاق‬ ‫َ‬ ‫يفعلون ذلك‪.‬‬

‫كل شــيء‪ ،‬فــإن تحقيقــات الفســاد والرشــوة لــم‬ ‫قبــل ّ‬

‫أعد قبل نحــو ‪ 8‬أو‬ ‫تــأت فجــأة‪ ،‬فجهــاز المخابــرات قــد ّ‬ ‫بعضا‬ ‫‪ 9‬أشــهر‬ ‫تقريــرا قدمه لرئيس الــوزراء‪ ،‬وأكد فيه أن ً‬ ‫ً‬

‫ممــن يحتمــل أن يكونــوا جواســيس إليران‪ ،‬قد ســيطروا‬

‫وبعضــا مــن أبنــاء الــوزراء‪ ،‬بــل‬ ‫علــى وزراء فــي الدولــة‬ ‫ً‬

‫حتى تســ ّللوا إلى مجلس الوزراء للقيام ببعض األشــغال‬ ‫الغامضــة‪ ،‬ولكنه تم التجاهــل والتغاضي عن هذا التقرير‬

‫ا عن ذلك‪ ،‬فإن وســائل اإلعالم المقربة من‬ ‫تمامــا‪ .‬فضــ ً‬ ‫ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫أخبارا في صفحاتها بهذا الشأن‪ ،‬إال‬ ‫الحكومة قد نشرت‬ ‫ً‬

‫‪122‬‬

‫يفكروا في منع وقوع أعمال‬ ‫تلق‬ ‫اهتماما كذلك‪ .‬لم ّ‬ ‫أنها لم َ‬ ‫ً‬

‫الفساد‪ .‬ولما بدأت تحقيقات الـ‪17‬من ديسمبر‪ ،‬لم يجدوا‬

‫فقرروا التخ ّلص منها عن طريق‬ ‫ً‬ ‫مخرجا من هذا المأزق‪ّ ،‬‬ ‫كيــل االتهامــات واختــاق الجرائــم ألناس أبريــاء‪ .‬وكما‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫إن التعليم هو أفضل وســيلة لتنشئة األفراد وبناء‬

‫ثم جاءت قرارات ‪ 28‬فبراير‪ .‬كانت المادة الثانية من‬

‫قاعدة صلبة مستقرة للمجتمع‪ .‬كل مشكل اجتامعي‬

‫بيــان تلك القــرارات تنص على ضــرورة تأميم المدارس‬

‫يبدأ من الفرد‪ ،‬وال ميكن َحلّه عىل املدى الطويل إال‬

‫وفــق قانــون "توحيد التعليم"‪ .‬وعندما بلغ التوتر في البلد‬

‫من خالل حله عىل مستوى الفرد‪ .‬أما الحلول التي‬

‫طرحت ‪-‬ككثير من النــاس‪ -‬فكرة اإلعالن‬ ‫خطيــرا‬ ‫حــدا‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫تعتمد عــى منطــق التغيري الفوقــي فمصريها‬

‫عن انتخابات مبكرة كحل للخروج من هذه األزمة بأقل‬

‫ِ‬ ‫ً‬ ‫هملــت الفرد‪.‬‬ ‫خصوصــا إذا َأ‬ ‫دامئا الفشــل‪،‬‬ ‫يكــون‬ ‫ً‬

‫دت علــى ضرورة إصــدار قانون‬ ‫أضــرار ممكنــة‪ .‬كمــا ّأك ُ‬

‫لســت‬ ‫البلد إلى انتخابات مبكرة‪.‬‬ ‫انتخابــات جديــد ينقل َ‬ ‫ُ‬ ‫أيضا‬ ‫أنا الفقير فقط َمن قال ذلك؛ إنما كثير من األسماء ً‬ ‫‪-‬وعلى رأســهم "كوركوت أوزال"‪ -‬شــاركوني في رأيي‬

‫‪ 27‬مايو ‪ ،1960‬وانقالب ‪ 12‬سبتمبر ‪ 1980‬كذلك‪ .‬وقد‬ ‫لجــأت حكومــ ُة العدالــة والتنميــة إثر المذكرة العســكرية‬ ‫فــي ‪ 27‬أبريــل ‪ 2007‬إلــى هــذا النهــج‪ ،‬حيــث اتخــذت‬ ‫قــرارا بالخــوض فــي انتخابــات‬ ‫خــال أســبوع واحــد‪-‬‬‫ً‬ ‫تمكنت مــن اجتياز هــذه العقبة‪ .‬أي إن‬ ‫مبكــرة‪ ،‬ومــن ثــم ّ‬ ‫ِّ‬

‫هــذا‪ .‬حتى إن بعض وســائل اإلعــام الموالية للحكومة‪،‬‬

‫ّأيدت هذه الفكرة ونقلتها إلى مانشيتاتها‪ ،‬وإذا رجعتم إلى‬ ‫األرشــيفات فســترون كل مــا ُك ِتب وقيل فــي تلك األيام‪.‬‬ ‫هت الســيد "نجاتــي جليك" وزير‬ ‫فــي هــذا الصدد‪ّ ،‬نب ُ‬

‫العمل في تلك األيام إلى بوادر قدوم االنقالب‪ ،‬وحذرته‬

‫مقوضة للديمقراطية‪ .‬الســيد نجاتي اســتمع‬ ‫وقــوع ضربة ّ‬ ‫األمر‬ ‫إلى مخاوفي بحماس وانفعال ثم قام وذهب‪ .‬نقل‬ ‫َ‬ ‫أي مبادرة‬ ‫إلى األســتاذ المرحوم أربكان‪ ،‬ولكن لم تأت ُّ‬ ‫تشير إلى ني ٍة للحيلولة دون وقوع الكارثة‪.‬‬ ‫أحذر الســيدة "تانســو تشــي ّلر" من‬ ‫كذلــك‬ ‫حاولت أن ّ‬ ‫ُ‬

‫ونبهتها إلى التطورات السيئة‪ ،‬لكنها‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫الخطر القادم ً‬ ‫ُ‬ ‫وحزنت‪..‬‬ ‫كثيــرا‬ ‫تألمــت‬ ‫قالــت "أدعوكــم إلــى التــوازن"‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬

‫لذلك لم أدخل معها في التفاصيل‪ .‬عندما رأيت أنني لم‬ ‫شــعرت بضرورة قول شــيء ّما يمنع‬ ‫أســتطع إقناع أحد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التدخل في المسيرة الديمقراطية‪.‬‬

‫والكل يشهد‬ ‫ليس من أدبي أن أقول ألحد "فشلتم"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫احتراما للجميع‪ ،‬وبخاصة لمن يشغل مناصب‬ ‫أكن‬ ‫أنني ّ‬ ‫ً‬ ‫أن‬ ‫بنمــاذج ســامقة فــي تاريخنــا كســيدنا أبي بكــر وعمر‪ْ ،‬‬ ‫أن االنســحاب من الســلطة في مثل هذه الظروف‬ ‫أشــرح ّ‬ ‫لمذمــة‪ ،‬أي إذا كان‬ ‫دعــى‬ ‫الحرجــة ليــس مذ ّلــة وليــس َم ً‬ ‫ّ‬

‫الرجوع إلى الشــعب ســيمنع وقوع كــوارث أكثر فظاعة‪،‬‬

‫اختيار ذلك‪ .‬األمر نفسه ينطبق على انقالب‬ ‫فمن الحكمة‬ ‫ُ‬

‫س‪ :‬هل تشعرون بأنكم تعيشون اليوم المآسي نفسها؟‬

‫مرارا؛ ففي‬ ‫لقد تعرضنا لمثل هذه المآسي والضغوطات ً‬ ‫جنت ‪ 6‬أشهر ونصف‪ .‬كانت‬ ‫انقالب ‪ 12‬مارس ‪ُ 1971‬س ُ‬ ‫المــادة ‪ 163‬فــي تلــك األيــام تعمــل مثــل المِ ْق َصلــة فوق‬ ‫رؤوس المســلمين‪ ،‬حتــى جــاء "تورغــوط أوزال" وألغى‬ ‫هــذه المــادة‪ .‬وفــي انقــاب ‪ 12‬ســبتمبر ‪ 1980‬طاردنــي‬ ‫يطــارد المجرمون‪ .‬وداهموا بعض‬ ‫األمن ‪ 6‬ســنوات كما‬ ‫َ‬ ‫وتعرض إخواني لمضايقات شديدة‪.‬‬ ‫األماكن بح ًثا عني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أمــا مــا نعانــي منه اليوم‪ ،‬فهــو يزيد على ما كنــا نعاني منه‬ ‫أيــام االنقالبــات العســكرية بعشــرة أضعــاف‪ .‬رغــم كل‬ ‫شــاكيا‪ .‬الفــرق في هــذه المرة أننــا نتعرض‬ ‫لســت‬ ‫شــيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫للمعاملــة الســيئة نفســها من قِبــل مدنيين كنا نحســب أننا‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫حاولت من خالل التذكير‬ ‫تمثيل الشعب‪ .‬في تلك األيام‬ ‫ُ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولدي‬ ‫يتشــكل في البالد‪،‬‬ ‫من المناخ االنقالبي الذي بدأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫قلــت له "يخططون إلحــداث انقالب‬ ‫شــهود علــى ذلك‪ُ ،‬‬ ‫كنــت أبــذل قصــارى جهــدي لمنــع‬ ‫ضــد الحكومــة‪."...‬‬ ‫ُ‬

‫الحكومــة عندمــا قــررت الرجــوع إلى الشــعب‪ ،‬وأحالت‬ ‫األمر إلى صناديق االقتراع‪ ،‬أفشــلت اللعبة التي أســقطوا‬ ‫"غيروا‬ ‫بمثلها حكومة فبراير ‪ .1997‬هذا ما ُ‬ ‫كنت أقوله‪ّ :‬‬ ‫قانــون االنتخابات‪ ،‬واذهبوا بالبلد إلى انتخابات مبكرة"‪.‬‬ ‫والبــد أن ألفــت االنتبــاه هنــا إلــى نقطــة غايــة فــي‬ ‫األهميــة‪ ..‬وهــي أنــه إذا أمعنتــم النظــر في تقريــر فضيحة‬ ‫سوســرلوك وقــرارات ‪ 28‬فبرايــر‪ ،‬ســتجدون أن الطغمــة‬ ‫العســكرية آنــذاك‪ ،‬اســتهدفت بالدرجــة األولــى حركــة‬ ‫مآس‪ ،‬كان تنفيذا لتلك‬ ‫"الخدمــة"‪ .‬وما عشــناه الح ًقــا من ٍ‬ ‫وكل ادعــاء يناقــض ذلــك بعيد‬ ‫المخططــات الســوداوية‪ّ .‬‬ ‫عن اإلنصاف‪ ،‬بعيد عن الحقيقة‪ ،‬بل هو الظلم بعينه‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫األرض ومن عليها‪ .‬وحينما تسود البصيرة والفراسة ‪-‬مع‬

‫المناوئة داخل القوات المســلحة التركية بشــكل واضح‪،‬‬

‫ســتزول‬ ‫تلقائيــا‪ .‬فليس ثمة افتــراء وال مؤامرة قادرة على‬ ‫ًّ‬

‫بعــد إلى عاصفــة‪ .‬أذكر‬ ‫ســماء تركيــا‪ ،‬ولكنهــا لــم تتحول ُ‬

‫مــرور الوقــت‪ -‬فــإن الغبــش والضبابيــة وكافة الســلبيات‬

‫كنــت أرجو من‬ ‫الصمــود أمــام الحكمــة والبصيــرة‪ .‬وكــم ُ‬ ‫هــؤالء الذيــن انجرفــوا وراء هــذه األوهــام والمؤامرات‪،‬‬

‫أن يحاولــوا إعــاد َة النظر ‪-‬في ضوء الكتاب والســنة‪ -‬في‬

‫الطريق التي سلكوها‪.‬‬

‫وهــا نحــن نعلــن للعالــم أجمــع‪ ،‬أننا متســامحون في‬

‫حقوقنــا الشــخصية‪ ،‬فقــد أحللنــا حقوقنــا‪ .‬ولكــن إن كان‬

‫هنــاك تجــاوزات في حق الدين‪ ..‬تجاوزات في حق هذه‬ ‫األمانة المقدســة‪ ،‬فتلك لها صاحبها‪ ،‬وصاحبها يحاسب‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عليها دون شك‪.‬‬

‫‪120‬‬

‫والجميــع الحظ ذلك‪.‬‬ ‫أخذت غيوم ســوداء تتجمع في‬ ‫ْ‬

‫أنني كنت في جلسة مع بعض الصحفيين في أنقرة مثل‬

‫المرحــوم "يــاووز جوكمــان" والســيد "فهمــي (كــورو)"‪،‬‬ ‫أيضــا الســيد "فاتــح (شــكيركه)"‪.‬‬ ‫أفصحــت لهؤالء‬ ‫وكان ً‬ ‫ُ‬

‫األصدقــاء عــن قلقــي ومــا بلــغ مســامعي من أنبــاء حول‬ ‫الموضوع‪ .‬ولكن واجهوني بردود أفعال ســلبية‪ .‬لم أكن‬

‫أيضا‬ ‫الوحيــد الــذي يــرى الخطر القادم‪ ،‬بــل كان آخرون ً‬

‫ّت‬ ‫يرون الخطر نفســه‪ .‬وإثر فضيحة "سوســرلوك" اســتغل ْ‬ ‫الطغمــة العســكرية ردود أفعــال المجتمــع لحســابها‪،‬‬ ‫وهيــأت المنــاخ النقــاب عســكري‪ .‬وعندما شــرعوا في‬ ‫تفعيــل خطــة االنقــاب كان األوان إليقافهــا قد فات‪ .‬ثم‬

‫س‪ :‬يــرّددون االنتقــادات التــي وجهتموهــا إلــى حكومــة‬ ‫نجــم الديــن أربــكان وإلــى طريقــة تســييرها ألزمــة ‪28‬‬ ‫فبراير ‪ ،1997‬وي ّدعون أنكم آزرتم االنقالب حينئذ؟‬

‫"سوسرلوك"‪ .‬فيما بعد‬ ‫علمت َم ْن فعل ذلك‪ ،‬إال أني لم‬ ‫ُ‬

‫التــي جــرت فــي ذلــك الوقــت‪ ،‬بــدأت بعــض التحركات‬

‫وفضلت أن أدفنها في أعماق قلبي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫عندما أتى حزب الرفاه في المركز األول بعد االنتخابات‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فجــأة أضافــوا فــي اللحظــة األخيرة اســم هــذا الفقير إلى‬

‫التقريــر الــذي أعدتــه المخابــرات التركيــة حــول فضيحة‬ ‫أبدا‪،‬‬ ‫أفــش أســماء أهل اإليمــان هؤالء‪ ،‬ولم أطعــن فيهم ً‬


‫ٍ‬ ‫بلــد ميكنهــم التعبــر عــن‬ ‫إذا كان النــاس يف‬

‫ســعى في ذلك االتجاه‪ .‬أما‬ ‫ومــا تقتضيــه الحاجة‪ ،‬ثم أن ُي َ‬

‫آرائهم ومعتقداتهم بح ّرية‪،‬‬ ‫ويــؤدون واجباتهم‬ ‫ّ‬

‫ال عندما‬ ‫هذا الفقير فدوري ال يعدو أن يكون‬ ‫تشجيعا‪ .‬مث ً‬ ‫ً‬

‫وشعائرهم الدينية‪ ،‬ويتمتّعون بحريات مثل امللكية‬

‫فك َكت روسيا (سنة ‪ ،)1989‬وجدنا أن في أسيا الوسطى‬ ‫َت َّ‬

‫الخاصة‪ ،‬فليســوا مطالَبني ‪-‬مسلمني كانوا أو‬ ‫أتباع‬ ‫َ‬

‫كثيرين من أبناء أمتنا‪ ،‬فقلنا نشمل هؤالء الناس برعايتنا‪.‬‬

‫ديانات أخرى‪ -‬بتغيري نظــام الحكم يف ذاك البلد‪.‬‬

‫حول‬ ‫في البداية ذهب ربما خمســة رجال أو َ‬ ‫عشــرة‪ ،‬ثم َت َّ‬ ‫ذلــك إلــى طريق مســلوكة‪ ،‬فذهــب على أثرهــم آخرون‪،‬‬

‫وأكثر من‬ ‫على ِّأمنا عائشة ‪ ‬في العهد النبوي السعيد‪ ،‬بل‬ ‫ُ‬

‫ثــم آخــرون‪ ،‬ثــم أعقــب ذلك هجــرات إلى أنحــاء العالم‬

‫كذبا‪ .‬فإذا ار ُتكتبت‬ ‫ذلك‪ ،‬فقد افترى الملحدون على اهلل ً‬

‫كلــه يحملون مشــاعل المحبة‪ .‬وبــإذن اهلل وعنايته‪ ،‬وعلى‬

‫هــذه الجرائــم فــي حــق اهلل‪ ،‬ورســوله‪ ،‬وفي حــق العلماء‬

‫غــرار مــا يقــول موالنــا جــال الديــن الرومــي‪ :‬ال َين ُقص‬

‫وبعضهم قال‪" :‬ســأبني مدرســة"‪ ،‬وهكذا سارت األمور‪.‬‬

‫س‪ :‬في اآلونة األخيرة الحظنا غلوًّا في توجيه افتراءات‬ ‫إلى فضيلتكم من قبل السيد رئيس الوزراء تفوق تصور‬ ‫العقل‪ .‬ورغم ذلك آثرتم الصمت؟‬ ‫وحزنت‪ ..‬في حقيقة األمر لم أجد‬ ‫كثيرا‬ ‫بالتأكيــد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تألمــت ً‬ ‫يدعــون‪ .‬فبناء على‬ ‫تفســيرا معقــو ً‬ ‫ال ‪-‬حتى اللحظــة‪ -‬لِما ّ‬ ‫ً‬

‫أســري عن نفســي‪.‬‬ ‫نعــم‪ ،‬بمثــل هــذه األفــكار أحــاول أن ّ‬

‫في الحقيقة‪ ،‬كلٌّ يعمل على شــاكلته‪َ .‬من َملك قابلي َة‬ ‫للعــض‪ ،‬فــا‬ ‫الظلــم‪َ ،‬ظ َلــم‪ .‬وبمــا أننــا ال نملــك نواجــذ‬ ‫ّ‬ ‫أحــدا‪ .‬ولكن ال نشــكو‪ ..‬فهــم يظلمون‬ ‫يمكننــا أن‬ ‫ّ‬ ‫نعــض ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نور الشــمعة إذا أشــعلت شــمعة أخرى؛ أي إذا كنا نملك‬ ‫ُ‬ ‫ِق َي ًما طيبة تفيد اآلخرين فلنأخذها إليهم‪ ،‬وإذا كان لديهم‬ ‫ِق َيــم طيبــة فلنأخذها منهم‪ ،‬فبابنا مفتــوح لألخذ والعطاء‪.‬‬ ‫فر َّحــب بهــذه الفكرة كثيرون ممــن ينتمون إلى اتجاهات‬ ‫َ‬ ‫فكريــة‬ ‫شــتى‪ .‬وجدوهــا معقولة‪ ،‬ووجدوها منســجمة مع‬ ‫َّ‬ ‫قدمــوا‬ ‫بمقترحــات‬ ‫طــوع كثيــرون و َت َّ‬ ‫المنطــق‪ ،‬حتــى إنــه َت َّ‬ ‫َ‬ ‫باهــرة عجيبــة‪ .‬بعضهــم قــال‪" :‬س ُأســهِ م ببنــاء جامعــة"‪،‬‬

‫والصالحيــن عبــر التاريخ‪ ،‬فلمــاذا ينزعج ‪-‬هذا القطمير‪-‬‬ ‫عندما يتعرض لشيء مماثل من ِقبل بعض أهل اإليمان؟‬

‫ويتمــادون فــي الظلــم‪ ،‬أما نحــن فســنبقى صابرين يقظين‬

‫حذريــن‪ ،‬وســنضرع إلــى اهلل تعالى من أجلهم‪ ،‬نســأله أن‬ ‫يعا ِمــل بالرحمــة والمغفــرة مــن كان عنده قابليــة للرحمة‬

‫والمغفــرة‪ ،‬ونرجــوه ‪-‬ســبحانه‪ -‬أن ينجيهــم مــن الســير‬ ‫فــي الطريــق الخطــأ‪ .‬وال شــك أن التعــرض أللوان شــتى‬ ‫مــن االفتــراءات والمؤامرات‪ ،‬هو قدر الســائرين في هذا‬

‫الــدرب فــي كل عصــر‪ ،‬وســيبقى كذلك إلــى أن يرث اهلل‬

‫أي دليــل يتحدثــون بهــذه الثقة‪ ،‬لم أفهم‪ .‬تلــك العبارات‬ ‫القبيحــة‪ ،‬وتلــك الجرائم التي أســندوها إلينا‪ ،‬ال أذكر أن‬

‫مثيالتهــا قــد ُو ّجهــت حتى مــن قِبل أهل الكفــر إلى أهل‬ ‫صبــت بإحباط كبير‪،‬‬ ‫اإليمــان طوال التاريخ اإلســامي‪ُ .‬أ‬ ‫ُ‬

‫ألنها لم تكن الئقة على لســان قائليها‪ .‬أتأدب من القول‬ ‫أفضل أن أقول يضلّلون الناس بقضايا‬ ‫إنهم يكذبون‪ ،‬بل ّ‬

‫مناقضة للواقع‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ولكن‬ ‫قلت‪ :‬في كل‬ ‫ُ‬ ‫واسيت نفسي على النحو التالي‪ُ ،‬‬

‫تعرض‬ ‫األبرياء لتشويه‬ ‫ُ‬ ‫زمان ‪-‬وال سيما في زمن الفتن‪ّ -‬‬ ‫سمعتهم‪ ،‬وأهينت كرامتهم‪ ،‬كما أن بعض الناس الذين لم‬

‫يســتوعبوا حقيقة ما يحدث‪ ،‬كانوا شــركاء في ذلك اإلثم‬

‫ال حتى نشكو؟ فقد افتروا‬ ‫بعلم أو بغير علم‪َ .‬من نحن أص ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪119‬‬


‫أيضا في البلدان المسلمة‪،‬‬ ‫سلميا ليس فقط في تركيا‪ ،‬بل ً‬ ‫ًّ‬

‫مــا زالــت تحافــظ علــى أهميتهــا حتــى اآلن؛ النزاعــات‬

‫يالحظ أنه في البلدان التي يتم فيها شــيطنة الديمقراطية‪،‬‬

‫اإلنســان العظيم (بديع الزمان ســعيد النورسي) في بداية‬

‫طرق إلى النقاط ذاتها ذلك‬ ‫والخالفــات والتفرقــة‪ .‬ولقد َت َّ‬

‫وفي البلدان ذات األغلبية والكثافة اإلســامية‪ .‬لألســف‬

‫القــرن العشــرين‪ .‬إننــا نعانــي مــن ثالثــة أمــراض‪ :‬األول‬

‫تكثر انتهاكات حقوق اإلنسان‪ ،‬واالضطرابات األخالقية‬

‫خالفــات ال تســتند إلى معنى معقــول أو منطقي‪ ،‬ولكنها‬

‫والقانونيــة‪ ،‬والنزاعات والصراعــات الدينية والعرقية‪ .‬إن‬

‫بعضا‪ .‬هذا مرض ينبغي إزالته‪.‬‬ ‫ُتثِير الناس ليأكل بعضهم ً‬

‫حاليــا تتطور لتصبح ‪-‬إن جاز التعبير‪ -‬عر ًفا‬ ‫الديمقراطيــة ًّ‬

‫ستتم عن طريق مبادرات مثل "المسجد‬ ‫فإذا كانت إزالته‬ ‫ُّ‬

‫وقيمة مشتركة للجنس البشري بأكمله‪ .‬ففي البلدان التي‬

‫الج ْمــع" فعليكــم أن تفعلــوا ذلــك‪ ،‬وإذا كانــت‬ ‫مــع دار َ‬

‫تتوافــق مــع معاييــر االتحــاد األوروبــي‪ ،‬يحق للمســلمين‬

‫إزالته في النزاع التركي الكردي ســتتم من خالل أنشــطة‬

‫مــن خــال مؤسســات المجتمــع المدني ممارســة دينهم‬

‫التربيــة والتعليــم‪ ،‬ومن خالل فعاليات أخرى تنقذهم من‬

‫أيضــا‪ .‬ومن ثم فإن‬ ‫وتطبيقــه وتمثيلــه بل ونشــره وتعليمه ً‬

‫ويقسموها‪ ،‬فستفعلون‬ ‫يمزقوا تركيا‬ ‫أيدي َمن يريدون أن ِّ‬ ‫ِّ‬

‫وظيفتنــا األساســية أن نمــارس قيمنا اإلســامية ونتمثلها‬

‫ذلك‪.‬‬

‫مدنيا‪.‬‬ ‫كنا أو‬ ‫حية سواء‬ ‫أفرادا ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا ًّ‬ ‫ّ‬

‫أيضــا ذكرهــا‬ ‫ثــم إشــكالية الفقــر‪ ..‬هــذه اإلشــكالية ً‬

‫ال يمكــن وصــف تركيــا بأنها دولة ديمقراطية بشــكل‬

‫األســتاذ النورســي‪ ،‬وينبغي إزالتها‪ ،‬فهــي مرض آخر‪ .‬ثم‬

‫كامــل‪ .‬فالمتدينــون الذيــن كانــوا يتعرضــون لالضطهــاد‬ ‫ــن مــن ارتداء‬ ‫فــي الماضــي‪ ،‬مثــل الطالبــات اللواتــي ُم ِن ْع َ‬ ‫حقوقهــن نتيجــ ًة لمســاعي االنضمام لالتحــاد األوروبي؛‬ ‫ومــن ثــم فإن عملية االنضمام إلــى االتحاد األوروبي قد‬

‫عــادت بالكثيــر مــن الفوائــد على تركيــا من هــذه الجهة‪،‬‬

‫جديــة للبــاد فــي‬ ‫وتــم إدخــال إصالحــات ديمقراطيــة ّ‬ ‫إطــار هــذه المســاعي‪ .‬وإذا اســتمرت هــذه اإلصالحــات‬ ‫واســتطاع النظــام الديمقراطــي فــي تركيــا تحقيــق معاييــر‬

‫االتحــاد األوروبــي فيمــا يتعلــق بســيادة القانــون واحترام‬

‫حقــوق اإلنســان والحريــات‪ ،‬فباعتقــادي لــن تقــف هوية‬

‫تركيــا المســلمة حجر عثرة أمام عضويتهــا الكاملة‪ .‬حتى‬

‫لــو قــام متعصبــون كارهــون لإلســام فــي أوروبــا بمنــع‬ ‫انضمام تركيا إلى االتحاد األوروبي‪ ،‬فإن المكاسب التي‬ ‫ح ّققتهــا تركيــا أثنــاء محاولتهــا‬ ‫الحصــول علــى العضويــة‬ ‫َ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫تبقــى‬ ‫مهمــا للديمقراطية فيهــا‪ .‬إال أن تركيا ‪-‬مع‬ ‫انتصــارا ًّ‬ ‫ً‬

‫‪118‬‬

‫مؤخ ًــرا تتراجــع عــن تحقيــق تلــك‬ ‫األســف‪ -‬قــد بــدأت ّ‬

‫المعايير الديمقراطية لالتحاد األوروبي‪.‬‬

‫س‪ :‬ما هي المشــكالت الملحة والعاجلة في تركيا من‬ ‫وجهة نظركم؟‬ ‫لعــل المشــكالت األكثر عاجلية‪ ،‬هــي الموضوعات التي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مؤخ ًــرا العديــد مــن‬ ‫الحجــاب فــي الجامعــات‪ ،‬قــد نالــوا َّ‬

‫هنــاك إشــكالية الجهــل‪ .‬إذن هي ثالثة أمــراض ّأكد ذلك‬ ‫ضدها‬ ‫الرجل العظيم (النورســي) ضرورة إعالن الحرب َّ‬ ‫منذ ذلك الوقت‪ .‬وأعتقد أن الوضع اليوم ال يختلف عن‬

‫ما كان عليه ساب ًقا‪ .‬نزاعات‪ ،‬وجهل‪ ،‬وفقر‪.‬‬

‫دائمــا أن التعليــم هــو أفضل وســيلة‬ ‫شــخصيا أيقنــت ً‬ ‫ًّ‬

‫لتنشــئة األفراد وبناء قاعدة صلبة مســتقرة للمجتمع‪ .‬كل‬

‫مشــكل اجتماعــي يبــدأ مــن الفــرد‪ ،‬وال يمكــن َح ّله على‬ ‫المدى الطويل إال من خالل حله على مستوى الفرد‪ .‬أما‬ ‫الحلــول التي تعتمــد على منطق التغيير الفوقي فمصيرها‬ ‫ِ‬ ‫هملت الفرد‪ .‬ولذلك‬ ‫خصوصا إذا َأ‬ ‫دائما الفشــل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يكون ً‬

‫شــجع‬ ‫كانت دعوتي في األول واآلخر للتعليم‪ .‬وهذا ما ّ‬

‫كثيــرا مــن الناس الذين التقــت أفكارهم مع أفكاري على‬ ‫ً‬

‫إنشــاء مؤسســات تعليميــة مختلفــة‪ .‬فكانــت هنــاك بيوت‬ ‫الطلبــة‪ ،‬ومراكــز تحضير لالمتحانــات‪ ،‬ومدارس خاصة‪،‬‬ ‫مكنت هذه المؤسسات شرائح‬ ‫ومراكز دعم مجانية‪ .‬وقد ّ‬

‫مجتمعية واســعة من الحصول على تعليم رفيع الجودة‪،‬‬ ‫متوفرا فقط لقلة محظوظة‪.‬‬ ‫ولحد اآلن‪-‬‬‫الشيء الذي كان‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أجل‪ ،‬يمكننا اســتخدام أساليب متنوعة ومناهج شتى‬

‫يكن‬ ‫قديما لم ُ‬ ‫حسب اختالف األوضاع ُّ‬ ‫وتغير الظروف‪ً .‬‬

‫يخطر على بال أحد تأسيس مدارس تقوية ومراكز ثقافية‬

‫نظر إلــى ظروف اليوم‬ ‫ومؤسســات أخــرى‪ ،‬فاألصــل أن ُي َ‬


‫إن االعتامد عــى الحامس الجامهــري والحراك‬

‫قــادة الشــيعة يميلون إلى توظيف هــذه الجهود ألغراض‬

‫الجامهريي فحســب‪ ،‬ال يولّد نتيجة ســليمة‪ ..‬يف‬

‫توســعية خاصــة بهــم‪ ،‬حتــى إن فضيلــة الشــيخ يوســف‬

‫ً‬ ‫دامئا‪" :‬علينــا أن ننظر إىل‬ ‫كنــت أقول‬ ‫تلــك الفرتة‬ ‫ُ‬

‫القرضــاوي الــذي كان متعاط ًفا مع الفكرة في البداية‪ ،‬قد‬

‫"األمــواج املنبثقة من القاع"‪ ،‬وإال فإن الرضر الناتج‬

‫اشتكى من مواقف علماء الشيعة خالل السنوات القليلة‬

‫قد يخ ّيب آمالنا وتوقعاتنا"‪.‬‬

‫الماضية وعاتبهم على ذلك‪.‬‬

‫والمشكلة وإن بدت في الظاهر على شكل توتر بين‬

‫الســنة والشــيعة‪ ،‬إال أن الحقيقة مرتبطة بأهداف سياســية‬

‫ولــذا فمــن الخطــأ أن ننظر إلى اإلســام وكأنــه متعارض‬

‫ســتخدم االنتمــاءات الدينيــة‬ ‫إلــى قــوة إقليميــة‪ .‬لذلــك ُت َ‬

‫الديمقراطيــة هــي النظــام األنســب لمبــادئ الحكــم فــي‬

‫أحد يســتطيع أن ينكر أن إيران اليوم‪ ،‬تســعى إلى تحقيق‬

‫نقيضا لالستبداد‬ ‫الحكّ ام‬ ‫َ‬ ‫المنتخبين ويسائلوهم‪ ،‬ولكونها ً‬

‫للــدول أن تعزز مصالحهــا الوطنية وتحاول حمايتها عبر‬

‫لإلسالم مشــكلة مع االنتخابات الديمقراطية والمساءلة‬

‫أخرى؛ مثل الهيمنة على المنطقة وتوسيع النفوذ والتحول‬

‫مــع الديمقراطيــة‪ ،‬والعكــس صحيح‪ .‬ويمكــن القول إن‬

‫والمذهبيــة والطائفية كوســيلة لتحقيق هــذه األهداف‪ .‬ال‬

‫اإلســام لكونهــا تتيــح الفرصــة لل ّناخبيــن أن ُيحاسِ ــبوا‬

‫غايــات قوميــة فارســية تحت ســتار‬ ‫التشــيع‪ .‬بالطبع يحق‬ ‫ّ‬

‫وفســادا فــي الحكــم‪ .‬فليــس‬ ‫شــرا‬ ‫ً‬ ‫الــذي يعتبــره اإلســام ًّ‬

‫وسائل مشروعة في الساحة الدولية‪ ،‬لكن إثارة التو ّترات‬

‫وســيادة القانــون وغيرهــا مــن المبــادئ الديمقراطيــة‬

‫الوســائل‪ .‬هذا خطأ‪ ،‬وعلى جميــع المنظمات الدولية أن‬

‫التراجــع عــن الديمقراطيــة"‪ُ ،‬قوبلــت هــذه التصريحــات‬

‫الدينية والطائفية والعرقية‪ ،‬ال ينبغي أن تكون إحدى هذه‬

‫ولألســف قــام بعــض األفــراد والجماعــات بتقديــم‬

‫تفســيرات مضللــة عــن المدرســة الســنية‪ ،‬وذلــك عبــر‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تكافح هذا الخطأ‪.‬‬

‫حــت عــام ‪1994‬م بأنــه "ال ينبغي‬ ‫صر ُ‬ ‫األخــرى‪ .‬وعندمــا ّ‬ ‫باالعتراض من بعض الفئات‪ .‬والحقيقة أن هناك العديد‬

‫مــن التطبيقــات واألنمــاط للديمقراطيــة ال يمكننــا القول‬

‫حد الكمال‪ ،‬بل هي في طريقها إلى االكتمال‪.‬‬ ‫إنها بلغت ّ‬

‫الترويج للعنف واإلرهاب باســم أهل الســنة‪ .‬ومثل هذه‬

‫والنفس والعقل‬ ‫إن البلــد الــذي يتم فيــه حفظ الديــن‬ ‫ْ‬

‫نفســه‪ .‬فالعالــم اإلســامي بحاجــة إلــى الوئــام والوفــاق‬

‫ال‪،‬‬ ‫إال فــي الحــاالت االســتثنائية القصــوى كالحــروب مث ً‬

‫مضى‪.‬‬

‫ويتاح للجميع التعبير عن وجهات‬ ‫يتعرضون ألي تمييز‪ُ ،‬‬

‫الجماعــات تتســبب بالخــراب والضــرر األكبــر لإلســام‬

‫قيــد فيه حقوق األفــراد وحرياتهم‬ ‫والنســل والمــال‪ ،‬وال ُت َّ‬

‫والتســوية الســلمية للقضايــا السياســية أكثر مــن أي وقت‬

‫األقليات بالتســاوي مــع باقي المواطنين وال‬ ‫عامــل فيه‬ ‫و ُت َ‬ ‫ّ‬

‫س‪ :‬اإلســام والديمقراطيــة هــل ينســجمان؟ وكيــف‬ ‫تقيمون الممارسة الديمقراطية في تركيا؟‬

‫نظرهــم الشــخصية واالجتماعيــة والسياســية بــكل حريــة‬

‫نظــام الحكــم القائــم فــي تركيــا منــذ الخمســينيات هــو‬ ‫نظــام ديمقراطــي بالرغــم مــن كل مــا يعانيه مــن تع ّثرات‪،‬‬

‫فالديمقراطية هي نظام ي ّتجه إليه العالم اليوم‪ .‬لقد بدأت‬ ‫أواخر الدولة العثمانية عام ‪1876‬م من طرف السالطين‬ ‫العثمانييــن الذيــن كانــوا فــي الوقــت نفســه خلفــاء العالم‬

‫النــواب مــن غيــر المســلمين‬ ‫اإلســامي‪ ،‬حيــث شــكّ ل ّ‬ ‫تقريبا‪.‬‬ ‫ديمقراطيا نســب َة الثلُــث‬ ‫أول برلمــانٍ ُمن َت َخــب‬ ‫فــي ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫ويتمتعون‬ ‫ويــؤدون واجباتهم وشــعائرهم الدينية‪،‬‬ ‫بحريــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫بحريات مثل الملكية الخاصة‪ ،‬فليسوا مطا َلبين ‪-‬مسلمين‬

‫أتبــاع ديانــات أخــرى‪ -‬بتغييــر نظــام الحكم في‬ ‫كانــوا أو‬ ‫َ‬ ‫يتمتــع فيهــا النــاس بهذه‬ ‫ذاك البلــد‪ّ .‬أمــا البلــدان التــي ال ّ‬

‫الحريات‪ ،‬فعليهم أن يحاولوا الحصول عليها من خالل‬ ‫وسائل ديمقراطية دون اللجوء إلى العنف بتا ًتا‪.‬‬

‫أعتقــد أنه بإمكان اإلســام والديمقراطية أن يتعايشــا‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫البــوادر األولــى نحــو نقــل بالدنــا إلــى الديمقراطيــة منــذ‬

‫والعمــل بهــا؛ هو بلد ُمناســب لإلســام‪ .‬وإذا كان الناس‬ ‫فــي ٍ‬ ‫بلــد كهــذا يمكنهــم التعبيــر عــن آرائهــم ومعتقداتهم‬

‫‪117‬‬


‫لألمــة‪ :‬الجهــل والفقــر والفرقــة‪ ،‬ومــن خــال مشــاريع‬

‫والفعلي عبر هذه المشــاريع‪ .‬ويمكن في هذا اإلطار‪ ،‬أن‬

‫والثقافــة والفنــون والتجــارة والتســامح والحــوار‪ ،‬يمكننا‬

‫هكــذا مشــاريع حتــى قبل أن تتأســس فــي بلدانهــا أنظمة‬

‫متوســطة وطويلــة األمــد تقــوم بتدعيــم التعليــم والعلــوم‬

‫المهمة‬ ‫أن نكافــح هــذه األعــداء الثــاث‪ .‬هذه المشــاريع‬ ‫ّ‬ ‫قــد ال تبــدو ثمارهــا فــي المــدى القريــب‪ ،‬لكنهــا ســوف‬

‫علما بأن‬ ‫المد َي ْي ِن‬ ‫يكــون لهــا أثر فــي َ‬ ‫ّ‬ ‫المتوســط والبعيــد‪ً .‬‬

‫أي مســعى نحــو الديمقراطيــة ســوف يبوء بالفشــل ما لم‬ ‫ّ‬ ‫يؤســس علــى أرضيــة كهــذه‪ .‬وحركــة "الخدمــة" كانــت‬ ‫َّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ومــا تــزال منذ عقود‪ ،‬تســعى إلى تحقيــق ذلك من خالل‬

‫‪116‬‬

‫تشرع المجتمعات العربية واإلسالمية في االنطالق نحو‬ ‫حكم ديمقراطية متكاملة بكل معنى الكلمة‪.‬‬

‫س‪ :‬مــا تعليقكــم علــى التوتــر الس ـنّي الشــيعي الحاصل‬ ‫في الشرق األوسط؟‬ ‫ال يصــح تمييــز النــاس على أنهم ســ ّنة أو شــيعة‪ .‬ويجب‬

‫بشــرا بالدرجة األولى‬ ‫أن ُيعامــل األفــراد بناء على كونهم ً‬ ‫ًّأيــا كانــت دياناتهــم أو معتقداتهــم أو مذاهبهم‪ .‬اإلنســان‬

‫تأســيس المدارس وإنشــاء الجامعات‪ ،‬وتكوين جمعيات‬

‫‪-‬بما أنه إنســان‪ -‬يمتلك حقو ًقا أساســية‪ ،‬وبما أنه مواطن‬

‫وتفعيل دور مراكز الحوار ووسائل اإلعالم في استخدام‬

‫ال ينبغــي أن يكــون هنــاك إشــكال لــدى عا َلــم الســنة‬

‫واتحادات رجال األعمال‪ ،‬وافتتاح المؤسسات اإلغاثية‪،‬‬

‫يمتلك حقو ًقا ديمقراطية‪.‬‬

‫لغــة ّبنــاءة ُتســهم فــي دعــم التواصــل والتحــاور وتحقيق‬

‫حبــا‬ ‫إزاء المجتمعــات الشــيعية التــي‬ ‫خاصــا آلل‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫تكــن ًّ‬ ‫البيــت‪ .‬ومــع ذلك فإن مبــادئ ديننا ال تجيز ألي دولة أن‬

‫الجميــع ‪-‬بمــن فيهــم الرؤســاء والمرؤوســون‪ -‬لتأســيس‬

‫محاولــة للظهــور كقــوة إقليمية‪ .‬ولقد كانــت هناك جهود‬

‫العيــش المشــترك‪ .‬كمــا نأمــل أن تعمــل هــذه المشــاريع‪،‬‬ ‫التي تدعمها شــرائح واســعة من المجتمع‪ ،‬على مساعدة‬

‫واستقرارا‪ .‬ونحن في‬ ‫سالما‬ ‫رفاها وأوفر‬ ‫مجتمعات أكثر ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ســبيل تحقيــق هذه الغاية‪ ،‬نضرع إلــى اهلل بالدعاء القولي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تمارس القمع واإلساءة على أساس الفروق الطائفية في‬ ‫لتقريب المذاهب عبر التاريخ القريب لعب فيها‬ ‫غالبا‪-‬‬‫ً‬

‫زعمــاء الشــيعة دور المحــرك‪ .‬ولكــن لألســف‪ ،‬فقد كان‬


‫ً‬ ‫دامئا فكرة التعامل مع الدين باعتباره‬ ‫إنني أرفــض‬

‫ضــد اإلنســانية‪ ..‬والترويج لروح‬ ‫وقتــل األبريــاء جريمــة ّ‬

‫أيديولوجيا سياســية‪ ..‬كام أرى أن عىل املســلم‬

‫ال‬ ‫المنطــق والعقل باعتباره وســيلة إلقناع المتحضرين بد ً‬

‫أن يتــرف وفقً ــا لألخالق اإلســامية ســواء يف‬

‫مــن اإلكــراه‪ ..‬والوعــي بــأن ‪ %98‬من اإلســام عبارة عن‬

‫العام‬ ‫املدين واملجتمعي‪ ،‬أو يف الشــأن‬ ‫ال ُبعد‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫روح‬ ‫ومعنــى وأخــاق وآخرة وعبادة وعبودية وكماالت‬ ‫ً‬

‫واملجال اإلداري‪ ،‬أي يجب أن يلتزم بقيم اإلســام‬

‫وتسامح وسلوك وتحبيب وتبشير‪.‬‬

‫األخالقية يف كل مكان ُوجد فيه‪.‬‬

‫ومــن وجهــة نظر سوســيولوجية‪ ،‬هكذا ُفهم اإلســام‬

‫س فــي األناضــول منــذ أكثر من ألف ســنة‪ ،‬إن هذا‬ ‫ُ‬ ‫ومــورِ َ‬ ‫التصور عن اإلسالم يتحدى كل أشكال العنف والتطرف‬

‫مــن النضــج االجتماعــي‪ .‬كمــا أن التاريــخ يحدثنــا بــأن‬

‫ومحــاوالت تســييس الدين‪ ،‬كما يعزز الحب والتســامح‬

‫التموجــات االجتماعيــة قــد تنجــرف وتغيــر مســارها في‬ ‫ّ‬

‫والقبــول المتبــادل والتواضــع ونكــران الــذات وســعة‬

‫اتجاهــات مفاجئــة غيــر محســوبة‪ ،‬لذلــك فالعبــرة بتلــك‬

‫الصــدر واحتضــان الجميــع‪ ..‬ويعطــي األولويــة للحــق‬

‫الديناميــكات الداخلية التي تدفــع‬ ‫وتحرك تلك األمواج‪.‬‬ ‫ّ‬

‫والعــدل‬ ‫والحريــة والســام فــي المجاليــن االجتماعــي‬ ‫ّ‬ ‫والعــام؛ وبعبــارة أخرى يســعى إلى بناء نســيج اجتماعي‬

‫يحــرك ويقــود تلــك‬ ‫مــا الــذي‬ ‫التموجــات؟! ومــا الــذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الش َــعيرات الدمويــة؟ ينبغي النظــر إلى ذلك‪..‬‬ ‫يســري فــي ُّ‬

‫مفتوح إلى كل االتجاهات‪.‬‬

‫حــد مــا‪ ..‬حســب معرفتــي فــإن العديــد مــن الخبراء‬ ‫إلــى ٍّ‬ ‫المختصين في شــؤون المنطقة ممن يكتبون في السياســة‬ ‫ّ‬ ‫واإلســتراتيجية الدوليــة‪ ،‬لــم يتو ّقعــوا اضطرابات من هذا‬

‫القبيــل علــى نطــاق واســع‪ .‬أعتقــد أنــه ال ينبغــي إطــاق‬ ‫اســم التمــرد علــى المســاعي المطالِبــة بســيادة القانــون‬

‫والديمقراطيــة فــي المنطقة‪ ،‬باســتثناء تلك التي تســتخدم‬ ‫العنــف مــن أجــل هــذا الغــرض‪ .‬إن الوضــع القائــم فــي‬

‫هــذه البلدان‪ ،‬والمعاناة المســتمرة للنــاس والمظالم التي‬ ‫أمــر يدمِــي القلب‪ ،‬وال يبــدو على المدى‬ ‫يتعرضــون لهــا ٌ‬ ‫ّ‬

‫حل لهذه المعضالت؛ ولألسف أقصى ما يمكننا‬ ‫القريب ّ‬ ‫فعله اآلن كأفراد حيال ذلك‪ ،‬ليس شي ًئا سوى الدعاء‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫س‪ :‬هــل فاجأتكــم أحــداث التمــرد األخيــرة فــي العالــم‬ ‫العربي؟‬

‫إذا لم تضعوا ذلك في الحســبان‪ ،‬فإن األمواج قد تنفلت‬ ‫وتنســاق فــي اتجاهــات غيــر متو ّقعــة‪ .‬إن االعتمــاد علــى‬

‫الحمــاس الجماهيــري والحــراك الجماهيــري فحســب‪،‬‬ ‫دائما‪:‬‬ ‫ال يو ّلــد نتيجــة ســليمة‪ .‬في تلك الفترة ُ‬ ‫كنــت أقول ً‬ ‫"علينا أن ننظر إلى "األمواج المنبثقة من القاع"‪ ،‬وإال فإن‬

‫كنت‬ ‫يخيب آمالنــا وتوقعاتنــا"‪ .‬عندما ُ‬ ‫الضــرر الناتــج قــد ّ‬ ‫أنظــر لمــا يحــدث‬ ‫مراقبــا من الخــارج‪ ،‬لم أتو ّقــع قط بأن‬ ‫ً‬

‫تفضــي تلــك األحداث إلى تغييرات جذرية ونتائج كبيرة‬

‫في المدى القريب‪ .‬كنا نشاهد تقلبات كبيرة‪ ،‬وتحوالت‬

‫ضخمــة فــي الشــارع العربــي‪ ،‬ولكن بدا مــن الواضح مع‬ ‫الحسابات قصيرة المدى‪ ،‬أنها ستكون عديمة الجدوى‪.‬‬

‫إن المجتمعات العربية مجتمعات مكابِدة‪ ،‬وأنا واثق من‬ ‫أنهم ســوف يقيمون ما وقع بالصبر والمصابرة والبرامج‬ ‫بعيدة المدى‪.‬‬

‫عندمــا اندلعــت األحــداث فــي بــادئ األمــر‪،‬‬ ‫قلــت‬ ‫ُ‬ ‫بنــاء علــى حدســي وتوقعاتــي المســتقبلية‪" :‬تــرى هــل ما‬ ‫ً‬

‫فــي الذاكــرة أحــد أعظــم إنجــازات هــذا العصــر‪ .‬ولكــن‬

‫فص ْعــب؛ ألن الطاقة‬ ‫اإلنســاني‪ ،‬التدمير ســهل‪ ،‬أمــا البناء َ‬

‫دائمــا مــا تــؤدي إلــى ضــرر ودمــار‬ ‫التغييــر الراديكالــي ً‬

‫التــي تحتاجهــا لبنــاء‬ ‫نظــام جديــد يتوافــق عليــه المجتمع‬ ‫ٍ‬ ‫كلــه‪ ،‬هي عشــرة أضعــاف الطاقة التــي تحتاجها لإلطاحة‬

‫بنظــام قائــم‪ .‬لألســف لــم نصــل بعــد إلــى هذا المســتوى‬

‫الزمــان أثبــت لنــا أن التغييرات الراديكاليــة أو محاوالت‬ ‫أكبــر مــن المتوقــع‪ ،‬وأن عــودة االســتقرار والهــدوء إلــى‬

‫ا‪ .‬وكما يقول‬ ‫زمنا طويــ ً‬ ‫المجتمــع فــي أعقابهــا تســتغرق ً‬ ‫بديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬هنــاك ثالثــة أعــداء كبيرة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫يحدث ربيع أم خريف عربي؟"‪ ،‬فهذا لألسف هو الواقع‬

‫إن حــراك البحــث عــن الحريــة بــكل ألوانــه‪ ،‬ســيبقى‬

‫‪115‬‬


‫العــام أو فــي المجــال السياســي‪ .‬في الواقع إن المشــاكل‬

‫المذكــورة أعــاه هــي المصــدر الرئيســي للشــكاوى فــي‬ ‫المؤسسات اإلدارية والسياسية في كل مكان حول العالم‪.‬‬

‫واســمحوا لــي أن أقــول بــكل وضــوح؛ إذا كان‬ ‫ٍ‬ ‫بحرية‪،‬‬ ‫المســلمون في بلد ما يمارســون شعائرهم الدينية ّ‬ ‫ويتمكنــون مــن إنشــاء مؤسســاتهم الدينيــة بــا عوائــق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويســتطيعون أن يل ّقنــوا قيمهــم الدينيــة ألبنائهــم ولمــن‬ ‫الحريــة الكاملة فــي التعبير‬ ‫يرغــب فــي تع ّلمهــا‪ ،‬ولديهــم‬ ‫ّ‬

‫عنها في النقاشــات العامــة‪ ،‬ويعلنون عن مطالبهم الدينية‬

‫فــي إطار القانــون والديمقراطية‪ ،‬فــإن حاجتهم إلى إقامة‬ ‫دولــة دينيــة باتت غيــر ضرورية‪ .‬والتاريخ يشــهد على أن‬

‫التمرد والثــورات واالنقالبات وأحداث العنف‬ ‫حــركات‬ ‫ّ‬

‫يتــم إجــراء االنتخابــات الحــرة بمــا يتوافــق مــع المبادئ‬

‫تجر البالد إلى الفوضى والمآسي‪ ،‬وتجعلها في‬ ‫ً‬ ‫دائما ما ّ‬

‫الديمقراطية وحقوق اإلنسان العالمية والحريات‪ ،‬ويمكن‬

‫نهاية المطاف تفقد كل مكتسباتها في مجال الديمقراطية‬

‫يعبــروا عن اختياراتهم عبــر اإلدالء بأصواتهم‬ ‫للنــاس أن ّ‬

‫واســتخدام الحقــوق الديمقراطية األخــرى المتاحة لهم‪،‬‬ ‫يمكنهم القيام بذلك بشــكل فردي أو جماعي من خالل‬

‫المشاركة في أنشطة منظمات المجتمع المدني‪.‬‬

‫دائمــا فكرة التعامــل مع الديــن باعتباره‬ ‫إننــي أرفــض ً‬

‫أيديولوجيا سياسية (‪ .)Politic‬كما أرى أن على المسلم أن‬

‫الخارج حتى ينغمســوا في حياة مناقضة للدين ومفتوحة‬

‫على ألوان شتى من الذنوب واآلثام‪ .‬ففي مثل هذا البلد‬

‫المدني‬ ‫يتصرف وف ًقا لألخالق اإلسالمية سواء في البعد َ‬ ‫يجــب أن يلتــزم بقيــم اإلســام األخالقيــة فــي كل مكان‬

‫فيمكــن تلخصيهــا على النحو التالــي؛ تقديم حفظ الدين‬

‫والمجتمعــي‪ ،‬أو في الشــأن‬ ‫العــام والمجال اإلداري‪ .‬أي‬ ‫ّ‬

‫وفيمــا يتعلــق بالرؤيــة التــي نحــاول أن نســير عليهــا‬

‫ُوجــد فيــه؛ فالســرقة والرشــوة والنهــب والكســب غيــر‬ ‫المشــروع والكــذب والنميمة والغيبة والزنــا واالنحطاط‬

‫والنفــس والعقــل والنســل والمال على تقديــس الدولة‪..‬‬ ‫ْ‬

‫السياقات‪ .‬وال يمكن ارتكاب هذه المعاصي ألي غرض‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫تمت السيطرة على سلطة‬ ‫يمكن تالفيها‪ .‬والحقيقة أنه إذا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫التدين‪ ،‬فإن هذا ســيجعل‬ ‫بلد ما‬ ‫قســرا و ُأجب َِر الناس على ُّ‬ ‫ً‬ ‫منهم ُمنافقين‪ ،‬يراؤون الســلطة داخل بلدهم ويتظاهرون‬ ‫بالتدين لتحقيق منافع شخصية‪ ،‬ولكن ما إن يسافروا إلى‬ ‫ّ‬

‫يضعف احترام القانون وينتشر النفاق والرياء‪.‬‬

‫األخالقــي‪ ...‬هــي ذنــوب وأمــور غيــر شــرعية فــي كل‬

‫‪114‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فــي االنتخابــات‪ ،‬وتقديــم مطالبهم لمم ّثليهــم بحرية تامة‬

‫أضرارا وخســائر ال‬ ‫وتكبــد الشــعوب‬ ‫وحقــوق اإلنســان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫سياســيا أو غيره‪ ،‬وال‬ ‫كان‪،‬‬ ‫يصح ألحد اإلفتاء بارتكابها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ٍ‬ ‫ثم إن هذه المعاصي ُتعتبر‬ ‫جنايات حتى في إطار المعايير‬ ‫المتعــارف عليها‬ ‫عالميا‪ .‬وإذا فقد الفرد نزاهته األخالقية‬ ‫ًّ‬ ‫فــي هــذا الجانــب‪ ،‬فــإن دوره في الشــأن العــام أو في أي‬ ‫حــزب سياســي‪ ،‬عديــم الجــدوى‪ .‬وكأي إنســان عــادي‪،‬‬

‫تحولت‬ ‫ُيســعدني أن أرى هــذه المبــادئ األخالقيــة وقــد ّ‬ ‫إلى ســلوك لدى جميع َمن يشــغلون مناصب في الشــأن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وحريــة المبــادرة‪..‬‬ ‫وامتــاك اإلنســان لحريــة االختيــار‬ ‫ّ‬ ‫واالعتراف بدور العقل والمصلحة العامة وحتى التجربة‬

‫المجتمعيــة إلــى جانــب النقــل فــي فهم الوحــي اإللهي‪..‬‬ ‫وتفعيــل مؤسســة االجتهــاد في المجــاالت الدينية القابلة‬ ‫للتأويــل واالجتهاد‪ ،‬دون النصوص الصريحة‪ ..‬والســعي‬

‫إلى ترســيخ حرية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪..‬‬ ‫للمتدينيــن بالتعبيــر عن شــعائرهم الدينية بكل‬ ‫والســماح‬ ‫ّ‬ ‫حرية وممارســتها‪ ،‬ليس على المستوى الفردي فحسب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أيضــا‪ ..‬واحتــرام‬ ‫بــل فــي المجــاالت واألمكنــة العامــة ً‬

‫القانــون والنظــام واألمن واالســتقرار‪ ،‬واعتبــار اإلرهاب‬


‫َســع إىل أي هدف‬ ‫إن الخدمــة منذ نشــأتها مل ت‬ ‫َ‬

‫أخرى في إطار القانون‪ ،‬مثل عرائض االكتتاب ورســائل‬

‫سيايس‪ ،‬ولكنها‬ ‫سعت إىل خدمة اإلنسان من خالل‬ ‫ْ‬

‫شــبكات التواصــل االجتماعيــة‪ .‬وبالرغــم من أن نشــطاء‬

‫تنمية قدراته يف املجاالت التعليمية واالجتامعية‬

‫الخدمــة التقــوا علــى مبــدأ عــدم االنخــراط فــي السياســة‬

‫والثقافية‪ ،‬واســتثمرت كل وقتهــا وطاقتها يف‬

‫الحزبيــة وعــدم الســعي نحــو الســلطة‪ ،‬لكن هــذا ال يعني‬

‫سبيل تحقيق هذه الغاية‪..‬‬ ‫وتصدت لحل املشكالت‬ ‫ّ‬

‫أن يتخ ّلــوا كمجتمــع مدني عن مســؤوليتهم وصالحيتهم‬

‫االجتامعية انطالقً ا من اإلنســان عن طريق الرتبية‬

‫في مســاءلة الســلطة السياســية ورقابتها‪ .‬وبما أن الخدمة‬

‫والتعليم‪.‬‬

‫ميــا‪ ،‬فليــس‬ ‫تنظيمــا‬ ‫بنيويــا وال‬ ‫ليســت‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫تكوينــا ًّ‬ ‫ً‬ ‫هر ًّ‬ ‫مركزيــا َ‬

‫يتبناها جميع المشاركين‬ ‫هناك وجهة نظر سياسية واحدة ّ‬

‫فيهــا‪ ،‬كذلــك ليــس من المعقــول القول إن حركــة كهذه‪،‬‬

‫أن فــي أجهــزة الدولــة قد يكون هناك َمن هــم متعاطفون‬

‫الخاصــة‪ ،‬وال‬ ‫فللمتعاطفيــن معهــا اختياراتهــم السياســية‬ ‫ّ‬

‫تمامــا‪ .‬فليــس ألحــد‬ ‫أيديولوجيــة مــا‪ ،‬وهــذا أمــر طبيعــي ً‬

‫ال عن أن تكون منخرط ًة فيه‪،‬‬ ‫منحازة إلى حزب بعينه فض ً‬

‫معــي أو مــع أي شــخص آخــر‪ ،‬أو مــع حركــة فكرية‪ ،‬أو‬

‫تفــرض الحركة أي وجهــة نظر معينة عليهم‪ ،‬وال تتدخل‬

‫التدخــل فــي قناعــات اآلخريــن الشــخصية أو معتقداتهم‬ ‫ّ‬

‫في هذا الموضوع على اإلطالق‪.‬‬

‫ممــن يتخرجــون مــن‬ ‫أو نظرتهــم إلــى العالــم‪ ،‬والمتوقــع ّ‬

‫يتحدد‬ ‫كمــا أن برنامــج الخدمــة وتقويمهــا الزمنــي ال‬ ‫َّ‬

‫ممــن يتعاطفون مع الم ُثل العليا التي‬ ‫مــدارس الخدمة أو ّ‬

‫يتحدد حســب‬ ‫التغيــرات االنتخابية والسياســية‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫وفــق ّ‬ ‫المشــتركة‪ .‬كذلــك‪ ،‬فــإن الحركــة ال تتدخل في الشــؤون‬ ‫نهائيا‪ ،‬فحيثما‬ ‫الداخلية أو التطورات السياسية في أي بلد ًّ‬

‫تطوعية في‬ ‫ّتتجــه ّ‬ ‫تركز جهدها على تنفيذ مشــاريع مدنية ّ‬

‫مجاالت تعليمية وثقافية وإنسانية‪ .‬ولكونها تتمسك بهذا‬ ‫ٍ‬ ‫بقبول ألنشــطتها‬ ‫تفرط فيه‪ ،‬فهي اليوم تحظى‬ ‫المبدأ وال ّ‬ ‫بلدا حول العالم‪.‬‬ ‫في أكثر من ‪ً 160‬‬ ‫والمتعاطفــون مــع أفــكار الخدمــة والمحبــون لها‪ ،‬ال‬

‫شك أنهم موجودون اليوم داخل السلك البروقراطي في‬

‫الدولة‪ ،‬شأنهم شأن بقية شرائح المجتمع الحاملة ألفكار‬ ‫مدونة على جباههم‪،‬‬ ‫أخرى‪ .‬ومن ثم فليست انتماءاتهم َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المشــاريع التــي تــدور فــي فلــك القواســم اإلنســانية‬

‫تدعمها الخدمة‪ ،‬أن يتصرفوا بصدق واحترام تجاه سيادة‬

‫القانون وحقوق اإلنســان ومبادئ الديمقراطية‪ًّ ،‬أيا كانت‬ ‫المناصب التي يشغلونها في الدولة‪.‬‬

‫ومــن ثــم إن كان هنــاك أشــخاص داخــل مؤسســات‬

‫لوائح‬ ‫ال مــن االنصيــاع ألوامــر رؤســائهم أو‬ ‫الدولــة‪ ،‬بــد ً‬ ‫ِ‬ ‫القوانيــن‪ ،‬يتل ّقــون األوامــر مــن جماعتهــم التي ينتســبون‬ ‫كشــف‬ ‫إليهــا أو يميلــون نحوهــا‬ ‫فكريــا‪ ،‬فالبــد مــن أن ُي َ‬ ‫ًّ‬ ‫أمرهــم‪ ،‬وينالــوا العقاب الالزم بهم حتى وإن ّادعوا أنهم‬

‫يعملــون لصالحــي‪ .‬وإن كان هنــاك َمــن يرتكــب الجرائم‬

‫يدعــون التعاطف مع‬ ‫مــن العامليــن في الشــأن العام ممن ّ‬

‫"الخدمــة"‪ ،‬فينبغــي أن تبدأ التحقيقات معهم بســرعة وأن‬ ‫ُيحالوا للعدالة‪.‬‬

‫وبالتالــي فــإن محاولــة تصنيفهــم في تقارير أمنية حســب‬ ‫حد سواء‪.‬‬ ‫تعاطفهم‪ ،‬أمر غير قانوني وغير أخالقي على ٍّ‬

‫س‪ :‬ما دور اإلسالم في السياسة والمجال العام؟‬

‫‪-‬ممــن يقــال إنهــم متعاطفــون مــع الخدمــة‪ -‬يخضعــون‬

‫والممارســات التــي تســتند إلــى الوحــي اإللهي‪ ،‬وترشــد‬

‫وأيضــا فهــؤالء المتواجــدون داخل الســلك البيروقراطي‬ ‫ً‬

‫ألوامــر رؤســائهم في مجــال أعمالهــم‪ ،‬أي إن واجباتهم‬

‫محددة حسب القوانين‪.‬‬ ‫َّ‬

‫أكــرر التأكيــد هنــا علــى نقطــة هامــة؛ وهي‬ ‫وأريــد أن ّ‬

‫البشــر إلــى الخيــر المطلــق مــن خــال إرادتهــم الحــرة‪،‬‬

‫و ُت ّبيــن لهــم كيــف يســعون جاهدين ليجعلوا من أنفســهم‬

‫"أشــخاصا ّيتســمون بالكمال"‪ .‬يمكن للناس أن يمارسوا‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫دينهــم بالطريقــة التــي يشــاؤون في بلــد ديمقراطــي يتيح‬ ‫بحريــة‪ .‬في ٍ‬ ‫بلــد كهذا‪،‬‬ ‫لهــم التمتــع بمعتقداتهــم الدينيــة‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫صارمــا للقوانيــن واللوائــح المنظمــة لشــؤون‬ ‫خضوعــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العمــل داخــل المؤسســات التي يعملــون بهــا‪ ،‬ويمتثلون‬

‫ِ‬ ‫كديــن‪ -‬هــو مجموعــة مــن المبــادئ‬‫إن اإلســام‬

‫‪113‬‬


‫حاولــت توضيحهــا آن ًفــا‪ ،‬والتي تشــكل الديناميكية‬ ‫التــي‬ ‫ُ‬

‫األساســية للخدمــة‪ ،‬البــد أنهــا تتالمــس مــع السياســة‪.‬‬

‫فــي هذا الصدد‪ ،‬ور ْف َع مســتوى الوعــي العام‪ ،‬هو‬ ‫واجب‬ ‫ٌ‬ ‫وطنــي‪،‬‬ ‫أيضا‪ .‬وال‬ ‫وواحــد من أهداف المجتمــع المدني ً‬ ‫ٌ‬

‫نظرائهــم مــن المواطنيــن العادييــن أو التربوييــن أو كل‬

‫بهــذه المهمــة‪ ،‬كمــا ال يمكن اتهام هــؤالء الذين يقومون‬

‫وأفــراد الخدمــة باعتبارهم مواطنين كان وما زال لهم‬

‫مطالب من المؤسســات السياســية‪ ،‬شأنهم في ذلك شأن‬

‫دائما تدور‬ ‫ناشــط مجتمعــي‪ .‬وقــد كانت هــذه المطالــب ً‬ ‫عبر‬ ‫الســبل والطرق‬ ‫ُ‬ ‫فــي إطــار القوانيــن المرعيــة و ُتط َلب ْ‬ ‫أي وسيلة غير‬ ‫المشروعة‪ .‬ولم يحاولوا ألبتة اللجوء إلى ّ‬ ‫قانونية أو غير أخالقية لتحقيق هذه المطالب‪.‬‬

‫وبطبيعــة الحــال‪ ،‬يتوقــع المواطنــون الذيــن تع ّلقــت‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫قلوبهــم بـ"الخدمــة"‪ ،‬مــن القائميــن علــى شــؤون البلــد‪،‬‬

‫‪112‬‬

‫فــي هــذا الصــدد حال وجودهــا‪ .‬إذ إن التعبيــر عن اآلراء‬

‫يلــزم بالضــرورة تأســيس حزب سياســي من أجــل القيام‬

‫بهذه المهام بأنهم يقتحمون السياســة‪ ،‬أو يريدون تقاســم‬ ‫المنتخبين في عمل‬ ‫السلطة‪ ،‬أو يعملون على تدخل غير‬ ‫َ‬ ‫الـم َنت َخبين‬ ‫ديمقراطيا‪ .‬فما ذكرناه آن ًفا‪ ،‬هو ما عليه الحال‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬

‫أي دولة من دول‬ ‫فــي ّ‬ ‫أي نظــام ديمقراطي حقيقي‪ ،‬وفــي ّ‬

‫المتقدم من حيث الديمقراطية‪.‬‬ ‫العالم‬ ‫ّ‬

‫إن األحزاب السياسية واالنتخابات الحرة هي شروط‬ ‫ّ‬

‫الســعي إلــى تعزيــز ســيادة القانــون وحقــوق اإلنســان‬ ‫َ‬ ‫والحريات والســام وحرية الفكر وبناء المشــاريع ودعم‬

‫أمر ُمهم‬ ‫فــاألداء ّ‬ ‫الفعــال والســلس للمجتمع المدني هــو ٌ‬

‫الفوضى أو حدوث األزمات‪،‬‬ ‫تقبل الجميع‬ ‫َ‬ ‫والتأكيد على ّ‬

‫عامــة النــاس‪ ،‬حيــث‬ ‫الوحيــدة لمســاءلة السياســيين أمــام ّ‬

‫االستقرار واألمن في البالد والحيلولة دون االنزالق إلى‬ ‫واالعتــراف بوجودهــم‪ .‬كمــا يحــق لهؤالء الناشــطين في‬

‫الخدمــة االحتــكام إلــى الوســائل المدنيــة والديمقراطيــة‬

‫المتاحــة لهــم‪ ،‬لإلفصاح عن آرائهــم حول أوجه القصور‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أساســية للنظــام الديمقراطي‪ ،‬ولكنهــا ال تكفي بمفردها‪،‬‬

‫كذلــك‪ .‬ومــن الخطــأ القــول إن االنتخابات هــي الطريقة‬

‫إن المجتمــع المدنــي يســتمر بمراقبــة الســلطة الحاكمــة‬ ‫ّ‬ ‫ليــرى مــا إذا كانــت تفي بوعودها أم ال‪ ،‬وذلك من خالل‬

‫اإلعالم والمناشط المجتمعية المختلفة وفعاليات عديدة‬


‫أحدا‪ ،‬ولن‬ ‫عاهــدت نفيس‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫كمؤمــن‪ ،‬أن لن أقاطــع ً‬

‫تعرفــون‬ ‫س‪ :‬كيــف تصفــون حركــة "الخدمــة"؟ وكيــف ّ‬ ‫"أتباعكم"؟ وما الذي يجمعهم في مشروع واحد؟‬

‫أحمل ضغينة يف قلبي ألحد‪ ..‬عاهدت أن أســتقبل‬

‫ً‬ ‫باسم‪ ،‬عاهدت نفيس أن أعترب الجفاء الصادر‬ ‫املوت‬

‫كثيرا نســبة الناس إلى شــخصي‬ ‫ــدت‬ ‫ّأك ُ‬ ‫ً‬ ‫مــرارا أنه يؤلمني ً‬

‫واحدا‪.‬‬ ‫من الجالل‪ ،‬والوفاء الوارد من الجامل شــي ًئا‬ ‫ً‬

‫كـ"الفالنيين"‬ ‫الضعيف وإلحاقهم بي تحت عناوين مختلفة‬ ‫ّ‬

‫و"العالنييــن"‪ .‬كمــا أريــد أن أؤكــد أن هــؤالء النــاس قــد‬ ‫ّ‬ ‫التقوا ‪-‬بشــكل طوعي‪ -‬حول مشــاريع وجدوها معقولة‬

‫خالل تنمية قدراته في المجاالت التعليمية واالجتماعية‬

‫ومنطقية ومفيدة لكا ّفة الناس‪ .‬ومع أن الحركة تســتهدي‬

‫والثقافية‪ ،‬واستثمرت كل وقتها وطاقتها في سبيل تحقيق‬

‫بقيم اإلسالم‪ ،‬فإن مشاريعها التي يقوم عليها المتطوعون‬

‫وتصــدت لحــل المشــكالت االجتماعيــة‬ ‫هــذه الغايــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انطال ًقا من اإلنسان عن طريق التربية والتعليم‪.‬‬

‫جدت‬ ‫ترحيبا في‬ ‫الســلمي بين جميع الفئات؛ ومن ثم َو ْ‬ ‫ً‬

‫فارغا في السبعينيات‪ -‬ولكن‬ ‫المساجد ‪-‬التي كان أغلبها ً‬

‫مباشرا أو غير مباشر من جنسيات ودول وأديان مختلفة‪.‬‬ ‫ً‬

‫لســد هذه الثغرة‪ .‬ولــو كان لدينا أي‬ ‫علــى فتــح المدارس ّ‬

‫العاملون في إطارها‪ ،‬متماشية مع القيم اإلنسانية الهادفة‬ ‫إلــى تعزيــز الحريات الفردية وحقوق اإلنســان والتعايش‬

‫ذكــرت فــي دروســي أن لدينــا مــا يكفــي مــن‬ ‫طالمــا‬ ‫ُ‬

‫صريحا أو‬ ‫ال‬ ‫‪ 160‬دولــة حــول العالم‪،‬‬ ‫ضمنيا‬ ‫ولقيت قبو ً‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫حضضت الناس‬ ‫ليــس لدينــا ما يكفي من المــدارس‪ .‬لذا‬ ‫ُ‬

‫لذلــك مــن الصعــب القــول إن المتطوعيــن فــي الحركــة‬

‫هدف سياســي لكانت قد ظهرت بوادره خالل األربعين‬

‫التنوع‬ ‫ّ‬ ‫يشكلون بنية متجانسة‪ ،‬بل هي بنية ّ‬ ‫متنوعة‪ .‬وحالة ّ‬ ‫فبينمــا يعمــل البعــض مع ّلميــن فــي مــدارس بالخــارج‪،‬‬ ‫جزءا من‬ ‫يقــوم آخــرون بالتك ّفل بالنفقــات أو يخصصون ً‬

‫أوقاتهم للخدمات التطوعية‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬

‫طوعــا على قيم إنســانية ســامية‬ ‫إذن هــم أفــراد التقــوا ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هذه تمتد لتشــمل ألوا ًنا مختلفة من التعاطف والتشــارك؛‬

‫ال‪.‬‬ ‫أو الخمســين ســنة الماضية كإنشــاء حزب سياســي مث ً‬

‫ولقــد ُعرض علي وعلــى الكثير من إخواني ‪-‬في أوقات‬ ‫ّ‬ ‫مختلفــة‪ -‬العديــد مــن المناصب السياســية‪ ،‬وتــم رفضها‬ ‫جميعــا‪ .‬ولقــد كان بإمــكان "الخدمــة" ‪-‬لــو كان لديهــا‬ ‫ً‬ ‫سياســيا كما فعل‬ ‫حزبــا‬ ‫طموحــات سياســية‪ -‬أن تؤســس ً‬ ‫ًّ‬

‫اآلخــرون‪ ،‬وتســتثمر الظــروف المواتيــة عــام ‪2001‬م‪،‬‬

‫مشــتركة‪،‬‬ ‫كالحريــات‪ ،‬وحقــوق اإلنســان‪ ،‬واحتــرام‬ ‫ّ‬ ‫وتقبل اآلخر‪ ،‬واالنفتاح على الحوار‪ ،‬وتنزيه‬ ‫المعتقدات‪ّ ،‬‬

‫األخــرى‪ ...‬أو علــى األقــل لكان لها عــدد ال بأس به من‬

‫سي ًئا‪،‬‬ ‫القانون‪ ،‬وعدم استغالل إمكانيات الدولة استغال ً‬ ‫ال ّ‬

‫الماضــي أو الحــزب الذي يحكــم اآلن‪ ،‬ولكنها لم تفعل‬

‫اســتخدام الســلطة إلكــراه األفــراد والمجتمعــات علــى‬

‫أتبنــى قناعــة ممارســة السياســية باســم‬ ‫شــخصيا ال ّ‬ ‫ًّ‬ ‫الديــن‪ ،‬أو توظيــف الديــن لتحقيــق مكاســب سياســة‪ ،‬أو‬

‫مرضــاة اهلل فــي كل قــول وفعــل‪ ،‬ومحبة الخلــق من أجل‬

‫أرى أن االنخــراط فــي مجال السياســة أمر غير مشــروع‪.‬‬

‫بغض النظر عن قيمهم الدينية أو غير الدينية‪.‬‬ ‫ّ‬

‫سياســي‪ ،‬لكــن ال نــرى منــع أحــد مــن القيــام بذلــك؛‬

‫الديــن عن األغراض السياســية الحزبية الضيقة‪ ،‬واحترام‬ ‫وضرورة عدم التراجع عن المســار الديمقراطي‪ ،‬ورفض‬ ‫معينــة‪ ،‬والثقة في المجتمــع المدني‪ ،‬وتوظيف‬ ‫معتقــدات ّ‬ ‫التعليــم إلحــال ثقافة الســام في المجتمعــات‪ ،‬وابتغاء‬

‫فــي وقــت كانــت األحزاب األخــرى تتهــاوى واحدة تلو‬ ‫المؤيديــن داخــل األحــزاب السياســية التــي حكمــت في‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ولم ترغب في ذلك ً‬

‫ممارســة السياســة بشــعارات دينيــة‪ ،‬وهــذا ال يعنــي أننــي‬

‫س‪ :‬ما موقف "الخدمة" كعمل مدني من السياسة؟‬

‫ألنــه فــي الديمقراطيــات ال يمكــن ممارســة السياســة‬

‫ســع إلى‬ ‫البــد مــن التنويــه بــأن الخدمــة منــذ نشــأتها لم َت َ‬ ‫أي هدف سياســي‪ ،‬ولكنها‬ ‫ســعت إلى خدمة اإلنسان من‬ ‫ْ‬

‫طبعــا الخدمــة ليــس عندهــا هــدف‬ ‫مــن دون أحــزاب‪ً ،‬‬ ‫سياســي بمعنــى تأســيس حــزب‪ ،‬لكــن القيــم والمبــادئ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الخالــق‪ ،‬وتعزيــز منظومــة القيــم األخالقيــة لــدى األفراد‬

‫فمــع أننــا ال نشــارك في السياســة وال نقوم بإنشــاء حزب‬

‫‪111‬‬


‫الســامية فــي جوانيته‪ .‬فاإلنســان قلــب األرض‪ ،‬إذا صلُح‬

‫صالــح واعــد‪ ..‬فــإذا بــه يتعرض ألكبــر حملة تشــويه في‬

‫على نوازع النفس في الداخل نجح في بناء العمران في‬

‫وعربيــة وأوربيــة وأمريكية أجرت حــوارات صحفية مع‬

‫صلحــت األرض وإذا فســد فســدت األرض‪ ،‬إذا انتصــر‬ ‫الخارج‪.‬‬

‫حياة األســتاذ فتح اهلل كولــن قصة طويلة من المعاناة‬

‫شــرفت مجلــة حــراء منــذ عددهــا األول‬ ‫األرض‪ ..‬وقــد ُ‬

‫إنهــا جريــدة زمان التركية‪ ،‬جريدة الشــرق األوســط‪ ،‬قناة‬

‫ســماها‬ ‫بمقاالتــه الملهِ مــة الحكيمــة‪ ،‬كيف ال وهو الذي ّ‬ ‫“حراء”‪ ،‬هذا االسم المعبر عن المعنى الذي ولدت منه‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫األســتاذ كولن‪ ،‬رســم فيها أهم معالم مشــروع "الخدمة"‪،‬‬

‫وأجــاب علــى بعــض التســاؤالت ووضــع النقــاط علــى‬

‫والمكابدة في سبيل بناء اإلنسان الصالح المؤهل لوراثة‬

‫‪110‬‬

‫تاريخــه‪ ..‬فــي الشــهرين الســابقين وســائل إعــام تركيــة‬

‫أمة اإلسالم برسالة إلى اإلنسانية جمعاء‪.‬‬

‫الحــروف بصــورة واضحة حول قضايا في غاية األهمية؛‬ ‫بي بي ســي (‪ ،)BBC‬صحيفة وول ســتريت األمريكية‬

‫‪ ،)Wall Street Journall‬وجريــدة الجمهوريــة اإليطالية‬

‫(‪The‬‬

‫(�‪La Re‬‬

‫‪ .)pubblica‬ومجلة حراء عملت على هذه الحوارات بدقة‬

‫شــهدت تركيــا فــي اآلونــة األخيــرة محنــة مــن نــوع‬

‫وتحريــرا‪ ،‬واختارت أهــم المحاور التي‬ ‫وتلخيصــا‬ ‫قــراءة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫عمــر مديد من‬ ‫ال‪..‬‬ ‫الزلزالــي فــي قلبــه‪ ..‬األمــر ليــس ســه ً‬ ‫ٌ‬

‫أن تكــون‬ ‫مهمــا في إنشــاء رؤية ناضجــة ملهِ مة في‬ ‫ً‬ ‫رافــدا ًّ‬

‫آخــر كان األســتاذ فتــح اهلل كولــن أكثر َمــن أحس بوقعها‬ ‫العمــل والمكابــدة والمصابــرة مــن أجــل إخــراج نبــت‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جاءت في هذه الحوارات لتقدمها لقرائها األكارم‪ ،‬عسى‬ ‫بناء ذاتنا الحضارية ومشاريعنا اإلصالحية‪.‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬حوارات‬

‫سنواصل الخدمة قُ ُد ًما‬

‫إكراما ُ‬ ‫وإكراما لإلنســانية‬ ‫أل َّمتنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫اآلذان شــبعى والعيــون جوعــى‪..‬‬ ‫كلمــة قالهــا فضيلــة األســتاذ فتــح‬ ‫اهلل كولــن لتعبــر عــن فهمــه لــروح‬ ‫اإلســام وممارســته لــه‪ .‬فتــح اهلل كولــن اليــوم‬

‫مشــروع حضاري تجــاوز الحدود المحليــة التركية‬ ‫ليمتــد في أصقاع المعمورة كلها‪ .‬مشــروعه لم يبق‬ ‫حبيس الفكر‪ ،‬بل تجاوز لينزل على أرض الواقع‪.‬‬ ‫إنــه مشــروع بناء اإلنســان وغــرس القيــم األخالقية‬

‫‪109‬‬


‫التسلســلي لتبــادل األدوار فــي النهــوض بتنميــة الحيــاة‬

‫التجديــدي لمحــن تحديات داخليــة وخارجية‪ .‬وقد جاء‬

‫وتربيتهم وتعليمهم‪.‬‬

‫اإلســامي وحركــة اإلصــاح فــي جامــع الزيتونــة"‪" :‬قد‬

‫االجتماعيــة العامــة التــي كان لهــا الفضــل فــي تكوينهــم‬

‫ال في وثيقــة "التعليم‬ ‫علــى لســان الطاهــر الحداد قولــه مث ً‬

‫إن شــعار فكــر األســتاذ فتــح اهلل كولــن هــو "تقديــم‬

‫كان العالمــة ابــن خلــدون من هؤالء األفــذاذ الذين كانوا‬

‫يفكر في الزوجة والولد‪ ،‬لكنه أنجب من صلب‬ ‫لذلك لم ّ‬

‫مبغوضــا مــن الفقهــاء فــي بالده تونــس وغير بالده"‪.‬‬ ‫كان‬ ‫ً‬

‫مصلحــة المجتمــع الكبيــر علــى مصلحة الفــرد الذاتية"‪،‬‬

‫جواهــر منتشــرة في تاريخ اإلســام‪ ،‬لكنــه ‪-‬كأمثاله‪ -‬قد‬

‫ال من األبناء والبنات‪ ،‬أهدوا فلذات‬ ‫ال كام ً‬ ‫هذا الشعار جي ً‬

‫لكــن هــذه المحــن لم تقــف عائ ًقا في ســبيل تحقيق رواد‬

‫أكبادهم لرعاية رسالة التعليم في بقاع العالم‪ ،‬وأوفدوهم‬

‫اإلصالح لمشاريعهم الفكرية والتنويرية‪ ،‬ولم تمنعهم من‬

‫إلى أدغال إفريقيا ومناطق بؤر التوتر والقصف منذ زمن‬

‫التراجــع والتــردد أو التأخر والتولــي عن عالم أفكارهم‪،‬‬

‫بعيــد‪ ،‬فقدمــوا فيــه الغالــي والنفيــس لبناء مــدارس تؤدي‬

‫عالــم حلموا به وتي ّقنوا ‪-‬وهــم يحرزون نجاحات جوائز‬

‫رسالتها التعليمية التنويرية للعالم‪.‬‬

‫اإلبداع والتميز في االختراع والعلوم‪ -‬أنه عالم سينقلهم‬

‫لقــد وضــع األســتاذ فتــح اهلل كولــن سياســة واضحة‬

‫من الفقر والجهل المســببين للفرقة‪ ،‬إلى عالم‬ ‫ســيمكنهم‬ ‫ّ‬

‫ورســم لهــا خطة محكمة الجوانــب‪ ،‬مضبوطة الخطوات‬

‫الحضارة‪ ،‬ويقضي على التخلف والجهل‪ ،‬ويدرك معاني‬

‫المعالم للنهوض بالعملية اإلصالحية التربوية التعليمية‪،‬‬

‫من تنشئة الجيل المنشود الذي يستطيع أن يحمل مشعل‬

‫رباهم بفكر‬ ‫والمراحــل‪ ،‬ســطر لهــا أبناء من حول العالــم ّ‬ ‫حذرهــم مــن اقتحــام‬ ‫المجتمــع بعنايــة أبويــة رحيمــة‪ّ ،‬‬

‫النزاعات السياسية‪ ،‬واالنصياع لمحركات بؤر الخالفات‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الحزبيــة‪ ،‬واالنتمــاءات األيديولوجيــة‪ ...‬لم يضع اســمه‬

‫‪108‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حــب العطــاء‪ ،‬وخدمــة‬ ‫استشــرافي مســتقبلي مبنــي علــى ّ‬

‫قيمة وحدة ومصلحة خيمة الوطن لبناء أركان المجتمع‬ ‫التنموي األصيل بقيمه‪ ،‬والمعاصر بتطلعاته نحو التقدم‪.‬‬ ‫عاليــا‬ ‫إن نــداء أهــل الحكمــة ينبغــي أن يرفــع صوتــه ً‬

‫بردا‬ ‫وســاما‬ ‫اليــوم‪ ،‬وفــي ظــل ســحابة صيــف ســتمضي ً‬ ‫ً‬ ‫بــإذن اهلل ليقــول‪" :‬أيهــا المصلحــون بشــتى توجهاتكــم‬

‫في اللوائح االنتخابية‪ ،‬ومع ذلك يواجه اليوم بحمالت‬

‫الفكريــة وانتماءاتكــم السياســية والحزبيــة‪ ...‬اقتحمــوا‬

‫للمجتمع‪ ،‬وخنقت مســار إصالحه في ســاحة المنافســة‬

‫عالــم المنافســات الحضاريــة العالميــة‪ ،‬فضــوا مشــاكل‬

‫مــن األصــوات فــي حوزتــه ينبغــي أن توجــه‪ -‬ولعل هذا‬

‫موازنــات مصالــح ّأمتكــم‪ ،‬واجهــوا الخالفــات بمنطــق‬

‫المهمــة والمرحلــة النوعية في هــذه الظرفية من التطويع‬

‫تفرضون وجودكم‪ ،‬وتعرفون بقيمة أنفسكم وعطاءاتكم‪،‬‬

‫العلــم فــي حــد ذاتــه عبــادة ينبغــي أن يتوجــه إليهــا‬

‫وبتوادكــم وتراحمكم وتراص صفوفكم تع ّلمون دروس‬ ‫ّ‬

‫وســيلة لغايــات نبيلــة يخــدم بهــا المتعلــم نفســه ويخــدم‬

‫بلســان المحبة‬ ‫وســمو الكلمة الطيبة‪ ،‬ليرتقوا أســاتذة في‬ ‫ّ‬

‫تنكرت لعطاءاته في البناء القيمي التربوي‬ ‫ضغط عسيرة‪ّ ،‬‬

‫مياديــن اإلصــاح لبناء نهضــة بلدانكم‪ ،‬وادخلــوا بها في‬

‫السياســية‪ ،‬ليــؤدي ضريبــة موضوعهــا ‪-‬أعــداد ضخمــة‬

‫حكموا منطق‬ ‫البيــت الواحد بالحلول األخوية الســلمية‪ّ ،‬‬

‫التوجيــه المؤطــر بثنائيــة الفقيــه والســلطة‪ ،‬يعــد الحلقــة‬

‫العدل والحكمة والتراحم عند االختالف‪ ...‬فإنكم بذلك‬

‫السلطوي للمثقف‪.‬‬

‫وتحملون الناس على احترامكم‪ ،‬فبتعايشكم وبأخالقكم‬

‫طالبــا فيه رضــى اهلل وحــده‪ .‬والعلم‬ ‫المســلم بنيــة صافيــة ً‬

‫الوطنيــة وقيــم المواطنــة الصالحة ألبنائكــم‪،‬‬ ‫وتؤهلونهم‬ ‫ّ‬

‫غيــره؛ فهو يخدم نفســه بتثقيف عقلــه وتنوير ذهنه وتربية‬

‫شموخ قيم الديموقراطية‪ ،‬ويرفعوا شعار النضال التنموي‬

‫نفســه‪ ،‬ومــن خــال كل ذلك يعد نفســه لخدمــة غيره في‬

‫معرفيا‬ ‫مجاالت اإلصالح الخيرية على كافة المستويات‬ ‫ًّ‬ ‫واقتصاديــا‪ .‬لكــن ســننية التاريــخ‬ ‫وسياســيا‬ ‫واجتماعيــا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫اإلصالحي تشــير إلى تعرض العديد من مشــاريع الفكر‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحقيقي لنهضة وتقدم أوطانهم"‪.‬‬

‫(*) كليــة اآلداب والعلــوم اإلنســانية‪ ،‬جامعــة ابــن طفيــل بـ"القنيطــرة" ‪/‬‬ ‫المغرب‪.‬‬


‫إن شــعار فكر األســتاذ فتح الله كولن هو "تقديم‬

‫فيهــا التلميــذ تضحيــة أســتاذه ببر البنــوة الصادقــة‪ ،‬فيترك‬

‫مصلحة املجتمع الكبري عىل مصلحة الفرد الذاتية"‪،‬‬

‫طائرا مح ّل ًقا في ســماء‬ ‫األحبــاب واألهــل والبلد ويهاجر ً‬

‫ّ‬ ‫يفكر يف الزوجة والولــد‪ ،‬لكنه أنجب من‬ ‫لذلــك مل‬

‫ضيــاء المعرفــة‪ ،‬ويحط رحاله وترحالــه بدول نائية تنعدم‬

‫ا كام ً‬ ‫صلب هذا الشــعار جيــ ً‬ ‫ال من األبنــاء والبنات‪،‬‬

‫فيهــا ســبل الراحــة‪ ،‬ويصعــب عليــه التأقلــم فــي محيطهــا‬

‫أهدوا فلذات أكبادهم لرعاية رســالة التعليم يف‬

‫البعيد عن أجواء األلفة والرفاهية التي و ّفرت له بين أهله‬

‫بقاع العامل‪.‬‬

‫صابــرا معتك ًفا في‬ ‫مرابطا‬ ‫وأحبابــه‪ ...‬ومــع ذلك يواصل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫محراب بيت التعلم وصناعة حرفة التعليم الراقي‪.‬‬

‫هكــذا نمــت وترعرعــت مــدارس الخدمــة التي تعب‬

‫التربوية التعليمية للحركة اإلصالحية لفكر األســتاذ فتح‬

‫روادها قبل أزيد من ستين سنة على بناء هياكلها وتطوير‬

‫اهلل كولن‪ ،‬نستطيع أن نحدد جهودها في المجاالت اآلتية‪:‬‬

‫ركزوا‬ ‫برامجهــا وضبــط مناهجهــا وإعــداد الكــوادر لهــا‪ّ .‬‬

‫• توعيــة النــاس بأهميــة التعليــم إللحــاق أبنائهــم بــه‬

‫جهودهــم وطاقاتهم في معاهد الحياة بتعمير اآلالف من‬ ‫بيــوت الطلبــة الخالية من الدفء ا ُ‬ ‫أل َســري بدف ٍء تربوي‪،‬‬

‫وتمكينهم من جودة التعليم الراقي بالصحبة التربوية‪.‬‬

‫• الدعــوة إلــى اإلنفاق على التعليــم‬ ‫بـ"الهمة"‪ ،‬ألجل‬ ‫ّ‬

‫محضنا إلعداد باكورة المشاريع التربوية الخيرية‬ ‫فكانت‬ ‫ً‬

‫بناء المدارس وإيواء الطلبة وصرف أجور المعلمين‪.‬‬

‫التــي أخرجتهــا الحركــة اإلصالحيــة لمناهج مؤسســات‬

‫• بنــاء المــدارس العصريــة النظاميــة الحرة فــي تركيا‬

‫الخدمــة إلــى الوجــود‪ ،‬شــعارها فــي ذلــك "المحبــة"‬

‫لقد استوعب فكر األستاذ فتح اهلل كولن ‪-‬منذ زمن بعيد‪-‬‬ ‫أن إصالح األوطان ال يمكن أن يتم إال بالعلم والمعرفة‬

‫الراقيــة المبنيــة علــى القيــم األخالقيــة‪ ،‬فــدرج في ســبيل‬ ‫وضحــى مــن أجــل تحقيقــه على‬ ‫مشــروعه كل إمكاناتــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫امتــداد فتــرات المخاضــات السياســية بكل عزيــز وغال‪.‬‬

‫نظرت‬ ‫امتدت آفاقها حــول العالم‪،‬‬ ‫مــدارس الخدمــة ّ‬ ‫ُ‬ ‫إلى هذا الجيل داخل تركيا وخارجه نظرة إشفاق وحب‬

‫حملــت شــعار فلســفة األســتاذ فتــح اهلل‪" :‬قيمــة‬ ‫وأمــل‪،‬‬ ‫ُ‬

‫الفنــاء فــي حــب اهلل ال تتحقــق إال بالفناء فــي خدمة عباد‬ ‫اهلل"‪ .‬فانطلــق ِســرب الطيــر المحلــق نحــو األفــق الممتــد‬ ‫ال هذا الشــعار اإلنســاني الكوني‪ ،‬وتعهد على نفســه‬ ‫حام ً‬ ‫بحمل أمانة إصالح جودة التعليم في تركيا عبر تأســيس‬ ‫بدءا مــن الحضانات واإلعداديات‬ ‫آالف مــن المــدارس‪ً ،‬‬ ‫والثانويات إلى الجامعات فالمعاهد ومؤسسات البحث‪،‬‬ ‫االســتثمار اإلنســاني المغفــول فــي بعــض بلداننــا‪ ،‬ثــورة‬

‫ناجحا في تركيــا وخارجها بما‬ ‫نموذجــا‬ ‫تعليميــة حققــت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اعتمدتــه مــن مناهــج تقــوم على أســس العلــم والفضيلة‬ ‫تتبعنــا لقــراءة محطــات المســيرة‬ ‫والمحبــة‪ .‬ومــن خــال ّ‬

‫في أكثر من ‪ 160‬دولة‪.‬‬

‫• تطويــر مناهــج التعليم بشــ َّقيه العلمي والتربوي في‬

‫مقررات االبتدائي والثانوي محضن الموارد البشرية‪.‬‬

‫• إنشــاء معاهد ومؤسسات إغاثية خيرية في مختلف‬

‫بقاع العالم‪.‬‬

‫• إرســال البعثــات العلميــة من الطالب إلــى الخارج‬

‫دعمــا بالمنــح‪ ،‬وبيــوت الســكن‪ ،‬وتأطيرهــا‬ ‫والعنايــة بهــا ً‬ ‫وتربويا‪.‬‬ ‫معرفيا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫• إنشــاء الجمعيــات الخيريــة االقتصاديــة المســاندة‬

‫لمسيرة التعليم بمستوياته المختلفة في تركيا وخارجها‪.‬‬

‫• كســب ثقــة جمهــور واســع مــن النخــب المثقفــة‬

‫فــي العالــم العربــي‪ ،‬المعتــزة بالنمــوذج الحضــاري‪،‬‬

‫بعيــدا عن ســياقات‬ ‫وبــكل إنجــازات أطيافــه اإلصالحيــة‬ ‫ً‬ ‫الصراعات السياسية‪.‬‬

‫• تكوين ناشئتها على قيم البعد االجتماعي العملي‪،‬‬

‫وحب الوظيفة االجتماعية التي تنتظرهم بتقاسم تسلسل‬ ‫األدوار‪.‬‬

‫• تعزيز قيم النشاط التطوعي داخل صفوف الطالب‬

‫في مدارس الخدمة‪ ،‬وتربيتهم على حب العمل التطوعي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وعلى رأسها عناية االهتمام الفائق ببيوت الطلبة محضن‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫و"الســام"‪ ،‬والبعــد عــن المناصب واألضواء والســلطة‪.‬‬

‫وخارجها وفق اعتماد منهج "الزمر"‪ ،‬والتميز البيداغوجي‬

‫‪107‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫المفكر فتح الله كولن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫من هندسة األفكار إلى التخطيط اإلستراتيجي‬

‫‪106‬‬

‫إن األفــكار التــي اقتنــع بها فكــر الحركة‬ ‫اإلصالحيــة لمدرســة األســتاذ فتــح اهلل‬ ‫كولــن اعتمــدت علــى أســس معرفيــة‬ ‫تربوية‪ ،‬عمادها أن النهضة المجتمعية الحقيقية ال يمكن‬ ‫لهــا أن تتمكــن مــن النفــوس‪ ،‬وأن اإلصــاح التعليمــي‬ ‫التربــوي ال يمكــن لــه أن ينغرس فــي القلوب‪ ،‬إال إذا قام‬ ‫على ثالث قواعد نظرية أساسية ومتينة‪ ،‬وعمل بالتوازي‬ ‫على جبهات تربوية اجتماعية ممتدة اآلفاق‪:‬‬ ‫• "اإلصــاح التربــوي التعليمــي" لمحاربــة الجهــل‬ ‫معرفيا‪.‬‬ ‫وتنوير الجيل الصاعد‬ ‫ًّ‬ ‫• "اإلصــاح االقتصادي" بتشــجيع مشــاريع تنموية‬ ‫لمحاربة الفقر‪.‬‬ ‫• "اإلصــاح الديني االجتماعي" بنشــر ســبل المحبة‬ ‫ونزع فتيل الفرقة واالختالف لرعاية الجيل الراهن‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذا الوضــوح فــي الرؤيــا لــدى أقطــاب الحركــة‬ ‫اإلصالحيــة التربوية للخدمة‪ ،‬ورســوخ هذه القناعة لدى‬ ‫رائدهــا األســتاذ فتــح اهلل كولــن‪ ،‬كان يقتضي النزول من‬ ‫الســتينات من القرن‬ ‫األفق النظري للميدان التطبيقي منذ‬ ‫ّ‬ ‫الماضــي‪ ،‬حيث انبرى جهــد الرواد األوائل ‪-‬وبإمكانات‬ ‫متواضعة‪ -‬لدعم إنجاح مشــروع نهضوي تعليمي قيمي‪،‬‬ ‫أفرغــوا كافــة طاقاتهــم عبــر ســنوات وعلى امتــداد مئات‬ ‫دول العالــم‪ ،‬فــي ســبيل بنــاء أفــق معرفــي رائــد للجيــل‬ ‫وتربويــا‪ ،‬لتحمــل مســؤولية‬ ‫معرفيــا‬ ‫الصاعــد‪ ،‬وإعــداده‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫اإلصالح االجتماعي المنشود‪ ،‬إصالح إستراتيجي متزن‬ ‫يجمــع بيــن التربيــة والتعليم‪ ،‬وبين العلــم والعمل‪ ،‬وبين‬ ‫حياة الفرد وتع ّلم قيم الحياة والمسؤولية االجتماعية في‬ ‫خدمــة اإلنســان محور الكــون‪ ...‬حياة يقبل فيها األســتاذ‬ ‫هجــران ملــذات متعــة الدنيــا مــن زوج وولــد‪ ،‬ويســتقبل‬


‫يقــول‪" :‬يــا أيهــا النــاس! أال إن ربكــم واحــد‪ ،‬وإن أباكــم‬

‫نافــع‪ ،‬هــو "المســلك القويــم"‪ .‬فــإذا نظرنــا إلــى القــرآن‬

‫على عربي‪ ،‬وال أحمر على أسود‪ ،‬وال أسود على أحمر‪،‬‬

‫واســعا ألخــذ العبرة والمثــل‪ .‬وإذا نظرنا‬ ‫ال‬ ‫مــا يعتبــر مجا ً‬ ‫ً‬

‫واحــد‪ ..‬أال ال فضــل لعربــي علــى عجمــي‪ ،‬وال لعجمي‬

‫يقص علينا من قصــص األمم المختلفة‬ ‫الكريــم وجدنــاه ّ‬

‫غت؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬ب ّلغ رســول اهلل ‪.‬‬ ‫إال بالتقوى‪ .‬أال هل ب ّل ُ‬

‫يوجه بعض صحابته إلى‬ ‫إلى ّ‬ ‫ســنة المصطفى ‪ ‬وجدناه ّ‬

‫يــوم هذا؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬يوم حــرام‪ ،‬ثم قال‪" :‬أي‬ ‫"أي ٍ‬ ‫ثــم قــال‪ّ :‬‬ ‫شــهرٍ هذا؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬شــهر حرام‪ ،‬ثم قال‪" :‬أي ب َل ٍد هذا؟"‪،‬‬

‫تعلــم اللغــات الحضارية الســائدة في عصره؛ كالســريانية‬

‫والفارســية لالطــاع علــى حضارتهــم واالســتفادة منهــا‪.‬‬

‫دماءكم‬ ‫حــرم بينكــم َ‬ ‫قالــوا بلــد حــرام‪ ،‬قــال‪" :‬فــإن اهلل قد ّ‬

‫ومــن اهتــدى‬ ‫وإذا تص ّفحنــا تاريــخ الخلفــاء الراشــدين َ‬ ‫بهديهــم ِمــن بعدهــم‪ ،‬وجدناهم قــد أدخلوا مــن تجارب‬ ‫ْ‬

‫كحرمــة يومكــم هــذا‪ ،‬فــي شــهركم هــذا‪ ،‬فــي‬ ‫وأموالكــم ْ‬

‫غت؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬ب ّلغ رســول اهلل ‪،‬‬ ‫ب َلدكــم هــذا‪ ،‬أ َ‬ ‫ال ْ‬ ‫هــل ب ّل ُ‬

‫األمــم األخــرى فــي تنظيــم الدولة؛ كســك النقــود ونظام‬

‫الشاهد‬ ‫"لي َب ّلغ‬ ‫الغائب" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قال‪ُ :‬‬

‫الجبايــات والبريــد وغيــر ذلــك مــن النظم اإلداريــة‪ .‬وإذا‬

‫وكان رســول اهلل ‪ ‬شــديد‬ ‫الحساســية مــن كل‬ ‫ّ‬ ‫تؤدي إلى إحياء العصبيات والنعرات‬ ‫األســاليب التي قد ّ‬

‫المســلمين بالترجمة‪ ،‬من خالل تأســيس دار الحكمة في‬

‫ذر ‪ ‬وقــد َع ّير‬ ‫بأمه؟‬ ‫ً‬ ‫أحــدا بأ ُّمه‪" :‬يا أبا ذر! َ‬ ‫أع َّير َته ّ‬ ‫ألبــي ّ‬

‫مفتوحة بين فطاحل العلماء والفقهاء المسلمين وغيرهم‬

‫وعــن جابــر بــن عبــد اهلل ‪ ‬قــال‪ :‬كنــا مــع النبــي ‪‬‬

‫كل ذلــك بهــدف إبــراز ســماحة اإلســام وقــوة حجتــه‬

‫اطلعنــا علــى تاريــخ الفكــر اإلســامي‪ ،‬وجدنــا اهتمــام‬ ‫ّ‬

‫حفاظا على تماسك المجتمع المسلم‪ ،‬فقد قال النبي ‪‬‬ ‫ً‬

‫المشرق ومدارس قرطبة في المغرب‪ ،‬ووجدنا حوارات‬

‫إنك ْام ُر ٌؤ فيك جاهلية" (رواه البخاري)‪.‬‬

‫يــا للمهاجريــن‪ ،‬فقــال رســول اهلل ‪" :‬مــا بــال دعــوى‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ا مــن‬ ‫فــي غــزاة‪ ،‬فكســع رجــل مــن المهاجريــن رجــ ً‬ ‫األنصار‪ ،‬فقال األنصاري‪ :‬يا لألنصار‪ ،‬وقال المهاجري‪:‬‬

‫من األحبار والرهبان من الشرعتين اليهودية والنصرانية‪.‬‬ ‫ومنطقه الفكري والعقدي‪ ،‬وفي نفس اآلن االستفادة من‬ ‫كل اجتهــاد يخــدم البشــرية ويرقــى بها إلى أحســن حال‪،‬‬

‫ولم يكن هؤالء يضيقون ذرعا بالفكر المخالف"(‪.)3‬‬

‫الجاهلية؟" قالوا‪ :‬يا رسول اهلل كسع رجل من المهاجرين‬

‫إن هــذه النمــاذج التــي عرضناها‪ ،‬تكشــف عن منهج‬

‫وكان النــاس يتفاخــرون بآبائهم فــي الجاهلية فنهاهم‬

‫ديــن القيمــة الــذي يبنــي الحضارة وينشــئ العمــران‪ ،‬وما‬

‫ال من األنصار‪ ،‬فقال‪" :‬دعوها‪ ،‬فإنها منتنة" (رواه مسلم)‪.‬‬ ‫رج ً‬

‫القــرآن القويــم فــي تدبيــر االختــاف‪ ،‬فهــو بهــذا المعنى‬

‫رســول اهلل ‪ ‬عن ذلك‪ .‬فعن ابن عمر ‪ ‬أن رســول اهلل‬

‫سنة‬ ‫سوى ذلك إيذان بخراب العمران وينتهي إلى تحقق ّ‬ ‫﴿وإ ِْن َت َت َو َّل ْوا َي ْس َــت ْب ِد ْل َق ْو ًما َغ ْي َر ُك ْم‬ ‫االســتبدال‪ ،‬قال تعالى َ‬ ‫ال َي ُكو ُنوا َأ ْم َثا َل ُك ْم﴾(محمد‪.)38:‬‬ ‫ُث َّم َ‬

‫‪ ‬خطــب فــي النــاس يوم فتح مكــة فقال‪" :‬أيهــا الناس!‬ ‫أذهــب عنكم ُع ّب َِّي َة‬ ‫إن اهلل قــد‬ ‫عاظ َمها ب َِآبا ِئها‪،‬‬ ‫الجاهليــة و َت ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫شقي َه ّي ٌِن‬ ‫وفاج ٌر‬ ‫رجالن‪َ :‬ب ٌّر تقي كريم على اهلل‪،‬‬ ‫فالناس ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫راب" (رواه‬ ‫علــى اهلل‪،‬‬ ‫هلل آدم ِمن ُت ٍ‬ ‫والنــاس َب ُنو آدم وخلــق ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫أبو داود)‪.‬‬

‫"إن البحــث عن الصواب حيث يكون‪ ،‬واألخذ بالحكمة‬ ‫ولــو مــن فم المخالف‪ ،‬واعتبار المنتوج العلمي البشــري‬

‫ال للبحــث واالختيــار فــي ضــوء مقاصــد اإلســام‬ ‫مجــا ً‬ ‫وغاياتــه الكبــرى التــي تســتدمج كل اجتهــاد إيجابــي‬

‫تطوان ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬ونحــن نبنــي حضارتنــا‪ ،‬فتــح اهلل كولــن‪ ،‬دار النيــل للطباعة والنشــر‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪2010‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬على ســبيل المثال كتاب "أمســك عليك هذا" مقدمات وعشــر قواعد‬

‫فــي فنــون التعامــل مــع اآلخريــن‪ ،‬للدكتــور علــي الحمــادي‪ ،‬إصــدار مركــز‬ ‫التفكير اإلبداعي‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬سنة ‪2000‬م‪.‬‬

‫(‪ )3‬انظــر‪" :‬كيــف نبنــي ثقافتنــا اإلســامية وكيــف نقدمهــا لآلخريــن"‪ ،‬د‪ .‬خالــد‬ ‫الصمدي‪ ،‬مجلة حراء‪ ،‬العدد‪( 12:‬يوليو ‪.)2008‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫االنغــاق علــى الــذات وعــدم االنفتــاح علــى اآلخريــن‬ ‫لمجرد اختالفهم‬

‫(*) رئيــس المركــز المغربــي للدراســات واألبحاث التربوية اإلســامية‪،‬‬

‫‪105‬‬


‫اخ َت َل ُفوا ِم ْن َب ْع ِد َما َج َاء ُه ُم‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ين َت َف َّر ُقوا َو ْ‬ ‫ال َت ُكو ُنوا َكا َّل ِذ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يــم‪(‬آل عمــران‪،)105:‬‬ ‫ــم َع َ‬ ‫ــات َوأو َلئ َ‬ ‫ا ْل َب ِّي َن ُ‬ ‫ــذ ٌ‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫ــك َل ُه ْ‬ ‫ــل ا ِ‬ ‫ال َت َفر ُقوا‬ ‫هلل ج ِميعــا و‬ ‫‪‬و ْاع َت ِص ُمــوا ب َِح ْب ِ‬ ‫وقــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫َ ً َ َ َّ‬ ‫َو ْاذ ُكروا ِن ْعم َة ا ِ‬ ‫ف َب ْي َن ُق ُلوب ُِك ْم‬ ‫هلل َع َل ْي ُك ْم إ ِْذ ُك ْن ُت ْم أ َْع َد ًاء َف َأ َّل َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ــم ِب ِن ْع َم ِتــ ِه إ ِْخ َوا ًنــا‪(‬آل عمــران‪ ،)103:‬وقــال تعالــى‪:‬‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫َفأ ْص َب ْ ُ ْ‬

‫آم َّنا بِا َّل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــذي ُأ ْن ِز َل ِإ َل ْي َنا َو ُأ ْن ِــز َل ِإ َل ْي ُك ْم‬ ‫ــم َو ُقو ُلــوا َ‬ ‫َظ َل ُمــوا م ْن ُه ْ‬ ‫َو ِإ َل ُه َنا َو ِإ َل ُه ُكم َو ِ‬ ‫ون‪(‬العنكبوت‪.)46:‬‬ ‫اح ٌد َو َن ْح ُن َل ُه ُم ْس ِل ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫• والدعــوة إلــى اإلحســان إلى المخالفين ومد جســور‬

‫التواصــل معهــم بمختلــف الطــرق والوســائل؛ ألن ذلك‬ ‫‪‬وإ ِْن َأ َح ٌد ِم َن‬ ‫مدعــاة إلى اســتمرار الحوار‪ ،‬قال تعالــى‪َ :‬‬

‫ين اس َــت َجاركَ َف َأ ِجــر ُه َح َّتــى َيســم َع َك َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــم‬ ‫َ‬ ‫ا ْل ُم ْش ِــرك َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ال َم اهلل ُث َّ‬ ‫ْ‬ ‫ون‪(‬التوبة‪.)6:‬‬ ‫َأ ْب ِل ْغ ُه َم ْأ َم َن ُه َذ ِل َك ِب َأ َّن ُه ْم َق ْو ٌم َ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬

‫هلل‬ ‫‪‬و َ‬ ‫اصب ُِروا إ َِّن ا َ‬ ‫ال َت َن َ‬ ‫ــم َو ْ‬ ‫از ُعــوا َف َت ْف َشــ ُلوا َو َت ْذ َه َب رِ ُ‬ ‫َ‬ ‫يح ُك ْ‬ ‫ين‪(‬األنفال‪.)46:‬‬ ‫الصاب ِ​ِر َ‬ ‫َم َع َّ‬

‫• والدعــوة إلــى العدل واإلنصاف حتى مع المخالفين؛‬

‫الظلم والعدوان‬

‫فالعــدل واإلنصــاف أســاس العمــران‪ ،‬واهلل تعالــى ينصــر‬

‫جــرم اإلســام كل أشــكال االعتــداء والظلــم والطغيــان‬

‫ولــو كانــوا مــن المســلمين بقــوم آخريــن غيرهــم‪ ،‬ثــم ال‬

‫التــي يمــارس عليها‪ ،‬ذلــك ألن الظلم والعــدوان مناقض‬ ‫لقيــم االختــاف الطبيعي القائم ِة على التســاكن والحوار‬

‫األمة العادلة وإن كانت غير مســلمة‪ ،‬ويســتبدل الظالمين‬

‫بغــض النظــر عــن الجهــة التــي يصــدر عنهــا‪ ،‬أو الجهــة‬ ‫ّ‬

‫يكونــوا أمثالهــم‪ ..‬ولذلــك أمــر اإلســام بترســيخ قيمــة‬

‫العــدل واإلنصــاف بيــن النــاس علــى اختــاف مللهــم‬ ‫و ِن َحلهم وتوجهاتهم‪ ،‬فذلك من مقتضيات ترســيخ الثقة‬

‫والمجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬والتدافع من أجل الوصول‬ ‫إلى الحق‪ ،‬ضمن مجتمع متعايش متضامن‪.‬‬

‫المتبادلــة مــن أجل وضع أرضية مشــتركة للحوار البناء‪،‬‬

‫ون‪(‬المائدة‪.)8:‬‬ ‫َت ْع َم ُل َ‬

‫ومــن مظاهــر اإلنصــاف عــرض آراء الغيــر كمــا هــي‬

‫دون زيــادة أو تحريــف قبــل مناقشــتها أو الــرد عليهــا‪،‬‬ ‫وهــذا منهــج القــرآن الكريــم فــي عــرض أقــوال وحجج‬

‫المخالفيــن؛ إذ يعــرض أقوال إبليس وأقوال المشــركين‪،‬‬ ‫ويــرد عليهــا بمنطق العقــل وخاصة ما تعلــق منها بقضايا‬ ‫العقيــدة كالتوحيــد والبعــث وغيرهــا‪ .‬والنمــاذج مــن هذا‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫كثيرة ومتعددة خاصة في القرآن المكي‪.‬‬

‫‪104‬‬

‫‪-2‬المســار الثانــي‪ :‬تحديــد األســباب المؤديــة إلــى‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومــن مقتضيــات التعايــش وتبــادل المنافــع والمصالــح‪،‬‬ ‫ان َذا ُق ْر َبى َوب َِع ْه ِد‬ ‫اع ِد ُلوا َو َل ْو َك َ‬ ‫‪‬و ِإ َذا ُق ْل ُت ْم َف ْ‬ ‫قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ا ِ‬ ‫ون‪(‬األنعام‪،)152:‬‬ ‫هلل َأ ْو ُفــوا َذ ِل ُك ْم َو َّص ُ‬ ‫اك ْم ِب ِه َل َع َّل ُك ْــم َت َذ َّك ُر َ‬ ‫يــن ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫آم ُنــوا ُكو ُنــوا َق َّوا ِم َ‬ ‫‪‬يــا َأ ُّي َهــا ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫وقــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ُش َــه َد َاء بِا ْل ِقس ِ‬ ‫ال َت ْع ِد ُلوا‬ ‫ــط َو َ‬ ‫آن َق ْو ٍم َع َلى َأ َّ‬ ‫ال َي ْج ِر َم َّن ُك ْم َش َن ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫خ‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫إ‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ــوا‬ ‫ق‬ ‫ات‬ ‫و‬ ‫ى‬ ‫ــو‬ ‫ق‬ ‫لت‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ــر‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫ِيــر ب َِمــا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْاع ِد ُلــوا ُه َــو َ ُ َّ َ َ َّ‬ ‫ٌ‬

‫والظلــم والعــدوان مظهــر من مظاهــر االختالف غير‬

‫الطبيعــي الناشــئ عــن الصــراع والنــزاع واتبــاع الهــوى‪،‬‬

‫واعتــزاز كل ذي رأي برأيــه‪ .‬فــكان موقــف اإلســام‬ ‫ــب‬ ‫منــه‬ ‫هلل َ‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ــدوا إ َِّن ا َ‬ ‫ال َت ْع َت ُ‬ ‫ً‬ ‫ال ُي ِح ُّ‬ ‫شــديدا‪ ،‬قــال تعالــى‪َ :‬‬

‫ين‪(‬البقــرة‪ ،)190:‬وقــال رســول اهلل ‪ ‬فــي الحديث‬ ‫ا ْل ُم ْع َت ِد َ‬ ‫مت الظلم‬ ‫حر ُ‬ ‫القدســي عن ربه ‪ ‬قال‪" :‬يا عبادي! إني ّ‬

‫علــى نفســي‪ ،‬وجعلتــه بينكــم محرما‪ ،‬فــا تظالمــوا" (رواه‬

‫َّ ً‬ ‫وحــرم قتــل النفــس إال بالحق‪ ،‬وحمــى األعراض‬ ‫مســلم)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واألموال من االنتهاك‪.‬‬

‫وإذا كانت الفتن مظنة انتهاك الحقوق‪ ،‬فإن اإلســام‬

‫حــرص علــى التنبيــه إلــى خطــورة انتهاكهــا فــي مثل هذه‬ ‫األحوال بصفة خاصة‪ ،‬والنموذج من سورة الفرقان التي‬

‫تكــررت فيهــا كلمــة "الحق" تســع مــرات‪ ،‬وهي الســورة‬ ‫التي تتحدث عن حال المسلمين في الغزو والقتال‪.‬‬

‫العصبية والعرقية‬ ‫َ‬

‫ومن ذلك أن اإلسالم حرم العصبية على أساس اللون أو‬

‫االختالف غير الطبيعي ومحاربتها‪ ،‬ومن تلكم األسباب‪:‬‬

‫العرق أو اللغة‪ ،‬ألن ذلك استخدام لمقومات االختالف‬

‫واإلســام يــذم هذا الســلوك ســواء وقع داخــل الجماعة‬

‫فــي نــص خطبة الوداع التي تعتبر بمثابة اإلعالن العالمي‬

‫التفرقة بعد معرفة الحق واالنقياد له‬

‫المؤمنة التي عرفت الحق واسترشدت بهداه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جليا‬ ‫الطبيعــي فــي غيــر مــا وجد مــن أجلــه‪ .‬ونجد ذلــك ًّ‬

‫لحقــوق اإلنســان‪ ،‬الــذي ختــم به الرســول ‪ ‬رســالته إذ‬


‫إن كان االختــاف ســنة كونية ال محيــد عنها‪ ،‬فإن‬ ‫ْ‬

‫الوحي‪ ،‬ومقاصد الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫عاملنا اليوم يحتاج إىل فكر يســتوعب هذه السنة‬

‫• الجانب المهاري المتعلق بقواعد وآليات ومهارات‬

‫الكونية‪ ،‬ويسعى إىل االستفادة مام يتيحه التنوع‬

‫تدبيــر االختــاف وفوائدهــا ومكاســبها‪ ،‬ومــا ينتــج عــن‬

‫يف الطاقات والقدرات واألفكار واآلراء والتوجهات‬

‫غيابهــا مــن ســلبيات ثقافيــة واجتماعية‪ .‬وذلك باالســتناد‬

‫واالختيارات يف بناء الحضارة املشرتكة‪ ،‬والتخفيف‬

‫إلى التوجيهات اإلســامية في هذا المجال‪ ،‬واالستدالل‬

‫من حــدة الرصاعات والخالفات التــي‬ ‫تضعف الذات‬ ‫ّ‬

‫بالنماذج العملية في الثقافة والحضارة اإلســامية‪ ،‬وكذا‬

‫اإلنسانية برمتها‪.‬‬

‫الكتابات الحديثة في مجال التواصل الناجح(‪.)2‬‬

‫• الجانــب القيمــي المتعلــق بمنظومــة بيــان وتحديــد‬

‫القيــم الحاكمــة التــي ينبغــي ترســيخها فــي المجتمــع‬

‫ســواء كان هــذا االختــاف فــي الخلقــة‪ ،‬أو اختال ًفــا فــي‬

‫التصورات والسلوكات التي تبرز عند الفشل في تدبيره‪،‬‬

‫نتائــج عظيمــة فــي تاريــخ اإلســام خاصــة‪ ،‬والحضــارة‬

‫ضما ًنا لحســن تدبير االختالف‪ ،‬وكشــف ما يناقضها من‬

‫المعتقــد‪ ،‬أو اختال ًفــا فــي الــرأي‪ .‬وقــد كان لهــذا المنهج‬

‫مــع الحديــث عــن طــرق ووســائل نشــر هــذه القيــم فــي‬

‫اإلنسانية بصفة عامة‪.‬‬

‫المحيط الثقافي واالجتماعي والسياسي‪.‬‬

‫دعوة إلى التعارف والتعايش والتساكن‬

‫وإن المتأمــل فــي النــص القرآنــي المؤســس الرحمــة‬

‫وذلــك مــن أجــل توفيــر البيئــة الســليمة اآلمنــة للحــوار‪،‬‬

‫المهــداة للعالمين‪ ،‬يقف على التكامل بين هذه الجوانب‬

‫تأســيس للمفاهيــم والتصــورات‪ ،‬ودليل ينمــي المهارات‬ ‫العمليــة بالنمــاذج واألمثلــة والخبــرات‪ ،‬ويرســخ القيــم‬

‫الحاكمــة لتدبيــر مختلــف مجــاالت الحيــاة‪ ،‬ومنهــا تدبير‬

‫التنــوع واالختــاف باعتبــاره‬ ‫أساســا لبنــاء للحضــارة‬ ‫ً‬ ‫والعمران‪.‬‬

‫فالكتــاب الحكيــم يســعى إلــى ترســيخ مبــدأ تدبيــر‬

‫االختالف بمختلف أبعاده المعرفية والمهارية والقيمية عبر‬ ‫مســارين متوازيين ومتكاملين يفضيان إلى نفس النتيجة‪:‬‬ ‫‪ -1‬المســار األول‪ :‬ترسيخ المفاهيم والقيم الداعمة‬

‫لالختــاف الطبيعــي‪ ،‬وهــي المفاهيم والقيم التي تســهم‬ ‫فــي ترشــيد هــذا النوع مــن االختالف‪ ،‬وتواكبــه وتحصنه‬ ‫بالتوجيهــات التــي تحافظ على وحدة اإلنســانية‪ ،‬وتقوي‬ ‫من لحمة القيم المشتركة التي تربطها حتى وإن اختلفت‬

‫والجدال والتعامل بالحســنى هو الســبيل إلى القرب من‬

‫الحق‪ ،‬وهكذا تجد في القرآن الكريم‪:‬‬

‫دعوة إلى اإلقرار بالحرية وقبول االختالف‬

‫وهما مفهومان وقيمتان متالزمتان وأصيلتان في اإلسالم‪،‬‬

‫ترسيخ مبدأ الحوار في حل الخالفات‬

‫ذلــك أنــه مــن مســتلزمات تحقيــق التعايــش والتســاكن‪،‬‬ ‫اإلقــرار بحــق اآلخر في حرية االختيــار‪ ،‬وكذا قبول مبدأ‬ ‫االختــاف‪ .‬وكل ذلك يعززه القرآن الكريم بالدعوة إلى‬

‫فتــح باب الحــوار مع أصحــاب االختيــارات المختلفة‪،‬‬

‫وجعله المالذ اآلمن للوصول إلى حل النزاعات في كل‬

‫الظروف واألحوال‪.‬‬

‫ومجديــا‪،‬‬ ‫ومــن أجــل أن يكــون هــذا الحــوار هاد ًفــا‬ ‫ً‬

‫أحاطته الشريعة اإلسالمية بجملة من التوجيهات؛‬

‫• كالدعــوة إلــى البحث عن المشــترك؛ وهو ما أســماه‬ ‫القــرآن الكريم بالكلمة الســواء‪ ،‬قــال تعالى‪ُ  :‬ق ْل َيا َأ ْه َل‬ ‫هلل‬ ‫ا ْل ِك َت ِ‬ ‫ال َن ْع ُب َد ِإ َّ‬ ‫اب َت َعا َل ْوا ِإ َلى َك ِل َم ٍة َس َوا ٍء َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُك ْم َأ َّ‬ ‫ال ا َ‬ ‫ال َي َّت ِخ َذ َب ْع ُض َنا َب ْع ًضا َأ ْر َب ًابا ِم ْن ُد ِ‬ ‫ون‬ ‫ال ُن ْش ِــركَ ِب ِه َش ْــي ًئا َو َ‬ ‫َو َ‬ ‫ا ِ‬ ‫ون‪(‬آل عمران‪.)64:‬‬ ‫هلل َفإ ِْن َت َو َّل ْوا َف ُقو ُلوا ْ‬ ‫اش َه ُدوا ِب َأ َّنا ُم ْس ِل ُم َ‬ ‫• والدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن؛ قال تعالى‪:‬‬ ‫ين‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ال ُت َجا ِد ُلوا َأ ْه َل ا ْل ِك َت ِ‬ ‫ال بِا َّل ِتي ِه َي َأ ْح َس ُن ِإ َّ‬ ‫اب ِإ َّ‬ ‫ال ا َّل ِذ َ‬ ‫َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫فــي المعتقــد‪ ،‬ضما ًنا الســتمرار العمــران‪ ،‬وجعل الحوار‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الثالثــة في أبهــى تجلياته النظريــة والتطبيقية‪ .‬فهو مصدر‬

‫وإتاحة الفرصة للتعريف برســالة اإلســام من غير إكراه‪،‬‬ ‫اك ْم ِم ْن َذ َكــرٍ َو ُأ ْن َثى‬ ‫اس ِإ َّنــا َخ َل ْق َن ُ‬ ‫‪‬يــا َأ ُّي َها َّ‬ ‫قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫الن ُ‬ ‫ــل ِل َت َعار ُفــوا إ َِّن َأ ْكر َم ُكــم ِع ْن َد ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫وبا َو َق َبا ِئ َ‬ ‫َو َج َع ْل َن ُ‬ ‫ــم ُش ُــع ً‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫اك ْ‬ ‫اكم إ َِّن ا َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِير‪(‬الحجرات‪.)13:‬‬ ‫هلل َعل ٌ‬ ‫أ ْت َق ُ ْ‬ ‫يم َخب ٌ‬

‫‪103‬‬


‫فــا جمــع إال بيــن متعــدد‪ ،‬والنتيجــة فــي النهايــة عمران‬

‫علــى تدبيــر هــذا التنــوع مــن خــال ترســيخ ثقافــة تدبير‬

‫أو خــراب مهيــن عنــد طغيــان الفردانيــة وســيادة "بــؤس‬

‫معنيا بقيادة‬ ‫وفي هذا اإلطار يجد شــبابنا اليوم نفســه ًّ‬

‫حضــاري مشــترك عنــد التفكيــر بهــذا الضميــر الجمعــي‪،‬‬

‫االختالف‪.‬‬

‫الدهرانية" حسب تعبير الفيلسوف طه عبد الرحمن‪.‬‬

‫حركة التنمية في ســياق تشــكل هذه الحضارة المشــتركة‬

‫وإن األمــة اإلســامية اليــوم وهــي تســعى إلــى بنــاء‬

‫فــي عصــر العولمــة بمــا تحملــه مــن تطــورات هائلــة في‬ ‫حــو ٍل َعميــقٍ يتجاوز‬ ‫تكنولوجيــا اإلعــام واالتصــال‪ ،‬و َت ُّ‬

‫ذلــك أن حــدة الصراعــات بيــن مكوناتهــا قــد تفاقمــت‪،‬‬

‫اإلنســان‪ ،‬مما تبرز معه حاجة ماســة إلى التربية على قيم‬

‫مقومات الحوار مع الذات ومع اآلخر‪ ،‬في حاجة ماسة‬

‫إلــى اســتيعاب هــذا المفهــوم أكثــر مــن أي وقــت مضى؛‬

‫عالم األفكار إلى عمق منظومة القيم التي تشــكل جوهر‬

‫وكشــف واقعهــا المعاصــر عــن فقــر كبيــر فــي قيــم تدبير‬

‫ومهارات تدبير االختالف‪ ..‬ولن يتم ذلك إال من خالل‬

‫االختــاف‪ ،‬ممــا تقــوم معه الحاجة ماســة إلى إعــادة بناء‬

‫التوعية بأهمية توســيع مســاحة المشترك من خالل إطار‬ ‫متأص ٍل في المصادر اإلســامية‪،‬‬ ‫نظــري عميقِ المحتوى ِّ‬

‫الوعــي الجمعــي المشــترك بهــذه القيــم وترســيخها فــي‬

‫الممارسة والسلوك‪.‬‬

‫تنمــي‬ ‫والتدريــب الميدانــي مــن خــال تطبيقــات عمليــة ّ‬

‫احتكاكا غير مســبوق‬ ‫ومعلــوم أن عالمنا اليوم يعرف‬ ‫ً‬

‫مهــارات تدبيــر االختــاف وترســخ قيمــه المتجــذرة في‬

‫مصادر الوحي‪ ،‬وفي صور مضيئة من تاريخنا وحضارتنا‬

‫بيــن الثقافــات والحضــارات‪ ،‬وبيــن األجنــاس واألعراق‬

‫والديانــات‪ ،‬ممــا تبــرز معــه االختالفــات والتناقضــات‬

‫أحيا ًنا في شكل صراعات حادة‪ ،‬وقد تكشف في أحايين‬ ‫أخــرى عن خبــرات ومؤهالت وإمكانات هائلة للتقارب‬ ‫والحــوار والتعايــش‪ ،‬حيــن تزول الغشــاوة ويحضر النظر‬

‫الجالء الصافي والمتبصر‪.‬‬

‫قيــادة حركة التغيير الثقافي واالجتماعي‪ ،‬فإذا آمنت هذه‬

‫الطبقــة بقيــم التعايش والتســاكن والحــوار‪ ،‬وكانت قادرة‬ ‫علــى تدبيــر االختــاف فــي بنــاء ونشــر مواقفهــا وآرائهــا‬

‫وتصوراتهــا واجتهاداتها في المحيط‪ ،‬فإن ذلك سيشــكل‬ ‫اإلطــار الخصــب لنقــل هــذه الخبــرة والتجربــة إلى جيل‬

‫التربوية والتعليمية‪ ،‬والقائمين على برامج التوعية الدينية‬

‫إلــى االســتفادة مما يتيحه التنوع فــي الطاقات والقدرات‬

‫المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات وطنية ودولية‪،‬‬

‫واألفــكار واآلراء والتوجهــات واالختيــارات فــي بنــاء‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وال يخفــى مــا للطبقــة المثقفــة برمتهــا مــن أهمية في‬

‫ولئــن كان االختــاف ســنة كونيــة ال محيــد عنهــا‬ ‫الناس ُأمــ ًة َو ِ‬ ‫اح َد ًة‬ ‫ــاء َر ُّب َ‬ ‫‪‬و َل ْو َش َ‬ ‫لقولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫ــك َل َج َع َل َّ َ َّ‬ ‫ال َم ْ ِ‬ ‫ــك‬ ‫َو َ‬ ‫يــن ‪ِ ‬إ َّ‬ ‫ــك َو ِل َذ ِل َ‬ ‫ــم َر ُّب َ‬ ‫ال َي َزا ُل َ‬ ‫ــون ُم ْخ َت ِل ِف َ‬ ‫ــن َرح َ‬ ‫‪‬و ِم ْن َآيا ِت ِه َخ ْل ُق‬ ‫َخ َل َق ُه ْم‪(‬هــود‪ ،)119-118:‬وقولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫َ ِ‬ ‫اخ ِتــ َ َ ِ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ــم إ َِّن‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫ا ُف أ ْلس َــنت ُك ْم َوأ ْل َوان ُك ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ين‪(‬الــروم‪ .)22:‬فــإن عالمنــا اليوم‬ ‫ِفــي َذل َ‬ ‫ــك َل َيــات ل ْل َعالم َ‬ ‫يحتــاج إلــى فكــر يســتوعب هذه الســنة الكونية‪ ،‬ويســعى‬

‫‪102‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الفكريــة والسياســية والثقافيــة واالجتماعيــة التــي تتفجــر‬

‫اإلسالمية‪.‬‬

‫الحضــارة المشــتركة‪ ،‬والتخفيــف مــن حــدة الصراعــات‬

‫تضعــف الــذات اإلنســانية برمتها‪ ،‬ألن‬ ‫والخالفــات التــي ّ‬ ‫العالــم اليــوم انتقل من مرحلة "بناء الحضارات المختلفة‬

‫المتعاقبــة" إلــى "بنــاء الحضــارة الواحدة المشــتركة" التي‬

‫تنوعا واختال ًفا‪ ،‬مما يعني أن اإليمان‬ ‫تجمــع فــي داخلها ً‬

‫باستمرار الحضارة اإلنسانية قائم بالضرورة على قدرتها‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الشــباب مــن خــال صياغــة خطــاب يــروج لهــذه القيــم‬

‫ويعمل على نشرها‪.‬‬

‫وهذه رســالة إلى القيادات الفكريــة والثقافية المؤثرة‬

‫في مســارات المجتمعات من القائمين على المنظومات‬ ‫والثقافية في وســائل اإلعالم‪ ،‬والمشتغلين في مؤسسات‬

‫وينبغــي أن يركــز خطابهــم في هذه المجــاالت المختلفة‬

‫على جوانب ثالثة‪:‬‬

‫• الجانــب المعرفــي المتعلــق بمفهــوم االختــاف‬ ‫والحكمــة منــه ومجاالتــه‪ ،‬ووضعــه فــي ســياق خريطــة‬ ‫المفاهيــم التــي يتحــرك فيهــا مــن أجــل تكويــن رؤيــة‬

‫واضحة لدى المتلقي عن هذا المفهوم وتصحيح بعض‬ ‫اســتنادا إلى مصادر‬ ‫التشــوهات التــي تحيــط به‪ ،‬كل ذلك‬ ‫ً‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬خالد الصمدي*‬

‫كيف نبني حضارتنا‬

‫بقيم تدبري االختالف‬

‫إن البحــث عن الصواب حيث يكــون‪ ،‬واألخذ بالحكمة‬ ‫ولو مــن فم املخالــف‪ ،‬واعتبار املنتــوج العلمي‬ ‫البرشي مجــا ً‬ ‫ال للبحث واالختيــار يف ضوء مقاصد‬ ‫اإلســام وغاياته الكربى التي تستدمج كل اجتهاد‬ ‫إيجايب نافع‪ ،‬هو "املسلك القويم"‪.‬‬

‫"ونحــن نبنــي حضارتنــا"(‪ ...)1‬تلــك‬

‫إحيــاء الضميــر اإلنســاني الجمعــي الــذي يســعى إلــى‬

‫العالــم اليــوم فــي حاجــة ماســة إلــى‬

‫واالختــاف‪ ...‬ومــا حرف "نا" الدال علــى الجمع إال‬

‫العبــارة الخالــدة الجامعة التي أضحى‬

‫شــغلت بال المفكرين والمصلحين الســاعين إلى خير‬ ‫البشرية من مختلف األمم والشعوب على مر التاريخ‪.‬‬ ‫فمــا عبــارة "نحــن" التــي تتصدرهــا إال دعــوة إلــى‬

‫بــأن ال حضــارة خارج‬ ‫اعتــراف مــزدوج؛ فهــو اعتــراف ْ‬

‫تلــك التــي تســعى إلــى العمــران بــذراع اإلنســان وفكر‬ ‫اإلنســان وعالقــات اإلنســان‪ ،‬واعتراف فــي نفس اآلن‬

‫بالتعــدد واالختالف المفضي إلى التكامل والتعاون‪...‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫فهمهــا‪ ،‬واســتيعاب مختلــف أبعادهــا‪ ،‬والرؤيــة التــي‬

‫توطيد قيم التعايش والتساكن باسثمار إيجابيات التنوع‬

‫‪101‬‬


‫العــاج‪ ،‬واســتغالل اإلمكانــات التــي تتوفــر عليهــا بــاد‬

‫المتزنة التي ينبغي للمســلم أن يتلقى بها البشــائر‬ ‫الكيفية ّ‬ ‫والنجاحــات ‪َ ‬فســ ِب ْح ب َِحم ِ‬ ‫ان‬ ‫ــد َر ِّب َ‬ ‫اس َــت ْغ ِف ْر ُه ِإ َّن ُــه َك َ‬ ‫ــك َو ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫َت َّو ًابا‪(‬النصــر‪ ...)3:‬إن مغــزى هــذه الســورة يعيــد فضــل‬ ‫اإلنجــازات إلــى الخالــق‪ ،‬وبذلــك يظــل االحتســاب هــو‬

‫اإلســام من حيث غنى الطبيعة النباتية‪ ،‬وحفول األرض‬ ‫بأصيل األعشاب والبواقل‪.‬‬ ‫ال ننســى حقــول التكنولوجيــا‪ ،‬فخريجــو الجامعــات‬

‫مبتغى المســلم‪ ،‬دونما طمع أو تطلع إلى انتحال اعتبار‬

‫المتزايــدو األعــداد‪ ،‬يمكن أن تختلــق لهم الخدمة فرص‬

‫يتجاوز نطاق العبدية‪ ...‬إن اآلدمي كما يبرزه القرآن كائن‬

‫إنشــاء المؤسســات والمخابــر‪ ،‬حيــث يتــاح لهــم تحقيــق‬

‫عابــد‪ ،‬فبالعبــادة َت َّمحي العبدية بمعنى الشــيئية (البعد عن‬

‫عبقرياتهم‪ ...‬إن التعليم الذي ينشــده األســتاذ اإلمام‪ ،‬هو‬

‫اهلل)‪ ،‬وتترسخ العابدية بمعنى المعراجية (القرب من اهلل)‪.‬‬ ‫وإن ســورة مثــل "الكافــرون" لتمثــل التوجيــه اإللهــي‬

‫تعليم يحفز على اإلبداع واالبتكار‪ ،‬ويستجيب للحاجي‬

‫الــذي يؤكــد مبــدأ التمايز فــي عالم معولم‪ ،‬عالم ســتزداد‬

‫ترسيخا للتمايز الذي يعمق نموذجيتنا القرآنية‬ ‫والكمالي‪،‬‬ ‫ً‬

‫اختالطيــة أممــه‪ ،‬األمر الذي يقتضــي اإلبقاء على الفارق‬ ‫ــم ِد ُين ُك ْم‬ ‫الروحــي ضمــن إطــار االعتــراف بالغيريــة ‪َ ‬ل ُك ْ‬ ‫ين‪(‬الكافرون‪.)6:‬‬ ‫َو ِل َي ِد ِ‬ ‫تنفتــح اآلفــاق فــي وجــه رجــل الخدمــة‪ ،‬فيجــوب‬

‫المتزنة والمتوازنة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫نوعيــا‪،‬‬ ‫تأهيليــا‬ ‫نشــاطا‬ ‫إن الخدمــة مهيــأة ألن تغــدو‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫فالعلــوم التــي تتلقاهــا األجيال الراهنة ســتعرف التوســع‬ ‫إلــى "مــا ال تعلمــون"‪ ،‬وســتعرف التنــوع والشــمول‪،‬‬

‫مجســدا في ســياحته‬ ‫األصقــاع‪ ،‬ويتعــرف على العالمين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومبلغا‪ ،‬لينهض بدور‬ ‫ومؤسســا‬ ‫ال‬ ‫تطوافــه بيــن البالد عام ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تمثيل نبيه ورسوله المصطفى ‪ ‬المبعوث للناس كافة‪.‬‬

‫وال تفتــأ البيوت تســتقبل أصنــاف الطالب من رجال‬

‫والفنون واألذواق‪ ،‬إلى إقامة مؤسســات صناعة الســيارة‬ ‫واألدوية‬ ‫المستقبلية‪ ،‬والطائرة السيارة‪ ،‬ووسائل االتصال‬ ‫ْ‬

‫تخرج دفعات العمل الخدمي‬ ‫الغد ونســائه‪ ،‬فهي مشــاتل ّ‬ ‫تتوســع االهتمامــات الخدمية‪ ،‬فتشــمل قطاعــات حياتية‬

‫ما لبثت كتابات(‪ )6‬الداعية كولن تلح عليه‪.‬‬

‫مهمشــة لكنها تعتبر من صميم الفعل الثقافي والتأصيلي‬

‫ال‬ ‫العضوي‪ ،‬إن بيوت الخدمة ستضع في اهتمامها مستقب ً‬ ‫تلبيــة حاجــات ال تزال األمة مرتهنة فيهــا لروحية اآلخر‪،‬‬

‫المختلف في توجهاته الحضارية والوجودية عن روحية‬ ‫اإلســام‪ ...‬إن تعميــر بيــوت الطــاب بالعنصــر النســوي‬ ‫والرجولــي الــذي يهتــم بالموضــة األصيلــة وبالتفصيــل‬

‫ال‪ -‬هو أفق‬ ‫اللباســي المنســجم مع أخالق اإلســام ‪-‬مث ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫بــدءا مــن دور التمثيل‬ ‫الحياتيــة فــي كافــة شــعب الحيــاة‪ً ،‬‬

‫واســتغالل مــا لدينا من قدرات ومــوارد ال تحصى‪ .‬وهو‬

‫الدعوي والتعميري المراهن على المســتقبل‪ .‬وينتظر أن‬

‫‪100‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ســاميا‪ ،‬بــل إنه في‬ ‫الخدميــة تلــك‪ ،‬مســتوى مــن اإليمــان‬ ‫ً‬

‫بحيــث يتحتــم علــى رجــال الخدمــة أن يصنعــوا النماذج‬

‫البد وأن تقتحمه الخدمة‪ ،‬والبد أن تتشكل المصانع التي‬

‫(*) جامعة وهران ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪ )1‬الحقيقة أن حركة فتح بيوت الطلبة وتوفير التأطير لهم بدأ في ستينات القرن‬ ‫الماضي‪ ،‬حين اكترى األســتاذ فتح اهلل وأفراد من المحســنين أول بيت طالبي‬ ‫بمدينــة إ ِْز ِميــر‪ ،‬اســتقر فيه عدد من الطلبة المحتاجيــن إلى اإليواء‪ .‬فكانت تلك‬ ‫المبادرة فاتحة خير وانطالقة ميمونة في مجال إرساء مشاريع الخدمة‪.‬‬ ‫(‪ )2‬البوسنة‪ ،‬أفغانستان‪ ،‬الصومال‪ ،‬الشيشان وغيرها‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أي المشتغل بثقافة الروح وبالرياضة السلوكية‪.‬‬

‫عــوم بالد اإلســام بالتفصيالت المســتمدة مــن أرضيتنا‬ ‫ُت ِّ‬

‫(‪ )4‬أي اتخذها ُب ْر َجه العاجي الذي ينزله فرارا من ضغوط الحياة‪.‬‬

‫ال نبقى نعيش العري الذي تمضي في فرضه علينا عقلية‬

‫اهلل حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير‪ ،‬تغدو خماصا وتروح بطانا"‪.‬‬

‫الغنيــة باألنماط‪ ،‬والخصيبة من حيث تنوع األزياء‪ ،‬حتى‬

‫التهتك والخنا الغربي‪ ،‬وأخالقياته السفورية المتهمجة‪.‬‬

‫ويقــال األمــر نفســه عــن مجــاالت الصيدلــة وصناعة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫(‪ )5‬روي عن عمر بن الخطاب ‪ ‬أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪" :‬لو أنكم تتوكلون على‬ ‫(‪ )6‬انظــر‪ :‬كتــاب "ونحــن نقيــم صرح الــروح"‪ ،‬وكتــاب "ونحن ْنبنــي حضارتنا"‬ ‫لألستاذ فتح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬


‫إن منهــج كولــن يف التفســر يرتكز عــى خطة‬

‫الالزمنيــة والفوقية المعنوية التــي تميز الفحوى القرآني‪،‬‬

‫الغــوص تحت الســطح‪ ،‬ومجاوزة اإلطار الشــكيل‪،‬‬

‫مــن حيــث صالحيته لــكل زمان ومــكان‪ ،‬إن قوله تعالى‪:‬‬

‫الحــريف‪ ،‬إىل اســتنطاق روح الداللة‪ ،‬واســتخراج‬

‫‪‬الم‪ ،‬المر‪ ،‬المص‪ ،‬حم‪ ،‬حم ‪ ‬عسق‪،‬‬

‫إيعازاتها التي تفيــد يف محارصة الحطة‪ ،‬والدفع‬

‫‪‬طســم‪ ،‬إلــى آخــر ما هنالك مــن البنــى الالمعنوية‪ ،‬أو‬

‫بالــروح إىل آفــاق التجــدد والعبوديــة واالقتدار‬

‫التــي معانيهــا فــوق عقلية‪ ،‬يرمــز إلى هذا البعــد الالزمني‬

‫التاريخي واالعتداد الحضاري‪.‬‬

‫الــذي يميــز القــرآن‪ ،‬فمــا صلــح بــه أول األمــة يصلح به‬

‫وأجل هذه اآلخرية مفتوح ال يعلمه إال اهلل‪.‬‬ ‫آخرها‪َ ،‬‬

‫كمــا أن تنصيــص القرآن على المحوريــة الكونية من‬ ‫ــن َح ْو َل َها‪(‬األنعــام‪،)92:‬‬ ‫خــال قولــه تعالــى ‪ُ ‬أ َّم ا ْل ُق َرى َو َم ْ‬ ‫هــو إشــعار بالموقــع الوســطي الــذي شــاء اهلل أن يكــون‬

‫جعلــت من القرآن العظيم كتاب التعطل وانتظار الموت‬ ‫اؤ ُك ْم‪(‬الفرقان‪ ،)77:‬والدعاء‬ ‫‪ُ ‬ق ْل َما َي ْع َب ُأ ب ُِك ْم َر ِّبي َل ْو َ‬ ‫ال ُد َع ُ‬ ‫عمل وأخذ باألسباب‪.‬‬

‫لألمة الوسط‪ ،‬فمن هذه الوسطية تنتشر األنوار‪ ،‬ويتعدى‬

‫نهج كولن في تفاعله مع القرآن‪ ،‬الطريق الذي كفل‬

‫اإلســام والقرآن الشــرط المحلي إلــى العالمية‪ ،‬وهو ما‬

‫ال‬ ‫له أن يســتخلص العدة المفاهيمية واالصطالحية‪ ،‬فض ً‬ ‫عن استقراء قوانين الحضارة حياة وموا ًتا‪ ...‬واستنبط من‬

‫تنطلق منه الخدمة‪ ،‬إذ توجهت وجهة عالمية إنسانية كونية‪.‬‬ ‫إن القــرآن هــو النــص األم‪ ،‬االســتيعابي‪ ،‬االحتوائي‪،‬‬

‫ســيرة قصــص القرآن وشــخوصه كما عرضتهم الســردية‬

‫التطور باإلنســان‪،‬‬ ‫اط َر َد‬ ‫الــذي يعلــو وال ُيعلــى عليه مهما َّ‬ ‫ُ‬ ‫يقــرأ كولــن النــص القرآني بــروح النهضــة والتعمير‪،‬‬

‫ويســتمد مــن روحيــة تعاليمــه الربانيــة مــا يبنــي اإلنســان‬

‫العامل‪ ،‬ويحشد الجماعة المجندة‪ ،‬ويبرز الطائفة المنتخبة‬ ‫الظاهرة على الحق‪ ،‬التي ترتد إليها أنظار العالمين فترى‬ ‫الفتوح تترى على يديها‪ ،‬وتتلقى الترشيدات منها‪ ،‬فتقبل‬

‫علــى مــا تحمل من رســالة‪ ،‬تحضنهــا وتعتنقها‪ ،‬وتضحى‬

‫مليا فيها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جزءا ًّ‬

‫طالما قرئ القرآن بغرض ترسيخ التزهيد في الحياة‪،‬‬

‫والتنصل من مسؤولية العبودية التي ال يترجمها إال العمل‬

‫الصالــح الــذي يتهيأ به اإلنســان ألن يكون من الســائرين‬ ‫ِ‬ ‫ين َأ ْن َع ْم َت َع َل ْيهِ ْم‬ ‫على‬ ‫يم ‪ِ ‬ص َر َ‬ ‫‪‬الص َر َ‬ ‫اط ا َّل ِذ َ‬ ‫ِّ‬ ‫اط ا ْل ُم ْس َتق َ‬ ‫ين‪(‬الفاتحة‪.)7-6:‬‬ ‫وب َع َل ْيهِ ْم َو َ‬ ‫َغ ْي ِر ا ْل َم ْغ ُض ِ‬ ‫ال َّ‬ ‫الضا ِّل َ‬ ‫مــع الخدمــة بــدأ خيــار روحــي‪ ،‬توجــه فيــه المســلم‬ ‫الذهنيــة التــي طالمــا اعتقدت أن القرآن كتاب تهميشــي‪،‬‬

‫يحول بين المسلم والحياة‪.‬‬

‫مــع مشــروع الخدمة بدأ األخذ بالقــرآن الذي يعمل‬

‫ــم‬ ‫‪‬و ُق ِ‬ ‫ــل ْاع َم ُلــوا َف َس َــي َرى ا ُ‬ ‫ألجــل اآلخــرة‪َ ،‬‬ ‫هلل َع َم َل ُك ْ‬ ‫َو َر ُســو ُل ُه‪(‬التوبة‪ ،)105:‬وتراجعــت الرؤيــة التــي طالمــا‬

‫ال‪ ،‬رسموا‬ ‫ففتية أهل الكهف مث ً‬ ‫لفقه المقاومة والصبر‪ْ ...‬‬ ‫بصمودهــم ‪-‬كما صوره القــرآن‪ -‬اإلطار األمثل لإليمان‬ ‫الثابــت‪ ،‬والهجــرة إلى اهلل‪ ،‬واحتضان الموثق‪ ،‬واالنبعاث‬

‫بالعقيدة‪ ،‬من أجل إعادة غرســها وإنماء شــجرتها الباسقة‬ ‫ُتظل العالمين‪.‬‬

‫إن القصــص القرآنــي ال يروي وقائع ســلفت‪ ،‬وإنما‬

‫إلــى ذلك يلهم اإلنســان كيفيات ومناهــج لضبط الحياة‪،‬‬

‫وبنــاء الخطط‪ ،‬واســتمداد ما يعيــن على مغالبة الضغوط‪،‬‬

‫والخروج من العراك بما تحمد به العاقبة‪ ،‬ويكفل سعادة‬ ‫المصيــر‪ .‬بــل إن القــرآن لبــث يقــدم لنــا مــن المنبهــات‬

‫تعمقنا معانيه لسعدت حياتنا‪ ...‬وإن‬ ‫والموضحات ما لو ّ‬

‫حفــول القــرآن بالعبر ليشــمل قصار الســور علــى نحو ما‬ ‫يشــمل طوالهــا؛ فســورة مثــل "اللهب"‪ ،‬لم تأت فحســب‬

‫لتســجل الســخط والنقمة اإللهيين على أبي لهب وامرأته‬ ‫أيضا النموذج ا ُ‬ ‫ألســري‬ ‫الشــريرة‪ ،‬وإنمــا جــاءت تعــرض ً‬ ‫ّ‬ ‫الشــقي‪ ،‬وتؤكــد مســؤولة المــرأة فــي بنــاء ســعادة الرجل‬ ‫واألسرة أو تدميرها‪.‬‬

‫وإن ســورة مثــل "النصــر"‪ ،‬لــم تــأت فحســب لإليعاز‬

‫للرســول األعظــم ‪‬‬ ‫أجلــه‪ ،‬وإنما إلــى ذلك أبانت‬ ‫بدنــو َ‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫متجاوزا‬ ‫تطبيقيا‪،‬‬ ‫ال‬ ‫خريج الخدمة إلى العمل بالقرآن عم ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وامتدت به األشواط الحضارية وتعرجت مسالكها‪.‬‬

‫اإلعجازيــة‪ ،‬مدونات لضبط الســيرة والســلوك‪ ،‬ومضابط‬

‫‪99‬‬


‫المدنية العقيــم‪ ،‬الغافلة عــن اإليمان‬ ‫التــي تعــدم الــروح‪َ ،‬‬

‫ال‪ ،‬عبــادة وأخال ًقا‪...‬‬ ‫إلــى تعلــم أولياته ومبادئه قو ً‬ ‫ال وفع ً‬

‫تورطنــا في أوحالهــا‪ ،‬بوصفنا‬ ‫كشــأن َ‬ ‫مدنيتنــا اليــوم‪ ،‬وإن ّ‬

‫ضيقــوا مجالها‪ ،‬إذ‬ ‫يواصلــون مهمــة التفســير‪ ،‬غيــر أنهــم ّ‬

‫بــاهلل‪ ،‬والعاملــة علــى غيــر وفــق نوامســيه وتعاليمــه‪...‬‬

‫فســر الرســول ‪ ‬القــرآن لألمييــن‪ ،‬ظــل الســلف‬ ‫فكمــا ّ‬

‫أمــة تهيــأت برســالتها لتكــون الشــاهد والرائــد والمؤطر‪،‬‬

‫ظلــت الحرفيــة واالفتراضية الغيبية واألســطورية الكتابية‬

‫عقيما‪ ،‬ال وزن لهــا وال حرمة‪ ،‬إال‬ ‫قــد أحالنــا أمة واهنــة‪،‬‬ ‫ً‬

‫تطغــى علــى التخريجات القرآنية‪ ...‬األمر الذي انعزل به‬

‫باللــواذ مــن جديــد بالخالــق‪ ،‬نســأله التوبــة‪ ،‬ونســتمد منه‬

‫القــرآن عــن الواقــع‪ ،‬فلم يعــد الموجه المرشــد‪ ،‬ثم لبث‬

‫القــدرة والتوفيق في النهــوض بالدعوة من جديد‪ ،‬وعلى‬

‫يتراجع مع الزمن إلى ســطحية شــكلية وتخويفية ن ّفرت‬

‫أسس من التواثق الخالص المكين‪.‬‬

‫قربت‪.‬‬ ‫أكثر مما ّ‬ ‫حببت‪ ،‬أبعدت أكثر مما ّ‬

‫فآيــة "اشــتعال الــرأس" هي آيــة المتاب الــذي يتجدد‬

‫عمليا للقرآن‪،‬‬ ‫تفســيرا‬ ‫ينتحــي اليــوم مشــروع الخدمة‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫الروحــي إلــى فســحة الرخــاء الحضاري التــي يكفلها لها‬

‫إنجازيا‪ ،‬فكما أن الرسول ‪ ‬عاش وجعل‬ ‫ال‬ ‫الداللة مح ًّ‬ ‫ًّ‬

‫بــه الميثــاق مــع اهلل‪ ،‬والــذي به تغادر األمــة مضيق العقم‬

‫ميدانيــا مــن خــال إحالل‬ ‫فالخدمــة نهــج يفســر القــرآن‬ ‫ًّ‬

‫اإليمان والعمل الصالح‪.‬‬

‫الصحابة يعيشون القرآن على أرض الواقع‪ ،‬يحدو اليوم‬

‫إن منهج كولن في التفسير يرتكز على خطة الغوص‬

‫ال‬ ‫الطــاب‬ ‫ُكو َلــن‬ ‫الهمة إلــى أن يكونوا قرآنيين قو ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأهل ّ‬ ‫ال؛ فإذا تحدثوا عن التقوى كانوا تقاة بالقوة والفعل‪،‬‬ ‫وفع ً‬

‫فــي محاصــرة الحطــة‪ ،‬والدفع بالروح إلــى آفاق التجدد‬

‫وإذا تحدثــوا عــن المــوت كانــوا أموا ًتــا باالحتســاب‬ ‫واالمحــاء والرقابــة ونكــران الــذات وهــم أحيــاء‪ ،‬وإذا‬

‫تحت الســطح‪ ،‬ومجــاوزة اإلطار الشــكلي الحرفي‪ ،‬إلى‬ ‫اســتنطاق روح الداللــة‪ ،‬واســتخراج إيعازاتهــا التــي تفيد‬

‫ويمكننا أن نتحســس الرؤيــة الكولنية إلى الداللة من‬

‫خــال تمثلــه لـ"اللفــظ القرآنــي"‪ ،‬فهــو يــرى أن كل كلمة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫اعتكفــوا اعتكفــوا فــي قلوبهــم‪ ،‬فهــم يعيشــون فــي قــاع‬ ‫الروح حتى وهم يســيحون في األوطان‪ ،‬شاغلهم العمل‬

‫فــي القــرآن هــي نافذة إلى الجنــة‪ ،‬وإن هــذا التمثل يبتعد‬

‫هلل من حيث يحسب الجاهل أنهم يشتغلون ألنفسهم‪.‬‬

‫الغيبــي والمحســناتي الــذي حاصرهــا فيــه التفســير طيلــة‬

‫للدعــوة والتبليــغ بالوســائل المتجاوبــة مــع العصــر‪ ،‬إذ‬

‫‪-‬ح ًّقــا‪ -‬بالمفــردة القرآنيــة مــن حقل التفعيــل االفتراضي‬

‫إن الخدمــة تقــرأ التفســير اليــوم علــى أنــه النهــوض‬

‫القــرون‪ ،‬ليتحــول بهــا إلــى فضــاء التحقــق والتجســيد‬

‫توفيــر المدرســة كان المشــروع األول للرســول ‪ ‬فــي‬

‫النفســية المؤمنة‪ ،‬واستشــفاف مدلوالت تحفز على البناء‬

‫بنــاء المصلــى والمرفــق االجتماعــي والخدماتــي‪ ،‬إذ هي‬

‫"الخدمة" تفسير للقرآن‬

‫منها ذوو الحاجة‪ ،‬ويطمئن بها الطارئ على الدين‪ ،‬إذ ال‬

‫الواقعــي‪ ،‬مــن خالل اســتكناه معاني تبني الــروح وتقوي‬

‫رهــان تشــكيل الصفوف األولــى للجماعــة واألمة‪ ،‬وكذا‬

‫والتعمير وامتالك القوة التي يتعزز بها اإليمان الحق‪.‬‬

‫وســائل يوفرها اإلســام من خالل جهد المسلمين‪ ،‬يفيد‬

‫ومما ال ريب فيه أن القرآن الذي لم يستغن عن المفسر‬

‫يكفــي أن نردد أن اإلســام هو ديــن العالمين وال ننهض‬

‫أي خــال العهــد الذي كانــت فيه العربية لغة المســلمين‬

‫األفــواج التــي لن تتردد في اإلقبال على الدين الحق متى‬

‫حتــى فــي حيــاة الرســول ‪ ‬وحيــاة الخلفــاء مــن بعــده‪،‬‬

‫‪98‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والعبودية واالقتدار التاريخي واالعتداد الحضاري‪.‬‬

‫تحدثــوا عن الفالح كانوا مفلحين بالقلب والقالب‪،‬‬ ‫وإذا ّ‬

‫األوائــل‪ ،‬لــن يســتغني فــي كل عصــر عــن المفســر‪ ،‬ألنــه‬

‫وأعــدادا‪،‬‬ ‫أفواجا‬ ‫ديــن مفتــوح علــى العالميــن‪ ،‬يدخلونــه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ويقتضــي ذلــك منهم المرشــد والموضــح والموجه‪ ،‬أي‬

‫المفســر (العملــي والنصوصــي)‪ ...‬فهو من هــذا الجانب‬

‫األمييــن بالفعــل‪ ،‬إذ كل طــارئ عليه يحتاج‬ ‫ُيعتبــر كتــاب ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بمــا يقتضيــه منــا واجــب التهيــيء الســتقبال واســتقطاب‬ ‫ما تلقت التحسيس الصحيح‪.‬‬

‫إن اإلســام منــوط بمهمــة التبليــغ مــدى الدهر‪ ،‬فهو‬

‫تلب حاجات مرحلية‬ ‫الدين المطلق األحكام‪ ،‬تعاليمه لم ّ‬ ‫فحســب‪ ،‬وداللتــه فوقيــة عابــرة للعهــود‪ ،‬وتخصيصاتــه‬

‫تعميمات‪ ...‬ولعل مفتتحات كثير من سوره دالة على هذه‬


‫لقد رأينا األستاذ كولن ميارس التفسري‪ ،‬لكنه تفسري‬

‫شــرط البركة والجزاء ســواء أتمت الصفقة أم لم تتم‪ ،‬بل‬

‫نقطي‪ ،‬يحتلــب من رضع اآلية ما يرمم به نفســية‬

‫سواء أو كسبوا منها أو لم يكسبوا؛ ألن الضمير انصرف‬

‫املســلم املأزوم املهزوم‪ ،‬ويعيد إليه التامسك‬

‫فــي المنطلــق إلى تحقيق مرضاة اهلل‪ ،‬فهم من ثمة جذلين‬

‫والعزة‪.‬‬

‫الجــذل الباطني الدائم الذي اكتســبوه ونمته فيهم روحية‬

‫اإلحسان واالحتساب‪.‬‬

‫محســناتية مثــل التــي قــرأ بهــا فقيــه إعجازي‬ ‫فصــورة‬ ‫ّ‬ ‫‪‬ر ِّب ِإ ِّني َو َه َن‬ ‫هــو عبــد القاهر الجرجاني‪ ،‬قولــه تعالى‪َ :‬‬ ‫ــن ب ُِد َعا ِئ َك َر ِّب‬ ‫العظم ِم ِني واشــتعل‬ ‫س َش ْــي ًبا َو َل ْم َأ ُك ْ‬ ‫الر ْأ ُ‬ ‫ْ َ ْ ُ ّ َ ْ َ َ َ َّ‬ ‫َشــ ِق ًّيا‪(‬مريم‪ ،)4:‬وهــو أن اإلعجــاز حصــل فــي هــذه اآلية‬ ‫جــراء تعاقــب حركــة الشــيب حين يدب فــي الرأس‪ ،‬مع‬

‫من المحسن البياني إلى المحسن البنائي‬

‫القــرآن غــادر محطة التفعيل الداللي التي طالما مارســها‬ ‫المفسرون عليه‪ ،‬إلى محطة الفقه التعميري الذي اقتضته‬

‫بواعــث االســتفاقة واســتعادة الدور واالبتعــاد عن موقع‬

‫الذيلية الذي بوأنا فيه سوء فهمنا لمقاصد ديننا‪ ،‬وخطؤنا‬

‫حركــة النــار حين تســري في الهشــيم‪ ،‬وإن الســقفية التي‬

‫في التعامل مع فحوى كتابنا وسنة رسولنا ‪.‬‬

‫احت ّلتهــا هــذه التخريجــة البالغيــة الجرجانيــة عنــد ســائر‬

‫وإذا كان "عبــده" ‪-‬ومــن قبلــه األفغانــي واألميــر عبد‬

‫أجيــال البيانييــن والمفســرين وعلماء اإلعجــاز‪ ،‬قد باتت‬

‫ــدون فــي طليعــة مــن ســعى إلــى التحلحــل‬ ‫القــادر‪ُ -‬ي َع ّ‬

‫ذهنيــة العصــر الراهــن تتجاوزهــا‪ ،‬ال لعــدم كفايتهــا فــي‬

‫بالداللــة القرآنيــة عــن محطــة الجمــود‪ ،‬بحيــث عملــوا‬

‫التحليــل التذوقــي‪ ،‬ولكــن ألن القصــد التعميــري الملح‬

‫علــى استشــراف شــيء مــن أبعادهــا الدنيويــة‪ ،‬بعــد أن‬

‫القــرآن نفســه المســلمين إلــى تجــاوز التركيــز عليهــا فــي‬ ‫ُ‬

‫توجيها للعقل اإلســامي أن يأخذ بشــرطي‬ ‫مواطن عدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اإلسالم الكامل وهما اإليمان المقرون بالعمل الصالح‪،‬‬

‫أي بالتقــوى وبالتعميــر؛ فقــد َّبيــن المولــى فــي كتابــه من‬ ‫وح ِم ْن َأ ْم ِر َر ِّبي‪(‬اإلســراء‪ ،)85:‬كيف‬ ‫الر ُ‬ ‫خــال قوله‪ُ  :‬ق ِل ُّ‬ ‫يصــرف المســلم ذهنــه عمــا هــو خــارج نطاق العقــل‪ ،‬أو‬ ‫عمــا يدخــل في إطــار علم اهلل‪ ،‬إلى ما يندرج ضمن دائرة‬

‫العقل فينشده‪ ،‬مس ّل ًحا بالعبادة والعبودية التي ترجع كل‬

‫توفيقاتها إلى اهلل ‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مولعــا بالغيبيــات والقدريــات التــي أرشــد‬ ‫ظلــت‬ ‫تكــرارا ً‬ ‫ً‬

‫اليــوم‪ ،‬يســتوجب أن تتفتــق المعانــي القرآنيــة عــن أبعــاد‬

‫أج َّد تحتويها‪.‬‬ ‫أخرى تكمن فيها‪ ،‬ومرامي َ‬

‫لقد رأينا األســتاذ كولن يمارس التفســير‪ ،‬لكنه تفسير‬

‫نقطي‪ ،‬يحتلب من ضرع اآلية ما يرمم به نفســية المســلم‬

‫المأزوم المهزوم‪ ،‬ويعيد إليه التماسك والعزة‪.‬‬

‫وإن اســتلهام طريقــة األســتاذ كولــن فــي التفســير‪،‬‬

‫يجعلــك تتوجــه بمعنــى آيــة "اشــتعال الــرأس" الســالفة‪،‬‬ ‫إلــى مجالــي أخرى قريبــة من الذهن‪ ،‬وأكثــر صلة بواقع‬

‫المسلم الحياتي‪ ،‬فإن المسخ المدني لحضارة الئكية قد‬ ‫بات يكتنف المســلم ويلفه في شــرنقة من الغفلة‪ ،‬بحيث‬

‫بل إن قصة التساؤل عن عدد أصحاب الكهف بقيت‬

‫نهبــا لضغوط العيــش والجري وراء‬ ‫بــات يعيــش مفتو ًنــا‪ً ،‬‬

‫ومــا ذلــك إال ألن اإلســام شــاء أن يرســم ببيداغوجيتــه‬

‫الهــرم‪ ،‬كل ذلــك والســجل فــارغ مــن الحســنات‪ ،‬طافح‬

‫ســجاليا‪،‬‬ ‫معلقة‪ ،‬ولم يبينها القرآن رغم أن الموقف كان‬ ‫ًّ‬ ‫األدائية‪/‬الترشــيدية الوجــه المثمــرة الــذي علــى العقــل‬

‫المســلم أن يشــتغل به وعليه‪ ،‬فال تســتهلكه االفتراضات‬ ‫السماء وعلم اهلل‪.‬‬

‫ال ريــب أن القــرآن اليــوم يتخطــى المشــاغل البيانيــة‬

‫دهــورا‪ ،‬إلــى مشــاغل البنــاء‬ ‫والبالغيــة التــي اســتغرقته‬ ‫ً‬ ‫والتعمير ُببعديه اإلنساني والمادي‪.‬‬

‫بالســيئات‪ ،‬فــا ســانحة للعودة إلى الفتــوة وتجديد القوة‬ ‫لشــق طريــق ملــؤه اإليمان‪ ،‬بــدل طريق الغفلــة والجحود‬

‫واإلفالس الذي سلخ فيه العمر‪.‬‬

‫بل إن اشــتعال النار في الرأس هو إيحاء إلى الرماد‪،‬‬

‫وإلــى نفــاد الذخيرة‪ ،‬وإلى انعدام مــا يجعل النفس تأنس‬

‫وتطمئــن‪ ...‬ولعمــري إن مفهــوم "الوهــن" و"الهــرم"‬ ‫ومشــارفة عتبــة الهــاك‪ ،‬ليحيــل إلــى شــيخوخة المدنيــة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫التــي تخــرج عــن علــم األرض وعلــم اإلنســان إلــى علم‬

‫المستهلكات‪ ،‬فال يعبأ الفرد إال وقد جلله الشيب وطواه‬

‫‪97‬‬


‫بــادا أخــرى‬ ‫وأتــاح لهــا أن تنشــئ وتؤســس‪ ،‬فــإن هنــاك‬ ‫ً‬

‫علــى الظــروف‪ ،‬وال تتــردد علــى ارتــكاب أنــواع اإلفك‪،‬‬

‫مــن أجل فتح بــاب العمل الخدمي والترخيص له ضمن‬

‫الظمــإ لتمريــره في قنوات من التزويــر والخيانة والتنصل‬

‫نفســا بنيــل مــال الربــا‪ ،‬تعمــل بــذات‬ ‫فهــي كمــا طابــت ً‬

‫تواصــل اإلغضاء عن الدعــوات المتكررة الموجهة إليها‬

‫شروط التقيد بقانون تلك الدول‪.‬‬

‫مــن موثــق اســترداده‪ ،‬متواطئة فــي كثير مــن األحيان مع‬

‫األنظمــة القاصــرة تــرى أن االنغالق يطيــل أعمارها‪،‬‬

‫األجهــزة البنكيــة الحكوميــة التــي باتــت تحتــرف مهــام‬

‫ال فــي مجــال التحجــب‬ ‫فالصيــن نفســها التــي كانــت مثــا ً‬

‫موظفيهــا مرتشــين‪ ،‬يشــاركون فــي تحصيــل القــروض‬

‫التزويــر‪ ،‬وتحذق طرق المســح والعتق من الدين‪ ،‬لكون‬

‫وهــو اعتقــاد بليد‪ ،‬والدليل ما نــراه من أمر الصين وكوبا‪،‬‬

‫ومحوها بمقابل‪.‬‬

‫واالمتنــاع عــن المؤثرات‪ ،‬ها هي اليوم تســير على طريق‬

‫هــؤالء الشــريرون ال يحملــون فــي ذواتهــم ذرة مــن‬

‫االنغماس التغربي رغم التحوطات الكبرى التي يتخذها‬

‫ضربا من‬ ‫الهمــة ً‬ ‫خيــر‪ ،‬فلــذا تكــون دعوتهم إلــى مجالس ّ‬

‫أســاطين نظامهــا القومي الشــيوعي ســنة اهلل في األرض‪،‬‬ ‫ولــن تنجــو أمــة أو زمــرة أو نظام مــن طائلــة التحلل‪ ،‬إال‬

‫النفــخ فــي الرمــاد الــذي ال يجنــي فاعلــه إال تغبير وجهه‬

‫تلــك التي تتوفق إلى هضم الــواردات وتأصيلها وإضفاء‬

‫وتشويه طلعته‪.‬‬

‫الروح المحلية عليها‪.‬‬

‫عكســهم األريحيــون الذيــن يســكنهم حــب الخيــر‪،‬‬

‫فإنهــم يجــدون فــي التجند وراء مشــاريع االحتســاب ما‬ ‫يبــدل حياتهم‪ ،‬ويرتفــع بهم إلى صعيد من الرضى ٍ‬ ‫عال؛‬

‫وكان األولى بالبالد المنغلقة أن توجد العقلية الفعالة‬

‫التــي تتلقى األفكار والمناهج الواردة‪ ،‬فتكيفها وتدمجها‬ ‫الضغــوط الخارجيــة فــي حقل األفــكار والقيم تطرق‬

‫الحدود اليوم بكل قوة وعناد‪ ،‬وكل ما تسد األنظمة الباب‬

‫في وجهه‪ ،‬ال ينفذ من النافذة بل ينزل من السماء‪ ،‬تتلقاه‬ ‫األســطح واألفنيــة والرحــاب واألصعــدة‪ ،‬وإن مشــاريع‬

‫تبحث عنه من قبل أن تهتدي إلى طريق الخدمة‪.‬‬

‫ال على طراز‬ ‫وتســمع بمآثرهم‪ ،‬فتتوقع أن ترى رجا ً‬

‫أناسا في تمام البساطة‪،‬‬ ‫بدري‪ ،‬لكنك تلتقيهم فال ترى إال ً‬

‫ال بمواعيــد‪ ...‬يتصرفون في‬ ‫أثــرا لتوتر وال انشــغا ً‬ ‫عليهــم ً‬

‫ال ننــس أن تأديــة حــق اهلل ال يتأتى إال ألهل اهلل ممن‬

‫فلكأنهــم في قنوت دائم‪ ،‬تتفتح قلوبهم لألذكار وســماع‬

‫االمحــاء‪ ،‬فكأنهم مــا أنفقوا وما‬ ‫بــل تــرى‬ ‫ً‬ ‫أفــرادا يجللهم ّ‬ ‫بذلــوا‪ !..‬وتعلــم أنهم يزاولــون العمل الربحــي‪ ،‬فال ترى‬

‫إدارة حياتهــم علــى إيقــاع الصــاة‪ ...‬يجنحــون للصمت‬

‫يؤسســون كسبهم على الحالل‪ ،‬ولذا فإن الشيطان أقرب‬

‫المخشــعات‪ ...‬يبدأون نهارهم بقراءة الرســائل اإليمانية‬

‫والثروة المربية‪ .‬فالذين نراهم عزفوا عن االســتجابة إلى‬

‫يباشــرونها فــي وثبــات ال تزيــغ عــن الســكينة‪ ...‬فالبركة‬

‫إلــى نفــس صاحــب المــال المنهــوب‪ ،‬والجهــد الزائــف‬ ‫مجالس التزكية‪ ،‬وفزعوا منها وغادرواها كأنما سمعوا ما‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ويحســون أن حياتهــم باتــت تمتلــك المعنــى الذي ظلت‬

‫الخدمــة التــي ال تفتــأ تقيــم لهــا أوطئــة ومواطــئ قدم في‬ ‫ِ‬ ‫وتجســر األجواء وتمد‬ ‫مختلــف البــاد‪ ،‬ستشــق األنفاق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األسالك والقنوات مع كل أرض منغلقة‪ ،‬وستجد األنظمة‬ ‫نفســها أمام ظاهرة خيرية ال ســبيل إلى االعتراض عليها‪.‬‬

‫‪96‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ونفعا لها‪.‬‬ ‫في الوجهة الوطنية‪ ،‬فتكون تقوية ً‬

‫إذ أنهــم كلمــا أعطوا وبذلوا‪ ،‬يستشــعرون الوجود الحق‪،‬‬

‫يسيء لهم ويؤذيهم إنما هم أشقياء‪ ،‬يستعبدهم الشيطان‬

‫ويرغــم أنوفهــم فــي تــراب المادة‪ ،‬فــا يزيدهــم ذلك إال‬

‫شقاء وغفلة‪.‬‬

‫أو حضــور مجالســها‪ ،‬وحيــن يتصــدون للمهــام تراهــم‬ ‫تشملهم حين الحركة وحين السكون‪.‬‬

‫إنهــم يعمــرون بواطنهــم ‪-‬نتيجــة مــا يداومــون علــى‬

‫وضعــه فــي يــد اهلل من بذل‪ -‬بحبــور ليس وليــد اللحظة‪،‬‬

‫وال هــو ســريع االنطفــاء‪ ...‬حبــور يســتوطنهم ويــازم‬

‫كثيــرون فــي عهــد العولمــة والدعــوة إلــى االســتثمار‬

‫أعماقهــم في أحــوال اليقظة والمنام‪ ،‬الحــل والترحال‪...‬‬

‫ثــروة بــروح هوجاء‪ ،‬ال تراهن إال على الكســب‪ ،‬تتحايل‬

‫وســبق إلى أذهانهم حق اهلل فيه‪ ...‬فهم من ثمة يحوزون‬

‫ســارعوا إلى االقتراض من بنوك الربا‪ ،‬وانخرطوا ينمون‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كســبيا آخــر إال‬ ‫عقــارا أو معطــى‬ ‫ال يســاومون بضاعــة أو‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬


‫يقــرأ كولن النص القرآين بــروح النهضة والتعمري‪،‬‬

‫شــيئا‪ ،‬ثم أشــرق من‬ ‫عن نفســهم ال يدرون من حقيقتهم ً‬

‫ويســتمد من روحيــة تعاليمــه الربانية مــا يبني‬

‫بصيــص نــورٍ ‪ ،‬ســرى يعمــر الخرابــات‬ ‫طيــات االدلهمــام‬ ‫ُ‬

‫اإلنسان العامل‪ ،‬ويحشــد الجامعة املجندة‪ ،‬ويربز‬

‫الداخليــة ويجددهــا علــى أســس مــن تقــوى ودعائــم من‬

‫الطائفة املنتخبة الظاهرة عــى الحق‪ ،‬التي ترتد‬

‫يقيــن‪ .‬هنالــك نفضوا األيدي وشــدوا األحزمــة‪ ،‬وأعلنوا‬

‫إليها أنظار العاملني فرتى الفتوح ترتى عىل يديها‪،‬‬

‫تجنيديتهــم‪ ،‬مقدميــن مــا بيــن أيديهــم ومــا خلفهــم مــن‬

‫وتتلقى الرتشيدات منها‪ ،‬فتقبل عىل ما تحمل من‬

‫مكسب‪ ،‬قد استحالت نظرتهم إلى الكون وإلى النفائس‪،‬‬

‫جزءا مل ًّيا فيها‪.‬‬ ‫رسالة‪ ،‬تحضنها وتعتنقها‪ ،‬وتضحى ً‬

‫جديــدا‪ ...‬باتوا ينظــرون من نفس‬ ‫فلكأنهــم خلقــوا خل ًقــا‬ ‫ً‬ ‫الكــوة البهيجــة التــي نظــر منهــا األطهــار‪ ،‬باتوا يســيحون‬

‫حيثمــا ولــوا األبصــار في ممالــك الخلد‪ ،‬فكأن َم َّســ ًة من‬

‫أو الع َلــن علــى مشــاطرة الخدمة محاصيلهــم من الدخل‬

‫كل مخازي األنانية والشح واالنغماس والتهافت‪.‬‬

‫أهــل البصائــر يهتدون إلى طرق مــن الخير تعمر األرض‬

‫جنســا آخــر مبرأ من‬ ‫الفــردوس نفــذت إليهم‪ ،‬فأصارتهم ً‬

‫والكســب‪ ،‬وهكذا يفلح مشــروع األستاذ كولن في جعل‬

‫تبني الخدمة‬ ‫للفئات واألوساط والجماهير َدورها في ّ‬

‫اليباب‪ ،‬وتمكن للنهضة أن تكســب من األســباب المادية‬

‫واالنخراط ‪-‬إن أمكن‪ -‬في برامجها بروح ال يشوبها طمع‬

‫مســاحة الخيــر تبدأ صغيرة ثم قــد تتقلص وتتراجع؛‬

‫جاه أو رتبة؛ إذ من أساسيات المصداقية في اإليمان ‪-‬كما‬

‫العمــل وتواصــل التنبيهات والتحفيزات التــي ينهض بها‬

‫من خالل تفهم مقاصدها اإلحسانية الخالصة لوجه اهلل‪،‬‬

‫يعجل َبعودتها إلى ديار اإلسالم‪.‬‬ ‫والروحية ما ّ‬

‫في محظوظية دنيوية‪ ،‬وال يمازجها مطمح في ســمعة أو‬

‫االمحــاء‪ ،‬إذ ال‬ ‫القبليــة تعنــي ّ‬ ‫قبــل نيــل الرتبــة‪ ...‬إن هــذه ْ‬ ‫باالمحاء والتجرد‬ ‫قــدم للفرد على الســلم العروجــي إال‬ ‫َت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغرضيــة‪ ،‬وال نهــوض لألمــة ومجتمعاتهــا‬ ‫التــام مــن َ‬ ‫علــى نهــج الحق واســتعادة حــرارة اإليمــان إال بالتنصل‬

‫الكامــل عــن األهــواء والضالالت‪ ،‬والتحــزب هلل وحده‪.‬‬

‫يسري التأثر إلى الجماهير أينما حل فرسان الخدمة‪،‬‬

‫فمدارســها ال تبــرح أن تحقــق التميــز‪ ،‬وتضحــى مطمــح‬ ‫األهالــي فــي احتيــاز مقعد لألبنــاء بهــا‪ ،‬وألن الدعوة تتم‬ ‫ميدانيــا مــن خــال التواصل‬ ‫علــى أيــدي رجــال الخدمــة‬ ‫ًّ‬ ‫المباشــر‪ ،‬والقيــام بزيــارات إلــى الديــار التركيــة‪ ،‬حيــث‬ ‫يتــاح للزائريــن من كل صوب أن يطلعوا على المنجزات‬

‫والمفخــرات التربويــة واالجتماعيــة والصحيــة والثقافيــة‬ ‫واإلعالميــة والعلميــة وســواها مــن أصنــاف الحقــول‬

‫تفتحــت النفــوس أمــام مــا تــرى مــن جليل‬ ‫ومــا أكثــر مــا ّ‬

‫أعمــال المحســنين للعطــاء‪ ،‬ومــا أكثر ما بــادر أهل العزم‬ ‫إلــى حبــس األراضــي والتعهــد بإقامــة العمــارة المناســبة‬

‫السر‬ ‫عليها‬ ‫ً‬ ‫احتسابا هلل‪ ...‬كثيرون هم الذين واثقوا اهلل في ّ‬

‫رجال الخدمة في كافة أقطار األمة‪ ،‬يجعل تلك المساحة‬ ‫ّتتسع بتدرج وريث‪ ،‬لتعرف التسارع متى ما تناهى العلم‬ ‫بالمشروع إلى أولي األلباب وأهل الجنة‪.‬‬

‫صف الخدمة‪،‬‬ ‫مؤه ً‬ ‫ال ألن يدخــل ّ‬ ‫ليــس كل ذي مــال ّ‬

‫دع ْون إلى مجالس تنوير‪،‬‬ ‫فما أكثر ما رأينا رجال أعمال ُي َ‬

‫فمــا يــكاد المتحدث يطــرق باب اإلحســان والتطوع إلى‬ ‫فروا من المجلس فرار الخزي‪.‬‬ ‫الخير حتى تلقاهم ّ‬

‫ال يقبــض أهــل الخدمــة العاملــون خــارج تركيــا مال‬

‫محسني األوطان التي يطرقونها‪ ،‬وال يتصرفون فيه إال إذا‬

‫أوكلوا به‪ ،‬فإنما دعوتهم ألهل كل بلد أن يبنوا المدارس‬ ‫والداخليات‪ ،‬وأن يقيموا المستشقيات والمصليات‪ ،‬وأن‬

‫يفتتحوا األســواق والمؤسســات الكســبية‪ ،‬ليكــون الريع‬ ‫لصالح العباد‪ ،‬ولتتوسع المرافق الخدمية وتتوطد ِن َعم اهلل‬ ‫أمام الفئات‪ ،‬ولتتجند اإلرادات‪ ،‬وتتوجه إلى ترقية اإليمان‬ ‫وتبليــغ رســالة اهلل ألهل األرض في هــذا الزمن الوبيء‪.‬‬ ‫من جهتها هيئ ُة الخدم ِة تتطلع إلى أن تؤسس مرافق‬

‫التكويــن العلمــي والرعاية االجتماعيــة والثقافية في بالد‬ ‫اهلل كافــة وبالد المســلمين على وجــه الخصوص‪ ...‬وإذا‬

‫كان هنــاك مــن الــدول مــا فتــح البــاب فــي وجــه الخدمة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ترتد الوفود إلى أوطانها قد تهيأت إلى العطاء‪،‬‬ ‫البنائية‪ّ ...‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يقول كولن‪ -‬أن يحســب المســلم حســاب فائدة اإلسالم‬

‫رصاد لكل بادرة إحســان‪ ،‬لكن الوعي وتتابع‬ ‫فالشــيطان ّ‬

‫‪95‬‬


‫وألن الدعــوة إلــى اهلل تقتضــي إعــادة تشــكيل األمــة‬

‫البــروج‪،‬‬ ‫ويعلــي‬ ‫الرجــل الدنيــوي‬ ‫ُي َش ّــي ُِد‬ ‫ُ‬ ‫الصــروح‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شــياطين أهل الدنيا‬ ‫فن َن في ابتكارها‬ ‫ويؤثثهــا بــكل زينة َت َّ‬ ‫ُ‬ ‫وخ َيالء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫زه ًوا ُ‬ ‫الغــرور‪ ،‬ثــم يقف حيالها‪ ،‬فينتفخ ضحــو ًة ْ‬ ‫فتــور التعــو ِد علــى الوهــج‪ ،‬ثم‬ ‫وســرعان مــا يســري إليــه‬ ‫ُ‬

‫جهــودا فعالــة‪،‬‬ ‫أن تلتحــق بــاهلل والرســول‪َ ،‬فت ْح َيــا القــرآن‬ ‫ً‬

‫الوهــج‪ ،‬وإلــى تجريــب طبــوع الرفــث‪ ،‬ومــا أكثــر القاتل‬

‫ال ريــب أن الدعــوة إلى اهلل دعــوة عالمية‪ ،‬وأن تبليغ‬

‫الناهضة‪ ،‬فلذا تنشــد دعوة الخدمة أســباب التوسع‪ ،‬فهي‬ ‫والي ْمن‬ ‫تتفتــح لكافــة أهل الخير ولجماعات أهــل البركة ُ‬

‫تتراكــم الســآمة فــي نفســه‪ ،‬فيــزداد جموحــه إلــى تجديــد‬

‫ومساعي ّبناءة‪ ،‬وبرامج خالقة‪.‬‬

‫مــن تلــك الطبــوع‪ ،‬ثــم تتصــرم الســنون والعقــود‪ ،‬وتحل‬

‫الرســالة إلــى العالميــن هــو الشــرط الوجــودي للمســلم‪،‬‬

‫الشــيخوخة وقــد حفيــت األضــراس وصدئــت المفاصل‬

‫لــذا َت َو َّج َب على المســلمين أن ينهجــوا إلى الدعوة بفكر‬

‫فــي غيــر مــا يكــرم ويشــرف‪ ،‬وكم هي خسيســة شــهوات‬

‫ولمــا كانــت المهمــة جســيمة‬ ‫العصــر وبيداغوجويتــه‪َّ ...‬‬

‫ورهانات قمارية‬ ‫فجور ومقاصف‬ ‫ــم بها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫نس ُ‬ ‫الدنيا إذا لم ْ‬

‫ومحفوفــة بالصعــاب‪ ،‬كان التكاثــر النوعــي والطالئعيــة‬

‫أو تنافســية أو تنازعية تكاثرية‪ ،‬وكلها مفاتن تطحن العبد‬

‫النيــرة مــن وســائل الخدمة ومــن عوامل التقــوي والقدرة‬

‫وتتعر ُقــه دونمــا طائل يخلده ويســتبقي ذكره‪ ،‬وأي أغنياء‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الت َكا ُث ُر‪(‬التكاثــر‪ )1:‬جلس إلى‬ ‫ــم‬ ‫اك‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫‪‬‬ ‫أهــل‬ ‫مــن‬ ‫األرض‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َّ‬ ‫يوما خلي الذهن من الحساب والتوتر؟!‬ ‫طعامه ً‬ ‫َّ‬ ‫يجمع اليوم مشــروع النهضة كما يقوده كولن أركان‬

‫المحبين ممن‬ ‫الممولين أهل الخير‪ ،‬ومن حولهما جموع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يناصرون النهج‪ ،‬كل حسب دوره وأهليته‪ ،‬الواعظ يدلل‬ ‫عليهم ليجد الخيرون الســبيل للسير معهم بالدعاء وبذل‬

‫المحبة في اهلل‪ ،‬والكتاب أهل اإلعالم يح ّللون الفلســفة‪،‬‬

‫ويج ّلون مقاصدها القرآنية‪ ،‬ويقربون المعاني الكامنة في‬ ‫أفكارهــا إلــى النــاس‪ ...‬والنيــرون أهــل اإليمان ينشــرون‬ ‫محامدهــا أينمــا ح ّلــوا‪ ،‬رابطيــن الجهد كما يتجســد على‬ ‫المحمدي‬ ‫أرض الواقــع اليــوم‪ ،‬بمــا ســلف مــن الجهــاد‬ ‫ّ‬

‫الــذي أرســته الدعــوة فــي عهــد ســيدنا محمــد ‪ ‬وعهــد‬

‫أعمال التابعين من‬ ‫الخلفــاء الراشــدين ‪ ،‬وكما احتذ ْتــه‬ ‫ُ‬ ‫األسالف عبر العصور‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫البعثــة‪ ،‬لكــن االحتياط من الطليعــة المؤمنة‪ ،‬أهل الحرقة‬

‫والعشــق والــدأب الــذي ال ينقطــع‪ ،‬يأتــي فــي مقدمــة‬ ‫العوامــل التــي تنهــض بالخدمة؛ فأهــل الدينامية والموثق‬ ‫يتموقعون في رأس المقدمة‪ ،‬ال ينحرف الخط بمسارهم‪،‬‬

‫نظرهــم عن الغايــة العظمى‪ ،‬وال بصيرتهم عن‬ ‫وال َي ُ‬ ‫ميــل ُ‬

‫كتــاب اهلل وتعاليــم رســول اهلل‪ ،‬وال يحيــدون عــن ســيرة‬

‫قرشــا وال‬ ‫اإلمــام الملهــم مجــدد العصــر‪ ،‬الــذي ما اقتنى ً‬ ‫كسبا‪ ...‬عاهدوا اهلل على خدمة‬ ‫ً‬ ‫نشبا وال ً‬ ‫فرشا‪ ،‬وال ملك ً‬

‫وصممــوا علــى أن‬ ‫واألدوم‪،‬‬ ‫اإليمــان‪ ،‬واختــاروا األبقــى‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫تعبره األجيال المحمدية ومعها‬ ‫تكون جماجمهم‬ ‫جســرا ُ‬ ‫ً‬

‫اإلنسانية إلى غد إسالمي رقراق بالفضائل والخيرات‪.‬‬

‫إن طليعة الخدمة هي القاطرة التي تجر اليوم عربات‬

‫الخدمــة‪ ،‬وتوصــل رســالة اإلســام‪ ،‬وتبــث فكــر النهضة‬

‫والتجدد في أقاليم األرض وأرجاء الكون‪.‬‬

‫ال حاجــة للحركــة ِ‬ ‫الخدميــة فــي الدعايــة اإلشــهارية‬

‫إنهــم أهــل العشــق الذيــن نمــوا فــي كنــف الترشــيد‪،‬‬

‫البنائية واإلحيائية؛ ذلك ألن األمة ‪-‬التي لم تستوف َب ْع ُد‬ ‫ترابطهــا‪ ،‬نتيجــة قــرون مــن التفــكك المترتب عــن عهود‬ ‫َ‬ ‫االنحطاط ثم عن عهود االســتعمار‪ -‬ما زالت في حاجة‬

‫ينتشــرون اليــوم‪ ،‬يزرعــون الخدمــة فــي أقطــار األرض‪،‬‬ ‫فئــات البــذل ممــن اســتقطبتهم‬ ‫كمــا أن مــن الطليعــة‬ ‫ُ‬

‫اإلحــواض والجهــود مجتمعــة‪ ،‬فتخلق النهر الذي يشــق‬

‫الداعي‪ ،‬ثم افترشــوا الرصيف يتابعون شــهيقه‪ ،‬ثم حدث‬

‫خالصــا هلل‪ ،‬صاد ًقــا فــي اإلدالل علــى أبعادها‬ ‫إال مــا كان‬ ‫ً‬

‫‪94‬‬

‫يرى كولن أن المحركات الفاعلة عديدة الستحداث‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫خريجي المدارس‪ ،‬ومن‬ ‫الخدمــة بأطرافهــا المتكونة مــن ّ‬

‫على الحراك‪.‬‬

‫إلى أن تتالقى على المشــاريع المشــتركة‪ ،‬بحيث تصب‬ ‫األرض ويعمر الصحراء‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وتخرجــوا بيــد اإلمام فتح اهلل على منهــج القرآن‪ ،‬الذين‬ ‫عرفون العالمين بحقيقة اإلسالم دين الناس كافة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وي ِّ‬

‫الدعــوة إلــى اهلل‪ ،‬فأصاخــوا الســمع‪ ،‬ثم تحركــوا صوب‬ ‫لهم الزلزال‪ ،‬فتخرب كيانهم من الداخل‪ ،‬وساروا ذاهلين‬


‫يجمع اليوم مــروع النهضة كام يقــوده كولن‪،‬‬

‫يبهــر ويجعــل الرفيق يوقن عميق اليقين بأنه إزاء مخلوق‬

‫أركان الخدمــة بأطرافهــا املتكونــة مــن خ ّريجي‬

‫الن ْجر البشــري الذي ألفه أو يتخيل وجوده‪...‬‬ ‫ليس على َّ‬

‫املمولني أهل الخري‪ ،‬ومن حولهام‬ ‫املدارس‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬

‫نموذجا للمثالية في ســيرته اإليمانية‬ ‫لذا كان أبو بكر ‪‬‬ ‫ً‬

‫جمــوع املح ّبني ممــن ينارصون النهج‪ ،‬كل حســب‬

‫سواء في عهد الصحبة والدعوة‪ ،‬أم بعد وفاة الرسول ‪،‬‬

‫الخيون‬ ‫دوره وأهليته‪ ،‬الواعــظ يدلل عليهم ليجد‬ ‫ّ‬

‫ومــا أعقــب ذلك الحــدث الجلل مــن تمحيصات أجلت‬

‫الســبيل للســر معهم بالدعاء وبذل املحبة يف‬

‫األلماس من النحاس‪.‬‬

‫اللــه‪ ،‬والكتــاب أهــل اإلعــام يحلّلون الفلســفة‪،‬‬

‫إن مــن يتأمــل االســتجابة التــي كانــت مــن أبــي بكــر‬

‫ويجلّــون مقاصدهــا القرآنية‪ ،‬ويقربــون املعاين‬

‫وهــو يتلقــى خطبــة النبــي ‪ ‬للصغيرة عائشــة‪ ،‬يــدرك أن‬

‫الكامنة يف أفكارها إىل الناس‪.‬‬

‫الصلة بين النبي وصاحبه األوفى كانت تجاوزت خطوط‬ ‫االعتيــاد‪ ،‬ألن الصاحــب كان قــد خبــر فــي صاحبــه مــن‬ ‫اآليــات البينــات ما بات يضعه في عينه فوق كل اســترابة‬

‫ومكــن للحــراك التجــاري أن يــدر الرخــاء علــى الجزيرة‬ ‫َّ‬ ‫لفر َشــ ِة ازدهار شــملت‬ ‫مــن أقصاهــا إلــى أقصاها‪ّ ،‬‬ ‫ممه ًدا ْ‬ ‫القــارات مــن خــال شــمول النظــام التداولي اإلســامي‬

‫أو تساؤل‪.‬‬

‫مــات أبــو بكــر ‪ ‬وهو يتســبب لرزقه في األســواق‪،‬‬

‫بعــد أن أنفــق ثروتــه دون حســاب‪ ،‬وكان ســهمه فــي كل‬

‫لألرجاء الحيوية من العالم القديم‪.‬‬

‫اكتتاب هو األجزل واألوفى‪.‬‬

‫حيــاة الرســول ‪ ‬هي الرصيد المذخــور لدفع التكاليف‬ ‫الكبرى‪ ،‬ال غرابة أن نرى األستاذ كولن يؤكد أن ما شاع‬

‫عن إنفاق ســيدنا عثمان ‪ ‬على قرابته وهو خليفة‪ ،‬إنما‬ ‫يوما بينها وبين‬ ‫كان إنفا ًقا من صميم ثروته التي لم يفرق ً‬

‫مــا فــي خزينــة مال المســلمين‪ ،‬ولم تكــن الخزينة تحوي‬ ‫شــيئا فــي عهد الرســول ‪ ،‬ألن ريع الفــيء والزكاة كان‬ ‫ً‬ ‫ــب ألصحابــه في الحيــن‪ ،‬إنما أداء كلفــة المصاريف‬ ‫ُي َص ُّ‬

‫الكبرى كلما طرأت‪ ،‬كان ينهض بها عثمان ‪ ‬ونظراؤه‬ ‫من ذوي اليســار‪ ،‬ســواء في تغطية حاجة الفقراء الدائمة‪،‬‬

‫أم فــي تجهيــز الحمــات العســكرية وتغطيــة مقتضيــات‬

‫الدعوة حين الضرورة‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومثلــه كان ســيدنا عثمــان ‪ ،‬إذ كانــت ثروتــه فــي‬

‫لقــد تم للرســول ‪ ‬كل ذلــك التوفيق‪ ،‬ألن اهلل أوجد‬

‫في األمة أثرياء ورجال أعمال مو ّفقين إلى الخير وحسن‬

‫ومــن احتذاهم‬ ‫العاقبــة‪ ،‬مــن أمثــال ســيدنا ابن عــوف ‪َ ‬‬ ‫فــي الحــق األعصــار‪ ،‬يعرفون كيف يسوســون األســعار‪،‬‬ ‫يروجــون للحالل‪ ،‬وكيف يديــرون الثروة والمال‬ ‫وكيــف ّ‬

‫فــي خدمــة الدعــوة‪ ،‬مح ّققيــن بالفعل ما قــرره القرآن في‬ ‫مستخلفين في مال اهلل‪ ،‬إذ هم المعنيون‬ ‫شأنهم من كونهم َ‬ ‫بهــذا النــداء الذي خص اهلل به أهل الحظــوة‪ :‬آ ِم ُنوا بِا ِ‬ ‫هلل‬

‫آم ُنوا‬ ‫ين ِفي ِه َفا َّل ِذ َ‬ ‫َو َر ُسو ِل ِه َو َأ ْن ِف ُقوا ِم َّما َج َع َل ُك ْم ُم ْس َت ْخ َل ِف َ‬ ‫ين َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِير‪(‬الحديد‪.)7:‬‬ ‫م ْن ُك ْم َوأ ْن َف ُقوا َل ُه ْم أ ْج ٌر َكب ٌ‬ ‫إن منهــج األســتاذ فتــح اهلل كولن اليــوم‪ ،‬وهو ينتدب‬ ‫أهل الثروة‪ ،‬إنما يريد أن يحتذي في مشروعه اإلنهاضي‬ ‫خطــى الرســول ‪ ،‬وألنــه وا ِثــق مــن أن حــب الخيــر‬

‫ولقــد أمكــن للرســول ‪ ‬أن ينشــئ الســوق فــي دار‬

‫واإلحســان جبلــة في النــاس متى ما توفرت لهم أســباب‬

‫مراكــز التجــارة فــي الجزيــرة العربية‪ ،‬وأن يحــرر التجارة‬

‫يقيِد الروح ويعيقها عن التجنيح في معارج الكمال‪.‬‬ ‫الذي ّ‬ ‫ِ‬ ‫ــي القريــب من الرســول ‪،‬‬ ‫مــا ظفــر أبــو َ‬ ‫لهــب‪ ،‬الغن ُّ‬ ‫وامرأتــه الحســيبة النســيبة‪ ،‬إال بالذكــر الســيئ‪ ،‬والصــورة‬

‫ِــد‬ ‫حي َ‬ ‫الهجــرة‪ ،‬ويضبــط األســوام (والعمــات)‪ ،‬وأن ُي ّ‬ ‫الحكرة اليهودية في المدينة‪ ،‬ويقلص منها على مســتوى‬

‫ورصة" ذلك الزمان تسير على التقييم‬ ‫األمر الذي جعل ُ"ب ْ‬

‫دهورا في يــد الربويين اليهود‪،‬‬ ‫اإلســامي‪ ،‬بعــد أن ظ ّلت‬ ‫ً‬ ‫ويترتب عنها توســع اقتصادي عم المجتمع اإلسالمي‪،‬‬

‫المسفة والرمزية الشائهة‪ ،‬عكس ما نال الصادقون األبرار‬

‫الذين أفرغوا الجيوب‪ ،‬وأخ َل ْوا األيدي من الثروة‪ ،‬تقربوا‬ ‫بها إلى اهلل المانح الباذل المغني المفقر‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫من نفوذهم‪ ،‬ويعطي للعملة الســعر القار بتحريم الربا‪...‬‬

‫االنتفــاض علــى أنفســهم‪ ،‬والتمــرد علــى شــيطان النفس‬

‫‪93‬‬


‫دائما‬ ‫تفتأ َت ِع ُد با ِ‬ ‫إلدرار‪ ،‬فأول السيل قطر‪ ،‬والجالئل تبدأ ً‬

‫وتثبيتا‬ ‫تمحيصا للمؤمنين‪ ،‬وتزكية لهم‪،‬‬ ‫فتكون كل واقعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الكمــال‪ ،‬ورغبــة التحرر من ضغط الكــزازة‪ ،‬فيفرغون ما‬

‫ينتهــي إلــى العالمين على يد أطهــار عركتهم االمتحانات‬

‫ألقدامهم على الموثق‪ .‬ذلك ألن اهلل شــاء لهذا الدين أن‬

‫ُنقطيــة‪ ،‬نــادرة‪ ،‬يبدؤها أفراد تســكنهم اندفاعة الحرقة إلى‬

‫وعجمــت عودهم وهم يشــدون على الرايــة‪ ،‬فما زادتهم‬

‫ال وعطاء‪ ،‬مختارين طريق الكدح ومداومة‬ ‫في الجعبة بذ ً‬

‫العطاء واالحتساب بما يصيبهم من حظ‪ ،‬ال يسوؤهم أن‬

‫االبتالءات إال جذرية في الثبات‪ ،‬وصميمية في الصمود‬

‫وتحمــل العيــش الكفيف‪ ،‬ثم يهش لهــم الحظ‪ ،‬ويذللون‬ ‫ُّ‬

‫فمــا وهنــوا ومــا اســتكانوا‪ ،‬إلــى أن انتهــوا باإلســام إلى‬

‫تخلو أيديهم من المال المبارك‪ ،‬وأن يتحملوا أعباء الكد‬

‫علــى الحــق والقــرآن‪ .‬لقد جــازوا أنواع اإلنفاق الشــاقة‪،‬‬

‫الصعاب‪ ،‬ثم ترتد إليهم الحياة طائعة منقادة‪ ،‬وهنا يلتحق‬

‫الشــاطئ حيــث انتصب عقيدة الحــق التي ال تبلى‪ ،‬والتي‬ ‫حتما‪ -‬مال ًّذا للعالمين‪ ،‬يأوي إليها البشــر‪ ،‬بعد‬‫ســتكون‬ ‫ً‬

‫الالحقون‪ ،‬وتتكاثر األيدي للمبايعة على البذل‪ ،‬ويفشــو‬

‫الجهاالت‪.‬‬ ‫الضــاالت‪ ،‬وتحطمهــم‬ ‫ا‬ ‫أن تترداهــم طويــ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫الخير وتعم المحامد‪.‬‬

‫المال حاضن الدعوة وسن ٌد لخطواتها‬

‫المدرسة األرقمية‬

‫أول مدرســة أمهــا القرآنيــون تأسســت علــى يــد النبي ‪‬‬

‫أنفــارا منــذ البــدء للدعــوة أن يكونــوا ســندها‬ ‫ّقيــض اهلل‬ ‫ً‬

‫هي مدرسة األرقم‪" ،‬ولم تكن إال دويرة ضيقة‪ ،‬جدرانها‬ ‫الرتيالء أعشاشها"‪...‬‬ ‫مألى بالثقوب‪ ،‬وفي سقفها ُت َس ِّدي‬ ‫ُ‬ ‫اشــت ِحنت على يد الرســول ‪‬‬ ‫فيها تكاملت أول جماعة ُ‬ ‫بطاقــة القــرآن؛ كانــوا يدخلــون رحابهــا ولــم تتمصمــص‬

‫واألعمــال‪ ،‬أولئــك الطليعــة الموســرون الذيــن احتضنوا‬

‫فــي أول البعثــة‪ ،‬واتســم نظــام ارتيادها بالســرية والحذر‪،‬‬

‫جلســتين في حضرة النبي ‪ ‬يتشــللون‪ ،‬ويغدون يلمعون‬

‫كأنما هم قوارير سكب عليها ماء ثجاج‪ ،‬فجددها وأعاد‬ ‫الت َّو‪.‬‬ ‫لها طغرائيتها األولى‪ ،‬أو كأنما هي تخرج من غالفها َّ‬

‫كانــت ّأمنــا خديجــة ‪ ‬أولــى مــن طــرح الثــروة فــي‬

‫حجــر محمــد ‪ ،‬وأطلقت لــه اليد في اإلنفــاق‪ ،‬وزادت‬

‫علــى ذلــك ‪-‬حين يجب‪ -‬الــرأي والمشــورة والتأييد في‬ ‫القــرار‪ ...‬ماتــت ّأمنــا خديجة وقد رأت مالها قد اســتنفد‬

‫فــي الخدمــة‪ ،‬وألفــت نفســها فــي أخريات حياتهــا تعيش‬

‫الص َّفــ ُة مدرســ ًة أخــرى ذات طابــع عمومي‪،‬‬ ‫وكانــت ُّ‬

‫تتــوزع مرتاديهــا مجالــس تحفيــظ القــرآن‪ ،‬وحلقــات‬

‫واالســتيراد‪ ،‬تغــدو قوافلهــا بالبضائــع وتــروح بين اليمن‬

‫حياتهــا تضــع يدهــا علــى مصادر المــال‪ ،‬وتديــر التوريد‬

‫وعمان والشــام‪ ،‬تســتجلب الثروة إلى سيدة مكة وعميدة‬ ‫ُ‬

‫وفهــم وصايــا الرســول ‪ ،‬ومضــارب الخلــوة‬ ‫المذاكــرة ْ‬ ‫والتوبة‪ ،‬أو معاكف التأمل والتدبر في معاني ‪َ ‬ا ْل َحم ُد ِ َّ ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫هلل َأ َح ٌد‪(‬اإلخالص‪.)1:‬‬ ‫ين‪(‬الفاتحة‪ )2:‬و‪ُ ‬ق ْل ُه َو ا ُ‬ ‫َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ‬ ‫وجــردت الهجــرة أصحابــه ‪ ‬مــن كل مــا يملكــون‪،‬‬

‫وهب ثروته إلى الرسول ‪ ،‬لم يخامره في‬ ‫ويسارع إلى ْ‬

‫يقطعــون المفــاوز لحا ًقا أو اســتبا ًقا إلى دار الهجرة حيث‬

‫فتــور أو وهــن‪ ،‬كأنمــا وحــي الرســالة كان يتنــزل عليــه‬

‫إذ خرجــوا متســ ّللين‪ ،‬ال يتوفــرون حتــى علــى الراكوبــة‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫صاحبوها وهي تحبو‪ ،‬إلى أن وقفت ودبت على قدم‪.‬‬

‫إلعــواز والشــوق إلــى اللقمــة الجافــة‪ ،‬هــي التــي قضت‬ ‫ا ِ‬

‫مفتوحــة علــى التعليــم المتواصــل‪ ،‬ال تنقضــي حلقاتهــا‪،‬‬

‫‪92‬‬

‫الدعوة ساعة المخاض‪ ،‬وتعهدوها وهي في القماط‪ ،‬ثم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أوعيتهم الباطنية من ُس ْــعر الكفر‪ ،‬فإذا هم بعد جلســة أو‬

‫الحســي‪ ،‬وداعمهــا العملــي‪ ،‬مــن بيــن رجــال المــال‬

‫تجارها خديجة ْبنت ُخ َويلد‪.‬‬

‫كان سيدنا أبو بكر ‪ ‬ثاني اثنين َي ُه ُّب إلى التصديق‪،‬‬

‫كل أطــوار الدعــوة شــك أو اســترابة‪ ،‬ولــم يشــب عزيمته‬

‫شــاء الرســول ‪ ‬أن يبنــي نواة لمدنيــة فاضلة تكون كعبة‬

‫هــو‪ ،‬وكأنمــا وقائــع الغيــب التــي كان النبــي يخبــر عنها‪،‬‬

‫قلــوب الصحابة وأعــادت تطهيرهم‪،‬‬ ‫َشــ َّل َلت الهجر ُة‬ ‫َ‬ ‫ور َث ُة لليقين؛ بدر‪ ،‬وأحد‪،‬‬ ‫الم ِّ‬ ‫وستتوالى عليهم التمحيصات ُ‬

‫بيا ًنــا؛ ذلــك ألن اهلل ربــط بين الرجليــن بحميمية وصحبة‬

‫أخرى تهوى إلى بركاتها وتعاليمها أفئد ُة العالمين‪.‬‬

‫وفاجعــة انتقال الرســول إلــى الرفيق األعلــى‪ ،‬ومثيالتها‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كانت تتجلى له (ســيدنا أبي بكر ‪ )‬عيا ًنا‪ ،‬وتتكشــف له‬

‫توطــدت علــى الســمو الفــذ‪ ،‬إذ لم ير ســيدنا أبــو بكر من‬

‫صاحبه (المصطفى ‪ )‬طيلة ارتفاقهما قبل الدعوة إال ما‬


‫تنــدرج الدعوة الخدمية التي أعد األســتاذ الداعية‬

‫المبنيــة علــى االعتبــار الخصوصــي‪ .‬ثــم إن مبادءها تعلو‬

‫كولن هياكلها وأتم دســتورها‪ ،‬وال يفتأ ينشــطها‬

‫بالبعــد اإلنســاني مــن منظــور وحــدة الجنــس البشــري‬

‫عرب شــبكات متوســعة مــن املجاميــع البرشية‪،‬‬

‫وتســاويه في اآلدمية وفي المقومات التي تعصم لآلدمي‬

‫واملؤسســات اإلنشــائية‪ ،‬واالئتالفات التعمريية‪،‬‬

‫الحق األساسي في الوجود والكينونة واالمتيازات؛ ذلك‬

‫والتعاليم التوجيهية‪ ،‬والتوسالت الدعائية للحراك‬

‫ألن اإلســام يجعــل البشــر وكافــة المخلوقــات يعودون‬

‫الخدمي‪ ،‬بالتوفيق والذهاب يف النامء إىل الغاية‬

‫فــي النســب الوجودي والكينوني إلــى اهلل الواحد األحد‪،‬‬

‫التــي يتاح فيهــا للعاملني تلقي الكتــاب املبني‪.‬‬

‫وهــذا االشــتراك فــي الربوبيــة األحديــة هــو الــذي يكفــل‬

‫التآخــي والتراحــم‪ ،‬وهــو مــا يعطي للحياة معنــى التكافل‬

‫والمسؤولية المشتركة‪.‬‬

‫علــى مناطــق الشــح مــن أرواحهــم‪ ،‬ثــم التفتــوا إلــى اهلل‬ ‫يحمدونــه أن جعلهــم يلتحقــون بمنزلــة ‪َ ‬أ َل ْم َن ْش َــر ْح َل َك‬ ‫ظهركَ ‪‬‬ ‫َص ْد َركَ ‪َ ‬و َو َض ْع َنا َع ْن َك وِ ْز َركَ ‪ ‬ا َّل ِذي َأ ْن َق َ‬ ‫ض َ ْ َ‬ ‫َو َر َف ْع َنا َل َك ِذ ْك َركَ ‪َ ‬فإ َِّن َم َع ا ْل ُع ْس ِــر ُي ْس ًرا‪(‬االنشــراح‪.)5-1:‬‬ ‫صبحا‬ ‫كم هو عجيب أمر أولئك األفراد الذين استيقظوا‬ ‫ً‬ ‫العشــر من رأســمالهم للخدمــة‪ ،‬وتدرجوا‬ ‫علــى نيــة بذل ُ‬

‫ال ريــب أن الحيــاة خلقــت للتمحيص‪ ،‬وهي معرضة‬

‫الستشــراء أدواء األنانيــة والتغالــب والتظالــم‪ ،‬وقــد قــرر‬

‫القــرآن أن الظلــم والعــدوان والتدنــي والغيــرة الشرســة‬ ‫غرائــز مجبولــة فــي النفــس اإلنســانية منــذ البــدء‪ ،‬وقصــة‬

‫هابيل وقابيل تلخص هذا المغزى وتشــخصه‪ ،‬لذا كانت‬ ‫مهــددة بالتوحــل فــي رمــاد التدافــع واالقتتــال‬ ‫البشــرية‬ ‫َّ‬

‫إن اإلســام كتــاب يقتــرح على البشــرية تعاليم يغدو‬

‫بهــا الترابــط اإلنســاني حقيقة قابلة للتجســيد متى التفتت‬ ‫المجتمعات للمبادئ التي ينشدها اإلسالم‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والتمحيــص الذي يعرض لإلنســان كلما فرط في وصايا‬ ‫َّ‬ ‫اهلل‪ ،‬وحاد عن كمال الفطرة‪.‬‬

‫عبر ســاعات النهار يرفعون تلك النســبة من البذل‪ ،‬حتى‬ ‫إذا كان وقــت العشــاء‪ ،‬وجلســوا في مجلــس الهمة‪ ،‬رأوا‬

‫أنفســهم يفرغــون الوفــاض حتــى القاع‪ ،‬ويخرجــون وقد‬ ‫ارتــدوا إلــى حــال الفقــر‪ ،‬لكنهم ما يئســوا ومــا قنطوا وما‬

‫أحســوا بفداحــة ما صنعــوا‪ ،‬ألن النفس كانــت قد تلقنت‬ ‫تعاليــم البــذل مــن القــرآن‪ ،‬وألنهــا كانــت أجــرت عملية‬

‫فــي هــذا االتجــاه تنــدرج الدعــوة الخدميــة التــي أعد‬

‫اســتئصال فــي منطقــة الشــح من النفــس‪ ،‬فلذا اســتقبلت‬

‫ينشــطها عبــر شــبكات متوســعة مــن المجاميع البشــرية‪،‬‬

‫الطمأنينــة التــي ينتفي معها كل قلــق وكل ضغط‪ ،‬وينعدم‬

‫التوجيهيــة‪ ،‬والتوســات الدعائيــة للحــراك الخدمــي‬

‫تجــردوا مــن المــادة دفعــة واحــدة‪ ،‬وآمنــوا أن الطير‬ ‫ّ‬

‫األســتاذ الداعية كولن هياكلها‪ ،‬وأتم دســتورها‪ ،‬وال يفتأ‬

‫واقعهــا الجديــد‪ ،‬حيــث فرغــت اليــد وخــا الجيب بكل‬

‫والمؤسسات اإلنشائية‪ ،‬واالئتالفات التعميرية‪ ،‬والتعاليم‬

‫كل ندم ووجل من الخصاصة‪.‬‬

‫بالتوفيــق والذهــاب فــي النماء إلــى الغاية التــي يتاح فيها‬

‫للعالمين تلقي الكتاب المبين‪.‬‬

‫وجــه كولــن األمــة ‪-‬مــن خــال الطالئــع‪ -‬إلــى فقــه‬ ‫ّ‬

‫صناعــة المدنيــة المؤمنــة علــى أســس مــن الدعــوة إلــى‬

‫اهلل‪ ...‬ألول مــرة فــي تاريــخ المســلمين‪ ،‬تتداعــى الفئات‬ ‫بالدعوة والتبليغ إلى أبعد اآلماد‪.‬‬

‫طيــرا‪ ،‬يضمن اهلل لهم اللقمــة على أي نحو‪ ،‬وال‬ ‫أضحــوا ً‬ ‫ٍ‬ ‫بعدئذ اعتبار للثروة أو للتمول والسيولة‪.‬‬ ‫يعنيهم‬ ‫انتقلت التجربة إلى البالد الشــقيقة‪ ،‬فللعرف ســريان‬

‫مشؤوما‪ ،‬فكيف وهو كله سعد وخيرية وبركات‪.‬‬ ‫وإن كان‬ ‫ً‬

‫ال‬ ‫تيم ًنا‪ ،‬وبعض‬ ‫استئناسا وتواص ً‬ ‫بعض تقربوا من الخدمة ُّ‬ ‫ً‬ ‫واستلهاما ألساليبها في اإلخصاب والزكاوة؛‬ ‫مع أربابها‪،‬‬ ‫ً‬

‫زادا‬ ‫نهضــت الحفنــة من طــاب كولن بال رصيد‪ ،‬إال ً‬

‫فالتوفيقات تلوح من كل ملمح في المشاريع‪ ،‬وتجتذب‬

‫ملكــت أيديهــم‪ ،‬وغالبــوا النفــس‪ ،‬وأجروا جراحة قاســية‬

‫بــدأت خطــوات االنخراط َتترى علــى بطء‪ ،‬لكنها ال‬

‫مــن الــروح‪ ،‬وانضم إليهم رعيل مــن الميامين‪ ،‬أقبلوا بما‬

‫أهــل الحميــة والكســب والمتعطشــين لمــلء ذات اليــد‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عددا وعــدة‪ ،‬وتتواثق علــى الذهاب‬ ‫والكتائــب‪ ،‬وتتزايــد ً‬

‫خماصا وتروح بطا ًنا(‪ ،)5‬فهم إذن بعد مجلس الهمة‬ ‫تغدو‬ ‫ً‬

‫‪91‬‬


‫لــت‬ ‫مهمتهــا‪ ،‬حيــث أقامــت السياســة الدنيويــة التــي َت َو َّح ْ‬ ‫ّ‬ ‫األمــة فــي حمئهــا هــو ًة لم تزل منــذ العصر األول تتســع‬

‫هيجتهم نعوت اإلمام التي تعقد المقابلة بينهم وبين أبي‬ ‫ّ‬

‫بكر وعمر وذي النورين وحيدرة‪ ...‬باتت أصداء الهزائم‬ ‫فــي الدنيــا بواعــث نهوض قوي‪ ،‬تتحطم لــه قيود الخنوع‬

‫وتعمــق مــن واقع القطيعة بين المســلمين وأمم األرض‪.‬‬

‫والصغار والقصور عن استبانة األفق المليء بالوعود‪.‬‬

‫ال مطعــن قــط فــي طــرق بــاب األمــم اليــوم‪ ،‬ووضع‬

‫كتــاب اهلل بيــن أيديهــا‪ ،‬حتــى تلك األمم التــي تتوفر على‬

‫من الحلقة الصحنية إلى االئتالف الجماعي الورشي‬

‫عقيدة وتتجهز بدين تحتاج أن تطلع على رسالة اإلسالم‬

‫(‪)3‬‬ ‫الم َت َــر ِّو ِح‬ ‫ســياج‬ ‫َ‬ ‫تخطــى فقــه األســتاذ كولــن بالمســلم ُ‬ ‫(‪)4‬‬ ‫العزلــة والمصــادرة المكانيــة التــي طالمــا تبــرج فيهــا‬ ‫َّ‬ ‫أولــو الشــأن مــن المتعبديــن‪ ،‬واســتبدل جو الخلــوة بجو‬

‫حدا من التفتح‪ ،‬يتيح‬ ‫الحق؛ إذ إن اإلنسانية بلغت اليوم ًّ‬ ‫ألوساط متنورة منها أن تتقبل الحوار‪ ...‬وإن االعتراكات‬

‫الحياتيــة المؤلمة التي طفــق العصر يفرزها وينال بها من‬

‫بوضــع التك ُّثر‪ ،‬وحال التوحد‬ ‫ووضع التفرد ْ‬ ‫االجتمــاع‪ْ ،‬‬

‫المعنــى الحياتــي‪ ،‬ويشــوه مــن روح التمــدن‪ ،‬قــد هيــأت‬

‫بحال التعدد‪.‬‬

‫قطاعــات ال تفتــأ تتســع من الرأي العام اإلنســاني‪ ،‬لتقبل‬

‫تقوم فلسفة الخدمة على اعتماد االستقطاب النوعي‬

‫الرؤية المغايرة‪ ،‬والبحث عما يفيد ويجدي في التخفيف‬

‫للعاملين‪ ،‬وتجهيزهم بالطاقة الروحية الكافية التي تجعل‬

‫من وحشية المدنية المادية‪.‬‬

‫منهم رجال دعوة وتبليغ‪ ،‬ينتقلون برسالة اهلل في األرض‪،‬‬

‫هنــاك ديانات توفــرت على البعــد الروحي والزهدي‬

‫وينورون‪ ،‬يسيرون على هدي النبي المصطفى ‪‬‬ ‫يبشرون ّ‬

‫الخدمــة رهــان مبــرأ من أحمــال التعصــب العرقي أو‬

‫الثقافــي أو األيديولوجي‪ ،‬ومقاصــده دعوية بحتة تتوخى‬ ‫توصيــل الديــن الحنيف إلى العالميــن‪ ...‬فمحمد ‪ ‬نبي‬ ‫خاتــم‪ ،‬واإلنســانية جمعــاء معنية برســالته‪ ،‬وأهــل القرآن‬ ‫موكليــن بحمــل تعاليــم تلــك الرســالة إلــى اآلفــاق‪ ،‬لتبرأ‬

‫ذمتهــم مــن حيث االئتمــان والتكليــف‪ ...‬فمســؤولية أمة‬ ‫محمــد التبليغيــة قائمــة إلى يــوم الدين‪ ،‬وال عــذر لها في‬

‫القعود عن تأدية واجب التبليغ مهما كانت الظروف التي‬

‫تشــرطها‪ .‬وإن عهــود االنتكاس التي ســلخها المســلمون‬ ‫فــي غيبوبــة تاريخيــة منكــرة قــد أزف انجالؤهــا‪ ،‬إذ تهيــأ‬

‫اليــوم لألمــة من أســباب اليقظة ما يقتضــي منها النهوض‬

‫والمبادرة إلى تقمص دور الهداية الذي هو دورها‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ونوهت‬ ‫نص عليها‬ ‫ُ‬ ‫منطلقات تكليفية ال تحد‪ّ ،‬‬ ‫القرآن‪َّ ،‬‬

‫‪90‬‬

‫بها الســن ُة‪ ،‬تدفع المســلم نحو التواصل الكوني‪ ...‬فمبدأ‬ ‫ــطا‪(‬البقرة‪،)143:‬‬ ‫ــم ُأ َّمــ ًة َو َس ً‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫ــك َج َع ْل َن ُ‬ ‫الوســطية َ‬ ‫اك ْ‬ ‫يقتضي بناء ســبل التواصل مع العالمين‪ ،‬وشــق الدروب‬

‫نحــو األمــم والشــعوب مــن أجــل اســتكمال المهمــة‬ ‫التوصيلية التي أعطى إشــارة االنطالق فيها الرســول ‪،‬‬

‫لوال أن األمة انكبحت وحادت عن وجهتها ولم تستكمل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وعلــى موثقــه‪ ...‬يحملون الكتاب إلــى كافة أهل األرض‬ ‫اس‪(‬سبأ‪.)28:‬‬ ‫ً‬ ‫‪‬و َما َأ ْر َس ْل َناكَ ِإ َّ‬ ‫ال َكا َّف ًة ِل َّلن ِ‬ ‫تنفيذا لقوله تعالى‪َ :‬‬

‫حصرا‬ ‫شــبه المطلــق‪ ،‬لكــن طبيعة هــذه الديانات تناســب‬ ‫ً‬

‫أوســاط الترهب والفئات الجانحة إلى القعود واإلشاحة‬ ‫عــن الحيــاة‪ ...‬فطبيعــة تلك الديانات طبيعة ســكونية غير‬ ‫تمامــا مــع شــرط‬ ‫حراكيــة‪ ،‬إذ االنقطــاع التعبــدي يتنافــى ً‬

‫نــص بقوة‬ ‫االســتمرار الحياتــي والوجودي‪ ...‬واإلســام َّ‬ ‫علــى منحــاه الدنيــوي المرشــد "أمــا أنــا فأصــوم و ُأفطــر‬ ‫وأتــزوج النســاء‪ ،‬فمــن رغــب عــن ســنتي فليس منــي" أو‬

‫كمــا قــال عليــه الصــاة والســام‪ .‬لذلــك يترشــح ديــن‬ ‫ا مطل ًقــا عمــا ســواه مــن العقائــد‬ ‫محمــد ‪ ‬ليكــون بديــ ً‬ ‫واأليديولوجيات‪ ،‬لشــمولية مبادئه‪ ،‬وواقعيتها‪ ،‬وســموها‬

‫المتأهــل لتصفيــة الزمــان والمدنيــة من الشــوائب الناتجة‬

‫عــن التطور المدنــي والترقي الحضاري‪ .‬ذلك ألن امتياز‬ ‫اإلســام يكمن في قدرته على مصاحبة الفعل اإلنســاني‬ ‫عبــر ســيرورة الزمــان والمــكان مــن موقــع االحتــواء‬

‫التطهيــري والتهذيبــي‪ ،‬فهــو ال يكبح جمــاح الرقي‪ ،‬لكنه‬

‫يعطيــه الصبغــة االتزانيــة والمســحة التوازنيــة‪ ،‬بحيــث ال‬

‫يســف التطور المادي باإلنســان‪ ،‬وال يخرج به عن نطاق‬ ‫إنسانيته السوية‪.‬‬

‫ال‬ ‫ليســت الدعوة اإلســامية اعتداء على أحد أو تدخ ً‬ ‫فــي شــؤون أحــد‪ ،‬ألنهــا ديانة لــم تخص قوميــة بعينها أو‬ ‫عصــرا بحصريتــه‪ ،‬كشــأن أكثــر الديانــات‬ ‫بقعــة بذاتهــا أو‬ ‫ً‬


‫زكاة القرآن تجســدها حركة فتــح الله من خالل هذا‬

‫ويدميها‪ ...‬ما أقسى تقريعاته لهم‪ ،‬وما أشد لذعات بيانه‬

‫الخــروج املتزايد ألبنــاء تركيا ممن اســتقطبتهم‬

‫عليهم‪ !..‬يدخلون المســجد على رخاء نفسي‪ ،‬واستعداد‬

‫وال تــزال‪ -‬أنــوار الخدمة‪ ،‬وت َ ِّ‬‫ُــر ُع يف وجوههم‬

‫لمصافحة مالئكة المســجد‪ ،‬والتناجي القلبي مع البارئ‬

‫إمكانات العمل وتحقيق الذاتية املتفانية يف ذات‬

‫‪ ،‬يســتغفرونه علــى هنــات وأخطاء وخطايــا اقترفوها‪،‬‬

‫املصطفى وتفعيــل أوامره ونواهيــه يف مجال‬

‫رب غفــور‪ ،‬يمســح اآلثــام ويغــض عــن‬ ‫واثقيــن مــن أنــه ٌّ‬

‫بناء النفس واإلنسان‪ ،‬وارساء الوقفيات ذات النفع‬

‫الــزالت‪ ،‬لكــن مــا أن يصعــد اإلمــام على الصهــوة‪ ،‬حتى‬

‫األصيل التي تهيئ لنهضة األمة‪.‬‬

‫تــدب البلبلــة فــي الصفــوف‪ ،‬فيتفشــى الوهــن‪ ،‬وتخطــئ‬

‫الجموع الرباط ُة‪ ،‬وتتزلزل األرض من تحت األقدام‪ ،‬كم‬ ‫َ‬ ‫ال لمرأى أهل الشــأن واألســنان وهم‬ ‫مهو ً‬ ‫يكــون المنظــر ّ‬

‫والصحب واألتباع‪.‬‬

‫البتــار‪ ،‬كم هو‬ ‫يتعفــرون تحــت ضربات صاحب الســيف ّ‬

‫ال زالــت حــدة ذلــك الصوت الرعدي تنــك ُأ األغوار‪،‬‬

‫مخز مرأى الشباب يتدافعون مذعورين‪ ،‬يش ُّقون األثواب‬

‫وتستحيي ما انطفأ من أوزار‪.‬‬

‫ويتناوحون بصوت االلتياع‪ !..‬أين رجولة القوم‪ ،‬ما الذي‬

‫كان مرتادو المسجد يتبادلون النظرات‪ ،‬قلوبهم وجلة‬

‫والفــر‪ ،‬تكتنــس الغافليــن‪ ،‬وتبعثر غيــر المتحوطين‪ ،‬ومن‬

‫المجلــس‪ ،‬لكنــه كان يجــد نفســه فــي كل مرة‪ ،‬ينقــاد إليه‬

‫وأن ســحابة يومهــم ســوف ال تلبــث أن تنجلــي عن نصر‬

‫تنقض عليه نفس‬ ‫جلســه باألمس‪ ...‬وما أســرع ما كانت‬ ‫ُّ‬

‫دهاهــم؟ وتمضــي المعركة دائرة‪ ،‬وتتالحق جوالت الكر‬

‫مما سيســمعون‪ ،‬كم من أحد ّبيت في نفســه عدم معاودة‬

‫كان االعتقــاد الخاطــئ يمــأ نفوســهم بأنهــم الغالبــون‪،‬‬

‫بباعث غامض‪ ،‬فيمضي ويجلس في الموضع ذاته الذي‬

‫ّأدوا من فرض‪ ،‬وسمعوا من وعظ‪.‬‬

‫ألفوا الظفر بالســكينة وبما يشبه الوثوق من أنهم بعد‬

‫غشيان الجوامع وحضور حصص الوعظ سيؤوبون إلى‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وانبســاط يعــودون بــه إلــى دورهــم راضيــن مطمئنين بما‬

‫المخالب‪ ،‬ونفس الضراوة‪ ،‬وإذا هو مخذول يتهاوى بين‬ ‫ويعيده إلى حال من‬ ‫براثــن خطــاب ال رحمة له‪ ،‬يعركــه‪ُ ،‬‬ ‫السفور‪ ،‬كأنما ُج ِّر َد من ثيابه‪ ،‬كأنما قوة خفية فضحته في‬

‫مغادرا‬ ‫القارعة وتحت األنظار‪ ،‬فال يملك إال أن يتحامل‬ ‫ً‬

‫أهليهــم مغتســلين من اآلثام‪ ،‬على حال أشــبه بخروجهم‬

‫الميــدان‪ ،‬مدمــى‪ ،‬مكلــوم الباطــن واألعمــاق‪ ،‬ال يرتــاب‬ ‫ً‬ ‫قــط فــي أنهــا آخــر معركــة يخســرها‪ ،‬لكــن القــوة نفســها‬

‫قطميرا‪ ...‬كانوا في تلك المجالس على موعد مع‬ ‫ذلك‬ ‫ً‬

‫الجدب‪ ،‬وربما بأعجب ما يكون الباعث‪.‬‬

‫جلودهــم‪،‬‬ ‫تطهــرت جنوبهــم والنــت‬ ‫ُ‬ ‫مــن الحمــام وقــد ّ‬ ‫لكنهم باتوا عند حضور مجلس "فتح اهلل" ال يجدون من‬

‫الدفع والهز والمعانفة‪ ،‬بل واللطم واللكز أحيا ًنا‪ ،‬بل ما‬ ‫أكثــر مــا كانوا يغادرون الجلســة بجــروح نزفت‪ ،‬وندوب‬

‫انبعثت‪ ،‬وكلوم نفطت‪ .‬كانت خطب اإلمام تســتثير فيهم‬ ‫عبأوا‬ ‫مكامــن األدواء‪ ،‬تذكرهــم بأوجــه العقــوق التــي مــا َ‬ ‫بهــا من قبل‪ ،‬واالقترافات التي ســدروا ومــا التفتوا إليها‪،‬‬

‫وبالخطايا التي تداعت إليهم مع إرث اآلباء واألجداد‪...‬‬ ‫بكارثيتها حين نبذوا الموثق‪ ،‬وقعدوا عن تأدية ما ســلف‬ ‫لألجــداد مــن خدمــة وبــأس علــى نهــج المحمديــة‪ .‬كــم‬

‫هــي فجيعيــة تلك النداءات االســتغاثية بالقــرآن‪ ،‬كم هي‬

‫مروعة تلك الضراعات المتشــفعة بحرمة النبي ‪ ‬واآلل‬

‫علــى ذلــك النحو أدمنوا علــى ازدراد الغصص‪ ،‬على‬

‫االرتــواء مــن دمــع الحســرة‪ ،‬علــى التقوي علــى رؤية ما‬

‫سلف من غفلة ب َّل َدت الحس‪ ،‬أو ذنوب اقترفتها النفس في‬

‫رعونة‪ ،‬أو بدافع شــيطاني‪ ،‬أو بتســفل وتهافت روحيين‪.‬‬ ‫اكتســبوا مــن حلقــات اإلمــام روح المكابــرة والجلد‬

‫ومطاولــة النــزال‪ ...‬تعلمــوا كيــف َي ْن َق ُّضون على أنفســهم‬

‫جديدا‪ ...‬تل ّقوا الصفعات‬ ‫أرشــتكتورا‬ ‫يهدمونها ويقيمون‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فتفطنــوا إلــى النهــج الــذي يجنبهــم الوصــم بالنقائــص‬ ‫ّ‬

‫والســفاالت والترديات‪ ...‬باتوا يعشقون حشرجة الصدر‬ ‫المعبإ بالعشق‪ ،‬يتبردون بالدمع الحارق المذروف ألدنى‬ ‫ذكــرى وألبســط تــوق‪ ،‬وألقــل نســمة مــن حنيــن‪ .‬طالمــا‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫فمــا استشــعروا وطأتهــا‪ ،‬ومــا ذاقــوا علقــم اإلحســاس‬

‫غــدا‪ ،‬وربما بأقــوى ما يكون‬ ‫التــي اقتادتــه أمس ســتقتاده ً‬

‫‪89‬‬


‫"الديــن المعاملــة"‪ .‬فمشــروطية العمــل والتنفيذ هي ركن‬

‫ولتنتشر مفالح الخير والخدمة في اآلفاق‪.‬‬

‫بالثمــار‪ ،‬إال بالبعــد الواقعــي والمعــادل الموضوعي على‬

‫أنهــم طالمــا دخلوا أوطا ًنا تشــتعل بنيران الحرب‪ ،‬وقد‬ ‫خربــت الديــار والحواضــر‪ ،‬وفرغــت مــن أهلهــا‪ ،‬وكان‬

‫تــروي ســيرة األوليــن مــن شــباب الخدمــة ورجالها‪،‬‬

‫العقيدة اإلســامية‪ ،‬وال يكتمل أداء الفرض الشــرعي إال‬

‫(‪)2‬‬

‫أرض الواقع‪ ،‬وفي حياة األفراد والجماعات‪.‬‬

‫زكاة القــرآن تجســدها حركــة فتــح اهلل من خالل هذا‬

‫القصــد مــن وراء ذلــك االستبســال‪ ،‬الوفــاء بحــق الموثق‬

‫أنــوار الخدمــة‪ ،‬و ُت َش ِّــر ُع فــي وجوههــم إمكانــات العمــل‬

‫النفوس من شحنات تلقوها من روح اإلمام "فتح اهلل"‪.‬‬

‫الــذي واثقــوا اهلل عليــه‪ ،‬واســتفراغ مــا كانــت تحبــل بــه‬

‫الخروج المتزايد ألبناء تركيا ممن استقطبتهم ‪-‬وال تزال‪-‬‬

‫كان أهالــي أولئــك األوطــان المنكوبــة يتقاطعون في‬

‫وتحقيــق الذاتيــة المتفانية في ذات المصطفى ‪ ‬وتفعيل‬ ‫أوامره ونواهيه في مجال بناء النفس واإلنســان‪ ،‬وإرســاء‬

‫الطريــق مــع األنفار المنتدبين من تالميذ فتح اهلل‪ ،‬فيرون‬

‫الوقفيــات ذات النفــع األصيــل التي تهيــئ لنهضة األمة‪.‬‬

‫ال‪ ،‬شبه حفاة من طول المدى الذي سلكوه‬ ‫ال‪ ،‬هز ً‬ ‫فتية عز ً‬

‫فــي عصــر البطالة التــي تجتاح األمم اليــوم‪ ،‬وتضغط‬

‫على األقدام‪ ،‬ففي أوقات الحرب‪ ،‬تنقطع المواصالت‪،‬‬

‫‪-‬باألخــص‪ -‬علــى واقــع الشــباب‪ ،‬وتربــك مخططــات‬

‫وتشح الحياة‪ ،‬ويسود الجوع والمرض والموت‪.‬‬

‫وتضيــق فــي وجوههــم مجــاالت‬ ‫أولــي المــال والثــراء‪،‬‬ ‫ّ‬

‫كانــوا يــرون أولئــك الفتيــان علــى مــا بهم مــن وعثاء‬

‫مطمئنيــن‪ ،‬ويبدون من الحرص على‬ ‫ظهرون‬ ‫ّ‬ ‫ومكابــدة‪َ ،‬ي َ‬

‫اعم ُلوا‪(‬التوبة‪)105:‬‬ ‫بــاب ‪‬و ُق ِ‬ ‫ــل ْ‬ ‫الربــح والفائــدة‪ ،‬ي َت َشــرع ُ‬

‫انطلــق يســتجيب لداعي اهلل‪ ،‬ويتجــاوب مع نداء الخدمة‬

‫الــذي أرســله فتــح اهلل منذ مطلــع التســعينيات(‪ ،)1‬أولئك‬ ‫الذيــن بــادروا بمــا كان معهــم مــن مال‪ ،‬وفــي الحقيقة لم‬

‫كانوا يســألونهم بذهنية مذهولــة‪ ،‬وروح هلعى‪" :‬إلى أين‬

‫متجهكم‪ ،‬وماذا جئتم تفعلون‪ ،‬أم ترى أنتم مرتزقة تبغون‬ ‫االلتحاق بالفيالق‪ ،‬تزيدون من استعار جهنم؟"‪.‬‬

‫يتطلــع الفتيــة إلــى اآلفــاق‪ ،‬وراء دخــان المدافــع‪،‬‬

‫يكــن مــع الكثــرة من أولئــك القلة الطالئــع‪ ،‬إال نواياهم‬ ‫فيتقربــون بهــا إلى اهلل‪ ،‬ويســهمون مــن خاللها في وضع‬

‫الخدمة"‪.‬‬

‫حجــر األســاس لمشــروع الخدمــة‪ ،‬الــذي كان فتــح اهلل‬

‫ويتكلمون بصوت هزيل لكنه حار‪" :‬جئنا لنفتح مدارس‬ ‫يرتعــب األهالــي ويقفــزون خطــوات إلــى وراء‪ ،‬غيــر‬

‫مصدقيــن أنهــم بــإزاء بشــر أســوياء‪ ،‬ثــم ال يبرحــون أن‬ ‫ّ‬

‫يقترحه ويحدو الناس إليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫رحــت البركــة فــي الجهــد‪ ،‬وزكــت القربــات‬ ‫اط‬ ‫َّ‬

‫يغــادروا المــكان‪ ،‬ال يلــوون على شــيء‪ ،‬وحيــن يلتفتون‬

‫مــن مكابــدات عركــت أولــي العــزم‪ ،‬فمــا أثنتهــم عــن‬

‫أم رفعتهــم الســماء‪ ...‬يمضــون وقــد نهــض في نفوســهم‬

‫بالتــدرج‪ ،‬وزادت النتائــج والمحاصيل رغــم ما صاحبها‬ ‫االستشــهادية‪ ،‬وكادت اإلحصــاءات أن تخلــو جملــة من‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫األهالــي المنكوبيــن علــى اإلفــات ومغــادرة الجحيــم‪.‬‬

‫ووهــج القصــف وحمم التفجيــرات النازلة من الســماء‪،‬‬

‫تتأتى لهم‪،‬‬ ‫المتفجرة صد ًقا وشــو ًقا الحتضان ّأية ســانحة َّ‬

‫‪88‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫فــي وجــه أهــل الخدمــة‪ ،‬وتتســع بوابــات ‪‬إ ِْن ُت ْق ِر ُضــوا‬ ‫هلل َقر ًضــا َحس ًــنا ُي َض ِ‬ ‫اع ْف ُــه َل ُك ْم‪(‬التغابــن‪ ،)17:‬فيــزداد بــذل‬ ‫َ‬ ‫ا َ ْ‬ ‫المنخرطيــن مــن أهــل الســبق الذيــن كانوا فــي طليعة من‬

‫النفــاذ إلــى قلــب األرض المشــتعلة‪ ،‬مــا يضاهــي حرص‬

‫أي حالة ارتداد أو نكوص‪.‬‬

‫عجيبــا‪ ،‬فكان النفر القليلون ينجزون‬ ‫االنجــذاب كان‬ ‫ً‬

‫بهممهــم المباركــة‪ ،‬وانطال ًقا من شــبه خــواء الوفاض من‬

‫التجربــة والرصيــد والخبرة‪ ،‬ما ينبئ أن األمر لم يكن أمر‬ ‫إرادات‪ ،‬بقدر ما كان أمر قدريات شــاءها الحق أن تنبت‬ ‫علــى األرض‪ ،‬لتكــون منهــا الخميــرة والزريعــة والنقلــة‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لع ْتهم األرض‬ ‫أثــرا للفتيــة‪ ...‬تــرى َأب َ‬ ‫وراءهــم ال يجــدون ً‬

‫إِحســاس بأن الطريق قد جمعهم مع مخلوقات من غير‬ ‫خريجــي‬ ‫أهــل الدنيــا‪ ...‬كان أولئــك الشــباب‬ ‫ً‬ ‫طــرازا مــن ّ‬

‫مدرسة فتح اهلل‪.‬‬

‫كانــت حلقــات الوعــظ التــي يجتمعــون فيهــا إلــى‬

‫إلمــام‪ ،‬اعتــراكات ال يخرجون منهــا إال منهزمين‪ ،‬طالما‬ ‫ا ِ‬

‫اختنــق بعبراتــه وهو يلقنهم ســبل الفوز‪ ...‬طالما أمســك‬

‫بالكربــاج وانهال عليهــم داخل الصحن‪ ،‬يلهب ظهورهم‬


‫ال ريب أن من أبرز دعاة العرص العاملني يف االتجاه‬

‫لمعانيــه على األرض‪ ،‬يراها المســلمون مشــاريع قائمة‪،‬‬

‫التعمــري‪ ،‬ينتصــب اإلمــام فتح اللــه كولن يف‬

‫ومنجــزات ماثلــة‪ ،‬ومخططــات نافــذة وأخــرى مســتتبعة‪.‬‬

‫الصدارة؛ إذ عــاش ‪-‬ويعيش‪ -‬الســرة ميدان ًّيا كام‬

‫عمليا‬ ‫تفســيرا‬ ‫وكانــت أعمــال الخلفاء الراشــدين ‪-‬ح ًّقا‪-‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫تقتــي ذلك تعاليم الســرة ذاتهــا‪ .‬فتوجيهات‬

‫للقــرآن‪ ،‬إذ اســتغرقهم التأســيس للمدنيــة اإلســامية‪،‬‬

‫الســرة تقــرر أن "املؤمن القائم أفضــل عند الله‬

‫فكانــت اجتهاداتهــم ميدانيــة‪ ،‬قــل أن تنفــك عــن تفعيــل‬ ‫ا‪ -‬مــن تفســير‪ ،‬هــو‬ ‫الواقــع‪ ،‬وإن مــا ُأ ِثــر عــن عمــر ‪-‬مثــ ً‬

‫من املؤمــن القاعــد"‪ ،‬و"اليد العليا خــر من اليد‬ ‫الســفىل"‪ ،‬و"إذا غربت الساعة عىل أحدكم ويف‬

‫وتجليات‬ ‫فــي حقيقته توثيقــات ميدانية‪ ،‬وفتاوى عمليــة‪ْ ،‬‬

‫يده فسيلة‪ ،‬فليغرسها"‪.‬‬

‫ترشــيدية‪ ،‬نابعة من حراك شــمولي كان الخليفة يخوضه‬ ‫مــع األمة في مرحلة شــهدت أعظم أطوار دولة الخالفة‬ ‫من حيث التوسع واالستبحار‪.‬‬

‫وربما عرف العصر الحديث حلحلة بسيطة في حقل‬

‫ولقــد انحســر ظل التفســير العملي عن دائــرة التطبيق‬

‫التفســير علــى يــد بعــض رواد النهضــة‪ ،‬مــن أمثــال عبــده‬

‫عمومــه مجــرد احتراف لفظي‪ ،‬يشــتغل علــى الداللة َب َد َل‬ ‫الواقــع‪ ،‬ويشــغف من مســتوياتها بالبعــد االفتراضي ‪-‬ال‬

‫المعاني القرآنية‪ ،‬ويدمجوا مســاحة من واقع المســلمين‬

‫عبر المراحل المتصرمة من تاريخ المسلمين‪ ،‬ليغدو في‬

‫وابــن باديــس؛ إذ ســعوا إلــى أن يفتحــوا األفــق فــي وجه‬ ‫االنحطاطــي فــي دائرة اهتمامهم‪ ،‬جاعليــن القرآن ‪-‬على‬

‫الحياتــي‪ -‬بحيــث ظل يراوح فــي الغيبيات التي جعل اهلل‬

‫والســجاالت الهامشــية التــي أحالــت المنجــز التفســيري‬ ‫‪-‬فــي صعيــد عريــض من متونــه‪ -‬إلى مدونات بــاردة‪ ،‬ال‬

‫يخــرج منهــا القارئ بفائــدة تطور واقعه وتثــور أوضاعه‪.‬‬ ‫ال عن أنواع‬ ‫لقد َأ ْودت االتباعية الحرفية والمذهبية ‪-‬فض ً‬ ‫الفذلــكات الجوفــاء المشــتغلة علــى التقعيد المدرســي‪-‬‬ ‫َأ ْودت بالتفســير إلــى حــال مــن العقــم‪ ،‬بحيــث حالــت‬ ‫تخريجاته الجوفاء بين القرآن وبين الواقع‪ ،‬فبات القرآن‬ ‫بعيــدا عــن الواقــع وعــن التأثيــر فيــه بقــدر ُب ْع ِ‬ ‫ــد مدونات‬ ‫ً‬ ‫التفسير عن مالبسة القرآن وترجمة مقاصده‪.‬‬

‫وغيبها‬ ‫فالــذي "أنهــك" المعانــي القرآنيــة في حياتنــا‪ّ ،‬‬

‫تحت ركامات من التفسير الضحل‪ ،‬هو التواطؤ االقترابي‬ ‫الهزيــل‪ ،‬والمراوحــة علــى تداوليــة معنويــة لــم تغص في‬ ‫أرضيــة القــرآن‪ ،‬ولــم تجدد رؤيتهــا بحيث تشــمل آفاقه‪،‬‬

‫قطميرا‪ .‬األمر الذي استبقى‬ ‫التداولية‪ ،‬ال يكاد يخرج عنها‬ ‫ً‬ ‫القــرآن فــي وضــع االنقطــاع عــن الواقــع‪ ،‬إذ لــم يفكــر‬

‫عمليا‪ ،‬ويخرج من شرنقة‬ ‫المفسر في أن يتمرس بالقرآن‬ ‫ًّ‬ ‫التجريــد ومــن ســجالية عقيمــة تنظــر إلى الصــدى ال إلى‬

‫الصوت‪ ،‬إلى الوهم التم ُّثلي ال إلى الحقيقة الموضوعية‪.‬‬

‫ولقــد أمكــن القــول إن الــدرس القرآنــي أضحــى‬

‫األرضيــة التــي بنى عليها فريق من أعالم األمة فلســفتهم‬ ‫تفســيرا‪،‬‬ ‫اإليقاظيــة‪ ،‬فمفكــر مثل مالك بن نبي لم يخ ّلف‬ ‫ً‬

‫ولكن أعماله في مجملها كانت ترجمة للقرآن‬ ‫وتفســيرا‬ ‫ً‬ ‫لمعانيه‪ ،‬ومنطلقات نظرية لنواميسه في مضمار األخالق‬ ‫والجمــال والحضــارة وســواها مــن حقــول المعرفــة التي‬

‫تطرق إليها في بحوثه ومقارباته‪.‬‬

‫الداعية كولن يفسر القرآن بجالئل األعمال‬

‫قريبا من هذا النهج التنفيذي‪ ،‬الداعي ُة فتح‬ ‫وينهــج اليــوم ً‬

‫اهلل كولن‪ ،‬إذ أقام حياته في تفاصيلها وأحداثها وتطوراتها‬ ‫على مبدأ اللحمة والترابط مع القرآن والسنة‪.‬‬

‫لقد احتذى األستاذ فتح اهلل ُخطى نبيه المصطفى ‪‬‬

‫في ســيرته العملية هذه؛ إذ ســلك ســبيل التفســير العملي‬ ‫للقــرآن‪ ،‬مــن خالل الســعي بال هوادة إلى إرســاء فلســفة‬ ‫الخدمة التي تنبني على تحقيق اإلنجازية الواقعية لتعاليم‬

‫صعيدا للتأسيس‬ ‫اإلسالم‪ .‬فجاءت من ثمة برامج الخدمة‬ ‫ً‬

‫الخيري‪ ،‬وفضاء للتباري اإلحساني والتشييد المشاريعي‬ ‫الــذي ينهض باألمة وتســتعيد بــه روح دينها العملي على‬ ‫النحو الفعلي‪" :‬الدين ما وقر في القلب‬ ‫وصدقه العمل"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ظليا لتلك‬ ‫وهــو مــا جعل المنجز التفســيري يظل‬ ‫ً‬ ‫خطابــا ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أمرهــا مــن شــأن الخالق وحــده‪ .‬كما اســتغرقته التكرارية‬

‫ذلك النحو‪ -‬مادة المقاومة واإليقاظ‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫ِب ُق َّو ٍة‪(‬مريــم‪ .)12:‬هــذا الداعــي الــذي يتجه إلــى كل مؤمن‬

‫يبني الشخصية المنوطة بمهمة اإليمان والعمل الصالح‪،‬‬ ‫ين‬ ‫يجسدون عن مصداقية صفة ‪‬ا َّل ِذ َ‬ ‫فالمسلمون هم من ّ‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ــات‪ ‬التــي ركزت عليهــا اآليات‬ ‫آم ُنــوا َو َع ِم ُلــوا َّ‬ ‫َ‬ ‫الك َّم َل‪.‬‬ ‫القرآنية‪ ،‬وجعلتها أبرز الزمة تنعت المسلمين ُ‬

‫العزم" وإلى الشــخصية "كن حديدي العريكة في تعاطي‬

‫والدعــاة ومحترفــي القصــص المنبــري‪ ،‬فلقــد كان افتقار‬

‫فالمؤكــد أن فصــل العمــل الروحــي االعتكافــي عــن‬

‫موحد‪ ،‬ويندبه إلى التمرس بالحياة بعمق والتزام‪ .‬فإحالة‬ ‫القــوة هنــا تعــود إلــى العزيمــة "كــن يــا مؤمــن ِمــن أولــي‬ ‫مسؤوليتك الحياتية"‪.‬‬

‫وإذا كان تاريخ الدعوة اإلســامية قد حفل بالوعاظ‬

‫ُبعــده الدنيــوي االحتســابي‪ ،‬لــم يرجــح كفــة اليقيــن فــي‬

‫جســيما‪ ،‬وإن مقابلــة أســماء‬ ‫تاريخنــا للدعــاة العامليــن‪،‬‬ ‫ً‬

‫حيــاة المســلمين‪ ،‬وإنمــا كــرس اســتقالتهم مــن التاريــخ‪.‬‬

‫الصالحيــن ممن عاشــوا العكــوف االنقطاعــي والعزوف‬

‫األمــر الــذي انعكــس على الروحيــة‪ ،‬إذ عراها من لحاف‬ ‫َّ‬ ‫اإليمــان الحق‪ ،‬وجعلها تتكيف ‪-‬بالتقادم‪ -‬على التمرس‬

‫عــن الحيــاة‪ ،‬والعيــش المتجــه إلــى الســماء الســتمطار‬ ‫شآبيب المغفرة على النفس‪ ،‬مع أسماء َم ْن ش ُّقوا النهج‬

‫بالكفــاف والحرمــان‪ ،‬وهو ما أرخى ‪-‬بل وفصم‪ -‬العرى‬

‫العملي واحتذوا الســنة في مســارها العملي‪ ،‬يكشف عن‬

‫في أحيان كثيرة بين األمة وبين الدين الحق‪.‬‬

‫رجاحة قوائم الصنف األول‪ .‬فعدد العاملين الذين ظهروا‬

‫لقــد ســادتنا عقلية التزهيد طيلة عهــود وقرون‪ ،‬وكان‬

‫الزمــن صحائف ذهبية‪،‬‬ ‫وســجل لهم‬ ‫فــي مراحل تاريخنا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬

‫الحاصل وقوع األمة في قبضة التخلف مما ســهل األمر‬

‫ال‪ ،‬وتعدادهم ال يكاد يتجاوز عد أصابع‬ ‫يــكاد يبــدو ضئي ً‬

‫اليديــن‪ ،‬األمــر الــذي يبرز علــة تخلف األمة وانســاخها‬ ‫واالكتفاء باألداء التعبدي الفرائضي‪ ،‬ينتهي بالمســلم إال‬ ‫طقوســيا‪ ،‬ال ينفــذ الديــن الحنيــف إلى صميم‬ ‫أن يصبــح‬ ‫ًّ‬

‫حياته في تفاصيلها كما ينبغي أن يكون النفاذ‪.‬‬ ‫شــتى‬ ‫ــن َّ‬ ‫وإذا تحدثنــا عــن طوائــف العلمــاء و ِم ْ‬ ‫ِ‬ ‫االتجاهات والنزعات‪ ،‬فال نكاد نجد من يماثل الجيالني‬

‫ومــن ســلك مســلكه فــي التجنيــد الجماهيري‪ ،‬وتشــكيل‬ ‫األوساط التي ال تكتفي فقط بزرع مبادئ الطريقة وتلقين‬

‫واجب‬ ‫التعاليم الروحية‪ ،‬وإنما تقرن ‪-‬إلى ذلك التلقين‪-‬‬ ‫َ‬ ‫النهــوض الميداني بتكاليف بذل المال والتضحية بالعمر‬ ‫والجهــد الشــخصي‪ ،‬في ســبيل االنقطاع ألنــواع الخدمة‬

‫واألداء االحتسابي‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الرؤية الدينية إلى الحياة‪ ،‬وسعوا إلى إحياء األواصر التي‬

‫تعيــد المســلمين إلــى الجــادة‪ ،‬وإلى ربط الدنيــا باآلخرة‪،‬‬ ‫تأسيســا للتــوزان الذي ُف ِق َد‬ ‫وإلــى تعميــر الروح والكون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في واقع المسلمين ‪-‬ومن ثمة في أصقاع األرض‪ -‬طيلة‬ ‫قرون من السبات والحيدة عن المحجة‪.‬‬

‫دعاة العصر العاملين‬

‫ال ريب أن من أبرز دعاة العصر العاملين في هذا االتجاه‬ ‫التعميري‪ ،‬ينتصب اإلمام فتح اهلل كولن في الصدارة؛ إذ‬

‫ميدانيا كما تقتضي ذلك تعاليم‬ ‫عاش ‪-‬ويعيش‪ -‬الســيرة‬ ‫ًّ‬ ‫الســيرة ذاتها‪ .‬فتوجيهات الســيرة تقرر أن "المؤمن القائم‬ ‫أفضل عند اهلل من المؤمن القاعد"‪ ،‬و"اليد العليا خير من‬

‫وإن شــخصية جبارة مثل الغزالي (على جهة المثال)‬

‫اليد السفلى"‪ ،‬و"إذا غربت الساعة على أحدكم وفي يده‬

‫ظلــت تعاليمــه علــى جــال روحيتهــا تبث الســلوى دون‬

‫ويتزكــى‪ .‬وزكاة القرآن ‪-‬كما‬ ‫القــرآن يزكــي النفــوس‬ ‫َّ‬

‫ومــا كان لــه مــن تأثيــر فكــري فــي تاريخنــا اإلســامي‪،‬‬

‫‪86‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عــن الديــن الصحيــح‪ ،‬إذ التجــرد مــن الســمة التطبيقيــة‪،‬‬

‫حتمــا أن تســفر‬ ‫علــى أعدائهــا كــي يســتعبدوها‪ .‬وكان ً‬ ‫ترديــات النكبــة عــن بــروز أعــام عملــوا علــى تصحيــح‬

‫القــدرة علــى فتــح أفــق العمل والتجنيــد الفعــال؛ إذ كان‬

‫ينقصهــا ‪-‬رغــم غناهــا الروحــي النظــري‪ -‬البعــد النفعي‪/‬‬ ‫العملــي‪ ،‬والمقصــد التطبيقي الذي يجنــد الجماهير وراء‬

‫أهــداف حياتيــة ملموســة‪ ،‬تحيــي العــزة‪ ،‬وتبعــث الهمــة‪،‬‬ ‫اب‬ ‫‪‬يا َي ْح َيى ُخ ِذ ا ْل ِك َت َ‬ ‫وتجعل النفوس تســتجيب لداعي َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فسيلة‪ ،‬فليغرسها"‪.‬‬

‫قال بعض المفســرين‪ -‬هي تفســيره‪ .‬والتفســير مستويات‬

‫عمليا‪ ،‬ولقد كان الرســول ‪ ‬هو‬ ‫تفســيرا‬ ‫أعالهــا مــا كان‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫المفسر العملي األسنى‪ ،‬إذ عمل طيلة حياته الدعوية على‬ ‫ميدانيا‪ ،‬بحيث‬ ‫تفسير القرآن بتطبيق مقرراته في مطلقيتها‬ ‫ًّ‬

‫واغتراســا‬ ‫جــاءت الســنة ترجما ًنــا للقــرآن وبيا ًنــا لكوامنه‬ ‫ً‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سليمان عشراتي*‬

‫العبادة التنفيذية‬ ‫وقرآنية "الخدمة"‬ ‫كان النبي ‪ ‬رجل الشريعة العملية‬ ‫والوحي التطبيقي والســيرة القرآنية‬ ‫بامتيــاز‪ .‬وإن معنــى "كان خلقــه‬ ‫القرآن"‪ ،‬أو "كان قرآ ًنا يمشي على األرض"؛ هو أن‬ ‫ســيرته كانت تقرن القول مع العمل‪ ،‬ألن اإلســام‬ ‫دينا إلصالح الدنيا وليس للروح وحسب‪.‬‬ ‫جاء ً‬ ‫وإذا كانت السنة هي التقمص الجذري ألفعاله‬ ‫‪ ‬ولــكل مــا صدر عنه‬ ‫ونهيا‪ -‬فإن الغاية من‬ ‫أمرا ً‬‫ً‬ ‫التســنن هــي أن يكون المــرء المســلم‬ ‫قرآنيا بالفعل‬ ‫ًّ‬ ‫كمــا كان نبيــه محمــد ‪‬‬ ‫قرآنيــا بالقلــب والقالــب‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫وعلــى نحــو مــا عــاش ‪ ‬ينجــز ويقيــم دعائــم دين‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪85‬‬


‫المعبر عنه بـ"عقيدة التوحيد"‪ ،‬توحيد اهلل وتوحيد ربوبيته‪،‬‬ ‫ّ‬

‫رب العالمين‪.‬‬ ‫فهو ‪ ‬الخالق والرازق وهو ّ‬

‫إن مــا يقــع في تركيا اليــوم هو ابتالء لألمة في لحظة‬

‫تاريخيــة انفجــر فيهــا األمــل‪ .‬فتركيــا جمعــت بيــن تجربة‬ ‫إسالمية للحكم‪ ،‬وتجربة إسالمية للمجتمع‪ .‬وفي العالم‬ ‫العربــي ورود الربيــع رفعت عن أوراقهــا التراب وانب ّثت‬ ‫مــن بذورهــا براعــم خضــراء تخــرج منها بعــض األوراق‬ ‫للحرية‪.‬‬ ‫متشوقة‬ ‫على عجل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫شهادات‬

‫نحن ال نعلم قدر اهلل‪ ،‬وإنما نسير بتوفيق منه‪ ،‬انكسر‬

‫دما‪،‬‬ ‫منــا األمــل فــي بلد الكنانــة‪ ،‬وح ْلمنا في الشــام يقطر ً‬

‫أ‪.‬د‪ .‬نادية مصطفى (مصر)‪:‬‬

‫مهب ريح‬ ‫ونعلــم أن مصيــر بــاد الزيتونة‬ ‫والقيــروان في ّ‬ ‫ْ‬ ‫عاصف إال برحمة اهلل‪ .‬فال نعلم هل يرسل اهلل إلينا عبده‬ ‫الصالح يرشــدنا بما أرشــد به عبده موســى الذي زاده اهلل‬ ‫إن تركيــا مــا زالــت تحمل آمــال هذه األمــة المتأ ّلمة‪،‬‬

‫وال شك أن انكسار أي من أعمدتها سيكون له أثر الوبال‬ ‫حول‬ ‫على أحالمها وآمالها‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫أي معنى لالنتصار إن َت َّ‬

‫شــبابنا وقاد ُتنــا إلــى وحوش كلمــا قتلوا وحــش الجبل؟!‬ ‫ُ‬

‫تــرك األبــواب‬ ‫ّأكــد األســتاذ فتــح اهلل علــى ّ‬ ‫أهميــة ْ‬ ‫مفتوحــة‪ ،‬وأوصــى بعــدم وضــع العقبــات أمــام طريــق‬

‫وأكد‬ ‫ووجه تأويل ما يؤذي على أحسن الوجوه‪ّ ،‬‬ ‫الصلح ْ‬ ‫ال من‬ ‫يقينه بأن بعض الوجوه‬ ‫يوما خج ً‬ ‫ســتحمر وجناتها ً‬ ‫ّ‬ ‫مداخل الشيطان‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ال شــك أن الصبــر علــى األذى هــو مــن أخــاق‬

‫‪84‬‬

‫الصالحيــن؛ فالرجــل يعلــم أن الخيــار الــذي ينتهجــه‬ ‫هــو الخيــار الصعــب الذي ســيغير أمــواج القــاع‪ ،‬ويؤنس‬ ‫قمة الجبل‪.‬‬ ‫الوحش الرابض على ّ‬ ‫(*) باحث وكاتب في الفكر النهضوي ‪ /‬تونس‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بسطة في العلم والجسم‪.‬‬ ‫ْ‬

‫تعرفــت علــى فكر األســتاذ فتح اهلل كولــن من خالل‬ ‫ِ‬ ‫ملموســا‪،‬‬ ‫واقعــا‬ ‫تجســده‬ ‫إنجــازات المؤسســات التــي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ومــن رجــاالت يحملــون هــذا الفكــر إلــى اإلنســانية فــي‬ ‫داخــل وخــارج تركيا‪ .‬إنه الشــيخ الفقيه والمفكر والعالم‬ ‫والمص ِلــح الــذي اجتمعــت حولــه قلوب وعقــول أجيال‬ ‫ُ‬ ‫مــن األتــراك المتعطشــين لتجديد دنياهــم بتجديد دينهم‪،‬‬ ‫تيــارا متدف ًقــا يخــدم‬ ‫فكانــوا‬ ‫ً‬ ‫جميعــا‪ ،‬األســتاذ وتالميــذه‪ً ،‬‬ ‫اإلســام والمســلمين والعالمين في إطار جديد يمتد من‬ ‫الوطن تركيا إلى األمة اإلسالمية والعالم‪ ،‬ويجمع العلم‬ ‫واإليمــان‪ ،‬الفكــر والحركــة‪ ،‬العقــل والوجــدان‪ ،‬الــروح‬ ‫والمــادة‪ .‬لقد تمحور فكر األســتاذ وجهود الخدمة حول‬ ‫ابتداء من الديني‬ ‫"بناء اإلنســان"‪ ،‬وهو محور كل إصالح‬ ‫ً‬ ‫ال إلى السياسي‪.‬‬ ‫مرورا بالتربوي والمجتمعي ووصو ً‬ ‫ً‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الرزاق قسوم (الجزائر)‪:‬‬

‫تحــس وأنــت تهتدي بمصباح األســتاذ فتح اهلل كولن‬ ‫أنــه يتعامــل مــع القــرآن كأنــه نــزل عليــه‪ .‬فتــح اهلل كولن‬ ‫ُيخضــع اآليــة القرآنيــة لمصبــاح العقــل‪ ،‬لكــن العقــل‬ ‫المدعــم باإليمــان‪ ،‬ويســتنبط منها آللئ ثمينــة‪ .‬ولكنه في‬ ‫َّ‬ ‫يقــدم لنــا لوحة فنية جماليــة طبيعية وعقلية داعية‬ ‫كل آيــة ّ‬ ‫إلــى التأمــل وإلــى اســتنباط ما يجــب اســتنباطه من تعقل‬ ‫وتأمل إيماني ليوجه عقلنا به‪.‬‬


‫متثــل تجربــة الخدمــة أحــد أهــم تجــارب اإلصالح‬

‫في مجتمع المتعبدين‪.‬‬

‫اإلســامي من حيث انتامؤهــا إىل النهج الرتبوي‬

‫وعلى نفس الشــاكلة نجد أن الدولة الحديثة تلبســت‬

‫التجديدي؛ فهــي التجربة الوحيــدة التي صمدت‬

‫باللبــاس الكنســي‪ ،‬ولذلــك فــإن هــذه الدولــة خاصــة في‬

‫ومل تقع يف إغراء الدولة‪.‬‬

‫صيغتها الكاثولكية واألرثدكســية تعتبر أن صياغة الهوية‬ ‫الفكريــة للمواطــن المنتمــي إليها‪ ،‬هو جــزء ال يتجزء من‬

‫مهامها المقدســة؛ فمثلما تحتكر الدولة شــرعية ممارســة‬

‫اإلســامية‪ ،‬وذلــك أن المشــروع اإلســامي هو مشــروع‬

‫اإلكــراه والعنــف‪ ،‬فإنهــا تحتكــر إلى جانب ذلك شــرعية‬

‫للمجتمــع والحكــم‪ ،‬وهــو مشــروع دولــة ال محالة‪ ،‬فهو‬

‫وتخيله‪.‬‬ ‫القراءة والتأويل‪ ،‬أي قراءة العالم وتأويله بل‬ ‫ّ‬

‫مشروع صالح فردي ونظام حياة‪.‬‬

‫وعلــى هــذا األســاس تحتكــر الدولة الحديثــة تحديد‬

‫مهمة‬ ‫البيــن أن حجــم التحدي ما زال‬ ‫كبيــرا وأن ّ‬ ‫مــن ّ‬ ‫ً‬

‫طبيعــة نخبهــا وبيروقراطيتهــا التــي تنتمــي لمؤسســاتها‬

‫ال‪ ،‬والكدح‬ ‫اإلصــاح في األمة مــا زال الطريق إليها طوي ً‬

‫وجهات الخطاب والتواصل لديها‪.‬‬

‫البين أن األســتاذ فتح اهلل مدرك لطول‬ ‫فيها‬ ‫عســيرا‪ .‬ومن ّ‬ ‫ً‬

‫ومــن هنــا فإن الدولــة الحديثة فــي صيغتهــا العلمانية‬

‫تتجنب‬ ‫هذا المســار‪ ،‬وعلى هذا األساس يتخذ سياسات ّ‬

‫مهمة التعليم التربوي‬ ‫الكاثولكية واألرثدكســية‪ ،‬تعتبر أن ّ‬

‫الدخــول فــي المعــارك مــن حيــث المبــدأ والتركيــز على‬

‫هي من صلب مهامها ومن مصادر قدسيتها‪.‬‬

‫حريــة القراءة‪ .‬وذلك أن الخدمة تقوم على‬ ‫مبــدإ تكريس ّ‬

‫وهــذا مــا يفســر أن النخب التي أمســكت بعصم هذه‬

‫كانت هذه الدولة سليلة لإلرث الالئكي الكاثوليكي‪ ،‬أي‬

‫نمط الدولة الفرنسية‪.‬‬

‫جزءا من اإلشــكال التركي يكمن على المســتوى‬ ‫إن ً‬

‫الهيكلــي واإلســتراتيجي فــي هــذه النقطــة‪ ،‬وذلــك أن‬ ‫اإلســاميين الذيــن ورثــوا الدولــة الحديثــة‪ ،‬انتهــوا إلــى‬

‫التطبــع بطابعهــا بمثــل صــورة القريــة التــي كان يصــارع‬ ‫ّ‬ ‫وحشــا فــي أعلــى الجبل‪ ،‬فــإذا ما تغلــب أحدهم‬ ‫شــبابها‬ ‫ً‬ ‫عليــه تحــول إليه‪ .‬من المهم التنبيه إلى أن هذا المأزق ال‬

‫يخــص تركيــا فقط‪ ،‬وإنما هو إشــكال عام بــكل الثوريين‬ ‫والتحرريين في العالم بما في ذلك اإلسالميون‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الدولــة انتهــت إلى التلبس بلباســها العلمانــي‪ ،‬خاصة إذا‬

‫معقوليــة إســامية قرآنيــة؛ إذ إن اإلســام قــام على كلمة‬ ‫عامة موجهة للناس كافة‪ ...‬وبها ابتدأ الوحي من اهلل ‪‬‬

‫ألمته وإلى الناس كا ّفة‪ ،‬إلى‬ ‫لعبــده النبــي األمي ‪ ،‬ومنه ّ‬

‫بلغت الشــمس بين مشــرق‬ ‫ومدر ما‬ ‫كل بيــت مــن حجــر َ‬ ‫ْ‬

‫األرض ومغربها‪.‬‬

‫فربــط أمــر القراءة بـ"اســم اهلل" وبمعنــى "الربوبية" ِمن‬ ‫ْ‬

‫إعالن ألصل الحرية الخلقية وفردانية سلطان‬ ‫أسمائه ‪‬‬ ‫ٌ‬

‫وعــي النــاس وقلوبهــم فوق كل قــوة قاهرة‪،‬‬ ‫اهلل ‪ ‬علــى ْ‬ ‫ــم‬ ‫ِاس ِ‬ ‫وتصغير لكل ســلطان يســعى لبســط نفوذه‪﴿ :‬ا ْق َر ْأ ب ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ان ِم ْن َع َلقٍ ﴾(العلق‪)2-1:‬‬ ‫َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق ‪َ ‬خ َل َق ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫وقــد أحســنت أمــة القــراءة القــراءة‪ ،‬ولذلــك رفــض‬

‫إن اإلشــكال والتحــدي ال يواجــه الخدمــة بقــدر‬

‫يتحزبــوا لســلطان أمرائها‪ ،‬والقوا في ســبيل‬ ‫علماؤهــا أن‬ ‫ّ‬

‫مســار أخــذ الدولــة دون أن يعلــم أن الدولــة التي يســعى‬

‫وأبــو حنيفــة واإلمــام أحمــد‪ ،‬وبرهنــت األمة عــن والئها‬

‫مــا يواجــه التيــار اإلســامي اإلصالحــي‪ ،‬الــذي انتهــج‬ ‫الســتعادتها ليســت هــي هــذه الدولة التــي افتقدهــا‪ ،‬وأن‬ ‫للحكم اإلسالمي‪ ،‬وإنما للحكم المسيحي‪.‬‬

‫لــدي إجابــة باتــة اليوم عــن كيفية قتــل الوحش‬ ‫ليــس ّ‬

‫دون حمــل ســماته الوراثيــة وعــدواه‪ ،‬ولكــن التحــدي‬ ‫اليوم ال شــك مطروح على األمة وعلى جميع التيارات‬

‫لفكرهم‪ ...‬بينما همشت المعتزلة على جالل معقوليتهم‬

‫تحولــوا‬ ‫وعقالنيتهــم‬ ‫وســمو فكرهــم ونظرتهــم لكونهــم ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى فكر ســلطاني يريد أن يجد طريقه لقلوب الناس ِمن‬ ‫خالل الحكم‪.‬‬

‫إن هذه الروح اإلســامية األصيلة تقوم على أســاس‬

‫متين هو من أهم مقاصد الشريعة‪ ،‬أال وهو أصل الحرية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫هذه الدولة المســتنبتة في العالم اإلســامي ليســت وري ًثا‬

‫العنــت؛ فامتحــن اإلمــام الشــافعي واإلمــام مالــك‬ ‫ذلــك َ‬

‫‪83‬‬


‫هذه المؤسســات يقوم عليها أفــراد عاديون‪ ،‬والقصد هنا‬

‫تجنــب ســؤال الدولة‪ ،‬تجد نفســها‬ ‫واجتهــدت مــن أجــل ّ‬

‫عن اإلنســان العادي؛ فهم من أبناء الشــعب‪ ،‬ال يحملون‬

‫لمواجهــة مصيــر المدرســة الهنديــة والعربيــة‪ ،‬أو إثبــات‬

‫اليــوم أمــام تحــد حقيقي ربما يدفعها فــي نهاية األمر‪ ،‬إما‬

‫يشكلون طي ًفا مختل ًفا‬ ‫أنهم في مظهرهم ونمط حياتهم ال ّ‬

‫تميزها التاريخي والمنهجي‪.‬‬

‫مضمو ًنا يمكن أن يرى فيه المجتمع حالة غريبة تساهم‬

‫ال يســمح المقــام هنــا للتعاطي التحليلي مع ســوابق‬

‫فــي تعطيــل عمليــة التواصــل معهم أو التشــبه بهــم ونقل‬

‫تعرضت لها هذه المدرسة‪ ،‬ولكن يكفينا‬ ‫التحديات التي ّ‬

‫تجربتهم وتكرارها‪.‬‬

‫ضمــن هــذه العجالــة أن نتعاطــى مــع طبيعــة التحــدي‬

‫قيمــا غيــر‬ ‫إال أن هــؤالء األفــراد العادييــن يحملــون ً‬

‫الحالي‪.‬‬

‫تحركهــم في حياتهم اليومية وفي أعمالهم بشــكل‬ ‫عاديــة ّ‬

‫بغــض النظــر عــن التفاصيــل والتــي يمكــن أن تكــون‬ ‫ّ‬

‫يمكنهــم مــن تفعيــل عالــم األســباب فــي أحســن صــوره‬ ‫ّ‬

‫مهمــة مــن حيــث فهــم مجريــات األحــداث‪ ،‬فإنــه يمكن‬ ‫ّ‬

‫وربطه بعالم الغيب‪ ،‬وبمفهوم أوسع للمصلحة وللزمان‬

‫إرجاع التوتر الحاصل في تركيا اليوم بين تجربة "الحكم‬

‫تمكنهم مــن تنزيل قيم‬ ‫أي وبكلمــات بســيطة ّ‬ ‫وللمــكان‪ْ ،‬‬

‫اإلســامي" وتجربة "الخدمة" بما هي التعبيرة النموذجية‬

‫اإلســام على واقع جديد‪ ،‬وعلى اســتخراج صور مادية‬

‫الوحيــدة فــي العالــم اإلســامي عــن التيــار التربــوي فــي‬

‫من هذا الواقع مشبعة بهذه القيم‪.‬‬

‫األمة‪ ،‬إلى أصول بنيوية تتجاوز طبيعة األفراد والتأويالت‬

‫جــدا‬ ‫تتوفــر تجربــة الخدمــة علــى فاعــل آخــر مهــم ًّ‬

‫المتعددة التي تبحث مكامن مكوث الشيطان‪.‬‬

‫وأساســي بالنســبة ألي تجربــة‪ ،‬وهــي حضور الشــخصية‬ ‫يمثــل األســتاذ فتــح اهلل شــخصية تاريخيــة فــذة تمثل‬

‫ال‪ ،‬وذلك بفضل اجتماع كل‬ ‫شــرطا لنجاح التجربة إجما ً‬ ‫ً‬ ‫الصفــات األساســية للمشــروع فــي شــخصه‪ ،‬واألهم من‬ ‫كل ذلك بفضل ما اجتمع في شخصه من شروط التزكية‬

‫وســمو القيــم‪ .‬فاألســتاذ فتــح اهلل يمثــل قيــم التجربــة في‬ ‫ّ‬ ‫أحســن أحوالهــا‪ ،‬بــل هــو ربما يكلف نفســه مــا ال يكلفه‬ ‫غيــره‪ ،‬وهــو مــا يكســبه مصداقيــة قيميــة وأخالقية ســامية‬

‫ال ُيحتذى به وأسوة صادقة‪.‬‬ ‫تجعل منه مثا ً‬

‫وهذه النماذج من الشخصيات التاريخية‪ ،‬هي نماذج‬

‫فذة في التاريخ اإلســامي وفي تاريخ الشــعوب عادة ما‬ ‫توجــد فــي مراحــل التأســيس‪ ،‬وكلما زاد ســموها اتســع‬

‫أفقها التاريخي ومدى تجربتها في التاريخ‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الخدمة وامتحان الدولة الحديثة‬

‫‪82‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أي الشيخ األستاذ فتح اهلل كولن‪.‬‬ ‫المؤسسة للتجربة؛ ْ‬

‫تحديا‬ ‫تمثــل الخدمــة ‪-‬مــن حيث جوهرهــا وبنيتهــا‪-‬‬ ‫ً‬

‫جوهريــا لطبيعــة الدولــة الحديثــة‪ ،‬خاصــة الدولــة التــي‬ ‫ًّ‬

‫ورثت النموذج الفرنسي للحداثة‪.‬‬

‫يمكــن تصنيــف الدولــة الحديثة إلى صنفيــن أو ثالثة‬

‫أصنــاف بحســب طابعهــا العلمانــي‪ .‬وذلــك أن الدولــة‬ ‫الحديثــة هــي دولــة علمانيــة بالتعريــف‪ ،‬ويمكــن تقســيم‬

‫اإلرث العلماني بحسب اإلرث الكنسي؛‬

‫متطرفة في موقفها‬ ‫• فهنــاك علمانيــة الئكية كاثولكية‬ ‫ّ‬

‫من الدين‪.‬‬

‫• وعلمانيــة أرثدكســية‪ ،‬وهي علمانيــة مركزية كليانية‬

‫متدينة‪.‬‬

‫• وهناك علمانية بروتستنتية‪.‬‬

‫وذلــك أن الكنيســة األوربيــة التــي واجهــت أزمــة‬

‫وجودية‪ ،‬انتهت وولدت هذه العلمانيات الكنسية الثالث‪.‬‬ ‫ومــن أهــم ســمات الكنيســة الكاثوليكيــة والبروتســتنتية‬

‫تمثل تجربة الخدمة أحد أهم تجارب اإلصالح اإلسالمي‬

‫احتكار التحدث بالحقيقة وفصل المقدس عن الدنيوي‪،‬‬

‫التجربة الوحيدة إلى حد اآلن التي صمدت ولم تقع في‬

‫والقدســية‪ .‬وهذا على خالف الكنيســة البروتســتنتية التي‬

‫مــن حيــث انتماؤها إلى النهج التربــوي التجديدي؛ فهي‬

‫إغراء الدولة‪ ،‬وهذا خال ًفا لما انتهت إليه التجربة الهندية‬ ‫والعربيــة الســ ّنية‪ .‬علــى أن تجربــة الخدمــة التــي عملــت‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واعتبارهــا رجــال الكنيســة النخبــة المنفــردة بالتقديــس‬

‫جــاءت فــي إطــار عملية تجديــد إحيائي للكنيســة‪ ،‬أدخل‬ ‫وعددها‬ ‫شيئا من الدنيوي ووزع بذلك مجال السلطة ّ‬ ‫فيها ً‬


‫متثــل تجربــة "الخدمة" أحــد أهم تجــارب اإلصالح‬

‫• وأمــا العامــل الثانــي‪ :‬فهــو ســقوط نمــوذج الحكــم‬

‫اإلسالمي‪ ،‬وتكْ من‬ ‫أهميتها يف قدرتها عىل تحويل‬ ‫ّ‬

‫اإلســامي بســقوط الخالفــة العثمانيــة وغيــاب الســقف‬

‫القيم اإلســامية األصيلة إىل منوذج نجاح وإبهار‪.‬‬

‫الذي كان يؤوي األمة في بيت واحد‪.‬‬

‫وهــذا يعني أننا نقــف أمام منوذج جديــد للنجاح‬

‫وقــد أدى هذيــن الحدثيــن الهاميــن فــي تاريــخ األمة‬

‫والتميــز وهو منوذج قادر عــى الجذب واإللهام‪.‬‬

‫إلى إحداث شــرخ كبير بين نخبها‪ ،‬فانقســمت فسطاطين‬ ‫بخصــوص رؤيتهــا لعمليــة النهــوض واللحــاق بركــب‬ ‫الحضــارة‪ .‬إذ رأى فريــق أن حــال األمــة ال ينصلــح بــه‬

‫فكان األمر المشــترك في العواصم األساســية للعالم‬

‫آخرها إال بما صلح به أولها‪ ،‬بينما رأى الفريق الثاني أنه‬

‫ال في تهميش المؤسسة‬ ‫اإلسالمي السني على األقل‪ ،‬متمث ً‬

‫ال أمــل فــي األمة إال بأن تتبع خطى النموذج الحضاري‬

‫التربويــة التقليديــة ومنظومتهــا في إنتاج النخــب واعتماد‬

‫ومســلكيا‪ ،‬وأن ال أمــل في‬ ‫وثقافيــا‬ ‫فكريــا‬ ‫اتباعــا‬ ‫الغربــي ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫الدولــة القطريــة الحديثــة علــى المؤسســات المســتحدثة‬

‫الموروث الحضاري‪.‬‬

‫وعلــى معاييرهــا في إنتــاج النخب والترقــي االجتماعي‪.‬‬ ‫وقــد وقــع هــذا في ٍّ ِ‬ ‫شــبه القــارة الهنديــة والعراق‬ ‫كل من ْ‬ ‫والشام وتركيا ومصر وتونس والمغرب‪.‬‬

‫كمــا أن هذا االنقســام لــم يتوقف عند هذا االنشــطار‬

‫أفقيا‪ ،‬كذلك داخل صف‬ ‫العمودي بل هو حقق‬ ‫ً‬ ‫انقاساما ًّ‬ ‫الشــق الــذي يــروم اإلصــاح مــن خــال عمليــة تجديــد‬

‫لم يبق لهذا التيار من أثر معتبر إال من خالل تجربتين‬

‫أساســيان‬ ‫الــذات والعــودة إلــى األصــول‪ .‬إذ بــرز تيــاران‬ ‫ّ‬ ‫• أحــد هذيــن التياريــن يســعى لتحقيــق الهــدف مــن‬

‫خــال اســتعادة الحكم وبرفع شــعار الدولة اإلســامية‪،‬‬ ‫وذلك من خالل التنافس والسعي لركوب مركب الدولة‬

‫القطرية الحديثة‪.‬‬

‫• ويســعى التيــار الثانــي إلــى العمل على إعــادة إنتاج‬

‫نخبــة إســامية قــادرة علــى إحيــاء المشــروع اإلســامي‪،‬‬

‫معتبــرا أن العمليــة التربوية هي اآللية األساســية المحققة‬ ‫ً‬ ‫التجدد‪.‬‬ ‫لهذا‬ ‫ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫على األقل؛‬

‫مختلفتين من حيث درجة النجاح واالتساع‪ ،‬تم ّثل تجربة‬

‫المعهد العالمي للفكر اإلسالمي إحدى هذين التجربتين‬

‫وهــي فــي العمــوم لــم تســتطع إلى حــد اآلن إنتــاج نخبة‬ ‫نصوصا تأسيســية‬ ‫حد اآلن‬ ‫مؤثــرة‪ ،‬وال هــي أنتجت إلــى ّ‬ ‫ً‬

‫وال شــخصيات نموذجيــة‪ ،‬بــل بقي تيار الدولــة هو التيار‬

‫األساسي المنتج لهذه النصوص والشخصيات‪.‬‬

‫فذة نشــأت في قلب‬ ‫أمــا التجربــة الثانيــة فهــي تجربــة ّ‬

‫عاصمة العالم اإلسالمي في تركيا وهي تجربة "الخدمة"‪.‬‬

‫الخدمة نموذج إسالمي للنجاح‬

‫وذلــك أن المدرســة اإلصالحيــة قــد نشــأت فــي ظل‬

‫تمثــل تجربــة "الخدمــة" أحــد أهــم تجــارب اإلصــاح‬

‫يمكــن العالــم اإلســامي مــن‬ ‫الدولــة والمجتمــع بمــا ّ‬ ‫الحفاظ على هويته الجماعية وعلى عطائه الحضاري‪.‬‬

‫اإلســامية األصيلة إلى نموذج نجاح وإبهار‪ ،‬وذلك من‬ ‫وصحيــة‬ ‫خــال قدرتهــا علــى إنتــاج مؤسســات تعليميــة‬ ‫ّ‬

‫اإلسالمية في وجه الحكومة العلمانية التي جاءت كوريث‬

‫الدولــة الحديثــة‪ ،‬بــل علــى التميــز عليها ضمــن مناخات‬

‫فركزت جهدها علــى كيفية تجديد نخب‬ ‫دولــة الخالفــة‪ّ ،‬‬

‫وقد ّأدى ســقوط الخالفة إلى صعود شعار الحكومة‬

‫وإذ دخل التيار الداعي للحكم اإلســامي في صراع‬

‫وجــود مــع نخــب الدولة الجديــدة‪ ،‬وجد التيــار التربوي‬

‫نفســه في مرمى عملية االســتئصال المنهجي الذي قامت‬ ‫به الدولة الجديدة‪.‬‬

‫وماليــة ناجحــة قادرة‪ ،‬ليس فقط على منافســة مؤسســات‬ ‫وجغرافيــات متعــددة ومتنوعــة‪ .‬وهذا يعنــي أننا نقف هنا‬ ‫أمــام نمــوذج جديــد للنجــاح والتميــز وهــو نمــوذج قادر‬

‫علــى الجــذب واإللهــام‪ .‬وهذا األمر هو من أهم شــروط‬

‫التجديد والحياة واالنتشار‪.‬‬

‫األمــر الثانــي الــذي تتميز به تجربــة الخدمة‪ ،‬هو كون‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عضوي لالحتالل المباشــر وللهيمنة الغربية على العالم‪.‬‬

‫أهميتها في قدرتها على تحويل القيم‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬وتكْ من ّ‬

‫‪81‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬أحمد قعلول*‬

‫مداخل اإلصالح‬

‫يف العامل اإلسالمي وتحدياته‬

‫أحد مميزات تجربة الخدمة‪ ،‬هو أنه‬ ‫يقوم عىل مؤسساتها أفراد عاديني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قيم‬ ‫إال أن هــؤالء األفراد العاديــون يحملون‬ ‫غري عاديــة تح ّركهم يف حياتهــم اليومية ويف‬

‫ّ‬ ‫متكنهم من تفعيل عامل األسباب‬ ‫أعاملهم بشكل‬ ‫يف أحسن صوره وربطه بعامل الغيب‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫اســتفاق المســلمون خالل القرنين الماضيين‬ ‫علــى واقع لــم يألفوه بخصوص آلية التجدد‬ ‫الحضاري لألمة‪ .‬إذ ‪-‬وألول مرة منذ ما يزيد‬ ‫عن اثنتي عشرة قر ًنا‪ -‬انتبهت األمة إلى كون عملية اإلصالح‬ ‫الداخلــي لــم تعد قضيــة إرادية وداخلية‪ ،‬بــل أصبحت مرتبطة‬ ‫برهانــات خارجيــة؛ وذلك أنه برز عاملَين جديدين في معادلة‬ ‫اإلصــاح الداخلــي يربــكان اآلليــة الذاتية التــي كانت تضمن‬ ‫التجدد الداخلي لألمة ولدوره الحضاري واإلنساني‪.‬‬ ‫• أمــا العامــل األول‪ :‬فقــد تمثــل فــي بــروز نمــوذج جديد‬ ‫للنهوض الحضاري وللحكم والدولة‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫صير تربية اإلنســان وتعليمه غاية مجتمعية‪ ،‬تتجه‬ ‫فهو أنه َّ‬

‫إليهــا طاقات المجتمع كلها‪ ،‬ال بوصفها أولوية مجتمعية‬ ‫فحسب‪ ،‬بل فريضة شرعية ورسالة حضارية‪ .‬ثم إن اتخاذ‬

‫التربيــة والتعليــم مركــب القيمــة والرســالة والمثــال إلــى‬ ‫العالم‪ ،‬هو الذي أدى إلى تقويض ســلطة الجغرافيا على‬ ‫الفكرة‪ ،‬وهي ‪-‬كما ال يخفى‪ -‬واحدة من أهم التحديات‬

‫التــي واجهــت رســالة الوحــي في تاريخنا‪ ،‬بــل وال زالت‬

‫تواجههــا إلــى اليــوم‪ .‬نحــن بــإزاء دفقــة حضاريــة تنفتــح‬ ‫أمامهــا عوالــم "دار الخدمــة"‪ ،‬عنوانهــا "أنــك لكــي تثبت‬ ‫وجــودك فــي مــكانٍ مــا‪ ،‬يجــب أن تكون فــي كل مكان"‪.‬‬ ‫وجا‬ ‫ربما اســتحق األســتاذ فتح اهلل كولن أن يكون ُ‬ ‫"ه َ‬

‫َأ َف ْنــدي" عنــد األتــراك الذيــن خبــروه أوالً‪ ،‬فهــذا الرجــل‬ ‫يوما‪ ،‬والعالم‬ ‫الذي لم تتقو صلته بمتعلقات الحياة الدنيا ً‬

‫الذي شكل‬ ‫امتدادا لميراث المعرفة اإلسالمية‪ ،‬والواعظ‬ ‫ً‬ ‫الذي تفنن في نحت الصخر‬ ‫صانعا منه آيات من الجمال‬ ‫ً‬ ‫اإلنســاني‪ ...‬ال يشــغل نفســه بمــا يقال عــن نموذجه‪ ،‬وال‬

‫تربويــا‬ ‫ال‬ ‫صعبا غاية‬ ‫أبــدا بنجاحه‪ .‬لكنــه يقدم مثا ً‬ ‫يحتفــي ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫قائمــا علــى اإليمــان باهلل‪،‬‬ ‫الصعوبــة تقديمــه فــي عالمنــا‪ً ،‬‬ ‫ثــم ال ّثقة فــي أجيالنا وتوحيد مقاصــد الفعل كلها إلعداد‬

‫اإلنسان‪ ،‬خدمة لإلنسانية وعمرا ًنا للعالم‪.‬‬

‫ختا ًما‬

‫"قال األعرابي ألهل البصرة‪َ :‬من ســيدكم؟ قالوا‪ :‬الحسن‬

‫بم سادكم؟ قالوا‪ :‬احتاج الناس إلى علمه‬ ‫(البصري) قال‪َ :‬‬ ‫واستغنى هو عن دنياهم‪ .‬فقال‪ :‬ما أحسن هذا"‪.‬‬

‫أما األمل من الكلمات السابقة‪ ،‬فهو أن تكون ثمرتها‬

‫أليما؛ ثمرة‬ ‫هديــة لكثيــر مــن ذوي النهى‪ ،‬المعانين ً‬ ‫واقعــا ً‬ ‫قوامهــا نمــوذج حضــاري حي وفاعل‪ ،‬يســتمد الحياة من‬ ‫مصــدر معنــوي عميــق الغــور‪ ،‬ومن مكابــدة واقع مركب‬

‫ومتعدد المستويات رحب اآلفاق‪.‬‬

‫(*) رئيــس مركــز الدراســات والبحــوث اإلنســانية واالجتماعية ‪ -‬وجدة‬ ‫‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪79‬‬

‫شهادات‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬وهبة الزحيلي (سوريا)‪:‬‬

‫وجــدت فــي تركيــا َمثليــن فريديــن فــي توعيــة األمــة‬ ‫ُ‬ ‫يعمــان علــى تحقيق طموحــات كبرى في بنــاء األجيال‬ ‫والمســتقبل المشــرق الوضاء‪ .‬األول هــو العالمة الملهم‬ ‫المفكــر األســتاذ بديــع الزمــان "ســعيد النورســي" رحمه‬ ‫اهلل‪ .‬والم َثــل الثانــي إنمــا هــو الرجــل‬ ‫المخطــط والمن ِّفــذ‬ ‫ِّ‬ ‫لــكل خطــة‪ ،‬أال وهــو األســتاذ "فتــح اهلل كولــن"‪ .‬فهــو‬ ‫لمســت من آثــاره القيمة وتوجيهاتــه الهادئة‪ -‬وراء‬ ‫كما‬‫ُ‬ ‫خيــر عظيــم‪ ،‬وفضــل عميم في نفــع أمته وبناء‬ ‫كل عمــل ّ‬ ‫شــخصية الجيل والشــباب بطاقات عملية وأنشطة حيوية‬ ‫جدا ورائعة شملت أنحاء الحياة كلها؛ االقتصادية‬ ‫مفيدة ًّ‬ ‫واالجتماعيــة والثقافيــة والمعرفيــة والعمليــة الهادفــة‪،‬‬ ‫المتميــزة بالحركيــة الفاعلــة‪ ،‬والديمومــة الناجحــة مــن‬ ‫معين اإلســام الخالد‪ .‬ال أذكر هذا على ســبيل اإلشــادة‬ ‫والمديــح‪ ،‬وإنمــا ألقي الضوء على خطــوات النجاح في‬ ‫أنموذجا ليســتفيد‬ ‫العمــل الدعــوي اإلســامي الذي يعــد‬ ‫ً‬ ‫منه اآلخرون‪.‬‬

‫د‪ .‬جيل كارول (الواليات المتحدة)‪:‬‬

‫لقد عشــت مع فتح اهلل كولن من خالل كتاباته أثناء‬ ‫إعــداد كتــاب "محــاورات حضاريــة" ومــا زالــت أفــكاره‬ ‫تلهمني‪ ،‬ولقد عرفت بعد لقائه لماذا َألهم هذا الرجل ما‬ ‫ال‬ ‫ومن َحهم الدافع رجا ً‬ ‫يقــرب مــن ثالثة أجيال في تركيــا َ‬ ‫ونســاء إلنشــاء عالــم جديد‪ .‬إنــه رجل يتمتــع بقدر هائل‬ ‫من الروحانية واإلخالص والتعاطف‪ ،‬وهو شيء واضح‬ ‫للغاية في كتاباته وفي شخصيته‪.‬‬


‫مركزيا‪ ،‬ليكون‬ ‫مرك ًزا على بناء اإلنسان هد ًفا‬ ‫والجماعة‪ّ ،‬‬ ‫ًّ‬

‫والنســاء الباذلــون مــن أموالهم في تســابق عجيب تشــهد‬

‫كمــا قررها الوحــي‪ ،‬بمقاصدها الكبرى في بناء العمران‪،‬‬

‫خريجوها‬ ‫والمؤسســات ورعايتها في تركيا وعبر العالم‪ّ ،‬‬

‫الهمــة" لبناء هــذه المــدارس والجامعات‬ ‫عليــه "مجالــس ّ‬

‫ا لصياغــة عالمــه علــى مقتضى رســالته فــي الكون‬ ‫مؤهــ ً‬

‫مــن الطــاب الذيــن يعيدون إنتــاج هذه الدائــرة الصالحة‬

‫فتصيــر تلــك المقاصــد الكليــة‬ ‫محــددا ألهــداف حركتــه‬ ‫ً‬

‫جميعــا‬ ‫مــن الخدمــة والبــذل‪ ...‬هــؤالء الذيــن يشــكلون‬ ‫ً‬

‫ال‬ ‫فــي الواقــع‪ .‬لذا نجد أن أهدا ًفا كبرى بســعة العلم مقاب ً‬

‫"جــزر ســام" حقيقيــة في عالــم مضطرب‪ ،‬كلهــم عنوان‬ ‫ُ‬

‫ال‬ ‫للجهل‪ ،‬والكفاية مقاب ً‬ ‫ال للفقر‪ ،‬والحوار والتفاهم مقاب ً‬

‫صالحيــة النمــوذج‪ ،‬ومعيــار دقيــق فــي الحكــم‪ ،‬ال علــى‬

‫للفرقــة والصــراع‪ ،‬ظلــت أهدا ًفا قــارة لهذا النمــوذج؛ بل‬

‫األداء التربوي والتعليمي وفعاليته فحســب‪ ،‬بل على قوة‬

‫هــي المؤهلــة وحدهــا –كما أكــد حدي ًثا‪ -‬لتوجيه مســاره‬

‫النموذج الكامن في المنظومة المؤسسية‪ ،‬الذي أنتج هذه‬

‫فــي المســتقبل المنظــور كما يبــدو‪ ،‬ألن المقاصــد الكلية‬

‫المدارس وصنع هذه التجربة اإلنسانية الحية في عالمنا‪.‬‬

‫الحاكمة لها‪ ،‬والكامنة في النموذج واضحة ثابتة‪.‬‬

‫يمكــن ح ًّقــا لنمــوذج فكري أو تربوي أن يقدم نفســه‬

‫عالقــة بذلك كله؛ تبدو الدراســات الكثيرة والمتتالية‬

‫معتمــدا علــى مؤشــر قــوي مــن مؤشــرات‬ ‫للعالــم اليــوم‪،‬‬ ‫ً‬

‫التي أنجزت حول "المشروع‪/‬التجربة" التربوي التعليمي‬

‫الجــودة‪ ،‬ويمكــن لهــذا النمــوذج أن يعــرف االنتشــار‬

‫لنمــوذج كولــن‪ ،‬كمــا تجلت في المدارس التي تأسســت‬

‫ســعيا لإلفــادة الجزئيــة من هذا المؤشــر‪ .‬وليس‬ ‫والقبــول‬ ‫ً‬

‫بنــاء عليــه عبر العالم‪ ،‬مهتمة بشــكل واضــح بالنجاحات‬

‫صعبــا أن نجــد أمثلــة عديــدة على ذلك في زمــن اإلنتاج‬ ‫ً‬

‫إن على مســتوى االنتشــار في‬ ‫التعليميــة لهــذه المدارس‪ْ ،‬‬ ‫مجاالتهــا‪ ،‬وذلــك في أغلب تلك الدول يســتوي في هذا‬ ‫الغني منها والفقير‪.‬‬

‫إن هــذا المقتــرب في دراســة النمــوذج التربوي على‬

‫أهميته التي ال تخفى‪ ،‬ال يفسر لوحده قوة النموذج‪ ،‬وال‬

‫هــو جديــر ببيان أبعــاده الكاملة‪ .‬القيمة األهــم التي ينفرد‬

‫بها هذا النموذج هو مثاله اإلنســاني‪ .‬صحيح أنه يشــترك‬ ‫مــع كثيــر غيره مــن نماذج اإلصــاح في إنــزال النبوة في‬ ‫مقــام االســتمداد‪ ،‬واعتبــار شــخصيته ‪ ‬المثــال األكمــل‬

‫كثيرا ما‬ ‫لالقتداء‪ ،‬غير أن هذه المقوالت وتلك الدعاوى ً‬ ‫تســقط على محــك الواقع ومكابداته إخفا ًقا في مســتوى‬ ‫التمثــل العــام‪ .‬هــذا مكمن الصعوبــة في الطريق وتفســير‬

‫سالكيه لطوله‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫أال ما أصعب التحدي بـ"المثال اإلنساني"‬

‫‪78‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أغلب دول العالم‪ ،‬أو في تصدرها تصنيفات الجودة في‬

‫واالقتصــاد والمعرفــة المعولمــة‪ .‬لكــن الصعــب ح ًّقــا‬ ‫هــو أن يكــون التحــدي بالمثــال اإلنســاني‪ ...‬أن تكــون‬

‫ال‬ ‫عالمتك‬ ‫المســجلة موضع الثقة والفعالية‪ ،‬إنســا ًنا مؤه ً‬ ‫ّ‬ ‫تتحــدى بــه ظرو ًفــا معقدة فــي بيئــات صعبة عبــر العالم‪،‬‬ ‫واث ًقــا مــن نجاعة مســلكه القيمي والتربــوي‪ ،‬وكفاءته في‬ ‫التعامل معها في كل مكان‪ .‬أما االســتثناءات البشــرية هنا‬ ‫فمؤكدات للقاعدة العامة‪.‬‬

‫ولعل وضوح الرؤية بالدقة المتناهية في هذا النموذج‪،‬‬

‫يتبيــن فــي أنــك ال تجد فرو ًقــا بين تجاربــه المختلفة عبر‬

‫العالــم‪ ،‬ال فــي مســتوى األداء‪ ،‬وال فيمــا يمكن أن يعتريه‬ ‫من االتجاهات المذهبية أو الفئوية‪ ،‬وال في ثوابت فهمه‬ ‫لقيــم اإلســام اليــوم‪ ،‬والتعامــل معها من منظور إنســاني‬

‫رحــب‪ .‬وبهــذا يمكن أن تجد من ينتقــده بوصفه محافظً ا‬ ‫فــي بيئــة وأنه متحرر في بيئة أخرى‪ ،‬أو أنه نصي في بالد‬

‫أو روحانــي فــي بــاد أخرى‪ ،‬صــارم في منطقة متســاهل‬

‫المقصــود بالمثــال اإلنســاني هنــا‪ ،‬هــو نوعيــة العنصــر‬

‫في منطقة أخرى‪ ...‬والواقع أنه نموذج ثابث رغم مرونة‬

‫األمكنــة والبيئــات والظــروف؛ المعلّمــون المهاجــرون‬

‫والمناطــق‪ ،‬مــع حفاظــه علــى جوهر ثابث كامــن في نواة‬

‫الــذي يحــرك هــذه المنظومــة‪ ،‬فتعيــد إنتاجه علــى امتداد‬ ‫والمضحــون بمصائرهــم الشــخصية واألســرية والمهنية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األســاتذة المتفانــون في رســالتهم حد التماهــي‪ ،‬الرجال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تغيره في األشــكال والوســائل بما يناســب تعــدد البيئات‬

‫العمل التربوي الصلبة‪ ...‬إنه الـ"نموذج كولن"‪.‬‬

‫وإذا كان لنــا أن نعــد التغييــر األكبــر لنمــوذج كولــن‬


‫إن "منــوذج فتح الله كولــن" يف املجال الرتبوي‪،‬‬

‫"أميــة البنــت على فســاد أخالقهــا" بتأثير من جــو التعليم‬

‫منوذج يعيد االعتبار بدأب وإرصار لقيم الوحي يف‬

‫ومناهجــه‪ .‬وفي بدايــة الثمانينيات جاءت مدارس التقوية‬

‫حياة اإلنســان والجامعة‪ّ ،‬‬ ‫مركزًا عىل بناء اإلنســان‬

‫(المــدارس التحضيرية للجامعــة التي ذاع صيتها الح ًقا)‪.‬‬

‫هدفً ا مركز ًّيــا‪ ،‬ليكون مؤهــ ً‬ ‫ا لصياغة عامله عىل‬

‫ظل األســتاذ فتح اهلل كولن‬ ‫مطار ًدا‬ ‫فــي تلك المرحلة ّ‬ ‫َ‬

‫مقتىض رســالته يف الكــون كام قررهــا الوحي‪،‬‬

‫بسبب وضع اسمه على الئحة المطلوبين‪ ،‬بعد االنقالب‬

‫مبقاصدهــا الكربى يف بناء العمــران‪ ،‬فتصري تلك‬

‫لمــدة ســت ســنوات‪ ،‬إلــى أن اعتقــل ســنة ‪ ،1986‬فثبــت‬

‫محددا ألهداف حركته يف الواقع‪.‬‬ ‫املقاصد الكلية‬ ‫ً‬

‫أنــه لــم يكــن‬ ‫مطلوبــا للعدالــة وال ألي جهــة أمنيــة‪ ،‬وأن‬ ‫ً‬ ‫وضــع اســمه في الئحــة المطلوبيــن بعد االنقــاب‪ ،‬كان‬

‫ألســباب سياســية طارئة‪ ،‬فأخلي سبيله‪ .‬وكان خالل هذه‬

‫من تأثر بفكره وانســلك في مشــروعه؛ عندها جاءه واحد‬

‫تربويا‪ ،‬والحــرص على‬ ‫نجاحهــا وتأهيــل األســاتذة فيهــا‬ ‫ًّ‬

‫طالبــا إليه أن ينضم إلى مجموعته في مشــروعهم‬ ‫تركيــا‪ً ،‬‬

‫بعــد ذلك وخالل الســنوات األربع الالحقة ‪-1986‬‬

‫جديــدا‪ ،‬وعــن االنتخابــات القريبــة التــي ســتحملهم إلى‬ ‫ً‬

‫الفترة يتنقل ‪-‬رغم ظروفه‪ -‬لبناء المدارس‪ ،‬ويسهر على‬

‫ممــن أصبحــوا بعــد ذلــك شــخصيات عامة مشــهورة في‬

‫تميزهم في بناء نموذج لمدرسة متميزة وناجحة‪.‬‬

‫حزبا‬ ‫السياســي اإلســامي الواعد‪ ،‬محد ًثا عن تأسيســهم ً‬

‫‪ 1989‬بدأ يدعو بشكل واسع إلى محاربة األعداء الثالثة‬

‫الحكم‪...‬‬ ‫مؤكدا أن ذلك كله أولى من حصر جهد رجل‬ ‫ً‬

‫وطبق نموذج المدارس على نطاق واسع‪.‬‬ ‫ّ‬

‫واضحا‬ ‫طاقــة كبيــرة فــي نفــع قليــل‪ .‬كان جواب الرجــل‬ ‫ً‬

‫األلداء ‪:‬الجهل والفقر والفرقة (الخالف) بشــكل عملي‪،‬‬

‫تأسســت أول المدارس خارج‬ ‫بدايــة التســعينيات‪ ،‬حيث ّ‬

‫البــاد ســنة ‪ ،1991‬وذلك في آســيا الوســطى إثــر انهيار‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫خــارج تركيــا بدأ فتــح المدارس فــي دول أخرى منذ‬

‫محبوب ومؤثر مثله في بضعة عشر طفالً‪ ،‬وأهم من هدر‬ ‫وصارمــا‪ ،‬اعتــذر بــأدب لكنــه ّأكــد أن ذلك ليــس طريقه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومن يأتي‬ ‫ال‬ ‫صبــورا وطوي ً‬ ‫يفضــل عم ً‬ ‫وأنــه ّ‬ ‫ال مع هــؤالء َ‬ ‫ً‬ ‫أي طريق آخر‪.‬‬ ‫بعدهم على ّ‬

‫وجه األستاذ‬ ‫االتحاد السوفياتي‪ .‬ففي صيف عام ‪ّ 1990‬‬

‫واحدة من أزمات "النموذج اإلســامي" في عصرنا‪،‬‬

‫الوعــظ فــي المســاجد الســلطانية إلــى "نجــدة إخوانه في‬

‫تحقيــق أهدافــه‪ ،‬نزوعــه المتســارع إلــى المعاييــر الماديــة‬

‫يدخلــوا تحــت ســيطرة اســتعمار ثــان"‪ ،‬وبأثــر مــن تلــك‬

‫الحكــم علــى مــدى نجاحــه؛ هــذه الخاصيــة وإن كانــت‬

‫الثالثيــن ألــف عائلــة من آســيا الوســطى‪ ،‬وهو مــا أعطى‬

‫حضــور النمــوذج المعرفــي القائــم علــى أســاس الوحــي‬

‫ال تستصعب‬ ‫التعاطف واالنخراط الشعبي في المبادرة‪ .‬أ ّ‬

‫تماما كما تعبر عن تســلط النموذج المادي على الوعي‪،‬‬ ‫ً‬

‫على صفحات األنفس والعقول‪.‬‬

‫والعواطف الدينية لتغيير واقعهم‪.‬‬

‫فتح اهلل كولن دعوة إلى الشــعب التركي من على كرســي‬

‫خاصــة مــن جهة معيــار تقويمه والحكم علــى فعاليته في‬

‫الــدم والديــن الذيــن خرجــوا مــن االســتعمار‪ ،‬قبــل أن‬

‫الســائدة‪ ،‬بحيــث تســود هــذه المعايير بشــكل متــدرج في‬

‫الدعوة استضاف الشعب التركي في تلك السنة ما يناهز‬

‫تتلبــس بالعواطــف الجماهيريــة‪ ،‬إال أنها تــؤدي إلى تآكل‬

‫بعد قاعدة شعبية من كل الناس بعد موجة‬ ‫المدارس فيما ُ‬

‫ومقاصــده فــي األنفــس واآلفــاق‪ ،‬أو اإلنســان والعالــم‪.‬‬

‫بيئــة للعمــل‪ ،‬مقتضــاه إتقان فن النحت فــي صخر الواقع‬

‫حتــى لدى فئات من المتدينين‪ ،‬بل ممن تحركهم اآلمال‬

‫فــي نهاية الســتينيات‪ ،‬كان األســتاذ الــذي بدأ يلتف حوله‬

‫اإلصــاح فــي عالــم المســلمين‪ ،‬تتجلــى أهميــة "نموذج‬

‫تربويــا لبضعــة عشــر مــن "األصدقــاء"‪ ،‬كمــا ال زال يدعو‬ ‫ًّ‬

‫االعتبــار بــدأب وإصــرار لقيــم الوحــي في حياة اإلنســان‬

‫مجموعــة مــن المتأثريــن بخطابه وســلوكه‪ ،‬ينظــم‬ ‫مخيما‬ ‫ً‬

‫كولــن" فــي المجــال التربــوي‪ ،‬ذلــك أنــه نمــوذج يعيــد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫"المربي" سالك الطريق األطول واألصعب‬

‫وبقدر ما تتجلى خطورة هذا المســار على اتجاهات‬

‫‪77‬‬


‫النمــوذج" (التــي ت ّتحــد في الداللة هنا) بالنســبة لألســتاذ‬

‫قويا بقوة األسوة (لسان الحال)‪،‬‬ ‫وهذه قيم تستبطن إيما ًنا ًّ‬

‫نقاشــا‬ ‫واســعا دار‬ ‫مــن عمــر مشــروعه التربــوي‪ ،‬ذلك أن ً‬ ‫ً‬

‫يجسد‬ ‫مسيرة تربوية بالغة الغنى‪ ،‬وهنالك مثال حي بليغ ّ‬

‫كمــا تجلّــت مــن خــال حضورهــا العملــي علــى امتــداد‬

‫فتــح اهلل كولــن أهمية اســتثنائية في هذه اللحظة الشــاهدة‬

‫من خالله األستاذ هذه المعاني بسلوكه‪.‬‬

‫وال يــزال فــي منهــج دراســة مــدارس اإلصالح فــي عالم‬

‫كان عمــره ‪ 20‬ســنة حيــن أنهــى الخدمــة العســكرية‬

‫إجمال‪ ،‬ومنها مدرسة‪/‬نموذج األستاذ كولن‪.‬‬ ‫المســلمين‬ ‫ً‬

‫اغور" الواعظ الشهير‬ ‫ــار ُتو َن ُ‬ ‫اإللزامية‪ ،‬وكان األســتاذ َ"ي َش ْ‬

‫واســعا ليس هذا مجاله‪ ،‬نحاول‬ ‫نقاشــا‬ ‫ولكي ال نســتعيد ً‬ ‫ً‬

‫ال‬ ‫فــي مدينــة إزميــر قــد ُع ّين حدي ًثــا في منصب آخــر وكي ً‬ ‫للشــؤون الدينيــة بالعاصمة‪ ،‬فتأســف أهــل المدينة الذين‬

‫يســمى بـ"عنصر االمتياز في المشــروع"‪،‬‬ ‫أن نتعــرض لمــا ّ‬

‫أو "دراســة النمــوذج" بنــاء على نقطة جوهريــة كامنة فيه‪،‬‬

‫محبتهم وإعجابهم بمواعظه في مساجدها‪،‬‬ ‫كسب الرجل ّ‬

‫قادرة أكثر من غيرها على اإلمداد بالمعنى المراد‪.‬‬

‫لنبدأ بسيرة مختصرة لنموذج التربية عند هذا العالم‪،‬‬

‫عين مكانه في كرســي‬ ‫ســي ّ‬ ‫فما كان منه إال أن أجابهم بأنه ُ‬

‫بالده تركيا‪ ،‬وهو الميراث الذي لم ينفصل ال في صالته‬

‫ويقــدره‪ .‬المفاجــأة كانت أنه‬ ‫اهلل كولــن الــذي كان يعرفــه‬ ‫ّ‬

‫قاصــدا األســتاذ فتح‬ ‫يخيــب معــه ظ ّنهــم‬ ‫ً‬ ‫الوعــظ َمــن لــن ّ‬

‫الــذي م ّثــل‬ ‫امتدادا للميراث العلمي والتربوي العميق في‬ ‫ً‬

‫يعينه في مكان‬ ‫حين فاتح األستاذ في األمر طلب منه أن ّ‬

‫بعالم المسلمين وال في أبعاده ومضامينه‪.‬‬

‫ولعــل بعــض المحطــات فــي حياتــه تكــون أولى من‬

‫"ســم ْن َداغ"‬ ‫شــار علــى بــال‪ ..‬مدينــة‬ ‫لــم يخطــر لألســتاذ َي ْ‬ ‫َ‬

‫شــخصية األســتاذ ومفاتيــح فــي اســتيعاب نموذجــه كمــا‬

‫الفئــوي والطائفــي بها‪ .‬ورغم إلحاح األســتاذ كولن على‬

‫المشــهورة بصعوبــة الحالــة الدينيــة فيهــا‪ ،‬وتعقــد الوضع‬

‫غيرهــا لالســتدعاء في هذا الســياق‪ ،‬إذ تجســد معالم في‬

‫والمجتمعــي علــى امتــداد خمــس وأربعيــن ســنة‪ .‬هــذه‬ ‫المحطــات هي اختيار بيئة عمل الواعظ الشــاب‪ ،‬ومنهج‬ ‫العمــل ومــداه‪ ،‬والمثــال اإلنســاني الكامــن فــي النمــوذج‬

‫المنشــود‪ ،‬القــادر علــى كســب معــارك القيمــة والمعنــى‬ ‫والمثال في عالمنا‪.‬‬

‫لقــب األســتاذ فتــح اهلل كولن عند َمن عرفــه مِن قومه‬ ‫ُ‬

‫وجــا أ َفنــدي" أي الســيد األســتاذ‪ ..‬وال أرى أن‬ ‫هــو ُ‬ ‫"ه َ‬ ‫اللقــب وال الصفــة جــاءت اعتباطً ــا‪ ،‬بل همــا تعبير موجز‬ ‫بليغ عن استحقاق المكانة من خالل السيرة والمسيرة‪.‬‬

‫"الواعظ" الفنان في نحت الصخر‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫يقــدره بالذهــاب واعظً ــا فــي‬ ‫َي َشــار ُتو َن ُ‬ ‫اغــور الــذي كان ّ‬

‫إزمير‪ ..‬بداية بليغة في اإلصرار والتحدي بمقدار اإليمان‬ ‫بخيرية الناس‪.‬‬

‫دؤوبــا علــى‬ ‫تشــجيعا‬ ‫أمــا تجربــة "الواعــظ" فكانــت‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ورت)‬ ‫(الي ْ‬ ‫احتضان النشأ وتربيته‪ .‬هكذا بدأ فتح الم ِبيتات ُ‬

‫في نهاية الســ ّتينيات‪ ،‬حيث فتح أول َم ِبيت ســنة ‪،1967‬‬

‫عرفت‬ ‫بينما فتح أول سكن للطالب سنة ‪ ،1970‬وما إن‬ ‫ْ‬ ‫هــذه اإلقامــات بنموذجهــا التربــوي الالفــت حتــى أخــذ‬

‫انتشــارا‬ ‫المجتمع التركي المبادرة في إنشــائها‪ ،‬فانتشــرت‬ ‫ً‬ ‫كبيرا مع نهاية السبعينيات في مختلف مدن تركيا‪.‬‬ ‫ً‬

‫ألول‬ ‫بعد انقالب سنة ‪ 1980‬في تركيا‪ ،‬فتح المجال ّ‬

‫ال حــدود أمــام القيمــة‬ ‫يعتبــر األســتاذ فتــح اهلل كولــن بــأ ّ‬

‫مــرة أمــام التعليــم الخــاص فــي البــاد‪ ،‬من خالل شــعار‬

‫التــي تبــدو بالمعاييــر الظاهرية "صعبة" و"إشــكالية" يراها‬

‫المحبين‬ ‫ْاعتبــر األســتاذ هذا االنفتاح فرصة كبيــرة‪ ،‬فدفع‬ ‫ّ‬

‫والفكــرة‪ ،‬علــى تعدد البيئات في عالــم واحد‪ ،‬حتى تلك‬

‫‪76‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ترجمتــه‬ ‫–جزئيا حتى اآلن‪ -‬مســيرته فــي العمل التربوي‬ ‫ًّ‬

‫طلبــه‪ ،‬إال أنــه اضطــر في النهاية للنزول عند أمر األســتاذ‬

‫أولى بالخطاب وأجدر بأن ي ّتجه إليها المربون بخطابهم‬

‫ال لتكون مجال‬ ‫ويبلغوا رسالتهم‪ ،‬بل أن يقصدوا إليها فع ً‬

‫عملهم الطبيعي مهما بدت "غير متقبلة"‪ ،‬أو أن أصحاب‬ ‫الدعــوة ال زالــو أصغر من مواجهة تعقيداتها وأقل خبرة‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تح مدرســتك"‪.‬‬ ‫شــهير للحكومة في تلك المرحلة هو "ا ْف ْ‬ ‫إلى تأسيس مدارس خاصة‪ ،‬وكذلك تم في هذه المرحلة‬

‫فتح ســكن ومدارس للبنات‪ ،‬حيث لم يوجد لهن ســكن‬

‫وال تعليم خاص قبل تلك الفترة‪ ،‬بل إن تعليم الفتيات لم‬ ‫شائعا في كثير من البيئات االجتماعية‪ ،‬التي فضلت‬ ‫يكن‬ ‫ً‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬سمير بودينار*‬

‫جا أفندي" السيد األستاذ‬ ‫" ُ‬ ‫هو َ‬

‫جا مجتمع ًّيا‬ ‫أو حني تصوغ الرتبية منوذ ً‬ ‫ليســت هــذه الكلمــات قصــة معتــادة‬

‫جميعا "جزُر ســام"‬ ‫أبناء الخدمة الذين يشــكلون‬ ‫ً‬

‫تنتهــي بانتهــاء الكتابة‪ ،‬لتنــدرج بعد ذلك‬

‫النموذج‪ ،‬ومعيــار دقيق يف الحكم‪ ،‬ال عىل األداء‬

‫ينســجها كاتــب مــع مكتــوب تبــدأ ثــم‬

‫في رصيد الغيب وذمة القارئ‪ ..‬ذلك أن ليس من اليسير‬

‫أبدا على َمن عرف "نموذج" األستاذ فتح اهلل كولن سواء‬ ‫ً‬ ‫تتبعه‬ ‫عابرا؛ ولو‬ ‫مسيرا أن يكتب حوله ًّ‬ ‫فكرا أو ّ‬ ‫ً‬ ‫قرأه ً‬ ‫نصا ً‬ ‫كان ذلــك محاولــة إضــاءة جانب واحد مــن جوانب هذه‬

‫الشخصية المركبة‪.‬‬

‫حقيقية يف عامل مضطــرب‪ ،‬كلهم عنوان صالحية‬

‫الرتبــوي والتعليمي وفعاليته فحســب‪ ،‬بل عىل‬ ‫قوة النموذج الكامن يف املنظومة املؤسســية‪،‬‬ ‫الــذي أنتج هــذه املــدارس وصنع هــذه التجربة‬ ‫اإلنسانية الحية يف عاملنا‪.‬‬

‫إحــدى تجلياته؟ الحق أنــه صعب غاية الصعوبة اختصار‬

‫منه‪ ،‬وليكن المســار التربوي‪ ،‬في ســياق الســعي إلى بناء‬

‫األســاس اإلحاطة بالمشــروع الذي يم ّثله الرجل ولو في‬ ‫مشــروع األســتاذ فتــح اهلل كولــن في مثــل هذه الســانحة‪،‬‬

‫ليــس ألنــه تجلــى ‪-‬وال يــزال‪ -‬مــن خــال تجربــة مديدة‬

‫كذلك‪ .‬لذلك يحســن الوقوف الموجز عند جانب واحد‬ ‫نموذج إنساني مجتمعي خاص‪.‬‬

‫يكتســي الحديــث عــن ثالثيــة‪" :‬الشــخصية‪/‬الفكر‪/‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫لكــن لنبــدأ قبــل المحاولــة بالســؤال‪ :‬هــل يمكــن في‬

‫مركب متعــدد األبعاد‬ ‫وغنيــة فحســب‪ ،‬بــل ألنــه مشــروع ّ‬

‫‪75‬‬


‫كنت أرضى‬ ‫آثاركم وإنجازاتكم‪ ...‬ومن سوء ِّ‬ ‫حظي وإن ُ‬ ‫َ‬

‫الهوامش‬

‫(‪)1‬‬ ‫فتنا‪ ،‬أو نكســات‪ ،‬أو اختبارات‪ ...‬أو أحيا ًنا‬ ‫قــد تكــون هــذه األزمات ً‬

‫بالقــدر‪ ،‬أن ال أنــال هذه الحظوة؛ ولــذا تجدني أغبط َمن‬ ‫تابعي‬ ‫سببا وواسطة بيني وبينكم‪ ،‬وأع ِّلل النفس أني‬ ‫ٌّ‬ ‫كان ً‬ ‫ألصحاب‪ ،‬أعني بهم أساتذة أفذا ًذا‪ ،‬وهبوا نفوسهم للحق‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ثــم رابطــوا مؤمنيــن موقنيــن علــى حصــون نفــع الخلق‪.‬‬ ‫فكرت في حال َّأمتي "العربية‬ ‫إمامــي ومع ِّلمي‪ ،‬ك َّلمــا َّ‬ ‫وجــدت أنهــا عطشــى إلــى "الخدمــة"‪،‬‬ ‫بالخصــوص"‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مؤملة النجــاة ‪-‬بحول اهلل‪-‬‬ ‫جوعــى إلــى "فكــر فتــح اهلل"‪ِّ ،‬‬

‫تكــون حتــى انتصــارات تســتدعي أجوبــة مالئمــة للمرحلــة‪ ،‬مثــل‬ ‫استقالل بلد ما‪ ،‬أو الرفاه االقتصادي‪.‬‬

‫(‪ )2‬القــرآن الكريــم يولــي عنايــة خاصــة لالمتحانــات التــي يتعــرض لها‬ ‫األنبياء عليهم الســام‪ ،‬وكأنه يقول لنا‪" :‬إذا اخترتم ســبيلهم‪ ،‬فترقبوا‬ ‫معاناة من نوع معاناتهم"؛ وهنا نستذكر جميع األنبياء الكرام‪ ،‬منهم‪:‬‬

‫أبونــا آدم ‪ ‬ومحنــة الخــروج مــن الجنــة‪ ،‬وإبراهيــم ‪ ‬وإلقــاؤه‬

‫في النار‪ ،‬وموســى ‪ ‬وظلم فرعون‪ ،‬وعيســى ‪ ‬ومحاولة القتل‬

‫والصلب‪ ...‬إلى ســيدنا محمد ‪ ،‬الذي تعرض ألكبر االمتحانات‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫التهجيــر‪ ،‬التكذيــب‪ ،‬المقاتلــة‪ ،‬الحصار‪ ،‬التهم واالفتــراءات‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫‪‬وإ ِْن ُيكَ ِّذ ُبوكَ َف َق ْد ُك ِّذ َب ْت ُر ُس ٌل ِم ْن‬ ‫يقول تعالى في محكم التنزيل‪َ :‬‬ ‫ــك َو ِإلَــى ا ِ‬ ‫ــع ا ُ‬ ‫ين ِم ْن‬ ‫َق ْب ِل َ‬ ‫ور‪(‬فاطر‪َ ،)4:‬‬ ‫‪‬ك َذ ِل َك َمــا َأ َتى ا َّل ِذ َ‬ ‫هلل ُت ْر َج ُ‬ ‫أل ُم ُ‬ ‫ال َقالُوا س ِ‬ ‫َقب ِلهِ م ِم ْن َر ُس ٍ‬ ‫ون‪(‬الذاريات‪.)52:‬‬ ‫ول ِإ َّ‬ ‫اح ٌر َأ ْو َم ْج ُن ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬

‫خريت‪ ،‬هو شــخصكم الكريــم‪ .‬ولقد‬ ‫فــي مرشــد‬ ‫ٍ‬ ‫ودليــل ِّ‬ ‫وا ِ‬‫تفتقدها أوطاننا وبالدنا‬ ‫"بالخريتيــة" التي‬ ‫هلل‪ُ -‬حظيتــم‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫اليوم‪.‬‬ ‫روادها وقوادها‬ ‫َ‬ ‫في كثيرٍ من َّ‬ ‫أمل ورجاء‬ ‫هي صفة وسمة فيكم تم َّثلت؛ ولذا فكلُّنا ٌ‬ ‫جيشا من الطلبة والباحثين‬ ‫توجهوا ً‬ ‫وطلب وإلحاح‪ ...‬أن ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫جميــع مؤ َّلفاتكم وأعمالكم‪ ،‬القلمية والصوتية‪،‬‬ ‫لترجمة‬ ‫ِ‬ ‫إلى اللغة العربية‪ ،‬لغ ِة القرآن ولسان سيد األنام‪ ...‬إذ كلُّ‬

‫الـمشوقة‪.‬‬ ‫الـمشوفة َ‬ ‫المحلة‪ ،‬ويشفي قلوبنا َ‬

‫العيــي‪ ،‬فــي مخاطبتكم‪،‬‬ ‫مــرة أخــرى‪ ،‬أســتحيي‪ ،‬وأنــا‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫أهــل "الخدمة" بدالئهم‪،‬‬ ‫وحســبي أن أقــول‪ ،‬وقد جاءكم ُ‬ ‫وأنهرهــم ووديانهــم وبحورهــم‪ ،‬وجئتكــم أنــا بقرب ٍة‪،‬‬ ‫بــل ُ‬

‫لع َّلها ج َّفت منذ أمد‪ ...‬جئتكم باح ًثا عن الحقيق ِة‪ ،‬عاش ًقا‬ ‫ومواردها‪ِ ...‬‬ ‫أحبتي‬ ‫ألنشد مع المنشد‪،‬‬ ‫مصادرها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مخاطبا ّ‬ ‫ً‬ ‫تلميذا في‬ ‫في األكاديميا‪ ،‬وقد قبلوني بأمرٍ منكم وفضل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كل‬ ‫ص ِّفهم‪،‬‬ ‫وطالبا مبتد ًئا في صرحهم‪ ...‬أهمس في أذن ِّ‬ ‫ً‬ ‫مغر ًدا‪:‬‬ ‫واحد منهم‬ ‫ً‬ ‫صادحا ِّ‬ ‫الحب ِ‬ ‫أرس ْلهــا‬ ‫ذي قربتي يا أخي في‬ ‫ِّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ ‬

‫‪74‬‬

‫متسمـي؟‬ ‫إلى الحبيب‪ ،‬فهل ُيرضيـه َّ‬

‫أرجو أن تصلك تحيتي‪ ،‬يا حبيب‪ ...‬وآمل أن يصلك‬ ‫ِ‬ ‫والحامد‬ ‫ومحبِك‪،‬‬ ‫معهــا ســامي‪ ،‬يا طبيب‪ِ ...‬من ابنــك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هلل أن هــداه إلــى اكتشــاف رحابــك وســفوح ربيعــك‪،‬‬ ‫ا َ‬ ‫والمــردد مــع أربــاب المعنــى مقولتهــم البديعــة‪" :‬أجــل!‬ ‫ِّ‬

‫بالمتسولين"‪.‬‬ ‫والتسول يليق‬ ‫"السلطنة تليق بالسالطين‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫(‪ )4‬ورد فــي األثــر‪ ،‬واعتبره البعــض حديثا ضعيفا‪" :‬الخير في وفي ّأمتي‬ ‫ّ‬ ‫إلى يوم القيامة"‪.‬‬ ‫(‪ )5‬العمل الديني وتجديد العقل‪ ،‬طه عبد الرحمن‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ٍ‬ ‫حــرف وكلمــة‪ ،‬وكلُّ جملــة ومقالة‪ ،‬وكلُّ فكــر وفكرة‪...‬‬ ‫ونهــر هــادر‪ ،‬يســقي أراضينــا القحلــة‬ ‫غيــث هامــر‪،‬‬ ‫هــو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫(‪ )3‬وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ص‪.48:‬‬

‫(‪ )6‬تجديد الفكر الديني‪ ،‬محمد إقبال‪ ،‬ص‪.9:‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪.54/1 ،‬‬

‫(‪ )8‬وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مالك بن نبي‪.54/1 ،‬‬ ‫(‪ )9‬شروط النهضة‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ص‪.95:‬‬

‫(‪ )10‬شروط النهضة‪ ،‬مالك بن نبي‪ ،‬ص‪.95:‬‬

‫(‪" )11‬النســيج الحضــاري"‪ ،‬و"الوعــاء الحضــاري" مفهومــان من قاموس‬ ‫نموذج الرشد؛ وقد كتب عنهما مقاالت‪ ،‬وأعدت محاضرات‪ ،‬منها‪:‬‬

‫"مدخل إلى نظرية الوعاء الحضاري‪ ،‬القطب أطفيش أنموذجا"‪.‬‬

‫(‪ )12‬مقدمة "اإلسالم بين الشرق والغرب"‪ ،‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬ص‪.9:‬‬ ‫(‪ )13‬اإلسالم بين الشرق والغرب‪ ،‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬ص‪.273-272:‬‬ ‫(‪ )14‬اإلسالم بين الشرق والغرب‪ ،‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬ص‪.278:‬‬ ‫(‪ )15‬اإلسالم بين الشرق والغرب‪ ،‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬ص‪.301:‬‬ ‫(‪ )16‬اإلسالم بين الشرق والغرب‪ ،‬علي عزت بيجوفيتش‪ ،‬ص‪.274:‬‬

‫(‪ )17‬ينظر‪ :‬المؤ َّلف الذي أعدد ُته‪ ،‬على إثر دراسة الظاهرة الماليزية فكرا‪،‬‬ ‫للمجدد محمد مهاتير"‪.‬‬ ‫الحضاري‬ ‫ومعاينتها واقعا‪ ،‬بعنوان‪" :‬القاموس‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫(‪ )18‬التحدي‪ ،‬مهاتير محمد‪ ،‬ص‪.9:‬‬

‫(‪ )19‬التحدي‪ ،‬مهاتير محمد‪ ،‬ص‪.126:‬‬ ‫(‪)20‬‬

‫اإلسالم واألمة اإلسالمية‪ ،‬مهاتير محمد‪ ،‬ص‪.62:‬‬

‫(‪ )21‬التحدي‪ ،‬مهاتير محمد‪ ،‬ص‪.88:‬‬ ‫(‪ )22‬التحدي‪ ،‬مهاتير محمد‪ ،‬ص‪.91:‬‬

‫(‪ )23‬ونحن نقيم صرح الروح‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬ص‪.57:‬‬ ‫(‪ )24‬ونحن نقيم صرح الروح‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬ص‪.63:‬‬ ‫(‪ )25‬ونحن نبني حضارتنا‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬ص‪.154:‬‬ ‫(‪ )26‬ذي قربتي‪ ،‬محمد باباعمي‪ ،‬ص‪.16:‬‬


‫وحســبي أن أقــول‪ ،‬وقــد جاءكم أهــلُ "الخدمة"‬

‫رسالة "ذي قربتي" إلى األستاذ فتح اهلل كولن‬

‫بدالئهــم‪ ،‬بــل‬ ‫وأنهرهــم ووديانهــم وبحورهم‪،‬‬ ‫ُ‬

‫الصــاة والســام علــى "شــجرة الوجــود‪ ،‬والعلَّــ ِة الغائية‬

‫ٍ‬ ‫وجئتكم أنا‬ ‫بقربــة‪ ،‬لعلَّها جفَّ ت منــذ أمد‪ ...‬جئتكم‬

‫الحــق‬ ‫لكتــاب الكائنــات‪ ،‬وأقــوى صــوت للدعــوة إلــى‬ ‫ِّ‬ ‫سبحانه"‪.‬‬

‫ِ‬ ‫الحقيقة‪ ،‬عاشقً ا مصاد َرها‬ ‫باح ًثا عن‬ ‫ومواردها‪.‬‬ ‫َ‬

‫"صرح‬ ‫التحيــ ُة واإلكــرام لســيدي وحبيبي ونــور قلبي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫محمــد بــن عبــد اهلل ‪ ‬فــي ذكــرى‬ ‫اإليمــان والحركيــة"؛‬

‫التهاما‪ ،‬وأهتبِل الفرص َة‬ ‫ما ُترجم من مقاالته وكتبه ألتهمها‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ،‬ويشاء المولى الكريم ‪-‬بعد‬ ‫في‬ ‫العب من معينها اهتبا ً‬ ‫ِّ‬

‫وتشــوفت إلــى‬ ‫مولــده‪ ...‬ص َّلــت عليــه الخالئــق شــو ًقا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫جماله القلوب ِعش ًقا‪.‬‬

‫بعضــا مــن آثــار ذلكــم الميــراث الزكــي‪،‬‬ ‫أزور ً‬ ‫ذلــك‪ -‬أن َ‬

‫كل العصور حين يسقطون في‬ ‫أن المسلمين في ِّ‬ ‫أحسب َّ‬

‫المحمديــة‬ ‫األفــق الرحيــب‪ ،‬وهــم ثمــر ٌة لشــجرة الم َّلــة‬ ‫َّ‬ ‫المعطاء‪ :‬دماث َة خلقٍ ‪ ،‬وسعة أفقٍ ‪ ،‬وصفاء طوي ٍة‪ ،‬وحضور‬

‫وألتقي بشباب "الخدمة" الذكي‪ ،‬وهم شموس في سماء‬

‫حملــت منــذ ٍ‬ ‫كبيرا‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وبعــد‪ ،‬فلقــد‬ ‫أمــد ســؤا ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صغيــرا ً‬ ‫ً‬

‫امتحان التمكين واالستخالف‪ ،‬إنما ُيخفقون في اإلجابة‬

‫همة‪.‬‬ ‫بديهة‪ ،‬وعلو َّ‬

‫نحول‬ ‫علــى هــذا الســؤال الخطيــر الجديــر‪ ،‬وهــو‪ :‬كيــف ِّ‬

‫هنــا‪ ،‬ومــن هنــا‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬وبهــذا‪ ،‬ولهــذا‪ ،‬وفــي هذا‪،‬‬

‫العلم بالعمل؟!‬ ‫الفكر إلى فعل‪ ،‬وكيف نصل‬ ‫َ‬

‫اكتشــفت ما أحســب أنه أعظم من اكتشــاف‬ ‫وعند هذا‪...‬‬ ‫ُ‬

‫ســافرت به‪ ،‬وســافرت معه‪ ،‬فقطعت مســافات‬ ‫ولقــد‬ ‫ُ‬

‫على إطالقه "إال حضر ُة النبي محمد عليه أكمل التحايا"‬

‫(ونحن نبني حضارتنا)‪.‬‬

‫ألفيــت‬ ‫ولقــد قلــت فــي نفســي ولنفســي يومهــا‪" :‬لــو‬ ‫ُ‬ ‫مشــروعا‪ ،‬أو حركة‪ ...‬اســتطاع أن‬ ‫مجد ًدا‪ ،‬أو‬ ‫مفك ًرا‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫يقطع أرحام اإليمان‬ ‫يصــل مــا أمــر اهلل به أن يوصل‪ ،‬فلم ِّ‬ ‫يبدد ‪-‬في تصوراتــه وتصرفاته‪-‬‬ ‫والفكــر والحركيــة‪ ،‬ولــم ِّ‬

‫جمــال "شــمولية" النور الســرمدي وجاللــه‪ ...‬ولم يظلم‬ ‫َ‬

‫اهتديت إلى ذلكم‬ ‫قلت‪" :‬لو‬ ‫كماله‬ ‫ُ‬ ‫البديع‪ ،‬واكتما َله"‪ُ ...‬‬ ‫َ‬ ‫المرتقى الراقي‪ ،‬وإلى ذلكم الركن الركين‪ ،‬فسأع ِقد النية‬ ‫ومرشــدي‬ ‫ولقد‬ ‫كتبت يومها ً‬ ‫ُ‬ ‫عهدا بيني وبين خالقي ُ‬

‫فعقــدت العــزم‪ ،‬وشــمرت عن‬ ‫ومدبِــر أمــري ســبحانه‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫حســب طاقتــي وعجزي وق َّلــة حيلتي‪ ...‬ثم‬ ‫الجــد‬ ‫ســاعد‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫انطلقت‪...‬‬

‫فانكببت على‬ ‫إلى أن فتح اهلل تعالى علي بـ"فتح اهلل"‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬

‫اليوم"‪ .‬ولم يكن الجواب‬ ‫الفكــر والفعل فــي واقع األمة‬ ‫َ‬ ‫تنظيريــا" وما ينبغي له أن يكون‪ ...‬كذلك لم يكن‬ ‫"نظريــا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫خالصا" وال يليق بــه أن يكون‪...‬‬ ‫وميدانيــا‬ ‫"عمليــا صر ًفــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫خيطــا مــن ذهــب ِ‬ ‫يصــل الفكر بالفعــل ويربط‬ ‫وإنمــا كان ً‬

‫العلــم بالعمــل‪ ...‬فالتقــى الســالب اإليمانــي ‪-‬الخلقــي‬ ‫ِ‬ ‫ضوء‬ ‫بالموجب الجهادي‪-‬الحركي‪ ،‬فســطع على الكون‬ ‫ُ‬ ‫الوجود ضياء القرآن‪.‬‬ ‫اإليمان‪ ،‬وغمر‬ ‫َ‬

‫حــدي‪ ،‬فأطلــت في‬ ‫أســتاذي‪ ،‬معــذر ًة‪ ،‬لقــد جــاوزت ِّ‬ ‫ِ‬ ‫وقتــا‬ ‫همــي‪ ،‬وأضعــت مــن "شــريحتكم الذهبيــة" ً‬ ‫شــرح ّ‬ ‫وســقيا؛ لكن‬ ‫رواءا‬ ‫غاليا‬ ‫ً‬ ‫عزيزا‪ ،‬في مثله تزيدون البشــرية ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حسبي أن أقطع رسالتي بأن أقول لكم‪" :‬أحبكم في اهلل‪،‬‬ ‫وهلل‪ ،‬ومــن اهلل‪ ،‬وعلــى اهلل‪ ،‬وبــاهلل"‪ ...‬ثم إنــي أعتقد فيكم‬

‫الحق في أمة المصطفى‬ ‫ولكل باحث عن‬ ‫"اإلمامــة"‪ ،‬لــي‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬

‫الفــروق الوهمية التي ال‬ ‫‪ ،‬وم َّلــة المجتبــى‪ ...‬دع عنك‬ ‫َ‬ ‫اختيــارا فيها من جغرافي ٍة‪ ،‬وعرقيــ ٍة‪ ،‬واعتباري ٍة‪ ،‬بل‬ ‫نملــك‬ ‫ً‬ ‫يتحــول المذهب ‪-‬خط ًأ وانحرا ًفا‬ ‫وحتــى مذهبية‪ ...‬حين‬ ‫َّ‬ ‫وسجن مميت‪.‬‬ ‫وسقما في الفهوم‪ -‬إلى جزير ٍة نائية‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫يوما إليكم‪ ،‬وإنما جلســت طوي ً‬ ‫مع ّلمي‪ ،‬لم أجلس ً‬ ‫وتأملــت عمي ًقــا ‪-‬وال أزال‪-‬‬ ‫إلــى فكركــم وتالمذتكــم‪َّ ،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫إماما‪ ،‬وأسو ًة‪ ،‬وقدو ًة‪ ...‬وال أبالي"‪.‬‬ ‫‪-‬بحول اهلل‪ -‬أن أ ِّتخذه ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫زمنيــة مديدة‪ ،‬وعبرت مســاحات مكانية عديــدة‪ ...‬بح ًثا‪،‬‬ ‫أن حقيقة القرآن وحقيقة‬ ‫وتنقيبــا‪ ...‬وك ِّلي‬ ‫وحفــرا‪،‬‬ ‫يقيــن َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإليمــان‪ ،‬ثــم علــى إثرهمــا الحقيقــ ُة األحمديــة والحقيق ُة‬ ‫الراشدية‪ ...‬إنما تدعو إلى "ال ِقران بين اإليمان والحركية‬ ‫فريدا من نوعه"‪ ،‬وذلك ما لم يح ِّققه‬ ‫الزما متواز ًنا‪ً ،‬‬ ‫ِقرا ًنا ً‬

‫اكتشــفت‬ ‫"كريســتوف كولومــب" ألمركيــا الجديــدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫"الجواب على سؤال االنفصام بين‬ ‫"البراديم كولن"‪ ،‬أي‬ ‫َ‬

‫‪73‬‬


‫وع ِمل ‪-‬في‬ ‫رســول هلل‪ ،‬وســ َّلم له سبحانه‬ ‫ٌ‬ ‫تســليما مطل ًقا‪َ ،‬‬ ‫ً‬

‫ومــن ثم‪ ،‬فلو جاز لنا أن نســتعير مــن صناعة الطباعة‬ ‫صــور ًة إدراكيــة ثانيــة‪ ،‬فإنمــا نم ِّثــل "النمــوذج الجزئــي"‬

‫توفيق اهلل له"(‪.)25‬‬

‫بعضهــا إلــى بعض‪ ،‬أي بضم النمــاذج بعضها إلى بعض‪،‬‬

‫كل وقت‪ -‬بشعور عميق بالمسؤولية‪ ،‬ولم ينزغه نزغ من‬

‫معين‪ ،‬وبتجميع األفالم‬ ‫بالفيلم الذي يحمل خلفية لون َّ‬

‫التردد والتلكُّ ؤ في اعتقاده أو دعوته أو استقامة سبيله أو‬ ‫ُّ‬ ‫والحق أننا لو تتبعنا سيرة األستاذ فتح اهلل‪ ،‬ولو قرأنا‬

‫وأي‬ ‫تكتمل الصورة والمشهد الممثل لألمة في كلياتها‪ُّ ،‬‬ ‫ألي شريحة أو ٍ‬ ‫لون‪ ،‬سيكون له بالضرورة‬ ‫إلغاء أو إقصاء ِّ‬

‫الحضاري البديل"‪ ،‬أعني "نموذج الرشــد"‪ .‬ولقد ســعيت‬

‫مهيمن عليها‬ ‫إال أن ثمــة ألوا ًنــا غالبة صابغة‪ ،‬وأخرى‬ ‫ٌ‬

‫واقــع "الخدمــة" عبــر العالم‪ ،‬لما جاز لنــا إال أن نقرر أن‬ ‫"البراديــم كولــن" حلقــة بــارزة‬ ‫ومتقدمــة ضمــن "البراديم‬ ‫ِّ‬

‫أثر سلبي على وضوح ونصاعة ودقة الصورة‪.‬‬

‫تابعــة حســب "فعاليــة النمــوذج" وقدرتــه على اســتيعاب‬

‫وتفرغــت لها لمــدة تزيد علــى العامين‪ ،‬ثم‬ ‫لهــذه القــراءة ّ‬

‫"أســئلة األزمة" الخاصة بتلك المرحلة‪ ،‬وال اعتبار للكم‬

‫انتهيــت إلــى هــذا اإلقرار الــذي أودعته رســال ًة بعثت بها‬ ‫ُ‬

‫والعــدد والرقــم والحجم‪ ،‬بل العبرة فــي النوع والصالح‬

‫إلــى األســتاذ‪ ،‬ثم نشــرت فــي مقدمة كتــاب "ذي قربتي"‪،‬‬

‫و"الصدقية"‪ ،‬واألثر اإليجابي‪.‬‬

‫وفيهــا ذكــرت أنه‪" :‬هنا‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وبهذا‪ ،‬ولهذا‪،‬‬

‫جزءا من‬ ‫اليوم‪ ،‬فيكمن في تقبــل‬ ‫َّأمــا التحــدي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫اآلخر ً‬

‫وفي هذا‪ ،‬وعند هذا‪...‬‬ ‫اكتشفت ما أحسب أنه أعظم من‬ ‫ُ‬

‫ســلبيا أحيا ًنا‪ ،‬وهذا ال يعني قبول‬ ‫المشــهد حتى ولو كان‬ ‫ًّ‬

‫اكتشاف "كريستوف كولومب" ألمركيا الجديدة‪،‬‬ ‫اكتشفت‬ ‫ُ‬ ‫"البراديم كولن"‪ ،‬أي‬ ‫"الجواب على سؤال االنفصام بين‬ ‫َ‬

‫"نظريا‬ ‫تنظيريا"‪ ،‬وما ينبغي له أن يكون‪ ...‬كذلك لم يكن‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫وميدانيا‬ ‫"عمليــا صر ًفــا‪،‬‬ ‫خالصــا" وال يليق به أن يكون‪...‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫خيطــا مــن ذهب ِ‬ ‫يصــل الفكر بالفعــل‪ ،‬ويربط‬ ‫وإنمــا كان ً‬ ‫العلــم بالعمــل‪ ...‬فالتقــى الســالب (اإليماني‪-‬الخلقــي)‬

‫ِ‬ ‫بالموجــب (الجهادي‪-‬الحركــي)‪ ،‬فســطع علــى الكــون‬ ‫ضــوء اإليمــان‪ ،‬وغمــر‬ ‫الوجــود ضيــاء القــرآن‪.)26("...‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫الفيلم والصورة‪ :‬نسبية النموذج البديل‬

‫"أبديا"‪ ،‬فهو‬ ‫من خصائص "النموذج الحضاري" أنه ليس‬ ‫ًّ‬ ‫مرتبــط‬ ‫عضويا بالمرحلة وبـ"حركية التاريخ"‪ ،‬و"النموذج‬ ‫ً‬

‫فردا و"عصر السعادة‬ ‫المعياري" الوحيد هو "الرسول ‪ً "‬‬

‫والصحبة"‬ ‫مبرأ من‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا‪ .‬وإذا كان الرسول الكريم ‪َّ ‬‬

‫ال بالمعطى البشــري)‬ ‫العيــوب والنقائص (أي إنســا ًنا كام ً‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫إال أن معيارية الصحابة نسبي ٌة‪ ،‬فال يمكن أن ينسب إليهم‬

‫‪72‬‬

‫مقاما ممن‬ ‫أوفر حظًّ ا وأسمى ً‬ ‫"الكمال المطلق" وإن كانوا َ‬

‫ســبقهم وممــن لحقهــم‪ ،‬فهم أصحــاب "المعيــة النبوية"‪:‬‬ ‫ــول ا ِ‬ ‫يــن َم َع ُه‪(‬الفتــح‪ .)29:‬وعصــر‬ ‫ــد َر ُس ُ‬ ‫‪‬م َح َّم ٌ‬ ‫هلل َوا َّل ِذ َ‬ ‫ُ‬ ‫الســعادة هــو "أكمــل نمــوذج" و"أمثــل معيــار حضــاري‬ ‫بكل الخصائص والمعالم‪.‬‬ ‫بشري" ِّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الفكــر والفعل فــي واقع األمة‬ ‫اليوم"؛ ولم يكن الجواب‬ ‫َ‬

‫مبــدءا‪ ،‬وإنمــا القبول بهــا وفق "الســنن الكونية"‪.‬‬ ‫الســلبية‬ ‫ً‬ ‫ولعل هذا يفسر تطمين اهلل تعالى لرسوله الكريم وحم ِله‬

‫‪‬و َما‬ ‫تعم الناس‬ ‫على قبول َّ‬ ‫جميعا‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫أن الهداية ال ‪-‬ولن‪َّ -‬‬ ‫ين‪(‬يوســف‪ .)103:‬ولننتبه‬ ‫الن ِ‬ ‫ــاس َو َل ْو َح َر ْص َ‬ ‫َأ ْك َث ُــر َّ‬ ‫ــت ب ُِم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫إلــى الجملــة االعتراضيــة االســتباقية الدالة علــى علم اهلل‬ ‫‪‬و َل ْو َح َر ْص َت‪ ،‬وعادة‬ ‫تعالــى بخفايا قلب نبيه الحبيب َ‬

‫األســلوب البشــري أن يقــال‪" :‬ومــا أكثر النــاس بمؤمنين‬ ‫حرصت"‪ ،‬لكن في مستوى التقبل يكون الفرق ّبي ًِنا‪.‬‬ ‫ولو‬ ‫َ‬

‫"نموذجا‬ ‫فهــل آن األوان "لنموذج الرشــد" ‪-‬باعتباره‬ ‫ً‬ ‫يســجل بصمتــه فــي جميــع مناحي‬ ‫ا"‪ -‬أن‬ ‫حضاريــا بديــ ً‬ ‫ًّ‬ ‫ِّ‬ ‫الحيــاة‪ ،‬وأن يب ِّلــغ أثــره إلــى جميــع الجيــوب الجغرافية‬ ‫للمسلمين ابتداء‪ ،‬وللبشرية قاطبة؟!‬

‫اآليات‬ ‫هــذا هو المأمول‪ ،‬وهذا ما تشــير إليه صراح ًة‬ ‫ُ‬ ‫‪‬م َه ْي ِم ًنــا‬ ‫‪‬كا َّفــ ًة ِل َّلن ِ‬ ‫يــن‪َ ،‬‬ ‫الكريمــات‪ِ  :‬ل ْل َعا َل ِم َ‬ ‫ــاس‪ُ ،‬‬ ‫س‪ ...‬وغيرها‪.‬‬ ‫‪‬يا َم ْع َش َر ا ْل ِج ِّن َوا ِ‬ ‫إل ْن ِ‬ ‫َع َل ْي ِه‪َ ،‬‬ ‫والظــلُّ العملــي الحضاري الواقعي لهــذه اآليات‪ ،‬ال‬ ‫ولن ‪ -‬يتح َّقق إال بتحويل هذا المعنى إلى حركية دائمة‬‫يتأتى هذا ‪-‬بالضرورة‪ -‬إال بين‬ ‫وإلى برامج شامل ٍة‪ .‬ولن َّ‬ ‫"مت َحــد معرفي حضاري" عامل حســب الســياقات‪،‬‬ ‫يــدي َّ‬

‫مفتوحا‪ ،‬ال مجرد شــعائر‬ ‫كونيا‬ ‫إلحالل اإلســام‬ ‫ً‬ ‫معطــى ًّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫مجتمعية مغلقة‪.‬‬


‫كلَّام َّ‬ ‫أمتــي "العربية بالخصوص"‪،‬‬ ‫فكــرت يف حال َّ‬

‫بخاصــة "صــوت آســيا"‪ -‬نقــرأ‬‫وفــي مؤلَّفاتــه األخــرى‬ ‫َّ‬

‫وجدت أنهــا عطىش إىل "الخدمــة"‪ ،‬جوعى إىل‬ ‫ُ‬

‫الكثيــر حــول أزمــة المســلمين‪ )17(.‬ولعل "الجــدل" الذي‬

‫"فكــر فتح اللــه"‪،‬‬ ‫مؤملة النجاة ‪-‬بحــول الله‪ -‬يف‬ ‫ِّ‬

‫المؤســس علــى القول‪،‬‬ ‫افتقــاد القــدر ِة علــى الفعل‬ ‫يعنــي‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫مرشــد‬ ‫ودليل خ ِّريــت‪ ،‬هو شــخصكم الكريم‪ .‬ولقد‬ ‫ٍ‬

‫األول‬ ‫أو‬ ‫َ‬ ‫الــكالم ألجــل الــكالم ال غيــر‪ ،‬هــو اإلشــكال َّ‬

‫ِ‬ ‫والله‪ -‬حظيتــم "بالخ ِّريتية" التي‬‫تفتقدها أوطاننا‬ ‫ُ‬

‫واســتنكره في شــعب "الماليو"‬ ‫الــذي عانــى منــه مهاتير‪،‬‬ ‫َ‬

‫اليوم‪.‬‬ ‫روادها وقوادها‬ ‫وبالدنا يف كث ٍ‬ ‫ري من َّ‬ ‫َ‬

‫بخاصــة‪ ،‬وفي الشــعوب اإلســامية األخــرى بعامة‪ ،‬وفي‬ ‫مرة تنا َقش فكرة‪ُ ،‬تستخدم الطاقات‬ ‫ذلك يقول‪" :‬في ِّ‬ ‫كل َّ‬

‫واألفــكار‪ ،‬ال مــن أجل تطبيقها وإنمــا إلخضاعها لنقاش‬

‫"إنهــا تجربــة لــم تنجــح؛ ألن أبنــاء الماليــو المســلمون‬

‫ممتد ومناظرة طويلة"(‪.)18‬‬ ‫ٍّ‬

‫‪-‬لألســف‪ -‬لــم يتخ َّلــوا عــن أســباب التخلُّــف‪ :‬الجــدل‪،‬‬

‫ثــم يدعــو مهاتيــر إلــى كســر االنفصــام "بيــن الواقــع‬

‫والكسل‪ ،‬واالنفصام بين الفكر والفعل‪ ...‬وغير ذلك"‪.‬‬

‫والنــص" ويقــول‪" :‬عندمــا يتصــارع الواقــع والمنطــق‬

‫فتح اهلل كولن‪ :‬ورثة األرض‬

‫اختيــارا ليس فقط‬ ‫والعقيــدة نتيجــة هذه الحيرة‪ ،‬ســيكون‬ ‫ً‬ ‫ضــارا بالفــرد وبالمجتمع"‬ ‫غيــر حكيم‪ ،‬بــل ربما كان‬ ‫ًّ‬

‫يلخــص‬ ‫واألســتاذ فتــح اهلل كولــن بروحــه التجديديــة ِّ‬

‫(‪)19‬‬

‫ومبــرر وجودهــا‪ ،‬فــي ســؤال األزمــة‪،‬‬ ‫رســالة "الخدمــة"‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫وبالتالي فإن اإلسالم ال يعرف مثل هذا الصراع الموهوم‪،‬‬ ‫منهج متكامل للحياة‪.‬‬ ‫غير عادي‪ ،‬وإنه‬ ‫ٌ‬ ‫فهو "دين ُ‬

‫الــذي يعالــج تلــك "العالقة بين الفكــر والفعل"‪ ،‬ويكتب‬

‫(‪)20‬‬

‫كنا ُنريد أن نحافظ على اإلسالم وعلى الروحانية‪ ،‬فالبد‬ ‫َّ‬

‫شخص ما‪،‬‬ ‫يقوي الواقع درج َة اإليمان‪ .‬عندما يعاني‬ ‫ٌ‬ ‫أن ّ‬ ‫يصبح من‬ ‫احترامه لذاتــه‪،‬‬ ‫مجبــرا على أن ينســى‬ ‫ويكــون‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫يصدق أنه يعيش حيا ًة ســعيدة بالفعل‪،‬‬ ‫الصعــب عليــه أن ِّ‬ ‫ال من جاره الذي يعيش في رغد‪ ،‬بالرغم‬ ‫أو أنه‬ ‫أسعد حا ً‬ ‫َ‬

‫من عدم وجود إيمان ديني لديه‪ .‬بالنسبة له يكون الواقع‬ ‫أي زعم واضح‬ ‫ً‬ ‫متناقضــا مــع اإليمــان‪ ،‬ولــن يقبل عق ُلــه َّ‬ ‫بأنه حقيقي"(‪.)21‬‬

‫وما من ريب أن األمة وهي في مرحلة استعادة الرشد‬

‫والعــودة إلــى مقامها الــذي ُخلقت له‪ ،‬هي في حاجة إلى‬

‫الربــط بيــن كالم اهلل تعالى ومبادئ اإلســام الحنيف من‬

‫يقيم التجربة‬ ‫وكــم يعجب المــرء‬ ‫ّ‬ ‫بمحمد مهاتير وهو ّ‬

‫صحيحــا يمتــاز "بالقابليــة للصــدق" في‬ ‫تقييمــا‬ ‫الماليزيــة‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫حــوار مــع صديــق لي التقى به فــي كواالنبور‪ ،‬يقول فيه‪:‬‬

‫بكلمتــي‬ ‫خــط كفاحنــا كورثــة األرض‬ ‫"يمكــن تلخيــص ِّ‬ ‫ْ‬ ‫وإن وجودنــا بوجهــه الحقيقــي‬ ‫"الحركيــة"‪ ،‬و"الفكــر"‪َّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫يغيــران الذات‬ ‫ُّ‬ ‫يمــر عبــر الحركيــة والفكــر‪ ،‬حركيــة وفكرٍ ِّ‬ ‫كل وجــود وكأنه‬ ‫واآلخريــن‪ .‬ومــن وجهــة أخــرى‪ ،‬يبــدو ُّ‬ ‫مرتبط بالحركة‬ ‫حاصــل حركة ومجموعة أنظمــة‪ ،‬وبقاؤه‬ ‫ٌ‬ ‫أهم شيء وأشده ضرورة في حياتنا‬ ‫وبتلك األنظمة‪َّ ،‬‬ ‫وإن َّ‬

‫هو الحركية"(‪.)23‬‬

‫وفــي مقــال آخر له بعنوان "إنســان الفكر والحركية"‪،‬‬

‫يؤكد األستاذ هذا المعنى في وصفه لرجل القلب‪ ،‬الذي‬ ‫ِّ‬ ‫الممتد علــى مدى فصولها‬ ‫"خــط الحياة‬ ‫دومــا في‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫يكــون ً‬

‫العمليــة‪ ،‬يتن َّفس‬ ‫الحــس إلــى الفكــر‪ ،‬ثم إلــى الحيــاة‬ ‫مــن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬

‫أبدا" ‪.‬‬ ‫دوما‪ ،‬وينشغل بحس البناء واإلنشاء ً‬ ‫النظام ً‬ ‫صرحا‬ ‫رسول اهلل ‪ ‬بأنه "كان‬ ‫ويصف األستاذ فتح اهلل‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫(‪)24‬‬

‫كل‬ ‫لإليمــان والحركيــة"‪ ،‬ثــم يقول عنه‪ ،‬وهو القــدوة في ِّ‬ ‫وبخاصة في هذا الربط المحكم بين العلم والعمل‪،‬‬ ‫شيء‬ ‫َّ‬

‫بين الفكر والحركية‪ ،‬يقول عنه ‪" :‬ليس في البشرية َمن‬ ‫فريدا من‬ ‫الزما متواز ًنا‪ً ،‬‬ ‫َق َرن بين اإليمان والحركية ِقرا ًنا ً‬ ‫نوعــه إال حضــرة النبــي محمــد عليــه أكمل التحايــا‪ .‬فقد‬ ‫بكل كيانه‪ -‬بأنه‬‫ارتبــط وتع َّلــق باهلل بإيمان غامر‪ ،‬وآمــن‬ ‫ِّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫جهــة‪ ،‬والواقــع والفعــل الحضــاري مــن جهة ثانيــة‪ ،‬قال‬ ‫ــن َب ْع ِ‬ ‫الذ ْك ِــر َأ َّن‬ ‫ــد ِّ‬ ‫‪‬و َل َق ْــد َك َت ْب َنــا ِفــي َّ‬ ‫الز ُبــورِ ِم ْ‬ ‫اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫ا َ‬ ‫ون‪(‬األنبيــاء‪" .)105:‬العمــل‬ ‫الصا ِل ُح َ‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ض َي ِر ُث َهــا ِع َبــا ِد َي َّ‬ ‫وبــذل الجهــد‪ ،‬وعــدم االستســام‪...‬‬ ‫الجــاد‪ ،‬والمثابــرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫(‪)22‬‬ ‫كلُّها وسائل لتحقيق النجاح في الحياة" ‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بحق حين عرض هــذا المثال‪" :‬إذا‬ ‫ولقــد كان‬ ‫واقعيــا ٍّ‬ ‫ًّ‬

‫مســتهل مقــال بعنــوان‪" :‬الحركيــة والفكــر" مــا يلــي‪:‬‬ ‫فــي‬ ‫ّ‬

‫‪71‬‬


‫ِ‬ ‫كثيرا‬ ‫ثــم يالحظ علــى المصطلحات والمفاهيــم أنها ً‬

‫المســلمين؛ ذلك ألن المسلمين عندما يضعف نشاطهم‪،‬‬

‫مــا تكــون مجــرد "ديباجــة فكريــة لغويــة" ُتخفــي وراءهــا‬ ‫َّ‬ ‫مدلوالت كامنة غير ظاهرة‪ ،‬ومثال ذلك "الثالثي الديني‪:‬‬

‫وعندمــا ُيهملــون دورهم في هــذا العالــم‪ ،‬ويتو َّقفون عن‬ ‫كأي دولة أخرى‪،‬‬ ‫التعامل معه‪ ،‬تصبح الدولة اإلســامية ِّ‬

‫كاثوليك ‪ -‬بروتستانت ‪ -‬أرثوذكس‪ ،‬يقابله تقسيم ثالثي‬

‫أي دين‬ ‫ويصبح تأثير الجانب الديني في اإلسالم كتأثير ِّ‬ ‫ُ‬

‫عرقي‪ :‬التين ‪ -‬أنجلو ساكسون ‪ -‬سالف‪ .‬وهذا يدلُّ على‬ ‫ْ‬

‫قوة عريانة ال تخدم إال نفسها"‪.‬‬ ‫آخر‪ ،‬وتصبح الدولة َّ‬

‫أن الدين إن هو إال ديباجة وقشرة رقيقة تغطي المصالح‬ ‫َّ‬ ‫يؤكــد هــذا التطبيــق‬ ‫العرقيــة"‪ .‬ثــم ِّ‬ ‫االقتصاديــة والــرؤى ْ‬ ‫بالقول‪" :‬سنتناول اليهودية الليبرالية واليهودية التجديدية‬

‫َنعــم‪ ،‬يواصــل علي عــزت في قوله "حيــن يبدأ الدين‬ ‫يجر المجتمع نحو الســلبية والتخلُّف‪،‬‬ ‫يشــكل‬ ‫ِّ‬ ‫(الخامل) ُّ‬ ‫الملــوكُ واألمــراء‪ ...‬وفــرق الدراويــش والصوفيــة‪...‬‬ ‫الوجه الخارجي لالنشطار الداخلي‪"...‬‬ ‫جميعا‬ ‫يشــكلون‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬

‫تدعيان أنهمــا "دينيتان" ولكنهما في‬ ‫باعتبارهمــا حركتين َّ‬

‫إن هــذا النمــط المنحرف المنشــطر "يمكن أن نطلق عليه‬ ‫َّ‬

‫واقــع األمر علمانيتان بشــكل واضــح‪ .‬فالديباجة الدينية‬ ‫شــاحب ٌة‪ ،‬وفكــر ُة اإللــه تتأرجح بين مرحلة شــحوب اإلله‬ ‫ومو ِتــه الكلــي‪ ،‬بل اختفا ِء ظالله الباقية في مرحلة ما بعد‬

‫اسم نصرنة اإلسالم"(‪.)16‬‬

‫عبد الوهاب المســيري‪ :‬النماذج وتقليص المســافة مع‬ ‫الواقع‬

‫الحداثة‪ .‬فكالهما مرجعيته النهائية هي الدنيا أو التاريخ‬ ‫أو الطبيعــة‪ ،‬ولــذا فهمــا يحــاوالن تكييــف العقيــدة لتتفق‬

‫فريدا‪ ،‬وهو‬ ‫مفك ًرا‬ ‫يقــف عبــد الوهاب المســيري ِّ‬ ‫ً‬ ‫شــامخا ً‬

‫مع الدنيا"‪.‬‬

‫يح ّلِــل ظاهــرة اليهوديــة والصهيونيــة‪ ،‬باعتمــاده "النماذج‬ ‫فهو يضع اإلصبع على‬ ‫محل الداء‪ ،‬ويقول تحت عنوان‬ ‫ِّ‬

‫"النمــوذج واألقــوال والنوايــا"‪" :‬النمــوذج أدا ٌة تحليليــة‬ ‫يتمكَّ ــن الــدارس مــن خاللهــا مــن االقتــراب مــن جوهــر‬

‫الظاهرة‪ ،‬بحيث يمكنه أن يعرف ما هو جوهري فيها وما‬ ‫عرضي‪ .‬ونحن ُنطلق‬ ‫هو فرعي‪ ،‬وما هو نماذجي‪ ،‬وما هو َ‬

‫علــى مــا هــو عرضي اصطالح "قــول" أو "أقــوال" بمعنى‬

‫عبر عن حقيقة النموذج"‪.‬‬ ‫مجرد كلمات ُزخرفية ال ُت ِّ‬ ‫أنها َّ‬

‫ويصــف البنيــ َة الكامنــة للصهيونيــة‪ ،‬والتــي طالمــا‬ ‫جاوز االدعاءات‬ ‫فضحها القرآن الكريم فيقول‪" :‬حاولنا َت ُ‬

‫واألقــوال الصهيونيــة لنصــل إلــى البنيــة الكامنــة التــي‬

‫تشــكلت في الواقع‪ .‬ونحن نميــل إلى التفرقة بين النوايا‬ ‫َّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫والديباجات من جهة‪ ،‬والبنية من جهة أخرى"‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫ومصطلح "الديباجة"‬ ‫مفتاحي في فكر المسيري‪ ،‬وهو‬ ‫ٌّ‬

‫يعرفه لغة‪ ،‬ثم يؤسس عليه حكمه فيقول‪" :‬تفترض الكلم ُة‬ ‫(ديباجــة)‬ ‫وجــود مســافة بيــن الشــكل والمضمــون‪ ،‬وبين‬ ‫َ‬

‫الظاهــر والباطن‪ ،‬وبين الواقع واالعتذاريات‪ ،‬ولكنها ال‬ ‫التام واالمتزاج‪.‬‬ ‫تســتبعد في الوقت نفسه إمكانية التوافق ّ‬

‫مركبــة"‪.‬‬ ‫ومــن ثــم‪ ،‬فهــي كلمــة يمكــن أن نصفهــا بأنهــا َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ٍ‬ ‫تحليل وآلة‬ ‫اإلدراكيــة" أدا َة‬ ‫كشــف عن الخفايا‪ ،‬وبالتالي‬ ‫ٍ‬

‫وفــي مســتوى الظاهــرة اإلنســانية يراجــع المســيري‬

‫المادي‬ ‫"النموذج‬ ‫الواحدي االختزالي" مراجع ًة مستميتة؛‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫أن "اختزال الظاهرة‬ ‫ويظهــر بالدليل التاريخــي والمعرفي َّ‬ ‫اإلنســانية" فــي‬ ‫مانع‬ ‫ٍ‬ ‫ســبب واحــد‪ ،‬أو في تفســيرٍ واحــد‪ٌ ،‬‬ ‫مركبــة" ذات أبعــا ٍد مختلفــة‪،‬‬ ‫وأن "اعتبارهــا َّ‬ ‫مــن العمــل؛ َّ‬ ‫يمكــن من "الفعاليــة والفعل‬ ‫وأســباب متراكبــة متراكمــة‪ِّ ،‬‬ ‫ٍ‬

‫اإليجابي"‪.‬‬

‫ومثــال علــى ذلــك ظاهــرة اليهودية حيــن تختزل إلى‬

‫ا‬ ‫أن "اليهود‬ ‫تفســير واحــد‪ ،‬علــى أنهــا مثــ ً‬ ‫"شــر كلــه"؛ أو َّ‬ ‫ٌّ‬

‫يتحكمــون فــي العالم"‪ ...‬فتكــون النتيجة أن ال عمل وال‬ ‫َّ‬ ‫حركيــة وال إمــكان لتغيير الواقــع‪ ،‬وبالتالي يتم الرضوخ‬

‫ثم اإلقرار به‪.‬‬ ‫لهذا التفسير المختزل‪ ،‬ومن َّ‬

‫التعبــوي‬ ‫ويقــاس إلــى ذلــك الخطــاب‬ ‫االختزالــي‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫غالبــا)‪ ،‬بمقابــل الخطــاب التفســيري‬ ‫المركب‬ ‫َّ‬ ‫(السياســي ً‬ ‫(الفكــري ‪ -‬الحضــاري‬ ‫عموما)؛ وكــذا المعرف ُة المختزلة‬ ‫ً‬

‫والمعرفة‬ ‫المركبة‪ .‬وكلُّ ما من شأنه أن يعيد الصلة وثيقة بين‬ ‫َّ‬

‫العلم والعمل‪ ،‬بين الفكر والفعل‪ ،‬بين الحقيقة والواقع‪.‬‬

‫محمد مهاتير‪ :‬نحو حراك حضاري آسيوي‬

‫"محمــد مهاتيــر"‬ ‫فــي "موســوعة" رئيــس ماليزيــا الســابق‬ ‫َّ‬


‫اكتشــفت مــا أحســب أنــه أعظــم من اكتشــاف‬ ‫ُ‬

‫وجــود اهلل‪ ،‬بقــدر مــا هي في أن ُنشــعره بوجوده ونمأل به‬

‫"كريســتوف كولومب" ألمركيا الجديدة‪.‬‬ ‫اكتشــفت‬ ‫ُ‬

‫مصدرا للطاقة"(‪.)7‬‬ ‫نفسه باعتباره‬ ‫ً‬

‫"الجواب عىل سؤال االنفصام‬ ‫"الرباديم كولن"‪ ،‬أي‬ ‫َ‬

‫كل حركيــة وفعــل حضــاري إلــى‬ ‫ويعيــد ابــن نبــي َّ‬ ‫مســتواها اإليمانــي‪ ،‬أي إلى حقيقة العالقــة باهلل‪ ،‬و ِمن ثم‬

‫اليوم"‪.‬‬ ‫بني الفكر والفعل يف واقع األمة‬ ‫َ‬

‫المهمة (أي مهمــة تغيير النفس)‬ ‫أن هــذه‬ ‫ينبِهنــا إلــى َّ‬ ‫َّ‬ ‫فهــو ّ‬

‫وفعله في مشــروعه‬ ‫الذي ذكر أنه تأثر من فكر ابن نبي‪ّ ،‬‬ ‫النهضوي‪.‬‬

‫وضعها المألوف‪ ،‬هي من شأن‬ ‫وإقدارها على أن تتجاوز‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫اسما ويقول‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫اسم ُ‬ ‫بعد"‪ ،‬ثم يقترح له ً‬ ‫"علم لم يوضع له ٌ‬ ‫(‪)8‬‬ ‫ِ‬ ‫نسميه علم تجديد الصلة باهلل" ‪.‬‬ ‫"يمكن أن ّ‬ ‫"أن العقل المجــرد متو ِّف ٌر في‬ ‫ويؤكــد في ســياق آخــر َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتكون في جوهره‬ ‫بالدنــا‪ ،‬غيــر َّ‬ ‫أن العقــل التطبيقي الــذي َّ‬ ‫معدوما"‪ .‬ثم‬ ‫مــن اإلرادة واالنتباه‪ ،‬هو شــيء يكاد يكــون‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫كبيرا‬ ‫يقــول مالح ًظــا‪" :‬إننــا نرى فــي حياتنا اليوميــة ً‬ ‫جانبا ً‬

‫علي عزت بيجوفيتش‪ :‬المجتهد المجاهد‬

‫حياة علي عزت بيجوفيتش تتمحور حول سؤال األزمة‪،‬‬ ‫وتجيــب بفعالية على إمكانية الجمع بين العلم والعمل‪،‬‬ ‫فهــو "ليــس‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫مجتهــدا وحســب‪ ،‬وإنمــا هــو مجاهــد ً‬ ‫ً‬

‫ويبين‬ ‫فهــو ِّ‬ ‫مفكــر ورئيس دولــة‪ ،‬يح ّلِل الحضــارة الغربية ِّ‬

‫من الالفعالية في أعمالنا"‪ ،‬ذلك أننا نفتقد "الضابط الذي‬ ‫عمل وهد ِفه‪ ،‬بين سياســ ٍة ووســائ ِلها‪ ،‬بين ثقاف ٍة‬ ‫يربط بين ٍ‬

‫النمــوذج المعرفــي المــادي العدمــي الكامن فــي علومها‬

‫وفي نموذجها المهيمن‪ ،‬ثم‬ ‫يتصدى لها ويقاوم محاولتها‬ ‫َّ‬

‫ومث ِلها‪ ،‬بين فكر ٍة وتحقي ِقها"(‪.)9‬‬ ‫ُ‬

‫إن المجتمــع اإلســامي يعيش طب ًقــا لمبادئ‬ ‫"قــد يقــال‪َّ :‬‬ ‫القــرآن‪ ،‬ومــع ذلــك فمــن الصــواب أن نقول‪ :‬إ َّنــه يتك َّلم‬ ‫تبعا لمبادئ القرآن"‪.‬‬ ‫ً‬

‫ينقص المســلم‬ ‫أن "الذي‬ ‫ثم ينتهي إلى نتيجة مفادها َّ‬ ‫ُ‬

‫ليس منطق الفكرة‪ ،‬ولكن منطق العمل والحركة‪ ،‬فهو ال‬ ‫كالما مجر ًدا‪ .‬بل أكثر من ذلك‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يفكــر ليعمــل‪ ،‬بل ليقول ً‬ ‫َّ‬ ‫مؤثرا‪،‬‬ ‫يفكرون‬ ‫فهــو أحيا ًنــا ُيبغض أولئك الذيــن ِّ‬ ‫تفكيــرا ً‬ ‫ً‬ ‫يتحــول إلى عمل‬ ‫منطقيــا‪ ،‬مــن شــأنه أن‬ ‫كالمــا‬ ‫ويقولــون ً‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬

‫ونشاط"(‪.)10‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ينبِــه ابــن نبــي أنه‬ ‫وعــن القــرآن الكريــم وعالقتنــا بــه ّ‬

‫إبادة شعبه" ‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫وفــي المعالجــة الفكريــة يعتبــر علــي عــزت‬ ‫اإلســام‬ ‫َ‬ ‫طري ًقــا ثال ًثــا‬ ‫جامعــا في تعاليمــه "بين الســماء واألرض"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ســي ًِدا فــي األرض أي‬ ‫و"اهلل تعالــى خلق اإلنســان ليكون ّ‬ ‫أن "الصالة‬ ‫خليفة"(‪ .)13‬ثم ِّ‬ ‫يؤكد على غرار محمد إقبال‪َّ ،‬‬

‫ليست مجرد تعبير عن موقف اإلسالم من العالم‪ ،‬وإنما‬ ‫َّ‬ ‫أيضا انعكاس للطريقة التي يريد بها اإلســام تنظيم‬ ‫هــي ً‬ ‫هذا العالم"(‪.)14‬‬

‫يعرف اإلســام ‪-‬في ذات الســياق المرجعي‪ -‬أنه‬ ‫ثم ِّ‬ ‫معــا‪ ،‬حيا ٍة تشــمل العالمين‬ ‫"دعــو ٌة لحيــاة ماديــة وروحية ً‬

‫بمثــل هــذا الطــرح الديناميكي الحضــاري تبوأ مالك‬ ‫ِ‬ ‫المؤســس‬ ‫بــن نبــي موقع الصــدارة في "المتحد العلمي"‬ ‫ّ‬ ‫"لنمــوذج الرشــد"‪ ،‬حتــى وإن كان فــي مســتوى الثمــار‬

‫والبرانــي‬ ‫الجوانــي‬ ‫جميعــا‪ ،‬أو كمــا يقرر القــرآن الكريم‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الدار ِ‬ ‫س َن ِص َيب َك ِم َن‬ ‫اآلخ َر َة َو َ‬ ‫يما آ َتاكَ ا ُ‬ ‫َ‬ ‫هلل َّ َ‬ ‫‪‬و ْاب َت ِغ ف َ‬ ‫ال َت ْن َ‬ ‫الد ْن َيا‪(‬القصص‪.)15(")77:‬‬ ‫ُّ‬ ‫َّأمــا عن ســبب تخلُّف المســلمين‪ ،‬فيعيده علي عزت‬

‫أن الظروف والمرحلة‪ ،‬و"النسيج الحضاري"‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫والحق َّ‬

‫من جهة‪ ،‬والواقع والحضارة من جهة ثانية" فيقول‪" :‬لقد‬

‫المباشــرة علــى الواقــع غيــر محظــوظ‪ ،‬شــأن علي عزت‬

‫أمامــه‬ ‫و"الوعــاء الحضــاري"(‪ ،)11‬كلُّ ذلــك وقــف حائــ ً‬ ‫ا َ‬ ‫أن المالييــن من‬ ‫وأفقــده التم ُّثــل الواقعــي المباشــر‪ ،‬غيــر َّ‬ ‫ويفعلون‬ ‫القراء من مختلف بالد العالم‪ ،‬يتن َّفسون أفكاره ِّ‬ ‫َّ‬ ‫مناهجــه بصــورة أو بأخــرى‪ ،‬لعــل أبرزهم محمــد مهاتير‬

‫انشــطرت وحدة اإلســام على يد أناس قصروا اإلســام‬

‫علــى جانبــه الدينــي المجــرد‪ ،‬فأهــدروا وحدتــه وهــي‬

‫خاصيتــه التــي يتفــرد بها عن ســائر األديان‪ .‬لقــد اختزلوا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫أحوال‬ ‫صوفية‪ ،‬فتدهورت‬ ‫دين مجرد أو إلى‬ ‫ُ‬ ‫اإلسالم إلى ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ال‪.‬‬ ‫بيجوفيتش‪ ،‬وفتح اهلل كولن مث ً‬

‫إلى "االنفصام بين التعاليم والعمل"‪ ،‬بين "النص واآلخرة‬

‫‪69‬‬


‫تســبب هذا‬ ‫التغي َر هو الســمة ِّ‬ ‫باعتبارها ُّ‬ ‫لكل شــيء‪ ،‬بينما َّ‬

‫ال عن "حركية الفكر والفعل"‪،‬‬ ‫وتوحيد الوجهة‪ ،‬كان سؤا ً‬

‫الســؤال في جمود العالم اإلســامي وركوده‪ ،‬وهو الذي‬ ‫كل مــا مــن شــأنه التغيــر‪،‬‬ ‫كل مــا من‬ ‫راح يثبــت َّ‬ ‫ويقــدس َّ‬ ‫ِّ‬

‫وعــن كيفيــة "تحويــل المعرفة إلى ســلوك" والذي ســمي‬ ‫فيما بعد "سؤال نموذج الرشد" المحوري الرئيس‪.‬‬

‫بحق‪ :‬ما هو مبدأ‬ ‫شأنه التجربة والواقع‪ ،‬راح إقبال يسأل ٍّ‬

‫يؤكــد طــه عبد الرحمن هذا المنحى في كتابه "العمل‬

‫الديني وتجديد العقل" بتســجيله لهذه المالحظة الدقيقة‬ ‫ينفك العلم عن‬ ‫فيقول‪ِ " :‬من شــروط كمال العقل‪ ،‬أن ال َّ‬

‫الحركــة فــي اإلســام؟ ثم يجيب باختصــار ووضوح‪ :‬إنه‬ ‫ما يعرف باسم "االجتهاد"‪.‬‬

‫ولقد نفخ محمد إقبال من خالل أشعاره‪ ،‬الروح في‬

‫عالما اشــتهر‬ ‫العمل في الممارســة العقلية‪ .‬فال نكاد نجد ً‬

‫الماليين من القراء والمثقفين في العالم اإلســامي‪ ،‬غير‬ ‫َّ‬ ‫معنيا بالمحسنات األسلوبية‬ ‫أدبيا صر ًفا ًّ‬ ‫شعرا ًّ‬ ‫أنه لم يكن ً‬ ‫حركيا‬ ‫ثوريا‬ ‫هم سؤال‬ ‫ًّ‬ ‫شعرا ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫حضاريا‪ ،‬يحمل َّ‬ ‫بقدر ما كان ً‬ ‫التخلف للمســلمين‪ ،‬ويثير فيهم بعناية ســؤال األزمة‪ ،‬ثم‬

‫فــي النــاس األخــذ عنــه إال وقــف عنــد هــذه الرابطــة بين‬ ‫معب ًِرا عنها بهذه الصيغة أو تلك"(‪.)5‬‬ ‫العلم والعمل‪ّ ،‬‬

‫حتــى يتبيــن حقيقــة مــا ُذكــر‪ ،‬ســنعرض أبــرز أعضــاء‬

‫"الجماعــة العلميــة المرجعيــة" التــي أعتبرهــا "نمــوذج‬

‫صداحا‪:‬‬ ‫ُينشد‬ ‫ً‬

‫الرشــد" هــي الشــعلة األولــى‪ ،‬والقطرة األولى‪ ،‬والنســمة‬

‫إذا اإليمان ضاع فال أمان‬

‫األولــى لهــذا "النموذج الحضاري البديــل"‪ ،‬وهي تتكون‬

‫ ‬

‫ابتــداء مــن العلمــاء المفكريــن‪ :‬محمد إقبــال‪ ،‬ومالك بن‬

‫عزت بيجوفيتش‪ ،‬وعبد الوهاب المســيري‪،‬‬ ‫نبــي‪ ،‬وعلــي ّ‬

‫محمد إقبال‪ :‬ومبدأ الحركة‬

‫ ‬

‫دين‬ ‫ومن رضي الحياة بغير ٍ‬ ‫َ‬ ‫فقد َجعل الفناء لها قريـنا‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫اتحاد‬ ‫وفي التوحيد للهمم‬ ‫ٌ‬ ‫متفرقيــنا‬ ‫ ‬ ‫ولـن تبنوا ُ‬ ‫العـلى ِّ‬

‫لم لم يولد بع ُد‬ ‫مالك بن نبي‪ِ :‬ع ٌ‬

‫لعــل إرهاصــات هــذا الســؤال ولِــدت مِــن رحــم محمــد‬

‫"يؤكــد‬ ‫الفكــر الدينــي" حيــن قــال فــي تقديمــه للكتــاب‪ِّ :‬‬

‫يشــرح‬ ‫عنــده تســاوي "اإلنســان والوقــت والتــراب"‪ ،‬ثــم ِّ‬

‫القــرآن علــى العمــل أكثــر من تأكيــده على الفكــر‪ ،‬ومع‬

‫أناســا عاجزيــن بطبيعتهــم عــن أن يتمثلــوا‬ ‫ذلــك فســنجد ً‬ ‫(‪)6‬‬ ‫األول مــن كتابه‬ ‫غريبــا عنهــم" ‪ .‬ثــم جــاء الفصل َّ‬ ‫ً‬ ‫عالمــا ً‬

‫معب ًــرا عــن هذا‬ ‫التوجه‪ ،‬وقد انتقــى له هذا العنوان الدال‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬

‫"المعرفة والتجربة الدينية"‪.‬‬

‫غيــر أن الفصــل المعنــون بـ"مبــدأ الحركــة فــي بنــاء‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫حي دينا‬ ‫وال دنيا لمن لم ُي ِ‬

‫معيارا‬ ‫مِــن خــال معادلــة الحضارة يصوغ مالك بــن نبي‬ ‫ً‬

‫إقبــال‪ ،‬وهو‬ ‫يخــط الصفحات األولى مــن مؤلفه "تجديد‬ ‫ّ‬

‫‪68‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومحمــد مهاتير‪ ،‬وفتح اهلل كولــن‪ ...‬مع ضرورة‬ ‫التعجل‬ ‫ُّ‬ ‫والعيِنة األســاس"‬ ‫يشــكلون "المثال‬ ‫أن هــؤالء‬ ‫ِّ‬ ‫بمالحظــة َّ‬ ‫ّ‬ ‫وال يقتصر الحكم عليهم وحدهم فقط‪.‬‬

‫ ‬

‫مخططه الحضاري‪،‬‬ ‫لب َّ‬ ‫اإلسالم" هو بؤبؤ مشروعه‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫أن "اإلسالم ‪-‬كحركة ثقافية‪ -‬ير ُفض‬ ‫وقد‬ ‫قرر من خالله َّ‬ ‫َّ‬ ‫النظرة االستاتيكية القديمة للكون‪ ،‬ويبني نظرة ديناميكية‪،‬‬ ‫َّيتسم فيها الكون بالحركة والتغير"‪.‬‬

‫ثم يسأل على إثر جدلية الثابت والمتغير‪ ،‬التي كانت‬

‫الســبب في مصادمة أوروبا لروح اإلنســان ولروح الثقافة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عنصــرا‬ ‫يجعــل الوقــت‬ ‫تابعــا؛ فالحضــارة‬ ‫أساســا وليــس ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫عنصــر الوقــت بمقاربات عديدة منهــا‬ ‫"التوجيه العملي"‪،‬‬ ‫ُ‬

‫و"الفعالية"‪ ،‬و"توجيه العمل"‪.‬‬

‫قمة "نموذج‬ ‫ففي مستوى الفعالية يرسو ابن نبي على َّ‬

‫تتحــول "العالقــة بيــن الفكــر والفعل"‬ ‫الرشــد"‪ ،‬وبالتالــي‬ ‫َّ‬ ‫لــكل فكرة ومشــروع في جميع‬ ‫عنــده إلــى صبغــة الزمة‬ ‫ِّ‬ ‫ال‪ -‬عــن عقيد ٍة إنها‪:‬‬ ‫كتاباتــه ومحاضراتــه‪ .‬فهــو يقول ‪-‬مث ً‬

‫"تجردت من فاعليتها؛ ألنها فقدت إشعاعها االجتماعي‬ ‫َّ‬ ‫فأصبحــت جذبيــة فرديــة"‪ ،‬ثم ينتهــي إلى النتيجــة اآلتية‪:‬‬ ‫"وعليــه‪ ،‬فليســت المشــكلة أن نع ِّلــم المســلم عقيــدة هــو‬

‫نرد إلــى هذه العقيــدة فاعليتها‬ ‫يملكهــا‪ ،‬وإنمــا المهــم أن َّ‬ ‫وقوتهــا اإليجابيــة‪ ،‬وتأثيرهــا االجتماعــي‪ .‬وفــي كلمــة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫واحــدة‪:‬‬ ‫إن مشــكلتنا ليســت في أن نبرهن للمســلم على‬ ‫َّ‬


‫الحق أننا لو تتبعنا سرية األستاذ فتح الله‪ ،‬ولو قرأنا‬

‫ا‪ ،‬يمكــن أن‬ ‫ففــي مدينــة "نــزوى" بســلطنة ُعمــان مثــ ً‬

‫واقــع "الخدمة" عرب العامل‪ ،‬ملا جــاز لنا إال أن نقرر‬

‫دمرها اإلنجليز‬ ‫نزور قري ًة صغيرة محاطة بسور‬ ‫ّ‬ ‫حجري‪َّ ،‬‬

‫ومتقدمة ضمن‬ ‫أن "الرباديــم كولــن" حلقة بــارزة‬ ‫ِّ‬

‫بالطائــرات الحربيــة و"قنابــل النابلــم"‪ ،‬حتــى يقضي على‬

‫"الرباديم الحضاري البديل"‪ ،‬أعني "منوذج الرشد"‪.‬‬

‫منتصرا لنوع من "الوالء الســلطاني" له‪،‬‬ ‫"اإلمامــة" هنــاك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫و ِمن ثم عرف اإلنسان داخل هذه القرية صوت الطائرات‬ ‫يوما طائرة تحمل السالم أو‬ ‫وهي تحمل الموت‪ ،‬ولم ير ً‬

‫وكذلك الحال في سائر البالد العربية بالخصوص‪.‬‬

‫تحم ُله بسالم‪ ،‬وكذلك الحال في سائر البالد اإلسالمية‪.‬‬ ‫للمدنية المعاصرة على‬ ‫وحين ســ ِّلط الشعاع الحارق‬ ‫َّ‬ ‫اإلنسان المسلم‪ ،‬كان قد فقد منذ ٍ‬ ‫كل أسباب التنظيم‪،‬‬ ‫أمد َّ‬

‫غيــر أن الشــعاع المســ َّلط علــى هــذا النمــوذج ما كان‬

‫ويدا‬ ‫ليتناقــص‪ ،‬بــل إنــه مــع مــرور الوقــت بــدأ يتك َّثــف ُر ً‬ ‫ويــدا‪ ،‬ويلقــي أســئلة جديد ًة مــن نوع جديد‪ ...‬اســتطاع‬ ‫ُر ً‬

‫وفقــد معهــا المبــرر للوجــود‪ ،‬وصــار المجتمــع أشــاء‬

‫أمثــال اإلمــام حســن البنــا‪ ،‬وبديــع الزمــان النورســي‪ ،‬أن‬

‫متصارعــة‪ ،‬أنهكتهــا الخالفــات القبلية‪ ،‬وأكســبها الجهل‬

‫بعضها اآلخر‬ ‫يجيبــوا على بعضها بأصالة وفاعلية‪ ،‬وبقي ُ‬

‫نوعــا من مرض "فقدان الــدم"‪ ،‬فلم يجد لحركته‬ ‫والفاقــة ً‬

‫لكنها لــم ترق إلــى الفاعلية‬ ‫مرهو ًنــا علــى أجوبــة أصيلــة َّ‬

‫ال للدفــاع‬ ‫وال لزمنــه وال لذاتــه معنــى وال‬ ‫تميــزا وال ســبي ً‬ ‫ً‬

‫المرجــوة حســب الســياق والمرحلــة‪ ،‬ونــوع ثالــث مــن‬

‫عنهــا‪ .‬وأحســن توصيــف لهــذه الصعقــة خــال حمالت‬

‫األســئلة لألســف لــم يجــد الجــواب الكافــي أصالــة وال‬

‫دونه عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ‬ ‫نابليون إلى مصر‪ ،‬ما َّ‬ ‫شــبه هــذه الحــال‬ ‫ولقــد أبــدع مالــك بــن نبــي حيــن َّ‬

‫المســتعمر والغــرب‬ ‫مــن التالقــي القــدري بيــن الشــرق‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫المســتعمر‪ ،‬بقولــه‪" :‬قــام إنســان أوروبــا دونمــا قصــد‪،‬‬ ‫بــدور الديناميــت الذي نســف معســكر الصمــت والتأمل‬ ‫واألحالم‪ ...‬وبذلك شــعر إنســان ما بعد الموحدين بهزة‬ ‫مستيقظا"(‪.)3‬‬ ‫انتفض بعدها‬ ‫ً‬

‫تشــكل فــي‬ ‫هــذا االســتيقاظ فــي عالــم المســلمين‬ ‫َّ‬ ‫نموذجيــن اثنيــن همــا‪" :‬النموذج اإلصالحــي" الذي م َّثل‬

‫شــكل‬ ‫عمق الذات المســلمة‪ ،‬و"نموذج التحديث" الذي َّ‬ ‫قشر ًة سطحية‬ ‫األمة‬ ‫يسكنها ثلة من المث َّقفين ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تغطي جسد َّ‬ ‫وال تلج إلى روحها‪.‬‬ ‫والــذي يعنينــا فــي "نمــوذج الرشــد" هــو "النمــوذج‬

‫اإلصالحــي" العميــق‪ ،‬ال "النمــوذج الحداثــي" الرقيــق؛‬ ‫ذلــك أن الشــيخين جمال الدين األفغاني‪ ،‬وبعده الشــيخ‬

‫اإلصالحيــة فــي كامــل العالــم اإلســامي‪ ،‬هــذا الصوت‬ ‫ٍ‬ ‫تأسست في الجزائر‬ ‫الصادق المبحوح في آن واحد‪ .‬ثم َّ‬ ‫ا‪" -‬جمعيــة العلماء المســلمين الجزائريين" برئاســة‬ ‫‪-‬مثــ ً‬

‫ابــن باديــس وثلــة ممــن معــه مــن العلمــاء المجاهديــن‪،‬‬

‫ولعل بعضها ال‬ ‫واإلعــام‪ ،‬والمــرأة‪ ،‬واإلســتراتيجات‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫يزال ينتظر في الطابور إلى حين‪.‬‬

‫تسجل على هذا النموذج‬ ‫ومن بين المالحظات التي َّ‬

‫(أعنــي النمــوذج اإلصالحــي) مــا ذكــره بعــض النقاد من‬ ‫الذرية‪ ،‬والحروفيــة‪ ،‬وأزمة التعليم‪ ،‬واالنفصام بين‬ ‫مثــل‪ِّ :‬‬

‫النظــر والتطبيق‪ ،‬والتشــرذم‪ ،‬وضعف آلــة النقد والتصفية‬ ‫الذاتية‪ ،‬وغياب التخطيط العلمي المحكم‪.‬‬

‫بعيدا عن‬ ‫فــي هــذه الظــروف‪ ،‬كان ثمــة‬ ‫جنين يتخ َّلــق ً‬ ‫ٌ‬ ‫األمة ِ‬ ‫المعطاء‪ ،‬التي ال ينقطع الخير‬ ‫األنظار‪ ،‬داخل رحم َّ‬ ‫وضعف‪ -‬إلى يوم الدين‪ .‬وال ريب‬ ‫قل‬ ‫منها ‪-‬حتى وإن َّ‬ ‫ُ‬ ‫(‪)4‬‬

‫أن أعضــاء وأجــزاء هــذا الجنيــن لم يكن بينهــا بالضرورة‬

‫"المتحد العلمي‬ ‫اتصال وتواصل مباشــر‪ ،‬غير أن صفات‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫الحضــاري"‪ ،‬ومواصفــات "الجماعــة العلميــة الفكريــة"‪،‬‬

‫بخاصــة صفــة "ســؤال األزمــة المشــترك"‪ ،‬كلُّ هــذا كان‬ ‫الرابــط األســاس بيــن هــؤالء الذيــن م ّثلــوا بــذر َة "نموذج‬ ‫َ‬ ‫حضــاري بديــل" بوعــي مــن المؤرخيــن والدارســين‪ ،‬أو‬ ‫بغير وعي منهم‪.‬‬

‫والحق أن "ســؤال األزمة المشــترك" الذي هو شــرط‬ ‫ُّ‬

‫أســاس لالتحــاد فــي المنطلــق‪ ،‬والتناغــم فــي الحركــة‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫واتبعت الحركة‬ ‫محمد عبده‪ ،‬قد أعادا للمســلم بوصلته‪َّ ،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫في كتابه "عجائب اآلثار في التراجم واألخبار"‪.‬‬

‫الشــافي فعاليــة‪ ،‬مــن مثــل‪ :‬أزمــة الحكــم‪ ،‬واالقتصــاد‪،‬‬

‫‪67‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫منوذج الرشد‬

‫الحضاري البديل‬ ‫النموذج‬ ‫ُّ‬ ‫"التشميس" (‪ )Insolation‬مصطلح فزيائي له تطبيقات عديدة في‬

‫تعريض‬ ‫الطب والزراعة والصناعة وغيرها‪ ،‬وهو َيعني‬ ‫حقول‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫مخبريا)‬ ‫المعدة‬ ‫أشعة الشمس (أو األشعة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫كمية من َّ‬ ‫مادة ما إلى ِّ‬

‫محســوبا‪ .‬وفــي مجال الطباعة‬ ‫توجيها‬ ‫وموجهة‬ ‫محضــرة بعنايــة‪ ،‬ومك َّثفة بد َّقة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬

‫ُيستخدم هذا المبدأ لحفر الحروف من األفالم الشفافة على سطح صفائح الزنك‪.‬‬

‫وفــي مجــال الحضــارة وحركيــة التاريــخ‪ ،‬تتعــرض "النمــاذج" (أي األفكار‬

‫خاصة قاهــرة‪ ،‬أي في حين‬ ‫والحــركات والمشــاريع‪ )...‬للتشــميس في ظروف َّ‬ ‫الحساسة‪ ،‬و"األسئلة القلقة"‪،‬‬ ‫تعرضها "ألزمات"(‪ ،)1‬وحينها فقط تظهر المناطق‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬

‫والحاجات التــي عجز النموذج‬ ‫واإلشــكاالت التــي لــم يوجد لها حــلٌّ معقول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عن إيجاد جواب "علمي ‪ -‬عملي" لها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كبيــرا ك َّلمــا صــار ُعرضــة‬ ‫النمــوذج‬ ‫كان‬ ‫مــا‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫أنــه‬ ‫الكونيــة"‬ ‫ومــن "الســنن‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫للتشــميس أكثــر من غيره‪ ...‬فاالختبار يكبــر مع النموذج ويصغر معه‪ ،‬ومن ثم‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫كان األنبيــاء عليهــم الســام ‪-‬وهم "النموذج األكمل" فــي "الحراك الحضاري"‬

‫‪66‬‬

‫ألشد االختبارات وعور ًة‪ ،‬أي ألشد أنواع التشميس إحرا ًقا‪.‬‬ ‫البشري‪ -‬عرض ًة‬ ‫ّ‬

‫(‪)2‬‬

‫األول مع الغــرب ما بعد‬ ‫وفــي العالــم اإلســامي المعاصــر‪ ،‬كان االتصــال َّ‬

‫ال شــا ًّقا وذكرى قاســية‪ ،‬ذلك أنه عرف أثــر "التكنولوجيا"‬ ‫نهضتــه الماديــة‪ ،‬اتصا ً‬ ‫الحربية قبل أن يتعرف على آثارها السلمية‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫فــي كل مــكان في هذا العالم‪ ،‬غيــر آبه بالبعد عن الوطن‬ ‫ومضح ًيا بكل‬ ‫تــاركا خلفــه الوطــن واألحبــاب‪،‬‬ ‫واألهــل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫مــا يشــده إلــى الدنيا‪ ...‬ولقــد وفقه اهلل ‪ ‬ففتــح القلوب‬

‫من خالل فتح المدارس والجامعات والمستشــفيات في‬ ‫أماكــن عديــدة مــن العالــم‪ ،‬حتــى فــي تلك األماكــن التي‬

‫تعرف توترات ونزاعات سياسية وعرقية ودينية ومذهبية‪.‬‬ ‫لقــد نجحــت هــذه المــدارس فــي تقديــم صــورة إيجابية‬ ‫عــن اإلســام غير تلك التــي يقدمها اإلرهــاب وتخويف‬

‫اآلمنين باسم الدين‪.‬‬

‫أما بعد‪...‬‬

‫األستاذ فتح اهلل كولن مدرسة ناجحة في العمل اإليجابي‪.‬‬

‫واإللمــام بجميــع جوانــب شــخصيته الفكريــة والحركية‬ ‫يحتــاج إلــى العديــد مــن الدراســات واألبحــاث‪ .‬ومــن‬

‫توســعا‬ ‫المؤكــد أن الشــهور والســنوات المقبلة ســتعرف‬ ‫ً‬ ‫في عدد َمن ســيقتربون من عالم هذا المفكر‪ ،‬ومن عالم‬

‫الخدمــة قصد البحث عــن أجوبة الواقع الملحة‪ ،‬خاصة‬ ‫حــل ألغاز النهضة‪.‬‬ ‫بعد فشــل اإلســام األيديولوجي في ّ‬ ‫وإذا كانت بعض التيارات اإلســامية ترى بأن المال‬

‫وســلطته ‪-‬بغــض النظــر عــن مصــدره‪ -‬يســتطيع شــراء‬

‫كل شــيء بمــا فــي ذلــك النهضــة والحضارة‪ ،‬فــإن الزمن‬

‫ســيكذب دعــاة هــذا التيــار الجــارف‪ ،‬ألن الحضــارة فــي‬ ‫ّ‬

‫مفهــوم اإلســام ال تقــوم علــى اعتبار المال غايــة والدنيا‬

‫هد ًفا‪.‬‬

‫(*) جامعة أبو شعيب الدكالي‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ‪-‬الجديدة‬ ‫‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬الموازيــن أو أضــواء علــى الطريق‪ ،‬فتــح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل للطباعة‬ ‫والنشر‪ ،‬القاهرة ‪2004‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬ونحن نقيم صرح الروح‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشــر‪،‬‬ ‫القاهرة ‪2010‬م‪.‬‬

‫(‪ )3‬النــور الخالــد‪ ،‬فتــح اهلل كولــن‪ ،‬دار النيــل للطباعــة والنشــر‪ ،‬القاهــرة‬ ‫‪2013‬م‪.‬‬

‫(‪ )4‬ونحــن نقيــم صرح الروح‪ ،‬المقال الرئيس في مجلة حراء‪ ،‬العدد‪6 :‬‬ ‫(يناير ‪ -‬مارس ‪.)2007‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪65‬‬

‫شهادات‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد سعيد رمضان البوطي رحمه اهلل (سوريا)‪:‬‬

‫أنا رأيت األستاذ فتح اهلل مرة واحدة‪ ،‬وفي هذا اللقاء‬ ‫ال‬ ‫ظهــرت لــي جوانــب متميــزة ونــادرة في شــخصيته‪ :‬أو ً‬ ‫تواضعه‬ ‫الجم‪ ،‬والتواضع شأن العلماء‪ .‬إن اإلنسان كلما‬ ‫ّ‬ ‫تواضعا كالشــجرة التي كلما ازداد‬ ‫علما كلما ازداد‬ ‫ً‬ ‫ازداد ً‬ ‫دنوا علــى األرض‪ ،‬فرأيت هذا‬ ‫حملهــا ازدادت أغصانهــا ًّ‬ ‫في شــخصه‪ .‬األســتاذ فتح اهلل ال يســتأنس إال باإلســام‬ ‫هنئك على هذا الذي أقامك اهلل ‪‬‬ ‫وعلومه‪ .‬أنا أقول له ُأ ّ‬ ‫فيــه‪ ،‬بــل أهنئــك على عظيم محبة اهلل ‪ ‬لك‪ ،‬ولوال هذه‬ ‫سيرك في هذا الطريق‪ ،‬ولوال محبة اهلل ‪ ‬لك‪،‬‬ ‫المحبة لما ّ‬ ‫لما جعل جهودك مثمرة ترى آثارها في حياتك‪ ..‬وأسأل‬ ‫مزيدا من التوفيق‪ ،‬وأســأل اهلل ‪ ‬لك العافية‬ ‫اهلل ‪ ‬لك ً‬ ‫ســيرا فــي هــذا الطريق الذي ُينعشــك‬ ‫التامــة حتــى تــزداد ً‬ ‫ويطربك‪ ،‬والذي هو مظهر من مظاهر محبة اهلل ‪ ‬لك‪.‬‬ ‫ُ‬

‫موالنا وحيد الدين خان (الهند)‪:‬‬

‫فــي رحلتــي االستكشــافية إلــى تركيــا‪ ،‬تعرفــت علــى‬ ‫رجــل النهضــة‪ ،‬األســتاذ فتح اهلل كولن الــذي أ ّثر في كثير‬ ‫مــن النــاس‪ ،‬وتعرفت علــى عديد ممن اســتلهموا أفكاره‬ ‫وأنجــزوا أعماال عظيمة‪ ..‬وأعتقد أن األســتاذ كولن لديه‬ ‫مــن الحكمــة مــا جعلته ينتبه إلــى وجوب خدمــة وهداية‬ ‫البشرية‪ ،‬وذلك من خالل معرفته لروح العصر الحديث‪.‬‬ ‫ربى مجموعة من الناس‪،‬‬ ‫ومــن أجل ذلك الهــدف النبيل ّ‬ ‫أظن أن كل فرد منهم اليوم كاألبطال يقومون بأعمال رائعة‪.‬‬


‫تخــدم مصالــح الوطــن‪ .‬ولتجــاوز هــذا‪ ،‬يتوجــب تكوين‬

‫الحركــة وعــن الفعل في ضوء الفكر اإلســامي‪ ،‬دخولها‬

‫الذاتيــة‪ ،‬وتقــدم الثقافــة الذاتيــة وتدرس العلــوم في إطار‬

‫ا هو ما تعرضت‬ ‫األمــر الذي ســهل االختراق‪ .‬وهذا فعــ ً‬

‫فــي تأثيــر الدوامــات الفكرية الغريبة عــن الذات وهوتها‪،‬‬

‫أجيــال جديــد في مدرســة نابعــة من خصوصيــات الثقافة‬

‫له الذات في الماضي القريب‪ ،‬يقول‪" :‬إن السكون الدائم‬

‫هــذه الثقافــة الذاتية‪ ،‬دون اإلخــال بخصوصيات العصر‬

‫يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا‪ ،‬وترك المشاركة‬

‫وشــروط المدنيــة الحديثة‪ ،‬يقــول‪" :‬جل‪ ،‬البد من تحقيق‬

‫في التكوينات المحيطة بنا‪ ،‬واالستســام للذوبان الذاتي‬

‫تجددنــا الذاتــي ونهضتنــا (‪ )Renaissance‬عــن طريــق تلقيح‬

‫رغمــا عــن أنفســنا كقطعة جليد ســقطت في المــاء‪ ...‬أما‬ ‫ً‬

‫عقــول شــبابنا بالتفكيــر العلمــي‪ ،‬وذلــك ســيؤدي إلــى‬

‫تعاجزنــا عــن حمايــة جزئياتنــا الذاتيــة فــي هــذا الذوبان‪،‬‬

‫فعلنا ذلك‬ ‫تفاعلهــم واندماجهــم مع الفكر والعلــم‪ ،‬كما َ‬

‫يعني التســليم ألي تكوين أو حادث يناقض ذاتنا ويضاد‬

‫قبــل الغــرب بقــرون مديــدة‪ .‬إن القلق المحســوس به في‬

‫جوهرنــا‪ .‬ينبغــي علــى الذيــن يبرمجــون لبقــاء الــذات أن‬

‫الوجــدان العــام لســيرنا المنحــوس‪ ،‬واضطــراب القلوب‬

‫يطلبــوه بــكل رغباتهــم وميولهــم وقلوبهــم ووجدانهــم‬

‫بســبب العيش تحت الوصاية ســنين وســنين‪ ،‬ورد الفعل‬

‫توترا‬ ‫وحركاتهم وأفكارهم‪ ،‬ألن حضور الوجود يقتضي ً‬

‫لدى إنســاننا بســبب استغالل الغير لنا قرونا‪ ،‬أورثنا اليوم‬

‫تاما في جوهر اإلنسان"‪.‬‬ ‫ًّ‬

‫ونشــيجا كنشــيج النبي يونس‪،‬‬ ‫شــهق ًة كشــهقة النبي آدم‪،‬‬ ‫ً‬

‫عاما‬ ‫أعلــن األســتاذ النفيــر العام منذ أكثر مــن أربعين ً‬

‫وأنينا كأنين أيوب عليهم الســام‪ .‬وقد بلغ بنا األمر أننا‬ ‫ً‬

‫مع نفســه فلــم يلتفت لهمومه الخاصــة ولم يتزوج‪ ،‬ولم‬

‫بدافــع هــذه األفــكار والمشــاعر وعلــى ضــوء التجــارب‬

‫يبق للوصول إلى الهدف سوى خطوات"‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫خطاب التأميل والحركية في رؤية األستاذ‬

‫‪64‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التاريخية نشــعر اليوم وكأن المســافات قد انكمشت ولم‬

‫متضرعا‬ ‫يملــك ولم يتمتع‪ ،‬وقضــى معظم حياته معتك ًفا‬ ‫ً‬ ‫ال عــن كل‬ ‫مفكــرا يقــرأ العالــم‪ ،‬ألنــه يعتبــر نفســه مســؤو ً‬ ‫ً‬ ‫وملزمــا بأن يجعلــه يعرف‬ ‫واحــد مــن أفــراد هذا العالــم‪،‬‬ ‫ً‬

‫حقيقة وجوده ووظيفته في هذا الوجود الفســيح‪ .‬وعلى‬

‫ال شــك أن خطــاب األســتاذ خطاب مســكون بنبــرة آملة‬

‫أســاس ذلــك يــرى فتــح اهلل كولــن أن الوجــود الحقيقــي‬

‫بأنــه متي ّقــن بــأن األفــق مشــرق وبــأن المســتقبل واعــد‪...‬‬

‫دائما في بــؤرة اهتمامه‬ ‫واآلخريــن‪ ،‬فاآلخــرون يوجــدون ً‬

‫وليــس نبــرة يائســة‪ ،‬فهــو يحــرص علــى أن ُيشــعر متلقيــه‬

‫يمــر عبــر الحركيــة والفكــر‪ ،‬حركيــة وفكر يغيــران الذات‬

‫إنه يســتمد هذه الطاقة من الخطاب القرآني نفســه‪ ،‬ومن‬

‫وفي بؤرة اهتمام الحركة المدنية التطوعية المعروفة اليوم‬

‫للقرآن الكريم‪ ،‬الذي كان دائم اإللحاح على أن االلتزام‬

‫اجتماعيا‪،‬‬ ‫بعدا‬ ‫صــوري يوظف من أجل إلبــاس الحركية ً‬ ‫ًّ‬

‫وتوفيقه‪ ،‬شــريطة توفر شــرط اإلخالص والصبر المتصل‬

‫وإقصــاؤه‪ ،‬يقــول‪" :‬إن أهــم مميــزات الحركية اإلســامية‬

‫ربطا‬ ‫حتميا بين الحركية‬ ‫يربط األستاذ فتح اهلل كولن ً‬ ‫ًّ‬

‫مطالبنــا مطالــب العالــم ورغباتــه‪ ،‬ثم نجد مجــرى حركة‬

‫وجهه المطبق وهو السنة النبوية باعتبارها الوجه العملي‬

‫بـ"الخدمــة"‪ ،‬كمــا يطلق عليها البعض‪ ،‬واآلخر هنا مفهوم‬

‫بالعبوديــة فــي إطارهــا العــام‪ ،‬يضمــن رضــى اهلل تعالــى‬

‫إذ ال وجــود لآلخــر في تصــور فتح اهلل إال من تم تأخيره‬

‫بعدم استعجال النتائج واستعجال قطف الثمرات‪.‬‬

‫والفكر اإلسالمي هو أن يكون وجودنا ذاتنا‪ ،‬وأن نجعل‬

‫والفكر؛ ففي نظره ال يمكن للفكر وحده صناعة النهضة‬

‫لنــا فــي عموم الوجود ونســيل بذاتنا فــي مجرانا الخاص‬

‫وتحــت إرشــاده‪ ،‬حركية تائهة تعطلــت بوصلتها‪ .‬وعندما‬

‫إن "اإلنســان الجديد" الذي يبشــر به األســتاذ والذي‬

‫واإلحيــاء‪ ،‬كمــا أن الفعــل والحركيــة دون هــدي الفكــر‬ ‫يربــط األســتاذ بيــن الحركيــة والفكــر‪ ،‬فهو يقصــد حركية‬ ‫محــددة هــي الحركيــة اإلســامية‪ ،‬وعندمــا يقصــد الفكر‬

‫يقصد الفكر اإلســامي؛ ألن من شــأن توقف الذات عن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ضمن مجريات عموم الكائنات"‪.‬‬

‫بــدأت طالئعــه األولى تلوح في األفــق‪ ،‬يحتضن الوجود‬ ‫كلــه بــل يعتبــر ذلك من أوجــب واجباتــه‪ .‬فـ"جيل األمل"‬

‫دائما للهجرة من أجل احتضان هذا اإلنسان‬ ‫هذا مستعد ً‬


‫أعلــن األســتاذ النفري العــام منذ أكرث مــن أربعني‬

‫يجــري علــى اهلل تعالى‪ ،‬وال يقيد إرادته ومشــيئته اإللهية‪.‬‬

‫عاما مع نفســه‪ ،‬فلم يلتفت لهمومه الخاصة ومل‬ ‫ً‬

‫اهلل يحكــم علــى كل شــيء‪ ،‬واهلل هــو الحاكــم األحــد‬

‫يتــزوج‪ ،‬ومل ميلــك ومل ميتمع‪ ،‬وقــى معظم‬

‫المطلــق؛ ومراعــاة األســباب وعــد العلل وســائل صغيرة‬

‫مترضعا مفك ًرا يقرأ العامل‪ ،‬ألنه يعترب‬ ‫حياته معتكفً ا‬ ‫ً‬

‫ليس إال بأمر اهلل تعالى‪ .‬فنؤمن بهذا االعتبار بأن اإلنسان‬

‫نفسه مســؤو ً‬ ‫ال عن كل واحد من أفرد هذا العامل‪،‬‬

‫بســنة اهلل‬ ‫ســيعا َقب إن خالف الشــريعة الفطرية المعروفة ّ‬

‫وملزما بــأن يجعله يعرف حقيقة وجوده ووظيفته‬ ‫ً‬

‫عقابــا معظمــه فــي الدنيا‪ ،‬وقســم منه في اآلخــرة"‪ .‬بل إن‬ ‫ً‬

‫يف هذا الوجود الفسيح‪.‬‬

‫األســتاذ يعتبر بأن مصيبة المســلمين في القرون األخيرة‪،‬‬

‫ترجــع إلــى عــدم إدراك حقيقــة وظيفة اإلنســان في باب‬ ‫العبوديــة مــن خــال األخــذ بأســباب التطــور‪ ،‬ومــن أهم‬

‫غامضة مظلمة وإنها لخطوة خطيرة نحو خالص اإلنسانية‬

‫تلــك األســباب عــدم األخــذ بناصيــة العلــوم وخاصة في‬

‫ورســي إلى أن البشــرية‬ ‫عامة‪ .‬ولقد أشــار بديع الزمان ال ُّن ْ‬

‫حقل اآليات التكوينية‪ ،‬بما هي وســيلة لتحقيق العبودية‪،‬‬

‫ســتتوجه فــي آخر الزمان بــكل طاقتها إلــى العلم والفن؛‬

‫ووسيلة لمعرفة قدرة القادر تعالى‪.‬‬

‫فتســتمد كل قوتهــا مــن العلم‪ ،‬ويمتلــك العلم مرة أخرى‬

‫ّأكــد األســتاذ منــذ بدايــة عملــه الحركــي اإلصالحــي‬

‫الحكــم والقــوة‪ ،‬وتصيــر الفصاحة والبالغــة وقوة اإلفادة‬

‫ضــرورة توجيــه األجيــال الجديــدة إلــى معرفــة العلــوم‬

‫موضوعــا فــي ســبيل قبــول الجمهــور للعلــم‪ ،‬وموضــع‬

‫وتكويــن دهاة فــي مختلف مجاالت العلــوم والمعارف‪،‬‬ ‫وأن ال تصادم بينهما على اإلطالق‪ ...‬لقد أدرك األستاذ‬ ‫كما أدرك النورســي ‪ -‬أن علوم الطبيعة قد انحرفت‬‫عن مسارها عندما انفصلت عن الدين‪ ،‬فأرجعت التوازن‬

‫فــي الوجــود إلــى محــض الصدفــة‪ ،‬ونســبت للمخلــوق‬

‫‪-‬وهــو الطبيعــة‪ -‬قــدرات الخلــق الخارقــة؛ فمســؤولية‬

‫األجيــال الجديــدة التــي يتم تكوينها في المدرســة النابعة‬ ‫مــن خصوصيات الثقافــة الذاتية‪ ،‬تتحدد في أن تعرف أن‬

‫العلــوم مظهــر لتجلي صفــة الرب في هــذا الوجود‪ ،‬وهو‬ ‫مــا يفــرض معرفته بمعلومات ســليمة المصــدر‪ ...‬بعبارة‬

‫ســيصحح مســار العلم‬ ‫أخــرى إن هــذا اإلنســان الجديــد‬ ‫ّ‬ ‫بربطــه بالخالــق وبتجليــات صفاته في الوجــود‪ ،‬بما يعود‬

‫بالنفــع على اإلنســانية كلها‪ ،‬وذلك ما ســتضفيه األجيال‬

‫الجديدة من طابع أخالقي على العلم وعلى الممارســة‬ ‫العلمية‪ ،‬بعد أن ألغت نظرية الطبيعة القيم واألخالق عن‬

‫أهــم صفات ورثة األرض‪" :‬الوصف الثالث للوارث هو‬ ‫ّ‬ ‫اإلقبال إلى العلم بميزان ثالثية العقل والمنطق والشعور‪.‬‬

‫يشــكل اســتجابة لمطلب‬ ‫وهــذا اإلقبــال يأتي في أوانه إذ‬ ‫ّ‬

‫بشــري عام في وقت انجرفت فيه البشــرية وراء فرضيات‬

‫ال غير هــذا‪ ،‬يبعدنا مــن أجواء‬ ‫مــن جديــد‪ .‬وال نــرى ســبي ً‬

‫دخــان األوهــام وضبابهــا المحيــط ببيئتنــا‪ ،‬ويوصلنــا إلى‬ ‫الحقيقة‪ ،‬بل إلى حقيقة الحقائق‪ .‬إن استدراكنا للنواقص‬

‫والفجــوات التــي ألمت بنا في القــرون األخيرة‪ ،‬وبلوغنا‬ ‫حد اإلشــباع في المعرفة‪ ،‬وإثبات وجودنا وثقتنا بأنفســنا‬ ‫ّ‬ ‫مــرة أخــرى بتعميــر خراب حــس االنســحاق المزمن في‬

‫منا إمــرار العلم من‬ ‫شــعورنا الباطــن‪ ...‬كل ذلــك يتطلب ّ‬ ‫عمليــا واإلفــادة عنــه‬ ‫منشــور الفكــر اإلســامي‪ ،‬وتمثيلــه َ‬ ‫بشتى الوسائل‪.".‬‬ ‫ّ‬

‫اخت ِرق‬ ‫يؤمن األستاذ فتح اهلل كولن أن المدخل الذي ُ‬ ‫منــه العالــم اإلســامي هــو المدرســة‪ ،‬التــي ُأسســت فــي‬

‫وقــت مــن تاريخ األمة وفق رؤيــة غريبة عن هوية الذات‬

‫وبعيدا عن مقومات الثقافة الذاتية‪ .‬تم ذلك من خالل ما‬ ‫ً‬

‫يطلق عليه األستاذ فتح اهلل كولن "أعشاش التعليم" التي‬

‫ُســ ّلمت إليهــا صفــوة األدمغة الطريــة دون توجس وقلق‪،‬‬ ‫لتمــأ أدمغتها بالثقافــة الغربية وعاداتها التي كانت نتيجة‬

‫طبيعية للمدارس؛ ألن هذه المدارس كانت تقدم صنوف‬ ‫هــذه الثقافــة علــى العلــم‪ ،‬ألنها كانــت ترمي إلــى تكوين‬ ‫نخــب تابعــة لها في الرؤية والتوجــه تخدم مصالحها وال‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫مجال العلم‪ .‬يقول األستاذ في معرض حديثه عن إحدى‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بل تربيتهم على أساس أن ال تعارض بين الدين والعلم‪،‬‬

‫اهتمــام الجميع‪ ...‬ويعني هــذا عودة عصر العلم والبيان‬

‫‪63‬‬


‫ثــم آمنــت فئــات واســعة مــن أبنــاء المجتمــع بأنهــم‬

‫خــال ربــط المجتمــع بأحــد المظاهــر التــي تحقــق فيها‬

‫يعنيهــم مباشــرة‪ ،‬فأخــذوا بزمــام المبادرة بأنفســم بتوجيه‬

‫والصدقــة والتضحيــة والعطــاء والبــذل‪ ...‬وقــد كان هــذا‬

‫تفعيل أســاس من أســس التصور اإلسالمي وهو اإلنفاق‬

‫ملزمــون بــأن يعتبروا أمــر توفير شــروط البناء واإلصالح‬

‫المجــال أحد أهــم المجاالت التي َتنافــس فيها الصحابة‬

‫مــن األســتاذ فتــح اهلل كولن الذي ظــل يرفض بإصرار أن‬ ‫يكــون لــه عالقــة عضوية مباشــرة بمــا يقوم بــه المجتمع‬

‫الكرام ‪ ‬فيما بينهم‪ .‬فالرجوع إلى عصر الســعادة ‪-‬كما‬

‫مــن مبــادرات تتطلع إلــى تحقيق آمالــه وأهدافه‪ ،‬فانبرى‬

‫يطلــق عليــه األســتاذ فتــح اهلل كولــن‪ -‬لــم يكــن بغــرض‬

‫بنية االقتــداء‪ .‬يذكر تالمذتــه الذين تلقوا عنه‬ ‫المتعــة‪ ،‬بــل ّ‬

‫المجتمــع يبنــي المــدارس التــي أثثهــا وأشــرف عليهــا‬

‫مباشرة‪ ،‬وأجازهم في العلوم الشرعية‪ ،‬أنه كان يقول لهم‬

‫تربى فــي المحاضن التي وضع‬ ‫"الجيــل الذهبــي"‪ ،‬الذي ّ‬

‫"كونــوا مثــل الصحابــة أو موتوا!"‪ ،‬أي كونوا في مســتوى‬

‫األســتاذ فتــح اهلل كولــن منهج عملها‪ ،‬من خــال تكوينه‬

‫أفق الصحابة رضوان اهلل عليهم أجمعين‪.‬‬

‫ستينيات القرن الماضي‪.‬‬ ‫لتلك المجموعة األولى في ّ‬

‫تميــزت مختلــف مراحــل التكويــن والتأطيــر بالنســبة‬

‫الوقف أهم بعد في فلسفة الخدمة‬

‫ارتباطً ــا بالتاريــخ‪ ،‬يــرى األســتاذ أن معرفــة التاريــخ مــن‬

‫الحواريين بالشــحن‬ ‫المســتمر‪ ،‬الذي كان األستاذ‬ ‫لهؤالء َ‬ ‫ّ‬

‫معرفتــه ومعرفــة ترابــط أحداثــه‪ ،‬يقــول‪" :‬الحاجــة ماســة‬

‫همة يؤكد بأنه دون أفق‬ ‫لهممهم‪ ،‬ومع ذلك فإن أكثرهم ّ‬

‫شــحذا‬ ‫يمارســه ‪-‬ومــا يزال‪ -‬مــع تالمذته (أقصد أبناءه)‬ ‫ً‬

‫أوجــب الواجبــات التــي يتوجــب علــى اإلنســان الجديد‬

‫جدا وهو ال يشبع‪.‬‬ ‫انتظار األستاذ‪ ،‬ألن همته عالية ًّ‬

‫فــي أيامنــا إلــى عقــل موضوعــي يتصــور األمــس واليــوم‬

‫دفعــة واحــدة‪ ،‬موهــوب في المقايســة والمقارنــة‪ ،‬منفتح‬ ‫علــى ُبعــد أســباب الوجــود وعللــه‪ ،‬محيط بظهــور األمم‬

‫والجماعــات واضمحاللهــا"‪ .‬ومــن أهــم القيــم الضاربــة‬

‫بجذورهــا فــي تاريخ الحضارة اإلســامية‪ ،‬والســلوكات‬ ‫الجميلــة للمجتمــع المســلم‪ ،‬التي أعاد لها األســتاذ فتح‬

‫اهلل االعتبــار وأعــاد توجيــه المجتمــع إليهــا‪ ،‬نجــد نظــام‬ ‫اإلنفــاق والوقــف؛ فقــد أقنــع المجتمــع بأهميــة البــذل‬

‫تشــيد‬ ‫والعطــاء‪ ،‬وبأهميــة أن يكــون ذلك في الدائرة التي ّ‬ ‫المســتقبل‪ ،‬كان جهــد اإلحســان‬ ‫متجهــا قبــل دعوتــه إلى‬ ‫ً‬

‫بناء المســاجد‪ ،‬فأعاد توجيه البوصلة جهة بناء المدارس‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫تكون األجيال الذهبية‪.‬‬ ‫والمعاهد التربوية التي ّ‬

‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معــا‪ ،‬قــادر على التمعن فــي الكائنات واإلنســان والحياة‬ ‫ً‬

‫التفويض واألخذ باألسباب‬

‫يلح األســتاذ على ضرورة األخذ باألســباب‪ ،‬شــريطة أن‬ ‫تكــون هــذه األســباب مشــروعة تراعــي الشــروط العامــة‬ ‫للتصــور اإلســامي‪ ،‬دون أن يغيــب عن دائرة نظره أنه ال‬ ‫ينبغي التدخل في شؤون الربوبية كما يقول‪ ،‬ألن اإلنسان‬

‫مســؤول عــن العمــل والحركية‪ ،‬أما النتيجــة من نجاح أو‬ ‫فشل فذلك من تقدير اهلل تعالى‪.‬‬

‫حرص األستاذ طيلة حياته على التنبيه بأن ما يتحقق‬

‫من منجز في طريق تحقيق االنبعاث واإلحياء هو بتوفيق‬

‫مــن اهلل تعالــى‪ ،‬وأن اهلل تعالــى يعطــي على قــدر ّنية العبد‬ ‫وتطلعــه‪ ،‬يقــول‪" :‬ينبغــي على اإلنســان أن يقــوم بوظيفته‬ ‫يتدخــل فــي لــوازم شــأن الربوبيــة‪ .‬الوظيفة‬ ‫وواجبــه‪ ،‬وال ّ‬

‫سجل التاريخ للمسلمين تطويرهم لنظام الوقف‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬

‫مســؤولية تقع علينا‪ ،‬والتوسل باألسباب هو مراجعة في‬

‫المســلمون جملــة قواعد وضوابــط لتدبير هذا النظام‪ ،‬قد‬

‫بجعل ذلك‬ ‫اهلل تعالــى ُيظهــر ُب ً‬ ‫خفيا من أســرار قدرته ْ‬ ‫عــدا ًّ‬

‫وطور‬ ‫صــارت أغلــب مناحي الحياة َّ‬ ‫تدبر بأموال الوقف‪ّ ،‬‬ ‫تصلح لهذا العصر‪ .‬وقد أعاد األستاذ إنتاج هذه القواعد‬ ‫وصياغتها وفق قوالب منهجية مرنة تستطيع التكيف مع‬ ‫طبيعــة الحياة المعاصرة التي تتميز بالتشــابك والتركيب‪.‬‬ ‫يتمثــل النجــاح هنــا فــي إعــادة االعتبــار للتاريــخ من‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حكم الدعوات المرفوعة إلى أبواب الحق تعالى‪ ...‬فإن‬ ‫عاديــا فــي إعمــار الدنيــا والعقبى‪ ،‬ووســيلة مرعية‬ ‫ً‬ ‫شــرطا ًّ‬

‫بــزر ســحري لعمليــة كهربيــة تضــيء العوالــم‪،‬‬ ‫وشــبيهة ٍّ‬

‫وشمســا في ذرة‬ ‫بحــرا في قطرة‪،‬‬ ‫وعالما في عدم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فيوجــد ً‬ ‫مــن عــدم‪ ...‬إن حكــم األســباب ‪-‬أو أي شــيء آخــر‪ -‬ال‬


‫ال شــك أن خطاب األستاذ خطاب مسكون بنربة آملة‬

‫يجيش في صدري من عظمة النبي ‪ ‬كما يليق بجوانب‬

‫وليــس نربة يائســة‪ ،‬فهــو يحرص عىل أن ُيشــعر‬

‫هــذه العظمة؟ إنني أســائل نفســي وأســائل جميــع الذين‬

‫متلقيه بأنه متيقّ ن بأن األفق مرشق وبأن املستقبل‬

‫يتصدون للتبليغ والدعوة‪ :‬هل استطعنا أن نشرح إلنسان‬

‫واعــد‪ ..‬إنه يســتمد هــذه الطاقــة مــن الخطاب‬

‫حبا تجيش به‬ ‫هذا القرن حبه ‪ ...‬حب ســيد الســادات ًّ‬

‫القرآين نفســه‪ ،‬ومن وجهه املطبق وهو السنة‬

‫القلــوب؟ هــل اســتطعنا أن نبهــر القلــوب واألرواح بهذه‬

‫النبويــة باعتبارها الوجه العميل للقــرآن الكريم‪.‬‬

‫العظمة‪ ،‬عظمته ‪‬؟"‪.‬‬

‫األبطال في قصة النجاح‬

‫تبــدأ قصــة نجــاح األســتاذ فتــح اهلل الحركية بهــذه اآلمال‬

‫طبقه في بداية المشــروع‬ ‫نجاعــة المنهــج التربــوي الــذي ّ‬

‫والتطلعــات مــع عصبــة مــن الشــباب الواعــد‪ ،‬من خالل‬

‫اإلصالحي‪ ،‬ومنها توفير الظروف المواتية للشباب حتى‬

‫ومربيــا‬ ‫روحيــا‬ ‫حــرص صــادق علــى أن يكــون لهــم ًأبــا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫يؤهلهــم‬ ‫يتفرغــوا للتحصيــل العلمــي والمعرفــي الــذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫أفــرادا قادريــن علــى المســاهمة فــي بنــاء الوطن‬ ‫ليكونــوا‬ ‫ً‬ ‫وتطويــره نحــو األفضــل‪ ...‬ومنهــا كذلــك حمايــة هــؤالء‬

‫وموجها‪ .‬لقد رباهم على حب الرسول ‪ ‬وعلى االقتداء‬ ‫ً‬

‫شــخصيا‪-‬‬ ‫بالصحابــة الكــرام ‪ ،‬مــن خالل اقتدائه ‪-‬هو‬ ‫ً‬

‫بسيرة الرسول ‪ ‬والتحلي بصفات الصحابة رضوان اهلل‬

‫الشــباب من أن تنزلق أقدامهم إلى شــتى أنواع االنحراف‬

‫عليهــم‪ ،‬ربمــا لم تكن هــذه العصبة تعرف الشــيء الكثير‬

‫األخالقــي والفكــري وإلــى العنــف بشــتى أنواعــه‪ .‬وقــد‬

‫عن طموحات األســتاذ وتطلعاته اإلنســانية‪ ،‬لكن األستاذ‬ ‫اللبنــات األساســية إليجــاد جيــل جديــد صنــاع للنهضة‪،‬‬

‫ليــس مــن الضــروري أن يعلــم كيفيــة التخطيــط والتنظيــر‬ ‫لتلــك النهضــة‪ ،‬لكنــه كان يعــرف أنــه ملــزم بفعــل الخيــر‬

‫راشدا‬ ‫والصالح وأن يســعى قدر مســتطاعه إلى أن يكون‬ ‫ً‬ ‫في حركيته‪ .‬لقد جعل الصدق مع اهلل والصبر على ذلك‬

‫شعار مرحلة رفع قواعد البناء والتشييد‪.‬‬

‫أدرك األستاذ فتح اهلل كولن منذ وقت مبكر حاجات‬

‫الواقــع‪ ،‬فحــدد األولويــات ورســم الخطــط فــي عالمــه‬

‫الداخلــي‪ ،‬وتســلح بالثقة فــي اهلل تعالى‬ ‫مســتحضرا روح‬ ‫ً‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ات‬ ‫القرآن وقوله تعالى‪ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫آم ُنوا َو َع ِم ُلوا َّ‬ ‫ين َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نفســه كان يعرف بأنه قد نذر حياته هلل‪ ،‬ومن أجل وضع‬

‫لعبــت هــذه المحاضن دور المدرســة اإلعدادية التي تعد‬

‫األطر التربوية التي أدارت باقتدار مرحلة توجيه الشــعب‬ ‫إلى بناء المدارس‪ ،‬وكانت هذه المخرجات هي المحرك‬

‫الذي أدار دوالب المدرسة والتعليم‪.‬‬

‫المدرسة حضن جيل األمل‬

‫آمــن األســتاذ فتــح اهلل كولن منذ البدايــات األولى لعمله‬ ‫اإلصالحــي‪ ،‬بــأن أنجــع وســيلة وأقربهــا إلــى اإلصــاح‬

‫هــو تكويــن أجيــال قادرين علــى إدراك حقيقــة وجودهم‬ ‫ووظيفتهــم التــي ُخلقــوا مــن أجلها‪ ،‬وقادريــن في الوقت‬

‫نفســه علــى ممارســة عبوديتهــم هلل ‪ ‬في دائــرة اإلعمار‬ ‫والبنــاء‪ ،‬وال ســبيل للوصــول إلــى هــذا المســتوى ســوى‬ ‫بإيجاد مدرسة وفق مواصفات محددة‪.‬‬

‫ســيجعل لهــم‬ ‫ــن ُو ًّدا‪(‬مريــم‪ .)96:‬لــم يكن األســتاذ‬ ‫الر ْح َم ُ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َّ‬ ‫فتــح اهلل كولــن يتطلــع إلى هــذا الود من أجــل الحصول‬

‫منصبــا علــى البحــث عــن‬ ‫لقــد كان حــرص األســتاذ‬ ‫ًّ‬

‫ربه في أن يفتح القلوب‪ ،‬ولذلك وبعد مضي فترة‬ ‫يوفقه ّ‬

‫أفراده يستشعر دوره الحاسم في عملية البناء‪ ،‬من خالل‬

‫علــى مركز اجتماعي أو شــهرة‪ ،‬بــل كان يأمل ويرجو أن‬

‫محاضن الطلبة‪.‬‬

‫كانــت محاضــن الطلبــة فــي مرحلــة مــا‪ ،‬مــن مراحل‬

‫عمــل األســتاذ الحركــي‪ ،‬تلبي جملة حاجــات منها ضبط‬

‫وعي عام أو وعي جمعي يجعله يستشعر دوره في مقدمة‬

‫الصفوف على أنه هو المسؤول األول عن إعادة االعتبار‬ ‫جزءا‬ ‫للذات بربطها بمرتكزات الثقافة الذاتية‪ ،‬وجعل ذلك ً‬

‫مــن تحقيــق مبدإ العبودية إن لم تكن هــي عين العبودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫مــن الزمن‪ ،‬ركــز اهتمامه بمعية تلك العصابة على افتتاح‬

‫الســبل التــي تجعــل المجتمــع بجميــع فئاتــه وبجميــع‬

‫‪61‬‬


‫على الشــعور اإلســامي‪ ،‬والمنطق اإلسالمي‪ ،‬وأسلوب‬

‫واســتحضار تفاصيل حياتهم حتى تكون المصباح الذي‬

‫الخطاب اإلسالمي وروح التارخ‬

‫إن مفهوم األســتاذ فتح اهلل كولن للتاريخ متعدد األبعاد‪،‬‬

‫يشــد الذات إلى إعادة صياغــة واقع اليوم‪ .‬بعبارة أخرى‬ ‫ّ‬

‫محاكمته العقلية"‪.‬‬

‫ومــن أبعــاده بنــاء جيــل جديــد قــادر علــى الوصــول إلــى‬

‫دائما في خطابه اإلصالحي‬ ‫حافظ األستاذ فتح اهلل كولن ً‬

‫مســتوى األفق اإليماني والحركــي الذي وصله الصحابة‬

‫علــى روح الرؤيــة اإلســامية‪ ،‬فجعل هذا الخطــاب ثاب ًتا‬

‫الكــرام ‪ .‬لقــد عــاش الصحابــة بتوجيــه مــن مرشــدهم‬

‫فــي مبادئــه‪ ،‬لكنه مرن في أســاليب تنزيل المبادئ‪ ،‬وقادر‬

‫وأســتاذهم وبمــا قذفه نور النبــوة في جوارحهم‪ ،‬من فكر‬

‫علــى‬ ‫التكيــف مــع طبيعة الواقــع‪ ،‬ولذلك يمكــن القول‬ ‫ّ‬

‫إســامي وتصور إسالمي بشموليته وروحانيته وواقعيته‪،‬‬

‫بأن األســتاذ فتح اهلل كولن‪ ،‬قد طور الخطاب اإلســامي‬

‫فاقتربوا من الوجود والحوادث بســياق إســامي‪ ،‬فكانت‬

‫في اتجاهين‪:‬‬

‫كل محاكماتهــم منطلقــة مــن هذا الفكر اإلســامي الذي‬

‫• االتجاه األول ينظر إلى الواقع المحلي وإشكاالته‬

‫تشــربته أرواحهــم‪ ،‬وكانــت كل حركيتهــم قائمــة علــى‬

‫المســتعصية‪ ،‬ومــا يتطلبــه هــذا الواقــع مــن حلــول تنهــي‬

‫التصور اإلسالمي‪.‬‬

‫زمن العقم‪ ،‬وتعيد قاطرة الشــهود الحضاري إلى الســكة‬

‫وتحقي ًقا لهذه الغاية العظيمة ال ينبغي في نظر األستاذ‬

‫الصحيحة‪.‬‬

‫أن تكــون الســيرة النبوية وســيرة الصحابــة مجرد أحداث‬

‫• وأمــا الوجــه الثانــي لهــذا الخطــاب فيطــل علــى‬ ‫ا بذلــك أحــد أهــم المرتكــزات‬ ‫اإلنســانية كلهــا‪ ،‬مفعــ ً‬

‫‪ ‬بعث للعالمين‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ال ينبغــي الظــن بأن وجهي هذا الخطاب متعارضين‪،‬‬

‫‪60‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫دينا للعالمين‪ ،‬ألن الرســول‬ ‫المؤسســة لإلســام باعتباره ً‬

‫خاليــة مــن الحيــاة والمعنــى‪ ،‬ألنهــا حققــت االستشــعار‬

‫فالتعقل بالكائنات واإلنســان والحياة بمعلومات سليمة‪،‬‬

‫مناســبة لألمــر نفســه‪ ،‬ثابتــة المحور فــي مبدئهــا وغايتها‪.‬‬

‫هــذا الخطاب عند األســتاذ فتــح اهلل كولن محل األحالم‬ ‫والشــعارات‪ ،‬بــل هــو محــل التطلعات العمليــة والخطط‬

‫بــل همــا متكاملين‪ ،‬رغــم أن الحكمة وإكراهــات الواقع‬

‫والمشاريع القابلة لإلنجاز والتنزيل‪.‬‬

‫مــن خــال الوجــه األول قبل الوجه الثانــي‪ ،‬وقد يختلف‬

‫نفســه قبــل غيــره برياضة روحيــة متطلعة إلى تمثل ســيرة‬

‫الموظف‪ ،‬لكنهما وجهان للعملة الذهبية الواحدة‪.‬‬

‫‪ ‬مفخرة اإلنسانية"‪" :‬إن تسليط األضواء على شخصية‬

‫قــد فرضت بروز الخدمــة باعتبارها حركة مجتمع مدني‬

‫يجد المتأمل في حياة األستاذ فتح اهلل كولن أنه ألزم‬

‫الوجهــان فــي طبيعة المفاهيم الموظفــة وطبيعة الخطاب‬

‫الرسول ‪ ،‬يقول في مقدمة كتاب "النور الخالد‪ :‬محمد‬

‫ال تتعلــق القضيــة فــي نظر األســتاذ بمجــرد منجز هنا‬

‫كمنقذ‬ ‫الرسول ‪ ‬السامية‪ ،‬وشرحها وبيانها‪ ،‬ثم تقديمها ُ‬

‫هنــاك‪ ،‬أو بفتــح بضع مدارس أو عقــد منتديات للتفكير‬

‫ولألمــراض غيــر القابلة للشــفاء‪ ،‬وإظهار هذه الشــخصية‬

‫إعــان نفيــر عام‪ ،‬إلى درجة أن يصير ذلك نبض مجتمع‬

‫وهاجســا مــن هواجس فكري‬ ‫لــدي ‪-‬كمــا عنــد كثيرين‪-‬‬ ‫ً‬

‫المجتمع منذ نعومة أظافرهم‪.‬‬

‫اســتطعت أن أشــرح‬ ‫إليكــم‪ ،‬أو أعنيكــم؟ ما بالي أنا؟ هل‬ ‫ُ‬

‫ومحاولــة هنــاك‪ ،‬أو بالتفكير في مشــروع هنا أو مشــروع‬

‫للبشــرية‪ ،‬وكإكســير للمشــاكل المســتعصية علــى الحــل‪،‬‬

‫والتأمــل هنــا أو هنــاك‪ ...‬إنهــا أكبــر من ذلــك‪ ،‬إنها قضية‬

‫الســامقة وســيرتها بمــا هــي أهــل لــه‪ ،‬كان رغبــة ملحــة‬

‫بكامله بمختلف فئاته‪ ،‬وأن يصير‬ ‫حليبا يرضعه أبناء هذا‬ ‫ً‬

‫ومشــاعري"‪ ،‬ويقول مح ّف ًزا نفســه‪" :‬ولكن ما بالي أشــير‬

‫الرجوع إلى التاريخ ‪-‬بالنسبة لألستاذ فتح اهلل كولن‪-‬‬

‫جوانــب عظمتــه كمــا يجــب‪ ،‬وأكشــف معالــم شــخصيته‬

‫الكــرام ‪ ،‬ليــس مــن أجــل ترديدهــا‬ ‫قصصــا بطوليــة‬ ‫ً‬ ‫ُتــروى للفتيــان‪ ،‬بــل مــن أجــل االقتــداء بهــؤالء األبطال‪،‬‬

‫مــن عمــري‪ ،‬وأنــا الــذي وضعــت الطــوق حــول عنقــي‬ ‫طميــرا" له‪ ،‬هل اســتطعت أن ُأ ْشــعركم بما‬ ‫لكــي أكــون " ِق‬ ‫ً‬

‫يعنــي الرجــوع إلــى ســيرة الرســول ‪ ،‬وســيرة الصحابة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كما ينبغي؟ أنا الذي أضع جبهتي للصالة منذ الخامســة‬


‫"الخدمة" من أنجح التجارب التي ترتكز عىل الفاعلية‬

‫نمط حياة‬ ‫مــن ذلــك بكثيــر؛ فالخدمة فــي الوقت الراهــن ُ‬

‫الحركية‪ ،‬وهي تجربــة منوذجية‪ ،‬جديرة باالهتامم‬

‫عيش ينخرط فيه العديــد من فئات المجتمع‪،‬‬ ‫وأســلوب ٍ‬

‫وبالدراســة‪ ،‬وجديرة بأن يتخذ أبــو الحركة الروحي‬

‫مــن أجــل مصلحة المجموع‪ ...‬إنها وعي جمعي إيجابي‬

‫ومؤسســها الفعيل األستاذ فتح الله كولن قدوة‬

‫آخذ في االنتشار‪ ،‬بل هي تيار عالمي ألنها منفتحة على‬

‫يف مجال اإلصالح وبناء رصيد من العمل اإليجايب‪.‬‬

‫العالم كله من خالل أنشطة كثيرة أهمها التربية والتعليم‪،‬‬ ‫تربيــة تقــوم علــى عنصر مركزي هو نشــر القيم اإلنســانية‬ ‫الســامية‪ ،‬المرتكــزة على التســامح وعلى احترام إنســانية‬

‫لحقيقــة الوجــود‪ ،‬ونجاحــه ‪ ‬فــي تكويــن نماذج بشــرية‬

‫اإلنســان‪ ،‬واحتــرام المحيــط الــذي يعيــش فيــه‪ .‬وهــي ال‬

‫ســامقة كالصحابــة رضــوان اهلل تعالــى عليهــم‬ ‫جميعــا‪،‬‬ ‫ً‬

‫َت ّدخــر‬ ‫جهــدا بفضــل إلحاح فتــح اهلل كولن المســتمر من‬ ‫ً‬

‫الذيــن أدركــوا مــن خــال أســتاذهم ‪ ‬أنهــم فــي حاجــة‬

‫أجــل غــرس هذه القيم‪ ،‬وإيجاد جيل إنســاني جديد يعيد‬

‫إلــى أن تعــزف قلوبهــم وجوارهــم إيقــاع التوحيد بشــتى‬

‫التوازن للعالم‪.‬‬

‫الســبل والوســائل فــي كافة مجــاالت الحيــاة‪ ،‬وأن يبلغوا‬

‫اإلنسان المشكلة‪ ،‬اإلنسان الحل‬

‫هــذا اإليقــاع إلــى أقصى نقطة يســتطيعون الوصول إليها‪.‬‬

‫لقــد أدرك األســتاذ فتــح كولــن منــذ وقــت مبكــر أن أكبر‬

‫لقــد جعلهــم الرســول ‪ ‬يدركون أنهم ينبغــي أن يكونوا‬

‫مشــكل يواجــه المجتمعات اإلســامية ‪-‬بــل العالم كله‪-‬‬

‫مبلغيــن ومربيــن وأســاتذة للعالميــن‪ ،‬ألن أســتاذهم ‪‬‬

‫ومنســجمة مــع مكونــات الوجــود؛ ولمــس بإحساســه‬

‫تمثل األســتاذ فتح اهلل كولن هذه األبعاد وغيرها في‬

‫هو مشكل "اإلنسان الصالح" الذي يتحرك حركة متوازنة‬

‫"اإلنسان"‪ ،‬وأن حضارة المجتمع الصالح متصلة بصالح‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المرهــف وروحانيتــه العاليــة أن المشــكلة تكمــن فــي‬

‫أرسل للعالمين‪.‬‬

‫شــخصية الرســول ‪ ‬فأدرك أن حاضر العالم اإلســامي‬

‫ومســتقبله ال يتحقــق بغيــر تمثــل حقيقــي وصحيــح‬

‫اإلنسان‪ ،‬وأن الحضارة اإلسالمية كانت قادرة على العطاء‬

‫لمختلف جوانب سيرته وسنته ‪ .‬فبغير الرجوع الفعلي‬

‫الحــس روحانيــة التطلــع‪ ،‬مشــدودة إلــى األفــاق العالية‪،‬‬

‫وهــو مــا يحتم عليها إعادة اكتشــاف ذاتهــا بالتعرف على‬

‫عــن النظــر حقيقــة واضحــة وهي أنــه يبدي مقــدرة كبيرة‬

‫ال حالــة االنحراف التــي وصلتها‬ ‫فيهــا‪ ،‬حيــث يقــول مح ّل ً‬

‫يستند إلى صاحب القدرة الالنهائية ينقلب مِن َقطْ رة إلى‬

‫إلــى معالــم ينفطر لها القلب في برزخ ضعف المنتســبين‬

‫لقــد كان الرســول ‪‬‬ ‫نموذجا لإلنســان الكامل الذي‬ ‫ً‬

‫الفكر المســلم والمنطق المسلم‪ ،‬وتباطؤهما وخمودهما‬

‫واإلبــداع عندمــا كانــت تتوفر علــى نماذج بشــرية مرهفة‬

‫إلــى قيم اإلســام ال أمل في انصــاح حاضر هذه األمة‪،‬‬

‫يقــول‪" :‬اإلنســان كائــن عاجز بحد ذاتــه‪ ،‬ولكنه ال تخفى‬

‫حقيقة البعد اإلنســاني فيها‪ ،‬أي أن تدرك معنى اإلنســان‬

‫عندما يســتند إلى صاحب القدرة الالنهائية‪ .‬أجل‪ ،‬عندما‬

‫الــذات‪" :‬تعــرض اإلســام منــذ حرمنا مــن إرث األرض‬

‫متســول إلى ســلطان"‪.‬‬ ‫ذرة إلى شــمس‪ ،‬ومِن‬ ‫ســيل‪ ،‬ومِن ّ‬ ‫ّ‬

‫إليه وتعدي خصومه وعدم إنصافهم‪ ...‬ال ينكر أن اهتزاز‬

‫اصطفاه اهلل تعالى‪ ،‬ليكون قدوة لإلنســانية في ســعيها إلى‬

‫إعمــار األرض وفــق المســلك الــذي يرضــاه تعالى‪ .‬وقد‬ ‫‪ ‬علــى أنهــا الغايــة والهــدف الــذي يتحتــم التمســك بــه‬ ‫بغــرض الوصــول إلــى تجــاوز أزمــة الــذات اإلنســانية‬

‫والحضارية‪ ،‬يســتمد هذا االقتداء مشــروعية عند األستاذ‬

‫فيمــا يترتــب على االصطفاء‪ ،‬وهو الفهم العميق والدقيق‬

‫المستقيم ذي الهدف القرآني والفلك النبوي‪ ...‬وحجب‬ ‫ضــوء الشــمس عــن عالمية اإلســام‪ ،‬وعطــل أداء وظيفة‬ ‫الديــن المحيــط بالعالــم‪ ...‬إن إزالــة هــذا االنحــراف‬

‫الهــرم‬ ‫الماد جــذوره إلى عصور خلــت‪ ،‬المدعوم بالعلم‬ ‫ّ‬ ‫والتكنولوجيا في عصرنا‪ ،‬هو بحاجة إلى اكتشاف أنفسنا‬

‫مــن جديــد‪ ،‬والعثــور علــى ذاتنــا‪ ،‬وتعرفنا ‪-‬كــرة أخرى‪-‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫نظر األســتاذ فتح اهلل كولن لشــخصيته النبوية واإلنســانية‬

‫وتكدرهمــا وفســادهما‪ ،‬قــد أبعد المســلمين عن الصراط‬

‫‪59‬‬


‫عن مقومات الذاتية الثقافة‪ .‬كانت المشاريع اإلصالحية‬

‫الذين اســتطاعوا تجاوز عقدة الصراع واســتبطنوا الذات‬

‫ومجرد أحالم وأشواق موغلة في المثالية‪.‬‬

‫تجاوز التنظير إلى اإلنجاز‪.‬‬

‫تمكنوا من‬ ‫ولمســوا هويتهــا الثقافيــة مالمســة فعليــة‪ ،‬قــد ّ‬

‫مجــرد اقتراحــات مفتقــرة إلــى خطــط للتنزيــل والتفعيل‪،‬‬ ‫حــاول بعــض مــن كان بيدهــم ســلطة القــرار إدخــال‬

‫امتحان اإلنجاز في الفكر اإلصالحي المعاصر‪ ،‬أكبر‬

‫عســكرية تضاهــي عســكرية اآلخــر األوربــي‪ .‬حدث هذا‬

‫الراهن هو امتحان المنجز الحضاري‪ ،‬واألساس الفكري‬

‫امتحان يواجه اإلصالح في العالم اإلســامي في الوقت‬

‫إصالحــات في المجال العســكري والصناعي‪ ،‬وبناء قوة‬

‫الــذي يرتكــز عليــه‪ .‬بعبارة أخــرى إن أســئلة المرحلة في‬

‫مــع بعض الســاطين فــي تركيا‪ ،‬ومع محمد علي باشــا‬

‫مجــال اإلصــاح يجب أن تركز على مــا أنجز وعلى أي‬

‫فــي مصر‪ ،‬وكذلك حاول خير الدين التونســي في تونس‬

‫أساس أنجز وآفاق المنجز اآلنية والمستقبلية‪ ،‬وأن تركز‬

‫فــي المجــال البحري‪ ...‬لم يكن فــي مقدور هؤالء لمس‬

‫كذلك مناهج اإلبداع في تحويل الفكري إلى حركية‪.‬‬ ‫"الخدمــة" ‪-‬أو ِ‬ ‫"ه ْز َمت" حســب التعبيــر التركي‪ -‬من‬

‫نظــروا لهذه‬ ‫عمــق األزمــة‪ ،‬فاختزلــت عندهــم وعنــد من ّ‬

‫اإلصالحــات في مجرد تقنيات ومهارات ينتج اكتســابها‬

‫أنجح التجارب التي ترتكز على الفاعلية الحركية‪ ،‬وهي‬

‫إنهاء األزمة وعودة الشهود الحضاري‪.‬‬

‫ومــن جهــة ثانية فــإن بعض الذين قاربــوا حقيقة أزمة‬

‫تجربــة نموذجية‪ ،‬جديــرة باالهتمام وبالدراســة‪ ،‬وجديرة‬

‫جليلــة‪ ،‬هــي إنتاج األفكار لتجاوز أزمة الذات‪ ،‬لكن هذه‬

‫فتح اهلل كولن‪ ،‬قدوة في مجال اإلصالح وبناء رصيد من‬

‫بأن يتخذ أبو الحركة الروحي ومؤسســها الفعلي األستاذ‬

‫تصرفوا باعتبارهم نخبة اجتماعية تؤدي مهمة‬ ‫المسلمين‪ّ ،‬‬ ‫األنانيــة المعرفيــة‪ ،‬فلــم تر وجوب نــزول النخبة بالمعرفة‬

‫اإلصالحية من مســتوى النظر إلى مســتوى التفعيل‪ ،‬ولم‬

‫تنخــرط فــي عمــق المجتمــع إلحــداث التغييــر‪ ،‬وحتــى‬ ‫عندمــا اتجهــت تريــد نشــر تصوراتهــا الفكريــة اختــارت‬

‫نخبــة ضيقــة للقيــام بذلــك‪ .‬فحكــم على أغلب مشــاريع‬ ‫اإلصــاح بالبقــاء حبيســة نخــب عاجــزة عــن الوصــول‬

‫إلى شــرائح واســعة‪ ،‬وعندما شــعرت هذه النخبة بأهمية‬ ‫االلتحــام مــع المجتمع اختارت ‪-‬مع األســف‪ -‬العمل‬

‫السري ولم تستطع الخروج إلى العلن‪.‬‬

‫فــي مجــاالت مختلفة‪ ،‬لكــن أهمها هو المجــال التربوي‬ ‫الــذي ظــل طيلــة حياتــه يعمل علــى صقل منهجــه وعلى‬

‫تطوير مقدراته‪ ،‬حتى استقام عوده وصار اليوم عالمة أو‬ ‫ماركة عالمية حاضرة في أكثر من ‪ 160‬دولة‪.‬‬

‫ال مجانبــة للصــواب إن قيــل بــأن أغلــب الحــركات‬

‫دائما محط شك بالنسبة للقوى العالمية‬ ‫اإلسالمية كانت ً‬ ‫وخاصــة أوربا وأمريكا؛ فقــد عجزت هذه الحركات عن‬

‫بنــاء رصيــد من الثقة لدى هذه القوى‪ ،‬وهو ما أبقى حدة‬

‫ال مبالغة إذا قيل بأن أغلب مشاريع اإلصالح كانت‬

‫القمة‪ ،‬وقد كان هذا العامل أحد األسباب المباشرة التي‬

‫تتمكــن مــن بنــاء خطاب يســمح لآلخر باالنفتــاح عليها‪،‬‬

‫ساهمت في بروز البعد األيديولوجي في بعض مشاريع‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫راكم األســتاذ على مدى خمســين سنة خلت النجاح‬

‫قائمــا إلى اليوم‪ ،‬يرجع ذلــك إلى طبيعة الخطاب‬ ‫التوتــر ً‬

‫مسكونة بهموم الحكم والسلطة وإلحاح فكرة التغيير من‬

‫‪58‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النخبــة صعــدت إلــى برج عاجــي وأحاطت نفســها بهالة‬

‫العمل اإليجابي‪.‬‬

‫الــذي انبنــت عليــه أدبيــات بعض هــذه الحــركات‪ ،‬إذ لم‬ ‫وظلــت بفعــل عقــدة اآلخــر عاجــزة عــن تبنــي خطــاب‬

‫اإلصالح والتغيير‪ ،‬وخاصة خالل العقود الثالثة األخيرة‬ ‫مــن القــرن العشــرين‪ِ ،‬لتخلــق الحــدث خــال مرحلــة ما‬

‫فطور‬ ‫فتح اهلل كولن من مواطن الخلل في هذا الخطاب‪ّ ،‬‬

‫جدا قد يعيد أجوبة اإلصالح إلى نقطة الصفر‪.‬‬ ‫عسير ًّ‬

‫على المجتمع اإلنساني كله‪.‬‬

‫بات يعرف بـ"الربيع العربي"‪ ،‬و ِلتجد نفسها أمام امتحان‬ ‫قــد تشــعر هــذه الصــورة القاتمة بانســداد األفق‪ ،‬لكن‬

‫الصــورة ليســت بهــذه القتامــة وليســت بهــذا العجز‪ ،‬ألن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مطمئن تستطيع تسويق نفسها من خالله‪ .‬استفاد األستاذ‬ ‫منفتحا‬ ‫نابعا من مرتكزات الثقافــة الذاتية‪،‬‬ ‫خطابــا أصيــ ً‬ ‫ً‬ ‫ا ً‬ ‫ً‬ ‫إن الخدمــة ليســت مجــرد تيــار حركــي‪ ،‬وال مجــرد‬

‫تيــار فكــري نجح فــي تفعيل رؤيته الفكريــة‪ ،‬بل هو أكبر‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬محمد جكيب*‬

‫التغيير الناجح‬

‫لمحات من المنجز في رؤية األستاذ فتح الله كولن‬ ‫أحست أقطار العالم اإلسالمي بأنها‬ ‫منذ ّ‬

‫فقدت الشهود الحضاري‪ ،‬وتخلفت عن‬ ‫ركــب التطــور بمســافة طويلــة‪ ،‬تحركــت‬

‫آلــة التفكيــر في أســباب األزمة والعطل الــذي ولّد العقم‬ ‫اإلبداعي لدى المسلمين‪ .‬منذ ذلك الحين أثيرت اآلالف‬

‫مــن األســئلة‪ ،‬وبرزت أجوبــة عديد ومشــاريع إصالحية‬

‫متطلّعة إلى التغيير‪ ،‬لكن األســئلة المثارة على مدى قرن‬

‫إن "اإلنســان الجديد" الذي يبرش به األستاذ والذي‬ ‫بــدأت طالئعــه األوىل تلــوح يف األفــق‪ ،‬يحتضن‬ ‫الوجــود كله‪ ،‬بــل يعترب ذلــك من أوجــب واجباته‪..‬‬ ‫ً‬ ‫دامئا للهجرة من أجل‬ ‫فـ"جيل األمل" هذا مســتعد‬ ‫احتضان هذا اإلنسان يف كل مكان يف هذا العامل‪،‬‬ ‫غري آبه بالبعد عن الوطن واألهل‪ً ،‬‬ ‫تاركا خلفه الوطن‬ ‫ومضح ًيا بكل ما يشده إىل الدنيا‪.‬‬ ‫واألحباب‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ونصــف أو قرنييــن من الزمن تفيد بأن العقل اإلصالحي‬

‫وتأخر الـ"أنا" المسلم؛ بمعنى أن طبيعة السؤال‬ ‫المسيحي ّ‬ ‫كانــت تبطــن بعــض أنانيــة تميل إلــى الظن بــأن الحضارة‬ ‫ســرقت من المســلمين ومن عالمهم‪ ،‬وقد سرقها اآلخر‪.‬‬ ‫مثــارا فــي حضــرة هــذا "اآلخر"‬ ‫ظــل تشــريح األزمــة ً‬

‫متجهة إلى الــذات وإلى‬ ‫علــى النــاس‪ .‬لــم تكــن األســئلة ّ‬ ‫مــا يرتبــط بها‪ ،‬وأما األجوبــة المقترحة فكانت تحمل في‬

‫طياتها الفشل الستحضارها إشكالية الصراع مع نموذج‬

‫قام على أساس مادي‪ ،‬وعلى مقومات تختلف بالضرورة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫كان مسكو ًنا في الغالب َبه ّم البحث عن علة تقدم "اآلخر"‬

‫تفوق على المســلمين وســرق شهودهم الحضاري‬ ‫الذي ّ‬

‫‪57‬‬


‫"قصــص مــن واقع الخدمة تفــوق الخيال" كما روى‬

‫حبهم واحترامهم الشــديد لألســتاذ كولن‪ ،‬ومن‬ ‫الخدمة‪ّ ،‬‬

‫العــم رمضــان‪،‬‬ ‫وعربــة‬ ‫كقصــة علــي‪ ،‬وصاحبــة َّ‬ ‫ّ‬ ‫الديــن‪َ ،‬‬ ‫وغيرهــا من القصص التــي توضح لحظات االختيار بين‬

‫أحــد مؤلفاتــي ألحدهــم (ال أريــد أن أذكــر اســمه‪ ،‬فأنــا‬

‫بعضهــا الدكتــور محمد باباعمي في كتابه "ذى قربتي"(‪،)4‬‬

‫قمت بإهداء‬ ‫مظاهر هذا الحب التي‬ ‫لمستها بنفسي‪ ،‬أنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫وجئت أنه يقول لي "اكتب‬ ‫أعــرف أنــه ال يحب ذلك)‪ ،‬ف ُف‬ ‫ُ‬

‫المصلحــة والواجب‪ ،‬وبيــن اإلنفاق والبخل‪ ،‬وبين الدنيا‬

‫اإلهداء على صفحات الكتاب لألســتاذ‪ ،‬وسوف أوصله‬

‫واآلخرة‪.‬‬

‫له في أمريكا حيث مكان إقامته الحالية"‪.‬‬

‫شاهدت بعيني العديد من المدارس والجامعات‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫فــي إســطنبول وبورصــة‪ ،‬وكذلــك فــي ِتيرانــا (عاصمــة‬

‫دائمــا بكلماتــه‬ ‫تالميــذ األســتاذ كولــن يستشــهدون ً‬ ‫يحدثونــك عــن مواقــف‬ ‫وأفــكاره‪ ،‬كلمــا‬ ‫جلســت معهــم ّ‬ ‫ُ‬

‫وثمارا لمشــروع "الخدمة"‪،‬‬ ‫أزهــارا‬ ‫ألبانيــا)‪ ،‬والتــي تعتبر‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫األستاذ وعطائه لكل َمن يعرف أو ال يعرف بال حدود‪...‬‬

‫أيضا ليســت كالمدارس العادية التي نشــاهدها في‬ ‫وهــي ً‬

‫أنــا لــم أقابل األســتاذ ولو مــرة واحدة فــي حياتي‪ ،‬ولكن‬

‫جمعت بين تعليم اللغة العربية‬ ‫أماكن أو بالد أخرى‪ ،‬فقد‬ ‫ْ‬

‫والقرآن الكريم إلى جانب أحدث المعارف اإلنسانية‪.‬‬

‫رأيته في كل تالميذه ومحبيه وكل‬ ‫أستطيع أن ّ‬ ‫أوكد أنني ُ‬

‫أخبرت أنها‬ ‫سألت عن عدد تلك المدارس‪،‬‬ ‫وعندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫فهنيئا لألستاذ بأزهار‬ ‫َمن ينتســب إلى مشروع "الخدمة"‪.‬‬ ‫ً‬

‫وستين دولة‬ ‫تزيد عن أل َفي مدرسة تنتشر في حوالي مائة ّ‬

‫"الالله" التي زرعها في حدائق اإليمان‪.‬‬

‫بقارات المعمورة المختلفة‪.‬‬

‫مــن الطلبــة‪ ،‬ليــس فقــط علــى المســتوى المــادي‪ ،‬ولكن‬ ‫األهم واألبقى‪ ،‬على مستوى رعاية التربية والسلوك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫بسيطا من مشاهد تلك الرعاية والعناية؛‬ ‫مشهدا‬ ‫رأيت‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫دعيــت أنــا وبعــض الزمــاء لتنــاول وجبة العشــاء‬ ‫عندمــا‬ ‫ُ‬ ‫فــي شــقة يقطنهــا بعــض طلبــة الجامعــات بإســطنبول في‬

‫األعزاء‪،‬‬ ‫التقيــت بهــؤالء األبنــاء‬ ‫إطــار مشــروع الخدمــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وتغيــرت العديــد مــن‬ ‫واســتمعت منهــم كيــف تأ ّثــروا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫سلوكياتهم إلى األفضل‪ ...‬كيف أصبحوا يعتمدون على‬ ‫متحابين متعاونين‪.‬‬ ‫معا كإخوة‬ ‫أنفسهم ويتعايشون ً‬ ‫ّ‬ ‫لقــد عرفــت ِمن بعضهــم أنهم عندما يــزورون ذويهم‬ ‫مــن حيــن آلخــر‪ ،‬فإن اآلبــاء واألمهات يشــعرون بالتغيير‬

‫الملحوظ في سلوكيات هؤالء األبناء‪ .‬لقد أصبحوا أكثر‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫تحســنت وارتقــت ســلوكياتهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اعتمــادا علــى أنفســهم‪ّ ،‬‬

‫‪56‬‬

‫إنهم يسيرون في الطريق الصحيح‪.‬‬

‫نسيت أن أقول لكم إنني في تلك الليلة الممتعة مع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أيضا إلى رعاية الكثير‬ ‫يمتد ً‬ ‫إن دور مشــروع الخدمة ّ‬

‫وقفــت طالبة تركية‬ ‫فــي محاضــرة لي بمدينة بورصة‪،‬‬ ‫ْ‬

‫ســلبيا مــن حركــة‬ ‫تســألني‪" :‬لمــاذا ي ِقــف البعــض موق ًفــا‬ ‫ًّ‬

‫عرف‪...‬‬ ‫فأجبتهــا‬ ‫الخدمــة؟"‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫مبتســما‪" :‬يــا ّ‬ ‫بنيتى! مــن ذاق َ‬

‫هم لم يذوقوا‪ ،‬فأ ّنى لهم أن يعرفوا؟!"‪.‬‬

‫هــي زهــرة‪ ،‬ولكنها ليســت مثل باقي األزهــار‪ ...‬كما‬

‫كأي رجال" ‪.‬‬ ‫أنهم "رجال وال ّ‬ ‫(‪)5‬‬

‫(*)‬

‫كلية اآلثار‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫(‪ )1‬مقتبــس عــن كتاب األســتاذ فريــد األنصاري بنفــس العنوان‪ ،‬ويقصد‬ ‫كأي رجال‪ ،‬أ‪.‬د‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تحديدا رجال وفرســان الخدمة‪( .‬انظر‪ :‬رجال وال ّ‬ ‫فريد األنصاري‪ ،‬دار النيل‪ ،‬القاهرة ‪.)2013‬‬

‫(‪)2‬‬

‫مقال "حبيبتى يا زهرة الالله" محمد باباعمي‪ ،‬مجلة حراء‪ ،‬العدد‪37:‬‬ ‫(يوليو‪-‬أغسطس ‪.)2013‬‬

‫(‪ )3‬فتح اهلل كولن‪ ..‬رائد النهضة الراشــدة في تركيا المعاصرة‪ ،‬أ‪.‬د‪ .‬عبد‬ ‫الحليم عويس‪ .‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2013‬‬ ‫(‪ )4‬ذي قربتــي‪ ..‬مقــاالت وخواطــر وقصــص مــن واقــع الخدمة‪ ،‬محمد‬

‫أكلت طعام العشــاء وهــو طبق "المقلوبة"‬ ‫هــؤالء األبناء‪،‬‬ ‫ُ‬

‫باباعمي‪ ،‬دار النيل‪ ،‬القاهرة ‪.2013‬‬ ‫ّ‬

‫الرائعة كانت من صنع أيديهم‪.‬‬

‫المغربــي المرحــوم فريد األنصاري حول رجال الخدمة‪ ،‬ونشــر هذا‬

‫المعــروف فــي تركيــا‪ ،‬وكانــت دهشــتي أن تلــك المأدبــة‬ ‫إن ما لفت نظري عندما تعاملت مع فرســان ورجال‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫(‪)5‬‬ ‫كأي رجــال" هــو مقــال ألّفــه العالــم الفاضــل األديــب‬ ‫"رجــال وال ّ‬

‫المقال في مجلة حراء‪ ،‬العدد‪( 13:‬أكتوبر‪-‬ديسمبر ‪.)2008‬‬


‫أنا مل أقابل األســتاذ ولو مــرة واحدة يف حيايت‪،‬‬

‫"لمــاذا يهتم األتراك بتلك الزهرة بالذات؟ ولماذا أخذت‬

‫ولكن أســتطيع أن ّ‬ ‫أوكد أنني رأيتُه يف كل تالميذه‬

‫هــذه المكانــة فــي رؤيــة وفكــر الحضــارة العثمانيــة‪ ،‬وفي‬

‫ومحبيه وكل َمن ينتســب إىل مــروع "الخدمة"‪..‬‬

‫العديــد مــن فنونهــم المرئيــة أو المســموعة؟"‪ ،‬وكأن هذا‬

‫فهني ًئا لألســتاذ بأزهــار "الالله" التــي زرعها يف‬

‫الصديــق أراد أن يقــول لــي أنها زهــرة كأي زهرة أخرى‪،‬‬

‫حدائق اإلميان‪.‬‬

‫فلماذا تلك المكانة واألهمية؟ قلت له‪" :‬نعم أخي العزيز‬ ‫هــي زهــرة‪ ،‬ولكنهــا ليســت مثــل باقــي األزهــار‪ ،‬كمــا أنه‬

‫يوجد "رجال وال كأي رجال"(‪.)1‬‬

‫تنفيذا لقوله تعالى‪:‬‬ ‫"التلطف"‬ ‫الدعوي التربوي‪ ،‬هو مبدأ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫فزهــرة "الاللــه" ترمــز فــي فكــر الحضــارة العثمانيــة‬

‫‪‬و ْل َي َت َل َّط ْف‪(‬الكهــف‪ ،)3()19:‬الكلمــة التــي تتوســط القــرآن‬ ‫َ‬

‫إلــى الحــب اإللهي‪ ،‬ألن حروفها هي نفس حروف اســم‬

‫الكريم‪.‬‬

‫الجالله "اهلل"(‪ ،)2‬من هنا نجد انتشار استخدامها في فنون‬

‫التقيــت بعــض هــؤالء "األصنــاف" خــال زيارتــي‬

‫الحضارة العثمانية بأشــكال متعــددة ومتنوعة‪ .‬فيمكن أن‬

‫إلســطنبول وبورصة‪ ،‬فيحكي أحدهم مشــاعره اإلنســانية‬

‫تجدها مرســومة على بالطات من الســيراميك بأســلوب‬

‫وهــو ذاهــب في إحدى المرات إلى جلســة من جلســات‬

‫الحائــط أو علــى بســاط مفروش علــى األرض‪ ،‬أو معنى‬

‫بالمنــح للطلبــة‪ ،‬أو في جمع األمــوال لإلنفاق في أوجه‬

‫رمزا للصدق والصفاء‬ ‫من عرفوها‪ً -‬‬‫لقــد وجــد فيها َ‬

‫بعــدم اســتطاعته المشــاركة إال بقدر يســير مــن المال‪ .‬ثم‬ ‫يخبرنــا بأنــه مــا إن وطئــت قدمــه جلســة‬ ‫"الهمــة" ورأى‬ ‫ّ‬

‫فني راق‪ ،‬أو منسوجة على قطعة من القماش معلقة على‬

‫"الهمــة"‪ ،‬وفيهــا يلتقــي المنفقــون فــي ســبيل اهلل للتبــاري‬ ‫ّ‬

‫مستلهما في قصيدة شعر أو في لوحة فنان تشكيلي‪.‬‬ ‫ً‬

‫الخير المختلفة‪ ،‬فيوضح حديث النفس الداخلي بالتعلل‬

‫القلــوب الرقيقــة والعقــول المنيرة‪ ،‬فتج ّلت فــي أعمالهم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والوفــاء والعطــاء‪ ...‬لقــد أضحــت ملهمــة ألصحــاب‬

‫دبت فيــه روح إيمانية‬ ‫باقــي إخوانــه من األصنــاف‪ ،‬حتى ّ‬

‫فهمــت أخــي‬ ‫وحبــا للجمــال‪ ...‬فهــل‬ ‫رمــزا لإليمــان‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وصديقي العزيز؟!‬

‫يلتحق بالجلسة‪.‬‬

‫رمــزا للعطــاء واإللهــام‪ ،‬فكمــا أن ألوانهــا مختلفة‬ ‫كونهــا ً‬

‫وفــي كل مــرة كان يفعــل ذلــك يجــد أن اهلل يخلــف عليه‬

‫فــي درجــة الغنــى أو الثقافــة أو المكانــة االجتماعيــة‪...‬‬

‫جيدا ربما ألنه‬ ‫أما األستاذ حسن؛ نعم فأنا ّ‬ ‫أتذكر اسمه ًّ‬

‫إن بعض الرجال يشــبهون زهرة التوليب (الالله) في‬

‫أيضا مختلفون‬ ‫فمنهــا الحمراء والصفراء والبيضــاء‪ ،‬فهم ً‬

‫تبــرع بأكثــر ممــا قــرر قبل أن‬ ‫مختلفــة‪ ،‬فيجــد نفســه وقــد ّ‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫ومنهــم من حكى لنــا أنه قد أخرج أموا ً‬ ‫ال كثيرة ًّ‬

‫أكثر مما أنفق وأخرج في سبيل اهلل‪.‬‬

‫ولكــن يجمعهم كلهم مشــروع إيماني دعــوي واحد‪ ،‬أال‬

‫كان يبكــي وهــو يروي لنا مــا حدث له في عيد األضحى‬

‫و"الخدمــة" لمــن ال يعــرف‪ ،‬هــي جوهــر المشــروع‬

‫لقضــاء العيــد فــي إحدى البــاد األفريقية هــو ومجموعة‬

‫أي خدمة اإليمان والقرآن‬ ‫المعلم" محمد فتح اهلل كولن‪ْ ،‬‬

‫يوزعون من لحوم‬ ‫كان ومن معه يطرقون أبواب المنازل ّ‬

‫وهو "الخدمة"‪.‬‬

‫"هوجــا أ َفندى" أو "األســتاذ‬ ‫الدعــوي للمرشــد والمربــي ُ‬

‫عن طريق رجال وفرسان الخدمة‪ ،‬وال سيما رجال األعمال‬

‫مــن أعمــال الخيــر التي أمر بها اإلســام‪ ،‬كبناء المدارس‬

‫والجامعــات والمستشــفيات‪ ،‬أو بكفالــة طالــب علــم أو‬ ‫بإطعام َ ِ‬ ‫يما َذا َم ْق َر َب ٍة ‪َ ‬أ ْو ِم ْس ِك ًينا َذا َم ْت َر َب ٍة‪(‬البلد‪.)16-15:‬‬ ‫‪‬يت ً‬ ‫وقــد كان اإلطــار الــذي انتظــم تنفيــذ هــذا المشــروع‬

‫وذبــح األضاحــي‪،‬‬ ‫مــن "األصنــاف"‪ ،‬وبعــد صــاة العيــد ْ‬

‫األضاحــي‪ ...‬فطرقــوا أحــد األبواب ففتحت لهــم امرأة‪،‬‬ ‫بعضا من‬ ‫فأخبرهــا بأنه مســلم ويطلب منهــا أن تأخذ منه ً‬

‫لحم األضحية‪ ...‬فبكت المرأة وقالت له‪" :‬أنا مســيحية‪،‬‬

‫فكيــف تعطينــي هــذا اللحــم"‪ ،‬فقــال لهــا‪" :‬ال بــأس نحن‬ ‫نفرق بين مســلم ومســيحي"‪ ،‬وقام بإعطائها‬ ‫نصيبا من‬ ‫ً‬ ‫ال ّ‬

‫لحم األضحية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الذيــن يطلــق عليهــم "األصنــاف" الذين يقومــون بالعديد‬

‫ذاهبا‬ ‫بإحــدى الســنوات الماضيــة‪ ،‬حيث خرج مــن تركيا ً‬

‫‪55‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬يحيى وزيري*‬

‫زهرة ال ّ‬ ‫الله‬

‫الخدمة "من ذاق عرف"‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫معا متجهين‬ ‫ســألني صديقي ونحن نســير ً‬ ‫إلــى مســجد الســلطان أحمــد بإســطنبول‬ ‫ونحن نمر بجانب أزهار التوليب (الالله)‪:‬‬

‫‪54‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫سارية إلى اليوم‪ ،‬ساهم في نشرها جيل من المستشرقين‬

‫يقــدم الخدمــة‬ ‫والهيئــات والتيــارات والمنظمــات‪ ،‬وكان ّ‬

‫واستمر هذا النعت قرو ًنا من الزمن تصطبغ به األدبيات‬

‫على طاولة واحدة‪ ،‬فبعدما كانت القطيعة واالنفصام تسود‬

‫المســتعمرين وممــن نال مــن وحدة الخالفة اإلســامية‪،‬‬

‫كأنموذج؛ الخدمة التي جمعت كل األطراف المتصارعة‬

‫الثقافية الغربية‪،‬‬ ‫وتزكيه الفلسفات والنظريات الممسوحة‬ ‫ّ‬

‫بيــن األطراف المتخاصمة‪ ،‬اجتمعــوا على مجلس واحد‬

‫باســم العلــم‪ .‬وقــد حاولــوا الدفــع بهــا في مجــال التربية‬

‫همهم مشــترك‬ ‫بعضا‪ ،‬وأدركوا‬ ‫وحاور بعضهم ً‬ ‫جميعا أن ُّ‬ ‫ً‬

‫واألخــاق حتــى أصبحــت فكرة جاهــزة قابلــة لالعتناق‬

‫هو خدمة الوطن‪ .‬وقد شمل هذا األسلوب كل الطوائف‬

‫العالمية تجاه العالم اإلســامي‪ .‬والشــيء األخطر هو أن‬

‫وفنييــن‪ ...‬إلــخ‪ ،‬وأصبــح األســتاذ‬ ‫ونقابييــن ورياضييــن ّ‬

‫إذا لــم تكــن تتوافق مع الرغبــة الغربية وطموحاتها‪ ،‬فهي‬

‫تلــك قبســات مــن تجربــة علميــة لزائــر َو َقــف علــى‬

‫واالعتقاد‪ ،‬وبالتالي قابلة ألن تســتثمر في مجال السياســة‬

‫ومفكريــن ومثقفين‬ ‫فــي المجتمــع التركــي‪ ،‬من حزبييــن‬ ‫ّ‬

‫تجمع إسالمي أو سياسة إسالمية‬ ‫ّ‬ ‫أي تحرك إسالمي أو ّ‬

‫بعــد الرئيــس الفخــري لهــذه الملتقيــات الحواريــة‪.‬‬ ‫فيمــا ُ‬

‫مصدر قلق وإرهاب!‬

‫جانبــا مما يجب‬ ‫أســاليب الخدمــة عن كثــب‪ّ ،‬‬ ‫ضم ّنا فيها ً‬

‫المد الثقافي الخطير‬ ‫أدرك األستاذ فتح اهلل كولن هذا ّ‬

‫أن يقال وبما يسمح به المقام‪.‬‬

‫المشــحون بالنعــوت القدحيــة وبالملصقــات اللفظيــة‬

‫الجاهــزة‪ ،‬فبــادر بتنقية الخطاب اإلســامي من كل ما قد‬ ‫والتســامح واألخــاق والقيــم والتربية الروحيــة والجهاد‬

‫ال‬ ‫بالكلمة الهادفة‪ ،‬والتآخي ومد جســور التعاون‪ ،‬مســتبد ً‬

‫فركز‬ ‫أثــرا‪ّ ،‬‬ ‫مصطلحــات كثيــرة بأخرى أكثــر داللة وأبلغ ً‬ ‫ا منــه دعامة أساســية‪ .‬والحــوار مبدأ‬ ‫علــى الحــوار جاعــ ً‬ ‫فعالــة فــي الدعــوة‬ ‫أصيــل فــي الثقافــة اإلســامية‪ ،‬وأداة ّ‬

‫واإلصالح الشامل‪.‬‬

‫انطلقــت فكــرة الدعــوة إلــى الحــوار ‪-‬بتوجيــه مــن‬

‫األستاذ كولن‪ -‬منذ سنة ‪1995‬م‪ ،‬وقد وقفنا أثناء زيارتنا‬

‫"مراكش" ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يجلب إليه هذه التهم الجاهزة‪ ،‬فبنى فكره على "الحوار"‬

‫(*) أســتاذ التعليــم العالــي بكليــة اآلداب بجامعــة القاضــي عيــاض فــي‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬حديــث عبــد اهلل بــن مســعود أخرجــه الخطيب البغــدادي في اقتضاء‬ ‫العلم العمل‪ ،‬ص‪ 23-22:‬بإسناد حسن‪ .‬تحقيق محمد ناصر الدين‬

‫األلباني‪ ،‬المكتب اإلسالمي طبعة ‪1984‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬حديــث جابــر بــن عبــد اهلل األنصــاري‪ ،‬أخرجــه الدارمــي فــي ســننه‪،‬‬ ‫‪.81/1‬‬

‫(‪)3‬‬

‫انظــر‪" :‬اجتيــاز الزمــن والمســافات"‪ ،‬فتــح اهلل كولــن‪ 25 ،‬مــارس‬

‫‪1990‬م‪ ،‬إزمير‪/‬تركيا‪.‬‬

‫(‪ )4‬انظــر علــى ســبيل المثــال ال الحصر كتاب "النــور الخالد‪ :‬محمد ‪‬‬ ‫مفخرة اإلنسانية" لألستاذ فتح اهلل كولن‪ ،‬تكلم فيه عن السيرة النبوية‬

‫في خمســة أقســام‪ ،‬وملحق للسنة النبوية من حيث تقييدها ومكانتها‬

‫امتدت‬ ‫أســبوعا‬ ‫العلميــة فــي مطلــع ســنة ‪2013‬م والتــي ّ‬ ‫ً‬

‫في الشريعة اإلسالمية‪ ..‬وكتاب "أضواء قرآنية في سماء الوجدان"‪،‬‬

‫واحــد مــن ســتة مراكــز موجــودة فــي منطقــة البوســفور‪،‬‬

‫حيــاة القلــب والــروح"‪ ،‬و "ترانيم روح وأشــجان قلــب" وغيرها من‬

‫ا علــى مركز مــن مراكز الحــوار في إســطنبول وهو‬ ‫كامــ ً‬ ‫يحبون أن‬ ‫فإخــوة الخدمــة َ‬ ‫عم ّليون أكثر مما هم نظريون‪ّ ،‬‬

‫وكتــاب "ونحــن نقيــم صرح الــروح"‪ ،‬وكتاب "التــال الزمردية نحو‬

‫الكتب والرسائل العلمية القيمة‪.‬‬

‫(‪ )5‬سورة األعراف اآلية ‪ ،157‬وانظر اآلية ‪ 158‬من نفس السورة‪ ،‬وغريها كثري‪.‬‬

‫يقولــون‪ ،‬ويتركــون للزائــر الواقف على أســاليب الخدمة‬

‫‪ 3673‬ومســلم فــي صحيحــه كتــاب فضائــل الصحابة‪ ،‬بــاب تحريم‬

‫والكالم‪ .‬ال يتحدثون عما يعملون‪ ،‬بل يعملون أكثر مما‬

‫النبــي صلــى اهلل عليــه وســلم " لــو كنــت متخذا خليــا " ‪ 12/7‬برقم‬

‫الحر والمطلق‪.‬‬ ‫الحكم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫سب الصحابة ‪ ،1968-1967/4‬برقم ‪ 222‬و ‪.2541‬‬

‫كانــت فكــرة الحــوار هــي فكــرة األســتاذ نفســه‪ ،‬فقد‬

‫دائمــا‪ ،‬وكان دائــب الزيارة لــكل الفئات‬ ‫كان يدعــو إليهــا ً‬

‫(‪ )7‬طرف من حديث مرفوع أخرجه مســلم في صحيحه‪ ،‬كتاب فضائل‬ ‫الصحابــة‪ ،‬بــاب بيــان أن بقــاء النبــي أمــان ألصحابــه ‪ 1961/4‬برقم‬ ‫‪ 207‬و ‪.2531‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫يطلعــوك علــى مــا هو موجــود عوض االكتفــاء بالوصف‬

‫(‪ )6‬متفــق عليــه‪ ،‬أخرجــه البخــاري في كتاب فضائــل الصحابة باب قول‬

‫‪53‬‬


‫ومن دون قانون داخلي أو خارجي‪ ،‬وال يفعل من هذا إال‬

‫الواقع يتطلب استحضار المستندات الفقهية واألصولية‬

‫فتتســم بالســجية والفطرة وحسن الظن باآلخر كيفما كان‬

‫معطيــات الواقــع بكل أبعــاده‪ ،‬وتطبيق تلك المســتندات‬

‫والمقاصديــة مــن خالل إنتاجاته‪ ،‬كما يتطلب اســتحضار‬

‫ما اقتضته الضرورة اإلدارية‪ .‬أما العالقات داخل الخدمة‬

‫على هذه المعطيات ثم استخالص ما سيقع‪.‬‬

‫هــذا اآلخــر‪ ،‬واألمور ‪-‬ما رأيناها‪ -‬تســير من دون تكلّف‬

‫• وأما المجال الثالث فيتمثل في اســتغالل القدرات‬

‫آو تعســف‪ ،‬أو ســلطة صارمــة تــزرع خوف أبنــاء الخدمة‬

‫وتدبير اإلمكانيات‪ ،‬ألن الواقع ال يرتفع‪.‬‬

‫منهــا ال مــن اهلل ‪ .‬ويمكن القول بأن األســتاذ هو اســم‬

‫مسمى؛ فهو‬ ‫"فتح" مبين على هذا الجيل المتعطش‬ ‫على ّ‬ ‫ٌ‬

‫لقــد وفــر األســتاذ اإلمكانيــات الموجــودة في ســبيل‬

‫الخدمــة‪ ،‬هــذه المجــاالت الثالثــة التي اســتطاع األســتاذ‬

‫للتربيــة‪ ،‬وللقــدوة الصالحــة‪ ،‬والتوجيــه النيــر‪ ،‬فــإذا كان‬

‫أن يكــون بهــا الجيــل الذهبي للخدمــة ُبنيت هي األخرى‬

‫الســلطان محمــد الفاتــح قــد فتــح الديــار‪ ،‬فــإن األســتاذ‬

‫علــى قواعــد ثالثــة‪ :‬التســامح‪ ،‬والحــوار‪ ،‬والتقريــب بين‬

‫محمــد فتــح اهلل قد فتح القلــوب‪ ،‬وهذا العصر هو عصر‬

‫المتباعدين‪.‬‬

‫فتح القلوب ولكل زمان عمله‪.‬‬

‫فاألســتاذ‬ ‫مــرب بالدرجــة األولــى‪ ،‬وللتربية مجاالت‬ ‫ّ‬

‫وتســتطيع أن تلحــظ هــذا فــي مجمــل األنشــطة التي‬

‫في فكره‪:‬‬

‫تقــوم بها "مجلــة حراء" الغراء وأخواتهــا على الصعيدين‬

‫• المجال األول‪ :‬التاريخ التركي بصفة خاصة‪.‬‬ ‫التاريــخ التركــي مشــحون بالــدالالت واألحــداث‪،‬‬

‫ففيــه دروس وعبــر‪ ،‬وهــو يحــاول التركيــز علــى التاريــخ‬

‫المحلــي‪ ،‬ألن هــذا التاريــخ ُيراد لــه أن يفصل عن الزمن‬

‫التركي المعاصر‪ .‬لقد حاول المستشــرقون تشــويه تاريخ‬ ‫الســلطنة العثمانية ووصفها بأبشــع النعوت واألوصاف‪،‬‬ ‫وما زال هذا النيل إلى اليوم ســاري المفعول في األفالم‬ ‫والمسلســات‪ ..‬التاريخ هو كل شــيء في الفكر التركي‬

‫الحديــث‪ ،‬ألن به تنتعــش الذاكرة ومنه تتغذى‪ ،‬فالحاضر‬ ‫المؤلــم فيــه الكثيــر من معطيــات الماضي‪ .‬وأمــا التاريخ‬

‫العالمي فهو مركب من تاريخين‪:‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ال‬ ‫مؤسسات الخدمة المنتشرة في أرجاء تركيا‪ ،‬من ذلك مث ً‬

‫"مؤسســة الحــوار" التي هي َو ْقــف للصحفيين والكتاب‪،‬‬

‫يتــم االشــتغال فيهــا على ترســيخ "ثقافة التعايــش"‪ ،‬ويتم‬ ‫البحــث فيها عن المناخ لتجســيد ثقافة الحوار من خالل‬

‫اللقاءات والندوات والورشات‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫بــاب الحوار والتعايش الســلمي ونشــر ثقافة‬ ‫إن فتــح ِ‬

‫التسامح إنما َو َقع االنطالق فيه من واقع تركيا في إطار‬ ‫الحكــم العثمانــي؛ لقــد كانــت تركيــا إمبراطورية واســعة‬

‫ممتــدة األطراف‪ ،‬تتعايــش فيها كل األجناس وكل الملل‬ ‫رمــزا للتعــدد فــي‬ ‫والنحــل‪ ،‬وكانــت العاصمــة إســطنبول ً‬ ‫تحولت تركيا إلى‬ ‫عشية وضحاها ّ‬ ‫أبهى صوره‪ ،‬لكن بين ّ‬ ‫دولــة قطريــة وطنيــة وعرقيــة‪ .‬ولذلك فما يقــوم به "إخوة‬

‫• التاريــخ األوربــي الــذي يعتبــر التاريــخ التركــي‬ ‫جــزءا منــه بحكم الجــوار الجغرافــي‪ ،‬ولهــذا التاريخ أثر‬ ‫ً‬

‫بدعــا من الفكر والعمــل‪ ،‬بل هو نهج من‬ ‫الخدمــة" ليــس ً‬

‫اإلسالمية التركية‪.‬‬

‫للحضارة اإلســامية‪ ،‬وقد أدرك قيمة هذا النهج األســتاذ‬

‫كبيــر علــى مســيرة التقلبات الزمنيــة في تاريــخ الحضارة‬

‫‪52‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫• المجال الثاني‪ :‬التاريخ العالمي بصفة عامة‪.‬‬

‫المحلــي والدولــي‪ ،‬كمــا تســتطيع أن تلحــظ ذلــك فــي‬

‫• وأمــا المجــال الثانــي فهــو مجــال الواقــع الحديث‬

‫والمعاصــر‪ ،‬هــذا الواقــع أدرك األســتا ُذ أقفا َلــه‪ ،‬ففتحهــا‬

‫فانفتحت مغاليقه‪ .‬إن الحديث عن "فقه الواقع" في فكر‬ ‫وفقه األستاذ َليحتاج إلى وقفة خاصة‪ ،‬ألن البحث في فقه‬ ‫ْ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نهــج األجداد‪ .‬ثم إن جــذوره ممتدة في الزمن التاريخي‬

‫محمد فتح اهلل كولن‪.‬‬

‫عمــت فكــرة إرهابية اإلســام‬ ‫العالم‪ ،‬فاإلســام‬ ‫لقــد ّ‬ ‫َ‬

‫صوروه‪ -‬يحث على القتل والكراهية‬ ‫ديــن إرهابــي ‪-‬كما ّ‬ ‫والبغــض والنفــور‪ ،‬وهــذه التهــم مــا زالــت ‪-‬لألســف‪-‬‬


‫إن اإلطار العام الذي يتحرك فيه األســتاذ‪ ،‬هو فكر‬

‫وتكلم األستاذ فتح اهلل كولن عن األزهار في هذا الوقت‬

‫إصالحي شامل‪ ،‬ينطلق من الرتاث اإلسالمي الكيل‪:‬‬

‫لتكــون فــي كل وقت‪ ،‬ومهما خيم صيــف حارق لإليذاء‬

‫القرآن الكريم والســنة النبويــة والفقه واألصول‬

‫بهــا فــإن نواتها توجــد في عمق التــراب‪ ،‬وبالتحديد فوق‬

‫فصيحة األســتاذ‬ ‫واملقاصــد والفكــر والزهد‪...‬إلخ‪َ .‬‬

‫قبور األجداد‪ ،‬أولئك الذين ماتوا مرتاحين بعد أن فعلوا‬

‫هــي صيحة إصالحيــة شــاملة انبنت عــى تجارب‬

‫مــا عليهــم‪ ،‬ما زالت آثارهم ثابتة‪ ،‬وقبورهم‬ ‫محط الزيارة‬ ‫ّ‬

‫اإلصالح يف العامل اإلسالمي‪.‬‬

‫إلــى اليــوم‪ ،‬منطلقهــا قبــر الصحابــي الجليــل أبــي أيــوب‬ ‫األنصــاري ‪ ،‬إنهم زرعوا فأنبتوا‪ ،‬فكانت تلك األزهار‬

‫الصحابــة كانــوا قــدوة ألبنــاء الخدمــة‪ ،‬قــال لهم األســتاذ‬

‫من بذرتهم‪.‬‬

‫مــرة وقــد خرج إلى جماعة منهم وهو يحمل كتاب حياة‬ ‫ّ‬

‫العاملون في الخدمة تطلق عليهم ألقاب متعددة‪ ،‬منهم‬

‫الصحابة للكاندهلوي بيده‪" :‬كونوا مثل هؤالء أو موتوا"‪.‬‬

‫مــن ينعتهــم بـ"أبنــاء الخدمة"‪ ،‬ومنهم مــن يصفهم بـ"إخوة‬

‫إن ســر نجــاح الخدمــة يكمــن فــي هــذه الصيــرورة‬

‫الخدمــة"‪ ،‬ومنهم من‬ ‫يســميهم بـ"أصحاب الخدمة"؛ وقد‬ ‫ّ‬

‫يوما بعد يوم‪ ،‬ال اختالف‬ ‫المطــردة‪ ،‬فهــي نموذج يتكامل ً‬

‫نطلق عليهم "إنســان الخدمة" وهي إطالقات ال تغير من‬

‫وال تبايــن‪ ،‬وال فــارق بينهــم وال تباعد إال بالجد والعمل‬

‫شيئا‪ ،‬إنهم كذلك بكل المواصفات‪ ...‬والباحثون‬ ‫الحقيقة ً‬

‫ســر‬ ‫والتقــوى‪ ،‬الجميــع علــى نمــط متجانــس‪ ،‬وهــو ٌّ‬ ‫يرجــع إلــى االلتــزام بالخــط القرآنــي‪ ،‬وهو خــط واضح‬

‫يطلقون الوصف حسب ما يريدون منه‪ ،‬والكلمة الرائجة‬ ‫يسميهم بـ"األصحاب" ِع َوض‬ ‫إطالق األستاذ نفسه‪ ،‬كان ّ‬ ‫"التالميذ"‪ ،‬وهو نعت مؤصل من سنة النبي ‪ ‬حين نعت‬ ‫أتباعه بـ"األصحاب"‪ ،‬واهلل ‪ ‬نعتهم باأل ْتباع فقال تعالى‪:‬‬

‫ِ‬ ‫هلل َو َي ْغ ِف ْــر‬ ‫‪ُ ‬ق ْ‬ ‫ــم ا ُ‬ ‫ــون ا َ‬ ‫ــم ُت ِح ُّب َ‬ ‫هلل َف َّاتب ُِعونــي ُي ْحب ِْب ُك ُ‬ ‫ــل إ ِْن ُك ْن ُت ْ‬ ‫ون‬ ‫يــن َي َّتب ُِع َ‬ ‫ــم‪(‬آل عمــران‪ ،)31:‬وقوله ‪ :‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ــم ُذ ُن َ‬ ‫وب ُك ْ‬ ‫َل ُك ْ‬ ‫ــول النبِــي ا ُ‬ ‫أل ِم‬ ‫وبــا ِع ْن َد ُه ْم ِفي‬ ‫الر ُس َ‬ ‫ــي ا َّل ِذي َي ِج ُدو َن ُــه َم ْك ُت ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ َّ ّ َّ‬ ‫(‪)5‬‬ ‫يل‪(‬األعــراف‪ ... )157:‬وقــد دعــا النبــي ‪‬‬ ‫الت ْــو َرا ِة َوا ِ‬ ‫إل ْن ِج ِ‬ ‫َّ‬ ‫مــن تبعــه ورآه وآمن بــه منهم بـ"األصحــاب"‪ ،‬ولم يطلق‬ ‫عليهــم نعــت "تالميــذ" وإن كان هــذا النعــت فــي حقهــم‬

‫تســبوا أصحابي‪ ،‬فوالذي نفســي بيده‬ ‫جائــز‪ ،‬قــال ‪" :‬ال ّ‬ ‫ُ ٍ‬ ‫ذهبا ما أدرك ُم َّد أحدهم وال‬ ‫لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ً‬ ‫َن ِصي َفــه"(‪ ،)6‬وقولــه ‪" :‬وأصحابي أمنة ألمتي"(‪ ،)7‬وجرى‬ ‫إطالق لفظ الصحبة عليهم‪ .‬وأما من ِ‬ ‫صحبوهم فهم من‬ ‫مؤمنا‬ ‫ومــات على اإلســام‪ ،‬والتابعي مــن لقي الصحابي‬ ‫ً‬

‫ومــات علــى اإلســام‪ ،‬وتابــع التابعــي مــن لقــي التابعي‬

‫مؤمنــا ومــات على اإلســام‪ ،‬وهكذا من تبعهم بإحســان‬ ‫ً‬ ‫إلــى يــوم الديــن‪ ...‬والشــاهد مــن هــذا التوضيــح هــو أن‬

‫وبالتعايــش يتحصــل التســامح والتآخــي‪ ،‬وإذا تحصلــت‬

‫هــذه األمــور جميعهــا تقــوت أواصــر المحبة‪ ،‬وما ســبب‬

‫المفضيين إلى الكوارث األخالقية في‬ ‫النفور واإلعراض‬ ‫َ‬ ‫بعــض األحيــان إال بجهــل كل طرف لآلخــر‪ .‬وأعتقد أن‬ ‫ســبب المحبــة الحاصلة بين أفراد الخدمــة إنما هي نابعة‬

‫مــن ثقافــة معينــة‪ .‬إن المتأمــل في ثقافة وأدبيات األســتاذ‬ ‫فتح اهلل‪ ،‬يجدها تفوح بفكر المحبة‪ ،‬وباألساليب الدافعة‬ ‫إلى تحصيل المحبة ‪-‬محبة القلوب‪ -‬وهي ظاهرة تحتاج‬

‫إلى أن تفرد ببحث مستقل‪ .‬وإننا لنرجو صادقين أن تمتد‬

‫هــذه األفــكار والتوجيهــات والنصائح واإلرشــادات إلى‬

‫أجيال اإلنسانية كلها‪.‬‬

‫‪" -3‬مرتكزات المشروع"‬

‫نقصد بـ"المشــروع" الخدم َة‪ ،‬الخدمة التي تســير من دون‬ ‫مواثيق وال معاهدات بين األفراد‪ ،‬وال دفاتر أو سجالت‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫مؤمنا به‬ ‫األتباع‪ ،‬فالصحابي في االصطالح َمن لقي النبي‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــي "األصحــاب" وهــي كلمــة لطيفــة ودالــة‪ ،‬وهــي مــن‬

‫ــم ِم ْن َذ َكرٍ‬ ‫ــاس ِإ َّنا َخ َل ْق َن ُ‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َها َّ‬ ‫ّبي ٌ‬ ‫ِــن‪ ،‬يقــول تعالــى‪َ :‬‬ ‫الن ُ‬ ‫اك ْ‬ ‫وبا َو َقبا ِئ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ــم‬ ‫َو ُأ ْن َثــى َو َج َع ْل َن ُ‬ ‫ــل ل َت َع َ‬ ‫اك ْ‬ ‫ار ُفــوا إ َِّن أ ْك َر َم ُك ْ‬ ‫ــم ُش ُــع ً َ‬ ‫ــد ا ِ‬ ‫اك ْم‪(‬الحجــرات‪)13:‬؛ التعــارف مقدمــة ضرورية‬ ‫هلل َأ ْت َق ُ‬ ‫ِع ْن َ‬ ‫للتعــرف والتواصــل‪ ،‬وبالتعرف والتواصــل يتم التعايش‪،‬‬

‫‪51‬‬


‫أو محاضــرات ودروس‪ ،‬بــل أصبــح مدرســة متحركــة‪،‬‬

‫تماما‬ ‫ال يتكلــم لغتــك‪ ،‬لكــن هنا يــذوب هذا اإلحســاس ً‬

‫المدرســة بإنســانها وعمرانها وأدبياتها وأنشــطتها العلمية‬

‫الدين وفي اإلنسانية‪ ،‬وهي معطيات ساهمت الخدمة في‬

‫ليعوض بتواصل كبير‪ ،‬إنه التواصل الروحي‬ ‫واألخوة في‬ ‫ّ‬

‫مدرســة يمثلهــا اإلنســان والحضــارة والعمــران‪ ،‬هــذه‬

‫تغير من ســلوكك فحســب‪،‬‬ ‫إيجادها‪ .‬الخدمة ال تجعلك ّ‬

‫والفكريــة التــي تعــددت‬ ‫وامتــدت‪ ،‬فســحت فــي المجال‬ ‫ّ‬

‫بــل ُتحــدث فيــك طاقــة جديدة يتولــد عنها منهــج جديد‬

‫ال‬ ‫للباحثيــن والدارســين والزائريــن ليجعلــوا منهــا مجــا ً‬

‫وإطارا للكالم الهادف والمتعدد‪.‬‬ ‫للبحث والدرس‪،‬‬ ‫ً‬

‫فــي التعامــل مــع القــرآن الكريــم والســنة النبويــة‪ ،‬حيث‬

‫مــن موقــع الزائــر الناظــر تجــد أن "إنســان الخدمــة"‬

‫تصبــح القــراءة مــن موقــع تجربــة الخدمة ال ِمــن موقع‬

‫جدا أن "األسرة" هي نواة المجتمع‪ ،‬لكن الخدمة قلبت‬ ‫ًّ‬

‫كنت أقف‬ ‫كثيرا ما ُ‬ ‫الواقعيــة والتأصيــل والتفعيل‪ ،‬ولذلك ً‬

‫األســاليب المعلقــة‪ .‬إنهــا تجربــة ذات ن َفــس جديــد فــي‬

‫يشــكل األســرة الكبــرى فــي المجتمع التركــي‪ .‬صحيح‬

‫تمامــا؛ ففــي الوقت الذي بدأ فيــه الجميع‬ ‫هــذا المفهــوم ً‬

‫مدهوشــا أمام هذا النمط من الكتابة حول القرآن والســنة‬ ‫ً‬

‫والســيرة واألخــاق والحضارة والــروح‪ ...‬إلخ(‪ ،)4‬أعني‬

‫يتكلم عن األســرة‪ ،‬وســخرت في ذلك نظريات ومفاهيم‬

‫بذلك الكتابة التي اســتحدثها األســتاذ فتح اهلل‪ ،‬المصادر‬

‫فــي البحــث والدرس‪ ،‬وتم الدفــع بها في مجاري الرؤية‬ ‫اهتمامــا‬ ‫المعاصــرة ممــا ولــد‬ ‫مبالغــا فيــه‪ ،‬اتصــف بالغلو‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫هي هي‪ ،‬لكن طرق التعامل معها يختلف‪ ،‬وكنت أبحث‬

‫والتنطــع‪ ،‬و ُت ُن ِ‬ ‫وســي المجتمــع بــل تــم إهمالــه‪ ،‬وال يلزم‬ ‫ّ‬ ‫النظــري بهــا إصــاح المجتمــع مــا لــم يتــم التركيز على‬

‫تماما‪ ،‬فالفرد‬ ‫المجتمع‪ ،‬لكن الخدمة قلبت هذا المفهوم ً‬ ‫للمجتمــع‪ ،‬واألســرة للمجتمــع‪ .‬لقــد رأينــا الجميع في‬

‫الخدمة من اآلباء واألمهات‪ ،‬الشــباب والشــابات‪ ،‬النساء‬ ‫والرجال‪ ،‬األطفال والشــيوخ‪ ...‬لقد نزل الجميع لخدمة‬

‫الجميــع‪ ،‬ونجــح الجميع في خدمة الجميع في جهات‬

‫كثيــرة مــن المعمــور ما زال اإلنســان‬ ‫متخبطــا في معالجة‬ ‫ً‬ ‫أمــراض نفســه‪ ،‬يعاني مــن تمرد النفس‪ ،‬لكــن هنا يتغلب‬ ‫ويعان على التغلب عليها‪ ،‬و ُتروض‬ ‫اإلنســان على نفسه‪ُ ،‬‬

‫علــى الرغــم منهــا لتصبــح طائعــة هينــة‪ ،‬ثم توجــه إلى ما‬ ‫ألجلــه ُوجــدت‪ .‬فالوظيفــة الحقيقيــة لإلنســان علــى هذه‬ ‫ْ‬

‫األرض هــي اإليمــان بــاهلل والعمل الصالــح‪ ،‬وهي أزرار‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ضغط عليها األستاذ بإحكام فبنى عليها مشروع الخدمة‪:‬‬ ‫َ‬

‫‪50‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مــن الدعــوة إلــى إصالح األســرة واإلفراط فــي االهتمام‬

‫ســر التميــز في التأليــف والتصنيــف‪ ،‬وال أجازف إذا‬ ‫عــن ّ‬

‫قلــت إنهــا "الخدمــة"‪ ...‬الخدمــة هنــا هي كل شــيء؛ هي‬ ‫العلــم والمعرفــة‪ ،‬وهــي الثقافــة والحضــارة‪ ،‬وهــي الفــن‬

‫واإلبــداع‪ ،‬وهــي الوظيفة والمال‪ ،‬وهي األســرة والعائلة‪،‬‬ ‫ضيع‬ ‫وهي األصدقاء واإلخوة‪ ...‬فمن استغنى عنها فقد ّ‬

‫مهما من حياته وحياة الناس‪ ،‬ومن دخل إلى ساحة‬ ‫جانبا ًّ‬ ‫ً‬

‫الخدمة متح ّل ًيا بتلك العناصر فقد تحصل له المراد‪ .‬وال‬ ‫أريد هنا أن أمثل بنماذج حية من عين الواقع‪ ،‬فقد خبرت‬

‫وجالســت‬ ‫وشــاهدت‬ ‫التجربــة عــن قــرب‪،‬‬ ‫واســتفدت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وليــس َمــن رأى كمــن ســمع‪ ،‬وال من ســمع كمــن قرأ‪،‬‬

‫وتلــك مســتويات فــي الفهم كنت‬ ‫مجبــرا أن أتكلم عليها‬ ‫ً‬ ‫في التصنيف السابق‪.‬‬

‫وقد يقول قائل‪" :‬إن الدعوة يمكن أن تكون من دون‬

‫هــذا النــوع مــن الخدمــة" أقــول‪ :‬قــد يكون ذلــك في غير‬

‫الواقــع التركــي‪ ،‬أما الواقع التركــي المعاصر فهذا النوع‬

‫ال ِمم ْن َد َعا ِإ َلى ا ِ‬ ‫ال‬ ‫هلل َو َع ِم َل َصا ِل ًحا َو َق َ‬ ‫َ‬ ‫‪‬و َم ْن َأ ْح َس ُن َق ْو ً َّ‬ ‫ين‪(‬فصلت‪.)33:‬‬ ‫ِإ َّن ِني ِم َن ا ْل ُم ْس ِل ِم َ‬ ‫لزائر تركيا وللواقف على أساليب الخدمة أن يتحدث‬

‫وهــو نعــت لطيــف‪ ،‬جميل وخفيــف‪ ،‬إنها أزهار األســتاذ‬

‫أن تحس بالتباين الشاسع والفرق الكبير بينك وبين من‬

‫الزمــان ‪-‬رحمــه اهلل‪ -‬عن األزهار في وقت من األوقات‪،‬‬

‫هل يحس بالفرق بينه وبين رجال الخدمة؟ شيء طبيعي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يبــدو‬ ‫ناجحــا بــكل المقاييــس‪ ،‬إنــه ربيع تركيــا الخاص‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الربيع الذي يطلق عليه من موقع لغة الخدمة "األزهار"‪،‬‬

‫يومــا بعد آخــر‪ ...‬ولقد تكلم األســتاذ بديع‬ ‫التــي ّ‬ ‫تتفتــح ً‬


‫إن تجربة األستاذ هي تجربة رباعية الرتكيب‪" :‬الرتاث‬

‫األول مــن حيــث االعتبــار‪ ،‬صنــف دفعت بــه تجربته إلى‬

‫اإلسالمي" الذي هو املنطلق واملجال‪ ،‬و"التجربة‬

‫االنخــراط فــي العمل ومن ثم إلى االتحاد في المشــروع‬

‫الشخصية" التي هي الوســيلة واألداة‪ ،‬و"الواقع‬

‫جزءا منها‪ ،‬وهي في الغالب ُتبنى‬ ‫الكلي للخدمة ليصبح ً‬

‫املعــارص" الذي هــو القصــد والهــدف‪ ،‬و"البعد‬

‫نظريا‪ ،‬على التجربة‬ ‫فكريا كان أو‬ ‫عليه ومدار العمل كله‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫اإلنساين" الذي هو الدافع واملحرك‪.‬‬

‫العلمية والعملية لألستاذ فتح اهلل كولن‪.‬‬

‫لقــد أصبــح هذا الصنــف على مــدار الوقت موضوع‬ ‫ِ‬ ‫ــم ال وهذا المشــروع‬ ‫بحــث ومجــا ً‬ ‫ال للفهــم والمعرفــة‪ ،‬ل َ‬ ‫يرتكــز علــى اإلســام بكل ثوابتــه‪ ،‬ذلك أن اإلطــار العام‬

‫االنتماء الجنسي أو العقدي‪.‬‬

‫مــن التــراث اإلســامي الكلــي‪ :‬القــرآن الكريــم والســنة‬

‫الذات‪ .‬والمدلول الثاني يعني تيســير األمور على الناس‬

‫فصيحة األســتاذ هي صيحة إصالحية شــاملة انبنت‬ ‫إلخ‪َ .‬‬

‫تعسر‬ ‫فالخادم هو َمن يعمل ليساعد ويعين لتيسير ما ّ‬

‫بتجربــة األســتاذ بديــع الزمــان ســعيد النورســي كإحدى‬

‫المعنى أكثر قلنا‪ :‬إن "إنسان الخدمة" هو في خدمة اإلنسانية‬

‫• مدلولها األول "إنساني" غير قاصر على القطرية أو‬

‫الذي يتحرك فيه األستاذ‪ ،‬هو فكر إصالحي شامل ينطلق‬

‫الجــم‪ ،‬والعمــل بنكران‬ ‫• المدلــول الثانــي التواضــع‬ ‫ّ‬

‫النبويــة والفقــه واألصــول والمقاصــد والفكــر والزهد‪...‬‬

‫في حياتهم العامة‪.‬‬

‫مــرورا‬ ‫علــى تجــارب اإلصــاح فــي العالــم اإلســامي‬ ‫ً‬

‫وتقريــب مــا َب ُع َد‪ ،‬وهي شــاملة وعامــة‪ .‬وإذا أردنا تقريب‬

‫والثابــت الثانــي‪ ،‬الواقــع التركــي بأبعــاده السياســية‬ ‫واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬الواقع بماضيه وحاضره؛ إنه‬

‫فتــح اهلل كولــن بفكــره وذاتــه‪ ،‬الفكر الــذي نهل من معين‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التجــارب التركيــة الرائــدة فــي مطلــع القــرن الماضــي‪.‬‬

‫يفهم من "إنســان الخدمة" دونية المعنى‪ ،‬إنهم‬ ‫كلها‪ ،‬وال َ‬

‫صحابــة األســتاذ وتالمذته المباشــرون‪ ،‬فعلــى الرغم من‬ ‫التطــور الحضــاري والنمو العمرانــي والتكنولوجي الذي‬

‫حــازت فيــه تركيــا عنصــر الســبق‪ ،‬مــا زالــت فئــة ظاهــرة‬

‫المر الذي طرأت‬ ‫التــراث‪ ،‬والذات التي عايشــت الواقع ّ‬

‫علــى الحــق يمتحــون من تجربة صحابــة النبي ‪ ‬القدوة‬

‫الماضــي واتجــه صــوب الحاضر ليستشــرف المســتقبل‪،‬‬

‫الممتدة‬ ‫"حــرق المســافة بينهــم وبين النبي ‪"‬؛ فالقــرون‬ ‫ّ‬

‫هذا الثابت هناك البعد اإلنساني الذي استحضره األستاذ‬

‫ا فــي وجــه اال ّتبــاع واالقتــداء‪ ،‬بهــذه العبــارة ُتطوى‬ ‫حائــ ً‬

‫ال نهل من‬ ‫عليــه تحــوالت جذرية‪ .‬لقد ســخر للواقع جي ً‬

‫وكثيرا ما كان األستاذ يذكرهم بذلك بعبارة‬ ‫الحســنة ‪.‬‬ ‫ً‬

‫عبــر واقــع التحضر العالمي‪ ،‬واقــع العولمة والتحديات‬

‫الحضــارة كلهــا لتصبح وســيلة للخدمة‪ ،‬ولــن تكون هي‬

‫هــي تجربــة رباعيــة التركيــب‪" :‬التراث اإلســامي" الذي‬

‫تماما كما طويــت القرون (‪.)3‬‬ ‫يحلــو للبعــض أن يتصــور‪ً ،‬‬

‫الوســيلة واألداة‪ ،‬و"الواقــع المعاصــر" الــذي هــو القصد‬

‫علــى تربيــة األســوة والقدوة نــواة المــدار‪ ،‬وحوله يتحلق‬

‫وســنرى فــي تطبيقــات كل ذلــك عند حديثنا عن "إنســان‬

‫البحــر ال يظهــر عليهــا التناهي من شــدة التفانــي‪ ...‬توالد‬

‫‪" -2‬إنسان الخدمة"‬

‫التــي تشــكل فــي نظــري "مركز مشــروع األســتاذ فتح اهلل‬

‫المعاصــرة الجارفــة‪ .‬مــن هنــا نقــول إن تجربــة األســتاذ‬

‫األخــرى عائ ًقــا فــي وجــه اســتلهام التجربــة النبويــة كمــا‬

‫هــو المنطلــق والمجــال‪ ،‬و"التجربة الشــخصية" التي هي‬

‫يشــكل األســتاذ بتجاربه المتعددة وبحرصه الصارم‪،‬‬

‫والهدف‪ ،‬و"البعد اإلنساني" الذي هو الدافع والمحرك‪.‬‬

‫"إخــوة الخدمــة" فــي دوائــر كلمــا ابتعدت كبــرت كموج‬

‫الخدمة" في النقطة الموالية‪.‬‬

‫باإليجاب‪ ،‬وتكاثر بالنفع‪ ،‬ويدور الكل حول تلك النواة‬

‫كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في المدلول والمعنى‪:‬‬

‫كولن"‪ ...‬ولذلك لم َيعد األســتاذ مجرد رســائل أو كتب‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وأنينه أنين ألم‪ ...‬إلى جانب‬ ‫كانــت آهاتــه آهات حســرة‪ُ ،‬‬

‫شــيئا أمام القدوة واألســوة‪ ،‬فال تقف‬ ‫منهــم إليــه ال تعني ً‬

‫‪49‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد خروبات*‬

‫مشروع الخدمة‬ ‫من عين الواقع‬

‫سأتكلّم في هذا المقال عن ثالثة عناصر‬

‫فهما من‬ ‫والواقعيــة التــي فرضــت نفســها‪ ،‬وهــذا يتطلــب ً‬

‫‪ -1‬المتكلمون في "مشروع الخدمة"‬

‫وأصل‬ ‫جـــ‪ -‬وصنــف من الباحثين قرأ وطالع وبحث ّ‬

‫أساسية‪:‬‬

‫المتأمــل فــي عطــاءات الباحثين في مشــروع األســتاذ‬

‫فتح اهلل كولن يجدهم على عدة أصناف‪:‬‬

‫أ‪ -‬فيهم من ُيطالع تأليف األستاذ واإلنتاجات الفكرية‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫حولــه ال يتجاوزهــا إلــى الرؤيــة الميدانيــة‪ ،‬فهــذا الصنف‬

‫‪48‬‬

‫ناقصــا‪ ،‬ألنــه انحبس في الجانــب النظري‪.‬‬ ‫يبقــى‬ ‫تصــوره ً‬ ‫ّ‬ ‫بـــ‪ -‬وصنــف يقــف علــى المنجــزات واإلبداعــات‬

‫ومشــروعات الخدمة فيراهــا رأي العين‪ ،‬فهذا يقف على‬ ‫نصــف الحقيقــة‪ ،‬ألنــه وقف فــي نصف الطريــق‪ .‬فالرؤية‬

‫وحدهــا ال توصــل إال إلــى نصــف الطريــق مــا لــم يربــط‬

‫تلــك المنجزات بالمح ّفــزات الدينية والخلقية واإليمانية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نوع مغاير‪.‬‬

‫وعايــن حقيقــة الخدمــة عــن قــرب‪ ،‬فهــذا الصنــف علــى‬ ‫جانب كبير من الفهم والمعرفة‪ ،‬ألنه التزم بالمنهج فربط‬

‫النظري بالعملي‪.‬‬

‫د‪ -‬أمــا مــن انخــرط في المشــروع كليــة‪ ،‬وأصبح من‬

‫"إخوة الخدمة"‪ ،‬ومن عناصرها الفاعلين ومن المجتهدين‬ ‫العامليــن فهــذا ‪-‬في نظري‪ -‬حاز عنصر الســبق في العلم‬

‫والفهــم؛ وفــي الحديــث الموقــوف‪" :‬تعلمــوا تعلموا فإذا‬

‫علمتــم فاعملــوا" ‪ ،‬وفي حديث موقــوف آخر‪" :‬تعلموا‬ ‫(‪)1‬‬

‫ما شئتم أن تعلموا‪ ،‬فلن يأجركم اهلل حتى تعملوا" ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫هــذا الصنــف هــو الرابــع من حيــث التصنيــف‪ ،‬وهو‬


‫ون بِي‬ ‫َو َل ُي َب ِّد َل َّن ُه ْم ِم ْن َب ْع ِد َخ ْو ِفهِ ْم َأ ْم ًنا َي ْع ُب ُدو َن ِني َ‬ ‫ال ُي ْش ِــر ُك َ‬

‫ال‬ ‫الثابتــة المطــردة في الوحــي والكون‪ ،‬إجمــا ً‬ ‫ال أو تفصي ً‬ ‫معا‪ .‬وذلك ما يســتدعي هذا التنبيه‬ ‫في أحدهما أو فيهما ً‬

‫الذ ْك ِر أ ََّن‬ ‫الز ُبورِ ِم ْن َب ْع ِد ِّ‬ ‫‪‬و َل َق ْد َك َت ْب َنا ِفي َّ‬ ‫َش ْــي ًئا‪(‬النور‪َ ،)55:‬‬ ‫ا َ‬ ‫ون‪(‬األنبياء‪.)105:‬‬ ‫الصا ِل ُح َ‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ض َي ِر ُث َها ِع َبا ِد َي َّ‬

‫إلى مسألة النظام طري ًقا إلى الوراثة واستعادة لهذا الحق‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فمــن ســنن اهلل تعالى فــي خلقه‪ ،‬تذكيرهــم وإنذارهم‬

‫ولهــذا أوجــب القــرآن الســير فــي األرض والنظر في‬

‫غيهم وطغيانهم‪ ،‬أخذهم بالبأســاء‬ ‫يســتجيبوا‬ ‫َ‬ ‫وتمادوا في ّ‬

‫العلل واآلفات‪ ،‬وذلك ما ال يفعله الكثيرون ‪-‬لألســف‪-‬‬

‫فــإن هم لم‬ ‫وإرشــادهم بالرســل والرســاالت إلــى الحق‪ْ ،‬‬

‫ســير األوليــن‪ ،‬كــي ال تتكــرر األخطاء ويعــاد إنتاج نفس‬

‫‪‬و َل َق ْــد‬ ‫والضــراء والمعيشــة الضنكــى وتغييــر األحــوال‪َ :‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َأ َخ ْذ َنــا َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــن ال َّثمــر ِ‬ ‫ات َل َع َّل ُه ْم‬ ‫ِالســ ِن َ‬ ‫آل ف ْر َع ْــو َن ب ّ‬ ‫ين َو َن ْقــص م َ َ َ‬ ‫هلل َل ْم َي ُك ُم َغ ِّي ًرا ِن ْع َم ًة‬ ‫ون‪(‬األعراف‪َ  ،)130:‬ذ ِل َك ِب َأ َّن ا َ‬ ‫َي َّذ َّك ُر َ‬ ‫َأ ْن َع َم َها َع َلى َق ْو ٍم َح َّتى ُي َغ ِّي ُروا َما ِب َأ ْن ُف ِسهِ ْم‪(‬األنفال‪.)53:‬‬ ‫وقد يرتفع هذا المســتوى إلى درجة ســنة االستبدال‬

‫مــن القــوة والزينــة والعمــران‪ ،‬فيصابــون بــداء الغــرور‬ ‫‪‬‬ ‫آه‬ ‫والطغيــان واالســتغناء‪ :‬إ َِّن ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ــان َل َي ْط َغــى َأ ْن َر ُ‬ ‫اس َــت ْغ َنى‪(‬العلق‪ ،)7-6:‬فتأتــي ســنة االســتدراج والبســط‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــم‬ ‫فــي الملــذات‪َ  :‬ف َل َّمــا َن ُســوا َمــا ُذ ّك ُــروا بــه َف َت ْح َنــا َع َل ْيهِ ْ‬ ‫ــم‬ ‫َأبــواب كل ش‬ ‫ــي ٍء َح َّتــى ِإ َذا َف ِر ُحــوا ب َِمــا أُو ُتــوا َأ َخ ْذ َن ُ‬ ‫اه ْ‬ ‫ْ َ َ ُ ِّ َ ْ‬ ‫ين َك َّذ ُبوا ب َِآيا ِت َنا‬ ‫َب ْغ َتــ ًة َف ِإ َذا ُه ْم ُم ْب ِل ُس َ‬ ‫‪‬وا َّل ِذ َ‬ ‫ــون‪(‬األنعام‪َ ،)44:‬‬ ‫ال َي ْع َلم َ ‪ِ ُ ‬‬ ‫ــم إ َِّن‬ ‫ــث َ‬ ‫ــن َح ْي ُ‬ ‫َس َن ْس َــت ْدرِ ُج ُه ْم ِم ْ‬ ‫ُ‬ ‫ــون َوأ ْملــي َل ُه ْ‬ ‫ين‪(‬األعراف‪.)183-182:‬‬ ‫َك ْي ِدي َم ِت ٌ‬ ‫ومن تلك السنن أن لألمم والجماعات ‪-‬كما لألفراد‪-‬‬ ‫ال مقررة إذا تخلت عن شــروط بقائها‪ ،‬والتي ليســت‬ ‫آجا ً‬

‫الحــق بقيــم الصــاح فيهــم وبتحققهــم بشــروط التمكين‬ ‫ِ‬ ‫ــم َو َع ِم ُلــوا‬ ‫ــد ا ُ‬ ‫‪‬و َع َ‬ ‫هلل ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫واالســتخالف‪َ :‬‬ ‫آم ُنــوا م ْن ُك ْ‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ــات َليس َــت ْخ ِل َف َّن ُهم ِفــي ا َ‬ ‫ف‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اس َــت ْخ َل َ‬ ‫َّ‬ ‫ض َك َمــا ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هِ‬ ‫ــم ا َّل ِذي ْار َت َضى َل ُه ْم‬ ‫ه‬ ‫ين‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ــن‬ ‫م‬ ‫يــن‬ ‫ا َّلذ َ ْ َ ْ ْ َ َ ُ َ ّ َ َّ َ ُ ْ َ ُ ُ‬

‫يكونون حواجز أمامها وهم ال يشــعرون‪ .‬واعتبر آخرون‬ ‫أن قصص األنبياء واألمم أخبار وروايات ال تكليف معها‬

‫ال‬ ‫وكأنهــا لمجرد المعرفة والترفيه‪ ،‬مبطلين‬ ‫ّ‬ ‫ومعطلين أص ً‬

‫مــن أصــول التدين وهــو االعتبار‪ .‬أحد أصــول التكاليف‬

‫الجماعيــة المنوطــة باألمــة كأمــة‪ ،‬كالخيريــة والشــهادة‬ ‫والوسطية واالستخالف‪.‬‬

‫نعــم علــى األمــة تكاليــف إزاء اإلنســانية كمــا علــى‬

‫تجمــدت فــي‬ ‫األفــراد إزاء أنفســهم‪ ،‬وتلــك مســاحات ّ‬ ‫القــرآن والســنة تحتاج إلى من يحــرك الهمم إلى قممها‪.‬‬

‫ذلك ما نعتقد أن فضيلة األســتاذ فتح اهلل كولن‪ ،‬منشــغل‬ ‫ومهمــوم بــه إلــى درجــة التماهي معــه‪ ،‬فكيــف ينظر بعد‬ ‫ذلك من تعلق فكره ووجدانه بنفخة الروح وقيم المعاني‬

‫ونظــام كبريات الســنن‪ ،‬إلى ما دونها مــن مباحات الطين‬

‫والمباني وصغريات السنن؟!‬

‫مصلحا‬ ‫وهــل يكــون‬ ‫مجددا‪ ،‬يعطي القدوة من نفســه‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ألجيال األمل؟! من يفعل ذلك؟!‬ ‫(*)‬

‫جامعة السلطان موالي سليمان‪ ،‬بني مالل ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬ ‫الزمردية‪ ..‬نحو حياة القلب والروح‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل‬ ‫(‪ )1‬التالل‬ ‫ّ‬ ‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪2010‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬الموازيــن أو أضــواء علــى الطريق‪ ،‬فتــح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل للطباعة‬ ‫والنشر‪ ،‬القاهرة ‪2010‬م‪.‬‬ ‫(‪ )3‬مقــال "مــن الفوضــى إلى النظام" وارد في كتــاب "ونحن نقيم صرح‬ ‫الــروح‪ ،‬لألســتاذ فتــح اهلل كولــن‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشــر‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪2010‬م‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫شيئا آخر غير شروط الصالح في النفس‪ ،‬واإلصالح في‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫‪‬‬ ‫وم َما‬ ‫‪‬و َمــا َأ ْه َل ْك َنــا ِم ْن َق ْر َية ِإ َّ‬ ‫ال َو َل َها ِك َت ٌ‬ ‫اب َم ْع ُل ٌ‬ ‫الغيــر‪َ :‬‬ ‫ون‪(‬الحجر‪.)5-4:‬‬ ‫َت ْسب ُِق ِم ْن ُأ َّم ٍة َأ َج َل َها َو َما َي ْس َت ْأ ِخ ُر َ‬ ‫ومــن تلــك الســنن أن األرض يرثهــا فــي النهايــة أهل‬

‫جماعــات‪ ...‬فيبطئــون هــذه الحركــة وقــد يعرقلونهــا‪ ،‬أو‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الكلــي للقــوم عــن طريــق إهالكهــم وإبادتهــم إذا بلغــوا‬ ‫ــن َق ْر َي ٍة‬ ‫ــم َق َص ْم َنا ِم ْ‬ ‫مســتويات مــن الظلــم والفســاد‪َ :‬‬ ‫‪‬و َك ْ‬ ‫ين‪(‬األنبيــاء‪،)11:‬‬ ‫ــت َظا ِل َمــ ًة َو َأ ْن َشــ ْأ َنا َب ْع َد َهــا َق ْو ًمــا َ‬ ‫َكا َن ْ‬ ‫آخرِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ال َي ُكو ُنــوا‬ ‫ــم َ‬ ‫َ‬ ‫‪‬وإ ِْن َت َت َو َّل ْــوا َي ْس َــت ْبد ْل َق ْو ًمــا َغ ْي َر ُك ْ‬ ‫ــم ُث َّ‬ ‫َأ ْم َثا َل ُك ْم‪(‬محمد‪.)38:‬‬ ‫تمكنــوا وامتنعــوا بمظاهــر‬ ‫وقــد يتوهــم أقــوام أنهــم ّ‬

‫ممــن يتصــدرون اإلصــاح والتغييــر والتجديد‬ ‫أفــرادا أو‬ ‫ً‬

‫‪47‬‬


‫كثيــرا مــن مشــكالت األمــة تجــد حلها فــي إعادة‬ ‫إن‬ ‫ً‬

‫فساد المؤثرات الخارجية‪.‬‬

‫وصلهــا بالقيــم التــي انفصلــت عنهــا‪ .‬فقضايــا الــروح‬

‫• خدمــة النــاس ونفعهــم وإذابــة الــذات وإفناؤها في‬

‫واإليمــان واإلخــاص والتقــوى والورع والتــوكل‪ ،‬تجد‬

‫الفرح والســرور على قلبه ونفســه‪.‬‬ ‫إســعاد الغير‪ ،‬وإدخال َ‬

‫أصلهــا فــي قيــم الفطــرة والكينونــة اآلدميــة‪ ،‬وفــي نفخــة‬

‫وذلك من أفضل القربات والطاعات‪.‬‬

‫الــروح‪ ،‬وفــي العهــد والميثــاق األول الذي أخــذه الباري‬

‫وعقابــا‪ -‬علــى األفعــال‬ ‫ثوابــا‬‫• اعتبــار الجــزاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واألقوال‪ ،‬وهو منهج يحمل صاحبه على التحري الدائم‬

‫‪ ‬علــى النــاس بمقتضــى الخلــق واأللوهيــة والربوبيــة‪.‬‬

‫• اعتبــار اآلجل مــع العاجل والمآل مع األفعال‪ ،‬إذ‬

‫قيــم التزكيــة‪ .‬وقضايــا الفكــر والثقافــة والعلــوم والمعرفة‬

‫بلــذة تعقبهــا لــذة‪ ،‬وســرور يعقبــه ســرور‪ ،‬يفعل اإلنســان‬

‫والحركة والمبادرة والفاعلية‪ ،‬تجد أصلها في قيم اإلرادة‬

‫وقضايــا األخــاق والتربيــة والســلوك‪ ،‬تجــد أصلهــا فــي‬

‫تسديدا ومقاربة‪.‬‬ ‫في القول الراشد والفعل الصائب‬ ‫ً‬

‫والحضــارة‪ ،‬تجــد أصلهــا في قيم الهويــة‪ .‬وقضايا العمل‬

‫ليست العبرة بلذة عابرة تعقبها حسرة دائمة‪ .‬بل العكس‪،‬‬

‫والعزيمة‪ ...‬وهكذا‪.‬‬

‫ويســتزيد مــن الفعــل رضــا بمــا يفعــل‪ ،‬وتلــك مرتبــة من‬

‫صحيــح أنــه ال يمكن إيجــاد حدود فاصلــة بين قيمة‬

‫مراتب شكر النعم لتحصيل المزيد منها‪.‬‬

‫إن منظومــة القيم في اإلســام نســق كلــي تام مكتمل‬

‫وأخــرى وخلــق وآخــر‪ ،‬فهي كمــا ألمحنا كيــان منظومي‬

‫فيــه الجزئيــات بكلياتهــا‪ .‬ومــن ثــم كان اإليمــان مقتر ًنــا‬ ‫دائمــا بالعمــل الصالــح ألنــه ثمرتــه؛ فـ"المؤمــن َمــن أ ِمنه‬ ‫ً‬ ‫أيضــا ألنه‬ ‫دائمــا باإلســام ً‬ ‫النــاس"‪ ،‬وكان الســلم مقتر ًنــا ً‬

‫سالكا‬ ‫هي مراتب ومقامات متفاضلة‪ ،‬يترقى فيها اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫زمردية(‪ )1‬كلما ارتقى‬ ‫مدارجهــا منازل متعددة‪ .‬هــي تالل ّ‬ ‫وتشــوف إليه‪ .‬هي‬ ‫ا أشــرف على اآلخر‬ ‫اإلنســان منهــا تــ ًّ‬ ‫ّ‬ ‫موازين(‪ )2‬يزن بها اإلنســان ويوزن‪ ،‬وأضواء على الطريق‬

‫قطعا‬ ‫يفضي بعضها إلى بعض ويزود بعضها بعضا‪ .‬لكن ً‬

‫ومســتوعب شــامل‪ ،‬تلتحم فيــه الفــروع بأصولها وتتصل‬

‫وكان القــول مقتر ًنــا بالفعل‪ ،‬والفكــر بالحركة‪ ...‬وهكذا‪.‬‬ ‫وقد يطرأ الخلل على قيم الظاهر والمباني‪ ،‬التي تتجسد‬

‫ال‪،‬‬ ‫ال وأفعــا ً‬ ‫فــي أخــاق اإلنســان وتحــدد ســلوكه أقــوا ً‬ ‫لكــن إذا ســلم أصلهــا ومنبعهــا الــذي يزودهــا بالطاقــة‬ ‫ومبــررات الوجــود‪ ،‬المتجلــى في قيم الباطــن والمعاني‪،‬‬

‫أمكــن عالجها وإصالحها وإعــادة توجيهها نحو الوجهة‬

‫السليمة‪.‬‬

‫ِمن الفوضى إلى النّظام‬

‫(‪)3‬‬

‫إن الكــون صحــف اهلل المنظورة المبســوطة علــى الدوام‬ ‫يوميــا بآياتها وتدعوه إلــى التفكر‪،‬‬ ‫أمــام اإلنســان‪ّ ،‬‬ ‫تذكــره ًّ‬ ‫كله نظام‪ .‬والوحي صحف اهلل المقروءة المســطورة أمام‬ ‫يوميا بآياتهــا وتدعوه إلى التدبر‪،‬‬ ‫اإلنســان‪ّ ،‬‬ ‫تذكــره كذلك ًّ‬

‫كله نظام كذلك‪.‬‬

‫إن أخطــر تحريــف مارســته الحضارة الغربيــة المادية‬

‫ثــم فقــدان الميزان والمعيار القيمي المســدد والمصوب‪.‬‬

‫التحــدي األكبــر لوراثــة األرض وتمثيل الحق!‬ ‫ذلــك‬ ‫ّ‬

‫ولــم تنفــع مع ذلــك أخالق الظاهر الشــكلية فــي تقويم‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫تنير للسالك دربه وتعصمه من التيه والضالل‪.‬‬

‫فكيــف يعيــش اإلنســان الفوضى بين نظاميــن يتجلى‬

‫على أتباعها‪ ،‬هو إفساد قيم الباطن والمعاني نفسها‪ ،‬ومن‬

‫‪46‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ثمرته؛ فـ"المســلم َمن ســلم المســلمون من لســانه ويده"‪،‬‬

‫االنحرافات الســلوكية واالجتماعيــة أمام تضخم نزعات‬ ‫المتعــة واالســتهالك واليومــي والفردانــي الواحــدي‬

‫والعدمية والالمعنى‪ ،‬التي فرضها واقع العولمة والحداثة‬

‫ومــا بعدهــا‪ .‬واألخطــر منــه أن يتجلى ذلــك ويتحكم في‬ ‫النظم الفكرية والثقافية‪ ،‬والمعرفة والعلوم‪ ،‬والسياســات‬

‫والعالقات‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معا الجالل والجمال اإللهي؟!‬ ‫فيهما ً‬

‫قــدرا مــن النظــام ينســجم فيــه‬ ‫عندمــا يحصــل اإلنســان ً‬ ‫أصلــه الطينــي مــع نفخــة الــروح‪ ،‬وأخــاق الظاهــر مــع‬

‫قيم الباطن‪ ،‬وتتوحد فيه ســنن اهلل الدينية الشــرعية وسننه‬

‫الكونيــة القدريــة‪ ،‬يهتــدي باألولى ويجنــي ثمار ذلك من‬ ‫‪‬و َأ ْن َل ِو‬ ‫الثانيــة‪ .‬فهــذه الحالــة الســوية‪ ،‬حالة االســتقامة‪َ :‬‬ ‫الط ِري َق ِة َ َ‬ ‫ــاء َغ َد ًقا‪(‬الجن‪،)16:‬‬ ‫اس َــت َق ُاموا َع َلــى َّ‬ ‫ل ْســ َق ْي َن ُ‬ ‫اه ْم َم ً‬ ‫ْ‬ ‫وكل انحــراف عنهــا موقــع ال محالــة في مخالفة الســنن‬


‫إن املقاربــة الثقافيــة والحضارية لدى األســتاذ‬

‫ونعتقــد أن أعمــال فضيلــة األســتاذ فتــح اهلل كولــن‬

‫حارضة بقــوة لتخليص اإلنســان مــن قبضة الطني‬

‫فــي الــروح واإليمــان‪ ،‬وفــي الفكــر والثقافــة‪ ،‬وفــي‬

‫وجعله يحــي وينعم بنفخــة الــروح‪ .‬ولقد مارس‬

‫الســلوك والحضارة‪ ،‬وفي اإلرشــاد والتبليــغ‪ ،‬وفي القيم‬

‫األســتاذ تعديالت جوهرية عميقة يف مفهومي‬

‫واألخالق‪ ،‬وفي نماذج الســلف والصالحين والمفكرين‬

‫الثقافة والحضارة‪ ،‬مســتلهام اجتهادات تجديدية‬

‫والباحثيــن‪ ...‬وفــي كل جانــب طرقــه‪ ،‬إال وكان لــه أبلغ‬

‫وازنة‪ ،‬وذلــك بإعطائهام معان ودالالت تســتحرض‬

‫األثر في تحريك القلوب والعقول‪ ،‬وحفزها على مساءلة‬

‫العمق الدينــي الروحي واإلميــاين أوال‪ ،‬لتتجىل‬

‫الــذات إزاء تكاليفهــا وواجباتهــا تجــاه الديــن والنــاس‪.‬‬

‫بعد ذلك يف سائر املناحي واملجاالت‪.‬‬

‫ومــا ذاك فــي تقديــري إال مــن جهتيــن متالزمتيــن‪ :‬القــوة‬

‫والصــدق فــي األخــذ‪ ،‬والقوة والصدق فــي العرض‪ .‬فال‬ ‫يســتطيع المــرء أن ينبــط مــن عمــق األصــول إال بصــدق‬ ‫وقوة في اإلقبال‪ ،‬كما ال يســتطيع أن يؤثر في الناس إال‬

‫قريبا منهما في العرض عليهم‪.‬‬ ‫بنفس القوة والصدق أو ً‬

‫نعــم‪ ،‬نقــول هــذا ونكــرره‪ ،‬لكننــا نعجز عــن القيام به‬

‫حيا‬ ‫وعن تمثله‪ .‬وأعتقد أن األســتاذ يقدم‬ ‫نموذجا ومثا ً‬ ‫ً‬ ‫ال ًّ‬ ‫عــن هذا اإلمــكان‪ ،‬وذلك من خالل تحريكه لمســاحات‬

‫بهــا الواقــع والســلوك‪ ،‬ويعــاد مــن خاللهــا بنــاء تصــور‬ ‫اإلنســان عــن ذاتــه وواقعــه ومحيطــه‪ ،‬وذلــك هــو جوهر‬

‫التجديد وروحه‪.‬‬

‫لقــد هيمنــت النزعات الماديــة النفعية واالســتهالكية‬

‫علــى الفلســفات والعلــوم‪ ،‬وعلــى الثقافــة والحضــارة‪،‬‬

‫وعلى القيم واألخالق‪ ...‬وأضحت تؤطر الناس وتصوغ‬ ‫أفكارهــم وتوجــه أذواقهــم‪ ،‬حتــى إنــه لــم يعــد لإلنســان‬ ‫هامش من الحرية وإن تم كل ذلك باسم الحرية‪.‬‬

‫ولهــذا فالمقاربــة الثقافيــة والحضارية لدى األســتاذ‪،‬‬

‫حاضــرة بقوة لتخليص اإلنســان من قبضــة الطين وجعله‬

‫يحيا وينعم بنفخة الروح‪ .‬ولقد مارس األستاذ تعديالت‬ ‫مســتلهما‬ ‫جوهرية عميقة في مفهومي الثقافة والحضارة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اجتهــادات تجديديــة وازنــة‪ ،‬وذلــك بإعطائهمــا معــان‬ ‫ودالالت تســتحضر العمــق الدينــي الروحــي واإليمانــي‬ ‫صفحــات جديــدة يفتحهــا اإلنســان فــي نفســه وينظر من‬

‫خاللها إلى ما حوله‪ ،‬متحررة من أسر الماضي المتحجر‬ ‫ومــن هيمنــة الحاضــر المســتكبر‪ ،‬لتكون ثقافــة وحضارة‬ ‫األمــة‪ ،‬هــي ذات األمــة المنبعثــة مــن روحهــا وإيمانهــا‪،‬‬

‫من قيم المباني إلى قيم المعاني‬

‫إن اإلصــاح الحــق الــذي يربــط همم اإلنســان بالمعالي‬ ‫والقيــم‪ ،‬يجعلهــا وحــدة قياســية ‪-‬يقيــس عليهــا أداءه‪-‬‬ ‫ومعياريــة يعبــر بهــا إنجــازه‪ ،‬هــو مــن يكتــب لــه الخلــود‬ ‫والبقاء لبقاء وخلود ما ارتبط به‪ .‬ويكفي أن نشير من بين‬ ‫القمم التي يحرك نحوها هذا المشروع الهمم‪:‬‬ ‫• االســتنارة بنور الوحي‪ ،‬الحق الذي ال يأتيه الباطل‬ ‫مــن بيــن يديــه وال مــن خلفــه‪ ،‬نبــع المعــارف والهدايــة‬ ‫واإلرشــاد‪ ،‬والمــزود بالطاقــة والباعــث علــى اإلخــاص‬ ‫واألخوة والمحبة‪ ،‬والتأســي في ذلك بـ"النور الخالد ‪"‬‬ ‫خير البرية عليه الصالة والسالم‪.‬‬ ‫• االرتبــاط بقيــم الفطرة في اإلنســان التي بها تتحقق‬ ‫الــذات والكينونــة‪ ،‬والتــي يولد عليها هذا اإلنســان‪ ،‬على‬ ‫هيأتهــا وصفائهــا قبــل أن تجتالها الشــياطين ويطرأ عليها‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ال‪ ،‬لتتجلــى بعــد ذلك في ســائر المناحي والمجاالت‪.‬‬ ‫أو ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جديدة من القرآن يتحرك معها العقل والوجدان وينفعل‬

‫متخلقة بأخالقها وآدابها‪.‬‬ ‫إنــه َلنجــاز كبيــر وخــرق لـ"مبدأ" االســتحالة في ظل‬ ‫هيمنــة الرتابــة والجمــود وســيطرة النزعــات واألنانيــات‬ ‫أن يجعل هذا المشروع من‬ ‫وطغيان السطحية والشكلية‪ْ ،‬‬ ‫وأن يولــد من حركته‬ ‫أفــكارا في‬ ‫أفــكاره العميقــة حركــة‪ْ ،‬‬ ‫ً‬ ‫دينامية متجددة مبتكرة على الدوام‪.‬‬ ‫إن نفخة الروح في الهيكل الطيني هي ما جعل آلدم‬ ‫اعتبارات خاصة‪ :‬إسجاد المالئكة‪ ،‬والتكريم والتفضيل‪،‬‬ ‫واالســتخالف والتســخير‪ ،‬والشــهادة بالحــق‪ ،‬وحمــل‬ ‫األمانــة‪ ،‬وعمــارة األرض‪ ،‬ومــا إلــى ذلــك‪ .‬وتلك أصول‬ ‫ومبــادئ مــن رحمها أو على صرحها تصاغ الثقافة وتبنى‬ ‫الحضارة وتنشأ وتشاد العلوم والمعارف‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سعيد شبار*‬

‫األستاذ فتح الله كولن‬

‫ومشروع تحريك الهمم نحو القمم‬ ‫مدارج إنسانية وسننية في اإلصالح‬ ‫من قبضة الطين إلى نفخة الروح‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫جزئيــا‬ ‫ا‬ ‫لــم يكــن اإلصــاح قــط عمــ ً‬ ‫ًّ‬ ‫موضعيــا تســتفيد منــه فئــة أو طائفــة دون‬ ‫ًّ‬ ‫أخرى أو بلد دون آخر‪ .‬فاإلصالح في معناه العام ‪-‬كما‬ ‫تجلى في رساالت األنبياء ولدى حملة إرثهم الحقيقيين‬ ‫مــن الدعــاة والعلمــاء وفــي تجــارب كثير مــن الحكماء‪-‬‬ ‫شــأن عــام يعــم خيــره ونفعــه بعمــوم القيــم التــي يحملها‬ ‫جميعا‪.‬‬ ‫ويبشر بها في الناس‬ ‫ً‬ ‫ميســورا لكل مشــروع إصالحي أن‬ ‫ال وال‬ ‫فليس ســه ً‬ ‫ً‬ ‫ينطلــق مــن دائرتــه المح ّلية لينخــرط في األفق اإلنســاني‬ ‫تدافعــا وتعار ًفــا‪ ،‬بــل وأن يحتــل فيــه مواقــع‬ ‫والعالمــي‬ ‫ً‬ ‫متقدمــة مــن القبول واالســتجابة والتأثير والتأطير‪ ،‬إذ كل‬ ‫ذلك متوقف على منظومة القيم التي يحملها ويبشــر بها‬ ‫المشــروع على مســتوى رؤيتــه وتصوره‪ ،‬وعلى مســتوى‬ ‫خططه ومناهج عمله‪ ،‬وعلى مستوى سلوكه وممارسته‪.‬‬ ‫وليســت كل حركــة ذات نــزوع عالمي تحمــل بالضرورة‬ ‫قيمــا إنســانية عميقــة‪ ،‬كما هو شــأن كثير من الشــموليات‬ ‫ً‬ ‫االستبدادية وشأن العولمة اآلن‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫وهــذا هــو مــا انطــوت عليــه تصــورات األســتاذ فتــح‬

‫اهلل كولــن فــي صياغــة الفكــر الحضــاري‪ ،‬وهــو مــا قصد‬ ‫إحيــاءه فــي همــة كل باحــث في ميدان العلــوم من خالل‬

‫مــا عــرض فــي مختلــف مؤلفاته مــن توجيهــات وأفكار‪.‬‬ ‫فهــو كان يرى في الكشــف عن الحقائــق الكونية وإظهار‬

‫دالالتهــا اإلعجازية تعم ًقا فــي اإليمان يمتد إلى المعرفة‬ ‫ِ‬ ‫فاللذائذ الروحانية‪ .‬فكان من‬ ‫الحقيقية ومنها إلى المحبة‬ ‫كل ذلــك‪ ،‬يهــدف إلــى رســم الطريق لكل ســالك يطلب‬

‫الرقــي فــي ســ ّلم الكمــال‪ ،‬ذلــك الكمــال الذي مــن أجله‬

‫ُخلــق اإلنســان والــذي كان ‪-‬ومــا يــزال‪ -‬هــدف األســتاذ‬ ‫همه األكبر في هذا‬ ‫األســمى في مشــروع الخدمة‪ .‬فكان ّ‬

‫همة العلم والمعرفة‪ ،‬إيما ًنا منه بأن‬ ‫المشروع‪ ،‬استنهاض ّ‬ ‫القــرآن مــن خالل تذكيره بأن العلماء هم الذين يخشــون‬

‫اهلل ح ًّقا‪ ،‬إنما يقوم بتشويق الناس لتحصيل العلم‪ .‬الشيء‬ ‫دائما إلى الدين نظرة عقالنية تتماشــى‬ ‫الــذي جعلــه ينظر ً‬ ‫نصوصا‬ ‫ومســتجدات العصر‪ ،‬بحيث كان يرى في الدين‬ ‫ً‬

‫أي كما تنقلــك مما يالئم‬ ‫تجمــع بيــن العقل واإلذعــان‪ْ ،‬‬ ‫العقــل والمنطــق إلــى مــا يســتوجب التســليم واإلذعــان‪،‬‬

‫كذلك إذا انطلقت منها مما يستوجب التسليم واإلذعان‪،‬‬

‫حتما إلى ما يتوافق مع العقل والمنطق‪.‬‬ ‫فستصل بك ً‬

‫حــق علينــا نحــن معشــر العامليــن‬ ‫وهكــذا‪ ،‬فكمــا‬ ‫ّ‬ ‫فــي حقــل العلــوم‪ ،‬المطلعيــن علــى أفــكار هــذا العا ِلــم‬

‫قدمه للعلم‬ ‫وتصوراتــه‪ ،‬أن نقف وقفة إجالل وتقدير لما ّ‬ ‫هنئــوا بهذا‬ ‫والمعرفــة‪ ،‬كذلــك ّ‬ ‫حــق ألهــل بلــده تركيا أن ُي ّ‬ ‫الرجــل‪ ،‬مفخــر ِة العصــر الــذي ألهــم األجيــال بروحانيته‬ ‫العاليــة وإخالصــه للمبادئ اإلنســانية‪ ،‬وفتــح لهم اآلفاق‬

‫علــى العوالــم النورانيــة بإجابته النيرة على أعقد األســئلة‬ ‫المحيــرة التــي جــاءت بــكل صدق وأمانــة وثقــة ورزانة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مؤسســة لمعرفة غايتها صناعة الحياة الالئقة لهذا الجيل‬ ‫ّ‬ ‫واألجيال الالحقة‪.‬‬

‫(*) كلية العلوم‪ ،‬جامعة ابن طفيل ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬آفــاق اليقينيــات العلميــة‪ ..‬مــن تج ّليــات رؤى فتــح اهلل كولــن‬ ‫االستشــرافية‪ ،‬د‪ .‬عبــد اإللــه بــن مصبــاح‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشــر‪،‬‬ ‫القاهرة ‪2013‬م‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪43‬‬

‫شهادات‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الحليم عويس رحمه اهلل (مصر)‪:‬‬

‫المربــي "فتــح اهلل‬ ‫عندمــا تدخــل إلــى عالــم الداعيــة‬ ‫ّ‬ ‫كولــن"‪ ،‬ادخــل إلــى عالمــه‬ ‫تلميــذا يريد أن يعــرف الحق‬ ‫ً‬ ‫بالعلــم والنــور ويعمــل بــه‪ ..‬وال تدخــل إلى دنياه أســتا ًذا‬ ‫يريــد أن يع ّلــم وينقد‪ ...‬والفرق شاســع بيــن المدخلين‪.‬‬ ‫تلميــذا تكتشــف الكثيــر‪ ..‬بوجدانك كله‪..‬‬ ‫عندمــا تدخــل‬ ‫ً‬ ‫تكتشــف أنــك تعيــش الطبيعــة العصريــة لمنهــج القــرآن‬ ‫والنبوة‪ ..‬لكأنك في مدينة الرسول ‪ ‬مع أنك في القرن‬ ‫الحــادي والعشــرين للميــاد‪ ،‬الخامــس عشــرة للهجــرة‪.‬‬ ‫وفــي مجلســه تشــعر بعبق الرســول األعظم الخاتم ســيد‬ ‫المرســلين وإمامهــم ‪ ،‬كمــا تشــعر بالرائحــة الزكيــة‬ ‫لصحابتــه رضــوان اهلل عليهــم أجمعيــن وكأنهــم أنفســهم‬ ‫موجــودون‪ .‬اذهــب إلــى عالــم األســتاذ ‪-‬أو الواعــظ‪-‬‬ ‫"كولــن"‪ ،‬وأنــت تتمثــل منهــج النبــوة القديــم والمعاصر‪.‬‬ ‫فتعامل معه بقريب مما‬ ‫واعلم أنه يحقق المنهج نفســه‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫محمدا ‪ ‬بين‬ ‫كان الصحابــة يعاملــون به المعلم األعظم‬ ‫ً‬ ‫يديــه وفــي مســجده‪ ،‬أو وهــم يمشــون معــه عليــه الصالة‬ ‫والســام في دروب المدينة وأســواقها‪ .‬وهنا ســتكون قد‬ ‫عرفت المفتاح األســاس‬ ‫العام من مفاتيح مدرســة كولن‬ ‫ّ‬ ‫القرآنية النبوية الفكرية العملية‪.‬‬


‫ففــي مدرســة هــذا المفكــر التقــي الــورع النقــي‪ ،‬نقرأ‬

‫ــك ا َ‬ ‫ال‬ ‫أل ْم َث ُ‬ ‫ــاس َو َمــا َي ْع ِق ُل َهــا ِإ َّ‬ ‫‪‬و ِت ْل َ‬ ‫ــال َن ْض ِر ُب َهــا ِل َّلن ِ‬ ‫‪َ :‬‬ ‫ون‪(‬العنكبــوت‪ .)43:‬وهــذه األمثال التي تنطوي على‬ ‫ا ْل َعا ِل ُم َ‬

‫ســماء اليقينيــات العلميــة من خــال نظراته االستشــرافية‬

‫كفضــاءات واســعة للتفكــر والتدبــر من خالل مــا تحمله‬

‫األجيــال الباحثــة عن مكانتها المفقودة بين األمم‪ .‬بحيث‬

‫وإن لم تأت بالتفصيل العلمي للظواهر التي‬ ‫غاياتها‪ .‬فهي ْ‬

‫يمكن لها أن ُتسهم في البناء الحضاري المنشود‪.‬‬

‫فــي صفحــات منظومتــه الفكريــة تجليــات ح ّلــق بهــا في‬

‫غالبا ما نجد اآليات الكونية تعرضها‬ ‫معاني علمية عميقة‪ً ،‬‬

‫حيرت ‪-‬وما تــزال‪ -‬عقول‬ ‫التــي كانــت مفاتيــح ألغــاق ّ‬

‫دالالتهــا مــن مغاز علميــة ال تنقطع عجائبها وال تنقضي‬

‫اإلنســان‬ ‫تناولتهــا‪ ،‬إال أنهــا رمزت إلى أســرارٍ تســتبطنها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مدعو إلى ســبر أغوارها‪ .‬فال نجد في كتاب اهلل تفاصيل‬ ‫ٌّ‬

‫إذا تأملنــا فــي رؤيتــه للمســار الذي يجــب أن تكون عليه‬ ‫التجربــة العلميــة لهــذا الجيــل‪ ،‬نجــد أنه يحث بــكل قواه‬ ‫علــى مبــدأ الربط بين العلم واإليمان ال لشــيء إال لكون‬

‫علــم األحيــاء‪ ،‬وال ميكانيزمات فيزياء رفع الســماء‪ ،‬وال‬

‫الصلــة بيــن العلــم والدين هــي صلة جديــدة قديمة تربط‬

‫معــادالت نصــب الجبــال‪ ،‬وال آليــات تســطيح األرض‪،‬‬

‫بيــن موضوعيــن أزلييــن قــدر الحــق ســبحانه أن ال فــراق‬

‫ولكن نجد فيه الدعوة صريحة إلى البحث في أسرارها‪،‬‬

‫بينهمــا بدليــل اآليــات‪ .‬ومهمــا حاول اإلنســان أن يفصل‬

‫ال لشــيء إال ألنهــا تريــد منك أيها الباحــث الوصول إلى‬

‫خروجا عــن الطريق الصحيح‪،‬‬ ‫بينهمــا‪ ،‬لــم يزده فعله إال‬ ‫ً‬

‫معرفة ما وراء كل ذلك‪ ،‬وهو اهلل ‪.‬‬

‫يتبين من خالل‬ ‫ً‬ ‫وتضييعــا لألمانــة التــي حملها‪ ،‬ألنه كمــا ّ‬

‫استقرائنا لتجربته الفكرية‪ ،‬أن العلم الذي يكتسبه اإلنسان‬ ‫ثــروة للديــن‪ .‬لكــن إن هو ضعفــت فطرته‪ ،‬فــإن علمه قد‬ ‫يتعارض مع الدين فيكون ثورة عليه‪.‬‬

‫ومن هنا تظهر نظرة األستاذ فتح اهلل كولن بخصوص‬

‫آثار الفطرة السليمة على سالمة مسار العلوم التي يجب‬

‫أن تســتقيم باســتقامة اإلنســان‪ .‬من أجل ذلك نجده يركز‬ ‫فــي كثيــر مــن محطاتــه الفكريــة علــى الربــط بيــن العقــل‬

‫والقلــب‪ ،‬ذلــك ألن اهلل جعــل لإلنســان مــن التناســق بين‬ ‫تمامــا مــع تناســق الكــون‬ ‫العقــل والقلــب‪ ،‬مــا ينســجم ً‬

‫فصلها‬ ‫والقرآن وهداه إلى هذا االنسجام بيقينيات علمية ّ‬ ‫له سبحانه في آيات قرآنية يتناسق سياقها مع تناسق علل‬

‫إن هو أقبل‬‫الكون تناس ًقا يجعل المتعامل مع كتاب اهلل ْ‬ ‫تمكنه من‬ ‫عليه بقراءة علمية متجددة‪ -‬يصل إلى قناعات ّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫إثبات صحة ما جاءت به العلوم المكتســبة من جهة‪ ،‬ثم‬

‫‪42‬‬

‫توظيــف الحقائــق الثابتــة لهــذه العلوم في توســيع الفهم‬ ‫الصحيــح لمعانــي آيات الذكر الحكيــم من جهة أخرى‪.‬‬ ‫فالقــرآن الكريــم الــذي كان الشــهادة العظمــى فــي‬

‫رؤى أســتاذنا الجليــل مــن خــال مــا حملــه مــن نفحات‬ ‫العشــق واإلثارة في كيانه هو على خالف العلم البشــري‬

‫يخاطــب النــاس عن طريق ضرب األمثــال مصدا ًقا لقوله‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫البد ‪-‬إن هو سلمت فطرته‪ -‬أن يلتقي مع الدين فيكون‬

‫ومــن هنــا نجــد األســتاذ فتــح اهلل يتعامل مــع القرآن‬ ‫محــذ ًرا الباحثين‬ ‫تعامــل العا ِلميــن الذيــن عقلــوا خطابــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العلميين من أن يأخذوا نصوص الوحي فذة‪ ،‬ويحصروا‬

‫معانيهــا فــي مفاهيم علمهم المخبــري‪ ،‬حتى ال ُيخضعوا‬ ‫كالم الوحــي لبراهين العقــل ُفيحتج بالعلم على القرآن؛‬ ‫ألن ما جاءت به هذه النصوص ال يمكن للعلم البشــري‬

‫أن يحصــر معانيــه في تصوراته العقلية‪ .‬فالعلم الذي جاء‬ ‫به العقل‪ ،‬ال تخرج معاني كلماته عن محدودية ألفاظها‪،‬‬

‫لكــن علــم القرآن هو أوســع من ذلك بكثير؛ إذ يخاطب‬ ‫اإلنســان مــن خالل أمثــال ورموز قد تبعــد كل البعد عن‬ ‫التصانيــف المتعــارف عليها في المراجع العلمية‪ .‬وعليه‬

‫فــإن نحــن قرأنــا نصوص الوحي قــراءة لفظية فذة مجردة‬ ‫ْ‬

‫عــن أبعادها الداللية‪ ،‬فســنكون قــد مررنا بجانبها مكبلين‬

‫بمحدوديــة اللفــظ‪ .‬لكــن إذا أخذناهــا من ُبعدهــا التأملي‬ ‫الذي تضربه لنا األمثال التي جاءت بها اآليات‪ ،‬فسنكون‬ ‫قــد تحررنــا معها مــن محدودية اللفظ إلــى فضاء البحث‬

‫والتفكــر الــذي يرمي إليه فكر األســتاذ كمــا رأينا‪ ،‬والذي‬ ‫كتــاب اهلل مجاالتــه بيــن بعــدي الزمــان والمــكان‪.‬‬ ‫يســطر‬ ‫ُ‬

‫وهمــا البعدان اللــذان عليهما يتأســس المختبر التجريبي‬ ‫الموجــه لمصيــر‬ ‫الــذي فيــه تتــم صياغــة الفكــر العلمــي‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫دور تدبير للحياة‬ ‫دور العالم فيــه َ‬ ‫اإلنســان‪ ،‬والــذي يبقــى ُ‬ ‫هو مسؤول عنه إلى يوم القيامة‪.‬‬


‫إن األســتاذ فتح اللــه كولن هو أحد الرجــال الذين‬

‫اليقينية‪ .‬والنموذج في شخص عالم هذا الجيل‪ ،‬األستاذ‬

‫سخّ رهم الله لخدمة هذه األمة‪ ،‬فاستطاع بنورانية‬

‫خرهم‬ ‫فتح اهلل كولن ‪-‬وهو أحد هؤالء الرجال الذين ســ ّ‬

‫علمــه أن يضــع لبنات التأســيس ملدرســة فكرية‬

‫اهلل لخدمــة هــذه األمــة‪ -‬الذي اســتطاع بنورانيــة علمه أن‬

‫تتكامل فيها عنارص الواقع والعقل والوحي تكامال‬

‫يضع لبنات التأسيس لمدرسة فكرية تتكامل فيها عناصر‬

‫يذكر بذلك املايض املــرق لألمة الذي كان فيه‬

‫ا يذكــر بذلــك الماضــي‬ ‫الواقــع والعقــل والوحــي تكامــ ً‬ ‫فقيها‪.‬‬ ‫المشــرق لألمة الذي كان فيه الفقيه عا ِل ًما والعا ِلم ً‬ ‫ذلــك الماضــي الــذي باســتقامة فكــر علمائــه علــى درب‬

‫الفقيه عاملا والعامل فقيها‪.‬‬

‫االستقامة الكونية استقامت العلوم‪ ،‬فأشعت بنورها على‬

‫يشــكل مصــدر إلهام لكثيــر من المتطلعين إلــى بناء ذلك‬

‫مشيدة لحضارة شكلت مهد بناء النهضة‬ ‫القارات الثالث ّ‬

‫المجتمع المثالي الذي فيه يكمل اإلنسان بكمال فكره‪،‬‬

‫تقديرا لروح األمانة التي نحملها‬ ‫ومــن هنــا حق علينا‬ ‫ً‬

‫بنبــرة فكــره المســتوحاة مــن الكتــاب والســنة أن يضــع‬

‫العلمية الحديثة‪.‬‬

‫وفيــه يســتقيم باســتقامة علمــه‪ .‬ذلك أن األســتاذ اســتطاع‬

‫الء‪،‬‬ ‫إزاء مــا ينبغــي أن نشــيد بــه مــن جهــود علمائنــا األج ّ‬

‫لبنــات التأســيس لمدرســة تندمج فيها المنظومــة العلمية‬

‫نعرف بقدر هؤالء الرجال‬ ‫خــدام هذه األمــة األوفياء‪ ،‬أن ّ‬

‫مــع القيــم األخالقية‪ ،‬لتهيئ البيئــة الصالحة‪ ،‬لتبلور رؤية‬

‫إلظهار آثار تجلياتهم النورانية على استنهاض الهمم في‬

‫اإلســام الوســطية المنخرطة بشــكل حيوي مع الحداثة‬

‫بناء فكر الحضارة اإلنسانية‪.‬‬

‫أحسست من خاللها أنني أمام شخص يتمتع‬ ‫العلمية(‪،)1‬‬ ‫ُ‬

‫بروحانيــة عاليــة وقوة هائلــة على العطــاء واإللهام‪ .‬ذلك‬ ‫علميا‬ ‫فكريــا أو بح ًثا‬ ‫موضوعــا‬ ‫أننــي كنــت كلمــا أنجزت‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫إال ووجدت نفســي في لب مدرســته الفكرية وكأنني في‬

‫صلب رؤاه اآلفاقية يستوعبني نهجه التجديدي في إقامة‬ ‫أسس العمارة وتشييد صرح الحضارة‪ .‬فكنت وأنا أطالع‬ ‫لهــذا العا ِلــم في بحور ما أ ّلفــه من درر ونفائس‪ ،‬ال أجده‬

‫ال‬ ‫أبــدا عن مبــدأ الربط بيــن العقل والقلــب‪ ،‬محاو ً‬ ‫يحيــد ً‬ ‫دائما إيصال اإلنسان بالكون ليذيب فيه وحدته الداخلية‬ ‫ً‬ ‫ويؤنســه بمعيــة الحــق متــى أوحشــته العوالــم الخارجية‪.‬‬

‫استنهاضا لهمة التفكر التي‬ ‫فكنت أجد في نظرته للكون‬ ‫ً‬

‫فــي حقيقــة كل شــيء‪ ،‬مــن خــال شــحذ عزيمــة البحث‬ ‫الرزيــن المنبنــي على مطالعــة الكون وقــراءة األنفس من‬

‫منطلق إيماني صرف‪.‬‬ ‫فلــم يكــن ِ‬ ‫يجــد نعيمــه إال في الشــقاء بعقلــه والقلم‪،‬‬ ‫حتــى عــا بنورانيــة فكــره إلــى أعلــى القمــم‪ ،‬فأصبــح‬

‫واالحتــرام المتواصــل‪ ،‬يســتطيع الفــرد المســلم بالحجة‬

‫واإلقنــاع‪ ،‬جعل اآلخريــن يقبلون بأفكاره ويتفاعلون مع‬

‫أساليبه‪ .‬وتلك أسس بناء الفكر الحضاري‪.‬‬

‫فالعصــر الــذي نحــن فيــه‪ ،‬لــه مــن المعوقــات مــا إن‬

‫ورشــدا‬ ‫علميا فائ ًقا‪،‬‬ ‫نضجا‬ ‫تداعياتــه لتســتدعي منا‬ ‫فكريا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫الئ ًقا بمســتجدات هذا الزمان الذي نرى حاجة اإلنســان‬

‫فيه إلى إنسانيته أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى‪.‬‬

‫وهــذا أجــده تجلى على عدة مســتويات في فكر األســتاذ‬ ‫فتــح اهلل كولــن‪ ،‬الــذي بتحديثــه المداركَ فــي فهم القرآن‬ ‫وبتأصيلــه لعالقــة التفاعل بين العلم واإليمــان‪ ،‬وببحوثه‬

‫قدم نمــاذج راقية‬ ‫المقاصديــة فــي ترشــيد فكــر اإلنســان‪ّ ،‬‬

‫النبعــاث روح االجتهــاد والتجديــد وتوجيهات نيرة لبناء‬

‫فكــر علمي رشــيد‪ .‬فال يســعني إال أن أقــف وقفة إجالل‬ ‫هم أمة‪ ،‬كالشمعة تحترق‬ ‫وتقدير لهذا العالم الذي يحمل ّ‬

‫لتنير الطريق للبشــر‪ ،‬وكالشــجرة تشــقى لتمد الغير بالظل‬ ‫والثمــر‪ .‬هــذا العا ِلم الذي برؤيته المنســجمة مع موازين‬

‫ِ‬ ‫الكــون‬ ‫المؤسســة لمدرســته الكبــرى التــي عنوانهــا البناء‬ ‫ّ‬

‫الحضــاري‪ ،‬ألهم الكثير من الباحثين بتحليالته المعمقة‪،‬‬ ‫هم العشق العلمي ال‬ ‫وأيقنهم أن المعرفة التي ال تحمل ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫هي أعظم باب يدخل منه اإلنسان على اهلل‪ .‬ذلك أنه من‬ ‫خــال نظرته هذه َأ ّســس لمدرســة فكريــة عنوانها التفكر‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السرور بأفكار فتح‬ ‫فلقد َس َّر اهتمامي الشخصي بالغ ّ‬ ‫اهلل كولــن وبــرؤاه التــي جعلتني أعيش فتــرات من المتعة‬

‫العالميــة‪ .‬تلــك الرؤيــة التــي مــن خــال الفهــم المتبــادل‬

‫‪41‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح*‬

‫فتح الله كولن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫سس لفكر حضاري‬ ‫م َأ َّ‬ ‫عا ِل ٌ‬

‫‪40‬‬

‫ال شــك أن العلمــاء هــم شــموع هــذه‬

‫هم الخدمة‪َ ،‬لما رأت إنسانية اإلنسان فيه النور‬ ‫األحداث ّ‬

‫ُيفتقــدون أو فــي الليالــي الظلمــاء التــي‬

‫الصحيح حتى ُيستبان الحق فيه من الباطل‪.‬‬

‫األمــة‪ ،‬الذين ال ُيعــرف قدرهم إال حين‬

‫فيهــا ُيفتقد النظر‪ .‬وما أشــبه هــذا الزمان بتلك الليالي لما‬ ‫يشــوبه من ظالمية في الرؤى حول حقيقة الحق ومزاعم‬ ‫حمى‬ ‫الباطــل‪ .‬فلــوال وجود رجال حملــوا على هدأة من ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫و َلمــا وجــدت من يعيد وضع قاطرة الفكر على مســارها‬ ‫أولئــك هــم الشــموس والمصابيــح الذيــن بأنوارهــم‬

‫تنــورت المفاهيم‪ ،‬فســلكت المســار الكونــي القائم على‬ ‫الموازيــن العلميــة الموصلــة إلــى الكشــف عــن الثوابــت‬


‫ــض مضجعهــم‪ ،‬وأطــار النــوم‬ ‫ونهارهــم؛ رجــل واحــد َأ َق َّ‬

‫مــن أعينهــم‪ ،‬رجــل اســمه "فتــح اهلل كولــن"‪ ..‬ال لشــيء‬

‫أســتغفر اهلل‪ -‬بل لشــيء واحد هو أنه استطاع من خالل‬‫أن يضع في رؤوس‬ ‫كتبــه ومحاضراتــه وخطبه ومقاالته‪ْ ،‬‬

‫طلبتــه فكــر ًة‪ ،‬وفــي قلوبهــم لوعــ ًة‪ ،‬وفــي عيونهــم دمعــ ًة‪،‬‬ ‫وشكرا‪ ،‬وفي‬ ‫حمدا‬ ‫ذكرا‪ ،‬وعلى ألسنتهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعلى شفاههم ً‬ ‫قيامــا‪ ،‬وفي نهارهم‬ ‫أفئدتهــم رجفــ ًة وخشــي ًة‪ ،‬وفــي ليلهم ً‬

‫صياما‪ ...‬يصلحون وال يفســدون‪ ،‬يعمرون وال يهدمون‪،‬‬ ‫ً‬

‫ويحلمون وال يجهلون‪ ،‬ويعطون وال يأخذون‪ ،‬ويضحون‬ ‫وال يغنمون‪ ...‬هؤالء هم طلبة "فتح اهلل كولن"‪.‬‬

‫إن "الخدمــة" بمؤسســاتها المختلفــة إنمــا هــي قــوة‬

‫اندفاعية لحياة المجتمع‪ ،‬إنها روح سام وعقل اقتحامي‬

‫معينة‪ ،‬بل هي الحقبة‬ ‫َو َّثاب‪ ...‬وهي ليست ابنة حقبة زمنية ّ‬ ‫الزمانية المعنية نفسها‪ ،‬وهي إحدى التجارب الحية التي‬

‫تغــري الباحثيــن للمزيد من الدراســة والبحــث والتقويم‪،‬‬ ‫أن هنــاك طريقة‬ ‫فهــذه الخدمــة تعنــي فــي كثير ممــا تعنيه ّ‬

‫أخرى للعيش‪ ،‬طريقة مجدية وذلك بواسطة تعاون العقل‬ ‫والتجربــة‪ ،‬وتناغــم العقــل والوجــدان‪ ،‬والــروح والمادة‪.‬‬ ‫كمــا أنهــا تعمــل من الناحيــة الســيكلوجية على جعل‬

‫العامل فيها يعود إلى نفسه‪ ،‬ويصالح ذاته‪ ،‬ويلتقي وجوده‪،‬‬ ‫ويســتخرج مــن هــذا الوجود قواه الفاعلة غيــر المنظورة‪،‬‬

‫ويســخرها للتجديد واإلبداع واالبتكار‪ ،‬وبذلك يتخلص‬ ‫ّ‬ ‫مــن جحيــم وجوده الداخلي الذي تؤججه فيه الســكونية‬ ‫والبطالــة واجترار الزمــن الميت‪ ،‬بينما تظل غريزة الحياة‬

‫الملتهبــة فــي داخلــه تســتحثه لكي يلقي بنفســه في دوامة‬

‫ويكرس وجوده للفعل واالنفعال‪.‬‬ ‫العمل‬ ‫ّ‬

‫فرجل الخدمة يأســف شــديد األسف ويرثي ألولئك‬

‫لســبب ما إلى قضــاء هذه الحياة‬ ‫النــاس الذيــن يضطرون‬ ‫ٍ‬

‫بهــذا الشــكل الفاتر والتافه والمدمــر‪ ...‬فرجل الخدمة ال‬

‫أن تغلبه‪ ،‬وكلما‬ ‫يعرف الراحة‪ ،‬وال يستنيم لها‪ ،‬وال يقبل ْ‬ ‫أحس بألم فــي روحه يفزعه‬ ‫جنــح إلى شــيء مــن الراحة‬ ‫َّ‬

‫ويقــض مضجعــه‪ ...‬إنــه كالطائــر الذي انطلــق من قفصه‬ ‫ّ‬ ‫يموت وال يعود إليه مرة أخرى‪.‬‬

‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪39‬‬

‫شهادات‬ ‫د‪ .‬عبد اهلل بن عبد العزيز المصلح (السعودية)‪:‬‬

‫ربــى محمد فتح اهلل كولــن تالميذه بالدموع قبل‬ ‫لقــد ّ‬ ‫رباهم باإلخالص‪ ،‬فلماذا ال نفعل‬ ‫يربيهم بالكلمات‪ّ ،‬‬ ‫أن ّ‬ ‫ذلــك؟! فتــح اهلل كولــن كان يجتمع في دروســه اآلآلف‪،‬‬ ‫ال‬ ‫سياســيا‬ ‫أن يكون مســؤو ً‬ ‫لب منهم ْ‬ ‫ولمــا اجتمعــوا ما َط َ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫اقتصاديــا‪ ،‬حتــى الــزواج مــا تــزوج‪.‬‬ ‫ثريــا‬ ‫ًّ‬ ‫وال أن يكــون ًّ‬ ‫وإنمــا بــدأ بصناعة جيل من أمثال هــؤالء اإلخوة‪ ،‬هؤالء‬ ‫نمــا فيهــم اإليمان‪.‬‬ ‫رباهــم‪ِ ..‬‬ ‫الشــباب‪َّ ..‬‬ ‫حــرص عليهــم‪َّ ..‬‬ ‫كأ ِّني به وقد أخذ بمنهج رسول اهلل ‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبد المجيد بلعابد (المغرب)‪:‬‬

‫فتــح اهلل كولــن رجــل فــي أمــة‪ ،‬ونحــن في المشــرق‬ ‫وفــي المغــرب في العالم اإلســامي كلنــا فتح اهلل كولن‪.‬‬ ‫إنه وهب نفسه هلل‪ ،‬وهب نفسه لهذه األمة‪ .‬لم يتزوج ولم‬ ‫يكن له أوالد‪ ،‬فحسبه أننا نحن أبناؤه وحاملو أفكاره‪.‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬سليمان الدقور (األردن)‪:‬‬

‫األســتاذ فتــح اهلل كولــن‪ ،‬أعتقــد أنــه تحقيــق لقــول‬ ‫الرســول ‪ :‬يبعــث اهلل علــى رأس كل مئــة عــام لهــذه‬ ‫األمــة َمــن يجدد لهــا أمر دينها‪ ..‬التجديــد الحقيقي الذي‬ ‫يقــوده األســتاذ فتــح اهلل كولن في الفكــر والوعي والفهم‬ ‫يتعرف‬ ‫والحركة في التكامل والشمول‪ ،‬نموذج ينبغي أن ّ‬ ‫إليه العالم كلُّ العالم‪.‬‬


‫يمنحه قوة نفاذ إلى خفايا النفس البشرية ويبصره بعوامل‬

‫لالطالع عليها واالســتفادة‬ ‫عصــر‪ -‬لرجــل العمق والنفاذ ّ‬

‫أنــه ســيحظى بأفضــل الوســائل التــي تســاعده فــي مهمته‬

‫فــكل عمــل إصالحــي أو تجديدي يعجز عــن بناء الروح‬

‫تحريكهــا فــي االتجــاه التجديــدي الذي يســعى إليه‪ ،‬كما‬

‫منهــا في بناء صروح اإلصــاح والتجديد في هذه األمة‪.‬‬

‫بالتحديات واإلشــكاالت‪.‬‬ ‫التجديدية لهذا القرن المليء‬ ‫ّ‬

‫اإلبداعيــة‪ ،‬وفتح أبواب طالقة التفكير في نفس المســلم‬ ‫عمــل محكــوم عليــه مســب ًقا بالفشــل كمــا يــرى اإلمــام‬

‫وهــو القــرن الــذي يتوقــع المجــددون واإلصالحيــون‬

‫بــدل أن‬ ‫اإلصالحــي والمجــدد "فتــح اهلل كولــن"‪ ،‬ألنــه َ‬

‫أن تتالشــى فيــه وتــذوب كل األزمنــة الســابقة وتتوحــد‬ ‫ْ‬

‫يكون عامل انفتاح على عالمي الغيب والشهادة‪ ،‬يتحول‬

‫زخمــا يدفعــه إلــى انعتاق من ســجن زمانه‪،‬‬ ‫معــه وتعطيــه ً‬

‫إلــى هبــوط وتقهقر في ســياقه الوجــودي األصيل‪ ،‬وهذه‬

‫والخالص من وزر خطاياه وآثامه‪.‬‬

‫إحساســا باالنبعاث‬ ‫واإلمــام المجــدد يبعث في األمة‬ ‫ً‬

‫هــي اإلشــكالية الصعبــة التــي يعكــف "اإلمــام" على حل‬

‫المدويــة تدمــر العتاقة والعفونة من جهــة‪ ،‬وتبعث الحياة‬

‫ولئــن كان عالــم اإلســام قــد عانــى الكثيــر مــن‬

‫عقدتها‪ ،‬وتفكيك تشابك خيوطها‪.‬‬

‫الداخلي‪ ،‬وهو يجتاح عقلها ووجدانها كالعاصفة المطيرة‬

‫االضطرابــات والنزاعــات ‪-‬وحتــى الحــروب وغــزارة‬

‫والنمــاء مــن جهــة أخــرى‪ ،‬وتعمل على االرتفــاع بالروح‬ ‫َّ‬ ‫صعــودا إلــى األعلى حيث تعيش فــي أجواء عقلية َم َّوارة‬ ‫ً‬

‫الدماء‪ -‬بسبب الخالف الجدلي والصراعي بين مفهومي‬

‫وخصبة‪ ،‬فتتنفس فيها التجديد واالبتكار واإلبداع‪ ،‬فيزيد‬

‫"اإلمــارة" و"الخالفــة" فــي قــرون اإلســام األولــى‪ ،‬فــإن‬

‫نشاطها اإلشعاعي العالي إلى كل جهة من جهات الحياة‬ ‫هدرا ال تأتي‬ ‫بالقوة والتحكم والتحرر‪ ،‬فال تذهب حياته ً‬ ‫يعول‬ ‫بشيء ذي أهمية‪ ،‬وهذه هي االستنارة العقلية التي ّ‬ ‫اإلصالحيون في مشروعهم اإلصالحي مع األمم‪.‬‬ ‫عليها‬ ‫ّ‬

‫أن اإلمــام المجــدد ملــزم أن يالحــق المســافات‬ ‫كمــا َّ‬

‫البعيــدة مــن الروح والفكر وال يكتفي بالمديات القصيرة‬

‫والبطيئــة منهمــا‪ ،‬فالمديــات البعيــدة مــن الــروح والفكــر‬ ‫مهمة المصلح‬ ‫مفعمــة بالطاقــات االنفجارية التي ّ‬ ‫تســهل ّ‬

‫أو المجدد في إنشاء اإلطار االحتوائي لكل نشاطاته التي‬

‫يمارس من خاللها عمله اإلصالحي‪ ،‬فهو يتعشق الحياة‬ ‫ويعمــل مــن أجل إخصابها وزيــادة حيويتها‪ ،‬ومن جانب‬

‫آخــر يكافح ليمنع األمة مــن اجترار آالمها وإحباطاتها‪،‬‬

‫والحيلولــة دون وقوعهــا فريســة تحــت ســطوة ميلها إلى‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫االنتحــار الروحــي فــي دوامة يأســها وقنوطها وشــعورها‬

‫‪38‬‬

‫والدونية إزاء األمم األخرى‪.‬‬ ‫بالقصور ّ‬

‫فهندســة بنــاء الفكــر الروحــي واإليماني لهــذه األمة‪،‬‬

‫موجــودة فــي تخطيطها األولي منــذ األزل وإلى األبد في‬

‫ســور القرآن الكريم وآياته وكلماته‪ ،‬ومحفوظة صورتها‬ ‫فــي مخيلــة الكــون الغيبــي والحســي وفــي عقليهما على‬ ‫ــد ســواء‪ ،‬وهــي فــي انتظــار ‪-‬فــي كل وقــت وفــي كل‬ ‫َح ٍّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اإلنســانية فــي ترابــط كيانــي داخلــي ينتــج عنــه إحســاس‬

‫هــذا الخــاف ال زال صــداه يــدوي فــي أروقــة أصحاب‬ ‫الدعــوات‪ ،‬وال زال يســبب لألمــة الكثيــر مــن المآســي‬

‫والتفــرق واالفتــراق‪ ...‬ومنــذ ســادت مفاهيــم‬ ‫واألحــزان‬ ‫ّ‬

‫"اإلمــارة" و"الملــك العضوض" وغابــت مفاهيم الخالفة‬ ‫الراشــدة‪ ،‬وجلس األمير على كرســي "اإلمارة" والحاكم‬ ‫علــى كرســي الحكــم‪ ،‬منذ ذلك الوقت أصبــح "الحاكم"‬

‫إن‬ ‫يتوجــس خيفــة‪ ،‬ويعيــش‬ ‫مرعوبا مــن أي تجمع حتى ْ‬ ‫ً‬ ‫التجمــع ال يتجاوز عدد أصابع اليدين‪ ،‬وحتى‬ ‫كان هــذا‬ ‫ّ‬ ‫لــو كان هــذا التجمــع من أجل دعوة إلــى معروف ونهي‬ ‫الحكام‪ ،‬شــعورهم‬ ‫عــن منكــر‪ ...‬فكبرى مشــاكل هــؤالء‬ ‫ّ‬

‫بالذنــب لتغييبهــم معنــى كبيــر مــن معانــي الخالفــة‪،‬‬ ‫وباالنهزام النفسي من نهاياتهم الحزينة‪ ،‬وعدم االطمئنان‬ ‫بشــريا يحتمون به‪ .‬إنها‬ ‫حزاما‬ ‫يشــكلون‬ ‫إلى أولئك الذين‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫الشكوكية القاتلة التي تتحول مع الزمن إلى فكرة أصيلة‬

‫الحــكام التظاهر‬ ‫يــدن هــؤالء‬ ‫ّ‬ ‫فــي ذهنيــة الحاكــم‪ ،‬فمــن َد َ‬ ‫بالقــوة بكيــل اللعنــات واألكاذيــب واالتهامــات لكل َم ْن‬ ‫يســبح بحمدهــم أو يؤمــن بأنهم منــاط األمل‬ ‫يرفــض أن ّ‬ ‫والخالص من عذابات شعوبهم‪.‬‬

‫الصولجــان والهيلمــان فــي تركيــا‬ ‫فبعــض أصحــاب َ‬ ‫اليــوم‪ِ ،‬ممــن قلبــوا لنــا ظهــر ِ‬ ‫أحالمــا‬ ‫ــن‪ ،‬يعيشــون‬ ‫الم َج ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫كابوســية مرعبــ ًة ُتالزمهــم فــي نومهــم ويقظتهــم‪ ،‬وليلهم‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫رواد اإلصالح والتجديد‬ ‫ّ‬

‫فتح الله كولن ْ‬ ‫ال َمع َلم والمثال‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫مرهــا إلــى هــذا اليــوم أربعة عشــر قر ًنا‬ ‫ُع ُ‬ ‫وني ًفا‪ ،‬وهي َت ُش ُّق طريقها بين أمم األرض‬ ‫حاملــ ًة على كاهلها "القول الثقيل" الذي‬ ‫اعتذرت عن حمله األرض والسماوات والجبال وأشفقن‬ ‫منــه‪ .‬غيــر أنهــا ‪-‬وبين زمن وآخــر‪ -‬تنوء بحملهــا‪ ،‬فتتع َّثر‬ ‫أرضا‬ ‫فــي خطاهــا‪،‬‬ ‫وربما ســقطت ً‬ ‫وتتخبــط فــي ســيرها‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وابتلعها ســحيق ظالم‪ ،‬وغيبتها هوة نســيان‪َ ،‬ف ُي َظ ُّن أنه ال‬ ‫ُيرجــى لهــا بعد ذلــك من قيام‪ ،‬وال ُي َؤ َّم ُل لها من نهوض‪.‬‬ ‫ــذ َفذٌّ‬ ‫وم ْن ِق ٌ‬ ‫ولكــن ســرعان مــا َي ْن َش ُّ‬ ‫ــق عنها ٌ‬ ‫إمــام عظيم ُ‬ ‫علــى درايــة وإدراك بالمآتــي التــي أتــت منهــا األخطــار‪،‬‬ ‫وتوالــت منهــا عليهــا الضربــات‪ ،‬فيأخذ بيدها‪ ،‬وينتشــلها‬ ‫مــن هوتهــا‪ ،‬وينهضهــا من ســقطتها‪ ،‬ويصلح من شــأنها‪،‬‬ ‫ويشــد مــن أصرها‪ ،‬ثم‬ ‫ويقــوم صلبها‪،‬‬ ‫ويعــدل معوجهــا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫المحجــة البيضــاء‪ ،‬ويد ّلها على‬ ‫يوقفهــا مــر ًة أخــرى على‬ ‫َّ‬

‫بخ ًطى‬ ‫الطريق المستقيم‪ ،‬فتعاود المسير‪ ،‬وتباشر الطريق ُ‬ ‫المجدد الذي‬ ‫تردد وال تع ُّثر‪ ،‬وهذا هو المصلح‬ ‫ّ‬ ‫ثابتة بال ّ‬ ‫يجــيء تصدي ًقــا لقولــه ‪" :‬إن اهلل يبعــث لهذه األمة على‬ ‫يجدد لها دينها" (وراه أبو داود)‪.‬‬ ‫رأس كل مائة سنة َمن ّ‬ ‫المجــدد في فكر األمة وروحها‬ ‫وتأتــي قــوة تأثير هذا‬ ‫ِّ‬ ‫مــن اســتقرائه لتاريخهــا‪ ،‬ومــن إدراكه ألعماقيــات ذاتها‪،‬‬ ‫وتكوينــات ضميرهــا‪ ،‬كما أنــه على دراية جيــدة وإحاطة‬ ‫لمجددي ثالثة عشــر قر ًنا‬ ‫شــاملة بالمجهودات التراكمية‬ ‫ّ‬ ‫وبتجنــب‬ ‫مــن قبلــه‪ ،‬واإلفــادة مــن تجاربهــم ومعاناتهــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إخفاقاتهــم‪ ،‬ومدارســة نجاحاتهــم؛ فتأتي أفــكاره وآراؤه‬ ‫والســنة‪،‬‬ ‫مغربلــة بغربال العقل‪ ،‬ومص ّفاة بمصفاة الكتاب‬ ‫ّ‬ ‫فيمضي مع ّأمته في قفزات نوعية ووثبات مفصلية لمسابقة‬ ‫والتقدم‪.‬‬ ‫الزمــن واســتدراك ما فات من عوامل النهــوض‬ ‫ّ‬ ‫المجدد‪،‬‬ ‫فاالســتبصار الذي هو من خصائص اإلمام‬ ‫ّ‬

‫‪37‬‬


‫ولهــذا لــم يقابــل االعتــداء باعتــداء‪ ،‬ولم يفقــد توازنه في‬

‫ثغورها أبناء الخدمة من تالميذ كولن‪.‬‬

‫أحلك الليالي‪ ،‬ولم ينفلت عن اعتداله في أحرج الظروف‪.‬‬

‫‪ -14‬حسه الوحدوي‬

‫ولهذا يمكن اعتباره من فلتات الدهر‪ ،‬حتى يصح أن‬ ‫ليأتين بمث ِل ِه‬ ‫الزمان‬ ‫يقال فيه‪ :‬حلف‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫منــذ بدايــة دعــوة كولــن وهــو يحتــرم الــكل ويحتضــن‬

‫الجميــع‪ ،‬ينظــر إلى كافة مكونات األمة على أنها أعضاء‬

‫ ‬

‫ال‪.‬‬ ‫في جسم واحد‪ ،‬ولو كان بعضها علي ً‬

‫‪ -16‬خدمته السابغة‬

‫يحســن الظــن باآلخريــن‪ ،‬ويبحــث لهــم عــن أعــذار‪،‬‬

‫َيعتبــر كولــن أن الخدمة هي الوظيفــة المركزية التي خلق‬

‫يفرش للجميع سجادة التسامح ويصبر على األذى؛ ألنه‬

‫اهلل اإلنســان مــن أجلهــا‪ ،‬ولهــذا فقــد انهمــك فــي خدمــة‬

‫تحمل"‪.‬‬ ‫يؤمن "أن هذه الدنيا ليست بدار شكوى‪ ،‬بل دار ّ‬

‫النــاس حتــى اإلنهــاك‪ ،‬حيــث أصابته عدد مــن األمراض‬

‫ويمتلــك فــي هــذا الســياق مقــدرة هائلــة علــى جمع‬

‫القاتلة واستوطنته العديد من األسقام الفاتكة‪.‬‬

‫أوجــه الحقيقــة‪ ،‬وتأليــف أبعــاد الصــورة‪ ،‬وعلــى اقتــاع‬

‫وهــو يــرى أن الدنيــا ليســت دار جزاء بــل دار خدمة‪،‬‬ ‫وفــي تقســيمه لــأرض لــم ِ‬ ‫يس ْــر وفــق التقســيم التقليدي‬ ‫الذي يقسمها إلى "دار إسالم" و"دار كفر أو حرب"‪ ،‬بل‬

‫جذور الشــرور واســتزراع دوحات الخيــر‪ ،‬وقطع رقاب‬

‫الفجــور وإطالــة أعنــاق التقــوى‪ ،‬وعلــى تمزيــق أواصــر‬

‫العصبيات ومد جسور المودات‪.‬‬

‫قسمها إلى دار إسالم و"دار خدمة"‪.‬‬

‫إنه يهدم بؤر الفســاد ببناء خاليا الصالح‪ ،‬ويســتأصل‬ ‫وساعده على تنمية حسه الوحدوي حساسيته الشفافة‬

‫وحذرا في التعامل مــع اآلخرين‪ ،‬بل‬ ‫التــي جعلتــه رقي ًقــا‬ ‫ً‬ ‫وجعلته يخطط لكل شيء بشكل دقيق وهو التدقيق الذي‬ ‫دائما في كتبه‪.‬‬ ‫يشطر الشعرة إلى أربعين‬ ‫شطرا كما ّ‬ ‫يردد ً‬ ‫ً‬

‫‪ -15‬حكمته البالغة‬

‫كان صاحبــه‪ ،‬واســتمر يحصد الشــرور بمنجــل الحكمة‪،‬‬

‫ويقتلع األشواك بفأس الفطنة‪.‬‬

‫وصــارت روحــه مــن الــذكاء بحيــث تعــرف "كيــف‬

‫تســتنبت الــورود فــي قلب الفالة‪ ،‬وتســتخرج الســكر من‬

‫أرباحا متنامية حتى في مواســم‬ ‫جــوف القصــب‪ ،‬وتحقق‬ ‫ً‬

‫الكســاد والخســران"‪ ،‬كمــا ورد عنــد توصيفــه لإلنســان‬

‫امتلــك كولــن دهاء الحاني وحنو الداهيــة‪ ،‬فما برح يع ّلم‬ ‫الشــباك‪ .‬يحــدب علــى تالميــذه كعطــف الدجاجــة علــى‬

‫المتطرفــة فــي تركيــا إلــى برد وســام‪ ،‬فهو قــادر بإذن اهلل‬

‫يتجنبــون الشــراك‪ ،‬وكيــف يبتعــدون عــن‬ ‫تالميــذه كيــف ّ‬

‫وكما استطاع كولن ‪-‬بفضل اهلل‪ -‬تحويل نار العلمانية‬

‫مدربا إياهم على الحذر من الوقوع في الفخاخ‪.‬‬ ‫أفراخها‪،‬‬ ‫ً‬

‫علــى تحويل األكفــان ‪-‬التي يعدها لألمــة أعداؤها‪ -‬إلى‬

‫تنفس الصعداء‪ ،‬وتنسم عبير الحرية وأريج الكرامة؛ حتى‬

‫ال تخنقهم غازات العبودية ومخلفات االستبداد والفساد‪.‬‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫يشــجع كل عمل إيجابي مهما‬ ‫وفي هذا الســبيل ظل‬ ‫ّ‬

‫الكامل في مقالته‪" :‬المجتمع المثالي"(‪.)4‬‬

‫لقد ع ّلم تالميذه صعود الذُّ رى العالية مع الحرص على‬

‫‪36‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أشواك االختالف بتنمية فسائل االئتالف‪.‬‬

‫زمان فك ِّف ِر‬ ‫يمينك يا ُ‬ ‫َح َن َث ْت ُ‬

‫ف سحب حكمته عن الهطل في أرض عواطفه‪،‬‬ ‫تك ُّ‬ ‫ال ُ‬

‫األيــك التي تمنع تراب العواطــف من االنجراف‬ ‫ً‬ ‫زارعــا ْ‬

‫مع أعاصير االنفعاالت الصماء وسيول الفتن العمياء‪.‬‬

‫وببراعــة بالغــة امتلــك القدرة على العبــور من "منطق‬

‫الحــق" إلــى "نطــاق الحكمــة" فــي تعامله مــع الخصوم‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫قمصان‪.‬‬ ‫(*)‬

‫أستاذ الفكر اإلسالمي السياسي بجامعة تعز ‪ /‬اليمن‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫الجوزية‪ ،‬ص‪.206:‬‬ ‫(‪ )1‬الفوائد‪ ،‬ابن قيم‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )2‬كولــن وصياغــة فقــه االئتــاف‪ ،‬عبقرية فتح اهلل كولــن‪ ،‬د‪ .‬فؤاد البنا‪،‬‬ ‫ص‪ ،169:‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2013‬‬ ‫(‪ )3‬هندســة الحضــارة‪ ..‬تجليــات العمــران فــي فكر فتــح اهلل كولن‪ ،‬أ‪.‬د‪.‬‬ ‫سليمان عشراتي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2013‬‬ ‫(‪ )4‬مجلة حراء‪ ،‬العدد‪( 31:‬يوليو ‪ -‬أغسطس ‪.)2012‬‬


‫ولقــد ظل "كولن" ثابتًا كالجبــال يف أرض املبادئ‬

‫يمل من التحذير من األفكار التي‬ ‫ووحشية النفوس‪ ،‬ولم ّ‬

‫والقيــم والكليات‪ ،‬وميور كالســحاب يف ســاء‬

‫تصيب اإلنسان باعتالل الصحة والمزاج‪ ،‬وقد تؤدي إلى‬

‫املتغــرات‪ ..‬ال يتزحــزح عــن الحق قيــد أمنلة لكن‬

‫قتلــه‪ ،‬وهــو هنا يتفــق مع علمــاء التنمية البشــرية‪ ،‬ومنهم‬

‫حكمته تهبه مرونة شــديدة تساعده عىل االنحناء‬

‫الدكتــور إبراهيــم الفقــي الــذي عارض مقولــة أن "الناس‬

‫أمام العواصــف واالنكامش أمــام األعاصري حتى‬

‫ذاهبــا إلى أن الناس يموتون‬ ‫يموتــون بســبب ما يأكلون"‪ً ،‬‬

‫متر بســام‪ ،‬وحتــى يف هــذه اللحظــات الحرجة‬

‫بسبب ما يأكلهم وهي "األفكار السيئة"‪.‬‬

‫فإنه يرمي بذور أفكاره املثمــرة يف مهب الريح‬ ‫ليحولها بإذن ربه من ريح عاصف إىل رياح لواقح‪.‬‬

‫‪ -10‬براعته اإلنقاذية‬

‫ظل يدأب من أجل استنهاض الناس من مراقد الضالل‪،‬‬

‫وانتشــالهم من مســاقط الظالم‪ ،‬واســتجماعهم من أنحاء‬

‫‪ -12‬أخالقه الرفيعة‬

‫التشظي‪ ،‬واستنقاذهم من مهاوي التردي‪.‬‬

‫امتلــك كثيــرا من ِ‬ ‫الخــال العالية والخصــال البانية‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬

‫وقــد نجــح في الغوص في أعمــاق المجتمع التركي‬

‫الصعوبة بمكان اإلحاطة بها في هذه العجالة‪.‬‬

‫حتى اســتطاع ‪-‬بمعونة اهلل‪ -‬اســتخراج كثير من الشــباب‬

‫عروجا في‬ ‫وما نود اإلشارة إليه هنا‪ ،‬هو أنه كلما ازداد‬ ‫ً‬

‫مــن مســتنقعات "الخليــات" واقتيادهــم إلــى بحيــرات‬

‫وانغراسا في أرض الناس‪.‬‬ ‫تواضعا‬ ‫سماء األخالق ازداد‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫"الحليالت"‪ ،‬على سبيل المثال‪.‬‬

‫بإطفاء الحرائق‪ ،‬ال أدري إن كان قد نسي أن يتزوج؟! أم‬ ‫أنه قد عقد قرانه على "الخدمة" بعد أن رأى عزوف أكثر‬

‫المسلمين عنها؟!‬

‫‪ -11‬قدراته الهندسية‬

‫أثبتت األيام أن كولن مهندس قدير‪ ،‬وأنه مناضل جسور‬ ‫في تجسير كثير من الفجوات القائمة في حياة المسلمين‬ ‫والتي يتسلل منها األعداء‪ ،‬وتتخفى فيها اآلفات‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وفــي زحمــة األعمــال اإلنقاذيــة وفــي غمرة انشــغاله‬

‫الــذل لتالميــذه‪ ،‬أكبــروه حتى‬ ‫وعندمــا خفــض جنــاح‬ ‫ّ‬

‫جناحــا آخــر هــو جنــاح المهابة‪ ،‬حيــث ارتفع‬ ‫رفعــوا لــه‬ ‫ً‬ ‫عندهم إلى سماء العلياء وأعالي السماء‪.‬‬

‫‪ -13‬جاذبيته الشديدة‬

‫امتلــك عشــرات الخصــال الظاهــرة والباطنة التــي منحته‬ ‫"كاريزمية" آسرة وشخصية جاذبة‪ ،‬فقد ظل مع ربه يكثر‬

‫الخلــوة‪ ،‬ومع دعوته يشــعل الصبوة‪ ،‬ومع إخوانه يطفئ‬

‫ُذباالت الجفوة‪ ،‬ومع خصومه ال يميل إلى القسوة‪.‬‬

‫إذا تكلــم أبــان‪ ،‬وإذا جادل أالن‪ ،‬وإذا اســتطاع أعان‪.‬‬

‫فقد بنى جســور التربية الفاعلة وهي المدارس‪ ،‬وبنى‬

‫يمتلك قدرة هائلة على اإلقناع‪ ،‬ومما يروى في ذلك أنه‬

‫وأوجد الجسور الفضائية التي تقيم اللحمة بين الناس وهي‬

‫رجــال األعمــال ‪ 180‬درجــة‪ ،‬والذي كان قــد بنى ألبنائه‬

‫ــكون"‪،‬‬ ‫جســور التجــارة النافعــة مــن خالل جمعيــة " ُت ْ‬ ‫وس ُ‬

‫اســتطاع خــال بضــع دقائق أن يحول مجــرى حياة أحد‬

‫ومد الجســور الحوارية عبر منتديات‬ ‫القنــوات الفضائية‪ّ ،‬‬

‫بضــع فلــل راقية في أحــد أفخم مناطق إســطنبول تدعى‬

‫للعبور إلى المســتقبل‪ .‬ولغزارة الجســور التي بناها كولن‬

‫كولن أقنعه بأن األحياء أحوج إلى الغســل من األموات‪،‬‬

‫جســورا لألمــة‬ ‫الحــوار‪ ،‬وتمثــل هــذه الجســور وغيرهــا‬ ‫ً‬

‫"تــل العرايــس"‪ ،‬وجاء يريد التبرع بمغســلة للموتى‪ ،‬لكن‬

‫الجزائري الدكتور ســليمان عشراتي كتابه القيم‪" :‬هندسة‬

‫وشــكون"‬ ‫"ج ْ‬ ‫ألوالده‪ ،‬وقــد صــارت تلــك الفلل مدرســة ُ‬

‫عموما‪ ،‬فقد ألــف المفكر‬ ‫وبســبب قدراتــه الهندســية‬ ‫ً‬

‫الحضارة‪ ..‬تجليات العمران في فكر فتح اهلل كولن"(‪.)3‬‬

‫ينميهــا اهلل‬ ‫علــى إرســال تلــك الفلــل إلــى اآلخــرة حتــى ّ‬ ‫تــل العرايس لتربية عرايس المســتقبل التي يرابط في‬ ‫فــي ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫كتابا(‪.)2‬‬ ‫فقد تحدثنا عنها في مقالة مطولة يمكن أن تصبح ً‬

‫حيث تمتلئ الكثير من العقول والقلوب باألدران‪ ،‬وح ّثه‬

‫‪35‬‬


‫أثبتــت األيام أن كولن مهنــدس قدير‪ ،‬وأنه مناضل‬

‫األوشــاب‪ ،‬وتنقيــة الحياة مــن الخطوب‪ ،‬وتســاعده على‬

‫جســور يف تجســر كثري مــن الفجــوات القامئة‬

‫إخماد نيران الفتن وإشعال مصابيح الفطن‪.‬‬

‫يف حياة املسلمني والتي يتســلل منها األعداء‪،‬‬

‫‪َ -7‬و ْصلُه األقوال باألفعال‬

‫وتتخفــى فيها اآلفــات‪ .‬فقد بنى جســور الرتبية‬

‫يمتلــئ كولــن إيما ًنــا وخشــية‪ ،‬فيتكلــم حالــه قبــل مقالــه‪،‬‬

‫الفاعلــة‪ ،‬وبنى جســور التجــارة النافعــة‪ ،‬وأوجد‬

‫وتستقيم أفعاله وفق أفكاره‪ ،‬وتسير جوارحه وراء بوصلة‬

‫الجســور الفضائية التي تقيــم اللحمة بني الناس‪،‬‬ ‫ومــد الجســور الحواريــة‪ ..‬ومتثل هذه الجســور‬ ‫ّ‬

‫روحه‪ ،‬وتسير عربة قالبه وراء حصان قلبه‪.‬‬

‫وغريها جسو ًرا لألمة للعبور إىل املستقبل‪..‬‬

‫وظل يعتبر بأن العمل بدون إيمان نفاق‪ ،‬وأن اإليمان‬

‫ــل األقوال باألفعال‬ ‫بــدون عمل فســق‪ ،‬ومن هنا فقد َو َص َ‬ ‫حتى انطبق عليه قول الشاعر‪:‬‬

‫‪ -5‬موازنته بين الثبات والمرونة‬

‫وأراك تفعل ما تقول وبعضهم‬

‫اســتطاع كولــن أن يمتلــك باقتــدار معادلــة الثوابــت‬

‫ ‬

‫والمتغيرات‪ ،‬فهو أيبس من الحجر في الثوابت وأســلس‬

‫وجــدت أن‬ ‫ولهــذا ارتقــى فــي معــارج الخدمة‪ ،‬حتى‬ ‫ُ‬

‫مــن المــاء فــي المتغيــرات‪ ،‬أصلــب مــن الحديــد فــي‬

‫اإلمــام ابــن قيــم الجوزيــة (ت‪751/‬هـــ) ‪-‬وهــو يتحــدث‬

‫وأرق من الحرير في الفرعيات‪.‬‬ ‫األساسيات‬ ‫ّ‬

‫والكليــات‪ ،‬ويمور كالســحاب في ســماء المتغيرات‪ ..‬ال‬ ‫يتزحــزح عــن الحــق قيــد أنملــة لكــن حكمته تهبــه مرونة‬

‫شديدة تساعده على االنحناء أمام العواصف واالنكماش‬ ‫أمام األعاصير حتى تمر بسالم‪ ،‬وحتى في هذه اللحظات‬

‫الحرجة فإنه يرمي بذور أفكاره المثمرة في مهب الريح‪،‬‬

‫ليحولها بإذن ربه من ريح عاصف إلى رياح لواقح‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -6‬قدراته العابرة والعامرة‬

‫لقد امتلك من المواهب والقدرات والطاقات البانية ما يندر‬ ‫أن تجتمع في شخص واحد‪ ،‬فإن ذكاءه حاد وذهنه صاف‪،‬‬ ‫قريحتــه و ّقــادة وبديهتــه خاطفة‪ ،‬عقلــه راق وقلبه رقراق‪.‬‬ ‫إنه شالل هادر يبرئ العليل ويبرد الغليل‪ .‬فهو أديب‬

‫أريب وطبيب عبقري‪ ،‬يســتطيع شــفاء الكثيرين من تورم‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الـ"أنــا" وتضخــم الــذات‪ ،‬ويداويهــم من تســفل المشــاعر‬

‫‪34‬‬

‫وتدني الغرائز‪ ..‬يبني حول اإلنســان حصو ًنا حصينة َتقيه‬

‫وقــر الدنايــا‪ ،‬وتحميــه من ذئــاب اآلثام‬ ‫حــر الخطايــا ّ‬ ‫مــن ّ‬ ‫وكالب الموبقات‪.‬‬

‫تمكنــه مــن تصفيــة الميــاه مــن األكــدار‪،‬‬ ‫إن قدراتــه ّ‬

‫وتخليــص المعــادن مــن الشــوائب‪ ،‬وتطهيــر النفوس من‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عــن خدمــة المؤمــن‪ -‬كأنــه يصف كولن‪ ،‬حيــث قال (أي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ثابتــا كالجبــال فــي أرض المبــادئ والقيم‬ ‫ولقــد ظــل ً‬

‫مذق اللسان يقول ما ال يفعل‬

‫ابــن القيــم)‪" :‬ليــس العجب من صحيح فــارغ واقف مع‬

‫الخدمة‪ ،‬وإنما العجب من ضعيف مقيم تعتوره األشغال‪،‬‬ ‫وتختلــف عليــه األحوال‪ ،‬وقلبه واقف مــع الخدمة‪ ،‬غير‬

‫متخلف بما يقدر عليه"(‪.)1‬‬

‫‪ -8‬مهاراته البستانية‬

‫أثبــت كولــن أنــه بســتاني ماهــر‪ ،‬فمــا فتــئ يضــع بــذور‬

‫الورود الربيعية في أحشاء الشتاء القارس‪ .‬إنه يتقن إلقاء‬ ‫بذور الخير‪ ،‬واســتنبات شــتائل المعروف‪ ،‬وتثمير سنابل‬ ‫العطــاء‪ ،‬وتثقيــل عناقيــد الكــرم‪ ،‬وتفتيق مشــاعر الجمال‪،‬‬

‫وتفتيح أزهار العشق‪.‬‬

‫و ِل َتع ْملق كولن في هذا السياق يصح أن نقول فيه ما‬

‫قاله الشاعر العربي‪:‬‬

‫ربيع باكر ‬ ‫إنما أنت ٌ‬

‫حيثما صرفه اهلل انصرف‬

‫‪ِ -9‬طبُّه النطاسي‬

‫مــا فتــئ كولن يعمل على تخليص المســلمين من أوجاع‬

‫الجنــوح‪ ،‬ويح ِّليهــم بأجنحــة الســمو فــي عوالــم الحيــاة‬ ‫والم ُثل الراقية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الصحية وفي سماوات القيم ُ‬

‫وظــل يــدأب من أجل معالجتهم من وحشــة القلوب‬


‫برباعة بالغة امتلك األســتاذ فتح الله كولن القدرة‬

‫وأنــوه بــه وأشــيد بمحامــده وفيــه‬ ‫وكيــف ال أمدحــه‬ ‫ِّ‬

‫عىل العبور من "منطق الحق" إىل "نطاق الحكمة"‬ ‫يف تعامله مع الخصوم‪ ،‬ولهذا مل يقابل االعتداء‬

‫عشــرات الخصــال‪ ،‬ومــن أبــرز عناوينهــا الســافرة فــي‬

‫باعتداء‪ ،‬ومل يفقــد توازنه يف أحلك الليايل‪ ،‬ومل‬

‫شخصيته اآلسرة‪:‬‬

‫ينفلت عن اعتداله يف أحرج الظروف‪.‬‬

‫‪ -1‬استمداده الرباني‬

‫إنه رجل رباني من طراز رفيع‪ ،‬إذ يحسن الصلة بالسماء‪،‬‬ ‫حيث يستبطن النصوص القرآنية‪ ،‬ويستنطق السنن النبوية‪،‬‬

‫لغته رائقة السالســة‪ ،‬وأحالمه تائقة العلو‪ ،‬وتشبيهاته‬

‫مكنه من التنزيل القويم للنصوص على األحداث‪.‬‬ ‫وهذا ُي ّ‬

‫عذبــة‪ ،‬وقاموســه واســع‪ ،‬ومعانيه غزيــرة‪ ،‬ورؤاه متدفقة‪،‬‬

‫الــذي صنعــه جيــل الصحابــة الكــرام ‪ ،‬والــذي يصــر‬

‫نظــم المعانــي‪ ،‬يجتبــي األســاليب‬ ‫وي ِّ‬ ‫َي ُ‬ ‫نظــم المبانــي ُ‬ ‫ويقتطــف األفــكار‪ ،‬يجمــع بيــن األفــكار المســتقيمة‬

‫باكيا‬ ‫الصحابــة" للكندهلــوي مــن مكتبتــه‪ ،‬ثم التفت إليــه ً‬

‫والصياغــات الممتعــة‪ ..‬يقتنــص الروائــع ويختطــف‬

‫ويســتوطن األحداث المعاصرة‪ ،‬فيعيش في القلب منها‪،‬‬

‫فائقة الجمال‪ ..‬خياله خصب‪ ،‬وبالغته فارهة‪ ،‬وفصاحته‬

‫لألمة‪ ،‬عصــر الضياء‬ ‫إن قلبــه معلــق بالعصــر َ‬ ‫الذهبــي ّ‬

‫وأفكاره ثرية‪.‬‬

‫إن أحــد تالميذه‬ ‫‪-‬كولــن‪ -‬علــى إعادتــه مــن جديد‪ ،‬حتى ّ‬

‫وقال‪" :‬كونوا مثل هؤالء أو موتوا!"‪.‬‬

‫البدائع‪ ،‬يقتحم الغوامض ويكتشف المجاهل‪.‬‬

‫‪ -2‬إخالصه الباني‬

‫إنــه كتلــة مــن اإلخــاص تتحــرك علــى قدميــن‪ ،‬حيــث‬

‫ُعــرف بأنــه قــوي التعلق بــاهلل‪ ،‬شــديد الفناء فيه‪ ،‬وبســبب‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المقربيــن يــروي أن أســتاذه أخرج ذات يــوم كتاب "حياة‬

‫واألســاليب السلســة‪ ،‬يؤلــف بيــن الــرؤى المقنعــة‬

‫يجيــد التقعيــد بــدون تعقيــد‪ ،‬ويحســن التنظيــر بدون‬

‫تلغيز‪ ،‬ويبرع في التأصيل من دون طلسمة‪.‬‬

‫‪ -4‬تنظيره المستبصر‬

‫مباركا‬ ‫ال‬ ‫بركــة اإلخــاص وتفاؤل التوكل‪ ،‬فقــد صار رج ً‬ ‫ً‬

‫لقــد عرفنــا أن كولن صاحــب رؤى ناقدة‪ ،‬ومبدع نظرات‬

‫وفي الخلية إنسا ًنا‪ ،‬وفي الفرد عا َل ًما‪ ،‬وفي اإلنسان كو ًنا‪.‬‬

‫مستبصر وتنظير مستشرف‪.‬‬

‫بحرا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكريمــا‪ ،‬حيــث يرى في الذرة مجــرة‪ ،‬وفي القطرة ً‬

‫‪ -3‬رؤاه الثاقبة‬

‫ثاقبــة‪ ،‬ومالــك بصيــرة نافــذة‪ ،‬مما جعله صاحــب تأصيل‬ ‫لقــد صــار عقله دائــرة معــارف‪ ،‬وقلبه بســتان بصائر‪،‬‬

‫تؤكــد خمســة عقود من زمنــه المتدفق عطاء‪ ،‬أنه صاحب‬

‫وصــارت بصيــرة فكــره آية عقله‪ ،‬وأنــوار حبه عالمة قلبه‬

‫ال عنه النقاط حتى يتبين الخيط‬ ‫عن الحروف‪ ،‬ويضع بد ً‬

‫إنه يفهم الشــرائع ويفقه الوقائع‪ ،‬وهو يقرأ المآالت‬

‫رؤى صائبــة ونظرات ثاقبة‪ .‬فهو في كتاباته يرفع النقاب‬ ‫األبيض من الخيط األسود من الفكر!‬

‫كتاباتــه عاريــة عــن أثواب الريــاء العليــل‪ ،‬وخالية من‬

‫مكســوة بحلــل الجمال الطبيعي‪ ،‬ومطــرزة بحلي الكمال‬

‫التلقائــي‪ ،‬حيــث يظهــر تمكنــه مــن نســج حريــر اللغة‪ ،‬إذ‬ ‫يفصــل المبنــى على قدر حجــم المعنى‪ ،‬مع ُأ ّبهة تجذب‬

‫القلوب‪ ،‬ومتانة تسبي األلباب‪ ،‬وفخامة تأسر األرواح‪.‬‬

‫وينظــر فــي العواقــب‪ ،‬حتى يمكــن وصفه بما قاله شــاعر‬ ‫عربي قديم‪:‬‬

‫بصير بأعقاب األمور كأنما‬ ‫ٌ‬

‫ ‬

‫عواقبه‬ ‫يخاطبه من كل أمر‬ ‫ُ‬

‫ومن كل هذه النوافذ صار يستشرف المستقبل‪ ،‬وعلى‬

‫سبيل المثال فإن مآالت الربيع العربي تؤكد نضج رؤية‬ ‫كولن في أن "اإلنسان هو المشكلة وهو الحل"‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫أغطيــة التســندس المتكلــف‪ ،‬وفــي ذات الوقــت تجدهــا‬

‫النابض بالحياة‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا*‬

‫صورة قلمية لسراج الزمن‬

‫فتح الله كولن‬

‫قــدم فتــح اهلل كولــن‬ ‫مــن يعــرف مــاذا ّ‬ ‫وأمتــه لــن يســتغرب كثــر َة وقــوة‬ ‫لوطنــه ّ‬ ‫المدائــح التي أطلقهــا كثير من المفكرين‬

‫واألكاديمييــن والباحثيــن العــرب فــي حــق هــذا المفكــر‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الداعيــة‪ ،‬الــذي يــكاد أن يكــون الســراج األقــوى في هذا‬

‫‪32‬‬

‫وقديما قال الشاعر‪:‬‬ ‫العصر وسط المسلمين‪.‬‬ ‫ً‬

‫ال‬ ‫س من أن يحمدوا رج ً‬ ‫والناس ْأك َي ُ‬ ‫حتى يروا عنده آثار إحسان‬ ‫ ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫حينام تدخل عــى مرشوع األســتاذ بعقلية الحرص‬

‫آم ُنــوا اس َــت ِجيبوا ِ ِ‬ ‫ل َو ِللر ُس ِ‬ ‫ــم ِل َما‬ ‫ــول ِإ َذا َد َع ُ‬ ‫َأ ُّي َهــا ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫ْ‬ ‫اك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِيك ْم‪(‬األنفال‪.)24:‬‬ ‫ُي ْحي ُ‬ ‫ومــن وراء هــذا‬ ‫فتســأل َ‬ ‫"مــن وراء هــذا المشــروع‪َ ،‬‬

‫الالمركزيــة يف املرشوع‪ ،‬وأناقــة‬ ‫الندية بني أبناء‬ ‫ّ‬

‫ُكولن"‪.‬‬

‫والفنانني‪ ،‬وقــف رجال األعامل‪ ،‬وقــف الجمعيات‬

‫والعد يتيه‪ ،‬كام ين ّبه املتبتّل واملتفكر يف محراب‬ ‫التأمل والتدبر والنظر والجامل‪ ،‬حيث يدهشك جامل‬

‫العمــل"؟ فيقــال لك بصوت خافت "إنه األســتاذ فتح اهلل‬

‫املرشوع‪.‬ويبهــرك تعــدد األوقاف؛ وقــف الكتاب‬

‫ولكن َمن هو؟ إنه ممن نســي حظوظ نفســه من أجل‬

‫الطوعيــة والخريية‪ ،‬املســتوصفات‪ ،‬املــدارس‪..‬‬

‫خدمــة غيــره‪ ،‬ومنهجــه الفنــاء فــي خدمــة اآلخــر كســبيل‬

‫وكلها يف حالة تناغم داخيل وخطاب عاملي‪.‬‬

‫للفنــاء فــي عبــادة اهلل‪ ،‬والفنــاء فــي حب اآلخــر طالما قاد‬ ‫ذلك لمحبة اهلل‪.‬‬

‫الجمعيــات الطوعية والخيرية‪ ،‬وقف التواصل والتداخل‬

‫فــر بدينه‬ ‫متأســيا‬ ‫ً‬ ‫وتســأل "أيــن هــو"؟ فيقــال لــك لقــد ّ‬

‫بموســى ويوسف عليهما الســام حيث ُم ِّكن لكل منهما‬

‫عبــر شــبكات التواصــل االجتماعــي‪ ،‬المســتوصفات‪،‬‬

‫في منزل الغربة‪.‬‬

‫المــدارس‪ ،‬دور النشــر‪ ...‬وكلهــا فــي حالــة تناغم داخلي‬

‫وتسأل "ما هو خطابه السياسي وبرنامجه االجتماعي"؟‬

‫وخطــاب عالمي‪ .‬وتســأل "كيف التشــبيك؟"‪ ،‬وال إجابة‪،‬‬

‫وتعجب أنه ال يستعجل األمور‪ ،‬ألنه مشغول ببناء ما هو‬ ‫بعكوفــه علــى بنــاء المســلم الذاكــر‪ ،‬ببناء بيــت الرب في‬ ‫المكي الذي‬ ‫قلب العبد‪ .‬ومشغول بتنزيل خطاب القرآن ّ‬ ‫ربــط بيــن التوحيد والتجريــد والخدمة‪ ،‬خطــاب التوحيد‬

‫وفك الرقبة‬ ‫الذي ربط بين أفراد اهلل بالوحدانية والعبودية ّ‬ ‫وإطعام ذي مسغبة و ِاقرأ‪.‬‬

‫ولعــل مفتــاح حركــة الخدمــة فــي "اقرأ"‪ ،‬حيــث تنزل‬

‫لفك‬ ‫خطــاب "اقــرأ" إلــى آالف مــن المدارس ليــس فقط ّ‬

‫األمية‪ ،‬ولكن إلعــداد جيل من الموهوبين‬ ‫الخــط ومحــو ّ‬

‫مــن ُفرســان العلــوم الحديثــة‪ ،‬فــي الربانيــات والفيزيــاء‬ ‫والكيميــاء واللغــات وغيرها مــن أدوات الصعود والوثبة‬ ‫الحضاريــة‪ ،‬فــي إطــار مشــروع األســتاذ العابــر للحــدود‬

‫الجغرافية والحواجز السياسية‪.‬‬

‫وحينمــا تدخــل على مشــروع األســتاذ بعقلية الحصر‬

‫والتدبر والنظر والجمال‪ ،‬حيث يدهشك جمال الالمركزية‬

‫الندية بين أبناء المشــروع‪ ..‬ويبهرك‬ ‫في المشــروع‪ ،‬وأناقة ّ‬ ‫تعــدد األوقــاف؛ وقــف الكتــاب والفنانيــن‪ ،‬وقــف رجال‬

‫األعمال‪ ،‬وقف الباحثين‪ ،‬وقف أساتذة الجامعات‪ ،‬وقف‬

‫َبي َن ُهم ِإ َّن ُه َع ِز ٌ ِ‬ ‫يم‪(‬األنفال‪.)63:‬‬ ‫يز َحك ٌ‬ ‫ْ ْ‬

‫وتســأل عن قصة المشــروع وصاحب المشــروع‪ ،‬فال‬

‫الفاريــن إلى اهلل‪،‬‬ ‫تجــد إال بعــض إجابــات؛ إنــه من زمــرة ّ‬

‫والفــرار إلــى اهلل علــى كونه‬ ‫انتصــارا‪ ،‬إال أنــه من أصعب‬ ‫ً‬ ‫االختبــارات‪ ،‬ال يغامــر فــي الســير فيــه إال المصط َفــون‪.‬‬

‫ونحســبه مــن الطائفــة‪ ،‬وإال فالبدايــات مكابــدات حتــى‬ ‫تسميته مع صرخة الميالد‪ ،‬إذ نازعت السلطات الكمالية‬ ‫فــي تســميته‪ ،‬رافضــة اســم "فتــح اهلل"‪ ،‬والــذي كســبه في‬ ‫النهايــة عــن اســتحقاق وجــدارة وإن حرم منه في شــهادة‬ ‫الميــاد‪ .‬وتســأل عــن الطفولة والدراســة والوظيفــة‪ ،‬فإذا‬ ‫هــي سلســلة من المجاهدات؛ االكتفــاء بالنوم على نافذة‬ ‫المســجد‪ ،‬والخشــن مــن الثيــاب‪،‬‬ ‫والتقشــف والقليل من‬ ‫ّ‬ ‫اإليــدام‪ ،‬ثم المالحقة األمنية والعمل الســري والســجن‪،‬‬

‫ثم الفرار إلى اهلل‪.‬‬ ‫هذا فتح اهلل كولن الذي في خاطري‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬ ‫(*) رئيس جامعة إفريقيا العالمية األسبق ‪ /‬السودان‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ينبه‬ ‫المتبتل والمتفكر في محراب التأمل‬ ‫ّ‬ ‫والعد يتيه‪ ،‬كما ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أهــم‬ ‫وأجــل مــن السياســي‪ ،‬فهو في شــغل عن السياســي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ف َب ْي َن ُق ُلوبِهِ ْم َل ْو َأ ْن َف ْق َت‬ ‫‪‬و َأ َّل َ‬ ‫ولكن قد تردد من باطنك‪َ :‬‬ ‫َما ِفي ا َ‬ ‫ف‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫هلل َأ َّل َ‬ ‫ض َج ِم ًيعا َما َأ َّل ْف َت َب ْي َن ُق ُلوبِهِ ْم َو َل ِك َّن ا َ‬

‫‪31‬‬


‫غريبا‪ ،‬فطوبــى للغرباء‬ ‫غريبــا ويرجع ً‬ ‫"إن الديــن بــدأ ً‬

‫وفــي ظــال القــرآن لســيد قطب‪ ،‬وجهود الشــيخ حســن‬

‫بــرزوا فــي مجاالت الدعوة والعمل االجتماعي؛ كاإلمام‬

‫وارتفــاع وعــي العقــل المســلم‪ ،‬والــذي أثمــر مؤسســات‬

‫الترابي في السودان في تجديد الفكر السياسي اإلسالمي‬

‫الذيــن ُيصلحــون ما أفســد الناس"‪ ،‬فطوبي للــرواد الذين‬ ‫البنــا بــاذر بــذرة كبــرى الحــركات اإلســامية فــي‬ ‫حســن ّ‬

‫دعوية واقتصادية واجتماعية وشبكات تواصل يقول لسان‬

‫حالها "دعوة الحق نادت َبنيها فاستجابوا لصوت النداء"‪.‬‬

‫المجــال الدعــوي واالجتماعــي والسياســي‪ ،‬وكالمفكــر‬

‫ومن تركيا برزت حركة الخدمة بجمعياتها ومدارسها‬

‫اإلســامي مالــك بــن نبــي الــذي أســهم قلمــه فــي بعــث‬

‫وحركتهــا الفكرية وســعيها الدؤوب‪ ،‬إلعــادة فتح العقل‬

‫الغشــاوة عــن القلــوب والعقــول‪ ،‬وكاألســتاذ ســعيد‬

‫اإلسالمي والعالمي بـ"اقرأ" والقلم‪ .‬وكما بهرتني مساجد‬

‫النورسي الذي مثلت وجهوده وخطبه وسعيه بين الناس‬

‫العثمانييــن الضخمة بجمالها وهيبتها‪ ،‬فإن حركة الخدمة‬

‫نضر اهلل‬‫معالــم مدرســة من مــدارس التجديد واإلحيــاء ّ‬ ‫امر ًأ‬ ‫جهــوده‪ -‬كمــا قال الحبيــب المصطفى ‪َ " ‬ن َّضــر ا ُ‬ ‫هلل َ‬

‫تبهــرك بإخــاص رجالهــا وتضحياتهــم وفدائيتهم‪ ..‬فهم‬

‫سمع مقالتي َف َوعاها وح ِفظها وب َّل َغها" (رواه الترمذي)‪.‬‬

‫فــي دارفــور؛ ب ُقراهــم ومدارســهم وتســاؤلهم "هــل ثمــة‬

‫أحــد"؟ وهــم فــي ربوع إفريقيــا ومتاهاتها‪ ،‬وهم في آســيا‬

‫وفي الهند برز سماحة األستاذ أبو األعلى المودودي‪،‬‬

‫يطل العقل اإلســامي‬ ‫الوســطي يرفعــون األنقــاض حتى ّ‬

‫واألســتاذ أبــو الحســن علي النــدوي وآخرون‪ ..‬أســهموا‬

‫من تحت األنقاض‪.‬‬

‫فــي تجديــد اإليمان فــي قلوب أهل الهنــد خاصة واألمة‬ ‫اإلمــام أحمــد "إن اإليمــان َيخ َلــق [أي يبلــى] فــي القلب‬

‫كمــا َيخ َلــق الثــوب‪ ،‬فاســألوا اهلل تعالى أن‬ ‫يجــدد اإليمان‬ ‫ّ‬

‫في قلوبكم"‪.‬‬

‫التراث اإلسالمي والتاريخ اإلسالمي؟! تجد فيهم رائحة‬

‫عانت الشــعوب اإلســامية أشد المعاناة في التمسك‬

‫وتعمــق صــدع العقــل المســلم الذي ظــل‬ ‫مأزومــا بالفتنة‬ ‫ً‬

‫البنا في تخطيطه وتدبيره‪.‬‬ ‫في ترانيمه وابتهاالته‪ ،‬واإلمام ّ‬

‫الكبــرى والصراعــات الطائفيــة وســقوط األندلــس‪ ،‬إلــى‬ ‫أن تجــدد الصــدع بتحريــر شــهادة وفاة الخالفــة العثمانية‬

‫ال لمشــاريع‬ ‫وبــروز الدولــة القومية القطرية العلمانية بدي ً‬ ‫الوحدة والتجديد اإلسالمي‪.‬‬

‫إحيائه‪ ،‬والنورسي في سعيه المبارك‪ ،‬وجالل الدين الرومي‬ ‫ألول‬ ‫ويعجبــك رجــال الخدمــة بتواضعهــم‪ّ ،‬‬ ‫فتظنهــم ّ‬

‫وهلــة‪،‬‬ ‫مجــرد دراويش فــي منظومة صوفيــة وغير واعين‬ ‫ّ‬ ‫تشــكل العقل‬ ‫بالمســارات الكبرى التي‬ ‫وتحرك التاريخ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تفاجأ حينما تجد بينهم رجل األعمال الذي وجه‬ ‫ولكنك َ‬

‫ووســط نيــران هــذه المأزوميــة بــرز رواد التجديــد‬

‫طاقاته وماله للمشــروع‪ ،‬وتجد بينهم المهندس والطبيب‬

‫الحديث المروي عن النبي ‪" :‬إن اهلل يبعث لهذه األمة‬

‫فــي إطــار تخصصــه‪ ،‬وتجــد بينهــم الصحفــي والكاتــب‬

‫اإلســامي فــي شــكل جماعــات وأفــراد وطوائــف‪ ،‬وفي‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫األمة وباســم التجديد وباســم إحياء القلوب وباســم كل‬

‫المهنــدس "ســنان" في إبداعــه‪ ،‬وعبق اإلمــام الغزالي في‬

‫بدينهــا فــي فتــرة ما قبــل الحربين العالمتين ومــا بعدهما‪،‬‬

‫‪30‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اإلســامية عامــة‪ .‬كأنمــا عناهــم الحديــث المــروي عــن‬

‫َمــن هــم هــؤالء الرجــال الذيــن يفتحــون القلــوب‬ ‫والعقــول‪ ،‬ويبنــون المــدارس‪ ،‬وال يتكلمــون إال باســم‬

‫على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (رواه أبو داود)‪،‬‬

‫فردا أو طائفــة أو جماعة‪ ،‬واهلل أعلم‬ ‫وقــد يكــون المجدد ً‬

‫والعالــم والمربــي الذي يتابــع تر ّقياته المهنيــة والروحية‬

‫والواعظ‬ ‫والمدرس‪ ،‬وكل في ثغرته ولســان حاله‪" :‬إياك‬ ‫ّ‬ ‫إيــاك أن تــؤت حركة الخدمة مــن ِقبلك!" وحينما تراهم‪،‬‬

‫حيث يجعل رســالته‪ .‬وصاحب هــذا القلم ظل ‪-‬كغيره‪-‬‬

‫يعمــر قلبــك باإليمــان والحــب‪ ،‬وتتذكــر قــول اهلل تعالى‪:‬‬

‫باديس ‪-‬وصحبته الجزائر مســلمة وإلى العروبة تنســب‪-‬‬

‫‪‬يا‬ ‫َو َق َ‬ ‫ــال ِإ َّن ِنــي ِم َن ا ْل ُم ْســ ِل ِم َ‬ ‫ين‪(‬فصلت‪ ،)33:‬وقوله تعالى‪َ :‬‬

‫يســعى لتفــيء ظــال التجديــد مــا بيــن عبــد الحميــد بــن‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ــن َد َعــا ِإ َلــى ا ِ‬ ‫ــل َصا ِل ًحــا‬ ‫ــن َق ْــو ً‬ ‫هلل َو َع ِم َ‬ ‫ــن َأ ْح َس ُ‬ ‫ال ِم َّم ْ‬ ‫‪‬و َم ْ‬ ‫َ‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬حسن مكي*‬

‫رائد الخدمة‬

‫في معية رواد الفكر والتجديد‬ ‫أكــرم اهلل ‪ ‬األمــة اإلســامية فــي القــرن المنصــرم بجملة من‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫الــرواد‪ ،‬جــددوا إيمــان األمــة وأعــادوا إليهــا مطلوبــات القــوة‬ ‫والحيويــة فــي مجــاالت العلــم والتربيــة والقيــادة والدعــوة‬

‫والسياسة واالقتصاد‪ ..‬وازدهرت نوى التجديد التي غرسوها فأينعت وأثمرت‪،‬‬

‫مما وضع األمة على أعتاب مرحلة جديدة بعد عصور االنحطاط واالستعمار‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪29‬‬


‫عــد أكبــر دليــل علــى اإليمــان العميــق برســالة‬ ‫النهــج‪َ ،‬ل ُي ّ‬

‫االســتخالف التي كثر الضجيج حولها في كثير من بقاع‬

‫العالــم‪ ،‬لكنهــا ال تعــدو أن تكون ســحابة صيف ســرعان‬ ‫ما تنقشــع‪ .‬ناهيكم عن الفلســفة التأصيلية التي يمارســها‬

‫األســتاذ "كولــن" في كل القضايا التــي يتطرق إليها والتي‬ ‫تشــهد عليها كتاباته وتؤيدها مؤسســاته‪ .‬من ذلك شــرحه‬

‫لحديــث النبــي ‪ ‬الــذي رواه تميــم الــداري ‪ ‬قــال‪:‬‬ ‫يبلغــن هــذا األمــر ما بلغ‬ ‫ســمعت رســول اهلل ‪ ‬يقــول " َل‬ ‫ّ‬

‫الليــل والنهــار‪ ،‬وال يتــرك اهلل بيت مدر وال وبر إال أدخله‬ ‫اهلل هذا الدين"‪ .‬إن اإليمان العميق بهذه الرسالة اإلنسانية‬

‫شهادات‬

‫العالمية واالحتراق من أجل إبالغها‪َ ،‬لهي أعلى درجات‬ ‫نظــرا لمــا تحمله فــي طياتها مــن التنمية‬ ‫العمــل المدنــي‪ً ،‬‬

‫آثاره عالم الدنيا إلى‬ ‫العميقة والصالح الحقيقي‪ ،‬تتعدى ُ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد عبادي (المغرب)‪:‬‬

‫عالم اآلخرة‪ .‬واألمثلة على ذلك كثيرة كثيرة‪.‬‬

‫لقــد اســتطاعت حركــة الخدمــة أن تؤســس لمجتمع‬

‫التلطــف فــي التعامــل مــع كل الطبقــات وفــي كل‬

‫المســتجدات‪ ،‬والتفانــي فــي تقديــم البدائــل التــي أبهرت‬

‫عالمــا مــن أعيــان أمــة التوحيد فــي القرن العشــرين بداية‬

‫ومــرورا بالتربيــة التعليمية‬ ‫مــن التربيــة الســلوكية العاليــة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫التي باتت ســمتها الغالبة‪ ،‬ثم ســلطة اإلعالم التي َن َّك َل ْت‬ ‫وحيــرت عقــاء األمــة وغــررت‬ ‫بمجتمعاتنــا اإلســامية ّ‬ ‫بشــبابها‪ ،‬إلى عــدد من رجال المــال واألعمال ا ُ‬ ‫ألصالء‪،‬‬ ‫الذين وقع لثلة منهم في زمن العولمة ما وقع ألصحاب‬

‫األخدود‪ ،‬حتى ُخ ّيِروا بين طريقين‪ ،‬ولســان الحال يقول‬

‫ضدنــا"‪ ..‬إلى أن جاءت وصفة‬ ‫"مــن ليس معنا فهو ّ‬ ‫لهــم‪َ :‬‬ ‫وحررت‬ ‫حركــة الخدمــة التي ّ‬ ‫كثيرا من صفوفهم ّ‬ ‫وحدت ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عــددا مــن أنانيتهم وحبهم للدنيا‪ ،‬حتى أصبحت أموالهم‬ ‫ً‬ ‫درهما َأ ْخ َلفه‬ ‫ملكا لغيرهم‪ ،‬فقال قائل منهم‪" :‬كلما أنفقنا‬ ‫ً‬

‫‪28‬‬

‫يقينا بقول األستاذ فتح اهلل‬ ‫وآمنا ً‬ ‫اهلل لنا‪ ،‬فزادت ثقتنا باهلل ّ‬

‫عبيدا له مستخلفين‬ ‫لنا‪" :‬إن المال ُ‬ ‫لسنا إال ً‬ ‫مال اهلل‪ ،‬ونحن ْ‬

‫فيه‪ ،‬وعلينا أن نصونه"‪ ..‬إنه الشهود الحضاري للمجتمع‬ ‫المدني الذي تصنعه حركة الخدمة‪.‬‬

‫(*) جامعة أبو شعيب الدكالي‪ ،‬مدينة الجديدة ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مدنــي جديــد بنــاء علــى رؤيتهــا التجديديــة المبنيــة علــى‬

‫معين‪،‬‬ ‫لم يكن األستاذ فتح اهلل كولن‬ ‫ً‬ ‫تكرارا لنموذج ّ‬ ‫وإنمــا مقصــده إطــاق النموذج القرآني في بناء اإلنســان‬ ‫فــردا‬ ‫عت َقة من كل أنواع‬ ‫واجتماعــا‪ .‬هو نموذج لحضارة ُم َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العبودية والرهق التي يعيشها اإلنسان وال يزال‪ .‬تستشعر‬ ‫وأنــت تتعامــل مــع كتابــه "ونحــن نبنــي حضارتنــا"‪ ،‬أن‬ ‫قبل‪ .‬فأنت تشــعر أن‬ ‫هنالــك أف ًقــا ُأ ُن ًفــا لم يتــم رصده من ُ‬ ‫أمرا تم‬ ‫األستاذ ال يتكلم عن العلوم اإلسالمية باعتبارها ً‬ ‫بنيان‬ ‫الفــراغ منــه وتم اكتماله‪ ،‬لكنه عكس ذلــك يرى أنه ٌ‬ ‫ينبغي أن ُيستأنف الرتياد تلك اآلفاق ا ُ‬ ‫أل ُنف التي لم يتم‬ ‫قبل‪.‬‬ ‫ارتيادها من ُ‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الحميد مدكور (مصر)‪:‬‬

‫مــن خصائــص منهج كولــن‪ :‬التخلص مــن الثنائيات‬ ‫المتضــادة التــي وقــع فيهــا مفكــرون آخــرون‪ ،‬كالقــول‬ ‫بالتناقــض بيــن الديــن والعلــم‪ ،‬أو بين الفكــر والعمل‪ ،‬أو‬ ‫بيــن العقــل والروح‪ ،‬أو بين الفلســفة والتصوف‪ ،‬وهكذا؛‬ ‫بــل إن كولــن علــى عكــس هــؤالء يعمــل على مــزج هذه‬ ‫األمــور التــي تبــدو عنــد غيــره متضــادة‪ ،‬وهو يســتخلص‬ ‫مــن كل جانــب منهــا ما يــؤدي إلى التكامل مــع الجانب‬ ‫اآلخر‪ ..‬فالثنائيات ‪-‬في فكره‪ -‬تتكامل وال تتناقض‪.‬‬


‫إن حركة الخدمة اســتطاعت أن تخــرج من الرشنقة‬

‫وال تتدخل في هذا الموضوع على اإلطالق‪."...‬‬

‫بفضل الرجــل العبقري "فتح اللــه" الذي نجح يف‬

‫نعم‪ ،‬حق لمن ال يعرف هذه الخدمة أو رجلها األول‬

‫عجن األصول اإلســامية بالفلســفة الغربية فأبدع‬

‫أن يستكثر هذه الخالصات‪ .‬لذا فاألمر يحتاج إلى أعمال‬

‫دوخ الناس يف عرص العوملة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا مدن ًّيا مثال ًّيا ّ‬

‫أكاديمية متخصصة لسبر أغوار الموضوع‪ ،‬إال أن هذا ال‬

‫هذا الرجل الذي ميلك من وسائل الدعاية والظهور‬

‫يمنع من إثارة االنتباه إلى بعض الشعاعات‪:‬‬

‫ما ال يتسنى لكثري من الكبار الحصول عليه‪.‬‬

‫الشعاع األول‪ :‬من الضوابط الجوهرية الضامنة لتميز‬

‫العمــل المدني عند حركة الخدمة واســتقالليته وأصالته‪،‬‬ ‫ارتكازه على األســاس التوحيدي الذي يربط كل ســيادة‬

‫بسببها الحكومات‪.‬‬

‫أو ســلطة أو تشــريع بــاهلل تعالــى‪ ،‬ثم يأتــي دور الجماعة‬

‫صحيح أن كل الحركات اإلصالحية تنطلق من هذه‬

‫–اإلنســان‪ -‬ليجتهــد فــي تفريــع ذلــك وتنزيلــه وفــق مــا‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫هلل َر ُّب ُك ْم َ‬ ‫ــم ا ُ‬ ‫يحقــق مصالــح النــاس فــي الحيــاة‪َ ﴿ ،‬ذل ُك ُ‬ ‫وه َو ُه َو َع َلى ُك ِّل َشــي ٍء‬ ‫إله إال هو خا ِلق كل‬ ‫شــي ٍء َف ْ‬ ‫اع ُب ُد ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ َ ِ َّ ُ َ َ ُ ُ ِّ َ ْ‬ ‫يل﴾(األنعــام‪ .)102:‬والمتأمــل في كتابات األســتاذ كولن‬ ‫َو ِك ٌ‬

‫المرتكــزات التــي ال ينكرها مســلم‪ ،‬لكن محل الشــاهد‪:‬‬ ‫وماذا بعد؟ ماذا بعد اإليمان والتســليم باألصول؟ وكيف‬ ‫نفهمهــا‪ ،‬وكيــف ننزلها؟ وما هي الوســائل؟ مــا المناهج؟‬ ‫وكيــف نجعــل العــام والخــاص والكبــار والصغــار مــن‬

‫وخطبــه‪ ،‬يلحــظ ســيطرة هــذا الن َفــس في كل المناســبات‬

‫النــاس ُيقبِلون على هــذه البدائل‪ ،‬لنقول للجميع "تعالوا‬

‫األحيان إلى درجة اتهام البعض له‪.‬‬

‫مشاريعنا‪ ،‬هؤالء رجالنا‪ ،‬هذه أمتنا"‪.‬‬

‫والقضايــا التــي يتطــرق إليهــا‪ ،‬بــل إنــه يغــرق فــي بعــض‬

‫االســتخالفي‪ ،‬ومفــاده أن اهلل تعالــى اســتخلف اإلنســان‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الشــعاع الثاني‪ :‬ارتكاز فلســفة الخدمة على األســاس‬

‫انظــروا‪ ،‬هــذه بدائلنا‪ ،‬هــذا إعالمنا‪ ،‬هذه مؤسســاتنا‪ ،‬هذه‬ ‫فأي نمط من الممارســة المدنية قد يروق لمعارضي‬

‫علمــا أن هــذه‬ ‫حركــة الخدمــة والناقميــن علــى أهلهــا؟ ً‬

‫ال َر ُّب َك‬ ‫﴿وإ ِْذ َق َ‬ ‫وملكه َ‬ ‫وشــرعه‪َ :‬‬ ‫فــي هــذه الحيــاة‪ُ ،‬ح ْك َم ُه ُ‬ ‫ال ِئ َك ِة ِإ ِّني َج ِ‬ ‫اع ٌل ِفي ا َ‬ ‫﴿ك ْن ُت ْم‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ِل ْل َم َ‬ ‫ض َخ ِلي َف ًة﴾(البقرة‪ُ ،)30:‬‬ ‫ون بِا ْلم ْعر ِ‬ ‫َخيــر ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ ْ‬ ‫وف َو َت ْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫اس َتأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــون بِاهلل﴾(آل عمران‪ .)110:‬ولعل هذا واســطة‬ ‫ا ْل ُم ْن َك ِــر َو ُت ْؤم ُن َ‬

‫واحتــرام الحريــات‪ ،‬وكل ذلــك مــن خــال منهــج مليء‬

‫جزءا‬ ‫الــذي يعتبــر رجال الخدمة قضيــة التعبير عن الرأي ً‬

‫مركزيــة فــي منهــج الخدمة‪ ،‬جعلــت العديد مــن األعيان‬

‫عقد االتهامات التي توجه لحركة الخدمة‪ ،‬إذ في الوقت‬

‫تفننــت في تقديــم نموذج ‪-‬للمجتمــع المدني‪-‬‬ ‫الحركــة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫جديد؛ َج َمع بين ضروريات وأصول اإلسالم ومحاسن‬ ‫الفلســفة الغربية‪ ،‬فطالبت بإحقاق الحقوق ونشــر العدالة‬ ‫بالتلطــف والتعايــش والحكمــة والحلــم‪ .‬وتلــك أســباب‬

‫مــن واجــب االســتخالف ‪-‬بمنطــق المســلم‪ -‬وح ًّقــا مــن‬

‫والحكومــات الســابقة تتعــاون معهــا‪ .‬فكيــف اســتحال‬

‫وتجاوزا الختصاصاتهم‪.‬‬ ‫ال في ما ال يعنيهم‬ ‫تدخ ً‬ ‫ً‬ ‫الخدمة ّ‬

‫مما يثير اإلنســان في حركة الخدمة‪ ،‬تلكم الممارســة‬

‫حقوقــه بلغة الفلســفة الغربيــة‪ ،‬يعتبــره المخالفون لحركة‬

‫التعاون اليوم في ظل ظروف مليئة بالمفارقات؟‬

‫الفاروق ‪ ‬مشهورة في هذا الباب‪" :‬ال خير فيكم إن لم‬ ‫تقولوها‪ ،‬وال خير فينا إن لم نسمعها" َي ِ‬ ‫قصد كلمة الحق‪،‬‬

‫الهجــرة مــن أجــل الخدمــة اإليمانيــة‪ ،‬ال يمكــن تصديقه‬ ‫إال مــن طرف َمن عايشــهم وعايــن صنيعهم‪ .‬إن احتضان‬

‫المطالبــة بالحقوق والحريــات في زمن العولمة يعد ح ًّقا‬

‫اليوم‪ ،‬كما تحضن الدجاجة بيضها والصبر على تعليمهم‬

‫والنهــي عــن المنكر زمن الرشــد اإلســامي‪ ،‬مــن صميم‬

‫ال عن عامة المسلمين‪ .‬ولعل قولة عمر‬ ‫مهمة العلماء فض ً‬

‫واآلثــار فــي هــذا الباب كثيــرة‪ .‬ولقد رأينا فــي عصرنا أن‬

‫من الحقوق المقدســة‪ ،‬يحاكم بموجبها الرؤساء وتسقط‬

‫فصل فيه األستاذ كولن القول‪ .‬ولعل حديثهم عن‬ ‫طالما ّ‬

‫هــذا الرجــل لـ"فراخــه" منــذ زمــن الســنوات العجاف إلى‬ ‫وتربيتهــم‪ ،‬ثم اســتمرار أولئك التالميــذ البررة على نفس‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫والحــال أننــا رأينا كيف كانت قضية األمر بالمعروف‬

‫ا عــن أســتاذهم‪ ،‬وتلــك‬ ‫المدنيــة الراقيــة ألبنائهــا فضــ ً‬ ‫التضحيــات الجســيمة‪ ،‬بــل ذلــك الجهــاد األكبــر الــذي‬

‫‪27‬‬


‫يصرخ في صمت‪ ،‬ال يهمه سوى التفاني في خدمة األمة‬

‫وضعية؟ هل هي سياســة العالم الغربي أم سياســة العالم‬

‫فــي الفــروع‪ ..‬ومن عجيب األقدار أن الذي جعل الرجل‬

‫هي سياســة أدعياء الشــرق أو الغرب من الذين يتسلمون‬

‫ال‪ ،‬محق ًقا فــي األصــول‪ ،‬مدق ًقا‬ ‫بمنهجــه الــذي غزلــه غــز ً‬

‫الشــرقي؟ هل هي سياســة األمة أم سياسة خصومها؟ هل‬

‫يتصــدر األخبــار عبر عناوين الصحــف العالمية والموائد‬

‫الســلطة فــي أجنحــة الظالم؟ هل هي سياســة المســتلبين‬

‫الحواريــة والحمــات االنتخابيــة اليــوم‪ُ ،‬هــم خصومــه‬ ‫ِ‬ ‫مادحا أحد العلماء‬ ‫در أبي تمام حين قال‬ ‫ً‬ ‫وحســاده‪ .‬ول ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫شر َفضي َل ٍة‬ ‫ن‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫راد‬ ‫أ‬ ‫ِذا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫القضاء‪:‬‬ ‫ولي‬ ‫لما‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫سان َحسو ِد‬ ‫ ‬ ‫تاح َلها ِل َ‬ ‫ُط ِو َيت‪َ ،‬أ َ‬

‫أو المغــرر بهــم مــن الذيــن ال لــون وال رائحــة وال طعــم‬ ‫لسياستهم‪ ،‬بل ال يهمهم أي قطار ركبوا؟ هل هي سياسة‬ ‫فارغا؟ هل‬ ‫الذين كفروا بكل السياســات وتركوا الميدان ً‬ ‫هــي سياســة الدراويــش الذيــن قبِلــوا بالحصــة والســاحة‬

‫جاو َرت‬ ‫اش ِت ُ‬ ‫َلوال ْ‬ ‫عال النارِ فيما َ‬

‫ ‬

‫والقضيــة التــي منحــت لهــم؟ هل هــي سياســة المتنطعين‬

‫طيب َع ِ‬ ‫رف العو ِد‬ ‫ما َ‬ ‫عر ُف ُ‬ ‫كان ُي َ‬

‫الذين أغرقوا الساحات بدماء كثير من األبرياء؟‬

‫لعوا ِق ِب َلم َت َزل‬ ‫َلوال َ‬ ‫الت َخ ُّو َف ِل َ‬ ‫ِل ِ‬ ‫المحسو ِد‬ ‫ ‬ ‫لحاس ِد ُ‬ ‫النعمى َعلى َ‬

‫السياســية الضيقة التي أريد ألمتنا أن تنحشــر فيها بكثير‪.‬‬

‫راشدا للعمل المدني‬ ‫نموذجا‬ ‫للمجتمع المدني العالمي‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫إال َمــن صبر علــى التأمل في فكر الرجل ورؤيته العميقة‬

‫إن رؤية حركة الخدمة للعمل المدني يتجاوز الرؤية‬

‫نعــم لقــد اســتطاعت "حركــة الخدمــة" أن تقــدم‬

‫إن تصــور العمــل المدنــي عند األســتاذ كولــن‪ ،‬ال يفهمه‬

‫أبهــر الخصــوم قبل المؤيديــن‪ .‬حركة نماذجهــا من ذاتها‬ ‫العمــل المدنــي في كل مجاالت الحياة وبدون اســتثناء‪..‬‬

‫وتوغل‬ ‫عمــل ضــرب جذوره في أصــول وثوابت األمــة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫فــي آليــات ومناهــج المؤسســات الغربيــة المعاصرة‪ ،‬بل‬

‫وتفــوق عليهــا فــي بعــض األحيــان‪ .‬كل ذلــك لــم يكــن‬ ‫ّ‬ ‫لحركــة الخدمــة أن تبلغــه لــوال تعاملهــا المو ّفــق مــع‬ ‫تحديــات األمــة وقضايــا النــاس وأجوبتهــا المتميزة على‬ ‫عــدد من األســئلة التــي ظلت جماهير األمــة تنتظرها منذ‬

‫فتأمــل قــول األســتاذ كولن‪..." :‬ومــع أن الحركة‬ ‫عقــود‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫تســتهدي بقيم اإلســام‪ ،‬فإن مشــاريعها التي يقوم عليها‬

‫المتطوعــون العاملــون فــي إطارهــا متماشــية مــع القيــم‬ ‫اإلنســانية الهادفــة إلــى تعزيــز الحريات الفرديــة وحقوق‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫اإلنســان والتعايش الســلمي بين جميع الفئات؛ ومن ثم‬

‫‪26‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تقــدم أمثلــة حية على‬ ‫نحتتهــا عبــر ســنوات‪ ،‬وهــي اليــوم ّ‬

‫لمشــروعه الحضــاري اإلنســاني العميــق‪ .‬فتأمــل هــذا‬ ‫"‪...‬إن األحــزاب السياســية واالنتخابــات الحرة‬ ‫الــكالم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫هي شروط أساسية للنظام الديمقراطي‪ ،‬ولكنها ال تكفي‬

‫الفعال والســلس للمجتمع المدني هو‬ ‫بمفردها‪ ،‬فاألداء ّ‬ ‫أمــر ُمهــم كذلك‪ .‬ومــن الخطأ القــول إن االنتخابات هي‬ ‫ٌ‬

‫عامة الناس‪،‬‬ ‫الطريقــة الوحيدة لمســاءلة السياســيين أمــام ّ‬

‫إن المجتمــع المدنــي يســتمر بمراقبــة الســلطة‬ ‫حيــث ّ‬ ‫الحاكمة ليرى ما إذا كانت تفي بوعودها أم ال‪ ،‬وذلك من‬ ‫خالل اإلعالم والمناشط المجتمعية المختلفة وفعاليات‬ ‫عديــدة أخــرى في إطــار القانون‪ ،‬مثل عرائــض االكتتاب‬

‫ورســائل شــبكات التواصــل االجتماعيــة‪ .‬وبالرغــم مــن‬

‫أن نشــطاء الخدمــة التقــوا علــى مبــدأ عــدم االنخراط في‬

‫السياســة الحزبيــة وعــدم الســعي نحو الســلطة‪ ،‬لكن هذا‬ ‫ال يعنــي أن يتخ ّلــوا ‪-‬كمجتمــع مدني‪ -‬عن مســؤوليتهم‬

‫ال‬ ‫َوجدت‬ ‫ترحيبا في ‪ 160‬دولة حول العالم‪ ،‬ولقيت قبو ً‬ ‫ً‬ ‫مباشــرا أو غيــر مباشــر مــن جنســيات‬ ‫ضمنيــا‬ ‫صريحــا أو‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫ميا‪،‬‬ ‫تنظيما‬ ‫بنيويا وال‬ ‫أن الخدمة ليست‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫تكوينا ًّ‬ ‫ً‬ ‫هر ًّ‬ ‫مركزيا َ‬

‫أمــا الــذي يــردده البعــض مــن فريــة ممارســة الخدمة‬

‫المشــاركين فيهــا‪ ،‬كذلــك ليــس مــن المعقــول القــول إن‬

‫ودول وأديان مختلفة"‪.‬‬

‫كثيــرا مــن الفهــم‬ ‫للعمــل السياســي‪ ،‬فهــو أمــر يحتــاج‬ ‫ً‬ ‫والتدقيــق‪ ،‬حول مفهوم السياســة ومفهوم الســلطة‪ ،‬وعن‬

‫أي سياســة وســلطة نتكلــم؟ هــل هــي سياســة شــرعية أم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وصالحيتهم في مساءلة السلطة السياسية ورقابتها‪ .‬وبما‬ ‫يتبناهــا جميع‬ ‫فليــس هنــاك وجهــة نظــر سياســية واحــدة ّ‬ ‫ال عن أن تكون‬ ‫حركة كهذه منحازة إلى حزب بعينه فض ً‬

‫منخرطــة فيــه‪ .‬فللمتعاطفيــن معهــا اختياراتهــم السياســية‬ ‫أي وجهة نظر معينة عليهم‪،‬‬ ‫الخاصة‪ ،‬وال تفرض الحركة ّ‬ ‫ّ‬


‫إن رؤية حركة الخدمة للعمل املدين تتجاوز الرؤية‬

‫يعد ميدا ًنا للصراع‬ ‫التاريخــي‪ ،‬يــرى أن المجتمع المدني ّ‬ ‫الطبقي‪ ،‬غير ٍ‬ ‫مبال بمحورية العوامل الفكرية والثقافية في‬ ‫َ‬ ‫وأخيــرا يأتي الفيلســوف "جرامشــى" ليعيد ترتيب‬ ‫ذلــك‪.‬‬ ‫ً‬

‫السياسية الضيقة التي أريد ألمتنا أن تنحرش فيها‬ ‫بكثري‪ .‬إن تصور العمل املدين عند األســتاذ كولن ال‬ ‫يفهمه إال َمن صرب عىل التأمل يف فكر الرجل ورؤيته‬

‫األمــور مــن جديــد‪ ،‬فيقرر بــأن قضيــة المجتمــع المدني‬

‫العميقة ملرشوعه الحضاري اإلنســاين العميق‪.‬‬

‫ليســت ســاحة للصــراع االقتصــادي‪ ،‬بــل ســاحة للصراع‬

‫األيديولوجــي منطل ًقــا من التمييز بين الســيطرة السياســية‬ ‫والهيمنــة األيديولوجيــة‪ .‬وألن الرأســمالية الجامحــة ال‬

‫روضتهــا‬ ‫• األولــى‪ :‬بعــض مؤسســات الدولــة التــي ّ‬

‫وبــأي ثمــن‪ ،‬فقــد حاولــت أن‬ ‫يهمهــا إال الربــح المــادي‬ ‫ّ‬

‫الرأسمالية المتوحشة وغررت بأهلها‪ ،‬والتي باتت تلهث‬

‫الطبقــي الــذي يتخبــط فيــه‬ ‫تبــدع‬ ‫ً‬ ‫منهجــا إلدارة الصــراع َ‬

‫وراء الربح المادي‪.‬‬

‫نســبيا فــي ترويض المتصارعين‬ ‫العالــم الغربي‪ ،‬فنجحت‬ ‫ًّ‬

‫ســممته الرأســمالية‬ ‫• الثانية‪ :‬المجتمع المدني الذي ّ‬ ‫ال لحصد‬ ‫المتغطرســة‪ ،‬حتى بات يرى الصراع طري ًقا سه ً‬

‫منح َيين‪ ،‬األول‪ :‬العمل على وضع يدها على‬ ‫من خالل َ‬

‫أجهزة الدولة‪ ،‬والمنحى الثاني‪ :‬االكتســاح األيديولوجي‬

‫المغانم والفوز بالمناصب‪.‬‬

‫والثقافي للمجتمع المدني‪.‬‬

‫• والجهــة األخيــرة‪ ،‬تتمثل في دعــاة التقليد والركون‬

‫أمــام هــذا الصــراع المتوحش الذي يعــد إحدى ثمار‬

‫إلــى مــا أنتجه لنا األجداد‪ ،‬حيــث يعتبرون العمل المدني‬

‫الفلسفة الغربية‪ ،‬بين أجهزة الدولة‪ ،‬ومؤسسات المجتمع‬

‫متفرجا‬ ‫المثخن بالجراح الداخلية والضربات الخارجية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قددا‪:‬‬ ‫لمدة طويلة‪ .‬فلما حاول االنطالق تفرقت به السبل ً‬

‫ففريــق رفــض الســير كلية فــي هذا المنحــى واعتبر‬ ‫•‬ ‫ٌ‬

‫الحــل هــو مخالفــة المجتمــع العلمانــي والرجــوع علــى‬

‫ســيرة الســلف الصالــح لالقتــداء بهــم‪ ،‬دون العنــاء فــي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المدنــي‪ ،‬وقــف المجتمــع المدنــي في العالم اإلســامي‬

‫الجديــد الــذي تميــزت به "حركــة الخدمة"‬ ‫انســاخا عن‬ ‫ً‬

‫األصول‪ ،‬وارتماء في أحضان مشبوهة‪.‬‬

‫فــي ظــل هــذه األجــواء المشــحونة بالخصــام‪ ،‬وفــي‬

‫وســط مجتمع اســتهوته فلســفة الصراع‪ ،‬ليس من ســبيل‬

‫أمام المجددين إال الســير على نهج المبدعين الناجحين‬ ‫ال الجتهاد‬ ‫عبــر التاريــخ‪ .‬ولما كان أمــر تنزيل ذلك موكو ً‬ ‫المسلمين‪ ،‬فإن المحاوالت لم تتوقف وإن النماذج تترى‬

‫البحث عن كيف‪ ،‬ومن أين‪ ،‬ومتى؟‬ ‫• وفريــق ٍ‬ ‫ثــان نــادى بالســير في مســار الــدول الغربية‬

‫مــا يمنع االســتفادة مــن اإلبداعات والتجارب اإلنســانية‬

‫• ثم هناك فريق ثالث دعا إلى العمل على الجمع بين‬

‫عملــت كوكبــة مــن فقهاء هــذا الدرب علــى تطويع هذه‬

‫التي حققت نجاحات ّبينة في كثير من المجاالت‪.‬‬

‫منجزات السلف التي توافق عصرنا‪ ،‬وإبداعات الغربيين‬ ‫قدر‬ ‫التــي ال تعــارض ديننا عبر منهــج تجديدي عميق‪ .‬و ُأ ّ‬ ‫أن هذا الفريق الثالث هو واسطة عقد كالمنا لعلتين‪:‬‬

‫فــي ســبيل الوصــول إلى تنزيل نموذجــي‪ .‬وألنه ال يوجد‬

‫الناجحــة مــا لم تتعــارض مع أصول ديننــا الحنيف‪ ،‬فقد‬

‫المنتجــات اإلنســانية الناجحة من أجــل تحقيق األهداف‬ ‫المرجوة‪ ،‬ومن نجوم هذه الكوكبة األســتاذ "محمد فتح‬

‫انتقادات من طرف دعاة الفريق األول؛ دعاة الرجوع إلى‬

‫الرجل العبقري "فتح اهلل" الذي نجح في عجن األصول‬

‫وتوجــه لــه‬ ‫عالمنــا اإلســامي ال زالــت تتجاذبــه تيــارات‬ ‫َّ‬ ‫السلف‪ ،‬كما ينتقده دعاة التغريب‪.‬‬

‫العلــة الثانيــة‪ ،‬أن الدعوة إلى هــذا التوجه تقوده اليوم‬

‫حركــة رائــدة عبــر العالــم وهــي "حركــة الخدمــة"‪ ،‬والتي‬

‫تتعرض اليوم إلى هجمة شنيعة من كل الجهات‪:‬‬

‫أن حركة الخدمة استطاعت أن تخرج من الشرنقة بفضل‬

‫اإلســامية بالفلســفة الغربيــة فأبــدع‬ ‫مثاليا‬ ‫ً‬ ‫مجتمعــا ًّ‬ ‫مدنيــا ًّ‬

‫دوخ النــاس فــي عصر العولمة‪ .‬هــذا الرجل الذي يملك‬ ‫ّ‬

‫من وسائل الدعاية والظهور ما ال يتسنى لكثير من الكبار‬ ‫الحصول عليه‪ ،‬لكنه لم يلتفت إلى ذلك‪ ،‬وبقي في الظل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫العلــة األولــى‪ ،‬ألن موضــوع المجتمــع المدنــي فــي‬

‫اهلل كولن"‪.‬‬ ‫الخالصــة التــي تتألأل أمام أعيــن كل المنصفين‪ ،‬هي‬

‫‪25‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد المجيد بوشبكة*‬

‫نموذج الخدمة‬

‫مثال راشد للمجتمع المدني‬ ‫معلــوم لــدى أهــل االختصــاص أن‬

‫إلــى تحجيــم دور الدولــة فــي إدارة المجتمــع‪ ،‬ومنــع‬

‫تتميــز بنــوع مــن العمــوم والخصــوص‬

‫مــن زعمــاء هذه الفلســفة يضــع الفرد مقابــل المجتمع‪،‬‬

‫مؤسســات المجتمع المدنــي المعاصرة‬ ‫فــي نفــس اآلن؛ فهــي عامــة من حيــث طبيعتهــا المنفتحة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫المشــتركة بين عدد من المتطوعين والمســتهدفين‪ ،‬لكنها‬

‫‪24‬‬

‫تكتسب خصوصيتها من مبادئها التي تعول عليها‬ ‫تفكيرا‬ ‫ً‬

‫ال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وتخطيطا وتنزي ً‬

‫إن الفلسفة الليبرالية في نظرتها إلى المجتمع المدني‬

‫ترى أن مصلحة المجتمع تتحقق عبر مجهودات األفراد‬

‫الهادفــة إلــى تحقيق مصالحهم الخاصــة‪ ،‬عامل ًة بل داعية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال كواحد‬ ‫تدخلهــا في الحريات الفردية‪ .‬فـ"جون لوك" مث ً‬ ‫لــه حقــوق طبيعيــة خالــدة مقدســة وســابقة علــى وجــود‬

‫المجتمــع‪ .‬وفــي مقابــل ذلــك يــرى الفيلســوف "هيجل"‬

‫يعد‬ ‫اســتنادا إلــى منهجــه المثالــي الجدلــي‪ -‬أن التاريخ ّ‬‫ً‬ ‫مسرحا لتطور الفكر المطلق‪ ،‬والدولة في نظره هي أرقى‬ ‫ً‬

‫مهب‬ ‫تجسيد لهذا الفكر‪ ،‬وعليه فإن حرية األفراد عنده في ّ‬ ‫الريح‪ ،‬إذ من خاللها تستوعب الدولة المجتمع المدني‬ ‫بــل تلغيــه‪ .‬ثــم يأتــي "كارل ماركــس"‪ ،‬وفي إطــار منهجه‬


‫خصوصيــات الخدمــة‪ ،‬وقدرتهــا الكبيــرة علــى الحــوار‬

‫المســتويات النصيــة لألســتاذ في ظل هــذه المرحلة‪ .‬فقد‬

‫إننــا فــي العالــم العربــي فــي أشــد الحاجــة للتأمل في‬

‫الندوات العلمية التي تناولت فكر األستاذ كولن بالبحث‬

‫فــي رؤى واجتهــادات األســتاذ فتــح اهلل‪ ،‬وكمــا تترجمها‬

‫غيــر نظــرة المثقــف العربــي‪ ،‬الــذي تحركــه الحاجــة إلى‬

‫والتسامح واالنفتاح؟‬

‫تــم إنشــاء العديد من مراكز الحــوار‪ ،‬وأقيمت العديد من‬

‫آليــات االنفتــاح علــى الفلســفات العالميــة كمــا تتجلــى‬

‫والتحليــل‪ .‬ومــن األكيــد أن نظرة المثقــف األمريكي هي‬

‫مشروعات ومؤسسات الخدمة‪ .‬وهذا في رأينا واحد من‬

‫معرفــة نظــرة المثقــف األمريكي لشــخصية األســتاذ فتح‬

‫الــدروس الكبــرى التي يقدمها مؤســس الخدمة األســتاذ‬

‫اهلل كولــن وللخدمــة ومعرفة صداها عنــده‪ ،‬ومعرفة مدى‬

‫فتح اهلل‪ .‬فالخدمة في نهاية المطاف "فكرة" اقتنع الناس‬

‫التغييــر الــذي لحق نمــط التفكير األمريكي عن اإلســام‬

‫أيضا‪:‬‬ ‫فتبنوها‪ .‬ويتجدد السؤال هنا ً‬ ‫بجدواها وبمعقوليتها َّ‬

‫ا فــي ترســيخ‬ ‫والمســلمين‪ .‬هــل نجحــت الخدمــة فعــ ً‬ ‫نظــرة جديــدة وفــي تغييــر الصــورة النمطيــة عن اإلســام‬

‫مــن الواضــح أن الجــواب على هذا الســؤال أصعب‬

‫ختامــا؛ األســتاذ فتح اهلل ومــن منطلق الثقة في الذات‬ ‫ً‬

‫يؤكد فيه أبناء الخدمة أنهم يتحركون مسترشدين بأفكاره‬

‫على أن اإلسالم يستطيع أن يقدم للغرب ما عجزت عنه‬

‫ضــرورة إعــادة تعريف مفهوم "العالم" مــن واقع التراث‬

‫عليه من قيم أخالقية نبيلة تحترم إنسانية اإلنسان‪ ،‬وتريد‬

‫مجرد رجل أوحى بهذه الفكرة أم‬ ‫هل األستاذ كولن هو ّ‬

‫هو الساهر على تطبيقها وتفعيلها؟‬

‫والمسلمين؟‬

‫من نفي االرتباط بين األســتاذ والحركة في الوقت الذي‬

‫شــريكا وليس‬ ‫ينظــر للعالــم الغربــي باعتبــاره‬ ‫عــدوا‪ ،‬بناء‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫الملهِ مــة‪ .‬وبهــذه المناســبة أثرنــا فــي إحــدى مداخالتنــا‬

‫مختلــف النظريــات المادية بمختلف مظاهرها‪ ،‬بما يتوفر‬

‫فكر الخدمة وواقعها وعالقة األستاذ فتح اهلل بها؟ وبعبارة‬

‫أخرى ما مفهوم العالم من خالل الفكر والممارســة عند‬ ‫األســتاذ فتــح اهلل كولــن؟ وهــل مــن الممكــن إعــادة بنــاء‬ ‫نمــاذج فــي مســتوى األســتاذ فتــح اهلل وتطلعاتــه العالمية‬ ‫المستندة إلى المرجعية اإلسالمية؟‬

‫ابتعــاد حركــة "الخدمــة" عــن التســييس‪ ،‬كان من أهم‬

‫آلياتهــا لإلســهام فــي تحقيــق "عالميــة اإلســام"‪ .‬أجــل‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحضاري اإلسالمي‪ .‬فمن هو العالم؟ وما دوره في ظل‬

‫لــه الخيــر‪ .‬ولذلــك عمــل األســتاذ فتــح اهلل على مأسســة‬

‫الخدمة وفق نمط يقدم اإلسالم في صورته الحقيقية كما‬

‫مثلها الرسول ‪ ‬وصحابته ‪ .‬وكانت وسائله وأدواته‬ ‫فــي ذلــك‪ ،‬هــي مؤسســات الثقافــة والحــوار والتعليــم‬ ‫المتنور ومراكــز الخدمات الثقافية واالجتماعية وغيرها‪.‬‬

‫وفي هذا اإلطار يبرز بشكل قوي المفهوم الجديد الذي‬

‫يربط مشــروع الخدمة بالعالمية التي يركز عليها األســتاذ‬ ‫فتــح اهلل‪ ،‬أال هــو مفهــوم "دار الخدمــة" فــي مقابــل ثنائية‬

‫"تركية" المنشــأ‪ ،‬إال أنها‬ ‫فبالرغــم مــن أن الخدمــة بــدأت‬ ‫ّ‬

‫تقليدية تتحدث عن "دار اإلسالم ودار الحرب" ولم يعد‬

‫جــدا مــن الحريــات‬ ‫األوربيــة التــي تســمح بهامــش كبيــر ًّ‬

‫الجديــدة للعالــم أن تجدد العالقة بين اإلســام والعالم‪،‬‬

‫أخــذت فــي االتســاع واالمتــداد إلــى عديــد مــن البلــدان‬

‫الجماعيــة والفرديــة‪ .‬وإذا كان لكل بلــد خصوصيته‪ ،‬فإن‬ ‫أســئلة كثيــرة تطــرح عــن كيفيــة تعامــل الخدمة مــع هذه‬

‫الخصوصيــات وكيــف بلــورت مناهجهــا إلرســاء دعائم‬ ‫وبوصول "الخدمة" إلى الواليات المتحدة األمريكية‬

‫فــي نهايــة التســعينيات من القــرن الماضي‪ ،‬اكتســبت أف ًقا‬

‫جديــدا‪ ،‬وواجهــت تحديــات جديــدة كذلــك‪ .‬وفــي هــذا‬ ‫ً‬ ‫اإلطــار‪ ،‬أتصــور أننــا في حاجة ماســة إلى دراســة جميع‬

‫ومن شأنها أنها تسهم في إدماج المسلمين في المجتمع‬

‫جزءا منه وباعتبــاره دار خدمة ودار‬ ‫العالمــي‪ ،‬باعتبارهــم ً‬

‫هجرة في آن واحد‪.‬‬

‫(*) أستاذ العلوم السياسية ‪ -‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬الرد على شبهات العصر‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪ ،2013‬ص‪.190:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عملها في واقع الثقافة األوروبية‪.‬‬

‫لهــا وجــود فــي واقعنــا المعاصر‪ .‬ومن شــأن هــذه النظرة‬

‫‪23‬‬


‫الزمان والمكان‪.‬‬

‫يقع فريسة للشكوك التي ال نهاية لها‪.‬‬

‫لقــد نجحــت حركــة الخدمة في ترســيخ قيــم الحوار‬

‫وال يفــوت األســتاذ أن يقــدم رؤاه التجديدة في أعقد‬

‫المســائل الكالميــة ذات الصلــة بــإرادة اإلنســان وقدرتــه‬

‫والتفاهــم فــي العالم الغربي بشــهادات متوتــرة وموثوقة‪.‬‬

‫بعيــدا عــن شــواطئ اإليمــان مثــل‬ ‫للمذاهــب الشــاطحة‬ ‫ً‬ ‫ِ ِ‬ ‫مهمته‬ ‫الداروينيــة واإللحــاد والماديــة والنفعيــة‪ ،‬لم ُتنســه ّ‬ ‫األساســية في تثبيت عقيدة اإليمان بالقضاء والقدر وفق‬

‫الراهن ما يرسي جو الحوار وبث الثقة بين أفراد المجتمع‬

‫فهــل تنجــح فــي أن تقدم للعالــم العربي في ظــل الواقع‬

‫علــى الفعــل والكســب؛ فتحليالتــه وانتقاداتــه المتعمقــة‬

‫الواحــد‪ ،‬وأن تقــدم مــا يمكــن أن يمنــح الثقــة لآلخــر؟‬

‫إن الجــواب علــى الســؤال الســابق تعترضــه عقبــات‬

‫وتواجهه تحديات كثيرة لعل من أهمها ما يمكن تسميته‬

‫مــا ذهــب إليه أهــل الســنة والجماعة وخاصة األشــاعرة‪.‬‬

‫"تحــدي المصطلــح"‪ .‬فالخطــاب الــذي تقدمــه "حركــة‬

‫معتبرا تفســير‬ ‫اجتهــادا‬ ‫وفــي هــذا الســياق‪ ،‬وجدناه يقــدم‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫خدمــة العالــم" لــه نســق مصطلحــي خــاص؛ إذ لألســتاذ‬

‫"إرادة اإلنسان" في ضوء مشيئة اهلل ‪ .‬وقد ميز األستاذ‬

‫كولــن قاموســه االصطالحــي الخــاص الــذي يتغذى من‬

‫بيــن ما ســماه "اإلرادة الكليــة"‪ ،‬و"اإلرادة الجزئية"‪ ،‬وقال‬

‫روح القــرآن الكريم وعمق الســنة النبويــة‪ .‬فهو مصطلح‬

‫إلــى معنــى اإلرادة هو التوجه والمشــيئة‪ ،‬وهذه تعود إلى‬ ‫ال َأ ْن ي َشاء ا ُ‬ ‫هلل َك َ ِ‬ ‫يما‬ ‫هلل إ َِّن ا َ‬ ‫‪‬و َما َت َش ُاء َ‬ ‫ون ِإ َّ َ َ‬ ‫اهلل تعالى‪َ :‬‬ ‫ان َعل ً‬ ‫ِ‬ ‫يما‪(‬اإلنسان‪ ،)30:‬ويوضح فكرته فيقول‪" :‬إن اهلل خالق‬ ‫َحك ً‬ ‫كل شــيء‪ ،‬ولكنــه مــن أجــل التكليــف واالمتحــان‪ ،‬ومن‬ ‫عاديا"(‪.)1‬‬ ‫وكسبهم‬ ‫ً‬ ‫شرطا ًّ‬

‫وفــي ضــوء الرؤيــة الشــاملة التي قدمها األســتاذ فتح‬

‫اهلل‪ ،‬يبرز مشروع "خدمة اإلنسان" ‪-‬مطلق اإلنسان‪ -‬وهذا‬

‫المشــروع اإلصالحــي عنــد األســتاذ فتــح اهلل‪ .‬فمعقوليــة‬ ‫المصطلــح وانضباطه‪ ،‬دليل على معقولية الفكرة‪ ،‬ودليل‬ ‫على انطالق صاحبه من جهاز مفاهيمي واضح المعالم‪.‬‬

‫"التسيِيس"‬ ‫ابتعاد الخدمة عن ْ‬

‫المشروع لم يتوقف عند حدود تركيا‪ ،‬بل تجاوزها ‪-‬كما‬ ‫كلهــا‪ ،‬وصــار محل اهتمام وتركيز دوائر فكرية وفلســفية‬

‫علــى اجتهــادات األســتاذ فتــح اهلل كولــن‪ ،‬وبخاصــة مــن‬

‫إن أهم ما تتميز به "حركة الخدمة"‪ ،‬هو استحضارها‬

‫كثيــرا من‬ ‫التجديــدي علــى اإلطــاق‪ .‬وأنــا أدرك أن ثمــة‬ ‫ً‬

‫كولن‪ -‬لحظة فاصلة في غاية األهمية في مسار اإلنسانية‬

‫العالــم العربــي على اجتهادات األســتاذ فتح اهلل ونموذج‬

‫وأكاديمية متنوعة االختصاصات‪.‬‬

‫للوحي في كل مرتكزاتها‪ .‬فالوحي ‪-‬حسب رؤية األستاذ‬ ‫كلهــا‪ .‬هــو يــرى أن حــال هــذه اإلنســانية قــد تغيــر بنزول‬ ‫الوحــي علــى ســيدنا محمــد ‪ .‬وتفصلنا اليــوم عن زمن‬

‫الوحي مسافة زمنية طويلة‪ ،‬كما تفصلنا مسافة أطول منها‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ذهبيا لكل مغاليق‬ ‫معانيــه ودالالته المكثفة يعتبــر‬ ‫ً‬ ‫مفتاحا ًّ‬

‫أعتقــد أننــا في العالم العربــي ال زلنا بحاجة إلى كثير من‬

‫ملكا لإلنســانية‬ ‫ملــكا لعمــوم األمة‪ ،‬بل ً‬ ‫أســلفنا‪ -‬ليصبــح ً‬

‫‪22‬‬

‫بــه‪ .‬ولذلــك فــإن البحــث فــي هــذا المجــال واســتقصاء‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أجــل أســرار وحكــم أخــرى‪ ،‬قبِل عزم البشــر على الفعل‬

‫واضــح وجلــي يــدل علــى اقتنــاع واضعه بعمــق ما يؤمن‬

‫عن امتداده في المســتقبل‪ .‬وفي رأيه أن األســئلة المعلقة‬ ‫هــي أســئلة تخــص اإلنســان ووظيفتــه فــي هــذا الوجود‪،‬‬ ‫والجــواب عــن تلــك األســئلة هــو اإليمــان بهــذه الرؤيــة‬

‫الجديدة‪ ،‬أي البدء من جديد‪ ،‬وعدم االستســام لليأس‪.‬‬

‫فكل إنسان مهيأ ألن يتنزل عليه معنى الوحي‪ .‬ولما كان‬ ‫اإلســام فــوق الزمان والمــكان‪ ،‬كان الوحي كذلك فوق‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المجهودات البحثية والفكرية والثقافية من أجل االنفتاح‬ ‫زاوية "العالمية" وهي ‪-‬كما أســلفنا‪ -‬أهم زوايا مشــروعه‬

‫التحديــات والعقبات التي قد تعترض ســبيل انفتاحنا في‬ ‫"الخدمــة" بصفــة عامة‪ .‬و"التســييس" هــو أول وأكبر تلك‬ ‫فجل الحركات اإلصالحية في العالم العربي‪،‬‬ ‫العقبــات؛ ّ‬

‫هــي حــركات سياســية اجتماعيــة فــي كثيــر مــن األحيــان‬

‫خال ًفــا لمــا يميــز "حركة الخدمــة" باعتبارهــا حركة مدنية‬ ‫تنأى بنفسها عن العمل السياسي‪ .‬فميزة "حركة الخدمة"‬

‫األساســية هــي الرؤيــة العميقــة للواقــع‪ ،‬وبناؤهــا لرصيد‬ ‫مهم من الثقة‪ .‬والســؤال هو‪ :‬كيف يمكن االســتفادة من‬

‫هذا المنهج في العالم العربي‪ ،‬وهل تســتجيب الشــروط‬ ‫التاريخيــة والموضوعيــة فــي العالم العربــي للتفاعل مع‬


‫قصدنا هنا أن نرســم املعامل الرئيســية لشخصية‬ ‫ْ‬

‫تطورت حتى وصلت إلى العالمية مع نهاية التسعينيات‬

‫األستاذ محمد فتح الله كولن باعتباره أحد مجددي‬

‫وبداية األلفية الجديدة‪ .‬وكلمة "الخدمة" هي المســتعملة‬

‫الفكر اإلسالمي املعارص داخل تركيا وخارجها‪ .‬وهو‬

‫في أوســاط المنخرطين في األنشــطة والبرامج التعليمية‬

‫يف نظرنا يستحق صفة املجدد بكل ما تحمله هذه‬

‫والتربوية والثقافية والصحية على نهج األســتاذ فتح اهلل‪.‬‬

‫الصفة من معاين التمسك باألصول واالجتهاد يف‬

‫وأغلــب ظنــي أن اســتعمالهم لكلمة "الخدمــة" هو مظهر‬

‫ضوء تحديات العرص ومكشالته‪.‬‬

‫من مظاهر تأثرهم بالفكر الصوفي الوجداني وتراثه الذي‬ ‫يجعل "الخدمة" وسيلة للقرب من اهلل تعالى‪ .‬وللتصوف‬

‫وطرقه تاريخ عريق في بالد األناضول بصفة عامة‪ ،‬ومنه‬

‫األســتاذ أن يحقــق إنجــازات ملموســة في مجــال تضييق‬

‫واألخالقــي برؤيــة تجديديــة أوضحها فــي مؤلفاته ومنها‬

‫إلــى حــد كبيــر‪ ،‬وذلك من خــال منظومة فكرية مســتندة‬

‫كبيــرا مــن بنائــه الروحي‬ ‫اســتمد األســتاذ فتــح اهلل قســطً ا‬ ‫ً‬

‫الفجــوة بيــن النظريــة والتطبيــق‪ ،‬أو بيــن القــول والفعــل‬

‫بصفــة خاصــة "التــال الزمرديــة"‪ ،‬وكتــاب "ونحــن نقيــم‬

‫واقعيا؛ فمصطلح‬ ‫إلــى عناصر تفعيل القدرات اإلنســانية‬ ‫ً‬

‫وتشــير كلمــة "الخدمــة" فــي الواقــع إلــى مئــات‬

‫َــج مــن خاللــه فــي‬ ‫مفتاحــا‬ ‫تالمذتــه‪ ،‬يعتبــر‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ضروريــا َول َ‬

‫والفنيــة والروحيــة‪ .‬وهــي تنتظــم مئــات اآلالف مــن‬

‫بالدعــوة إلــى ضرورة التمثل العميق لقيم القرآن الكريم‪،‬‬

‫رجال األعمال (األصناف) والشباب والطالب‪ ،‬والنخب‬

‫منهج السلف الصالح‪ ،‬وبخاصة منهج الصحابة الكرام‪،‬‬

‫صرح الروح"‪.‬‬

‫"اإليمان" بالمفهوم الذي قدمه األســتاذ وغرســه في كيان‬

‫المقتنعين بفلســفة الخدمة وبأفكار األســتاذ فتح اهلل‪ ،‬من‬

‫وضرورة طبع العمل والبناء بمسحة قرآنية تطوعية وفق‬

‫الفكرية والثقافية‪ ...‬وإذا كان لنا أن نؤكد على خصوصية‬ ‫هــذه الحركة فخصوصيتها هي أنها "عالمية" و"إنســانية"‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المؤسســات التعليميــة والتربويــة واإلعالميــة والثقافيــة‬

‫تغذيــة جذور اإلنســان الروحية بالحيــاة والحيوية‪ ،‬وذلك‬

‫وبروح اجتهادية تجديدية تساير روح العصر‪.‬‬

‫مليــا فــي األصــول التربويــة والروحيــة لدى‬ ‫وبالنظــر ًّ‬

‫وهــي تســتند إلــى أصــول ومبــادئ المرجعية اإلســامية‪،‬‬

‫حيويــا بالغ الثراء‬ ‫ال‬ ‫األســتاذ كولــن‪ ،‬نجــد أنها تعتبر مجا ً‬ ‫ًّ‬

‫ومهمــوم بمواجهــة تحدياتــه وحل مشــكالته‪ .‬ولعل أهم‬

‫عالميا فــي ميادين التربية‬ ‫أعلــى معاييــر الجودة المعروفة‬ ‫ًّ‬

‫أن يصوغ أطروحاته الفلسفية والفكرية التربوية والعملية‬

‫مســتلهما‬ ‫والهمة‪ ،‬وقادر على ترجمتها في الواقع‬ ‫بالهــم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫منفتحــا على اإلنســان حيثمــا كان وعلى الحياة بكل‬ ‫دينــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫األســتاذ‪ .‬واألمر المهم عند األســتاذ فتح اهلل ليس شــكل‬

‫وخاصيــة اإلنســان المعاصــر وكونه متعــدد االهتمامات‪،‬‬

‫والديــن والقيــم‪ .‬ويأتــي تركيــزه على هذه القيم اســتجابة‬

‫في آن واحد‪.‬‬

‫التشــاؤم من المســتقبل من فرط الحديث عن "النهايات"‬

‫وفــق فهــم وســطي منفتح ومســتوعب لمتغيــرات العصر‬

‫فــي إمــداد حركــة الخدمة بالقــوة والدافعيــة لإلنجاز وفق‬

‫أســباب نجــاح حركــة "الخدمــة" هو أن األســتاذ اســتطاع‬

‫والتعليــم والفــن والثقافــة‪ ...‬إلخ‪ .‬وعلى يد إنســان مفعم‬

‫على أساس إدراك عميق لخاصية عالمية اإلسالم وكونه‬

‫عصــر الصحابــة‪ ،‬أو "عصــر الســعادة" كمــا يطلــق عليــه‬

‫جوانبهــا‪ ،‬إضافــة إلــى إدراكــه العميــق لخاصيــة العصــر‪،‬‬

‫التديــن‪ ،‬وإنمــا "جوهره" الذي يتجلــى في فاعلية اإليمان‬

‫تضييق الفجوة بين النظرية والتطبيق‬

‫التــي تطرحها المنظومــات والمذاهب الفكرية المختلفة‪:‬‬

‫انفصال القول عن الفعل هو من أهم اآلفات التي أصيبت‬

‫كنهايــة التاريخ‪ ،‬ونهاية إنســان القيم واألخالق‪ ،‬ودعوى‬

‫جعلها األستاذ فتح اهلل في بؤرة اهتمامه وهو يبحث عن‬

‫التشاؤمية يلح "األستاذ" على أن اإلسالم يمدنا بالتفاؤل‪،‬‬

‫بهــا المجتمعــات اإلســامية منذ عدة قــرون‪ .‬وهذه اآلفة‬ ‫طرائق تجديد عناصر القوة في جسد األمة‪ .‬وقد استطاع‬

‫مــوت اإللــه‪ ،‬ونهايــة األيديولوجيــا‪ .‬ووســط هــذه النزعة‬ ‫ويفتح أمام اإلنســان بدايات جديدة باستمرار‪ ،‬وال يتركه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫متســع التطلعــات‪ ،‬وتتناوشــه نزعات متنوعــة ومتعارضة‬

‫لتحديــات هــذا العصر المليء باألزمــات‪ ،‬والباعث على‬

‫‪21‬‬


‫‪ .)Mızrap‬هــذا إضافــة إلــى آالف الخطــب والمحاضرات‬

‫يكمــن عــدد كبيــر من األســباب خلف نقــص معرفتنا‬

‫ويقوم تالمذته بتفريغها وتحريرها‪ ،‬ويقوم هو بمراجعتها‬

‫المجتمــع والدولــة والنخــب الفكرية والعلميــة والثقافية‬

‫‪-‬فــي مصر وأغلبية البلدان العربية واإلســامية‪ -‬بأحوال‬

‫المســجلة علــى أشــرطة كاســيت‪.‬‬ ‫والمواعــظ والــدروس‬ ‫ّ‬

‫فــي تركيــا‪ ،‬وليــس فقط باألســتاذ "محمد فتــح اهلل كولن"‬

‫قبل التصريح بطباعتها‪ ،‬وهي في معظمها ال تزال بلغتها‬

‫ومنهجــه فــي التجديــد وحركته المدنية واســعة االنتشــار‬

‫األصلية "التركية"‪.‬‬

‫عالميا‪.‬‬ ‫ذائعة الصيت‬ ‫ًّ‬

‫ولد فتح اهلل كولن ســنة ‪ 1938‬في قرية "كوروجك"‬

‫بعــض هــذه األســباب يرجــع إلــى ضعــف التواصــل‬

‫التابعــة لمدينــة "حســن قلعــة" فــي محافظــة "أرضــروم"‬

‫الفكــري والثقافــي والعلمي بيــن العرب واألتــراك نتيجة‬

‫باألناضــول التركــي‪ .‬وســكان األناضــول فــي عمومهــم‬

‫عوامــل سياســية تراكمــت في نهايــة الدولــة العثمانية‪ ،‬ثم‬

‫تغلب عليهم نزعة التدين واالعتزاز باإلسالم‪ ،‬والتمسك‬

‫تكرســت منــذ بدايــات عهــد الجمهوريــة التركيــة؛ حيــث‬

‫بالتقاليــد والمحافظــة عليهــا فــي مختلف جوانــب الحياة‬

‫تنكر‬ ‫سادت نظرية "االنسالخ المتبادل" بين الجانبين‪ ،‬أو ُّ‬

‫االجتماعيــة‪ .‬وقــد أضحى مــن كبار رواد العمــل المدني‬

‫كل منهما لآلخر وتحميله مسؤولية تأخره‪.‬‬

‫علــى مســتوى العالــم انطال ًقــا مــن رؤية يؤمن بهــا‪ ،‬وهي‬

‫والبعــض اآلخــر مــن األســباب يرجــع إلــى "صــورة‬

‫أن اإلســام جــاء لمــد يــد العــون لجميــع بنــي آدم‪ ،‬وأن‬

‫نمطيــة" موروثــة مــن أزمنــة ســابقة‪ ،‬تؤكد على أن شــهرة‬

‫عظمــة هــذا الديــن تتجلــى أكثــر وأكثــر عندمــا يشــعر كل‬

‫العثمانيين‪/‬األتــراك هــي فــي ميادين الحــرب والبطوالت‬

‫بغض النظر عن اختالف عقائدهم وألوانهم‬‫بني البشــر‬ ‫ّ‬ ‫عطاءاتــه فــي مختلــف المجاالت‪ .‬وقد اســتطاع األســتاذ‬

‫فتــح اهلل بهــذه الفكــرة الواضحــة أن يصــل بحركتــه إلــى‬

‫"أن جوهر الرســالة اإلسالمية‬ ‫العالمية‪ ،‬وأن يكشــف عن ّ‬ ‫هو "خدمة العالم"‪ ،‬كل العالم بال استثناء"‪.‬‬

‫والــذي يلفــت النظــر‪ ،‬هــو أن معرفــة النخــب العربية‬

‫‪-‬والمصريــة علــى وجــه الخصــوص‪ -‬باألســتاذ فتــح اهلل‬

‫جــدا مقارن ًة بمعرفة‬ ‫وأفــكاره وحركتــه‪ ،‬ال تــزال محدودة ًّ‬ ‫النخــب العلميــة والثقافيــة واإلعالميــة بــه فــي البلــدان‬ ‫األوربيــة واألمريكيــة‪ .‬يشــهد علــى ذلــك كثــرة النــدوات‬

‫الفكريــة‪ ،‬والمؤتمــرات العلميــة‪ ،‬والبحوث والدراســات‬ ‫والرســائل الجامعيــة التــي عكــف أصحابهــا فــي تلــك‬

‫البلدان على تحليل شخصية "األستاذ"‪ ،‬واهتموا بدراسة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫آرائــه واجتهاداتــه‪ ،‬وســعوا للكشــف عن عوامــل كفاءتها‬

‫‪20‬‬

‫ونجاحهــا في االســتجابة لمشــكالت الواقــع وتحدياته‪،‬‬

‫إضافــة إلــى االهتمام باستشــراف المســارات المســتقبلية‬

‫التــي يمكــن أن تــؤول إليهــا اجتهاداتــه وتوجيهاتــه علــى‬ ‫المســتويات االجتماعيــة واالقتصاديــة والسياســية‪،‬‬ ‫أيضا‬ ‫والحضارية بشكل عام؛ داخل بلده تركيا وخارجها ً‬ ‫على امتداد الساحة العالمية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وأعراقهــم‪ -‬أنهــم آمنــون فــي ظاللــه‪ ،‬مســتفيدون مــن‬

‫العسكرية‪ ،‬أكثر منها في ميادين العلم والفقه‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫التجديــد واالجتهــاد في أمور الدين والحياة المدنية‪ .‬وال‬

‫تــزال هــذه الصــورة النمطية موجــودة في الذهنيــة العربية‬ ‫إلى اليوم؛ إذ ال يسهل على "العربي" أن يستحضر أسماء‬

‫"علماء" في الشريعة أو دعاة مشهورين‪ ،‬بينما يسهل عليه‬ ‫أن يذكر بعض أســماء ســاطين آل عثمان أمثال سليمان‬ ‫القانونــي‪ ،‬وســليم األول‪ ،‬ومحمــد الفاتح‪ ،‬وعبد الحميد‬

‫أيضــا‪ -‬أن يســتحضر‬ ‫الثانــي‪ ،‬كمــا يســهل ‪-‬علــى العربــي ً‬

‫بعض أسماء قادة وزعماء سياسيين في عهد "الجمهورية‬ ‫تور ُغــوط ُأوزال‪ ،‬إلى عبد اهلل‬ ‫التركيــة" مــن أتاتــورك‪ ،‬إلى ْ‬ ‫كول‪.‬‬

‫أغلب تلك األســباب التي أضعفت التواصل العربي‬

‫التركي في مراحل ســابقة‪ ،‬بدأ يزول منذ عقد من الزمان‬

‫ا‪ .‬فهناك سلســلة مــن الجهــود المبذولة منذ‬ ‫أو أكثــر قليــ ً‬

‫نحو عشــر ســنوات من أجل تجديد الصالت بين العرب‬ ‫واألتــراك على مختلف المســتويات الثقافية واالقتصادية‬

‫والسياسية وأحيا ًنا العسكرية‪.‬‬

‫"الخدمة" من المحلية إلى العالمية‬

‫ترجع النشأة األولى لحركة الخدمة التي أسسها األستاذ‬

‫فتــح اهلل كولــن‪ ،‬إلــى ســتينيات القــرن العشــرين‪ .‬وقــد‬


‫جــلّ الحــركات اإلصالحية يف العــامل العريب هي‬

‫إلــى التحرر وإعــاء كلمة اهلل‪ ،‬ومقاومة الظلم والظالمين‬

‫حركات سياســية اجتامعية يف كثري مــن األحيان‪،‬‬

‫وإقرار العدل‪.‬‬

‫خالفً ــا ملا مييــز "حركة الخدمــة" باعتبارهــا حركة‬

‫• ومنهــم مــن جــاء تجديــده بإحيــاء الفهــم الشــامل‬

‫مدنية تنأى بنفسها عن العمل السيايس‪ .‬فميزة‬

‫لإلسالم باعتباره منهج حياة متكامل‪ ،‬يتناول أمور الدين‬

‫"حركة الخدمة" األساســية هي الرؤيــة العميقة‬

‫جميعا‪.‬‬ ‫والدنيا‬ ‫ً‬

‫للواقع‪ ،‬وبناؤها لرصيد مهم من الثقة‪.‬‬

‫وهكــذا مضــت ســنة اهلل في أمة اإلســام عبر القرون‬

‫الماضيــة‪ ،‬إلــى أن جاء على رأس المائة الخامســة عشــرة‬ ‫داعيــا األمة إلى‬ ‫األســتاذ‬ ‫ّ‬ ‫المربــي محمــد فتــح اهلل كولن‪ً ،‬‬

‫محــددا‪ ،‬وإنمــا توافــق‬ ‫اســما‬ ‫ً‬ ‫واســعة االنتشــار ال تحمــل ً‬

‫قياســا إلى‬ ‫تجديــد أمــر دينهــا مــن زاويــة عمليــة وجديدة ً‬

‫أغلب الباحثين واألكاديميين المعنيين بها على تســميتها‬

‫المجدديــن الذيــن ســبقوه‪ ،‬وهــي "العالمية"‪ ،‬وهــي زاوية‬

‫باســم "حركــة الخدمــة"‪ .‬هــذه الحركــة ‪-‬كمــا ســنرى‪-‬‬

‫ق ّلمــا اهتــم بهــا الســابقون‪ ،‬رغــم األهميــة الكبــرى التــي‬

‫تســتلهم أفكار الشــيخ فتح اهلل وتحولها إلى مشــروعات‬

‫تمثلهــا فكــرة "العالميــة" فــي بنــاء رؤيــة إســامية للعالــم‬

‫ومؤسسات وبرامج متنوعة تصب ‪-‬رغم تنوعها‪ -‬باتجاه‬

‫الناحيتيــن النظريــة األصوليــة‪ ،‬والتطبيقيــة الواقعيــة‪.‬‬ ‫مــن‬ ‫َ‬

‫تحقيق عالمية اإلسالم بالمعنى الذي يشدد عليه األستاذ‬

‫وقــد انصبــت اجتهــادات األســتاذ فتــح اهلل كولــن علــى‬

‫أيضا ‪-‬وربمــا ألول مرة‪-‬‬ ‫فتــح اهلل‪ .‬كمــا تركــز "الخدمــة" ً‬

‫إبــراز "عالميــة اإلســام"‪ ،‬وبيــان كيــف أنه يشــمل جميع‬ ‫بالحكمة والموعظة الحســنة‪ ،‬وبالخدمة والعمل الصالح‬

‫أحدا منهم على الدخول‬ ‫النافــع فــي آن واحد‪ ،‬وال يكره ً‬ ‫فيه أو ترك ما يدين به‪.‬‬

‫الع ْــدوة إلــى اهلل‬ ‫وكــدأب أغلــب المجدديــن وحملــة ُ‬

‫تعالــى؛ تعــرض الشــيخ فتــح اهلل لحمــات متالحقــة من‬

‫التشويه ليس فقط بهدف النيل من شخصه الكريم‪ ،‬وإنما‬ ‫أيضا بهدف النيل من فكرته‪ ،‬وإهالة التراب على الزاوية‬ ‫ً‬ ‫التجديدية التي نذر نفســه لها أال وهي "عالمية اإلســام"‬

‫في الواقع والتطبيق وليس فقط بالفســلفة والتنظير‪ .‬وكم‬

‫حكيمــا فــي قولــه "اآلذان شــبعى واألعيــن جوعــى"‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫فــي إشــارة إلى حاجــة األمة إلى أن تقــرن القول بالعمل‪،‬‬

‫يجــد ويجتهــد أبناؤهــا في بناء صــرح الروح وصرح‬ ‫وأن‬ ‫ّ‬ ‫معا‪.‬‬ ‫الحضارة ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بني البشــر ويســتوعبهم وال يســتبعد فئة منهم‪ ،‬ويدعوهم‬

‫علــى اســتخدام "القــوة الناعمة" فــي ممارســاتها العملية‪،‬‬

‫اســتنادا إلــى رؤية معرفية تركز علــى قيم الحرية والعدالة‬ ‫ً‬

‫والمساواة والسالم واحترام حقوق اإلنسان؛ عبر منظومة‬

‫مــن المشــروعات والمؤسســات‪ ،‬والبرامــج التعليميــة‬ ‫والصحية‪ ،‬واإلعالمية والفنية‪ ،‬والخدمية واإلغاثية‪.‬‬

‫َمن هو محمد فتح اهلل كولن؟‬

‫األســتاذ "محمد فتح اهلل كولن" ســبق أن جاء في المرتبة‬

‫األولى ضمن قائمة "أهم مائة مثقف معاصر في العالم"‪،‬‬

‫وذلــك "لتجــاوز تأثيره حدود بلده‪ ،‬وذيــوع صيته الثقافي‬

‫فــي مختلــف أنحــاء العالــم"؛ بحســب نتائج االســتطالع‬ ‫الــذي أجرتــه في صيف ‪ 2008‬مجلّة السياســة الخارجية‬

‫"‪"Forgien Policy‬‬

‫األمريكيــة‪ ،‬بالتعــاون مــع مجلــة‬

‫�‪Pros‬‬

‫‪ pect‬البريطانيــة‪ .‬ولألســتاذ فتــح اهلل عديــد مــن المؤلفات‬ ‫كتابا‪ ،‬بعضها‬ ‫والبحــوث والمقــاالت بلغــت أكثر مــن ‪ً 70‬‬

‫الفكــر اإلســامي المعاصر داخل تركيــا وخارجها‪ .‬وهو‬

‫ــيز ْنتِي (‪ )Sızıntı‬وفيها ‪360‬‬ ‫تصــدر بالتركية‪ ،‬هــي‪ :‬مجلة سِ ِ‬

‫األســتاذ محمــد فتــح اهلل كولــن‪ ،‬باعتبــاره أحــد مجــددي‬ ‫فــي نظرنــا يســتحق صفــة المجــدد بــكل مــا تحملــه هــذه‬

‫الصفة من معاني التمسك باألصول واالجتهاد في ضوء‬

‫تحديــات العصــر ومكشــاته‪ .‬لقد أســس األســتاذ حركة‬

‫أخــرى‪ .‬ولــه ‪ 485‬مقالــة‪ ،‬منشــورة فــي ثــاث مجــات‬ ‫ياغ ُمــور (‪ )Yağmur‬وفيها ‪ 44‬مقالة؛ ومجلة‬ ‫مقالــة؛ ومجلة ْ‬ ‫َينِي ُأمِيد (‪ )Yeni Ümit‬وفيها ‪ 81‬مقالة‪ .‬وله ديوان شعر من‬

‫مجلديــن (بالتركيــة) بعنــوان "المضرب المكســور"‬ ‫َ‬

‫(‪Kırık‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وقصدنــا هنــا أن نرســم المعالــم الرئيســية لشــخصية‬ ‫ْ‬

‫مترجــم إلــى العربيــة‪ ،‬وبعضهــا مترجــم إلــى عــدة لغــات‬

‫‪19‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غانم*‬

‫"الخدمة"‬

‫يف خدمة عاملية اإلسالم‬

‫جــاء فــي األ َثــر عن ســيدنا محمــد ‪ ‬أنه‬ ‫قال‪" :‬إن اهلل يبعث لهذه األمة على رأس‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫كل مائة سنة من يجدد لها دينها"‬

‫‪18‬‬

‫(رواه أبو‬

‫وبالتنقيب في سير أولئك المجددين السابقين نجد أن‪:‬‬

‫• منهــم َمــن كان تجديده بإحياء الســنن النبوية وإزالة‬

‫البدع والخرافات التي التصقت بالدين‪.‬‬

‫داود)‪ .‬وقــد توالــى ظهور المجددين عبــر العصور‪ ،‬وكتب‬

‫• ومنهم من كان تجديده من خالل تقديم تفسيرات‬

‫كتابــه "التنبئــة بمــن يبعثــه اهلل علــى رأس المائــة"؛ وكتــب‬

‫ِ‬ ‫قهيا‪ ،‬فقدم اجتهادات غير‬ ‫• ومنهم من جاء تجديده ف ًّ‬

‫قديمــا‪ ،‬منهــم جــال الدين الســيوطي في‬ ‫عنهــم كثيــرون ً‬

‫عنهم كثيرون حدي ًثا منهم الشيخ عبد المتعال الصعيدي‬

‫وقــد اســتوعب فــي كتابــه‬ ‫"المجــددون في اإلســام" من‬ ‫ّ‬ ‫القرن األول إلى القرن الرابع عشر الهجري‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫جديدة آليات القرآن الكريم‪.‬‬

‫مسبوقة‪ ،‬وسابقة لعصرها في حل المشكالت االجتماعية‬

‫واالقتصادية‪.‬‬

‫• ومنهم من جاء تجديده في ميادين الجهاد والدعوة‬


‫وثقافيا‪ ،‬ورصد كل‬ ‫فكريا‬ ‫ال‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬فأحدث فيها تحو ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫هذه التحوالت من حيث نتائجها االجتماعية واألخالقية‪.‬‬ ‫وهو بشــخصيته العلمية والروحية الكاريزمية‪ ،‬وبأسلوب‬ ‫يعتبــر مــن أواخــر‬ ‫حياتــه البســيطة المتواضعــة والزاهــدة َ‬ ‫حلقات التقاليد العلمية اإلسالمية العريقة‪.‬‬

‫وســواء عــرف الناس قدره أم لم يعرفــوا‪ ،‬فإني أعتقد‬ ‫جازمــا بأنــه لم يســتحق مــا ُو ّجه إليه مــن إهانات من ِقبل‬ ‫ً‬

‫َمــن أشــربوا فــي قلوبهم اللهث وراء عــرض الدنيا ونزوة‬ ‫المناصــب‪ ،‬والذيــن ليس لهم حظ مــن الثقافة والعلم إال‬

‫والمســبات‪ ،‬والهمز‬ ‫قليــل‪ ،‬فيكيلون له من فحش الكالم‬ ‫ّ‬ ‫واللمــز‪ ،‬والســخف واإلزعــاج مــا ال يقبلــه اإلنصــاف‬

‫والضمير‪.‬‬

‫عظيما يندرج‬ ‫ال‬ ‫وأعتقد‬ ‫جازما أن الذين يظلمون رج ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ال‪،‬‬ ‫كونت لنا ترا ًثــا‬ ‫علميا هائ ً‬ ‫ضمــن سلســلة الذهب التي ّ‬ ‫ًّ‬ ‫سيحاسبون‬ ‫في ســبيل بعض المكاســب الدنيوية العابرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ال‪ .‬صحيح أن اإلنسان قد ينسى‬ ‫ال أو آج ً‬ ‫على ذلك عاج ً‬

‫مــا يقــوم بــه األعــداء‪ ،‬ولكن غــدر األصدقــاء وخذالنهم‬ ‫مــن البشــاعة بحيــث يهتــز لــه العــرش‪ .‬فقــد ال تعجبكــم‬ ‫أفــكاره وأســاليبه‪ ،‬ولكــم أن تنتقــدوه حينــذاك فــي حدود‬ ‫اإلنصــاف والمبــادئ العلميــة‪ ،‬بــل لكــم أن ال تبالــوا بمــا‬

‫ال‪ .‬ولكن إذا كان األســلوب واللغة‬ ‫يقولــه وال تلقــوا له با ً‬ ‫بعيــدا عــن األخــاق واللياقــة‪ ،‬وكان منحطًّ ا عن مســتوى‬ ‫ً‬

‫شهادات‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد عمارة (مصر)‪:‬‬

‫ألن العقــل فــي حضارتنــا اإلســامية هــو نــور أودعه‬ ‫اهلل فــي القلــب‪ ،‬وألن العالمة األســتاذ فتــح اهلل كولن هو‬ ‫ثمــرة طيبــة مــن ثمــرات هذه الحضــارة‪ ،‬فلقــد جمع بين‬ ‫حكمــة العقــل وبصيــرة القلــب‪ .‬وألن القــرآن الكريم هو‬ ‫الــذي صــاغ منهاجه فــي الفكر والحيــاة‪ ،‬فلقد صار كلمة‬ ‫طيبة أصلها ثابت وفروعها ممتدة في السماء تؤتي أكلها‬ ‫دائما‬ ‫كل حيــن بــإذن اهلل‪ ،‬وألن الوحــي القرآنــي قد قــرن ً‬ ‫الرباني قد‬ ‫بين اإليمان والعمل‪ ..‬فإن كلمات هذا العالم ّ‬ ‫تجسدت ‪-‬به وبإخوانه الكرام‪ -‬أبنية شاهقة‪ ،‬وحياة خصبة‬ ‫ّ‬ ‫تزدهــر بهــا كثير مــن بقاع هذا الكوكب الــذي نعيش فيه‪.‬‬

‫األدب واإلنصــاف‪ ،‬فهــذا ليــس لــه إال تفســير واحد وهو‬ ‫وانهيارا في الشخصية‪ .‬وهذا‬ ‫تعفنا في األخالق‬ ‫أن هناك ً‬ ‫ً‬ ‫النمط من األســلوب المســتبد‪ ،‬أفســد الخطاب السياسي‬ ‫أيضــا‪ ،‬وأفلتــه مــن ضوابطــه وهــدم جــدران‬ ‫اإلســامي ً‬

‫اإلنصاف واألخالق المحيطة بالنقد واالنتقاد‪.‬‬

‫لقــد كان فــي تركيــا حواجــز أخالقيــة تحمــي اللغــة‬

‫واألســلوب من الشــطط‪ ،‬ولم تكن هذه الحواجز مدمرة‬ ‫إلــى هــذا الحــد حتــى فــي األوســاط العلمانيــة‪ .‬ولكنهــا‬ ‫تهدمت بشــكل فظيع على يد اإلســاميين‪.‬‬ ‫لألســف‪ّ -‬‬‫نسأل اهلل تعالى حسن الخاتمة‪.‬‬

‫(*) كاتب وباحث تركي‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬أجير أشيوك‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪17‬‬

‫أ‪.‬د‪ .‬فريد األنصاري رحمه اهلل (المغرب)‪:‬‬

‫"كولن"‪،‬‬ ‫فتــح اهلل كولــن ســير ُة بــكاء! لقبــه األســري‪ُ :‬‬ ‫ومعنــاه "الضحــاك" باللســان التركــي‪ ،‬وهذا مــن عجائب‬ ‫ــك ُاء‬ ‫أيضــا! فهــو َب ّ‬ ‫األضــداد‪ ،‬ومــن غرائــب الموافقــات ً‬ ‫الصالحيــن فــي هــذا العصــر‪ ،‬لكنه مــا بكــى إال ليضحك‬ ‫الزمــان الجديــد‪ ،‬وليزهــر الربيع في حدائــق األطفال‪ .‬ما‬ ‫دمعــا منــه‪ ،‬وال أكثــر َو َل ًهــا‪ ..‬وكأنمــا‬ ‫رأيــت ً‬ ‫ُ‬ ‫أحــدا أجــرى ً‬ ‫جميعا تفجرت أنهارها من بين جفنيه!‬ ‫التاريخ‬ ‫دموع‬ ‫ً‬


‫على المدارس الفلســفية العصرية الحديثة‪ .‬والســبب في‬

‫فــي المجتمعــات اإلســامية‪ .‬فكتــاب "التــال الزمرديــة"‬ ‫إطــارا‬ ‫يقــدم ‪-‬بطريقــة غيــر مباشــرة‪-‬‬ ‫منهجيــا يجمع بين‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫مــا فــي النظــام المعرفي اإلســامي من مختلف األســس‬ ‫المرجعية والمنهجية‪ .‬فاألستاذ بما طوره في هذا الكتاب‬ ‫مــن نظريــة المعرفة المتكاملة‪ ،‬حــاول أن يعالج ما تعاني‬ ‫منه المجتمعات اإلسالمية من انحراف أخالقي وتفكك‬ ‫فكري وقلبي واجتماعي‪.‬‬

‫ذلك يرجع إلى شخصيته المتواضعة‪ ،‬باإلضافة إلى كثرة‬ ‫الحديــث عنــه في وســائل الرأي العام من خالل أنشــطته‬

‫الدعوية والتربوية واإلرشادية المكثفة‪.‬‬

‫مهمــا من مؤلفاته تشــكلت‬ ‫وجديــر بالذكــر أن‬ ‫ً‬ ‫جــزءا ًّ‬

‫مــن حلقــات الدرس التــي كان يلقيها على تالمذته‪ ،‬ومن‬ ‫األجوبــة علــى مــا ُو ّجه إليــه من أســئلة‪ ،‬وتفريغ أشــرطة‬

‫الوعظ التي ألقاها على الجماهير‪ .‬باإلضافة إلى مؤلفات‬

‫شخصية األستاذ ورؤيته الحضارية‬

‫تشــكلت ممــا كتبه مــن المقاالت الرئيســية التي كتبها في‬

‫المجالت العلمية واألدبية‪.‬‬

‫لكن سلســلة الكتب المسماة بـ"التالل الزمردية"‪ ،‬من‬

‫كتبــه الفريــدة التــي تميزت على ســائرها في باب ما كتب‬

‫فــي علــم التصــوف‪ .‬فلو كانت هــذه السلســلة مؤلفة قبل‬ ‫لكتب عليها عشرات من الشروح‪.‬‬ ‫ال‪ُ -‬‬ ‫خمســة قرون ‪-‬مث ً‬ ‫بمعنى أنها من طراز المتون األصيلة التي كان من العادة‬

‫هــذا البــاب والــذي له بــاع في هذا العلــم‪ ،‬أن يتلمس من‬ ‫خالل هذه السلســلة مدى ســعة قريحة األســتاذ العلمية‪،‬‬

‫وقدرتــه علــى التركيــب والتحليــل‪ ،‬وخلفيتــه الفقهيــة‬ ‫واألصوليــة والكالميــة والمنطقيــة‪ .‬ومن يمعــن النظر في‬ ‫هــذا الكتــاب فســيالحظ أن المؤلــف جمــع وألــف بيــن‬ ‫شتى األنظمة المعرفية اإلسالمية التي هي ثالثية (البيان‪-‬‬ ‫البرهان‪-‬العرفان) في نظام معرفي متكامل‪.‬‬

‫واألمــر الذي يميزه عن النصوص الصوفية التقليدية‪،‬‬

‫هــو أن المؤلــف ال يحصر المفاهيم العرفانية في المجال‬ ‫يعرفهــا ويؤصلها من منظــور الواقع‬ ‫العرفانــي فقــط‪ ،‬بــل ِّ‬ ‫االجتماعــي واألخالقي للفرد المســلم‪ .‬وهنــاك أمر آخر‬

‫نوعا ما‪ -‬إلى‬‫تلمــح‬ ‫ً‬ ‫وهــو أن الحبكــة الفكريــة للكتاب ّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫انتقاد ضمني للعقل اإلسالمي التقليدي‪ .‬بمعنى أن العقل‬

‫‪16‬‬

‫بتفرقــه فــي الماضي إلى ثالثــة أنظمة مرجعية‬ ‫اإلســامي ّ‬ ‫مختلفــة‪ ،‬أدى بالمجتمــع اإلســامي إلــى تفــكك فكري‬ ‫وسياسي واجتماعي‪.‬‬

‫موجــودا فــي عصرنــا هــذا‪،‬‬ ‫وال يــزال هــذا التفــكك‬ ‫ً‬

‫بحيــث إن ذلــك التفــكك الذهنــي والفكــري والسياســي‬

‫أفقيا‬ ‫والمجتمعي‪ ،‬ظل يغذي انقســامات ال تزال تتوســع ًّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كتب عليها الشــروح‪ .‬ومن الممكن للمتخصص في‬ ‫أن ُي َ‬

‫ومن جانب آخر‪ ،‬إن كتب األستاذ فتح اهلل كولن ومؤلفاته‬ ‫قــد تعطــي‬ ‫نوعــا مــا‪ ،‬ولكــن ال يمكــن فهــم‬ ‫تصــورا عنــه ً‬ ‫ً‬ ‫عالمــا‬ ‫ومفكرا حق الفهم إال بالتعرف‬ ‫شــخصيته باعتباره ً‬ ‫ً‬ ‫عليــه عــن كثــب وبطريقة مباشــرة‪ .‬وإنــي ‪-‬باعتبــاري من‬ ‫الذين جالســوه بشــكل أو بآخر وتابعوا دروسه‪ ،‬ووجهوا‬ ‫إليــه األســئلة‪ ،‬وراقبــوه عــن قــرب‪ -‬أســتطيع القــول‪ :‬إن‬ ‫األستاذ يتمتع بقريحة علمية تجمع بين هذه التوجهات‬ ‫دائما‬ ‫محمل ً‬ ‫العلمية اإلســامية الثالثة‪ .‬ومحتــوى كالمه َّ‬ ‫بالرجــوع إلــى هــذه المراجــع الثالثــة‪ .‬فمثــاً‪ ،‬حتــى إنــه‬ ‫موضوعــا يتعلــق بمجــال الفقــه واألصول‬ ‫حينمــا يناقــش‬ ‫ً‬ ‫فقــط‪ ،‬ال يتــرك الموضــوع حبيــس ســاحة واحــدة فقــط‬ ‫كشــأن األســلوب األكاديمــي‪ ،‬بل يظل يبحــث عن اآلثار‬ ‫االجتماعية والثقافية لمضمون ذلك الموضوع‪.‬‬ ‫فتــراه يناقــش ويدخــل في تفاصيل النتائــج األخالقية‬ ‫والفكريــة والمعرفيــة التي عســى أن تتمخــض عما تناوله‬ ‫مــن المبــدإ الفقهــي أو األصولي‪ .‬عالوة علــى ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫مرتبطا في جميع ما‬ ‫األســتاذ ‪-‬من منظور أوســع‪ -‬يظل‬ ‫ً‬ ‫همها‪.‬‬ ‫يتناولــه مــن المواضيــع بـ"رؤيــة حضارية" يحمــل ّ‬ ‫فــاألدوات الفكريــة والفلســفية والعقديــة فــي خطابــه‪،‬‬ ‫مرتبطــة بـــالجذور المعرفيــة لهذه المراجــع الثالثة لنظام‬ ‫المعرفة اإلســامية‪ .‬وعلى األخص فالشــبكة المفاهيمية‬ ‫دائما على إنشــاء‬ ‫للمقــاالت الرئيســية التــي كتبهــا‪ ،‬تؤكــد ً‬ ‫رؤية حضارية ذات محتوى شامل ومحيط‪.‬‬

‫حتى لو لم تعجبكم أفكاره وأساليبه‬

‫وأخيرا‪ ،‬ينبغي أن أعود فأؤكد أن األســتاذ فتح اهلل كولن‬ ‫ً‬ ‫مثــال حــي لنمــوذج "العالِــم" األصيل الذي ظــل على مر‬ ‫عصــور عديــدة ينظــم "رؤيــة العالَــم" لــدى المجتمعــات‬


‫األستاذ فتح الله كولن هو من الشخصيات "العاملة‪-‬‬

‫خاللهــا منظومتها العقدية إلى األجيال الالحقة‪ ،‬ويدافع‬

‫العارفة‪-‬الحكيمة" التي حازت عىل الرتاث العقيل‬

‫عــن عقيدتهــا تجــاه مــا يجابهها مــن األنظمــة الدينية منها‬

‫والديني‪ ،‬إال أنه مبا يتمتــع به من التجربة الفكرية‬

‫والثقافيــة‪ .‬ولهــذا نالحــظ أنــه كان هنــاك فــي وقت قصير‬

‫نهجة كل ما تلقاه‬ ‫وم َ‬ ‫والروحية القوية‪ ،‬أعاد تفسري َ‬

‫نشــاط علمــي مكثــف فــي كل النواحــي والمجــاالت‪.‬‬

‫من الرتاث اإلسالمي؛ فصبغ كل ما تلقاه من املايض‬

‫وهكــذا بنهايــة القــرن األول كاد الفكــر اإلســامي يأخــذ‬

‫والرتاث بلونه الخــاص‪ ،‬وأوصله إىل أبناء عرصه مع‬

‫طريقــه فــي التشــكل بــكل مجاالتــه‪ .‬وعلى مــدى القرون‬

‫تركيبات جديدة وقوالب جديدة وتفســرات جديدة‪.‬‬

‫الثالثــة واألربعــة وصــل التــراث اإلســامي إلى مســتوى‬

‫مــن القــوة والمنهجيــة الفكرية‪-‬الفلســفية‪ ،‬بحيــث أصبح‬ ‫يستطيع أن يمنهج الرؤية اإلسالمية للعالم‪.‬‬

‫معا‪ .‬ولكن علمين‬ ‫فــي ضمن مفهوم "العالم" و"العارف" ً‬

‫ومــن خــال هــذا الجهــد العلمــي المكثف بــرز على‬

‫مــن أمثــال التفتازاني أو الســيد الشــريف الجرجاني‪ ،‬كان‬

‫والتراث العرفاني‪ .‬ويمكن أن تندرج تحت عنوان التراث‬

‫علمــا بأنهمــا بســعة آفاقهمــا وبســلطتهما‬ ‫أو "الحكيــم"‪ً .‬‬

‫الســاحة اإلطــار النموذجــي لورثة النبوة فــي مجال العلم‬

‫يغلــب عليهمــا صفــة "العالــم" أكثــر مــن صفــة "العارف"‬

‫جل العلوم اإلســامية القديمة من الفقه والكالم‬ ‫العلمي ّ‬

‫العلمية‪ ،‬من الشــخصيات التي وضعت األسس المعرفية‬

‫والتفســير والحديث واإلســناد واللغة والبالغة والتاريخ‬

‫للمــدارس العثمانيــة وأنشــطتها العلميــة‪ ،‬وبذلك تحكمتا‬

‫والفلســفة وغيرهــا‪ .‬كمــا يمكــن أن تنــدرج تحــت مفهوم‬

‫إلى حد ما‪.‬‬

‫وأمــا مبــدأ الدعــوة والتبليــغ فقد ظــل ‪-‬باعتبــاره من‬

‫المحفــز الكامن وراء كل‬ ‫المقاصد األساســية لإلســام‪-‬‬ ‫َ‬

‫األنشطة بشكل مباشر أو غير مباشر‪ .‬ومن هذا السبب فقد‬ ‫ظهر في التاريخ اإلسالمي في كل عصر شخصي ٌة علمية‬ ‫تتوافــق ‪-‬علــى األقــل‪ -‬مع إحــدى هذه النمــاذج الثالثة‪.‬‬

‫فمــن العلمــاء َمــن ورِ ثــوا الميــراث العلمــي‪ ،‬ومنهــم‬

‫الجانبين‬ ‫مــن ورثوا الميراث العرفانــي‪ ،‬ومنهم من ورثوا‬ ‫َ‬

‫معــا‪ ،‬ومنهم ‪-‬وهم قليلــون‪َ -‬من ورثوا الجوانب الثالثة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إذن قلمــا نالحــظ علمــاء يتمتعــون بشــخصية "العالــم"‬

‫و"العــارف" و"الحكيــم" فــي آن واحــد‪ .‬والنــادر هــو أن‬ ‫يبــرز العالــم إلــى جانــب هــذه األمــور بهويــة "الداعيــة"‬ ‫أيضــا‪ .‬وال نعنــي بـ"التبليــغ واإلرشــاد" هنــا المعنى العام‬ ‫ً‬ ‫الذي يشــمل كل أنواع النشــاطات الدعوية؛ بل ما نقصده‬ ‫تحتــاج إلــى دعوة اإلســام‪ .‬وإال فــكل األنشــطة العلمية‬

‫التــي تجــري في داخــل المجتمــع اإلســامي تدخل في‬

‫الحســن البصــري‪،‬‬ ‫نطــاق الدعــوة واإلرشــاد‪ .‬فأمثــال‬ ‫َ‬ ‫والمحاســبي‪ ،‬والغزالي‪ ،‬من الشــخصيات الذين يدخلون‬

‫تأثيــرا فــي التاريــخ‬ ‫وال مريــة فــي أن أكثــر العلمــاء‬ ‫ً‬

‫اإلســامي‪ ،‬هو اإلمام الغزالي (بهوية "العالم")‪ ،‬بينما أن‬

‫تأثيــرا هــو محيــي الدين ابن عربــي (بهوية‬ ‫أكثــر الصوفيــة‬ ‫ً‬

‫"العــارف")‪ .‬وإذا حاولنــا أن نعدد فــي هذا المقال جميع‬ ‫أبطــال حلقــات "العلم" و"العرفان" فقــد يتطلب ذلك منا‬ ‫عديدا من الصفحات‪.‬‬ ‫ً‬

‫من أواخر حلقات التراث العلمي القديم‬

‫واحــدا من‬ ‫شــخصيا أعتبــر األســتاذ فتــح اهلل كولــن‬ ‫إننــي‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫أواخــر حلقــات التقاليد العلمية األصيلــة المنحدرة على‬ ‫طول التاريخ اإلسالمي‪ .‬وال مرية في أن األستاذ شخصية‬ ‫علميــة تضلعــت فــي معظــم التخصصــات اإلســامية‬

‫الكالسيكية‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه يتمتع بهوية الداعية‬ ‫بالمعنى العام‪ ،‬وشخصية القيادة االجتماعية‪ .‬وحاز على‬ ‫مســاحة واســعة من القبول والتأثير بحيث لم يتيسر ذلك‬

‫ألي عالم في التاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫ومــع أنــه بخطابتــه القويــة والمخلصــة‪ ،‬وبقريحتــه‬

‫العلمية والعرفانية الواســعة‪ ،‬أ ّثر في جماهير تتشــكل من‬

‫جدا‪ ،‬إال أنه ‪-‬لألسف‪ -‬لم يشتهر ‪-‬بنفس‬ ‫شرائح مختلفة ًّ‬ ‫المســتوى‪ -‬بســلطته العلميــة ومقدرتــه الفكريــة واطالعه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫هنــا هو الدعوة إلى اإلســام مباشــرة فــي بيئات وأصقاع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التــراث العرفاني؛ علــم التصوف واألخالق والميتافيزيقا‬

‫في هذه األنشطة العلمية قرابة خمسة قرون‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫على المســتوى الروحي واالجتماعــي‪ ،‬يمثل هذا اإلرث‬

‫والتصوف والحديث والفلسفة واللغة واللطائف القرآنية‪،‬‬

‫اللذان يستعملهما في حياته اليومية‪ ،‬من المؤشرات التي‬

‫بالعواطــف والمعنويــات‪ ...‬إنــه بهــذه األمور "موســوعة"‬

‫مهمــا وعلى مســتوى رفيــع‪ .‬فحتى لغتــه وخطابه‬ ‫تمثيــ ً‬ ‫ا ًّ‬

‫واألدب والبالغة والفن والجمال‪ ،‬وبأســلوبه المشــحون‬

‫تــدل علــى أنه يحمل هذا اإلرث الطويــل إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫بكل معنى الكلمة‪ .‬فأســلوبه يســتقي من مختلف المنابع‬

‫فتــكاد كل حلقــة مــن حلقات دروســه اليوميــة (الصحبة)‬

‫الثقافية الواســعة‪ .‬وحســب األعراف الفلسفية فإنه قد برز‬

‫تعكــس األســس المنهجيــة للعلوم اإلســامية بحساســية‬

‫ضمــن تقاليــد الفكر اإلســامي ثالثــة أنواع مــن األنظمة‬

‫المرجعيــة األساســية التــي تتمتــع بإطــار معرفــي‪ :‬البيان‪،‬‬

‫بالغة‪ ،‬وترصد في تأصيالته واألمثل َة التي يضربها النظر َة‬ ‫المعرفيــة التــي أنتجهــا العقل اإلســامي مــن الفقه وعلم‬

‫والبرهــان‪ ،‬والعرفــان‪ .‬وحســب هــذا فــإن جــل األصــول‬

‫إلى خلفية تحتاج إليها الرؤية الحضارية اإلسالمية‪.‬‬

‫المرجعية"‪.‬‬

‫اإلســامية توجــد ضمن "البيان" الــذي هو أحد "األنظمة‬

‫الكالم واألصول والعرفان‪ ،‬ويلتزم بأن ُيســند كل خطابه‬ ‫وإننــي حينمــا أواجــه المــادة الغنيــة التــي يســتعملها‬

‫وأمــا العلــوم الفلســفية والعقلية فإنهــا وحدها تندرج‬

‫ومحاضراتــه‪ ،‬وأرى أســلوبه الخــاص‪ ،‬فإنــي أشــبهه‬

‫ومــن الطبيعــي أن يتعــرض هــذا التصنيــف للنقــد مــن‬

‫ضمن "البرهان"‪ ،‬بينما يندرج التصوف تحت "العرفان"‪.‬‬

‫فــي كتاباتــه ومقاالتــه وأشــعاره وحلقاتــه درســه ووعظــه‬

‫عتبر علم‬ ‫جهــات عــدة؛ فمثــ ً‬ ‫ا قــد يقول قائــل‪ ،‬لمــاذا ال ُي َ‬

‫بـ"الموســوعة"‪ .‬نعــم‪ ،‬إنــه قاموس محيط وموســوعة بكل‬ ‫معنــى الكلمــة مــن حيــث إلمامه الواســع بشــتى الفنون؛‬

‫واألخــاق والعلــوم االجتماعيــة واإلنســانية‪ ،‬ومن حيث‬

‫دفعــه بقدراتــه العقلية بالخوض فــي التحليالت العرفانية‬ ‫العميقة‪ ،‬وأساليب التربية الروحية‪.‬‬

‫العالم ‪ -‬العارف ‪ -‬الحكيم‬

‫عندمــا ننظــر إلــى نمــوذج "القيــادة الدينيــة واالجتماعية"‬

‫الذي تمخض عن التراث العلمي اإلسالمي‪ ،‬فإننا نشاهد‬ ‫تجربــة عقليــة وروحيــة عميقــة‪ .‬وكمــا جــرت العــادة فــي‬

‫التقاليــد اإلســامية من أن الشــخصيات العلمية تضطلع‬ ‫بــدور القيــادة الدينيــة واالجتماعيــة‪ ،‬فكذلــك األســتاذ‬

‫فتــح اهلل كولــن هــو مــن الشــخصيات "العالمة‪-‬العارفــة‪-‬‬

‫الحكيمــة" التي حازت علــى التراث العقلي والديني‪ ،‬إال‬

‫أنــه بمــا يتمتع به مــن التجربة الفكريــة والروحية القوية‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وم َنهجة كل ما تلقاه من التراث اإلســامي؛‬ ‫أعاد تفســير َ‬

‫‪14‬‬

‫فصبــغ كل مــا تلقاه من الماضي والتراث بلونه الخاص‪،‬‬ ‫وأوصلــه إلــى أبناء عصــره مع تركيبات جديــدة وقوالب‬ ‫جديــدة وتفســيرات جديــدة‪ .‬ومــن الممكــن أن يالحــظ‬

‫المتابــع ألفــكاره تجربته الشــخصية القوية والعميقة هذه‬ ‫في كل ما يتناوله من مواضيع‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬إن األســتاذ بما يلم به من علوم الفقه والكالم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مــن الشــعر والفلســفة وعلــم الــكالم والفقــه واألصــول‬

‫أيضــا؛ وعلــى‬ ‫الفقــه والــكالم واألصــول ضمــن البرهــان ً‬ ‫علمي الفقه‬ ‫الخصــوص فــي حين أنــه باإلمكان أن نعتبــر َ‬

‫واألصول من أشــكال التعقل الخاصة باإلســام‪ .‬كما أنه‬

‫أيضا‪ ،‬إال أننا‬ ‫يمكــن نقــد هــذا التصنيف من نواح أخــرى ً‬ ‫بمثــل هــذه التصنيفــات حينمــا نتحدث علــى العموم عن‬ ‫تــراث فكــري إســامي‪ ،‬نكون قد تحدثنا فــي الواقع عن‬

‫نظــام مرجعــي فكــري ومعرفــي لإلســام‪ .‬وبالتالــي فإننا‬ ‫تشكل من خالل‬ ‫نستطيع القول بأن العقل اإلسالمي قد َّ‬

‫ثالثــة أنــواع مــن أنظمــة مرجعيــة‪ .‬ومن هــذا المنظور فال‬ ‫بأس علينا في ذلك‪.‬‬

‫مسألة وراثة النبوة‬

‫واآلن فإنــي فــي ســياق تعريفــي باألســتاذ فتــح اهلل كولــن‬

‫سأقوم بتأصيل الموضوع باالنطالق من حديث‪" :‬العلماء‬

‫ورثــة األنبيــاء"‪ ،‬ومن بعــض النواحي مــن حديث جبريل‬ ‫‪ ‬المشــهور‪ .‬وإنــي أعتقــد أنــه يمكن القول بــأن وراثة‬ ‫العلمــاء للنبــي ‪ ‬قد تحققت فــي ثالثة مجاالت‪ :‬العلم‪،‬‬ ‫والعرفان‪ ،‬والدعوة االجتماعية‪ .‬ويمكن القول بأن وراثة‬ ‫العلمــاء للنبوة على مدى التاريخ اإلســامي قد تحققت‬ ‫في هذه المجاالت الثالثة‪.‬‬

‫وكلمــا اتســعت رقعــة المجتمــع اإلســامي زادت‬ ‫حاجتهــا إلــى األدوات العلمية التي يب ِّلغ المســلمون من‬


‫إن األستاذ فتح الله كولن مثال حي لنموذج "العا ِلم"‬

‫وق ّلما تجد من الباحثين من يرجع أثناء بحثه في هذا‬

‫األصيــل الــذي ظل عىل مــر عصور عديــدة ينظم‬

‫المجــال إلــى مصادر الثقافة اإلســامية‪ .‬فهناك عدد قليل‬

‫"رؤية العالَم" لدى املجتمعات اإلسالمية‪ ،‬فأحدث‬

‫من األكادميين والباحثين الذين يبحثون عن إمكان إعادة‬

‫فيها تحو ً‬ ‫ال فكر ًّيا وثقاف ًّيا‪ ،‬ورصد كل هذه التحوالت‬

‫إنتاج الفكر اإلسالمي في ظروف المجتمع الحديث مع‬

‫مــن حيث نتائجهــا االجتامعيــة واألخالقيــة‪ .‬وهو‬

‫البقــاء فــي الحــدود المنهجية الخاصة للفكر اإلســامي‪،‬‬

‫بشخصيته العلمية والروحية الكاريزمية‪ ،‬وبأسلوب‬

‫مــن دون أن يتطرقــوا إلى المراجــع الفكرية الغربية‪ .‬فقد‬

‫عتب من‬ ‫حياته البســيطة املتواضعة والزاهــدة‪ُ ،‬ي َ‬

‫نفــذ الغرب إلى عقل نخبتنا اإلســامية المعاصرة بحيث‬

‫أواخر حلقات التقاليد العلمية اإلســامية العريقة‪.‬‬

‫إنــه زعــزع فيهــا الثقة تجاه عا َلمها الثقافــي القديم‪ ،‬ومزق‬

‫ما أنتجته حضارتها من الوحدة واالستمرارية في حياتها‬ ‫وسيو‪-‬الثقافية‪ .‬فاألطر المعرفية لألفكار التي‬ ‫والس ْ‬ ‫الفكرية ُّ‬ ‫يتكــرر الحديــث عنها حــول الرؤى الحضاريــة الجديدة‪،‬‬

‫قطعــا األطــر المنهجيــة للتــرات اإلســامي من‬ ‫ال ترصــد ً‬

‫الداخل‪ ،‬وال تحاول الكشــف عن السير التاريخي للعقل‬

‫اإلسالمي من المنظور الفقهي والكالمي والعرفاني‪ ،‬وال‬

‫تمتــد يدهــا إلــى التحليــل والتســاؤل عمــا إذا كانت هناك‬ ‫والمعرفة اإلســامية سواء في مرحلة صناعة ذلك العقل‬ ‫والمعرفــ ِة أو بعدهــا؛ وإذا كانــت هنــاك تلــك العوامــل‬ ‫الخارجية فما هي؟!‬

‫وال يمكــن الحديــث عــن أي نــوع مــن اإلحيــاء قبــل‬

‫الكشــف بشــكل ملمــوس عــن اإلمكانــات المعرفية التي‬ ‫اســتقاها العقل اإلسالمي من علم األصول‪ ،‬وعن الطاقة‬ ‫التحويليــة المكنونــة في العقل الكالمــي والعرفاني الذي‬ ‫أثــر فــي الفــرد المســلم والمجتمــع المســلم‪ .‬فـ"العا ِلــم"‬

‫هــو الفاعــل الرئيســي الــذي نظــم ‪-‬علــى مــدى التاريــخ‬

‫اإلســامي‪ -‬الرؤيــة العالميــة للمجتمــع المســلم مــن‬ ‫خــال إنتاج جميع إمكانيات العقل المســلم‪ ،‬واألســس‬

‫المعرفيــة لهــذا العقــل‪ ،‬واآلليــات التــي تولــد المفاهيــم‬

‫واألفكار‪ .‬إضافة إلى أنه ال يتوقف عند حدود إنتاج هذه‬ ‫األمور وتنظيمها‪ ،‬بل إنه فوق ذلك يدير ويرصد ويراقب‬

‫وأخالقه‪ .‬وليس هناك في هذا الصدد تأثير مباشر للدولة‬ ‫وسلطة الدولة على المجتمع‪ .‬فحتى في الدولة الحديثة‬

‫نــرى أن المؤسســات الحكوميــة العامــة تغلــق أبوابها في‬ ‫الساعة الخامسة مساء‪ .‬وأما باب العا ِلم فهو مفتوح أمام‬

‫األستاذ فتح اهلل كولن واإلرث العلمي اإلسالمي‬

‫وبعــد هــذه المقدمــة يمكننــي القول بأن األســتاذ فتح اهلل‬ ‫كولــن ممثل معاصر للتقليد العلمي اإلســامي األصيل‪.‬‬ ‫ومــع أن هــذا التقليــد تعــرض فــي القــرون األخيــرة‬ ‫النكســارات خطيــرة‪ ،‬وتحوالت ثقافيــة‪ ،‬و َفقد ‪-‬إلى حد‬ ‫ال كبيرة عمالقة‬ ‫كبيــر‪ -‬قدرتــه اإلنتاجية‪ ،‬إال أن هناك عقو ً‬ ‫شخصيا أعتقد بأن األستاذ‬ ‫نشأت في فترات مختلفة‪ .‬وأنا‬ ‫ًّ‬ ‫فتــح اهلل كولــن بقريحتــه الواســعة وبشــخصيته المؤثــرة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫مــدى مــا تحدثه مــن التغير علــى فكر المجتمع المســلم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عوامــل خارجيــة مهيمنــة تتدخــل فــي العقــل اإلســامي‬

‫الشعب على مدار الساعة‪.‬‬ ‫فالعا ِلــم يعيــش فــي شــرايين المجتمــع وأوردتــه‬ ‫النابضــة‪ .‬وهــذا يعني أنه في العهــود التي كان العالم فيها‬ ‫رئيســيا كانت العلوم الفقهيــة والكالمية والعرفانية‬ ‫ا‬ ‫فاعــ ً‬ ‫ًّ‬ ‫تعيــش نابضــة فــي قلــوب المجتمــع المســلم‪ .‬فحينمــا‬ ‫كان العا ِلــم المســلم بقريحتــه العلمية الواســعة وبســلطته‬ ‫العلميــة يعجن ويطــور العلوم اإلســامية (الفقه والكالم‬ ‫وينميهــا في الواقــع االجتماعي ويحولها إلى‬ ‫والعرفــان) ّ‬ ‫واقع عملي‪ ،‬كان يلجأ أحيا ًنا إلى األنساق الواقعية التي‬ ‫تتطلبهــا الحاجــات الفرديــة واالجتماعيــة‪ ،‬وأحيا ًنــا كان‬ ‫يستعين باألدوات النظرية والمعرفية للعقل المسلم على‬ ‫المدى البعيد‪.‬‬ ‫وهكذا ففي حين كان العا ِلم يضع األســس المعرفية‬ ‫للعقــل اإلســامي‪ ،‬كان فــي الوقــت ذاتــه يمنهــج قوانين‬ ‫هــذا العقــل‪ .‬ويمكــن أن نســميها قوانين الفقــه واألصول‬ ‫والكالم والتفسير والعرفان والبالغة أو اللغة‪ .‬ولكن فإننا‬ ‫إذا لــم نضــع "نموذج العالم" في المحور‪ ،‬فلن نســتطيع‬ ‫القيام بتنقيب تام حول العقل اإلسالمي‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫القــراءة مــن ذلــك المنظــور يتــم قــراءة التاريــخ علــى أنه‬

‫لهــذه الكتــب المقررة علــى التحول الذهنــي واألخالقي‬

‫والحــال أنــه ليــس فــي التاريــخ شــخصية حظيــت‬

‫الوقفيــة لكثيــر من المــدارس تنحصــر بالمناهج والكتب‬

‫بــه العلمــاء مــن حيــث تأثيرهــم علــى تكويــن المجتمــع‬

‫ولــم يتــم ‪-‬إلى اآلن‪ -‬الكشــف ‪-‬بنظــر تحليلي‪ -‬عن‬

‫تاريخ الخلفاء والسالطين والحرب والسلم‪.‬‬

‫للمجتمــع المســلم‪ .‬فالمعلومات الموجــودة في الوثائق‬

‫باالحتــرام لــدى المجتمعــات المســلمة بقــدر مــا حظــي‬

‫الدراسية‪ ،‬بل أكثرها متعلقة بالبنية التحتية‪.‬‬

‫اإلســامي‪ .‬وإذا تســللتم إلــى قلــب اإلســام وشــرايين‬

‫التحــول الفكــري واألخالقي الذي أحدثــه "العلماء" في‬

‫المجتمــع اإلســامي مــن منظــور التاريــخ االجتماعــي‬ ‫فإنكم ستجدون أن العا ِلم هو المؤثر والفاعل في داخل‬

‫المجتمع اإلسالمي‪ ،‬بل إن أكثر الملفات التي تعرضت‬

‫فيهــا المؤسســات العلميــة القديمــة للنقــد الحقيقــي مــن‬

‫ذلــك المجتمــع‪ .‬ومــن هذا المنظور نســتطيع القول بأن‬ ‫العا ِلــم هــو المنشــئ لنظــرة المســلمين إلــى العا َلــم علــى‬

‫النشــاط االجتهــادي‪ .‬وهــذا النقــاش يجــري فــي كل‬

‫اإلسالمي حالة من الجمود والخمود الثقافي والسياسي‬ ‫والدينــي واالجتماعــي‪ ،‬فــإن "العا ِلــم" هــو الــذي أعــاد‬

‫كشف القيمة الفكرية لتراث كتابة الشروح على المتون‪.‬‬

‫الناحيــة الفكريــة والفلســفية هــو الملف المتعلــق بتوقف‬

‫مدى أربعة عشــر قر ًنا من الزمن‪ .‬وكلما عاش المجتمع‬

‫ال‬ ‫المواضع‬ ‫مستندا إلى تعميمات تحار لها العقول‪ .‬فمث ً‬ ‫ً‬ ‫كتابا يركز بشكل حقيقي على‬ ‫قد ال تجدون في الساحة ً‬

‫إنتــاج األمــة وترتيــب صفها وصياغة عقلهــا في الظروف‬ ‫المتجــددة‪ .‬ولذلــك فإنــه كان يجــب علــى "العا ِلــم" أن‬

‫فكريا بفكر مسبق من خالل تصويرها على‬ ‫تمت إدانتها‬ ‫ًّ‬

‫وهذه المهم ُة تقع على عاتقه باعتبارها مسؤولية معنوية‬

‫أنــه يمكــن للقــارئ لكثير مــن الشــروح‪ ،‬أن يتلمس مدى‬

‫ومجتمعية أكثر من كونها وظيفة رسمية‪.‬‬

‫وال توجــد في قراءات التاريخ اإلســامي والعثماني‬

‫بحــوث جــادة حــول الــدور الدينــي والمجتمعــي الــذي‬ ‫اضطلعــت بــه المؤسســات العلميــة فــي المجتمــع‬

‫اإلســامي‪ .‬نعــم‪ ،‬هناك بحــوث كثيرة منحصــرة بالبحث‬ ‫في المقررات الدراسية التي كانت تدرس‬ ‫فــي المــدارس التقليديــة؛ إال أن هذه‬ ‫البحــوث ال ترصــد بتا ًتــا ‪-‬علــى‬ ‫مســتوى كاف‪ -‬مــدى التأثيــر‬ ‫األسلوبي والمنهجي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يكون ذا صلة قريبة بجميع مشــاكل المجتمع المســلم‪.‬‬

‫ويبــدو أن هــذا النوع من المؤلفات والجهود الفكرية‬

‫أنهــا نــوع من تــرداد المعلومات الســابقة‪ .‬ولكــن الواقع‬

‫قــدرة العلمــاء على االجتهــاد والتجديد‪ .‬ولكن يجب أن‬ ‫ال يغيب عن البال أنه ال يمكن التوصل إلى هذه الحقيقة‬ ‫إال من خالل األطر المنهجية التي تم إنشاؤها في ضمن‬

‫التــراث‪ .‬وأظــن أنــه ال داعــي إلــى القــول بــأن هــذا األمر‬ ‫منوط باالطالع الكامل على ذلك التراث‪.‬‬

‫فهم اإلسالم من خالل مقوماته الداخلية‬

‫إن األذهان في عصرنا الراهن قد استولت عليها الفلسفة‬ ‫الغربيــة‪ .‬فكثيــر مــن الك ّتــاب اإلســاميين الذيــن يكتبون‬

‫فــي إطــار إحيــاء الحضــارة اإلســامية ومن منظــور رؤية‬ ‫حضاريــة إســامية‪ ،‬يكثــرون مــن مراجعــة مصــادر الفكر‬ ‫الغربي ويكتبون بخلفية حداثية للغاية‪ .‬وكثير من‬ ‫المثقفين اإلســاميين الذيــن يقولون بأزمة‬ ‫الفكر اإلســامي يكادون يختزلون ســبب‬ ‫تخلّف المسلمين في أزمة العقل المسلم‪.‬‬ ‫يجســدون ادعاءاتهم ينطلقون‬ ‫وهؤالء إذ ّ‬

‫مــن مناهــج وأدوات غيــر كافيــة وغيــر‬

‫منتظمــة‪ ،‬وكأنهم ينطلقون من التفســيرات‬ ‫المستعجلة للتراث اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫إن "العا ِلم" هو الذي أعاد إنتاج األمة وترتيب صفها‬

‫مراجع علمية سوى هذين المصدرين‪ .‬ولكن لما بدأت‬

‫وصياغــة عقلهــا يف الظروف املتجــددة‪ .‬ولذلك‬

‫الفتوحات في الربع األول من القرن الهجري األول إلى‬

‫فإنه كان يجب عىل "العا ِلم" أن يكون ذا صلة قريبة‬

‫شبه القارة الهندية واتسعت رقعة المجتمع المسلم‪ ،‬التقى‬

‫بجميع مشــاكل املجتمع املسلم‪ .‬وهذه املهمةُ‬

‫المســلمون فــي هذه المناطق بتــراث يرجع إلى مختلف‬

‫تقــع عىل عاتقــه باعتبارهــا مســؤولية معنوية‬

‫الديانــات واألعــراق والفلســفات والثقافــات القديمــة‪.‬‬

‫ومجتمعية أكرث من كونها وظيفة رسمية‪.‬‬

‫ومــع أن األغلبيــة الســاحقة مــن أهــل تلــك المناطق‬

‫دخلــوا اإلســام فــي وقــت قصيــر‪ ،‬إال أن أكثرهــم ظلــوا‬

‫وحيــا‪ ،‬إال أنــه ّأدى فــي وقــت‬ ‫ومــع أن اإلســام بــدأ ً‬

‫يحافظــون علــى تصوراتهــم الفلســفية والدينيــة والثقافيــة‬

‫قصيــر وبشــكل ســريع إلى نشــوء نشــاط علمــي منهجي‬

‫القديمة من خالل تكييفها مع الرؤية العقدية واألخالقية‬

‫مكثــف‪ .‬فلم يعد اإلســام بالنســبة لألجيــال التالية عبارة‬

‫لمــا اعتنقــوه مــن الدين الجديد‪ .‬وإلــى جانب هؤالء كان‬

‫عــن مجــرد عقيــدة وأداة دعــوة‪ ،‬بــل كان فــي الوقــت‬

‫هنــاك أطــراف ثقافية مهمــة لم تهضم هــذا الدين الجديد‬

‫نفســه‬ ‫تعبيــرا عــن نظرة ممنهجــة إلى العالــم ورؤية ثقافية‬ ‫ً‬

‫بأسســه الدينيــة والثقافيــة على الرغم مــن أنها كانت تبدو‬

‫متكاملة‪ .‬وبحلول عصر التدوين زاد عدد حلقات العلوم‬

‫وكأنها انصاعت للقوة السياسية اإلسالمية‪.‬‬

‫تنظيمــا‪ .‬فتكونــت من خالل‬ ‫اإلســامية وأصبحــت أكثــر‬ ‫ً‬

‫تهديــدا‬ ‫وكانــت هــذه البقايــا الدينية‪-‬الثقافيــة تشــكل‬ ‫ً‬

‫مع هذه البقايا الدينية‪-‬الفلســفية‪-‬الثقافية خالل موجات‬ ‫الفتــح المتعاقبــة‪ .‬وكان هــذا الخطر الداخلــي أكبر دافع‬

‫تكون العلوم اإلســامية ونشــأتها بشــكل ســريع في‬ ‫إلى ّ‬ ‫عصر التدوين‪ .‬فقد بدأ المجتمع المسلم يحس بالحاجة‬

‫إلــى األدوات والمرجعيــات العلمية والعقدية والفلســفية‬ ‫والثقافيــة القويــة‪ ،‬حتى يســتطيع أن يعبــر من خاللها عن‬

‫ويدافــع ‪-‬فــي الوقــت ذاته‪-‬‬ ‫نفســه وعــن هويتــه العقديــة‬ ‫َ‬ ‫عــن القيــم اإلســامية‪ .‬وكانــت العلــوم اإلســامية هــي‬ ‫الكفيلــة بتلبيــة هــذه الحاجــة‪ .‬فبــدأت العلــوم اإلســامية‬

‫األولــى تتكون‪ ،‬وبذلك التكون برز على مســرح التاريخ‬ ‫فــي هــذا الســياق "نموذج العا ِلــم" الذي يمكــن أن نعتبره‬

‫أقــوى نمــوذج كارِ يزمــي ‪-‬بعد الرســول ‪ -‬له دور مؤثر‬ ‫وفاعــل في تكــون المجتمع اإلســامي وتاريخه وثقافته‬ ‫بل وحضارته‪.‬‬

‫من شــأنها أن تحافظ على اســتمرارية الوحي اإلســامي‬ ‫ووحدتــه في مواجهة العناصــر الثقافية‪-‬العقدية الداخلية‬

‫التــي تتحدى النظام العقدي والعلمي اإلســامي بشــكل‬ ‫مبطن‪.‬‬

‫وكمــا هــو معلــوم‪ ،‬فإن أصحــاب الدور الرئيســي في‬

‫هــذه األنشــطة المنظمــة‬ ‫والعقــول المدبرة لهــا‪ ،‬كانوا هم‬ ‫َ‬ ‫"العلمــاء" الذيــن تخصصوا في شــتى المجــاالت‪ .‬فكلما‬

‫وتعزز الدور‬ ‫تطورت العلوم اإلسالمية وتأصلت‪ ،‬استمر‬ ‫َّ‬ ‫الفعال والمكانة المؤثرة والحاسمة لـلعا ِلم في المجتمع‬

‫قلت إن‬ ‫اإلســامي‪ .‬وأحســب أننــي لــن أكــون مبا ِل ًغــا إن ُ‬ ‫ِ‬ ‫المؤسســة‬ ‫أشــد العقــول‬ ‫والمنظمــة للحضارة اإلســامية‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والرؤيــة العالميــة اإلســامية‬ ‫تأثيرا بعد الرســول‬ ‫َ‬ ‫وأكثرها ً‬

‫‪ ‬هم "العلماء" ورثة األنبياء‪.‬‬

‫دور العالِم في الحضارة اإلسالمية‬

‫ليس من الممكن لإلنسان أن يقوم بقراءة حقيقية للتاريخ‬ ‫فهمــا‬ ‫حقيقيا مدى دور "العلماء"‬ ‫اإلســامي‪ ،‬ما لم يفهم ً‬ ‫ًّ‬

‫اإلســامي لم تكن مجرد نشــوء أملته الظروف المرحلية‬

‫فــي تاريــخ اإلســام وثقافتــه وحضارتــه‪ .‬والقــراءات‬

‫والدوافــع االجتماعية‪-‬الثقافيــة والدينيــة التــي تكفــي‬

‫القراءة الكرونولوجية‪ .‬ومنظور التاريخ االجتماعي ليس‬

‫حائزا على المقومات‬ ‫والعوامل الطارئة‪ ،‬بل كان اإلسالم ً‬ ‫لتكوين تراث علمي مستقل أصيل‪.‬‬

‫المعاصــرة للتاريــخ يطغــى عليهــا فــي الغالــب أســلوب‬ ‫مــن المجاالت المتطــورة لدينا‪ .‬مع العلم بأنه في غياب‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫ومــن المعلــوم أن نشــأة "العا ِلــم" فــي المجتمــع‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كامنــا فــي المجتمــع اإلســامي علــى المــدى‬ ‫وخطــرا ً‬ ‫ً‬ ‫البعيد؛ ألنه لم يتحقق هناك تدافع عقدي وفلسفي كاف‬

‫هــذه الحلقــات أدوات فلســفية علميــة عقديــة ومنهجيــة‬

‫‪11‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫محمد أنس ْأر َكنَ ه*‬

‫األستاذ فتح الله كولن‬

‫ً‬ ‫حكيما‬ ‫عارفا‬ ‫عا ِل ًما‬ ‫ً‬

‫بــادئ ذي بــدء أود أن أنوه بأنه لن يكون‬ ‫مــن الســهل الميســور تحليــل شــخصي ِة‬ ‫عا ِلــم بمســتوى األســتاذ فتــح اهلل كولــن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫فــي إطــار مقــال أو مقاليــن‪ ،‬ألن األســتاذ مــن المم ّثليــن‬

‫‪10‬‬

‫ــل‬ ‫مســتمرا على مدى‬ ‫لميــراث علمــي إســامي عريــق َظ َّ‬ ‫ًّ‬

‫أربعــة عشــر قر ًنــا مــن الزمــن‪ .‬ومــا لــم يتــم الكشــف عن‬ ‫مــدى الدور الديني واالجتماعي والثقافي الذي يضطلع‬ ‫بــه "نمــوذج العا ِلــم" فــي المجتمــع المســلم‬ ‫والتاريــخ‬ ‫ِ‬ ‫اإلســامي والثقافة والحضارة اإلســاميتين‪ ...‬ما لم يتم‬

‫ذلك فلن يمكن رسم صورة كاملة ألي عالم نشأ في ظل‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذا التــراث المتراكم عبر العصور‪ .‬ولهذا فإننا ســنتطرق‬ ‫بإيجاز في عدد من الفقرات لنموذج العالم الذي كان له‬ ‫أكبر دور بارز في المجتمع اإلسالمي بعد الرسول ‪.‬‬

‫الخلفية التاريخية‬

‫وحيــا‬ ‫ال شــك أن اإلســام ظهــر علــى مســرح التاريــخ ً‬ ‫ودعوة‪ .‬وفي وقت قصير أصبح‬ ‫محور كل األنشطة الدينية‬ ‫َ‬ ‫واالجتماعية والبشرية للمجتمع اإلسالمي األول‪ .‬وكان‬ ‫مقومين للمجتمع اإلســامي‬ ‫القــرآن والرســول ‪ ‬أهــم ّ‬ ‫يعرفون‬ ‫األول‪ ،‬حيث إن المســلمين األوائل حينما كانوا ِّ‬ ‫بأنفســهم مــا كانــوا يحســون بالحاجــة إلــى أدوات وال‬


‫والمصلحيــن والمجدديــن والمشــتغلين بالقضايــا العامة‬ ‫التي تخدم مصالح الناس أجمعين‪.‬‬ ‫فــي تقديمه للطبعــة الجديدة لكتاب "المثنوي العربي‬ ‫النــوري" لألســتاذ بديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬كتــب‬ ‫ال‪" :‬لو أن بديع الزمان‬ ‫األســتاذ محمد فتح اهلل كولن قائ ً‬ ‫حظي بدعم بضع مئات من المث ّقفين وهو ينشــر رســائله‬ ‫فلربما‬ ‫فــي أرجــاء البــاد‪ ،‬ووجــد منهــم‬ ‫ً‬ ‫ســندا ألفــكاره‪ّ ،‬‬ ‫كنــا مــن أغنــى األمــم وأكثرها مدنيــة‪ ،‬ومــن أقدرها على‬ ‫تتعرض لهــا‪ ،‬ولكنا دخلنــا المرحلة‬ ‫حــل المشــاكل التــي ّ‬ ‫الحاليــة منــذ ذلك الوقت (أي منذ بداية القرن العشــرين)‬ ‫جابهتنــا المشــاكل الحاليــة العديدة‪ .‬ومــع كل هذا‬ ‫ولمــا‬ ‫ْ‬ ‫كبيرا‪ ،‬ألننا نرى أن الذين ينظرون إلى‬ ‫فنحن نحمل أم ً‬ ‫ال ً‬ ‫ّأمتنا وكأنها فقدت كل جذورها المعنوية‪ ،‬هم على خطإ‬ ‫تأخرنا مثل غيرنا من األمم األخرى‬ ‫كبيــر‪ ...‬صحيــح أننا ّ‬ ‫وضعفنا‪ ،‬فليس في وسع أحد إنكار هذا‪ ،‬ولكن ليس في‬ ‫ُ‬ ‫أيضــا أن ينفي قدرتنا علــى النهوض ومتابعة‬ ‫وســع أحــد ً‬ ‫التقــدم مــرة ثانيــة‪ ...‬فلقــد بــدت أنــوار اليقظــة واالنتبــاه‬ ‫ال من روح الكســل‬ ‫كأمة بد ً‬ ‫والحيوية تلتمع في أرواحنا ّ‬ ‫والخمــود؛ إذ بــدأ دفء الحيــاة ونبض النشــاط والحيوية‬ ‫يتســ ّلالن إلــى أرواحنــا‪ .‬إذن فــا شــك أن أيــام الربيــع‬ ‫المشرقة الخضراء على األبواب"‪.‬‬ ‫إن مــا لــم يجده بديع الزمان ســعيد النورســي أمامه‪،‬‬ ‫متاحــا بيــن يديــه‪ ،‬فهو الــذي أوقد‬ ‫وجــده فتــح اهلل كولــن ً‬ ‫شعلة األمل‪ ،‬وبث روح الحياة في األرواح حتى صارت‬ ‫تركيــا التــي ترفــرف علــى أرجائهــا رايــات الخدمــة‪ ،‬قبلة‬ ‫للمؤمنيــن المتط ّلعيــن إلــى اإلصــاح على أســاس الدين‬ ‫والمتشوقين إلى التقدم تحت راية اإليمان والقرآن‪.‬‬ ‫وألن األســتاذ محمد فتح اهلل كولن هو صاحب هذه‬ ‫الحركة الحضارية‪ ،‬فإنني أعتذر إليه‪ ،‬بسبب تقصيري في‬ ‫معرفته‪ ،‬وتأخيري في اللقاء الروحي والفكري به‪.‬‬ ‫(*)مفكر وكاتب مغربي‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬النــور الخالــد‪ :‬محمــد ‪ ‬مفخرة اإلنســانية‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬دار النيل‬ ‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪2006‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬ونحن نقيم صرح الروح‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2010‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪9‬‬

‫شهادات‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬خليل النحوي (موريتانيا)‪:‬‬

‫إن األســتاذ محمــد فتــح اهلل كولــن هو صــورة أخرى‬ ‫من الصور التي تؤكد صدق النبوة‪ ..‬األستاذ محمد فتح‬ ‫وارث من ورثة النبي ‪ ،‬تلك الوراثة العظيمة‬ ‫اهلل كولن‬ ‫ٌ‬ ‫التــي تتمثــل فــي العلم والعمل‪ .‬أعتقد أن األســتاذ محمد‬ ‫عظيمــا من هذا الوعد‬ ‫جانبا‬ ‫ً‬ ‫فتــح اهلل كولــن‪ ،‬حقــق اهلل به ً‬ ‫النبــوي الصــادق بأن يبعث اهلل لهــذه األمة وأن يجدد لها‬ ‫دينهــا علــى رأس كل مئــة عــام‪ ،‬ولعــل المقصــود هو من‬ ‫حيــن آلخــر ومــن فترة إلى أخــرى‪ ،‬أن يبعث لهــذه األمة‬ ‫قدم‬ ‫من يجدد لها دينها‪ .‬واألستاذ محمد فتح اهلل كولن‪ّ ،‬‬ ‫عظيما في وراثة رسول اهلل ‪.‬‬ ‫درسا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫د‪ .‬سلمان العودة (السعودية)‬

‫فتــح اهلل كولــن صاحــب ســلوك إيمانــي‪ ،‬وتصــوف‬ ‫ٍ‬ ‫بعيــدا عــن الغلــو واالنحــراف‪ ..‬صاحــب فقــه‬ ‫صــاف‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫واهتمــام بالفقــه‪ ،‬صاحــب عنايــة بالحديــث‪ ..‬وهــو ً‬ ‫أديب وشــاعر ومثقف وفيلســوف ومفكر وواعظ‪ ..‬نحن‬ ‫أمــام تجربــة فريــدة ال توجد في العالم العربي‪ ،‬ربما‪ ،‬وال‬ ‫حتى في أكثر بالد العالم‪.‬‬


‫محفوفــة بالمخاطر‪ ،‬ألنها بطبيعتها مواجه ٌة مع تحديات‬

‫فريــدا فــي التنميــة‬ ‫نموذجــا‬ ‫تعــد بــكل المقاييــس‬ ‫التــي ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذاتيــة الجامعــة المتعددة المجاالت علــى صعيد العالم‬

‫تفوق في ضراوتها وشراســتها وعنفوانها ما عرفه العرب‬

‫جميعــا فــي شــتى أقطــار األرض خــال‬ ‫والمســلمون‬ ‫ً‬ ‫القرنين الماضيين من تحديات‪ ،‬وواجهوه من صعوبات‪،‬‬

‫المجتمعيــة المتكاملــة والفاعلــة والمتفاعلــة والمبدعــة‬

‫األســاس‪ ،‬وتجــاوز األقــوال إلــى األفعــال‪ ،‬واالنتقال من‬

‫للمنافــع التــي تفيــد الناس فــي دنياهم وأخراهــم‪ ،‬والتي‬

‫اإلســامي‪ ،‬إن لــم يكــن علــى الصعيــد الدولــي‪ ،‬للحركة‬

‫وعاشــوه مــن محــن‪ ،‬ممــا كان يقتضــي تجديــد البنــاء من‬

‫للحلــول التــي تعالــج مشــكالت المجتمــع والمنتجــة‬

‫التنظير الفكري إلى التطبيق العملي‪ ،‬بما يتطلبه ذلك من‬ ‫المســدد الذي يشــارك الناس‬ ‫المجدد بالعمل‬ ‫ربط الفكر‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬

‫أساســا على بنــاء الفرد وتربيــة الجماعة وتزكيتها‪،‬‬ ‫تعتمــد‬ ‫ً‬

‫وبث روح التطوع والتنافس في البذل والعطاء والتسابق‬

‫في إنجازه لمصلحتهم التي يسعون إليها‪.‬‬

‫فــي أعمــال الخيــر‪ ،‬وتقويــة االنتمــاء إلى الوطــن والعمل‬

‫يفضــل َمن ســبقه ومن‬ ‫وليــس معنــى ذلــك أن كولــن ُ‬

‫على ترقيته ونمائه وازدهاره‪.‬‬

‫عاصره من النواحي الفكرية والملكات العقلية والقدرات‬

‫موظ ًفــا فــي الحكومــة‪ ،‬يبــدأ حياتــه‬ ‫إن‬ ‫ً‬ ‫دينيــا َّ‬ ‫واعظــا ًّ‬

‫أحــدا‪ ،‬ولكــن القصد هو‬ ‫النفســية‪ ،‬فلســنا نزكــي علــى اهلل ً‬

‫العمليــة بدايــة جد متواضعة‪ ،‬ويواظب على تطوير نفســه‬

‫يفضلهم‪ -‬بالمنهج الذي‬ ‫أنــه يتميز عنهــم ‪-‬حتى ال أقول ُ‬

‫يغير في محيطه‬ ‫ّ‬ ‫بهمــة عاليــة وعزيمة قوية‪ ،‬ويســتطيع أن ّ‬

‫اعتمــده‪ ،‬وبالخطــاب الــذي اســتعمله‪ ،‬وبالوســائل التــي‬

‫وفــي بيئتــه علــى هــذا النحــو الــذي أحــدث حركــة غيــر‬

‫اســتخدمها‪ ،‬وباإلنجــازات التــي ح ّققهــا‪ ،‬وباألبعــاد التــي‬ ‫العمــل الــذي ينهض بــه ‪-‬وال يزال‪ ،‬بــارك اهلل في عمره‪-‬‬

‫الجاد القائم على أساس‬ ‫عزيز النظير للعمل النافع‬ ‫ال‬ ‫مثا ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الديــن الحنيــف‪ ،‬والفهــم الســليم لمقاصــده‪ ،‬واإلدراك‬

‫انطال ًقــا مــن المدرســة المتواضعة ولكنهــا المتميزة‪ ،‬التي‬

‫راقيا للتربية البانية والتعليم‬ ‫ما لبثت أن أصبحت‬ ‫ً‬ ‫نموذجا ً‬

‫وامتــدت فروعهــا ودنــت قطوفها‪ .‬إن‬ ‫فتشــعبت‬ ‫المنتــج‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الوعــاظ الدينييــن التقليدييــن‪ ،‬الــذي نجــح فــي تغييــر‬

‫وتصنع الحضارة‪.‬‬

‫مثال نــادر للرجل‬ ‫الفكريــة واالجتماعيــة فــي بــاده‪ ،‬لهو ٌ‬

‫هــذا الواعــظ الدينــي الــذي بــدأ حياتــه موظ ًفــا في ســلك‬ ‫المجتمــع الــذي يعيــش فيــه‪ ،‬وأن يقلــب موازيــن القوى‬

‫فمــن المزايــا التــي ينفرد بها األســتاذ محمــد فتح اهلل‬

‫القــوي بإيمانــه‪ ،‬والقــوي بفكــره‪ ،‬والقــوي بالعمــل الذي‬

‫التنظيمــي الســائد المتــداول‪ ،‬ولكن بالمفهــوم الحضاري‬

‫له بالمحبة وباإلخالص وبالثقة‪ ،‬حتى اســتطاع أصحابها‬

‫كولــن‪ ،‬أنه يمتلك شــروط التفكيــر الحركي‪ ،‬ال بالمفهوم‬ ‫فكــره منتج‪،‬‬ ‫الراقــي‪ .‬فهــو مفكــر حركــي بهذا المفهــوم‪ُ ،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وترعرعت‬ ‫العطــاء‪ ،‬حتــى اســتوت على عودهــا‪ ،‬ونمــت‬ ‫ْ‬

‫والتكيــف المتــوازن مــع‬ ‫الواعــي لمقتضيــات التطــور‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتغيــرات‪ ،‬واالنتهــاج للســبل القويمــة والمأمونة لبلوغ‬

‫الغايات النبيلة التي تخدم المجتمع‪ ،‬وترتقي باإلنســان‪،‬‬

‫‪8‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وصــل إليهــا‪ ،‬وباآلفــاق التي انفتح عليهــا‪ ،‬بحيث أصبح‬

‫مسبوقة تجاوب معها البسطاء‪ ،‬ووثق فيها القادرون على‬

‫نهض به‪ ،‬والقوي بالقلوب التي الت َّفت حوله والتي دانت‬ ‫أن يحققوا من اإلنجازات القائمة في األرض ‪-‬وليســت‬

‫وحركتــه فاعلــة ومؤثــرة فــي الواقــع المعيــش‪ ،‬ال فــي‬ ‫ُ‬ ‫وموضوعي‬ ‫واقعــي في تفكيره‪،‬‬ ‫الواقــع االفتراضي‪ ،‬ألنه‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬

‫الفكريــة‪ ،‬مــا جعل مــن جماعة الخدمة أرقــى الجماعات‬

‫حولــه‪ .‬وتلــك درجة رفيعــة ارتقى بها كولــن إلى مصاف‬

‫الخدمــة لصالــح النــاس ولفائــدة المجتمــع‪ ،‬فــي غير ما‬

‫وطبيعــي في تعامله مــع َمن وما‬ ‫فــي رؤيتــه إلــى األمور‪،‬‬ ‫ٌّ‬

‫المربين للناس‬ ‫القــادة الفكرييــن المجدديــن المصلحيــن‬ ‫ّ‬ ‫الناهضين بأحوالهم العاملين على تطوير أوضاعهم نحو‬ ‫األفضل واألكرم‪.‬‬

‫إن تلك هي القواعد التي تقوم عليها حركة "الخدمة"‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المتوهمــة والمتخيلــة‪ -‬تحــت قيادتــه الروحيــة وريادتــه‬ ‫حب اإلسالم‪ ،‬وحب‬ ‫القوية المتماسكة التي يجمع بينها ّ‬ ‫جلبــة أو ضوضــاء‪ ،‬أو شــعارات أو تنظيمات من قبيل ما‬

‫نعرفه نحن في بالدنا العربية‪.‬‬

‫مــن أجــل ذلــك كان األســتاذ محمــد فتــح اهلل كولــن‬

‫نســيج وحــده مــن بيــن جمهــرة المفكريــن والدعــاة‬


‫إن فتح الله كولن يتميز عن باقي العلامء باملنهج‬

‫باني النهضة والمفكر ذو الرؤية الشفافة والبصيرة النافذة‬

‫الــذي اعتمــده‪ ،‬وبالخطــاب الــذي اســتعمله‪،‬‬

‫ومترجم أفكار األول إلى أفعال تنفيذية وأعمال تطبيقية‪،‬‬

‫وبالوســائل التي اســتخدمها‪ ،‬وباإلنجــازات التي‬

‫على الرغم من أنه لم يجمع بينهما لقاء الجســد‪ ،‬ولكن‬

‫حقّ قها‪ ،‬وباألبعاد التي وصل إليها‪ ،‬وباآلفاق التي‬

‫ربــط بينهما ائتالف الروح‪ ،‬ووشــائج اإليمــان‪ ،‬والعزيمة‬

‫انفتح عليهــا؛ بحيث أصبح العمل الــذي ينهض به‬

‫المتأججــة القويــة إلنقــاذ المجتمــع من مهــاوي الضالل‬

‫مثا ً‬ ‫الجاد القائم عىل‬ ‫ال عزي َز النظري للعمــل النافع‬ ‫ّ‬

‫والضياع والتيه‪ ،‬ولبناء اإلنســان العارف لربه القادر على‬

‫أساس الدين الحنيف‪.‬‬

‫المشــاركة فــي تطوير الحيــاة‪ ،‬وللنهــوض بالوطن القوي‬ ‫المتماسك الطامح إلى المعالي‪.‬‬

‫أحــدا منهــم لم ُيحدث فــي محيطــه الخاص وفي‬ ‫ولكــن‬ ‫ً‬

‫لقــد أدركــت عــن وعــي وبعــد دراســة متعمقــة‪ ،‬أن‬

‫محيطــه العــام ببلــده ‪-‬بصــورة عامــة‪ -‬وفــي دوائــر كثيــرة‬

‫المجدديــن فــي العالــم اإلســامي‪ ،‬بصــورة‬ ‫المســتنيرين‬ ‫ّ‬

‫كولن من تغيير واســع وعميق في األفكار‪ ،‬وفي الرؤى‪،‬‬

‫مكانــة األســتاذ محمــد فتــح اهلل كولن من بيــن المفكرين‬

‫خــارج الوطــن الذي ينتمي إليه‪ ،‬ما أحدثه محمد فتح اهلل‬

‫أي مكانــة يتبوأهــا مفكــر ينتمــي إلــى‬ ‫إجماليــة‪ ،‬دونهــا ّ‬ ‫المدرســة اإلسالمية‪ ،‬شارك في إغناء الحياة العقلية وفي‬

‫وفي المواقف الفردية والجماعية‪ ،‬وفي حركة المجتمع‬ ‫على شتى المستويات‪.‬‬

‫التجديديــة‪ ،‬وفــي تأســيس الحــركات اإلصالحيــة؛ فمنــذ‬

‫احتــرام وتقدير عظيميــن‪ -‬يعملون في محيط لم يكن قد‬

‫جمــال الديــن األفغانــي‪ ،‬ومحمــد عبــده‪ ،‬وعبــد الرحمن‬

‫نهائيا لألصــول‪ ،‬على الرغم‬ ‫انفصــل عــن الجــذور وتنكر ًّ‬

‫الكواكبــي‪ ،‬وحســين الجســر‪ ،‬ومحمــد رشــيد رضــا‪ ،‬إلى‬

‫حسن البنا‪ ،‬وعبد الحميد بن باديس‪ ،‬والطاهر بن عاشور‪،‬‬ ‫والبشير اإلبراهيمي‪ ،‬وعبد العزيز الثعالبي‪ ،‬وأبي الحسن‬

‫علي الندوي‪ ،‬وأبي األعلى المودودي‪ ،‬وعالل الفاســي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مــرورا بمحمــود شــلتوت‪ ،‬ومحمــد‬ ‫كنــون‪،‬‬ ‫اهلل‬ ‫وعبــد‬ ‫ً‬ ‫مصطفــى المراغــي‪ ،‬ومحمــد حســين الخضــر وغيرهــم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إنتــاج منظومــة األفــكار اإلحيائيــة‪ ،‬وفي إنشــاء المدارس‬

‫لقد كان هؤالء المفكرون الرواد‬ ‫وجميعهم موضع‬‫ُ‬

‫ممــا كانــت تعرفه البلدان الذين ينتمــون إليها من ظروف‬ ‫االحتــال األجنبــي الــذي فــرض ثقافتــه ولغته وسياســته‬

‫علــى الشــعوب العربية التــي كانت رازح ًة تحــت وطأته‪،‬‬ ‫ممــا جعل هــؤالء المفكرين والدعــاة والمصلحين وقادة‬ ‫الــرأي والزعماء السياســيين‪ ،‬يصرفــون اهتمامهم للدعوة‬ ‫اإلصالحيــة‪ ،‬وللعمــل الفكــري لتنويــر العقــول‪ ،‬ولبــث‬

‫مــن هذه الكوكبة المضيئة واألعالم الشــامخة‪ ،‬لم يعرف‬

‫الحميــة وإيقــاظ الهمــة فــي النفــوس‪ .‬وكان عملهــم فــي‬

‫والمزلزلــة التــي عرفها عند محمد فتــح اهلل كولن‪ ،‬والتي‬

‫وهو المجال الذي يلتقون فيه مع محمد فتح اهلل كولن‪،‬‬

‫الفكــر اإلســامي تلك الهــزة القوية الضخمــة المجلجلة‬

‫هــذا المجال الحيوي‪ ،‬عظيــم النفع والفائدة ُيحمد لهم‪.‬‬

‫الفــوارة بالحيــاة الدافقــة بالعطــاء‬ ‫أحدثــت هــذه الحركــة ّ‬

‫إذا نظرنــا إلــى الموضــوع مــن الزاويــة الفكريــة؛ أمــا إذا‬

‫والدافعة إلى التغيير العميق الواســع الشــامل هذا‪ ،‬وإلى‬ ‫تجديــد البنــاء انطال ًقا من بناء اإلنســان الصالح المصلح‬

‫لنفسه وإلخوانه ولوطنه‪ ،‬والذي هو األساس الصلب في‬ ‫تنمية المجتمعات من النواحي كافة‪.‬‬

‫ال وأرحب أف ًقا‬ ‫تجاوزنــا ذلــك كله إلى ما هو أشــمل مجا ً‬

‫تأثيــرا‪ ،‬فإننا ســنجد أن كولن يتميــز عنهم‬ ‫وأعمــق‬ ‫جميعا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دون اســتثناء‪ ،‬ألن المحيــط الــذي عمــل فيــه أول عهــده‬

‫إن الــذي جمــع بين تلك النخبة النابغة المتميزة‪ ،‬هو‬

‫كليــا عمــا عرفتــه البلــدان العربية‬ ‫كانــت طبيعتــه تختلــف ًّ‬

‫وبالكفــاح الوطنــي بالنســبة لبعض منهــا‪ ،‬حيث اجتهدت‬

‫ســادت تركيــا‪ ،‬والتي تركزت على إفســاد روح الشــعب‪،‬‬

‫االشــتغال بالفكــر‪ ،‬وبالعمــل في حقول التربيــة والتعليم‪،‬‬

‫وجاهدت وضحت وأبلت البالء الحسن‪ ،‬كل من موقعه‬ ‫وحســب جهــده واجتهــاده وعطائــه وتأثيــره فــي محيطه‪،‬‬

‫جميعــا‪ ،‬وذلــك نتيجــ ًة للسياســة التغريبية الكاســحة التي‬ ‫ً‬ ‫واغتصــاب هويتــه‪ ،‬واقتــاع جــذور أصالتــه‪ ،‬ممــا جعــل‬

‫المهمــة التــي‬ ‫تصــدى لهــا فتح اهلل كولــن بالغــة الصعوبة‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫بالحركــة فــي مضمار التوعيــة الدينية والتوجيــه الفكري‪،‬‬

‫‪7‬‬


‫فتح الله كولن‪ ،‬املصلح‬ ‫ادخر‬ ‫أيقنت أن‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫القدر قد ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫المهــام الفكريــة والرســاالت الثقافية التــي يقوم بها‬ ‫قبيــل‬ ‫ّ‬

‫إليــه املجتمع من‬ ‫نفــخ يف روح العمل‪ ،‬ومن حف ٍز‬ ‫ٍ‬

‫وأيقنت‬ ‫والمصلحيــن والمجددين علــى تعاقب األزمان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫القدر قــد ّادخر هــذا المصلح‬ ‫بســبب مــن ذلــك كلــه‪ ،‬أن َ‬ ‫المجــدد للفكــر البانــي للنهضــة‪ ،‬ليقــوم بمــا يحتــاج إليــه‬ ‫ّ‬

‫املجدد للفكــر الباين للنهضة‪ ،‬ليقــوم مبا يحتاج‬ ‫ّ‬

‫ويتحمل أعباءها جمهرة من العلماء والمفكرين والدعاة‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫لألمة‪ ،‬ومن‬ ‫للهمــم‪ ،‬ومن‬ ‫إنقــاذ لروحها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إنهــاض ّ‬

‫دفع بها إىل األمام‪.‬‬ ‫ومن‬ ‫ٍ‬

‫بالقراءة في الســيرة النبوية الشــريفة‪ ،‬وكأن العشــرات من‬

‫نفخ فــي روح العمل‪ ،‬ومن حفــزٍ للهمم‪،‬‬ ‫المجتمــع مــن ٍ‬ ‫دفع بها‬ ‫ومــن‬ ‫ٍ‬ ‫لألمــة‪ ،‬ومن إنقــا ٍذ لروحها‪ ،‬ومــن ٍ‬ ‫إنهــاض ّ‬

‫األمة والمحدثون والمعاصرون التي قرأ ُتها‪ ،‬لم تكشــف‬

‫جاءت صلتي األولى باألســتاذ محمد فتح اهلل كولن‬

‫إلى األمام‪.‬‬

‫المؤلفــات فــي الســيرة التــي صنفهــا القدامــى مــن علماء‬

‫بعد سنوات قليلة من صلتي باألستاذ بديع الزمان سعيد‬

‫لي الحجب عن حياة رسول اهلل ‪ .‬لقد وجدت في ذلك‬

‫بدأت قراءتي لكتاباته في العقد الســابع‬ ‫النورســي‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬

‫الكتــاب مــا لــم أجده في ســيرة ابن هشــام‪ ،‬وفي الروض‬

‫مــن القــرن الماضــي‪ ،‬حين وقع بين يدي كتيب نشــر في‬

‫األنــف للســهيلي‪ ،‬وفــي الشــمائل للترمذي‪ ،‬وفي الســيرة‬

‫بعضا من رسائل النور التي ترجمها الدكتور‬ ‫دمشق‪ ،‬يضم ً‬

‫الحلبيــة لنــور الدين الحلبي‪ ،‬وفي عشــرات الكتب حول‬

‫محمــد ســعيد رمضــان البوطــي‪ ،‬وقبــل فتــرة طويلــة مــن‬

‫دون عناوينها الدكتور صالح الدين المنجد‬ ‫الســيرة التي َّ‬ ‫فــي "معجــم مــا ُأ ّلف عن رســول اهلل ‪ "‬الــذي صدر في‬ ‫لجــدة المنهــج‬ ‫لهــذه النفائــس مــن المصنفــات‪ ،‬وإنمــا‬ ‫ّ‬

‫وتميز به‪ ،‬وللروح الشــفافة‬ ‫الــذي اعتمده األســتاذ كولــن‬ ‫ّ‬ ‫المجنحــة التــي تطبــع هــذا الكتــاب‪ ،‬ولجمعه فــي إهاب‬

‫واحــد بيــن حــرارة اإليمــان وعمــق الفكــرة والغوص في‬

‫بحار المعاني الســامية الســتخراج الآللئ والســتخالص‬ ‫الــدروس‪ ،‬وبيــن جمــال العــرض وإحــكام الســبك مــع‬ ‫إشــراق اللغــة التــي أجــاد األســتاذ أورخــان محمــد علــي‬

‫ترجمتها إلى عربية رائقة رائعة رفيعة‪ .‬بســبب ذلك ازداد‬ ‫مجازا‪،‬‬ ‫يقيني في أن األستاذ كولن نسيج وحده حقيق ًة ال‬ ‫ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫المجدد األستاذ النورسي‪ .‬ثم مضت‬ ‫الصالحي للمصلح‬ ‫ّ‬ ‫تتيســر لي األسباب لقراءة كليات رسائل‬ ‫ســنوات قبل أن ّ‬ ‫النور التي ترجمها األستاذ الصالحي‪ ،‬التي وقع في يدي‬

‫وتعمقت في‬ ‫منهــا فــي بادئ األمــر‪ ،‬مجلد واحــد‪ ،‬قرأ ُتــه‬ ‫ّ‬

‫بحثت‬ ‫تشربت روح الكاتب‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫فهمه حتى أحسبني أنني ّ‬ ‫عــن المجلدات األخرى حتــى تو ّفرت عندي المجموعة‬ ‫وأقبلت على دراســتها‪ ،‬ولم‬ ‫فتفرغــت لقراءتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكاملــة‪ّ ،‬‬

‫تفارقني كليات رسائل النور منذ ذلك الحين وإلى يومنا‬

‫هــذا‪ ،‬أحتفظ بها فــي غرفة النوم بحيث تكون في متناول‬ ‫اليــد‪ ،‬وليــس في غرفة المكتبة‪ ،‬أعود بين الفينة واألخرى‬

‫إلــى القــراءة فيها‪ ،‬واالســتزادة من االغتــراف من مناهلها‬

‫نمط‬ ‫وأن كتابته عن "النور الخالد مفخرة اإلنســانية ‪ٌ ،"‬‬ ‫فريــد يثير االهتمام‪ ،‬ويســتحق التقدير‪ ،‬ويســتدعي متابعة‬ ‫ٌ‬

‫العذبــة‪ ،‬فأشــعر باالنتعــاش فــي الــروح‪ ،‬وبالســكينة فــي‬

‫وكذلك كان شأني ‪-‬وال يزال‪ -‬مع مؤلفات األستاذ‬

‫وبذلــك أكــون قــد جمعــت بيــن الحســنيين وفــزت‬

‫فيهــا‪ ،‬والتعمــق فــي فهــم الرســالة التــي يحملهــا والبــاغ‬

‫فتــح اهلل كولن‪ .‬وقد وصلت بعد الدراســة المعمقة لفكر‬

‫ما يخطه يراع صاحبه من كتابات‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫انتقاص مــن القيمة العلمية‬ ‫مجلــد كبيــر‪ .‬وليس فــي ذلك‬ ‫ٌ‬

‫قراءتي للترجمة الوافية التي كتبها األســتاذ إحســان قاسم‬

‫أدركت مــع مواصلة القراءة‬ ‫محمــد فتــح اهلل كولــن‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫المفكر‬ ‫الــذي ُيوصلــه مــن خاللها إلــى القــارئ‪ ،‬أن هــذا‬ ‫ّ‬

‫المشرفة والرسالة‬ ‫ليس كغيره من المفكرين‪ ،‬وأن المهمة‬ ‫ّ‬ ‫المشــرقة اللتيــن نــذر حياتــه لهمــا ويضطلــع بهمــا‪ ،‬تعلو‬

‫قيمتهمــا وتشــمخ ذروتهمــا إلــى القمة‪ ،‬وأنهما ليســتا من‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫النفس‪ ،‬وبالطمأنينة في القلب‪.‬‬

‫بالفضلين والحمد هلل؛ رســائل ســعيد النورسي ومؤلفات‬ ‫الرجليــن القدوتيــن‪ ،‬ودوام القــراءة فــي كتاباتهمــا‪ ،‬أنهما‬ ‫والتوجه‬ ‫يحمــان رســالة واحــدة ويتكامــان فــي الفكــر‬ ‫ّ‬

‫المؤســس الرائد لخدمة‬ ‫والمقصد الشــريف؛ فاألول هو‬ ‫ّ‬ ‫اإليمــان والقــرآن والنافــخ فــي روح األمــة‪ ،‬والثانــي هــو‬


‫عدد خاص ‪ -‬قضايا فكرية‬ ‫عبد القادر اإلدريسي*‬

‫اعتذار إلى محمد فتح الله كولن‬ ‫أعتــرف‪ ،‬بــادئ ذي بــدء‪ ،‬أننــي لــم أكــن‬

‫ســت‬ ‫أعرف األســتاذ فتح اهلل كولن قبل ّ‬ ‫أو ســبع ســنوات‪ .‬فما ســبق لي قط قبل‬ ‫ذلــك أن وقعــت علــى‬ ‫ال من‬ ‫كتاب ِمن كتبه‪ ،‬أو قرأت مقا ً‬ ‫ٍ‬ ‫مقاالتــه‪ ،‬أو وقفــت على اســمه في مصــدر من المصادر‪،‬‬

‫أو حتى سمعت عن اسمه في وقت من األوقات‪ .‬كانت‬ ‫مجلــة "حــراء" هي مصــدر معرفتي باألســتاذ كولن‪ ،‬حين‬

‫بها‪ ،‬ألجد نفســي أمام كاتب من طراز راق‪ ،‬لم أتردد في‬

‫أن أصفــه يومئــذ بأنه مفكر عالي المقام متميز ال عهد لي‬ ‫بمثيــل لــه منذ أن امتدت األســباب بيني وبين القراءة قبل‬ ‫قرابة خمسة عقود وإلى اليوم‪.‬‬

‫نقطــة البدايــة فــي اتصالــي الفكــري والروحــي باألســتاذ‬

‫كولــن‪ ،‬حيــث أضــرم ذلــك المقال فــي أعماقي شــعل ًة ما‬

‫لبثــت أن توهجــت حتــى أضــاءت أقطار نفســي‪،‬‬ ‫فصرت‬ ‫ُ‬ ‫أتر ّقب وصول مجلة "حراء"‬ ‫وأمتع نفسي‬ ‫ّ‬ ‫ألغذي عقلي ّ‬ ‫بقراءة مقاله‪ .‬ثم طفقت أبحث عن مؤلفاته‪ ،‬فكان أول ما‬ ‫تعرفــت عليه منها كتابــه "النور الخالد‪ :‬محمد ‪ ‬مفخرة‬

‫اإلنســانية" الــذي‬ ‫أحبذ‬ ‫ُ‬ ‫التهمتــه‪ ،‬حتــى ال أقول قرأ ُتــه‪ ،‬بل ّ‬ ‫أن أقــول إننــي‬ ‫يقــدم إليه‬ ‫هضمتــه كمــا يهضــم الجائع ما َّ‬ ‫ُ‬ ‫علــى المائــدة من أطايب الطعــام‪ .‬فقد نقلني هذا الكتاب‬ ‫الجميل العذب المذاق الرائق المشــرب‪ ،‬نقل ًة بعيد ًة إلى‬

‫األجــواء المعطــرة بأريــج النبــوة‪ ،‬وكأننــي حديــث عهــد‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫وصلنــي عــدد مــن أعــداد ســنتها األولى فــي أول عهدي‬

‫كانــت قراءتــي للمقــال االفتتاحــي فــي مجلــة "حراء"‬

‫‪5‬‬


‫كنــت تريــد أن تســتلم األرض مــن مشــرقها إلــى مغربهــا‬

‫مــن أنــت؟‪ ..‬أصوفــي أم درويــش؟ أم َم َلــك يمشــي علــى‬

‫فوصلت‬ ‫بقفــزة واحدة وتســلمها إلى قائــدك األعظم ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بســرعة ال ُتدانــى مع أبطالــك إلى أرض المجوس‪ ...‬ثم‬ ‫المدوي الــذي زلزل القلــوب‪ ،‬فانهارت‬ ‫أرســلت زئيــرك‬ ‫ّ‬

‫إن عيني تترقبان طريق قدومك‪ ،‬ولساني يترنم بأناشيد‬ ‫ّ‬ ‫دعوتك‪ ،‬وأنا بينهما حاولت أن أعالج أوتار قلبي بريشتي‬

‫وهويت به على رأس بيزنطة‪،‬‬ ‫عين‪ .‬ثم رفعت صولجانك‬ ‫َ‬

‫فرددت مع الشــاعر‪:‬‬ ‫ترجما ًنا ألصغر ســر من هذا اللغز‪ّ .‬‬

‫األرض؟‪ ..‬أيها األسد الهصور أين أنت؟!‬

‫(‪)2‬‬

‫أثرا بعد‬ ‫مدن كسرى أمامك واحدة تلوى األخرى وباتت ً‬

‫المكســورة‪ ،‬ولكــن هيهــات!‪ ..‬فلقــد عجــزت أن أكــون‬

‫ومهدت الســبيل‬ ‫ففتحــت بذلــك طري ًقا إلى القســطنطينية ّ‬

‫عجزت عن ترنيمها‬ ‫أهاجت مشاعري نغم ٌة *** حتى‬ ‫ُ‬

‫للفاتــح التركــي الشــاب الــذي ســيأتى بعدك بقــرون‪ .‬من‬ ‫الخ ِضر يا ترى؟! تفتحت الورود في الطريق‬ ‫كنت؟ أكنت َ‬ ‫َ‬

‫ننمي فــي قلوبنا‬ ‫مــرة‪ .‬مضت ســنون وســنون عكفنــا فيها ّ‬

‫األعداء واألصدقاء يؤمنون بأن ســيفك نزل من الســماء‪،‬‬

‫األمــل وبهــذا العزم ســنظل نرتقب قدومــك ‪-‬إلى األبد‪-‬‬

‫جئــت منه ألول‬ ‫تســمرت علــى الطريــق الذي‬ ‫أعيننــا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫الــذي مشــيت فيه‪ ،‬وانقلبت الخرائــب مد ًنا عامرة‪ ...‬كان‬

‫وكانــت الجيــوش تــرى أنــك َم َلــك مكلــف بإصــاح‬ ‫اإلنســانية‪ .‬وفــي أوج انتصاراتــك تلك‪ ،‬يأتيــك نبأ عزلك‬

‫يقيــن أن مــا نعانــي منــه من إحباط ووحشــة‪ ،‬ومــن غلظة‬

‫عــزون النصــر إليك‪ ...‬بينمــا النصر من‬ ‫قــال‪" :‬إن النــاس َي ُ‬

‫لدربــك وولهنــا بــك‪ .‬قــد ننخــدع فــي هــذا الــدرب ألــف‬

‫وانقدت لقراره‪ .‬ثم واصلت‬ ‫استصوبت ما قاله‬ ‫عند اهلل"‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫مــرة‪ ،‬وقــد ننظــم أبيا ًتا فــي مديح اليراعات ألــف مرة‪ ،‬أو‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومديحا‪ .‬لكنك اســتصوبت ما‬ ‫ممن كنت تتوقع منه ثناء‬ ‫ً‬

‫هاتيك األمور؟ ألم يكن لديك اعتزاز بنفسك أو إباء؟ آه‬ ‫َ‬

‫نشــرب ماء التعميد على أنه إكســير الحياة‪ ،‬ولكننا ‪-‬على‬

‫نهــج الرومــي‪ -‬لن نتوانى لحظة واحدة عن اقتالع قلوبنا‬ ‫وإهدائها ولو مقابل أكاذيب تقال في سبيلك(‪.)3‬‬

‫ظمئت إلى أنفاسه‪ ...‬أين أنت يا خالد؟!‬ ‫يا فارسي الذي‬ ‫ُ‬ ‫عت من التحدث إلى أخيك‪...‬‬ ‫في إحدى المرات ُم ِن َ‬

‫هذه األيام الســود التعســة التي يسعى فيها الرياء والشهرة‬

‫جنبا إلى جنــب‪ ،‬وتجلس‬ ‫أخيــك الــذي كنــت تقاتل معــه ً‬

‫نرجــوك‪ ،‬نرجــوك أال تترك القلوب الظامئة إلى إكســيرك‬

‫أخيــك الذي لم تفارقه لحظــة واحدة حتى ذلك اليوم‪...‬‬ ‫معــه إلــى مائــدة واحــدة‪ ...‬كان عليــك أال تكلمــه‪ ...‬كان‬

‫عازما على االنقياد‬ ‫ســام‪ ،‬وكنــت‬ ‫األمــر‬ ‫صادرا من ديوان ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫عشقته كل ذلك العشق!‪..‬‬ ‫لهذا األمر‪ ...‬قل لي بجاه من‬ ‫َ‬ ‫أي والء هذا؟!‬ ‫قــل لــي‪ :‬أقلت له غير كلمة "ال أدري"؟‪ّ ..‬‬ ‫وأي إرادة؟! أين أنت يا أبا َقتادة؟!‬ ‫وأي وفاء ذاك؟! ّ‬ ‫ّ‬

‫(‪)1‬‬

‫أتذكــر يــوم كنــت تمشــي أمام شــيخك‪ ،‬فطفــر بعض‬ ‫ُ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عنــد مطلــع كل فجــر‪ ،‬ونســأل عنك كل قافلــة‪ .‬كن على‬

‫أعدائنا وشراســتهم‪ ،‬ال يمكن أن يحول بيننا وبين عشــقنا‬

‫قبل‬ ‫ســيرك في ســبيل مبدئك العظيم تحت إمرة من كان ُ‬ ‫تحمل كل‬ ‫تابعــا لــك‪ ...‬قــل لي بربك‪ ...‬كيف اســتطعت ُّ‬ ‫ً‬

‫‪4‬‬

‫محيــاك‪ .‬بهذا‬ ‫أمــل عودتــك مــن جديد‪ ،‬ونتســ ّلى بخيــال ّ‬

‫جبتك المغسولة بالعطر؟‬ ‫الوحل من قدم حصانه فأصاب ّ‬

‫كبيرا يــرى الدنيا ال‬ ‫عظيمــا‬ ‫كنــت آنذاك ســلطا ًنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وحاكما ً‬

‫حاكما يقف على بابه ُفرس إيران‬ ‫تسع سلطانين‪ ...‬كنت‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫رعبا‬ ‫ويخدمــه مماليــك مصــر‪ ...‬كانت األســود ترتجــف ً‬ ‫من براثن سطوتك‪ ...‬فماذا فعلت آنذاك؟‪ ..‬لقد أوصيت‬ ‫ــف تلــك الجبــة الملطخــة بالوحل حول نعشــك‪...‬‬ ‫أن ُت َل ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أيا بطل األحالم الحلوة‪ ...‬يا فارسي المحبوب!‪ ..‬في‬

‫وحــب المنصــب والجــاه إلــى تشــويه آمالنــا المشــرقة‪...‬‬

‫مزيدا من شقاء االنتظار‪.‬‬ ‫الباعث للحياة تعاني ً‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬هيئة تحرير المجلة‪ .‬وهو مقال نشر في مجلة‬ ‫سيزنتي (‪ )Sızıntı‬في تاريخ ‪ 1‬مارس ‪.1980‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬يشير بذلك إلى قصة أبي قتادة مع كعب بن مالك‪ ،‬أحد الثالثة الذين‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫تخ ّلفوا عن غزوة تبوك ووردت قصتهم في سوة التوبة‪.‬‬

‫المقصود هو السلطان سليم‪ ،‬أول خليفة عثماني‪( .‬المترجم)‬

‫لما اشتد شوق جالل الدين الرومي وحنينه إلى صديقه شمس‪ ،‬جاءه‬ ‫أخبارا عن شمس‪ ،‬وراح يقص عليه حكايات‬ ‫رجل يزعم أنه يحمل‬ ‫ً‬ ‫فرحــا‬ ‫ال أصــل لهــا‪ .‬ولمــا انتهــى مــن حديثــه خلــع الرومــي عباءتــه ً‬ ‫وأهداهــا الرجــل‪ .‬فقالــوا له‪ :‬لقد كذب‪ .‬فقــال‪ :‬أعلم‪ ،‬أهديته عباءتي‬

‫مقابــل كذبــه عن شــمس‪ ،‬ولو صــدق لكنت أهديته روحــي‪( .‬حراء)‬


‫يا بط ً‬ ‫ال طال الشوق للقياه سنني وسنني‪ ..‬أين أنت؟‬ ‫أين أنت يا زاجــل خيالنا وطائر أحالمنــا؟! أين أنت يا‬ ‫بشــر انبعاثنا من رقدتنا؟! لقــد ترقّ بناك‬ ‫دوما يف‬ ‫ً‬

‫أيــام األمل املديدة‪ ،‬ويف ليــايل األرق الطويلة‪،‬‬ ‫وال زلنا نرتقّ ب‪.‬‬

‫كلنا ظمأ لك‪ ...‬كلنا لهفة عليك‪.‬‬

‫أتذكر يوم وضعوا حياتك في ك ّفة وشــوك ًة يشــاك بها‬ ‫ُ‬

‫واعيا‬ ‫وفيا‬ ‫عرفناك‬ ‫ماهرا‪.‬‬ ‫بصيرا ً‬ ‫ً‬ ‫مخلصا ًّ‬ ‫محتسبا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كفؤا ً‬

‫رت‬ ‫ــن جنو ُنك و ُث َ‬ ‫فج ّ‬ ‫وخيروك بينهما‪ُ ،‬‬ ‫خلي ُلــك فــي كفــة‪ّ ،‬‬ ‫جاحدا وغير‬ ‫وعددت نفسك‬ ‫ألف روح‬ ‫وفي لو كان لك ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ولــم تفدهــا‬ ‫جميعــا لقاء شــعرة واحدة في ســالفته؟‪ ..‬أين‬ ‫ً‬ ‫أنت يا ُخبيب؟!‬ ‫أرضا‬ ‫وفــي مشــهد آخر قطعــوا جناحيــك وطرحــوك ً‬ ‫كشــجرة ُق ّضبت فروعها‪ ...‬لم يبق سوى رأسك الملطخ‬

‫مــدركا لطبيعــة مهمتــك‪،‬‬ ‫كنــت‬ ‫عازمــا على المضــي فيها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُق ُد ًمــا‪ .‬فلــم ُيهــن من رباطة جأشــك صعوبــ ُة المرتقى في‬ ‫تلك الشــعاب‪ ،‬ولم ُيضعف مــن عزيمتك اجتياز الوديان‬

‫الــرأس العزيز الذي يســتحق أن تقــف حوريات الجنة له‬

‫لم َير ضيما من آوى إلى رحابك‪.‬‬ ‫أصبحت لحن الصدق‬ ‫َ‬

‫قاســمت مــن‬ ‫ورمــز اإلخــاص‪.‬‬ ‫قلبــك بكاءهم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أعطيتهم َ‬

‫وابتســاماتهم‪ ،‬آمالهــم وتأوهاتهــم‪ ،‬فرحهــم وأتراحهــم‪.‬‬ ‫لــم تســتطع الدنيا أن‬ ‫قيدا لروحك‬ ‫تتصيــدك أو أن تكون ً‬ ‫ّ‬

‫كنت‪.‬‬ ‫السابحة في أجواء السماء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫محض وفاء وإخالص َ‬

‫عبئا تنوء بحمله الجبال‪،‬‬ ‫عندمــا‬ ‫حملــت على عاتقك ً‬ ‫َ‬

‫وســرت‬ ‫دلفــت إلى هذا الطريق‪،‬‬ ‫كلــه مــن وفائــك‪ ...‬لقد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ــردد‪" :‬ســلكنا دروب‬ ‫فيــه ســير العاشــق الولهــان ال تفتــأ ُت ّ‬

‫غرورا"‪.‬‬ ‫الحب‪ ...‬ال نبتغي شر ًفا هناك وال‬ ‫ً‬

‫"جاحد‬ ‫يردد؟‬ ‫احتراما وإجال ً‬ ‫ٌ‬ ‫أو تذكر ماذا كان حالك ّ‬ ‫ال‪َ .‬‬ ‫ً‬ ‫وغير وفي أنا‪ ،‬إن لم أ ُذد عنه كل أذى ما دام رأسي فوق‬ ‫ّ‬ ‫كتفي"‪ ...‬أين أنت يا ُمصعب؟!‬ ‫أو تذكــر يــوم‬ ‫جــررت الجيوش خلفــك وح ّلقت بهم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بعيــدا؟‪ ..‬كنــت منطل ًقــا‬ ‫متوثبــا‪ ،‬ال تحــدك الحــدود وال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متقــدا‪ ...‬وطوفا ًنا‬ ‫لهيبا‬ ‫هــادرا‪...‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقيــدك القيــود‪ ...‬كنــت ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫يثبط من همتك‪ ،‬كال‪ ،‬ولم ينل ذلك‬ ‫الملتهبــة الحارقــة أو ّ‬

‫بالدمــاء القانيــة فوق كتفيــك‪ ...‬كنت تريد أن تخفي ذلك‬

‫‪3‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫ال طال الشوق للقياه سنين وسنين‪..‬‬ ‫يا بط ً‬ ‫أين أنت؟ أين أنت يا زاجل خيالنا وطائر‬

‫أحالمنــا؟! أيــن أنت يــا بشــير انبعاثنا من‬

‫دوما في أيام األلــم المديدة‪ ،‬وفي‬ ‫رقدتنــا؟! لقــد تر ّقبنــاك ً‬

‫أين أنت؟!‬

‫تبدى‬ ‫ليالي األرق الطويلة‪ ،‬وال زلنا نتر ّقب‪ ...‬كم من مرة ّ‬

‫لنــا فــي األفق البعيد خيــال توهمناه إيــاك‪ ،‬فخرجنا ل ُلقياه‬

‫مرددين نشــيد "ثنية الوداع"‪ ...‬كم من مرة حتى الغروب‬ ‫ّ‬

‫انتظرنــاك‪ ...‬ولمــا عدنــا إلــى بيوتنــا منكســري الخاطــر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مطأطئــي الــرأس لــم نجد الســلوان إال فــي خياالتنا التي‬ ‫طرزناها بأزهار الزنبق‪ ...‬في كل يوم يهب نســيم الحزن‬ ‫ّ‬ ‫واألســى علــى أرواحنا فيســحقها‪ ...‬في كل يوم يشــمت‬ ‫بنــا األعــداء ويتصايحــون هازئيــن‪ :‬ال‪ ...‬لــن يجــيء مــن‬

‫تنتظــرون‪ ...‬لن يأتي إليكم بطلكــم‪ ...‬ذلكم الذي يملك‬

‫أبدا لن يأتي!‬ ‫أنفاس المسيح وعضالت هرقل‪ً ،‬‬

‫أين أنت؟‪ ..‬ومتى ســتأتي؟‪ ..‬متى ستأتي أيها الفارس‬

‫األســطوري‪ ...‬متــى؟‪ ..‬فواهلل لقد أوشــكت هذه األرواح‬

‫المحتضرة‪ ،‬والقلوب الضامرة المهترئة أن تنطفئ شــمع ُة‬ ‫َ‬ ‫حياتهــا‪ ...‬فــإن لــم تســرع بأنفاســك الطاهــرة التــي تبعث‬ ‫الحيــاة فــي األرواح فلــن تبقــى زهــرة نيلوفــر واحــدة في‬

‫بحيراتنــا التــي أصابهــا الجفــاف‪ ،‬وأحواضنا التي انحســر‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )42‬‬

‫عنهــا المــاء‪ .‬لقــد مضــت عصــور علــى رحيــل البســتاني‬

‫‪2‬‬

‫األرض‬ ‫وتصحر البســتان‪ .‬ومنذ اليوم الذي أعرضت فيه‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الســماء فلــم ترســل إلــى األرض‬ ‫وأقلعــت‬ ‫الســماء‪،‬‬ ‫عــن‬ ‫ُ‬ ‫طرا‪ ...‬منذ ذلك اليوم تحولت األرض إلى قفار يابسة‪...‬‬ ‫َق ً‬ ‫وبتنا في هذه القفار نتفقدك في كل قافلة‪ ،‬نتفقدك وكأننا‬ ‫نبحــث عــن قميص يوســف‪ ،‬ثم عدنا بصبــر جميل ننتظر‬

‫جديدا‪.‬‬ ‫فجرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وكــم مــن مــرة ‪-‬عندما ل ّفنــا الصمت‪ ،‬وضربــت علينا‬ ‫نســرا‪ ،‬وظننــا المقعدين‬ ‫الوحــدة قبابهــا‪ -‬حســبنا ُ‬ ‫البغــاث ً‬ ‫المشلولين اإلسكندر األكبر فص ّفقنا لهم‪ ...‬لم تبق قافلة‬ ‫أي منها‪ ...‬كم‬ ‫لــم نركــض وراءها‪ ...‬ولكنك لم تكن في ّ‬ ‫مــن ذي قامــة مبســوطة صادفناه ليس لديــه فكر ولو بقدر‬ ‫أنملــة‪ ...‬وليــس لديــه إرادة إلشــعال شــمعة‪ ...‬أرواحهم‬ ‫كانــت ســوداء مع ِتمة‪ ،‬وأفكارهم كانــت خربة‪ ،‬ونظراتهم‬ ‫كانــت قاصرة‪ ،‬وعباراتهم كانــت عارية‪ ...‬لم نجد لديهم‬ ‫مــا كنــا نأملــه فــي بطلنــا من نظــرة ثاقبــة‪ ،‬ونفــس مكابِدة‪،‬‬ ‫وحماسة الهبة‪ ،‬وبسمة رقراقة‪.‬‬ ‫المحــرم‪ ،‬وغــدا المــكان‬ ‫لقــد تحــول الزمــان بنــا إلــى‬ ‫ّ‬ ‫جميعه كربالء‪ .‬فراحت نفوســنا تتأوه بآهات الحســين‪...‬‬ ‫خيــم الظــام عليهــا َتر ُقــب‬ ‫أنظارنــا مشــرئبة نحــو آفــاق ّ‬ ‫قدومــك ارتقــاب الهــال‪ ...‬نتخيلــك فــي كل وجــه‪،‬‬ ‫ونستبشــر قدومك مع كل صيحة‪ ...‬كلنا شــوق إليك‪...‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬المحتويات‬

‫‪2‬‬ ‫ أين أنت؟!  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫‪5‬‬ ‫اعتذار إلى محمد فتح اهلل كولن  ‪ /‬عبد القادر اإلدريسي ‬ ‫‪10‬‬ ‫حكيما  ‪ /‬حممد أنس أ ْركَنَه ‬ ‫ األستاذ فتح اهلل كولن عالِ ًما عارفًا‬ ‫ً‬ ‫‪18‬‬ ‫"الخدمة" في خدمة عالمية اإلسالم  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غامن ‬ ‫‪24‬‬ ‫ نموذج الخدمة مثال راشد للمجتمع المدني  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عبد اجمليد بوشبكة ‬ ‫‪29‬‬ ‫رائد الخدمة في معية رواد الفكر والتجديد  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬حسن مكي ‬ ‫‪32‬‬ ‫ صورة قلمية لسراج الزمن فتح اهلل كولن  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬فؤاد البنا ‬ ‫‪37‬‬ ‫غ‬ ‫رّواد اإلصالح والتجديد‪ ..‬فتح اهلل كولن الْ َمع َلم والمثال  ‪ /‬أديب إبراهيم الدبا ‬ ‫‪40‬‬ ‫ فتح اهلل كولن عالِ ٌم أَ َّسس لفكر حضاري  ‪ /‬د‪ .‬عبد اإلله بن مصباح ‬ ‫‪44‬‬ ‫األستاذ فتح اهلل كولن ومشروع تحريك الهمم نحو القمم  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬سعيد شبار ‬ ‫‪48‬‬ ‫ مشروع الخدمة من عين الواقع  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬حممد خروبات ‬ ‫‪54‬‬ ‫زهرة الالّله‪ ..‬الخدمة "من ذاق عرف"  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬حيىي وزيري ‬ ‫ التغيير الناجح‪ ..‬لمحات من المنجز في رؤية األستاذ فتح اهلل كولن  ‪ /‬د‪ .‬حممد جكيب ‪57‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪66‬‬ ‫الحضاري البديل  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي ‬ ‫نموذج الرشد‪ ..‬النموذج‬ ‫نموذجا مجتمعيًّا  ‪ /‬د‪ .‬مسري بودينار ‪75‬‬ ‫وجا أفندي" السيد األستاذ أو حين تصوغ التربية‬ ‫ً‬ ‫ " ُه َ‬ ‫‪80‬‬ ‫مداخل اإلصالح في العالم اإلسالمي وتحدياته  ‪ /‬د‪ .‬أمحد قعلول ‬ ‫‪85‬‬ ‫ العبادة التنفيذية وقرآنية "الخدمة"  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬سليمان عشرايت ‬ ‫‪101‬‬ ‫كيف نبني حضارتنا بقيم تدبير االختالف  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬خالد الصمدي ‬ ‫ المفكر فتح اهلل كولن من هندسة األفكار إلى التخطيط اإلستراتيجي  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد ‪106‬‬ ‫سنواصل الخدمة ُق ُد ًما‪ ،‬إكرا ًما ُألمَّتنا وإكرا ًما لإلنسانية  ‪( /‬حوار مع األستاذ فتح اهلل كولن) ‪109‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫عدد خاص ‪ -‬االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫ً‬ ‫صدقا ووفاء‬ ‫طــل فــي عددهــا الخــاص هــذا علــى‬ ‫مجلــة حــراء ُت ّ‬

‫وهــذه األقــام‬ ‫الحــرة المنصفة وقد جاءت من مســافات‬ ‫ّ‬

‫يخــرج مــن شــرنقة التنظيــر الفكــري إلــى مجــال الواقــع‬

‫تقول "كلمة الحق"‪ ،‬وتشــهد شــهادة العدل بحق "فتح اهلل‬

‫شــخصية فريــدة ومشــروع حضــاري متميــز اســتطاع أن‬

‫العملــي حيث تراه األعين وتلمســه األيدي وتتفاعل معه‬ ‫القلــوب‪ .‬إنــه األســتاذ فتــح اهلل كولــن الــذي يعرفــه قــراء‬

‫حــراء‬ ‫متو ًجا‬ ‫ً‬ ‫جيــدا من خــال المقال الرئيس الــذي يأتي ّ‬ ‫لــكل عــدد مــن أعدادها؛ ونمــوذج "الخدمة" الــذي انبثق‬

‫تجليــا‬ ‫واقعيــا ألفكار األســتاذ وجهود مئــات اآلالف من‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫المتطوعيــن‪ ،‬الذيــن تعلقــت قلوبهــم برؤيتــه ذات العمــق‬

‫اإليماني اإلنساني الحضاري‪.‬‬

‫كولــن" المفكــر اإلســامي الكبيــر‪ .‬وهــم ْإذ يقولــون فيه‬

‫مــا يقولون‪ ،‬إنما يفعلــون ذلك عن دراية بالرجل‪ ،‬ودراية‬ ‫بأفــكاره وآرائه ومشــروعه اإلصالحي الخدمي الكبير‪...‬‬ ‫هذا المشروع الذي ُأعجبوا به وتدارسوه وناقشوه وكتبوا‬ ‫فيــه المقــاالت‪ ،‬وأ ّلفــوا الكتب واألبحــاث‪ ...‬فقولهم فيه‬

‫هــو حصيلــة دراســات ُم َع َّمقــة ألصــول جــذوره الفكريــة‬

‫والروحيــة‪ .‬فتأتــي شــهاداتهم عــن رؤيــة معرفيــة بالرجــل‬

‫وال ننســى فضــل األســتاذ علــى مجلــة حــراء‪ ...‬فهــو‬

‫وإعجــاب بــه‪ ،‬وإدراك لمراميــه واستشــرافاته اإليمانيــة‬

‫الهم‬ ‫نحــو العالم العربي واإلســامي بح ًثا عــن أصحاب ّ‬ ‫والهمة والحكمة‪ .‬حراء اليوم بفضل تحفيزات األســتاذ‪،‬‬

‫لشــرف الفكر ولشــرف الكلمة التي يؤمنون بها وينزلونها‬

‫مــن أنفســهم المكان األســمى واألرفــع‪ ،‬وينافحون عنها‬

‫لقد كثر اللغط والصخب في تركيا في اآلونة األخيرة‬

‫مــكان مــن العالــم‪ -‬إنما هــي إهانة لكل مفكــر وصاحب‬

‫هــذه الضوضاء وتلــك الضبابية‪ ،‬وكثرت األســئلة وازداد‬

‫وفــي فكــره‪ ،‬إنمــا هو إنصاف لكل مفكــر وصاحب فكر‪.‬‬

‫الــذي ســماها "حــراء"‪ ،‬وهو الــذي أطلق أشــرعتها لتبحر‬

‫الفعال‪.‬‬ ‫منتدى واسع غني للفكر اإلصالحي ّ‬

‫وتضببت فيها األجواء حتى كادت الحقيقة تضيع وسط‬ ‫التطلع في العالم العربي لمعرفة أفكار األستاذ ونموذجه‬ ‫الطلب تلو اآلخر بإلحاح لكي نخرج‬ ‫اإلصالحي‪ ،‬وجاء‬ ‫ُ‬ ‫خاصــا يرســم للقــارئ العربــي أهــم مالمــح أفكار‬ ‫ً‬ ‫عــددا ًّ‬ ‫األستاذ ومشروعه الحضاري‪ .‬وعندما دعت حراء كتابها‬ ‫ليســهموا معهــا فــي القيــام بهــذه المهمــة‪ّ ،‬لبــوا مســرعين‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )4٢‬‬

‫ــت إال أن‬ ‫بعيــدة والتقــت هنــا علــى صفحات "حــراء"‪َ ،‬أب ْ‬

‫صعــب معهــا‬ ‫وتقاطــرت علــى المجلــة مقــاالت كثيــرة‪ُ ،‬‬ ‫اختيــار األفضــل مــن بينهــا‪ ،‬فقد كانــت جميعها فــي غاية‬

‫الروعــة والعمــق‪ .‬فقــرر القائمون علــى المجلة أن يزيدوا‬

‫مــن عــدد صفحات هذا العدد ويتركوا المقاالت المتبقية‬

‫إلى سانحة أخرى‪.‬‬

‫فهذا العدد عدد وفاء من مجلة حراء لوالدها الروحي‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والحضاريــة‪ ...‬وهــم ْإذ يفعلون ذلك إنما يفعلونه إنصا ًفا‬

‫بــكل ما يســتطيعون‪ ...‬فإهانة الفكــر والمفكرين ‪-‬في أي‬ ‫فكــر‪ ...‬فانتصارهــم لـ"فتــح اهلل كولن" وقــول الحقيقة فيه‬

‫وهــذه ليســت قضية فــرد أو أفراد‪ ،‬إنما هــي قضية‬ ‫تخص‬ ‫ّ‬ ‫الجنس البشري‬ ‫عموما‪ ،‬وتخص وجدانه المتعطش لكلمة‬ ‫ً‬

‫"الحــق"‪ ،‬وقضيــة الفــراغ األخالقي المفجــع الذي يهدد‬ ‫المفكرين ويمطرهم بســهام مســمومة من النقائص‪ ،‬لكي‬

‫يســيء ســمعتهم ويباعد بينهم وبين شــعوبهم وأممهم‪...‬‬ ‫ويــوم تحــرم هــذه الشــعوب مــن أفــكار عظمائهــا‪ ،‬فإنهــا‬

‫توشــك أن تقع في فوضوية عمياء ال أول لها وال آخر‪.‬‬ ‫نحيــي شــاكرين‬ ‫وال يســعنا فــي هــذه العجالــة إال أن ّ‬

‫أصحــاب هــذه األقــام الحــرة المنصفــة وقــد تداعوا من‬

‫كل مــكان ليقولوا كلمــة الحق‪ ،‬في رجل كانوا قد عرفوه‬

‫وخبروه وأعجبوا بتجربته اإلصالحية وخدماته التربوية‪.‬‬


‫‪42‬‬ ‫عدد خاص‬ ‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة التاسعة ‪( /‬مايو ‪ -‬يونيو) ‪2014‬‬

‫ُ‬ ‫"عاهدت نفسي أن ال‬ ‫األستاذ فتح الله كولن‪:‬‬ ‫أقاطع أحدًا‪ ،‬وال أحمل ضغينة في قلبي ألحد‪..‬‬ ‫وها نحن نعلن للعالم أجمع‪ ،‬أننا متسامحون في‬ ‫حقوقنا الشخصية‪ ،‬فقد أحللنا جميع حقوقنا"‪.‬‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫أين أنت؟!‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪5‬‬

‫اعتذار إلى محمد فتح الله كولن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد القادر اإلدريسي‬

‫‪85‬‬

‫(صفحة‪)١٠٩ :‬‬

‫العبادة التنفيذية وقرآنية "الخدمة"‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سليمان عشراتي‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.