Hira Magazine 44

Page 1

‫وردة الروح‬ ‫نبتغيها‪ ،‬نح ِّبها‪ ،‬نعشقها في كل وقت وآن‪..‬‬ ‫َو ْردتُنا الحمراء العبقة‪..‬‬ ‫زهرت‪ ،‬وعن قفرها تخ َّل ْت‪..‬‬ ‫بها الدنيا أَ ْ‬ ‫ال أب ًدا ما اصف َّر ْت‪ ،‬وال أمام الخريف ُهز َم ْت‪..‬‬ ‫َعمى األلوان في عين الملحد‪ ..‬يرى النو َر ظال ًما‪،‬‬ ‫والحمر َة الساطع َة صفر ًة فاقع ًة‪..‬‬ ‫***‬

‫‪Eylül - Ekim 2014 Sayı: 44 Fiyatı: 7,5 TL.‬‬


‫إن انسالك اإلنسان في موكب الساجدين هلل ‪ ‬أمر ال‬ ‫يمكن البتة بدون الوحي‪ ..‬فكما أن أمر الكون ال ينصلح‬ ‫بدون الوحي إلى السماوات واألرض ومختلف الكائنات وكذا‬ ‫ً‬ ‫وجماعة ال ينصلح‬ ‫التقدير والهداية‪ ،‬فإن أمر اإلنسان فردً ا‬ ‫بدون الوحي‪..‬‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪ +20226134402-5 :‬الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ يف ما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص منفص ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫ال أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫مكتب حراء للنشر والتوزيع‬ ‫شارع بغداد‪ ،‬مقابل بريد بغداد‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‬ ‫‪Phone: +967 1 214774‬‬ ‫‪Fax: +967 1 204494‬‬ ‫‪GSM: +967 736027560‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 22‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪LİBYA‬‬ ‫دار الرواد‪ ،‬ذات العماد‪ ،‬برج ‪-4‬طرابلس‪-‬ليبيا‪.‬‬ ‫هاتف‪daralrowdooks@gmail.com - 00218213350332 :‬‬ ‫هاتف‪hiralibya@gmail.com - 00218916125579 :‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201098325549 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫عقائدهــم وأفكارهــم‪ ،‬وذلك بالتوجيه المباشــر لهم ليس‬ ‫تركهم لعواصف الفتن واألهواء أن تعصف بهم‪.‬‬

‫جانب آخر من وســائل العالج والوقاية‪ ،‬هو المحور‬

‫ا ُ‬ ‫ألســري ودوره المتعاظــم فــي الوقايــة مــن الظواهــر‬

‫الســالبة‪ .‬فكمــا هو معلوم فــإن البيت هو عمدة المجتمع‬

‫وركيزته الرئيسة التي يرتكز عليها‪ ،‬وها هنا يكون التالزم‬ ‫فــي عــاج الظواهــر الســالبة في ابتــداء معالجــة التفلتات‬

‫األُســرية واالنحرافات داخلها‪ ،‬مما يشــكل في مجموعه‬

‫أمن وسالمة المجتمع وبناء مجتمع سليم ومعافى‪.‬‬

‫أخيــرا دور المحــور المجتمعــي‪ ،‬وهــو دور‬ ‫ويأتــي‬ ‫ً‬ ‫مؤسســات الدولــة التعليميــة واإلعالميــة والمؤسســات‬ ‫األكاديميــة األخــرى‪ ،‬فــي تصحيح المنهــج الفكري عند‬ ‫الشباب والمحافظة عليه‪ ،‬وإبعادهم عن كل آفات الفكر‪.‬‬

‫الخالصة‬

‫ســاهمت مؤسســة المجتمــع في هــذه الظاهــرة؛ إذ ق ّلت‬ ‫األكاديميــة بتخريــج "أنصــاف المتعلميــن" وأصحــاب‬ ‫النظــر الضيــق واألفــق المحدود‪ ،‬ال يرون المســتقبل وال‬

‫يستشرفونه‪ ،‬مكتفين بالنظر تحت أقدمهم‪.‬‬

‫ولقــد تنامــى الــدور المجتمعــي أهميتــه فــي التربيــة‬

‫الســلوكية لألفــراد في العصــر الحديث بعــد تراجع كبير‬ ‫لدور ا ُ‬ ‫ألسرة‪ ،‬وانشغال كثير من اآلباء عن أوالدهم‪ ،‬مما‬ ‫أحــدث فجــوة تربويــة كبيــرة‪ .‬كما انشــغلت المؤسســات‬

‫األكاديمية وانحصرت في البرامج الدراسية المتخصصة‬

‫فــي وقــت تنامــت فيــه وازدهــرت وســائل االتصــال مــع‬ ‫المجتمعــات الخارجيــة بســهولة ويســر‪ ،‬ودخلــت هــذه‬

‫ــرب؛ لــه أثــره فــي‬ ‫كم ٍّ‬ ‫الوســائط المرئيــة والمســموعة ُ‬ ‫الشباب وتوجيه أفكارهم وصياغتها‪ ،‬وله أثره الظاهر في‬ ‫أخالقهــم‪ .‬ومــن ثــم البــد من مواجهــة ذلك المــد التقني‬

‫الجــارف بدور مجتمعي قوي وفاعل في توجيه الشــباب‬

‫(*) جامعة السودان ‪ /‬السودان‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬ندوة اتجاهات الفكر اإلسالمي المعاصر‪ ،‬ص‪.188:‬‬

‫موضحا أهمية دور المجتمع‪" :‬على قدر تعدد األوساط‬ ‫ً‬

‫(‪)2‬‬

‫في كبر مســاحتها وســعة دائرتها وأهمية موقعها في حياة‬

‫(‪ )3‬دور القضاء السعودي لإلصالح التربوي‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪،‬‬

‫التربويــة وكثرتها وترابطها يظهر تميز مؤسســة المجتمع‬ ‫كل فرد ومستقبله"(‪.)2‬‬

‫المنهــج اإلســامي دراســة المجتمــع‪ ،‬نبيــل محمــد توفيــق‪ ،‬دار‬

‫الشروق‪ ،‬جدة‪ ،‬ط ح ‪1402‬هـ‪ ،‬ص‪.250:‬‬

‫صبحي بني يحي الحارثي‪ ،‬ط ‪1427‬هـ‪2006/‬م‪ ،‬ص‪.310-309:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫والرقابــة عليهــم‪ .‬ويقــول الباحــث التربــوي محمــد نبيــل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المنتديات العلمية والفكرية النافعة‪ ،‬واكتفت المؤسسات‬

‫أيضــا عندما "يغــادر الفــرد بيئته أو‬ ‫كمــا يتضــح ذلــك ً‬ ‫مدرســته أو مســجده‪ ،‬ويلتحــق بالمجتمــع وينخرط فيه‪،‬‬ ‫متدثــرا بعوامــل مناعيــة‬ ‫ويتفاعــل مــع جميــع أطيافــه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وســلوكية اكتســبها من خالل أســرته وأصدقائه ومسجده‬ ‫ومدرســته‪ .‬ومــن خــال تلــك االكتســابات الســلوكية‬ ‫واستشــعاره بــدوره لتأكيــد ذاتــه وأهميتها‪ ،‬يشــعر بأنه من‬ ‫خــال تكوينــه التربــوي‪ ،‬عضــو فــي مجتمعــه‪ ،‬فيحافــظ‬ ‫ذلك العضو الجديد ويطور مكاســبه األخالقية والتربوية‬ ‫ال ألصحــاب المآرب‬ ‫والمعرفيــة"(‪)3‬؛ فيقعــون‬ ‫صيــدا ســه ً‬ ‫ً‬ ‫الشــخصية والعــداوة لإلســام‪ .‬كذلــك كان البــد مــن‬ ‫وقفــة وقايــة مــن هــذه الظاهــرة ومثيالتهــا‪ ،‬والبــد مــن‬ ‫ســبيل ناجح للعالج مما أصاب الشــباب من تراوح بين‬ ‫الخــواء الفكــري واالســتخدام الســيئ للتقنيــات‪ .‬وأول‬ ‫خطــوات الوقايــة والعــاج هي ا ُ‬ ‫ألســرة‪ ،‬إذ إنهــا أول لبنة‬ ‫فــي المجتمــع‪ ،‬فالبــد أن تقــوم بدورها المنــوط بها نحو‬ ‫أبنائها والمنسوبين إليها‪،‬‬ ‫تحصينا ومراقبة ومحاسب ًة على‬ ‫ً‬ ‫األخطاء المرتكبة داخل ا ُ‬ ‫ألسرة وخارجها‪.‬‬ ‫كمــا ينبغــي أن تقــوم مؤسســات المجتمــع بدورهــا‬ ‫المــوكل إليهــا فــي ســد ذرائــع الفســاد والفتنــة الموجهة‬ ‫وص َّناعــه‪ ،‬حتى ال‬ ‫للشــباب الذيــن هــم رجــال المســتقبل ُ‬ ‫غــدا المجتمــع بالشــلل الحركــي فتتعطــل قوتــه‬ ‫يصــاب ً‬ ‫وتقــل فاعليتهــا‪ ،‬ويصبــح المجتمــع عالــة على مــا حوله‬ ‫مــن المجتمعــات‪،‬‬ ‫مكتفيــا باالســتهالك منهــا لبضائعــه‬ ‫ً‬ ‫القيميــة والفكريــة‪ ،‬كمــا ينبغــي أن تراجــع مؤسســات‬ ‫التعليــم مناهجهــا لتخريــج شــباب ذوي رســالة ينفعــون‬ ‫بعلمهم وينتفعون به‪ .‬وعلى الشباب أال يضيعوا جهدهم‬ ‫وأوقاتهم فيما يعود عليهم بالوبال والحسرة‪ ،‬وأن يكونوا‬ ‫بعيــدي النظــر غيــر منجرفين وراء الشــهوات والفتن التي‬ ‫تحد من تقدمهم ورقيهم اإلنساني‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫أو فكريــة تتضــح فــي فكرهــم‪ ،‬أو حتــى عمليــة تظهر في‬

‫أصحــاب األهــواء الشــخصية أو الضــاالت المنهجيــة‪،‬‬

‫خاويا‬ ‫أن هذا الشــاب‬ ‫ولنا أن نتســاءل‪ ،‬ما هي دالئل ّ‬ ‫ً‬

‫قــادرا‬ ‫الوقــت الــذي أصبــح فيــه كل طالــب علــم مبتدئ‬ ‫ً‬

‫ممارسة الحياة العملية‪.‬‬

‫تعقيدا‪ ،‬وتزيــد خطورة هذه الظاهرة في‬ ‫فيزيدوا مشــكلته‬ ‫ً‬ ‫علــى إنشــاء موقــع فيســتفتي ويجيــب وهو جاهــل بدين‬

‫خواء‬ ‫منهــج ما بأنــه‬ ‫فكريــا؟ وكيــف يمكــن الحكــم على‬ ‫ٍ‬ ‫ًّ‬ ‫ٌ‬ ‫فكــري؟ فــي الواقــع إن هنالــك عدة مشــيرات؛ فالشــاب‬

‫ا أن يرقى إلى مســتوى حل‬ ‫اهلل وأحكامــه الشــرعية‪ ،‬فضــ ً‬

‫األفــكار‪ ،‬كمــا يظهر خواء الفكر في عدم الموضوعية في‬

‫أن بعض الشــباب يجعل أدلته في مســائل خالفية مواقع‬

‫مشاكل الشباب وفك معضالتهم العلمية‪ .‬ومن العجيب‬

‫فكريــا َّيتســم بالســطحية فــي المناقشــة وعرض‬ ‫الخــاوي‬ ‫ًّ‬

‫يزورها على اإلنترنت دون التثبت من صحتها‪.‬‬

‫تناول المواضيع الجادة ذات الشأن‪ ،‬كما أنه تغيب عنده‬

‫أيضا هــو أن الخواء الفكري‪،‬‬ ‫ممــا ينبغــي التنبيه عليه ً‬

‫أيضا من ســمات‬ ‫الرؤيــة العلميــة والمنهجيــة فــي الحياة‪ً .‬‬

‫يسبب ملل وقلق دائمين بسبب توفر الوقت وخواء العقل‪،‬‬

‫أصحــاب الخــواء الفكــري‪ ،‬أنهــم يقــرؤون ويطلعــون‬

‫فصاحبــه يحتــاج ألمــر يقضي فيه وقتــه ويضيعه‪ .‬وأجهزة‬

‫ويتصفحــون كل مــا يقــع في أيديهم مــن كتب ومؤلفات‬

‫التقانة الحديثة فيها قدر كبير من اللهو والمرح المباح وغير‬

‫مختلفــة الرؤى واألفــكار‪ ،‬دون القدرة على تمييز النافع‬

‫المباح‪ ،‬كما تحتوي وســائطها على مغريات كثيرة‪ ،‬ومن‬

‫من الضار والغث من السمين‪.‬‬

‫ثم في حالة عدم وجود الوازع الديني والتربية والرقابة من‬ ‫ا ُ‬ ‫ألســرة‪ ،‬فإن ذلك يؤدي إلى اختالالت ســلوكية خطيرة‪.‬‬

‫جــدا كذلك‪ ،‬كثرة االنتقال من‬ ‫مــن المظاهر الخطيرة ًّ‬

‫مذهــب فكــري إلى آخر دون إعمال عقــل أو تدوير فكر‬ ‫أيضا‪ ،‬الشــعور بالملــل واالكتئاب‬ ‫المقنعــة‪ .‬مــن مظاهــره ً‬

‫أيضا‪ ،‬اإلسهاب في‬ ‫المستمر‪ .‬كذلك من المظاهر السالبة ً‬ ‫عــرض قضيــة ما‪ ،‬وذلك بالتركيز علــى الجزئيات الضيقة‬

‫دون النظر إلى كليات القضايا واألمور‪.‬‬

‫قويا‬ ‫فالخــاوي‬ ‫فكريــا‪ ،‬ســريع التأثــر بأي فكر يكــون ًّ‬ ‫ًّ‬

‫فكــرا ضــاالًّ‪،‬‬ ‫وجذابــا فــي مظهــره ولــو كان‬ ‫فــي عرضــه‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫تحليلنــا لهــذه الظاهــرة‪ ،‬وجدناها تتفرع من أســباب ذاتية‬

‫وأخرى أسرية‪ ،‬وعوامل اجتماعية كما سبق البيان‪ ،‬ومن‬ ‫ثــم تكــون الوقاية منها والمعالجــات لها‪ ،‬من خالل ذات‬ ‫المحاور التي تلج منها هذه الظاهرة السالبة‪.‬‬ ‫ففــي الجانــب ا ُ‬ ‫ألســري تكــون المعالجــة علــى يــد‬

‫والمواقــع علــى اإلنترنــت تحمــل آالف اآلراء واألفكار‬ ‫بمنهج يناقض ســلوكه وأخالقه ومثله العليا‪ ،‬بل تطلعاته‬

‫يســعون لتحقيقهــا والوصــول إليهــا‪ .‬كمــا ينبغــي تحصين‬

‫الهادفة النبيلة‪ ،‬وهو ال يشعر بذلك حتى يتمكن منه الداء‬ ‫العضال‪ ،‬ويصعب عليه االنفكاك عن المنهج الذي تعوده‪.‬‬ ‫فكريــا بعــدم وجــود مرجعيــة‬ ‫كمــا ويصــاب الخــاوي‬ ‫ًّ‬

‫علميــة يمكــن الرجــوع إليهــا إذا ما واجهته مســألة علمية‬

‫أو أزمــة فكريــة‪ .‬فهو خــاوي الفكر مما يفيــد ومن معرفة‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫تعطيــل األســباب المنشــئة والمغذيــة لهــا‪ .‬ومــن خــال‬

‫الوالدين بحفز األوالد ودفعهم للهمم العالية‪ ،‬كما ينبغي‬

‫الضالة‪ .‬كما قد يتسبب الخواء الفكري في التزام الشاب‬

‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أو تمحيص رأي بســبب عدم تحديد احتياجات الشــاب‬

‫تكــون الوقايــة مــن الظواهــر المجتمعيــة الســالبة‪ ،‬في‬

‫مــن يفيــد‪ ،‬ألنه لو تمت له مدارســة مع أصحاب العقول‬ ‫الراجحــة واألفــكار النيــرة‪ ،‬لحصــل له من العلــم ما يمأل‬ ‫خــواءه الفكــري‪ ،‬ومــن ثــم يكــون التخبــط واالضطــراب‬

‫طبيعيــا لهــذه الحالــة‪ ،‬ومــن ثــم قــد يســتعين بمــن‬ ‫نتاجــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫يظنهــم أهــل العلــم ‪-‬وليســوا بأهلــه‪ -‬وربمــا يكونون من‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ربطهــم فــي المســتقبل‪ ،‬وأن يكــون لهــم أهــداف ســامية‬ ‫الشــباب وتثبيتهــم على قواعد ومنطلقات فكرية ســليمة‪،‬‬

‫وهــذا ما يســمى بـ"قاعــدة التحصين الذاتي"‪ ،‬والتي أشــار‬ ‫حديث ابن عباس ‪ ‬عن النبي ‪" :‬يا غالم إني أع ِّلمك‬ ‫جــده ُتجاهك‪،‬‬ ‫هلل‬ ‫ْ‬ ‫يحفظــك‪ِ ،‬احفظ ا َ‬ ‫كلمــات‪ِ ،‬احفــظ ا َ‬ ‫هلل َت ْ‬

‫واعلم‬ ‫استعنت فاستعن باهلل‪،‬‬ ‫هلل‪ ،‬وإذا‬ ‫إذا‬ ‫ســألت فاســأل ا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أن األمــة لــو اجتمعت على أن ينفعوك بشــي ٍء لم ينفعوك‬

‫يضروك‬ ‫إال بشيء قد كتبه اهلل لك‪ ،‬ولو اجتمعوا على أن ّ‬ ‫يضــروك إال بشــيء قد كتبه اهلل عليــك‪ُ ،‬ر ِفعت‬ ‫بشــي ٍء لــم‬ ‫ّ‬ ‫الصحف" (رواه الترمذي)‪ .‬هذا دليل واضح‬ ‫وج َّفت‬ ‫ُ‬ ‫األقــام َ‬ ‫ُ‬ ‫على اهتمام الرســول ‪ ‬بالشــباب وكيفية المحافظة على‬


‫الخَ ــواء الفكري هو خلو العقــل والفكر مام ينفع‬

‫ا لدعوات اإلصــاح إذا لم تكن فيه‬ ‫األحيــان يكــون قابــ ً‬

‫ً‬ ‫ويفيد‪ ،‬وليس‬ ‫رشطا أن يكــون الخَ واء فكر ًّيا ممتل ًئا‬

‫بدع مستحكمة‪ ،‬ومفاهيم منحرفة مقدسة‪.‬‬

‫مبا ال يفيد‪ ،‬ولكنه خال مام يفيد‪ ،‬مام يجعل صاحبه‬

‫قال الدكتور عبد الحليم عويس‪" :‬ولئن كانت عوامل‬

‫مؤهــ ً‬ ‫ا للتأثر بأي فكر وأي منهــج بغض النظر عن‬

‫التجــزؤ عديــدة ورهيبــة‪ ،‬فإن هذه العوامل ال تتســلل إلى‬

‫محتواه العلمي ودرجة صحته وموافقته للرشيعة‪.‬‬

‫األمة إال حيث تعاني من فراغ فكري‪ ،‬وفقر إلى مجموعة‬ ‫القيــم التــي تغنيهــا بدراية ســليمة مطمئنة عــن حقيقة كل‬

‫من الكون واإلنســان والحياة‪ ،‬إذ إن من شــأن أي جماعة‬ ‫تعانــي مثــل هــذا الفــراغ‪ ،‬أن تغــدو هد ًفــا لمطامــع ُأولــي‬

‫فــي ضعــف األفــق العلمــي وســطحية المنهــج الفكــري‪.‬‬

‫‪ -3‬أسباب أُسرية‬

‫الدعــوات الهدامــة التــي تصطنــع المبادئ والقيــم لبلوغ‬

‫تتســبب كثيــر مــن ا ُ‬ ‫ألســر المعاصــرة فــي صناعــة َخــواء‬

‫أمانيها وأغراضها"(‪.)1‬‬

‫فكــري كبيــر لــدى أوالدهــا مــن البنيــن والبنــات‪ ،‬خاصــة‬

‫ب ــ‪ -‬الفوضــى الفكرية‪ ،‬حيث تنتشــر المعارف وتقوى‬

‫إن لــم تحســن التربيــة والرعايــة لهم‪ ،‬وحفظهــم وتثبيتهم‬

‫حركــة التعليــم مــع اختــاف مشــارب األفــراد الفكريــة‪،‬‬

‫علــى أســس علميــة وإســامية وصحية في الوقــت الذي‬

‫فيجهــر المبطلــون بالضــال ويتفننــون فــي عرضــه علــى‬

‫كثرت فيه االختالفات الفكرية واالضطرابات المنهجية‪،‬‬ ‫ألســرية وعــدم قيام ا ُ‬ ‫فضعــف التربيــة ا ُ‬ ‫ألســرة بدورها في‬

‫النــاس‪ .‬وعندهــا يتــوزع أبنــاء المجتمــع الواحــد إلــى‬

‫طوائــف‪ ،‬كل طائفــة تســير خلف فكرة ومبــدأ‪ ،‬ويزخرف‬ ‫الفاســد‪ ،‬أو بتقديمــه علــى أنه الجديد المفيــد المتجاوب‬

‫مــع مســتجدات العصــر‪ ،‬مع دعوى أنــه ال يتعارض مع‬ ‫أصول اإلسالم‪.‬‬

‫‪ -2‬أسباب نفسية أو ذاتية‬

‫ال‪ ،‬ويضعونها‬ ‫وهي أسباب توجد في نفوس الشباب أص ً‬ ‫بين أيديهم بال تدخل من أي مؤثر خارجي‪ ،‬وهي بدورها‬ ‫تتســبب فــي خوائهــم الفكــري‪ ،‬مثــل عــدم وجــود ثوابت‬ ‫فكريــة عنــد كثيــر مــن الشــباب‪ ،‬وال فهــم واضــح للحياة‬

‫ومشاكلها وتفاعالتها المختلفة‪ ،‬مما يجعلهم غير قادرين‬ ‫على تحديد احتياجاتهم الفكرية ومن ثم السعي لتلبيتها‪.‬‬ ‫عدم وجود الرؤية الواضحة عند الشــباب للمستقبل‪،‬‬

‫وعدم وجود أهداف لتحقيقها‪ ،‬مما يجعله يدخل في دوامة‬ ‫حيرة فكرية‪ ،‬وتدور في رأســه مســائل وإشكاالت عديدة‬

‫لهذا من المشكالت‪ ،‬التخصص األكاديمي الضيق الذي‬ ‫غاضا الطرف‬ ‫يجعــل الشــباب ال ينظــر إال تحــت قدميــه‪ًّ ،‬‬

‫عــن استشــراف المســتقبل والتطلــع نحــو بنــاء الــذات‬

‫حــد علمهم ومنتهاه‪ ،‬قاعة‬ ‫وتطويرها‪ .‬فكثير من الشــباب ّ‬ ‫الدراســة والمراجع األكاديمية المتخصصة‪ ،‬مما يتسبب‬

‫فرديا لســد هذا‬ ‫كبيرا عندهم‪ ،‬مما يجعلهم يســعون ًّ‬ ‫ً‬ ‫خواء ً‬

‫النقــص الفكــري والعــوز المعرفــي‪ ،‬وهنا تكمــن خطورة‬ ‫عدم القدرة على تميز غث األفكار والمناهج من سمينها‪.‬‬ ‫كما يتســبب انتشــار الجهل واألمية داخل ا ُ‬ ‫ألسرة في‬

‫هذا الخواء الفكري عند األوالد‪ ،‬وفاقد الشيء ال يعطيه‪،‬‬

‫وهــذا إضافــة إلــى مــا تحدثــه الظــروف المعيشــية عاليــة‬ ‫الرفاهية إذا تضافرت مع ذلك الجهل وتلك األمية‪.‬‬

‫‪ -4‬أسباب اجتماعية‬

‫المعني باألسباب االجتماعية هو دور المؤسسات العلمية‬

‫واألكاديمية التي تقوم على الرعاية والتوجيه في المجتمع‪.‬‬ ‫فعدم قيام هذه المؤسســات بدورها تجاه الشباب‪ ،‬يخلق‬ ‫فرديــا‪ ،‬وذلك‬ ‫خــواء‬ ‫عندهــم‬ ‫فكريــا يكــون الســعي لســده ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫عندمــا ال تحتــوي مناهج هــذه المؤسســات على مناهج‬

‫تلبــي احتياجــات الشــباب حســب أعمارهــم وجنســهم‪.‬‬ ‫كثيرا في تخريج "أنصاف‬ ‫كما يتسبب ضعف المنهج ً‬

‫ال بأي فكر وأي منهج‪.‬‬ ‫متعلمين"‪ ،‬مما يجعل تأثرهم سه ً‬

‫هنــاك مظاهــر ودالالت كثيــرة تــدل علــى الخــواء‬

‫الفكري الذي يعانيه قطاع ال يستهان به من شباب األمة‪،‬‬ ‫قــد تكــون هــذه المظاهــر ســلوكية تظهــر فــي ســلوكهم‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ومن أتابــع؟‪ ..‬ويضاف‬ ‫ومــن أصاحب؟ َ‬ ‫مثــل؛ مــاذا أقرأ؟ َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كل فريــق مبــدأه‪ ،‬إمــا بتقريبــه إلــى اإلســام باالســتدالل‬

‫علميــا‪ ،‬وســد نهمهــم الفكــري يحدث‬ ‫تحصيــن أوالدهــا‬ ‫ًّ‬

‫‪61‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬حسن عبد الله حمد النيل*‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫َ‬ ‫الخواء الفكري‬ ‫وخطورته عىل الشباب‬

‫‪60‬‬

‫عــد حالــة الخــواء الفكري الذي يعيشــه‬ ‫ُت ّ‬ ‫قطــاع كبيــر مــن الشــباب اليــوم‪ ،‬ظاهــرة‬ ‫جدا‪ ،‬وذلك ألن الخواء الفكري‬ ‫خطيــرة ًّ‬ ‫البنى التحتية‬ ‫قاتــل‪ .‬وهــا هنا تكمن الخطورة إن لــم تكن ُ‬ ‫تماما‪،‬‬ ‫العلميــة‪ ،‬والمنهجية اإلســامية عند الشــباب قوية ً‬ ‫مستمدة أصلها من القرآن الكريم والسنة النبوية‪ .‬ويكون‬ ‫التحصيــن الذاتــي للشــباب والتربيــة ا ُ‬ ‫ألســرية الســليمة‬ ‫والرقابــة المجتمعية‪ ،‬هــي صمام األمان ضد االنحرافات‬ ‫نتاجا لذلك‪.‬‬ ‫السلوكية واألخالقية التي تكون ً‬ ‫الخــواء الفكــري هــو خلــو العقــل والفكــر ممــا ينفع‬ ‫َ‬ ‫فكريــا‬ ‫الخواء‬ ‫ويفيــد‪ ،‬وليــس‬ ‫ممتلئا بما‬ ‫ً‬ ‫شــرطا أن يكــون َ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ال‬ ‫ال يفيد‪ ،‬ولكنه خال مما يفيد‪ ،‬مما يجعل صاحبه مؤه ً‬ ‫للتأثــر بــأي فكــر وأي منهــج بغــض النظــر عــن محتــواه‬ ‫العلمــي ودرجــة صحتــه وموافقتــه للشــريعة‪ ،‬ألن امتــاء‬ ‫قويا ضد‬ ‫العقــل والفكــر بالعلــم والمعرفــة يكون‬ ‫ً‬ ‫رصيــدا ًّ‬ ‫صلبا من الضالل‪.‬‬ ‫االنحراف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومانعا ً‬ ‫وبالجملة يمكن القول بأن الظروف التي يعيشها كثير‬ ‫من الشباب؛ مثل عدم وجود مشاغل ألسباب الفشل في‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الدراســة وعــدم إتمامها بســبب الظــروف االقتصادية‪ ،‬أو‬ ‫عدم وجود فرص عمل أمام الشباب‪ ،‬هذان عامالن تسببا‬

‫فــي إحــداث َخواء كبير في حياة الشــباب‪ ،‬إن لم يحســن‬ ‫وم ْــأه بالبرامــج النافعــة والمشــاريع المفيدة‬ ‫اســتخدامه َ‬

‫وهــذا فــي الغالب ما ال يحدث‪ -‬فإن هذا الخواء بدوره‬‫جدا‪ ،‬لــه خطورته علــى حياة‬ ‫يقــود لخــواء فكــري خطيــر ًّ‬

‫الشــباب وانعكاســاته علــى نمط تربيتهم‪ .‬يواجه الشــباب‬

‫خواء‬ ‫اليوم‬ ‫كبيرا تســببت فيه وأوجدته عدة عوامل‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫فكريا ً‬ ‫تفتــرق أو تجتمــع في الحالة الواحدة‪ ،‬وتتنوع أســبابه ما‬

‫بين عوامل خاصة وعامة‪ .‬ويمكن تقســيم هذه األســباب‬ ‫إلى اآلتي‪:‬‬

‫‪ -1‬أسباب عامة‬

‫ويمكن اإلشارة إلى األسباب العامة بأمرين‪:‬‬

‫أ‪ -‬انتشــار الجهــل وانصراف الناس عــن العلم‪ .‬وفي‬

‫هذه الحالة يســود المجتمع خليط من األفكار الفاســدة‪،‬‬ ‫والخرافــات والتصــورات والعــادات الجاهليــة‪ ،‬ويصبح‬ ‫مهيئــا لــكل فكــر ضــال‪ .‬كمــا أنــه فــي بعــض‬ ‫المجتمــع ً‬


‫(*) عالم ومفكر سعودي‪ ،‬ومؤسس مشروع السالم عليك أيها النبي‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫فكن ــت أثبته ــم قلبً ــا وأوضحه ــم‬ ‫بي ــت م ــن الطي ــن بالق ــرآن تعم ــره‬ ‫طعام ــك التم ــر والخب ــز الش ــعير وم ــا‬ ‫تبي ــت والج ــوع يلق ــى في ــك بغيت ــه‬ ‫لم ــا آتت ــك " ُق ــم ال ّلي ـ َـل" اس ــتجبت له ــا‬ ‫تمس ــي تناج ــي ال ــذي أوالك نعمت ــه‬ ‫أزي ــز ص ــدرك ف ــي ج ــوف الظ ــام س ــرى‬ ‫اللي ــل تس ــهره بالوح ــي تعم ــره‬ ‫تس ــير وف ــق مـ ـراد الل ــه ف ــي ثق ــة‬ ‫ـت أم ــرك للدي ــان مصطب ـ ًـرا‬ ‫فوض ـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ولَّ ــى أب ــوك ع ــن الدني ــا ول ــم ت ــره‬ ‫ومات ــت األم لم ــا أن أنس ــت به ــا‬ ‫وم ــات ج ــدك م ــن بع ــد الول ــوع ب ــه‬ ‫فج ــاء عم ــك حصنً ــا تس ــتكن ب ــه‬ ‫ترم ــى وت ــؤذى بأصن ــاف الع ــذاب فم ــا‬ ‫حت ــى عل ــى كتفي ــك الطاهري ــن رم ــوا‬ ‫أم ــا خديج ــة م ــن أعطت ــك مهجته ــا‬ ‫ـدت إل ــى جن ــة الب ــاري ورحمت ــه‬ ‫غـ ْ‬ ‫والقل ــب أفع ــم م ــن ح ــب لعائش ــة‬ ‫وش ـ ّـج وجه ــك ث ــم الجي ــش ف ــي أُح ــد‬ ‫ُ‬ ‫لم ــا رزق ــت بإبراهي ــم وامت ــأت‬ ‫ورغ ــم تل ــك الرزاي ــا والخط ــوب وم ــا‬ ‫م ــا كن ــت تحم ــل إال قل ــب محتس ــب‬ ‫بني ــت بالصب ــر مجـ ـ ًدا ال يماثل ــه‬

‫دربً ــا وأبعده ــم ع ــن ريب ــة الته ــم‬ ‫تبًّ ــا لقص ــر مني ــف ب ــات ف ــي نغ ــم‬ ‫عين ــاك تع ــدو إل ــى الل ــذات والنع ــم‬ ‫إن ب ــات غي ــرك عب ــد الش ــحم والتخ ــم‬ ‫العي ــن تغف ــو وأم ــا القل ــب ل ــم ين ــم‬ ‫حت ــى تغلغل ــت األورام ف ــي الق ــدم‬ ‫ودم ــع عيني ــك مث ــل الهاط ــل العم ــم‬ ‫وش ــيبتك به ــود آي ــة "اس ــتقم"‬ ‫ترع ــاك عي ــن إل ــه حاف ــظ حك ــم‬ ‫بص ــدق نف ــس وع ــزم غي ــر منثل ــم‬ ‫وأن ــت مرته ــن ال زل ــت ف ــي الرح ــم‬ ‫ول ــم تك ــن حي ــن ولَّ ــت بال ــغ الحل ــم‬ ‫فكن ــت م ــن بعده ــم ف ــي ذروة اليت ــم‬ ‫فاخت ــاره الم ــوت واألع ــداء ف ــي األج ــم‬ ‫رئي ــت ف ــي ث ــوب جب ــار ومنتق ــم‬ ‫س ــا الج ــزور بك ــف المش ــرك الق ــزم‬ ‫وألبس ــتك رداء العط ــف والك ــرم‬ ‫فأس ــلمتك لج ــرح غي ــر ملتئ ــم‬ ‫م ــا أعظم الخط ــب فالعرض الشـ ـريف رمي‬ ‫يع ــود م ــا بي ــن مقت ــول ومنه ــزم‬ ‫ب ــه حيات ــك ب ــات األم ــر كالع ــدم‬ ‫رأي ــت م ــن لوع ــة كب ــرى وم ــن أل ــم‬ ‫ف ــي ع ــزم متق ــد ف ــي وج ــه مبتس ــم‬ ‫مج ــد وغي ــرك ع ــن نه ــج الرش ــاد عم ــي‬

‫‪59‬‬


‫شعر‬

‫د‪ .‬ناصر الزهراني*‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫السراج المنير‬

‫‪58‬‬

‫تعج ـ ــب الخل ــق م ــن دمع ــي وم ــن ألم ــي‬ ‫أضنانـ ـ ــي الشـ ـ ـ ــوق م ـ ــا ليلـ ـ ــى بفـاتـنـ ــتي‬ ‫لك ــن قلب ــي بن ــار الش ــوق مضط ــرم‬ ‫منح ــت ُحبِّ ـ َـي خي ــر الن ــاس قاطب ــة‬ ‫يكفي ــك ع ــن كل م ـ ْـدح مـ ـ َدح خالق ــه‬ ‫شـ ـ ْهم تش ــيد ب ــه الدني ــا برمته ــا‬ ‫أرواح ــا ق ــد اندث ــرت‬ ‫أحي ــا ب ــك الل ــه‬ ‫ً‬ ‫نفض ــت عنه ــا غب ــار ال ــذل فاتق ــدت‬ ‫ـت جي ـ ـ ـ ًـا أب ـ ـيًّا مـ ــؤم ـ ـنًا ً‬ ‫يقظ ــا‬ ‫ربي ـ ـ ـ َ‬ ‫وأنـ ـ ــدية‬ ‫وسـ ـ ـ ـ ـ ــجالت‬ ‫مــحاب ـ ـ ـ ــر‬ ‫فم ــن أب ــو بك ــر قب ــل الوح ــي؟ م ــن عم ــر؟‬ ‫م ــن خال ــد؟ من صالح الدي ــن قبلك؟ من؟‬ ‫م ــن البخ ــاري؟ وم ــن أه ــل الصح ــاح؟ ومن‬ ‫م ــن اب ــن حنب ــل فين ــا واب ــن تيمي ــة؟‬ ‫م ــن نه ــرك الع ــذب يا خي ــر ال ــورى اغترفوا‬ ‫ين ــام كس ــرى عل ــى الديب ــاج ممتلئً ــا‬ ‫ال ه ـ ّـم يحمل ــه ال دي ــن يحكم ــه‬ ‫ممزق ــة‬ ‫أش ــاء‬ ‫العروب ــة‬ ‫أم ــا‬ ‫ـت ي ــا منق ــذ اإلنس ــان م ــن خط ــر‬ ‫فجئ ـ َ‬ ‫ـت بالح ــق يجت ــث الض ــال ف ــا‬ ‫أقبل ـ َ‬ ‫أن ــت الش ــجاع إذا األبط ــال ذاهل ــة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وم ــا دروا أن حبّ ــي صغتُ ــه بدم ــي‬ ‫وال س ــعاد وال الجيـ ـران ف ــي إض ــم‬ ‫ّ‬ ‫أف لقل ــب جم ــود غي ــر مضط ــرم‬ ‫برغ ــم م ــن أنف ــه ال زال ف ــي الرغ ــم‬ ‫واقـ ـرأ برب ــك مب ــدأ س ــورة القل ــم‬ ‫عل ــى المنائ ــر م ــن ُع ـ ْـرب وم ــن عج ــم‬ ‫ف ــي ترب ــة الوه ــم بي ــن ال ــكأس والصن ــم‬ ‫وأبدع ــت وروت م ــا قل ــت لألم ــم‬ ‫حس ــا شـ ـريعتك الغـ ـراء ف ــي نه ــم‬ ‫وأح ــرف وق ــواف ك ـ َّـن ف ــي صم ــم‬ ‫وم ــن عل ــي؟ وم ــن عثم ــان ذو الرح ــم؟‬ ‫م ــن مال ــك؟ وم ــن النعم ــان ف ــي القم ــم؟‬ ‫س ــفيان؟ والش ــافعي الش ــهم ذو الحك ــم‬ ‫ب ــل الماليي ــن أه ــل الفض ــل والش ــمم‬ ‫أن ــت اإلم ــام أله ــل الفض ــل كله ــم‬ ‫كْبـ ـ ًـرا و ُط ـ ِّـو َق بالقين ــات والخ ــدم‬ ‫عل ــى ك ــؤوس الخن ــا ف ــي لي ــل منس ــجم‬ ‫م ــن التس ــلط واأله ــواء والغش ــم‬ ‫ـورا يجل ــي حال ــك الظل ــم‬ ‫كالب ــدر ن ـ ً‬ ‫يلق ــى ع ــدوك إال علق ــم الن ــدم‬ ‫والهندوان ــي ف ــي األعن ــاق واللم ــم‬


‫شــعاعا (أي‬ ‫نظرنــا‬ ‫ً‬ ‫الكامــن فــي المجمــوع‪ ،‬لئــا يذهــب ُ‬

‫ــب‬ ‫متفر ًقــا) ونغــرق فــي بحــر التفاصيــل‪ ،‬ونســقط فــي ُج ّ‬ ‫قلت‪.‬‬ ‫المعلومات فيبتلعنا حوتها أو ذئبها إن‬ ‫شئت َ‬ ‫َ‬ ‫ومــن ثــم فــإن كل تفســير للواقــع هــو اجتهــادي‬ ‫بالضرورة (بغض النظر عن مدى صوابه أو خطئه)‪ ،‬بينما‬ ‫كل رصــد للوقائــع هــو ظــن راجــح على أقــل تقدير (أو‬

‫هكــذا يجــب أن يكــون إذا توافــرت األمانــة فــي الرصــد‪،‬‬

‫والتتبع واالســتقراء)‪ .‬وبناء عليه فكل قراءة فهم‪ ،‬تفســير‬ ‫أي الناس صدر‪ -‬متحيز بالضرورة‪.‬‬ ‫للواقع هو ‪ِ -‬من ّ‬ ‫وبهــذا البيــان تتــم تصفيــة اإلشــكالية الوهميــة حــول‬

‫الذاتيــة والموضوعيــة‪ ،‬فليــس هنــاك ‪-‬فــي ظنــي‪ -‬جــدار‬ ‫أسمنتي عازل بينهما‪ ،‬وإنما هناك تفاعل حلزوني بينهما‪.‬‬ ‫ونعــود إلــى الحديــث عن مواقــع اإلنترنــت وخاصة‬

‫مواقع التواصل االجتماعي فنقول‪:‬‬ ‫من مميزاتها‪:‬‬

‫‪ -2‬إلغاء حاجز المكان ومن ثم سعة االنتشار‪.‬‬

‫‪ -3‬إلغاء إمكانية التعتيم على الوقائع ومن ثم تحقيق‬

‫المصداقية والشفافية وتفعيل مبدأ الحق في االطالع (أي‬ ‫حرية تداول المعلومات)‪.‬‬

‫‪ -4‬إلغاء إمكانية تكميم األفواه ومن ثم تحقيق مناخ‬

‫الحرية (خاصة حرية التعبير) وتفعيل آلية الشورى (بوجه‬

‫من الوجوه)‪.‬‬

‫‪ -5‬التشجيع على إبداء الرأي دون خوف عقاب أو‬

‫تسلط‪ ،‬وهذا من أكبر المحفزات على اإلبداع واالجتهاد‬ ‫والتجديد (بمعانيها الواسعة الشاملة)‪.‬‬

‫‪ -6‬تفعيــل آلية الضبط االجتماعي‪ ،‬فأي انحراف في‬

‫الرأي أو خلل في الرؤية أو تقصير في الفعل ُينشــر على‬ ‫ويرشــده‬ ‫يقومه‬ ‫ِّ‬ ‫هــذه الصفحــات اإللكترونية‪ ،‬ســيجد َمن ِّ‬ ‫بشــرط أال يكــون صاحــب هذه الصفحــة اإللكترونية من‬ ‫ومن عيوبها‪:‬‬

‫‪ -1‬الرصد المبتور‪ ،‬الجزيئي‪ ،‬الفسيفسائي لألحداث‬

‫والوقائــع‪ ،‬والخلل في رصــد الوقائع يفضي إلى الخلل‬ ‫في فهم الواقع‪.‬‬

‫(*) طبيب وباحث مصري‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الذين سقطوا في ُجب الذاتية الجوانية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪ -1‬إلغاء حاجز الزمان ومن ثم سرعة التأثير‪.‬‬

‫‪ -2‬والرصــد‪ ،‬الرفــع المنحــرف للوقائــع عبــر نشــر‬ ‫الشــائعات واألكاذيــب والمعلومــات المغلوطــة أو غيــر‬ ‫الكاملــة‪ ،‬وهــذا منــاخ ممتاز للتعكيــر والتكديــر والتفريق‬ ‫والتمزيق‪.‬‬ ‫‪ -3‬وطغيــان تأثيــر الصــورة علــى اإلدراك والتفســير‬ ‫والتحليل والتفكيك والتركيب‪ ،‬مما يفضي إلى السطحية‬ ‫والتبســيط والســقوط فــي ُجــب الواحدية الســببية ‪-‬وهي‬ ‫وجب الموضوعيــة الوهمية‬ ‫نــوع من ِّ‬ ‫الشــرك التحليلــي‪ُ -‬‬ ‫وهــي فــي حقيقتها ســلبية متلقيــة‪ -‬في حيــن أن الواقع‬‫تصور مركب ومعقد غاية التركيب والتعقيد‪.‬‬ ‫‪ -4‬السقوط في ُجب الذاتية الجوانية‪ ،‬أو بتعبير آخر‬ ‫ُجــب مدرســة الرأي الواحد واالتجــاه الواحد‪ .‬فكثير من‬ ‫مســتخدمي هــذه المواقــع يحــرص على أال تضــم قائمة‬ ‫أي آخــر‬ ‫المتواصليــن معــه (أو ال يحــرص علــى ضــم) َّ‬ ‫جنســي (ذكــورة أو أنوثــة‪ ،‬مصــري أو خليجــي أو مغربي‬ ‫أو أندونيســي)‪ ،‬أو ثقافــي (حضــري أو ريفــي أو بــدوي‪،‬‬ ‫قاهري أو صعيدي أو نوبي)‪ ،‬أو فكري فلسفي (إسالمي‬ ‫أو علمانــي)‪ ،‬أو سياســي (مســتقل أو حزبــي)‪ ...‬ولهــذا‬ ‫أثــر غيــر منكــور فــي انتشــار حــوار الطرشــان أحيا ًنــا‪ ،‬أو‬ ‫التنميــط والقولبــة أحيا ًنا أخرى‪ .‬فالمرء ههنا ‪-‬باســتبعاده‬ ‫ِ‬ ‫يخاطب ذاته‪ ،‬وكأنما ينظر إلى نفســه في‬ ‫ألي آخر‪ -‬إنما‬ ‫يدعي محاولة التأثير والتغيير واإلصالح‬ ‫المــرآة‪ ،‬مع أنه ّ‬ ‫يدعي‬ ‫مــن خــال هذه الصفحات اإللكترونية‪ ،‬أو مع أنه ّ‬ ‫محاولة الرصد األمين للوقائع‪ ،‬والتفسير الدقيق للواقع‬ ‫يدعي‬ ‫مــن خــال هذه الصفحات اإللكترونية‪ ،‬أو مع أنه ّ‬ ‫محاولــة تزكيــة نفســه وفكــره ورأيــه ورؤيتــه مــن خــال‬ ‫هــذه الصفحــات‪ ...‬وكل هــذه األمــور الثالثــة –مجتمعة‬ ‫ال من‬ ‫أو منفــردة‪ -‬ال يمكــن تحقيقها تحقي ًقا‬ ‫رشــيدا وفاع ً‬ ‫ً‬ ‫خالل ُجب مدرسة الرأي الواحد‪.‬‬ ‫‪ -5‬التماهــي اإللكترونــي باالنســحاب التدريجــي‬ ‫الخفــي مــن الزمــان والمــكان من خــال االكتفــاء به عن‬ ‫ا تحقيق ذاته بذلك‪،‬‬ ‫المشــاركة الفاعلــة في الحياة متخيــ ً‬ ‫فيصبــح اإلنســان ‪-‬ذلك الكائن المركــب الرباني‪ -‬مجرد‬ ‫صفحة في موقع‪.‬‬

‫‪57‬‬


‫قضايا فكرة‬

‫د‪ .‬يحيى جاد*‬

‫مواقع التواصل االجتامعي والواقع‬ ‫مواقــع اإلنترنت بمختلف أشــكالها هي‬

‫لهــذه األفعــال‪ ،‬بيــن المعلومــات والعلــم والمعرفــة‪ ،‬بين‬

‫الحــوار‪ ،‬والتواصــل‪ ،‬وتبــادل الخبــرات‪،‬‬

‫الحقائق)‪ ،‬بين الوقائع والواقع‪.‬‬

‫إحــدى أدوات ‪-‬وليــس كل أدوات‪-‬‬

‫والمعلومــات‪ ،‬والــرؤى‪ ،‬وصناعــة المســتقبل‪ ...‬ومن ثم‬ ‫فهــي ال تنقــل لنــا الصورة كاملــة‪ ،‬وإنما تضع بيــن أيدينا‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ال‪ ،‬وإنما هي جزء‬ ‫جــزءا منهــا‪ .‬وهي ال ُتم ّثــل الواقع كام ً‬ ‫ً‬

‫‪56‬‬

‫غيِر وتتغير‪.‬‬ ‫منه تؤثر فيه وتتأثر به‪ ،‬ومن ثم ُت ّ‬

‫وصورتنــا عــن الواقــع إنمــا تتكــون عبــر عناصر هي‬

‫الذات‪ ،‬واألغيار (أو اآلخر بالتعبير الحديث)‪ ،‬واألفكار‪،‬‬ ‫واألفعال‪ ،‬والتفاعل بين المكونات السابقة‪.‬‬

‫ومــن ثــم يجب التفريق بيــن رصد األفعال وتفســيرنا‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحقائــق (أي الوقائــع) والحقيقــة (أي تفســيرنا لهــذه‬ ‫ور ْفع الواقع (أي رصده) يجب أن يكون بدقة وأمانة‬ ‫َ‬

‫قدر الطاقة‪ .‬بينما فهم الواقع (أي تفســيره‬ ‫وتتبع كاملين َ‬

‫وفقهه) يخضع للرؤية الكلية الحاكمة للذات‪ ،‬وللخلفية‬

‫المعرفية لها‪ ،‬ولمدى ذكاء وســعة أفق المرء في التحليل‬ ‫والتفكيــك والتركيــب لتفاصيــل الواقــع الســابق َر ْف ُعــه‪.‬‬ ‫وكل قــراءة فهــم‪ ،‬تفســير للواقــع يســتلزم بالضــرورة‬

‫تنحيــة بعــض الوقائــع المرصــودة (أي تصنيــف بعضهــا‬

‫على أنها هامشية غير أساسية)‪ ،‬حتى ُيتاح للمرء اكتشاف‬


‫قاطعــا مســافة تقــدر بـــ ‪ 18000‬كلــم‪ .‬وهــو يمــر عبر كل‬ ‫ً‬

‫خاصــة فــي أنظمتهــا البصريــة‪ ،‬تســمح بــإدراك الحقــول‬

‫طيرا‪،‬‬ ‫المتوســط على شــكل أســراب مكونة من ‪ً 80-60‬‬

‫مظللــة‪ .‬وعندمــا تمتــص العيــن الضوء تصبــح الخضاب‬

‫مــن إيــران وســوريا وليبيا وجنوب أوربــا والبحر األبيض‬

‫المغناطيســية لــأرض على شــكل أنماط خطيــة براقة أو‬

‫ويذهــب إلــى أوربــا ليفرخ هنــاك‪ ،‬كما ينتقــل من جنوب‬

‫ال في اإلشــارات العصبية‬ ‫ضعيفة‬ ‫تبد ً‬ ‫مغناطيســيا فتســبب ّ‬ ‫ًّ‬

‫فتتكاثر أقصى شمال أوربا وأمريكا‪ ،‬وتهاجر في الخريف‬

‫خاليا الدماغ تحتوي على بلوريات مادة ماغنتايت وهي‬

‫أفريقيــا والقطــب الجنوبي‪ .‬أما‬ ‫خرشــنة القطب الشــمالي‬ ‫َ‬

‫التي ترسلها العين إلى الدماغ‪ .‬وتقول النظريات أن بعض‬

‫إلــى أســتراليا وأفريقيــا‪ ،‬فتبقــى حتــى فبراير‪-‬أبريل وتعود‬

‫أوكسيد حديدي قادر على التقاط الحقول المغناطيسية‪.‬‬

‫وإيابا في السنة الواحدة‪.‬‬ ‫ذهابا‬ ‫ً‬ ‫‪ 35500‬كلم ً‬

‫البصــري اللتقــاط اتجاهــات البوصلــة؟ وتســتعمل مــادة‬

‫ال فــي رحلة فريــدة عجيبــة‪ ،‬تبلغ نحو‬ ‫إلــى موطنهــا شــما ً‬

‫فهــل تســتعمل الطيور المهاجرة إحساســها المغناطيســي‬

‫وتتأثــر الهجــرة بعوامل وراثية‪ ،‬فالطائر الشــادي يطير‬

‫أيضــا اللتقاط التبــدالت المحلية أو العالمية‬ ‫الماغنتايــت ً‬

‫مــن أوربــا الشــمالية إلــى وســط أفريقيــا وهــو يســتهلك‬

‫تســتطيع األكل أثنــاء طيرانهــا‪ ،‬فاتحــة أفواههــا لتلتهــم‬ ‫الحشــرات التــي تحملهــا تيــارات الهــواء‪ .‬لــذا فالفصائل‬

‫نســبيا‪ ،‬تكــون أقــل إرها ًقــا‬ ‫المهاجــرة لمســافات قصيــرة‬ ‫ًّ‬ ‫نهــارا‪ .‬أمــا طيور‬ ‫فــي مشــاكل التغذيــة‪ ،‬وعــادة مــا تهاجر‬ ‫ً‬

‫الشواطئ فتنجز هجرتها في أي وقت من النهار أو الليل‪.‬‬ ‫لقــد تم كشــف الكثير مــن آليات الهجــرة عبر أجهزة‬

‫المثبتــة فــي أعنــاق أو أرجــل الطيــور‪ ،‬ورصــد‬ ‫اإلرســال ُ‬

‫اإلشــارات الالســلكية الصــادرة عنهــا‪ ،‬وتتبــع مســاراتها‬ ‫مستقيمة أو ملتوية أو دائرية‪ .‬كما أن الفحص الدقيق لساعة‬ ‫جســم الطائر البيولوجية أكد أنها تعمل بشــكل مناســب‪،‬‬ ‫نهائيا كيــف أنها تحافظ علــى دقة الوقت‪.‬‬ ‫لكــن لــم يقــرر ًّ‬

‫كيــف "تعــرف" الطيــور المهاجــرة مســارها بعــد انطالقها‬

‫وخــال إيابهــا؟ هــل تعتمــد الهجرة على وســائل مالحية‬ ‫خارجية كمساعدة الضوء والشمس والنجوم؟ وهل تكون‬

‫وتفســير الطائــر لألمــواج المتكــررة المنخفضــة وعامــل‬ ‫الريــاح؟ وهــل تكــون قــادرة علــى تحديــد خطــوط القوة‬ ‫المغناطيســية مســاء كي تسمح باختيار مسارات طيرانها؟‬ ‫تشــير األبحــاث إلــى أنهــا قــد تملــك‬ ‫خضابــا وخاليا‬ ‫ً‬

‫الليالي المظلمة والغائمة؟ وهل هذا الخضاب الحساس‬ ‫أيضا في ظروف اإلضاءة الضعيفة؟‬ ‫للضوء يعمل ً‬

‫هنــاك مــا يقــرب من ‪ 10000‬نــوع من الطيــور تتباين‬

‫في طرق معيشتها وأشكالها وأحجامها‪ ،‬بداية من النعامة‬ ‫ال إلــى الطائر‬ ‫والتــي يصــل وزنهــا إلــى ‪ 150‬كجم‪ ،‬وصو ً‬ ‫الطنان (‪ 2.2‬جم) الذي يســتهلك في طيرانه طاقة كبيرة‪،‬‬

‫لــو أراد اإلنســان أن يقــوم بعملــه الحتــاج إلــى ‪ 13‬كجم‬ ‫يوميــا‪ ،‬وإفــراز ‪ 45‬لتــر من الماء في الســاعة‬ ‫مــن اللحــوم ًّ‬

‫ليحتفظ بحرارة جســمه تحت ‪ 100‬درجة مئوية‪ .‬للطيور‬ ‫خصوصا‪ ،‬أهمية كبــرى في منظومة‬ ‫عمومــا‪ ،‬والمهاجــرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التنــوع البيولوجــي لكوكبنــا ولحياتنــا‪ ،‬منظومــة تؤثــر فينا‬

‫سلبا‪.‬‬ ‫ونؤثر فيها‬ ‫ً‬ ‫إيجابا أو ً‬

‫ال من الكائنات‬ ‫كما هائ ً‬ ‫إذن‪ ،‬المتأمل في الكون يجد ًّ‬

‫والمشــاهد والمظاهــر تــدل ليس فقــط على نعمة‬ ‫الحيــة‪َ .‬‬ ‫اإليجــاد مــن عــدم (الخلــق) لمــا يزيــد عــن مليــون نــوع‬ ‫مــن الكائنــات الحيــة ومنهــا الطيــر‪ ،‬متنوعــة الصفــات‬

‫والخصائص والوظائف والتراكيب واألشكال واأللوان‪،‬‬ ‫أيضا على هداية‪ ،‬وإرشــاد‪ ،‬وتســخير‪ ،‬ورزق‪ ،‬وتعليم‬ ‫بل ً‬

‫اهلل تعالــى لهــا كي تــؤدي دورها ووظيفتهــا‪ ،‬وتنال رزقها‬ ‫دوما‪.‬‬ ‫وتتواصل فيما بينها على الوجه األنسب واألفضل ً‬

‫(*) كاتب وأكاديمي ‪ /‬مصر‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫متأثرة بتبدالت وتنوعات المجال المغناطيســي لألرض‪،‬‬

‫المزدوج يفسر لماذا تتمكن بعض الطيور من المالحة في‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كميــات كبيرة من الطاقة‪ ،‬وتســتغرق رحلته حوالي أربعة‬ ‫ٍ‬ ‫وليال طيرا ًنا‬ ‫أيام‬ ‫كثيرا من الطير ترتاح أثناء‬ ‫ًّ‬ ‫مستمرا‪ .‬لكن ً‬ ‫نهارا‪ ،‬ألن التغذية أسهل‬ ‫الطريق؛ إذ تطير مساء وتتوقف ً‬ ‫تتجنب سباع الطير في المساء‪ .‬لكن بعض‬ ‫نهارا‪ ،‬كما أنها ّ‬ ‫ً‬ ‫المهاجــرة‬ ‫الصغيــرة‬ ‫الطيــور‬ ‫نهــارا كالســنونو والعندليب‪،‬‬ ‫ً‬

‫فــي الحقــول المغناطيســية؟ وهــل هــذا النظــام المالحــي‬

‫‪55‬‬


‫وتم تقســيم العالم لثالثة أنظمة هجرة رئيسة منفصلة‬

‫هجرة الطيور‬

‫بحدود جغرافية؛ فاألول طريق الهجرة في العالم الجديد‪،‬‬

‫علميا‬ ‫تفســيرا‬ ‫تبقــي صعوبــة الطيــران وصعوبــة تفســيرها‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫أمــا اآلخــر فهــو األوراســي األفريقــي‪ ،‬والنظام اآلســيوي‬

‫شافيا‪ُ ،‬يلقيان بظاللهما على هذه األعجوبة من أعاجيب‬ ‫ً‬

‫الشــرقي‪ ،‬اآلسيوي الجنوبي‪ ،‬األسترالي‪ .‬وتشكل العديد‬

‫الطيــر‪ .‬وال يقاربهــا فــي اإلبهــار والروعــة إال أعجوبــة‬

‫مــن المناطــق والبحيرات والمحميــات الطبيعية في دولنا‬

‫هجــرة الطيــور‪ .‬وبخاصــة في التزامهــا ‪-‬والتــزام أفراخها‬

‫آمنا للطيور المهاجــرة والمتوطنة كذلك‪،‬‬ ‫العربيــة‪،‬‬ ‫معبــرا ً‬ ‫ً‬

‫وإيابا‪ -‬ال‬ ‫بعد‪ -‬بمســارات طويلــة ومحددة‬ ‫فيمــا ُ‬ ‫ذهابــا ً‬‫ً‬

‫تمكنها من االســتراحة فيها‬ ‫كمــا أنهــا تمتلك مواقع عدة ّ‬

‫تضل عنها‪ .‬ولفتت هذه األعجوبة نظر اإلنسان منذ قديم‬

‫خالل هجرتها‪ .‬الطيور المهاجرة تمثل "شاهد عيان" على‬

‫الزمان‪ ،‬فوجد على أحد الشواهد األثرية ما يفيد وصول‬

‫أحوال اســتخدام األراضي‪ ،‬واســتثمار المــوارد الطبيعية‪،‬‬

‫سنويا‪ .‬وكان‬ ‫"الكراكي" إلى ّبر مصر في ميعادها المحدد‬ ‫ًّ‬

‫ولهــا منافعهــا وأثرهــا فــي تلقيــح النباتات‪ ،‬ونثــر البذور‪،‬‬

‫المصريــون القدمــاء إذا ســمعوا صوتها يبــدؤون في إلقاء‬

‫وحفظ التوازن األيكولوجي وخدمة اإلنسان وبيئته‪.‬‬

‫البذور في األرض‪.‬‬

‫وحدي ًثا يحتفل العالم يومي ‪ 15-14‬من مايو من كل‬

‫آليات الهجرة‬

‫عــام‪ ،‬باليــوم العالمي للطيور المهاجــرة (أكبر المهاجرين‬

‫الهجــرة أمــر فطــري عنــد الطيــر‪ .‬وبالرغم من تأثــر الطير‬

‫في الكائنات الحية)‪ ،‬وهي مناسبة للتوعية بأهميتها‪ ،‬حيث‬

‫بالظــروف الخارجيــة‪ ،‬إال أنهــا تملــك آليــات داخليــة‪،‬‬

‫إنها ُتشكل ُخمس أنواع الطيور المعروفة‪ .‬وكذلك العمل‬

‫االنقــراض‪ ،‬مــع العمل على إنشــاء المحميات البيئية في‬

‫المواطــن والموائل التي ترتادهــا الطيور المهاجرة (قرابة‬ ‫سنويا)‪.‬‬ ‫خمسين بليون طائر ُمهاجر‬ ‫ًّ‬

‫األعشاش‪ ،‬تهاجر الطيور لبيئات أفضل‪ ،‬وتبقى فيها حتى‬ ‫يعــود النهــار ليصبح أطــول‪ ،‬ويتوافر الغذاء بشــكل أكبر‪،‬‬

‫ال في موطنها فتعود له لتهاجر ثانية‬ ‫ويصبح الطقس مقبو ً‬

‫تهاجــر هــذه الطيــور لمســافات هائلــة‪ ،‬ثــم تعــود‬

‫آلالف الكيلومترات‪ ،‬مقتفية أثر أجدادها في رحلة شاقة‬

‫العديد من آكلة الحشرات تتحول إلى أكل التوت الغني‬

‫وخطيــرة‪ .‬وتوجــد اختالفات عديدة ‪-‬عامة وخاصة‪ -‬في‬ ‫عــادات الهجــرة وأنماطهــا وطرقهــا ومســاراتها وطريقــة‬

‫طيرانها وإســتراتيجية هجرتها‪ ...‬فترحل الطيور الصغيرة‬ ‫التــي يقــل وزنهــا عــن ‪ 15‬جــم‪ ،‬مــن جنــوب أوربــا إلــى‬

‫ال إلــى خط الســاحل األفريقي‬ ‫الصحــراء الكبــرى‪ ،‬وصــو ً‬

‫والسودان‪ ،‬في رحلة تزيد على ألفي كيلومتر‪ ،‬تقطعها في‬

‫يوميــن دون أكل أو شــرب‪ ،‬و ُتح ّلــق فيهــا على ارتفاعات‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ــح الغذاء‪ ،‬وألجل التكاثر ووضع‬ ‫فقبل موســم البرد ُ‬ ‫وش ّ‬

‫فــي العــام التالــي‪ .‬وثمــة تحضيــرات قبل الهجــرة‪ ،‬كدعم‬

‫أدراجهــا بعــد بضعــة أشــهر قاطعة مســافات طويلــة تمتد‬

‫‪54‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يعرضها لخطر‬ ‫على حمايتها ومواجهة ما يعيق بقاءها أو ّ‬

‫هرمونيــا تنبههــا قبــل أشــهر إلــى وقــت الهجرة‪.‬‬ ‫ونشــاطا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬

‫شاهقة‪ .‬أما الطيور الكبيرة‪ ،‬مثل الحدأة‪ ،‬واللقلق األبيض‪،‬‬

‫تحديــدا‪ ،‬وظروفهــا أصعــب؛ فهــي أثقل‬ ‫فمســاراتها أكثــر‬ ‫ً‬ ‫بطئــا‪ ،‬وتطير على علو منخفــض‪ ،‬وال تح ّلق‬ ‫وز ًنــا وأكثــر ً‬

‫فوق البحر‪ ،‬وتتحرك من أوربا في مجموعات كبيرة إلى‬ ‫مناطق "عنق الزجاجة" أو المضائق البحرية كجبل طارق‪،‬‬

‫جنوبا‪.‬‬ ‫و"باب المندب"‪ ،‬و"البوسفور"‪ ،‬لتستطيع عبورها‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مخــزون دهــون الجســم لتأميــن الطاقــة الكافيــة‪ ،‬كمــا أن‬

‫بالســكر لدعــم هــذا المخــزون‪ .‬وتحتــاج طيــور اللقالق‪،‬‬ ‫والكراكي إلى تيارات الهواء الدافئ لطيرانها‪.‬‬

‫وأوضحــت دراســة أمريكيــة ‪-‬نشــرت فــي مجلــة‬

‫"بروســيدينجس بــي" للجمعيــة الملكيــة البريطانيــة‪ -‬أن‬ ‫طائر الليموزية صاحب المنقار الطويل (شــبيه بالكروان)‬ ‫قياســيا فــي الطيــران؛ فقطــع هــذا "الرفــراف‬ ‫رقمــا‬ ‫ّ‬ ‫حطــم ً‬ ‫ًّ‬

‫الجميــل" مســافة ‪ 11700‬كلــم فــوق المحيــط الهــادي‬

‫(مــن أالســكا إلى نيوزيلندا) في تســعة أيــام بال توقف أو‬ ‫اســتراحة أو طعــام‪ .‬وكان الكروان األوربي ‪-‬يعيش على‬

‫الحــدود بيــن أوربــا وآســيا‪ -‬صاحب رقم قياســي ســابق‬ ‫تقريبا في‬ ‫للطيران بال توقف‪ ،‬إذ قطع مسافة ‪ 6500‬كلم‬ ‫ً‬ ‫‪ 5-3‬أيــام بين أســتراليا والصيــن‪ .‬ويهاجر "خطاف البحر‬ ‫القطبــي" (الســنونو) نهايــة الصيــف إلى القطــب الجنوبي‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬ناصر أحمد سنه*‬

‫الطيور املهاجرة‬ ‫تخضع الطيور في قوة طيرانها أو ضعفه‪ ،‬لشكل جناحيها ومساحته‪ ،‬ولشدة عضالتها‬ ‫الصدرية وتناســب ثقل الجســم‪ .‬وإن للذيل مهمة كبرى في تغيير االتجاه حســب رغبة‬ ‫الطائــر ووجهتــه‪ ،‬كمــا ُي ِعين الطير على هذه العملية "الشــاقة" عظام خفيفة جوفاء بالغة‬ ‫صدرهــا بتركيبه العضــوي العجيب‪ ،‬وتكوين‬ ‫القــوة والمرونــة‪ ،‬واتســاع محيــط التنفــس الذي يتيحه لها‬ ‫ُ‬ ‫رئتيها اإلســفنجية التركيب‪ ،‬وشــعبها الهوائية المتعددة‪ ،‬وأكياســها الهوائية المتصلة بها‪ ...‬لتساعد كلها‬ ‫ال عن مساهمتها في خفة وزن الطائر‪.‬‬ ‫على حسن كفاءة تبادل الغازات فض ً‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪53‬‬


‫جميع أحواله إال قطعة واحدة‪ .‬وأما العجز مع العجب‬

‫دورات الحقــل‪ ،‬بمــا يحقــق أكبر إنتــاج بخصوبة األرض‬

‫واحــدا‪ ،‬واعتبرته بــكل وجه من االعتبــار فوجدته‬ ‫عظمــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫البغدادي وعالج السكر‬

‫ذكــر جالينــوس أنــه مؤلــف مــن ســتة أعظــم‪ ،‬ووجدته أنا‬

‫من جودة التوزيع والتنويع‪.‬‬

‫واحــدا‪ ،‬ثــم إنــي اعتبرتــه فــي جثة أخــرى فوجدته‬ ‫عظمــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫يذكــر لنا "بــول غليونجي" أن عبد اللطيف البغدادي كان‬

‫ســتة أعظم كما قال جالينوس‪ ،‬وكذلك وجدته في ســائر‬

‫له فضل الريادة في معرفة داء الســكري وإن كان الفضل‬

‫الجثث على ما قال إال في جثتين فقط‪ ،‬فإني وجدته فيهما‬

‫فــي اكتشــافه يرجــع إلى علماء الصيــن؛ وذلك في القرن‬

‫واحدا‪ ،‬وهو في الجميع موثق المفاصل‪ ،‬ولســت‬ ‫عظما‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الثالث الميالدي عندما الحظوا أن حالوة البول تجتذب‬

‫واث ًقــا بذلــك كمــا أنا واثق باتحــاد عظم الفك األســفل"‪.‬‬

‫الــكالب‪ .‬ثــم درس علمــاء الهنــد هــذا الموضوع دراســة‬

‫ا‪" :‬لقــد اســتمر‬ ‫ويعلــق الدكتــور بــول غليونجــي قائــ ً‬

‫وسموا المرض "بول‬ ‫دقيقة في القرن السادس الميالدي‪ّ ،‬‬

‫ا‪ ،‬فقــد أخــذ‬ ‫زمنــا طويــ ً‬ ‫جالينــوس فــي "عظمتــي" الفــك ً‬

‫العســل" لحالوة هذا الســائل ولزاجته‪ .‬أما علماء العرب‬

‫برأيه ابن سينا عند وصفه تشريح عظام الفكين‪ ،‬واستمر‬

‫عرفــوا أعراضــه ومنهــم العالمة‬ ‫والمســلمين فهــم الذيــن ّ‬

‫ســائدا حتــى بعــد عبــد اللطيــف إلــى أن أعاد‬ ‫هــذا الــرأي‬ ‫ً‬

‫عبد اللطيف البغدادي الذي قال‪ :‬من أعراضه استرســال‬

‫نقــده عمــاق التشــريح "فييزاليــوس" (‪ )Vesalius‬في القرن‬

‫البول (كثرة البول)‪ ،‬العطش الشديد (نتيجة لكثرة البول)‪،‬‬

‫السادس عشر‪.‬‬

‫ويعرض للبدن هزال وجفوف‪.‬‬

‫ونالحظ هنا أن المشــاهدة والمالحظة الدقيقة كانت‬

‫العلم الذي كان يتقدم على يد المسلمين على استحياء‪،‬‬ ‫نظرا لتحرج كثير من الفقهاء من عمليات التشريح‪ ،‬خاصة‬ ‫ً‬

‫وأن للجسم البشري كرامته الوافرة في المنظور اإلسالمي‪.‬‬ ‫وقــد كانــت المالحظــة اإلكلينيكيــة التــي تقــوم علــى‬

‫تتبــع أحــوال المرضي في البيمارســتان أو في غيره‪ ،‬هي‬ ‫أهــم أنــواع المالحظــة عند األطبــاء العرب والمســلمين‪،‬‬ ‫يقــول البغدادي‪" :‬وقــد ينبغي أن تجعل نظرك في جميع‬

‫ال إلى وجه‬ ‫األمــراض الحــادة على هذا الطريق‪ ،‬انظــر أو ً‬

‫المريض هل يشبه وجوه األصحاء؟ وخاصة هل يشبه ما‬ ‫كان عليه؟ فإنه إذا كان كذلك فهو على أفضل حاالته‪ .‬فأما‬

‫الوجه الذي هو من المضادة لذلك الوجه‪ ،‬أشبه في الغاية‬

‫بما كان عليه فهو أردأ الوجوه"‪ .‬وهذا الذي يقوله في كتابه‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫"تقدمــة المعرفــة" يؤكــده في كتــاب "اإلفــادة واالعتبار"‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫مشــهورا في‬ ‫جليــا أن البغدادي ليس فقط‬ ‫ً‬ ‫ويظهــر لنــا ًّ‬

‫الطب والتشريح‪ ،‬ولكنه من المتضلعين في علم النبات‪،‬‬

‫فقد أثبت أن اطالعه عميق في مختلف العلوم الطبيعية‪.‬‬ ‫يقــول عبــد الــرزاق نوفل بــأن البغدادي يتالقــى مع أكبر‬

‫علمــاء النبــات فــي العصــر الحديــث بدقة وصفــه وبراعة‬ ‫التعبير وحسن المشاهدة‪ ،‬ومع علماء الزراعة في تنظيم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هي ســند البغدادي في تســجيله لحقائق التشــريح‪ ،‬ذلك‬

‫ويذكر "عبد الكريم شحاته" في مؤلفه عن البغدادي‪،‬‬

‫أن األقدمين كانوا يجهلون أن قصور البنكرياس في إفراز‬ ‫األنسولين هو سبب السكر وإن كان البغدادي تكلم عن‬

‫معالجــة الســكر واألدويــة المختلفة التــي تنفع فيه‪ ،‬وعن‬ ‫التغذيــة والحميــة‪ ،‬وينصــح بوجوب الخلود إلــى الراحة‬

‫النفسية بقدر اإلمكان‪ .‬هذا وإنا نرى البغدادي يحلق في‬

‫التسلسل المنطقي في تعريفه ووصفه للعالمات السريرية‬

‫لــداء الســكري (‪)Diabetes‬‬ ‫اعتمادا علــى المالحظة العلمية‬ ‫ً‬

‫الدقيقــة رغــم عدم توفــر المعلومات الكيمائيــة والحيوية‬ ‫والفيزيولوجية التي نملكها اآلن‪.‬‬

‫(*) رئيــس قســم الفلســفة واالجتمــاع‪ ،‬كليــة التربية‪ ،‬جامعة عين شــمس‬ ‫‪ /‬مصر‪.‬‬

‫المراجع‬ ‫(‪ )1‬عيــون األنبــاء فــي طبقــات األطباء‪ ،‬البــن أبي أصيبعــة‪ ،‬ج‪ ،2‬بيروت‬ ‫‪.1968‬‬ ‫(‪ )2‬دور العرب في تكوين الفكر األوربي‪ ،‬لعبد الرحمن بدوي‪ ،‬األنجلو‬ ‫المصرية ‪.1967‬‬ ‫(‪ )3‬أضــواء علــى الطبيــب العربــي عبــد اللطيــف البغدادي‪ ،‬لعبــد الكريم‬ ‫شحاته‪ ،‬بيروت ‪.1985‬‬


‫عبد اللطيــف البغدادي كان له فضــل الريادة يف‬

‫وطبيعة األرض‪.‬‬

‫معرفــة داء الســكري‪ ،‬إنــه يحلق يف التسلســل‬

‫ويذكــر المستشــرق "ماكــس مايرهــوف" فــي "تــراث‬

‫املنطقي يف تعريفه ووصفه للعالمات الرسيرية‬

‫اإلســام"‪ ،‬أن البغــدادي رحــل مــن بغــداد إلــى القاهــرة‬

‫اعتــادا عىل املالحظــة العلمية‬ ‫لداء الســكري‬ ‫ً‬

‫ليــرى كبار العلماء وأرض مصر‪ ،‬كما وصف المجاعات‬

‫الدقيقــة رغم عــدم توفر املعلومــات الكيامئية‬

‫والــزالزل التــي حدثــت فيها‪ .‬وقــدم البغــدادي معلومات‬

‫والحيوية والفيزيولوجية التي منلكها اآلن‪.‬‬

‫نفيسة عن خواص العظام بعد دراسة لها في مقبرة قديمة‬

‫ــف‬ ‫وص َ‬ ‫تقــع شــمال غربــي القاهــرة‪ ،‬وراجــع وصحــح ْ‬ ‫جالينوس لعظم الفك األسفل وعظم العجز‪.‬‬

‫علــى المتعلــم بثالثــة أوجــه؛ األول أن يجتنــب اللفــظ‬

‫ولــم يبــق مــن مؤلفــات البغــدادي إال بعــض الكتــب‬

‫الوحشــي والملبــس والمغلط ويجتهــد أن يصور المعنى‬

‫القليلة‪ ،‬منها الكتاب السابق في وصف مصر‪ ،‬ومخطوطته‬

‫فــي نفس المتعلم بغايــة اإلمكان‪ ،‬والثاني أن يثبت الرأي‬

‫في مكتبة البودليان في أكسفورد وقد ترجم إلى األلمانية‬

‫بالحجــج الممكنــة واألدلة الواضحــة‪ ،‬والثالث أن يرتب‬

‫عــام ‪1790‬م‪ ،‬وإلــى الفرنســية عــام ‪1810‬م‪ ،‬وإلــى‬

‫ترتيبا يسهل حفظه وال يصعب ضبطه"‪.‬‬ ‫الموضوع ً‬

‫اإلنجليزيــة عــام ‪1964‬م‪ .‬وهناك كتاب "مــا بعد الطبيعة"‬

‫ولــم يكن البغدادي هنا يقدم صياغة نظرية فحســب‪،‬‬

‫الــذي ذكــره الدكتــور عبــد الرحمــن بــدوي‪ ،‬وفــي مكتبــة‬

‫عمليــا لما قام به بالفعل في شــرحه‪،‬‬ ‫وإنمــا يحــدد طري ًقــا‬ ‫ًّ‬

‫حكمــة تيمــور نســخة منه‪ ،‬وفي إســطنبول نســخة أخرى‪،‬‬ ‫مكتبــة األســكوريال‪ .‬وقد قدم الدكتــور "بول غليونجي"‪،‬‬

‫وقدما قائمة‬ ‫وســعيد عبده لها في مقالتهما في الحواس‪ّ ،‬‬

‫بمؤلفات البغدادي تصل إلى سبعة وستين كتاب ومقالة‪.‬‬

‫اتجاهه النقدي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وكتــاب "مقالــة فــي الحــواس والمســائل الطبيعيــة" فــي‬

‫فنــراه يحــرص كل الحــرص علــى تقديــم آراء الســابقين‬

‫ورأي العلمــاء فيهــا‪ ،‬وتحليلهــا ونقدهــا وتصحيح ما بها‬ ‫مــن أغــاط‪ .‬وقد تجلــت هذه النزعة النقدية ‪-‬حســب ما‬ ‫يذكــر الدكتــور بول غليونجي في تقديمــه لمقالة "اإلفادة‬

‫واالعتبــار"‪ -‬فــي أعمــال عبــد اللطيــف البغدادي بشــكل‬

‫بــارز‪ ،‬فهــو فــي معــرض حديثــه عــن آثــار مصــر واعتقاد‬

‫لقد اشــتهر موفق الدين عبد اللطيف البغدادي باســتقالله‬

‫العوام المعاصرين له في ضخامة أجســام الفراعنة‪ ،‬ينتقد‬

‫والمســلمين مــن آراء علمــاء اليونان‪ ،‬مثــل جالينوس في‬

‫ا العتقاد العوام فيقول‪" :‬وإذا رأى اللبيب‬ ‫ثــم يقدم تعليــ ً‬

‫فــي الــرأي‪ ،‬فــكان ال يأخــذ بمــا ســ ّلم بــه علمــاء العــرب‬ ‫الطب‪ ،‬وديسقوريدس في علم النبات‪ ،‬وأرسطو في علم‬ ‫الحيــوان وغيرهــم‪ ،‬إال باالســتناد إلى المالحظــة العلمية‬

‫الدقيقــة والبرهــان العلمــي الواضــح‪ .‬لقــد نهــج منهــج‬

‫ابــن الهيثــم وابــن ســينا فــي اعتمادهمــا علــى المشــاهدة‬ ‫يقدم لنا فكرة جيدة‬ ‫واالســتقراء وتحري الحقيقــة‪ ،‬حيث ّ‬

‫واضحــة عــن الطــرق التي كانوا يتبعونهــا إليجاد أدلة في‬ ‫الرأي يؤيدون بها ما يقرؤون من الكتب‪.‬‬

‫هــذه الفكرة العاميــة برجوعه إلى المومياوات الفرعونية‪،‬‬ ‫هــذه اآلثــار (يقصــد التماثيــل الضخمــة للفراعنــة) عــذر‬ ‫العــوام فــي اعتقادهــم عــن األوائــل بــأن أعمارهــم كانت‬

‫طويلــة وأجســامهم عظيمــة‪ ،‬أو أنهــم كان لهــم عصــا إذا‬ ‫ضربوا بها الحجر سعى بين أيديهم"‪.‬‬

‫أما فيما يخص الطب والتشريح‪ ،‬فينتقد البغدادي ما‬

‫ذهب إليه جالينوس في تركيب العظام‪ .‬وهو يمهد لنقده‬

‫ولننظر إلى المقدمة المنهجية التي وضعها البغدادي‬

‫مــن عشــرين ألــف جثــة"‪ ،‬ومدافــن بوصير‪ ،‬يقــول‪)...(" :‬‬

‫الشــرح هــي "وضــع كتــاب علمــي علــى جهــة معدلــة"‪،‬‬

‫فوجدته على ما حكيت‪ ،‬ليس فيه مفصل وال درز‪ ،‬ومن‬

‫في بداية شرحه على "تقدمة المعرفة"‪ ،‬نجده اعتبر عملية‬ ‫يقول البغدادي في كتابه "شــرح تقدمة المعرفة"‪" :‬إن كل‬

‫واضــع كتــاب علمــي على جهــة معدلة‪ ،‬فقصده تســهيله‬

‫أيضا بمدافن بوصير القديمة‬ ‫ثــم إني اعتبرت هــذا العظم ً‬ ‫شــأن الــدروز الخفية والمفاصــل الوثيقة إذا تقــادم عليها‬ ‫الزمان أن تظهر وتتفرق‪ ،‬وهذا الفك األسفل ال يوجد في‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫باإلشارة إلى أنه اعتمد على مشاهدة "تل من الجثث يقرب‬

‫‪51‬‬


‫مســتفهما عــن الحقيقة‪.‬‬ ‫منقبا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يســخر عينيــه وعقلــه باح ًثــا ً‬

‫واإلســامية‪ ،‬وكان يحمــل معــه مــن الكتــب ما اســتطاع‪،‬‬

‫الكبير "جورج سارتون"‪ ،‬حيث مدحه في كتابه "المدخل‬

‫ويجمــع المؤرخــون والمترجمون على أن البغدادي‬

‫الســهل واضح األفكار‪ .‬فالبغدادي عالم فذ‪ ،‬ومن أعظم‬

‫عالمــا باللغــة والفقه والتاريخ والفلســفة‬ ‫المعرفــة‪ ،‬وكان ً‬

‫غريبا أن يعجــب به مــؤرخ العلم‬ ‫ومــن هنــا لــم يكــن ً‬

‫ويضيف ويكمل ما ابتدأ به أنى حل وأقام‪.‬‬

‫كان شديد الذكاء‪ ،‬سريع الحفظ‪ ،‬واسع االطالع‪ ،‬غزير‬

‫إلــى تاريــخ العلــوم"‪ ،‬وذكــر أنه يمتــاز عن غيره بأســلوبه‬ ‫الموهوبين في عصره‪ ،‬وقد ســاهم مســاهمة ملحوظة في‬

‫والطب والنبات‪ ،‬كما كان كثير التأليف‪ ،‬خصب اإلنتاج‪،‬‬

‫جميع فروع المعرفة‪ ،‬إذ إنه من العلماء الذين ال يؤمنون‬

‫كتبــا كثيــرة فــي الطــب والنحــو والمنطــق‬ ‫ألــف وصنــف ً‬

‫تماما إلى المشاهدة والتجربة‬ ‫بالرواية المتناقلة‪ ،‬بل يميل ً‬

‫وأصول الدين والحيوان والنبات‪ ،‬وشرح وفسر واختصر‬

‫كثيــرا مــن الكتــب لألقدمين‪ .‬وكان كثير االعتداد بنفســه‪،‬‬ ‫ً‬

‫العلمية‪ ،‬لكي يصل إلى النتائج الصحيحة‪.‬‬

‫جريئا‪ ،‬الذع النقد‪.‬‬ ‫صريحا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫نشأته ورحالته العلمية‬

‫يقــول ابــن أبــي أصيبعــة بــأن البغــدادي تربــى فــي حجــر‬

‫مؤلفاته‬

‫وأكثــر زمانــه منصــرف إلى ســماع الحديــث‪ ،‬وأخذت له‬

‫العصور اإلسالمية" أن البغدادي اختصر كتاب "األدوية"‬

‫الشيخ أبي نجيب السهروردي‪ ،‬ال يعرف اللعب واللهو‪،‬‬

‫يذكــر "عمــر رضــا كحالــة" فــي كتابــه "العلــوم البحتة في‬

‫إجازات العلم من شيوخ بغداد وخراسان والشام ومصر‪.‬‬

‫المفــردة لــ"ابــن وافــد" وعلــق عليــه‪ ،‬كمــا أوجــز كتــاب‬

‫ولمــا ترعــرع‪ ،‬حمله أبوه إلى "كمــال الدين عبد الرحمن‬

‫كثيرا من الكتب والمؤلفات التي‬ ‫العلوم‪ .‬ويورد البغدادي ً‬ ‫حفظهــا وفهمــا مثل "اللمع" و"أدب الكاتب" البن قتيبة‪،‬‬

‫أيضا‪ ،‬و"اإليضاح"‬ ‫و"مشكل القرآن" و"غريب القرآن" له ً‬

‫ألبــي علــي الفارســي وشــروحه‪ ،‬و"المقتضــب" للمبــرد‪،‬‬

‫ومؤلفــات األنبــاري والتــي تبلــغ أكثــر من مائــة وثالثين‬ ‫مؤل ًفــا أكثرهــا فــي النحــو واللغــة واألصــول والتصــوف‬ ‫وكتــب ســيبويه‪ ،‬و"األصــول" البــن الســراج‪،‬‬ ‫والزهــد‪ُ ،‬‬

‫و"الفرائــض" و"العــروض" للخطيب التبريــزي‪ ،‬و"معاني‬ ‫للزجــاج‪ .‬ثــم أتــى علــى كتــب "جابر بــن حيان"‬ ‫القــرآن" ّ‬ ‫وكتــب "ابن وحشــية"‪ ،‬ثم مؤلفــات اإلمام‬ ‫فــي الكيميــاء‪ُ ،‬‬ ‫الغزالــي "المقاصــد" و"معيــار العلــم" و"ميــزان العمــل"‬ ‫وغيرهــا‪ ،‬حتــى إذا فــرغ من الغزالي‪ ،‬انتقــل إلى ُكتب ابن‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫بدءا من "النجاة" وانتهاء بـ"الشفاء"‪.‬‬ ‫سينا صغارها وكبارها ً‬

‫‪50‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫كثيرا من‬ ‫األنبــاري (ت ‪577‬هـــ)‬ ‫ِ‬ ‫شــيخ بغداد‪ ،‬فتلقــى عنه ً‬

‫"النبــات" لـ"أبــي حنيفــة الدينــوري"‪ ،‬وعلــق وشــرح على‬ ‫كتــاب "ديســقوريدس" فــي صفــات الحشــائش‪ ،‬ومقالــه‬

‫فــي النخــل‪ ،‬كمــا ذكر تفاصيل ما شــاهده مــن نبات مصر‬ ‫وشرح بعضه وعلق عليه‪.‬‬

‫وهنا يجب أال ننسى دور البغدادي في علمي النبات‬

‫والصيدلة‪ .‬فهو من كبار الصيادلة المسلمين والمعتمدين‬ ‫في استخراج عقاقيرهم من النباتات التي تجود بها البيئة‪،‬‬

‫ومــن الذيــن عرفوا األعشــاب وخصائصهــا الطبية‪ .‬فكان‬ ‫فــي عصرهــم الطبيــب هــو النباتــي‪ ،‬والنباتي هــو الطبيب‬

‫لقرب الصلة بين المهنتين‪ .‬كما كان البغدادي من العلماء‬

‫الذيــن يؤمنون بضرورة الزيــارات للعلماء المتخصصين‪،‬‬ ‫كــي يتمكنــوا مــن تبــادل الخبــرة والمعلومــات التــي ال‬ ‫يســتطيعون تقديمهــا بالمراســلة‪ ،‬ويعتــرف بــأن المناقشــة‬

‫جــدا‪ ،‬بــل ال غنى عنهــا للباحث في أحد‬ ‫الشــفوية مفيــدة ًّ‬

‫مجــاالت المعرفــة‪ ،‬فــا تكفــي قــراءة الكتــب وكراريــس‬

‫كثيــرا مــن المــدن اإلســامية‬ ‫لقــد زار البغــدادي‬ ‫ً‬ ‫المشــهورة بعلمائهــا مثــل الموصــل ودمشــق والقاهــرة‬

‫للنبــات في مختلف بقاع العالم‪ ،‬فإنتاجه العلمي متكامل‬

‫حقــل الطــب‪،‬‬ ‫درس فــي األزهــر الشــريف‬ ‫َ‬ ‫كثيــرا منهــم‪ّ .‬‬ ‫ً‬

‫وقــد اشــتهر البغدادي بمؤلفــه "اإلفــادة واالعتبار في‬

‫والقــدس‪ ،‬كــي يتتلمذ علــى كبار العلماء هنــاك ويجالس‬ ‫وتفنــن فــي هذا المجال حتى صــار من كبار األطباء‪ .‬لقد‬ ‫كان البغــدادي كثير الترحال بيــن مختلف البلدان العربية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫دونوا مشــاهداتهم‬ ‫العلــم‪ .‬لــذا نجــد البغدادي مــن الذين ّ‬ ‫من الناحتين النظرية والتجريبية‪.‬‬

‫األمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" الذي‬ ‫وصــف فيــه أرض مصــر مــن حيــث الســكان والحيــوان‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫عبد اللطيف البغدادي‬ ‫عامل موسوعي وطبيب حكيم‬

‫يعتبر مو ّفق الدين عبد اللطيف البغدادي (ت ‪629‬هـ‪1231/‬م) من العقول الممتازة في‬ ‫تاريــخ الفكــر العربــي واإلســامي‪ ،‬جمع بين التحصيل الوافــر الدقيق لكل من العلوم‬

‫المعروفة في عصره‪ ،‬وبين أصالة الفكر ودقة المنهج العلمي‪ ،‬والقدرة على النفوذ إلى‬

‫جوهــر المشــكالت العلميــة‪ .‬فقد أتقن علــوم العربية حتى صار من أعالم النحاة‪،‬‬ ‫وحدث فتخرج على‬ ‫ّ‬

‫يده نفر من المحدثين‪ ،‬وفاض في علوم البالغة فكان له فيها مؤلفات عديدة‪ .‬لكن هذا الجانب الفقهي‬

‫الخالص كان ‪-‬مع ذلك‪ -‬أضعف جوانبه‪ ،‬إنما قيمته ‪-‬كل القيمة‪ -‬في العلوم العقلية كما كانت تسمى‬ ‫آنــذاك؛ فــي الفلســفة والجغرافيــا‪ ،‬والطــب والنبات‪ .‬وأبــرز ما له في الفلســفة‪ ،‬أبحاثه فــي المنطق التي‬ ‫ال‬ ‫علما وعم ً‬ ‫تنبــه فيهــا إلــى كبريات المشــكالت المنطقية فأفرد لها الرســائل‪ .‬أما الطب فكان يمارســه ً‬ ‫في المالحظة والتشخيص والكشف عن األسباب والعالمات‪.‬‬

‫"إن ما تراه أعيننا أصدق بكثير مما نقرأه"‪ ،‬قال هذه الجملة ‪-‬التي إن دلت على شيء فإنما تدل على‬

‫عقلية ناقدة‪ -‬طبيب وعالمة من أصفياء صالح الدين‪ ،‬وهو عبد اللطيف البغدادي الذي أمضى حياته‬

‫ال في كل مدن إمبراطورية المشــرق‪ ،‬وع ّلم في مدارســها العالية‪ .‬وكان أينما ذهب وحط الرحال‪،‬‬ ‫متنق ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ال عن أصالة المنهج‬ ‫وتعليمــا‪ ،‬ولــه فيه الدراســات الوافرة والمختصــرات المفيدة لمتع ّلمي الطب‪ ،‬فض ً‬ ‫ً‬

‫‪49‬‬


‫"س ْبحـــان" و"أرارات"‬ ‫نشــدان أزلي شامخ شموخ‬ ‫ِ‬ ‫الجبل ُ‬

‫للحرية المستندة إلى الشريعة الغراء‪.‬‬

‫تلــك إذن هــي مالمــح ومضيــة مــن إشــراقات لمــع‬

‫العالمــة بديــع الــذي ال يخلــو أســلوبه العلمــي واألدبــي‬

‫الروحانــي مــن البديع في بليغ رســائله المســتنيرة‪ ،‬التي‬ ‫احتســبها لخــاص البشــرية مــن نكباتهــا ومتردياتها بقيم‬

‫حرية تكريمية ال تتجزأ في عالم المحراب الكبير بحيث‬

‫ال يرضــى فيها أي إنســان‪ ،‬تحقق انعتاقــه بعقيدة التوحيد‬ ‫حــرا فــي مجتمــع العبيــد‪ ،‬كمــا ال‬ ‫الصحيــح "أن يكــون ًّ‬ ‫عبدا في مجتمع األحرار"‪.‬‬ ‫يرضى أن يكون ً‬

‫(*) كليــة أصــول الديــن والشــريعة اإلســامية‪ ،‬جامعة األمير عبــد القادر‬ ‫للعلوم اإلسالمية‪ ،‬قسنطينة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫المراجع‬

‫(‪ )1‬قضايــا فــي الفكــر المعاصــر‪ ،‬للدكتــور محمــد عابد الجابــري‪ ،‬مركز‬ ‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ببيروت لبنان ‪،‬حزيران‪/‬يونيو ‪.1997‬‬

‫(‪ )2‬الخطبــة الشــامية‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬تحقيــق‪ :‬إحســان‬ ‫قاسم الصالحي‪ ،‬لبنان ‪.1974‬‬

‫(‪ )3‬صيقــل اإلســام‪ ،‬لبديــع الزمان ســعيد النورســي‪ ،‬دار النيل للطباعة‬ ‫والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2007‬‬

‫محمــد‪ ،‬الفكر األدبي‬ ‫(‪ ،Munazarat )4‬نقــ ً‬ ‫ا عــن الدكتــور ســمير رجب ّ‬ ‫الداعية اإلســامي بديع الزمان ســعيد النورســي‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫والديني عند ّ‬ ‫مطبعة المدني القاهرة ‪.1995‬‬

‫(‪ )5‬النورســي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر‪،‬‬ ‫لســليمان عشــراتي‪ ،‬ســوزلر للنشــر والتوزيــع‪ ،‬فرع القاهــرة ‪.1999‬‬

‫(بتصرف قليل)‪.‬‬

‫(‪ )6‬اللمعــات‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمــة‪ :‬إحســان قاســم‬ ‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2007‬‬

‫(‪ )7‬المثنــوي العربــي النــوري‪ ،‬لبديــع الزمــان ســعيد النورســي‪ ،‬تحقيق‪:‬‬ ‫إحسان قاسم الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2009‬‬

‫(‪ )8‬إحياء علوم الدين‪ ،‬للغزالي‪.‬‬

‫(‪ )9‬الشــعاعات‪ ،‬لبديع الزمان ســعيد النورســي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحســان قاســم‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الصالحي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪.2009‬‬

‫‪48‬‬

‫(‪)10‬‬ ‫يوميــا ســاعة أو ســاعتين لكتــاب "جمــع‬ ‫فــي إشــارة إلــى قراءتــه ًّ‬

‫السبكي وهو من علماء الشافعية‪.‬‬ ‫الطوابع"‪ ،‬البن ّ‬

‫(‪ )11‬التقريب بين منازع االختالف ومنازعات الخالف‪ ،‬لمحمد البشــير‬

‫الهاشــمي مغلــي‪ ،‬ضمــن منشــورات المجلــس اإلســامي األعلــى‪،‬‬

‫أعمــال الملتقــى الدولي للتفاهــم بين المذاهب اإلســامية‪ ،‬الجزائر‬ ‫‪ 27-25‬مارس ‪.2002‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫يا إنسان!‬ ‫من نَو ِمك ان ْ‬ ‫ْهض‪،‬‬ ‫من عجزك تح َّر ْر‪،‬‬ ‫ويف ِ‬ ‫روح َك أشْ عل ثورة‪،‬‬ ‫شمس وشمس‪...‬‬ ‫ويف أ ْف ِق َك أوقد ألف ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فأنت‬ ‫وحدك ا ْل ُـمرتـجى‪،‬‬ ‫للنور والسالم‪...‬‬ ‫***‬


‫تشــوه "الشــورى"‬ ‫تلــري ومســيو‪" ،‬الثرثــرة" وهــي جمعية ّ‬ ‫التي هي منبع سعادتنا"‪.‬‬

‫مــن التحاق شــاب بــريء يحتاج إلــى العون والمســاعدة‬

‫بصفــوف طلبــة النــور‪ ،‬كي ينقذ إيمانــه وينجو من التردي‬

‫الذميمــة؟"‪ ،‬اللهم إال إذا انقلب ظهر‬ ‫فــي هاويــة األخالق ّ‬ ‫ِ‬ ‫وتبدلت األوضــاع غير األوضاع‪،‬‬ ‫جــن على الحقائــق ّ‬ ‫الم ّ‬

‫ميزة االجتهاد في رحاب التحضر اإلسالمي‬

‫حينهــا ال يألــو مــن "جمــع فــي حفظـــه جـــمع الجوامع‬ ‫الملبس‬ ‫جمـيعه في جمعة"‪ ،‬في كشف زيف هذا الواقع‬ ‫ّ‬

‫ببركانيــة هــذا التصريــح التشــنيعي الفاضــح‪" :‬لقد وضع‬ ‫الظلم على رأســه قلنســوة العدالة‪ ،‬ولبســت الخيانة رداء‬

‫الحميــة‪ ،‬وأطلــق علــى الجهاد اســم البغي‪ ،‬وعلى األســر‬ ‫اســم الحريــة‪ .‬وهكــذا تبادلت األضــداد صورهــا"‪ .‬وبعد‬

‫هــذا االزدراء والتهكــم فــي مقاومــة التلبيــس والتدليــس‬ ‫بالظلم والجور‬ ‫بالباطــل‪ ،‬يقــرر هذه الحقيقــة‪" :‬ال يمكــن ّ‬

‫أي شكل من أشكالها‪.‬‬ ‫محو‬ ‫الحرية" في ّ‬ ‫ّ‬

‫تأسيس الشورى‬

‫ثم إن اإلسالم لم يكتف باإلعالن عن المبادئ‪ ،‬بل انبرى‬ ‫دينا ‪-‬وهنا المفخرة‪-‬‬ ‫حيث قرر بكل سبق وريادة باعتباره ً‬

‫سياسيا‪،‬‬ ‫حزبا‬ ‫وليس منظمة أممية أو حكومة أو برلما ًنا أو ً‬ ‫ًّ‬ ‫تأسيس الشورى‪ .‬وأمر المعصوم ‪ ‬رغم ما في عصمته‬ ‫طبعا‬ ‫من غنية‪ ،‬بإجراء المشــورة ونشــر تقاليد االستشارة‪ً ،‬‬ ‫علــى غيــر المنحى العصــري المتعثر الــذي يقف بعرجته‬

‫على "العلم" دون األخالق‪.‬‬

‫بعيدا‬ ‫وحيــن يقــرر بديع الزمــان عن معاناة ومكابــدة ً‬

‫عــن التجريــد والتقريــظ أو التنظيــر الدعائــي البحــت أن‬

‫حظ‬ ‫"الحريــة التــي هي ضمــن نطاق الشــريعة وأن مفتاح ّ‬ ‫آســيا وســعد اإلســام موجود في الشــورى"‪ ،‬فإنه يخرج‬ ‫مــن إطــار األدبيات التمجيدية إلى البوح العملي الواقعي‬

‫المحنك‪:‬‬ ‫الصادق‪ ،‬ليعلن بعزيمة رجل السياسة الشرعية‬ ‫ّ‬

‫حظ آسيا هو الشورى والحرية المشروطتان‬ ‫"إن ما يفتح ّ‬ ‫وليــس ســواهما مــن ملجــإ فــي الراهــن دون األنظمة‬

‫بتهكمه بمثل هذه‬ ‫المســتبدة الجائــرة‪ ،‬وإال كانــت حقيقــة ّ‬

‫األلقاب المتزندقة التي ندد بها على هذا النحو الكاشف‪:‬‬ ‫"جمعية تشكلت برئاسة "الجهل" آغـــا‪ ،‬و"العناد" أفندي‪،‬‬

‫و"الغــرض" بــك‪ ،‬و"االنتقــام" باشــا‪ ،‬و"التقليــد" حضــرة‬

‫مسك الختام‬

‫بهــذه "ال ّلمــع" النيــرات‪ ،‬وفــي ضــوء هــذه "الكلمــات"‬ ‫النورانيــة‪ ،‬وباســتثمار القرآن المجيد "أســتاذ الحضارات‬ ‫تتوخى رسائل النور حركة إيجابية‬ ‫ونبع التقدم والرقي"‪ّ ،‬‬ ‫في الحياة‪ ،‬تتنامى بـ"إكسير اإليمان" وكأنها "ترياق شاف‬ ‫بعيدا عن الفلســفة‬ ‫مــن جميــع جــروح العصــر الداميــة"‪ً ،‬‬ ‫الماديــة التــي يعتبرها داعي ُة األناضــول طاعو ًنا‬ ‫معنويا في‬ ‫ًّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الغراء"‪.‬‬ ‫بتربية الشريعة ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إلى إنشــاء هياكل لترســيخها في النفــوس والمجتمعات‪،‬‬

‫ثــم ألــم يئن األوان للمكابريــن أن يعلموا أن حرية الرأي‬ ‫فــي اإلســام قــد أفضــت إلــى إنشــاء مناهــج االجتهــاد‪،‬‬ ‫وتعــدد المذاهــب‪ ،‬وانتشــار مــدارس الــرأي‪ ،‬وقيــام علم‬ ‫الكالم‪ ،‬على أســاس من رحابة الصدر في االســتماع إلى‬ ‫اآلخريــن‪ ،‬هــذا الذي يطلقون عليه اليوم اصطالح "حرية‬ ‫والتنــوع‪ ،‬وهــو مســبوق ال‬ ‫التعبيــر" أو حريــة االختــاف ّ‬ ‫محالة بالشــعار الذهبي لحضارتنا اإلسالمية الزاهرة‪" :‬ال‬ ‫خيــر فيكــم إن لــم تقولوها وال خير فينا إن لم نســمعها"‪،‬‬ ‫وليــس مثله شــعار‬ ‫يجــرئ في الحق ويرفع عــن القائلين‬ ‫ّ‬ ‫حواجز الخوف إال مرادفاته من قبيل هذه المأثورة‪" :‬فال‬ ‫تأخذك في اهلل لومة الئم"‪ ،‬أو قرينات هذه اآلية الكريمة‬ ‫"‪‬و َج َع َل َها َك ِل َم ًة‬ ‫في تجســيد الموقف القولي المســؤول‪َ :‬‬ ‫ون‪(‬الزخرف‪ .")28:‬وحســبنا من‬ ‫َبا ِق َي ًة ِفي َع ِق ِب ِه َل َع َّل ُه ْم َي ْر ِج ُع َ‬ ‫ا علــى كفالة حريــة التعبير التي يزخــر بها تراثنا‬ ‫هــذا دليــ ً‬ ‫اإلسالمي العتيد‪.‬‬ ‫وعــودا إلــى ســياق االجتهــاد‪ ،‬فــإن العالمة النورســي‬ ‫ً‬ ‫يســتدرك براغماتيتــه بهــذا التحذيــر مــن االســتبداد‬ ‫الخفــي المناهــض للشــورى الحقيقيــة بيــن أولــي العلــم‬ ‫واالختصــاص العالــي‪ ،‬حيث يقول‪" :‬ولكن ال يكون هذا‬ ‫االجتهاد موضع عمل إال عندما يقترن بتصديق نوع من‬ ‫إجماع الجمهور‪ .‬فمثل هذا الشــيخ ‪-‬أي شــيخ اإلســام‬ ‫السر‪.‬‬ ‫المستند إلى المجلس الشوري‪ -‬يكون قد نال هذا ّ‬ ‫فكمــا نرى في كتب الشــريعة‪ ،‬أن مدار الفتوى‬ ‫اإلجماع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫أيضــا‪ ،‬ليكــون فيصــ ً‬ ‫ورأي الجمهــور يلــزم اآلن ذلــك ً‬ ‫قاطعا لدابر الفوضى الناشبة في اآلراء"‪.‬‬ ‫ً‬

‫‪47‬‬


‫والقهــر‪ .‬انظــر إلــى الـ"صيقــل" كيــف يصقــل وشــاحها‬

‫البتة فــي تحصيلها‪ ،‬وإنما‬ ‫والجميــل أنه لم يســتعجله ّ‬

‫اليوســفي الركيــن‪" :‬أال إن الحريــة هــي أن يكــون المــرء‬

‫هــدرا في مجتمع عقائدي‬ ‫كــي ال تذهــب ثمرتها العقلية‬ ‫ً‬

‫جدية أن يكون االلتزام رديف اليقين‪،‬‬ ‫اشترط في نتيجتها ّ‬

‫الشــرعي بهــذا اإلخــراج البالغــي المبيــن وهــذا اليقيــن‬ ‫مطلق العنان في حركاته المشروعة‪ ،‬مصو ًنا من التعرض‬

‫حكرا علــى صاحبها أو حبيســة معتنقها‪.‬‬ ‫حــر‪ ،‬وأال تظــل‬ ‫ً‬

‫بــل تــراه أوجب مبدأ التحرير بعد التحــرر‪ ،‬إيما ًنا منه بأن‬

‫له‪ ،‬محـــفوظ الحقوق‪ ،‬وال يتحكم بعض ببـــعض ليتجلى‬ ‫ال َي َّت ِخ َذ َب ْع ُض َنــا َب ْع ًضا َأ ْر َب ًابا‬ ‫‪‬و َ‬ ‫فيــه نهي اآليـــة الكريمـــة‪َ :‬‬ ‫ون ا ِ‬ ‫ــن ُد ِ‬ ‫هلل‪(‬آل عمــران‪ ،)64:‬وال يتأمــر عليــه غيــر القــرآن‬ ‫ِم ْ‬

‫االنعتــاق ال يكتمــل إال بالعتــق خدمــة لمبــدإ آخر يقضي‬ ‫بوجــوب اإلقنــاع بعــد حصــول االقتناع في غيريــة خيرية‬ ‫عالمية دفاقة نستلهمها بيسر وغزارة من الحديث الذهبي‬

‫والعدالة والتأدب لئال يفسد حرية إخوانه"‪.‬‬

‫يحب‬ ‫يحــب ألخيه ما‬ ‫الشــريف‪" :‬ال يؤمــن أحدكــم حتى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لنفسه" (رواه البخاري)‪.‬‬

‫الحريات الفكرية في اإلسالم‬

‫يجــدر التذكيــر هنــا بإطار المبادئ اإلســامية التي تنطلق‬

‫وهــذا قــاض بجهاد مقــدس في تحريــر اآلخرين بعد‬

‫منها أزاهير النور حين الحديث عن الحرية الفكرية‪ ،‬وأنها‬

‫اكتمــال التحــرر الذاتــي‪ ،‬إذ ال جــدال فــي أن فاقد الحرية‬

‫لم تكن انتزاعية كما في الغرب‪ ،‬أو أنها جاءت اســتجابة‬

‫يصير‬ ‫ال يعطيهــا‪ .‬فـ"إكســير اإليمــان إذا دخــل فــي القلب ّ‬

‫لتطور تاريخي‪ ،‬أو ثمرة نضاالت مريرة أو مثخنة بحربين‬

‫جوهــرا الئقــا لألبديــة والجنــة‪ ،‬وبالكفــر يصيــر‬ ‫اإلنســان‬ ‫ً‬

‫ال‪ ،‬بل هي لم‬ ‫عالميتيــن‪ ،‬أو أعقبــت محاكم التفتيش‪ ...‬ك ّ‬

‫فانيا‪ ،‬إذ ال إيمان يرى تحت القشر الفاني ًّلبا لطي ًفا‬ ‫خز ًفا ً‬

‫أساسا‪.‬‬ ‫تبرح قط من مستلزمات العقيدة ومقررات الدين‬ ‫ً‬

‫ألالء هــذه اللمعــة البارقــة‪" :‬إن اإليمــان يع ّلمنــي بأننــي‬ ‫مرشــح لدنيــا أخــرى أبديــة‪ ،‬وأنــي مؤهــل لمملكــة باقيــة‬ ‫ّ‬

‫وسعادة دائمة"‪ ،‬أو إشراق هذا الشعاع الساطع‪" :‬بمقدار‬ ‫قوة اإليمان تتألأل الحرية وتسطع"‪.‬‬

‫اإلنسان من األلماس إلى الزجاجة‪ ،‬بل إلى الجماد"‪.‬‬

‫وبتوخي االقتضاب نقول في لمس تحليلي للخواطر‪:‬‬

‫حرية الرأي‬

‫وفــي اســتقراء مرامز التحرير اإليمانــي الفياض يقول‬

‫أســر الزمــان والمكان‪ ،‬ويضع عنه قيــود الدنيا وأغاللها‪،‬‬

‫فــأي ضير في‬ ‫وتتربــع بهــا الحكمــة‪ ،‬وتنمــو الملكات‪ّ ...‬‬

‫ويمنحه سعة يسع بها الكائنات ويعطيه أمداء نحو اآلزال‬

‫ســدادا‪ ،‬ويتعزز بها العقل‪،‬‬ ‫مغايرة يثرى بها الرأي ويزداد‬ ‫ً‬

‫قيدي العقيدة واألخالق لضمان أسلوب‬ ‫إطالقها إال من َ‬

‫تصب‬ ‫بحرا‬ ‫ّ‬ ‫واآلبــاد‪ ،‬فيغدو عمره عمــر العالم‪ ،‬وحاضره ً‬ ‫فيــه أنهــار األزمنــة ماضيهــا ومســتقبلها‪ ،‬فيصبــح بذلــك‬

‫المتبادل؟‬

‫وموضع نظره البشــرية بأســرها‪ ،‬يريد لها ما يريده لنفســه‬

‫والحج ِــر علــى الحريــة الفكريــة والدعويــة‪ ،‬وهــو‬ ‫النفــي‪،‬‬ ‫ْ‬

‫كونيــا‪ ،‬داره الكــون ك ّله‪ ،‬وحديقتــه العالم جميعه‪،‬‬ ‫إنســا ًنا ًّ‬ ‫السمو الذي سما إليه وهذا االرتقاء الذي ارتقى‬ ‫من هذا ّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫والكفــر يــرى القشــر ًّلبا فيتص ّلــب فيه فقط‪ ،‬فتنــزل درجة‬

‫إن حريــة الــرأي إذا كانــت هادفة‪ ،‬تكشــف عن زاوية نظر‬

‫أديب إبراهيم الدباغ‪ :‬إن هذا اإليمان "يطلق اإلنسان" من‬

‫‪46‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولعــل أبلــغ تعبيــر عن هــذا التجذيــر اإليمانــي ألعماقها‬

‫متنورا‪.‬‬ ‫ألماسا‬ ‫ال‪،‬‬ ‫حبابا‬ ‫مشمسا زائ ً‬ ‫ً‬ ‫رصينا ويرى ما ّ‬ ‫يتوهم ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫نحوه‪ ،‬فهذه هي رسالة "اإليمان"‪.‬‬

‫والتجاور فــي كنف االحترام‬ ‫التعامــل الحضــاري الرفيع ّ‬ ‫ولذلــك تنطلــق زفــرة أســير الفكــر الحر مــن غياهب‬

‫"تفكر‬ ‫منكب على التأمل في حفريات سر القول المأثور‪ّ :‬‬ ‫ّ‬

‫ســاعة خيــر من عبادة ســنة"‪ ،‬وفي روايــة صاحب اإلحياء‬

‫ذلــك أن نجــدة اإلســام الرئيســية األولــى لإلنســان‪،‬‬

‫"خير من ستين سنة"‪ .‬والذي حدا به إلى تأليف "الحزب‬

‫اكتســاب عقيدتــه‪ -‬جميــع العوائق والعقبــات التي تقف‬

‫عن نفســه الضيق والســآمة واإلرهــاق‪ ،‬تنطلق هذه الزفرة‬

‫تتمثل في حرية االعتقاد حين أزاح من أمامه ‪-‬في منهج‬ ‫دون اختيــاره الحــر وإن كانــت معنويــة أو انتصبــت بنحو‬

‫غير مباشر‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األكبــر النــوري" ضمــن كتــاب التفكير اإليمانــي ليزيل به‬

‫لتبدد سجوف "الحرية‬ ‫مدوية ّ‬ ‫الحرى لتتحول إلى صرخة ّ‬ ‫ّ‬ ‫العلمية" المزعومة بهذا التســاؤل‪" :‬ما الجانب المحظور‬


‫إن الحريــة هي أن يكون املــرء مطلق العنان يف‬

‫فإنها ال تعد حرية" كما يقول النورسي‪.‬‬

‫حركاته املرشوعة‪ ،‬مصونًا من التعرض له‪ ،‬محـفوظ‬

‫انتقاصا‬ ‫ولئن اعتبرت المدنية التائهة القيد من الحرية‬ ‫ً‬

‫الحقــوق‪ ،‬وال يتحكــم بعــض ببـــعض ليتجىل فيه‬

‫بشــرا‬ ‫مــن الســيادة‪ ،‬فهــذا صحيــح مــا دام واضــع القيــد ً‬

‫‪‬و َ‬ ‫ال َيت َِّخذَ َب ْع ُضنَا َب ْع ًضا َأ ْر َبا ًبا‬ ‫نهي اآليـة الكرميـــة‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن ُد ِ‬ ‫ون‬ ‫الله‪(‬آل عمــران‪ ،)64:‬وال يتأمر عليه غري القرآن‬

‫وصيغ ذلك في دساتير وقوانين ونظم‪.‬‬

‫التبعية‪.‬‬ ‫وبقــدر الحــد منهــا‪ ،‬يكــون االســتعباد‬ ‫ّ‬ ‫وتحــل ّ‬

‫والعدالة والتأدب لئال يفسد حرية إخوانه‪.‬‬

‫يكون ذلك بالفعل ‪-‬بنحو أو آخر‪ -‬ر ًّقا بين الناس بشكل‬ ‫مقنــن حيــن يضعه أو يســنه األقــوى لألضعف‪.‬‬ ‫منظــم أو ّ‬

‫فهــو ال يخــرج بحــال عــن مفهــوم العبوديــة مهمــا تطــور‬

‫ال بالقيود‬ ‫حرا ‪-‬وإن بدا مكب ً‬ ‫هذا وقد يكون اإلنســان ًّ‬

‫إطار االســتعباد أو دخل التنميق على المســميات‪ .‬فتلك‬

‫إلــى األذقــان‪ -‬إذا كان شــعوره يفيــض بمبــادئ الحريــة‬

‫"حريــة حريّــة بالنــار‪،‬‬ ‫هــي إذن‪ ،‬فــي عيــن بديــع الزمــان ّ‬

‫نورســيا لغلبة‬ ‫ياســريا أو‬ ‫فيضــا بال ًّليا أو‬ ‫وقيمهــا ومثلهــا‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫ألنهــا تختــص بالكفــار"‪ .‬أمــا إذا كان واضــع القيد‪ ،‬اإلله‬

‫الروح على المادة‪.‬‬

‫ســبحانه فــي جملــة آداب ســماوية رفيعــة هــي األخــاق‬

‫حــرا طلي ًقا من كل قيد‬ ‫وقــد يكــون كذلك في الظاهر ًّ‬

‫تكريمــا ال يلبــث أن‬ ‫الشــرعية‪ ،‬أضحــت العبوديــة ذاتهــا‬ ‫ً‬

‫واقعا في أســر قيود‬ ‫ّ‬ ‫مــادي‪ ،‬ومــع ذلك نجده في الحقيقة ً‬

‫يتحــول بالوعــي اإليمانــي إلى عبــادة حرة وســعادة أبدية‬

‫مطأطئا لشــهوات عديدة‪ ،‬تســتعبده أهواء‬ ‫المرئيــة كثيــرة‪،‬‬ ‫ً‬

‫"الحرية بالنسبة إلى اإلنسان تنتج العبودية‬ ‫بشعـــاع آخر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫عبــدا هلل ح ًّقــا ال‬ ‫خاصيــة اإليمــان"‪ ،‬وســاعتها "مــن كان ً‬ ‫عبدا للغير"‪.‬‬ ‫يكون ً‬

‫ولننظر هنينة في أمر القيود بمجهر األداة الدقيقة التي‬

‫تمنحهــا لنــا شــهادة التوحيــد؛ فـــ"ال إلــه" رفــض ألصناف‬ ‫القيــود‪ ،‬وهاتيــك القيــود ذاتيــة مصطنعــة قهرية مســتعبدة‬

‫اســتذاللية جائرة من صنع اإلنســان‪ .‬وهــي في الحصيلة‬ ‫هاتكة لحريته ساحقة مبددة لألحرار‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫"عطيــة الرحمن‪ ،‬إذ إنها‬ ‫أمــام اهلل"‪ .‬وتلــك الحريــة بعينها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫شــتى‪ ،‬وتســتر ّقه أغــال اجتماعيــة تجتــاح روادع العقــل‬

‫ووازعــات الضميــر وزواجــر الرأي العام وقــوارع الدين‪،‬‬ ‫أحط‬ ‫دوابيــة ّ‬ ‫وتختــرق معالــم اإلنســانية فيــه لتنســاب فــي ّ‬ ‫عبر عنها "صيقل اإلســام"‬ ‫من الحيوانية العجماء‪ .‬ولقد ّ‬ ‫وهــي مغلولــة بخوارم المــروءة‪" :‬بطنطنــة األغراض التي‬

‫الحرية"‪.‬‬ ‫تشوش على صدى موسيقى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫االنعتاق اليوسفي‬

‫في ضوء "الكلمات" النورانية‪ ،‬نفهم السر الذي من أجله‬

‫و"إال اهلل" اســتثناء لصنــف واحــد مــن القيــود‪ ،‬وتلــك‬

‫حرا‬ ‫آثــر يوســف ّ‬ ‫الصديق ‪ ‬في إبــاء وكبرياء أن يكون ًّ‬

‫الخالــق تعالــى‪ .‬وهي فــي الحصيلة منعشــة للحرية واقية‬

‫"فمن عرف اهلل وأطاعه سعيد ولو كان في السجن‪ ،‬ومن‬

‫القيــود موضوعيــة ثابتة مقبولة محررة تكريمية‪ ،‬من تدبير‬

‫لها‪ ،‬جامعة مؤلفة لألحرار‪.‬‬

‫عبدا في قصــر الملك‪:‬‬ ‫فــي ســجن العزيــز‪ ،‬على أن يظــل ً‬ ‫نسيه فهو في السجن ولو كان يعيش في القصور"‪.‬‬

‫ولذلك حذر النورسي من مغبة إطالق الزمام للنوازع‬

‫وما كان ليدرك بانشراح سعادة هذا االنعتاق الجياش‬

‫"قيدوا الحرية بآداب الشرع‪ ،‬ألن عوام‬ ‫بضوابط الشريعة‪ّ :‬‬

‫الســجن" سواء كان هذا السجن زنزانة الطاغوت‪،‬‬ ‫أســوار ّ‬

‫والفوضى باســم الحرية‪ ،‬وكان يدعو إلى ضبط الدوافع‬

‫أحرارا سائبين بال قيد"‪.‬‬ ‫فال يطيعون بعد أن ظلوا‬ ‫ً‬

‫وال عاصــم إذن مــن تلــك الفوضــى والفرقــة ومــن‬

‫تضــارب المصالــح واالنجــراف األخالقــي‪ ،‬إال أن تلتزم‬ ‫الحرية بالدين األمثل‪.‬‬

‫أم مربــض المجتمــع الجاهلــي‪ .‬ومــن قبــل كم من أســير‬ ‫ويود لو أنه يفديه‬ ‫يعز عليه‬ ‫حرب كان األسر في اإلسالم ّ‬ ‫ّ‬

‫"بحريته" في غيره‪.‬‬

‫ذلــك أن أبلــغ معانــي الحريــة مــا ارتبــط فــي دعمهــا‬

‫بالقيــم‪ ،‬ال ما ارتطم فــي دحضها باإلرادات والتحكمات‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الناس والجاهلين يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق‪،‬‬

‫لوال قناعته بيقين تجريبي محسوس بأن "العبادة تحرر من‬

‫‪45‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد البشير الهاشمي مغلي*‬

‫الحر ّية الرشعية‬ ‫يف أزاهري النور‬

‫يأبى اإلســام في منظور ال ُّنورســي حرية‬ ‫تدعيهــا المدنيــة‬ ‫بهيميــة ســائبة كالتــي ّ‬ ‫الغربيــة برداءة‪ ،‬ســيما أن الديــن الحنيف‬

‫بالحريــة‪ ،‬ولكنــه ال يحرر مهما اتســعت فضاءات الحرية‬

‫وهم بحرية زائفة‪ .‬والواقع أنه ال توجد حرية‬ ‫بال حدود ٌ‬

‫"يلخــص مســيرة الصــراع بيــن أخــاق الســادة وأخــاق‬ ‫ّ‬

‫مهذبــة‪ ،‬وإال فالحرية‬ ‫يدعــو إلــى حرية تكريمية مســؤولة ّ‬ ‫مطلقة في العالم‪ ،‬وإنما هناك نسب متفاوتة في الحريات‬ ‫مــن حيــث الســعة والبعــد اإلنســاني ودرجــة التحضـــر‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ويصــدق فــي هــذا الصـــدد‪ ،‬قــول الفيلســـوف األلمـــاني‬

‫‪44‬‬

‫وتلوين للقيود‪ ،‬أو هي تمديد في سالسلها‪.‬‬

‫ليبنـتـــز (‪1716-1646‬م)‪" :‬إن اهلل وحــده هــو الحــر‬

‫الكامــل‪ ،‬أمــا المخلوقات العاقلة فال توصف بالحرية إال‬

‫بقدر خلوصها من الهوى"‪.‬‬

‫هــذا وحريــة بــا حــدود تق ّلــب فــي عبوديــة أوســع‪،‬‬

‫رق أشــمل‪ ،‬بــل هــي تنويــع فــي الكوابــل‬ ‫ورســف فــي ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومعلــوم أن التمديــد فــي سالســل القيــد قــد يوهــم‬

‫"الموهومــة"‪ .‬وليــس فــي اإلســام مــا ألفــاه نيتشــه وهــو‬ ‫العبيــد بالقــول إن جميع الفتــرات التاريخية ‪-‬منذ ظهور‬

‫المسيحية‪ -‬كانت في جملتها‬ ‫مسرحا ألخالق العبيد‪ ،‬إذ‬ ‫ً‬

‫عرضــا‪ ،‬ولذلك كانت‬ ‫لــم تكــن أخالق الســادة تظهــر إال ً‬ ‫سريعا"‪.‬‬ ‫تختفي‬ ‫ً‬

‫تلقائيا‬ ‫ثـــم إن الحـــر بطبعــه ال يقيــد نفســه‪ ،‬فــا يتجــه‬ ‫ًّ‬

‫إلــى التقليــص من الحرية‪ ،‬بل تراه فــي مطمحه يهفو إلى‬

‫االستزادة منها سجية‪ ...‬وإنما هو يتقيد باإلمالء واإللزام‪،‬‬

‫"ألن الحرية الحقيقية يلزم أن تتحلى بآداب الشريعة وإال‬


‫ومعاديــة ألمتهــا نتيجة ما تلقته من مقــررات تربوية وفنية‬

‫يحتــوي علــى ‪ 1500‬قطعــة مــن اآلثــار وأعمــال الفنــون الجميلــة‬

‫القديمــة التــي كانــت علــى عهــد النبــي ‪ ،‬أو هي محــاكاة لها‪ .‬وهو‬

‫وتعليميــة تنتمــي لتــراث فلســفي وحضــاري‪ ،‬لــه مقاصــد‬

‫ال‬ ‫توثيــق لعصــر النبــي وصحابته الكرام ‪ .‬وقد لقــي المتحف إقبا ً‬

‫وغايــات ال تنســجم بالضــرورة مع غايــات المجتمعات‬

‫واسعا من جمهور المسلمين‪ ،‬األمر الذي يؤكد أهمية‬ ‫وترحيبا‬ ‫كبيرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اإلسالمية وال مع مقاصدها العامة‪.‬‬

‫الفنون الجميلة في مخاطبة الوجدان وترقية المشــاعر وغرس القيم‬

‫إن أهــم ما يكشــف عنه التاريخ الحديــث والمعاصر‬

‫النبيلة في نفوس الناس‪.‬‬

‫للفنــون فــي مجتمعاتنــا اإلســامية‪ ،‬هــو أنهــا أصبحــت‬

‫(‪ )4‬وعــود اإلســام‪ ،‬لروجيــه جــارودي‪ ،‬مكتبة غريــب‪ ،‬القاهرة ‪،1976‬‬

‫بعيــدا عن المرجعية اإلســامية ومقاصدها‬ ‫والجماعــي‪-‬‬ ‫ً‬

‫(‪ )5‬كتــاب النجــاة‪ ،‬البــن ســينا‪ ،‬معهــد المخطوطــات العربيــة‪ ،‬القاهــرة‬

‫فــي خدمــة عمليــات إعــادة تشــكيل الوجــدان ‪-‬الفــردي‬

‫ص‪.190:‬‬

‫‪ ،1938‬ص‪.79:‬‬

‫العامــة‪ ،‬بــل وعلــى نحو معاد لهذه المرجعيــة‪ .‬ونعتقد أن‬

‫(‪ )6‬تاريــخ الفكــر العربــي اإلســامي‪ ،‬دومينيــك أورفــوا‪ ،‬ترجمــة‪ :‬رنــدة‬

‫"الفنــون الحديثــة" فــي بالدنــا بجملتهــا‪ ،‬قد أســهمت في‬

‫بعــث‪ ،‬مراجعة‪ :‬ســهيل ســليمان‪ ،‬المكتبة الشــرقية‪ ،‬بيــروت ‪،2010‬‬

‫تعميــق حالــة االنقســام الثقافــي بين اتجاهــات متعارضة‪،‬‬

‫ص‪.540:‬‬

‫هويــات وثقافات أخــرى وافدة‪ .‬وكان من نتائج ذلك أن‬

‫ب‪.‬ت‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.316:‬‬

‫بعضهــا يتمســك بهويتــه الموروثــة‪ ،‬وبعضهــا ينفتح على‬

‫(‪ )7‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ألبي حامد الغزالي‪ ،‬دار المعرفة للنشــر‪ ،‬بيروت‬

‫مجتمعاتنا عاشت ‪-‬وال تزال تعيش‪ -‬ضمن سيناريوهات‬

‫(‪ )8‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.306:‬‬

‫سياســية وثقافية واجتماعية واقتصادية ليســت فاعلة فيها‬

‫مــادة اســتعمالية لتلــك الســيناريوهات‪ .‬وبمــرور الوقــت‬

‫زادت التحديــات التــي تواجــه مبدعــي الفنــون الجميلــة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وزاد انفصالهم عن استلهام مقاصد الشريعة‪،‬‬

‫وزاد ابتعادهــم عــن خدمــة هــذه المقاصــد‪ .‬وبــات مــن‬ ‫يتصــدى لإلبــداع الفنــي والجمالــي بمرجعيــة إســامية‪،‬‬

‫بحاجــة ماســة إلــى تأهيــل رفيــع المســتوى‪ ،‬وحرفيــة‬ ‫بارعــة‪ ،‬ورؤيــة فلســفية واســعة األفق تســتجيب لمقاصد‬

‫الشــريعة وتكون في خدمتها‪ ،‬على النحو الذي كان عليه‬

‫أســافه مــن مبدعي الفنون الجميلــة في عصور االزدهار‬ ‫الحضاري اإلسالمي‪.‬‬

‫(*) أستاذ العلوم السياسية‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬تراث اإلسالم‪ ،‬لجوزيف شاخت‪ ،‬وكليفورد بوزورث‪ ،‬ج‪ ،1‬ترجمة‪:‬‬ ‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكتاب رقم‪ ،11:‬ص‪.297:‬‬

‫(‪ )2‬الفنــون الجميلــة في العصور اإلســامية‪ ،‬لعمر رضا كحالة‪ ،‬دمشــق‪،‬‬ ‫المطبعة التعاونية ‪ ،1972‬ص‪.21-5:‬‬

‫(‪ )3‬تــم افتتــاح "متحــف الســام عليــك أيها النبي" في مكــة المكرمة مع‬ ‫مطلــع العــام الهجــري الجديــد ‪1434‬هـ‪/‬ينايــر ‪2013‬م‪ ،‬والمتحــف‬

‫(‪ )10‬اإلســام بيــن الشــرق والغــرب‪ ،‬لعلــي عــزت بيجوفتــش‪ ،‬ترجمــة‪:‬‬ ‫محمد يوســف عدس‪ ،‬دار النشــر للجامعات‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة ‪،1997‬‬

‫ص‪ .176-137:‬وانظر إلى المرجع السابق‪.‬‬

‫(‪ )11‬أســئلة العصــر المحيــرة‪ ،‬لمحمــد فتــح اهلل كولن‪ ،‬ترجمــة‪ :‬أورخان‬ ‫محمد علي‪ ،‬دار النيل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة ‪ ،2008‬ص‪.7:‬‬

‫(‪)12‬‬

‫فلســفة الجمال ونشــأة الفنون الجميلة‪ ،‬لمحمد علي أبو ريان‪ ،‬دار‬

‫المعرفة الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية ‪ ،1993‬ص‪ ،49-25:‬وص‪.79-65:‬‬

‫(‪ )13‬الموسوعة الفلسفية السوفيتية‪ ،‬إشراف‪ :‬ف‪ .‬روزنتال‪ ،‬وب‪ .‬يودين‪،‬‬ ‫ترجمة‪ :‬سمير كرم‪ ،‬بيروت ‪ ،1974‬مادة الجمالي واألخالقي‪.‬‬

‫(‪ )14‬الشــريعة اإلســامية والفنون‪ ،‬ألحمد مصطفى القضاة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬ ‫الجيل‪ .‬عمان‪ ،‬دار عمار‪1408 ،‬هـ‪1988/‬م‪ ،‬ص‪.25:‬‬

‫ا كتــاب‪ :‬أبو عبد اهلل محمد بن إبراهيم اللخمي بن الرامي‬ ‫(‪ )15‬منهــا مثــ ً‬ ‫البناء‪ ،‬اإلعالن بأحكام البنيان‪ ،‬تحقيق‪ :‬فريد بن ســليمان‪ ،‬دار النشــر‬

‫الجامعي‪ ،‬تونس ‪ .1999‬وكتاب‪ :‬زكي محمد حسن‪ ،‬أطلس الفنون‬ ‫الزخرفية والتصاوير اإلسالمية‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاهرة ‪ .1937‬وكتاب‪:‬‬

‫محمــد عبــد الســتار عثمان‪ ،‬المدينة اإلســامية‪ ،‬الكويــت‪ ،‬المجلس‬ ‫الوطنــي للثقافــة والفنــون واآلداب‪ ،‬أغســطس ‪ .1988‬وانظــر قائمــة‬

‫ببلوجرافية بعناوين مراجع في الفنون اإلسالمية ملحقة بهذا البحث‪.‬‬ ‫(‪)16‬‬

‫تســهيل النظــر وتعجيــل الظفــر فــي أخالق الملك وسياســة الملك‪،‬‬

‫ألبــي الحســن علــي بــن حبيــب المــاوردي (ت‪ 450:‬هـــ)‪ ،‬تحقيــق‬

‫ودراســة‪ :‬رضــوان الســيد‪ ،‬مركــز ابــن األزرق لدراســات التــراث‬ ‫السياسي‪ ،‬بيروت ‪1432‬هـ‪2012/‬م‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫محمد زهير السمهوري وآخرين‪ ،‬الكويت‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬المجلس‬

‫اإلســام والفنــون الجميلــة‪ ،‬لمحمــد عمــارة‪ ،‬دار الشــروق‪ ،‬القاهــرة‬ ‫‪1411‬هـ‪1991/‬م‪ ،‬ص‪.11،7:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وجدانيــا إليهــا‪ ،‬بل كانت فــي أغلب األحوال‬ ‫وال منتميــة‬ ‫ًّ‬

‫(‪)9‬‬

‫‪43‬‬


‫العاطفــة والوجــدان‪ ،‬وتنميــة مهارات الحــواس وتدريبها‬

‫أيضــا كتاب الحكمة‬ ‫الجوانــب الجماليــة‪ ،‬وإنما اهتم بها ً‬

‫واالبتــكار وتأكيــد الذات‪ ،‬وضبط االنفعــاالت وترويض‬

‫إنشاء األمصار‪ .‬ومن ذلك الشروط التي ذكرها الماوردي‬

‫السياســية واألحــكام الســلطانية في معــرض حديثهم عن‬

‫علــى اإلجــادة واإلتقــان‪ ،‬وتحفيــز اإلنســان علــى اإلبداع‬

‫في كتابه "تســهيل النظر" ومنها‪ :‬ســعة المياه المســتعذبة‪،‬‬

‫النزعــات الجامحــة ووضعهــا فــي حالــة اتــزان‪ ،‬وتقديــر‬

‫وإمــكان الميــرة المســتمدة‪ ،‬واعتــدال المــكان الموافــق‬

‫العمــل اليــدوي ومهــارات الصناعة‪ ،‬وفتــح المجال أمام‬

‫لصحــة الهــوى والتربــة‪ ،‬وقــرب المــكان ممــا تدعــو إليــه‬

‫الخيــال واســتثماره في خدمة اإلنســان والعمــران‪ ،‬وكلها‬

‫الحاجــة مــن المراعي واألحطاب‪ ،‬وتحصين المنازل من‬

‫مقاصد تندرج تحت اإلطار العام لمقاصد الشريعة‪.‬‬

‫ولكــن‪ ،‬رغــم نبل تلــك المقاصد أو الغايــات‪ ،‬إال أن‬

‫األعــداء(‪ .)16‬والبــد أن مراعاة تلك الشــروط في تأســيس‬

‫الدينيــة والمذهبيــة‪ ،‬أو لتحقيق مآرب اقتصادية وسياســية‬

‫شأن ذلك أن يوفر ضمانات ال غنى عنها لسالمة الصحة‬

‫الفنون لم َتسلم من سوء االستخدام لتأجيج الصراعات‬

‫المــدن اســتلزم تطبيــق معاييــر جمالية متنوعــة‪ ،‬وكان من‬

‫النفســية واالتــزان العقلــي لســكان المدينــة؛ فالمشــاهد‬

‫على حساب الغير‪ ،‬حتى إن بعض الحركات ذات "النزعة‬

‫الجميلــة‪ ،‬واأللــوان المتناســقة‪ ،‬والمســاحات الخضــراء‬

‫اإلنســانية" العالميــة ال تخفــي رغبتهــا فــي اســتبدال الفن‬

‫والزهور المبهجة‪ ،‬والموقع المالئم للهواء النقي‪ ...‬كلها‬

‫بالدين(‪ .)14‬وفي سبيل ذلك تقوم تلك الحركات بتسخير‬

‫إيجابيا على المزاج النفســي العام‪ ،‬بخالف مشــاهد‬ ‫تؤثر‬ ‫ًّ‬

‫المعــارض الفنيــة‪ ،‬والمسلســات التلفزيونيــة‪ ،‬واألفــام‬

‫السينمائية‪ ،‬واألعمال المسرحية والغنائية‪ ،‬ومختلف الفنون‬ ‫وإذا كانــت الفنون اإلســامية تشــترك مــع غيرها من‬

‫الفنــون فــي أغلــب تلــك الغايــات‪ ،‬إال إنهــا تظــل مرتبطة‬ ‫بتصــور الوجــود حســب رؤيــة اإلســام للكــون والحيــاة‬

‫واإلنســان والخالــق ‪ .‬ووفــق هــذا التصور فــإن الفنون‬ ‫اإلســامية ترســم صــورة الوجــود مــن زاويــة التصــور‬

‫اإلســامي لهــذا الوجــود‪ .‬ولهــذا اتســع نطــاق عمــل‬

‫الفنــون الجميلــة في حضارتنا اإلســامية‪ ،‬ولدينا ســوابق‬

‫بارعــة الجمال فــي النقش والنحت‪ ،‬والرســم والزخرفة‪،‬‬ ‫والتصويــر والحفــر‪ ،‬والموســيقى والشــعر‪ ،‬والغنــاء‪،‬‬

‫وأيضــا فــي أصول تنظيــم المدن‬ ‫والخــط‪ ،‬والمنمنمــات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واألمصار وتخطيطها‪ ،‬وهندسة البناء‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫النفسية وتشجع على العنف وارتكاب الجرائم‪ ،‬ومن ثم‬

‫إلحاق األذى بالنفس‪ ،‬والمال‪ ،‬والنسل‪ ،‬والعقل‪ ،‬والدين‬ ‫في آن واحد‪ ،‬أي إهدار المقاصد العامة للشريعة‪.‬‬

‫وبالنظــر في أحوال مجتمعاتنا اإلســامية المعاصرة‪،‬‬

‫نجــد أن مــا يقدمه مبدعو الفنون الجميلة‪ ،‬يتســم بالهزال‬ ‫والركاكــة وال ينطــوي علــى ابتــكارات جديــدة‪ ،‬وتغلــب‬

‫عليــه مالمــح التبعيــة لمــدارس الفنــون الغربيــة‪ .‬وقــد‬

‫أســهمت بعــض الــرؤى الســلفية المتشــددة فــي تكريــس‬ ‫هــذه الحالــة الفنيــة المتردية مثلما أســهمت بعض الرؤى‬

‫أيضا‪ .‬وكانت النتيجــة هي ما نراه من‬ ‫المتغربــة فــي ذلــك ً‬ ‫تشــوه فــي الوعــي‪ ،‬وتمــزق فــي الوجــدان‪ ،‬واختــال في‬

‫عمليــات التنشــئة علــى المســتويات الفرديــة والجماعية‪،‬‬

‫فــي كتب أصول البنيان والخطــط العمرانية لألمصار‬

‫ومــن ثــم تكونــت أجيــال مجروحــة الهويــة فــي مختلف‬

‫وتأكيــدا علــى وجــوب مراعــاة‬ ‫الجوانــب الجماليــة‪،‬‬ ‫ً‬

‫نشأت في بالدنا اإلسالمية دور خطير في تشويه وجدان‬

‫خاصــا بمــا نســميه جماليــات "المجــال العــام"‬ ‫اهتمامــا‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫أبنــاء الطبقــات العليــا وأصحــاب الســلطة والثــروة‪ .‬وقــد‬

‫تشــديدا على ضــرورة توافر‬ ‫والمــدن اإلســامية(‪ )15‬نجــد‬ ‫ً‬

‫‪42‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التشــكيلية‪ ،‬من أجل تدمير الدين واالســتغناء بالفن عنه‪.‬‬

‫التلوث والقبح والفوضى والعشوائية التي تضر بالصحة‬

‫معاييــر الجــودة فــي التخطيــط وهندســة البنــاء‪ ،‬ونجــد‬

‫مــن الســقايات‪ ،‬والنافــورات‪ ،‬والمفترجــات‪ ،‬والمياديــن‬ ‫الرحبــة‪ ،‬واألشــجار الوارفــة‪ ،‬واالســتراحات العامــة‪...‬‬

‫إلــخ‪ .‬ولــم يهتــم المعماريون المســلمون وحدهــم بتلك‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مجتمعاتنــا المعاصــرة‪ .‬وكان للمــدارس األجنبيــة التــي‬ ‫أجيال عدة من أبناء المجتمعات اإلســامية وخاصة من‬

‫كان إنشــاء ثالثــة آالف مدرســة أجنبية في أرجــاء الدولة‬

‫العثمانية خالل القرن التاســع عشــر وحتى إلغاء الخالفة‬ ‫في سنة ‪1924‬م‪ ،‬كفيل بتكوين نخبة منفصلة عن هويتها‬


‫تكاد أغلب الرؤى الحضارية والفلسفية تشرتك يف‬

‫يكون دقي ًقا‪ ،‬فإن المطلوب في الفن هو أن يكون صاد ًقا‪،‬‬

‫أن أهــم مقاصد الفنون تتمثل يف تنمية العاطفة‬

‫ألنه يعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه(‪.)10‬‬

‫والوجدان‪ ،‬وتنمية مهارات الحواس وتدريبها عىل‬

‫أول كلمــة نزلــت مــن القــرآن الكريم هــي نقطة البدء‬

‫اإلجــادة واإلتقــان‪ ،‬وتحفيز اإلنســان عــى اإلبداع‬

‫فــي إدراك عالقــة الفنــون الجميلة بمقاصد الشــريعة عند‬

‫واالبتكار وتأكيد الــذات‪ ...‬وكلها مقاصد تندرج تحت‬

‫األســتاذ محمــد فتــح اهلل كولن‪ .‬وهــي النقطة األعمق في‬

‫اإلطار العام ملقاصد الرشيعة‪.‬‬

‫إدراك هــذه العالقــة بعيــدة الغــور كثيفــة الفــروع‪ .‬فبينمــا‬ ‫األســتاذ يتأمــل فــي حكمة بدء نــزول القرآن بأمــر "اقرأ"‪،‬‬

‫نجــده يؤكــد علــى أن أمــر "القــراءة" موجــه إلــى أشــرف‬

‫بذلــك‪ .‬وهنــاك مــن الحظ ‪-‬بحــق‪ -‬أن ظاهرة االنســجام‬

‫المخلوقــات ‪" ‬الــذي تجلــت فيــه جميــع الكماالت"‪،‬‬

‫وهي أســاس الشــعور بالجمــال والســام‪ ،‬وكذلك "عدم‬

‫موضحــا أن الكــون المعــروض أمــام‬ ‫األســتاذ "كولــن"‬ ‫ً‬ ‫أنظارنا ‪-‬لنتأمله ونفهم معناه ومحتواه‪ -‬شاهد على قدرة‬

‫ترجعــان إلــى تاريــخ طويــل فــي حيــاة اإلنســان‪ .‬ومنهــم‬

‫والكمال والجمال هما ذروة الحســن والروعة‪ .‬ويمضي‬

‫االنســجام" الــذي هــو أســاس الشــعور بالقبــح والعنف‪،‬‬ ‫مــن ركــز علــى عالقــة الفــن بالحيــاة وبالديــن وبالعلــم‪،‬‬

‫الخالــق وعظمتــه وجماله‪ .‬هذا الكون فــي رأيه "ليس إال‬

‫وخلصــوا إلــى أن الفــن أداة ربــط اجتماعــي‪ ،‬ووســيلة‬

‫تجليا من تجليات اللوح المحفوظ"‪ ،‬وهنا يصل األستاذ‬ ‫ً‬

‫الجمال المصفى من كل شــائبة‪ .‬وقد جعل اهلل كل شــيء‬

‫"قلما"‬ ‫في هذا الكون من أحياء أو جماد ‪-‬عدا اإلنسان‪ً -‬‬ ‫لكــي يقــوم كل موجــود بوظيفة تســجيل مــا أودع فيه من‬

‫تجليات وحكم"(‪.)11‬‬

‫تلــك نظــرة عابرة على أصــل أصول الرؤيــة اإليمانية‬

‫عند األســتاذ كولن للفنون الجميلة‪ .‬ونحن بصدد تعقب‬ ‫وأيضا‬ ‫تفاصيــل هــذه الرؤية في أبحاثه وتأمالتــه النظرية‪،‬‬ ‫ً‬

‫فــي مشــروعات وبرامــج "الخدمــة" المطبقــة على أرض‬

‫الواقع‪.‬‬

‫إذا نظرنا اآلن إلى المدارس الغربية الحديثة في مجال‬

‫الفنــون الجميلــة من حيث فلســفتها ووظائفهــا وأنماطها‬

‫المختلفة‪ ،‬فسوف نجدها بالغة الثراء‪ ،‬وسنجد أن فيها ما‬ ‫حينا‪ ،‬كما أن فيها‬ ‫ال يجافي الرؤية اإلسالمية ويتفق معها ً‬

‫"جماليــات" الرؤيــة الغربيــة بحجة أن لها قبائح‪ ،‬مثلما ال‬ ‫يصح أن نتهاون بشأن قبائحها بحجة أن لها جماليات‪.‬‬

‫بيــن أبنــاء المجتمــع الواحــد‪ .‬وهنــاك علمــاء وفالســفة‬

‫آخــرون ربطــوا بين الجمال واألخــاق ونبهوا إلى الدور‬ ‫التربــوي لكليهمــا‪ ،‬بــل وأقامــوا عالقــة وثيقة بيــن "الخير‬

‫ال األديب الروســي‬ ‫والحــق والجمال"(‪ .)12‬ومن هؤالء مث ً‬

‫بلنســكي (‪1848-1811‬م) الــذي قــال‪" :‬إن الجمــال‬

‫شــقيق األخــاق‪ .‬والصــور الفنيــة اإليجابيــة التي تعكس‬ ‫حيــاة النــاس ونبلها وجمالهــا‪ ،‬تفرض االحتــرام والحب‬

‫واإلعجاب المخلص‪ .‬وتعطي أنماط األبطال الحقيقيين‬ ‫فــي الحيــاة للقارئ والمتفرج متعــة وبهجة جماليتين‪ .‬أما‬

‫الصــور الســلبية فهــي تثير مشــاعر االســتنكار األخالقي‪،‬‬

‫ارتباطا وثي ًقا في طابعها بمشــاعر‬ ‫واالحتقــار التــي ترتبــط‬ ‫ً‬

‫االزدراء واالحتقــار التــي نحســها عندمــا نــدرك مــا هــو‬ ‫قبيــح ودنــيء‪ .‬ومــن ثم فــإن وحدة الجمالــي واألخالقي‬ ‫هــي أســاس الدور التربــوي ودور التحويل األيديولوجي‬ ‫اللذين تقوم بهما الفنون في الحياة االجتماعية"(‪.)13‬‬

‫للفنون إذن‪ ،‬مهمات ال غنى عنها في كل حضارة من‬

‫هنــاك مــن علمــاء الغــرب وفالســفته المعاصريــن‬

‫الحضارات وإن اختلفت مرجعياتها الفلسفية‪ ،‬أو تباينت‬

‫االجتماعية التاريخية‪ ،‬ويعتبر "هيجل" من أشهر القائلين‬

‫تشــترك فــي أن أهــم مقاصــد الفنــون تتمثــل فــي تنميــة‬

‫مــن ذهــب إلــى أن الشــيء الجميــل هــو نتــاج الممارســة‬

‫غاياتها النهائية‪ .‬وتكاد أغلب الرؤى الحضارية والفلسفية‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫مــا يجافيها ويتناقض معهــا أحيا ًنا‪ .‬وال يصح أن نتجاهل‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إلــى ذروة ســنام إدراك الجمــال المجــرد مــن كل عيــب‪،‬‬

‫تطهيــر للنفــس اإلنســانية‪ ،‬وضمانة للتماســك والتجانس‬

‫‪41‬‬


‫‪1037‬م) رأى أن "جمــال الشــيء وبهــاؤه هــو أن يكــون‬

‫ال كتاب الدكتور محمد عمارة‬ ‫جدا كما أسلفنا‪ ،‬ومنها مث ً‬ ‫ًّ‬

‫الموسيقى" استعاد فيها النظرية الكالسيكية حول التوافق‬

‫علي عزت بيجوفتش "اإلسالم بين الشرق والغرب" ففيه‬

‫علــى مــا يجــب لــه"(‪ .)5‬وابــن طفيــل كتب رســالة في "فن‬

‫أيضــا كتاب الرئيس‬ ‫"اإلســام والفنــون الجميلــة"‪ ،‬ومنها ً‬

‫بيــن أجنــاس األلحــان واألمزجــة البشــرية‪ ،‬وأكــد علــى‬

‫فصل عميق المعنى حول الفنون الجميلة ومقاصدها‪.‬‬

‫االمتدادات التربوية والتطبيقية لهذا التوافق‪ ،‬بما في ذلك‬

‫الدكتــور عمــارة َّبيــن فــي كتابــه أن الفنــون يجــب أن‬

‫التطبيقات الطبية عنده(‪ .)6‬أما اإلمام أبو حامد الغزالي فقد‬

‫تكــون جميلــة في ذاتهــا‪ ،‬وجميلة في تأثيراتهــا ووظائفها‬

‫قســم الجمال إلى "جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين‬

‫ومقاصدهــا‪ ،‬وأن "فنــون الدعــة والبطالــة والتــواكل‪،‬‬

‫ونور البصيرة"(‪ .)7‬وشــرح الغزالي كيف أن الموســيقى أو‬

‫والعــزم واالنتمــاء والنهوض"‪ .‬األولى فنون جميلة بناءة‪،‬‬

‫االسترخاء والسطحية والتفاهة‪ ،‬غير فنون الحمية والعمل‬

‫الــرأس‪ ،‬وجمــال الصــورة الباطنــة المدركــة بعيــن القلب‬ ‫فــن "الســماع" "يثمــر حالة في القلب تســمى الوجد‪ ،‬وأن‬

‫والثانية فنون ولكنها ليســت جميلة بل هدامة‪ .‬وهو يرى‬

‫"اضطرابا"‪ ،‬أو بحركات موزونة تســمى التصفيق‬ ‫تســمى‬ ‫ً‬

‫والمواهب الرشــيدة‪ )...( ،‬إلثارة المشــاعر والعواطف"‪.‬‬

‫أن "الفــن الجميــل (‪ )...‬مهــارة يحكمهــا الــذوق الجميل‬

‫الوجد يؤدي إلى تحريك األطراف بحركات غير موزونة‬

‫أيضا إلــى أن خــروج المهارات‬ ‫وذهــب الدكتــور عمــارة ً‬

‫والرقــص"‪ .‬وأكــد علــى أن كل ســماع‪ ،‬يتــم عــن طريــق‬ ‫قــوة إدراك‪ ،‬وأن قــوى اإلدراك الحســية هــي الحــواس‬

‫القلــب‪ ،‬وكل قــوة مــن هــذه القــوى تلــذذ بموضوعها إذا‬

‫ويرجع اإلمام‬ ‫استحق هذا الموضوع هذا الشعور باللذة‪ُ .‬‬ ‫الغزالي كل ألوان الجمال والخير إلى اهلل تعالى المتصف‬

‫بصفات الجمال والجالل فيقول‪" :‬ال خير وال جمال وال‬

‫ســينا الــذي أوردنــاه قبــل قليل وهو أن "جمال كل شــيء‬

‫وبهــاؤه هــو أن يكون على ما يجــب له"‪ .‬وينتهي الدكتور‬

‫عمارة إلى أن الفن المتسق مع اإلسالم هو الذي يحقق‬ ‫مقاصده في أمته وفي اإلنسانية‪ ،‬عندما تشيع فيه الصبغة‬ ‫التــي صبغــت بها عقيدته وميــزت بهــا أيديولوجيته إبداع‬

‫اإلنســان الفنــان‪ ،‬إنهــا خيــوط غيــر مرئية تلــك التي تربط‬

‫لــه ثــان‪ ،‬ال في اإلمــكان وال في الموجود"(‪ .)8‬ونستشــف‬

‫أما الرئيس بيجوفتش‪ ،‬فقد رسم ‪-‬في الفصل الثالث‬

‫مــن تلك الرؤى العقيدية والفلســفية للفنون والجماليات‬ ‫الكونية والنفســية‪ ،‬أن فالســفة المسلمين قد أدركوا عمق‬ ‫عالقــة الفنــون بمقاصد الشــريعة‪ ،‬وخاصة بمقاصد حفظ‬

‫الدين وحفظ العقل وحفظ النفس‪ .‬ومقتضى كالمهم أن‬

‫حتمــا إلى اإلقــرار بوحدانية‬ ‫التأمــل فــي الجماليــات مؤد ً‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫االتصــاف بالجمــال"‪ ،‬واستشــهد علــى ذلــك بقــول ابــن‬

‫محبوب في العالم إال وهو حســنة من حســنات اهلل‪ ،‬وأثر‬ ‫وغرفــة من بحر جــوده ســواء ُأدرك هذا‬ ‫مــن آثــار كرمــه‪َ ،‬‬ ‫الجمــال بالعقــول أو بالحواس‪ ،‬وجماله تعالى ال يتصور‬

‫‪40‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الخمــس‪ ...‬وأمــا القــوى الباطنــة فمنهــا قوة العقــل وقوة‬

‫والفنــون عــن المقاصــد الرشــيدة يجردهــا مــن شــرف‬

‫الوضع اإللهي باإلبداع اإلنساني الجميل"(‪.)9‬‬

‫مــن كتابــه‪ -‬معالــم نظرية إســامية في الفنــون من منظور‬ ‫إســامي وبرؤيــة فلســفية عميقة‪ .‬وكشــف لنــا ببراعة عن‬

‫عمــق الصلــة بيــن الديــن والفــن واألخــاق عندمــا قــال‪:‬‬

‫"الديــن يؤكــد علــى الخلــود والمطلــق‪ ،‬وتؤكــد األخالق‬ ‫علــى الخير والحرية‪ ،‬ويؤكد الفن على اإلنســان والخ ْلق‬

‫اهلل تعالــى‪ ،‬وإلــى االتــزان العقلي‪ ،‬والهدوء النفســي على‬

‫(‪ )...‬وفــي جــذور الديــن والفــن هنــاك وحــدة مبدئيــة"‪.‬‬

‫نســميه "الصحة‬ ‫بتلــك الجماليــات وفنونهــا فــي تقويــة ما ّ‬

‫‪-‬إلــى جانــب عالم الطبيعة‪ -‬هو المصدر األساســي لكل‬

‫مســتوى األفــراد والجماعــات‪ .‬ومــن ثم يســهم االهتمام‬

‫العامة" و"السلم األهلي" وفق مصطلحاتنا المعاصرة‪.‬‬

‫أمــا حدي ًثــا‪ ،‬فبحــوث العلمــاء فــي موضــوع الفنــون‬

‫الجميلــة وعالقتهــا بمقاصد الشــريعة قليلة‪ ،‬بل هي نادرة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وذهــب بيجوفتــش إلــى أن وجــود عالم آخــر ونظام آخر‬ ‫ديــن وفــن‪ ،‬فــإذا لــم يكن هناك ســوى عالم واحــد‪ ،‬لكان‬

‫ال‪ .‬وهــو يعتبــر العمــل الفني مــن حيث هو‬ ‫الفــن مســتحي ً‬ ‫إبداع "ثمر ًة للروح"‪ .‬وبينما يكون المطلوب في العلم أن‬


‫الفــن املتســق مع اإلســام هــو الــذي يحقق‬

‫علــى قلــب النبــي األميــن‪ .‬فآيــات الكتاب المقــروء‪ ،‬هي‬

‫مقاصده يف أمته ويف اإلنســانية‪ ،‬عندما تشــيع‬

‫وآيــات الكــون المنظور‪ ،‬مــن أعظم آيــات الجمال الذي‬

‫فيــه الصبغة التي صبغت بهــا عقيدته وميزت بها‬

‫وم ِّنزل‬ ‫يطــرح في النفــس الطمأنينة واليقين بخالق الكون ُ‬

‫أيديولوجيتــه إبــداع اإلنســان الفنــان‪ ،‬إنها خيوط‬

‫الكتاب ‪ .‬أما إذا بحثنا عن بداية تجلي الجماليات في‬

‫غري مرئيــة تلك التي تربط الوضــع اإللهي باإلبداع‬

‫صــور ماديــة‪ ،‬فــإن نشــأتها ‪-‬بالتقريب‪ -‬ترجع إلــى العام‬

‫اإلنساين الجميل‪.‬‬

‫األول للهجــرة النبويــة مــن مكة إلى المدنيــة؛ حيث ظهر‬ ‫نموذجها األول في تخطيط مسجد قباء وهو أول مسجد‬

‫بناه الرسول ‪ .‬وكان نزوله ‪ ‬أرض قباء في ربيع األول‬

‫أيضا قد انفتحت‬ ‫وافرا من العناية واالهتمام‪ ،‬وأنها ً‬ ‫حظًّ ا ً‬

‫من السنة األولى للهجرة‪ ،‬الموافق سبتمبر من سنة ‪622‬م‪.‬‬

‫علــى مختلف الخبــرات الحضارية وهذبتها واســتوعبتها‬

‫ورغــم نــدرة المعلومــات التــي وصلتنــا عــن تفاصيل‬

‫وأضافت إليها وصبغتها بطابعها اإلسالمي الخاص‪ .‬كما‬

‫تصميــم ذلــك المســجد ومكوناتــه المعماريــة‪ ،‬إال أن‬

‫تدلنا تلك اآلثار على أن "وجود اهلل" هو األساس العقيدي‬

‫المتوافــر مــن تلــك المعلومــات يؤكــد في أغلبــه على أن‬

‫الذي صبغ كل أعمال الفن اإلسالمي‪ ،‬وكما يقول روجيه‬

‫خلــوه مــن التعقيــدات وامتــاءه بالبســاطة واالنســجام‬

‫ال‪،‬‬ ‫جــارودي‪" :‬إن كل غــرض حتــى ذلــك األكثر اســتعما ً‬

‫بيــن عناصــر المســجد المعمارية والوظيفيــة‪ ،‬هي أوضح‬

‫انتقلــت تلــك العناصــر إلى بقية المســاجد فــي طول بالد‬ ‫اإلســام وعرضهــا‪ .‬ولم يمض وقت طويــل حتى "اتخذ‬

‫الفــن اإلســامي المعماري الجديد أهم أشــكاله المميزة‬ ‫خالل العقدين األخيرين من القرن األول الهجري‪ ،‬وهما‬

‫األوالن مــن القــرن الثامــن الميــادي‪ ،‬وأشــهر‬ ‫العقــدان ّ‬

‫األمثلــة علــى ذلــك هــو الجامع األمــوي في دمشــق"(‪.)1‬‬

‫ودخل"المســجد" فــي صلــب التخطيــط العمراني للمدن‬

‫واألمصــار‪ ،‬وأصبــح ال يمكــن تصور مدينة إســامية إال‬ ‫بوجود المسجد الجامع في وسطها‪ .‬ثم تكاثرت الفنون‬ ‫المرتبطة بتصميم المســاجد وتشــييدها‪ ،‬وتطورت بمرور‬

‫الزمن مع انتشــار اإلســام ودخول أمــم ذات حضارات‬ ‫عريقــة فيــه‪ ،‬ومنها حضــارات الصيــن‪ ،‬والهنــد‪ ،‬وفارس‪،‬‬

‫وروما‪ ،‬واليونان(‪.)2‬‬

‫ودون الدخول في تفاصيل تاريخ الفنون التي عرفتها‬

‫المتاحف والمعارض المتخصصة في الفنون اإلســامية‬

‫وجنوبــا ‪-‬وأحدثهــا هــو‬ ‫ال‬ ‫وآثارهــا شــر ًقا‬ ‫وغربــا‪ ،‬وشــما ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متحــف "الســام عليــك أيهــا النبــي" بمكــة المكرمــة(‪-)3‬‬

‫تدلنــا علــى أن الفنــون الجميلــة بمختلــف أنواعهــا نالــت‬

‫منبــرا‪ ،‬أو‬ ‫محرابــا في مســجد‪ ...‬هــو محفور‬ ‫ً‬ ‫حصــان‪ ،‬أو ً‬

‫ومرصع أو مطروق ليشهد أنه عالمة على وجود اهلل"(‪.)4‬‬ ‫ورغــم كثــرة البحــوث فــي قضايــا الفنــون اإلســامية‬

‫ومشــكالتها النظرية والعملية‪ ،‬إال أن الســؤال عن عالقة‬ ‫هــذه الفنــون بالمقاصــد العامــة للشــريعة‪ ،‬لــم يحــظ بمــا‬

‫يستحقه من الدرس والتأصيل‪ .‬وال تزال أغلب البحوث‬

‫فــي الفنــون اإلســامية معنيــة بالجوانــب التاريخيــة‪ ،‬أو‬ ‫الفقهيــة (الحــال والحــرام)‪ ،‬أو المعماريــة والهندســية‪،‬‬

‫أو بعالقات التأثير والتأثر بين الفنون اإلســامية وغيرها‬ ‫مــن فنــون الحضــارات األخــرى‪ .‬أو هــي معنيــة بمســائل‬ ‫وموضوعــات مفــردة مثــل فــن الرســم‪ ،‬أو فــن التصويــر‪،‬‬

‫أو فــن التمثيــل‪ ،‬أو فــن الشــعر‪ ،‬أو فن الموســيقى‪ ،‬أو فن‬ ‫الغناء‪ ،‬أو فن الزخرفة والزركشــة؛ دون محاولة اكتشــاف‬ ‫عالقة كل هذه الفنون بالمقاصد العامة للشريعة‪.‬‬

‫قديمــا تنــاول علمــاء المســلمين الفنــون الجميلــة‬ ‫ً‬ ‫ومســائلها بقدر كبير من التوســع مع التعمق الفلســفي‪.‬‬ ‫ال ربطوا األخالق والجمال بالعقل وبالشرع‬ ‫فالمعتزلة مث ً‬ ‫ــن فــي نظــر العقــل يكــون‬ ‫معــا‪ ،‬وذهبــوا إلــى أن مــا َح ُس َ‬ ‫ً‬ ‫حســنا في نظر الشــرع‪ .‬وابن ســينا (‪428-370‬هـ‪-980/‬‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الحضــارة اإلســامية فــي تاريخها الطويل‪ ،‬فــإن مقتنيات‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المعالم الجمالية األولى التي تجلت في مسجد قباء‪ ،‬ومنه‬

‫ســواء كان ســي ًفا أو إبري ًقا‪ ،‬أو طب ًقا من نحاس‪ ،‬أو ســرج‬

‫‪39‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غانم*‬

‫تصح قراراتك ما لم تكن صاحب منطق‪ ،‬وال منطق بغير عقل‪ ،‬وال عقل بال علم‬ ‫ال ّ‬ ‫وعرفان‪ ،‬فمتى ما َ‬ ‫رأيت عق ًال عاط ًال‪ ،‬ومنط ًقا خاد ًعا‪ ،‬وقرارات مخطئة‪ ،‬فاعلم أنك بإزاء‬ ‫إنسان غارق بجهالته‪ ،‬سادر في غفلته‪.‬‬

‫املوازين‬

‫مقاصد الرشيعة مبذاق الفنون الجميلة‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الجمال واإلســام صنوان ال يفترقان‪ .‬اإلســام دين الســام والخير والرحمة‪ ،‬والجمال عالمة‬

‫‪38‬‬

‫السالم والخير والرحمة‪ .‬ولهذا فإن الفنون الجميلة بمختلف ألوانها ذات وشائج قوية وعميقة‬

‫بالمقاصــد العامــة للشــريعة‪ .‬فهــذه الفنــون مــن أدوات تحقيــق المقاصد‪ ،‬وازدهارهــا دليل على‬

‫االقتراب من أعلى مراحل تحققها في الواقع‪ .‬وما ازدهرت مقاصد الشريعة في الواقع إال بمذاق الفنون الجميلة‪.‬‬ ‫تصورنا أن النشــأة األولى للفنون اإلســامية ترجع إلى لحظة نزول أول آية من آيات الذكر الحكيم‬ ‫وفي ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫مفــردات عالــم الغيــب‪ ،‬كالمالئكــة‪ ،‬والجن والشــياطين‪،‬‬

‫ولذلك كان اســتخدام القرآن الكريم للتصورات الحسية‬

‫كثيــرا ‪-‬كمقدمــات صغرى وكبرى‪ -‬للوصــول إلى نتائج‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ِل‬ ‫ب‬ ‫إل‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ون‬ ‫ر‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫‪‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫في‬ ‫كما‬ ‫عقلية‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ َْ َ‬ ‫َ َْ ُ َ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ف ُر ِف َع ْت ‪َ ‬و ِإ َلى ا ْل ِجب ِ‬ ‫ف‬ ‫ال َك ْي َ‬ ‫الس َما ِء َك ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ُخل َق ْت َو ِإ َلى َّ‬ ‫ــت ‪َ ‬و ِإ َلــى ا َ‬ ‫ف ُس ِط َح ْت‪(‬الغاشــية‪)20-17:‬؛‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َك ْي َ‬ ‫ُن ِص َب ْ‬ ‫فاإلبــل وخلقهــا‪ ،‬والســماء ورفعهــا‪ ،‬والجبــال ونصبهــا‪،‬‬

‫والجنــة‪ ،‬والنــار‪ ،‬والحــوض‪ ،‬والصــراط‪ ،‬ونعيــم القبــر‬

‫أيضا لما يتعلق بها‬ ‫مصدرا‬ ‫وعذابه‪ ،‬وبذلك يكون‬ ‫وحيدا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا مصدر وحيد لتصور مفردات‬ ‫مــن تصديقــات‪ .‬وهو ً‬

‫أيضا‬ ‫الديــن‪ ،‬كالصالة‪ ،‬والصوم‪ ،‬والــزكاة‪ ،‬والحج‪ ،‬وهو ً‬ ‫مصدر وحيد للتصديقات الناشئة عن نسبتها إلى بعضها‪.‬‬ ‫‪-4‬خبــر الموثــوق‪ :‬وهو مصــدر صحيح للتصورات‪،‬‬

‫واألرض وتســطيحها‪ ،‬كلهــا تصــورات مصدرها الحس‪،‬‬

‫شــريطة أن يكــون الموثــوق منطل ًقــا فــي نقلــه عــن أحــد‬

‫ولــم يمنــع ذلــك أن تكــون النســبة العقليــة بينهــا طري ًقــا‬

‫مصادر التصور الصحيحة المتقدمة‪.‬‬

‫للوصول إلى نتيجة غيبية‪.‬‬

‫أيضا‬ ‫ومــن الطبيعــي أن نســأل عــن القعل؛ أليس هــو ً‬

‫عاجــزا عــن رصــد كثيــر مــن‬ ‫إال أن الحــس يبقــى‬ ‫ً‬ ‫التصورات التي يحتاج اإلنسان إلى الحكم عليها لحياته‬

‫مصدرا من مصادر التصورات؟ والجواب؛ قد يتبادر إلى‬ ‫ً‬

‫على قناعاته الدينية‪ .‬وهذا العجز حاول القدماء التخلص‬

‫لكــن التصــورات موجــودة فــي الخارج‪ ،‬والتعــرف عليها‬

‫الذهــن أن التصــور هــو عمليــة عقلية صرفــة‪ ،‬وهذا حق‪،‬‬

‫العامــة االجتماعية‪ ،‬أو لتســيير حركته العلمية‪ ،‬أو البرهنة‬

‫يتــم بالطــرق األربــع المتقدمــة‪ ،‬وليس للعقــل قدرة على‬

‫قائما مقام الحس‬ ‫منه بطرق منها؛ اعتبار التواتر المعنوي ً‬

‫اســتحداث تصــورات مــن تلقــاء نفســه‪ ،‬وإنمــا هــو ذاكرة‬

‫كتصــور المــدن النائية‪ ،‬أو الشــخوص التاريخية القديمة‪،‬‬

‫العــرب بطريــق التواتــر المعنــوي‪ ،‬وأقــر اهلل هــذه المعرفة‬ ‫َ‬ ‫ــم َي ْه ِد َل ُه ْم َك ْم‬ ‫وبنــى ســبحانه وتعالى خطابه عليها‪ :‬أ َو َل ْ‬ ‫ون ِفي َمس ِ‬ ‫َأ ْه َل ْك َنا ِم ْن َقب ِلهِ م ِم َن ا ْل ُقر ِ‬ ‫اك ِنهِ ْم إ َِّن ِفي‬ ‫ون َي ْم ُش َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َذ ِل َك َل َي ٍ‬ ‫ون‪(‬السجدة‪.)26:‬‬ ‫ات َأ َف َ‬ ‫ال َي ْس َم ُع َ‬ ‫‪-2‬الفطرة‪ :‬وهي وإن كانت التصورات المنبعثة عنها‬ ‫أقــل بكثير ممــا ينتج عن المصادر األخرى‪ ،‬إال أنها تدل‬ ‫علــى أعظــم مدلــول وهو اهلل‪ ،‬كما تدل على نســبة الخلق‬

‫ومنهم َمن ينكرها‪.‬‬

‫وحيدا لتصورات‬ ‫‪-3‬الوحي‪ :‬وهو مصدر يكاد يكون‬ ‫ً‬

‫أو الوحي‪ ،‬أو الخبر المتواتر‪ ،‬أو خبر الموثوق‪.‬‬

‫نعــم‪ ،‬إن بمقــدوره تكويــن الصــورة بطريــق التذكــر‪،‬‬

‫أو بطريــق التركيــب‪ ،‬أو بطريــق االنتــزاع والتخيــل‪ .‬بــل‬ ‫إن العقــل هــو الوســيلة األولــى للربــط بيــن المتصورات‬ ‫إلحداث النسبة التي ينتج عنها التصديق‪ ،‬كما أنه الفاعل‬

‫أيضــا في الربط بين التصديقــات للحصول على‬ ‫األقــوى ً‬

‫الفكرة أو مجموعة األفكار‪.‬‬

‫كل ذلك صحيح‪ ،‬لكنه ال يعني أنه مصدر من مصادر‬

‫التصور‪ ،‬بل هو اآللة الوحيدة لحفظها والتحكم فيها‪.‬‬

‫مصدرا‬ ‫ومن أسباب االضطراب الفكري اعتبار العقل‬ ‫ً‬

‫للتصــورات‪ ،‬فإننــا نجد أن هناك فئة تقيم تصديقاتها على‬ ‫ٍ‬ ‫تصــورات مصدرهــا العقــل‪ ،‬والحقيقــة أن كل تصــور‬

‫مصــدره العقــل‪ ،‬ليــس لــه وجــود خارجــي حقيقــي‪ ،‬فهــو‬

‫إمــا متخيــل وإمــا موهوم‪ .‬وبمــا أن التصديقات ‪-‬ومن ثم‬

‫األفــكار‪ -‬تعــد التصــورات هــي لبناتها‪ ،‬فــإن كل تصديق‬ ‫مبنــي علــى تصــور موهــوم أو متخيــل ال يمكــن أن ينتج‬ ‫عنها أفكار متزنة‪.‬‬

‫(*) أستاذ في أصول الفقه‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫إليــه ‪ ‬ونفــي الشــريك عنــه‪ ،‬فهــي تــدل علــى اهلل تعالى‬ ‫‪‬وإ ِْذ َأ َخ َذ َر ُّب َك‬ ‫تصورا وتصدي ًقا‪ ،‬وهذا مدلول قوله ‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آد َم م ْن ُظ ُهورِ ه ْم ُذرِّ َّي َت ُه ْم َو َأ ْش َه َد ُه ْم َع َلى َأ ْن ُفسهِ ْم‬ ‫ِم ْن َب ِني َ‬ ‫ــم َقا ُلوا َب َلى َشــهِ ْد َنا َأ ْن َت ُقو ُلوا َي ْــو َم ا ْل ِق َي َام ِة ِإ َّنا‬ ‫َأ َل ْس ُ‬ ‫ــت ب َِر ِّب ُك ْ‬ ‫ين‪(‬األعراف‪ .)172:‬أما ما ســوى ذلك من‬ ‫ُك َّنا َع ْن َه َذا َغا ِف ِل َ‬ ‫مدلــوالت‪ ،‬فمــن الفالســفة المثبتيــن للفطــرة َمــن يثتبها‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وهــو حــل لم ينكره القرآن بل أقــره‪ ،‬وذلك في مثل قوله‬ ‫ــن َل ُك ِ‬ ‫ــن َمس ِ‬ ‫ــاك ِنهِ ْم‬ ‫ــادا َو َث ُم َ‬ ‫‪‬و َع ً‬ ‫ــود َو َق ْــد َت َب َّي َ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫ــم م ْ َ‬ ‫الشــي َط ُ َ‬ ‫يل َو َكا ُنوا‬ ‫الس ِــب ِ‬ ‫َو َز َّي َن َل ُه َم َّ ْ‬ ‫ان أ ْع َما َل ُه ْم َف َص َّد ُه ْم َع ِن َّ‬ ‫ين‪(‬العنكبوت‪.)38:‬‬ ‫ُم ْس َت ْب ِص ِر َ‬ ‫فاألمــم الســابقة ‪-‬كعــاد وثمــود‪ -‬كانــت معروفة عند‬

‫لتلك التصورات التي يتعرف عليها العقل بطريق الحس‪،‬‬

‫‪37‬‬


‫أحكامــا دون أن‬ ‫يتســورون علــى المســائل ويعطــون فيها‬ ‫ً‬ ‫َّ‬

‫إذن فالحصــول علــى تصــورات صحيحــة هــي أولى‬

‫ورأي األصولييــن وإن كان ســياقهم لــه فــي قضيايــا‬

‫التفكيــر كمــا أن الحــروف هــي مفــردات اللغــة‪ .‬وربمــا‬

‫معطيــات التــوازن الفكــري‪ ،‬ألن التصورات هي مفردات‬

‫يكون طريقهم لذلك اآللة الصحيحة لالجتهاد‪.‬‬

‫صحيحــا بغيــر حروفــه‬ ‫أن التعبيــر ال يمكــن أن يكــون‬ ‫ً‬ ‫مســتقيما دون‬ ‫الموضوعــة لــه‪ ،‬فالفكر ال يمكن أن يكون‬ ‫ً‬

‫يســوغ فيها االجتهاد‪ ،‬إال أن القاعدة‬ ‫الفروع الفقهية التي‬ ‫ّ‬ ‫صحيحــة يمكــن أن تنقــل إلــى جميع فــروع الفكر الذي‬

‫تصــورات صحيحــة‪ .‬والحصــول على التصــور الصحيح‬

‫مــت تعريفــه بأنه التصور اإلجمالــي والتفصيلي لواقع‬ ‫ّ‬ ‫قد ُ‬

‫كنهــه‪ ،‬وعوامــل تكوينه‪ ،‬ومآالتــه‪ ،‬وطرق‬ ‫مــا‪ ،‬مــن حيــث ُ‬

‫وأيضا مســؤولية المستهلك‬ ‫هو مســؤولية المفكر نفســه‪،‬‬ ‫ً‬

‫قســم العلمــاء اإلدراك إلى تصــور وتصديق‪،‬‬ ‫وعندمــا ّ‬

‫جهــد يتوانــى الكثيــر ممن يمارســون الكتابة فــي القضايا‬

‫ال يمكــن أن يصــل إلــى التصديقــات الصائبــة‪ ،‬وامتــاك‬

‫الج َلــد حتــى علــى تحليــل األفــكار إلى‬ ‫فلــم ْ‬ ‫يعــد لديهــم َ‬

‫نفســه‪ ،‬والقيــام بهــا ‪-‬المســؤولية المنوطــة‪ -‬يحتــاج إلــى‬

‫تحسينه‪ ،‬وعالج آفاته‪.‬‬

‫الفكريــة عــن تحصيلــه‪ .‬وكذلــك المســتهلكون للفكــر‪،‬‬

‫فإنهم أردوا بذلك أن َمن ال يملك التصورات الصحيحة‬

‫تصوراتهــا األولية لفحصها‪ .‬فجمع التصورات عند كثير‬

‫التصــورات الصحيحــة هي في الحقيقــة أدوات االجتهاد‬

‫من الكتاب أو فحصها عند نســبة أكبر من المســتهلكين‪،‬‬

‫في مسألة من مسائل الفكر‪.‬‬

‫يتم بطريقة متقاربة في كل القضايا التي يتطرقون إليها‪.‬‬

‫مقــوم مــن مقومــات‬ ‫وأخ ُلــص مــن هــذا إلــى أن أول ِّ‬

‫بعــد جمــع التصورات‪ ،‬تأتــي مرحلة إحداث النســبة‬

‫التــوازن الفكــري‪ ،‬هــو امتالك التصــورات الصحيحة عن‬ ‫ســاذجا كتصور الصــور من جبال‬ ‫أوليا‬ ‫أن يكــون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تصــورا ًّ‬

‫معقدا وهو تصور المعاني‬ ‫تصورا‬ ‫وأنهــار وصحــارى‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المغيبات‬ ‫كالحــق والصــدق والصواب والخطأ‪ ،‬وتصــور‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫صنــف مــن هــذه التصــورات‬ ‫كالجــن والمالئكــة‪ ،‬وكل‬ ‫ِ‬ ‫المتالكــه يختلــف عــن الجهــد المراد‬ ‫يحتــاج إلــى جهــد‬

‫للصنف اآلخر‪ .‬فحين أتصور الناقة ال أحتاج إلى مجهود‬ ‫ذهني كبير‪ ،‬ألنه بمجرد طروء االسم على الخاطر‪ ،‬تنتج‬

‫صــورة مطابقــة لوجــود مثيالتهــا فــي الذاكــرة‪ .‬أمــا حيــن‬

‫أتصــور حيــوان البانــدا‪ ،‬فأحتــاج إلــى مجهــود ذهني أكبر‬ ‫لعدم وجود رصيد مطابق في الذاكرة‪ ،‬وربما ال ِ‬ ‫أصل إلى‬ ‫الصورة الصحيحة‪ ،‬وأحتاج في الوصول إليها إلى البحث‬

‫عــن صــور مطابقــة‪ ،‬ومع ذلك فإن المجهــود الذي يبذله‬ ‫الذهــن فــي تصور البانــدا‪ ،‬أقل بكثير مــن المجهود الذي‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫يبذله لتصور الروح والمالئكة والحق والخطأ والصواب‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫تأتي مشكلة التوازن الفكري حين يتعامل الذهن مع‬

‫التصورات المعقدة بالطريقة نفســها التي يتعامل بها مع‬ ‫ذهنيا‬ ‫التصــورات الســاذجة‪ ،‬فيبــذل فــي كليهمــا‬ ‫ً‬ ‫مجهــودا ًّ‬

‫متســاويا‪ ،‬عند ذلك ســتكون تصوراته في األمور المركبة‬ ‫ً‬

‫تصورات ساذجة‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إيجابا‪ .‬والتصور إما‬ ‫سلبا أو‬ ‫ً‬ ‫كل قضية ُيراد الحكم عليها ً‬

‫بينهــا لتكوين ما يســميه المناطقــة بـ"التصديق" وهو ‪-‬كما‬

‫قدمــت‪ -‬اإلدراك المتضمن للحكم‪ .‬فالتصديق هو نســبة‬ ‫التصورات إلى بعضها؛ فبعد أن أتصور القطب الشمالي‪،‬‬

‫وأتصــور معنــى التجمد‪ ،‬وأتصــور معنى تمركز الشــمس‬ ‫وانحرافهــا‪ ،‬أحكــم علــى القطــب الشــمالي بأنــه متجمد‪.‬‬

‫فقولنــا‪ :‬القطــب متجمــد‪ ،‬تصديــق مبنــي علــى عــدد مــن‬ ‫ّ‬ ‫التصــورات أدت النســبة الصحيحــة لبعــض إلــى البعــض‬ ‫اآلخر إلى هذه النتيجة‪.‬‬

‫واألفــكار الكليــة أو الجزئيــة هــي مجموعــة مــن‬

‫التصديقــات‪ ،‬يجــري العقــل النســبة بينها لتكــون الفكرة‪.‬‬

‫وبذلك يمكن مناقشة كل فكرة من خالل نقد التصورات‬ ‫األوليــة التــي بنيــت عليهــا‪ ،‬أو نقــد أي مــن التصديقــات‬

‫المكونة لها‪.‬‬ ‫المؤسسة لها‪ ،‬أو نقد النسبة بين التصديقات‬ ‫ّ‬ ‫وكلمــا كانت التصورات ناشــئة مــن مصادر صحيحة‬

‫للتصور‪ ،‬كانت أكثر مناعة عند النقد‪ .‬وكذلك النسبة بينها‬ ‫أو النسبة بين التصديقات تعتمد مناعتها على مدى صحة‬ ‫نسبة بعضها إلى بعض‪ ،‬أو ترتب بعضها على بعض‪.‬‬

‫مصادر التصورات‬

‫‪-1‬الحس‪ :‬مصدر مقر من مصادر التصور‪ ،‬والتصورات‬ ‫الناشــئة عن الحس هي أقوى التصورات على اإلطالق‪،‬‬


‫"التــوازن" هــو االبتناء عىل املعطيــات الصحيحة‬

‫وهــذا الفهــم لمعنــى الفكــر يتوافــق إلــى حــد كبيــر‬

‫لتكوين األفــكار‪ .‬واالتزان ال يعني صواب الفكرة‪ ،‬بل‬

‫ومفهــوم علمــاء النفــس االجتماعــي للرأي العــام‪ .‬وعليه‬ ‫َ‬

‫صواب طريقة التفكري‪ ،‬فــإن من مفارقات الفكر‪ ،‬أن‬

‫يمكــن القــول إن الفكر يســاوي في كثير مــن مظاهره‪ ،‬ما‬

‫ســلوك طريق واحدة فيه ال يــؤدي بالرضورة إىل‬

‫يسميه علماء النفس االجتماعي وخبراء اإلعالم بـ"الرأي‬

‫نتيجة واحدة‪.‬‬

‫العــام"‪ .‬وإن كان ثمــة فــرق بيــن األمريــن‪ ،‬فهــو أن الرأي‬ ‫إعالميا‬ ‫العــام قــد يتضمــن قضية تفــرض على المجتمــع‬ ‫ًّ‬

‫سياســيا‪ ،‬وليســت فــي الحقيقــة من صميــم اهتماماته‪،‬‬ ‫أو‬ ‫ًّ‬

‫وربمــا ال تكون ضمن األمــور المؤثرة في حياته العادية‪.‬‬ ‫لكــن وســائل اإلعــام قد يكــون لها مصلحة فــي فرضها‬ ‫دائما النأي‬ ‫علــى المجتمــع‪ ،‬وهذا ما يحاول قــادة الفكر ً‬

‫بالمجتمــع عنــه‪ ،‬وذلــك كــي ال تكــون بانفعــاالت األمة‬ ‫خادمة ألصحاب المصالح الخاصة‪.‬‬

‫وثمــة فــرق آخــر بيــن الــرأي العــام والفكــر‪ ،‬وهو أن‬

‫األخيــر ُيــراد بــه تصــورات نخبــة معينة مــن المثقفين‪ ،‬أما‬ ‫الــرأي العــام‪ ،‬فالكل يشــارك في تكوينه‪ ،‬وهــذا الفرق قد‬

‫إلــى ضبــط المراد بهؤالء النخبة التي تســتحق أن تســتأثر‬ ‫بشــكل‬‫فكــرا‪ ،‬مــع أن البشــر‬ ‫بتســمية إنتاجهــا الذهنــي‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫عــام‪ -‬لديهــم نزعة فطرية نحــو الحق؛ بمعنى أن الجميع‬

‫يريــد الحــق فيمــا يعرض له من قضايا‪ ،‬وال فرق في ذلك‬

‫ال إلى‬ ‫بيــن النخبــة وغيرهــم‪ ،‬بل قــد تكون النخبة أقــل مي ً‬

‫تعر ًضا للهوى‬ ‫الحــق مــن عامة الناس‪ ،‬باعتبار أنهم أكثــر ّ‬ ‫الفكري واالنتماء المدرسي من غيرهم‪ .‬أما من سواهم‪،‬‬ ‫شــعوريا‪ ،‬بأنهم ال يمتلكون أدوات‬ ‫تســليما ال‬ ‫فإن لديهم‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫معرفــة الحق في القضايــا المتعلقة بالتصورات التفصيلية‬

‫للواقــع‪ ،‬ومن ثم الحكــم من خاللها‪ ،‬وذلك ألن مصدر‬ ‫المعرفــة المتفــق عليــه‪ ،‬هــو الحــس أو مــا يقــوم مقامــه‪.‬‬

‫متعذ ًرا في الغالبية الســاحقة من قضايا‬ ‫فلمــا كان الحــس ّ‬ ‫جدا‪ ،‬فإن الغالبية‬ ‫الحياة العامة إال على أناس محدودين ًّ‬ ‫الســاحقة يعطون ثقتهم لمن يتصورون أنه قد وصل إلى‬ ‫هذا الموثوق صادق معه إما لمالزمته لصفة الصدق‪ ،‬أو‬

‫ألنــه صاحــب مصلحة في الصدق‪ ،‬ولعل قول اهلل تعالى‪:‬‬ ‫يصدق هذه‬ ‫ــاس َ‬ ‫الن ِ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫ون‪(‬يوســف‪ِّ )21:‬‬ ‫ــن َأ ْك َث َــر َّ‬ ‫‪‬و َل ِك َّ‬ ‫َ‬ ‫الفكــرة‪ ،‬فالنــاس بشــكل عــام ليــس لديهــم أدوات العلم‬

‫آليات التوازن الفكري‬

‫وأعــود هنــا للحديــث عن قولي الســابق‪ :‬ومــن مفارقات‬ ‫الفكر أن سلوك طريق واحدة فيه ‪-‬ولو كانت صحيحة‪-‬‬ ‫ال يــؤدي بالضــرورة إلــى نتيجــة واحــدة‪ ،‬وهــي مشــكلة‬ ‫فلســفية قديمة أدت بكثير من الفالســفة إلى القول بتعدد‬ ‫نظــرا لعجزهــم عــن تفســير اختــاف اآلراء فــي‬ ‫الحــق‪ً ،‬‬ ‫القضية الواحدة مع اتحاد منهج البحث فيها‪.‬‬ ‫وهــم يعنــون بالحــق المتعدد؛ تلك النتائــج المختلفة‬ ‫التــي يصــل إليهــا المفكــرون عنــد اســتخدامهم اآللــة‬ ‫الصحيحة لبلوغ الحق‪ ،‬وهي التي يســميها علماء أصول‬ ‫الفقــه "أدوات االجتهــاد"‪ ،‬والتــي َبنــوا عليهــا قضيتهــم‬ ‫الشــهيرة‪ :‬هــل كل مجتهــد مصيــب؟ أم المصيــب واحــد‬ ‫وغيــره معذور؟ حيــث ال يعنون بالمصيب والمعذور َمن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫المعلومة بطريق الحس أو بأقرب الطرق إلى الحس‪ ،‬وأن‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال يكــون دقي ًقــا‪ ،‬بــل قد يكون غير مســ َّلم بــه‪ ،‬ألنه يحتاج‬

‫بمعنى القطع والتحقق‪ -‬مما يسعون إلى التحقق منه‪.‬‬‫ولهــذا نجــد أن إقبــال الناس علــى القيــادات الفكرية‬ ‫ال‬ ‫طبعيــا‪ ،‬ال يحتاجون إلى َمــن يدلهم عليه‪ ،‬بل ربما‬ ‫إقبــا ً‬ ‫ًّ‬ ‫صــح القــول بأنــه فطــرة‪ .‬فالنــاس إذا لــم يجــدوا أمامهــم‬ ‫ال لقيادتهم‬ ‫قائدا على مواصفاتهم‬ ‫مؤه ً‬ ‫فكريا‪ ،‬صنعوا لهم ً‬ ‫ًّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬ولعل هذا هو معنى قول الرسول ‪" :‬إن اهلل ال‬ ‫انتزاعا ينتزعه من العباد‪،‬‬ ‫يقبض العلم‬ ‫ولكن يقبض العلم‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫الناس‬ ‫عالما اتخذ‬ ‫رؤوسا‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بقبض العلماء‪ ،‬حتى إذا لم ُي ْبق ً‬ ‫علم فض ّلوا وأض ّلوا" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫جها ً‬ ‫ال‪ ،‬فسئلوا ف َأ َفتوا بغير ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ولــك أن تتأمــل فــي قوله ‪" :‬اتخذ النــاس"؛ فالناس‬ ‫إذا لــم يكــن المؤهل لقيادتهــم‬ ‫فكريا أمامهم‪ ،‬اتخذوا من‬ ‫ًّ‬ ‫ا‪ .‬والناس‬ ‫قائــدا‬ ‫فكريــا ولو لم يكن مؤهــ ً‬ ‫تلقــاء أنفســهم ً‬ ‫ًّ‬ ‫ومن يملك القدرات الثقافية‬ ‫يعرفون الموهوب والذكي‪َ ،‬‬ ‫تمكنه مــن التأثير وجــذب األتباع‪ ،‬لكن‬ ‫والخطابيــة التــي ّ‬ ‫ليــس كل َمــن يســتطيع تكويــن قاعــدة جماهيريــة بهــذه‬ ‫فكريا‪.‬‬ ‫حتما لقيادة األمة‬ ‫ًّ‬ ‫الصفات هو األمثل ً‬

‫‪35‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫‪34‬‬

‫ما أعنيه بـ"التوازن" هو االبتناء على المعطيات‬ ‫الصحيحــة ‪-‬فــي نظــري‪ -‬لتكويــن األفــكار‪.‬‬ ‫واالتــزان ال يعنــي صواب الفكرة‪ ،‬بل صواب‬ ‫طريقــة التفكيــر‪ ،‬فــإن مــن مفارقــات الفكــر‪ ،‬أن ســلوك طريــق‬ ‫واحدة فيه ال يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة‪.‬‬ ‫وقبل االســتغراق في هذا المعنى‪ ،‬يحســن أن أبدأ في ذكر‬ ‫مفهومين للفكر؛ فإننا حين نستعرض كشافات االصطالحات‬ ‫العلمية القديمة‪ ،‬نجد الناس بين عا ِلم ومتع ِّلم وجاهل‪ ،‬وربما‬ ‫ُوجد في بعض األوساط مصطلح المتكلم والفيلسوف‪ .‬وفي‬ ‫العصــر الحديــث ُوجد مصطلحان ليس لهما وجود ‪-‬حســب‬ ‫علمــي‪ -‬فــي تراثنا القديم‪ ،‬وهمــا الثقافة والفكر‪ ،‬ويأتي منهما‬ ‫كثيرا في تحديــد معناهما‪،‬‬ ‫المثقــف والمفكــر‪ ،‬ويحــار النــاس ً‬ ‫ومن ثم يحارون في مواضع إطالقهما‪.‬‬ ‫وحديثنــا عــن الفكر خاصة‪ ،‬فالــذي يظهر لي‪ ،‬أن أكثر َمن‬ ‫يتعاطــى هذا المصطلح في ثقافتنا العربية المعاصرة‪ ،‬يريدون‬ ‫بــه "التصور اإلجمالــي والتفصيلي لواقع ما‪ ،‬من حيث كنهه‪،‬‬ ‫وعوامــل تكوينــه‪ ،‬ومآالتــه‪ ،‬وطــرق تحســينه‪ ،‬وعــاج آفاته"‪،‬‬ ‫وتقييــد التصــور باإلجمالــي والتفصيلــي ليشــمل‬ ‫المناطقة الذين يقسمون‬ ‫اإلدراك َ‬ ‫بنوعيه عند َ‬ ‫اإلدراك إلــى تصور وهو اإلدراك المتجرد‬ ‫عــن الحكــم‪ ،‬وتصديــق وهــو اإلدراك‬ ‫المتضمن للحكم‪.‬‬ ‫والواقــع‪ ،‬يشــمل الواقــع الدينــي‪،‬‬ ‫والسياســي‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬والثقافي‪ ،‬واالقتصادي‬ ‫لمجتمــع مــا‪،‬‬ ‫فــكل تصــور لهــذا الواقــع فــي أي جزئيــة مــن‬ ‫ّ‬ ‫فكرا‪ ،‬ولهذا يمكن القول إن الفكر بهذا المفهوم‬ ‫جزئياته ّ‬ ‫يعد ً‬ ‫مشــاع بيــن النــاس‪ .‬فكل إنســان لديه تصور لمــا يحيط به مما‬ ‫ذكرنــا‪ ،‬لكــن الناس يختلفــون في مكانــة تصوراتهم باختالف‬ ‫درجاتهــم‪ ،‬من حيث حصولهــم على المعلومة‪،‬‬ ‫ونوعيــة تع ّلمهــم‪ ،‬وبصيرتهم إلــى غير ذلك‬ ‫من الفروق الفردية بينهم‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التوازن الفكري‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫د‪ .‬محمد بن إبراهيم السعيدي*‬


‫إن إصــاح األجيال مرتهــن بإصالح التعليــم وإخراج‬

‫اإلسالم ومنظومته المعرفية ومناهجه التربوية تحث على‬

‫فلســفته من ضيق املنطق الوظيفي امليت إىل‬

‫تغذية األرواح وبناء كمالها المعرفي وتحصينها في ضوء‬

‫سعة العمل اإلنساين النبيل‪ ،‬أال وهو بناء اإلنسان‬

‫التعاليم اإللهية‪.‬‬

‫بكل أبعاده النفسية والفكرية‪.‬‬

‫إن هذه الرؤية الكلية لإلنسان في المنظور اإلسالمي‬

‫الشــامل التــي تأسســت علــى الوحــي القرآنــي الخاتــم‬

‫والهدي النبوي القائم‪ ،‬والتي تجعل من اإلنسان‬ ‫موجودا‬ ‫ً‬

‫بالــغ فــي نكــران ذاتــك‪،‬‬ ‫وأوغــل فــي محو‬ ‫ْ‬ ‫علــى يديــك‪ْ ،‬‬

‫وعبر‬ ‫األســتاذ فتح اهلل ودعا إليها في فلســفته اإلصالحية ّ‬

‫العبودية له‪ ...‬ذلك أحرى بك كي ال تنسحق تحت أثقال‬

‫علــى العقــل والوجــدان والــروح والجســد‪ ،‬فغــزل ذلــك‬

‫عدا من أبعــاد طبيعتك‪.‬‬ ‫وب ً‬ ‫حتــى تصبــح ً‬ ‫جزءا مــن كيانك ُ‬

‫األعمــاق‪ ،‬ولئــن تقدم واحد منهم على غيره في مســتوى‬

‫يــا قيــوم‪ ،‬برحمتــك أســتغيث‪ ،‬أصلــح لي شــأني كله وال‬

‫وحــده أو يمثلــه أو يعبــر عنــه"(‪ ،)4‬لذلــك كان بنــاء الروح‬

‫قيــت من‬ ‫ور ًدا لــك‪ ،‬ال يفــارق لســانك وال قلبــك‪ ،‬فقــد ُو َ‬ ‫ْ‬

‫يتحمل أمانة االستخالف في هذا العالم‪ ،‬هي التي وعاها‬

‫وأمعن في‬ ‫وانكســر بين يديــه‪،‬‬ ‫وتذلــل أمــام اهلل‪،‬‬ ‫نفســك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫عنها بقوله‪" :‬إن اإلســام طرح عناصر منسوجاته المهمة‬

‫وثبتها في قلبك‬ ‫أنانيتك‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫اغرس هذه الفكرة في روحك‪ّ ،‬‬

‫القمــاش الزاهــي ذا البعــد الدنيــوي‬ ‫والعقبــوي الغائر في‬ ‫ْ‬

‫متضرعا ويقول‪" :‬يا حي‬ ‫كان النبي ‪ ‬يبكي صباح مساء‬ ‫ً‬

‫معين أحيا ًنا فليس في قدرة أي منهم أن يصور اإلســام‬ ‫ّ‬

‫تكلنــي إلى نفســي طرفة عيــن"‪ .‬فإن اتخذت هــذا الدعاء‬

‫تربية إيمانية ارتقائية‪.‬‬

‫االنسحاق تحت حوافر النفس الجموح"(‪.)5‬‬

‫قلوبهــم المخلصــة في حيوية دائبة خدم ًة لإلنســانية‪ ،‬ألن‬ ‫حــول إيقانهــم ومعتقداتهــم‬ ‫تشــبعهم الروحــي والقلبــي َّ‬

‫ال‬ ‫إلــى جــزء مــن طبيعتهــم‪ ،‬فأصبــح أفــق وجدانهــم معاد ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وهــذا ما تجســد‬ ‫عمليــا في أهل الخدمــة‪ ،‬حيث تجد‬ ‫ًّ‬

‫ولضمــان الثبــات على هذا النهــج الصحيح‪ ،‬البد أن‬

‫يجعــل أهــل الخدمــة ‪-‬كمــا يرى األســتاذ كولــن– رِ ضى‬

‫اهلل غايــ َة اآلمــال‪ ،‬واألخــاق هي الــزاد‪ ،‬والقرآن والســنة‬

‫همــا النــور الموصــل إلــى الهــدف‪ .‬هذا هو الشــيء الذي‬

‫لمســتواهم اإلنســاني‪ ،‬فكل واحد منهم يخدم المجتمع‬

‫كونيا فوجدت الفكرة احتضا ًنا‬ ‫أكســب هذه الرســالة ُب ً‬ ‫عدا ًّ‬ ‫َ‬

‫محرومة من العديد من الحاجات العصرية‪ ،‬وإلى مناطق‬

‫نوعا من االزدهار واإلبداع في مختلف‬ ‫عرفــت تجلياتهــا ً‬

‫وعاداتهــا عنهــم‪ ،‬يخرجــون متوكليــن على اهلل متســ ّلحين‬

‫المجددين في عصرنا الراهن‪.‬‬ ‫واحدا من‬ ‫يجعله‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫وفــق قدراتــه وإمكانته‪ .‬فهــم يخرجون إلــى مناطق بدائية‬

‫فــي مختلــف البيئــات والمجتمعات اإلســامية‪ ،‬كما أنها‬

‫تحتــدم فيهــا المعــارك‪ ،‬وإلــى مناطــق تختلــف حضارتها‬

‫مظاهــر الحيــاة‪ ،‬وهو ما ُيخرج األســتاذ إلى فضاء أرحب‬

‫بالصبر والتضحية ونكران الذات‪ ،‬مستثمرين تلك التربية‬ ‫الروحيــة التــي عملــت علــى غــرس الفضائل‬ ‫وبــث القيم‬ ‫ِّ‬

‫وترســيخها فــي الجنــان وتحويلهــا إلــى ســلوك وأعمــال‬

‫أهلــت أصحابهــا للتحقــق ببطولــة‬ ‫ومعامــات‪ ...‬تربيــة ّ‬ ‫ربانيــة بــا نظيــر‪ ،‬بطول ٍة ما فتئ األســتاذ يســتنهض الهمم‬ ‫وشــامخة هــذه قطــرة مــن َي ّمهــا‪" :‬أيهــا البطــل الــذي نذر‬

‫روحــه للحقيقــة! هــذا هو القلق الــذي ينبغي أن يمور في‬

‫ورا‪،‬‬ ‫هزا‪ ،‬كي ال تنقطع تج ّليات‬ ‫ويهز كيانك ًّ‬ ‫ّ‬ ‫أحشائك َم ً‬ ‫الرعايــة الربانيــة‪ .‬ومــن ثــم‪ ،‬كلمــا عظم النجــاح الذي تم‬

‫الهوامش‬ ‫(‪)1‬‬

‫انظر‪ :‬فتح اهلل كولن‪ :‬جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية‪ ،‬محمد‬ ‫أنس أركنه‪ ،‬ص‪.291:‬‬

‫(‪ )2‬الموازين أو أضواء على الطريق‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬ص‪.88:‬‬

‫(‪ )3‬مقتطــف من الرســالة التي وجهها األســتاذ فتــح اهلل كولن إلى مؤتمر‬ ‫"مســتقبل اإلصالح في العالم اإلســامي" الذي انعقد بالقاهرة ســنة‬ ‫‪2009‬م‪.‬‬

‫(‪ )4‬ونحن نقيم صرح الروح‪ ،‬فتح اهلل كولن‪ ،‬ص‪.233:‬‬

‫(‪ )5‬محــو الــذات‪ ،‬فتــح اهلل كولــن (مجلــة حــراء‪ ،‬العدد‪/24:‬مايو‪-‬يونيــو‬ ‫‪.)2011‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫لبلــوغ أعلــى ذراهــا عبر نــداءات قلبية ووجدانيــة صادقة‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬الرباط ‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫تفــوق طــاب هــذه المــدارس والجامعــات‬ ‫يكمــن فــي ّ‬

‫مختلف البناءات التي يكتمل بها معمار اإلنسان‪ ،‬والذي‬

‫لخريجي‬ ‫(‪)FEM‬؛ وهي مدارس تقوية ودعم تقدم خدمتها ّ‬

‫فمهمــا كانت خصائص اإلنســان الوراثيــة البيولوجية‬

‫وخريجيهــا‪ ،‬والفضــل فــي ذلــك يرجــع لمــدارس "فــام"‬

‫تقدم حضاري آمن وسليم‪.‬‬ ‫يصير بهم‬ ‫مفتاحا لكل ّ‬ ‫ً‬

‫حظــه من اآلثــار التي تولدها‬ ‫والفيزيولوجيــة‪ ،‬فإنــه يأخــذ ّ‬

‫المرحلــة الثانوية في المدارس التركية‪ ،‬لتأهيلهم الجتياز‬

‫التربيــة الروحيــة‪ .‬لذلــك كانــت الفلســفة اإلصالحية عند‬

‫امتحــان القبــول فــي الجامعــات التركيــة التــي ال تقبــل‬ ‫خريجــي المرحلة‬ ‫إال‬ ‫ً‬ ‫عــددا ّ‬ ‫معي ًنــا مــن مجمــوع الطــاب ّ‬

‫األســتاذ كولــن تقــوم علــى بنــاء روح اإلنســان وصياغتــه‬

‫موطــن منــه‬ ‫وتهــز كل و َتــر فيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صياغــة ربانيــة تمــس كل ْ‬

‫الثانويــة‪ ،‬حيــث يكــون طــاب مــدارس " فام" فــي طليعة‬

‫المقبوليــن في الجامعــات التركية‪ .‬وهذا النجاح والتفوق‬

‫لينخــرط بــكل كيانــه وطاقاتــه فــي رفــع البناء الــذي أمره‬

‫هــو ثمــرة عمــل تربــوي تعليمي قوي يقوم على اإلرشــاد‬

‫اهلل برفعه‪.‬‬

‫المدرسي‪ ،‬والتربية على القيم‪.‬‬

‫إن هــذه الفلســفة اإلصالحية تمتد جذورها وتســتمد‬

‫إن نجــاح هــذا المشــروع التعليمــي اإلنســاني جعــل‬

‫روحها من طبيعة التنشئة الربانية التي ترعرع في حضنها‬

‫النــاس تحتضنــه فــي مختلــف الجغرافيــات وبلغــات‬ ‫فعل في الحياة المعاصرة روح‬ ‫مختلفة‪ ،‬ألنه يحاول أن ُي ِّ‬

‫أهل األســتاذ‬ ‫الروحية وســمو الهمة وفيض الطموح‪ ،‬مما ّ‬

‫تعمــل بنفــس المناهــج التعليميــة المغربيــة‪ ،‬مــع التركيز‬

‫وأساســها العلــم والتربيــة الروحيــة‪ .‬وللوقــوف على هذه‬

‫األســتاذ‪ ،‬ذلك أن هذه التنشــئة جمعت بين العلم والتربية‬

‫ا مــدارس الفاتــح فــي المغــرب‬ ‫القيــم اإلســامية‪ .‬فمثــ ً‬

‫برامج تربوية موازية للمناهج الدراسية‪ ،‬وأنشطة مختلفة‬

‫دائمــا علــى القيــم‬ ‫ورحــات ومخيمــات تطوعيــة تركــز ً‬ ‫األخالقية والسلوكية مع الجودة في التعليم‪.‬‬

‫لقد ّبين األستاذ فتح اهلل كولن أن سر مركزية التعليم‬

‫رســاليا؛ لقــد حفظ‬ ‫ا‬ ‫أســرة هيــأت لــه الجــو ليكــون رجــ ً‬ ‫ًّ‬ ‫القــرآن فــي ســن مبكــرة علــى يــد ّأم ربانية صالحــة ذات‬

‫أخــاق قرآنيــة وهمــة عاليــة كانــت ُتح ّفــظ القرآن لنســاء‬ ‫ال‬ ‫ين جبا ً‬ ‫رب َ‬ ‫القرية‪ ،‬صنعت من جيلها وجيل بناتها أمهات َّ‬

‫فــي العمــل اإلصالحي‪ ،‬هــو دورانه على اإلنســان مع ّل ًما‬

‫الخالــص‪ ،‬يســتطيع أن يصنــع مــن تلميذه إنســا ًنا‬ ‫جديدا‬ ‫ً‬

‫واالســتماع إليهــم واالرتواء من معين علمهم‪ ،‬فاتســعت‬

‫ينظــر إلــى مســتقبل األمــة بعيــون يملؤهــا األمــل وبقلــب‬

‫ينبــض بالمحبــة والســام‪ .‬ومن ثم فإن إصــاح األجيال‬

‫مرتهن بإصالح التعليم وإخراج فلسفته من ضيق المنطق‬ ‫الوظيفي الميت إلى سعة العمل اإلنساني النبيل‪ ،‬أال وهو‬

‫بناء اإلنسان بكل أبعاده النفسية والفكرية‪ .‬إن أول خطوة‬

‫في مشــروع اإلصالح‪ ،‬هي إنتاج اإلنســان الذي فني عن‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الجذور يكفي أن نستحضر أن األستاذ تربى في أحضان‬

‫وأب فتح بيته‬ ‫شــوامخ وبيو ًتا قواطع في معركة الزمان‪ٌ .‬‬

‫ومتع ّل ًما؛ ذلك أن المع ّلم المنخرط في مهنته بروح التعبد‬

‫‪32‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بدرجــة كبيــرة علــى تقديم رؤيــة قيمية‪ ،‬من خــال تقديم‬

‫لصياغــة رؤيــة شــمولية لإلصالح‪ ،‬محورها بناء اإلنســان‬

‫نفســه في قضية ّأمته وتع ّلق قلبه بأشــواق اآلخرة ثم اتخذ‬

‫مهمته التعليمية‬ ‫مسلكا لمعرفة اهلل وعمارة األرض(‪.)3‬‬ ‫ً‬

‫لقــد‬ ‫انكــب األســتاذ فتح اهلل كولن علــى هذا الصنف‬ ‫ّ‬

‫مــن البنــاء الروحــي لهوية اإلنســان من خــال إعادة ربط‬

‫المحمدي‪ ،‬في تكامل مع‬ ‫اتصالــه بحبــل النبوة والوحــي‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫للعلمــاء والصالحين مما أتاح للولد المبارك مجالســتهم‬ ‫بذلك معارفه ومداركه‪ ،‬ومصاحبة شيخ جليل جمع بين‬ ‫مواجيــد القلــب وأذواق الروح‪ ،‬حيــث تفتقت به مواهب‬ ‫فتح اهلل الروحية ونضجت مواهبه اإليمانية‪.‬‬

‫فتابع دراســته في العلوم الشــرعية مع المواظبة على‬

‫حضــور مجالــس الذكر‪ ،‬حيــث تكونت له نظرة شــمولية‬ ‫متوازنة حول مفهوم اإلســام شــريعة وحقيقة‪ .‬فكان في‬

‫خطبه ومواعظه يخاطب عقول الناس وقلوبهم‪ ،‬ويغرس‬ ‫حبــب إليهم الرســول‬ ‫فيهــم اإليمــان بــاهلل والتعلــق بــه‪ُ ،‬‬ ‫وي ّ‬

‫األكرم ‪ ‬وصحابته الكرام ‪ ‬ويدعوهم إلى االقتداء به‬

‫‪ ...‬فكان يؤسس لألجيال من خالل استدالالت قرآنية‬ ‫وســنة نبويــة وقياســات أصوليــة وإجماع أمة‪ ،‬بــأن قواعد‬


‫إن الفلســفة اإلصالحيــة عند األســتاذ كولن تقوم‬

‫ُترجمــت بعــض كتبه من التركية إلى خمس وثالثين لغة‪.‬‬

‫عىل بناء روح اإلنسان وصياغته صياغة ربانية متس‬

‫تعمق األســتاذ كولن في قــراءة منظري اإلصالح في‬ ‫لقــد ّ‬

‫موطــن منه وته ّز كل وتَر فيه لينخرط بكل كيانه‬ ‫كل ْ‬

‫القــرون األخيــرة‪ ،‬وتابــع التيارات اإلســامية في البلدان‬

‫وطاقاته يف رفع البناء الذي أمره الله برفعه‪.‬‬

‫اإلســامية‪ ،‬واســتوعب النظريــات الغربيــة الفلســفية‬ ‫واالجتماعيــة‪ ،‬فــأدرك أن معانــاة المجتمعات اإلســامية‬

‫وعــدم نهضتهــا ورقيهــا كونهــا حبيســة ســجون ثالثــة؛‬

‫حيــث توجــد اليوم أكثر من ألفي مدرســة في تركيا وأكثر‬

‫الجهــل والفقــر والتفرقــة‪ ،‬فنــذر حياته إلخــراج األمة من‬

‫مــن ألــف مدرســة خــارج تركيــة منتشــرة في مائة وســتين‬

‫براثــن الجهــل‪ ،‬وذلــك بالتركيز على التعليــم كنقطة البدء‬

‫دولــة‪ ،‬كمــا توجــد أكثــر مــن عشــرين جامعــة متميــزة في‬

‫فــي التغييــر لذلــك‪ .‬ســعى ودعا إلى بنــاء منظومــة تربوية‬

‫مختلف التخصصات‪.‬‬

‫تعليميــة متكاملــة تتناغم فيهــا الجوانب الماديــة والعقلية‬

‫إن هذه الرؤية الداعية إلى المزج بين اإليمان والعلم‪،‬‬

‫بالجوانــب الروحيــة واألخالقيــة‪ ،‬فجعــل مشــكل التربيــة‬

‫تجسدت على أرض الواقع في هذه المدارس التي ُبنيت‬ ‫ّ‬

‫والتعليــم ضمــن مواعظــه ومقاالته وخطبــه‪ ،‬ويكاد يكون‬

‫وفــق أحدث التصاميم وبوســائل تعليم متقدمة تســتخدم‬

‫هو الشخص الوحيد الذي تناول في تركيا هذا الموضوع‬

‫أحــدث منجــزات التكنولوجيــا‪ ،‬ومناهــج تعليميــة تعمل‬

‫(‪)1‬‬ ‫ال‬ ‫مبرزا أنه‬ ‫تناو ً‬ ‫حركيا‪ ،‬وأوصله إلى الجماهير الواسعة ‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬

‫على تغذية العقل وتنشيط المعرفة مع تربية النفس وزرع‬

‫منذ أن أبعدت الفلســفات الوضعيــة نظم التعليم والتربية‬

‫السامية‪ ،‬فإنها قد فتحت بذلك أبواب األزمات األخالقية‬

‫واالنحرافات السلوكية داخل المجتمعات‪ ،‬مما أدى إلى‬

‫وبيــن ذلك في قولــه‪" :‬إن‬ ‫أي‬ ‫رقي ّ‬ ‫انحطاطهــا وانهيارهــا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتقدمهــا‪ ،‬مرتبــط بمــدى التربية التي يتل ّقاهــا أفرادها‬ ‫أمــة ّ‬ ‫تقــدم أمة لم‬ ‫مــن الناحيــة العاطفيــة والفكريــة‪ .‬فــا ينتظر ّ‬ ‫تتوسع آفاق أفرادها الفكرية والوجدانية"(‪ .)2‬فعمل بذلك‬

‫على نشــر هذه الرؤية المتكاملة للتعليم‬ ‫مستشــهدا بقوله‬ ‫ً‬

‫آينشتاين‪" :‬العلم من غير دين أعرج‪ ،‬والدين من غير علم‬

‫أعمــى"‪ .‬فأنشــأ بيو ًتا للطلبــة‪ ،‬وكانت بيوت علم وأخالق‬ ‫وأجــواء إيمانيــة تعمــل على البناء الروحي لإلنســان وفق‬ ‫برامــج إعادة صياغة شــخصية الطلبة‪ ،‬وكانت في الوقت‬

‫ذاتــه صمــام أمن الناس رغم اختــاف توجهاتهم‪ ،‬وذلك‬ ‫حمايــة ألبنائهــم مــن األيديولوجيــات الماركســية التــي‬ ‫بدأ التنافس في فتح هذه البيوت لما حققته من نجاح‬

‫فــي بنــاء جيــل جديد من الشــباب التركي المؤمــن بدينه‪،‬‬ ‫المحتــرم لتاريخــه وهويتــه‪ ،‬فكانــت هــذه البيــوت فاتحــة‬ ‫ِ‬ ‫خير في إنشاء مدارس وجامعات داخل تركيا وخارجها‪،‬‬

‫خريجي هــذه المــدارس‪ ،‬أو بعض خريجي‬ ‫تدريــس مــن ّ‬ ‫لكنهــم آمنــوا بالفكرة ونذروا أنفســهم‬ ‫جامعــات أخــرى‪ّ ،‬‬ ‫لخدمتهــا‪َ .‬فت ِج ُدهــم يعملون ويتعاملــون بحماس وعطاء‬

‫وتواضع ولطف وصبر‪ ...‬ال يصدر إال عن إنسان برهن‬ ‫عمليا على مدى حاجة نظام التعليم إلى التضحية‪ ،‬مقتدين‬ ‫ًّ‬

‫بصانع هذه التضحية الذي نذر نفســه لخدمة اإلنســانية‪،‬‬ ‫إســاميا لكــن ُببعــد كونــي‪.‬‬ ‫مشــروعا‬ ‫فــكان مشــروعه‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫فهــذه "مدرســة الفاتــح"‪ ،‬نمــوذج لمؤسســة تعليميــة‬

‫متكاملــة تضم جميع مراحــل التعليم‪ ،‬هي آية في النظام‬

‫والنظافــة والهندســة المعماريــة‪ ،‬ثلــث التالميــذ األتــراك‬ ‫الذيــن يشــاركون فــي المســابقات "األولمبيــات" العلمية‬ ‫العالمية هم من أبناء هذه المدرســة‪ ،‬التي تختار التالميذ‬ ‫من خالل مباراة يشــارك فيها اآلالف من الصفوة األولى‬

‫المتقدمــة فــي الدراســة والتــي أظهــرت كفــاءة عاليــة فــي‬ ‫استيعاب المواد العلمية‪.‬‬

‫وإذا كانــت الخدمــة اإليمانيــة نجحت بقيادة األســتاذ‬

‫في إقامة شبكة من المدارس التي تغطي مختلف مراحل‬ ‫الدراســة بجميــع التخصصــات‪ ،‬فــإن نجاحهــا الحقيقــي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫انتشرت في مؤسسات التعليم‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وجميــع العالقات اإلنســانية والفكرية عــن الدين وقيمه‬

‫المثــل والقيــم العليا‪ .‬يشــرف علــى هذه المــدارس طاقم‬ ‫ُ‬

‫‪31‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬كريمة بوعمري*‬

‫أخطر أعدائك نفسك التي بين جنبيك‪ ..‬احذر مما تنفخ فيك من اعتداد بالنفس‪،‬‬ ‫وتعاظم بالشعور؛ فتجعلك تحسب أنك المبرأ من كل عيب‪ ،‬والمطهر من كل ذنب‪،‬‬ ‫واآلخرون وحدهم هم الذين تركبهم األخطاء وتمألهم الذنوب‪ ..‬ال تعتذر لنفسك‪،‬‬ ‫ولكن ج ْد العذر لآلخرين‪.‬‬

‫املوازين‬

‫األفق الرتبوي يف بناء اإلنسان عند‬

‫األستاذ فتح الله كولن‬ ‫األســتاذ فتــح اهلل كولــن أحــد أشــهر علمــاء‬

‫اإلســام المصلحيــن ودعاتــه المعاصريــن‪.‬‬ ‫اختارتــه مجموعــة مــن المجــات العالميــة‬

‫تأثيرا فــي العالم‪.‬‬ ‫فــي طليعــة قائمتهــا لمائة شــخصية األكثــر ً‬

‫أنشــئت له كراســي أكاديمية ومراكز علمية متخصصة باسمه‬

‫اعترا ًفا برؤيته اإلنســانية وفلســفته اإلصالحيــة‪ .‬كما انعقدت‬

‫لدراســة نظرياتــه مؤتمــرات ونــدوات دوليــة فــي جامعــات‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫عالميــة‪ ،‬وخلصــت هــذه الدراســات إلــى أن حركــة األســتاذ‬

‫‪30‬‬

‫هــي أهــم الحركات اإلصالحية في العالم اإلســامي‪ ،‬وأكثر‬ ‫تأثيرا علــى العالم في القرن‬ ‫الحــركات االجتماعيــة والمدنية ً‬

‫الواحد والعشرين‪ .‬له أكثر من سبعين كتابا تناول فيه القضايا‬ ‫ً‬ ‫الكبــرى فــي الفكــر اإلســامي ومشــكالت العصــر‪ ،‬حيــث‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫وحــث علــى إزالــة األذى عــن الطريــق‪ ،‬وأنــه مــن‬

‫الطاعات التي يســتحق فاعلها األجر والثواب والمغفرة‪.‬‬ ‫قــال ‪" :‬بينمــا رجــل يمشــي بطريــق وجــد غصن شــوك‬ ‫علــى الطريــق فأخره فشــكر اهلل لــه فغفر لــه" (رواه البخاري)‪،‬‬

‫وقــال‪" :‬وتميــط األذى عــن الطريــق صدقــة" (رواه مســلم)‪،‬‬

‫وأمــر ‪ ‬برعايــة الكائنات الحيــة والحيوانات‪ ،‬ونهى عن‬ ‫تعذيبهــا وإهمالهــا‪ .‬يكفــي مــن ذلــك إخبــاره ‪ ‬أن امرأة‬

‫دخلــت النــار بســبب هرة حبســتها‪ ،‬فلم تطعمهــا وال هي‬

‫ال دخل‬ ‫تركتهــا حــرة تأكل من خشــاش األرض‪ ،‬وأن رج ً‬ ‫الجنة بسبب كلب عطشان فسقاه‪.‬‬

‫جدا‪ ،‬وخالصتها‬ ‫واألحاديــث في هذا المجــال كثيرة ًّ‬

‫أن مــن خ ُلــق المســلم احترام البيئة من حولــه‪ ،‬ورعايتها‪،‬‬

‫واإلســهام في حمايتها وتجديــد رونقها‪ ،‬والنظر بالرحمة‬ ‫إلــى الكائنــات‪ ...‬فهــذا كلــه مــن أخــاق اإلســام ومــن‬

‫ال‬ ‫صفــات المســلم‪ .‬فيتأكــد من هذا أن لحمايــة البيئة أص ً‬

‫الح َسن مع البيئة من أخالق المسلم‬ ‫قيا‪ ،‬وأن التعامل َ‬ ‫خ ُل ًّ‬ ‫التــي يحصــل نفعهــا فــي الدنيا لعامــة الناس بحفــظ البيئة‬

‫وصيانتها‪ ،‬وفي اآلخرة باألجر والثواب والمغفرة‪.‬‬

‫إن العقيــدة اإلســامية التــي تقــوم علــى اإليمــان باهلل‬

‫تعالــى ووحدانيتــه‪ ،‬واتصافــه بصفــات الكمــال والجالل‬

‫والجمــال‪ ،‬وأن الكــون بــكل مــا فيه وما يحــدث فيه‪ ،‬من‬ ‫خلقــه تعالــى وتدبيره‪ .‬هذه العقيــدة تقتضي ممن يحملها‬

‫فــي قلبــه‪ ،‬أن ينظــر بعين التقدير واالحتــرام إلى البيئة من‬ ‫حولــه‪ ،‬ألنهــا مــن خلــق اهلل‪ ،‬ومــن نعمته ومنحتــه‪ ،‬تذكره‬

‫وتعرفــه بكماله وجالله وجمالــه‪ .‬فبذلك يتوجه إلى‬ ‫بربــه‬ ‫ّ‬ ‫ذوقيا‪ ،‬فيكون خ ُلقه‬ ‫البيئة بالمحبة‪ ،‬ويمارس معها تفاع ً‬ ‫ال ًّ‬

‫حســنا مــع البيئــة مــن حولــه‪ .‬فلحمايــة البيئــة فــي الفكــر‬ ‫ً‬

‫اإلســامي أصــان عليهما تقوم‪ ،‬وهمــا األصل العقدي‪،‬‬ ‫واألصل الخلقي‪ ،‬ألن العقيدة اإلســامية توجب احترام‬ ‫تحتــم ُحســن التعامــل مع‬ ‫البيئــة‪ ،‬واألخــاق اإلســامية ّ‬

‫العالم الخارجي ومنه البيئة بجميع مظاهرها‪.‬‬

‫(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة ابن زهر‪ ،‬أكادير ‪ /‬المغرب‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪29‬‬

‫مخاطر الطريق‬ ‫ُ‬ ‫مسالكها‪،‬‬ ‫الطريق وعرة‬ ‫مخوفة منعطفاتها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫موحشة ِشعابها‪..‬‬ ‫أغوا ُلها رهيبة‪ ،‬ووحوشها َق َّتالة‪..‬‬ ‫فالتمس لن ْفسك موىل‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫عنه َف ِّت ْش‪ ،‬وبه ت َ​َش َّب ْث‪..‬‬ ‫بعنايته يكلؤك‪،‬‬ ‫وعن مخاطر الطريق مينعك‪،‬‬ ‫ويصحبك ويعينك ويساعدك و ُيسندك‪.‬‬ ‫***‬


‫ــك ِّل َعب ٍ‬ ‫ــما ِء‬ ‫َت ْب ِص َــر ًة َو ِذ ْك َــرى ِل ُ‬ ‫ــد ُم ِن ٍ‬ ‫يــب ‪َ ‬و َن َّز ْل َنــا ِم َ‬ ‫الس َ‬ ‫ْ‬ ‫ــن َّ‬

‫األصل الخلُقي لحماية البيئة‬

‫ــات َو َح َّب ا ْل َح ِص ِ‬ ‫ــاء ُمبــار ًكا َف َأ ْنب ْت َنــا بِــ ِه َج َّن ٍ‬ ‫الن ْخ َل‬ ‫يــد ‪َ ‬و َّ‬ ‫َم ً َ َ‬ ‫َ‬ ‫اســ َق ٍ‬ ‫َب ِ‬ ‫يــد ‪ ‬رِ ْز ًقا ِل ْل ِع َبــا ِد‪(‬ق‪ .)11-6:‬وإذا‬ ‫ات َل َهــا َط ْل ٌع َن ِض ٌ‬ ‫طاهرا وجعله‬ ‫اســتحضر العبــد أن اهلل تعالى خلق الكــون‬ ‫ً‬

‫ومعنــى األصــل الخلقــي لحمايــة البيئــة‪ ،‬وجــود كثير من‬

‫األخــاق التــي يتوجــه بهــا المســلم إلى البيئة مــن حوله‪.‬‬

‫فاألخــاق إنما هــي آداب التصرف وقانــون التعامل مع‬ ‫العالم الخارجي بجميع أجزائه من عالم اإلنسان‪ ،‬وعالم‬

‫طهــر اهلل تعالى‪ .‬ومن عرف‬ ‫ينجــس ما ّ‬ ‫مزي ًنــا‪ ،‬اســتحيا أن ّ‬ ‫َّ‬

‫الحيــوان‪ ،‬وعالم النبات وســائر مظاهر الفضاء الخارجي‬

‫أن البيئــة مــن حولــه هديــة جميلة مزينة مــن اهلل تعالى هو‬

‫فحســن الخ ُلق هو هندســة الجمال في‬ ‫والبيئــة المحيطة‪ُ .‬‬

‫الذي أبدعها ومنحها بهجتها‪ ،‬فكيف يستجيز لنفسه تغيير‬

‫الســلوك البشــري‪ ،‬وهــو الجمال الحقيقي الــذي يتزين به‬

‫خلــق اهلل وإفســاد جمالــه وتدنيس بهجتــه!؟ وقد حذر اهلل‬ ‫ــاد ِفــي ا ْل َب ِّر َوا ْل َب ْح ِر ب َِما‬ ‫تعالــى من ذلك فقال‪َ :‬‬ ‫‪‬ظ َه َر ا ْل َف َس ُ‬ ‫ض ا َّل ِ‬ ‫َكســب ْت َأ ْي ِ‬ ‫ــذي َع ِم ُلوا َل َع َّل ُه ْم‬ ‫الن ِ‬ ‫ــاس ِل ُي ِذي َق ُه ْم َب ْع َ‬ ‫ــدي َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ون‪(‬الــروم‪)41:‬؛ فحــذر اهلل تعالــى النــاس مــن فســاد‬ ‫ع‬ ‫َي ْر ِج ُ َ‬ ‫البيئة من حولهم‪ ،‬وأن ذلك إنما هو بفعل اإلنسان‪.‬‬

‫وحســن الخ ُلق‬ ‫اإلنســان قبــل جمــال الصــورة والمظهــر‪ُ .‬‬ ‫هو جمال الســلوك مع العالم‪ ،‬والعالم هو كل ما ِســوى‬ ‫اهلل تعالــى وهــو جميــع المخلوقــات‪ .‬ولهــذا فــإن حماية‬

‫البيئــة مــن منظــور الفكر اإلســامي‪ ،‬يقوم على اكتســاب‬

‫• شكر المنعم بشكر النعمة‪ :‬ومن مقتضيات اإليمان‬

‫ســلوك التعامــل مــع الفضــاء الخارجــي‪ .‬ولهــذا نجد في‬

‫نعمــة من اهلل تعالى‪ .‬والنعمة تقتضي الشــكر‪ ،‬ومن شــكر‬

‫ال للسلوك مع البيئة بجميع مظاهرها‪ .‬واألحاديث‬ ‫وأصو ً‬

‫السنة النبوية ‪-‬القولية والعملية‪ -‬قواعد للتخلق مع البيئة‬

‫أيضــا‪ ،‬أن البيئــة التــي يعيــش فيها اإلنســان وينتفــع منها‪،‬‬ ‫ً‬

‫كفــر نعمــة اهلل تعالــى عليــه‪ .‬فهــذه كلهــا قواعد يســتلزمها‬

‫اإليمــان عندمــا يســتقر فــي القلب‪ .‬فمن آمــن بقلبه توجه‬ ‫إلى البيئة من حوله بالتقدير والحفظ والصيانة‪ ،‬ألنه يرى‬ ‫معرضــا لمعرفــة ربه تعالــى ومعرفة جاللــه وجماله‬ ‫فيهــا‬ ‫ً‬

‫ووحدانيته وأسمائه وصفاته‪ ،‬ويرى فيها هدية إلهية ومنحة‬

‫من ربه له فينظر إليها بعين التقدير واالحترام‪ ،‬ويستحيي‬

‫وزينه‪.‬‬ ‫جمل اهلل‪ ،‬ويحذر أن يد ّنس ما ّ‬ ‫طهر اهلل ّ‬ ‫أن يفسد ما ّ‬ ‫ولهــذ كلــه جعل الرســول ‪ ‬حماية البيئة من شــعب‬

‫اإليمــان فقــال ‪" :‬اإليمــان بضــع وســبعون أو بضــع‬

‫وستون شعبة‪ ،‬فأفضلها قول "ال إله إال اهلل" وأدناها إماطة‬ ‫األذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من اإليمان" (رواه مسلم)‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫البيئــة بنظــر التقديــر واالحتــرام‪ ،‬والتوجــه إليهــا بالصيانة‬

‫والرعايــة‪ ،‬والحــذر مــن إفســاد خيراتهــا وتشــويه رونقهــا‬

‫وتغييــر جمالها‪ .‬وننقل بعض الشــواهد الدالة على ذلك‪.‬‬ ‫مــن ذلــك ِح ْــرص الرســول ‪ ‬على الغــرس والزرع‪،‬‬ ‫حتى يتجدد جمال البيئة ويحفظ رونقها ويمتد نفعها‪ .‬عن‬

‫أنس بن مالك ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪" :‬ما من مسلم‬ ‫زرعا‪ ،‬فيأكل منه طير أو إنســان أو‬ ‫غرســا أو يزرع ً‬ ‫يغرس ً‬

‫بهيمة إال كان له به صدقة" (رواه البخاري)‪ ،‬وعنه ‪ ‬أن النبي‬

‫‪ ‬قــال‪" :‬إن قامــت الســاعة وفــي يد أحدكم فســيلة‪ ،‬فإن‬ ‫استطاع أال تقوم حتى يغرسها فليغرسها" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫وكان ‪ ‬يحذر من قطع الشجر ونحوه من الخيرات‬

‫ف الضرر عن الفضاء‬ ‫فإماطــة األذى عــن الطريق معناه َك ّ‬

‫والثــروات البيئيــة‪ ،‬مــن ذلــك قولــه ‪" :‬من قطع ســدرة‬

‫مــن الممارســة العملية لإليمــان‪ .‬ومعنى ذلك أن اإليمان‬

‫تنجيــس الفضــاء العــام ووجــوب حفظــه وتطهيــره‪ ،‬فنهى‬

‫فبيــن ‪ ‬أن حفــظ البيئــة وصيانــة الفضــاء العــام‪،‬‬ ‫العــام‪ّ .‬‬

‫‪28‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نعمة البيئة رعايتها وصيانة جمالها‪ .‬فمن أفسد البيئة فقد‬

‫النبويــة فــي ذلــك كثيــرة‪ ،‬وخالصتهــا وجــوب النظــر إلى‬

‫يحمــل المؤمــن علــى تقديــر البيئــة مــن حولــه وحفظهــا‪،‬‬ ‫قيا‬ ‫وعلــى التخلــق تجاههــا‪ .‬ولهــذا فــإن للبيئــة أصــ ً‬ ‫ا خ ُل ًّ‬ ‫يتفــرع عــن هذا األصل العقدي اإليماني‪ ،‬ألن من رســخ‬

‫هــذا االعتقــاد فــي قلبــه‪ ،‬ظهــر حســن الخ ُلــق في ســلوكه‬ ‫وتعامله مع البيئة من حوله‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫رأســه فــي النــار" (رواه أبــو داود)‪ ،‬وحــذر ‪ ‬مــن‬ ‫صــوب اهلل َ‬ ‫َّ‬ ‫عن التبول أو التغوط في الطرق والماء وتحت األشجار‬ ‫وبين أن ذلك‬ ‫وفــي األماكــن العامــة التي يرتادها النــاس‪ّ ،‬‬

‫قبح ومعصية تستوجب لعنة اهلل تعالى‪ ،‬وذلك بقوله ‪:‬‬

‫"اتقــوا المالعــن الثالثة البراز في الموارد وقارعة الطريق‬ ‫والظل" (رواه أبو داود)‪.‬‬ ‫ّ‬


‫ا ِ‬ ‫ار‪(‬إبراهيم‪.)34-32:‬‬ ‫هلل َ‬ ‫وها إ َِّن ْ ِ‬ ‫ال ْن َس َ‬ ‫ال ُت ْح ُص َ‬ ‫ــان َل َظ ُل ٌ‬ ‫ــوم َك َّف ٌ‬

‫والمعنــى المقصــود مــن جميــع هــذه اآليــات ومــا فــي‬ ‫معناهــا‪ ،‬أن الكــون معرض للتعرف على اهلل تعالى وعلى‬ ‫وحدانيته وكماله وجالله‪.‬‬

‫المكــون‪،‬‬ ‫فالخلــق عالمــة الخالــق‪ ،‬والكــون أمــارة‬ ‫ِّ‬

‫والصنعــة دليــل الصانــع‪ .‬وعليــه يكــون الفضــاء المحيط‬

‫باإلنســان بجميــع مظاهــره وأجزائــه ‪-‬مــن أصغرهــا إلى‬

‫أكبرها‪ ،‬من الذرات إلى المجرات وما بينهما من العوالم‪-‬‬ ‫معرضــا لتجليات التوحيــد‪ ،‬أي معرفة وحدانية اهلل تعالى‬ ‫ً‬

‫الخالــق المدبــر‪ .‬فمعنــى الوحدانية يتجلــى في الكون في‬

‫جميــع أجزائــه‪ ،‬ويظهــر فــي كل لحظة مــن لحظات هذا‬ ‫الزمان المخلوق‪ ،‬وإن الوحدانية هي أسمى المعاني التي‬ ‫تستقر في قلب المؤمن‪ ،‬وإن نظره نظر العبرة في الفضاء‬

‫مــن حولــه يحرك فيــه هذا المعنــى الجميــل للتوحيد‪ .‬إن‬

‫الكون يداعب قلب المؤمن ويحرك فيه أجمل المشــاعر‬ ‫ويمنحــه ألــذ األذواق‪ ،‬بمــا يريــه مــن عالمات االنســجام‬ ‫والتعــاون بين أجزائــه‪ ،‬وذلك يورثه اليقين بوحدانية ربه‪،‬‬

‫والشعور بعناية خالقه به ورعايته له‪ ،‬وما أعظم أن يحس‬ ‫العبــد بعنايــة ربــه بــه وتعرفــه إليه وتــودده إليــه‪ .‬وهذا هو‬

‫التفاعل الذوقي الوجداني مع الكون والبيئة الذي يورثه‬

‫اإليمان في قلب المؤمن‪ .‬فبهذا يتوجه العبد المؤمن إلى‬ ‫توج َه العابث‪،‬‬ ‫توج َه المعتبر القاصد وليس ُّ‬ ‫البيئة والكون ُّ‬

‫فينظــر إليــه نظــره إلــى مواطــن التعــرف إلــى اهلل تعالــى‬

‫ومعاينة آثار وحدانيته‪ ،‬ومشــاهدة دالئل ربوبيته وجالله‪،‬‬ ‫وارتشاف قبسات من سنى جماله ‪.‬‬

‫• الكــون معــرض لتجليــات أســماء اهلل الحســنى‪ :‬إن‬

‫الكــون والفضــاء المحيــط باإلنســان موجــود ال يمكــن‬

‫إنــكاره‪ ،‬وكذلــك ما يجري فيه مــن األفعال العظيمة‪ ،‬وما‬ ‫يحدث فيه من التصرفات الحكيمة التي هي بمثابة ألوان‬ ‫هذا الكون وزينته ونوره وجماله‪ .‬وهذه األفعال العظيمة‬

‫اليقيــن علــى صفــات خالق هذا الكون و ُتعرف بأســمائه‪.‬‬

‫فالحقائــق الجاريــة فــي الكــون هــي الحكمــة‪ ،‬والعنايــة‪،‬‬ ‫والرحمــة‪ ،‬والجمــال‪ ،‬والنظام‪ ،‬والميزان‪ ،‬والزينة وغيرها‬

‫من الحقائق واألفعال العظيمة الجميلة‪ .‬ومن يشاهد هذه‬

‫تقوم‪ ،‬وهام األصــل العقدي‪ ،‬واألصل الخلقي‪ ،‬ألن‬ ‫العقيدة اإلســامية توجب احرتام البيئة‪ ،‬واألخالق‬ ‫اإلسالمية تحتّم ُحسن التعامل مع العامل الخارجي‬ ‫ومنه البيئة بجميع مظاهرها‪.‬‬

‫األفعــال ويقــر بها‪ ،‬ال يمكنه أن ينكر فاعل تلك األفعال‪،‬‬ ‫وهو الخالق‪ ،‬الحكيم‪ ،‬الرحيم‪ ،‬الجميل‪ ،‬الحكم‪ ،‬العدل‪.‬‬

‫ومعنى هذا أن الكون يدل على أســماء اهلل الحســنى مثل‬ ‫داللة ضوء النهار على الشــمس‪ .‬فبمقتضى اإليمان ينظر‬ ‫العبد بعين التحسين والتقدير لكل المخلوقات من حوله‪،‬‬

‫ألنه يرى فيها ومن خاللها قبســات من جمال اهلل تعالى‪،‬‬ ‫وعالمــة مــن عالمــات جاللــه‪ .‬ومعنــى ذلــك أن الكــون‬ ‫معرض لتجليات أسماء اهلل الحسنى وصفاته العال‪ .‬ففيه‬

‫ا جمــال أســماء اهلل تعالــى الخالــق‪ ،‬البــارئ‪،‬‬ ‫يتجلــى مثــ ً‬ ‫المصــور‪ ،‬المحيــي‪ ،‬المميــت‪ ،‬الــرزاق‪ .‬فــا يمكــن لمــن‬ ‫جمل اهلل مــن مخلوقاته‬ ‫ينظــر بهــذا المنظــار أن يد ّنس ما ّ‬

‫يشــوه منظــر مــا أبــدع خالقــه ألنــه يعرفــه بصفــات ربه‬ ‫أو ّ‬

‫وأســمائه‪ ،‬فيســتحيي أن يفســد جمــال شــجر أو نبــات أو‬ ‫مــاء‪ ،‬ألنــه يرى فيه فعل الخلق والتحســين والتجميل من‬ ‫الخالق الجميل العظيم‪.‬‬

‫• تقدير الصانع بتقدير الصنعة‪ :‬إن الكون ‪-‬من منظور‬

‫اإليمــان‪ -‬هديــة ربانيــة ومنحــة إلهية‪ .‬فما من شــيء يقع‬ ‫عليــه نظــر العبــد مــن حولــه‪ ،‬إال هــو مــن صنــع الخالــق‬

‫البــارئ المصــور الــذي أحســن كل شــيء خلقــه‪ .‬وعليــه‬ ‫يتوجــه العبــد إلــى ربــه بالمحبة لمــا يرى مــن نعمته عليه‬

‫وفضلــه بمــا خلــق وأبــدع‪ .‬ومن لــوازم محبــة الخالق ‪‬‬ ‫وتقديره‪ ،‬العناية بخلقه وتقدير صنعته‪.‬‬

‫• الكــون مخلــوق طاهــر مزيــن‪ :‬لقــد خلــق اهلل تعالــى‬

‫طاهرا‬ ‫مزي ًنــا‬ ‫الكــون علــى أجمــل صــورة وأحســن هيئــة‪َّ ،‬‬ ‫ً‬

‫الد ْن َيــا‬ ‫ــم َاء ُّ‬ ‫كمــا قــال تعالــى فــي كتابــه‪َ :‬‬ ‫الس َ‬ ‫‪‬و َل َق ْــد َز َّي َّنــا َّ‬ ‫اهــا ر ُج ً ِ‬ ‫لشــي ِ‬ ‫ين‪(‬الملك‪ ،)5:‬وقال‬ ‫اط ِ‬ ‫ب َِم َصاب َ‬ ‫ِيــح َو َج َع ْل َن َ ُ‬ ‫ومــا ل َّ َ‬ ‫عــز مــن قائــل‪َ  :‬أ َف َلــم َي ْن ُظــروا ِإ َلــى الس ِ‬ ‫ف‬ ‫ــم َك ْي َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ــماء َف ْو َق ُه ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وج ‪َ ‬وا َ‬ ‫اها‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ــن ُف ُــر ٍ‬ ‫ض َم َد ْد َن َ‬ ‫اهــا َو َز َّي َّن َ‬ ‫َب َن ْي َن َ‬ ‫اهــا َو َمــا َل َها ِم ْ‬ ‫ل زوج بهِ يــج ‪‬‬ ‫و َألقينــا ِفيهــا رو ِ‬ ‫اس‬ ‫ــن ُك ِّ َ ْ ٍ َ ٍ‬ ‫ــي َو َأ ْن َب ْت َنــا ِف َيهــا ِم ْ‬ ‫َ ََْْ َ َ َ َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫والتصرفات الحكيمة المشــاهدة بعين اليقين‪ ،‬لتدل بعلم‬

‫لحامية البيئة يف الفكر اإلســامي أصالن عليهام‬

‫‪27‬‬


‫منهــا وتقديــم النموذج مــن أنفســهم‪ -‬أن يقدموها للعالم‬

‫المعاصر‪ ،‬ويفخروا بأنها إضافة نوعية وقيمة مضافة‪ ،‬بها‬ ‫يكتمل بناء الثقافة البيئية في العالم المعاصر‪.‬‬

‫إن العقيــدة اإلســامية التــي تقــوم علــى اإليمــان باهلل‬

‫تعالى ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر خيره‬ ‫يقــدر البيئة‬ ‫وشــره‪ ،‬توجــب على مــن يحملها في قلبه أن ّ‬

‫ويحفظها‪ .‬ومعنى ذلك أن استقرار هذه العقيدة في القلب‬ ‫يصاحبهــا بالضــرورة ثقافــة بيئيــة تلقائيــة‪ .‬ومــن عالمات‬ ‫تصرف العبد تجاه البيئة‬ ‫ســامة العقيدة وكمال اإليمان‪ُّ ،‬‬

‫على قاعدة المحبة والتقدير والحفظ والصيانة‪ .‬فاإليمان‬ ‫تصديــق وقول وعمــل‪ .‬فبعد اإلقرار بالقلــب واالعتراف‬

‫باللسان‪ ،‬يلزم المكلف أن يأتي باألعمال وهي الفرائض‬ ‫والواجبــات فــي مجــال العبــادات والمعامــات اليوميــة‪.‬‬ ‫وكل نقــص أو خلــل فــي هــذه األعمــال فهــو نقــص مــن‬

‫إيمانه‪ .‬فال يتصور مســلم ســليم اإليمان يستجيز تخريب‬

‫تلقائيا ‪-‬بطيب‬ ‫التفاعــل الذوقــي هو الذي يوجه اإلنســان‬ ‫ًّ‬

‫قلبه‪ -‬نحو تقدير البيئة من حوله وتقدير مكانتها وجمالها‪.‬‬ ‫وأجــزم أن قيــام التربيــة البيئيــة علــى هــذا األصل هو‬

‫مــا ينفــرد بــه الفكر اإلســامي‪ .‬فاعتبــار حمايــة البيئة من‬ ‫مقتضيــات اإليمــان ومــن الممارســة العمليــة للعقيــدة‬

‫واإليمــان ممــا ال يــكاد يذكــر علــى ألســنة دعــاة حمايــة‬

‫أثرا في األعمال‬ ‫البيئــة فــي العالم المعاصر‪ ،‬وال تجد لــه ً‬ ‫والمؤلفات والمؤتمرات والمواثيق التي تتعلق بالبيئة في‬ ‫العصر الحاضر‪ .‬فغاية ما تقوم عليه ثقافة البيئة في العالم‬

‫المعاصــر‪ ،‬التخويــف من آثــار دمار البيئــة‪ ،‬والتحذير من‬

‫الخلــل المحتمــل في الحيــاة المادية والصحية والنفســية‬

‫لإلنسان‪ .‬لقد أصبح الكالم حول البيئة تخوي ًفا‬ ‫وتهديدا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وانحصــرت التربيــة البيئية في التعريف بالمخاطر وتوقع‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫المفاسد‪ ،‬ووضع القوانين الزجرية‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫بعيدا عن‬ ‫إن حمايــة البيئــة في ســياق روحي جمالــي ً‬

‫التخويــف والتهديد‪ ،‬واعتبار ذلك من مقتضيات اإليمان‬

‫التــي تلــزم المكلف وهو يمارس حياته ويعبر من خاللها‬

‫عــن صــدق إيمانــه وســامة عقيدتــه‪ ،‬هــو األصــل الــذي‬ ‫ينبغي للمسلم أن يستحضره بقلبه ويعيه بعقله‪ .‬وهذه هي‬

‫ثقافة البيئة التي يحق للمسلمين ‪-‬بعد استيعابها والتمكن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫نفــس منــه وبانجــذاب روحــي ومعنوي يجــد حالوته في‬

‫البيئــة والتســاهل فــي حفظهــا وصيانتهــا‪ .‬وكل عمــل من‬

‫ذلــك فهــو إمــا فســاد فــي العقيــدة‪ ،‬أو جهــل بمقتضياتهــا‬ ‫ٍ‬ ‫قواعد‬ ‫ولوازمهــا‪ .‬ويمكــن بيان ذلك من خــال مجموع ِة‬ ‫كلهــا داخلــة فــي اإليمان الذي يســتقر فــي القلب‪ ،‬ولكن‬

‫مصداقهــا يجــري علــى األفعــال‪ ،‬وتجلياتهــا فــي الحيــاة‬

‫العملية اليومية‪ ،‬فيكون حماية البيئة من تجليات اإليمان‪.‬‬ ‫وجماع هذه القواعد هي‪:‬‬

‫• الكــون كتــاب مخلــوق تتلــى فيــه آيــات التوحيــد‪،‬‬ ‫وتق ـرأ فيــه عالمــات الجــال اإللهــي‪ ،‬وتعــرض فيــه أمــارات‬ ‫الكمــال الربانــي‪ :‬إن مــن يتدبــر آي القــرآن الكريــم‪ ،‬يجد‬ ‫أن اهلل تعالــى يمتــن علــى عبــاده بمــا خلق وأبــدع مما هو‬

‫مبثــوث فــي الكــون العلوي والســفلي‪ ،‬مما‬ ‫يشــاهد ومما‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫ال ُأ ْق ِس ُم ب َِما‬ ‫يشــاهد‪ .‬وقد أقســم بذلك فقال تعالى‪َ  :‬ف َ‬ ‫َ‬ ‫ون‪(‬الحاقــة‪ ،)39-38:‬وقــال ‪:‬‬ ‫ون ‪َ ‬و َمــا َ‬ ‫ال ُت ْب ِص ُر َ‬ ‫ُت ْب ِص ُــر َ‬ ‫ال ُأ ْق ِس ُم ِب َر ِّب ا ْل َم َشارِ ِق َوا ْل َم َغارِ ِب‪(‬المعارج‪ ،)40:‬وقال‬ ‫‪َ ‬ف َ‬ ‫تعالــى‪ :‬ا ُ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض َو َأ ْن َز َل ِم َن‬ ‫أل ْر َ‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫هلل ا َّلــذي َخ َل َق َّ‬ ‫السما ِء َم ًاء َف َأ ْخر َج ِب ِه ِم َن ال َّثمر ِ‬ ‫ات رِ ْز ًقا َل ُك ْم َو َس َّخ َر َل ُك ُم‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫أل ْنهار ‪‬‬ ‫ا ْل ُف ْل َ‬ ‫ــك ِل َت ْج ِــر َي ِفــي ا ْل َب ْح ِــر ِب َأ ْم ِر ِه َو َس َّ‬ ‫ــم ا َ َ َ‬ ‫ــخ َر َل ُك ُ‬ ‫ــم ا ْل َّل ْي َل‬ ‫س َوا ْل َق َم َــر َدا ِئ َب ْي ِن َو َس َّ‬ ‫َو َس َّ‬ ‫ــم َّ‬ ‫ــخ َر َل ُك ُ‬ ‫ــخ َر َل ُك ُ‬ ‫الش ْــم َ‬ ‫ــدوا ِن ْع َم َة‬ ‫ــار ‪َ ‬وآ َت ُ‬ ‫وه َوإ ِْن َت ُع ُّ‬ ‫َو َّ‬ ‫ــم ِم ْ‬ ‫ــن ُك ِّل َما َســ َأ ْل ُت ُم ُ‬ ‫الن َه َ‬ ‫اك ْ‬


‫ثقافة وفن‬

‫د‪ .‬عبد الكريم عكيوي*‬

‫ٌ‬ ‫وسلوك‬ ‫حامية البيئة‪ ..‬عقيدة‬ ‫إن حماية البيئة من خالل القرآن الكريم‬

‫يتجمــل بــه المســلم فــي ســلوكه وتصرفــه اليومــي‪ .‬فــإذا‬

‫تســتقر فــي قلــب المك َّلــف‪ ،‬ثــم عمــل‬

‫توجها نحو البيئة باالحترام والتقدير‪ ،‬والمودة‬ ‫بالضرورة‬ ‫ً‬

‫ال عقيدة‬ ‫والســنة النبويــة الشــريفة هــي أو ً‬

‫ثانيــا‪ .‬وإذا كان اإليمــان‬ ‫وتصــرف يجــري علــى الســلوك ً‬

‫ا يجــري علــى الجــوارح‪ ،‬فالبيئــة‬ ‫اعتقــادا بالقلــب وعمــ ً‬ ‫ً‬ ‫داخلــة فــي هــذه القاعــدة‪ .‬فحمايــة البيئة إيمان يســتوطن‬

‫القلــب‪ ،‬وأفكار تســتقر في الفكــر ويصدقها العقل‪ ،‬وهي‬ ‫وخلــق وعمل‪ .‬ومعنــى ذلك أن‬ ‫بعــد ذلــك فعل وســلوك ُ‬

‫حمايــة البيئــة مــن مقتضيات اإليمــان‪ ،‬وأن صيانة الفضاء‬

‫المخلــوق من حولنــا‪ ،‬من لوازم العقيدة اإلســامية ومن‬ ‫عالمات كمال اإليمان‪ .‬والســلوك المنسجم مع ضوابط‬ ‫حفــظ البيئــة وصيانــة جمالها‪ ،‬مــن الخلــق الجميل الذي‬

‫اســتقرت العقيــدة الســليمة فــي قلــب العبــد أثمــر ذلــك‬ ‫والتدبير السليم الرشيد‪ .‬فالتربية البيئية تقوم على أصلين‬

‫أحدهمــا عقــدي معنــوي هــو اإليمــان‪ ،‬واآلخــر عملــي‬ ‫ســلوكي هــو األخالق‪ .‬واألصل الثانــي متفرع عن األول‬

‫والزم عنــه‪ .‬ومعنــى ذلــك أن منهــج التربيــة البيئية يكون‬ ‫بترسيخ قواعد إيمانية ثم تلقين قواعد السلوك‪.‬‬

‫األصل العقدي لحماية البيئة‬

‫إن حمايــة البيئــة يقــوم على أصل ثابت‪ ،‬عنــه تتفرع ثقافة‬ ‫البيئــة‪ ،‬ومنــه يســتمد المكلــف قــوة معنويــة تحملــه علــى‬

‫ممارســة تفاعــل ذوقي وروحي مــع البيئة من حوله‪ .‬هذا‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪25‬‬


‫ســتة شــهور وليله ستة شهور‪ ،‬إذ يقضون أيامهم بال عناء‬

‫وال مشقة ويتمتعون بأبصارهم في ليله ونهاره الطويلين‪.‬‬

‫أما الســبب في قدرتي الكبيرة على الصيد في الليل‪،‬‬

‫فإنه يعود إلى التناغم الكبير بين الســمع والبصر‪ ،‬فآذاننا‬ ‫حساســة لألصــوات ذات التــرددات العاليــة‪ ،‬إذ أســمع‬

‫حفيــف أوراق الشــجر‪ ،‬وأميــز فــي حلكــة الليــل صــوت‬

‫وأحــدد مواقعها‬ ‫القــوارض المتنقلــة مــن ُج ْحر إلــى آخر‬ ‫ّ‬

‫بدقــة ثــم أنقــض عليهــا ألصطادهــا‪ .‬وعليــه فــإن وجهــي‬

‫الدائري مع اصطفاف ريش رأسي على شكل إكليل‪ ،‬هو‬ ‫لدي؛ إذ أمواج الصوت التي‬ ‫عنصر مهم من نظام السمع ّ‬

‫نفوذ كمية كبيرة من الضوء إلى شبكة عيوننا‪ .‬وإذا ما ِقسنا‬

‫تنعكــس عــن وجهي‪ ،‬تتوجه نحو األذن عبر هذه الريش‪.‬‬ ‫حت‬ ‫وبســبب ُبعــد المســافة بيــن األذنيــن الداخليتيــن‪ُ ،‬م ِن ُ‬

‫األمــر الــذي يوفر لنــا الصيد والتحرك فــي الليل دون أي‬

‫سماع األصوات األفقية بشكل حساس يفوق قدرة القط‬

‫الصمعــاء بعين الحمام‪ ،‬نجــد أن عين البومة‬ ‫عيــن البومــة‬ ‫ْ‬

‫الصمعــاء تســتقبل الضــوء أكثر من الحمــام بمئة ضعف‪،‬‬

‫القدرة على تثبيت مصدر الصوت بال خط ٍأ‪ ،‬فأتمكن من‬

‫عائــق‪ ،‬بينمــا الحمام يضطر إلى انتظار ضوء الصبح‪ .‬لقد‬ ‫أنبوب تعمل كالمنظار‪ ،‬وزودها ب َق ْرنية وعدســة مثاليتين‪،‬‬ ‫تأمينا لعملها‬ ‫كمــا أحــاط هذه العيون بعظام دائريــة رقيقة ً‬

‫المنظــاري‪ ،‬وهاتــان العينان األماميتان تعمالن كالمجهر‪،‬‬ ‫وتنظــران إلــى الكائــن مــن زوايــا مختلفة وبمعايــرة دقيقة‬

‫للمســافات‪ ،‬ممــا يو ّفــر للبومة الرؤية الثالثيــة األبعاد‪ .‬إال‬ ‫أن الشــكل األمامي للعينين يجعل مســاحة الرؤية ضيقة‪،‬‬

‫فــإذا كانــت زاويــة الرؤيــة عندكــم ‪ 1800‬درجــة‪ ،‬وعنــد‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الحمــام ‪ 3400‬درجــة‪ ،‬فإنهــا تضيــق عندنــا إلــى ‪1100‬‬

‫‪24‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أنعــم علينــا صانــع الكــون والكائنــات عيو ًنا على شــكل‬

‫تلقائيا بتقدير‬ ‫بأربــع مرات‪ .‬وعنــد التحليق يقوم دماغــي‬ ‫ًّ‬ ‫وعموديــا بخطــ ٍأ ال يتجــاوز الدرجــة أو‬ ‫أفقيــا‬ ‫ًّ‬ ‫المســافات ًّ‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫الدرجتين‪ ،‬وهذا ال يشكل عائ ًقا لقدرتي على الصيد ً‬

‫طائرات صامتة‬

‫هل تعتقدون أنه يكفيني تعيين موقع الفريسة فقط؟ ال‪..‬‬

‫إذن كيف سأضمن التقاط هذه الفريسة دون أن أترك لها‬

‫فرصة للهروب؟ هنا يتجلى علي اهلل تعالى باسمه المدبر؛‬ ‫َّ‬ ‫خاصا كثي ًفا‪ ،‬فبومة الغاب ذات األذن‬ ‫حيث منحني ً‬ ‫ريشا ًّ‬ ‫ال‪ -‬يغطي جسمها عشرة آالف ريشة ناعمة‪،‬‬ ‫الطويلة ‪-‬مث ً‬ ‫مانعا‬ ‫فينخفــض احتكاك الهواء المار من بين هذه الريش ً‬

‫درجة‪ .‬فقد وهب خالقي بقدرته العظيمة وعلمه المحيط‬

‫أي صوت‪ .‬ولكــن هذا الريش الناعم لم نره عند‬ ‫صــدور ّ‬

‫لفقــرات رقبتــي قدرة علــى الحركة أســتطيع بها تحريك‬

‫تحــت المــاء وليــس بإمكانها أن تســمع صــوت احتكاك‬

‫فتصبح زاوية الرؤية ‪ 360‬درجة‪.‬‬

‫عض القوارض‪ ،‬بينما سيقان‬ ‫اليابسة بالريش لتحميها من ّ‬

‫كل مخلــوق مــا يحتاجــه بال إســراف وال نقصان‪ ،‬فوهب‬

‫بومــة األســماك‪ ،‬والســبب فــي ذلــك أن األســماك تعيش‬

‫رأســي نحــو الخلــف ألرى كل الجهــات بــكل ســهولة‪،‬‬

‫كسا سيقان بومة‬ ‫األجنحة بالهواء‪ .‬ومن حكمته تعالى ْ‬ ‫أن َ‬

‫خاطئا عني‪ .‬نعم‪،‬‬ ‫اعتقادا‬ ‫والبد لي هنا من أن أصحح‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫لعلكــم تظنــون أني ال أرى في النهار‪ ،‬األمر ليس كذلك‪،‬‬

‫فأنــا أرى فــي النهار كما يرى الحمام‪ ،‬إال أن قدرتي على‬

‫تعض‪.‬‬ ‫بوم األسماك ملساء‪ ،‬والسبب أن األسماك ال ّ‬

‫أطلــت عليكم وأنــا أحاول أن‬ ‫أرجــو أن ال أكــون قــد‬ ‫ُ‬

‫أثبــت براءتــي‪ ،‬وأتمنى أن ال تنظروا إلــي بعد اليوم بوجه‬

‫الرؤيــة فــي الليل والظالم تزيــد ضعفين أو ثالثة أضعاف‬

‫الشؤم‪ ،‬والسالم‪.‬‬

‫الثلج الذين يعيشون في القطب الشمالي الذي يمتد نهاره‬

‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬

‫على رؤيتكم أنتم‪ ،‬ودليلي على ما أقول هم أشقائي من بوم‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫بــوم الحقــل بحفر أعشاشــها في التــراب‪ ،‬تســكن أنواعنا‬ ‫األعشاش المهجورة لطيور نقار الخشب‪ .‬وهنا‬ ‫الصغيرة‬ ‫َ‬

‫يتجلــى للناظــر في كتــاب الكــون المنظور خاصيــة مثيرة‬

‫لالهتمــام وهــي الرحمــة اإللهيــة المطلقــة‪ :‬فبينمــا تأخــذ‬ ‫الفراخ في األعشاش اآلمنة وقتها في النمو‪ ،‬تنمو الفراخ‬

‫في األعشــاش األقل أما ًنا بشــكل أســرع‪ ،‬حتى إنها تغادر‬

‫تلــك األعشــاش دون أن يتــم اكتســاء أجســامها بالريــش‬ ‫بعــد‪ ،‬وهــذا النمــو الســريع يصونهــا من أن تكون فريســة‬ ‫ُ‬

‫لألعــداء‪ .‬وبعــد مضي بضعة أشــهر تحت رعاية األبوين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أحــرارا وتبــدأ تبحث عن غذائها بنفســها‪.‬‬ ‫تنطلــق الفــراخ‬ ‫ً‬ ‫وبالتالــي فــإن معدل الوفيات عند الصغــار مرتفع‪ ،‬إذ إن‬ ‫نســب ًة كبير ًة منها تموت خالل الســنة األولى من عمرها‪،‬‬

‫وبذلــك يتــم التــوازن الســكاني بيــن األحيــاء‪ .‬تتــراوح‬

‫أعمارنــا مــا بيــن ‪ 5-4‬ســنوات‪ ،‬كمــا يندر َمــن يعيش ‪15‬‬ ‫منا ‪68‬‬ ‫ــجلت حيــاة بعض األنــواع الكبيــرة ّ‬ ‫ســنة‪ ،‬وقــد ُس ِّ‬ ‫يعيــش معظمنــا مــع أزواجهم فــي مواطنهــم من غير‬

‫هجــرة‪ ،‬وعندمــا يشــح الغــذاء نغير نمــط غذائنــا دون أن‬

‫نغيــر أماكــن إقامتنا‪ ،‬فنهجــر ما اعتدنا عليه من الغذاء إلى‬ ‫منا في رحلة الشــمال‬ ‫غذاء وفير آخر‪ .‬وقد يهاجر القليل ّ‬

‫والجنــوب؛ فالبــوم القــزم (‪ )otus scopus‬يتجــه نحو جنوب‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫سنة في المحميات‪.‬‬

‫نحن ‪-‬معشــر البوم‪ -‬نواصل العالقة فيما بيننا عن طريق‬ ‫نعبــر عــن كل حالــة مــن‬ ‫هــذه األبجديــات الصوتيــة‪ ،‬إذ ّ‬

‫أحوالنا بصوت خاص؛ ُفنخيف منافسينا بصوت خاص‪،‬‬

‫وننــذر أعداءنــا بصــوت خــاص‪ ،‬ونبحــث عــن أزواجنــا‪،‬‬ ‫ونتواصــل فيمــا بيننــا بأصــوات خاصــة متمايــزة‪ .‬وبهــذه‬

‫أوربا ليقضي فيها فصل الصيف وليؤدي وظيفته في تأمين‬

‫األصوات المختلفة تتمايز بســهولة األنواع المختلفة من‬

‫(‪ )asio flammeus‬ال ُيعرف له موطن‪ ،‬إذ إنه في ترحال دائم‬

‫تملك طبقات صوتية خاصة تميزها عن األنواع األخرى؛‬

‫التوازن الســكاني للحشــرات الكبيرة‪ .‬وبوم المســتنقعات‬

‫يبحث عن المواطن التي يكثر فيها الطعام‪ ،‬كما أن ذكور‬ ‫هــذا النــوع من البوم وأمثاله من البــوم المتنقل‪ ،‬ال يعيش‬

‫مــع أزواجــه مــن اإلنــاث في حياة أســرية إال في موســم‬ ‫التكاثــر‪ .‬أمــا بوم الجبال فيرتقــي قمم الجبال في الصيف‬ ‫ويرتحل إلى الوديان في الشتاء‪.‬‬

‫أبجدية صوتية خاصة‬

‫البــوم‪ .‬فاألنــواع المختلفة التي تعيش فــي أماكن مختلفة‬

‫ففــي الواليــات المتحــدة األمريكية كان يعــرف منا ‪123‬‬ ‫نوعا‬ ‫ً‬ ‫نوعــا‪ ،‬وارتفــع هذا العــدد في عام ‪ 2000‬إلى ‪ً 189‬‬ ‫تبيــن بعد التصنيف‬ ‫بعــد تصنيــف األصــوات لدينا‪ ،‬حيث َّ‬

‫الصوتــي هــذا‪ ،‬أن هناك اختالفات كثيرة بين أنواعنا رغم‬ ‫التشابه في مظاهرنا الخارجية‪.‬‬

‫حواس عجيبة‬

‫الصيد كذلك‪ .‬أما أنواعنا التي تصطاد في النهار فتستخدم‬

‫القــط الهوائــي‪ ،‬يجمع األصوات ويعكســها إلى‬ ‫مهمــة ال ّ‬

‫أجل التواصل فيما بيننا على مســافات بعيدة‪ ،‬ومن أجل‬ ‫أصوا ًتــا ضعيفــة خفيفــة‪ .‬وعليه فإن زوج البومة النســارية‬ ‫َتعــرف أصــوات بعضهــا البعض من مســافة ‪ 4‬كلم‪ .‬نعم‪،‬‬

‫مــن الريــش الموجــودة حول عيوننــا‪ .‬هذا الجهــاز يؤدي‬

‫آذاننــا‪ .‬عيوننــا أكبر من عيون ســائر الطيــور‪ ،‬وفتحة آذاننا‬ ‫واســعة كذلك‪ .‬ثم إن بؤبؤة عيوننا الواســعة تســاعد على‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫فــي ســكنات الليــل نســتخدم أبجديــة صوتيــة خاصة من‬

‫جهازا على شكل دائرة يتكون‬ ‫نملك ‪-‬نحن معشر البوم‪-‬‬ ‫ً‬

‫‪23‬‬


‫تمكنهــا مــن صيــد األســماك بــكل ســهولة‪.‬‬ ‫تملــك تقنيــة ّ‬ ‫كمــا تســتطيع بــوم الثلــج (‪ )nyctea scandiaca‬التــي‬ ‫تســتوطن القطــب المتجمــد الشــمالي رؤي َة أبســط حركة‬ ‫تقوم بها فأرة مختبئة تحت طبقة من الثلج تبلغ ‪ 30‬سم‪،‬‬ ‫فتركز انتباهها على تلك‬ ‫وذلك من موقعها على الشجرة‪ّ ،‬‬ ‫البقعــة ثــم تتســلل فــي صمت لتنقــض على تلــك الفأرة‪،‬‬ ‫فتمســكها وكأنها وضعتها بنفســها هناك‪ .‬نحمل فريســتنا‬ ‫قطعــة واحــدة بمناقرنــا خال ًفــا للصقــور والنســور‪ ،‬ولكن‬ ‫زادا لمن‬ ‫إذا كانت الفريســة كبيرة‪ ،‬نفصل رأســها ونرميه ً‬ ‫هو أصغر منا‬ ‫حجما‪ ،‬ونبتلع ســائر الجســد حتى الذيل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أما إذا كانت الفريســة صغيرة نبتلعها برمتها دفعة واحدة‬ ‫ونطرح من فمنا أجزاءها التي لم نستطع هضمها‪.‬‬

‫تملك البومة عيو ًنا كالمجهر‪ ،‬تنظر إلى الكائن من زوايا مختلفة وبمعايرة‬ ‫دقيقة للمسافات‪ ،‬مما يمكّ نها من رؤية ثالثية األبعاد‪.‬‬

‫نحول أنظارنا‬ ‫وبمجرد التقاطنا صو ًتا ‪-‬ولو كان ضعي ًفا‪ِّ -‬‬ ‫إلى تلك الجهة ونقوم بالتركيز على ذلك الصوت‪ ،‬وبعد‬

‫تحديد المكان نتسلل نحو الفريسة ونقضي عليها بضربة‬

‫حياتنا األسرية‬

‫مخلب واحدة‪.‬‬

‫أقــدم إليكم بعض األرقام التي تســاعدكم‬ ‫وهــا أنــا ذا ّ‬

‫يوميا ســبع قوارض من الحيوانات‬ ‫ْ‬ ‫الصمعاء‪ ،‬يســتهلكان ًّ‬

‫يبلــغ وزن الواحــدة منهــا ‪ 20‬جــم‪ ،‬وبذلــك يتــم خــال‬

‫شــهرين مــن الســنة تنظيــف نســبة ‪ %70-28‬مــن الفئــران‬

‫و‪ %46-18‬من الجرذان التي تعيش في غابة من الغابات‪.‬‬

‫ولكــن فــي هذا النظــام البيئي يحــدث أحيا ًنــا العكس؛ إذ‬ ‫طرديا‬ ‫التغيرات التي تطرأ على عدد القوارض هذه‪ ،‬يؤثر‬ ‫ًّ‬ ‫أيضا‪ ،‬ففي السنوات التي ينخفض‬ ‫على عددنا نحن البوم ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫فيها عدد الفئران والجرذان‪ ،‬تنخفض فيها أعدادنا ً‬

‫منا وال تقدير‪ ،‬فنحن لسنا‬ ‫كل ذلك يحدث من غير ٍ‬ ‫علم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وتجليات لها‬ ‫ســوى مترجمين ألســماء خالقنا الحســنى‪،‬‬ ‫من غير شعور‪ ،‬فهو المدبر وهو المقدر سبحانه‪.‬‬

‫خبراء الصيد‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫لقد خ َلق لنا ربنا أجنحة طويلة تو ّفر لنا الطاقة أثناء الطيران‬

‫‪22‬‬

‫الصمعاء‬ ‫وتسهل علينا مهمة الصيد‪ ،‬إذ البومة‬ ‫ْ‬

‫(‪)strix aluco‬‬

‫تستطيع التقاط الضفدع في الماء وهي تطير‪ ،‬كما تتغذى‬

‫الفقاريــات في‬ ‫البــوم الحفــار (‪ )speotyto cunicularia‬علــى ال ّ‬

‫البــراري‪ ،‬أمــا البومــة المخططــة (‪ )strix varia‬فتتغــذى على‬ ‫الطيــور الصغيــرة التــي ترتاد إلــى محطات تغذيــة الطيور‬

‫دومــا‪ ،‬وأمــا أنواعنا مــن بوم األســماك‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫(‪)ketupa zeylonensis‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫زوج من البومة‬ ‫علــى إدراك مكانتنــا فــي التــوازن البيئــي‪ٌ :‬‬

‫تهاجر بعض أنواعنا من البوم بح ًثا عن رزقها عندما تقل‬ ‫ال‪ -‬من القطب المتجمد‬ ‫الفئــران‪ .‬فتهاجر بــوم الثلج ‪-‬مث ً‬ ‫الشــمالي إلــى الواليــات المتحــدة األمريكيــة عندمــا تقل‬ ‫الفئــران‪ .‬معظــم ذكورنا تتزوج بأنثــى واحدة فقط‪،‬‬ ‫ونادرا‬ ‫ً‬ ‫ما نرى‬ ‫ذكورا تتزوج أكثر من أنثى إال عندما يكثر الصيد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يعتنــي الذكــر‬ ‫بــاألم والفــراخ فــي فتــرة حضانــة البيــض‬ ‫ّ‬ ‫ربا لألســرة‪ .‬موســم التكاثر يتوافق مع الموســم‬ ‫باعتباره ًّ‬ ‫الــذي تكثــر فيه مصــادر الغذاء‪ ،‬إذ يتــم وضع البيض في‬ ‫مبك ًرا في شــهر شــباط‪ ،‬األمر الذي‬ ‫نصــف الكــرة الغربي ّ‬ ‫ُيجبــر الذكــور علــى الصيد في البرد القــارس ألن اإلناث‬ ‫تكون منشــغلة بحضانة بيضها‪ .‬وفي المناطق االســتوائية‬ ‫يبــدأ التكاثــر فــي موســم األمطــار‪ ،‬حيــث تتــرك الســيول‬ ‫خلفهــا الــرزق الوفير من الحشــرات‪ .‬وبشــكل عام تكون‬ ‫الحضانة فترة واحدة في الســنة الواحدة‪ ،‬وقد تكون أكثر‬ ‫من مرة عند وفرة الطعام‪ .‬وربما يمر العام دون أن تكون‬ ‫تقتات عليها‪.‬‬ ‫هناك حضانة إذا ما ق ّلت القوارض التي‬ ‫ُ‬

‫أعشاشنا‬

‫يقــوم الذكــور بتوفيــر الغذاء لألمهات في فتــرة الحضانة‪،‬‬ ‫فتكتنــز أجســامهن بالدهــون لتكــون أكثــر قــدرة علــى‬ ‫حمايــة فراخهــا مــن األعــداء‪ ،‬وفــي الغالــب ال نحتــاج‬ ‫الح َفر‬ ‫لبنــاء األعشــاش‪ ،‬إذ نختــار األشــجار المناســبة أو ُ‬ ‫التــي تنتشــر بيــن الصخــور‪ .‬وبينمــا يعمــل أصدقاؤنــا من‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫البوم‬

‫ملك الليايل‬

‫مرحبا أيها اإلنسان‪ ،‬أنا "البومة"‪ ...‬أقف‬ ‫ً‬

‫أنــا مــن الطيــور التــي لــم ُيعــرف مــن خصائصهــا إال‬

‫التــي وضعهــا ربــي‬ ‫ألرد علــى‬ ‫فــي‪ ،‬ثــم ّ‬ ‫َّ‬ ‫افتراءاتكم التي توجهونها إلي بأني "جالبة للشــؤم"‪ .‬فقد‬ ‫ّ‬ ‫بلغني أنكم تقولون لمن يملك صفات سيئة‪" :‬وجهه مثل‬

‫ســببا لتســميتنا بـ"ســيد الطيــور" (‪ )baykuş‬في‬ ‫تلــك الوقفــة ً‬

‫نظامنا األيدولوجي‬

‫أبدا‪ ،‬إنــي أختار المباني‬ ‫يعبر عــن الحقيقة ً‬ ‫مــا تقولونــه ال ّ‬

‫غــذاء يتناســب مــع أحجامنــا‪ .‬ثم إننا مســخرون للحفاظ‬

‫بيــن أيديكم اليوم ألحدثكم عن البدائع‬

‫القليل‪ ،‬إذ نشــتهر بوقفتنا المنتصبة األصيلة‪ ،‬وربما كانت‬ ‫اللغة التركية‪.‬‬

‫بـ"عش البوم"‪ ،‬ولكن كل‬ ‫البوم"‪ ،‬وتصفون أماكن الشــؤم ُ‬

‫إناثنــا ‪-‬نحــن معشــر البــوم‪ -‬أضخــم مــن ذكورنــا‪ ،‬نتناول‬

‫المهجــورة لوفــرة الفئــران فيهــا وهدوئها ليــس إال‪ .‬كيف‬

‫علــى التــوازن البيئــي‪ ،‬ونتغــذى علــى الجــرذان والفئــران‬

‫عينــي الكبيرتين‬ ‫الحيوانــات الضــارة؟ ربمــا ترتعبون مــن َ‬

‫الصغيــرة‪ .‬فبينما تتغذى أنواعنا الصغيرة على الحشــرات‬

‫أيضا‪ .‬ولكن ماذا أفعل؟ لقد خلقني ربي‬ ‫يثير فيكم القلق ً‬

‫والعصافيــر‪ ،‬وأمــا أنواعنــا الطويلــة فتســتطيع أن تصطــاد‬

‫الموضوعتين في مقدمة رأســي‪ ،‬ولعل نشــاطي في الليل‬ ‫علــى هــذه الصــورة؛ أعيش فــي الليل وأســعى وراء لقمة‬ ‫العيش بخالف معظم الحيوانات التي تنشط في النهار‪.‬‬

‫والالفقاريــات‪ ،‬تتغذى أنواعنا المتوســطة على القوارض‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫الطيــور الكبيــرة والغــزالن الصغيرة مــن الثدييــات ً‬ ‫جيــدا‪،‬‬ ‫بتصنــت محيطنــا‬ ‫قبــل أن نشــرع بالصيــد نقــوم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ســببا لحمايتكــم مــن‬ ‫تقولــون ذلــك وأنــا الــذي ُج ُ‬ ‫علــت ً‬

‫والقــوارض‪ ،‬وقــد يقتــات بعضنــا علــى العصافيــر‬

‫‪21‬‬


‫أدب‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫أديب إبراهيم الدباغ*‬

‫‪20‬‬

‫إما وإما‬

‫إمــا أن يســحقنا الزمــن وي َف ّتِــت وجودنــا‬ ‫ويالشــي كياننــا ويســلخنا عــن هويتنــا‪،‬‬ ‫وإمــا أن ننتبــه ونأخــذ حذرنــا ونحشــد‬ ‫قوانا‪ ،‬ونج ّند أفكارنا ونبعث قدراتنا‪ ،‬ونســتحضر إراداتنا‬ ‫ونحفــز هممنــا‪ ،‬ونبــذل جهدنــا إلنقاذ أنفســنا من ســطوة‬ ‫أثقاله الفكرية وجفافاته الروحية وغياب إيمانه وهشاشــة‬ ‫عقيدته والدينية علومه ومعارفه‪.‬‬ ‫فرجــال الفكــر والــروح مــن أبنــاء جلدتنــا‪ ،‬هــم اليوم‬ ‫مدعــوون أكثــر مــن أي وقت مضى للتصــدي لما يحمله‬ ‫ــس‬ ‫الصميم مــن إيماننا‪،‬‬ ‫إلينــا هــذا الزمــن مــن مخاطر َت َم ُّ‬ ‫َ‬ ‫واللــب مــن كينونتنــا كأمــة إيمــان وديــن وثقافــة وتاريخ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وعلى الرغم من محاوالت الطمس واإلقصاء والتشــويه‬ ‫الذي يعانون منه‪ ،‬غير أنهم قادرون ‪-‬بما يملكون من ثراء‬ ‫روحي وإيماني‪ -‬أن يسطعوا في كل سماء‪ ،‬ويتوهجوا في‬ ‫كل فضــاء‪ .‬فعظمــة هؤالء الروحيــة‪ ،‬وعبقريتهم الفكرية‪،‬‬ ‫غيبها ســحاب؛ فهم‬ ‫أوســع مــن ْ‬ ‫أن َيحجبهــا حجــاب أو ُي ّ‬ ‫موجــودون عنــد المــكان الــذي ينبــض فيــه قلــب العالم‪،‬‬ ‫ليصلحوا شــأنه ويعملوا على انتظام َد َّقاته وضبط خفقه‪،‬‬ ‫لزوما وأعظم‬ ‫وهم موجودون حيثما يكون وجودهم أكثر ً‬ ‫نفعــا‪ .‬إنهــم بســاء روح‪ ،‬وشــجعان فكر‪ ،‬وأقويــاء إرادة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وعظماء إصرار وتصميم؛ فشــعورهم أنهم مندوبو القدر‬ ‫إلصالح العالم يزيد في حماســهم واندفاعهم نحو روح‬ ‫العالــم بهــاالت المجد التي افتقدها‪ ،‬وإحالل هذا الروح‬ ‫فــي المــكان األرفــع واألســمى مــن اهتمامات البشــرية‪،‬‬ ‫إنهم في الحق شــرارات فكر تضيء دياجير العالم وتنير‬ ‫طريق الهداية واالستقامة‪.‬‬ ‫فهــذا العالم اإلنســاني بات بعد هــذه القرون المثخنة‬ ‫متعبا شــديد التعب‪ ،‬محبطً ا‬ ‫بالتحــوالت الماديــة الكبــرى ً‬ ‫شــديد اإلحبــاط‪ .‬إنه يبحث عن رجــل روح عظيم يتولى‬ ‫زمامــه‪ ،‬ويقــود خطــاه‪ ،‬ويبــدد الســحاب القاتــم والمخيم‬ ‫فــوق الــروح الجمعــي ليحجــب صفــاءه‪ ،‬ويغطــي علــى‬ ‫تألقــه وتوهجــه‪ .‬فمن خالل عدة كتب ومقاالت وخطب‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ومحاضــرات‪ ،‬اســتطاع هــؤالء األفــذاذ أن يســتنبتوا فــي‬ ‫فكرا‬ ‫جديدا يريدون أن يتحول إلى حقائق يعيشها‬ ‫ً‬ ‫األذهان ً‬

‫الناس كشــأن من شــؤون حياتهم الدنيوية األخرى‪ ،‬وهذا‬ ‫الفكــر الروحــي مرشــح اليوم للهيمنة على ســاحة الثقافة‬

‫المحلية ومساحات من الثقافة العالمية‪.‬‬

‫وهــذا الفكــر الروحــي‬ ‫شــأن كل األفــكار الروحيــة‬‫َ‬

‫قادرا على االنكفاء والوقوف‬ ‫العظيمة‪ -‬لم يعد بعد اليوم ً‬ ‫فــي ســاحة ثقافية واحدة حتى لــو أراد صاحبه ذلك‪ ،‬ألنه‬ ‫فكر ‪-‬بطبيعته‪ -‬امتدادي توسعي‪ ،‬إذا توقف عن السريان‬

‫أي صاحــب فكــر إذا مــا نشــر‬ ‫نكــص وانتكــس‪ .‬كمــا ّ‬ ‫أن َّ‬

‫فكره وأبان عنه ودعا إليه‪ ،‬خرج عن ملكيته‪ ،‬وصار ملكً ا‬

‫لجمــوع قرائــه والمتأثريــن بــه والمتعلميــن منــه‪ ،‬وخــرج‬ ‫كذلك عن محليته وخصوصيته إلى العمومية والعالمية‪.‬‬

‫قراء هذا الفكر قد ينتابه االندهاش والعجب‬ ‫وبعض َّ‬

‫مــن علــوه‬ ‫وســموه‪ ،‬ومــن امتداداتــه األفقيــة والعموديــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حتــى ليــكاد يقفز فــوق عقالنية العصر وســياقاته الفكرية‬

‫ومواضعاتــه المنطقيــة‪ .‬وهــذا أمــر طبيعــي‪ ،‬ألن العبقريــة‬

‫بحــد ذاتهــا‬ ‫لهــب فكري ال يقــاس وال يطــال؛ فهو يقلب‬ ‫ٌ‬ ‫الموازيــن‪ ،‬ويشــعل الهشــيم‪ ،‬ويحــرق العتيــق‪ ،‬ويأتــي‬ ‫بالجديــد‪ ،‬وينشــئ لآلتــي مــن األيــام واألجيــال‪ ،‬ويبنــي‬ ‫للقادم من اإلنسانية واإلنسان‪.‬‬

‫نحــث الخطى ونجري‬ ‫أن‬ ‫ســراعا وراء طموحنا‬ ‫فإمــا ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬

‫فهمــا‬ ‫وإدراكا‪ ،‬ليزيد نتاجنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الذاتــي‪ ،‬فنزيــد ًّ‬ ‫علوا‪ ،‬ونزيــد ً‬ ‫ويعظــم شــأننا‪ ،‬وتكثر أيادينا‪ ،‬وتســهم عقولنــا مع عقول‬

‫اآلخريــن في انتشــال الروح اإلنســاني مــن وهدته وقيامه‬

‫من ســقطته‪ ،‬وإما أن يكون نصيبنا من هذا العصر عدوى‬ ‫تصيبنــا مــن أمراضــه الكثيرة‪ ،‬فنقع‬ ‫مغشــيا علينا فال نفيق‬ ‫ًّ‬

‫من غشيتنا إال على صوت نفير القيامة فنندم والت حين‬ ‫مندم‪.‬‬

‫(*) كاتب وأديب عراقي‪.‬‬


‫بالقلب رهبة ورغبة‪" .‬اهلل أكبر وحده"؛ هذه العبارة ينبغي‬ ‫أن نفكــر فيهــا‪ ،‬مــا معنــى "اهلل أكبــر"؟ ولمــاذا امتألت بها‬

‫الصــاة؟ ألننــا فــي الواقــع ال نجعل اهلل أكبــر‪ ،‬بل نجعل‬

‫أشــياء أخــرى أكبــر‪ .‬وال يمكــن أن نقوم بوظيفة الشــهادة‬ ‫علــى النــاس ما لم تمتلئ قلوبنــا بأكبرية اهلل‪ .‬ولذلك كان‬

‫‪‬و َر َّب َك َف َك ِّب ْر‪ ‬بالحصر‪،‬‬ ‫أول شرط في اإلنذار والتبليغ َ‬

‫‪‬يــا َأ ُّي َها ا ْل ُم َّد ِّث ُر ‪ُ ‬ق ْم َف َأ ْن ِذ ْر‬ ‫"وكبر ربك"‪َ ،‬‬ ‫ولــم يقــل اهلل ّ‬ ‫ــك َف َك ِّب ْر‪(‬المدثــر‪)3-1:‬؛ ألنــه إذا كان أي شــيء فــي‬ ‫‪َ ‬و َر َّب َ‬ ‫قلبــك أكبــر من اهلل فإنك ســتؤتى منه‪ ،‬وإذا كان اهلل عندك‬

‫أكبر من كل شيء وأنك مستعد للتضحية بكل شيء من‬ ‫أجل إرضائه‪ ،‬إذ ذاك يمكنك أن تفعل أي شيء َأمرك اهلل‬

‫به و َتقدر عليه بيسر‪ ،‬وتدخل في قول رسول اهلل ‪ ‬لمعاذ‬

‫أخبرني عن عمل يدخلني الجنة‬ ‫بن جبل ‪ ‬حين سأله‪ْ :‬‬ ‫ويباعدني عن النار؟ قال ‪" :‬لقد سألت عن عظيم‪ ،‬وإنه‬ ‫ليســير على من يســره اهلل عليه" (رواه الترمذي)‪ .‬هذا التيســير‬

‫هــو بهــذه العبوديــة الصادقة‪ ،‬ولهذا تشــير اآليــة الكريمة‪:‬‬

‫ــم‬ ‫‪ُ ‬ق ْ‬ ‫ــل إ ِْن َك َ‬ ‫ــم َو َأ ْب َن ُ‬ ‫ان َآب ُ‬ ‫ــم َو َأ ْز َو ُ‬ ‫ــم َوإ ِْخ َوا ُن ُك ْ‬ ‫اؤ ُك ْ‬ ‫اؤ ُك ْ‬ ‫اج ُك ْ‬ ‫ال ا ْق َتر ْف ُتم َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ار ٌة َت ْخ َش ْــو َن َك َس َاد َها‬ ‫وها َوت َج َ‬ ‫ــير ُت ُك ْم َو َأ ْم َو ٌ َ ُ‬ ‫َو َعش َ‬ ‫ــب ِإ َلي ُكم ِم َن ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هلل َو َر ُســو ِل ِه َو ِج َها ٍد‬ ‫َو َم َســاك ُن َت ْر َض ْو َن َهــا أ َح َّ ْ ْ‬ ‫هلل ِب َأ ْم ِر ِه‪(‬التوبة‪.)24:‬‬ ‫ِفي َسبِي ِل ِه َف َت َر َّب ُصوا َح َّتى َي ْأ ِت َي ا ُ‬ ‫إذن تتلخــص القضية فــي اإلقبال بصدق على القرآن‬ ‫الكريــم فــي الصــورة الفرديــة والجماعيــة‪َ ،‬مــن شــاء أن‬

‫يتحــدث فليكــرع مــن القــرآن‪ ،‬فليتضلع مــن القرآن‪ ،‬من‬

‫شــاء أن يفكــر فلينطلــق مــن القــرآن‪ ،‬مــن شــاء أن ُيترجم‬ ‫فليزن بالقرآن‪ ...‬القرآن هو المنطلق‪ ،‬والقرآن هو الغاية‪،‬‬

‫والقــرآن هــو الهدف‪ ،‬والقــرآن هو الميــزان‪ ،‬والقرآن هو‬ ‫ولن ِعد‬ ‫الوسيلة‪ ،‬والقرآن كل شيء‪َ ...‬لن ُع ّ‬ ‫ض عليه بالنواجذ ُ‬ ‫بناء اإلنســان على أســاس منهاجه األول الذي اختاره اهلل‬ ‫‪ ‬لرسوله ‪ ،‬قال تعالى‪ُ  :‬ق ْل إ َِّن ا ْل ُه َدى ُه َدى ا ِ‬ ‫هلل‪(‬آل‬

‫ارى‬ ‫‪‬و َقا ُلوا ُكو ُنــوا ُه ً‬ ‫عمــران‪ ،)73:‬وقــال كذلك‪َ :‬‬ ‫ودا َأ ْو َن َص َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم َح ِني ًفا‪(‬البقرة‪.)135:‬‬ ‫َت ْه َت ُدوا ُق ْل َب ْل م َّل َة إ ِْب َراه َ‬ ‫(*)‬

‫األميــن العــام لمؤسســة البحــوث والدراســات العلميــة (مبــدع) ‪/‬‬

‫المغرب‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪19‬‬

‫قطرات املاء‬ ‫قطرة فقطرة‪،‬‬ ‫رشحة ف َرشحة‪..‬‬ ‫فالقليل إىل القليل‪،‬‬ ‫طري ًقا يشقّ ‪،‬‬ ‫وسبي ًال مي ّهد‪..‬‬ ‫ومبشيئة الخالق‪،‬‬ ‫غ ًدا يطفح املاء‪،‬‬ ‫والظامئني يسقي‪،‬‬ ‫والعطاش يروي‪..‬‬ ‫***‬


‫األســاتذة والمعلميــن هــذا التوجيــه‪ ،‬وإن ُطلــب منــي أن‬ ‫أفعــل غيــر الهدى فينبغي بأي حــال أال أفعل‪ ،‬وإن ُأمرت‬

‫توادهــم وتراحمهــم وتعاطفهم م َثل‬ ‫"مثــل المؤمنيــن فــي ّ‬ ‫الجســد الواحــد؛ إذا اشــتكى منــه عضــو تداعــى له ســائر‬

‫بالســهر‬ ‫والحمــى" (رواه مســلم)‪ .‬هــذه الخاصية هي‬ ‫َّ‬ ‫الجســد َّ‬

‫أن أترك الهدى فينبغي أال أتركه‪َ  :‬أ َر َأ ْي َت ا َّل ِذي َي ْن َهى‬

‫للجســد‪ ،‬والتي هي مظهــر للتراحم والتعاطف والتواد‪...‬‬

‫ــدى ‪َ ‬أ ْو َأ َم َر‬ ‫ــت إ ِْن َك َ‬ ‫ان َع َلــى ا ْل ُه َ‬ ‫َع ْب ً‬ ‫ــدا ِإ َذا َص َّلــى ‪َ ‬أ َر َأ ْي َ‬ ‫‪َ‬‬ ‫هلل‬ ‫ــت إ ِْن َك َّ‬ ‫ــم َي ْع َل ْم ِب َأ َّن ا َ‬ ‫ِالت ْق َــوى ‪َ ‬أ َر َأ ْي َ‬ ‫ب َّ‬ ‫ــذ َب َو َت َو َّلــى أ َل ْ‬ ‫َي َرى‪(‬العلق‪ .)14-9:‬هذا الناهي للعبد الذي يصلي بالمقال‬

‫إنمــا كانــت في الجســد بســبب الــروح‪ ،‬وإال حين يموت‬ ‫قل لجسده أن يحدث فيه مثل هذا‪.‬‬ ‫الميت َّ‬

‫جســدا بســرعة إذا‬ ‫فاألمــة اإلســامية يمكــن أن تعود‬ ‫ً‬

‫أو بالحــال‪ ،‬هــذا الناهــي للعبــد الــذي هــو علــى الهــدى‪،‬‬

‫ُنفخــت فيهــا الــروح‪ ،‬وإنما تنفــخ فيها الــروح بنفخها في‬

‫الجزئيــات المكونــة لهــا‪ ،‬أي األفــراد‪ ،‬ثــم في األســر‪ ،‬ثم‬

‫هــذا العبــد الناهــي للعبــد اآلمــر بالتقــوى ‪-‬أي بالهــدى‪-‬‬ ‫ال ُت ِط ْع ُــه‬ ‫‪‬ك َّل َ‬ ‫مــا الجــواب الصريــح فــي آخــر الســورة؟ َ‬

‫علــى القــرآن‪ ،‬به ارتفع من ارتفع‪ ،‬وبه اتضع من اتضع‬

‫إذا أردنــا أن نعــرف المعبــود الواقعي الحــق‪ ...‬من نعبد؟‬

‫يرفــع بهــذا الكتــاب‬ ‫أقواما ويضع به آخرين" (رواه مســلم)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لننتبه إلى هذا الجار والمجرور "به"‪َ  :‬ق ْد َج َاء ُكم ِم َن ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫ْ‬ ‫هلل‪ ‬ال بغيره‪ .‬إذا التمســنا‬ ‫ِيــن ‪َ ‬ي ْه ِدي ِب ِه ا ُ‬ ‫ــاب ُمب ٌ‬ ‫ــور َو ِك َت ٌ‬ ‫ُن ٌ‬ ‫الهــدى فــي غيــره أضلنــا اهلل وهــو الحــال الــذي نعيــش‪:‬‬

‫وأن‬ ‫يصدق هذا‪ ،‬فهذه‬ ‫ً‬ ‫محمدا رسول اهلل"‪ ،‬لكن الواقع ال ّ‬

‫فــي التكتــات البشــرية المكونة للمجمــوع‪ .‬إذن فالمدار‬

‫ــج ْد َوا ْق َت ِر ْب‪(‬العلــق‪ ،)19:‬إنما الطاعة‪ ،‬في المعروف‪.‬‬ ‫اس ُ‬ ‫َو ْ‬

‫كمــا هــو حالنــا اليــوم‪ ،‬وهو مــا يؤكــده الحديــث‪" :‬إن اهلل‬

‫وندعــي أننا نشــهد "أن ال إله إال اهلل‬ ‫نزعــم أننــا نعبــد اهلل‪ّ ،‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫آن‬ ‫جماعــ ًة أو دولــ ًة أو أمــ ًة لغيــر القــرآن‪ :‬إ َِّن َه َ‬ ‫ــذا ا ْل ُق ْــر َ‬ ‫َي ْه ِ‬ ‫ــدي ِل َّل ِتــي ِهــي َأ ْق َو ُم‪(‬اإلســراء‪ .)9:‬أقــوم علــى اإلطالق؛‬ ‫َ‬ ‫إنمــا الهــدى هدى اهلل‪ .‬إن هذه الحقيقة يجب أن تســتقر‪،‬‬ ‫ال ِصــدق الســتقرارها إال باإلقبــال الصــادق على القرآن‬

‫تعلما‬ ‫‪‬ر َّب َنا‬ ‫وتعليما‪ .‬حين دعا إبراهيم ‪ ‬وطلب قال‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ــث ِ‬ ‫يهِ‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ــك َو ُي َع ِّل ُم ُه ُم‬ ‫ــم َر ُســو ً‬ ‫ال ِم ْن ُه ْم َي ْت ُلــو َع َل ْيهِ ْم َآيا ِت َ‬ ‫َو ْاب َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ــاب َوا ْل ِح ْك َمــ َة َو ُي َز ِّكيهِ ْم‪(‬البقــرة‪ ،)129:‬واســتجاب‬ ‫ا ْل ِك َت َ‬ ‫يــن رســو ً ِ‬ ‫ــث ِفــي ا ُ ِ‬ ‫ــم َآيا ِت ِه‬ ‫فـ‪‬ب َع َ‬ ‫اهلل َ‬ ‫أل ّم ِّي َ َ ُ‬ ‫ــم َي ْت ُلو َع َل ْيهِ ْ‬ ‫ال م ْن ُه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َوا ْل ِح ْك َمــ َة َوإ ِْن َكا ُنوا ِم ْن َق ْب ُل‬ ‫ــم ا ْل ِك َت َ‬ ‫ــم َو ُي َع ّل ُم ُه ُ‬ ‫َو ُي َز ّكيهِ ْ‬ ‫ِين‪(‬الجمعة‪ .)2:‬ال مخرج اليوم مما نحن فيه‬ ‫ال ٍل ُمب ٍ‬ ‫َل ِفي َض َ‬ ‫مــن الذلــة إلى العزة‪ ،‬من الجهــل إلى العلم‪ ،‬من الضعف‬ ‫فلنقبل‬ ‫إلى القوة‪ ،‬من الظلمات إلى النور إال بهذا القرآن‪ُ .‬‬ ‫عليــه بصــدق‪ ،‬نلتمــس فيه الهدى لــكل جزئية صغرت أم‬

‫كبرت‪ ،‬تعلقت باألرض أم بغير األرض‪ ،‬يجب أن نجتهد‬ ‫فــي هــذا حيــث مــا كنــا‪ ،‬إن كنت مع ّل ًمــا فألجتهــد ُ‬ ‫ألع ِّلم‬ ‫أوجه‬ ‫الهــدى ما اســتطعت‪ ،‬إن كنت ً‬ ‫مفتشــا فألجتهــد أن ِّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الدعــوى ليــس لدينــا عليها ّبينــة‪ ...‬إذن من نعبــد حقيقة؟‬ ‫جدا ليعرف كل واحد منا معبوده؛‬ ‫هناك طريقة بسيطة ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ِــع‬ ‫ــود َو َ‬ ‫ــن َت ْر َضــى َع ْن َ‬ ‫ال َّ‬ ‫ــك ا ْل َي ُه ُ‬ ‫‪‬و َل ْ‬ ‫َ‬ ‫ــارى َح َّتــى َت َّتب َ‬ ‫الن َص َ‬ ‫ِ‬ ‫ــل إ َِّن ُه َدى ا ِ‬ ‫هلل ُه َــو ا ْل ُه َدى‪(‬البقــرة‪ )120:‬بالحصر‪.‬‬ ‫ــم ُق ْ‬ ‫م َّل َت ُه ْ‬ ‫فردا أو أســر ًة أو‬ ‫ال ينبغــي وال يجــوز أن يلتفــت المســلم ً‬

‫‪18‬‬

‫‪‬‬

‫إنه ببساطة‪ ،‬الذي‬ ‫يضحي بكل شيء من أجل رضاه هو‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وال‬ ‫يضحــي بــه من أجل أي شــيء آخر‪ ...‬إن كان المرأة‬ ‫ّ‬ ‫أو الوظيفة أو المال‪ ،‬فذلك هو المعبود‪ .‬وصدق رســول‬ ‫اهلل ‪ ‬حيــن قــال‪" :‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس عبد الدرهم‪،‬‬

‫تعــس عبــد الخميصة‪ ،‬تعس عبــد الخميلــة" (رواه البخاري)‪.‬‬

‫وليقــس مــا لــم يقــل كمــا قــال ابــن مالــك‪ :‬المعبــود هــو‬ ‫ْ‬ ‫المحبوب األكبر ليس باللفظ‪ ،‬ولكن تضحي في الواقع‬ ‫مــن أجلــه‪ .‬المحبــة لها تعبير مادي كما قال الرســول ‪:‬‬

‫"الصالة نور‪ ،‬والصدقة برهان" (رواه مســلم)‪ .‬فليس اإليمان‬ ‫بالتمنــي ولكــن مــا وقر في القلب‬ ‫وصدقــه العمل‪ ،‬إذا لم‬ ‫َّ‬

‫صدق العمل ما في القلب‪ ،‬فليس هذا ما جاء به محمد‬ ‫ُي ّ‬

‫‪ ،‬وليــس هــذا معنــى "ال إله إال اهلل محمد رســول اهلل"‪،‬‬

‫إذ إن أول هــدف لـــ"ال إلــه إال اهلل محمــد رســول اهلل" أن‬ ‫ِ‬ ‫ســميه‬ ‫ُت ِّ‬ ‫وحد المســلم‪ ،‬أن توحد ابن آدم‪ ،‬أن توحده في ق َ‬ ‫االضطــراري واالختيــاري‪ ،‬هــو فــي القســم االضطراري‬ ‫يوحده‬ ‫عبد هلل شــاء أم أبى‪ ،‬وفيه قســم اختياري يجب أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫أيضــا‬ ‫مؤتم ًــرا بأمــر اهلل‬ ‫مــع القســم االضطــراري فيصيــر ً‬ ‫كالقسم اآلخر‪.‬‬

‫وجهــات ثالث يجب أن تتوحد؛ جهة القلب‪ ،‬وجهة‬

‫اللســان‪ ،‬وجهــة الفعــل‪ ،‬أن يكــون لهــا إلــه واحــد متعلــق‬


‫ال مخرج اليوم مام نحن فيــه من الذلة إىل العزة‪،‬‬

‫ــن ِذ ْك ِري‬ ‫ا َي ِضــلُّ َو َ‬ ‫اي َفــ َ‬ ‫ال َي ْشــ َقى ‪َ ‬و َم ْن َأ ْع َر َ‬ ‫ُه َ‬ ‫ــد َ‬ ‫ض َع ْ‬ ‫يشــ ًة َض ْن ًكا‪(‬طــه‪)124-123:‬؛ ألن الهدى موجود‬ ‫َفــإ َِّن َل ُه َم ِع َ‬ ‫‪‬وا ْت ُل َع َل ْيهِ ْم َن َب َأ ا َّل ِذي‬ ‫وأعــرض عنــه‪ ،‬كما عبر في اآلية‪َ :‬‬ ‫ــاه َآيا ِت َنا َفا ْنســ َل َخ ِم ْن َها‪(‬األعــراف‪)175:‬؛ هي بمثابة ٍ‬ ‫جلد‬ ‫آ َت ْي َن ُ‬ ‫َ‬

‫مــن الجهل إىل العلم‪ ،‬من الضعف إىل القوة‪ ،‬من‬ ‫الظلــات إىل النور إال بهذا القــرآن‪ .‬فلنُقبل عليه‬ ‫بصــدق‪ ،‬نلتمس فيه الهدى لــكل جزئية صغرت أم‬ ‫كربت‪ ،‬تعلقت باألرض أم بغري األرض‪.‬‬

‫َيلبســه فأزاله‪ ،‬واألصل في اللباس أن يقي ويســتر‪ ،‬فحين‬

‫انســلخ أتبعــه الشــيطان‪ ،‬ألن األصــل األول حيــن أكل‬ ‫أبونا آدم و ُأ ّمنا حواء من الشــجرة‪ ،‬بدت لهما ســوءاتهما‪.‬‬ ‫أي الــرداء أو ِ‬ ‫الدرع الذي يمنعنا‬ ‫الجنة ْ‬ ‫فالمعصيــة تخــرق ُ‬

‫النصــي المعزول‬ ‫بهــذا القــرآن فقــط‪ ،‬لكــن ليس بالقــرآن ّ‬

‫الموضــوع علــى الــرف بالنــص المزيــن المزخــرف‪ ،‬بــل‬

‫مــن الضــال‪ِ َ :‬‬ ‫ــك َخ ْي ٌر‪(‬األعــراف‪.)26:‬‬ ‫الت ْق َوى َذ ِل َ‬ ‫ــاس َّ‬ ‫‪‬ول َب ُ‬

‫بالقرآن الذي يســكن عمق القلب‪ ،‬ويســري عبر العروق‬

‫واقع سببه واضح ج ّلي‪ ،‬إنه االنسالخ من‬ ‫هذا الذي هو‬ ‫ٌ‬ ‫ض‬ ‫‪‬و َم ْن َأ ْع َر َ‬ ‫"هــدى اهلل"‪ ،‬واإلعــراض عن "هــدى اهلل"‪َ :‬‬ ‫ــكا َو َن ْح ُش ُــر ُه َي ْــو َم ا ْل ِق َي َام ِة‬ ‫يشــ ًة َض ْن ً‬ ‫ــن ِذ ْك ِــري َفــإ َِّن َل ُــه َم ِع َ‬ ‫َع ْ‬ ‫َأ ْع َمى‪(‬طه‪.)124:‬‬ ‫هــذا الذكــر وهــذا الكتــاب يــوم اســتضاء بــه أعــراب‬

‫روحا جديدة فيك‪ ،‬ليولدك والدة‬ ‫ليسكن الخاليا‪ ،‬لينفخ ً‬ ‫ــم َأ ْن َشــ ْأ َن ُاه َخ ْل ًقــا‬ ‫جديــدة إلــى أن يجعلــك خل ًقــا آخر‪ُ :‬ث َّ‬

‫وب ْدوِ هــا‪ ،‬فتحــوا الكــرة األرضيــة شــر ًقا‬ ‫الجزيــرة العربيــة َ‬

‫أرضا وراء هــذا البحر‬ ‫فــي البحــر وقــال‪" :‬لــو كنت أعلــم ً‬

‫بلغــا نــور اهلل لعبــاد اهلل"‪.‬‬ ‫وم ً‬ ‫لخضتــه بفرســي‪ً ،‬‬ ‫فاتحــا لهــا ُ‬

‫تقريبا‪ ،‬امتد من المحيط األطلســي‬ ‫وفي نحو نصف قرن‬ ‫ً‬

‫مــع ثلــة مــن األعــراب والبــدو ‪-‬وليس مع جيــش منظم‬

‫أبدا‪ -‬ال ُع ّدة وال عتاد وال عدد‪ ،‬وإنما مخلوقات جديدة‬ ‫ً‬

‫األول يفتــح العالــم ويحمــل النــور إلــى أقاصــي الكــرة‬ ‫األرضية؛ نرى البخاري ومسلم يجمعون سنة رسول اهلل‬

‫‪ ‬من أقصى شمال الكرة األرضية‪ ،‬ونرى طارق بن زياد‬ ‫يحمل النور إلى أوربا‪ ،‬وغيره يحملون النور إلى أقاصي‬

‫السند والهند في شرق الكرة األرضية‪ .‬ذلك كله إنما كان‬

‫القــدرات التــي تصيــر للكائن الحــي‪" :‬إن أحدكم يجمع‬ ‫يومــا نطفــة‪ ،‬ثم يكــون علقة‬ ‫خلقــه فــي بطــن أمــه أربعيــن ً‬

‫مثــل ذلــك‪ ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم ُيرســل اهلل إليه‬ ‫الملك‪ ،‬فينفخ فيه الروح" (رواه البخاري)؛ إذ ذاك يصير كما‬ ‫آخ َر‪ .‬تلــك الروح‬ ‫ــم َأ ْن َشــ ْأ َن ُاه َخ ْل ًقــا َ‬ ‫صرحــت اآليــة‪ُ  :‬ث َّ‬ ‫صيرته خل ًقا‬ ‫التــي نفخــت في القســم الطيني من بنــي آدم ّ‬ ‫آخــر‪ ،‬والمــوت ليــس فنــاء‪ ،‬وإنمــا فصــل للعنصريــن عن‬ ‫بعضهما‪ ،‬فيرجع العنصر الطيني إلى طينه (إلى األرض)‪،‬‬

‫بعد‪.‬‬ ‫وتذهب الروح إلى بارئها غير فانية حتى يعود اللقاء ُ‬ ‫الــذي رجــع إلى الطين يتجــزأ ويتفتت ليس له أي قدرة‪،‬‬ ‫كل القــدرات اختفــت منــه بمجــرد ذهاب عنصــر الروح‪.‬‬ ‫كذلكــم ‪-‬وأيــم اهلل‪ -‬جســد األمــة اإلســامية‪ ،‬إن روحهــا‬ ‫جســدا ولــم تبــق ِعضيــن‬ ‫القــرآن‪ ،‬إذا نفــخ فيهــا صــارت‬ ‫ً‬

‫وال أباديــد وال شــراذم وجزئيــات وال فتا ًتــا مفتتة كما هو‬ ‫جســما‬ ‫الحال‪ ،‬بل صارت‬ ‫واحدا كما عبر عنه الحديث‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫ولــدت والدة جديدة بنفخ روح القرآن فيها‪ ،‬ألن القرآن‬ ‫ــاه‬ ‫ــن َك َ‬ ‫روح ُتنفــخ ال كلمــات ُتتلــى‪َ  :‬أ َو َم ْ‬ ‫ان َم ْي ًتــا َف َأ ْح َي ْي َن ُ‬ ‫اس‪(‬األنعام‪)122:‬؛ فبدون‬ ‫الن ِ‬ ‫ورا َي ْم ِشــي ِب ِه ِفــي َّ‬ ‫َو َج َع ْل َنا َل ُه ُن ً‬ ‫القــرآن نحــن أمــوات غير أحيــاء‪ ،‬وبالقرآن نصيــر أحياء‪:‬‬ ‫آم ُنوا اس َت ِجيبوا ِ ِ‬ ‫ل َو ِللر ُس ِ‬ ‫اك ْم ِل َما‬ ‫ول ِإ َذا َد َع ُ‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِيكم‪(‬األنفال‪ .)24:‬فحين نصير أحياء تنفع فينا ِّ‬ ‫النذارة‪:‬‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫ُي ْ ُ ْ‬ ‫ان َح ًّيا‪(‬يس‪ .)70:‬أما الذي ليس بحي فكأنما‬ ‫‪ِ ‬ل ُي ْن ِذ َر َم ْن َك َ‬ ‫َتن ُفخ في رماد بارد‪ .‬الماليير التي تراها في العالم‪ ،‬موتى‬ ‫غير أحياء حتى َيحيوا بالقرآن‪ ،‬فالذي جعل الجيل الراشد‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال‪ .‬عقبة بن نافع أدخل حوافر فرســه‬ ‫وغربا‬ ‫جنوبا وشــما ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫آخ َر‪(‬المؤمنــون‪ .)14:‬إن القــرآن روح بنــص القــرآن نفســه‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وحا ِم ْن َأ ْم ِر َنا َما ُك ْن َت َت ْدرِ ي َما‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫ــك َأ ْو َح ْي َنــا ِإ َل ْي َك ُر ً‬ ‫َ‬ ‫إليم ُ ِ‬ ‫ورا َن ْه ِدي ِب ِه َم ْن َن َش ُاء‬ ‫اب َو َ‬ ‫ا ْل ِك َت ُ‬ ‫ان َو َلك ْن َج َع ْل َن ُاه ُن ً‬ ‫ال ا ِ َ‬ ‫ــن ِع َبا ِد َنا‪(‬الشــورى‪ .)52:‬القــرآن‪ ،‬له نفس خاصي ِة الروح‪،‬‬ ‫ِم ْ‬ ‫والتعبيــر عنــه بنفــس التعبير الذي عبر به عــن الروح التي‬ ‫نعــرف‬ ‫وح ِم ْن‬ ‫‪‬و َي ْســ َأ ُلو َن َك َع ِ‬ ‫الــر ِ‬ ‫جميعــا‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫الــر ُ‬ ‫وح ُق ِل ُّ‬ ‫ــن ُّ‬ ‫وحا ِم ْن‬ ‫ــك َأ ْو َح ْي َنا ِإ َل ْي َ‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫ــك ُر ً‬ ‫َأ ْم ِــر َر ِّبي‪(‬اإلســراء‪َ ،)85:‬‬ ‫َأ ْم ِر َنــا‪ .‬وخاصية الــروح العادية التي نعرف‪ ،‬هي توحيد‬ ‫الكيــان الصغير للفرد‪ ،‬جمع شــتات أجزائــه وإعطاؤهما‬

‫‪17‬‬


‫علينــا بهــذه النعمــة؟ ينبغــي أن نفكــر و َنذكــر هــذه النعمة‬

‫نعمة الشهادة على الناس‬

‫لهــا‪ ،‬وحســبك أن النجــاة بها فــي الدنيا‪ ،‬والفــوز والنجاة‬

‫أمــة محمــد ‪ ،‬فمــا هــي النعمــة التــي ال يشــاركنا فيهــا‬

‫ذكــرا يدفعنــا إلــى الشــكر‪ ،‬ونتأمــل فــي الفوائــد الكثيــرة‬ ‫ً‬

‫إن كان اإلســام نعمــة تشــترك فيهــا األمــم األخــرى قبل‬

‫الحقيقيــة بهــا في اآلخــرة‪ ،‬إذ ال فوز هناك إال باإلســام‪:‬‬

‫غيرنــا إذن؟ إنها نعمة "الشــهادة علــى الناس"‪ .‬ما َنزل من‬ ‫اس ُــت ْح ِف ُظوا‬ ‫الكتاب من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬اســتحفظ عليه الناس‪ :‬ب َِما ْ‬ ‫ــاب ِ‬ ‫اهلل َو َكا ُنــوا َع َل ْيــ ِه ُش َــه َد َاء‪(‬المائدة‪ .)44:‬أمــا هذا‬ ‫ــن ِك َت ِ‬ ‫ِم ْ‬ ‫بعــد ال نبــي وال رســول‪-‬‬ ‫الكتــاب ‪-‬حيــث لــن يأتــي ُ‬ ‫الذ ْك َــر َو ِإ َّنــا َل ُــه‬ ‫ــن َن َّز ْل َنــا ِّ‬ ‫فحفــظ مــن اهلل ‪ِ  :‬إ َّنــا َن ْح ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ون‪(‬الحجــر‪ .)9:‬فمــن الــذي يقــوم بوظيفــة األنبيــاء‬ ‫ظ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َل َ‬

‫ان َع َلى َر ِّب َك َح ْت ًما َم ْق ِض ًّيا ‪ُ ‬ث َّم‬ ‫‪‬وإ ِْن ِم ْن ُك ْم ِإ َّ‬ ‫ال َوارِ ُد َها َك َ‬ ‫َ‬ ‫ين ِف َيها ِج ِث ًّيا‪(‬مريم‪.)72-71:‬‬ ‫ين َّات َق ْوا َو َن َذ ُر َّ‬ ‫الظا ِل ِم َ‬ ‫ُن َن ِّجي ا َّل ِذ َ‬ ‫"متقــون"‪ ،‬إذ ال ُيتصــور إســام بغيــر تقوى‪،‬‬ ‫والمســلمون ُ‬ ‫وهدايــ ُة اهلل فــي كتابــه ‪-‬الــذي هــو الهــدى‪ -‬ال تنفــع غير‬

‫المتقيــن‪ ،‬وهــم وحدهــم الذيــن يهتــدون بهــذا الكتــاب‪:‬‬ ‫ين‪(‬البقرة‪ ،)2:‬كما أن قبول األعمال إنما‬ ‫‪ِ ‬في ِه ُه ًدى ِل ْل ُم َّت ِق َ‬ ‫يكــون مــن المتقيــن‪ ،‬ووراثــة الجنة تكون بمــا عملنا هنا‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ون‪(‬األعراف‪،)43:‬‬ ‫وها ب َِمــا ُك ْن ُت ْم َت ْع َم ُل َ‬ ‫ــم ا ْل َج َّن ُة ُأورِ ْث ُت ُم َ‬ ‫‪‬ت ْل ُك ُ‬ ‫ون‬ ‫والوارثــون للجنــة هــم المتقــون‪ُ  :‬أو َل ِئ َ‬ ‫ــم ا ْل َوارِ ُث َ‬ ‫ــك ُه ُ‬ ‫يــن َي ِر ُث َ ِ‬ ‫س‪(‬المؤمنــون‪ .)11-10:‬إذن نعمــة‬ ‫‪ ‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ــون ا ْلف ْر َد ْو َ‬ ‫قــدر بثمــن لفوائدهــا فــي الدنيــا وفائدتهــا‬ ‫اإلســام ال ُت ّ‬ ‫بمثابــة مقدمــة لموضــوع ال نهايــة لــه اســمه "اآلخــرة"‬ ‫الدار ِ‬ ‫اآلخرة لهِ‬ ‫ان َل ْو َكا ُنوا‬ ‫ــي ا ْل َح َي َو ُ‬ ‫وهــي الحيــاة‪َ :‬‬ ‫‪‬وإ َِّن َّ َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫ون‪(‬العنكبــوت‪ .)64:‬وبالتالي فإننا نتمتع بنعمة أخرى‬ ‫َي ْع َل ُم َ‬ ‫أعظم من هاته النعمة‪ ،‬حيث نشــترك فيها مع العديد من‬ ‫األمــم مضــت من المســلمين‪ ،‬ألن جميع األمم الســابقة‬ ‫هم مسلمون؛ جميع األنبياء كانوا مسلمين‪ ،‬موسى ‪‬‬

‫مسلم‪ ،‬وعيسى ‪ ‬مسلم‪ ،‬وأتباعهما مسلمون‪ ،‬ودينهم‬

‫اإلســام ال غيره‪ .‬فمقولة األديان الســماوية‪ ،‬خرافة‪ ،‬ألن‬ ‫الديــن ِعند ِ‬ ‫اهلل‬ ‫الديــن واحــد عند اهلل وهو اإلســام‪ :‬إ َِّن ِّ َ ْ َ‬ ‫ــا ُم‪(‬آل عمــران‪ ،)19:‬إال أنــه نزل على مراحل حســب‬ ‫ا ِ‬ ‫إل ْس َ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫حاجــات اإلنســان وحســب حكمــة اهلل ســبحانه‪ .‬وحيــن‬

‫‪16‬‬

‫وصلــت األمــة إلى مســتوى مــن النضج‪ ،‬جاءهــا الكتاب‬ ‫ين‬ ‫الــذي َنــزل منه بعض الكتب من ُ‬ ‫قبل‪َ  :‬أ َل ْم َت َر ِإ َلى ا َّل ِذ َ‬ ‫اب‪(‬النســاء‪ ،)44:‬أما هذا فـ"ألم‪ ،‬ذلك‬ ‫ُأو ُتــوا َن ِص ًيبــا ِم َن ا ْل ِك َت ِ‬ ‫مصدق‬ ‫كتاب‬ ‫الذكر األصل‪ ،‬وهو‬ ‫الكتاب" هو الذي في ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫ومهيمن عليه‪ .‬فهذا هو الكتاب‪،‬‬ ‫لما بين يديه من الكتاب‬ ‫ٌ‬

‫َنــزل فــي صورته الخاتمة‪ ،‬فــي الصيغة األخيرة ألبناء آدم‬ ‫ال َي ْأ ِتي ِه ا ْلب ِ‬ ‫اط ُل‬ ‫ال ال نقص فيه وال عيب‪َ  :‬‬ ‫نزو ً‬ ‫تاما كام ً‬ ‫ال ًّ‬ ‫َ‬ ‫ال ِم ْن َخ ْل ِف ِه‪(‬فصلت‪.)42:‬‬ ‫ِم ْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َو َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لمــن لــم َتب ُلغه؟ تلك هي رســالة هذه األمــة‪ ،‬وهي النعمة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫العظمــى فــي اآلخــرة‪ ،‬إذ الحيــاة حياتــان‪ ،‬حيــاة صغيــرة‬

‫التي تتلخص في تجديد أمر هذا الدين وتبليغ رسالة اهلل‬

‫الثالثــة الكبــرى التــي تخــص المســلمين مــن هــذه األمــة‬ ‫النب ُِّي‬ ‫بـ‪‬يا َأ ُّي َهــا َّ‬ ‫(أمــة محمــد ‪ ،)‬ألن رســالته تتشــخص َ‬ ‫ِإ َّنــا َأرســ ْل َناكَ َش ِ‬ ‫ــف ِإ َذا ِج ْئ َنا ِم ْن‬ ‫ــاه ًدا‪(‬األحزاب‪َ  ،)45:‬ف َك ْي َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يدا‪(‬النســاء‪)41:‬؛‬ ‫ُك ِّل ُأ َّم ٍة ب َِشــهِ يد َو ِج ْئ َنا ب َِك َع َلى َه ُؤ َ‬ ‫الء َشهِ ً‬ ‫الملخصــة لوظيفتــه ورســالته ‪ ‬هي نفســها‬ ‫هــذه الصفــة‬ ‫ِّ‬ ‫ــم‬ ‫‪‬و َك َذ ِل َ‬ ‫ــك َج َع ْل َن ُ‬ ‫ألتباعــه مــن بعــده فــي صــورة أمــة‪َ :‬‬ ‫اك ْ‬ ‫اس‪(‬البقــرة‪ ،)143:‬هي‬ ‫ُأ َّمــ ًة َو َس ً‬ ‫الن ِ‬ ‫ــطا ِل َت ُكو ُنوا ُش َــه َد َاء َع َلى َّ‬ ‫ــم‬ ‫نفــس الصفــة التــي للرســل‪ :‬ويكــون‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫ــول َع َل ْي ُك ْ‬ ‫َ َ ُ َ َّ‬ ‫يدا‪(‬البقرة‪ .)143:‬هذه النعمة تتضمن ما سواها وتزيد‪،‬‬ ‫َشــهِ ً‬ ‫وفيها التشــريف الكبير‪ ،‬ولكن ‪-‬كما أشــرت في البداية‪-‬‬ ‫ســتتبع مســؤولية؛ إذ هي أمانة تتطلب‬ ‫ما من نعمة إال و َت َ‬ ‫األداء‪ ،‬فــإن ُأديــت كان الجــزاء العظيــم‪ ،‬وإن لم تؤد كان‬ ‫الــوزر الغليــظ‪ ،‬فعلى قدر األمانة يكــون األجر أو الوزر‪.‬‬

‫جدا‪ ،‬فإن أجرها ‪-‬إن حملناها‬ ‫وبما أن هذه األمانة عظيمة ًّ‬

‫جدا‪ .‬ولكن إذا لم‬ ‫بأمانة وأديناها بكفاءة‪ -‬سيكون‬ ‫عظيما ًّ‬ ‫ً‬ ‫َنحملهــا بأمانــة ولم نؤدها بكفاءة وجدارة‪ ،‬فإن وزرها ال‬ ‫يــكاد ُيتصــور؛ َمــن ُضربــت عليــه الذلة والمســكنة وباءوا‬

‫بغضــب مــن اهلل ســبحانه صــارت لهــم الواليــة علينا‪َ .‬من‬ ‫ال هلل ولرسوله‬ ‫يريد العزة فإن العزة ِل‬ ‫جميعا‪ .‬والعزة أص ً‬ ‫ً‬ ‫وللمؤمنيــن‪ ،‬ولكننــا نعيــش حيــاة الــذُّ ل‪ ،‬حالة الــذُّ ل على‬ ‫المســتوى المحلــي وعلــى المســتوى العالمــي‪ِ ،‬لــم هــذا‬

‫كلــه؟ إن القصــة تتلخــص فــي شــيء بســيط اســمه "هدى‬ ‫اهلل"‪ ،‬الــذي قــال اهلل فيــه ألبينــا آدم ‪ ‬بعد أن َأهبطه من‬ ‫ــدى َف َم ِن َّات َب َع‬ ‫الجنــة إلــى األرض‪َ  :‬فإ َِّمــا َي ْأ ِت َي َّن ُك ْم ِم ِّني ُه ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي*‬

‫رضورة العودة إىل‬

‫القرآن الكريم‬

‫قــال تعالــى‪َ  :‬ق ْــد َج َاء ُكــم ِم َ ِ‬ ‫ــور‬ ‫ــن اهلل ُن ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ِيــن ‪َ ‬ي ْه ِ‬ ‫ــع‬ ‫هلل َم ِ‬ ‫ــدي بِــ ِه ا ُ‬ ‫ــاب ُمب ٌ‬ ‫َو ِك َت ٌ‬ ‫ــن َّات َب َ‬ ‫ــم‬ ‫رِ ْض َوا َن ُــه ُس ُــب َل‬ ‫الســ َ‬ ‫ا ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُه ْ‬ ‫َّ‬ ‫ــات ِإ َلــى النــور ِبإ ِْذ ِنــ ِه َو َي ْه ِديهِ ــم ِإ َلــى ِصــر ٍ‬ ‫ــن الظُّ ُلم ِ‬ ‫اط‬ ‫ِم َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُم ْس َــت ِقيمٍ ‪(‬المائدة‪ .)16-15:‬وقــال ‪" :‬خيركــم مــن تع ّلــم‬ ‫القرآن وعلمه" (رواه البخاري)‪.‬‬ ‫ين‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َهــا ا َّل ِذ َ‬ ‫نعمه علينــا‪َ :‬‬ ‫لقــد أمرنــا ربنــا أن َنذكــر َ‬ ‫آم ُنــوا ْاذ ُكــروا ِن ْعمــ َة ا ِ‬ ‫هلل َع َل ْي ُك ْم‪(‬المائــدة‪ .)11:‬وإن مــن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أن جعلنــا من أبنــاء آدم وهي نعمة‬ ‫النعــم العظمــى علينــا ْ‬ ‫ِّ‬

‫ِ‬ ‫ِفــي ا َ‬ ‫كــرم هــذا‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫ض َخلي َف ًة‪(‬البقــرة‪ .)30:‬إنــه تعالــى ّ‬ ‫وكــرم أبنــاءه من بعــده‬ ‫الخليفــة‬ ‫جميعا حيــث كونهم بني‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ــم ِفي ا ْل َب ِّــر َوا ْل َب ْح ِر‬ ‫‪‬و َل َق ْــد َك َّر ْم َنــا َب ِنــي َ‬ ‫آد َم َو َح َم ْل َن ُ‬ ‫آدم‪َ :‬‬ ‫اه ْ‬ ‫الط ِيب ِ‬ ‫اه ْم َع َلى َك ِثيرٍ ِم َّم ْن َخ َل ْق َنا‬ ‫ات َو َف َّض ْل َن ُ‬ ‫َو َر َز ْق َن ُ‬ ‫ــم ِم َ‬ ‫اه ْ‬ ‫ــن َّ ّ َ‬

‫إن لــم ُتذكــر لن ُتشــكر‪ ،‬فأول‬ ‫فيهــا ونذكرهــا‪ ،‬ألن النعــم ْ‬ ‫الشــكر لل ِنعــم أن ُتذكــر‪ .‬ونعمــة "التكريــم" نعمــة عظيمــة‬

‫جدا‪ ،‬ولكن‬ ‫ًّ‬ ‫جــدا‪ ،‬و ِنعمة "الخالفة" عــن اهلل نعمة عظيمة ًّ‬ ‫على قدر ال ِنعم تكون المســؤولية‪ .‬هل َم ّن اهلل علينا بهذه‬

‫‪‬وإ ِْن َت ُع ُّدوا ِن ْع َم َة‬ ‫النعمــة العظيمــة فقط؟ ما أكثر نعم اهلل‪َ :‬‬ ‫ا ِ‬ ‫وها‪(‬إبراهيم‪.)34:‬‬ ‫هلل َ‬ ‫ال ُت ْح ُص َ‬

‫نعمة اإلسالم‬

‫مــن ال ِّنعــم التي فــوق هذه النعمة هي نعمة اإلســام التي‬ ‫قال اهلل عنها‪ :‬ا ْل َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم ِد َين ُك ْم َو َأ ْت َم ْم ُت َع َل ْي ُك ْم‬ ‫ا َم ِد ًينا‪(‬المائــدة‪ ،)3:‬نعمــة‬ ‫ــم ا ِ‬ ‫إل ْســ َ‬ ‫ِن ْع َم ِتــي َو َر ِض ُ‬ ‫يــت َل ُك ُ‬ ‫فكــم مــن أبناء‬ ‫اإلســام إذن أعظــم مــن النعمــة الســابقة‪َ .‬‬ ‫آدم ال يتمتعون بنعمة اإلســام التي بها ‪-‬ال بغيرها‪ -‬يتم‬

‫الفــوز فــي الدنيا واآلخرة‪ .‬إنها نعمة كبيرة ينبغي أن ُنفكر‬ ‫ِ‬ ‫ـــم اجتبانــا اهلل واصطفانــا مــن بيــن أبنــاء آدم َلي ُم ّن‬ ‫فيهــا فل َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫كرمــه‬ ‫يجــب أن ُتذكــر‪ ،‬ألن هــذا المخلــوق ‪-‬أبانــا آدم‪ّ -‬‬ ‫اهلل ‪ ‬واســتخلفه‪ ،‬إذ قــال قبــل أن َيخلقــه‪ِ  :‬إ ِّنــي َج ِ‬ ‫اع ٌل‬

‫ال‪(‬اإلســراء‪)70:‬؛ إنهــا نعمــة عظيمــة ينبغــي أن نتفكر‬ ‫َت ْف ِضي ً‬

‫‪15‬‬


‫ملتــه‪ ،‬وتطورت األوضاع تحت أنشــطة مشــبوهة وتحت‬ ‫مســميات مختلفــة ومســوغات ملفقــة يبــرأ منها اإلســام‬

‫وأمته‪ ،‬حتى كانت قاصمة الظهر (أحداث الحادي عشــر‬ ‫من ســبتمبر ‪ ،)2001‬وإذا بالمواجهة مع اإلســام تحت‬

‫مســمى "الحــرب علــى اإلرهاب" واقــع مفروض ال مفر‬

‫منــه‪ ،‬وإذا باألمــة اإلســامية ُتستنـــزل فــي ميــدان فــرض‬ ‫عليهــا وبمنطق المتنفذ المتحفز لألخذ بالثأر المخدوش‬ ‫أود التنبيه إلى النقاط اآلتية‪:‬‬ ‫في كرامته وكبريائه‪.‬‬ ‫وختاما ّ‬ ‫ً‬ ‫‪ -1‬النظــر فــي المفاهيم والمصطلحــات التي توظف‬

‫سياســيا‪ ،‬كمفهوم‬ ‫ســوق لها‬ ‫فــي المعتــرك الحضاري أو ُي َّ‬ ‫ًّ‬

‫العنــف واإلرهــاب‪ ،‬بمنهجيــة تختلــف عــن مــا اعتــاده‬

‫الباحثــون المســلمون مــن تأصيــل المفاهيــم المثــارة فــي‬

‫الســاحة الفكريــة مــن خالل بحثها فــي اللغــة العربية‪ ،‬ثم‬ ‫فــي القــرآن الكريــم‪ ،‬ثــم فــي الســنة النبوية‪ ،‬ومــا تواضع‬ ‫عليــه العلمــاء المســلمون فــي صــدر اإلســام وتاريخــه‬

‫أنــه ينبغي اعتماد المنهجيــة المالئمة لمثل هذه المفاهيم‬

‫والمصطلحات‪ ،‬بحيث تعتمد على استقراء تلك المفاهيم‬ ‫في الساحة الفكرية‪ ،‬وفي األوساط اإلعالمية والسياسية‪،‬‬ ‫والمؤسســات العلميــة الغربيــة والمنظمــات والهيئــات‬ ‫الرسمية وغير الرسمية‪ ،‬والغوص في دالالتها من خالل‬ ‫البيئات التي نشأت وتطورت فيها‪ ،‬ولها خلفياتها الدينية‬

‫والثقافيــة والتاريخيــة فــي ســياق الحضــارة الغربيــة‪ ،‬ثــم‬

‫مقارنــة تلــك المعانــي والمفاهيم والدالالت بمــا يقابلها‬ ‫فــي الحضــارة اإلســامية وثقافتهــا‪ ،‬لئال يقع المســلمون‬

‫فــي شــراك اختــاف المفاهيــم والمضاميــن والدالالت‪.‬‬

‫علــى ذلــك‪ ،‬فــإن المتتبــع لمعنى اإلرهــاب ‪-‬بخاصة‬

‫فــي الثقافــة الغربيــة ســواء فــي القديــم أو الحديث‪ -‬يجد‬

‫أنــه يختلف عن معنى اإلرهاب الوارد في القرآن الكريم‬ ‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫والســنة النبوية والمعاني المعهودة في الثقافة اإلسالمية‪،‬‬

‫‪14‬‬

‫وأن ما يقابله في الحضارة اإلسالمية هو اإلجرام المركب‬ ‫من "الفســاد فــي األرض‪ِ ،‬‬ ‫والحرابــة‪ ،‬والظلم والعدوان"‪،‬‬ ‫وكل هذا يحرمه اإلسالم ويجرمه أشد التجريم ويفرض‬

‫على مرتكبيه عقوبات صارمة‪.‬‬

‫‪ -2‬أهميــة اإلنصــاف والنزاهــة واإليجابيــة فــي النظر‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الماضــي‪ ...‬فعلــى أهمية هذه المنهجيــة في التأصيل‪ ،‬إال‬

‫لتاريــخ األمــم والشــعوب‪ ،‬وعدم التوافــر على صفحات‬ ‫دون أخرى سواء السلبية أو اإليجابية‪ .‬فإن النظرة الشمولية‬ ‫الموضوعيــة العلمية المنهجية النزيهــة جديرة باإلنصاف‬ ‫والتعقــل‪ ،‬و"الحكــم علــى الشــيء فــرع عــن تصــوره"‪.‬‬ ‫األهــم مــن ذلــك‪ ،‬العمل اإليجابــي على إبــراز القدر‬ ‫المشــترك بيــن األمــم والشــعوب فــي ثقافاتهــا وآدابهــا‬ ‫وركائزها اإلنســانية النبيلة والسامية‪ ،‬ليتأتى للبشر العيش‬ ‫بســام وتعــاون فــي ظــل نظــام عالمــي متحــد فــي إطاره‬ ‫الحضــاري‪ ،‬متنــوع فــي ثقافاتــه‪ ،‬يحفــظ لكل أمــة ذاتيتها‬ ‫المتميزة بعقيدتها وشــريعتها وآدابها وأخالقياتها وتراثها‬ ‫الحضــاري الخــاص‪ ،‬ويوحــد بينهــا فيما تفرضــه حضارة‬ ‫العصــر ومنجزاتهــا التي هي في الحقيقة موروث بشــري‬ ‫عــام أســهمت فيــه األمم والحضــارات وقامت باإلســهام‬ ‫الحضاري لإلســام وأمته ‪-‬الذي يعترف به المنصفون‪-‬‬ ‫أن يؤهل المسلمين للفاعلية الحضارية من جديد‪ ،‬ويؤكد‬ ‫ْ‬ ‫علــى أحقيتهــم فــي الملكيــة الفكريــة‪ ،‬وأنهــم فــي صميم‬ ‫التاريــخ الحضــاري وفي بنيته األســاس‪ ،‬وليســوا‬ ‫شــعوبا‬ ‫ً‬ ‫خاملة عاشت وتعيش على هامش التاريخ والحضارة‪.‬‬ ‫‪ -3‬إذا كان هذا المقال قد ركز على حقيقتين مهمتين‬ ‫هما‪ :‬ســماحة اإلســام وبراءته من اإلرهاب‪ ،‬واإلرهاب‬ ‫مصطلــح غربي نشــأ في الغــرب وتطور فيــه‪ ،‬فإن القصد‬ ‫مــن ذلــك إضــاءة لمــا غيبتــه التيــارات المناوئة لإلســام‬ ‫وأمتــه‪ ،‬وليــس القصد وصم الغرب باإلرهاب‪ ،‬إذ جاءت‬ ‫الحضــارة الغربيــة بمعطيــات حضاريــة‪ ،‬وارتكــزت علــى‬ ‫قيــم إنســانية أفادت اإلنســان ونهضت به‪ ،‬ولهــا تطبيقاتها‬ ‫الديمقراطيــة وإيجابياتهــا المعتبــرة فــي مجــال حقــوق‬ ‫اإلنســان ورعايتهــا وتحقيــق العدالة من خــال إجراءات‬ ‫قانونيــة وأنظمــة مدنيــة راقيــة‪ .‬بيــد أن الخلــل يكمــن فــي‬ ‫المتأمرين على السالم من أصحاب المصالح الشخصية‬ ‫والمطامــع الذاتيــة التــي ال تقنــع بالمشــروع وال تعترف‬ ‫باآلخــر‪ .‬ولكــن ال يحيــق المكــر الســيئ إال بأهله‪ ،‬حمى‬ ‫اهلل اإلســام وحفــظ المســلمين ووفقهــم لمــا فيه صالح‬ ‫أنفسهم وصالح البشر‪.‬‬ ‫(*) كلية الشــريعة‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن ســعود اإلســامية ‪ /‬المملكة‬ ‫العربية السعودية‪.‬‬


‫إن املتتبع ملعنى اإلرهاب يجد أنه يختلف عن معنى‬

‫ذلك الصراع وتلك األزمة‪.‬‬

‫اإلرهاب الوارد يف القرآن الكريم والســنة النبوية‬

‫‪ -2‬اإلرهاب مصطلح غربي‬

‫واملعــاين املعهــودة يف الثقافة اإلســامية‪،‬‬

‫وتطوراتهــا‬ ‫كــون اإلرهــاب ظاهــرة غربيــة فــي جذورهــا‬ ‫ّ‬

‫وأن ما يقابله يف الحضارة اإلســامية هو اإلجرام‬

‫وســائلها وأساليبها‪ ،‬وهذا ما تؤكده الدراسات والبحوث‬

‫والعدوان"‪ ،‬وكل هذا يحرمه اإلســام ويج ّرمه أشد‬

‫التاريخية‪ ،‬وفي منطلقاتها وأهدافها وغاياتها‪ ،‬وكذلك في‬

‫ِ‬ ‫والحرابة‪ ،‬والظلم‬ ‫املركب من "الفســاد يف األرض‪،‬‬

‫العلميــة‪ .‬إن المتأمــل فــي مفهــوم اإلرهاب كطــرح غربي‬

‫التجريم‪ ،‬ويفرض عىل مرتكبيه عقوبات صارمة‪.‬‬

‫يقف على اآلتي‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬قــدم هــذا المفهــوم كممارســة حدثــت وتحدث‬

‫علــى أصوليــات دينية ونصوص مقدســة‪ ،‬يقــول "كارفين‬

‫علــى مــدار التاريــخ الغربي منــذ العهــود الرومانية وحتى‬

‫رايلــي"‪" :‬لقــد اكتســبنا القــدرة قبــل الحــروب الصليبيــة‬

‫العصر الحديث إال ما ندر‪ .‬فقد اســتخدم حكام الرومان‬

‫بعهــد طويــل على تبرير أشــد أفعالنا بربرية؛ باســم اهلل أو‬

‫العنف ومصادرة‬ ‫من أمثال (‪ )Tiberius 14-37‬و(‪)Aligula 37-41‬‬ ‫َ‬

‫باســم الحضــارة المســيحية أو باســم العالــم الحــر‪ ،‬وهي‬

‫الممتلــكات واإلعــدام كوســائل إلخضــاع المعارضيــن‬

‫الصــورة العلمانيــة لهــذه الحضــارة‪ .‬فالثــورة العبرانيــة‬

‫لحكمهــم‪ .‬كذلــك الجماعــات التي نشــطت فــي التاريخ‬

‫حاملة بالفظائع التي أصر "شعب اهلل المختار" على أنها‬

‫األوربــي وانتهجــت القرصنــة واإلرهــاب‪ ،‬مثــل جماعــة‬

‫ترتكــب باســم الــرب‪ ،‬وقلمــا نجــا المصريــون أو القبائل‬

‫"الفايكنــج" التــي نشــطت ما بيــن القرن الثامــن والحادي‬ ‫مــن أوربــا‪ .‬ثم جــاءت الحــروب الصليبية التي لم يشــهد‬

‫التاريــخ كعدوانيتهــا‪ ،‬ومــع ذلــك كانــت تلــك العدوانيــة‬ ‫حدا ال‬ ‫مقبولــة فــي ثقافــة الغــرب لمدة بلغت من الطــول ًّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عشر للميالد‪ ،‬وبثت اإلرهاب والرعب في مناطق واسعة‬

‫الكافــرة من انتقــام "الرب الغيور"‪ ،‬وقد ظل المســيحيون‬ ‫علــى إيمانهــم بهذا المنتقم‪ .‬وفــي نهاية القرن الرابع ردد‬

‫كثيــر مــن المســيحيين في "رومــا" دعوة "أمبــروز" للدفاع‬ ‫عــن "بلدهــم" ضــد البرابــرة منعدمــي اإلنســانية الذين لم‬

‫يســمح لهــا باالختفــاء علــى حد تعبيــر "كارفيــن رايلي"‪.‬‬

‫يكونوا سوى "كالب" على حد تعبير أسقف آخر"‪.‬‬

‫الدينيــة والمســلمين بخاصــة كأهــم المحطــات الرئيســية‬

‫الراهن على سطح السياسة الغربية‪ ،‬وتتنامى األصوليات‬

‫ثــم محاكــم التفتيش التــي قام بها األســبان ضد األقليات‬ ‫عمــا أحدثته الحروب‬ ‫فــي تاريــخ الثقافــة الغربية‪ ،‬ناهيك ّ‬ ‫الصليبيــة فــي بيــت المقدس وما حوله مــن الفظائع التي‬ ‫يندى لها الجبين في تاريخ العالم الغربي الديني‪.‬‬

‫مما يؤســف له‪ ،‬أن هذه األصوليات تطفح في العهد‬

‫تقليدا لها‪.‬‬ ‫األخرى بدعم منها أو‬ ‫ً‬

‫ثالثًا‪ :‬مما يالحظ على تاريخ الغرب أن ثقافته ترتكز‬

‫على محفز حضاري يتمثل في تصور عدو متربص يتأهب‬

‫وعلــى نحــو مــن ذلــك‪ ،‬مارســت الــدول الحديثة في‬

‫بين الحين واآلخر لالنقضاض عليه ويســتهدف منجزاته‬

‫النازية في ألمانيا‪ ،‬وحكم "ستالين" في االتحاد السوفيتي‪،‬‬

‫قادتــه وزعمائــه‪ .‬وبعمــل ماكــر لئيم مــن القــوى المعادية‬

‫الغــرب اإلرهــاب كخطة سياســية للدولة‪ ،‬كدولــة "هتلر"‬ ‫حيــث تمــت ممارســة إرهــاب الدولــة تحــت غطــاء‬

‫"أيديولوجي" لتحقيق مآرب سياســية واقتصادية وثقافية‪.‬‬ ‫الحديث للغرب شهد الكثير من ذلك‪ ،‬مثل جماعة "بادر‬ ‫ماينهوف األلمانية"‪ ،‬ومنظمة "األلوية الحمراء اإليطالية"‪،‬‬ ‫و"الجيش الجمهوري اإليرلندي"‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬

‫ثانيًــا‪ :‬واألنكــى من ذلــك أن يرتكز العنف واإلرهاب‬

‫لإلســام‪ ،‬اســتغل الوضع الراهن وال ســيما بعد ســقوط‬ ‫الشــيوعية ومــا أحدثــه ذلــك مــن فراغ فــي تلــك الجدلية‬

‫الفكرية التاريخية‪ ،‬فدفع باإلسالم تحت مسمى "الخطر‬

‫وهــب المغرضــون والناقمــون والمأجــورون‬ ‫القــادم"‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫للتنظيــر لذلك‪ ،‬والتدليل عليــه بما يرتكبه بعض الحمقى‬

‫والموتوريــن والمغفليــن ممن ينتســب لإلســام‪ ،‬وتورط‬ ‫في انتهاج اإلرهاب واستحالله ضد اآلخرين وضد أبناء‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫وعلى مســتوى الجماعات والمنظمات‪ ،‬فإن التاريخ‬

‫الحضاريــة‪ ،‬كــي يقــوم بنســفها وإرهــاب شــعوبه وتصفية‬

‫‪13‬‬


‫األحــوال ألسســها التــي قامــت عليهــا‪ ،‬وأهدافهــا التــي‬

‫والمحبطيــن واليائســين وأصحــاب الســوابق اإلجراميــة‬

‫إن الموضــوع جــد طويــل‪ ،‬بيد أنني ســأركز الحديث هنا‬

‫اإلســام وثقافته ‪-‬من المنظور الغربي‪َ -‬ص َل ًفا واعتسا ًفا‪،‬‬

‫تضطلع بها وتســعى لتحقيقها وف ًقا لرســالتها في الحياة‪.‬‬

‫الهدامة‪ ،‬الذين يحســبون على‬ ‫واألفكار الشــاذة المنحرفة ّ‬

‫عن حقيقتين‪:‬‬

‫دومــا ‪-‬وســيظلون‪ -‬أداة بيد القوى‬ ‫فــي حيــن إنهم كانــوا ً‬

‫المعادية لإلســام في القديم والحديث شــعروا بذلك أم‬

‫‪ -1‬سماحة اإلسالم‬

‫لم يشــعروا‪ ،‬أدركوا ذلك بطريق مباشــر أو غير مباشــر أم‬

‫ربانيــا‪ ،‬ينبــذ العنــف‬ ‫إلهيــا‬ ‫دينــا‬ ‫كــون اإلســام ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ســماويا ًّ‬

‫لم يدركوا‪.‬‬

‫واإلرهــاب‪ ،‬ويأمــر بالرفق والرحمة والعدل واإلحســان‪،‬‬

‫وإذا كان اإلســام في حقيقته ينبذ العنف واإلرهاب‬

‫شــأنه فــي ذلــك شــأن األديــان الســماوية قبــل أن يطــرأ‬ ‫‪‬و َما َأ ْر َســ ْل َناكَ‬ ‫عليهــا التحريــف والتبديــل‪ ،‬قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫هلل َي ْأ ُم ُــر‬ ‫ِإ َّ‬ ‫ين‪(‬األنبيــاء‪ ،)107:‬وقــال‪ :‬إ َِّن ا َ‬ ‫ال َر ْح َمــ ًة ِل ْل َعا َل ِم َ‬ ‫إل ْحس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان َوإ َِيتا ِء ِذي ا ْل ُق ْر َبى َو َي ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َشا ِء‬ ‫بِا ْل َع ْدل َوا ِ َ‬ ‫ون‪(‬النحل‪.)90:‬‬ ‫َوا ْل ُم ْن َك ِر َوا ْل َب ْغ ِي َي ِع ُظ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ‬ ‫هــذه حقيقــة نابعــة مــن جوهر اإلســام ومثلــه العليا‪،‬‬

‫وكل أشــكال القســوة والظلــم والعــدوان‪ ،‬ويحــث علــى‬ ‫الرفــق والتســامح ويأمــر بالعــدل واإلحســان ‪-‬وهــذه‬

‫الحقيقــة مــن المســ ّلمات المســتقرة فــي عقــل كل مســلم‬

‫ووجدانه‪ -‬فإن ما يشــاع عن اإلرهاب وعالقته باإلســام‬ ‫وأمته قد ساعد عليه عامالن مهمان‪:‬‬

‫ظلمــا وعدوا ًنــا‪-‬‬‫األول‪ :‬كــون اإلرهــاب قــد ألصــق‬ ‫ً‬

‫وصفة من صفاته‪ ،‬وسمة الزمة لعقيدته وشريعته وأخالقه‬

‫باإلســام في الوقت الراهن عبر وســائل اإلعالم الغربية‬

‫ومبادئه وقيمه وهديه وتعاليمه وآدابه‪ ،‬وهي كذلك حقيقة‬ ‫وأمما‬ ‫أفرادا وجماعــات‬ ‫الحيــاة‪ ،‬وفــي عالقاتهم باآلخــر‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وشــعوبا‪ ،‬بل وحتى مع موجودات الحياة وعناصر البيئة‬ ‫ً‬ ‫مــن حيــوان ونبــات وطيــر وحيتــان وأنهار وبحــار وهواء‬

‫وغابات وأحراش‪ ،‬ومع منارات األرض ومعالم الطبيعة‬

‫ومكوناتهــا‪ ،‬وكانــوا منضبطيــن في التعامــل مع ذلك كله‬ ‫بضوابط اإلســام الشــرعية والعقلية والمنطقية‪ ،‬بما حقق‬ ‫لها االنسجام مع نواميس الكون وطبائع األشياء وسنن‬ ‫الفطــرة‪ .‬ســواء في فتوحاتهم‪ ،‬أو فــي تعامالتهم التجارية‬

‫مــع الشــعوب المختلفــة‪ ،‬أو حيــن ســياحتهم وتنقالتهــم‬ ‫ورحالتهم في فجاج األرض وأقطارها وأقاليمها القريبة‬ ‫منهــم والبعيــدة‪ ،‬ونحو ذلــك من المظاهــر التي صاحبت‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫انتشار اإلسالم وظهوره وسيادته‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حملــة اإلســام في شــتى مجاالت‬ ‫تاريخيــة انطلــق منهــا َ‬

‫المختلفــة‪ ،‬وبخاصــة تلــك الوســائل الموجهــة لخدمــة‬ ‫األصوليــات الدينيــة والعنصريــة والصهيونيــة‪ ،‬وممــا زاد‬

‫الطين بلة صلة تلك الوسائل بأصحاب القرار السياسي‪،‬‬ ‫وسعة نفوذها الفكري والسياسي واالقتصادي‪.‬‬

‫والثانــي‪ :‬ظهور بعض الجماعات المتطرفة وانتهاجها‬

‫أســاليب العنــف والعــدوان‪ ،‬والبحث عــن مرجعية فقهية‬ ‫يســتندون إليهــا ويفســرون بهــا نصوص الكتاب والســنة‪،‬‬

‫أصلهــا علمــاء األمــة‬ ‫متجاهليــن المناهــج العلميــة التــي ّ‬

‫ومــا تقتضيــه مــن علم شــرعي ومشــروعية على مســتوى‬ ‫قيــادات األمــة الفكريــة والسياســية‪ ،‬ومصالحهــا العليــا‬

‫وظروفهــا التاريخيــة وواقعها الثقافــي والحضاري‪ .‬ومما‬ ‫يؤســف لــه ظهــور أنصــاف المثقفيــن والمتعلميــن الذين‬

‫أقحموا أنفســهم في التنظير والتدليل بما يذكي نار الفتنة‬

‫هذا هو المسار العام لتاريخ اإلسالم ونشوء حضارته‪،‬‬

‫ويحــرج األمــة‪ ،‬حتى بلغ األمر ببعض الكتاب أن يكتب‬

‫ند عن ذلك إال حاالت شاذة وقليلة‬ ‫دعوة‬ ‫وجهادا‪ .‬ولم َي ّ‬ ‫ً‬

‫متناســيا أو‬ ‫لفــظ "اإلرهاب" في اللغة العربية اإلســامية‪،‬‬ ‫ً‬

‫وحربا‬ ‫ســلما‬ ‫والطابــع المميــز ألمــة اإلســام وتاريخهــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ال يتأتــى عليهــا القياس ال فــي الماضي وال في الحاضر‪،‬‬

‫أبدا أن يستدل بها ‪-‬في عرف المنصفين وذوي‬ ‫وال‬ ‫يصح ً‬ ‫ّ‬

‫األلبــاب من مختلف الديانات والثقافات‪ -‬بما يعمد إليه‬ ‫نفــر نكرة عن اإلســام وثقافته‪ ،‬من الجهلــة والموتورين‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال لما يعنيه‬ ‫مقا ً‬ ‫مؤص ً‬ ‫ال بعنوان "اإلســام دين اإلرهاب"‪ّ ،‬‬ ‫ا ما يحدثه اتحاد اللفظ مع اختالف المضامين‪،‬‬ ‫متجاهــ ً‬ ‫ناهيــك عــن الخلفيــات واإليحــاءات والتحرشــات التــي‬ ‫يعانــي منهــا واقع األمة اإلســامية في صراعهــا وأزمتها‬

‫جــزءا من‬ ‫الحضاريــة فــي ســياق أصبحــت المصطلحات‬ ‫ً‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إسحاق السعدي*‬

‫براءة اإلسالم‬

‫من العنف واإلرهاب‬ ‫لقــد حــدث خلــط فاضــح و ُلبــس خطير بيــن مفاهيم‬ ‫اإلســام ومفاهيم الثقافة الغربية وبخاصة في مفهوم‬ ‫"اإلرهاب"‪ .‬ولم يكن ذلك نتيجة الصراع الحضاري‬ ‫والفراغ العلمي والفكري في حاضر األمة اإلسالمية فحسب‪ ،‬بل يقف‬ ‫وراء ذلك بعض القوى المعادية لإلســام وثقافته وحضارته وأمجاد‬ ‫المشرق باإلسهام الحضاري واإلنجاز الثقافي المبدع‪.‬‬ ‫أمته وتاريخها ُ‬ ‫لقد ُألصقت عن سبق إصرار بعض المفاهيم الشائنة والمستهجنة‬ ‫التــي ترســبت فــي البيئة الغربية وتجذرت في تاريخهــا‪ ،‬وباتت‬ ‫رموزا‬ ‫ً‬ ‫ومصطلحــات لألفعــال القبيحــة الهمجيــة والشــريرة‪ ،‬ألصقــت تلــك‬ ‫المفاهيم البغيضة باإلســام وأسقطت على بعض مفاهيمه ‪-‬كمفهوم‬ ‫واستنزال أمته‬ ‫"الجهاد" و"الدعوة"‪ -‬إمعا ًنا في تشويه صورة اإلسالم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إلــى حلبة صراع مفتعل ومواجهة مدروســة بغيــة النيل منها‪ ،‬وإحالل‬ ‫ثقافــة العولمــة في نموذجهــا المغاير لحقائق األمة فــي قيمها الخلقية‬ ‫ومبادئهــا اإليمانيــة ومنطلقاتهــا وغاياتهــا‪ ،‬بــل المناقــض فــي كثير من‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪11‬‬


‫ُأخــذت منــه الصــورة وهــو األبويــن‪ ،‬وحيــث إنــه يمكــن‬ ‫فصــل كروموســومات األب عــن كروموســومات األم‬

‫فــي الحمــض النووي لالبن‪ ،‬فإن إثبات النســب يأتي من‬

‫خــال تحليل البصمة الجينية لالبن وكذلك األب واألم‬

‫ضروريا وجــود األم‪-‬‬ ‫إذا كانــت موجــودة ‪-‬ولكــن ليــس‬ ‫ًّ‬ ‫وفي هذه الحالة يكون هناك شراكة بنسبة ‪ %50‬بين األب‬

‫واالبن في الجينات‪ ،‬وهذا يعني إثبات البنوة‪ .‬وفي حالة‬ ‫عدم توافر هذه الشــراكة‪ ،‬يمكن اســتبعاد نسب االبن إلى‬ ‫األب‪ ،‬وبناء عليه يمكن التأكد من صحة النسب أو غيره‪.‬‬ ‫إذن فالبصمــة الوراثيــة تعتبــر رؤيــة غيــر مباشــرة‬

‫ألصحاب الفراش دون كشــف للعورات‪ .‬فكما قلت في‬ ‫أول البحــث‪ ،‬إذا دخلــت نطفــة الرجــل إلــى نطفــة المرأة‬

‫فــا يمكــن أن تغادرهــا إذا قــدر اهلل منهــا الولــد‪ ،‬وبالتالي‬ ‫فإنــه يمكــن إمســاك نطفــة الوالــد والتعرف عليهــا بداخل‬

‫أي خليــة مــن خاليا الولد‪ .‬وإذا كانت القيافة تعتمد على‬

‫أن التصويــر جــاء بالمعنــى الثانــي فــي لغــة العــرب وهــو‬

‫االختــاف (حدوث تغييــر في الصورة عن األصل)‪ ،‬مع‬

‫العلــم بــأن التصويــر فــي اللغة العربيــة قد يراد بــه مطابقة‬

‫األصل فيكون بمعنى النســخ والتساوي‪ ،‬كما أنه قد يراد‬ ‫به االختالف عن األصل‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫الوراثيــة تعتمــد على عالمات باطنــة وهي تحليل عوامل‬

‫الوراثــة المشــتركة بيــن الولــد واألب‪ .‬وفــي الحقيقــة‪،‬‬ ‫األخــذ بالبصمــة الوراثيــة (الصفــة الجينيــة) هــو األقــوى‬

‫وهــي األصــل والقيافة (الصفة الشــكلية) تابــع لها‪ .‬فكما‬

‫رأينــا فــي حديث هالل بن أمية أن النبي ‪ ‬اكتفى بثالث‬

‫صفــات شــكلية فــي ممارســته للقيافــة‪ ،‬وهــذه الصفــات‬ ‫الشــكلية الثالثة ال تعبر إال عن ثالث صفات جينية على‬

‫الحمــض النــووي‪ ،‬وكلمــا رفعنا عــدد الصفات الشــكلية‬

‫لذريــة بنــي آدم يعتبــر بمثابــة‬ ‫‪ -5‬الحمــض النــووي ُ‬

‫المســتخدمة فــي المقارنــة كلمــا أمكننــا التعبيــر عــن عدد‬

‫األم‪ ،‬ويمكــن فصــل النصفيــن عــن بعضهمــا والتعــرف‬

‫استخدمنا الحمض النووي (البصمة الوراثية) فإنه يمكن‬

‫صــورة مركبــة للجســد‪ ،‬نصفهــا مــن األب واآلخــر مــن‬

‫‪10‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المتقطعــة بيــن الكروموســومات المتعانقــة‪ .‬ونالحظ هنا‬

‫عالمات الوراثة الظاهرة ‪-‬وهي طريق ظني‪ -‬فإن البصمة‬

‫أكبر من الصفات الجينية على الحمض النووي‪ ،‬بينما إذا‬

‫على كروموسومات األب واألم بسهولة (اختبار البنوة)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ــاء َر َّك َب َك‪(‬االنفطار‪.)8:‬‬ ‫ور ٍة َمــا َش َ‬ ‫قــال تعالــى‪ :‬فــي َأ ِّي ُص َ‬ ‫واإلنســان لــم تتفــرق أعضاؤه قط في الرحــم فاجتمعت‪،‬‬

‫فكأننــا بالبصمــة الوراثيــة عقدنــا مقارنــة كاملــة بيــن كل‬

‫متفر ًقــا فركبــه اهلل هــو "األمشــاج" التــي كانــت‬ ‫الــذي كان ّ‬

‫الجينية المقابلة للصفات الشكلية‪.‬‬

‫بــل خلقــه اهلل مــن نطفة ثم من علقة ثم من مضغة‪ ،‬ولكن‬

‫معــا فــي النطفــة األمشــاج‪ .‬وهــذه‬ ‫متفرقــة فجمعهــا اهلل ً‬ ‫الصــورة بنصفيهــا المتراكبيــن تــدل علــى األصــل الــذي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لنــا أن نحيــط بــكل الصفات الجينية‪ ،‬مــع العلم بأن لكل‬

‫صفــة شــكلية صفة جينيــة مقابلة على الحمــض النووي‪،‬‬ ‫الصفات الشكلية للولد وأبيه‪ ،‬ولكن من خالل الصفات‬

‫(*) كلية الطب‪ ،‬جامعة المنصورة ‪ /‬مصر‪.‬‬


‫انتقال الصفات الوراثية عبر األمشاج‪ .‬وباستخدام كلمتي‬

‫األســس‬ ‫الخلــق والتصويــر‪ّ ،‬بين لنا رب العزة في القرآن‬ ‫َ‬ ‫األســس العلمية بترتيب‬ ‫العلميــة للبصمــة الوراثية‪ ،‬وهذه‬ ‫ُ‬ ‫آيات التصوير في المصحف كاآلتي‪:‬‬

‫‪ -1‬الحمــض النــووي يعتبــر صــورة مطابقــة للجســد‬

‫(بصمة الجسد البشري)‪ ،‬وينتقل من اآلباء إلى األبناء عبر‬ ‫األمشــاج‪ ،‬وبالتالــي فــكل أفراد الجنس البشــري يملكون‬

‫اك ْم ُث َّم‬ ‫‪‬و َل َق ْد َخ َل ْق َن ُ‬ ‫الحمض النووي البشري‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫اكــم ُثــم ُق ْل َنا ِل ْلم َ ِ ِ‬ ‫آلد َم‪(‬األعراف‪،)11:‬‬ ‫ــج ُدوا ِ َ‬ ‫اس ُ‬ ‫الئ َكة ْ‬ ‫َ‬ ‫َص َّو ْر َن ُ ْ َّ‬ ‫ال (الصفة‬ ‫فبعد أن خلق اهلل ‪ ‬جســد آدم ‪ ‬خل ًقا كام ً‬

‫نفــس الحمــض النووي‪ ،‬ولذا يطلق علــى اهلل "المصور"‪،‬‬ ‫ــور جميع الموجــودات ورتبها ف َأعطى كل‬ ‫ْ‬ ‫أي "الــذي َص َّ‬ ‫شيء منها صورة خاصة يتميز بها على كثرتها"‪.‬‬

‫الشــكلية) صــار آدم هو األصــل الذي يتم أخذ صورة له‪،‬‬

‫وهــذه الصــورة المطابقــة لجســد آدم ‪ ‬هــي الحمــض‬ ‫النووي الموجود بداخل خالياه (الصفة الجينية)‪.‬‬

‫‪ -4‬ال يمكن أن يتشــابه الحمض النووي لفردين من‬

‫فــا يصــح خلقنــا إال بخلــق آدم ‪ ،‬ألننــا ُخلقنــا‬

‫كخاليــا جنســية فــي صلــب آدم وال يصــح تصويرنــا إال‬

‫صورنا‬ ‫الخــاص بــه في الخاليا الجســدية والجنســية‪ ،‬ثــم ّ‬ ‫مــن الحمــض النووي للخاليــا الجنســية‪ ،‬وكل ذلك قبل‬

‫سجود المالئكة آلدم‪.‬‬

‫‪ -2‬يمكــن فصــل الحمــض النــووي مــن أي خليــة‪،‬‬

‫واســتخدامه كصــورة حســنة تــدل علــى أصلهــا (صاحب‬ ‫هلل ا َّل ِ‬ ‫ــل َل ُكــم ا َ‬ ‫ض‬ ‫ــذي َج َع َ‬ ‫أل ْر َ‬ ‫الصــورة)‪ ،‬قــال تعالــى‪ :‬ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ــم َاء ب َِن ًاء َو َص َّو َر ُك ْم َف َأ ْح َس َن ُص َو َر ُك ْم‪(‬غافر‪)64:‬؛‬ ‫الس َ‬ ‫َق َر ًارا َو َّ‬ ‫فالحمــض النــووي يطلق عليه صورة حســنة ألنها تطابق‬ ‫اك ْم‬ ‫‪‬خ َل ْق َن ُ‬ ‫صاحبها وتدل عليه‪ ،‬فالصورة مساوية للخلقة‪َ :‬‬ ‫ــم‪ ‬فجــاءت الصــورة حســنة أي دالــة علــى‬ ‫ــم َص َّو ْر َن ُ‬ ‫اك ْ‬ ‫ُث َّ‬ ‫الخلقة‪ ،‬فمن حسن الصورة أن تدل على صاحبها‪.‬‬ ‫مميِزة‬ ‫‪ -3‬لكل نوع من الكائنات الحية بصمة وراثية ّ‬ ‫غير الحيوان‪ ،‬غير‬ ‫له عن سائر الكائنات الحية‪ ،‬فاإلنسان ُ‬ ‫النبــات‪ ،‬غيــر الكائنات الدقيقــة‪ ،‬وبالتالــي يمكن التعرف‬

‫معي ًنــا‬ ‫ثابتــة فــي كل الكائنــات الحيــة‪ ،‬إال أن لهــا‬ ‫"ترتيبــا" ّ‬ ‫ً‬

‫يختلــف مــن كائن إلــى آخر‪ ،‬بحيث ال نجــد كائنين لهما‬

‫عن تحســين صور الذُّ رية بحيث ال تشــابه اآلباء‪ ،‬والذي‬

‫يحــدث في االنقســام الميوزي المشــتمل علــى التصالب‬

‫بيــن الكروموســومات‪ ،‬فيحــدث زواج مع تبــادل لبعض‬ ‫الجينــات بيــن كل كروموســومين مــن الكروموســومات‬ ‫الزوجيــة المتماثلــة فــي الشــكل‪ ،‬والتصالــب يــؤدي إلــى‬

‫تحســين النســل‪ ،‬حيــث ينشــأ عنــه اختــاف فــي صفــات‬ ‫األمشاج الجينية عن بعضها البعض وعن األصل‪ ،‬بحيث‬

‫اآلباء‪ ،‬ويختلف البشــر عن بعضهم‪ .‬وال‬ ‫األبنــاء‬ ‫ال يشــبه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫توجــد كلمــة تصــف أحــداث عمليــة التصالــب ككلمــة‬ ‫ِ‬ ‫يكمل‬ ‫ُ‬ ‫‪‬ص َو َر ُك ْم‪ ‬التي تأخذ عدة معاني في لغة العرب ّ‬ ‫بعضــا مــن أجــل وصــف آليــة التصالــب وص ًفــا‬ ‫بعضهــا‬ ‫ً‬ ‫دقي ًقــا ال يقــدر عليــه البشــر‪ ،‬ومجمــوع هــذه المعانــي هو‬ ‫ملخــص آليــة التصالــب الــذي يحــدث فيــه ميــل وتعانــق‬ ‫للكروموسومات مع تشقق وتقطع لبعض أجزائها لثقل‬ ‫الحمل على بعض أجزائها‪ ،‬ثم التحســين بتبادل األجزاء‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫هلل‬ ‫‪‬ه َو ا ُ‬ ‫علــى هوية أي خليــة (بصمة النوع)‪ ،‬قال تعالى‪ُ :‬‬ ‫ا ْل َخا ِل ُق ا ْلبارِ ُئ ا ْل ُم َص ِّو ُر َل ُه ا َ‬ ‫ــم ُاء ا ْل ُح ْس َنى‪(‬الحشــر‪)24:‬؛‬ ‫أل ْس َ‬ ‫َ‬ ‫فمع أن الحمض النووي يتركب من عدة مركبات كيميائية‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫صــور آدم علــى الحمــض النــووي‬ ‫بتصويــر آدم‪ ،‬ألن اهلل ّ‬

‫نفس الجنس البشري (البصمة الوراثية لكل فرد من أفراد‬ ‫تعالى‪:‬ه َو ا َّل ِذي َخ َل َق ُك ْم َف ِم ْن ُك ْم َكا ِف ٌر‬ ‫النوع الواحد)‪ ،‬قال‬ ‫ُ‬ ‫ص ‪‬‬ ‫او ِ‬ ‫هلل ب َِما َت ْع َم ُل َ ِ‬ ‫ات‬ ‫َو ِم ْن ُك ْم ُم ْؤ ِم ٌن َوا َُ‬ ‫ــم َ‬ ‫الس َ‬ ‫ون َب ٌ‬ ‫ير َخ َل َق َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫ض بِا ْل َح ِّق َو َص َّو َر ُك ْم َف َأ ْح َس َن ُص َو َر ُك ْم‪(‬التغابن‪)3-2:‬؛‬ ‫أل ْر َ‬ ‫"ح َّسن" بتشديد السين بمعنى‬ ‫وأحد معاني ‪َ ‬أ ْح َس َن‪ ‬هو َ‬ ‫التحسين‪ ،‬وعليه فاآلية تصف التصوير الوراثي المسؤول‬

‫‪9‬‬


‫بكل صفاته‪ ،‬وفي هذا اإلخبار الرباني عن جعل اإلنسان‬ ‫نطفــة‪ ،‬إعجــاز علمــي غايــة فــي الدقــة؛ إذ كيف تتســاوى‬ ‫النطفــة التــي تمثــل خلية واحــدة ال ُترى بالعيــن المجردة‬ ‫مــع اإلنســان الــذي يتركــب مــن باليين الخاليــا‪ ،‬فكأنك‬ ‫تقــول "فيــل ويلتف في منديل"‪ .‬وهــذا اإلعجاز لم يعرفه‬ ‫العلم إال منذ فترة بســيطة عندما فحص النطفة ليكتشــف‬ ‫وجــود اإلنســان الجينــي (‪ )Genetic human‬أو الحمــض‬ ‫النــووي "دنــا" (‪ )DNA‬أو البصمــة الوراثيــة‪ ،‬ال يــكاد يذكر‬ ‫في الحجم ولكنه يحمل شــفرة وراثية كاملة لإلنســان أو‬ ‫الصورة المشــابهة لإلنســان‪ .‬واآليات الســابقة ترســم لنا‬ ‫الخطــوط العريضــة لكيفيــة انتقــال الصفــات الوراثية من‬ ‫اآلبــاء إلــى األبنــاء عبــر النطفــة‪ ،‬فالخاليــا الجنســية آلدم‬ ‫وحواء ‪ ‬تحولت إلى النطفة‪ ،‬ومن النطفة خلق اهلل ‪‬‬ ‫الذُّ رية في األرحام‪( .‬صورة ‪)1‬‬

‫ّبين لنا أن الصفات الوراثية منها الســائد والمتنحي‪ ،‬وأن‬ ‫الصفة السائدة هي التي تستخدم في القيافة‪ ،‬أما المتنحية‬

‫فال تستخدم‪ ،‬فقال لألعرابي الذي جاء يشتكي لون ابنه‪:‬‬ ‫الوراثية قد تأتي من األجداد وليس من اآلباء فقط‪.‬‬

‫وكما أوحى اهلل ‪ ‬إلى النبي ‪ ‬بكيفية التعرف على‬

‫صاحب الفراش باســتخدام القيافة (علم مقارنة الصفات‬ ‫أيضا بما سوف يكون في آخر‬ ‫الشكلية)‪ ،‬فقد أوحى إليه ً‬

‫الزمان من استخدام الناس للبصمة الوراثية (علم مقارنة‬ ‫الصفــات الجينيــة)‪ ،‬فالحمض النــووي كبصمة يدل على‬ ‫صاحبــه‪ ،‬ويــدل على أبويه‪ ،‬وال عجب فــي هذا اإلخبار‪،‬‬

‫ألن الــذي أوحــى بالقرآن والســنة إلــى نبي هذه األمة هو‬ ‫اهلل العليم الخبير‪.‬‬

‫القرآن والسنة لهما السبق في وصف انتقال الصفات‬

‫الوراثية عبر الحمض النووي لألمشاج‪.‬‬

‫إذا أردنــا البحــث عــن الحمــض النــووي فــي القــرآن‬

‫والسنة‪ ،‬فينبغي البحث عن صفته الثابتة التي استقر عليها‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫العلــم‪ ،‬وهــي أنه يعمــل كفيلم أو قالب قابل لالستنســاخ‬

‫‪8‬‬

‫ال‬ ‫(التصويــر)‪ ،‬ويحمل شــفرة وراثية تمثل صــورة أو تمثا ً‬ ‫مشابها للكائن الحي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ــن‬ ‫‪‬و َل َق ْــد َخ َل ْق َنــا ا ِ‬ ‫ــن ُســ َ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫ا َل ٍة ِم ْ‬ ‫ــان ِم ْ‬ ‫قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ين‪(‬المؤمنون‪،)13-12:‬‬ ‫يــن ‪ُ ‬ث َّم َج َع ْل َن ُاه ُن ْط َف ًة ِفي َق َرارٍ َم ِك ٍ‬ ‫ِط ٍ‬

‫‪‬ج َع ْل َن ُاه ُن ْط َف ًة‪ ‬عائدة على اإلنسان‬ ‫ونالحظ أن الهاء في َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فبيــن أن الصفة‬ ‫"فلعــل ابنــك هــذا نزعه عرق" (متفــق عليه)‪ّ ،‬‬

‫(صورة ‪ :1‬توريث الصفات الوراثية من اآلباء إلى األبناء عبر النطفة)‬

‫فســر لنا كيــف تنتقل الصفات‬ ‫والعلــم الحديــث حين ّ‬ ‫نســخ‬ ‫الوراثيــة مــن اآلبــاء إلــى األبنــاء‪ ،‬قــال بأنــه يحدث‬ ‫ٌ‬ ‫للحمــض النووي في الخاليا الجنســية لتتكون األمشــاج‬ ‫التــي تتحــد فــي األرحــام لتعطــي النطفــة األمشــاج‪ ،‬ثــم‬ ‫نســخ للحمــض النــووي فــي النطفــة األمشــاج‬ ‫يحــدث‬ ‫ٌ‬ ‫لتتكــون منــه أعضــاء الجنيــن فــي مصانــع البروتينــات‬ ‫المعروفة بـ"الريبوسومات"‪.‬‬ ‫أما في القرآن والسنة فنجد كلمة أدق وهي "التصوير"‪،‬‬ ‫‪‬هــو ا َّل ِ‬ ‫ــذي ُي َص ِّو ُر ُكــم ِفــي ْا َ‬ ‫ــف‬ ‫ــام َك ْي َ‬ ‫أل ْر َح ِ‬ ‫قــال تعالــى‪َ ُ :‬‬ ‫ْ‬ ‫ــاء‪(‬آل عمــران‪ ،)6:‬وإذا ســألنا النبــي عن معنــى التصوير‬ ‫َي َش ُ‬ ‫َّ‬ ‫في اآلية فيقول‪" :‬إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث‬ ‫َّ‬ ‫ملــكا فصورها وخلق ســمعها وبصرها وجلدها‬ ‫اهلل إليهــا ً‬ ‫تصويرا من النطفة قبل‬ ‫فبين أن هناك‬ ‫ولحمها وعظامها"‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫خلق أعضاء الجسم‪ ،‬وهو ما أسماه العلم "نسخ الحمض‬ ‫النووي" وترجمته إلى بروتينات األعضاء‪ .‬وهذا يؤكد أن‬ ‫كلمة التصوير هي المستخدمة في القرآن والسنة لوصف‬


‫البصمــة الوراثيــة هــي الحمــض النــووي‬

‫علــم القيافــة؛ فقال ‪ ‬في قصة هــال بن أمية الذي اتهم‬

‫نــواة جميع خاليا الكائنات الحية‪ ،‬وهي‬

‫شــهداء‪ ،‬وبعــد أن تــم اللعان والتفريق بيــن هالل وامرأته‬ ‫ض َســب ًِطا قضيء‬ ‫فــإن‬ ‫قــال ‪َ " :‬أ ْب ِص ُروهــا ْ‬ ‫جــاءت بــه َأ ْب َي َ‬ ‫ْ‬ ‫حل َج ْع ًدا‬ ‫وإن جاءت بــه َأ ْك َ‬ ‫العينيــن فهــو ِلهالل بن أمية‪ْ ،‬‬ ‫َ‬

‫(‪ )DNA‬أو المــادة الوراثيــة الموجــودة في‬

‫التــي تجعلنــي وتجعلك مختل ًفا عن اآلخــر‪ ،‬ألنها تعطي‬ ‫جســدي وجســدك صفاتــه الوراثية الخاصة بــه كاللون أو‬

‫ال أو‬ ‫الطــول‪ ،‬وكأن اهلل ‪ ‬قــد جعــل للكائــن الحــي تمثــا ً‬ ‫صورة متناهية في الصغر بداخل نواة الخلية‪.‬‬

‫امرأته بالزنى مع شــريك بن ســحماء‪ ،‬ولم يكن له أربعة‬

‫ين فهو ِل َشريك بن َس ْحماء‪ .‬قال‪َ :‬ف ُأ ْنب ِْئ ُت أنها‬ ‫ش السا َق ِ‬ ‫َح ْم َ‬ ‫ش الســا َقين" (رواه مســلم)‪ .‬فأمر‬ ‫جاءت به َأ ْك َح َل َج ْع ًدا َح ْم َ‬ ‫ْ‬

‫ولم ُيعرف الحمض النووي كبصمة وراثية مميزة لكل‬

‫‪ ‬بإجــراء القيافــة إلثبــات صــدق هــال أمــام المجتمع‬

‫‪-‬عالــم الوراثة بجامعة "ليســتر" بلنــدن‪ -‬بح ًثا أوضح فيه‬

‫يعلــم الحــق إال اهلل الــذي ال تخدعه األيمــان وال تختلط‬

‫فــرد إال عــام ‪ 1984‬حينما نشــر الدكتــور "آليك جيفريز"‬ ‫أن المــادة الوراثيــة قــد تتكــرر عــدة مرات‪ ،‬وتعيد نفســها‬

‫فــي تتابعات عشــوائية غير مفهومة‪ ،‬ثــم اتضح له أن هذه‬ ‫مميِــزة لــكل فــرد‪ ،‬وأطلق على هــذه التتابعات‬ ‫التتابعــات ّ‬

‫اسم "البصمة الوراثية لإلنسان"‪ ،‬وعرفت على أنها "وسيلة‬ ‫مــن وســائل التعــرف علــى الشــخص عــن طريــق مقارنــة‬

‫مقاطــع الحمــض النــووي‪ .‬والح ًقا قام الدكتــور "آليك"‬ ‫أيضــا بدراســة على إحــدى العائالت يختبــر فيها توريث‬ ‫ً‬

‫خطوطا مميزة‬ ‫هذه البصمة‪ ،‬وتبين له أن األبناء يحملون‬ ‫ً‬ ‫يجيء نصفها من األم (‪ 23‬كروموسوم)‪ ،‬والنصف اآلخر‬ ‫من األب (‪ 23‬كروموســوم)‪ ،‬وهي مع بســاطتها تختلف‬

‫من شخص آلخر‪ .‬وتبين أنه يمكن فصل كروموسومات‬ ‫األم عــن األب بحيــث يمكــن اســتخدام كروموســومات‬ ‫األب في اختبارات النسب (إثبات أو نفي البنوة)‪ ،‬وذلك‬

‫بمقارنة كروموســومات األب المفصولة من خاليا االبن‬ ‫بكروموســومات أي رجــل لمعرفة مــا إذا كان أبوه أم ال‪.‬‬ ‫وكــذا يمكــن مقارنــة كروموســومات األم المفصولــة من‬ ‫خاليــا االبــن بكروموســومات أي امــرأة لمعرفــة مــا إذا‬

‫كانت أمه أم ال‪.‬‬

‫فــي زمن لم يكــن فيه للعلم التجريبي وجود ُيذكر أو‬

‫كاذبا‪ ،‬وال‬ ‫بأثــره‪ ،‬حيــث إن المالعــن قد يكون صاد ًقــا أو ً‬ ‫عنده األنساب‪ .‬وما استطاع النبي ‪ ‬أن يحدد أبو الغالم‬

‫بدقــة شــديدة وهــو في بطــن أمه‪ ،‬إال لكونــه من وحي اهلل‬

‫الــذي ع ّلمه أســس علم الوراثة ‪-‬كمــا نعرفها في زماننا‪-‬‬

‫فربط ‪ ‬القيافة بالفراش وبالبصمة الوراثية‪ ،‬على أساس‬ ‫أن نصــف الصفات الشــكلية للولــد تأتي من نطفة الرجل‬

‫الذي جامع في الفراش‪.‬‬

‫فأخبرنــا ‪ ‬عــن الفرق بين الصفــة الموروثة والصفة‬ ‫ــن ُب ُط ِ‬ ‫‪‬وا ُ َ‬ ‫ــون‬ ‫ــم ِم ْ‬ ‫المكتســبة فــي قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫هلل أ ْخ َر َج ُك ْ‬ ‫ون َشــي ًئا َو َج َع َل َل ُكم الس ْــم َع َوا َ‬ ‫ار‬ ‫ُأ َّم َها ِت ُك ْم َ‬ ‫أل ْب َص َ‬ ‫ال َت ْع َل ُم َ ْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َوا َ‬ ‫أل ْف ِئ َد َة‪(‬النحــل‪)78:‬؛ فالعلــم مكتســب والســمع والبصر‬ ‫مــر‬ ‫موروثــان مــن النطفــة األمشــاج‪ ،‬ولــذا قــال ‪" :‬إذا ّ‬

‫ملكا فصورها‬ ‫بالنطفــة اثنتــان وأربعون ليلة بعث اهلل إليها ً‬

‫وخلق ســمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها"‬

‫(رواه‬

‫تصويرا من النطفة قبل خلق األعضاء‬ ‫مبي ًنا أن هناك‬ ‫مسلم)‪ّ ،‬‬ ‫ً‬

‫وهو ما أســماه العلم الحديث " َن ْســخ الحامض النووي"‬ ‫الموجود في النطفة وترجمته إلى بروتينات األعضاء‪.‬‬

‫كمــا ّبيــن ‪ ‬أن الصفــات الموروثــة تأتــي مــن كال‬ ‫األبويــن كمــا فــي قولــه تعالــى‪ِ  :‬إ َّنــا َخ َل ْق َنــا اإلنســان ِم ْن‬

‫ــاه َس ِ‬ ‫ــم ًيعا َب ِص ًيرا‪(‬اإلنســان‪،)2:‬‬ ‫ُن ْط َفــ ٍة َأ ْم َش ٍ‬ ‫ــاج َن ْب َت ِليــ ِه َف َج َع ْل َن ُ‬

‫الوراثيــة مــن اآلبــاء إلــى األبنــاء عبــر الحمــض النــووي‬

‫ســببه‪ ،‬فقــال لليهــودي الذي جاء يســأله عــن الولد‬ ‫وبيــن َ‬ ‫ّ‬

‫األجنــة فــي بطــون األمهــات‪ ،‬أو كيــف تنتقــل الصفــات‬ ‫(البصمــة الوراثيــة) للنطفــة األمشــاج‪ّ ،‬بيــن لنــا ‪ ‬كيــف‬

‫نســتخدم أبرز الصفات الشكلية للجنين في التعرف على‬

‫أبيــه الحقيقــي الذي جاءت منــه النطفة‪ ،‬وذلك من خالل‬

‫األب أو نطفة األم أو كليهما‪ ،‬ولهذا أخذ النبي ‪ ‬بالشبه‬ ‫كيــف يشــبه أبــاه أو أمــه‪" :‬وأما شــبه الولــد أباه وأمــه فإذا‬

‫ماء‬ ‫ماء المرأة نزع إليه الولد‪ ،‬وإذا ســبق ُ‬ ‫ماء الرجل َ‬ ‫ســبق ُ‬ ‫مــاء الرجــل نزع إليهــا" (رواه البخــاري)‪ ،‬بل إنه ‪ ‬قد‬ ‫المــرأة َ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫آلة ُتعرف‪ ،‬ولم يكن بمقدور أي أحد معرفة كيف ُتخلق‬

‫أيضــا أن الصفات الوراثية للولد قد تميل إلى نطفة‬ ‫وبيــن ً‬ ‫ّ‬

‫‪7‬‬


‫علوم‬

‫د‪ .‬محمود نجا*‬

‫البصمة الوراثية‬


‫كل إنســان آمن حقًّ ــا‪ ،‬ينتقل ‪-‬وهــو املحدود‪ -‬إىل‬

‫وتخطــي كل‬ ‫العالــم أجمــع‪ ،‬واالضطــاع بــكل مهمــة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫الالمحــدود بفضل التأمالت التــي متور يف أعامق‬

‫حاجــز‪ .‬فلــو قامــت القيامــات كلهــا ال يضطربــون‪ ،‬ولــو‬

‫ذاته مو ًرا‪ .‬وبينام هو مقيد بالزمان واملكان إذا به‬

‫واجهتهــم نيــران جهنــم واحــدة تلــو األخــرى ال يمســهم‬

‫يتحول إىل نرس فوق الزمان واملكان‪ ،‬ويرتقي إىل‬

‫الخــوف وال يتراجعــون‪ .‬هاماتهــم مرتفعــة في عــزة وإباء‬

‫ّ‬ ‫مصاف الكائنات املتســامية عىل املكان‪ ،‬ويسمع‬

‫أحــدا‪،‬‬ ‫دومــا‪ ،‬ال يحنونهــا ألحــد إال هلل‪ .‬فهــم ال يخشــون ً‬ ‫ً‬

‫أنغام املالئكة وتراتيلهم‪.‬‬

‫أجرا من أحد‪ ،‬وال يقعون تحت‬ ‫وال ينتظــرون جــزاء وال ً‬ ‫منة أحد‪.‬‬

‫وعندمــا يحــرزون الفــوز ويتنقلون مــن نصر إلى آخر‬

‫واقتداء بفلســفة‬ ‫وتنميتهــا فــي كل مــكان‪ .‬وهم ‪-‬كذلك‪-‬‬ ‫ً‬

‫شكرا هلل‬ ‫النصر ابتالء لهم من عند اهلل‪ ،‬وتنحني ظهورهم‬ ‫ً‬

‫ناقما‬ ‫ســما ُزعا ًفــا‪ ،‬ويقابلــون مــن يأتيهــم‬ ‫ً‬ ‫وإن كان ًّ‬ ‫حاقــدا ً‬

‫تعتريهم مخاوف‪ ،‬وتحيط بهم هواجس خشــية أن يكون‬

‫ال مص ّفى‬ ‫"رابعة العدوية" َي ُع ّدون كل شيء وكل أحد عس ً‬

‫فرحا‬ ‫علــى هــذه النعمة العظمى‪ ،‬وتفيض أعينهم بالدمع ً‬

‫بالبسمات‪ ،‬ويصدون أشد الجيوش عداوة بسالح الحب‬

‫تعرضــوا لنكســة‬ ‫ألم ْ‬ ‫ً‬ ‫وســرورا‪ ...‬وإذا ّ‬ ‫ــت بهــم خســارة أو ّ‬

‫أبدا‪.‬‬ ‫هزم ً‬ ‫الذي ال ُي َ‬

‫يعرفــون كيــف يصبــرون‪ ،‬وكيــف يشــحنون عزائمهــم‪،‬‬

‫إن هــؤالء يحبهــم اهلل‪ ،‬وهــم يحبونه كذلــك‪ .‬وعندما‬

‫ويشحذون إرادتهم‪ ،‬ويهتفون "لنبدأ من جديد" منطلقين‬

‫يحبونــه تجيــش قلوبهــم بفيــض هــذه المحبــة‪ ...‬وســاعة‬

‫إلــى األمــام‪ .‬أولئــك ال تطغيهــم النعمــة وليســوا مــن‬ ‫نبويــا فــي تعاملهــم مــع‬ ‫قلبــا ُ‬ ‫وخ ُل ًقــا ًّ‬ ‫إنهــم يحملــون ً‬

‫النــاس‪ ...‬يحبــون الجميــع‪ ،‬ويحتضنــون كل شــيء‪...‬‬ ‫يتعامــون عــن رؤيــة أخطــاء اآلخريــن‪ ،‬بينمــا يحاســبون‬

‫أنفســهم على أتفه العثــرات‪ ...‬ال يصفحون عن األخطاء‬

‫فــي الحــاالت االعتياديــة فحســب‪ ،‬بل حتى فــي حاالت‬ ‫الغضــب كذلــك‪ ،‬يعرفون كيف يســايرون ويتعاملون مع‬

‫أخشــن الطبائــع وأكثرهــا فظاظــة‪ .‬فاإلســام أمــر أتباعــه‬

‫بالعفــو والصفح‪ ،‬والبعد عن الحقد‪ ،‬وعدم االنهزام أمام‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الجاحدين‪ ،‬وعندما يصيبهم الفقر والعوز ال ييأسون‪.‬‬

‫يشــعرون بأنهــم محبوبــون لديــه يغرقــون فــي حــال مــن‬

‫الذوبــان واالنتشــاء ال يمكن وصفهــا‪ .‬التواضع ديدنهم‪،‬‬

‫فهــم يخفضــون أجنحتهم حتــى األرض‪ ،‬ويرجون أن لو‬

‫ترابــا تنبت فيه الورود‪ .‬وبقــدر احترامهم لآلخرين‬ ‫كانــوا ً‬

‫فإنهــم حريصــون ‪-‬كذلــك‪ -‬علــى كرامتهــم وعزتهــم؛ ال‬ ‫أبدا أن تفسر سماحتهم ور ّقتهم ِ‬ ‫ونبل‬ ‫وحلمهم ُ‬ ‫يسمحون ً‬ ‫َّ‬

‫أخالقهــم ضع ًفــا أومســكنة‪ .‬بــل لــو اســتوجب األمــر لما‬

‫تــرددوا لحظــة واحدة فــي االفتداء بحياتهم والســير نحو‬

‫ديــار اآلخــرة‪ .‬ال يغريهــم مدح مادح أو يثنيهم قدح قادح‬

‫مشــاعر العــداء والكراهية واالنتقــام‪ .‬وكيف لنا أن نتوقع‬

‫ويحيــون بإيمانهم‪ .‬ما يهمهم‬ ‫مــا داموا يعيشــون عقيدتهم َ‬

‫دوما أنهم سائرون إلى اهلل!‬ ‫في قرارة نفوسهم ً‬

‫عقدوا العزم على أن يكونوا مؤمنين ح ًّقا‪.‬‬

‫ســلوكا آخر غير هذا الســلوك السامي من أبطال يدركون‬ ‫ً‬ ‫دومــا عــن ســبل إســداء خيــر‬ ‫أجــل‪ ،‬إنهــم يبحثــون ً‬

‫ويلحون علــى إبقاء‬ ‫لآلخريــن‪ ،‬ويرجــون لهــم الحســنى‪،‬‬ ‫ّ‬

‫شعلة الحب متقدة في قلوبهم حية في نفوسهم‪ ،‬ويشنون‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬هيئة حراء للترجمة‪ .‬نشر هذا المقال في مجلة‬ ‫سيزنتي التركية في العدد‪ ،244:‬سنة ‪.1999‬‬

‫الهوامش‬

‫هؤالء األبطال يحرقون أخطاءهم وذنوبهم بنار الندم‪،‬‬

‫شب عروس‪ :‬عبارة فارسية تعني ليلة العرس‪ ،‬وقد استخدمها جالل‬ ‫(‪ِ )1‬‬

‫طبائعهم كل يوم عدة مرات‪ .‬يبدؤون العمل من أنفسهم‪،‬‬

‫إلــى اهلل تعالــى‪ ،‬فالموت عرس في أدبيات الرومي‪ ،‬عرس يلتقي فيه‬

‫ويشتبكون في صراع شرس مع نوازع الشر المبثوثة في‬

‫الديــن الرومــي ليعبــر بها عن فرحة الوصال بالموت وتســليم الروح‬

‫ويمهــدون البيئــة الصالحة لغرس فســائل الخير والجمال‬ ‫ّ‬

‫اإلنسان الفاني بمحبوبه الباقي‪ ،‬فليلة العرس ساعة الوصال‪..‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫حربا شعواء ال نهاية لها ضد مشاعر الغيظ والنفور‪.‬‬ ‫ً‬

‫فقــط أال تبهــت نضرة اإليمان وبهــاؤه في قلوبهم‪ ،‬ألنهم‬

‫‪5‬‬


‫"كليا"‪ ،‬فيحتضن‬ ‫وتفتقها‪ -‬يتجاوز "فرديته" ً‬ ‫دائما‪ ،‬ويغدو ًّ‬

‫للوصال تظلله فيعيش بهجة "ليلة ُع ْرس" سعيدة(‪ .)1‬وفي‬

‫والتحايــا إلــى الوجــود كلــه بأخلــص المشــاعر وأنقاهــا‪.‬‬

‫بنار شوق أخرى‪ ،‬فيبدأ باالحتراق من جديد‪ .‬ومن يدري‬

‫كل منحنــى يطفــئ نــار شــوق‪ ،‬ويلتهب في الوقت نفســه‬

‫جميعــا‪ ،‬ويمــد يــده للجميــع‪ ،‬ويرســل البســمات‬ ‫النــاس‬ ‫ً‬

‫مغمورا بنسمات األنس‪،‬‬ ‫كم من مرة في اليوم يجد نفسه‬ ‫ً‬

‫يســتخلص من كل شــيء رآه ومن كل إنســان التقاه ألوا ًنا‬

‫وكم من مرة يحزن ويتألم للوحشــة والوحدة التي يعاني‬

‫ونقوشــا بديعة مــن التجليات اإللهية ويصغي إلى‬ ‫جميلة‬ ‫ً‬

‫منها البؤساء الذين ُح ِرموا من اإلحساس بهذه المواهب‬

‫ترنيماتها الســاحرة‪ ،‬وينغمر في مراقبة جذلى جديدة مع‬ ‫ٍ‬ ‫منبعث من تردد جديد وذبذبة‬ ‫تسبيح من السماوات‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬

‫السنية واإلشراقات البهية‪.‬‬

‫أجــل‪ ،‬فمثــل هذا الروح البالغ هذا المدى من رحابة‬

‫أخرى‪ ،‬يحس وكأنه يسمع رفرفة أجنحة المالئكة‪.‬‬

‫إنه يســمع ويشــاهد معــارض للجمال واســع ًة ممتدة‬

‫مســتقرا علــى منصــات انطــاق نحــو‬ ‫األفــق يجــد نفســه‬ ‫ًّ‬

‫الخالعــة للقلــوب‪ ،‬إلــى نغمات العصافير الشــادية الباعثة‬

‫مشــحو ًنا بعزم يفوق مقاييس اإلنســان العادي‪ ...‬وكذلك‬

‫متحفزا أشد ما يكون التحفز‪،‬‬ ‫عوالم جديدة على الدوام‪،‬‬ ‫ً‬

‫بــدءا مــن جلجــات الرعــد المرعبة‬ ‫تشــمل كل شــيء‪ً ...‬‬

‫يفكــر فــي ألــوان المنن التي ســينالها‪ ،‬وأنــواع النجاحات‬

‫علــى الســكينة واالرتيــاح‪ ...‬ومــن أمــواج البحــار الهائلة‬

‫التــي ســيحرزها بفضــل إيمانــه والقوة الكامنــة وراء ذلك‬

‫المتالطمة‪ ،‬إلى خرير الجداول الهامسة بمعاني الخلود‪...‬‬

‫اإليمــان‪ .‬وبمــا أن أفقه واضح‪ ،‬وطريقــه مفتوح‪ ،‬وإرادته‬

‫ومــن الطنيــن الســاحر المنبعث من الغابــات الهادئة‪ ،‬إلى‬

‫دوما دون‬ ‫حــرة‪ ،‬وقلبه في طمأنينة وســكينة‪ ،‬فهــو يجري ً‬

‫المنظــر المهيب لــذرى الجبال الشــوامخ المتطاولة نحو‬

‫شــوى التي تفوح من‬ ‫الخضــراء ليــل نهار‪ ،‬إلى العطور ّ‬ ‫الن َ‬

‫البساتين والحدائق لتغمر كل مكان‪ .‬نعم‪ ،‬يشاهد معارض‬

‫الجمال هذه ويســمع أصداءها ويحس بها فيقول لنفســه‬ ‫"إذن هــذه هــي الحيــاة الحقيقــة"‪ .‬يقــول ذلك‪ ،‬ثــم يهتف‬

‫معز ًزا‬ ‫مع جميع الكائنات ومع معانيها الشبيهة بالروح ِّ‬ ‫أنفاسه باألدعية والتسابيح ليوصلها إلى قيمتها الحقيقية‪.‬‬ ‫جبهتــه علــى األرض فــي ســجود دائم‪ ،‬ونظــره مع َّلق‬

‫كما تزداد محبته عم ًقا لكل ما حوله ومن حوله‪.‬‬

‫عندمــا ينصــت إلــى روحــه يجــد نفســه فــي واحة من‬

‫الســكينة والطمأنينــة ال تنتهــي‪ .‬وبينمــا يعانــي العديــد من‬

‫النــاس مــن غربة قاســية ووحدة كئيبة بدوافع شــتى‪ ،‬تراه‬

‫بعيدا كل البعد عن وحشــة الطريق وغربته‪ ...‬فهو يدري‬ ‫ً‬

‫من أين جاء‪ ،‬ولماذا جاء‪ ،‬وإلى أين يصير؟ هو على وعي‬

‫وتفــرق‪ ،‬وعلى‬ ‫تجمع‬ ‫بــكل مــا يــدور فــي دار الدنيا مــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫درايــة بأنــه يجــري فــي درب واضــح الغاية ّبيــن الهدف؛‬

‫وشوق عظيمين‪ ...‬ينتظر الساعة المباركة التي تزول فيها‬

‫هزا‪ .‬واثق‬ ‫الهواجس وال االضطرابات التي تهز اآلخرين ًّ‬

‫الغ ْيبة والغربة و ُتشــرق فيها ال ُقربة ســكين ًة وطمأنين ًة تغمر‬ ‫َ‬

‫أرجــاء روحــه‪ ...‬ين ّقــب عــن جــواب أو صــدى لنــداءات‬ ‫الشوق ومطالب الوصال المترددة في روحه‪.‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫رصدا وإنصا ًتا ألعماق ذاته‪،‬‬ ‫رحالــه في منــزل آخر يزداد‬ ‫ً‬

‫يوما‬ ‫على ُف ْرجة الباب الذي قضى حياته آم ً‬ ‫ال أن ُي َ‬ ‫فتح له ً‬ ‫ويحظــى بنظــرة رضى وقبول‪ُ ...‬ي ِ‬ ‫غمــض عينيه ويفتحهما‬ ‫يتلمس ما يــدور خلف البــاب بتوق‬ ‫علــى هــذا األمــل‪ّ ...‬‬

‫‪4‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الســماء‪ ...‬ومن النســمات الســحرية التــي تداعب التالل‬

‫ال وحط‬ ‫شــعور بــأي تعــب أو إرهــاق‪ .‬وكلمــا قطــع منــز ً‬

‫أبدا‪ ،‬وال تصيبــه المخاوف وال‬ ‫ال يشــعر بمشــقة الطريــق ً‬

‫بــاهلل‪ ،‬متح ّفز باألمل‪ ،‬مرتشــف متعــ َة الوصول إلى الذروة‬ ‫تزينها أحالم زرقاء ناصعة للمستقبل السعيد‪.‬‬ ‫التي ّ‬

‫أجــل‪ ،‬ســتجد أبطــال هذا اإليمــان الشــامخ مواظبين‬

‫حينا‪،‬‬ ‫تجــده وقــد شــرع أجنحتــه وحلــق مثــل الطائــر ً‬

‫‪-‬بحســب عمق إيمانهم‪ -‬على الســير فــي الطريق وقطع‬

‫ميمم وجهه نحوه ‪-‬سبحانه‪ -‬يهرول إليه دون توقف‬ ‫فهو ّ‬

‫الجنــان‪ ،‬فــي الوقــت الذي يتعثــر فيه الناس في ســيرههم‬

‫حينا آخر؛ ومهما يكن‪،‬‬ ‫وحط على األرض وســار‬ ‫ماشــيا ً‬ ‫ً‬

‫كل أحد إلى صدره واحتضن كل شــيء بمحبة‬ ‫وقد ضم َّ‬ ‫ٍ‬ ‫بظالل جديد ٍة‬ ‫غامرة‪ .‬في كل منزل يحط رحاله فيه‪ ،‬يشعر‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المســافات مطمئنيــن ســعداء كأنهــم يتنزهون في ســفوح‬

‫ويضطربون‪ .‬هذا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر ســتجدهم‬ ‫‪-‬بفضــل ارتباطهــم بالحــق تعالــى‪ -‬قادريــن علــى تحدي‬


‫إن أشــد مــا نحتاج إليــه اليــوم "رجــال مثال ّيون"‬

‫ظهــرت إبــان المحن واألزمات‪ ،‬تحمــل مصابيح الهدى‬

‫مؤهلــون للقيــام بــدور "الدليل األســوة" أمام‬ ‫َّ‬

‫لتضيئ الدرب للحشود المتخبطة في ظلمات شتى دينية‬

‫املجتمع وأمام "أجيال املســؤولية" الذين بلغوا‬

‫وفكريــة واجتماعيــة واقتصادية وأخالقيــة‪ ،‬والتي أعادت‬

‫الحــد األقىص مــن‬ ‫التأهب للقيــام بالواجب الذي‬ ‫ّ‬

‫قــراءة الكــون واإلنســان والوجــود بل ومــا وراء الوجود‪،‬‬

‫تحملوه أمام الله سبحانه وتعاىل‪.‬‬ ‫ّ‬

‫حــل عقدنــا الفكريــة والعاطفيــة‪ ،‬وأزالت‬ ‫وعملــت علــى ّ‬ ‫الســدود التــي تعيق أفكارنــا من االنطالق ومشــاعرنا من‬ ‫الجيشــان‪ ...‬أجل‪ ،‬بفضل هؤالء األفذاذ اســتطاع ابن آدم‬

‫يعتبرها بال روح أو معنى‪ -‬وتبتســم إليه ابتســامة الصديق‬

‫أن يجعــل مــن كفــن المــوت قميــص حياة خمســين مرة‪،‬‬

‫الحميــم‪ ،‬وتحتضنــه بدفــئ ورفــق وحنان‪ .‬وفــي مثل هذا‬

‫ويعيــد تفســير األشــياء والحــوادث مــن جديــد مائــة مرة‪،‬‬

‫الجو الدافئ الحنون يبدأ شعور اإلنسان بقيمته الحقيقية‪،‬‬

‫ويتلــو كتــاب الكــون ‪-‬هــذا الكتــاب الــذي انطفــأ بريقــه‬

‫ويعي أنه الجزء المدرِ ك الفريد في هذا الوجود‪ ،‬ويعرف‬

‫وبهــت لونــه واصطبــغ بصبغــة العبثيــة فــي نظــر العقــول‬

‫سر الدروب المنسابة في انحناء والتواء في ثنايا صفحات‬

‫السطحية‪ -‬على امتداده الشاسع بعد اإلحساس بأعماقه‬

‫الكــون وســطوره‪ ،‬ويحــس وكأنــه بــدأ يحــدس األســرار‬

‫سحرا‬ ‫الالنهائية تالوة تطرب لها النفس كأنها الموسيقى‬ ‫ً‬

‫الكامنــة وراء أســتار الوجــود‪ ،‬فــإذا بــه ينجــو مــن ســجن‬

‫باهــرا‪ ...‬وأن ُيقبِــل علــى األشــياء‬ ‫بديعــا‬ ‫يطالــع‬ ‫ً‬ ‫معرضــا ً‬ ‫ً‬

‫أجــل‪ ،‬كل إنســان آمن ح ًّقا‪ ،‬ينتقــل ‪-‬وهو المحدود‪-‬‬

‫ال‪ ...‬وأن يطالــع هــذا الكتاب بنشــوة عظمى كمن‬ ‫وجمــا ً‬

‫الكامنة في روح الكون المديد‪.‬‬ ‫كرم بهما هؤالء "السعداء" األطهار؛‬ ‫إن أعظم سمتين ُأ ِ‬

‫إيمانهــم النقــي‪ ،‬ثــم مــا يبذلونه من جهود جبــارة ليطلعوا‬

‫العالمين على حالوة ما ذاقوه من إيمان‪ .‬إنهم على يقين‬ ‫بأنهــم يســتطيعون ‪-‬بفضل هــذا اإليمان وتلــك الجهود‪-‬‬

‫تخطي جميع العقبات‪ ،‬والوصول إلى اهلل وإلى الطمأنينة‬

‫الحقــة‪ ،‬وتحويــل دار الدنيا إلــى جنات‪ ،‬وإقامة قصورهم‬ ‫في الحياة األخرى على سفوح جنان الفردوس‪ .‬ومن ثم‬

‫فهــم يشــعرون بالحياة والخدمــة اإليمانية فيها ‪-‬في ضوء‬ ‫الخاتمة المنشودة‪ -‬كأنها جولة ممتعة في ربوع الجنة‪.‬‬

‫وال شــك أنــه ال يوجــد نظــام وال فكــرة أو فلســفة‬

‫إيجابيــا فــي عمــق اإلنســان‬ ‫أثــرا‬ ‫ًّ‬ ‫اســتطاعت أن ُتحــدث ً‬ ‫كالــذي يحدثــه اإليمــان مهمــا تفاوتــت نســبته فــي ذات‬

‫المؤمن‪ .‬ففور دخول اإليمان ‪-‬بمعناه الحقيقي‪ -‬في قلب‬ ‫واتساعا حتى يتمكن من تقليب‬ ‫وتزداد تلك الرؤية عم ًقا‬ ‫ً‬

‫صفحات الوجود وتقييمها وكأنها صفحات كتاب‪ .‬ليس‬ ‫هــذا فحســب‪ ،‬بــل وتنبــض الكائنــات مــن حولــه بالحياة‬ ‫فجأة ‪-‬تلك التي لم يكن يعيرها التفا ًتا في السابق أو كان‬

‫إلى الالمحدود بفضل التأمالت التي تمور في أعماق ذاته‬

‫مورا‪ .‬وبينما هو مقيد بالزمان والمكان إذا به يتحول إلى‬ ‫ً‬ ‫مصاف الكائنات‬ ‫نسر فوق الزمان والمكان‪ ،‬ويرتقي إلى‬ ‫ّ‬

‫المتسامية على المكان‪ ،‬ويسمع أنغام المالئكة وتراتيلهم‪.‬‬ ‫إن هذا الكائن الذي كانت بدايته من ماء َمهين‪ ،‬ومن‬

‫طيــن الزب‪ ...‬الصغيــر في ظاهره‪ ،‬الكبيــر في حقيقته‪...‬‬ ‫لتفتــح‬ ‫يتســع وينمــو بقــدر مــا تتهيــؤ األجــواء المناســبة ّ‬

‫متســاميا‬ ‫كائنا‬ ‫النفخــة اإللهيــة الكامنــة في جوهره‪ ،‬فيغدو ً‬ ‫ً‬

‫رما‬ ‫ال تســعه األرض وال تحــده الســماء‪ً ...‬‬ ‫كائنــا يبــدو ِج ً‬ ‫صغيــرا ولكــن فيــه انطــوى العالــم األكبــر‪ .‬فهــو يتجــول‬ ‫ً‬

‫بيننــا‪ ...‬يجلــس ويقــوم معنــا‪ ...‬يطأ بقدميه التــراب الذي‬ ‫نسير عليه‪ ،‬وحينما يسجد يضع جبهته على األرض التي‬

‫يوظــف الســجود ‪-‬حيث‬ ‫نضــع عليهــا جباهنــا‪ ...‬ولكنــه ّ‬

‫الــرأس والقدميــن فــي نقطــة واحــدة وغــدا حلقــة‬ ‫جمــع‬ ‫َ‬ ‫مكــورة‪ -‬كمنصة انطالق في طريــق "القرب"‪ ،‬فيبلغ أفق‬

‫"األقربية" من اهلل في قفزة واحدة‪ ،‬ويبسط جناحيه ليحلق‬ ‫عاليــا فــي الســماوات التــي يحلقون‬ ‫مــع األرواح الطيبــة ً‬ ‫دنيويا‪.‬‬ ‫فيها‪ ،‬ويعيش كاألخرويين رغم أنه ال يزال‬ ‫ًّ‬

‫قلبــا هــذا شــأنه ‪-‬بحســب نمو مشــاعره اإلنســانية‬ ‫إن ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫إنســان‪ ،‬تتغير رؤيته فجأة عن الكون واألشــياء والخالق‪،‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ا وفقــرة فقــرة ليكتشــف الحقائــق‬ ‫ا فصــ ً‬ ‫فيحللهــا فصــ ً‬

‫األبعــاد الثالثــة للمــكان ويرفرف في فضــاءات الالنهاية‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫سامت املؤمن الحق‬ ‫إن أشــد مــا نحتــاج إليــه اليــوم "رجــال‬ ‫مؤهلــون للقيــام بــدور "الدليل‬ ‫مثاليــون" َّ‬ ‫ّ‬

‫األســوة" أمــام المجتمــع وأمــام "أجيــال‬

‫التأهــب‬ ‫المســؤولية" الذيــن بلغــوا الحــد األقصــى مــن ّ‬

‫تحملوه أمام اهلل ســبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫للقيــام بالواجب الذي ّ‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫يهبون إلنقاذ‬ ‫نعم‪ ،‬الحاجة ماســة إلى "مرشــدين مثاليين" ّ‬

‫‪2‬‬

‫البشــرية مــن مســتنقعات الجهــل واإللحــاد والضــال‬ ‫والفوضــى التــي تتخبــط فيها منــذ عصور‪ ،‬ويســيرون بها‬

‫نحو شواطئ اإليمان والعرفان واالستقامة واالطمئنان‪.‬‬

‫أجــل‪ ،‬إن ابــن آدم بفضــل تلــك "العقول الفــذة" التي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المحتويات‬

‫ سمات المؤمن الحق  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫البصمة الوراثية  ‪ /‬د‪ .‬حممود جنا (علوم) ‬

‫ براءة اإلسالم من العنف واإلرهاب  ‪ /‬د‪ .‬إسحاق السعدي (قضايا فكرية) ‬ ‫ضرورة العودة إلى القرآن الكريم  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) ‬

‫ قطرات الماء  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫إما وإما  ‪ /‬أديب إبراهيم الدباغ (أدب) ‬

‫ البوم‪ ..‬ملك الليالي  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫ٌ‬ ‫حماية البيئة‪ ..‬عقيدة‬ ‫وسلوك  ‪ /‬د‪ .‬عبد الكرمي عكيوي (ثقافة وفن )‬

‫ مخاطر الطريق  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬ ‫األفق التربوي في بناء اإلنسان عند األستاذ فتح اهلل كولن  ‪ /‬د‪ .‬كرمية بوعمري (تربية) ‬

‫ التوازن الفكري  ‪ /‬د‪ .‬حممد بن إبراهيم السعيدي (قضايا فكرية) ‬ ‫مقاصد الشريعة بمذاق الفنون الجميلة  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غامن (قضايا فكرية) ‬

‫ الحريّة الشرعية في أزاهير النور  ‪ /‬د‪ .‬حممد البشري اهلامشي مغلي (قضايا فكرية) ‬ ‫يا إنسان!  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ عبد اللطيف البغدادي  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة) ‬ ‫الطيور المهاجرة  ‪ /‬د‪ .‬ناصر أمحد سنه (علوم) ‬

‫ مواقع التواصل االجتماعي والواقع  ‪ /‬د‪ .‬حيىي جاد (قضايا فكرية) ‬ ‫السراج المنير  ‪ /‬د‪ .‬ناصر الزهراين (شعر) ‬

‫ َالخواء الفكري وخطورته على الشباب  ‪ /‬د‪ .‬حسن عبد اهلل محد النيل (قضايا فكرية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪38‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪49‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪60‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫إيجابية المؤمن‬ ‫إن "المؤمــن" فــي كل مــا كتبــه "فتــح اهلل كولــن" ومــا‬ ‫يكتبــه اليــوم‪ ،‬وكمــا يشــخص ســماته ويرســم مالمحــه‪،‬‬ ‫ليــس بالمؤمــن الســلبي واالنكفائــي واالعتزالــي الــذي‬ ‫يتفرج على‬ ‫يــرى العالــم يحترق‪ ،‬بينما يظل هو في مكانه ّ‬ ‫شــبوب نيرانــه‬ ‫وعلــو لهبــه مــن بعيــد‪ ،‬وأن األمــر كلــه ال‬ ‫ّ‬ ‫يعنيــه بشــيء‪ ،‬بــل هو اقتحامــي بكل معاني هــذه الكلمة‪.‬‬ ‫ــق ألســنة اللهب حتى لــو َّأدى ذلك‬ ‫وي ُش ُّ‬ ‫يقتحــم النيــران‪َ ،‬‬ ‫إلــى احتراقه هو نفســه لكــي ينقذ ما يمكن إنقاذه من هذا‬ ‫العالــم الــذي تتآكله من كل مكان ألســنة اللهــب‪ُ ،‬م َت َد ِّر ًعا‬ ‫بعظمة روحه‪،‬‬ ‫ومســتنيرا من الدخان بإشراف قلبه وعمق‬ ‫ً‬ ‫إيمانه وثقته بالمعية اإللهية والعناية الربانية‪.‬‬ ‫إنــه ممتلــئ بالمعرفة والعرفان‪ ،‬والشــفقة واإلشــفاق‪،‬‬

‫شــماء‪ ،‬وهيبة وســناء‪ ،‬أخ‬ ‫والرحمــة والحنــان‪ ...‬ذو هيئــة ّ‬

‫لإلنســان يمشــي علــى األرض هو ًنــا‪ ...‬جبهتــه لصيقــة‬ ‫التراب‪ ،‬وعيونه معلقة بالسماء‪ ...‬متواضع ال عن ضعف‬

‫السنة العاشرة ‪ -‬العدد (‪2014 )44‬‬

‫هيــن ال عــن خوف‪ ،‬ســهل ال عن انســحاق‪...‬‬ ‫ومســكنة‪ٌ ،‬‬ ‫قلبــه مــن خشــية ربــه بارتجــاف‪ ،‬وعينــه بالدمــع تطفــح‪،‬‬ ‫شــيئا‪ ،‬ويــرى‬ ‫ولســانه بالرحيــق ُي ِّ‬ ‫قطــر‪ ...‬ال يــرى نفســه ً‬

‫كل شــيء أفضــل منــه‪ ،‬وأقــرب إلــى اهلل منــه‪ ...‬قــوي في‬

‫نجم‬ ‫تواضعه‪ ،‬عميق في فكره‪ ،‬صموت في تفكره‪ ...‬إنه ٌ‬ ‫العالم به يهتدي‪ ،‬والزمان به يبتدي‪ ،‬قوله فصل‪ ،‬وحكمه‬ ‫ُ‬ ‫ميــزان‪ ،‬وللعا َلــم عقل وجنان‪ ،‬وللــروح رِ ٌّي واخضرار‪...‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫طليــق من أســار األزمنــة‪ ،‬هارب من قمقــم األمكنة‪ ...‬ال‬ ‫ال آفاق‪ ،‬ال يســأم من‬ ‫جو ُ‬ ‫زمان يحده وال مكان يحجزه‪َّ ،‬‬

‫األسفار وال يسقم من طول االغتراب‪ ...‬صاحب رسالة‪،‬‬ ‫ورجــل دعــوة‪ ،‬وحامــل راية‪ ،‬يمــوت لتظل خ َّفاقــة‪ ...‬إنه‬

‫لغيــر اهلل ال ينحنــي‪ ،‬آلالم البشــرية يبكــي‪ ،‬وعليها ينحب‬ ‫نبويا عندما‬ ‫قلبا ُ‬ ‫وخل ًقــا ًّ‬ ‫ويحــزن‪ ،‬ويئــن ويألــم‪" ،‬يحملون ً‬

‫يحبون الجميــع‪ ،‬ويحتضنون كل‬ ‫يتعاملــون مع النــاس‪ّ ،‬‬

‫شيء‪،‬‬ ‫يتعامون عن رؤية أخطاء اآلخرين‪ ،‬بينما يحاسبون‬ ‫َ‬ ‫أنفســهم علــى أتفــة األخطــاء‪ ...‬يحبهــم اهلل ويحبونــه‪،‬‬

‫دومــا بمشــاعر الحــب‪ ،‬ويعيشــون نشــوة هــذه‬ ‫ينفعلــون ً‬

‫المشــاعر‪ "...‬كمــا وصــف "كولــن" المؤمنيــن المرجوين‬ ‫فــي مقالــه االفتتاحي من "حراء"‪ .‬و"كولــن" عندما يرتقي‬ ‫بالمؤمــن هــذا االرتقــاء‪ ،‬ويبعثــه هذا االنبعــاث إنما يفعل‬ ‫ذلــك لكــي يرســم للجيــل الحاضــر واألجيــال اآلتية من‬ ‫المؤمنيــن‪،‬‬ ‫األفــق األعلــى الــذي يجب أن يكــون مطمح‬ ‫َ‬

‫أنظارهــم‪ ،‬وموئــل أفكارهــم ومقصــد غاياتهــم‪ .‬فأمثــال‬ ‫هــذا الجيــل بصفاتــه هــذه‪ ،‬ومالمحه تلك‪ ،‬هو المرشــح‬ ‫لقيــادة الــروح اإلنســاني من جديد‪ ،‬وانتشــاله مــن وهدته‬ ‫وتصحيح مساراته‪.‬‬


‫‪44‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة العارشة ‪( /‬سبتمرب ‪ -‬أكتوبر) ‪2014‬‬

‫دنيانا الخضراء‬ ‫لت دنيانا‪،‬‬ ‫كم مر ًة إلى جه ّنم تح َّو ْ‬ ‫عادت‪..‬‬ ‫وكم مر ًة ِجنانًا خض ًرا ْ‬ ‫أعظم آمالنا‪ ،‬جن ًة خضراء نعيدها‪،‬‬ ‫رغم يبس الرياض وإذواء البساتين‪..‬‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫سمات المؤمن الحق‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪15‬‬

‫ضرورة العودة إلى القرآن الكريم‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الشاهد البوشيخي‬

‫‪30‬‬

‫األفق التربوي في بناء اإلنسان‬ ‫د‪ .‬كريمة بوعمري‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.