Hira Magazine 40

Page 1

‫أفياء العناية‬ ‫َ‬ ‫التعاون ربحوا‪،‬‬ ‫إذا افرتشوا‬ ‫ومل ميسسهم أذى وعاشوا بهناء‪،‬‬ ‫وإذا بالكرم الواهب تلك النعامء‪،‬‬ ‫قد ح ّول املكان رياضا حالية غ ّناء‪...‬‬ ‫***‬

‫‪Ocak - Şubat 2014 Sayı: 40 Fiyatı: 6 TL.‬‬


‫فريد األنصاري‬

‫لوال أني ُ‬ ‫وهم أو ُهراء أو خيال‪ ..‬ظالل نورية‬ ‫رأيتهم لقلت إنه مجرد ٍ‬ ‫لجيل الصحابة الكرام أو ُنسخ أخرى ُ‬ ‫لست أدري‪ ..‬ولقد رأيتهم وما‬ ‫كذبت عيني؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر‪ ،‬وما ّ‬ ‫بدلوا‬ ‫تبديال‪ ..‬فلله درّهم‪ّ ..‬‬ ‫أي رجال هم!؟‬

‫مركز التوزيع فرع القاهرة ‪ 7 :‬ش البرامكة‪ ،‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة ‪ /‬مصر‬

‫تليفون وفاكس ‪ +20226134402-5 :‬الهاتف الجوال ‪+201000780841 :‬‬ ‫‪w w w. d a r a l n i l e . c o m‬‬


‫التصور العام‬

‫جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل‬ ‫شهرين عن‪:‬‬

‫• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق‬ ‫الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬والفكر والواقع‪.‬‬ ‫• جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع‪ ،‬مع البعد عن اإلفراط والتفريط‪.‬‬ ‫• تؤمن باالنفتاح على اآلخر‪ ،‬واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية‪.‬‬ ‫• تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض‪ ،‬ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد‬ ‫مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة‪.‬‬

‫صاحب االمتياز‬

‫شروط النشر‬

‫املشرف العام‬

‫• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره‪.‬‬ ‫• أال يزيد حجم النص على ‪ 2000‬كلمة كحد أقصى‪ ،‬وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫• يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية‪.‬‬ ‫• ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير‪ ،‬وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على‬ ‫املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر‪.‬‬ ‫• اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر‪ ،‬وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر‪ ،‬وال تلتزم‬ ‫بإبداء أسباب عدم النشر‪.‬‬ ‫• حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا‪.‬‬ ‫تعب بالضرورة عن رأي اجمللة‪.‬‬ ‫تعب عن آراء ُكتَّاهبا‪ ،‬وال ِّ‬ ‫• النصوص اليت تنشر يف اجمللة ِّ‬ ‫ً‬ ‫مجا إىل أي لغة أخرى‪،‬‬ ‫• للمجلة حق إعادة نشر النص‬ ‫منفصل أو ضمن جمموعة من البحوث‪ ،‬بلغته األصلية أو مرت ً‬ ‫دون حاجة إىل استئذان صاحب النص‪.‬‬ ‫• جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر‪.‬‬ ‫ يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت‪:‬‬

‫‪hira@hiramagazine.com‬‬ ‫‪YEMEN‬‬ ‫دار النشر للجامعات‬ ‫الجمهورية اليمنية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الخط الدائري الغربي‪،‬‬ ‫أمام الجامعة القديمة‬ ‫‪Phone: +967 1 440144‬‬ ‫‪GSM: +967 711518611‬‬ ‫‪ALGERIA‬‬ ‫‪Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim‬‬ ‫‪GSM: +213 770 26 00 27‬‬ ‫‪SUDAN‬‬ ‫مركز دار النيل‪ ،‬مكتب اخلرطوم‬ ‫أركويت مربع ‪ 48‬منـزل رقم ‪ - 31‬اخلرطوم ‪ -‬السودان‬ ‫‪Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69‬‬ ‫‪hirasudan@hotmail.com‬‬ ‫‪JORDAN‬‬ ‫شركة زوزك‪/‬مشيساين شارع عبد احلميد شرف‪ ،‬بناية رقم‪61:‬‬ ‫عمان‪/‬األردن‪.‬‬ ‫‪Phone: +962 656 064 44‬‬ ‫‪GSM: +962 775 935 756‬‬ ‫‪hirajordan@woxmail.com‬‬ ‫‪UNITED ARAB EMIRATES‬‬ ‫دار الفقيه للنشر والتوزيع‬ ‫ص‪.‬ب‪ 6677 .‬أبو ظبي‬ ‫‪Phone: +971 266 789920‬‬ ‫‪MAURITANIA‬‬ ‫‪Phone: +2223014264‬‬

‫‪USA‬‬ ‫‪Tughra Books‬‬ ‫‪345 Clifton Ave., Clifton,‬‬ ‫‪NJ, 07011, USA‬‬ ‫‪Phone:+1 732 868 0210‬‬ ‫‪Fax:+1 732 868 0211‬‬ ‫‪SAUDI ARABIA‬‬ ‫الوطنية للتوزيع‬ ‫‪Phone: +966 1 4871414‬‬ ‫املكتب الرئيسي‪ :‬شارع التخصصي مع تقاطع شارع‬ ‫األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار‬ ‫ص‪.‬ب‪ 68761 :‬الرياض‪11537 :‬‬ ‫اجلوال‪00966504358213 :‬‬ ‫‪saudia@hiramagazine.com‬‬ ‫‪abdallahi7@hotmail.com‬‬ ‫‪Phone-Fax: +966 1 2815226‬‬ ‫‪MOROCCO‬‬ ‫الدار البيضاء ‪ 70‬زنقة سجلماسة‬ ‫‪Société Arabo-Africaine de Distribution,‬‬ ‫)‪d'Edition et de Presse (Sapress‬‬ ‫‪70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco‬‬ ‫‪Phone: ‎+212 22 24 92 00‬‬ ‫‪EGYPT‬‬ ‫‪ 37‬شارع د‪ .‬عبد الشافي محمد ‪ -‬الحي السابع‪ ،‬مدينة نصر ‪ -‬القاهرة‪.‬‬ ‫هاتف‪+201119482609 - +201065523089 :‬‬ ‫‪hiraegypt@gmail.com‬‬ ‫‪SYRIA‬‬ ‫‪GSM: ‎+963 955 411 990‬‬

‫‪Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş‬‬ ‫‪İstanbul / Türkiye‬‬

‫مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو‬

‫نوزاد صواش‬

‫‪nsavas@hiramagazine.com‬‬

‫رئيس التحرير‬ ‫هانئ رسالن‬

‫مدير التحرير‬ ‫أجري أشيوك‬

‫املخرج الفين‬ ‫مراد عرباجي‬

‫املركز الرئيس‬ ‫‪HIRA MAGAZINE‬‬ ‫‪Kısıklı Mah. Meltem Sok.‬‬ ‫‪No:5 34676‬‬ ‫‪Üsküdar‬‬ ‫‪İstanbul / Turkey‬‬ ‫‪Phone: +902163186011‬‬ ‫‪Fax: +902164224140‬‬ ‫‪hira@hiramagazine.com‬‬

‫مركز التوزيع‬ ‫‪ 7‬ش الربامكة ‪ -‬احلي السابع ‪ -‬م‪.‬نصر‪/‬القاهرة‬ ‫تليفون وفاكس‪+20226134402-5 :‬‬ ‫اهلاتف اجلوال ‪+201004871038 :‬‬ ‫مجهورية مصر العربية‬

‫نوع النشر‬ ‫جملة دورية دولية‬

‫‪Yayın Türü‬‬ ‫‪Yaygın Süreli‬‬

‫الطباعة‬ ‫‪Çağlayan Matbaası‬‬ ‫‪İzmir - Turkiye‬‬ ‫‪Tel:+90 (232) 252 20 96‬‬

‫رقم اإليداع‬

‫‪1879-1306‬‬


‫نقار الخشب‬

‫مصدر إلهام البشر‬ ‫عشــوائيا أم‬ ‫لماذا ينقر نقار الخشــب األشــجار؟ هل يقوم بالنقر‬ ‫ًّ‬ ‫بتحــدد نقطــة معينــة؟ كيــف ال يتأثر هــذا الكائن مــن الصدمات‬ ‫التي يتعرض لها خالل النقر؟‬ ‫يتغــذى نقــار الخشــب بالحشــرات والديــدان المختبئــة فــي جــذوع‬ ‫األشــجار‪ ،‬ولكــن العجيــب أنــه يحــدد موقــع الحشــرة داخــل الجــذع دون أن‬ ‫طبعا‬ ‫يراهــا بعينــه‪ ،‬ثــم يقــوم بحفــر فجــوة تنتهي إلــى موقع الحشــرة مباشــرة‪ً ..‬‬ ‫يســتعمل منقــاره اإلزميلــي الحــاد فــي هــذه العمليــة‪ ،‬وعندما يصــل إلى غرضه‬ ‫يطلــق لســانه اللــزج ويلتقــط الحشــرة ثــم ُينزلهــا إلــى معدتــه بهناء‪.‬‬ ‫والملفــت للنظــر أن هــذه الحشــرات تتســبب فــي ْيبــس‬ ‫الشــجرة وموتهــا إذا ما بقيت تعيــش في جذعها‪.‬‬ ‫ُمنح نقار الخشب قدرة خارقة في عملية النقر‬ ‫وســرعته؛ حيــث تصل عدد نقراته فــي الثانية الواحدة‬ ‫إلى ‪ 10‬نقرات‪ ،‬وتصل سرعة النقرة الواحدة إلى ‪ 40‬كيلومتر‬ ‫في الساعة‪ .‬ولكن كيف ال يتأثر هذا الكائن من صدمات النقر هذه؟‬ ‫اكتشــف العلمــاء أن هــذا الطيــر يملــك تقنيــة مذهلة يتم مــن خاللها‬ ‫امتصــاص صدمــات النقر وتقليل حدتها بكل ســهولة‪ ..‬وهي تقنية تتألف‬ ‫من أنسجة ليفية ‪-‬شبيهة باإلسفنج‪ -‬تربط جمجمته بمنقاره‪ ،‬ولسان رفيع‬ ‫لزج ملفوف مثل النابض داخل الجمجمة‪ ،‬فبهذه التقنية تنخفض الصدمات‬ ‫أي تأثير سلبي‪ .‬إنها تقنية تذكرنا بالنوابض الحلزونية‬ ‫وتتالشى وتغييب دون ّ‬ ‫التــي تمتــص الصدمــات الناتجــة عن عــدم اســتواء الطريق في الســيارات التي‬ ‫يركبها اإلنسان‪.‬‬ ‫هــذا وإن آلــة كســر الصخــور أو مطرقــة الخرســانة الهوائيــة التــي يعمل بها‬ ‫استلهاما من هذا الكائن‬ ‫اخترعت‬ ‫اإلنسان أثناء تعبيد الطرق وتطوير الشوارع‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الصغير‪ ...‬ما رأيك؟‬

‫األنسجة الليفية التي تربط الجمجمة بالمنقار‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫(*) كاتب وباحث تركي‪.‬‬

‫اللسان الملفوف داخل الجمجمة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪63‬‬


‫محطات علمية وحضارية‬ ‫نور الدين صواش*‬

‫سنان‪ ..‬مهندس علم الزالزل‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫اندهش الباحثون عندما وجدوا أن سنان‬ ‫شــيد آثاره على ُبعــدٍ من خطوط الصدع‬ ‫الزلزاليــة‪ ..‬وقــد ازداد اندهاشــهم هــذا‬ ‫عندمــا اكتشــفوا أنــه قــام بتطبيــق نظــام يمتــص الموجات‬ ‫الزلزالية ويقلل من تأثيرها على المباني‪.‬‬ ‫معمقة وحســابات رياضيــة دقيقة‬ ‫قــام ســنان ببحــوث َّ‬ ‫ليختار المكان المناســب لجامع الســليمانية بإســطنبول‪،‬‬ ‫وبعــد االهتــداء إلــى المكان شــرع بتنفيذ المشــروع‪ ..‬بدأ‬ ‫ورصها باألوتاد لتــزداد متانة‪..‬‬ ‫أو ً‬ ‫كبــس التربــة ّ‬ ‫ال بعمليــة ْ‬ ‫مستخدما فيها‬ ‫وبعد ذلك استهل بتأسيس القاعدة‬ ‫حجرا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومالطــا يمتــاز بامتصــاص الموجــات الزلزاليــة‬ ‫خاصــا‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وتخفيــف مفعولهــا‪ ..‬ولكن بعــد ما أتم التأســيس أوقف‬ ‫ســنان عمليــة اإلنشــاء وراح يهتــم بشــؤونه األخــرى مدة‬ ‫طبعــا‪ ،‬تمتيــن‬ ‫اســتغرقت ســت ســنوات‪ ..‬كانــت الغايــة ً‬ ‫جيدا‪..‬‬ ‫القاعدة وترسيخها ً‬ ‫وبعد مضي ســت ســنوات‪ ،‬اســتأنف ســنان عمله في‬ ‫مواصلة ما تبقى من تحكيم القاعدة‪ ..‬فقام بإنشاء مساند‬ ‫ٍ‬ ‫حجريــة عاليــة داعمــة للمبنــى‪ ..‬ثم وضع نظــام‬ ‫تصريف‬

‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫للميــاه ليصــون القاعدة من الرطوبة ويضبط صالبتها‪ ،‬بل‬

‫أيضا لد ْفع هذه الرطوبة خارجها‬ ‫وأضاف قنوات هوائية ً‬ ‫حرصــا منــه على الحفاظ علــى التوازن الهوائــي في تربة‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫أيضا لمنع نفوذ البخار‬ ‫األساس‪ ،‬وقام بمد‬ ‫قنوات َص ْر ٍف ً‬ ‫الناتج عن ســخونة التراب وحرارة المياه إلى األساس‪..‬‬

‫ومن خالل كل هذه األنظمة والتطبيقات‪ ،‬اســتطاع ســنان‬

‫صامــدا أمــام الــزالزل قرو ًنــا‬ ‫تشــييد صــرح محكــم ظــل‬ ‫ً‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫طويلة ولم يتأثر بها ً‬

‫أق بينار" الذي‬ ‫يقــول المعمــاري التركي "عبد القــادر ْ‬

‫أجــرى بحو ًثــا عديــدة حــول آثــار ســنان وأعــاد ترميــم‬

‫معظمها‪:‬‬

‫"إن أبســط زخرفــة وأصغــر نقشــة فــي آثــار ســنان لم‬

‫عشــوائيا‪ ،‬حتى األلوان فلها مهمة خاصة في هذه‬ ‫ُتنحت‬ ‫ًّ‬

‫اآلثار‪ ..‬وواضح أن ســنان ســعى بآثاره هذه إلى محاكاة‬

‫الجبــال األوتاد التي ذكرهــا اهلل تعالى في قرآنه‪ ،‬ليجعلها‬

‫ال‬ ‫شــاهقة‬ ‫جدا أن نجد مثي ً‬ ‫عصورا مديدة‪ ..‬ومن الصعب ًّ‬ ‫ً‬ ‫لتطبيقاته الهرمية والكروية في قاعدة آثاره العتيدة"‪.‬‬


‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فلكية) ألغراض الرصد‪ .‬وأخرج من هذا المرصد زيجه‬ ‫المســمى "زيــج كــور كاني" (زيج جديد ســلطاني) الذي‬ ‫ال به في الشرق والغرب قرو ًنا‪.‬‬ ‫ظل معمو ً‬ ‫هــذا وقــد أشــاد العلمــاء العــرب وغيرهــم‪ ،‬بجهــوده‬ ‫القيمــة؛ فأثنــى عليــه "حاجــي خليفــة" فــي كتابــه "كشــف‬ ‫الظنــون"‪ ،‬وقــال عنــه المستشــرق "ســيديو"‪" :‬إن أعمــال‬ ‫أولــغ بــك الفلكية كانت تتمة ضروريــة لألعمال الفلكية‬ ‫المأثورة عن العرب والمسلمين"‪.‬‬ ‫وبالتالــي بــرع "أولغ بــك" في علــوم الرياضيات وال‬ ‫ســيما الهندسة وحســاب المثلثات‪ ،‬وســاعدت الجداول‬ ‫التي أنشــأها في جيوب الزوايا وظاللها‪ ،‬على تقدم علم‬ ‫كثيرا‪.‬‬ ‫الفلك ً‬ ‫وباإلضافــة إلــى إســهاماته الفلكية‪ ،‬فقــد كان‬ ‫معماريا‬ ‫ًّ‬ ‫ذا ذوق فنــي دفعــه إلــى العنايــة بالبنــاء؛ فشــيد "الخانقــاه"‬ ‫وهــي بيت ينــزل فيه المتصوفة‪ -‬التي تميزت بأعلى قبة‬‫في العالم أنذاك‪ ،‬و"مسجد أولغ بك" المسمى بالمسجد‬ ‫"المقطــع"؛ وســمي بذلــك االســم‪ ،‬ألنــه مزخــرف مــن‬ ‫َّ‬ ‫المقطــع اللــون على النمــط الصيني‪،‬‬ ‫الداخــل بالخشــب‬ ‫َّ‬ ‫عمودا‬ ‫كما شيد مسجد "شاه زنده"‪ ،‬والقصر ذا األربعين‬ ‫ً‬ ‫المعقــودة بأبراج أربعة شــاهقة‪ ،‬والمزين بصف من عمد‬

‫(*) جامعة عين شمس ‪ /‬مصر‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫المرمــر‪ ،‬وابتنــى قاعة العرش أو "الكرســي خانه"‪ ،‬وشــيد‬ ‫"جينــي خانــه"‪ ،‬ونقــش حوائطــه بالصــور أحــد الفنانيــن‬ ‫الصينيين البارعين الذين أعجب بهم "أولغ بك"‪.‬‬ ‫محبــا للشــعراء‪،‬‬ ‫وكان "أولــغ بــك" شــغو ًفا بالشــعر‪ًّ ،‬‬ ‫شــاعرا له‪ .‬كمــا عني بالتاريخ وألف‬ ‫حيــث اتخذ أحدهم‬ ‫ً‬ ‫كتابــا فــي تاريــخ أبنــاء "جنكيــز خــان" األربعــة‪ ،‬بعنــوان‬ ‫ً‬ ‫"أوغلولــر أربــع جنكيــزي"‪ ،‬والظاهر أنه قــد ضاع‪ ،‬وكما‬ ‫قال "لوبوفات"‪" :‬لو بقي لكان جليل القيمة"‪.‬‬ ‫فقيهــا‬ ‫فضــ ً‬ ‫ا عــن ذلــك كلــه‪ ،‬فقــد كان "أولــغ بــك" ً‬ ‫انكــب علــى دراســة القــرآن الكريــم وحفظــه‪،‬‬ ‫دينيــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫وجــوده بالقــراءات الســبع‪ .‬وقــد تحققت أمنيــة أجداده؛‬ ‫ّ‬ ‫مركزا للحضارة اإلســامية في‬ ‫ســمرقند‬ ‫أصبحت‬ ‫حيــث‬ ‫ً‬ ‫عهــد "أولــغ بــك"‪ ،‬تجمــع الكثيريــن مــن علمــاء الفلك‬ ‫والرياضيــات واألدب‪ ،‬أمثــال‪" :‬جمشــيد"‪ ،‬و"قاضــي‬ ‫زاده رومــي"‪ ،‬والشــاعر "عصمــت البخــاري" و"طاهــر‬ ‫األبيوردي" و"رستم الخورياني" وغيرهم‪.‬‬ ‫وتوفــي "أولــغ بك" ســنة ‪853‬هـــ‪1449/‬م بعد ما ثار‬ ‫عليه ابنه "عبد اللطيف" الذي اســتولى على "بلخ" وهزم‬ ‫أباه عند "شاهر خيه"‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬الصفصافي أحمد القطوري*‬

‫ُألوغ بك‬

‫من رواد علم الفلك‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫هــو "أولــغ بــن محمــد شــاه رخ بــن تيمورلنك"‪ ،‬أحــد فلكيي القــرن ‪9‬هـ‪15/‬م‪ُ .‬ولد ســنة‬ ‫‪796‬هـ‪1393-‬م في مدينة "سلطانية" من بالد ما وراء النهر‪ ،‬ونشأ في بيت إمارة وسلطان؛‬ ‫حاكما لبالد كثيرة ومقاطعات واســعة ضمــت بالد ما وراء النهر واألقاليم‬ ‫فقــد كان أبــوه‬ ‫ً‬ ‫مركزا لــه حتى منتصف القــرن ‪9‬هـ‪14/‬م‪ .‬وأمــا جده فهو‬ ‫الشــمالية فــي "الهندســتان"‪ ،‬واتخــذ مــن "هــراة"‬ ‫ً‬ ‫كون مملك ًة عظيمة سنة ‪772‬هـ‪1370/‬م‬ ‫أميرا على إقليم "كِ َ‬ ‫ش"‪ّ ،‬‬ ‫القائد المعروف "تيمورلنك" الذي كان ً‬ ‫بسمرقند‪ ،‬وبالد فيجق‪ ،‬وخوارزم‪ ،‬وخراسان‪ ،‬وأذربيجان‪ ،‬وجرجستان‪.‬‬ ‫اله أبوه إمارة "تركســتان" وهو في ســن‬ ‫عندمــا ظهــرت علــى "أولــغ بك" عالمات النجابة والذكاء‪ ،‬و ّ‬ ‫عاما‪ ،‬ثــم تق ّلد حكم‬ ‫العشــرين‪ ،‬جعــل "أولــغ بــك" من ســمرقند‬ ‫ً‬ ‫مركــزا إلمارته‪ ،‬وظلت كذلــك نحو ‪ً 39‬‬ ‫البالد بعد وفاة أبيه سنة ‪850‬هـ‪1446/‬م وكانت عاصمة حكمه "هراة"‪.‬‬ ‫لقد برع "أولغ بك" في فنون كثيرة‪ ،‬كالفلك والتنجيم والرياضيات وغيرها‪ ...‬واستطاع القيام بأعمال‬ ‫جليلة في مجاالت تلك الفنون؛ فأنشأ َم ْدرسة عالية في سمرقند‪ ،‬عهِ د بإدارتها إلى "قاضي زاده رومي"‪.‬‬ ‫مرصدا في "دمشق" (وقيل في "سمرقند"‬ ‫وعرف "أولغ بك" بإسهاماته في مجال الفلك؛ حيث بنى‬ ‫ً‬ ‫ســنة ‪823‬هـــ‪1420/‬م غايــة في اإلتقــان واإلبداع‪ ،‬وزوده بجميــع اآلالت واألدوات المعروفة في زمانه‪،‬‬ ‫أزياجــا (جداول‬ ‫حتــى ُوصــف بأنــه أحــد العجائــب‪ ،‬حيث جمــع العلماء ســنة ‪841‬هـــ‪1437/‬م وعملوا‬ ‫ً‬

‫‪60‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫نظــرة موضوعيــة‪ ،‬بغــض النظــر عــن المفكــر فمــا وافــق‬ ‫اإلســام مــن تــراث الفكــر اإلســامي أو أنتجــه فكــر‬ ‫إسالميا‪.‬‬ ‫فكرا‬ ‫ًّ‬ ‫المسلمين في ضوء اإلسالم‪ ،‬فإنه يسمى ً‬ ‫وبعد‪ ،‬فإنه يمكن أن يعرف الفكر اإلسالمي في ضوء‬ ‫ُ‬ ‫الخصائص اآلتية‪:‬‬ ‫• الجمع بين عمل الفكر كأداة وبين ما ينتجه الفكر‬ ‫من ثمار‪.‬‬ ‫ــب الفكر اإلســامي علــى الناحية التنظيرية‬ ‫• أن َ‬ ‫ينص َّ‬ ‫دون العملية‪.‬‬ ‫فكر موجه أو بعبارة‬ ‫• أن‬ ‫يعرف الفكر اإلسالمي بأنه ٌ‬ ‫َّ‬ ‫أنســب ملتزم ولكن في ضوء تعاليم اإلســام‪ ،‬فال يتوافر‬ ‫الفكــر فــي ظــل اإلســام علــى الخــوض فيمــا نهــى عنــه‬ ‫الشــارع‪ ،‬وال يتحــرر مــن الضوابط الشــرعية واألخالقية‪،‬‬ ‫وال يدخل فيما ثبت عن اهلل وعن رسوله ‪ ‬وما أجمعت‬ ‫ويظهر حكمة الشــارع‬ ‫عليه األمة‪ ،‬وإنما يدافع عن ذلك ُ‬ ‫فيــه‪ ،‬ويلتمس العلــل والمقاصد والبراهين والمســوغات‬ ‫لذلك في الحدود المشروعة‪ ،‬بمنهج نقدي مؤصل ينفي‬ ‫ما علق بالفكر اإلســامي من مغــاالت المغالين وتفريط‬ ‫المفرطين‪.‬‬ ‫• ال ينطوي التعريف على منع البحث في المعارف‬ ‫والعلــوم التــي تقوم عليها حياة اإلنســان على االكتشــاف‬ ‫واالبتــكار وإعمــال العقــل فيمــا خ ِلق له‪ ،‬وهــذا ما حققه‬ ‫الفكر اإلســامي‪ ،‬فقد أســهم بقسط وافر في تأصيل كثير‬ ‫مــن النظــم والقوانيــن الحضاريــة التــي أصبحــت بمثابــة‬ ‫األسس للحضارة الحديثة‪.‬‬ ‫• ال يخلــع التعريــف المقترح على الفكر اإلســامي‬ ‫العصمة‪ ،‬وال يوهم بأن الوحي جزء منه‪ ،‬بل ينصب على‬ ‫بذل الجهد واستفراغ الطاقة العقلية والنفسية فيما أفسحه‬ ‫الشــارع الحكيــم ‪ ،‬وقــد يطابق الصــواب نتيجة التزامه‬ ‫بالقواعــد المنهجية واتصافــه بالنزاهة والموضوعية‪ ،‬وقد‬ ‫يحتمــل الخطــأ وف ًقا لما ُأثر عــن علماء األمة ومجتهديها‬ ‫من قولهم‪" :‬مذهبنا راجح يحتمل الخطأ‪ ،‬ومذهب غيرنا‬ ‫مرجوح يحتمل الصواب"‪.‬‬ ‫(*) كلية الشــريعة‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن ســعود اإلسالمية ‪ /‬المملكة‬ ‫العربية السعودية‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪59‬‬

‫الربيع ننتظر‬ ‫أيها املعانون الصابرون‪،‬‬ ‫أبشوا‪...‬‬ ‫يا ُمضْ َنون! ِ‬ ‫هذا الربيع بالبرشى ٍ‬ ‫آت‪،‬‬ ‫وبالدف ِء الع ْذب قادم‪...‬‬ ‫ف َدعواتكم إىل السامء ُر ِف َع ْت‪،‬‬ ‫معت‪،‬‬ ‫وترضّعاتكم ُس ْ‬ ‫وأ ْمنياتكم ُقبلت‪...‬‬ ‫***‬


‫بغــض النظــر عــن الحكــم علــى مــدى ارتباط هــذا النتاج‬

‫المشــار إليهــا ســاب ًقا‪ ،‬فإمــا أن يــراد بــه كيفية عمــل العقل‬

‫وواضعا‬ ‫ناقدا لها‬ ‫تصدى للفلســفات والنظريات الغربيــة ً‬ ‫ً‬

‫اإلســام‪ ،‬ولذلك عرفه بعضهم بأنه "المنهج الذي يفكر‬

‫وما يلحق به من القوى المدركة لدى اإلنســان في ضوء‬

‫الفكــري بأصــل العقيدة اإلســامية‪ .‬أو نتــاج الفكر الذي‬

‫بــه المســلمون أو الــذي ينبغي أن يفكروا بــه"‪ ،‬وقد لحظ‬

‫البديــل اإلســامي محلهــا"‪ ،‬أو "كل نتاج للعقل البشــري‬

‫صاحــب هــذا التعريــف بــأن هــذا المعنــى الكيفــي للفكر‬

‫الموافــق لمنهــج اإلســام"‪ ،‬أو "كل ما هو غيــر تجريببي‬ ‫تشــريعا أو‬ ‫مــن مقومــات الحضارة اإلســامية ســواء كان‬ ‫ً‬

‫المتمثــل فــي حركــة الذهــن لالنتقــال مــن المعلــوم إلــى‬

‫المجهول ونحو ذلك من التعبيرات المختلفة التي تؤدي‬

‫علم كالم أو ما شابه ذلك"‪ .‬وبعبارة أخرى هو "الجانب‬

‫المعنى نفســه‪ ،‬هو ما اســتخدمه األقدمون مثل "ابن سينا"‬

‫الفكــري التصــوري البحــت الــذي يقوم مــن كل حضارة‬

‫و"الــرازي" و"ابــن خلدون"‪ ...‬ولخصهــا "الجرجاني" في‬

‫مقــام الخارطــة الهندســية المصممــة للبنــاء"‪ ،‬أو "هــو فقه‬

‫تعريفاتــه بقولــه‪" :‬الفكــر ترتيب أمور معلومــة للتأدي إلى‬

‫وفهــم رجــال هذا الفكر له‪ ،‬ثم شــروحهم عليه"‪،‬‬ ‫الوحــي‬ ‫ُ‬

‫مجهــول"‪ ،‬وهــذا التعريــف يربــط بيــن الفكــر والمنهــج‪،‬‬

‫أو "الحكــم علــى الواقــع مــن وجهــة نظــر اإلســام"‪ ،‬أو‬ ‫"المنهــج الــذي يفكــر بــه المســلمون أو الــذي ينبغــي أن‬

‫واصطالحا‪.‬‬ ‫ويلزم معه اإللمام بمدلول المنهج لغة‬ ‫ً‬

‫يفكروا به"‪.‬‬

‫‪ -3‬وإمــا أن يــراد بالفكــر اإلســامي مــا أنتجــه الفكر‬

‫بالنظــر فــي هــذه التعريفات وما ســبقها مــن تعريفات‬

‫فــي ضــوء اإلســام‪ .‬ثــم تختلــف المنطلقــات والغايــات‬

‫‪ -1‬أن الفكــر إمــا أن يــراد بــه الكيفيــة التي يــدرك بها‬

‫الفكر اإلســامي ويريد به كل ما أنتجه فكر علماء األمة‬

‫مجردا عن الوصف أو اإلضافة نلحظ اآلتي‪:‬‬ ‫للفكر‬ ‫ً‬

‫الفكــر عندئــذ بمثابــة األداة أو اآلليــة فــي عمليــة التفكيــر‬

‫وما يلحق بها من طاقات وقوى وملكات عقلية ونفسية‪،‬‬ ‫وإما أن يراد به ما نتج عن ذلك "من خالل تلك العملية"‬ ‫من تصورات وأحكام ورؤى حول القضايا المطروحة‪.‬‬

‫تبعا لمنطلقات‬ ‫ثم تتسع دائرة مفهوم الفكر أو تضيق ً‬ ‫المحدد لمفهوم الفكر؛ فإذا اتســع مفهومه اشــتمل على‬ ‫ِّ‬

‫"الكتــاب والســنة"‪ ،‬وإنمــا ِ‬ ‫يدخــل فيــه ما خــرج عنهما أو‬

‫انبثق منهما‪.‬‬

‫وبالجملــة فهــو يفــرق بيــن اإلســام وبيــن الفكــر‬

‫اإلســامي ويحترز من الخلــط بينهما‪ ،‬ولكن يؤخذ على‬ ‫هــذا التعريــف أنــه ربما أدخل بعض المذاهــب المنحرفة‬ ‫وهنــاك بعــض التعريفات التي تتفق مع هذا التعريف‬

‫على النشاط اإلنساني بعامة بما يخرج مفهوم الفكر عن‬

‫لإلســام‪ ،‬ويكفي فيه أن ينتســب أصحابه إلى اإلســام‪.‬‬

‫أيضا‪،‬‬ ‫الفكــر ليشــتمل علــى مفهــوم الثقافــة بل الحضــارة ً‬

‫وربما تطرقت بعض التعريفات لتشتمل على ما هو أبعد‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫وباحثيهــا فــي ضوء مبادئ اإلســام وأحكامه وضوابطه‪،‬‬ ‫يدعــي العصمــة لهــذا الفكــر وال ِ‬ ‫يدخــل فيــه الوحــي‬ ‫وال ّ‬

‫المــوروث الفكــري لإلنســان في جميع مياديــن المعرفة‬ ‫والعلــوم على الصعيد النظــري‪ .‬على أن هناك من ِ‬ ‫يدخل‬ ‫العلوم التجريبية والتطبيقية داخل مفهوم الفكر‪ ،‬فيشتمل‬

‫‪58‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اإلنســان حقائــق األمــور التــي أعمــل فيهــا عقلــه‪ ،‬فيكون‬

‫مســمى‬ ‫حــول تحديــد الفكــر اإلســامي؛ فبعضهم يطلق‬ ‫ّ‬

‫مــن ذلــك ُفتدخــل الوحي في مفهــوم الفكــر‪ .‬وقد تضيق‬ ‫دائــرة مفهــوم الفكر حتى تنحصر في مجرد النظر العقلي‬

‫منســوبا إلــى مبــدأ أو‬ ‫فــي أمــر مــا‪ ،‬فيكــون الفكــر عندئــذ‬ ‫ً‬

‫مذهب أو طائفة أو أمة أو عصر‪.‬‬

‫‪ -2‬عندمــا يضــاف الفكــر إلــى اإلســام أو يوصــف‬

‫الفكر بأنه إسالمي‪ ،‬فإن المفهوم يتأثر كذلك بالمنطلقات‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أو التفسيرات الخاطئة لبعض عقائد اإلسالم وشرائعه‪.‬‬

‫فــي الســعة والشــمول لــكل مــا أنتجــه الفكــر المنســوب‬ ‫وهــذا التعريــف ال يتقيد بما تقيد به التعريف الســابق من‬ ‫كون الفكر ال يحســب على اإلســام إال إذا وافق عقيدة‬ ‫اإلســام وشــريعته وهديــه‪ .‬وال شــك أن هــذا التعريــف‬

‫قريــب مــن تعريفات بعــض المستشــرقين الذين يدخلون‬ ‫ِ‬ ‫الفلســفات الدخيلــ َة والعقائــد‬ ‫فــي الفكــر اإلســامي‬

‫الفاســدة‪ ،‬لكنــه لــم ينص علــى الوحي اإللهــي‪ ،‬بل يظهر‬ ‫مسمى الفكر‪.‬‬ ‫منه استثناء الوحي اإللهي من ّ‬

‫‪ -4‬تنفــرد بعــض التعريفــات‪ ،‬بالنظــر في نتــاج العقل‬


‫الفكر اإلسالمي‪ ،‬هو كل ما أنتج فكر املسلمني منذ‬

‫ال‬ ‫اللفــظ في اللغــة واالصطالح‪ ،‬وتجليتــه كمفهوم وصو ً‬ ‫إلى تحديده كمصطلح في العصر الراهن‪.‬‬

‫مبعث الرسول ‪ ‬إىل اليوم‪ ،‬يف املعارف الكونية‬ ‫املتصلة بالله ‪ ‬والعالَم واإلنســان الذي يعرب عن‬

‫وســيجري المقــال فــي النقطتيــن اآلتيتيــن‪ :‬المدلــول‬

‫اجتهادات العقل اإلنســاين لتفسري تلك املعارف‬

‫العام للفكر‪ ،‬ومفهوم الفكر اإلسالمي‪.‬‬

‫العامــة يف إطــار املبــادئ اإلســامية عقيــدة‬

‫المدلول العام للفكر‬

‫ً‬ ‫وسلوكا‪.‬‬ ‫ورشيعة‬

‫تفكيرا‪ ،‬ويقال‪:‬‬ ‫أ‪-‬المعنــى اللغــوي‪َ :‬ف َّك َر (بالتشــديد) ُي َف ِّك ُر‬ ‫ً‬ ‫َف َكــر (بالتخفيــف) َي ُ ِ‬ ‫كــرا على وزن‪َ :‬ض َر َب‬ ‫كرا أو َف ً‬ ‫فك ُــر ف ً‬ ‫َ‬ ‫أفك ُــر فــي األمــر‪َ :‬ف َك َــر فيــه فهــو‬ ‫ب‬ ‫ضــر‬ ‫َي‬ ‫ضربــا‪ ،‬ويقــال‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُم ْف ِكر‪ ،‬ويقال‪َ :‬ف َّك َر في األمر مبالغة في َف َك َر‪ ،‬وهو أشــيع‬ ‫ِ‬ ‫كر‪:‬‬ ‫فــي االســتعمال منه مــن َف َك َر‪ ،‬ويقال‪ :‬لي فــي األمر ف ٌ‬ ‫كر‪ :‬أي‬ ‫أي نظــر‬ ‫ّ‬ ‫ورويــة‪ ،‬ويقال‪ :‬ليس لــي في هذا األمر َف ٌ‬ ‫ال أحتاج إليه وال أبالي به‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كــرة‪ :‬مــن ال ِفكر‪ ،‬وهي الصــورة الذهنية ألمر ما‪،‬‬ ‫والف َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مقلــوب عــن الفــرك‪ ،‬لكن‬ ‫كــر‬ ‫ٌ‬ ‫وجمعهــا ف َك ٌــر‪ .‬وقيــل‪ :‬الف ُ‬ ‫ِ‬ ‫كــر فــي األمــور المعنويــة وهــو فــركُ األمور‬ ‫يســتعمل الف ُ‬ ‫تردد القلب في الشيء‪ ،‬يقال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫"فك َر‪ :‬الفاء والكاف والراء‪ُّ ،‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ير‪ :‬كثير الفكر"‪.‬‬ ‫تفكر‪ :‬إذا َر َّد َد قلبه‬ ‫َّ‬ ‫معتبرا‪ ،‬ورجل ف ّك ٌ‬ ‫ً‬ ‫وقــد وردت مــادة ( َف َك َــر) في القــرآن الكريم في نحو‬ ‫موضعــا‪ ،‬ولكنهــا بصيغــة الفعل ولم تــرد بصيغة‬ ‫عشــرين‬ ‫ً‬

‫اإلسم أو المصدر‪ ،‬قال تعالى‪ِ :‬إ َّن ُه َف َّك َر َو َق َّد َر‪(‬المدثر‪،)18:‬‬ ‫ون‪(‬األنعــام‪ ،)50‬وقــال‬ ‫وقــال تعالى‪َ :‬أ َفــ َ‬ ‫ا َت َت َف َّك ُر َ‬ ‫ون‪(‬الحشــر‪ .)21:‬ففــي اآليــة األولى‬ ‫ــم َي َت َف َّك ُر َ‬ ‫تعالى‪َ :‬ل َع َّل ُه ْ‬ ‫وردت بصيغة الماضي " َف َّكر"‪ ،‬وفي الثانية وردت بصيغة‬ ‫المضــارع المخاطــب "تتفكــرون"‪ ،‬وفــي الثالثــة بصيغــة‬

‫المضارع الغائب "يتفكرون"‪.‬‬

‫"وإعمــال العقــل فــي المعلــوم للوصــول إلــى معرفــة‬ ‫مجهــول"‪ ،‬و"قــوة ُمطرقــة للعلم إلــى معلــوم"‪ ،‬و"جوالن‬

‫تلــك القــوة بحســب نظــر العقــل وذلــك لإلنســان دون‬ ‫الحيــوان‪ ،‬وال يمكــن أن يقــال إال فيمــا يمكن أن يحصل‬ ‫له صورة في القلب"‪ ،‬و"جملة النشاط الذهني من تفكير‬

‫ال مــا يتــم بــه التفكيــر من‬ ‫وإرادة ووجــدان وعاطفــة شــام ً‬ ‫أفعال ذهنية تبلغ أســمى صورهــا في التحليل والتركيب‬

‫ردد‬ ‫والتنسيق‪ ،‬وهو بهذا خاصية إنسانية"‪ ،‬و"اسم لعملية َت ُّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وبحثهــا للوصــول إلــى حقيقتهــا‪ .‬وجــاء عند ابــن فارس‪:‬‬

‫فــي الشــيء‪ ،‬وترتيــب مــا ُيعلــم ليصل بــه إلــى مجهول"‪،‬‬

‫قلبا أو‬ ‫القوى العاقلة المفكرة في اإلنســان‪ ،‬ســواء أكانت ً‬

‫ذهنــا بالنظــر والتدبر لطلب المعانــي المجهولة‬ ‫روحــا أو ً‬ ‫ً‬

‫من األمور المعلومة أو الوصول إلى األحكام أو النسب‬ ‫بين األشياء"‪.‬‬

‫وقــد ورد فــي بعض المعاجم تعريــف مادي إلحادي‬

‫مسمى "الفكر الحر"‪ ،‬جاء فيه‪ ":‬الفكر الحر‬ ‫للفكر تحت َّ‬

‫هــو النزعــة فــي التفكيــر التــي تبتعد عــن المفهــوم الديني‬

‫لتفســير العالــم ووضــع قواعد األخالق فــي الحياة‪ ،‬مع‬ ‫ا برد القواعد األخالقية إلى ما يمليه العقل‬ ‫االلتــزام أصــ ً‬

‫والتجارب"‪.‬‬

‫مفهوم الفكر اإلسالمي‬

‫وعلــى الرغــم مــن كونهــا وردت فــي القــرآن الكريم‬ ‫بصيغــة الفعــل ولم ترد بصيغة االســم أو المصدر ( ِفكر)‪،‬‬

‫كثيــر مــن العلمــاء والباحثيــن لتحديــد تعريــف أو‬ ‫توافــر‬ ‫ٌ‬

‫وعلــى مــن قــام بــه وهــو هنــا المفكــر‪ .‬وقــد انتــزع بعض‬

‫"كل مــا أنتــج فكــر المســلمين منــذ مبعــث الرســول ‪‬‬

‫إال أن الفعــل فــي اللغــة العربيــة يــدل على الحــدث ذاته‪،‬‬

‫أن هــذا العمــل الذهنــي مرتبط بــذات‪ ،‬وأنه ال يكون فيما‬ ‫ال طائل من ورائه‪.‬‬

‫بـ‪-‬المفهوم االصطالحي للفكر‪ُ :‬ع ِّر َف الفكر بتعريفات‬

‫كثيــرة منهــا‪" :‬إعمال الخاطر في الشــيء"‪ ،‬وإعمال العقل‬

‫إلــى اليــوم‪ ،‬فــي المعــارف الكونيــة المتصلــة بــاهلل ‪‬‬ ‫والعا َلــم واإلنســان الــذي يعبــر عــن اجتهــادات العقــل‬

‫اإلنســاني لتفســير تلك المعارف العامة في إطار المبادئ‬

‫وســلوكا"‪ ،‬أو "كل مــا أ َّلفــه‬ ‫اإلســامية عقيــدة وشــريعة‬ ‫ً‬ ‫علماء المسلمين في شتى العلوم الشرعية وغير الشرعية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الباحثين من ذلك أن اهلل ‪ ‬أبان ولفت أنظار عباده إلى‬

‫أكثــر للفكــر اإلســامي‪ ،‬ومــن أبــرز هــذه التعريفــات هو‬

‫‪57‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬إسحاق السعدي*‬

‫مفهوم الفكر اإلسالمي‬

‫وصلته بالعقل والوحي‬ ‫ينطــوي مفهــوم الفكــر علــى شــيء مــن‬

‫مثل الغنوصية والهرمســية ونحوهما‪ ...‬ثم يحســب ذلك‬

‫‪-‬بــل ومختلفــة‪ -‬تراكمت بمــرور الزمن‬

‫وال يخفــى مــا تهــدف إليــه مثــل هــذه االســتعماالت‬

‫استعمل في ٍ‬ ‫معان متنوعة‬ ‫الغموض‪ ،‬ألنه ُ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ٍ‬ ‫تحديد مو ِق ًعــا ِل ّلبس‪ ،‬وكذلك‬ ‫حتــى أصبــح إطالقــه دون‬

‫‪56‬‬

‫مســمى الفكر اإلســامي‪ ،‬وال سيما أن هناك استعماالت‬

‫عدة له منها ما وسع دائرة الفكر اإلسالمي‪ ،‬حتى ِ‬ ‫أدخلت‬ ‫فيه الفلســفات الغريبة عن اإلســام والتيــارات المنحرفة‬

‫عــن صراطــه المســتقيم‪ ،‬ألن تلك الفلســفات والتيارات‪،‬‬ ‫ذات أصول هندية ومجوسية وثقافات يهودية ونصرانية‪،‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫على الفكر اإلسالمي‪.‬‬

‫للفكــر اإلســامي‪ ،‬مــن إيحــاءات بــأن اإلســام وفكــره‬ ‫مل ّفق من تلك األصول الفلسفية والثقافية األجنبية‪ ،‬وأنه‬

‫ثمــرة طبيعيــة للتراث اليهــودي دون أدنى احترام للمنهج‬ ‫العلمــي فــي النظــر والبحــث والمقارنــة‪ .‬لذلــك ولكــون‬

‫الفكر بعامة والفكر اإلسالمي بخاصة له أصالته ووجوده‬ ‫فــي المصــادر العربية اإلســامية‪ ،‬فإنه ينبغــي تأصيل هذا‬


‫بوضــع أغــال الظلــم فــي أعناقنــا قــد ظ َلمنا‪،‬‬ ‫الظالــم ْ‬ ‫أن ْ‬

‫عنــا منذ زمن بعيد‬ ‫فعت ّ‬ ‫ليتــه يعلــم أن هــذه األغالل قد ُر ْ‬ ‫دائريتان على‬ ‫ضعت في عنقه هو"‪ .‬وقد ُنقشت لوحتان‬ ‫وو‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫‪‬ع َّم‬ ‫النافــذة اليمنــى واليســرى ُك ْ‬ ‫تبــت فيهما ســورة النبأ‪َ :‬‬ ‫النبــ ِإ ا ْل َع ِظ ِ ‪ِ ‬‬ ‫ون‬ ‫ون ‪َ ‬ع ِ‬ ‫ــم ِفي ِه ُم ْخ َت ِل ُف َ‬ ‫ــاء ُل َ‬ ‫َي َت َس َ‬ ‫يم ا َّلذي ُه ْ‬ ‫ــن َّ َ‬ ‫‪َ ‬ك َّل ســيع َلم َ ‪‬‬ ‫ون‪ .‬وال شــك أن‬ ‫ــم َك َّل َس َــي ْع َل ُم َ‬ ‫َ​َ ْ ُ‬ ‫ون ُث َّ‬ ‫نقش هذه السورة مع البيت الشعري‪ ،‬هو تذكرة لإلنسان‬ ‫بحقيقة البعث بعد الموت‪ ،‬وإرشاده إلى الخير والصالح‪.‬‬

‫مشــدوها أمــام تصاميــم هــذا الصــرح‬ ‫يظــل اإلنســان‬ ‫ً‬

‫وتزييناتــه البديعــة‪ ...‬فأشــعة الشــمس المتســللة علــى‬

‫ولمعا ًنا‬ ‫الخزف‪ ،‬تضفي على عالم الزخارف‬ ‫ّ‬ ‫المذهبة أل ًقا َ‬ ‫فريدا‪ ،‬تشعر وكأن كل قطعة من الجامع ُتنشد قصيدتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تســبح ربهــا وتدعــوه بلســان حالهــا‪ ،‬لكــن بصــوت‬ ‫أو ّ‬ ‫موحــد‪ ،‬يقــول األديــب التركــي "أحمــد حمدي‬ ‫جماعــي ّ‬ ‫طــان بينار"‪" :‬الجدار والقبة والمحراب والخزف‪ ...‬كلها‬ ‫وال يفوتنــا فــي هذا المقام‪ ،‬أن نذكر محراب الجامع‬

‫يعد آية في الجمال؛ حيث نرى على جزء كبير منه‬ ‫الذي ّ‬ ‫داخليا‬ ‫إطارا‬ ‫أجمل فنون الخط الكوفي والثلث‪ ،‬ثم نرى ً‬ ‫ًّ‬ ‫وأنماطا‬ ‫وتاجا مزخر ًفا بأزهار الزنبق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منقوشــا باألزهار‪ً ،‬‬

‫لفظ الجاللة‬ ‫هندسية بديعة بأبهى صورها وأشكالها‪ .‬ثم َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تدعو وتسبح بح ّلتها الخضراء"‪.‬‬

‫يعــم كل جنبــات الجامــع‪ ،‬ومــن هنا ُيطلــق فيوضاته إلى‬ ‫ّ‬

‫"اهلل" المنحــوت داخــل المحــراب بمهــارة‪ ...‬وكأن ذلك‬

‫الحديقة الغناء ثم إلى أرجاء المدينة كلها‪.‬‬

‫ال يتأتــى إال بالتوجــه إليه والتمســك بحبلــه‪ .‬والحق يقال‬ ‫إن لهــذا المحــراب صورة ســاحرة خاصة بــه‪ ،‬فكأن َأ ْمهر‬

‫إال أن شــهرته اكتســبها مــن زخارفــه ونقوشــه الداخليــة‬

‫وأن فالحه‬ ‫كلــه هو تذكرة لإلنســان بعالقته الوثيقــة بربه‪ّ ،‬‬

‫خيطا‪ ،‬في‬ ‫خيطا ً‬ ‫األيادي قامت بنقشه خطًّ ا خطًّ ا ونسجته ً‬ ‫وو ِضع‬ ‫مــكان‬ ‫ٍّ‬ ‫ســري فــي الكــون‪ ،‬ثم ُنفخــت فيه الحيــاة ُ‬ ‫ال‪.‬‬ ‫على الحائط ال ِقبلي ليزيد على جمال الجامع جما ً‬ ‫يبلــغ ارتفــاع هــذا المحــراب الجميــل عشــرة أمتــار‬

‫ارتفع ليجمع النور المتدفق على القبة‪ ،‬ثم يرسله بطريقة‬ ‫معينــة إلى األســفل لينتشــر هذا النور كخــط كهربائي إلى‬ ‫ّ‬

‫يمر على الخطوط المنقوشة فوق النوافذ ثم‬ ‫األطراف‪ّ ...‬‬ ‫يواصــل طريقــه على زخارف خزف جــدران اإليوان‪ ،‬ثم‬

‫البديعة‪ .‬ولقد ِ‬ ‫عمل أكبر وأشــهر فناني ذلك العصر لكي‬ ‫يقدمــوا الذوق الفني الرفيع في العمارة اإلســامية‪ .‬فهنا‬ ‫ّ‬

‫نجد بجالء امتزاج قدرة الفنان المعماري مع رقة الفنان‬ ‫التشــكيلي‪ ،‬بل حتى مع العالـِــم والشــاعر في تشــييد هذا‬ ‫الصرح األخضر السامق بأسمى صوره‪.‬‬

‫يقــول الرحالــة "أوليــا شــلبي"‪" :‬أهل المدينــة يقولون‬

‫أن ال مثيل لهذا الجامع في بورصة‪ ،‬والســياح األجانب‬ ‫ْ‬ ‫أن ال مثيل لهذا الجامع في العالم"‪.‬‬ ‫يقولون ْ‬

‫(*) كاتب وباحث تركي‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬أورخان محمد علي‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ســنتمترا (‪ ،)10,67‬وعرضــه ســتة (‪)6‬‬ ‫وســبعة وســتين‬ ‫ً‬ ‫أمتــار‪ ،‬ليرتفــع بشــكل منتظــم حتــى حافــة القبــة‪ .‬وكأنــه‬

‫بســيطا‬ ‫ومــع أن الجامــع يبدو من الخارج‬ ‫متواضعا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫‪55‬‬


‫بالخــزف األخضر الصيني‬ ‫المذهــب‪ ،‬ثم ملئت الفراغت‬ ‫ّ‬

‫بيــن الخــزف بمثلثــات فيروزيــة لكــي تبدو وكأنهــا "ختم‬

‫ســلمان"‪ .‬وكمــا هو الحال في الجوامــع األخرى لمدينة‬ ‫بورصة‪ ،‬فإن هذه اإليوانات ُخ ّصصت لمجالس الدروس‬ ‫أو مجالــس االستشــارة أكثــر مــن تخصيصهــا للصــاة‪.‬‬

‫ونحــن غارقــون فــي التأمــات فــي عالــم الزخــارف‬

‫والتصاميــم داخــل الجامــع‪ ،‬يشــد نظرنــا فجــأة محافــل‬ ‫ينت جدران‬ ‫المؤذنين والمحفل السلطاني الذي يعلوها‪ُ .‬ز ْ‬

‫محافــل المؤذنيــن بالخــزف األخضــر الداكــن السداســي‬ ‫فزيــن بالخــزف األخضــر‪ ،‬والداكــن‬ ‫الشــكل‪ ،‬أمــا ســقفها ُ‬

‫األزرق‪ ،‬واألصفر‪ ،‬وفي بعض األماكن بالخزف األحمر‪.‬‬

‫ولرؤية المحفل السلطاني ينبغي الصعود إلى الطابق‬

‫العلــوي‪ ،‬لــذا نعــود إلــى المدخــل‪ ،‬فنــرى في هــذا الممر‬ ‫األعمد َة البيزنطية‬ ‫ورؤوســها‪ ،‬ثم يظهر أمامنا باب صغير‬ ‫َ‬

‫فيه س ّلم حلزوني عمودي ضيق‪ ،‬فال يمكننا إال أن نتس ّلق‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الغرف‬ ‫المنفتحة على الداخل والخارج‪ ،‬تبدو وكأن هذه َ‬

‫المربوطــة بالممــرات الضيقــة‪ ،‬ترخــي علــى هــذا القســم‬ ‫يشــد أنظارنا هنا‪،‬‬ ‫شــيئا من الغموض‪ .‬ومما ّ‬ ‫مــن الجامــع ً‬

‫وضــع مخطــط الجامــع األخضــر علــى شــكل‬ ‫تــم ْ‬

‫مدينــة بورصــة في تلك اآلونة‪ ،‬حيث ســماه أهل المدينة‬

‫فيــه الســلطان‪ ،‬فنرى أشــكال نجوم منحوتــة على جدرانه‬

‫ومزدهرا في‬ ‫منتشــرا‬ ‫"‪ "T‬المعكوس‪ ،‬وهذا الشــكل كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الخشــبية المزخرفة‪ .‬وأما المحفل السلطاني الذي يصلي‬

‫مست ْل َهم من الفن المعماري‬ ‫علما بأنه َ‬ ‫بـ"الشكل المجنح"‪ً ،‬‬

‫وســقفه لمحــاكاة الســماء الصافيــة فــي الليــل‪ .‬هــذا وقــد‬

‫بقبتين رئيسيتين متعاقبتين باتجاه المحراب‪ ،‬وتتصل هاتان‬

‫قسم كبير من أرض الجامع‪.‬‬

‫المذهبة‬ ‫مقوســة جميلة‪ .‬أمــا حجر الزاوية‬ ‫ّ‬ ‫ال ُقبتان بقنطرة ّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫غرف الديوان األربع‬ ‫المحفل‪ ،‬نرى على اليمين واليسار‬ ‫َ‬

‫هــي‬ ‫الخــزف والتنانيــر والجــدران والمحــراب واألبواب‬ ‫ُ‬

‫الســلجوقي‪ .‬إن معظــم الجوامــع فــي بورصــة‪ ،‬مســقوفة‬

‫‪54‬‬

‫عليــه لنصل إلى المحفل الســلطاني‪ .‬وخالل الســير نحو‬

‫ممــت واجهــة المحفــل بطريقــة تتيــح للســلطان رؤيــة‬ ‫ُص‬ ‫ْ‬

‫النور المتدفق من السماء‬

‫فتعد أهم عنصر في‬ ‫الموجودة في وسط القنطرة الكبيرة‪ّ ،‬‬

‫إن القسم الذي أقيم عليه المنبر والمحراب ‪-‬وهو القسم‬

‫األولــى‪ ،‬تعكــس أشــعة الشــمس على الجــدران الداخلية‬

‫علــو الجدران هنــا ثالثة أمتار‬ ‫(‪)98‬‬ ‫ســنتمترا‪ ،‬كمــا يبلــغ ّ‬ ‫ً‬

‫إليهــا عبــر درجة واحدة والتي تشــرح صدر الزائر بجوها‬

‫ذي الخطــوط البيضــاء‪ .‬وقــد ُنقــش على جهة اليســار من‬

‫ربط القبة بالقنطرة‪ .‬إن النافذة الثمانية األضالع أعلى القبة‬

‫ألداء الصالة‪ -‬يرتفع عن أرضية الجامع بثمانية وتسعين‬

‫بشــكل نقــاط متلونة‪ .‬أمــا اإليوانات الجانبيــة التي ُيصعد‬

‫ونصــف (‪ ،)3.5‬وهــي مزخرفــة بالخــزف األزرق الداكن‬

‫الهــادئ اللطيــف‪ ،‬تزيــد علــى المســاحة الداخليــة فســحة‬

‫يلخص فكرة إنشاء الجامع‪،‬‬ ‫المحراب بيت شعر فارسي ّ‬

‫مسدس‬ ‫َو َس َــعة روحية‪ ،‬تم زخرفة هذه اإليوانات بشــكل ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مشــيرا إلى انقضاء أيام المحن والمصائب فيقول‪" :‬يظن‬ ‫ً‬


‫حزم أشعة الشمس الدافئة‪،‬‬ ‫األوراق الكثيفة َ‬ ‫وقت األصيل ُ‬

‫يتن ّقــل المــرء بيــن جماليــات هــذه الواجهــة ليســتقر‬

‫تبعــث الراحــة والطمأنينة في قلوب ضيوفهــا الزائرين‪...‬‬

‫بمهابــة؛ يــرى زخــارف أركانــه المنحوتــة بســعف النخــل‬

‫لتحــول الباحــة والجنــاح الغربــي من الجامــع إلى خيمة‬ ‫ّ‬

‫المتوج المنتصب أمامه‬ ‫بصره في نهاية األمر على الباب‬ ‫َّ‬

‫يلعــب األطفال ويمرحون على عشــبها‪ ،‬ويرتاح الشــيوخ‬

‫الم َح ْل َزنة المتشــابكة‪ ،‬ويرى كذلك‬ ‫والزخــارف البيزنطية ُ‬

‫حل موســم الخريف‪،‬‬ ‫تحت أشــجارها الوارفة‪ ...‬وإذا ما ّ‬

‫زخارف حا ّف َتيه المنقوشة على الرخام والحجر األخضر‪.‬‬

‫تتوشــح هــذه الباحــة اللــون األصفــر‪ ،‬لتعــرض لضيوفهــا‬ ‫ّ‬

‫ا‪ ،‬من أروع التصاميم التي شــهدتها‬ ‫إن هــذا الجامــع فعــ ً‬

‫محاسن الطبيعة بأبهى صورها‪.‬‬

‫العمارة اإلسالمية في العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫يقــول األديــب التركــي "أحمــد حمــدي طــان بينــار"‪:‬‬

‫إن كتابــات الجامــع مع اســمه منقوشــة علــى الباب‬ ‫المتوج بطريقة رائعة‪ ،‬يقول الرحالة التركي " َأ ْو ِليا َش َلبي"‬ ‫َّ‬

‫دمــج‬ ‫"الجامــع األخضــر بفنــه المعمــاري البديــع‪ ،‬هــو‬ ‫ٌ‬ ‫األخــاذة"‪،‬‬ ‫بيــن خضــرة الوديــان الخالبــة وزرقــة الســماء ّ‬

‫عن هذه النقوش‪" :‬إن الباب ال ِقبلي مزخرف يمن ًة ويسر ًة‬ ‫بنقوش بديعة تمتد حتى الطابق العلوي‪ ،‬وبكتابات جذابة‬

‫أما الشــاعر الفرنســي "بِيار لوتي" فيفصح عن أحاسيســه‬ ‫فيقــول‪" :‬أثنــاء دخولــي الجامــع أجــد نســمات الــدفء‬

‫خطها حتى على الورق ولو‬ ‫ال يستطيع أمهر الخطاطين ّ‬

‫ويبينه‪ ،‬وفي حــال دخولي‬ ‫فــي الممــر يفســح لي الطريــق ّ‬

‫الرخام باإلزميل‪ ،‬اســتطاع خالل ثالث ســنوات أن يقدم‬

‫شغاف قلبي"‪.‬‬

‫قشت‬ ‫هي آية قرآنية ُن ْ‬ ‫قشت في األعلى‪ ،‬وأحاديث نبوية ُن ْ‬ ‫على جانبي الباب‪.‬‬

‫تالمــس وجهي‪ ،‬ثم أشــعر وكأن الضوء الخافت اللطيف‬

‫بأحســن ريشــة‪ ،‬ولكــن الفنــان الــذي أتقــن النقــش علــى‬

‫العالم الداخلي تتحول هذه المشــاعر إلى ســكينة تســكن‬

‫فنــه بأرقــى الصــور"‪ .‬وإن الكتابــات التــي تحيــط بالباب‪،‬‬

‫تقدم لهم باقة أزهار مزخرفة تفوح منها رائحة تاريخ‬ ‫أن ّ‬ ‫مجيــد‪ .‬لقــد اعتنــى المعمــاري "الحــاج عيــواض باشــا"‬ ‫بتصاميم هذه الواجهة وزخرفها عناية خاصة‪ ،‬وكأنه أراد‬

‫بذلــك إدخــال الزائــر إلى الجامع بعد ســياحة وجيزة في‬ ‫عالم التجريد والمعنى‪.‬‬

‫يتكــون الجامــع مــن طابقيــن‪ ..‬عندمــا ندخــل إلــى‬

‫الــرواق نــرى أربع نوافــذ تحتية؛ اثنتان منهــا على اليمين‬

‫واألخــرى علــى اليســار‪ ،‬ويتوســط كل نافذتيــن مــن هذه‬

‫النوافذ محراب خارجي أي صيفي‪ .‬كما يوجد في القسم‬ ‫العلــوي مــن الجامع‪ ،‬أربع شــرفات اثنتــان منها صناعية‬

‫من َفــذ هوائــي‪ .‬إن هــذه الواجهــة بهندســتها البديعــة‬ ‫دون ْ‬

‫وخطوطهــا الكوفيــة المتشــابكة المنحوتــة‪ ،‬توحــي بقصر‬ ‫التجاويــف القريبــة مــن الســطح‪ ،‬والتــي ربما تــؤدي إلى‬ ‫ٍ‬ ‫بقصد إليواء‬ ‫فرت‬ ‫اعتقادهــا خطــأ‬ ‫معماريا‪ ،‬ال‪ ،‬بل إنها ُح ْ‬ ‫ًّ‬

‫الحمــام والطيــور‪ .‬ولعــل هــذا دليــل على الشــفقة اإللهية‬ ‫َ‬ ‫التي ُوضعت في قلوب أجدادنا األمجاد‪.‬‬

‫مآذن الجامع األسطوانية الجذوع‪ ،‬ال تعود إلى عهد‬

‫بنــاء الجامــع؛ فمآذنــه األولى ‪-‬كما أخربنــا الرحالة أوليا‬

‫شــلبي‪ -‬التــي كانت مزينة بخــزف صيني أخضر‪ ،‬انهارت‬ ‫إثــر زلــزال وقــع عام ‪1855‬م‪ ،‬إال أن مآذنــه الحالية تعود‬ ‫إلى أواخر القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫الماضي والحلم والحقيقة‬

‫بعــد اجتيــاز البــاب الخشــبي الــذي يبــدو عليه فــن نحت‬ ‫الخشــب بــأروع صــوره ندخــل الجامــع‪ ...‬فأول مــا نراه‬

‫فــي المدخــل‪ ،‬هما اإليوانــان على اليمين وعلى اليســار‪،‬‬

‫كل منهمــا إلــى الطابــق العلــوي‪ .‬إن‬ ‫والتــي نصعــد عبــر ٍّ‬ ‫تبيــن طريقــه‪،‬‬ ‫النــور الخافــت فيهمــا يســاعد الزائــر علــى ّ‬

‫وبالتالــي علــى إحساســه باألبعاد الثالثة للمــكان‪ .‬وما إن‬ ‫نجتز اإليوان ونصل إلى المركز‪ ،‬حتى نجد أنفســنا فجأة‬ ‫وســط فسحة واسعة مســتنيرة‪ ،‬وهنا يعلق نظرنا بالميضأة‬

‫الرخاميــة‬ ‫تلقائيــا‪ ...‬يقــال إن صــوت المــاء الــذي يصــدر‬ ‫ًّ‬ ‫مــن هذه الميضأة‪ ،‬يمنع وصــول أصوات المتك ِّلمين في‬ ‫المحفل العلوي إلى الطابق األرضي‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫أيضا‬ ‫متميــز ال مثيــل له‪ .‬ومن األمور التي تجلب األنظار ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تصاميم الواجهة الشــمالية البديعة للجامع‪ ،‬تســتقبل‬ ‫زوارها بحفاوة كبيرة وال تدعهم ي ِلجون الجامع إال بعد‬

‫‪53‬‬


‫ثقافة وفن‬

‫محمد كول كونول*‬

‫تناغم المعنى والمبنى في الهندسة المعمارية‬

‫إطاللة على الجامع األخضر‬

‫كانــت ثقافــة المدينة في الدولــة العثمانية‬ ‫كبيــرا لــكل جــزء مــن‬ ‫اهتمامــا‬ ‫تولــي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الطبيعــة؛ شــجر ًة كانــت أم وورد ًة أم نبت ًة‬

‫االهتمام فــي "الجامع‬ ‫ضــارا‪ ...‬ويظهــر بجــاء هذا‬ ‫ُ‬ ‫أم َخ ً‬ ‫األخضــر" الــذي أمــر ببنائــه الســلطان العثمانــي محمــد‬

‫َش َلبي عام ‪ 1420‬بمدينة بورصة الخضراء‪ ،‬ثم أمر بنقش‬ ‫زخارفــه بعــده الســلطان مــراد الثاني عــام ‪ ..1424‬فليس‬ ‫ثمــة مــكان أنســب للســكينة والراحــة مــن هــذا الجامــع‬ ‫الفريــد ببنائــه وطبيعتــه؛ فمــن زقزقــة العصافيــر إلى خرير‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الميــاه الهــادئ إلى حفيف أوراق األشــجار التي تنســاب‬

‫‪52‬‬

‫ٍ‬ ‫نغمات على نافورة الميضأة الرخامية‪ ،‬ينشأ جو تبتهج به‬ ‫الروح وتنجذب إليه العقول واأللباب‪.‬‬

‫إنــه الجامــع األخضــر الــذي يالمــس المشــاعر‬

‫واألحاســيس فــي كل موســم جديــد‪ .‬تنســاب مــن بيــن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫إلــى العمــل علــى تطويــر نمــاذج عمليــة تطبيقيــة تســهل‬

‫للثقافــة العربيــة‪ ،‬ال تتعلــق بعمليــات العولمــة وتداعياتها‬ ‫الثقافية والسياسية واالجتماعية فقط‪ ،‬بقدر ما تتعلق بمدى‬

‫مهمة تنزيل القيم اإلسالمية الخالدة على أرض الواقع‪،‬‬

‫قدرتها على تجاوز أزمتها المعرفية‪ ،‬خاصة ما يتعلق منها‬

‫وتحويلها إلى مؤسسات مجتمعية وممارسات عملية‪.‬‬

‫بالتنمية الشــاملة للقدرات‪ ،‬وتوســيع إطــار الديمقراطية‪،‬‬

‫ومــن المؤكــد أن تنميــة ثقافــة الفاعليــة اإلراديــة فــي‬

‫وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني‪ ،‬وتفعيل قيم الحوار‬

‫زمــن "ربيــع الشــباب العربي"‪ ،‬تحتــاج إلى تفعيــل "ثورة‬

‫والتعدديــة‪ ،‬وقبــول الــرأي والــرأي اآلخــر‪ ،‬وتوفيــر حرية‬

‫ربيــع ثقافــي" فــي مجتمعاتنــا‪ ،‬ودمجهــا العضــوي فــي‬

‫البحث العلمي‪ ،‬وإنشــاء منظومة تربوية تقوم على تأهيل‬

‫مؤسســاتنا التعليميــة ومجتمعاتنــا‪ ،‬كحاجة ملحة ألســئلة‬

‫وإعــداد كــوادر تعليــم عاليــة المهــارات‪ ،‬واحتــرام عقــل‬

‫التمكيــن المعرفــي لمــا بعد "الربيــع العربي"‪ ،‬وذلك بما‬

‫المتلقــي‪ ،‬وتوفيــر وســائل تمكينــه مــن االســتيعاب الناقد‬

‫تحملــه فــي طياتهــا مــن قيــم معرفيــة وثقافيــة هامــة‪ .‬إنهــا‬

‫للمعلومات واآلراء وإبداع األفكار‪ ،‬واختصار الزمن في‬

‫القيــم المتصلــة بالماضــي والحاضــر والمســتقبل‪ ،‬إنهــا‬

‫مناهجنــا التعليميــة‪ ،‬وإطالق العنان للطاقات الشــابة نحو‬

‫الــروح اإلراديــة والمنهج النقدي لبناء الذات وفق آليات‬

‫نهضــة علميــة في كل المجاالت لكي تفكر وتبدع وتعزز‬ ‫ثقتها بإمكاناتها‪ .‬وذلك عن طريق إنشــاء مراكز للبحوث‬

‫وأنساق سلوكية وتصورية ونفسية تستفز حالة ركوننا إلى‬

‫اإلســتراتيجية العلميــة والتقنيــة المتخصصــة‪ ،‬ومراصــد‬

‫المســ ّلمات الموجــودة‪ ،‬ويحثنا االتكالــي على المخ ّلص‬

‫فلكيــة وأرضيــة‪ ،‬ومؤسســات للطاقــة مجهــزة بأرفــع‬ ‫العلوم اإلنسانية‪ ،‬ويكون من مهام هذه المراكز استقطاب‬

‫الكفاءات المسلمة حول العالم‪.‬‬

‫إن نظــرة مقارنــة للقواســم المشــتركة بيــن الثقافــات‬

‫الفاعلــة التــي ولــدت حضــارات شــامخة وعهــود أنــوار‬

‫ذهبية عبر التاريخ‪ ،‬تظهر أن الثقافة الفاعلة تتميز بسمتين‬ ‫أساســيتين‪ :‬األولــى‪ :‬القــدرة علــى توليــد تضامــن داخلي‬

‫يتمثــل بتعاون أفراد المجتمــع الناهض وتالحم وتكامل‬ ‫جهودهــم‪ .‬والثانيــة‪ :‬القدرة على تحريــر الطاقة اإلنجازية‬

‫المبدعــة للفــرد والجماعــة‪ ،‬وبالتالي تمكينهــم من تطوير‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التجهيــزات العالميــة‪ ،‬ومراكز الدراســات المســتقبلية في‬

‫الذي سيشرف على مراجعتها وإعادة النظر فيها‪.‬‬

‫(*) كليــة اآلداب والعلــوم اإلنســانية‪ ،‬جامعــة ابــن طفيــل بـ"القنيطــرة" ‪/‬‬ ‫المغرب‪.‬‬

‫المراجع‬ ‫(‪ )1‬التربيــة وتفعيــل الــدور الحضــاري‪ ،‬لغيــاث بوفلجــة‪ ،‬كليــة العلــوم‬ ‫االجتماعية الجزائر‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫(‪ )3‬العقــل العربــي وإعــادة التشــكيل (سلســلة كتــب األمــة ‪ ،)35‬لعبــد‬ ‫الرحمن الطريري‪ ،‬تقديم عمر عبيدة حسنة‪.‬‬ ‫(‪ )4‬أزمة العقل المســلم (سلســلة المنهجية اإلســامية ‪ ،)1‬لعبد الحميد‬ ‫أبو ســليمان‪ ،‬ط‪ ،3‬المعهد العالمي للفكر اإلســامي والدار العالمية‬

‫أدواتهــم وزيــادة فاعليتهــم‪ ،‬وهــذا يقودنــا إلــى تحديــد‬ ‫المســاهمة الرئيســة للمثقــف في تأســيس ثقافــة الفاعلية‪،‬‬ ‫وإحــداث نهضة إصالحية على كافة المســتويات‪ ،‬وذلك‬

‫بالدخــول فــي عمليــة نقديــة للثقافــة الســائدة (االتكاليــة‪،‬‬ ‫االســتهالك‪ ،‬ثقافــة المؤامــرة‪ ،‬اإلحبــاط واليــأس‪ ،‬الفرقــة‬

‫والتجزئة‪ ،‬تقديس الذات‪ ،‬ونفي اآلخر‪ )...‬بغية تخليصها‬

‫تصورية تحول بينها وبين‬ ‫من نماذج سلوكية وانحرافات ّ‬ ‫تحقيــق قيمها ومثلها العليا على أرض الواقع‪ ،‬باإلضافة‬

‫للفكر اإلسالمي‪.1994 ،‬‬ ‫(‪ )5‬مشاريع اإلشهاد الحضاري‪ ،‬لعبد المجيد عمر النجار‪ ،‬ج‪.3/‬‬ ‫(‪ )6‬شروط النهضة‪ ،‬لمالك بن نبي‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫وجهــة العالــم اإلســامي‪ ،‬لمالــك بــن نبــي‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عبــد الصابــور‬ ‫شاهين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫(‪ )8‬العولمة والتحدي‪ ،‬لمحمد محفوظ‪ ،‬مجلة التجديد العربي‪.‬‬ ‫(‪ )9‬تجديــد الفكــر الدينــي فــي اإلســام‪ ،‬لمحمــد إقبال‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عباس‬ ‫محمود‪ ،‬القاهرة‪.1968 ،‬‬ ‫(‪)10‬‬

‫المثقــف والنهضــة‪ ،‬لــؤي صافــي‪ ،‬مجلــة االجتهــاد‪ ،‬عــدد‪،52:‬‬

‫سنة‪.2002:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫االنهزاميــة‪ ،‬وفقــدان الثقــة بالــذات‪ ،‬الغــش‪ ،‬ثقافــة‬

‫إعادة تشكيل العقل المسلم (سلسة كتب األمة ‪ ،)4‬لعماد الدين خليل‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫المثقــف عن " َأ َنــاه" ومصالحها الضيقة‪ ،‬ويفكر بمســتوى‬

‫االجتماعــي واالقتصــادي والسياســي لألمــة اإلســامية‪،‬‬

‫المتوفــرة فــي ذهنــه أو األوســمة المعلقــة علــى صــدره‪،‬‬

‫تحقيــق أحــد أهــم أهدافها‪ ،‬وهــو إيجاد أفــراد فعالين في‬

‫وكلهــا عوامل تبرز مســتوى فشــل المنظومــة التربوية في‬

‫األمــة وتطلعاتهــا‪ .‬فالمثقف ال يقــاس بحجم المعلومات‬

‫تدخالتهم‪ .‬وقد أدى فشــل ســوء التدريب ونقص فعالية‬

‫وإنمــا يقــاس بمــدى مســاهمته الجــادة في مشــروع األمة‬

‫األفــراد‪ ،‬إلــى الشــعور بعدم الثقــة بالنفس‪ ،‬وإلى الســلبية‬

‫الحضاري وبمستوى التزامه بتطلعاتها وهمومها‪.‬‬

‫ا‪ ،‬لم يمتلــك تأثيره في‬ ‫فرجــل االقتصــاد والمــال مثــ ً‬

‫في مواجهة التحديات‪ ،‬والشعور باليأس واإلحباط لدى‬

‫حــول إمكاناتــه الماديــة إلى‬ ‫وإنمــا امتلــك التأثيــر حينمــا ّ‬

‫فصــول الجامعــات‪ .‬والفشــل واإلحبــاط قــد يؤديــان إلى‬

‫ســنويا من خالل‬ ‫غالبية جيل شــبابنا ممن نتواصل معهم‬ ‫ًّ‬

‫المحيــط االجتماعــي مــن وجــود الثــروة وحدهــا لديــه‪،‬‬

‫االلتجــاء إليها‪،‬‬ ‫ممارســات اجتماعيــة ســلبية يضطر الفرد‬ ‫َ‬

‫مجموعــة من الحقائق االقتصادية والتجارية في المحيط‬

‫مثــل االتكاليــة والتحايــل والغــش والهروب عــن الواقع‬

‫االجتماعي‪ ،‬وبالتالي مارس رجل االقتصاد والثروة دوره‬

‫مــن خــال تعاطي المخدرات والكحــول‪ ،‬كما أن اليأس‬

‫وتأثيــره فــي المجتمع عن طريق هــذه الحقائق‪ .‬وكذلك‬

‫واإلحباط قد يؤديان إلى التطرف اإليديولوجي والديني‪.‬‬

‫األمــر بالنســبة للسياســي والمفكــر والمثقــف والعالم‪...‬‬

‫وقد أمعن مالك بن نبي في التنقيب حول مشــكالت‬

‫فينبغــي أال يكتفــي الفــرد في األمة بنتاجــه النظري‪ ،‬وإنما‬

‫متجاوزا الظواهر السطحية إلى الجذور‬ ‫التخلف المزمنة‪،‬‬ ‫ً‬

‫من الضروري أن يسند هذه األنشطة بحقائق ثقافية علمية‬

‫الجيولوجية التراكمية المتغلغلة في األعماق‪ ،‬وباح ًثا عن‬

‫سياســية اقتصادية وتكنولوجية تعطي لهذه األنشــطة ُبعد‬

‫ضعيفة‪ ،‬واكتفاء الفرد بذلك يجعله في الكثير من األحيان‬ ‫خــارج الحــراك الحضــاري لألمــة المتجهــة إلــى التطوير‬

‫والتقدم‪ .‬ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة‬ ‫التوجيــه؛ فهــو بصفة عامة "قوة في األســاس‪ ،‬وتوافق في‬ ‫الســير‪ ،‬ووحــدة فــي الهدف"‪ .‬فكم مــن طاقات وقوى لم‬

‫كتلها‪ ،‬وكــم من طاقات‬ ‫ُتســتخدم ألننــا ال نعــرف كيــف ُن ّ‬

‫توجــه نحو‬ ‫وقــوى ضاعــت فلــم تحقــق هدفهــا ألنهــا لم َّ‬

‫امتــاك حصانــة الفاعلية‪ .‬والتوجيــه المقصود هو تجنب‬ ‫اإلسراف في الجهد وفي الوقت‪ ،‬فهناك ماليين السواعد‬

‫العاملــة والعقــول المفكرة في البالد اإلســامية‪ ،‬صالحة‬

‫ســتخدم فــي كل وقــت‪ ،‬فالمهــم هــو أن نديــر هــذا‬ ‫ألن ُت‬ ‫َ‬

‫المكــون من مالييــن الســواعد والعقول‪،‬‬ ‫الجهــاز الهائــل‬ ‫َّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫في أحســن ظروفه الزمنية واإلنتاجية‪ ،‬وهذا الجهاز حين‬

‫‪50‬‬

‫يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الديمومة واالســتمرار‪ .‬ففاعليــة القول المجرد في التأثير‬

‫السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز‬

‫إلى القدرة والفعالية‪ ،‬ومن مشكلة االستعمار إلى مرض‬ ‫القابلية لالستعمار‪ ،‬ومن حالة تكديس األشياء إلى حالة‬ ‫البنــاء والمشــاركة واإلنجــاز‪ ،‬ومــن المطالبــة بالحقــوق‬

‫ال‪ ،‬واالنتقــال مــن عالم األشــياء‬ ‫إلــى القيــام بالواجــب أو ً‬ ‫واألشــخاص إلــى عالــم األفــكار‪ ،‬التــي بهــا نبــدأ بحــل‬

‫مشــكلة التخلــف‪ ،‬ويجب أن نصل إلــى قناعة حتمية بأن‬ ‫مفاتيح حل المشكالت هي في الذات ال عند اآلخر‪.‬‬

‫إن اســترداد دور فاعليــة شــباب األمــة رهيــن بتفعيــل‬

‫ثقافــة االمتيــاز واإلنجــاز‪ ،‬دون تضييــع الوقــت فــي الرد‬ ‫علــى المنافســين‪ ،‬والخوض في جــداالت الصعاب التي‬

‫تحيــط بالمشــروع الحضــاري المــراد إنجازه‪ ،‬والســر كل‬

‫قدما نحو تحقيق النجاح‪ ،‬والرهان ليس‬ ‫السر في المضي ً‬

‫فــي الــرد علــى معيقات النجــاح‪ ،‬وإنما فــي التميز باألداء‬

‫والتفــوق فــي العطاء واإلنجــاز المعرفي‪ ،‬ولعــل الفائزين‬

‫وهكــذا‪ ،‬فــإن غيــاب إســتراتيجية واضحة فــي توجيه‬

‫فــي المنافســة الحضاريــة هــم َم ْن يســعون لتحقيــق أعلى‬

‫والشــح فــي‬ ‫إســتراتيجيا‪،‬‬ ‫قطاعــا‬ ‫العلمــي باعتبارهمــا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ســلبا علــى الواقــع‬ ‫اإلنفــاق عليهمــا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عوامــل انعكســت ً‬

‫المختلفة‪ ،‬وبخاصة مجاالت اإلنتاج واالقتصاد والثقافة‪.‬‬

‫الطاقــات الشــابة‪ ،‬وعــدم االســتثمار فــي التربيــة والبحث‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫معدالت وأرقى مســتويات األداء في مجاالت الحضارة‬

‫المهددة‬ ‫فإن طبيعة المخاطر‬ ‫وفــي زمــن الثورات العربية ّ‬ ‫ّ‬


‫إن تنميــة ثقافة الفاعليــة اإلرادية يف زمن "ربيع‬

‫ا للواقــع‪ ،‬ربما يتحول إلى نقطــة انطالق باتجاه‬ ‫متواصــ ً‬

‫الشــباب العريب"‪ ،‬تحتــاج إىل تفعيل "ثــورة ربيع‬

‫عمليــة التجديــد واإلصالح‪ ،‬أي إصالح الفضــاء الثقافي‬

‫ثقــايف" يف مجتمعاتنا‪ ،‬ودمجهــا العضوي يف‬

‫واالجتماعــي والسياســي واالقتصــادي‪ ،‬وتحقيق الوحدة‬

‫مؤسساتنا التعليمية‪ ،‬كحاجة ملحة ألسئلة التمكني‬

‫والحرية والمساواة والعدل والمواطنة‪.‬‬

‫املعريف ملــا بعد "الربيــع العــريب"‪ ،‬وذلك مبا‬

‫ومن هنا تتجلى إشكالية العودة إلى البحث في البيئة‬

‫تحمله يف طياتها من قيم معرفية وثقافية هامة‪.‬‬

‫المنتجة للســؤال التاريخي‪ :‬ما السبيل الستشراف فاعلية‬ ‫األمــة فــي ظــل غيــاب حــس التمثــل الواقعــي للتحديات‬

‫واقعيا؟ هل يا ترى‬ ‫ال‬ ‫والقــدرة علــى تمثل الممكنــات تمث ً‬ ‫ًّ‬

‫مســتهلكا لخطابات‬ ‫ال فــي نظرياتــه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ا فــي ذاتــه متك ً‬ ‫معتــ ًّ‬

‫ض ســيزول مــع الوقــت وبــزوال‬ ‫عــر ٌ‬ ‫ومكوناتهــا؟ أم أنــه َ‬

‫فهذا بال شك سينعكس على واقع نتاج أمته الحضاري‪.‬‬

‫دفاعــا عــن هوية مغتربــة أو ماض‬ ‫التمركــز حــول الــذات ً‬

‫األســتاذ محمــد فتــح اهلل كولــن فــي كتابــه "ونحــن نبنــي‬

‫التواصل واالســتيعاب والبناء تحقي ًقا لشــرط الفاعلية في‬

‫مــن الداخــل‪ ،‬ألن األمــة ليســت كائنــا بذاتهــا‪ ،‬وإنمــا هي‬

‫يعــود ضعــف فاعليتنا إلى خلل أساســي في تكوين األمة‬

‫متراخيــا في إنتــاج معارفه وفق متطلبــات محيطه‪،‬‬ ‫غيــره‪،‬‬ ‫ً‬

‫األســباب؟ وهــل اإلصــاح نزعة تطهريــة خالصية ترمي‬

‫إن فاعلية األمة ال يمكن أن تتحقق كما يشير المفكر‬

‫مجيــد؟ أم أنــه مشــاركة فــي صناعــة العالــم علــى قاعــدة‬

‫حضارتنــا"‪ ،‬إال مــن خــال فاعليــة إرادة خدمــة أفرادهــا‬

‫التاريخ والشراكة في صنع المستقبل؟‬

‫الوقــوف علــى الفرد المســلم ومحاولة تشــخيصه بكامل‬ ‫َ‬

‫مكوناتــه‪ ،‬ليــس من ناحية العبــادة فقط‪ ،‬فقد يكون الخلل‬ ‫واقعــا بــه فــي طــرق تفعيــل عقيدتــه وعبادتــه علــى أرض‬ ‫ً‬ ‫الواقــع‪ .‬ومــا تعانيــه األمــة يعــود في األســاس إلى فشــل‬

‫المشاريع النهضوية في بناء اإلنسان الرسالي؛ فلو نظرنا‬ ‫إلــى الفــرد باعتبــاره نتــاج األمــة واألمة غير ســليمة وغير‬ ‫خاليــة مــن العيوب‪ ،‬وســايرنا كــون حال تــردي الفرد من‬ ‫تردي األمة ‪-‬شــأنه في ذلك شــأن البذرة التي ُتغرس في‬

‫أرض مجدبــة تعرقــل‬ ‫عناصــر النماء الكامنة فــي البذرة‪-‬‬ ‫َ‬

‫فإننــا بذلــك نو ّقــع علــى ترخيــص يمنــح الفرد فــي أمتنا‬ ‫حســا‬ ‫عذرا ًّ‬ ‫ً‬ ‫قويا في تراخيه وكســله وإحباطه‪ ،‬ويولد لديه ًّ‬

‫مفعمــا بالضعــف والنقــص والهــوان‪ ،‬ويحــول دون بحثه‬ ‫ً‬ ‫عن عناصر القوة الذاتية الكامنة فيه‪.‬‬

‫أهــم مكونــات األمــة‪ ،‬فاألمة ما هــي إال جمع من‬ ‫الفــرد َّ‬

‫ونشطا‬ ‫ال‬ ‫األفراد‪ ،‬فإن كان هذا الجمع‬ ‫ً‬ ‫صالحا في ذاته‪ ،‬فاع ً‬ ‫ً‬ ‫فــي محيطــه‪ ،‬كانــت األمة في عطــاء ونتــاج وفاعلية البناء‬

‫الحضاري المنشــود‪ .‬أما إن كان هذا الجمع من األفراد‬

‫بقدراتهــم اإليمانيــة والعلميــة‪ ،‬واســتعداداتهم النفســية‬ ‫واالســتقرائية فــي المشــاركة والمســاهمة فــي مجريــات‬

‫المتغيــرات العالميــة‪ ،‬واســتلهامهم الشــعلة الحقيقيــة‬

‫والطاقة المحركة للنهضة في كافة الميادين‪.‬‬

‫ومــن ثــم يمكن القول بــأن الفرد نتاج البنــاء الروحي‬

‫والقيمــي والمعرفــي والتربــوي الســليم في بيئتــه‪ .‬واألمة‬ ‫بقيمهــا ومبادئهــا وبأهدافهــا واقع يجــب أن يتالحم مع‬

‫قــدرات الفــرد‪ ،‬لتقديم فاعليــة الــدور اإلرادي اإلنجازي‬ ‫الحضــاري ألمتنــا‪ ،‬علــى قاعــدة "كل منكم علــى ثغر من‬ ‫حــم كل منكــم ثغــره"‪ ،‬مــن منطلــق‬ ‫ثغــور اإلســام‪ ،‬ف ْل َي ِ‬

‫الجاهزيــة المعرفيــة والعقليــة والنفســية‪ ،‬والوحــدة‬ ‫االقتصادية والسياسية واإلعالمية والتربوية‪.‬‬

‫والفاعلية اإلنجازية لها متطلبات أساســية من أهمها‪:‬‬

‫تقوية الدور الفاعلي اإلرادي‪ ،‬بإيجاد حركة فاعلة وقوية‬ ‫بحصانتها المعرفية والمهاراتية‪ ،‬تشارك وتساهم بقو ٍة في‬

‫إن على مســتوى مجتمعاتنا أو‬ ‫دورة اإلنجاز الحضاري‪ْ ،‬‬ ‫علــى المســتوى العالمــي‪ .‬وهــذا يتطلب إعــادة النظر في‬ ‫اإلصــاح التربــوي‪ ،‬وإعــداد كوادر ومؤهالت تســتخرج‬

‫المعــارف وتطــور المهــارات‪ ،‬وهــذا يتطلــب أن َيخــرج‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ولو نظرنا من جهة ثانية إلى المشكلة من زاوية فاعلية‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫إن مــن التســاؤالت حــول هــذا الوضــع‪ ،‬مــا يقتضــي‬

‫رمــز لجمــع من األفراد كعنصر أساســي في معادلة البناء‬

‫‪49‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬مريم آيت أحمد*‬

‫الشباب‬

‫ومستقبل ثورة الربيع الثقافي العربي‬ ‫االستشراف عملية شاقة‪ ،‬تحفها مخاطر‬ ‫محاكمة الواقع ودراســة مشــكالته بغية‬ ‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫تقويمها‪ ،‬وترصدها تبعات نقد األنســاق‬

‫‪48‬‬

‫الثقافيــة والفكريــة لبنية الفــرد المعرفية‪ ،‬إلعــادة صياغتها‬ ‫وف ًقــا لمتطلبــات الحاضــر وضــرورات المســتقبل‪ ،‬وفــي‬ ‫إطــار الثابت والمتغير من الدين‪ .‬لكن يبقى االستشــراف‬

‫ورصــدا‬ ‫إيجابيــا يحــرك دواعــي النقــد والمراجعــة‬ ‫ا‬ ‫فعــ ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المعاصر‪ ،‬لمستشــفيات المسلمين في ذلك الزمان فقال‪:‬‬

‫ال للفوضــى والقــذارة"‪ ،‬وتعتــرف الكاتبــة‬ ‫"إنــه كان مثــا ً‬

‫"ســيجر يد هونكه" بفضل المســلمين الطبي على الغرب‬

‫بقولها‪" :‬إن كل مستشفى مع ما فيه من ترتيبات ومختبر‬

‫وصيدليــة ومســتودع أدويــة فــي أيامنــا هــذه‪ ،‬إنمــا هو في‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حقيقة األمر نصب تذكارية للعبقرية اإلسالمية"(‪.)8‬‬

‫(*) كاتب وباحث مصري‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬المستشــفيات اإلســامية فــي العاصمــة المصريــة ‪ ،‬للدكتــور حســين‬ ‫نصار‪ ،‬مجلة الهالل‪ ،‬عدد يونيو عام ‪ ،2009‬ص‪.71:‬‬

‫(‪ )2‬فــي تاريــخ الطــب في الدولة اإلســامية ‪ ،‬للدكتــور عامر النجار‪ ،‬دار‬ ‫المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬عام ‪ ،1987‬ص‪.89-88:‬‬

‫(‪ )3‬المستشــفيات اإلســامية فــي العاصمــة المصريــة‪ ،‬للدكتــور حســين‬ ‫نصار‪ ،‬مجلة الهالل‪ ،‬عدد يونيو عام ‪ ،2009‬ص‪.73-72:‬‬

‫(‪ )4‬األوقــاف والحضــارة الطبيــة اإلســامية‪ ،‬للدكتــور أحمد عوض عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬سلسلة قضايا إسالمية‪ ،‬العدد‪ ،136:‬ص‪.68:‬‬

‫(‪ )5‬تاريخ البيمارستانات في اإلسالم‪ ،‬للدكتور أحمد عيسى‪ ،‬دار الرائد‬ ‫العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬عام ‪ ،1981‬ص‪.281:‬‬

‫(‪ )6‬األوقــاف والحضــارة الطبيــة اإلســامية‪ ،‬للدكتــور أحمد عوض عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬سلسلة قضايا إسالمية‪ ،‬العدد‪ ،136:‬ص‪.72:‬‬

‫(‪ )7‬أضــواء علــي تاريــخ الطــب‪ ،‬للدكتــور محمــود الســعيد الطنطــاوي‪،‬‬ ‫سلسلة دراسات في اإلسالم‪ ،‬المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية‪،‬‬

‫العدد‪ ،183:‬ص‪.558:‬‬

‫(‪ )8‬شــمس اإلســام تســطع علــى الغــرب ‪ ،‬لســيجريد هونكــه‪ ،‬ترجمــة‬

‫فاروق بيضون‪ ،‬وكمال الدســوقي‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬عام ‪،1993‬‬ ‫ص‪.334:‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الصالة‪ ،‬يذهب إلى المرضى ليسألهم عن أحوالهم‪ ،‬وقد‬ ‫دأب علــى هــذه المحمــدة حتــى توفي عــام ‪595‬هـ‪ ،‬وفي‬ ‫تونس بيمارستان تونس‪.‬‬ ‫• البيمارستانات في مصر‪ :‬نذكر منها بيمارستان زقاق‬ ‫القناديــل مــن أزقة فســطاط مصر‪ ،‬وبمارســتانات المعافر‬ ‫فــي حــي المعافر بالفســطاط قرب القرافية بنــاه الفتح بن‬ ‫خــان فــي أيــام الخليفة المتــوكل على اهلل‪ ،‬والبيمارســتان‬ ‫العتيق الذي أنشــأه أحمــد بن طولون داخل بعض األبنية‬ ‫وشــرط‬ ‫منهــا دور األســاكفة والقيســارية وســوق الرقيق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ال يعا َلــج فيــه جنــدي وال مملــوك‪ ،‬وجعــل لــه حماميــن‬ ‫أ ّ‬ ‫أحدهما للرجال واألخر للنســاء‪ ،‬وأدخل ابن طولون في‬ ‫ضروبا من النظام جعلته في مستوى‬ ‫هذه البيمارســتانات‬ ‫ً‬ ‫أرقــى المستشــفيات آنــذاك‪ .‬وبلــغ مــن عنايــة أحمــد بن‬ ‫يومــا‬ ‫طولــون بهــذا البيمارســتان‪ ،‬أنــه كان يتفقــده بنفســه ً‬ ‫كل أســبوع‪ ،‬كان فــي الغالــب يوم الجمعــة‪ ،‬فيطوف على‬ ‫خزائــن األدويــة ويتفقــد أعمــال األطبــاء ويشــرف علــى‬ ‫ســائر المرضى‪ ،‬ويعمل على مواســاتهم وإدخال السرور‬ ‫عليهم‪ .‬ولعل أشهر البيمارستانات في العصرين األيوبي‬ ‫كل من صالح‬ ‫والمملوكــي‪ ،‬ذلــك التي أنشــئت في عهــد ٍّ‬ ‫الديــن األيوبــي‪ ،‬والناصــر قــاوون‪ .‬فقد افتتح الســلطان‬ ‫صــاح الديــن األيوبــي ثالثــة بيمارســتانات‪ ،‬األول فــي‬ ‫إحــدى قاعــات القصر الفاطمي الكبير وهو البيمارســتان‬ ‫العتيق‪ ،‬كما أمر بإعادة فتح بيمارستان الفسطاط القديم‪.‬‬ ‫أما في العصر المملوكي‪ ،‬فمن أشــهر البيمارســتانات‬ ‫التي أنشــئت في ذلك العهد وذاع صيتها في أنحاء مصر‬ ‫وخارجها‪ ،‬وحظيت برعاية سالطين المماليك وأمرائهم‪،‬‬ ‫كان البيمارســتان المنصوري الذي أنشــأه الملك الناصر‬ ‫قالوون‪.‬‬ ‫وفــي النهايــة نقــول ‪ ،‬هــذا حــال البيمارســتانات فــي‬ ‫عصور ازدهار الحضارة اإلسالمية في القرون الوسطي‪،‬‬ ‫وك ًرا لألمراض‪ .‬ولم يكن‬ ‫بينما كانت مستشــفيات أوربــا ْ‬ ‫لــدى األوربييــن إنســانية نحــو مرضاهم في تلــك اآلونة؛‬ ‫فقــد كان بعض ملوكهــم يحرقــون المجذومين ويعذبون‬ ‫المجانيــن‪ ،‬وال يكترثــون لصحــة المســجونين وحياتهم‪.‬‬ ‫وقــد انتقــد "ماكس تــوردو" ما جاء في مستشــفيات أوربا‬ ‫فــي القرون الوســطى‪ ،‬فأشــار إلــى مستشــفى "أونيل دبو"‬

‫‪47‬‬


‫‪-4‬تأثيث البيمارستان‬

‫عندمــا تنتهي عمارة البيمارســتان‪ ،‬يقوم ناظــره بتأثيثه بما‬ ‫يحتاج إليه إليواء المرضى ومعالجتهم والعناية بهم‪ .‬وقد‬ ‫يختلف األثاث من بيمارســتان آلخر من حيث الفخامة‪،‬‬ ‫ولكنها اتفقت جميعها على توفير سرير بكامل تجهيزاته‬ ‫لــكل مريض‪ ،‬باإلضافة إلى األدوات الطبية الالزمة لكل‬ ‫تخصــص‪ ،‬وأدوات العقاقير وتحضيــر األغذية للمرضى‬ ‫المنوميــن‪ ...‬فهــذا الرحالة األندلســي "ابــن جبير" يصف‬ ‫البيمارســتان الصالحــي البيمارســتان العتيــق فــي القاهرة‬ ‫َ‬ ‫ســرة يتخذها‬ ‫بقوله‪" :‬ووضعت في مقاصير ذلك القصر أ َّ‬ ‫المرضى مضاجع كاملة الكسي"(‪.)6‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫البيمارستانات الشهيرة‬

‫‪46‬‬

‫يقــول الدكتــور "جوزيــف جــار لنــد" فــي كتابــه "قصــة‬ ‫عــددا مــن المستشــفيات‬ ‫الطــب"‪" :‬وقــد أســس العــرب‬ ‫ً‬ ‫الممتــازة جعلوها مراكز لدراســة الطــب لعالج المرضى‬ ‫كأحدث المستشــفيات‪ ،‬وقد بلغ عدد هذه المستشفيات‬ ‫أربعــة وثالثيــن موزعة بين أنحاء البــاد‪ ،‬وإن كان أهمها‬ ‫مستشفيات بغداد ودمشق وقرطبة والقاهرة"‪ )7(.‬ونعرض‬ ‫فيما يلي ألهم البيمارستانات التي كانت منتشرة في بالد‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪ -3‬عنابــر خاصــة للناقهيــن مــن المرضى إلــى أن يتم‬ ‫شفاؤهم‪ ،‬يحكى لهم فيها الحكايات المس ّلية‪.‬‬ ‫‪ -4‬غرف لألطباء وبقية اإلداريين‪.‬‬ ‫‪ُ -5‬غــرف لألطبــاء للكشــف علــى المرضــى غيــر‬ ‫المنومين (عيادات خارجية بلغة العصر)‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫دروسه‬ ‫األطباء‬ ‫رئيس‬ ‫فيها‬ ‫يلقي‬ ‫محاضرات‬ ‫قاعة‬ ‫‪-6‬‬ ‫َ‬ ‫ويجتمع فيها مع تالميذه‪.‬‬ ‫‪ -7‬مكتبة تضم الكتب والمعارف الطبية‪.‬‬ ‫‪ -8‬مطبــخ لطبخ األغذية الصحية‪ ،‬حيث كان الغذاء‬ ‫أحــد طــرق العــاج الرئيســية‪ ،‬وكذلــك لتجهيــز األشــربة‬ ‫وغيرها من المواد العالجية‪.‬‬ ‫‪ -9‬صيدلية لتحضير األدوية‪ ،‬ومخازن‪ ،‬وقاعة لغسل‬ ‫الموتى‪ ،‬ومصلى مسجد‪ ،‬ومراحيض وحمامات‪.‬‬ ‫باإلضافــة إلــى الباحــات واألفنيــة والحدائــق التــي‬ ‫تحتــوي علــى األشــجار والشــمومات والمأكــوالت‪...‬‬ ‫والكثير من هذه البيمارستانات كانت تحتوي على سكن‬ ‫للعاملين فيها‪.‬‬

‫اإلسالم خالل ذلك الزمان‪.‬‬

‫• بمارستانات بالد الشام‪ :‬تذكر المصادر التي ّأرخت‬ ‫لتاريــخ الطــب فــي الدولة اإلســامية‪ ،‬أن أول مستشــفى‬ ‫ثابت أقيم في بالد الشام كان في دمشق‪ ،‬ويرجع تاريخ‬ ‫إقامتــه إلــى الخليفة الوليد بن عبد الملك‪ ،‬ثم بيمارســتان‬ ‫أنطاكيــة الــذي بنــاه المختار بن الحســن بــن بطالن الذي‬ ‫توفــي عــام ‪455‬هـ‪ ،‬ثم البيمارســتان الكبيــر النوري الذي‬ ‫شيده الملك العادل نور الدين محمود زنكي بدمشق‪.‬‬ ‫وفــي مدينــة حلــب بنــى الملــك العــادل نــور الديــن‬ ‫محمود زنكي بيمارســتا ًنا داخل باب أنطاكية وقف عليه‬ ‫األمــوال لنفقــات المرضــي واألطبــاء‪ .‬وفــي القــدس بنى‬ ‫كبيرا قد‬ ‫الملك الناصر صالح الدين األيوبي بيمارســتا ًنا ً‬ ‫عكا‪.‬‬ ‫عمل فيه من األطباء‪ .‬وبيمارستان ّ‬ ‫• البيمارستانات في شبه الجزيرة العربية‪ :‬كانت توجد‬ ‫عددا من البيمارســتانات الهامة‪،‬‬ ‫في شــبه الجزيرة العربية ً‬ ‫من أشهرها بيمارستان مكة المكرمة‪ ،‬وكذلك بيمارستان‬ ‫المدينة المنورة‪.‬‬ ‫• البيمارســتانات فــي بــاد الع ـراق‪ :‬كان يوجــد فــي‬ ‫العــراق العديــد من البيمارســتانات الهامة والشــهيرة التي‬ ‫بــارزا فــي مســيرة الحيــاة الطبيــة اإلســامية‪،‬‬ ‫دورا‬ ‫ً‬ ‫لعبــت ً‬ ‫ويأتــي فــي مقدمة هذه البيمارســتانات "بيمارســتان بغداد‬ ‫الشــهير" الــذي بنــاه هارون الرشــيد وأســماه "بيمارســتان‬ ‫وأيضا بيمارســتان أبي الحســن علي بن عيسى‬ ‫الرشــيد"‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الجراح‪ ،‬وبيمارســتان بدر غالم المعتضد باهلل‪ ،‬أنشــأه من‬ ‫ماله الخاص‪ ،‬وبيمارستان السيدة أم المقتدر التي توفيت‬ ‫عام ‪321‬هـ‪ ،‬وكذلك البيمارستان المقتدري والذي أشار‬ ‫ببنائــه علــى الملك المقتدر باهلل‪ ،‬ســنان بــن ثابت بن قرة‪،‬‬ ‫وأيضا البيمارستان العضدي‪ ،‬أنشأه عضد الدولة البويهي‬ ‫ً‬ ‫عام ‪732‬هـ وغيرها‪.‬‬ ‫• البيمارســتانات فــي المغــرب واألندلس‪ :‬لقد تعددت‬ ‫وانتشــرت البيمارســتانات في األندلس حتى كثر عددها‪،‬‬ ‫حيث يذكر أن قرطبة وحدها كان فيها خمسون مستشفى‪،‬‬ ‫ومن بمارستانات األندلس المشهورة؛ بيمارستان غرناطة‬ ‫الــذي بــدأ الســلطان محمد الخامــس ببنائه عــام ‪767‬هـ‪،‬‬ ‫وفــي المغــرب األقصــى كان يوجــد بيمارســتان مراكــش‬ ‫الذي بناه المنصور أبو يوسف‪ ،‬وكان كل يوم جمعة بعد‬


‫لقــد تطــورت عمــارة البيمارســتانات خــال عصــور‬

‫اختيــار الموقــع الــذي يبنــى فيــه البيمارســتان‪ ،‬كان مــن‬ ‫كبيرا‪،‬‬ ‫األمــور الضروريــة التي أوالها المســلمون‬ ‫ً‬ ‫اهتماما ً‬ ‫حيــث كان مــن الضــروري أن يتوفــر الهــواء الصحــي في‬ ‫المكان الذي يبنى فيه البيمارستان‪ .‬ولقد ورد أن الرازي‬ ‫عندما أراد اختيار موقع للبيمارستان "العضدي"‪ ،‬وضع‬ ‫ِق َط ًعــا مــن اللحــم فــي أماكن مختلفــة من بغــداد‪ ،‬واختار‬

‫الموقــع الــذي بقيــت فيــه قطعــة اللحــم ســليمة أكثر من‬ ‫غيرها في المواقع األخرى"(‪.)4‬‬

‫‪-2‬مصدر المياه‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫عمارة البيمارستانات‬

‫‪-1‬اختيار الموقع‬

‫قربيــا‬ ‫حــرص المســلمون علــى أن يكــون البيمارســتان ً‬ ‫مــن األنهــار ومنابع الحيــاة‪ ،‬وذلك راجــع إلى حرصهم‬ ‫الشــديد علــى إيصــال الماء الجــاري إلى بيمارســتاناتهم‪،‬‬ ‫واألمثلــة علــى ذلــك كثيــرة؛ فالمستشــفي العضــدي كان‬ ‫المــاء يدخــل إليه من دجله‪ ،‬والمستشــفي النوري بحلب‬ ‫ُ‬ ‫كان به بركتا ماء يأتي إليهما الماء الحلو من قناة حبالن‪،‬‬ ‫وأيضا بيمارستان غرناطة له باحة داخلية وسطها حوض‬ ‫ً‬ ‫عميــق لدخــول الماء مــن عينين كل عين عبارة عن أســد‬ ‫جــاث‪ ،‬بــل فــي بعــض األحيان حــرص المســلمون على‬ ‫إيصال المياه إلى جميع عنابر المرضى‪ ،‬كما كان الحال‬ ‫فــي بيمارســتان مراكــش‪ ،‬حيــث أجريــت فيــه ميــاه كثيــرة‬ ‫تدور على جميع العنابر‪ ،‬زيادة على أربع َبرك في وسط‬ ‫أحداها رخام أبيض"(‪.)5‬‬

‫‪-3‬مخطط البيمارستان‬

‫كما كان لكل بيمارستان مخطط يحتوي على‪:‬‬ ‫‪ -1‬أقســام خاصــة بالرجــال وأخــرى خاصــة بالنســاء‬ ‫منفصلة عن األولى‪.‬‬ ‫‪ -2‬قاعــات للمرضــى حســب التخصصــات‪ ،‬فهنــاك‬ ‫بالحمى‪،‬‬ ‫قاعــات أو عنابر مخصصــة للمرضى المصابين‬ ‫ّ‬ ‫واألخــرى لألمــراض العقلية والنفســية‪ ،‬وغيرها لمرضى‬ ‫الرمد‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫حرصا على صحة المرضى‪ ،‬إلى‬ ‫وتقييدهــا بنظام خــاص‬ ‫ً‬ ‫الخليفة العباسي المقتدر باهلل "جعفر بن المعتضد" الذي‬ ‫تولــي الخالفــة ســنة ‪295‬هجريــة‪ ،‬حيث فــرض على من‬ ‫يريــد مزاولــة التطبيب تأدية امتحان للحصول على إجازة‬ ‫تخوله هذا الحق بين الناس‪ .‬والسبب الذي دعا الخليف َة‬ ‫ّ‬ ‫المقتــدر إلــى هــذا التقييــد‪ ،‬هو ما يرويه "ســنان بن ثابت"‬ ‫"لمــا كان فــي‬ ‫رئيــس األطبــاء فــي عصــره‪ ،‬حيــث يقــول‪ّ :‬‬ ‫غلطا جرى من‬ ‫عــام ‪319‬هـــ‪931-‬م‪ ،‬اتصل بالمقتــدر أن ً‬ ‫المطببين على رجل من العامة فمات الرجل‪ ،‬فأمر‬ ‫بعض‬ ‫ّ‬ ‫الخليفــ ُة أبــا إبراهيم بن محمد بن أبي بطيحة المحتســب‬ ‫المتطببين من التصرف إال من امتحنه ســنان‬ ‫بمنع ســائر‬ ‫ّ‬ ‫بــن ثابــت بــن قــرة‪ ،‬وكتــب لــه رقعــة بخطــه بمــا يطلق له‬ ‫التصرف فيه من الصناعة‪ ،‬فصاروا إلى ســنان وامتحنهم‪،‬‬ ‫وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه‪ ،‬وبلغ‬ ‫ال‬ ‫عددهــم فــي جانبــي بغــداد ثمانمائة ونيف وســتين رج ً‬ ‫سوى من استغنى عن مهنته باشتهاره بالتقدم في صناعته‬ ‫ومن كان في خدمة الســلطان"(‪ .)2‬وســار النظام بعد ذلك‬ ‫علــى هــذا الطريــق؛ متى أتــم الطالب دروســه‪ ،‬يتقدم إلى‬ ‫رئيــس األطبــاء الــذي يطلب إليــه إجازته‪ ،‬لمعانــاة صنعة‬ ‫مزاولة التطبيب‪ .‬وكان الطالب يتقدم إليه برسالة في الفن‬ ‫الــذي يريــد الحصول على اإلجازة‪ ،‬وهذه الرســالة أشــبه‬ ‫بمــا يســمى اليــوم "أطروحــة"‪ ،‬وتكون هذه الرســالة له أو‬ ‫ألحــد مشــاهير األطباء المتقدميــن أو المعاصرين‪ ،‬يكون‬ ‫قــد أجاد دراســتها فيمتحنه فيها ويســأله فــي كل ما يتعلق‬ ‫بما فيها من الفن‪ ،‬فإذا أحسن اإلجابة أجازه الممتحن بما‬ ‫يطلــق لــه التصرف فيه من الصناعة‪ ،‬كما كان المحتســب‬ ‫يأخذ عليهم عهد أبقراط الذي أخذه على سائر األطباء‪،‬‬ ‫سما‪ ،‬وال‬ ‫ويح ِّلفهم أ ّ‬ ‫ال يعطوا ً‬ ‫أحدا ً‬ ‫مرا وال يركبوا له ً‬ ‫دواء ًّ‬ ‫يصفــوا التمائــم عند أحــد من العامة‪ ،‬وال يذكروا للنســاء‬ ‫الــدواء الــذي يســقط األجنــة‪ ،‬وال للرجــال الــدواء الــذي‬ ‫يقطــع النســل‪ ،‬وليغضــوا أبصارهــم عــن المحــارم وعند‬ ‫دخولهم على المرضى‪ ،‬وال يفشــوا األســرار وال يهتكوا‬ ‫األســتار‪ ،‬وينبغــي للطبيــب أن يكــون عنــده جميع آالت‬ ‫الطب على الكمال‪ ،‬مما يحتاج إليه في صناعة الطب"(‪.)3‬‬

‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬حيث كان لها نظام وطابع معماري‬ ‫مميــز يقــوم علــى مجموعة مــن الشــروط الضرورية التي‬ ‫يجــب أن تتوافــر في المكان الذي يبنى فيه البيمارســتان‪،‬‬ ‫ويمكن أن نلخص هذه الشروط فيما يلي‪:‬‬

‫‪45‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫خلف أحمد محمود أبو زيد*‬

‫البيمارستانات‬ ‫طــرق‬ ‫يصــف لنــا ابــن أبــي أصيبعــة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مزاولــة مهنــة الطــب في أول عهد إنشــاء‬ ‫البيمارســتانات اإلســامية فيقــول‪" :‬إن‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الطب كان في أول عهده عن طريق الممارســة‪ ،‬ثم صار‬

‫‪44‬‬

‫دراسة وامتحا ًنا وإجازة‪ ،‬حيث كان الطبيب في أول عهد‬ ‫الدولة اإلسالمية‪ ،‬يكتفي لممارسة التطبيب بقراءة الطب‬ ‫علــى أي طبيــب مــن النابهيــن فــي عصــره‪ ،‬فــإذا أ ِنس من‬ ‫الصنعة‪ ،‬باشــرها بــدون قيد أو‬ ‫نفســه القــدرة على مزاولة َ‬

‫شــرط"(‪ .)1‬وقد يرجع الفضــل في تنظيم صناعة التطبيب‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬


‫العيش الجماعي‬

‫بإحساس غير موجود عند معظم الحيوانات‪،‬‬ ‫البد أن أنوه‬ ‫ٍ‬ ‫وهو أن إناثنا على درجة عالية من الحياء قلما نجدها عند‬ ‫الثدييات األخرى من الحيوانات‪ .‬حيث تنأى عند اقتراب‬ ‫الــوالدة بنفســها إلى مكان بعيد عــن األنظار‪ .‬وعندما تتم‬

‫الــوالدة يقــوم صغيــر وحيد القرن األبيــض باتباع أمه عن‬

‫ال ويواصل متابعتها بشــكل‬ ‫ٍ‬ ‫قــرب ثالثــ َة أيام‪ ،‬ثم يتبطأ قلي ً‬ ‫أبعــد مــن ذي قبل‪ .‬في نوعنا الهنــدي تطمئن األنثى على‬ ‫أحــوال صغيرهــا ‪-‬من خــال صوته ورائحتــه‪ -‬على بعد‬

‫صريعــا نتيجة الضربــات القاتلــة أو الجروح‬ ‫مــن اإلنــاث‬ ‫ً‬

‫‪ 800‬متر رغم نظرها القصير‪.‬‬

‫العميقــة‪ ،‬بســبب ذلــك نعانــي‬ ‫كثيــرا مــن الحفــاظ علــى‬ ‫ً‬

‫يصــل الذكــر إلى مرحلة البلــوغ في الثامنة من عمره‪،‬‬ ‫ولكنه ال ُي ِ‬ ‫قدم على الزواج إال بعد تأمين منطقته الخاصة‬

‫إن صغارنا تبدأ بتناول حشائش المراعي تحت رعاية‬

‫األمهات مدة عام أو عامين‪ ،‬وعند اقتراب الوالدة الثانية‬ ‫تترك األم صغيرها لبلوغه مبلغ االعتماد على نفسه‪.‬‬

‫وحيــد القرن الهندي مشــاغب‬ ‫وكثير القتال‪ ،‬حتى إنه في‬ ‫ُ‬

‫بعض األحيان يهاجم الفيلة! ولكن وحيد القرن األبيض‬ ‫مرو ًعا وأشد‬ ‫رغم هدوئه وسكونه‪ ،‬يبدو بجسمه الضخم ِّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫به‪ ،‬وبعد ســنتين يعلن للجميع أنه صاحب هذه المنطقة‬ ‫وأنــه ســيعيش فيهــا مــع زوجــه‪ .‬وإذا تــم القبول مــن ِق َبل‬ ‫الجميع‪ ،‬عندها يقوم بالزواج‪ ..‬إذ ال ُيســمح في عاداتنا‬ ‫تتكون العائلة في أراضي اآلخرين‪.‬‬ ‫أن ّ‬

‫التــوازن الطبيعــي ومــن ثــم البقــاء علــى قيــد الحيــاة‪ ..‬إن‬

‫يميِــز نوعه من لونه ثم يقوم‬ ‫هيبــة‪ .‬إن هــذا النوع األخير‪ّ ،‬‬ ‫بالعيــش علــى شــكل مجموعــات كبيــرة مــن أجــل رعاية‬

‫وحماية صغاره‪.‬‬

‫حد ُثتكــم في البداية‪ ،‬فإن جنســي أوشــك على‬ ‫وكمــا ّ‬

‫منفردا‪ ،‬ولكن‬ ‫القناعة الشــائعة أن وحيد القرن يعيش‬ ‫ً‬

‫االنقــراض بســبب الصيــد الجائــر الذي يقوم بــه بعضكم‬

‫عددهــا مــن خمســة إلــى عشــرة مجموعــة للعيــش علــى‬

‫القرن األسود انخفضت ما بين عامي ‪ 1990-1970‬من‬

‫فــي بعــض األحيــان نقــوم بتكويــن مجموعــات يتــراوح‬

‫مربعــا‪ ،‬ولكــن إن لــم‬ ‫كيلومتــرا‬ ‫مســاحة تبلــغ ‪25-10‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫توجد كثافة ســكنية حولنا فتتســع هذه المســاحة إلى ‪50‬‬

‫مربعــا‪ .‬هذا وإننا نحدد بأصواتنا تخوم مناطقنا‪،‬‬ ‫كيلومتــرا ً‬ ‫ً‬ ‫حيــث يعلــن كل واحــد منا بصوته الخاص بــه بأن‪" :‬هذه‬

‫يقربــن منهــا أحــد"‪ .‬وبالتالي تتغير مســاحة‬ ‫منطقتــي‪ ،‬فــا‬ ‫َّ‬ ‫المنطقــة التــي أتخذها أنا وحيد القرن األســود من ‪ 3‬إلى‬ ‫مربعــا‪ .‬إن اإلنــاث تتســامح فيمــا بينهــا في‬ ‫‪90‬‬ ‫كيلومتــرا ً‬ ‫ً‬ ‫تجــاوز حــدود بعضها البعــض‪ ،‬ولكن الذكــور فال مكان‬ ‫تكــون الصراعــات بيــن الذكــور قاتلــة فــي أغلــب‬

‫األحيــان‪ ،‬فنســبة المــوت نتيجــة الصراعــات عندنــا نحــن‬

‫وحيدي القرن األســود مرتفعة أكثر من األنواع األخرى‪.‬‬ ‫فحســب اإلحصائيــات‪ ،‬يقــع ‪ %50‬مــن الذكــور و‪%30‬‬

‫‪ 100‬ألــف إلــى ‪ 3‬آالف‪ ،‬وإذا اســتمرت الحالة على هذا‬ ‫الشكل‪ ،‬فسننقرض كلنا ونغيب عن ميدان الحياة بالمرة‪.‬‬ ‫لــذا‪ ،‬ال نملــك إال الدعــاء إلــى اهلل تعالى بــأن ُي َل ّيِن قلوب‬

‫هؤالء الصيادين القاسية‪ ،‬ليلجموا رغباتهم ويمتنعوا عن‬

‫السعي وراء قرني‪ .‬ال سبيل لخالصنا من هذا االنقراض‪،‬‬ ‫رحيمــا يشــفق علــى كل مــا فــي‬ ‫قلبــا‬ ‫ً‬ ‫إال بإنســان يملــك ً‬

‫الطبيعــة مــن إنســان وحيوان ونبات وجماد‪ ...‬كما نســأل‬ ‫المولى العلي القدير أن يرزقنا رؤية هذا اإلنسان المثالي‬

‫الــذي سيســعى إلــى نشــر الخيــر والســام فــي كل أرجاء‬ ‫العالــم‪ ،‬قبــل انقراضنا وغيابنا عن ســطح الكــرة األرضية‬

‫ومفارقتنا الحياة‪.‬‬

‫(*) جامعة ‪ 9‬أيلول ‪ /‬تركيا‪ .‬الترجمة عن التركية‪ :‬مصطفى حمزة‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫أبدا‪.‬‬ ‫للمسامحة ً‬

‫علمــا بأن نســبة عددي أنــا وحيد‬ ‫للحصــول علــى قرنــي‪ً .‬‬

‫‪43‬‬


‫مت بشــكل يتيح لــي التقاط أوراق‬ ‫فص ِّم ْ‬ ‫القــرن األســود ُ‬

‫األشــجار وشــجيرات األدغــال والقليــل مــن األعشــاب‬

‫كثيرا ْأك َل شجرة األكاسيا واألوراق‬ ‫الجافة‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫أحب ً‬ ‫مت‬ ‫فص ِّم ْ‬ ‫الحليبية‪ .‬أما الشفة العليا لوحيد القرن الهندي ُ‬ ‫يمكنه مــن اقتطــاف األوراق العالية‬ ‫بشــكل خــاص‪ ،‬ممــا ّ‬ ‫لألجمات‪.‬‬ ‫الطرية َ‬

‫ُم ْغ َرم بالماء‬

‫ألتمــس العيــش في المناطق القريبة مــن المياه‪ ،‬فأنا ُم ْغ َر ٌم‬ ‫لترا فــي اليــوم الواحد‪،‬‬ ‫بهــا‪ .‬أشــرب مــا يقــارب عــن ‪ً 80‬‬

‫العريضــة‪ ،‬مهيــأة لحمــل ما يتراوح بيــن ‪ 5-3‬أطنان‪ ،‬ولو‬

‫لغ ْص ُت‬ ‫مزودة بهــذه القاعدة العريضــة‪ُ ،‬‬ ‫لــم تكن أرجلــي َّ‬ ‫أبدا‪.‬‬ ‫اللينة و َل َما‬ ‫استطعت التحرك ً‬ ‫ُ‬ ‫في األراض الطرية ّ‬

‫وربمــا أصبــر علــى العطــش أربعة أيام أو خمســة‪ .‬أقضي‬ ‫غامرا جســمي في األوحال‪،‬‬ ‫معظــم أوقاتــي بين المياه أو‬ ‫ً‬ ‫شــعر إال‬ ‫ألنه رغم ســماكته فإن جلدي َأ ْجرد وليس عليه‬ ‫ٌ‬ ‫فــي األذنيــن وأطــراف الذيــل‪ .‬وعلى الرغم من الســماكة‬

‫الغذاء النباتي‬

‫طعامنــا كلــه مــن النبــات‪ ،‬إذ نــأكل األوراق الخضــراء‬

‫واألعشاب الطويلة‪ .‬فنحن مضطرون الستهالك األوراق‬

‫ضعــت بشــكل قريــب من‬ ‫هــذه‪ ،‬فــأن األوعيــة الدمويــة ُو‬ ‫ْ‬

‫الليفيــة الطريــة مــن النباتــات التي تحتوي علــى كمية من‬

‫يشــكل‬ ‫وحيــد القــرن األبيض حوالــي ‪ 75-70‬كغ‪ ،‬مما‬ ‫ّ‬

‫ولعمل‬ ‫‪ %5-4‬من وزنه اإلجمالي‪ .‬ولتلبية طاقة جسمي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الجهــاز العضمــي بكفــاءة أكبــر‪ ،‬تــم وضــع بكتيريــا فــي‬

‫مكونــة للخاليــا النباتية)‬ ‫أمعائــي لهضــم الســليلوز (مــادة ِّ‬ ‫يمكننــي مــن الحصــول علــى كميــة‬ ‫بكثافــة‪ ،‬األمــر الــذي ّ‬

‫كافية من غذاء النباتات الخضراء‪.‬‬

‫بعــض أنواعنــا ال يملــك أســنان الطواحــن‪ ،‬وبعضنــا‬

‫اآلخر ال يملك القواطع‪ ،‬وإنما قامت مقام هذه القواطع‬

‫طبعا‪ ،‬لــذا ‪-‬بإلهام من ربي‬ ‫تضيقني ً‬ ‫وعافيــة‪ .‬هــذه الحالة ّ‬

‫يشــكل طبقة‬ ‫بالوحل‪ ،‬ألن الوحل‬ ‫ورحمــة منه‪ -‬أعتصــم‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬

‫نعــت الذبــاب مــن أن‬ ‫ســميكة عنــد جفافــه فأكــون قــد َم ُ‬ ‫تلسعني وتزعجني على الدوام‪.‬‬

‫الحم ُل واإلنجاب‬ ‫ْ‬

‫هذا وإن إناث وحيد القرن الهندي‪ ،‬تبدي أولى عالمات‬ ‫البلــوغ فــي الخامســة مــن عمرها‪ ،‬وتحمــل حملها األول‬ ‫فــي السادســة أو الثامنــة‪ ،‬وتتــراوح مــدة حملهــا مــا بيــن‬

‫أتمكــن مــن انتقاء‬ ‫وبفضــل اللواقــط الحساســة لجلــدي؛ ّ‬

‫واحدا بســبب ضخامة جســمه ووزنه الذي يصل إلى ‪65‬‬ ‫ً‬

‫جدا واقتطافها بســهولة من بين المواد‬ ‫األعشــاب الرفيعة ًّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الذبــاب إلى التهافت علي لتغــرس خراطيمها في جلدي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتصــل إلــى عــروق الــدم البــارزة وتتنــاول غذاءهــا بهنــاء‬

‫الشفتان التي تم تصميمها بطريقة خاصة وبشكل يناسب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تنــاول األغذيــة‪ .‬وبفضــل امتــداد عضــات‬ ‫طــرق‬ ‫كافــة‬

‫الح َزم القوية‪،‬‬ ‫الشفتين في اتجاهات مختلفة‬ ‫ُّ‬ ‫وتكونها من ُ‬

‫‪42‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المــاء‪ .‬وقــد يبلــغ وزن النباتات الخضراء هــذه في معدة‬

‫ســطح جلدي مما يجعلها تبين بســهولة‪ ،‬وهذا ما يدفع‬

‫أنيابــا‬ ‫األخــرى‪ .‬أمــا وحيــد القــرن اآلســيوي فــا يملــك ً‬

‫قواطع فقط‪ ،‬بينما وحيد القرن الســومطري‬ ‫وإنما أســنا ًنا‬ ‫َ‬ ‫لــه أنيــاب يســتعملها فــي القتــال ال فــي تنــاول الطعــام‪.‬‬

‫كمــا أن وحيــد القرن األبيض اإلفريقي يســتطيع بشــفتيه‬ ‫وينزلهــا‬ ‫العريضتيــن أن يقضــم باقــة كبيــرة مــن العشــب ُ‬ ‫دفعــة واحــدة إلــى معدتــه‪ .‬أما شــفتي الحادتــان أنا وحيد‬ ‫ّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مولودا‬ ‫شــهرا‪ .‬تضــع اإلناث في البطــن الواحد‬ ‫‪17-16‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫شهرا على األقل بعد‬ ‫كغ‪ .‬يحتاج الحمل الثاني إلى ‪ً 22‬‬ ‫الــوالدة األولــى‪ ،‬ألننــا ُنرضــع صغارنــا مــدة عامين على‬

‫مكونــات الحليــب بمــا يتناســب مــع‬ ‫األقــل‪ .‬تــم إعــداد ِّ‬ ‫احتياجــات الصغيــر؛ فنســبة المــاء فيه كنســبته في حليب‬

‫أمهاتكــم أنتــم البشــر‪ ،‬ولكــن نســبة الدســم فيــه أقــل مــن‬ ‫حليبكــم بـــ‪ 15‬ضع ًفا‪ ،‬كما أن نســبة البروتينات في حليبنا‬

‫تبلغ ثالثة أضعاف حليب أمهاتكم‪.‬‬


‫كمــا يتــراوح وزن بعــض أنواعنــا كوحيــد القــرن األبيض‬

‫النظر الضعيف‬

‫يفوقــون وزن فــرس النهــر‪ .‬ولكــن على الرغــم من وزني‬ ‫الثقيــل وجســمي الكبيــر‪ ،‬أســتطيع أن َأ ْجري ‪-‬ولــو لفترة‬

‫عينــي‬ ‫أبــدا‪ .‬ألن‬ ‫رؤيتكــم ً‬ ‫متــرا فــا أســتطيع َ‬ ‫عنــي بـــ‪ً 30‬‬ ‫َ ّ‬ ‫ضعت‬ ‫ضعت بطريقة تختلف عن طريقة عيونكم؛ أي ُو‬ ‫ُو‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫عين على يمين رأســي وعين على يســاره‪ ،‬وهذا يعني أن‬ ‫ٌ‬ ‫ما تراه عيني اليمنى ال تراه اليســرى‪ ،‬وما تراه اليســرى ال‬

‫االعتقــاد الــذي ورثتموه من الطب الصينــي القديم الذي‬ ‫يــرى أن فــي قرني دواء شــافيا يقضي علــى كل ِ‬ ‫الع َلل‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫أنه‬ ‫أم‬ ‫ل!؟‬ ‫ل‬ ‫الم‬ ‫كل‬ ‫شــأن‬ ‫قــوة عظيمــة وترفــع مــن‬ ‫أنســب‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ــرام عليكم‪ ..‬تســتح ّلون‬ ‫قــرن لصناعــة المجوهــرات!؟ َح ٌ‬

‫يتعــذر علي ‪-‬بــادئ األمر‪ -‬رؤية األشــياء بأبعادها‬ ‫لذلــك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شــيئا‪ ،‬ســرعان ما‬ ‫الثالثــة‪ ،‬لــذا عندمــا ترى عيني الواحدة ً‬ ‫يقوم الدماغ بتســجليه لفترة قصيرة‪ ،‬فأدير رأســي بســرعة‬

‫(‪ )Ceratotherium Simum‬مــا بيــن ‪ 4-3‬أطنــان‪ ،‬وهــم بذلــك‬

‫إن ابتعدتم‬ ‫جدا؛ حيث ْ‬ ‫نظرنــا نحــن وحيدي القرن قصيــر ًّ‬ ‫ُ‬

‫قصيرة‪ -‬بسرعة ‪ 50‬كم في الساعة‪.‬‬

‫أي شــيء‬ ‫وا أســفاه علــى بعضكــم‪ ..‬ليــت شــعري ّ‬ ‫تجدونه في َق ْرني حتى تقتلونني للحصول عليه؟ هل هو‬

‫عين تتمتع بمنظر يختلف عن اآلخر‪،‬‬ ‫تــراه اليمنــى‪ ،‬فكل ٍ‬

‫ألرى الشيء نفسه بعيني األخرى قبل أن تنمحي الصورة‬

‫قتل حيوان ضخم مثلي من أجل قرن صغير‪ ..‬ثم تدفعون‬ ‫َ‬

‫فتشــكل الصورة‬ ‫األولــى‪ ،‬فتتداخــل الصورتان في الدماغ‬ ‫ّ‬

‫آالف الــدوالرات مــن أجــل خرافــة ال تســمن وال تغنــي‬ ‫مــن جــوع! َأتتركــون ما خلــق اهلل لكم من أســباب للعلل‬

‫أتمكن من رؤية األشــياء بأبعادها‬ ‫بأبعادها الثالثة‪ ،‬عندئذ ّ‬

‫مثلما ترونها أنتم‪.‬‬

‫واألمراض؟ َأتنسون ما أخرج لكم من األحجار الكريمة‬

‫السعي وراء قرني‬

‫أشــرفت مع إخواني اآلخرين على االنقراض بسبب‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫صيدكم الجائر للحصول على قروننا‪ .‬هذا الصيد الجائر‪،‬‬ ‫جدا وتحت الحماية‬ ‫َأ ْج َبرنا على العيش في مناطق ضيقة ًّ‬ ‫والمراقبة‪ .‬فأنواعنا الخمســة التــي تحاول البقاء على قيد‬ ‫الحيــاة اليوم هي وحيد القرن (‪ )Rhinoceros Unicornis‬الذي‬ ‫يعيش في الهند‪ ،‬ووحيد القرن (‪ )Rhinoceros Sondaicus‬الذي‬

‫يعيــش فــي "جــاوة"‪ ،‬وهما مــن األنواع الباقيــة من فصيلة‬

‫وأحــادي القــرن‪ .‬أمــا األخرى فتنتســب إلــى فصيلة ذات‬ ‫القرنين‪ ،‬وهي وحيد القرن األبيض (‪)Ceratotherium Simum‬‬ ‫ووحيــد القــرن األســود (‪ )Diceros Bicornis‬اللــذان يعيشــان‬

‫قت‬ ‫قويتيــن ًّ‬ ‫جــدا‪ ..‬لقــد ُخ ِل ْ‬ ‫شــم وســمع ّ‬ ‫أتمتــع بحاســة ّ‬ ‫قمع أســتطيع من خاللها أن أســمع‬ ‫آذانــي علــى شــكل ٍ‬ ‫أتمكــن مــن الحصــول علــى‬ ‫أضعــف األصــوات‪ ..‬وقــد ّ‬ ‫أفضــل المعلومات عن محيطي‪ ،‬عن طريق حاســة الشــم‬ ‫القويــة لــدي‪ ،‬ألن شــعيرات الشــم (‪ )Epitelin‬الممتــدة فــي‬

‫فتحــات أنفــي الملتويــة‪ ،‬أوســع بكثيــر مــن مركــز الشــم‬

‫الحاس َــتين القويتين‬ ‫الموجــود في دماغي‪ .‬وبفضل هاتين‬ ‫ّ‬ ‫(الشــم والســمع) أكون قد عو ُ ِ‬ ‫صر نظري‪ .‬لذا‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ضت ق َ‬ ‫يســعني فــي هــذا المقــام‪ ،‬إال أن أحمــد اهلل القديــر الــذي‬ ‫وجهزني بأفضل ما يناسبني‬ ‫أوجدني بهذه الجثة الكبيرة‪ّ ،‬‬

‫من أعضاء‪.‬‬

‫أنتــم البشــر تضعوننــي بيــن الحيوانــات الصاخبــة‪،‬‬

‫هــذا صحيــح‪ ،‬ألننــا نقوم بعمليــة التواصل فيمــا بيننا عبر‬

‫أصوات مختلفة‪ ،‬وهذه الميزة قلما توجد عند الحيوانات‬

‫(�‪Dicerorhinus Su‬‬

‫الب َقر أثناء‬ ‫األخــرى‪ .‬نقــوم بإصدار الخوار الشــبيه بخــوار َ‬

‫الثالثــة األخيــرة‪ ،‬يكــون القــرن األمامي أطول مــن القرن‬

‫ونقوم بإصدار صوت يشبه زئير األسد للدفاع عن أنفسنا‪،‬‬

‫‪ 158‬ســم‪ ،‬وعنــد وحيــد القــرن الهندي أي وحيــد القرن‬

‫إننــا نتمتــع بهيــكل عظمــي قــوي قــادر علــى حمــل‬

‫‪ )matrensis‬الذي يعيش في سومطرا‪ .‬وإن في هذه األنواع‬

‫الخلفي؛ إذ يبلغ القرن األمامي عند وحيد القرن األبيض‬ ‫الم َد َّرع ‪ 60‬ســم‪ ،‬وعند وحيد القرن األســود ‪ 135‬ســم‪.‬‬ ‫ُ‬

‫رعايــة صغارنا لتحديد تخــوم المنطقة التي نعيش عليها‪،‬‬

‫ونقوم بإصدار أنين يشبه ال ُفواق الخفيف لدعوة إناثنا‪.‬‬

‫جثتنــا الضخمــة‪ ،‬كمــا أن أرجلنــا الضخمــة ذات القاعدة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫السـ�ومطر ي‬ ‫فـ�ي إفريقيـ�ا‪ ،‬ووحيـ�د القـ�رن ُّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫لتصنعــوا منهــا مجوهراتكم؟ إن قرني الذي تلهثون وراءه‬ ‫لــم يكــن حتــى َع ْظمــا‪ ،‬إنمــا هو مصنــوع مــن ِ‬ ‫"الكيرا ِتين"‬ ‫ً‬ ‫يتكون منه الشعر واألظفار!‬ ‫الذي ّ‬

‫وسمع حاد‬ ‫شم قوي‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬

‫‪41‬‬


‫علوم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز*‬

‫وحيد القرن‬

‫يروي قصته‬

‫مرحبــا عزيــزي اإلنســان‪ ..‬أرجــو أن‬ ‫ً‬ ‫ألحدثك عن‬ ‫الوقــت‬ ‫من‬ ‫القليــل‬ ‫عيرنــي‬ ‫ُت‬ ‫ّ‬ ‫أيضا كإخوانــي من الحيوانات‬ ‫نفســي أنا ً‬

‫الذين قاموا بتعريف أنفســهم إليك ســاب ًقا‪ .‬اســمي "وحيد‬

‫ــدن"‪ ،‬وأنا أحد أضخم‬ ‫أيضا‬ ‫ال َق ْــرن"‪،‬‬ ‫وتســمونني ً‬ ‫بـ"الكر َك َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الحيوانــات علــى ســطح األرض؛ حيــث أحتــل المرتبــة‬

‫‪40‬‬

‫الثالثــة مــن حيث الحجم والوزن بعد الفيل وفرس النهر‪،‬‬ ‫وآتــي بعد الزرافة والفيل مباشــرة مــن حيث الطول‪َ .‬أبرز‬ ‫ٍ‬ ‫الم َّثب ْت‬ ‫تميزنــي عن باقــي الحيوانات هي " َق ْرنــي" ُ‬ ‫عالمــة ّ‬ ‫طنين‪ ،‬ومن الطول ‪ 420‬سم‪،‬‬ ‫على أنفي‪ .‬أبلغ من الوزن َّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫والمجتمعات األخرى‪ ،‬وبين المســلمين وغير المسلمين‬ ‫داخل المجتمع اإلسالمي والمجتمعات األخرى‪ ،‬وبين‬ ‫المســلمين وغير المســلمين داخل المجتمع اإلســامي‪،‬‬ ‫وال مجــال هنــا للخــوض في معالجة أمر غير المســلمين‬

‫داخــل جســم المجتمــع اإلســامي وإن كان يعنينــا مــا‬ ‫يجــري عليهــم مــن قواعــد ســلوكية يصوغهــا ويحتمهــا‬

‫عليهم وجودهم داخل هذا المجتمع‪.‬‬

‫وعليه فإن المجتمع اإلسالمي أو المجتمع المسلم‪،‬‬

‫مجتمــع تســوده روح اإلســام وتعاليمــه ونظمــه‪ ،‬ويقوم‬ ‫علــى مبــدأ العبوديــة الكاملــة هلل‪ ،‬وعلــى هــذا تقــوم نظمه‬

‫وبناءاته‪ ،‬على تلك الروح التي ُت َعد اإلطار األشمل الذي‬ ‫يقوم عليه البناء االجتماعي في هذا المجتمع‪.‬‬

‫والــذي هو فــي صورته المثاليــة ‪-‬أو المجتمع الذي‬

‫كليــا تعاليــم اإلســام ونظمــه‪ -‬يبــدو وكأنه ذو‬ ‫اســتدمج ًّ‬ ‫إطــار واحــد وبشــكل واحــد‪ ،‬أو مــا يمكــن أن نطلق عليه‬

‫ال "مفهــوم األمــة"‪ ،‬وإن كان هــذا ال ينفــي أن هــذا‬ ‫إجمــا ً‬ ‫المجتمــع ال ســيما عنــد اتســاع رقعة اإلســام‪ ،‬تكون به‬

‫خصوصا عند تعدد الجماعات المنتمية‬ ‫بعض الفروقات‬ ‫ً‬ ‫لإلســام والتي قد تشكل مجتمعات متعددة‪ ،‬ولكن هذه‬

‫الفروقات ال تمس بصورة أو أخرى األصول التي يرتكز‬ ‫عليهــا المجتمــع اإلســامي فــي عمومــه‪ ،‬وإن بدت مثل‬

‫هــذه الفروقــات إنما تكون فــي تمثيل العام‪ ،‬أو في درجة‬ ‫االســتجابة الفعليــة للصــورة المثالية‪ ،‬أو فــي درجة تنزيل‬

‫هذه األصول على الواقع‪.‬‬

‫والــذي يســعى إليــه المجتمــع المســلم وأفــراده‪ ،‬هو‬

‫تحقيق الصورة المثالية لإلسالم‪ ،‬والتي هي قابلة للتطبيق‬ ‫الواقعــي‪ ،‬وجهد المســلمين يتجــه إلى تحقيقها في أرض‬

‫الواقع‪.‬‬

‫(*) كلية اللغة العربية والدراسات االجتماعية‪ ،‬جامعة القصيم ‪ /‬السودان‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬اإلسالم‪ ،‬لسعيد حوى‪ ،‬ص‪.57:‬‬ ‫(‪ )2‬اإلسالم‪ ،‬لسعيد حوى‪ ،‬ص‪.59:‬‬

‫(‪ )3‬معالم في الطريق‪ ،‬لسيد قطب‪ ،‬ص‪.16:‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪39‬‬

‫الفرسان‬ ‫هؤالء السالكون‪،‬‬ ‫فرسان سائحون‪،‬‬ ‫وبالطريق هامئون‪...‬‬ ‫قلوبهم باإلميان م ْتـرعة‪،‬‬ ‫ونواصيهم بالفكر مرشقة‪...‬‬ ‫ِم ْن ُهنا َم ُّروا‪،‬‬ ‫وآثا ًرا لهم تر ُكوا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫واآلفاق َن َّوروا‪،‬‬ ‫والطأمنين َة نرشوا‪!...‬‬ ‫***‬


‫اإلســامي من حيث إن هذا الواقع هو الذي ينشــئه هذا‬

‫أنهــا متصلــة بنامــوس الكــون العام ومتناســقة معــه‪ ،‬ومن‬

‫علــى الفطــرة البشــرية فــي َســوائها ومحق ًقــا للحاجــات‬

‫القوانيــن التــي تحكــم الفطــرة المضمــرة والقوانيــن التــي‬

‫نفســه وفق منهجه‪ ،‬والذي يكون بالضرورة منطب ًقا‬ ‫الدين ُ‬

‫ثــم فااللتــزام بها ناشــئ من ضــرورة تحقيق التناســق بين‬

‫اإلنســانية الحقيقيــة فــي شــمولها‪ ،‬هــذه الحاجــات التــي‬ ‫ال َي ْع َل ُم َم ْن َخ َل َق‬ ‫يقررهــا الــذي خلق ويعلم من خلق‪َ  :‬أ َ‬ ‫ِير‪(‬الملك‪.)14:‬‬ ‫َو ُه َو ال َّل ِط ُ‬ ‫يف ا ْل َخب ُ‬ ‫وعلى هذا فالدين اإلســامي يواجه الواقع البشــري‬

‫المجتمــع‪ ،‬وهــي التــي تشــكل األســاس الثقافــي لهــذا‬

‫ذكرهــا‪ -‬فيقــر منهــا مــا يقــر ويلغي منهــا ما يلغــي ويعدل‬

‫تبعا لقوانين اإلسالم وتعاليمه‪،‬‬ ‫األولى‪ ،‬لم يكن يسير فقط ً‬

‫مــدركا ضــرورة االلتئــام بيــن‬ ‫تحكــم حياتهــم الظاهــرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الشخصية المضمرة والشخصية الظاهرة لإلنسان(‪.)3‬‬

‫وعليــه تكــون روح اإلســام هــي التــي تســود هــذا‬

‫الموجــود ويزنــه بميزانــه ‪-‬مــن حيــث القواعــد الســالف‬

‫المجتمــع‪ ،‬إذ إن هــذا المجتمــع وفــي بدايــات تكوينــه‬

‫ال‬ ‫واقعــا كام ً‬ ‫منهــا مــا هــو في حاجــة إلى تعديل‪ ،‬وينشــئ ً‬ ‫قائمــا علــى أصوله‪ ،‬أي إن اإلســام والمجتمع‬ ‫متكامــ ً‬ ‫ا ً‬

‫تبعــا للــروح المبثوثــة فــي هــذه القوانيــن والتعاليــم‬ ‫بــل ً‬

‫ومركز‬ ‫باعــث هذه الــروح‬ ‫أيضــا‪ ،‬حيــث كان الرســول ‪‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إشعاعها‪ ،‬والتي تدل عليها اآلية الكريمة في قوله تعالى‪:‬‬ ‫يــز َع َل ْيــ ِه َمــا َع ِن ُّت ْم‬ ‫ــن َأ ْن ُف ِس ُ‬ ‫ــم َر ُس ٌ‬ ‫ــك ْم َع ِز ٌ‬ ‫ــول ِم ْ‬ ‫‪َ ‬ل َق ْــد َج َاء ُك ْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ين ر ُء ٌ ِ‬ ‫يم‪(‬التوبة‪ .)128:‬هذه‬ ‫َح ِر ٌ‬ ‫يص َع َل ْي ُك ْم بِا ْل ُم ْؤمن َ َ‬ ‫وف َرح ٌ‬ ‫هــي الروح التــي تتولد عن حب اهلل وحب الخير‪ ،‬وحب‬

‫المســلم في تعامله مع الواقع البشري‪ ،‬يتعامل بأسلوب‬ ‫نقــدي بنائــي معيــاري‪ ،‬فهــو ال يهدم وال يلغــي كل ما هو‬ ‫الته‪ ،‬وال‬ ‫موجود‪ ،‬كما ال يقبل بكل ما هو موجود على ِع ّ‬ ‫ينتقــي مــن هــذا وذاك‪ ،‬إنمــا منهجه قائم علــى هضم هذا‬

‫االعتقادي اإلسالمي‪.‬‬

‫المحدد للواقع‬ ‫وهذا يدل على أن مصالح البشر هي‬ ‫ّ‬

‫البشري في المجتمع المسلم‪ ،‬إذ إن هذا المجتمع القائم‬ ‫علــى العبوديــة الحقــة هلل تعالــى يعــي‬ ‫جيــدا قولــه تعالى‪:‬‬ ‫ً‬

‫وحــرص علــى تقويــة صلته بــه‪ ،‬وهو الــذي يجعل للنظم‬

‫وقعهــا الذاتــي في نفس اإلنســان حيث تكــون لذة ومتعة‬ ‫هــذا اإلنســان فــي فعــل الخيــرات واإليثار‪ ،‬وهــذه الروح‬ ‫التــي يمكــن أن نعتبرها اإلطار اإلســامي الكلي‪ ،‬والذي‬

‫تتفرع عنها كافة المصالح والحاجات اإلنسانية األخرى‪.‬‬

‫المنظمة لها داخل المجتمع اإلسالمي‪ ،‬والتي تميز هذا‬

‫وعليــه فالمصالــح الخارجــة عليها إنمــا تدخل في مجال‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫بين اإلنسان وربه هو الذي ينمي عبادة اإلنسان بإخالص‬

‫‪‬وما آتاكم‬ ‫اك ْم َع ْن ُه َفا ْن َت ُهوا َو َّات ُقوا‬ ‫الر ُس ُ‬ ‫وه َو َما َن َه ُ‬ ‫ول َف ُخ ُذ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َّ‬ ‫اب‪(‬الحشــر‪ .)7:‬ممــا يــدل علــى أن‬ ‫يد ا ْل ِع َق ِ‬ ‫هلل إ َِّن ا َ‬ ‫ا َ‬ ‫هلل َش ِــد ُ‬

‫شــريعة اهلل تعالــى تتضمــن المصالح الكلية للبشــر والتي‬

‫‪38‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الواقع البشــري وإنشــائه على منهجه القائم على التصور‬

‫بعضا في اهلل‪ ،‬هذا الحب الذي يكون‬ ‫المســلمين بعضهم ً‬

‫هــي التــي تســود هــذه التعاليم والنظــم اإلســامية‪ ،‬وهي‬

‫يجــب أن تــدور فيــه كل الحاجــات والقواعــد الســلوكية‬ ‫المجتمع عما دونه من المجتمعات المختلفة من حيث‬

‫آخــر ممــا يمكن إجماله بـ"الهــوى"‪ ،‬واهلل تعالى يقول في‬ ‫َ‬ ‫ــس َو َل َق ْــد‬ ‫ــون ِإ َّ‬ ‫ال َّ‬ ‫ذلــك‪ :‬إ ِْن َي َّتب ُِع َ‬ ‫الظ َّ‬ ‫ــن َو َمــا َت ْه َــوى األ ْن ُف ُ‬ ‫‪ِ َ‬‬ ‫إل ْنس ِ‬ ‫ــان َما َت َم َّنى ‪َ ‬ف ِل َّل ِه‬ ‫ــم ِم ْ‬ ‫ــن َر ِّبهِ ُ‬ ‫َج َاء ُه ْ‬ ‫ــم ا ْل ُه َدى أ ْم ل ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫اآلخر ُة َوا ُ‬ ‫ألو َلى‪(‬النجم‪.)25-23:‬‬ ‫َ‬ ‫والمجتمع المسلم يقوم بناؤه الفلسفي على التصور‬

‫داخليــا مــن حيــث تنظيــم الروابط‬ ‫المجتمــع اإلســامي‬ ‫ًّ‬

‫كلــه مــن خلــق اهلل‪ ،‬اتجهــت إرادة اهلل إلــى كونــه فــكان‪،‬‬

‫المؤاخــاة كفلســفة روحيــة عميقــة ترســخ معانــي روح‬

‫اإلسالمي الذي يقوم بدوره على أساس أن هذا الوجود‬ ‫وأودعه‬ ‫قوانينه التي يتحرك بها والتي تتناســب بها حرك ُة‬ ‫َ‬ ‫أجزائــه فيمــا بينهــا‪ ،‬كما تتســق بهــا حركته الكليــة‪ .‬وعليه‬ ‫فإن شــريعته لتنظيم حياة البشــر هي شريعة كونية‪ ،‬بمعنى‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫تكوينه البنائي الداخلي‪ ،‬والذي يرتكز على تلك األسس‬

‫السالف ذكرها‪ ،‬والتي تسودها هذه الروح‪ ،‬والتي تزودها‬

‫بالجانب النفسي الداعم لها‪.‬‬

‫وقــد حــوت وثيقة المدينــة المحــددات العامة لتنظيم‬

‫بين المســلمين بعضهم البعض‪ ،‬والتي كانت ترتكز على‬ ‫اإلســام التي تســود نظمه‪ ،‬كما أنها حوت تنظيم عالقاته‬ ‫الخارجيــة ووضعــت األســس النظرية وتكيفاتهــا العملية‬ ‫لقيــام مثــل هــذه العالقــات بيــن المجتمــع اإلســامي‬


‫إن املجتمع املســلم يتعامل مع الواقع البرشي‬

‫عبــدا هلل وحــده مــن ال يعتقــد فــي وحدانيــة اهلل ســبحانه‬ ‫ً‬

‫بأسلوب نقدي بنايئ معياري‪ ،‬فهو ال يلغي كل ما‬

‫وتنزيــل هــذه الوحدانية على حياته االجتماعية كلها‪ ،‬قال‬ ‫ــن ِإ َّن َمــا ُه َــو ِإ َل ٌه‬ ‫هلل َ‬ ‫‪‬و َق َ‬ ‫ال َت َّت ِخ ُ‬ ‫ــن ا ْث َن ْي ِ‬ ‫ــذوا ِإ َل َه ْي ِ‬ ‫ــال ا ُ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ِ ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫َو ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َوا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اح ٌد َفإ َِّي َ‬ ‫الس َــم َ‬ ‫اي َف ْار َه ُبون َو َل ُه َما في َّ‬ ‫اصبــا َأ َف َغيــر ا ِ‬ ‫الد ُ ِ‬ ‫ون‪(‬النحــل‪ ،)52-51:‬وقال‬ ‫هلل َت َّت ُق َ‬ ‫َو َل ُــه ِّ‬ ‫يــن َو ً‬ ‫ْ َ‬ ‫وها َأ ْن ُت ْم‬ ‫ون ِم ْن ُدو ِن ِه ِإ َّ‬ ‫‪‬ما َت ْع ُب ُد َ‬ ‫ــم ْي ُت ُم َ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ال َأ ْس َ‬ ‫ــم ًاء َس َّ‬ ‫ال ِ ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ل‬ ‫ــم ِإ َّ‬ ‫ــم َمــا َأ ْن َــز َل ا ُ‬ ‫َو َآب ُ‬ ‫هلل ب َِهــا ِم ْ‬ ‫ــن ُســ ْل َطان إِن ا ْل ُح ْك ُ‬ ‫اؤ ُك ْ‬ ‫ــن َأ ْك َث َــر‬ ‫ــدوا ِإ َّ‬ ‫َأ َم َــر َأ َّ‬ ‫ــاه َذ ِل َ‬ ‫ــك ِّ‬ ‫ال َت ْع ُب ُ‬ ‫الد ُ‬ ‫ــم َو َل ِك َّ‬ ‫ال إ َِّي ُ‬ ‫يــن ا ْل َق ِّي ُ‬

‫هو موجود‪ ،‬وال يقبل بكل ما هو موجود‪ ،‬إمنا منهجه‬ ‫قائم عىل هضم هذا الواقع البرشي وإنشائه عىل‬ ‫منهجه القائم عىل التصور االعتقادي اإلســامي‪.‬‬

‫نظامها الحياتي واالجتماعي على أســاس هذه العبودية‪،‬‬ ‫وعندهــا يتــم ميــاد مجتمع جديد مشــتق مــن المجتمع‬

‫القديــم مواجــه لــه بعقيــدة جديــدة ونظــام للحيــاة جديد‪،‬‬

‫ون‪(‬يوســف‪ .)40:‬وعليه فالمجتمع المســلم‬ ‫اس َ‬ ‫الن ِ‬ ‫ال َي ْع َل ُم َ‬ ‫َّ‬

‫يقوم على أساس هذه العقيدة وتتمثل فيه قاعدة اإلسالم‬

‫هــو الــذي تتمثــل فيــه العبوديــة هلل وحــده فــي معتقــدات‬

‫محمــدا‬ ‫األولــى بشــطريها شــهادة أن ال إلــه إال اهلل وأن‬ ‫ً‬

‫أفــراده وتصوراتهــم‪ ،‬كمــا تتمثل في نظامهــم االجتماعي‬

‫رسول اهلل"(‪.)2‬‬

‫وأيمــا جانــب تخ ّلــف مــن هــذه الجوانــب‬ ‫وتشــريعاتهم‪ُّ ،‬‬

‫وال يعنــي بحــال تقريــر جماعــة مــن النــاس أو‬

‫يؤدي إلى تخلف الجوانب األخرى‪.‬‬

‫انتقــال هــذه الجماعــة‪ ،‬أن هــذا البنيــان الجديــد أو البنــاء‬

‫والتصــور االعتقــادي اإلســامي‪ ،‬هــو التصــور الذي‬

‫االجتماعــي لهــذا المجتمع‪ ،‬قد نشــأ عبر تطور حضاري‬

‫ينشــأ فــي اإلدراك البشــري مــن تلقيــه لحقائــق العقيــدة‬

‫إدراكــه لحقيقــة ربــه ولحقيقــة الكــون الــذي يعيــش فيــه‬ ‫غيبِــه وشــهوده‪ ،‬ولحقيقة الحيــاة التي ينتســب إليها غيبِها‬

‫وشــهودها‪ ،‬ولحقيقــة نفســه؛ أي لحقيقة اإلنســان ذاته‪...‬‬

‫يكيِف على أساســه تعام َله مع هــذه الحقائق‬ ‫جميعا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثــم ّ‬ ‫ال تتمثل فيــه عبوديته‬ ‫وعليــه يصبــح تعام ُلــه مع ربــه تعام ً‬ ‫هلل وحــده‪ ،‬وتعاملــه مــع الكون ونواميســه‪ ،‬ومع األحياء‬

‫ال‬ ‫وعواملها ومع أفراد الجنس البشري وتشكيالته‪ ،‬تعام ً‬ ‫يستمد أصوله من دين اهلل كما ب ّلغه رسول اهلل ‪ ‬تحقي ًقا‬ ‫لعبوديتــه هلل وحــده فــي هــذا التعامــل وهو بهــذه الصورة‬ ‫يشمل نشاط الحياة ك ّلها(‪.)1‬‬

‫والمجتمــع المســلم أو المجتمــع اإلســامي‪ ،‬ال‬

‫تقــرر أن عبوديتهــا‬ ‫ينشــأ حتــى تقــوم جماعــة مــن النــاس ّ‬

‫الكاملــة هلل وحــده‪ ،‬وأنهــا ال تديــن بالعبوديــة لغير اهلل في‬ ‫االعتقــاد‪ ،‬والتصــور‪ ،‬وفــي العبــادات‪ ،‬والشــعائر‪ ،‬وفــي‬ ‫تنظيــم حياتهــا وف ًقا لهــذه العبودية الخاصــة‪" .‬فالمجتمع‬ ‫المسلم ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من‬

‫العبوديــة لغيــر اهلل ‪-‬معــه أو مــن دونــه‪ -‬إلــى العبوديــة هلل‬

‫وحــده بــا شــريك‪ ،‬ثم تقريــر هذه المجموعــات أن تقيم‬

‫االجتماعــي بصــور تلقائيــة حتميــة‪ ،‬وإنمــا يعنــي أن هــذه‬

‫الجماعــة قــد ارتضــت ومن ثم انصاعت لرســالة الســماء‬ ‫عبــر الرســول محمــد ‪ ،‬أو المحبيــن لهــذه القواعد من‬ ‫بعــده مــن حيــث إيمانهــم بهــا ودخولهــم في هــذا الدين‪،‬‬ ‫بمعنى أن المجتمع اإلســامي يســتوعب في داخله كل‬

‫ال بمقتضياتــه على مر العصور‬ ‫داخــل في هــذا الدين عام ً‬ ‫ســواء على مســتوى األفراد أو الجماعات أو مجتمعات‬ ‫بأكملها‪ ،‬وهذا ما يشكل الطبيعة الدينامية لهذا المجتمع‬ ‫من حيث اســتيعاب الجماعات الجديدة وإســتاتيكية من‬ ‫حيــث قواعــد االنتماء حيث إن المحدد للدخول في هذا‬

‫المجتمع هو االنتماء لهذا الدين‪.‬‬

‫وعليــه ال ُيفهــم األمــر علــى أنــه مجتمــع تقــوم فيــه‬

‫العالقــات والكيانات على أســاس مــن العرق أو اللغة أو‬ ‫أي مــن أشــكال العالقــات األخرى‪ ،‬بل يمكــن القول أنه‬

‫انتمــاء أيديولوجــي قائــم علــى معتقــد واحد غيــر متعدد‪،‬‬ ‫وتصبح خصائصه مبنية على قوة االعتقاد والتصور‪ ،‬وقوة‬

‫البنــاء النفســي‪ ،‬وقــوة التنظيم والبنــاء االجتماعــي النابعة‬ ‫من التصور االعتقادي اإلسالمي‪ ،‬أي أن الواقع البشري‬ ‫فــي هــذا المجتمع يتشــكل عبــر هذا التصــور االعتقادي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫النظــام االجتماعــي‪ ،‬والشــرائع الالحقة لــه‪ ،‬ثم تأخذ في‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الربانــي‪ ،‬والــذي يتكيــف بــه اإلنســان فــي‬ ‫مــن مصدرهــا ّ‬

‫أو ثقافــي لهــذه الجماعة‪ ،‬أو لتغيــرات حدثت في نظامها‬

‫‪37‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬طارق الصادق عبد السالم*‬

‫في العلم فنون ال حصر لها‪ ،‬وفي الصناعة صناعات تمأل األرض‪ ..‬وقدرا ُتك االستيعابية‬ ‫تلم بكل صناعة‪ .‬فعليك أن تتعلم ما‬ ‫محدودة‪ ،‬فإنك ال تستطيع أن تتقن كل علم وال أن َّ‬ ‫يتفق وقابلياتِك فتفيد به نفسك وأمتك‪ ،‬وإال ضاع عمرك وانقضت أيامك‪ ،‬ولم تحقق شيئًا‬ ‫ذا بال لك ألمتك‪.‬‬ ‫املوازين‬

‫مفهــوم المجتمع‬ ‫اإلسالمي المثالي‬ ‫المجتمع اإلسالمي أو المجتمع المسلم‪ ،‬هو الذي تتمثل فيه كلمة "ال إله‬

‫إال اهلل محمد رسول اهلل" كقاعدة أساس بكل مقتضياتها‪ ،‬إذ إنه من غير تم ّثل‬ ‫مســلما‪ .‬وبناء على ذلــك فإن هذه‬ ‫هــذه القاعــدة ومقتضياتهــا فيــه‪ ،‬ال يكــون‬ ‫ً‬

‫لمنهج كامل تقوم عليه حياة األمة المسلمة بحذافيره‪ ،‬فال‬ ‫القاعدة تصبح المرتكز األساسي‬ ‫ٍ‬ ‫تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة‪ ،‬كما أنها ال تكون حيا ًة إســامية إذا قامت على‬ ‫غير هذه القاعدة‪ ،‬أو قامت على قاعدة أخرى معها‪ ،‬أو عدة قواعد أجنبية عنها‪.‬‬

‫مــن حيــث إن ثقافــة هــذا المجتمــع تكــون مرجعتيهــا إلــى تلــك القاعــدة دون اختــاط‬

‫بمرجعيــات ثقافيــة أخــرى ًّأيــا كانــت‪ ،‬وهــذا ال ينفي عملية االحتــكاك الثقافــي وال االنفتاح‬ ‫ّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫وأخذ المالئم لهذه المرجعيــة‪ ،‬وذلك يتمثل في قول‬ ‫والتفاعــل الثقافــي مــع ثقافــات أخرى ْ‬ ‫الرســول الكريــم ‪" :‬الكلمــ ُة ِ‬ ‫أحق بهــا" (رواه‬ ‫الح ْك َمــ ُة ضالــ ُة المؤمــن فحيــث وجدهــا فهــو ُّ‬ ‫الســمات الثقافيــة وربطها بمرجعيــات مخالفة لتلك‬ ‫الترمــذي)‪ .‬ولكــن ال يعنــي هــذا ْ‬ ‫أخــذ هذه ّ‬ ‫وتكيفها شهاد ُة‬ ‫القاعدة‪ ،‬والتي هي قاعدة العبودية هلل وحده في كل األمور‪ ،‬وهي التي تمثلها‬ ‫ّ‬

‫‪36‬‬

‫محمدا رسول اهلل"‪ ،‬وتتمثل هذه العبودية في التصور االعتقادي‪ ،‬كما‬ ‫أن "ال إله إال اهلل وأن‬ ‫ً‬

‫تتمثل في الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية ونظم الحكم‪.‬‬

‫كل النظــم االجتماعيــة القائم عليهــا هذا المجتمــع‪ ،‬فليس‬ ‫تســود هــذه القاعــدة‬ ‫عمومــا َّ‬ ‫ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫ا ْل َخير ِ‬ ‫ين‪(‬آل عمران‪.)114:‬‬ ‫الصا ِل ِح َ‬ ‫ات َوأُو َل ِئ َك ِم َن َّ‬ ‫َْ‬

‫عبــارة شــاملة جامعة شــافية وافية قال فيهــا‪" :‬ليكن أمرك‬

‫بـالمعروف بالمعروف‪ ،‬ونهيك عن المنكر بال منكر"‪.‬‬

‫ومتــى مــا حصــل ذلــك الصــاح‪ ،‬تحقــق أحــد أبــرز‬

‫ولعل مما ُيلفت النظر في هذا الشــأن‪ ،‬أنه ليس هناك‬

‫جميعا أنها‬ ‫أهــداف التربيــة اإلســامية العامــة التــي نعلــم‬ ‫ً‬

‫محدد لتربية أبناء المجتمع المسلم على هذه‬ ‫زمني‬ ‫عمر‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬

‫المصلح‬ ‫تســعى في مجملها إلى إيجاد اإلنســان الصالح ُ‬

‫الشــعيرة اإلســامية الســامية‪ ،‬فهــي فــي مراحلهــا األولية‬

‫في كل زمان ومكان‪.‬‬

‫وصورهــا المبدئيــة تبــدأ معهــم منــذ نعومــة أظفارهــم‪،‬‬

‫• تحقــق معنــى "التمكيــن فــي األرض"‪ ،‬ومــا يتبــع‬

‫شيئا‬ ‫فه ْم يتشربونها ً‬ ‫وتظل ُمســتمر ًة معهم بشكل ُمتدرج‪ُ ،‬‬

‫والرقــي لمــن يتحلــى‬ ‫ذلــك التمكيــن مــن النصــر والعــزة ُ‬

‫ثابتا في نظام حياتهم وواقعهم‬ ‫فشــيئا حتى تصبح فص ً‬ ‫ً‬ ‫ال ً‬

‫بهذه الشعيرة العظيمة‪ ،‬ويقوم بأدائها‪ ،‬ويتخلق بأخالقها‪،‬‬

‫عد صفة من‬ ‫الذي يعيشــونه‪ .‬وال ســيما أنها في حقيقتها ُت ّ‬

‫ويتــأدب بآدابهــا‪ ،‬ويتمســك بتعاليمهــا ومقتضياتهــا فــي‬

‫الملتــزم‬ ‫الصفــات اإليجابيــة المميــزة لإلنســان المؤمــن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بتعاليــم الدين وتوجيهاته وهديه القويم في كل شــأن من‬

‫مختلف شــؤون حياته الدينية والدنيوية‪ ،‬انطال ًقا من قوله‬ ‫اهــم ِفــي ا َ‬ ‫ا َة‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫الصــ َ‬ ‫تعالــى‪ :‬ا َّل ِذ َ‬ ‫ض َأ َق ُامــوا َّ‬ ‫يــن إ ِْن َم َّك َّن ُ ْ‬ ‫ــن ا ْلم ْن َك ِر َو ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َوآ َت ُــوا َّ‬ ‫الــز َكا َة َو َأ َم ُــروا بِا ْل َم ْع ُــروف َو َن َه ْــوا َع ِ ُ‬ ‫َعا ِقب ُة ا ُ‬ ‫أل ُمورِ ‪(‬الحج‪.)41:‬‬ ‫َ‬ ‫فمــن أمــر بالمعــروف ونهــى عــن المنكــر‪ ،‬حصــل له‬

‫شؤون الحياة‪ ،‬وكل جزئية من جزئياتها‪ ،‬انطال ًقا من قوله‬ ‫ض‬ ‫ــاء َب ْع ٍ‬ ‫‪‬والمؤمنــون َوا ْل ُم ْؤ ِم َن ُ‬ ‫ــم َأ ْو ِل َي ُ‬ ‫تعالــى‪َ :‬‬ ‫ــات َب ْع ُض ُه ْ‬ ‫ون بِا ْلم ْعر ِ‬ ‫ْ‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر‪(‬التوبة‪.)71:‬‬ ‫َيأ ُم ُر َ َ ُ‬ ‫وفيمـــا يلــي إلـمـــاحة عن أبــرز االنعكاســات التربوية‬ ‫عندمــا تتــم تربيته منذ بداية نشــأته على التمســك بشــعيرة‬

‫األمــر بالمعــروف والنهي عــن المنكــر والمحافظة عليها‬

‫في واقع حياته‪ ،‬وهي انعكاسات رئيسة تتمثل فيما يلي‪:‬‬ ‫• تحقــق معنــى "الخيريــة اإلنســانية" التــي تجعــل من‬

‫ومجتنبا‬ ‫حبــا للخير وأهلــه‪،‬‬ ‫شــر ًيرا‪ُ ،‬‬ ‫وم ًّ‬ ‫ً‬ ‫اإلنســان ّ‬ ‫ِــرا ال ّ‬ ‫خي ً‬ ‫للشــر وأهلــه‪ ،‬ســواء أكان ذلــك علــى مســتوى الفــرد أو‬

‫الجماعــة أو األمــة‪ ،‬وهــو ما أخبر اهلل تعالى عنه في قوله‪:‬‬ ‫ون بِا ْلم ْعــر ِ‬ ‫ــت ِل َّلن ِ ْ‬ ‫وف‬ ‫ُ‬ ‫ــم َخ ْي َــر ُأ َّمــ ٍة ُأ ْخ ِر َج ْ‬ ‫‪‬ك ْن ُت ْ‬ ‫ــاس َتأ ُم ُــر َ َ ُ‬ ‫ون بِا ِ‬ ‫هلل‪(‬آل عمران‪.)110:‬‬ ‫َو َت ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر َو ُت ْؤ ِم ُن َ‬ ‫الخيريــة مــن‬ ‫يالحــظ قــوة ارتبــاط تحقــق مبــدأ‬ ‫وهنــا َ‬ ‫ّ‬ ‫خــال أداء شــعيرة األمر بالمعــروف والنهي عن المنكر‪،‬‬

‫والقيام بها انطال ًقا من دائرة اإليمان الحقيقي باهلل تعالى‪.‬‬

‫• تحقــق صفــة "الصــاح واإلصــاح"‪ ،‬إذ إن التربيــة‬

‫على شعيرة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والقيام‬ ‫دالالت الصــاح االجتماعي الــذي يؤدي إلى االتصاف‬

‫بصفات الصالحين‪ ،‬سواء على مستوى الفرد أو الجماعة‪،‬‬ ‫هلل َوا ْليو ِم ِ‬ ‫ون بِــا ِ‬ ‫اآلخ ِر‬ ‫‪‬ي ْؤ ِم ُن َ‬ ‫وهــو مــا يؤكده قوله تعالــى‪ُ :‬‬ ‫َْ‬ ‫ون ِبا ْلم ْعــر ِ‬ ‫ْ‬ ‫ون ِفي‬ ‫وف َو َي ْن َه ْو َن َع ِن ا ْل ُم ْن َك ِر َو ُي َســارِ ُع َ‬ ‫َو َيأ ُم ُــر َ َ ُ‬

‫والدنيــا‪ ،‬أما إذا لم ُي َر ّب اإلنســان فــي صغره على احترام‬

‫شــعيرة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والعناية بها‬ ‫فــي مختلــف شــؤون الحياة‪ ،‬فال شــك أن حياته ســتكون‬

‫حيــاة ضائعــة ومليئــة بالمشــكالت والمنغصــات‪ ...‬وال‬ ‫سيما أن فقدان هذه الشعيرة يؤدي بكل تأكيد إلى فقدان‬

‫األمن واألمان‪ ،‬وانعدام الصدق واألمانة‪ ،‬وانتشار الظلم‬

‫والفســاد‪ ...‬وبالتالــي فــإن تربيــة اإلنســان تضطــرب وال‬ ‫تســتقر‪ ،‬وحيــاة المجتمــع ترتبك وال تنتظــم‪ ،‬وتفتقد إلى‬ ‫كثيــر مــن المقومــات الحياتية التي ال غنى لإلنســان عنها‬

‫في أي زمان وكل مكان‪.‬‬

‫إذن يجــب أن يكــون لمبــدأ األمر بالمعــروف والنهي‬

‫وافــرا مــن االهتمامــات التربويــة‬ ‫نصيبــا‬ ‫عــن المنكــر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والدعويــة‪ ،‬ويجــب أن تكــون العنايــة بــه فعليــ ًة ال قولية‪،‬‬ ‫ومنطلقــة مــن اإلدراك لحقيقة ما يترتــب على وجود هذا‬ ‫المبــدأ التربــوي من المصالح والمنافع على المســتويين‬

‫الفــردي والمجتمعــي‪ ،‬ويجب أن يحــرص الجميع على‬

‫التعامل مع هذا المبدأ التربوي من منظور إيجابي‪ ،‬واهلل‬ ‫الهادي إلى سواء السبيل‪.‬‬

‫(*) كلية التربية‪ ،‬جامعة الملك خالد ‪ /‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫عد من‬ ‫بهــا علــى الوجــه األكمــل بيــن أفــراد المجتمــع‪ُ ،‬ت ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫التــي يمكــن أن تتحقــق على شــخصية اإلنســان المســلم‬

‫‪-‬بــإذن اهلل تعالــى‪ -‬التمكين‪ ،‬وتحققت له العزة في الدين‬

‫‪35‬‬


‫تربية‬

‫عراد*‬ ‫د‪ .‬صالح بن علي أبو َّ‬

‫أبناؤنا وشعيرة‬

‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫لعــل ممــا يلفت النظر في وقتنا الحاضر‪،‬‬

‫واالهتمام بشعيرة "األمر بالمعروف والنهي عن المنكر"‪،‬‬

‫كثيــرا عــن العديد مــن القضايا‬ ‫يتحدثــون‬ ‫ً‬

‫وأبــرز مقومات التربية اإلســامية الشــاملة التي ال يمكن‬

‫كثيــرا مــن التربوييــن والدعــاة الكرام‪،‬‬ ‫أن‬ ‫ً‬

‫التربويــة‪ ،‬ويتطرقــون إليهــا بصــورة مباشــرة ‪-‬أو غيــر‬

‫مباشــرة‪ -‬فــي دروســهم ومواعظهــم وأحاديثهــم‪ ،‬إال‬ ‫أنهــم ينســون ‪-‬أو يتناســون‪ -‬اإلشــارة فــي ذلــك كله إلى‬

‫جانــب تربــوي هام فــي حياتنا؛ أال وهــو الجانب المعني‬ ‫بتربيــة النــشء علــى مبــدأ "األمــر بالمعــروف والنهي عن‬ ‫المنكــر"‪ .‬وحتــى أولئــك الذيــن يزعمون أنهــم ُخبراء في‬

‫ا ‪-‬إن لــم‬ ‫تطويــر الــذات والتنميــة البشــرية‪ ،‬فإنهــم قليــ ً‬

‫نــادرا‪ -‬مــا يقومــون بتنظيــم وتنفيــذ برامــج خاصــة‬ ‫يكــن ً‬

‫بتنميــة شــعيرة األمــر بالمعروف والنهي عــن المنكر لدى‬ ‫الصغــار مــن أبنــاء المجتمع‪ ،‬وال ســيما أن هــذا الجانب‬ ‫علــى قــدرٍ كبيرٍ من األهمية‪ ،‬ويســتوجب ضــرورة العناية‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫واالهتمام بهذه النوعية من البرامج التربوية التي ال شك‬

‫‪34‬‬

‫فــي ضرورتهــا وأهميتهــا‪ ،‬ودورها الفاعــل في غرس هذا‬ ‫المبدأ اإليجابي‪ ،‬وتنميته في النفوس‪ ،‬حتى يمكن لها أن‬

‫تتشربه‪ ،‬وأن تعمل به‪ ،‬وأن ُتطبقه في واقعها و ُتترجمه في‬ ‫كل جزئي ٍة من جزئيات الحياة‪.‬‬ ‫ومــن هنــا فإنه ينبغي أن تتم تربية األوالد على العناية‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واحترامهــا والحــرص عليها على اعتبار أنها ُتعد من أهم‬

‫ال‬ ‫أن تقوم تربية الفرد والمجتمع المسلم دون توافرها قو ً‬ ‫تطبيقيا‬ ‫واقعا‬ ‫وعم ً‬ ‫ال‪ ،‬والتي البد من الحرص على أدائها‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫علــى النحــو اإليجابــي الصحيــح الذي يقــوم في األصل‬

‫علــى مبــدأ التواصــي بالحــق والتواصي بالصبــر‪ ،‬وهو ما‬ ‫‪‬وا ْل َع ْص ِــر ‪ ‬إ َِّن‬ ‫ّأكــده القــرآن الكريــم فــي قولــه تعالــى‪َ :‬‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ات‬ ‫اإلنسان َل ِفي ُخ ْسرٍ ‪ِ ‬إ َّ‬ ‫ال ا َّل ِذ َ‬ ‫آم ُنوا َو َع ِم ُلوا َّ‬ ‫ين َ‬ ‫ِالص ْب ِر‪(‬العصر‪.)3-1:‬‬ ‫اص ْوا بِا ْل َح ِّق َو َت َو َ‬ ‫َو َت َو َ‬ ‫اص ْوا ب َّ‬ ‫أمــا الكيفيــة التــي يمكــن أن تتــم مــن خاللهــا التربيــة‬ ‫علــى شــعيرة األمــر بالمعــروف والنهــي عــن المنكــر‪،‬‬

‫فليســت كيفيــ ًة واحــد ًة معينــة‪ ،‬ولكنها تختلــف باختالف‬ ‫الظــروف والحــاالت‪ ،‬وتتنــوع بتنــوع األزمنــة واألمكنــة‪،‬‬

‫والمســببات وإن كانت في ذلك‬ ‫وتتباين بتباين األســباب ُ‬

‫كلــه تعتمد على عنصرين أساســيين همــا "العلم النافع"‪،‬‬ ‫و"العمل الصالح"‪ ،‬فال علم بال عمل‪ ،‬وال عمل بال علم‪.‬‬

‫ولعل خير شعارٍ ُيستدل به على تلك الكيفية‪ ،‬ما جاء‬

‫على لســان شــيخ اإلسالم "ابن تيمية" ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬الذي‬

‫وصــف كيفيــة األمــر بالمعــروف والنهــي عــن المنكر في‬


‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫اآلذان إلى ٍ‬ ‫مصيرها النسيان إلى األبد‪.‬‬ ‫أمد‪ ،‬ثم‬ ‫حدها‬ ‫ُ‬ ‫جاف ًة ُّ‬ ‫ُ‬ ‫لماما‪ ،‬وعندمــا يقتضي األمر فحديثهم‬ ‫الص ُ‬ ‫ُ‬ ‫أناســا َّ‬ ‫مــت َس ْــم ُتهم‪ ،‬ال يتحدثون إال ً‬ ‫عرفــت ً‬ ‫ٍ‬ ‫لمعان تج َّل ْت في ســلوكهم األصيل‪ ،‬وإما تفصيل لمشــاعر عميقة يعوزها‬ ‫غالبا‪ -‬إما شــرح‬‫ً‬ ‫فهمهــا علــى مــن َعميــت بصائرهــم‪ .‬وكــم وقــف النــاس‬ ‫أشــكل‬ ‫لحقائــق‬ ‫تيســير‬ ‫أو‬ ‫البيــان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫خطب لســان الحال‪ .‬يا هلل كم‬ ‫مشــدوهين مبهوريــن وهــم يصغــون إلى ُخطبهم الصامتة‪ ،‬أي‬ ‫ِ‬ ‫وكم بلغوا من عمق الحال والقلب‪ ،‬حتى إن كل من يجلس بين أيديهم ويستمع إليهم‪ ،‬ما‬ ‫إكبارا‬ ‫أسهل أن يفهم عنهم ولو لم يكن ممن يعرف لغتهم‪ ،‬فيزداد لهم‬ ‫كنا‬ ‫وتقديرا‪ .‬وعندما ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صدقنا"‪ ...‬كانت‬ ‫تشــربنا" ال "ســمعنا‪ ،‬تع ّلمنا‪ّ ،‬‬ ‫نحضر مجالســهم ّ‬ ‫كنا نقول‪" :‬شــهِ دنا‪َ ،‬‬ ‫أدر ْكنا‪ّ ،‬‬ ‫نظــرات منهم‬ ‫بســهام فــي أعماقك ترمي بها‬ ‫شــعرت‬ ‫كلماتهــم حكمــة‪ .‬فــإن الذوا بالصمت‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫رقيبا‪.‬‬ ‫ترى اهلل عليها ً‬ ‫مــررت بهــا! لكن ‪-‬وا‬ ‫أجــل‪ ،‬مــا أكثرهــا مــن ينابيــع ومــا أغزرهــا مــن عيون‪ ،‬تلــك التي‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫حســرتاه‪ -‬لم أســتطع ملء دلوي‪ ،‬فكان العبث والتســكع حرفتي‪ .‬أليس شعث حالي دلي ً‬ ‫إن‬ ‫تشردي وضياعي؟! إنني ما زلت حتى اآلن أشعر بأثر صمت هؤالء الربانيين الذين ْ‬ ‫على ّ‬ ‫ال‪.‬‬ ‫فكرا وتأم ً‬ ‫ّ‬ ‫تحدثوا فكلماتهم "حكمة"‪ ،‬وإن صمتوا فاضوا ً‬ ‫شــبعى‪ ،‬وعيو ُننا‬ ‫مــا أكثــر مــا‬ ‫ُ‬ ‫ســمعت حتى اليوم مــن خطب بليغة وكلمــات فريدة‪.‬آذا ُننا َ‬ ‫سلوكا يمشي على األرض‪ ،‬ال كلمات تتردد فحسب‪ .‬وا أسفاه‪،‬‬ ‫جوعى‪ .‬ليتني أرى اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫فالكلمات تشكو قائلها‪ ،‬والخطب تشكو خطيبها‪ .‬أرجوكم ال تعتبوا علي‪ ،‬فإنني بينما أقول‬ ‫ّ‬ ‫ما أقول أضع نفسي في هذه الك ّفة نفسها؛ قل لي أين الخشوع في وجوه المصلين والقراء‪،‬‬ ‫واحــدا بين يــدي اهلل تعالى؟! فال معاني المثول بيــن يدي اهلل لها أثر على‬ ‫ومــن يقفــون ص ًّفــا‬ ‫ً‬ ‫ويكأن قلوبنا ميتة!‬ ‫تبدت في قسماتنا؛‬ ‫ّ‬ ‫حالنا وسلوكنا‪ ،‬وال الخشية َّ‬ ‫أن أمــة‬ ‫كنــا نبتغــي ســبي ً‬ ‫ال للتأثيــر فــي النفــوس فهــو لســان "الحــال"‪َ ،‬أ َنســيتم ّ‬ ‫أجــل‪ْ ،‬‬ ‫إن ّ‬ ‫رجــال‬ ‫أقــل‬ ‫محمــد ‪ ‬مــا انتكســت إال يــوم أن أخطــ َأ ْت‬ ‫َ‬ ‫طريــق لســان "الحــال"؟! أال مــا َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كــره أن‬ ‫بمحــل ّ‬ ‫الحــال اليــوم!‪ ..‬وإ ّننــا مــا ُمنينــا بالهزيمــة إال ْ‬ ‫حــل بنــا فــي رجــال الحــال‪ .‬أ َ‬ ‫أنفــث باليــأس فــي القلــوب‪ ...‬ومــا أريــد إال التنويــه بهــذا األصــل‪" :‬العــودة إلــى الــذات‪،‬‬ ‫والتجــدد‪ ،‬والوعــي الدائــم"‪ .‬وإ ّنــي‬ ‫أن المــوت خيــر مــن حيــاة الغافليــن عــن‬ ‫ألحســب ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ربنــا امنــن علينا باليقظــة والعودة إلى الــذات‪ ...‬وإال فأكرمنــا بلقائك‪.‬‬ ‫الجوهــر والــذات‪ّ .‬‬ ‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬نوزاد صواش‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪33‬‬


‫الموشور‬

‫فتح الله كولن‬

‫اآلذان شبعى والعيون جوعى‬ ‫ومن‬ ‫إذا ّ‬ ‫وحد العبد بين "القال‪-‬والحال"‪َ ،‬ع َل ْت منزلته عند مواله‪َ ،‬‬ ‫ارتفعت مكانته في النفوس‪ ،‬وكان ِلـقا ِله‬ ‫َع َل ْت منزلته عند مواله‪،‬‬ ‫ْ‬

‫ٍ‬ ‫"لسان واحد" له ما له من‬ ‫وقع في القلوب‪ .‬فـ"القال‪-‬والحال" طرفا‬ ‫ٌ‬ ‫األهمية في إعالء الحق وتمثيله وتبليغه‪ ...‬وإذا ما صدع هذا اللسان بالحقيقة زلزل‬ ‫القلوب‪ .‬ذلك هو شأن من جمع بين الحال والقال ولم يفصل بينهما؛ فكلماته‬ ‫كتب لها الخلود‪ .‬وفي األثر أن اهلل أوحى إلى‬ ‫وي َ‬ ‫أثرا ال ينمحي ُ‬ ‫تترك في القلوب ً‬ ‫انتفعت ِ‬ ‫ِ‬ ‫فعظ الناس‪ ،‬وإال فاستحي‬ ‫نفسك بحكمتي‪ ،‬فإن‬ ‫ْ‬ ‫عيسى ابن مريم‪" :‬ع ْظ َ‬ ‫مني"‪ ،‬وفي هذا أبلغ البيان للسر الكامن وراء تصديق القول بالفعل‪.‬‬ ‫بتجر ٍد وفنا ٍء والتفات‬‫ال‪ ،‬ثم ينطلق ليبوح‬ ‫علــى المــرء إ ًذا أن يقــوم بمــا آمن به أو ً‬ ‫ّ‬ ‫عن الذات‪ -‬بما خالج صدره من مشاعر‪ ،‬وما تردد في أعماقه من أصداء‪ ،‬وما انقدح‬ ‫ال‪ -‬في التهجد‬ ‫فــي ذهنــه مــن أفــكار إثر قيامه بما آمن به‪ .‬أ َ‬ ‫ال فليســتحي من يعــظ ‪-‬مث ً‬ ‫والقيام وهو في ليله من الغافلين النيام‪ ،‬وكذا من يعظ في الخشــوع والخضوع وهو‬ ‫ينبســن‬ ‫في صالته غافل ال ٍه لم يلتزم بما يجب من األدب والوقار بين يدي اهلل‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ببنت شــفة عن " َن ْذر العمر لآلخرين" من كان بال "قلب منذور" لآلخرين‪ .‬أجل‪ ،‬لقد‬ ‫منبها‪:‬‬ ‫قضــت حكمــة الخالــق ّ‬ ‫أن تأثيــر القــول رهــن بتخ ّلله في قائلــه وقيامه به‪ ،‬فقــال ً‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ِ‬ ‫ــد ا ِ‬ ‫ال‬ ‫هلل َأ ْن َت ُقو ُلوا َما َ‬ ‫ــون َمــا َ‬ ‫ال َت ْف َع ُل َ‬ ‫ــم َت ُقو ُل َ‬ ‫ون ‪َ ‬ك ُب َــر َم ْق ًتا ِع ْن َ‬ ‫﴿يــا َأ ُّي َهــا ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫َ‬ ‫آم ُنــوا ل َ‬ ‫ون﴾(الصف‪.)3-2:‬‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ُ‬ ‫َت ْف َ َ‬ ‫ٍ‬ ‫تحذر المؤمنين و ُتنكر عليهم بصيغة‬ ‫بأحــد‬ ‫يذهبــن‬ ‫وال‬ ‫أن اآلية عندما ّ‬ ‫الوهــم إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫"ك ّفوا عن قول مــا ال تفعلون"‪ ،‬بل تقول لهــم‪" :‬قد غدوتم‬ ‫الســؤال‪ ،‬أنهــا تقــول لهــم‪ُ :‬‬ ‫أيضا؟ فالقول المنفصل‬ ‫ترجما ًنا للحق بأقوالكم‪ ،‬ف ِل َم ال تترجمون أقوا َلكم إلى أفعال ً‬ ‫عــن الفعــل هــو مــن أعظــم مــا يجلــب غضــب الجبــار ومقتــه"‪ .‬إ ًذا ليــس المــراد منع‬ ‫اإلنسان من ِ‬ ‫يفعل‪ ،‬بل تحفيزه على فعل ما يقول‪ ...‬فالفعل عبادة والقول‬ ‫قول ما لم‬ ‫ْ‬ ‫"التأثير" من وجهين‪ ،‬ومن ترك‬ ‫وح ِرم‬ ‫معا فقد اقترف إثمين اثنين ُ‬ ‫عبادة‪ ،‬فإذا تركهما ً‬ ‫َ‬ ‫وح ِرم "التأثير" من وجه واحد‪.‬‬ ‫إثما‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫واحدا ُ‬ ‫أحدهما فقد اقترف ً‬ ‫تــركك لفعل ما تقــول‪ ،‬يجلب الغضب‬ ‫أجــل‪ ،‬قو ُلــك لمــا لــم تفعــل‪ ،‬أو باألحرى ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مفردات‬ ‫ويخمــد جــذوة كلماتك‪ ،‬ويزعزع ثقة الخلق بــك‪ ،‬ويحيل عباراتك‬ ‫اإللهــي‪ُ ،‬‬

‫‪32‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫المعنى‪ ،‬من مثل قوله سبحانه‪:‬‬ ‫از ُعوا َف َت ْف َشــ ُلوا َو َت ْذ َه َب‬ ‫هلل َو َر ُســو َل ُه َو َ‬ ‫‪‬و َأ ِط ُيعوا ا َ‬ ‫ال َت َن َ‬ ‫َ‬ ‫ِر‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫الص‬ ‫ــع‬ ‫م‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫إ‬ ‫وا‬ ‫ِــر‬ ‫ب‬ ‫اص‬ ‫و‬ ‫ــم‬ ‫ين‪(‬األنفــال‪)46:‬؛‬ ‫َّ ِ َ‬ ‫رِ ُ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫يح ُك ْ َ ْ ُ‬ ‫والريــح هنــا‪ ،‬هــي ثمــرة التواصــل‪ ،‬باالختــاف تذهــب‬

‫�‪sues. Philip Clayton et Paul Davies, The Re-Emergence of Emer‬‬ ‫‪gence: The Emergentist Hypothesis from Science to Religion,‬‬ ‫‪Oxford University Press, 2006.‬‬

‫(‪ )4‬مــن الضــروري التفريــق بيــن "االنبثــاق" باعبتاره ســنة كونيــة وصيغة‬ ‫حركية في نظام الكون ‪-‬وهو المعنى الذي نقصده‪ -‬و"االنبثاق الذاتي"‬

‫األول"‪ ،‬وهــو مــن األدلة التــي اعتمدتها‬ ‫الــذي يفتــرض نفــس "الفاعــل َّ‬

‫وتــزول‪ ،‬وقد يعني لفــظ الريح اإلراد َة‪ ،‬والعزة‪ ،‬والدولة‪،‬‬

‫أي تدخل خارجي في عملية الخلق؛ من هنا يعرف‬ ‫نظرية التطور‪ ،‬لنفي ِّ‬ ‫َّ‬ ‫أن أنماطً ا معينــة للحياة‪ ،‬مثل‬ ‫"التولُّــد التلقائــي أنــه نظريــة كانــت تزعــم َّ‬ ‫الذباب والديدان والفئران من السهولة بمكان أن تنشأ مباشرة من أشياء‬

‫والغلبــة‪ ،‬والقــوة‪ ...‬كمــا يعنــي رضــا اهلل تعالــى عنكــم‪،‬‬

‫وتوفيقكم للخير‪ ،‬ونصرتكم‪.‬‬ ‫ــل ا ِ‬ ‫هلل ج ِميعــا و‬ ‫ال َت َفر ُقــوا َو ْاذ ُك ُــروا‬ ‫‪‬و ْاع َت ِص ُمــوا ب َِح ْب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ً َ َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ــن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ــف‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫اء‬ ‫ــد‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ــم‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ِذ‬ ‫إ‬ ‫ــم‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ِن ْع َمــ َة‬ ‫ــم‬ ‫ِك‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫َ َ ْ ُ ْ ْ ُ ْ ُ ْ ْ َ ً َ َّ َ َ ْ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫النارِ‬ ‫ــم ِب ِن ْع َم ِتــ ِه إ ِْخ َوا ًنا َو ُك ْن ُت ْم َع َلى َشــ َفا ُح ْف َر ٍة ِم َن َّ‬ ‫َفأ ْص َب ْح ُت ْ‬ ‫ون‪(‬آل‬ ‫َف َأ ْن َق َذ ُك ْم ِم ْن َها َك َذ ِل َك ُي َب ِّي ُن ا ُ‬ ‫هلل َل ُك ْم َآيا ِت ِه َل َع َّل ُك ْم َت ْه َت ُد َ‬

‫حيــة مثــل الطين واللحــم المتحلل‪ .‬وتعود هــذه النظرية إلى عهود‬ ‫غيــر َّ‬

‫مــا قبــل التاريــخ‪ ،‬وظ َّلــت مقبولة على نطاق واســع آالف الســنين وقد‬

‫ناقضتهــا التجــارب العلميــة كتلك التــي أجراها عالم األحيــاء اإليطالي‬ ‫"فرانسيســكو ريــدي" فــي عــام ‪1668‬م"‪ ،‬وكذا العالم الفرنســي "لويس‬

‫"أدت اكتشــافات باســتير إلــى ظهــور نظريــة الخلية حول‬ ‫باســتر" الــذي َّ‬

‫عمــران‪)103:‬؛ فاالعتصــام بحبل اهلل وعــدم تفريق الطاقات‪،‬‬

‫إن الحياة تنشــأ من مادة حية‬ ‫الحيــة‪ .‬وتقــول نظرية الخلية َّ‬ ‫أصــل المــادة َّ‬

‫سبق وجودها"‪.‬‬

‫يؤدي إلى انبثاق عظيم من خالل نصرته سبحانه وتأليفه‬

‫أن "الضعــف ال ينضاف‬ ‫(‪ )5‬مــن الحقيقــة البــارزة فــي المجال اإلنســاني َّ‬

‫بين القلوب والنجاة في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫بعضــه إلــى بعض"‪ ،‬فإذا ما أضفــت ضع ًفا إلى ضعف آخر‪ ،‬تولد ضع ًفا‬

‫وغير هذه اآليات كثير‪ ،‬كله دال على بركة االجتماع‬

‫"الجماعــة العلميــة" التــي هــي عصــب الحيــاة لألمــم‬ ‫تفــرق العقــول وتشــتتها اليــوم‬ ‫والمجتمعــات‪ ،‬ذلــك أن ُّ‬

‫فــي واقعنــا وضمــن وعائنا الحضــاري‪ -‬مقدمــة للوهن‬‫تفــوق‬ ‫األمــة اإلســامية ك ِّلهــا‪َّ ،‬‬ ‫والهزيمــة فــي أجــزاء َّ‬ ‫وأن ّ‬ ‫وتمكنــه كان بســبب‬ ‫الغــرب‬ ‫"تجمع العقول والســواعد"‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫يعبــر عنــه‬ ‫فــي جميــع األصعــدة والمســتويات‪ ،‬وهــو مــا ّ‬ ‫بعض النقاد بـ"شبكة العالقات االجتماعية"‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أي جســم كان؛ األســرة‪،‬‬ ‫والتواصــل وربــط العالقات في ِّ‬ ‫ونخصــص‬ ‫والمدرســة‪ ،‬والمؤسســة‪ ،‬والمجتمــع‪...‬‬ ‫ِّ‬

‫فإن‬ ‫وعجــزا‬ ‫أشــد‬ ‫أحــد‪ .‬وال يتحــول ذلــك إلى قوة وال إلى قــدرة‪ .‬ولذا َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫النظرية ال تعنى بالسلب ولكن باإليجاب‪.‬‬ ‫ال‪ -‬محمد الغزالي؛ اإلسالم والطاقات المعطلة‪.‬‬ ‫(‪ )6‬انظر ‪-‬مث ً‬

‫(‪ )7‬قــول األســتاذ فتــح اهلل كولــن في مقال "رســالة اإلحيــاء"‪" :‬إن الهمم‬ ‫تنظــم‬ ‫إن لــم تنضبــط بالتحــرك الجماعــي ولــم َّ‬ ‫والمبــادرات الفرديــة‪ْ ،‬‬

‫صادم بين األفراد ال محالة‪ ...‬ينبغي أن ال‬ ‫تنظيما‬ ‫ً‬ ‫حسنا‪ ،‬فستؤدي إلى َت ُ‬ ‫ً‬ ‫ُتطفأ جذو ُة الطاقات الفردية بتا ًتا‪ ،‬باحتســاب ضرر قد تســببه‪ .‬بل على‬

‫وج َه‬ ‫العكس؛ تجب العناية الرفيعة بها حتى ال ُت َ‬ ‫هدر ذر ٌة واحدة منها‪ ،‬و ُت َّ‬ ‫جميعا نحو تحقيق الهدف المنشود الذي تم تعيينه ساب ًقا‪ ،‬ويزاح ُخ ُلق‬ ‫ً‬ ‫ويســعى إلى تطبيع‬ ‫َ‬ ‫المصادمة في النفوس‪ ،‬ويســتبدل به روح التوافق‪ُ ،‬‬

‫إنساننا بهذا الطبع مهما أمكن"‪ ،‬ونحن نبني حضارتنا‪ ،‬ص‪.46:‬‬

‫(‪ )8‬يجــب أن يكــون "مســؤول العالقــات" أو "مكتــب العالقــات" فــي‬ ‫ال ال مجرد‬ ‫فعــا ً‬ ‫دائمــا َّ‬ ‫المؤسســات والمشــاريع والمجتمعــات‪ ،‬مكو ًنــا ً‬

‫(*) مدير معهد المناهج‪ ،‬الجزائر العاصمة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬

‫هبات وحمالت كمثل ُشــعلة ســعف النخل‪ ،‬ما‬ ‫شــعار‪ ،‬أو على صورة َّ‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬في التاســع من ســبتمبر ‪ ،2013‬كانت لي محاضرة عبر الســكايب‪،‬‬ ‫ألربع فروع من المدارس العلمية في الجزائر بعنوان‪" :‬بناء العالقات‪،‬‬

‫وخصائص المرابطين على تلة الرماة"‪ ،‬أي المشتغلين في مجال التربية‪.‬‬

‫تلبث أن تنطفئ بعد أمد قصير من االلتهاب‪.‬‬

‫(‪)9‬‬

‫عدد العصبونات في مخ اإلنسان‪ ،‬مقدرة بين ‪ 86‬و‪ 100‬مليار‪.‬‬

‫(‪ )10‬استفادت تكنولوجيات اإلعالم‪ ،‬بخاصة مجال الكمبوتر واألنترنت‪،‬‬

‫من هذا المفهوم‪ ،‬وسجلت الدخول إلى عصر جديد‪ ،‬يعتمد العالقات‬

‫ويــدرج التواصــل أحيا ًنــا تحــت بــاب "آداب الحــوار"‪ ،‬وأحيا ًنــا ضمــن‬ ‫َ‬

‫أفــكارا توليدية جديــدة‪ ،‬غير محتملة وال محســوبة‬ ‫تنبثــق مــن مكوناتــه‬ ‫ً‬

‫موضوعيــة؛ الجامعــة اإلســامية‪ ،‬غــزة‪ .‬ماجســتير‪1432 ،‬هـــ‪2011/‬م‪.‬‬

‫إن بعــض الجامعــات اإلســامية‪ ،‬لهــا تخصــص باســم‪:‬‬ ‫"الدعــوة"‪ .‬بــل َّ‬

‫"الدعوة واإلعالم"‪.‬‬

‫�‪Jeffrey Goldstein: Emergence as a Construct, History and Is‬‬

‫)‪(3‬‬

‫أن اإلنســان يعجز عن صنع "جهــاز" يفكر‪ ،‬أي جهاز‬ ‫عــن بعــد‪ ...‬غيــر َّ‬

‫أساســا‪ .‬وخاصيــة "العقل التوليدي" مــن خصائص النظرية‬ ‫وال متوقعــة‬ ‫ً‬

‫الكونية التوحيدية القرآنية‪.‬‬

‫(‪ )11‬ينظر الرابط‪:‬‬

‫‪http://www.intelligence-humaine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ال‪ -‬ماجد رجب سكر‪ :‬التواصل االجتماعي‪ ،‬دراسة قرآنية‬ ‫(‪ )2‬انظر ‪-‬مث ً‬

‫بشــتى أنواعهــا‪ :‬الشــبكات االجتماعية‪ ،‬التســوق اإللكتروني‪ ،‬الدراســة‬

‫‪31‬‬


‫المؤسســات والكيانــات البشــرية‪،‬‬ ‫إدراة‬ ‫العمــل الــدؤوب‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫رئيسا‬ ‫المتواصل على جبهة العالقات‪ ،‬واعتبارها ِّ‬ ‫محد ًدا ً‬ ‫رســما‬ ‫فــي تحقيــق الرســالة أو اإلخفــاق فيهــا(‪ ،)8‬ولعــل‬ ‫ً‬ ‫"مؤسســات" ِمــن عالم متخ ِّلــف‪ ،‬إذا ما‬ ‫بيانيــا مقار ًنــا بيــن‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫واضحا‬ ‫تالزما‬ ‫متحضر‪ ،‬تعطينــا‬ ‫قورنــت بمثلهــا في عالم‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫وظيفيا أكثر من جملة‬ ‫نظاما يكون‬ ‫البسيطة للنظام) ُيعطي ً‬ ‫ًّ‬

‫مكونــات النظام ‪-‬إضاف ًة‬ ‫مكوناتــه‪ ،‬أي َّ‬ ‫أن العالقــات بيــن ِّ‬ ‫المرجوة‬ ‫مكوناتــه‪ُ -‬تعطــي الوظيفة المع َّقــدة النهائية‬ ‫إلــى ِّ‬ ‫َّ‬ ‫التي لم تكن مح َّققة في مكوناته األصلية البسيطة"(‪.)4‬‬

‫ويالحظ في هذا التعريف ورود العديد من المفاهيم‬ ‫َ‬

‫بين "حجم ونوع العالقات" من جهة‪ ،‬و"نجاح أو فشــل"‬

‫فن "التواصل"‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫التي هي من أساسيات ِّ‬ ‫المكونات البسيطة‪.‬‬ ‫‪-1‬‬ ‫ِّ‬

‫تلك المؤسسة من جهة أخرى‪ .‬فكلما تك َّثفت العالقات‬

‫‪ -2‬النمط المع َّقد (النظام الكلي)‪.‬‬

‫تطورت المؤسســة‪ ،‬وكلمــا ترهلت تلك العالقات كانت‬ ‫َّ‬ ‫المؤسسة عرضة لالنهيار‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪ -3‬التواصل بين المكونات (العالقات)‪.‬‬

‫معين‪،‬‬ ‫وإذا ما أســقطنا المفهوم على مشــروع إنساني َّ‬

‫ولعــل أحســن مثــال علــى أهميــة "االنبثــاق"‪ ،‬يالحظ‬

‫"مجتمعــا" مــا‪ ،‬أو‬ ‫وليكــن "مؤسســة"‪ ،‬أو "مدرســة"‪ ،‬أو‬ ‫ً‬

‫منا ليعرف مدى أهمية هذا الشــأن‪،‬‬ ‫في جســم ِّ‬ ‫كل واحد َّ‬

‫يتكون منهم هــذا الكيان‪ ،‬قد يكونون في‬ ‫واألفــراد الذيــن َّ‬ ‫فردا"‪،‬‬ ‫"واحدا‬ ‫حد ذاتهم إذا ما نظرنا إليهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫"فردا ً‬ ‫واحدا" ً‬

‫التفاعــات بيــن عــدد ضخم مــن العصبونــات(‪ ،)9‬يصبح‬

‫وذلــك فــي "الشــبكات العصبيــة"؛ حيــث إنــه مــن خــال‬

‫فإن اآلحاد‬ ‫حاليا‪َّ -‬‬ ‫"جماعــة علمية" ‪-‬وهو محل اهتمامنا ًّ‬

‫المكونات‬ ‫أن‬ ‫الدمــاغ البشــري‬ ‫قــادرا علــى التفكيــر‪ ،‬مــع َّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬

‫قد يكونون دون المطلوب‪ُ ،‬بســطاء‪ّ ،‬يتصفون بصفات ال‬ ‫تكون‬ ‫عملية حســابية رياضية مغلقة‪َّ ،‬‬ ‫فإن الثمرة والنتيجة ِّ‬

‫مجمــوع خصائصهــم‪ ،‬ال بــل ‪-‬أحيا ًنــا‪ -‬تغلــب الصفــات‬ ‫أقــل من مجموعهم الرياضــي(‪ ،)5‬وأحيا ًنا‬ ‫الســلبية فتكون َّ‬

‫أخرى ‪-‬وهذا كثير‪ -‬قد يستحيل الجمع بينهم‪ ،‬ألسباب‬ ‫نفســية أو تاريخيــة أو اعتباريــة‪ ...‬وهــو حــال األمــم التي‬

‫المعطلة"(‪.)6‬‬ ‫تعاني مما ُيعرف بـ"الطاقات‬ ‫َّ‬

‫المكونــات‬ ‫لكــن‪ ،‬لــو عملنــا علــى "العالقــة بيــن‬ ‫ِّ‬

‫محكمــا" بناء على‬ ‫ربطا‬ ‫البســيطة"‪ ،‬وربطنــا بيــن "األفــراد ً‬ ‫ً‬ ‫شــروط موضوعيــة وذاتية‪ ،‬كالتي ح َّققهــا النبي محمد ‪‬‬

‫فــي المدينة المنــورة بعد الهجرة فيما ُعرف بـ"المؤاخاة"؛‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫فإن النتيجة تكون "برك ًة"‬ ‫أي كيان كان‪َّ ،‬‬ ‫لو فعلنا ذلك في ِّ‬

‫‪30‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫فردا إلى فرد في‬ ‫ترشحهم فرادى‬ ‫للمهمة‪ .‬وإذا ما أضفنا ً‬ ‫َّ‬

‫األساســية لهــذه الشــبكات ‪-‬أي الخليــة العصبيــة في حد‬

‫إن‬ ‫ذاتهــا‪ -‬غيــر قادرة على التفكير‪ .‬وبالتالي يمكن القول َّ‬ ‫موجودا‬ ‫وظيفة أو سلوك التفكير‪ ،‬انبثق من حيث لم يكن‬ ‫ً‬

‫في المكونات األساسية األبسط"(‪.)10‬‬

‫والبــد مــن التنبيــه إلــى أن "الــذكاء" البشــري نفســه‪،‬‬

‫فيســيولوجيا بعدد الوصالت التي تربط بين خاليا‬ ‫يفســر‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬

‫منطقيــا بأنــه‬ ‫المــخ‪ ،‬أي بالعالقــات وكثافتهــا‪ ،‬ويعــرف‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬ ‫القــدرة علــى الربط وإيجاد العالقات بيــن ما يتعامل معه‬ ‫اإلنســان‪ ،‬بحيــث يعجز َمن هو أدنــى ذكاء ِمن إيجاد مثل‬ ‫هذه العالقات‪ .‬وفي كال الحالين ‪-‬ورغم صعوبة تعريف‬ ‫رئيسا في عملية‬ ‫الذكاء‪ -‬يبقى التواصل واالتصال ِّ‬ ‫محد ًدا ً‬ ‫الذكاء(‪.)11‬‬ ‫أن نظرية‬ ‫وننهــي هذه المقالــة المختصرة بنتيجة‪ ،‬هي َّ‬

‫كل عناصر الحياة والمخلوقات التي خلقها‬ ‫االنبثــاق فــي ِّ‬

‫أن‬ ‫بعينهــا‪ ،‬والبركــة هــو المصطلــح الالئــق للتعبيــر عــن َّ‬ ‫"نظاما"‬ ‫"الــكل أكبــر مــن مجموع أجزائــه"‪ .‬وبهذا نحقــق‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ال باعتماد نظرية "انبثــاق" الطاقة والحركية من‬ ‫فعا ً‬ ‫مكث ًفــا ّ‬

‫بخاصة عند النبات والحيوان ثم اإلنسان‪ -‬تدفعنا‬‫اهلل ‪‬‬ ‫َّ‬ ‫الجدي في أهمية "التواصل والعالقات" في‬ ‫إلــى التفكير‬ ‫ِّ‬

‫وعمليــة "الربــط واســتثمار العالقــات" هــذه‪ ،‬عمليــة‬

‫الحضــارة مــن هــذا المدخل‪ ،‬وهي "قــدرة مجتمع ما أن‬

‫"العالقات"(‪.)7‬‬

‫ديناميكيــة؛ للزمــان والمــكان والظروف واألحــوال أثرها‬ ‫المتجــدد عليهــا‪ ،‬وهــي ليســت عمليــ ًة إســتاتيكية‬ ‫الدائــم‬ ‫ِّ‬

‫خاملة تحدث مرة واحدة ثم تنتهي‪ ،‬ومن ثم وجب ضمن‬ ‫َّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المجــال الفكــري والحضاري‪ .‬ولعل مــن المفيد تعريف‬

‫قادرا على‬ ‫فعــا ً‬ ‫يبنــي مــن مكوناته البســيطة ً‬ ‫ال‪ً ،‬‬ ‫نظاما كثي ًفا َّ‬ ‫فعل ما ال يفعله مجموع أجزائه"‪.‬‬

‫ويمكــن تفســير العديد مــن آيات كالم اهلل تعالى بهذا‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬محمد باباعمي*‬

‫نظرية االنبثاق‬

‫وحتمية التواصل‬ ‫قد يأخذ الحديث عن "التواصل" منحى‬ ‫ً‬ ‫ويســتعان في ذلك ِ‬ ‫بالح َكم‬ ‫لفظيا‪ُ ،‬‬ ‫أدبيــا ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫واألمثــال واألشــعار‪ ،‬وهــذا االختيار له‬

‫إيجابيته وسلبياته‪.‬‬

‫وقــد يتــم معالجة معضلة "التواصل" من خالل علوم‬

‫إنســانية مــن مثــل "علــم االجتمــاع"‪ ،‬و"علــم اإلعــام"‪،‬‬ ‫و"علــم النفــس"‪ُ ،‬فيحشــر ضمــن األعمــال‬ ‫المتخصصــة‬ ‫ِّ‬ ‫ويفيد في مجاله ولغايته وغرضه‪.‬‬ ‫تربويا ِمــن مدخل العالقة‬ ‫وقــد ُيتعــرض لـ"التواصل"‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬ ‫مكونات العملية التربوية؛ فيكون له أثره في المدرسة‬ ‫بين ِّ‬ ‫والجامعة حسب أهمية الطرح وعمقه(‪.)1‬‬

‫"أسلمة العلوم" بعمل سطحي بسيط‪.‬‬

‫وضمن وعائنا الحضاري‪ -‬مقدمة للوهن والهزمية‬ ‫تفوق الغرب‬ ‫يف أجزاء األمة اإلســامية ك ِّلها‪ ،‬وإن‬ ‫ّ‬

‫"تجمع العقول والسواعد" يف‬ ‫ومتكُّ نه كان بسبب‬ ‫ُّ‬

‫جميع األصعدة واملستويات‪.‬‬

‫َّأمــا فــي هذا المقال المختصر‪ ،‬فقــد رأيت من المفيد‬

‫االســتعان َة بمقاربــة "نظريــة المعرفــة" وكــذا "الفيزيــاء"‬ ‫المعاصــرة‪ ،‬للتطــرق لهــذا الجانب األســاس من جوانب‬ ‫حركية اإلنسان على خط الزمن‪.‬‬

‫وعنوان هذا المدخل‪" :‬نظرية االنبثاق أو التولد"‪.‬‬

‫فمــن حيــث تعريــف التولُّــد أو االنبثــاق‬ ‫(‪ ،)3‬فهــو "عمليــ ُة تشــكُّ ِل ٍ‬ ‫نمــط مع َّق ٍد من قواعد بســيطة أو‬ ‫(‪)Emergence‬‬

‫اعتمادا‬ ‫معينة‬ ‫مكونات بسيطة‪ .‬وتعني ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫أيضا‪ ،‬ظهور وظيفة َّ‬ ‫حد ذاتها غير قادرة على القيام‬ ‫مكونات بسيطة في ِّ‬ ‫على ِّ‬ ‫لكــن تواصلهــا (أي تواصــل هــذه‬ ‫بالوظيفــة‪،‬‬ ‫المكونــات‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫(‪)2‬‬ ‫أي مــا‬ ‫وللفقــه والعقيــدة والتفســير والحديــث‪ْ ...‬‬ ‫يمكــن تصنيفــه تحــت خانــة "العلــوم اإلســامية"‪،‬‬ ‫أوجه‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫تؤسس لعلم التواصل من منطلق شرعي‬ ‫كثيرة يمكن أن ّ‬ ‫فكــري قرآنــي إســامي‪ ،‬شــريطة أن ال ُتحشــر في ســياق‬

‫إن تفــ ُّرق العقول وتشــتتها اليــوم ‪-‬يف واقعنا‬

‫‪29‬‬


‫وعليه فالعقوبة تكون شــخصية‪ ،‬ويتشاركون في ممارسة‬

‫جــوار اهلل وذمــة محمــد النبــي رســول اهلل علــى أموالهــم‬

‫ورعاية واجباته‪ ،‬أي إن هناك حقو ًقا وواجبات دســتوري ًة‬ ‫سياســية واقتصادية وعســكرية وســلوكية‪ ...‬يســتوي فيها‬

‫مــا تحــت أيديهــم مــن قليل أو كثيــر‪ ،‬ال يغير أســقف من‬

‫مــكارم األخــاق مــن البــر والمعــروف وحســن الجــوار‬

‫وأنفســهم وأرضهــم وم ّلتهــم وغائبهــم وشــاهدهم وكل‬

‫أســقفيته‪ ،‬وال‬ ‫راهــب من رهبانيتــه‪ ،‬وال كاهن من كهانته‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫جميــع المواطنيــن مهما تعــددت مجموعاتهم واختلفت‬

‫وال يطــأ أرضهــم جيــش‪ ،‬ومــن ســأل منهــم ح ًّقــا بينهــم‬

‫وتعطي الصحيفة الحق لكل جماعة بأن تنفرد ببعض‬

‫إن مثــل صحيفــة المدينــة والعهــد النبــوي لنجــران‬

‫عقائدهم‪.‬‬

‫النصف (القسط والعدل) غير ظالمين وال مظلومين"(‪.)3‬‬

‫الممارســات الخاصة التي تتعلق بالجماعة وال تتعارض‬

‫وملحقاتهمــا‪ ،‬والعهــود العمريــة مــن بعــد‪ ،‬قــد حفظــت‬

‫مع الحقوق والواجبات العامة لجميع المواطنين‪.‬‬

‫دســتوريا‬ ‫وضعا‬ ‫للمواطنيــن مــن أهــل الكتــاب‬ ‫متميزا في‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫نالحــظ أن الصحيفــة تحدثــت عن جماعــة المؤمنين‬

‫حصــن الرســول ‪ ‬حقوقهــم‬ ‫الدولــة اإلســامية‪ ،‬فقــد ّ‬ ‫بكونهــم فــي جــوار اهلل وفي ذمة محمد النبي رســول اهلل‪،‬‬

‫المســلمين مــن المهاجريــن واألنصــار‪ ،‬وتحدثــت عــن‬

‫اليهود على تعدد قبائلهم وبطونهم وحلفائهم‪ ،‬وأشــارت‬

‫وقــد ختمت صحفية المدينة بقول الرســول عليه الصالة‬

‫إلــى بعــض المشــركين‪ ،‬وتحدثــت عــن العــام والخاص‪،‬‬

‫ومحمد رسول اهلل"‪.‬‬ ‫جار لمن ّبر واتقى‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫والسالم‪" :‬وأن اهلل ٌ‬

‫بحيث ال يتعارض ما هو للفرد بحسبانه‬ ‫مواطنا في دولة‬ ‫ً‬

‫وال ننســى أن هــذه الصحيفــة الدســتورية قــد ُكتبــت‬

‫فردا في جماعــة (دينية أو عرقية)‬ ‫مــع مــا هو له بحســبانه ً‬

‫الهويــة الخاصــة بكل جماعة داخــل الهوية العامة للدولة‬ ‫ككل‪ ،‬فقــد خصــت الوثيقــة المســلمين بأشــياء‪ ،‬وخصت‬ ‫اليهــود بأشــياء‪ ،‬وألزمــت الجميع بأشــياء دونما تعارض‬

‫أو تناقض‪ .‬وقد رأينا في الصحيفة أن العدل‪ ،‬والمساواة‪،‬‬

‫العرب في شــبه جزيرتهم‪ ،‬ولو نظرنا إلى محاوالت كل‬

‫من أفالطون وأرســطو لصياغة نظرية سياســية للمجتمع‬ ‫اليونانــي‪ ،‬ألدركنا الفــروق الهائلة بيــن "صحيفة المدينة"‬

‫ونظريات فالســفة السياسة التي صاغها كل من أفالطون‬ ‫في (جمهوريته) وأرسطو في كتابه عن السياسة‪.‬‬

‫بهذا الدين أو ذلك‪.‬‬

‫الوثيقــة‪ ،‬وكذلــك العهــد النبوي ألهــل نجــران‪ ،‬والعهود‬

‫ولقد فتحت الصحيفة الباب‬ ‫واسعا أمام مواطنيها من‬ ‫ً‬

‫اليهود‪ ،‬لكي يستجيبوا إذا ما دعوا إلى الصلح‪ ،‬وإذا دعا‬ ‫المواطنــون اليهــود إلــى صلح مع آخريــن‪ ،‬فإنه يتوجب‬ ‫علــى المواطنيــن المســلمين أن يلتزمــوا بهــذا الصلــح ما‬

‫لــم يكــن مع قوم يحاربــون الدين‪" :‬وإذا دعوا إلى صلح‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ا عــن قبائــل‬ ‫اإلمبراطوريتيــن الرومانيــة والفارســية فضــ ً‬

‫حق‬ ‫والحريــة‪ ،‬والبــر والمعــروف‪ ،‬والحمايــة والنصيحة‪ٌّ ،‬‬ ‫لــكل‬ ‫مواطــن فــر ٍد فــي "دولــة المدينــة" بقطــع النظر عن‬ ‫ٍ‬

‫انتمائه لهذه الجماعة أو تلك‪ ،‬وبقطع النظر عن االعتقاد‬

‫‪28‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫مهما يحترم‬ ‫داخــل هــذه الدولة‪ ،‬بينــت الوثيقة ذلك بيا ًنــا ًّ‬

‫فــي زمــان لــم تكــن فيــه حقــوق للمواطنيــن مرعيــة فــي‬

‫يصالحونــه ويلبســونه (يشــاركون فيه)‪ ،‬فإنهــم يصالحونه‬

‫ويلبســونه‪ ،‬وأنهــم إذا دعوا إلى مثــل ذلك‪ ،‬فإنه لهم على‬

‫المؤمنين إال من حارب في الدين"‪.‬‬

‫وحين نقرأ هذه الوثيقة يستدعي الذهن "العهد النبوي‬

‫إلــى نصــارى نجران" وقد جاء فيه‪" :‬ولنجران وحاشــيتها‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫وال ريــب أن األحــكام واألســس التــي تضمنتها هذه‬

‫بعد‪ ،‬ينبغي أن تكون ضابطة لمذاهب الفقهاء‬ ‫العمرية من ُ‬

‫ولممارسات الحكام المسلمين مع مواطنيهم‪.‬‬ ‫(*) كلية دار العلوم‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ /‬مصر‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫(‪ )1‬فــي النظــام السياســي للدولة اإلســامية‪ ،‬لســليم العوا‪ ،‬دار الشــروق‬ ‫‪ ،2008‬ص‪.214:‬‬

‫ال عن المرجع‬ ‫(‪ )2‬حقــوق اإلنســان في اإلســام‪ ،‬جواد المصطفــوي‪ ،‬نق ً‬ ‫السابق‪ ،‬ص‪.216:‬‬

‫ا عن ســليم‬ ‫(‪ )3‬كتــاب الخــراج‪ ،‬لـ"أبــو يوســف"‪ ،‬ص‪( ،159-155:‬نقــ ً‬ ‫العوا‪ ،‬ص‪.)250:‬‬


‫صحيفة املدينة‪ ،‬تقرر مبدأ حرية االعتقاد والتدين‪:‬‬

‫ان َذا ُقر َبــى َوب َِع ْه ِ‬ ‫ــد ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫اع ِد ُلــوا َو َل ْــو َك َ‬ ‫ــم َف ْ‬ ‫ُو ْس َــع َها َو ِإ َذا ُق ْل ُت ْ‬ ‫ْ‬ ‫ون‪(‬األنعام‪َ  ،)152‬ل َق ْد‬ ‫َأ ْو ُفوا َذ ِل ُك ْم َو َّص ُ‬ ‫اك ْم ِب ِه َل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ان‬ ‫ــاب َوا ْل ِم َيز َ‬ ‫ــم ا ْل ِك َت َ‬ ‫أ ْر َســ ْل َنا ُر ُســ َل َنا بِا ْل َب ِّي َنــات َوأ ْن َز ْل َنــا َم َع ُه ُ‬ ‫النــاس بِا ْل ِقس ِ‬ ‫يــد ِفيــ ِه َبــ ْأس َش ِ‬ ‫يد‬ ‫ــط َو َأ ْن َز ْل َنــا ا ْل َح ِد َ‬ ‫ــد ٌ‬ ‫ِل َي ُق َ‬ ‫ٌ‬ ‫ــوم َّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫هلل َم ْن َي ْن ُص ُر ُه َو ُر ُســ َل ُه بِا ْل َغ ْي ِب إ َِّن‬ ‫ــع ِل َّلن ِ‬ ‫ــاس َو ِل َي ْع َل َم ا ُ‬ ‫َو َم َنا ِف ُ‬

‫"لليهود دينهم وللمسلمني دينهم"‪ ،‬فال إكراه وال‬ ‫سيطرة للرسول ‪- ‬وهو الحاكم الرشعي للدولة‪-‬‬ ‫عليهم‪ ،‬فحريــة االعتقاد مكفولة بنــص الصحيفة‬ ‫لجميع املواطنني يف دولة املدينة‪.‬‬

‫يز‪(‬الحديد‪.)25:‬‬ ‫ا َ‬ ‫هلل َق ِو ٌّي َع ِز ٌ‬

‫وبين ابن القيم في "الطرق الحكيمة" أن إقامة العدل‬ ‫ّ‬

‫جرمــا يســتوجب عقوبــة قضائيــة‪.‬‬ ‫أي ْ‬ ‫إن ارتكــب حليفــه ً‬

‫إنزال الكتب وإرســال الرســل‪ ،‬وأن السياسة العادلة جزء‬

‫عمومــا وهــذه الوثيقــة‬ ‫الهائــل الــذي أحدثــه اإلســام‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في تقرير مبدأ "المسؤولية الفردية"‪ ،‬وقد وضح‬ ‫ً‬

‫بين الناس على تعدد أديانهم وأعراقهم هو المقصود من‬

‫"ال يكســب كاســب إال على نفســه"؛ وهذا هو التغيير‬

‫من الدين‪ ،‬فإذا ظهرت آمارات العدل وأسفر وجهه بأي‬

‫ال َت ِــز ُر َوازِ َر ٌة وِ ْز َر‬ ‫‪‬و َ‬ ‫القــرآن هــذا فــي آيات عــدة منهــا‪َ :‬‬ ‫ين‪(‬الطور‪.)21:‬‬ ‫ُأ ْخ َرى‪(‬فاطر‪ُ ،)18:‬‬ ‫‪‬كلُّ ْام ِر ٍئ ب َِما َك َس َب َر ِه ٌ‬ ‫حضت عليها‬ ‫ومن أخالقيات التعايش المشترك التي ّ‬

‫"فثم شرع اهلل ودينه"‪.‬‬ ‫طريق كان ّ‬

‫وقــد أوضحــت وثيقــة المدينــة أن العــدل فــي بــاب‬

‫القضــاء‬ ‫أســاس عظيــم لضمــان تعايــش المواطنيــن فــي‬ ‫ٌ‬

‫ال عن بينة (أي من قتل‬ ‫الدولــة‪" ،‬وأنــه من اعتبط‬ ‫مؤمنا ْقت ً‬ ‫ً‬

‫دفعا‬ ‫الوثيقــة‪ ،‬ودفعــت المواطنيــن فــي الدولــة "المدنيــة" ً‬

‫قصاصا) إال أن‬ ‫بغيــر جــرم)‪ ،‬فإنــه قود به (أي يقتل القاتل‬ ‫ً‬ ‫يدا واحدة‪،‬‬ ‫الوثيقــة علــى الجميع أن يكونــوا ضد الظالم ً‬

‫وأنه ال يحل لهم إال أن ينصروا المظلومين ضد الظالمين‬

‫"وأن المؤمنين عليه كافة‪ ،‬وال يحل لهم إال القيام عليه"‪.‬‬ ‫مهم‪ ،‬وهو‬ ‫شــرعت لمبدأ قضائي ٍّ‬ ‫ومنــه أن الوثيقة قد ّ‬

‫عــدم نصــرة المجرميــن اآلثميــن وعــدم إيوائهم والتســتر‬

‫ا للعدالــة أن تأخذ‬ ‫منعــا أو تعطيــ ً‬ ‫عليهــم‪ ،‬ألن فــي ذلــك ً‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولــي المقتــول (بالعقــل)‪( ،‬أي بالديــة)"‪ .‬وتفرض‬ ‫يرضــى ُّ‬

‫لممارستها واعتبارها ُخ ُلق التناصر والتناصح والبر دون‬ ‫اإلثــم‪ .‬وأسســت الصحيفة لمبدأ وجوبيــ ِة نصر ِة المظلوم‬ ‫النصر‬ ‫علــى الجميــع‪" :‬وأنــه ال يأثــم امــرؤ بحليفــه‪ ،‬وأن ّ‬

‫للمظلوم"‪.‬‬

‫ولقــد حرصــت الوثيقــة علــى أن التعامــل بالمعروف‬

‫والفضــل‪ ،‬يســاعد علــى العيش المشــترك‪ ،‬وأكــدت عليه‬

‫البــر دون اإلثــم"‪" ،‬بالمعــروف‬ ‫فــي غيــر مــا فقــرة "وأن ّ‬

‫والقسط"‪" ،‬إال على سواء وعدل بينهم"‪.‬‬

‫مجراهــا "وأنــه ال يحل لمؤمن أقر بمــا في هذه الصحيفة‬ ‫وآمــن بــاهلل واليوم اآلخــر‪ ،‬أن ينصر ِ‬ ‫محد ًثــا (أي مرتكب‬

‫الجــار كالنفــس غير مضار وال آثم"‪" ،‬وأنه ال تجار حرمة‬

‫نص َره فإن عليه لعنة اهلل وغضبه يوم القيامة وال‬ ‫"وأن َمن َ‬

‫يتشــاور معــه في مــا له عالقــة بجوارهم المشــترك‪" ،‬وأنه‬

‫جريمــة) أو ُيؤويــه"‪ ،‬وتتوعــد الصحيفــة مــن يفعــل ذلــك‬

‫يؤخذ منه عدل (أي فداء) وال صرف (أي توبة)‪.‬‬

‫وتجعــل الوثيقــة حــق الجــار مــن حــق النفــس‪" :‬وأن‬

‫إال بــإذن أهلهــا"‪ ،‬حــق الجــار أن يســتأذن جــاره أو أن‬ ‫من يتبعنا من يهود‪ ،‬فإن له النصرة واألسوة (أي المساواة‬

‫كمــا تقــرر الصحيفة لمبدأ قضائي عدلي حكيم‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫أن المسؤولية الجنائية فردي ٌة‪ ،‬وبالتالي فإن العقوبة عليها‬

‫ومــن مبــادئ العيــش المشــترك التي أسســت لها هذه‬

‫ال منه‪ ،‬قررت‬ ‫وال يســد أحد مســده في تحمل العقوبة بد ً‬

‫أن يتكــون مــن مجموعات دينيــة وعرقية وثقافية متعددة‪،‬‬

‫الوثيقــة ذلــك في أكثــر من فقرة منهــا‪" :‬إال من ظلم وأثم‬ ‫فإنه ال يوتغ (أي يهلك) إال نفســه وأهل بيته"‪" ،‬وأنه من‬

‫امرء بحليفه"؛‬ ‫فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته"‪" ،‬وأنه ال يأثم ٌ‬

‫الوثيقة الدســتورية‪ ،‬أن الشــعب الواحد في الدولة يمكن‬ ‫والحال هذه‪ -‬في المواطنة ويتساوون‬‫ويتشارك الجميع‬ ‫ُ‬

‫وتحمل واجباتها المالية والدفاعية‪ ،‬وتسودهم‬ ‫في حقوقها‬ ‫ّ‬ ‫قوانيــن عدليــة واحدة‪ ،‬وتكون المســؤولية الجنائية فردية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫البــد وأن تكــون شــخصية خاصة بمن ارتكــب الجريمة‪،‬‬

‫في حقوق المواطنة) غير مظلومين وال متناصرين"‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫"األمة" على مستوى الدين والعقيدة‪ ،‬وقد أشارت‬ ‫فهناك‬ ‫ّ‬

‫آخرهــا‪ ،‬ال يقيــم غير برهان العقل برها ًنا على اختصاص‬

‫المهاجرين واألنصار‪ ،‬قالت عنهم‪" :‬إنهم أمة واحدة من‬

‫فحكم اإلسالم في حرية االعتقاد‪ ،‬هو منع أي إنسان من‬

‫اهلل وحده باأللوهية‪ ،‬وال يدين العاقلون ألحد بها سواه(‪.)1‬‬

‫الوثيقــة إلــى ذلــك عندمــا تحدثــت عــن المؤمنيــن مــن‬

‫مضايقة أحد بسبب اعتناقه لعقيدة معينة ومحاولة فرض‬

‫دون الناس"‪.‬‬

‫عقيدتــه وقناعاتــه عليــه‪ ،‬ففــرض العقيــدة أمــر مســتحيل‪،‬‬

‫أمــة واحــدة بالوصف الديني العقدي (أمة واحدة من‬

‫تماما ‪.‬‬ ‫وتأنيب اآلخرين بسبب عقائدهم أمر مرفوض ً‬ ‫ومــن أســس العيــش المشــترك كمــا تحدثــت الوثيقــة‬ ‫(‪)2‬‬

‫فهم مع‬ ‫دون الناس)‪ ،‬أما بالمعنى السياســي الدســتوري ُ‬ ‫غيرهــم من المواطنين ‪-‬الذيــن يختلفون معهم في الدين‬

‫"العــدل"‪ .‬لقــد أسســت الصحيفة للعدل كمبدأ دســتوري‬

‫واالعتقاد‪ -‬أمة واحدة‪.‬‬

‫للحكــم‪ ،‬وكمبــدأ للتعايش بين مواطني دولة الرســول ‪‬‬ ‫فــي المدينــة‪ .‬يلفــت االنتباه تكرار كلمة "ال ِق ْســط" ‪-‬وهي‬ ‫المعبــر بهــا عــن العــدل‪ -‬ثماني مــرات في نــص الوثيقة‪،‬‬ ‫َّ‬

‫الوثيقة والمقاصد العليا‬

‫ال تتحــدث الوثيقــة وهــي تضــع األســس الدســتورية‬

‫للحكم في دولة الرسول ‪ ‬في المدينة‪ ،‬إال عن المبادئ‬

‫وقــد ُجمعــت إليــه "المعــروف" فتحدثــت عــن "القســط"‬

‫الكلية والمقاصد العليا للشــريعة اإلســامية‪ ،‬وال تتوقف‬

‫معا‪ .‬وقــد اتضح العدل في كل التصرفات‬ ‫و"المعــروف" ً‬

‫الصحيفــة عنــد الفــروع والجزئيات والظنيــات واألحكام‬

‫بين مكونات مجتمع الصحيفة‪ ،‬مثل "على اليهود نفقتهم‬

‫التفصيليــة االجتهاديــة التــي ســتتغير مــع تغيــر الزمــان‬ ‫الصحيفــة تقرر مبدأ حريــة االعتقاد والتدين‪" :‬لليهود‬

‫دينهم وللمسلمين دينهم"‪ ،‬فال إكراه وال سيطرة للرسول‬ ‫‪- ‬وهــو الحاكــم الشــرعي للدولــة‪ -‬عليهــم‪ ،‬فحريــة‬

‫االعتقــاد مكفولــة بنص الصحيفة لجميــع المواطنين في‬

‫دولة المدينة‪.‬‬

‫لقــد ضمــن اإلســام للناس حرياتهــم‪ ،‬أي حقهم في‬

‫محاربين"‪ ،‬وقد تكرر هذا في الفقرة ‪.24‬‬

‫وأن العدالــة التامة الشــاملة مقــررة للجميع‪" :‬وأنه ال‬

‫يحــول هــذا الكتاب دون ظالم وآثــم"‪ ،‬وأن حق االنتقال‬ ‫مكفول لجميع المواطنين بـ"القسط‪" :‬وأنه َمن َخ َرج آ ِم ٌن‪،‬‬ ‫ومــن َق َعــد آ ِم ٌن بالمدينــة إال َمن ظلم أو َأ ِثم" بغض النظر‬ ‫َ‬ ‫عــن عقيدتــه أو قبيلتــه‪ .‬ومــا أجمــل ختام هــذه الصحيفة‪:‬‬

‫االختيــار‪ ،‬ألنهــا فطــرة أصيلــة فطرهم اهلل عليهــا‪ ،‬أي هي‬

‫وقد أكد القرآن الكريم في آيات عديدة حق الناس في‬ ‫ال إ ِْك َر َاه ِفي‬ ‫اختيــار عقائدهــم بحرية تامة‪ ،‬يقول تعالى‪َ  :‬‬ ‫ــم ب ُِم َس ْي ِطرٍ ‪(‬الغاشــية‪،)22:‬‬ ‫الد ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ين‪(‬البقــرة‪َ  ،)256:‬ل ْس َ‬ ‫ــت َع َل ْيهِ ْ‬ ‫ين‪(‬يونس‪.)99:‬‬ ‫‪َ ‬أ َف َأ ْن َت ُت ْك ِر ُه َّ‬ ‫اس َح َّتى َي ُكو ُنوا ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫الن َ‬

‫والمحكوميــن‪ُ ،‬يعتبــر‬ ‫أول المبــادئ الدســتورية‬ ‫بحــق َ‬ ‫ٍّ‬ ‫للحكم في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ولقد أمر اهلل تعالى به في‬ ‫هلل َي ْأ ُم ُر بِا ْل َع ْد ِل‬ ‫كتابــه وأوجبــه بآيات قطعية الداللة‪ :‬إ َِّن ا َ‬ ‫إل ْحس ِ‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َها‬ ‫ــان‪ ،‬ولقد حرم اهلل تعالى الظلم فقال‪َ :‬‬ ‫َوا ِ َ‬ ‫ين بِا ْل ِقس ِ‬ ‫ــط ُش َــه َد َاء ِ ِ‬ ‫ل َو َل ْو َع َلى‬ ‫آم ُنــوا ُكو ُنــوا َق َّوا ِم َ‬ ‫ا َّل ِذ َ‬ ‫يــن َ‬ ‫ْ‬ ‫ِيــن إ ِْن َي ُك ْ ِ َ ِ‬ ‫ــن َوا َ‬ ‫يــرا‬ ‫َأ ْن ُف ِس ُ‬ ‫ــك ْم َأوِ ا ْل َوا ِل َد ْي ِ‬ ‫أل ْق َرب َ‬ ‫ــن َغن ًّيــا أ ْو َفق ً‬ ‫ا َت َّتب ُِعوا ا ْل َه َــوى َأ ْن َت ْع ِد ُلــوا َوإ ِْن َت ْل ُووا‬ ‫هلل َأ ْو َلــى بِهِ َمــا َفــ َ‬ ‫َفــا ُ‬ ‫ِيرا‪(‬النســاء‪،)135:‬‬ ‫َأ ْو ُت ْع ِر ُضــوا َفــإ َِّن ا َ‬ ‫ان ب َِمــا َت ْع َم ُل َ‬ ‫هلل َك َ‬ ‫ون َخب ً‬ ‫ــن َح َّتى َي ْب ُل َغ‬ ‫‪‬و َ‬ ‫ال َت ْق َر ُبــوا َم َ‬ ‫يــم ِإ َّ‬ ‫ــال ا ْل َي ِت ِ‬ ‫ال بِا َّل ِتي ِه َي َأ ْح َس ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ــط‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ِا‬ ‫ب‬ ‫ان‬ ‫يز‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫وا‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ــد‬ ‫ال‬ ‫إ‬ ‫َ ُ َ ّ ُ َ ْ ً ِ َّ‬ ‫أ ُش َّ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ْ‬

‫والبــد أن نذكــر هنــا أن هــذه التوجيهــات القرآنيــة‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫وقت الحرب "وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا‬

‫جار لمن ّبر واتقى‪ ،‬ومحمد رسول اهلل"‪.‬‬ ‫"وأن اهلل ٌ‬

‫عطية إلهية للناس ال يحق ألحد مصادرتها‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫واألحوال والمواقف‪.‬‬

‫وعلى المســلمين نفقتهم"‪ ،‬هذا في وقت الســلم‪ ،‬أما في‬

‫والنبوية بشــأن إقرار حق الناس في االختيار بحرية تامة‪،‬‬ ‫فتحا‬ ‫جديــدا‬ ‫أمــرا‬ ‫ً‬ ‫وغريبا في تاريخ اإلنســانية‪ ،‬وكان ً‬ ‫ً‬ ‫كان ً‬

‫جديدا أمام اإلنسان ليتسامى في تحقيق كماالته‪.‬‬ ‫ً‬

‫لقد كفلت الشــريعة اإلســامية حريــة التفكير وحرية‬

‫الــرأي وحريــة االعتقــاد‪ ،‬فالقرآن كله من أول ُس َــوره إلى‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والعــدل (القســط) بيــن المواطنيــن‪ ،‬وبيــن الحاكميــن‬


‫لقــد أوضحــت وثيقة املدينــة أن العــدل يف باب‬

‫وإن أباكــم واحــد‪ ،‬أال ال فضــل لعربــي على عجمي‪ ،‬وال‬

‫أســاس عظيم لضــان تعايش املواطنني‬ ‫القضاء‬ ‫ٌ‬

‫لعجمي على عربي‪ ،‬وال ألحمر على أســود‪ ،‬وال ألســود‬

‫يف الدولــة‪ .‬وفرضــت الوثيقــة عــى الجميع‪ ،‬أن‬

‫على أحمر‪ ،‬إال بالتقوى‪ ،‬أال هل بلغت؟" (رواه اإلمام أحمد)‪.‬‬

‫يكونوا ضد الظامل‬ ‫يــدا واحدة‪ ،‬وأنه ال يحل لهم إال‬ ‫ً‬

‫التعدد واالختالف سنة إلهية‬

‫أن ينرصوا املظلومني ضد الظاملني‪.‬‬

‫إن "صحيفــة المدينــة" أو "وثيقــة المدينــة" التــي وضعهــا‬ ‫رســول اهلل ‪ ‬وقــد حــرص علــى تســطيرها وكتابتهــا‪ ،‬قد‬

‫ولقد حرصت الوثيقة على تأسيس هذا المبدأ المهم‬

‫أسســت للعيــش المشــترك بيــن مواطنــي "دولــة المدينــة"‬

‫وتوضيحه لجميع المواطنين‪ ،‬وهو أن المسلمين واليهود‬

‫الناشــئة التــي أقامهــا الرســول ‪ ‬وتولّــى إدارة شــؤونها‬

‫في المدينة دولة الرســول ‪ّ ‬أمة واحدة‪" :‬وأن يهود بني‬

‫غيــر اســمها إلــى‬ ‫وقيادتهــا‪ .‬بعــد هجرتــه ‪ ‬إلــى يثــرب‪ّ ،‬‬

‫عــوف أمــة مــع المؤمنيــن‪ ،‬لليهــود دينهــم وللمســلمين‬

‫"المدينة" وآخى بين المهاجرين واألنصار على اختالف‬

‫دينهم‪ ،‬مواليهم وأنفسهم‪ ،‬إال من ظلم وأثم فإنه ال يوتغ‬

‫قبائلهم وتعدد عشائرهم‪ ،‬ثم أقام دولة مستقلة‪.‬‬

‫(أي ال يهلك) إال نفسه وأهل بيته"‪.‬‬

‫فــي المدينــة دولة‪ ،‬لهــا إقليم جغرافــي معلوم محدد‪،‬‬

‫ولقــد جــاء تأكيد إقرار اإلســام بالتعدديــة الدينية في‬

‫ويتكون مواطنو هذه الدولة من المسلمين‪ ،‬ومن اليهود‪،‬‬

‫الوثيقــة‪" :‬لليهــود دينهم وللمســلمين دينهــم"‪ ،‬ومع ذلك‬

‫ومن بعض المشركين‪ ،‬مما يعني أن أديان وعقائد هؤالء‬ ‫(أعراقهم) متنوعة‪ ،‬وأن ثقافاتهم متفاوتة‪.‬‬

‫ومــن هنا فقد جاءت وثيقة المدينة الدســتورية لتعلن‬

‫أسس ومبادئ حكم الدولة‪ ،‬وواجبات مواطنيها‪ ،‬والعالقة‬

‫بينهم وبين رئاســة الدولة ‪-‬متمثلة في الرســول ‪ -‬وكل‬ ‫ما لهم وما عليهم من حقوق وواجبات دستورية‪.‬‬

‫واالطــاع علــى هــذه الوثيقــة يوقفنــا علــى نــص‬

‫نصا‬ ‫دســتوري ال نعــرف في تاريــخ الفكر اإلنســاني قبله ًّ‬

‫يشــبهه في التأســيس للعيش المشــترك بين مواطني دولة‬ ‫ناشــئة يحملون كل أشــكال االختــاف وصنوف التعدد‪.‬‬ ‫اإلقرار بمبدأ التعدديــة ‪-‬بكل تجلياتها‪-‬‬ ‫ومــن هــذه القيم‬ ‫ُ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المواطنيــن فــي الدولــة الوليــدة متعــددة‪ ،‬وأن قبائلهــم‬

‫لكل دينه الذي‬ ‫سياسيا‬ ‫هم أمة واحدة‬ ‫ودستوريا وإن كان ٍّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬

‫يذكر بما جاء في كتاب اهلل ‪َ  :‬ل ُك ْم‬ ‫يختــص بــه‪ .‬وهذا ّ‬ ‫ين‬ ‫ِدينكــم و ِل‬ ‫ــي ِد ِ‬ ‫ين‪(‬الكافرون‪ ،)6:‬وبقوله تعالــى‪ :‬إ َِّن ا َّل ِذ َ‬ ‫ُ​ُ ْ َ َ‬ ‫وس‬ ‫يــن َو َّ‬ ‫يــن َه ُ‬ ‫الصا ِب ِئ َ‬ ‫آم ُنــوا َوا َّل ِذ َ‬ ‫ــادوا َو َّ‬ ‫َ‬ ‫ــارى َوا ْل َم ُج َ‬ ‫الن َص َ‬ ‫هلل‬ ‫هلل َي ْف ِص ُ‬ ‫ــم َي ْــو َم ا ْل ِق َي َامــ ِة إ َِّن ا َ‬ ‫يــن َأ ْش َــر ُكوا إ َِّن ا َ‬ ‫َوا َّل ِذ َ‬ ‫ــل َب ْي َن ُه ْ‬ ‫يد‪(‬الحج‪.)17:‬‬ ‫َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َشهِ ٌ‬ ‫لقــد أوردت اآليــة أصحــاب العقائــد واألديــان مــن‬ ‫المســلمين (المؤمنيــن)‪ ،‬واليهــود والنصــارى والصابئين‪،‬‬ ‫جنبــا إلــى جنــب‪ ،‬ثــم ّبينت بأن‬ ‫والمجــوس والمشــركين ً‬

‫سلطة الفصل بين أتباع األديان بيد اهلل تعالى وحده‪ ،‬وأن‬ ‫هــذا الفصــل اإللهي بين أتباع األديــان موعده يوم القيامة‬ ‫وليــس فــي هــذه الحيــاة الدنيــا‪ ،‬وعلــى أتبــاع األديــان أن‬

‫وثقافيــا‪ ،‬أي‬ ‫وعرقيــا‬ ‫دينيــا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫والقبــول باآلخــر المختلــف ًّ‬ ‫منا في الوجود‪.‬‬ ‫القبول بحق كل ّ‬

‫يتعايشوا بسالم وتعاون في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وأن يقبلوا‬

‫وهــذا ليــس ح ًّقــا ليهــود بني عــوف وحدهــم‪ ،‬ولكنه حق‬

‫وليس ألحد منهم سلطة الفصل في شأن عقائد اآلخرين‪.‬‬

‫كذلك ليهود بني النجار‪ ،‬ويهود بني الحارث‪ ،‬ويهود بني‬

‫ســاعدة‪ ،‬ويهود بني جشــم‪ ،‬ويهود بني ثعلبة‪ ،‬ويهود بني‬

‫الشــطيبة‪ ،‬بل هو حق‬ ‫األوس‪ ،‬ويهــود جفنــة‪ ،‬ويهــود بني ُّ‬ ‫ال عن بطونهم ومواليهم‪.‬‬ ‫لبطانة اليهود فض ً‬

‫بدءا‬ ‫"أمة" في لغة العرب تحمل معاني متداخلة ً‬ ‫وكلمة ّ‬

‫مــن الجماعة المتميــزة عن غيرها بخصائص‪ ،‬ومنها قول‬

‫اهــم ِفــي ا َ‬ ‫ض ُأ َم ًما‪(‬األعراف‪)168:‬؛‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اهلل تعالــى‪َ :‬‬ ‫‪‬و َق َّط ْع َن ُ ْ‬ ‫أي جماعــات لهــا خصائــص ليســت فــي غيرهــا‪ .‬وعليــه‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫أقرت الوثيقة أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين"‪،‬‬ ‫ّ‬

‫يقــروا بحــق الجميــع فــي الوجــود‪،‬‬ ‫بعضهــم ً‬ ‫بعضــا وأن ّ‬

‫‪25‬‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫د‪ .‬محمد الشرقاوي*‬

‫عقول األطفال صحائف بيض‪ ،‬فما لم ُت ْمأل بالمفيد من العلم والمعرفة ظ َّلت خاوية‪،‬‬ ‫فيسرع اآلخرون بملئها بما يشاءون من أفكار مسمومة‪ ،‬وعلوم مشؤومة‪ ...‬أيها الوالدان‬ ‫انتبها‪ ،‬فاألمر جدٌّ ‪ ..‬فاألمر جدٌّ !‪.‬‬ ‫املوازين‬

‫قيم التعايش المشترك ومبادئه‬

‫في وثيقة المدينة‬

‫لقد وجه اإلسالم الناس إلى وحدة أصلهم‪،‬‬

‫وأن تعدديتهم ضرورة لتعارفهم وتكاملهم‪،‬‬ ‫اك ْم ِم ْن‬ ‫اس ِإ َّنا َخ َل ْق َن ُ‬ ‫‪‬يا َأ ُّي َها َّ‬ ‫فقال تعالى‪َ :‬‬ ‫الن ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ار ُفــوا إ َِّن َأ ْك َر َم ُك ْم‬ ‫َذ َكــرٍ َو ُأ ْن َثــى َو َج َع ْل َن ُ‬ ‫ــم ُش ُــع ً‬ ‫وبا َو َق َبائ َل ل َت َع َ‬ ‫اك ْ‬ ‫اكم إ َِّن ا َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِير‪(‬الحجرات‪ ،)13:‬وقال رسول‬ ‫هلل َعل ٌ‬ ‫ع ْن َد اهلل أ ْت َق ُ ْ‬ ‫يم َخب ٌ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫اهلل ‪ ‬في حجة الوداع‪" :‬يا أيها الناس‪ ،‬أال إن ربكم واحد‪،‬‬

‫‪24‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫ولذلك فــإن التعليــم والرتبية جانبان متســاويان‬ ‫رضوريان العتدال اإلنسان الروحي‪.‬‬

‫وصناعته أمر علمي‪ ،‬أما اســتخدام الصابون عند الحاجة‬

‫فهذا َم َر ُّده إلى التربية‪.‬‬

‫روح اإلنسان والتربية‬

‫ا‪ -‬أن‬ ‫ا أو آجــ ً‬ ‫إن األنظمــة العصريــة البــد لهــا ‪-‬عاجــ ً‬ ‫تســتعيد في ذاكرتها المناقشــات الكالســيكية حول روح‬

‫اإلنســان والتربيــة‪ ،‬والبــد لهــا مــن العــودة إلــى مع ّلمــي‬

‫حــددوا مجــال التعليــم ومجال‬ ‫اإلنســانية القدمــاء الذيــن ّ‬ ‫التربيــة‪ .‬وكمــا أن التعليــم تدريــب للقــدرات الذهنيــة‪،‬‬ ‫فــإن التربيــة تنوير للضميــر الداخلي وتنوير للقلــب ذا ِت ِه‪،‬‬

‫ولذلــك فإن التعليم والتربية جانبان متســاويان ضروريان‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫المقصد األخير أال‬ ‫تقــوم علــى الدين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫والدين يقــوم على َ‬ ‫وهو اهلل سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫إن معرفــة القوانين الهيدروليكية ومعرفة إقامة شــبكة‬ ‫فمر ُّده‬ ‫المياه أمر يســتند إلى التعليم‪ ،‬أما االغتســال بالماء َ‬ ‫إلــى التربيــة والثقافــة‪ ،‬كمــا أن معرفــة صيغــة الصابــون‬

‫الرتبية تنوير للضمــر الداخيل وتنوير للقلب ذاته‪،‬‬

‫العتدال اإلنسان الروحي‪.‬‬

‫ولكن التعليم الحالي يعاني من خلل كبير في التوازن‬

‫بيــن هذيــن الجانبيــن‪ ،‬ألن التعليــم بــدون تربيــة يتحــول‬ ‫هدامــة تهيمــن علــى الطبيعــة وعلــى المجتمــع‬ ‫إلــى قــوة ّ‬ ‫البشــري‪ ،‬أمــا التربيــة المجــردة عــن التعليــم فرغــم أنهــا‬

‫تؤدي إلى االستقامة األخالقية‪ ،‬إال أنها مع مرور الزمن‬ ‫تضعــف وتتحول إلى المواســاة كملج ٍإ وحيــد ُيلجأ إليه‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬عنــد إقامــة التــوازن مــن جديــد بيــن ذاك "كيــف‬

‫صنعــا"‪،‬‬ ‫نتعلــم" وذلــك "كيــف ينبغــي" و"كيــف نحســن ً‬

‫البــد لنــا أن نســتحضر فــي أذهاننــا أن التعليــم والتربيــة‬ ‫ليســا عمليتيــن يكتســبهما اإلنســان دفعــة واحــدة إلــى‬

‫األبــد‪ ،‬بــل إن التعليــم والتربيــة عمليتــان مســتديمتان‬ ‫دائما الرجوع إليهما والســهر عليهما‪.‬‬ ‫ومتجددتــان ينبغي ً‬ ‫وعندمــا يتعلــق األمــر بالتربيــة والتعليم‪ ،‬فإن الســؤال‬

‫الرئيــس الــذي ســنبحث عن إجابــة له في القــرن الحادي‬ ‫المربى‪ ،‬وكيف‬ ‫والعشرين هو‪ :‬كيف التوصل إلى التعليم‬ ‫ّ‬

‫نحقق التربية المتعلمة؟ والبشرية التي تنجح في التوصل‬ ‫إلى هذه التركيبة ستكون هي البشرية السعيدة‪.‬‬

‫(*) كلية الدراسات اإلسالمية‪ ،‬سراييفو ‪ /‬البوسنة والهرسك‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫المتســلح بهذا التعليم المنفلت من أية مســؤولية‪َ ،‬ل ُيمثل‬ ‫خطــرا أكبــر بكثيــر من اندفــاع تلك الطبيعة عنــد "بربري"‬ ‫ً‬ ‫غيــر متعلــم‪ .‬ولقــد تحــدث جــال الديــن الرومــي عــن‬ ‫ِ‬ ‫وفاقــد التربيــة‪ ،‬وكيــف أنــه يســتفيد من‬ ‫اإلنســان المتعلــم‬ ‫تماما كما يســتفيد ال ِّلص من الشــمعة وهو َيســرق‪.‬‬ ‫عقله ً‬ ‫هــذا وإن التعليــم الجماهيــري والمــدارس الحديثــة‬ ‫تســتقبل التالميــذ بمختبــرات مرتبــة‪ ،‬ومناهــج تعليميــة‪،‬‬ ‫فعالــة‪ ،‬ولكــن الكتــب المدرســية فــي‬ ‫وكتــب مدرســية ّ‬ ‫الفيزيــاء الحديثــة ال يوجــد فيهــا ذكــر للحيــاء‪ ،‬كمــا أن‬ ‫الكتــب المدرســية فــي الكيمياء الحديثــة ال تحتوي على‬ ‫كلمة واحدة عن الخجل‪ ،‬أما الكتب المدرســية في علم‬ ‫األحيــاء فــا يوجد فيها ولو مجرد إشــارة إلى التواضع‪.‬‬ ‫نسرد بالتسلسل أسماء كافة العلوم المعروفة‬ ‫ويمكننا أن ُ‬ ‫قطعيا‬ ‫حكما‬ ‫دائما أن نصــدر‬ ‫ً‬ ‫فــي عالمنــا اليــوم‪ ،‬ويمكننــا ً‬ ‫ًّ‬ ‫علــى أن الكتــب المدرســية التــي تقــدم تلــك العلــوم‪ ،‬ال‬ ‫تتضمن أي ِذكر للثوابت التربوية واألخالقية‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫مص َّممة وف ًقا لتلك الثوابت‪ .‬وهذا‬ ‫ْ‬ ‫أن تكون تلك الكتب َ‬ ‫عموما‬ ‫يــدل علــى أن تلك الكتب المدرســية َتقرأ الطبيع َة‬ ‫ً‬ ‫خصوصــا وكأنها آلــة‪ ،‬وال َتقرأ على‬ ‫والطبيعــ َة اإلنســانية‬ ‫ً‬ ‫صفحاتهــا المتعــددة ذلك الهدف الســامي الموجود وراء‬ ‫مستويات العالم التي ندركها بالعقل‪.‬‬ ‫إن كتــب الفيزيــاء والكيميــاء واألحيــاء لــم ُت َفــر ْغ مــن‬ ‫َّ‬ ‫الحيــاء والخجــل وتأنيــب الضميــر فقط‪ ،‬بل إنهــا ُف ّرغت‬ ‫مــن الروعــة والجمــال والخلــود ومــن العالــم والطبيعــة‪.‬‬ ‫علــى ســبيل المثــال‪ ،‬نجــد أن التعليــم المعاصــر مــا عــاد‬ ‫يندهــش أو يعجــب مــن طبيعــة المــاء البديعــة‪ ،‬ومنذ فترة‬ ‫بعيدة والتالميذ والطالب يدرســون الماء على أنه مجرد‬ ‫ثروة صناعية! ويدل هذا على أن تلك الكتب المدرســية‬ ‫العصريــة ُت َع ِّلــم ولكنهــا ال ُت َر ّبِي‪ .‬والتربية قبل كل شــيء‪،‬‬ ‫تعني االعتراف بالهدف الســامي والســبب الرفيع للتعلُّم‬ ‫ِ‬ ‫والعلــم والتعليــم‪ .‬إن التربيــة تقــوم على الثقافــة‪ ،‬والثقاف َة‬

‫فكــا أن التعليم تدريــب للقــدرات الذهنية‪ ،‬فإن‬

‫‪23‬‬


‫الهرة إال أن‬ ‫الهرة‪ ،‬فما كان مــن ّ‬ ‫الفئــران ويطلقونهــا أمــام ّ‬ ‫رمت بأكواب الشاي وانطلقت تطارد تلك الفئران‪.‬‬ ‫هــذه الحكايــة حــول نظرية التربيــة والتعليم‪ ،‬تتحدث‬ ‫وبعمق شــديد عن المســائل الرئيسة التي تطرح مع بداية‬ ‫ونهاية كل إجراء تعليمي وكل إجراء تربوي‪ .‬فهل ينحصر‬ ‫دور األســرة والمدرســة والعمليات التعليمية في تدريس‬ ‫اإلنســان وتعليمــه؟ أم يجــب عليهــا فــي نفــس الوقت أن‬ ‫تربيه وتوقظ في طبيعته كل ما هو نبيل؟‬

‫تحويــل الطــاب والمتلقيــن للعلم إلى حشــد وجمهور‪،‬‬ ‫بل تم تحويل العلم نفسه إلى جمهور‪ ،‬بحيث صار ُينقل‬ ‫فــي صيغة كتلة من الحقائــق المعزولة والمتفرقة عن كل‬ ‫فن من فنون العلم؛ فالفيزياء مســتقلة بنفســها‪ ،‬والكيمياء‬ ‫مســتقلة بنفســها‪ ،‬وعلم األحياء مســتقل بنفســه‪ ...‬وهكذا‬ ‫تحولت العلوم كلها في القرنين التاســع عشر والعشرين‬ ‫إلــى علوم مســتقلة و َذ ِّريــة‪ .‬إن التعامل مع العلم على أنه‬ ‫حشــد مــن الحقائــق يتــم نقلــه عن طريــق وســائل التعليم‬ ‫الجماهيــري إلــى مالييــن مــن التالميــذ والطــاب‪ ،‬ويتــم‬ ‫داخــل كل فــن من فنــون العلم التي‬ ‫توزيعــه علــى انفــرا ٍد‬ ‫َ‬ ‫تفرقــت فيمــا بينهــا مــع مــرور الزمــن‪ ،‬إن هــذا النوع من‬ ‫التعامــل قــد أدى إلــى نتائــج رهيبة‪ ،‬حيث لم َي ُع ْــد العالم‬ ‫ال‪،‬‬ ‫مــن وجهة نظر التعليم الحديث‪ -‬كيا ًنا‬‫واحدا متكام ً‬ ‫ً‬ ‫تماما‪ .‬وهكذا نجد علــى مدى القرنين‬ ‫بــل مزقتــه العلــوم ً‬ ‫األخيرين أن أنظمة التعليم الجماهيري هذه‪ ،‬قد َأهملت‬ ‫أكثر فأكثر تربي َة التلميذ أي تربي َة الفرد‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫إن جميــع أديــان وثقافــات العالــم تطــرح هــذا الســؤال‪،‬‬ ‫ولكــن األديــان والثقافــات ذاتهــا هــي فــي الوقــت نفســه‬ ‫إجابــات عــن هــذا الســؤال‪ .‬وفــي زمــان العولمــة الــذي‬ ‫نعيشــه‪ ،‬فإن هذا الســؤال يقع في محور حياة الكثير من‬ ‫المجتمعات‪ ،‬وال سيما في تلك المجتمعات التي نشأت‬ ‫علــى أيديولوجيــات التنويــر‪ ،‬ألن القرنيــن التاســع عشــر‬ ‫والعشــرين قــد جلبــا ‪-‬وألول مــرة فــي التاريــخ‪ -‬ظاهــر ًة‬ ‫مقتصــرا علــى النخبة مــن العلماء‬ ‫لــم َيعــد معهــا التعليــم‬ ‫ً‬ ‫والرهبان واألعيان والنبالء والحكام‪.‬‬ ‫لقــد أصبح التعليم المدرســي فــي القرنين الماضيين‬ ‫ومتاحا للجميــع‪ ،‬وهذا أمر ما كان‬ ‫ُم َي َّس ًــرا فــي كل مكان‬ ‫ً‬ ‫أن هذا التعليم قد ُف ِّر َغ من محتواه‬ ‫ليتسبب بأي شر لوال َّ‬ ‫التربــوي‪ ،‬ولــوال أنــه تحول إلى الشــكل الجماهيري‪ ،‬أي‬ ‫إن العلــم صــار فــي القــرون الحديثــة ُينقــل إلــى التالميذ‬ ‫جميعا بطــرق جماهيرية؛ بحيث صار‬ ‫والطــاب والناس‬ ‫ً‬ ‫ُينظــر إليهــم علــى أنهــم مجرد جمهــور وحشــد‪ .‬وبما أن‬ ‫جســديا فإن صور األفراد ال ُترى‬ ‫مفهوما‬ ‫الجمهور يمثل‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫فيــه‪ ،‬بــل إن الصــور والخصوصيــات الفرديــة تضيــع فيه‬ ‫تمامــا‪ .‬لذا فــإن األيديولوجيــات على اختالفهــا وتنوعها‬ ‫ً‬ ‫في القرنين األخيرين ‪-‬ســواء في الغرب أو في الشــرق‪-‬‬ ‫وال ســيما تلــك التــي نجحــت في الوصول إلى الســلطة‪،‬‬ ‫قد وضعت في برامجها السياسية شعار "تعليم الجماهير‬ ‫ليتحول‬ ‫الشــعبية"‪ ،‬ولــم يبق ســوى خطوة واحدة صغيــرة‬ ‫َّ‬ ‫"تعليــم الجماهيــر الشــعبية" إلــى "ترويــض الجماهيــر‬ ‫الشــعبية"‪ .‬ومــن المعــروف أن األنظمــة االســتبدادية‬ ‫التــي نجحــت فــي الوصــول إلــى الحكم قــد خطت تلك‬ ‫الخطوة‪ .‬ولكن األمر لم يتوقف بالتعليم الجماهيري عند‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫التعليم الجماهيري‬

‫تجريد التعليم من التربية‬

‫إن الحضــارات القديمــة كانــت تتمركــز علــى ضفــاف‬ ‫األنهار وسواحل الخلجان البحرية الصغيرة‪ ،‬وإن التعليم‬ ‫الحديث وما أنتجه من حشود بشرية متعلمة ولكنها غير‬ ‫ســمموا تلك األنهــار والخلجــان‪ ،‬وال يوجد‬ ‫متربيــة‪ ،‬قــد َّ‬ ‫عاقــل واحــد ينفي حقيقة أن التعليــم الحديث الذي ُج ِّر َد‬ ‫ض من‬ ‫مــن عنصــر التربيــة‪ ،‬لــم ينتــج ســوى جيــش ُم َــر َّو ٍ‬ ‫العلمــاء المفتقرين ليس فقط إلى اإلحســاس بالحياء من‬ ‫الطبيعــة‪ ،‬بــل وإلى أدنــى تفكير بإمكانية وجوب اشــتغال‬ ‫ا بقضية أن يشــعر العلماء بالحياء‬ ‫الكيميــاء والفيزيــاء مثــ ً‬ ‫أمام الطبيعة وروعتها وعذريتها‪.‬‬ ‫وإن َد َّل هــذا علــى شــيء فإنــه يــدل علــى أن مناهــج‬ ‫التعليــم الجماهيــري بتجريدها للتعليم من عنصر التربية‪،‬‬ ‫قــد أوصلتنــا إلــى معرفة متحللــة من المســؤولية إلى َح ّد‬ ‫الوقاحة والغطرسة‪.‬‬ ‫الهرة‬ ‫فاإلنســان المتعلــم وغير المســؤول يشــبه تلــك ّ‬ ‫الم َد َّربة التي تحدثنا عنها في بداية هذا المقال‪ .‬إن إنسا ًنا‬ ‫ُ‬ ‫بهذا التعليم‪ ،‬وإن إنساني ًة بهذا التعليم‪ ،‬بل إن هذا التعليم‬ ‫دائما الخاسر أمام تدفق الفطرة‬ ‫ذاته‪ ،‬سوف يتقهقر ويكون ً‬ ‫المجــردة‪ .‬ولكن جمــوح هذه الطبيعة البشــرية المجردة‪،‬‬


‫تربية‬

‫د‪ .‬أنس كاريتش*‬

‫التربية مع التعليم‬

‫يــروى فــي إحــدى الحكايــات الشــهيرة‪،‬‬

‫ِ‬ ‫مجتم َعيــن فتحــة التصريف الجيــدة التي تخفف من حدة‬

‫فيهــا الفالســفة مــع العلمــاء حــول‪ :‬مــا‬

‫وبعد أن أنصت الخليفة بإمعان لكال الطرفين‪ ،‬طلب‬

‫أن أحــد الخلفــاء حضــر مناظــرة اختلف‬

‫التطبــع‪ ،‬األصل‬ ‫الــذي يغلــب علــى اإلنســان‪ ،‬الطبــع أم‬ ‫ّ‬ ‫التطبــع عنــد‬ ‫أم التربيــة؟ أمــا الفالســفة فقــد زعمــوا أن‬ ‫ّ‬ ‫مصريــن‬ ‫اإلنســان يغلــب الطبــع‪ ،‬وبقــوا طــول المناظــرة‬ ‫ّ‬

‫يــروض الطبع البشــري ويتغلــب عليه‪.‬‬ ‫علــى أن التعليــم ّ‬ ‫وأمــا العلمــاء فقــد ذهبوا إلــى أنه بالرغم مــن التعليم فإن‬ ‫اإلنســان يغلــب عليه هــواه وطبعه‪ ،‬وال ســيما في أوقات‬

‫أقوى من التعليم المجرد وخاصة في مثل تلك األحوال؛‬ ‫وذلك ألن الطبع هو باطن اإلنسان الثابت الذي ال يقبل‬

‫التغيير‪ ،‬فهو ما "يجري مع الدم في العروق"‪ .‬وعليه فإن‬ ‫العلمــاء ميــزوا بين التعليم وبين التربيــة‪ ،‬وأكدوا على أن‬

‫حسن التربية مع التعليم المتين‪ ،‬هما فقط اللذان يم ّثالن‬

‫مــن كل منهمــا أن يأتــي بدليله‪ .‬وفي الليلــة التالية أحضر‬ ‫الفالســفة معهــم ِه ّــرة قــد ُد ِّربــت علــى المشــي منتصبــة‪،‬‬ ‫ورافعــة رجليهــا األماميتيــن وهي تمســك بكــوب مملوء‬ ‫قدمــه للحاضريــن‪ .‬وأرادوا بذلــك أن يبرهنــوا‬ ‫بالشــاي ُفت ِّ‬ ‫ا قامــت‬ ‫الهــرة‬ ‫أهــم مــن الطبــع‪ .‬وفعــ ً‬ ‫علــى أن التعليــم ُّ‬ ‫ّ‬

‫بتوزيع ذلك المشــروب المفضل على الحاضرين‪ ،‬وبدا‬ ‫األمــر وكأن العلماء سيخســرون المناظــرة‪ ،‬ولكنهم رغم‬

‫الهرة مــن مهارة‪ ،‬طلبوا مــن الخليفة‬ ‫إعجابهــم بمــا أبدتــه ّ‬ ‫أن يسمح بعقد جلسة أخرى في الليلة التالية‪ ،‬وأن ُتظهر‬ ‫الهــرة مــرة أخــرى المهــارات التــي دربها الفالســفة‬ ‫فيهــا ّ‬

‫الهرة توزع أكواب‬ ‫عليها‪ .‬وفي الموعد المحدد‪ ،‬انطلقت ّ‬ ‫عددا من‬ ‫الشــاي على الجالسين‪ ،‬وإذا بالعلماء ٌيخرجون ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫دائما‬ ‫الشــر والحــرب والفوضى والفتــن‪ّ ،‬‬ ‫وأن الطبع كان ً‬

‫المجردة‪.‬‬ ‫تدفق الطبيعة البشرية‬ ‫ّ‬

‫‪21‬‬


‫صدتهم عن تحقيق‬ ‫التحديات والمشــاكل التــي جابهتهم ّ‬

‫عمر بن عبد العزيز (‪101-99‬هـ‪720-717/‬م)‪.‬‬

‫هذا إلى أن أتراك ديار بكر من األراتقة تلقوا بشجاعة‬

‫هدفهــم الكبيــر هــذا‪ .‬وهــم الذيــن امتصــوا زخــم الهجمة‬

‫فائقــة الصدمــة المغوليــة فــي موجتيهــا األولــى والثانيــة‪،‬‬

‫حدتهــا‬ ‫المغوليــة الثانيــة بقيــادة "تيمورلنــك" وكســروا ّ‬

‫قــدم الســاجقة‬ ‫علــى مســتوى الداخــل اإلســامي ّ‬

‫الصفوييــن فــي معركــة "جا ْلديــران" (‪1514‬م)‪ ،‬وكان‬

‫حسنا في مقاومتها‪.‬‬ ‫بالء‬ ‫ً‬ ‫وأبلوا ً‬

‫رغــم التضحيــات البالغة التي قدموهــا‪ .‬وهم الذين غلبوا‬

‫األوائــل لألمــة اإلســامية خدمــات ال تقــل أهميــة‪ ،‬فقــد‬

‫حــدوا ســكاكينهم لطعن العثمانييــن في الظهر‬ ‫هــؤالء قد ّ‬

‫أنقــذوا العــراق مــن عبــث البويهييــن وتســلطهم علــى‬

‫ووقف اندفاعهم في العمق األوربي‪ .‬وهم الذين الحقوا‬

‫وتمكن ســلطانهم‬ ‫مقــدرات الخالفة العباســية (‪547‬هـ)‪،‬‬ ‫ّ‬

‫األســبان والبرتغالييــن في محاوالت االلتفــاف المعروفة‬

‫األول "طغــرل بــك" مــن ســحق محاولــة البساســيري‬

‫علــى الوجــود اإلســامي فــي إفريقيــا والخليــج العربي‪،‬‬

‫االنقالبية عام (‪450‬هـ) والتي استهدفت تسليم مقدرات‬

‫وحــرروا الكثير من‬ ‫ذراعا‪،‬‬ ‫شــبرا‬ ‫وذراعا ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫شــبرا ً‬ ‫وقاتلوهــم ً‬

‫الخالفة العباسية للفاطميين في مصر‪ ،‬وأنشؤوا شبكة من‬

‫تصدوا لمؤامرات القوى‬ ‫الديار من قبضتهم‪ .‬وهم الذين ّ‬

‫المدارس الفقهية في مدى عالم اإلســام لتعميق الوعي‬

‫الغربيــة الكبــرى علــى عالــم اإلســام وبخاصــة بريطانيــا‬

‫بمفاهيم هذا الدين وحماية ثوابته العقدية والتشريعية من‬

‫وفرنسا وروسيا‪ ،‬زمن العنفوان االستعماري الذي مضى‬

‫التحوير والتزييف‪ ،‬وقام مهندسهم الفكري الوزير "نظام‬

‫اللتهام ديار المسلمين في مشارق األرض ومغاربها‪.‬‬

‫الملــك" ‪-‬الــذي اغتيــل على أيــدي الباطنية‪ -‬باإلشــراف‬

‫نامــة" برنامــج عمــل فــي مجــال الفكــر السياســي‪ .‬هــذا‬

‫ا عن قيام الســاجقة بتأســيس جملة مــن اإلمارات‬ ‫فضــ ً‬ ‫والممالك‪ ،‬كان لها ‪-‬كما ذكرنا‪ -‬الدور الكبير في مصائر‬

‫ومقدرات األمة اإلسالمية‪.‬‬

‫والبد هنا من التأشــير على الخطوط العريضة للدور‬

‫المركــزي الــذي ّتبــوأه العثمانيــون ولمكانتهــم القياديــة‬ ‫لمدى قرون عديدة‪.‬‬ ‫فالعثمانيون هم الذين فتحوا القســطنطينية (‪1453‬م)‬

‫وحققــوا نبــوءة الرســول القائــد عليــه أفضــل الصــاة‬

‫والســام‪ ،‬وهــم الذيــن أخرجــوا البيزنطييــن مــن التاريخ‬ ‫تحــز جنــب األمــة اإلســامية‬ ‫بعــد أن كان هــؤالء شــوكة‬ ‫ّ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫وكيانها السياســي لمدى قرون متطاولة‪ .‬والعثمانيون هم‬

‫‪20‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫على بناء هذه الشــبكة‪ ،‬ووضع كتابه المعروف "سياســة‬

‫والعثمانيون هم الذين َحموا فلســطين من محاوالت‬

‫واستعلوا على إغراءات‬ ‫االختراق االستيطاني الصهيوني‪،‬‬ ‫َ‬

‫وضحوا بعرشهم من أجل هذا الهدف النبيل‪ .‬هذا‬ ‫هرتزل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى أن األتراك المســلمين هم الذين تو ّلوا العبء األكبر‬

‫التصــدي للمحــاوالت الشــيوعية الشرســة والمبكرة‬ ‫فــي‬ ‫ّ‬ ‫الفتراس األرض والشعوب اإلسالمية في آسيا الشمالية‪.‬‬

‫آخــرا‪ ،‬هــم الذيــن قامــوا‬ ‫أخيــرا وليــس‬ ‫والعثمانيــون‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫التمزق‬ ‫بدور مؤكد في حماية عالم اإلســام من مخاطر‬ ‫ّ‬

‫الداخلــي‪ ،‬وتوحيــد أقاليمــه المبعثــرة لقــرون عديــدة‪،‬‬

‫وتمكينها من استعادة فاعليتها في مجابهة التحديات‪ ،‬بل‬ ‫إنهم حتى لحظات األفول األخيرة‪ ،‬رفعوا شعار "الجامعة‬ ‫ودعوا إليه بحماس منقطع النظير؛ وهو الشعار‬ ‫اإلسالمية" َ‬ ‫مدهشــا من لدن الشــعوب اإلســامية‬ ‫تجاوبا‬ ‫الــذي لقــي‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الذيــن نقلــوا اإلســام إلــى الجانــب األوربــي مــن العالم‬ ‫القديــم‪ ،‬و َأ ْوغلــوا فــي فتوحاتهــم حتــى اجتــازوا بولنــدة‬

‫غربــا‪،‬‬ ‫كافــة‪ ،‬مــن الهنــد شــر ًقا وحتــى المغــرب األقصــى ً‬

‫مســاحات شاســعة من أوربا الشــرقية‪ .‬وهم الذين أعدوا‬

‫الكبــرى‪ ،‬وبخــروج الدولــة العثمانيــة منهزمة فــي أعقاب‬

‫غربــا‪ ،‬ونشــروا اإلســام في‬ ‫شــما ً‬ ‫ال‪ ،‬ودقــوا أبــواب فيينــا ً‬ ‫العدة في وقت مبكر لمجابهة تحديات حركة االســترداد‬

‫اإلســباني (الريكونكويســتا) ضــد الوجــود اإلســامي‬ ‫فــي األندلــس‪ ،‬وإنقــاذ مــا تبقى للمســلمين هنــاك‪ ،‬ولكن‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ولكنه ُأجهض بالمؤامرات الشرســة للدول االســتعمارية‬

‫الحرب العالمية األولى وتفتيت أمالكها في كل مكان‪.‬‬ ‫(*) كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الموصل ‪ /‬العراق‪.‬‬


‫كل الشــعوب التي انضوت تحت الدول اإلســامية‬

‫إســامية شــابة بين الحيــن والحين‪ ،‬وفــي صيغة موجات‬

‫ُمنحــت فرصتَهــا للتحقــق والتعبــر عــن الــذات‪،‬‬

‫متعاقبــة كانــت تنتمــي لإلســام بإخــاص بالــغ‪ ،‬وتبــدأ‬

‫مفتوحــا حتى للعبيــد واملامليك‬ ‫وبقــي املجال‬ ‫ً‬

‫مشــاركتها الفاعلــة فــي مصائــره الدينيــة والسياســية‬

‫يك يشــكلوا دوالً‪ ،‬ولغــر املســلمني أن يتمتعوا‬

‫والحضارية‪ .‬ولســوف نقف باختصار وبرؤية طائرٍ‬ ‫‪ ،"of Bird‬عند اثنتين من هذه الهجرات‪ :‬السالجقة والقوى‬ ‫"‪View‬‬

‫بحقوقهم الدينية واملدنية كاملة‪.‬‬

‫بمعيتهم‪ ،‬والعثمانيون‪ ،‬للتأشــير على‬ ‫التركية التي جاءت ّ‬

‫حيث شــكلوا شــبكة من اإلمارات في "ماردين"‪ ،‬و"ديار‬

‫المعطيات األساسية التي قدموها لألمة اإلسالمية‪.‬‬

‫بكــر"‪ ،‬و"حصــن كيفــا" ظلــت تحكــم هنــاك ألكثــر مــن‬

‫مضــى الســاجقة بإســتراتيجيتهم العالميــة إلــى‬ ‫العمــق األناضولــي‪،‬‬ ‫ــب‬ ‫ّ‬ ‫وتمكــن ســلطانهم الثانــي " َأ ْل ْ‬

‫ثالثــة قــرون (‪812-465‬هـــ‪1409-1072/‬م)‪ ،‬ومــارس‬

‫مؤسسوها األوائل "سقمان بن أرتق" و"إي ْلغازي" و"بلك‬

‫ان" (‪465-455‬هـــ‪1072-1033/‬م) مــن تدميــر‬ ‫َأ ْر ْســ َ‬ ‫الذ ِك ْــرد" عام‬ ‫"م ْ‬ ‫البنيــة العســكرية للبيزنطييــن فــي معركــة َ‬ ‫‪463‬هـــ‪1071/‬م‪ ،‬واضطرارهــم إلــى الدفــاع بعــد قــرون‬

‫دورا‬ ‫خطيــرا فــي مقاومــة الغــزاة الصليبييــن‬ ‫بــن بهــرام" ً‬ ‫ً‬ ‫وإلحاق الخسائر المتتالية بهم‪.‬‬

‫وأمــا القيــادة الثالثة فتمثلت بأتابكــة الموصل وحلب‬

‫متطاولــة مــن الهجــوم علــى األرض اإلســامية‪ ،‬ثــم مــا‬

‫األتــراك "عمــاد الديــن زنكــي" (‪541-521‬هـــ‪-1127/‬‬

‫تمــوا‬ ‫المهمة ويخرجوا‬ ‫لبــث العثمانيــون أن جاؤوا لكي ُي ّ‬ ‫ّ‬

‫‪1147‬هـــ) وابنــه "نــور الديــن محمــود" (‪569-541‬هـــ‬

‫البيزنطييــن مــن التاريــخ فــي أعقــاب فتــح القســطنطينية‬

‫(‪857‬هـ‪1453/‬م)‪.‬‬

‫هــذا إلــى أن الســاجقة َتو ّلــوا أكبــر مقاومــة للغــزاة‬

‫الصليبييــن فــي الجزيــرة الفراتية والشــام وفلســطين‪ ،‬بعد‬ ‫أن تلقــوا صدمتهــم المبكــرة في الحملــة الصليبية األولى‬

‫(‪543-489‬هـــ‪1099-1095/‬م) علــى ديــار اإلســام‪.‬‬ ‫الرد الســلجوقي والقــوى التركية اإلســامية‬ ‫ولقــد تمثــل ّ‬

‫التــي جــاءت بمعيــة الســاجقة‪ ،‬بقيادات ثالث مارســت‬ ‫خطيــرا‪ ،‬ليــس فقــط فــي وقــف الزحــف الصليبــي‬ ‫دورا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإنما في تدمير بنيته العسكرية والسياسية‪ ،‬وفتح الطريق‬ ‫لـ"الناصــر صــاح الديــن" وللمماليــك من بعــده لإلجهاز‬ ‫عليهم وتحرير البالد منهم‪.‬‬

‫بوالة السالجقة في‬ ‫فأما أولى تلك القيادات فتمثلت ُ‬

‫الموصــل (‪521-489‬هـــ‪1127-1095/‬م)‪ ،‬حيــث بــرز‬ ‫جكرمــش" و"مــودود بــن ألتــون تكيــن" و"جيــوش بــك"‬ ‫و"آق ســنقر البرســقي"‪ ،‬ألحقوا بالصليبيين هزائم قاســية‬ ‫في الجزيرة الفراتية والشام وفلسطين‪.‬‬

‫والقيــادة األخــرى تمثلــت بـ"أراتقــة ديار بكــر" الذين‬

‫ِ‬ ‫قدمــوا مــع الســاجقة‬ ‫واســتقروا فــي اإلقليــم المذكــور‪،‬‬ ‫ّ‬

‫اإلمــارات اإلســامية الممزقــة فــي المنطقــة ويلحــق‬ ‫تمكــن ابنــه "نــور الديــن‬ ‫بالصليبييــن هزائــم قاســية‪ ،‬كمــا ّ‬

‫محمــود" الــذي اتخذ حلب قاعدة له‪ ،‬أن يواصل الطريق‬ ‫وأن يدخل دمشق‬ ‫ويسقط بواسطة‬ ‫ّ‬ ‫ويوحد الشام ومصر‪ُ ،‬‬ ‫ضابطه الشاب "الناصر صالح الدين" الخالف َة الفاطمية‪،‬‬ ‫التــي فقــدت دورهــا التاريخي ومــدت أيديهــا للصليبيين‬ ‫الغزاة تعرض عليهم اقتسام الشام وفلسطين بين الطرفين‪.‬‬ ‫مكــن "نــور الديــن محمــود" مــن تحقيق هذه‬ ‫والــذي ّ‬

‫اإلنجــازات الكبــرى وتمهيد الطريــق لتحرير القدس‪ ،‬أنه‬

‫أنشــأ دولــة إســامية تحكــم بشــرع اهلل فــي كل مفاصلهــا‬

‫وحلقاتهــا‪ ،‬وكان هــو‬ ‫شــخصيا النمــوذج الحــي للقيــادة‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلســامية الصالحــة التي تذكرنا بعصر الراشــدين والتي‬ ‫تجــيء مصدا ًقــا‬ ‫ين‬ ‫ــد ا ُ‬ ‫‪‬و َع َ‬ ‫هلل ا َّل ِذ َ‬ ‫تاريخيا لآلية الكريمة‪َ :‬‬ ‫ًّ‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫ات َليس َــت ْخ ِل َف َّن ُهم ِفي ا َ‬ ‫ض‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫آم ُنوا ِم ْن ُك ْم َو َع ِم ُلوا َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫اس‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ين ِم ْن َق ْب ِلهِ ْم َو َل ُي َم ِّك َن َّن َل ُه ْم ِد َين ُه ُم ا َّل ِذي‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َك َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ــن َب ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــد َخ ْو ِفهِ ْم َأ ْم ًنــا َي ْع ُب ُدو َن ِني‬ ‫ــم ِم ْ‬ ‫ــم َو َل ُي َب ّد َل َّن ُه ْ‬ ‫ْار َت َضــى َل ُه ْ‬ ‫ــك ُه ُم‬ ‫َ‬ ‫ــك َف ُأو َل ِئ َ‬ ‫ــد َذ ِل َ‬ ‫ال ُي ْش ِــر ُك َ‬ ‫ــن َك َف َــر َب ْع َ‬ ‫ون بِــي َش ْــي ًئا َو َم ْ‬ ‫ا ْل َف ِ‬ ‫ــد "نــور الديــن" بإجمــاع‬ ‫اســ ُق َ‬ ‫ون‪(‬النور‪ ،)55:‬ولــذا ُع ّ‬ ‫المؤرخين‪ ،‬الخليفة الراشد السادس بعد الخليفة األموي‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫"قوام الدولــة كربوقا" و"شــمس الدولة‬ ‫رجــال مــن أمثــال ّ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫علــى يــد القائد العثماني الشــاب الســلطان محمد الفاتح‬

‫‪1173-1127/‬م)‪ ،‬وقــد اســتطاع أولهمــا أن يوحــد‬

‫‪19‬‬


‫ــل ِل َت َعار ُفــوا إ َِّن َأ ْكر َم ُكــم ِع ْن َد ا ِ‬ ‫هلل‬ ‫وبا َو َق َبا ِئ َ‬ ‫َو َج َع ْل َن ُ‬ ‫ــم ُش ُــع ً‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫اك ْ‬ ‫اك ْم‪(‬الحجــرات‪)13:‬؛ أي ليتميــز بعضكــم عــن بعــض‪،‬‬ ‫َأ ْت َق ُ‬ ‫ــاس ُأ َّم ًة‬ ‫ــاء َر ُّب َ‬ ‫ــك َل َج َع َل َّ‬ ‫‪‬و َل ْو َش َ‬ ‫وفــي اآليــة الكريمــة‪َ :‬‬ ‫الن َ‬ ‫َو ِ‬ ‫ال َم ْن َر ِح َم َر ُّب َك َو ِل َذ ِل َك‬ ‫اح َد ًة َو َ‬ ‫ين ‪ِ ‬إ َّ‬ ‫ال َي َزا ُل َ‬ ‫ون ُم ْخ َت ِل ِف َ‬ ‫َخ َل َق ُه ْم‪(‬هود‪.)119-118:‬‬

‫وتعبر من خالله‬ ‫ثقافية تمارس نشــاطها المعرفي بحرية‪ّ ،‬‬ ‫عــن خصائصهــا وتؤكــد ذاتهــا‪ ،‬ولكــن في إطار األســس‬

‫بــدءا مــن قضيــة اللغــة واألدب‪،‬‬ ‫والثوابــت اإلســامية ً‬ ‫وانتهاء بالعادات والتقاليد‪،‬‬ ‫مرورا بصيغ النشاط الفكري‬ ‫ً‬ ‫أحد أن هذا خروج‬ ‫والثقافي بأنماطه المختلفة‪ ،‬ولم يقل ٌ‬

‫أمميــة تعتــرف بالتمايــز بيــن الجماعــات والشــعوب‬

‫يسع إلى‬ ‫عن مطالب اإلسالم التوحيدية‪ ،‬كما أن ً‬ ‫أحدا لم َ‬

‫علــى صعيــد اإلنســانية‪" :‬ك ّلكــم آلدم وآدم مــن تــراب"‪.‬‬

‫المتغيــرات‪ ،‬لــم تتحول ‪-‬إال في حاالت شــاذة‪ -‬إلى أداة‬

‫مصــادرة حريــة التغاير هذه‪ .‬وفي المقابل فإن ًّأيا من هذه‬

‫واألمــم‪ ،‬ولكنهــا تســعى ألن تجمعهــا فــي الوقــت نفســه‬

‫مضادة لهدم التوجهات الوحدوية األساســية لهذا الدين‪.‬‬

‫وهي محاولة تختلف في أساســها عن األممية الشــيوعية‬

‫إننا إذا استعرضنا في الذهن منظومة الكيانات السياسية‬

‫التي سعت‬ ‫ابتداء وبحكم قوانين التنظير الصارمة‪ -‬إلى‬‫ً‬

‫في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬أو ما أطلق عليه اسم "الدويالت‬

‫إلغــاء‬ ‫التنــوع ومصادرتــه‪ ،‬وإلــى تحقيــق وحدة قســرية ما‬ ‫ّ‬

‫اإلســامية" التــي تجــاوزت فــي عددهــا العشــرات‪ ،‬فإننا‬

‫أن تأكــد زي ُفهــا وعدم القدرة علــى تنفيذها‬ ‫تاريخيا‬ ‫لبثــت ْ‬ ‫ًّ‬

‫التنــوع السياســي أو بموازاتــه‬ ‫ســنجد مــن وراء‬ ‫تغايــرا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فــي التعبيــر الثقافــي ولكــن فــي دائرة اإلســام‪ ،‬وســنجد‬

‫بمجــرد إلقــاء نظــرة علــى خارطــة االتحــاد الســوفياتي‬

‫(المنحــل) حتــى قبــل حركــة "البرســترويكا"‪ ،‬والرفــض‬ ‫ّ‬

‫كذلــك‬ ‫حماســا لــم يفتر عما كان عليه أيــام وحدة الدولة‬ ‫ً‬

‫المتصاعــد الــذي جوبهــت بــه األممية الشــيوعية من قبل‬

‫متنوعة‪ .‬كما حدثتنا الخبيرة الفرنســية في شؤون االتحاد‬ ‫الســوفياتي فــي ثمانينيــات القــرن الماضي "هيليــن كارير‬

‫دانكــوس" فــي كتابهــا "القوميــات والدولــة الســوفياتية"‪،‬‬ ‫األمر الذي كان أحد األســباب الرئيســية النهيار التجربة‬

‫السوفياتية‪.‬‬

‫وتوســيعا للســلطة اإلســامية فيمــا‬ ‫فيمــا وراء الحــدود‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتعزيزا‬ ‫وراء الثغــور‪،‬‬ ‫وإغناء للقيم الحضارية اإلســامية‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫التــي تلتقــي على المبــدأ الواحد والمصير المشــترك‪ ،‬أي‬ ‫باختصــار وكمــا أطلق عليها المستشــرق المعروف "فون‬

‫إننــا بمقارنــة هــذا بمــا شــهده التاريخ اإلســامي من‬

‫اإلســامية وثوابتهــا وأسســها وأهدافها المشــتركة‪ ،‬يتبين‬

‫كل الشــعوب التــي انضــوت تحت الدول اإلســامية‬

‫مــدى مصداقيــة المعالجــة اإلســامية لهــذه الثنائيــة (أي‬ ‫ثنائية الوحدة والتنوع) كواحدة من حشود الثنائيات التي‬

‫عولجــت بنفــس القــدر مــن الواقعية في الرؤيــة والمرونة‬

‫في العمل‪.‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫وجهادا للكفار‬ ‫نشرا لإلسالم في بيئات جديدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وعالمه‪ً ،‬‬

‫غرونباوم" في كتاب أشــرف على تحريره بالعنوان نفســه‬

‫تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة‬

‫‪18‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫حشــود األقــوام والشــعوب التــي تنتمي إلى بيئــات ثقافية‬

‫اإلســامية‪ ،‬لتحقيــق المزيــد مــن المكاســب لهــذا الديــن‬

‫والتنوع"‪.‬‬ ‫"حضارة الوحدة‬ ‫ّ‬

‫ُمنحت‬ ‫فرصتها للتحقق والتعبير عن الذات‪ ،‬وبقي المجال‬ ‫َ‬ ‫ال‪ ،‬ولغير‬ ‫مفتوحا حتى للعبيد والمماليك كي يشكلوا دو ً‬ ‫ً‬

‫المســلمين أن يتمتعــوا بحقوقهــم الدينيــة والمدنية كاملة‬ ‫يتبوؤا مواقع متقدمة في الحياة االجتماعية والثقافية‬ ‫وأن ّ‬ ‫والسياســية‪ .‬لقــد انطوى عالم اإلســام على كل أشــكال‬

‫لقــد شــهد عالــم اإلســام أنشــطة معرفيــة متميــزة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وثقافات شــتى على مستوى األعراق التي صاغتها عربي ٌة‬

‫التعددية العرقية والدينية واللونية والمذهبية والطبقية‪.‬‬

‫وإســبانية‪ ...‬كمــا شــهدت أنما ًطــا ثقافيــة علــى مســتوى‬

‫دورا‬ ‫متشــعبا‪ ،‬وقدمــوا إنجــازات‬ ‫اإلســامية"‪ ،‬ومارســوا ً‬ ‫ً‬

‫وكردية وهندية وصينية ومغولية وزنجية‬ ‫وتركية وفارسية ُ‬ ‫البيئــات واألقاليــم؛ عراقيــة وشــامية ومصريــة ومغربيــة‬

‫وتركســتانية وصينيــة وهنديــة وإفريقيــة وأوربيــة وشــرقية‬

‫وتركيــة وإســبانية وبحر متوســطية‪ ...‬وكانــت كل جماعة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫األتــراك احتلــوا مســاحة كبيــرة فــي خارطــة‬ ‫"األممية‬ ‫ّ‬

‫كبيــرة على المســتويين السياســي والدعــوي‪ ،‬وكان عالم‬ ‫نجما‬ ‫خصبا مــن الطاقات‬ ‫التركســتان فــي أواســط آســيا َم ً‬ ‫ً‬

‫تغذي عالم اإلســام بطاقات‬ ‫البشــرية الخــام التــي كانت ّ‬


‫تاريخ وحضارة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل*‬

‫اإلنسان قوة واعية‪ ،‬وذهن فاعل‪ ،‬فقيمته مرتبطة بمقدار تش ُّبعه عل ًما وفه ًما وإدرا ًكا‪..‬‬ ‫أما َمن يستهويه علم الشائعات واالنكباب على قيل وقال وكثرة السؤال‪ ،‬فذاك قيمته‬ ‫بقيمة ما عنده من هذه الترهات‪.‬‬

‫املوازين‬

‫الدور المركزي لأل تراك‬

‫في األمة اإلسالمية‬ ‫منــذ اللحظــات األولى لدعوة اإلســام جــاءت التأكيدات‬ ‫القرآنيــة علــى عالميــة هــذا الديــن وعــدم اقتصــاره علــى‬ ‫ين‪(‬األنبياء‪،)107:‬‬ ‫‪‬و َما َأ ْر َســ ْل َناكَ ِإ َّ‬ ‫ال َر ْح َمــ ًة ِل ْل َعا َل ِم َ‬ ‫العرب‪َ :‬‬ ‫اس َب ِش ًيرا َو َن ِذ ًيرا‪(‬سبأ‪.)28:‬‬ ‫‪‬و َما َأ ْر َس ْل َناكَ ِإ َّ‬ ‫ال َكا َّف ًة ِل َّلن ِ‬ ‫َ‬ ‫صدورهم لــكل المنتمين‬ ‫‪‬‬ ‫الكرام‬ ‫ــه‬ ‫وصحابت‬ ‫‪‬‬ ‫الرســول‬ ‫فتح‬ ‫لقــد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وتبــوأ‬ ‫للديــن الجديــد‪،‬‬ ‫رجــال مــن أمثــال "صهيــب الرومــي" و"ســلمان‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الفارســي" و"بــال الحبشــي" وغيرهم من غير العــرب‪ ،‬مواقع متقدمة في‬ ‫حركة الدعوة اإلسالمية‪ ،‬ولقوا كل ترحيب وتكريم‪.‬‬ ‫ولما قامت حركة الفتوحات وانتشر المسلمون في األرض وأصبحت‬ ‫ّ‬ ‫الدولة اإلســامية دولة عالمية‪ ،‬وجد العرب الفاتحون أنفســهم يتعايشــون‬ ‫مع شــعوب شــتى انتمى الكثير منها إلى اإلســام‪ ،‬وظلت شــرائح أخرى‬ ‫على أديانها تمارس حقوقها الدينية والمدنية بحرية تامة‪.‬‬ ‫فهــا نحــن ذا إزاء مــا يمكــن تســميته بـ"األمميــة اإلســامية" التي أكدها‬ ‫ــن َذ َكــرٍ َو ُأ ْن َثى‬ ‫ــاس ِإ َّنــا َخ َل ْق َن ُ‬ ‫‪‬يــا َأ ُّي َهــا َّ‬ ‫ــم ِم ْ‬ ‫القــرآن الكريــم فــي اآليــة‪َ :‬‬ ‫الن ُ‬ ‫اك ْ‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪17‬‬


‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الكمأة من شــمال إفريقيا إلى الشــرق األوســط‪ ،‬والذبابة‬

‫التــي تنقلــه تتكاثــر وتنشــط في فتــرات الحــرارة التي تبدأ‬ ‫مــع فصــل الربيع‪ ،‬خاصة في المناطــق الصحراوية‪ ،‬كما‬

‫أن فصــل الربيــع تبدأ معه العواصــف الرملية التي يمكن‬ ‫أن تتســبب في نقل بعض الجراثيم للعين أو تتســبب في‬

‫التهابات حساســية للعيــن (‪ ،)Conjonctivite Allergique‬وبهذا‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫‪16‬‬

‫تماما‬ ‫الح َبيبي مسؤو ً‬ ‫أخرى من العالم‪ ،‬وقد كان الرمد ُ‬ ‫ال ً‬ ‫بمضاعفاتــه عــن أكثر من ربع حــاالت العمى في منطقة‬ ‫انتشــاره قبــل ظهــور المضــادات الحيويــة‬ ‫خصوصــا فــي‬ ‫ً‬ ‫األحيــاء الفقيــرة‪ .‬وقد أثبتت الدراســات المخبرية فاعلية‬ ‫الكمــأة ضد هــذه البكتيريا‪ ،‬ويرجع ذلــك خاصة لوجود‬ ‫بروتينات ذات تأثير مضاد للبكتيريا‪.‬‬ ‫أما الخاصية المضادة لألكســدة فهي قوية‪ ،‬وأظهرت‬ ‫التجــارب أنهــا تتناقص مع التعليب والتجميد‪ ،‬وتبين أن‬ ‫المركبــات المســؤولة عنهــا هــي الفيتاميــن "أ" والفيتامين‬ ‫"ج"‪ ،‬ومتعددات الفينول "األنثوسيانين"‪" ،‬الفالفونويدات‬ ‫الكليــة"‪" ،‬الكاروتينــات الكليــة"‪" ،‬الفينــوالت الحــرة‬ ‫والمؤسترة"‪.‬‬ ‫إن الكمــأة تعتبــر نعمــة مــن ِن َعم اهلل القديــر القائل في‬ ‫َ‬ ‫ــم َمــا ِفــي‬ ‫ــم َت َــر ْوا َأ َّن ا َ‬ ‫هلل َس َّ‬ ‫ــخ َر َل ُك ْ‬ ‫محكــم التنزيــل‪ :‬أ َل ْ‬ ‫ض َوأَســب َغ َع َلي ُكــم ِن َعم ُه َظ ِ‬ ‫او ِ‬ ‫ات َو َما ِفي ا َ‬ ‫أل ْر ِ‬ ‫اه َر ًة‬ ‫ــم َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫الس َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ــم َو َ‬ ‫الن ِ‬ ‫ــن ُي َجــاد ُل فــي اهلل ب َِغ ْي ِــر ع ْل ٍ‬ ‫ــن َّ‬ ‫َو َباط َنــ ًة َوم َ‬ ‫ــاس َم ْ‬ ‫ــاب ُم ِنيرٍ ‪(‬لقمــان‪ ،)20:‬وتبقــى الكمأة متخفية‬ ‫ــدى َو َ‬ ‫ال ِك َت ٍ‬ ‫ُه ً‬ ‫فــي باطــن األرض تنتظــر من يخرجها لتكــون له‬ ‫غذاء أو‬ ‫ً‬ ‫شافيا‪.‬‬ ‫دواء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إن الكمــأة إذن‪ ،‬غــذاء كما أخبرنــا اهلل تعالى في كتابه‬ ‫الكريــم‪ ،‬الحتوائهــا علــى أهــم العناصــر المغذيــة‪ ،‬وهــي‬ ‫البروتينات واألحماض األمينية‪ ،‬يســتعملها أهل البوادي‬ ‫الر َّحــل في تغذيتهم كبديل عــن اللحوم‪ ،‬ويمكن‬ ‫والبــدو ُّ‬ ‫االحتفاظ بها بعد تجفيفها أو تمليحها لكي تستهلك في‬ ‫فصول أخرى من السنة‪.‬‬ ‫وهي شفاء للعين كما وضحه رسول اهلل ‪ ،‬لتأثيرها‬ ‫المضاد للبكتيريا المسببة ألمراض العيون‪ .‬وما تواجدها‬ ‫فــي الصحــراء وفــي فتــرة بدايــة الربيــع‪ ،‬إال لحكمــة منه‬

‫تعالــى‪ .‬فمــرض "التراخومــا" ينتشــر فــي منطقــة انتشــار‬

‫جعــل اهلل مــكان وزمــان تواجــد العــاج مواف ًقــا لمــكان‬ ‫وزمان تواجد المرض‪.‬‬

‫وللكمأة فوائد أخرى باعتبارها فطريات جذرية‪ ،‬فهي‬

‫تحافــظ علــى التــوازن البيئــي الصحــراوي فتمنــع تحرك‬ ‫الرمــال بإفــراز مــواد لزجــة تســاعد فــي تجميــع حبيبات‬

‫الرمل حول الجذور مما يؤدي إلى تثبيت الرمال حولها‪.‬‬

‫وهــذه طريقــة لمقاومــة التصحــر‪ ،‬وتمــد النباتــات العائلة‬ ‫بمــا تحتاجــه من العناصــر المعدنيــة كالحديــد والنحاس‬ ‫والزنــك‪ ،‬وتقــوم بســحب المــاء الموجــود خــارج منطقة‬

‫الجــذور للنبــات المضيف‪ ،‬فتقاوم هذه األخيرة الظروف‬ ‫حاجزا‬ ‫القاســية مــن جفــاف وملوحة وتنمــو أكثر لتكــون‬ ‫ً‬

‫لتحــرك الرمــال أو كأل لحيوانــات المنطقــة‪ .‬كمــا تعتبــر‬ ‫ُّ‬

‫تجــارة الكمــأة ذات أهمية اقتصادية كبيرة لســكان الريف‬ ‫والبوادي يمكن معها تقليص حجم البطالة‪.‬‬ ‫وهكــذا هــي ِن َعــم اهلل الرحيــم بعبــاده ال تحصــى‪ ،‬ال‬

‫ــن ُك ِّل َما‬ ‫‪‬وآ َت ُ‬ ‫اك ْم ِم ْ‬ ‫نعلــم إال القليــل عنهــا‪ ،‬قــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫ــدوا ِن ْعمــ َة ا ِ‬ ‫ــان‬ ‫هلل َ‬ ‫وهــا إ َِّن ا ِ‬ ‫إل ْن َس َ‬ ‫وه َوإ ِْن َت ُع ُّ‬ ‫ال ُت ْح ُص َ‬ ‫َســ َأ ْل ُت ُم ُ‬ ‫َ‬ ‫ار‪(‬إبراهيم‪.)34:‬‬ ‫َل َظ ُل ٌ‬ ‫وم َك َّف ٌ‬ ‫(*) معهد الكيمياء‪ ،‬كلية العلوم‪ ،‬جامعة المسيلة ‪ /‬الجزائر‪.‬‬


‫المــاء‪ .‬وتكثــر الكمــأة عند مجــاري األنهار في الســنوات‬ ‫كميات متنوعة من‬ ‫التــي تتمتــع بمناخ جيد‪ ،‬حيث توجد ّ‬ ‫النباتــات العائلــة‪ .‬هــذا وإن المنطقــة الممتــدة من شــمال‬ ‫محيطــا‬ ‫تعــد‬ ‫طبيعيــا‬ ‫ً‬ ‫إفريقيــا إلــى حــدود آســيا الوســطى ّ‬ ‫ًّ‬ ‫النتشار الكمأة‪.‬‬

‫الكمأة في الكتاب والسنة‬

‫أظهــرت عديــد الدراســات الكيميائيــة أن الكمأة تحتوي‬ ‫علــى البروتينــات واألحمــاض األمينيــة األساســية بنســبة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الفوائد الطبية والغذائية للكمأة‬

‫‪ ،%27-20‬بحيــث تفــوق أغلــب النباتــات والفطريــات‬ ‫األخــرى بـ‪ %7.5-3‬من الدهون‪ ،‬والســتيروالت ‪%13-7‬‬ ‫مــن األليــاف الغذائيــة‪ %5-2 ،‬مــن حمض األســكوربيك‬ ‫(‪ ،)Vitamine C‬والمعــادن (‪)K, P, Fe, Cu, Zn, Mn, Na, Ca‬‬ ‫والســكريات كالجلوكــوز‪ ،‬والفركتــوز والمانيتــول بنســبة‬ ‫‪ ،.%60‬كمــا أن ذوق الكمــأة الخــاص هــو نتيجــة تواجــد‬ ‫مكونــات أخــرى وهــي األلدهيــدات‪ ،‬والكحــوالت‪،‬‬ ‫والكيتونــات‪ ،‬واألحمــاض العضويــة‪ ،‬والمركبــات‬ ‫الكبريتيــة‪ .‬لكــن نســبة تواجدهــا تختلــف مــن نــوع آلخر‬ ‫بحســب المنطقــة والتربــة ومكوناتها‪.‬‬ ‫ونظــرا لغناها بهذه‬ ‫ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫المواد الطبيعية فهي تعتبر‬ ‫غنيا متكام ً‬ ‫ً‬ ‫غذاء ًّ‬ ‫تعتبــر الخاصيــة المضــادة للبكتيريــا‪ ،‬مــن أكثــر‬ ‫الدراســات التي تمت على مستخلصات الكمأة‪ ،‬وكانت‬ ‫البكتيريا المســتعملة من عدة أجناس مثل "‪Staphylococcus‬‬ ‫‪ "Aureus‬و"‪ ،"Pseudomonas aeruginosa‬هــي التــي تتســبب في‬ ‫أمراض العيون الشــائعة‪ .‬كما تمت دراســات أخرى على‬ ‫بكتيريــا "‪ "Chlamydia Trachomatis‬والتــي تتســبب في مرض‬ ‫"التراخوما" المعروف بـ"الحثر" أو "الرمد الحبيبي"‪ ،‬وهو‬ ‫غالبــا إلــى العمــى‪.‬‬ ‫مــرض خطيــر يصيــب العيــن ويــؤدي ً‬ ‫وأمـ�ا هـ�ذا المرض فينتشـ�ر عـ�ن طريق ُذبابتـ�ي "�‪Musca Sor‬‬ ‫‪ "bens‬و"‪ ،"Musca domestica‬إذ تحــط علــى وجــه الشــخص‬ ‫الر َّضع واألطفال فتتســبب‬ ‫الســليم‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا على وجه ُ‬ ‫بذلــك بانتقــال المــرض مــن شــخص إلــى آخــر‪ ،‬ويــزداد‬ ‫هــذا المــرض عنــد تكاثــر الذبــاب فــي فتــرات الحــرارة‪.‬‬ ‫إنــه التهــاب مزمــن ُم ٍ‬ ‫عد يقاســي منــه معظم ســكان منطقة‬ ‫الشــرق األوسط وحوض البحر األبيض المتوسط وبقاع‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ــن" فــي مواضــع ثالثــة مــن‬ ‫"الم َّ‬ ‫لقــد ذكــر اهلل تعالــى َ‬ ‫القــرآن الكريــم حيــث قــال‪َ َ :‬‬ ‫ــن‬ ‫ــم ا ْل َم َّ‬ ‫‪‬وأ ْن َز ْل َنــا َع َل ْي ُك ُ‬ ‫‪‬و َأ ْن َز ْل َنــا َع َل ْيهِ ُم ا ْل َم َّن‬ ‫الســ ْل َوى‪(‬البقرة‪ ،)57:‬وقــال ً‬ ‫أيضا‪َ :‬‬ ‫َو َّ‬ ‫ــم‬ ‫الســ ْل َوى‪(‬األعراف‪ ،)160:‬وقــال تعالــى‪َ :‬‬ ‫‪‬و َن َّز ْل َنــا َع َل ْي ُك ُ‬ ‫َو َّ‬ ‫الس ْل َوى‪(‬طه‪.)80:‬‬ ‫ا ْل َم َّن َو َّ‬ ‫أمــا في الحديث النبوي الشــريف‪ ،‬ففي مســند اإلمام‬ ‫أحمــد عــن أبــي هريرة ‪ ‬أن أصحــاب النبي ‪ ‬تذاكروا‬ ‫"الكمــأة" فقالــوا‪ :‬هــي جــدري األرض ومــا نــرى أكلهــا‬ ‫يصلــح‪ ،‬وعندمــا بلغ ذلك رســول اهلل ‪ ‬فقــال‪" :‬الكمأة‬ ‫الم ّن وماؤها شــفاء للعيــن‪ ،‬والعجوة من الجنة وهي‬ ‫مــن َ‬ ‫السم"‪.‬‬ ‫شفاء من ّ‬ ‫وأخــرج الترمذي في جامعه بســند صحيح إلى قتادة‬ ‫قــال‪:‬‬ ‫حدثــت أن أبــا هريــرة قــال‪ :‬أخذت ثــاث أكمؤ أو‬ ‫ُ‬ ‫ســبعا فعصرتهــن فجعلــت ماءهــن فــي قارورة‬ ‫خمســا أو ً‬ ‫ً‬ ‫فبرئت‪.‬‬ ‫فكحلت به جارية لي‬ ‫ْ‬ ‫أمير المؤمنين العباسي‪،‬‬ ‫وذكر الزرقاني أن "المتوكل" َ‬ ‫رمــدا‪ ،‬فطلب من‬ ‫رمــد‪ ،‬ولــم يزدد اســتعماله األدويــة إال ً‬ ‫اإلمــام أحمــد بــن حنبــل إن كان يعــرف حدي ًثــا في ذلك‪،‬‬ ‫الم ّن وماؤها شفاء‬ ‫فذكر له أن النبي ‪ ‬قال‪َ :‬‬ ‫"الك ْم َأ ُة من َ‬ ‫للعين"‪ ،‬فأرسل "المتوكل" إلى طبيبه "يوحنا بن ماسويه"‬ ‫المســيحي‪ ،‬وطلب منه أن يســتخرج له ماء الكمأة‪ ،‬فأخذ‬ ‫الكمــأة فقشــرها ثــم ســلقها فأنضجــت أدنــى النضج‪ ،‬ثم‬ ‫شــ ّقها وأخــرج ماءهــا بالميــل‪ ،‬فكحل به عيــن "المتوكل"‬ ‫فبرئــت فــي الدفعــة الثانيــة‪ ،‬فعجــب ابــن ماســويه وقــال‪:‬‬ ‫"أشــهد أن صاحبكــم كان‬ ‫حكيمــا"‪ .‬وقــد اختلف العلماء‬ ‫ً‬ ‫في حقيقة ماء الكمأة وكيفية استخراجه‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫علوم‬

‫نيروز بن زقوطة*‬

‫لماذا توجد الكمأة في الصحراء؟‬ ‫تمثــل األراضي الصحراويــة بيئة خاصة‪،‬‬

‫ففي ظروف الجفاف وفي وطأة الحرارة‬ ‫فريدا يبدو‬ ‫المرتفعة‪ ،‬تأخذ هذه البيئة لو ًنا ً‬

‫معين من األنظمــة البيئية‬ ‫قاســيا‪ ،‬لكنــه فــي الحقيقة نظــام ّ‬ ‫ً‬

‫المختلفــة التــي أوجدهــا اهلل تعالــى في هــذا الكون‪ .‬وفي‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫الكريــم وأشــارت إليهــا الســنة النبوية المطهــرة‪ ،‬وهذا ال‬

‫‪14‬‬

‫ال‬ ‫يكــون إال ألهميتهــا الكبيرة وفوائدهــا‬ ‫الجمة‪ .‬فنجد مث ً‬ ‫ّ‬ ‫والصبــار‪ ،‬والكمــأة‬ ‫التمــور‪ ،‬والســدر‪ ،‬واآلراك‪ ،‬واألثــل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التــي يســميها أهــل الصحــراء "لحــم األرض" لطعمهــا‬

‫الفريد وغناها بالبروتينات‪.‬‬

‫ماهية الكمأة‬

‫هــي فطريــات جذريــة‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫(‪)Mycorhize‬‬

‫تنتمــي إلــى نوعــي‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هــذه البيئــة العجيبــة توجــد نباتــات عديدة ذكرهــا القرآن‬

‫"‪ "Terfezia‬و"‪ ،"Tirmania‬تنمــو تحــت األرض مــع جــذور‬ ‫نباتــات أخــرى كنبــات القصيــص (‪،)Helianthemum Lippii‬‬ ‫اإلجــرد (‪ ،)Helianthemum Ledifolium‬وجنــس آخــر ُيعــرف‬ ‫أيضا‬ ‫بـــ"‪ ."Helianthemum Ellipticum‬كمــا أن الكمــأة ُتعــرف ً‬ ‫بـ"المن"‪ ،‬ونبات الرعد‪ ،‬والفقع‪ ،‬وعيش الغراب‪ ،‬أما في‬ ‫ّ‬ ‫الجزائر والمغرب العربي فتسمى بـ"الترفاس"‪.‬‬ ‫ــض‬ ‫جــاء فــي لســان العــرب أن َ‬ ‫ــمء"؛ نبــات ُي َن ِّق ُ‬ ‫"الك ْ‬ ‫الرجل تشــققت‬ ‫وك َم َأ‬ ‫ُ‬ ‫األرض فيخرج كما َيخرج ال ُف ْط ُر‪َ .‬‬ ‫رجــاه‪ .‬و"الكمي" يعني التخفي وعدم الظهور‪ .‬والكمأة‬ ‫ال تظهــر حتــى تتشــقق األرض عنهــا‪ ،‬وإنهــا تكــون فــي‬ ‫األرض من غير زرع أو سقي‪ .‬سميت "كمأة" الستتارها‪،‬‬ ‫فهــي مخفيــة تحت األرض ال ورق لها وال ســاق‪ .‬توجد‬ ‫فــي الربيــع وتعتبــر مــن أطعمــة أهــل البــوادي‪ ،‬وتكثــر‬ ‫بــأرض العــرب‪ ،‬وأجودهــا مــا كانــت أرضها رمليــة قليلة‬


‫ألعبــاء الشــأن العــام اآلن‪ ،‬إلــى دقــة الطبيب منــه إلى قوة‬

‫أولويــة النظــر فــي تغيير مفاهيــم وأولويــات العمل العام‪.‬‬

‫لقد أثبتت خبرة واقعنا الراهن أال ُن َخ َب مؤتمنة على‬

‫إصــاح اإلنســان الــذي هــو مفتــاح التغيير فــي كل مكان‬

‫وقيادة مسارها‪ ،‬ما لم تنشأ على معاني االنتماء والحرص‬

‫كلهــا ووحــدات المجتمــع جميعهــا‪ ،‬فــإن بعثه فــي حياة‬

‫شــموليا‪ ،‬في المكان والمجال‪ ،‬وشــرطه‬ ‫فــا إصــاح إال‬ ‫ًّ‬

‫الب َّناء على أهميتها‪.‬‬ ‫َ‬

‫ال ألبعاد حياة اإلنسان‬ ‫ومجال‪ .‬وكما أن الوحي جاء شام ً‬

‫مهــام ريادة المجتمعات وتوجيــه طاقاتها وصياغة وعيها‬

‫النــاس ينبغــي أن يكــون كذلك في وحــدات الحياة كافة‪،‬‬

‫على مجتمعاتها ورعايتها وحفظ مصالحها ح ًّقا‪ ،‬وتتم ّثل‬

‫بالتوازي والتلطف‪.‬‬

‫قيــم االهتمــام بمــآل هــذه المجتمعــات اهتمامهــا بشــأنها‬ ‫َ‬

‫وفــي دائــرة هــذا اإلصــاح يقــع الــدرس الخامــس‪،‬‬

‫الحاضــر‪ .‬ولذلــك فإنــه مــن األهميــة بمــكان‪ ،‬النظــر فــي‬

‫وهــو أنــه لم يعد ثمــة ‪-‬بصدد إرادات اإلصــاح‪ -‬مجال‬

‫مقاصــد التصرفات ومــآالت المواقف وتأثيراتها متكاملة‬

‫لتصنيــف بيــن الناس والمجتمعــات واألقطار في عالمنا‪،‬‬

‫على مصير المجتمع ومســار األمة‪ ،‬وفق ما ســماه بعض‬

‫ســواء علــى أســاس الديــن أو العــرق أو اللغــة أو الهويــة‬

‫العلماء المعاصرين "التدبر اإلستراتيجي"(‪.)5‬‬

‫المذهبية أو الثقافية أو غيرها‪ ...‬إذ الواجب هو النظر إلى‬

‫ومــن مقتضيــات هــذا التدبــر أولويــة رعايــة نخــب‬

‫ودارا‬ ‫ال‬ ‫اإلنســانية‬ ‫جميعا مجا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا للســعي إلى الخير‪ً ،‬‬

‫جديــدة من شــباب هذه المجتمعات مكمــن طاقة الريادة‬

‫كبيرة لخدمة الخلق تحقي ًقا لمراد الحق؛ رحمة للعالمين‪.‬‬

‫الحقيقيــة‪ ،‬فذلــك أهــم بكثير من إدانة الواقع ومســاراته‪،‬‬

‫واحــدا يمضــي بهــا‬ ‫قاربــا‬ ‫ً‬ ‫إن اإلنســانية تركــب اليــوم ً‬

‫واتهام ال ُّن َخب الحالية بالتقصير في أمانة القيادة‪ ،‬وصدق‬ ‫الرائد ال يكذب أهله‪.‬‬

‫الــدرس الرابــع مؤســس علــى خطــاب القــرآن الذي‬

‫جاء لبناء اإلنسان قبل العمران‪ ،‬وإقامة األمة قبل الدولة‪.‬‬ ‫ألــم تقــم دولة النبي ‪ ‬بداية في نفوس من اســتقبلوه في‬

‫المدينــة ســعداء منشــدين "طلــع البدر علينا" فــي وعيهم‬

‫ال؟ فصياغــة المجتمــع إذن غاية مقدمة على‬ ‫الجمعــي أو ً‬ ‫حتما‬ ‫امتالك أدوات الســلطة‪ ،‬وإصالح الشــأن العام يبدأ ً‬

‫بإصالح الشأن الخاص؛ شأن اإلنسان وبناؤه على أساس‬ ‫منظومة قيم بحضارية شاملة بداية البدايات‪.‬‬

‫لقــد أصبحت اإلشــارات إلــى محدوديــة دور الدولة‬

‫فــي عصــر العولمــة‪ ،‬وتعاظــم أدوار المجتمــع المدنــي‬

‫خطابا‬ ‫وعالميا‪،‬‬ ‫محليا‬ ‫متواترا يقتضي اســتيعابه بالدراســة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫المنهجية المتكاملة‪ ،‬وإدراك مقتضياته الواقعية في العمل‬ ‫باعتبارهــا القــدرة على التأثير فــي المجال العام ال مجرد‬

‫التنافــس علــى تســنم زمــام الســلطة‪ ،‬ومفهــوم "القــوى‬

‫الناعمــة" ذو األهميــة الحاســمة فــي التأثيــر والتأثــر بيــن‬ ‫األمــم داخــل حقل العالقات الدوليــة اليوم‪ ...‬كلها تؤكد‬

‫أزماتهــا وتقاربــت المســافات بيــن أهلهــا‪ .‬كمــا تعاظمت‬

‫تدخــل الخــارج فــي شــأن الداخــل بشــكل غير‬ ‫عالمــات ّ‬ ‫مسبوق‪ ،‬وفي رسم األهداف التي تحكمه‪ ،‬والخطط التي‬

‫وباقيا في مكان إال بأن‬ ‫حقيقيــا‬ ‫تحركــه‪ .‬فــا عمران إذن‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫يكون في كل مكان من عالمنا‪.‬‬

‫هذه بعض أمثلة أولية محدودة على دروس مستفادة‬

‫مــن التدبــر في واقعنا‬ ‫ال‪ ،‬ذلــك الذي ينبغي أن‬ ‫مســارا ومآ ً‬ ‫ً‬

‫تبدل في ســبيله الجهود وتشــيد له المؤسســات‪ ،‬ويؤهل‬ ‫لــه اإلنســان‪ ،‬خاصة منه مــن يتصدى ألعباء الشــأن العام‬

‫قياما ببعــض واجب هذه "الفريضة‬ ‫وإصالحــه‪ ،‬كل ذلــك ً‬

‫الغائبة"‪.‬‬

‫(*) مديــر مركــز الدراســات والبحــوث اإلنســانية واالجتماعية ‪ -‬وجدة‬ ‫‪ /‬المغرب‪.‬‬

‫الهوامش‬

‫الموافقات‪ ،‬للشاطبي‪.194/4 ،‬‬ ‫(‪ )2‬لسان العرب‪ ،‬البن منظور‪ ،‬مادة د‪.‬ب‪.‬ر‪.‬‬ ‫(‪ )3‬راجع‪ :‬المعين في تدبر الكتاب المبين‪ ،‬لسعد بن أحمد حنتوس‪ ،‬ص‪.6:‬‬ ‫(‪ )4‬الموافقات‪ ،‬للشاطبي‪.36/1 ،‬‬ ‫(‪ )5‬راجع في ذلك ما كتبه عالم السياسة المصري الكبير الدكتور حامد ربيع‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫اإلصالحــي للمجتمعــات‪ .‬فالمفهــوم األحدث للسياســة‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫الحــرص علــى تحمل مســؤولياتها تجــاه مجتمعها‪ ...‬إن‬

‫جميعــا إمــا إلــى النجــاة وإمــا إلــى الهــاك‪ ،‬فقــد اتحدت‬ ‫ً‬

‫‪13‬‬


‫خير َّيتها في مجموعها كأمة‬ ‫مناط ِ‬ ‫والسير نحو استردادها َ‬

‫التلقــي عــن الكون كما يتجلــى علينا في حركته وقوانينه‪،‬‬

‫وال شــك أن عناوين األزمة اليوم متعددة‪ ،‬إذ انضاف‬

‫طبيعــة الفاعليــن من حولنا في أحجامهم الحقيقية ومدى‬

‫مدلهمــات الخطــب الداخلي فــي مجتمعاتنا‪ ،‬مع‬ ‫للغيــر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫لهــذا الواقــع الماثــل المتســمة بدقــة التفاصيــل المؤثــرة‬

‫شاهدة‪.‬‬

‫وقــراءة العالــم مــن حولنا فــي موازينه وأحداثــه‪ ،‬وإدراك‬

‫ال من االســتتباع والتجزئــة واالنقياد‬ ‫إلــى مــا كابدنــاه طوي ً‬

‫قدراتهم‪ ،‬وتفاعل العالقات بينهم‪ ،‬والخالصات المركبة‬

‫التشــظي الــذي مس المرجعية بحســب اتجاهات الواقع‬ ‫ّ‬

‫وسرعة تحولها‪.‬‬

‫وأحداثه‪ ،‬بدل أن تكون لحمة الجماعة المعنوية ومصدر‬

‫بكلمــة‪ ،‬ينبغــي للمواقــف د َّقــت أو َع ُظ َمــت أن تكون‬

‫التوجيه للمجتمع في أوبته إلى رشده‪ .‬وتعددت مصادر‬

‫ســببا‬ ‫نتيجــة تدبر فــي الموقف الماثل وموازينه‪ ،‬وبالتالي ً‬

‫النداء إلى طريق الخروج من المحنة بال نظر في مآالته‪،‬‬

‫فــي توجيهــه ال نتيجــة إلكراهاتــه وظروفه؛ أليــس القصد‬

‫قددا‪.‬‬ ‫الطريق التي تعددت طرائق ً‬

‫المرحلــة وظروف المســير‪ ،‬أليســت قواعد فقــه المآالت‬

‫وال اســتخالص لــدروس المســار الســابقة علــى ذات‬

‫شــرطا فــي الســعي؟ وال قصد إال بوعــي محكم بتفاصيل‬ ‫ً‬

‫المع َل ِم‬ ‫إال أن فريضة التدبر إذ تظل معتصمة باألصل َ‬ ‫قاصدا إلى‬ ‫ســعيا‬ ‫لالهتــداء‪ ،‬وهــو الوحي‪ ،‬فإنها تســتحيل‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫الدرس الثاني هو أن التغيير األبقى هو األعمق‬ ‫جذورا‬ ‫ً‬

‫ــل أحــكام الوحــي في واقــع المجتمع‪ ،‬مع‬ ‫وتم ُّث ِ‬ ‫اليــوم‪َ ،‬‬

‫األسرع‪ .‬فواقعنا تدهور عبر إرادات فاعلة وعمل دؤوب‬

‫تعلمنا "استقراء الجزئيات لصياغة الكليات"(‪.)4‬‬

‫إدراك معانيــه فــي ضــوء مســيرة حيــاة اإلنســان المســلم‬

‫الــدروس والخبــرات‪ ،‬وتدبــر مآالتهــا علــى هدي الســنن‬

‫الماضية‪ ،‬آيات للسائرين‪.‬‬

‫إحياء فريضة التدبر وثمراته‬

‫فــي مقاصــد عمرانه‪ ،‬ومحددات أهدافــه‪ ،‬وقيمه المعرفية‬

‫وأخالقه‪ ،‬وآليات اشتغاله‪ ،‬ودوافع حركته‪ ...‬وأي تغيير‬ ‫ال يســتهدف هــذه األبعاد فمآله إلــى االنتكاس وإن بدت‬

‫أمــا ثمــرات هــذا التدبــر في واقــع كالذي كابدنــا فصوله‬ ‫إحيــاء هــذه الفريضــة وعِ ظَ م الدروس المســتفادة من هذا‬

‫ولعــل مــن الزم هــذا القــول أن تحــوالت هائلة تطرأ‬

‫اإلحيــاء‪ ،‬وإن محاولــة أوليــة متواضعــة للمضــي فــي هذا‬

‫الســعي َت ُم ّدنــا بعدد من تلــك الثمــرات‪ُ ،‬تهديها الظروف‬ ‫الماثلة إلى المشتغلين بإصالح الشأن العام خاصة‪.‬‬

‫فينــا مشــاعر األمــل وعواطــف االستبشــار والحمــاس‪.‬‬

‫علــى واقعنــا باضطــراد‪ ،‬تمــس العالقــات والمؤسســات‬

‫واألدوار وأدوات الفعل ووســائل التأثير‪ ،‬وما لم نراجع‬

‫األدوات التــي نعتمدهــا‪ ،‬ووســائلنا التــي نســتخدمها‬

‫أن التعامــل مــع الواقــع‬ ‫ولعــل أول تلــك الــدروس‪ّ ،‬‬

‫قاصدين التأثير بها في ذلك الواقع‪ ،‬فإنها ستصير أدوات‬

‫مســتخلصة مــن تأمــل دقيق فيه ودراســة مســتوعبة له‪ ،‬ال‬

‫الواقــع باالســتعصاء‪ ،‬غافلين عن تجــاوزه لقدراتنا نحن‬

‫ينبغــي أن يكــون مــع معطياته وحقائقه كمــا هي بالفعل‪،‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫وظروف معقدة امتدت قرو ًنا؛ يحتاج معه إلى تغيير هادئ‬

‫آثــاره اإليجابيــة فــي الظاهــر‬ ‫حركــت صورتــه‬ ‫ً‬ ‫ســريعا‪ ،‬أو ّ‬

‫جــدا‪ ،‬وهي تبين مقــدار الحاجة إلى‬ ‫‪-‬وال نــزال‪ -‬فكثيــرة ًّ‬

‫‪12‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫اســتصحاب أزمــات هــذا الواقــع كرصيــد متراكــم مــن‬

‫فــي الواقــع‪ :‬ظروفــه الحاكمــة ومعطياتــه المؤثــرة وليس‬

‫فعل لديها‪ ،‬وســنظل ّنتهم اآلخرين أو‬ ‫معطلــة ال إمكانيــة ٍ‬

‫في إبداع ما يناســبه من وســائل‪ ،‬وتطوير قدراتنا المتنوعة‬

‫اإلصــرار علــى التعامل مع هذا الواقــع كما نتصوره من‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫وخالل ذاتيتنا‪.‬‬ ‫موقعنا‬

‫على التعامل مع تحوالته‪.‬‬

‫(الحقيقــة والتصور الذاتي) أمر حاســم في نجاح مســعى‬

‫الراهــن مؤلــم صعــب ال يتحمل مبادرات غير محســوبة‪،‬‬

‫الهوة بين هذين المســتويين إلدراك الواقع‬ ‫إن َج ْس َــر ّ‬

‫ال‬ ‫حقيقيا في مســتويي‬ ‫التغييــر‪ ،‬وهــذه مهمــة تقتضي تحو ً‬ ‫ًّ‬ ‫مناهــج التعامــل معــه ووســائله؛ إعــادة النظــر فــي منهــج‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أمــا الــدرس الثالث المرتبط بســابقه‪ ،‬فهــو أن الواقع‬

‫وال ذات آثــار جانبيــة تزيــد مــن آالمــه‪ ،‬فهــو أحــوج فــي‬ ‫مواصفات القائمين بمهام التغيير واإلصالح‪ ،‬المتصدين‬


‫إذا كان التدبــر حاجــة واقعية تفرضهــا مقتضيات‬

‫بتقديــر الفقيــه عنــد اجتهــاده أو حكمه لمــآالت األحكام‬

‫االجتــاع اإلنســاين ومســتقبله‪ ،‬فهــو قبل ذلك‬

‫واألفعــال التــي هــي محــل حكمــه وإفتائــه"(‪ ،)1‬فكيــف‬

‫فريضة ربانية متعلقة ببلوغ مرتبة التلقي للوحي‬

‫بالمتصدي للنظر في قضايا يحكم بها على عموم الناس‬

‫بفقه ُمراده‪ ،‬أي ارتقاء اإلنسان املخاطب إىل إدراك‬

‫ومصائر المجتمعات؟‬

‫موقعه من الخطاب اإللهي بشكل مركب ومتكامل‪.‬‬

‫لذلك يحسن البدء بالسؤال‪ :‬ما‬ ‫التدبر؟ وكيف يكون‬ ‫ّ‬

‫ُخ ُل ًقــا يأمــر به الوحي فيشــير إليه القــرآن؟ وكيف نمارس‬ ‫هذا الخلق إزاء واقعنا؟ هذا الذي ادلهمت فيه الخطوب‬

‫المخاطب إلى إدراك موقعه من الخطاب اإللهي بشــكل‬

‫وتزاحمــت األحــداث بوتيرة تتأبى علــى المتابعة‪ ،‬فكيف‬

‫مركــب ومتكامل‪ ،‬شــامل ألبعاد هــذا الخطاب ومقاصده‬

‫التدبــر معنــاه اإلجمالــي؛ النظــر فــي عاقبــة األمــر ‪،‬‬

‫القــرآن باآلفــاق واألنفــس باعتبارهمــا مســاحة التجلــي‬

‫عليــه فهمــه إلى منتهاه وافتقــد األدوات الالزمة إلدراكه‪:‬‬ ‫"فالن ال يدري ِقبال األمر من ِدباره"‪ ،‬ومن ذلك قول جرير‪:‬‬

‫واســتحثاث التوجيــه القرآنــي اإلنســان علــى التدبــر‪،‬‬ ‫االد َكار‪ِ  :‬ل َي َّد َّب ُــروا َآيا ِتــ ِه‬ ‫ينصــرف إلــى اآليــات بقصــد ِّ‬ ‫َو ِلي َت َذ َّكــر ُأو ُلــو ا َ‬ ‫ــاب‪(‬ص‪ ،)29:‬غيــر أن خطاب القرآن‬ ‫أل ْل َب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نفســه يحيــل إلى اآليــات المبثوثــة في اآلفــاق واألنفس‪.‬‬

‫بتدبر ما فيها وما إليه مآلها؟‬

‫الكامنــة فــي نفس اإلنســان وواقعه‪ .‬وهذا الذي يعبر عنه‬

‫(‪)2‬‬

‫عظم‬ ‫ولذلك يقولون عن المرء إذا أشــكل عليه أمر‪ ،‬أي ُ‬

‫األكمل للسنن اإللهية التي هي خطاب إلهي منظور‪.‬‬

‫وال تتقون الشر حتى يصيبكم‬

‫ ‬

‫وال تعرفون األمر إال تدبرا‬

‫والتدبــر على صيغة "ت َف ُّع ٌل" بمعنى أنه فعل متواصل؛‬

‫سيرورة من الجهد المبذول في النظر وتأمل األمور ونظر‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫أي إال بأثــر رجعــي كمــا يقــول المصطلــح القانونــي‬ ‫ْ‬ ‫الحديث‪.‬‬

‫كونيا وضرورة واقعية تقتضيها‬ ‫ومن هنا كان التدبر‬ ‫واجبا ًّ‬ ‫ً‬

‫أمانــة االســتخالف فــي الكــون‪ ،‬التي تمتــد بواجباتها إلى‬

‫الحرص على مصير اإلنسان مطل ًقا؛ كما تقتضيها مسؤولية‬

‫االنتمــاء إلــى مجتمعــات عالم المســلمين‪ ،‬التــي تعطلت‬

‫في مآالتها‪ ،‬وقد أوضح ابن القيم هذا المعنى حين قال‪:‬‬

‫لديها القدرة على اســتئناف حياتها على مقتضى حقائقها‬

‫بعــد مرة‪ ،‬ولهذا جاء علــى بناء التفعل‪ ،‬كالتجرع والتفهم‬

‫اإلنســان عــن "إقامــة العمــران علــى مقتضــى القــرآن"‪.‬‬

‫نظر في أوله وآخره‪ ،‬ثم يعيد نظره مرة‬ ‫"تدبــر الــكالم أن ُي َ‬

‫الذاتية‪ ،‬وهو ما يشير إليه الماوردي بحديثه عن مسؤولية‬

‫والتبين‪ ."..‬أي إنه فعل مالزم لإلنسان في عالقات النظر‬

‫ولعــل العقــل المســلم اليــوم‪ ،‬أحــوج مــا يكــون إلــى‬

‫الباحثيــن المعاصريــن معانــي التدبــر في قولهــم‪" :‬التفكر‬

‫آفاق النظر أمامه في عالمه‪ ،‬وتراكم الخبرات في واقعه‪،‬‬

‫البعيدة"(‪.)3‬‬

‫موجهــة قــدرة االعتبــار‬ ‫لشــجون الواقــع وآالمــه‪ ،‬فإنهــا ِّ‬

‫والتفكير التي تربطه باألفكار واألشياء‪ .‬وقد أجمل بعض‬

‫إحيــاء فريضــة التدبــر وأداء مقتضياتها‪ ،‬بالنظر إلى اتســاع‬

‫الشــامل الواصــل إلــى أواخــر دالالت الكلــم ومراميــه‬

‫وألن ما يعانيه من أزمات ومشــكالت بقدر ما هي مثيرة‬

‫والخالصة أن التدبر هو اســتفراغ الوســع في إدراك‬

‫لديه إلى مواطن االســتفادة ومكامن الدروس‪ ،‬وما تشــير‬

‫المعاني بإعمال الفهم والفكر بما يشمل المقصد والغاية‬

‫التدبر واجب كوني وضرورة واقعية‬

‫وإذا كان التدبر حاجة واقعية تفرضها مقتضيات االجتماع‬ ‫اإلنســاني ومســتقبله‪ ،‬فهو قبل ذلك فريضة ربانية متعلقة‬

‫ببلوغ مرتبة التلقي للوحي بفقه ُمراده‪ ،‬أي ارتقاء اإلنسان‬

‫قياما بواجب التعاون على انعتاق مجتمعاتنا من أزماتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫من األمر‪ ،‬من خالل تتبع المعنى إلى نهايته‪.‬‬

‫تغييرا وال‬ ‫إليــه مــن ســنن ماضية وقوانيــن ثابتة ال تعــرف‬ ‫ً‬ ‫ا‪ ...‬س َّــن َة ا ِ‬ ‫ــن َت ِج َد‬ ‫تحويــ ً‬ ‫ــن َق ْب ُل َو َل ْ‬ ‫هلل ا َّل ِتــي َق ْــد َخ َل ْت ِم ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِلس َّن ِة ا ِ‬ ‫ال‪(‬الفتح‪.)23:‬‬ ‫هلل َت ْب ِدي ً‬ ‫ُ‬ ‫من هنا يصير تدبر واقع اإلنسان المسلم اليوم‪ ،‬جوهر‬ ‫ِ‬ ‫إدراك السنن والتنبي ِه إليها‪،‬‬ ‫أداء هذه األمانة الجسيمة في‬

‫‪11‬‬


‫قضايا فكرية‬

‫د‪ .‬سمير بودينار*‬

‫دروس راهنة من أداء‬

‫فريضة التدبر‬

‫هــل التفكيــر هــو محــض التعامــل مــع‬

‫عالــم المســلمين اليوم‪ ،‬حيث اســتحكمت أزمات العقل‬

‫األفكار الســابقة؟ وماذا كان أغنى رصيد‬

‫ومؤثــرة في مســارهما‪ ،‬هي مشــكلة "الظاهريــة الجديدة"‬

‫الظواهــر الماثلــة؟ وإن اتســع فمــع‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫اإلنســان فــي إدراك معنــى ســعيه وكســبه‪ ،‬والعلــم بهمــا‬

‫‪10‬‬

‫معــارف وعلومــا إنســانية واجتماعية لو أنــه اكتفى برصد‬ ‫ظاهــر مــا تــراه عينــاه؟ فاســتغنى به عن تلــك المحاوالت‬

‫الدؤوبة للغوص في األعماق والتدبر في جوهر المعاني‬ ‫ولب القضايا والظواهر المتتابعة للحياة؟‬

‫لعــل واحــدة من أهم مشــكالت "منهــج" التفكير في‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫والــروح‪ ،‬منفعلــة بمعضــات االجتمــاع والحضــارة‪،‬‬

‫فــي النظــر إلــى الظواهــر واألحــداث واألفــكار‪ .‬إذ يــكاد‬ ‫المشــهد الراهــن مــن تاريــخ عالــم المســلمين ُيجمل في‬

‫جملــة واحــدة هي‪ :‬االنفعال بالصورة األولية الذي ُيفقد‬ ‫القــدرة علــى النظــر فــي الغايــات والعواقــب‪ ،‬والتدبر في‬

‫المقاصد‪.‬‬

‫وإذا كان "فقه المآالت" في األحكام الشرعية "متعل ًقا‬


‫بالصــورة التــي يرضاهــا لنفســه في عالــم الغــد‪ ،‬فعليه أن‬ ‫ينشــئ أطفالــه علــى أن يحققــوا إمكاناتهــم اإلبداعية إلى‬ ‫أقصى درجة ممكنة‪.‬‬ ‫إن‬ ‫سمته األساسية أنه عصر العلم والتكنولوجيا‪،‬‬ ‫عصرا ُ‬ ‫ً‬ ‫يصبــح اإلبــداع فيه‬ ‫مطلبا ال مناص منه لمن أراد أن يجد‬ ‫ً‬ ‫متميــزا على خريطة عالــم يتقدم من خالل‬ ‫موقعــا‬ ‫لنفســه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫وثبات علمية كيفية تتجاوز كل قدرة على التنبؤ ‪-‬واإلبداع‬ ‫فــي صميمــه تجاوز للمألــوف‪ -‬وهذا التجــاوز ال يتحقق‬ ‫إال من خالل مســايرة التيارات الكوكبية التي تنشــغل في‬ ‫كثير من األحيان بتعليم الطفل‪ ،‬باعتباره حجر الزاوية في‬ ‫المجتمع الكوكبي الجديد‪ ،‬حيث األطفال فيه‪ ،‬هم قادة‬ ‫المســتقبل في إحداث التغيير المطلوب‪ ،‬وال يتأتى ذلك‬ ‫إال عــن طريــق تعليمهــم وتدريبهــم علــى إنتــاج المعرفــة‬ ‫ال مــن تدريبهــم علــى أن يكونــوا مســتهلكين‪ ،‬وهو ما‬ ‫بــد ً‬ ‫يقتضــي‬ ‫إطــاق العنــان لخيــال أطفالنا‪ ،‬حيــث إن "العلم‬ ‫َ‬ ‫ثمرة الخيال"؛ فعندما نســمح ألطفالنا بالدهشــة التي هي‬ ‫جوهر اإلبداع‪ ،‬وال نقهر في داخلهم روح التساؤل‪ ،‬وال‬ ‫نضع‬ ‫حدودا لتعطشهم المعرفي‪ ،‬وال نحبط داخلهم أي‬ ‫ً‬ ‫نزوع صوب البحث والتنقيب واالستكشاف‪ ...‬نكون قد‬ ‫بدأنــا بوضــع الجذور الجنينية لجيل بمقدوره أن يحدث‬ ‫التغيير اإلبداعي المطلوب‪.‬‬ ‫كمــا أنــه البد مــن تضمين ثقافــة الطفل حقيقــة العلم‬ ‫وقوة ســلطان منهجه‪ ،‬وتوظيفه لخدمة اإلنســانية العالمية‬ ‫التي تتجاوز الشعوب واألفراد واألمم‪ ،‬خاصة وأن العلم‬ ‫الــذي نقــل البشــرية مــن طــور إلــى آخــر‪ ،‬هو الــذي يقوم‬ ‫حاليــا بإيجــاد عالــم جديــد ولحظــة تاريخيــة مختلفة كل‬ ‫ًّ‬ ‫االختــاف عــن كل مــا هــو قائــم حتــى اآلن‪ .‬لقــد تحول‬ ‫العلــم والثــورات العلميــة إلــى قــوة من القوى الكاســحة‬ ‫التي تصوغ األحداث‪ ،‬وتشــكل المســتقبل‪ ،‬وتعيد ترتيب‬ ‫أولويات الدول والمجتمعات واألفراد‪ .‬فمن يمتلك هذه‬ ‫القــوة ويحســن توظيفها‪ ،‬يمتلك‬ ‫أساســا مصيــره ويتمكن‬ ‫ً‬ ‫مــن التأثيــر فــي اآلخرين‪ ،‬بما في ذلك القــدرة على إدارة‬ ‫ثقافيا‪.‬‬ ‫واقتصاديا وتوجيهه‬ ‫سياسيا‬ ‫العالم‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫(*) رئيــس قســم الفلســفة واالجتمــاع‪ ،‬كلية التربية‪ ،‬جامعة عين شــمس‬

‫‪ /‬مصر‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫‪9‬‬

‫جامل يف جامل‬ ‫أ ْرضُ نا بالزهر مفروشة‪ ،‬باللون منقوشة‪..‬‬ ‫قدمت‪...‬‬ ‫أتت‪ ،‬نق ّي ًة‬ ‫ْ‬ ‫من يد الخالق طاهر ًة ْ‬ ‫للحس‪ ،‬مثرية للشّ عر‪..‬‬ ‫م َّتاعة للنظر‪َّ ،‬‬ ‫رهافة ِّ‬ ‫وس َّل ٌم و َم ْع َب‪!..‬‬ ‫للجنة َمـ َم ّر‪ُ ،‬‬ ‫ليتنا ما ل ّوثناها‪ ،‬وال بآثامنا أثقلناها‪!..‬‬ ‫***‬


‫وتعــد فتــرة التحاقــه بالمدرســة للمــرة األولــى مــن أهــم‬

‫واالجتماعية‪ .‬إن الطفولة مرحلة نمو يتصف بها األطفال‬ ‫ٍ‬ ‫نشــاط‬ ‫بخصائــص وعــادات وتقاليــد وميــول‪ ،‬وأوجــ ِه‬

‫أوالهــا علماء النفس والتربية أهمية خاصة‪ ،‬ألنها مرحلة‬

‫مفردات لغوية متميزة‪ ،‬وعادات وقيم‪ ،‬وطرق خاصة في‬

‫الفترات في مساره الطفولي‪.‬‬

‫وإدراكا ألهميــة هــذه المرحلــة في حيــاة الطفل‪ ،‬فقد‬ ‫ً‬

‫ٍ‬ ‫ســلوك أخــرى متميــزة‪ ،‬ولهــم فــي كل مجتمــع‬ ‫وأنمــاط‬

‫تأسيســية فــي بنــاء وتشــكيل الســمات الشــخصية التــي‬

‫اللعــب‪ ،‬وأســاليب خاصــة فــي التعبيــر عن أنفســهم وفي‬ ‫دائما‬ ‫إشباع حاجاتهم‪ ،‬أي إن هناك ثقافة لألطفال يجب ً‬

‫ستالزم الطفل طوال حياته‪ .‬إن السنوات المبكرة من عمر‬

‫تنميتها والعمل على ترقيتها‪.‬‬

‫الطفل‪ ،‬تمثل الفرصة الثمينة لتشــكيل مكونات شخصيته‬ ‫وغــرس بذور القدرات التي سيســتمر فــي تكوينها طوال‬

‫تقدم المجتمع مرهون بثقافة أطفاله‬

‫الحيــاة‪ .‬وإن النجــاح الدراســي ال ينبــئ بــه رصيــد الطفل‬

‫مرهون بثقافة أطفاله‪ ،‬وبقدرتهم على اكتســاب المعارف‬

‫بقــدر ما تنبــئ به المقاييــس العاطفيــة واالجتماعية؛ تلك‬

‫األصيلة‪ .‬فالطفولة هي أســاس األمــة وعليها يقوم بنيانها‬

‫ويعــرف طبيعــة التصرفــات المتوقعة‪ ،‬وكيــف يكبح ميله‬

‫واعتنــت بهــم‪ ،‬وجعلتهــم همهــا الدائم وشــغلها الشــاغل‬

‫مــن المعارف‪ ،‬أو مقدرته المبكرة الناضجة على القراءة‪،‬‬

‫الجديــدة‪ ،‬والقيــم األخالقيــة واالجتماعيــة والتربويــة‬

‫مهتمــا‪،‬‬ ‫المقاييــس المتمثلــة فــي ثقتــه بنفســه‪ ،‬وأن يكــون ًّ‬

‫وازدهارهــا أو ضياعهــا‪ ،‬لهــذا اهتمــت األمــم باألطفــال‬

‫قــادرا علــى الترقــب‬ ‫إلــى التصــرف الخطــأ‪ ،‬وأن يكــون‬ ‫ً‬

‫ثقافيا‪ .‬كما أن شــخصية الطفل‬ ‫كي تبني شــخصية الطفل‬ ‫ًّ‬

‫منسجما‬ ‫لمســاعدته‪ ،‬والتعبير عن احتياجاته عندما يكون‬ ‫ً‬

‫ال معافى متز ًنا‪.‬‬ ‫مقدار ما نولي جسمه حتى ينشأ متكام ً‬

‫مدرســيه‬ ‫واالنتظــار وااللتــزام بالتوجيهات‪ ،‬واللجوء إلى ّ‬ ‫مع األطفال اآلخرين‪.‬‬

‫بصمات الطفولة في بناء الشخصية‬

‫من هنا تأتي أهمية الرؤية التربوية النبوية؛ فقد سبقت‬

‫الرعايــة النبوية لألطفال كل المواثيق واألعراف الدولية‪،‬‬

‫تشكل طفولة اإلنسان إحدى المحطات الرئيسة في مسيرة‬ ‫تأسيسا‬ ‫غورا في بنيان شخصيته‪.‬‬ ‫أعمق البصمات وأبعدها ً‬ ‫ً‬

‫الراســخة التــي أرســاها النبــي الكريــم محمــد ‪ ،‬هــي‬

‫علــى ذلــك يمكن احتســاب تلــك الخبــرات والتفاعالت‬

‫بمنزلة قطب الرحى في عملية تحديد سيرورة تطور تلك‬ ‫وترسم مســارات ُّ‬ ‫تشكلها‪ ،‬فإما أن تجعل منه‬ ‫الشــخصية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ورعايتهــم بقــرون طويلــة‪ ،‬وال تــزال التقاليــد واآلداب‬ ‫وعاطفيا‪.‬‬ ‫نفسيا‬ ‫ًّ‬ ‫األجدى واألنفع في بناء اإلنسان السليم ًّ‬

‫فقد اهتم اإلسالم بحقوق الطفل‪ ،‬حتى حقه في أن يختار‬

‫األب زوجــة ذات ديــن ًّأما صالحة تحســن رعاية األوالد‬ ‫ُ‬ ‫وحضانتهــم‪ ،‬حتــى إنــه مــن حــق الطفل أن يختــار له أبوه‬

‫ال‬ ‫كائ ًنــا‬ ‫ال معايير منظومتــه الثقافية متمث ً‬ ‫اجتماعيا مســتدخ ً‬ ‫ًّ‬ ‫أبجدياتهــا ‪-‬األمــر الــذي يتجســد عبــر شــخصية متكيفــة‬

‫أيضا في‬ ‫كبــر‪ ،‬وحقــه ً‬ ‫ً‬ ‫اســما ال يتــأذى أو يخجــل منــه إذا ُ‬

‫بــذور التنافــر والتوتر واالختالل التي تتفاعــل فيما بينها‪،‬‬

‫لكن هذه الرؤية اإلسالمية ال تتعارض مع التطورات‬

‫مــع المحيــط متآلفــة مــع عناصــره‪ -‬وإمــا أن تغــرس فيه‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫لن تكون متزنة وتامة إال إذا أولينا فكره وعقله من العناية‬

‫والنظريــات التــي تتحــدث عــن تربية األطفــال وحقوقهم‬

‫حياته‪ ،‬تارك ًة عبر أحداثها وتجاربها وخبراتها وتفاعالتها‬

‫‪8‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ســنوات الدراســة‪ ،‬تلــك األســس التــي ســتصاحبه مــدى‬

‫إن الثقافــة ضروريــة للطفــل‪ ،‬بــل إن تقــدم المجتمــع‬

‫مفضية إلى بناء شخصية مضطربة معقدة تتنازعها تيارات‬ ‫االنحراف واالعتالل‪.‬‬

‫ولدا‪.‬‬ ‫الرعاية والتدليل والختان إذا كان ً‬

‫العصريــة فــي التربيــة؛ ففــي عالــم االنفجــار المعرفــي‬ ‫والسكاني حيث تزداد سرعة التغير‪ ،‬فإن حقائق الماضي‬

‫فــي ضــوء ذلــك‪ ،‬ينبغــي إيــاء تلــك المرحلــة أقصى‬

‫غالبــا‪ -‬ال تكفــي لحل مشــكالت الحاضر والمســتقبل‪،‬‬‫ً‬

‫بمناخــات إيجابيــة صحيــة تضمــن لهــم النمــو الســليم‬

‫جديــدة للخبــرة‪ ،‬حيــث يصبــح للتفكير اإلبداعــي أهمية‬

‫درجــات العنايــة والحمايــة‪ ،‬وإحاطــة األطفــال خاللهــا‬ ‫المتكامــل بمختلــف أبعــاده الجســمية والنفســية والعقلية‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ممــا يســتلزم من عالمنــا المعاصر أن يبحــث عن مداخل‬ ‫اجتماعيــة فــي هــذا العالــم‪ .‬فــإذا أراد اإلنســان أن يحيــا‬


‫تربية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬بركات محمد مراد*‬

‫كيف نر ّبي أبناءنا؟‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫إن األطفــال في كل أمة يشــكلون نصف‬ ‫الحاضــر وكل المســتقبل‪ .‬واألمــة التــي‬ ‫تســتطيع أن تبنــي أطفالها وفــق أهدافها‬ ‫وتطلعاتهــا‪ ،‬هــي األمــة التي تســتطيع أن تحمي وجودها‬ ‫وتتحكم في مســتقبلها‪ .‬ومن هنا ينصح علماء المســتقبل‬ ‫بإعداد إنسان الغد‪ ،‬وتثقيفه ثقافة مستقبلية‪ ،‬وتطوير قدراته‬ ‫اإلبداعية للتكيف مع عالم المستقبل سريع التغير‪ ،‬حتى‬ ‫تتناغم التغيرات في بنائه النفســي والعقلي مع التغيرات‬ ‫الخارجيــة‪ ،‬وإال فإنــه ســوف يشــعر باالغتــراب عــن هذا‬ ‫العالــم الجديــد‪ ،‬حيــث يقع فريســة لـ"صدمة المســتقبل"‬ ‫على حد تعبير العالِم "توفلر"‪.‬‬ ‫ويعتبــر الطفــل هــذا الكائــن البشــري البــريء‪ ،‬النــواة‬ ‫ُ‬ ‫األولى لإلنسانية ورأسمال البشرية‪ ،‬ولهذا حض اإلسالم‬ ‫الكبار على تربيته وتعليمه وتنشئته تنشئة صالحة‪ ،‬ليكون‬ ‫صالحــا تســتفيد منــه أســرته ومجتمعــه‪ .‬وترجــع‬ ‫مواطنــا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أول‬ ‫المســؤولية الكبــرى فــي ذلك إلــى اآلبــاء باعتبارهم َ‬ ‫مــن يفتــح‬ ‫الطفل عليه عينيه‪ ،‬وتأتي المدرســة في المرتبة‬ ‫ُ‬ ‫الثانيــة باعتبارهــا تجربــة جديــدة فــي حياة الصبــي‪ ،‬ففيها‬ ‫يؤســس الطفــل لعالقاتــه األولى ولتجاربه خــارج البيت‪،‬‬

‫‪7‬‬


‫شعر‬

‫عمر البخاري*‬

‫إلهي‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫إلهي مدى الده ِر فيك الرجا‬ ‫وإن ــك ي ــا ربن ــا عال ــم‬ ‫وق ــد همن ــا أم ــر ذن ــب جنيـ‬ ‫فصرن ــا ضعا ًف ــا أم ــام الع ــدا‬ ‫حماما بأرض الصقور‬ ‫وصرنا ً‬ ‫فليس ــت لن ــا ربن ــا ع ــزة‬ ‫وه ــا نح ــن نرج ــع ي ــا ربن ــا‬ ‫ومن يدع رب الورى ضارًعا‬ ‫ويلج ــا إلي ــه ذليـ ـ ًا ل ــه‬ ‫دائما‬ ‫ويت ــرك طري ــق اله ــوى ً‬ ‫يجب ــه إل ــى م ــا دعا م ــا اتقى‬ ‫صحبن ــا‬ ‫ف ــذاك الظ ــام أي ــا ْ‬ ‫فم ــن يبصر الن ــور يجنح له‬

‫‪6‬‬

‫وف ــي كل أمر ل ــك الملتجا‬ ‫بضعف يخالجنا في الحجا‬ ‫ـ ــنا فولى ضياء وحل الدجا‬ ‫فطال الظالم إذا ما س ــجى‬ ‫ألن ــا نس ــينا إل ــه النج ــا‬ ‫جعلت لنا مخرجا‬ ‫سوى أن‬ ‫َ‬ ‫إلي ــك وندع ــوك أن تفرج ــا‬ ‫ويغ ــد ل ــه دين ــه منهج ــا‬ ‫وبالقرب ــات ق ــد ُد ِج َج ــا‬ ‫وم ــاء غرائ ــزه أثلج ــا‪:‬‬ ‫طري ــق األبالس ــة األعوج ــا‬ ‫وه ــذا الضي ــاء هن ــا ُو ِه َج ــا‬ ‫وم ــن يك أعمى يُ ِرقْه الدجا‬ ‫(*) شاعر مغربي‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫ِ‬ ‫شــاكين إليــه مكابداتهــم بإخــاص المضطريــن‪ .‬وأحيا ًنــا‬

‫فــارس‬ ‫قــد ال يتحقــق االســتواء والنهــوض‪ ،‬وال ُي َم َّكــن‬ ‫ُ‬ ‫البعث من التعبير عن ذاته والقيام بمهمته وتنفيذ مشاريعه‬

‫تــز ّل أعيــن هــؤالء األبطــال بشــكل ّمــا إلــى‬ ‫أخــرى‪ ،‬قــد ِ‬

‫في المدى القريب‪ ،‬وال تؤتي‬ ‫ثمارها المرتقبة في‬ ‫ُ‬ ‫جهوده َ‬

‫تطلعــات دنيويــة‪ ،‬وال يســتطيعون تصفيــة قلوبهــم من أن‬

‫حينهــا‪ .‬ويرجــع ذلــك أحيا ًنا إلى قصــور الفارس ‪-‬الذي‬

‫َت ُشــوبها خواطر نيــل المقام والمنصب والجاه والشــهرة‪،‬‬

‫ينشــد بع ًثــا‪ -‬في بلــوغ المســتوى المطلوب مــن النضج‪،‬‬

‫ومــن ثــم ال يمكنهــم اســتيفاء معاييــر التجــرد الكامــل‬

‫روحه‪ ..‬ويرجع في أحيان أخرى إلى انشغاله بقضايا ال‬

‫و"الحســبية" الخالصــة لوجــه اهلل‪ .‬فإلــى أن تأتــي اللحظــة‬ ‫ّ‬

‫وبالتالــي إلــى عجزه في توظيف طاقته كلها إلقامة صرح‬

‫ذريــا عــن التفكيــر بـــغير مــا‬ ‫التــي ينســلخ فيهــا هــؤالء َج ًّ‬

‫تعر ِضه للتشتت وضياع البوصلة‪،‬‬ ‫تعنيه مباشرة‪ ،‬ومن ثمة ّ‬

‫التوجــه إليــه ســبحانه‪ ،‬ال يمكنهم‬ ‫ويخ ِلصــوا‬ ‫ّ‬ ‫يرضــي اهلل‪ُ ،‬‬

‫وانسياقه في سياق آخر من وتيرة األحداث‪.‬‬

‫حياز ُة نفخة البعث‪.‬‬

‫والحــق أنــه إذا كان انبعاثنــا مــن جديــد وعود ُتنــا إلى‬ ‫ّ‬

‫أضف إلى كل ما ســبق نقط ًة في غاية األهمية‪ ،‬وهي‬

‫ذاتنــا هبــة ربانية ‪-‬وهو كذلك بال شــك‪ -‬فإ َّننا لن نقدرها‬

‫الجيد من الرديء‪ ،‬وتمحيص الخبيث من‬ ‫ضــرورة تمييز ّ‬

‫يؤهلنا لحملها‪،‬‬ ‫قدرهــا لــو جاءت قبــل أن ننضج‬ ‫نضجــا ّ‬ ‫ً‬

‫ِ‬ ‫الظالمين‬ ‫الطيب في نظر الناس عامة‪ ،‬وضرور ُة‬ ‫انكشاف َّ‬

‫وســتذهب أدراج الريــاح دفعــة واحــدة‪،‬‬ ‫فنعــرض أنفســنا‬ ‫ّ‬

‫الناس إراد َتهم ح َّقها؛‬ ‫نحــه المادية والمعنوية بــأن يو ِّفي‬ ‫ِم َ‬ ‫ُ‬

‫ومــن ثــم فالتوجــه اإللهــي ســوف يتأخــر إلــى أن تأتــي‬ ‫كل الفــرص واإلمكانــات‬ ‫اللحظــة التــي يســتثمرون فيهــا ّ‬

‫التي يملكونها‪.‬‬

‫رواد هذا‬ ‫وفــي هــذا البــاب مخاطــر أخــرى‪ ،‬منهــا أن ّ‬

‫الطريــق قــد يتوهمــون أحيا ًنــا أن قدراتهــم وطاقاتهــم‬ ‫ومواهبهم الذاتية هي كل شــيء‪ ،‬فيقعون في ِشــباك غفلة‬ ‫الثقة بها والركون إليها‪ ،‬أو يوشك أن يقعوا في مثل هذا‬ ‫كل مــا يســألون‪ ،‬وال يحقق‬ ‫المهــوى‪ .‬لــذا ال يعطيهــم اهلل ّ‬

‫فــورا كل مــا يرغبــون‪ ،‬صو ًنــا لهــم من االنــزالق في‬ ‫لهــم ً‬ ‫مهاوي الشــرك‪ ،‬فكأنه بهذا يكون قد َح ّول‬ ‫وجوههم من‬ ‫َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫بذلــك أللــوان جديــدة مــن الشــقاء والحرمــان‬ ‫يصعــب‬ ‫ُ‬ ‫أناط‬ ‫أن المولــى ‪ ‬قد َ‬ ‫تغييرهــا وتالفيهــا‪ .‬زد علــى هــذا ّ‬

‫والمســتبدين لشــرائح المجتمــع كافة‪ ..‬وذلــك أن فئات‬ ‫من المجتمع‪ ،‬لديها قابلية لالنخداع واالســتفزاز‪ ،‬لذلك‬ ‫وأفعال‬ ‫لمــح عندها انحيا ٌز إلى جبهــة أهل اإللحاد‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫قــد ُي َ‬ ‫ومواقــف ســلبية ضدهــم؛‬ ‫مســيئة إلــى أبطــال االنبعــاث‬ ‫ُ‬

‫غالبــا إلــى غمــوض فــي الصورة وخفــاء في‬ ‫ّ‬ ‫ومــرد ذلــك ً‬

‫جميعــا فرصــة للتأمل‬ ‫الحقيقــة‪ .‬ولهــذا يمنــح اهلل النــاس‬ ‫ً‬

‫للتفكــر حتــى يأتي يــوم يتبين فيه الخيــط األبيض‬ ‫ومهلــة‬ ‫ّ‬

‫مــن الخيــط األســود‪ ،‬ويتضــح فيــه أيــن وقف أو ســيقف‬ ‫النــاس أجمعــون خواصهــم وعوامهــم؛ وهذا يــؤدي إلى‬ ‫تأخر النتيجة المرتقبة بعض الشيء‪.‬‬ ‫ّ‬

‫وأيا كان السبب‪ ،‬فالذي يقع على عاتقنا هو أن نقوم‬ ‫ًّ‬

‫بمهمتنــا وفــق ما تقتضيه من أســس وواجبــات‪ ،‬ووفق ما‬

‫"جبري لطفي"‪.‬‬ ‫الشرك إلى التوحيد باقتيا ٍد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأحيا ًنــا تجــد أن كل شــيء قــد ُوضــع فــي موضعــه‬ ‫بعد المستوى‬ ‫لما يبلغوا ُ‬ ‫الصحيح‪ ،‬لكن أبطال االنبعاث ّ‬

‫لدعــوة اهلل ونــداء رســوله الكريــم ‪ ،‬فإنــه لــن ُيســ ِلمهم‬

‫ُعرضــ ًة أللــوان مــن الشــدة والعــدوان والتضييــق‪ ،‬وال‬

‫مجاهيلها‪ ،‬بل سيهديهم سبل االنبعاث سبحانه‪.‬‬

‫يســتجيب لجهودهــم االنبعاثيــة‪ ،‬وال يلبــي رغباتهــم كما‬ ‫يطلبــون‪ ،‬ليتوجهــوا إليه وقد اصطبغــوا بحالة االضطرار‪،‬‬

‫جميعــا أنهــم إذا اســتجابوا‬ ‫و ْليعلــم "فرســان البعــث"‬ ‫ً‬

‫لع َثــرات الطريــق يســقطون فــي ُح َفرهــا أو يتيهــون فــي‬ ‫َ‬

‫(*) الترجمة عن التركية‪ :‬نوزاد صواش‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫المطلــوب فــي التوجــه التام إلــى اهلل‪ ،‬فيتركهــم الحق ‪‬‬ ‫َ‬

‫تقتضيه الحكم ُة‪ ،‬ثم َن ِكل الباقي إلى اهلل‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫واســت ِ‬ ‫ضعفوا في األرض‬ ‫يــد العناية والرحمة لمن ُظ ِلموا‬ ‫ُ‬

‫توجهوا إليه‬ ‫االنبعــاث‬ ‫التــام في ذواتهم‪ .‬نعم َ‬ ‫وعد اهلل َمن ّ‬ ‫ِّ‬

‫الش َــعث‪،‬‬ ‫ويبصرهم بمناهج‬ ‫ســعيهم لجمع الشــمل و َل ّم ّ‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫لكنــه َش َــرط لهــذا‬ ‫الوعد أن يقتفوا أثــر األنبياء في عزمهم‬ ‫َّ‬

‫بأعمــاق قلوبهــم بــأن يحييهــم‪ ،‬وبــأن ُيحيــي بهــم الناس‪،‬‬

‫ويرفعهــم إلــى أعلــى عليين‪ ،‬ويهديهم ســواء الســبيل في‬

‫وتصميما‪.‬‬ ‫عزما‬ ‫وهمتهم وثباتهم‪ ،‬وأن تفيض أنفسهم ً‬ ‫ً‬

‫االنبعــاث العلمــي واالجتماعــي والعقلــي والقلبــي‬

‫دأبهم؛ ففي قلوبهم‬ ‫أجل‪ ،‬هذا هو َديد ُنهم‪ ،‬وذاك هو ُ‬

‫حد سواء‪.‬‬ ‫والروحي على ّ‬

‫أال إن هــؤالء الفرســان الذيــن أخــذ ‪-‬وســيأخذ‪ -‬اهلل‬

‫إيمــان راســخ ال يتزعــزع‪ ..‬تراهــم مرابطين فــي مواقعهم‬

‫عمــا تمــوج وتتدفق به‬ ‫إن لــم يكــن اليــوم ً‬ ‫يعبــرون ّ‬ ‫فغــدا‪ّ ،‬‬

‫مــن اليميــن أو الشــمال‪ ..‬وال يهتــزون إزاء المصائــب‬

‫تقاوم‪ ..‬وال يكترثون بمضايقات َت ْدهمهم‬ ‫بقوة خارقة ال َ‬

‫بأيديهــم ويؤيدهــم برعايتــه ونصــره‪ ،‬ســترونهم‬ ‫حتمــا‬ ‫ً‬

‫واالبتــاءات قــط؛ بــل يكونــون‬ ‫مصــدرا لرفــع معنويات‬ ‫ً‬

‫أرواحهــم مــن مشــاعر الشــفقة العميقــة‬ ‫بمعــازف وأوتار‬ ‫َ‬

‫الهمــة ودعا داعي‬ ‫مــن حولهــم ً‬ ‫دائمــا‪ .‬وإذا نــادى منــادي ّ‬

‫شــتى صنعوهــا مــن إكســير المحبــة والرحمة؛ ويبســطون‬

‫أجنحــة الحمايــة والرعايــة كمالئكــة الحفــظ علــى‬

‫الخدمــة كانوا في الطليعة وانتصبوا في مقدمة الصفوف‪،‬‬

‫جميعا حيثما ح ّلوا وارتحلوا‪،‬‬ ‫المظلوميــن والمضطهدين‬ ‫ً‬

‫وإذا كانــت األجــرة والمكافــأة انكفــؤوا فكانــوا فــي آخر‬

‫وســيقولون للطغــاة والمســتبدين الذيــن أقفــرت قلوبهــم‬

‫يسفكونه‪ ،‬ويشربونه‪ ،‬ويبيعون عقولهم به‪.‬‬

‫يومــا ما في‬ ‫ال محالــة َّ‬ ‫ســيظهرون ً‬ ‫أن هــؤالء األبطــال َ‬

‫إنما يمنحها لهؤالء األبطال خالص ًة‪ ،‬وإذا َق ّدر نفخ الحياة‬ ‫ورا‪.‬‬ ‫في أمة‪ ،‬جعل أنفاس هؤالء األبطال لها ُص ً‬

‫أبطــال البعــث هــؤالء‪ ،‬الذيــن نــذروا أنفســهم إلحياء‬

‫اإلنســانية كافة‪ ،‬ســتجدهم قد عقدوا‬ ‫العزم على توظيف‬ ‫َ‬

‫الربانية قد تم ّثلت فيهم‪ ،‬ليســقونا‬ ‫ّ‬ ‫كل مكان وكأن العناية ّ‬ ‫الســامية"‪،‬‬ ‫ورجــال اإليمــان والفاعليــة‪ ،‬وفرســان اليقظــة‬ ‫ُ‬

‫والتضحية والعطاء‪ ،‬وتحققوا بأنبل خصائص المســؤولية‬

‫والحــذر فــي اتصالهــم بــاهلل‪ ..‬وأولئك هم مظهــر الرحمة‬ ‫السعة وذاك االمتداد‪.‬‬ ‫الواسعة المتمثلة بهذه ّ‬

‫مثل هذا البعث على أيدي "فرسان‬ ‫قدر اهلل َ‬ ‫هذا‪ ،‬وإذا ّ‬

‫ال ‪-‬بمقتضــى‬ ‫المســتوى" هــؤالء‪ ،‬فســوف يبعثهــم هــم أو ً‬

‫السببية‪ -‬ثم ُيع ِقب ذلك ببعث عام يشملنا‬ ‫جميعا وينفخ‬ ‫ً‬ ‫الحيــاة فينــا مــن جديــد؛ وإننا علــى يقين أن البعــث العام‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ورموز‬ ‫إخالص فريدة‪،‬‬ ‫صروح‬ ‫بهذه الخصال السامية‪-‬‬‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫قدر الحق تعالى أن يتكرم بمنحة خارقة‪،‬‬ ‫تفان نادرة‪ .‬فإذا ّ‬

‫ما منحهم اهلل من قابليات وطاقات حتى آخر قطرة إلقامة‬

‫كأسا بعد كأس‪ ..‬أولئك هم ُر ّواد "الغاية‬ ‫من كوثر البعث ً‬

‫‪4‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫هلل َل ُك ْم َو ُه َو‬ ‫مــن الرحمــة‪َ  :‬‬ ‫يب َع َل ْي ُك ُم ا ْل َي ْو َم َي ْغ ِف ُر ا ُ‬ ‫ال َت ْث ِر َ‬ ‫َأر َحم الر ِ‬ ‫ين‪(‬يوسف‪ ،)92:‬بل لن يترددوا بفتح صدورٍ‬ ‫اح ِم َ‬ ‫ْ ُ َّ‬ ‫ملؤهــا الرأف ُة والشــفق ُة ولو ألولئك الذيــن قضوا حياتهم‬ ‫ُ‬ ‫ال يفكــرون إال فــي الــدم‪ ،‬وال يتحدثــون إال عــن الــدم‪،‬‬

‫الصفــوف‪ ،‬مســتغرقين فــي مراقبــة صامتــة عميقــة‪ .‬إنهــم‬

‫قادم بإذن اهلل‪.‬‬

‫وحــري بالذكــر أن المؤمنيــن الذيــن ال يحملــون فــي‬ ‫ّ‬

‫ا‪ ،‬ومــن شــحبت‬ ‫صدورهــم غايــة ســامية أو هد ًفــا نبيــ ً‬ ‫عواط ُفهــم وخمــدت جــذو ُة حماســتهم‪ ..‬ال يمكــن أن‬

‫أبــدا بعــد أن أخفقوا فــي تحقيق‬ ‫َيبعثــوا الحيــاة فــي أحــد ً‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫صروح "هدفهم األســمى"‪ ،‬وح ّلقوا بأبهى مشــاعر البذل‬ ‫فــي حفــظ ورعايــة األمانة التــي حملوها علــى عواتقهم‪،‬‬ ‫وتر ّقبــوا بأعمــق مشــاعر االستســام و"الصبــر الفعال" ما‬

‫ســيجود بــه الحــق تعالــى مــن ألــوان التقديــر والتكريم‪..‬‬ ‫وتلــك ‪-‬واهلل‪ -‬ســجايا روح بطوليــة نذرت نفســها للحق‬ ‫جل وعال‪.‬‬

‫وبينما يقوم هؤالء األبطال بما يجب من مسؤوليات‬

‫العــود ويحصــل‬ ‫ليجتمــع‬ ‫التمكيــن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الشــمل ويســتوي ُ‬ ‫اب‪(‬الرعــد‪ ،)38:‬فــا‬ ‫يقينــا أنــه ‪ِ ‬ل ُ‬ ‫ــك ِّل َأ َج ٍ‬ ‫يعلمــون ً‬ ‫ــل ِك َت ٌ‬

‫يضطربــون وال يرتبكــون‪ ،‬بل يجيــدون الترقب واالنتظار‬

‫سنين عديدة‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬أحيا ًنا رغم أداء الواجبات والمســؤوليات كافة‬


‫ّحقق يف‬ ‫إذا كان االنبعاث الذي نرتقبه هو الت‬ ‫َ‬

‫بؤســاء ال يملكون "غاية ســامية"‪ ،‬أو ُع ّط ٍل‬ ‫والمعرفة"‪ ،‬أو‬ ‫َ‬

‫اإلحساس والتفكري والحياة القلبية والروحية‬

‫"هــم قضيــة"‪ ،‬أو محروميــن‬ ‫ال يحملــون بيــن جوانحهــم ّ‬

‫بـ"أصالتنا الذات ّية" ‪-‬وهو كذلك بال شك‪ -‬فذلك‬

‫وصف "فقراء الحكمة"‪.‬‬ ‫جدير بهم‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫يستوجب منّا مراجعة جادة ملا نحن عليه وما‬

‫األحق به ُهم‬ ‫عظيما كهذا‪،‬‬ ‫وحلما‬ ‫ال‬ ‫إن استشرا ًفا جل ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫نتطلع إليه من غايات عظيمة لنوفِّ ق بينهام‪.‬‬

‫فرســان مزجوا العلم بالعرفان‪ ،‬ونذروا أنفسهم للحقيقة‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫يوما مــا‪ ،‬فلن يأتي‬ ‫ــدر ّ‬ ‫وإذا ُق ّ‬ ‫لحظنــا المعكــوس أن يتغيــر ً‬

‫التغييــر ‪-‬بمقتضــى الســنن الفطريــة‪ -‬إال علــى أيديهــم‬

‫طمس بصيص األمل لدى إنســاننا‪ ..‬وهذه حقوق ُت َنتهك‬

‫إن شــاء اهلل‪ .‬هكــذا جــرت ســنة اهلل حتــى اليــوم‪ ،‬وكذلك‬

‫حظــر ممارســتها علــى‬ ‫متهــن‪ ..‬وثمــة عقائــد ُت َ‬ ‫وعدالــة ُت َ‬

‫ستجري بعد اليوم‪.‬‬

‫ويعانــون كما لو‬ ‫معتنقيهــا مــن أفــراد ودول ومجتمعات‪ُ ،‬‬

‫شــن‬ ‫أجــل‪ ،‬ســيواصل أعــداء الداخــل والخــارج فــي ّ‬ ‫اء فــي التخ ّلــي‬ ‫الغــارة تلــو األخــرى‪ ..‬ويواصــل األخــ ّ‬

‫فتكا‬ ‫وبطشــا‪ .‬ورغم ذلك كله‪،‬‬ ‫أنهــم فــي محاكم التفتيش ً‬ ‫ً‬ ‫فــإن مشــاعل األمــل ال تفتــأ تتــأأل هنــا وهنــاك ‪-‬وإن لم‬

‫الهــدم‬ ‫ويع ُقــب‬ ‫عــن الوفــاء‬ ‫هــدم آخــر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫المؤمــل منهــم‪َ ..‬‬ ‫َّ‬

‫تكن في المستوى المطلوب‪ -‬لتبشر بما تنطوي عليه من‬

‫والتخريــب‬ ‫تخريــب آخر‪ ..‬وتتوالــى الضربة تلو األخرى‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬

‫قط‬ ‫"فرســان البعث" الذين يب ّثون الحياة في‬ ‫من المشــهد ّ‬ ‫ُ‬ ‫كل مكان‪.‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال‬ ‫علــى جذورنا الروحية والمعنويــة‪ ..‬وتتفطر‬ ‫القلوب أم ً‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ويــدوي أنيــن المــوت فــي جميــع‬ ‫حبــة‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫فــي نســمات َم ّ‬ ‫األطراف‪ .‬ولكن إزاء هذه الصور القاتمة كلها‪ ،‬لن يغيب‬

‫انبعاثــات شــتى متعاقبة في قابِــل األيام‪ ..‬كما أن األرواح‬ ‫وكل مــا ِيردهــا من كالم‬ ‫كل ســلوك َّ‬ ‫تقــوم َّ‬ ‫المضيئــة التــي ّ‬ ‫فــي ضــوء محبــة عارمة وأدب رفيع‪ ،‬تمضــي في رحلتها‬ ‫نحــو إحيــاء قيمنــا اإلنســانية‪ ،‬دون أن تخفــف من ســرعة‬

‫ســيرها‪ ،‬أو تتعثــر بأية عقبــة تعترضها من ِغلظة أو كراهية‬

‫لقــد تعرضــت منطقتنــا فــي فتــرات تاريخيــة مختلفــة‬

‫أو عــدوان‪.‬‬ ‫هلل عليه‬ ‫أن مــن صدقــوا مــا عاهــدوا ا َ‬ ‫والحــق ّ‬ ‫ّ‬

‫وس ِ‬ ‫ــملت عينــاه بالحميم‬ ‫الســم ال ُّز َ‬ ‫عــاف مــرات ومــرات‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬

‫قط في مواجهة‬ ‫ظالل تلك الرعاية‪ -‬ولم يتركهم وحدهم ّ‬

‫تعد وال تحصى‪ ..‬فقد ُســقي إنسا ُننا‬ ‫لشــروخ وكوارث ال ّ‬

‫وه ِّجر‬ ‫قيمه الدينية ومبادئه الوطنية‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫مرارا‪ُ ..‬‬ ‫وســلبت منه ُ‬

‫وإيالمــا‪..‬‬ ‫أشــد أنــواع االغتــراب مــرارة‬ ‫بعيــدا ليقاســي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قمره‪ ،‬وأوقع في سلسلة متشابكة‬ ‫ُسرقت‬ ‫ُ‬ ‫شمسه‪ ،‬وأطفئ ُ‬

‫وو ّفوا بعهدهم له‪ ،‬توالهم وأحاطهم برعاي ِته ‪-‬ال ُحرموا‬ ‫الظ َلمة والمستبدين‪.‬‬ ‫َّ‬

‫صحيــح أنــه قــد وقــع أن انتفخــت فكــر ُة الباطــل‪،‬‬ ‫حينــا مــن أن تمأل األجــواء بصخبها األجوف‪،‬‬ ‫وتمكنــت ً‬

‫من كســوف وخســوف‪ .‬لقــد ُم ِني‬ ‫معا‪ ،‬لقي من‬ ‫باألمريــن ً‬ ‫ّ‬

‫فهبت وأرعدت وأبرقت لتلقي الرعب في القلوب وتثير‬ ‫ّ‬

‫وارهــا حتى خ َل َفتها‬ ‫تهاوت شــرذمة من األشــرار وخمد ُأ ُ‬

‫وإخمــاد شــمعته‪ ..‬بيــد أن حاالت التراجــع واالنكماش‬

‫شــدة‪ ،‬ومــن الخليل جفــوة‪ ،‬فتعالت أ ّناتــه‪ .‬وما أن‬ ‫العــدو ّ‬ ‫ّ‬ ‫شــراذم أخرى‪ .‬فرأى إنســا ُننا من شراسة الالحق وبغيِه ما‬

‫كل السبل لكتم أنفاس الحق‬ ‫البلبلة في النفوس‪ ،‬وسلكت َّ‬ ‫التــي ســرت فــي شــرايين األمة جــراء ذلك‪ ،‬كانــت مؤقتة‬

‫اضطهاد‬ ‫للترحم على السابق‪ ،‬وما زال يتتابع عليه‬ ‫حمله‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وقهر المســتبدين‬ ‫المتكبرين‬ ‫وحقد أعداء الدين وحن ُقهم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫جهنم حمراء‪.‬‬ ‫حتى استحالت حياته‬ ‫َ‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫غالبا مــا كان‬ ‫فــي عهــد مــا‪ ،‬إال أ َّنــه لــم ُيهملهــم قــط‪ ،‬بــل ً‬

‫واالضطهــاد والمطــاردة‪ ..‬وتلك جهود خبيثة تعمل على‬

‫يمد‬ ‫مساســهم "غيــرة اهلل"؛ وبينمــا يفعــل ذلــك بالظالمين ّ‬

‫ِ‬ ‫اليوم بالبارحة‪ ..‬فها هي شــتى‬ ‫أشــبه‬ ‫وما‬ ‫ألوان القهر‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫وأقوى مما كان‪ .‬ولئن أمهل اهلل الظالمين مرة بعد أخرى‬ ‫أوان‬ ‫يأخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬ويســومهم ســوء العذاب َ‬

‫‪hiramagazine.com‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫دوى نداء الحقيقة في كل مكان أبلغ‬ ‫علــى الــدوام حيث ّ‬

‫‪3‬‬


‫المقال الرئيس‬ ‫فتح الله كولن‬

‫بعث من جديد‬ ‫لعلّنا ُن َ‬ ‫أبنــاء هــذه الجغرافيــا المثخنــة‬‫إننــا‬ ‫َ‬ ‫كنا وما زلنا‬ ‫بالجراح‪ ،‬المثقلة باألحزان‪ّ -‬‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫نترقــب منــذ عقود وعقود نســمة بعث أو‬

‫‪2‬‬

‫قط‪.‬‬ ‫سمى "تر ّق ًبا" ّ‬ ‫يكن األمر كذلك‪ ،‬فإنه انتظار سلبي ال ُي ّ‬ ‫وإذا كان االنبعــاث الــذي نترقبــه ‪-‬بعــد هــذا المــوت‬ ‫التحقــق فــي اإلحســاس والتفكيــر والحياة‬ ‫الطويــل‪ -‬هــو ّ‬

‫ال َيطول‬ ‫يعجل بهــا وأ ّ‬ ‫نفخــة صــور خارقــة‪ ،‬نســأل اهلل أن ّ‬

‫الذاتيــة" ‪-‬وهــو كذلــك بــا‬ ‫القلبيــة والروحيــة بـ"أصالتنــا‬ ‫ّ‬

‫نســترد فيه‬ ‫الفعــال" حتى ُيشــرق يوم‬ ‫ّ‬ ‫علــى هــذا "التر ّقــب ّ‬

‫ومــا نتطلــع إليــه من غايات عظيمــة لنو ِّفــق بينهما‪ .‬إذ إن‬

‫انتظارها‪ .‬ومهما يكن األمر فإننا عاهدنا أنفســنا أن َن ُثبت‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الع ّدة‬ ‫يمــا أضعناهــا منــذ أمد بعيــد‪ .‬ولكن‪ ،‬يا ُت َــرى‪ ،‬هل ُ‬ ‫ق ً‬ ‫وموقعنا من الحق جل‬ ‫التي أعددناها‪ ،‬وتح ُّف ُزنا الروحي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وعال‪ ،‬موافق لمقتضى ذلك "االنبعاث المرتقب"؟ إذا لم‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫منا مراجعة جادة لما نحن عليه‬ ‫شــك‪ -‬فذلك يســتوجب ّ‬ ‫"قانــون الع ّل ّيــة" يقتضــي مناســبة ضروريــة بيــن انتظاراتنــا‬ ‫فــإن حمــل تطلعــات جليلة‬ ‫الكبيــرة وأدائنــا الراهــن‪ .‬لــذا ّ‬ ‫كهــذه‪ ،‬ليــس مــن شــأن َجهلــة ال نصيــب لهم مــن "العلم‬


‫المحتويات‬

‫ لعّلنا نُب َعث من جديد  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) ‬ ‫إلهي  ‪ /‬عمر البخاري (شعر) ‬

‫ كيف نربّي أبناءنا؟  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬بركات حممد مراد (تربية) ‬ ‫جمال في جمال  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ دروس راهنة من أداء فريضة التدبر  ‪ /‬د‪ .‬مسري بودينار (قضايا فكرية) ‬ ‫لماذا توجد الكمأة في الصحراء؟  ‪ /‬نريوز بن زقوطة (علوم) ‬

‫ الدور المركزي لألتراك في األمة اإلسالمية  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عماد الدين خليل (تاريخ وحضارة) ‬ ‫التربية مع التعليم  ‪ /‬د‪ .‬أنس كاريتش (تربية) ‬

‫ قيم التعايش المشترك ومبادئه في وثيقة المدينة  ‪ /‬د‪ .‬حممد الشرقاوي (تاريخ وحضارة) ‬ ‫نظرية االنبثاق وحتمية التواصل  ‪ /‬د‪ .‬حممد باباعمي (قضايا فكرية) ‬

‫ اآلذان شبعى والعيون جوعى  ‪ /‬فتح اهلل كولن (املوشور) ‬ ‫عراد (تربية) ‬ ‫أبناؤنا وشعيرة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر  ‪ /‬د‪ .‬صاحل بن علي أبو َّ‬

‫ مفهوم المجتمع اإلسالمي المثالي  ‪ /‬د‪ .‬طارق الصادق عبد السالم (قضايا فكرية) ‬ ‫الفرسان  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ وحيد القرن يروي قصته  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬عرفان يلماز (علوم) ‬ ‫البيمارستانات  ‪ /‬خلف أمحد حممود أبو زيد (تاريخ وحضارة) ‬

‫ الشباب ومستقبل ثورة الربيع الثقافي العربي  ‪ /‬د‪ .‬مرمي آيت أمحد (قضايا فكرية) ‬ ‫تناغم المعنى والمبنى في الهندسة المعمارية  ‪ /‬حممد كول كونول (ثقافة وفن) ‬

‫ مفهوم الفكر اإلسالمي وصلته بالعقل والوحي  ‪ /‬د‪ .‬إسحاق السعدي (قضايا فكرية) ‬ ‫الربيع ننتظر  ‪ /‬حراء (ألوان وظالل) ‬

‫ أُلوغ بك‪ ..‬من رواد علم الفلك  ‪ /‬أ‪.‬د‪ .‬الصفصايف أمحد القطوري (تاريخ وحضارة) ‬ ‫سنان‪ ..‬مهندس علم الزالزل ‪ -‬نقار الخشب  ‪ /‬نور الدين صواش (حمطات علمية وحضارية) ‬

‫‪2‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪52‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪62‬‬

‫‪hiramagazine.com‬‬


‫االفتتاحية‬ ‫حراء‬

‫السنة التاسعة ‪ -‬العدد (‪2014 )40‬‬

‫ُّ‬ ‫الفعال واالنبعاث المرتقب‬ ‫الترقب‬ ‫َّ‬ ‫نطلُّ على "حراء" وهي في عليائها‪ ،‬ونرنو إلى "حراء"‬ ‫أدرك ْت فــي عمرهــا األربعين‬ ‫وهــي فــي ُذراهــا‪ ...‬ها قــد َ‬ ‫عــددا‪ ،‬وبلغت في انبســاطها آماد المغربين والمشــرقين؛‬ ‫ً‬ ‫نهــارا‪ ،‬علــى صهــوة‬ ‫ا‪ ،‬وتعــرج‬ ‫وهــي‬ ‫اليــوم تســري ليــ ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫المنتظــر"‪ ،‬يهزأ بالمفــاوِ ز مهما ُبعدت‬ ‫األصيــل‬ ‫"الفــارس‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫الســحب ال ِّثقال مهما سما مقامها‪.‬‬ ‫ُشــ َّقتها‪ ،‬ويشمخ على ُّ‬ ‫جهوري الصوت؛ ذلك أنه من كالم‬ ‫إن فارســنا‬ ‫َن َعم‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يتغذى‪ ،‬ألجل‬ ‫نبيــه الحبيب َّ‬ ‫اهلل تعالــى َّ‬ ‫يتروى‪ ،‬ومن ســنة ّ‬ ‫ذلــك نحــن نرقبــه بشــوق وحنين‪ ،‬وننظــر على إثــره "بع ًثا‬ ‫يعجــل بها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫جديــدا" و"نفخــة روح خارقــة"‪ :‬نســأل اهلل أن ِّ‬ ‫ال يطول انتظارها‪.‬‬ ‫وأ َّ‬ ‫نحتا‬ ‫يقــول األســتاذ "فتــح اهلل" فــي مقالــه المنحــوت ً‬ ‫رفي ًقــا‪" :‬مهمــا يكــن األمــر‪ ،‬فإننــا عاهدنا أنفســنا أن نثبت‬ ‫قيما‬ ‫الفعال؛ حتى يشرق يوم‬ ‫ُّ‬ ‫على هذا التر ُّقب ّ‬ ‫نسترد فيه ً‬ ‫الع َّدة التي‬ ‫أضعناهــا منــذ أمــد بعيد‪ .‬ولكــن‪ ،‬يا ترى‪ ،‬هــل ُ‬ ‫جــل‬ ‫وموقعنــا مــن‬ ‫أعددناهــا‪ ،‬وتح ُّف ُزنــا الروحــي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الحــق َّ‬ ‫ُ‬ ‫وعال‪ ،‬موافق لمقتضى ذلك االنبعاث المرتقب؟!"‪.‬‬ ‫لإلجابــة علــى هــذا "الســؤال المصيــر"‪ ،‬ولتحقيــق‬ ‫لزامــا علينــا أن نعالــج تربية‬ ‫هــذا "الشــرط الخطيــر"‪ ،‬كان ً‬ ‫ثم‬ ‫اإلنســان الراشــد‪ ،‬بمختلــف مداخلــه ومشــاربه‪ ،‬ومــن َّ‬ ‫نربي أبناءنا؟"‪ ،‬ثم نسائل أنفسنا عن "الفرق‬ ‫نسأل‪" :‬كيف ّ‬ ‫ثم نحرص على تلقين أبنائنا‬ ‫بيــن التربيــة والتعليم"‪ ،‬ومن َّ‬ ‫شعيرة "األمر بالمعروف والنهي عن المنكر"‪.‬‬ ‫األمــل"‪ ،‬وصــاروا‬ ‫اشــتد عــود هــؤالء "الفتيــ ُة‬ ‫وإذا مــا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫شــبابا يافعيــن‪ ،‬أخذنــا بأيديهــم مســتنطقين‬ ‫بفضــل اهلل‬ ‫ً‬ ‫المستقبل في "سؤال مستقبل ثورة الربيع الثقافي العربي"‪.‬‬ ‫‪hiramagazine.com‬‬

‫ال إذا اعتنينــا‬ ‫أن المســتقبل ال يزهــو وال يزدهــر إ َّ‬ ‫غيــر َّ‬

‫فأدينــا "فريضــة التدبــر الحضــاري"‪،‬‬ ‫بالحاضــر والراهــن‪ّ ،‬‬

‫وأقمنــا وز ًنــا لشــبكة العالقــات االجتماعيــة‪ ،‬والفكريــة‪،‬‬ ‫والثقافية؛ مستمدين المنطلق من "نظرية االنبثاق"‪.‬‬

‫أن للحاضــر‬ ‫وأن للماضــي معالــم‬ ‫ٍ‬ ‫وال غــرو َّ‬ ‫مــاض‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫نؤســس للعمل؛‬ ‫لنــا‪ ،‬منهــا‬ ‫ُّ‬ ‫نســتمد األمــل‪ ،‬ومــن خاللهــا ّ‬ ‫ولذلــك ح َّلــل األســتاذ محمد الشــرقاوي "وثيقــة المدينة‬

‫المنــورة"‪ ،‬وأبــان األســتاذ عمــاد الدين خليل عــن "الدور‬

‫المركزي لألتراك في حضارة األمة اإلسالمية"‪ ،‬وعرض‬ ‫األســتاذ خلف أحمد صورة "البيمارستانات" في العمارة‬

‫اإلســامية‪ ،‬وناقــش األســتاذ محمــد كول كونــول "تناغم‬ ‫المعنى والمبنى في الهندسة المعمارية"‪.‬‬

‫ولقــد كان لرائــد علــم الفلــك "ألــوغ بــك" حضــوره‬

‫المثالــي فــي مســيرة "االنبعــاث المرتقــب"‪ ،‬كمــا كان‬ ‫"للمعماري سنان" مكانته المحورية في البحث عن غدنا‬

‫ال بعد‬ ‫الحضاري‪ ...‬ذلك الغد الذي لن تشــرق شمســه إ َّ‬ ‫ِّ‬ ‫"تر ُّقب فعال"‪ ،‬وربط محكم بين "الحال والقال"‪.‬‬

‫ضنــون أبشــروا‪...‬‬ ‫أيهــا المعانــون الصابــرون‪ ...‬يــا ُم َ‬

‫هــذا الربيــع بالبشــرى آت‪ ...‬وبالــدفء العــذب قــادم‪...‬‬ ‫فدعواتكم إلى الســماء ُرفعت‪ ...‬وتضرعاتكم ُسمعت‪...‬‬

‫وأمنياتكم قبلت‪.‬‬

‫خصب‪ ،‬ومحطة‬ ‫فحــراء اليــوم‪ ،‬مأوى ومال ٌذ‪ ،‬ومرتع‬ ‫ٌ‬

‫تتبدل ولم تتغير‪ ...‬هي بكم‪ ،‬وهي‬ ‫لإلقالع‪ ،‬وهي هي لم َّ‬ ‫لكم‪ ،‬وهي منكم‪ ...‬هي أنتم‪" :‬فرسان سالكون‪ ...‬فرسان‬

‫سائحون‪ ...‬وبالطريق هائمون"‪.‬‬


‫‪40‬‬

‫مجلة علمية فكرية ثقافية‬

‫دورية تصدر كل شهرين من إسطنبول‬

‫‪w w w. h i r a m a g a z i n e . co m‬‬

‫السنة التاسعة ‪( /‬يناير ‪ -‬فرباير) ‪2014‬‬

‫لو التقيا‬ ‫أال َ‬ ‫َ‬ ‫وجدت فارسك‪،‬‬ ‫ليتك‬ ‫ح ّبذا‬ ‫الفارس الغريب والجوا ُد اليتيم لو التقيا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وليت صهي َله األصيل ب ُهتافه الو ّثاب امتزجا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ود ّوى ذلك‬ ‫الصوت الكريم في اآلفاق ور ّد َدا‪...‬‬ ‫***‬

‫‪2‬‬

‫بعث من جديد‬ ‫لعلّ نا ُن َ‬ ‫فتح اهلل كولن‬

‫‪10‬‬

‫دروس راهنة من أداء فريضة التدبر‬ ‫د‪ .‬سمير بودينار‬

‫‪29‬‬

‫نظرية االنبثاق وحتمية التواصل‬ ‫د‪ .‬محمد باباعمي‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.